من خلفهم ، وقد فسر ذلك بقوله : كيما يكون لكم ردءا ، والردء : العون ، قال الله تعالى : (فأرسله معي ردءا يصدقني) (1) .
ودونكم مردا ، أي حاجزا بينكم وبين العدو .
ثم أمرهم بأن يكون مقاتلتهم - بفتح التاء ، وهى مصدر " قاتل " - من وجه واحد أو اثنين ، أي لا تتفرقوا ، ولا يكن قتالكم العدو في جهات متشعبة ، فإن ذلك أدعى إلى الوهن ، واجتماعكم أدعى إلى الظفر ، ثم أمرهم أن يجعلوا رقباء في صياصي الجبال .
وصياصي الجبال : أعاليها وما جرى مجرى الحصون منها ، وأصل الصياصي القرون ، ثم استعير ذلك للحصون لانه يمتنع بها كما يمتنع ذو القرن بقرنه ، ومناكب الهضاب : أعاليها ، لئلا يأتيكم العدو إما من حيث تأمنون ، أو من حيث تخافون .
قوله عليه السلام : " مقدمة القوم عيونهم " ، المقدمة ، بكسر الدال ، وهم الذين يتقدمون الجيش ، أصله مقدمة القوم ، أي الفرقة المتقدمة .
والطلائع : طائفة من الجيش تبعث ليعلم منها أحوال العدو .
وقال عليه السلام : المقدمة عيون الجيش .
والطلائع عيون المقدمة ، فالطلائع إذا عيون الجيش .
ثم نهاهم عن التفرق ، و أمرهم أن ينزلوا جميعا ويرحلوا جميعا ، لئلا يفجأهم العدو بغتة على غير تعبية واجتماع ، فيستأصلهم ، ثم أمرهم أن يجعلوا الرماح كفة إذا غشيهم الليل ، و الكاف مكسورة ، أي اجعلوها مستديرة حولكم كالدائرة ، وكل ما استدار كفة بالكسر نحو كفة الميزان ، وكل ما استطال كفة بالضم نحو : كفة الثوب وهى حاشيته ، وكفة الرمل ، وهو ما كان منه كالحبل .
ثم نهاهم عن النوم إلا غرارا أو مضمضة ، وكلا اللفظتين ما قل من النوم .
__________
(1) سورة القصص 34 .(15/90)
وقال شبيب الخارجي : الليل يكفيك الجبان ، ويصف الشجاع .
وكان إذا أمسى قال لاصحابه : أتاكم المدد ، يعنى الليل .
قيل لبعض الملوك بيت عدوك .
قال : أكره أن أجعل غلبتي سرقة .
ولما فصل قحطبة من خراسان وفي جملته خالد بن برمك ، بينا هو على سطح بيت في قرية نزلاها وهم يتغدون نظر إلى الصحراء فرأى أقاطيع ظباء قد أقبلت من جهة الصحارى حتى كادت تخالط العسكر ، فقال خالد لقحطبة : أيها الامير ، ناد في الناس : يا خيل الله اركبي ، فإن العدو قد قرب منك ، وعامة أصحابك لن يسرجوا ويلجموا حتى يروا سرعان (1) الخيل .
فقام قحطبة مذعورا فلم ير شيئا يروعه ، ولم يعاين غبارا ، فقال لخالد ما هذا الرأي ؟ فقال : أيها الامير ! لا تتشاغل بى ، وناد في الناس ، أ ما ترى أقاطيع الوحوش قد أقبلت وفارقت مواضعها حتى خالطت الناس ! وإن وراءها لجمعا كثيفا .
قال : فو الله ما أسرجوا ولا ألجموا حتى رأوا النقع (2) وساطع الغبار ، فسلموا ، ولو لا ذلك لكان الجيش قد أصطلم (3) .
__________
(1) سرعان الخيل : أوائلها .
(2) النقع : الغبار .
(3) اصطلم : استؤصل وأبيد .
(*)(15/91)
(12) الاصلل : ومن وصية له عليه السلام وصى بها معقل بن قيس الرياحي حين أنفذه إلى الشام في ثلاثة آلاف مقدمة له اتق الله الذى لابد لك من لقائه ، ولا منتهى لك دونه ، ولا تقاتلن إلا من قاتلك ، وسر البردين ، وغور بالناس ، ورفه في السير ، ولا تسر أول الليل ، فإن الله جعله سكنا ، وقدره مقاما لا ظعنا ، فأرح فيه بدنك ، وروح ظهرك ، فإذا وقفت حين ينبطح السحر ، أو حين ينفجر الفجر ، فسر على بركة الله .
فإذا لقيت العدو فقف من أصحابك وسطا ، ولا تدن من القوم دنو من يريد أن ينشب الحرب .
ولا تباعد عنهم تباعد من يهاب البأس ، حتى يأتيك أمرى .
ولا يحملنكم شنآنهم على قتالهم قبل دعائهم والاعذار إليهم .
الشرح : معقل بن قيس ، كان من رجال الكوفة وأبطالها ، وله رياسة وقدم ، أوفده عمار بن ياسر إلى عمر بن الخطاب مع الهرمزان لفتح تستر (1) وكان من شيعة علي عليه السلام ، وجهه إلى بني ساقة فقتل منهم وسبى ، وحارب المستورد بن علفة الخارجي
__________
(1) تستر ، بضم أوله وسكون ثانيه وفتح ثالثه : أعظم مدينة بخوزستان .
(*)(15/92)
من تيم الرباب ، فقتل كل واحد منهما صاحبه بدجلة ، وقد ذكرنا خبرهما فيما سبق ، ومعقل بن قيس رياحي من ولد رياح بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة ابن تميم .
قوله عليه السلام : " ولا تقاتلن إلا من قاتلك " ، نهي عن البغي .
وسر البردين : هما الغداة والعشي ، وهما الابردان أيضا .
ووصاه أن يرفق بالناس ولا يكلفهم السير في الحر .
قوله عليه السلام : " وغور بالناس " : انزل بهم القائلة ، والمصدر التغوير ، ويقال للقائلة : الغائرة .
قوله عليه السلام : " ورفه في السير " ، أي دع الابل ترد رفها (1) ، وهو أن ترد الماء كل يوم متى شاءت ولا ترهقها وتجشمها السير .
ويجوز أن يكون قوله : " ورفه في السير " ، من قولك : رفهت عن الغريم ، أي نفست عنه .
قوله عليه السلام : " ولا تسر أول الليل " ، قد ورد في ذلك خبر مرفوع ، وفي الخبر أنه حين تنشر الشياطين .
وقد علل أمير المؤمنين عليه السلام النهى بقوله : " فإن الله تعالى جعله سكنا ، وقدره مقاما لا ظعنا " ، يقول لما امتن الله تعالى على عباده بأن جعل لهم الليل ليسكنوا فيه (2) كره أن يخالفوا ذلك ، ولكن لقائل أن يقول : فكيف لم يكره السير والحركة في آخره ، وهو من جملة الليل أيضا ! ويمكن أن يكون فهم من رسول الله صلى الله عليه وآله أن الليل الذى جعل سكنا للبشر إنما هو من أوله إلى وقت السحر .
__________
(1) أي ترد الماء كما شاءت .
(2) وهو قوله تعالى : " هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا) .
سورة يونس 67 (*) .(15/93)
ثم أمره عليه السلام بأن يريح في الليل بدنه وظهره ، وهي الابل ، وبنو فلان مظهرون ، أي لهم ظهر ينقلون عليه ، كما تقول : منجبون ، أي لهم نجائب .
قال الراوندي : الظهر .
الخيول ، وليس بصحيح ، والصحيح ما ذكرناه .
قوله عليه السلام : " فإذا وقفت " ، أي فإذا وقفت ثقلك ورحلك لتسير ، فليكن ذلك حين ينبطح السحر .
قال الراوندي : " فإذا وقفت " ثم قال وقد روي : " فإذا واقفت " ، قال : يعنى إذا وقفت تحارب العدو وإذا واقفته ، وما ذكره ليس بصحيح ولا روي ، وإنما هو تصحيف ، أ لا تراه كيف قال بعده بقليل : " فإذا لقيت العدو " ! وإنما مراده هاهنا الوصاة بأن يكون السير وقت السحر ووقت الفجر .
قوله عليه السلام : " حين ينبطح السحر " ، أي حين يتسع ويمتد ، أي لا يكون السحر الاول ، أي ما بين السحر الاول وبين الفجر الاول ، وأصل الانبطاح ، السعة ، ومنه الابطح بمكة ، ومنه البطيحة ، وتبطح السيل ، أي اتسع في البطحاء ، والفجر انفجر انشق .
ثم أمره عليه السلام إذا لقي العدو أن يقف بين أصحابه وسطا لانه الرئيس ، والواجب أن يكون الرئيس في قلب الجيش ، كما أن قلب الانسان في وسط جسده ، ولانه إذا كان وسطا كانت نسبته إلى كل الجوانب واحدة ، وإذا كان في أحد الطرفين بعد من الطرف الاخر ، فربما يختل نظامه ويضطرب .
ثم نهاه عليه السلام أن يدنو من العدو دنو من يريد أن ينشب الحرب ، ونهاه أن يبعد منهم بعد من يهاب الحرب ، وهى البأس ، قال الله تعالى : (وحين البأس) (1) ،
__________
(1) سورة البقرة 177 .
(*)(15/94)
أي حين الحرب ، بل يكون على حال متوسطة بين هذين حتى يأتيه الامر من أمير المؤمنين عليه السلام لانه أعرف بما تقتضيه المصلحة .
ثم قال له : لا يحملنكم بغضكم لهم على أن تبدؤوهم بالقتال قبل أن تدعوهم الى الطاعة وتعذروا إليهم أي تصيروا ذوي عذر في حربهم .
والشنآن : البغض بسكون النون وتحريكها .
[ نبذ من الاقوال الحكيمة في الحروب ] وفي الحديث المرفوع : " لا تتمنوا العدو فعسى أن تبتلوا بهم ، ولكن قولوا : اللهم اكفنا شرهم ، وكف عنا بأسهم ، وإذا جاءوك يعرفون أن يضجون فعليكم الارض جلوسا ، وقولوا : اللهم أنت ربنا وربهم ، وبيدك نواصينا ونواصيهم ، فإذا غشوكم فثوروا في وجوههم " .
وكان أبو الدرداء يقول : أيها الناس ، اعملوا عملا صالحا قبل الغزو فإنما تقاتلون بأعمالكم .
وأوصى أبو بكر يزيد بن أبى سفيان حين استعمله ، فقال : سر على بركة الله ، فإذا دخلت بلاد العدو فكن بعيدا من الحملة ، فإنى لا آمن عليك الجولة ، واستظهر بالزاد ، وسر بالادلاء ولا تقاتل بمجروح ، فإن بعضه ليس منه ، واحترس من البيات ، فإن في العرب غرة ، واقلل من الكلام ، فان ما وعي عنك هو عليك ، وإذا أتاك كتابي فأمضه ، فإنما أعمل على حسب إنفاذه ، وإذا قدم عليك وفود العجم فأنزلهم معظم عسكرك ، وأسبغ عليهم من النفقة ، وامنع الناس من محادثتهم ليخرجوا جاهلين كما دخلوا جاهلين ولا(15/95)
تلحن في عقوبة فإن أدناها وجيعة ، ولا تسرعن إليها وأنت تكتفي بغيرها ، واقبل من الناس علانيتهم ، وكلهم إلى الله في سريرتهم ، ولا تعرض عسكرك فتفضحه ، واستودعك الله الذى لا تضيع ودائعه .
وأوصى أبو بكر أيضا عكرمة بن أبى جهل حين وجهه إلى عمان ، فقال : سر على اسم الله ، ولا تنزلن على مستأمن ، وقدم النذير بين يديك ، ومهما قلت : إنى فاعل فافعله ، ولا تجعلن قولك لغوا في عقوبة ولا عفو ، فلا ترجى إذا أمنت ، ولا تخاف إذا خوفت .
وانظر متى تقول ومتى تفعل ، وما تقول وما تفعل ، ولا تتوعدن في معصية بأكثر من عقوبتها ، فإنك إن فعلت أثمت وإن تركت كذبت ، واتق الله وإذا لقيت فاصبر .
ولما ولى يزيد بن معاوية سلم بن زياد خراسان قال له : إن أباك كفى أخاه عظيما ، وقد استكفيتك صغيرا ، فلا تتكلن على عذر مني ، فقد اتكلت على كفاية منك ، وإياك منى من قبل أن أقول : إياك منك ، واعلم أن الظن إذا أخلف منك أخلف فيك ، وأنت في أدنى حظك ، فاطلب أقصاه ، وقد تبعك أبوك ، فلا تريحن نفسك ، واذكر في يومك أحاديث غدك .
وقال بعض الحكماء : ينبغى للامير أن يكون له سته أشياء : وزير يثق به ، ويفشي إليه سره ، وحصن إذا لجا إليه عصمه - يعنى فرسا - وسيف إذا نزل به الاقران لم يخف نبوته ، وذخيرة خفيفة المحمل إذا نابته نائبة وجدها - يعني جوهرا - وطباخ إذا أقرى من الطعام صنع له ما يهيج شهوته ، وامرأة جميلة إذا دخل أذهبت همه .
في الحديث المرفوع : خير الصحابة أربعة ، وخير السرايا أربعمائة ، وخير الجيوش أربعة آلاف ،(15/96)
ولن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة إذا اجتمعت كلمتهم .
كان يقال : ثلاثة من كن فيه لم يفلح في الحرب : البغى ، قال الله تعالى : " إنما بغيكم على أنفسكم) (1) ، والمكر السيئ ، قال سبحانه : (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله) (2) ، والنكث ، قال تعالى : (فمن نكث فإنما ينكث على نفسه) (3) .
يقال : خرجت خارجة بخراسان على قتيبة بن مسلم ، فأهمه ذلك ، فقيل : ما يهمك منهم ! وجه إليهم وكيع بن أبى أسود يكفيك أمرهم ، فقال : لا أوجهه ، وإن وكيعا رجل فيه كبر ، وعنده بغي ، يحقر أعداءه ، ومن كان هكذا قلت مبالاته بخصمه فلم يحترس ، فوجد عدوه فيه غرة ، فأوقع به .
وفي بعض كتب الفرس : إن بعض ملوكهم سأل : أي مكايد الحرب أحزم ؟ فقال : إذكاء العيون ، واستطلاع الاخبار ، وإظهار القوة والسرور والغلبة ، وإماتة الفرق ، والاحتراس من البطانة من غير إقصاء لمن ينصح ، ولا انتصاح لمن يغش ، وكتمان السر ، وإعطاء المبلغين على الصدق ، ومعاقبة المتوصلين بالكذب ، وألا تخرج هاربا فتحوجه إلى القتال ، ولا تضيق أمانا على مستأمن ، ولا تدهشنك الغنيمة عن المجاوزة .
وفي بعض كتب الهند : ينبغي للعاقل أن يحذر عدوه المحارب له على كل حال ، يرهب منه المواثبة إن قرب ، والغارة إن بعد ، والكمين إن انكشف ، والاستطراد إن ولى ، والمكر إن رآه وحيدا ، وينبغي أن يؤخر القتال ما وجد بدا ، فإن النفقة عليه من الانفس ، وعلى غيره من المال .
__________
(1) سورة يونس 23 .
(2) سورة فاطر 43 .
(3) سورة الفتح 10 .
(*)(15/97)
(13) الاصل : ومن كتاب له عليه السلام إلى أميرين من أمراء جيشه : وقد أمرت عليكما وعلى من في حيزكما مالك بن الحارث الاشتر ، فاسمعا له وأطيعا ، واجعلاه درعا ومجنا ، فإنه ممن لا يخاف وهنه ولا سقطته ، ولا بطؤه عما الاسراع إليه أحزم ، ولا إسراعه إلى ما البطء عنه أمثل .
[ فصل في نسب الاشتر وذكر بعض فضائله ] الشرح : هو مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن مسلمة بن ربيعة بن خزيمة بن سعد بن مالك ابن النخع بن عمرو بن علة بن خالد بن مالك بن أدد .
وكان فارسا شجاعا رئيسا من أكابر الشيعة وعظمائها ، شديد التحقق بولاء أمير المؤمنين عليه السلام ونصره ، وقال فيه بعد موته : رحم الله مالكا ، فلقد كان لي كما كنت لرسول الله صلى الله عليه وآله ! ولما قنت علي عليه السلام على خمسة ولعنهم وهم : معاويه ، وعمرو بن العاص ، وأبو الاعور السلمي ، وحبيب بن مسلمة ، وبسر بن أرطاة ، قنت معاوية على خمسة ، وهم : علي ، والحسن ، والحسين - عليهم السلام - وعبد الله بن العباس ، والاشتر ، ولعنهم .
وقد روي أنه قال لما ولى علي عليه السلام بني العباس على الحجاز واليمن والعراق : فلماذا قتلنا الشيخ بالامس ! وإن عليا عليه السلام لما بلغته هذه الكلمة أحضره ولاطفه واعتذر إليه وقال له : فهل وليت حسنا أو حسينا أو أحدا من ولد جعفر أخي ، أو عقيلا(15/98)
أو واحدا من ولده ! وإنما وليت ولد عمي العباس ، لاني سمعت العباس يطلب من رسول الله صلى الله عليه وآله الامارة مرارا ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : يا عم إن الامارة إن طلبتها وكلت (1 ذ) إليها ، وإن طلبتك أعنت عليها .
ورأيت بنيه في أيام عمر وعثمان يجدون في أنفسهم إذ ولى غيرهم من أبناء الطلقاء ولم يول أحدا منهم ، فأحببت أن أصل رحمهم ، وأزيل ما كان في أنفسهم ، وبعد فإن علمت أحدا من أبناء الطلقاء هو خير منهم فأتني به .
فخرج الاشتر وقد زال ما في نفسه .
وقد روى المحدثون حديثا يدل على فضيلة عظيمة للاشتر رحمه الله ، وهى شهادة قاطعة من النبي صلى الله عليه وآله بأنه مؤمن ، روى هذا الحديث أبو عمر بن عبد البر في كتاب " الاستيعاب " في حرف الجيم ، في باب " جندب " قال أبو عمر (2) : لما حضرت أبا ذر الوفاة وهو بالربذة (3) بكت زوجته أم ذر ، فقال لها : ما يبكيك ؟ فقالت : ما لي لا أبكي وأنت تموت بفلاة من الارض ، وليس عندي ثوب يسعك كفنا ، ولا بد لي من (4) القيام بجهازك ! فقال : أبشري ولا تبكي ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : " لا يموت بين امرأين مسلمين ولدان أو ثلاثة ، فيصبران ويحتسبان فيريان النار أبدا " ، وقد مات لنا ثلاثة من الولد .
وسمعت أيضا رسول الله صلى الله عليه وآله يقول لنفر أنا فيهم : " ليموتن أحدكم بفلاة من الارض يشهده عصابه من المؤمنين " ، وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد مات في قرية وجماعه فأنا - لا أشك - ذلك الرجل ، والله ما كذبت ولا كذبت ، فانظري الطريق .
قالت أم ذر : فقلت : أنى وقد ذهب الحاج وتقطعت الطرق ! فقال : اذهبي فتبصري .
قالت : فكنت
__________
(1) وكلت إليها ، أي احتجت إليها وعجزت .
(2) بسنده عن علي بن المديني ، عن يحيى بن سليم عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن مجاهد عن إبراهيم بن الاشتر .
عن أبيه .
(3) الربذة : قرية على ثلاثة أميال من المدينة المنورة قريبة من ذات عرق .
(4) الاستيعاب : " للقيام " .
(*)(15/99)
أشتد (1) إلى الكثيب ، فأصعد فأنظر ، ثم أرجع إليه فأمرضه ، فبينا أنا وهو على هذه الحال إذ أنا برجال على ركابهم (2) كأنهم الرخم (3) تخب بهم رواحلهم ، فأسرعوا إلي حتى وقفوا علي وقالوا : يا أمة الله ، ما لك ؟ فقلت : امرؤ من المسلمين يموت ، تكفنونه ؟ قالوا : ومن هو ؟ قلت : أبو ذر ، قالوا : صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت : نعم ، ففدوه بآبائهم وأمهاتهم ، وأسرعوا إليه حتى دخلوا عليه ، فقال لهم : أبشروا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنفر أنا فيهم : " ليموتن رجل منكم بفلاة من الارض تشهده عصابة من المؤمنين " ، وليس من أولئك النفر إلا وقد هلك في قرية وجماعة ، والله ما كذبت ولا كذبت ، ولو كان عندي ثوب يسعنى كفنا لي أو لامراتي لم أكفن إلا في ثوب لي أو لها ، وإني أنشدكم الله ألا يكفنني رجل منكم كان أميرا أو عريفا أو بريدا أو نقيبا ! قالت : وليس في أولئك النفر أحد إلا وقد قارف بعض ما قال ، إلا فتى من الانصار قال له : أنا أكفنك يا عم في ردائي هذا ، وفي ثوبين معي في عيبتي من غزل أمي ، فقال أبو ذر : أنت تكفنني ، فمات فكفنه الانصاري وغسله النفر الذين حضروه وقاموا عليه ودفنوه ، في نفر كلهم يمان (4) .
روى أبو عمر بن عبد البر قبل أن يروي هذا الحديث في أول باب جندب : كان النفر الذين حضروا موت أبى ذر بالربذة مصادفة جماعة ، منهم حجر بن الادبر ، ومالك بن الحارث الاشتر (5) .
قلت : حجر بن الادبر هو حجر بن عدي الذي قتله معاوية ، وهو من أعلام الشيعة وعظمائها ، وأما الاشتر فهو أشهر في الشيعة من أبى الهذيل في المعتزلة .
__________
(1) أشتد : أعدو .
(2) الاستيعاب : " رحالهم " .
(3) الرخم : جمع رخمة ، الطائر المعروف .
(4) الاستيعاب : 83 .
(5) الاستيعاب : " وفتى من الانصار دعتهم امرأته إليه فشهدوا موته ، وغمضوا عينيه ، وغسلوه وكفنوه في ثياب الانصاري ، في خبر عجيب حسن فيه طول " .
(*)(15/100)
قرئ كتاب " الاستيعاب " على شيخنا عبد الوهاب بن سكنية المحدث وأنا حاضر ، فلما انتهى القارئ إلى هذا الخبر قال أستاذي عمر بن عبد الله الدباس - وكنت أحضر معه سماع الحديث - : لتقل الشيعة بعد هذا ما شاءت ، فما قال المرتضى والمفيد إلا بعض ما كان حجر والاشتر يعتقدانه في عثمان ومن تقدمه ، فأشار الشيخ إليه بالسكوت ، فسكت .
وذكرنا آثار الاشتر ومقاماته بصفين فيما سبق .
والاشتر هو الذى عانق عبد الله بن الزبير يوم الجمل فاصطرعا على ظهر فرسيهما حتى وقعا في الارض ، فجعل عبد الله يصرخ من تحته : اقتلوني ومالكا ! فلم يعلم من الذى يعنيه لشدة الاختلاط وثوران النقع (1) ، فلو قال : اقتلوني والاشتر لقتلا جميعا ، فلما افترقا قال الاشتر : أ عائش لو لا أنني كنت طاويا * * ثلاثا لالفيت ابن أختك هالكا (2) غداة ينادي والرماح تنوشه * * كوقع الصياصي : اقتلوني ومالكا (3) فنجاه مني شبعه وشبابه * * وإني شيخ لم أكن متماسكا ويقال : إن عائشة فقدت عبد الله فسألت عنه ، فقيل لها : عهدنا به وهو معانق للاشتر * فقالت : وا ثكل أسماء ! ومات الاشتر في سنة تسع وثلاثين متوجها إلى مصر واليا عليها لعلى عليه السلام .
قيل : سقي سما ، وقيل : إنه لم يصح ذلك ، وإنما مات حتف أنفه .
فأما ثناء أمير المؤمنين عليه السلام عليه في هذا الفصل فقد بلغ مع اختصاره ما لا يبلغ بالكلام الطويل ، ولعمري لقد كان الاشتر أهلا لذلك ، كان شديد البأس ، جوادا
__________
(1) النقع : الغبار .
(2) الطاوي : الجائع .
(3) تنوشه : تتناوله .
(*)(15/101)
رئيسا حليما فصيحا شاعرا ، وكان يجمع بين اللين والعنف ، فيسطو في موضع السطوة ، ويرفق في موضع الرفق .
[ نبذ من الاقوال الحكيمة ] ومن كلام عمر : إن هذا الامر لا يصلح إلا لقوي في غير عنف ، ولين في غير ضعف .
وكان أنو شروان إذا ولى رجلا أمر الكاتب أن يدع في العهد موضع ثلاثه أسطر ليوقع فيها بخطه ، فإذا أتى بالعهد وقع فيه : سس خيار الناس بالمودة ، وسفلتهم بالاخافة ، وامزج العامة رهبة برغبة .
وقال عمر بن عبد العزيز : إني لاهم أن أخرج للناس أمرا من العدل ، فأخاف ألا تحتمله قلوبهم ، فأخرج معه طمعا من طمع الدنيا ، فإن نفرت القلوب من ذاك سكنت إلى هذا .
وقال معاوية : إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي ، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني ، ولو أن بينى وبين الناس شعرة ما انقطعت .
فقيل له : كيف قال : إذا مدوها خليتها ، وإذا خلوها مددتها .
وقال الشعبي في معاوية : كان كالجمل الطب .
إذا سكت عنه تقدم ، وإذا رد تأخر .
وقال ليزيد ابنه : قد تبلغ بالوعيد ما لا تبلغ بالايقاع ، وإياك والقتل ، فإن الله قاتل القتالين .
وأغلظ له رجل فحلم عنه ، فقيل له : أتحلم عن هذا ؟ قال : إنا لا نحول بين الناس وألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين سلطاننا .(15/102)
وفخر سليم مولى زياد عند معاوية بن زياد ، فقال معاوية : اسكت ويحك فما أدرك صاحبك بسيفه شيئا قط إلا وقد أدركت أكثر منه بلساني .
وقال الوليد بن عبد الملك لابيه : ما السياسه يا أبت ؟ قال هيبة الخاصة لك ، مع صدق مودتها ، واقتيادك قلوب العامة بالانصاف لها ، واحتمال هفوات الصنائع .
وقد جمع أمير المؤمنين عليه السلام من أصناف الثناء والمدح ما فرقه هؤلاء في كلماتهم بكلمة واحدة قالها في الاشتر ، وهي قوله : " لا يخاف بطئه عما الاسراع إليه أحزم ، ولا إسراعه إلى ما البطء عنه أمثل " .
قوله عليه السلام : " وعلى من في حيزكما " أي في ناحيتكما .
والمجن : الترس .
والوهن : الضعف .
والسقطة : الغلطة والخطا .
وهذا الرأي أحزم من هذا ، أي أدخل في باب الحزم والاحتياط ، وهذا أمثل من هذا أي أفضل(15/103)
(14) الاصل : ومن وصية له عليه السلام لعسكره بصفين قبل لقاء العدو : لا تقاتلونهم حتى يبدءوكم ، فإنكم بحمد الله على حجة ، وترككم إياهم يبدؤوكم حجة أخرى لكم عليهم ، فإذا كانت الهزيمة بإذن الله فلا تقتلوا مدبرا ، ولا تصيبوا معورا ، ولا تجهزوا على جريح ، ولا تهيجوا النساء بأذى وإن شتمن أعراضكم ، وسببن أمراءكم ، فإنهن ضعيفات القوى والانفس والعقول ، إن كنا لنؤمر بالكف عنهن وإنهن لمشركات ، وإن كان الرجل ليتناول المرأة في الجاهلية بالفهر أو الهراوة فيعير بها وعقبه من بعده .
الشرح : نهى أصحابه عن البغي والابتداء بالحرب ، وقد روي عنه أنه قال : ما نصرت على الاقران الذين قتلتهم إلا لاني ما ابتدات بالمبارزة ، ونهى - إذا وقعت الهزيمة - عن قتل المدبر ، والاجهاز على الجريح ، وهو إتمام قتله .
قوله عليه السلام : " ولا تصيبوا معورا " هو من يعتصم منك في الحرب بإظهار عورته لتكف عنه ، ويجوز أن يكون المعور هاهنا المريب الذى يظن أنه من القوم وأنه حضر للحرب وليس منهم ، لانه حضر لامر آخر .
قوله عليه السلام : " ولا تهيجوا النساء بأذى " ، أي لا تحركوهن .(15/104)
والفهر : الحجر ، والهراوة : العصا .
وعطف " وعقبه " على الضمير المستكن المرفوع في " فيعير " ولم يؤكد للفصل بقوله : بها ، كقوله تعالى : " ما أشركنا ولا آباؤنا " (1) ، لما فصل بلا عطف ولم يحتج إلى تأكيد .
[ نبذ من الاقوال الحكيمه ] ومما ورد في الشعر في هذا المعنى قول الشاعر (2) .
إن من أعظم الكبائر عندي * * قتل بيضاء حرة عطبول (3) كتب القتل والقتال علينا * * وعلى المحصنات جر الذيول .
وقالت امرأة عبد الله بن خلف الخزاعي بالبصرة لعلي عليه السلام بعد ظفره - وقد مر ببابها : يا علي ، يا قاتل الاحبة ، لا مرحبا بك ! أيتم الله منك ولدك كما أيتمت بني عبد الله بن خلف ! فلم يرد عليها ، ولكنه وقف وأشار إلى ناحية من دارها ، ففهمت إشارته ، فسكتت وانصرفت .
وكانت قد سترت عندها عبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم ، فأشار إلى الموضع الذى كانا فيه ، أي لو شئت أخرجتهما ! فلما فهمت انصرفت ، وكان عليه السلام حليما كريما .
وكان عمر بن الخطاب إذا بعث أمراء الجيوش يقول بسم الله ، وعلى عون الله ،
__________
(1) سورة الانعام 148 .
(2) من أبيات تنسب لعمر بن أبي ربيعة ، ملحق ديوانه : 498 .
(3) العطبول : الشابة الفتية الممتلئة ، وبعده : قتلت باطلا على غير ذنب * * إن لله درها من قتيل (*)(15/105)
وبركته ، فامضوا بتأييد الله ونصره ، أوصيكم بتقوى الله ، ولزوم الحق والصبر ، فقاتلوا في سبيل الله من كفر بالله ، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين .
ولا تجبنوا عند اللقاء ، ولا تمثلوا عند الغارة ، ولا تسرفوا عند الظهور ، ولا تقتلوا هرما ، ولا امرأة ، ولا وليدا ، وتوقوا أن تطئوا هؤلاء عند التقاء الزحفين وعند حمة النهضات وفي شن الغارات ، ولا تغلوا عند الغنائم ، ونزهوا الجهاد عن غرض الدنيا ، وابشروا بالارباح في البيع الذى بايعتم به ، وذلك هو الفوز العظيم .
واستشار قوم أكثم بن صيفي في حرب قوم أرادوهم وسألوه أن يوصيهم ، فقال : أقلوا الخلاف على أمرائكم ، واثبتوا ، فإن أحزم الفريقين الركين (1) ، ورب عجلة تهب (2) ريثا .
وكان قيس بن عاصم المنقري إذا غزا شهد معه الحرب ثلاثون من ولده يقول لهم : إياكم والبغي ، فإنه ما بغى قوم قط إلا ذلوا ، قالوا : فكان الرجل من ولده يظلم فلا ينتصف مخافة الذل .
قال أبو بكر يوم حنين : لن نغلب اليوم من قلة - وكانوا اثنى عشر ألفا - فهزموا يومئذ هزيمة قبيحة ، وأنزل الله تعالى قوله : " ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا) (3) .
وكان يقال : لا ظفر مع بغي ، ولا صحة مع نهم ، ولا ثناء مع كبر ، ولا سؤدد مع شح .
__________
(1) اللركين : العزيز الممتنع .
(2) الريث : الابطاء ، وهو مثل .
(3) سورة التوبة 25 .
(*)(15/106)
[ قصة فيروز بن يزدجرد حين غزا ملك الهياطلة ] ومن الكلمات المستحسنه في سوء عاقبة البغى ما ذكره ابن قتيبة في كتاب " عيون الاخبار " أن فيروز بن يزدجرد بن بهرام لما ملك سار بجنوده نحو بلاد الهياطلة ، فلما انتهى إليهم اشتد رعب ملكهم أخشنوار منه وحذره ، فناظر أصحابه ووزراءه في أمره فقال رجل منهم أعطني موثقا من الله وعهدا تطمئن إليه نفسي أن تكفيني الغم بأمر (1) أهلى وولدى ، وأن تحسن إليهم ، وتخلفني فيهم ، ثم اقطع يدي ورجلي وألقني في طريق فيروز حتى يمر بي هو وأصحابه ، وأنا أكفيك أمرهم (2) ، وأورطهم مورطا تكون فيه هلكتهم .
فقال له أخشنوار : وما الذى تنتفع به من سلامتنا وصلاح حالنا إذا أنت هلكت ولم تشركنا في ذلك ! فقال : إني قد بلغت ما كنت أحب أن أبلغ من الدنيا ، وأنا موقن أن الموت لا بد منه ، وإن تأخر أياما قليلة ، فأحب أن أختم عملي بأفضل ما يختم به الاعمال من النصيحة بسلطاني ، والنكاية في عدوي ، فيشرف بذلك عقبي ، وأصيب سعادة وحظوة فيما أمامي .
ففعل أخشنوار به ذلك ، وحمله فألقاه في الموضع الذى أشار إليه ، فمر به فيروز في جنوده ، فسأله عن حاله ، فأخبره أن أخشنوار فعل به ما يراه وأنه شديد الاسف ، كيف لا يستطيع أن يكون أمام الجيش في غزو بلاده وتخريب مدينته ، ولكنه سيدل الملك على طريق هو أقرب من هذا الطريق الذى يريدون سلوكه وأخفى ، فلا يشعر أخشنوار حتى يهجم عليه فينتقم الله منه بكم ، وليس في هذا الطريق من المكروه إلا تغور (3) يومين ، ثم تفضون إلى كل ما تحبون .
__________
(1) العيون : " أن تكفيني أهلي وولدي " .
(2) العيون : " أكفيك مؤونتهم وأمرهم " .
(3) التغور : إتيان الغور .
وفي عيون الاخبار : " تفويز يومين " ، أي السير في المفازة .
(*)(15/107)
فقبل فيروز قوله بعد أن أشار إليه وزراؤه بالاتهام له ، والحذر منه ، [ وبغير ذلك ] (1) .
فخالفهم وسلك تلك الطريق ، فانتهوا بعد يومين إلى موضع من المفازة لا صدر لهم عنه ، ولا ماء معهم ، ولا بين أيديهم ، وتبين لهم أنهم قد خدعوا ، فتفرقوا في تلك المفازه يمينا وشمالا يلتمسون الماء ، فقتل العطش أكثرهم ، ولم يسلم مع فيروز إلا عدة يسيرة ، فانتهى إليهم أخشنوار بجيشه ، فواقعهم في تلك الحال التى هم فيها من القلة والضر والجهد ، فاستمكنوا منهم ، بعد أن أعظموا (2) النكاية فيهم .
وأسر فيروز ، فرغب اخشنوار أن يمن عليه وعلى من بقي من أصحابه على أن يجعل له عهد الله وميثاقه ، ألا يغزوهم أبدا ما بقي ، وعلى أن يحد فيما بينه وبين مملكتهم حدا لا يتجاوزه جنوده .
فرضي أخشنوار بذلك فخلى سبيله ، وجعلا بين المملكتين حجرا (3) لا يتجاوزه كل واحد منهما .
فمكث فيروز برهه من دهره ، ثم حمله الانف على أن يعود لغزو الهياطلة ، ودعا أصحابه إلى ذلك ، فنهوه عنه ، وقالوا : إنك قد عاهدته ، ونحن نتخوف عليك عاقبه البغي والغدر ، مع ما في ذلك من العار وسوء القالة (4) .
فقال لهم : إنما اشترطت له ألا أجوز الحجر الذى جعلناه بيننا ، وأنا آمر بالحجر فيحمل أمامنا على عجل .
فقالوا : أيها الملك ، إن العهود والمواثيق التى يتعاطاها الناس بينهم لا تحمل على ما يسره المعطي لها ، ولكن على ما يعلن به المعطى إياها ، وإنما جعلت عهد الله وميثاقه على الامر الذى عرفه ، لا على الامر الذى لم يخطر له ببال .
فأبى فيروز ومضى في غزوته حتى انتهى إلى الهياطلة ، وتصاف الفريقان للقتال .
__________
(1) من عيون الاخبار .
(2) عيون الاخبار : " وأعظموا النكاية " .
(3) عيون الاخبار : " حدا لا تجاوزه " .
(4) القول في الخير ، والقالة في الشر ، وفي عيون الاخبار : " المقالة " .
(*)(15/108)
فأرسل أخشنوار إلى فيروز يسأله أن يبرز فيما بين صفيهم ، فخرج إليه ، فقال له أخشنوار : إني قد ظننت أنه لم يدعك إلى مقامك هذا إلا الانف مما أصابك ، ولعمري إن كنا قد احتلنا لك بما رأيت لقد كنت التمست منا أعظم منه ، وما ابتدأناك ببغي ولا ظلم ، وما أردنا إلا دفعك عن أنفسنا وحريمنا ، ولقد كنت جديرا أن تكون من سوء مكافأتنا بمننا عليك وعلى من معك ، ومن نقض العهد والميثاق الذى أكدته على نفسك أعظم أنفا ، وأشد امتعاضا مما نالك منا ، فإنا أطلقناكم وأنتم أسارى ، ومننا عليكم وأنتم على الهلكة مشرفون ، وحقنا دماءكم ولنا على سفكها قدرة .
وإنا لم نجبرك على ما شرطت لنا ، بل كنت أنت الراغب إلينا فيه ، والمريد لنا عليه ، ففكر في ذلك ، وميز بين هذين الامرين فانظر أيهما أشد عارا ، وأقبح سماعا ، إن طلب رجل أمرا فلم يقدر له ولم ينجح في طلبته وسلك سبيلا فلم يظفر فيه ببغيته ، واستمكن منه عدوه على حال جهد وضيعه منه وممن هم معه .
فمن عليهم وأطلقهم على شرط شرطوه ، وأمر اصطلحوا عليه ، فاصطبر (1) بمكروه القضاء ، واستحيا من الغدر والنكث ، أن يقال : نقض العهد وأخفر (2) الميثاق ، مع أنى قد ظننت أنه يزيدك لجاجة (3) ما تثق به من كثرة جنودك ، وما ترى من حسن عدتهم ، وما أجدني أشك أنهم أو أكثرهم كارهون لما كان من شخوصك بهم ، عارفون بأنك قد حملتهم على غير الحق ، ودعوتهم إلى ما يسخط الله ، وأنهم في حربنا غير مستبصرين ، ونياتهم على مناصحتك مدخولة .
فانظر ما قدر غناء من يقاتل على هذه الحال ، وما عسى أن يبلغ نكايته في عدوه ، إذا كان عارفا بأنه إن ظفر فمع عار ، وإن قتل فإلى النار ! وأنا أذكرك الله الذى جعلته
__________
(1) عيون الاخبار : " فاضطر " .
(2) أخفر ميثاقه : نقض عهده ، وفي عيون الاخبار : " خفر الميثاق " .
(3) عيون الاخبار : " نجاحا " .
(*)(15/109)
على نفسك كفيلا ، وأذكرك نعمتي عليك وعلى من معك ، بعد يأسكم من الحياة ، وإشفائكم على الممات ، وأدعوك إلى ما فيه حظك ورشدك من الوفاء بالعهد ، والاقتداء بآبائك وأسلافك الذين مضوا على ذلك في كل ما أحبوه وكرهوه ، فأحمدوا عواقبه وحسن عليهم أثره .
ومع ذلك فإنك لست على ثقة من الظفر بنا ، وبلوغ نهمتك (1) فينا ، وإنما تلتمس أمرا يلتمس منك مثله ، وتنادي عدوا لعله يمنح النصر عليك ، فاقبل هذه النصيحة فقد بالغت في الاحتجاج عليك ، وتقدمت بالاعذار إليك ، ونحن نستظهر بالله الذى اعتذرنا إليه ، ووثقنا بما جعلت لنا من عهده ، إذا استظهرت بكثرة جنودك ، وازدهتك عدة أصحابك ، فدونك هذه النصيحة ، فبالله ما كان أحد من أصحابك يبالغ لك أكثر منها ، ولا يزيدك عليها ، ولا يحرمنك منفعتها مخرجها مني ، فإنه ليس يزرى بالمنافع والمصالح عند ذوي الاراء صدورها عن الاعداء ، كما لا تحسن المضار أن تكون على أيدى الاصدقاء .
واعلم أنه ليس يدعوني إلى ما تسمع من مخاطبتي إياك ضعف من نفسي ، ولا من قلة جنودي ، ولكني أحببت أن أزداد بذلك حجة واستظهارا ، فأزداد به للنصر والمعونه من الله استيجابا ، ولا أوثر على العافية والسلامة شيئا ما وجدت إليهما سبيلا (2) .
فقال فيروز : لست ممن يردعه عن الامر يهم به الوعيد ، ولا يصده التهدد والترهيب ، ولو كنت أرى ما أطلب غدرا مني ، إذا ما كان أحد أنظر ولا أشد إبقاء منى على نفسي ، وقد يعلم الله إنى لم أجعل لك العهد والميثاق إلا بما أضمرت في نفسي ، فلا يغرنك الحال التى كنت صادفتنا عليها من القلة والجهد والضعف .
__________
(1) النهمة : الحاجة والشهوة .
(2) في عيون الاحبار بعدها : " فأبى فيروز إلا تعلقا لحجته في الحجر الذي جعله حدا بينه وبينه " .
(*)(15/110)
فقال أخشنوار : لا يغرنك ما تخدع به نفسك من حملك الحجر أمامك ، فإن الناس لو كانوا يعطون العهود على ما تصف من إسرار أمر وإعلام آخر ، إذا ما كان ينبغي لاحد أن يغتر بأمان ، أو يثق بعهد ! وإذا ما قبل الناس شيئا مما كانوا يعطون من ذلك ، ولكنه وضع على العلانية ، وعلى نية من تعقد له العهود والشروط .
ثم انصرف .
فقال فيروز لاصحابه : لقد كان أخشنوار حسن المحاورة وما رأيت للفرس الذى كان تحته نظيرا في الدواب ، فإنه لم يزل قوائمه ، ولم يرفع حوافره عن مواضعها ، ولا صهل ، ولا أحدث شيئا يقطع به المحاورة في طول ما تواقفنا .
وقال أخشنوار لاصحابه : لقد وافقت فيروز كما رأيتم وعليه السلاح كله ، فلم يتحرك ، ولم ينزع رجله من ركابه ، ولا حنى ظهره ، ولا التفت يمينا ولا شمالا ، ولقد توركت أنا مرارا ، وتمطيت على فرسي ، والتفت إلى من خلفي ، ومددت بصرى فيما أمامي ، وهو منتصب ساكن على حاله ، ولو لا محاورته إياى لظننت أنه لا يبصرني ، وإنما أرادا بما وصفا من ذلك أن ينشر هذان الحديثان في أهل عسكرهما فيشتغلوا بالافاضة فيهما عن النظر فيما تذاكرا .
فلما كان في اليوم الثاني أخرج أخشنوار الصحيفة التى كتبها لهم فيروز ، ونصبها على رمح ليراها أهل عسكر فيروز فيعرفوا غدره وبغيه ، ويخرجوا من متابعته على هواه ، فما هو إلا أن رأوها ، حتى انتقض عسكرهم واختلفوا ، وما تلبثوا إلا يسيرا حتى انهزموا ، وقتل منهم خلق كثير ، وهلك فيروز ، فقال أخشنوار لقد صدق الذى قال ، لا مرد لما قدر ولا شئ أشد إحاله لمنافع الرأى من الهوى واللجاج ، ولا أضيع من نصيحة يمنحها من لا يوطن نفسه على قبولها ، والصبر على مكروهها ، ولا أسرع عقوبة وأسوا عاقبة من البغي والغدر ، ولا أجلب لعظيم العار والفضوح من الانف وإفراط العجب (1) .
__________
(1) عيون الاخبار 1 : 117 - 121 .
(*)(15/111)
(15) الاصل وكان عليه السلام يقول إذا لقى العدو محاربا : اللهم إليك أفضت القلوب ، ومدت الاعناق ، وشخصت الابصار ، ونقلت الاقدام ، وأانضيت الابدان .
اللهم قد صرح مكنون الشنآن ، وجاشت مراجل الاضغان .
اللهم إنا نشكو إليك غيبة نبينا ، وكثرة عدونا ، وتشتت أهوائنا .
ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين .
الشرح : أفضت القلوب : أي دنت وقربت ، ومنه أفضى الرجل إلى امرأته أي غشيها ، ويجوز أن يكون " أفضت " أي بسرها فحذف المفعول .
وأنضيت الابدان : هزلت ، ومنه النضو ، وهو البعير المهزول .
وصرح : انكشف .
والشنآن : البغضة .
وجاشت : تحركت واضطربت .
والمراجل : جمع مرجل ، وهى القدر .
والاضغان : الاحقاد ، واحدها ضغن .
وأخذ سديف مولى المنصور هذه اللفظة فكان يقول في دعائه : اللهم إنا نشكو(15/112)
إليك غيبة نبينا وتشتت أهوائنا ، وما شملنا من زيغ الفتن ، واستولى علينا من غشوة الحيرة حتى عاد فينا دولة بعد القسمة ، وأمارتنا غلبة بعد المشورة ، وعدنا ميراثا بعد الاختيار للامة ، واشتريت الملاهي والمعازف بمال اليتيم والارملة ، ورعى في مال الله من لا يرعى له حرمة ، وحكم في أبشار المؤمنين أهل الذمة ، وتولى القيام بأمورهم فاسق كل محلة ، فلا ذائد يذودهم عن هلكة ، ولا راع ينظر إليهم بعين رحمة ، ولا ذو شفقة يشبع الكبد الحرى من مسغبة ، فهم أولو ضرع وفاقة ، وأسراء فقر ومسكنة ، وحلفاء كآبة ، وذلة ، اللهم وقد استحصد زرع الباطل وبلغ نهايته ، واستحكم عموده ، واستجمع طريده ، وحذف وليده ، وضرب بجرانه ، فأتح له من الحق يدا حاصدة ، تجذ سنامه ، وتهشم سوقه ، وتصرع قائمه ، ليستخفى الباطل بقبح حليته ، ويظهر الحق بحسن صورته .
ووجدت هذه الالفاظ في دعاء منسوب إلى على بن الحسين زين العابدين عليه السلام ، ولعله من كلامه ، وقد كان سديف يدعو به .(15/113)
(16) الاصل : وكان يقول عليه السلام لاصحابه عند الحرب : لا تشتدن عليكم فرة بعدها كرة ، ولا جولة بعدها حملة ، وأعطوا السيوف حقوقها ، ووطنوا للجنوب مصارعها ، وأذمروا أنفسكم على الطعن الدعسي ، والضرب الطلحفي ، وأميتوا الاصوات فإنه أطرد للفشل .
والذى فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، ما أسلموا ولكن استسلموا ، وأسروا الكفر ، فلما وجدوا أعوانا عليه أظهروه .
الشرح : قال : لا تستصعبوا فرة تفرونها بعدها كرة تجبرون بها ما تكسر من حالكم ، وإنما الذى ينبغى لكم أن تستصعبوه فرة لا كرة بعدها ، وهذا حض لهم على أن يكروا ويعودوا إلى الحرب إن وقعت عليهم كسره .
ومثله قوله : " ولا جولة بعدها حملة " ، والجولة : هزيمة قريبة ليست بالممعنة (1) .
واذمروا أنفسكم ، من ذمره على كذا أي حضه عليه .
والطعن الدعسي : الذى يحشى به أجواف الاعداء ، وأصل الدعس الحشو ، دعست الوعاء ، حشوته .
وضرب طلحفي ، بكسر الطاء وفتح اللام ، أي شديد ، واللام زائدة .
__________
(1) الممعنة ، من الامعان ، وفي ب : " ممنعة " تحريف .
(*)(15/114)
ثم أمرهم بإماتة الاصوات ، لان شدة الضوضاء في الحرب أمارة الخوف والوجل .
ثم أقسم أن معاوية وعمرا ومن والاهما من قريش ما أسلموا ولكن استسلموا خوفا من السيف ونافقوا ، فلما قدروا على إظهار ما في أنفسهم أظهروه ، وهذا يدل على أنه عليه السلام جعل محاربتهم له كفرا .
وقد تقدم في شرح حال معاوية وما يذكره كثير من أصحابنا من فساد عقيدته ما فيه كفاية .
[ نبذ من الاقوال المتشابهه في الحرب ] وأوصى أكثم بن صيفي قوما نهضوا إلى الحرب فقال : ابرزوا للحرب ، وادرعوا الليل ، فإنه أخفى للويل ، ولا جماعة لمن اختلف ، واعلموا أن كثرة الصياح من الفشل ، والمرء يعجز لا محالة .
وسمعت عائشة يوم الجمل أصحابها يكبرون فقالت : لا تكبروا هاهنا ، فإن كثرة التكبير عند القتال من الفشل .
وقال بعض السلف : قد جمع الله أدب الحرب في قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا ...
) (1) الايتين .
وقال عتبة بن ربيعة لقريش يوم بدر : أ لا ترونهم - يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وآله - جثيا على الركب ، يتلمظون تلمظ الحيات ! وأوصى عبد الملك بن صالح أمير سرية بعثها ، فقال : أنت تاجر الله لعباده ، فكن كالمضارب الكيس الذى إن وجد ربحا تجر ، وإلا احتفظ برأس المال ، ولا تطلب
__________
(1) سورة الانفال 45 ، 46 .
(*)(15/115)
الغنيمة حتى تحوز السلامة ، وكن من احتيالك على عدوك أشد حذرا من احتيال عدوك عليك .
وفى الحديث المرفوع أنه صلى الله عليه وآله قال لزيد بن حارثة : لا تشق جيشك ، فإن الله تعالى ينصر القوم بأضعفهم .
وقال ابن عباس - وذكر عليا عليه السلام : ما رأيت رئيسا يوزن به ، لقد رأيته يوم صفين وكأن عينيه سراجا سليط (1) وهو يحمس أصحابه إلى أن انتهى إلي وأنا في كنف فقال : يا معشر المسلمين ، استشعروا الخشية ، وتجلببوا السكينة ، وأكملوا اللامة ...
الفصل المذكور فيما تقدم .
__________
(1) السليط : زيت به يضاء .
(*)(15/116)
(17) الاصل : ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية جوابا عن كتاب منه إليه : وأما طلبك إلي الشام ، فإنى لم أكن لاعطيك اليوم ما منعتك امس .
وأما قولك : إن الحرب قد أكلت العرب إلا حشاشات أنفس بقيت ، ألا ومن أكله الحق فإلى الجنة ، ومن أكله الباطل فإلى النار .
وأما استواؤنا في الحرب والرجال فلست بأمضى على الشك منى على اليقين ، وليس أهل الشام بأحرص على الدنيا من أهل العراق على الاخرة .
وأما قولك : إنا بنو عبد مناف ! فكذلك نحن ، ولكن ليس أمية كهاشم ، ولا حرب كعبد المطلب ، ولا أبو سفيان كأبى طالب ، ولا لمهاجر كالطليق ، ولا الصريح كاللصيق ، ولا المحق كالمبطل ، ولا المؤمن كالمدغل .
ولبئس الخلف خلف يتبع سلفا هوى في نار جهنم .
وفي أيدينا بعد فضل النبوة التى أذللنا بها العزيز ، ونعشنا بها الذليل .
ولما أدخل الله العرب في دينه أفواجا ، وأسلمت له هذه الامة طوعا وكرها ، كنتم ممن دخل في الدين ، إما رغبة وإما رهبة ، على حين فاز أهل السبق بسبقهم ، وذهب المهاجرون الاولون بفضلهم ، فلا تجعلن للشيطان فيك نصيبا ، ولا على نفسك سبيلا .
والسلام(15/117)
الشرح : يقال : طلبت إلى فلان كذا ، والتقدير طلبت كذا راغبا إلى فلان ، كما قال تعالى : (في تسع آيات إلى فرعون) (1) أي مرسلا .
ويروى " إلا حشاشة نفس " ، بالافراد ، وهو بقيه الروح في بدن المريض .
وروي : " ألا ومن أكله الحق فإلى النار " ، وهذه الرواية أليق من الرواية المذكورة في أكثر الكتب ، لان الحق يأكل أهل الباطل ، ومن روى تلك الرواية أضمر مضافا تقديره " أعداء الحق " ، ومضافا آخر تقديره " أعداء الباطل " .
ويجوز أن يكون من أكله الحق فإلى الجنة ، أي من أفضى به الحق ونصرته والقيام دونه إلى القتل ، فإن مصيره إلى الجنة ، فيسمى الحق لما كانت نصرته كالسبب إلى القتل أكلا لذلك المقتول ، وكذلك القول في الجانب الاخر .
وكان الترتيب يقتضى أن يجعل هاشما بازاء عبد شمس لانه أخوه في قعدد (2) ، وكلاهما ولد عبد مناف لصلبه ، وأن يكون أمية بإزاء عبد المطلب ، وأن يكون حرب بإزاء أبى طالب ، وأن يكون أبو سفيان بإزاء أمير المؤمنين عليه السلام ، لان كل واحد من هؤلاء في قعدد صاحبه ، إلا أن أمير المؤمنين عليه السلام لما كان في صفين بإزاء معاويه اضطر إلى أن جعل هاشما بإزاء أمية بن عبد شمس .
فإن قلت : فهلا قال : " ولا أنا كأنت " ؟ قلت : قبيح أن يقال ذلك ، كما لا يقال : السيف أمضى من العصا ، بل قبيح به أن يقولها مع أحد من المسلمين كافة ، نعم قد يقولها لا تصريحا ، بل تعريضا ، لانه يرفع نفسه على أن يقيسها بأحد .
وهاهنا قد عرض بذلك في قوله : " ولا المهاجر كالطليق " فإن قلت : فهل معاوية
__________
(1) سورة النمل 12 .
(2) قعدد ، أي قريب الآباء من الجد الاكبر .
(*)(15/118)
من الطلقاء ؟ قلت : نعم ، كل من دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وآله مكة عنوة بالسيف فملكه ثم من عليه عن إسلام أو غير إسلام فهو من الطلقاء ممن لم يسلم كصفوان بن أمية ، ومن أسلم كمعاوية بن أبى سفيان ، وكذلك كل من أسر في حرب رسول الله صلى الله عليه وآله ، ثم امتن عليه بفداء أو بغير فداء فهو طليق ، فممن امتن عليه بفداء كسهيل بن عمرو ، وممن امتن عليه بغير فداء أبو عزة الجمحي ، وممن امتن عليه معاوضة أي أطلق لانه بإزاء أسير من المسلمين عمرو بن أبى سفيان بن حرب ، كل هؤلاء معدودون من الطلقاء .
فإن قلت : فما معنى قوله : " ولا الصريح كاللصيق " ، وهل كان في نسب معاوية شبهة ليقول له هذا ؟ قلت : كلا إنه لم يقصد ذلك ، وإنما أراد الصريح بالاسلام واللصيق في الاسلام ، فالصريح فيه هو من أسلم اعتقادا وإخلاصا ، واللصيق فيه من أسلم تحت السيف أو رغبة في الدنيا ، وقد صرح بذلك فقال : " كنتم ممن دخل في هذا الدين إما رغبة وإما رهبة " .
فإن قلت : فما معنى قوله : " ولبئس الخلف خلفا يتبع سلفا هوى في نار جهنم " ؟ وهل يعاب المسلم بأن سلفه كانوا كفارا ! قلت : نعم ، إذا تبع آثار سلفه واحتذى حذوهم ، وأمير المؤمنين عليه السلام ما عاب معاوية بأن سلفه كفار فقط ، بل بكونه متبعا لهم .
قوله عليه السلام : " وفي أيدينا بعد فضل النبوة " أي إذا فرضنا تساوي الاقدام في مآثر أسلافكم كان في أيدينا بعد الفضل عليكم بالنبوة التى نعشنا بها الخامل ، وأخملنا بها النبيه .
قوله عليه السلام : " على حين فاز أهل السبق " ، قال قوم من النحاة :(15/119)
" حين " مبني هاهنا على الفتح .
وقال قوم : بل منصوب لاضافته إلى الفعل .
قوله عليه السلام : " فلا تجعلن للشيطان فيك نصيبا " ، أي لا تستلزم من أفعالك ما يدوم به كون الشيطان ضاربا فيك بنصيب ، لانه ما كتب إليه هذه الرسالة إلا بعد أن صار للشيطان فيه أوفر نصيب ، وإنما المراد نهيه عن دوام ذلك واستمراره .
[ ذكر بعض ما كان بين علي ومعاوية يوم صفين ] وذكر نصر بن مزاحم بن بشار العقيلي في كتاب " صفين " أن هذا الكتاب كتبه علي عليه السلام إلى معاوية قبل ليلة الهرير بيومين أو ثلاثة .
قال نصر : أظهر علي عليه السلام أنه مصبح معاوية ومناجز له ، وشاع ذلك من قوله .
ففزع أهل الشام لذلك ، وانكسروا لقوله .
وكان معاوية بن الضحاك بن سفيان صاحب راية بني سليم مع معاوية مبغضا لمعاوية وأهل الشام ، وله هوى مع أهل العراق ، وعلي بن أبى طالب عليه السلام ، وكان يكتب بأخبار معاوية إلى عبد الله بن الطفيل العامري ، وهو مع أهل العراق فيخبر بها عليا عليه السلام ، فلما شاعت كلمة علي عليه السلام وجل لها أهل الشام ، وبعث ابن الضحاك إلى عبد الله بن الطفيل : أنى قائل شعرا أذعر به أهل الشام وأرغم به معاوية ، وكان معاوية لا يتهمه ، وكان له فضل ونجدة ولسان ، فقال ليلا ليستمع أصحابه : ألا ليت هذا الليل أطبق سرمدا * * علينا وأنا لا نرى بعده غدا ويا ليته إن جاءنا بصباحه * * وجدنا إلى مجرى الكواكب مصعدا حذار علي إنه غير مخلف * * مدى الدهر ما لب الملبون موعدا وأما قراري في البلاد فليس لي * * مقام وإن جاوزت جابلق مصعدا(15/120)
كأني به في الناس كاشف رأسه * * على ظهر خوار الرحالة أجردا يخوض غمار الموت في مرجحنة * * ينادون في نقع العجاج محمدا (1) فوارس بدر والنضير وخيبر * * وأحد يهزون الصفيح المهندا ويوم حنين جالدوا عن نبيهم * * فريقا من الاحزاب حتى تبددا (2) هنالك لا تلوي عجوز على ابنها * * وإن أكثرت من قول : نفسي لك الفدا فقل لابن حرب ما الذي أنت صانع * * أتثبت أم ندعوك في الحرب قعددا (3) فلا رأي إلا تركنا الشام جهرة * * وإن أبرق الفجفاج فيها وأرعدا (4) فلما سمع أهل الشام شعره أتوا به معاوية ، فهم بقتله ، ثم راقب فيه قومه ، فطرده من الشام ، فلحق بمصر وندم معاوية على تسييره إياه .
وقال معاوية : لشعر السلمي (5) أشد على أهل الشام من لقاء علي ، ما له قاتله الله ، لو صار خلف جابلق مصعدا لم يأمن عليا ! أ لا تعلمون ما جابلق ؟ يقوله لاهل الشام ، قالوا : لا ، قال : مدينة في أقصى المشرق ليس بعدها شئ .
قال نصر : وتناقل الناس كلمة علي عليه السلام : " لاناجزنهم مصبحا (6) " ، فقال الاشتر : قد دنا الفضل في الصباح ولل * * - سلم رجال وللحروب رجال
__________
(1) المرجحنة : الامر العظيم .
(2) جالدوا : دافعوا .
(3) القعدد : الجبان القاعد عن الحرب ، وبعده في صفين : وظني بألا يصبر القوم موقفا * * يقفه وإن لم يجر في الدهر للمدى (4) الفجفاج : كثير الكلام المتشبع بما ليس عنده .
(5) صفين : " لقول السلمي " .
(6) صفين : " إني مناجز القوم إن أصبحت " .
(*)(15/121)
فرجال الحروب كل خدب * * مقحم لا تهده الاهوال (1) يضرب الفارس المدجج بالسيف * * إذا فر في الوغا الاكفال يابن هند شد الحيازيم للمو * * ت ولا تذهبن بك الامال إن في الصبح إن بقيت لامرا * * تتفادى من هوله الابطال فيه عز العراق أو ظفر * * الشام بأهل العراق والزلزال فاصبروا للطعان بالاسل السم * * - ر وضرب تجرى به الامثال (2) إن تكونوا قتلتم النفر البي * * - ض وغالت أولئك الاجال (3) فلنا مثلهم غداة التلاقي * * وقليل من مثلهم أبدال يخضبون الوشيج طعنا أذا جرت من الموت بينهم أذيال (4) طلب الفوز في المعاد وفيه * * تستهان النفوس والاموال قال : فلما انتهى إلى معاوية شعر الاشتر قال : شعر منكر ، من شاعر منكر ، رأس أهل العراق وعظيمهم ، ومسعر حربهم ، وأول الفتنة وآخرها ، قد رأيت أن أعاود عليا وأساله إقرارى على الشام ، فقد كنت كتبت إليه ذلك فلم يجب إليه ، ولاكتبن ثانية ، فألقي في نفسه الشك والرقة .
فقال له عمرو بن العاص وضحك : أين أنت يا معاوية من خدعة علي ! قال : أ لسنا بني عبد مناف ! قال : بلى ، ولكن لهم النبوة دونك ، وإن شئت أن تكتب فاكتب ، فكتب معاوية إلى علي عليه السلام مع رجل من السكاسك يقال له عبد الله بن عقبة ، وكان من نافلة أهل العراق : أما بعد فإنك لو علمت أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت لم يجنها بعضنا على
__________
(1) الخدب : الشديد الصلب ، والمقحم ، من قحم في الامر كنصر قحوما ، إذا رمى بنفسه فيه فجأة بلا روية .
(2) الاسل : الرماح .
والشم : العوالي .
(3) يقال : غاله غول ، إذا أهلكه .
(4) الوشيج : شجر الرماح .
(*)(15/122)
بعض ، ولئن كنا قد غلبنا على عقولنا لقد بقى لنا منها ما نندم به على ما مضى ، ونصلح به ما بقى ، وقد كنت سألتك الشام على أن تلزمني لك بيعة وطاعة ، فأبيت ذلك علي ، فأعطاني الله ما منعت ، وأنا أدعوك اليوم الى ما دعوتك إليه أمس ، فإني لا أرجو من البقاء إلا ما ترجو ، ولا أخاف من الموت إلا ما تخاف ، وقد والله فارقت الاجناد ، وذهبت الرجال ، ونحن بنو عبد مناف ، ليس لبعضنا على بعض فضل إلا فضل لا يستذل به عزيز ، ولا يسترق به حر ، والسلام .
فلما انتهى كتاب معاوية إلى علي عليه السلام قرأه ، ثم قال : العجب لمعاوية وكتابه ! (1 ودعا عبيد بن أبى رافع كاتبه ، فقال : أكتب جوابه 1) .
أما بعد ، فقد جاءني كتابك تذكر أنك لو علمت وعلمنا أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض ، فإنى لو قتلت في ذات الله ، وحييت ، ثم قتلت ثم حييت سبعين مرة لم أرجع عن الشدة في ذات الله والجهاد لاعداء الله ، وأما قولك : إنه قد بقى من عقولنا ما نندم به على ما مضى ، فإني ما نقصت عقلي ، ولا ندمت على فعلي .
وأما طلبك الشام فإني لم أكن أعطيك اليوم ما منعتك أمس ، وأما استواؤنا في الخوف والرجاء فلست أمضى على الشك منى على اليقين ، وليس أهل الشام بأحرص على الدنيا من أهل العراق على الاخرة .
وأما قولك : إنا بنو عبد مناف ليس لبعضنا فضل على بعض ! فلعمري إنا بنو أب واحد ، ولكن ليس أمية كهاشم ، ولا حرب كعبد المطلب ، ولا المهاجر كالطليق ، ولا المحق كالمبطل ، وفي أيدينا بعد فضل النبوة التى أذللنا بها العزيز وأعززنا بها الذليل .
والسلام .
فلما أتى معاوية كتاب علي عليه السلام كتمه عن عمرو بن العاص أياما ، ثم دعاه
__________
(1 - 1) صفين : " ثم دعا عبيد الله بن أبي رافع كاتبه ، فقال : اكتب إلى معاوية " .
(*)(15/123)
فأقرأه إياه فشمت به عمرو - ولم يكن أحد من قريش أشد إعظاما لعلي من عمرو بن العاص منذ يوم لقيه وصفح عنه - فقال عمرو فيما كان أشار به على معاوية : ألا لله درك يابن هند * * ودر الآمرين لك الشهود ! أتطمع لا أبا لك في علي * * وقد قرع الحديد على الحديد ! وترجو أن تحيره بشك * * وتأمل أن يهابك بالوعيد (1) وقد كشف القناع وجر حربا * * يشيب لهولها رأس الوليد له جأواء مظلمة طحون * * فوارسها تلهب كالاسود (2) يقول لها إذا رجعت إليه (3) * * وقد ملت طعان القوم : عودي فإن وردت فأولها ورودا * * وإن صدت فليس بذى صدود وما هي من أبى حسن بنكر * * ولا هو من مسائك بالبعيد وقلت له مقالة مستكين * * ضعيف الركن منقطع الوريد دعن لي الشام حسبك يا بن هند * * من السوآت والرأي الزهيد ولو أعطاكها ما ازددت عزا * * ولا لك لو أجابك من مزيد فلم تكسر بذاك الرأي عودا * * لركته ولا ما دون عود (4) فلما بلغ معاوية شعر عمرو دعاه فقال له : العجب لك ! تفيل رأيي ، وتعظم عليا وقد فضحك ! فقال : أما تفييلي رأيك فقد كان ، وأما إعظامي عليا فإنك بإعظامه أشد معرفة مني ، و لكنك تطويه وأنا أنشره .
وأما فضيحتي فلم يفتضح امرؤ لقي أبا حسن (5) .
__________
(1) صفين : " وترجو أن يهابك بالوعيد " .
(2) الجأواء : الكتيبة يعلوها السواد لكثرة الدروع .
(3) صفين : " إذا دلفت إليه " .
(4) الركة : الضعف .
(5) صفين 535 - 540 .
(*)(15/124)
(18) الاصل : ومن كتاب له عليه السلام إلى عبد الله بن عباس وهو عامله على البصرة : واعلم أن البصرة مهبط إبليس ، ومغرس الفتن ، فحادث أهلها بالاحسان إليهم ، واحلل عقدة الخوف عن قلوبهم .
وقد بلغني تنمرك لبني تميم ، وغلظتك عليهم ، وإن بني تميم لم يغب لهم نجم إلا طلع لهم آخر ، وإنهم لم يسبقوا بوغم في جاهلية ولا إسلام ، وإن لهم بنا رحما ماسة ، وقرابة خاصة ، نحن مأجورون على صلتها ، و مأزورون على قطيعتها .
ذ فأربع أبا العباس رحمك الله فيما جرى على يدك و لسانك من خير وشر ! فإنا شريكان في ذلك ، وكن عند صالح ظنى بك ، ولا يفيلن رأيي فيك ، والسلام .
الشرح : قوله عليه السلام : مهبط إبليس : موضع هبوطه .
ومغرس الفتن : موضع غرسها ، ويروى : " ومغرس الفتن " ، وهو الموضع الذى ينزل فيه القوم آخر الليل للاستراحة ، يقال غرسوا وأغرسوا .
وقوله عليه السلام : " فحادث أهلها " ، أي تعهدهم بالاحسان ، من قولك : حادثت السيف بالصقال .(15/125)
والتنمر للقوم : الغلظة عليهم ، والمعاملة لهم بأخلاق النمر من الجرأة والوثوب ، وسنذكر تصديق قوله عليه السلام : " لم يغب لهم نجم إلا طلع لهم آخر " .
والوغم : الترة ، والاوغام : الترات ، أي لم يهدر لهم دم في جاهليه ولا إسلام ، يصفهم بالشجاعة والحمية .
ومأزورون ، كان أصله " موزورون " ، ولكنه جاء بالالف ليحاذي به ألف " مأجورون " وقد قال النبي صلى الله عليه وآله مثل ذلك .
قوله عليه السلام : " فاربع أبا العباس " ، أي قف وتثبت في جميع ما تعتمده فعلا وقولا من خير وشر ، ولا تعجل به فإني شريكك فيه إذ أنت عاملي والنائب عني .
ويعني بالشر هاهنا الضرر فقط ، لا الظلم والفعل القبيح .
قوله عليه السلام : " وكن عند صالح ظنى فيك " ، أي كن واقفا عنده كأنك تشاهده فتمنعك مشاهدته عن فعل ما لا يجوز .
فال الرأي يفيل ، أي ضعف وأخطا .
[ فصل في بني تميم وذكر بعض فضائلهم ] وقد ذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب " التاج " أن لبني تميم مآثر لم يشركهم فيها غيرهم .
أما بنو سعد بن زيد مناة فلها ثلاث خصال يعرفها العرب : إحداها : كثرة العدد فإنه أضعف عددها على بنى تميم حتى ملأت السهل والجبل عدلت مضر كثرة ، وعامة العدد منها في كعب بن سعد بن زيد مناة ، ولذلك قال أوس بن مغراء :(15/126)
كعبي من خير الكعاب كعبا * * من خيرها فوارسا وعقبا * تعدل جنبا وتميم جنبا * وقال الفرزدق أيضا فيهم هذه الابيات : لو كنت تعلم ما برمل مويسل * * فقرى عمان إلى ذوات حجور لعلمت أن قبائلا وقبائلا * * من آل سعد لم تدن لامير وقال أيضا : تبكى على سعد وسعد مقيمة * * بيبرين قد كادت على الناس تضعف (1) ولذلك كانت تسمى سعد الاكثرين .
وفي المثل : " في كل واد بنو سعد " (2) .
والثانية : الافاضة في الجاهلية ، كان ذلك في بني عطارد ، وهم يتوارثون ذلك كابرا عن كابر ، حتى قام الاسلام ، وكانوا إذا اجتمع الناس أيام الحج بمنى لم يبرح أحد من الناس دينا وسنة حتى يجوز القائم بذلك من آل كرب بن صفوان ، وقال أوس بن مغراء : ولا يريمون في التعريف موقفهم * * حتى يقال : أجيزوا آل صفوانا وقال الفرزدق : إذا ما التقينا بالمحصب من منى * * صبيحة يوم النحر من حيث عرفوا (3) ترى الناس ما سرنا يسيرون حولنا * * وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا والثالثة : أن منهم أشرف بيت في العرب الذى شرفته ملوك لخم .
قال المنذر بن المنذر بن ماء السماء ذات يوم وعنده وفود العرب ودعا ببردي أبيه محرق بن المنذر فقال ليلبس هذين أعز العرب وأكرمهم حسبا .
فأحجم الناس ، فقال أحيمر بن
__________
(1) ديوانه 569 .
(2) مجمع الامثال 2 : 83 ، ولفظه فيه : " في كل أرض سعد بن زيد " ، قاله الاضبط بن قريع .
(3) عرفوا ، أي وقفوا بعرفات .
(*)(15/127)
خلف بن بهدلة بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناه بن تميم : أنا لهما ، قال : الملك : بماذا ؟ قال : بأن مضر أكرم العرب وأعزها وأكثرها عديدا ، وأن تميما كاهلها (1) وأكثرها ، وأن بيتها وعددها في بني بهدلة بن عوف ، وهو جدي .
فقال : هذا أنت في أصلك وعشيرتك ، فكيف أنت في عترتك وأدانيك ! قال : أنا أبو عشرة ، وأخو عشرة ، وعم عشرة .
فدفعهما إليه ، وإلى هذا أشار الزبرقان بن بدر في قوله : وبردا ابن ماء المزن عمي اكتساهما * * بفضل معد حيث عدت محاصله قال أبو عبيدة : ولهم في الاسلام خصلة ، قدم قيس بن عاصم المنقري على رسول الله صلى الله عليه وآله في نفر من بني سعد ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : " هذا سيد أهل الوبر " ، فجعله سيد خندف وقيس ممن يسكن الوبر .
قال : وأما بنو حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم فلهم خصال كثيرة .
قال : في بنى دارم بن مالك بن حنظلة ، وهو بيت مضر ، فمن ذلك زرارة بن عدس بن زيد بن دارم يقال : إنه أشرف البيوت في بني تميم ، ومن ذلك قوس حاجب بن زرارة المرهونة عند كسرى عن مضر كلها ، وفي ذلك قيل : وأقسم كسرى لا يصالح واحدا من الناس * * حتى يرهن القوس حاجب ومن ذلك في بني مجاشع بن دارم صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع ، وهو أول من أحيا الوئيد ، قام الاسلام وقد اشترى ثلاثمائة موؤودة فأعتقهن ورباهن ، وكانت العرب تئد البنات خوف الاملاق .
ومن ذلك غالب بن صعصعة ، وهو أبو الفرزدق ، وغالب هو الذى قرى مائة ضيف ، واحتمل عشر ديات لقوم لا يعرفهم ، وكان من حديث ذلك أن بني كلب
__________
(1) كاهلها ، أي أعلاها .
(*)(15/128)
ابن وبرة افتخرت بينها في أندبتها ، فقالت : نحن لباب العرب وقلبها ، ونحن الذين لا ننازع حسبا وكرما .
فقال شيخ منهم : إن العرب غير مقرة لكم بذلك ، إن لها أحسابا ، وإن منها لبابا ، وإن لها فعالا ، ولكن ابعثوا مائة منكم في أحسن هيئة وبزة ينفرون من مروا به في العرب ويسألونه عشر ديات ، ولا ينتسبون له ، فمن قراهم وبذل لهم الديات فهو الكريم الذى لا ينازع فضلا ، فخرجوا حتى قدموا على أرض بنى تميم وأسد ، فنفروا الاحياء حيا فحيا ، وماء فماء ، لا يجدون أحدا على ما يريدون ، حتى مروا على أكثم بن صيفي ، فسألوه ذلك ، فقال من هؤلاء القتلى ؟ ومن أنتم ؟ وما قصتكم ؟ فإن لكم لشأنا باختلافكم في كلامكم ! فعدلوا عنه ، ثم مروا بقتيبة بن الحارث بن شهاب اليربوعي ، فسألوه عن ذلك ، فقال من أنتم ؟ قالوا : من كلب بن وبرة .
فقال : إنى لابغي كلبا بدم ، فإن انسلخ الاشهر الحرم وأنتم بهذه الارض وأدرككم الخيل نكلت بكم وأثكلتكم أمهاتكم ، فخرجوا من عنده مرعوبين ، فمروا بعطارد بن حاجب بن زرارة ، فسألوه ذلك ، فقال : قولوا بيانا وخذوها ، فقالوا : أما هذا فقد سألكم قبل أن يعطيكم فتركوه ، ومروا ببني مجاشع بن دارم فأتوا على واد قد امتلا إبلا فيها غالب بن صعصعة يهنا (1) منها إبلا ، فسألوه القرى والديات ، فقال هاكم البزل قبل النزول فابتزوها من البرك وحوزوا دياتكم ، ثم انزلوا ، فتنزلوا وأخبروه بالحال ، وقالوا : ارشدك الله من سيد قوم ، لقد أرحتنا من طول النصب ، ولو علمنا لقصدنا إليك ، فذلك قول الفرزدق : فلله عينا من رأى مثل غالب * * قرى مائة ضيفا ولم يتكلم (2) وإذ نبحت كلب على الناس إنهم * * أحق بتاج الماجد المتكرم
__________
(1) هنأ الابل يهنؤها : طلاها بالهناء ، وهو القطران .
(2) ديوانه 759 ، وروايته : " ألا هل علمتم ميتا قبل غالب " .
(*)(15/129)
فلم يجل عن أحسابها غير غالب * * جرى بعناني كل أبلج خضرم (1) قال : فأما بنو يربوع بن حنظلة ، فمنهم .
ثم من بني رباح بن يربوع عتاب بن هرمي بن رياح ، كانت له ردافة الملوك ، ملوك آل المنذر ، وردافة الملك أن يثنى به في الشرب ، وإذا غاب الملك خلفه في مجلسه ، وورث ذلك بنوه كابرا عن كابر ، حتى قام الاسلام ، قال لبيد بن ربيعة : وشهدت أنجبة الاكارم غالبا * * كعبي وأرداف الملوك شهود (2) ويربوع أول من قتل قتيلا من المشركين ، وهو واقد بن عبد الله بن ثعلبه بن يربوع حليف عمر بن الخطاب ، قتل عمرو بن الحضرمي في سرية نخلة ، فقال عمر بن الخطاب يفتخر بذلك : سقينا من ابن الحضرمي رماحنا * * بنخلة لما أوقد الحرب واقد وظل ابن عبد الله عثمان بيننا * * ينازعه غل من القد عاند (2) ولها جواد العرب كلها في الاسلام ، بدأ العرب كلها جودا ، خالد بن عتاب بن ورقاء الرياحي .
دخل الفرزدق على سليمان بن عبد الملك ، وكان يشنؤه لكثرة بأوه (4) وفخره ، فتهجمه وتنكر له ، وأغلظ في خطابه حتى قال : من أنت لا أم لك ! قال : أ وما تعرفني يا أمير المؤمنين ؟ أنا من حي هم من أوفى العرب ، وأحلم العرب ، وأسود العرب ، وأجود العرب وأشجع العرب ، وأشعر العرب .
فقال سليمان : والله لتحتجن لما ذكرت أو لاوجعن ظهرك ، ولابعدن دارك .
قال : أما أوفى العرب فحاجب بن زرارة ، رهن قوسه عن العرب كلها وأوفى .
وأما أحلم العرب فالاحنف بن قيس يضرب به المثل حلما ، وأما أسود العرب فقيس بن عاصم ، قال له رسول الله صلى الله عليه وآله : " هذا سيد أهل الوبر " ،
__________
(1) الابلج : الواضح .
والخضرم : الجواد المعطاء .
(2) لم أجده في ديوانه .
(3) الغل بالضم : طوق من حديد يجعل في العنق ، والجمع أغلال .
(4) البأو : الفخر .
(*)(15/130)
وأما أشجع العرب فالحريش بن هلال السعدي ، وأما أجود العرب فخالد بن عتاب ابن ورقاء الرياحي ، وأما أشعر العرب فها أنا ذا عندك ! قال سليمان : فما جاء بك ؟ لا شئ لك عندنا ، فارجع على عقبك ، وغمه ما سمع من عزه ، ولم يستطع له ردا ، فقال الفرزدق في أبيات : أتيناك لا من حاجة عرضت لنا * * إليك ولا من قلة في مجاشع (1) قلت : ولو ذكر عتيبة بن الحارث بن شهاب اليربوعي وقال : إنه أشجع العرب لكان غير مدافع .
قالوا : كانت العرب تقول لو وقع القمر إلى الارض لما التقفه إلا عتيبة بن الحارث لثقافته بالرمح .
وكان يقال له : صياد الفوارس وسم الفوارس ، وهو الذى أسر بسطام بن قيس ، وهو فارس ربيعة وشجاعها ، ومكث عنده في القيد مده حتى استوفى فداءه وجز ناصيته ، وخلى سبيله على ألا يغزو بني يربوع .
وعتيبة هذا هو المقدم على فرسان العرب كلها في كتاب طبقات الشجعان ومقاتل الفرسان ، ولكن الفرزدق لم يذكره وإن كان تميميا ، لان جريرا يفتخر به ، لانه من بنى يربوع ، فحملته عداوة جرير على أن عدل عن ذكره .
قال أبو عبيدة : ولبني عمرو بن تميم خصال تعرفها لهم العرب ولا ينازعهم فيها (2) أحد ، فمنها أكرم الناس عما وعمة ، وجدا وجدة ، وهو هند بن أبي هالة ، و اسم أبى هالة نباش بن زرارة أحد بني عمرو بن تميم ، كانت خديجة بنت خويلد قبل
__________
(1) ديوانه 491 .
(2) أ : " عليها " .
(*)(15/131)
النبي صلى الله عليه وآله تحت أبي هالة فولدت له هندا ، ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وهند بن أبي هالة غلام صغير ، فتبناه النبي صلى الله عليه وآله ، ثم ولدت خديجة من رسول الله صلى الله عليه وآله القاسم والطاهر وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة ، فكان هند بن أبى هالة أخاهم لامهم ، ثم أولد هند بن أبى هالة هند بن هند ، فهند الثاني أكرم الناس جدا وجدة ، يعني رسول الله صلى الله عليه وآله وخديجة ، وأكرم الناس عما وعمة - يعني بني النبي صلى الله عليه وآله وبناته .
ومنها أن لهم أحكم العرب في زمانه أكثم بن صيفي ، أحد بني أسد بن عمرو بن تميم ، كان أكثر أهل الجاهلية حكما ومثلا وموعظة سائرة .
ومنها ذو الاعواز ، كان له خراج على مضر كافة تؤديه إليه ، فشاخ حتى كان يحمل على سرير يطاف به على مياه العرب ، فيؤدى إليه الخراج ، وقال الاسود بن يعفر النهشلي وكان ضريرا : ولقد علمت خلاف ما تناشي * * إن السبيل سبيل ذي الاعواز ومنها هلال بن أحوز المازني الذى ساد تميما كلها في الاسلام ، ولم يسدها غيره .
قال : ودخل خالد بن عبد الرحمن بن الوليد بن المغيرة المخزومي مسجد الكوفة ، فانتهى إلى حلقة فيها أبو الصقعب التيمي ، من تيم الرباب ، والمخزومي لا يعرفه ، وكان أبو الصقعب من أعلم الناس ، فلما سمع علمه وحديثه حسده ، فقال له : ممن الرجل ؟ قال : من تيم الرباب ، فظن المخزومي أنه وجد فرصة ، فقال : والله ما أنت من سعد الاكثرين ولا من حنظلة الاكرمين ، ولا من عمرو الاشدين ! فقال أبو الصقعب : فممن انت ؟ قال من بنى مخزوم .
قال : والله ما أنت من هاشم المنتخبين ، ولا من أميه المستخلفين ،(15/132)
ولا من عبد الدار المستحجبين ، فبم تفخر ؟ قال : نحن ريحانة قريش ، قال أبوالصقعب : قبحا لما جئت به ! وهل تدري لم سميت مخزوم ريحانة قريش ؟ سميت لحظوة نسائها عند الرجال ، فأفحمه .
روى أبو العباس المبرد في كتاب " الكامل " أن معاوية قال للاحنف بن قيس وجارية (1) بن قدامة ورجال من بني سعد معهما كلاما أحفظهم ، فردوا عليه جوابا مقذعا ، وامرأته فاختة بنت قرظة في بيت يقرب منهم ، وهى أم عبد الله بن معاوية ، فسمعت ذلك فلما ، خرجوا قالت : يا أمير المؤمنين ، لقد سمعت من هؤلاء الاجلاف كلاما تلقوك به فلم تنكر ، فكدت أن أخرج إليهم فأسطو بهم ! فقال معاوية : إن مضر كاهل العرب ، وتميما كاهل مضر ، وسعدا كاهل تميم ، وهؤلاء كاهل سعد (2) .
وروى أبو العباس أيضا أن عبد الملك ذكر يوما بني دارم ، فقال أحد جلسائه : يا أمير المؤمنين ، هؤلاء قوم محظوظون - يعنى في كثرة النسل ونماء الذرية - فلذلك انتشر صيتهم .
فقال عبد الملك : ما تقول ! هذا وقد مضى منهم لقيط بن زرارة ولم يخلف عقبا ، ومضى قعقاع بن معبد بن زرارة ولم يخلف عقبا ، ومضى محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة ولم يخلف عقبا ! والله لا تنسى العرب هذه الثلاثة أبدا (3) .
قال أبو العباس : إن الاصمعي قال : إن حربا كانت بالبادية ثم اتصلت بالبصرة ، فتفاقم الامر فيها ، ثم مشي بين الناس بالصلح ، فاجتمعوا في المسجد الجامع .
قال : فبعثت وأنا غلام إلى ضرار بن القعقاع من بني دارم ، فاستاذنت عليه ، فأذن لي ، فدخلت ، فإذا به في شمله يخلط بزرا لعنز له حلوب ، فخبرته بمجتمع القوم ، فأمهل حتى أكلت العنز ، ثم غسل الصحفة وصاح : يا جارية ، غدينا ، فأتته بزيت وتمر ، فدعاني فقذرته
__________
(1) ب : " حارثة " ، والصواب ما في أ والكامل .
(2) الكامل 1 : 65 .
(3) الكامل 1 : 308 .
(*)(15/133)
أن آكل معه حتى إذا قضى من أكله وحاجته وطرا وثب إلى طين ملقى في الدار ، فغسل به يده ، ثم صاح : يا جارية ، اسقيني ماء ، فأتته بماء ، فشربه ومسح فضله على وجهه ، ثم قال : الحمد لله ، ماء الفرات بتمر البصرة بزيت الشام ، متى نؤدي شكر هذه النعم ! ثم قال : علي بردائي ، فأتته برداء عدني (1) فارتدى به على تلك الشملة .
قال الاصمعي : فتجافيت عنه استقباحا لزيه ، فلما دخل المسجد صلى ركعتين ، ثم مشى إلى القوم ، فلم تبق حبوة إلا حلت إعظاما له ، ثم جلس فتحمل جميع ما كان بين الاحياء في ماله ثم انصرف (2) .
قال أبو العباس : وحدثني أبو عثمان المازنى ، عن أبي عبيدة ، قال : لما أتى زياد بن عمرو المربد في عقب قتل مسعود بن عمرو العتكي ، وجاء زياد بن عمرو بن الاشرف العتكي ليثأر به من بني تميم ، صف أصحابه فجعل في الميمنة بكر بن وائل ، وفي الميسرة عبد القيس ، وهم لكيز بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة ، وكان زياد بن عمرو العتكي في القلب ، فبلغ ذلك الاحنف بن قيس ، فقال : هذا غلام حدث شأنه الشهرة ، وليس يبالي أين قذف بنفسه ! فندب أصحابه ، فجاءه حارثة بن بدر الغداني ، وقد اجتمعت بنو تميم ، فلما أتى (3) قال : قوموا إلى سيدكم ، ثم أجلسه فناظره ، فجعلوا سعدا والرباب في القلب ورئيسهم عبس بن طلق الطعان المعروف بأخى كهمس ، و هو أحد بنى صريم بن يربوع ، فكانوا بحذاء زياد بن عمرو ومن معه من الازد ، وجعل حارثة بن بدر الغدانى ، في بنى حنظلة بحذاء بكر بن وائل ، وجعل عمرو بن تميم بحذاء عبد القيس ، فذلك حيث يقول حارثة بن بدر للاحنف : سيكفيك عبس أخو كهمس * * مقارعة الازد في المربد (4) ويكفيك عمرو على رسلها * * لكيز بن أفصى وما عددوا
__________
(1) عدني : منسوب إلى عدن أبين ، وهي جزيرة باليمن ، تنسب إليها الثياب العدنية .
(2) الكامل 1 : 139 .
(3) الكامل : " طلع " .
(4) في هذا البيت إقواء .
(*)(15/134)
ونكفيك بكرا إذا أقبلت * * بضرب يشيب له الامرد ولكيز بن أفصى تعم عبد القيس .
قال : فلما تواقفوا بعث إليهم الاحنف : يا معشر الازد من اليمن وربيعه من أهل البصرة ، أنتم والله أحب إلينا من تميم الكوفة ، وانتم جيراننا في الدار ، ويدنا على العدو ، وأنتم بدأتمونا بالامس ، ووطئتم حريمنا ، وحرقتم علينا ، فدفعنا عن أنفسنا ، ولا حاجة لنا في الشر ما طلبنا في الخير مسلكا ، فتيمموا بنا طريقة مستقيمة (1) .
فوجه إليه زياد بن عمرو ، تخير خلة من ثلاث : إن شئت فانزل أنت وقومك على حكمنا ، وإن شئت فخل لنا عن البصرة وارحل أنت وقومك إلى حيث شئتم ، وإلا فدوا قتلانا ، واهدروا دماءكم ، وليود مسعود دية المشعرة .
قال أبو العباس : وتأويل قوله : " دية المشعرة " ، يريد أمر الملوك في الجاهلية ، وكان الرجل إذا قتل وهو من أهل بيت المملكة ودي عشر ديات - فبعث إليه الاحنف : سنختار .
فانصرفوا في يومكم ، فهز القوم راياتهم وانصرفوا ، فلما كان الغد ، بعث الاحنف إليهم : إنكم خيرتمونا خلالا ليس لنا فيها خيار ، أما النزول على حكمكم فكيف يكون والكلم (2) يقطر ، وأما ترك ديارنا فهو أخو القتل .
قال الله عز وجل : (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل) (3) ، ولكن الثالثة إنما هي حمل على المال ، فنحن نبطل دماءنا ، وندي قتلاكم ، وإنما مسعود رجل من المسلمين ، وقد أذهب الله عز وجل أمر الجاهلية ، فاجتمع القوم على ان يقفوا أمر مسعود ، ويغمدوا السيف ، وتودي سائر القتلى من الازد وربيعة ، فضمن ذلك الاحنف ، ودفع إليهم إياس بن قتادة المجاشعي رهينة حتى يؤدى هذا المال ، فرضى به القوم ، ففخر بذلك الفرزدق ، فقال لجرير :
__________
(1) الكامل : " قاصدة " .
(2) الملم : الجرح .
(3) سورة النساء 66 .
(*)(15/135)
ومنا الذى أعطى يديه رهينة * * لغارى معد يوم ضرب الجماجم (1) عشيه سال المربدان كلاهما * * عجاجة موت بالسيوف الصوارم هنالك لو تبغى كليبا وجدتها * * أذل من القردان تحت المناسم ويقال : إن تميما في ذلك الوقت مع باديتها وحلفائها من الاساورة والزط والسبابجة وغيرهم كانوا زهاء سبعين ألفا ، وفي ذلك يقول جرير : سائل ذوى يمن ورهط محرق * * والازد إذ ندبوا لنا مسعودا (2) فأتاهم سبعون ألف مدجج * * متسربلين يلامقا وحديدا (3) قال الاحنف بن قيس : فكثرت علي الديات فلم أجدها في حاضرة تميم ، فخرجت نحو يبرين إلى بادية تميم ، فسألت عن المقصود هناك ، فأرشدت إلى قبة ، فإذا شيخ جالس بفنائها مؤتزر بشملة ، محتب بحبل ، فسلمت عليه ، وانتسبت له ، فقال لي : ما فعل رسول الله صاى الله عليه وآله ؟ قلت : توفى .
قال : فما فعل عمر بن الخطاب الذى كان يحفظ العرب ويحوطها ؟ قلت : توفى .
قال : فأي خير في حاضرتكم بعدهما ؟ قال : فذكرت له الديات التي لزمتنا للازد وربيعة ، قال : فقال لي : أقم ، فإذا راع قد أراح عليه ألف بعير ، فقال خذها ، ثم أراح علينا آخر مثلها ، فقال خذها ، فقلت : لا أحتاج إليها .
قال : فانصرفت بالالف عنه ، ووالله ما أدرى من هو إلى الساعة (4) !
__________
(1) ديوانه 861 .
والغاران ، مثنى غار ، وهو الجيش .
(2) ديوانه 172 ، وهو مسعود بن عمرو العتكي .
(3) اليلامق : جمع يلمق ، وهو القباء ، فارسي معرب .
وفي الكامل : " يلامعا " ، واليلمع : هو الدرع .
(4) الكامل 1 : 140 - 143 .
(*)(15/136)
(19) الاصل : ومن كتاب له عليه السلام إلى بعض عماله : أما بعد ، فإن دهاقين أهل بلدك شكوا منك غلظة وقسوة ، واحتقارا وجفوة ، ونظرت فلم أرهم أهلا لان يدنوا لشركهم ، ولا أن يقصوا ويجفوا لعهدهم ، فالبس لهم جلبابا من اللين تشوبه بطرف من الشدة ، وداول لهم بين القسوة والرأفة ، وامزج لهم بين التقريب والادناء ، والابعاد والاقصاء .
إن شاء الله .
الشرح : الدهاقين : الزعماء أرباب الاملاك بالسواد ، واحدهم دهقان بكسر الدال ، ولفظه معرب .
وداول بينهم ، أي مرة هكذا ومرة هكذا ، أمره أن يسلك معهم منهجا متوسطا ، لا يدنيهم كل الدنو لانهم مشركون ، ولا يقصيهم كل الاقصاء ، لانهم معاهدون ، فوجب أن يعاملهم معاملة آخذة من كل واحد من القسمين بنصيب .(15/137)
(20) الاصل و من كتاب له عليه السلام إلى زياد بن أبيه وهو خليفة عامله عبد الله بن عباس على البصرة - وعبد الله عامل أمير المؤمنين عليه السلام يومئذ عليها وعلى كور الاهواز وفارس وكرمان وغيرها : وإني أقسم بالله قسما صادقا ، لئن بلغني أنك خنت من فئ المسلمين شيئا صغيرا أو كبيرا ، لاشدن عليك شدة تدعك قليل الوفر ، ثقيل الظهر ، ضئيل الامر .
والسلام .
الشرح : سيأتي ذكر نسب زياد وكيفية استلحاق معاوية له فيما بعد إن شاء الله تعالى .
قوله عليه السلام : " لاشدن عليك شدة " ، مثل قوله : " لاحملن عليك حملة " ، والمراد تهديده بالاخذ واستصفاء المال .
ثم وصف تلك الشدة فقال : " إنها تتركك قليل الوفر " ، أي أفقرك بأخذ ما احتجت من بيت مال المسلمين .
وثقيل الظهر : أي مسكين لا تقدر على مئونة عيالك .
وضئيل الامر : أي حقير ، لانك إنما كنت نبيها بين الناس بالغنى والثروة ، فإذا افتقرت صغرت عندهم ، واقتحمتك أعينهم(15/138)
(21) الاصل ومن كتاب له عليه السلام إلى زياد أيضا : فدع الاسراف مقتصدا ، واذكر في اليوم غدا ، وأمسك من المال بقدر ضرورتك ، وقدم الفضل ليوم حاجتك ، أ ترجو أن يعطيك الله أجر المتواضعين ، وأنت عنده من المتكبرين ! وتطمع وأنت متمرغ في النعيم أن تمنعه الضعيف والارملة ، وأن يوجب لك ثواب المتصدقين ، وإنما المرء مجزى بما أسلف ، وقادم على ما قدم .
والسلام .
الشرح : المتمرغ في النعيم : المتقلب فيه .
ونهاه عن الاسراف وهو التبذير في الانفاق ، وأمره أن يمسك من المال ما تدعو إليه الضرورة ، وأن يقدم فضول أمواله وما ليس له إليه حاجة ضرورية في الصدقة فيدخره ليوم حاجته ، وهو يوم البعث والنشور .
قلت : قبح الله زيادا ! فإنه كافأ إنعام علي عليه السلام وإحسانه إليه واصطناعه له بما لا حاجه إلى شرحه من أعماله القبيحة بشيعته ومحبيه والاسراف في لعنه ، وتهجين أفعاله ، والمبالغة في ذلك بما قد كان معاوية يرضى باليسير منه ، ولم يكن يفعل ذلك لطلب رضا معاوية ، كلا ، بل يفعله بطبعه ، ويعاديه بباطنه وظاهره ، وأبى الله إلا أن يرجع إلى أمه ، ويصحح نسبه ، وكل إناء ينضح بما فيه .
ثم جاء ابنه بعد فختم تلك الاعمال السيئة بما ختم ، وإلى الله ترجع الامور !(15/139)
(22) الاصل : ومن كتاب له عليه السلام إلى عبد الله بن العباس رحمه الله تعالى ، وكان ابن عباس يقول : ما انتفعت بكلام بعد كلام رسول الله صلى الله عليه وآله كانتفاعي بهذا الكلام : أما بعد ، فإن المرء قد يسره درك ما لم يكن ليفوته ، ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه ، فليكن سرورك بما نلت من آخرتك ، وليكن أسفك على ما فاتك منها ، وما نلت من دنياك فلا تكثر به فرحا ، وما فاتك منها فلا تأس عليه جزعا ، و ليكن همك فيما بعد الموت .
الشرح : يقول : إن كل شئ يصيب الانسان في الدنيا من نفع وضر فبقضاء من الله وقدره تعالى ، لكن الناس لا ينظرون حق النظر في ذلك ، فيسر الواحد منهم بما يصيبه من النفع ، ويساء بفوت ما يفوته منه ، غير عالم بأن ذلك النفع الذى أصابه ، كان لا بد أن يصيبه ، وأن ما فاته منه كان لا بد أن يفوته ، ولو عرف ذلك حق المعرفة لم يفرح ولم يحزن .
ولقائل أن يقول : هب أن الامور كلها بقضاء وقدر ، فلم لا ينبغى للانسان أن يفرح بالنفع وإن وقع بالقدر ، ويساء بفوته أو بالضرر وإن وقعا بقدر ! أ ليس العريان يساء(15/140)
(22) بقدوم الشتاء وإن كان لا بد من قدومه ، والمحموم غبا (1) يساء بتجدد نوبة الحمى ، وإن كان لا بد من تجددها ! فليس سبب الاختيار في الافعال مما يوجب أن لا يسر الانسان ولا يساء بشئ منها .
والجواب ينبغي أن يحمل هذا الكلام على أن الانسان ينبغي أن لا يعتقد في الرزق أنه أتاه بسعيه وحركته فيفرح معجبا بنفسه ، معتقدا أن ذلك الرزق ثمرة حركته واجتهاده ، وكذلك ينبغى ألا يساء بفوات ما يفوته من المنافع لائما نفسه في ذلك ناسبا لها إلى التقصير وفساد الحيلة والاجتهاد ، لان الرزق هو من الله تعالى لا أثر للحركة فيه ، وإن وقع عندها ، وعلى هذا التأويل ينبغي أن يحمل قوله تعالى : (ما أصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور) (2) .
من النظم الجيد الروحانى في صفة الدنيا والتحذير منها والوصاة بترك الاغترار بها ، والعمل لما بعدها ، ما أورده أبو حيان في كتاب " الاشارات الالهية " ولم يسم قائله : دار الفجائع والهموم ودا * * ر البث والاحزان و البلوى مر المذاقة غب ما احتلبت * * منها يداك وبية المرعى بينا الفتى منها بمنزلة * * إذ صار تحت ترابها ملقى تقفو مساويها محاسنها * * لا شئ بين النعي والبشري ولقل يوم ذر شارقه * * إلا سمعت بهالك ينعى لا تعتبن على الزمان لما * * يأتي به فلقلما يرضى
__________
(1) الغب من الحمى : ما تأخذ يوما وتدع يوما .
(2) سورة الحديد 22 ، 23 .
(*)(15/141)
للمرء رزق لا يفوت ولو * * جهد الخلائق دون أن يفنى يا عامر الدنيا المعد لها * * ماذا عملت لدارك الاخرى ! وممهد الفرش الوطيئة لا * * تغفل فراش الرقدة الكبرى لو قد دعيت لقد أجبت لما * * تدعى له فانظر متى تدعى ! أ تراك تحصى كم رأيت من ال * * - أحياء ثم رأيتهم موتى من أصبحت دنياه همته * * فمتى ينال الغاية القصوى ! سبحان من لا شئ يعدله * * كم من بصير قلبه أعمى ! والموت لا يخفى على أحد * * ممن أرى وكأنه يخفى والليل يذهب والنهار بأح * * - بابي ، و ليس عليهما عدوى(15/142)
(23) الاصل ومن كلام له عليه السلام قاله قبل موته على سبيل الوصية لما ضربه ابن ملجم لعنه الله : وصيتي لكم ألا تشركوا بالله شيئا ، ومحمد صلى الله عليه وآله ، فلا تضيعوا سنته ، أقيموا هذين العمودين ، وأوقدوا هذين المصباحين ، وخلاكم ذم ! أنا بالامس صاحبكم ، واليوم عبرة لكم ، وغدا مفارقكم ، إن أبق فأنا ولي دمي ، وإن أفن فالفناء ميعادى ، وإن أعف فالعفو لى قربة ، وهو لكم حسنة ، فاعفوا : (أ لا تحبون أن يغفر الله لكم) (1) .
والله ما فجأني من الموت وارد كرهته ، ولا طالع أنكرته ، وما كنت إلا كقارب ورد ، وطالب وجد ، (وما عند الله خير للابرار) (2) .
قال الرضي رحمه الله تعالى : أقول : وقد مضى بعض هذا الكلام فيما تقدم من الخطب إلا أن فيه هاهنا زيادة أوجبت تكريره .
الشرح : فإن قلت : لقائل أن يقول : إذا أوصاهم بالتوحيد واتباع سنة النبي صلى الله عليه وآله
__________
(1) سورة النور 22 .
(2) سورة آل عمران 198 .
(*)(15/143)
فلم يبق شئ بعد ذلك يقول فيه : أقيموا هذين العمودين وخلاكم ذم ، لان سنة النبي صلى الله عليه وآله فعل كل واجب .
وتجنب كل قبيح ، فخلاهم ذم فماذا يقال ؟ والجواب أن كثيرا من الصحابة كلفوا أنفسهم أمورا من النوافل شاقة جدا ، فمنهم من كان يقوم الليل كله ، ومنهم من كان يصوم الدهر كله ، ومنهم المرابط في الثغور ، ومنهم المجاهد مع سقوط الجهاد عنه لقيام غيره به ، ومنهم تارك النكاح ، ومنهم تارك المطاعم والملابس ، وكانوا يتفاخرون بذلك ، ويتنافسون فيه ، فأراد عليه السلام أن يبين لاهله وشيعته وقت الوصية أن المهم الاعظم هو التوحيد ، والقيام بما يعلم من دين محمد صلى الله عليه وآله أنه واجب ، ولا عليكم بالاخلال بما عدا ذلك ، فليت من المائة واحدا نهض بذلك ، والمراد ترغيبهم بتخفيف وظائف التكاليف عنهم ، فإن الله تعالى يقول : (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (1) .
وقال صلى الله عليه وآله : " بعثت بالحنيفية السهلة السمحة " .
قوله : " وخلاكم ذم " : لفظة تقال على سبيل المثل أي قد أعذرتم ، وسقط عنكم الذم .
ثم قسم أيامه الثلاثة أقساما فقال : أنا بالامس صاحبكم أي كنت أرجى وأخاف ، وأنا اليوم عبرة لكم ، أي عظة تعتبرون بها .
وأنا غدا مفارقكم ، أكون في دار أخرى غير داركم .
ثم ذكر أنه إن بقي ولم يمت من هذه الضربة فهو ولي دمه إن شاء عفا ، وإن شاء اقتص ، وإن لم يبق فالفناء الموعد الذى لا بد منه .
ثم عاد فقال : وإن أعف ، والتقسيم ليس على قاعدة تقسيم المتكلمين .
والمعنى منه مفهوم ، وهو إما أن أسلم من هذه الضربة أو لا أسلم ، فإن سلمت منها فأنا ولي دمي ، إن شئت عفوت فلم أقتص ، وإن شئت اقتصصت ، ولا يعنى بالقصاص هاهنا القتل ، بل ضربة بضربة ، فإن سرت إلى النفس كانت السراية مهدرة كقطع اليد .
__________
(1) سورة البقرة 185 .
(*)(15/144)
ثم أوما إلى أنه إن سلم عفا بقوله : إن العفو لي إن عفوت قربة .
ثم عدنا إلى القسم الثاني من القسمين الاولين ، وهو أنه عليه السلام لا يسلم من هذه ، فولاية الدم إلى الورثة ، إن شاؤوا اقتصوا وإن شاؤوا عفوا .
ثم أوما إلى أن العفو منهم أحسن ، بقوله : " وهو لكم حسنة " ، بل أمرهم أمرا صريحا بالعفو ، فقال فاعفوا (أ لا تحبون أن يغفر الله لكم) .
وهذا لفظ الكتاب العزيز ، وينبغى أن يكون أمره بالعفو في هذا الكلام محمولا على الندب .
ثم أقسم عليه السلام أنه ما فجأه من الموت أمر أنكره ولا كرهه ، فجأني الشئ : أتاني بغتة .
ثم قال : " ما كنت إلا كقارب ورد " ، والقارب الذى يسير إلى الماء وقد بقي بينه وبينه ليلة واحدة ، والاسم : القرب ، فهم قاربون ، ولا يقال " مقربون " ، وهو حرف شاذ .(15/145)
(24) الاصل ومن وصية له بما يعمل في أمواله ، كتبها بعد منصرفه من صفين : هذا ما أمر به عبد الله على بن أبى طالب أمير المؤمين في ماله ابتغاء وجه الله ليولجه به الجنة ، ويعطيه به الامنة .
الشرح : قد عاتبت العثمانية وقالت : إن أبا بكر مات ولم يخلف دينارا ولا درهما ، وإن عليا عليه السلام مات وخلف عقارا كثيرا - يعنون نخلا - قيل لهم : قد علم كل أحد أن عليا عليه السلام استخرج عيونا بكد يده بالمدينة وينبع وسويعة ، وأحيا بها مواتا كثيرا ، ثم أخرجها عن ملكه ، وتصدق بها على المسلمين ، ولم يمت وشئ منها في ملكه ، أ لا ترى إلى ما تتضمنه كتب السير والاخبار من منازعة زيد بن على وعبد الله بن الحسن في صدقات على عليه السلام ، ولم يورث على عليه السلام بنيه قليلا من المال ولا كثيرا إلا عبيده وإماءه وسبعمائه درهم من عطائه ، تركها ليشترى بها خادما لاهله قيمتها ثمانية وعشرون دينارا ، على حسب المائة أربعة دنانير ، وهكذا كانت المعاملة بالدراهم إذ ذاك ، وإنما لم يترك أبو بكر قليلا ولا كثيرا لانه ما عاش ، ولو عاش لترك ، ألا ترى أن عمر أصدق أم كلثوم أربعين ألف درهم ، ودفعها إليها ! وذلك لان هؤلاء طالت أعمارهم ، فمنهم من درت عليه أخلاف التجارة ، ومنهم من كان يستعمر الارض ويزرعها ، ومنهم من استفضل من رزقه من الفئ (1) .
__________
(1) الفئ : الغنيمة .
(*)(15/146)
وفضلهم أمير المؤمنين عليه السلام بأنه كان يعمل بيده ، ويحرث الارض ويستقى الماء ويغرس النخل ، كل ذلك يباشره بنفسه الشريفة ، ولم يستبق منه لوقته ولا لعقبه قليلا ولا كثيرا ، وإنما كان صدقة ، وقد مات رسول الله صلى الله عليه وآله وله ضياع كثيرة جليلة جدا بخيبر وفدك وبني النضير ، وكان له وادي نخلة ، وضياع أخرى كثيرة بالطائف ، فصارت بعد موته صدقه بالخبر الذى رواه أبو بكر .
فإن كان علي عليه السلام معيبا بضياعه ونخله فكذلك رسول الله صلى الله عليه وآله ، وهذا كفر وإلحاد ! وإن كان رسول الله صلى الله عليه وآله إنما ترك ذلك صدقة فرسول الله صلى الله عليه وآله ما روى عنه الخبر في ذلك إلا واحد من المسلمين ، وعلي عليه السلام كان في حياته قد أثبت عند جميع المسلمين بالمدينة إنها صدقة فالتهمة إليه في هذا الباب أبعد .
وروي : " ويعطيني به الامنة " ، وهى الامن .
الاصل : منها : فإنه يقوم بذلك الحسن بن على يأكل منه بالمعروف ، وينفق منه بالمعروف ، فإن حدث بحسن حدث وحسين حي ، قام بالامر بعده وأصدره مصدره ، وإن لابني فاطمة من صدقه علي مثل الذى لبني علي .
وإني إنما جعلت القيام بذلك إلى ابني فاطمة ابتغاء وجه الله ، وقربة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ، وتكريما لحرمته ، وتشريفا لوصلته ، ويشترط على الذى يجعله إليه أن يترك المال على أصوله ، وينفق من ثمره حيث أمر به وهدي له ، وألا يبيع من أولاد نخيل هذه القرى ودية حتى تشكل أرضها غراسا .(15/147)
ومن كان من إمائي اللاتي أطوف عليهن لها ولد أو هي حامل فتمسك على ولدها وهي من حظه ، فإن مات ولدها وهى حية فهى عتيقة قد أفرج عنها الرق وحررها العتق .
قال السيد الرضى رحمه الله تعالى : قوله عليه السلام في هذه الوصية " وألا يبيع من نخلها ودية " الودية : الفسيلة ، وجمعها ودي .
قوله عليه السلام : " حتى تشكل أرضها غراسا " هو من أفصح الكلام ، والمراد به أن الارض يكثر فيها غراس النخل حتى يراها الناظر على غير تلك الصفة التى عرفها بها ، فيشكل عليه أمرها ويحسبها غيرها .
الشرح : جعل للحسن ابنه عليه السلام ولاية صدقات أمواله ، وأذن له أن يأكل منه ، بالمعروف ، أي لا يسرف ، وإنما يتناول منه مقدار الحاجة ، وما جرت بمثله عادة من يتولى الصدقات كما قال الله تعالى : (والعاملين عليها) (1) .
ثم قال : فإن مات الحسن والحسين بعده حي فالولاية للحسين ، والهاء في (مصدره) ترجع إلى الامر أي يصرفه في مصارفه التى كان الحسن يصرفه فيها .
ثم ذكر أن لهذين الولدين حصة من صدقاته أسوة بسائر البنين ، وإنما قال ذلك لانه قد يتوهم متوهم
__________
(1) سورة التوبة 60 .
(*)(15/148)
أنهما لكونهما قد فوض إليهما النظر في هذه الصدقات ، قد منعا أن يسهما فيها بشئ ، وإن الصدقات إنما يتناولها غيرهما من بني علي عليه السلام ممن لا ولاية له مع وجودهما ، ثم بين لماذا خصهما بالولاية ؟ فقال : إنما فعلت ذلك لشرفهما برسول الله صلى الله عليه وآله ، فتقربت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله بأن جعلت لسبطيه هذه الرياسة ، وفي هذا رمز وازراء بمن صرف الامر عن أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله ، مع وجود من يصلح للامر ، أي كان الاليق بالمسلمين والاولى أن يجعلوا الرياسة بعده لاهله قربة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ، وتكريما لحرمته ، وطاعة له ، وأنفة لقدره ، صلى الله عليه وآله أن تكون ورثته سوقة ، يليهم الاجانب ، ومن ليس من شجرته وأصله .
أ لا ترى أن هيبة الرسالة والنبوه في صدور الناس أعظم إذا كان السلطان والحاكم في الخلق من بيت النبوة ، وليس يوجد مثل هذه الهيبة والجلال في نفوس الناس للنبوة إذا كان السلطان الاعظم بعيد النسب من صاحب الدعوة عليه السلام ! ثم اشترط على من يلي هذه الاموال أ يتركها على أصولها ، وينفق من ثمرتها ، أي لا يقطع النخل والثمر ويبيعه خشبا وعيدانا ، فيفضي الامر إلى خراب الضياع وعطلة العقار .
قوله : " وألا يبيع من أولاد نخيل هذه القرى " أي من الفسلان الصغار ، سماها ، أولادا ، وفى بعض النسخ ليست " أولاد " مذكورة ، و الودية : الفسيلة .
تشكل أرضها : تمتلي بالغراس حتى لا يبقى فيه طريقة واضحة .
قوله : " أطوف عليهن " ، كناية لطيفة عن غشيان النساء ، أي من السراري ، وكان عليه السلام يذهب إلى حل بيع أمهات الاولاد ، فقال : من كان من إمائي لها ولد منى ، أو هي حامل منى وقسمتم تركتي فلتكن أم ذلك الولد مبيعة على ذلك الولد ، ويحاسب بالثمن من حصته من التركة ، فإذا بيعت عليه عتقت عليه ، لان الولد إذا اشترى الوالد عتق الوالد(15/149)
عنه ، وهذا معنى ، قوله " فتمسك على ولدها " ، أي تقوم عليه بقيمة الوقت الحاضر ، وهى من حظه أي من نصيبه وقسطه من التركة .
قال : فإن مات ولدها وهى حيه بعد أن تقوم عليه فلا يجوز بيعها لانها خرجت عن الرق بانتقالها الى ولدها ، فلا يجوز بيعها .
فإن قلت : فلماذا قال : فإن مات ولدها وهى حية ؟ وهلا قال : فإذا قومت عليه عتقت ؟ قلت : لان موضع الاشتباه هو موت الولد وهى حية ، لانه قد يظن ظان أنه إنما حرم بيعها لمكان وجود ولدها ، فأراد عليه السلام أن يبين أنها قد صارت حرة مطلقا سواء كان ولدها حيا أو ميتا .(15/150)
(25) الاصل ومن وصيه له عليه السلام كان يكتبها لمن يستعمله على الصدقات ، وإنما ذكرنا هنا جملا منها ليعلم بها أنه عليه السلام كان يقيم عماد الحق ، ويشرع أمثلة العدل في صغير الامور وكبيرها ، ودقيقها وجليلها : انطلق على تقوى الله وحده لا شريك له ، ولا تروعن مسلما ، ولا تجتازن عليه كارها ، ولا تأخذن منه أكثر من حق الله في ماله ، فإذا قدمت على الحى فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم ، ثم امض إليهم بالسكينة والوقار ، حتى تقوم بينهم فتسلم عليهم .
ولا تخدج بالتحية لهم ثم تقول : عباد الله ، أرسلني إليكم ولى الله وخليفته لاخذ منكم حق الله في أموالكم ، فهل لله في أموالكم من حق فتؤدوه إلى وليه ! فإن قال قائل : لا ، فلا تراجعه ، وإن أنعم لك منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه أو توعده ، أو تعسفه أو ترهقه ، فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة ، فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلا بإذنه ، فإن أكثرها له ، فإذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلط عليه ، ولا عنيف به .
ولا تنفرن بهيمة ولا تفزعنها ، ولا تسوءن صاحبها فيها .
واصدع المال صدعين ثم خيره ، فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره .
ثم اصدع الباقي صدعين ، ثم خيره ، فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره ، فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق الله في ماله ، فاقبض حق الله منه .(15/151)
فإن استقالك فأقله ، ثم اصنع مثل الذى صنعت أولا حتى تأخذ حق الله في ماله .
ولا تأخذن عودا ولا هرمة ولا مكسورة ولا مهلوسة ، ولا ذات عوار ، ولا تأمنن عليها إلا من تثق بدينه ، رافقا بمال المسلمين حتى يوصله إلى وليهم فيقسمه بينهم ، ولا توكل بها إلا ناصحا شفيقا و أمينا حفيظا ، غير معنف ولا مجحف ، ولا ملغب ولا متعب .
ثم احدر إلينا ما اجتمع عندك ، نصيره حيث أمر الله ، فإذا أخذها أمينك فأوعز إليه ألا يحول بين ناقة وبين فصيلها ، ولا يمصر لبنها فيضر ذلك بولدها ، ولا يجهدنها ركوبا ، وليعدل بين صواحباتها في ذلك وبينها ، وليرفه على اللاغب ، وليستأن بالنقب والظالع ، وليوردها ما تمر به من الغدر ، ولا يعدل بها عن نبت الارض إلى جواد الطرق ، وليروحها في الساعات ، وليمهلها عند النطاف والاعشاب ، حتى تأتينا بإذن الله بدنا منقيات ، غير متعبات ولا مجهودات ، لنقسمها على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله ، فإن ذلك أعظم لاجرك ، وأقرب لرشدك إن شاء الله .
الشرح : وقد كرر عليه السلام قوله : " لنقسمها على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله " في ثلاثة مواضع من هذا الفصل : الاول قوله : " حتى يوصله إلى وليهم ليقسمه بينهم " .
الثاني قوله عليه السلام : " نصيره حيث أمر الله به " .(15/152)
الثالث قوله : " لنقسمها على كتاب الله " ، والبلاغة لا تقتضي ذلك ، ولكني أظنه أحب أن يحتاط ، وأن يدفع الظنة (1) عن نفسه ، فإن الزمان كان في عهده قد فسد ، وساءت ظنون الناس ، لا سيما مع ما رآه من عثمان واستئثاره بمال الفئ .
ونعود إلى الشرح .
قوله عليه السلام : " على تقوى الله " ، " على " ليست متعلقة ب " انطلق " ، بل بمحذوف تقديره : مواظبا .
قوله : " ولا تروعن " أي لا تفزعن ، والروع الفزع ، رعته أروعه ، ولا تروعن بتشديد الواو وضم حرف المضارعة ، من روعت للتكثير .
قوله عليه السلام : " ولا تجتازن عليه كارها " ، أي لا تمرن ببيوت أحد من المسلمين يكره مرورك .
وروي : " ولا تختارن عليه " ، أي لا تقسم ماله وتختر أحد القسمين ، والهاء في " عليه " ترجع إلى " مسلما " وتفسير هذا سيأتي في وصيته له أن يصدع المال ثم يصدعه ، فهذا هو النهى عن أن يختار على المسلم .
والرواية الاولى هي المشهورة .
قوله عليه السلام : " فانزل بمائهم " ، وذلك لان الغريب يحمد منه الانقباض ، ويستهجن في القادم أن يخالط بيوت الحي الذى قدم عليه فقد يكون من النساء من لا تليق رؤيته ، ولا يحسن سماع صوته ، ومن الاطفال من يستهجن أن يرى الغريب انبساطه على أبويه وأهله ، وقد يكره القوم أن يطلع الغريب على مأكلهم ومشربهم وملبسهم وبواطن أحوالهم ، وقد يكونون فقراء فيكرهون أن يعرف فقرهم فيحتقرهم ، أو اغنياء أرباب ثروة كثيرة فيكرهون أن يعلم الغريب ثروتهم فيحسدهم ، ثم أمره أن يمضي إليهم غير متسرع ولا عجل ولا طائش نزق ، حتى يقوم بينهم فيسلم عليهم
__________
(1) الظنة : التهمة .
(*)(15/153)
ويحييهم تحية كاملة غير مخدجه ، أي غير ناقصة ، أخدجت الناقة إذا جاءت بولدها ناقص الخلق ، وإن كانت أيامه تامة ، وخدجت ألقت الولد قبل تمام أيامه .
وروي : " ولا تحدج بالتحية " والباء زائدة .
ثم أمره أن يسألهم : هل في أموالهم حق لله تعالى ؟ يعنى الزكاة ، فإن قالوا : لا ، فلينصرف عنهم ، لان القول قول رب المال ، فلعله قد أخرج الزكاة قبل وصول المصدق إليه .
قوله : " وأنعم لك " ، أي قال : نعم .
ولا تعسفه ، أي لا تطلب منه الصدقة عسفا ، وأصله الاخذ على غير الطريق .
ولا ترهقه : لا تكلفه العسر والمشقة .
ثم أمره أن يقبض ما يدفع إليه من الذهب والفضة ، وهذا يدل على أن المصدق كان يأخذ العين والورق كما يأخذ الماشية ، وأن النصاب في العين والورق تدفع زكاته إ 0 لى الامام ونوابه ، وفي هذه المسألة اختلاف بين الفقهاء .
قوله : " فإن أكثرها له " : كلام لا مزيد عليه في الفصاحة والرياسة والدين ، وذلك لان الصدقة المستحقة جزء يسير من النصاب ، والشريك إذا كان له الاكثر حرم عليه أن يدخل ويتصرف إلا بإذن شريكه ، فكيف إذا كان له الاقل .
قوله : " فلا تدخلها دخول متسلط عليه " ، قد علم عليه السلام أن الظلم من طبع الولاة ، وخصوصا من يتولى قبض الماشية من أربابها على وجه الصدقة ، فإنهم يدخلونها دخول متسلط حاكم قاهر ، ولا يبقى لرب المال فيها تصرف ، فنهى عليه السلام عن مثل ذلك .(15/154)
قوله : " ولا تنفرن بهيمة ولا تفزعنها " ، وذلك أنهم على عادة السوء يهجهجون (1) بالقطيع حتى تنفر الابل ، وكذلك بالشاء إظهارا للقوة والقهر ، وليتمكن أعوانهم من اختيار الجيد ، ورفض الردئ .
قوله : " ولا تسوءن صاحبها فيها " أي لا تغموه ولا تحزنوه ، يقال : سؤته في كذا سوائية ومسائية .
قوله : " واصدع المال صدعين وخيره " ، أي شقه نصفين ثم خيره ، فإذا اختار أحد النصفين فلا تعرضن لما اختار ، ثم اصدع النصف الذى ما ارتضاه لنفسه صدعين وخيره ، ثم لا تزال تفعل هكذا حتى تبقى من المال بمقدار الحق الذى عليه ، فاقبضه منه ، فإن استقالك فأقله ، ثم اخلط المال ، ثم عد لمثل ما صنعت حتى يرضى ، وينبغى أن يكون المعيبات الخمس وهى المهلوسة والمكسورة وأخواتهما يخرجها المصدق من أصل المال قبل قسمته ثم يقسم وإلا فربما وقعت في سهم المصدق إذا كان يعتمد ما أمره به من صدع المال مرة بعد مرة .
والعود : المسن من الابل ، والهرمة : المسنة أيضا ، والمكسورة : التى أحد قوائمها مكسورة العظم أو ظهرها مكسور ، والمهلوسة : المريضة قد هلسها المرض وأفنى لحمها ، والهلاس : السل .
والعوار : بفتح العين : العيب وقد جاء بالضم .
والمعنف : ذو العنف بالضم وهو ضد الرفق .
والمجحف : الذى يسوق المال سوقا عنيفا فيجحف به أي يهلكه أو يذهب كثيرا من لحمه ونقيه (2) .
والملغب : المتعب ، واللغوب : الاعياء .
وحدرت السفينة وغيرها - بغير ألف أحدرها بالضم .
__________
(1) يقال : هجهج بالسبع : صاح به ، وبالجمل زجره .
(2) النقي ، بكسر النون وسكون القاف : المخ .
(*)(15/155)
قوله : " بين ناقة وبين فصيلها " الافصح حذف بين الثانية ، لان الاسمين ظاهران ، وإنما تكرر إذا جاءت بعد المضمر ، كقولك : المال بينى وبين زيد وبين عمرو ، وذلك لان المجرور لا يعطف عليه إلا بإعادة حرف الجر والاسم المضاف ، وقد جاء : المال بين زيد وعمرو ، وأنشدوا : بين السحاب وبين الريح ملحمة * * قعاقع وظبى في الجو تخترط (1) .
وأيضا : بين الندى وبين برقة ضاحك * * غيث الضريك وفارس مقدام (2) ومن شعر الحماسة : وإن الذى بيني وبين بني أبي * * وبين بني عمي لمختلف جدا (3) وليس قول من يقول : إنه عطف بين الثالثة على الضمير المجرور بأولى من قول من يقول : بل عطف بين الثالثة على بين الثانية ، لان المعنى يتم بكل واحد منها .
قوله عليه السلام : " ولا تمصر لبنها " المصر حلب ما في الضرع جميعه ، نهاه من أن يحلب اللبن كله فيبقى الفصيل جائعا ، ثم نهاه أن يجهدها ركوبا ، أي يتعبها ويحملها مشقة ، ثم أمره أن يعدل بين الركاب في ذلك ، لا يخص بالركوب واحدة بعينها ، ليكون ذلك أروح لهن ، ليرفه على اللاغب ، أي ليتركه وليعفه عن الركوب ليستريح .
والرفاهية : الدعة والراحة .
والنقب : ذو النقب ، وهو رقة خف البعير حتى تكاد الارض تجرحه : أمره أن يستأني بالبعير ذى النقب ، من الاناة ، وهى المهلة .
__________
(1) الملحمة : الحرب ، والقعاقع : حكاية أصوات الترسة في الحرب .
والظبى : جمع ظبة ، وهو حد السيف .
(2) برقة ضاحك : موضع بعينه .
(3) ديوان الحماسة 30 : 172 ، والبيت للمقنع الكندي .
(*)(15/156)
والظالع : الذى ظلع ، أي غمز في مشيه .
والغدر : جمع غدير الماء .
وجواد الطريق : حيث لا ينبت المرعى .
والنطاف : جمع نطفة ، وهى الماء الصافي القليل .
والبدن بالتشديد : السمان ، واحدها بادن .
ومنقيات : ذوات نقي ، وهو المخ في العظم ، والشحم في العين من السمن ، وانقت الابل وغيرها : سمنت وصار فيها نقي ، وناقة منقية ، وهذه الناقة لا تنقي .(15/157)
(26) الاصل : ومن عهد له عليه السلام إلى بعض عماله وقد بعثه على الصدقة : آمره بتقوى الله في سرائر أمره ، وخفيات عمله ، حيث لا شاهد غيره ، ولا وكيل دونه .
وآمره ألا يعمل بشئ من طاعة الله فيما ظهر فيخالف إلى غيره فيما أسر ، ومن لم يختلف سره وعلانيته ، وفعله ومقالته ، فقد أدى الامانة ، وأخلص العبادة .
وآمره ألا يجبههم ، ولا يعضههم ، ولا يرغب عنهم تفضلا بالامارة عليهم فإنهم الاخوان في الدين ، والاعوان على استخراج الحقوق .
وإن لك في هذه الصدقة نصيبا مفروضا ، وحقا معلوما ، وشركاء أهل مسكنة ، وضعفاء ذوي فاقة .
وإنا موفوك حقك ، فوفهم حقوقهم ، وإلا تفعل فإنك من أكثر الناس خصوما يوم القيامة .
وبؤسي لمن خصمه عند الله الفقراء والمساكين ، والسائلون والمدفوعون ، والغارمون وابن السبيل ! ومن استهان بالامانة ، ورتع في الخيانة ، ولم ينزه نفسه ودينه عنها ، فقد أحل بنفسه الذل والخزي في الدنيا ، وهو في الاخرة أذل وأخزى ، وإن أعظم الخيانة خيانة الامة ، وأفظع الغش غش الائمة .
والسلام .(15/158)
الشرح : حيث لا شهيد ولا وكيل دونه ، يعنى يوم القيامة .
قوله : " ألا يعمل بشئ من طاعه الله فيما ظهر " أي لا ينافق فيعمل الطاعة في الظاهر والمعصيد في الباطن .
ثم ذكر أن الذين يتجنبون النفاق والرياء هم المخلصون .
وألا يجبههم : لا يواجههم بما يكرهونه ، وأصل الجبه لقاء الجبهة أو ضربها ، فلما كان المواجه غيره بالكلام القبيح كالضارب جبهته به سمى بذلك جبها .
قوله : " ولا يعضههم " : أي لا يرميهم بالبهتان والكذب ، وهى العضيهة ، وعضهت فلانا عضها ، وقد عضهت يا فلان ، أي جئت بالبهتان .
قوله : " ولا يرغب عنهم تفضلا " ، يقول : لا يحقرهم ادعاء لفضله عليهم ، وتمييزه عنهم بالولاية والامرة ، يقال فلان يرغب عن القوم ، أي يأنف من الانتماء إليهم ، أو من المخالطة لهم .
وكان عمر بن عبد العزيز يدخل إليه سالم مولى بنى مخزوم وعمر في صدر بيته فيتنحى عن الصدر ، وكان سالم رجلا صالحا ، وكان عمر أراد شراءه وعتقه ، فأعتقه مواليه ، فكان يسميه : أخي في الله ، فقيل له : أ تتنحى لسالم ! فقال : إذا دخل عليك من لا ترى لك عليه فضلا فلا تأخذ عليه شرف المجلس .
وهم السراج ليلة بأن يخمد ، فوثب إليه رجاء بن حيوة ليصلحه ، فأقسم عليه عمر بن عبد العزيز ، فجلس ، ثم قام عمر فأصلحه ، فقال له رجاء : أ تقوم أنت يا أمير المؤمنين ؟ قال : نعم ، قمت وأنا عمر بن عبد العزيز ، ورجعت وأنا عمر بن عبد العزيز .(15/159)
قال رسول الله صلى الله عليه وآله : " لا ترفعوني فوق قدري فتقولوا في ما قالت النصارى في ابن مريم ، فإن الله عز وجل اتخذني عبدا قبل أن يتخذني رسولا " .
ثم قال : إن أرباب الاموال الذين تجب الصدقة عليهم في أموالهم إخوانك في الدين ، وأعوانك على استخراج الحقوق ، لان الحق إنما يمكن العامل استيفاؤه بمعاونة رب المال واعترافه به ، ودفعه إليه ، فإذا كانوا بهذه الصفة لم يجز لك عضههم وجبههم وادعاء الفضل عليهم .
ثم ذكر أن لهذا العامل نصيبا مفروضا من الصدقة ، وذلك بنص الكتاب العزيز ، فكما نوفيك نحن حقك يجب عليك أن توفي شركاءك حقوقهم ، وهم الفقراء والمساكين والغارمون وسائر الاصناف المذكورة في القرآن ، وهذا يدل على أنه عليه السلام قد فوضه في صرف الصدقات إلى الاصناف المعلومة ، ولم يأمره بأن يحمل ما اجتمع إليه ليوزعه هو عليه السلام على مستحقيه كما في الوصية الاولى ، ويجوز للامام أن يتولى ذلك بنفسه ، وأن يكله إلى من يثق به من عماله .
وانتصب " أهل مسكنة " لانه صفة " شركاء " وفي التحقيق أن " شركاء " صفة أيضا موصوفها محذوف ، فيكون صفة بعد صفة .
وقال الراوندي : انتصب " أهل مسكنة " لانه بدل من " شركاء " ، وهذا غلط ، لانه لا يعطي معناه ليكون بدلا منه .
وقال أيضا : بؤسى ، أي عذابا وشدة ، فظنه منونا وليس كذلك ، بل هو بؤسى على وزن " فعلى " كفضلي ونعمى ، وهى لفظة مؤنثة ، يقال بؤسى لفلان ، قال الشاعر : أرى الحلم بؤسى للفتى في حياته * * ولا عيش إلا ما حباك به الجهل .(15/160)
والسائلون هاهنا هم الرقاب المذكورون في الاية ، وهم المكاتبون يتعذر عليهم أداء مال الكتابة ، فيسألون الناس ليتخلصوا من ربقه الرق .
وقيل : هم الاسارى يطلبون فكاك أنفسهم ، وقيل : بل المراد بالرقاب في الايه الرقيق ، يسأل أن يبتاعة الاغنياء فيعتقوه .
والمدفوعون هاهنا هم الذين عناهم الله تعالى في الاية بقوله : (وفي سبيل الله) (1) ، وهم فقراء الغزاة ، سماهم مدفوعين لفقرهم .
والمدفوع والمدفع : الفقير ، لان كل أحد يكرهه ويدفعه عن نفسه .
وقيل : هم الحجيج المنقطع بهم ، سماهم مدفوعين لانهم دفعوا عن إتمام حجهم ، أو دفعوا عن العود إلى أهلهم .
فإن قلت : لم حملت كلام أمير المؤمنين عليه السلام على ما فسرته به ؟ قلت : لانه عليه السلام إنما أراد أن يذكر الاصناف المذكورة في الاية فترك ذكر المؤلفة قلوبهم لان سهمهم سقط بعد موت رسول الله صلى الله عليه وآله : فقد كان يدفع إليهم حين الاسلام ضعيف ، وقد أعزه الله سبحانه ، فاستغنى عن تأليف قلوب المشركين ، وبقيت سبعة أصناف ، وهم الفقراء والمساكين و العاملون عليها والرقاب والغارمون وفي سبيل الله وابن السبيل .
فأما العاملون عليها فقد ذكرهم عليه السلام في قوله : " وإن لك في هذه الصدقة نصيبا مفروضا " ، فبقيت ستة أصناف أتى عليه السلام بألفاظ القرآن في أربعة أصناف منها ، وهى : الفقراء ، والمساكين ، والغارم ، وابن السبيل ، وأبدل لفظتين وهما الرقاب وفى سبيل الله بلفظتين وهما السائلون والمدفوعون .
فإن قلت : ما يقوله الفقهاء في الصدقات ؟ هل تصرف الى الاصناف كلها أم يجوز صرفها إلى واحد منها ؟
__________
(1) سورة التوبة 60 .
(*)(15/161)
قلت : أما أبو حنيفة فإنه يقول : الاية قصر لجنس الصدقات على الاصناف المعدودة فهى مختصة بها لا تتجاوزها إلى غيرها ، كأنه تعالى قال : إنما هي لهم لا لغيرهم ، كقولك : إنما الخلافة لقريش ، فيجوز أن تصرف الصدقة إلى الاصناف كلها ، ويجوز أن تصرف إلى بعضها ، وهو مذهب ابن عباس وحذيفة وجماعة من الصحابة والتابعين .
وأما الشافعي فلا يرى صرفها إلا إلى الاصناف المعدودة كلها ، وبه قال الزهري وعكرمة .
فإن قلت : فمن الغارم وابن السبيل ؟ قلت : الغارمون الذين ركبتهم الديون ولا يملكون بعدها ما يبلغ النصاب .
وقيل : هم الذين يحملون الحمالات فدينوا فيها وغرموا ، وابن السبيل : المسافر المنقطع عن ماله ، فهو - وإن كان غنيا حيث ماله موجود - فقير حيث هو بعيد .
وقد سبق تفسير الفقير والمسكين فيما تقدم .
قوله : " فقد أحل بنفسه الذل والخزي " ، أي جعل نفسه محلا لهما ، ويروى : " فقد أخل بنفسه " بالخاء المعجمة ، ولم يذكر الذل والخزى أي جعل نفسه مخلا ، ومعناه جعل نفسه فقيرا ، يقال : خل الرجل : إذا افتقر ، وأخل به غيره ، وبغيره أي جعل غيره فقيرا ، وروي : " أحل " بنفسه بالحاء المهملة ، ولم يذكر " الذل والخزي " .
ومعنى " أحل بنفسه " أباح دمه ، والرواية الاولى أصح ، لانه قال بعدها : " وهو في الاخرة أذل وأخزى " .
وخيانة الامة : مصدر مضاف إلى المفعول به ، لان الساعي إذا خان فقد خان الامة كلها ، وكذلك غش الائمة ، مصدر مضاف إلى المفعول أيضا ، لان الساعي إذا غش في الصدقة فقد غش الامام .(15/162)
(27) الاصل : ومن عهد له عليه السلام إلى محمد بن أبي بكر - رضي الله عنه - حين قلده مصر : فاخفض لهم جناحك ، وألن لهم جانبك ، وابسط لهم وجهك ، وآس بينهم في اللحظة والنظرة ، حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم ، ولا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم ، فإن الله تعالى يسائلكم معشر عباده عن الصغيرة من أعمالكم والكبيرة ، والظاهرة والمستورة ، فإن يعذب فأنتم أظلم ، وإن يعف فهو أكرم .
واعلموا عباد الله أن المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الاخرة ، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم ، ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم ، سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت ، وأكلوها بأفضل ما أكلت ، فحظوا من الدنيا بما حظى به المترفون ، وأخذوا منها ما أخذه الجبابرة المتكبرون ، ثم انقلبوا عنها بالزاد المبلغ ، والمتجر الرابح ، أصابوا لذة زهد الدنيا في دنياهم ، وتيقنوا أنهم جيران الله غدا في آخرتهم ، لا ترد لهم دعوة ، ولا ينقف لهم نصيب من لذة .
فاحذروا عباد الله الموت وقربه ، وأعدوا له عدته ، فإنه يأتي بأمر عظيم ، وخطب جليل ، بخير لا يكون معه شر أبدا ، أو شر لا يكون معه خير أبدا ، فمن أقرب إلى الجنة من عاملها ، ومن أقرب إلى النار من عاملها ! وأنتم طرداء الموت ، إن أقمتم له أخذكم ، وإن فررتم منه أدرككم ، وهو ألزم لكم من ظلكم .
الموت معقود بنواصيكم ، والدنيا تطوى من خلفكم .(15/163)
فاحذروا نارا قعرها بعيد ، وحرها شديد ، وعذابها جديد ، دار ليس فيها رحمة ، ولا تسمع فيها دعوة ، ولا تفرج فيها كربة .
وإن استطعتم أن يشتد خوفكم من الله ، وأن يحسن ظنكم به ، فأجمعوا بينهما ، فإن العبد إنما يكون حسن ظنه بربه على قدر خوفه من ربه ، وإن أحسن الناس ظنا بالله أشدهم خوفا لله .
واعلم يا محمد بن أبي بكر ، إني قد وليتك أعظم أجنادي في نفسي أهل مصر ، فأنت محقوق أن تخالف على نفسك ، وأن تنافح عن دينك ، ولو لم يكن لك إلا ساعة من الدهر ، ولا تسخط الله برضا أحد من خلقه ، فإن في الله خلفا من غيره ، وليس من الله خلف في غيره .
صل الصلاه لوقتها المؤقت لها ، ولا تعجل وقتها لفراغ ، ولا تؤخرها عن وقتها لاشتغال ، واعلم أن كل شئ من عملك تبع لصلاتك .
الشرح : آس بينهم : اجعلهم أسوة ، لا تفضل بعضهم على بعض في اللحظة والنظرة ، ونبه بذلك على وجوب أن يجعلهم أسوة في جميع ما عدا ذلك ، من العطاء والانعام والتقريب ، كقوله تعالى : (فلا تقل لهما أف) .
قوله : " حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم " ، الضمير في " لهم " راجع إلى الرعية لا إلى العظماء ، وقد كان سبق ذكرهم في أول الخطبة ، أي إذا سلكت هذا المسلك لم يطمع العظماء في أن تحيف على الرعية وتظلمهم وتدفع أموالهم إليهم ، فإن ولاة الجور
__________
(1) سورة الاسراء 23 .
(*)(15/164)
هكذا يفعلون ، يأخذون مال هذا فيعطونه هذا .
ويجوز أن يرجع الضمير إلى العظماء ، أي حتى لا يطمع العظماء في جورك في القسم الذى إنما تفعله لهم ولاجلهم ، فإن ولاة الجور يطمع العظماء فيهم أن يحيفوا في القسمة في الفئ ويخالفوا ما حده الله تعالى فيها ، حفظا لقلوبهم ، واستمالة لهم ، وهذا التفسير أليق بالخطابة ، لان الضمير في " عليهم " في الفقرة الثالثة عائد إلى الضعفاء ، فيجب أن يكون الضمير في " لهم " في الفقرة الثانية عائدا إلى العظماء .
قوله : " فإن يعذب فأنتم أظلم " أفعل هاهنا بمعنى الصفة ، لا بمعنى التفضيل ، وإنما يراد فأنتم الظالمون ، كقوله تعالى : (وهو أهون عليه) (1) .
وكقولهم : الله أكبر .
ثم ذكر حال الزهاد فقال : " أخذوا من الدنيا بنصيب قوي ، وجعلت لهم الاخرة ، ويروى أن الفضيل بن عياض كان هو ورفيق له في بعض الصحارى ، فأكلا كسرة يابسة ، واغترفا بأيديهما ماء من بعض الغدران ، وقام الفضيل فحط رجليه في الماء ، فوجد برده ، فالتذ به وبالحال التى هو فيها ، فقال لرفيقه : لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من العيش واللذة لحسدونا .
وروي : " والمتجر المربح " ، فالرابح فاعل من ربح ربحا ، يقال : بيع رابح أي يربح فيه ، والمربح : اسم فاعل قد عدي ماضيه بالهمزة ، كقولك : قام وأقمته .
قوله : " جيران الله غدا في آخرتهم " ، ظاهر اللفظ غير مراد ، لان البارئ تعالى ليس في مكان وجهة ليكونوا جيرانه ، ولكن لما كان الجار يكرم جاره سماهم جيران الله ، لاكرامه إياهم ، وأيضا فإن الجنة إذا كانت في السماء والعرش هو السماء العليا ، كان في الكلام محذوف مقدر ، أي جيران عرش الله غدا .
__________
(1) سورة الروم 27 .
(*)(15/165)
قوله : " فإنه يأتي بأمر عظيم ، وخطب جليل ، بخير لا يكون معه شر أبدا وشر لا يكون معه خير أبدا " ، نص صريح في مذهب أصحابنا في الوعيد ، وأن من دخل النار من جميع المكلفين فليس بخارج ، لانه لو خرج منها لكان الموت قد جاءه بشر معه خير ، وقد نفى نفيا عاما أن يكون مع الشر المعقب للموت خير البتة .
قوله : " من عاملها " ، أي من العامل لها .
قوله : " طرداء الموت " ، جمع طريد ، أي يطردكم عن أوطانكم ويخرجكم منها ، لا بد من ذلك ، إن أقمتم أخذكم ، وإن هربتم أدرككم .
وقال الراوندي : طرداء هاهنا : جمع طريدة وهى ما طردت من الصيد أو الوسيقة (1) ، وليس بصحيح ، لان " فعيلة " بالتأنيث لا تجمع على فعلاء .
وقال النحويون : إن قوله تعالى : (ويجعلكم خلفاء الارض) (2) جاء على " خليف " لا على " خليفة " وأنشدوا لاوس بن حجر ، بيتا استعملها جميعا فيه ، وهو : إن من القوم موجودا خليفته * * وما خليف أبي ليلى بموجود (3) قوله : " ألزم لكم من ظلكم " ، لان الظل لا تصح مفارقته لذي الظل ما دام في الشمس ، وهذا من الامثال المشهورة .
قوله : " معقود بنواصيكم " ، أي ملازم لكم ، كالشئ المعقود بناصية الانسان أين ذهب ذهب معه .
وقال الراوندي : أي الموت غالب عليكم ، قال تعالى : (فيؤخذ بالنواصي والاقدام) (4) ، فإن الانسان إذا أخذ بناصيته لا يمكنه الخلاص ، وليس بصحيح ، لانه لم يقل : " أخذ بنواصيكم " .
قوله : " والدنيا تطوى من خلفكم " من كلام بعض الحكماء : الموت والناس كسطور
__________
(1) الوسيقة : الجماعة من الابل ، إذا سوقت طردت معا .
(2) سورة النمل 62 .
(3) ديوانه 25 ، وروايته : " وما خليف أبي وهب " .
(4) سورة الرحمن 41 .
(*)(15/166)
في صحيفة يقرؤها قارئ ويطوي ما يقرأ فكلما ظهر سطر خفي سطر .
ثم أمره عليه السلام بأن يجمع بين حسن الظن بالله وبين الخوف منه ، وهذا مقام جليل لا يصل إليه إلا كل ضامر مهزول ، وقد تقدم كلامنا فيه .
وقال على بن الحسين عليه السلام : لو أنزل الله عز وجل كتابا أنه معذب رجلا واحدا لرجوت أن أكونه ، وأنه راحم رجلا واحدا لرجوت أن أكونه ، أو أنه معذبي لا محاله ما ازددت إلا اجتهادا لئلا أرجع إلى نفسي بلائمة .
ثم قال : " وليتك أعظم أجنادي " ، يقال للاقاليم والاطراف : أجناد ، تقول : ولي جند الشام ، وولي جند الاردن ، وولى جند مصر .
قوله : " فأنت محقوق " ، كقولك حقيق وجدير وخليق ، قال الشاعر : وإني لمحقوق بألا يطولني * * نداه إذا طاولته بالقصائد وتنافح : تجالد ، نافحت بالسيف أي خاصمت به .
قوله : " ولو لم يكن إلا ساعة من النهار " ، المراد تأكيد الوصاة عليه أن يخالف على نفسه ، وألا يتبع هواها ، وأن يخاصم عن دينه ، وأن ذلك لازم له ، وواجب عليه ، ويلزم أن يفعله دائما فإن لم يستطع فليفعله ولو ساعة من النهار ، وينبغى أن يكون هذا التقييد مصروفا إلى المنافحة عن الدين ، لان الخصام في الدين قد يمنعه عند مانع ، فأما أمره إياه أن يخالف على نفسه فلا يجوز صرف التقييد إليه ، لانه يشعر بأنه مفسوح له أن يتبع هوى نفسه في بعض الحالات ، وذلك غير جائز ، بخلاف المخاصمة والنضال عن المعتقد .
قال : " ولا تسخط الله برضا أحد من خلقه ، فإن في الله خلفا من غيره ، وليس من الله خلف في غيره " ، أخذه الحسن البصري فقال لعمر بن هبيرة(15/167)
أمير العراق : إن الله مانعك من يزيد ، ولم يمنعك يزيد من الله - يعنى يزيد بن عبد الملك .
ثم أمره بأن يصلي الصلاة لوقتها ، أي في وقتها ، ونهاه أن يحمله الفراغ من الشغل على أن يعجلها قبل وقتها ، فإنها تكون غير مقبولة ، أو أن يحمله الشغل على تأخيرها عن وقتها فيأثم .
ومن كلام هشام بن عقبة أخي ذي الرمة - وكان من عقلاء الرجال - قال المبرد في الكامل : حدثني العباس بن الفرج الرياشي بإسناده ، قال هشام لرجل أراد سفرا : اعلم أن لكل رفقة كلبا يشركهم في فضل الزاد ، ويهر دونهم ، فإن قدرت ألا تكون كلب الرفقة فافعل ، وإياك وتأخير الصلاة عن وقتها ، فإنك مصليها لا محالة ، فصلها وهى تقبل منك (2) .
قوله : " واعلم أن كل شئ من عملك تبع لصلاتك " ، فيه شبه من قول رسول الله صلى الله عليه وآله : " الصلاة عماد الايمان ، ومن تركها فقد هدم الايمان " .
وقال صلى الله عليه وآله : " أول ما يحاسب به العبد صلاته ، فإن سهل عليه كان ما بعده أسهل ، وإن اشتد عليه كان ما بعد أشد " .
ومثل قوله : " ولا تسخط الله برضا أحد من خلقه " ، ما رواه المبرد في " الكامل " عن عائشة قالت : من أرضى الله بإسخاط الناس كفاه الله ما بينه وبين الناس ، ومن أرضى الناس بإسخاط الله وكله الله إلى الناس .
ومثل هذا ما رواه المبرد أيضا قال : لما ولي الحسن بن زيد بن الحسن المدينة قال لابن هرمة : إني لست كمن باع لك دينه رجاء مدحك ، أو خوف ذمك ، فقد رزقني (3)
__________
(1) الكامل : " بإسناد له " .
(2) الكامل 1 : 262 .
(3) الكامل : قد أفادني الله بولادة نبيه الممادح " .
(*)(15/168)
الله عز وجل بولادة نبيه صلى الله عليه وآله الممادح ، وجنبني المقابح ، وإن من حقه علي ألا أغضي على تقصير في حق الله .
وأنا أقسم بالله لئن أتيت بك سكران لاضربنك حدا للخمر ، وحدا للسكر ، ولازيدن لموضع حرمتك بي ، فليكن تركك لها لله عز وجل تعن (1) عليه ، ولا تدعها للناس فتوكل إليهم ، فقال ابن هرمة (2) : نهاني ابن الرسول عن المدام * * وأدبني بآداب الكرام وقال لي اصطبر عنها ودعها * * لخوف الله لا خوف الانام وكيف تصبري عنها وحبى * * لها حب تمكن في عظامي أرى طيب الحلال علي خبثا * * وطيب النفس في خبث الحرام (3)
__________
(1) كذا في أ والكامل ، وفي ب : " تعز " .
(2) الكامل : " فنهض ابن هرمة وهو يقول " .
(3) الكامل 1 : 242 ، 243 .
(*)(15/169)
(27) الاصل : ومن هذا العهد : فإنه لا سواء إمام الهدى وإمام الردى ، وولي النبي وعدو النبي ، ولقد قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله : إني لا أخاف على أمتي مؤمنا ولا مشركا ، أما المؤمن فيمنعه الله بإيمانه ، وأما المشرك فيقمعه الله بشركه ، ولكني أخاف عليكم كل منافق الجنان ، عالم اللسان ، يقول ما تعرفون ، ويفعل ما تنكرون .
الشرح : الاشارة بإمام الهدى إليه نفسه ، وبإمام الردى إلى معاوية ، وسماه إماما ، كما سمى الله تعالى أهل الضلال أئمة ، فقال : (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) (1) ثم وصفه بصفة أخرى وهو أنه عدو النبي صلى الله عليه وآله ليس يعني بذلك أنه كان عدوا أيام حرب النبي صلى الله عليه وآله لقريش ، بل يريد أنه الان عدو النبي صلى الله عليه وآله ، لقوله صلى الله عليه وآله له عليه السلام : " وعدوك عدوي وعدوي عدو الله " .
وأول الخبر : " وليك وليي ، ووليي ولي الله " ، وتمامه مشهور ، ولان دلائل النفاق كانت ظاهرة عليه من فلتات لسانه ومن أفعاله ، وقد قال أصحابنا في هذا المعنى أشياء كثيرة ، فلتطلب من كتبهم ، خصوصا
__________
(1) سورة القصص 41 .
(*)(15/170)
من كتب شيخنا أبي عبد الله ، ومن كتب الشيخ أبي جعفر الاسكافي ، وأبي القاسم البلخي ، وقد ذكرنا بعض ذلك فيما تقدم .
ثم قال عليه السلام : " إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : إني لا أخاف على أمتى مؤمنا ولا مشركا " أي ولا مشركا يظهر الشرك ، قال : لان المؤمن يمنعه الله بإيمانه أن يضل الناس ، والمشرك مظهر الشرك يقمعه الله بإظهار شركه ويخذله ، ويصرف قلوب الناس عن اتباعه ، لانهم ينفرون منه لاظهاره كلمه الكفر ، فلا تطمئن قلوبهم إليه ، ولا تسكن نفوسهم إلى مقالته ، ولكني أخاف على أمتى المنافق الذى يسر الكفر والضلال ، ويظهر الايمان والافعال الصالحة ، ويكون مع ذلك ذا لسن وفصاحة ، يقول بلسانه ما تعرفون صوابه ، ويفعل سرا ما تنكرونه لو اطلعتم عليه ، وذاك أن من هذه صفته تسكن نفوس الناس إليه ، لان الانسان إنما يحكم بالظاهر فيقلده الناس ، فيضلهم ويوقعهم في المفاسد .
[ كتاب المعتضد بالله ] ومن الكتب المستحسنة الكتاب الذى كتبه المعتضد بالله أبو العباس أحمد بن الموفق أبي أحمد طلحة بن المتوكل على الله في سنة أربع وثمانين ومائتين ووزيره حينئذ عبيد الله بن سليمان ، وأنا أذكره مختصرا من تاريخ أبي جعفر محمد بن جرير الطبري .
قال أبو جعفر : وفي (1) هذه السنه عزم المعتضد على لعن معاوية بن أبي سفيان على المنابر ، وأمر بإنشاء كتاب يقرأ على الناس ، فخوفه عبيد الله بن سليمان اضطراب العامة ،
__________
(1) تاريخ الطبري 3 : 2164 وما بعدها .
(*)(15/171)
وأنه لا يأمن أن تكون فتنة ، فلم يلتفت إليه .
فكان أول شئء بدأ به المعتضد من ذلك التقدم (1) إلى العامة بلزوم أعمالهم ، وترك الاجتماع والعصبية (2) ، [ والشهادات عند السلطان إلا أن يسألوا ] (3) ، ومنع القصاص عن القعود على الطرقات ، وأنشا هذا الكتاب وعملت به نسخ قرئت بالجانبين من مدينه السلام في الارباع والمحال والاسواق يوم الاربعاء لست بقين من جمادى الاولى من هذه السنة ، ثم منع يوم الجمعة لاربع بقين منه ، ومنع القصاص من القعود في الجانبين ، ومنع أهل الحلق من القعود في المسجدين ، ونودي في المسجد الجامع بنهي الناس عن الاجتماع وغيره وبمنع القصاص وأهل الحلق من القعود ، ونودي : أن الذمة قد برئت ممن اجتمع من الناس في مناظرة أو جدال ، وتقدم إلى الشراب الذين يسقون الماء في الجامعين ألا يترحموا على معاوية ، ولا يذكروه [ بخير ] (3) ، وكانت عادتهم جارية بالترحم عليه ، وتحدث الناس أن الكتاب الذى قد أمر المعتضد بإنشائه بلعن معاوية يقرأ بعد صلاة الجمعة على المنبر ، فلما صلى الناس بادروا إلى المقصورة ليسمعوا قراءة الكتاب ، فلم يقرأ : وقيل : إن عبيد الله بن سليمان صرفه عن قراءته ، وإنه أحضر يوسف بن يعقوب القاضي ، وأمره أن يعمل الحيلة في إبطال ما عزم المعتضد عليه ، فمضى يوسف فكلم المعتضد في ذلك ، وقال له : إني أخاف أن تضطرب العامة ، ويكون منها عند سماعها هذا الكتاب حركة ، فقال : إن تحركت العامة أو نطقت وضعت السيف فيها .
فقال : يا أمير المؤمنين ، فما تصنع بالطالبيين الذين يخرجون في كل ناحية ، ويميل إليهم خلق كثير ، لقربتهم من رسول الله صلى الله عليه وآله ، وما في هذا الكتاب من إطرائهم - أو كما قال - وإذا سمع الناس هذا كانوا إليهم أميل ، وكانوا هم أبسط
__________
(1) الطبري : " الامر بالتقدم " .
(2) الطبري : " القضية " .
(3) من الطبري .
(4) الطبري : " ويمنع " .
(*)(15/172)
ألسنة ، وأثبت حجة منهم اليوم .
فأمسك المعتضد فلم يرد إليه جوابا ، ولم يأمر بعد ذلك في الكتاب بشئ .
وكان من جملة الكتاب بعد أن قدم حمد الله والثناء عليه والصلاه على رسول الله صلى الله عليه وآله : أما بعد ، فقد انتهى إلى أمير المؤمنين ما عليه جماعة العامة من شبهة قد دخلتهم في أديانهم ، وفساد قد لحقهم في معتقدهم ، وعصبية قد غلبت عليها أهواؤهم ، ونطقت بها ألسنتهم ، على غير معرفة ولا روية ، قد قلدوا فيها قادة الضلالة بلا بينة ولا بصيرة ، وخالفوا السنن المتبعة ، إلى الاهواء المبتدعة ، قال الله تعالى : (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين (1)) .
خروجا عن الجماعة ، ومسارعة إلى الفتنة ، وإيثارا للفرقة ، وتشتيتا للكلمة ، وإظهارا لموالاة من قطع الله عنه الموالاة ، وبتر منه العصمة ، وأخرجه من الملة ، وأوجب عليه اللعنة ، وتعظيما لمن صغر الله حقه ، وأوهن أمره ، وأضعف ركنه ، من بنى أمية الشجرة الملعونة ، ومخالفة لمن استنقذهم الله به من الهلكة ، وأسبغ عليهم به النعمة من أهل بيت البركة والرحمة ، (والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم) (2) .
فأعظم أمير المؤمنين ما انتهى إليه من ذلك ، ورأى (3) ترك إنكاره حرجا عليه في الدين ، وفسادا لمن قلده الله أمره من المسلمين ، وإهمالا لما أوجبه الله عليه من تقويم المخالفين ، وتبصير الجاهلين ، وإقامة الحجة على الشاكين ، وبسط اليد على المعاندين (4) ! وأمير المؤمنين يخبركم معاشر المسلمين أن الله جل ثناؤه لما ابتعث محمدا صلى الله عليه وسلم بدينه ، وأمره أن يصدع بأمره ، بدأ بأهله وعشيرته فدعاهم إلى ربه ، وأنذرهم وبشرهم ،
__________
(1) سورة القصص 50 .
(2) سورة البقرة 105 .
(3) الطبري : " ترك " .
(4) الطبري : " العاندين " .
(*)(15/173)
ونصح لهم وأرشدهم ، فكان من استجاب له ، وصدق قوله ، واتبع أمره نفير (1) يسير من بني أبيه ، من بين مؤمن بما أتى به من ربه ، وناصر لكلمته وإن لم يتبع دينه إعزازا له ، وإشفاقا عليه ، فمؤمنهم مجاهد ببصيرته ، وكافرهم مجاهد بنصرته وحميته ، يدفعون من نابذه ، ويقهرون من عازه وعانده ، ويتوثقون له ممن كانفه وعاضده ، ويبايعون من سمح بنصرته ، ويتجسسون أخبار أعدائه ، ويكيدون له بظهر الغيب كما يكيدون له برأي العين ، حتى بلغ المدى ، وحان وقت الاهتدا ، فدخلوا في دين الله وطاعته وتصديق رسوله والايمان به بأثبت بصيرة ، وأحسن هدى ورغبة ، فجعلهم الله أهل بيت الرحمة ، وأهل بيت الدين ، أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا .
معدن الحكمة ، وورثة النبوة ، وموضع الخلافة .
أوجب الله لهم الفضيلة ، وألزم العباد لهم الطاعه .
وكان ممن عانده وكذبه وحاربه من عشيرته العدد الكثير والسواد الاعظم ، يتلقونه بالضرر والتثريب (2) ، ويقصدونه بالاذى والتخويف ، وينابذونه بالعداوة ، وينصبون له المحاربة ويصدون من قصده ، وينالون بالتعذيب من اتبعه ، وكان أشدهم في ذلك عداوة ، وأعظمهم له مخالفة ، أولهم في كل حرب ومناصبة ، ورأسهم في كل إجلاب وفتنة ، لا يرفع على الاسلام راية ، إلا كان صاحبها وقائدها ورئيسها ، أبا سفيان بن حرب صاحب أحد والخندق وغيرهما ، وأشياعه من بنى أمية الملعونين في كتاب الله ، ثم الملعونين على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله في مواطن عدة ، لسابق علم الله فيهم ، وماضي حكمه في أمرهم ، وكفرهم ونفاقهم .
فلم يزل لعنه الله يحارب مجاهدا ، ويدافع مكايدا ، ويجلب منابذا ، حتى قهره السيف ، وعلا أمر الله وهم كارهون ، فتعوذ بالاسلام غير منطو عليه ، وأسر الكفر غير مقلع عنه ، فقبله وقبل ولده على علم منه بحاله وحالهم .
ثم أنزل الله
__________
(1) الطبري : " نفر " .
(2) التثريب : " العتاب واللوم " .
(*)(15/174)
تعالى كتابا فيما أنزله على رسوله يذكر فيه شأنهم وهو قوله تعالى : (والشجرة الملعونة في القرآن) (1) ، ولا خلاف بين أحد في أنه تعالى وتبارك أراد بها بني أمية .
ومما ورد من ذلك في السنة ، ورواه ثقات الامة ، قول رسول الله صلى الله عليه وآله فيه وقد رآه مقبلا على حمار ومعاوية يقوده ويزيد يسوقه (2) : " لعن الله الراكب والقائد والسائق " .
ومنه ما روته الرواة عنه من قوله يوم بيعة عثمان : تلقفوها يا بني عبد شمس تلقف الكرة ، فو الله ما من جنة ولا نار ، وهذا كفر صراح يلحقه اللعنة من الله كما لحقت الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون .
ومنه ما يروى من وقوفه على ثنية أحد من بعد ذهاب بصره وقوله لقائده : هاهنا رمينا محمدا وقتلنا أصحابه .
ومنها الكلمة التى قالها للعباس قبل الفتح وقد عرضت عليه الجنود : لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما ، فقال له العباس : ويحك ! إنه ليس بملك ، إنها النبوة .
ومنها قوله يوم الفتح وقد رأى بلالا على ظهر الكعبة يؤذن ويقول أشهد أن محمدا رسول الله : لقد أسعد الله عتبة بن ربيعة إذ لم يشهد هذا المشهد .
ومنه الرؤيا التى رآها رسول الله صلى الله عليه وآله فوجم لها .
قالوا : فما رئي بعدها ضاحكا (3) ، رأى نفرا من بني أمية ينزون (4) على منبره نزوة القردة .
ومنها طرد رسول الله صلى الله عليه وآله الحكم بن أبي العاص لمحاكاته إياه في
__________
(1) سورة الاسراء 60 .
(2) الطبري : " يسوق به " .
(3) بعدها في الطبري : فأنزل الله : (وما جعلنا الرؤيا التي أريناكها إلا فتنة للناس) .
(4) ينزون : يثبون ويعدون .
(*)(15/175)
مشيته ، وألحقه الله بدعوة رسول الله صلى الله عليه وآله آفة باقيه حين التفت إليه فرآه يتخلج يحكيه ، فقال : " كن كما أنت " ، فبقي على ذلك سائر عمره .
هذا إلى ما كان من مروان ابنه في افتتاحه أول فتنه كانت في الاسلام ، واحتقابه (1) كل حرام سفك فيها أو أريق بعدها .
ومنها ما أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وآله ليله القدر ، خير من ألف شهر ! قالوا : ملك بني أمية .
ومنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله دعا معاوية ليكتب بين يديه ، فدافع بأمره واعتل بطعامه ، فقال صلى الله عليه وآله : " لا أشبع الله بطنه " .
فبقي لا يشبع وهو يقول : والله ما أترك الطعام شبعا ، ولكن إعياء ! ومنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : " يطلع من هذا الفج رجل من أمتي يحشر على غير ملتى " ، فطلع معاوية .
ومنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : " إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه " .
ومنها الحديث المشهور المرفوع أنه صلى الله عليه وآله قال : " إن معاوية في تابوت من نار في أسفل درك من جهنم ، ينادى : يا حنان يا منان .
فيقال له : (الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) (2) .
ومنها افتراؤه بالمحاربة لافضل المسلمين في الاسلام مكانا ، وأقدمهم إليه سبقا ، وأحسنهم فيه أثرا وذكرا ، على بن أبى طالب ، ينازعه حقه بباطله ، ويجاهد أنصاره بضلاله وأعوانه ، ويحاول ما لم يزل هو وأبوه يحاولانه ، من إطفاء نور الله ، وجحود دينه
__________
(1) يقال : احتقب فلان الاثم ، إذا ارتكبه .
(2) سورد يونس 91 .
(*)(15/176)
(ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) (1) ، ويستهوي أهل الجهالة ، ويموه لاهل الغباوة بمكره وبغيه اللذين قدم رسول الله صلى الله عليه وآله الخبر عنهما ، فقال لعمار بن ياسر : " تقتلك الفئة الباغية ، تدعوهم إلى الجنة ويدعونك الى النار " ، مؤثرا للعاجلة ، كافرا بالاجلة ، خارجا من ربقة (2) الاسلام ، مستحلا للدم الحرام ، حتى سفك في فتنته ، وعلى سبيل غوايته وضلالته ما لا يحصى عدده من أخيار المسلمين ، الذابين عن دين الله والناصرين لحقه ، مجاهدا في عداوة الله ، مجتهدا في أن يعصى الله فلا يطاع ، وتبطل أحكامه فلا تقام ، ويخالف دينه .
فلا بد وأن تعلو كلمة الضلال وترتفع دعوة الباطل ، وكلمة الله هي العليا ، ودينه المنصور ، وحكمه النافذ ، وأمره الغالب وكيد من عاداه وحاده المغلوب الداحض ، حتى احتمل أوزار تلك الحروب وما تبعها ، وتطوق تلك الدماء وما سفك بعدها ، وسن سنن الفساد التى عليه إثمها وإثم من عمل بها ، وأباح المحارم لمن ارتكبها ، ومنع الحقوق أهلها ، وغرته الامال ، واستدرجه الامهال .
وكان مما أوجب الله عليه به اللعنة قتله من قتل صبرا من خيار الصحابة والتابعين ، وأهل الفضل والدين ، مثل عمرو بن الحمق الخزاعي وحجر بن عدي الكندي ، فيمن قتل من أمثالهم ، على أن تكون له العزة والملك والغلبة ، ثم ادعاؤه زياد بن سمية أخا ، ونسبته إياه إلى أبيه ، والله تعالى يقول : (ادعوهم لابائهم هو أقسط عند الله) (4) ، ورسول الله صلى الله عليه وآله يقول : " ملعون من ادعى إلى غير أبيه ، أو انتمى إلى غير مواليه " .
وقال : " الولد للفراش وللعاهر الحجر " ، فخالف حكم الله تعالى ورسوله جهارا ، وجعل الولد لغير الفراش والحجر لغير العاهر ، فأحل بهذه الدعوة من محارم الله ورسوله في أم حبيبه أم المؤمنين وفي غيرها من النساء من شعور ووجوه قد
__________
(1) سورة التوبة 32 .
(2) الربقة : الواحدة من العرى التي في الحبل .
(3) صبرا ، أي حبسا .
(4) سورة الاحزاب 5 .
(*)(15/177)
حرمها الله وأثبت بها من قربى قد أبعدها الله ، ما لم يدخل الدين خلل مثله ، ولم ينل الاسلام تبديل يشبهه .
ومن ذلك إيثاره لخلافة الله على عباده ابنه يزيد السكير الخمير صاحب الديكة والفهود والقردة ، وأخذ البيعه له على خيار المسلمين بالقهر والسطوة والتوعد والاخافة ، والتهديد والرهبة ، وهو يعلم سفهه ، ويطلع على رهقه وخبثه ، ويعاين سكراته وفعلاته ، وفجوره وكفره ، فلما تمكن - قاتله الله - فيما تمكن منه ، طلب بثارات المشركين وطوائلهم عند المسلمين ، فأوقع بأهل المدينة في وقعة الحرة الوقعة التى لم يكن في الاسلام أشنع منها ولا أفحش ، فشفى عند نفسه غليله ، وظن أنه قد انتقم من أولياء الله ، وبلغ الثأر لاعداء الله فقال مجاهرا بكفره ، ومظهرا لشركه : ليت أشياخي ببدر شهدوا * * جزع الخزرج من وقع الاسل (1) قول (2) من لا يرجع إلى الله ولا إلى دينه ولا إلى رسوله ولا إلى كتابه ، ولا يؤمن بالله وبما جاء من عنده .
ثم أغلظ ما انتهك ، وأعظم ما اجترم ، سفكه دم الحسين بن علي عليه السلام ، مع موقعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكانه ومنزلته من الدين والفضل والشهادة له ولاخيه بسيادة شباب أهل الجنة ، اجتراء على الله وكفرا بدينه ، وعداوة لرسوله ، ومجاهرة لعترته ، واستهانة لحرمته ، كأنما يقتل منه ومن أهل بيته قوما من كفرة الترك
__________
(1) لعبد الله بن الزبعرى ، من كلمته يوم أحد ، سيرة ابن هشام 3 : 96 وبعده في الطبري : قد قتلنا القوم من ساداتكم * * وعدلنا ميل بدر فاعتدل فأهلوا واستهلوا فرحا * * ثم قالوا يا يزيد لا تسل لست من خندف إن لم أنتقم * * من بني أحمد ما كان فعل لعنت هاشم بالملك فلا * * خبر جاء ولا وحي نزل (2) الطبري : هذا هو المروق من الدين وقول من لا يرجع ...
" .
(*)(15/178)
والديلم ، ولا يخاف من الله نقمة ، ولا يراقب منه سطوة ، فبتر الله عمره ، أخبث أصله وفرعه ، وسلبه ما تحت يده ، وأعد له من عذابه وعقوبته ، ما استحقه من الله بمعصيته .
هذا إلى ما كان من بني مروان من تبديل كتاب الله ، وتعطيل أحكام الله ، واتخاذ مال الله بينهم دولا ، وهدم بيت الله ، واستحلالهم حرمه ، ونصبهم المجانيق عليه ، ورميهم بالنيران إياه ، لا يألون له إحراقا وإخرابا ، ولما حرم الله منه استباحة و انتهاكا ، ولمن لجأ إليه قتلا وتنكيلا ، ولمن أمنه الله به إخافة وتشريدا ، حتى إذا حقت عليهم كلمه العذاب ، واستحقوا من الله الانتقام ، وملئوا الارض بالجور والعدوان وعموا عباد بلاد الله بالظلم والاقتسار ، وحلت عليهم السخطة ، ونزلت بهم من الله السطوة ، أتاح الله لهم من عترة نبيه وأهل وراثته ، ومن استخلصه منهم لخلافته ، مثل ما أتاح من أسلافهم المؤمنين ، وآبائهم المجاهدين ، لاوائلهم الكافرين ، فسفك الله به دماءهم ودماء آبائهم مرتدين ، كما سفك بأبائهم مشركين ، وقطع الله دابر الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين .
أيها الناس ، إن الله إنما أمر ليطاع ، ومثل ليتمثل ، وحكم ليفعل ، قال الله سبحانه وتعالى : (إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا) (1) ، وقال : (أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) (2) .
فالعنوا أيها الناس من لعنه الله ورسوله ، وفارقوا من لا تنالون القربة من الله إلا بمفارقته : اللهم العن أبا سفيان بن حرب بن أمية ، ومعاوية بن أبى سفيان ، ويزيد بن معاوية ، ومروان بن الحكم ، وولده وولد ولده ! اللهم العن أئمة الكفر ، وقادة الضلال ، وأعداء الدين ، ومجاهدي الرسول ، ومعطلي الاحكام ، ومبدلي الكتاب ، ومنتهكي الدم الحرام ! اللهم إنا نبرأ إليك من موالاة أعدائك ، ومن الاغماض لاهل معصيتك ،
__________
(1) سورة الاحزاب 64 .
(2) سورة البقرة 159 .
(*)(15/179)
كما قلت : (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر يوادون من حاد الله ورسوله) (1) .
أيها الناس ، اعرفوا الحق تعرفوا أهله ، وتأملوا سبل الضلالة تعرفوا سابلها ، فقفوا عند ما وقفكم الله عليه ، وانفذوا كما أمركم الله به ، وأمير المؤمنين يستعصم بالله لكم ، ويسأله توفيقكم ، ويرغب إليه في هدايتكم .
والله حسبه وعليه توكله ، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
(2) .
قلت : هكذا ذكر الطبري الكتاب ، وعندي أنه الخطبة ، لان كل ما يخطب به فهو خطبة ، وليس بكتاب ، والكتاب ما يكتب إلى عامل أو أمير ونحوهما ، وقد يقرا الكتاب على المنبر فيكون كالخطبة ، ولكن ليس بخطبة ، ولكنه كتاب قرئ على الناس .
ولعل هذا الكلام كان قد أنشئ ليكون كتابا ، ويكتب به إلى الافاق ، ويؤمروا بقراءته على الناس ، وذلك بعد قراءته على أهل بغداد .
والذى يؤكد كونه كتابا ، وينصر ما قاله الطبري أن في آخره : " كتب عبيد الله بن سليمان في سنة أربع وثمانين ومائتين " ، وهذا لا يكون في الخطب ، بل في الكتب ، ولكن الطبري لم يذكر أنه أمر بأن يكتب إلى الافاق ولا قال : وقع العزم على ذلك ، ولم يذكر إلا وقوع العزم على أن يقرا في الجوامع ببغداد .
__________
(1) سورة المجادلة 22 .
(2) الطبري حوادث سنة 284 بتصرف واختصار .
(*)(15/180)
(28) الاصل : ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية جوابا ، وهو من محاسن الكتب : أما بعد ، فقد أتاني كتابك تذكر فيه اصطفاء الله محمدا صلى الله عليه وآله لدينه ، وتأييده إياه لمن أيده من أصحابه ، فلقد خبأ لنا الدهر منك عجبا ، إذ طفقت تخبرنا ببلاء الله تعالى عندنا ، ونعمته علينا في نبينا ، فكنت في ذلك كناقل التمر إلى هجر ، أو داعي مسدده إلى النضال .
وزعمت أن أفضل الناس في الاسلام فلان وفلان ، فذكرت أمرا إن تم اعتزلك كله ، وإن نقص لم يلحقك ثلمه .
وما أنت والفاضل والمفضول ، والسائس والمسوس ! وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الاولين ، وترتيب درجاتهم ، وتعريف طبقاتهم ! هيهات لقد حن قدح ليس منها ، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها ! أ لا تربع أيها الانسان على ظلعك ، وتعرف قصور ذرعك ، وتتأخر حيث أخرك القدر ! فما عليك غلبة المغلوب ، ولا ظفر الظافر ، فإنك لذهاب في التيه ، رواغ عن القصد .
أ لا ترى - غير مخبر لك ، ولكن بنعمة الله أحدث - إن قوما استشهدوا في سبيل الله تعالى من المهاجرين والانصار ، ولكل فضل ، حتى إذا استشهد شهيدنا قيل : سيد الشهداء ، وخصه رسول الله صلى الله عليه وآله بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه !(15/181)
أ ولا ترى أن قوما قطعت أيديهم في سبيل الله ولكل فضل ، حتى إذا فعل بواحدنا ما فعل بواحدهم ، قيل : الطيار في الجنة وذو الجناحين ! ولو لا ما نهى الله عنه من تزكيه المرء نفسه ، لذكر ذاكر فضائل جمة ، تعرفها قلوب المؤمنين ، ولا تمجها آذان السامعين .
فدع عنك من مالت به الرمية ، فإنا صنائع ربنا ، والناس بعد صنائع لنا ، لم يمنعنا قديم عزنا ، ولا عادي طولنا على قومك أن خلطناكم بأنفسنا ، فنكحنا وأنكحنا ، فعل الاكفاء ولستم هناك .
وإنى يكون ذلك كذلك ومنا النبي ومنكم المكذب ، ومنا أسد الله ومنكم أسد الاحلاف ، ومنا سيدا شباب أهل الجنة ، ومنكم صبية النار ، ومنا خير نساء العالمين ، ومنكم حمالة الحطب ، في كثير مما لنا وعليكم ! فإسلامنا ما قد سمع ، وجاهليتنا لا تدفع ، وكتاب الله يجمع لنا ما شذ عنا ، وهو قوله سبحانه وتعالى : (وأولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) (1) ، وقوله تعالى : (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين) (2) ، فنحن مرة أولى بالقرابة ، وتارة أولى بالطاعة .
ولما احتج المهاجرون على الانصار يوم السقيفة برسول الله صلى الله عليه وآله فلجوا عليهم ، فان يكن الفلج به فالحق لنا دونكم ، وإن يكن بغيره فالانصار على دعواهم .
وزعمت أني لكل الخلفاء حسدت ، وعلى كلهم بغيت ، فإن يكن ذلك كذلك فليست الجنايه عليك ، فيكون العذر إليك .
__________
(1) سورة الانفال 75 .
(2) سورة آل عمران 68 .
(*)(15/182)
* وتلك شكاة ظاهر عنك عارها * وقلت : إنى كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى أبايع ، ولعمر الله لقد أردت أن تذم فمدحت ، وأن تفضح فافتضحت ! وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكا في دينه ، ولا مرتابا بيقينه ! وهذه حجتي إلى غيرك قصدها ، ولكني أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها .
ثم ذكرت ما كان من أمري وأمر عثمان ، فلك أن تجاب عن هذه لرحمك منه ، فأينا كان أعدى له ، وأهدى إلى مقاتله ! أمن بذل له نصرته فاستقعده واستكفه ، أمن استنصره فتراخى عنه وبث المنون إليه ، حتى أتى قدره عليه ! كلا والله لقد (يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لاخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا) (1) .
وما كنت لاعتذر من أني كنت أنقم عليه أحداثا ، فإن كان الذنب إليه إرشادي وهدايتي له ، فرب ملوم لا ذنب له .
* وقد يستفيد الظنة المتنصح * وما أردت إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب .
وذكرت أنه ليس لي ولاصحابي عندك إلا السيف ، فلقد أضحكت بعد استعبار ! متى ألفيت بني عبد المطلب عن الاعداء ناكلين ، وبالسيف مخوفين ، ف
__________
(1) سورة الاحزاب 18 .
(*)(15/183)
* فلبث قليلا يلحق الهيجا حمل * فسيطلبك من تطلب ، ويقرب منك ما تستبعد ، وإنا مرقل نحوك في جحفل من المهاجرين والانصار ، والتابعين لهم باحسان ، شديد زحامهم ، ساطع قتامهم ، متسربلين سرابيل الموت ، أحب اللقاء إليهم لقاء ربهم ، وقد صحبتهم ذرية بدرية ، وسيوف هاشمية ، قد عرفت مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدك وأهلك (وما هي من الظالمين ببعيد) (1) .
[ كتاب لمعاوية إلى علي ] سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن أبى زيد ، فقلت : أرى هذا الجواب منطبقا على كتاب معاوية الذى بعثه مع أبى مسلم الخولاني إلى علي عليه السلام ، فإن كان هذا هو الجواب فالجواب الذي ذكره أرباب السيرة وأورده نصر بن مزاحم في كتاب صفين إذن غير صحيح ، وإن كان ذلك الجواب ، فهذا الجواب إذن غير صحيح ولا ثابت ، فقال لى : بل كلاهما ثابت مروي ، وكلاهما كلام أمير المؤمنين عليه السلام وألفاظه ، ثم أمرني أن أكتب ما عليه علي عليه السلام ، فكتبته ، قال رحمه الله : كان معاوية يتسقط (3) عليا وينعى عليه ما عساه يذكره من حال أبي بكر وعمر ، وأنهما غصباه حقه ، ولا يزال يكيده بالكتاب يكتبه ، والرسالة يبعثها يطلب غرته ، لينفث بما في صدره من حال أبي بكر وعمر ، إما مكاتبة أو مراسلة ، فيجعل ذلك حجة
__________
(1) سورة هود 83 .
(2) يتسقطه : يتنقصه .
(*)(15/184)
عليه عند أهل الشام ، ويضيفه إلى ما قرره في أنفسهم من ذنوبه كما زعم ، فقد كان غمصه (1) عندهم بأنه قتل عثمان ، ومالأ على قتله ، وأنه قتل طلحة والزبير ، وأسر عائشة ، وأراق دماء أهل البصرة .
وبقيت خصلة واحدة ، وهو إن يثبت عندهم أنه يتبرأ من أبي بكر وعمر ، وينسبهما إلى الظلم ومخالفة الرسول في أمر الخلافة ، وأنهما وثبا عليها غلبة ، وغصباه إياها ، فكانت هذه الطامة الكبرى ليست مقتصرة على فساد أهل الشام عليه ، بل وأهل العراق الذين هم جنده وبطانته وأنصاره ، لانهم كانوا يعتقدون إمامة الشيخين ، إلا القليل الشاذ من خواص الشيعة ، فلما كتب ذلك الكتاب مع أبى مسلم الخولاني قصد أن يغضب عليا ويحرجه ويحوجه إذا قرأ ذكر أبى بكر ، وأنه أفضل المسلمين ، إلى أن يخلط خطه في الجواب بكلمة تقتضي طعنا في أبى بكر ، فكان الجواب مجمجما (2) غير بين ، ليس فيه تصريح بالتظليم لهما ، ولا التصريح ببرأتهما ، وتارة يترحم عليهما ، وتارة يقول أخذا حقي وقد تركته لهما ، فأشار عمرو بن العاص على معاوية أن يكتب كتابا ثانيا مناسبا للكتاب الاول ليستفزا فيه عليا عليه السلام ويستخفاه ، ويحمله الغضب منه أن يكتب كلاما يتعلقان به في تقبيح حاله وتهجين مذهبه .
وقال له عمرو : إن عليا رجل نزق تياه ، وما استطعمت منه الكلام بمثل تقريظ أبى بكر وعمر ، فاكتب .
فكتب كتابا أنفذه إليه مع أبى أمامة الباهلى ، وهو من الصحابة ، بعد أن عزم على بعثته مع أبى الدرداء .
ونسخة الكتاب : من عبد الله معاوية بن أبي سفيان إلى على بن أبى طالب .
أما بعد ، فإن الله تعالى جده اصطفى محمدا عليه السلام لرسالته ، واختصه بوحيه وتأدية شريعته ، فأنقذ به من العماية ، وهدى به من الغواية ، ثم قبضه إليه رشيدا حميدا ، قد بلغ الشرع ، ومحق الشرك ، وأخمد نار الافك ، فأحسن الله جزاءه وضاعف عليه نعمه وآلاءه .
ثم إن الله سبحانه اختص محمدا عليه السلام بأصحاب أيدوه وآزروه ونصروه
__________
(1) غمصه : اتهمه .
(2) مجمجما : غير واضح .
(*)(15/185)
وكانوا كما قال الله سبحانه لهم : (أشداء على الكفار رحماء بينهم) (1) ، فكان أفضلهم مرتبة ، وأعلاهم عند الله والمسلمين منزلة ، الخليفة الاول ، الذى جمع الكلمة ، ولم الدعوة وقاتل أهل الردة ، ثم الخليفة الثاني الذى فتح الفتوح ، ومصر الامصار وأذل رقاب المشركين .
ثم الخليفة الثالث المظلوم الذى نشر الملة ، وطبق الافاق بالكلمة الحنيفية .
فلما استوثق الاسلام وضرب بجرانه عدوت عليه فبغيته الغوائل ، ونصبت له المكايد ، وضربت له بطن الامر وظهره ، ودسست عليه ، وأغريت به ، وقعدت حيث استنصرك عن نصره ، وسألك أن تدركه قبل أن يمزق فما أدركته ، وما يوم المسلمين منك بواحد .
لقد حسدت أبا بكر ، والتويت عليه ، ورمت إفساد أمره ، وقعدت في بيتك ، واستغويت عصابة من الناس حتى تأخروا عن بيعته ، ثم كرهت خلافة عمر وحسدته واستطلت مدته ، وسررت بقتله ، وأظهرت الشماته بمصابه ، حتى إنك حاولت قتل ولده لانه قتل قاتل أبيه ، ثم لم تكن أشد منك حسدا لابن عمك عثمان ، نشرت مقابحه ، وطويت محاسنه ، وطعنت في فقهه ، ثم في دينه ، ثم في سيرته ، ثم في عقله ، وأغريت به السفهاء من أصحابك وشيعتك ، حتى قتلوه بمحضر منك ، لا تدفع عنه بلسان ولا يد ، وما من هؤلاء إلا من بغيت عليه ، وتلكأت في بيعته ، حتى حملت إليه قهرا ، تساق بخزائم الاقتسار كما يساق الفحل المخشوش ، ثم نهضت الان تطلب الخلافة ، وقتلة عثمان خلصاؤك وسجراؤك والمحدقون بك ، وتلك من أماني النفوس ، وضلالات الاهواء .
فدع اللجاج والعبث جانبا ، وادفع إلينا قتلة عثمان ، وأعد الامر شورى بين المسلمين ليتفقوا على من هو لله رضا .
فلا بيعه لك في أعناقنا ، ولا طاعة لك علينا ، ولا عتبى لك
__________
(1) سورة الفتح 29 .
(*)(15/186)
عندنا ، وليس لك ولاصحابك عندي إلا السيف .
والذى لا إله إلا هو لاطلبن قتلة عثمان أين كانوا ، وحيث كانوا ، حتى أقتلهم أو تلتحق روحي بالله .
فأما ما لا تزال تمن به من سابقتك وجهادك فإنى وجدت الله سبحانه يقول : (يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للايمان إن كنتم صادقين) (1) .
ولو نظرت في حال نفسك لوجدتها أشد الانفس امتنانا على الله بعملها ، وإذا كان الامتنان على السائل يبطل أجر الصدقة ، فالامتنان على الله يبطل أجر الجهاد ، ويجعله (كصفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شئ مما كسبوا والله لا يهدى القوم الكافرين) (2) .
قال النقيب أبو جعفر : فلما وصل هذا الكتاب إلى على عليه السلام مع أبي أمامة الباهلي ، كلم أبا أمامة بنحو مما كلم به أبا مسلم الخولاني ، وكتب معه هذا الجواب .
قال النقيب : وفي كتاب معاوية هذا ذكر لفظ الجمل المخشوش أو الفحل المخشوش ، لا في الكتاب الواصل مع أبي مسلم ، وليس في ذلك هذه اللفظة ، وإنما فيه : " حسدت الخلفاء وبغيت عليهم ، عرفنا ذلك من نظرك الشزر (3) ، وقولك الهجر (4) ، وتنفسك الصعداء ، وإبطائك عن الخلفاء " .
قال : وإنما كثير من الناس لا يعرفون الكتابين ، والمشهور عندهم كتاب أبى مسلم فيجعلون هذه اللفظة فيه ، والصحيح أنها في كتاب أبي أمامة أ لا تراها عادت
__________
(1) سورة الحجرات 17 .
(2) سورة البقرة 264 .
(3) يقال : شزره وإليه : نظر إليه بأحد شقيه ، أو هو نظر فيه إعراض .
(4) الهجر (بضم فسكون) : القبيح من القول .
(*)(15/187)
في جوابه ولو كانت في كتاب أبى مسلم لعادت في جوابه ! انتهى كلام النقيب أبى جعفر .
ونحن الان مبتدئون في شرح ألفاظ الجواب المذكور .
قوله : " فلقد خبأ لنا الدهر منك عجبا " ، موضع التعجب أن معاوية يخبر عليا عليه السلام باصطفاء الله تعالى محمدا وتشريفه له ، وتأييده له ، وهذا ظريف لانه يجري كإخبار زيد عمرا عن حال عمرو ، إذ كان النبي صلى الله عليه وآله وعلي كالشئ الواحد .
وخبأ مهموز ، والمصدر الخبء ، ومنه الخابية ، وهى الخبء إلا أنهم تركوا همزها ، والخبء أيضا والخبئ على " فعيل " ما خبئ .
وبلاء الله تعالى : إنعامه وإحسانه .
وقوله عليه السلام : " كناقل التمر إلى هجر " ، مثل قديم .
وهجر : اسم مدينة لا ينصرف للتعريف والتأنيث .
وقيل : هو اسم مذكر مصروف ، وأصل المثل " كمستبضع تمر إلى هجر (1) " ، والنسبة إليه هاجري على غير قياس ، وهى بلدة كثيرة ه النخل يحمل منها التمر إلى غيرها ، قال الشاعر في هذا المعنى : أهدى له طرف الكلام كما * * يهدى لوالي البصرة التمر قوله : " وداعي مسدده الى النضال " ، أي معلمه الرمى ، وهذا إشاره إلى قول القائل الاول :
__________
(1) مجمع الامثال 2 : 152 ، قال أبو عبيد : هذا من الامثال المبتذلة ومن قديمها ، وذلك أن هجر معدن التمر ، والمستبضع إليه مخطئ ، ويقال أيضا : كمستبضع التمر إلى خيبر ، قال النابغة الجعدي : وإن امرأ أهدى إليك قصيدة * * كمستبضع تمرا إلى أرض خيبرا (*)(15/188)
أعلمه الرماية كل يوم * * فلما استد ساعده رماني (1) هكذا الرواية الصحيحة بالسين المهملة ، أي استقام ساعده على الرمي ، وسددت فلانا : علمته النضال ، وسهم سديد : مصيب ، ورمح سديد ، أي قل أن تخطئ طعنته ، وقد ظرف القاضى الارجاني في قوله لسديد الدولة محمد بن عبد الكريم الانباري كاتب الانشاء : إلى الذى نصب المكارم للورى * * غرضا يلوح من المدى المتباعد نثل الاماثل من كنانته فما * * وجدت يداه سوى سديد واحد ومن الامثال في هذا المعنى : " سمن كلبك يأكلك " (2) ، ومنها : " أحشك وتروثني ! " (3) .
قوله عليه السلام : " وزعمت أن أفضل الناس في الاسلام فلان وفلان " ، أي أبو بكر وعمر .
قوله عليه السلام : " فذكرت أمرا إن تم اعتزلك كله ، وإن نقص لم يلحقك ثلمه " ، من هذا المعنى قول الفرزدق لجرير ، وقد كان جرير في مهاجاته إياه يفخر عليه بقيس عيلان ، فقد كانت لجرير في قيس خؤوله ، يعيره بأيامهم على بني تميم ، فلما قتل بنو تميم قتيبة بن مسلم الباهلي بخراسان قال الفرزدق يفتخر : أتاني وأهلي بالمدينة وقعة * * لال تميم أقعدت كل قائم (4)
__________
(1) استد : استقام ، والبيت ينسب إلى معن بن أوس ، أو مالك بن فهم الازدي ، أو عقيل بن علفة ، وبعده : فلا ظفرت يمينك حين ترمي * * وشلت منك حاملة البنان وانظر اللسان 4 : 191 .
(2) مجمع الامثال 1 : 333 ، قالوا : أول من قال ذلك حازم بن المنذر .
(3) مجمع الامثال 1 : 200 ، أراد : تردت علي .
(4) ديوانه 853 .
(*)(15/189)
كأن رءوس الناس إذ سمعوا بها * * مشدخة هاماتها بالامائم وما بين من لم يؤت سمعا وطاعة * * وبين تميم غير جز الحلاقم ثم خرج إلى خطاب جرير بعد أبيات تركنا ذكرها ، فقال : أ تغضب إن أذنا قتيبة جزتا * * جهارا ولم تغضب لقتل ابن حازم ! وما منهما إلا نقلنا دماغه * * إلى الشام فوق الشاحجات الرواسم تذبذب في المخلاة تحت بطونها * * محذفة الاذناب جلح المقادم وما أنت من قيس فتنبح دونها * * ولا من تميم في الرؤوس الاعاظم تخوفنا أيام قيس ولم تدع * * لعيلان أنفا مستقيم الخياشم لقد شهدت قيس فما كان نصرها * * قتيبة إلا عضها بالاباهم فقوله : * وما أنت من قيس فتنبح دونها * هو معنى قول علي عليه السلام لمعاوية : " فذكرت أمرا إن تم اعتزلك كله " ، وابن حازم المذكور في الشعر هو عبد الله بن حازم ، من بني سليم ، وسليم من قيس عيلان ، وقتلته تميم أيضا ، وكان والي خراسان .
قوله عليه السلام : " وما أنت والفاضل والمفضول " ، الرواية المشهورة بالرفع ، وقد رواها قوم بالنصب ، فمن رفع احتج بقوله : وما أنت وبيت أبيك والفخر .
وبقوله : * فما القيسي بعدك والفخار * ومن نصب فعلى تأويل " مالك والفاضل " ، وفي ذلك معنى الفعل ، أي ما تصنع ، لان(15/190)
هذا الباب لا بد أن يتضمن الكلام فيه فعلا ، أو معنى فعل ، وأنشدوا : * فما أنت والسير في متلف (1) .
والرفع عند النحويين أولى .
ثم قال : " وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز " النصب هاهنا لا غير ، لاجل اللام في الطلقاء .
ثم قال عليه السلام : " بين المهاجرين الاولين وترتيب درجاتهم ، وتعريف طبقاتهم " ، هذا الكلام ينقض ما يقول من يطعن في السلف ، فإن أمير المؤمنين عليه السلام أنكر على معاوية تعرضه بالمفاضلة بين أعلام المهاجرين ، ولم يذكر معاوية إلا للمفاضلة بينه عليه السلام وبين أبي بكر وعمر ، فشهادة أمير المؤمنين عليه السلام بأنهما من المهاجرين الاولين ومن ذوى الدرجات والطبقات التى اشتبه الحال بينهما وبينه عليه السلام في أي الرجال منهم أفضل ، وأن قدر معاوية يصغر أن يدخل نفسه في مثل ذلك شهادة قاطعة على علو شأنهما وعظم منزلتهما .
قوله عليه السلام : " هيهات لقد حن قدح ليس منها " ، هذا مثل يضرب لمن يدخل نفسه بين قوم ليس له أن يدخل بينهم ، وأصله القداح من عود واحد يجعل فيها قدح من غير ذلك الخشب ، فيصوت بينها إذا أرادها المفيض ، فذلك الصوت هو حنينه .
قوله " وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها " أي وطفق يحكم في هذه القصه
__________
(1) لاسامة بن الحارث الهذلي ، وبقيته : * يعبر بالذكر الضابط * وانظر ديوان الهذليين 2 : 195 .
(*)(15/191)
أو في هذه القضيه من يجب أن يكون الحكم لها عليه لا له فيها ، ويجوز أن يكون الضمير يرجع الى الطبقات .
ثم قال : " أ لا تربع أيها الانسان على ظلعك ! " أي أ لا ترفق بنفسك وتكف ، ولا تحمل عليها ما لا تطيقه ، والظلع مصدر ظلع البعير يظلع أي غمز في مشيه .
قوله : " وتعرف قصور ذرعك " ، أصل الذرع بسط اليد ، يقال ضقت به ذرعا : أي ضاق ذرعي به .
فنقلوا الاسم من الفاعلية فجعلوه منصوبا على التمييز ، كقولهم طبت به نفسا .
قوله : " وتتأخر حيث أخرك القدر " ، مثل قولك : ضع نفسك حيث وضعها الله ، يقال ذلك لمن يرفع نفسه فوق استحقاقه .
ثم قال : " فما عليك غلبة المغلوب ، ولا عليك ظفر الظافر " ، يقول : وما الذى أدخلك بيني وبين أبى بكر وعمر ، وأنت من بنى أمية لست هاشميا ولا تيميا ولا عدويا هذا فيما يرجع إلى أنسابنا ، ولست مهاجرا ولا ذا قدم في الاسلام فتزاحم المهاجرين وأرباب السوابق بأعمالك واجتهادك ، فإذن لا يضرك غلبة الغالب منا ولا يسرك ظفر الظافر .
ويروى أن مروان بن الحكم كان ينشد يوم مرج راهط والرءوس تندر عن كواهلها بينه وبين الضحاك بن قيس الفهرى : وما ضرهم غير حين النفو * * س أي غلامي قريش غلب قوله عليه السلام : " وإنك لذهاب في التيه ، رواغ عن القصد " ، يحتمل قوله عليه السلام في التيه معنيين : أحدهما بمعنى الكبر ، والاخر التيه من قولك : تاه فلان في البيداء ومنه قوله تعالى : (فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الارض) (1) ، وهذا الثاني أحسن
__________
(1) سورة المائدة 26 .
(*)(15/192)
يقول : إنك شديد الايغال في الضلال .
و " ذهاب " فعال ، للتكثير ويقال : أرض متيهة ، مثل معيشة ، أي يتاه فيها .
قال عليه السلام : " رواغ عن القصد " ، أي تترك ما يلزمك فعله وتعدل عما يجب عليك أن تجيب عنه إلى حديث الصحابة ، وما جرى بعد موت النبي صلى الله عليه وآله ، ونحن إلى الكلام في غير هذا أحوج إلى الكلام في البيعة وحقن الدماء والدخول تحت طاعة الامام .
ثم قال : " أ لا ترى غير مخبر لك ، ولكن بنعمة الله أحدث " ، أي لست عندي أهلا لان أخبرك بذلك أيضا ، فانك تعلمه ، ومن يعلم الشئ لا يجوز أن يخبر به ، ولكن أذكر ذلك لانه تحدث بنعمة الله علينا ، وقد أمرنا بأن نحدث بنعمته سبحانه .
قوله عليه السلام : " إن قوما استشهدوا في سبيل الله " ، المراد هاهنا ، سيد الشهداء حمزة رضي الله عنه ، وينبغى أن يحمل قول النبي صلى الله عليه وآله فيه أنه سيد الشهداء على أنه سيد الشهداء في حياة النبي صلى الله عليه وآله ، لان عليا عليه السلام مات شهيدا ، ولا يجوز أن يقال : حمزة سيده ، بل هو سيد المسلمين كلهم ، ولا خلاف بين أصحابنا رحمهم الله أنه أفضل من حمزة وجعفر رضي الله عنهما ، وقد تقدم ذكر التكبير الذى كبره رسول الله صلى الله عليه وآله على حمزة في قصة أحد .
قوله عليه السلام : " ولكل فضل " ، أي ولكل واحد من هؤلاء فضل لا يجحد .
قوله : " أ ولا ترى أن قوما قطعت أيديهم " ، هذا إشارة إلى جعفر ، وقد تقدم ذلك في قصة مؤتة .
قوله : " ولو لا ما نهى الله عنه " ، هذا إشارة إلى نفسه عليه السلام(15/193)
قوله : " ولا تمجها آذان السامعين " أي لا تقذفها يقال : مج الرجل من فيه ، أي قذفه ، قوله عليه السلام : " فدع عنك من مالت به الرمية " ، يقال للصيد : يرمي هذه الرمية ، وهى " فعيلة " بمعنى مفعولة ، والاصل في مثلها ألا تلحقها الهاء ، نحو كف خضيب ، وعين كحيل ، إلا أنهم أجروها مجرى الاسماء لا النعوت ، كالقصيدة والقطيعة .
والمعنى : دع ذكر من مال إلى الدنيا ومالت به ، أي أمالته إليها .
فإن قلت : فهل هذا إشاره إلى أبى بكر وعمر ؟ قلت : ينبغي أن ينزه أمير المؤمنين عليه السلام عن ذلك ، وأن تصرف هذه الكلمة إلى عثمان ، لان معاوية ذكره في كتابه وقد أوردناه ، وإذا أنصف الانسان من نفسه علم أنه عليه السلام لم يكن يذكرهما بما يذكر به عثمان ، فإن الحال بينه وبين عثمان كانت مضطربة جدا .
قال عليه السلام : " فإنا صنائع ربنا ، والناس بعد صنائع لنا " ، هذا كلام عظيم ، عال على الكلام ، ومعناه عال على المعاني ، وصنيعة الملك من يصطنعه الملك ويرفع قدره .
يقول : ليس لاحد من البشر علينا نعمة ، بل الله تعالى هو الذى أنعم علينا ، فليس بيننا وبينه واسطة ، والناس بأسرهم صنائعنا ، فنحن الواسطة بينهم وبين الله تعالى ، وهذا مقام جليل ظاهره ما سمعت ، وباطنه أنهم عبيد الله ، وأن الناس عبيدهم .
ثم قال : " لم يمنعنا قديم عزنا ، وعادي طولنا " ، الطول : الفضل .
وعادي أي قديم ، بئر عادية .
قوله : " على قومك أن خلطناهم بأنفسنا فنكحنا وأنكحنا فعل الاكفاء ، ولستم هناك " ، يقول : تزوجنا فيكم وتزوجتم فينا كما يفعل الاكفاء ، ولستم أكفاءنا .
وينبغي أن يحمل قوله : " قديم وعادى " على مجازه لا على حقيقته ، لان بني هاشم وبني أمية لم يفترقا في الشرف إلا مذ نشأ هاشم بن عبد مناف وعرف بأفعاله ومكارمه ، ونشأ حينئذ أخوه عبد شمس وعرف بمثل ذلك ، وصار لهذا بنون ولهذا بنون وادعى كل من الفريقين(15/194)
أنه أشرف بالفعال من الاخر ، ثم لم تكن المدة بين نشء هاشم وإظهار محمد صلى الله عليه وآله الدعوة إلا نحو تسعين سنة ، ومثل هذه المدة القصيرة لا يقال فيها : " قديم عزنا وعادي طولنا " ، فيجب أن يحمل اللفظ على مجازه ، لان الافعال الجميلة كما تكون عادية بطول المدة تكون بكثرة المناقب والماثر والمفاخر ، وإن كانت المدة قصيرة .
ولفظة قديم ترد ولا يراد بها قدم الزمان ، بل من قولهم : لفلان قدم صدق وقديم أثر ، أي سابقة حسنة .
[ مناكحات بني هاشم وبني عبد شمس ] وينبغى أن نذكر هاهنا مناكحات بني هاشم وبني عبد شمس .
زوج رسول الله صلى الله عليه وآله ابنتيه رقية وأم كلثوم من عثمان بن عفان بن أبي العاص ، وزوج ابنته زينب من أبى العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس في الجاهلية ، وتزوج أبو لهب بن عبد المطلب أم جميل بنت حرب بن أمية في الجاهلية ، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وآله أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب ، وتزوج عبد الله بن عمرو بن عثمان فاطمة بنت الحسين بن على بن أبى طالب عليه السلام .
وروى شيخنا أبو عثمان عن إسحاق بن عيسى بن علي بن عبد الله بن العباس قال : قلت للمنصور أبي جعفر : من أكفاؤنا ؟ فقال : أعداؤنا ، فقلت : من هم ؟ فقال : بنو أمية .
وقال إسحاق بن سليمان بن علي : قلت للعباس بن محمد : إذا اتسعنا من البنات ، وضقنا من البنين ، وخفنا بوار الايامى فإلى من نخرجهن من قبائل قريش ؟ فأنشدني : عبد شمس كان يتلو هاشما * * وهما بعد لام ولاب(15/195)
فعرفت ما أراد وسكت .
وروى أيوب بن جعفر بن سليمان ، قال : سألت الرشيد عن ذلك فقال : زوج النبي صلى الله عليه وآله بني عبد شمس فأحمد صهرهم ، وقال : " ما ذممنا من صهرنا فإنا لا نذم صهر أبى العاص بن الربيع " .
قال شيخنا أبو عثمان : ولما ماتت الابنتان تحت عثمان قال النبي صلى الله عليه وآله لاصحابه : " ما تنتظرون بعثمان ، أ لا أبو أيم ، أ لا أخو أيم ، زوجته ابنتين ، ولو أن عندي ثالثة لفعلت " .
قال : ولذلك سمي ذا النورين ثم قال عليه السلام : " وأنى يكون ذلك ! " ، أي كيف يكون شرفكم كشرفنا ، ومنا النبي ومنكم المكذب - يعنى أبا سفيان بن حرب ، كان عدو رسول الله والمكذب له والمجلب عليه - وهؤلاء ثلاثة : بإزاء أبي سفيان رسول الله صلى الله عليه وآله ، ومعاوية بإزاء علي عليه السلام ، ويزيد بازاء الحسين عليه السلام ، بينهم من العداوة ما لا تبرك عليه الابل .
قال : " ومنا أسد الله " ، يعنى حمزة ، " ومنكم أسد الاحلاف " ، يعني عتبة بن ربيعة ، وقد تقدم شرح ذلك في قصة بدر .
وقال الراوندي : المكذب من كان يكذب رسول الله صلى الله عليه وآله عنادا من قريش ، وأسد الاحلاف : أسد بن عبد العزى ، قال : لان بنى أسد بن عبد العزى كانوا أحد البطون الذين اجتمعوا في حلف المطيبين ، وهم بنو أسد بن عبد العزى وبنو عبد مناف ، وبنو تيم بن مرة ، وبنو زهرة ، وبنو الحارث بن فهر ، وهذا كلام طريف جدا ، لانه لم يلحظ أنه يجب أن يجعل بإزاء النبي صلى الله عليه وآله مكذب(15/196)
من بني عبد شمس ، فقال : المكذب من كذب النبي صلى الله عليه وآله من قريش عنادا ، وليس كل من كذبه عليه السلام من قريش يعير معاوية به .
ثم قال : أسد الاحلاف أسد بن عبد العزى ، وأى عار يلزم معاوية من ذلك ، ثم إن بنى عبد مناف كانوا في هذا الحلف وعلي ومعاويي من بني عبد مناف ، ولكن الراوندي يظلم نفسه بتعرضه لما لا يعلمه .
قوله : " ومنا سيدا شباب أهل الجنة " ، يعني حسنا وحسينا عليهما السلام ، " ومنكم صبية النار " ، هي الكلمة التى قالها النبي صلى الله عليه وآله لعقبة بن أبي معيط حين قتله صبرا يوم بدر ، وقد قال كالمستعطف له عليه السلام : من للصبية يا محمد ؟ قال : النار .
وعقبة بن أبي معيط من بني عبد شمس .
ولم يعلم الراوندي ما المراد بهذه الكلمة ، فقال : صبية النار أولاد مروان بن الحكم الذين صاروا من أهل النار عند البلوغ ، ولما أخبر النبي صلى الله عليه وآله عنهم بهذه الكلمة كانوا صبية ، ثم ترعرعوا واختاروا الكفر ، ولا شبهة أن الراوندي قد كان يفسر من خاطره ما خطر له .
قال : قوله عليه السلام : " ومنا خير نساء العالمين " ، يعنى فاطمة عليها السلام ، نص رسول الله صلى الله عليه وآله على ذلك ، لا خلاف فيه .
" ومنكم حمالة الحطب " ، هي أم جميل بنت حرب بن أمية ، امرأة أبي لهب الذى ورد نص القرآن فيها بما ورد .
قوله : " في كثير مما لنا وعليكم " ، أي أنا قادر على أن أذكر من هذا شيئا كثيرا ، ولكني أكتفى بما ذكرت .
فإن قلت : فبماذا يتعلق " في " في قوله " في كثير " ؟ قلت : بمحذوف تقديره : هذا الكلام داخل في جملة كلام كثير تتضمن ما لنا وعليكم .
قوله عليه السلام : " فإسلامنا ما قد سمع ، وجاهليتنا لا تدفع " ، كلام قد تعلق به(15/197)
بعض من يتعصب للاموية .
وقال : لو كانت جاهلية بني هاشم في الشرف كاسلامهم لعد من جاهليتهم حسب ما عد من فضيلتهم في الاسلام [ فضل بني هاشم على بني عبد شمس ] وينبغي أن نذكر في هذا الموضع فضل هاشم على عبد شمس في الجاهلية ، وقد يمتزج بذلك بعض ما يمتازون به في الاسلام أيضا ، فإن استقصاءه في الاسلام كثير ، لانه لا يمكن جحد ذلك ، وكيف والاسلام كله عبارة عن محمد صلى الله عليه وآله ، وهو هاشمي ! ويدخل في ضمن ذلك ما يحتج به الاموية أيضا ، فنقول : إن شيخنا أبا عثمان قال : إن أشرف خصال قريش في الجاهلية اللواء ، والندوة ، والسقاية ، والرفادة ، وزمزم ، والحجابة وهذه الخصال مقسومة في الجاهلية لبني هاشم وعبد الدار وعبد العزى دون بنى عبد شمس .
قال : على أن معظم ذلك صار شرفه في الاسلام إلى بنى هاشم ، لان النبي صلى الله عليه وآله لما ملك مكة صار مفتاح الكعبة بيده ، فدفعه إلى عثمان بن طلحة ، فالشرف راجع إلى من ملك المفتاح ، لا إلى من دفع إليه ، وكذلك دفع صلى الله عليه وآله اللواء إلى مصعب بن عمير فالذي دفع اللواء إليه وأخذه مصعب من يديه أحق بشرفه وأولى بمجده وشرفه راجع إلى رهطه من بني هاشم .
قال : وكان محمد بن عيسى المخزومي أميرا على اليمن فهجاه أبي بن مدلج فقال : قل لابن عيسى المستغي * * - ث من السهولة بالوعورة الناطق العوراء في * * جل الامور بلا بصيره ولد المغيرة تسعة * * كانوا صناديد العشيره (1)
__________
(1) الصناديد : الشجعان .
(*)(15/198)
وأبوك عاشرهم كما * * نبتت مع النخل الشعيره إن النبوة والخلا * * فة والسقاية والمشوره في غيركم فاكفف الي * * - ك يدا مجذمة قصيره قال : فانبرى له شاعر من ولد كريز بن حبيب بن عبد شمس ، كان مع محمد بن عيسى باليمن يهجو عنه ابن مدلج في كلمة له طويلة ، قال فيها : لا لواء يعد يا بن كريز * * لا ولا رفد بيته ذى السناء لا حجاب وليس فيكم سوى الكب * * - ر وبغض النبي والشهداء بين حاك ومخلج وطريد * * وقتيل يلعنه أهل السماء ولهم زمزم كذاك وجبري * * - ل ومجد السقايه الغراء قال شيخنا أبو عثمان : فالشهداء علي وحمزة وجعفر ، والحاكي والمخلج هو الحكم بن أبى العاص ، كان يحكي مشية رسول الله صلى الله عليه وآله ، فالتفت يوما فرآه ، فدعا عليه ، فلم يزل مخلج المشية عقوبة من الله تعالى (1) .
والطريد اثنان : الحكم بن أبى العاص ، ومعاوية بن المغيرة بن أبى العاص ، وهما جدا عبد الملك بن مروان من قبل أمه وأبيه .
وكان النبي صلى الله عليه وآله طرد معاوية بن المغيرة هذا من المدينة وأجله ثلاثا فحيره الله ، ولم يزل يتردد في ضلاله حتى بعث في أثره عليا عليه السلام وعمارا فقتلاه .
فأما القتلى فكثير ، نحو شيبة وعتبة ابني ربيعة ، والوليد بن عتبة ، وحنظلة بن أبى سفيان وعقبة بن أبى معيط ، والعاص بن سعيد بن أمية ، ومعاوية بن المغيرة ، وغيرهم .
قال أبو عثمان : وكان اسم هاشم عمرا ، وهاشم لقب ، وكان أيضا يقال له القمر ، وفي ذلك يقول مطرود الخزاعي :
__________
(1) كذا في الاصول ، وفي نهاية ابن الاثير : " كان يجلس خلف النبي عليه السلام ، فإذا تكلم اختلج بوجهه ، فرآه فقال له : كن كذلك ، فلم يزل يختلج حتى مات .
أي يحرك شفتيه وذقنه استهزاء وحكاية لفعل النبي عليه السلام .
(*)(15/199)
إلى القمر الساري المنير دعوته * * ومطعمهم في الازل من قمع الجزر (1) قال : ذلك في شئ كان بينه وبين بعض قريش ، فدعاه مطرود إلى المحاكمة إلى هاشم ، وقال ابن الزبعرى : كانت قريش بيضة فتفلقت * * فالمخ خالصه لعبد مناف الرائشون وليس يوجد رائش * * والقائلون هلم للاضياف عمرو العلى هشم الثريد لقومه * * ورجال مكة مسنتون عجاف (2) فعم كما ترى أهل مكة بالازل والعجف ، وجعله الذى هشم لهم الخبز ثريدا ، فغلب هذا اللقب على اسمه حتى صار لا يعرف إلا به ، وليس لعبد شمس لقب كريم ، ولا اشتق له من صالح أعماله اسم شريف ، ولم يكن لعبد شمس ابن يأخذ بضبعه ، ويرفع من قدره ، ويزيد في ذكره ، ولها شم عبد المطلب سيد الوادي غير مدافع ، أجمل الناس جمالا ، وأظهرهم جودا ، وأكملهم كمالا ، وهو صاحب الفيل ، والطير الابابيل ، وصاحب زمزم ، وساقي الحجيج .
وولد عبد شمس أمية بن عبد شمس وأمية في نفسه ليس هناك ، وانما ذكر بأولاده ولا لقب له ، ولعبد المطلب لقب شهير واسم شريف : شيبة الحمد ، قال مطرود الخزاعي في مدحه : يا شيبة الحمد الذى تثنى له * * أيامه من خير ذخر الذاخر المجد ما حجت قريش بيته * * ودعا هذيل فوق غصن ناضر والله لا أنساكم وفعالكم * * حتى أغيب في سفاه القابر وقال حذافة بن غانم العدوي وهو يمدح أبا لهب ، ويوصي ابنه خارجة بن حذافة بالانتماء إلى بني هاشم : أخارج إما أهلكن فلا تزل * * لهم شاكرا حتى تغيب في القبر
__________
(1) القمع بالتحريك : جمع قمعة ، وهي أعلى السنام والجزر (بضمتين) وسكن هنا للشعر : جمع جزور وهي الناقة .
(2) في البيت إقواء .
(*)(15/200)
بني شيبة الحمد الكريم فعاله * * يضئ ظلام الليل كالقمر البدر لساقي الحجيج ثم للشيخ هاشم * * وعبد مناف ذلك السيد الغمر أبو عتبة الملقى إلي جواره * * أغر هجان اللون من نفر غر أبوكم قصي كان يدعى مجمعا * * به جمع الله القبائل من فهر فأبو عتبة هو أبو لهب ، عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم ، وابناه عتبة وعتيبة .
وقال العبدي حين احتفل في الجاهلية فلم يترك : لا ترى في الناس حيا مثلنا * * ما خلا أولاد عبد المطلب وإنما شرف عبد شمس بأبيه عبد مناف بن قصي وبني ابنه أمية بن عبد شمس ، وهاشم شرف بنفسه وبأبيه عبد مناف ، وبابنه عبد المطلب ، والامر في هذا بين ، وهو كما أوضحه الشاعر في قوله : إنما عبد مناف جوهر * * زين الجوهر عبد المطلب قال أبو عثمان : ولسنا نقول : أن عبد شمس لم يكن شريفا في نفسه ولكن الشرف يتفاضل ، وقد أعطى الله عبد المطلب في زمانه ، وأجرى على يديه ، وأظهر من كرامته ما لا يعرف مثله إلا لنبي مرسل ، وإن في كلامه لابرهه صاحب الفيل وتوعده إياه برب الكعبة وتحقيق قوله من الله تعالى ونصرة وعيده بحبس الفيل ، وقتل أصحابه بالطير الابابيل وحجارة السجيل حتى تركوا كالعصف المأكول - لاعجب البرهانات ، وأسنى الكرامات ، وإنما كان ذلك إرهاصا لنبوة النبي صلى الله عليه وآله ، وتأسيسا لما يريده الله به من الكرامة ، وليجعل ذلك البهاء متقدما له ، ومردودا عليه ، وليكون أشهر في الافاق ، وأجل في صدور الفراعنة والجبابرة والاكاسرة ، وأجدر أن يقهر المعاند ، ويكشف غباوة الجاهل .
وبعد ، فمن يناهض ويناضل رجالا ولدوا محمدا صلى الله عليه وآله ، ولو عزلنا(15/201)
ما أكرمه الله به من النبوة حتى نقتصر على أخلاقه ومذاهبه وشيمه لما وفى به بشر ، ولا عدله شئ ، ولو شئنا أن نذكر ما أعطى الله به عبد المطلب من تفجر العيون وينابيع الماء من تحت كلكل بعيره وأخفافه بالارض القسي (1) ، وبما أعطي من المساهمة وعند المقارعة من الامور العجيبة ، والخصال البائنة ، لقلنا ، ولكنا أحببنا ألا نحتج عليكم إلا بالموجود في القرآن الحكيم ، والمشهور في الشعر القديم ، الظاهر على ألسنة الخاصة والعامة ورواة الاخبار وحمال الاثار .
قال : ومما هو مذكور في القرآن عدا حديث الفيل قوله تعالى : (لايلاف قريش) ، وقد اجتمعت الرواة على أن أول من أخذ الايلاف لقريش هاشم بن عبد مناف ، فلما مات قام أخوه المطلب مقامه ، فلما مات قام عبد شمس مقامه ، فلما مات قام نوفل مقامه - وكان أصغرهم .
والايلاف ، هو أن هاشما كان رجلا كثير السفر والتجارة ، فكان يسافر في الشتاء إلى اليمن ، وفي الصيف إلى الشام ، وشرك في تجارته رؤساء القبائل من العرب ومن ملوك اليمن والشام ، نحو العباهلة باليمن ، واليكسوم من بلاد الحبشة ، ونحو ملوك الروم بالشام ، فجعل لهم معه ربحا فيما يربح ، وساق لهم إبلا مع إبله ، فكفاهم مؤونة الاسفار ، على أن يكفوه مؤونة الاعداء في طريقه ومنصرفه ، فكان في ذلك صلاح عام للفريقين ، وكان المقيم رابحا ، والمسافر محفوظا ، فأخصبت قريش بذلك ، وحملت معه أموالها ، وأتاها الخير من البلاد السافلة والعالية ، وحسنت حالها ، وطاب عيشها .
قال : وقد ذكر حديث الايلاف الحارث بن الحنش السلمي ، وهو خال هاشم والمطلب وعبد شمس ، فقال : إن أخي هاشما * * ليس أخا واحد الاخذ الايلاف وال * * قائم للقاعد قال أبو عثمان : وقيل : إن تفسير قوله تعالى : (وآمنهم من خوف) هو خوف من كان هؤلاء الاخوة يمرون به من القبائل والاعداء وهم مغتربون ومعهم
__________
(1) الارض القسي : التي لا تنبت نباتا .
(*)(15/202)
الاموال ، وهذا ما فسرنا به الايلاف آنفا ، وقد فسره قوم بغير ذلك ، قالوا : إن هاشما جعل على رؤساء القبائل ضرائب يؤدونها إليه ليحمي بها أهل مكة ، فإن ذؤبان العرب وصعاليك الاحياء وأصحاب الغارات وطلاب الطوائل كانوا لا يؤمنون على الحرم ، لا سيما وناس من العرب كانوا لا يرون للحرم حرمة ، ولا للشهر الحرام قدرا ، مثل طيئ وخثعم وقضاعة وبعض بلحارث بن كعب ، وكيفما كان الايلاف فإن هاشما كان القائم به دون غيره من إخوته .
قال أبو عثمان : ثم حلف الفضول وجلالته وعظمته ، وهو أشرف حلف كان في العرب كلها ، وأكرم عقد عقدته قريش في قديمها وحديثها قبل الاسلام لم يكن لبني عبد شمس فيه نصيب .
قال النبي صلى الله عليه وآله - وهو يذكر حلف الفضول - : " لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت إلى مثله في الاسلام لاجبت " .
ويكفى في جلالته وشرفه أن رسول الله صلى الله عليه وآله شهده وهو غلام ، وكان عتبة بن ربيعة يقول : لو أن رجلا خرج مما عليه قومه لداخلت في حلف الفضول ، لما أرى من كماله وشرفه ، ولما أعلم من قدره وفضيلته .
قال : ولفضل ذلك الحلف وفضيلة أهله سمي حلف الفضول ، وسميت تلك القبائل الفضول ، فكان هذا الحلف في بني هاشم ، وبنى المطلب ، وبنى أسد بن عبد العزى وبنى زهرة ، وبنى تيم بن مرة ، تعاقدوا في دار ابن جدعان في شهر حرام قياما يتماسحون بأكفهم صعدا ليكونن مع المظلوم حتى يؤدوا إليه حقه ما بل بحر صوفة ، وفي التأسي في المعاش والتساهم بالمال .
وكانت النباهد في هذا الحلف للزبير بن عبد المطلب ولعبد الله بن جدعان ، أما ابن جدعان فلان الحلف عقد في داره ، وأما الزبير فلانه هو الذى نهض فيه ، ودعا إليه ، وحث عليه ، وهو الذى سماه حلف الفضول ، وذلك لانه لما سمع الزبيدي المظلوم(15/203)
ثمن سلعته قد أوفى على أبى قبيس قبل طلوع الشمس رافعا عقيرته وقريش في أنديتها قائلا : يا للرجال لمظلوم بضاعته * * ببطن مكة نائي الحي والنفر أن الحرام لمن تمت حرامته * * ولا حرام لثوبي لابس الغدر حمي وحلف ليعقدن حلفا بينه وبين بطون من قريش يمنعون القوي من ظلم الضعيف ، والقاطن من عنف الغريب ، ثم قال : حلفت لنعقدن حلفا عليهم * * و إن كنا جميعا أهل دار نسميه الفضول إذا عقدنا * * يعز به الغريب لدى الجوار ويعلم من حوالى البيت إنا * * أباة الضيم نهجر كل عار فبنو هاشم هم الذين سموا ذلك الحلف حلف الفضول ، وهم كانوا سببه ، والقائمين به دون جميع القبائل العاقدة له ، والشاهدة لامره ، فما ظنك بمن شهده ولم يقم بأمره ! قال أبو عثمان : وكان الزبير بن عبد المطلب شجاعا أبيا ، وجميلا بهيا ، وكان خطيبا شاعرا ، وسيدا جواد ، وهو الذى يقول : ولو لا الحمس لم يلبس رجال * * ثياب أعزة حتى يموتوا ثيابهم شمال أو عباء * * بها دنس كما دنس الحميت (1) ولكنا خلقنا إذا خلقنا * * لنا الحبرات والمسك الفتيت (2) وكأس لو تبين لهم كلاما * * لقالت إنما لهم سبيت (3) تبين لنا القذى إن كان فيها * * رضين الحلم يشربها هبيت (4)
__________
(1) الحميت ، كأمير : الزق الصغير يتخذ للسمن .
(2) الحبرات ، بكسر ففتح : ضرب من برود اليمن .
والفتيت والمفتوت بمعنى .
(3) سبيت : جلبت .
(4) الهبيت : الجبان الذاهل .
(*)(15/204)
ويقطع نخوة المختال * * رقيق الحد ضربته صموت بكف مجرب لا عيب فيه * * إذا لقي الكريهة يستميت قال : والزبير هو الذى يقول : واسحم من راح العراق مملا * * محيط عليه الجيش جلد مرائره صبحت به طلقا يراح إلى الندى * * إذا ما انتشى لم يختصره معاقره ضعيف بجنب الكاس قبض بنانه * * كليل على جلد النديم أظافره قال : وبنو هاشم هم الذين ردوا على الزبيدي ثمن بضاعته ، وكانت عند العاص بن وائل ، وأخذوا للبارقي ثمن سلعته من أبي بن خلف الجمحي ، وفى ذلك يقول البارقي : ويأبى لكم حلف الفضول ظلامتي * * بنى جمح والحق يؤخذ بالغصب وهم الذين انتزعوا من نبيه بن الحجاج قتول الحسناء بنت التاجر الخثعمي ، وكان كابره عليها حين رأى جمالها ، وفي ذلك يقول نبيه بن الحجاج : وخشيت الفضول حين أتوني * * قد أراني ولا أخاف الفضولا إنى والذى يحج له شم * * - ط إياد وهللوا تهليلا لبراء منى قتيلة يا للن * * - اس هل يتبعون إلا القتولا ! وفيها أيضا يقول : لو لا الفضول وأنه * * لا أمن من عروائها (1) لدنوت من أبياتها * * ولطفت حول خبائها (2)
__________
(1) العرواء ، كالغلواء : قرة الحمى ومسها في أول رعدتها .
(2) الخباء ككساء ، يكون من وبر أو صوف أو شعر .
(*)(15/205)
في كلمته التي يقول فيها : حي النخيلة إذ نأت * * منا على عدوائها لا بالفراق تنيلنا * * شيئا ولا بلقائها حلت بمكة حلة * * في مشيها ووطائها في رجال كثير انتزعوا منهم الظلامات ، ولم يكن يظلم بمكة إلا رجال أقوياء ، ولهم العدد والعارضة ، منهم من ذكرنا قصته .
قال أبو عثمان : ولها شم أخرى لا يعد أحد مثلها ، ولا يأتي بما يتعلق بها ، وذلك أن رؤساء قبائل قريش خرجوا إلى حرب بنى عامر متساندين ، فكان حرب بن أمية على بني عبد شمس ، وكان الزبير بن عبد المطلب على بنى هاشم ، وكان عبد الله بن جدعان على بنى تيم ، وكان هشام بن المغيرة على بنى مخزوم ، وكان على كل قبيلة رئيس منها ، فهم متكافئون في التساند ، ولم يحقق واحد منهم الرئاسة على الجميع ، ثم آب هاشم بما لا تبلغه يد متناول ، ولا يطمع فيه طامع ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله قال : شهدت الفجار وأنا غلام ، فكنت أنبل فيه على عمومتي ، فنفى مقامه عليه السلام أن تكون قريش هي التى فجرت ، فسميت تلك الحرب حرب الفجار ، وثبت أن الفجور إنما كان ممن حاربهم ، وصاروا بيمنه وبركته ولما يريد الله تعالى من إعزاز أمره وإعظامه الغالبين العالين ، ولم يكن الله ليشهده فجرة ولا غدرة ، فصار مشهده نصرا ، و موضعه فيهم حجة ودليلا .
قال أبو عثمان : وشرف هاشم متصل ، من حيث عددت كان الشرف معك كابرا عن كابر ، وليس بنو عبد شمس كذلك ، فإن الحكم بن أبى العاص كان عاديا في الاعلام ، ولم يكن له سناء في الجاهلية .(15/206)
وأما أمية فلم يكن في نفسه هناك ، وإنما رفعه أبوه ، وكان مضعوفا ، وكان صاحب عهار (1) يدل على ذلك قول نفيل بن عدى جد عمر بن الخطاب حين تنافر إليه حرب بن أمية وعبد المطلب بن هاشم ، فنفر عبد المطلب وتعجب من إقدام حرب عليه وقال له : أبوك معاهر وأبوه عف * * وذاد الفيل عن بلد حرام (2) وذلك أن أمية كان تعرض لامرأة من بني زهرة ، فضربه رجل منهم بالسيف ، فأراد بنو أمية ومن تبعهم إخراج زهرة من مكة ، فقام دونهم قيس بن عدي السهمي - وكانوا أخواله ، وكان منيع الجانب ، شديد العارضة ، حمي الانفس ، أبي النفس - فقام دونهم وصاح : " أصبح ليل " ، فذهبت مثلا ، ونادى : الان الظاعن مقيم .
وفي هذه القصة يقول وهب بن عبد مناف بن زهره جد رسول الله صلى الله عليه وآله : مهلا أمي فإن البغي مهلكة * * لا يكسبنك يوم شره ذكر تبدو كواكبه والشمس طالعة * * يصب في الكأس منه الصبر والمقر (3) قال أبو عثمان : وصنع أمية في الجاهلية شيئا لم يصنعه أحد من العرب ، زوج ابنه أبا عمرو امرأته في حياته منه ، فأولدها أبا معيط بن أبى عمرو بن أمية ، والمقيتون في الاسلام هم الذين نكحوا نساء آبائهم بعد موتهم ، فأما أن يتزوجها في حياة الاب ويبنى عليها وهو يراه ، فإنه شئ لم يكن قط .
قال أبو عثمان : وقد أقر معاوية على نفسه ورهطه لبني هاشم حين قيل له : أيهما كان أسود في الجاهلية ؟ أنتم أم بنو هاشم ؟ فقال : كانوا أسود منا واحدا ، وكنا
__________
(1) العهار : النزق والخفة والطيش .
(2) ذاد الفيل : منعه .
(3) المقر ، ككتف : الصبر أو شبيه به .
(*)(15/207)
أكثر منهم سيدا ، فأقر وادعى ، فهو في إقراره بالنقص مخصوم ، وفي ادعائه الفضل خصيم .
وقال جحش بن رئاب الاسدي حين نزل مكة بعد موت عبد المطلب : والله لاتزوجن ابنة أكرم أهل هذا الوادي ، ولاحالفن أعزهم ، فتزوج أميمة بنت عبد المطلب ، وحالف أبا سفيان بن حرب .
وقد يمكن أن يكون أعزهم ليس بأكرمهم ، ولا يمكن أن يكون أكرمهم ليس بأكرمهم ، وقد أقر أبو جهل على نفسه ورهطه من بني مخزوم حين قال : تحاربنا نحن وهم ، حتى إذا صرنا كهاتين ، قالوا : منا نبي .
فأقر بالتقصير ، ثم ادعى المساواة ، أ لا تراه كيف أقر أنه لم يزل يطلب شأوهم (1) ثم ادعى أنه لحقهم ! فهو مخصوم في إقراره ، خصيم في دعواه ، وقد حكم لهاشم دغفل بن حنظلة النسابة حين سأله معاوية عن بني هاشم : فقال : هم أطعم للطعام ، وأضرب للهام (2) ، وهاتان خصلتان يجمعان أكثر الشرف .
قال أبو عثمان : والعجب من منافرة حرب بن أمية عبد المطلب بن هاشم ، وقد لطم حرب جارا لخلف بن أسعد جد طلحة الطلحات ، فجاء جاره فشكا ذلك إليه ، فمشى خلف إلى حرب وهو جالس عند الحجر ، فلطم وجهه عنوة من غير تحاكم ولا تراض ، فما انتطح فيه عنزان (3) .
ثم قام أبو سفيان بن حرب مقام أبيه بعد موته ، فحالفه أبو الازيهر الدوسي ، وكان عظيم الشأن في الازد ، وكانت بينه وبين بني الوليد بن المغيرة محاكمة في مصاهره كانت بين الوليد وبينه ، فجاءه هشام بن الوليد وأبو الازيهر قاعد في مقعد أبي سفيان بذى المجاز ، فضرب عنقه ، فلم يدرك به أبو سفيان عقلا ولا قودا في بني المغيرة .
وقال حسان بن ثابت يذكر ذلك :
__________
(1) الشأو : الغاية .
(2) الهام : الرؤوس .
(3) هذا مثل يضرب للامر يقع ولا يختلف فيه اثنان .
(*)(15/208)
غدا أهل حصني ذى المجاز بسحرة * * وجار ابن حرب لا يروح ولا يغدو كساك هشام بن الوليد ثيابه * * فأبل وأخلق مثلها جددا بعد فهذه جملة صالحة مما ذكره شيخنا أبو عثمان .
ونحن نورد من كتاب " أنساب قريش " للزبير بن بكار ما يتضمن شرحا لما أجمله شيخنا أبو عثمان أو لبعضه ، فإن كلام أبي عثمان لمحة وإشارة ، وليس بالمشروح .
قال الزبير : حدثنى عمر بن أبى بكر العدوي من بني عدى بن كعب قال : حدثنى يزيد بن عبد الملك بن المغيرة بن نوفل ، عن أبيه ، قال : اصطلحت قريش على أن ولي هاشم بعد موت ابيه عبد مناف السقاية والرفادة ، وذلك أن عبد شمس كان يسافر ، قل أن يقيم بمكة وكان رجلا معيلا (1) ، وكان له ولد كثير ، وكان هاشم رجلا موسرا ، فكان إذا حضر الحج قام في قريش فقال : يا معشر قريش ، إنكم جيران الله ، وأهل بيته ، وإنه يأتيكم في هذا الموسم زوار الله يعظمون حرمة بيته ، فهم لذلك ضيف الله ، وأحق ضيف بالكرامة ضيف الله ، وقد خصكم الله بذلك ، وأكرمكم به ، ثم حفظ منكم أفضل ما حفظ جار من جاره ، فأكرموا ضيفه وزواره ، فإنهم يأتون شعثا غبرا من كل بلد ضوامر كالقداح ، وقد أرجفوا وتفلوا وقملوا (2) وأرملوا ، فأقروهم وأعينوهم .
قال : فكانت قريش تترافد على ذلك ، حتى أن كل أهل بيت ليرسلون بالشئ اليسير على قدر حالهم ، وكان هاشم يخرج في كل سنه مالا كثيرا ، وكان قوم من قريش يترافدون ، وكانوا أهل يسار ، فكان كل إنسان ربما أرسل بمائة مثقال ذهب هرقليه (3)
__________
(1) يقال : أعال الرجل يعيل ، إذا كثر عياله .
(2) أرجفوا : أكثروا من ذكر الاخبار السيئة ، وقملوا : كثر فيهم القمل .
وأرملوا أ : نفد زادهم .
(3) هرقلية : نسبة إلى هرقل ملك الروم ، وهو أول من ضرب الدنانير .
(*)(15/209)
وكان هاشم يأمر بحياض من أدم تجعل في مواضع زمزم من قبل أن تحفر ، يستقى فيها من البئار التى بمكة ، فيشرب الحاج ، وكان يطعمهم أول ما يطعم قبل يوم التروية بيوم بمكة وبمنى وبجمع وعرفة ، وكان يثرد لهم الخبز واللحم والسمن والسويق والتمر ، ويحمل لهم الماء فيسقون بمنى ، والماء يومئذ قليل ، إلى أن يصدر الحاج من منى ، ثم تنقطع الضيافة ، وتتفرق الناس إلى بلادهم .
قال الزبير : وإنما سمي هاشما لهشمه الثريد ، وكان اسمه عمرا ، ثم قالوا : " عمرو العلا " لمعاليه .
وكان أول من سن الرحلتين رحلة إلى الحبشة ، ورحله إلى الشام ، ثم خرج في أربعين من قريش فبلغ غزة ، فمرض بها ، فمات ، فدفنوه بها ، ورجعوا بتركته إلى ولده .
ويقال أن الذى رجع بتركته إلى ولده أبو رهم عبد العزى بن أبى قيس العامري من بنى عامر بن لؤي .
قال الزبير : وكان يقال لهاشم والمطلب : البدران ، ولعبد شمس ونوفل الابهران .
قال الزبير : وقد اختلف في أي ولد عبد مناف أسن ، والثبت عندنا أن أسنهم هاشم .
وقال آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عمر بن عبد العزيز بن مروان : يا أمين الله إني قائل * * قول ذى دين وبر وحسب عبد شمس لا تهنها إنما * * عبد شمس عم عبد المطلب عبد شمس كان يتلو هاشما * * وهما بعد لام ولاب قال الزبير : وحدثني محمد بن حسن ، عن محمد بن طلحة ، عن عثمان بن عبد الرحمن ، قال : قال عبد الله بن عباس : والله لقد علمت قريش أن أول من أخذ الايلاف وأجاز لها العيرات (1) لهاشم ، والله ما شدت قريش رحالا ولا حبلا بسفر ، ولا أناخت بعيرا لحضر
__________
(1) العيرات ، بكسر ففتح : كل ما امتير عليه إبلا كانت أو حمير أو بغالا ، واحده عير .
(*)(15/210)
إلا بهاشم ، والله إنه أول من سقى بمكة ماء عذبا ، وجعل باب الكعبة ذهبا لعبد المطلب .
قال الزبير : وكانت قريش تجارا لا تعدو تجارتهم مكة إنما تقدم عليهم الاعاجم بالسلع فيشترونها منهم ، يتبايعون بها بينهم ، ويبيعون من حولهم من العرب ، حتى رحل هاشم ابن عبد مناف إلى الشام ، فنزل بقيصر ، فكان يذبح كل يوم شاة ، ويصنع جفنة من ثريد ، ويدعو الناس فيأكلون ، وكان هاشم من أحسن الناس خلقا وتماما ، فذكر لقيصر ، وقيل له : هاهنا شاب من قريش يهشم الخبز ، ثم يصب عليه المرق ، ويفرغ عليه اللحم ، ويدعو الناس .
قال : وإنما كانت الاعاجم والروم تصنع المرق في الصحاف ، ثم تأتدم عليه بالخبز فدعا به قيصر ، فلما رآه وكلمه أعجب به ، وجعل يرسل إليه فيدخل عليه ، فلما رأى مكانه سأله أن يأذن لقريش في القدوم عليه بالمتاجر ، وأن يكتب لهم كتب الامان فيما بينهم وبينه ، ففعل .
فبذلك ارتفع هاشم من قريش .
قال الزبير : وكان هاشم يقوم أول نهار اليوم الاول من ذي الحجة فيسند ظهره إلى الكعبة من تلقاء بابها فيخطب قريشا فيقول : يا معشر قريش ، أنتم سادة العرب ، أحسنها وجوها وأعظمها أحلاما ، وأوسطها أنسابا ، وأقربها أرحاما .
يا معشر قريش ، أنتم جيران بيت الله ، أكرمكم بولايته ، وخصكم بجواره دون بنى اسماعيل ، وحفظ منكم أحسن ما حفظ منكم جار من جاره ، فأكرموا ضيفه وزوار بيته ، فإنهم يأتونكم شعثا غبرا من كل بلد فو رب هذه البنية ، لو كان لى مال يحمل ذلك لكفيتموه ، ألا وإني مخرج من طيب مالي وحلاله ما لم تقطع فيه رحم ، ولم يؤخذ بظلم ، ولم يدخل فيه حرام ، فواضعه ، فمن شاء منكم أن يفعل مثل ذلك فعل ، وأسألكم بحرمة هذا البيت ألا يخرج منكم رجل من ماله لكرامة زوار بيت الله ومعونتهم إلا طيبا لم يؤخذ ظلما ، ولم تقطع فيه رحم ولم يغتصب .
قال : فكانت قريش تخرج من صفو أموالها ما تحتمله أحوالها ، وتأتى بها إلى هاشم فيضعه في دار الندوة لضيافة الحاج .(15/211)
قال الزبير : ومما رثى به مطرود الخزاعي هاشما قوله : مات الندى بالشام لما أن ثوى * * أودى بغزة هاشم لا يبعد فجفانه رذم لمن ينتابه * * والنصر أدنى باللسان وباليد (1) ومن مراثيه له : يا عين جودي وأذري الدمع واحتفلي * * وابكي خبيئة نفسي في الملمات وابكى على كل فياض أخي حسب * * ضخم الدسيعة وهاب الجزيلات ماضي الصريمه عالي الهم ذى شرف * * جلد النحيزة حمال العظيمات صعب المقاده لا نكس ولا وكل * * ماض على الهول متلاف الكريمات محض توسط من كعب إذا نسبوا * * بحبوحة المجد في الشم الرفيعات فابكى على هاشم في وسط بلقعة * * تسقى الرياح عليه وسط غزات يا عين بكى أبا الشعث الشجيات * * يبكينه حسرا مثل البنيات يبكين عمرو العلا إذ حان مصرعه * * سمح السجية بسام العشيات يبكينه معولات في معاوزها * * يا طول ذلك من حزن وعولات محزمات على أوساطهن لما * * جر الزمان من احداث المصيبات أبيت أرعى نجوم الليل من ألم * * أبكي وتبكي معي شجوا بنياتي قال الزبير : وحدثني إبراهيم بن المنذر ، عن الواقدي ، عن عبد الرحمن بن الحارث ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال أول من سن دية النفس مائة من الابل عبد المطلب ، فجرت في قريش والعرب سنته ، وأقرها رسول الله صلى الله عليه وآله .
قال وأم عبد المطلب سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد من بنى النجار من الانصار ، وكان سبب
__________
(1) في ب " ردم " ، بالدال صوابه من أ ، والرذم ككتب : القصاع الممتلئة تصب جوانبها .
(*)(15/212)
تزوج هاشم بها أنه قدم في تجارة له المدينة ، فنزل على عمرو بن زيد ، فجاءته سلمى بطعام فاعجبت هاشما ، فخطبها إلى أبيها فأنكحه إياها ، وشرط عليه أن تلد عند أهلها فبنى عليها بالمدينة ، وأقام معها سنتين ، ثم ارتحل بها إلى مكة ، فحملت وأثقلت ، فخرج بها إلى المدينة ، فوضعها عند أهلها ومضى إلى الشام ، فمات بغزة من وجهه ذلك ، وولدت عبد المطلب ، فسمته شيبة الحمد لشعرة بيضاء كانت في ذوائبه حين ولد ، فمكث بالمدينة ست سنين أو ثمانيا .
ثم إن رجلا من تهامة مر بالمدينة ، فإذا غلمان ينتضلون ، وغلام منهم يقول كلما أصاب : أنا ابن هاشم بن عبد مناف ، سيد البطحاء ، فقال له الرجل : من أنت يا غلام ؟ قال : أنا ابن هاشم بن عبد مناف ، قال : ما اسمك ؟ قال : شيبة الحمد ، فانصرف الرجل حتى قدم مكة ، فيجد المطلب بن عبد مناف جالسا في الحجر ، فقال : قم إلي يا أبا الحارث ، فقام إليه ، فقال : تعلم أني جئت الان من يثرب فوجدت بها غلمانا ينتضلون ...
وقص عليه ما رأى من عبد المطلب ، وقال : إنه أضرب غلام رأيته قط ، فقال له المطلب : أغفلته والله ! أما إنى لا أرجع إلى أهلى ومالى حتى آتيه ، فخرج المطلب حتى أتى المدينة ، فأتاها عشاء ، ثم خرج براحلته حتى أتى بني عدي بن النجار فإذا الغلمان بين ظهراني المجلس فلما نظر إلى ابن أخيه قال للقوم : هذا ابن هاشم ؟ قالوا : نعم ، وعرفه القوم فقالوا : هذا ابن أخيك ، فإن كنت تريد أخذه فالساعة ، لا نعلم أمه ، فإنها إن علمت حلنا بينك وبينه ، فأناخ راحلته ، ثم دعاه ، فقال : يا بن أخي ، أنا عمك ، وقد أردت الذهاب بك إلى قومك ، فاركب ، قال فو الله ما كذب أن جلس على عجز الراحلة ، وجلس المطلب على الراحلة ، ثم بعثها فانطلقت ، فلما علمت أمه قامت تدعو حزنها على ابنها ، فأخبرت أنه عمه ، وأنه ذهب به إلى قومه .
قال : فانطلق به المطلب فدخل به مكة ضحوة ، مردفه خلفه ، والناس في أسواقهم ومجالسهم ، فقاموا يرحبون به ويقولون : من هذا الغلام معك ؟ فيقول : عبد لي ابتعته بيثرب ثم خرج به(15/213)
حتى جاء إلى الحزورة فابتاع له حله ، ثم أدخله على امرأته اته خديجه خديجة بنت سعد بن سهم ، فرجلت شعره ، ثم ألبسه الحلة عشية ، فجاء به فأجلسه في مجلس بنى عبد مناف ، وأخبرهم خبره ، فكان الناس بعد ذلك إذا رأوه يطوف في سكك مكة وهو أحسن الناس يقولون : هذا عبد المطلب - لقول المطلب : هذا عبدى - فلج به الاسم ، وترك به شيبة .
وروى الزبير رواية أخرى أن سلمى أم عبد المطلب حالت بين المطلب وبين ابنها شيبة ، وكان بينها وبينه في أمره محاورة ، ثم غلبها عليه ، وقال : عرفت شيبة والنجار قد حلفت * * أبناؤها حوله بالنبل تنتضل فأما الشعر الذى لحذافة العذري والذي ذكره شيخنا أبو عثمان فقد ذكره الزبير بن بكار في كتاب النسب ، وزاد فيه : كهولهم خير الكهول ونسلهم * * كنسل الملوك لا يبور ولا يجري ملوك وأبناء الملوك وسادة * * تفلق عنهم بيضة الطائر الصقر متى تلق منهم طامحا في عنانه * * تجده على أجراء والده يجرى هم ملكوا البطحاء مجدا وسؤددا * * وهم نكلوا عنها غواة بنى بكر وهم يغفرون الذنب ينقم مثله * * وهم تركوا رأي السفاهة والهجر أخارج إما أهلكن فلا تزل * * لهم شاكرا حتى تغيب في القبر قال الزبير : وحدثني عن سبب هذا الشعر محمد بن حسن ، عن محمد بن طلحة ، عن أبيه ، قال : إن ركبا من جذام خرجوا صادرين عن الحج من مكة ، ففقدوا رجلا منهم عالية بيوت مكة ، فيلقون حذافة العذري ، فربطوه وانطلقوا به ، فتلقاهم عبد المطلب مقبلا من الطائف ومعه ابنه أبو لهب يقود به ، وعبد المطلب حينئذ قد ذهب بصره ، فلما نظر إليه حذافة بن غانم هتف به ، فقال عبد المطلب لابنه :(15/214)
ويلك ! من هذا ؟ قال : هذا حذافة بن غانم مربوطا مع ركب .
قال فالحقهم فسلهم ما شأنهم وشأنه ، فلحقهم أبو لهب فأخبروه الخبر ، فرجع الى أبيه ، فأخبره ، فقال : ويحك ! ما معك ؟ قال : لا والله ما معي شئ ، قال : فالحقهم لا أم لك ! فأعطهم بيدك ، وأطلق الرجل ، فلحقهم أبو لهب ، فقال : قد عرفتم تجارتي ومالي ، وأنا أحلف لكم لاعطينكم عشرين أوقية ذهبا ، وعشرا من الابل وفرسا ، وهذا ردائي رهن ، فقبلوا ذلك منه ، وأطلقوا حذافة ، فلما أقبل به وقربا من عبد المطلب ، سمع عبد المطلب صوت أبي لهب ، ولم يسمع صوت حذافة ، فصاح به : وأبى إنك لعاص ، ارجع لا أم لك ! قال يا أبتا هذا الرجل معي ، فناداه عبد المطلب : يا حذافة ، أسمعني صوتك .
قال : هانذا بأبي أنت وأمي يا ساقي الحجيج أردفني ، فأردفه حتى دخل مكة ، فقال حذافة هذا الشعر .
قال الزبير : وحدثني عبد الله بن معاذ ، عن معمر ، عن ابن شهاب ، قال : أول ما ذكر من عبد المطلب أن قريشا خرجت فارة من الحرم خوفا من أصحاب الفيل ، وعبد المطلب يومئذ غلام شاب ، فقال : والله لا أخرج من حرم الله أبغى العز في غيره ! فجلس في البيت واجلت (1) قريش عنه ، فقال عبد المطلب : لا هم إن المرء يم * * - نع رحله فامنع حلالك لا يغلبن صليبهم * * ومحالهم أبدا محالك (2) فلم يزل ثابتا في الحرم حتى أهلك الله الفيل وأصحابه ، فرجعت قريش وقد عظم فيهم بصبره (3) وتعظيمه محارم الله عز وجل ، فبينا هو على ذلك - وكان أكبر ولده وهو الحارث بن عبد المطلب قد بلغ الحلم - أري عبد المطلب في المنام ، فقيل له : احفر زمزم ، خبيئة الشيخ الاعظم .
فاستيقظ فقال : اللهم بين لي الشيخ ، فأري في المنام مرة أخرى :
__________
(1) أجلت : تفرقت .
(2) المحال : القدرة .
(3) ب " بصيرته " تحريف ، صوابه في أ .
(*)(15/215)
احفر تكتم (1) بين الفرث والدم ، في مبحث الغراب ، في قريه النمل ، مستقبلة الانصاب الحمر .
فقام عبد المطلب فمشى حتى جلس في المسجد الحرام ينتظر ما سمي له من الايات ، فنحر بقرة في الحزورة ، فأفلتت من جازرها بحشاشة نفسها حتى غلب عليها الموت في المسجد في موضع زمزم ، فاحتمل لحمها من مكانها ، وأقبل غراب يهوي حتى وقع في الفرث فبحث عن قرية النمل ، فقام عبد المطلب يحفرها ، فجاءته قريش فقالت له : ما هذا الصنع ، إنا لم نكن نراك بالجهل ، لم تحفر في مسجدنا ؟ فقال عبد المطلب : انى لحافر هذا البئر ، ومجاهد من صدني عنها ، فطفق يحفر هو وابنه الحارث ، وليس له يومئذ ولد غيره ، فيسفه عليهما الناس من قريش فينازعونهما ويقاتلونهما .
وتناهى عنه ناس من قريش لما يعلمون من زعيق نسبه وصدقه ، واجتهاده في دينهم يومئذ ، حتى إذا أتعبه الحفر ، واشتد عليه الاذى نذر إن وفى له عشرة من الولدان ينحر أحدهم ، ثم حفر فأدرك سيوفا دفنت في زمزم حين دفنت ، فلما رأت قريش أنه قد أدرك السيوف قالت : يا عبد المطلب ، أحذنا (2) مما وجدت .
فقال عبد المطلب : بل هذه السيوف لبيت الله ، ثم حفر حتى أنبط الماء ، فحفرها في القرار ، ثم بحرها حتى لا تنزف ، ثم بنى عليها حوضا وطفق هو وابنه ينزعان فيملان ذلك الحوض ، فيشرب منه الحاج ، ويكسره قوم حسدة له من قريش بالليل ، فيصلحه عبد المطلب حين يصبح ، فلما أكثروا فساده دعا عبد المطلب ربه ، فأري ، فقيل له : قل : اللهم إنى لا أحلها لمغتسل ، وهى لشارب حل وبل ، ثم كفيتهم ، فقام عبد المطلب حين اختلف قريش في المسجد ، فنادى بالذى أري ، ثم انصرف فلم يكن يفسد حوضه عليه أحد من قريش إلا رمي في جسده بداء ، حتى تركوا حوضه ذلك وسقايته ، ثم تزوج عبد المطلب النساء ، فولد له عشرة رهط ، فقال : اللهم إني
__________
(1) تكتم ، بضم فسكون : اسم بئر زمزم .
(2) احذنا : اعطنا .
(*)(15/216)
كنت نذرت لك نحر أحدهم ، وإني أقرع بينهم ، فأصيب بذلك من شئت ، فاقرع بينهم ، فطارت القرعة على عبد الله بن عبد المطلب أبي رسول الله صلى الله عليه وآله ، وكان أحب ولده إليه ، فقال عبد المطلب : اللهم هو أحب إليك أم مائة من الابل ! فنحرها عبد المطلب مكان عبد الله ، وكان عبد الله أحسن رجل رئي في قريش قط .
وروى الزبير أيضا قال : حدثني إبراهيم بن المنذر ، عن عبد العزيز بن عمران ، عن عبد الله بن عثمان بن سليمان قال : سمعت أبي يقول : لما حفرت زمزم ، وأدرك منها عبد المطلب ما أدرك ، وجدت قريش في أنفسها مما أعطي عبد المطلب ، فلقيه خويلد بن أسد بن عبد العزى فقال : يا بن سلمى ، لقد سقيت ماء رغدا ، ونثلت عادية حسدا ، فقال : يا بن أسد ، أما إنك تشرك في فضلها ، والله لا يساعدني أحد عليها ببر ، ولا يقوم معي بارزا إلا بذلت له خير الصهر ، فقال خويلد بن أسد : أقول وما قولي عليهم بسبة * * إليك ابن سلمى أنت حافر زمزم حفيرة إبراهيم يوم ابن هاجر * * وركضه جبريل على عهد آدم فقال عبد المطلب : ما وجدت أحدا ورث العلم الاقدم غير خويلد بن أسد .
قال الزبير : فأما ركضه جبريل فإن سعيد بن المسيب قال : إن إبراهيم قدم بإسماعيل وأمه مكة ، فقال لهما : كلا من الشجر ، واشربا من الشعاب .
وفارقهما ، فلما ضاقت الارض تقطعت المياه ، فعطشا ، فقالت له أمه : اصعد وانصب في هذا الوادي فلا أرى موتك ولا ترى موتى ، ففعل فأنزل الله تعالى ملكا من السماء على أم إسماعيل ، فأمرها فصرحت به ، فاستجاب لها ، وطار الملك فضرب بجناحيه مكان زمزم ، فقال : اشربا ، فكان سيحا يسيح ، ولو تركاه ما زال كذلك أبدا ، لكنها فرقت (1) عليه من العطش ، فقرت (2) له في السقاء ، وحفرت في البطحاء ، فلما نضب الماء طوياه ، ثم
__________
(1) فرقت : خافت .
(2) كذا في الاصول .
(*)(15/217)
هلك الناس ، ودفنته السيول .
ثم أري عبد المطلب في المنام أن احفر زمزم لا تثرب (1) ولا تذم ، تروي الحجيج الاعظم .
ثم أرى مرة أخرى أن احفر الرواء ، أعطيتها على رغم الاعداء .
ثم أري مرة أخرى ، أن احفر تكتم ، بين الانصاب الحمر ، في قرية النمل .
فأصبح يحفر حيث أري .
فطفقت قريش يستهزئون به ، حتى إذا بدا عن الطى وجد فيها غزالا من ذهب ، وحلية سيف ، فضرب عليها بالسهام ، فخرج سهم البيت ، فكان أول حلي حلى به الكعبة .
قال الزبير : وكان حرب بن أمية بن عبد شمس نديم عبد المطلب ، وكان عبيد بن الابرص تربه ، وبلغ عبيد مائة وعشرين سنة ، وبقي عبد المطلب بعده عشرين سنه .
قال : وقال بعض أهل العلم : توفي عبد المطلب عن خمس وتسعين سنة ، ويقال : كان يعرف في عبد المطلب نور النبوة ، وهيبة الملك ، وفيه يقول الشاعر : إنني واللات والبيت الذى * * لز بالهبرز عبد المطلب (2) قال الزبير : حدثنى عمي مصعب بن عبد الله ، قال : بينا عبد المطلب يطوف بالبيت بعد ما أسن وذهب بصره ، إذ زحمه رجل ، فقال : من هذا ؟ فقيل : رجل من بنى بكر .
قال : فما منعه أن ينكب عني وقد رآني لا أستطيع لان أنكب عنه ! فلما رأى بنيه قد توالوا عشرة قال : لا بد لي من العصا ، فان اتخذتها طويلة شقت علي ، وإن اتخذتها قصيرة قويت عليها ، ولكن ينحدب لها ظهري ، والحدبة ذل ، فقال بنوه : أو غير ذلك ؟ يوافيك كل يوم منا رجل تتوكأ عليه فتطوف في حوائجك .
قال : ولذلك قال الزبير : ومكارم عبد المطلب أكثر من أن يحاط بها ، كان سيد قريش غير مدافع نفسا وأبا وبيتا وجمالا وبهاء وكمالا وفعالا ، قال أحد بني كنانة يمدحه :
__________
(1) لاتثرب عليه : لا تمنعه .
(2) الهبرز : الاسد .
(*)(15/218)
إني وما سترت قريش والذى * * تعزو لال كلهن ظباء (1) ووحق من رفع الجبال منيفة * * والارض مدا فوقهن سماء (2) مثن ومهد لابن سلمى مدحة * * فيها أداء ذمامه ووفاء قال الزبير : فأما أبو طالب بن عبد المطلب - واسمه عبد مناف - وهو كافل رسول الله صلى الله عليه وآله ، وحاميه من قريش وناصره ، والرفيق به ، الشفيق عليه ، ووصي عبد المطلب فيه - فكان سيد بنى هاشم في زمانه ، ولم يكن أحد من قريش يسود في الجاهلية بمال إلا أبو طالب وعتبة بن ربيعة .
قال الزبير : أبو طالب أول من سن القسامة (3) في الجاهلية في دم عمرو بن علقمة ، ثم أثبتتها السنة في الاسلام ، وكانت السقاية في الجاهلية بيد أبى طالب ، ثم سلمها إلى أخيه العباس بن عبد المطلب .
قال الزبير : وكان أبو طالب شاعرا مجيدا ، وكان نديمه في الجاهلية مسافر بن عمرو بن أمية بن عبد شمس ، وكان قد حبن (4) فخرج ليتداوى بالحيرة ، فمات بهبالة (5) ، فقال أبو طالب يرثيه : ليت شعري مسافر ابن أبى عم * * - رو وليث يقولها المحزون كيف كانت مذاقة الموت إذ مت وماذا بعد الممات يكون ! رحل الركب قافلين إلينا * * وخليلي في مرمس مدفون بورك الميت الغريب كما بو * * رك نضر الريحان والزيتون
__________
(1) تعزو : تنسب ، وفي ب : " كأنهن " تحريف .
(2) المنيفة : العالية .
(3) القسامة بالفتح : الايمان تقسم على أولياء القتيل إذا ادعوا الدم .
(4) الحبن بالتحريك : الاستسقاء .
(5) هبالة : موضع .
(*)(15/219)
رزء ميت على هبالة قد حا * * لت فياف من دونه وحزون مدره يدفع الخصوم بأيد * * وبوجه يزينه العرنين (1) كم خليل وصاحب وابن عم * * وحميم قفت عليه المنون فتعزيت بالجلادة والصب * * - ر وإني بصاحبي لضنين قال الزبير : فلما هلك مسافر نادم أبو طالب بعده عمرو بن عبد بن أبى قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي ، ولذلك قال عمرو لعلي عليه السلام يوم الخندق حين بارزه : إن أباك كان لي صديقا قال الزبير : وحدثني محمد بن حسن ، عن نصر بن مزاحم ، عن معروف بن خربوذ ، قال : كان أبو طالب يحضر أيام الفجار ، ويحضر معه النبي صلى اللله عليه وآله وهو غلام ، فإذا جاء أبو طالب هزمت قيس ، وإذا لم يجئ هزمت كنانة ، فقالوا لابي طالب : لا أبا لك ! لا تغب عنا ، ففعل .
قال الزبير : فأما الزبير بن عبد المطلب فكان من أشراف قريش ووجوهها ، وهو الذى استثنته بنو قصي على بني سهم حين هجا عبد الله بن الزبعرى بن قصي فأرسلت بنو قصي عتبة بن ربيعة بن عبد شمس إلى بنى سهم ، فقال لهم : إن قومكم قد كرهوا أن يعجلوا عليكم ، فأرسلوني إليكم في هذا السفيه الذى هجاهم في غير ذنب اجترموا إليه فإن كان ما صنع عن رأيكم فبئس الرأى رأيكم ، وإن كان عن غير رأيكم فادفعوه إليهم .
فقال القوم : نبرأ إلى الله أن يكون عن رأينا .
قال : فأسلموه إليهم ، فقال بعض بنى سهم : إن شئتم فعلنا ، على أن من هجانا منكم دفعتموه إلينا .
فقال عتبة : ما يمنعنى أن أقول ما تقول إلا أن الزبير بن عبد المطلب غائب بالطائف
__________
(1) الايد : الشدة .
والعرنين : الانف .
(*)(15/220)
وقد عرفت أنه سيفرغ لهذا الامر فيقول : ولم أكن أجعل الزبير خطرا لابن الزبعرى ، فقال قائل منهم : أيها القوم ، ادفعوه إليهم ، فلعمري إن لكم مثل الذى عليكم ، فكثر في ذلك الكلام واللغط ، فلما رأى العاص بن وائل ذلك دعا برمة ، فأوثق بها عبد الله بن الزبعرى ، ودفعه إلى عتبة بن ربيعة ، فأقبل به مربوطا حتى أتى به قومه ، فأطلقه حمزة بن عبد المطلب وكساه ، فأغرى ابن الزبعرى أناس من قريش بقومه بنى سهم ، وقالوا له : اهجهم كما أسلموك ، فقال : لعمري ما جاءت بنكر عشيرتي * * وإن صالحت إخوانها لا ألومها فود جناه الشر أن سيوفنا * * بأيماننا مسلولة لا نشيمها فيقطع ذو الصهر القريب ويتركوا * * غماغم منها إذ أجد يريمها (1) فإن قصيا أهل مجد وثروة * * وأهل فعال لا يرام قديمها هم منعوا يومي عكاظ نساءنا * * كما منع الشول الهجان قرومها (2) وإن كان هيج قدموا فتقدموا * * وهل يمنع المخزاة إلا حميمها محاشيد للمقرى سراع إلى الندى * * مرازبة غلب رزان حلومها (3) قال : فقدم الزبير بن عبد المطلب من الطائف ، فقال قصيدته التى يقول فيها : فلو لا الحمس لم يلبس رجال * * ثياب أعزة حتى يموتوا (4) وقد ذكرنا قطعة منها فيما تقدم .
قال الزبير : وقال الزبير بن عبد المطلب أيضا في هذا المعنى :
__________
(1) يريمها : يطلبها .
(2) الشائلة من الابل : التي أتى عليها من حملها سبعة أشهر فخف لبنها .
وجمعه شول ، وهجان الابل : كرامها .
(3) المرزبان : الفارس الشجاع المقدم على القوم دون الملك ، معرب ، والاصل فيه أحد مرازبة الفرس ، وغلب : جمع أغلب ، وهو في الاصل الغليظ الرقبة ، يصفون أبدا السادة بغلظ الرقبة وطولها .
(4) الحمس هنا : قريش ومن ولدت ، سموا حمسا لانهم تحمسوا في دينهم ، أي تشددوا .
(*)(15/221)
قومي بنو عبد مناف إذا * * أظلم من حولي بالجندل * * لا أسد لن يسلموني ولا * * تيم ولا زهرة للنيطل (1) ولا بنو الحارث إن مر بي * * يوم من الايام لا ينجلي يا أيها الشاتم قومي ولا * * حق له عندهم أقبل إني لهم جار لئن أنت لم * * تقصر عن الباطل أو تعدل قال الزبير : ومن شعر الزبير بن عبد المطلب : يا ليت شعري إذا ما حمتى وقعت * * ماذا تقول ابنتي في النوح تنعاني ! تنعى أبا كان معروف الدفاع عن الم * * - ولى المضاف وفكاكا عن العاني (2) ونعم صاحب عان كان رافده * * إذا تضجع عنه العاجز الواني (3) قال الزبير : وكان الزبير بن عبد المطلب ذا نظر وفكر ، أتي فقيل له : مات فلان - لرجل من قريش كان ظلوما - فقال : بأي عقوبة مات ؟ قالوا مات حتف أنفه ! فقال : لئن كان ما قلتموه حقا إن للناس معادا يؤخذ فيه للمظلوم من الظالم .
قال : وكان الزبير يكنى بأبي الطاهر ، وكانت صفية بنت عبد المطلب كنت ابنها الزبير بن العوام أبا الطاهر دهرا بكنية أخيها ، وكان للزبير بن عبد المطلب ابن يقال له الطاهر ، كان من أظرف فتيان مكة ، مات غلاما ، وبه سمى رسول الله صلى الله عليه وآله ابنه الطاهر ، وباسم الزبير سمت أخته صفية ابنها الزبير ، وقالت صفية ترثي أخاها الزبير بن عبد المطلب : بكي زبير الخير إذ مات إن * * كنت على ذي كرم باكيه
__________
(1) النيطل : الموت الوحي .
(2) العاني : الاسير .
(3) التضجيع في الامر : التقصير فيه .
(*)(15/222)
لو لفظته الارض ما لمتها * * أو أصبحت خاشعة عاريه قد كان في نفسي أن أترك ال * * - موتى ولا أتبعهم قافيه فلم أطق صبرا على رزئه * * وجدته أقرب إخوانيه لو لم أقل من في قولا له * * لقضت العبرة أضلاعيه فهو الشامي واليماني إذا * * ما خضروا ، ذو الشفرة الداميه وقال ضرار بن الخطاب يبكيه : بكى ضباع على أبي * * - ك بكاء محزون أليم قد كنت أنشده فلا * * رث السلاح ولا سليم كالكوكب الدري يع * * - لو ضوءه ضوء النجوم زخرت به أعراقه * * ونماه والده الكريم بين الاغر وهاشم * * فرعين قد فرعا القروم فأما القتول الخثعمية التى اغتصبها نبيه بن الحجاج السهمى من أبيها ، فقد ذكر الزبير بن بكار قصتها في كتاب " أنساب قريش " .
قال الزبير : إن رجلا من خثعم قدم مكة تاجرا ومعه ابنة يقال لها القتول ، أوضأ نساء العالمين ، فعلقها نبيه بن الحجاج السهمى ، فلم يبرح حتى غلب أباها عليها ، ونقلها إليه ، فقيل لابيها : عليك بحلف الفضول ، فأتاهم فشكا إليهم ذلك ، فأتوا نبيه بن الحجاج فقالوا له : أخرج ابنة هذا الرجل - وهو يومئذ منتبذ (1) بناحية مكة ، وهى معه - وإلا فإنا من قد عرفت ، فقال : يا قوم ، متعوني بها الليلة ، فقالوا : قبحك الله !
__________
(1) منتبذ ، أي منتح ناحية مكة .
(*)(15/223)
ما أجهلك ، لا والله ولا شخب لقحة ، فأخرجها إليهم فأعطوها أباها ، فقال نبيه بن الحجاج في ذلك قصيدة أولها : راح صحبي ولم أحي القتولا * * لم أودعهم وداعا جميلا (1) إذ أجد الفضول أن يمنعوها * * قد أراني ولا أخاف الفضولا في أبيات طويلة .
وأما قصة البارقي فقد ذكرها الزبير أيضا .
قال : قدم رجل من ثمالة من الازد مكة ، فباع سلعة من أبي بن خلف الجمحي فمطله بالثمن ، وكان سيئ المخالطة ، فأتى الثمالي أهل حلف الفضول فأخبرهم ، فقالوا إذهب فأخبره إنك قد أتيتنا ، فإن أعطاك حقك وإلا فارجع إلينا ، فأتاه فأخبره بما قال أهل حلف الفضول ، فأخرج إليه حقه فأعطاه ، فقال الثمالي : أيفجر بي ببطن مكة ظالما * * أبي ولا قومي لدي ولا صحبي وناديت قومي بارقا لتجيبني * * وكم دون قومي من فياف ومن سهب ! (2) ويأبى لكم حلف الفضول ظلامتي * * بني جمح والحق يؤخذ بالغصب وأما قصة حلف الفضول وشرفه فقد ذكرها الزبير في كتابه أيضا ، قال : كان بنو سهم وبنو جمح أهل بغي وعدوان ، فأكثروا من ذلك ، فأجمع بنو هاشم وبنو المطلب وبنو أسد وبنو زهرة وبنو تيم على أن تحالفوا وتعاقدوا على رد الظلم بمكة ، وألا يظلم أحد
__________
(1) ب : " صبحي " تحريف ، صوابه في أ .
(2) الفيف : المفازة التي لا ماء فيها ، وإذا أنثت فهي الفيفاء وجمعها الفيافي ، والسهب بفتح السين : الارض الواسعة ، يجمع على سهب (بضمتين) وسكنت الهاء للشعر .
(*)(15/224)
إلا منعوه ، وأخذوا له بحقه ، وكان حلفهم في دار عبد الله بن جدعان ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله : " لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ، ولو دعيت به اليوم لاجبت ، لا يزيده الاسلام إلا شدة " .
قال الزبير : كان رجل من بني أسد قد قدم مكة معتمرا ببضاعة ، فاشتراها منه العاص بن وائل السهمي ، فآواها إلى بيته ، ثم تغيب ، فابتغى الاسدي (1) متاعه فلم يقدر عليه ، فجاء إلى بني سهم يستعديهم ، عليه فأغلظوا له ، فعرف أن لا سبيل له إلى ماله ، وطوف في قبائل قريش يستنفر بهم ، فتخاذلت القبائل عنه ، فلما رأى ذلك أشرف على أبي قبيس حين أخذت قريش مجالسها ، ونادى بأعلى صوته : يا للرجال لمظلوم بضاعته * * ببطن مكة نائي الاهل والنفر ومحرم أشعث لم يقض عمرته * * يا آل فهر وبين الحجر والحجر (2) هل منصف من بنى سهم فمرتجع * * ما غيبوا أم حلال مال معتمر (3) ! فأعظمت ذلك قريش ، وتكلموا فيه ، فقال المطيبون : والله إن قمنا في هذا ليغضبن الاحلاف ، وقالت الاحلاف : والله إن قمنا في هذا ليغضبن المطيبون ، فقالت قبائل من قريش : هلموا فلنحتلف حلفا جديدا ، لننصرن المظلوم على الظالم ما بل بحر صوفة ، فاجتمعت هاشم والمطلب وأسد وتيم وزهرة في دار عبد الله بن جدعان ورسول الله صلى الله عليه وآله يومئذ معهم وهو شاب ابن خمس وعشرين سنة لم يوح إليه بعد ، فتحالفوا ألا يظلم بمكة غريب ولا قريب ولا حر ولا عبد إلا كانوا معه حتى يأخذوا له بحقه ، ويردوا إليه مظلمته من أنفسهم ومن غيرهم ، ثم عمدوا إلى ماء زمزم فجعلوه في جفنة ، ثم بعثوا به إلى البيت ، فغسلوا به أركانه ، ثم جمعوه وأتوهم به فشربوه ، ثم انطلقوا إلى العاص بن وائل
__________
(1) في أ ، وب : " الزبيدي " ، تصحيف .
(2) ب : " يا أهل " .
(3) أ ، ب : " ضلال " تحريف .
(*)(15/225)
فقالوا له : أد إلى هذا حقه ، فأد إليه حقه ، فمكثوا كذلك دهرا لا يظلم أحد بمكة إلا أخذوا له حقه ، فكان عتبة بن ربيعة بن عبد شمس يقول : لو أن رجلا وحده خرج من قومه لخرجت من عبد شمس ، حتى أدخل في حلف الفضول .
قال الزبير : وحدثني محمد بن حسن ، عن محمد بن طلحة ، عن موسى بن محمد ، عن أبيه ، أن الحلف كان على ألا يدعوا بمكة كلها ولا في الاحابيش مظلوما يدعوهم إلى نصرته إلا أنجدوه حتى يردوا عليه ماله ومظلمته ، أو يبلوا في ذلك عذرا ، وعلى الامر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وعلى التأسي في المعاش .
قال الزبير : ويقال : إنه إنما سمي حلف الفضول لان رجالا كانوا في وجوههم تحالفوا على رد المظالم ، يقال لهم فضيل وفضال وفضل ومفضل ، فسمي هذا الحلف حلف الفضول ، لانه أحيا تلك السنة التى كانت ماتت .
قال الزبير : وقدم محمد بن جبير بن مطعم على عبد الملك بن مروان - وكان من علماء قريش - فقال له : يا أبا سعيد ، أ لم نكن - يعني بني عبد شمس - ، وأنتم في حلف الفضول ؟ فقال : أمير المؤمنين أعلم ، قال : لتخبرني بالحق ، قال : لا والله يا أمير المؤمنين ، لقد خرجنا نحن وأنتم منه ، وما كانت يدنا ويدكم إلا جميعا في الجاهلية والاسلام .
قال الزبير : وحدثني محمد بن حسن ، عن إبراهيم بن محمد ، عن يزيد بن عبد الله بن الهادي الليثي ، أن محمد بن الحارث أخبره ، قال : كان بين الحسين بن على عليه السلام وبين الوليد بن عتبة بن أبى سفيان كلام في مال كان بينهما بذي المروة ، والوليد يومئذ أمير المدينة في أيام معاوية ، فقال الحسين عليه السلام : أ يستطيل الوليد علي بسلطانه !(15/226)
أقسم بالله لينصفني من حقى أو لآخذن سيفي ثم أقوم في مسجد الله فأدعو بحلف الفضول ! فبلغت كلمته عبد الله بن الزبير ، فقال : أحلف بالله لئن دعا به لاخذن سيفي ، ثم لاقومن معه حتى ينتصف أو نموت جميعا .
فبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري ، فقال : مثل ذلك ، فبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي ، فقال مثل ذلك ، فبلغ ذلك الوليد بن عتبة ، فأنصف الحسين عليه السلام من نفسه حتى رضي .
قال الزبير : وقد كان للحسين عليه السلام مع معاوية قصة مثل هذه ، كان بينهما كلام في أرض للحسين عليه السلام ، فقال له الحسين عليه السلام : اختر مني ثلاث خصال ، إما أن تشتري مني حقي ، وإما أن ترده علي ، أو تجعل بيني وبينك ابن عمر أو ابن الزبير حكما ، وإلا فالرابعة ، وهى الصيلم ، قال معاويه : وما هي ؟ قال أهتف بحلف الفضول ، ثم قام فخرج وهو مغضب ، فمر بعبد الله بن الزبير فأخبره ، فقال : والله لئن هتفت به وأنا مضطجع لاقعدن ، أو قاعد لاقومن ، أو قائم لامشين ، أو ماش لاسعين ، ثم لتنفدن روحي مع روحك ، أو لينصفنك .
فبلغت معاوية ، فقال : لا حاجة لنا بالصيلم ، ثم أرسل إليه أن ابعث فانتقد مالك ، فقد ابتعناه (1) منك .
قال الزبير : وحدثني بهذه القصة على بن صالح عن جدى عبد الله بن مصعب ، عن أبيه ، قال : خرج الحسين عليه السلام من عند معاوية وهو مغضب ، فلقي عبد الله بن الزبير ، فحدثه بما دار بينهما ، وقال : لاخيرنه في خصال ، فقال له ابن الزبير ما قال ، ثم ذهب إلى معاوية ، فقال لقد لقيني الحسين فخيرك في ثلاث خصال ، والرابعة الصيلم ، قال معاوية : فلا حاجة لنا بالصيلم ، أظنك لقيته مغضبا ! فهات الثلاث ، قال : أن تجعلني
__________
(1) ب : " وابتغاه " .
(*)(15/227)
أو ابن عمر بينك وبينه .
قال : قد جعلتك بيني وبينه ، أو جعلت ابن عمر أو جعلتكما جميعا .
قال أو تقر له بحقه ثم تسأله إياه .
قال : قد أقررت له بحقه وأنا أسأله إياه ، قال : أو تشريه منه ، قال : قد اشتريته منه ، فما الصيلم ؟ قال : يهتف بحلف الفضول ، وأنا أول من يجيبه .
قال : فلا حاجة لنا في ذلك .
وبلغ الكلام عبد الله بن أبى بكر والمسور بن مخرمة فقالا للحسين مثل ما قاله ابن الزبير .
فأما تفجر الماء من تحت أخفاف بعير عبد المطلب في الارض الجرز فقد ذكره محمد بن اسحاق بن يسار في كتاب السيرة ، قال : لما أنبط (1) عبد المطلب الماء في زمزم حسدته قريش ، فقالت له ، يا عبد المطلب ، إنها بئر أبينا إسماعيل ، وإن لنا فيها حقا فأشركنا معك .
قال : ما أنا بفاعل ، إن هذا الامر أمر خصصت به دونكم وأعطيته من بينكم ، قالوا له : فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها ، قال : فاجعلوا بيني وبينكم حكما أحاكمكم إليه ، قالوا : كاهنة بني سعد بن هذيم ، قال : نعم ، وكانت بأشراف الشام ، فركب عبد المطلب في نفر من بني عبد مناف ، وخرج من كل قبيلة من قبائل قريش قوم ، والارض إذ ذاك مفاوز (2) ، حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز والشام نفد ما كان مع عبد المطلب وبنى أبيه من الماء فعطشوا عطشا شديدا ، فاستسقوا قومهم ، فأبوا أن يسقوهم ، وقالوا : نحن بمفازة ونخشى على أنفسنا مثل الذى أصابكم .
فلما رأى عبد المطلب ما صنع القوم وخاف على نفسه وأصحابه الهلاك ، قال لاصحابه : ما ترون ؟ قالوا : ما رأينا إلا تبع لرأيك ، فمرنا بما أحببت ، قال : فإني أرى أن يحفر كل رجل منا حفرة لنفسه بما معه الان من القوة ، فكلما مات رجل دفنه أصحابه في حفرته ، حتى يكون رجل واحد ، فضيعة
__________
(1) أنبط الماء : استخرجه وطلبه .
(2) المفاوز : جمع مفازة ، وهي البرية القفر ، أو التي لا ماء فيها ، وسميت مفازة لان من خرج منها وتباعد عنها فاز وغنم .
(*)(15/228)
رجل واحد أيسر من ضيعة ركب ، قالوا : نعم ما أشرت ! فقام كل رجل منهم فحفر حفيرة لنفسه ، وقعدوا ينتظرون الموت .
ثم إن عبد المطلب قال لاصحابه : والله إن إلقاءنا بأيدينا كذا للموت ، لا نضرب في الارض فنطلب الماء لعجز ، قوموا فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض الارض ، ارتحلوا .
فارتحلوا ومن معهم من قبائل قريش ينظرون إليهم ما هم صانعون ، فتقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها ، فلما انبعثت به انفجر من تحت خفها عين من ماء عذب ، فكبر عبد المطلب وكبر أصحابه ، ثم نزل فشرب وشرب أصحابه ، واستقوا حتى ملاوا أسقيتهم ، ثم دعا القبائل من قريش ، فقال لهم : هلموا إلى الماء ، فقد أسقانا الله ، فاشربوا واستقوا ، فجاءوا فشربوا واستقوا ، ثم قالوا : قد والله قضى الله لك علينا ، والله لا نخاصمك في زمزم أبدا ، إن الذى سقاك هذا الماء بهذه الفلاة هو الذى سقاك زمزم ، فارجع إلى سقايتك راشدا ، فرجع ورجعوا معه ، لم يصلوا إلى الكاهنة وخلوا بينه وبين زمزم (1) .
وروى صاحب كتاب الواقدي أن عبد الله بن جعفر فاخر يزيد بن معاوية بين يدي معاوية ، فقال له : بأي آبائك تفاخرني ؟ أ بحرب الذى أجرناه ، أم بأمية الذى ملكناه ، أم بعبد شمس الذى كفلناه ، فقال معاوية : لحرب بن أمية يقال هذا ! ما كنت أحسب أن أحدا في عصر حرب يزعم أنه أشرف من حرب ! فقال عبد الله : بلى ، أشرف منه من كفأ عليه إناءه ، وجلله (2) بردائه ! فقال معاوية ليزيد : رويدا يا بني ، إن عبد الله يفخر عليك بك لانك منه وهو منك .
فاستحيا عبد الله وقال : يا أمير المؤمنين ، يدان انتشطتا (3) وأخوان اصطرعا .
فلما قام عبد الله ، قال معاوية ليزيد : يا بني إياك ومنازعة
__________
(1) سيرة ابن هشام 1 : 155 ، 156 .
(2) جلله بردائه : غطاه ، وفي حديث علي : " اللهم جلل قتلة عثمان خزيا " ، أي غطهم به وألبسهم إياه .
(3) انتشطتا ، على البناء للمجهول ، انتزعتا واختلستا .
(*)(15/229)
بني هاشم ، فإنهم لا يجهلون ما علموا ، ولا يجد مبغضهم لهم سبا ، قال : " إما قوله : أ بحرب الذى أجرناه " ، فإن قريشا كانت إذا سافرت فصارت على العقبة لم يتجاوزها أحد حتى تجوز قريش ، فخرج حرب ليلة فلما صار على العقبة ، لقيه رجل من بنى حاجب بن زرارة تميمي فتنحنح حرب بن أمية ، وقال : أنا حرب بن أمية ، فتنحنح التميمي وقال : أنا ابن حاجب بن زرارة ، ثم بدر فجاز العقبة ، فقال حرب : لاها الله لا تدخل بعدها مكة وأنا حي ! فمكث التميمي حينا لا يدخل ، وكان متجره بمكة ، فاستشار بها بمن يستجير من حرب ، فأشير عليه بعبد المطلب أو بابنه الزبير بن عبد المطلب .
فركب ناقته وصار إلى مكة ليلا ، فدخلها وأناخ ناقته بباب الزبير بن عبد المطلب ، فرغت (1) الناقة ، فخرج إليه الزبير فقال : أمستجير فتجار ، أم طالب قرى فتقرى ! فقال : لاقيت حربا بالثنية مقبلا * * والليل أبلج نوره للساري فعلا بصوت واكتنى ليروعني * * ودعا بدعوة معلن وشعار فتركته خلفي وجزت أمامه * * وكذاك كنت أكون في الاسفار فمضى يهددني ويمنع مكة * * ألا أحل بها بدار قرار فتركته كالكلب ينبح وحده * * وأتيت قرم مكارم وفخار (2) ليثا هزبرا يستجار بقربه * * رحب المباءة مكرما للجار (3) وحلفت بالبيت العتيق وحجه * * وبزمزم والحجر والاستار إن الزبير لمانعي بمهند * * صافى الحديدة صارم بتار فقال الزبير : إذهب إلى المنزل فقد أجرتك .
فلما أصبح نادى الزبير أخاه الغيداق ،
__________
(1) يقال : رغت الناقة ترغو رغاء : صوتت وضجت .
وفي المثل : " كفى برغائها مناديا " ، أي أن رغاء الناقة يقوم مقام النداء في التعرض للضيافة والقرى .
(2) القرم من الرجال : السيد المعظم .
(3) الهزبر : الاسد ، والمباءة : المراح الذي تبيت فيه الابل .
(*)(15/230)
فخرجا متقلدين سيفيهما ، وخرج التميمي معهما ، فقالا له : إنا إذا أجرنا رجلا لم نمش أمامه ، فامش أمامنا ترمقك أبصارنا كي لا تختلس من خلفنا .
فجعل التميمي يشق مكة حتى دخل المسجد ، فلما بصر به حرب قال : وإنك لهاهنا ! وسبق إليه فلطمه ، وصاح الزبير : ثكلتك أمك ! أ تلطمه وقد أجرته ! فثنى عليه حرب فلطمه ثانية ، فانتضى الزبير سيفه ، فحمل على حرب بين يديه ، وسعى الزبير خلفه فلم يرجع عنه حتى هجم حرب على عبد المطلب داره ، فقال : ما شأنك ؟ قال : الزبير ، قال : اجلس ، وكفأ عليه إناء كان هاشم يهشم فيه الثريد ، واجتمع الناس ، وانضم بنو عبد المطلب إلى الزبير ، ووقفوا على باب أبيهم بأيديهم سيوفهم ، فأزر عبد المطلب حربا بإزار كان له ، ورداه برداء له طرفان ، وأخرجه إليهم ، فعلموا أن أباهم قد أجاره .
وأما معنى قوله : " أم بأمية الذى ملكناه ! " ، فإن عبد المطلب راهن أمية بن عبد شمس على فرسين ، وجعل الخطر ممن سبقت فرسه مائة من الابل وعشرة أعبد وعشر إماء و استعباد سنة ، وجز الناصية .
فسبق فرس عبد المطلب فأخذ الخطر فقسمه في قريش ، وأراد جز ناصيته ، فقال : أو أفتدي منك باستعباد عشر سنين ! ففعل ، فكان أمية بعد في حشم عبد المطلب وعضاريطه (1) عشر سنين .
وأما قوله : " أم بعبد شمس الذي كفلناه ! " فإن عبد شمس كان مملقا لا مال له ، فكان أخوه هاشم يكفله ويمونه إلى أن مات هاشم .
وفي كتاب " الاغاني " لابي الفرج أن معاوية قال لدغفل (2) النسابة : أ رايت عبد المطلب ؟ قال : نعم ، قال : كيف رأيته ؟ قال : رأيته رجلا نبيلا جميلا وضيئا ، كان على
__________
(1) العضاريط : جمع عضرط ، وهو الرجل الذي يخدم بطعام بطنه .
(2) في الاصول : " دعبل " ، تصحيف ، وصوابه من الاغاني .
(*)(15/231)
وجهه نور النبوة (1) .
قال : أ فرأيت أمية بن عبد شمس (2) ؟ قال : نعم ، قال : كيف رأيته ؟ قال : رأيته رجلا ضئيلا (3) منحنيا أعمى يقوده عبده ذكوان ، فقال معاوية : ذلك ابنه أبو عمرو ، قال : أنتم تقولون ذلك ، فأما قريش فلم تكن تعرف إلا إنه عبده (4) .
ونقلت من كتاب " هاشم وعبد شمس " لابن أبى رؤبة الدباس .
قال : روى هشام بن الكلبي عن أبيه ، أن نوفل بن عبد مناف ظلم عبد المطلب ابن هاشم أركاحا له بمكة - وهى الساحات - وكان بنو نوفل يدا مع عبد شمس ، وعبد المطلب يدا مع هاشم ، فاستنصر عبد المطلب قوما من قومه فقصروا عن ذلك ، فاستنجد أخواله من بني النجار بيثرب ، فأقبل معه سبعون راكبا ، فقالوا لنوفل : لا والله يا أبا عدي ، ما رأينا بهذا الغائط ناشئا أحسن وجها ، ولا أمد جسما ، ولا أعف نفسا ، ولا أبعد من كل سوء من هذا الفتى - يعنون عبد المطلب - وقد عرفت قرابته منا ، وقد منعته ساحات له ، ونحن نحب أن ترد عليه حقه ، فرده عليه فقال عبد المطلب : تأبى مازن وبنو عدي * * وذبيان بن تيم اللات ضيمي وزادت مالك حتى تناهت * * ونكب بعد نوفل عن حريمي قال : ويقال إن ذلك كان سبب مخالفة خزاعة عبد المطلب .
قال : وروى أبو اليقظان سحيم بن حفص ، أن عبد المطلب جمع بنيه عند وفاته - وهم عشرة يومئذ - فأمرهم ونهاهم وأوصاهم وقال : إياكم والبغى ، فو الله ما خلق الله شيئا * (هامس) * (1) الاغاني : " من رأيت من علية قريش ؟ فقال : رأيت عبد المطلب بن هاشم وأمية بن عبد شمس ، فقال : صفهما لي ، فقال : كان عبد المطلب أبيض مديد القامة حسن الوجه ، في جبينه نور النبوة وعز الملك ، يطيف به عشرة من بنيه كأنهم أسد غاب " .
(2) الاغاني : " قال : فصف لي أمية " .
(3) الاغاني : " نحيف الجسم ضريرا " .
(4) الاغاني 1 : 12 (طبعة دار الكتب) .(15/232)
أعجل عقوبة من البغي ، وما رأيت أحدا بقي على البغي إلا إخوتكم من بنى عبد شمس .
وروى الوليد بن هشام بن قحذم ، قال : قال عثمان يوما : وددت أني رأيت رجلا قد أدرك الملوك يحدثني عما مضى ، فذكر له رجل بحضرموت ، فبعث إليه فحدثه حديثا - طويلا تركنا ذكره - إلى أن قال : أ رأيت عبد المطلب بن هاشم ؟ قال : نعم ، رأيت رجلا قعدا (1) أبيض طويلا مقرون الحاجبين ، بين عينيه غرة يقال إن فيها بركة ، وإن فيه بركة ، قال : أ فرأيت أمية بن عبد شمس ؟ قال : نعم ، رأيت رجلا آدم دميما قصيرا أعمى يقال : إنه نكد ، وأن فيه نكدا ، فقال عثمان : " يكفيك من شر سماعه (2) " وأمر بإخراج الرجل .
وروى هشام بن الكلبي أن أمية بن عبد شمس لما كان غلاما ، كان يسرق الحاج فسمى حارسا .
وروى ابن أبى رؤبة في هذا الكتاب أن أول قتيل قتله بنو هاشم من بني عبد شمس عفيف بن أبى العاص بن أمية ، قتله حمزة بن عبد المطلب ، ولم أقف على هذا الخبر إلا من كتاب ابن أبى رؤبة .
قال : ومما يصدق قول من روى أن أمية بن عبد شمس استعبده عبد المطلب شعر أبي طالب بن عبد المطلب حين تظاهرت عبد شمس ونوفل عليه وعلى رسول الله صلى الله عليه وآله وحصروهما في الشعب ، فقال أبو طالب : توالى علينا موليانا كلاهما * * إذا سئلا قالا إلى غيرنا الامر بلى لهما أمر ولكن تراجما * * كما ارتجمت من رأس ذي القلع الصخر أخص خصوصا عبد شمس ونوفلا * * هما نبذانا مثل ما تنبذ الخمر هما أغمضا للقوم في أخويهما * * فقد أصبحت أيديهما وهما صفر
__________
(1) القعد : الحسن الهيئة .
(2) مثل ، ولفظه في مجمع الامثال 1 : 194 : " حسبك من شر سماعه " ، وأول من قاله أم الربيع ابن زياد العبسي .
(*)(15/233)
قديما أبوهم كان عبدا لجدنا * * بني أمة شهلاء جاش بها البحر لقد سفهوا أحلامهم في محمد * * فكانوا كجعر بئس ما ضفطت جعر (1) ثم نرجع إلى حكايه شيخنا أبى عثمان ، وقد نمزجه بكلام آخر لنا أو لغيرنا ممن تعاطى الموازنة بين هذين البيتين .
قال أبو عثمان : فإن قالت أمية : لنا الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبى العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي ، أربعة خلفاء في نسق ، قلنا لهم : ولبني هاشم : هارون الواثق بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد بن محمد المهدى بن عبد الله المنصور بن محمد الكامل بن علي السجاد ، كان يصلى كل يوم وليلة ألف ركعة ، فكان يقال له السجاد لعبادته وفضله ، وكان أجمل قريش على وجه الارض وأوسمها ، ولد ليلة قتل علي بن أبى طالب عليه السلام فسمى باسمه ، وكنى بكنيته ، فقال عبد الملك : لا والله لا أحتمل لك الاسم ولا الكنية ، فغير أحدهما ، فغير الكنية فصيرها أبا محمد بن عبد الله ، وهو البحر ، وهو حبر قريش ، وهو المفقه في الدين ، المعلم التأويل ابن العباس ذى الرأى ، وحليم قريش ، بن شيبة الحمد ، وهو عبد المطلب سيد الوادي بن عمرو ، وهو هاشم ، هشم الثريد ، وهو القمر سمي بذلك لجماله ، ولانهم كانوا يقتدون ويهتدون برأيه ، ابن المغيرة وهو عبد مناف ، بن زيد ، وهو قصي وهو مجمع ، فهؤلاء ثلاثة عشر سيدا لم يحرم منهم واحد ، ولا قصر عن الغاية ، وليس منهم واحد إلا وهو ملقب بلقب اشتق له من فعله الكريم ، ومن خلقه الجميل ، وليس منهم إلا خليفة ، أو موضع للخلافة أو سيد في قديم الدهر منيع ، أو ناسك مقدم ، أو فقيه بارع ، أو حليم ظاهر الركانة (2) ، وليس هذا لاحد سواهم ، ومنهم خمسة خلفاء في نسق ، وهم أكثر مما عدته الاموية ، ولم يكن
__________
(1) ضفطت : أحدثت ، والجعر : جمع جعراء ، وهي الاست .
(2) الركانة : الوقار والهيبة .
(*)(15/234)
مروان كالمنصور لان المنصور ملك البلاد ودوخ الاقطار ، وضبط الاطراف اثنتين وعشرين سنة ، وكانت خلافة مروان على خلاف ذلك كله ، وإنما بقي في الخلافة تسعة أشهر حتى قتلته امرأته عاتكة بنت يزيد بن معاوية حين قال لابنها خالد من بعلها الاول : يا بن الرطبة .
ولئن كان مروان مستوجبا لاسم الخلافة مع قلة الايام وكثرة الاختلاف واضطراب البلدان فضلا عن الاطراف ، فابن الزبير أولى بذلك منه ، فقد كان ملك الارض إلا بعض الاردن ، ولكن سلطان عبد الملك وأولاده لما اتصل بسلطان مروان اتصل عند القوم ما انقطع منه وأخفى موضع الوهن عند من لا علم له ، وسنو المهدي كانت سني سلامة ، وما زال عبد الملك في انتقاض وانتكاث ، ولم يكن ملك يزيد كملك هارون ، ولا ملك الوليد كملك المعتصم .
قلت : رحم الله أبا عثمان ! لو كان اليوم لعد من خلفاء بنى هاشم تسعة في نسق : المستعصم بن المستنصر بن الطاهر بن المستضئ بن المستنجد بن المقتفى بن المستظهر بن المقتدر .
والطالبيون بمصر يعدون عشرة في نسق : الامر بن المستعلى بن المستنصر بن الطاهر بن الحاكم بن العزيز بن المعتز بن المنصور بن القائم بن المهدي .
قال أبو عثمان : وتفخر عليهم بنو هاشم بأن سني ملكهم أكثر ، ومدته أطول ، فإنه قد بلغت مدة ملكهم إلى اليوم أربعا وتسعين سنة .
ويفخرون أيضا عليهم بأنهم ملكوا بالميراث وبحق العصبة والعمومة ، وأن ملكهم في مغرس نبوة ، وأن أسبابهم غير أسباب بني مروان ، بل ليس لبني مروان فيها سبب ، ولا بينهم وبينها نسب ، إلا أن يقولوا : إنا من قريش فيساووا في هذا الاسم قريش الظواهر ، لان رواية الراوي : " الائمة من قريش " واقعة على كل قرشي ، وأسباب الخلافة معروفة ، وما يدعيه كل جيل معلوم ، وإلى كل ذلك قد ذهب الناس ، فمنهم من ادعاه لعلي عليه السلام لاجتماع القرابة والسابقة والوصية ، فإن كان الامر كذلك فليس لال أبى سفيان وآل مروان فيها دعوى ، وإن كانت(15/235)
إنما تنال بالوراثة ، وتستحق بالعمومة ، وتستوجب بحق العصبة ، فليس لهم أيضا فيها دعوى .
وإن كانت لا تنال إلا بالسوابق والاعمال والجهاد ، فليس لهم في ذلك قدم مذكور ، ولا يوم مشهور ، بل كانوا إذ لم تكن لهم سابقة ، ولم يكن فيهم ما يستحقون به الخلافة ، ولم يكن فيهم ما يمنعهم منها أشد المنع ، لكان أهون ولكان الامر عليهم أيسر ، قد عرفنا كيف كان أبو سفيان في عداوة النبي صلى الله عليه وآله وفي محاربته له ، وإجلابه عليه وغزوه إياه ، وعرفنا إسلامه حيث أسلم ، وإخلاصه كيف أخلص ، ومعنى كلمته يوم الفتح حين رأى الجنود ، وكلامه يوم حنين ، وقوله يوم صعد بلال على الكعبة ، فأذن .
على أنه إنما أسلم على يدي العباس رحمه الله ، والعباس هو الذى منع الناس من قتله ، وجاء به رديفا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ، وسأله فيه أن يشرفه وأن يكرمه وينوه به ، وتلك يد بيضاء ، ونعمة غراء ، ومقام مشهود ، ويوم حنين غير مجحود ، فكان جزاء بنى هاشم من بنيه أن حاربوا عليا ، وسموا الحسن ، وقتلوا الحسين ، وحملوا النساء على الاقتاب حواسر (1) ، وكشفوا عن عورة علي بن الحسين حين أشكل عليهم بلوغه كما يصنع بذراري المشركين إذا دخلت دورهم عنوة ، وبعث معاوية بسر بن أرطاة إلى اليمن ، فقتل ابني عبيد الله بن العباس ، وهما غلامان لم يبلغا الحلم ، وقتل عبيد الله بن زياد يوم الطف تسعة من صلب علي عليه السلام ، وسبعة من صلب عقيل ، ولذلك قال ناعيهم : عين جودي بعبره وعويل * * واندبي إن ندبت آل الرسول تسعة كلهم لصلب علي * * قد أصيبوا وسبعة لعقيل ثم إن أمية تزعم أن عقيلا أعان معاويه على علي عليه السلام ، فإن كانوا كاذبين فما أولاهم بالكذب ! وإن كانوا صادقين فما جازوا عقيلا بما صنع ! وضرب عنق مسلم
__________
(1) حواسر : كواشف .
(*)(15/236)
بن عقيل صبرا وغدرا بعد الامان ، وقتلوا معه هانئ بن عروة لانه آواه ونصره ، ولذلك قال الشاعر : فان كنت لا تدرين ما الموت فانظري * * إلى هانئ في السوق وابن عقيل تري بطلا قد هشم السيف وجهه (2) * * وآخر يهوي من طمار قتيل وأكلت هند كبد حمزة * فمنهم آكلة الاكباد ، ومنهم كهف النفاق ، ومنهم من نقر بين ثنيتى الحسين عليه السلام بالقضيب ، ومنهم القاتل يوم الحرة عون بن عبد الله بن جعفر ، ويوم الطف أبا بكر بن عبد الله بن جعفر .
وقتل يوم الحرة أيضا من بنى هاشم الفضل بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، والعباس بن عتبة بن أبى لهب بن عبد المطلب ، وعبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب .
قلت : إن أبا عثمان قايس بين مدتي ملكهما وهو حينئذ في أيام الواثق ، ففضل هؤلاء عليهم ، لان ملكهم أطول من ملكهم بعشر سنين ، فكيف به لو كان اليوم حيا ، وقد امتد ملكهم خمسمائة وست عشرة سنة ! وهذا أكثر من ملك البيت الثالث من ملوك الفرس بنحو ثلاثين سنة .
وأيضا فإن كان الفخر بطول مدة الملك فبنو هاشم قد كان لهم أيضا ملك بمصر نحو مائتين وسبعين سنة ، مع ما ملكوه بالمغرب قبل أن ينتقلوا إلى مصر .
__________
(1) البيتان في اللسان 6 : 174 ، ونسبهما إلى سليم بن سلام الحنفي .
(2) اللسان : قد عقر السيف " .
وطمار ، المكان العالي ، قال صاحب اللسان : " وينشد من طمار بفتح الراء وكسرها ، مجرى وغير مجرى " قال : " ويروى : قد قرح السيف وجهه " .
(*)(15/237)
قال أبو عثمان : وقالت هاشم لامية : قد علم الناس ما صنعتم بنا من القتل والتشريد ، لا لذنب أتيناه إليكم ، ضربتم علي بن عبد الله بن عباس بالسياط مرتين ، على أن تزوج بنت عمه الجعفرية التى كانت عند عبد الملك ، وعلى أن نحلتموه قتل سليط ، وسممتم أبا هاشم عبد الله بن محمد بن علي بن أبى طالب عليه السلام ، ونبشتم زيدا وصلبتموه ، وألقيتم رأسه في عرصة الدار توطا بالاقدام ، وينقر دماغه الدجاج ، حتى قال القائل : اطرد الديك عن ذؤابة زيد * * طالما كان لا تطاه الدجاج وقال شاعركم أيضا : صلبنا لكم زيدا على جذع نخلة * * ولم نر مهديا على الجذع يصلب وقستم بعثمان عليا سفاهة * * وعثمان خير من علي وأطيب فروي أن بعض الصالحين من أهل البيت عليهم السلام قال : اللهم إن كان كاذبا فسلط عليه كلبا من كلابك ، فخرج يوما بسفر له ، فعرض له الاسد فافترسه .
وقتلتم الامام جعفرا الصادق عليه السلام ، وقتلتم يحيى بن زيد ، وسميتم قاتله : ثائر مروان ، وناصر الدين ، هذا إلى ما صنع سليمان بن حبيب بن المهلب عن أمركم وقولكم بعبد الله أبي جعفر المنصور قبل الخلافة ، وما صنع مروان بإبراهيم الامام ، أدخل رأسه في جراب نورة حتى مات ، فإن أنشدتم : أفاض المدامع قتلى كدى * * وقتلى بكثوة لم ترمس وبالزابيين نفوس ثوت * * وأخرى بنهر أبى فطرس أنشدنا نحن : واذكروا مصرع الحسين وزيدا * * وقتيلا بجانب المهراس(15/238)
والقتيل الذى بنجران أمسى * * ثاويا بين غربة وتناس وقد علمتم حال مروان أبيكم وضعفه ، وأنه كان رجلا لا فقه له ، ولا يعرف بالزهد ولا الصلاح ، ولا برواية الاثار ، ولا بصحبة ولا ببعد همة ، وإنما ولي رستاقا من رساتيق دار بجرد لابن عامر ، ثم ولي البحرين لمعاوية ، وقد كان جمع أصحابه ومن تابعه ليبايع ابن الزبير حتى رده عبيد الله بن زياد ، وقال يوم مرج راهط ، والرءوس تندر (1) عن كواهلها في طاعته : وما ضرهم غير حين النفو * * س وأى غلامي قريش غلب هذا قول من لا يستحق أن يلي ربعا من الارباع ، ولا خمسا من الاخماس ، وهو أحد من قتلته النساء لكلمة كان حتفه فيها .
وأما أبوه الحكم بن العاص فهو طريد رسول الله صلى الله عليه وآله ولعينه والمتخلج في مشيته ، الحاكي لرسول الله صلى الله عليه وآله ، والمستمع عليه ساعة خلوته ، ثم صار طريدا لابي بكر وعمر ، امتنعا عن إعادته إلى المدينة ، ولم يقبلا شفاعة عثمان ، فلما ولي أدخله ، فكان أعظم الناس شؤما عليه ، ومن أكبر الحجج في قتله وخلعه من الخلافة ، فعبد الملك أبو هؤلاء الملوك الذين تفتخر الاموية بهم ، أعرق الناس في الكفر لان أحد أبويه الحكم هذا ، والاخر من قبل أمه معاوية بن المغيرة بن أبى العاص ، كان النبي صلى الله عليه وآله طرده من المدينة ، وأجله ثلاثا ، فحيره الله تعالى حين خرج ، وبقي مترددا متلددا حولها لا يهتدي لسبيله ، حتى أرسل في أثره عليا عليه السلام وعمارا ، فقتلاه ، فأنتم أعرق الناس في الكفر ، ونحن أعرق الناس في الايمان ، ولا يكون أمير المؤمنين إلا أولاهم بالايمان ، وأقدمهم فيه .
قال أبو عثمان : وتفخر هاشم بأن أحدا لم يجد تسعين عاما لا طواعين فيها إلا منذ ملكوا ، قالوا : لو لم يكن من بركة دعوتنا إلا أن تعذيب الامراء بعمال الخراج
__________
(1) تندر ، أي تسقط فلا يحتسب بها .
(*)(15/239)
بالتعليق والزهق والتجريد والتسهير والمسالد والنورة والجورتين والعذراء والجامعة والتشطيب قد ارتفع لكان ذلك خيرا كثيرا ، وفي الطاعون يقول العماني الراجز يذكر دولتنا : قد رفع الله رماح الجن * * وأذهب التعذيب والتجني والعرب تسمى الطواعين رماح الجن ، وفي ذلك يقول الشاعر : لعمرك ما خشيت على أبي * * رماح بني مقيدة الحمار ولكني خشيت على أبي * * رماح الجن أو إياك حار يقول بعض بني أسد للحارث الغساني الملك .
قال أبو عثمان : وتفخر هاشم عليهم بأنهم لم يهدموا الكعبة ، ولم يحولوا القبلة ، ولم يجعلوا الرسول دون الخليفة ، ولم يختموا في أعناق الصحابة ، ولم يغيروا أوقات الصلاة ، ولم ينقشوا أكف المسلمين ، ولم يأكلوا الطعام ويشربوا على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله ، ولم ينهبوا الحرم ، ولم يطئوا المسلمات في دار الاسلام بالسباء .
قلت : نقلت من كتاب " افتراق هاشم وعبد شمس " لابي الحسين محمد بن على بن نصر المعروف بابن أبى رؤبة الدباس قال : كان بنو أمية في ملكهم يؤذنون ويقيمون في العيد ويخطبون بعد الصلاة ، وكانوا في سائر صلاتهم لا يجهرون بالتكبير في الركوع والسجود ، وكان لهشام بن عبد الملك خصي إذا سجد هشام وهو يصلي في المقصورة قال : لا إله إلا الله ، فيسمع الناس فيسجدون ، وكانوا يقعدون في إحدى خطبتي العيد والجمعة ويقومون في الاخرى ، قال : ورأى كعب مروان بن الحكم يخطب قاعدا ، فقال : انظروا(15/240)
إلى هذا يخطب قاعدا ، والله تعالى يقول لرسوله : (و تركوك قائما) (1) .
قال : وأول من قعد في الخطب معاوية ، وأول من أذن وأقام في صلاة العيد بشر بن مروان ، وكان عمال بنى أمية يأخذون الجزية ممن أسلم من أهل الذمة ، ويقولون : هؤلاء فروا من الجزية ، ويأخذون الصدقة من الخيل ، وربما دخلوا دار الرجل قد نفق (2) فرسه أو باعه ، فإذا أبصروا الآخية ، قالوا : قد كان هاهنا فرس ، فهات صدقتها ، وكانوا يؤخرون صلاة الجمعة تشاغلا عنها بالخطبة ، ويطيلون فيها ، إلى أن تتجاوز وقت العصر ، وتكاد الشمس تصفر ، فعل ذلك الوليد بن عبد الملك ويزيد أخوه والحجاج عاملهم ، ووكل بهم الحجاج المسالخ معه والسيوف على رؤوسهم فلا يستطيعون أن يصلوا الجمعة في وقتها .
وقال الحسن البصري : وا عجبا من أخيفش (3) أعيمش ! جاءنا ففتننا عن ديننا ، وصعد على منبرنا ، فيخطب والناس يلتفتون إلى الشمس فيقول : ما بالكم تلتفتون إلى الشمس ! إنا والله ما نصلي للشمس ، إنما نصلى لرب الشمس ! أ فلا تقولون : يا عدو الله ، ان لله حقا بالليل لا يقبله بالنهار ، وحقا بالنهار لا يقبله بالليل ، ثم يقول الحسن : وكيف يقولون ذلك وعلى رأس كل واحد منهم علج (4) قائم بالسيف ! قال : وكانوا يسبون ذراري الخوارج من العرب وغيرهم ، لما قتل قريب وزحاف الخارجيان ، سبى زياد ذراريهما ، فأعطى شقيق بن ثور السدوسي إحدى بناتهما ، وأعطى عباد بن حصين الاخرى ، وسبيت بنت لعبيدة بن هلال اليشكري ، وبنت لقطري بن الفجاءة المازني ، فصارت هذه إلى العباس بن الوليد بن عبد الملك ، واسمها أم سلمة ،
__________
(1) سورة الجمعة 11 .
(2) نفق فرسه ، أي مات .
(3) الخفش بالتحريك : ضيق في البصر وضعف في العين .
(4) العلج : الرجل القوي الضخم .
(*)(15/241)
فوطئها بملك اليمين على رأيهم ، فولدت له المؤمل ، ومحمدا ، وإبراهيم ، وأحمد ، وحصينا ، بنى عباس بن الوليد بن عبد الملك .
وسبي واصل بن عمرو القنا واسترق ، وسبي سعيد الصغير الحروري واسترق ، وأم يزيد بن عمر بن هبيرة ، وكانت من سبي عمان الذين سباهم مجاعة ، وكانت بنو أمية تبيع الرجل في الدين يلزمه وترى أنه يصير بذلك رقيقا .
كان معن أبو عمير بن معن الكاتب حرا مولى لبني العنبر ، فبيع في دين عليه ، فاشتراه أبو سعيد بن زياد بن عمرو العتكي ، وباع الحجاج علي بن بشير بن الماحوز لكونه قتل رسول المهلب على رجل من الازد .
فأما الكعبة فإن الحجاج في أيام عبد الملك هدمها ، وكان الوليد بن يزيد يصلى إذا صلى أوقات إفاقته من السكر إلى غير القبلة ، فقيل له ، فقرا : (فأينما تولوا فثم وجه الله) (1) .
وخطب الحجاج بالكوفة فذكر الذين يزورون قبر رسول الله صلى الله عليه وآله بالمدينة ، فقال : تبا لهم ! إنما يطوفون بأعواد ورمة بالية ! هلا طافوا بقصر أمير المؤمنين عبد الملك ! أ لا يعلمون أن خليفة المرء خير من رسوله ! قال : وكانت بنو أمية تختم في أعناق المسلمين كما توسم الخيل علامة لاستعبادهم .
وبايع مسلم بن عقبة أهل المدينة كافة ، وفيها بقايا الصحابة وأولادها وصلحاء التابعين على أن كلا منهم عبد قن (2) لامير المؤمنين يزيد بن معاوية ، إلا علي بن الحسين عليه السلام ، فإنه بايعه على أنه أخوه وابن عمه .
قال : ونقشوا أكف المسلمين علامة لاسترقاقهم ، كما يصنع بالعلوج من الروم والحبشة .
وكانت خطباء بني أمية تأكل وتشرب على المنبر يوم الجمعة لاطالتهم
__________
(1) سورة البقرة 115 .
(2) العبد القن : الذي ولد عندك ولا يستطيع أن يخرج عنك .
(*)(15/242)
في الخطبة ، وكان المسلمون تحت منبر الخطبة يأكلون ويشربون .
قال أبو عثمان : ويفخر بنو العباس على بنى مروان ، وهاشم على عبد شمس ، بأن الملك كان في أيديهم فانتزعوه منهم ، وغلبوهم بالبطش الشديد ، وبالحيلة اللطيفة ، ثم لم ينزعوه إلا من يد أشجعهم شجاعة ، وأشدهم تدبيرا ، وأبعدهم غورا ، ومن نشأ في الحروب وربي في الثغور ، ومن لا يعرف إلا الفتوح وسياسة الجنود ، ثم أعطى الوفاء من أصحابه والصبر من قواده ، فلم يغدر منهم غادر ، ولا قصر منهم مقصر ، كما قد بلغك عن حنظلة بن نباتة ، وعامر بن ضبارة ، ويزيد بن عمر بن هبيرة ، ولا أحد من سائر قواده حتى من أحبابه وكتابه كعبد الحميد الكاتب ، ثم لم يلقه ، ولا لقي تلك الحروب في عامه تلك الايام إلا رجال ولد العباس بأنفسهم ، ولا قام بأكثر الدولة إلا مشايخهم كعبد الله بن علي ، وصالح بن علي ، وداود بن علي ، وعبد الصمد بن علي ، وقد لقيهم المنصور نفسه .
قال : وتفخر هاشم أيضا عليهم بقول النبي صلى الله عليه وآله - وهو الصادق المصدق - : " نقلت من الاصلاب الزاكية ، إلى الارحام الطاهرة ، وما افترقت فرقتان إلا كنت في خيرهما " .
وقال أيضا : " بعثت من خيرة قريش " .
ومعلوم أن بني عبد مناف افترقوا فكانت هاشم والمطلب يدا ، وعبد شمس ونوفل يدا .
قال : وإن كان الفخر بكثرة العدد فإنه من أعظم مفاخر العرب ، فولد على بن عبد الله بن العباس اليوم مثل جميع بنى عبد شمس ، وكذلك ولد الحسين بن علي عليه السلام ، هذا مع قرب ميلادهما ، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله : شوهاء ولود خير من حسناء عقيم " .
وقال : " أنا مكاثر بكم الامم " .
وقد روى الشعبي عن جابر بن عبد الله ، أن النبي صلى الله عليه وآله قدم من سفر ،(15/243)
فأراد الرجال أن يطرقوا النساء ليلا ، فقال : " امهلوا حتى تمتشط (1) الشعثة ، وتستحد (2) المغيبة ، فإذا قدمتم فالكيس الكيس " .
قالوا : ذهب إلى طلب الولد ، وكانت العرب تفخر بكثرة الولد ، وتمدح الفحل القبيس (3) ، وتذم العاقر والعقيم .
وقال عامر بن الطفيل يعنى نفسه : لبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا * * جبانا فما عذري لدى كل محضر ! وقال علقمة بن علاثة يفخر على عامر : آمنت وكفر ، ووفيت وغدر ، وولدت وعقر .
وقال الزبرقان : فاسأل بني سعد وغيرهم * * يوم الفخار فعندهم خبري أي امرئ أنا حين يحضرني * * رفد العطاء وطالب النصر وإذا هلكت تركت وسطهم * * ولدي الكرام ونابه الذكر (4) وقال طرفة بن العبد : فلو شاء ربي كنت قيس بن خالد * * ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد (5) فأصبحت ذا مال كثير وعادني * * بنون كرام سادة لمسود ومدح النابغة الذبياني ناسا فقال : لم يحرموا طيب النساء وأمهم * * طفحت عليك بناتق مذكار (6)
__________
(1) تمتشط : ترجل شعرها وتصففه ، والشعثة : المتلبدة الشعر .
(2) المغيبة التي غاب عنها زوجها .
والاستحداد حلق العانة (3) القبيس كأمير : الفحل السريع الالقاح .
(4) يقال : نبه فلان ، أي شرف فهو نابه ونبيه .
(5) ديوانه 58 .
(6) ديوانه 37 ، وروايته : " لم يحرموا حسن الغذاء " .
وطفحت : اتسعت وغلبت ..والناتق ، مأخوذ من نتق السقاء ، يقال : انتق سقاءك ، أي انفض ما فيه ، وإنما يريد أنها تنفض ما في رحمها .
والمذكار : التي تلد الذكور .
(*)(15/244)
وقال نهشل بن حري : على بني يشد الله عظمهم * * والنبع ينبت قضبانا فيكتهل ومكث الفرزدق زمانا لا يولد له فعيرته امرأته ، فقال : قالت أراه واحدا لا أخا له * * يؤمله في الوارثين الاباعد (1) لعلك يوما أن ترينى كأنما * * بني حوالي الليوث الحوارد (2) فإن تميما قبل أن يلد الحصا * * أقام زمانا وهو في الناس واحد وقال الاخر ، وقد مات إخوته ، وملا حوضه ليسقي ، فجاء رجل صاحب عشيرة وعترة ، فأخذ بضبعه فنحاه ، ثم قال لراعيه : اسق إبلك : لو كان حوض حمار ما شربت به * * إلا بإذن حمار آخر الابد لكنه حوض من أودى بإخوته * * ريب المنون فأمسى بيضة البلد لو كان يشكى إلى الاموات ما لقي ال * * - أحياء بعدهم من قلة العدد ثم اشتكيت لاشكاني وأنجدني * * قبر بسنجار أو قبر على فحد (3) وقال الاعشى وهو يذكر الكثرة : ولست بالاكثر منهم حصى * * وإنما العزة للكاثر قال : وقد ولد رجال من العرب كل منهم يلد لصلبه أكثر من مائة فصاروا بذلك مفخرا ، منهم عبد الله بن عمير الليثي ، وأنس بن مالك الانصاري ، وخليفة بن بر السعدي ، أتى على عامتهم الموت الجارف .
ومات جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله ابن العباس عن ثلاثة وأربعين ذكرا وخمس وثلاثين امرأة كلهم لصلبه ، فما ظنك بمن مات من ولده في حياته ! وليس طبقة من طبقات الاسنان الموت إليها أسرع ، وفيها أعم
__________
(1) ديوانه 172 ، وروايته : " تقول أراه " .
(2) الحوارد : المعترلون ، ورواية الديوان : فإن عسى أن تبصريني كأنما * * بني حوالي الاسود اللوابد (3) سنجار : بلد على ثلاثة أيام من الموصل .
(*)(15/245)
وأفشى من سن الطفولية ، وأمر جعفر بن سليمان قد عاينه عالم من الناس ، وعامتهم أحياء ، وليس خبر جعفر كخبر غيره من الناس .
قال الهيثم بن عدي : أفضى الملك إلى ولد العباس ، وجميع ولد العباس يومئذ من الذكور ثلاثة وأربعون رجلا ، ومات جعفر بن سليمان وحده عن مثل ذلك العدد من الرجال .
وممن قرب ميلاده وكثر نسله حتى صار كبعض القبائل والعمائر أبو بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله ، والمهلب بن أبي صفرة ، ومسلم بن عمرو الباهلي ، وزياد بن عبيد أمير العراق ، ومالك بن مسمع .
وولد جعفر بن سليمان اليوم أكثر عددا من أهل هذه القبائل .
وأربعة من قريش ترك كل واحد منهم عشرة بنين مذكورين معروفين وهم : عبد المطلب بن هاشم ، والمطلب بن عبد مناف ، وأمية بن عبد شمس ، والمغيرة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، وليس على ظهر الارض هاشمي إلا من ولد عبد المطلب ، ولا يشك أحد أن عدد الهاشميين شبيه بعدد الجميع ، فهذا ما في الكثرة والقلة .
قلت : رحم الله أبا عثمان ! لو كان حيا اليوم لرأى ولد الحسن والحسين - عليهما السلام - أكثر من جميع العرب الذين كانوا في الجاهلية على عصر النبي صلى الله عليه وآله المسلمين منهم والكافرين ، لانهم لو أحصوا لما نقص ديوانهم عن مائتي ألف إنسان .
قال أبو عثمان : وإن كان الفخر بنبل الرأي ، وصواب القول ، فمن مثل عباس بن عبد المطلب وعبد الله بن العباس ! وإن كان في الحكم والسؤدد وأصالة الرأي والغناء العظيم فمن مثل عبد المطلب ، وإن كان إلى الفقه والعلم بالتأويل ومعرفة التأويل وإلى القياس السديد وإلى الالسنة الحداد والخطب الطوال ، فمن مثل علي بن أبى طالب عليه السلام وعبد الله بن عباس !(15/246)
قالوا : خطبنا عبد الله بن عباس خطبة بمكة أيام حصار عثمان لو شهدها الترك والديلم لاسلموا .
وفي عبد الله بن العباس يقول حسان بن ثابت : إذا قال لم يترك مقالا لقائل * * بملتقطات لا ترى بينها فضلا شفى وكفى ما في النفوس فلم يدع * * لذي إربة في القول جدا ولا هزلا وهو البحر ، وهو الحبر ، وكان عمر يقول له في حداثته عند إجالة الرأي : غص يا غواص (1) ، وكان يقدمه على جلة السلف .
قلت : أبى أبو عثمان إلا إعراضا عن علي عليه السلام ، هلا قال فيه كما قال في عبد الله ! فلعمري لو أراد لوجد مجالا ، ولالفى قولا وسيعا ، وهل تعلم الناس الخطب والعهود والفصاحة إلا من كلام علي عليه السلام ! وهل أخذ عبد الله رحمه الله الفقه وتفسير القرآن إلا عنه ! فرحم الله أبا عثمان ، لقد غلبت البصرة وطينتها على إصابة رأيه ! قال أبو عثمان : وإن كان الفخر في البسالة والنجدة وقتل الاقران وجزر الفرسان ، فمن كحمزة بن عبد المطلب وعلى بن أبى طالب ! وكان الاحنف إذا ذكر حمزة قال : أكيس ، وكان لا يرضى أن يقول : شجاع ، لان العرب كانت تجعل ذلك أربع طبقات ، فتقول : شجاع ، فإذا كان فوق ذلك قالت : بطل ، فإذا كان فوق ذلك قالت : بهمة ، فإذا كان فوق ذلك قالت : أكيس .
وقال العجاج : * أكيس عن حوبائه سخي * وهل أكثر ما يعد الناس من جرحاهما وصرعاهما إلا سادتكم وأعلامكم ! قتل حمزة وعلي عليه السلام عتبة والوليد ، وقتلا شيبة أيضا ، شركا عبيدة بن الحارث فيه ، وقتل علي عليه السلام حنظلة بن أبى سفيان ، فأما آباء ملوككم من بني مروان فإنهم كما قال
__________
(1) يريد أنه درب بالامور ، عارف بدقيقها وجليلها .
(*)(15/247)
عبد الله بن الزبير لما أتاه خبر المصعب : أنا والله ما نموت حبجا (1) كما يموت آل أبى العاص ، والله ما قتل منهم قتيل في جاهلية ولا إسلام ، وما نموت إلا قتلا ، قعصا (2) بالرماح ، وموتا تحت ظلال السيوف .
قال أبو عثمان : كأنه لم يعد قتل معاوية بن المغيرة بن أبى العاص قتلا ، إذ كان إنما قتل في غير معركة ، وكذلك قتل عثمان بن عفان ، إذ كان إنما قتل محاصرا ، ولا قتل مروان بن الحكم ، لانه قتل خنقا ، خنقته النساء .
قال : وإنما فخر عبد الله بن الزبير بما في بنى أسد بن عبد العزى من القتلى ، لان من شأن العرب أن يفخروا بذلك ، كيف كانوا قاتلين أو مقتولين ، أ لا ترى أنك لا تصيب كثرة القتلى إلا في القوم المعروفين بالبأس والنجدة وبكثرة اللقاء والمحاربة ، كآل أبى طالب ، وآل الزبير ، وآل المهلب ! قال : وفي آل الزبير خاصة سبعة مقتولون في نسق ولم يوجد ذلك في غيرهم ، قتل عمارة وحمزة ابنا عبد الله بن الزبير يوم قديد في المعركة ، قتلهما الاباضية ، وقتل عبد الله بن الزبير في محاربة الحجاج ، وقتل مصعب بن الزبير بدير الجاثليق (3) في المعركة أكرم قتل ، وبإزائه عبد الملك بن مروان ، وقتل الزبير بوادي السباع منصرفه عن وقعة الجمل ، وقتل العوام بن خويلد في حرب الفجار ، وقتل خويلد بن أسد بن عبد العزى في حرب خزاعة ، فهؤلاء سبعه في نسق .
قال : وفي بني أسد بن عبد العزى قتلى كثيرون غير هؤلاء ، قتل المنذر بن الزبير بمكة ، قتله أهل الشام في حرب الحجاج ، وهو على بغل ورد كان نفر به فأصعد به في الجبل .
__________
(1) في الاصول : " حبحا " تحريف ، وفي اللسان : " الحبج بفتحتين ، من أكل البعير لحاء العرفج ويسمن عليه وربما بشم منه فقتله ، يعرض ببني مروان لكثرة أكلهم وإسرافهم في ملاذ الدنيا وأنهم يموتون بالتخمة " .
وانظر نهاية ابن الاثير .
(2) القعص : الموت الوحي ، يقال : مات قعصا ، إذا أصابته ضربة أو رمية فمات مكانه .
(3) الجاثليق : رئيس النصارى في بلاد الاسلام .
(*)(15/248)
وإياه يعني يزيد بن مفرغ الحميري ، وهو يهجو صاحبكم عبيد الله بن زياد ويعيره بفراره يوم البصرة : لابن الزبير غداة تدمر منذرا * * أولى بكل حفيظة ودفاع وقتل عمرو بن الزبير ، قتلة أخوه عبد الله بن الزبير ، وكان في جوار أخيه عبيدة بن الزبير فلم يغن عنه ، فقال الشاعر يحرض عبيدة على قتل أخيه عبد الله بن الزبير ، ويعيره بإخفاره جوار عمرو أخيهما : أعبيد لو كان المجير لولولت * * بعد الهدو برنة أسماء أعبيد إنك قد أجرت وجاركم * * تحت الصفيح تنوبه الاصداء (1) اضرب بسيفك ضربة مذكورة * * فيها أداء أمانة ووفاء وقتل بجير بن العوام أخو الزبير بن العوام ، قتله سعد بن صفح الدوسي جد أبي هريري من قبل أمه ، قتله بناحية اليمامة ، وقتل معه أصرم وبعلك أخويه ابني العوام بن خويلد ، وقد قتل منهم في محاربة النبي صلى الله عليه وآله قوم مشهورون ، منهم زمعة بن الاسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى ، كان شريفا ، قتل يوم بدر ، وأبوه الاسود ، كان المثل يضرب بعزته بمكة ، وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يذكر عاقر الناقة : " كان عزيزا منيعا كأبي زمعة " ، ويكنى زمعة بن الاسود أبا حكيمة ، وقتل الحارث بن الاسود بن المطلب يوم بدر أيضا ، وقتل عبد الله بن حميد بن زهير بن الحارث بن الاسود بن المطلب بن أسد يوم بدر أيضا ، وقتل نوفل بن خويلد يوم بدر أيضا ، قتله على بن أبى طالب عليه السلام ، وقتل يوم الحرة يزيد بن عبد الله بن زمعة بن الاسود ، ضرب عنقه مسرف بن عقبة صبرا (2) قال له : بايع لامير المؤمنين يزيد
__________
(1) الصفيح : الحجارة الرقاق ، والاصداء : جمع صدى ، وهو ما يرد على المصوت .
(2) صبرا ، أي حبسا .
(*)(15/249)
ابن معاوية على أنك عبد قن له ، قال : بل أبايعه على أنى أخوه وابن عمه ، فضرب عنقه .
وقتل إسماعيل بن هبار بن الاسود ليلا ، وكان ادعى حيلة فخرج مصرخا لمن استصرخه ، فقتل ، فاتهم به مصعب بن عبد الله بن عبد الرحمن ، فأحلفه معاويه خمسين يمينا ، وخلى سبيله ، فقال الشاعر : ولا أجيب بليل داعيا أبدا * * أخشى الغرور كما غر ابن هبار باتوا يجرونه في الحش منعقرا * * بئس الهدية لابن العم والجار وقتل عبد الرحمن بن العوام بن خويلد في خلافة عمر بن الخطاب في بعض المغازي ، وقتل ابنه عبد الرحمن يوم الدار مع عثمان ، فعبد الله بن عبد الرحمن بن العوام بن خويلد قتيل ابن قتيل ابن قتيل ابن قتيل أربعة .
ومن قتلاهم عيسى بن مصعب ابن الزبير ، قتل بين يدى أبيه بمسكن (1) في حرب عبد الملك ، وكان مصعب [ يكنى أبا عيسى وأبا عبد الله وفيه يقول الشاعر ] : لتبك أبا عيسى وعيسى كلاهما * * موالي قريش كهلها وصميمها ومنهم مصعب بن عكاشة بن مصعب بن الزبير ، قتل يوم قديد في حرب الخوارج ، وقد ذكره الشاعر فقال : قمن فاندبن رجالا قتلوا * * بقديد ولنقصان العدد ثم لا تعدلن فيها مصعبا * * حين يبكى من قتيل بأحد إنه قد كان فيها باسلا * * صارما يقدم إقدام الاسد ومنهم خالد بن عثمان بن خالد بن الزبير ، خرج مع محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن ، فقتله أبو جعفر وصلبه .
ومنهم عتيق بن عامر بن عبد الله بن الزبير ، قتل بقديد أيضا ، وسمي عتيقا باسم جده أبى بكر الصديق .
__________
(1) مسكن ، كمسجد : موضع بالكوفة .(15/250)
قلت : هذا أيضا من تحامل أبى عثمان ، هلا ذكر قتلى الطف وهم عشرون سيدا من بيت واحد قتلوا في ساعة واحدة ! وهذا ما لم يقع مثله في الدنيا لا في العرب ولا في العجم .
ولما قتل حذيفة بن بدر يوم الهباءة (1) وقتل معه ثلاثة أو أربعة من أهل بيته ضربت العرب بذلك الامثال واستعظموه ، فجاء يوم الطف ، " جرى الوادي فطم على القري (2) " .
وهلا عدد القتلى من آل أبى طالب فإنهم إذا عدوا الى أيام أبى عثمان كانوا عددا كثيرا أضعاف ما ذكره من قتلى الاسديين ! قال أبو عثمان : وإن كان الفخر والفضل في الجود والسماح فمن مثل عبد الله بن جعفر بن أبى طالب ! ومن مثل عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب ! وقد اعترضت الاموية هذا الموضع فقالت : إنما كان عبد الله بن جعفر يهب ما كان معاوية ويزيد يهبان له ، فمن فضل جودنا جاد .
قالوا : ومعاوية أول رجل في الارض وهب ألف ألف درهم ، وابنه أول من ضاعف ذلك ، فإنه كان يجيز الحسن والحسين ابني علي عليه السلام في كل عام لكل واحد منهما بألف ألف درهم ، وكذلك كان يجيز عبد الله بن العباس وعبد الله بن جعفر ، فلما مات وقام يزيد وفد عليه عبد الله بن جعفر ، فقال له : إن أمير المؤمنين معاوية كان يصل رحمي في كل سنة بألف ألف درهم ، قال : فلك ألفا ألف درهم ، فقال : بأبى أنت وأمى ! أما إنى ما قلتها لابن انثى قبلك ، قال : فلك أاربعة آلاف ألف درهم .
وهذا الاعتراض ساقط ، لان ذلك إن صح لم يعد جودا ولا جائزة ولا صلة رحم ، هؤلاء
__________
(1) يوم الهباءة من أيام العرب المشهورة .
(2) قال صاحب مجمع الامثال 1 : 158 " أي جرى سيل الوادي فطم ، أي دفن ، يقال : طم السيل الركبة ، أي دفنها .
والقرى : مجرى الماء في الروضة والجمع أقرية ...
أي أتى على على القرى ، يعني أهلكه بأن دفنه .
(*)(15/251)
قوم كان يخافهم على ملكه ، ويعرف حقهم فيه ، وموقعهم من قلوب الامة ، فكان في ذلك تدبيرا ، ويريع (1) أمورا ، ويصانع عن دولته وملكه ، ونحن لم نعد قط ما أعطى خلفاء بنى هاشم قوادهم وكتابهم وبنى عمهم جودا ، فقد وهب المأمون للحسن بن سهل غلة عشرة آلاف ألف فما عد ذلك منه مكرمة ، وكذلك كل ما يكون داخلا في باب التجارة واستمالة القلوب ، وتدبير الدولة ، وإنما يكون الجود ما يدفعه الملوك في الوفود والخطباء والشعراء والاشراف والادباء والسمار ونحوهم ، ولو لا ذلك لكان الخليفة إذا وفى الجند أعطياتهم احتسب ذلك في جوده ، فالعمالات شئ والاعطاء على دفع المكروه شئ ، والتفضل والجود شئ .
ثم إن الذين أعطاهم معاوية ويزيد هو بعض حقهم ، والذى فضل عليهما أكثر مما خرج منهما .
وإن أريد الموازنة بين ملوك بنى العباس وملوك بنى أميه في العطاء افتضح بنو أمية وناصروهم فضيحة ظاهرة ، فإن نساء خلفاء بنى عباس أكثر معروفا من رجال بنى أمية ، ولو ذكرت معروف أم جعفر وحدها لاتى ذلك على جميع صنائع بنى مروان ، وذلك معروف ، ولو ذكر معروف الخيزران وسلسبيل لملئت الطوامير الكثيرة به ، وما نظن خالصة مولاتهم إلا فوق أجواد أجوادهم ، وإن شئت أن تذكر مواليهم وكتابهم فاذكر عيسى بن ماهان ، وابنه عليا ، وخالد بن برمك وابنه يحيى ، وابنه جعفرا والفضل وكاتبهم منصور بن زياد ومحمد بن منصور وفتى العسكر ، فإنك تجد لكل واحد من هؤلاء ما يحيط بجميع صنائع بنى عبد شمس .
فأما ملوك الاموية فليس منهم إلا من كان يبخل على الطعام ، وكان جعفر بن سليمان كثيرا ما يذكر ذلك ، وكان معاوية يبغض الرجل النهم على مائدته ، وكان
__________
(1) يريع : يزيد .
(*)(15/252)
المنصور إذا ذكرهم يقول : كان عبد الملك جبارا لا يبالي ما صنع ، وكان الوليد مجنونا ، وكان سليمان همه بطنه وفرجه ، وكان عمر أعور بين عميان ، وكان هشام رجل القوم ، وكان لا يذكر ابن عاتكة ، ولقد كان هشام مع ما استثناه به يقول : هو الاحول السراق ، ما زال يدخل إعطاء الجند شهرا في شهر وشهرا في شهر ، حتى أخذ لنفسه مقدار رزق سنة ، وأنشده أبو النجم العجلى أرجوزته التى أولها : * الحمد لله الوهوب المجزل * فما زال يصفق بيديه استحسانا لها حتى صار إلى ذكر الشمس ، فقال : * والشمس في الافق كعين الاحول * فأمر بوجء (1) عنقه وإخراجه ، وهذا ضعف شديد وجهل عظيم .
وقال خاله إبراهيم بن هشام المخزومى : ما رأيت من هشام خطأ قط إلا مرتين : حدا به الحادى مرة فقال : إن عليك أيها البختي * * أكرم من تمشي به المطي فقال : صدقت .
وقال مرة : والله لاشكون سليمان يوم القيامة إلى أمير المؤمنين عبد الملك .
وهذا ضعف شديد وجهل مفرط .
وقال أبو عثمان : وكان هشام يقول : والله إنى لاستحيي أن أعطى رجلا أكثر من أربعة آلاف درهم ، ثم أعطى عبد الله بن الحسن أربعة آلاف دينار فاعتدها في جوده وتوسعه ، وإنما اشترى بها ملكه ، وحصن بها عن نفسه وما في يديه .
قال له أخوه مسلمة : أتطمع أن تلي الخلافة وأنت بخيل جبان ! فقال : ولكني حليم عفيف ، فاعترف بالجبن والبخل ، وهل تقوم الخلافه مع واحد منهما ! وإن قامت فلا تقوم إلا مع الخطر العظيم ، والتغرير الشديد .
ولو سلمت من الفساد لم تسلم من العيب .
__________
(1) الوجء : الضرب .
(*)(15/253)
ولقد قدم المنصور عليهم عمر بن عبد العزيز بقوله : أعور بين عميان ، وزعمتم أنه كان ناسكا ورعا تقيا ، فكيف وقد جلد خبيب بن عبد الله بن الزبير مائة جلدة ، وصب على رأسه جرة من ماء بارد في يوم شات ، حتى كز (1) فمات ، فما أقر بدمه ، ولا خرج إلى وليه من حقه ، ولا أعطى عقلا ولا قودا ، ولا كان خبيب ممن أتت عليه حدود الله وأحكامه وقصاصه ، فيقال كان مطيعا بإقامتها ، وأنه أزهق الحد نفسه ! واحتسبوا الضرب كان أدبا وتعزيرا ، فما عذره في الماء البارد في الشتاء ، على أثر جلد شديد ! ولقد بلغه أن سليمان بن عبد الملك يوصي ، فجاء حتى جلس على طريق من يجلس عنده أو يدخل إليه ، فقال لرجاء بن حيوة في بعض من يدخل ومن يخرج : نشدتك الله أن تذكرني لهذا الامر ، أو تشير بي في هذا الشأن ، فو الله ما لي عليه من طاقة ! فقال له رجاء : قاتلك الله ، ما أحرصك عليها ! ولما جاء الوليد بن عبد الملك بنعي الحجاج ، قال له الوليد : مات الحجاج يا أبا حفص ؟ فقال : وهل كان الحجاج إلا رجلا منا أهل البيت ! وقال في خلافته : لو لا بيعة في أعناق الناس ليزيد بن عاتكة لجعلت هذا الامر شورى بين صاحب الاعوص إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد الاشدق وبين أحمس قريش القاسم بن محمد بن أبى بكر ، وبين سالم بن عبد الله بن عمر ، فما كان عليه من الضرر والحرج ، وما كان عليه من الوكف (2) والنقص أن لو قال : بين علي بن العباس وعلي بن الحسين بن علي ! وعلى أنه لم يرد التيمز ولا العدوي ، وإنما دبر الامر للاموي ، ولم يكن عنده أحد من هاشم يصلح للشورى ، ثم دبر الامر ليبايع لاخيه أبى بكر بن عبد العزيز من بعده حتى عوجل بالسم .
وقدم عليه عبد الله بن حسن بن حسن ، فلما رأى كماله وبيانه وعرف نسبه ومركبه
__________
(1) كز ، أي أصابه كزاز ، كغراب ورمان ، وهو داء يجيئ من شدة البرد .
(2) الوكف ، محركة : الاثم .
(*)(15/254)
وموضعه وكيف ذلك من قلوب المسلمين وفي صدور المؤمنين لم يدعه يبيت بالشام ليلة واحدة ، وقال له : الحق بأهلك ، فإنك لم تغنهم شيئا هو أنفس منك ولا أرد عليهم من حياتك .
أخاف عليك طواعين الشام ، وستلحقك الحوائج على ما تشتهي وتحب .
وإنما كره أن يروه ويسمعوا كلامه ، فلعله يبذر في قلوبهم بذرا ، ويغرس في صدورهم غرسا ، وكان أعظم الخلق قولا بالجبر حتى يتجاوز الجهمية ، ويربي على كل ذي غاية ، صاحب شنعة ، وكان يصنع في ذلك الكتب ، مع جهله بالكلام وقلة اختلافه إلى أهل النظر .
وقال له شوذب الخارجي : لم لا تلعن رهطك وتذكر أباك إن كانوا عندك ظلمة فجرة ؟ فقال عمر : متى عهدك بلعن فرعون ! قال ما لي به عهد .
قال : أفيسعك أن تمسك عن لعن فرعون ، ولا يسعنى أن أمسك عن لعن آبائي ! فرأى أنه قد خصمه (1) وقطع حجته ، وكذلك يظنه كل من قصر عن مقدار العالم ، وجاوز مقدار الجاهل ، وأي شبه لفرعون بأل مروان وآل أبى سفيان ! هؤلاء قوم لهم حزب وشيعة ، وناس كثير يدينون بتفضيلهم وقد اعتورتهم الشبه في أمرهم ، وفرعون على خلاف ذلك ، وضده لا شيعة له ولا حزب ولا نسل ولا موالي ولا صنائع ولا في أمره شبهة .
ثم إن عمر ظنين (2) في أمر أهله فيحتاج إلى غسل ذلك عنه بالبراءة منهم ، وشوذب ليس بظنين في أمر فرعون ، وليس الامساك عن لعن فرعون والبراءة منه مما يعرفه الخوارج ، فكيف استويا عنده ! وشكا إليه رجل من رهطه دينا فادحا ، وعيالا كثيرا ، فاعتل عليه ، فقال له : فهلا اعتللت على عبد الله بن الحسن ! قال : ومتى شاورتك في أمري ! قال : أو مشيرا
__________
(1) خصمه : غلبه .
(2) الظنين : المتهم .
(*)(15/255)
تراني ! قال : أو هل أعطيته إلا بعض حقه ! قال : ولم قصرت عن كله ؟ فأمر بإخراجه وما زال إلى أن مات محروما منه .
وكان عمال أهله على البلاد عماله وأصحابه .
والذى حسن أمره ، وشبه على الاغبياء حاله ، أنه قام بعقب قوم قد بدلوا عامة شرائع الدين وسنن النبي صلى الله عليه وآله ، وكان الناس قبله من الظلم والجور والتهاون بالاسلام في أمر صغر في جنبه ما عاينوا منه ، وألفوه عليه ، فجعلوه بما نقص من تلك الامور الفظيعة في عداد الائمة الراشدين ، وحسبك من ذلك أنهم كانوا يلعنون عليا عليه السلام على منابرهم ، فلما نهى عمر عن ذلك عد محسنا ، ويشهد لذلك قول كثير فيه : وليت فلم تشتم عليا ولم تخف * * بريا ولم تتبع مقالة مجرم وهذا الشعر يدل على أن شتم علي عليه السلام قد كان لهم عادة ، حتى مدح من كف عنه ، ولما ولي خالد بن عبد الله القسرى مكة - وكان إذا خطب بها لعن عليا والحسن والحسين عليهم السلام - قال عبيد الله بن كثير السهمي : لعن الله من يسب عليا * * وحسينا من سوقة وإمام أيسب المطهرون جدودا * * والكرام الاباء والاعمام يأمن الطير والحمام ولا يأ * * من آل الرسول عند المقام ! طبت بيتا وطاب أهلك أهلا * * أهل بيت النبي والاسلام ! رحمة الله والسلام عليهم * * كلما قام قائم بسلام ! وقام عبد الله بن الوليد بن عثمان بن عفان - وكان ممن يناله بزعمهم إلى هشام بن عبد الملك ، وهو يخطب على المنبر بعرفة - فقال : يا أمير المؤمنين ، هذا يوم كانت(15/256)
الخلفاء تستحب فيه لعن أبى تراب (1) ، فقال هشام : ليس لهذا جئنا ، ألا ترى أن ذلك يدل على أنه قد كان لعنه فيهم فاشيا ظاهرا ، وكان عبد الله بن الوليد هذا يلعن عليا عليه السلام ويقول : قتل جدي جميعا ، الزبير وعثمان .
وقال المغيرة وهو عامل معاوية يومئذ لصعصعة بن صوحان : قم فالعن عليا ، فقام فقال : إن أميركم هذا أمرني أن ألعن عليا فالعنوه لعنة الله ! وهو يضمر المغيرة .
وأما عبد الملك فحسبك من جهله تبديله شرائع الدين والاسلام ، وهو يريد أن يلي أمور أصحابها بذلك الدين بعينه ، وحسبك من جهله أنه رأى من أبلغ التدبير في منع بني هاشم الخلافة أن يلعن علي بن أبي طالب عليه السلام على منابره ، ويرمى بالفجور في مجالسه ، وهذا قرة عين عدوه ، وعير وليه ، وحسبك من جهله قيامه على منبر الخلافة قائلا : إني والله ما أنا بالخليفة المستضعف ولا بالخليفة المداهن ، ولا بالخليفة المأفون (2) .
وهؤلاء سلفه وأئمته ، وبشفعتهم قام ذلك المقام ، وبتقدمهم وتأسيسهم نال تلك الرياسة ، ولو لا العاده المتقدمة ، والاجناد المجندة ، والصنائع القائمة ، لكان أبعد خلق الله من ذلك المقام ، وأقربهم إلى المهلكة إن رام ذلك الشرف .
وعنى بالمستضعف عثمان ، وبالمداهن معاوية ، وبالمأفون يزيد بن معاوية ، وهذا الكلام نقض لسلطانه ، وعداوة لاهله ، وإفساد لقلوب شيعته ، ولو لم يكن من عجز رأيه إلا أنه لم يقدر على إظهار قوته ، إلا بأن يظهر عجز أئمته لكفاك ذلك منه .
فهذا ما ذكرته هاشم لانفسها .
[ مفاخر بني أمية ] قالت أمية : لنا من نوادر الرجال في العقل والدهاء والادب والمكر ما ليس لاحد ،
__________
(1) أبو تراب ، من كنى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب .
(2) المأفون : الضعيف .
(*)(15/257)
ولنا من الاجواد وأصحاب الصنائع ما ليس لاحد ، زعم الناس أن الدهاة أربعة : معاوية بن أبي سفيان ، وزياد ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، فمنا رجلان ، ومن سائر الناس رجلان .
ولنا في الاجواد سعيد بن العاص ، وعبد الله بن عامر ، لم يوجد لهما نظير إلى الساعة .
وأما نوادر الرجال في الرأي والتدبير فأبو سفيان بن حرب ، وعبد الملك بن مروان ، ومسلمه بن عبد الملك ، وعلى أنهم يعدون في الحلماء والرؤساء ، فأهل الحجاز يضربون المثل في الحلم بمعاوية ، كما يضرب أهل العراق المثل فيه بالاحنف .
فأما الفتوح والتدبير في الحرب فلمعاوية غير مدافع ، وكان خطيبا مصقعا ، ومجربا مظفرا ، وكان يجيد قول الشعر إذا آثر أن يقوله ، وكان عبد الملك خطيبا حازما مجربا مظفرا ، وكان مسلمة شجاعا مدبرا وسائسا مقدما ، وكثير الفتوح كثير الادب ، وكان يزيد بن معاوية خطيبا شاعرا ، وكان الوليد بن يزيد خطيبا شاعرا ، وكان مروان بن الحكم وعبد الرحمن بن الحكم شاعرين ، وكان بشر بن مروان شاعرا ناسبا ، وأديبا عالما ، وكان خالد بن يزيد بن معاوية خطيبا شاعرا ، جيد الرأي ، أديبا كثير الادب ، حكيما ، وكان أول من أعطى التراجمة والفلاسفة ، وقرب أهل الحكمة ورؤساء أهل كل صناعة ، وترجم كتب النجوم والطب والكيمياء والحروب والاداب والالات والصناعات .
قالوا : وإن ذكرت البأس والشجاعة فالعباس بن الوليد بن عبد الملك ، ومروان بن محمد ، وأبوه محمد بن مروان بن الحكم ، وهو صاحب مصعب ، وهؤلاء قوم لهم آثار بالروم لا تجهل ، وآثار بأرمينية لا تنكر ، ولهم يوم العقر ، شهده مسلمة والعباس بن الوليد .
قالوا : ولنا الفتوح العظام ، ولنا فارس ، وخراسان ، وأرمينية ، وسجستان ، وإفريقية ، وجميع فتوح عثمان ، فأما فتوح بنى مروان فأكثر وأعم وأشهر من أن(15/258)
تحتاج إلى عدد أو إلى شاهد .
والذين بلغوا في ذلك الزمان أقصى ما يمكن صاحب خف وحافر أن يبلغه ، حتى لم يحتجز منهم إلا ببحر أو خليج بحر أو غياض أو عقاب أو حصون وصياصي ثلاثة رجال : قتيبة بن مسلم بخراسان ، وموسى بن نصير بإفريقية ، والقاسم بن محمد بن القاسم الثقفي بالسند والهند ، وهؤلاء كلهم عمالنا وصنائعنا .
ويقال : إن البصرة كانت صنائع ثلاثة رجال : عبد الله بن عامر ، وزياد ، والحجاج ، فرجلان من أنفسنا والثالث صنيعنا .
قالوا : ولنا في الاجواد وأهل الاقدار بنو عبد الله بن خالد بن أسيد بن أمية ، وأخوه خالد ، وفي خالد يقول الشاعر : إلى خالد حتى أنخنا بخالد * * فنعم الفتى يرجى ونعم المؤمل ! ولنا سعيد بن خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد ، وهو عقيد الندى ، كان يسبت ستة أشهر ويفيق ستة أشهر ، ويرى كحيلا من غير اكتحال ، ودهينا من غير تدهين ، وله يقول موسى شهوات : أبا خالد أعني سعيد بن خالد * * أخا العرف لا أعنى ابن بنت سعيد (1) ولكننى أعنى ابن عائشة الذى * * أبو أبويه خالد بن أسيد عقيد الندى ما عاش يرضى به الندى * * فإن مات لم يرض الندى بعقيد (2) قالوا : وإنما تمكن فينا الشعر وجاد ، ليس من قبل أن الذين مدحونا ما كانوا غير من مدح الناس ، ولكن لما وجدوا فينا مما يتسع لاجله القول ، ويصدق فيه القائل .
قد مدح عبد الله بن قيس الرقيات من الناس : آل الزبير عبد الله ومصعبا وغيرهما ، فكان يقول كما يقول غيره ، فلما صار إلينا قال : ما نقموا من بني أمية إلا * * أنهم يحلمون إن غضبوا (3)
__________
(1) الاغاني 3 : 352 (طبعة دار الكتب) .
(2) عقيد الندى : الكريم بطبعه .
(3) ديوانه 4 .
(*)(15/259)
وأنهم معدن الملوك فما * * تصلح إلا عليهم العرب وقال نصيب : من النفر الشم الذين إذا انتجوا * * أقرت لنجواهم لؤي بن غالب (1) يحيون بسامين طورا وتارة * * يحيون عباسين شوس الحواجب (2) وقال الاخطل : شمس العداوة حتى يستقاد لهم * * وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا (3) قالوا : وفينا يقول شاعركم والمتشيع لكم ، الكميت بن زيد : فالان صرت إلى أمية * * والامور لها مصاير (4) وفي معاوية يقول أبو الجهم العدوي : نقلبه لنخبر حالتيه * * فنخبر منهما كرما ولينا نميل على جوانبه كأنا * * إذا ملنا نميل على أبينا وفيه يقول : تريع إليه هوادى الكلام * * إذا ضل خطبته المهذر (5) قالوا : وإذا نظرتم في امتداح الشعراء عبد العزيز بن مروان عرفتم صدق ما نقوله .
قالوا : وفي إرسال النبي صلى الله عليه وآله إلى أهل مكة عثمان ، واستعماله عليها عتاب بن أسيد وهو ابن اثنتين وعشرين سنة دليل على موضع المنعة أن تهاب العرب وتعز قريش ، وقال النبي صلى الله عليه وآله قبل الفتح : " فتيان أضن بهما على النار : عتاب بن أسيد ، وجبير بن مطعم " فولى عتابا ، وترك جبير بن مطعم .
__________
(1) الشم : جمع أشم ، وهو كناية عن الرفعة والعلو وشرف النفس .
(2) شوس : جمع أشوس ، والشوس بالتحريك : النظر بمؤخر العين تكبرا وغيظا .
(3) ديوانه 14 ، وشمس : جمع شموس ، وهو الرجل العسر في عداوته ، الشديد الخلاف على من عانده .
(4) الاغاني 15 : 111 ، وروايته : " والامور إلى المصاير " .
(5) المهذر : الكثير الخطأ في الكلام .
(*)(15/260)
وقال الشعبى : لو ولد لي مائة ابن لسميتهم كلهم عبد الرحمن ، للذى رأيت في قريش من أصحاب هذا الاسم ، ثم عد عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وعبد الرحمن بن الحكم بن أبى العاص ، فأما عبد الرحمن بن عتاب فإنه صاحب الخيل يوم الجمل ، وهو صاحب الكف والخاتم ، وهو الذى مر به علي وهو قتيل فقال : لهفي عليك يعسوب قريش ، هذا اللباب المحض من بني عبد مناف ! فقال له قائل : لشد ما أتيته اليوم يا أمير المؤمنين ! قال : أنه قام عني وعنه نسوة لم يقمن عنك .
قالوا : ولنا من الخطباء معاوية بن أبى سفيان ، أخطب الناس قائما وقاعدا ، وعلى منبر ، وفي خطبة نكاح .
وقال عمر بن الخطاب : ما يتصعدني شئ من الكلام كما يتصعدني خطبة النكاح ، وقد يكون خطيبا من ليس عنده في حديثه ووصفه للشئ احتجاجه في الامر لسان بارع .
وكان معاوية يجري مع ذلك كله .
قالوا : ومن خطبائنا يزيد بن معاوية كان أعرابي اللسان ، بدوي اللهجة ، قال معاوية : وخطب عنده خطيب فأجاد : لارمينه بالخطيب الاشدق يريد يزيد بن معاوية ، ومن خطبائنا سعيد بن العاص ، لم يوجد كتحبيره تحبير ، ولا كارتجاله ارتجال .
ومنا عمرو بن سعيد الاشدق ، لقب بذلك لانه حيث دخل على معاوية وهو غلام بعد وفاة أبيه ، فسمع كلامه ، فقال : إن ابن سعيد هذا الاشدق .
وقال له معاوية : إلى من أوصى بك أبوك ؟ قال : إن أبى أوصى إلي ولم يوص بى ، قال : فبم أوصى إليك ؟ قال : ألا يفقد إخوانه منه إلا وجهه .
قالوا : ومنا سعيد بن عمرو بن سعيد ، خطيب ابن خطيب ابن خطيب ، تكلم الناس عند عبد الملك قياما وتكلم قاعدا .
قال عبد الملك : فتكلم وأنا والله أحب عثرته وإسكاته ، فأحسن حتى استنطقته واستزدته ، وكان عبد الملك خطيبا ، خطب(15/261)
الناس مرة فقال : ما أنصفتمونا معشر رعيتنا ، طلبتم منا أن نسير فيكم وفي أنفسنا سيرة أبى بكر وعمر في أنفسهما ورعيتهما ، ولم تسيروا فينا ولا في أنفسكم سيرة رعية أبى بكر وعمر فيهما وفي أنفسهما ، ولكل من النصفة نصيب .
قالوا : فكانت خطبته نافعه .
قالوا : ولنا زياد وعبيد الله بن زياد ، وكانا غنيين في صحة المعاني ، وجودة اللفظ ، ولهما كلام كثير محفوظ .
قالوا : ومن خطبائنا سليمان بن عبد الملك والوليد بن يزيد بن عبد الملك .
ومن خطبائنا ونساكنا يزيد بن الوليد الناقص .
قال عيسى بن حاضر : قلت لعمرو بن عبيد : ما قولك في عمر بن عبد العزيز ؟ فكلح (1) ، ثم صرف وجهه عني .
قلت : فما قولك في يزيد الناقص ؟ فقال : أو الكامل ، قال بالعدل ، وعمل بالعدل ، وبذل نفسه وقتل ابن عمه في طاعة ربه ، وكان نكالا لاهله ، ونقص من أعطياتهم ما زادته الجبابرة ، وأظهر البراءة من آبائه ، وجعل في عهده شرطا ولم يجعله جزما ، لا والله لكانه ينطق عن لسان أبى سعيد - يريد الحسن البصري - قال : وكان الحسن من أنطق الناس .
قالوا : وقد قرئ في الكتب القديمة : يا مبذر الكنوز ، يا ساجدا بالاسحار ، كانت ولايتك رحمة بهم ، وحجة عليهم .
قالوا : هو يزيد بن الوليد .
ومن خطبائنا ثم من ولد سعيد بن العاص عمرو بن خولة ، كان ناسبا فصيحا خطيبا .
وقال ابن عائشة الاكبر : ما شهد خطيبا قط إلا ولجلج هيبة له ومعرفة بانتقاده .
ومن خطبائنا عبد الله بن عامر ، وعبد الاعلى بن عبد الله بن عامر ، وكانا من أكرم الناس ، وأبين الناس ، كان مسلمة بن عبد الملك يقول : إنى لانحي كور عمامتى على أذنى لاسمع كلام عبد الاعلى .
__________
(1) كلح ، كمنع : كشر في عبوس .
(*)(15/262)
وكانوا يقولون : أشبه قريش نعمة وجهارة واقتدارا وبيانا بعمرو بن سعيد عبد الاعلى بن عبد الله .
قالوا : ومن خطبائنا ورجالنا الوليد بن عبد الملك ، وهو الذى كان يقال له فحل بني مروان ، كان يركب معه ستون رجلا لصلبه .
ومن ذوي آدابنا وعلمائنا وأصحاب الاخبار ورواية الاشعار والانساب بشر بن مروان أمير العراق .
قالوا : ونحن أكثر نساكا منكم ، منا معاوية بن يزيد بن معاوية ، وهو الذى قيل له في مرضه الذى مات فيه : لو أقمت للناس ولى عهد ؟ قال : ومن جعل لي هذا العهد في أعناق الناس ؟ والله لو لا خوفي الفتنه لما أقمت عليها طرفة عين ، والله لا أذهب بمرارتها ، وتذهبون بحلاوتها ، فقالت له أمه : لوددت أنك حيضة ، قال : أنا والله وددت ذلك .
قالوا : ومنا سليمان بن عبد الملك الذى هدم الديماس (1) ورد المسيرين ، وأخرج المسجونين ، وترك القريب .
واختار عمر بن عبد العزيز ، وكان سليمان جوادا خطيبا جميلا صاحب سلامة ودعة وحب للعافية وقرب من الناس ، حتى سمى المهدي ، وقيلت الاشعار في ذلك .
قالوا : ولنا عمر بن عبد العزيز ، شبه عمر بن الخطاب ، قد ولده عمر ، وباسمه سمي ، وهو أشج قريش المذكور في الاثار المنقولة في الكتب ، العدل في أشد الزمان ، وظلف (2) نفسه بعد اعتياد النعم ، حتى صار مثلا ومفخرا .
وقيل للحسن : أما رويت أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : لا يزداد الزمان إلا شدة ، والناس إلا شحا ، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق ! قال : بلى ، قيل : فما بال عمر بن عبد العزيز وعدله
__________
(1) الديماس : سجن كان للحجاج .
(2) ظلف نفسه : منعها .
(*)(15/263)
وسيرته ! فقال لا بد للناس من متنفس .
وكان مذكورا مع الخطباء ، ومع النساك ، ومع الفقهاء .
قالوا : ولنا ابنه عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز ، كان ناسكا زكيا طاهرا ، وكان من أتقى الناس وأحسنهم معونة لابيه ، وكان كثيرا ما يعظ أباه وينهاه .
قالوا : ولنا من لا نظير له في جميع أموره ، وهو صاحب الاعوص ، إسماعيل بن أمية ابن عمرو بن سعيد بن العاص ، وهو الذى قال فيه عمر بن عبد العزيز : لو كان إلي من الامر شئ لجعلتها شورى بين القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وصاحب الاعوص .
قالوا : ومن نساكنا أبو حراب من بنى أمية الصغرى ، قتله داود بن علي ، ومن نساكنا يزيد بن محمد بن مروان ، كان لا يهدب (1) ثوبا ولا يصبغه ، ولا يتخلق بخلوق (2) ، ولا اختار طعاما على طعام ، ما أطعم أكله ، وكان يكره التكلف ، وينهى عنه .
قالوا : ومن نساكنا أبو بكر بن عبد العزيز بن مروان ، أراد عمر أخوه أن يجعله ولي عهده لما رأى من فضله وزهده ، فسما فيهما جميعا .
ومن نساكنا عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان ، كان يصلى كل يوم ألف ركعة ، و كان كثير الصدقة ، وكان إذا تصدق بصدقه قال : اللهم إن هذا لوجهك ، فخفف عنى الموت .
فانطلق حاجا ، ثم تصبح بالنوم فذهبوا ينبهونه للرحيل ، فوجدوه ميتا ، فأقاموا عليه المأتم بالمدينة ، وجاء أشعب فدخل إلى المأتم وعلى رأسه كبة من طين ، فالتدم (3) مع النساء ، وكان إليه محسنا .
ومن نساكنا عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية بن أبى سفيان .
__________
(1) يهدب : يقطع .
(2) الخلوق : الطيب .
(3) التدم مع النساء : ضرب صدره معهن في النياحة .
(*)(15/264)
قالوا : فنحن نعد من الصلاح والفضل ما سمعتموه ، وما لم نذكره أكثر ، وأنتم تقولون : أمية هي الشجرة الملعونة في القرآن ، وزعمتم أن الشجرة الخبيثة لا تثمر الطيب ، كما أن الطيب لا يثمر الخبيث ، فإن كان الامر كما تقولون ، فعثمان بن عفان ثمرة خبيثة .
وينبغي أن يكون النبي صلى الله عليه وآله دفع ابنتيه إلى خبيث ، وكذلك يزيد بن أبى سفيان صاحب مقدمة أبى بكر الصديق على جيوش الشام ، وينبغى لابي العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله أن يكون كذلك ، وينبغي لمحمد بن عبد الله المدبج أن يكون كذلك ، وإن ولدته فاطمة عليها السلام ، لانه من بني أمية ، وكذلك عبد الله بن عثمان بن عفان سبط رسول الله صلى الله عليه وآله ، الذى مات بعد أن شدن (1) ونقر الديك عينه ، فمات لانه من بنى أمية ، وكذلك ينبغى أن يكون عتاب بن أسيد بن أبى العيص بن أمية وإن كان النبي صلى الله عليه وآله ولاه مكة أم القرى وقبلة الاسلام ، مع قوله عليه السلام " فتيان أضن بهما عن النار : عتاب ابن أسيد وجبير بن مطعم " .
وكذلك ينبغى أن يكون عمر بن عبد العزيز شبيه عمر بن الخطاب كذلك ، وكذلك معاوية بن يزيد بن معاوية ، وكذلك يزيد الناقص ، وينبغى ألا يكون النبي صلى الله عليه وسلم عد عثمان في العشرة الذين بشرهم بالجنة ، وينبغى أن يكون خالد بن سعيد بن العاص شهيد يوم مرج الصفر (2) والحبيس في سبيل الله ، ووالي النبي صلى الله عليه وسلم على اليمن ، ووالى أبى بكر على جميع أجناد الشام ، ورابع أربعة في الاسلام ، والمهاجر إلى أرض الحبشه كذلك ، وكذلك أبان بن سعيد بن العاص المهاجر إلى المدينة ، والقديم في الاسلام ، والحبيس على الجهاد ، ويجب أن يكون ملعونا خبيثا ، وكذلك أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وهو بدري من المهاجرين الاولين ، وكذلك أمامة بنت أبي العاص بن الربيع ، وأمها زينب بنت
__________
(1) شدن : قوي وترعرع ، وأصله في الظباء .
(2) مرج الصفر : موضع .
(*)(15/265)
رسول الله صلى الله عليه وآله ، وكذلك أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط ، وكان النبي صلى الله عليه وآله يخرجها من المغازى ، ويضرب لها بسهم ، ويصافحها ، وكذلك فاطمة بنت أبى معيط ، وهى من مهاجرة الحبشة .
قالوا : ومما نفخر به وليس لبنى هاشم مثله ، أن منا رجلا ولي أربعين سنة منها عشرون سنة خليفة ، وهو معاوية بن أبى سفيان .
ولنا أربعة أخوة خلفاء : الوليد ، وسليمان ، وهشام ، بنو عبد الملك ، وليس لكم ويزيد ، إلا ثلاثة أخوة : محمد ، وعبد الله ، وأبى إسحاق أولاد هارون .
قالوا : ومنا رجل ولده سبعة من الخلفاء وهو عبد الله بن يزيد بن عبد الملك بن مروان ، أبوه يزيد بن عاتكة خليفة ، وجده عبد الملك خليفة ، وأبو جده مروان ابن الحكم خليفة ، وجده من قبل عاتكة ابنة يزيد بن معاوية أبوها يزيد بن معاوية وهو خليفة ، ومعاوية بن أبى سفيان وهو خليفة ، فهؤلاء خمسة ، وأم عبد الله هذا عاتكة بنت عبد الله بن عثمان بن عفان ، وحفصة بنت عبد الله بن عمر بن الخطاب ، فهذان خليفتان ، فهذه سبعة من الخلفاء ولدوا هذا الرجل .
قالوا : ومنا امرأة أبوها خليفة ، وجدها خليفة ، وأبنها خليفة ، وأخوها خليفة ، وبعلها خليفة ، فهؤلاء خمسة ، وهى عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبى سفيان ، أبوها يزيد بن معاوية خليفة ، وجدها معاوية بن أبى سفيان خليفة ، وابنها يزيد بن عبد الملك بن مروان خليفة ، وأخوها معاوية بن يزيد خليفة ، وبعلها عبد الملك بن مروان خليفة .
قالوا : ومن ولد المدبج محمد بن عبد الله الاصغر امرأة ولدها النبي صلى الله عليه وآله وأبو بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير وهى عائشة بنت محمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان بن عفان ، وأمها خديجة بنت عثمان بن عروة بن الزبير ، وأم عروة أسماء ذات النطاقين بنت أبى بكر الصديق ، وأم محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان - وهو(15/266)
المدبج - فاطمة بنت الحسين بن علي عليه السلام ، وأم الحسين بن علي عليه السلام فاطمة بنت رسول الله صللى الله عليه وآله ، وأم فاطمة بنت الحسين بن علي عليهما السلام أم إسحاق بنت طلحة بن عبد الله ، وأم عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان ابنة عبد الله بن عمر بن الخطاب .
قالوا : ولنا في الجمال والحسن ما ليس لكم ، منا المدبج ، والديباج ، قيل ذلك لجماله .
ومنا المطرف ، ومنا الارجوان ، فالمطرف وهو عبد الله بن عمرو بن عثمان سمي المطرف لجماله ، وفيه يقول الفرزدق : نما الفاروق إنك وابن أروى * * أبوك فأنت منصدع النهار والمدبج هو الديباج ، كان أطول الناس قياما في الصلاة ، وهلك في سجن المنصور قالوا : ومنا ابن الخلائف الاربعة ، دعي بذلك وشهر به ، وهو المؤمل بن العباس ابن الوليد بن عبد الملك ، كان هو وأخوه الحارث ابني العباس بن الوليد من الفجاءة بنت قطري بن الفجاءة ، إمام الخوارج ، وكانت سبيت فوقعت إليه ، فلما قام عمر بن عبد العزيز أتت وجوه بني مازن وفيهم حاجب بن ذبيان المازني الشاعر ، فقال حاجب : أتيناك زوارا ووفدا إلى التى * * أضاءت فلا يخفى على الناس نورها أبوها عميد الحي جمعا وأمها * * من الحنظليات الكرام حجورها فإن تك صارت حين صارت فإنها * * إلى نسب زاك كرام نفيرها فبعث عمر بن عبد العزيز إلى العباس بن الوليد إما أن تردها إلى أهلها ، وإما أن تزوجها ، فقال قائل ذات يوم للمؤمل : يا بن الخلائف الاربعة ، قال : ويلك من الرابع !(15/267)
قال : قطري ، فأما الثلاثة فالوليد وعبد الملك ومروان ، وأما قطري فبويع بالخلافة ، وفيه يقول الشاعر : * وأبو نعامة سيد الكفار * قالوا : ومن أين صار محمد بن على بن عبد الله بن العباس أحق بالدعوة والخلافة من سائر إخوته ! ومن أين كان له أن يضعها في بيته دون أخوته ! وكيف صار بنو الاخ أحق بها من الاعمام ! وقالوا : إن يكن هذا الامر إنما يستحق بالميراث ، فالاقرب إلى العباس أحق ، وإن كان بالسن و التجربة فالعمومة بذلك أولى .
قالوا : فقد ذكرنا جملا من حال رجالنا في الاسلام ، وأما الجاهلية فلنا الاعياص والعنابس (1) .
ولنا ذو العصابة أبو أحيحة سعيد بن العاص كان إذا اعتم لم يعتم (2) بمكه أحد ، ولنا حرب بن أمية رئيس يوم الفجار ، ولنا أبو سفيان بن حرب رئيس أحد والخندق ، وسيد قريش كلها في زمانه .
وقال أبو الجهم بن حذيفة العدوي لعمر حين رأى العباس وأبا سفيان على فراشه دون الناس : ما نرانا نستريح من بني عبد مناف على حال ! قال عمر : بئس أخو العشيرة أنت ! هذا عم رسول الله صلى الله عليه وآله ، وهذا سيد قريش .
__________
(1) في الاغاني 1 : 14 (طبعة دار الكتب) بسنده عن الزبير بن بكار عن شيوخه : " الاعياص : العاص وأبو العاص والعيص وأبو العيص والعويص ، ومنهم العنابس ، وهم : حرب وأبو حرب وسفيان وأبو سفيان وعمرو وأبو عمرو ، وإنما سموا العنابس ، لانهم ثبتوا مع أخيهم حرب بن أمية بعكاظ ، وعقلوا أنفسهم وقاتلوا قتالا شديدا ، فشبهوا بالاسد ، والاسد يقال لها : العنابس ، واحدها عنبسة " .
(2) اعتم : أرخى عمامته .
(*)(15/268)
قالوا : ولنا عتبة بن ربيعة ، ساد مملقا ، ولا يكون السيد إلا مترفا ، لو لا ما رأوا عنده من البراعة والنبل والكمال .
وهو الذى لما تحاكمت بجيلة وكلب في منافرة جرير والفرافصة ، وتراهنوا بسوق عكاظ ، وصنعوا الرهن على يده دون جميع من شهد على ذلك المشهد ، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله ، ونظر إلى قريش مقبلة يوم بدر : " إن يكن منهم عند أحد خير فعند صاحب الجمل الاحمر " ، وما ظنك بشيخ طلبوا له من جميع العسكر عند المبارزة بيضة فلم يقدروا على بيضة يدخل رأسه فيها ، وقد قال الشاعر : * وأنا أناس يملا البيض هامنا * قالوا : وأمية الاكبر صنفان : الاعياص والعنابس ، قال الشاعر : من الاعياص أو من آل حرب * * أغر كغرة الفرس الجواد (1) سموا بذلك في حرب الفجار حين حفروا لارجلهم الحفائر وثبتوا فيها ، وقالوا : نموت جميعا أو نظفر .
وإنما سموا بالعنابس لانها أسماء الاسود ، وإنما سموا الاعياص لانها أسماء الاصول ، فالعنابس : حرب وسفيان وأبو سفيان وعمرو ، والاعياص : العيص ، وأبو العيص ، والعاص ، وأبو العاص وأبو عمرو ، ولم يعقب من العنابس إلا حرب ، وما عقب من الاعياص إلا العيص ، ولذلك كان معاوية يشكو القلة .
قالوا : وليس لبنى هاشم والمطلب مثل هذه القسمة ، ولا مثل هذا اللقب المشهور .
وهذا ما قالته أمية عن نفسها .
__________
(1) من أبيات في الاغاني 1 : 14 - 16 ، ونسبها إلى عبد الله بن فضالة الاسدي .(15/269)
[ ذكر الجواب عما فخرت به بنو أمية ] ونحن نذكر ما أجاب به أبو عثمان عن كلامهم ، ونضيف إليه من قبلنا أمورا لم يذكرها ، فنقول : قالت هاشم : أما ما ذكرتم من الدهاء والمكر فإن ذلك من أسماء فجار العقلاء ، وليس من أسماء أهل الصواب في الرأي من العقلاء والابرار ، وقد بلغ أبو بكر وعمر من التدبير وصواب الرأي ، والخبرة بالامور العامة ، وليس من أوصافهما ولا من أسمائهما أن يقال : كانا داهيين ، ولا كانا مكيرين .
وما عامل معاوية وعمرو بن العاص عليا عليه السلام قط بمعاملة إلا وكان علي عليه السلام أعلم بها منهما ، ولكن الرجل الذى يحارب ولا يستعمل إلا ما يحل له أقل مذاهب في وجوه الحيل والتدبير من الرجل الذى يستعمل ما يحل وما لا يحل ، وكذلك من حدث وأخبر ، أ لا ترى أن الكذاب ليس لكذبه غاية ، ولا لما يولد ويصنع نهاية ، والصدوق إنما يحدث عن شئ معروف ، ومعنى محدود ! ويدل على ما قلنا أنكم عددتم أربعة في الدهاء ، وليس واحد منهم عند المسلمين في طريق المتقين ، ولو كان الدهاء مرتبة والمكر منزلة لكان تقدم هؤلاء الجميع السابقين الاولين عيبا شديدا في السابقين الاولين ، ولو أن أنسانا أراد أن يمدح أبا بكر وعمر وعثمان وعليا ثم قال : الدهاة أربعة ، وعدهم ، لكان قد قال قولا مرغوبا عنه ، لان الدهاء والمكر ليس من صفات الصالحين ، وإن علموا من غامض الامور ما يجهله جميع العقلاء ، ألا ترى أنه قد يحسن أن يقال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله أكرم الناس ، وأحلم الناس ، وأجود الناس ، وأشجع الناس ، ولا يجوز أن يقال : كان أمكر الناس ، وأدهى الناس ، وإن علمنا أن علمه قد أحاط بكل مكر وخديعة ، وبكل أدب ومكيدة ! وأما ما ذكرتم من جود سعيد بن العاص وعبد الله بن عامر ، فأين أنتم من عبد الله بن جعفر ، وعبيد الله بن العباس ، والحسن بن علي وأين أنتم من جود خلفاء بني(15/270)
العباس ، كمحمد المهدي ، وهارون ، ومحمد بن زبيدة ، وعبد الله المأمون ، وجعفر المقتدر ! بل لعل جود بعض صنائع هؤلاء كبنى برمك وبنى الفرات ، أعظم من جود الرجلين اللذين ذكرتموهما ، بل من جميع ما جاء به خلفاء بني أمية .
وأما ما ذكرتم من حلم معاوية فلو شئنا أن نجعل جميع ساداتنا حلماء لكانوا محتملين لذلك ، ولكن الوجه في هذا ألا يشتق للرجل اسم إلا من أشرف أعماله وأكرم أخلاقه ، وإلا أن يتبين بذلك عند أصحابه حتى يصير بذلك اسما يسمى به ، ويصير معروفا به ، كما عرف الاحنف بالحلم ، وكما عرف حاتم بالجود ، وكذلك هرم ، قالوا : هرم الجواد ، ولو قلتم : كان أبو العاص بن أمية أحلم الناس ، لقلنا : ولعله يكون قد كان حليما ، ولكن ليس كل حلم يكون صاحبه به مذكورا ، ومن أشكاله بائنا .
وإنكم لتظلمون خصومكم في تسميتكم معاوية بالحلم ، فكيف من دونه ، لان العرب تقول : أحلم الحلمين ألا يتعرض ثم يحلم ، ولم يكن في الارض رجل أكثر تعرضا من معاوية ، والتعرض هو السفه ، فإن ادعيتم أن الاخبار التى جاءت في تعرضه كلها باطلة ، فإن لقائل أن يقول : وكل خبر رويتموه في حلمه باطل ، ولقد شهر الاحنف بالحلم ، ولكنه تكلم بكلام كثير يجرح في الحلم ويثلم في العرض (1) ، ولا يستطيع أحد أن يحكي عن العباس بن عبد المطلب ولا عن الحسن بن علي بن أبى طالب لفظا فاحشا ، ولا كلمة ساقطة ، ولا حرفا واحدا مما يحكى عن الاحنف ومعاوية .
وكان المأمون أحلم الناس ، وكان عبد الله السفاح أحلم الناس .
وبعد فمن يستطيع أن يصف هاشما أو عبد المطلب بالحلم دون غيره من الاخلاق والافعال حتى يسميه بذلك ، ويخص به دون كل شئ فيه من الفضل ! وكيف وأخلاقهم متساوية ، وكلها في الغاية ! ولو أن رجلا كان أظهر الناس زهدا ، وأصدقهم للعدو لقاء ، وأصدق الناس لسانا ،
__________
(1) يثلم في العرض ، أي ينال منه ويقع فيه .
(*)(15/271)
وأجود الناس كفا ، وأفصحهم منطقا ، وكان بكل ذلك مشهورا ، لمنع بعض ذلك من بعض ، ولما كان له اسم السيد المقدم ، والكامل المعظم ، ولم يكن الجواد أغلب على اسمه ، ولا البيان ولا النجدة .
وأما ما ذكرتم من الخطابة والفصاحة والسؤدد والعلم بالادب والنسب ، فقد علم الناس أن بنى هاشم في الجملة أرق ألسنة من بنى أمية ، كان أبو طالب والزبير شاعرين ، وكان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب شاعرا ، ولم يكن من أولاد أمية بن عبد شمس لصلبه شاعر ، ولم يكن في أولاد أمية إلا أن تعدوا في الاسلام العرجي من ولد عثمان بن عفان ، وعبد الرحمن بن الحكم ، فنعد نحن الفضل بن العباس بن عتبة بن أبى لهب ، وعبد الله بن معاوية بن جعفر ، ولنا من المتأخرين محمد بن الحسين بن موسى المعروف بالرضي ، وأخوه أبو القاسم ، ولنا الحماني ، وعلى بن محمد صاحب الزنج ، وكان ابراهيم ابن الحسن صاحب باخمرى (1) أديبا شاعرا فاضلا ، ولنا محمد بن على بن صالح الذى خرج في أيام المتوكل .
قال أبو الفرج الاصفهاني : كان من فتيان آل أبى طالب وفتاكهم وشجعانهم وظرافهم وشعرائهم ، وإن عددتم الخطابة والبيان والفصاحة ، لم تعدوا كعلي بن أبى طالب عليه السلام ، ولا كعبد الله بن العباس ، ولنا من الخطباء زيد بن على بن الحسين ، وعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ، وجعفر بن الحسين بن الحسن ، وداود بن على بن عبد الله بن العباس ، وداود وسليمان ابنا جعفر بن سليمان .
قالوا : كان جعفر بن الحسين بن الحسن ينازع زيد بن على بن الحسين في الوصية ،
__________
(1) باخمرى : بلدة قرب الكوفة بها قبر إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي .
(*)(15/272)
وكان الناس يجتمعون ليستمعوا محاورتهما ، وكان سليمان بن جعفر بن سليمان بن علي والي مكة ، فكان أهل مكة يقولون لم يرد علينا أمير إلا وسليمان أبين منه قاعدا ، وأخطب منه قائما .
وكان داود إذا خطب اسحنفر (1) فلم يرده شئ .
قالوا : ولنا عبد الملك بن صالح بن علي ، كان خطيبا بليغا وسأله الرشيد - وسليمان بن أبى جعفر وعيسى بن جعفر حاضران - فقال له : كيف رأيت أرض كذا ؟ قال : مسافي ريح ، ومنابت شيح .
قال : فأرض كذا ، قال : هضبات (2) حمر ، وربوات (3) عفر ، حتى أتى على جميع ما سأله عنه ، فقال عيسى لسليمان : والله ما ينبغى لنا أن نرضى لانفسنا بالدون من الكلام .
قالوا : وأما ما ذكرتم من نساك الملوك ، فلنا علي بن أبى طالب عليه السلام ، وبزهده وبدينه يضرب المثل ، ولنا محمد بن الواثق من خلفاء بنى العباس ، وهو الملقب بالمهتدى ، كان يقول : إني لانف لبنى العباس ألا يكون منهم مثل عمر بن عبد العزيز ، فكان مثله وفوقه ، ولنا القادر أبو العباس بن إسحاق بن المقتدر ، ولنا القائم عبد الله بن القادر ، كانا على قدم عظيمة من الزهد والدين والنسك ، وإن عددتم النساك من غير الملوك فأين أنتم عن على بن الحسين زين العابدين ! وأين أنتم عن على بن عبد الله بن العباس ! وأين أنتم عن على بن الحسين بن على بن أبى طالب عليه السلام ، الذى كان يقال له : علي الخير ، وعلى الاغر ، وعلي العابد ، وما أقسم على الله بشئ إلا وأبر قسمه ! وأين أنتم عن موسى بن جعفر بن محمد ! وأين أنتم عن على بن محمد الرضا ، لابس الصوف طول عمره ، مع سعة أمواله ، وكثرة ضياعه وغلاته !
__________
(1) اسحنفر الرجل في منطقه : مضى فيه .
(2) الهضبات : جمع هضبة ، وهي الجبل الطويل الممتنع ، ولايكون ذلك إلا في حمر الجبال .
(3) الربوات ، جمع ربوة ، وهي أعلى الجبل .
(*)(15/273)
وأما ما ذكرتم من الفتوح ، فلنا الفتوح المعتصمية التى سارت بها الركبان ، وضربت بها الامثال ، ولنا فتوح الرشيد ، ولنا الاثار الشريفة في قتل بابك الخرمي بعد أن دامت فتنته في دار الاسلام نحو ثلاثين سنة .
وإن شئت أن تعد فتوح الطالبيين بإفريقية ومصر وما ملكوه من مدن الروم والفرنج والجلالقة (1) في سني ملكهم ، عددت الكثير الجم الذى يخرج عن الحصر ويحتاج إلى تاريخ مفرد يشتمل على جلود كثيرة .
فأما الفقه والعلم والتفسير والتاويل فان ذكرتموه لم يكن لكم فيه أحد وكان لنا فيه مثل على بن أبى طالب عليه السلام ، وعبد الله بن العباس ، وزيد بن على ، ومحمد بن على ، ابني علي بن الحسين بن علي ، وجعفر بن محمد الذى ملا الدنيا علمه وفقهه .
ويقال : أن أبا حنيفة من تلامذته ، وكذلك سفيان الثوري ، وحسبك بهما في هذا الباب ، ولذلك نسب سفيان إلى أنه زيدي المذهب ، وكذلك أبو حنيفة .
ومن مثل على بن الحسين زين العابدين ! وقال الشافعي في الرسالة في إثبات خبر الواحد : وجدت علي بن الحسين وهو أفقه أهل المدينة يعول على أخبار الاحاد .
ومن مثل محمد بن الحنفية وابنه أبى هاشم الذى قرر علوم التوحيد والعدل ! وقالت المعتزلة : غلبنا الناس كلهم بأبى هاشم الاول ، وأبى هاشم الثاني ! وإن ذكرتم النجدة والبسالة والشجاعة فمن مثل على بن أبى طالب عليه السلام ، وقد وقع اتفاق أوليائه وأعدائه على أنه أشجع البشر ! ومن مثل حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله ! ومن مثل الحسين بن علي عليهما السلام ! قالوا يوم الطف : ما رأينا مكثورا (2) قد أفرد من أخوته وأهله وأنصاره أشجع منه ، كان كالليث المحرب ، يحطم الفرسان حطما .
وما ظنك برجل أبت نفسه الدنية وأن يعطي * (الجلالقة : أهل جلق ، وهي دمشق .
(2) المكثور : المغلوب في الكثرة .
(*)(15/274)
بيده ، فقاتل حتى قتل هو وبنوه وإخوته وبنو عمه بعد بذل الامان لهم ، والتوثقة بالايمان المغلظة ، وهو الذى سن للعرب الاباء .
واقتدى بعده أبناء الزبير وبنو المهلب وغيرهم .
ومن لكم مثل محمد وإبراهيم بن عبد الله ! ومن لكم كزيد بن علي ، وقد علمتم كلمته التى قالها حيث خرج من عند هشام : ما أحب الحياه إلا من ذل ، فلما بلغت هشاما قال : خارج ورب الكعبة ! فخرج بالسيف ، ونهى عن المنكر ودعا إلى إقامه شعائر الله حتى قتل صابرا محتسبا .
وقد بلغتكم شجاعة أبى إسحاق المعتصم ، ووقوفه في مشاهد الحرب بنفسه حتى فتح الفتوح الجليلة .
وبلغتكم شجاعة عبد الله بن علي ، وهو الذى أزال ملك بنى مروان ، وشهد الحروب بنفسه ، وكذلك صالح بن على ، وهو الذى اتبع مروان بن محمد إلى مصر حتى قتله .
قالوا : وإن كان الفضل والفخر في تواضع الشريف ، وإنصاف السيد ، وسجاحة (1) الخلق ولين الجانب للعشيرة والموالي ، فليس لاحد من ذلك ما لبنى العباس ، ولقد سألنا طارق بن المبارك - وهو مولى لبنى أمية وصنيعة من صنائعهم - فقلنا أي القبيلتين أشد نخوة وأعظم كبرياء وجبرية ، أ بنو مروان ؟ أم بنو العباس ؟ فقال : والله لبنو مروان في غير دولتهم أعظم كبرياء من بنى العباس في دولتهم ، وقد كان أدرك الدولتين ، ولذلك قال شاعرهم : إذا نابه من عبد شمس رأيته * * يتيه فرشحه لكل عظيم
__________
(1) سجاحة الخلق : سهولته ولينه .
(*)(15/275)
وإن تاه تياه سواهم فإنما * * يتيه لنوك أو يتيه للوم (1) ومن كلامهم : من لم يكن من بنى أمية تياها فهو دعي .
قالوا : وإن كان الكبر مفخرا يمدح به الرجال ويعد من خصال الشرف والفضل ، فمولانا عمارة بن حمزة أعظم كبرا من كل أموي كان ويكون في الدنيا ، وأخباره في كبره وتيهه مشهورة متعالمة .
قالوا : وإن كان الشرف والفخر في الجمال وفي الكمال وفي البسطة في الجسم وتمام القوام ، فمن كان كالعباس بن عبد المطلب ! قالوا : رأينا العباس يطوف بالبيت وكأنه فسطاط (2) أبيض .
ومن مثل على بن عبد الله بن العباس وولده ، وكان كل واحد منهم إذا قام إلى جنب أبيه كان رأسه عند شحمه أذنه ، وكانوا من أطول الناس ، وإنك لتجد ميراث ذلك اليوم في أولادهم .
ثم الذى رواه أصحاب الاخبار وحمال الاثار في عبد المطلب من التمام والقوام والجمال والبهاء ، وما كان من لقب هاشم بالقمر لجماله ، ولانهم يستضيئون برأيه ، وكما رواه الناس أن عبد المطلب ولد عشرة كان الرجل منهم يأكل في المجلس الجذعة (3) ويشرب الفرق (4) ، وترد آنفهم قبل شفاههم ، وإن عامر بن مالك لما رآهم يطوفون بالبيت كأنهم جمال جون (5) قال : بهؤلاء تمنع مكة وتشرف مكة ! وقد سمعتم ما ذكره الناس من جمال السفاح وحسنه ، وكذلك المهدي وابنه هارون الرشيد ، وابنه محمد بن زبيدة وكذلك هارون الواثق ، ومحمد المنتصر والزبير المعتز .
__________
(1) ب : " لنول " تصحيف ، وصوابه في أ .
والنوك : الحمق ، واللوم أصله " اللؤم " : بالهمزة ، وخفف للشعر .
(2) الفسطاط : الخيمة .
(3) الجذعة من الضأن : الصغيرة .
(4) الفرق ، بكسر فسكون : مكيال بالمدينة ، يسع ثلاثة آصع ، أو ستة عشر رطلا .
(5) الجون من الابل والخيل : جمع جون ، بفتح فسكون ، وهو الادهم .
(*)(15/276)
قالوا : ما رئي في العرب ولا في العجم أحسن صورة منه ، وكان المكتفي علي بن المعتضد بارع الجمال ، ولذلك قال الشاعر يضرب المثل به : والله لا كلمته ولو انه * * كالشمس أو كالبدر أو كالمكتفي فجعله ثالث القمرين ، وكان الحسن بن على عليه السلام أصبح الناس وجها ، كان يشبه برسول الله صلى الله عليه وآله ، وكذلك عبد الله بن الحسن المحض .
قالوا : ولنا ثلاثة في عصر بنو عم ، كلهم يسمى عليا ، وكلهم كان يصلح للخلافة بالفقه والنسك والمركب ، والرأي ، والتجربة ، والحال الرفيعة بين الناس : على بن الحسين بن على ، وعلى بن عبد الله بن العباس ، وعلى بن عبد الله بن جعفر ، كل هؤلاء كان تاما كاملا بارعا جامعا .
وكانت لبابة بنت عبد الله بن العباس عند على بن عبد الله بن جعفر ، قالت : ما رأيته ضاحكا قط ولا قاطبا ، ولا قال شيئا احتاج إلى أن يعتذر منه ، ولا ضرب عبدا قط ، ولا ملكه أكثر من سنة .
قالوا : وبعد هؤلاء ثلاثة بنو عم ، وهم بنو هؤلاء الثلاثة ، وكلهم يسمى محمدا ، كما أن كل واحد من أولئك يسمى عليا ، وكلهم يصلح للخلافة ، بكرم النسب وشرف الخصال : محمد بن على بن الحسين بن على ، ومحمد بن على بن عبد الله بن العباس ، ومحمد بن على ابن عبد الله بن جعفر .
قالوا : كان محمد بن على بن الحسين لا يسمع المبتلى الاستعاذة ، وكان ينهى الجارية والغلام أن يقولا للمسكين : يا سائل ، وهو سيد فقهاء الحجاز ، ومنه ومن ابنه جعفر تعلم الناس الفقه ، وهو الملقب بالباقر ، باقر العلم ، لقبه به رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يخلق بعد ، وبشر به ، ووعد جابر بن عبد الله برؤيته ، وقال : ستراه طفلا ، فإذا رأيته فأبلغه عني السلام ، فعاش جابر حتى رآه ، وقال له ما وصي به .(15/277)
وتوعد خالد بن عبد الله القسرى هشام بن عبد الملك في رسالة له إليه ، وقال : والله إنى لاعرف رجلا حجازي الاصل ، شآمي الدار ، عراقي الهوى ، يريد محمد بن على بن عبد الله بن العباس .
قالوا : وأما ما ذكرتم من أمر عاتكة بنت يزيد بن معاوية فإنا نذكر فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله ، وهي سيدة نساء العالمين ، وأمها خديجة سيدة نساء العالمين ، وبعلها على بن أبى طالب سيد المسلمين كافة ، وابن عمها جعفر ذو الجناحين ، وذو الهجرتين ، وابناها الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ، وجدهما أبو طالب بن عبد المطلب أشد الناس عارضة وشكيمة ، وأجودهم رأيا ، وأشهمهم نفسا ، وأمنعهم لما وراء ظهره ، منع النبي صلى الله عليه وآله من جميع قريش ، ثم بنى هاشم وبنى المطلب ، ثم منع بني إخوانه من بنى أخواته من بنى مخزوم الذين أسلموا ، وهو أحد الذين سادوا مع الاقلال ، وهو مع هذا شاعر خطيب .
ومن يطيق أن يفاخر بنى أبى طالب ، وأمهم فاطمة بنت أسد بن هاشم ، وهى أول هاشمية ولدت لهاشمي ، وهى التى ربي رسول الله في حجرها ، وكان يدعوها أمي ، ونزل في قبرها ، وكان يوجب حقها كما يوجب حق الام ! من يستطيع أن يسامى رجالا ولدهم هاشم مرتين من قبل ابيهم ومن قبل أمهم .
قالوا : ومن العجائب أنها ولدت أربعة كل منهم أسن من الاخر بعشر سنين : طالب ، وعقيل ، وجعفر ، وعلى .
ومن الذى يعد من قريش أو من غيرهم ما يعده الطالبيون عشرة في نسق ، كل واحد منهم عالم زاهد ناسك شجاع جواد طاهر زاك ، فمنهم خلفاء ومنهم مرشحون : ابن ابن ابن ابن ، هكذا إلى عشرة ، وهم الحسن بن على بن محمد بن على بن موسى بن جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن علي علسهم السلام ، وهذا لم يتفق لبيت من بيوت العرب ولا من بيوت العجم .(15/278)
قالوا : فإن فخرتم بأن منكم اثنتين من أمهات المؤمنين : أم حبيبة بنت أبى سفيان وزينب بنت جحش ، فزينب امرأة من بنى أسد بن خزيمة ، ادعيتموه بالحلف (1) لا بالولاده ، وفينا رجل ولدته أمان من أمهات المؤمنين ، محمد بن عبد الله بن الحسن المحض ، ولدته خديجة أم المؤمنين ، وأم سلمة أم المؤمنين ، وولدته مع ذلك فاطمة بنت الحسين بن على ، وفاطمة سيدة نساء العالمين ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله ، وفاطمة بنت أسد بن هاشم ، وكان يقال خير النساء الفواطم والعواتك وهن أمهاته .
قالوا : ونحن إذا ذكرنا إنسانا فقبل أن نعد من ولده نأتى به شريفا في نفسه ، مذكورا بما فيه دون ما في غيره ، قلتم : لنا عاتكة بنت يزيد ، وعاتكة في نفسها كامرأة من عرض قريش ، ليس فيها في نفسها خاصة أمر تستوجب به المفاخرة .
ونحن نقول : منا فاطمة ، وفاطمة سيدة نساء العالمين ، وكذلك أمها خديجة الكبرى ، وانما تذكران مع مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم اللتين ذكرهما النبي صلى الله عليه وآله وذكر إحداهما القرآن ، وهن المذكورات من جميع نساء العالم من العرب والعجم .
وقلتم لنا : عبد الله بن يزيد بن عبد الملك بن مروان ولده سبعة من الخلفاء ، وعبد الله هذا في نفسه ليس هناك ، ونحن نقول : منا محمد بن على بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم ، كلهم سيد ، وأمه العالية بنت عبيد الله بن العباس ، وإخوته داود وصالح وسليمان وعبد الله رجال كلهم أغر محجل ، ثم ولدت الرؤساء إبراهيم الامام وأخويه أبا العباس وأبا جعفر ، ومن جاء بعدهما من خلفاء بنى العباس .
وقلتم : منا عبد الله بن يزيد ، وقلنا : منا الحسين بن على سيد شباب أهل الجنة ،
__________
(1) الحلف ، بكسر الحاء وسكون اللام : العهد بين القوم .
(*)(15/279)
وأولى الناس بكل مكرمة ، وأطهرهم طهارة ، مع النجدة والبصيرة والفقه والصبر والحلم والانف (1) ، وأخوه الحسن سيد شباب أهل الجنة ، وأرفع الناس درجة ، وأشبههم برسول الله خلقا وخلقا ، وأبوهما على بن أبى طالب .
قال شيخنا أبو عثمان : وهو الذى ترك وصفه أبلغ في وصفه ، إذ كان هذا الكتاب يعجز عنه ، ويحتاج إلى كتاب يفرد له ، وعمهما ذو الجناحين ، وأمهما فاطمة وجدتهما خديجة ، وأخوالهما القاسم وعبد الله وإبراهيم ، وخالاتهما زينب ورقية وأم كلثوم ، وجدتاهما آمنة بنت وهب والدة رسول الله صلى الله عليه وآله ، وفاطمة بنت أسد بن هاشم ، وجدهما رسول الله صلى الله عليه وآله المخرس لكل فاخر ، والغالب لكل منافر ، قل ما شئت ، واذكر أي باب شئت من الفضل ، فإنك تجدهم قد حووه .
وقالت أمية : نحن لا ننكر فخر بنى هاشم وفضلهم في الاسلام ، ولكن لا فرق بيننا في الجاهلية ، إذ كان الناس في ذلك الدهر لا يقولون : هاشم وعبد شمس ، ولا هاشم وأمية ، بل يقولون : كانوا لا يزيدون في الجميع على عبد مناف ، حتى كان أيام تميزهم في أمر علي وعثمان في الشورى ، ثم ما كان في أيام تحزبهم وحربهم مع علي ومعاوية .
ومن تأمل الاخبار والاثار علم أنه ما كان يذكر فرق بين البيتين ، وإنما يقال : بنو عبد مناف ، أ لا ترى أن أبا قحافة سمع رجة شديدة ، وأصواتا مرتفعة ، وهو يومئذ شيخ كبير مكفوف ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : قبض رسول الله صلى الله عليه وآله ، قال : فما صنعت قريش ؟ قالوا : ولوا الامر ابنك ، قال : ورضيت بذلك بنو عبد مناف ؟ قالوا : نعم .
قال : ورضى بذلك بنو المغيرة ؟ قالوا : نعم ، قال : فلا مانع لما أعطى الله ولا معطى
__________
(1) الانف بفتحتين ، مثل الانفة ، ومعناهما الشمم والاباء .
(*)(15/280)
لما منع ! ولم يقل : أ رضي بذلك بنو عبد شمس ؟ وإنما جمعهم على عبد مناف لانه كذلك كان يقال .
وهكذا قال أبو سفيان بن حرب لعلى عليه السلام ، وقد سخط إمارة أبى بكر : أ رضيتم يا بنى عبد مناف أن تلي عليكم تيم ! ولم يقل : أ رضيتم يا بنى هاشم ؟ وكذلك قال خالد بن سعيد بن العاص حين قدم من اليمن وقد استخلف أبو بكر : أ رضيتم معشر بنى عبد مناف أن تلى عليكم تيم ؟ قالوا : وكيف يفرقون بين هاشم وعبد شمس ، وهما أخوان لاب وأم ! ويدل على أن أمرهما كان واحدا ، وأن اسمهم كان جامعا ، قول النبي صلى الله عليه وآله وصنيعه حين قال : " منا خير فارس في العرب ، عكاشة بن محصن " وكان أسديا ، وكان حليفا لبنى عبد شمس ، وكل من شهد بدرا من بنى كبير بن داود كانوا حلفاء بنى عبد شمس ، فقال ضرار بن الازور الاسدي : ذاك منا يا رسول الله ، فقال عليه السلام : " بل هو منا بالحلف " ، فجعل حليف بنى عبد شمس حليف بنى هاشم ، وهذا بين لا يحتاج صاحب هذه الصفة إلى أكثر منه .
قالوا : ولهذا نكح هذا البيت في هذا البيت ، فكيف صرنا نتزوج بنات النبي وبنات بنى هاشم على وجه الدهر إلا ونحن أكفاء ، وأمرنا واحد ! وقد سمعتم إسحاق بن عيسى يقول لمحمد بن الحارث أحد بنى عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد لو لا حي أكرمهم الله بالرسالة ، لزعمت أنك أشرف الناس ، أ فلا ترى أنه لم يقدم علينا رهطه إلا بالرسالة ! قالت هاشم : قلتم : لو لا أنا كنا أكفاءكم لما أنكحتمونا نساءكم ، فقد نجد القوم يستوون في حسب الاب ، ويفترقون في حسب الانفس ، وربما استووا في حسب أبي(15/281)
القبيلة كاستواء قريش في النضر بن كنانة ، ويختلفون كاختلاف كعب بن لؤي ، وعامر بن لؤى ، وكاختلاف ابن قصي وعبد مناف وعبد الدار وعبد العزى ، والقوم قد يساوي بعضهم بعضا في وجوه ، ويفارقونهم في وجوه ، ويستجيزون بذلك القدر مناكحتهم ، وإن كانت معاني الشرف لم تتكامل فيهم كما تكاملت فيمن زوجهم ، وقد يزوج السيد ابن أخيه وهو حارض ابن حارض (1) على وجه صلة الرحم ، فيكون ذلك جائزا عندهم ، ولوجوه في هذا الباب كثيرة ، فليس لكم أن تزعموا أنكم أكفاؤنا من كل وجه ، وإن كنا قد زوجناكم وساويناكم في بعض الاباء والاجداد .
وبعد فأنتم في الجاهلية والاسلام قد أخرجتم بناتكم إلى سائر قريش وإلى سائر العرب ، أ فتزعمون أنهم أكفاؤكم عينا بعين ! وأما قولكم : إن الحيين كان يقال لهما عبد مناف فقد كان يقال لهما أيضا مع غيرهما من قريش وبنيها : بنو النضر .
وقال الله تعالى : " وأنذر عشيرتك الاقربين " (2) ، فلم يدع النبي صلى الله عليه وآله أحدا من بنى عبد شمس ، وكانت عشيرته الاقربون بنى هاشم وبنى المطلب ، وعشيرته فوق ذاك عبد مناف وفوق ذلك قصي ، ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله لما أتي بعبد الله بن عامر بن كريز بن حبيب بن عبد شمس - وأم عامر بن كريز أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم - قال عليه السلام : هذا أشبه بنا منه بكم ، ثم تفل في فيه فازدرده ، فقال : أرجو أن تكون مشفيا ، فكان كما قال .
ففى قوله : " هو أشبه بنا منه بكم " خصلتان : إحداهما أن عبد شمس وهاشما لو كانا شيئا واحدا كما أن عبد المطلب شئ واحد لما قال : " هو بنا أشبه به منكم " ، والاخرى أن في هذا القول تفضيلا لبنى هاشم على بنى عبد شمس ، أ لا ترون أنه خرج خطيبا جوادا نبيلا وسيدا مشفيا ، له مصانع وآثار كريمة ، لانه قال : " وهو بنا أشبه به منكم " .
وأتي عبد المطلب
__________
(1) الحارض : الرجل الرذل الفاسد .
(2) سورة الشعراء 214 .
(*)(15/282)
بعامر بن كريز وهو ابن ابنته أم حكيم البيضاء فتأمله ، وقال : وعظام هاشم ما ولدنا ولدا أحرض منه ، فكان كما قال عبد الله يحمق ، ولم يقل : " وعظام عبد مناف " لان شرف جده عبد مناف له فيه شركاء ، وشرف هاشم أبيه خالص له .
فأما ما ذكرتم من قول أبى سفيان وخالد بن سعيد : أ رضيتم معشر بنى عبد مناف أن تلي عليكم تيم ! فإن هذه الكلمة كلمة تحريض وتهييج ، فكان الابلغ فيما يريد من اجتماع قلوب الفريقين أن يدعوهم لاب ، وأن يجمعهم على واحد ، وإن كانا مفترقين ، وهذا المذهب سديد ، وهذا التدبير صحيح .
قال معاوية بن صعصعة للاشهب بن رميلة ، وهو نهشلي وللفرزدق بن غالب ، وهو مجاشعي ولمسكن بن أنيف وهو عبدلي : أ رضيتم معشر بنى دارم أن يسب آباءكم ويشتم أعراضكم كلب بنى كليب ! وإنما نسبهم إلى دارم الاب الاكبر المشتمل على آباء قبائلهم ليستووا في الحمية ويتفقوا على الانف ، وهذا في مثل هذا الموضع تدبير صحيح .
قالوا : ويدل على ما قلنا ما قاله الشعراء في هذا الباب قبل مقتل عثمان وقبل صفين ، قال حسان بن ثابت لابي سفيان الحارث بن عبد المطلب : وأنت منوط نيط (1) في آل هاشم * * كما نيط خلف الراكب القدح الفرد لم يقل : " نيط في آل عبد مناف " .
وقال آخر : ما أنت من هاشم في بيت مكرمة * * ولا بني جمح الخضر الجلاعيد (2)
__________
(1) ب : " ينط " ريف .
(2) الجلاعيد : الصلاب الشداد .
(*)(15/283)
ولم يقل : " ما أنت من آل عبد مناف " ، وكيف يقول هذا ، وقد علم الناس أن عبد مناف ولد أربعة : هاشما والمطلب وعبد شمس ونوفلا ، وأن هاشما والمطلب كانا يدا واحدة ، وأن عبد شمس ونوفلا كانا يدا واحدة ، وكان مما بطأ ببنى نوفل عن الاسلام إبطاء إخوتهم من بنى عبد شمس ، وكان مما حث بنى المطلب على الاسلام فضل محبتهم لبنى هاشم ، لان أمر النبي صلى الله عليه وآله كان بينا ، وإنما كانوا يمتنعون منه من طريق الحسد والبغضة ، فمن لم يكن فيه هذه العلة لم يكن له دون الاسلام مانع ، ولذلك لم يصحب النبي صلى الله عليه وآله من بنى نوفل أحد فضلا أن يشهدوا معه المشاهد الكريمة ، وإنما صحبه حلفاؤهم كيعلى بن منبه وعتبة بن غزوان وغيرهما ، وبنو الحارث بن المطلب كلهم بدرى : عبيد ، وطفيل ، وحصين ، ومن بنى المطلب مسطح بن أثاثة بدري .
وكيف يكون الامر كما قلتم وأبو طالب يقول لمطعم بن عدي بن نوفل في أمر النبي صلى الله عليه وآله ، لما تمالأت قريش عليه : جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا * * جزاء مسئ عاجلا غير آجل أ مطعم إما سامني القوم خطة * * فإني متى أوكل فلست بآكل أ مطعم لم أخذلك في يوم شدة * * ولا مشهد عند الامور الجلائل ولقد قسم النبي صلى الله عليه وآله قسمة فجعلها في بنى هاشم وبنى المطلب ، فأتاه عثمان بن عفان بن أبى العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ، وجبير بن مطعم بن عدى بن نوفل بن عبد مناف ، فقالا له : يا رسول الله ، إن قرابتنا منك وقرابة بنى المطلب واحدة ، فكيف أعطيتهم دوننا ؟ فقال النبي صللى الله عليه وآله : " إنا لم نزل وبنى المطلب كهاتين " ، وشبك بين أصابعه ، فكيف تقولون : كنا شيئا واحدا ، وكان الاسم الذى يجمعنا واحدا !(15/284)
ثم نرجع إلى افتخار بنى هاشم ، قالوا : وإن كان الفخر بالايد (1) والقوة ، واهتصار (2) الاقران ومباطشة الرجال ، فمن أين لكم كمحمد بن الحنفية ، وقد سمعتم أخباره وأنه قبض على درع فاضلة ، فجذبها فقطع ذيلها ما استدار منه كله .
وسمعتم أيضا حديث الايد (3) القوى الذى أرسله ملك الروم إلى معاوية يفخر به على العرب ، وأن محمدا قعد له ليقيمه فلم يستطع ، فكأنما يحرك جبلا ، وأن الرومي قعد ليقيمه محمد فرفعه إلى فوق رأسه ثم جلد به الارض ، هذا مع الشجاعة المشهورة ، والفقه في الدين ، والحلم والصبر والفصاحة والعلم بالملاحم والاخبار عن الغيوب ، حتى ادعي له أنه المهدي ، وقد سمعتم أحاديث أبى إسحاق المعتصم ، وأن أحمد بن أبى دواد عض ساعده بأسنانه أشد العض فلم يؤثر فيه ، وأنه قال : ما أظن الاسنة ولا السهام تؤثر في جسده ، وسمعتم ما قيل في عبد الكريم المطيع ، وأنه جذب ذنب ثور فاستله من بين وركيه .
وإن كان الفخر بالبشر وطلاقة الاوجه وسجاحة الاخلاق ، فمن مثل على بن أبى طالب عليه السلام وقد بلغ من سجاحة خلقه وطلاقة وجهه أن عيب بالدعابة ! ومن الذى يسوى بين عبد شمس وبين هاشم في ذلك ! كان الوليد جبارا ، وكان هشام شرس الاخلاق ، وكان مروان بن محمد لا يزال قاطبا عابسا ، وكذلك كان يزيد بن الوليد الناقص ، وكان المهدى المنصور أسرى خلق الله وألطفهم خلقا ، وكذلك محمد الامين وأخوه المأمون ، وكان السفاح يضرب به المثل في السرو وسجاحة الخلق .
قالوا : ونحن نعد من رهطنا رجالا لا تعدون أمثالهم أبدا فمنا الامراء بالديلم الناصر الكبير ، وهو الحسن الاطروش بن على بن الحسن بن عمر بن على بن عمر الاشرف
__________
(1) الايد (بفتح فسكون) : القود .
(2) اهتصر القرن : جذبه بشدة .
(3) الايد : الشجاع الشديد .
(*)(15/285)
بن زيد العابدين ، وهو الذى أسلمت الديلم على يده ، والناصر الاصغر وهو أحمد بن يحيى بن الحسن بن القاسم بن إبراهيم بن طباطبا ، وأخوه محمد بن يحيى ، وهو الملقب بالمرتضى ، وأبوه يحيى بن الحسن وهو الملقب بالهادي .
ومن ولد الناصر الكبير الثائر ، وهو جعفر ابن محمد بن الحسن الناصر الكبير ، وهم الامراء بطبرستان وجيلان وجرجان ومازندران وسائر ممالك الديلم ، ملكوا تلك الاصقاع مائة وثلاثين سنة ، وضربوا الدنانير والدراهم بأسمائهم ، وخطب لهم على المنابر ، وحاربوا الملوك السامانية ، وكسروا جيوشهم ، وقتلوا أمراءهم ، فهؤلاء واحدهم أعظم كثيرا من ملوك بنى أمية ، وأطول مدة وأعدل وأنصف وأكثر نسكا وأشد حضا على الامر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وممن يجرى مجراهم الداعي الاكبر والداعى الاصغر ملكا الديلم ، قادا الجيوش .
واصطنعا الصنائع .
قالوا : ولنا ملوك مصر وإفريقية ، ملكوا مائتين وسبعين سنة ، فتحوا الفتوح واستردوا ما تغلب عليه الروم من مملكة الاسلام ، واصطنعوا الصنائع الجليلة .
ولهم الكتاب والشعراء والامراء والقواد ، فأولهم المهدي عبيد الله بن ميمون بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب وآخرهم العاضد ، وهو عبد الله بن الامير أبى القاسم بن الحافظ أبى الميمون بن المستعلى بن المستنصر بن الطاهر بن الحاكم بن عبد العزيز بن المعز بن المنصور بن القائم بن المهدى ، فإن افتخرت الاموية بملوكها في الاندلس من ولد هشام بن عبد الملك ، واتصال ملكهم وجعلوهم بإزاء ملوكنا بمصر وإفريقية ، قلنا لهم : ألا أنا نحن أزلنا ملككم بالاندلس ، كما أزلنا ملككم بالشام والمشرق كله ، لانه لما ملك قرطبة(15/286)
الظافر من بنى أمية وهو سليمان بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الملقب بالناصر ، خرج عليه على بن حميد بن ميمون بن أحمد بن على بن عبد الله بن عمر بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب عليه السلام ، فقتله ، وأزال ملكه .
وملك قرطبه دار ملك بنى أمية ، ويلقب بالناصر .
ثم قام بعده أخوه القاسم بن حمود ، ويلقب بالمعتلى ، فنحن قتلناكم وأزلنا ملككم في المشرق والمغرب ، ونحن لكم على الرصد (1) حيث كنتم ، اتبعناكم فقتلناكم وشردناكم كل مشرد ، والفخر للغالب على المغلوب ، بهذا قضت الامم قاطبة .
قالوا : ولنا من أفراد الرجال من ليس لكم مثله ، منا يحيى بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس ، كان شجاعا جريئا (2) وهو الذى ولي الموصل لاخيه السفاح فاستعرض أهلها حتى ساخت (3) الاقدام في الدم .
ومنا يعقوب بن إبراهيم بن عيسى بن أبى جعفر المنصور ، كان شاعرا فصيحا ، وهو المعروف بأبى الاسباط ، ومنا محمد وجعفر ابنا سليمان بن على ، كانا أعظم من ملوك بنى أمية ، وأجل قدرا وأكثر أموالا ومكانا عند الناس .
وأهدى محمد بن سليمان من البصرة إلى الخيزران مائة وصيفة في يد كل واحدة منهن جام (4) من ذهب وزنه ألف مثقال ، مملوء مسكا ، وكان لجعفر بن سليمان ألفا عبد من السودان خاصة ، فكم يكون ليت شعرى غيرهم من البيض ومن الاماء ، وما رئى جعفر بن سليمان راكبا قط إلا ظن أنه الخليفة .
ومن رجالنا محمد بن السفاح ، كان جوادا أيدا شديد البطش ، قالوا : ما رئي أخوان
__________
(1) على الرصد : مترصدون لكم .
(2) في ب : " حربا " تصحيف .
(3) ساخت : خاضت .
(4) الجام : إناء من الذهب أو الفضة .
(*)(15/287)
أشد قوة من محمد وريطة أخته ولدى أبى العباس السفاح ، كان محمد يأخذ الحديد فيلويه فتأخذه هي فترده .
ومن رجالنا محمد بن إبراهيم طباطبا صاحب أبى السرايا ، كان ناسكا عابدا فقيها عظيم القدر عند أهل بيته وعند الزيدية .
ومن رجالنا عيسى بن موسى بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس ، وهو الذى شيد ملك المنصور وحارب ابني عبد الله بن حسن ، وأقام عمود الخلافة بعد اضطرابه ، وكان فصيحا أديبا شاعرا .
ومن رجالنا عبد الوهاب بن إبراهيم الامام ، حج بالناس وولي الشام ، وكان فصيحا خطيبا .
ومن رجالنا عبد الله بن موسى الهادى ، كان أكرم الناس وجوادا ممدوحا أديبا شاعرا ، وأخوه عيسى بن موسى الهادى ، كان أكرم الناس ، وأجود الناس ، كان يلبس الثياب ، وقد حدد ظفره فيخرقها بظفره لئلا تعاد إليه .
وعبد الله بن أحمد بن عبد الله بن موسى الهادى ، وكان أديبا ظريفا .
ومن رجالنا عبد الله بن المعتز بالله ، كان أوحد الدنيا في الشعر والادب والامثال الحكمية والسؤدد والرياسة ، كان كما قيل فيه لما قتل : لله درك من ميت بمضيعة * * ناهيك في العلم والاشعار والخطب (1) ما فيه لو ولا لو لا فتنقصه * * وإنما أدركته حرفة الادب ومن رجالنا النقيب أبو أحمد الحسين بن موسى شيخ بنى هاشم الطالبيين والعباسيين في عصره ، ومن أطاعه الخلفاء والملوك في أقطار الارض ورجعوا إلى قوله ، وابناه على ومحمد وهما المرتضى والرضى ، وهما فريدا العصر في الادب والشعر والفقه والكلام ، وكان الرضى شجاعا أديبا شديد الانف .
__________
(1) لعلي بن بسام ، ابن خلكان 1 : 259 .
(*)(15/288)
ومن رجالنا القاسم بن عبد الرحيم بن عيسى بن موسى الهادى ، كان شاعرا ظريفا .
ومن رجالنا القاسم بن إبراهيم طباطبا .
صاحب المصنفات والورع والدعاء إلى الله والى التوحيد والعدل ومنابذة الظالمين ، ومن أولاده أمراء اليمن .
ومن رجالنا محمد الفأفاء بن إبراهيم الامام ، كان سيدا مقدما ، ولى الموسم وحج بالناس ، وكان الرشيد يسايره ، وهو مقنع بطيلسانه .
ومن رجالنا محمد بن محمد بن زيد بن على بن الحسين صاحب أبى السرايا ، ساد حدثا ، وكان شاعرا أديبا فقيها ، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ولما أسر وحمل إلى المأمون أكرمه وأفضل عليه ، ورعى له فضله ونسبه .
ومن رجالنا موسى بن عيسى بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس ، كنيته أبو عيسى ، وهو أجل ولد عيسى وأنبلهم ، ولي الكوفة وسوادها زمانا طويلا للمهدى ، ثم الهادى ، وولي المدينة وإفريقية ومصر للرشيد ، قال له ابن السماك لما رأى تواضعه : إن تواضعك في شرفك لاحب إلى من شرفك ، فقال موسى : إن قومنا - يعني بنى هاشم - يقولون : إن التواضع أحد مصائد الشرف .
ومن رجالنا موسى بن محمد أخو السفاح والمنصور ، كان نبيلا عندهم ، هو وإبراهيم الامام لام واحدة ، رأى في منامه قبل أن يصير من أمرهم ما صار أنه دخل بستانا فلم يأخذ إلا عنقودا واحدا عليه من الحب المتراص ما ربك به عليم ، فلم يولد له إلا عيسى ، ثم ولد لعيسى من ظهره أحد وثلاثون ذكرا وعشرون أنثى .
ومن رجالنا عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب عليه السلام ، وهو عبد الله المحض ، وأبوه الحسن بن الحسن ، وأمه فاطمة بنت الحسين ، وكان إذا قيل : من(15/289)
أجمل الناس ؟ قالوا : عبد الله بن الحسن ، فإذا قيل : من أكرم الناس ؟ قالوا : عبد الله ابن الحسن ، فإذا قالوا : من أشرف الناس ؟ قالوا : عبد الله بن الحسن .
ومن رجالنا أخوه الحسن بن الحسن ، وعمه زيد بن الحسن وبنوه محمد وإبراهيم وموسى ويحيى ، أما محمد وإبراهيم فأمرهما مشهور ، وفضلهما غير مجحود ، في الفقه والادب والنسك والشجاعة والسؤدد .
وأما يحيى صاحب الديلم فكان حسن المذهب والهدى ، مقدما في أهل بيته ، بعيدا مما يعاب على مثله ، وقد روى الحديث وأكثر الرواية عن جعفر بن محمد ، وروى عن أكابر المحدثين ، وأوصى جعفر بن محمد إليه لما حضرته الوفاة وإلى ولده موسى بن جعفر .
وأما موسى بن عبد الله بن الحسن ، فكان شابا نجيبا صبورا شجاعا سخيا شاعرا .
ومن رجالنا الحسن المثلث ، وهو الحسن بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب عليه السلام كان متألها (1) فاضلا ورعا ، يذهب في الامر بالمعروف والنهى عن المنكر مذهب أهله .
وإبراهيم بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب علسه السلام ، كان مقدما في أهله ، يقال : أنه أشبه أهل زمانه برسول الله صلى الله عليه وآله .
ومن رجالنا عيسى بن زيد ، ويحيى بن زيد أخوه ، وكانا أفضل أهل زمانهما شجاعة وزهدا وفقها ونسكا .
ومن رجالنا يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد صاحب الدعوة .
كان فقيها فاضلا شجاعا فصيحا شاعرا ، ويقال : أن الناس ما أحبوا طالبيا قط دعا إلى نفسه حبهم يحيى ، ولا رثي أحد منهم بمثل ما رثى به .
__________
(1) متألها : متعبدا .
(*)(15/290)
قال أبو الفرج الاصفهانى : كان يحيى فارسا شجاعا شديد البدن ، مجتمع القلب ، بعيدا عن زهو الشباب وما يعاب به مثله ، كان له عمود حديد ثقيل يصحبه في منزله ، فإذا سخط على عبد أو أمة من حشمه لواه في عنقه فلا يقدر أحد أن يحله عنه حتى يحله هو (1) .
ومن رجالنا محمد بن القاسم بن على بن عمر بن الحسين بن على بن أبى طالب عليه السلام صاحب الطالقان ، لقب بالصوفى لانه لم يكن يلبس إلا الصوف الابيض ، وكان عالما فقيها ، دينا زاهدا ، حسن المذهب ، يقول بالعدل والتوحيد .
ومن رجالنا محمد بن على بن صالح بن عبد الله بن موسى بن حسن بن حسن بن على بن أبى طالب علسه السلام .
كان من فتيان آل أبى طالب و فتاكهم وشجعانهم وظرفائهم وشعرائهم ، وله شعر لطيف محفوظ .
ومنهم أحمد بن عيسى بن زيد ، كان فاضلا عالما مقدما في عشيرته ، معروفا بالفضل ، وقد روى الحديث وروي عنه .
ومن رجالنا موسى بن جعفر بن محمد - وهو العبد الصالح - جمع من الفقه والدين والنسك والحلم والصبر .
وابنه على بن موسى المرشح للخلافة ، والمخطوب له بالعهد ، كان أعلم الناس ، وأسخى الناس ، وأكرم الناس أخلاقا .
قالوا : وأما ما ذكرتم من أمر الشجرة الملعونة ، فإن المفسرين كلهم قالوا ذلك ورووا فيه أخبارا كثيرة عن النبي صلى الله عليه وآله ، ولستم قادرين على جحد ذلك ، وقد عرفتم تأخركم عن الاسلام وشدة عداوتكم للرسول الداعي إليه ، ومحاربتكم في بدر وأحد والخندق ، وصدكم الهدى عن البيت ، وليس ذلك مما يوجب أن يعمكم اللعن حتى
__________
(1) مقاتل الطالبيين 640 .
(*)(15/291)
لا يغادر واحدا ، فإن زعم ذلك زاعم فقد تعدى .
وأما اختصاص محمد بن على بالوصية والخلافة دون إخوته ، فقد علمتم أن وراثة السيادة والمرتبة ليس من جنس وراثة الاموال ، أ لا ترى أن المرأة والصبي والمجنون يرثون الاموال ولا يرثون المراتب ! وسواء في الاموال ، كان الابن حارضا (1) بائرا ، أو بارعا جامعا .
وقيل : وراثة المقام سبيل وراثة اللواء ، دفع رسول الله صللى الله عليه وآله لواء بنى عبد الدار إلى مصعب بن عمير ، ودفع عمر بن الخطاب لواء بنى تميم إلى وكيع بن بشر ، ثم دفعه إلى الاحنف حين لم يوجد في بنى زرارة من يستحق وراثة اللواء ، فإن كان الامر بالسن فإنما كان بين محمد بن على وأبيه على بن عبد الله أربع عشرة سنة ، كان علي يخضب بالسواد ، ومحمد يخضب بالحمرة ، فكان القادم يقدم عليهما ، والزائر يأتيهما ، فيظن أكثرهم أن محمدا هو على ، وأن عليا هو محمد ، حتى ربما قيل لعلي : كيف أصبح الشيخ من علته ؟ ومتى رجع الشيخ إلى منزله ؟ وأخرى أن أمه كانت العالية بنت عبد الله بن العباس ، فقد ولده العباس مرتين ، وولده جواد بنى العباس كما والده خيرهم وحبرهم ، ولم يكن لاحد من إخوته مثل ذلك .
وكان بعض ولد محمد أسن من عامة ولد علي ، وولد محمد المهدى بن عبد الله المنصور والعباس بن محمد بن على في عام واحد ، وكذلك محمد بن سليمان بن على ، ولم يكن لاحد من ولد على بن عبد الله بن العباس - وإن كانوا فضلاء نجباء كرماء نبلاء - مثل عقله ولا كجماله ، كان إذا دخل المدينة ومكة جلس الناس على أبواب دورهم والنساء على سطوحهن للنظر إليه ، والتعجب من كماله وبهائه ، وقد قاتل إخوته أعداءه في دفع الملك إلى ولده غير مكرهين ولا مجبرين ، على أن محمدا إنما أخذ الامر عن أساس مؤسس ، وقاعدة مقررة ، ووصية انتقلت إليه من أبى هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية ، وأخذها أبو هاشم عن أبيه محمد ، وأخذها محمد عن على بن أبى طالب أبيه .
__________
(1) الحارض : الفاسد .
(*)(15/292)
قالوا : لما سمت بنو أمية أبا هاشم مرض فخرج من الشام وقيذا (1) يؤم المدينة ، فمر بالحميمة (2) وقد أشفى ، فاستدعى محمد بن على بن عبد الله بن العباس فدفع الوصيه إليه ، وعرفه ما يصنع وأخبره بما سيكون من الامر ، وقال له : إنى لم أدفعها إليك من تلقاء نفسي ، ولكن أبى أخبرني عن أبيه على بن أبى طالب عليه السلام بذلك ، وأمرني به ، وأعلمنى بلقائي أياك في هذا المكان ، ثم مات فتولى محمد بن على تجهيزه ودفنه وبث الدعاة حينئذ في طلب الامر ، وهو الذى قال لرجال الدعوة ، والقائمين بأمر الدولة ، حين اختارهم للتوجه ، وانتخبهم للدعاء ، وحين قال بعضهم : ندعو بالكوفة ، وقال بعضهم : بالبصرة .
وقال بعضهم : بالجزيرة ، وقال بعضهم : بالشام .
وقال بعضهم : بمكة وقال بعضهم بالمدينة .
واحتج كل انسان لرأيه ، واعتل لقوله - فقال محمد : أما الكوفة وسوادها فشيعه علي وولده ، وأما البصرة فعثمانية تدين بالكف ، وقبيل عبد الله المقتول يدينون بجميع الفرق ، ولا يعينون أحد ، وأما الجزيرة فحرورية مارقة ، والخارجية فيهم فاشيه ، وأعراب كأعلاج (3) ، ومسلمون في أخلاق النصارى ، وأما الشام فلا يعرفون إلا آل أبى سفيان ، وطاعة بنى مروان ، عداوة راسخة ، وجهلا متراكما ، وأما مكة والمدينة فقد غلب عليهما أبو بكر وعمر ، وليس يتحرك معنا في أمرنا هذا منهم أحد ، ولا يقوم بنصرنا إلا شيعتنا أهل البيت ، ولكن عليكم بخراسان ، فإن هناك العدد الكثير ، والجلد الظاهر ، و صدورا سليمة ، وقلوبا مجتمعة ، لم تتقسمها الاهواء ، ولم تتوزعها النحل ، ولم تشغلها ديانة ، ولا هدم فيها فساد ، وليس لهم اليوم همم (4) العرب ، ولا فيهم تجارب كتجارب الاتباع مع السادات ، ولا تحالف كتحالف القبائل ، ولا عصبية كعصبية العشائر ، وما زالوا ينالون ويمتهون ، ويظلمون فيكظمون ، وينتظرون الفرج ، ويؤملون
__________
(1) الوقيذ : المريض المشرف على الهلاك .
(2) الحميمة ، كجهينة بلدة بالبلقاء .
(3) الاعلج : جمع علج ، الرجل من كفار العجم .
(4) أ : " هم " .
(*)(15/293)
دولة ، وهم جند لهم أبدان وأجسام ، ومناكب وكواهل ، وهامات ولحى ، وشوارب وأصوات هائلة ، ولغات فخمة ، تخرج من أجواف منكرة .
وبعد ، فكأني أتفاءل جانب المشرق فإن مطلع الشمس سراج الدنيا ، ومصباح هذا الخلق .
فجاء الامر كما دبر ، وكما قدر ، فإن كان الرأي الذى رأى صوابا فقد وافق الرشاد ، وطبق المفصل ، وإن كان ذلك عن رواية متقدمة ، فلم يتلق تلك الرواية إلا عن نبوة .
قالوا : وأما قولكم : إن منا رجلا مكث أربعين سنة أميرا وخليفة ، فإن الامارة لا تعد فخرا مع الخلافة ، ولا تضم إليها ، ونحن نقول : إن منا رجلا مكث سبعا وأربعين سنة خليفة ، وهو أحمد الناصر بن الحسن المستضئ ، ومنا رجل مكث خمسا وأربعين سنة خليفة ، وهو عبد الله القائم ومكث أبوه أحمد القادر ثلاثا وأربعين سنة خليفة ، فملكهما أكثر من ملك بنى أمية كلهم ، وهم أربع عشرة خليفة .
ويقول الطالبيون : منا رجل مكث ستين سنة خليفة وهو معد بن الطاهر صاحب مصر ، وهذه مدة لم يبلغها خليفة ولا ملك من ملوك العرب في قديم الدهر ولا في حديثه .
وقلتم : لنا عاتكد بنت يزيد يكتنفها خمسة من الخلفاء ، ونحن نقول : لنا زبيدة قالوا : وأما قولكم : إن منا رجلا مكث أربعين سنة أميرا وخليفة ، فإن الامارة لا تعد فخرا مع الخلافة ، ولا تضم إليها ، ونحن نقول : إن منا رجلا مكث سبعا وأربعين سنة خليفة ، وهو أحمد الناصر بن الحسن المستضئ ، ومنا رجل مكث خمسا وأربعين سنة خليفة ، وهو عبد الله القائم ومكث أبوه أحمد القادر ثلاثا وأربعين سنة خليفة ، فملكهما أكثر من ملك بنى أمية كلهم ، وهم أربع عشرة خليفة .
ويقول الطالبيون : منا رجل مكث ستين سنة خليفة وهو معد بن الطاهر صاحب مصر ، وهذه مدة لم يبلغها خليفة ولا ملك من ملوك العرب في قديم الدهر ولا في حديثه .
وقلتم : لنا عاتكد بنت يزيد يكتنفها خمسة من الخلفاء ، ونحن نقول : لنا زبيدة بنت جعفر يكتنفها ثمانية من الخلفاء ، جدها المنصور خليفة ، وعم أبيها السفاح خليفة وعمها المهدى خليفة ، وابن عمها الهادى خليفة ، وبعلها الرشيد خليفة ، وابنها الامين خليفة ، وابنا بعلها المأمون والمعتصم خليفتان .
قالوا : وأما ما ذكرتموه من الاعياص والعنابس فلسنا نصدقكم فيما زعمتموه أصلا بهذه التسمية ، وإنما سموا الاعياص لمكان العيص وأبى العيص والعاص وأبى العاص ، وهذه أسماؤهم ، الاعلام ليست مشتقة من أفعال لهم كريمة ولا خسيسة .
وأما العنابس ،(15/294)
فإنما سموا بذلك لان حرب بن أمية كان اسمه عنبسة ، وأما حرب فلقبه ، ذكر ذلك النسابون ، ولما كان حرب أمثلهم سموا جماعتهم باسمه ، فقيل : العنابس ، كما يقال : المهالبة والمناذرة ، ولهذا المعنى سمي أبو سفيان بن حرب بن عنبسة ، وسمي سعيد بن العاص ابن عنبسة .
تم الجزء الخامس عشر من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ويليه الجزء السادس عشر(15/295)
شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد ج 16
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد ج 16(16/)
شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم الجزء السادس عشر دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه(16/1)
الطبعة الثانية (1967 م - 1387 ه) جميع الحقوق محفوظة منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي قم - ايران 1404 ه ق(16/2)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل (29) الاصل : ومن كتاب له عليه السلام إلى أهل البصرة : وقد كان من انتشار حبلكم وشقاقكم ما لم تغبوا عنه ، فعفوت عن مجرمكم ، ورفعت السيف عن مدبركم ، وقبلت من مقبلكم ، فإن خطت بكم الامور المردية ، وسفه الاراء الجائرة ، إلى منابذتي وخلافي ، فهأنذا قد قربت جيادي ، ورحلت ركابي .
ولئن ألجأتموني إلى المسير إليكم لاوقعن بكم وقعة لا يكون يوم الجمل إليها إلا كلعقة لاعق ، مع أني عارف لذي الطاعة منكم فضله ، و لذي النصيحة حقه ، غير متجاوز متهما إلى بري ، ولا ناكثا إلى وفي .
الشرح : ما لم تغبوا عنه ، أي لم تسهوا عنه ولم تغفلوا ، يقال غبيت عن الشئ أغبى غباوة ، إذا لم يفطن ، وغبي الشئ علي كذلك إذا لم تعرفه ، وفلان غبي على " فعيل " ، أي قليل الفطنة ، وقد تغابى ، أي تغافل ، يقول لهم : قد كان من خروجكم يوم الجمل عن الطاعة ،(16/3)
ونشركم حبل الجماعة ، وشقاقكم لي ما لستم أغبياء عنه ، فغفرت ورفعت السيف وقبلت التوبة والانابة .
والمدبر هاهنا : الهارب ، والمقبل : الذى لم يفر ، لكن جاءنا فاعتذر وتنصل .
ثم قال : فإن خطت بكم الامور ، خطا فلان خطوة يخطو ، وهو مقدار ما بين القدمين ، فهذا لازم ، فإن عديته ، قلت : أخطيت بفلان ، وخطوت به ، وهاهنا قد عداه بالباء .
والمردية : المهلكة ، والجائرة : العادلة عن الصواب .
والمنابذة ، مفاعلة ، من نبذت إليه عهده أي ألقيته وعدلت عن السلم إلى الحرب ، أو من نبذت زيدا ، أي أطرحته ولم أحفل به .
قوله : " قربت جيادي " ، أي أمرت بتقريب خيلي إلي لاركب وأسير إليكم .
ورحلت ركابي ، الركاب الابل ، ورحلتها : شددت على ظهورها الرحل ، قال : رحلت سمية غدوة أجمالها * * غضبى عليك فما تقول بدالها (1) كلعقة لاعق ، مثل يضرب للشئ الحقير التافه ، ويروى بضم اللام ، وهي ما تأخذه الملعقة .
ثم عاد فقال مازجا الخشونة باللين : مع أني عارف فضل ذي الطاعة منكم ، وحق ذي النصيحة ، ولو عاقبت لما عاقبت البرئ بالسقيم ، ولا أخذت الوفي بالناكث .
خطب زياد بالبصرة الخطبة الغراء المشهورة ، وقال فيها : والله لآخذن البرئ بالسقيم ، والبر باللئيم ، والوالد بالولد ، والجار بالجار ، أو تستقيم إلي قناتكم .
فقام أبو بلال مرداس
__________
(1) الاعشى ، ديوانه 22 .
(*)(16/4)
ابن أدية يهمس ، وهو حينئذ شيخ كبير ، فقال : أيها الامير ، أنبأنا الله بخلاف ما قلت ، وحكم بغير ما حكمت ، قال سبحانه : (ولا تزر وازرة وزر أخرى) (1) ، فقال زياد : يا أبا بلال ، إني لم أجهل ما علمت ، ولكنا لا نخلص إلى الحق منكم حتى نخوض إليه الباطل خوضا .
وفي رواية الرياشي : " لآخذن الولي بالولي ، والمقيم بالظاعن ، والمقبل بالمدبر ، والصحيح بالسقيم ، حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول : انج سعد فقد هلك سعيد ، أو تستقيم لي قناتكم " .
__________
(1) سورة الانعام 164 (*)(16/5)
(30) الاصل : من كتاب له عليه السلام إلى معاوية : فاتق الله فيما لديك ، وانظر في حقه عليك ، وارجع إلى معرفة ما لا تعذر بجهالته ، فإن للطاعة أعلاما واضحة ، وسبلا نيرة ، ومحجة نهجة ، وغاية مطلبة ، يردها الاكياس ، ويخالفها الانكاس ، من نكب عنها جار عن الحق ، وخبط في التيه ، وغير الله نعمته ، وأحل به نقمته .
فنفسك نفسك ! فقد بين الله لك سبيلك ، وحيث تناهت بك أمورك ، فقد أجريت إلى غاية خسر ، ومحلة كفر ، فإن نفسك قد أولجتك شرا ، وأقحمتك غيا ، وأوردتك المهالك ، وأوعرت عليك المسالك .
الشرح : قوله : " وغاية مطلبة " ، أي مساعفة لطالبها بما يطلبه ، تقول : طلب فلان منى كذا فأطلبته : أي أسعفت به .
قال الراوندي : مطلبة بمعنى متطلبه ، يقال : طلبت كذا وتطلبته ، وهذا ليس بشئ ، ويخرج الكلام عن أن يكون له معنى .
والاكياس : العقلاء ، والانكاس : جمع نكس ، وهو الدنئ من الرجال ، ونكب عنها : عدل .
قوله : " وحيث تناهت بك أمورك " ، الاولى ألا يكون هذا معطوفا ولا متصلا(16/6)
بقوله ، فقد بين الله لك سبيلك ، بل يكون كقولهم لمن يأمرونه بالوقوف : حيث أنت ، أي قف حيث أنت ، فلا يذكرون الفعل ، ومثله قولهم : مكانك ، أي قف مكانك .
قوله : " فقد أجريت " ، يقال : فلان قد أجرى بكلامه إلى كذا ، أي الغاية التى يقصدها هي كذا ، مأخوذ من إجراء الخيل ، للمسابقة ، وكذلك قد أجرى بفعله إلى كذا ، أي انتهى به إلى كذا .
ويروى : " قد أوحلتك شرا " أو أورطتك في الوحل ، والغي ضد الرشاد .
وأقحمتك غيا : جعلتك مقتحما له .
وأوعرت عليك المسالك : جعلتها وعرة .
وأول هذا الكتاب : أما بعد ، فقد بلغني كتابك تذكر مشاغبتي ، وتستقبح موازرتي ، وتزعمني متحيرا وعن الحق مقصرا ، فسبحان الله ، كيف تستجيز الغيبة وتستحسن العضيهة ! إني لم أشاغب إلا في أمر بمعروف ، أو نهي عن منكر ، ولم أتجبر (1) إلا على باغ مارق ، أو ملحد منافق ، ولم آخذ في ذلك إلا بقول الله سبحانه : (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم) (2) ، وأما التقصير في حق الله تعالى فمعاذ الله ! وإنما المقصر في حق الله جل ثناؤه من عطل الحقوق المؤكدة ، وركن إلى الاهواء المبتدعة ، وأخلد إلى الضلالة المحيرة ، ومن العجب أن تصف يا معاوية الاحسان ، وتخالف البرهان ، وتنكث الوثائق التى هي لله عز وجل طلبة ، وعلى عباده حجة ، مع نبذ الاسلام ، وتضييع الاحكام ، وطمس الاعلام ،
__________
(1) أ ، ب " ولم أضجر " وما أثبته عن " د " .
(2) سورة المجادلة 22 .
(*)(16/7)
والجري في الهوى ، والتهوس (1) في الردى ، فاتق الله فيما لديك ، وانظر في حقه عليك ...
الفصل المذكور في الكتاب .
وفي الخطبة زيادات يسيرة لم يذكرها الرضي رحمه الله منها : وإن للناس جماعة يد الله عليها ، وغضب الله على من خالفها ، فنفسك نفسك قبل حلول رمسك ، فإنك إلى الله راجع ، وإلى حشره مهطع (2) وسيبهظك كربه ، ويحل بك غمه ، في يوم لا يغنى النادم ندمه ، ولا يقبل من المعتذر عذره ، (يوم لا يغنى مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون) (3)
__________
(1) التهوس في الردى : الوقوع فيه .
(2) المهطع : الذي ينظر في ذل وخشوع .
(3) سورة الدخان 41 .
(*)(16/8)
الاصل : ومن وصيته عليه السلام للحسن عليه السلام كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين : من الوالد الفان ، المقر للزمان ، المدبر العمر ، المستسلم للدهر ، الذام للدنيا ، الساكن مساكن الموتى ، الظاعن عنها غدا .
إلى المولود المؤمل ما لا يدرك ، السالك سبيل من قد هلك ، غرض الاسقام ، ورهينة الايام ، ورمية المصائب ، وعبد الدنيا ، وتاجر الغرور ، وغريم المنايا ، وأسير الموت ، وحليف الهموم ، وقرين الاحزان ، ونصب الافات ، وصريع الشهوات ، وخليفة الاموات .
الشرح : [ ترجمة الحسن بن علي وذكر بعض أخباره ] قال الزبير بن بكار في كتاب " أنساب قريش " : ولد الحسن بن على عليه السلام للنصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة ، وسماه رسول الله صلى الله عليه وآله حسنا ، وتوفي لليال خلون من شهر ربيع الاول سنة خمسين .
قال : والمروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله سمى حسنا وحسينا رضي الله عنهما يوم سابعهما ، واشتق اسم حسين من اسم حسن .(16/9)
قال : وروى جعفر بن محمد عليه السلام أن فاطمة عليها السلام حلقت حسنا وحسينا يوم سابعهما ووزنت شعرهما فتصدقت بوزنه فضه .
قال الزبير : وروت زينب بنت أبى رافع ، قالت : أتت فاطمة عليها السلام بابنيها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله في شكوه (1) الذى توفي فيه ، فقالت : يا رسول الله ، هذان ابناك ، فورثهما شيئا ، فقال : أما حسن فإن له هيبتي وسؤددي ، وأما حسين فإن له جرأتي وجودي .
وروى محمد بن حبيب في أماليه أن الحسن عليه السلام حج خمس عشرة حجة ماشيا تقاد الجنائب معه ، وخرج من ماله مرتين ، وقاسم الله عز وجل ثلاث مرات ماله ، حتى أنه كان يعطي نعلا ويمسك نعلا ، ويعطي خفا ، ويمسك خفا .
وروى أبو جعفر محمد بن حبيب أيضا أن الحسن عليه السلام أعطى شاعرا ، فقال له رجل من جلسائه : سبحان الله ! أ تعطي شاعرا يعصي الرحمن ، ويقول البهتان ! فقال : يا عبد الله ، إن خير ما بذلت من مالك ما وقيت به عرضك ، وإن من ابتغاء الخير اتقاء الشر .
وروى أبو جعفر ، قال : قال ابن عباس رحمه الله : أول ذل دخل على العرب موت الحسن عليه السلام .
وروى أبو الحسن المدائني ، قال : سقي الحسن عليه السلام السم أربع مرات ، فقال : لقد سقيته مرارا فما شق علي مثل مشقته هذه المرة .
فقال له الحسين عليه السلام : أخبرني من سقاك ؟ قال : لتقتله ؟ قال : نعم ، قال : ما أنا بمخبرك ، إن يكن صاحبي الذى أظن فالله أشد نقمة ، وإلا فما أحب أن يقتل بى برئ .
__________
(1) الشكو : المرض .
(*)(16/10)
وروى أبو الحسن ، قال : قال معاوية لابن عباس ، ولقيه بمكة : يا عجبا من وفاة الحسن ! شرب علة بماء رومة (1) فقضى نحبه ، فوجم ابن عباس ، فقال معاوية : لا يحزنك الله ولا يسوءك ، فقال : لا يسوءني ما أبقاك الله ! فأمر له بمائة ألف درهم .
وروى أبو الحسن قال : أول من نعى الحسن عليه السلام بالبصرة عبد الله بن سلمة ، نعاه لزياد ، فخرج الحكم بن أبى العاص الثقفي ، فنعاه ، فبكى الناس - وأبو بكرة يومئذ مريض ، فسمع الضجة ، فقال : ما هذا ؟ فقالت امرأته ميسة بنت سخام الثقفية : مات الحسن بن علي ، فالحمد لله الذى أراح الناس منه ! فقال : اسكتي ويحك فقد أراحه الله من شر كثير ، وفقد الناس بموته خيرا كثيرا ، يرحم الله حسنا ! قال أبو الحسن المدائني : وكانت وفاته في سنة تسع وأربعين ، وكان مرضه أربعين يوما ، وكانت سنه سبعا وأربعين سنة ، دس إليه معاوية سما على يد جعدة بنت الاشعث ابن قيس زوجة الحسن ، وقال لها : إن قتلتيه (2) بالسم فلك مائة ألف ، وأزوجك يزيد ابني .
فلما مات وفى لها بالمال ، ولم يزوجها من يزيد .
قال : أخشى أن تصنع بابنى كما صنعت بابن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وروى أبو جعفر محمد بن حبيب عن المسيب بن نجبة ، قال : سمعت أمير المؤمنين عليه السلام ، يقول : أنا أحدثكم عني وعن أهل بيتي ، أما عبد الله ابن أخي فصاحب لهو وسماح ، وأما الحسن فصاحب جفنة وخوان ، فتى من فتيان قريش ، ولو قد التقت حلقتا البطان (3) لم يغن عنكم شيئا في الحرب ، وأما أنا وحسين فنحن منكم و أنتم منا .
__________
(1) د : " بماء برومة " .
(2) د : " قتلته " .
(3) مثل يضرب للامر إذا اشتد وجاوز الحد .
(*)(16/11)
قال أبو جعفر : وروى ابن عباس ، قال : دخل الحسن بن على عليه السلام على معاوية بعد عام الجماعة وهو جالس في مجلس ضيق ، فجلس عند رجليه ، فتحدث معاوية بما شاء أن يتحدث ، ثم قال : عجبا لعائشة ! تزعم أنى في غير ما أنا أهله .
وأن الذى أصبحت فيه ليس لي بحق ، ما لها ولهذا ! يغفر الله لها ، إنما كان ينازعني في هذا الامر أبو هذا الجالس ، وقد استاثر الله به ، فقال الحسن : أ وعجب ذلك يا معاوية ! قال : إى والله ، قال : أ فلا أخبرك بما هو أعجب من هذا ؟ قال : ما هو ؟ قال : جلوسك في صدر المجلس وأنا عند رجليك ، فضحك معاوية ، وقال : يا بن أخي ، بلغني أن عليك دينا ، قال : إن لعلي دينا ، قال : كم هو ؟ قال : مائة ألف ، فقال : قد أمرنا لك بثلثمائة ألف ، مائة منها لدينك ، ومائة تقسمها في أهل بيتك ، ومائة لخاصة نفسك ، فقم مكرما ، واقبض صلتك .
فلما خرج الحسن عليه السلام ، قال يزيد بن معاوية لابيه : تالله ما رأيت رجلا استقبلك بما استقبلك به ، ثم أمرت له بثلثمائة ألف ! قال : يا بني ، إن الحق حقهم ، فمن أتاك منهم فاحث له .
وروى أبو جعفر محمد بن حبيب ، قال : قال على عليه السلام : لقد تزوج الحسن وطلق حتى خفت أن يثير عداوة ، قال أبو جعفر : وكان الحسن إذا أراد أن يطلق امرأة جلس إليها ، فقال : أ يسرك أن أهب لك كذا وكذا ؟ فتقول له ما شئت ، أو نعم ، فيقول : هو لك ، فإذا قام أرسل إليها بالطلاق ، وبما سمى لها .
وروى أبو الحسن المدائني ، قال تزوج الحسن بن على عليه السلام هندا بنت سهيل ابن عمرو - وكانت عند عبد الله بن عامر بن كريز ، فطلقها - فكتب معاوية إلى أبى هريرة أن يخطبها على يزيد بن معاوية ، فلقيه الحسن عليه السلام ، فقال : أين تريد ؟ قال : أخطب هندا بنت سهيل بن عمرو على يزيد بن معاوية ، قال الحسن عليه السلام :(16/12)
فاذكرني لها ، فأتاها أبو هريرة ، فأخبرها الخبر ، فقالت : اختر لي ، فقال : أختار لك الحسن .
فتزوجته ، فقدم عبد الله بن عامر المدينة فقال للحسن ، إن لي عند هند وديعة ، فدخل إليها والحسن معه ، فخرجت حتى جلست بين يدي عبد الله بن عامر ، فرق لها رقة عظيمة (1) ، فقال الحسن : أ لا أنزل لك عنها ؟ فلا أراك تجد محللا خيرا لكما مني ! قال : لا ، ثم قال لها : وديعتي ، فأخرجت سفطين فيهما جوهر ، ففتحهما وأخذ من أحدهما قبضة وترك الاخر (2) عليها ، وكانت قبل ابن عامر عند عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد ، فكانت تقول : سيدهم جميعا الحسن ، وأسخاهم ابن عامر ، وأحبهم إلي عبد الرحمن بن عتاب .
وروى أبو الحسن المدائني ، قال : تزوج الحسن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبى بكر ، وكان المنذر بن الزبير يهواها ، فأبلغ الحسن عنها شيئا فطلقها ، فخطبها المنذر ، فأبت أن تتزوجه ، وقالت : شهر بي ! فخطبها عاصم بن عمر بن الخطاب ، فتزوجها ، فأبلغه المنذر عنها شيئا فطلقها ، فخطبها المنذر ، فقيل لها : تزوجيه ، فقالت : لا والله ما أفعل ، وقد فعل بي ما قد فعل مرتين ، لا والله لا يراني في منزله أبدا .
وروى المدائني ، عن جويرية بن أسماء ، قال : لما مات الحسن عليه السلام ، أخرجوا جنازته ، فحمل مروان بن الحكم سريره ، فقال له الحسين عليه السلام : تحمل اليوم جنازته وكنت بالامس تجرعه الغيظ ؟ قال مروان : نعم كنت أفعل ذلك بمن يوازن حلمه الجبال .
وروى المدائني عن يحيى بن زكريا ، عن هشام بن عروة ، قال : قال الحسن عند وفاته : ادفنوني عند قبر رسول الله صلى الله عليه وآله ، إلا أن تخافوا أن يكون في ذلك شر ، فلما أرادوا دفنه ، قال مروان بن الحكم : لا يدفن عثمان في حش كوكب (3) ، ويدفن الحسن ها هنا ،
__________
(1) د : " شديدة " .
(2) د : " الباقي " .
(3) حش كوكب ، بفتح أوله وتشديد ثانيه : موضع عند بقيع الغرقد ، اشتراه عثمان رضي الله عنه ، وزاده في البقيع ، ولما قتل ألقي فيه .
(*)(16/13)
فاجتمع بنو هاشم وبنو أمية ، وأعان هؤلاء قوم وهؤلاء قوم ، وجاءوا بالسلاح ، فقال أبو هريرة لمروان : أتمنع الحسن أن يدفن في هذا الموضع ، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : " الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة " ! قال مروان : دعنا منك ، لقد ضاع حديث رسول الله صلى الله عليه وآله إذ كان لا يحفظه غيرك وغير أبي سعيد الخدري ! وإنما أسلمت أيام خيبر ، قال أبو هريرة : صدقت ، أسلمت أيام خيبر ، ولكنني لزمت رسول الله صلى الله عليه وآله ولم أكن أفارقه ، وكنت أسأله ، وعنيت بذلك حتى علمت من أحب ومن أبغض ، ومن قرب ومن أبعد ، ومن أقر ومن نفى ، ومن لعن ومن دعا له ، فلما رأت عائشة السلاح والرجال ، وخافت أن يعظم الشر بينهم ، وتسفك الدماء ، قالت : البيت بيتي ، ولا آذن لاحد أن يدفن فيه ، وأبى الحسين عليه السلام أن يدفنه إلا مع جده ، فقال له محمد بن الحنفية : يا أخي ، إنه لو أوصى أن ندفنه لدفناه أو نموت قبل ذلك ، ولكنه قد استثنى ، وقال : " إلا أن تخافوا الشر " ، فأي شر يرى أشد مما نحن فيه ! فدفنوه (1) في البقيع .
قال أبو الحسن المدائني وصل نعي الحسن عليه السلام إلى البصرة في يومين وليلتين ، فقال الجارود : بن أبى سبرة (2) : إذا كان شر سار يوما وليلة * * وإن كان خير أخر السير أربعا إذا ما بريد الشر أقبل نحونا * * بإحدى الدواهي الربد سار وأسرعا وروى أبو الحسن المدائني ، قال : خرج على معاوية قوم من الخوارج بعد دخوله الكوفة وصلح الحسن عليه السلام له فأرسل معاوية إلى الحسن عليه السلام يسأله أن يخرج فيقاتل الخوارج ، فقال الحسن : سبحان الله ! تركت قتالك وهو لي حلال لصلاح الامة وألفتهم ، أفتراني أقاتل معك ! فخطب معاوية أهل الكوفة ، فقال : يا أهل الكوفة ،
__________
(1) د : " فدفن " .
(2) د : " هبيرة " .
(*)(16/14)
أ تروني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج ، وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون ، ولكنني قاتلتكم لاتأمر عليكم وعلى رقابكم ، وقد آتاني الله ذلك وأنتم كارهون ، ألا إن كل مال أو دم أصيب في هذه الفتنة فمطلول ، وكل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين ، ولا يصلح الناس إلا ثلاث : إخراج العطاء عند محله ، وإقفال الجنود لوقتها ، وغزو العدو في داره ، فإنهم إن لم تغزوهم غزوكم .
ثم نزل .
قال المدائني : فقال المسيب بن نجبة للحسن عليه السلام : ما ينقضى عجبي منك ! بايعت معاوية ومعك أربعون ألفا ، ولم تأخذ لنفسك وثيقة وعقدا ظاهرا ، أعطاك أمرا فيما بينك وبينه ، ثم قال ما قد سمعت ، والله ما أراد بها (1) غيرك ، قال : فما ترى ؟ قال : أرى أن ترجع إلى ما كنت عليه ، فقد نقض ما كان بينه وبينك .
فقال : يا مسيب ، إني لو أردت بما فعلت الدنيا لم يكن معاوية بأصبر عند اللقاء ، ولا أثبت عند الحرب منى ، ولكني أردت صلاحكم ، وكف بعضكم عن بعض ، فارضوا بقدر الله وقضائه ، حتى يستريح بر ، أو يستراح من فاجر .
قال المدائني ودخل عبيدة بن عمرو الكندي على الحسن عليه السلام - وكان ضرب على وجهه ضربة وهو مع قيس بن سعد بن عبادة - فقال : ما الذى أرى بوجهك ؟ قال : أصابني مع قيس .
فالتفت حجر بن عدي إلى الحسن ، فقال : لوددت أنك كنت مت قبل هذا اليوم ، ولم يكن ما كان ، إنا رجعنا راغمين بما كرهنا ، ورجعوا مسرورين بما أحبوا .
فتغير وجه الحسن ، وغمز الحسين عليه السلام حجرا ، فسكت ، فقال الحسن عليه السلام : يا حجر ليس كل الناس يحب ما تحب ولا رأيه كرأيك ، وما فعلت إلا إبقاء عليك ، والله كل يوم في شأن .
__________
(1) عبارة د : " ما أراد بما قال غيرك " .
(*)(16/15)
قال المدائني : ودخل عليه سفيان بن أبى ليلى النهدي ، فقال له : السلام عليك يا مذل المؤمنين ! فقال الحسن : اجلس يرحمك الله ، إن رسول الله صلى الله عليه وآله رفع له ملك بني أمية ، فنظر إليهم يعلون منبره واحدا فواحدا ، فشق ذلك عليه فأنزل الله تعالى في ذلك قرآنا قال له : (وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن) (1) .
وسمعت عليا أبي رحمه الله يقول : سيلي أمر هذه الامة رجل واسع البلعوم ، كبير البطن ، فسألته : من هو ؟ فقال : معاوية .
وقال لي : إن القرآن قد نطق بملك بني أمية ومدتهم ، قال تعالى : (ليلة القدر خير من ألف شهر) (2) ، قال أبى : هذه ملك بني أمية .
قال المدائني : فلما كان عام الصلح ، أقام الحسن عليه السلام بالكوفة أياما ، ثم تجهز للشخوص إلى المدينة ، فدخل عليه المسيب بن نجبة الفزاري وظبيان بن عمارة التيمي ليودعاه ، فقال الحسن : الحمد لله الغالب على أمره ، لو أجمع الخلق جميعا على ألا يكون ما هو كائن ما استطاعوا .
فقال أخوه الحسين عليه السلام : لقد كنت كارها لما كان طيب النفس على سبيل أبي حتى عزم علي أخي ، فأطعته ، وكأنما يجذ أنفي بالمواسي ، فقال المسيب : إنه والله ما يكبر علينا هذا الامر إلا أن تضاموا وتنتقصوا ، فإما نحن ، فإنهم سيطلبون مودتنا بكل ما قدروا عليه ، فقال الحسين : يا مسيب ، نحن نعلم أنك تحبنا ، فقال الحسن عليه السلام : سمعت أبى يقول : سمعت رسوالله صلى الله عليه وآله يقول : " من أحب قوما كان معهم " ، فعرض له المسيب وظبيان بالرجوع ، فقال : ليس [ لي ] (3) إلى ذلك سبيل ، فلما كان من غد خرج ، فلما صار بدير هند نظر إلى الكوفة ، وقال ، ولا عن قلى فارقت دار معاشري * * هم المانعون حوزتي وذماري
__________
(1) سورة الاسراء : 60 .
(2) سورة القدر 3 .
(3) من " د " .
(*)(16/16)
ثم سار إلى المدينة .
قال المدائني : فقال معاوية يومئذ للوليد بن عقبة بن أبى معيط بعد شخوص الحسن عليه السلام : يا أبا وهب ، هل رمت ؟ قال : نعم ، وسموت .
قال المدائني : أراد معاوية قول الوليد بن عقبة يحرضه على الطلب بدم عثمان : ألا أبلغ معاوية بن حرب * * فإنك من أخي ثقة مليم (1) قطعت الدهر كالسدم المعنى * * تهدر في دمشق ولا تريم (2) فلو كنت القتيل وكان حيا * * لشمر لا ألف ولا سئوم وإنك والكتاب إلى علي * * كدابغة وقد حلم الاديم (3) وروى المدائني ، عن إبراهيم بن محمد ، عن زيد بن أسلم ، قال : دخل رجل على الحسن عليه السلام بالمدينة ، وفي يده صحيفة ، فقال له الرجل : ما هذه ؟ قال : هذا كتاب معاوية ، يتوعد فيه على أمر كذا ، فقال الرجل : لقد كنت على النصف ، فما فعلت ؟ فقال له الحسن عليه السلام : أجل ، ولكني خشيت أن يأتي يوم القيامة سبعون ألفا أو ثمانون ألفا ، تشخب أوداجهم دما ، كلهم يستعدى الله فيم هريق دمه ! قال أبو الحسن : وكان الحصين (4) بن المنذر الرقاشى يقول : والله ما وفى معاوية للحسن بشئ مما أعطاه ، قتل حجرا وأصحاب حجر (5) ، وبايع لابنه يزيد ، وسم الحسن .
__________
(1) المليم : من أتى من الامر ما يلام عليه .
(2) في اللسان : " السدم : الذي يرغب عن فحلته فيحال بينه وبين ألافه ويقيد إذا هاج فيرعى حوالي الدار ، وإن صال جعل له حجام يمنعه عن فتح فمه ، ومنه قول الوليد بن عقبة ...
واستشهد بالبيت .
(3) الحلم ، بالتحريك : فساد الجلد ، قال صاحب اللسان في شرح البيت : " يقول أنت تسعى في إصلاح أمر قد تم فساده ، كهذه المرأة التي تدبغ الاديم الحلم الذي وقعت فيه الحلمة فنقبته وأفسدته فلا ينتفع به " .
(4) د : " الحضين " ، (5) حجر بن عدي .
(*)(16/17)
قال المدائني : وروى أبو الطفيل ، قال : قال الحسن عليه السلام لمولى له : أ تعرف معاوية بن خديج ؟ قال : نعم ، قال : إذا رأيته فأعلمني ، فرآه خارجا من دار عمرو ابن حريث ، فقال : هو هذا ! فدعاه ، فقال له : أنت الشاتم عليا عند ابن آكله الاكباد ! أما والله لئن وردت الحوض ولم ترده لترينه مشمرا عن ساقيه حاسرا عن ذراعيه ، يذود عنه المنافقين .
قال أبو الحسن : وروى هذا الخبر أيضا قيس بن الربيع ، عن بدر (1) بن الخليل ، عن مولى الحسن عليه السلام .
قال أبو الحسن : وحدثنا سليمان بن أيوب ، عن الاسود (2) بن قيس العبدى ، أن الحسن عليه السلام لقي يوما حبيب بن مسلمة فقال له : يا حبيب ، رب مسير لك في غير طاعة الله ! فقال : أما مسيري إلى أبيك فليس من ذلك ، قال : بلى والله ، ولكنك أطعت معاوية على دنيا قليلة زائلة ، فلئن قام بك في دنياك ، لقد قعد بك في آخرتك ، ولو كنت إذ فعلت شرا قلت خيرا ، كان ذلك كما قال عز وجل : (خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا) (3) ، ولكنك كما قال سبحانه : (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) (4) .
قال أبو الحسن : طلب زياد رجلا من أصحاب الحسن ، ممن كان في كتاب الامان ، فكتب إليه الحسن : من الحسن بن علي إلى زياد ، أما بعد ، فقد علمت ما كنا أخذنا من الامان لاصحابنا ، وقد ذكر لي فلان أنك تعرضت له ، فأحب ألا تتعرض له ، إلا بخير .
والسلام .
* 0 هامش) * (1) في د : " زيد " .
(2) د : " أبي الاسود " .
(3) سورة التوبة 102 .
(4) سورة المطففين 14 .
(*)(16/18)
فلما أتاه الكتاب ، وذلك بعد ادعاء معاوية إياه غضب حيث لم ينسبه إلى أبي سفيان ، فكتب إليه : من زياد بن أبى سفيان إلى الحسن ، أما بعد ، فإنه أتاني كتابك في فاسق تؤويه الفساق من شيعتك وشيعة أبيك ، وأيم الله لاطلبنه بين جلدك ولحمك ، وإن أحب الناس إلى لحما أن آكله للحم أنت منه [ والسلام ] (1) .
فلما قرا الحسن عليه السلام الكتاب ، بعث به إلى معاوية ، فلما قرأه غضب وكتب : من معاويه بن أبى سفيان إلى زياد .
أما بعد ، فإن لك رأيين : رأيا من أبى سفيان ورأيا من سمية ، فأما رأيك من أبى سفيان فحلم وحزم ، وأما رأيك من سمية فما يكون من مثلها .
إن الحسن بن على كتب إلي بأنك عرضت لصاحبه ، فلا تعرض له ، فإني لم أجعل [ لك ] (1) عليه سبيلا ، وإن الحسن ليس ممن يرمى به الرجوان (2) ، والعجب من كتابك إليه لا تنسبه إلى أبيه أو إلى أمه ، فالان حين اخترت له ، والسلام .
قلت : جرى في مجلس بعض الاكابر وأنا حاضر القول في أن عليا عليه السلام شرف بفاطمة عليها السلام فقال إنسان كان حاضر المجلس : بل فاطمة عليها السلام شرفت به وخاض الحاضرون في ذلك بعد إنكارهم تلك اللفظة ، وسألني صاحب المجلس أن أذكر ما عندي في المعنى وأن أوضح : أيما أفضل علي أم فاطمة ؟ فقلت : أما أيهما أفضل ، فإن أريد بالافضل الاجمع للمناقب التى تتفاضل بها الناس ، نحو العلم والشجاعة ونحو ذلك ، فعلي أفضل ، وإن أريد بالافضل الا رفع منزلة عند الله ، فالذي
__________
(1) عن " د " .
(2) الرجوان : تثنية رجا ، والرجا مقصور : ناحية كل شئ .
ويقال : رمى به الرجوان : إذا استهان به ، فكأنه رمى به هنالك ، أراد أنه طرح في المهالك .
(*)(16/19)
استقر عليه رأى المتأخرين من أصحابنا أن عليا أرفع المسلمين كافة عند الله تعالى بعد رسول الله صلى الله عليه وآله من الذكور والاناث ، وفاطمة امرأة من المسلمين ، وإن كانت سيدة نساء العالمين ، ويدل على ذلك أنه قد ثبت أنه أحب الخلق إلى الله تعالى بحديث الطائر ، وفاطمة من الخلق ، وأحب الخلق إليه سبحانه أعظمهم ثوابا يوم القيامة ، على ما فسره المحققون من أهل الكلام ، وإن أريد بالافضل الاشرف نسبا ، ففاطمة أفضل لان أباها سيد ولد آدم من الاولين والاخرين ، فليس في آباء علي عليه السلام مثله ولا مقارنه ، وإن أريد بالافضل من كان رسول الله صلى الله عليه وآله أشد عليه حنوا وأمس به رحما ، ففاطمة أفضل ، لانها ابنته ، وكان شديد الحب لها والحنو عليها جدا ، وهى أقرب إليه نسبا من ابن العم ، لا شبهه في ذلك .
فاما القول في أن عليا شرف بها أو شرفت به ، فإن عليا عليه السلام كانت أسباب شرفه وتميزه على الناس متنوعه ، فمنها ما هو متعلق بفاطمة عليها السلام ، ومنها ما هو متعلق بأبيها صلوات الله عليه ، ومنها ما هو مستقل بنفسه .
فأما الذى هو مستقل بنفسه ، فنحو شجاعته وعفته وحلمه وقناعته وسجاحة أخلاقه وسماحة نفسه .
وأما الذى هو متعلق برسول الله صلى الله عليه وآله فنحو علمه ودينه وزهده وعبادته ، وسبقه إلى الاسلام وإخباره بالغيوب .
وأما الذى يتعلق بفاطمة عليها السلام فنكاحه لها ، حتى صار بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله الصهر المضاف إلى النسب والسبب ، وحتى إن ذريته منها صارت ذرية لرسول الله صلى الله عليه وآله ، وأجزاء من ذاته عليه السلام ، وذلك لان الولد أنما يكون من مني الرجل ودم المرأة ، وهما جزآن من ذاتي الاب والام ، ثم هكذا أبدا في ولد الولد ومن بعده من البطون دائما .
فهذا هو القول في شرف علي عليه السلام بفاطمة .(16/20)
فأما شرفها به فإنها وإن كانت ابنة سيد العالمين ، إلا أن كونها زوجة علي أفادها نوعا من شرف آخر زائدا على ذلك الشرف الاول ، أ لا ترى أن أباها لو زوجها أبا هريرة أو أنس بن مالك لم يكن حالها في العظمة والجلاله كحالها الان ، وكذلك لو كان بنوها وذريتها من أبى هريرة وأنس بن مالك لم يكن حالهم في أنفسهم كحالهم الان .
قال أبو الحسن المدائني : وكان الحسن كثير التزوج تزوج خولة بنت منظور بن زبان الفزارية ، وأمها مليكة بنت خارجة بن سنان ، فولدت له الحسن بن الحسن .
وتزوج أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله ، فولدت له ابنا سماه طلحة ، وتزوج أم بشر بنت أبى مسعود الانصاري - واسم أبى مسعود عقبة بن عمر - فولدت له زيد بن الحسن ، وتزوج جعدة بنت الاشعث بن قيس ، وهي التي سقته السم ، وتزوج هند ابنة [ سهيل بن عمرو ، وحفصة ابنة عبد ] (1) الرحمن بن أبى بكر ، وتزوج أمراة من كلب ، وتزوج امرأة من بنات عمرو بن أهتم المنقري ، وامرأة من ثقيف ، فولدت له عمرا ، وتزوج امرأة من بنات علقمة ابن زرارة ، وامرأة من بني شيبان من آل همام بن مرة ، فقيل له : إنها ترى رأى الخوارج ، فطلقها ، وقال : إني أكره أن أضم إلى نحري جمرة من جمر جهنم .
وقال المدائني : وخطب إلى رجل فزوجه ، وقال له : إني مزوجك ، وأعلم أنك ملق طلق غلق (2) ، ولكنك خير الناس نسبا ، وأرفعهم جدا وأبا .
قلت : أما قوله ملق طلق ، فقد صدق ، وأما قوله غلق فلا ، فإن الغلق الكثير الضجر ، وكان الحسن عليه السلام أوسع الناس صدرا وأسجحهم خلقا .
__________
(1) من " د " .
(2) الملق : الفقير .
(*)(16/21)
قال المدائني : أحصيت زوجات الحسن بن على فكن سبعين امرأة .
قال المدائني : ولما توفى علي عليه السلام خرج عبد الله بن العباس بن عبد المطلب إلى الناس ، فقال : إن أمير المؤمنين عليه السلام توفى ، وقد ترك خلفا ، فإن أحببتم خرج وإليكم ، وإن كرهتم فلا أحد على أحد ، فبكى الناس ، وقالوا : بل يخرج إلينا فخرج الحسن عليه السلام ، فخطبهم ، فقال : أيها الناس ، اتقوا الله ، فأنا امراؤكم وأولياؤكم ، وإنا أهل البيت الذين قال الله تعالى فينا : (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (1) ، فبايعه الناس .
وكان خرج إليهم وعليه ثياب سود ، ثم وجه عبد الله بن عباس ومعه قيس بن سعد ابن عبادة ، مقدمة له في اثنى عشر ألفا إلى الشام ، وخرج وهو يريد المدائن ، فطعن بساباط وانتهب متاعه ، ودخل المدائن ، وبلغ ذلك معاوية ، فأشاعه ، وجعل أصحاب الحسن الذين وجههم مع عبد الله يتسللون إلى معاوية ، الوجوه وأهل البيوتات .
فكتب عبد الله بن العباس بذلك إلى الحسن عليه السلام فخطب الناس ووبخهم ، وقال : خالفتم أبى حتى حكم وهو كاره ، ثم دعاكم إلى قتال أهل الشام بعد التحكيم ، فأبيتم حتى صار إلى كرامة الله ، ثم بايعتموني على أن تسالموا من سالمني ، وتحاربوا من حاربني ، وقد أتانى أن أهل الشرف منكم قد أتوا معاوية ، وبايعوه ، فحسبي منكم ، لا تغروني من دينى ونفسي .
وأرسل عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب - وأمه هند بنت أبى سفيان بن حرب - إلى معاوية يسأله المسالمة ، واشترط عليه العمل بكتاب الله وسنة نبيه ، وألا يبايع لاحد من بعده ، وأن يكون الامر شورى ، وأن يكون الناس أجمعون آمنين .
__________
(1) سورة الاحزاب 33 .
(*)(16/22)
وكتب بذلك كتابا ، فأبى الحسين عليه السلام ، وامتنع ، فكلمه الحسن حتى رضي ، وقدم معاوية إلى الكوفة .
قال أبو الحسن : وحدثنا أبو بكر بن الاسود ، قال : كتب ابن العباس الى الحسن : أما بعد ، فإن المسلمين ولوك أمرهم بعد علي عليه السلام ، فشمر للحرب ، وجاهد عدوك ، وقارب أصحابك ، واشتر (2) من الظنين (3) دينه بما لا يثلم (4) لك دينا (5) ، ووال أهل (6) البيوتات والشرف ، تستصلح به عشائرهم ، حتى يكون الناس جماعة ، فإن بعض ما يكره الناس - ما لم يتعد الحق ، وكانت عواقبه تؤدى إلى ظهور العدل ، وعز الدين - خير من كثير مما يحبه الناس إذا كانت عواقبه تدعو إلى ظهور الجور وذل المؤمنين ، وعز الفاجرين .
واقتد بما جاء عن أئمة العدل ، فقد جاء عنهم أنه لا يصلح الكذب إلا في حرب أو إصلاح بين الناس ، فإن الحرب خدعة ، ولك في ذلك سعة إذا كنت محاربا ، ما لم تبطل حقا .
واعلم أن عليا أباك إنما رغب الناس عنه إلى معاوية أنه أساء بينهم في الفئ ، وسوى بينهم في العطاء ، فثقل عليهم ، واعلم أنك تحارب من حارب الله ورسوله في ابتداء الاسلام ، حتى ظهر أمر الله ، فلما وحد الرب ، ومحق الشرك ، وعز الدين ، أظهروا الايمان وقرءوا القرآن ، مستهزئين بآياته ، وقاموا إلى الصلاة وهم كسالى ، وأدوا الفرائض
__________
(1) في د : " أمورهم " .
(2) د : " واستر " .
(3) الظنين : " المتهم " .
(4) يثلم : يعيب .
(5) العقد 1 : 30 ، وعيون الاخبار 1 : 14 " يفك " .
(6) العقد وعيون الاخبار : " وول " .
(*)(16/23)
وهم لها كارهون ، فلما رأوا أنه لا يعز في الدين إلا الاتقياء الابرار ، توسموا بسيما الصالحين ، ليظن المسلمون بهم خيرا ، فما زالوا بذلك حتى شركوهم في أماناتهم ، وقالوا : حسابهم على الله ، فإن كانوا صادقين فإخواننا في الدين ، وإن كانوا كاذبين كانوا بما اقترفوا هم الاخسرين ، وقد منيت بأولئك وبأبنائهم وأشباههم ، والله ما زادهم طول العمر إلا غيا ، ولا زادهم ذلك لاهل الدين إلا مقتا ، فجاهدهم ولا ترض دنية ، ولا تقبل خسفا (1) ، فإن عليا لم يجب إلى الحكومة حتى غلب على أمره فأجاب ، وإنهم يعلمون أنه أولى بالامر أن حكموا بالعدل ، فلما حكموا بالهوى ، رجع إلى ما كان عليه حتى أتى عليه أجله ، ولا تخرجن من حق أنت أولى به ، حتى يحول الموت دون ذلك .
والسلام .
قال المدائني : وكتب الحسن عليه السلام إلى معاوية : من عبد الله الحسن أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبى سفيان .
أما بعد فإن الله بعث محمدا صلى الله عليه وآله رحمة للعالمين ، فأظهر به الحق ، وقمع به الشرك ، وأعز به العرب عامة ، وشرف به قريشا خاصة ، فقال : (وإنه لذكر لك ولقومك) (2) ، فلما توفاه الله تنازعت العرب في الامر بعده ، فقالت قريش : نحن عشيرته وأولياؤه ، فلا تنازعونا سلطانه ، فعرفت العرب لقريش ذلك ، وجاحدتنا قريش ما عرفت لها العرب ، فهيهات ! ما أنصفتنا قريش وقد كانوا ذوي فضيلة في الدين ، وسابقة في الاسلام ، ولا غرو (3) إلا منازعته إيانا الامر بغير حق في الدنيا معروف ، ولا أثر في الاسلام محمود ، فالله الموعد ، نسأل الله ألا يؤتينا في هذه الدنيا شيئا ينقصنا عنده في الاخرة .
إن عليا لما توفاه الله ولانى المسلمون الامر بعده ، فاتق الله يا معاوية ، وانظر لامة محمد
__________
(1) خسفا ، أي ذلا .
(2) سورة الزخرف 44 .
(2) لا غرو ، أي لا عجب .
(*)(16/24)
صلى الله عليه وآله ، ما تحقن به دماءها وتصلح به أمرها .
والسلام .
وبعث بالكتاب مع الحارث بن سويد التيمي ، تيم الرباب ، وجندب الازدي ، فقدما على معاوية فدعواه إلى بيعة الحسن عليه السلام فلم يجبهما ، وكتب جوابه : أما بعد ، فقد فهمت ما ذكرت به رسول الله ، وهو أحق الاولين والاخرين بالفضل كله ، وذكرت تنازع المسلمين الامر بعده ، فصرحت بتهمة أبي بكر الصديق وعمر وأبى عبيدة الامين ، وصلحاء المهاجرين ، فكرهت لك ذلك ، إن الامة لما تنازعت الامر بينها رأت قريشا أخلقها به (1) ، فرأت قريش والانصار وذوو الفضل والدين من المسلمين أن يولوا من قريش أعلمها بالله ، وأخشاها له ، وأقواها على الامر ، فاختاروا أبا بكر ولم يألوا ، ولو علموا مكان رجل غير أبى بكر يقوم مقامه ويذب عن حرم الاسلام ذبه ما عدلوا بالامر إلى أبى بكر ، والحال اليوم بينى وبينك على ما كانوا عليه ، فلو علمت أنك أضبط لامر الرعية ، وأحوط على هذه الامة ، وأحسن سياسة ، وأكيد للعدو ، وأقوى على جمع الفئ ، لسلمت لك الامر بعد أبيك ، فإن أباك سعى على عثمان حتى قتل مظلوما ، فطالب الله بدمه ، ومن يطلبه الله فلن يفوته .
ثم ابتز الامة أمرها ، وفرق جماعتها ، فخالفه نظراؤه من أهل السابقة والجهاد والقدم في الاسلام ، وادعى أنهم نكثوا بيعته ، فقاتلهم فسفكت الدماء ، واستحلت الحرم ، ثم أقبل إلينا لا يدعى علينا بيعة ، ولكنه يريد أن يملكنا اغترارا ، فحاربناه وحاربنا ، ثم صارت الحرب إلى أن اختار رجلا واخترنا رجلا ، ليحكما بما تصلح عليه الامه ، وتعود به الجماعة والالفة ، وأخذنا بذلك عليهما ميثاقا ، وعليه مثله وعلينا مثله ، على الرضا بما حكما ، فإمضى الحكمان عليه الحكم بما علمت ، وخلعاه ، فو الله ما رضي بالحكم ، ولا صبر لامر الله ، فكيف تدعوني إلى أمر إنما تطلبه بحق أبيك ، وقد خرج منه ! فانظر لنفسك ولدينك .
والسلام .
__________
(1) في د " أحقها " .(16/25)
قال : ثم قال للحارث وجندب : ارجعا فليس بينى وبينكم إلا السيف ، فرجعا وأقبل إلى العراق في ستين ألفا ، واستخلف على الشام الضحاك بن قيس الفهرى والحسن مقيم بالكوفة ، لم يشخص حتى بلغه أن معاوية قد عبر جسر منبج ، فوجه حجر بن عدى يأمر العمال بالاحتراس ، ويذب الناس فسارعوا فعقد لقيس بن سعد بن عبادة على اثنى عشر ألفا ، فنزل دير عبد الرحمن ، واستخلف على الكوفة المغيرة بن نوفل بن الحارث ابن عبد المطلب ، وأمر قيس بن سعد بالمسير ، وودعه وأوصاه ، فأخذ على الفرات وقرى الفلوجة ، ثم إلى مسكن .
و ارتحل الحسن عليه السلام متوجها نحو المدائن ، فأتى ساباط فأقام بها أياما ، فلما أراد أن يرحل إلى المدائن قام فخطب الناس ، فقال : أيها الناس ، إنكم بايعتموني على أن تسالموا من سالمت وتحاربوا من حاربت ، وإني والله ما أصبحت محتملا على أحد من هذه الامه ضغينة في شرق ولا غرب ، ولما تكرهون في الجماعة والالفة والامن ، وصلاح ذات البين خير مما تحبون في الفرقة ، والخوف والتباغض والعداوة ، وإن عليا أبى كان يقول : لا تكرهوا إمارة معاوية ، فإنكم لو فارقتموه لرأيتم الرؤوس تندر (1) عن كواهلها كالحنظل .
ثم نزل .
فقال الناس : ما قال هذا القول إلا وهو خالع نفسه ومسلم الامر لمعاوية فثاروا به فقطعوا كلامه ، وانتهبوا متاعه ، وانتزعوا مطرفا كان عليه ، وأخذوا جارية كانت معه ، واختلف الناس فصارت طائفه معه ، وأكثرهم عليه ، فقال : اللهم أنت المستعان ، وأمر بالرحيل ، فارتحل الناس ، وأتاه رجل بفرس ، فركبه وأطاف به بعض أصحابه ، فمنعوا الناس عنه وساروا ، فقدمه سنان بن الجراح الاسدي إلى مظلم ساباط ، فأقام به ، فلما دنا منه تقدم إليه يكلمه ، وطعنه في فخذه بالمعول (2) طعنة كادت تصل إلى العظم ، فغشي عليه وابتدره أصحابه ، فسبق إليه عبيد الله الطائى ، فصرع سنانا وأخذ ظبيان بن عمارة المعول
__________
(1) تندر : تقطع .
(2) المعول : حديدة ينقر بها الصخر .
(*)(16/26)
من يده ، فضربه به فقطع أنفه ، ثم ضربه بصخرة على رأسه فقتله ، وأفاق الحسن عليه السلام من غشيته ، فعصبوا جرحه وقد نزف وضعف ، فقدموا به المدائن وعليها سعد بن مسعود ، عم المختار بن أبى عبيد ، وأقام بالمدائن حتى برئ من جرحه .
قال المدائني : وكان الحسن عليه السلام أكبر ولد علي ، وكان سيدا سخيا حليما خطيبا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يحبه ، سابق يوما بين الحسين وبينه فسبق الحسن ، فأجلسه على فخذه اليمنى ، ثم أجلس الحسين على الفخذ اليسرى ، فقيل له : يا رسول الله أيهما أحب إليك ؟ فقال : أقول كما قال إبراهيم أبونا ، وقيل له : أي ابنيك أحب إليك ؟ قال : أكبرهما وهو الذى يلد ابني محمدا صلى الله عليه وسلم .
وروى المدائني عن زيد بن أرقم : قال : خرج الحسن عليه السلام وهو صغير ، وعليه بردة ورسول الله صلى الله عليه وآله يخطب ، فعثر فسقط فقطع رسول الله صلى الله عليه وآله الخطبة ، ونزل مسرعا إليه ، وقد حمله الناس ، فتسلمه وأخذه على كتفه ، وقال : إن الولد لفتنة ، لقد نزلت إليه وما أدرى ! ثم صعد فأتم الخطبة .
وروى المدائني ، قال : لقي عمرو بن العاص الحسن عليه السلام في الطواف ، فقال له : يا حسن ، زعمت أن الدين لا يقوم إلا بك وبأبيك ، فقد رأيت الله أقامه بمعاوية ، فجعله راسيا بعد ميله ، وبينا بعد خفائه ، أ فرضي الله بقتل عثمان ، أو من الحق أن تطوف بالبيت كما يدور الجمل بالطحين ، عليك ثياب كغرقئ (1) البيض ، وأنت قاتل عثمان ، ولله إنه لالم للشعث ، وأسهل للوعث ، أن يوردك معاوية حياض أبيك ، فقال الحسن عليه السلام : إن لاهل النار علامات يعرفون بها ، إلحادا لاولياء الله ، وموالاة لاعداء الله ، والله إنك
__________
(1) الغرقئ : القشرة الملتزقة ببياض البيض .
(*)(16/27)
لتعلم أن عليا لم يرتب في الدين ، ولا يشك في الله ساعة ولا طرفة عين قط ، وأيم الله لتنتهين يا بن أم عمرو أو لانفذن حضنيك بنوافذ أشد من القعضبية (1) : فإياك والتهجم علي ، فإنى من قد عرفت ، لست بضعيف الغمزة ، ولا هش المشاشة (2) ، ولا مرئ المأكلة ، وإنى من قريش كواسطة القلادة ، يعرف حسبى ، ولا أدعى لغير أبى ، وأنت من تعلم ويعلم الناس ، تحاكمت فيك رجال قريش ، فغلب عليك جزاروها ، ألأمهم حسبا ، وأعظمهم لؤما ، فإياك عنى ، فإنك رجس ، ونحن أهل بيت الطهارة ، أذهب الله عنا الرجس وطهرنا تطهيرا .
فأفحم عمرو وانصرف كئيبا .
وروى أبو الحسن المدائني قال : سأل معاوية الحسن بن علي بعد الصلح أن يخطب الناس ، فامتنع ، فناشده أن يفعل ، فوضع له كرسي ، فجلس عليه ، ثم قال : الحمد لله الذى توحد في ملكه ، وتفرد في ربوبيته ، يؤتي الملك من يشاء ، وينزعه عمن يشاء .
والحمد لله الذى أكرم بنا مؤمنكم ، وأخرج من الشرك أولكم ، وحقن دماء آخركم ، فبلاؤنا عندكم قديما وحديثا أحسن البلاء ، إن شكرتم أو كفرتم .
أيها الناس ، أن رب علي كان أعلم بعلي حين قبضه إليه ، ولقد اختصه بفضل لم تعتادوا مثله ، ولم تجدوا مثل سابقته ، فهيهات هيهات ! طالما قلبتم له الامور حتى أعلاه الله عليكم وهو صاحبكم ، وعدوكم في بدر وأخواتها ، جرعكم رنقا ، وسقاكم علقا ، وأذل رقابكم ، وأشرقكم بريقكم ، فلستم بملومين على بغضه .
وأيم الله لا ترى أمة محمد خفضا ما كانت سادتهم وقادتهم في بني أمية ، ولقد وجه الله إليكم فتنة لن تصدروا عنها حتى تهلكوا ، لطاعتكم طواغيتكم ، وانضوائكم إلى شياطينكم ، فعند الله أحتسب ما مضى وما ينتظر من سوء دعتكم ، وحيف حكمكم .
ثم قال : يا أهل الكوفة لقد فارقكم بالامس سهم من مرامي الله ، صائب
__________
(1) القعضبية : الاسنة ، منسوبة إلى قعضب اسم رجل كان يعمل الاسنة في الجاهلية .
(2) المشاش في الاصل : رءوس العظام .
(*)(16/28)
على أعداء الله ، نكال على فجار قريش ، لم يزل آخذا بحناجرها ، جاثما على أنفاسها ، ليس بالملومة في أمر الله ، ولا بالسروقة لمال الله ، ولا بالفروقة في حرب أعداء الله ، أعطى الكتاب خواتمه وعزائمه ، دعاه فأجابه ، وقاده فاتبعه ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، فصلوات الله عليه ورحمته .
ثم نزل .
فقال معاوية : أخطا عجل أو كاد ، وأصاب مثبت أو كاد ماذا أردت من خطبة الحسن ! فأما أبو الفرج على بن الحسين الاصفهاني ، فإنه قال : كان في لسان أبى محمد الحسن عليه السلام ثقل كالفأفأة ، حدثنى بذلك محمد بن الحسين الاشناني ، قال : حدثنى محمد بن إسماعيل الاحمسي ، عن مفضل بن صالح ، عن جابر .
قال : كان في لسان الحسن عليه السلام رتة (1) ، فكان سلمان الفارسي رحمه الله يقول : أتته من قبل عمه موسى بن عمران عليه السلام (2) .
قال أبو الفرج : ومات شهيدا مسموما ، دس معاوية إليه وإلى سعد بن أبى وقاص حين أراد أن يعهد إلى يزيد ابنه بالامر بعده سما ، فماتا منه في أيام متقاربة ، وكان الذى تولى ذلك من الحسن عليه السلام زوجته جعدة بنت الاشعث بن قيس بمال بذله لها معاوية .
ويقال : إن اسمها سكينة ، ويقال عائشة ويقال : شعثاء (3) ، والصحيح أن اسمها جعدة .
قال أبو الفرج : فروى عمرو بن ثابت ، قال : كنت أختلف إلى أبى إسحاق
__________
(1) أ ، ب : " رثة " ، تصحيف ، والصواب ما أثبته من د ومقاتل الطالبيين ، والرتة : عجلة الكلام مع قلة المبالاة .
(2) مقاتل الطالبيين 50 .
(3) ب : " شيثا " .
(*)(16/29)
السبيعي [ سنة ] (1) ، أسأله عن الخطبة التى خطب بها الحسن بن على عليه السلام عقيب وفاة ، أبيه ولا (2) يحدثنى بها ، فدخلت إليه في يوم شات وهو في الشمس ، وعليه برنسه ، فكأنه غول ، فقال لي : من أنت ؟ فأخبرته ، فبكى ، وقال : كيف أبوك ، وكيف أهلك ؟ قلت : صالحون ، قال : في أي شئ تتردد منذ سنة ؟ قلت : في خطبة الحسن بن على بعد وفاة أبيه (3) .
حدثنى هبيره بن مريم (4) ، قال : خطب الحسن عليه السلام بعد وفاة أمير المؤمنين عليه السلام ، فقال : قد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الاولون ، ولا يدركه الاخرون [ بعمل ] (5) .
لقد كان يجاهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله فيسبقه بنفسه ، ولقد كان يوجهه برايته ، فيكنفه جبرائيل عن يمينه ، وميكائيل عن يساره ، فلا يرجع حتى يفتح الله عليه ، ولقد توفى في الليلة التى عرج فيها بعيسى بن مريم ، والتى توفى فيها يوشع بن نون ، وما خلف صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم من عطائه ، أراد أن يبتاع بها خادما لاهله .
ثم خنقته العبرة فبكى وبكى الناس معه ، ثم قال : أيها الناس ، من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن محمد رسول الله صلى الله عليه وآله ، أنا ابن البشير ، أنا ابن النذير ، أنا ابن الداعي إلى الله بإذنه و السراج المنير ، أنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، والذين افترض الله مودتهم في كتابه ، إذ يقول : (ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا) (6) ، فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت .
قال أبو الفرج : فلما انتهى إلى هذا الموضع من الخطبة قام عبد الله بن العباس بين
__________
(1) من د ومقاتل الطالبيين .
(2) د : " فلا " .
(3) مقاتل الطالبيين 51 .
(4) كذا في مقاتل الطالبيين .
(5) من مقاتل الطالبيين .
(6) سورة الشورى 23 .
(*)(16/30)
يديه ، فدعا الناس إلى بيعته ، فاستجابوا وقالوا : ما أحبه إلينا وأحقه بالخلافة ! فبايعوه ، ثم نزل من المنبر (1) .
قال أبو الفرج : ودس معاوية رجلا من حمير إلى الكوفة ، ورجلا من بنى القين إلى البصرة يكتبان إليه بالاخبار ، فدل على الحميري (2) وعلى القيني ، فأخذا وقتلا (3) .
وكتب الحسن عليه السلام إلى معاوية : أما بعد ، فإنك دسست إلى الرجال ، كأنك تحب اللقاء ، لا أشك في ذلك فتوقعه إن شاء الله .
وبلغني أنك شمت بما لم يشمت به ذو الحجى ، وإنما مثلك في ذلك كما قال الاول : فإنا ومن قد مات منا لكالذى * * يروح فيمسي في المبيت ليغتدي (4) فقل للذى يبغي خلاف الذى مضى * * تجهز لاخرى مثلها فكان قد فأجابه معاوية : أما بعد ، فقد وصل كتابك ، وفهمت ما ذكرت فيه ، ولقد علمت بما حدث فلم أفرح ولم أحزن ، ولم أشمت ولم آس ، وإن عليا أباك لكما قال أعشى بني قيس ابن ثعلبة : فأنت الجواد وأنت الذى * * إذا ما القلوب ملأن الصدورا (5) جدير بطعنة يوم اللقا * * ء يضرب منها النساء النحورا وما مزيد من خليج البحا * * ر يعلو الاكام ويعلو الجسورا بأجود منه بما عنده * * فيعطي الالوف ويعطي البدورا .
(6)
__________
(1) مقاتل الطالبيين 52 .
(2) مقاتل الطالبيين : " فدل على الحميري عند لحام " .
(3) مقاتل الطالبيين 52 .
(4) في مقاتل الطالبيين ، البيت الثاني قبل الاول .
(5) ديوانه 72 .
(6) مقاتل الطالبيين 53 .
(*)(16/31)
قال أبو الفرج : وكتب عبد الله بن العباس من البصرة إلى معاوية : أما بعد ، فإنك ودسك أخا بني القين إلى البصرة ، تلتمس من غفلات قريش بمثل ما ظفرت به من يمانيتك ، لكما قال أمية بن أبى الاسكر (1) : لعمرك إني والخزاعي طارقا * * كنعجة عاد حتفها تتحفر أثارث عليها شفرة بكراعها * * فظلت بها من آخر الليل تنحر شمت بقوم من صديقك أهلكوا * * أصابهم يوم من الدهر أصفر (2) فأجابه معاوية : أما بعد ، فإن الحسن بن على ، قد كتب إلي بنحو مما كتبت به ، وأنبأني بما لم يحقق سوء ظن (3) ورأي في ، وإنك لم تصب مثلي ومثلكم ، وإنما مثلنا كما قال طارق الخزاعي يجيب أمية عن هذا الشعر : فو الله ما أدري وإنى لصادق * * إلى أي من يظنني أتعذر أعنف إن كانت زبينة أهلكت * * ونال بني لحيان شر فأنفروا (4)
__________
(1) كذا في الاغاني ومقاتل الطالبيين وهو الصواب ، وفي ب : " أمية بن أبي الصلت " .
(2) في الاغاني : " أعسر " .
(3) مقاتل الطالبيين : " بما لم يحقق سوء ظن ورأي في " .
(4) أنفروا : شردوا ، وفي الاغاني : " ونفروا " ، والخبر في الاغاني 18 : 161 ، 162 ، ومقاتل الطالبيين 53 ، 54 ، وفي الاغاني عن أبي عمرو الشيباني : " أصيب قوم من بني جندع بن ليث بن بكر بن هوازن رهط أمية بن الاسكر ، يقال لهم : بنو زبينة ، أصابهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم المريسيع في عزوة بني المصطلق ، وكانوا جيرانه يومئذ ، ومعهم ناس من بني لحيان بن هذيل ، ومع بني جندع رجل من خزاعة يقال له طارق ، فاتهمه بنو ليث بهم ، وأنه دل عليهم ، وكانت خزاعة مسلمها ومشركها يميلون إلى النبي صلى الله عليه وسلم على قريش ، فقال أمية بن الاسكر لطارق الخزاعي : * لعمرك إني والخزاعي طارقا * وأورد أبيات أمية ورد طارق ، ثم قال : " وهذه الابيات الابتداء والانتهاء تمثل بابتدائها ابن عباس في رسالة إلى معاوية ، وتمثل بجوابها معاوية في رسالة أجابه بها " .
(*)(16/32)
قال أبو الفرج : وكان أول شئ أحدثه الحسن عليه السلام أنه زاد المقاتلة مائة مائة ، وقد كان علي عليه السلام فعل ذلك يوم الجمل ، وفعله الحسن حال الاستخلاف ، فتبعه الخلفاء من بعده في ذلك (1) .
قال وكتب الحسن عليه السلام إلى معاوية مع حرب بن عبد الله الازدي (2) .
من الحسن (3) بن على أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبى سفيان ، سلام عليك ، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو ، أما بعد ، فإن الله جل جلاله بعث محمدا رحمة للعالمين ، ومنة للمؤمنين ، وكافة للناس أجمعين ، (لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين) (4) ، فبلغ رسالات الله ، وقام بأمر الله حتى توفاه الله غير مقصر ولا وان ، وبعد أن أظهر الله به الحق ، ومحق به الشرك ، وخص به قريشا خاصة فقال له : (وانه لذكر لك ولقومك) (5) .
فلما توفى تنازعت سلطانه العرب ، فقالت قريش : نحن قبيلته وأسرته وأولياؤه ، ولا يحل لكم أن تنازعونا سلطان محمد وحقه ، فرأت العرب أن القول ما قالت قريش ، وأن الحجة في ذلك لهم على من نازعهم أمر محمد ، فأنعمت (6) لهم ، وسلمت إليهم .
ثم حاججنا نحن قريشا بمثل ما حاججت به العرب ، فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها ، إنهم أخذوا هذا الامر دون العرب بالانتصاف والاحتجاج ، فلما صرنا أهل بيت محمد وأولياءه إلى محاجتهم ، وطلب النصف (7) منهم باعدونا واستولوا بالاجماع على ظلمنا ومراغمتنا (8) والعنت (9) منهم لنا ، فالموعد الله ، وهو الولى النصير .
__________
(1) مقاتل الطالبيين 55 .
(2) مقاتل الطالبيين : " مع جندب بن عبد الله الازدي " .
(3) مقاتل الطالبيين : " بسم الله الرحمن الرحيم ، من الحسن ...
" .
(4) سورة يس 7 .
(5) سورة الزخرف 44 .
(6) أنعمت لهم ، أي قالت لهم : " نعم " .
(7) النصف : الانصاف .
(8) راغمهم : نابذهم وعاداهم .
(9) العنت : المشقة وفي د " والعبث " .
(*)(16/33)
ولقد كنا تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا في حقنا وسلطان نبينا ، وإن كانوا ذوى فضيلة وسابقة في الاسلام ، وأمسكنا عن منازعتهم مخافة على الدين أن يجد المنافقون والاحزاب (1) في ذلك مغمزا يثلمونه به ، أو يكون لهم بذلك سبب إلى ما أرادوا من إفساده ، فاليوم فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية على أمر لست من أهله ، لا بفضل في الدين معروف ، ولا أثر في الاسلام محمود ، وأنت ابن حزب من الاحزاب ، وابن أعدى قريش لرسول الله صلى الله عليه وآله ولكتابه ، والله حسيبك ، فسترد فتعلم لمن عقبى الدار ، وبالله لتلقين عن قليل ربك ، ثم ليجزينك بما قدمت يداك ، وما الله بظلام للعبيد .
إن عليا لما مضى لسبيله - رحمة الله عليه يوم قبض ويوم من الله عليه بالاسلام ، ويوم يبعث حيا - ولاني المسلمون الامر بعده ، فأسأل الله ألا يؤتينا في الدنيا الزائلة شيئا ينقصنا به في الاخرة مما عنده من كرامة ، وإنما حملني على الكتاب إليك الاعذار فيما بينى وبين الله عز وجل في أمرك ، ولك في ذلك إن فعلته الحظ الجسيم ، والصلاح للمسلمين ، فدع التمادي في الباطل ، وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي ، فإنك تعلم أني أحق بهذا الامر منك عند الله وعند كل أواب حفيظ ، ومن له قلب منيب .
واتق الله ودع البغي ، واحقن دماء المسلمين ، فوالله ما لك خير في أن تلقى الله من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به ، وادخل في السلم والطاعة ، ولا تنازع الامر أهله ومن هو أحق به منك ، ليطفئ الله النائرة (2) بذلك ، ويجمع الكلمة ، ويصلح ذات البين ، وإن أنت أبيت إلا التمادي في غيك سرت (3) إليك بالمسلمين فحاكمتك ، حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين .
فكتب معاوية إليه (4) :
__________
(1) للاحزاب : هم الذين تحزبوا وتظاهروا على قتال رسول الله ثلى الله عليه وسلم من قريش وغطفان وبني مرة وبني أشجع وبني سليم وبني أسد في غزوة الخندق .
(2) النائرة : العداوة والشحناء .
(3) مقاتل الطالبيين : " نهدت " .
(4) في مقاتل الطالبيين " بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله ...
" .
(*)(16/34)
من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى الحسن بن علي ، سلام الله عليك ، فإني أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو ، أما بعد ، فقد بلغني كتابك ، وفهمت ما ذكرت به محمدا رسول الله من الفضل ، وهو أحق الاولين والاخرين بالفضل كله قديمه وحديثه ، وصغيره وكبيره ، وقد والله بلغ وأدى ، ونصح وهدى ، حتى أنقذ الله به من الهلكة ، وأنار به من العمى ، وهدى به من الجهالة والضلالة ، فجزاه الله أفضل ما جزى نبيا عن أمته ، وصلوات الله عليه يوم ولد ، ويوم بعث ، ويوم قبض ، ويوم يبعث حيا ! وذكرت وفاة النبي صلى الله عليه وآله وتنازع المسلمين الامر بعده ، وتغلبهم على أبيك ، فصرحت بتهمة أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وأبى عبيدة الامين وحواري (1) رسول الله صلى الله عليه وآله ، وصلحاء المهاجرين والانصار ، فكرهت ذلك لك ، انك امرؤ عندنا وعند الناس غير الظنين (2) ولا المسئ ، ولا اللئيم ، وأنا أحب لك القول السديد ، والذكر الجميل .
إن هذه الامة لما اختلفت بعد نبيها لم تجهل فضلكم ولا سابقتكم ، ولا قرابتكم من نبيكم ، ولا مكانكم في الاسلام وأهله ، فرأت الامة أن تخرج من هذا الامر لقريش لمكانها من نبيها ، ورأى صلحاء الناس من قريش والانصار وغيرهم من سائر الناس وعوامهم أن يولوا هذا الامر من قريش أقدمها إسلاما ، وأعلمها بالله ، وأحبها له ، وأقواها على أمر الله ، فاختاروا أبا بكر ، وكان ذلك رأي ذوي الدين والفضل ، والناظرين للامة ، فأوقع ذلك في صدوركم لهم التهمة ، ولم يكونوا متهمين ، ولا فيما أتوا بالمخطئين ، ولو رأى المسلمون أن فيكم من يغني غناءه ، ويقوم مقامه ، ويذب عن حريم الاسلام ذبه
__________
(1) هو الزبير بن العوام .
(2) ب : " ظنين " .
(*)(16/35)
ما عدلوا بالامر إلى غيره رغبه عنه ، ولكنهم علموا في ذلك بما رأوه صلاحا للاسلام وأهله ، والله يجزيهم عن الاسلام وأهله خيرا .
وقد فهمت الذى دعوتني إليه من الصلح ، والحال فيما بينى وبينك اليوم مثل الحال التى كنتم عليها أنتم وأبو بكر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله ، فلو علمت أنك أضبط مني للرعية ، وأحوط على هذه الامة ، وأحسن سياسة ، وأقوى على جمع الاموال ، وأكيد للعدو ، لاجبتك إلى ما دعوتني إليه ، ورأيتك لذلك أهلا ، ولكن قد علمت أنى أطول منك ولاية ، وأقدم منك بهذه الامة تجربة ، وأكبر منك سنا ، فأنت أحق أن تجيبني إلى هذه المنزلة التى سألتنى ، فادخل في طاعتي ولك الامر من بعدي ، ولك ما في بيت مال العراق من مال بالغا ما يبلغ ، تحمله إلى حيث أحببت ، ولك خراج أي كور العراق شئت ، معونة لك على نفقتك يجيبها أمينك ويحملها إليك في كل سنة ، ولك ألا نستولي عليك بالاساءة ، ولا نقضي دونك الامور ، ولا نعصي في أمر أردت به طاعة الله .
أعاننا الله وإياك على طاعته إنه سميع مجيب الدعاء .
والسلام .
قال جندب : فلما أتيت الحسن بكتاب معاوية ، قلت له : إن الرجل سائر إليك ، فابدأه بالمسير حتى تقاتله في أرضه وبلاده وعمله ، فأما أن تقدر أنه ينقاد (1) لك ، فلا والله حتى يرى منا أعظم من يوم صفين .
فقال : أفعل ، ثم قعد عن مشورتي و تناسى قولي (2) .
قالوا : وكتب معاوية إلى الحسن :
__________
(1) د ومقاتل الطالبيين : " تيمنا لك " .
(2) مقاتل الطالبيين 55 - 59 .
(*)(16/36)
أما بعد (1) ، فإن الله يفعل في عباده ما يشاء ، لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب ، فاحذر أن تكون منيتك على أيدى رعاع من الناس ، وايئس (2) من أن تجد فينا (3) غميزة (4) ، وإن أنت أعرضت عما أنت فيه وبايعتني وفيت لك بما وعدت ، وأجريت لك ما شرطت ، وأكون في ذلك كما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة : وإن أحد أسدى إليك أمانة * * فأوف بها تدعى إذا مت وافيا ولا تحسد المولى إذا كان ذا غنى * * ولا تجفه إن كان في المال فانيا ثم الخلافة لك من بعدي ، فأنت أولى الناس بها .
والسلام .
فأجابه الحسن : أما بعد ، فقد وصل إلي كتابك ، تذكر فيه ما ذكرت ، فتركت جوابك خشية البغي [ منى ] (6) عليك ، وبالله أعوذ من ذلك ، فاتبع الحق تعلم أنى من أهله ، وعلي إثم أن أقول فأكذب .
والسلام .
فلما وصل كتاب الحسن إلى معاوية قرأه ، ثم كتب إلى عماله على النواحى بنسخة واحدة : من (7 عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى فلان بن فلان 7) ومن قبله من المسلمين .
سلام عليكم ، فإني أحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو .
أما بعد ، فالحمد لله الذى كفاكم مؤنة عدوكم وقتل خليفتكم ، إن الله بلطفه ، وحسن صنعه ، أتاح لعلي بن أبى طالب رجلا من عباده ،
__________
(1) مقاتل الطالبيين : " بسم الله الرحمن الرحيم ...
أما بعد " .
(2) ب ، أيس ، وأثبت ما في أ ، د ومقاتل الطالبيين .
(3) أ ، د ومقاتل الطالبيين .
(4) الغميزة : المطعن .
(5) في مقاتل الطالبيين : بسم الله الرحمن الرحيم ...
أما بعد ...
" .
(6) من د .
(7 - 7) مقاتل الطالبيين : " بسم الله الرحمن الرحيم من معاوية أمير المؤمنين إلى فلان بن فلان " .
(*)(16/37)
فاغتاله فقتله ، فترك أصحابه متفرقين مختلفين ، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الامان لانفسهم وعشائرهم ، فأقبلوا إلي حين يأتيكم كتابي هذا بجهدكم وجندكم وحسن عدتكم ، فقد أصبتم بحمد الله الثأر ، وبلغتم الامل ، وأهلك الله أهل البغي والعدوان ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (1) .
قال فاجتمعت العساكر إلى معاوية ، فسار بها قاصدا إلى العراق .
وبلغ الحسن خبره ومسيره نحوه ، وأنه قد بلغ جسر منبج ، فتحرك عند ذلك ، وبعث حجر بن عدى فأمر العمال والناس بالتهيؤ للمسير ، ونادى المنادي : الصلاة جامعة ! فأقبل الناس يثوبون ويجتمعون .
وقال الحسن : إذا رضيت جماعة الناس فأعلمني ، وجاءه سعيد بن قيس الهمداني ، فقال له : أخرج ، فخرج الحسن عليه السلام ، وصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد ، فإن الله كتب الجهاد على خلقه ، وسماه كرها (2) ، ثم قال لاهل الجهاد من المؤمنين : اصبروا إن الله مع الصابرين ، فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون .
بلغني أن معاوية بلغه إنا كنا أزمعنا على المسير إليه ، فتحرك لذلك ، اخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم بالنخيلد حتى ننظر وتنظروا ، ونرى وتروا .
قال : وإنه في كلامه ليتخوف خذلان الناس له ، قال : فسكتوا فما تكلم منهم أحد ، ولا أجابه بحرف .
فلما رأى ذلك عدي بن حاتم قام فقال : أنا ابن حاتم ! سبحان الله ! ما أقبح هذا المقام ! أ لا تجيبون إمامكم وابن بنت نبيكم ! أين خطباء مضر [ أين المسلمون ؟ أين
__________
(1) مقاتل الطالبيين 59 ، 60 .
(2) هو من قوله تعالى : (كتب عليكم القتال وهو كره لكم) .
(*)(16/38)
الخواضون من أهل المصر ] (1) الذين ألسنتهم كالمخاريق (2) في الدعة ، فإذا جد الجد فرواغون كالثعالب ، أ ما تخافون مقت الله ولا عيبها وعارها .
ثم استقبل الحسن بوجهه ، فقال : أصاب الله بك المراشد ، وجنبك المكاره ، ووفقك لما يحمد ورده وصدره (3) .
قد سمعنا مقالتك ، وانتهينا إلى أمرك ، وسمعنا لك وأطعناك فيما قلت وما رأيت ، وهذا وجهى إلى معسكري ، فمن أحب أن يوافيني فليواف .
ثم مضى لوجهه ، فخرج من المسجد ودابته بالباب ، فركبها ومضى إلى النخيلة ، وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه .
وكان عدي بن حاتم أول الناس عسكر (4) .
وقام قيس بن سعد بن عبادة الانصاري ومعقل بن قيس الرياحي وزياد بن صعصعة (5) التيمي ، فأنبوا الناس ولاموهم وحرضوهم ، وكلموا الحسن عليه السلام بمثل كلام عدى ابن حاتم في الاجابة والقبول ، فقال لهم الحسن عليه السلام : صدقتم رحمكم الله ! ما زلت أعرفكم بصدق النية والوفاء والقبول والمودة الصحيحة ، فجزاكم الله خيرا ثم نزل .
وخرج الناس فعسكروا ، ونشطوا للخروج ، وخرج الحسن إلى العسكر ، واستخلف على الكوفة المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، وأمره باستحثاث الناس وإشخاصهم إليه ، فجعل يستحثهم ويستخرجهم حتى يلتئم العسكر .
وسار (6) الحسن عليه السلام في عسكر عظيم وعدة حسنة ، حتى نزل دير عبد الرحمن ،
__________
(1) من مقاتل الطالبيين .
(2) المخاريق : جمع مخراق ، وهو المنديل أو نحوه يلوى فيضرب به .
(3) كذا في مقاتل الطالبيين ، د .
(4) أ : " عسكرا " .
(5) في أ ، د " حفصة " .
(6) مقاتل الطالبيين : " ثم إن الحسن ...
" .
(*)(16/39)
فأقام به ثلاثا حتى اجتمع الناس ، ثم دعا عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب ، فقال له : يا بن عم ، إنى باعث إليك اثنى عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر ، الرجل منهم يزيد (1) الكتيبة ، فسر بهم ، وألن لهم جانبك ، وابسط لهم وجهك ، وافرش لهم جناحك ، وادنهم من مجلسك ، فإنهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، وسر بهم على شط الفرات حتى تقطع بهم الفرات ، ثم تصير إلى مسكن ، ثم امض حتى تستقبل بهم معاوية ، فإن أنت لقيته فاحبسه حتى آتيك ، فإنى على أثرك وشيكا ، وليكن خبرك عندي كل يوم ، وشاور هذين يعنى - قيس ابن سعد وسعيد بن قيس - وإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك ، فإن فعل فقاتله ، وإن أصبت فقيس بن سعد على الناس ، وإن أصيب قيس بن سعد فسعيد بن قيس على الناس (2) .
فسار عبيد الله حتى انتهى إلى شينور (3) ، حتى خرج إلى شاهي (4) ، ثم لزم الفرات والفلوجة (5) ، حتى أتى مسكن (6) ، وأخذ الحسن على حمام عمر حتى أتى دير كعب ، ثم بكر فنزل ساباط دون القنطرة ، فلما أصبح نادى في الناس : الصلاة جامعة ! فاجتمعوا ، فصعد المنبر فخطبهم فقال : الحمد لله كلما حمده حامد ، وأشهد أن لا إله إلا الله كلما شهد له شاهد ، وأشهد أن محمدا رسول الله ، أرسله بالحق ، وائتمنه على الوحى ، صلى الله عليه وآله .
أما بعد ، فو الله إنى لارجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله ومنه وأنا أنصح خلقه لخلقه ، وما أصبحت محتملا على مسلم ضغينة ، ولا مريد له بسوء ولا غائلة .
ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة ، ألا وإنى ناظر لكم خيرا
__________
(1) أ : " يزن " .
(2) بعدها في مقاتل الطالبيين : " ثم أمره بما أراد " .
(3) شينور صقع بالعراق ، وفي ب " سينور " تحريف .
(4) شاهي : موضع قرب القادسية .
(5) ياقوت : " فلاليج السواد : قراها ، واحدها الفلوجة ، والفلوجة الكبرى ، والفلوجة الصغرى : قريتان كبيرتان من سواد بغداد والكوفة قرب عين التمر " .
(6) مسكن : موضع على نهر دجيل .
(*)(16/40)
من نظركم لانفسكم ، فلا تخالفوا أمري ، ولا تردوا علي رأيي غفر الله لي ولكم ، وأرشدني وإياكم لما فيه محبته (1) ورضاه ، إن شاء الله ! ثم نزل .
قال فنظر الناس بعضهم إلى بعض ، وقالوا : ما ترونه يريد بما قال ؟ قالوا : نظنه يريد أن يصالح معاوية ، ويكل الامر إليه ، كفر والله الرجل ! ثم شدوا على فسطاطه .
فانتهبوه حتى أخذوا مصلاه من تحته ، ثم شد عليه عبد الرحمن بن عبد الله بن جعال الازدي ، فنزع مطرفه عن عاتقه ، فبقى جالسا متقلدا سيفا بغير رداء ، فدعا بفرسه فركبه ، وأحدق به طوائف من خاصته وشيعته ، ومنعوا منه من أراده ، ولاموه وضعفوه لما تكلم به ، فقال : ادعوا إلي ربيعة وهمدان ، فدعوا له ، فأطافوا به ، ودفعوا الناس عنه ، ومعهم شوب (2) من غيرهم ، فلما مر في مظلم ساباط (3) ، قام إليه رجل من بنى أسد ، ثم من بنى نصر بن قعين يقال له جراح بن سنان ، وبيده معول فأخذ بلجام فرسه (4) ، وقال : الله أكبر ! يا حسن (5 أشرك أبوك ، ثم أشركت أنت 5) .
وطعنه بالمعول ، فوقعت في فخذه ، فشقته حتى بلغت أربيته (6) ، وسقط الحسن عليه السلام إلى الارض بعد أن ضرب الذى طعنه بسيف كان بيده ، واعتنقه ، فخرا جميعا إلى الارض ، فوثب عبد الله بن الاخطل (7) الطائى ، ونزع المعول من يد جراح بن سنان ، فخضخضه (8) به ، وأكب ظبيان بن عمارة عليه ، فقطع أنفه ، ثم أخذا له الآجر فشدخا رأسه ، ووجهه حتى قتلوه .
__________
(1) مقاتل الطالبيين : " لما فيه المحبة والرضا " .
(2) الشوب : الاخلاط من الناس .
(3) مظلم ساباط : مضاف إلى ساباط التي قرب المدائن : موضع هناك ، قال ياقوت : " ولا أدري لم سمي بذلك " .
(4) مقاتل الطالبيين : " فرسه " .
(5 - 5) مقاتل الطالبيين : " يا حسن ، أشركت كما أشرك أبوك من قبل " .
(6) الاربية : أصل الفخذ .
(7) مقاتل الطالبيين : " الخطل " .
(8) أ : " فحصحصه " .
(*)(16/41)
وحمل الحسن عليه السلام على سرير إلى المدائن ، وبها سعيد (1) بن مسعود الثقفى واليا عليها من قبله ، وقد كان علي عليه السلام ولاه المدائن فأقره الحسن عليه السلام عليها ، فاقام عنده يعالج نفسه .
فأما معاوية فإنه وافى حتى نزل قرية يقال لها الحلوبية (2) بمسكن ، وأقبل عبيد الله بن عباس حتى نزل بإزائه ، فلما كان من غد وجه معاويه بخيله إليه فخرج إليهم عبيد الله فيمن معه فضربهم حتى ردهم المعسكرهم ، فلما كان الليل أرسل معاوية إلى عبيد الله بن عباس أن الحسن قد راسلني في الصلح ، وهو مسلم الامر إلى ، فإن دخلت في طاعتي الان كنت متبوعا ، وإلا دخلت وأنت تابع ، ولك إن أجبتني الان أن أعطيك ألف ألف درهم ، أعجل لك في هذا الوقت نصفها ، وإذا دخلت الكوفة النصف الاخر ، فانسل عبيد الله إليه ليلا ، فدخل عسكر معاوية ، فوفى له بما وعده ، وأصبح الناس ينتظرون عبيد الله أن يخرج فيصلى بهم ، فلم يخرج حتى أصبحوا ، فطلبوه فلم يجدوه ، فصلى بهم قيس بن سعد بن عبادة ، ثم خطبهم فثبتهم (3) ، وذكر عبيد الله فنال منه ، ثم أمرهم بالصبر والنهوض إلى العدو ، فأجابوه بالطاعة وقالوا له : انهض بنا إلى عدونا على اسم الله ، فنزل فنهض بهم .
وخرج إليه بسر بن أرطاة فصاح إلى أهل العراق : ويحكم ! هذا أميركم عندنا قد بايع وإمامكم الحسن قد صالح ، فعلام تقتلون أنفسكم !
__________
(1) مقاتل الطالبيين : " سعد " .
(2) ب : " الحيوضة " .
(3) في مقاتل الطالبيين : " أيها الناس ، لا يهولنكم ولا يعظمن عليكم ما صنع هذا الرجل الوله الورع " أي الجبان " .
إن هذا وأباه وأخاه لم يأتوا بيوم خير قط ، إن أباه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يقاتل ببدر ، فأسره أبو الميسر كعب بن عمرو الانصاري ، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذ فداءه فقسمه بين المسلمين ، وإن أخاه ولاه علي أمير المؤمنين على البصرة ، فسرق مال الله ومال المسلمين ، فاشترى به الجواري ، وزعم أن ذلك له حلال ، وأن هذا ولاه علي اليمن .
فهرب من بسر ابن أرطاة ، وترك ولده حتى قتلوا ، وصنع الآن هذا الذي صنع .
قال : فتنادى الناس : الحمد لله الذي أخرجه من بيننا ، فانهض بنا إلى عدونا ، فنهض بهم " .
(*)(16/42)
فقال لهم قيس بن سعد : اختاروا إحدى اثنتين ، إما القتال مع غير إمام ، وإما أن تبايعوا بيعة ضلال ، فقالوا : بل نقاتل بلا إمام ، فخرجوا فضربوا أهل الشام حتى ردوهم إلى مصافهم .
فكتب معاويه إلى قيس بن سعد يدعوه ويمنيه ، فكتب إليه قيس : لا و الله لا تلقاني أبدا إلا بينى وبينك الرمح .
فكتب إليه معاوية حينئذ لما يئس منه : أما بعد .
فإنك يهودي ابن يهودي ، تشقي نفسك وتقتلها فيما ليس لك ، فإن ظهر أحب الفريقين إليك نبذك وغدرك ، وإن ظهر أبغضهم إليك نكل بك وقتلك ، وقد كان أبوك أوتر غير قوسه ، ورمى غير غرضه ، فأكثر الحز وأخطا المفصل ، فخذله قومه ، وأدركه يومه ، فمات بحوران طريدا غريبا .
والسلام .
فكتب إليه قيس بن سعد : أما بعد ، فإنما أنت وثن ابن وثن ، دخلت في الاسلام كرها ، وأقمت فيه فرقا ، وخرجت منه طوعا ، ولم يجعل الله لك فيه نصيبا ، لم يقدم إسلامك ، ولم يحدث نفاقك ، ولم تزل حربا لله ولرسوله ، وحزبا من أحزاب المشركين ، وعدوا لله ولنبيه وللمؤمنين من عباده - وذكرت أبي ، فلعمري ما أوتر إلا قوسه ، ولا رمى إلا غرضه ، فشغب عليه من لا يشق غباره ، ولا يبلغ كعبه ، وزعمت أنى يهودي ابن يهودي ، وقد علمت وعلم الناس أنى وأبى أعداء الدين الذى خرجت منه ، وأنصار الدين الذى دخلت فيه ، وصرت إليه .
والسلام .
فلما قرأ معاوية كتابه غاظه ، وأراد إجابته ، فقال له عمرو : مهلا ، فإنك إن كاتبته أجابك بأشد من هذا ، وإن تركته دخل فيما دخل فيه الناس .
فأمسك عنه .
قال : وبعث معاوية عبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة إلى الحسن للصلح ، فدعواه(16/43)
إليه ، فزهداه في الامر ، وأعطياه ما شرط له معاوية ، وألا يتبع أحد بما مضى ، ولا ينال أحد من شيعة علي بمكروه ، ولا يذكر علي إلا بخير ، وأشياء شرطها الحسن .
فأجاب إلى ذلك ، وانصرف قيس بن سعد فيمن معه إلى الكوفة ، وانصرف الحسن أيضا إليها ، وأقبل معاوية قاصدا نحو الكوفة ، واجتمع إلى الحسن عليه السلام وجوه الشيعة وأكابر أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام يلومونه ، ويبكون إليه جزعا مما فعله (1) .
قال أبو الفرج : فحدثني محمد بن أحمد بن عبيد ، قال : حدثنا الفضل بن الحسن البصري قال : حدثنا ابن عمرو ، قال : حدثنا مكي بن إبراهيم ، قال : حدثنا السرى بن اسماعيل ، عن الشعبى ، عن سفيان بن أبى ليلى .
قال أبو الفرج : وحدثني به أيضا محمد بن الحسين الاشناندانى ، وعلى بن العباس المقانعى (2) ، عن عباد بن يعقوب ، عن عمرو بن ثابت ، عن الحسن بن الحكم ، عن عدى بن ثابت ، عن سفيان بن أبى ليلى ، قال : أتيت الحسن بن علي حين بايع معاوية ، فوجدته بفناء داره ، وعنده رهط ، فقلت : السلام عليك يا مذل المؤمنين ، قال : وعليك السلام يا سفيان ، ونزلت فعقلت راحلتي ، ثم أتيته فجلست إليه ، فقال : كيف قلت يا سفيان ؟ قلت : السلام عليك يا مذل المؤمنين ! فقال : لم جرى هذا منك إلينا ؟ قلت : أنت والله بأبي وأمي أذللت رقابنا حيث أعطيت هذا الطاغية البيعة ، وسلمت الامر إلى اللعين ابن آكلة الاكباد ، ومعك مائة ألف كلهم يموت دونك ، فقد جمع الله عليك أمر الناس .
فقال : يا سفيان ، إنا أهل بيت إذا علمنا الحق تمسكنا به ، وإني سمعت عليا يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : " لا تذهب الليالي والايام حتى يجتمع أمر هذه الامة على رجل واسع السرم (3)
__________
(1) مقاتل الطالبيين 64 - 67 .
(2) ب : " المفاقعي " تحريف .
(3) في ب " السر " .
(*)(16/44)
ضخم البلعوم ، يأكل ولا يشبع ، لا ينظر الله إليه ، ولا يموت حتى لا يكون له في السماء عاذر ، ولا في الارض ناصر " ، وأنه لمعاوية ، وإني عرفت أن الله بالغ أمره .
ثم أذن المؤذن ، فقمنا على حالب نحلب ناقته ، فتناول الاناء ، فشرب قائما ، ثم سقاني ، وخرجنا نمشي إلى المسجد ، فقال لي : ما جاء بك يا سفيان ؟ قلت حبكم والذى بعث محمدا بالهدى ودين الحق ! قال : فابشر يا سفيان ، فانى سمعت عليا يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : يرد علي الحوض أهل بيتي ومن أحبهم من أمتى كهاتين - يعنى السبابتين ، أو كهاتين يعنى السبابة والوسطى - إحداهما تفضل على الاخرى ، أبشر يا سفيان ، فإن الدنيا تسع البر والفاجر ، حتى يبعث الله إمام الحق من آل محمد صلى الله عليه وآله (1) .
قلت : قوله : " ولا في الارض ناصر " ، أي ناصر دينى ، أي لا يمكن أحدا أن ينتصر له بتأويل دينى يتكلف به عذرا لافعاله القبيحة .
فإن قلت : قوله : " وإنه لمعاوية " من الحديث المرفوع ، أو من كلام علي عليه السلام ، أو من كلام الحسن عليه السلام ؟ قلت : الظاهر أنه من كلام الحسن عليه السلام ، فإنه قد غلب على ظنه أن معاوية صاحب هذه الصفات ، وإن كان القسمان الاولان غير ممتنعين .
فإن قلت : فمن هو إمام الحق من آل محمد ؟ قلت : أما الامامية فتزعم أنه صاحبهم الذى يعتقدون أنه الان حي في الارض ، وأما أصحابنا فيزعمون أنه فاطمي يخلقه الله في آخر الزمان .
__________
(1) مقاتل الطالبيين 67 - 68 .
(*)(16/45)
قال أبو الفرج : وسار معاوية حتى نزل النخيلة ، وجمع الناس بها فخطبهم قبل أن يدخل الكوفة خطبة طويلة لم ينقلها أحد من الرواة تامة ، وجاءت منقطعة في الحديث ، وسنذكر ما انتهى إلينا منها (1) .
فأما الشعبى فإنه روى أنه قال في الخطبة : ما اختلف (2) أمر أمة بعد نبيها إلا وظهر أهل باطلها على أهل حقها ، ثم انتبه فندم فقال : إلا هذه الامة فإنها وإنها ...
وأما أبو إسحاق السبيعي فقال : إن معاوية قال في خطبته بالنخيلة : ألا إن كل شئ أعطيته الحسن بن علي تحت قدمي هاتين لا أفي به .
قال أبو إسحاق : وكان والله غدارا .
وروى الاعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن سعيد بن سويد ، قال : صلى بنا معاوية بالنخيلة الجمعة ، ثم خطبنا فقال : والله إني ما قاتلتكم لتصلوا ، ولا لتصوموا ، ولا لتحجوا ولا لتزكوا ، إنكم لتفعلون ذلك ، وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم ، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون .
قال : وكان عبد الرحمن بن شريك إذا حدث بذلك ، يقول : هذا والله هو التهتك .
قال أبو الفرج : وحدثني أبو عبيد محمد بن أحمد ، قال : حدثنى الفضل بن الحسن البصري ، قال : حدثنى يحيى بن معين قال : حدثنى أبو حفص اللبان (3) ، عن عبد الرحمن بن شريك ، عن اسماعيل بن أبى خالد ، عن حبيب بن أبى ثابت ، قال : خطب معاوية بالكوفة حين دخلها ، والحسن والحسين عليهما السلام جالسان تحت المنبر ، فذكر عليا عليه
__________
(1) مقاتل الطالبيين : " من ذلك " .
(2) مقاتل الطالبيين : " ما اختلفت أمة " .
(3) في د " الابار " .
(*)(16/46)
السلام فنال منه ، ثم نال من الحسن ، فقام الحسين عليه السلام ليرد عليه ، فأخذه الحسن بيده فأجلسه ، ثم قام فقال : أيها الذاكر عليا ، أنا الحسن ، وأبي علي ، وأنت معاوية وأبوك صخر ، وأمي فاطمة وأمك هند ، وجدي رسول الله وجدك عتبة بن ربيعة ، وجدتي خديجة وجدتك قتيلة ، فلعن الله أخملنا ذكرا ، وألامنا حسبا ، وشرنا قديما وحديثا ، وأقدمنا كفرا ونفاقا ! فقال طوائف من أهل المسجد : آمين .
قال الفضل : قال يحيى بن معين : وأنا أقول : آمين .
قال أبو الفرج : قال أبو عبيد : قال الفضل : وأنا أقول ، " آمين " ، ويقول على بن الحسين الاصفهاني (1) : آمين .
قلت : ويقول عبد الحميد بن أبى الحديد مصنف هذا الكتاب : آمين .
قال أبو الفرج : ودخل معاوية الكوفة بعد فراغه من خطبته بالنخيلة وبين يديه خالد ابن عرفطة ، ومعه حبيب بن حماد يحمل رايته ، فلما صار بالكوفة دخل المسجد من باب الفيل ، واجتمع الناس إليه .
قال أبو الفرج : فحدثني أبو عبيد الصيرفي وأحمد بن عبيد الله بن عمار ، عن محمد بن على بن خلف ، عن محمد بن عمرو الرازي ، عن مالك بن سعيد ، عن محمد بن عبد الله الليثى ، عن عطاء بن السائب ، عن أبيه ، قال : بينما علي بن أبى طالب عليه السلام على منبر الكوفة ، إذ دخل رجل فقال : يا أمير المؤمنين ، مات خالد بن عرفطة ، فقال : لا والله [ ما ] (2) مات ولا يموت حتى يدخل من باب المسجد ، وأشار إلى باب الفيل ، ومعه راية ضلالة يحملها حبيب بن حماد .
قال : فوثب رجل فقال : يا أمير المؤمنين ، أنا حبيب بن حماد ، وأنا لك شيعة ، فقال :
__________
(1) مقاتل الطالبيين 70 .
(2) تكملة من " د " .
(*)(16/47)
فإنه كما أقول : فوالله لقد قدم خالد بن عرفطة على مقدمة معاوية يحمل رايته حبيب ابن حماد (1) .
قال أبو الفرج : وقال مالك بن سعيد ، وحدثني الاعمش بهذا الحديث ، قال : حدثنى صاحب هذه الدار - وأشار إلى دار السائب أبى عطاء - أنه سمع عليا عليه السلام يقول هذا (2) .
قال أبو الفرج : فلما تم الصلح بين الحسن ومعاوية أرسل إلى قيس بن سعد يدعوه إلى البيعة ، فجاءه - وكان رجلا طوالا يركب الفرس المشرف ورجلاه تخطان في الارض ، وما في وجهه طاقة شعر ، وكان يسمى خصي الانصار .
فلما أرادوا إدخاله إليه قال : إني حلفت ألا ألقاه إلا وبيني وبينه الرمح أو السيف ، فأمر معاوية برمح وسيف فوضعا بينه وبينه ليبر يمينه (3) .
قال أبو الفرج : وقد روي أن الحسن لما صالح معاوية اعتزل قيس بن سعد في أربعة آلاف فارس فأبى (4) أن يبايع ، فلما بايع الحسن أدخل قيس ليبايع ، فأقبل على الحسن ، فقال : أ في حل أنا من بيعتك ؟ فقال : نعم ، فألقى له كرسى ، وجلس معاوية على سرير والحسن معه ، فقال له معاوية : أ تبايع يا قيس ؟ قال : نعم ، ووضع يده على فخذه ، ولم يمدها إلى معاوية ، فجاء معاوية من سريره (5) ، وأكب على قيس حتى مسح يده على يده وما رفع إليه قيس يده .
__________
(1) مقاتل الطالبيين : " حبيب بن عمار " .
(2) مقاتل الطالبيين 70 ، 71 ، وهناك : " يقول هذه المقالة " .
(3) ابن أبي الحديد 71 ، 72 .
(4) د : " وأبي " .
(5) في " د " : " فجثا معاوية على سريره " ، وكذا في مقاتل الطالبيين .
(6) مقاتل الطالبيين 72 .
(*)(16/48)
قال أبو الفرج : ثم أن معاوية أمر الحسن أن يخطب ، فظن أنه سيحصر ، فقام فخطب ، فقال في خطبته (1) : إنما الخليفة من سار بكتاب الله وسنة نبيه ، وليس الخليفة من سار بالجور ، ذاك رجل ملك ملكا تمتع به قليلا ، ثم تنخمه ، تنقطع لذته ، وتبقى تبعته (وإن أدري لعله فتنه لكم ومتاع إلى حين) (2) .
قال : وانصرف الحسن إلى المدينة فأقام بها ، وأراد معاوية البيعة لابنه يزيد ، فلم يكن عليه شئ أثقل من أمر الحسن بن على وسعد بن أبى وقاص ، فدس إليهما سما فماتا منه .
قال أبو الفرج : فحدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار ، عن عيسى بن مهران ، عن عبيد بن الصباح الخراز ، عن جرير ، عن مغيرة ، قال : أرسل معاوية إلى بنت الاشعث ابن قيس - وهى تحت الحسن - فقال لها : إنى مزوجك يزيد ابني على أن تسمي الحسن (3) ، وبعث إليها بمائة ألف درهم ، ففعلت ، وسمت الحسن ، فسوغها المال ولم يزوجها منه ، فخلف عليها رجل من آل طلحة ، فأولدها ، فكان إذا وقع بينهم وبين بطون قريش كلام عيروهم ، وقالوا : يا بني مسمة الازواج (4) .
قال : حدثنى أحمد ، قال : حدثنى يحيى بن بكير ، عن شعبه ، عن أبى بكر بن حفص ، قال : توفى الحسن بن علي وسعد بن أبى وقاص في أيام متقاربة ، وذلك بعد ما مضى من ولاية إمارة معاوية عشر سنين ، وكانوا يروون أنه سقاهما السم (5) .
قال أبو الفرج : وحدثني أحمد بن عون ، عن عمران بن إسحاق ، قال : كنت مع الحسن والحسين عليهما السلام في الدار ، فدخل الحسن المخرج ، ثم خرج ، فقال : لقد سقيت السم مرارا ، ما سقيت مثل هذه المرة ، لقد لفظت قطعة من كبدي فجعلت
__________
(1) ب : " الخطبة " ، وأثبت ما في أ ، د .
(2) سورة الانبياء 111 .
(3) مقاتل الطالبيين " ابن علي " .
(4) مقاتل الطالبيين 73 .
(5) مقاتل الطالبيين 73 : " سقاهما سما " .
(*)(16/49)
أقلبها بعود معي .
فقال الحسين : ومن سقاك ؟ قال : وما تريد منه ؟ أ تريد أن تقتله ! إن يكن هو هو ، فالله أشد نقمة منك ، وإن لم يكن هو فما أحب أن يؤخذ بى برئ (1) .
قال أبو الفرج : دفن الحسن عليه السلام في قبر فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله في البقيع ، وقد كان أوصى أن يدفن مع النبي صلى الله عليه وآله ، فمنع مروان بن الحكم من ذلك ، وركبت بنو أمية في السلاح ، وجعل مروان يقول : * يا رب هيجا هي خير من دعة (2) * يدفن عثمان في البقيع ، ويدفن الحسن في بيت النبي صلى اللله عليه وسلم ! والله لا يكون ذلك أبدا وأنا أحمل السيف ، وكادت الفتنة تقع ، وأبى الحسين عليه السلام أن يدفنه إلا مع النبي صلى الله عليه وآله ، فقال له عبد الله بن جعفر : عزمت عليك يا أبا عبد الله بحقي ألا تكلم بكلمة ! فمضوا به إلى البقيع ، وانصرف مروان (3) .
قال أبو الفرج : وقد روى الزبير بن بكار أن الحسن عليه السلام أرسل إلى عائشة أن تأذن له أن يدفن مع النبي صلى الله عليه وآله ، فقالت : نعم ، فلما سمعت بنو أمية بذلك استلأموا في السلاح ، وتنادوا هم وبنو هاشم في القتال ، فبلغ ذلك الحسن ، فأرسل إلى بنى هاشم : أما إذا كان هذا فلا حاجة لي فيه ، ادفنوني إلى جنب أمي فدفن ، إلى جنب فاطمة عليها السلام (4) .
قال أبو الفرج : فأما يحيى بن الحسن صاحب كتاب " النسب " فإنه روى أن عائشة
__________
(1) مقاتل الطالبيين 74 .
(2) مطلع أرجوزة للبيد ، الاغاني 16 : 22 - ساسي .
(3) مقاتل الطالبيين 74 .
(4) مقاتل الطالبيين 75 .
(*)(16/50)
ركبت ذلك اليوم بغلا واستنفرت بنو أمية مروان بن الحكم ومن كان هناك منهم ومن حشمهم وهو قول القائل : * فيوما على بغل ويوما على جمل (1) * قلت : وليس في رواية يحيى بن الحسن ما يؤخذ على عائشة لانه لم يرو أنها استنفرت الناس لما ركبت البغل ، وإنما المستنفرون هم بنو أمية ، ويجوز أن تكون عائشة ركبت لتسكين الفتنة ، لا سيما وقد روي عنها أنه لما طلب منها الدفن قالت : نعم ، فهذه الحال والقصة منقبة من مناقب عائشة .
قال أبو الفرج : وقال جويرية بن أسماء : لما مات الحسن وأخرجوا جنازته جاء مروان حتى دخل تحته فحمل سريره ، فقال له الحسين عليه السلام : تحمل اليوم سريره وبالامس كنت تجرعه الغيظ ! قال مروان : كنت أفعل ذلك بمن يوازن حلمه الجبال .
قال : وقدم الحسين عليه السلام للصلاة عليه سعيد بن العاص ، وهو يومئذ أمير المدينة ، وقال : تقدم فلو لا أنها سنة لما قدمتك (3) .
قال : قيل لابي إسحاق السبيعي : متى ذل الناس ؟ فقال : حين مات الحسن ، وادعي زياد ، وقتل حجر بن عدي (3) .
قال : اختلف الناس في سن الحسن عليه السلام وقت وفاته ، فقيل : ابن ثمان وأربعين - وهو المروي عن جعفر بن محمد عليه السلام في رواية هشام بن سالم - وقيل : ابن ست وأربعين ، وهو المروي أيضا عن جعفر بن محمد عليه السلام في روايه أبى بصير .
__________
(1) مقاتل الطالبيين 74 .
(2) د : " يوازي " ، وهو وجه أيضا .
(3) مقاتل الطالبيين 76 .
(*)(16/51)
قال : وفي الحسن عليه السلام يقول سليمان بن قتة يرثيه ، وكان محبا له : يا كذب الله من نعى حسنا * * ليس لتكذيب نعيه ثمن (1) كنت خليلي وكنت خالصتي * * لكل حي من أهله سكن أجول في الدار لا أراك وفي ال * * - دار أناس جوارهم غبن بدلتهم منك ليت أنهم * * أضحوا وبيني وبينهم عدن ثم نرجع إلى تفسير ألفاظ الفصل .
أما قوله : " كتبها إليه بحاضرين " ، فالذي كنا نقرؤه قديما ، " كتبها إليه بالحاضرين " على صيغة التثنية ، يعنى حاضر حلب وحاضر قنسرين ، وهى الارباض والضواحي المحيطة بهذه البلاد ، ثم قرأناه بعد ذلك على جماعة من الشيوخ بغير لام ، ولم يفسروه ، ومنهم من يذكره بصيغة الجمع لا بصيغة التثنية ، ومنهم من يقول بخناصرين ، يظنونه تثنية خناصرة أو جمعها ، وقد طلبت هذه الكلمة في الكتب المصنفة ، سيما في البلاد [ والارضين (2) ] فلم أجدها ، ولعلي أظفر بها فيما بعد فألحقها في هذا الموضع .
قوله : " من الوالد الفان " ، حذف الياء ها هنا للازدواج بين " الفان " و " الزمان " ، ولانه وقف ، وفي الوقف على المنقوص يجوز مع اللام حذف الياء وإثباتها ، والاثبات هو الوجه ، ومع عدم اللام يجوز الامران وإسقاط الياء هو الوجه .
قوله : " المقر للزمان " ، أي المقر له بالغلبة ، كأنه جعل نفسه فيما مضى خصما للزمان بالقهر .
قوله : " المدبر العمر " ، لانه كان قد جاوز الستين ، ولم يبق بعد مجاوزة الستين إلا إدبار العمر ، لانها نصف العمر الطبيعي الذى قل أن يبلغه أحد ، فعلى تقدير أنه
__________
(1) مقاتل الطالبيين 77 ، الامامة والسياسة 1 : 144 .
(2) من أ .
(*)(16/52)
يبلغه ، فكل ما بعد الستين أقل مما مضى فلا جرم يكون العمر قد أدبر .
قوله : " المستسلم للدهر " ، هذا آكد من قوله : " المقر للزمان " لانه قد يقر الانسان لخصمه ولا يستسلم .
قوله : " الذام للدنيا " هذا وصف لم يستحدثه عند الكبر ، بل لم يزل عليه ، ولكن يجوز أن يزيد ذمه لها ، لان الشيخ تنقص قواه التى يستعين بها على الدنيا والدين جميعا ، ولا يزال يتأفف من الدنيا .
قوله : " الساكن مساكن الموتى " ، إشعار بأنه سيموت ، وهذا من قوله تعالى : (وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم) (1) .
قوله : " الظاعن عنها غدا " ، لا يريد الغد بعينه ، بل يريد قرب الرحيل والظعن .
وهذا الكلام من أمير المؤمنين عليه السلام كلام من قد أيقن بالفراق ، ولا ريب في ظهور الاستكانة والخضوع عليه ، ويدل أيضا على كرب وضيق عطن ، لكونه لم يبلغ أربه من حرب أهل الشام ، وانعكس ما قدره بتخاذل أصحابه عنه ، ونفوذ حكم عمرو بن العاص فيه لحمق أبى موسى وغباوته وانحرافه أيضا .
قوله : " إلى المولود " ، هذه اللفظة بإزاء " الوالد " .
قوله : " المؤمل ما لا يدرك " ، لو قال قائل : إنه كنى بذلك عن أنه لا ينال الخلافة بعد موتى وإن كان مؤملا لها لم يبعد ، ويكون ذلك إخبارا عن غيب ، ولكن الاظهر أنه لم يرد ذلك ، وإنما أراد جنس البشر لا خصوص الحسن ، وكذلك سائر الاوصاف التي تلي هذه اللفظة لا تخص الحسن عليه السلام بعينه ، بل هي وإن كانت له في الظاهر بل هي للناس كلهم في الحقيقد ، أ لا ترى إلى قوله بعدها : " السالك سبيل من قد هلك " ، فإن كل واحد من الناس يؤمل أمورا لا يدركها ، وكل واحد من الناس سالك سبيل من هلك قبله
__________
(1) سورة إبراهيم : 45 .
(*)(16/53)
قوله عليه السلام : " غرض الاسقام " لان الانسان كالهدف لافات الدنيا وأعراضها .
قوله عليه السلام : " ورهينة الايام " الرهينة هاهنا : المهزول يقال : إنه لرهن وإنه لرهينة إذا كان مهزولا بالياء قال الراجز : أما ترى جسمي خلاء قد رهن * * هزلا وما مجد الرجال في السمن (1) ويجوز أن يريد بالرهينة واحدة الرهائن ، يقال للاسير أو للزمن أو للعاجز عند الرحيل : انه لرهينه ، وذلك لان الرهائن محتبسه عند مرتهنها .
قوله : " ورمية المصائب " ، الرمية ما يرمى .
قوله : " وعبد الدنيا ، وتاجر الغرور ، وغريم المنايا " ، لان الانسان طوع شهواته ، فهو عبد الدنيا ، وحركاته فيها مبنية على غرور لا أصل له ، فهو تاجر الغرور لا محالة ، ولما كانت المنايا تطالبه بالرحيل عن هذه الدار كانت غريما له يقتضيه ما لا بد له من أدائه .
قوله : " وأسير الموت ، وحليف الهموم ، وقرين الاحزان ، ونصب الافات ، وسريع الشهوات " ، لما كان الانسان مع الموت ، كما قال طرفة : لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى * * لكالطول المرخى وثنياه باليد (2) كان أسيرا له لا محالة ، ولما كان لا بد لكل إنسان من الهم كان حليف الهموم ، وكذلك لا يخلو ولا ينفك من الحزن ، فكان قرينا له ، ولما كان معرضا للافات كان نصبا لها ، ولما كان إنما يهلك بشهواته كان صريعا لها .
قوله : " وخليفة الاموات " قد أخذه من قال : إن امرأ ليس بينه وبين آدم إلا أب ميت ، لمعرق في الموت .
واعلم أنه عد من صفات نفسه سبعا ، وعد من صفات ولده أربع عشرة صفة ، فجعل
__________
(1) الصحاح 2128 من غير نسبة .
(2) من المعلقة بشرح التبريزي 86 .
الطول : الحبل ، وثنياه : ما ثني منه .
(3) أ : " صريعها " .
(*)(16/54)
بإزاء كل واحدة مما له اثنتين ، فليلمح ذلك .
[ بعض ما قيل من الشعر في الدهر وفعله بالانسان ] ومن جيد مانعي به شاعر نفسه ، ووصف ما نقص الدهر من قواه ، قول عوف بن محلم الشيباني في عبد الله بن طاهر أمير خراسان : يا بن الذى دان له المشرقان * * وألبس الامن به المغربان (1) أن الثمانين وبلغتها * * قد أحوجت سمعي إلى ترجمان وبدلتني بالشطاط انحنا * * وكنت كالصعدة تحت السنان (2) وقاربت مني خطا لم تكن * * مقاربات وثنت من عنان وعوضتني من زماع الفتى * * وهمه هم الجبان الهدان (3) وأنشأت بيني وبين الورى * * عنانة من غير نسج العنان (4) ولم تدع في لمستمتع * * إلا لساني وكفاني لسان (5) أدعو به الله وأثني به * * على الامير المصعبي الهجان (6)
__________
(1) أمالي القالي 1 : 50 ، وروايته : * طرا وقد دان له المغربان * (2) الشطاط : حسن القوام والاعتدال .
والصعدة : القناة المستوية تنبت كذلك لا تحتاج إلى تثقيف .
(3) الزماع : المضاء في الامر والعزم عليه .
والهدان : الاحمق الجافي .
(4) العنان هنا : السحاب : يشير بهذا إلى ضعف بصره .
وأنه لا يرى الورى إلا من وراء سحابة .
(5) الامالي : " وبحسبي لسان " .
(6) الهجان .
الكريم ، وبعده في الامالي : فقرباني بأبي أنتما * * من وطني قبل اصفرار البنان وقبل منعاي إلى نسوة * * أوطانها حران والرقتان (*)(16/55)
ومن الشعر القديم الجيد في هذا المعنى قول سالم بن عونة الضبي : لا يبعدن عصر الشباب ولا * * لذاته ونباته النضر والمشرفات من الخدور كإي * * - ماض الغمام يجوز بالقطر وطراد خيل مثلها التقتا * * لحفيظة ومقاعد الخمر لو لا أولئك ما حلفت متى * * عوليت في خرج إلى قبري هربت زبيبة أن رأت ثرمي (1) * * وأن انحنى لتقادم ظهري من بعد ما عهدت فأدلفني * * يوم يمر وليلة تسري حتى كأني خاتل قنصا (2) * * والمرء بعد تمامه يجري لا تهزئى منى زبيب فما * * في ذاك من عجب ولا سخر أو لم ترى لقمان أهلكه * * ما اقتات من سنة ومن شهر وبقاء نسر كلما انقرضت * * أيامه عادت إلى نسر ما طال من أمد على لبد * * رجعت محارته إلى قصر ولقد حلبت الدهر أشطره * * وعلمت ما آتي من الامر أنا أستفصح قوله : " ما اقتات من سنة ومن شهر " جعل الزمان كالقوت له ، ومن اقتات الشئ فقد أكله ، والاكل سبب المرض ، والمرض سبب الهلاك .
__________
(1) الثرم : انكسار السن .
(2) المخاتلة : مشي الصياد قليلا قليلا في خفية لئلا يسمع حسه .
(3) في اللسان : " تزعم العرب أن لقمان هو الذي بعثته عاد في وفدها إلى الحرم يستسقي لها ، فلما أهلكوا خير لقمان بين بقاء سبع بقرات سمر ، من أطب عفر ، في جبل وعر ، لا يمسها القطر أو بقاء سبعة أنسر كلما هلك نسر خلف بعده نسر ، فاختار النسور ، فكان آخر نسوره يسمى لبدا ، وقد ذكرته الشعراء ، قال النابغة : أضحت خلاء وأضحى أهلها احتملوا * * أخنى عليها الذي أخنى على لبد (*)(16/56)
الاصل : أما بعد ، فإن فيما تبينت من إدبار الدنيا عني ، وجموح الدهر علي ، وإقبال الاخرة إلي ، ما يزعني عن ذكر من سواى ، والاهتمام بما ورائي ، غير أني حيث تفرد بى دون هموم الناس هم نفسي - فصدقني رأيي ، وصرفني عن هواي ، وصرح لي محض أمري ، فأفضى بى إلى جد لا يكون فيه لعب ، وصدق لا يشوبه كذب - وجدتك بعضي ، بل وجدتك كلي ، حتى كأن شيئا لو أصابك أصابني ، وكأن الموت لو أتاك أتاني ، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي ، فكتبت إليك كتابي هذا مستظهرا به إن أنا بقيت لك أو فنيت .
الشرح : يزعني : يكفني ويصدني ، وزعت فلانا ، ولا بد للناس من وزعة .
وسوى ، لفظة تقصر إذا كسرت سينها ، وتمد إذا فتحتها ، وهى هاهنا بمعنى غير ، ومن قبلها بمعنى شئ منكر ، كقوله : رب من أنضجت غيظا قلبه (1) * والتقدير : غير ذكر إنسان سواي ، ويجوز أن تكون " من " موصولة ، وقد حذف أحد جزأي الصلة ، والتقدير عن ذكر الذى هو غيري ، كما قالوا في : (لننزعن من كل شيعة أيهم أشد) ، أي هو أشد .
يقول عليه السلام : إن فيما قد بان لي من تنكر الوقت وإدبار الدنيا ، وإقبال الاخرة شاغلا لي عن الاهتمام بأحد غيري ، والاهتمام والفكر في أمر الولد وغيره ممن أخلفه ورائي .
__________
(1) بقيته : * تمنى لي موتا لم يطع * والبيت لسويد بن أبي كاهل اليشكري .
المفضليات 198 .
(*)(16/57)
عاد ثم عاد فقال : ألا أن همي بنفسي يقتضي اهتمامي بك ، لانك بعضي بل كلي ، فإن كان اهتمامي بنفسي يصرفني عن غيري لم تكن أنت داخلا في جملة من يصرفني همي بنفسي عنهم لانك لست غيري .
فإن قلت : أ فهذا الهم حدث لامير المؤمنين عليه السلام الان ، أو من قبل لم يكن عالما بأن الدنيا مدبرة والاخرة مقبلة ؟ قلت : كلا بل لم يزل عالما عارفا بذلك ، ولكنه الان تأكد وقوي بطريق علو السن وضعف القوى ، وهذا أمر يحصل للانسان على سبيل الايجاب ، لا بد من حصوله لكل أحد ، وإن كان عالما بالحال من قبل ، ولكن ليس العيان كالخبر .
ومن مستحسن ما قيل في هذا المعنى قول أبى إسحاق الصابئ : أقيك الردى إنى تنبهت من كرى * * وسهو على طول المدى اعترياني فأثبت شخصا دانيا كان خافيا * * على البعد حتى صار نصب عياني هو الاجل المحتوم لي جد جده * * وكان يريني غفلة المتواني له نذر قد آذنتني بهجمة * * له لست منها آخذا بأمان ولا بد منه ممهلا أو معاجلا * * سيأتي فلا يثنيه عني ثان وأول هذه القصيدة وهو داخل له في هذا المعنى أيضا : إذا ما تعدت بي وسارت محفة * * لها أرجل يسعى بها رجلان وما كنت من فرسانها غير أنها * * وفت لي لما خانت القدمان نزلت إليها عن سراة حصاني * * بحكم مشيب أو فراش حصان (1) فقد حملت مني ابن سبعين سالكا * * سبيلا عليها يسلك الثقلان
__________
(1) د : " بحلم " .
(*)(16/58)
كما حمل المهد الصبي وقبلها * * ذعرت أسود الغيل بالنزوان (1) ولي بعدها أخرى تسمى جنازة (2) * * جنيبة يوم للمنية دان تسير على أقدام أربعة إلى * * ديار البلى معدودهن ثمان وإني على عيث الردى في جوارحي * * وما كف من خطوي وبطش بناني وإن لم يدع إلا فؤادا مروعا * * به غير باق من الحدثان (3) تلوم تحت الحجب ينفث حكمه * * إلى أذن تصغي لنطق لسان (4) لاعلم أني ميت عاق دفنه * * ذماء قليل في غد هو فان وإن فما للارض غرثان حائما * * يراصد من أكلي حضور أوان به شرة عم الورى بفجائع * * تركن فلانا ثاكلا لفلان غدا فاغرا يشكو الطوى وهو راتع * * فما تلتقي يوما له الشفتان إذا عاضنا بالنسل ممن نعوله * * تلا أولا منه بمهلك ثان إلى ذات يوم لا ترى الارض وارثا * * سوى الله من أنس تراه وجان قوله : " تفرد بي دون هموم الناس هم نفسي " أي دون الهموم التى قد كانت تعتريني لاجل أحوال الناس .
فصدقني رأيي ، يقال : صدقته كذا أي عن كذا ، وفي المثل : " صدقني سن بكره " لانه لما نفر قال له : هدع (5) ، وهى كلمة تسكن بها صغار الابل إذا نفرت ، والمعنى أن هذا الهم صدقني عن الصفة التى يجب أن يكون رأيي عليها وتلك الصفة هي ألا يفكر في
__________
(1) الغيل : الشجر الكثيف الملتف .
(2) الجنارة بالكسر : ما يحمل عليه الميت .
(3) الحدثان : غير الدهر ونوائبه .
(4) تلوم : أي انتظر .
(5) في اللسان : " هدع هدع ، بكسر الهاء وفتح الدال وتسكين العين : كلمة يسكن بها صغار الابل .
عند النفار ، ولا يقال ذلك لجلتها ولا مسانها ، وزعموا أن رجلا أتى السوق ببكر له يبيعه ، فساومه رجل .
فقال : بكم البكر ؟ فقال : إنه جمل ، فقال : هو بكر ، فبينما هو يماريه إذ نفر البكر ، فقال صاحبه : هدع هدع ، ليسكن نفاره ، فقال المشتري : صدقني سن بكره ، .
إنما يقال : هدع للبكر ليسكن " .
(*)(16/59)
أمر شئء من الموجودات أصلا إلا الله تعالى ونفسه ، وفوق هذه الطبقة طبقة أخرى جدا وهى ألا تفكر في شئ قط إلا في الله وحده ، وفوق هذه الطبقة طبقة أخرى تجل عن الذكر والتفسير ، ولا تصلح لاحد من المخلوقين إلا النادر الشاذ ، وقد ذكرها هو فيما سبق ، وهو ألا يفكر في شئ أصلا لا في المخلوق ولا في الخالق ، لانه قد قارب أن يتحد بالخالق ، ويستغني عن الفكر فيه .
قوله : " وصرفنى عن هواي " أي عن هوائ وفكري في تدبير الخلافة وسياسة الرعية والقيام بما يقوم به الائمة .
قوله عليه السلام : " وصرح لي محض أمري " يروى بنصب " محض " ورفعه ، فمن نصب فتقديره : عن محض أمري ، فلما حذف الجار نصب ، ومن رفع جعله فاعلا .
وصرح : كشف أو انكشف .
قوله : " فأفضى بي إلى كذا " ، ليس بمعنى أنه قد كان من قبل يمازج جده باللعب ، بل المعنى أن همومه الاولى قد كانت بحيث يمكن أن يتخللها وقت راحة أو دعابة لا يخرج بها عن الحق ، كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله يمزح ولا يقول إلا حقا ، فالان قد حدث عنده هم لا يمكن أن يتخلله من ذلك شئ أصلا ، ومدار الفرق بين الحالتين - أعني الاولى والثانية على إمكان اللعب لا نفس اللعب وما يلزم من قوله : " أفضى لك بي هذا الهم " إلى انتفاء إمكان اللعب أن تكون همومه الاولى قد كان يمازجها اللعب ، ولكن يلزم من ذلك أنها قد كانت يمكن ذلك فيها إمكانا محضا على أن اللعب غير منكر إذا لم يكن باطلا ، أ لا ترى إلى قول النبي صلى الله عليه وآله : " المؤمن دعب لعب " ، وكذلك القول في قوله : " وصدق لا يشوبه كذب " أي لا يمكن أن يشوبه كذب ، وليس المراد بالصدق والكذب ها هنا مفهومهما المشهورين بل هو من قولهم : صدقونا اللقاء ، ومن قولهم : حمل عليهم فما كذب ! قال زهير :(16/60)
ليث بعثر يصطاد الليوث إذا * * ما كذب الليث عن أقرانه صدقا أي أفضى بي هذا الهم إلى أن صدقتني الدنيا حربها ، كأنه جعل نفسه محاربا للدنيا ، أي صدقتني الدنيا حربها ولم تكذب ، أي لم تجبن ولم تخن .
أخبر عن شدة اتحاد ولده به ، فقال وجدتك بعضي ، قال الشاعر : وإنما أولادنا بيننا * * أكبادنا تمشي على الارض لو هبت الريح على بعضهم * * لامتنعت عيني من الغمض وغضب معاوية على ابنه يزيد ، فهجره ، فاستعطفه له الاحنف ، قال له : يا أمير المؤمنين ، أولادنا ثمار قلوبنا ، وعماد ظهورنا ، ونحن لهم سماء ظليلة ، وأرض ذليلة ، فإن غضبوا فأرضهم ، وإن سألوا فأعطهم ، فلا تكن عليهم قفلا فيملوا حياتك ، ويتمنوا موتك .
وقيل لابنة الخس (2) : أي ولديك أحب إليك ؟ قالت : الصغير حتى يكبر ، والمريض حتى يبرأ ، والغائب حتى يقدم .
غضب الطرماح على امرأته فشفع فيها ولده منها صمصام ، وهو غلام لم يبلغ عشرا ، فقال الطرماح : أصمصام إن تشفع لامك تلقها * * لها شافع في الصدر لم يتزحزح (3) هل الحب إلا أنها لو تعرضت * * لذبحك يا صمصام قلت لها اذبحي أحاذر يا صمصام إن مت أن يلي * * تراثي وإياك امرؤ غير مصلح إذا صك وسط القوم رأسك صكة * * يقول له الناهي ملكت فأسجح وفي الحديث المرفوع : " إن ريح الولد من ريح الجنة " .
__________
(1) ديوانه 54 : وكذب ، أي لم يصدق الحملة .
وعثر : قبل تبالة .
(2) ب : " الحسن " تحريف ، صوابه من أ ، د .
(3) ديوانه 136 ، وفيه : " لم يتبرج " .
(*)(16/61)
وفي الحديث الصحيح أنه قال لحسن وحسين عليهما السلام : " إنكم لتجبنون ، وإنكم لتبخلون ، وإنكم لمن ريحان الله " .
ومن ترقيص الاعراب قول أعرابية لولدها : يا حبذا ريح الولد * * ريح الخزامى في البلد أ هكذا كل ولد * * أم لم يلد قبلي أحد ! وفي الحديث المرفوع : " من كان له صبي فليستصب له " .
وأنشد الرياشي : من سره الدهر أن يرى الكبدا * * يمشي على الارض فلير الولدا الاصل : فإنى أوصيك بتقوى الله - أي بني - ولزوم أمره ، وعمارة قلبك بذكره ، والاعتصام بحبله ، وأى سبب أوثق من سبب بينك وبين الله ، إن أنت أخذت به ! أحي قلبك بالموعظة ، وأمته بالزهاده ، وقوه باليقين ، ونوره بالحكمة ، وذلله بذكر الموت ، وقرره بالفناء ، وبصره فجائع الدنيا ، وحذره صولة الدهر وفحش تقلب الليالي والايام ، وأعرض عليه أخبار الماضين ، وذكره بما أصاب من كان قبلك من الاولين .
وسر في ديارهم وآثارهم ، فانظر فيما فعلوا ، وعما انتقلوا ، وأين حلوا ونزلوا ! فإنك تجدهم انتقلوا عن الاحبة ، وحلوا دار الغربه ، وكأنك عن قليل قد صرت كأحدهم .(16/62)
فأصلح مثواك ، ولا تبع آخرتك بدنياك ، ودع القول فيما لا تعرف والخطاب فيما لم تكلف ، وامسك عن طريق إذا خفت ضلالته ، فإن الكف عند حيرة الضلال خير من ركوب الاهوال .
الشرح : قوله عليه السلام : " وأى سبب أوثق " ، إشاره إلى القرآن لانه هو المعبر عنه بقوله تعالى : (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) (1) .
ثم أتى بلفظتين متقابلتين ، وذلك من لطيف الصنعة ، فقال : " أحي قلبك بالموعظة ، وأمته بالزهاده " ، والمراد إحياء دواعيه إلى الطاعة وإماتة الشهوات عنه .
قوله عليه السلام : " واعرض عليه أخبار الماضين " معنى قد تداوله الناس ، قال الشاعر : سل عن الماضين أن نطقت * * عنهم الاجداث والترك أي دار للبلى نزلوا * * وسبيل للردى سلكوا قوله عليه السلام : " ودع القول فيما لا تعرف " من قول رسول الله صلى الله عليه وآله لعبد الله بن عمرو بن العاص : " يا عبد الله كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس ، مرجت عهودهم وأماناتهم وصار الناس هكذا ! " - وشبك بين أصابعه - ، قال عبد الله : فقلت : مرنى يا رسول الله ، فقال : خذ ما تعرف ، ودع ما لا تعرف ، وعليك بخويصة نفسك " .
__________
(1) سورة آل عمران 103 .
(*)(16/63)
قوله : " والخطاب فيما لم تكلف " من قول رسول الله صلى الله عليه وآله : " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " ، وقال معاوية في عبد الملك بن مروان وهو حينئذ غلام : إن لهذا الغلام لهمة ، وإنه مع ذلك تارك لثلاث آخذ بثلاث : تارك مساءة الصديق جدا وهزلا ، تارك ما لا يعنيه ، تارك ما لا يعتذر منه ، آخذ بأحسن الحديث إذا حدث ، وبأحسن الاستماع إذا حدث ، وبأهون الامرين إذا خولف .
قوله عليه السلام : " وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته " ، مأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وآله : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " ، وفي خبر آخر : " إذا رابك أمر فدعه " .
الاصل : وأمر بالمعروف تكن من أهله ، وانكر المنكر بيدك ولسانك ، وباين من فعله بجهدك ، وجاهد في الله حق جهاده ، ولا تأخذك في الله لومة لائم .
وخض الغمرات إلى الحق حيث كان ، وتفقه في الدين ، وعود نفسك الصبر على المكروه ، ونعم الخلق التصبر في الحق ! وألجئ نفسك في أمورك كلها إلى إلهك ، فإنك تلجئها إلى كهف حريز ، ومانع عزيز .
وأخلص في المسألة لربك ، فإن بيده العطاء والحرمان ، وأكثر الاستخارة ، وتفهم وصيتى ، ولا تذهبن عنك صفحا ، فإن خير القول ما نفع ، واعلم أنه لا خير في علم لا ينفع ، ولا ينتفع بعلم لا يحق تعلمه .(16/64)
الشرح : أمره أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وهما واجبان عندنا ، وأحد الاصول الخمسة التى هي أصول الدين .
ومعنى قوله : " تكن من أهله " ، لان أهل المعروف هم الابرار الصالحون ، ويجب إنكار المنكر باللسان ، فإن لم ينجع فباليد ، وتفصيل ذلك وترتيبه مذكور في كتبي الكلامية .
قوله : " وخض الغمرات إلى الحق " ، لا شبهة أن الحسن عليه السلام لو تمكن لخاضها إلا أن من فقد الانصار لا حيلة له .
* وهل ينهض البازي بغير جناح * والذى خاضها مع عدم الانصار هو الحسين عليه السلام ، ولهذا عظم عند الناس قدره ، فقدمه قوم كثير على الحسن عليه السلام .
فإن قلت : فما قول أصحابكم في ذلك ؟ قلت : هما عندنا في الفضيلة سيان ، أما الحسن فلوقوفه مع قوله تعالى : (إلا أن تتقوا) ، وأما الحسين فلاعزاز الدين .
قوله : " فنعم التصبر " قد تقدم منا كلام شاف في الصبر .
وقوله : " وأكثر الاستخارة " : ليس يعنى بها ما يفعله اليوم قوم من الناس من سطر رقاع وجعلها في بنادق ، وإنما المراد أمره إياه بأن يطلب الخيرة من الله فيما يأتي ويذر .
قوله : " لا خير في علم لا ينفع " قول حق لانه إذا لم ينفع كان عبثا .(16/65)
قوله : " ولا ينتفع بعلم لا يحق تعلمه " ، أي لا يجب ولا يندب إليه ، وذلك لان النفع إنما هو نفع الاخرة ، فما لم يكن من العلوم مرغبا فيه إما بإيجاب أو ندب فلا انتفاع به في الاخرة ، وذلك كعلم الهندسة والارثماطيقي ونحوهما .
الاصل : أي بني ، إني لما رأيتني قد بلغت سنا ، ورأيتني أزداد وهنا ، بادرت بوصيتي إليك ، وأوردت خصالا منها قبل أن يعجل بي أجلي دون أن أفضي إليك بما في نفسي ، أو أن أنقص في رأيي كما نقصت في جسمي ، أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى وفتن الدنيا ، فتكون كالصعب النفور .
وإنما قلب الحدث كالارض الخالية ما ألقى فيها من شئ قبلته ، فبادرتك بالادب قبل أن يقسو قلبك ، ويشتغل لبك ، لتستقبل بجد رأيك من الامر ما قد كفاك أهل التجارب بغيته وتجربته ، فتكون قد كفيت مئونة الطلب ، وعوفيت من علاج التجربة ، فأتاك من ذلك ما قد كنا نأتيه ، واستبان لك ما ربما أظلم علينا منه .
الشرح : هذه الوصيه كتبها عليه السلام للحسن بعد أن تجاوز الستين ، وروي أنه ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وآله ما بين الستين والسبعين ، فقال : " معترك المنايا " .
قوله عليه السلام : " أو أن أنقص في رأيي " ، هذا يدل على بطلان قول من قال : إنه لا يجوز أن ينقص في رأيه ، وأن الامام معصوم عن أمثال ذلك ، وكذلك قوله(16/66)
للحسن : " أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى وفتن الدنيا " يدل على أن الامام لا يجب أن يعصم عن غلبات الهوى ، ولا عن فتن الدنيا .
قوله : " فتكون كالصعب النفور " ، أي كالبعير الصعب الذى لا يمكن راكبا ، وهو مع ذلك نفور عن الانس .
ثم ذكر أن التعلم إنما هو في الصبا ، وفي المثل : " الغلام كالطين يقبل الختم ما دام رطبا " .
وقال الشاعر : اختم وطينك رطب ان قدرت فكم * * قد أمكن الختم أقواما فما ختموا ومثل هو عليه السلام قلب الحدث بالارض الخالية ، ما ألقي فيها من شئ قبلته ، وكان يقال : التعلم (1) في الصغر كالنقش في الحجر ، والتعلم (2) في الكبر كالخط على الماء .
قوله : " فأتاك من ذلك ما كنا نأتيه " أي الذى كنا نحن نتجشم المشقة في اكتسابه ، ونتكلف طلبه يأتيك أنت الان صفوا عفوا .
الاصل : أي بني إني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي ، فقد نظرت في أعمالهم ، وفكرت في أخبارهم ، وسرت في آثارهم ، حتى عدت كأحدهم ، بل كأني بما انتهى إلى من أمورهم ، قد عمرت مع (2) أولهم إلى آخرهم ، فعرفت صفو ذلك من كدره ، ونفعه من ضرره ، فاستخلصت لك من كل أمر جليله ، وتوخيت لك
__________
(1) د : " العلم " .
(2) د " من " (*)(16/67)
جميله ، وصرفت عنك مجهوله ، ورأيت حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق ، واجمعت عليه من أدبك أن يكون ذلك وأنت مقبل العمر ومقتبل الدهر ، ذو نية سليمة ، ونفس صافية ، وأن أبتدئك بتعليم كتاب الله عز وجل وتأويله وشرائع الاسلام وأحكامه ، وحلاله وحرامه ، لا أجاوز ذلك بك إلى غيره .
ثم أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم وآرائهم ، مثل الذى التبس عليهم ، فكان إحكام ذلك على ما كرهت من تنبيهك له أحب إلي من إسلامك إلى أمر لا آمن عليك فيه (1) الهلكة ، ورجوت أن يوفقك الله فيه لرشدك ، وأن يهديك لقصدك ، فعهدت إليك وصيتى هذه .
الشرح : هذا الفصل وما بعده يشعر بالنهي عن علم الكلام حسب ما يقتضيه ظاهر لفظه ، أ لا تراه قال له : كنت عازما على أن أعلمك القرآن وتفسيره والفقه وهو المعرفة بأحكام الشريعة ، ولا أجاوز ذلك بك إلى غيره ، ثم خفت أن تدخل عليك شبهة في أصول الدين فيلتبس عليك في عقيدتك الاصلية ما التبس على غيرك من الناس ، فعدلت عن العزم الاول إلى أن أوصيك بوصايا تتعلق بأصول الدين .
ومعنى قوله عليه السلام : " وكان (2) إحكام ذلك " إلى قوله : " لا آمن عليك به الهلكة " ، أي فكان إحكامي الامور الاصلية عندك وتقرير الوصية التى أوصيك بها في ذهنك فيما رجع إلى النظر في العلوم (3) الالهية ، وإن كنت كارها للخوض [ معك ] (4) *) هامش) * (1) د " فيه من " .
(2) أ : " فكان " .
(3) د " الامور " .
(4) من أ .
(*)(16/68)
فيه وتنبيهك عليه أحب إلي من أن أتركك سدى مهملا ، تتلاعب بك الشبه ، وتعتورك الشكوك في أصول دينك ، فربما أفضى ذلك بك إلى الهلكة .
فإن قلت : فلماذا كان كارها تنبيه ولده على ذلك ، وأنتم تقولون أن معرفة الله واجبة على المكلفين ، وليس يليق بأمير المؤمنين أن يكره ما أوجبه الله تعالى ! قلت : لعله علم إما من طريق وصية رسول الله صلى الله عليه وآله ، أو من طريق معرفته بما يصلح أن يكون لطفا لولده ، ومعرفته بما يكون مفسدة له ، لكثرة التجربة له ، وطول الممارسة لاخلاقه وطباعه أن الاصلح له ألا يخوض في علم الكلام الخوض الكلي وأن يقتنع بالمبادئ والجمل ، فمصالح البشر تختلف ، فرب إنسان مصلحته في أمر ذلك الامر بعينه مفسدة لغيره ، ونحن وإن أوجبنا المعرفة فلم نوجب منها إلا الامور المجملة ، وأما التفصيلات الدقيقة الغامضة ، فلا تجب إلا عند ورود الشبهة ، فإذا لم تقع الشبهة في نفس المكلف لم يجب عليه الخوض في التفصيلات .
قوله عليه السلام : " قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم " العين مفتوحة والميم مكسورة مخففة ، تقول : عمر الرجل يعمر عمرا وعمرا على غير قياس ، لان قياس مصدره التحريك أي عاش زمانا طويلا ، واستعمل في القسم أحدهما فقط ، وهو المفتوح .
قوله عليه السلام : " حيث عناني من أمرك " أي أهمني ، قال : * عناني من صدودك ما عنا * قوله : " وأجمعت عليه " أي عزمت .
ومقتبل الدهر ، يقال : اقتبل الغلام فهو مقتبل بالفتح وهو من الشواذ ، ومثله أحصن الرجل إذا تزوج فهو محصن ، وإذا عف فمحصن أيضا ، وأسهب إذا أطال الحديث فهو مسهب ، وألفج إذا افتقر فهو ملفج ، وينبغى أن يكون له من قوله : " تنبيهك له " بمعنى(16/69)
" عليه " أو تكون على أصلها ، أي ما كرهت تنبيهك لاجله .
فإن قلت : إلى الان ما فسرت ، لماذا كره تنبيهه على هذا الفن ؟ قلت : بلى قد أشرت إليه ، وهو أنه كره أن يعدل به عن تفسير القرآن وعلم الفقه إلى الخوض في الامور الاصولية فنبهه على أمور يجره النظر وتأمل الادلة والشبهات إليها دقيقه يخاف على الانسان من الخوض فيها أن تضطرب عقيدته ، إلا أنه لم يجد به بدا من تنبيهه على أصول الديانة ، وإن كان كارها لتعريضه لخطر الشبهة ، فنبهه على أمور جملية غير مفصلة ، وأمره أن يلزم ذلك ولا يتجاوزه إلى غيره وأن يمسك عما يشتبه عليه ، وسيأتى ذكر ذلك .
الاصل : واعلم يا بني أن أحب ما أنت آخذ به إلي من وصيتي تقوى الله والاقتصار على ما فرضه الله عليك ، والاخذ بما مضى عليه الاولون من آبائك ، والصالحون من أهل بيتك ، فإنهم لم يدعوا أن نظروا لانفسهم كما أنت ناظر ، وفكروا كما أنت مفكر ، ثم ردهم آخر ذلك إلى الاخذ بما عرفوا ، والامساك عما لم يكلفوا ، فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا ، فليكن طلبك ذلك بتفهم وتعلم ، لا بتورط الشبهات ، وعلق الخصومات .
وابدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك ، والرغبة إليه في توفيقك ، وترك كل شائبة أولجتك في شبهة ، أو أسلمتك إلى ضلالة ، فإن أيقنت أن قد صفا قلبك فخشع ، وتم رأيك فاجتمع ، وكان همك في ذلك هما واحدا ، فانظر فيما فسرت لك ، وإن أنت لم يجتمع لك ما تحب من نفسك ، وفراغ نظرك وفكرك ،(16/70)
فاعلم أنك إنما تخبط العشواء ، وتتورط الظلماء ، وليس طالب الدين من خبط أو خلط ، والامساك عن ذلك أمثل .
الشرح أمره أن يقتصر على القيام بالفرائض ، وأن يأخذ بسنة السلف الصالح من آبائه وأهل بيته ، فإنهم لم يقتصروا على التقليد ، بل نظروا لانفسهم ، وتأملوا الادلة ، ثم رجعوا آخر الامر إلى الاخذ بما عرفوا ، والامساك عما لم يكلفوا .
فإن قلت : من سلفه هؤلاء الذين أشار إليهم ؟ قلت : المهاجرون الاولون من بني هاشم وبنى المطلب كحمزة وجعفر والعباس وعبيدة ابن الحارث ، وكأبي طالب في قول الشيعة وكثير من أصحابنا ، وكعبد المطلب في قول الشيعة خاصة .
فإن قلت : فهل يكون أمير المؤمنين عليه السلام نفسه معدودا من جملة هؤلاء ! قلت : لا فإنه لم يكن من أهل المبادئ والجمل المقتصر بهم في تكليفهم العقليات على أوائل الادلة ، بل كان سيد أهل النظر كافة وإمامهم .
فإن قلت : ما معنى قوله : لم يدعوا أن نظروا لانفسهم ؟ قلت : لانهم إذا تأملوا الادلة وفكروا فيها فقد نظروا لانفسهم كما ينظر الانسان لنفسه ليخلصها من مضرة عظيمة سبيلها أن تقع به إن لم ينظر في الخلاص منها ، وهذا هو الوجه في وجوب النظر في طريق معرفة الله ، والخوف من إهمال النظر .
فإن قلت : ما معنى قوله : " إلى الاخذ بما عرفوا والامساك عما لم يكلفوا " ؟(16/71)
قلت : الاخذ بما عرفوا ، مثل أدلة (1) حدوث الاجسام وتوحيد البارئ وعدله ، والامساك عما لم يكلفوا ، مثل النظر في إثبات الجزء الذى لا يتجزا ونفيه ، ومثل الكلام في الخلا والملا ، والكلام في أن هل بين كل حركتين مستقيمتين سكون أم لا ؟ وأمثال ذلك مما لا يتوقف أصول التوحيد والعدل عليه ، فإنه لا يلزم أصحاب الجمل والمبادئ أن يخوضوا في ذلك ، لانهم لم يكلفوا الخوض فيه ، وهو من وظيفه قوم آخرين .
قوله عليه السلام : " فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا " ، هذا الموضع فيه نظر ، لانا قد قلنا : إنهم لم يعلموا التفاصيل الدقيقة ، فكيف يجعلهم عالمين بها ؟ ويقول : " أن تعلم كما علموا " وينبغي أن يقال : أن الكاف وما عملت فيه في موضع نصب ، لانه صفة مصدر محذوف ، وتقديره فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك علما كما علموا دون أن تعلم التفاصيل الدقيقة ، وجاز انتصاب " علما " والعامل فيه " تقبل " لان القبول من جنس العلم ، لان القبول اعتقاد والعلم اعتقاد ، وليس لقائل أن يقول : فإذن يكون قد فصل بين الصفة والموصوف بأجنبي ، لان الفصل بينهما قد جاء كثيرا ، قال الشاعر : جزى الله كفا ملئها من سعادة * * سرت في هلاك المال والمال نائم ويجوز أن يقال : كما علموا الان بعد موتهم ، فإنهم بعد الموت يكونون عالمين بجميع ما يشتبه علمه على الناس في الحياة الدنيا ، لان المعارف ضرورية بعد الموت ، والنفوس باقية على قول كثير من المسلمين وغيرهم .
واعلم أن الذى يدعو إلى تكلف هذه التأويلات أن ظاهر الكلام كونه يأمر بتقليد النبي صلى الله عليه وآله والاخذ بما في القرآن وترك النظر العقلي ، هذا هو ظاهر الكلام ، أ لا تراه كيف يقول له : الاقتصار على ما فرضه الله عليك ، والاخذ بما مضى عليه أهل
__________
(1) أ : " الادلة " تحريف .
(*)(16/72)
بيتك وسلفك ، فإنهم لما حاولوا النظر رجعوا بآخره إلى السمعيات ، وتركوا العقليا ت ، لانها أفضت بهم إلى ما لا يعرفونه ، ولا هو من تكليفهم .
ثم قال له : فإن كرهت التقليد المحض ، وأحببت أن تسلك مسلكهم في النظر ، وإن أفضى بك الامر بأخرة إلى تركه والعود الى المعروف من الشرعيات وما ورد به الكتاب والسنة ، فينبغي أن تنظر وأنت مجتمع الهم خال من الشبهة ، وتكون طالبا للحق غير قاصد إلى الجدل والمراء ، فلما وجدنا ظاهر اللفظ يقتضي هذه المعاني ، ولم يجز عندنا أن يأمر أمير المؤمنين عليه السلام ولده (1) مع حكمته وأهلية ولده بالتقليد وترك النظر ، رجعنا إلى تأويل كلامه على وجه يخرج به عليه السلام من أن يأمر بما لا يجوز لمثله أن يأمر به .
واعلم أنه قد أوصاه إذا هم بالشروع في النظر بمحض ما ذكره المتكلمون ، وذلك أمور : منها أن يرغب إلى الله في توفيقه وتسديده .
ومنها أن يطلب المطلوب النظري بتفهم وتعلم ، لا بجدال ومغالبة ومراء ومخاصمة .
ومنها إطراح العصبية لمذهب بعينه ، والتورط في الشبهات التى يحاول بها نصرة ذلك المذهب .
ومنها ترك الالف والعادة ، ونصرة أمر يطلب به الرياسة ، وهو المعني بالشوائب التى تولج في الضلال .
ومنها أن يكون صافي القلب مجتمع الفكر غير مشغول السر بأمر من جوع
__________
(1) ساقطة من أ .
(*)(16/73)
[ أو شبع ] أو شبق أو غضب ، ولا يكون ذا هموم كثيرة ، وأفكار موزعة مقسمة ، بل يكون فكره وهمه هما واحدا .
قال : فإذا اجتمع لك كل ذلك فانظر ، وإن لم يجتمع لك ذلك ونظرت كنت كالناقة العشواء الخابطة لا تهتدي ، وكمن يتورط في الظلماء لا يعلم أين يضع قدمه ! وليس طالب الدين من كان خابطا أو خالطا ، والامساك عن ذلك أمثل وأفضل .
الاصل : فتفهم يا بني وصيتي ، واعلم أن مالك الموت هو مالك الحياة ، وأن الخالق هو المميت ، وأن المفني هو المعيد ، وأن المبتلي هو المعافي ، وأن الدنيا لم تكن لتستقر إلا على ما جعلها الله عليه من النعماء والابتلاء والجزاء في المعاد ، أو ما شاء مما لا تعلم ، فإن أشكل عليك شئ من ذلك فاحمله على جهالتك ، فإنك أول ما خلقت به جاهلا ثم علمت ، وما أكثر ما تجهل من الامر ، ويتحير فيه رأيك ، ويضل فيه بصرك ، ثم تبصره بعد ذلك ! الشرح : قد تعلق بهذه اللفظة وهو قوله : " أو ما شاء مما لا تعلم " ، قوم من التناسخية ، وقالوا : المعني بها الجزاء في الهياكل التى تنتقل النفوس إليها .
وليس ما قالوه بظاهر ويجوز أن يريد عليه السلام أن الله تعالى قد يجازي المذنب في الدنيا بنوع من العقوبة ، كالاسقام والفقر وغيرهما ، والعقاب وإن كان [ مفعولا ] (2) على وجه الاستحقاق والاهانة فيجوز لمستحقه وهو الباري
__________
(1) من " د " .
(2) من د .
(*)(16/74)
أن يقتصر منه على الايلام فقط ، لان الجميع حقه ، فله أن يستوفي البعض ويسقط البعض ، وقد روي " أو بما شاء " بالباء الزائدة ، " وروى بما لا يعلم " .
وأما (1) الثواب فلا يجوز أن يجازى به المحسن في الدنيا ، لانه على صفة لا يمكن أن تجامع (2) التكليف ، فيحمل لفظ الجزاء على جزاء العقاب خاصة .
ثم أعاد عليه السلام وصيته الاولى ، فقال : وإن أشكل عليك شئ من أمر القضاء والقدر ، وهو كون الكافر مخصوصا بالنعماء والمؤمن مخصوصا بضرب من الابتلاء ، وكون الجزاء قد يكون في المعاد ، وقد يكون في غير المعاد ، فلا تقدحن جهالتك به في سكون قلبك إلى ما عرفتك جملته ، وهو أن الله تعالى هو المحيي المميت ، المفني المعيد ، المبتلي المعافي ، وأن الدنيا بنيت على الابتلاء والانعام ، وأنهما لمصالح وأمور يستأثر الله تعالى بعلمها ، وأنه يجازي عباده أما في الاخرة أو غير الاخرة ، على حسب ما يريده ويختاره .
ثم قال له : إنما خلقت في مبدأ خلقتك جاهلا ، فلا تطلبن نفسك غاية من العلم لا وصول لها إليها ، أو لها إليها وصول بعد أمور صعبة ، ومتاعب شديدة ، فمن خلق جاهلا حقيق أن يكون جهله مدة عمره أكثر من علمه استصحابا للاصل .
ثم أراد أن يؤنسه بكلمة استدرك بها إيحاشه ، فقال له : وعساك إذا جهلت شيئا من ذلك أن تعلمه فيما بعد ، فما أكثر ما تجهل من الامور وتتحير فيه ، ثم تبصره وتعرفه ! وهذا من الطب (3) اللطيف ، والرقى الناجعة ، والسحر الحلال .
__________
(1) أ : " فأما " .
(2) ب : " يجتمع " ، وما أثبته من أ .
(3) الطب : المعالجة .
(*)(16/75)
الاصل : فاعتصم بالذى خلقك ورزقك وسواك ، فليكن له تعبدك ، وإليه رغبتك ، ومنه شفقتك .
واعلم يا بنى أن أحدا لم ينبئ عن الله سبحانه كما أنبا عليه نبينا صلى الله عليه وسلم ، فارض به رائدا ، وإلى النجاة قائدا ، فإني لم آلك نصيحة ، وإنك لن تبلغ في النظر لنفسك ، وإن اجتهدت مبلغ نظري لك .
الشرح : عاد الى أمره باتباع الرسول صلى الله عليه وآله ، وأن يعتمد على السمع وما وردت به الشريعة ونطق به الكتاب ، وقال له : إن أحدا لم يخبر عن الله تعالى كما أخبر عنه نبينا صلى الله عليه وآله ، وصدق عليه السلام ! فإن التوراة والانجيل وغيرهما من كتب أنبياء بنى إسرائيل لم تتضمن من الامور الالهية ما تضمنه القرآن ، وخصوصا في أمر المعاد ، فإنه في أحد الكتابين مسكوت عنه ، وفي الاخر مذكور ذكرا مضطربا ، والذى كشف هذا القناع في هذا المعنى ، وصرح بالامر هو القرآن .
ثم ذكر له أنه أنصح له من كل أحد وأنه ليس يبلغ وإن اجتهد في النظر لنفسه ما يبلغه هو عليه السلام له ، لشدة حبه له وإيثاره مصلحته .
وقوله ، " لم آلك نصحا " لم أقصر في نصحك ، ألى الرجل في كذا يألو ، أي قصر فهو آل والفعل لازم ، ولكنه حذف اللام فوصل الفعل إلى الضمير فنسبه ، وكان أصله : لا آلو لك نصحا ، ونصحا منصوب على التمييز ، وليس كما قاله الراوندي إن انتصابه على أنه مفعول ثان ، فإنه إلى مفعول واحد لا يتعدى ، فكيف إلى اثنين !(16/76)
ويقول هذه امرأه آلية أي مقصرة وجمعها أوال ، وفي المثل : " إلا حظية فلا ألية " ، أصله في المرأه تصلف عند بعلها ، فتوصي حيث فاتتها الحظوه ألا تألوه في التودد إليه والتحبب إلى قلبه .
قوله : " ومنه شفقتك " ، أي خوفك .
ورائد : أصله الرجل يتقدم القوم فيرتاد بهم المرعى .
الاصل : واعلم يا بنى أنه لو كان لربك شريك لاتتك رسله ، ولرأيت آثار ملكة وسلطانه ، ولعرفت أفعاله وصفاته ، ولكنه إله واحد كما وصف نفسه ، لا يضاده في ملكه أحد ، ولا يزول أبدا ولم يزل ، أول قبل الاشياء بلا أوليه ، وآخر بعد الاشياء بلا نهاية ، عظم أن تثبت ربوبيته بإحاطة قلب أو بصر .
فإذا عرفت ذلك فافعل كما ينبغى لمثلك أن يفعله في صغر خطره ، وقله مقدرته ، وكثرة عجزه ، وعظيم حاجته إلى ربه ، في طلب طاعته ، والرهينة من عقوبته ، والخشية من عقوبته ، والشفقة من سخطه ، فإنه لم يأمرك إلا بحسن ، ولم ينهك إلا عن قبيح .
الشرح : يمكن أن يستدل بهذا الكلام على نفي الثاني من وجهين : أحدهما أنه لو كان في الوجود ثان للبارئ تعالى لما كان القول بالوحدانية حقا ، بل كان الحق هو القول بالتثنية ، ومحال ألا يكون ذلك الثاني حكيما ، ولو كان الحق هو(16/77)
إثبات ثان حكيم لوجب أن يبعث رسولا يدعو المكلفين إلى التثنية ، لان الانبياء كلهم دعوا إلى التوحيد ، لكن التوحيد على هذا الفرض ضلال ، فيجب على الثاني الحكيم أن يبعث من ينبه المكلفين على ذلك الضلال ويرشدهم إلى الحق وهو إثبات الثاني ، وإلا كان منسوبا في إهمال ذلك إلى السفه واستفساد المكلفين ، وذلك لا يجوز ، ولكنا ما أتانا رسول يدعو إلى إثبات ثان في الالهية فبطل كون القول بالتوحيد ضلالا ، وإذا لم يكن ضلالا كان حقا ، فنقيضه وهو القول بإثبات الثاني باطل .
الوجه الثاني : أنه لو كان في الوجود ثان للقديم تعالى لوجب أن يكون لنا طريق إلى إثباته ، إما من مجرد أفعاله ، أو من صفات أفعاله ، أو من صفات نفسه ، أو لا من هذا ولا من هذا ، فمن التوقيف .
وهذه هي الاقسام التى ذكرها أمير المؤمنين عليه السلام ، لان قوله : " أتتك رسله " هو التوقيف ، وقوله : " ولرأيت آثار ملكه وسلطانه " ، هي صفات أفعاله ، وقوله : " ولعرفت أفعاله وصفاته " هما القسمان الاخران .
أما إثبات الثاني من مجرد الفعل فباطل ، لان الفعل إنما يدل على فاعل ولا يدل على التعدد ، وأما صفات أفعاله وهى كون أفعاله محكمه متقنه ، فإن الاحكام الذى نشاهده إنما يدل على عالم ولا يدل على التعدد ، وأما صفات ذات البارئ فالعلم بها فرع على العلم بذاته ، فلو أثبتنا ذاته بها لزم الدور .
وأما التوقيف فلم يأتنا رسول ذو معجزة صحيحة يدعونا إلى الثاني ، وإذا بطلت الاقسام كلها ، وقد ثبت أن ما لا طريق إلى إثباته لا يجوز أثباته بطل القول باثبات الثاني .
ثم قال : " لا يضاده في ملكه أحد " ليس يريد بالضد ما يريده المتكلمون من نفي ذات هي معاكسة لذات البارئ تعالى في صفاتها كمضادة السواد للبياض ، بل مراده نفى الثاني لا غير ، فإن نفى الضد بحث آخر لا دخول له بين هذا الكلام .(16/78)
ثم ذكر له أن البارئ تعالى قديم سابق للاشياء ، لا سبقا له حد محدود ، وأول معين ، بل لا أول له مطلقا .
ثم قال : وهو مع هذا آخر الاشياء ، آخرية مطلقة ليس تنتهي إلى غايد معينة .
ثم ذكر أن له ربوبية جلت عن أن تحيط بها الابصار والعقول .
وقد سبق منا خوض في هذا المعنى ، وذكرنا من نظمنا في هذا النمط أشياء لطيفة ونحن نذكر ها هنا من نظمنا أيضا في هذا المعنى ، وفي فننا الذى اشتهرنا به ، وهو المناجاة والمخاطبة على طريقة أرباب الطريقة ما لم نذكره هناك ، فمن ذاك قولي : فلا والله ما وصل ابن سينا * * ولا أغنى ذكاء أبى الحسين ولا رجعا بشئ بعد بحث * * وتدقيق سوى خفي حنين لقد طوفت أطلبكم ولكن * * يحول الوقت بينكم وبيني فهل بعد انقضاء الوقت أحظى * * بوصلكم غدا وتقر عينى ! منى عشنا بها زمنا وكانت * * تسوفنا بصدق أو بمين فإن أكدت فذاك ضياع دينى * * وإن أجدت فذاك حلول دينى .
(1) ومنها : أ مولاي قد أحرقت قلبي فلا تكن * * غدا محرقا بالنار من كان يهواكا أتجمع لي نارين : نار محبة * * ونار عذاب أنت أرحم من ذاكا ! ومنها : قوم موسى تاهوا سنين كما قد * * جاء في النص قدرها أربعونا (2) ولي اليوم تائها في جوى من * * لا أسمي وحبه خمسونا قل لاحبابنا إلام نروم ال * * - وصل منكم وأنتم تمنعونا
__________
(1) أ : " أجدب " .
(2) إشارة إلى قوله تعالى : " وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر " (الاعراف : 142) .
(*)(16/79)
كم نناجيكم فلا ترشدونا * * ونناديكم فلا تسمعونا ! حسبنا علمكم بأنا موالي * * - كم وإن كنتم لنا كارهينا فعسى تدرك السعادة أرباب المع * * - اصى فيصبحوا فائزينا ! ومنها : والله ما آسى من الدنيا على * * مال ولا ولد ولا سلطان بل في صميم القلب منى حسرة * * تبقى معي وتلف في أكفاني إني أراك بباطني لا ظاهري * * فالحسن مشغلة عن العرفان يا من سهرت مفكرا في أمره * * خمسين حولا دائم الجولان فرجعت أحمق من نعامة بيهس * * وأضل سعيا من أبى غبشان ومنها : وحقك إن أدخلتني النار قلت لل * * - ذين بها قد كنت ممن أحبه وأفنيت عمرى في علوم دقيقة * * وما بغيتى إلا رضاه وقربه هبوني مسيئا أوتغ الحلم جهله * * وأوبقه بين البرية ذنبه (1) أ ما يقتضى شرع التكرم عتقه * * أيحسن أن ينسى هواه وحبه ! أما كان ينوى الحق فيما يقوله * * ألم تنصر التوحيد والعدل كتبه ! أما رد زيغ ابن الخطيب وشكه * * وإلحاده إذ جل في الدين خطبه ! أما قلتم من كان فينا مجاهدا * * سيكرم مثواه ويعذب شربه ! ونهديه سبلا من هدانا جهاده * * ويدخله خير المداخل كسبه فأى اجتهاد فوق ما كان صانعا * * وقد أحرقت زرق الشياطين شهبه ! وما نال قلب الجيش جيش محمد * * كما نال من أهل الضلالة قلبه
__________
(1) كذا في أ ، ب ، وفي د : " أرتع " .
(*)(16/80)
فإن تصفحوا يغنم وإن تتجرموا * * فتعذيبكم حلو المذاقة عذبه وآيه صدق الصب أن يعذب الاذى * * إذ كان من يهوى عليه يصبه ومنها : إذا فكرت فيك يحار عقلي * * وألحق بالمجانين الكبار وأصحو تارة فيشوب ذهني * * ويقدح خاطري كشواظ نار فيا من تاهت العقلاء فيه * * فأمسوا كلهم صرعى عقار ويا من كاعت الافكار عنه * * فآبت بالمتاعب والخسار ويا من ليس يعلمه نبي * * ولا ملك ولا يدريه دار ويا من ليس قداما وخلفا * * ولا جهة اليمين ولا اليسار ولا فوق السماء ولا تدلى * * من الارضين في لجج البحار ويا من أمره من ذاك أجلى * * من ابن ذكاء أو صبح النهار سألتك باسمك المكتوم إلا * * فككت النفس من رق الاسار وجدت لها بما تهوى فانت ال * * - عليم بباطن اللغز الضمار ومنها : يا رب إنك عالم * * بمحبتي لك واجتهادي وتجردى للذب عن * * - ك على مراغمة الاعادي بالعدل والتوحيد اص * * - دع معلنا في كل نادى وكشفت زيغ ابن الخطي * * - ب ولبسه بين العباد ونقضت سائر ما بنا * * ه من الضلالة والفساد(16/81)
وأبنت عن إغوائه * * في دين أحمد ذى الرشاد وجعلت أوجه ناصري * * - ه محممات بالسواد وكففت من غلوائهم * * بعد التمرد والعناد فكأنما نخل الرما * * د عليهم بعد الرماد وقصدت وجهك أبتغى * * حسن المثوبة في المعاد فأفض على العبد الفقي * * - ر إليكم نور السداد وارزقه قبل الموت مع * * - رفة المصائر والمبادى وافكك أسير الحرص بال * * - لاصفاد من أسر الصفاد واغسل بصفو القرب من * * أبوابكم كدر البعاد وأعضه من حر الغلي * * - ل بوصلكم برد الفؤاد وارحم عيونا فيك ها * * مية وقلبا فيك صاد يا ساطح الارض المها * * د وممسك السبع الشداد الاصل : يا بني ، إنى قد أنبأتك عن الدنيا وحالها ، وزوالها وانتقالها ، وأنباتك عن الاخرة وما أعد لاهلها ، وضربت لك فيهما الامثال ، لتعتبر بها ، وتحذو عليها .
إنما مثل من خبر الدنيا كمثل قوم سفر ، نبا بهم منزل جديب ، فأموا منزلا خصيبا ، وجنابا مريعا ، فاحتملوا وعثاء الطريق ، وفراق الصديق ، وخشونة السفر ، وجشوبة المطعم ، ليأتوا سعه دارهم ، ومنزل قرارهم ، فليس يجدون لشئ من ذلك ألما ، ولا يرون نفقة فيه مغرما .
ولا شئ أحب إليهم مما قربهم من منزلهم(16/82)
وأدناهم إلى محلتهم .
ومثل من اغتر بها كمثل قوم كانوا بمنزل خصيب ، فنبا بهم إلى منزل جديب ، فليس شئ أكره إليهم ، ولا أفظع عندهم من مفارقة ما كانوا فيه ، إلى ما يهجمون عليه ، ويصيرون إليه .
الشرح : حذا عليه يحذو ، واحتذى مثاله ، يحتذى ، أي اقتدى به ، وقوم سفر بالتسكين ، أي مسافرون .
وأموا : قصدوا .
والمنزل الجديب : ضد المنزل الخصيب .
والجناب المريع بفتح الميم : ذو الكلا والعشب ، وقد مرع الوادي ، بالضم .
والجناب : الفناء .
ووعثاء الطريق : مشقتها .
وجشوبة المطعم : غلظه ، طعام جشيب ومجشوب ، ويقال إنه الذى لا أدم (1) معه .
يقول : مثل من عرف الدنيا وعمل فيها للاخرة ، كمن سافر من منزل جدب إلى منزل خصيب ، فلقي في طريقه مشقة ، فإنه لا يكترث بذلك في جنب ما يطلب ، وبالعكس من عمل للدنيا وأهمل أمر الاخرة ، فإنه كمن يسافر إلى منزل ضنك ويهجر منزلا رحيبا طيبا ، وهذا من قول رسول الله صلى الله عليه وآله : " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " .
__________
(1) الادم : ما يؤتدم به .
(*)(16/83)
الاصل : يا بني ، اجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك ، فاحبب لغيرك ما تحب لنفسك ، واكره له ما تكره لها ، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم ، واحسن كما تحب أن يحسن إليك ، واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك ، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك ، ولا تقل ما لا تعلم وإن قل ما تعلم ، ولا تقل ما لا تحب أن يقال لك .
واعلم أن الاعجاب ضد الصواب ، وآفة الالباب ، فاسع في كدحك ، ولا تكن خازنا لغيرك ، وإذا أنت هديت لقصدك ، فكن أخشع ما تكون لربك .
الشرح : جاء في الحديث المرفوع : " لا يكمل إيمان عبد حتى يحب لاخيه ما يحب لنفسه ، ويكره لاخيه ما يكره لنفسه " .
وقال بعض الاسارى لبعض الملوك : افعل معي ما تحب أن يفعل الله معك ، فأطلقه ، وهذا هو معنى قوله عليه السلام : " ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم " .
وقوله : " وأحسن " من قول الله تعالى : (وأحسن كما أحسن الله إليك) (2) .
وقوله : " واستقبح من نفسك " ، سئل الاحنف عن المروءة ، فقال : أن تستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك .
وروي : " وارض من الناس لك " وهى أحسن .
وأما العجب وما ورد في ذمه فقد قدمنا فيه قولا مقنعا .
__________
(1) سورة القصص 77 .
(*)(16/84)
قوله عليه السلام : " واسع في كدحك " أي أذهب ما اكتسبت بالانفاق ، والكدح ها هنا : هو المال الذى كدح في حصوله ، والسعي فيه إنفاقه ، وهذه كلمة فصيحة ، وقد تقدم نظائر قوله : " ولا تكن خازنا لغيرك " .
ثم أمره أن يكون أخشع ما يكون لله إذ هداه لرشده ، وذلك لان هدايته إياه إلى رشده نعمة عظيمة منه ، فوجب أن يقابل بالخشوع لانه ضرب من الشكر .
الاصل : واعلم أن أمامك طريقا ذا مسافة بعيدة ، ومشقة شديدة ، وأنه لا غنى بك فيه عن حسن الارتياد ، وقدر بلاغك من الزاد ، مع خفة الظهر ، فلا تحملن على ظهرك فوق طاقتك ، فيكون ثقل ذلك وبالا عليك ، وإذا وجدت من أهل الفاقة من يحمل لك زادك إلى يوم القيامة ، فيوافيك به غدا حيث تحتاج إليه فاغتنمه وحمله إياه ، وأكثر من تزويده وأنت قادر عليه ، فلعلك تطلبه فلا تجده .
واغتنم من استقرضك في حال غناك ، ليجعل قضاءه لك في يوم عسرتك .
واعلم أن أمامك عقبة كئودا ، المخف فيها أحسن حالا من المثقل ، والمبطئ عليها أقبح أمرا من المسرع ، وأن مهبطها بك لا محالة ، أما على جنة أو على نار ، فارتد لنفسك قبل نزولك ، ووطئ المنزل قبل حلولك ، فليس بعد الموت مستعتب ، ولا إلى الدنيا منصرف .(16/85)
الشرح : أمره في هذا الفصل بإنفاق المال والصدقة والمعروف ، فقال : إن بين يديك طريقا بعيد المسافة ، شديد المشقة ، ومن سلك طريقا فلا غنى له عن أن يرتاد لنفسه ، ويتزود من الزاد قدر ما يبلغه الغاية ، وأن يكون خفيف الظهر في سفره ذلك ، فإياك أن تحمل من المال ما يثقلك ، ويكون وبالا عليك ، وإذا وجدت من الفقراء والمساكين من يحمل ذلك الثقل عنك فيوافيك به غدا وقت الحاجة فحمله إياه ، فلعلك تطلب مالك فلا تجده .
جاء في الحديث المرفوع : " خمس من أتى الله بهن أو بواحدة منهن أوجب له الجنة : من سقى هامة صادية ، أو أطعم كبدا هافية ، أو كسا جلدة عارية ، أو حمل قدما حافية ، أو أعتق رقبة عانية " .
قيل لحاتم الاصم : لو قرأت لنا شيئا من القرآن ! قال : نعم ، فاندفع فقرأ : (الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) يكنزون (1) ، فقالوا : أيها الشيخ ما هكذا أنزل ! قال : صدقتم ، ولكن هكذا أنتم ! الاصل : واعلم أن الذى بيده خزائن السموات والارض قد أذن لك في الدعاء ، وتكفل لك بالاجابة ، وأمرك أن تسأله ليعطيك ، وتسترحمه ليرحمك ، ولم يجعل بينه وبينك من يحجبك عنه ، ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه
__________
(1) سورة البقرة 1 - 3 ، والقراءة : " ومما رزقناهم ينفقون " .
(*)(16/86)
ولم يمنعك إن أسات من التوبة ، ولم يعاجلك بالنقمة ، ولم يفضحك حيث تعرضت للفضيحة ، ولم يشدد عليك في قبول الانابة ، ولم يناقشك بالجريمة ، ولم يؤيسك من الرحمة ، بل جعل نزوعك عن الذنب حسنة ، وحسب سيئتك واحدة ، وحسب حسنتك عشرا .
وفتح لك باب المتاب ، وباب الاستعتاب .
فإذا ناديته سمع نداك ، وإذا ناجيته علم نجواك ، فأفضيت إليه بحاجتك ، وأبثثته ذات نفسك ، وشكوت إليه همومك ، واستكشفته كروبك ، واستعنته على أمورك ، وسألته من خزائن رحمته ما لا يقدر على إعطائه غيره ، من زيادة الاعمار ، وصحة الابدان ، وسعة الارزاق .
ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه ، بما أذن لك فيه من مسألته ، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمته ، واستمطرت شآبيب رحمته ، فلا يقنطنك إبطاء إجابته ، فإن العطية على قدر النية ، وربما أخرت عنك الاجابة ليكون ذلك أعظم لاجر السائل ، وأجزل لعطاء الآمل .
وربما سألت الشئ فلا تعطاه ، وأوتيت خيرا منه عاجلا أو آجلا ، أو صرف عنك لما هو خير لك ، فلرب أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته ، فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله ، وينفى عنك وباله ، فالمال لا يبقى لك ، ولا تبقى له .
الشرح : قد تقدم القول في الدعاء .
قوله : " بل جعل نزوعك عن الذنب حسنة " ، هذا متفق عليه بين أصحابنا ، وهو أن تارك القبيح لانه قبيح يستحق الثواب .(16/87)
قوله : " حسب سيئتك واحدة وحسب حسنتك عشرا " ، هذا إشارة إلى قوله تعالى : (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها) (1) .
قوله : " وأبثثته ذات نفسك " ، أي حاجتك .
ثم ذكر له وجوها في سبب إبطاء الاجابة : منها أن ذلك أمر عائد إلى النية ، فلعلها لم تكن خالصة .
ومنها أنه ربما أخرت ليكون أعظم لاجر السائل ، لان الثواب على قد المشقة .
ومنها أنه ربما أخرت ليعطى السائل خيرا مما سأل ، إما عاجلا أو آجلا ؟ أو في الحالين .
ومنها أنه ربما صرف ذلك عن السائل ، لان في إعطائه إياه مفسده في الدين .
قوله : " فالمال لا يبقى لك ولا تبقى له " ، لفظ شريف فصيح ، ومعنى صادق محقق فيه عظة بالغد ، وقال أبو الطيب : أين الجبابرة الاكاسرة الالى * * كنزوا الكنوز فما بقين ولا بقوا (2) ويروى : " من يحجبه عنك " .
وروي : " حيث الفضيحة " أي حيث الفضيحة موجودة منك .
واعلم أن في قوله : " قد أذن لك في الدعاء ، وتكفل لك بالاجابة " إشارة إلى قوله تعالى : (ادعوني استجب لكم) (3) .
وفي قوله : " وأمر أن تسأله ليعطيك " إشارة إلى قوله : (وأسالوا الله من فضله) (4) .
__________
(1) سورة الانعام 160 .
(2) ديوانه 2 : 334 .
(3) سورة غافر 60 .
(4) سورة النساء 32 .
(*)(16/88)
وفي قوله : " وتسترحمه ليرحمك " إشارة إلى قوله : (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) (1) .
وفي قوله : " ولم يمنعك إن أسات من التوبة " إشارة إلى قوله : (إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما) (2) .
الاصل : واعلم يا بنى أنك إنما خلقت للاخرة لا للدنيا ، وللفناء لا للبقاء ، وللموت لا للحياة ، وإنك في منزل قلعة ، ودار بلغة ، وطريق إلى الاخرة ، وأنك طريد الموت الذى لا ينجو هاربه ، ولا يفوته طالبه ، ولا بد أنه مدركه ، فكن منه على حذر أن يدركك وأنت على حال سيئة ، قد كنت تحدث نفسك منها بالتوبة ، فيحول بينك وبين ذلك ، فإذا أنت قد أهلكت نفسك .
يا بنى ، أكثر من ذكر الموت وذكر ما تهجم عليه ، وتفضي بعد الموت إليه ، حتى يأتيك وقد أخذت منه حذرك ، وشددت له أزرك ، ولا يأتيك بغتة فيبهرك .
وإياك أن تغتر بما ترى من إخلاد أهل الدنيا إليها ، وتكالبهم عليها ، فقد نبأك الله عنها ، ونعتت لك نفسها ، وتكشفت لك عن مساويها ، فإنما أهلها كلاب عاوية ، وسباع ضارية ، يهر بعضها على بعض ، ويأكل عزيزها ذليلها ، ويقهر كبيرها صغيرها .
__________
(1) سورة الانفال 33 .
(2) سورة الفرقان 70 .
(*)(16/89)
نعم معقلة ، وأخرى مهملة ، قد أضلت عقولها ، وركبت مجهولها .
سروح عاهة بواد وعث ، ليس لها راع يقيمها ، ولا مسيم يسيمها ، سلكت بهم الدنيا طريق العمى ، وأخذت بأبصارهم عن منار الهدى ، فتاهوا في حيرتها ، وغرقوا في نعمتها ، واتخذوها ربا فلعبت بهم ولعبوا بها ، ونسوا ما وراءها .
رويدا يسفر الظلام ، كأن قد وردت الاظعان ! يوشك من أسرع أن يلحق ! الشرح : يقول : هذا منزل قلعة ، بضم القاف وسكون اللام ، أي ليس بمستوطن ، ويقال : هذا مجلس قلعة ، إذا كان صاحبه يحتاج إلى أن يقوم مرة بعد مرة .
ويقال أيضا : هم على قلعة أي على رحلة ، والقلعة أيضا : هو المال العارية ، وفى الحديث : " بئس المال القلعة " ، وكله يرجع إلى معنى واحد .
قوله : " ودار بلغة " ، والبلغه : ما يتبلغ به من العيش .
قوله : " سروح عاهة " ، والسروح : جمع سرح ، وهو المال السارح .
والعاهة : الافة ، أعاه القوم أصابت ماشيتهم العاهة .
وواد وعث : لا يثبت الحافر والخف فيه ، بل يغيب فيه ، ويشق على من يمشى فيه .
وأوعث القوم : وقعوا في الوعث .
ومسيم يسيمها : راع يرعاها .
قوله : " رويدا يسفر الظلام ...
" إلى آخر الفصل ، ثلاثة أمثال محركة لمن عنده(16/90)
استعداد .
واستقرأني أبو الفرج محمد بن عباد رحمه الله وأنا يومئذ حدث هذه الوصية فقرأتها عليه من حفظى ، فلما وصلت إلى هذا الموضع صاح صيحة شديدة ، وسقط - وكان جبارا قاسي القلب .
[ أقوال حكيمة في وصف الدنيا وفناء الخلق ] واعلم أنا قدمنا في وصف الدنيا والفناء والموت من محاسن كلام الصالحين والحكماء ما فيه الشفاء ، ونذكر الان أشياء أخر .
فمن كلام الحسن البصري : يا بن آدم إنما أنت أيام مجموعة ، فإذا مضى يوم مضى بعضك .
عن بعض الحكماء : رحم الله امرأ لا يغره ما يرى من كثرة الناس ، فإنه يموت وحده ، ويقبر وحده ، ويحاسب وحده .
وقال بعضهم : لا وجه لمقاساة الهموم لاجل الدنيا ولا الاعتداد بشئ من متاعها ، ولا التخلي منها ، أما ترك الاهتمام لها ، فمن جهة أنه لا سبيل إلى دفع الكائن من مقدورها ، وأما ترك الاعتداد بها ، فإن مرجع كل أحد إلى تركها ، وأما ترك التخلي عنها فإن الاخرة لا تدرك إلا بها .
ومن كلام بعض الحكماء : أفضل اختيار الانسان ما توجه به إلى الاخرة ، وأعرض به عن الدنيا ، وقد تقدمت الحجة وأذنا بالرحيل ، ولنا من الدنيا على الدنيا دليل ، وإنما أحدنا في مدة بقائه صريع لمرض ، أو مكتئب بهم ، أو مطروق بمصيبة ، أو مترقب لمخوف ، لا يأمن المرء أصناف لذته من المطعوم والمشروب أن يكون موته فيه ، ولا يأمن مملوكه(16/91)
وجاريته أن يقتلاه بحديد أو سم ، وهو مع ذلك عاجز عن استدامة سلامة عقله من زوال ، وسمعه من صمم ، وبصره من عمى ، ولسانه من خرس ، وسائر جوارحه من زمانة ، ونفسه من تلف ، وماله من بوار ، وحبيبه من فراق ، وكل ذلك يشهد شهادة قطعية أنه فقير إلى ربه ، ذليل في قبضته ، محتاج إليه .
لا يزال المرء بخير ما حاسب نفسه ، وعمر آخرته بتخريب دنياه ، وإذا اعترضته بحار المكاره ، جعل معابرها الصبر والتأسي ، ولم يغتر بتتابع النعم ، وإبطاء حلول النقم ، وأدام صحبة التقى ، وفطم النفس عن الهوى ، فإنما حياته كبضاعة ينفق من رأس المال منها ، ولا يمكنه أن يزيد فيها ، ومثل ذلك يوشك فناؤه وسرعة زواله .
وقال أبو العتاهية في ذكر الموت : ستباشر الترباء خدك * * وسيضحك الباكون بعدك (1) ولينزلن بك البلى * * وليخلفن الموت عهدك وليفنينك مثل ما (2) * * أفنى أباك بلى وجدك (3) لو قد رحلت عن القصو * * ر وطيبها وسكنت لحدك (4) لم تنتفع إلا بفع * * - ل صالح قد كان عندك (1) ديوانه 86 ، 87 ، والترباء : التراب ، ورواية الديوان : * لتباشر الاجداث وحدك * (2) الديوان : " بالذي " .
(3) الديوان : " به وجدك " .
(4) الديوان : لو قد ظعنت عن البيو * * ت ودوحها وسكنت لحدك (*)(16/92)
وترى الذين قسمت ما * * لك بينهم حصصا وكدك (1) يتلذذون بما جمع * * - ت لهم ولا يجدون فقدك الاصل : واعلم يا بني أن من كانت مطيته الليل والنهار ، فإنه يسار به وإن كان واقفا ، ويقطع المسافة وإن كان مقيما وادعا .
واعلم يقينا أنك لن تبلغ أملك ، ولن تعدو أجلك ، وأنك في سبيل من كان قبلك .
فخفض في الطلب ، وأجمل في المكتسب ، فإنه رب طلب قد جر إلى حرب ، وليس كل طالب بمرزوق ، ولا كل مجمل بمحروم .
وأكرم نفسك عن كل دنية وإن ساقتك إلى الرغائب ، فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضا .
ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا .
وما خير خير لا ينال (2) إلا بشر ، ويسر لا ينال إلا بعسر .
وإياك أن توجف بك مطايا الطمع ، فتوردك مناهل الهلكة .
وإن استطعت ألا يكون بينك وبين الله ذو نعمة فافعل ، فإنك مدرك قسمك ، وآخذ سهمك ، وإن اليسير من الله سبحانه أكرم وأعظم من الكثير من خلقه وإن كان كل منه .
__________
(1) الديوان : وكأن جمعك قد غدا * * ما بينهم حصصا وكدك (3) د : " لا يوجد " .
(*)(16/93)
الشرح : مثل الكلمة الاولى قول بعض الحكماء - وقد نسب أيضا إلى أمير المؤمنين عليه السلام : أهل الدنيا كركب يسار بهم وهم نيام .
قوله : " فخفضن في الطلب " من قول رسول الله صلى الله عليه وآله : " إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها ، فأجملوا في الطلب " .
وقال الشاعر : ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله * * عوضا ولو نال الغنى بسؤال وإذا النوال إلى السؤال قرنته (1) * * رجح السؤال وخف كل نوال وقال آخر : رددت رونق وجهي عن صحيفته * * رد الصقال بهاء الصارم الخذم (2) وما أبالي وخير القول أصدقه * * حقنت لي ماء وجهى أم حقنت دمي وقال آخر : وإني لاختار الزهيد على الغنى * * وأجزأ بالمال القراح عن المحض وأدرع الاملاق صبرا وقد أرى * * مكان الغنى كي لا أهين له عرضي وقال أبو محمد اليزيدي في المأمون : أبقى لنا الله الامام وزاده * * شرفا إلى الشرف الذى أعطاه والله أكرمنا بأنا معشر * * عتقاء من نعم العباد سواه .
وقال آخر : كيف النهوض بما أوليت من حسن * * أم كيف أشكر ما طوقت من نعم !
__________
(1) د : " وزنته " .
(2) الخذم : القاطع .
(*)(16/94)
ملكتني ماء وجه كاد يسكبه * * ذل السؤال ولم تفجع به هممي وقال آخر : لا تحرصن على الحطام فإنما * * يأتيك رزقك حين يؤذن فيه سبق القضاء بقدره وزمانه * * وبأنه يأتيك أو يأتيه وكان يقال : ما استغنى أحد بالله إلا افتقر الناس إليه .
وقال رجل في مجلس فيه قوم من أهل العلم : لا أدري ما يحمل من يوقن بالقدر على الحرص على طلب الرزق ! فقال له : أحد الحاضرين يحمله القدر ، فسكت .
أقول : لو كنت حاضرا لقلت : لو حمله القدر لما نهاه العقلاء عن الحرص ، ولما مدحوه على العفة والقناعة فإن عاد وقال : وأولئك ألجأهم القدر إلى المدح والذم والامر والنهى ، فقد جعل نفسه وغيره من الناس ، بل من جميع الحيوانات بمنزلة الجمادات التى يحركها غيرها ومن بلغ إلى هذا الحد لا يكلم .
وقال الشاعر : أراك تزيدك الايام حرصا * * على الدنيا كأنك لا تموت فهل لك غاية إن صرت يوما * * إليها قلت حسبى قد رضيت ! أبو العتاهية : أي عيش يكون أطيب من عي * * - ش كفاف قوت بقدر البلاغ (1) قمرتني الايام عقلي ومالي * * وشبابي وصحتي وفراغي (2) وأوصى بعض الادباء ابنه فكتب إليه
__________
(1) ديوانه 164 ، والاغاني 4 : 40 والبلاغ : الكفاية .
(2) الديوان والاغاني : " غبنتني الايان " .
(*)(16/95)
كن حسن الظن برب خلقك * * بني واحمده على ما رزقك واعلم بأن الحرص يطفي رونقك * * فجانب الحرص وحسن خلقك واصدق وصادق أبدا من صدقك * * دار معاديك ومق من ومقك واجعل لاعدائك حزما ملقك * * وجنبن حشو الكلام منطقك هذى وصاة والد قد عشقك * * وصاة من يقلقه ما أقلقك * أرشدك الله لها ووفقك * أبو العتاهية : أجل الغنى مما يؤمل أسرع * * وأراك تجمع دائما لا تشبع (1) قل لي لمن أصبحت تجمع دائبا (2) * * أ لبعل عرسك لا أبا لك تجمع ! وأوصى زياد ابنه عبيد الله عند موته ، فقال : لا تدنسن عرضك ، ولا تبذلن وجهك ، ولا تخلقن جدتك بالطلب إلى من إن ردك كان رده عليك عيبا ، وإن قضى حاجتك جعلها عليك منا ، واحتمل الفقر بالتنزه عما في أيدى الناس (2) ، والزم القناعة بما قسم لك ، فإن سوء عمل الفقير يضع الشريف ، ويخمل الذكر ، ويوجب الحرمان .
الاصل : وتلافيك ما فرط من صمتك أيسر من إدراكك ما فات من منطقك ، وحفظ ما في الوعاء بشد الوكاء ، وحفظ ما في يديك أحب إلي من طلب ما في يدي غيرك ، ومرارة اليأس خير من الطلب إلى الناس ، والحرفة مع العفة ، خير من الغنى مع الفجور ، والمرء أحفظ لسره ، ورب ساع فيما يضره !
__________
(1) ديوانه 144 .
(2) الديوان : " تجمع ما " .
(2) د : " عما في يدي غيرك " .
(*)(16/96)
من أكثر أهجر ، ومن تفكر أبصر .
قارن أهل الخير تكن منهم ، وباين أهل الشر تبن عنهم .
بئس الطعام الحرام ! وظلم الضعيف أفحش الظلم ! إذا كان الرفق خرقا ، كان الخرق رفقا .
ربما كان الدواء داء ، والداء دواء .
وربما نصح غير الناصح ، وغش المستنصح .
وإياك والاتكال على المنى فإنها بضائع النوكى .
والعقل حفظ التجارب ، وخير ما جربت ما وعظك .
بادر الفرصة قبل أن تكون غصة .
ليس كل طالب يصيب ، ولا كل غائب يئوب ، ومن الفساد إضاعه الزاد ، ومفسدة المعاد .
ولكل أمر عاقبة ، سوف يأتيك ما قدر لك .
التاجر مخاطر ، ورب يسير أنمى من كثير ! الشرح : هذا الكلام قد اشتمل على أمثال كثيرة حكمية .
أولها قوله : " تلافيك ما فرط من صمتك أيسر من إدراكك ما فات من منطقك " ، وهذا مثل قولهم : أنت قادر على أن تجعل صمتك كلاما ، ولست بقادر على أن تجعل كلامك صمتا ، وهذا حق ، لان الكلام يسمع وينقل فلا يستطاع إعادته صمتا ، و الصمت عدم الكلام ، فالقادر على الكلام قادر على أن يبدله بالكلام ، وليس الصمت بمنقول ولا مسموع فيتعذر استدراكه .(16/97)
وثانيها قوله : " حفظ ما في يديك أحب إلي من طلب ما في أيدي غيرك " ، هذا مثل قولهم في المثل : البخل خير من سؤال البخيل ، وليس مراد أمير المؤمنين عليه السلام وصايته بالامساك والبخل ، بل نهيه عن التفريط والتبذير ، قال الله تعالى : (ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا) (1) ، وأحمق الناس من أضاع ماله اتكالا على مال الناس ، وظنا أنه يقدر على الاستخلاف ، قال الشاعر : إذا حدثتك النفس أنك قادر * * على ما حوت أيدي الرجال فكذب وثالثها قوله : " مرارة اليأس خير من الطلب إلى الناس " ، من هذا أخذ الشاعر قوله : إن كان طعم اليأس مرا فإنه * * ألذ وأحلى من سؤال الاراذل وقال البحتري : اليأس إحدى الراحتين ولن ترى * * تعبا كظن الخائب المغرور (2) ورابعها قوله : " الحرفة مع العفة خير من الغنى مع الفجور " ، والحرفة بالكسر مثل الحرف بالضم ، وهو نقصان الحظ وعدم المال .
ومنه قوله " رجل محارف " ، بفتح الراء ، يقول : لان يكون المرء هكذا وهو عفيف الفرج واليد ، خير من الغنى مع الفجور ، وذلك لان ألم الحرفة مع العفة ومشقتها إنما هي في أيام قليلة وهى أيام العمر ، ولذة الغنى إذا كان مع الفجور ، ففى مثل تلك الايام يكون ، ولكن يستعقب عذابا طويلا ، فالحال الاولى خير لا محالة .
وأيضا ففى الدنيا خير أيضا للذكر الجميل فيها ، والذكر القبيح في الثانية ، وللمحافظة على المروءة في الاولى وسقوط المروءة في الثانية .
__________
(1) سورة الاسراء 29 .
(2) ديوانه .
(*)(16/98)
وخامسها قوله : " المرء أحفظ لسره " أي الاولى ألا تبوح بسرك إلى أحد ، فأنت أحفظ له من غيرك ، فإن أذعته فانتشر فلا تلم إلا نفسك ، لانك كنت عاجزا عن حفظ سر نفسك ، فغيرك عن حفظ سرك وهو أجنبي أعجز ، قال الشاعر : إذا ضاق صدر المرء عن حفظ سره * * فصدر الذى يستودع السر أضيق وسادسها : " قوله رب ساع فيما يضره " ، قال عبد الحميد الكاتب في كتابه إلى أبى مسلم : لو أراد الله بالنملة صلاحا لما أنبت لها جناحا .
وسابعها قوله : " من أكثر أهجر " ، يقال : أهجر الرجل ، إذا أفحش في المنطق السوء والخنا ، قال الشماخ : كماجدة الاعراق قال ابن ضرة * * عليها كلاما جار فيه وأهجرا (1) وهذا مثل قولهم : من كثر كلامه كثر سقطه .
وقالوا أيضا قلما سلم مكثار ، أو أمن من عثار .
وثامنها قوله : " من تفكر أبصر " ، قالت الحكماء : الفكر تحديق العقل نحو المعقول ، كما أن النظر البصري تحديق البصر نحو المحسوس ، وكما أن من حدق نحو المبصر وحدقته صحيحة والموانع مرتفعة لا بد أن يبصره ، كذلك من نظر بعين عقلة ، وأفكر فكرا صحيحا ، لا بد أن يدرك الامر الذى فكر فيه ويناله .
وتاسعها قوله : " قارن أهل الخير تكن معهم ، وباين أهل الشر تبن عنهم " ، كان يقال : حاجبك وجهك ، وكاتبك لسانك ، وجليسك كلك .
وقال الشاعر : عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه * * فكل قرين بالمقارن مقتد
__________
(1) ديوانه 28 ، وروايته : " ممجدة الاعراق " .
وابن ضرتها : ابن زوجها .
(*)(16/99)
وعاشرها قوله : " بئس الطعام الحرام " ، هذا من قوله تعالى : (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما أنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) (1) .
وحادي عشرها قوله : " ظلم الضعيف أفحش الظلم " .
رأى معاوية ابنه يزيد يضرب غلاما ، فقال : يا بنى ، كيف لا يسع حلمك من تضربه فلا يمتنع منك ! وأمر المأمون بإشخاص الخطابي القاص (2) من البصرة ، فلما مثل بين يديه ، قال له : يا سليمان ، أنت القائل العراق عين الدنيا ، والبصرة عن العراق ، والمربد عين البصرة ، ومسجدي عين المربد ، وأنا عين مسجدي ، وأنت أعور ، فإن عين الدنيا عوراء ! قال : يا أمير المؤمنين ، لم أقل ذاك ، ولا أظن أمير المؤمنين أحضرني لذلك ، قال : بلغني أنك أصبحت فوجدت على سارية من سوارى مسجدك : رحم الله عليا * * إنه كان تقيا فأمرت بمحوه ، قال : يا أمير المؤمنين ، كان " ولقد كان نبيا " فأمرت بإزالته ، فقال : كذبت كانت القاف أصح من عينك الصحيحة ، ثم قال : والله لو لا أن أقيم لك عند العامة سوقا لاحسنت تأديبك ، قال : يا أمير المؤمنين ، قد ترى ما أنا عليه من الضعف والزمانة والهرم وقلة البصر ، فإن عاقبتني مظلوما فاذكر قول ابن عمك علي عليه السلام : " ظلم الضعيف أفحش الظلم " ، وإن عاقبتني بحق ، فاذكر أيضا قوله : " لكل شئ رأس ، والحلم رأس السؤدد " .
فنهض المأمون من مجلسه وأمر برده إلى البصرة ، ولم يصله بشئ ، ولم يحضر أحد قط مجلس المأمون إلا وصله عدا الخطابي ، وليس هذا هو المحدث الحافظ المشهور ، ذاك أبو سليمان أحمد بن محمد بن أحمد البستى ، كان في أيام المطيع والطائع ، وهذا قاص بالبصرة كان يقال له : أبو زكريا سليمان بن محمد البصري .
وثاني عشرها قوله : " إذا كان الرفق خرقا ، كان الخرق رفقا " ، يقول إذا كان استعمال
__________
(1) سورة النساء 10 .
(2) كذا في أ ، وفي ب : " القاضي " .
(*)(16/100)
الرفق مفسدة وزيادة في الشر فلا تستعمله ، فإنه حينئذ ليس برفق بل هو خرق ، ولكن استعمل الخرق ، فإنه يكون رفقا والحالة هذه ، لان الشر لا يلقى ألا بشر مثله ، قال عمرو ابن كلثوم : ألا لا يجهلن أحد علينا * * فنجهل فوق جهل الجاهلينا (1) .
وفي المثل : إن الحديد بالحديد يفلح .
وقال زهير : ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه * * يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم (2) .
وقال أبو الطيب : ووضع الندى في موضع السيف بالعلا * * مضر كوضع السيف في موضع الندى (3) .
وثالث عشرها قوله : " وربما كان الدواء داء ، والداء دواء " ، هذا مثل قول أبى الطيب : * ربما صحت الاجسام بالعلل (4) * ومثله قول أبى نواس : * وداونى بالتى كانت هي الداء (5) * ومثل قول الشاعر : تداويت من ليلى بليلى فلم يكن * * دواء ولكن كان سقما مخالفا ورابع عشرها قوله : " ربما نصح غير الناصح ، وغش المستنصح " .
كان المغيرة بن شعبة يبغض عليا عليه السلام منذ أيام رسول الله صلى الله عليه وآله ، وتأكدت
__________
(1) من المعلقة - بشرح التبريزي 238 .
(2) ديوانه 30 .
(3) ديوانه 1 : 288 .
(4) ديوانه 3 : 86 ، وصدره : * لعل عتبك محمود عواقبه * (5) ديوانه 234 ، وصدره : * دع عنك لومي فإن اللوم إغراء * (*)(16/101)
بغضته إلى أيام أبى بكر وعثمان وعمر ، وأشار عليه يوم بويع بالخلافة أن يقر معاوية على الشام مدة يسيرة ، فإذا خطب له بالشام وتوطأت دعوته دعاه إليه كما كان عمر وعثمان يدعوانه إليهما ، وصرفه فلم يقبل ، وكان ذلك نصيحة من عدو كاشح .
واستشار الحسين عليه السلام عبد الله بن الزبير وهما بمكة في الخروج عنها ، وقصد العراق ظانا أنه ينصحه فغشه ، وقال له : لا تقم بمكة ، فليس بها من يبايعك ، ولكن دونك العراق ، فإنهم متى رأوك لم يعدلوا بك أحدا ، فخرج إلى العراق ، حتى كان من أمره ما كان .
وخامس عشرها قوله : " إياك والاتكال على المنى ، فإنها بضائع النوكى " ، جمع أنوك وهو الاحمق ، من هذا أخذ أبو تمام قوله : من كان مرعى عزمه وهمومه * * روض الاماني لم يزل مهزولا (1) .
ومن كلامهم : ثلاثة تخلق العقل ، وهو أوضح دليل على الضعف : طول التمني ، وسرعة الجواب ، والاستغراب (3) في الضحك .
وكان يقال : التمني والحلم سيان .
وقال آخر : شرف الفتى ترك المنى .
وسادس عشرها قوله : " العقل حفظ التجارب " من هذا أخذ المتكلمون قولهم : العقل نوعان : غريزي ، ومكتسب ، فالغريزي العلوم البديهية ، والمكتسب ما أفادته التجربه وحفظته النفس .
وسابع عشرها قوله : " خير ما جربت ما وعظك " ، مثل هذا قول أفلاطون : إذا لم تعظك التجربه فلم تجرب ، بل أنت ساذج كما كنت .
وثامن عشرها قوله : " بادر الفرصة قبل أن تكون غصة " ، حضر عبيد الله بن زياد عند هانئ بن عروة عائدا ، وقد كمن له مسلم بن عقيل ، وأمره أن يقتله إذا جلس
__________
(1) ديوانه .
(2) الاستغراب في الضحك : المبالغة فيه .
(*)(16/102)
واستقر ، فلما جلس جعل مسلم يؤامر نفسه ويريدها على الوثوب به فلم تطعه ، وهانئ ينشد كأنه يترنم بالشعر : * ما الانتظار بسلمى لا تحييها * ويكرر ذلك ، فأوجس عبيد الله خيفة ونهض ، فعاد إلى قصر الامارة ، وفات مسلما منه ما كان يؤمله بإضاعة الفرصة ، حتى صار أمره إلى ما صار .
وتاسع عشرها قوله : " ليس كل طالب يصيب ، ولا كل غائب يثوب " ، الاولى كقول القائل : ما كل وقت ينال المرء ما طلبا * * ولا يسوغه المقدار ما وهبا والثانيه كقول عبيد : وكل ذي غيبة يئوب * * وغائب الموت لا يئوب (1) .
العشرون قوله : " من الفساد ، إضاعه الزاد ، ومفسدة المعاد " ، ولا ريب أن من كان في سفر وأضاع زاده ، وأفسد الحال التى يعود إليها فإنه أحمق ، وهذا مثل ضربه للانسان في حالتى دنياه وآخرته .
الحادى والعشرون قوله : " ولكل أمر عاقبة " ، هذا مثل المثل المشهور " لكل سائله قرار " .
الثاني والعشرون قوله : " سوف يأتيك ما قدر لك " ، هذا من قول رسول الله صلى الله عليه وآله : " وإن يقدر لاحدكم رزق في قبة جبل أو حضيض بقاع (2) يأته " .
الثالث والعشرون قوله : " التاجر مخاطر " هذا حق ، لانه يتعجل بإخراج الثمن ولا يعلم : هل يعود أم لا ! وهذا الكلام ليس على ظاهره بل له باطن ، وهو أن من مزج الاعمال الصالحة بالاعمال السيئة ، مثل قوله : (خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا) (3)
__________
(1) ديوانه 13 .
(2) ب " بغاء " تصحف ، صوابه من أ .
(3) سورة التوبة 102 .
(*)(16/103)
فإنه مخاطر لانه لا يأمن أن يكون بعض تلك السيئات تحبط أعماله الصالحة ، كما لا يأمن أن يكون بعض أعماله الصالحة يكفر تلك السيئات ، والمراد أنه لا يجوز للمكلف أن يفعل إلا الطاعة أو المباح .
الرابع والعشرون قوله : " رب يسير أنمى من كثير " ، قد جاء في الاثر : قد يجعل الله من القليل الكثير ، ويجعل من الكثير البركه .
وقال الفرزدق : فإن تميما قبل أن يلد الحصا * * أقام زمانا وهو في الناس واحد وقال أبو عثمان الجاحظ : رأينا بالبصرة أخوين ، كان أبوهما يحب أحدهما ويبغض الاخر ، فأعطى محبوبه يوم موته كل ماله - وكان أكثر من مائتي ألف درهم - ولم يعط الاخر شيئا ، وكان يتجر في الزيت : ويكتسب منه ما يصرفه في نفقة عياله ، ثم رأينا أولاد الاخ الموسر بعد موت الاخوين من عائلة ولد الاخ المعسر يتصدقون عليهم من فواضل أرزاقهم .
الاصل : لا خير في معين مهين ، ولا في صديق ظنين .
ساهل الدهر ما ذل لك قعوده ، ولا تخاطر بشئ رجاء أكثر منه ، وإياك أن تجمح بك مطية اللجاج .
احمل نفسك من أخيك عند صرمه على الصلة ، وعند صدوده على اللطف والمقاربة ، وعند جموده على البذل ، وعند تباعده على الدنو ، وعند شدته على اللين ، وعند جرمه على العذر ، حتى كأنك له عبد ، وكأنه ذو نعمة عليك .(16/104)
وإياك أن تضع ذلك في غير موضعه ، أو أن تفعله بغير أهله .
لا تتخذن عدو صديقك صديقا فتعادي صديقك ، وامحض أخاك النصيحة ، حسنة كانت أو قبيحة ، وتجرع الغيظ فإنى لم أر جرعة أحلى منها عاقبة ، ولا ألذ مغبة .
ولن لمن غالظك فإنه يوشك أن يلين لك ، وخذ على عدوك بالفضل فإنه أحد الظفرين ، وإن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقية يرجع إليها إن بدا له ذلك يوما ما .
ومن ظن بك خيرا فصدق ظنه ، ولا تضيعن حق أخيك اتكالا على ما بينك وبينه ، فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه .
ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك .
ولا ترغبن فيمن زهد عنك ، ولا يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته ، ولا تكونن على الاساءة أقوى منك على الاحسان ، ولا يكبرن عليك ظلم من ظلمك ، فإنه يسعى في مضرته ونفعك ، وليس جزاء من سرك أن تسوءه .
الشرح : هذا الفصل قد اشتمل على كثير من الامثال الحكمية .
فأولها قوله : " لا خير في معين مهين ، ولا في صديق ظنين " ، مثل الكلمة الاولى قولهم : أذا تكفيت بغير كاف * * وجدته للهم غير شاف ومن الكلمة الثانية أخذ الشاعر قوله : فإن من الاخوان من شحط النوى * * به وهو راع للوصال أمين ومنهم صديق العين أما لقاؤه * * فحلو وأما غيبه فظنين(16/105)
وثانيها قوله : " ساهل الدهر ما ذل لك قعوده " ، هذا استعارة ، والقعود البكر حين يمكن ظهره من الركوب إلى أن يثنى ، ومثل هذا المعنى قولهم في المثل : من ناطح الدهر أصبح أجم .
ومثله : * ودر مع الدهر كيفما دارا * ومثله : ومن قامر الايام عن ثمراتها * * فأحر بها أن تنجلي ولها القمر (1) ومثله : إذا الدهر أعطاك العنان فسر به * * رويدا ولا تعنف فيصبح شامسا وثالثها قوله : " لا تخاطر بشئ رجاء أكثر منه " ، هذا مثل قولهم : من طلب الفضل ، حرم الاصل .
ورابعها قوله : " إياك وأن تجمح بك مطيه اللجاج " ، هذا استعارة ، وفي المثل : ألج من خنفساء ، وألج من زنبور .
وكان يقال : اللجاج من القحة ، والقحة من قلة الحياء ، وقلة الحياء من قلة المروءة ، وفي المثل : لج صاحبك فحج .
وخامسها قوله : " احمل نفسك من أخيك " ، إلى قوله : " أو تفعله بغير أهله " اللطف ، بفتح اللام والطاء ، الاسم من ألطفه بكذا أي بره به ، وجاءتنا لطفة من فلان أي هدية ، والملاطفة المبارة .
وروي " عن اللطف " وهو الرفق للامر ، والمعنى أنه أوصاه إذا قطعه أخوه أن يصله ، وإذا جفاه أن يبره ، وإذا بخل عليه أن يجود عليه ، الى آخر الوصاة .
ثم قال له : لا تفعل ذلك مع غير أهله ، قال الشاعر :
__________
(1) القمر : الغلبة في القمار .
(*)(16/106)
وإن الذى بينى وبين بنى أبى * * وبين بنى أمي لمختلف جدا (1) فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم * * وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا وإن زجروا طيرا بنحس تمر بى * * زجرت لهم طيرا تمر بهم سعدا ولا أحمل الحقد القديم عليهم * * وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا وقال الشاعر : إنى وإن كان ابن عمي كاشحا * * لمقاذف من خلفه وورائه (2) ومفيده نصرى وإن كان امرأ * * متزحزحا في أرضه وسمائه وأكون والي سره وأصونه * * حتى يحق علي وقت أدائه وإذا الحوادث أجحفت بسوامه *) قرنت صحيحتنا إلى جربائه وإذا دعا باسمي ليركب مركبا * * صعبا قعدت له على سيسائه (3) وإذا أجن فليقة في خدره * * لم أطلع مما وراء خبائه (4) وإذا ارتدى ثوبا جميلا لم أقل * * يا ليت أن علي فضل ردائه ! وسادسها قوله : " لا تتخذن عدو صديقك صديقا فتعادي صديقك " ، قد قال الناس في هذا المعنى فأكثروا ، قال بعضهم : إذا صافى صديقك من تعادى * * فقد عاداك وانقطع الكلام وقال آخر : صديق صديقى داخل في صداقتي * * وخصم صديقى ليس لى بصديق وقال آخر : تود عدوي ثم تزعم أنني * * صديقك إن الرأي عنك لعازب
__________
(1) للمقنع الكندي ، ديوان الحماسة - بشرح المرزوقي 3 : 1179 .
(2) لعروبة المدني ، الاغاني 20 - 168 ، وطبقات الزبيدي 57 .
(3) السيساء في الاصل : منتظم فقار الظهر .
(4) الفليقة : القليل من الشعر .
والخدر : الستر .
(*)(16/107)
وسابعها قوله : " وامحض أخاك النصيحة ، حسنة كانت أو قبيحة " ، ليس يعنى عليه السلام بقبيحة ها هنا القبيح الذى يستحق به الذم والعقاب ، وإنما يريد نافعة له في العاجل كانت أو ضارة له في الاجل ، فعبر عن النفع والضرر بالحسن والقبيح ، كقوله تعالى : (وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون) (1) .
وقد فسره قوم فقالوا : أراد : كانت نافعة لك أو ضارة لك ، ويحتمل تفسير آخر وهو وصيته إياه أن يمحض أخاه النصيحة سواء كانت مما لا يستحيا من ذكرها وشياعها ، أو كانت مما يستحيا من ذكرها واستفاضتها بين الناس ، كمن ينصح صديقه في أهله ويشير عليه بفراقهم لفجور اطلع عليه منهم ، فإن الناس يسمون مثل هذا إذا شاع قبيحا .
وثامنها قوله : " تجرع الغيظ فإني لم أر جرعة أحلى منها عاقبة ولا ألذ مغبة " هذا مثل قولهم : الحلم مرارة ساعة ، وحلاوة الدهر كله .
وكان يقال : التذلل للناس مصايد الشرف .
قال المبرد في " الكامل " : أوصى علي بن الحسين ابنه محمد بن علي عليهم السلام ، فقال : يا بنى ، عليك بتجرع الغيظ من الرجال ، فإن أباك لا يسره بنصيبه من تجرع الغيظ من الرجال حمر النعم ، والحلم أعز ناصرا وأكثر عددا (2) .
وتاسعها قوله : " لن لمن غالظك ، فإنه يوشك أن يلين لك " ، هذا مثل المثل المشهور : " إذا عز أخوك فهن " ، والاصل في هذا قوله تعالى : (ادفع بالتى هي أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) (3) .
وعاشرها قوله : " خذ على عدوك بالفضل فإنه أحد الظفرين " هذا معنى مليح ، ومنه قول ابن هانئ في المعز (4) :
__________
(1) سورة الروم 36 .
(2) الكامل .
(3) سورد فصلت 34 .
(4) ب : " المعتز " ، تصحف ، صوابه في أ .
(*)(16/108)
ضراب هام الروم منتقما وفي * * أعناقهم من جوده أعباء لو لا انبعاث السيف وهو مسلط * * في قتلهم قتلتهم النعماء وكنت كاتبا بديوان الخلافة ، والوزير حينئذ نصير الدين أبو الازهر أحمد بن الناقد رحمه الله ، فوصل إلى حضرة الديوان في سنة اثنتين وثلاثين وستمائة محمد بن محمد أمير البحرين على البر ، ثم وصل بعده الهرمزي صاحب هرمز في دجلة بالمراكب البحرية - وهرمز هذه فرضة في البحر نحو عمان - وامتلات بغداد من عرب محمد بن محمد وأصحاب الهرمزي - وكانت تلك الايام أياما غراء زاهرة لما أفاض المستنصر على الناس من عطاياه ، والوفود تزدحم من أقطار الارض على أبواب ديوانه - فكتبت يوم دخول الهرمزي إلى الوزير أبياتا سنحت على البديهة ، وأنا متشاغل بما كنت فيه من مهام الخدمة ، وكان رحمه الله لا يزال يذكرها وينشدها ويستحسنها (1) : يا أحمد بن محمد أنت الذى * * علقت يداه بأنفس الاعلاق ما أملت بغداد قبلك أن ترى * * أبدا ملوك البحر في الاسواق ولهوا عليها غيرة وتنافسوا * * شغفا بها كتنافس العشاق وغدت صلاتك في رقاب سراتهم * * ونداك كالاطواق في الاعناق بسديد رأيك أصلحت جمحاتهم * * وتألفوا من بعد طول شقاق لله همة ماجد لم تعتلق * * بسحيل آراء ولا أحذاق (2) جلب السلاهب من أراك وبعدها * * جلب المراكب من جزيرة واق هذا العداء هو العداء فعد عن * * قول ابن حجر في لاي وعناق وأظنه والظن علم أنه * * سيجيئنا بممالك الافاق إما أسير صنيعة في جيده * * بالجود غل أو أسير وثاق
__________
(1) ديوانه 5 (المطبعة الاميرية) 1274 .
(2) السحيل والاحذاق : الحبال الضعيفة .
(*)(16/109)
لا زال في ظل الخليفة ما له * * فان وسودده المعظم باق وحادي عشرها قوله : " إن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقية يرجع إليها إن بدا ذلك له يوما " ، هذا مثل قولهم : " احبب حبيبك هونا ما ، عسى أن يكون بغيضك يوما ما ، وابغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما " ، وما كان يقال : إذا هويت فلا تكن غاليا ، وإذا تركت فلا تكن قاليا .
وثاني عشرها قوله : " من ظن بك خيرا فصدق ظنه " كثير من أرباب الهمم يفعلون هذا ، يقال لمن قد شدا طرفا من العلم : هذا عالم ، هذا فاضل ، فيدعوه ما ظن فيه من ذلك إلى تحقيقه ، فيواظب على الاشتغال بالعلم حتى يصير عالما فاضلا حقيقة ، وكذلك يقول الناس : هذا كثير العبادة ، هذا كثير الزهد ، لمن قد شرع في شئ من ذلك فتحمله أقوال الناس على الالتزام بالزهد والعبادة .
وثالث عشرها قوله : " ولا تضيعن حق أخيك اتكالا على ما بينك وبينه ، فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه " ، من هذا النحو قول الشاعر : إذا خنتم بالغيب عهدي فما لكم * * تدلون إدلال المقيم على العهد صلوا وافعلوا فعل المدل بوصله * * وإلا فصدوا وافعلوا فعل ذى الصد وكان يقال : إضاعة الحقوق ، داعية العقوق .
ورابع عشرها قوله : " لا ترغبن فيمن زهد فيك " الرغبة في الزاهد هي الداء العياء ، قال العباس بن الاحنف : ما زلت أزهد في مودة راغب * * حتى ابتليت برغبة في زاهد هذا هو الداء الذى ضاقت به * * حيل الطبيب وطال يأس العائد(16/110)
وقد قال الشعراء المتقدمون والمتأخرون فأكثروا نحو قولهم : وفى الناس إن رثت حبالك واصل * * وفى الارض عن دار القلى متحول (1) .
وقول تأبط شرا (2) إنى إذا خلة ضنت بنائلها * * وأمسكت بضعيف الحبل أحذاقى (3) نجوت منها نجائى من بجيلة إذ * * ألقيت ليله خبت الرهط أرواقي (4) وخامس عشرها قوله : لا يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته ، ولا تكونن على الاساءة أقوى منك على الاحسان " .
هذا أمر له بأن يصل من قطعه ، وأن يحسن إلى من أساء إليه .
ظفر المأمون عبد الله بن هارون الرشيد بكتب قد كتبها محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق عليه السلام إلى أهل الكرخ وغيرهم من أعمال أصفهان يدعوهم فيها إلى نفسه ، فأحضرها بين يديه ، ودفعها إليه ، وقال له : أتعرف هذه ؟ فأطرق خجلا ، فقال له : أنت آمن ، وقد وهبت هذا الذنب لعلى وفاطمة عليهما السلام ، فقم إلى منزلك ، وتخير ما شئت من الذنوب ، فإنا نتخير لك مثل ذلك من العفو .
وسادس عشرها قوله : " لا يكبرن عليك ظلم من ظلمك ، فإنه يسعى في مضرته ونفعك وليس جزاء من سرك أن تسوءه " ، جاء في الخبر المرفوع أنه صلى الله عليه وآله سمع عائشة تدعو على من سرق عقدا لها فقال لها : " لا تمسحي عنه بدعائك ، أي لا تخففى عذابه " .
وقوله عليه السلام وليس جزاء من سرك أن تسوءه " ، يقول لا تنتقم ممن ظلمك فإنه قد نفعك في الاخرة بظلمه لك ، وليس جزاء من ينفع إنسانا أن يسئ إليه .
وهذا مقام جليل
__________
(1) لمعن بن أوس ، ديوانه 59 .
(2) المفضليات 8 .
(3) الخلة : الصداقة ، وتقال للصديق ، وتطلق على المذكر والمؤنث والمثنى والجمع ، وأنت الضمائر من أجل اللفظ ، والاحذاق : القطع من الحبال .
(4) الخبت : اللين من الارض .
الرهط : موضع .
القيت أرواقي : استفرغت جهدي وعدوت عدوا شديدا(16/111)
لا يقدر عليه إلا الافراد من الاولياء الابرار .
وقبض بعض الجبابرة على قوم صالحين ، فحبسهم وقيدهم ، فلما طال عليهم الامر زفر بعضهم زفرة شديدة ، ودعا على ذلك الجبار ، فقال له بعض أولاده - وكان أفضل أهل زمانه في العبادة .
وكان مستجاب الدعوة : لا تدع عليه فتخفف من عذابه ، قالوا : يا فلان ، ألا ترى ما بنا وبك ! لا يأنف ربك لنا ! قال : إن لفلان مهبطا في النار لم يكن ليبلغه إلا بما ترون ، وان لكم لمصعدا في الجنة لم تكونوا لتبلغوه إلا بما ترون .
قالوا : فقد نال منا العذاب والحديد ، فادع الله لنا أن يخلصنا وينقذنا مما نحن فيه ، قال : إنى لاظن أنى لو فعلت لفعل ، ولكن والله لا أفعل حتى أموت هكذا ، فألقى الله فأقول له : أي رب سل فلانا لم فعل بى هذا ؟ ومن الناس من يجعل قوله عليه السلام : " وليس جزاء من سرك أن تسوءه " ، كلمة مفردة مستقله بنفسها ، ليست من تمام الكلام الاول ، والصحيح ما ذكرناه .
وسابع عشرها - ومن حقه أن يقدم ذكره قوله : " ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك " ، هذا كما يقال في المثل : من شؤم الساحرة أنها أول ما تبدا بأهلها ، والمراد من هذه الكلمة النهى عن قطيعة الرحم وإقصاء الاهل وحرمانهم ، وفى الخبر المرفوع : " صلوا أرحامكم ولو بالسلام " ، الاصل : واعلم يا بنى أن الرزق رزقان : رزق تطلبه ، ورزق يطلبك ، فإن أنت لم تأته أتاك .
ما أقبح الخضوع عند الحاجة ، والجفاء عند الغنى ! إنما لك من دنياك ، ما أصلحت به مثواك ، وإن كنت جازعا على ما تفلت من يديك ، فاجزع على كل ما لم يصل إليك .(16/112)
استدل على ما لم يكن بما قد كان فان ، الامور أشباه ، ولا تكونن ممن لا تنفعه العظة إذا بالغت في إيلامه ، فان العاقل يتعظ بالاداب والبهائم لا تتعظ إلا بالضرب .
اطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصبر وحسن اليقين .
من ترك القصد جار .
والصاحب مناسب ، والصديق من صدق غيبه والهوى شريك العمى ، ورب بعيد أقرب من قريب ، وقريب أبعد من بعيد ، والغريب من لم يكن له حبيب .
* * * من تعدى الحق ضاق مذهبه ، ومن اقتصر على قدره كان أبقى له ، وأوثق سبب أخذت به سبب بينك وبين الله سبحانه .
ومن لم يبالك فهو عدوك .
قد يكون اليأس إدراكا ، إذا كان الطمع هلاكا .
ليس كل عورة تظهر ، ولا كل فرصة تصاب ، وربما أخطا البصير قصده ، وأصاب الاعمى رشده .
أخر الشر فإنك إذا شئت تعجلته ، وقطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل .
من أمن الزمان خانه ، ومن أعظمه أهانه .
ليس كل من رمى أصاب .
إذا تغير السلطان ، تغير الزمان .
سل عن الرفيق قبل الطريق ، وعن الجار قبل الدار .
* * *(16/113)
الشرح : في بعض الروايات : " أطرح عنك واردات الهموم بحسن الصبر وكرم العزاء " ، قد مضى لنا كلام شاف في الرزق .
وروى أبو حيان قال : رفع الواقدي إلى المأمون رقعة يذكر فيها غلبة الدين عليه ، وكثرة العيال ، وقلة الصبر ، فوقع المأمون عليها : أنت رجل فيك خلتان ، السخاء والحياء فأما السخاء فهو الذى أطلق ما في يديك ، وأما الحياء فهو بلغ بك إلى ما ذكرت ، وقد أمرنا لك بمائة ألف درهم ، فإن كنا أصبنا إرادتك فازدد في بسط يدك ، وإن كنا لم نصب إرادتك فبجنايتك على نفسك ، وأنت كنت حدثتني وأنت على قضاء الرشيد عن محمد ابن إسحاق ، عن الزهري ، عن أنس بن مالك ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال للزبير : " يا زبير ، إن مفاتيح الرزق بإزاء العرش ، ينزل الله تعالى للعباد أرزاقهم على قدر نفقاتهم ، فمن كثر كثر له ، ومن قلل قلل له " .
قال الواقدي : وكنت أنسيت هذا الحديث ، وكانت مذاكرته إياى به أحب من صلته .
* * * واعلم أن هذا الفصل يشتمل على نكت كثيرة حكمية : منها قوله " الرزق رزقان : رزق تطلبه ، ورزق يطلبك " وهذا حق ، لان ذلك إنما يكون على حسب ما يعلمه الله تعالى من مصلحة المكلف ، فتارة يأتيه الرزق بغير اكتساب ولا تكلف حركة ، ولا تجشم سعى ، وتاره يكون الامر بالعكس .
دخل عماد الدولة أبو الحسن بن بويه شيراز بعد أن هزم ابن ياقوت عنها ، وهو فقير(16/114)
لا مال له ، فساخت إحدى قوائم فرسه في الصحراء في الارض ، فنزل عنها وابتدرها غلمانه فخلصوها ، فظهر لهم في ذلك الموضع نقب وسيع ، فأمرهم بحفره ، فوجدوا (1) فيه أموالا عظيمة وذخائر لابن ياقوت ، ثم استلقى يوما آخر على ظهره في داره بشيراز التى كان ابن ياقوت يسكنها فرأى حية في السقف ، فأمر غلمانه بالصعود إليها وقتلها ، فهربت منهم ، ودخلت في خشب الكنيسة فأمر أن يقلع الخشب وتستخرج وتقتل ، فلما قلعوا الخشب وجدوا فيه أكثر من خمسين ألف دينار ذخيره لابن ياقوت .
واحتاج أن يفصل ويخيط ثيابا له ولاهله فقيل : هاهنا خياط حاذق كان يخيط لابن ياقوت ، وهو رجل منسوب إلى الدين والخير ، إلا أنه أصم لا يسمع شيئا أصلا ، فأمر بإحضاره ، فأحضر وعنده رعب وهلع ، فلما أدخله إليه كلمه ، وقال : أريد أن تخيط لنا كذا وكذا قطعة من الثياب ، فارتعد الخياط واضطرب كلامه ، وقال : والله يا مولانا ما له عندي إلا أربعة صناديق ليس غيرها ، فلا تسمع قول الاعداء في .
فتعجب عماد الدولة وأمر بإحضار الصناديق ، فوجدها كلها ذهبا وحليا وجواهر مملوءة وديعة لابن ياقوت .
أ اما الرزق الذى يطلبه الانسان ويسعى إليه فهو كثير جدا لا يحصى .
ومنها قوله : " ما أقبح الخضوع عند الحاجة ، والجفاء عند الغنى " ! هذا من قول الله تعالى : " حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبه وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم احيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين * فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الارض بغير الحق) (2) .
ومن الشعر الحكمى في هذا الباب قول الشاعر : خلقان لا أرضاهما لفتى : * * تيه الغني ومذلة الفقر
__________
(1) ا : " فوجد " .
(2) سورة يونس 22 ، 23 .
(*)(16/115)
فإذا غنيت فلا تكن بطرا * * وإذا افتقرت فتة على الدهر .
ومنها قوله : " إنما لك من دنياك ، ما أصلحت به مثواك " ، هذا من كلام رسول الله صلى الله عليه وآله : " يا بن آدم ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأبقيت " .
وقال أبو العتاهية : ليس للمتعب المكادح من دنياه * * إلا الرغيف والطمران (1) .
ومنها قوله : " وإن كنت جازعا على ما تفلت من يديك ، فاجزع على كل ما لم يصل إليك " ، يقول : لا ينبغى أن تجزع على ما ذهب من مالك ، كما لا ينبغى أن تجزع على ما فاتك من المنافع والمكاسب ، فإنه لا فرق بينهما ، إلا أن هذا حصل ، ذاك لم يحصل بعد ، وهذا فرق غير مؤثر ، لان الذى تظن أنه حاصل لك غير حاصل في الحقيقة ، وإنما الحاصل على الحقيقة ما أكلته ولبسته ، وأما القنيات والمدخرات فلعلها ليست لك ، كما قال الشاعر : وذى إبل يسقى ويحسبها له أخى تعب في رعيها ودءوب غدت وغدا رب سواه يسوقها وبدل أحجارا وجال قليب .
ومنها قوله : (استدل على ما لم يكن بما كان ، فإن للامور أشباها) يقال : إذا شئت أن تنظر للدنيا بعدك فانظرها بعد غيرك .
وقال أبو الطيب في سيف الدولة : ذكى تظنيه ، طليعه عينه يرى قلبه في يومه ما يرى غدا (2) ومنها قوله : (ولا تكونن ممن لا تنفعه العظه ...
) الى قوله : (إلا بالضرب) هو قول الشاعر :
__________
(1) الطمران : تثنية طمر ، وهو الثمب الخالق البالي .
(2) ديوان 1 : 282 ، والتظنى : التظنين ، والطليعة : الذي يطلع القوم على العدو (*)(16/116)
العبد يقرع بالعصا والحر تكفيه الملامة (1) وكان يقال : اللئيم كالعبد ، والعبد كالبهيمة عتبها ضربها .
ومنها قوله : (اطرح عنك واردات الهموم بحسن الصبر وكرم العزاء) (2) هذا كلام شريف فصيح عظيم النفع والفائدة ، وقد أخذ عبد الله بن الزبير بعض هذه الالفاظ فقال في خطبته لما ورد عليه الخبر بقتل مصعب أخيه : (لقد جاءنا من العراق خبر أحزننا وسرنا ، جاءنا خبر قتل مصعب ، فأما سرورنا فلان ذلك كان له شهادة ، وكان لنا ان شاء الله خيرة ، وأما الحزن فلوعه يجدها الحميم عند فراق حميمه ، ثم يرعوى بعدها ذو الرأى إلى حسن الصبر وكرم العزاء) ومنها قوله : (من ترك القصد جار) القصد الطريق المعتدل ، يعنى أن خير الامور أوسطها فإن الفضائل تحيط بها الرذائل فمن تعدى هذه يسيرا وقع في هذه .
ومنها قوله : (الصاحب مناسب) ، كان يقال ، الصديق نسيب الروح ، والاخ نسيب البدن ، قال أبو الطيب : ما الخل إلا من أود بقلبه وأرى بطرف لا يرى بسوائه (3) ومنها قوله : (الصديق من صدق غيبه) : ، من هاهنا أخذ أبو نواس قوله في المنهوكة (4) : هل لك والهل خبر فيمن إذا غبت حضر أو ما لك اليوم أثر فإن رأى خيرا شكر * أو كان تقصير عذر * ومنها قوله : (الهوى شريك العمى) هذا مثل قولهم : (حبك الشئ يعمى ويصم) قال الشاعر :
__________
(1) لابن مفزع ، الشعر والشعراء 315 .
(2) بلفظ الرواية الثانيه .
(3) ديوان 1 : 4 .
(4) المنهوك من الرجز والمنسرح : ما ذهب ثلثاه وبقى ثلثه ، كقوله في الرجز : * ياليتني فيها جذع * وقوله في المنسرح : * ويل أم سعد سعدا * .
(*)(16/117)
وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدى المساويا (1) ومنها قوله : (رب بعيد أقرب من قريب ، وقريب ، أبعد من بعيد) هذا معنى مطروق قال الشاعر : لعمرك ما يضر البعد يوما أذا دنت من القلوب .
وقال الاحوص : إنى لامنحك الصدود وإنني قسما اليك مع الصدود لاميل (2) وقال البحترى : ونازحة والدار منها قريبة وما قرب ثاو في التراب مغيب ! ومنها قوله (والغريب من لم يكن له حبيب) يريد بالحبيب هاهنا المحب لا المحبوب قال الشاعر : أسرة المرء والداه وفيما بين جنبيهما الحياة تطيب وإذا وليا عن المرء يوما فهو في الناس أجنبي غريب .
ومنها قوله (من تعدى الحق ضاق بمذهبه) يريد بمذهبه هاهنا طريقته ، وهذه استعارة ، ومعناه أن طريق الحق لا مشقة فيها لسالكها ، وطرق الباطل فيها المشاق والمضار ، وكان سالكها سالك طريقة ضيقة يتعثر فيها ، ويتخبط في سلوكها ومنها قوله (من اقتصر على قدره كان أبقى له) .
هذا مثل قوله : (رحم الله امرأ عرف قدره ، ولم يتعد طوره) وقال : من جهل قدره قتل نفسه .
وقال أبو الطيب : ومن جهلت نفسه قدره رأى غيره منه ما لا يرى
__________
(1) لعبد الله بن معاويه ، الاغانى 12 : 214 : (2) الاغانى (*)(16/118)
ومنها قوله (أوثق سبب أخذت به ، سبب بينك وبين الله سبحانه ، هذا من قول الله تعالى : (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن من بالله فقد أستمسك بالعروة الوثقى لا أنفصام لها) (1) ومنها قوله : (فمن لم يبالك فهو عدوك) ، أي لم يكترث بك وهذه الوصاه خاصه بالحسن عليه السلام وأمثاله من الولاه أرباب الرعايا ، وليست عامه للسوقة من أفناء الناس ، وذلك لان الوالى إذا أنس من بعض رعيته أنه لا يباليه ولا يكترث به ، فقد أبدى صفحته ، ومن أبدى لك صفحته فهو عدوك ، وأما غير الوالى من أفناء الناس ، فليس أحدهم إذا لم يبال الاخر بعدو له .
ومنها قوله (قد يكون اليأس إدراكا إذا كان الطمع هلاك) ، هذا مثل قول القائل من عاش لاقى ما يسوء من الامور وما يسر ولرب حتف فوقه ذهب وياقوت ودر والمعنى : ربما كان بلوغ الامل في الدنيا والفوز بالمطلوب منها سببا للهلاك فيها ، إاذا كان كذلك ، كان الحرمان خيرا من الظفر .
ومنها قوله (ليس كل عورة تظهر ، ولاكل فرصه تصاب) يقول : قد تكون عورة العدو مستتره عنك فلا تظهر ، وقد تظهر لك ولا يمكنك اصابتها .
وقال بعض الحكماء : الفرصة نوعان : فرصة من عدوك ، وفرصة في غير عدوك ، فالفرصه من عدوك ما إذا بلغتها نفعتك ، وان فاتتك ضرتك وفي غير عدوك ما أذا أخطاك نفعه لم يصل إليك ضره .
__________
(1) سورة البقره 256 (*)(16/119)
ومنها قوله (فربما إخطأ البصير قصده ، وأصاب الاعمى رشده) من هذا النحو قولهم في المثل : (مع الخواطئ سهم صائب) ، وقولهم : (رمية من غير رام) وقالوا في مثل اللفظه الاولى (الجواد يكبو ، والحسام قد ينبو) وقالوا قد (يهفو الحليم ، ويجهل العليم) .
ومنها قوله : (أخر الشر فإنك أذا شئت تعجلته) مثل هذا : قولهم في الامثال الطفيليه : (كل إذا وجدت ، فإنك على الجوع قادر) ومن الامثال الحكميه : (ابدأ بالحسنة قبل السيئة ، فلست بمستطيع للحسنة في كل وقت وأنت على الاساءه متى شئت قادر) .
ومنها قوله (قطيعه الجاهل تعدل صله العاقل) ، هذا حق ، لان الجاهل إذا قطعك انتفعت ببعده عنك كما تنتفع بمواصلة الصديق العاقل لك ، وهذا كما يقول المتكلمون : عدم المضره كوجود المنفعة ، ويكاد أن يبتنى على هذا قولهم : كما أن فعل المفسدة قبيح من البارئ فالاخلال باللطف منه أيضا يجب أن يكون قبيحا .
ومنها قوله (من أمن الزمان خانه ، ومن أعظمه أهانه) مثل الكلمه الاولى قول الشاعر : ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض على الماء خانته فروج الانامل .
وقالوا : أحذر الدنيا ما استقامت لك .
ومن الامثال الحكميه : (من أمن الزمان ضيع ثغرا مخوفا) .
ومثل الكلمه الثانيه قولهم : (الدنيا كالامه اللئيمه المعشوقه ، كلما ازددت لها عشقا وعليها تهالكا ازدادت اذلالا ، وعليك شطاطا) .
وقال أبو الطيب : وهى معشوقة على الغدر لا تحفظ عهدا ولا تتمم وصلا(16/120)
شيم الغانيات فيها فلا أدرى لذا أنث اسمها الناس أم لا (1) ! ومنها قوله : (ليس كل من طلب المعالى نافذا ، ولا كل الرجال فحولا ومنها قوله : (إذا تغير السلطان ، تغير الزمان) .
في كتب الفرس ان انوشروان جمع عمال السواد وبيده دره يقلبها ، فقال : أي شئ أضر بارتفاع السواد وادعى إلى محقه ؟ أيكم قال ما في نفسي جعلت هذه الدره في فيه ؟ فقال بعضهم : انقطاع الشرب وقال بعضهم احتباس المطر ، وقال بعضهم : استياء الجنوب وعدم الشمال ، فقال لوزيره : قل أنت فإنى أظن عقلك يعادل عقول الرعيه لكلها أو يزيد عليها ، قال : تغير رأى السلطان في رعيته ، وإضمار الحيف لهم ، والجور عليهم ، فقال : لله أبوك ! بهذا العقل أهلك آبائى وأجدادي لما أهلوك له .
ودفع إليه الدره فجعلها في فيه .
ومنها قوله : (سل عن الرقيق ، قبل الطريق ، وعن الجار ، قبل الدار) وقد روى هذا الكلام مرفوعا ، وفى المثل : (جار السوء كلب هارش ، وأفعى ناهش) .
وفي المثل : الرفيق إما رحيق * * * الاصل : إياك أن تذكر من الكلام ما يكون مضحكا وإن حكيت ذلك عن غيرك
__________
(1) ديوان 3 : 130 .
(*)(16/121)
واياك ومشاورة النساء فإن رأيهن إلى أفن ، وعزمهن الى وهن ، واكفف عليهن من أبصارهن بحجابك إياهن ، فإن شدة الحجاب أبقى عليهن ، وليس خروجهن بأشد من إدخالك من لا يوثق به عليهن ، وإن استطعت الا يعرفن غيرك فافعل .
ولا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها ، فإن المرأة ريحانة وليست بقهرمانة .
ولا تعد بكرامتها نفسها ، ولا تطمعها في أن تشفع لغيرها .
وإياك والتغاير في غير موضع غيرة ، فإن ذلك يدعو الصحيحة إلى السقم والبريئة الى الريب .
واجعل لكل إنسان من خدمك عملا تأخذه به ، فإنه أحرى ألا يتواكلوا في خدمتك .
وأكرم عشيرتك ، فإنهم جناحك الذى به تطير ، وأصلك الذى إليه تصير ، ويدك التى بها تصول استودع الله دينك ودنياك ، واسأله خير القضاء لك في العاجلة الاجلة ، والدنيا والاخره .
والسلام .
* * * الشرح : نهاه أن يذكر من الكلام ما كان مضحكا ، لان ذلك من شغل أرباب الهزل والبطالة ، وقل أن يخلو ذلك من غيبة أو سخريه .
ثم قال : وإن حكيت ذلك عن غيرك فإنه كما يستهجن الابتداء بذلك يستهجن حكايته عن الغير ، وذلك كلام فصيح ، ألا ترى أنه لا يجوز الابتداء بكلمة الكفر ، ويكره أيضا حكايتها ، وقال عمر لما نهاه(16/122)
رسول الله صلى الله عليه وآله أن يحلف بالله : فما حلفت به ذاكرا ، ولا آثرا ، ولا حاكيا .
وكان يقال : من مازح استخف به ، ومن كثر ضحكه قلت هيبته .
فأما مشاورة النساء فإنه من فعل عجزة الرجال ، قال الفضل بن الربيع أيام الحرب بين الامين والمأمون في كلام يذكر فيه الامين ويصفه بالعجز : ينام نوم الظربان ، وينتبه انتباهة الذئب ، همه بطنه ولذته فرجه ، لا يفكر في زوال نعمة ، ولا يروى في إمضاء رأى ولا مكيدة ، قد شمر له عبد الله عن ساقه ، وفوق له اشد سهامه ، يرميه على بعد الدار بالحتف النافذ ، والموت القاصد ، قد عبى له المنايا على متون الخيل وناط له البلايا بأسنة الرماح ، وشفار السيوف ، فكأنه هو قال هذا الشعر ووصف به نفسه وأخاه : يقارع أتراك ابن خاقان ليله إلى أن يرى الاصباح لا يتلعثم فيصبح من طول الطراد وجسمه نحيل وأضحى في النعيم أصمم وهمى كأس من عقار وقينة وهمته درع ورمح ومخذم فشتان ما بينى وبين ابن خالد أمية في الرزق الذى الله يقسم .
ونحن معه نجرى الى غاية إان قصرنا عنها ذممنا ، وإن اجتهدنا في بلوغها انقطعنا ، وإنما نحن شعب من أصل ، إن قوى قوينا ، إن ضعف ضعفنا ، إن هذا الرجل قد ألقى بيده إلقاء الامه الوكعاء ، يشاور النساء ، ويعتزم على الرؤيا ، قد أمكن أهل الخساره واللهو من سمعه ، فهم يمنونه الظفر ، ويعدونه عقب الايام ، والهلاك أسرع إليه من السيل إلى قيعان الرمل .
* * * قوله عليه السلام : (فإن رأيهن الى أفن) الافن بالسكون : النقص والمتأفن :(16/123)
المتنقص ، يقال : فلان يتأفن فلانا ، أي يتنقصه ويعيبه .
ومن رواه (إلى أفن بالتحريك فهو ضعف الرأى ، أفن الرجل يأفن أفنا أي ضعف رأيه ، وفى المثل (إن الرقين تغطى أفن الافين) (1) والوهن : الضعف .
قوله : (واكفف عليهن من ابصارهن) من هاهنا زائده ، وهو مذهب أبى الحسن الاخفش في زيادة من في الموجب ، ويجوز أن يحمل على مذهب سيبويه ، فيعنى به : فاكفف عليهن بعض ابصارهن .
ثم ذكر فائده الحجاب ، ونهاه أن يدخل عليهن من لا يوثق به ، وقال : إن خروجهن أهون من ذلك ، وذلك لان من تلك صفته يتمكن من الخلوة مالا يتمكن منه من يراهن في الطرقات .
ثم قال : (إن استطعت ألا يعرفن غيرك فافعل) .
كان لبعضهم بنت حسناء ، فحج بها ، وكان يعصب عينيها ، ويكشف للناس وجهها ، فقيل له في ذلك ، فقال : إنما الحذر من رؤيتها الناس ، لا من رؤية الناس لها .
قال : (ولا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها) ، أي لا تدخلها معك في تدبير ولا مشورة ، ولا تتعدين حال نفسها وما يصلح شأنها .
فان المرأه ريحانه ، وليست بقهرمانه ، أي إنما تصلح للمتعه واللذه ، وليست وكيلا في مال ولا وزيرا في راى .
ثم أكد الوصية الاولى ، فقال : لاتعد بكرامتها نفسها ، هذا هو قوله : (ولا تملكها من أمرها ما جاوز نفسها) .
ثم نهاه ان يطمعها في الشفاعات .
__________
(1) اللسان (أفن ، رقن) والراقين : الدرهم ، سمى بذلك للترقين الذي فيه ، يعنون الخط (*)(16/124)
وروى الزبير بن بكا ، قال : كانت الخيزران كثيرا ما تكلم موسى أبنها - لما استخلف - في الحوائج : وكان يجيبها إلى كل ما تسأل ، حتى مضت أربعة أشهر من خلافته وتتالى الناس عليها ، وطمعوا فيها ، فكانت المواكب تغدو الى بابها ، وكلمته يوما في أمر فلم يجد الى إجابتها سبيلا ، واحتج عليها بحجة فقالت : لا بد من إجابتى ، فقال : لا أفعل ، قالت : إنى قد ضمنت هذه الحاجة لعبد الله بن مالك ، فغضب موسى وقال : ويلى على ابن الفاعلة ! قد علمت أنه صاحبها ، والله لا قضيتها لك ولا له ! قالت : والله لا أسالك حاجة إبدا قال إذن والله لا أبالى ، فقامت مغضبه ، فقال : مكانك تستوعبي كلامي ، وأنا والله برئ من قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله ، لئن بلغني أنه وقف أحد من قوادى وخاصتي وخدمي وكتابي على بابك لاضربن عنقه ، ولاقبضن ماله ، فمن شاء فليلزم ذلك ، ما هذه المواكب التى تغدو الى بابك كل يوم ! أما لك مغزل يشغلك ، أو مصحف يذكرك ، أو بيت يصونك ! إاياك ثم إاياك أن تفتحي فاك في حاجة لملى أو ذمى .
فانصرفت وما تعقل ما تطا عليه ، ولم تنطق عنده بحلوة ولا مرة بعدها حتى هلك .
* * * وأخذ هذه اللفظة منه وهى قوله : (إن المرأه ريحانه ، وليست بقهرمانه) الحجاج فقالها للوليد بن عبد الملك ، روى ابن قتيبه في كتاب (عيون الاخبار) قال : دخل الحجاج على الوليد بن عبد الملك وعليه درع وعمامه سوداء وفرس عربيه ، وكنانة ، وذلك في أول قدمة قدمها عليه من العراق ، فبعثت أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان وهى تحت الوليد إليه ، من هذا الاعرابي المستلئم في السلاح عندك وأنت في غلالة ! فأرسل إليها : هذا الحجاج ، فأعادت إليه الرسول : (فقال : تقول لك والله لان يخلو بك ملك الموت في اليوم أحيانا أحب(16/125)
إلى من أن يخلو بك الحجاج : فأخبره الوليد بذلك وهو يمازحه ، فقال يا أمير المؤمنين ، دع عنك مفاكهة النساء بزخرف القول ، فإنما المرأة ريحانه ، وليست بقهرمانة ، فلا تطلعها على سرك ومكايدة عدوك .
فلما دخل الوليد عليها أخبرها وهو يمازحها بمقاله الحجاج ، فقالت : يا أمير المؤمنين ، حاجتى أن تأمره غدا أن يأتيني مسلما ، ففعل ذلك ، فأتاها الحجاج فحجبته ، فلم يزل قائما ، ثم أذنت له فقالت : يا حجاج ، أنت الممتن على أمير المؤمنين بقتلك ابن الزبير وابن الاشعث ! أما والله لو لا أن الله علم أنك شر خلقه ما ابتلاك برمى الكعبه الحرام ولا بقتل أبن ذات النطاقين أول مولود في دار هجرة الاسلام ! وأما نهيك امير المؤمنين عن مفاكهة النساء وبلوغ لذاته وأوطاره ، فإن كن ينفرجن عن مثلك فما أحقه بالاخذ منك ! إن كن ينفرجن عن مثله فهو غير قابل لقولك ، أما والله لقد نقص نساء أمير المؤمنين الطيب من غدائرهن فبعنه في أعطيه أهل الشام حين كنت في أضيق من قرن ، قد أظلتك رماحهم ، وأثخنك كفاحهم ، وحين كان أمير المؤمنين أحب إليهم من أبنائهم وآبائهم فانجاك الله من عدو أمير المؤمنين بحبهم إياه قاتل الله القائل حين ينظر اليك ، سنان غزاله بين كتفيك : أسد على وفي الحروب نعامة ربداء تنفر من صفير الصافر (1) هلا برزت الى غزالة في الوغى بل كان قلبك في جناحى طائر .
قم فاخرج فقام فخرج (2) *
__________
(1) ذكر صاحب الاغانى أن غزاله الحرويه لما دخلت على الحجاج هي وشبيب بلكوفه تحصن منها أغلق عليه قصره ، فكتب إليه عمران بن حطان - وقد كان الحجاج لج في طلبه : أسد على وفى الحروب نعامة ربداء تجفل من صفير صافر هلا برزت الى غزالة في الوغى بل كان قبلبك في جناحى طائر صدعت غزالة قلبه بفوارس تركت مدابره كأمس الدابر (2) عيون الاخبار 1 : 170 ، 171 (*)(16/126)
(بعض ما قيل في الغيره من الشعر) فأما قوله عليه السلام (إياك والتغاير في غير موضع غيره) فقد قيل هذا المعنى ، قال بعض المحدثين يا أيها الغائر مه لا تغر إلا لما تدركه بالبصر ما أنت في ذلك إلا كمن بيته الدب لرمي الحجر .
وكان مسكين الدارمي أحد من يستهجن الغيره ، ويستقبح وقوعها في غير محلها فمن شعره في هذا المعنى : ما أحسن الغيرة في حينها وأقبح الغيرة في غير حين ! (1) من لم يزل متهما عرسه مناصبا .
فيها لرجم الظنون (2) يوشك أن يغريها بالذى يخاف ، أو ينصبها للعيون حسبك من تحصينها ضمها منك الى خيم كريم ودين لا تظهرن يوما على عوره فيتبع المقرون حبل القرين (3) وقال ايضا : ألا أيها الغائر المستشيط علا م تغار إذ لم تغر ! (4) فما خير عرس إذا خفتها وما خير بيت إذا لم يزر ! تغار من الناس ان ينظروا وهل يفتن الصالحات النظر ! فإنى ساخلى لها بيتها فتحفظ لى نفسها أو تذر
__________
(1) أمالى المرتضى 1 : 467 .
(2) الامالى : (لرجم الظنون) .
(3) أي إياك أن تطلع المرأة منك على زنا وريبة ، فإنها أيضا تزني ، أو تفعل كما فعلت .
(4) أمالى المرتضى 1 : 476 475 .
(*)(16/127)
إذا الله لم يعطه ودها فلن يعطى الود سوط ممر ومن ذا يراعى له عرسه إذا ضمه والركاب السقر (1) وقال ايضا : ولست امرأ لا أبرح الدهر قاعدا إلى جنب عرسي لا أفارقها شبرا (2) ولا مقسما لا أبرح الدهر بيتها لاجعله قبل الممات لها قبرا ولا حاملا ظنى ولا قول قائل على غيره حتى احيط به خبرا وهبني امرأ راعيت ما دمت شاهدا فكيف إذا ما سرت من بيتها شهرا ! ! إذا هي لم تحصن لما في فنائها فليس بمنجيها بنائى لها قصرا .
فأما قوله : (واجعل لكل إنسان من خدمك عملا تأخذه به) فقد قالت الحكماء هذا المعنى ، قال ابرويز في وصيته لولده شيرويه : وانظر إلى كتابك ، فمن كان منهم ذا ضياع قد أحسن عمارتها فوله الخراج ، ومن كان منهم ذا عبيد قد أحسن سياستهم وتثقيفهم فوله الجند ، ومن كان منهم ذا سرارى وضرائر قد احسن القيام عليهن فوله النفقات والقهرمة ، وهكذا فاصنع في خدم دارك ولا تجعل أمرك فوضى بين خدمك فيفسد عليك ملكك .
وأما قوله : (فأكرم عشيرتك فإنهم جناحك) فقد تقدم منا كلام في وجوب الاعتضاد بالعشائر * * * (اعتزاز الفرزدق بقومه) روى أبو عبيدة قال : كان الفرزدق لا ينشد بين يدى الخلفاء والامراء إلا قاعدا ،
__________
(1) الامالى : (المطى) (2) أمالى المرتضى 1 : 467 ، وروايته : (وإنى امروء) .
(*)(16/128)
فدخل على سليمان بن عبد الملك يوما ، فأنشده شعرا فخر فيه بابائه ، وقال من جملته : تالله ما حملت من ناقه رجلا مثلى إذا الريح لفتني على الكور (1) فقال سليمان : هذا المدح لى أم لك ! قال : لى ولك يا أمير المؤمنين ، فغضب سليمان وقال : قم فاتمم ، ولا تنشد بعده إلا قائما فقال ، الفرزدق : لاو الله أو يسقط إلى الارض أكثرى شعرا .
فقال سليمان : ويلى على الاحمق ابن الفاعلة ! لا يكنى ، وارتفع صوته ، فسمع الضوضاء بالباب فقال سليمان : ما هذا ؟ قيل بنو تميم على الباب ، قالوا : لا ينشد الفرزدق قائما وأيدينا في مقابض سيوفنا ، قال فلينشد قاعدا * * * (وفود الوليد بن جابر على معاوية) وروى إبو عبيد الله محمد بن بموسى بن عمران المرزبانى ، قال : كان الوليد بن جابر بن ظالم الطائى ممن وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم ، ثم صحب عليا عليه السلام ، وشهد معه صفين ، وكان من رجاله المشهورين ، ثم وفد على معاويه في الاستقامة (2) وكان معاويه لا يثبته (3) ، معرفة ، بعينه ، فدخل عليه في جملة الناس ، فلما انتهى إليه استنسبه ، فانتسب له ، فقال : أنت صاحب ليله الهرير ؟ قال نعم : قال والله ما تخلو مسامعي من رجزك تلك الليله ، وقد علا صوتك أصوات الناس ، وأنت تقول : شدوا فداء لكم إمى وأب فإنما الامر غدا لمن غلب هذا ابن عم المصطفى والمنتجب تنمه للعلياء سادات العرب ليس ليس بموصوم إذا نص النسب إول من صلى وصام واقترب .
قال : نعم ، أنا قائلها .
قال : فلماذا قلتها ؟ قال لانا كنا مع رجل لا نعلم خصلة * (هامش) (1) من قصيده في ديوانه 1 : 262 - 267 ، وذكر فية أنه مدح بها يزيد بن عبد الملك .
(2) كذا في الاصول .
(3) كذا في ا وهو الصواب ، وفى ب : (لا ينسبه) .
(9 - نهج - 16) (*)(16/129)
توجب الخلافه ، ولا فضيلة تصير الى التقدمه ، إلا وهى مجموعه له ، كان أول الناس سلما واأثرهم علما ، أرجحهم حلما ، فأت الجياد فلا يشق غباره ، يستولى على الامد فلا يخاف عثاره ، وأوضح منهج الهدى فلا يبيد مناره ، وسلك القصد فلا تدرس آثاره ، فلما ابتلانا الله تعالى بافتقاده ، وحول الامر الى من يشاء من عباده ، دخلنا في جمله المسلمين فلم ننزع يدا عن طاعه ، ولم نصدع صفاه جماعه ، على أن لك منا ما ظهر ، وقلوبنا بيد الله وهو أملك بها منك ، فاقبل صفونا ، وأعرض عن كدرنا ، ولا تثر كوامن الاحقاد ، فإن النار تقدح بالزناد .
قال معاويه : وإنك لتهددني يا أخاطيى بأوباش العراق أهل النفاق ، ومعدن الشقاق ! فقال : يا معاويه هم الذين أشرقوك بالريق وحبسوك في المضيق ، وذادوك عن سنن الطريق ، حتى لذت منهم بالمصاحف ، ودعوت إليها من صدق بها وكذبت ، وآمن بمنزلها وكفرت ، وعرف من تأويلها ما أنكرت .
فغضب معاويه وأدار طرفه فيمن حوله فإذا جلهم من مضر ونفر قليل من اليمن ، فقال أيها الشقى الخائن ، أنى لاخال أن هذا آخر كلام تفوه به - وكان عفير (1) بن سيف بن ذى يزن بباب معاوية حينئذ - فعرف موقف الطائى ومراد معاويه ، فخافه عليه ، فهجم عليهم الدار ، وأقبل على اليمانية ، فقال ، شاهت الوجوه ذلا وقلا ، وجدعا وفلا ، كشم الله هذه الانف كشما (2) مرعبا .
ثم التفت إلى معاويه ، فقال : إنى والله يا معاوية ما أقول قولى هذا حبا لاهل العراق ، ولا جنوحا إليهم ، ولكن الحفيظه تذهب الغضب لقد رأيتك بالامس خاطبت أخا ربيعة يعنى - صعصعة بن صوحان وهو أعظم جرما عندك من هذا ، وأنكا (3) لقلبك ، وأقدح في صفاتك ، وأجد في عداوتك ، وأشد انتصارا في حربك ، ثم أثبته وسرحته ، وأنت الان مجمع على قتل هذا - زعمت - استصغارا لجماعتنا ! فإنا لا نمر ولا نحلى ولعمري لو وكلتك أبناء قحطان إلى قومك لكان جدك العاثر ، وذكرك الداثر
__________
(1) ا : (عفيره) .
(2) ب : (كثم) تحريف صوابه من ا ، وكشم الانف : اسأصله قطعا (3) كذا في ا .
وفى ب : (وإذكاء) .
(*)(16/130)
وحدك المفلول ، وعرشك المثلول ، فاربع على ظلعك (1) ، واطونا على بلالتنا (2) ، ليسهل لك حزننا ، ويتطامن لك شاردنا ، فإنا لانرأم بوقع الضيم ، ولا نتلمظ جرع الخسف ، ولا نغمز بغماز الفتن ، ولا نذر على الغضب .
فقال معاويه : الغضب شيطان ، فاربع نفسك أيها الانسان ، فإنا لم نأت الى صاحبك مكروها ، ولم نرتكب منه مغضبا ، ولم ننتهك منه محرما ، فدونكه فإنه لم يضق عنه حلمنا ويسع غيره ، فأخذ عفير بيد الوليد ، وخرج به الى منزله وقال له : والله لتؤوبن بأكثر مما آب به معدى من معاويه .
وجمع من بدمشق من اليمانية ، وفرض على كل رجل دينارين في عطائه ، فبلغت اربعين ألفا فتعجلها من بيت المال ، ودفعها إلى الوليد ، ورده إلى العراق
__________
(1) اربع ظلعات ، أي توقف .
(2) اطونا على بلاتنا ، أي احتملنا على ما فينا من إساءة .
(*)(16/131)
الاصل : ومن كتاب له عليه السلام الى معاويه : وأرديت جيلا من الناس كثيرا ، خدعتهم بغيك ، وألقيتهم في موج ، بحرك تغشاهم الظلمات ، وتتلاطم بهم الشبهات ، فجاروا عن وجهتهم ، ونكصوا على أعقابهم ، وتولوا على أدبارهم ، وعولوا على أحسابهم ، إلا من فاء من اهل البصائر ، فإنهم فإرقوك بعد معرفتك ، وهربوا الى الله من موازرتك ، إذ حملتهم على الصعب ، وعدلت بهم عن القصد .
فاتق الله يا معاويه في نفسك ، وجاذب الشيطان قيادك .
فإن الدنيا منقطعة عنك والاخرة قريبة منك ، والسلام .
* * * الشرح : أرديتهم : أهلكتهم وجيلا من الناس ، أي صنفا من الناس .
والغى : الضلال وجاروا : عدلوا عن القصد .
ووجهتهم : بكسر الواو ، يقال : هذا وجه الرأى ، أي هو الرأى بنفسه ، والاسم الوجه بالكسر ويجوز بالضم ، قوله : (وعولوا على أحسابهم) ، أي لم يعتمدوا على الدين ، وأنما أردتهم الحميه ونخوة الجاهلية ، فأخلدوا إليها وتركوا الدين ، والاشارة الى بنى أميه وخلفائهم الذين اتهموه عليه السلام بدم عثمان ، فحاموا عن الحسب ، ولم يأخذوا بموجب الشرع في تلك الواقعة(16/132)
ثم أستثنى قوما فاءوا ، أي رجعوا عن نصره معاوية ، وقد ذكرنا في اخبار صفين من فارق معاوية ورجع الى أمير المؤمنين عليه السلام ، أو فارقه واعتزل الطائفتين .
قوله : (حملتهم على الصعب) أي على الامر الشاق ، والاصل في ذلك البعير المستصعب يركبه الانسان فيغرر بنفسه .
* * * (ذكر بعض ما دار بين على ومعاويه من الكتب) وأول هذا الكتاب : من عبد الله على أمير المؤمنين عليه السلام إلى معاوية بن أبى سفيان ، اما بعد ، فإن الدنيا دار تجاره ، وربحها أو خسرها الاخرة ، فالسعيد من كانت بضاعته فيها الاعمال الصالحه ، ومن رأى الدنيا بعينها ، وقدرها بقدرها ! وإنى لاعظك مع علمي بسابق العلم فيك مما لا مرد له دون نفاذه ، ولكن الله تعالى إخذ على العلماء إن يؤدوا الامانة ، وأن ينصحوا الغوى والرشيد ، فاتق الله ، ولا تكن ممن لا يرجو لله وقارا ، ومن حقت عليه كلمة العذاب ، فإن الله بالمرصاد .
وإن دنياك ستدبر عنك ، وستعود حسرة عليك ، فاقلع عما أنت عليه من الغى والضلال ، على كبر سنك ، وفناء عمرك ، فإن حالك اليوم كحال الثوب المهيل الذى لا يصلح من جانب إلا فسد من آخر ، وقد أرديت جيلا من الناس كثيرا خدعتهم بغيك ...
الى آخر الكتاب .
قال أبو الحسن على بن محمد المدائني : فكتب إليه معاويه ، من معاويه بن أبى سفيان إلى على بن أبى طالب ، أما بعد ، فقد وقفت على كتابك ، وقد أبيت على الفتن الا تماديا ، وإنى لعالم أن الذى يدعوك الى ذلك مصرعك الذى(16/133)
لا بد لك منه ، وإن كنت موائلا ، فازدد غيا إلى غيك ، فطالما خف عقلك ، ومنيت نفسك ما ليس لك ، والتويت على من هو خير منك ، ثم كانت العاقبه لغيرك ، واحتملت الوزر بما أحاط بك من خطيئتك والسلام .
فكتب على عليه السلام إليه : أما بعد ، فإن ماأ تيت به من ضلالك ليس ببعيد الشبه مما أتى به أهلك وقومك الذين حملهم الكفر وتمنى الاباطيل على حسد محمد صلى الله عليه واله وسلم حتى صرعوا مصارعهم حيث علمت ، لم يمنعوا حريما ، ولم يدفعوا عظيما وأنا صاحبهم في تلك المواطن ، الصالى بحربهم ، والفال لحدهم ، والقاتل لرؤوسهم رؤوس الضلالة والمتبع إن شاء الله خلفهم بسلفهم ، فبئس الخلف خلف أتبع سلفا محله ومحطه النار .
والسلام .
قال فكتب إليه معاويه : أما بعد ، فقد طال في الغى ما استمررت أدراجك كما ، طالما تمادى عن الحرب نكوصك وإبطاؤك ، فتوعد وعيد الاسد ، وتروغ روغان الثعلب ، فحتام تحيد عن لقاء مباشرة الليوث الضاريه ، والافاعي القاتلة ، ولا تستبعدنها ، فكل ما هو آت قريب إن شاء الله والسلام .
قال : فكتب إليه على عليه السلام : أما بعد فما ، أعجب ما يأتيني منك .
وما أعلمني بما أنت إليه صائر ! وليس أبطائى عنك إلا ترقبا لما أنت له مكذب ، وأنا به ! مصدق وكأني بك غدا وأنت تضج من الحرب ضجيج الجمال من الاثقال ، وتستدعوني أنت وإصحابك الى كتاب تعظمونه بألسنتكم وتجحدونه بقلوبكم والسلام .
قال : فكتب إليه معاويه :(16/134)
أما بعد ، فدعني من أساطيرك ، واكفف عنى من أحاديثك ، وأقصر عن تقولك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وافترائك من الكذب ما لم يقل ، وغرور من معك والخداع لهم ، فقد استغويتهم ، ويوشك أمرك أن ينكشف لهم فيعتزلوك ، ويعلموا أن ما جئت به باطل مضمحل .
والسلام .
قال ، فكتب إليه على عليه السلام : أما بعد ، فطالما دعوت أنت وأولياؤك أولياء الشيطان الرجيم الحق (1) أساطير الاولين ، ونبذتموه وراء ظهوركم وجهدتم بإطفاء نور الله بأيديكم وأفواهكم ، والله متم نوره ولو كره الكافرون .
ولعمري ليتمن النور على كرهك ، ولينفذن العلم بصغارك ، ولتجازين بعملك ، فعث في دنياك المنقطعة عنك ما طاب لك ، فكأنك بباطلك وقد انقضى ، بعملك وقد هوى ، ثم تصير إلى لظى ، لم يظلمك الله شيئا ، وما ربك بظلام للعبيد ! قال : فكتب إليه معاوية : أما بعد ، فما أعظم الرين على قلبك ، والغطاء على بصرك ! الشره من شيمتك ، والحسد من خليقتك ، فشمر للحرب ، واصبر للضرب ، فو الله ليرجعن الامر إلى ما علمت ، والعاقبة للمتقين .
هيهات هيهات ! أخطأك ما تمنى ، وهوى قلبك مع من هوى ، فاربع على ظلعك ، وقس شبرك بفترك ، لتعلم أين حالك من حال من يزن الجبال حلمه ، ويفصل بين أهل الشك علمه .
والسلام .
قال : فكتب إليه على عليه السلام : أما بعد ، فإن مساوئك مع علم الله تعالى فيك حالت بينك وبين أن يصلح لك أمرك ، وأن يرعوى قلبك ، يا بن الصخر اللعين ! زعمت أن يزن الجبال حلمك ، ويفصل بين أهل الشك علمك ، وأنت الجلف المنافق ، الاغلف القلب ، القليل العقل الجبان الرذل ، فإن كنت صادقا فيما تسطر ، ويعينك عليه أخو بنى سهم ، فدع الناس جانبا ، وتيسر لما دعوتني إليه من الحرب ، والصبر على
__________
(1) كذا في ا ، وفى ب : (للحق) .
(*)(16/135)
الضرب ، واعف الفريقين من القتال ، ليعلم أينا المرين على ، قلبه ، المغطى على بصره ، فأنا أبو الحسن ، قاتل جدك وأخيك وخالك ، وما أنت منهم ببعيد والسلام ! * * * قلت : وأعجب أطرب ما جاء به الدهر - وإن كانت عجائبه وبدائعه جمة - أن يفضى أمر على عليه السلام إلى أن يصير معاوية ندا له ونظيرا مماثلا ، يتعارضان الكتاب ، والجواب ويتساويا فيما يواجه به أحدهما صاحبه ، ولا يقول له على عليه السلام كلمة إلا قال مثلها ، وأخشن مسا منها ، فليت محمدا صلى الله عليه وآله كان شاهد ذلك : ليرى عيانا لا خبرا أن الدعوه التى قام بها ، وقاسى أعظم المشاق في تحملها ، وكابد الاهوال في الذب عنها ، وضرب بالسيوف عليها لتأييد دولتها ، وشيد أركانها ، وملا الافاق بها ، خلصت صفوا عفوا لاعدائه الذين كذبوه ، لما دعا إليها ، وأخرجوه عن أوطانه لما حض عليها ، وأدموا وجهه ، وقتلوا عمه وأهله ، فكأنه كان يسعى لهم ويدأب لراحتهم ، كما قال أبو سفيان في أيام عثمان ، وقد مر بقبر حمزه ، وضربه برجله ، وقال ، يا أبا عمارة ! إن الامر الذى أجتلدنا عليه بالسيف أمسى في يد غلماننا اليوم يتلعبون به ! ثم آل الامر إلى أن يفاخر معاويه عليا ، كما يتفاخر الاكفاء والنظراء .
إذا غير الطائى بالبخل مادر وقرع قسا بالفهاهة باقل وقال السها للشمس : أنت خفية وقال الدجى : يا صبح لونك حائل وفاخرت الارض السماء سفاهه وكاثرت الشهب الحصا والجنادل فيا موت زر إن الحياه ذميمة ويا نفس جدى إن دهرك هازل ! ثم أقول ثانيا لامير المؤمنين عليه السلام : ليت شعرى ، لما ذا فتح باب الكتاب
__________
(1) لابي العلاء ، سقط الزند 533 .(16/136)
والجواب بينه وبين معاويه ! وإذا كانت الضرورة قد قادت الى ذلك فهلا اقتصر في الكتاب إليه على الموعظه من غير تعرض للمفاخرة والمنافرة ! وإذا كان لا بد منهما فهلا اكتفى بهما من غير تعرض لامر آخر يوجب المقابلة والمعارضة بمثله ، وبأشد منه : (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم) (1) وهلا دفع هذا الرجل العظيم الجليل نفسه عن سباب هذا السفيه الاحمق ، هذا مع انه القائل : من واجه الناس بما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون ! أي افتروا عليه وقالوا فيه الباطل .
أيها الشاتمى لتحسب مثلى أنما إنت في الضلال تهيم (2) لاتسبننى فلست بسبي إن سبى من الرجال الكريم (3) .
وهكذا جرى في القنوت واللعن ، قنت بالكوفة على معاوية ، ولعنه في الصلاه وخطبة الجمعة ، وأضاف إليه عمرو بن العاص وأبا موسى وأبا الاعور السلمى وحبيب بن ، مسلمة فبلغ ذلك معاويه بالشام ، فقنت عليه ، ولعنه بالصلاة وخطبه الجمعة ، وأضاف إليه الحسن والحسين وابن عباس والاشتر النخعي ، ولعله عليه السلام قد كان يظهر له من المصلحة حينئذ ما يغيب عنا الان ، ولله أمر هو بالغه !
__________
(1) سورة الانعام 108 .
(2) لعبد الرحمان بن حسان بن ثانت يهجو مسكينا الدارمي .
(3) السب : بالكسر : الذى يسابك .
(*)(16/137)
(33) الاصل : ومن كتاب له عليه السلام الى قثم بن العباس وهو عامله على مكه : أما بعد ، فإن عينى بالمغرب كتب إلى يعلمنى أنه وجه إلى الموسم أناس من أهل الشام ، العمى القلوب ، الصم الاسماع ، الكمه الابصار ، الذين يلبسون الحق بالباطل ، ويطيعون المخلوق في معصيه الخالق ، ويحتلبون الدنيا درها بالدين ، ويشترون عاجلها باجل الابرار المتقين ، ولن يفوز بالخير إلا عامله ، ولا يجزى جزاء الشر إلا فاعله .
فأقم على ما في يديك قيام الحازم الطبيب ، والناصح اللبيب ، التابع لسلطانه ، المطيع لامامه .
وإياك وما يعتذر منه ، لا تكن عند النعماء بطرا ، ولا عند البأساء فشلا .
والسلام * * * الشرح : كان معاويه قد بعث الى مكه دعاة في السر يدعون الى طاعته ، ويثبطون العرب عن نصره أمير المؤمنين ويوقعون في أنفسهم أنه إما قاتل لعثمان أو خاذل ، وأن الخلافة(16/138)
لا تصلح فيمن قتل أو خذل ، وينشرون عندهم محاسن معاويه بزعمهم وأخلاقه وسيرته ، فكتب أمير المؤمنين عليه السلام هذا الكتاب إلى عامله بمكة ، ينبهه على ذلك ليعتمد فيه بما تقتضيه السياسة ، ولم يصرح في هذا الكتاب بماذا يأمره أن يفعل إذا ظفر بهم .
قوله : (عينى بالمغرب) أي أصحاب أخباره عند معاويأ وسمى الشام مغربا لانه من الاقاليم المغربية .
والموسم : الايام التى يقام فيها الحج .
وقوله : (يحتلبون الدنيا درها بالدين) دلاله على ما قلنا : إنهم كانوا دعاة يظهرون سمت الدين ، وناموس العبادة ، وفيه إبطال قول من ظن أن المراد بذلك السرايا التى كان معاويه يبعثها ، فتغير على أعمال على عليه السلام .
ودرها منصوب بالبدل (من الدنيا) وروى : (الذين يلتمسون الحق بالباطل) أي يطلبونه ، أي يتبعون معاويه وهو على الباطل التماسا وطلبا للحق ، ولا يعلمون أنهم قد ضلوا .
قوله : (وإياك وما يعتذر منه) من الكلمات الشريفه الجليلة الموقع ، وقد رويت مرفوعة ، وكان يقال : ما شئ أشد على الانسان من حمل المروءه ، والمروءة ألا يعمل الانسان في غيبة صاحبه ما يعتذر منه عند حضوره .
قوله : (ولا تكن عند النعماء بطرا ، ولا عند البأساء فشلا) معنى مستعمل ، قال الشاعر : فلست بمفراح إذا الدهر سرنى ولا جازع من صرفه المتقلب ولا اتمنى الشر والشر تاركى ولكن متى أحمل على الشر أركب * * *(16/139)
(قثم بن عباس وبعض أخباره فأما قثم بن العباس ، فأمه أم أخوته ، وروى عبد البر في كتاب ، الاستيعاب ، عن عبد الله بن جعفر ، قال : كنت أنا وعبيد الله وقثم ابنا العباس نلعب ، فمر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم راكبا ، فقال : (ارفعوا إلى هذا الفتى) يعنى قثم - فرفع إليه ! فأردفه خلفه ، ثم جعلني بين يديه ، ودعا لنا ، فاستشهد قثم بسمرقند .
قال أبن عبد البر وروى عبد الله بن عباس قال ، كان قثم آخر الناس عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم أي آخر من خرج من قبره ممن نزل فيه .
قال : وكان المغيره ابن شعبة يدعى ذلك لنفسه ، فأنكر على بن أبى طالب عليه السلام ذلك ، وقال : بل آخر من خرج من القبر قثم بن العباس .
قال ابن عبد البر : وكان قثم واليا لعلى عليه السلام على مكه : عزل على عليه السلام خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومى - وكان واليها لعثمان - وولاها أبا قتادة الانصاري ، ثم عزله عنها وولى مكانه قثم بن العباس ، فلم يزل واليه عليها حتى قتل على عليه السلام .
قال هذا قول خليفه (2) ، وقال الزبير بن بكار : استعمل على عليه السلام قثم ابن العباس على المدينة .
قال ابن عبد البر : واستشهد قثم بسمرقند كان خرج إليها مع سعيد بن عثمان بن عفان زمن معاوية فقتل هناك (1) قال : وكان قثم يشبه رسول الله صلى الله عليه وآله ، وفيه يقول داود بن مسلم (3) :
__________
(1) الاستيعاب 551 - 552 .
(2) هو خليفه بن خياط المعروف بشباب .
وإنظر طبقات الحفاظ 2 : 21 .
(3) في الاستيعاب : (سليم) .(16/140)
عتقت من حل ومن رحلة يا ناق إن أدنيتني من قثم إنك إن أدنيت منه غدا حالفني اليسر ومات العدم في كفه بحر وفي وجهه بدر وفي العرنين منه شمم أصم عن قيل الخنا سمعه وما على الخير به من صمم لم يدر ما (لا) وب (لا) قد درى فعافها واعتاض منها نعم(16/141)
(الاصل) : ومن كتاب له عليه السلام : إلى محمد بن أبى بكر لما بلغه توجده من عزله بالاشتر عن مصر ، ثم توفى الاشتر في توجهه إلى هناك قبل وصوله إليها : أما بعد ، فقد بلغني موجدتك من تسريح الاشتر الى عملك .
وإنى لم أفعل ذلك استبطاء لك في الجهد ، ولا ازديادا لك في الجد ، ولو نزعت ما تحت يدك من سلطانك ، لوليتك ما هو أيسر عليك مؤونة وأجب إليك ولاية ، إن الرجل الذى كنت وليته أمر مصر كان رجلا لنا ناصحا ، وعلى عدونا شديدا ناقما ، فرحمه الله ! فلقد استكمل أيامه ، ولاقى حمامه ، ونحن عنه راضون ، اولاه الله رضوانه ، ضاعف الثواب له ! فأصحر لعدوك ، وأمض على بصيرتك ، وشمر لحرب من حاربك ، وادع السبيل ربك ، وأكثر الاستعانة بالله يكفك ما أهمك ، ويعنك على ما ينزل بك ، إن شاء الله * * * الشرح : (محمد بن أبى بكر وبعض أخباره) أم محمد رحمه الله اسماء بنت عميس الخثعمية : وهى أخت ميمونه زوج النبي صلى الله(16/142)
عليه وآله ، أخت لبابة أم الفضل وعبد الله زوج العباس بن عبد المطلب ، وكانت من المهاجرات الى أرض الحبشة ، وهى إذ ذاك تحت جعفر بن أبى طالب عليه السلام ، فولدت له هناك محمد بن جعفر وعبد الله وعونا ، ثم هاجرت معه الى المدينة ، فلما قتل جعفر يوم مؤته تزوجها أبو بكر ، فولدت له محمد بن أبى بكر هذا ، ثم مات عنها فتزوجها على عليه السلام وولدت له يحيى بن على ، لا خلاف في ذلك .
وقال ابن عبد البر في الاستيعاب ، ، : ذكر ابن الكلبى أن عون بن على اسم أمه أسماء بنت عميس ، ولم يقل ذلك احد غيره .
وقد روى أن أسماء كانت تحت حمزه بن عبد المطلب ، فولدت له بنتا تسمى أمه الله - وقيل أمامه - ومحمد بن أبى بكر ممن ولد في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله .
قال ابن عبد البر في كتاب ، ، الاستيعاب ، ، : ولد عام حجه الوداع في عقب ذى القعدة بذى الحليفة ، حين توجه رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الحج ، فسمته عائشة محمدا ، كنته أبا القاسم بعد ذلك لما ولد له ولد سماه القاسم ، ولم تكن الصحابة ترى بذلك باسا ، ثم كان في حجر على عليه السلام ، وقتل بمصر ، وكان على عليه السلام يثنى عليه ويقرظه ويفضله ، وكان لمحمد رحمه الله عبادة واجتهاد ، وكان ممن حضر عثمان ودخل عليه ، فقال له ، لو رآك أبوك لم يسره هذا المقام منك ، فخرج وتركه ، ودخل عليه بعده من قتله .
ويقال إنه أشار إلى من كان معه فقتلوه (1) .
* * * قوله : (وبلغني موجدتك) ، أي غضبك ، وجدت على فلان موجدة ، ووجدانا لغة ، قليله ، انشدوا : كلانا رد صاحبه بغيظ على حنق ووجدان شديد (2)
__________
(1) الاستيعاب 242 .
(2) لصخر الغى ، اللسان ، الصحاح (وجد) .
(*)(16/143)
فأما في الحزن فلا يقال إلا وجدت أنا بالفتح لا غير .
والجهد : الطاقة ، أي لم استبطئك في بذل طاقتك ووسعك ، ومن رواها الجهد بالفتح فهو من قولهم : اجهد جهدك في كذا أي ابلغ الغاية ، ولا يقال هذا الحرف هاهنا الا مفتوحا .
ثم طيب عليه السلام نفسه بأن قال له : لو تم الامر الذى شرعت فيه من ولاية الاشتر مصر لعوضتك بما هو أخف عليك مئونه وثقلا ، وأقل نصبا من ولايه مصر ، لانه كان في مصر بإزاء معاويه من الشام وهو مدفوع الى حربه .
ثم أكد عليه السلام ترغيبه بقوله : (وأعجب اليك ولايه) .
فإن قلت : ما الذى بيده مما هو أخف على محمد مئونة وأعجب إليه من ولايه مصر ؟ قلت : ملك الاسلام كله كان بيد على عليه السلام الا الشام ، فيجوز أن يكون قد كان في عزمه أن يوليه اليمن أو خراسان أو أرمينيه أو فارس .
ثم أخذ في الثناء علي الاشتر وكان على عليه السلام شديد الاعتضاد به ، كما كان هو شديد التحقق بولايته وطاعته .
وناقما ، من نقمت على فلان كذا ، إذا أنكرته عليه وكرهته منه .
ثم دعا له بالرضوان ، ولست أشك بأن الاشتر بهذه الدعوه يغفر الله له ويكفر ذنوبه ، ويدخله الجنه ، ولافرق عندي بينها وبين دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله ، يا طوبى لمن حصل له من على عليه السلام بعض هذا ! قوله : (وأصحر لعدوك) أي أبرز له ولا تستتر عنه بالمدينة التى أنت فيها ، أصحر الاسد من خيسه ، إذا خرج الى الصحراء .
وشمر فلان للحرب ، إذا أخذ لها أهبتها .(16/144)
(35) الاصل : ومن كتاب له عليه السلام الى عبد الله بن العباس بعد مقتل محمد بن أبى بكر : أما بعد ، فأن مصر قد افتتحت ، ومحمد بن أبى بكر رحمه الله قد استشهد ، فعند الله نحتسبه ولدا ناصحا ، وعاملا كادحا وسيفا قاطعا ، وركنا دافعا وقد كنت حثثت الناس على لحاقه .
وأمرتهم بغياثه قبل الوقعة ، ودعوتهم سرا وجهرا ، وعودا وبدءا ، فمنهم الاتى كارها ، ومنهم المعتل كاذبا ، ومنهم القاعد خاذلا .
أسال الله تعالى أن يجعل لى منهم فرجا عاجلا ، فو الله لو لا طمعي عند لقائي عدوى في الشهادة وتوطيني نفسي على المنية ، لاحببت ألا أبقى مع هؤلاء يوما واحدا ، ولا التقى بهم أبدا .
* * * الشرح : انظر إلى الفصاحة كيف تعطى هذا الرجل قيادها وتملكه زمامها ، واعجب لهذه الالفاظ المنصوبة ، يتلو بعضها بعضا كيف تواتيه وتطاوعه ، سلسه سهله ، تتدفق من غير تعسف ولاتكلف ، حتى انتهى إلى آخر الفصل فقال : (يوما واحدا ، ولا التقى بهم أبدا) ، وأنت وغيرك من الفصحاء إذا شرعوا في كتاب أو خطبة ، جاءت القرائن والفواصل(16/145)
تارة مرفوعة ، وتارة مجرورة ، وتارة منصوبة ، فإن أرادوا قسرها بإعراب واحد ظهر منها في التكلف أثر بين ، وعلامة واضحة ، وهذا الصنف من البيان أحد أنواع الاعجاز في القرآن ، ذكره عبد القاهر ، قال : انظر إلى سورة النساء وبعدها سورة المائدة ، الاولى منصوبة الفواصل ، والثانية ليس فيها منصوب أصلا ، ولو مزجت إحدى السورتين بالاخرى لم تمتزجا ، وظهر أثر التركيب والتأليف بينهما .
ثم ان فواصل كل واحد منهما تنساق سياقه بمقتضى البيان الطبيعي لا الصناعه التكلفيه .
ثم انظر إلى الصفات والموصوفات في هذا الفصل ، كيف قال : (ولدا ناصحا) ، (وعاملا كادحا) ، (وسيفا قاطعا) ، (وركنا دافعا ، لو قال : (ولدا كادحا) و (عاملا ناصحا) ، وكذلك ما بعده لما كان صوابا .
ولا في الموقع واقعا ، فسبحان من منح هذا الرجل هذه المزايا النفيسة والخصائص الشريفة ! أن يكون غلام من أبناء عرب مكة ، ينشأ بين أهله ، لم يخالط الحكماء ، وخرج أعرف بالحكمة ودقائق العلوم الالهيه من إفلاطون وأرسطو ! ولم يعاشر أرباب الحكم الخلقيه والاداب النفسانية ، لان قريش لم يكن أحد منهم مشهورا بمثل ذلك ، وخرج أعرف بهذا الباب من سقراط ! ولم يرب بين الشجعان ، لان أهل مكة كانوا ذوى تجاره ، ولم يكونوا ذوى حرب ، وخرج أشجع من كل بشر مشى على الارض ، قيل لخلف الاحمر : أيما أشجع عنبسه وبسطام أم على بن ابى طالب ؟ فقال : إنما يذكر عنبسه وبسطام مع البشر والناس ، لا مع من يرتفع عن هذه الطبقة ، فقيل له : فعلى كل حال .
قال : والله لو صاح في وجوههما لماتا قبل أن يحمل عليهما .
وخرج أفصح من سحبان وقس ، ولم تكن قريش بأفصح العرب ، كان غيرها أفصح منها ، قالوا : أفصح العرب جرهم وإن لم تكن لهم نباهه .
وخرج أزهد الناس في الدنيا ، وأعفهم ، مع أن قريشا ذوو حرص ومحبه للدنيا ، ولا غرو فيمن كان(16/146)
محمد صلى الله عليه وآله مربيه ومخرجه ، والعناية الالهية تمده وترفده أن يكون منه ما كان ! * * * يقال : احتسب ولده ، إذا مات كبيرا ، وافترط ولده ، إذا مات صغيرا .
قوله : (فمنهم الاتى ...
) ، قسم جنده أقساما ، فمنهم من أجابه وخرج كارها للخروج ، كما قال تعالى : (كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون) (1) ، ومنهم من قعد واعتل بعلة كاذبة ، كما قال تعالى : (يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا) (2) ، ومنهم من تأخر وصرح بالقعود والخذلان ، كما قال تعالى : (فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) (3) .
والمعنى أن حاله كانت مناسبة لحال النبي صلى الله عليه وآله ، ومن تذكر أحوالهما وسيرتهما ، وما جرى لهما إلى أن قبضا ، علم تحقيق ذلك .
ثم أقسم أنه لو لا طمعه في الشهادة لما أقام مع أهل العراق ولا صحبهم .
فإن قلت : فهلا خرج إلى معاويه وحده من غير جيش إن كان يريد الشهادة ؟ قلت : ذلك لا يجوز ، لانه إلقاء النفس إلى التهلكة ، وللشهادة شروط متى فقدت ، فلا يجوز أن تحمل إحدى الحالتين على الاخرى .
__________
(1) سورة الانفال 6 .
(2) سورة الاحزاب 13 .
(3) سورة التوبة 81 .
(*)(16/147)
(36) الاصل : ومن كتاب له عليه السلام إلى أخيه عقيل بن أبى طالب في ذكر جيش أنفذه إلى بعض الاعداء ، وهو جواب كتاب كتبه إليه عقيل : فسرحت إليه جيشا كثيفا من المسلمين ، فلما بلغه ذلك شمر هاربا ، ونكص نادما ، فلحقوه ببعض الطريق وقد طفلت الشمس للاياب ، فاقتتلوا شيئا كلا ولا ، فما كان إلا كموقف ساعه حتى نجا جريضا ، بعد ما أخذ منه بالمخنق ، ولم يبق معه غير الرمق ، فلايا بلاى ما نجا .
فدع عنك قريشا وتر كاضهم في الضلال ، وتجوالهم في الشقاق ، وجماحهم في التيه ، فإنهم قد أجمعوا على حربى كإجماعهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وآله قبلى ، فجزت قريشا عنى الجوازى ، فقد قطعوا رحمى ، سلبوني سلطان ابن أمي .
وأما ما سألت عنه من رأيى في القتال ، فإن رأيى قتال المحلين حتى ألقى الله ، لا يزيدنى كثرة الناس حولي عزه ، ولا تفرقهم عنى وحشة ، ولا تحسبن أبن أبيك - ولو أسلمة الناس - متضرعا متخشعا ، ولا مقرا للضيم واهنا ، ولا سلس الزمام للقائد ، ولاوطئ الظهر للراكب المقتعد ، ولكنه كما قال أخو بنى سليم ، فإن تسأليني كيف أنت فإننى صبور على ريب الزمان صليب يعز على أن ترى بى كابة فيشمت عاد أو يساء حبيب * * *(16/148)
الشرح : قد تقدم ذكر هذا الكتاب في اقتصاصنا ذكر حال بسر بن أرطاه وغارتة على اليمن في أول الكتاب .
ويقال : طفلت الشمس - بالتشديد - إذا مالت للغروب ، وطفل الليل ، مشددا أيضا ، إذا أقبل ظلامه ، والطفل ، بالتحريك : بعد العصر حين تطفل الشمس للغروب ، ويقال : أتيته طفلي ، أي في ذلك الوقت .
وقوله عليه السلام : (للاياب) أي للرجوع ، أي ما كانت عليه في الليله التى قبلها ، يعنى غيبوبتها تحت الارض .
وهذا الخطاب إنما هو على قدر أفهام العرب ، كانوا يعتقدون أن الشمس منزلها ومقرها تحت الارض ، وأنها تخرج كل يوم فتسير على العالم ، ثم تعود إلى منزلها ، فتأوى إليه كما يأوى الناس ليلا إلى منازلهم .
وقال الراوندي : (عند الاياب) عند الزوال : وهذا غير صحيح ، لان ذلك الوقت لا يسمى طفلا ، ليقال : إن الشمس قد طفلت فيه .
قوله عليه السلام : (فاقتتلوا شيئا كلا ولا) أي شيئا قليلا ، وموضع (كلا ولا) نصب لانه صفه (شيئا) وهى كلمة تقال لما يستقصر وقته جدا ، والمعروف عند أهل اللغه : (كلا وذا) ، قال ابن هانئ المغربي : وأسرع في العين من لحظة وأقصر في السمع من لا ، وذا .
وفي شعر الكميت (كلا وكذا تغميضه) (1) .
وقد رويت في ، ، نهج البلاغه ، ، كذلك ، إلا أن في أكثر النسخ : (كلا ولا) ، ومن الناس من يرويها : (كلا ولات) ، وهى حرف أجرى مجرى (ليس) ، وتجئ
__________
(1) البيت بتمامة : كلا وكذا ثم هجتم لدى حين أن كانوا إلى النوم أفقرا (*)(16/149)
(حين) إلا أن تحذف في شعر ، ومن الرواة من يرويها (كلا ولاى) ، ولاى فعل ، معناه أبطا .
قوله عليه السلام : (نجا جريضا) ، أي قد غص بالريق من شدة الجهد والكرب ، يقال : جرض بريقه يجرض بالكسر ، مثال كسر يكسر ، ورجل جريض مثل قدر يقدر فهو قدير ، ويجوز أن يريد بقوله : (فنجا جريضا) أي ذا جريض ، والجريض : الغصة نفسها ، وفى المثل : (حال الجريض دون القريض) قال الشاعر : كأن الفتى لم يغن في الناس ليلة إذا اختلف اللحيان عند الجريض .
(1) قال الاصمعي : ويقال : هو يجرض بنفسه ، أي يكاد يموت ، ومنه قول امرئ القيس : وأفلتهن علباء جريضا ولو أدركنه صفر الوطاب (2) .
وأجرضه الله بريقه : أغصه .
قوله عليه السلام : (بعد ما أخذ منه بالمخنق) ، هو موضع الخنق من الحيوان ، وكذلك الخناق ، بالضم ، يقال أخذ بخناقه ، فأما الخناق بالكسر ، فالحبل تخنق به الشاه .
والرمق : بقيه الروح .
قوله عليه السلام : (فلايا بلاى ما نجا) ، أي بعد بطء وشده ، وما زائده أو مصدرية ، وانتصب (لايا) على المصدر القائم مقام الحال ، أي نجا مبطئا ، والعامل في المصدر محذوف أي أبطا بطئا ، والفائدة في تكرير اللفظة المبالغة في وصف البطء الذى نجا موصوفه به ، أي لايا مقرونا بلاى
__________
(1) لامرئ القيس ، دديوانه 77 .
(2) ديوانه 138 .
(*)(16/150)
وقال الراوندي : هذه القصة وهذا الهارب جريضا وبعد لاى ما نجا ، هو معاويه ، قال : وقد قيل : إن معاوية بعث أمويا فهرب على هذه الحال والاول اصح ، وهذا عجيب مضحك وددت له ألا يكون شرح هذا الكتاب ! قوله : (فدع عنك قريشا) إلى قوله : (على حرب رسول الله صلى الله عليه وآله) ، هذا الكلام حق ، فإن قريشا اجتمعت على حربه منذ يوم بويع بغضا له وحسدا وحقدا عليه ، فاصفقوا كلهم يدا واحدة على شقاقه وحربه ، كما كانت حالهم في ابتداء الاسلام مع رسول الله صلى الله عليه وآله ، لم تخرم حاله من حاله أبدا إلا ان ذاك عصمه الله من القتل ، فمات موتا طبيعيا ، هذا اغتاله إنسان فقتله .
قوله : (فجزت قريشا عنى الجوازى ، فقد قطعوا رحمى ، وسلبوني سلطان ابن أمي) ، هذه كلمة تجرى مجرى المثل ، تقول لمن يسئ إليك وتدعو عليه : جزتك عنى الجوازى ! يقال جزاه الله بما صنع ، وجازاه الله بما صنع ! ومصدر الاول جزاء ، والثانى مجازاة ، وأصل الكلمة أن الجوازى جمع جازيه كالجواري جمع جارية ، فكأنه يقول : جزت قريشا عنى بما صنعت لى كل خصلة من نكبة أو شدة أو مصيبة أو جائحة ، أي جعل الله هذه الدواهي كلها جزاء قريش بما صنعت بى ، وسلطان ابن أمي ، يعنى به الخلافة ، وابن أمه هو رسول الله صلى الله عليه وآله ، لانهما ابنا فاطمه بنت عمرو بن عمران بن عائذ بن مخزوم ، أم عبد الله وأبى طالب ، ولم يقل سلطان ابن أبى ، لان غير أبى طالب من الاعمام يشركه في النسب إلى عبد المطلب .
قال الراوندي : الجوازى : جمع جازية ، وهى النفس التى تجزى ، أي جزاهم وفعل بهم ما يستحقون عساكر لاجلي وفي نيابتى ، وكافاهم سريه تنهض إليهم ، وهذا إشاره إلى بنى أميه يهلكون من بعده .
وهذا تفسير غريب طريف .(16/151)
وقال أيضا قوله : (سلطان أبن أمي) يعنى نفسه ، أي سلطانه ، لانه ابن أم نفسه ، قال : وهذا من أحسن الكلام .
ولا شبهة أنه على تفسير الراوندي لو قال : وسلبوني سلطان ابن أخت خالتي ، أو ابن أخت عمتى ، لكان أحسن ، وأحسن وهذا الرجل قد كان يجب أن يحجر عليه ، ولا يمكن من تفسير هذا الكتاب ، ويؤخذ عليه أيمان البيعه ألا يتعرض له قوله : (فإن رأيى قتال المحلين) ، أي الخارجين من الميثاق والبيعه ، يعنى البغاة ومخالفي الامام ، ويقال : لكل من خرج من إسلام أو حارب في الحرم أو في الاشهر الحرم : محل ، وعلى هذا فسر قول زهير : * وكم بالقنان من محل ومحرم * (1) أي من لا ذمة له ومن له ذمة وكذلك قول خالد بن يزيد بن معاويه في زوجته رملة بنت الزبير بن العوام : ألا من لقلب معنى غزل يحب المحلة أخت المحل .
أي ناقضة العهد أخت المحارب في الحرم ، أو أخت ناقض بيعة بنى أمية .
وروى (متخضعا متضرعا) بالضاد .
ومقرا للضيم وبالضيم ، أي هو راض به ، صابر عليه .
وواهنا ، أي ضعيفا .
السلس : السهل : ومقتعد البعير راكبه .
والشعر ينسب ألى العباس بن مرداس السلمى ، ولم أجده في ديوانه ، ومعناه ظاهر ، وفى الامثال الحكميه : لا تشكون حالك الى مخلوق مثلك ، فإنه أن كان صديقا أحزنته ، وإن كان عدوا أشمته ، ولا خير في واحد من الامرين .
__________
(1) ديوانه 11 وصدره : * جعلنا القنان عن يمين وحزنه * (*)(16/152)
(37) الاصل : ومن كتاب له عليه السلام الى معاويه : فسبحان الله ! ما أشد لزومك للاهواء المبتدعة ، والحيرة المتبعة ، مع تضييع الحقائق ، واطراح الوثائق ، التى هي لله تعالى طلبة ، وعلى عباده حجة فأما إكثارك الحجاج على عثمان وقتلته ، فإنك إنما نصرت عثمان حيث كان النصر لك ، وخذلته حيث كان النصر له .
والسلام * * * الشرح : أول هذا الكتاب قوله : أما بعد فإن الدنيا حلوة خضرة ذات زينة وبهجة ، لم يصب إليها أحد إلا وشغلته بزينتها عما هو أنفع له منها .
وبالاخرة أمرنا ، وعليها حثثنا ، فدع يا معاويه ما يفنى ، واعمل لما يبقى ، واحذر الموت الذى إليه مصيرك ، والحساب الذى إليه عاقبتك .
واعلم أن الله تعالى إذا أراد بعبد خيرا حال بينه وبين ما يكره ، ووفقه لطاعته ، وإذا أراد الله بعبد سوءا أغراه بالدنيا .
وأنساه الاخرة ، وبسط له أمله ، وعاقه عما فيه صلاحه ، وقد وصلنى كتابك فوجدتك ترمى غير غرضك ، وتنشد غير ضالتك ، وتخبط في عماية .(16/153)
وتتيه في ضلالة وتعتصم بغير حجه ، وتلوذ بأضعف شبهة فأما سؤالك المتاركة والاقرار لك على الشام ، فلو كنت فاعلا ذلك اليوم لفعلته أمس وأما قولك : إن عمر ولاكه فقد عزل من كان ولاه صاحبه ، وعزل عثمان من كان عمر ولاه ولم ينصب للناس إمام إلا ليرى من صلاح الامه إماما قد كان ظهر لمن قبله ، أو أخفى عنهم عيبه ، والامر يحدث بعده الامر ، ولكل وال رأى واجتهاد .
فسبحان الله ! ما أشد لزومك للاهواء المبتدعة والحيرة المتبعة ...
إلى آخر الفصل .
وأما قوله عليه السلام : (إنما نصرت عثمان حيث كان النصر لك ...
) إلى آخره ، فقد روى البلاذرى قال : لما أرسل عثمان الى معاوية يستمده ، بعث يزيد بن أسد القسرى جد خالد بن عبد الله بن يزيد أمير العراق وقال له : إذا أتيت ذا خشب فاقم بها ، ولا تتجاوزها .
ولا تقل : الشاهد يرى ما لا يرى الغائب ، فإننى أنا الشاهد ، وأنت الغائب .
قال : فأقام بذى خشب حتى قتل عثمان .
فاستقدمه حينئذ معاويه ، فعاد إلى الشام بالجيش الذى كان أرسل معه ، وإنما صنع ذلك معاويه ليقتل عثمان فيدعو الى نفسه .
* * * وكتب معاويه إلى ابن عباس عند صلح الحسن عليه السلام له كتابا يدعوه فيه إلى بيعته ، ويقول له فيه : ولعمري لو قتلتك بعثمان رجوت أن يكون ذلك لله رضا ، وأن يكون رأيا صوابا ، فإنك من الساعين عليه ، والخاذلين له والسافكين دمه ، وما جرى بينى وبينك صلح فيمنعك منى ، ولا بيدك أمان .
فكتب إليه أبن عباس جوابا طويلا يقول فيه : وأما قولك إنى من الساعين على عثمان ، والخاذلين له ، والسافكين دمه ، وما جرى بينى وبينك صلح فيمنعك منى(16/154)
فأقسم بالله لانت المتربص بقتله ، والمحب لهلاكه ، والحابس الناس قبلك عنه على بصيرة من أمره ، ولقد أتاك كتابه وصريخه يستغيث بك ويستصرخ ، فما حفلت به ، حتى بعثت إليه معذرا بأجرة ، أنت تعلم أنهم لن يتركوه حتى يقتل ، فقتل كما كنت أردت ، ثم علمت عند ذلك أن الناس لن يعدلوا بيننا وبينك ، فطفقت تنعى عثمان وتلزمنا دمه ، وتقول : قتل مظلوما ، فإن يك قتل مظلوما فأنت أظلم الظالمين ، ثم لم تزل مصوبا ومصعدا وجاثما ورابضا ، تستغوى الجهال ، وتنازعنا حقنا بالسفهاء ، حتى أدركت ما طلبت (وإن أدرى لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين) (1) .
__________
(1) .
سورة الانبياء 111 .(16/155)
(38) الاصل : ومن كتاب له عليه السلام إلى أهل مصر لما ولى عليهم الاشتر : من عبد الله على أمير المؤمنين ، إلى القوم الذين غضبوا لله حين عصى في أرضه ، وذهب بحقه ، فضرب الجور سرادقه على البر والفاجر ، والمقيم والظاعن ، فلا معروف يستراح إليه ، ولا منكر يتناهى عنه .
أما بعد ، فقد بعثت إليكم عبدا من عباد الله ، لا ينام أيام الخوف ، ولا ينكل عن الاعداء ساعات الروع ، أشد على الفجار من حريق النار ، وهو مالك بن الحارث أخو مذحج ، فاسمعوا له ، وأطيعوا أمره فيما طابق الحق فإنه سيف من سيوف الله لاكليل الظبة ، ولا نابى الضريبة فإن أمركم أن تنفروا فانفروا ، وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا ، فأنه لا يقدم ولا يحجم ، ولا يؤخر ولا يقدم الا عن أمرى ، وقد آثرتكم به على نفسي لنصيحته لكم ، وشدة شكيمته على عدوكم .
* * * الشرح : هذا الفصل يشكل على تأويله ، لان أهل مصر هم الذين قتلوا عثمان ، وإذا شهد أمير المؤمنين عليه السلام أنهم غضبوا لله حين عصى في الارض ، فهذه شهادة قاطعة على عثمان بالعصيان ، وإتيان المنكر ، ويمكن أن يقال وأن كان متعسفا : إن الله تعالى(16/156)
عصى في الارض لا من عثمان ، بل من ولاته وأمرائه وأهله ، وذهب بينهم بحق الله وضرب الجور سرادقه بولايتهم ، وأمرهم على البر والفاجر ، والمقيم والظاعن ، فشاع المنكر ، وفقد المعروف .
يبقى (1) أن يقال : هب أن الامر كما تأولت فهؤلاء الذين غضبوا لله إلى ماذا آل أمرهم ؟ أليس الامر آل (2) إلى أنهم قطعوا المسافة من مصر إلى المدينة فقتلوا عثمان ! فلا تعدو حالهم أمرين ، إلا أن يكونوا أطاعوا الله بقتله فيكون عثمان عاصيا مستحقا للقتل أو يكونوا أسخطوا الله تعالى بقتله فعثمان إذا على حق ، وهم الفساق العصاة فكيف يجوز أن يبجلهم أو يخاطبهم خطاب الصالحين ! يمكن أن يجاب عن ذلك بأنهم غضبوا لله ، وجاءوا من مصر وأنكروا على عثمان تأميره الامراء الفساق ، وحصروه في داره طلبا أن يدفع إليهم مروان ليحبسوه ، أو يؤدبوه على ما كتبه في أمرهم فلما حصر طمع فيه مبغضوه وأعداؤه من أهل المدينة وغيرها ، وصار معظم الناس إلبا عليه ، وقل عدد المصريين بالنسبة إلى ما اجتمع من الناس على حصره ومطالبته بخلع نفسه ، وتسليم مروان وغيره من بنى أمية إليهم ، وعزل عماله ، والاستبدال بهم ، ولم يكونوا حينئذ يطلبون نفسه ، ولكن قوما منهم ومن غيرهم تسوروا داره ، فرماهم بعض عبيده بالسهام فجرح بعضهم ، فقادت الضرورة إلى النزول والاحاطه به ، وتسرع إليه واحد منهم فقتله .
ثم إن ذلك القاتل فقتل .
في الوقت ، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم ، وشرحناه ، فلا يلزم من فسق ذلك القاتل وعصيانه أن يفسق الباقون ، لانهم ما أنكروا إلا المنكر ، وأما القتل فلم يقع منهم ، لا راموه ولا ارأدوه ، فجاز أن يقال : إنهم غضبوا لله ، وأن يثنى عليهم ويمدحهم ثم وصف الاشتر بما وصفه به ، ومثل قوله : (لا ينام أيام الخوف) قولهم : (لا ينام ليلة يخاف ، ولا يشبع ليلة يضاف) وقال :
__________
(1) كذا في ا ، وفى ب : (ينبغى) .
(2) ساقطة من ب .(16/157)
فأتت به حوش الفؤاد مبطنا سهدا إذا ما نام ليل الهوجل .
(1) ثم أمرهم أن يطيعوه فيما يأمرهم به مما يطابق الحق ، وهذا من شدة دينه وصلابته عليه السلام ، لم يسامح نفسه في حق أحب الخلق إليه أن يهمل هذا القيد ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وقال أبو حنيفة ، قال لى الربيع في دهليز المنصور : إن أمير المؤمنين يأمرنى بالشئ بعد الشئ من أمور ملكه ، فأنفذه وأنا خائف على دينى ، فما تقول في ذلك ؟ قال - ولم يقل لى ذلك إلا في ملا الناس ، فقلت له : أفيأمر أمير المؤمنين بغير الحق ؟ قال : لا قلت فلا بأس عليك أن تفعل بالحق ، قال أبو حنيفه : فأراد أن يصطادني فاصطدته .
والذى صدع بالحق في هذا المقام الحسن البصري ، قال له عمر بن هبيرة أمير العراق في خلافة يزيد بن عبد الملك في ملا من الناس ، منهم الشعبى وابن سيرين : يا أبا سعيد أن أمير المؤمنين يأمرنى بالشئ أعلم أن في تنفيذه الهلكة في الدين ، فما تقول في ذلك ؟ قال الحسن : ماذا أقول أن الله مانعك من يزيد ، ولن يمنعك يزيد من الله ، يا عمر خف الله ، واذكر يوما يأتيك تتمخض ليلته عن القيامة ، إنه سينزل عليك ملك من السماء فيحطك عن سريرك الى قصرك ، ويضطرك من قصرك إلى لزوم فراشك ، ثم ينقلك عن فراشك إلى قبرك ، ثم لا يغنى عنك إلا عملك ، فقام عمر بن هبيرة باكيا يصطك لسانه .
قوله : (فإنه سيف من سيوف الله) ، هذا لقب خالد بن الوليد ، وأختلف فيمن
__________
(1) لابي كبير الهذلى ، ديوان الحماسة - ، بشرح التبريزي - 86 .
الهوجل : الثقيل الكسلان .(16/158)
(*) لقبه به ، فقيل : لقبه به رسول الله صلى الله عليه وآله ، والصحيح أنه لقبه به أبو بكر ، لقتاله أهل الردة وقتله مسيلمه .
والظبة ، بالتخفيف : حد السيف .
والنابى من السيوف : الذى لا يقطع ، واصله نبا أي ارتفع ، فلما لم يقطع كان مرتفعا ، فسمى نابيا ، وفى الكلام حذف تقديره ولاناب ضارب الضريبة ، وضارب الضريب هو حد السيف ، فأما الضريبة نفسها فهو الشئ المضروب بالسيف ، وإنما دخلته الهاء وإن كان بمعنى (مفعول) لانه صار في عداد الاسماء ، كالنطيحة والاكيلة .
ثم أمرهم بأن يطيعوه في جميع ما يأمرهم به من الاقدام والاحجام وقال : إنه لا يقدم ولا يؤخر إلا عن أمرى ، وهذا إن كان قاله مع أنه قد سنح له أن يعمل برأيه في أمور الحرب من غير مراجعته فهو عظيم جدا ، لانه يكون قد أقامه مقام .
نفسه .
وجاز أن يقول : إنه لا يفعل شيئا إلا عن أمرى .
وأن كان لا يراجعه في الجزئيات على عاده العرب في مثل ذلك ، لانهم يقولون فيمن يثقون به نحو ذلك ، وقد ذهب كثير من الاصوليين إلى أن الله تعالى قال لمحمد صلى الله عليه وآله : احكم بما شئت في الشريعة ، فإنك لا تحكم إلا بالحق ، وأنه كان يحكم من غير مراجعته لجبرائيل ، وإن الله تعالى قد قال في حقه : (وما ينطق عن الهوى * إن هو الاوحى يوحى) (1) ، وإن كان عليه السلام قال هذا القول عن الاشتر ، لانه قد قرر معه بينه وبينه ألا يعمل شيئا قليلا ولا كثيرا إلا بعد مراجعته فيجوز ، ولكن هذا بعيد ، لان المسافة طويلة بين العراق ومصر ، وكانت الامور هناك تقف وتفسد .
ثم ذكر أنه آثرهم به على نفسه ، وهكذا قال عمر لما أنفذ عبد الله بن مسعود إلى الكوفه في كتابه إليهم : قد آثرتكم به على نفسي ، وذلك أن عمر كان يستفتيه في الاحكام ، وعلى عليه السلام كان يصول على الاعداء بالاشتر ، ويقوى أنفس جيوشه بمقامه بينهم ، فلما بعثه إلى مصر كان مؤثرا لاهل مصر به على نفسه .
__________
(1) سورة النجم 3 ، 4 (*)(16/159)
(39) الاصل : من كتاب له عليه السلام الى عمرو بن العاص : فإنك قد جعلت دينك تبعا لدنيا امرئ ظاهر غيه ، مهتوك ستره ، يشين الكريم بمجلسه ، ويسفه الحليم بخلطته ، فاتبعت أثره ، وطلبت اتباع الكلب للضرغام يلوذ بمخالبه ، وينتظر ما يلقى إليه من فضل فريسته .
فأذهبت دنياك وآخرتك ، ولو بالحق أخذت أدركت ما طلبت فإن يمكن الله منك ومن ابن أبى سفيان أجزكما بما قدمتما ، وإن تعجزا وتبقيا فما أمامكما شر لكما .
والسلام * * * الشرح : كل ما قاله فيهما هو الحق الصريح بعينه ، لم يحمله بغضه لهما ، وغيظه منهما ، إلى أن بالغ في ذمهما به ، كما يبالغ الفصحاء عند سوره الغضب ، وتدفق الالفاظ على الالسنه ولا ريب عند أحد من العقلاء ذوى الانصاف أن عمرا جعل دينه تبعا لدنيا معاوية ، وأنه ما بايعه وتابعه إلا على جعالة جعلها له ، وضمان تكفل له بايصاله ، وهى ولاية مصر مؤجلة ، وقطعة وافرة من المال معجلة ولولديه وغلمانه ما ملا أعينهم .
فأما قوله عليه السلام في معاويه (ظاهر غيه) ، فلا ريب في ظهور ضلاله وبغيه ، وكل باغ غاو .(16/160)
أما مهتوك ستره ، فإنه كان كثير الهزل والخلاعه ، صاحب جلساء وسمار ومعاوية لم يتوقر ، ولم يلزم قانون الرياسة إلا منذ خرج على امير المؤمنين ، واحتاج الى الناموس والسكينة وإلا فقد كان في أيام عثمان شديد التهتك ، موسوما بكل قبيح ، وكان في أيام عمر يستر نفسه قليلا خوفا منه ، إلا أنه كان يلبس الحرير والديباج ، ويشرب في آنيه الذهب والفضة ، ويركب البغلات ذوات السروج المحلاة بها ، وعليها جلال الديباج والوشى ، وكان حينئذ شابا ، وعنده نزق الصبا ، وأثر الشبيبة وسكر السلطان والامرة ، ونقل الناس عنه في كتب السيرة أنه كان يشرب الخمر في أيام عثمان في الشام ، وأما بعد وفاة أمير المؤمنين واستقرار الامر له فقد اختلف فيه ، فقيل : أنه شرب الخمر في ستر ، وقيل : إنه لم يشربه ولا خلاف في أنه سمع الغناء وطرب عليه ، وأعطى ووصل عليه أيضا .
وروى أبو الفرج الاصفهانى قال : قال عمرو بن العاص لمعاوية في قدمة قدمها إلى المدينة أيام خلافته : قم بنا إلى هذا الذى قد هدم شرفه ، وهتك ستره ، عبد الله بن جعفر ، نقف على بابه ، فنسمع غناء جواريه ، فقاما ليلا ومعهما وردان غلام عمرو ، ووقفا بباب عبد الله بن جعفر ، فاستمعا الغناء وأحس عبد الله بوقوفهما ، ففتح الباب ، وعزم على معاوية أن يدخل ، فدخل ، فجلس على سرير عبد الله ، فدعا عبد الله له وقدم إليه يسيرا من طعام ، فأكل ، فلما أنس قال : يا أمير المؤمنين ، ألا تأذن لجواريك أن يتممن أصواتهن ، فأنك قطعتها عليهن ؟ قال : فليقلن ، فرفعن أصواتهن ، وجعل معاوية يتحرك قليلا قليلا حتى ضرب برجله السرير ضربا شديدا ، فقال عمرو : قم أيها الرجل فإن الرجل الذى جئت لتلحاه أو لتعجب من أمرء أحسن حالا منك .
فقال : مهلا .
فإن الكريم طروب .
* * * (11 نهج - 16)(16/161)
أما قوله : (يشين الكريم بمجلسه ، ويسفه الحليم بخلطته) : فالامر كذلك ، فإنه لم يكن في مجلسه إلا شتم بنى هاشم وقذفهم ، والتعرض بذكر الاسلام ، والطعن عليه ، وإن أظهر الانتماء إليه .
وأما طلب عمرو فضله واتباعه أثره اتباع الكلب للاسد فظاهر ، ولم يقل : الثعلب ، غضا من قدر عمرو ، وتشبيها له بما هو أبلغ في الاهانة والاستخفاف .
ثم قال : (ولو بالحق أخذت أدركت ما طلبت) ، أي لو قعدت عن نصره ولم تشخص إليه ممالئا به على الحق لوصل إليك من بيت المال قدر كفايتك .
ولقائل أن يقول : إن عمرا ما كان يطلب قدر الكفايه وعلى عليه السلام ما كان يعطيه إلا حقه فقط ، ولا يعطيه بلدا ولا طرفا من الاطراف ، والذى كان يطلب ملك مصر ، لانه فتحها أيام عمر ووليها برهة ، وكانت حسرة في قلبه ، وحزازة في صدره ، فباع آخرته بها ، فالاولى أن يقال : معناه لو أخذت بالحق أدركت ما طلبت من الاخرة .
فإن قلت : إن عمرا لم يكن على عليه السلام يعتقد أنه من أهل الاخرة فكيف يقول له هذا الكلام ؟ قلت : لا خلل ولا زلل في كلامه عليه السلام ، لانه لو أخذ بالحق لكان معتقدا كون على عليه السلام على الحق باعتقاده صحه نبوة رسول الله صلى الله عليه وآله ، وصحة التوحيد ، فيصير تقدير الكلام : لو بايعتني معتقدا للزوم بيعتى لك لكنت في ضمن ذلك طالبا الثواب ، فكنت تدركه في الاخرة .
ثم قال مهددا لهما ، ومتوعدا اياهما : (إان يمكن الله منك ومن ابن أبى سفيان) ، وأقول لو ظفر بهما لما كان في غالب ظنى يقتلهما ، إانه كان حليما كريما ، ولكن كان يحبسهما ليحسم بحبسهما مادة فسادهما .(16/162)
ثم قال : (وإن تعجزا وتبقيا) ، أي وإن لم أستطع أخذكما أو أمت قبل ذلك وبقيتما بعدى فما أمامكما شر لكما من عقوبة الدنيا ، لان عذاب الدنيا منقطع ، وعذاب الاخرة غير منقطع .
* * * وذكر نصر بن مزاحم في كتاب ، ، صفين ، ، هذا الكتاب بزيادة لم يذكرها الرضى .
قال نصر : وكتب على عليه السلام ألى عمرو بن العاص : من عبد الله على أمير المؤمنين إلى الابتر ابن الابتر عمرو بن العاص بن وائل ، شانئ محمد وآل محمد في الجاهلية والاسلام ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد فإنك تركت مروءتك لامرئ فاسق مهتوك ستره ، يشين الكريم بمجلسه ، ويسفه الحليم بخلطته ، فصار قلبك لقلبه تبعا ، كما قيل : (وافق شن طبقه) فسلبك دينك وأمانتك ودنياك وآخرتك ، وكان علم الله بالغا فيك ، فصرت كالذئب يتبع الضرغام إذا ما الليل دجى ، أو أتى الصبح يلتمس فاضل سؤره ، وحوايا فريسته ، ولكن لا نجاه من لقدر ، ولو بالحق أخذت لادركت ما رجوت ، وقد رشد من كان الحق قائده ، فإن يمكن الله منك ومن ابن آكله الاكباد ، ألحقتكما بمن قتله الله من ظلمة قريش على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن تعجزا وتبقيا بعد ، فالله حسبكما ، وكفى بانتقامه انتقاما ، وبعقابه عقابا ! والسلام .(16/163)
(4 0) الاصل : ومن كتاب عليه السلام له الى بعض عماله : أما بعد ، فقد بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد اسخطت ربك وعصيت إمامك ، وأخزيت أمانتك .
بلغني أنك جردت الارض فأخذت ما تحت قدميك ، وأكلت ما تحت يديك ، فارفع إلى حسابك ، واعلم أن حساب الله أعظم من حساب الناس ، والسلام .
* * * الشرح : أخزيت أمانتك : أذللتها وأهنتها ، وجردت الارض : قشرتها ، والمعنى أنه نسبه إلى الخيانه في المال ، وإلى إخراب الضياع ، وفى حكمة أبرويز أنه قال لخازن بيت : المال إنى لاأحتملك على خيانه درهم ، ولا أحمدك على حفظ عشره آلاف ألف درهم ، لانك إنما تحقن بذلك دمك ، وتعمر به أمانتك ، وإنك إن خنت قليلا خنت كثيرا فاحترس من خصلتين : من النقصان فيما تأخذ ، ومن الزيادة فيما تعطى ، واعلم أنى لم اجعلك على ذخائر الملك ، وعمارة المملكة والعدة على العدو ، إلا وأنت أمين عندي من الموضع الذى هي فيه ، ومن خواتمها التى هي عليها ، فحقق ظنى في اختياري إياك أحقن ظنك في رجائك لى ، ولا تتعوض بخير شرا ، ولا برفعه ضعة ، ولا بسلامة ندامه ، ولا بأمانة خيانة .(16/164)
وفى الحديث المرفوع : (من ولى لنا عملا فليتزوج ، وليتخذ مسكنا ومركبا وخادما ، فمن اتخذ سوى ذلك جاء يوم القيامة عادلا غالا سارقا) وقال عمر في وصيته لابن مسعود : إياك والهدية ، وليست بحرام ، ولكني أخاف عليك الداله .
وأهدى رجل لعمر فخذ جزور فقبله ، ثم ارتفع إليه بعد أيام مع خصم له ، فجعل في أثناء الكلام يقول : يا أمير المؤمنين ، أفصل القضاء بينى وبينه كما يفصل فخذ الجزور .
فقضى عمر عليه ، ثم قام فخطب الناس ، وحرم الهدايا على الولاه والقضاة .
وأهدى إنسان إلى المغيره سراجا من شبه ، وأهدى آخر إليه بغلا ، ثم اتفقت لهما خصومة في أمر فترافعا إليه ، فجعل صاحب السراج يقول : إن أمرى أضوا من السراج ، فلما أكثر قال المغيرة ويحك ، إن البغل يرمح السراج فيكسره .
ومر عمر ببناء يبنى باجر وجص لبعض عماله فقال : أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها .
وروى هذا الكلام عن على عليه السلام ، وكان عمر يقول : على كل عامل أمينان : الماء والطين .
ولما قدم أبو هريرة من البحرين قال له عمر : يا عدو الله وعدو كتابه ، أسرقت مال الله تعالى ؟ قال أبو هريرة : لست بعدو الله ولا عدو كتابه ، ولكني عدو من عاداهما ، ولم أسرق مال الله .
فضربه بجريدة على رأسه ، ثم ثناه بالدرة ، وأغرمه عشرة آلاف درهم ، ثم إحضره ، فقال : يا أبا هريرة ، من أين لك عشره آلاف درهم ؟ قال : خيلى تناسلت ، وعطائي تلاحق وسهامي تتابعت ، قال عمر : كلا والله .
ثم تركه أياما ، ثم قال له : ألا تعمل ؟ قال : لا ، قال : قد عمل من هو خير منك يا أبا هريرة ، قال : من هو ؟ قال : يوسف الصديق ، فقال أبو هريرة أن يوسف عمل لمن لم يضرب رأسه(16/165)
وظهره ، ولا شتم عرضه ، ولا نزع ماله ، لا والله لاأعمل لك ابدا .
وكان زياد إذا ولى رجلا قال له : خذ عهدك ، وسر إلى عملك واعلم أنك محاسب رأس سنتك ، وأنك ستصير الى أربع خصال ، فاختر لنفسك : إنا إن وجدناك أمينا ضعيفا استبدلنا بك لضعفك ، وسلمتك من معرتنا أمانتك ، وإن وجدناك خائنا قويا استعنا بقوتك ، وأحسنا أدبك على خيانتك ، وأوجعنا ظهرك وأثقلنا غرمك : وإن جمعت علينا الجرمين ، جمعنا عليك المضرتين ، وإن وجدناك أمينا قويا زدنا رزقك ، ورفعنا ذكرك ، وكثرنا مالك ، وأوطانا الرجال عقبك .
ووصف أعرابي عاملا خائنا فقال : الناس يأكلون أماناتهم لقما ، وهو يحسوها حسوا .
قال أنس بن أبى إياس الدؤلى (1) لحارثة بن بدر الغدانى - وقد ولى سرق - ويقال إنها لابي الاسود (2) أحار بن بدر قد وليت ولايه فكن جرذا فيها تخون وتسرق ولا تحقرن يا حار شيئا أصبته فحظك من ملك العراقين سرق (3) وباه تميما بالغنى إن للغنى لسانا به المرء الهيوبة ينطق (4) فإن جميع الناس إما مكذب يقول بما تهوى وإما مصدق يقولون أقوالا ولا يتبعونها وإن قيل : هاتوا حققوا لم يحققوا .
فيقال : إنها بلغت حارثة بن بدر فقال : أصاب الله به الرشاد ، فلم يعد بإشارته ما في نفسي !
__________
(1) مى الكامل : (أنس بن أبى أنيس) .
(2) ممن نسبها إلى الاسود ياقوت في معجم البلدان 5 : 73 .
(3) سرق : إحدى كور الاهواز (4) الهبوبه : الجبان (*)(16/166)
(4 1) الاصل : ومن كتاب له عليه السلام إلى بعض عماله : أما بعد ، فإنى كنت أشركتك في أمانتى ، وجعلتك شعارى وبطانتي ، ولم يكن في أهلى رجل اوثق منك في نفسي لمواساتي وموازرتي ، وأداء الامانه إلى ، فلما رأيت الزمان على أبن عمك قد كلب ، والعدو قد حرب ، وأمانة الناس قد خزيت ، وهذه الامة قد فتكت وشغرت ، قلبت لابن عمك ظهر المجن ، ففارقته مع المفارقين ، وخذلته مع الخاذلين ، وخنته مع الخائنين ، فلا ابن عمك آسيت ، ولا الامانه أديت .
وكأنك لم تكن الله تريد بجهادك ، وكأنك لم تكن على بينة من ربك وكأنك أنما كنت تكيد هذه الامة عن دنياهم ، وتنوى غرتهم عن فيئهم ، فلما أمكنتك الشدة في خيانه الامة أسرعت الكرة ، وعاجلت الوثبة واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم المصونة لاراملهم وأيتامهم ، اختطاف الذئب الازل دامية المعزى الكسيره فحملته الى الحجاز رحيب الصدر بحمله ، غير متأثم من أخذه ، كأنك - لا أبا لغيرك - حدرت إلى أهلك تراثك من أبيك وأمك .
فسبحان الله ! أما تؤمن بالمعاد ! أو وما تخاف نقاش الحساب ! أيها المعدود كان عندنا من أولى الالباب ، كيف تسيغ شرابا وطعاما ، وأنت تعلم أنك تأكل حراما ، وتشرب حراما ، وتبتاع الاماء ، وتنكح النساء من أموال اليتامى والمساكين(16/167)
والمؤمنين والمجاهدين ، الذين أفاء الله عليهم هذه الاموال ، وأحرز بهم هذه البلاد ! فاتق الله واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم ، فإنك إن لم تفعل ثم أمكننى الله منك ، لاعذرن إلى الله فيك ، ولاضربنك بسيفي الذى ما ضربت به أحدا إلا دخل النار .
ووالله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل الذى فعلت ، ما كانت لهما عندي هوادة ، ولا ظفرا منى بارادة حتى آخذ الحق منهما ، وأزيح الباطل عن مظلمتهما .
وأقسم بالله رب العالمين ، ما يسرنى أن ما أخذته من أموالهم حلال لى ، أتركه ميراثا لمن بعدى ، فضح رويدا ، فكأنك قد بلغت المدى ، دفنت تحت الثرى وعرضت عليك أعمالك بالمحل الذى ينادى الظالم فيه بالحسرة ويتمنى المضيع فيه الرجعة ، ولات حين مناص ! * * * الشرح : أشركتك في أمانتى : جعلتك شريكا فيما قمت فيه من الامر ، وائتمننى الله عليه من سياسة الامة ، وسمى الخلافة أمانة كما سمى الله تعالى التكليف أمانة في قوله : (إنا عرضنا الامانة) (1) فأما قوله : وأداء الامانة إلى فأمر آخر ، ومراده بالامانة الثانية ما يتعارفه الناس من قولهم : فلان ذو أمانة ، أي لا يخون فيما أسند إليه .
وكلب الزمان : اشتد ، وكذلك : كلب البرد .
__________
(1) سورة الاحزاب 72 .
(*)(16/168)
وحرب العدو : استأسد و .
خزيت أمانة الناس : ذلت وهانت .
وشغرت الامة خلت من الخير ، وشغر البلد : خلا من الناس .
وقلبت له ظهر المجن : إذا كنت معه فصرت عليه ، وأصل ذلك أن الجيش إذا لقوا العدو كانت ظهور مجانهم إلى وجه العدو ، وبطون مجانهم إلى وجه عسكرهم ، فإذا فارقوا رئيسهم وصاروا مع العدو كان وضع مجانهم بدلا من الوضع الذى كان من قبل ، وذلك أن ظهور الترسه لا يمكن أن تكون إلا في وجوه الاعداء ، لانها مرمى سهامهم .
وأمكنتك الشدة ، أي الحملة .
قوله : (أسرعت الكرة) ، لا يجوز أن يقال : الكرة إلا بعد فرة فكأنه لما كان مقلعا في ابتداء الحال عن التعرض لاموالهم ، كان كالفار عنها ، فلذلك قال : أسرعت الكره .
والذئب الازل : الخفيف الوركين ، وذلك أشد لعدوه ، وأسرع لوثبته ، وإن اتفق أن تكون شاة من المعزى كثيرة ودامية أيضا كان الذئب على اختطافها أقدر .
ونقاش الحساب : مناقشته .
قوله : (فضح رويدا) .
كلمة تقال لمن يؤمر بالتؤدة والاناة والسكون ، وأصلها الرجل يطعم إبله ضحى ، ويسيرها مسرعا ليسير ، فلا يشبعها ، فيقال له : ضح رويدا .
* * * (اختلاف الرأى فيمن كتب له هذا الكتاب) وقد اختلف الناس في المكتوب إليه هذا الكتاب ، فقال الاكثرون : إنه عبد الله بن العباس رحمه الله ، ورووا في ذلك روايات ، واستدلوا عليه بألفاظ من ألفاظ الكتاب(16/169)
كقوله : (أشركتك في أمانتى ، وجعلتك بطانتي وشعارى ، وأنه لم يكن في أهلى رجل أوثق منك) ، وقوله : (على ابن عمك قد كلب) ، ثم قال ثانيا : (قلبت لابن عمك ظهر المجن) ثم قال ثالثا : (ولابن عمك آسيت) ، وقوله : (لا أبا لغيرك) ، وهذه كلمة لا تقال إلا لمثله ، فأما غيره من أفناء الناس ، فإن عليا عليه السلام كان يقول : لاأبا لك .
وقوله : (أيها المعدود كان عندنا من أولى الالباب) .
وقوله : (لو أن الحسن والحسين ع) ، وهذا يدل على أن المكتوب إليه هذا الكتاب قريب من ان يجرى مجراهما عنده .
وقد روى أرباب هذا القول أن عبد الله بن عباس كتب إلى على عليه السلام جوابا من هذا الكتاب ، قالوا : وكان جوابه : أما بعد ، فقد أتانى كتابك تعظم على ما أصبت من بيت مال البصرة ولعمري إن حقى في بيت المال أكثر مما أخذت ، والسلام : قالوا : فكتب إليه على عليه السلام : أما بعد ، فإن من العجب ان تزين لك نفسك أن لك في بيت مال المسلمين من الحق أكثر مما لرجل واحد من المسلمين ، فقد أفلحت إن كان تمنيك الباطل ، وادعاؤك ما لا يكون ينجيك من المأثم ، ويحل لك المحرم ، إنك لانت المهتدى السعيد إذا ! وقد بلغني أنك أتخذت مكة وطنا ، وضربت بها عطنا .
تشترى بها مولدات مكة والمدينة والطائف ، تختارهن على عينك ، وتعطى فيهن مال غيرك ، فارجع هداك الله إلى رشدك وتب إلى الله ، ربك واخرج إلى المسلمين من أموالهم ، فعما قليل تفارق من ألفت وتترك ما جمعت ، وتغيب في صدع من الارض غير موسد ولا ممهد ، قد فارقت الاحباب ، وسكنت التراب ، وواجهت الحساب ، غنيا عما خلفت ، فقيرا إلى ما قدمت ، والسلام .(16/170)
قالوا : فكتب إليه أبن عباس : أما بعد ، فأنك قد أكثرت على ، ووالله لان ألقى الله قد احتويت على كنوز الارض كلها ، وذهبها وعقيانها ولجينها ، أحب إلى من أن القاه بدم امرئ مسلم والسلام .
* * * وقال آخرون وهم الاقلون : هذا لم يكن ، ولا فارق عبد الله بن عباس عليا عليه السلام ولا باينه ولا خالفه ، ولم يزل أميرا على البصرة إلى أن قتل على عليه السلام .
قالوا : ويدل على ذلك ما رواه أبو الفرج على بن الحسين الاصفهانى من كتابه الذى كتبه إلى معاوية من البصرة لما قتل على عليه السلام ، وقد ذكرناه من قبل ، قالوا : وكيف يكون ذلك ولم يخدعه معاوية ويجره إلى جهته ، فقد علمتم كيف اختدع كثيرا من عمال أمير المؤمنين عليه السلام واستمالهم إليه بالاموال ، فمالوا وتركوا أمير المؤمنين عليه السلام ، فما باله وقد علم النبوة التى حدثت بينهما ، لم يستمل أبن عباس ، ولا أجتذبه إلى نفسه ، وكل من قرأ السير وعرف التواريخ يعرف مشاقة أبن عباس لمعاوية بعد وفاة على ع ، وما كان يلقاه به من قوارع الكلام ، وشديد الخصام ، وما كان يثنى به على أمير المؤمنين عليه السلام ، ويذكر خصائصه وفضائله ، ويصدع به من مناقبه وماثره ، فلو كان بينهما غبار أو كدر لما كان الامر كذلك ، بل كانت الحال تكون بالضد لما اشتهر من أمرهما .
وهذا عندي هو الامثل والاصوب .
وقد قال الراوندي : المكتوب إليه هذا الكتاب هو عبيد الله بن العباس لا عبد الله ،(16/171)
وليس ذلك بصحيح ، فإن عبيد الله كان عامل على عليه السلام على اليمن ، وقد ذكرت قصته مع بسر بن أرطاة فيما تقدم ، ولم ينقل عنه أنه أخذ مالا ، ولافارق طاعة .
وقد أشكل على أمر هذا الكتاب ، فإن أنا كذبت النقل وقلت : هذا كلام موضوع على أمير المؤمنين عليه السلام ، خالفت الرواة ، فأنهم قد أطبقوا على روايه هذا الكلام عنه ، وقد ذكر في أكثر كتب السير .
وإن صرفته إلى عبد الله بن عباس صدني عنه ما أعلمه من ملازمته لطاعه أمير المؤمنين عليه السلام في حياته وبعد وفاته .
وإن صرفته إلى غيره لم أعلم إلى من أصرفه من أهل أمير المؤمنين عليه السلام ، والكلام يشعر بأن الرجل المخاطب من أهله وبنى عمه ، فأنا في هذا الموضع من المتوقفين !(16/172)
(42) الاصل : ومن كتاب له عليه السلام الى عمر بن أبى سلمة المخزومى ، وكان عامله على البحرين ، فعزله واستعمل النعمان بن عجلان الزرقى مكانه : أما بعد ، فأنى قد وليت النعمان بن عجلان الزرقى على البحرين ، ونزعت يدك بلا ذم لك ، ولا تثريب عليك ، فلقد أحسنت الولاية ، وأديت الامانة فأقبل غير ظنين ولا ملوم ولا متهم ولا مأثوم ، فقد أردت المسير الى ظلمه أهل الشام ، وأحببت أن تشهد معى ، فإنك ممن أستظهر به على جهاد العدو وأقامة عمود الدين ، إن شاء الله .
* * * الشرح (عمر بن أبى سلمة ونسبه وبعض أخباره) أما عمر بن أبى سلمة فهو ربيب رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأبوه أبو سلمة بن عبد الاسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة ، يكنى أبا حفص ولد في السنة الثانيه من الهجرة بأرض الحبشة ، وقيل : إنه كان يوم قبض رسول الله صلى الله عليه وآله ابن تسع سنين ، وتوفى في المدينة في خلافة عبد الملك سنه ثلاث وثمانين ، وقد حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وآله الحديث ، وروى عنه سعيد بن المسيب وغيره ، ذكر(16/173)
ذلك كله ابن عبد البر في كتاب ، الاستيعاب ، * * * (النعمان بن عجلان ونسبه وبعض أخباره) وأما النعمان بن عجلان الزرقى فمن الانصار ، ثم من بنى زريق ، وهو الذى خلف على خولة زوجة حمزة بن عبد المطلب رحمه الله بعد قتله ، قال (ابن) عبد البر في كتاب ، ، الاستيعاب ، ، : كان النعمان هذا لسان الانصار وشاعرهم ، ويقال إنه كان رجلا أحمر قصيرا تزدريه ، العين ، إلا أنه كان سيدا ، وهو القائل يوم السقيفة : وقلتم حرام نصب سعد ونصبكم عتيق بن عثمان حلال أبا بكر وأهل أبو بكر لها خير قائم وإن عليا كان أخلق بالامر وإن هوانا في على وإنه لاهل لها من حيث يدرى ولا يدرى .
قوله : (ولا تثريب عليك) ، فالتثريب الاستقصاء في اللوم ، ويقال : ثربت عليه وعربت عليه ، إذا قبحت عليه فعله .
والظنين : المتهم ، والظنة التهمة والجمع الظنن ، يقول : قد اظن زيد عمرا ، والالف ألف وصل ، والظاء مشددة ، والنون مشددة أيضا ، وجاء بالطاء المهملة أيضا ، أي اتهمه .
وفى حديث أبن سيرين : لم يكن على عليه السلام يظن في قتل عثمان ، الحرفان مشددان وهو يفتعل من (يظنن) وأدغم قال ، الشاعر : وما كل من يظننى أنا معتب وما كل ما يروى على اقول (1)
__________
(1) الصحاح 2161 من غييير نسبة .
(*)(16/174)
(43) الاضل : ومن كتاب له عليه السلام إلى مصقلة بن هبيره الشيباني وكان عامله على أردشير خره : بلغني عنك أمر أن كنت فعلته فقد أستخطت إلهك ، وعصيت أمامك ، إنك تقسم - فئ المسلمين - الذى حازته رماحهم وخيولهم ، وأريقت - عليه دماؤهم - فيمن اعتامك من أعراب قومك .
فو الذى فلق الحبة ، وبرأ النسمة لئن كان ذلك حقا .
لتجدن لك على هوانا ، ولتخفن عندي ميزانا ، فلا تستهن بحق ربك ولا تصلح دنياك بمحق دينك فتكون من الاخسرين أعمالا .
ألا وأن حق من قبلك وقبلنا من المسلمين في قسمه هذا الفئ سواء ، يردون عندي عليه ، ويصدرون عنه .
* * * الشرح : قد تقدم ذكر نسب مصقلة بن هبيرة وأردشير خرة : كورة من كور فارس .
واعتامك ، اختارك من بين الناس ، أصله من العيمة بالكسر ، وهى خيار المال اعتام المصدق إذا أخذ العيمة ، وقد روى (فيمن اعتماك) (1) بالقلب ، والصحيح
__________
(1) ب : (اعتامك) ، والصواب ما أثبته من ا .
(*)(16/175)
المشهور الاول ، وروى : (ولتجدن بك عندي هوانا) بالباء ، ومعناها اللام ، ولتجدن بسبب فعلك هوانك عندي ، والباء ترد للسببيه : كقوله تعالى : (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) (1) والمحق الاهلاك .
والمعنى أنه نهى مصقلة عن أن يقسم الفئ على أعراب قومه الذين اتخذوه سيدا ورئيسا ، ويحرم المسلمين الذين حازوه بأنفسهم وسلاحهم ، وهذا هو الامر الذى كان ينكره على عثمان وهو إيثار أهله وأقاربه بمال الفئ وقد سبق شرح مثل ذلك مستوفى .
__________
(1) سورة النساء 160 .
(*)(16/176)
(44) الاصل : ومن كتاب له عليه السلام إلى زياد بن أبيه ، وقد بلغه أن معاوية كتب إليه يريد خديعته باستلحاقه : وقد عرفت أن معاوية كتب إليك يستزل لبك ، ويستفل غربك ، فاحذره فإنما هو الشيطان ياتي المرء من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله ، ليقتحم غفلته ، ويستلب غرته .
وقد كان من أبى سفيان في زمن عمر بن الخطاب فلتة من حديث النفس ، ونزغة من نزغات الشيطان ، لا يثبت بها نسب ، ولا يستحق بها إرث ، والمتعلق بها كالواغل المدفع ، والنوط المذبذب .
فلما قرأ زياد الكتاب قال : شهد بها ورب الكعبه ، ولم تزل في نفسه حتى ادعاه معاوية .
* * * قال الرضى رحمه الله : تعالى قوله عليه السلام : (الواغل) ، هو الذى يهجم على الشرب ليشرب معهم وليس منهم ، فلا يزال مدفعا محاجزا .
والنوط المذبذب : هو ما يناط برحل الراكب من قعب أو قدح ، أو ما أشبه ذلك ، فهو أبدا يتقلقل إذا حث ظهره ، واستعجل سيره .
* * * (12 - نهج - 16)(16/177)
الشرح : يستزل لبك ، يطلب زلله وخطأه ، أي يحاول أن تزل .
واللب : العقل .
ويستفل غربك : يحاول أن يفل حدك ، أي عزمك ، وهذا من باب المجاز .
ثم أمره أن يحذره ، وقال : إنه - يعنى معاويه - كالشيطان يأتي المرء من كذا ومن كذا ، وهو مأخوذ من قول الله تعالى : (ثم لاتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين) (1) ، قالوا في تفسيره : من بين أيديهم : يطمعهم في العفو ويغريهم بالعصيان (2) ، ومن خلفهم : يذكرهم مخلفيهم ، ويحسن لهم جمع المال وتركه لهم ، وعن أيمانهم : يحبب إليهم الرياسة والثناء ، وعن شمائلهم : يحبب إليهم اللهو واللذات .
وقال شقيق البلخى : ما من صباح الا قعد لى الشيطان على أربعة مراصد : من بين يدى ، ومن خلفي ، وعن يمينى ، وعن شمالى ، أما من بين يدى فيقول : لا تخف فإن الله غفور رحيم ، فأقرأ : (وإنى لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى) (3) ، وأما من خلفي فيخوفني الضيعة على مخلفي ، فأقرأ : (وما من دابة في الارض إلا على الله رزقها) (4) ، وأما من قبل يمينى فيأتيني من جهه الثناء ، فأقرأ : (والعاقبة للمتقين) (5) ، وأما من قبل شمالى فيأتيني من قبل الشهوات ، فأقرأ : (وحيل بينهم وبين ما يشتهون) (6) .
فإن قلت : لم لم يقل : (ومن فوقهم ومن تحتهم) ؟
__________
(1) سورة الاعراف 17 .
(2) كذا في ا ، وفى ب (العصيان) .
(3) سورة طه 82 .
(4) سوة هود 6 .
(5) سورة القصص 83 .
(6) سورة سبأ 54 .
(*)(16/178)
قلت : لان جهه (فوق) جهة نزول الرحمه ، ومستقر الملائكه ، ومكان العرش ، والانوار الشريفة ، ولا سبيل له إليها ، وأما من جهه (تحت) فلان الاتيان منها يوحش ، وينفر عنه ، لانها الجهة المعروفة بالشياطين ، فعدل عنها إلى ما هو أدعى إلى قبول وساوسه وأضاليله .
وقد فسر قوم المعنى الاول فقالوا : (من بين أيديهم) ، من جهة الدنيا ، و (من خلفهم) .
من جهة الاخرة ، و (عن أيمانهم) ، الحسنات ، و (عن شمائلهم) ، أي يحثهم على طلب الدنيا ، ويؤيسهم من الاخرة ، ويثبطهم عن الحسنات ، ويغريهم بالسيئات .
قوله : (ليقتحم غفلته) أي ليلج ويهجم عليه وهو غافل ، جعل اقتحامه إياه اقتحاما للغرة نفسها لما كانت غالبه عليه .
يستلب غرته ، ليس المعنى باستلابه الغرة أن يرفعها ويأخذها لانه لو كان كذلك لصار ذلك الغافل المغتر فاقدا للغفلة والغرة وكان لبيبا فطنا ، فلا يبقى له سبيل عليه وإنما المعنى بقوله : (ويستلب غرته) ما يعنيه الناس بقولهم : أخذ فلان غفلتي وفعل كذا .
ومعنى أخذها هنا أخذ ما يستدل به على غفلتي .
وفلته : أمر وقع من غير تثبت ولا رويه .
ونزغة : كلمة فاسدة ، من نزغات الشيطان ، أي من حركاته القبيحة التى يستفسد بها مكلفين ، ولا يثبت بها نسب ، ولا يستحق بها إرث لان المقر بالزنا لا يلحقه النسب ، ولا يرثه المولود ، لقوله صلى الله عيله وآله : (الولد للفراش ، وللعاهر الحجر) .
* * * (نسب زياد بن أبيه وذكر بعض أخباره وكتبه وخطبه) فأما زياد فهو زياد بن عبيد ، ومن الناس من يقول : عبيد بن فلان ، وينسبه إلى(16/179)
ثقيف ، والاكثرون يقولون : إن عبيدا كان عبدا ، وإنه بقى إلى أيام زياد ، فابتاعه وأعتقه ، وسنذكر ما ورد في ذلك ونسبة زياد لغير أبيه لخمول أبيه ، والدعوة التى استلحق بها ، فقيل تارة زياد بن سميه وهى أمه ، وكانت أمة للحارث بن كلدة بن عمرو بن علاج الثقفى ، طبيب العرب ، وكانت تحت عبيد .
وقيل تارة زياد بن أبيه ، وقيل تارة ، زياد بن أمه ، ولما استلحق قال له أكثر الناس : زياد بن أبى سفيان ، لان الناس مع الملوك الذين هم مظنه الرهبه والرغبه ، وليس اتباع الدين بالنسبة إلى اتباع الملوك إلا كالقطرة في البحر المحيط فأما ماكان يدعى به قبل الاستلحاق فزياد بن عبيد ، ولا يشك في ذلك أحد .
وروى أبو عمر بن عبد البر في كتاب ، ، الاستيعاب ، ، عن هشام بن محمد بن السائب الكلبى عن أبيه ، عن أبى صالح ، عن أبن عباس ، أن عمر بعث زيادا في إصلاح فساد واقع باليمن ، فلما رجع من وجهه خطب عند عمر خطبة لم يسمع مثلها - وأبو سفيان حاضر وعلى عليه السلام وعمرو بن العاص - فقال عمرو بن العاص : لله أبو هذا الغلام ! لو كان قرشيا لساق العرب بعصاه ، فقال أبو سفيان : إنه لقرشي ، وإنى لاعرف الذى وضعه في رحم أمه ، فقال على عليه السلام : ومن هو ؟ قال أنا فقال : مهلا يا أبا سفيان ، فقال أبو سفيان : أما والله لولا خوف شخص يرانى يا على من الاعادي لاظهر أمره صخر بن حرب ولم يخف المقالة في زياد وقد طالت مجاملتي ثقيفا وتركي فيهم ثمر الفؤاد عنى بقوله : (لولا خوف شخص) : عمر بن الخطاب (1) .
__________
(1) الاستيعاب 1 .
2 وما بعدها .
(*)(16/180)
وروى أحمد بن يحيى البلاذرى قال : تكلم زياد - وهو غلام حدث - بحضره عمر كلاما أعجب الحاضرين ، فقال عمرو بن العاص : لله أبوه ! لو كان قرشيا لساق العرب بعصاه ، فقال أبو سفيان : أما والله إنه لقرشي ، ولو عرفته لعرفت أنه خير من أهلك ، فقال : ومن أبوه ؟ قال : أنا والله وضعته في رحم أمه ، فقال : فهلا تستلحقه ؟ قال : أخاف هذا العير الجالس أن يخرق على إهابى .
وروى محمد بن عمر الواقدي قال : قال أبو سفيان وهو جالس عند عمر وعلى هناك وقد تكلم زياد فأحسن : أبت المناقب إلا أن تظهر في شمائل زياد ، فقال على عليه السلام من أي بنى عبد مناف هو ؟ قال : ابني ، قال : كيف ؟ قال أتيت أمه في الجاهلية سفاحا ! فقال على عليه السلام : مه يا أبا سفيان فإن عمر إلى المساءة سريع : قال : فعرف زياد ما دار بينهما .
فكانت في نفسه .
وروى على بن محمد المدائني قال : لما كان زمن على ولى زيادا فارس أو بعض أعمال فارس ، فضبطها ضبطا صالحا ، وجبى خراجها وحماها ، وعرف ذلك معاويه ، فكتب إليه : أما بعد ، فإنه غرتك قلاع تأوى إليها ليلا ، كما تاوى الطير إلى وكرها ، وايم الله لو لا انتظاري بك ما الله أعلم به لكان لك منى ما قاله العبد الصالح : (فلناتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذله وهم صاغرون) (1) .
وكتب في أسفل الكتاب شعرا من جملته : تنسى اباك وقد شالت نعامته إذ يخطب الناس والوالى لهم عمر .
فلما ورد الكتاب على زياد قام فخطب الناس ، وقال : العجب من ابن آكلة الاكباد ، ورأس النفاق ! يهددني وبيني وبينه ابن عم رسول الله صلى الله عيله وآله وزوج سيدة نساء العالمين وأبو السبطين ، وصاحب الولاية والمنزلة والاخاء في مائة الف
__________
(1) الاستيعاب 1 .
2 وما بعدها .
(*)(16/181)
من المهاجرين والانصار والتابعين لهم بإحسان ! أما والله لو تخطى هؤلاء أجمعين إلى لوجدني أحمر مخشا (1) ضرابا بالسيف ، ثم كتب إلى على عليه السلام ، وبعث بكتاب معاويه في كتابه .
فكتب إليه على عليه السلام ، وبعث بكتابه : أما بعد فإنى قد وليتك ما وليتك وأن أراك لذلك أهلا ، وإنه قد كانت من أبى سفيان فلتة في أيام عمر من أمانى التيه وكذب النفس ، لم تستوجب بها ميراثا ، ولم تستحق بها نسبا ، وإن معاوية كالشيطان الرجيم يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ، فاحذره ، ثم احذره ، ثم احذره ، والسلام .
وروى أبو جعفر محمد بن حبيب قال : كان على عليه السلام قد ولى زيادا قطعة من أعمال فارس واصطنعه لنفسه ، فلما قتل على عليه السلام بقى زياد في عمله ، وخاف معاوية جانبه ، وعلم صعوبة ناحيته ، وأشفق من ممالاته الحسن بن على عليه السلام .
فكتب إليه : من أمير المؤمنين معاوية بن أبى سفيان إلى زياد بن عبيد ، أما بعد ، فإنك عبد قد كفرت النعمة ، واستدعيت النقمة ، ولقد كان الشكر أولى بك من الكفر وإن الشجره لتضرب بعرقها ، وتتفرع من أصلها ، إنك - لا أم لك بل لا أب لك - قد هلكت وأهلكت ، وظننت أنك تخرج من قبضتي ، ولا ينالك سلطاني ، هيهات ! ما كل ذى لب يصيب رأيه ، ولا كل ذى رأى ينصح في مشورته .
أمس عبد واليوم امير ! خطة ما ارتقاها مثلك يا بن سمية ، وإذا أتاك كتابي هذا فخذ الناس بالطاعة والبيعة ، وأسرع الاجابة فإنك أن تفعل فدمك حقنت ، ونفسك تداركت ، وإلا اختطفتك
__________
(1) المخش الماضي الجرئ ، وفى ب : (مخا) ، والصواب ما أثبته من أ .
(*)(16/182)
بأضعف ريش (1) ونلتك باهون سعى .
وأقسم قسما مبرورا إلا أوتى بك إلا في زمارة (2) ، تمشى حافيا من أرض فارس إلى الشام حتى إقيمك في السوق ، وأبيعك عبدا ، وأردك إلى حيث كنت فيه وخرجت منه .
والسلام .
فلما ورد الكتاب على زياد غضب غضبا شديدا ، وجمع الناس وصعد المنبر .
فحمد الله ثم قال : ابن آكله الاكباد وقاتلة أسد الله ، ومظهر الخلاف ومسر النفاق ، ورئيس الاحزاب ، ومن أنفق ماله في إطفاء نور الله كتب إلى يرعد ويبرق عن سحابه جفل لا ماء فيها ، وعما قليل تصيرها الرياح قزعا ، والذى يدلني على ضعفه تهدده قبل القدره ، أفمن إشفاق على تنذر وتعذر ! كلا ، ولكن ذهب إلى غير مذهب ، وقعقع لمن ربى (3) بين صواعق تهامه ، كيف أرهبه وبيني وبينه أبن بنت رسول الله صلى الله عيله وآله وأبن أبن عمه في مائة ألف من المهاجرين والانصار ، والله لو أذن لى فيه ، أو ندبنى إليه ، لاريته الكواكب نهارا ، ولاسعطته ماء الخردل .
دونه الكلام اليوم ، والجمع غدا ، والمشورة بعد ذلك إن شاء الله .
ثم نزل .
وكتب إلى معاوية : أما بعد ، فقد وصل إلى كتابك يا معاوية وفهمت ما فيه ، فوجدتك كالغريق يغطيه الموج فيتشبث بالطحلب ، ويتعلق بأرجل الضفادع ، طمعا في الحياة .
إنما يكفر النعم ، ويستدعى النقم من حاد الله ورسوله وسعى في الارض فسادا .
فأما سبك لى فلو لا حلم ينهاني عنك ، وخوفي أن أدعى سفيها ، لاثرت لك مخازي لا يغسلها الماء .
وأما تعييرك لى بسمية فإن كنت أبن سمية فأنت أبن جماعة ، وأما زعمك أنك تختطفني بأضعف ريش ، وتتناولنى بأهون سعى ، فهل رأيت بازيا يفزعه صغير
__________
(1) بأضعف ريش ، يريد بأصعف قوة ، وكانوا يلزقون على السهم ليقوه ويستردوه .
(2) أي في جماعة زمارة تزمر حولك لتشهيرك والتشنيع عليك .
(3) كذا في ا ، وفى ب : (رئى) .
(*)(16/183)
القنابر ، أم هل سمعت بذئب أكله خروف ! فامض الان لطيتك ، وأجتهد جهدك فلست أنزل إلا بحيث تكره ، ولا أجتهد إلا فيما يسوءك ، وستعلم أينا الخاضع لصاحبه ، الطالع إليه .
والسلام .
فلما ورد كتاب زياد على معاوية غمه وأحزنه ، وبعث إلى المغيرة بن شعبة ، فخلا به وقال : يا مغيرة إنى أريد مشاورتك في أمر أهمنى ، فأنصحني فيه ، وأشر على برأى المجتهد ، وكن لى أكن لك ، فقد خصصتك بسرى ، وآثرتك على ولدى .
قال المغيرة : فما ذاك ؟ والله لتجدني في طاعتك ة مضى من الماء إلى الحدور ، ومن ذى الرونق في كف البطل الشجاع .
قال : يا مغيرة إن زيادا قد أقام بفارس يكش لنا كشيش الافاعى ، وهو رجل ثاقب الرأى ، ماضى العزيمة ، جوال الفكر ، مصيب إذا رمى ، وقد خفت منه الان ما كنت آمنه إذ كان صاحبه حيا ، وأخشى ممالاته حسنا ، فكيف السبيل إليه وما الحيلة في إصلاح رأية ؟ قال المغيرة : أنا له إن لم أمت ، إن زيادا رجل يحب الشرف والذكر وصعود المنابر ، فلو لاطفته المسأله ، وألنت له الكتاب ، لكان لك أميل وبك أوثق فأكتب إليه وأنا الرسول .
فكتب معاويه إليه : من أمير المؤمنين معاوية بن أبى سفيان إلى زياد بن أبى سفيان ، أما بعد فأن المرء ربما طرحه الهوى في مطارح العطب ، وأنك للمرء المضروب به المثل ، قاطع الرحم ، وواصل العدو .
وحملك سوء ظنك بى ، وبغضك لى ، على أن عققت قرابتي ، وقطعت رحمى وبتت (1) نسبي وحرمتي ، حتى كأنك لست أخى ، وليس صخر بن حرب أباك وأبى وشتان ما بينى وبينك ، أطلب بدم ابن أبى العاص (2) وأنت تقاتلني ! ولكن أدركك عرق الرخاوة من قبل النساء ، فكنت :
__________
(1) بتت : قطعت .
(2) أي عثمان ، وهو عثمان بن عفان بن أبى العاص بن أمية .
(*)(16/184)
كتاركة بيضها بالعراء وملحفة بيض أخرى جناحا .
قد رأيت أن أعطف عليك ، ولا أؤاخذك بسوء سعيك ، وأن أصل رحمك ، وأبتغى الثواب في أمرك ، فاعلم أبا المغيرة ، أنك لو خضت البحر في طاعة القوم فتضرب بالسيف حتى انقطع متنه لما ازددت منهم إلا بعدا ، فإن بنى عبد شمس أبغض إلى بنى هاشم من الشفرة إلى الثور الصريع وقد أوثق للذبح ، فارجع - رحمك الله - إلى أصلك ، واتصل بقومك ، ولا تكن كالموصول بريش (1) غيره ، فقد أصبحت ضال النسب .
ولعمري ما فعل بك ذلك إلا اللجاج ، فدعه عنك ، فقد أصبحت على بينة من أمرك ، ووضوح من حجتك ، فإن أحببت جانبى ، ووثقت بى ، فإمرة بإمرة ، وإن كرهت جانبى ، ولم تثق بقولى ففعل جميل لا على ولا لى .
والسلام .
فرحل المغيرة بالكتاب حتى قدم فارس ، فلما رآه زياد قربه وأدناه ولطف به فدفع إليه الكتاب ، فجعل يتأمله ويضحك ، فلما فرغ من قراءته وضعه تحت قدمه ثم قال : حسبك يا مغيرة ! فإنى أطلع على ما في ضميرك ، وقد قدمت من سفرة بعيدة ، فقم وأرح ركابك .
قال : أجل فدع عنك اللجاج يرحمك الله ، وأرجع إلى قومك ، وصل أخاك ، وأنظر لنفسك ، ولا تقطع رحمك ! قال زياد ، إنى رجل صاحب أناة ولى في أمرى روية ، فلا تعجل على ، ولا تبدأني بشئ حتى أبدأك .
ثم جمع الناس بعد يومين أو ثلاثة ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إيها الناس : ادفعوا البلاء ما اندفع عنكم ، وارغبوا إلى الله في دوام العافية لكم ، فقد نظرت في أمور الناس منذ قتل عثمان ، وفكرت فيهم فوجدتهم كالأضاحي ، في كل عيد يذبحون ، ولقد أفنى هذان اليومان - يوم الجمل وصفين - ما ينيف على مائه ألف ، كلهم يزعم أنه طالب حق ، وتابع أمام ، وعلى بصيرة من أمره ، فإن كان الامر هكذا فالقاتل والمقتول في الجنه ، كلا
__________
(1) ب : (كالموصول يطير بريش غيره) .
(*)(16/185)
ليس كذلك ، ولكن أشكل الامر ، والتبس على القوم ، وإنى لخائف أن يرجع الامر كما بدا ، فكيف لامرئ بسلامة دينه ! وقد نظرت في أمر الناس فوجدت أحد العاقبتين العافية وسأعمل في أموركم ما تحمدون عاقبته ومغبته ، فقد حمدت طاعتكم إن شاء الله ثم نزل .
وكتب جواب الكتاب : أما بعد ، فقد وصل كتابك يا معاوية مع المغيرة بن شعبة وفهمت ما فيه ، فالحمد لله الذى عرفك الحق ، وردك إلى الصلة ولست ممن يجهل معروفا ، ولا يغفل حسبا ، ولو أردت أن أجيبك بما أوجبته الحجة ، وأحتمله الجواب ، لطال الكتاب ، وكثر الخطاب ولكنك إن كنت كتبت كتابك هذا عن عقد صحيح ، ونية حسنة ، وأردت بذلك برا ، فستزرع في قلبى مودة وقبولا ، وإن كنت إنما أردت مكيدة ومكرا وفساد نية فإن النفس تأبى ما فيه العطب ، ولقد قمت يوم قرأت كتابك مقاما يعبأ به الخطيب المدره ، فتركت من حضر ، لا أهل ورد ولا صدر ، كالمتحيرين بمهمه ضل بهم الدليل ، وأنا على أمثال ذلك قدير ، وكتب في أسفل الكتاب : إذا معشرى لم ينصفوني وجدتني أدافع عنى الضيم مادمت باقيا وكم معشر أعيت قناتي عليهم فلاموا وألفونى لدى العزم ماضيا وهم به ضاقت صدور فرجته وكنت بطبى للرجال مداويا أدافع بالحلم الجهول مكيده وأخفى له تحت العضاه الدواهيا فإن تدن منى أدن منك وإن تبن تجدني إذا لم تدن منى نائيا .
فأعطاه معاوية جميع ما سأله ، وكتب إليه بخط يده ما وثق به ، فدخل إليه الشام ، فقربه وأدناه ، وأقره على ولايته ، ثم استعمله على العراق .
* * *(16/186)
وروى على بن محمد المدائني قال : لما أراد معاوية استلحاق زياد وقد قدم عليه الشام جمع الناس وصعد المنبر ، وأصعد زيادا معه فأجلسه بين يديه على المرقاة التى تحت مرقاته ، وحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس ، إنى قد عرفت نسبنا أهل البيت في زياد ، فمن كان عنده شهادة فليقم بها .
فقام ناس فشهدوا أنه أبن أبى سفيان ، وأنهم سمعوا ما أقر به قبل موته ، فقام أبو مريم السلولى - وكان خمارا في الجاهلية - فقال : أشهد يا أمير المؤمنين أن أبا سفيان قدم علينا بالطائف ، فأتاني فاشتريت له لحما وخمرا وطعاما ، فلما أكل قال : يا أبا مريم ، أصب لى بغيا ، فخرجت فأتيت بسمية ، فقلت لها : أن أبا سفيان ممن قد عرفت شرفه وجوده ، وقد أمرنى أن أصيب له بغيا ، فهل لك ؟ فقالت : نعم ، يجئ الان عبيد بغنمه - وكان راعيا - فإذا تعشى ، ووضع رأسه أتيته .
فرجعت إلى أبى سفيان فأعلمته ، فلم نلبث أن جاءت تجر ذيلها ، فدخلت معه ، فلم تزل عنده حتى أصبحت ، فقلت له لما انصرفت : كيف رأيت صاحبتك ؟ قال : خير صاحبة ، لولا ذفر في إبطيها .
فقال زياد من فوق المنبر : يا أبا مريم ، لا تشتم أمهات الرجال ، فتشتم أمك .
فلما انقضى كلام معاوية ومناشدته قام زياد ، وأنصت الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس أن معاوية والشهود قد قالوا ما سمعتم ، ولست أدرى حق هذا من باطله ! وهو والشهود أعلم بما قالوا ، وأنما عبيد أب مبرور ، ووال مشكور ثم نزل .
* * * وروى شيخنا أبو عثمان أن زيادا مر وهو والى البصرة بأبى العريان العدوى - وكان شيخا مكفوفا ، ذا لسن وعارضة شديده - فقال أبو العريان : ما هذه الجلبة ؟ قالوا : زياد بن أبى سفيان ، قال : والله ما ترك أبو سفيان ألا يزيد ومعاويه وعتبة وعنبسة وحنظلة ومحمدا ، فمن أين جاء زياد ؟ فبلغ الكلام زيادا ، وقال له قائل : لو سددت(16/187)
عنك فم هذا الكلب ! فأرسل إليه بمائتي دينار ، فقال له رسول زياد : إن أبن عمك زيادا الامير قد أرسل إليك مائتي دينار لتنفقها ، فقال : وصلته رحم ! إى والله أبن عمى حقا .
ثم مر به زياد من الغد في موكبه ، فوقف عليه فسلم وبكى أبو العريان ، فقيل له : ما يبكيك ؟ قال عرفت صوت أبى سفيان في صوت زياد .
فبلغ ذلك معاوية فكتب إلى أبى العريان : ما البثتك الدنانير التى بعثت أن لونتك أبا العريان ألوانا أمسى إليك زياد في أرومته نكرا فأصبح ما أنكرت عرفانا لله در زياد لو تعجلها كانت له دون ما يخشاه قربانا ! فلما قرئ كتاب معاوية على أبى العريان قال : أكتب جوابه يا غلام : أحدث لنا صلأ تحيا النفوس بها قد كدت يا بن أبى سفيان تنسانا أما زياد فقد صحت مناسبه عندي فلا أبتغى في الحق بهتانا من يسد خيرا يصبه حين يفعله أو يسد شرا يصبه حيثما كانا .
وروى إبو عثمان أيضا ، قال : كتب زياد إلى معاوية ليستأذنه في الحج ، فكتب إليه أنى قد أذنت لك واستعملتك على الموسم ، وأجزتك بألف ألف درهم .
فبينا هو يتجهز أذ بلغ ذلك أبا بكرة أخاه - وكان مصارما له منذ لجلج في الشهادة على المغيرة بن شعبة أيام عمر لا يكلمة قد لزمته أيمان عظيمة ألا يكلمه أبدا - فأقبل أبو بكرة يدخل القصر يريد زيادا ، فبصر به الحاجب ، فأسرع الى زياد قائلا ، أيها الامير ، هذا أخوك أبو بكرة قد دخل القصر قال : ويحك ، أنت رأيته ! قال ها هو ذا قد طلع ، وفى حجر زياد بنى يلاعبه ، وجاء أبو بكرة حتى وقف عليه ، فقال للغلام : كيف أنت يا غلام ؟ أن أباك ركب في الاسلام عظيما ! زنى أمه ، وانتفى من أبيه ، ولا والله ما علمت سمية رأت(16/188)
أبا سفيان قط ، ثم أبوك يريد أن يركب ما هو أعظم من ذلك ، يوافي الموسم غدا ، ويوافي أم حبيبة بنت أبى سفيان ، وهى من أمهات المؤمنين ، فإن جاء يستاذن (1) عليها فأذنت له ، فأعظم بها فرية على رسول الله صلى الله عيله وآله ومصيبة ! وأن هي منعتة فأعظم بها على أبيك فضيحه ! ثم انصرف ، فقال : جزاك الله يا أخى عن النصيحه خيرا ، ساخطا كنت أو راضيا .
ثم كتب إلى معاوية : إنى قد اعتللت عن الموسم فليوجه إليه أمير المؤمنين من أحب فوجه عتبة بن أبى سفيان .
* * * فأما أبو عمر بن عبد البر في كتاب ، ، الاستيعاب ، ، فإنه قال : لما ادعى معاوية زيادا في سنة أربع وأربعين والحقه به أخا زوج أبنته من أبنه محمد بن زياد ليؤكد بذلك صحة الاستلحاق ، وكان أبو بكرة أخا زياد لامه ، أمهما جميعا سمية ، فحلف ألا يكلم زيادا أبدا وقال : هذا زنى أمه ، وأنتفى من أبيه ، ولا والله ما علمت سمية رأت أبا سفيان قبل (2) ، ويله ما يصنع بأم حبيبة ! أيريد أن يراها ؟ فإن حجبته فضحته ، وأن رآها فيا لها مصيبه ! يهتك من رسول الله صلى الله عيله وآله حرمة عظيمة ! وحج زياد مع معاوية ، ودخل المدينة فأراد الدخول على أم حبيبه ثم ذكر قول أبى بكرة ، فانصرف عن ذلك .
وقيل : إن أم حبيبة حجبته ولم تأذن له في الدخول عليها ، وقيل ، إنه حج ولم يرد (3) المدينة من أجل قول أبى بكرة ، وأنه قال : جزى الله أبا بكرة خيرا فما يدع النصيحة في حال .
وروى أبو عمر بن عبد البر في هذا الكتاب قال : دخل بنو أميه وفيهم عبد الرحمن بن الحكم على معاوية أيام ما استلحق زيادا ، فقال له عبد الرحمن : يا معاوية لو لم تجد إلا الزنج لاستكثرت بهم علينا قله وذلة يعنى - على بنى أبى العاص .
فاقبل معاوية
__________
(1) ب : (أن يستأن) .
(2) أ والاستيعاب : (قط) .
(3) أ : (يزر) .
(*)(16/189)
على مروان وقال : أخرج عنا هذا الخليع فقال مروان : إى والله أنه لخليع ما يطاق : فقال معاوية والله لو لا حلمي وتجاوزي لعلمت أنه يطاق ، أم يبلغني شعره في وفى زياد ! ثم قال مروان : أسمعنيه ، فأنشد : ألا أبلغ معاوية بن حرب لقد ضاقت بما يأتي اليدان أتغضب أن يقال أبوك عف وترضى أن يقال أبوك زان ! فأشهد أن رحمك من زياد كرحم الفيل من ولد الاتان وأشهد أنها حملت زيادا وصخر من سمية غير دان (1) .
ثم قال (2) : والله لا أرضى عنه حتى يأتي زيادا فيترضاه ويعتذر إليه ، فجاء عبد الرحمن إلى زياد معتذرا يستأذن عليه ، فلم يأذن له فأقبلت قريش إلى زياد تكلمه في أمر عبد الرحمن ، فلما دخل سلم ، فتشاوس له زياد بعينه - وكان يكسر عينه - فقال له زياد : أنت القائل ما قلت ؟ قال عبد الرحمن : ما الذى قلت ؟ قال : قلت ما لا يقال قال ، أصلح الله الامير ! إنه لا ذنب لمن أعتب ، وإنما الصفح عمن أذنب فاسمع منى ما أقول ، قال : هات ، فأنشده : إليك أبا المغيرة تبت مما جرى بالشام من خطل اللسان (3) وأغضبت الخليفة فيك حتى دعاه فرط غيظ أن هجاني وقلت لمن لحاني في اعتذاري (4) إليك أذهب فشأنك غير شانى
__________
(1) بعدها في الاستيعاب : (مهذى الابيات تروى لزي يزيد بن ربيعه بن مفزع الحميرى الشاعر ، ومن رواها له جعل أولها : ألا أبلغ معاوية بن حرب مغلغلة من الرجال اليماني .
وذكر الابيات كما ذكرناها سواء (2) في الاستيعاب : (وروينا أن معاوية قال حين أنشده مروان شعر أخيه عبد الرحمان : والله لا أرضى ...
(3) الاستيعاب : (من جور اللسان) .
(4) الاستيعاب : (لمن يلمنى) .
(*)(16/190)
عرفت الحق بعد ضلال رأيى وبعد الغى من زيغ الجنان زياد من أبى سفيان غصن تهادى ناضرا بين الجنان أراك أخا وعما وأبن عم فما أدرى بعيب ما تراني وإن زيادة في آل حرب أحب إلى من وسطى بنانى ألا أبلغ معاوية بن حرب فقد ظفرت بما تأتى اليدان فقال زياد : أراك أحمق صرفا شاعرا ضيع اللسان ، يسوغ لك ريقك ساخطا ومسخوطا ، ولكنا قد سمعنا شعرك ، وقبلنا عذرك ، فهات حاجتك ؟ (1 قال : تكتب إلى أمير المؤمنين بالرضا عنى ، قال : نعم ، ثم دعا كاتبه فكتب له بالرضا عنه 1) ، فأخذ كتابه ومضى حتى دخل على معاوية ، فلما قرأة قال : لحا الله زيادا لم يتنبه لقوله : * وإن زيادة في آل حرب * .
ثم رضى عن عبد الرحمن ورده إلى حالته .
وأما اشعار يزيد بن مفرغ الحميرى وهجاؤه عبيد الله وعبادا ، ابني زياد بالدعوة فكثيرة مشهورة ، نحو قوله : أعباد ما للؤم عنك تحول (2) ولا لك أم من قريش ولا أب وقل لعبيد الله ما لك والد بحق ولا يدرى امرؤ كيف تنسب .
ونحو قوله : شهدت بأن أمك لم تباشر أبا سفيان واضعة القناع
__________
(1 - 1) الاستيعاب : (قال : كتاب إلى أمير المؤمنين بالرضا عنه ، قال : نعم ، ثم دعا كاتبه فقال : اكتب بسم الله الرحمان الحيم .
لعبد الله معاوية أمير المؤمنين من زياد بن أبى سفيان ، فإنى أحمد إليك الله الذى لاإله إلا هو ، أما بعد ...
وذكر الخبر) .
(2) ا : (محول) .
(*)(16/191)
ولكن كان أمر فيه لبس على حذر شديد وارتياع إذا أودى معاوية بن حرب فبشر شعب قعبك بانصداع .
ونحو قوله : إن زيادا ونافعا وأبا بكرة عندي من أعجب العجب هم رجال ثلاثه خلقوا في رحم أنثى وكلهم لاب ذا قرشي كما تقول وذا مولى وهذا بزعمه عربي (1) .
كان عبيد الله بن زياد يقول : بما شجيت بشئ أشد على من قول ابن مفرغ : فكر ففى ذاك إن فكرت معتبر هل نلت مكرمة إلا بتأمير ! عاشت سمية ما عاشت وما علمت أن ابنها من قريش في الجماهير .
ويقال : إن الابيات النونية المنسوبة إلى عبد الرحمن بن أم الحكم ليزيد بن مفرغ وأن أولها : ألا أبلغ معاوية بن حرب مغلغلة من الرجل اليماني .
ونحو قوله ، وقد باع برد غلامه لما حبسه عباد بن زياد بسجستان : يا برد ما مسنا دهر أضر بنا من قبل هذا ولا بعنا له ولدا لامتنى النفس في برد فقلت لها لا تهلكى إثر برد هكذا كمدا لو لا الدعى ولو لا ما تعرض بى من الحوادث ما فارقته أبدا .
ونحو قوله : أبلغ لديك بنى قحطان مألكة عضت بأير أبيها سادة اليمن أضحى دعى زياد فقع قرقرة يا للعجائب يلهو بابن ذى يزن !
__________
(1) كذا في ا والاستيعاب ، وفى ب : (وهذا أبن عمه) .
(*)(16/192)
وروى ابن الكلبى أن عبادا استلحقه زياد كما استلحق معاويه زيادا ، كلاهما لدعوة .
قال : لما أذن لزياد في الحج تجهز ، فبينا هو يتهجز وأصحاب القرب يعرضون عليه قربهم ، إذ تقدم عباد - وكان خرازا - فصار يعرض عليه ويحاوره ويجيبه ، فقال زياد : ويحك ، من أنت ؟ قال : أنا ابنك ، قال : ويحك ، وأى بنى ؟ قال : قد وقعت على أمي فلانة ، وكانت من بنى كذا ، فولدتني ، وكنت في بنى قيس بن ثعلبة وأنا مملوك لهم ، فقال : صدقت والله ، إنى لاعرف ما تقول .
فبعث فأشتراه ، وادعاه وألحقه ، وكان يتعهد بنى قيس بن ثعلبه بسببه ويصلهم وعظم أمر عباد حتى ولاه معاوية سجستان بعد موت زياد ، وولى أخاه عبيد الله البصرة ، فتزوج عباد الستيرة (1) ابنه أنيف بن زياد الكلبى ، فقال الشاعر يخاطب أنيفا - وكان سيد كلب في زمانه : أبلغ لديك أباتر كان مألكة (2) أنائما كنت أم بالسمع من صمم ! أنكحت عبد بنى قيس مهذبة آباؤها من عليم معدن الكرم أكنت تجهل عبادا ومحتده لا در درك أم أنكحت من عدم أبعد آل أبى سفيان تجعله صهرا وبعد بنى مروان والحكم ! أعظم عليك بذا عارا ومنقصة ما دمت حيا وبعد الموت في الرحم .
* * * وقال الحسن البصري : ثلاث كن في معاوية لو لم تكن فيه إلا واحدة منهن لكانت موبقة : انتزاؤه على هذه الامة بالسفهاء حتى ابتزها أمرها ، واستلحاقه زيادا مراغمة لقول رسول الله : (الولد للفراش ، وللعاهر الحجر) ، وقتله حجر بن عدى ، فياويله من حجر وأصحاب حجر !
__________
(1) كذا في ب : (الشترة) .
(2) ب : (بركان) .
(13 - نهج - 16) (*)(16/193)
وروى الشرقي بن القطامى ، قال : كان سعيد بن سرح مولى حبيب بن عبد شمس شيعة لعلى بن أبى طالب عليه السلام : فلما قدم زياد الكوفة طلبه وأخافه ، فاتى الحسن بن على ع مستجيرا به ، فوثب زياد على أخيه وولده وأمرأته فحبسهم وأخذ ماله ، ونقض داره .
فكتب الحسن بن على عليه السلام الى زياد : أما بعد فإنك عمدت إلى رجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم ، فهدمت داره ، وأخذت ماله ، وحبست أهله وعياله ، فإن أتاك كتابي هذا فابن له داره ، وأردد عليه عياله وماله ، وشفعني فيه ، فقد أجرته .
والسلام .
فكتب إليه زياد : من زياد بن أبى سفيان إلى الحسن بن فاطمة : أما بعد : فقد أتانى كتابك تبدأ فيه بنفسك قبلى ، وأنت طالب حاجة وأنا سلطان وأنت سوقه ، وتأمرني فيه بأمر المطاع المسلط على رعيته .
كتبت إلى في فاسق آويته .
إقامة منك على سوء الرأى ورضا منك بذلك ، وايم الله لا تسبقني به ولو كان بين جلدك ، ولحمك وإن نلت بعضك غير رفيق بك ولا مرع عليك فإن ، أحب لحم على أن آكله للحم الذى أنت منه ، فسلمه بجريرته إلى من هو أولى به منك ، فإن عفوت عنه لم أكن شفعتك فيه ، وإن قتله لم أقتله إلا لحبه أاباك الفاسق .
والسلام .
فلما ورد الكتاب على الحسن عليه السلام قراه وتبسم ، وكتب بذلك إلى معاوية ، وجعل كتاب زياد عطفه ، وبعث به إلى الشام ، وكتب جواب كتابه كلمتين لا ثالثه لهما : من الحسن بن فاطمة إلى زياد بن سمية ، أما بعد ، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : .
(الولد للفراش ، وللعاهر الحجر) ، والسلام .
فلما قرأ معاوية كتاب زياد إلى الحسن ضاقت به الشام ، وكتب إلى زياد : أما بعد ، فإن الحسن بن على بعث إلى بكتابك إليه جوابا عن كتاب كتبه(16/194)
إليك في أبن سرح ، فأكثرت العجب منك ، وعلمت أن لك رأيين أحدهما من أبى سفيان ، وألاخر من سمية ، فأما الذى من أبى سفيان فحلم وحزم وأما الذى من سمية ، فما يكون من رأى مثلها ! من ذلك كتابك إلى الحسن تشتم أباه ، وتعرض له بالفسق ، ولعمري إنك الاولى بالفسق من أبيه .
فأما أن الحسن بدأ بنفسه ارتفاعا عليك ، فإن ذلك لا يضعك لو عقلت ، وأما تسلطه عليك بالامر فحق لمثل الحسن أن يتسلط ، وأما تركك تشفيعه فيما شفع فيه إليك ، فحظ دفعته عن نفسك إلى من هو أولى به منك .
فإذا ورد عليك كتابي فخل ما في يديك لسعيد بن أبى سرح وابن له داره ، واردد عليه ماله ، ولا تعرض له ، فقد كتبت إلى الحسن أن يخيره ، إن شاء أقام عنده ، وأن شاء رجع إلى بلده ، ولا سلطان لك عليه لابيد ولا لسان .
وأما كتابك إلى الحسن باسمه واسم أمه ، ولا تنسبه إلى أبيه ، فإن الحسن ويحك ! من يرمى به الرجوان (1) وإلى أي أم وكلته لا أم لك ! أما علمت أنها فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذاك أفخر له لو كنت تعلمه (2) وتعقله ! وكتب في أسفل الكتاب شعرا من جملته : أما حسن فابن الذى كان قبله إذا سار سار الموت حيث يسير وهل يلد الرئبال إلا نظيره وذا حسن شبه له ونظير ولكنه لو يوزن الحلم والحجا بأمر لقالوا يذبل وثبير .
__________
(1) الرجا : ناحية كل شئ ، وخص بعضهم به ناحية البئر من أعلاها إلى أسفلها وحافيتها ، ويقال : رمى به الجوان : استهين به ، فكأنه رمى به هناك ، أراد أنه طرح في المهالك ، قال : لقد هزئت منى بنجران أن رأت مقامي في الكبلين أم أبان كأن لم ترى قبلى أميرا مكبلا ولا رجلا يرمى به الرجوان .
أي لا يستطيع أن يستمسك .
(2) ساقطه من ب .
(*)(16/195)
وروى الزبير بن بكار في ، الموفقيات ، أن عبد الملك أجرى خيلا ، فسبقه عباد بن زياد ، فأنشد عبد الملك : سبق عباد وصلت لحيته وكان خرازا تجود قربته .
فشكى عباد قول عبد الملك إلى خالد بن يزيد بن معاوية ، فقال له : أما والله لانصفنك منه بحيث يكره .
فزوجه أخته ، فكتب الحجاج إلى عبد الملك ، يا أمير المؤمنين ، إن مناكح آل أبى سفيان قد ضاعت .
فأخبر عبد الملك خالدا بما كتب به الحجاج ، فقال خالد : يا أمير المؤمنين ، ما أعلم أمرأة منا ضاعت ونزلت إلا عاتكة بنت يزيد بن معاوية ، فأنها عندك ، ولم يعن الحجاج غيرك .
قال عبد الملك : بل عنى الدعى ابن الدعى عبادا ، قال خالد : يا أمير المؤمنين ، ما أنصفتني ، أدعى رجلا ثم لا أزوجه ! إنما كنت ملوما لو زوجت دعيك ، فأما دعيى فلم لا أزوجه ! * * * فأما أول ما ارتفع به زياد فهو استخلاف ابن عباس له على البصرة في خلافه على ع ، وبلغت عليا عنه هنات ، فكتب إليه يلومو يؤنبه ، فمنها الكتاب الذى ذكر الرضى رحمه الله بعضه ، وقد شرحنا فيما تقدم ما ذكر الرضى منه ، وكان على عليه السلام أخرج إليه سعدا مولاه يحثه على حمل مال البصره إلى الكوفة ، وكان بين سعد وزياد ملاحاة ومنازعة ، وعاد سعد وشكاه إلى على ع وعابه فكتب على عليه السلام إليه : أما بعد فإن سعدا ذكر أنك شتمته ظلما ، وهددته وجبهته تجبر تكبرا ، فما دعاك إلى التكبر وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله : (الكبر رداء الله ، فمن نازع الله رداءه قصمه) ، وقد أخبرني أنك تكثر من الالوان المختلفة في الطعام في اليوم الواحد ،(16/196)
وتدهن كل يوم ، فما عليك لو صمت أياما ، وتصدقت ببعض ما عندك محتسبا ، وأكلت طعامك مرارا قفارا ، فإن ذلك شعار الصالحين ! أفتطمع وأنت متمرغ في النعيم ، تستاثر به على الجار والمسكين والضعيف والفقير والارملة واليتيم ، أن يحسب لك أجر المتصدقين ! وأخبرني أنك تتكلم بكلام الابرار ، وتعمل عمل الخاطئين ، فإن كنت تفعل ذلك فنفسك ظلمت ، وعملك أحبطت ، فتب إلى ربك يصلح لك عملك ، واقتصد في أمرك وقدم إلى ربك الفضل ليوم حاجتك ، وأدهن غبا ، فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : (ادهنوا غبا ولا تدهنوا رفها) (1) .
فكتب إليه زياد : أما بعد يا أمير المؤمنين ، فإن سعدا قدم على فأساء القول والعمل ، فانتهرته وزجرتة ، وكان أهلا لاكثر من ذلك .
وأما ما ذكرت من الاسراف واتخاذ الالوان من الطعام والنعم ، فإن كان صادقا فأثابه الله ثواب الصالحين ، وأن كان كاذبا فوقاه الله أشد عقوبة الكاذبين .
وأما قوله : (إنى أصف العدل وأخالفه إلى غيره) ، فإنى إذن من الاخسرين .
فخذ يا أمير المؤمنين بمقال قلته في مقام قمته ، الدعوى بلا بينه ، كالسهم بلا نصل ، فإن أتاك بشاهدي ، عدل ، وإلا تبين لك كذبه وظلمه .
* * * ومن كلام زياد : تأخير جزاء المحسن لؤم ، وتعجيل عقوبة المسئ طيش .
وكتب إليه معاوية : أما بعد ، فاعزل حريث بن جابر عن العمل ، فإنى لا أذكر مقاماته بصفين إلا كانت حزازة في صدري ، فكتب إليه زياد أما بعد ، فخفض عليك يا أمير المؤمنين ، فإن حريثا قد سبق شرفا لا يرفعه معه عمل ، ولا يضعه معه عزل .
__________
(1) الرفه والارفاه : كثرة التدهن والتنعكم .
(*)(16/197)
وقال لابنه عبيد الله : عليك بالحجاب ، وإنما اجترأت الرعاة على السباع بكثرة نظرها إليها .
ومن كلامه : أحسنوا إلى أهل الخراج ، فإنكم لا تزالون سمانا ماسمنوا .
قدم رجل خصما له إلى زياد في حق له عليه وقال : أيها الامير ، إن هذا يدل بخاصة ذكر أنها له منك .
قال زياد : صدق ، وسأخبرك بما ينفعه عندي من خاصته ومودته ، إن يكن له الحق عليك آخذك به أخذا عنيفا ، وأن يكن الحق لك قضيت عليه ، ثم قضيت عنه .
وقال ليس العاقل من يحتال للامر إذا وقع فيه ، لكن العاقل من يحتال للامر الا يقع فيه .
وقال في خطبة له : ألا رب مسرور بقدومنا لا نسره ، وخائف ضرنا لانضره ! كان مكتوبا في الحيطان الاربعة في قصر زياد كتابه بالجص ، أربعه أسطر ، أولها : الشدة في غير عنفو ، واللين في غير ضعف .
والثانى : المحسن مجازى بإحسانه ، والمسئ يكافأ باساءته .
والثالث : العطيات والارزاق في إبانها وأوقاتها .
والرابع : لا احتجاب عن صاحب ثغر ، ولا عن طارق ليل .
وقال يوما على المنبر : إن الرجل ليتكلم بالكلمة يشفى بها غيظه لا يقطع بها ذنب عنز فتضره ، لو بلغتنا عنه لسفكنا دمه وقال : ما قرأت كتاب رجل قط إلا عرفت عقله منه .
وقال في خطبة : استوصوا بثلاثة منكم خيرا : الشريف ، والعالم ، والشيخ ، فو الله لا يأتيني وضيع بشريف يستخف به إلا انتقمت منه ، أو شاب بشيخ يستخف به الا إوجعته ضربا ، ولا جاهل بعالم يستخف به إلا نكلت به .(16/198)
وقيل لزياد : ما الحظ ؟ قال : أن يطول عمرك ، وترى في عدوك ما يسرك .
قيل : كان زياد يقول : هما طريقان للعامة الطاعه والسيف .
وكان المغيرة يقول : لا والله حتى يحملوا على سبعين طريقا غير السيف .
وقال الحسن البصري لرجل : ألا تحدثني بخطبتى زياد والحجاج حين دخلا العراق ! قال : بلى ، أما زياد فلما قدم البصرة حمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد ، فإن معاوية غير مخوف على قومه ، ولم يكن ليلحق بنسبه من ليس منه ، وقد شهدت الشهود بما قد بلغكم ، والحق أحق أن يتبع ، والله حيث وضع البينات كان أعلم ، قد رحلت عنكم وأنا أعرف صديقى من عدوى ، ثم قدمت عليكم وقد صار العدو صديقا مناصحا ، والصديق عدوا مكاشحا ، فليشتمل كل امرئ على ما في صدره ، ولا يكونن لسانه شفره تجرى على أوداجه ، وليعلم أحدكم إذا خلا بنفسه أنى قد حملت سيفى بيدى ، فإن شهره لم أغمده ، وأن أغمده لم أشهره .
ثم نزل .
وأما الحجاج فإنه قال : من أعياه داؤه ، فعلى دواؤه ، ومن استبطأ أجله ، فعلى أن أعجله ، ألا إن الحزم والعزم استلبا منى سوطي ، وجعلا سوطي سيفى ، فنجاده في عنقي ، وقائمه بيدى ، وذبابه قلادة لمن اغتر بى .
فقال الحسن : البؤس لهما ، ما أغرهما بربهما ! اللهم اجعلنا ممن يعتبر بهما .
وقال بعضهم : ما رأيت زيادا كاسرا إحدى عينيه ، واضعا إحدى رجليه على الاخرى يخاطب رجلا إلا رحمت المخاطب .
ومن كلامه : نعم الشئ الامارة ، لو لا قعقعه لجام البريد ، وتسنم ذروة المنبر .
قال لحاجبه : يا عجلان ، إنى قد وليتك هذا الباب وعزلتك عن أربعة : المنادى إذا جاء يؤذن بالصلاة ، فإنها كانت كتابا موقوتا ، ورسول صاحب الثغر ، فإنه إن أبطا(16/199)
ساعة فسد تدبير سنه ، وطارق الليل فشر ما جاء به ، والطباخ إذا فرغ من الطعام ، فإنه متى أعيد عليه التسخين فسد .
وكان حارثة بن بدر الغدانى قد غلب على زياد ، وكان حارثة مشتهرا بالشراب ، فقيل لزياد في ذلك ، فقال : كيف باطراح رجل هو يسايرنى منذ قدمت العراق فلا يصل ركابه ركابي ، ولا تقدمنى قط فنظرت إلى قفاه ، ولا تأخر عنى فلويت عنقي إليه ، ولا أخذ على الشمس في شتاء قط ، ولا الروح في صيف قط ، ولا سألته عن علم .
إلا ظننته لا يحسن غيره .
ومن كلامه : كفى بالبخل عارا أن أسمه لم يقع في حمد قط ، وكفى بالجود فخرا أن أسمه لم يقع في ذم قط .
وقال : ملاك السلطان الشدة على المريب ، واللين للمحسن ، وصدق الحديث والوفاء بالعهد .
وقال : ما أتيت مجلسا قط إلا تركت منه ما لو أخذته لكان لى ، وترك ما لى أحب إلى من أخذ ما ليس لى .
وقال : ما قرأت مثل كتب الربيع بن زياد الحارثى ، ما كتب إلى كتابا قط إلا في اجترار منفعة ، أو دفع مضرة ، لا شاورته يوما قط في أمر مبهم إلا وسبق إلى الرأى .
وقال : يعجبنى من الرجل إذا أتى مجلسا أن يعلم أين مكانه منه ، فلا يتعداه إلى غيره ، وإذا سيم خطة خسف أن يقول (لا) بملء فيه .
* * * فأما خطبة زياد المعروفة بالبتراء - وإنما سميت بذلك لانه لم يحمد الله ، فيها ولا صلى على رسوله - فقد ذكرها على بن محمد المدائني قال : قدم زياد البصره أميرا عليها أيام معاوية والفسق فيها فاش جدا ، وأموال الناس منتهبة ، والسياسة ضعيفة فصعد المنبر فقال :(16/200)
أما بعد ، فإن الجاهلية الجهلاء (1) ، والضلالة العمياء ، والغى الموفد لاهله على النار ، ما فيه سفهاؤكم ، ويشتمل عليه حلماؤكم ، من الامور العظام ، ينبت فيها الصغير ، ولا يتحاشى منها الكبير ، كأنكم لم تقرءوا كتاب الله ، ولم تستمعوا ما أعد من الثواب الكثير لاهل طاعته ، والعذاب الاليم لاهل معصيته ، في الزمن السرمد الذى لا يزول .
أتكونون كمن طرفت عينه (2) الدنيا ، وسدت مسامعه الشهوات ، وأختار الفانية على الباقيه ! لا تذكرون (3) أنكم أحدثتم في الاسلام الحدث الذى لم تسبقوا به ، من ترككم الضعيف يقهر ويؤخذ ماله (4) ، والضعيفة المسلوبة في النهار المبصر ، هذا والعدد غير قليل ! ألم يكن منكم نهاة تمنع الغواة عن دلج الليل (5) وغارة النهار ! قربتم القرابة ، وباعدتم الذين يعتذرون بغير العذر ، ويعطون (6) على المختلس ، كل امرئ منكم يذب عن سيفه ، صنيع (7) من لا يخاف عاقبه ، ولا يرجو معادا .
ما أنتم بالحلماء ، وقد اتبعتم السفهاء ، فلم يزل بهم ما ترون من قيامكم دونهم حتى أنتهكوا حرمه (8) الاسلام ، ثم أطرقوا وراءكم كنوسا في مكانس الريب .
حرم على الطعام والشراب حتى أسويها بالارض هدما وإحراقا ! إنى رأيت آخر هذا الامر لا يصلح إلا بما صلح به أوله ! لين في غير ضعف ، وشده في غير عنف .
وأنا أقسم بالله لاخذن الولى بالولي ، والظاعن بالظاعن ، والمقبل بالمدبر ، والصحيح منكم في نفسه بالسقيم ، حتى يلقى الرجل أخاه
__________
(1) الجاهلية الجهلاء ، وصف على المبالغة ، كما يقال : ليلة ليلاء ، ويوم أيوم ، وهمج هاج .
(2) طرفت عينه الدنيا ، أي صرفته عن الحق .
(3) ا : (أتذكرون) .
(4) بعدها في البيان : (وهذه المواخير المنصوبة) .
(5) الدلج : السير من أول الليل ، وقد أدلجوا ، فإن ساروا من اخره فادلجوا ، بالتشديد .
(6) ا والبيان : (ويغضون على المختلس) .
(7) ا والطبري : (صنع) .
(8) البيان : (حرم الاسلام) .(16/201)
فيقول : انج سعد فقد هلك سعيد (1) ، أو تستقيم لى قناتكم .
إن كذبه المنبر تلفى (2) مشهورة ، فإذا تعلقتم على بكذبة فقد حلت لكم معصيتى ! من نقب عليه منكم فأتا ضامن لما ذهب منه .
فإياكم ودلج الليل ، فإنى لا أوتى بمدلج إلا سفكت دمه .
وقد أجلتكم بقدر ما يأتى الخبر الكوفه ، ويرجع إليكم .
إياكم ودعوى الجاهلية ، فإنى لا أجد أحدا دعابها ألا قطعت لسانه ، وقد أحدثتم أحداثا ، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة ، فمن غرق بيوت قوم غرقناه ، ومن حرق على قوم حرقناه ، ومن نقب على أحد بيتا نقبنا على قلبه ، ومن نبش قبرا دفناه فيه حيا .
كفوا عنى أيديكم وألسنتكم ، أكف عنكم يدى ولساني .
ولا يظهرن من أحدكم خلاف ما عليه عامتكم فأضرب عنقه .
وقد كانت بينى وبين أقوام إحن فقد جعلت ذلك وراء أذنى ، وتحت قدمى ، فمن كان منكم محسنا فليزدد احسانا ، ومن كان مسيئا فلينزع عن إساءته ، إنى لو علمت أن أحدكم قد قتله السلال (3) من بغضى لم أكشف عنه قناعا ، ولم أهتك له سترا حتى يبدى لى صفحته ، فإذا فعل لم أناظره .
فاستأنفوا أموركم وأعينوا على أنفسكم ، فرب مبتئس بقدومنا سيسر ، ومسرور بقدومنا سيبأس .
أيها الناس ، إنا أصبحنا لكم ساسة ، وعنكم ذادة نسوسكم بسلطان الله الذى أعطاناه ، ونذود عنكم بفئ الله الذى خولناه ، فلنا عليكم السمع والطاعه فيما أحببنا ، ولكم علينا العدل والانصاف فيما ولينا فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم لنا ، واعلموا أنى مهما قصرت عنه فلن أقصر عن ثلاث : لست محتجبا عن طالب حاجه منكم ،
__________
(1) سعد وسعيد ، هما ابنا ضبة بن أد ، خرجا في طلب إبل لابيهما ، فوجدها سعد فردها ، وقتل سعيد ، فكان ضبة إذا رأى سوادا تحت الليل قال : سعد أم سعيد ! (2) ا : (تبقى) ، وفي البيان : (بلقاء مشهورة) .
(3) البيان : (السل) .
(*)(16/202)
ولا حابساعطاء ، ولا مجمرا (1) بعثا ، فادعوا الله بالصلاح لائمتكم فإنهم ساستكم المؤدبون ، وكهفكم الذى إليه تأوون ، ومتى يصلحوا تصلحوا ، فلا تشربوا قلوبكم بغضهم ، فيشتد لذلك غيظكم ، ويطول لذلك حزنكم ، ولا تدركوا حاجتكم ، مع أنه لو استجيب لاحد منكم لكان شرا لكم .
أسال الله أن يعين كلا على كل .
وإذا رأيتموني أنفذ فيكم الامر فأنفذوه على اذلاله (2) .
وايم الله إن لى فيكم لصرعى كثيرة ، فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرعاى .
فقام عبد الله بن الاهتم فقال : أشهد أيها الامير ، لقد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب .
فقال : كذبت ، ذاك نبى الله داود .
فقام الاحنف فقال : إنما الثناء بعد البلاء ، والحمد بعد العطاء ، وأنا لا نثنى حتى نبتلى ، ولا نحمد حتى نعطى .
فقال زياد : صدقت فقام أبو بلال مرداس بن أدية يهمس ويقول : أنبأنا الله بغير ما قلت ، (فقال) : (وإبراهيم الذى وفى * ألا تزر وازرة وزر أخرى) (4) ، فسمعها زياد فقال : يا أبا بلال ، إنا لا نبلغ ما نريد بأصحابك حتى نخوض إليهم الباطل خوضا (5) .
* * * وروى الشعبى : قال : قدم زياد الكوفه لما جمعت له مع البصرة ، فدنوت من المنبر لاسمع كلامه ، فلم أر أحدا يتكلم فيحسن إلا تمنيت أن يسكت مخافة أن يسئ ، إلا زيادا فإنه كان لا يزداد إكثارا إلا ازداد إحسانا ، فكنت تمنى إلا يسكت .
__________
(1) تجمير الجند : أن يحسبهم في أرض العدو ويحسبهم عن العود إلى أهلهم .
(2) على أذلاله ، على طرقه ووجوهه ، واحده ذل ، وهو ما ذلل ومهد من الطريق .
(3) من البيان .
(4) بعدها في البيان : (وأنت تزعم أنك تأخذ البرئ بالسقيم ، والمطيع يالعاصى والمقبل بالمدبر) .
(5) الجطبه رواها الجاحظ في البيان والتبيين 2 : 61 ، وهى أيضا في عيون الاخبار 2 : 241 ، ونوادر القالى 1 : 185 ، والطبري (حوادث 45) (*)(16/203)
وروى الشعبى أيضا ، قال : لما خطب زياد خطبته البتراء بالبصرة ونزل سمع تلك الليلة أصوات الناس يتحارسون ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : إن البلد مفتونه ، وإن المرأه من أهل المصر لتأخذها الفتيان الفساق فيقال لها : نادى ثلاث أصوات ، فأن أجابك أحد وإلا فلا لوم علينا فيما نصنع .
فغضب فقال : ففيم أنا ، وفيم قدمت ! فلما أصبح أمر فنودى في الناس ، فاجتمعوا فقال : أيها الناس ، إنى قد نبئت بما أنتم فيه وسمعت ذروا (1) منه ، وقد أنذرتكم وأجلتكم شهرا مسير الرجل إلى الشام ، ومسيره إلى خراسان ، ومسيره إلى الحجاز ، فمن وجدناه بعد شهر خارجا من منزله بعد العشاء الاخرة فدمه هدر .
فانصرف الناس يقولون : هذا القول كقول من تقدمه من الامراء ، فلما كمل الشهر دعا صاحب شرطته عبد الله بن حصين اليريوعى - وكانت رجال الشرطة معه أربعة آلاف - فقال له : هئ خيلك ورجلك ، فإذا صليت العشاء الاخرة ، وقرأ القارئ مقدار سبع من القرآن ، ورفع الطن القصب من القصر ، فسر ولا تلقين أحدا ، عبيد الله بن زياد فمن دونه ، إلا جئتني برأسه ، وإن راجعتني في أحد ضربت عنقك .
قال : فصبح على باب القصر تلك الليلة سبعمائة رأس ، ثم خرج الليله الثانية فجاء بخمسين رأسا ، ثم خرج الليلة الثالثة فجاء برأس واحد ، ثم لم يجئ بعدها بشئ ، وكان الناس إذا صلوا العشاء الاخرة أحضروا إلى منازلهم شدا حثيثا ، وقد يترك بعضهم نعاله .
كتبت عائشة إلى زياد كتابا ، فلم تدر ما تكتب عنوانه ! إن كتبت زياد بن عبيد أو ابن أبيه أغضبته ، وأن كتبت زياد بن أبى سفيان أثمت فكتبت : من أم المؤمنين إلى ابنها زياد .
فلما قرأه ضحك .
وقال : لقد لقيت أم المؤمنين من هذا العنوان نصبا !
__________
(1) ذروا : أي طرفا .
(*)(16/204)
(45) الاصل : ومن كتاب له عليه السلام الى عثمان بن حنيف الانصاري - كان عامله على البصرة وقد بلغه أنه دعى إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها - قوله : أما بعد يا بن حنيف ، فقد بلغني أن رجلا من فتيه أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها ، تستطاب لك الالوان ، وتنقل إليك الجفان .
وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو ، وغنيهم مدعو .
فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم ، فما اشتبه عليك علمه فالفظه ، وما أيقنت بطيب وجهه فنل منه .
ألا وإن لكل مأموم إماما يقتدى به ، ويستضئ بنور علمه ، ألا وأن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمرية ، ومن طعمه بقرصيه .
ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ، ولكن أعينوني بورع وأجتهاد ، وعفه وسداد ، فو الله (1) ما كنزت من دنياكم تبرا ، ولا ادخرت من غنائمها وفرا ، ولا أعددت لبالى ثوبي طمرا ، ولا حزت من أرضها شبرا ، ولا أخذت منه إلا كقوت أتان دبرة ، ولهى في عينى أوهى من عفصة مقرة .
* * * الشرح : (عثمان بن حنيف ونسبه) هو عثمان بن حنيف - بضم الحاء - بن واهب بن العكم بن ثعلبة بن الحارث الانصاري
__________
(1) ب : (اللهم) .
(*)(16/205)
ثم الاوسي أخو سهل بن حنيف ، يكنى أبا عمرو - وقيل : أبا عبد الله - عمل لعمر ثم لعلى ع ، وولاه عمر مساحه الارض وجبايتها بالعراق ، وضرب الخراج والجزية على أهلها وولاه على عليه السلام على البصرة ، فأخرجه طلحة والزبير منها حين قدماها ، وسكن عثمان الكوفة بعد وفاة على عليه السلام ، ومات بها في زمن معاوية .
* * * قوله : (من فتية البصرة) ، أي من فتيانها ، أي من شبابها أو من أسخيائها ، يقال للسخى : هذا فتى ، والجمع فتية وفتيان وفتو ، ويروى : (أن رجلا من قطان البصرة) ، أي سكانها .
والمأدبة ، بضم الدال : الطعام يدعى إليه القوم ، وقد جاءت بفتح الدال أيضا ، يقال ، أدب فلان القوم يأدبهم بالكسر ، أي دعاهم إلى طعامه ، والادب : الداعي إليه قال طرفة : نحن في المشتاة ندعو الجفلى لا ترى الادب فينا ينتقر (1) .
ويقال أيضا : أدبهم إلى طعامه يؤدبهم إيدابا ، ويروى : (وكثرت عليك الجفان فكرعت وأكلت أكل ذئب نهم ، أو ضبع قرم) .
وروى : (وما حسبتك تأكل طعام قوم) .
ثم ذم أهل البصرة فقال : (عائلهم مجفو ، وغنيهم مدعو) ، والعائل : الفقير ، وهذا كقول الشاعر : فإن ملق فأنت لنا عدو فإن تثر فأنت لنا صديق .
__________
(1) ديوانه 79 المشتاة : زمن الشتاء .
والجفلى : أن يعم المرء بدعوته إلى الطعام ولا يخص أحدا دون الاخر .
والانتقار : أن يدعو النقرى ، وهى أن يخص بدعوته ولا يعمها .
(*)(16/206)
ثم أمره بأن يترك ما فيه شبهة إلى ما لا شبهة فيه ، وسمى ذلك قضما ومقضما وإن كان مما لا يقضم لاحتقاره له ، وازدرائه إياه ، وأنه عنده ليس مما يستحق أن يسمى بأسماء المرغوب فيه ، المتنافس عليه ، وذلك لان القضم يطلق على معنيين : أحدهما على أكل الشئ اليابس ، والثانى على ما يؤكل ببعض الفم ، وكلاهما يدلان على أن ذلك المقضم المرغوب عنه ، لا فيه .
ثم ذكر ع حال نفسه فقال : (إن إمامكم قد قنع من الدنيا بطمريه) ، والطمر الثوب الخلق البالى ، وإنما جعلهما اثنين لانهما إزار ورداء لا بد منهما ، أي للجسد والرأس .
قال : (ومن طعمه بقرصيه)) ، أي قرصان يفطر عليهما لا ثالث لهما .
وروى : (قد اكتفى من الدنيا بطمريه ، وسد فورة جوعه بقرصيه ، لا يطعم الفلذة في حوليه إلا في يوم أضحيه) .
ثم قال : إنكم لن تقدروا على ما أقدر عليه ، ولكني أسألكم أن تعينوني بالورع والاجتهاد .
ثم أقسم أنه ما كنز ذهبا ، ولا ادخر مالا ، ولا أعد ثوبا باليا سملا لبالى ثوبيه ، فضلا عن أن يعد ثوبا قشيبا كما يفعله الناس في إعداد ثوب جديد ليلبسوه عوض الاسمال التى ينزعونها ، ولا حاز من أرضها شبرا ، والضمير في (أرضها) يرجع إلى (دنياكم) ، ولا أخذ منها إلا كقوت أتان دبرة ، وهى التى عقر ظهرها فقل أكلها .
ثم قال : (ولهى في عينى أهون من عفصة مقرة) ، أي مرة ، مقر الشئ بالكسر أي صار مرا ، وأمقره بالهمز أيضا قال لبيد : ممقر مر على أعدائه وعلى الادنين حلو كالعسل (1)
__________
(1) ديوانه 197 .
(*)(16/207)
الاصل : بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء ، فشحت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس آخرين ، ونعم الحكم الله .
وما أصنع بفدك وغير فدك ، والنفس مظانها في غد جدث تنقطع في ظلمته آثارها وتغيب أخبارها ، وحفرة لو زيد في فسحتها ، وأوسعت يدا حافرها ، لاضغطها الحجر والمدر ، وسد فرجها التراب المتراكم ، وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتى آمنة يوم الخوف الاكبر ، وتثبت على جوانب المزلق .
* * * الشرح : الجدث : القبر ، وأضغطها الحجر : جعلها ضاغطة والهمزة للتعدية ، ويروى : (وضغطها) .
وقوله : (مظانها في غد جدث) ، المظان : جمع مظنة ، وهو موضع الشئ ومالفه الذى يكون فيه ، قال : فإن يك عامر قد قإل جهلا فان مظنة الجهل الشباب (1) يقول : لا مال لى ، ولا اقتنيت فيما مضى مالا ، وإنما كانت في أيدينا فدك فشحت عليها نفوس قوم ، أي بخلت وسخت عنها نفوس آخرين ، أي سامحت وأغضت .
وليس يعنى هاهنا بالسخاء إلا هذا ، لا السخاء الحقيقي ، لانه عليه السلام وأهله لم يسمحوا بفدك إلا غصبا وقسرا ، وقد قال هذه الالفاظ في موضع آخر فيما تقدم ، وهو يعنى الخلافة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله .
__________
(1) للنابة الذبيانى ، ديوانه 14 .(16/208)
ثم قال : (ونعم الحكم الله) ، الحكم : الحاكم ، وهذا الكلام كلام شاك متظلم ثم ذكر مال الانسان وأنه لا ينبغى أن يكترث بالقينات والاموال ، فإنه يصير عن قريب إلى دار البلى ومنازل الموتى .
ثم ذكر أن الحفرة ضيقة وأنه لو وسعها الحافر لالجأها الحجر المتداعى والمدر المتهافت ، إلى أن تضغط الميت وتزحمه .
وهذا كلام محمول على ظاهره لانه خطاب للعامه ، وإلا فأى فرق بين سعة الحفرة وضيقها على الميت ! اللهم إلا أن يقول قائل : إن الميت يحس في قبره ، فإذا قيل ذلك فالجاعل له حساسا بعد عدم الحس هو الذى يوسع الحفرة ، وإن كان الحافر قد جعلها ضيقة ، فإذن هذا الكلام جيد لخطاب العرب خاصة ، ومن يحمل الامور على ظواهرها .
ثم قال : (وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى) ، يقول : تقللي واقتصارى من المطعم والملبس على الجشب والخشن رياضه لنفسي ، لان ذلك إنما أعمله خوفا من الله أن أنغمس في الدنيا ، فالرياضة بذلك هي رياضة في الحقيقة بالتقوى ، لا بنفس التقلل والتقشف ، لتأتى نفسي آمنة يوم الفزع الاكبر ، وتثبت في مداحض الزلق .
* * * (ذكر ما ورد من السير والاخبار في أمر فدك) واعلم أنا نتكلم في شرح هذه الكلمات بثلاثة فصول : الفصل الاول فيما ورد في الحديث والسير من أمر فدك ، والفصل الثاني في هل النبي صلى الله عليه وآله يورث أم لا ؟ ، والفصل الثالث في أن فدك ، هل صح كونها نحلة من رسول الله صلى الله عليه وآله لفاطمة أم لا ؟ (14 - نهج - 16)(16/209)
الفصل الاول : فيما ورد من الاخبار والسير المنقولة من أفواه أهل الحديث وكتبهم ، لا من كتب الشيعة ورجالهم ، لانا مشترطون على أنفسنا ألا نحفل بذلك ، وجميع ما نورده في هذا الفصل من كتاب أبى بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهرى في السقيفة وفدك وما وقع من الاختلاف والاضطراب عقب وفاة النبي صلى الله عليه وآله ، وأبو بكر الجوهرى هذا عالم محدث كثير الادب ، ثقه ورع ، أثنى عليه المحدثون ورووا عنه مصنفاته .
قال أبو بكر : حدثنى أبو زيد عمر بن شبة قال : حدثنا حيان بن بشر ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، قال : أخبرنا ابن أبى زائدة ، عن محمد بن أسحاق عن الزهري قال : بقيت بقية من أهل خيبر تحصنوا .
فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله أن يحقن دماءهم ويسيرهم ، ففعل ، فسمع ذلك أهل فدك (1) فنزلوا (2) على مثل ذلك ، وكانت للنبى صلى الله عليه وآله خاصة ، لانه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب .
قال أبو بكر : وروى محمد بن إسحاق إيضا ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما فرغ من خيبر قذف الله الرعب في قلوب أهل فدك ، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فصالحوه على النصف من فدك ، فقدمت عليه رسلهم بخيبر أو بالطريق ، أو بعد ما أقام بالمدينة ، فقبل ذلك منهم ، وكانت فدك لرسول الله صلى الله عليه وآله خالصة له لانه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب .
قال : وقد روى أنه صالحهم عليها كلها ، الله إعلم أي الامرين كان .
قال : وكان مالك بن أنس يحدث عن عبد الله بن أبى بكر بن عمرو بن حزم أنه صالحهم على النصف فلم يزل الامر كذلك حتى أخرجهم عمر بن الخطاب وأجلاهم بعد أن عوضهم عن النصف الذى كان لهم عوضا من إبل وغيرها .
__________
(1) فدك : قرية بالحجاز ، بينها وبين المدينة يومان .
(2) في ا (وكانوا) .
(*)(16/210)
وقال غير مالك بن أنس : لما أجلاهم عمر بعث إليهم من يقوم الاموال ، بعث أبا الهيثم بن التيهان ، وفروة بن عمرو ، وحباب بن صخر وزيد بن ثابت فقوموا أرض فدك ونخلها ، فأخذها عمر ، ودفع إليهم قيمة النصف الذى لهم وكان مبلغ ذلك خمسين ألف درهم ، أعطاهم إياها من مال أتاه من العراق ، وأجلاهم الى الشام .
قال أبو بكر : فحدثني محمد بن زكريا قال : حدثنى جعفر بن محمد بن عمارة الكندى قال : حدثنى أبى ، عن الحسين بن صالح بن حى ، قال ، حدثنى رجلان من بنى هاشم ، عن زينب بنت على بن ابى طالب عليه السلام .
قال : وقال جعفر بن محمد بن على بن الحسين عن أبيه .
قال أبو بكر : وحدثني عثمان بن عمران العجيفى ، عن نائل بن نجيح بن عمير بن شمر ، عن جابر الجعفي ، عن أبى جعفر محمد بن على عليه السلام .
قال أبو بكر : وحدثني أحمد بن محمد بن يزيد ، عن عبد الله بن محمد بن سليمان ، عن أبيه ، عن عبد الله ابن حسن بن الحسن .
قالوا جميعا : لما بلغ فاطمة عليه السلام إجماع أبى بكر على منعها فدك ، لاثت خمارها ، وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها ، تطأ في ذيولها ، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وآله ، حتى دخلت على أبى بكر وقد حشد الناس من المهاجرين والانصار ، فضرب بينها وبينهم ريطة بيضاء - وقال بعضهم : قبطية ، وقالوا : قبطية بالكسر والضم - ثم أنت أنه أجهش لها القوم بالبكاء ، ثم أمهلت طويلا حتى سكنوا من فورتهم ، ثم قالت : أبتدئ بحمد من هو أولى بالحمد والطول والمجد ، الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم .
ذكر خطبة طويلة جيدة قالت في آخرها : (فاتقوا الله حق تقاته ، وأطيعوه فيما أمركم به ، فإنما يخشى الله من عباده العلماء ، واحمدوا الله الذى لعظمته ونوره يبتغى من في السموات والارض إليه الوسيلة ، ونحن وسيلتة في خلقه ، ونحن خاصته ، ومحل قدسه ، ونحن حجته في غيبه ، ونحن ورثة(16/211)
أنبيائه ، ثم قالت : أنا فاطمة أبنه محمد ، أقول عودا على بدء ، وما أقول ذلك سرفا ولا شططا ، فاسمعوا بأسماع واعية ، وقلوب راعية ، ثم قالت : (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم) (1) فإن تعزوه تجدوه أبى دون آبائكم ، وأخا أبن عمى دون رجالكم ، ثم ذكرت كلاما طويلا سنذكره فيما بعد في الفصل الثاني تقول ، في آخره : ثم أنتم الان تزعمون أن لا إرث لى ، (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) (2) إيها معاشر المسلمين ، ابتز إرث أبى ! أبى الله أن ترث يا بن أبى قحافه أباك ولا أرث أبى ، لقد جئت شيئا فريا ! فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله ، والزعيم محمد ، والموعد القيامة ، وعند الساعه يخسر المبطلون ، ولكل نبإ مستقر وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ! ثم التفتت إلى قبر أبيها فتمثلت بقول هند بنت أثاثة : قد كان بعدك أنباء وهينمة لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب (3) أبدت رجال لنا نجوى صدورهم لما قضيت وحالت دونك الكتب تجهمتنا رجال وأستخف بنا إذا غبت عنا فنحن اليوم نغتصب قال : ولم ير الناس أكثر باك ولا باكية منهم يومئذ .
ثم عدلت إلى مسجد الانصار فقالت : يا معشر البقية ، وأعضاد الملة ، وحضنة الاسلام ، ما هذه الفترة عن نصرتي ، والونية عن معونتي ، والغمزة في حقى ، والسنة عن ظلامتي ! أما كان رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : (المرء يحفظ في ولده) ! سرعان ما أحدثتم ، وعجلان ما أتيتم .
ألان مات رسول الله صلى الله عليه وآله أمتم دينه ! ها إن موته لعمري خطب جليل استوسع وهنه ،
__________
(1) سورة التوبة 128 ، 129 .
(2) سورة المائدة 50 .
(3) الهينمة : الصوت الخفى ، وانظر اللسان .
(*)(16/212)
واستبهم فتقه ، وفقد راتقه ، وأظلمت الارض له ، وخشعت الجبال ، وأكدت الامال أضيع بعده الحريم ، وهتكت الحرمة ، وأذيلت المصونة ، وتلك نازلة أعلن بها كتاب الله قبل موته ، وأنبأكم بها قبل وفاته ، فقال : (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين) (1) إيها بنى قيلة ! اهتضم تراث أبى ، وأنتم بمرأى ومسمع ، تبلغكم الدعوة ، ويشملكم الصوت ، وفيكم العدة والعدد ، ولكم الدار والجنن وأنتم نخبة الله التى انتخب ، وخيرته التى اختار ! باديتم العرب ، وبادهتم الامور ، وكافحتم البهم حتى دارت بكم رحى الاسلام ، ودر حلبه ، وخبت نيران الحرب ، وسكنت فورة الشرك ، وهدأت دعوة الهرج ، واستوثق نظام الدين ، أفتأخرتم بعد الاقدام ، ونكصتم بعد الشدة وجبنتم بعد الشجاعة ، عن قوم نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم ! فقاتلوا أئمه الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون .
ألا وقد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض ، وركنتم إلى الدعة ، فجحدتم الذى وعيتم ، وسغتم الذى سوغتم ، وإن تكفرا وأنتم ومن في الارض جميعا فإن الله لغنى حميد ، الا وقد قلت لكم ما قلت على معرفة منى بالخذلة التى خامرتكم ، وخور القناة ، وضعف اليقين ، فدونكموها فاحتووها مدبرة الظهر ، ناقبة الخف ، باقية العار ، موسومة الشعار ، موصوله بنار الله الموقدة ، التى تطلع على الافئدة ، فبعين الله ما تعملون (وسيعلم الذى ظلموا أي منقلب ينقلبون) .
قال : وحدثني محمد بن زكريا قال : حدثنا محمد بن الضحاك قال : حدثنا هشام بن محمد ، عن عوانة بن الحكم قال : لما كلمت فاطمة عليه السلام أبا بكر بما كلمته به حمد أبو بكر الله وأثنى عليه وصلى على رسوله ثم قال : يا خيرة النساء ، وأبنة خير الاباء ، والله ما عدوت رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وما عملت إلا بأمره ، وإن الرائد
__________
(1) سورة أل عمران 144 .
(*)(16/213)
لا يكذب أهله ، وقد قلت فأبلغت ، وأغلظت فأهجرت ، فغفر الله لنا ولك .
أما بعد ، فقد دفعت آله رسول الله ودابته وحذاءه إلى على عليه السلام وأما ما سوى ذلك فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : (إنا معاشر الانبياء لا نورث ذهبا ولا فضة ولا أرضا ولا عقارا ولا دارا ، ولكنا نورث الايمان والحكمة والعلم والسنة) ، فقد عملت بما أمرنى ونصحت له ، وما توفيقي الا بالله عليه توكلت وإليه أنيب .
قال أبو بكر : وروى هشام بن محمد ، عن أبيه قال : قالت فاطمة لابي بكر : إن أم أيمن تشهد لى أن رسول الله صلى الله عليه وآله أعطاني فدك ، فقال لها : يا ابنه رسول الله والله ، ما خلق الله خلقا أحب إلى من رسول الله صلى الله عليه وآله أبيك ، ولوددت أن السماء وقعت على الارض يوم مات أبوك ، والله لان تفتقر عائشة أحب إلى من أن تفتقري ، أتراني أعطى الاحمر والابيض حقه وأظلمك حقك ، وأنت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ! إن هذا المال لم يكن للنبى صلى الله عليه وسلم وإنما كان مالا من أموال المسلمين يحمل النبي به الرجال ، وينفقه في سبيل الله ، فلما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وليته كما كان يليه .
قالت : والله لا كلمتك أبدا ! قال : والله لا هجرتك أبدا ، قالت : والله لادعون الله عليك ، قال : والله لادعون الله لك ، فلما حضرتها الوفاة أوصت ألا يصلى عليها ، فدفنت ليلا ، وصلى عليها عباس بن عبد المطلب ، وكان بين وفاتها ووفاة أبيها اثنتان وسبعون ليلة .
قال أبو بكر : وحدثني محمد بن زكريا ، قال : حدثنا جعفر بن محمد بن عمارة بالاسناد الاول قال : فلما سمع أبو بكر خطبتها شق عليه مقالتها فصعد المنبر وقال : أيها الناس ، ما هذه الرعة إلى كل قالة ! أين كانت هذه الامانى في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم(16/214)
ألا من سمع فليقل ، ومن شهد فليتكلم ، إنما هو ثعالة شهيده ذنبه ، مرب لكل فتنة ، هو الذى يقول : بكروها جذعة بعد ما هرمت ، يستعينون بالضعفة ويستنصرون بالنساء ، كأم طحال أحب أهلها إليها البغى .
ألا أنى لو أشاء أن أقول لقلت ولو قلت لبحت ، إنى ساكت ما تركت .
ثم التفت إلى الانصار فقال : قد بلغني يا معشر الانصار مقالة سفهائكم ، وأحق من لزم عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتم فقد جاءكم فاويتم ونصرتم ألا إنى لست باسطا يدا ولا لسانا على من لم يستحق ذلك منا .
ثم نزل ، فانصرفت فاطمة عليه السلام إلى منزلها .
* * * قلت : قرأت هذا الكلام على النقيب أبى يحيى جعفر بن يحيى بن أبى زيد البصري وقلت له : من يعرض ؟ فقال : بل يصرح .
قلت : لو صرح لم أسالك .
فضحك وقال : بعلى بن أبى طالب عليه السلام ، قلت : هذا الكلام كله لعلى يقوله ! قال ، نعم ، إنه الملك يا بنى ، قلت : فما مقالة الانصار ؟ قال : هتفوا بذكر على فخاف من اضطراب الامر عليهم ، فنهاهم .
فسألته عن غريبه ، فقال : أما الرعه بالتخفيف ، أي الاستماع والاصغاء ، والقالة : القول ، وثعالة : اسم الثعلب علم غير مصروف ، ومثل ذؤاله للذئب ، وشهيده ذنبه ، أي لا شاهد له على ما يدعى إلا بعضه وجزء منه ، وأصله مثل ، قالوا : إن الثعلب أراد أن يغرى الاسد بالذئب ، فقال : إنه قد أكل الشاة التى كنت قد أعددتها لنفسك ، وكنت حاضرا ، قال : فمن يشهد لك بذلك ؟ فرفع ذنبه وعليه دم ، وكان الاسد قد افتقد الشاة .
فقبل شهادته وقتل الذئب ، ومرب : ملازم ، أرب بالمكان .
وكروها جذعة : أعيدوها إلى الحال الاولى ، يعنى الفتنة والهرج .
وأم طحال : أمرأة بغى في الجاهلية ، ويضرب بها المثل فيقال : أزنى من أم طحال .(16/215)
قال أبو بكر : وحدثني محمد بن زكريا قال ، حدثنى أبن عائشة ، قال : حدثنى أبى ، عن عمه قال : لما كلمت فاطمه أبا بكر بكى ، ثم قال : يابنة رسول الله ، والله ما ورث أبوك دينارا ولا درهما ، وإنه قال : إن الانبياء لا يورثون ، فقالت : إن فدك وهبها لى رسول الله صلى الله عليه وآله ، قال فمن يشهد بذلك ؟ فجاء على بن أبى طالب عليه السلام فشهد ، وجاءت أم أيمن فشهدت أيضا ، فجاء عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف فشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقسمها ، قال أبو بكر : صدقت يا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصدق على ، وصدقت أم أيمن وصدق عمر ، وصدق عبد الرحمن بن عوف ، وذلك أن مالك لابيك ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ من فدك قوتكم ، ويقسم الباقي ، ويحمل منه في سبيل الله ، فما تصنعين بها ؟ قالت : أصنع بها كما يصنع بها أبى ، قال : فلك على الله أن أصنع فيها كما يصنع فيها أبوك ، قالت : الله لتفعلن ! قال : الله لافعلن ، قالت : اللهم اشهد ، وكان أبو بكر يأخذ غلتها فيدفع إليهم منها ما يكفيهم ، ويقسم الباقي ، وكان عمر كذلك ، ثم كان عثمان كذلك : ثم كان على كذلك ، فلما ولى الامر معاوية بن أبى سفيان أقطع مروان بن الحكم ثلثها ، وأقطع عمرو بن عثمان بن عفان ثلثها ، وأقطع يزيد بن معاوية ثلثها ، وذلك بعد موت الحسن بن على عليه السلام ، فلم يزالوا يتداولونها حتى خلصت كلها لمروان بن الحكم أيام خلافته ، فوهبها لعبد العزيز ابنه ، فوهبها عبد العزيز لابنه عمر بن عبد العزيز ، فلما ولى عمر بن العزيز الخلافة ، كانت أول ظلامة ردها دعا حسن بن الحسن بن على بن أبى طالب عليه السلام - وقيل : بل دعا على بن الحسين عليه السلام - فردها عليه ، وكانت بيد أولاد فاطمة عليه السلام مده ولايه عمر بن عبد العزيز فلما ولى يزيد بن عاتكة قبضها منهم ، فصارت في أيدى بنى مروان كما كانت يتداولونها ، حتى انتقلت الخلافه عنهم ، فلما ولى أبو العباس السفاح ردها على عبد الله(16/216)
ابن الحسن بن الحسن ، ثم قبضها أبو جعفر لما حدث من بنى حسن ما حدث ، ثم ردها المهدى ابنه على ولد فاطمة عليه السلام ، ثم قبضها موسى بن المهدى وهارون أخوه فلم تزل أيديهم حتى ولى المأمون ، فردها على الفاطميين .
قال أبو بكر : حدثنى محمد بن زكريا قال : حدثنى مهدى بن سابق ، قال : جلس المأمون للمظالم ، فأول رقعة وقعت في يده نظر فيها وبكى ، وقال للذى على رأسه : ناد أين وكيل فاطمة ؟ فقام شيخ عليه دراعة وعمامة وخف تعزى ، فتقدم فجعل يناظره في فدك والمأمون يحتج عليه وهو يحتج على المأمون ، ثم أمر أن يسجل لهم بها ، فكتب السجل وقرئ عليه ، فأنفذه ، فقام دعبل إلى المأمون فأنشده الابيات التى أولها : أصبح وجه الزمان قد ضحكا برد مأمون هاشم فدكا (1) فلم تزل في أيديهم حتى كان في أيام المتوكل ، فأقطعها عبد الله بن عمر البازيار ، وكان فيها إحدى عشرة نخلة غرسها رسول الله صلى الله عليه وآله بيده ، فكان بنو فاطمة يأخذون ثمرها ، فإذا قدم الحجاج أهدوا لهم من ذلك التمر فيصلوتهم ، فيصير إليهم من ذلك مال جزيل جليل ، فصرم (2) عبد الله بن عمر البازيار ذلك التمر ، ووجه رجلا يقال له بشران بن أبى أمية الثقفى إلى المدينة فصرمه ، ثم عاد إلى البصرة ففلج .
قال أبو بكر : أخبرنا أبو زيد عمر بن شبة ، قال : حدثنا سويد بن سعيد والحسن بن عثمان قالا : حدثنا الوليد بن محمد ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة أن فاطمة عليه السلام أرسلت إلى أبى بكر تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وآله وهى حينئذ تطلب ما كان لرسول الله صلى الله عليه وآله بالمدينة وفدك وما بقى من خمس خيبر ، فقال أبو بكر :
__________
(1) 119 ، معجم البلدان (فدك) (2) صرم الخل : جذه وقطعه .
(*)(16/217)
ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (لا نورث ما تركناه صدقة) ، إنما ياكل آل محمد من هذا المال ، وأنى والله لا أغير شيئا من صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التى كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولاعملن فيها بما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا ، فوجدت من ذلك على أبى بكر وهجرته فلم تكلمه حتى توفيت ، وعاشت بعد أبيها سته أشهر ، فلما توفيت دفنها على عليه السلام ليلا ، ولم يؤذن بها أبا بكر .
قال أبو بكر : وأخبرنا أبو زيد قال : حدثنا إسحاق بن أدريس ، قال : حدثنا محمد بن أحمد ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وآله وهما حينئذ يطلبان أرضه بفدك وسهمه بخيبر ، فقال لهما أبو بكر : أنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يقول لا نورث ، ما تركنا صدقة) ، إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم من هذا المال ، وإنى والله لاأغير أمرا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله يصنعه إلا صنعته .
قال فهجرته فاطمة فلم تكلمه حتى ماتت .
قال أبو بكر : وأخبرنا أبو زيد قال : حدثنا عمر بن عاصم .
وموسى بن إسماعيل قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن الكلبى ، عن أبى صالح ، عن ام هانئ ، أن فاطمة قالت لابي بكر : من يرثك إذا مت ؟ قال : ولدى وأهلي ، قالت : فما لك ترث رسول الله صلى الله عليه وآله دوننا ؟ قال : يا ابنة رسول الله ، ما ورث أبوك دارا ولا مالا ولا ذهبا ولا فضة ، قالت : بلى سهم الله الذى جعله لنا ، وصار فيئنا الذى بيدك ، فقال لها سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : (إنما هي طعمة أطعمناها الله ، فإذا مت كانت بين المسلمين) .
قال أبو بكر : وأخبرنا أبو زيد قال : حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة قال : حدثنا محمد بن الفضل ، عن الوليد بن جميع ، عن أبى الطفيل قال : أرسلت فاطمة إلى أبى بكر(16/218)
أنت ورثت رسول الله صلى الله عليه وآله أم أهله ؟ قال : بل أهله ، قالت : فما بال سهم رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ قال : إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (أن الله أطعم نبيه طعمة) ، ثم قبضه ، وجعله للذى يقوم بعده ، فوليت أنا بعده ، على أن أرده على المسلمين قالت : أنت وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله اعلم .
قلت : في هذا الحديث عجب ، لانها قالت له : أنت ورثت رسول الله صلى الله عليه وآله أم أهله ؟ قال : بل أهله ، وهذا تصريح بأنه صلى الله عليه وآله موروث يرثه أهله ، وهو خلاف قوله : (لا نورث) .
وأيضا فإنه يدل على أن أبا بكر استنبط من قول رسول الله صلى الله عليه وآله أن الله أطعم نبيا طعمة أن يجرى رسول الله صلى الله عليه وآله عند وفاته مجرى ذلك النبي صلى الله عليه وآله أو يكون قد فهم أنه عنى بذلك النبي المنكر لفظا نفسه ، كما فهم من قوله في خطبته ، إن عبدا خيره الله بين الدنيا وما عند ربه ، فاختار ما عند ربه ، فقال أبو بكر : بل نفديك بانفسنا .
قال أبو بكر : وأخبرنا أبو زيد قال : أخبرنا القعنبى قال : حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن محمد بن عمر ، عن أبى سلمة ، أن فاطمة طلبت فدك من أبى بكر ، فقال : إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (إن النبي لا يورث) ، من كان النبي يعوله فأنا أعوله ، ومن كان النبي صلى الله عليه وسلم ينفق عليه فأنا أنفق عليه .
فقالت : يا أبا بكر ، أيرثك بناتك ولا يرث رسول الله صلى الله عليه وآله بناته ؟ فقال هو ذاك .
قال أبو بكر : وأخبرنا أبو زيد قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير قال : حدثنا فضيل بن مرزوق قال : حدثنا البحترى بن حسان قال : قلت لزيد بن على عليه السلام وأنا أريد أن أهجن أمر أبى بكر ، أن أبا بكر أنتزع فدك من فاطمة عليه السلام ، فقال ، إن أبا بكر كان رجلا(16/219)
رحيما ، وكان يكره أن يغير شيئا فعله رسول الله صلى الله عليه وآله ، فأتته فاطمة فقالت : إن رسول الله صلى الله عليه وآله أعطاني فدك ، فقال لها : هل لك على هذا بينة ؟ فجاءت بعلى عليه السلام ، فشهد لها ، ثم جاءت أم أيمن فقالت : ألستما تشهدان أنى من أهل الجنه ! قالا : بلى - قال أبو زيد يعنى أنها قالت لابي بكر وعمر - قالت : فأنا أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وآله أعطاها فدك ، فقال أبو بكر : فرجل آخر أو أمراة أخرى لتستحقي بها القضيه .
ثم قال أبو زيد : وايم الله لو رجع الامر إلى لقضيت فيها بقضاء أبى بكر .
قال أبو بكر : وأخبرنا أبو زيد قال : حدثنا محمد بن الصباح قال : حدثنا يحيى بن المتوكل أبو عقيل ، عن كثير النوال قال : قلت لابي جعفر محمد بن على عليه السلام : جعلني الله فداك ! أرأيت أبا بكر وعمر ، هل ظلماكم من حقكم شيئا - أو قال : ذهبا من حقكم بشئ ؟ فقال : لا ، والذى أنزل القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، ما ظلمنا من حقنا مثقال حبه من خردل ، قلت : جعلت فداك أفأتولاهما ؟ قال : نعم ويحك ! تولهما في الدنيا والاخرة ، وما أصابك ففى عنقي ، ثم قال : فعل الله بالمغيرة وبنان ، فإنهما كذبا علينا أهل البيت .
قال أبو بكر : وأخبرنا أبو زيد ، قال : حدثنا عبد الله بن نافع والقعنبى ، عن مالك عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة أن أزواج النبي صلى الله عليه وآله أردن لما توفى أن يبعثن عثمان بن عفان إلى أبى بكر يسألنه ميراثهن - أو قال ثمنهن - قالت : فقلت لهن : أليس قد قال النبي صلى الله عليه وآله (لا نورث ، ما تركنا صدقة) .
قال أبو بكر : وأخبرنا أبو زيد ، قال حدثنا عبد الله بن نافع والقعنبى وبشر بن عمر ، عن مالك ، عن أبى الزناد ، عن الاعرج ، عن أبى هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وآله .
قال : (لا يقسم ورثتي دينارا ولا درهما ، ما تركت بعد نفقة نسائى ومئونة عيالي فهو صدقه) .(16/220)
قلت : هذا حديث غريب ، لان المشهور أنه لم يرو حديث انتفاء الارث الا أبو بكر وحده .
وقال أبو بكر : وحدثنا أبو زيد عن الحزامى عن ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب ، عن عبد الرحمن الاعرج أنه سمع أبا هريرة يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : (والذى نفسي بيده لا يقسم ورثتي شيئا ، ما تركت صدقة) ، قال : وكانت هذه الصدقة بيد على عليه السلام ، غلب عليها العباس ، وكانت فيها خصومتهما ، فأبى عمر أن يقسمها بينهما حتى أعرض عنها العباس وغلب عليها عليه السلام ثم كانت بيد حسن وحسين ابني على عليه السلام ، ثم كانت بيد على بن الحسين عليه السلام والحسن بن الحسن ، كلاهما يتداولانها (1) ، ثم بيد زيد بن على عليه السلام .
قال أبو بكر : وأخبرنا أبو زيد قال : حدثنا عثمان بن عمر بن فارس ، قال : حدثنا يونس ، عن الزهري ، عن مالك بن أوس بن الحدثان ، أن عمر بن الخطاب دعاه يوما بعد ما ارتفع النهار ، قال : فدخلت عليه وهو جالس على سرير رمال ليس بينه وبين الرمال فراش ، على وسادة أدم ، فقال : يا مالك ، إنه قد قدم من قومك أهل أبيات حضروا المدينة ، وقد أمرت لهم برضخ (2) فاقسمه بينهم ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، مر بذلك غيرى ، قال : أقسم أيها المرء .
قال : فبينا نحن على ذلك إذ دخل يرفأ ، فقال : هل لك في عثمان وسعد وعبد الرحمن والزبير يستأذنون عليك ؟ قال : نعم ، فأذن لهم قال : ثم لبث قليلا ، ثم جاء فقال : هل لك في على والعباس يستأذنان عليك ؟ قال : ائذن لهما ، فلما دخلا ، قال عباس : يا أمير المؤمنين ، اقض بينى وبين هذا - يعنى عليا - وهما يختصمان في الصوافى (3) التى أفاء الله على رسوله
__________
(1) ب (يتولانها) تصححيف ، صوابه من ا (2) الرضخ هنا : المال .
(3) الصوافى : الاملاك الواسعة .
والخبر في اللسان (صفا) .
(*)(16/221)
من أموال بنى النضير ، قال : فاستب على والعباس عند عمر ، فقال عبد الرحمن : يا أمير المؤمنين : اقض بينهما وأرخ أحدهما من الاخر ، فقال عمر : أنشدكم الله الذى تقوم بإذنه السموات والارض ، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : (لا نورث ، ما تركناه صدقة) ، يعنى نفسه ؟ قالوا : قد قال ذلك ، فأقبل على العباس وعلى فقال : أنشدكما الله هل تعلمان ذلك ؟ قالا : نعم ؟ قال عمر : فإنى أحدثكم عن هذا الامر ، إن الله تبارك وتعالى خص رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الفئ بشئ لم يعطه غيره قال تعالى : (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شئ قدير (1)) ، وكانت هذه خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما اختارها دونكم ، ولا استأثر بها عليكم ، لقد أعطاكموها وثبتها فيكم حتى بقى منها هذا المال ، وكان ينفق منه على أهله سنتهم ، ثم يأخذ ما بقى فيجعله فيما يجعل مال الله عز وجل ، فعل ذلك في حياته ثم توفى ، فقال أبو بكر : أنا ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقبضه الله وقد عمل فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنتما حينئذ ، والتفت إلى على والعباس تزعمان أن أبا بكر فيها ظالم فاجر ، والله يعلم إنه فيها لصادق بار راشد ، تابع للحق ، ثم توفى الله أبا بكر ، فقلت أنا أولى الناس بأبى بكر وبرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقبضتها سنتين - أو قال سنين من إمارتى - أعمل فيها مثل ما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، ثم قال : وأنتما - وأقبل على العباس وعلى - تزعمان أنى فيها ظالم فاجر ، والله يعلم أنى فيها بار راشد ، تابع للحق ثم جئتماني وكلمتكما واحدة ، وأمركما ، جميع - فجئتني - يعنى العباس - تسألني نصيبك من أبن أخيك ، وجاءني هذا - يعنى عليا - يسألنى نصيب امرأته من أبيها ، فقلت لكما : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (لا نورث ، ما تركناه صدقة) ، فلما بدا لى أن
__________
(1) سورة الحشر 6 .
(*)(16/222)
أدفعها اليكما قلت : أدفعها على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، وبما عملت به فيها ، وإلا فلا تكلماني ! فقلتما : ادفعها الينا بذلك ، فدفعتها إليكما بذلك ، أفتلتمسان منى قضاء غير ذلك ! والله الذى تقوم بإذنه السموات والارض لا أقضى بينكما بقضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة ، فإن عجزتما عنها فادفعاها إلى فأنا أكفيكماها ! قال أبو بكر : وحدثنا أبو زيد قال : حدثنا إسحاق بن أدريس ، قال حدثنا عبد الله بن المبارك قال : حدثنى يونس ، عن الزهري قال : حدثنى مالك بن أوس بن الحدثان بنحوه ، قال فذكرت ذلك لعروة فقال : صدق مالك بن أوس ، أنا سمعت عائشة تقول : أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان إلى أبى بكر يسأل لهن ميراثهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه حتى كنت أردهن عن ذلك ، فقلت : ألا تتقين الله ، ألم تعلمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : (لا نورث ما تركناه صدقة) يريد بذلك نفسه ، إنما يأكل آل محمد من هذا المال ، فانتهى أزواج النبي صلى الله عليه وآله إلى ما أمرتهن به .
* * * قلت : هذا مشكل ، لان الحديث الاول يتضمن أن عمر أقسم على جماعة فيهم عثمان ، فقال نشدتكم الله ، ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (لا نورث ما تركناه صدقة) يعنى نفسه ! فقالوا : نعم ، ومن جملتهم عثمان ، فكيف يعلم بذلك فيكون مترسلا لازواج النبي صلى الله عليه وآله : يسأله أن يعطيهن الميراث ! اللهم إلا أن يكون عثمان وسعد وعبد الرحمن والزبير صدقوا عمر على سبيل التقليد لابي بكر فيما رواه وحسن الظن ، وسموا ذلك علما ، لانه قد يطلق على الظن اسم العلم .(16/223)
فإن قال قائل : فهلا حسن ظن عثمان برواية أبى بكر في مبدأ الامر فلم يكن رسولا لزوجات النبي صلى الله عليه وآله في طلب الميراث ؟ قيل له : يجوز أن يكون في مبدأ الامر شاكا ، ثم يغلب على ظنه صدقه لامارات اقتضت تصديقه ، وكل الناس يقع لهم مثل ذلك .
وها هنا إشكال آخر ، وهو أن عمر ناشد عليا والعباس : هل تعلمان ذلك ؟ فقالا : نعم ، فإذا كانا يعلمانه فكيف جاء العباس وفاطمة إلى أبى بكر يطلبان الميراث على ما ذكره في خبر سابق على هذا الخبر ، وقد أوردناه نحن ! وهل يجوز أن يقال : كان العباس يعلم ذلك ثم يطلب الارث الذى لا يستحقه ؟ وهل يجوز أن يقال : إن عليا كان يعلم ذلك ويمكن زوجته أن تطلب ما لا تستحقه ، خرجت من دارها إلى المسجد ، ونازعت أبا بكر وكلمته بما كلمته إلا بقوله وإذنه ورأيه .
وأيضا فإنه إذا كان صلى الله عليه وآله لا يورث ، فقد أشكل دفع آلته ودابته وحذائه إلى على عليه السلام ، لانه غير وارث في الاصل ، وأن كان أعطاه ذلك لان زوجته بعرضه أن ترث ، لو لا الخبر ، فهو أيضا غير جائز ، لان الخبر قد منع أن يرث منه شيئا قليلا كان أو كثيرا .
فإن قال قائل : نحن معاشر الانبياء لا نورث ذهبا ولا فضه ولا أرضا ولا عقارا ودارا .
قيل : هذا الكلام يفهم من مضمونه أنهم لا يورثون شيئا أصلا لان عادة العرب رب جارية بمثل ذلك ، وليس يقصدون نفى ميراث هذه الاجناس المعدودة دون غيرها ، بل يجعلون ذلك كالتصريح بنفى أن يورثوا شيئا ما على الاطلاق .
وأيضا فإنه جاء في خبر الدابة والالة والحذاء أنه روى عن النبي صلى الله عليه وآله : (لا نورث ، ما تركناه صدقة) ولم يقل (لا نورث كذا ولا كذا) وذلك يقتضى عموم انتفاء الارث عن كل شئ .(16/224)
وأما الخبر الثاني وهو الذى رواه هشام بن محمد الكلبى ، عن أبيه ، ففيه إشكال أيضا لانه قال : إنها طلبت فدك ، وقالت أن أبى أعطانيها ، وإن أم أيمن تشهد لى بذلك ، فقال لها أبو بكر في الجواب : أن هذا المال لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما كان مالا من أموال المسلمين ، يحمل (1) به الرجال ، وينفقه في سبيل الله ، فلقائل أن يقول له : أيجوز للنبى صلى الله عليه وآله أن يملك أبنته أو غير أبنته من أفناء الناس ضيعة مخصوصة أو عقارا مخصوصا من مال المسلمين ، لوحى إوحى الله تعالى إليه ، أو لاجتهاد رأيه على قول من أجاز له ان يحكم بالاجتهاد ، أو لا يجوز للنبى صلى الله عليه وآله ذلك ؟ فإن قال : لا يجوز ، قال ما لا يوافقه العقل ولا المسلمون عليه ، وإن قال : يجوز ذلك ، قيل : فإن المرأة ما أقتصرت على الدعوى ، بل قالت : أم أيمن تشهد لى ، فكان ينبغى أن يقول لها في الجواب : شهادة أم أيمن وحدها غير مقبوله ، ولم يتضمن هذا الخبر ذلك ، بل قال لها لما أدعت وذكرت من يشهد لها : هذا مال من مال الله .
لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا ليس بجواب صحيح .
وأما الخبر الذى رواه محمد بن زكريا عن عائشة ، ففيه من الاشكال مثل ما في هذا الخبر ، لانه إذا شهد لها على ع وأم أيمن أن رسول الله صلى الله عليه وآله وهب لها فدك ، لم يصح أجتماع صدقها وصدق عبد الرحمن وعمر ، ولا ما تكلفه أبو بكر من تأويل ذلك بمستقيم ، لان كونها هبة من رسول الله صلى الله عليه وآله لها يمنع من قوله : (كان يأخذ منها قوتكم ويقسم الباقي ، ويحمل منه في سبيل الله) لان هذا ينافى كونها هبه لها ، لان معنى كونها لها انتقالها إلى ملكيتها ، وأن تتصرف فيها خاصة دون كل أحد من الناس ، وما هذه صفته كيف يقسم ويحمل منه في سبيل الله !
__________
(1) ا : (ويحمل) .
(*)(16/225)
فإن قال قائل : هو صلى الله عليه وآله أبوها ، وحكمه في مالها كحكمه في ماله وفي بيت مال المسلمين ، فلعله كان بحكم الابوة يفعل ذلك ! قيل : فإذا كان يتصرف (1) فيها تصرف الاب في مال ولده ، لا يخرجه ذلك عن كونه مال ولده ، فإذا مات الاب لم يجز لاحد أن يتصرف في مال ذلك الولد ، لانه ليس بأب له فيتصرف في ماله تصرف الاباء في أموال أولادهم ، على أن الفقهاء أو معظمهم لا يجيزون للاب أن يتصرف في مال الابن .
وها هنا إشكال آخر ، وهو قول عمر لعلى عليه السلام والعباس : وأنتما حينئذ تزعمان أن أبا بكر فيها ظالم فاجر ، ثم قال لما ذكر نفسه ، وأنتما تزعمان أنى فيها ظالم فاجر ، فإذا كانا يزعمان ذلك فكيف يزعم هذا الزعم مع كونهما يعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : (لا اورث) ! إن هذا لمن أعجب العجائب ، ولو لا أن هذا الحديث - أعنى حديث خصومة العباس وعلى عند عمر - مذكور في الصحاح المجمع عليها لما أطلت العجب من مضمونه ، إذ لو كان غير مذكور في الصحاح لكان بعض ما ذكرناه يطعن في صحته ، وأنما الحديث في الصحاح لا ريب في ذلك .
قال أبو بكر : وأخبرنا أبو زيد قال : حدثنا ابن أبى شيبة قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن عكرمة عن مالك بن أوس بن الحدثان قال : جاء العباس وعلى إلى عمر ، فقال العباس : اقض بينى وبين هذا الكذا وكذا ، أي يشتمه ، فقال الناس : افصل بينهما ، فقال لا أفصل بينهما ، قد علما أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : (لا نورث ، ما تركناه صدقه) قلت : وهذا أيضا مشكل ، لانهما حضرا يتنازعان لا في الميراث ، بل في ولايه صدقة رسول الله صلى الله عليه وآله أيهما يتولاها ولاية لا إرثا وعلى هذا كانت الخصومة ،
__________
(1) ب : (قد يتصرف) .
(*)(16/226)
فهل يكون جواب ذلك قد علما أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : (لا نورث) ! قال أبو بكر : وأخبرنا أبو زيد قال : حدثنى يحيى بن كثير أبو غسان قال : حدثنا شعبة ، عن عمر بن مرة ، عن أبى البخترى قال : جاء العباس وعلى الى عمر وهما يختصمان ، فقال عمر لطلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد : أنشدكم الله أسمعتم رسول الله صلى الله عليه يقول : (كل مال نبى فهو صدقه ، إلا ما أطعمه أهله ، أنا لا نورث) فقالوا : نعم ، قال : وكان رسول الله يتصدق به ، ويقسم فضله ، ثم توفى فوليه أبو بكر سنتين يصنع فيه ماكان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتما تقولان : أنه كان بذلك خاطئا ، وكان بذلك ظالما ، وما كان بذلك إلا راشدا ، ثم وليته بعد أبى بكر فقلت لكما : إن شئتما قبلتماه على عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده الذى عهد فيه ، فقلتما : نعم ، وجئتماني الان تختصمان ، يقول هذا : أريد نصيبي من أبن أخى ، ويقول هذا : أريد نصيبي من أمرأتى ! والله لا أقضى بينكما إلا بذلك .
* * * قلت : وهذا أيضا مشكل ، لان أكثر الروايات أنه لم يرو هذا إلخبر الا أبو بكر وحده ، ذكر ذلك أعظم المحدثين حتى أن الفقهاء في أصول الفقه أطبقوا على ذلك في احتجاجهم في الخبر برواية الصحابي الواحد .
وقال شيخنا أبو على : لا تقبل في الرواية إلا رواية أثنين كالشهادة ، فخالفه المتكلمون والفقهاء كلهم ، واحتجوا عليه (1) بقبول الصحابة رواية أبى بكر وحده : (نحن معاشر الانبياء لا نورث) ، حتى إن بعض أصحاب أبى على تكلف لذلك جوابا ، فقال : قد روى أن أبا بكر يوم حاج فاطمة عليه السلام قال : أنشد الله امرأ سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا شيئا ! فروى مالك بن أوس بن الحدثان ، أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا الحديث ينطق
__________
(1) ساقطة من ب .
(*)(16/227)
بأنه استشهد عمر وطلحه والزبير وعبد الرحمن وسعدا ، فقالوا : سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإين كانت هذه الروايات أيام أبى بكر ! ما نقل أن أحدا من هؤلاء يوم خصومة فاطمة عليه السلام وأبى بكر روى من هذا شيئا .
قال أبو بكر : وأخبرنا أبو زيد عمر بن شبة قال : حدثنا محمد بن يحيى (1) ، عن إبراهيم بن أبى يحيى ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة أن أزواج النبي صلى الله عليه وآله أرسلن عثمان إلى أبى بكر ، فذكر الحديث ، قال عروة : وكانت فاطمة قد سألت ميراثها من أبى بكر مما تركه النبي صلى الله عليه وآله ، فقال لها : بأبى أنت وأمى وبأبى أبوك وأمى ونفسي ، إن كنت سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا أو أمرك بشئ لم أتبع غير ما تقولين ، وأعطيتك ما تبتغين ، وإلا فإنى أتبع ما أمرت به .
قال أبو بكر وحدثنا أبو زيد قال : حدثنا عمرو بن مرزوق ، عن شعبة ، عن عمرو أبن مرة ، عن أبى البخترى قال : قال لها أبو بكر لما طلبت فدك : بأبى أنت وأمى ! أنت عندي الصادقة الامينة ، إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليك في ذلك عهدا أو وعدك به وعدا ، صدقتك ، وسلمت إليك فقالت : لم يعهد إلى في ذلك بشئ ولكن الله تعالى يقول : (يوصيكم الله في أولادكم) (2) ، فقال : أشهد لقد سمعت (3) رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (إنا معاشر الانبياء لا نورث) .
* * * قلت : وفى هذا من الاشكال ما هو ظاهر ، لانها قد ادعت أنه عهد إليها رسول الله صلى الله عليه وآله في ذلك أعظم العهد ، وهو النحلة ، فكيف سكتت عن ذكر هذا لما سألها أبو بكر ! وهذا أعجب من العجب .
__________
(1) ب : (عيسى) .
(2) سورة الساء 11 .
(3) كذا في ا ، وفى ب : (كان) .
(*)(16/228)
قال أبو بكر : وحدثنا أبو زيد قال : حدثنا محمد بن يحيى قال : حدثنا عبد العزيز أبن عمران بن عبد العزيز بن عبد الله الانصاري عن أبن شهاب ، عن مالك بن أوس بن الحدثان قال : سمعت عمر وهو يقول للعباس وعلى وعبد الرحمن بن عوف والزبير وطلحه : أنشدكم الله هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إنا لا نورث ، معاشر الانبياء ، ما تركنا صدقة) قالوا : اللهم نعم ، قال : أنشدكم الله هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل في فيئه أهله السنة من صدقاته (1) ثم يجعل ما بقى في بيت المال ! قالوا : اللهم نعم فلما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضها أبو بكر فجئت يا عباس تطلب ميراثك من ابن أخيك وجئت يا على تطلب ميراث زوجتك من أبيها ! وزعمتما أن أبا بكر كان فيها خائنا فاجرا ، والله لقد كان أمرأ مطيعا تابعا للحق ثم توفى أبو بكر فقبضتها فجئتماني تطلبان ميراثكما أما أنت يا عباس فتطلب ميراثك من أبن أخيك وأما على فيطلب ميراث زوجته من أبيها وزعمتما أنى فيها خائن وفاجر والله يعلم أنى فيها مطيع تابع للحق فأصلحا أمركما وإلا والله لم ترجع إليكما فقاما وتركا الخصومة وأمضيت صدقة .
قال أبو زيد : قال أبو غسان : فحدثنا عبد الرزاق الصنعانى عن معمر بن شهاب عن مالك بنحوه وقال في آخره : فغلب على عباسا عليها فكانت بيد على ثم كانت بيد الحسن ثم كانت بيد الحسين ثم على بن الحسين ثم الحسن بن الحسن ثم زيد بن الحسن .
* * * قلت : وهذا الحديث يدل صريحا على أنهما جاءا يطلبان الميراث لا الولاية وهذا من المشكلات لان أبا بكر حسم المادة أولا وقرر عند العباس وعلى وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وآله ، لا يورث وكان عمر من المساعدين له على ذلك فكيف يعود
__________
(1) كذا في الاصول ، وفى الكلام غموض .
(*)(16/229)
العباس وعلى بعد وفاة أبى بكر يحاولان أمرا قد كان فرغ منه ويئس من حصوله اللهم إلا أن يكونا ظنا أن عمر ينقض قضاء أبى بكر في هذه المسألة وهذا بعيد لان عليا والعباس (1 كانا في هذه المسألة 1) يتهمان عمر بممالاة أبى بكر على ذلك ألا تراه يقول : نسبتماني ونسبتما أبا بكر إلى الظلم والخيانة فكيف يظنان أنه ينقض قضاء أبى بكر ويورثهما ! * * * وأعلم أن الناس يظنون أن نزاع فاطمة أبا بكر كان في أمرين في الميراث والنحلة وقد وجدت في الحديث أنها نازعت في امر ثالث ومنعها أبو بكر أياه ايضا وهو سهم ذوى القربى .
قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهرى : أخبرني أبو زيد عمر بن شبة ، قال : حدثنى هارون بن عمير قال : حدثنا الوليد بن مسلم قال : حدثنى صدقة أبو معاوية عن محمد بن عبد الله عن محمد بن عبد الرحمن بن أبى بكر عن يزيد الرقاشى عن أنس بن مالك أن فاطمة عليه السلام أتت أبا بكر فقالت : لقد علمت الذى ظلمتنا عنه أهل البيت من الصدقات وما أفاء الله علينا من الغنائم في القرآن من سهم ذوى القربى ! ثم قرأت عليه قوله تعالى : (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى ...
) (2) الاية فقال لها أبو بكر : بأبى أنت وأمى ووالد ولدك ! لسمع والطاعة لكتاب الله ولحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحق قرابته وأنا أقرأ من كتاب الله الذى تقرئين منه ولم يبلغ علمي منه أن هذا السهم من الخمس يسلم إليكم كاملا قالت : أفلك هو ولاقربائك ؟ قال : لا بل أنفق عليكم منه وأصرف الباقي في مصالح المسلمين قالت : ليس هذا حكم الله تعالى قال : هذا حكم الله فإن كان رسول الله عهد اليك
__________
(1 - 1) ساقط من ب .
(2) سورة الانفال 41 .
(*)(16/230)
في هذا عهدا أو أوجبه لكم حقا (1) صدقتك وسلمته كله إليك وإلى أهلك قالت : أن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يعهد إلى في ذلك بشئ إلا أنى سمعته يقول لما أنزلت هذه الايه : (أبشروا آل محمد فقد جاءكم الغنى) ، قال أبو بكر : لم يبلغ علمي من هذه الاية أن أسلم إليكم هذا السهم كله كاملا ولكن لكم الغنى الذى يغنيكم ويفضل عنكم وهذا عمر بن الخطاب وأبو عبيده بن الجراح فاسأليهم عن ذلك وانظرى هل يوافقك على ما طلبت أحد منهم ! فانصرفت إلى عمر فقالت له مثل ما قالت لابي بكر فقال لها مثل ما قاله لها أبو بكر فعجبت فاطمة عليه السلام من ذلك وتظنت أنهما كانا قد تذاكرا ذلك واجتمعا عليه .
قال أبو بكر : وأخبرنا أبو زيد قال : حدثنا هارون بن عمير قال : حدثنا الوليد عن أبن أبى لهيعة عن أبى الاسود عن عروة قال : أرادت فاطمة أبا بكر على فدك وسهم ذوى القربى فأبى عليها وجعلهما في مال الله تعالى .
قال أبو بكر : وأخبرنا أبو زيد قال : حدثنا أحمد بن معاوية عن هيثم عن جويبر عن أبى الضحاك عن الحسن بن محمد بن على بن أبى طالب عليه السلام أن أبا بكر منع فاطمة وبنى هاشم سهم ذوى القربى وجعله في سبيل الله في السلاح والكراع .
قال أبو بكر : وأخبرنا أبو زيد قال : حدثنا حيان بن هلال عن محمد بن يزيد بن ذريع عن محمد بن أسحاق قال : سألت أبا جعفر محمد بن على عليه السلام قلت : أرأيت عليا حين ولى العراق وما ولى من أمر الناس كيف صنع في سهم ذوى القربى ؟ قال : سلك بهم طريق أبى بكر وعمر قلت : وكيف ولم وأنتم تقولون ما تقولون ! قال : أما والله ما كان أهله يصدرون إلا عن رأيه فقلت : فما منعه ؟ قال : كان يكره
__________
(1) كذا في ا .
وفى ب : (أوجبه لك على) .
(*)(16/231)
أن يدعى عليه مخالفة أبى بكر وعمر قال أبو بكر : وحدثني المؤمل بن جعفر قال : حدثنى محمد بن ميمون عن داود بن المبارك قال : أتينا عبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن بن الحسن ونحن راجعون من الحج في جماعة فسألناه عن مسائل وكنت أحد من سأله فسألته عن أبى بكر وعمر فقال : سئل جدى عبد الله بن الحسن بن الحسن عن هذه المسأله فقال : كانت أمي صديقة بنت نبى مرسل فماتت وهى غضبى على إنسان فنحن غضاب لغضبها وإذا رضيت رضينا .
قال أبو بكر : وحدثني أبو جعفر محمد بن القاسم قال : حدثنى على بن الصباح قال : أنشدنا أبو الحسن رواية المفضل للكميت : أهوى عليا أمير المؤمنين ولا أرضى بشتم أبى بكر ولا عمرا (1) ولا أقول وإن لم يعطيا فدكا بنت النبي ولا ميراثها : كفرا (2) الله يعلم ماذا يحضران به يوم القيامة من عذر إذا اعتذرا (3) قال بن الصباح : فقال لى أبو الحسن : أتقول : أنه قد أكفرهما في هذا الشعر قلت نعم قال كذاك هو .
قال أبو بكر : حدثنا أبو زيد عن هارون بن عمير عن الوليد بن مسلم عن إسماعيل بن عباس عن محمد بن السائب عن أبى صالح عن مولى أم هانئ قال : دخلت فاطمة على أبى بكر بعد ما استخلف فسألته ميراثها من أبيها فمنعها فقالت له : لئن مت اليوم من كان يرثك ؟ قال ولدى وأهلي قالت : فلم ورثت أنت رسول الله صلى الله عليه وآله دون ولده وأهله قال : فما فعلت يا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ! قالت : بلى إنك عمدت إلى فدك وكانت صافية لرسول الله صلى الله عليه وآله فأخذتها وعمدت إلى ما أنزل الله من السماء فرفعته عنا فقال : يا بنت رسول الله
__________
(1) الهاشميات 83 ، 84 .
(2) ا ، الهاشميات : (ميراثه) ، (3) الهاشميات : (ماذا يأتيان به) .
(*)(16/232)
صلى الله عليه وسلم لم أفعل حدثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يطعم النبي صلى الله عليه وسلم الطعمة ما كان حيا ، فإذا قبضه الله إليه رفعت فقالت : أنت ورسول الله أعلم ما أنا بسائلتك بعد مجلسي ثم أنصرفت قال أبو بكر : وحدثنا محمد بن زكريا قال : حدثنا محمد بن عبد الرحمن المهلبى عن عبد الله بن حماد بن سليمان عن أبيه عن عبد الله بن حسن بن حسن عن أمه فاطمة بنت الحسين عليه السلام ، قالت : لما اشتد بفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله الوجع وثقلت في علتها اجتمع عندها نساء من نساء المهاجرين والانصار فقلن لها : كيف أصبحت يا ابنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : والله أصبحت عائفة (1) لدنياكم قالية لرجالكم لفظتهم بعد أن عجمتهم (2) وشنئتهم (3) بعد أن سبرتهم (4) فقبحا لفلول الحد وخور القناة وخطل الرأى وبئسما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون لاجرم ! قد قلدتهم ربقتها وشنت عليهم غارتها فجدعا وعقرا وسحقا للقوم الظالمين ! ويحهم ! أين زحزحوها عن رواسي الرسالة وقواعد النبوه ومهبط الروح الامين والطيبين بأمر الدنيا والدين ألا ذلك هو الخسران ! المبين وما الذى نقموا من أبى حسن ! نقموا والله نكير سيفه وشدة وطأته ونكال وقعته وتنمره في ذات الله وتالله لو تكافوا عن زمام نبذه إليه رسول الله صلى الله عليه وآله لاعتلقه ولسار إليهم سيرا سجحا لا تكلم حشاشته ولا يتعتع راكبه ولاوردهم منهلا نميرا فضفاضا يطفح ضفتاه ولاصدرهم بطانا قد تحير بهم الرأى غير متحل بطائل إلا بغمر الناهل وردعه سورة الساغب ولفتحت عليهم بركات من السماء والارض وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون .
ألا هلم فاستمع وما عشت
__________
(1) عائفة لدنياكم ، أي قالية لها كارهة .
(2) عجمتهم : بلوتهم وخبرتهم .
(3) شنئتهم : أبغضتهم .
(4) سبرتهم : علمت أمورهم .
(*)(16/233)
أراك الدهر عجبه وأن تعجب فقد أعجبك الحادث إلى أي لجأ استندوا وبأى عروة تمسكوا ! لبئس المولى ولبئس العشير ولبئس للظالمين بدلا ! استبدلوا والله الذنابى بالقوادم والعجز بالكاهل فرغما لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعا (ألا أنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) ويحهم ! (فمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدى إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون) ! أما لعمر الله لقد لقحت فنظرة ريثما تنتج (1) ثم احتلبوها طلاع العقب دما عبيطا وذعاقا ممقرا هنالك يخسر المبطلون ويعرف التالون غب ما أسس الاولون ثم طيبوا عن أنفسكم نفسا واطمئنوا للفتنة جأشا وأبشروا بسيف صارم وهرج شامل وأستبداد من الظالمين يدع فيئكم زهيدا وجمعكم حصيدا فيا حسرة عليكم وأنى لكم وقد عميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ! والحمد لله رب العالمين وصلاته على محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين .
* * * قلت : هذا الكلام وأن لم يكن فيه ذكر فدك والميراث إلا أنه من تتمه ذلك وفيه إيضاح لما كان عندها وبيان لشدة غيظها وغضبها فإنه سيأتي فيما بعد ذكر ما يناقض به قاضى القضاة والمرتضى في أنها هل كانت غضبى أم لا ونحن لا ننصر مذهبا بعينه وإنما نذكر ما قيل وإذا جرى بحث نظرى قلنا ما يقوى في أنفسنا منه .
واعلم أنا إنما نذكر في هذا الفصل ما رواه رجال الحديث وثقاتهم وما أودعه أحمد بن عبد العزيز الجوهرى في كتابه وهو من الثقات الامناء عند أصحاب الحديث وأما ما يرويه رجال الشيعة والاخباريون منهم في كتبهم من قولهم : إنهما أهاناها وأسمعاها كلاما غليظا وإن أبا بكر رق لها حيث لم يكن عمر حاضرا فكتب لها بفدك كتابا فلما خرجت به وجدها عمر فمد يده إليه لياخذه مغالبة فمنعته فدفع بيده في صدرها
__________
(1) كذا في ا ، وفى ب : (تحلب) .
(*)(16/234)
وأخذ الصحيفة فخرقها بعد أن تفل فيها فمحاها وإنها دعت عليه فقالت : بقر الله بطنك كما بقرت صحيفتي فشئ لا يرويه أصحاب الحديث ولا ينقلونه وقدر الصحابة يجل عنه وكان عمر أتقى لله وأعرف لحقوق الله من ذلك وقد نظمت الشيعة بعض هذه الواقعة التى يذكرونها شعرا أوله أبيات لمهيار بن مرزويه الشاعر من قصيدته التى أولها (1) : يا ابنة القوم تراك بالغ قتلى رضاك (2) وقد ذيل عليها بعض الشيعة وأتمها والابيات : يا ابنة الطاهر كم تقرع بالظلم عصاك غضب الله لخطب ليلة الطف عراك ورعى النار غدا قط رعى أمس حماك مر لم يعطفه شكوى ولا استحيا بكاك وأقتدى الناس به بعد فاردى ولداك يا ابنة الراقي إلى السدرة في لوح السكاك لهف نفسي وعلى مثلك فلتبك البواكي كيف لم تقطع يد مد إليك أبن صحاك فرحوا يوم أهانوك بما ساء أباك ولقد أخبرهم أن رضاه في رضاك دفعا النص على إرثك لما دفعاك وتعرضت لقدر تافه وانتهراك
__________
(1) ديوانه 2 : 367 ، 368 .
(2) في الاصول : (براك) والصواب ما أثبته .
من الديوان .
(*)(16/235)
وادعيت النحلة المشهود فيها بالصكاك فاستشاطا ثم ما إن كذبا إن كذباك فزوى الله عن الرحمة زنديقا ذواك ونفى عن بابه الواسع شيطانا نفاك .
فانظر إلى هذه البلية التى صبت من هؤلاء على سادات المسلمين وأعلام المهاجرين ! وليس ذلك بقادح في علو شأنهم وجلالة مكانهم كما أن مبغضي الانبياء وحسدتهم ومصنفى الكتب في إلحاق العيب والتهجين لشرائعهم لم تزدد لانبيائهم إلا رفعة ولا زادت شرائعهم إلا انتشارا في الارض وقبولا في النفس وبهجة ونورا عند ذوى الالباب والعقول .
وقال لى علوى في الحله (1) يعرف بعلى بن مهنأ ذكى ذو فضائل ما تظن قصد أبى بكر وعمر بمنع فاطمة فدك ؟ قلت : ما قصدا قال : أرادا ألا يظهرا لعلى - وقد اغتصباه الخلافة - رقه ولينا وخذلانا ولا يرى عندهما خورا فأتبعا القرح بالقرح .
وقلت لمتكلم من متكلمي الامامية يعرف بعلى بن تقى من بلدة النيل (2) : وهل كانت فدك إلا نخلا يسيرا وعقارا ليس بذلك الخطير ! فقال لى : ليس الامر كذلك بل كانت جليلة جدا وكان فيها من النخل نحو ما بالكوفة الان من النخل وما قصد أبو بكر وعمر بمنع فاطمة عنها إلا ألا يتقوى على بحاصلها وغلتها على المنازعة في الخلافة ولهذا أتبعا ذلك بمنع فاطمة وعلى وسائر بنى هاشم وبنى المطلب حقهم في الخمس ، فإن
__________
(1) الحلة : تطلق على عدة مواضع ، منها موضع بين الكوفة والبصرة ، وهى حلة بنى مزيد .
(2) النيل هنا : بليدة في سواد الكوفة ، قرب حلة بنى مزيد .
(*)(16/236)
الفقير الذى لا مال له تضعف همته ويتصاغر عند نفسه ويكون مشغولا بالاحتراف والاكتساب عن طلب الملك والرياسة فانظر إلى ما قد وقر في صدور هؤلاء وهو داء لا دواء له وما أكثر ما تزول الاخلاق والشيم فأما العقائد الراسخة فلا سبيل إلى زوالها ! * * * الفصل الثاني في النظر في أن النبي صلى الله عليه وآله هل يورث أم لا نذكر في هذا الموضع ما حكاه المرتضى رحمه الله في (الشافي) (1) عن قاضى القضاة في هذا المعنى وما اعترضه به وإن استضعفنا شيئا من ذلك قلنا ما عندنا وإلا تركناه على حاله .
قال المرتضى : أول ما ابتدأ به قاضى القضاة حكايته عنا استدلالنا على أنه صلى الله عليه وآله مورث (2) بقوله تعالى : (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين) (3) وهذا الخطاب عام يدخل فيه النبي وغيره .
ثم أجاب - يعنى قاضى القضاة - عن ذلك فقال : إن الخبر الذى احتج به أبو بكر - يعنى قوله (نحن معاشر الانبياء لا نورث) - لم يقتصر على روايته هو وحده حتى استشهد عليه عمر وعثمان وطلحه والزبير وسعدا وعبد الرحمن فشهدوا به فكان لا يحل لابي بكر وقد صار الامر إليه أن يقسم التركه ميراثا وقد خبر رسول الله صلى الله عليه وآله بأنها صدقة وليست بميراث وأقل ما في هذا الباب أن يكون الخبر من أخبار الاحاد
__________
(1) الشافي ص 228 وما بعدها .
(2) ا : (موروث) .
(3) سورة الساء 11 .
(*)(16/237)
فلو أن شاهدين شهدا في التركة أن فيها حقا أليس كان يجب أن يصرف ذلك عن الارث ! فعلمه بما قال رسول الله صلى الله عليه وآله مع شهادة غيره أقوى ولسنا نجعله مدعيا لانه لم يدع ذلك لنفسه وإنما بين أنه ليس بميراث وأنه صدقة ولا يمتنع تخصيص القرآن بذلك كما يخص في العبد والقاتل وغيرهما وليس ذلك بنقص في الانبياء بل هو إجلال لهم يرفع الله به قدرهم عن أن يورثوا المال وصار ذلك من أوكد الدواعى ألا يتشاغلوا بجمعه لان أحد الدواعى القوية إلى ذلك تركه على الاولاد والاهلين ولما سمعت فاطمة عليه السلام ذلك من أبى بكر كفت عن الطلب فيما ثبت من الاخبار الصحيحة فلا يمتنع أن تكون غير عارفة بذلك فطلبت الارث فلما روى لها ما روى كفت فأصابت أولا وأصابت ثانيا .
وليس لاحد أن يقول كيف يجوز أن يبين النبي صلى الله عليه وآله ذلك للقوم ولا حق لهم في الارث ويدع أن يبين ذلك لمن له حق في الارث مع أن التكليف يتصل به وذلك لان التكليف في ذلك يتعلق بالامام فإذا بين له جاز ألا يبين لغيره ويصير البيان له بيانا لغيره وأن لم يسمعه من الرسول لان هذا الجنس من البيان يجب أن يكون بحسب المصلحة .
قال : ثم حكى عن أبى على أنه قال : أتعلمون كذب أبى بكر في هذه الرواية أم تجوزون أن يكون صادقا (1) ؟ قال : وقد علم أنه لا شئ يقطع به على كذبه فلا بد من تجويز كونه صادقا وإذا صح ذلك قيل لهم : فهل كان يحل له مخالفة الرسول ؟ فإن قالوا : لو كان صدقا لظهر واشتهر قيل لهم : إن ذلك من باب العمل ولا يمتنع أن ينفرد بروايته جماعة يسيرة بل الواحد والاثنان مثل سائر الاحكام ومثل الشهادات فإن قالوا نعلم أنه لا يصح لقوله تعالى في كتابه : (وورث سليمان داود) (2) .
قيل لهم :
__________
(1) الشافي : (أم تجوزون كذبه وصدقه) .
(2) سورة النمل 16 .
(*)(16/238)
ومن أين أنه ورثه الاموال مع تجويز أن يكون ورثه العلم والحكمة ؟ فإن قالوا : إطلاق الميراث لا يكون إلا في الاموال قيل لهم : إن كتاب الله يبطل قولكم لانه قال : (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) (1) والكتاب ليس بمال ويقال في اللغة : ما ورثت الابناء عن الاباء شيئا أفضل من أدب حسن وقالوا : العلماء ورثة الانبياء وإنما ورثوا منهم العلم دون المال على أن في آخر الاية ما يدل على ما قلناه وهو قوله تعالى حاكيا عنه : (وقال يا أيها الناس علمنا أمنطق الطير وأوتينا من كل شئ أن هذا لهو الفضل المبين) (2) فنبه على أن الذى ورث هو هذا العلم وهذا الفضل وإلا لم يكن لهذا القول تعلق بالاول .
فإن قالوا : فقد قال تعالى : (فهب لى من لدنك وليا يرثنى ويرث من آل يعقوب) (3) وذلك يبطل الخبر ! قيل لهم ليس في ذلك بيان المال أيضا وفي الاية ما يدل على أن المراد النبوة والعلم لان زكريا خاف على العلم أن يندرس وقوله : (وإنى خفت الموالى من ورائي) يدل على ذلك لان الانبياء لا تحرص على الاموال حرصا يتعلق خوفها بها وإنما أراد خوفه على العلم أن يضيع فسأل الله تعالى وليا يقوم بالدين مقامه .
وقوله : (ويرث من آل يعقوب) يدل على ان المراد العلم والحكمه لانه لا يرث أموال يعقوب في الحقيقة (4) وإنما يرث ذلك غيره قال : فأما من يقول : إن المراد : أنا معاشر الانبياء لا نورث ما تركناه صدقة ، أي ما جعلناه صدقة في حال حياتنا لا نورثه فركيك من القول لان إجماع الصحابة يخالفه لان أحدا لم يتأوله على هذا الوجه لانه لا يكون في ذلك تخصيص الانبياء ولا مزية لهم ولان قوله : (ما تركناه صدقة) جملة من الكلام مستقلة بنفسها كأنه
__________
(1) سورة فاطر 32 .
(2) سورة النمل 16 .
(3) سورة مريم 5 ، 6 .
(4) ب : (الحقيقة) تحريف صوابه من ا والشافي .
(*)(16/239)
ع مع بيانه أنهم لا يورثون المال يبين أنه صدقه لانه كان يجوز ألا يكون ميراثا ويصرف إلى وجه آخر غير الصدقة .
قال : فأما خبر السيف والبغلة والعمامة وغير ذلك فقد قال : أبو على : إنه لم يثبت أن أبا بكر دفع ذلك إلى أمير المؤمنين عليه السلام على جهة الارث كيف يجوز ذلك مع الخبر الذى رواه وكيف يجوز لو كان وارثا أن يخصه بذلك ولا إرث له مع العم لانه عصبة ! فإن كان وصل إلى فاطمة عليه السلام فقد كان ينبغى أن يكون العباس شريكا في ذلك وأزواج الرسول الله صلى الله عليه وآله ولوجب أن يكون ذلك ظاهرا مشهورا ليعرف أنهم أخذوا نصيبهم من ذلك أو بدله ولا يجب إذا لم يدفع أبو بكر ذلك إليه على جهه الارث ألا يحصل ذلك في يده لانه قد يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله نحله ذلك ويجوز أيضا أن يكون أبو بكر رأى الصلاح في ذلك أن يكون بيده لما فيه من تقويه الدين وتصدق ببدله بعد التقويم لان الامام له أن يفعل ذلك .
قال : وحكى عن أبى على في البرد والقضيب أنه لم يمتنع أن يكون جعله عدة في سبيل الله وتقوية على المشركين فتداولته الائمه لما فيه من التقوية ورأى أن ذلك أولى من أن يتصدق به إن ثبت (1) أنه عليه السلام لم يكن قد نحله غيره في حياته ثم عارض نفسه بطلب أزواج النبي صلى الله عليه وآله الميراث وتنازع امير المؤمنين ع والعباس بعد موت فاطمة عليه السلام وأجاب عن ذلك بأن قال : يجوز أن يكونوا لم يعرفوا رواية أبى بكر وغيره للخبر .
وقد روى أن عائشة لما عرفتهن الخبر أمسكن وقد بينا أنه لا يمتنع في مثل ذلك أن يخفى على من يستحق الارث ويعرفه من يتقلد الامر كما يعرف العلماء والحكام من أحكام المواريث ما لا يعلمه أرباب الارث وقد بينا أن رواية أبى بكر مع الجماعة
__________
(1) الشافي : (أن يثبت) .
(*)(16/240)
أقوى من شاهدين لو شهد أن بعض تركته عليه السلام دين وهو أقوى من رواية سلمان وابن مسعود لو رويا ذلك .
قال : ومتى تعلقوا بعموم القرآن أريناهم جواز التخصيص بهذا الخبر كما أن عموم القرآن يقتضى كون الصدقات للفقراء وقد ثبت أن آل محمد لا تحل لهم الصدقة .
هذا آخر ما حكاه المرتضى من كلام قاضى القضاة (1) .
ثم قال : نحن نبين أولا ما يدل على أنه صلى الله عليه وآله يورث المال ونرتب الكلام في ذلك الترتيب الصحيح ثم نعطف على ما أورده ونتكلم عليه .
قال رضى الله عنه : والذى يدل على ما ذكرنا قوله تعالى مخبرا عن زكريا عليه السلام : (وإنى خفت الموالى من ورائي وكانت أمرأتى عاقرا فهب لى من لدنك وليا * يرثنى ويرث من آل يعقوب وأجعله رب رضيا) (2) فخبر أنه خاف من بنى عمه لان الموالى هاهنا هم بنو العم بلا شبهة وإنما خافهم أن يرثوا ماله فينفقوه في الفساد لانه كان يعرف ذلك من خلائقهم وطرائقهم فسأل ربه ولدا يكون أحق بميراثه منهم والذى يدل على أن المراد بالميراث المذكور ميراث المال دون العلم والنبوة على ما يقولون أن لفظة الميراث في اللغة والشريعة لا يفيد (3) إطلاقها إلا على ما يجوز أن ينتقل على الحقيقة من الموروث إلى الوارث كالاموال وما في معناها ولا يستعمل في غير المال الا تجوزا واتساعا ولهذا لا يفهم من قول القائل : لا وارث لفلان إلا فلان وفلان يرث مع فلان بالظاهر والاطلاق إلا ميراث الاموال والاعراض دون العلوم وغيرها .
وليس لنا أن نعدل عن ظاهر الكلام وحقيقته إلى مجازه بغير دلالة .
وإيضا فإنه تعالى خبر عن نبيه أنه اشترط في وارثه أن يكون رضيا ومتى لم يحمل الميراث في الاية على المال دون العلم
__________
(1) الشافي 228 ، 229 .
(2) سورة مريم 5 ، 6 .
(3) ا والشافي : (لا يعهد) .
(16 - نهج - 16) (*)(16/241)
والنبوة لم يكن للاشتراط معنى وكان لغوا وعبثا لانه إذا كان إنما سأل من يقوم مقامه ويرث مكانه فقد دخل الرضا وما هو أعظم من الرضا في جملة كلامه وسؤاله ، فلا مقتضى لاشتراطه ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول : اللهم أبعث إلينا نبيا واجعله عاقلا (ومكلفا) (1) فإذا ثبتت هذه الجملة صح أن زكريا موروث ماله .
وصح أيضا لصحتها أن نبينا صلى الله عليه وآله ممن يورث المال لان الاجماع واقع على أن حال نبينا ع لا يخالف حال الانبياء المتقدمين في ميراث المال فمن مثبت للامرين وناف للامرين (2) .
قلت : إن شيخنا أبا الحسين قال في كتاب ، ، الغرر ، ، صورة الخبر الوارد في هذا الباب وهو الذى رواه أبو بكر (لا نورث) ، ولم يقل : (نحن معاشر الانبياء لا نورث) ، فلا يلزم من كون زكريا يورث الطعن في الخبر .
وتصفحت أنا كتب الصحاح في الحديث فوجدت صيغة الخبر كما قاله أبو الحسين وإن كان رسول الله صلى الله عليه وآله عنى نفسه خاصه بذلك فقد سقط أحتجاج الشيعة بقصة زكريا وغيره من الانبياء إلا أنه يبعد عندي أن يكون أراد نفسه خاصة لانه لم تجر عادته أن يخبر عن نفسه في شئ بالنون .
فإن قلت : أيصح من المرتضى أن يوافق على أن صورة الخبر هكذا ثم يحتج بقصة زكريا بأن يقول : إذا ثبت أن زكريا موروث ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وآله يجوز أن يكون موروثا لاجماع الامة على أن لا فرق بين الانبياء كلهم في هذا الحكم ! قلت : وأن ثبت له هذا الاجماع صح احتجاجه ولكن ثبوته يبعد لان من نفى كون زكريا عليه السلام موروثا من الامة أنما نفاه لاعتقاده أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : (نحن معاشر الانبياء) فإذا كان لم يقل هكذا لم يقل : إن زكريا عليه السلام غير موروث .
__________
(1) من الشافي .
(2) الشافي 229 .
(*)(16/242)
قال المرتضى : ومما يقوى ما قدمناه أن زكريا عليه السلام خاف بنى عمه فطلب وارثا لاجل ولا يليق خوفه منهم إلا بالمال دون العلم والنبوة لانه عليه السلام كان أعلم بالله تعالى من أن يخاف أن يبعث نبيا ليس بأهل للنبوة وأن يورث علمه وكمه من ليس أهلا لهما ولانه إنما بعث لاذاعة العلم ونشره في الناس فلا يجوز أن يخاف من الامر الذى هو الغرض في البعثة (1) .
فإن (2) قيل : هذا يرجع عليكم في الخوف عن أرث المال لان ذلك غاية الضن والبخل .
قلنا : معاذ الله أن يستوى الحال لان المال قد يصح أن يرزقه الله تعالى المؤمن والكافر والعدو والولى ولا يصح ذلك في النبوة وعلومها .
وليس من الضن أن يأسى على بنى عمه - وهم من أهل الفساد - أن يظفروا بماله فينفقوة على المعاصي ويصرفوه في غير وجوهه المحبوبة بل ذلك غاية الحكمة وحسن التدبير في الدين لان الدين يحظر تقوية الفساق وإمدادهم بما يعينهم على أفلا طرائقهم المذمومة وما يعد ذلك شحا ولا بخلا الا من لا تأمل له .
فإن قيل : أفلا (3) جاز أن يكون خاف من بنى عمه أن يرثوا علمه وهم من أهل الفساد على ما ادعيتم فيستفسدوا به الناس ويموهوا به عليهم ؟ قلنا : لا يخلو هذا العلم الذى أشرتم إليه من أن يكون هو كتب علمه وصحف حكمته لان ذلك قد يسمى علما على طريق المجاز أو يكون هو العلم الذى يحل القلب .
فإن كان الاول فهو يرجع إلى معنى المال ويصحح أن الانبياء يورثون أموالهم وما في معناها وإن كان الثاني لم يخل هذا من أن يكون هو العلم الذى بعث النبي لنشره وأدائه أو أن يكون علما مخصوصا لا يتعلق بالشريعة ولا يجب إطلاع جميع الامة عليه كعلم العواقب وما يجرى في مستقبل الاوقات وما جرى مجرى ذلك .
والقسم الاول لا يجوز على النبي أن يخاف من وصوله إلى بنى عمه وهم من جمله أمته الذين بعث لاطلاعهم على ذلك وتأديته إليهم وكأنه على هذا الوجه يخاف مما هو الغرض من بعثته .
والقسم الثاني فاسد أيضا لان
__________
(1) ا والشافي : (يعثته) .
(2) د : (قال فإن قيل) .
(3) ا ، د : (فألا) .
(*)(16/243)
هذا العلم المخصوص إنما يستفاد من جهته ويوقف عليه بإطلاعه وإعلامه وليس هو مما يجب نشره في جميع الناس فقد كان يجب إذا خاف من إلقائه إلى بعض الناس فسادا ألا يلقيه إليه فإن ذلك في يده ولا يحتاج إلى اكثر من ذلك (1) .
قلت : لعاكس أن يعكس هذا على المرتضى رحمه الله حينئذ ويقول له : وقد كان يجب إذا خاف من أن يرث بنو عمه أمواله فينفقوها في الفساد أن يتصدق بها على الفقراء والمساكين فإن ذلك في يده فيحصل له ثواب الصدقة ويحصل له غرضه من حرمان أولئك المفسدين ميراثه .
قال المرتضى رضى الله عنه : ومما يدل على ان الانبياء يورثون قوله تعالى : (وورث سليمان داود) (2) والظاهر من إطلاق لفظة (الميراث) يقتضى الاموال وما في معناها ما دللنا به من قبل .
قال : ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى : (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين ...
) (3) الاية وقد أجمعت الامة على عموم هذه اللفظه إلا من أخرجه الدليل فيجب أن يتمسك بعمومها لمكان هذه الدلالة ولا يخرج عن حكمها إلا من أخرجه دليل قاطع (1) .
قلت : أما قوله تعالى : (وورث سليمان داود) فظاهرها يقتضى وراثة النبوة أو الملك أو العلم الذى قال في أول الاية : (ولقد آتينا داود وسليمان علما ...
) لانه لا معنى لذكر ميراث سليمان المال فإن غيره من أولاد داود قد ورث أيضا أباه داود وفى كتب اليهود والنصارى أن بنى داود كانوا تسعه عشر وقد قال بعض المسلمين أيضا ذلك فأى معنى في تخصيص سليمان بالذكر إذا كان أرث المال ! وأما : (يوصيكم الله في أولادكم) فالبحث في تخصيص ذلك بالخبر فرع من فروع مسألة خبر الواحد هل هو حجه في
__________
(1) الشافي 229 ، 230 .
(2) سورة النمل 16 .
(3) سورة النساء 11 .
(*)(16/244)
الشرعيات أم لا ! فإن ثبت مذهب المرتضى في كونه ليس بحجة فكلامه هنا جيد وإن لم يثبت فلا مانع من تخصيص العموم بالخبر فإن الصحابة قد خصصت عمومات (1) الكتاب بالاخبار في مواضع كثيره .
* * * قال المرتضى : وأما تعلق صاحب الكتاب بالخبر الذى رواه أبو بكر وأدعاؤه أنه أستشهد عمر وعثمان وفلانا وفلانا فأول ما فيه أن الذى أدعاه من الاستشهاد غير معروف والذى روى أن عمر أستشهد هؤلاء النفر لما تنازع (2) أمير المؤمنين عليه السلام والعباس رضى الله عنه في الميراث فشهدوا بالخبر المتضمن لنفى الميراث وإنما مقول مخالفينا في صحة الخبر الذى رواه أبو بكر عند مطالبة فاطمة عليه السلام بالارث على مساك الامة عن النكير عليه والرد لقضيته (3) .
قلت : صدق المرتضى رحمه الله فيما قال أما عقيب وفاة النبي صلى الله عليه وآله ومطالبة فاطمة عليه السلام بالارث فلم يرو الخبر إلا أبو بكر وحده وقيل : أنه رواه معه مالك بن أوس بن الحدثان وأما المهاجرون الذين ذكرهم قاضى القضاة فإنما شهدوا بالخبر في خلافة عمر وقد تقدم ذكر ذلك .
* * * قال المرتضى : ثم لو سلمنا استشهاد من ذكر على الخبر لم يكن فيه حجه لان الخبر على كل حال لا يخرج من أن يكون غير موجب للعلم وهو في حكم أخبار الاحاد وليس يجوز أن يرجع عن ظاهر القرآن بما يجرى هذا المجرى لان المعلوم لا يخص إلا بمعلوم وإذا كانت دلالة الظاهر معلومة لم يجز أن يخرج عنها بأمر مظنون .
قال : وهذا الكلام مبنى على أن التخصيص للكتاب والسنه المقطوع بها لا يقع
__________
(1) ا ، د : (عموم) .
(2) ا والشافي : (نازع) .
(3) الشافي 230 .
(*)(16/245)
بأخبار الاحاد وهو المذهب الصحيح .
وقد أشرنا إلى ما يمكن أن يعتمد في الدلالة عليه من أن الظن لا يقابل العلم ولا يرجع عن المعلوم بالمظنون .
قال : وليس لهم أن يقولوا : إن التخصيص بأخبار الاحاد يستند أيضا إلى علم وأن كان الطريق مظنونا ويشيروا إلى ما يدعونه من الدلالة على وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة وأنه حجة لان ذلك مبنى من قولهم على ما لا نسلمه وقد دل الدليل على فساده - أعنى قولهم : خبر الواحد حجة في الشرع - على أنهم لو سلم لهم ذلك لاحتاجوا إلى دليل مستأنف على أنه يقبل في تخصيص القرآن لان ما دل على العمل به في الجملة لا يتناول هذا الموضع كما لا يتناول جواز النسخ به (1) .
قلت : أما قول المرتضى : لو سلمنا أن هؤلاء المهاجرين الستة رووه لما خرج عن كونه خبرا واحدا ولما جاز أن يرجع عن عموم الكتاب به لانه معلوم والخبر مظنون .
ولقائل أن يقول : ليته حصل في كل واحد من آيات القرآن رواية مثل هذه الستة حيث جمع القرآن على عهد عثمان ومن قبله من الخلفاء فإنهم بدون هذا العدد كانوا يعملون في إثبات الايه في المصحف بل كانوا يحلفون من أتاهم بالاية ومن نظر في كتب التواريخ عرف ذلك فإن كان هذا العدد إنما يفيد الظن فالقول في آيات الكتاب كذلك وأن كانت آيات الكتاب أثبتت عن علم مستفاد من رواية هذا العدد ونحوه فالخبر مثل ذلك .
فأما مذهب المرتضى في خبر الواحد فانه قول أنفرد (2) به عن سائر الشيعة لان من قبله من فقهائهم ما عولوا في الفقه إلا على أخبار الاحاد كزرارة ويونس وأبى بصير وابني بابويه والحلبي وأبى جعفر القمى وغيرهم ثم من كان في عصر المرتضى منهم
__________
الشافي 230 .
(2) د : (تفرد) .
(*)(16/246)
كأبى جعفر الطوسى وغيره وقد تكلمت في ، ، اعتبار الذريعة ، ، على ما اعتمد عليه في هذه المسأله وأما تخصيص الكتاب بخبر الواحد فالظاهر أنه أذا صح كون خبر الواحد حجة في الشرع جاز تخصيص الكتاب به وهذا من فن أصول الفقه فلا معنى لذكره هنا .
قال المرتضى رضى الله عنه : وهذا يسقط قول صاحب الكتاب : إن الشاهدين لو شهدا أن في التركة حقا لكان يجب أن ينصرف (1) عن الارث وذلك لان الشهادة وإن كانت مظنونة فالعمل بها يستند (2) إلى علم لان الشريعة قد قررت العمل بالشهادة ولم تقرر العمل بخبر الواحد وليس له أن يقيس خبر الواحد على الشهادة من حيث أجتمعا في غلبة الظن لانا لا نعمل على الشهادة من حيث غلبة الظن دون ما ذكرناه من تقرير الشريعة العمل بها ألا ترى أنا قد نظن بصدق الفاسق والمرأة والصبى وكثير ممن لا يجوز العمل بقوله ! فبان أن المعول في هذا على المصلحة التى نستفيدها على طريق الجملة من دليل الشرع .
قال : وأبو بكر في حكم المدعى لنفسه والجار إليها بخلاف ما ظنه صاحب الكتاب وكذلك من شهد له إن كانت هناك شهادة (3) وذلك أن أبا بكر وسائر المسلمين سوى أهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله يحل لهم الصدقة ويجوز أن يصيبوا فيها وهذه تهمة في الحكم والشهادة .
قال : وليس له أن يقول : فهذا يقتضى ألا يقبل شهادة شاهدين في تركة فيها صدقة لمثل ما ذكرتم .
__________
(1) ا ، د : (يصرف) .
(2) الشافي : (استند) .
(3) بعدها في الشافي : (قد وجدت) .
(*)(16/247)
قال : وذلك لان الشاهدين إذا شهدا في الصدقة (1) فحظهما منها كحظ صاحب الميراث بل سائر المسلمين وليس كذلك حال تركة الرسول لان كونها صدقة يحرمها على ورثته ويبيحها لسائر المسلمين (2) .
: قلت هذا فرق غير مؤثر اللهم إلا أن يعنى به تهمة أبى بكر والشهود الستة في جر النفع إلى أنفسهم يكون أكثر من تهمتهم لو شهدوا على أبى هريرة مثلا أن ما تركه صدقة لان أهل أبى هريره يشاركون في القسمة وأهل النبي صلى الله عليه وآله لا يشاركون الشهود فيما يصيبهم إذ هم لا تحل لهم الصدقة فتكون حصة أبى بكر والشهود مما تركه رسول الله أكثر من حصتهم مما يتركه أبو هريرة فيكون تطرق التهمة إلى أبى بكر والشهود أكثر حسب زيادة حصتهم وما وقفت للمرتضى على شئ أطرف من هذا لان رسول الله صلى الله عليه وآله مات والمسلمون أكثر من خمسين ألف إنسان لانه قاد في غزاة تبوك عشرين ألفا ثم وفدت إليه الوفود كلها بعد ذلك فليت شعرى كم مقدار ما يتوفر على أبى بكر وستة نفر معه وهم من جملة خمسين ألفا بين ما إذا كان بنو هاشم وبنو المطلب - وهم حينئذ عشرة نفر - لا يأخذون حصة وبين ما إذا كانوا يأخذون أترى أيكون المتوفر على أبى بكر وشهوده من التركة عشر عشر درهم ! ما أظن أنه يبلغ ذلك .
وكم مقدار ما يقلل حصص الشهود على أبى هريرة إذا شركهم أهله في التركة لتكون هذه القلة موجبة رفع التهمة وتلك الزيادة والكثرة موجبة حصول التهمه ! وهذا الكلام لاأرتضيه للمرتضى .
* * * قال المرتضى رضى الله عنه : وأما قوله : يخص القرآن بالخبر (3) كما خصصناه في العبد والقاتل فليس بشئ لانا إنما خصصنا من ذكر بدليل مقطوع عليه معلوم وليس هذا موجودا في الخبر الذى ادعاه .
فأما قوله : وليس ذلك ينقص الانبياء بل هو إجلال لهم
__________
(1) كذا في ا ، د والشافي ، وفى ب : (بالصدقة) .
(2) الشافي 230 .
(3) الشافي : (بذلك) .(16/248)
فمن الذى قال له : إن فيه (1) نقصا ! وكما أنه لا نقص فيه فلا إجلال فيه ولا فضيلة لان الداعي وإن كان قد يقوى على جمع المال ليخلف على الورثة فقد يقويه أيضا إرادة صرفه في وجوه الخير والبر وكلا الامرين يكون داعيا إلى تحصيل المال بل الداعي الذى ذكرناه أقوى فيما يتعلق بالدين .
قال : وأما قوله : إن فاطمة لما سمعت ذلك كفت عن الطلب فأصابت أولا وأصابت ثانيا فلعمري إنها كفت عن المنازعة والمشاحة لكنها انصرفت مغضبة متظلمة متألمة والامر في غضبها وسخطها أظهر من أن يخفى على منصف فقد روى أكثر الرواة الذين لا يتهمون بتشيع ولا عصبية فيه من كلامها في تلك الحال وبعد انصرافها عن مقام المنازعة والمطالبة ما يدل على ما ذكرناه من سخطها وغضبها .
أخبرنا أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزبانى قال : حدثنى محمد بن أحمد الكاتب قال : حدثنا أحمد بن عبيد بن ناصح النحوي قال : حدثنى الزيادي قال : حدثنا الشرقي بن القطامى عن محمد بن إسحاق قال : حدثنا صالح بن كيسان عن عروة عن عائشة قالت : لما بلغ فاطمة إجماع أبى بكر على منعها فدك لاثت خمارها على رأسها وأشتملت بجلبابها وأقبلت في لمة (2) من حفدتها ...
قال المرتضى : وأخبرنا المرزبانى قال : حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد المكى قال : حدثنا أبو العيناء بن القاسم اليماني قال : حدثنا أبن عائشة قال : لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبلت فاطمة إلى أبى بكر في لمة من حفدتها .
ثم اجتمعت الروايتان من هاهنا (3) ...
ونساء قومها تطأ ذيولها ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وآله
__________
(1) د .
والشافي : (إنه نقص) .
(2) اللمة ، بالضم والتشديد : الرفقة والجماعة .
(3) الشافي : (أتفقا من ها هنا) .(16/249)
حتى دخلت على أبى بكر وهو في حشد من المهاجرين والانصار وغيرهم فنيطت (1) دونها ملاءة ثم أنت أنه أجهش لها القوم بالبكاء وارتج المجلس ثم أمهلت هنيهة حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم افتتحت كلامها بالحمد لله عز وجل والثناء عليه والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قالت : (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم (2)) فإن تعزوه تجدوه أبى دون آبائكم وأخا أبن عمى دون رجالكم فبلغ الرساله صادعا بالنذارة (3) مائلا عن سنن المشركين ضاربا ثبجهم يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة آخذا باكظام (4) المشركين يهشم الاصنام ويفلق الهام حتى انهزم الجمع وولوا الدبرو حتى تفرى (5) الليل عن صبحه وأسفر الحق عن محضه ونطق زعيم الدين وخرست شقائق الشياطين وتمت كلمة الاخلاص وكنتم على شفا حفرة من النار نهزة الطامع ومذقة الشارب وقبسة العجلان وموطأ الاقدام تشربون الطرق (6) وتقتاتون القد .
أذلة خاسئين يختطفكم الناس من حولكم حتى أنقذكم الله برسوله صلى الله عليه وآله بعد اللتيا والتى وبعد أن منى بهم الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب و (كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله (7)) أو نجم قرن الشيطان أو فغرت فاغره (8) قذف أخاه في لهواتها .
ولا ينكفى (9) حتى يطأ صماخها بإخمصه ويطفئ عادية لهبها بسيفه - أو قالت : يخمد لهبها بحده - مكدودا في ذات الله وأنتم في رفاهية فكهون آمنون وادعون .
__________
(1) نيطت : أي وصلت وعلقت .
(2) سورة التوبة 128 .
(3) د : (صادرا بالتذكرة) .
(4) الاكظام : جمع كظم ، بالتحريك ، وهو مخرج النفس من الحلق .
(5) تفرى : أنشق .
(6) الطرق : الماء الذى بالت الابل فيه (7) سورة المائدة 64 .
(8) فغرت فاغرة : أي فتحت فاها .
(9) د : (فلا تكفى) .
(*)(16/250)
إلى هنا انتهى خبر أبى العيناء عن ابن عائشة .
وأما عروة عن عائشة فزاد بعد هذا : حتى إذا أختار الله لنبيه دار أنبيائه ظهرت حسيكة النفاق وشمل جلباب الدين ونطق كاظم الغاوين ونبغ خامل الافكين وهدر فنيق المبطلين فخطر في عرصاتكم وأطلع الشيطان رأسه صارخا بكم فدعاكم فألفاكم لدعوته مستجيبين ولقربه متلاحظين .
ثم استنهضكم فوجدكم خفافا وأحمشكم فألفاكم غضابا فوسمتم غير إبلكم ووردتم غير شربكم هذا والعهد قريب والكلم رحيب (1) والجرح لما يندمل إنما زعمتم ذلك خوف الفتنه (ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) (2) فهيهات ! وأنى بكم وأنى تؤفكون وكتاب الله بين أظهركم زواجره بينة وشواهده لائحة وأوامره واضحة .
أرغبة عنه تريدون أم لغيره تحكمون .
بئس للظالمين بدلا ! ومن يتبع غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الاخرة من الخاسرين .
ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها تسرون حسوا في ارتغاء ونحن نصبر منكم على مثل حزالمدى وأنتم الان تزعمون أن لا أرث لنا (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون (3)) .
يابن أبى قحافة أترث أباك ولا أرث أبى لقد جئت شيئا فريا ! فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك فنعم الحكم الله والزعيم محمد والموعد القيامة وعند الساعة يخسر المبطلون ! ثم انكفأت إلى قبر أبيها عليه السلام فقالت : قد كان بعدك أنباء وهنبثه لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب إذا فقدناك فقد الارض وابلها واختل قومك فاشهدهم ولا تغب .
وروى حرمى بن أبى العلاء مع هذين البيتين بيتا ثالثا : فليت بعدك كان الموت صادفنا لما قضيت وحالت دونك الكتب
__________
(1) رحب : أي واسع .
(2) سورة التوبة 49 .
(3) سورة المائدة 50 .
(*)(16/251)
قال : فحمد أبو بكر الله وأثنى عليه وصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم وقال يا خير (1) النساء وابنه خير الاباء (2) والله ما عدوت رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عملت الا بإذنه وإن الرائد لا يكذب أهله وإنى أشهد الله وكفى بالله شهيدا أنى سمعت رسول الله يقول (إنا معاشر الانبياء لا نورث ذهبا ولا فضه ولا دارا ولا عقارا وإنما نورث الكتاب والحكمه والعلم والنبوة) .
قال : فلما وصل الامر إلى على بن ابى طالب عليه السلام كلم في رد فدك فقال : إنى لاستحيى من الله أن أرد شيئا منع منه أبو بكر وأمضاه عمر (3) .
* * * قال المرتضى : وأخبرنا أبو عبد الله المرزبانى : قال : حدثنى على بن هارون قال : أخبرني عبيد الله بن أحمد بن أبى طاهر عن أبيه قال : ذكرت لابي الحسين زيد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب عليه السلام كلام فاطمة عليه السلام عند منع أبى بكر إياها فدك وقلت له : إن هؤلاء يزعمون أنه مصنوع وأنه من كلام أبى العيناء لان الكلام منسوق البلاغه فقال لى : رأيت مشايخ آل أبى طالب يروونه عن آبائهم ويعلمونه أولادهم وقد حدثنى به أبى عن (4 جدى يبلغ به فاطمة عليه السلام 4) على هذه الحكاية وقد رواه مشايخ الشيعة وتدارسوه قبل أن يوجد جد أبى العيناء وقد حدث الحسين بن علوان عن عطية العوفى أنه سمع عبد الله بن الحسن بن الحسن يذكر (5) عن أبيه هذا الكلام .
ثم قال أبو الحسن زيد : وكيف (6) تنكرون هذا من كلام فاطمة عليه السلام وهم
__________
(1) ا ، د : (ياخيرة) .
(2) الشافي : (الانبياء) .
(3) الشافي 230 .
(4 - 4) ساقط من د .
(5) الشافي ، د : (ذكر) .
(6) د : (كيف) .
(*)(16/252)
يروون من كلام عائشة عند موت أبيها ما هو أعجب من كلام فاطمة عليه السلام ويحققونه لو لا عداوتهم لنا أهل البيت .
ثم ذكر الحديث بطوله على نسقه وزاد في الابيات بعد البيتين الاولين : ضاقت على بلادي بعد ما رحبت وسم سبطاك خسفا فيه لى نصب فليت قبلك كان الموت صادفنا قوم تمنوا فأعطوا كل ما طلبوا تجهمتنا رجال واستخف بنا مذ غبت عنا وكل الارث قد غصبوا .
قال : فما رأينا يوما أكثر باكيا أو باكية من ذلك اليوم .
قال المرتضى : وقد روى هذا الكلام على هذا الوجه من طرق مختلفة ووجوه كثيرة فمن أرادها أخذها من مواضعها فكيف يدعى أنها عليه السلام كفت راضية وأمسكت قانعة لولا البهت وقلة الحياء (1) ! قلت : ليس في هذا الخبر ما يدل على فساد ما ادعاه قاضى القضاة لانه أدعى أنها نازعت وخاصمت ثم كفت لما سمعت الرواية وانصرفت تاركه للنزاع راضيه بموجب الخبر المروى .
وما ذكره المرتضى من هذا الكلام لا يدل إلا على سخطها حال حضورها ولا يدل على أنها بعد رواية الخبر وبعد أن أقسم لها أبو بكر بالله تعالى أنه ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله إلا ما سمعه منه ، انصرفت ساخطة ولا في الحديث المذكور والكلام المروى ما يدل على ذلك ولست أعتقد أنها انصرفت راضيه كما قال قاضى القضاه بل أعلم أنها أنصرفت ساخطة وماتت وهى على أبى بكر واجدة ولكن لا من هذا الخبر بل من أخبار أخر كان الاولى بالمرتضى أن يحتج بها على
__________
(1) الشافي 231 .
(*)(16/253)
ما يرويه في انصرافها ساخطة وموتها على ذلك السخط وأما هذا الخبر وهذا الكلام فلا يدل على هذا المطلوب .
قال المرتضى رحمه الله : فأما قوله : إنه يجوز أن يبين ع أنه لا حق لميراثه في ورثته لغير الورثة ولا يمتنع أن يرد من جهه الاحاد لانه من باب العمل وكل (1) هذا بناء منه على أصوله الفاسدة في أن خبر الواحد حجة في الشرع وأن العمل به واجب ودون صحة ذلك خرط القتاد .
وإنما يجوز أن يبين من جهة أخرى (2) إذا تساويا في الحجة ووقوع العمل فأما مع تباينهما فلا يجوز التخيير فيهما وإذا كان ورثة النبي صلى الله عليه وسلم متعبدين بألا يرثوه فلا بد من إزاحه علتهم في هذه العبادة بأن يوقفهم على الحكم ويشافههم به ويلقيه إلى من يقيم الحجة عليهم بنقله وكل ذلك لم يكن .
فأما قوله : أتجوزون صدقه في الرواية أم لا تجوزون ذلك ؟ فالجواب إنا لا نجوزه لان كتاب الله أصدق منه وهو يدفع روايته ويبطلها .
فأما اعتراضه على قولنا : إن إطلاق الميراث لا يكون إلا في الاموال بقوله تعالى : (ثم أورثنا الكتاب الذين أصطفينا من عبادنا) (3) وقولهم : ما ورثت الابناء من الاباء شيئا أفضل من أدب حسن وقولهم : العلماء ورثة الانبياء فعجيب لان كل ما ذكر مقيد غير مطلق وإنما قلنا أن مطلق لفظ الميراث من غير قرينة ولا تقييد يفيد بظاهره ميراث الاموال فبعد ما ذكره وعارض به لا يخفى على متأمل .
فأما استدلاله على أن سليمان ورث داود علمه دون ماله بقوله : (يأيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شئ إن هذا لهو الفضل المبين) (4) وأن المراد أنه
__________
(1) الشافي : (فكل) .
(2) الشافي : (من جهة دون جهة) .
(3) سورة فاطر 32 .
(4) سورة النمل 16 .
(*)(16/254)
ورث العلم والفضل وإلا لم يكن لهذا القول تعلق بالاول فليس بشئ يعول عليه لانه لا يمتنع أن يريد به أنه ورث المال بالظاهر والعلم بهذا المعنى من الاستدلال فليس يجب إذا دلت الدلالة في بعض الالفاظ على معنى المجاز أن يقتصر (1) بها عليه بل يجب أن يحملها على الحقيقة التى هي الاصل إذا لم يمنع من ذلك مانع على أنه لا يمتنع أن يريد ميراث المال خاصة ثم يقول مع ذلك : (إنا علمنا منطق الطير) ويشير (الفضل المبين) إلى العلم والمال جميعا فله بالامرين جميعا فضل على من لم يكن عليهما وقوله : (وأوتينا من كل شئ) يحتمل المال كما يحتمل العلم فليس بخالص ما ظنه .
فأما قوله في قصة زكريا : إنه خاف على العلم أن يندرس لان الانبياء وإن كانوا لا يحرصون على الاموال وأنما خاف أن يضيع العلم فسأل الله تعالى وليا يقوم بالدين مقامه فقد بينا أن الانبياء وإن كانوا لا يحرصون على الاموال ولا يبخلون بها فإنهم يجتهدون في منع المفسدين من الانتفاع بها على الفساد ولا يعد ذلك بخلا ولا حرصا (2) بل فضلا ودينا وليس يجوز من زكريا أن يخاف على العلم الاندراس والضياع لانه يعلم أن حكمة الله تعالى تقتضي حفظ العلم الذى هو الحجة على العباد وبه تنزاح عللهم في مصالحهم فكيف يخاف مالا يخاف من مثله ! فإن قيل : فهبوا أن الامر كما ذكرتم من أن زكريا كان يأمن على العلم أن يندرس أليس لابد أن يكون مجوزا أن (3) يحفظه الله تعالى بمن هو من أهله وأقاربه كما يجوز حفظه بغريب أجنبي ! فما أنكرتم أن يكون خوفه إنما كان من بنى عمه ألا يتعلموا العلم ولا يقوموا فيه مقامه فسأل الله ولدا يجمع فيه هذه العلوم حتى لا يخرج العلم عن بيته ويتعدى الى غير قومه فيلحقه بذلك وصمة !
__________
(1) ا ، الشافي : (يقتصرها) (2) ب : (بخلا وحرصا) .
(3) الشافي (لان) .
(*)(16/255)
قلنا : أما إذا رتب السؤال هذا الترتيب فالجواب عنه ما أجبنا به صاحب الكتاب وهو أن الخوف الذى أشاروا إليه ليس من ضرر دينى وإنما هو من ضرر دنياوى والانبياء إنما بعثوا لتحمل المضار الدنياويه ومنازلهم في الثواب إنما زادت على كل المنازل لهذا الوجه ومن كانت حاله هذه الحال فالظاهر من خوفه إذا لم يعلم وجهه بعينه أن يكون محمولا على مضار الدين لانها هي جهة خوفهم والغرض في بعثهم تحمل ما سواها من المضار فإذا قال النبي صلى الله عليه : (أنا خائف) فلم يعلم جهة خوفه على التفصيل يجب أن يصرف خوفه بالظاهر إلى مضار الدين دون الدنيا لان أحوالهم وبعثهم (1) يقتضى ذلك فإذا كنا لو اعتدنا من بعضنا الزهد في الدنيا وأسبابها والتعفف عن منافعها والرغبة في الاخرة والتفرد (2) بالعمل لها لكنا نحمل على ما يظهر لنا من خوفه الذى لا يعلم وجهه بعينه على ما هو أشبه واليق بحاله ونضيفه إلى الاخرة دون الدنيا وإذا كان هذا واجبا فيمن ذكرناه فهو في الانبياء عليه السلام أوجب (3) .
* * * قلت : ينبغى ألا يقول المعترض : فيلحقه بذلك وصمة فيجعل الخوف من هذه الوصمة بل يقول : إنه خاف ألا يفلح بنو عمه ولا يتعلموا العلم لما رأى من الامارات الداله على ذلك فالخوف على هذا الترتيب يتعلق بأمر دينى لا دنيوى فسأل الله تعالى أن يرزقه ولدا يرث عنه علمه أي يكون عالما بالدينيات كما أنا عالم بها وهذا السؤال متعلق بأمر دينى لا دنيوى .
وعلى هذا يندفع ما ذكره المرتضى على أنه لا يجوز إطلاق القول بأن الانبياء بعثوا لتحمل المضار الدنياوية ولا القول : الغرض في بعثتهم تحمل ما سوى المضار الدينية من المضار فإنهم ما بعثوا لذلك ولا الغرض في بعثتهم ذلك وإنما بعثوا لامر آخر .
وقد تحصل المضار في أداء الشرع ضمنا وتبعا لا على أنها الغرض ولا داخلة
__________
(1) الشافي : (بعثهم) (2) د : (والتعود) (3) الشافي 232 .
(*)(16/256)
في الغرض وعلى أن قول المرتضى : لا يجوز أن يخاف زكريا من تبديل الدين وتغييره لانه محفوظ من الله فكيف يخاف ما لا يخاف من مثله غير مستمر على أصوله ! لان المكلفين الان قد حرموا بغيبة الامام عنده ألطافا كثيرة الوصله بالشرعيات كالحدود وصلاة الجمعة والاعياد وهو وأصحابه يقولون في ذلك إن اللوم على المكلفين .
لانهم قد حرموا أنفسهم اللطف فهلا جاز أن يخاف زكريا من تبديل الدين وتغييره وإفساد الاحكام الشرعية ! لانه إنما يجب على الله تعالى التبليغ بالرسول إلى المكلفين فإذا أفسدوا هم الاديان وبدلوها لم يجب عليه أن يحفظها عليهم لانهم هم الذين حرموا أنفسهم اللطف .
واعلم أنه قد قرئ : (وإنى خفت الموالى من ورائي) (1) وقيل : إنها قراءة زين العابدين وأبنه محمد بن على الباقر عليه السلام وعثمان بن عفان وفسروه على وجهين : أحدهما أن يكون (ورائي) بمعنى خلفي وبعدي أي قلت الموالى وعجزوا عن إقامة الدين تقول : قد خف بنو فلان أي قل عددهم فسأل زكريا ربه تقويتهم ومظاهرتهم بولي يرزقه .
وثانيهما أن يكون (ورائي) بمعنى قدامى أي خف الموالى وأنا حى ودرجوا وانقرضوا ولم يبق منهم من به اعتضاد .
وعلى هذه القراءة لا يبقى متعلق بلفظة الخوف .
وقد فسر قوم قوله : (وإنى خفت الموالى) أي خفت الذين يلون الامر من بعدى لان الموالى يستعمل في الوالى وجمعه موال أي خفت أن يلى بعد موتى أمراء ورؤساء يفسدون شيئا من الدين فارزقني ولدا تنعم عليه بالنبوة والعلم كما أنعمت
__________
(1) انظر الجامع لاحكام القرأن 11 : 77 .
(17 - نهج - 16) (*)(16/257)
على واجعل الدين محفوظا (به) (1) .
وهذا التأويل غير منكر وفيه أيضا دفع لكلام المرتضى .
* * * قال المرتضى : وأما تعلق صاحب الكتاب في أن الميراث محمول على العلم بقوله : (ويرث من آل يعقوب) لانه لا يرث أموال آل يعقوب في الحقيقة وأنما يرث ذلك غيره فبعيد من الصواب .
لان ولد زكريا يرث بالقرابة من آل يعقوب أموالهم على أنه لم يقل : (يرث آل يعقوب) بل قال : (يرث من آل يعقوب) تنبيها (2) بذلك على أنه يرث من كان أحق بميراثه في القرابة (4) .
فأما طعنه على من تأول الخبر بأنه عليه السلام لا يورث ما تركه للصدقه بقوله : إن أحدا من الصحابة لم يتاوله على هذا الوجه فهذا التأويل الذى ذكرناه أحد ما قاله أصحابنا في هذا الخبر فمن أين له إجماع الصحابة على خلافه ! وإن أحدا لم يتأوله على هذا الوجه .
فإن قال : لو كان ذلك لظهر واشتهر ولوقف أبو بكر عليه فقد مضى من الكلام فيما يمنع من الموافقة على هذا المعنى ما فيه كفايه .
* * * قلت : لم يكن ذلك اليوم - أعنى يوم حضور فاطمة عليه السلام وقولها لابي بكر ما قالت - يوم تقية وخوف وكيف يكون يوم تقيه وهى تقول له - وهو الخليفة : يابن أبى قحافة أترث أباك ولا أرث أبى ! وتقول له أيضا : لقد جئت شيئا فريا ! فكان ينبغى إذا لم يؤثر أمير المؤمنين عليه السلام أن يفسر لابي بكر معنى الخبر أن يعلم فاطمة عليه السلام
__________
(1) تكملة من د .
(2) د : (منها) .
(3) ا ، د : (يورث) .
(4) الشافي 232 .
(*)(16/258)
تفسيره فتقول لابي بكر : أنت غالط فيما ظننت إنما قال أبى : ما تركناه صدقة فإنه لا يورث .
واعلم أن هذا التأويل كاد يكون مدفوعا بالضرورة لان من نظر في الاحاديث التى ذكرناها وما جرت عليه الحال يعلم بطلانه علما قطعيا .
* * * قال المرتضى : وقوله إنه لا يكون إذ ذلك تخصيص للانبياء ولا مزية : ليس بصحيح وقد قيل في الجواب عن هذا أن النبي صلى الله عليه وآله يجوز أن يريد أن ما ننوى فيه الصدقة ونفرده لها من غير أن نخرجه عن أيدينا لا تناله ورثتنا .
وهذا تخصيص للانبياء ومزيه ظاهرة (1) .
قلت : هذه مخالفة لظاهر الكلام إاحاله اللفظ (2) عن وضعه وبين قوله : ما ننوى فيه الصدقة وهو بعد في ملكنا ليس بموروث .
وقوله : ما نخلفه صدقة ليس بموروث فرق عظيم فلا يجوز أن يراد أحد المعنيين باللفظ المفيد للمعنى الاخر لانه إلباس وتعمية .
وأيضا فإن العلماء ذكروا خصائص الرسول في الشرعيات عن أمته وعددوها نحو حل الزيادة في النكاح على أربع ونحو النكاح بلفظ الهبة على قول فرقة من المسلمين ونحو تحريم أكل البصل والثوم عليه وإباحه شرب دمه وغير ذلك ولم يذكروا في خصائصه أنه إذا كان قد نوى أن يتصدق بشئ فإنه لا يناله ورثته لو قدرنا أنه يورث الاموال ولا الشيعة قبل المرتضى ذكرت ذلك ولا رأينا في كتاب من كتبهم وهو مسبوق بإجماع طائفته عليه وإجماعهم عندهم حجة .
* * * قال المرتضى : فأما قوله : إن قوله عليه السلام : ما تركناه صدقة جملة من الكلام
__________
(1) الشافي 232 (2) ا ، د : (اللفظ) .
(*)(16/259)
مستقلة بنفسها فصحيح إذا كانت لفظة (ما) مرفوعة على الابتداء ولم تكن منصوبة بوقوع الفعل عليها وكانت لفظة (صدقة) أيضا مرفوعة غير منصوبة وفى هذا وقع النزاع فكيف يدعى أنها جملة مستقلة بنفسها ! وأقوى ما يمكن أن نذكره أن نقول : الرواية جاءت بلفظ (صدقة) بالرفع وعلى ما تأولتموه لا تكون إلا منصوبة والجواب عن ذلك أنا لا نسلم الرواية بالرفع ولم تجر عادة الرواة بضبط ما جرى هذا المجرى من الاعراب والاشتباه يقع في مثله فمن حقق منهم وصرح بالرواية بالرفع يجوز أن يكون أشتبه عليه فظنها مرفوعة وهى منصوبه (1) .
قلت : وهذا أيضا خلاف الظاهر وفتح الباب فيه يؤدى إلى إفساد الاحتجاج بكثير من الاخبار .
* * * قال : وأما حكايته عن أبى على أن أبا بكر لم يدفع إلى أمير المؤمنين عليه السلام السيف والبغله والعمامة على جهة الارث .
وقوله : كيف يجوز ذلك مع الخبر الذي رواه ! وكيف خصصه بذلك دون العم الذى هو العصبة ! فما نراه زاد على التعجب ومما عجب منه عجبنا ولم يثبت عصمة أبى بكر فينتفى عن أفعاله التناقض (2) قلت : لا يشك أحد في أن أبا بكر كان عاقلا وإن شك قوم في ذلك فالعاقل في يوم واحد لا يدفع فاطمة عليه السلام عن الارث ويقول : إن أباك قال لى : إننى لا أورث ثم يورث في ذلك اليوم شخصا آخر من مال ذلك المتوفى الذى حكى عنه أنه لا يورث وليس أنتفاء هذا التناقض عن أفعاله موقوفا على العصمة بل على العقل .
__________
(1) الشافي 232 .
(2) الشافي 232 .
(*)(16/260)
قال المرتضى : وقوله يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله نحله إياه وتركه أبو بكر في يده - لما في ذلك من تقويه الدين - وتصدق ببدله .
وكل ما ذكره جائز إلا أنه قد كان يجب أن يظهر أسباب النحلة والشهادة بها والحجة عليها ولم يظهر من ذلك شئ فنعرفه ومن العجائب أن تدعى فاطمة فدك نحلة وتستشهد على قولها أمير المؤمنين عليه السلام وغيره فلا يصغى إلى قولها ويترك السيف والبغله والعمامه في يد أمير المؤمنين على سبيل النحلة بغير بينة ظهرت ولا شهادة قامت (1) .
قلت : لعل أبا بكر سمع الرسول صلى الله عليه وآله وهو ينحل ذلك عليا عليه السلام فلذلك لم يحتج إلى البينة والشهادة فقد روى أنه أعطاه خاتمه وسيفه في مرضه وأبو بكر حاضر وأما البغلة فقد كان نحله إياها في حجة الوداع على ما وردت به الرواية وأما العمامة فسلب الميت وكذلك القميص والحجزة (2) والحذاء فالعادة أن يأخذ ذلك ولد الميت .
ولا ينازع فيه لانه خارج أو كالخارج عن التركة فلما غسل عليه السلام أخذت أبنته ثيابه التى مات فيها وهذه عادة الناس على أنا قد ذكرنا في الفصل الاول كيف دفع إليه آله النبي صلى الله عليه وآله وحذاءه ودابته والظاهر أنه فعل ذلك اجتهادا لمصلحة رآها .
وللامام أن يفعل ذلك .
* * * قال المرتضى : على أنه كان يجب على أبى بكر أن يبين ذلك ويذكر وجهه بعينه لما نازع العباس فيه فلا وقت لذكر الوجه في ذلك أولى من هذا الوقت (3) .
قلت : لم ينازع العباس في أيام أبى بكر لافى البغلة والعمامة ونحوها ولا في غير
__________
(1) الشافي 232 ، 233 .
(2) حجرة الازار : معقده .
(3) الشافي ص 233 .
(*)(16/261)
ذلك وإنما نازع عليا في أيام عمر وقد ذكرنا كيفيه المنازعة وفيما ذا كانت .
* * * قال المرتضى رضى الله عنه في البردة والقضيب : إن كان نحلة أو على الوجه الاخر يجرى مجرى ما ذكرناه في وجوب الظهور والاستشهاد ولسنا نرى أصحابنا - يعنى المعتزلة - يطالبون أنفسهم في هذه المواضع بما يطالبوننا بمثله إذا أدعينا وجوها وأسبابا وعللا مجوزة لانهم لا يقنعون منا بما يجوز ويمكن .
بل يوجبون فيما ندعيه الظهور والاستشهاد وإذا كان هذا عليهم نسوه أو تناسوه (1) .
قلت : أما القضيب فهو السيف الذى نحله رسول الله صلى الله عليه وآله عليا عليه السلام في مرضه وليس بذى الفقار بل هو سيف آخر وأما البردة فإنه وهبها كعب بن زهير ثم صار هذا السيف وهذه البردة إلى الخلفاء بعد تنقلات كثيرة مذكورة في كتب التواريخ .
* * * قال المرتضى : فأما قوله : فإن أزواج النبي صلى الله عليه وآله إنما طلبن الميراث لانهن لم يعرفن رواية أبى بكر للخبر وكذلك إنما نازع على عليه السلام بعد موت فاطمة عليه السلام في الميراث لهذا الوجه فمن أقبح ما يقال في هذا الباب وأبعده عن (3) الصواب ! وكيف لا يعرف أمير المؤمنين عليه السلام رواية أبى وبكر وبها دفعت زوجته عن الميراث ! وهل مثل ذلك المقام الذى قامته وما رواه أبو بكر في دفعها يخفى على من هو في أقاصى البلاد فضلا عمن هو في المدينة حاضر شاهد يراعى (2) الاخبار ويعنى بها ! إن هذا لخروج في المكابرة عن الحد ! وكيف يخفى على الازواج ذلك حتى يطلبنه مرة بعد أخرى ويكون عثمان الرسول لهن والمطالب عنهن وعثمان على زعمهم أحد من شهد
__________
(1) الشافي ص 233 .
(2) ا والشافي : (يعنى بالاخبار ويراعيها) .
(3) د : (من) .
(*)(16/262)
أن النبي صلى الله عليه وآله لا يورث .
وقد سمعن على كل حال أن بنت النبي صلى الله عليه وآله لم تورث ماله ولا بد أن يكن قد سالن عن السبب في دفعها فذكر لهن الخبر فكيف يقال : إنهن لم يعرفنه (1) ! قلت : الصحيح أن أمير المؤمنين عليه السلام لم ينازع بعد موت فاطمة في الميراث وإنما نازع في الولاية لفدك وغيرها من صدقات رسول الله صلى الله عليه وآله وجرى بينه وبين العباس في ذلك ما هو مشهور وأما أزواج النبي صلى الله عليه وآله فما ثبت أنهن نازعن في ميراثه ولا أن عثمان كان المرسل لهن والمطالب عنهن إلا في رواية شاذة والازواج لما عرفن أن فاطمة عليه السلام قد دفعت عن الميراث أمسكن ولم يكن قد نازعن وإنما اكتفين بغيرهن وحديث فدك وحضور فاطمة عند أبى بكر كان بعد عشرة أيام من وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله والصحيح أنه لم ينطق أحد بعد ذلك من الناس من ذكر أو أنثى بعد عود فاطمة عليه السلام من ذلك المجلس بكلمة واحده في الميراث .
* * * قال المرتضى : فإن قيل : فإذا كان أبو بكر قد حكم بالخطأ في دفع فاطمة عليه السلام عن الميراث وأحتج بخبر لا حجة فيه فما بال الامة أقرته على هذا الحكم ولم تنكر عليه وفى رضاها وإمساكها دليل على صوابه (2) ! قلت : قد مضى أن ترك النكير لا يكون دليل الرضا إلا في هذا الموضع الذى لا يكون له وجه سوى الرضا وذكرنا في ذلك قولا شافيا وقد أجاب أبو عثمان الجاحظ في كتاب ، ، العباسية ، ، عن هذا السؤال جوابا حسن المعنى واللفظ نحن
__________
(1) الشافي ص 233 .
(2) الشافي ص 233 .
(*)(16/263)
نذكره على وجهه ليقابل بينه وبين كلامه في العثمانية وغيرها (1) .
قلت : ما كناه المرتضى رحمه الله في غير هذا الموضع أصلا بل كان ساخطا عليه وكناه في هذا الموضع واستجاد قوله .
لانة موافق غرضه فسبحان الله ما أشد حب الناس لعقائدهم ! قال قال أبو عثمان : وقد زعم أناس أن الدليل على صدق خبرهما - يعنى أبا بكر وعمر - في منع الميراث وبراءة ساحتهما ترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم النكير عليهما .
ثم قال : قد يقال لهم : لئن كان ترك النكير دليلا على صدقهما ليكونن ترك النكير على المتظلمين والمحتجين عليهما والمطالبين لهما دليلا على صدق دعواهم أو أستحسان مقالتهم ولا سيما وقد طالت المناجاة وكثرت المراجعة والملاحاة وظهرت الشكية وأشتدت الموجدة .
وقد بلغ ذلك من فاطمة عليه السلام حتى إنها أوصت ألا يصلى عليها أبو بكر ولقد كانت قالت له حين أتته طالبه بحقها ومحتجة لرهطها : من يرثك يا أبا بكر إذا مت ؟ قال : أهلى وولدى .
قالت : فما بالنا لا نرث النبي صلى الله عليه وآله ! فلما منعها ميراثها وبخسها حقها وأعتل عليها وجلح (2) في أمرها وعاينت التهضم (3) وأيست من التورع ووجدت نشوة الضعف وقلة الناصر قالت : والله لادعون الله عليك قال : والله لادعون الله لك قالت : والله لا أكلمك أبدا قال : والله لا أهجرك أبدا .
فإن يكن ترك النكير على أبى بكر دليلا على صواب منعها .
إن في ترك النكير على فاطمة عليه السلام دليلا على صواب طلبها ! وأدنى ما كان يجب عليهم في ذلك تعريفها ما جهلت وتذكيرها ما نسيت وصرفها عن الخطأ ورفع قدرها عن البذاء (4) وأن تقول هجرا (5) أو تجور عادلا أو تقطع واصلا .
فإذا لم تجدهم أنكروا على الخصمين جميعا فقد تكافأت
__________
(1) الشافي 233 .
(2) جلح في أمرها : جاهر به وكاشفها .
(3) التهضم : الظلم ، وفى ا : (الهضم) .
(4) البذاء : الفحش .
(5) الهجر : القبح من الكلام .
(*)(16/264)
الامور واستوت الاسباب والرجوع إلى أصل حكم الله من المواريث أولى بنا وبكم وأوجب علينا وعليكم .
قال : فإن قالوا : كيف تظن به ظلمها والتعدى عليها ! وكلما ازدادت عليه غلظة أزداد لها لينا ورقة حيث تقول له : والله لا أكلمك أبدا فيقول : والله لا أهجرك أبدا ثم تقول : والله لادعون الله عليك فيقول : والله لادعون الله لك ثم يحتمل منها هذا الكلام الغليظ والقول الشديد في دار الخلافة وبحضرة قريش والصحابة مع حاجة الخلافة الى البهاء والتنزيه وما يجب لها من الرفعة والهيبة ! ثم لم يمنعه ذلك أن قال معتذرا متقربا كلام المعظم لحقها المكبر لمقامها والصائن لوجهها المتحنن عليها : ما أحد أعز على منك فقرا ولا أحب إلى منك غنى ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (إنا معاشر الانبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة) ! قيل لهم : ليس ذلك بدليل على البراءة من الظلم والسلامة من الجور وقد يبلغ من مكر الظالم ودهاء الماكر إذا كان أريبا وللخصومة معتادا أن يظهر كلام المظلوم وذلة المنتصف (1) وحدب (2) الوامق ومقة (3) المحق .
وكيف جعلتم ترك النكير حجة قاطعة ودلالة واضحة وقد زعمتم أن عمر قال على منبره : متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : متعه النساء ومتعه الحج أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما فما وجدتم أحدا أنكر قوله ولا استشنع مخرج نهيه ولا خطأه في معناه ولا تعجب منه ولا استفهمه ! وكيف تقضون بترك النكير وقد شهد عمر يوم السقيفة وبعد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (الائمة من قريش) .
ثم قال في شكاته : لو كان سالم حيا ما تخالجني فيه شك حين (4) أظهر الشك في استحقاق كل واحد من الستة الذين (1) المنتصف : المستوفى حقه .
(2) وحدب الوامق .
أي وأنثناء الناظر .
(3) المقة : التودد والحب .
(4) الشافي : (حتى) .
(*)(16/265)
جعلهم شورى وسالم عبد لامرأة من الانصار وهى أعتقته وحازت ميراثه ثم لم ينكر ذلك من قوله منكر ولا قابل إنسان بين قوله ولا تعجب منه وإنما يكون ترك النكير على من لا رغبة ولا رهبة عنده دليلا على صدق قوله وصواب عمله فأما ترك النكير على من يملك الضعة والرفعة والامر والنهى والقتل والاستحياء والحبس والاطلاق فليس بحجة تشفى ولا دلالد تضئ .
قال : وقال آخرون : بل الدليل على صدق قولهما وصواب عملهما إمساك الصحابة عن خلعهما والخروج عليهما وهم الذين وثبوا على عثمان في أيسر من جحد التنزيل ورد النصوص (1) ولو كان كما تقولون وما تصفون ما كان سبيل الامة فيهما إلا كسبيلهم فيه وعثمان كان أعز نفرا وأشرف رهطا وأكثر عددا وثروة وأقوى عدة .
قلنا : إنهما لم يجحدا التنزيل ولم ينكرا النصوص ولكنهما بعد إقرارهما بحكم الميراث وما عليه الظاهر من الشريعة أدعيا رواية وتحدثا بحديث لم يكن محالا كونه ولا ممتنعا في حجج العقول مجيئه وشهد لهما عليه من علته مثل علتهما فيه .
ولعل بعضهم كان يرى تصديق الرجل إذا كان عدلا في رهطه مأمونا في ظاهره ولم يكن قبل ذلك عرفه بفجرة (2) ولا جرت عليه غدرة فيكون تصديقه له على جهه حسن الظن وتعديل الشاهد .
ولانه لم يكن كثير منهم يعرف حقائق الحجج والذى يقطع بشهادته على الغيب وكان ذلك شبهة على أكثرهم فلذلك قل النكير وتواكل الناس فاشتبه الامر فصار لا يتخلص إلى معرفة حق ذلك من باطله إلا العالم المتقدم أو المؤيد المرشد ولانه لم يكن لعثمان في صدور العوام وقلوب السفله والطغام ما كان لهما من المحبة والهيبة ولانهما كانا أقل استئثارا بالفئ وتفضلا بمال الله منه ومن شأن الناس إهمال السلطان ما وفر عليهم أموالهم ولم يستأثر بخراجهم ولم يعطل ثغورهم .
ولان الذى صنع أبو بكر (1) د : (المصوص) .
(2) الفجاة : الانبعاث في المعاصي والفجور .
(*)(16/266)
من منع العترة حقها والعمومة ميراثها قد كان موافقا لجلة قريش وكبراء العرب ولان عثمان أيضا كان مضعوفا في نفسه مستخفا بقدره لا يمنع ضيما ولا يقمع عدوا .
ولقد وثب ناس على عثمان بالشتم والقذف والتشنيع والنكير لامور لو أتى أضعافها وبلغ أقصاها لما أجترءوا على أغتيابه فضلا على مبادأته والاغراء به ومواجهته كما أغلظ عيينة بن حصن له فقال له : أما إنه لو كان عمر لقمعك ومنعك فقال .
عيينة : إن عمر كان خيرا لى منك أرهبني فاتقاني .
ثم قال : والعجب أنا وجدنا جميع من خالفنا في الميراث على اختلافهم في التشبيه والقدر والوعيد يرد كل صنف منهم من أحاديث مخالفيه وخصومه ما هو أقرب أسنادا وأصح رجالا وأحسن اتصالا .
حتى إذا صاروا إلى القول في ميراث النبي صلى الله عليه وسلم نسخوا الكتاب وخصوا الخبر العام بما لا يدانى بعض ما ردوه وأكذبوا قائليه وذلك أن كل إنسان منهم إنما يجرى إلى هواه ويصدق ما وافق رضاه .
هذا آخر كلام الجاحظ (1) .
* * * ثم قال المرتضى رضى الله عنه : فإن قيل ليس ما عارض به الجاحظ من الاستدلال بترك النكير وقوله : كما لم ينكروا على أبى بكر فلم ينكروا أيضا على فاطمة ع ولا على غيرها من الطالبين بالارث كالازواج وغيرهن معارضة صحيحة وذلك أن نكير أبى بكر لذلك ودفعها والاحتجاج عليها ويكفيهم ويغنيهم عن تكلف نكير آخر ولم ينكر على أبى بكر ما رواه منكر فيستغنوا بانكاره (2) .
قلنا : أول ما يبطل هذا السؤال أن أبا بكر لم ينكر عليها ما أقامت عليه بعد
__________
(1) نقلة في الشافي 233 ، 234 .
(*)(16/267)
أحتجاجها من التظلم والتألم والتعنيف والتبكيت وقولها على ما روى : والله لادعون الله عليك ولا أكلمك أبدا وما جرى هذا المجرى فقد كان يجب أن ينكره غيره ومن المنكر الغضب على المنصف وبعد فإن كان إنكار أبى بكر مقنعا ومغنيا عن إنكار غيره من المسلمين فإنكار فاطمة حكمه ومقامها على التظلم منه .
مغن عن نكير غيرها وهذا واضح (1) .
* * * الفصل الثالث في أن فدك هل صح كونها نحلة رسول الله صلى الله عليه وآله لفاطمة عليه السلام أم لا ؟ نذكر في هذا الفصل ما حكاه المرتضى عن قاضى القضاة في ، ، المغى ، ، وما أعترض به عليه ثم نذكر ما عندنا في ذلك .
قال المرتضى حاكيا عن قاضى القضاة : ومما عظمت الشيعة القول في أمر فدك قالوا : وقد روى أبو سعيد الخدرى أنه لما أنزلت : (وآت ذا القربى حقه) (2) أعطى رسول الله صلى الله عليه وآله فاطمة عليه السلام فدك ثم فعل عمر بن عبد العزيز مثل ذلك فردها على ولدها .
قالوا : ولا شك أن أبا بكر أغضبها .
إن لم يصح كل الذى روى في هذا الباب وقد كان الاجمل أن يمنعهم التكرم مما ارتكبوا منها فضلا عن الدين ثم ذكروا أنها استشهدت أمير المؤمنين عليه السلام وأم أيمن فلم يقبل شهادتهما هذا مع تركه أزواج النبي صلى الله عليه وآله في حجرهن ولم يجعلها صدقة وصدقهن في ذلك أن ذلك لهن ولم يصدقها .
__________
(1) الشافي 234 .
(2) سورة الاسراء 26 .
(*)(16/268)
قال : والجواب عن ذلك أن أكثر ما يروون في هذا الباب غير صحيح .
ولسنا ننكر صحة ما روى من ادعائها فدك فأما أنها كانت في يدها فغير مسلم بل إن كانت في يدها لكان الظاهر أنها لها فإذا كانت في جملة التركة فالظاهر أنها ميراث وإذا كان كذلك فغير جائز لابي بكر قبول دعواها لانه لا خلاف في أن العمل على الدعوى لا يجوز وإنما يعمل على مثل ذلك إذا علمت صحته بمشاهدة أو ما جرى مجراها أو حصلت بينة أو أقرار ثم إن البينة لا بد منها وإن أمير المؤمنين عليه السلام لما خاصمه اليهودي حاكمه وأن أم سلمة التى يطبق على فضلها لو ادعت نحلا ما قبلت دعواها .
ثم قال : ولو كان أمير المؤمنين عليه السلام هو الوالى ولم يعلم صحه هذه الدعوى ما الذى كان يجب أن يعمل ؟ فإن قلتم : يقبل الدعوى فالشرع بخلاف ذلك وإن قلتم : يلتمس البينة فهو الذى فعله أبو بكر .
ثم قال : وأما قول أبى بكر رجل مع الرجل وأمرأة مع المرأة فهو الذى يوجبه الدين ولم يثبت أن الشاهد في ذلك كان أمير المؤمنين عليه السلام بل الرواية المنقولة أنه شهد لها مولى لرسوالله صلى الله عليه وآله مع أم أيمن .
قال : وليس لاحد أن يقول : فلما ذا ادعت ولا بينة معها ؟ لانه لا يمتنع أن تجوز أن يحكم أبو بكر بالشاهد واليمين أو تجوز عند شهادة من شهد لها أن تذكر غيره فيشهد وهذا هو الموجب على ملتمس الحق ولا عيب عليها في ذلك ولا على أبى بكر في التماس الينة وأن لم يحكم لها لما لم يتم ولم يكن لها خصم لان التركة صدقة على ما ذكرنا وكان لا يمكن أن يعول في ذلك على يمين أو نكول ولم يكن في الامر إلا ما فعله .
قال : وقد أنكر أبو على ما قاله السائل من أنها لما ردت في دعوى النحلة ادعته أرثا وقال : بل كان طلبت الارث قبل ذلك فلما سمعت منه الخبر كفت وادعت النحله (1) .
__________
(1) الشافي 235 .
(*)(16/269)
قال : فأما فعل عمر بن عبد العزيز فلم يثبت أنه رده على سبيل النحلة بل عمل في ذلك ما عمله عمر بن الخطاب بأن أقره في يد أمير المؤمنين عليه السلام ليصرف غلاتها في المواضع التى كان يجعلها رسول الله صلى الله عليه وآله فيه فقام بذلك مدة ثم ردها إلى عمر في آخر سنته وكذلك فعل عمر بن عبد العزيز ولو ثبت أنه فعل بخلاف ما فعل السلف لكان هو المحجوج بفعلهم وقولهم وأحد ما يقوى ما ذكرناه أن الامر لما انتهى إلى أمير المؤمنين عليه السلام ترك فدك على ما كان ولم يجعله ميراثا لولد فاطمة وهذا يبين أن الشاهد كان غيره لانه لو كان هو الشاهد لكان الاقرب أن يحكم بعلمه .
على أن الناس اختلفوا في الهبة إذا لم تقبض فعند بعضهم تستحق بالعقد .
وعند بعضهم أنها إذا لم تقبض يصير وجودها كعدمها فلا يمتنع من هذا الوجه أن يمتنع أمير المؤمنين عليه السلام من ردها وإن صح عنده عقد الهبة وهذا هو الظاهر لان التسليم لو كان وقع لظهر أنه كان في يدها ولكان ذلك كافيا في الاستحقاق فأما حجر أزواج النبي صلى الله عليه وآله فانما تركت في أيديهن لانها كانت لهن ونص الكتاب يشهد بذلك وقوله : (وقرن في بيوتكن) (1) وروى في الاخبار أن النبي صلى الله عليه وآله قسم ما كان له من الحجر على نسائه وبناته .
ويبين صحة ذلك أنه لو كان ميراثا أو صدقة لكان أمير المؤمنين عليه السلام لما أفضى الامر إليه يغيره .
قال : وليس لاحد أن يقول : إنما لم يغير ذلك لان الملك قد صار له فتبرع به وذلك أن الذى يحصل له ليس إلا ربع ميراث فاطمة عليه السلام وهو الثمن من ميراث رسول الله صلى الله عليه وآله فقد كان يجب أن ينتصف لاولاد العباس وأولاد فاطمة منهن في باب الحجر ويأخذ هذا الحق منهن فتركه ذلك يدل على صحة ما قلناه وليس يمكنهم بعد ذلك إلا التعلق بالتقيه (2) وقد سبق الكلام فيها .
__________
(1) سورة الاحزاب 33 .
(2) التقية : الحيطة .
(*)(16/270)
قال : ومما يذكرونه أن فاطمة عليه السلام لغضبها على أبى بكر وعمر أوصت ألا يصليها عليها وأن تدفن سرا منهما فدفنت ليلا وهذا كما ادعوا رواية رووها عن جعفر بن محمد عليه السلام وغيره أن عمر ضرب فاطمة عليه السلام بالسوط وضرب الزبير بالسيف وأن عمر قصد منزلها وفيه على عليه السلام والزبير والمقداد وجماعة ممن تخلف عن أبى بكر وهم مجتمعون هناك فقال لها : ما أحد بعد أبيك أحب الينا منك وايم الله لئن اجتمع هؤلاء النفر عندك لنحرقن عليهم ! فمنعت القوم من الاجتماع .
قال : ونحن لا نصدق هذه الروايات ولا نجوزها .
وأما أمر الصلاة فقد روى أن أبا بكر هو الذى صلى على فاطمة عليه السلام وكبر عليها أربعا وهذا أحد ما استدل به كثير من الفقهاء في التكبير على الميت ولا يصح أيضا أنها دفنت ليلا وإن صح ذلك فقد دفن رسول الله صلى الله عليه وآله ليلا ودفن عمر ابنه ليلا وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله يدفنون بالنهار ويدفنون بالليل فما في هذا مما يطعن به بل الاقرب في النساء أن دفنهن ليلا أستر وأولى بالسنة .
ثم حكى عن أبى على تكذيب ما روى من الضرب بالسوط قال : والمروى عن جعفر بن محمد عليه السلام أنه كان يتولاهما ويأتى القبر فيسلم عليهما مع تسليمه على رسول الله صلى الله عليه وآله روى ذلك عباد بن صهيب وشعبة بن الحجاج ومهدى ابن هلال والدراوردى وغيرهم وقد روى عن أبيه محمد بن على عليه السلام وعن على بن الحسين مثل ذلك فكيف يصح ما ادعوه ! وهل هذه الرواية الا كروايتهم على أن على بن أبى طالب عليه السلام هو إسرافيل والحسن ميكائيل والحسين جبرائيل وفاطمة ملك الموت وآمنة أم النبي صلى الله عليه وآله ليلة القدر ! فإن صدقوا ذلك أيضا قيل لهم : فعمر بن الخطاب كيف يقدر على ضرب ملك الموت ! وإن قالوا : لانصدق ذلك فقد جوزوا رد هذه الروايات وصح أنه لا يجوز التعويل على هذا الخبر(16/271)
وإنما يتعلق بذلك من غرضه الالحاد كالوراق ، وأبن الراوندي لان غرضهم القدح في الاسلام .
وحكى عن أبى على انه قال : ولم صار غضبها إن ثبت كأنه غضب رسول الله صلى الله عليه وآله من حيث قال : (فمن أغضبها فقد أغضبني) أولى من أن يقال : فمن أغضب أبا بكر وعمر فقد نافق وفارق الدين .
لانه روى عنه عليه السلام قال : (حب أبى بكر وعمر إيمان وبغضهما نفاق) ! ومن يورد مثل هذا فقصده الطعن في الاسلام وأن يتوهم الناس أن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله نافقوا مع مشاهدة الاعلام ليضعفوا دلالة العلم في النفوس .
قال : وأما حديث الاحراق فلو صح لم يكن طعنا على عمر لان له أن يهدد من امتنع من المبايعة إرادة للخلاف على المسلمين لكنه غير ثابت .
انتهى كلام قاضى القضاه (1) .
قال المرتضى : نحن نبتدئ فندل على أن فاطمة عليه السلام ما ادعت من نحل فدك إلا ما كانت مصيبة فيه وأن مانعها ومطالبها بالبينة متعنت عادل عن الصواب لانها لا تحتاج إلى شهادة وبينة ثم نعطف على ما ذكره على التفصيل فنتكلم عليه .
أما الذى يدل على ما ذكرناه فهو انها كانت معصومة من الغلط مأمونا منها فعل القبيح ومن هذه صفته لا يحتاج فيما يدعيه إلى شهادة وبينة .
فإن قيل : دللوا على الامرين قلنا : بيان الاول قوله تعالى : (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (2) والاية تتناول جماعة منهم فاطمة
__________
(1) نقلة المرتضى في الشافي 234 ، 235 .
(2) سورة الاحزاب 33 .
(*)(16/272)
عليها السلام بما تواترت الاخبار في ذلك والارادة هاهنا دلالة على وقوع الفعل للمراد .
وأيضا فيدل على ذلك قوله عليه السلام : (فاطمة بضعة منى من آذاها فقد آذانى ومن آذانى فقد آذى الله عز وجل) وهذا يدل على عصمتها لانها لو كانت ممن تقارف الذنوب لم يكن من يؤذيها مؤذيا له على كل حال بل كان متى فعل المستحق من ذمها أو إقامة الحد عليها إن كان الفعل يقتضيه سارا له ومطيعا على أنا لا نحتاج أن ننبه هذا الموضع على الدلالة على عصمتها بل يكفى في هذا الموضع العلم بصدقها فيما ادعته وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين لان أحدا لا يشك أنها لم تدع ما ادعته كاذبة وليس بعد ألا تكون كاذبة إلا أن تكون صادقة وإنما اختلفوا في هل يجب مع العلم بصدقها تسلم ما ادعته بغير بينة أم لا يجب ذلك قال : الذى يدل على الفصل الثاني أن البينة إنما تراد ليغلب في الظن صدق المدعى ألا ترى أن العدالة معتبرة في الشهادات لما كانت مؤثره في غلبة الظن لما ذكرناه ولهذا جاز أن يحكم الحاكم بعلمه من غير شهادة لان علمه أقوى من الشهادة ولهذا كان الاقرار أقوى من البينة من حيث كان أغلب في تأثير غلبة الظن وإذا قدم الاقرار على الشهادة لقوة الظن عنده فأولى أن يقدم العلم على الجميع وإذا لم يحتج مع الاقرار الى شهادة لسقوط حكم الضعيف مع القوى لا يحتاج أيضا مع العلم الى ما يؤثر الظن من البينات والشهادات .
والذى يدل على صحة ما ذكرناه أيضا أنه لا خلاف بين أهل النقل في أن أعرابيا نازع النبي صلى الله عليه وآله في ناقة فقال عليه السلام : (هذه لى وقد خرجت إليك من ثمنها) فقال الاعرابي من يشهد لك بذلك ؟ فقال خزيمة بن ثابت : أنا أشهد بذلك .
فقال النبي صلى الله عليه وآله : (من أين علمت وما حضرت ذلك ؟) قال : لا ولكن علمت ذلك من حيث علمت أنك رسول الله فقال : (قد أجزت شهادتك وجعلتها شهادتين) فسمى ذا الشهادتين .(16/273)
وهذه القصة شبيهة لقصة فاطمة عليه السلام لان خزيمة اكتفى في العلم بأن الناقة له صلى الله عليه وآله وشهد بذلك من حيث علم أنه رسول الله صلى الله عليه وآله ولا يقول إلا حقا وأمضى النبي صلى الله عليه وآله ذلك له من حيث لم يحضر الابتياع وتسليم الثمن فقد كان يجب على من علم أن فاطمة عليه السلام لا تقول إلا حقا ألا يستظهر عليها بطلب شهادة أو بينة هذا وقد روى أن أبا بكر لما شهد أمير المؤمنين عليه السلام كتب بتسليم (1) فدك إليها فأعترض عمر قضيته وخرق ما كتبه .
روى إبراهيم بن السعيد الثقفى عن ابراهيم بن ميمون قال : حدثنا عيسى بن عبد الله بن محمد بن على بن أبى طالب عليه السلام عن أبيه عن جده عن على عليه السلام قال : جاءت فاطمة عليه السلام إلى أبى بكر وقالت : إن أبى أعطاني فدك وعلى وأم أيمن يشهدان فقال : ما كنت لتقولي على أبيك إلا الحق قد أعطيتكها ودعا بصحيفة من أدم فكتب لها فيها فخرجت فلقيت عمر فقال : من أين جئت يا فاطمة ؟ قالت : جئت من عند أبى بكر أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني فدك وأن عليا وأم أيمن يشهدان لى بذلك فأعطانيها وكتب لى (2) بها .
فأخذ عمر منها الكتاب ثم رجع إلى أبى بكر فقال : أعطيت فاطمة فدك وكتبت بها لها ؟ قال : نعم فقال : إن عليا يجر إلى نفسه وأم أيمن أمرأة .
وبصق في الكتاب فمحاه وخرقه .
وقد روى هذا المعنى من طرق مختلفة على وجوه مختلفة فمن أراد الوقوف عليها واستقصاءها أخذها من مواضعها .
وليس لهم أن يقولوا : إنها أخبار آحاد لانها وإن كانت كذلك فأقل أحوالها أن توجب الظن وتمنع من القطع على خلاف معناها .
وليس لهم أن يقولوا : كيف يسلم إليها
__________
(1) ب : (يسلم) .
والصواب ما أثبته من ا ، د والشافي .
(2) الشافي : (وكتبها لى) .
(*)(16/274)
فدك وهو يروى عن الرسول أن ما خلفه صدقة وذلك لانه لا تنافى بين الامرين لانه إنما سلمها على ما وردت به الرواية على سبيل النحل (1) فلما وقعت المطالبة بالميراث روى الخبر في معنى الميراث فلا أختلاف بين الامرين .
فأما إنكار صاحب الكتاب لكون فدك في يدها فما رأيناه اعتمد في إنكار ذلك على حجة بل قال : لو كان ذلك في يدها لكان الظاهر أنها لها (2) .
والامر على ما قال فمن أين أنه لم يخرج عن يدها على وجه يقتضى الظاهر خلافه ! وقد روى من طرق مختلفة غير طريق أبى سعيد الذى ذكره صاحب الكتاب أنه لما نزل قوله تعالى : (وآت ذا القربى حقه) (3) دعا النبي صلى الله عليه وآله فاطمة عليه السلام فأعطاها فدك ! وإذا كان ذلك مرويا فلا معنى لدفعه بغير حجة .
وقوله : لا خلاف أن العمل على الدعوى لا يجوز صحيح وقد بينا أن قولها كان معلوما صحته وإنما قوله : إنما يعمل على ذلك متى علم صحته بشهادة أو ما يجرى مجراها أو حصلت بينة أو أقرار فيقال له : إما علمت بمشاهدة فلم يكن هناك وإما بينة فقد كانت على الحقيقة لان شهادة أمير المؤمنين عليه السلام من أكبر البينات وأعدلها ولكن على مذهبك أنه لم تكن هناك بينة فمن أين زعمت أنه لم يكن هناك علم ! وإن لم يكن عن مشاهدة فقد أدخلت ذلك في جملة الاقسام .
فإن قال : لان قولها بمجرده لا يكون جهة للعلم .
قيل له : لم قلت ذلك ؟ أو ليس قد دللنا على أنها معصومة وأن الخطأ مأمون عليها ! ثم لو لم يكن كذلك لكان قولها في تلك القضية معلوما صحته على كل حال لانها لو لم تكن مصيبة لكانت مبطلة عاصية فيما ادعته إذ الشبهة لا تدخل في مثله وقد أجمعت الامة على أنها لم يظهر منها بعد
__________
(1) ا ، د : (النحلة) .
(2) ا والشافي : (أنه) .
(3) سورة الاسراء 26 .
(*)(16/275)
رسول الله صلى الله عليه وآله معصية بلا شك وارتياب .
بل أجمعوا على اأها لم تدع إلا الصحيح وإن أختلفوا .
فمن قائل يقول : مانعها مخطئ وآخر يقول : هو أيضا مصيب لفقد البينة وإن علم صدقها .
وأما قوله : إنه لو حاكم غيره لطولب بالبينة فقد تقدم في هذا المعنى ما يكفى وقصة خزيمة بن ثابت وقبول شهادته تبطل هذا الكلام .
وأما قوله : إن أمير المؤمنين عليه السلام حاكم يهوديا على الوجه الواجب في سائر الناس فقد روى ذلك إلا أن أمير المؤمنين (1 لم يفعل من ذلك ما كان يجب عليه أن يفعله 1) وإنما تبرع به واستظهر بإقامة الحجة فيه .
وقد أخطأ من طالبه ببينة كائنا من كان .
فأما اعتراضه بأم سلمة فلم يثبت من عصمتها ما ثبت من عصمة فاطمة عليه السلام فلذلك أحتاجت في دعواها إلى بينة فأما إنكاره وأدعاؤه أنه لم يثبت أن الشاهد في ذلك كان أمير المؤمنين فلم يزد في ذلك إلا مجرد (الدعوى) (2) والانكار والاخبار مستفيضة بأنه عليه السلام شهد لها فدفع ذلك بالزيغ (3) لا يغنى شيئا ! وقوله : إن الشاهد لها مولى لرسول الله صلى الله عليه وآله هو المنكر الذى ليس بمعروف .
وأما قوله : إنها جوزت أن يحكم أبو بكر بالشاهد واليمين فطريف .
مع قوله : فيما بعد : (إن التركة صدقة ولا خصم فيها) فتدخل اليمين في مثلها .
أفترى أن فاطمة لم تكن تعلم من الشريعه هذا المقدار الذى نبه صاحب الكتاب عليه ! ولو لم تعلمه ما كان أمير المؤمنين ع وهو أعلم الناس بالشريعة يوافقها عليها .
وقوله : إنها جوزت عند شهادة من شهد لها أن يتذكر غيرهم فيشهد باطل لان مثلها لا يتعرض للظنة والتهمة ويعرض قوله للرد وقد كان يجب أن تعلم من يشهد لها
__________
(1 - 1) الشافي : (لم يفعل ذلك وهو واجب عليه) .
(2) من الشافي .
(3) الشافي : (باقتراح) .(16/276)
ممن لا يشهد حتى تكون دعواها على الوجه الذى يجب معه القبول والامضاء ومن هو دونها في الرتبة والجلالة والصيانة من أفناء الناس لا يتعرض لمثل هذه الخطة ويتورطها للتجويز الذى لا أصل له ولا أمارة عليه .
فأما إنكار أبى على لان يكون النحل قبل ادعاء الميراث وعكسه الامر فيه فأول ما فيه أنا لا نعرف له غرضا صحيحا في إنكار ذلك لان كون أحد الامرين قبل الاخر لا يصحح له مذهبا .
فلا يفسد على مخالفه مذهبا .
ثم إن الامر في أن الكلام في النحل كان المتقدم ظاهرا والروايات كلها به واردة .
وكيف يجوز أن تبتدئ بطلب الميراث فيما تدعيه بعينه نحلا ! أو ليس هذا يوجب أن تكون قد طالبت بحقها من وجه لا تستحقه منه مع الاختيار ! وكيف يجوز ذلك والميراث يشركها فيه غيرها والنحل تنفرد به ! ولا ينقلب مثل ذلك علينا من حيث طالبت بالميراث بعد النحل .
لانها في الابتداء طالبت بالنحل وهو الوجه الذى تستحق فدك منه فلما دفعت عنه طالبت ضرورة بالميراث .
لان للمدفوع عن حقه أن يتوصل إلى تناوله بكل وجه وسبب وهذا بخلاف قول أبى على لانه أضاف إليها ادعاء الحق من وجه لا تستحقه منه وهى مختارة .
وأما إنكاره أن يكون عمر بن عبد العزيز رد فدك على وجه النحل وادعاؤه أنه فعل في ذلك ما فعله عمر بن الخطاب من إقرارها في يد أمير المؤمنين عليه السلام ليصرف غلاتها في وجوهها فأول ما فيه أنا لا نحتج عليه بفعل عمر بن عبد العزيز على أي وجه وقع لان فعله ليس بحجة ولو أردنا الاحتجاج بهذا الجنس من الحجج لذكرنا فعل المأمون فإنه رد فدك بعد أن جلس مجلسا مشهورا حكم فيه بين خصمين نصبهما أحدهما لفاطمة والاخر لابي بكر وردها بعد قيام الحجة ووضوح الامر(16/277)
ومع ذلك فإنه قد أنكر من فعل عمر بن عبد العزيز ما هو معروف مشهور بلا خلاف بين أهل النقل فيه وقد روى محمد بن زكريا الغلابى عن شيوخه عن أبى المقدام هشام بن زياد مولى آل عثمان قال : لما ولى عمر بن عبد العزيز رد فدك على ولد فاطمة وكتب إلى واليه على المدينة أبى بكر بن عمرو بن حزم يأمره بذلك فكتب إليه : أن فاطمة قد ولدت في آل عثمان وآل فلان وفلان فعلى من أرد منهم ؟ فكتب إليه : أما بعد فإنى لو كتبت إليك آمرك أن تذبح شاة لكتبت إلى : أجماء أم قرناء (1) ؟ أو كتبت إليك أن تذبح بقرة لسألتني : ما لونها ؟ فإذا ورد عليك كتابي هذا فاقسمها في ولد فاطمه ع من على عليه السلام والسلام .
قال أبو المقدام : فنقمت بنو أمية ذلك على عمر بن عبد العزيز وعاتبوه فيه وقالوا له : هجنت فعل الشيخين وخرج إليه عمر بن قيس في جماعه من أهل الكوفه فلما عاتبوه على فعله قال : إنكم جهلتم وعلمت ونسيتم وذكرت إن أبا بكر محمد بن عمرو بن حزم حدثنى عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال (فاطمة بضعة منى يسخطها ما يسخطنى ويرضينى ما أرضاها) وإن فدك كان صافية على عهد أبى بكر وعمر ثم صار أمرها إلى مروان فوهبها لعبد العزيز أبى فورثتها أنا وإخوتى عنه فسألتهم أن يبيعوني حصتهم منها فمن بائع وواهب حتى استجمعت لى فرأيت أن أردها على ولد فاطمة .
قالوا : فإن أبيت إلا هذا فأمسك الاصل واقسم الغلة ففعل .
وأما ما ذكره من ترك أمير المؤمنين عليه السلام فدك لما أفضى الامر إليه .
واستدلاله بذلك على أنه لم يكن الشاهد فيها فالوجه في تركه عليه السلام رد فدك هو الوجه في اقراره
__________
(1) الجماء : الملساء : ذات القرن .
(*)(16/278)
أحكام القوم وكفه عن نقضها وتغييرها وقد بينا ذلك فيما سبق وذكرنا أنه كان في انتهاء الامر إليه في بقية من التقية قوية .
فأما استدلاله على أن حجر أزواج النبي صلى الله عليه كانت لهن بقوله تعالى : (وقرن في بيوتكن) (1) فمن عجيب الاستدلال لان هذه الاضافة لا تقتضي الملك بل العادة جارية فيها أن تستعمل من جهة السكنى ولهذا يقال : هذا بيت فلان ومسكنه ولا يراد بذلك الملك وقد قال تعالى : (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) (2) ولا شبهة في أنه تعالى أراد منازل الرجال التى يسكنون فيها زوجاتهم ولم يرد بهذه الاضافة الملك .
فأما ما رواه من أن رسول الله صلى الله عليه وآله قسم حجره على نسائه وبناته فمن أين له إذا كان الخبر صحيحا أن هذه القسمة على وجه التمليك دون الاسكان والانزال ! ولو كان قد ملكهن ذلك لوجب أن يكون ظاهرا مشهورا .
فأما الوجه في ترك أمير المؤمنين لما صار الامر إليه في يده منازعة الازواج في هذه الحجر فهو ما تقدم وتكرر .
وأما قوله : إن أبا بكر هو الذى صلى على فاطمة وكبر أربعا وإن كثيرا من الفقهاء يستدلون به في التكبير على الميت - وهو شئ ما سمع إلا منه وإن كان تلقاه عن غيره - فممن يجرى مجراه في العصبية وإلا فالروايات المشهورة وكتب الاثار والسير خالية من ذلك ولم يختلف أهل النقل في أن عليا عليه السلام هو الذى صلى على فاطمة إلا رواية نادرة شاذة وردت بأن العباس رحمه الله صلى عليها .
وروى الواقدي بإسناده في تاريخه عن الزهري قال : سالت ابن عباس :
__________
(1) سورة الاحزاب 33 .
(2) سورة الطلاق 1 .(16/279)
متى دفنتم فاطمة عليه السلام ؟ قال : دفناها بليل بعد هدأة .
قال : قلت : فمن صلى عليها ؟ قال : على .
وروى الطبري عن الحارث بن أبى أسامة عن المدائني عن أبى زكريا العجلاني أن فاطمة عليه السلام عمل لها نعش قبل وفاتها فنظرت إليه فقالت : سترتموني ستركما الله ! قال أبو جعفر محمد بن جرير : والثبت في ذلك أنها زينب لان فاطمة دفنت ليلا ولم يحضرها إلا على والعباس والمقداد والزبير .
وروى القاضى أبو بكر أحمد بن كامل بإسناده في تاريخه عن الزهري .
قال حدثنى عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته أن فاطمة (1) عاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم سته اشهر فلما توفيت دفنها على ليلا وصلى عليها وذكر في كتابه هذا أن عليا والحسن والحسين عليه السلام دفنوها ليلا وغيبوا قبرها .
وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن عبيد عن الحسن بن محمد بن الحنفية أن فاطمة دفنت ليلا .
وروى عبد الله بن أبى شيبة عن يحيى بن سعيد القطان عن معمر عن الزهري مثل ذلك .
وقال البلاذرى في تاريخه : إن فاطمة عليه السلام لم تر متبسمة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله ولم يعلم أبو بكر وعمر بموتها .
والامر في هذا أوضح وأشهر من أن نطنب في الاستشهاد عليه ونذكر الروايات فيه .
__________
(1) الشافي : (فاطمة بنت رسول الله) .
(*)(16/280)
فأما قوله : ولا يصح أنها دفنت ليلا وإن صح فقد دفن فلان وفلان ليلا فقد بينا أن دفنها ليلا في الصحة أظهر من الشمس وأن منكر ذلك كالدافع للمشاهدات ولم يجعل دفنها ليلا بمجرده هو الحجة ليقال : لقد دفن فلان وفلان ليلا بل يقع الاحتجاج بذلك على ما وردت به الروايات المستفيضة الظاهرة التى هي كالتواتر .
أنها أوصت بأن تدفن ليلا حتى لا يصلى الرجلان عليها وصرحت بذلك وعهدت فيه عهدا بعد أن كانا (1) استأذنا عليها في مرضها ليعوداها فأبت أن تأذن لهما فلما طالت عليهما المدافعة رغبا إلى أمير المؤمنين عليه السلام في أن يستأذن لهما وجعلاها حاجة إليه وكلمها عليه السلام في ذلك وألح عليها فأذنت لهما في الدخول ثم أعرضت عنهما عند دخولهما ولم تكلمهما فلما خرجا قالت لامير المؤمنين عليه السلام : هل صنعت ما أردت ؟ قال : نعم قالت : فهل أنت صانع ما آمرك به ؟ قال نعم قالت : فإنى أنشدك الله ألا يصليا على جنازتي ولا يقوما على قبري ! وروى أنه عفى قبرها (2 وعلم عليه 2) ورش أربعين قبرا في البقيع ولم يرش قبرها حتى لا يهتدى إليه وأنهما عاتباه على ترك إعلامهما بشأنها وإحضارهما الصلاه عليها فمن هاهنا احتججنا بالدفن ليلا ولو كان ليس غير الدفن بالليل من غير ما تقدم عليه وما تأخر عنه لم يكن فيه حجة .
وأما حكايته عن أبى على إنكار ضرب الرجل لها .
وقوله : إن جعفر بن محمد وأباه وجده كانوا يتولونهما فكيف لا ينكر أبو على ذلك وأعتقاده فيهما اعتقاده ! وقد كنا نظن ان مخالفينا يقتنعون أن ينسبوا إلى أئمتنا الكف عن القوم والامساك وما ظننا أنهم يحملون أنفسهم على أن ينسبوا إليهم الثناء والولاء
__________
(1) ب : (كان)) .
(2 - 2) ساقط من الشافي .
(*)(16/281)
وقد علم كل أحد أن أصحاب هؤلاء السادة المختصين بهم قد رووا عنهم ضد ما روى شعبة بن الحجاج وفلان وفلان وقولهم : هما أول من ظلمنا حقنا وحمل الناس على رقابنا وقولهم : أنهما أصفيا بإنائنا وأضطجعا بسبلنا وجلسا مجلسا نحن أحق به منهما إلى غير ذلك من فنون التظلم والشكاية وهو طويل متسع ومن أراد أستقصاء ذلك فلينظر في كتاب ، ، المعرفة ، ، لابي إسحاق إبراهيم بن سعيد الثقفى فإنه قد ذكر عن رجل من أهل البيت بالاسانيد النيرة مالا زيادة عليه ثم لو صح ما ذكره شعبة لجاز أن يحمل على التقية .
وأما ذكره إسرافيل وميكائيل .
فما كنا نظن أن مثله يذكر ذلك وهذا من أقوال الغلاة الذين ضلوا في أمير المؤمنين عليه السلام وأهل البيت وليسوا من الشيعة ولا من المسلمين فأى عيب علينا فيما يقولونه ! ثم إن جماعة من مخالفينا قد غلوا في أبى بكر وعمر ورووا روايات مختلفة فيهما تجرى مجرى ما ذكره في الشناعة ولا يلزم العقلاء وذوى الالباب من المخالفين عيب من ذلك .
وأما معارضة ما روى في فاطمة عليه السلام بما روى في : (أن حبهما إيمان وبغضهما نفاق) فالخبر الذى رويناه مجمع عليه والخبر الاخر مطعون فيه فكيف يعارض ذلك بهذا ! وأما قوله : إنما قصد من يورد هذه الاخبار تضعيف دلالة الاعلام في النفوس من حيث أضاف النفاق إلى من شاهدها .
فتشنيع في غير موضعه واستناد إلى مالا يجدى نفعا لان من شاهد الاعلام لا يضعفها ولا يوهن دليلها .
ولا يقدح في كونها حجة لان الاعلام ليست ملجئة إلى العلم ولا موجبة لحصوله على كل حال وإنما تثمر العلم لمن أمعن النظر فيها من الوجه الذى تدل منه فمن عدل عن ذلك لسوء أختياره لا يكون(16/282)
عدوله مؤثرا في دلالتها فكم قد عدل من العقلاء وذوى الاحلام الراجحة والالباب الصحيحة عن تأمل هذه الاعلام وإصابة الحق منها ! ولم يكن ذلك عندنا وعند صاحب الكتاب قادحا في دلالة الاعلام .
على أن هذا القول يوجب أن ينفى الشك والنفاق عن كل من صحب النبي صلى الله عليه وآله وعاصره وشاهد أعلامه كأبى سفيان وابنه وعمرو بن العاص وفلان وفلان ممن قد اشتهر نفاقهم وظهر شكهم في الدين وارتيابهم باتفاق بيننا وبينه .
وإن كانت إضافة النفاق إلى هؤلاء لا تقدح في دلالة الاعلام فكذلك القول في غيرهم .
فأما قوله : إن حديث الاحراق لم يصح ولو صح لساغ لعمر مثل ذلك .
فقد بينا أن خبر الاحراق قد رواه غير الشيعة .
وقوله : إنه يسوغ مثل ذلك .
فكيف يسوغ إحراق بيت على وفاطمة عليه السلام ! وهل في ذلك عذر يصغى إليه أو يسمع ! وإنما يكون على وأصحابه خارقين للاجماع ومخالفين للمسلمين .
لو كان الاجماع قد تقرر وثبت وليس بمتقرر ولا ثابت مع خلاف على وحده فضلا عن أن يوافقه على ذلك غيره .
وبعد فلا فرق بين أن يهدد بالاحراق لهذه العلة وبين أن يضرب فاطمة عليه السلام لمثلها .
فإن إحراق المنازل أعظم من ضرب سوط أو سوطين .
فلا وجه لامتعاض المخالف من حديث الضرب إذا كان عنده مثل هذا الاعتذار (1) ! * * * قلت : أما الكلام في عصمة فاطمة عليه السلام فهو بفن الكلام أشبه وللقول فيه موضع غير هذا .
وأما قول المرتضى : إذا كانت صادقه لم يبق حاجة إلى من يشهد لها .
فلقائل أن
__________
(1) الشافي 235 ، 236 .(16/283)
يقول : لم قلت ذلك ؟ ولم زعمت أن الحاجة إلى البينة إنما كانت لزيادة غلبة الظن ؟ ولم لا يجوز أن يكون الله تعالى يعبد بالبينة لمصلحة يعلمها .
وإن كان المدعى لا يكذب ! أليس قد تعبد الله تعالى بالعدة في العجوز التى قد أيست من الحمل .
وإن كان أصل وضعها لاستبراء الرحم ! وأما قصة خزيمد بن ثابت .
فيجوز أن يكون الله تعالى قد علم أن مصلحة المكلفين في تلك الصورة أن يكتفى بدعوى النبي صلى الله عليه وآله وحدها .
ويستغنى فيها عن الشهادة .
ولا يمتنع أن يكون غير تلك الصورة مخالفا لها وإن كان المدعى لا يكذب .
ويبين ذلك أن مذهب المرتضى جواز ظهور خوارق العادات على أيدى الائمة والصالحين .
ولو قدرنا أن واحدا من أهل الصلاح والخير ادعى دعوى وقال بحضرة جماعة من الناس من جملتهم القاضى : اللهم إن كنت صادقا فأظهر على معجزة خارقة للعادة .
فظهرت عليه لعلمنا أنه صادق .
ومع ذلك لا تقبل دعواه إلا ببينة .
وسألت على بن الفارقى مدرس المدرسة الغربيه ببغداد فقلت له : أكانت فاطمة صادقة ؟ قال : نعم قلت : فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهى عنده صادقة ؟ فتبسم ثم قال كلاما لطيفا مستحسنا مع ناموسه وحرمته وقلة دعابته قال لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها لجاءت إليه غدا وادعت لزوجها الخلافة وزحزحته عن مقامه ولم يكن يمكنه الاعتذار والموافقة بشئ .
لانه يكون قد أسجل على نفسه أنها صادقة فيها تدعى كائنا ما كان من غير حاجة إلى بينة ولا شهود .
وهذا كلام صحيح .
وإن كان أخرجه مخرج الدعابة والهزل .
فأما قول قاضى القضاة : لو كان في يدها لكان الظاهر أنها لها واعتراض المرتضى عليه بقوله : إنه لم يعتمد في إنكار ذلك على حجة بل قال : لو كانت في يدها لكان الظاهر أنها لها والامر على ما قال : فمن .
أين أنها لم تخرج عن يدها على وجه ! كما أن الظاهر(16/284)
يقتضى خلافه .
فإنه لم يجب عما ذكره قاضى القضاة .
لان معنى قوله : إنها لو كانت في يدها أي متصرفة فيها لكانت اليد حجة في الملكية .
لان اليد والتصرف حجة لا محالة فلو كانت في يدها تتصرف فيها وفى ارتفاقها كما يتصرف الناس في ضياعهم وأملاكهم لما احتاجت إلى الاحتجاج بايه الميراث ولا بدعوى النحل .
لان اليد حجة فهلا قالت لابي بكر : هذه الارض في يدى .
ولا يجوز انتزاعها منى إلا بحجة ! وحينئذ كان يسقط احتجاج أبى بكر بقوله : (نحن معاشر الانبياء لا نورث) لانها ما تكون قد ادعتها ميراثا ليحتج عليها بالخبر .
وخبر أبى سعيد في قوله : (فأعطاها فدك) يدل على الهبة لا على القبض والتصرف .
ولانه يقال : أعطاني فلان كذا فلم أقبضه ولو كان الاعطاء هو القبض والتصرف لكان هذا الكلام متناقضا .
فأما تعجب المرتضى من قول أبى على : إن دعوى الارث كانت متقدمة على دعوى النحل وقوله : إنا لا نعرف له غرضا في ذلك فانه لا يصح له بذلك مذهب ولا يبطل على مخالفيه مذهب .
فإن المرتضى لم يقف على مراد الشيخ أبى على في ذلك .
وهذا شئ يرجع إلى أصول الفقه فإن أصحابنا استدلوا على جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد بإجماع الصحابة لانهم أجمعوا على تخصيص قوله تعالى : (يوصيكم الله في أولادكم) (1) برواية أبى بكر عن النبي صلى الله عليه وآله (لا نورث ما تركناه صدقة) .
قالوا : والصحيح في الخبر أن فاطمة عليه السلام طالبت بعد ذلك بالنحل لا بالميراث فلهذا قال الشيخ أبو على : إن دعوى الميراث تقدمت على دعوى النحل وذلك لانه ثبت أن فاطمة انصرفت عن ذلك المجلس غير راضية ولا موافقة لابي بكر .
فلو كانت دعوى الارث متأخرة وأنصرفت عن سخط لم يثبت الاجماع على تخصيص الكتاب بخبر الواحد .
أما إذا كانت دعوى الارث متقدمة فلما روى لها الخبر أمسكت وانتقلت إلى النزاع من جهة أخرى فإنه يصح حينئذ الاستدلال بالاجماع على تخصيص الكتاب بخبر الواحد .
__________
(1) سورة النساء 11 .(16/285)
فأما أنا فإن الاخبار عندي متعارضة يدل بعضها على أن دعوى الارث متأخرة ويدل بعضها على أنها متقدمة .
وأنا في هذا الموضع متوقف .
وما ذكره المرتضى من أن الحال تقتضي أن تكون البداية بدعوى النحل فصحيح وأما إخفاء القبر وكتمان الموت وعدم الصلاة وكل ما ذكره المرتضى فيه فهو الذى يظهر ويقوى عندي لان الروايات به أكثر وأصح من غيرها وكذلك القول في موجدتها وغضبها فأما المنقول عن رجال أهل البيت فإنه يختلف فتارة وتارة وعلى كل حال فميل أهل البيت الى ما فيه نصرة أبيهم وبيتهم .
وقد أخل قاضى القضاة بلفظة حكاها عن الشيعة فلم يتكلم عليها وهى لفظة جيدة .
قال : قد كان الاجمل أن يمنعهم التكرم مما ارتكبا منها فضلا عن الدين .
وهذا الكلام لا جواب عنه ولقد كان التكرم ورعاية حق رسول الله صلى الله عليه وآله وحفظ عهده يقتضى أن تعوض ابنته بشئ يرضيها إن لم يستنزل المسلمون عن فدك وتسلم إليها تطيبا لقلبها .
وقد يسوغ للامام أن يفعل ذلك من غير مشاورة المسلمين إذا رأى المصلحة فيه وقد بعد العهد الان بيننا وبينهم ولا نعلم حقيقة ما كان وإلى الله نرجع الامور .
* * * الاصل : ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز ولكن هيهات أن يغلبنى هواى ويقودنى جشعى إلى تخير الاطعمة - ولعل بالحجاز أو باليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع - أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرى أو أكون كما قال القائل : وحسبك عارا أن تبيت ببطنة وحولك اكباد تحن إلى القد(16/286)
أأقنع من نفسي بأن يقال : هذا أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش ! فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة .
همها علفها أو المرسلة .
شلغها تقممها تكترش من أعلافها وتلهو عما يراد بها أو أترك سدى أو أهمل عابثا أو أجر حبل الضلالة أو أعتسف طريق المتاهة ! * * * الشرح : قد روى : (ولو شئت لاهتديت إلى هذا العسل المصفى ولباب هذا البر المنقى .
فضربت هذا بذاك .
حتى ينضج وقودا ويستحكم معقودا) .
وروى : (ولعل بالمدينة يتيما تربا يتضور سغبا أأبيت مبطانا وحولي بطون غرثى إذن يحضرني يوم القيامة وهم من ذكر وأنثى) .
وروى : (بطون غرثى) بإضافة (بطون) إلى (غرثى) .
والقمح : الحنطة .
والجشع : أشد الحرص .
والمبطان : الذى لا يزال عظيم البطن من كثرة الاكل .
فأما المبطن : فالضامر البطن وأما البطين فالعظيم البطن لا الاكل .
وأما البطن فهو الذى لا يهمه إلا بطنه .
وأما المبطون فالعليل البطن .
وبطون غرثى : جائعة والبطنة : الكظة .
وذلك أن يمتلئ الانسان من الطعام امتلاء شديدا وكان يقال : ينبغى للانسان أن يجعل وعاء بطنه أثلاثا : فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس .(16/287)
والتقمم : أكل الشاة ما بين يديها بمقمتها أي بشفتها .
وكل ذى ظلف كالثور وغيره فهو ذو مقمة .
وتكترش من أعلافها : تملا كرشها من العلف .
قوله : (أو أجر حبل الضلالة) منصوب بالعطف على (يشغلني) وكذلك (أترك) ويقال : أجررته رسنه إذا أهملته والاعتساف : السلوك في غير طريق واضح .
والمتاهة : الارض يتاه فيها أي يتحير .
وفى قوله : (لو شئت لاهتديت) شبه من قول عمر : لو نشاء لملانا هذا الرحاب من صلائق وصناب .
وقد ذكرناه فيما تقدم .
وهذا البيت من أبيات منسوبة إلى حاتم بن عبد الله الطائى الجواد وأولها : أيا ابنة عبد الله وابنة مالك ويا ابنة ذى الجدين والفرس الورد (1) إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له أكيلا فإنى لست آكله وحدي قصيا بعيدا أو قريبا فإننى أخاف مذمات الاحاديث من بعدى (2) كفى بك عارا أن تبيت ببطنة وحولك أكباد تحن إلى القد (3) وإنى لعبد الضيف ما دام نازلا وما من خلالي غيرها شيمة العبد .
* * *
__________
(1) ديوان الحماسة بشرح المرزوقى 4 : 1668 .
(2) الحماسة : * أخا طارقا أو جار بيت فإننى * (3) لم يرد في رواية الحماسة .
(*)(16/288)
الاصل : وكأني بقائلكم يقول : إذا كان هذا قوت ابن أبى طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الاقران ومنازلة الشجعان .
ألا وإن الشجرة (1) البرية أصلب عودا والرواتع الخضرة أرق جلودا والنابتات العذية أقوى وقودا وأبطا خمودا .
وأنا من رسول الله كالضوء من الضوء والذراع من العضد .
والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت عنها ولو أمكنت الفرص (3) من رقابها لسارعت إليها وسأجهد في أن أطهر الارض من هذا الشخص المعكوس والجسم المركوس حتى تخرج المدرة من بين حب الحصيد .
* * * الشرح : الشجرة البرية : التى تنبت في البر الذى لا ماء فيه فهى أصلب عودا من الشجرة التى تنبت في الارض الندية وإليه وقعت الاشارة بقوله (والرواتع الخضرة أرق جلودا) .
ثم قال : (والنابتات العذية) التى تنبت عذيا والعذى بسكون الذال : الزرع لا يسقيه إلا ماء المطر وهو يكون أقل أخذا من الماء من النبت سقيا قال عليه السلام : إنها تكون أقوى وقودا مما يشرب الماء السائح أو ماء الناضح وأبطا خمودا .
وذلك لصلابة جرمها .
ثم قال : (وأنا من رسول الله صلى الله عليه وآله كالضوء من الضوء والذراع من العضد) .
__________
(1) في د (التربة) .
(2) في د (والمرتع) .
(3) في ا ، د (الفرصة) .
(19 - نهج - 16) (*)(16/289)
وذلك لان الضوء الاول يكون علة في الضوء الثاني ألا ترى أن الهواء المقابل للشمس يصير مضيئا من الشمس ! فهذا الضوء هو الضوء الاول .
ثم إنه يقابل وجه الارض فيضئ وجه الارض منه فالضوء الذى على وجه الارض هو الضوء الثاني وما دام الضوء الاول ضعيفا فالضوء الثاني ضعيف .
فإذا ازداد الجو إضاءة ازداد وجه الارض إضاءة لان المعلول يتبع العلة فشبه عليه السلام نفسه بالضوء الثاني وشبه رسول الله صلى الله عليه وآله بالضوء الاول وشبه منبع الاضواء والانوار سبحانه وجلت أسماؤه بالشمس التى توجب الضوء الاول ثم الضوء الاول يوجب الضوء الثاني .
وها هنا نكتة وهى أن الضوء الثاني يكون أيضا علة لضوء ثالث وذلك أن الضوء الحاصل على وجه الارض - وهو الضوء الثاني - إذا أشرق على جدار مقابل ذلك الجدار قريبا منه مكان مظلم فإن ذلك المكان يصير مضيئا بعد أن كان مظلما وإن كان لذلك المكان المظلم باب وكان داخل البيت مقابل ذلك الباب جدار كان ذلك الجدار أشد إضاءة من باقى البيت ثم ذلك الجدار إن كان فيه ثقب إلى موضع آخر كان ما يحاذي ذلك البيت أشد إضاءة مما حواليه وهكذا لا تزال الاضواء (1) يوجب بعضها بعضا على وجه الانعكاس بطريق العلية وبشرط المقابلة ولا تزال تضعف درجة درجة إلى أن تضمحل ويعود الامر إلى الظلمة .
وهكذا عالم العلوم .
والحكم المأخوذة من أمير المؤمنين عليه السلام لا تزال تضعف كما انتقلت من قوم إلى قوم إلى أن يعود الاسلام غريبا كما بدأ بموجب الخبر النبوى الوارد في الصحاح .
وأما قوله : (والذراع من العضد) فلان الذراع فرع على العضد والعضد أصل ألا ترى أنه لا يمكن أن يكون ذراع إلا إذا كان عضد ويمكن أن يكون عضد لا ذراع له ولهذا قال الراجز لولده : يا بكر بكرين ويا خلب الكبد أصبحت منى كذراع من عضد .
__________
(1) كذا في (د) .
ا ، ب : (لا يزال الضوء) .
(*)(16/290)
فشبه عليه السلام بالنسبة الى رسول الله صلى الله عليه وآله بالذراع الذى العضد أصله وأسه والمراد من هذا التشبيه الابابة عن شدة الامتزاج والاتحاد والقرب بينهما .
فإن الضوء الثاني شبيه بالضوء الاول والذراع متصل بالعضد اتصالا بينا .
وهذه المنزلة قد أعطاه إياها رسول الله صلى الله عليه وآله في مقامات كثيرة نحو قوله في قصة براءة : (قد أمرت أن لا يؤدى عنى إلا أنا أو رجل منى) وقوله : (لتنتهن يا بنى وليعة أو لابعثن إليكم رجلا منى) أو قال : (عديل نفسي) وقد سماه الكتاب العزيز (نفسه) فقال : (ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم) (1) وقد قال له : (لحمك مختلط بلحمي ودمك مسوط بدمى وشبرك وشبرى واحد) .
فإن قلت : أما قوله : (لو تظاهرت العرب على لما وليت عنها) فمعلوم فما الفائدة في قوله : (ولو أمكنت الفرصة من رقابها لسارعت (2) إليها) ؟ وهل هذا مما يفخر به الرؤساء ويعدونه منقبة وإنما المنقبة أن لو أمكنته الفرصة تجاوز وعفا ! قلت : غرضه أن يقرر في نفوس أصحابه وغيرهم من العرب أنه يحارب على حق وأن حربه لاهل الشام كالجهاد أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وأن من يجاهد الكفار يجب عليه أن يغلظ عليهم ويستأصل شأفتهم ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما جاهد بنى قريظة وظفر لم يبق ولم يعف وحصد في يوم واحد رقاب ألف أنسان صبرا في مقام واحد لما علم في ذلك من إعزاز الدين وإذلال المشركين فالعفو له مقام والانتقام له مقام .
قوله : (وسأجهد في أن أطهر الارض) الاشارة في هذا إلى معاوية سماه شخصا معكوسا وجسما مركوسا والمراد انعكاس عقيدته وأنها ليست عقيدة هدى بل هي معاكسة للحق والصواب وسماه مركوسا من قولهم : ارتكس في الضلال والركس
__________
(1) سورة ال عمران 61 .
(2) د (لاسرعت) .
(*)(16/291)
رد الشئ مقلوبا قال تعالى : (والله أركسهم بما كسبوا) (2) أي قلبهم وردهم إلى كفرهم فلما كان تاركا للفطرة التى كل مولود يولد عليها كان مرتكسا في ضلاله وأصحاب التناسخ يفسرون هذا بتفسير آخر قالوا : الحيوان على ضربين منتصب ومنحن فالمنتصب الانسان والمنحنى ما كان رأسه منكوسا إلى جهة الارض كالبهائم والسباع .
قالوا : وإلى ذلك وقعت الاشارة بقوله : (أفمن يمشى مكبا على وجهه أهدى أمن يمشى سويا على صراط مستقيم) (2) .
قالوا : فأصحاب الشقاوة تنتقل أنفسهم عند الموت إلى الحيوان المكبوب وأصحاب السعادة تنتقل أنفسهم إلى الحيوان المنتصب ولما كان معاوية عنده ع من أهل الشقاوة سماه معكوسا ومركوسا رمزا إلى هذا المعنى .
قوله : (حتى تخرج المدرة من بين حب الحصيد) أي حتى يتطهر الدين وأهله منه وذلك لان الزراع يجتهدون في إخراج المدر والحجر والشوك والعوسج ونحو ذلك من بين الزرع كى تفسد منابته .
فيفسد الحب الذى يخرج منه فشبه معاوية بالمدر ونحوه من مفسدات الحب وشبة الدين بالحب الذى هو ثمرة الزرع .
* * * الشرح : ومن هذا الكتاب وهو آخره : إليك عنى يا دنيا فحبلك على غاربك قد انسللت من مخالبك وأفلت من حبائلك واجتنبت الذهاب في مداحضك
__________
سورة النساء 88 .
(2) سورة الملك 22 .
(*)(16/292)
أين القرون الذين غررتهم بمداعبك ! أين الامم فتنتهم بزخارفك ! فها هم رهائن القبور ومضامين اللحود .
والله لو كنت شخصا مرئيا وقالبا حسيا لاقمت عليك حدود الله في عباد غررتهم بالآماني وأمم القيتهم في المهاوى وملوك أسلمتهم إلى التلف وأوردتهم موارد البلاء إذ لا ورد ولا صدر ! هيهات ! من وطئ دحضك زلق ومن ركب لججك غرق ومن ازور عن حبائلك وفق والسالم منك لا يبالى إن ضاق به مناخه .
والدنيا عنده كيوم حان انسلاخه .
* * * الشرح : إليك عنى أي ابعدى .
وحبلك على غاربك كناية من كنايات الطلاق أي اذهبي حيث شئت لان الناقة إذا ألقى حبلها على غاربها فقد فسح لها أن ترعى حيث شاءت وتذهب أين شاءت لانه إنما يردها زمامها فإذا ألقى حبلها على غاربها فقد أهملت .
والغارب : ما بين السنام والعنق .
والمداحض : المزالق .
وقيل : إن في النسخة التى بخط الرضى رضى الله عنه (غررتيهم) بالياء وكذلك (فتنتيهم) و (ألقيتيهم) و (أسلمتيهم) و (أوردتيهم) والاحسن حذف الياء وإذا كانت الرواية وردت بها فهى من إشباع الكسره كقوله : ألم يأتيك والانباء تنمى بما فعلت لبون بنى زياد ومضامين اللحود أي الذين تضمنتهم وفى الحديث نهى عن بيع المضامين والملاقيح وهى ما في أصلاب الفحول وبطون الاناث .(16/293)
ثم قال : لو كنت أيتها الدنيا إنسانا محسوسا كالواحد من البشر لاقمت عليك الحد كما فعلت بالناس .
ثم شرح أفعالها فقال : منهم من غررت ومنهم من ألقيت في مهاوى الضلال والكفر ومنهم من أتلفت وأهلكت .
ثم قال : ومن وطئ دحضك زلق مكان دحض أي مزلة .
ثم قال : لا يبالى من سلم منك إن ضاق مناخه لا يبالى بالفقر ولا بالمرض ولا بالحبوس والسجون وغير ذلك من أنواع المحن ! لان هذا كله حقير لا اعتداد به في جنب السلامة من فتنه الدنيا .
قال : والدنيا عند من قد سلم منها كيوم قرب انقضاؤه وفناؤه .
* * * الاصل : اعزبي عنى ! فو الله لا أذل لك فتستذلينى ولا أسلس لك فتقوديني وايم الله يمينا أستثنى فيها بمشيئة الله لاروضن نفسي رياضة تهش معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوما وتقنع بالملح مأدوما ولادعن مقلتي كعين ماء نضب معينها مستفرغة دموعها أتمتلئ السائمة من رعيها فتبرك وتشبع الربيضة من عشبها فتربض ويأكل على من زاده فيهجع ! قرت إذا عينه إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة والسائمة المرعية ! طوبى لنفس أدت إلى ربها فرضها وعركت بجنبها بؤسها وهجرت في(16/294)
الليل غمضها حتى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها وتوسدت كفها في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم وهمهمت بذكر ربهم شفاههم وتقشعت بطول استغفارهم ذنوبهم (اولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون) فاتق الله يا ابن حنيف ولتكفف أقراصك .
ليكون من النار خلاصك .
* * * الشرح : اعزبي : ابعدى يقال عزب الرجل بالفتح أي بعد ولا أسلس لك بفتح اللام أي لا أنقاد لك سلس الرجل بالكسر يسلس فهو بين السلس أي سهل قياده .
ثم حلف واستثنى بالمشيئة أدبا كما أدب الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله ليروضن نفسه أي يدربها بالجوع والجوع هو أصل الرياضة عند الحكماء وأرباب الطريقة .
قال : (حتى أهش إلى القرص) أي إلى الرغيف وأقنع من الادام بالملح .
ونضب معينها : فنى ماؤها .
ثم أنكر على نفسه فقال : أتشبع السائمة من رعيها - بكسر الراء وهو الكلا - والربيضة - جماعة من الغنم أو البقر تربض في أماكنها .
وأنا أيضا مثلها أشبع وأنام ! لقد قرت عينى إذا حيث (1) أشابه البهائم بعد الجهاد والسبق والعبادة والعم والجد في السنين المتطاولة .
قوله : (وعركت بجنبها بؤسها) أي صبرت على بؤسها والمشقة التى تنالها .
يقال : قد عرك فلان بجنبه الاذى أي أغضى عنه وصبر عليه .
__________
(1) في د (إذا) .
(*)(16/295)
قوله : (افترشت أرضها) أي لم يكن لها فراش إلا الارض .
(وتوسدت كفها) لم يكن لها وسادة إلا الكف .
(وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم) لفظ الكتاب العزيز (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) (1) .
وهمهمت : تكلمت كلاما خفيا .
ثم أنكر على نفسه فقال : أتشبع السائمة من رعيها - بكسر الراء وهو الكلا - والربيضة - جماعة من الغنم أو البقر تربض في أماكنها .
وأنا أيضا مثلها أشبع وأنام ! لقد قرت عينى إذا حيث (1) أشابه البهائم بعد الجهاد والسبق والعبادة والعم والجد في السنين المتطاولة .
قوله : (وعركت بجنبها بؤسها) أي صبرت على بؤسها والمشقة التى تنالها .
يقال : قد عرك فلان بجنبه الاذى أي أغضى عنه وصبر عليه .
__________
(1) في د (إذا) .
(*)(16/296)
قوله : (افترشت أرضها) أي لم يكن لها فراش إلا الارض .
(وتوسدت كفها) لم يكن لها وسادة إلا الكف .
(وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم) لفظ الكتاب العزيز (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) (1) .
وهمهمت : تكلمت كلاما خفيا .
وتقشعت ذنوبهم : زالت وذهبت كما يتقشع السحاب .
قوله : (ولتكفف أقراصك) إنما هو نهى لابن حنيف أن يكف عن الاقراص وإن كان اللفظ يقتضى أن تكف الاقراص عن ابن حنيف .
وقد رواها قوم بالنصب قالوا : (فاتق الله يا ابن حنيف ولتكفف أقراصك لترجو بها من النار خلاصك) والتاء هاهنا للامر عوض الياء وهى لغه لا بأس بها وقد قيل : إن رسول الله صلى الله عليه وآله قرأ (فبذلك فلتفرحوا) (2) بالتاء .
تم الجزء السادس عشر من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ويليه الجزء السابع عشر
__________
(1) سورة السجدة 16 .
(2) سورة يونس 58 .
(*)(16/296)
شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد ج 17
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد ج 17(17/)
شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم الجزء السابع عشر دار احياء الكتب العربية عيسى البابى الحلبي وشركاه(17/1)
الطبعة الثانية (1965 م - 1387 ه) جميع الحقوق محفوظة منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي قم - ايران 1404 ه ق(17/2)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل (1) (46) الاصل : ومن كتاب له (عليه السلام) إلى بعض عماله : أما بعد فإنك ممن أستظهر به على إقامه الدين وأقمع به نخوة الاثيم ، وأسد به لهاه الثغر المخوف .
فاستعن بالله على ما أهمك ، واخلط الشده بضغث من اللين ، وارفق ما كان الرفق أرفق ، واعتزم بالشده حين لا تغنى عنك إلا الشده .
* * * واخفض للرعيه جناحك وابسط لهم وجهك ، وألن لهم جانبك ، وآس بينهم في اللحظه ، والنظره والاشاره والتحيه حتى لا يطمع العظماء في حيفك ، ولا ييئس الضعفاء من عدلك .
والسلام .
* * * الشرح : قد اخذ الشاعر معنى قوله : " وآس بينهم في اللحظه والنظره : " ، فقال
__________
(1) ا : " وبه نستعين " ، ود : " وبه ثقتى " (*)(17/3)
اقسم اللحظ بيننا ان في اللحظ * * لعنوان ما تجن الصدور إنما البر روضة فإذا ما * * كان بشر فروضه وغدير قوله : " وآس بينهم في اللحظه " ، أي اجعلهم أسوة ، وروى : " وساو بينهم في اللحظه " والمعنى واحد .
واستظهر به : اجعله كالظهر .
والنخوه الكبرياء : والاثيم المخطئ المذنب .
وقوله : وأسد به لهاه الثغر " استعارة حسنه .
والضغث في الاصل : قبضة حشيش مختلط يابسها بشئ من الرطب ، ومنه أضغاث الاحلام " للرؤيا المختلطه التى لا يصح تأويلها ، فاستعار اللفظة هاهنا ، والمراد : امزج (1) الشده بشئ من اللين (2 فاجعلهما كالضغث وقال تعالى : (وخذ بيدك ضغثا) 2) .
قوله فاعتزم بالشدة " أي إذا جد بك الحد فدع اللين ، فان في حال الشده لا تغنى إلا الشدة ، قال الفند الزمانى : فلما صرح الشر * * فأمسى وهو عريان (3) ولم يبق سوى العدوان * * دناهم كما دانوا قوله : " حتى لا يطمع العظماء في حيفك " ، أي حتى لا يطمع العظماء في أن تمالئهم على حيف الضعفاء ، وقد تقدم مثل هذا فيما سبق .
__________
(1) د : " مزج " .
(2 - 2) ساقط من د .
(3) ديوان الحماسة 1 : 23 - بشرح التبريزي ، من شعر قاله في حرب البسوس (*) .(17/4)
(47) الاصل : ومن وصية له (عليه السلام) للحسن والحسين (عليهما السلام) لما ضربه ابن مجلم لعنه الله : أوصيكما بتقوى الله ، وإلا تبغيا الدنيا وإن بغتكما ، ولا تأسفا على شئ منها زوى عنكما ، وقولا بالحق ، واعملا للاجر ، وكونا للظالم خصما ، وللمظلوم عونا .
أوصيكما وجميع ولدى وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم ، وصلاح ذات بينكم ، فإنى سمعت جدكما صلى الله عليه وآله يقول : صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام .
الله الله في الايتام ، فلا تغبوا أفواههم ، ولا يضيعوا بحضرتكم والله الله في جيرانكم ، فانهم وصيه نبيكم ، ما زال يوصى بهم حتى ظننا أنه سيورثهم .
والله الله في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم .
والله الله في الصلاة ، فإنها عمود دينكم .
والله الله في بيت ربكم ، لا تخلوه ما بقيتم فانه إن ترك لم تناظروا .
والله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم (1) في سبيل الله .
وعليكم بالتواصل والتباذل ، وإياكم والتدابر و التقاطع ، لا تتركوا
__________
(1) ساقط من ب (*) .(17/5)
الامر بالمعروف والنهى عن المنكر فيولى عليكم أشراركم ، ثم تدعون فلا يستجاب لكم .
* * * ثم قال : يا بنى عبد المطلب لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضا ، تقولون : قتل أمير المؤمنين ، قتل أمير المؤمنين ! ألا لا تقتلن بى إلا قاتلي ، انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة ، ولا تمثلوا بالرجل ، فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : إياكم والمثله ولو بالكلب العقور .
* * * الشرح : روى : " واعملا للاخره " ، وروى فلا تغيروا أفواهكم " ، يقول لا تطلبا الدنيا وإن طلبتكما ، فإذا كان من تطلبه الدنيا منهيا عن طلبها فمن لا تطلبه يكون منهيا عن طلبها بالطريق الاولى .
ثم قال : " ولا تأسفا على شئ منها زوى عنكما " ، أي قبض ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله : " زويت لى الدنيا فأريت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك امتى ما زوى لى منها " .
وروى ولا تأسيا " ، وكلاهما بمعنى واحد أي لا تحزنا ، وهذا من قوله تعالى : (لكيلا تأسوا على ما فاتكم) (1) .
__________
(1) سورة الحديد 23 (*) .(17/6)
قوله : " صلاح ذات البين " أخذه هذه اللفظة عبد الملك بن مروان فقال لبنيه وقد جمعوا عنده يوم موته : انفوا الضغائن بينكم وعليكم * * عند المغيب وفى حضور المشهد بصلاح ذات البين طول حياتكم * * إن مد في عمرى وإن لم يمدد إن القداح إذا اجتمعن فرامها * * بالكسر ذو بطش شديد أيد عزت فلم تكسر ، وإن هي بددت * * فالوهن والتكسير للمتبدد وذات هاهنا زائده مقحمه .
قوله : " فلا تغبوا أفواههم " ، أي لا تجيعوهم بأن تطمعوهم غبا ، ومن روى : فلا تغيروا أفواههم " فذاك لان الجائع يتغير فمه ، قال (عليه السلام) : " لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك " .
قال : " ولا يضيعوا بحضرتكم " أي لا تضيعوهم ، فالنهى في الظاهر للايتام وفي المعنى للاوصياء والاولياء ، والظاهر أنه لا يعنى الايتام الذين لهم مال تحت أيدى أوصيائهم ، لان أولئك الاوصياء محرم عليهم ان يصيبوا من أموال اليتامى إلا القدر النزر جدا عند الضرورة ثم يقضونه مع التمكن ، ومن هذه حاله لا يحسن أن يقال له لا تغيروا افواه أيتامكم ، وإنما الاظهر انه يعنى الذين مات آباؤهم وهم فقراء يتعين مواساتهم ويقبح القعود عنهم ، كما قال تعالى : (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) (1) ، واليتم في الناس من قبل الاب ، وفي البهائم من قبل الام لان الاباء من البهائم لا عنايه لهم بالاولاد بل العناية للام لانها المرضعة المشفقة وأما الناس فإن الاب هو الكافل القيم بنفقة الولد ، فإذا مات وصل الضرر إليه لفقد كافله والام بمعزل عن ذلك .
وجمع يتيم على أيتام كما قالوا : شريف وأشراف .
وحكى أبو على في التكمله : " كمئ وأكماء " .
ولا يسمى الصبى يتيما الا إذا
__________
(1) سورة الانسان 8 (*) .(17/7)
كان دون البلوغ وإذا بلغ زال اسم اليتيم (1) عنه .
واليتامى أحد الاصناف الذين عينوا في الخمس بنص الكتاب العزيز .
* * * [ فصل في الاثار الواردة في حقوق الجار ] ثم أوصى بالجيران ، واللفظ الذى ذكره (عليه السلام) قد ورد مرفوعا في روايه عبد الله ابن عمر لما ذبح شاة ، فقال : أهديتم لجارنا اليهودي ؟ فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه " ، وفى الحديث أنه صلى الله عليه وآله : " قال من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فليكرم جاره : ، وعنه (عليه السلام) جار السوء في دار المقامة قاصمه الظهر وعنه (عليه السلام) : " من جهد البلاء جار سوء معك في دار مقامه إن رأى حسنة دفنها ، وإن رأى سيئة أذاعها وأفشاها " .
ومن أدعيتهم : اللهم إنى أعوذ بك من مال يكون على فتنة ، ومن ولد يكون على كلا ، ومن حليله تقرب الشيب ، ومن جار تراني عيناه وترعاني أذناه ، إن رأى خيرا دفنه ، وإن سمع شرا طار به .
ابن مسعود يرفعه : " والذى نفسي بيده لا يسلم العبد حتى يسلم قلبه ولسانه ، ويأمن جاره بوائقه " ، قالوا : ما بوائقه ؟ قال : غشمه وظلمه " .
لقمان : يا بنى ، حملت الحجارة والحديد فلم أر شيئا أثقل من جار السوء .
وانشدوا : ألا من يشترى دارا برخص * * * كراهه بعض جيرتها تباع وقال الاصمعي : جاور أهل الشام الروم فأخذوا عنهم خصلتين : اللؤم وقلة الغيرة ،
__________
(1) ا : " اليتم " (*) .(17/8)
وجاور أهل البصرة الخزر ، فأخذوا عنهم خصلتين الزنا وقله الوفاء وجاور أهل الكوفه السواد ، فأخذوا عنهم خصلتين : السخاء والغيرة .
وكان يقال من تطاول على جاره ، حرم بركة داره .
وكان يقال من آذى جاره ورثه الله داره .
باع أبو الجهم العدوى داره ، وكان في جوار سعيد بن العاص بمائة ألف درهم ، فلما أحضرها المشترى قال له : هذا ثمن الدار فأعطني ثمن الجوار ، قال : أي جوار ؟ قال : جوار سعيد بن العاص ، قال وهل اشترى أحد جوارا قط ! فقال رد على دارى ، وخذ مالك لا أدع جوار رجل ، إن قعدت سأل عنى ، وإن رأني رحب بى ، وإن غبت عنه حفظني ، وإن شهدت عنده قربنى ، وإن سألته قضى حاجتى ، وإن لم أسأله بدأنى ، وأن نابتنى نائبه فرج عنى .
فبلغ ذلك سعيدا فبعث إليه مائة ألف درهم ، وقال : هذا ثمن دارك ، ودارك لك .
الحسن : ليس حسن الجوار كف الاذى ولكن حسن الجوار الصبر على الاذى .
جاءت امرأه إلى الحسن فشكت إليه الخلة (1) ، وقالت : أنا جارتك ، قال : كم بينى وبينك ؟ قالت : سبع أدؤر ، فنظر الحسن فإذا تحت فراشه سبعه دراهم ، فأعطاها إياها ، وقال : كدنا نهلك .
وكان كعب بن مامه إذا جاوره رجل قام له بما يصلحه ، وحماه ممن يقصده ، وإن هلك له شئ أخلفه عليه ، وإن مات وداه لاهله ، فجاوره أبو دواد الايادي ، فزاره على العادة ، فبالغ في إكرامه .
وكانت العرب إذا حمدت جارا قالت : جار كجار أبى دواد ، قال قيس بن زهير :
__________
(1) الخلة : الحاجة (*) .(17/9)
أطوف ما اطوف ثم آوى * * إلى جار كجار أبى دواد (1) ثم تعلم منه أبو دواد ، وكان يفعل لجاره فعل كعب به .
وقال مسكين الدارمي : ما ضر جارا لى أجاوره * * ألا يكون لبابه ستر (2) أعمى إذا ما إذا جارتي خرجت * * حتى يوارى جارتي الخدر نارى ونار الجار واحده * * وإلبه قبلى ينزل القدر (3) .
استعرض أبو مسلم صاحب الدولة فرسا محضيرا (3) ، فقال لاصحابه : لماذا يصلح هذا ؟ فذكروا سباق الخيل ، وصيد الحمر والنعام واتباع الفار من الحرب فقال : لم تصنعوا شيئا يصلح للفرار من الجار السوء .
سئل سليمان على بن خالد بن صفوان عن ابنيه : محمد وسليمان - وكانا جاريه - فقال : كيف إحمادك جوارهما ؟ فتمثل بقول يزيد بن مفرغ الحميرى : سقى الله دارا لى وأرضا تركتها * أبو مالك جار لها وابن مرثد * * فيالك جارى ذله وصغار ! وفي الحديث المرفوع أيضا من روايه جابر : الجيران ثلاثه فجار له حق ، وجار له حقان ، وجار له ثلاثة حقوق ، فصاحب الحق الواحد جار مشرك لا رحم له ، فحقه
__________
(1) المضاف والمنسوب 1 : 100 .
(2) الاولان في أمالى المرتضى 43 1 ، 44 .
(3) موضعه في أمالى المرتضى : ويصم عما كان بينهما * * سمعي وما بى غيره وقر (4) فرس محضير ، أي شديد الحضر ، وهو العدو (*) .(17/10)
حق الجوار وصاحب الحقين جار مسلم لا رحم له ، وصاحب الثلاثة جار مسلم ذو رحم ، وأدنى حق الجوار ألا تؤذى جارك بقتار قدرك ، إلا أن تقتدح له منها .
قلت : تقتدح تغترف ، والمقدحة المغرفة .
وكان يقال : الجيران خمسة : الجار الضار السئ الجوار ، والجار الدمس الحسن الجوار ، والجار اليربوعي المنافق ، والجار البراقشى المتلون في أفعاله ، والجار الحسدلى (1) الذى عينه تراك وقلبه يرعاك .
وروى أبو هريره كان رسول الله صلى الله عليه وآله : " يقول اللهم إنى أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة ، فإن دار البادية تتحول " .
* * * قوله (عليه السلام) : " الله الله في القرآن : أمرهما بالمسارعة إلى العمل به ، ونهاهما أن يسبقهما غيرهما إلى ذلك ، ثم أمرهما بالصلاة والحج .
وشدد الوصاة في الحج ، فقال : " فإنه إن ترك لم تناظروا " أي يتعجل الانتقام منكم .
فأما المثلة فمنهى عنها ، أمر رسول الله صلى الله عليه وآله ان يمثل بهبار بن الاسود لانه روع زينب حتى أجهضت ، ثم نهى عن ذلك وقال : لا مثله المثله حرام .
__________
(1) الحسدلى : منسوب إلى الحسدل ، وهو القراد (*) .(17/11)
(48) الاصل : ومن كتاب له (عليه السلام) إلى معاوية : فإن البغى والزور يوتغان المرء في دينه ودنياه ، ويبديان خلله عند من يعيبه وقد علمت أنك غير مدرك ما قضى فواته ، وقد رام أقوام أمرا بغير الحق ، فتالوا على الله فأكذبهم ، فاحذر يوما يغتبط فيه من أحمد عاقبة عمله ، ويندم من أمكن الشيطان من قياده فلم يجاذبه ، وقد دعوتنا إلى حكم القرآن ولست من أهله ، ولسنا إياك أجبنا ولكنا أجبنا القرآن في حكمه ، والسلام .
* * * الشرح : يوتغان يهلكان والوتغ بالتحريك : الهلاك ، وقد وتغ يوتغ وتغا ، أي أثم وهلك ، وأوتغه الله : أهلكه الله ، وأوتغ فلان دينه بالاثم .
قوله : " فتألوا على الله : ، أي حلفوا ، من الالية وهى اليمين ، وفي الحديث : " من تألى على الله أكذبه الله " ، ومعناه : من أقسم تجبرا واقتدارا : لافعلن كذا ، أكذبه الله ولم يبلغ أمله .
وقد روى : " تأولوا على الله " أي حرفوا الكلم عن مواضعه ، وتعلقوا بشبهة في تأويل القرآن انتصارا لمذاهبهم وآرائهم ، فأكذبهم الله بأن أظهر للعقلاء فساد تأويلاتهم .
والاول أصح .(17/12)
ويغتبط فيه يفرح ويسر ، والغبطة : السرور ، روى يغبط فيه " أي يتمنى مثل حاله هذه .
قوله : " ويندم من أمكن الشيطان من قياده فلم يجاذبه " الياء التى هي حرف المضارعه عائدة على المكلف الذى أمكن الشيطان من قياده .
يقول : إذا لم يجاذب الشيطان من قياده فإنه يندم ، فأما من جاذبه قياده فقد قام بما عليه .
ومثله قوله : " ولسنا إياك أجبنا قوله : " والله ما حكمت مخلوقا وإنما حكمت القرآن " ومعنى " مخلوقا " : بشرا لا محدثا .(17/13)
(49) الاصل : ومن كتاب له (عليه السلام) الى معاوية أيضا : أما بعد فإن الدنيا مشغلة عن غيرها ، ولم يصب صاحبها منها شيئا إلا فتحت له حرصا عليها ، ولهجا بها ، ولن يستغنى صاحبها بما نال فيها عما لم يبلغه منها ومن وراء ذلك فراق ما جمع ، ونقض ما أبرم ، ولو اعتبرت بما مضى ، حفظت ما بقى والسلام .
* * * الشرح : هذا كما قيل في المثل : صاحب الدنيا كشارب ماء البحر ، كلما ازداد شربا ازداد عطشا ، والاصل في هذا قول الله تعالى : " لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا ، ولا يملا عين ابن آدم إلا التراب " ، وهذا من القرآن الذى رفع ونسخت تلاوته .
وقد ذكر نصر بن مزاحم هذا الكتاب وقال : إن امير المؤمنين (عليه السلام) كتبه إلى عمرو بن العاص ، وزاد فيه زياده لم يذكرها الرضى : أما بعد ، فإن الدنيا مشغلة عن الاخرة ، وصاحبها منهوم (1) عليها ، لم يصب شيئا منها قط إلا فتحت عليه حرصا ، وأدخلت عليه مؤنة (2) تزيده رغبة فيها ،
__________
(1) صفين : " مقهور فيها " .
(2) صفين : " مئونة " (*) .(17/14)
ولن يستغنى صاحبها بما نال عما لم يدرك ، ومن وراء ذلك فراق ما جمع ، والسعيد من وعظ بغيره ، فلا تحبط أجرك أبا عبد الله (1 ولا تشرك معاوية في باطله 1) ، فإن معاوية غمص الناس ، وسفه الحق (2) .
والسلام .
قال نصر : وهذا أول كتاب كتبه على (عليه السلام) إلى عمرو بن العاص ، فكتب إليه عمرو جوابه : أما بعد ، فإن الذى فيه صلاحنا ، وألفة ذات بيننا ، أن تنيب إلى الحق (4) وأن تجيب إلى ما (5 ندعوكم إليه من الشورى 5) ، فصبر الرجل منا نفسه على الحق ، وعذره الناس بالمحاجزه والسلام .
(6) قال نصر : فكتب على (عليه السلام) إلى عمرو بن العاص بعد ذلك كتابا غليظا .
وهو الذى ضرب مثله فيه بالكلب يتبع الرجل ، وهو مذكور في " " نهج البلاغه " " واللهج : الحرص .
ومعنى قوله (عليه السلام) : " لو اعتبرت بما مضى حفظت ما بقى " أي لو اعتبرت بما مضى من عمرك لحفظت باقية أن تنفقه في الضلال وطلب الدنيا وتضيعه .
* * *
__________
(1 - 1) صفين : " ولا تجارين معاوية في باطله " .
(2) غمص الناس : احتقرهم ، وسفة الحق ، أي جهله .
(3) صفين 124 .
(4) تنبب إلى لحق : ترجع .
(5 - 5) صفين : " أن نجيب إلى ما تدعون إليه من شورى " .
(6) صفين 123 (*) .(17/15)
(50) الاصل : ومن كتاب له (عليه السلام) إلى أمرائه على الجيوش من عبد الله على بن ابى طالب أمير المؤمنين رفعة إلى أصحاب المسالح : أما بعد ، فإن حقا على الوالى ألا يغيره على رعيته فضل ناله ، ولا طول خص به ، وأن يزيده ما قسم الله له من نعمه دنوا من عباده ، وعطفا على إخوانه .
ألا وإن لكم عندي ألا أحتجز دونكم سرا إلا في حرب ، ولا أطوى دونكم أمرا إلا في حكم ، ولا أؤخر لكم حقا عن محله ، ولا أقف به دون مقطعه ، وأن تكونوا عندي في الحق سواء ، فإذا فعلت ذلك وجبت لله عليكم النعمة ولى عليكم الطاعة ، وألا تنكصوا عن دعوه ولا تفرطوا في صلاح ، وإن تخوضوا الغمرات إلى الحق ، فإن أنتم لم تستقيموا لى على ذلك ، لم يكن أحد أهون على ممن أعوج منكم ، ثم أعظم له العقوبة ولا يجد عندي فيها رخصه .
فخذوا هذا من أمرائكم ، وأعطوهم من أنفسكم ما يصلح الله به أمركم والسلام .
* * *(17/16)
الشرح : أصحاب المسالح : جماعات تكون بالثغر يحمون البيضة ، والمسلحة هي الثغر ، كالمرغبة ، وفي الحديث : " كان أدنى مسالح فارس إلى العرب العذيب (1) ، قال : يجب على الوالى ألا يتطاول على الرعيه بولايته ، وما خص به عليهم من الطول وهو الفضل ، وإن تكون تلك الزيادة التى أعطيها سببا لزيادة دنوه من الرعية وحنوه عليهم .
ثم قال : " لكم عندي ألا أحتجز دونكم بسر " ، أي لا أستتر .
قال : إلا في حرب " وذلك لان الحرب يحمد فيها طى الاسرار ، والحرب خدعه .
ثم قال ولا أطوى دونكم أمرا إلا في حكم " أي أظهركم على كل ما نفسي مما يحسن أن أظهركم عليه ، فأما أحكام الشريعة والقضاء على أحد الخصمين فإنى لا أعلمكم به قبل وقوعه ، كيلا تفسد القضية بأن يحتال ذلك الشخص لصرف الحكم عنه .
ثم ذكر أنه لا يؤخر لهم حقا عن محله - يعنى العطاء - وأنه لا يقف دون مقطعه ، والحق هاهنا غير العطاء ، بل الحكم ، قال زهير : فإن الحق مقطعه ثلاث * * يمين أو نفار أو جلاء (2) أي متى تعين الحكم حكمت به وقطعت ولا أقف ، ولا أتحبس .
ولما استوفى ما شرط لهم قال : فإذا أنا وفيت بما شرطت على نفسي وجبت لله عليكم النعمة ولى عليكم (3) الطاعة .
ثم أخذ في الاشتراط عليهم كما شرط لهم ، فقال : ولى عليكم ألا تنكصوا عن
__________
(1) العذيب ، بالتصغير : يطلق على مواضع ، منها ماء بين القادسية والمغيثة ، بينه وبين القادسية أربعة أميان .
(2) ديوانه 75 .
النفار : المنافرة إلى الحاكم ، أو رجل يحكم بينهم .
الجلاء : أن ينكشف الامر وينجى .
(3) ا : " نحوكم " (*) .(17/17)
دعوة أي لا تتقاعسوا عن الجهاد إذا دعوتكم إليه ، ولا تفرطوا في صلاح أي إذا أمكنتكم فرصة ، أو رأيتم مصلحة في حرب العدو أو حماية الثغر ، فلا تفرطوا فيها فتفوت .
وأن تخوضوا الغمرات إلى الحق ، أي تكابدوا المشاق العظيمه ، ولا يهولنكم خوضها إلى الحق .
ثم توعدهم إن لم يفعلوا ذلك ، ثم قال فخذوا هذا من امرائكم ليس يعنى به أن على هؤلاء أصحاب المسالح أمراء من قبله (عليه السلام) كالواسطه بينهم وبينه بل من أمرائكم ، يعنى منى وممن يقوم في الخلافة مقامي بعدى لانه لو كان الغرض هو الاول لما كان محلهم عنده أن يقول : " ألا أحتجز دونكم بسر ولا أطوى دونكم أمرا " لان محل من كان بتلك الصفة دون هذا .(17/18)
(51) ومن كتاب له (عليه السلام) إلى عماله على الخراج : من عبد الله على أمير المؤمنين إلى أصحاب الخراج : أما بعد ! فإن من لم يحذر ما هو سائر إليه ، لم يقدم لنفسه ما يحرزها .
واعلموا أن ما كلفتم يسير وأن ثوابه كثير ولو لم يكن فيما نهى الله عنه من البغى والعدوان عقاب يخاف ، لكان في ثواب اجتنابه ما لا عذر في ترك طلبه ، فأنصفوا الناس من أنفسكم ، واصبروا لحوائجهم ، فإنكم خزان الرعية ، ووكلاء الامة وسفراء الائمة ولا تحشموا أحدا عن حاجته ولا تحبسوه عن طلبته ، ولا تبيعن الناس في الخراج كسوة شتاء ولا صيف ، ولا دابة يعتملون عليها ، ولا عبدا ، ولا تضربن أحدا سوطا لمكان درهم ، ولا تمسن مال أحد من الناس مصل ولا معاهد ، إلا أن تجدوا فرسا أو سلاحا يعدى به على أهل الاسلام ، فإنه لا ينبغى للمسلم ان يدع ذلك في أيدى أعداء الاسلام ، فيكون شوكه عليه .
ولا تدخروا أنفسكم نصيحة ، ولا الجند حسن سيره ولا الرعية معونه ، ولا دين الله قوة .
وأبلوه في سبيل ما استوجب عليكم ، فإن الله سبحانه قد اصطنع عندنا(17/19)
وعندكم أن نشكره بجهدنا ، وأن ننصره بما بلغت قوتنا ، ولا قوه إلا بالله العلى العظيم .
* * * الشرح : يقول : لو قدرنا أن القبائح العقليه كالظلم والبغى لا عقاب على فعلها بل في تركها ثواب فقط لم يكن الانسان معذورا إذا فرط في ذلك الترك لانه يكون قد حرم نفسه نفعا هو قادر على إيصاله إليها .
قوله : " ولا تحشموا أحدا " ، أي لا تغضبوا طالب حاجه فتقطعوه عن طلبها ، أحشمت زيدا ، وجاء " حشمته " ، وهو أن يجلس إليك فتغضبه وتؤذيه .
وقال ابن الاعرابي : حشمته : أخجلته ، وأحشمته : أغضبته ، والاسم الحشمة ، وهى الاستحياء والغضب .
ثم نهاهم أن يبيعوا لارباب الخراج ما هو من ضرورياتهم كثياب أبدانهم وكدابة يعتملون عليها ، نحو بقر الفلاحة ، وكعبد لا بد للانسان منه يخدمه ، ويسعى بين يديه .
ثم نهاهم عن ضرب الابشار لاستيفاء الخراج .
وكتب عدى بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز يستاذنه في عذاب العمال ، فكتب إليه كأنى لك جنة من عذاب الله ، وكأن رضاى ينجيك من سخط الله ! من قامت عليه بينه ، أو أقر بما لم يكن مضطهدا مضطرا الا الاقرار به ، فخذه بأدائه ، فان كان قادرا عليه فاستأد ، وإن أبى فاحبسه ، وإن لم يقدر فخل سبيله ، بعد أن تحلفه بالله أنه لا يقدر على شئ ، فلان يلقوا الله بجناياتهم أحب إلى من أن ألقاه بدمائهم .(17/20)
ثم نهاهم أن يعرضوا لمال أحد من المسلمين أو من المعاهدين المعاهد هاهنا : هو الذمي أو من يدخل دار الاسلام من بلاد الشرك على عهد ، إما لاداء رسالة أو لتجارة : ونحو ذلك ثم يعود الى بلاده .
ثم نهاهم عن الظلم وأخذ أموال الناس على طريق المصادرة والتأويل الباطل ، قال : إلا أن تخافوا غائلة المعاهدين ، بان تجدوا عندهم خيولا أو سلاحا ، وتظنوا منهم وثبه على بلد من بلاد المسلمين ، فانه لا يجوز الاغضاء عن ذلك حينئذ .
قوله : " وابلوا في سبيل الله " ، أي اصطنعوا من المعروف في سبيل الله ما استوجب عليكم ، يقال : هو يبلوه معروفا ، أي يصنعه إليه قال زهير : جزى الله بالاحسان ما فعلا بكم * * وأبلاهما خير البلاء الذى يبلو (1) .
قوله (عليه السلام) قد اصطنعا عندنا و عندكم أن نشكره " ، أي لان نشكره ، بلام التعليل وحذفها ، أي أحسن إلينا لنشكره ، وحذفها أكثر نحو قوله تعالى : (لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم) (2) .
__________
(1) ديوانه 116 .
(2) سورة المائدة 80 (*) .(17/21)
(52) ومن كتاب له (عليه السلام) إلى أمراء البلاد في معنى الصلاة : أما بعد فصلوا بالناس الظهر حتى تفئ الشمس مثل مربض العنز ، وصلوا بهم العصر والشمس بيضاء حية في عضو من النهار حين يسار فيها فرسخان ، وصلوا بهم المغرب حين يفطر الصائم ويدفع الحاج إلى منى ، وصلوا بهم العشاء حين يتوارى الشفق إلى ثلث الليل ، وصلوا بهم الغداة والرجل يعرف وجه صاحبه وصلوا بهم صلاة أضعفهم ، ولا تكونوا فتأنين .
* * * الشرح : [ بيان اختلاف الفقهاء في أوقات الصلاة ] قد اختلف الفقهاء في أوقات الصلاة ، فقال أبو حنيفة : أول وقت الفجر إذا طلع الفجر الثاني ، وهو المعترض في الافق ، وآخر وقتها ما لم تطلع الشمس " وأول وقت الظهر إذا زالت الشمس ، وآخر وقتها إذا صار ظل كل شئ مثليه سوى الزوال .
وقال أبو يوسف ومحمد : آخر وقتها إذا صار الظل مثله .
قال أبو حنيفة : وأول وقت العصر إذا خرج وقت الظهر ، وهذا على القولين ، وآخر وقتها ما لم تغرب الشمس ، وأول وقت المغرب إذا غربت الشمس ، وآخر وقتها(17/22)
ما لم يغب الشفق وهو البياض الذى في الافق بعد الحمرة .
وقال أبو يوسف ومحمد هو الحمره .
قال أبو حنيفه : وأول وقت العشاء إذا غاب الشفق ، وهذا (1) على القولين وآخر وقتها ما لم يطلع الفجر .
وقال الشافعي : أول وقت الفجر إذا طلع الفجر الثاني ، ولا يزال وقتها المختار باقيا إلى أن يسفر ، ثم يبقى وقت الجواز إلى طلوع الشمس .
وقال أبو سعيد الاصطخرى من الشافعية لا يبقى وقت الجواز ، بل يخرج وقتها بعد الاسفار ويصلى قضاء ، ولم يتابعه على هذا القول أحد .
قال الشافعي : وأول وقت الظهر إذا زالت الشمس .
وحكى أبو الطيب الطبري من الشافعية أن من الناس من قال لا تجوز الصلاه حتى يصير الفئ بعد الزوال مثل الشراك .
وقال مالك : أحب ان يؤخر الظهر بعد الزوال بقدر ما يصير الظل ذراعا ، وهذا مطابق لما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) حين تفئ الشمس كمربض العنز ، أي كموضع تربض العنز ، وذلك نحو ذراع أو أكثر بزياده يسيره .
قال الشافعي : وآخر وقت الظهر إذا صار ظل كل شئ مثله ، ويعتبر المثل من حد الزيادة على الظل الذى كان عند الزوال ، وبهذا القول قال أبو يوسف ومحمد ، وقد حكيناه من قبل ، وبه أيضا قال الثوري وأحمد ، وهو رواية الحسن بن زياد اللؤلؤي عن أبى حنيفة ، فأما الرواية المشهورة عنه - وهى التى رواها أبو يوسف - فهو أن آخر وقت الظهر صيرورة الظل مثليه ، وقد حكيناه عنه فيما تقدم .
وقال ابن المنذر : تفرد أبو حنيفة بهذا القول ، وعن أبى حنيفه روايه ثالثة أنه إذا صار ظل كل شئ مثله خرج وقت الظهر ، ولم يدخل وقت العصر إلى أن يصير ظل كل شئ مثليه .
__________
(1) ا : " وهو " (*) .(17/23)
وقال أبو ثور ومحمد بن جرير الطبري : قدر أربع ركعات بين المثل والمثلين ، يكون مشتركا بين الظهر والعصر .
وحكى عن مالك أنه قال : إذا صار ظل كل شئ مثله ، فهو آخر وقت الظهر وأول وقت العصر ، فإذا زاد على المثل زيادة بينة خرج وقت الظهر واختص الوقت بالعصر .
وحكى ابن الصباغ من الشافعية ، عن مالك ، أن وقت الظهر إلى أن يصير ظل كل شئ مثله وقتا مختارا ، فأما وقت الجواز والاداء فآخره إلى أن يبقى إلى غروب الشمس قدر أربع ركعات ، وهذا القول مطابق لمذهب الامامية .
وقال ابن جريج وعطاء : لا يكون مفرطا بتأخيرها حتى تكون في الشمس صفرة .
وعن طاوس : لا يفوت حتى الليل .
فأما العصر : فإن الشافعي يقول : إذا زاد على المثل أدنى زياده ، فقد دخل وقت العصر ، والخلاف في ذلك بينه وبين أبى حنيفة ، لانه يقول : أول وقت العصر إذا صار ظل كل شئ مثليه ، وزاد عليه أدنى زيادة .
وقد حكيناه عنه فيما تقدم .
وكلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في العصر مطابق لمذهب أبى حنيفه ، لان بعد صيرورة الظل مثليه ، هو الوقت الذى تكون فيه الشمس حية بيضاء في عضو من النهار ، حين يسار فيه فرسخان ، وأما قبل ذلك فإنه فوق ذلك يسار من الفراسخ أكثر من ذلك ، ولا يزال وقت الاختيار عند الشافعي للعصر باقيا حتى يصير ظل كل شئ مثليه ، ثم يبقى وقت الجواز إلى غروب الشمس .
وقال أبو سعيد الاصطخرى من أصحابه : يصير قضاء بمجاوزة المثلين ، فأما وقت المغرب فإذا غربت الشمس وغروبها سقوط القرص ..وقال أبو الحسن على بن حبيب الماوردى من الشافعية : لا بد أن يسقط القرص ويغيب(17/24)
حاجب الشمس وهو الضياء المستعلى عليها كالمتصل بها ، ولم يذكر ذلك من الشافعية أحد غيره .
وذكر الشاشى في كتاب " حليه العلماء " أن الشيعه قالت : أول وقت المغرب إذا اشتبكت النجوم .
قال قد حكى هذا عنهم .
ولا يساوى الحكاية ، ولم تذهب الشيعة إلى هذا ، وسنذكر قولهم فيما بعد .
وكلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في المغرب لا ينص على وقت معين لانه عرف ذلك بكونه وقت الافطار ووقت ما يدفع الحاج ، وكلا الامرين يحتاج إلى تعريف كما يحتاج وقت الصلاه ، اللهم إلا أن يكون قد عرف أمراء البلاد الذين يصلون بالناس من قبل هذا الكتاب متى هذا الوقت الذى يفطر فيه الصائم ، ثم يدفع فيه الحاج بعينه ، ثم يحيلهم في هذا الكتاب على ذلك التعريف المخصوص .
قال الشافعي : وللمغرب وقت واحد وهو قول مالك .
وحكى أبو ثور عن الشافعي أن لها وقتين ، وآخر وقتها إذا غاب الشفق .
وليس بمشهور عنه ، والمشهور القول الاول ، وقد ذكرنا قول أبى حنيفة فيما تقدم ، وهو امتداد وقتها إلى أن يغيب الشفق وبه قال أحمد وداود .
واختلف أصحاب الشافعي في مقدار الوقت الواحد ، فمنهم من قال : هو مقدر بقدر الطهاره وستر العورة والاذان والاقامة وفعل ثلاث ركعات ، ومنهم من قدره بغير ذلك .
وقال أبو إسحاق الشيرازي منهم ، التضييق إنما هو في الشروع ، فأما الاستدامة فتجوز إلى مغيب الشفق .
فأما وقت العشاء ، فقال الشافعي : هو أن يغيب الشفق وهو الحمرة ، وهو قول مالك وأحمد وداود وأبى يوسف ومحمد وقد حكينا مذهب أبى حنيفه فيما تقدم ، وهو أن يغيب الشفق الذى هو البياض و ، به قال زفر والمزنى .(17/25)
قال الشافعي وآخر وقتها المختار إلى نصف الليل ، هذا هو قوله القديم ، وهو مذهب أبى حنيفة ، وقال في الجديد : إلى ثلث الليل .
ويجب أن يحمل قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في العشاء أنها إلى ثلث الليل على وقت الاختيار ، ليكون مطابقا لهذا القول ، وبه قال مالك وإحدى الروايتين عن أحمد .
ثم يذهب وقت الاختيار ، ويبقى وقت الجواز إلى طلوع الفجر الثاني .
وقال أبو سعيد الاصطخرى : لا يبقى وقت الجواز بعد نصف الليل ، بل يصير قضاء .
* * * فقد ذكرنا مذهبي أبى حنيفة والشافعي في الاوقات ، وهما الامامان المعتبران في الفقه ، ودخل في ضمن حكايه مذهب الشافعي ما يقوله مالك وأحمد وغيرهما من الفقهاء .
فأما مذهب الامامية من الشيعه ، فنحن نذكره نقلا عن كتاب أبى عبد الله محمد بن محمد بن النعمان رحمه الله المعروف بالمقيد " بالرساله المقنعة " قال : وقت الظهر من بعد زوال الشمس إلى أن يرجع الفئ سبعى الشخص وعلامة الزوال رجوع الفئ بعد انتهائه الى النقصان ، وطريق معرفة ذلك بالاصطرلاب أو ميزان الشمس ، وهو معروف عند كثير من الناس ، أو بالعمود المنصوب في الدائرة الهندية أيضا ، فمن لم يعرف حقيقة العمل بذلك ، أو لم يجد آلته فلينصب عودا من خشب أو غيره في أرض مستويه السطح ، ويكون أصل العود غليظا ورأسه دقيقا شبه المذرى الذى ينسج به التكك أو المسلة التى تخاط بها الاحمال ، فان ظل هذا العود يكون بلا شك في أول النهار أطول من العود ، وكلما ارتفعت الشمس نقص من طوله حتى يقف القرص في وسط السماء فيقف الفئ حينئذ ، فإذا زال القرص عن الوسط إلى جهة المغرب رجع إلفئ إلى الزيادة .
فليعتبر من أراد الوقوف على وقت الزوال ذلك بخطط وعلامات يجعلها على رأس ظل العود عند وضعه(17/26)
في صدر النهار وكلما نقص في الظل شئ علم عليه ، فإذا رجع إلى الزيادة على موضع العلامه عرف حينئذ برجوعه ان الشمس قد زالت .
وبذلك تعرف أيضا القبلة فان قرص الشمس يقف فيها وسط النهار ويصير عن يسارها ويمين المتوجه إليها بعد وقوفها وزوالها عن القطب فإذا صارت مما يلى حاجبه الايمن من بين عينيه علم انها قد زالت وعرف ان القبله تلقاء وجهه ومن سبقت معرفته بجهة القبله إلا ان ذلك لا يبين إلا بعد زوالها بزمان ويبين الزوال من أول وقته بما ذكرناه من الاصطرلاب وميزان الشمس والدائره الهندية والعمود الذى وصفناه ، ومن لم يحصل له معرفة ذلك ، أو فقد الالة توجه إلى القبله فاعتبر صيرورة الشمس على طرف حاجبه الايمن وقت العصر من بعد الفراغ من الظهر إذا صليت الظهر في أول اوقاتها - أعنى بعد زوال الشمس بلا فصل - ويمتد الى أن يتغير لون الشمس باصفرارها للغروب ، وللمضطر والناسى إلى مغيبها بسقوط القرص عما تبلغه أبصارنا من السماء ، وأول وقت المغرب مغيب الشمس ، وعلامة مغيبها عدم الحمرة في المشرق المقابل للمغرب في السماء ، وذلك أن المشرق في السماء مطل على المغرب ، فما دامت الشمس ظاهره فوق أرضنا فهى تلقى ضوءها على المشرق في السماء فيرى حمرتها فيه ، فإذا ذهبت الحمرة منه علم أن القرص قد سقط وغاب .
وآخره أول وقت العشاء الاخرة ، وأول وقتها مغيب الشمس وهو الحمره في المغرب ، وآخره مضى الثلث الاول من الليل ، وأول وقت الغداة اعتراض الفجر ، وهو البياض في المشرق يعقبه الحمرة في مكانه ويكون مقدمة لطلوع الشمس على الارض من السماء وذلك أن الفجر الاول ، وهو البياض الظاهر في المشرق يطلع طولا ثم ينعكس بعد مدة عرضا ثم يحمر الافق بعده للشمس .(17/27)
ولا ينبغى للانسان أن يصلى فريضه الغداه حتى يعترض البياض وينتشر صعدا في السماء كما ذكرنا وآخر وقت الغداه طلوع الشمس .
هذا ما تقوله الفقهاء في مواقيت الصلاه .
فأما قوله (عليه السلام) : " والرجل يعرف وجه صاحبه فمعناه الاسفار ، وقد ذكرناه .
وقوله (عليه السلام) : " وصلوا بهم صلاة أضعفهم " .
أي لا تطيلوا بالقراءة الكثيرة والدعوات الطويله .
ثم قال : " ولا تكونوا فتانين " ، أي لا تفتنوا الناس بإتعابهم وادخال المشقة عليهم بإطاله الصلاه وافساد صلاه المأمومين بما يفعلونه من أفعال مخصوصة ، نحو أن يحدث الامام فيستخلف فيصلى الناس خلف خليفته ، فإن ذلك لا يجوز على احد قولى الشافعي ونحو أن يطيل الامام الركوع والسجود ، فيظن المأمومون أنه قد رفع فيرفعون أو يسبقونه بأركان كثيرة ، ونحو ذلك من مسائل يذكرها الفقهاء في كتبهم .
* * * واعلم أن أمير المؤمنين (عليه السلام) إنما بدأ بصلاة الظهر ، لانها أول فريضه افترضت على المكلفين من الصلاه على ما كان يذهب إليه (عليه السلام) ، وإلى ذلك تذهب الامامية ، وينصر قولهم تسميتها بالاولى ، ولهذا بدأ أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان بذكرها قبل غيرها ، فأما من عدا هؤلاء فأول الصلاه المفروضة عندهم الصبح وهى اول النهار .
* * * وأيضا يتفرع على هذا البحث القول في الصلاه الوسطى ، ما هي ؟ فذهب جمهور(17/28)
الناس إلى أنها العصر ، لانها بين صلاتي نهار وصلاتي ليل ، وقد رووا أيضا في ذلك روايات بعضها في الصحاح وقياس مذهب الامامية أنها المغرب ، لان الظهر إذا كانت الاولى كانت المغرب الوسطى ، إلا أنهم يروون عن أئمتهم (عليهم السلام) أنها الظهر ، ويفسرون الوسطى بمعنى الفضلى ، لان الوسط في اللغه هو خيار كل شئ ، ومنه قوله تعالى : (جعلناكم امه وسطا) (1) ، وقد ذهب إلى أنها المغرب قوم من الفقهاء أيضا .
وقال كثير من الناس : إنها الصبح ، لانها أيضا بين صلاتي ليل وصلاتي نهار ، ورووا ايضا فيها روايات وهو مذهب الشافعي ، ومن الناس من قال : إنها الظهر كقول الامامية ولم يسمع عن أحد معتبرا أنها العشاء إلا قولا شاذا ذكره بعضهم .
وقال : لانها بين صلاتين لا تقصران
__________
(1) سورة البقرة 143 (*) .(17/29)
(53) الاصل : ومن كتاب له (عليه السلام) كتبه للاشتر النخعي رحمه الله لما ولاه على مصر وأعمالها حين اضطرب أمر أميرها محمد بن أبى بكر وهو أطول عهد كتبه وأجمعه للمحاسن : بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أمر به عبد الله على أمير المؤمنين مالك بن الحارث الاشتر في عهده إليه حين ولاه مصر جباية خراجها ، وجهاد عدوها ، واستصلاح أهلها وعمارة بلادها .
أمره بتقوى الله وإيثار طاعته ، واتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه التى لا يسعد أحد إلا باتباعها ، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها وأن ينصر الله سبحانه بيده وقلبه ولسانه ، فانه جل اسمه قد تكفل بنصر من نصره ، وإعزاز من أعزه .
وأمره أن يكسر من نفسه عند الشهوات وينزعها عند الجمحات ، فإن النفس أماره بالسوء إلا ما رحم الله .
ثم اعلم يا مالك انى قد وجهتك الى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من امور(17/30)
الولاة قبلك ويقولون فيك ما كنت تقوله فيهم ، وإنما يستدل على الصالحين بما يجرى الله لهم على ألسن عباده فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح .
فاملك هواك ، وشح بنفسك عما لا يحل لك فإن الشح بالنفس الانصاف منها فيما أحبت أو كرهت .
* * * الشرح : نصرة الله باليد : الجهاد بالسيف ، وبالقلب الاعتقاد للحق ، وباللسان قول الحق والامر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وقد تكفل الله بنصره من نصره ، لانه تعالى قال : (ولينصرن الله من ينصره (1)) .
والجمحات منازعه النفس إلى شهواتها ومآربها ونزعها بكفها .
ثم قال له : قد كنت تسمع أخبار الولاة ، وتعيب قوما وتمدح قوما ، وسيقول الناس في إمارتك الان نحو ما كنت تقول في الامراء فاحذر أن تعاب وتذم كما كنت تعيب وتذم من يستحق الذم .
ثم قال إنما يستدل على الصالحين بما يكثر سماعه من ألسنة الناس بمدحهم والثناء عليهم ، وكذلك يستدل على الفاسقين بمثل ذلك .
وكان يقال ألسنه الرعيه أقلام الحق سبحانه إلى الملوك .
ثم أمره أن يشح بنفسه وفسر له الشح ما هو ؟ فقال ان تنتصف منها فيما أحبت
__________
(1) سورة الحج 40 (*) .(17/31)
وكرهت أي لا تمكنها من الاسترسال في الشهوات وكن أميرا عليها ، ومسيطرا وقامعا لها من التهور والانهماك .
فإن قلت : هذا معنى قوله : " فيما أحبت " ، فما معنى قوله : " وكرهت " ؟ قلت : لانها تكره الصلاة والصوم وغيرهما من العبادات الشرعية ومن الواجبات العقليه وكما يجب أن يكون الانسان مهيمنا عليها في طرف الفعل يجب أن يكون مهيمنا عليها في طرف الترك .
* * * الاصل : وأشعر قلبك الرحمه للرعيه ، والمحبة لهم ، واللطف بهم ، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم ، فإنهم صنفان : إما أخ لك في الدين ، وإما نظير لك في الخلق ، يفرط منهم الزلل ، وتعرض لهم العلل ، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطإ ، فأعطهم من عفوك وصفحك ، مثل الذى تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه ، فإنك فوقهم ، ووإلى الامر عليك فوقك ، والله فوق من ولاك ، وقد استكفاك أمرهم ، وابتلاك بهم .
ولا تنصبن نفسك لحرب الله ، فإنه لا يدى لك بنقمته ، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته .
ولا تندمن على عفو ، ولا تبجحن بعقوبة ، ولا تسرعن إلى بادرة وجدت عنها مندوحة .
ولا تقولن إنى مؤمر آمر فأطاع ، فإن ذلك ادغال في القلب ، ومنهكة للدين ، وتقرب من الغير .(17/32)
وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيله ، فانظر إلى عظم ملك الله فوقك ، وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك ، فإن ذلك يطامن إليك من طماحك ، ويكف عنك من غربك ويفئ اليك بما عزب عنك من عقلك .
إياك ومساماه الله في عظمته ، والتشبه به في جبروته ، فإن الله يذل كل جبار ، ويهين كل مختال ! * * * الشرح : أشعر قلبك الرحمه ، أي اجعلها كالشعار له ، وهو الثوب الملاصق للجسد ، قال : لان الرعية إما أخوك في الدين ، أو إنسان مثلك تقتضي رقة الجنسية وطبع البشرية الرحمه له .
قوله ويؤتى على أيديهم " ، مثل قولك : " ويؤخذ على أيديهم " ، أي يهذبون ويثقفون ، يقال : خذ على يد هذا السفيه ، وقد حجر الحاكم على فلان ، وأخذ على يده .
ثم قال : فنسبتهم إليك كنسبتك إلى الله تعالى ، وكما تحب ان يصفح الله عنك ينبغى ان تصفح أنت عنهم .
قوله لا تنصبن نفسك لحرب الله " ، أي لا تبارزه بالمعاصى .
فانه لا يدى لك بنقمتة ، اللام مقحمة ، والمراد الاضافة ، ونحوه قولهم لا أبا لك .
قوله : ولا تقولن إنى مؤمر " ، أي لا تقل انى امير ووال آمر بالشئ فأطاع .(17/33)
والادغال : الافساد ، ومنهكة للدين : ضعف وسقم .
ثم أمره عند حدوث الابهة والعظمة عنده لاجل الرئاسة والامرة أن يذكر عظمة الله تعالى وقدرته على إعدامه وإيجاده ، وإماتته وإحيائه ، فإن تذكر ذلك يطامن من غلوائه ، أي يغض من تعظمه وتكبره ، ويطاطئ منه .
والغرب : حد السيف ، ويستعار للسطوة والسرعة في البطش والفتك .
قوله : " ويفئ " ، أي يرجع إليك بما بعد عنك من عقلك ، وحرف المضارعة مضموم لانه من " أفاء " .
ومساماة الله تعالى : مباراتة في السمو وهو العلو .
* * * الاصل : أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ، ومن خاصة أهلك ، ومن لك هوى فيه من رعيتك ، فإنك إلا تفعل تظلم ، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمة دون عباده ، ومن خاصمه الله أدحض حجته ، وكان لله حربا حتى ينزع أو يتوب .
وليس شئ أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم ، فإن الله يسمع دعوة المضطهدين ، وهو للظالمين بالمرصاد .
وليكن أحب الامور إليك أوسطها في الحق ، وأعمها في العدل ، وأجمعها لرضا الرعية فإن سخط العامة يجحف برضا الخاصة ، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة(17/34)
وليس أحد من الرعيه اثقل على الوالى مؤنة في الرخاء ، وأقل معونة له في البلاء وأكره للانصاف ، وأسأل بالالحاف وأقل شكرا عند الاعطاء ، وأبطا عذرا عند المنع ، وأضعف صبرا عند ملمات الدهر ، من أهل الخاصة ، وإنما عمود الدين ، وجماع المسلمين ، والعدة للاعداء العامة من الامة فليكن صغوك لهم ، وميلك معهم .
* * * الشرح : قال له أنصف الله أي قم له بما فرض عليك من العبادة والواجبات العقلية و السمعية .
ثم قال : وأنصف الناس من نفسك ومن ولدك وخاصة أهلك ومن تحبه وتميل إليه من رعيتك ، فمتى لم تفعل ذلك كنت ظالما .
ثم نهاه عن الظلم ، وأكد الوصاية عليه في ذلك .
ثم عرفه أن قانون الامارة الاجتهاد في رضا العامة ، فإنه لا مبالاة بسخط خاصة الامير مع رضا العامة ، فأما إذا سخطت العامة لم ينفعه رضا الخاصة ، وذلك مثل أن يكون في البلد عشرة أو عشرون من أغنيائه ، وذوى الثروة من أهله ، يلازمون الوالى ويخدمونه ويسامرونه ، وقد صار كالصديق لهم ، فإن هؤلاء ومن ضارعهم من حواشى الوالى وأرباب الشفاعات والقربات عنده لا يغنون عنه شيئا عند تنكر العامة له ، وكذاك لا يضر سخط هؤلاء إذا رضيت العامة ، وذلك لان هؤلاء عنهم غنى ، ولهم بدل ، والعامة لا غنى عنهم ولا بدل منهم ، ولانهم إذا شغبوا عليه كانوا كالبحر إذا هاج واضطرب ، فلا يقاومه أحد وليس الخاصة كذلك .(17/35)
ثم قال (عليه السلام) - ونعم ما قال ليس شئ أقل نفعا ، ولا أكثر ضررا على الوالى من خواصه أيام الولاية لانهم يثقلون عليه بالحاجات ، والمسائل والشفاعات ، فإذا عزل هجروه ورفضوه حتى لو لقوه في الطريق لم يسلموا عليه .
والصغو (1) بالكسر والفتح والصغا مقصور : الميل .
* * * الاصل : وليكن أبعد رعيتك منك ، وأشنأهم عندك ، أطلبهم لمعايب الناس ، فإن في الناس عيوبا الوالى أحق من سترها ، فلا تكشفن عما غاب عنك منها ، فإنما عليك تطهير ما ظهر لك ، والله يحكم على ما غاب عنك ، فاستر العورة ما استطعت ، يستر الله منك ما تحب ستره من (2) رعيتك .
أطلق عن الناس عقده كل حقد ، واقطع عنك سبب كل وتر ، وتغاب عن كل ما لا يضح لك ، ولا تعجلن إلى تصديق ساع ، فإن الساعي غاش وإن تشبه بالناصحين .
ولا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل ، ويعدك الفقر ، ولا جبانا يضعفك عن الامور ، ولا حريصا يزين لك الشره بالجور ، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله .
* * *
__________
(1) ب : " الصفو " ، تحريف .
(2) في د : " عن " (*) .(17/36)
الشرح : أشنأهم عندك أبغضهم اليك : وتغاب : تغافل ، يقال : تغابى فلان عن كذا .
ويضح : يظهر والماضي وضح .
* * * [ فصل في النهى عن ذكر عيوب الناس وما ورد في ذلك من الاثار ] عاب رجل رجلا عند بعض الاشراف فقال له : لقد استدللت على كثره عيوبك بما تكثر فيه من عيوب الناس ، لان طالب العيوب إنما يطلبها بقدر ما فيه منها .
وقال الشاعر : وأجرأ من رأيت بظهر غيب * * على عيب الرجال أولو العيوب .
وقال آخر : يا من يعيب وعيبه متشعب * * كم فيك من عيب وأنت تعيب ! وفي الخبر المرفوع : " دعوا الناس بغفلاتهم يعيش بعضهم مع بعض .
وقال الوليد بن عتبة بن أبى سفيان : كنت أساير أبى ورجل معنا يقع في رجل ، فالتفت أبى إلى فقال : " يا بنى ، نزه سمعك عن أستماع الخنا كما تنزه لسانك عن الكلام به ، فإن المستمع شريك القائل ، إنما نظر إلى أخبث ما في وعائه فأفرغه في وعائك ، ولو ردت كلمة جاهل في فيه لسعد رادها كما شقى قائلها .
وقال ابن عباس ، الحدث حدثان : حدث من فيك ، وحدث من فرجك .(17/37)
وعاب رجل رجلا عند قتيبه بن مسلم فقال له قتيبه : أمسك ويحك ! فقد تلمظت بمضغة طالما لفظها الكرام .
ومر رجل بجارين له ومعه ريبة فقال أحدهما لصاحبه : أفهمت ما معه من الريبة ؟ قال : وما معه ؟ قال : كذا ، قال عبدى حر لوجه الله شكرا له تعالى إذ لم يعرفني من الشر ما عرفك .
وقال الفضيل بن عياض : إن الفاحشه لتشيع في كثير من المسلمين حتى إذا صارت إلى الصالحين كانوا لها خزانا .
وقيل لبزرجمهر : هل من أحد لا عيب فيه ؟ فقال : الذى لا عيب فيه لا يموت .
وقال الشاعر : ولست بذى نيرب في الرجال * * مناع خير وسبابها (1) ولا من إذا كان في جانب * * أضاع العشيرة واغتابها ولكن أطاوع ساداتها * * ولا أتعلم ألقابها .
وقال آخر : لا تلتمس من مساوى الناس ما ستروا * * فيكشف الله سترا من مساويكا واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا * * ولا تعب أحدا منهم بما فيكا .
وقال آخر : ابدأ بنفسك فانهما عن عيبها * * فإذا انتهت عنه فأنت حكيم (2) فهناك تعذر إن وعظت ويقتدى * * بالقول منك ويقبل التعليم .
__________
(1) النيرب : الشر وحمل العداوة .
(2) لابي الاسود الدؤلى ، خزانة الادب 3 : 617 ، والرواية هناك ، " عن غيها " (*) .(17/38)
فأما قوله (عليه السلام) : " أطلق عن الناس عقدة كل حقد " فقد استوفى هذا العنى زياد في خطبته البتراء فقال : وقد كانت بينى وبين أقوام إحن (1) ، وقد جعلت ذلك دبر أذنى وتحت قدمى فمن كان منكم محسنا فليزدد إحسانا ومن كان منكم مسيئا فلينزع عن إساءته ، إنى لو علمت أن أحدكم قد قتله السلال (2) من بغضى لم أكشف عنه قناعا ، ولم أهتك له سترا ، حتى يبدى لى صفحته ، فإذا فعل لم أناظره ، ألا فليشمل كل امرئ منكم على ما في صدره ، ولا يكونن لسانه شفرة تجرى على ودجه .
[ فصل في النهى عن سماع السعاية وما ورد في ذلك من الاثار ] فأما قوله عليه السلام : " ولا تعجلن إلى تصديق ساع " فقد ورد في هذا المعنى كلام حسن ، قال ذو الرياستين : قبول السعاية شر من السعاية لان السعاية دلالة ، والقبول إجازة ، وليس من دل على شئ كمن قبله وأجازه ، فامقت الساعي على سعايته ، فإنه لو كان صادقا كان لئيما ، إذ هتك العورة ، وأضاع الحرمة .
وعاتب مصعب بن الزبير الاحنف على أمر بلغه عنه فأنكره فقال مصعب : أخبرني به الثقة ، قال كلا أيها الامير ، أن الثقة لا يبلغ .
وكان يقال : لو لم يكن من عيب الساعي إلا أنه أصدق ما يكون أضر ما يكون على الناس لكان كافيا .
كانت الاكاسرة لا تأذن لاحد أن يطبخ السكباج (3) ، وكان ذلك مما يختص به الملك ، فرفع ساع إلى أنوشروان : إن فلانا دعانا ونحن جماعه إلى طعام له وفيه
__________
(1) الاحن : جمع إحنة ، وهى العداوة .
(2) السلال والسل بمعنى .
(3) السكباج : مرق يعمل من اللحم والخل ، معرب (*) .(17/39)
سكباج ، فوقع أنو شروان على رقعته : قد حمدنا نصيحتك ، وذممنا صديقك على سوء اختياره للاخوان .
جاء رجل إلى الوليد بن عبد الملك وهو خليفة عبد الملك على دمشق ، فقال : أيها الامير ، إن عندي نصيحة ، قال : اذكرها ، قال : جار لى رجع من بعثه سرا ، فقال : أما أنت فقد أخبرتنا أنك جار سوء ، فإن شئت أرسلنا معك ، فإن كنت كاذبا عاقبناك ، وإن كنت صادقا مقتناك ، وإن تركتنا تركناك ، قال بل أتركك أيها الامير .
قال : فانصرف .
ومثل هذا يحكى عن عبد الملك أن إنسانا سأله الخلوة ، فقال لجلسائه : إذا شئتم ! فانصرفوا ، فلما تهيأ الرجل للكلام قال له : اسمع ما أقول ، إياك أن تمدحني فأنا أعرف بنفسى منك ، أو تكذبني فإنه لا رأى لمكذوب ، أو تسعى بأحد إلى فإنى لا أحب السعاية قال : أفيأذن أمير المؤمنين بالانصراف ! قال : إذا شئت .
وقال بعض الشعراء : لعمرك ما سب الامير عدوه * * ولكنما سب الامير المبلغ .
وقال آخر : حرمت منائى منك إن كان ذا الذى (1) * * أتاك به الواشون عنى كما قالوا ولكنهم لما رأوك شريعة * * إلى تواصوا بالنميمة واحتالوا (2) فقد صرت أذنا للوشاه سميعة ينالون من عرضى ولو شئت ما نالوا .
وقال عبد الملك بن صالح لجعفر بن يحيى وقد خرج يودعه لما شخص إلى خراسان : أيها الامير ، أحب أن تكون لى كما قال الشاعر :
__________
(1) في د " إن يكن الذى " ، وهو مستقيم الوزن والمعنى أيضا .
(2) الشريعة : مورد الشاربة (*) .(17/40)
فكوني على الواشين لداء شغبة * * كما أنا للواشي ألد شغوب (1) قال : بل أكون كما قال القائل : وإذا الواشى وشى يوما بها * * نفع الواشى بما جاء يضر وقال العباس بن الاحنف : ما حطك الواشوان من رتبة * * عندي ولا ضرك مغتاب كأنهم أثنوا ولم يعلموا * * عليك عندي بالذى عابوا .
قوله عليه السلام : " ولا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر " مأخوذ من قول الله تعالى : " الشيطان يعدكم الفقر و يأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا) (2) ، قال المفسرون : الفحشاء هاهنا البخل ، ومعنى " يعدكم الفقر " ، يخيل إليكم أنكم إن سمحتم بأموالكم افتقرتم فيخوفكم فتخافون فتبخلون .
قوله عليه السلام : " فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله " ، كلام شريف عال على كلام الحكماء ، يقول : إن بينها قدرا مشتركا وإن كانت غرائز وطبائع مختلفة ، وذلك القدر المشترك هو سوء الظن بالله ، لان الجبان يقول في نفسه : إن أقدمت قتلت ، والبخيل يقول : إن سمحت وأنفقت افتقرت ، والحريص يقول : إن لم أجد وأجتهد وأدأب فاتني ما أروم ، وكل هذه الامور ترجع إلى سوء الظن بالله ، ولو أحسن الظن الانسان بالله وكان يقينه صادقا لعلم أن الاجل مقدر ، وأن الرزق مقدر ، وأن الغنى والفقر مقدران ، وأنه لا يكون من ذلك إلا ما قضى الله تعالى كونه .
* * *
__________
(1) اللداء : الشديدة الخصومة .
(2) سورة البقرة 268 (*) .(17/41)
الاصل : شر وزرائك من كان قبلك للاشرار وزيرا ، ومن شركهم في الاثام ، فلا يكونن لك بطانه ، فإنهم أعوان الاثمة ، وإخوان الظلمة ، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم ، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم وآثامهم ، ممن لم يعاون ظالما على ظلمة ولا آثما على إثمه اولئك ، أخف عليك مؤونة ، وأحسن لك معونة وأحنى عليك عطفا ، وأقل لغيرك إلفا .
فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك ، ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمر الحق لك ، وأقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لاوليائه ، واقعا ذلك من هواك حيث وقع .
* * * الشرح : نهاه عليه السلام ألا يتخذ بطانة قد كانوا من قبل بطانة للظلمة ، وذلك لان الظلم وتحسينه قد صار ملكة ثابتة في أنفسهم ، فبعيد أن يمكنهم الخلو منها إذ قد صارت كالخلق الغريزى اللازم لتكرارها وصيرورتها عادة ، فقد جاءت النصوص في الكتاب والسنة بتحريم معاونة الظلمة ومساعدتهم وتحريم الاستعانة بهم ، فإن من استعان بهم كان معينا لهم ، قال تعالى : (وما كنت متخذ المضلين عضدا) (1) ، وقال " (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر يوادون من حاد الله ورسوله) (2) .
وجاء في الخبر المرفوع : " ينادى يوم القيامة : أين من برى (3) لهم - أي الظالمين قلما " .
__________
(1) سورة الكهف 51 .
(2) سورة المجادلة 22 .
(3) ب : " يرى " ، تحريف ، صوابه في ا ، د (*) .(17/42)
أتى الوليد بن عبد الملك برجل من الخوارج فقال له ما تقول في الحجاج قال : وما عسيت أن أقول فيه ! هل هو إلا خطيئة من خطاياك ، وشرر من نارك ؟ فلعنك الله ولعن الحجاج معك ! وأقبل يشتمهما ، فالتفت الوليد إلى عمر بن عبد العزيز فقال : ما تقول في هذا ؟ قال : ما أقول فيه ! هذا رجل يشتمكم ، فإما أن تشتموه كما شتمكم ، وإما أن تعفوا عنه .
فغضب الوليد وقال لعمر : ما أظنك إلا خارجيا ! فقال عمر : وما أظنك إلا مجنونا ، وقام فخرج مغضبا ، ولحقه خالد ب الريان صاحب شرطة الوليد ، فقال له ما دعاك إلى ما كلمت به أمير المؤمنين ! لقد ضربت بيدى إلى قائم سيفى أنتظر متى يأمرنى بضرب عنقك ، قال أو كنت فاعلا لو أمرك قال نعم فلما استخلف عمر جاء خالد بن الريان فوقف على رأسه متقلدا سيفه ، فنظر إليه وقال : يا خالد ، ضع سيفك فإنك مطيعنا في كل امر نأمرك به - وكان بين يديه كاتب للوليد ، فقال له : ضع أنت قلمك ، فانك كنت تضر به وتنفع اللهم إنى قد وضعتهما فلا ترفعهما ، قال : فو الله ما زالا وضيعين مهينين حتى ماتا .
وروى الغزالي في كتاب " إحياء علوم الدين " قال لما خالط الزهري السلطان كتب أخ له في الدين إليه عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن ، فقد أصبحت بحال ينبغى لمن عرفك أن يدعو الله لك ويرحمك ، فقد اصبحت شيخا كبيرا ، وقد اثقلتك نعم الله عليك بما فهمك من كتابه ، وعلمك من سنة نبيه ، وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء ، فإنه تعالى قال : (لتبيننه للناس ولا تكتمونه) (1) .
واعلم أن أيسر ما ارتكبت ، واخف ما احتملت انك آنست وحشة الظالم ، وسهلت سبيل الغى بدنوك إلى من لم يؤد حقا ، ولم يترك باطلا حين أدناك اتخذوك أبا بكر قطبا تدور
__________
(1) سورة آل عمران 187 (*) .(17/43)
عليه رحا ظلمهم وجسرا يعبرون عليه إلى بلائهم ومعاصيهم ، وسلما يصعدون فيه إلى ضلالتهم ، يدخلون بك الشك على العلماء ، ويقتادون بك قلوب الجهلاء ، فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك ، وما أكثر ما أخذوا منك في جنب ما أفسدوا من حالك ودينك وما يؤمنك أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاه واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا) (1) يا أبا بكر ، إنك تعامل من لا يجهل ، ويحفظ عليك من لا يغفل ، فداو دينك فقد دخله سقم وهئ زادك فقد حضر سفر بعيد وما يخفى على الله من شئ في الارض ولا في السماء) (2) ، والسلام .
* * * والاصل والصق باهل الورع والصدق ثم رضهم على ألا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله ، فإن كثرة الاطراء تحدث الزهو ، وتدنى من العزة .
ولا يكونن المحسن والمسى عندك بمنزلة سواء فان ، في ذلك تزهيدا لاهل الاحسان في الاحسان ، وتدريبا لاهل الاساءة على الاساءة ، وألزم كلا منهم ما ألزم نفسه .
* * *
__________
(1) سورة مريم 125 .
(2) سورة ابراهيم 38 (*) .(17/44)
قوله : " والصق بأهل الورع " ، كلمة فصيحة ، يقول : اجعلهم خاصتك وخلصاءك .
قال : ثم رضهم على ألا يطروك ، أي عودهم ألا يمدحوك في وجهك .
ولا يبجحوك بباطل : لا يجعلوك ممن يبجح أي يفخر بباطل لم يفعله كما يبجح أصحاب الامراء الامراء بان يقولوا لهم : ما رأينا أعدل منكم ولا أسمح ، ولا حمى هذا الثغر أمير أشد بأسا منكم ! ونحو ذلك وقد جاء في الخبر : " أحثوا في وجوه المداحين التراب " ..وقال عبد الملك لمن قام يساره ما تريد ! أتريد أن تمدحني وتصفنى ، أنا أعلم بنفسى منك .
وقام خالد بن عبد الله القسرى إلى عمر بن عبد العزيز يوم بيعته فقال : يا أمير المؤمنين ، من كانت الخلافة زائنته فقد زينتها ، ومن كانت شرفته فقد شرفتها ، فانك لكما قال القائل : وإذا الدر زان حسن وجوه * * كان للدر حسن وجهك زينا .
فقال عمر بن عبد العزيز : لقد أعطى صاحبكم هذا مقولا ، وحرم معقولا .
وأمره أن يجلس .
ولما عقد معاوية البيعه لابنه يزيد قام الناس يخطبون ، فقال معاوية لعمرو بن سعيد الاشدق : قم فاخطب يا أبا أمية فقام فقال : أما بعد ، فإن يزيد ابن أمير المؤمنين أمل تأملونه ، وأجل تأمنونه ، إن افتقرتم إلى حلمه وسعكم وإن احتجتم إلى رأيه أرشدكم ، وان اجتديتم ذات يده أغناكم وشملكم ، جذع قارح ، سوبق فسبق ، وموجد فمجد ،(17/45)
وقورع فقرع ، وهو خلف أمير المؤمنين ، ولا خلف منه ، فقال معاوية : أوسعت يا أبا أميه فاجلس ، فإنما أردنا بعض هذا .
وأثنى رجل على على عليه السلام في وجهه ثناء أوسع فيه - وكان عنده منهما - فقال له : أنا دون ما تقول ، وفوق ما في نفسك .
وقال ابن عباس لعتبه بن أبى سفيان وقد أثنى عليه فأكثر : رويدا فقد أمهيت يا أبا الوليد - يعنى بالغت ، يقال أمهى حافر البئر ، إذا استقصى حفرها .
فأما قوله عليه السلام : " ولا يكونن المحسن والمسئ عندك بمنزلة سواء " ، فقد أخذه الصابى فقال : وإذا لم يكن للمحسن ما يرفعه ، وللمسئ ما يضعه ، زهد المحسن في الاحسان ، واستمر المسئ على الطغيان " ، وقال أبو الطيب : شر البلاد بلاد لا صديق بها * * وشر ما يكسب الانسان ما يصم (1) وشر ما قبضته راحتي قنص * * شهب البزاة سواء فيه والرخم .
وكان يقال : قضاء حق المحسن أدب للمسئ وعقوبة المسئ جزاء للمحسن .
* * * الاصل : وأعلم أنه ليس شئ بأدعى إلى حسن ظن وال برعيته من إحسانه إليهم ، وتخفيفه المئونات عليهم ، وترك استكراهه إياهم على ما ليس له قبلهم .
فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك ، فإن حسن الظن يقطع عنك نصبا طويلا ، وإن أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده ، وان احق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده .
__________
(1) ديوانه 3 : 373 (*) .(17/46)
ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الامة ، واجتمعت بها الالفة وصلحت عليها الرعية .
لا تحدثن سنة تضر بشئ من ماضى تلك السنن ، فيكون الاجر لمن سنها ، والوزر عليك بما نقضت منها .
وأكثر مدارسة العلماء ، ومناقشة الحكماء ، في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك ، وإقامه ما استقام به الناس قبلك .
* * * الشرح : خلاصة صدر هذا الفصل ، أن من أحسن إليك حسن ظنه فيك ، ومن أساء إليك استوحش منك ، وذلك لانك إذا أحسنت إلى أنسان وتكرر منك ذلك الاحسان تبع ذلك اعتقادك أنه قد أحبك ، ثم يتبع ذلك الاعتقاد أمر آخر ، وهو أنك تحبه ، لان الانسان مجبول على أن يحب من يحبه ، وإذا أحببته سكنت إليه وحسن ظنك فيه ، وبالعكس من ذلك إذا أسأت إلى زيد ، لانك إذا أسأت إليه وتكررت الاساءة تبع ذلك اعتقادك أنه قد أبغضك ، ثم يتبع ذلك الاعتقاد أمر آخر ، وهو أن تبغضه أنت وإذا أبغضته أنقبضت منه واستوحشت ، وساء ظنك به .
قال المنصور للربيع : سلنى لنفسك : قال يا أمير المؤمنين ، ملات يدى فلم يبق عندي موضع للمسألة ، قال : فسلني لولدك ، قال أسالك أن تحبه ، فقال المنصور : يا ربيع ، إن الحب لا يسأل ، وإنما هو أمر تقتضيه الاسباب قال : يا أمير المؤمنين ، وإنما أسألك أن تزيد من إحسانك ، فإذا تكرر أحبك ، وإذا أحبك أحببته .
فاستحسن(17/47)
المنصور ذلك ثم نهاه عن نقض السنن الصالحة التى قد عمل بها من قبله من صالحي الامة فيكون الوزر عليه بما نقض ، والاجر لاولئك بما أسسوا ، ثم أمره بمطارحة العلماء والحكماء في مصالح عمله ، فإن المشورة بركة ، ومن استشار فقد أضاف عقلا إلى عقله .
ومما جاء في معنى الاول : قال رجل لاياس بن معاوية من أحب الناس إليك ؟ قال الذين يعطونى ، قال : ثم من ؟ قال : الذين أعطيهم .
وقال رجل لهشام بن عبد الملك : إن الله جعل العطاء محبة ، والمنع مبغضة ، فأعنى على حبك ، ولا تعنى في بغضك .
* * * والاصل : واعلم أن الرعية طبقات ، لا يصلح بعضها إلا ببعض ، ولاغنى ببعضها عن بعض ، فمنها جنود الله ، ومنها كتاب العامة والخاصة ، ، ومنها قضاة العدل ، ومنها عمال الانصاف والرفق ، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس ، ومنها التجار وأهل الصناعات ، ومنها الطبقة السفلى من ذوى الحاجات والمسكنة ، وكل قد سمى الله له سهمه ، ووضع على حده وفريضته في كتابه أو سنة نبيه صلى الله عليه وآله عهدا منه عندنا محفوظا .
فالجنود بإذن الله حصون الرعية وزين الولاة ، وعز الدين ، وسبل الامن وليس تقوم الرعيه إلا بهم ، ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذى يقوون به على جهاد عدوهم ، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم ، ويكون من وراء حاجتهم ، ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال(17/48)
والكتاب ، لما يحكمون من المعاقد ، ويجمعون من المنافع ويؤتمنون عليه من خواص الامور وعوامها ، ولا قوام لهم جميعا إلا بالتجار وذوى الصناعات ، فيما يجتمعون عليه من مرافقهم ويقيمونه من أسواقهم ، ويكفونهم من الترفق بأيديهم ، مما لا يبلغه رفق غيرهم .
ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة ، الذين يحق رفدهم ومعونتهم وفي الله لكل سعة ، ولكل على الوالى حق بقدر ما يصلحه .
وليس يخرج الوالى من حقيقة ما ألزمه الله تعالى من ذلك ، إلا بالاهتمام والاستعانة بالله ، وتوطين نفسه على لزوم الحق والصبر عليه فيما خف عليه أو ثقل .
* * * الشرح : قالت الحكماء الانسان مدنى بالطبع ، ومعناه أنه خلق خلقة لا بد معها من أن يكون منضما إلى اشخاص من بنى جنسه ، ومتمدنا في مكان بعينه ، وليس المراد بالمتمدن ساكن المدينة ذات السور والسوق ، بل لابد أن يقيم في موضع ما مع قوم من البشر ، وذلك لان الانسان مضطر إلى ما يأكله ويشربه ليقيم صورته ، ومضطر إلما يلبسه ، ليدفع عنه أذى الحر والبرد ، وإلى مسكن يسكنه ليرد عنه عادية غيره من الحيوانات ، وليكون منزلا له ليتمكن من التصرف والحركة عليه ، ومعلوم أن الانسان وحده لا يستقل بالامور التى عددناها ، بل لابد من جماعة يحرث بعضهم لغيره الحرث ، وذلك الغير يحوك للحراث الثوب ، وذلك الحائك يبنى له غيره المسكن ، وذلك البناء يحمل له(17/49)
غيره (1) الماء ، وذلك السقاء يكفيه غيره أمر تحصيل الالة التى يطحن بها الحب ويعجن بها الدقيق ، ويخبز بها العجين ، وذلك المحصل لهذه الاشياء يكفيه غيره الاهتمام بتحصيل الزوجه التى تدعو إليها داعية الشبق ، فيحصل مساعدة بعض الناس لبعض لو لا ذلك لما قامت الدنيا ، فلهذا معنى قوله عليه السلام : " إنهم طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض ، ولا غناء ببعضها عن بعض .
ثم فصلهم وقسمهم فقال : منهم الجند ، (2 ومنهم الكتاب ، ومنهم القضاة ، ومنهم العمال 2) ، ومنهم أرباب الجزية من أهل الذمة ، ومنهم أرباب الخراج من المسلمين ، ومنهم التجار ، ومنهم أرباب الصناعات .
ومنهم ذوو الحاجات والمسكنة ، وهم أدون الطبقات .
ثم ذكر أعمال هذه الطبقات فقال : الجند للحماية ، والخراج يصرف إلى الجند والقضاة والعمال والكتاب لما يحكمونه من المعاقد ، ويجمعونه من المنافع ، ولا بد لهؤلاء جميعا من التجار لاجل البيع والشراء الذى لا غناء عنه ، ولابد لكل من أرباب الصناعات كالحداد والنجار والبناء وأمثالهم .
ثم تلى هؤلاء الطبقة السفلى ، وهم أهل الفقر والحاجة الذين تجب معونتهم والاحسان إليهم .
وإنما قسمهم في هذا الفصل هذا التقسيم تمهيدا لما يذكره فيما بعد فانه قد شرع بعد هذا الفصل ، فذكر طبقة طبقة وصنفا صنفا ، وأوصاه في كل طبقة وفي كل صنف منهم بما يليق بحاله ، وكأنه مهد هذا التمهيد ، كالفهرست لما يأتي بعده من التفصيل .
__________
(1) ب : " غير تحريف " ، (2 - 2) ساقط من ب ، وأثبته من اد (3) ا : " فكأنه " (*) .(17/50)
الاصل : فول من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولامامك ، وأطهرهم جيبا ، وأفضلهم حلما ، ممن يبطئ عن الغضب ، ويستريح إلى العذر ، ويرأف بالضعفاء ، وينبو على الاقوياء ، وممن لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف .
ثم الصق بذوى المروءات والاحساب ، وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة ، ثم أهل النجدة والشجاعة ، والسخاء والسماحة ، فإنهم جماع من الكرم ، وشعب من العرف .
ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما ، ولا يتفاقمن في نفسك شئ قويتهم به .
ولا تحقرن لطفا تعاهدتهم به وان قل ، فإنه داعيه لهم إلى بذل النصيحة لك ، وحسن الظن بك .
ولا تدع تفقد لطيف أمورهم اتكالا على جسيمها ، فإن لليسير من لطفك موضعا ينتفعون به ، وللجسيم موقعا لا يستغنون عنه ، وليكن آثر رءوس جندك عندك من واساهم في معونته ، وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم حتى يكون همهم هما واحدا في جهاد العدو فان عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك .
ولا تصح نصيحتهم الا بحيطتهم على ولاة أمورهم ، وقلة استثقال دولهم ، وترك استبطاء انقطاع مدتهم .
فافسخ في آمالهم ، وواصل من حسن الثناء عليهم ، وتعديد ما أبلى ذوو البلاء
__________
(1) مخطوطة النهج : " بحيطتهم " بالياء المشددة المكسورة (*) .(17/51)
منهم ، فإن كثرة الذكر لحسن فعالهم تهز الشجاع ، وتحرض الناكل ، إن شاء الله .
ثم اعرف لكل امرئ منهم ما أبلى ، ولا تضمن بلاء امرئ إلى غيره ، ولا تقصرن به دون غاية بلائه .
ولا يدعونك شرف امرئ إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيرا ، ولا ضعة امرئ إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما ، واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب ، ويشتبه عليك من الامور ، فقد قال الله سبحانه لقوم أحب إرشادهم : (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) (1) ، فالرد إلى الله الاخذ بمحكم كتابه والرد إلى الرسول الاخذ بسنته الجامعة غير المفرقة .
* * * الشرح : هذا الفصل مختص بالوصاة فيما يتعلق بأمراء الجيش ، أمره أن يولى أمر الجيش من جنوده من كان أنصحهم لله في ظنه ، وأطهرهم جيبا ، أي عفيفا أمينا ، ويكنى عن العفة والامانة بطهارة الجيب ، لان الذى يسرق يجعل المسروق في جيبه .
فإن قلت : وأى تعلق لهذا بولاة الجيش ؟ إنما ينبغى أن تكون هذه الوصية في ولاه الخراج ! قلت : لا بد منها في أمراء الجيش لاجل الغنائم .
ثم وصف ذلك الامير فقال : " ممن يبطئ عن الغضب ويستريح إلى العذر " ، أي يقبل
__________
(1) سورة النساء 59 (*) .(17/52)
أدنى عذر ، ويستريح إليه ، ويسكن عنده .
يرؤف (1) على الضعفاء ، يرفق بهم ويرحمهم ، والرأفة الرحمة .
وينبو عن الاقوياء يتجافى عنهم ويبعد ، أي يمكنهم من الظلم والتعدى على الضعفاء .
ولا يثيره العنف : لا يهيج غضبه عنف وقسوة .
ولا يقعد به الضعف ، أي ليس عاجزا .
ثم أمره أن يلصق بذوى الاحساب وأهل البيوتات ، أي يكرمهم ويجعل معوله في ذلك عليهم ولا يتعداهم إلى غيرهم ، وكان يقال : عليكم بذوى الاحساب ، فإن هم لم يتكرموا استحيوا (2) ..ثم ذكر بعدهم أهل الشجاعة والسخاء ، ثم قال : " إنها جماع من الكرم ، وشعب من العرف ، من هاهنا زائدة ، وإن كانت في الايجاب على مذهب أبى الحسن الاخفش ، أي جماع الكرم ، أي يجمعه كقول النبي صلى الله عليه وآله : " الخمر جماع الاثم " .
والعرف : المعروف .
وكذلك " من " في قوله : " وشعب من العرف " أي وشعب العرف ، أي هي أقسامه وأجزاؤه ، ، ويجوز أن تكون " من " على حقيقتها للتبعيض ، أي هذه الخلال جملة من الكرم وأقسام المعروف ، وذلك لان غيرها أيضا من الكرم والمعروف ، ونحو العدل والعفة .
قوله : ثم تفقد من أمورهم الضمير هاهنا يرجع إلى الاجناد لا إلى الامراء لما سنذكره مما يدل الكلام عليه .
فإن قلت : إنه لم يجر للاجناد ذكر فيما سبق ، وإنما المذكور الامراء ! قلت : كلا بل سبق ذكر الاجناد ، هو قوله : " الضعفاء والاقوياء " .
__________
(1) د : " يرأف " ، تحريف ..(2) : " استحسبوا " ، ب : " استحبوا ، وأثبت ما في ا (*) .(17/53)
وأمره عليه السلام أن يتفقد من أمور الجيش ما يتفقد الوالدان من حال الولد ، وأمره ألا يعظم عنده ما يقويهم به وإن عظم ، وألا يستحقر شيئا تعهدهم به وإن قل ، وألا يمنعه تفقد جسيم أمورهم عن تفقد صغيرها وأمره أن يكون آثر رءوس جنوده عنده وأحظاهم عنده وأقربهم إليه من واساهم في معونته ، هذا هو الضمير الدال على أن الضمير المذكور أولا للجند لا لامراء الجند ، لو لا ذلك لما انتظم الكلام .
قوله : " من خلوف أهليهم " ، أي ممن يخلفونه من أولادهم وأهليهم .
ثم قال لا يصح نصيحة الجند لك إلا بحيطتهم على ولاتهم ، أي بتعطفهم عليهم وتحننهم ، وهى الحيطة على وزن الشيمة ، مصدر حاطه يحوطه حوطا وحياطا ، وحيطة ، أي كلاه ورعاه ، وأكثر الناس يروونها " إلا بحيطتهم " بتشديد الياء وكسرها ، والصحيح ما ذكرناه .
قوله : " وقله استثقال دولهم " ، أي لا تصح نصيحة الجند لك إلا إذا أحبوا أمراءهم ثم لم يستثقلوا دولهم ، ولم يتمنوا زوالها .
ثم أمره أن يذكر في المجالس والمحافل بلاء ذوى البلاء منهم ، فإن ذلك مما يرهف عزم الشجاع ويحرك الجبان .
قوله : ولا تضمن بلاء امرئ إلى غيره " ، إى اذكر كل من أبلى منهم مفردا غير مضموم ذكر بلائه الى غيره كى لا يكون مغمورا في جنب ذكر غيره .
ثم قال له : لا تعظم بلاء ذوى الشرف لاجل شرفهم ، ولا تحقر بلاء ذوى الضعة لضعة أنسابهم ، بل اذكر الامور على حقائقها .
ثم أمره أن يرد إلى الله ورسوله ما يضلعه من الخطوب ، أي ما يئوده ويميله(17/54)
لثقله ، وهذه الرواية أصح من رواية من رواها بالظاء ، وإن كان لتلك وجه .
* * * [ رساله الاسكندر إى أرسطو ورد أرسطو عليه ] وينبغى أن نذكر في هذا الموضع رسالة أرسطو إلى الاسكندر في معنى المحافظة على أهل البيوتات وذوى الاحساب ، وأن يخصهم بالرياسة والامرة ، ولا يعدل عنهم إلى العامة والسفلة ، فإن في ذلك تشييدا لكلام أمير المؤمنين عليه السلام ، ووصيته .
لما ملك الاسكندر إيران شهر - وهو العراق مملكة الاكاسرة - وقتل دارا بن دارا كتب إلى أرسطو وهو ببلاد اليونان : عليك أيها الحكيم منا السلام ، أما بعد فإن الافلاك الدائرة ، والعلل السمائية ، وإن كانت أسعدتنا بالامور التى أصبح الناس لنا بها دائبين ، فإنا جد واجدين لمس الاضطرار إلى حكمتك ، غير جاحدين لفضلك والاقرار بمنزلتك ، والاستنامة (1) إلى مشورتك والاقتداء برأيك : والاعتماد لامرك ونهيك ، لما بلونا من جدا ذلك علينا ، وذقنا من جنا منفعته ، حتى صار ذلك بنجوعه فينا وترسخه في أذهاننا وعقولنا كالغذاء لنا ، فما ننفك نعول عليه ، ونستمد منه استمداد الجداول من البحور ، وتعويل الفروع على الاصول ، وقوة الاشكال بالاشكال .
وقد كان مما سيق إلينا من النصر والفلج ، وأتيح لنا من الظفر ، وبلغنا في العدو من النكاية والبطش ما يعجز القول عن وصفه ، ويقصر شكر المنعم عن موقع الانعام به ، وكان من ذلك أنا جاوزنا أرض سورية والجزيرة إلى بابل وأرض فارس ، فلما حللنا بعقوة (2) أهلها وساحة بلادهم ، لم يكن إلا ريثما تلقانا نفر منهم برأس ملكهم هدية إلينا ، وطلبا للحظوة عندنا ، فأمرنا بصلب من
__________
(1) كذا في ا ، واستنام إلى الامر : سكن إليه ، وفى ب : " الاستبانة " .
(2) العقوة : ما حول الدار .
(*) .(17/55)
جاء به وشهرته لسوء بلائه وقلة ارعوائه ووفائه ، ثم أمرنا بجمع من كان هناك من أولاد ملوكهم وأحرارهم وذوى الشرف منهم ، فراينا رجالا (1) عظيمة أجسامهم وأحلامهم ، حاضرة ألبابهم وأذهانهم ، رائعه مناظرهم ومناطقهم ، دليلا على أن ما يظهر من روائهم و منطقهم أن وراءه من قوة أيديهم ، وشدة نجدتهم وبأسهم ما لم يكن ليكون لنا سبيل إلى غلبتهم وإعطائهم بأيديهم ، لو لا أن القضاء أدالنا منهم ، وأظفرنا بهم وأظهرنا عليهم ، ولم نر بعيدا من الرأى في أمرهم أن نستأصل شأفتهم ، ونجتث أصلهم ونلحقهم بمن مضى من أسلافهم ، لتسكن القلوب بذلك الامن إلى جرائرهم وبوائقهم ، فرأينا ألا نجعل بإسعاف بادى الرأى في قتلهم دون الاستظهار عليهم بمشورتك فيهم .
فارفع إلينا رأيك فيما استشرناك فيه بعد صحته عندك ، وتقليبك إياه بجلى نظرك ، وسلام أهل السلام ، فليكن علينا وعليك .
فكتب إليه أرسطو : لملك الملوك ، وعظيم العظماء ، الاسكندر المؤيد بالنصر على الاعداء ، المهدى له الظفر بالملوك ، من أصغر عبيده وأقل خوله ، أرسطو طاليس البخوع بالسجود والتذلل في السلام ، والاذعان في الطاعة : أما بعد ، فإنه لا قوة بالمنطق وإن احتشد الناطق فيه ، واجتهد في تثقيف معانيه ، وتأليف حروفه ومبانيه على الاحاطة بأقل ما تناله القدرة من بسطة علو الملك وسمو ارتفاعه عن كل قول ، وإبرازه على كل وصف ، واغترافه بكل إطناب .
وقد كان تقرر عندي من مقدمات إعلام فضل الملك في صهلة سبقه ، وبروزه شأوه ، ويمن نقيبته ، مذ أدت إلى حاسة بصرى صورة شخصه ، واضطرب في حس سمعي صوت لفظه ، ووقع وهمى
__________
(1) ب : " رجالة " (*) .(17/56)
على تعقيب نجاح رأيه أيام كنت أؤدى إليه من تكلف تعليمي إياه ما أصبحت قاضيا على نفسي بالحاجة إلى تعلمه منه .
ومهما يكن منى إليه في ذلك ، فإنما هو عقل مردود إلى عقله ، مستنبطه أو إليه وتواليه من علمه وحكمته .
وقد جلا الى كتاب الملك ومخاطبته إياى ومسألته لى عما لا يتخالجنى الشك في لقاح ذلك وإنتاجه من عنده ، فعنه صدر وعليه ورد و أنا فيما أشير به على الملك - وإن اجتهدت فيه واحتشدت له ، وتجاوزت حد الوسع والطاقة منى في استنظافه واستقصائه - كالعدم مع الوجود بل كما لا يتجزأ في جنب معظم الاشياء ولكني غير ممتنع من إجابة الملك الى ما سأل ، مع علمي ويقينى بعظيم غناه عنى ، وشدة فاقتي إليه ، وأنا راد الى الملك ما اكتسبته منه ، ومشير عليه بما أخذته ، منه فقائل له : إن لكل تربة لا محاله قسما من الفضائل ، وإن لفارس قسمها من النجدة والقوة ، وإنك ان تقتل أشرافهم تخلف الوضعاء على أعقابهم ، وتورث سفلتهم على منازل عليتهم ، وتغلب أدنياءهم على مراتب ذوى أخطارهم ، ولم يبتل الملوك قط ببلاء هو أعظم عليهم وأشد توهينا لسلطانهم من غلبة السفله ، وذل الوجوه فاحذر الحذر كله أن تمكن تلك الطبقة من الغلبة والحركة ، فإنه إن نجم منهم بعد اليوم على جندك وأهل بلادك ناجم دهمهم منه ما لا روية فيه ، ولا بقية معه فانصرف عن هذا الرأى إلى غيره ، واعمد الى من قبلك من أولئك العظماء والاحرار ، فوزع بينهم مملكتهم ، وألزم اسم الملك كل من وليته منهم ناحيته ، واعقد التاج على رأسه وإن صغر ملكه ، فإن المتسمى بالملك لازم لاسمه والمعقود التاج على رأسه لا يخضع لغيره ، فليس ينشب (1) ذلك أن يوقع كل ملك منهم بينه وبين صاحبه تدابرا وتقاطعا وتغالبا على الملك ، وتفاخرا بالمال والجند ، حتى ينسوا بذلك أضغانهم عليك وأوتارهم فيك ، ويعود حربهم لك حربا
__________
(1) ا : " يلبث " (*) .(17/57)
بينهم ، وحنقهم عليك حنقا منهم على انفسهم ثم لا يزدادون في ذلك بصيره إلا أحدثوا لك بها استقامة ، إن دنوت منهم دانوا لك ، وإن نأيت عنهم تعززوا بك ، حتى يثب من ملك منهم على جاره باسمك ، ويسترهبه بجندك ، وفي ذلك شاغل لهم عنك ، وأمان لاحداثهم بعدك ، وإن كان لا أمان للدهر ، ولا ثقة بالايام .
قد أديت إلى الملك ما رايته لى حظا ، وعلى حقا من إجابتى إياه إلى ما سألني عنه ، ومحضته النصيحة فيه ، والملك أعلى عينا ، وأنفذ روية ، وأفضل رأيا ، وأبعد همة فيما استعان بى عليه ، وكلفني بتبيينه والمشورة عليه فيه .
لا زال الملك متعرفا من عوائد النعم وعواقب الصنع وتوطيد الملك ، وتنفيس الاجل ، ودرك الامل ، ما تأتى فيه قدرته على غاية قصوى ما تناله قدرة البشر ! والسلام الذى لا انقضاء له ، ولا انتهاء ولا غاية ولا فناء ، فليكن على الملك .
قالوا : فعمل الملك برأيه ، واستخلف على إيران شهر أبناء الملوك والعظماء من أهل فارس ، فهم ملوك الطوائف الذين بقوا بعده ، والمملكة موزعة بينهم إلى أن جاء أردشير ابن بابك فانتزع الملك منهم .
* * * الاصل : ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن ، لا تضيق به الامور ، ولا تمحكه الخصوم ، ولا يتمادى في الزلة ولا يحصر من الفئ إلى الحق إذا عرفه ولا تشرف نفسه على طمع ، ولا يكتفى بأدنى فهم دون أقصاه .
وأوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج ، وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم وأصبرهم(17/58)
على تكشف الامور ، وأصرمهم عند اتضاح الحكم ، ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء ، وأولئك قليل .
ثم أكثر تعاهد قضائه ، وأفسح له في البذل ما يزيح علته ، وتقل معه حاجته إلى الناس ، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك .
فانظر في ذلك نظرا بليغا ، فإن هذا الدين قد كان أسيرا في أيدى الاشرار ، يعمل فيه بالهوى ، وتطلب به الدنيا .
* * * الشرح : تمحكه الخصوم : تجعله ما حكا ، أي لجوجا ، محك الرجل ، أي لج ، وماحك زيد عمرا ، أي لاجه .
قوله : " ولا يتمادى في الزلة " ، أي إن زل رجع وأناب ، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل .
قوله " : ولا يحصر من الفئ " هو المعنى الاول بعينه ، والفئ الرجوع ، إلا أن هاهنا زيادة ، وهو أنه لا يحصر ، أي لا يعيا في المنطق ، لان من الناس من إذا زل حصر عن أن يرجع وأصابه كالفهاهه والعى خجلا .
قوله : " ولا تشرف نفسه " ، أي لا تشفق .
والاشراف الاشفاق والخوف ، وأنشد الليث : ومن مضر الحمراء إسراف أنفس * * * علينا وحياها علينا تمضرا .(17/59)
وقال عروه بن أذينة : لقد علمت وما الاشراف من خلقي * * أن الذى هو رزقي سوف يأتيني (1) .
والمعنى : ولا تشفق نفسه وتخاف من فوت المنافع والمرافق .
ثم قال ولا يكتفى بأدنى فهم أي لا يكون قانعا بما يخطر له بادئ الرأى من أمر الخصوم ، بل يستقصى ويبحث أشد البحث .
قوله : " وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم " ، أي تضجرا ، وهذه الخصله من محاسن ما شرطه عليه السلام فان القلق والضجر والتبرم قبيح وأقبح ما يكون من القاضى .
قوله : " وأصرمهم ، أي أقطعهم وأمضاهم .
وازدهاه كذا ، أي استخفه .
والاطراء : المدح .
والاغراء : التحريض .
ثم أمره أن يتطلع على أحكامه وأقضيته ، وأن يفرض له عطاء واسعا يملا عينه ، ويتعفف به عن المرافق والرشوات ، وأن يكون قريب المكان منه ، كثير الاختصاص به ليمنع قربه من سعاية الرجال به وتقبيحهم ذكره عنده .
ثم قال : " إن هذا الدين قد كان أسيرا " ، هذه إشارة إلى قضاة عثمان وحكامه ، وأنهم لم يكونوا يقضون بالحق عنده بل بالهوى لطلب الدنيا .
وأما أصحابنا فيقولون : رحم الله عثمان ! فإنه كان ضعيفا ، واستولى عليه أهله ، قطعوا الامور دونه ، فإثمهم عليهم وعثمان برئ منهم .
* * *
__________
(1) اللسان (شرف) (*) .(17/60)
[ فصل في القضاة وما يلزمهم وذكر بعض نوادرهم ] قد جاء في الحديث المرفوع لا يقضى القاضى وهو غضبان " .
وجاء في الحديث المرفوع أيضا : " من ابتلى بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه وإشارته ومجلسه ومقعده " .
دخل ابن شهاب على الوليد - أو سليمان - فقال له : يابن شهاب ، ما حديث يرويه أهل الشام ؟ قال : ما هو يا أمير المؤمنين ؟ قال : إنهم يروون أن الله تعالى إذا استرعى عبدا رعية كتب له الحسنات ، ولم يكتب عليه السيئات ، فقال كذبوا يا أمير المؤمنين ، أيما أقرب إلى الله ، نبى أم خليفة ! قال : بل نبى قال : فإنه تعالى يقول لنبيه داود : (يا داود إنا جعلناك خليفه في الارض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد (1)) .
فقال سليمان إن الناس ليغروننا عن ديننا .
وقال بكر بن عبد الله العدوى لابن أرطاة - وأراد أن يستقضيه : والله ما أحسن القضاء ، فإن كنت صادقا لم يحل لك أن تستقضى من لا يحسن ، وإن كنت كاذبا فقد فسقت ، والله لا يحل أن تستقضى الفاسق .
وقال الزهري ثلاث إذا كن في القاضى فليس بقاض ، أن يكره اللائمة ، ويحب المحمده ، ويخاف العزل .
وقال محارب بن زياد للاعمش : وليت القضاء فبكى أهلى ، فلما عزلت بكى أهلى ، فما أدرى مم ذلك ؟ قال لانك وليت القضاء وأنت تكرهه وتجزع منه ،
__________
(1) سورة ص 26 (*) .(17/61)
فبكى أهلك لجزعك ، وعزلت عنه فكرهت العزل وجزعت فبكى أهلك لجزعك .
قال : صدقت .
أتى ابن شبرمة بقوم يشهدون على قراح (1) نخل فشهدوا - وكانوا عدولا - فامتحنهم فقال : كم في القراح (1) من نخله ؟ قالوا : لا نعلم ، فرد شهادتهم ، فقال له أحدهم : أنت أيها القاضى تقضى في هذا المسجد منذ ثلاثين سنة ، فأعلمنا كم فيه من أسطوانة ؟ فسكت وأجازهم .
خرج شريك وهو على قضاء الكوفة يتلقى الخيزران ، وقد أقبلت تريد الحج ، وقد كان استقضى وهو كاره ، فأتى شاهى (2) ، فأقام بها ثلاثا ، فلم تواف ، فخف زاده وما كان معه ، فجعل يبله بالماء ويأكله بالملح ، فقال العلاء بن المنهال الغنوى : فإن كان الذى قد قلت حقا * * بأن قد أكرهوك على القضاء (2) فما لك موضعا في كل يوم * * تلقى من يحج من النساء مقيما في قرى شاهى ثلاثا * * بلا زاد سوى كسر وماء ! وتقدمت كلثم بنت سريع مولى عمرو بن حريث - وكانت جميلة - وأخوها الوليد بن سريع إلى عبد الملك بن عمير ، وهو قاض بالكوفة ، فقضى لها على أخيها ، فقال هذيل الاشجعى : أتاه وليد بالشهود يسوقهم * * على ما ادعى من صامت المال والخول وجاءت إليه كلثم وكلامها * * شفاء من الداء المخامر والخبل فأدلى وليد عند ذاك بحقه * * وكان وليد ذا مراء وذا جدل فدلهت القبطى حتى قضى لها * * بغير قضاء الله في محكم الطول
__________
(1) القراح هنا : البستان ، وانظر ياقوت (قرح) .
(2) شاهى : موضع قرب القادسية .
(3) الخبر والابيات في معجم البلدان 5 : 224 (*) .(17/62)
فلو كان من في القصر يعلم علمه * * لما استعمل القبطى فينا على عمل له حين يقضى للنساء تخاوص * * وكان وما فيه التخاوص والحول إذا ذات دل كلمته لحاجه * * فهم بأن يقضى تنحنح أو سعل وبرق عينيه ولاك لسانه * * يرى كل شئ ما خلا وصلها جلل وكان عبد الملك بن عمير يقول لعن الله الاشجعى ، والله لربما جاءتني السعلة والنحنحة وأنا في المتوضأ فأردهما لما شاع من شعره .
كتب عمر بن الخطاب إلى معاوية : أما بعد ، فقد كتبت إليك في القضاء بكتاب لم آلك ونفسي فيه خيرا ، الزم خمس خصال يسلم لك دينك ، وتأخذ بأفضل حظك : إذا تقدم إليك الخصمان فعليك بالبينة العادله أو اليمين القاطعة ، وأدن الضعيف حتى يشتد قلبه وينبسط لسانه ، وتعهد الغريب فإنك إن لم تتعهده ترك حقه ورجع إلى أهله ، وإنما ضيع حقه من لم يرفق به ، وآس بين الخصوم في لحظك ولفظك ، وعليك بالصلح بين الناس ما لم يستبن لك فصل القضاء .
وكتب عمر إلى شريح : لا تسارر ولا تضارر ، ولا تبع ولا تبتع في مجلس القضاء ، ولا تقض وأنت غضبان ، ولا شديد الجوع ، ولا مشغول القلب .
شهد رجل عند سوار القاضى فقال : ما صناعتك ؟ فقال : مؤدب ، قال : أنا لا أجيز شهادتك ، قال : ولم ؟ قال لانك تأخذ على تعليم القرآن أجرا ، قال : وأنت أيضا تأخذ على القضاء بين المسلمين أجرا ، قال : إنهم أكرهوني ، قال نعم أكرهوك على القضاء ، فهل أكرهوك على أخذ الاجر ! قال هلم شهادتك .
ودخل أبو دلامة ليشهد عند أبى ليلى ، فقال حين جلس بين يديه : إذا الناس غطوني تغطيت عنهم * * وان بحثوا عنى ففيهم مباحث (1)
__________
(1) الاغاني 10 : 234 ، وفيه " إن الناس " (*) .(17/63)
وإن حفروا بئرى حفرت بئارهم * * ليعلم ما تخفيه تلك النبائث .
فقال بل نغطيك يا أبا دلامة ولا نبحثك ، وصرفه راضيا ، وأعطى المشهود عليه من عنده قيمه ذلك الشئ .
كان عامر بن الظرب العدواني حاكم العرب وقاضيها ، فنزل به قوم يسيفتونه في الخنثى وميراثه ، فلم يدر ما يقضى فيه ، وكان له جارية اسمها خصيلة ، ربما لامها في الابطاء عن الرعى وفى الشئ يجده عليها ، فقال لها : يا خصيلة لقد أسرع هؤلاء القوم في غنمي ، وأطالوا المكث ، قالت : وما يكبر عليك من ذلك ؟ اتبعه مباله وخلاك ذم ، فقال لها : " مسى (1) خصيل بعدها أو روحي " .
وقال أعرابي لقوم يتنازعون : هل لكم في الحق أو ما هو خير من الحق ؟ قيل : وما الذى هو خير من الحق ؟ قال : التحاط والهضم ، فإن أخذ الحق كله مر .
وعزل عمر بن عبد العزيز بعض قضاته ، فقال لم عزلتني فقال : بلغني أن كلامك أكثر من كلام الخصمين إذا تحاكما إليك .
ودخل إياس بن معاوية الشام وهو غلام ، فقدم خصما إلى باب القاضى في أيام عبد الملك ، فقال القاضى : أما تستحيى ! تخاصم وأنت غلام شيخا كبيرا فقال الحق أكبر منه ، فقال اسكت ويحك ! قال فمن ينطق بحجتي إذا ! قال ما أظنك تقول اليوم حقا حتى تقوم ، فقال : لا إله إلا الله .
فقام القاضى ودخل على عبد الملك وأخبره ، فقال : اقض حاجته وأخرجه من الشام كى لا يفسد علينا الناس .
واختصم أعرابي وحضرى إلى قاض ، فقال الاعرابي : أيها القاضى ، إنه وإن هملج (2) إلى الباطل ، فإنه عن الحق لعطوف .
ورد رجل جاريه على رجل اشتراها منه بالحمق ، فترافعا إلى إياس بن معاوية ،
__________
(1) في مجمع الامثال 2 : 295 " مسى سخيل بعدها أو صبحى " .
(2) هملج : أسرع (*) .(17/64)
فقال لها إياس : أي رجليك أطول فقالت : هذه ، فقال : أتذكرين ليلة ولدتك أمك ؟ قالت : نعم فقال إياس : رد رد .
! وجاء في الخبر المرفوع من روايه عبد الله بن عمر : " لا قدست أمه لا يقضى فيها بالحق " ، ومن الحديث المرفوع من رواية أبى هريرة : " ليس أحد يحكم بين الناس إلا جئ به يوم القيامة مغلولة يداه الى عنقه ، فكه العدل ، وأسلمه الجور " واستعدى رجل على على بن أبى طالب عليه السلام عمر بن الخطاب رضى الله عنه وعلى جالس فالتفت عمر إليه ، فقال : قم يا أبا الحسن فاجلس مع خصمك ، فقام فجلس معه وتناظرا ، ثم انصرف الرجل ورجع على عليه السلام إلى محله ، فتبين عمر التغير في وجهه ، فقال : يا أبا الحسن ، ما لى أراك متغيرا ! أكرهت ما كان ؟ قال نعم قال : وما ذاك قال : كنيتني بحضرة خصمى ، هلا قلت : قم يا على فاجلس مع خصمك ! فاعتنق عمر عليا ، وجعل يقبل وجهه ، وقال بأبى أنتم ! بكم هدانا الله ، وبكم أخرجنا من الظلمة إلى النور .
أبان بن عبد الحميد اللاحقى في سوار بن عبد الله القاضى : لا تقدح الظنة في حكمه * * شيمته عدل وإنصاف يمضى إذا لم تلقه شبهة * * وفى اعتراض الشك وقاف كان ببغداد رجل يذكر بالصلاح والزهد يقال له رويم ، فولى القضاء ، فقال الجنيد : من أراد أن يستودع سره من لا يفشيه فعليه برويم ، فإنه كتم حب الدنيا أربعين سنة الى أن قدر عليها .
الاشهب الكوفى يا أهل بغداد قد قامت قيامتكم * * مذ صار قاضيكم نوح بن دراج لو كان حيا له الحجاج ما سلمت * * صحيحة يده من وسم حجاج .(17/65)
وكان الحجاج يسم أيدى النبط بالمشراط والنيل .
لما وقعت فتنة ابن الزبير اعتزل شريح القضاء وقال : لا أقضى في الفتنة ، فبقى لا يقضى تسع سنين ، ثم عاد إلى القضاء وقد كبرت سنه ، فاعترضه رجل وقد انصرف من مجلس القضاء ، فقال له : أ ما حان لك أن تخاف الله ! كبرت سنك ، وفسد ذهنك ، وصارت الامور تجوز عليك ، فقال ، والله لا يقولها بعدك لى أحد .
فلزم بيته حتى مات .
قيل لابي قلابة وقد هرب من القضاء : لو أجبت ؟ قال : أخاف الهلاك ، قيل : لو اجتهدت لم يكن عليك بأس ، قال : ويحكم ! إذا وقع السابح في البحر كم عسى أن يسبح ! دعا رجل لسليمان الشاذكونى ، فقال : أرانيك الله يا أبا أيوب على قضاء إصبهان ! قال : ويحك ! إن كان ولا بد فعلى خراجها ، فان أخذ أموال الاغنياء أسهل من أخذ أموال الايتام .
ارتفعت جميلة بنت عيسى بن جراد - وكانت جميلة كاسمها - مع خصم لها إلى الشعبى - وهو قاضى عبد الملك - فقضى لها ، فقال هذيل الاشجعى : فتن الشعبى لما * * رفع الطرف إليها فتنته بثنايا * * ها وقوسى حاجبيها ومشت مشيا رويدا * * ثم هزت منكبيها فقضى جورا على الخصم * * ولم يقض عليها فقبض الشعبى عليه وضربه ثلاثين سوطا .
قال ابن أبى ليلى : ثم انصرف الشعبى يوما من مجلس القضاء وقد شاعت الابيات(17/66)
و تناشدها الناس ، ونحن معه ، فمررنا بخادم تغسل الثياب ، وتقول : * فتن الشعبى لما * ولا تحفط تتمة البيت ، فوقف عليها ولقنها ، وقال : * رفع الطرف إليها * ثم ضحك وقال : أبعده الله ! والله ما قضينا (1) لها إلا بالحق .
جاءت امرأة إلى قاض فقالت : مات بعلى وترك أبوين وابنا وبنى عم ، فقال القاضى : لابويه الثكل ، ولابنه اليتم ، ولك اللائمة ، ولبنى عمه الذلة ، واحملي المال إلينا إلى أن ترتفع الخصوم ! لقى سفيان الثوري شريكا بعد ما استقضى ، فقال له يا أبا عبد الله ، بعد الاسلام والفقه والصلاح تلى القضاء ! قال ، يا أبا عبد الله ، فهل للناس بد من قاض ! قال : ولا بد يا أبا عبد الله للناس من شرطى .
وكان الحسن بن صالح بن حى يقول لما ولى شريك القضاء : أي شيخ أفسدوا .
قال أبو ذر رضى الله عنه : قال لى رسول الله صلى الله عليه وآله : يا أبا ذر ، أعقل (2) ما أقول لك ، جعل يرددها على ستة أيام ، ثم قال لى في اليوم السابع : أوصيك بتقوى الله في سريرتك وعلانيتك ، وإذا أسأت فأحسن ، ولا تسألن أحدا شيئا ولو سقط سوطك ، ولا تتقلدن أمانة ، ولا تلين ولاية ، ولا تكفلن يتيما ، ولا تقضين بين اثنين " .
أراد عثمان بن عفان أن يستقضى عبد الله بن عمر ، فقال له : ألست قد سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول : " من استعاذ بالله فقد عاذ بمعاذ ! " قال : بلى ، قال فإنى أعوذ بالله منك أن تستقضينى .
__________
(1) ا ، د : " قضيت " ، وأثبت ما في د .
(2) في د : " افعل " .
(*) .(17/67)
وقد ذكر الفقهاء في آداب القاضى (1) أمورا قالوا : لا يجوز أن يقبل هدية في أيام القضاء إلا ممن كانت له عادة يهدى إليه قبل أيام القضاء ، ، ولا يجوز قبولها في أيام القضاء ممن له حكومة وخصومة ، وإن كان ممن له عادة قديمة ، وكذلك إن كانت الهدية أنفس وأرفع مما كانت قبل أيام القضاء لا يجوز قبولها .
ويجوز أن يحضر القاضى الولائم ، ولا يحضر عند قوم دون قوم ، لان التخصيص يشعر بالميل ، ويجوز أن يعود المرضى ، ويشهد الجنائز ، ويأتى مقدم الغائب .
ويكره له مباشرة البيع والشراء .
ولا يجوز أن يقضى وهو غضبان ولا جائع ولا عطشان ، ولا في حال الحزن الشديد ، ولا الفرح الشديد ، ولا يقضى والنعاس يغلبه ، والمرض يقلقه ، ولا وهو يدافع الاخبثين ، ولا في حر مزعج ، ولا في برد مزعج وينبغى أن يجلس للحكم في موضع بارز يصل إليه كل أحد ، ولا يحتجب إلا لعذر .
ويستحب أن يكون مجلسه فسيحا لا يتأذى بذلك هو أيضا .
ويكره الجلوس في المساجد للقضاء فإن احتاج إلى وكلاء جاز أن يتخذهم ويوصيهم بالرفق بالخصوم .
ويستحب أن يكون له حبس ، وأن يتخذ كاتبا إن احتاج إليه ، ومن شرط كاتبه ان يكون عارفا بما يكتب به عن القضاء .
واختلف في جواز كونه ذميا ، والاظهر انه لا يجوز ولا يجوز أن يكون كاتبه فاسقا ، ولا يجوز أن يكون الشهود عنده قوما معينين ، بل الشهادة عامة فيمن استكمل شروطها .
* * * الاصل : ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختيارا ، ولا تولهم محاباه وأثرة ، فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة .
وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الاسلام المتقدمة ، فإنهم أكرم أخلاقا ، وأصح أعراضا ، وأقل في المطامع إشرافا ، وأبلغ في عواقب الامور نظرا .
__________
(1) كذا في ا ، دو هو الصواب وفى ب : " القضاء " (*) .(17/68)
ثم أسبغ عليهم الارزاق فان ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم ، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم ، وحجة عليهم أن خالفوا أمرك ، أو ثلموا أمانتك ثم تفقد أعمالهم ، وأبعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم ، فإن تعاهدك في السر لامورهم حدوة لهم على استعمال الامانة ، والرفق بالرعية .
وتحفظ من الاعوان ، فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانه اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك ، اكتفيت بذلك شاهدا ، فبسطت عليه العقوبة في بدنه ، وأخذته بما أصاب من عمله ، ثم نصبته بمقام المذلة ، ووسمته بالخيانة وقلدته عار التهمة .
* * * الشرح : لما فرغ عليه السلام من أمر القضاء ، شرع في أمر العمال ، وهم عمال السواد والصدقات والوقوف والمصالح وغيرها ، فأمره أن يستعملهم بعد اختبارهم وتجربتهم وألا يوليهم محاباه لهم ، ولمن يشفع فيهم ، ولا أثره ولا إنعاما عليهم .
كان أبو الحسن بن الفرات يقول : الاعمال للكفاة من أصحابنا ، وقضاء الحقوق على خواص أموالنا .
وكان يحيى بن خالد يقول من تسبب إلينا بشفاعة في عمل فقد حل عندنا محل من ينهض بغيره ، ومن لم ينهض بنفسه لم يكن للعمل أهلا .
ووقع جعفر بن يحيى في رقعة متحرم به : هذا فتى له حرمة الامل ، فامتحنه بالعمل ، فان كان كافيا فالسلطان له دوننا ، وإن لم يكن كافيا فنحن له دون السلطان .
ثم قال عليه السلام : " فإنهما - يعنى استعمالهم للمحاباة والاثرة - جماع من شعب الجور والخيانة " .
وقد تقدم شرح مثل هذه اللفظة ، والمعنى أن ذلك يجمع ضروبا من الجور والخيانة .
أما الجور فإنه يكون قد عدل عن المستحق إلى غير المستحق ففى ذلك جور على المستحق .(17/69)
وأما الخيانة فلان الامانة تقتضي تقليد الاعمال الاكفاء ، فمن لم يعتمد ذلك فقد خان من ولاه .
ثم أمره بتخير من قد جرب ، ومن هو من أهل البيوتات والاشراف لشدة الحرص على الشئ والخوف من فواته .
ثم أمره بإسباغ الارزاق عليهم ، فإن الجائع لا أمانة له ولان الحجه تكون لازمه لهم إن خانوا لانهم قد كفوا مؤنة أنفسهم وأهليهم بما فرض لهم من الارزاق (1) .
ثم أمره بالتطلع عليهم وإذكاء (2) العيون والارصاد على حركاتهم .
وحدوة باعث ، يقال : حدانى هذا الامر حدوة على كذا ، وأصله سوق الابل ، ويقال للشمال حدواء ، لانها تسوق السحاب .
ثم أمره بمؤاخذة من ثبتت خيانته واستعاده المال منه ، وقد صنع عمر كثيرا من ذلك ، وذكرناه فيما تقدم .
قال بعض الاكاسرة لعامل من عماله : كيف نومك بالليل ؟ قال : أنامه كله ، قال : أحسنت ! لو سرقت ما نمت هذا النوم .
* * * الاصل : وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله ، فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم ، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم ، لان الناس كلهم عيال على الخراج وأهله .
وليكن نظرك في عمارة الارض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لان ذلك لا يدرك إلا بالعمارة ، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد ، وأهلك
__________
(1) في د " الزرق " .
(2) في ا ، د " وبعث " (*) .(17/70)
العباد ، ولم يستقم أمره إلا قليلا ، فإن شكوا ثقلا أو علة ، أو انقطاع شرب ، أو بالة ، أو إحاله أرض اغتمرها غرق ، أو أجحف بها عطش ، خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم .
ولا يثقلن عليك شئ خففت به المؤونة عنهم فإنه ذخر يعودون به عليك في عماره بلادك ، وتزيين ولايتك ، مع استجلابك حسن ثنائهم ، وتبجحك باستقاضة العدل فيهم ، معتمدا فضل قوتهم ، بما ذخرت عندهم من إجماعك لهم ، والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم ورفقك بهم فربما حدث من الامور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبه انفسهم به فان العمران محتمل ما حملته ، وإنما يؤتى خراب الارض من اعواز اهلها وانما يعوز اهلها لاشراف أنفس الولاة على الجمع ، وسوء ظنهم بالبقاء وقلة انتفاعهم بالعبر .
* * * الشرح : انتقل عليه السلام من ذكر العمال إلى ذكر أرباب الخراج ودهاقين السواد ، فقال تفقد أمرهم ، فإن الناس عيال عليهم ، وكان يقال : استوصوا بأهل الخراج ، فإنكم لا تزالون سمانا ما سمنوا .
ورفع إلى أنوشروان أن عامل الاهواز قد حمل من مال الخراج ما يزيد على العادة وربما يكون ذلك قد أجحف بالرعية ، فوقع : يرد هذا المال على من قد استوفى منه فإن تكثير الملك ماله بأموال رعيته بمنزلة من يحصن سطوحه بما يقتلعه من قواعد بنيانه .(17/71)
وكان على خاتم انوشروان : لا يكون عمران ، حيث يجور السلطان .
وروى : " استحلاب الخراج بالحاء .
ثم قال : فإن شكوا ثقلا " ، أي ثقل طسق (1) الخراج المضروب عليهم ، أو ثقل وطأة العامل .
قال : " أو علة " نحو ان يصيب الغله آفة كالجراد والبرق أو البرد .
قال : " أو انقطاع شرب " (2) ، بأن ينقص الماء في النهر ، أو تتعلق أرض الشرب عنه لفقد الحفر .
قال : " أو بالة " ، يعنى المطر .
قال : " أو إحاله أرض اغتمرها غرق " ، يعنى أو كون الارض قد حالت ، ولم يحصل منها ارتفاع ، لان الغرق غمرها وأفسد زرعها .
قال : " أو أجحف بها عطش " ، أي أتلفها .
فإن قلت : فهذا هو انقطاع الشرب ؟ قلت : لا قد يكون الشرب غير منقطع ، ومع ذلك يجحف بها العطش ، بأن لا يكفيها الماء الموجود في الشرب .
ثم أمره أن يخفف عنهم متى لحقهم شئ من ذلك ، فإن التخفيف يصلح أمورهم ، وهو وإن كان يدخل على المال نقصا في العاجل إلا أنه يقتضى (2) توفير زيادة في الاجل ، فهو بمنزلة التجارة التى لابد فيها من إخراج رأس المال وانتظار عوده وعود ربحه .
__________
(1) في اللسان عن التهذيب : " الطسق شبه الخراج له مقدار معلوم ، وليس بعربي خالص " .
(2) الشرب بالكسر : النصيب من الماء .
(3) في د " يفضى إلى " (*) .(17/72)
قال : " ومع ذلك فإنه يفضى إلى تزين بلادك بعمارتها ، وإلى أنك تبجح بين الولاة بإفاضة العدل في رعيتك معتمدا فضل قوتهم " ، و " معتمدا " ، منصوب على الحال من الضمير في " خففت " الاولى ، أي خففت عنهم معتمدا بالتخفيف فضل قوتهم .
والاجمام : الترفيه .
ثم قال له : وربما احتجت فيما بعد إلى تكلفهم بحادث يحدث عندك المساعدة بمال يقسطونه عليهم قرضا أو معونة محضة ، فإذا كانت لهم ثروة نهضوا بمثل ذلك ، طيبة قلوبهم (1) به .
ثم قال عليه السلام : فإن العمران محتمل ما حملته .
سمعت أبا محمد بن خليد - وكان صاحب ديوان الخراج في أيام الناصر لدين الله - يقول لمن قال له : قد قيل عنك : إن واسط والبصرة قد خربت لشده العنف بأهلها في تحصيل الاموال ! فقال أبو محمد : ما دام هذا الشط بحاله ، والنخل نابتا في منابته بحاله ، ما تخرب واسط والبصره أبدا .
ثم قال عليه السلام : إنما تؤتى الارض " ، أي إنما تدهى من إعواز أهلها أي من فقرهم .
قال : والموجب لاعوازهم طمع ولاتهم في الجباية وجمع الاموال لانفسهم ولسلطانهم وسوء ظنهم بالبقاء يحتمل أن يريد به أنهم يظنون طول البقاء وينسون الموت والزوال .
ويحتمل أن يريد به أنهم يتخيلون العزل والصرف ، فينتهزون الفرص ، ويقتطعون الاموال ولا ينظرون في عماره البلاد .
* * *
__________
(1) في د " نفوسهم " (*) .(17/73)
[ عهد سابور بن أردشير لابنه ] وقد وجدت في عهد سابور بن أردشير إلى ابنه كلاما يشابه كلام أمير المؤمنين عليه السلام في هذا العهد ، وهو قوله : واعلم أن قوام أمرك بدرور الخراج ، ودرور الخراج بعماره البلاد وبلوغ الغاية في ذلك استصلاح أهله بالعدل عليهم ، والمعونه لهم ، فان بعض الامور لبعض سبب ، وعوام الناس لخواصهم عدة ، وبكل صنف منهم إلى الاخر حاجة ، فاختر لذلك أفضل من تقدر عليه من كتابك ، وليكونوا من أهل البصر والعفاف والكفاية ، واسترسل إلى كل امرئ منهم شخصا (1) يضطلع به ويمكنه تعجيل الفراغ منه ، فإن اطلعت على أن أحدا منهم خان أو تعدى فنكل به ، وبالغ في عقوبته ، واحذر أن تستعمل على الارض الكثير خراجها إلا البعيد الصوت ، العظيم شرف المنزلة .
ولا تولين أحدا من قواد جندك الذين هم عده للحرب ، وجنة من الاعداء ، شيئا من أمر الخراج ، فلعلك تهجم من بعضهم على خيانة في المال ، أو تضييع للعمل ، فإن سوغته المال ، وأغضيت له على التضييع ، كان ذلك هلاكا وإضرارا بك وبرعيتك ، وداعية إلى فساد غيره ، وإن أنت كافأته فقد استفسدته ، واضقت (2) صدره ، وهذا أمر توقيه حزم ، والاقدام عليه خرق والتقصير فيه عجز .
واعلم أن من أهل الخراج من يلجئ بعض أرضه وضياعه إلى خاصة الملك وبطانته ، لاحد أمرين انت ، حرى بكراهتهما : إما لامتناع من جور العمال وظلم الولاة ، وتلك منزله يظهر بها سوء أثر العمال وضعف الملك وإخلاله بما تحت يده ، وإما للدفع عما يلزمهم
__________
(1) في د " شقصا " .
(2) في د " وأضغنت " (*) .(17/74)
من الحق والتيسر له وهذه خلة تفسد بها آداب الرعية ، وتنتقص بها أموال الملك ، فاحذر ذلك ، وعاقب الملتجئين والملجا إليهم .
* * * ركب زياد يوما بالسوس يطوف بالضياع والزروع ، فرأى عماره حسنة ، فتعجب منها ، فخاف أهلها أن يزيد في خراجهم ، فلما نزل دعا وجوه البلد ، وقال : بارك الله عليكم ، فقد أحسنتم العمارة ، وقد وضعت عنكم مائة ألف درهم .
ثم قال : ما توفر على من تهالك غيرهم على العمارة وأمنهم جورى أضعاف ما وضعت عن هؤلاء الان ، والذى وضعته بقدر ما يحصل من ذاك ، وثواب عموم العمارة وأمن الرعية افضل ربح .
* * * الاصل : ثم انظر في حال كتابك فول على امورك خيرهم ، واخصص رسائلك التى تدخل فيها مكايدك و أسرارك بأجمعهم لوجود صالح الاخلاق ممن لا تبطره الكرامة فيجترئ بها عليك في خلاف لك بحضرة ملا .
ولا تقصر به الغفلة عن إيراد مكاتبات عمالك عليك ، و إصدار جواباتها على الصواب عنك ، وفيما يأخذ لك ويعطى منك ، ولا يضعف عقدا اعتقده لك ، ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك ، ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الامور ، فإن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل .
ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك واستنامتك وحسن الظن منك .(17/75)
فان الرجال يتعرضون لفراسات الولاه بتصنعهم وحسن حديثهم وليس وراء ذلك من النصيحة والامانة شئ ، ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك ، فاعمد لاحسنهم كان في العامة أثرا ، وأعرفهم بالامانة وجها ، فإن ذلك دليل على نصيحتك لله ، ولمن وليت أمراه .
واجعل لرأس كل أمر من أمورك رأسا منهم ، لا يقهره كبيرها ، ولا يتشتت عليه كثيرها ، ومهما كان في كتابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته .
* * * [ فصل فيما يجب على مصاحب الملك ] الشرح : لما فرغ من أمر الخراج ، شرع في أمر (1) الكتاب الذين يلون أمر الحضرة ، ويترسلون عنه إلى عماله وأمرائه ، وإليهم معاقد التدبير وأمر الديوان ، فأمره أن يتخير الصالح منهم ، ومن يوثق على الاطلاع على الاسرار والمكايد والحيل والتدبيرات .
ومن لا يبطره الاكرام والتقريب ، فيطمع فيجترئ على مخالفته في ملا من الناس والرد عليه ، ففى ذلك من الوهن للامير وسوء الادب الذى انكشف الكاتب عنه ما لا خفاء به .
قال الرشيد للكسائي : يا على بن حمزة ، قد أحللناك المحل الذى لم تكن تبلغه همتك ، فرونا من الاشعار أعفها ، ومن الاحاديث أجمعها لمحاسن الاخلاق وذاكرنا بآداب الفرس والهند ، ولا تسرع علينا الرد في ملا ، ولا تترك تثقيفنا في خلاء .
وفي آداب ابن المقفع : لا تكونن صحبتك للسلطان إلا بعد رياضة منك لنفسك على
__________
(1) في د " ذكر " (*) .(17/76)
طاعتهم في المكروه عندك وموافقتهم فيما خالفك وتقدير الامور على أهوائهم دون هواك ، فإن كنت حافظا إذا ولوك .
حذرا إذا قربوك ، أمينا إذا ائتمنوك ، تعلمهم وكأنك تتعلم منهم ، وتأدبهم وكأنك تتأدب بهم ، وتشكر لهم ولا تكلفهم الشكر ، ذليلا إن صرموك ، راضيا إن أسخطوك ، وإلا فالبعد منهم كل البعد والحذر منهم كل الحذر ، وإن وجدت عن السلطان وصحبته غنى فاستغن عنه ، فإنه من يخدم السلطان حق خدمته يخلى بينه وبين لذة الدنيا وعمل الاخرى ، ومن يخدمه غير حق الخدمه فقد احتمل وزر الاخرة ، وعرض نفسه للهلكة والفضيحة في الدنيا .
فإذا صحبت السلطان فعليك بطول الملازمة من غير إملال ، وإذا نزلت منه بمنزلة الثقة فاعزل عنه كلام الملق ، ولا تكثر له من الدعاء ، ولا تردن عليه كلاما في حفل وإن أخطأ ، فإذا خلوت به فبصره في رفق ، ولا يكونن طلبك ما عنده بالمسألة ، ولا تستبطئه وإن أبطأ ، ولا تخبرنه أن لك عليه حقا ، وأنك تعتمد عليه ببلاء ، وإن استطعت ألا تنسى حقك وبلاءك بتجديد النصح والاجتهاد فافعل ، ولا تعطينه المجهود كله من نفسك في أول صحبتك له ، وأعد موضعا للمزيد .
وإذا سأل غيرك عن شئ فلا تكن المجيب .
واعلم أن استلابك الكلام خفة فيك واستخفاف منك بالسائل والمسئول ، فما أنت قائل إن قال لك السائل : ما إياك سألت ، أو قال المسئول : أجب بمجالسته ومحادثته أيها المعجب بنفسه ، والمستخف بسلطانه .
وقال عبد الملك بن صالح لمؤدب ولده بعد أن اختصه بمجالسته ومحادثته : يا عبد الله ، كن على التماس الحظ فيك بالسكوت أحرص منك على التماسه بالكلام ، فإنهم قالوا : إذا أعجبك الكلام فاصمت وإذا أعجبك الصمت فتكلم .
وأعلم أن أصعب الملوك معاملة الجبار الفطن المتفقد ، فإن ابتليت بصحبته فاحترس ، وإن عوفيت فاشكر الله على السلامة ، فإن السلامة أصل كل نعمه .
لا تساعدني على ما يقبح بى .
ولا تردن على(17/77)
خطا في مجلس ، ولا تكلفني جواب التشميت والتهنئة ، ودع عنك : كيف أصبح الامير ، وكيف أمسى ! وكلمني بقدر ما أستنطقك ، وأجعل بدل التقريظ لى صواب الاستماع منى .
وأعلم أن صواب الاستماع أحسن من صواب القول ، فإذا سمعتني أتحدث فلا يفوتنك منه شئ ، وأنى فهمك إياه في طرفك ووجهك ، فما ظنك بالملك وقد أحلك محل المعجب بما يسمعك إياه ، وأحللته محل من لا يسمع منه ! وكل من هذا يحبط إحسانك ، ويسقط حق حرمتك ، ولا تستدع الزيادة من كلامي بما تظهر من استحسان ما يكون منى ، فمن أسوأ حالا ممن يستكد الملوك بالباطل ، وذلك يدل على تهاونه بقدر ما أوجب الله تعالى من حقهم .
واعلم أنى جعلتك مؤدبا ، بعد أن كنت معلما ، وجعلتك جليسا مقربا بعد أن كنت مع الصبيان مباعدا ، فمتى لم تعرف نقصان ما خرجت منه ، لم تعرف رجحان ما دخلت فيه ، وقد قالوا : من لم يعرف سوء ما أولى ، لم يعرف حسن ما أبلى .
* * * ثم قال عليه السلام : وليكن كاتبك غير مقصر عن عرض مكتوبات عمالك عليك ، والاجابة عنها حسن الوكالة والنيابة عنك فيما يحتج به لك عليهم من مكتوباتهم ، وما يصدره عنك إليهم من الاجوبة فإن عقد لك عقدا قواه وأحكمه ، وإن عقد عليك عقدا اجتهد في نقضه وحلة .
قال : وأن يكون عارفا بنفسه ، فمن لم يعرف قدر نفسه لم يعرف قدر غيره .
ثم نهاه أن يكون مستند اختياره لهؤلاء فراسته فيهم ، وغلبة ظنه بأحوالهم ، فإن التدليس ينم في ذلك كثيرا ، وما زال الكتاب يتصنعون للامراء بحسن الظاهر ، وليس وراء ذلك كثير طائل في النصيحة ، والمعرفة ، ولكن ينبغى أن يرجع في ذلك إلى ما حكمت(17/78)
به التجربة لهم ، وما ولوه من قبل ، فإن كانت ولايتهم وكتابتهم حسنة مشكورة فهم هم ، وإلا فلا ، ويتعرفون لفراسات الولاة ، يجعلون أنفسهم بحيث يعرف بضروب من التصنع ، وروى : " يتعرضون " .
ثم أمره أن يقسم فنون الكتابة وضروبها بينهم نحو أن يكون أحدهم للرسائل إلى الاطراف والاعداء ، والاخر لاجوبة عمال السواد ، والاخره بحضرة الامير في خاصته وداره ، وحاشيته وثقاته .
ثم ذكر له أنه مأخوذ مع الله تعالى بما يتغابى عنه ، ويتغافل من عيوب كتابه ، فإن الدين لا يبيح الاغضاء والغفلة عن الاعوان والخول ، ويوجب التطلع عليهم .
* * * [ فصل في الكتاب وما يلزمهم من الاداب ] واعلم أن الكاتب الذى يشير أمير المؤمنين عليه السلام إليه هو الذى يسمى الان في الاصطلاح العرفي وزيرا ، لانه صاحب تدبير حضره الامير ، والنائب عنه في أموره ، وإليه تصل مكتوبات العمال وعنه تصدر الاجوبة ، وإليه العرض على الامير ، وهو المستدرك على العمال ، والمهيمن عليهم ، وهو على الحقيقة كاتب الكتاب ولهذا يسمونه : الكاتب المطلق .
وكان يقال : للكاتب على الملك ثلاث : رفع الحجاب عنه ، واتهام الوشاة عليه ، وإفشاء السر إليه .
وكان يقال : صاحب السلطان نصفه ، وكاتبه كله وينبغى لصاحب الشرطة أن يطيل الجلوس ، ويديم العبوس ، ويستخف بالشفاعات .(17/79)
وكان يقال إذا كان الملك ضعيفا ، والوزير شرها ، والقاضى جائرا ، فرقوا الملك شعاعا .
وكان يقال : لا تخف صوله الامير مع رضا الكاتب ، ولا تثقن برضا الامير مع سخط الكاتب ، وأخذ هذا المعنى أبو الفضل بن العميد فقال : وزعمت أنك لست تفكر بعد ما * * علقت يداك بذمه الامراء هيهات قد كذبتك فكرتك التى * * قد أوهمتك غنى عن الوزراء لم تغن عن أحد سماء لم تجد * * أرضا ولا أرض بغير سماء .
وكان يقال : إذا لم يشرف الملك على أموره ، صار أغش الناس إليه وزيره .
وكان يقال : ليس الحرب الغشوم بأسرع في اجتياح (1) الملك من تضييع مراتب الكتاب حتى يصيبها أهل النذالة ، ويزهد فيها أولو الفضل .
[ فصل في ذكر ما نصحت به الاوائل الوزراء ] وكان يقال : لا شئ أذهب بالدول من استكفاء الملك الاسرار .
وكان يقال : من سعادة جد المرء ألا يكون في الزمان المختلط وزيرا للسلطان .
وكان يقال : كما أن أشجع الرجال يحتاج إلى السلاح ، وأسبق الخيل يحتاج إلى السوط ، وأحد الشفار يحتاج إلى المسن ، كذلك أحزم الملوك وأعقلهم يحتاج إلى الوزير الصالح .
وكان يقال : صلاح الدنيا بصلاح الملوك ، وصلاح الملوك بصلاح الوزراء ،
__________
(1) اجتياح الملك : الذهاب به (*) .(17/80)
وكما لا يصلح الملك إلا بمن يستحق الملك ، كذلك لا تصلح الوزارة إلا بمن يستحق الوزارة .
وكان يقال : الوزير الصالح لا يرى أن صلاحه في نفسه كائن صلاحا حتى يتصل بصلاح الملك وصلاح رعيته ، وأن تكون عنايته فيما عطف الملك على رعيته ، وفيما استعطف قلوب الرعية والعامة على الطاعه للملك ، وفيما فيه قوام أمر الملك من التدبير الحسن ، حتى يجمع إلى أخذ الحق تقديم عموم الامن .
وإذا طرقت الحوادث ، كان للملك عدة وعتادا ، وللرعية كافيا محتاطا ، ومن ورائها محاميا ذابا ، يعنيه من صلاحها ما لا يعنيه من صلاح نفسه دونها .
وكان يقال : مثل الملك الصالح إذا كان وزيره فاسدا مثل الماء العذب الصافى وفيه التمساح ، لا يستطيع الانسان - وإن كان سابحا ، وإلى الماء ظامئا - دخوله ، حذرا على نفسه .
قال عمر بن عبد العزيز لمحمد بن كعب القرظى حين استخلف : لو كنت كاتبى وردءا لى على ما دفعت إليه ! قال : لا أفعل ، ولكني سأرشدك ، أسرع الاستماع ، وأبطئ في التصديق حتى يأتيك واضح البرهان ، ولا تعملن ثبجتك فيما تكتفى فيه بلسانك ، ولا سوطك فيما تكتفى فيه بثبجتك ، ولا سيفك فيما تكتفى فيه بسوطك .
وكان يقال : التقاط الكاتب للرشا وضبط الملك لا يجتمعان .
وقال أبرويز لكاتبه : اكتم السر ، واصدق الحديث ، واجتهد في النصيحة ، وعليك بالحذر ، فإن لك على ألا أعجل عليك حتى أستأني لك ، ولا أقبل فيك قولا حتى أستيقن ، ولا أطمع فيك أحدا فتغتال ، واعلم أنك بمنجاه (1) رفعة فلا تحطنها ، وفي
__________
(1) المنجاة : ما ارتفع من الارض (*) .(17/81)
ظل مملكة فلا تستزيلنه .
قارب الناس مجاملة من نفسك ، وباعدهم مسامحة عن عدوك ، واقصد إلى الجميل ازدراعا لغدك ، وتنزه بالعفاف صونا لمروءتك ، وتحسن عندي بما قدرت عليه .
احذر لا تسرعن الالسنة عليك ، ولا تقبحن الاحدوثة عنك ، وصن نفسك صون الدرة الصافية ، وأخلصها إخلاص الفضة البيضاء ، وعاتبها معاتبة الحذر المشفق ، وحصنها تحصين المدينة المنيعة ، لا تدعن أن ترفع إلى الصغير فإنه يدل على (1) الكبير ، ولا تكتمن عنى الكبير فإنه ليس بشاغل عن الصغير .
هذب أمورك ثم القنى بها ، وأحكم أمرك ثم راجعني فيه ، ولا تجترئن على فامتعض ، ولا تنقبضن منى فأتهم ، ولا تمرضن ما تلقاني به ولا تخدجنه (2) ، وإذا أفكرت فلا تجعل ، وإذا كتبت فلا تعذر ، ولا تستعن بالفضول فإنها علاوة على الكفاية ، ولا تقصرن عن التحقيق فإنها هجنة بالمقالة ، ولا تلبس كلاما بكلام ، ولا تبعدن معنى عن معنى .
وأكرم لى كتابك عن ثلاث : خضوع يستخفه ، وانتشار يهجنه ، ومعان تعقد به .
واجمع الكثير مما تريد في القليل مما تقول وليكن بسطة كلامك على كلام السوقة كبسطة الملك الذى تحدثه على الملوك .
لا يكن ما نلته عظيما ، وما تتكلم به صغيرا ، فإنما كلام الكاتب على مقدار الملك ، فاجعله عاليا كعلوه ، وفائقا كتفوقه ، فإنما جماع الكلام كله خصال أربع : سؤالك الشئ ، وسؤالك عن الشئ وأمرك بالشئ وخبرك عن الشئ ، فهذه الخصال دعائم المقالات ، إن التمس إليها خامس لم يوجد ، وإن نقص منها واحد لم يتم ، فإذا أمرت فأحكم ، وإذا سألت فأوضح ، وإذا طلبت فأسمح ، وإذا أخبرت فحقق ، فإنك إذا فعلت ذلك أخذت بجراثيم القول كله ، فلم يشتبه عليك واردة ، ولم تعجزك صادره .
أثبت في دواوينك ما أخذت ، وأحص فيها ما أخرجت ، وتيقظ لما تعطى ، وتجرد لما تأخذ ولا يغلبنك النسيان عن الاحصاء ، ولا الانأة عن التقدم ، ولا تخرجن
__________
(1) كذا في ا ، وهو الوجه ، وفى ب : " عن الكبير " .
(2) التمريض : التوهين ، والتخذيج : أن تأتى بالشئ ناقصا (*) .(17/82)
وزن قيراط في غير حق ، ولا تعظمن إخراج الالوف الكثيرة في الحق ، وليكن ذلك كله عن مؤامرتي .
* * * الاصل : ثم استوص بالتجار وذوى الصناعات ، وأوص بهم خيرا ، المقيم منهم والمضطرب بماله ، والمترفق ببدنه ، فإنهم مواد المنافع ، وأسباب المرافق ، وجلابها من المباعد والمطارح ، في برك وبحرك ، وسهلك وجبلك ، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ، ولا يجترئون عليها ، فإنهم سلم لا تخاف بائقته ، وصلح لا تخشى غائلته .
وتفقد أمورهم بحضرتك ، وفي حواشى بلادك .
واعلم - مع ذلك - أن في كثير منهم ضيقا فاحشا ، وشحا قبيحا ، واحتكارا للمنافع ، وتحكما في البياعات ، وذلك باب مضرة للعامة ، وعيب على الولاة ، فامنع من الاحتكار ، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منع منه .
وليكن البيع بيعا سمحا بموازين عدل ، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع ، فمن قارف حكره بعد نهيك إياه فنكل به ، وعاقبه من غير إسراف .
* * * الشرح : خرج عليه السلام الان الى ذكر التجار وذوى الصناعات ، وأمره (1) بأن يعمل معهم الخير ، وأن يوصى غيره من أمرائه وعماله أن يعملوا معهم الخير ، واستوص بمعنى " أوص "
__________
(1) ا ، ب : " أمره " ، بدون واو (*) .(17/83)
نحو قر في المكان واستقر ، وعلا قرنه واستعلاه .
وقوله : " استوص بالتجار خيرا " ، أي أوص نفسك بذلك ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وآله : " استوصوا بالنساء خيرا " ، ومفعولا " استوص وأوص " هاهنا محذوفان للعلم بهما ، ويجوز أن يكون " استوص " أي اقبل الوصية منى بهم ، وأوص بهم أنت غيرك .
ثم قسم عليه السلام الموصى بهم ثلاثة أقسام : اثنان منها للتجار (1) ، وهما المقيم ، والمضطرب ، يعنى المسافر ، والضرب : السير في الارض ، قال تعالى : (إذا ضربتم في الارض (2) ، وواحد لارباب الصناعات ، وهو قوله : " والمترفق ببدنه " ، وروى " بيديه " ، تثنية يد .
والمطارح : الاماكن البعيدة .
وحيث لا يلتئم الناس : لا يجتمعون ، وروى " حيث لا يلتئم " بحذف الواو .
ثم قال : " فإنهم أولو سلم " ، يعنى التجار والصناع ، استعطفه عليهم ، واستماله إليهم .
وقال : ليسوا كعمال الخراج وأمراء الاجناد ، فجانبهم ينبغى أن يراعى ، وحالهم يجب أن يحاط ويحمى ، إذ لا يتخوف منهم بائقة لا في مال يخونون فيه ، ولا في دولة يفسدونها .
وحواشي البلاد : أطرافها .
ثم قال له : قد يكون في كثير منهم نوع من الشح والبخل فيدعوهم ذلك إلى الاحتكار في الاقوات ، والحيف في البياعات ، والاحتكار (3) : ابتياع الغلات في أيام
__________
(1) د : " التجار " .
(2) سورة النساء 101 .
(3) د : " فالاحتكار " (*) .(17/84)
رخصها ، وادخارها في المخازن (1) إلى أيام الغلاء والقحط .
والحيف : تطفيف في الوزن والكيل ، وزيادة في السعر (2) ، وهو الذى عبر عنه بالتحكم ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله عن الاحتكار ، وأما التطفيف وزيادة التسعير فمنهى عنهما في نص الكتاب (3) .
وقارف حكرة : واقعها ، والحاء مضمومة ، وأمره أن يؤدب فاعل ذلك من غير إسراف ، وذلك أنه دون المعاصي التى توجب الحدود ، فغاية أمره من التعزير الاهانة والمنع .
* * * الاصل : ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم ، من المساكين والمحتاجين وأهل البؤسى والزمنى ، فإن في هذه الطبقة قانعا ومعترا .
واحفظ الله ما استحفظك من حقه فيهم .
واجعل لهم قسما من بيت مالك ، وقسما من غلات صوافي الاسلام في كل بلد ، فإن للاقصى منهم مثل الذى للادنى ، وكل قد استرعيت حقه .
ولا يشغلنك عنهم بطر ، فإنك لا تعذر بتضييع التافه لاحكامك الكثير المهم ، فلا تشخص همك عنهم ، ولا تصعر خدك لهم .
وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم ، ممن تقتحمه العيون ، وتحقره الرجال ، ففرغ لاولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع ، فليرفع إليك أمورهم .
ثم اعمل فيهم بالاعذار إلى الله سبحانه يوم تلقاه ، فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الانصاف من غيرهم ، وكل فأعذر إلى الله في تأديه حقه إليه .
__________
(1) د : " المحارز " .
(2) د : " التفسير " .
(3) وهو قوله تعالى : (ويل للمطففين) (*) .(17/85)
وتعهد أهل اليتم ، وذوى الرقة في السن ، ممن لا حيلة له ، ولا ينصب للمسالة نفسه ، وذلك على الولاة ثقيل ، والحق كله ثقيل ، وقد يخففه الله على أقوام طلبوا العاقبة فصبروا أنفسهم ، ووثقوا بصدق موعود الله لهم .
* * * الشرح : انتقل من التجار وأرباب الصناعات إلى ذكر فقراء الرعية ومغموريها ، فقال : وأهل البؤسى ، وهى البؤس كالنعمى للنعيم ، والزمنى أولو الزمانة .
والقانع : السائل ، والمعتر : الذى يعرض لك ولا يسألك ، وهما من ألفاظ الكتاب العزيز (1) .
وأمره أن يعطيهم من بيت مال المسلمين لانهم من الاصناف المذكورين في قوله تعالى : (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) (2) ، وأن يعطيهم من غلات صوافي الاسلام - وهى الارضون التى لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب - وكانت صافية لرسول الله صلى الله عليه وآله ، فلما قبض صارت لفقراء المسلمين ، ولما يراه الامام من مصالح الاسلام .
ثم قال له : " فإن للاقصى منهم مثل الذى للادنى " ، أي كل فقراء المسلمين سواء في سهامهم ، ليس فيها أقصى وأدنى ، أي لا تؤثر من هو قريب إليك أو إلى أحد من خاصتك على من هو بعيد ليس له سبب إليك ، ولا علقة بينه وبينك ، ويمكن أن يريد به : لا تصرف غلات ما كان من الصوافى في بعض البلاد إلى مساكين ذلك
__________
(1) وهو قوله تعالى في سورة الحج 36 : (فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر) .
(2) سورة الانفال 41 (*) .(17/86)
البلد خاصة ، فإن حق البعيد عن ذلك البلد فيها كمثل حق المقيم في ذلك البلد .
والتافه : الحقير .
وأشخصت زيدا من موضع كذا ، أخرجته عنه .
وفلان يصعر خده للناس ، أي يتكبر عليهم .
وتقتحمه العيون : تزدريه .
وتحتقره والاعذار إلى الله : الاجتهاد والمبالغة في تأدية حقه والقيام بفرائضه .
* * * كان بعض الاكاسرة يجلس للمظالم بنفسه ، ولا يثق إلى غيره ، ويقعد بحيث يسمع الصوت ، فإذا سمعه أدخل المتظلم فأصيب بصمم في سمعه فنادى مناديه ، أن الملك يقول : أيها الرعية إنى إن أصبت بصمم في سمعي فلم أصب في بصرى ، كل ذى ظلامة فليلبس ثوبا أحمر ، ثم جلس لهم في مستشرف له .
وكان لامير المؤمنين عليه السلام بيت سماه بيت القصص ، يلقى الناس فيه رقاعهم ، وكذلك كان فعل المهدى محمد بن هارون الواثق ، من خلفا بنى العباس .
* * * الاصل : واجعل لذوى الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك ، وتجلس لهم مجلسا عاما ، فتتواضع فيه لله الذى خلقك ، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك ، حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع ، فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول في غير موطن : " لن تقدس أمه لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوى غير متتعتع " .(17/87)
ثم احتمل الخرق منهم والعى ، ونح عنهم الضيق والانف ، يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته ، ويوجب لك ثواب طاعته .
وأعط ما أعطيت هنيئا ، وامنع في إجمال وإعذار .
ثم أمور من أمورك لا بد لك من مباشرتها ، منها إجابه عمالك بما يعيا عنه كتابك ، ومنها إصدار حاجات الناس عند ورودها عليك بما تحرج به صدور أعوانك .
وأمض لكل يوم عمله ، فإن لكل يوم ما فيه .
* * * الشرح : هذا الفصل من تتمة ما قبله ، وقد روى : " حتى يكلمك مكلمهم " ، فاعل من " كلم " والرواية الاولى الاحسن ..وغير متتعتع : غير مزعج ولا مقلق .
والمتتعتع في الخبر النبوى : المتردد المضطرب كلامه عيا من خوف لحقه ، وهو راجع إلى المعنى الاول .
والخرق : الجهل .
وروى : " ثم احتمل الخرق منهم والغى " .
والغى وهو الجهل أيضا ، والرواية الاولى أحسن .
ثم بين له عليه السلام أنه لا بد له من هذا المجلس لامر آخر غير ما قدمه عليه السلام وذلك لانه لابد من أن يكون في حاجات الناس ما يضيق به صدور أعوانه ، والنواب عنه ، فيتعين عليه أن يباشرها بنفسه ، ولا بد من أن يكون في كتب عماله الواردة عليه(17/88)
ما يعيا كتابه عن جوابه ، فيجيب عنه بعلمه .
ويدخل في ذلك أن يكون فيها ما لا يجوز في حكم السياسة ومصلحة الولاية أن يطلع الكتاب عليه ، فيجيب أيضا عن ذلك بعلمه .
ثم قال له : لا تدخل عمل يوم في عمل يوم آخر فيتعبك ويكدرك ، فإن لكل يوم ما فيه من العمل .
* * * الاصل : واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله تعالى أفضل تلك المواقيت ، وأجزل تلك الاقسام ، وأن كانت كلها لله ، إذا صلحت فيها النية ، وسلمت منها الرعية .
وليكن في خاصتة ما تخلص به لله دينك إقامه فرائضه التى هي له خاصة ، فأعط الله من بدنك في ليلك ونهارك ، ووف ما تقربت به إلى الله سبحانه من ذلك كاملا غير مثلوم ولا منقوص ، بالغا من بدنك ما بلغ .
وإذا قمت في صلاتك للناس فلا تكونن منفرا ولا مضيعا ، فإن في الناس من به العلة وله الحاجة ، وقد سألت رسول الله صلى الله عليه وآله حين وجهنى إلى اليمن : كيف أصلى بهم ؟ فقال : " صل بهم كصلاة أضعفهم ، وكن بالمؤمنين رحيما " .
* * * الشرح : لما فرغ عليه السلام من وصيته بأمور رعيته ، شرع في وصيته بأداء الفرائض التى(17/89)
افترضها الله عليه من عبادته ، ولقد أحسن عليه السلام في قوله : وإن كانت كلها لله " ، أي أن النظر في أمور الرعية مع صحة النية وسلامة الناس من الظلم من جملة العبادات والفرائض أيضا .
ثم قال له : " كاملا غير مثلوم " ، أي لا يحملنك شغل السلطان على أن تختصر الصلاة اختصارا بل صلها بفرائضها وسننها وشعائرها في نهارك وليلك ، وإن أتعبك ذلك ونال من بدنك وقوتك .
ثم أمره إذا صلى بالناس جماعة ألا يطيل فينفرهم عنها ، وألا يخدج الصلاة وينقصها فيضيعها (1) .
ثم روى خبرا عن النبي صلى الله عليه وآله ، وهو قوله عليه السلام له : " صل بهم كصلاة أضعفهم " ، وقوله : " وكن بالمؤمنين رحيما " يحتمل أن يكون من تتمة الخبر النبوى ، ويحتمل أن يكون من كلام أمير المؤمنين عليه السلام ، والظاهر أنه من كلام أمير المؤمنين من الوصية للاشتر ، لان اللفظة الاولى عند أرباب الحديث هي المشهور في الخبر .
* * * الاصل : وأما بعد هذا ، فلا تطولن احتجابك عن رعيتك ، فإن احتجاب الولاه عن الرعية شعبة من الضيق ، وقلة علم بالامور .
والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير ، ويعظم الصغير ويقبح الحسن ، ويحسن القبيح ، ويشاب الحق بالباطل ، وإنما الوالى بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الامور ، وليست على الحق سمات تعرف بها ضروب الصدق من
__________
(1) د : " فيضعفها " (*) .(17/90)
الكذب ، وإنما أنت أحد رجلين إما امرؤ سخت نفسك بالبذل في الحق ، ففيم احتجابك من واجب حق تعطيه ، أو فعل كريم تسديه ! أو مبتلى بالمنع فما أسرع كف الناس عن مسألتك ، إذا أيسوا من بذلك ، مع أن أكثر حاجات الناس إليك ما لا مؤونة فيه عليك ، من شكاة مظلمة أو طلب إنصاف في معاملة .
* * * الشرح : نهاه عن الاحتجاب فإنه مظنة انطواء الامور عنه ، وإذا رفع الحجاب دخل عليه كل أحد فعرف الاخبار ، ولم يخف عليه شئ من أحوال عمله .
ثم قال : لم تحتجب ، فإن أكثر الناس يحتجبون كيلا يطلب منهم الرفد ! وأنت فإن كنت جوادا سمحا لم يكن لك إلى الحجاب داع ، وإن كنت ممسكا فسيعلم الناس ذلك منك ، فلا يسألك أحد شيئا .
ثم قال : على أن أكثر ما يسأل منك ما لا مؤونة عليه في ماله ، كرد ظلامة أو إنصاف من خصم .
* * * [ ذكر الحجاب وما ورد فيه من الخبر والشعر ] والقول في الحجاب كثير : حضر باب عمر جماعة من الاشراف : منهم سهيل بن عمرو وعيينة بن حصن والاقرع ابن حابس ، فحجبوا ، ثم خرج الاذن فنادى : أين عمار ؟ أين سلمان ؟ أين صهيب ؟(17/91)
فأدخلهم فتمعرت (1) وجوه القوم ، فقال سهيل بن عمرو : لم تتمعر وجوهكم ! دعوا ودعينا فأسرعوا وأبطانأ ، ولئن حسدتموهم على باب عمر اليوم لانتم غدا لهم (2) أحسد .
واستاذن أبو سفيان على عثمان فحجبه ، فقيل له : حجبك ! فقال : لا عدمت من أهلى من إذا شاء حجبني .
وحجب معاوية أبا الدرداء ؟ فقيل لابي الدرداء : حجبك معاوية ! فقال : من يغش أبواب الملوك يهن ويكرم ، ومن صادف بابا مغلقا عليه وجد إلى جانبه بابا مفتوحا ، إن سأل أعطى ، وإن دعا أجيب ، وإن يكن معاوية قد احتجب فرب معاوية لم يحتجب .
وقال أبرويز لحاجبة : لا تضعن شريفا بصعوبة حجاب ، ولا ترفعن وضيعا بسهولته ، ضع الرجال مواضع أخطارهم ، فمن كان قديما شرفه ثم ازدرعه (3) ولم يهدمه بعد آبائه فقدمه على شرفه الاول ، وحسن رأيه الاخر ، ومن كان له شرف متقدم ولم يصن ذلك حياطه له ، ولم يزدرعه تثمير المغارسة ، فألحق بآبائه من رفعة حاله ما يقتضيه سابق شرفهم ، وألحق به في خاصته ما ألحق بنفسه ، ولا تأذن له إلا دبريا وإلا سرارا ، ولا تلحقه بطبقة الاولين .
وإذا ورد كتاب عامل من عمالى فلا تحبسه عنى طرفه عين إلا أن أكون على حال لا تستطيع الوصول إلى فيها ، وإذا أتاك من يدعى النصيحة لنا فلتكتبها سرا ثم أدخله بعد أن تستأذن له ، حتى إذا كان منى بحيث أراه فادفع إلى كتابه ، فان أحمدت قبلت ، وإن كرهت رفضت .
وإن أتاك عالم مشتهر بالعلم والفضل يستأذن ، فأذن له ، فإن العلم شريف وشريف صاحبه ، ولا تحجبن عنى أحدا من أفناء الناس ، إذا أخذت مجلسي مجلس العامة ، فإن الملك لا يحجب إلا عن ثلاث : عى يكره أن يطلع عليه منه ، أو بخل يكره أن يدخل عليه من يسأله ، أو ريبة هو مصر عليها فيشفق من إبدائها ،
__________
(1) تمعرت وجوههم : تغيرت غيظا وحنقآ .
(2) ساقطة من د .
(3) ازدرعه : أثبته (*) .(17/92)
ووقوف الناس عليها ولا بد أن يحيطوا بها علما ، وإن اجتهد في سترها .
وقد أخذ هذا المعنى الاخير محمود الوراق فقال : إذا اعتصم الوالى بإغلاق بابه * * ورد ذوى الحاجات دون حجابه ظننت به إحدى ثلاث وربما * * رجمت بظن واقع بصوابه أقول به مس من العى ظاهر * * ففى إذنه للناس إظهار ما به فإن لم يكن عى اللسان فغالب * * من البخل يحمى ماله عن طلابه وإن لم يكن لاذا ولاذا فريبة * * يكتمها مستورة بثيابه .
أقام عبد العزيز بن زرارة الكلابي على باب معاوية سنة في شملة من صوف لا يأذن له : ثم أذن له وقربه وأدناه ، ولطف محله عنده حتى ولاه مصر ، فكان يقال : استأذن أقوام لعبد العزيز بن زرارة ، ثم صار يستاذن لهم ، وقال في ذلك : دخلت على معاوية بن حرب * * ولكن بعد يأس من دخول وما نلت الدخول عليه حتى * * حللت محلة الرجل الذليل وأغضيت الجفون على قذاها * * ولم أنظر إلى قال وقيل وأدركت الذى أملت منه * * وحرمان المنى زاد العجول ويقال : إنه قال له لما دخل عليه أمير المؤمنين : دخلت إليك بالامل ، واحتملت جفوتك بالصبر ، ورأيت ببابك أقواما قدمهم الحظ وآخرين أخرهم الحرمان ، فليس ينبغى للمقدم أن يأمن عواقب الايام ، ولا للمؤخر أن ييئس من عطف الزمان .
وأول المعرفة الاختبار ، فابل واختبر إن رأيت .
وكان يقال : لم يلزم باب السلطان أحد فصبر على ذل الحجاب ، وكلام البواب ، وألقى الانف ، وحمل الضيم ، وأدام الملازمة إلا وصل إلى حاجته أو إلى معظمها .(17/93)
قال عبد الملك لحاجبه : إنك عين أنظر بها ، وجنة أستلئم بها ، وقد وليتك ما وراء بابى ، فماذا تراك صانعا برعيتي ؟ قال : أنظر إليهم بعينك ، وأحملهم على قدر منازلهم عندك ، وأضعهم في إبطائهم عن بابك ، ولزوم خدمتك مواضع استحقاقهم ، وأرتبهم حيث وضعهم ترتيبك ، وأحسن إبلاغهم عنك وإبلاغك عنهم .
قال : لقد وفيت بما عليك ، ولكن إن صدقت ذلك بفعلك .
وقال دعبل وقد حجب عن باب مالك بن طوق : لعمري لئن حجبتني العبيد * * لما حجبت دونك القافيه (1) سأرمى بها من وارء الحجاب * * شنعاء تأتيك بالداهية تصم السميع ، وتعمى البصير * * ويسأل من مثلها العافية وقال آخر : سأترك هذا الباب ما دام اذنه * * على ما أرى حتى يلين قليلا فما خاب من لم يأته مترفعا * * ولا فاز من قد رام فيه دخولا إذا لم نجد للاذن عندك موضعا * * وجدنا إلى ترك المجئ سبيلا .
وكتب أبو العتاهية إلى أحمد بن يوسف الكاتب وقد حجبه : وإن عدت بعد اليوم إنى لظالم * * سأصرف وجهى حيث تبغى المكارم متى يفلح الغادى إليك لحاجة * * ونصفك محجوب ، نصفك نائم ! يعنى ليله ونهاره .
استاذن رجلان على معاوية ، فأذن لاحدهما - وكان أشرف منزلة من الاخر - ثم أذن للاخر فدخل ، فجلس فوق الاول ، فقال معاوية : إن الله قد ألزمنا تأديبكم
__________
(1) ديوانه 212 ، ونقلها عن ابن أبى الحديد (النجف 1962) (*) .(17/94)
كما ألزمنا رعايتكم ، وإنا لم نأذن له قبلك ، ونحن نريد أن يكون مجلسه دونك ، فقم لا أقام الله لك وزنا .
وقال بشار : تأبى خلائق خالد وفعاله * * إلا تجنب كل أمر عائب وإذا أتينا الباب وقت غدائه * * أدنى الغداء لنا برغم الحاجب .
وقال آخر يهجو : يا أميرا على جريب من الارض * * له تسعة من الحجاب قاعد في الخراب يحجب عنا * * ما سمعنا بحاجب في خراب .
وكتب بعضهم إلى جعفر بن محمد بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب : أبا جعفر إن الولاية أن تكن * * منبلة قوسا فأنت لها نبل فلا ترتفع عنا لامر وليته * * كما لم يصغر عندنا شأنك العزل .
ومن جيد ما مدح به بشر بن مروان قول القائل : بعيد مراد الطرف ما رد طرفه * * حذار الغواشى باب دار ولا ستر ولو شاء بشر كان من دون بابه * * طماطم سود أو صقالبه حمر (1) ولكن بشرا يستر الباب للتى * * يكون لها في غبها الحمد والاجر .
وقال بشار : خليلي من كعب أعينا أخاكما * * على دهره إن الكريم يعين ولا تبخلا بخل ابن قرعة إنه * * مخافة أن يرجى نداه حزين إذا جئته للعرف أغلق بابه * * فلم تلقه إلا وأنت كمين فقل لابي يحيى متى تدرك العلا * * وفى كل معروف عليك يمين !
__________
(1) الطماطم : الاعاجم (*) .(17/95)
وقال إبراهيم بن هرمة : هش إذا نزل الوفود ببابه * * سهل الحجاب مؤدب الخدام (1) وإذا رأيت صديقه وشقيقه * * لم تدر أيهما ذوى الارحام .
وقال آخر : وإنى لاستحيى الكريم إذا أتى * * على طمع عند اللئيم يطالبه وأرثى له من مجلس عند بابه * * كمرثيتى للطرف والعلج راكبه .
وقال عبد الله بن محمد بن عيينة : أتيتك زائرا لقضاء حق * * فحال الستر دونك والحجاب ورأيى مذهب عن كل ناء * * يجانبه إذا عز الذهاب ولست بساقط في قدر قوم * * وإن كرهوا كما يقع الذباب .
وقال آخر : ما ضاقت الارض على راغب * * تطلب الرزق ولا راهب بل ضاقت الارض على شاعر * * أصبح يشكو جفوة الحاجب قد شتم الحاجب في شعره * * وإنما يقصد للصاحب * * * الاصل : ثم إن للوالى خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول ، وقلة إنصاف في معاملة ، فاحسم مئونة أولئك بقطع أسباب تلك الاحوال ، ولا تقطعن لاحد من حاشيتك وحامتك قطيعة ، ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس في
__________
(1) المحاسن والمساوي 1 : 264 (*) .(17/96)
شرب أو عمل مشترك ، يحملون مؤونته على غيرهم ، فيكون مهنا ذلك لهم دونك ، وعيبه عليك في الدنيا والاخرة .
وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد ، وكن في ذلك صابرا محتسبا ، واقعا ذلك من قرابتك وخواصك حيث وقع ، وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه ، فإن مغبة ذلك محمودة .
وإن ظنت الرعية بك حيفا ، فأصحر لهم بعذرك ، واعدل عنك ظنونهم بإصحارك ، فإن في ذلك إعذارا تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق .
* * * الشرح : نهاه عليه السلام عن أن يحمل أقاربه وحاشيته وخواصه على رقاب الناس ، وأن يمكنهم من الاستئثار عليهم والتطاول والاذلال ونهاه من أن يقطع أحدا منهم قطيعة ، أو يملكه ضيعة تضر بمن يجاورها من السادة والدهاقين (1) في شرب يتغلبون على الماء منه ، أو ضياع يضيفونها إلى ما ملكهم إياه ، وإعفاء لهم من مؤنة ، أو حفر وغيره ، فيعفيهم الولاة منه مراقبة لهم ، فيكون مؤنة ذلك الواجب عليهم قد أسقطت عنهم ، وحمل ثقلها على غيرهم .
ثم قال عليه السلام : لان منفعة ذلك في الدنيا تكون لهم دونك ، والوزر في الاخرة عليك ، والعيب والذم في الدنيا أيضا لاحقان بك .
ثم قال له : إن اتهمتك الرعية بحيف عليهم ، أو ظنت بك جورا ، فاذكر لهم عذرك
__________
(1) الدهاقين : جمع دهقان ، وهو من ألقاب الرؤساء في الاعاجم (*) .(17/97)
في ذلك ، وما عندك ظاهرا غير مستور ، فإنه الاولى والاقرب إلى استقامتهم لك على الحق .
وأصحرت بكذا ، أي كشفته ، مأخوذ من الاصحار ، وهو الخروج إلى الصحراء .
وحامة الرجل : أقاربه وبطانته .
واعتقدت عقدة ، أي ادخرت ذخيره .
والمهنأ مصدر هنأه كذا .
ومغبة الشئ عاقبته .
واعدل عنك ظنونهم : نحها .
والاغدار : إقامة العذر .
* * * [ طرف من أخبار عمر بن عبد العزيز ونزاهته في خلافته ] رد عمر بن عبد العزيز المظالم التى احتقبها (1) بنو مروان فأبغضوه وذموه ، وقيل : إنهم سموه فمات .
وروى الزبير بن بكار في " الموفقيات " أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز دخل على أبيه يوما وهو في قائلته ، فأيقظه .
وقال له : ما يؤمنك أن تؤتى في منامك وقد رفعت إليك مظالم لم تقض حق الله فيها ! فقال : يا بنى إن نفسي مطيتي إن لم أرفق بها لم تبلغني ، إنى لو أتعبت نفسي وأعواني لم يكن ذلك إلا قليلا حتى أسقط ويسقطوا ، وإنى لاحتسب في نومتي من الاجر مثل الذى أحتسب في يقظتي ، إن الله جل ثناؤه لو أراد أن ينزل القرآن جملة لانزله ، ولكنه أنزل الاية والايتين حتى استكثر (2) الايمان في قلوبهم .
ثم قال : يا بنى مما أنا فيه أمر هو أهم إلى أهل بيتك ، هم أهل العدة والعدد ، وقبلهم ما قبلهم ، فلو جمعت ذلك في يوم واحد خشيت انتشارهم على ، ولكني أنصف من الرجل
__________
(1) يقال احتقب فلان الاثم ، كأنه جمعه واحتقبه من خلفه .
(2) د : " استكبر " (*) .(17/98)
والاثنين ، فيبلغ ذلك من وراءهما ، فيكون أنجع له ، فإن يرد الله إتمام هذا الامر أتمه ، وإن تكن الاخرى فحسب عبد أن يعلم الله منه أنه يحب أن ينصف جميع رعيته .
وروى جويرية بن أسماء ، عن إسماعيل بن أبى حكيم ، قال : كنا عند عمر بن عبد العزيز ، فلما تفرقنا نادى مناديه : الصلاة جامعة ! فجئت المسجد ، فإذا عمر على المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، فإن هؤلاء - يعنى خلفاء بنى أمية قبله - قد كانوا أعطونا عطايا ما كان ينبغى لنا أن نأخذها منهم ، وما كان ينبغى لهم أن يعطوناها ، وإنى قد رأيت الان أنه ليس على في ذلك دون الله حسيب ، وقد بدأت بنفسى والاقربين من أهل بيتى ، اقرأ يا مزاحم ، فجعل مزاحم يقرأ كتابا فيه الاقطاعات بالضياع والنواحى ، ثم يأخذه عمر بيده فيقصه بالجلم (1) ، لم يزل كذلك حتى نودى بالظهر .
وروى الفرات بن السائب ، قال : كان عند فاطمة بنت عبد الملك بن مروان جوهر جليل ، وهبها أبوها ، ولم يكن لاحد مثله ، وكانت تحت عمر بن عبد العزيز ، فلما ولى الخلافه قال لها : اختاري ، إما أن تردى جوهرك وحليك إلى بيت مال المسلمين ، وإما أن تأذني لى في فراقك ، فإنى أكره أن أجتمع أنا وأنت وهو في بيت واحد .
فقالت بل أختارك عليه وعلى أضعافه لو كان لى ، وأمرت به فحمل إلى بيت المال فلما ، هلك عمر واستخلف يزيد ابن عبد الملك قال لفاطمة أخته : إن شئت رددته عليك ، قالت : فإنى لا أشاء ذلك ، طبت عنه نفسا في حياة عمر ، وأرجع فيه بعد موته ! لا والله أبدا .
فلما رأى يزيد ذلك قسمه بين ولده وأهله .
وروى سهيل بن يحيى المروزى عن أبيه عن عبد العزيز ، عن عمر بن عبد العزيز ، قال : لما دفن سليمان صعد عمر على المنبر فقال : إنى قد خلعت ما في رقبتي من بيعتكم .
فصاح الناس صيحة واحدة قد اخترناك ، فنزل ودخل وأمر بالستور فهتكت ،
__________
(1) الجلم : المقص (*) .(17/99)
والثياب التى كانت تبسط للخلفاء فحملت إلى بيت المال ، ثم خرج ونادى مناديه : من كانت له مظلمة من بعيد أو قريب من أمير المؤمنين فليحضر فقام ، رجل ذمى من أهل حمص أبيض الرأس واللحية ، فقال : أسألك كتاب ! الله قال : ما شأنك ؟ قال : العباس بن الوليد ابن عبد الملك اغتصبني ضيعتي - والعباس جالس - فقال عمر : ما تقول يا عباس ؟ قال : أقطعنيها أمير المؤمنين الوليد ، وكتب لى بها سجلا .
فقال عمر : ما تقول أنت أيها الذمي ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، أسألك كتاب الله ! فقال عمر : إيها لعمري إن كتاب الله لاحق أن يتبع من كتاب الوليد ، اردد عليه يا عباس ضيعته ، فجعل لا يدع شيئا مما كان في أيدى أهل بيته من المظالم إلا ردها مظلمة مظلمة .
وروى ميمون بن مهران ، قال : بعث إلى عمر بن عبد العزيز وإلى مكحول وأبى قلابة فقال : ما ترون في هذه الاموال التى أخذها أهلى من الناس ظلما ؟ فقال مكحول قولا ضعيفا كرهه عمر ، فقال : أرى أن تستأنف وتدع ما مضى ، فنظر إلى عمر كالمستغيث بى ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، أحضر ولدك عبد الملك لننظر ما يقول ، فحضر ، فقال : ما تقول يا عبد الملك ؟ فقال : ماذا أقول ؟ ألست تعرف مواضعها ! قال : بلى والله ، قال : فارددها ، فإن لم تفعل كنت شريكا لمن أخذها .
وروى ابن درستويه ، عن يعقوب بن سفيان ، عن جويرية بن أسماء ، قال : كان بيد عمر بن عبد العزيز قبل الخلافة ضيعته المعروفة بالسهلة ، وكانت باليمامة .
وكانت أمرا عظيما لها غلة عظيمة كثيرة ، إنما عيشه وعيش أهله منها ، فلما ولى الخلافة قال لمزاحم مولاه - وكان فاضلا - : إنى قد عزمت أن أرد السهلة إلى بيت مال المسلمين ، فقال مزاحم : أتدرى كم ولدك ؟ إنهم كذا وكذا قال فذرفت عيناه ، فجعل يستدمع ويمسح الدمعة بأصبعه الوسطى ، ويقول أكلهم إلى الله أكلهم إلى الله ! فمضى مزاحم فدخل على عبد الملك ابن عمر ، فقال له : ألا تعلم ما قد عزم عليه أبوك ! إنه يريد أن يرد السهلة ، قال : فما قلت(17/100)
له ؟ قال : ذكرت له ولده فجعل يستدمع ويقول : أكلهم إلى الله .
فقال عبد الملك : بئس وزير الدين أنت ! ثم وثب و انطلق إلى أبيه فقال للاذن : استأذن لى عليه ، فقال : إنه قد وضع رأسه الساعة للقائلة ، فقال : استأذن لى عليه ، فقال : أما ترحمونه ! ليس له من الليل والنهار إلا هذه الساعة .
قال : استأذن لى عليه لا أم لك ! فسمع عمر كلامهما ، فقال : ائذن لعبد الملك ، فدخل فقال : على ما ذا عزمت ؟ قال : أرد السهلة قال : فلا تؤخر ذلك قم الان .
قال : فجعل عمر يرفع يديه ويقول : الحمد لله الذى جعل لى من ذريتي من يعيننى على أمر دينى .
قال : نعم يا بنى أصلى الظهر ، ثم أصعد المنبر فأردها علانية على رءوس الناس ، قال : ومن لك أن تعيش إلى الظهر ! ثم من لك أن تسلم نيتك إلى الظهر إن عشت إليها ! فقام عمر فصعد المنبر ، فخطب الناس ورد السهلة .
* * * قال : وكتب عمر بن الوليد بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز لما أخذ بنى مروان برد المظالم كتابا أغلظ له فيه ، من جملته : إنك أزريت على كل من كان قبلك من الخلفاء وعبتهم ، وسرت بغير سيرتهم بغضا لهم وشنآنا لمن بعدهم من أولادهم ، وقطعت ما أمر الله به أن يوصل ، وعمدت إلى أموال قريش ومواريثهم فأدخلتها بيت المال جورا وعدوانا ، فاتق الله يا بن عبد العزيز وراقبه ، فإنك خصصت أهل بيتك بالظلم والجور .
وو الذى خص محمد صلى الله عليه وآله بما خصه به لقد ازددت من الله بعدا بولايتك هذه التى زعمت أنها عليك بلاء .
فأقصر عن بعض ما صنعت وأعلم أنك بعين جبار عزيز وفى قبضته ، ولن يتركك على ما أنت عليه .
قالوا : فكتب عمر جوابه : أما بعد ، فقد قرأت كتابك ، وسوف أجيبك بنحو منه ، أما أول أمرك يابن الوليد فإن أمك نباتة أمة السكون ، كانت تطوف في أسواق حمص ، وتدخل حوانيتها ، ثم الله أعلم بها اشتراها ذبيان بن ذبيان من فئ المسلمين ، فأهداها(17/101)
لابيك فحملت بك ، فبئس الحامل وبئس المحمول ! ثم نشأت فكنت جبارا عنيدا .
وتزعم أنى من الظالمين لانى حرمتك وأهل بيتك فئ الله الذى هو حق القرابة والمساكين والارامل ! وإن أظلم منى وأترك لعهد الله من استعملك صبيا سفيها على جند المسلمين تحكم فيهم برأيك ، ولم يكن له في ذاك نية إلا حب الوالد ولده ، فويل لك وويل لابيك ! ما أكثر خصماء كما يوم القيامة ! وإن أظلم منى وأترك لعهد الله من استعمل الحجاج بن يوسف على خمسى العرب ، يسفك الدم الحرام ، ويأخذ المال الحرام .
وإن أظلم منى وأترك لعهد الله من استعمل قرة بن شريك ، أعرابيا جافيا على مصر ، وأذن له في المعازف والخمر والشرب واللهو .
وإن أظلم منى وأترك لعهد الله من استعمل عثمان بن حيان على الحجاز ، فينشد الاشعار على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله ومن جعل للعالية البربرية سهما في الخمس ، فرويدا يابن نباتة ، ولو التقت حلقتا البطان (1) ورد الفئ الى أهله ، لتفرغت لك ولاهل بيتك فوضعتكم على المحجه البيضاء ، فطالما تركتم الحق ، وأخذتم في بنيات الطريق ! ومن وراء هذا من الفضل ما أرجو أن أعمله ، بيع رقبتك ، وقسم ثمنك بين الارامل واليتامى والمساكين ، فإن لكل فيك حقا ، والسلام علينا ، ولا ينال سلام الله الظالمين .
وروى الاوزاعي قال : لما قطع عمر بن عبد العزيز عن أهل بيته ما كان من قبله يجرونه عليهم من أرزاق الخاصة ، فتكلم في ذلك عنبسة بن سعيد ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن لنا قرابة فقال : مالى إن يتسع لكم ، وأما هذا المال فحقكم فيه كحق رجل بأقصى برك الغماد (2) ، ولا يمنعه من أخذه إلا بعد مكانه .
والله إنى لارى أن الامور
__________
(1) التقت حلقتا البطان : مثل يضرب للامر العظيم .
(2) برك الغماد : موضع بين مكة وزبيد (*) .(17/102)
لو استحالت حتى يصبح أهل الارض يرون مثل رأيكم لنزلت بهم بائقة من عذاب الله .
وروى الأوزاعي أيضا ، قال : قال عمر بن عبد العزيز يوما وقد بلغه عن بنى أمية كلام أغضبه : إن لله في بنى أمية يوما - أو قال : ذبحا - وايم الله لئن كان ذلك الذبح - أو قال ذلك اليوم - على يدى لاعذرن الله فيهم .
قال : فلما بلغهم ذلك كفوا ، وكانوا يعلمون صرامته ، وإنه إذا وقع في أمر مضى فيه .
وروى إسماعيل بن أبى حكيم ، قال : قال عمر بن عبد العزيز يوما لحاجبه : لا تدخلن على اليوم إلا مروانيا .
فلما اجتمعوا قال : يا بنى مروان ، إنكم قد أعطيتم حظا وشرفا وأموالا ، إنى لاحسب شطر أموال هذه الامة أو ثلثيها في أيديكم ، فسكتوا ، فقال : ألا تجيبوني ؟ فقال رجل منهم : فما بالك ؟ قال : إنى أريد أن أنتزعها منكم ، فأردها إلى بيت مال المسلمين .
فقال رجل منهم : والله لا يكون ذلك حتى يحال بين رؤوسنا وأجسادنا ، والله لا نكفر أسلافنا ، ولا نفقر (1) أولادنا ، فقال عمر : والله لو لا أن تستعينوا على بمن أطلب هذا الحق له لاضرعت خدودكم ! قوموا عنى .
وروى مالك بن أنس قال : ذكر عمر بن عبد العزيز من كان قبله من المروانية فعابهم ، وعنده هشام بن عبد الملك ، فقال يا أمير المؤمنين ، إنا والله نكره أن تعيب آباءنا ، وتضع شرفنا ، فقال عمر : وأى عيب أعيب مما عا به القرآن ! وروى نوفل بن الفرات ، قال : شكا بنو مروان إلى عاتكة بنت مروان بن الحكم عمر ، فقالوا : إنه يعيب أسلافنا ، ويأخذ أموالنا .
فذكرت ذلك له - وكانت عظيمة عند بنى مروان - فقال لها : يا عمة ، إن رسول الله صلى الله عليه وآله قبض وترك
__________
(1) ب : " ونقعر " (*) .(17/103)
الناس على نهر مورود ، فولى ذلك النهر بعده رجلان لم يستخصا أنفسهما وأهلهما منه بشئ ثم وليه ثالث فكرى منه ساقية ، ثم لم تزل الناس يكرون منه السواقى حتى تركوه يابسا لا قطرة فيه ، وايم الله لئن أبقاني الله لاسكرن (1) تلك السواقى حتى أعيد النهر إلى مجراه الاول ، قالت فلا يسبون إذا عندك ! قال : ومن يسبهم ! إنما يرفع الرجل مظلمته فأردها عليه .
وروى عبد الله بن محمد التيمى ، قال : كان بنو أميه ينزلون عاتكة بنت مروان بن الحكم على أبواب قصورهم ، وكانت جليلة الموضع عندهم ، فلما ولى عمر قال : لا يلى إنزالها أحد غيرى ، فأدخلوها على دابتها إلى باب قبتة فأنزلها ، ثم طبق لها وسادتين ، إحداهما على الاخرى ، ثم أنشا يمازحها - ولم يكن من شأنه ولا من شأنها المزاح - فقال : أما رايت الحرس الذين على الباب ؟ فقالت : بلى ، وربما رأيتهم عند من هو خير منك ! فلما راى الغضب لا يتحلل عنها ترك المزاح وسألها أن تذكر حاجتها ، فقالت إن قرابتك يشكونك ، ويزعمون أنك أخذت منهم خير غيرك ، قال : ما منعتهم شيئا هو لهم ، ولا أخذت منهم حقا يستحقونه قالت : إنى أخاف أن يهيجوا عليك يوما عصيبا (2) ، وقال : كل يوم أخافه - دون يوم القيامة - فلا وقانى الله شره .
ثم دعا بدينار ومجمره وجلد فألقى الدينار في النار ، وجعل ينفخ حتى أحمر ، ثم تناوله بشئ فأخرجه فوضعه على الجلد ، فنش وفتر ، فقال : يا عمة ، أما تأوين لابن أخيك ، من مثل هذا فقامت فخرجت إلى بنى مروان فقالت : تزوجون في آل عمر بن الخطاب ، فإذا نزعوا إلى الشبه (3) جزعتم ! اصبروا له .
وروى وهيب بن الورد ، قال اجتمع بنو مروان على باب عمر بن عبد العزيز ، فقالوا لولد له : قل لابيك يأذن لنا ، فإن لم يأذن فأبلغ إليه عنا وسالة ، فلم يأذن لهم ، وقال :
__________
(1) سكر الساقية : سدها .
(2) د : " أن يهيجوا عليك غضبا يوما " .
(3) كذا في د ، وفى ا ، ب " السنة " (*) .(17/104)
فليقولوا فقالوا : قل له : إن من كان قبلك من الخلفاء كان يعطينا ، ويعرف لنا مواضعنا ، وإن أباك قد حرمنا ما في يديه .
فدخل إلى أبيه فأبلغه عنهم ، فقال : اخرج فقل لهم : إنى أخلف أن عصيت ربى عذاب يوم عظيم .
وروى سعيد بن عمار ، عن أسماء بنت عبيد ، قال : دخل عنبسة بن سعيد بن العاص على عمر بن عبد العزيز ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أن من كان قبلك من الخلفاء كانوا يعطوننا عطايا منعتناها ، ولى عيال وضيعة ، فأذن لى أخرج إلى ضيعتي ، وما يصلح عيالي ! فقال عمر : إن أحبكم إلينا من كفانا مؤونته .
فخرج عنبسة ، فلما صار إلى الباب ناداه : أبا خالد ! أبا خالد ! فرجع فقال : أكثر ذكر الموت فإن كنت في ضيق من العيش وسعه عليك ، وإن كنت في سعة من العيش ضيقه عليك .
وروى عمر بن على بن مقدم ، قال : قال ابن صغير لسليمان بن عبد الملك لمزاحم : إن لى حاجة إلى أمير المؤمنين عمر ، قال : فاستأذنت له ، فأدخله فقال : يا أمير المؤمنين ، لم أخذت قطيعتي ؟ قال : معاذ الله أن آخذ قطيعة ثبتت في الاسلام ! قال : فهذا كتابي بها - وأخرج كتابا من كمه - فقرأه عمر وقال : لمن كانت هذه الارض ؟ قال كانت للمسلمين ، قال : فالمسلمون أولى بها ، قال : فاردد على كتابي ، قال : إنك لو لم تأتني به لم أسألكه ، فأما إذ جئتني به فلست أدعك تطلب به ما ليس لك بحق .
فبكى ابن سليمان فقال ، مزاحم : يا أمير المؤمنين ، ابن سليمان تصنع به هذا - قال : وذلك لان سليمان عهد إلى عمر ، وقدمه على إخوته - فقال عمر : ويحك يا مزاحم ! إنى لاجد له من اللوط (1) ما أجد لولدي ، ولكنها نفسي أجادل عنها .
وروى الاوزاعي ، قال : قال هشام بن عبد الملك ، وسعيد بن خالد بن عمر بن عثمان
__________
(1) في اللسان : " ق لاط حبه بقلبي ، أي لصق ، وفى حديث أبى البخترى : ما أزعم أن عليا أفضل من أبى بكر وعمر ، ولكن أجد له من اللوط ما لا أجد لاحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم " (*) .(17/105)
ابن عفان لعمر بن عبد العزيز : يا أمير المؤمنين ، استأنف العمل برأيك فيما تحت يدك ، وخل بين من سبقك وبين ما ولوه عليهم كان ، أو لهم فإنك مستكف أن تدخل في خير ذلك وشره .
قال : أنشدكما الله الذى إليه تعودان ، لو أن رجلا هلك وترك بنين أصاغر وأكابر ، فغر الاكابر الاصاغر بقوتهم ، فاكلوا أموالهم ، ثم بلغ الاصاغر الحلم فجاءوكما بهم وبما صنعوا في أموالهم ما كنتما صانعين ؟ قالا : كنا نرد عليهم حقوقهم حتى يستوفوها .
قال : فإنى وجدت كثيرا ممن كان قبلى من الولاة غر الناس بسلطانه وقوته ، وآثر بأموالهم أتباعه وأهله ورهطه وخاصته ، فلما وليت أتونى بذلك ، فلم يسعنى إلا الرد على الضعيف من القوى ، وعلى الدنئ من الشريف .
فقالا : يوفق الله أمير المؤمنين .
* * * الاصل : ولا تدفعن صلحا دعاك إليه عدوك لله فيه رضا ، فإن في الصلح دعة لجنودك وراحة من همومك ، وأمنا لبلادك ، ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه ، فإن العدو ربما قارب ليتغفل ، فخذ بالحزم ، واتهم في ذلك حسن الظن وإن عقدت بينك وبين عدو لك عقدة ، أو ألبسته منك ذمة ، فحط عهدك بالوفاء ، وارع ذمتك بالامانة .
واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت فإنه ليس من فرائض الله شئ الناس أشد عليه اجتماعا مع تفرق أهوائهم ، وتشتت آرائهم ، من تعظيم الوفاء بالعهود وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين ، لما استوبلوا من عواقب الغدر .
فلا تغدرن بذمتك ، ولا تخيسن بعهدك ، ولا تختلن عدوك ، فإنه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقى وقد جعل الله عهده وذمته أمنا أفضاه بين العباد برحمته ،(17/106)
وحريما يسكنون إلى منعته ، ويستفيضون إلى جواره ، فلا إدغال ولا مدالسة ولا خداع فيه .
ولا تعقده عقدا تجوز فيه العلل ، ولا تعولن على لحن القول بعد التأكيد والتوثقة ولا يدعونك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله إلى طلب - داد انفساخه بغير الحق ، فإن صبرك على ضيق أمر ترجو انفراجه وفضل عاقبته ، خير من غدر تخاف تبعته ، وأن تحيط بك من الله طلبة لا تستقيل فيها دنياك ولا آخرتك .
* * * الشرح : أمره أن يقبل السلم والصلح إذا دعى إليه ، لما فيه من دعة الجنود ، والراحة من الهم ، والامن للبلاد ، ولكن ينبغى أن يحذر بعد الصلح من غائلة العدو وكيده ، فإنه ربما قارب بالصلح ليتغفل ، أي يطلب غفلتك ، فخذ بالحزم ، واتهم حسن ظنك ، لا تثق ولا تسكن إلى حسن ظنك بالعدو ، وكن كالطائر الحذر .
ثم أمره بالوفاء بالعهود ، قال : واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت ، أي ولو ذهبت نفسك فلا تغدر .
وقال الراوندي : الناس مبتدأ وأشد مبتدأ ثان ، ومن تعظيم الوفاء خبره ، وهذا المبتدأ الثاني مع خبره خبر المبتدأ الاول ، ومحل الجملة نصب لانها خبر ليس ، ومحل ليس مع اسمه وخبره رفع ، لانه خبر ، فإنه وشئ اسم ليس ، ومن فرائض الله حال ، ولو تأخر لكان صفة لشئ .
والصواب أن " شئ " اسم ليس ، وجاز ذلك وإن كان نكرة لاعتماده على النفى ، ولان الجار والمجرور قبله في موضع الحال كالصفة ، فتخصص بذلك وقرب من المعرفة ، والناس : مبتدأ ، وأشد : خبره ، وهذه الجملة المركبة من مبتدأ(17/107)
وخبر في موضع رفع لانها صفه " شئ " وأما خبر المبتدأ الذى هو " شئ " فمحذوف ، وتقديره " في الوجود " كما حذف الخبر في قولنا : لا إله إلا الله ، أي في الوجود .
وليس يصح ما قال الراوندي من أن " أشد " مبتدأ ثان ، و " من تعظيم الوفاء " خبره ، لان حرف الجر إذا كان خبرا لمبتدأ تعلق بمحذوف ، وهاهنا هو متعلق بأشد نفسه ، فكيف يكون خبرا عنه ! وأيضا فإنه لا يجوز أن يكون أشد من تعظيم الوفاء خبرا عن الناس ، كما زعم الراوندي ، لان ذلك كلام غير مفيد ، ألا ترى أنك إذا أردت أن تخبر بهذا الكلام عن المبتدأ الذى هو " الناس " لم يقم من ذلك صورة محصلة تفيدك شيئا ، بل يكون كلاما مضطربا ! ويمكن أيضا أن يكون " من فرائض الله " في موضع رفع ، لانه خبر المبتدأ ، وقد قدم عليه ، ويكون موضع " الناس " وما بعده رفع ، لانه خبر المبتدأ الذى هو " شئ " كما قلناه أولا ، وليس يمتنع أيضا أن يكون : " من فرائض الله " منصوب الموضع ، لانه حال ، ويكون موضع " الناس أشد " رفعا ، لانه خبر المبتدأ ، الذى هو " شئ " .
ثم قال له عليه السلام : وقد لزم المشركون مع شركهم الوفاء بالعهود ، وصار ذلك لهم شريعة وبينهم سنة ، فالاسلام أولى باللزوم والوفاء .
واستوبلوا : وجدوه وبيلا ، أي ثقيلا ، استوبلت البلد ، أي استوخمته واستثقلته ، ولم يوافق مزاجك .
ولا تخيسن بعهدك ، أي لا تغدرن ، خاس فلان بذمته ، أي غدر ونكث .
قوله : " ولا تختلن عدوك " ، أي لا تمكرن به ، ختلته ، أي خدعته .
وقوله : " أفضاه بين عباده " ، جعله مشتركا بينهم ، لا يختص به فريق دون فريق .(17/108)
قال : " ويستفيضون إلى جواره " ، أي ينتشرون في طلب حاجاتهم ومآربهم ، ساكنين إلى جواره ، فإلى هاهنا متعلقة بمحذوف مقدر ، كقوله تعالى : (في تسع آيات إلى فرعون) (1) ، أي مرسلا .
قال : " فلا إدغال " ، أي لا إفساد ، والدغل : الفساد .
ولا مدالسة أي لا خديعه ، يقال ، فلان لا يوالس ولا يدالس ، أي لا يخادع ولا يخون ، وأصل الدلس الظلمة والتدليس في البيع : كتمان عيب السلعة عن المشترى .
ثم نهاه عن أن يعقد عقدا يمكن فيه التأويلات والعلل وطلب المخارج .
ونهاه إذا عقد العقد بينه وبين العدو أن ينقضه معولا على تأويل خفى أو فحوى قول ، أو يقول : إنما عنيت كذا ، ولم أعن ظاهر اللفظة ، فإن العقود إنما تعقد على ما هو ظاهر في الاستعمال متداول في الاصطلاح والعرف لا على ما في الباطن .
وروى " انفساحه " بالحاء المهملة ، أي سعته .
* * * [ فصل فيما جاء في الحذر من كيد العدو ] قد جاء في الحذر من كيد العدو والنهى عن التفريط في الرأى السكون إلى ظاهر السلم أشياء كثيرة ، وكذا في النهى عن الغدر والنهى عن طلب تأويلات العهود وفسخها بغير الحق .
فرط عبد الله بن طاهر في أيام أبيه في أمر أشرف فيه على العطب ، ونجا بعد لاى (2) فكتب إليه أبوه : أتانى يا بنى من خبر تفريطك ما كان أكبر عندي من نعيك لو ورد ، لانى لم أرج قط ألا تموت وقد كنت أرجو ألا تفتضح بترك الحزم والتيقظ .
وروى ابن الكلبى أن قيس بن زهير لما قتل حذيفة بن بدر ومن معه بجفر الهباءه
__________
(1) سورة النمل 12 .
(2) بعد لاى بعد جهد (*) .(17/109)
خرج حتى لحق بالنمر بن قاسط وقال : لا تنظر في وجهى غطفانية بعد اليوم ، فقال يا : معاشر النمر ، أنا قيس بن زهير ، غريب حريب طريد شريد موتور ، فانظروا لى امرأة قد أدبها الغنى وأذلها الفقر .
فزوجوه بامرأة منهم ، فقال لهم : إنى لا أقيم فيكم حتى أخبركم بأخلاقى ، أنا فخور غيور أنف ، ولست أفخر حتى أبتلى ، ولا أغار حتى أرى ، ولا آنف حتى أظلم .
فرضوا أخلاقه ، فأقام فيهم حتى ولد له ، ثم أراد أن يتحول عنهم ، فقال : يا معشر النمر ، إن لكم حقا على في مصاهرتي فيكم ، ومقامى بين أظهركم ، وإن موصيكم بخصال آمركم بها ، وأنهاكم عن خصال : عليكم بالاناة فإن بها تدرك الحاجة ، وتنال الفرصة ، وتسويد من لا تعابون بتسويده ، والوفاء بالعهود فإن به يعيش الناس ، وإعطاء ما تريدون إعطاه قبل المسألة ، ومنع ما تريدون منعه قبل الانعام ، وإجارة الجار على الدهر ، وتنفيس البيوت عن منازل الايامى ، وخلط الضيف بالعيال .
وأنهاكم عن الغدر ، فإنه عار ، الدهر وعن الرهان فإن به ثكلت مالكا أخى ، وعن البغى فإن به صرع زهير أبى ، وعن السرف في الدماء ، فإن قتلى أهل البهاءة أورثني العار .
ولا تعطوا في الفضول فتعجزوا عن الحقوق ، وأنكحوا الايامى الاكفاء فإن لم تصيبوا بهن الاكفاء فخير بيوتهن القبور .
واعلموا أنى أصبحت ظالما ومظلوما ، ظلمنى بنو بدر بقتلهم مالكا ، وظلمتهم بقتلى من لا ذنب له .
ثم رحل عنهم إلى غمار (1) فتنصر بها ، وعف عن المآكل حتى أكل الحنظل إلى أن مات .
* * * الاصل : إياك والدماء وسفكها بغير حلها ، فإنه ليس شئ أدعى لنقمة ، ولا أعظم
__________
(1) غمار : اسم واد بنجد (*) .(17/110)
لتبعة ، ولا احرى بزوال نعمة ، وانقطاع مدة ، من سفك الدماء بغير حقها ، والله سبحانه مبتدى بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة ، فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام ، فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه ، بل يزيله وينقله .
ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد ، لان فيه قود البدن ، وإن ابتليت بخطأ ، وأفرط عليك سوطك أو يدك بالعقوبة ، فإن في الوكزة فما فوقها مقتلة ، فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن أن تؤدى إلى اولياء المقتول حقهم .
* * * الشرح : قد ذكرنا في وصية قيس بن زهير آنفا النهى عن الاسراف في الدماء ، وتلك وصية مبنيه على شريعة الجاهلية مع حميتها وتهالكها على القتل والقتال ، ووصية أمير المؤمنين عليه السلام مبنية على الشريعة الاسلامية ، والنهى عن القتل والعدوان الذى لا يسيغه الدين ، وقد ورد في الخبر المرفوع : " إن أول ما يقضى الله به يوم القيامة بين العباد أمر الدماء " .
قال : إنه ليس شئ أدعى إلى حلول النقم ، وزوال النعم ، وانتقال الدول ، من سفك الدم الحرام ، وإنك إن ظننت أنك تقوى سلطانك بذلك ، فليس الامر كما ظننت ، بل تضعفه ، بل تعدمه بالكليه .
ثم عرفه أن قتل العمد يوجب القود وقال له : " قود البدن " أي يجب عليك هدم صورتك كما هدمت صورة المقتول ، والمراد إرهابه بهذه اللفظة أنها أبلغ من أن يقول له : " فإن فيه القود .
ثم قال : إن قتلت خطا أو شبه عمد كالضرب بالسوط فعليك الدية .
وقد اختلف(17/111)
الفقهاء في هذه المسألة ، فقال أبو حنيفة وأصحابه : القتل على خمسة أوجه عمد : وشبه عمد ، وخطأ ، وما أجرى مجرى الخطأ وقتل بسبب .
فالعمد : ما تعمد به ضرب الانسان بسلاح ، أو ما يجرى مجرى السلاح ، كالمحدد من الخشب وليطة (1) القصب ، والمروة (2) المحددة ، والنار ، وموجب ذلك المأثم والقود إلا أن يعفو الاولياء ، ولا كفارة فيه .
وشبه العمد أن يتعمد الضرب بما ليس بسلاح ، ولا أجرى مجرى السلاح ، كالحجر العظيم ، والخشية العظيمة ، وموجب ذلك المأثم والكفارة ، ولا قود فيه ، وفيه الدية مغلظه على العاقلة .
والخطأ على وجهين : خطأ في القصد ، وهو أن يرمى شخصا يظنه صيدا ، فإذا هو آدمى .
وخطأ في الفعل ، وهو أن يرمى غرضا فيصيب آدميا ، وموجب النوعين جميعا الكفارة والدية على العاقلة ، ولا مأثم فيه .
وما أجرى مجرى الخطأ مثل النائم يتقلب على رجل فيقتله ، فحكمه حكم الخطأ .
وأما القتل بسبب ، فحافر البئر وواضع الحجر في غير ملكه ، وموجبه إذا تلف فيه إنسان الديه على العاقلة ، ولا كفارة فيه .
فهذا قول أبى حنيفة ومن تابعه ، وقد خالفه صاحباه أبو يوسف ومحمد في شبه العمد ، وقالا : إذا ضربه بحجر عظيم أو خشبة غليظة فهو عمد ، قال : وشبه العمد أن يتعمد ضربه بما لا يقتل به غالبا ، كالعصا الصغيرة والسوط ، وبهذا القول قال الشافعي .
وكلام أمير المؤمنين عليه السلام يدل على أن المؤدب من الولاة إذا تلف تحت
__________
(1) الليط : قشر القصب اللازق به .
(2) المروة : حجر أبيض ، وفى الحديث : " قال له عدى بن حاتم : إذا أصاب أحدنا صيدنا وليس معه سكين ، أيذع بالمروة وشقة العصا " ؟ (*) .(17/112)
يده إنسان في التأديب فعليه الدية وقال لى قوم من فقهاء الامامية : إن مذهبنا أن لا دية عليه ، وهو خلاف ما يقتضيه كلام أمير المؤمنين عليه السلام * * * الاصل : وإياك والاعجاب بنفسك ، والثقة بما يعجبك منها ، وحب الاطراء فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ، ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين .
وإياك والمن على رعيتك بإحسانك ، أو التزيد فيما كان من فعلك ، أو أن تعدهم ، فتتبع موعدك بخلفك ، فإن المن يبطل الاحسان ، والتزيد يذهب بنور الحق ، والخلف يوجب المقت عند الله والناس ، قال الله سبحانه وتعالى : (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) (1) .
وإياك والعجلة بالامور قبل أوانها .
أو التساقط فيها عند إمكانها ، أو اللجاجة فيها إذا تنكرت ، أو الوهن عنها إذا استوضحت ، فضع كل أمر موضعه ، وأوقع كل عمل موقعه .
واياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة ، والتغابى عما تعنى به مما قد وضح للعيون ، فإنه مأخوذ منك لغيرك ، وعما قليل تنكشف عنك أغطيه الامور ، وينتصف منك للمظلوم .
املك حمية أنفك ، وسورة حدك ، وسطوة يدك ، وغرب لسانك ، واحترس من كل ذلك بكف البادرة ، وتأخير السطوة ، حتى يسكن غضبك ، فتملك الاختيار .
ولن تحكم ذلك من نفسك حتى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربك .
__________
(1) سورة الصف 3 (*) .(17/113)
والواجب عليك أن تتذكر ما مضى لمن تقدمك ، من حكومة عادلة ، أو سنة فاضلة ، أو أثر عن نبينا صلى الله عليه وآله ، أو فريضة في كتاب الله فتقتدى بما شاهدت مما عملنا به فيها ، وتجتهد لنفسك في اتباع ما عهدت إليك في عهدي هذا ، واستوثقت به من الحجة لنفسي عليك ، لكيلا تكون لك علة عند تسرع نفسك إلى هواها .
* * * الشرح : قد اشتمل هذا الفصل على وصايا نحن شارحوها منها قوله عليه السلام : " إياك وما يعجبك من نفسك والثقة بما يعجبك منها " قد ورد في الخبر : ثلاث مهلكات : شح مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه " وفى الخبر أيضا : لا وحشة أشد من العجب " وفي الخبر : الناس لادم ، وآدم من تراب ، فما لابن آدم والفخر والعجب ! " .
وفي الخبر : " الجار ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة " وفى الخبر - وقد رأى أبا دجانة يتبختر : " إنها لمشية يبغضها الله إلا بين الصفين " .
ومنها قوله : " وحب الاطراء " ناظر المأمون محمد بن القاسم النوشجانى المتكلم ، فجعل يصدقه ويطريه ويستحسن قوله ، فقال المأمون : يا محمد ، أراك تنقاد إلى ما تظن أنه يسرنى قبل وجوب الحجة لى عليك ، وتطريني بما لست أحب أن عليه السلام أطرى به ، وتستخذى لى في المقام الذى ينبغى أن تكون فيه مقاوما لى ، ومحتجا على ، ولو شئت أن أقسر الامور بفضل بيان ، وطول لسان ، وأغتصب الحجه بقوة الخلافة ، وأبهة الرياسة لصدقت وإن كنت كاذبا ، وعدلت وإن كنت جائرا ، وصوبت وإن كنت مخطئا ،(17/114)
لكنى لا أرضى إلا بغلبة الحجة ، ودفع الشبهة ، وإن أنقص الملوك عقلا ، وأسخفهم رأيا ، ، من رضى بقولهم : صدق الامير .
وأثنى رجل على رجل ، فقال : الحمد لله الذى سترني عنك وكان بعض الصالحين يقول أذا اطراه انسان ليسالك الله عن حسن ظنك .
ومنها قوله : " وإياك والمن " ، قال الله تعالى : (يأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى) (2) .
وكان يقال : المن محبة للنفس ، مفسده للصنع .
ومنها نهيه إياه عن التزيد في فعله ، قال عليه السلام : إنه يذهب بنور الحق ، وذلك لانه محض الكذب ، مثل أن يسدى ثلاثه أجزاء من الجميل فيدعى في المجالس والمحافل أنه أسدى عشرة ، وإذا خالط الحق الكذب أذهب نوره .
ومنها نهيه إياه عن خلف الوعد ، قد مدح الله نبيا من الانبياء وهو إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام بصدق الوعد .
وكان يقال وعد الكريم نقد وتعجيل ، ووعد اللئيم مطل وتعطيل ، وكتب بعض الكتاب : وحق لمن أزهر بقول ، أن يثمر بفعل .
وقال أبو مقاتل الضرير : قلت لاعرابي : قد أكثر الناس في المواعيد ، فما قولك فيها ؟ فقال : بئس الشئ ! الوعد مشغلة للقلب الفارغ ، متعبة للبدن الخافض ، خيره غائب ، وشره حاضر .
وفى الحديث المرفوع : " عدة المؤمن كأخذ باليد " ، فإما امير المؤمنين عليه السلام فقال : " إنه يوجب المقت " ، واستشهد عليه بالاية والمقت : البغض .
ومنها نهيه عن العجلة ، وكان يقال : أصاب متثبت أو كاد ، وأخطأ عجل أو كاد .
وفي المثل : " رب عجلة تهب ريثا " ، وذمها الله تعالى فقال : (خلق الانسان من عجل) (3) .
__________
(1) في د : لاساءك .
(2) سورة البقرة 264 .
(3) سورة الانبياء 37 (*) .(17/115)
ومنها نهيه عن التساقط في الشئ الممكن عند حضوره وهذا عبارة عن النهى عن الحرص والجشع ، قال الشنفرى : وإن مدت الايدى إلى الزاد لم أكن * * بأعجلهم إذا أجشع القوم أعجل ومنها نهيه عن اللجاجة في الحاجة إذا تعذرت ، كان يقال : من لاج الله فقد جعله خصما ، وكان الله خصمه فهو مخصوم ، قال الغزى : دعها سماوية تجرى على قدر * * لا تفسدنها برأى منك معكوس ومنها نهيه له عن الوهن فيها إذا استوضحت ، أي وضحت وانكشفت ، ويروى : " واستوضحت " فعل ما لم يسم فاعله ، والوهن فيها إهمالها وترك انتهاز الفرصة فيها ، قال الشاعر : فإذا أمكنت فبادر إليها * * حذرا من تعذر الامكان .
ومنها نهيه عن الاستئثار ، وهذا هو الخلق النبوى ، غنم رسول الله صلى الله عليه وآله غنائم خيبر ، وكانت ملء الارض نعما ، فلما ركب راحلته وسار تبعه الناس يطلبون الغنائم وقسمها ، وهو ساكت لا يكلمهم ، وقد أكثروا عليه إلحاحا وسؤالا ، فمر بشجرة فخطفت (1) رداءه ، فالتفت فقال : ردوا على ردائي فلو ملكت بعدد رمل تهامة مغنما لقسمته بينكم عن آخره ثم لا تجدونني بخيلا ولا جبانا ، ونزل وقسم ذلك المال عن الاخرة عليهم كله ، لم ياخذ لنفسه منه وبرة .
ومنها نهيه له عن التغابى ، وصوره ذلك أن الامير يومى إليه أن فلانا من خاصته يفعل كذا ويفعل كذا من الامور المنكرة ويرتكبها سرا ، فيتغابى عنه ويتغافل ، نهاه عليه السلام عن ذلك وقال : إنك مأخوذ منك لغيرك ، أي معاقب ، تقول اللهم خذلى من فلان بحقى ، أي اللهم انتقم لى منه .
__________
(1) د " فاختطفت (*) .(17/116)
ومنها نهيه إياه عن الغضب ، وعن الحكم بما تقتضيه قوته الغضبية حتى يسكن غضبه ، قد جاء في الخبر المرفوع : " لا يقضى القاضى وهو غضبان " ، فإذا كان قد نهى أن يقضى القاضى وهو غضبان على غير صاحب الخصومة ، فبالاولى أن ينهى الامير عن أن يسطو على إنسان وهو غضبان عليه .
وكان لكسرى أنوشروان صاحب قد رتبه ونصبه لهذا المعنى يقف على رأس الملك يوم جلوسه ، فإذا غضب على إنسان وأمر به قرع سلسلة تاجه بقضيب في يده وقال له : إنما أنت بشر ، فارحم من في الارض يرحمك من في السماء .
* * * الاصل : ومن هذا العهد وهو آخره : وأنا أسأل الله بسعة رحمته ، وعظيم قدرته على إعطاء كل رغبة ، أن يوفقني وإياك لما فيه رضاه ، من الاقامة على العذر الواضح إليه وإلى خلقه ، من حسن الثناء في العباد ، وجميل الاثر في البلاد ، وتمام النعمة ، وتضعيف الكرامة ، وأن يختم لى ولك بالسعادة والشهادة ، إنا إلى الله راغبون (1) ، والسلام على رسول الله صلى الله عليه و [ على (2) ] آله الطيبين الطاهرين .
* * * الشرح : روى : " كل رغيبة : والرغيبة ما يرغب فيه ، فإما الرغبة فمصدر رغب في كذا ، كأنه قال : القادر على إعطاء كل سؤال أي إعطاء كل سائل ما سأله .
__________
(1) في د " وانا إليه داغبون " .
(2) من " د " .
(*) .(17/117)
ومعنى قوله : " من الاقامة على العذر " ، أي أسأل الله أن يوفقني للاقامة على الاجتهاد ، وبذل الوسع في الطاعة ، وذلك [ لانه (1) ] إذا بذل جهده فقد أعذر ، ثم فسر اجتهاده في ذلك في رضا الخلق ، ولم يفسر اجتهاده في رضا الخالق ، لانه معلوم ، فقال : هو حسن الثناء في العباد ، وجميل الاثر في البلاد .
فإن قلت : فقوله " وتمام النعمة " على ماذا تعطفه ؟ قلت ، هو معطوف على " ما " من قوله " لما فيه " ، كأنه قال : أسال الله توفيقي لذا ولتمام النعمة ، أي ولتمام نعمته على ، وتضاعف كرامته لدى ، وتوفيقه لهما هو توفيقه للاعمال الصالحة التى يستوجبهما بها .
* * * [ فصل في ذكر بعض وصايا العرب ] وينبغى أن يذكر في هذا الموضع وصايا من كلام قوم من رؤساء العرب أوصوا بها أولادهم ورهطهم ، فيها آداب حسان ، وكلام فصيح وهى مناسبة لعهد أمير المؤمنين عليه السلام هذا ، ووصاياه المودعة فيه ، وإن كان كلام أمير المؤمنين عليه السلام أجل وأعلى من أن يناسبه كلام ، لانه قبس من نور الكلام الالهى ، وفرع من دوحة المنطق النبوى .
روى ابن الكلبى قال : لما (2) حضرت الوفاه أوس بن حارثة أخا الخزرج ، لم يكن له ولد غير مالك بن الاوس ، وكان لاخيه الخزرج خمسة ، قيل له : كنا نأمرك بأن تتزوج في شبابك فلم تفعل حتى حضرك الموت ، ولا ولد لك إلا مالك ! فقال : لم يهلك هالك ترك مثل مالك ، وإن كان الخزرج ذا عدد ، وليس لمالك ولد ، فلعل الذى استخرج
__________
(1) من د .
(2) أمالى القالى 1 : 20 (*) .(17/118)
العذق من الجريمة (1) والنار من الوثيمة (2) أن يجعل لمالك نسلا ، ورجالا بسلا (3) ، وكلنا إلى الموت .
يا مالك ، المنية ولا الدنية ، والعتاب قبل العقاب ، والتجلد لا التبلد ، واعلم أن القبر خير من الفقر ، ومن لم يعط قاعدا حرم قائما ، وشر الشرب الاشتفاف وشر الطعم الاقتفاف (4) ، وذهاب البصر خير من كثير من النظر ، ومن كرم الكريم الدفع عن الحريم ، ومن قل ذل ، وخير الغنى ، القناعة وشر الفقر الخضوع .
الدهر صرفان : صرف رخاء ، وصرف بلاء ، واليوم يومان : يوم لك ويوم عليك ، فإذا كان لك فلا تبطر وإذا كان عليك فاصطبر ، وكلاهما سينحسر (5) وكيف بالسلامة ، لمن ليست له إقامة وحياك ربك .
* * * وأوصى (6) الحارث بن كعب بنيه فقال يا بنى ، قد أتت على مائة وستون سنة ما صافحت يمينى يمين غادر ، ولا قنعت لنفسي بخلة فاجر ، ولا صبوت بابنة عم ولا كنة (7) ، ولا بحت لصديق بسر ، ولا طرحت عن مومسة قناعا ، ولا بقى على دين عيسى بن مريم وقد روى على دين شعيب من العرب غيرى وغير تميم بن مر بن أسد ابن خزيمه ، فموتوا على شريعتي ، واحفظوا [ على (8) ] وصيتى ، وإلهكم فاتقوا ، يكفكم ما أهمكم ، ويصلح لكم حالكم ، وإياكم ومعصيته ، فيحل بكم الدمار ، ويوحش منكم الديار .
كونوا جميعا ، ولا تفرقوا فتكنوا شيعا ، وبزوا قبل أن تبزوا (9) ، فموت
__________
(1) الجريمة : النواة ، والعذق : النخلة .
(2) الوثيمة : الصخرة .
(3) بسل : جمع باسل ، وهو الشجاع .
(4) الاشتفاف : الامتصاص والاقتفاف : الاخذ بعجلة .
(5) يعنى ينكشف .
(6) الوصايا 123 ، ونسب هذه الوصية إلى مالك بن المنذر البجلى ، قال : " وقد كان أصاب دما في قومه ، فخرج هاربا بأهله حتى أتى بهم بنى هلال ، فلما احتضر أوصى بنيه ، وأمرهم أن يعطوا قومه النصف من حدثه الذى أحدثه فيهم .
(7) الكنة : امرأة الابن أو الاخ .
(8) تكملة من د .
(9) بزه : سبله (*) .(17/119)
في عز خير من حياة في ذل وعجز ، وكل ما هو كائن كائن ، وكل جمع إلى تباين ، والدهر صرفان : صرف بلاء ، وصرف رخاء ، واليوم يومان : يوم حبرة (1) ، ويوم عبرة والناس رجلان : رجل لك ، ورجل عليك .
زوجوا النساء الاكفاء ، وإلا فانتظروا بهن القضاء ، وليكن أطيب طيبهم الماء ، وإياكم والورهاء فإنها أدوا الداء وإن ولدها إلى أفن يكون .
لا راحة لقاطع القرابة .
وإذا اختلف القوم أمكنوا عدوهم ، وآفة العدد اختلاف الكلمة ، والتفضل بالحسنة يقى السيئة ، والمكافأة بالسيئة دخول فيها ، وعمل السوء يزيل النعماء ، وقطيعه الرحم تورث الهم ، وانتهاك الحرمة يزيل النعمة ، وعقوق الوالدين يعقب النكد ، ويخرب البلد ، ويمحق العدد ، والاسراف في النصيحة ، هو الفضيحة والحقد منع الرفد ، ولزوم الخطيئة يعقب البلية وسوء الدعة (3) يقطع أسباب المنفعة ، والضغائن تدعو إلى التباين ، يا بنى إنى قد أكلت مع أقوام وشربت ، فذهبوا وغبرت ، وكأني بهم قد لحقت ، ثم قال : أكلت شبابى فأفنيته * * وأبليت بعد دهور دهورا ثلاثه أهلين صاحبتهم * * فبادروا وأصبحت شيخا كبيرا قليل العطام عسير القيام * * قد ترك الدهر خطوى قصيرا أبيت أراعى نجوم السماء * * أقلب أمرى بطونا ظهورا * * * وصى أكثم بن صيفي بنيه ورهطه فقال ، يا بنى تميم ، لا يفوتنكم وعظى ، إن فاتكم الدهر بنفسى ، إن بين حيزومى وصدري لكلاما لا أجد له مواقع إلا (4) أسماعكم ولا مقار إلا قلوبكم ، فتلقوه بأسماع مصغية ، وقلوب دواعية ، تحمدوا مغبتة : الهوى
__________
(1) الحبرة : السرور .
(2) الافن : الفساد .
(3) الوصيا : " السرعة " .
(4) في د " غير " (*) .(17/120)
يقظان ، والعقل راقد ، والشهوات مطلقة ، والحزم معقول ، والنفس مهملة ، والروية مقيدة ، ومن جهة التوانى وترك الروية يتلف الحزم ، ولن يعدم المشاور مرشدا ، والمستبد برأيه موقوف على مداحض الزلل ، ومن سمع سمع به ، ومصارع الرجال تحت بروق الطمع ، ولو اعتبرت مواقع المحن ما وجدت إلا في مقاتل الكرام ، وعلى الاعتبار طريق الرشاد ، ومن سلك الجدد (1) أمن العثار ، ولن يعدم الحسود أن يتعب قلبه ، ويشغل فكره ، ويورث غيظه ، ولا تجاوز مضرته نفسه .
يا بنى تميم ، الصبر على جرع الحلم أعذب من جنا ثمر الندامة ، ومن جعل عرضه دون ماله استهدف للذم ، وكلم اللسان أنكى من كلم السنان ، والكلمة مرهونة ما لم تنجم من الفم ، فإذا نجمت مزجت ، فهى أسد محرب ، أو نار تلهب ، ورأى الناصح اللبيب دليل لا يجوز ، ونفاذ الرأى في الحرب ، أجدى من الطعن والضرب .
* * * وأوصى يزيد بن المهلب ابنه مخلدا حين استخلفه على جرجان فقال له يا بنى ، قد استخلفتك على هذه البلاد فانظر هذا الحى من اليمن فكن لهم كما قال الشاعر : إذا كنت مرتاد الرجال لنفعهم * * فرش واصطنع عند الذين بهم ترمى .
وانظر هذا الحى من ربيعه فإنهم شيعتك وأنصارك ، فاقض حقوقهم ، وانظر هذا الحى من تميم فأمطرهم (2) ولا تزه لهم ، ولا تدنهم فيطمعوا ، ولا تقصهم فيقطعوا ، وانظر هذا الحى من قيس فانهم أكفاء قومك في الجاهلية ، ومناصفوهم المآثر في الاسلام ، ورضاهم منك البشر .
يا بنى ، إن لابيك صنائع فلا تفسدها ، فانه كفى بالمرء نقصا أن يهدم ما بنى أبوه ، وإياك والدماء فإنه لا تقية معها ، وإياك وشتم الاعراض فإن الحر
__________
(1) الجدد : الاض المستوية .
(2) د " فانظرهم " (*) .(17/121)
لا يرضيه عن عرضه عوض ، وإياك وضرب الابشار فإنه عار باق ، ووتر مطلوب ، واستعمل على النجدة والفضل دون الهوى ، ولا تعزل إلا عن عجز أو خيانة ، ولا يمنعك من اصطناع الرجل أن يكون غيرك قد سبقك إليه ، فإنك إنما تصطنع الرجال لفضلها .
وليكن صنيعك عند من يكافئك عنه العشائر .
احمل الناس على أحسن أدبك يكفوك أنفسهم .
وإذا كتبت كتابا فأكثر النظر فيه ، وليكن رسولك فيما بينى وبينك من يفقه عنى وعنك ، فإن كتاب الرجل موضع عقله ، ورسوله موضع سره وأستودعك الله فلا بد للمودع أن يسكت ، وللمشيع أن يرجع .
وما عف من المنطق وقل من الخطيئة أحب إلى أبيك .
* * * وأوصى قيس بن عاصم المنقرى بنيه ، فقال يا نبى ، خذوا عنى فلا أحد أنصح لكم منى .
إذا دفنتموني فانصرفوا إلى رحالكم ، فسودوا أكبركم ، فان القوم إذا سودوا أكبرهم خلفوا أباهم ، وإذا سودوا أصغرهم أزرى ذلك بهم في أكفائهم ، وإياكم ومعصية الله وقطيعة الرحم ، وتمسكوا بطاعة أمرائكم فإنهم من رفعوا ارتفع ، ومن وضعوا اتضع .
وعليكم بهذا المال فأصلحوه ، فإنه منبهة للكريم ، وجنة لعرض اللئيم .
وإياكم والمسألة فإنها آخر كسب الرجل ، وإن أحدا لم يسأل إلا ترك الكسب ، وإياكم والنياحة فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله ينهى عنها ، وادفنوني في ثيابي التى كنت أصلى فيها وأصوم ، ولا يعلم بكر بن وائل بمدفنى فقد كانت بينى وبينهم مشاحنات في الجاهلية والاسلام واخاف ، أن يدخلوا عليكم بى عارا .
وخذوا عنى ثلاث خصال : إياكم وكل عرق لئيم أن تلابسوه فإنه إن يسرركم اليوم يسؤكم غدا ، واكظموا الغيظ ، واحذروا بنى أعداء آبائكم فإنهم على منهاج آبائهم ، ثم قال :(17/122)
أحيا الضغائن آباء لنا سلفوا * * فلن تبيد وللاباء أبناء .
قال ابن الكلبى : فيحكى الناس هذا البيت سابقا للزبير وما هو إلا لقيس بن عاصم .
* * * وأوصى عمرو بن كلثوم التغلبي (1) [ بنيه (2) ] فقال : يا بنى ، إنى قد بلغت من العمر ما لم يبلغ أحد من آبائى وأجدادي ، ولابد من أمر مقتبل ، وأن ينزل بى ما نزل بالاباء والاجداد والامهات والاولاد ، فاحفظوا عنى ما أوصيكم به .
إنى والله ما عيرت رجلا قط أمرا إلا عيرني مثله ، إن حقا فحق ، وإن باطلا فباطل ، ومن سب سب ، فكفوا عن الشتم فإنه أسلم لاعراضكم .
وصلوا أرحامكم تعمر داركم (3) ، وأكرموا جاركم بحسن ثنائكم ، وزوجوا بنات العم بنى العم فإن تعديتم بهن إلى الغرباء فلا تألوا بهن [ عن ] (4) الاكفاء .
وأبعدوا بيوت النساء من بيوت الرجال ، فإنه أغض للبصر ، وأعف للذكر ، ومتى كانت المعاينة واللقاء ، ففى ذلك داء من الادواء ولا خير فيمن لا يغار لغيره كما يغار لنفسه ، وقل من انتهك حرمة لغيره إلا انتهكت حرمته .
وامنعوا القريب من ظلم الغريب ، فإنك تدل على قريبك ، ولا يجمل بك ذل غريبك ، وإذا تنازعتم في الدماء فلا يكن حقكم الكفاء ، فرب رجل خير من ألف ، وود خير من خلف ، وإذا حدثتم فعوا ، وإذا حدثتم فأوجزوا ، فإن مع الاكثار يكون الاهذار ، وموت عاجل خير من ضنى آجل ، وما بكيت من زمان إلا دهانى بعده زمان ، وربما شجاني (5) من لم يكن أمره
__________
(1) ب : " الثعلبي " تحريف .
(2) تكملة من د .
(3) في د " دياركم " .
(4) من د .
(5) شجاني : أحزنني (*) .(17/123)
عناني ، وما عجبت من أحدوثه إلا رأيت بعدها أعجوبه .
واعلموا أن اشجع القوم العطوف ، وخير الموت تحت ظلال السيوف ، ولا خير فيمن لا روية له عند الغضب ، ولا فيمن إذا عوتب لم يعتب ومن الناس من لا يرجى خيره ، ولا يخاف شره ، فبكوءه (1) خير من دره ، وعقوقه خير من بره ، ولا تبرحوا في حبكم فإن من أبرح في حب آل ذلك إلى قبيح بغض ، وكم قد زارني إنسان وزرته ، فانقلب الدهر بنا فقبرته .
واعلموا أن الحليم سليم ، وأن السفيه كليم ، إنى لم أمت ولكن هرمت ، ودخلتني ذلة فسكت ، وضعف قلبى فأهترت (2) ، سلمكم ربكم وحياكم ! * * * ومن كتاب أردشير بن بابك إلى بنيه والملوك من بعده : رشاد الوالى خير للرعية من خصب الزمان الملك والدين توءمان لا قوام لاحدهما إلا بصاحبه ، فالدين أس الملك وعماده ، ثم صار الملك حارس الدين فلا بد للملك من أسه ، ولا بد للدين من حارسه ، فأما مالا حارس له فضائع ، وما لا أس له فمهدوم ، إن رأس ما أخاف عليكم مبادرة السفلة إياكم إلى دراسة الدين وتأويله والتفقه فيه ، وفتحملكم الثقه بقوة الملك على التهاون بهم ، فتحدث في الدين رياسات منتشرات سرا فيمن قد وترتم وجفوتم ، وحرمتم وأخفتم ، وصغرتم من سفلة الناس والرعية وحشو العامة ، ثم لا تنشب تلك الرياسات أن تحدث خرقا في الملك ووهنا في الدولة .
واعلموا أن سلطانكم إنما هو على أجسادكم الرعية لا على قلوبها .
وإن غلبتم الناس على ما في أيديهم فلن تغلبوهم على ما في عقولهم وآرائهم ومكايدهم .
واعلموا أن العاقل المحروم سال عليكم لسانه ، وهو أقطع سيفيه ، وإن أشد ما يضر بكم من لسانه ما صرف الحيلة فيه إلى الدين ، فكان للدنيا يحتج (3) ، وللدين فيما يظهر يتعصب فيكون
__________
(1) بكأت الناقلة بكوءا : قل لبنها .
(2) الهتر : ذهاب العقل .
(3) ا : " يجنح " (*) .(17/124)
للدين بكاؤه ، وإليه دعاؤه ، ثم هو أوحد للتابعين والمصدقين والمناصحين والمؤازرين ، لان تعصب (1) الناس موكل بالملوك ، ورحمتهم ومحبتهم موكلة بالضعفاء المغلوبين ، فاحذروا هذا المعنى كل الحذر .
واعلموا أنه ليس ينبغى للملك أن يعرف للعباد والنساك بأن يكونوا أولى بالدين منه ، ولا أحدب عليه ولا أغضب له .
[ ولا ينبغى ] (2) له أن يخلى النساك والعباد من الامر والنهى في نسكهم ودينهم ، فإن خروج النساك وغيرهم من الامر والنهى عيب على الملوك وعلى المملكة وثلمة بينة الضرر على الملك وعلى من بعده .
واعلموا أنه قد مضى قبلنا من أسلافنا ملوك كان الملك منهم يتعهد الحماية بالتفتيش والجماعة بالتفضيل ، والفراغ بالاشتغال ، كتعهده جسده بقص فضول الشعر والظفر وغسل الدرن والغمر (3) ومداواة ما ظهر من الادواء وما بطن ، وقد كان من أولئك الملوك من صحه ملكه أحب إليه من صحة جسده ، فتتابعت تلك الاملاك بذلك كأنهم ملك واحد ، وكأن أرواحهم روح واحدة ، يمكن أولهم لاخرهم ، ويصدق آخرهم أولهم يجتمع أبناء أسلافهم ، ومواريث آرائهم ، وثمرات عقولهم عند الباقي منهم بعدهم ، وكأنهم جلوس معه يحدثونه ويشاورونه ، حتى كأن على راس دارا بن دارا ما كان من غلبة الاسكندر الرومي على ما غلب عليه من ملكه .
وكان إفساده أمرنا ، وتفرقته جماعتنا ، وتخريبه عمران مملكتنا أبلغ له فيما أراد من سفك دمائنا فلما أذن الله عز وجل في جمع مملكتنا وإعاده أمرنا ، كان من بعثه إيانا ما كان .
وبالاعتبار يتقى العثار ، والتجارب الماضية دستور يرجع إليه من الحوادث الاتية .
واعلموا أن طباع الملوك على غير طباع الرعية والسوقة : فان الملك يطيف به العز والامن والسرور والقدرة على ما يريد ، والانفة والجرأة والعبث(17/125)
في العمر تنفسا ، وفى الملك سلامة ازداد من هذه الطبائع والاخلاق حتى يسلمه ذلك إلى سكر السلطان الذى هو أشد من سكر الشراب ، فينسى النكبات والعثرات ، والغير والدوائر وفحش تسلط الايام ، ولؤم غلبة الدهر ، فيرسل يده بالفعل ولسانه بالقول .
وعند حسن الظن بالايام تحدث الغير ، وتزول النعم ، وقد كان من أسلافنا وقدماء ملوكنا من يذكره عزه الذل ، وأمنه الخوف ، وسروره الكآبة ، وقدرته المعجزة ، وذلك هو الرجل الكامل قد جمع بهجة الملوك ، وفكرة السوقة ، ولا كمال إلا في جمعها .
واعلموا أنكم ستبلون على الملك بالازواج والاولاد والقرباء والوزراء والاخدان ، والانصار والاعوان والمتقربين والندماء والمضحكين ، وكل هؤلاء - إلا قليلا - أن يأخذ لنفسه أحب إليه من أن يعطى منها عمله ، وإنما عمله سوق ليومه ، وذخيرة لغده ، فنصيحته للملوك فضل نصيحته لنفسه وغاية الصلاح عنده صلاح نفسه ، وغاية الفساد عنده فسادها ، يقيم للسلطان سوق المودة ما أقام له سوق الارباح والمنافع ، إذا استوحش الملك من ثقاته أطبقت عليه ظلم الجهالة .
أخوف ما يكون العامه [ آمن ما يكون الوزراء ، وآمن ما يكون العامه (1) ] أخوف ما يكون الوزراء .
واعلموا أن كثيرا من وزراء الملوك من يحاول استبقاء دولته وأيامه بإيقاع الاضطراب ، والخبط في أطراف مملكة الملك ، ليحتاج الملك إلى رأيه وتدبيره ، فإذا عرفتم هذا من وزير من وزرائكم فاعزلوه فإنه يدخل الوهن والنقص على الملك والرعية لصلاح حال نفسه ، ولا تقوم نفسه بهذه النفوس كلها .
واعلموا أن بدء ذهاب الدولة ينشأ من قبل إهمال الرعية بغير أشغال معروفة ولا أعمال معلومة ، فإذا نشأ الفراغ تولد منه النظر في الامور ، والفكر في الفروع و الاصول .
فإذا نظروا في ذلك نظروا فيه بطبائع مختلفة فتختلف بهم المذاهب ، ويتولد من اختلاف مذاهبهم تعاديهم وتضاغنهم ، وهم مع اختلافهم هذا متفقون و مجتمعون على بغض الملوك ، فكل صنف منهم أنما يجرى إلى فجيعة الملك ، بملكه ، ولكنهم لا يجدون سلما إلى
__________
(1) تكملة من دوبها يستقيم الكلام (*) .(17/126)
ذلك أوثق من الدين والناموس ، ثم يتولد من تعاديهم أن الملك لا يستطيع جمعهم على هوى واحد ، فإن انفرد ؟ باختصاص بعضهم صار عدو بقيتهم ، ولى طباع العامة استثقال الولاة وملالهم ، والنفاسة (1) عليهم ، والحسد لهم ، وفى الرعية المحروم والمضروب والمقام عليه الحدود ، ويتولد من كثرتهم مع عداوتهم أن يجبن الملك عن الاقدام عليهم ، فإن في إقدام الملك على الرعية كلها كافة تغريرا بملكه .
ويتولد من جبن الملك عن الرعية استعجالهم عليه ، وهم أقوى عدو له وأخلقه بالظفر ، لانه حاضر مع الملك في دار ملكه ، فمن أفضى إليه الملك بعدى فلا يكونن بإصلاح جسده أشد اهتماما منه بهذه الحال ، ولا تكونن لشئ من الاشياء أكره وأنكر لرأس صار ذنبا ، وذنب صار رأسا ، ويد مشغوله وصارت فارغة ، أو غنى صار فقيرا ، أو عامل مصروف ، أو أمير معزول .
واعلموا أن سياسة الملك وحراسته ألا يكون ابن الكاتب إلا كاتبا ، وابن الجندي إلا جنديا ، وابن التاجر إلا تاجرا ، وهكذا في جميع الطبقات ، فإنه يتولد من تنقل الناس عن حالاتهم أن يلتمس كل امرئ منهم فوق مرتبته ، فإذا انتقل أو شك أن يرى شيئا أرفع مما انتقل إليه ، فيحسد أو ينافس ، وفى ذلك من الضرر المتولد ما لا خفاء به ، فإن عجز ملك منكم عن إصلاح رعيته كما أوصيناه فلا يكون للقميص القمل أصرع خلعا منه لما لبس من قميص ذلك الملك .
واعلموا أنه ليس ملك إلا وهو كثير الذكر لمن يلى الامر بعده ، ومن فساد أمر الملك نشر ذكره ولاة العهود ، فإن في ذلك ضروبا من الضرر ، وأن ذلك دخول عداوة بين الملك وولى عهده ، لانه تطمح عينه إلى الملك ، ويصير له أحباب وأخدان يمنونه ذلك ، ويستبطئون موت الملك .
ثم إن الملك يستوحش منه ، وتنساق الامور إلى هلاك أحدهما ، ولكن لينظر الوالى منكم لله تعالى ثم لنفسه ثم للرعية ، ولينتخب وليا للعهد من بعده
__________
(1) النفاسة : كراهة الخير لهم (*) .(17/127)
ولا يعلمه ذلك ، ولا أحد من الخلق قريبا كان منه أو بعيدا ، ثم يكتب اسمه في أربع صحائف ، ويختمها بخاتمه ، ويضعها عند أربعة نفر من أعيان أهل المملكة ، ثم لا يكون منه في سره وعلانيته أمر يستدل به على ولى عهده من هؤلاء في إدناء وتقريب يعرف به ، ولا في إقصاء ، وإعراض يستراب له .
وليتق ذلك في اللحظة والكلمة ، فإذا هلك الملك جمعت تلك الصحائف إلى النسخة التى تكون في خزانة الملك ، فتفض جميعا ، ثم ينوه حينئذ باسم ذلك الرجل ، فيلقى الملك إذا لنيه بحداثة عهده بحال السوقة ، ويلبسه إذا لبسه ببصر السوقة وسمعها ، فإن في معرفته بحاله قبل إفضاء الملك إليه سكرا تحدثه عنده ولاية العهد ، ثم يلقاه الملك فيزيده سكرا إلى سكره ، فيعمى ويصم ، هذا مع ما لا بد أن يلقاه أيام ولاية العهد من حيل العتاة ، وبغى الكذابين ، وترقية النمامين ، وإيغار صدره ، وإفساد قلبه على كثير من رعيته ، وخواص دولته ، وليس ذلك بمحمود ولا صالح .
واعلموا أنه ليس للملك أن يحلف ، لانه لا يقدر أحد استكراهه ، وليس له أن يغضب لانه قادر ، والغضب لقاح الشر والندامة ، وليس له أن يعبث ويلعب ، لان اللعب والعبت من عمل الفراغ ، وليس له أن يفرغ لان الفراغ من أمر السوقة ، وليس للملك أن يحسد أحدا إلا على حسن التدبير ، وليس له أن يخاف لانه لا يد فوق يده .
واعلموا أنكم لن تقدروا على أن تختموا أفواه الناس من الطعن والازراء عليكم ، ولا قدرة لكم على أن تجعلوا القبيح من أفعالكم حسنا ، فاجتهدوا في أن تحسن افعالكم كلها ، وإلا تجعلوا للعامة إلى الطعن عليكم سبيلا .
واعلموا أن لباس الملك ومطعمه ومشربه مقارب للباس السوقة ومطعمهم ، وليس(17/128)
فضل الملك على السوقة إلا بقدرته على اقتناء المحامد واستفادة المكارم ، فإن الملك إذا شاء أحسن ، وليس كذلك السوقة .
واعلموا أن لكل ملك بطانة ، ولكل رجل من بطانته بطانه ، ثم إن لكل امرئ من بطانة البطانة بطانة ، حتى يجتمع من ذلك أهل المملكة ، فإذا أقام الملك بطانته على حال الصواب فيهم ، أقام كل امرئ منهم بطانته على مثل ذلك حتى يجتمع على الصلاح عامه الرعية .
احذروا بابا واحدا طالما أمنته فضرني ، وحذرته فنفعني احذروا إفشاء السر بحضرة الصغار من أهليكم وخدمكم ، فانه ليس يصغر واحد منهم عن حمل ذلك السر كاملا ، لا يترك منه شيئا حتى يضعه حيث تكرهون إما سقطا أو غشا .
واعلموا أن في الرعيه صنفا أتوا الملك من قبل النصائح له ، والتمسوا إصلاح منازلهم بإفساد منازل الناس ، فأولئك أعداء الناس وأعداء الملوك ، ومن عادى الملوك والناس كلهم فقد عادى نفسه .
واعلموا أن الدهر حاملكم على طبقات ، فمنها حال السخاء حتى يدنو أحدكم من السرف ، ومنها حال التبذير حتى يدنو من البخل ، ومنها حال الاناة حتى يدنو من البلادة ومنها حال انتهاز الفرصة حتى يدنو من الخفة ، ومنها حال الطلاقة في اللسان حتى يدنو من الهذر ، ومنها حال الاخذ بحكمة (1) الصمت حتى يدنو من العى ، فالملك منكم جدير أن يبلغ من كل طبقه في محاسنها حدها ، فإذا وقف عليه ألجم نفسه عما وراءها .
واعلموا أن ابن الملك وأخاه ابن عمه يقول : كدت أن أكون ملكا ، وبالحرى ألا أموت حتى أكون ملكا ، فإذا قال ذلك قال ما لا يسر الملك ، وإن كتمه فالداء
__________
(1) الحكمة في الاصل : اللجام ، والكلام على الاستعارة (*) .(17/129)
في كل مكتوم ، وإذا تمنى ذلك جعل الفساد سلما إلى الصلاح ، ولم يكن الفساد سلما إلى صلاح قط .
وقد رسمت لكم في ذلك مثالا ، اجعلوا الملك لا ينبغى إلا لابناء الملوك من بنات عمومتهم ، ولا يصلح من أولاد بنات العم إلا كامل غير سخيف العقل ، ولا عازب الرأى ، ولا ناقص الجوارح ، ولا مطعون عليه في الدين ، فإنكم إذا فعلتم ذلك قل طلاب الملك ، وإذا قل طلابه استراح كل امرئ إلى ما يليه ، ونزع إلى حد يليه ، وعرف حاله ، ورضى معيشته ، واستطاب زمانه .
فقد ذكر وصايا قوم من العرب ، ووصايا أكثر ملوك الفرس وأعظمهم حكمة لتضم إلى وصايا أمير المؤمنين فيحصل منها وصايا الدين والدنيا ، فإن وصايا أمير المؤمنين عليه السلام ، الدين عليها أغلب ، ووصايا هؤلاء الدنيا عليها أغلب ، فإذا أخذ من أخذ التوفيق بيده بمجموع ذلك فقد سعد ، ولا سعيد إلا من أسعده الله .(17/130)
(54) الاصل : ومن كتاب له عليه السلام إلى طلحة والزبير مع عمران بن الحصين الخزاعى ، وذكر هذا الكتاب أبو جعفر الاسكافي في كتاب المقامات : أما بعد فقد علمتما - وإن كتمتما - أنى لم أرد الناس حتى أرادوني ، ولم أبايعهم حتى بايعوني ، وإنكما ممن أرادنى وبايعني ، وإن العامة لم تبايعني لسلطان غالب ، ولا لحرص حاضر ، فإن كنتما بايعتماني طائعين فارجعا وتوبا إلى الله من قريب ، وإن كنتما بايعتماني كارهين فقد جعلتما لى عليكما السبيل بإظهاركما الطاعة وإسراركما المعصية .
ولعمري ما كنتما بأحق المهاجرين بالتقية والكتمان وان دفعكما هذا الامر قبل أن تدخلا فيه كان أوسع عليكما من خروجكما منه بعد إقراركما به .
وقد زعمتما أنى قتلت عثمان ، فبيني وبينكما من تخلف عنى وعنكما من أهل المدينة ثم يلزم كل امرئ بقدر ما احتمل .
فارجعا أيها الشيخان عن رأيكما ، فإن الان أعظم امركما العار ، من قبل أن يجتمع العار والنار .
والسلام .
* * *(17/131)
الشرح : [ عمران بن الحصين ] هو عمران بن الحصين بن عبيد بن خلف بن عبد بن نهم بن سالم بن غاضرة بن سلول ابن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعى .
يكنى أبا بجيد بابنه بجيد بن عمران .
أسلم هو وأبو هريرة عام خيبر ، وكان من فضلاء الصحابة وفقهائهم ، يقول أهل البصرة عنه : إنه كان يرى الحفظة وكانت تكلمه حتى أكتوى .
وقال محمد بن سيرين : أفضل من نزل البصرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله عمران بن الحصين وأبو بكرة .
واستقضاه عبد الله بن عامر بن كريز على البصرة فعمل له أياما ، ثم استعفاه فأعفاه ، ومات بالبصرة سنه اثنتين وخمسين في أيام معاوية .
[ أبو جعفر الاسكافي ] وأما أبو جعفر الاسكافي - وهو شيخنا محمد بن عبد الله الاسكافي - عده قاضى القضاة في الطبقة السابعة من طبقات المعتزلة مع عباد بن سليمان الصيمري ، ومع زرقان ، ومع عيسى بن الهيثم الصوفى ، وجعل أول الطبقة ثمامة بن أشرس أبا معن ، ثم أبا عثمان الجاحظ ، ثم أبا موسى عيسى بن صبيح المردار ، ثم أبا عمران يونس بن عمران ثم محمد بن شبيب ، ثم محمد بن إسماعيل بن العسكري ، ثم عبد الكريم بن روح العسكري ، ثم أبا يعقوب يوسف بن عبد الله الشحام ، ثم أبا الحسين الصالحي ،(17/132)
ثم الجعفران ، جعفر بن جرير وجعفر بن ميسر ثم أبا عمران بن النقاش ، ثم أبا سعيد أحمد ابن سعيد الاسدي ، ثم عباد بن سليمان ثم أبا جعفر الاسكافي هذا .
وقال : كان أبو جعفر فاضلا عالما ، وصنف سبعين كتابا في علم الكلام .
وهو الذى نقض كتاب " العثمانية " على أبى عثمان الجاحظ في حياته ، ودخل الجاحظ الوراقين ببغداد ، فقال من هذا الغلام السوادى الذى بلغني أنه تعرض لنقض كتابي ! وأبو جعفر جالس ! فاختفى منه حتى لم يره .
وكان أبو جعفر يقول بالتفضيل على قاعده معتزلة بغداد ، ويبالغ في ذلك ، وكان علوى الرأى محققا منصفا ، قليل العصبية .
* * * ثم نعود إلى شرح ألفاظ الفصل ومعانيه : قوله عليه السلام : " لم أرد الناس : أي لم أرد الولاية عليهم حتى أرادوا هم منى ذلك .
قال : " ولم أبايعهم حتى بايعوني " ، أي لم أمدد يدى إليهم مد الطلب والحرص على الامر ، ولم أمددها إلا بعد أن خاطبوني بالامرة والخلافة ، وقالوا بالسنتهم : قد بايعناك ، فحينئذ مددت يدى إليهم .
قال : ولم يبايعني العامة والمسلمون لسلطان غصبهم وقهرهم على ذلك ، ولا لحرص حاضر ، أي مال موجود فرقته عليهم .
ثم قسم عليهما الكلام ، فقال : إن كنتما بايعتماني طوعا عن رضا فقد وجب عليكما الرجوع ، لانه لا وجه لانتقاض تلك البيعة ، وإن كنتما بايعتماني مكرهين عليها فالاكراه(17/133)
له صورة ، وهى أن يجرد السيف ويمد العنق ، ولم يكن قد وقع ذلك ، ولا يمكنكما أن تدعياه ، وإن كنتما بايعتماني لا عن رضا ولا مكرهين بل كارهين ، وبين المكره والكاره فرق بين ، فالامور الشرعية إنما تبنى على الظاهر ، وقد جعلتما لى على أنفسكما السبيل بإظهاركما الطاعة ، والدخول فيما دخل فيه الناس ، ولا اعتبار بما أسررتما من كراهية ذلك .
على أنه لو كان عندي ما يكرهه المسلمون لكان المهاجرون في كراهية ذلك سواء ، فما الذى جعلكما أحق المهاجرين كلهم بالكتمان والتقية ! .
ثم قال : وقد كان امتناعكما عن البيعه في مبدا الامر اجمل من دخولكما فيها ثم نكثها .
قال : وقد زعمتما أن الشبهة التى دخلت عليكما في أمرى أنى قتلت عثمان ، وقد جعلت الحكم بينى وبينكما من تخلف عنى وعنكما من أهل المدينة ، أي الجماعة التى لم تنصر عليا ولا طلحة كمحمد بن مسلمة ، وأسامة بن زيد ، وعبد الله بن عمر ، وغيرهم ، يعنى أنهم غير متهمين عليه ولا على طلحة والزبير ، فإذا حكموا لزم كل امرئ منا بقدر ما تقتضيه الشهادات .
ولا شبهة أنهم لو حكموا وشهدوا بصوره الحال لحكموا ببراءة على عليه السلام من دم عثمان وبأن طلحة كان هو الجملة والتفصيل في أمره وحصره ، وقتله ، وكان الزبير مساعدا له على ذلك ، وإن لم يكن مكاشفا مكاشفة طلحة .
ثم نهاهما عن الاصرار على الخطيئة ، وقال لهما : إنكما إنما تخافان العار في رجوعكما وانصرا فكما عن الحرب ، فإن لم ترجعا اجتمع عليكما العار والنار ، أما العار فلانكما تهزمان وتفران عند اللقاء فتعيران بذلك ، وأيضا سيكشف للناس أنكما كنتما على باطل فتعيران بذلك ، وأما النار فإليها مصير العصاة إذا ماتوا على غير توبة واحتمال العار ، وحده أهون من احتماله واحتمال النار معه .(17/134)
الاصل : ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية : أما بعد فإن الله سبحانه جعل الدنيا لما بعدها ، وإبتلى فيها أهلها ، ليعلم أيهم أحسن عملا ، ولسنا للدنيا خلقنا ، ولا بالسعي فيها أمرنا ، وإنما وضعنا فيها لنبتلى بها ، وقد ابتلاني الله بك وابتلاك بى ، فجعل أحدنا حجة على الاخر ، فغدوت على طلب الدنيا بتأويل القرآن ، وطلبتني بما لم تجن يدى ولا لساني ، وعصبته أنت وأهل الشام بى ، وألب عالمكم جاهلكم ، وقائمكم قاعدكم .
فاتق الله في نفسك ، ونازع الشيطان قيادك ، وأصرف إلى الاخرة وجهك ، فهى طريقنا وطريقك ، واحذر أن يصيبك الله منه بعاجل قارعة تمس الاصل ، وتقطع الدابر ، فإنى أولى لك بالله إليه غير فاجرة ، لئن جمعتني وإياك جوامع الاقدار لا أزال بباحتك ، (حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين) .
* * * الشرح : قال عليه السلام : إن الله قد جعل الدنيا لما بعدها " ، أي جعلها طريقا إلى الاخرة .
ومن الكلمات الحكمية : الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها .
وإبتلى فيها أهلها أي اختبرهم ليعلم أيهم أحسن عملا ، وهذا من ألفاظ القرآن العزيز ، والمراد ليعلم خلقه ،(17/135)
أو ليعلم ملائكته ورسله ، فحذف المضاف ، وقد سبق ذكر شئ يناسب ذلك فيما تقدم ، قال : " ولسنا للدنيا خلقنا " أي لم نخلق للدنيا فقط .
قال : " ولا بالسعي فيها أمرنا " ، أي لم نؤمر بالسعي فيها لها ، بل أمرنا بالسعي فيها لغيرها .
ثم ذكر أن كل واحد منه ومن معاوية مبتلى بصاحبه ، وذلك كابتلاء آدم بإبليس وإبليس بآدم .
قال : " فغدوت على طلب الدنيا بتأويل القرآن " ، أي تعديت وظلمت ، و " على " هاهنا متعلقة بمحذوف دل عليه الكلام ، تقديره مثابرا على طلب الدنيا أو مصرا على طلب الدنيا ، وتأويل القرآن ما كان معاوية يموه به على أهل الشام فيقول لهم : أنا ولى عثمان ، وقد قال الله تعالى : (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا (1)) .
ثم يعدهم الظفر والدولة على أهل العراق بقوله تعالى : (فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا (1)) .
قوله : " وعصبته أنت وأهل الشام " ، أي ألزمتنيه كما تلزم العصابة الرأس ، " وألب عالمكم جاهلكم " ، أي حرض .
والقياد : حبل تقاد به الدابة .
قوله : واحذر أن يصيبك الله منه بعاجل قارعة ، الضمير في " منه " راجع إلى الله تعالى ، " ومن " لابتداء الغاية .
__________
(1) سورة الاسراء 33 .
(*) .(17/136)
وقال الراوندي : منه ، أي من البتهان الذى أتيته ، أي من أجله ، و " من " للتعليل ، وهذا بعيد وخلاف الظاهر .
قوله : " تمس الاصل " ، أي تقطعه ، ومنه ماء ممسوس أي يقطع الغلة ويقطع الدابر أي العقب والنسل .
والالية : اليمين .
وباحة الدار : وسطها ، وكذلك ساحتها ، وروى بناحيتك .
قوله : " بعاجل قارعة ، وجوامع الاقدار " ، من باب إضافة الصفة إلى الموصوف (1) للتأكيد ، كقوله تعالى : (وإنه لحق اليقين (2)) .
__________
(1) د : " الصلة إلى المصول " .
(2) سورة الحاقة 51 (*)(17/137)
(56) الاصل : ومن كلام له عليه السلام وصى به شريح بن هانئ لما جعله على مقدمته إلى الشام : اتق الله في كل مساء وصباح ، وخف على نفسك الدنيا الغرور ، ولا تأمنها على حال .
واعلم أنك إن لم تردع نفسك عن كثير مما تحب مخافة مكروهه ، سمت بك الاهواء إلى كثير من الضرر ، فكن لنفسك مانعا رادعا ، ولنزواتك عند الحفيظة واقما قامعا .
* * * [ شريح بن هانئ ] الشرح : هو شريح بن هانئ بن يزيد بن نهيك بن دريد بن سفيان بن الضباب ، وهو سلمه ابن الحارث بن ربيعة بن الحارث بن كعب المذحجي .
كان هانئ يكنى في الجاهلية أبا الحكم ، لانه كان يحكم بينهم ، فكناه رسول الله صلى الله عليه وآله بأبى شريح ، إذ وفد عليه ، وابنه شريح هذا من جلة أصحاب على عليه السلام ، شهد معه المشاهد كلها ، وعاش حتى قتل بسجستان في زمن الحجاج ، وشريح جاهلي إسلامى ، يكنى أبا المقدام ،(17/138)
ذكر ذلك كله أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب (1) .
قوله عليه السلام : وخف على نفسك الغرور ، يعنى الشيطان ، فأما الغرور بالضم فمصدر .
والرادع : الكاف المانع ، والنزوات : الوثبات .
والحفيظة : الغضب .
والواقم : فاعل ، من وقمته أي رددته أقبح الرد وقهرته .
يقول عليه السلام : إن لم تردع نفسك عن كثير من شهواتك أفضت بك إلى كثير من الضرر ، ومثل هذا قول الشاعر : فإنك إن أعطيت بطنك سؤلها * * وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا (2)
__________
(1) الاستيعاب 607 .
(2) البيت لحاتم ، وهو من شواهد المغنى 331 (*) .(17/139)
(57) الاصل : ومن كتاب له عليه السلام إلى أهل الكوفة عند مسيره من المدينة إلى البصرة : أما بعد ، فإنى خرجت عن حيى هذا إما ظالما وإما مظلوما ، وإما باغيا وإما مبغيا عليه ، وإنا أذكر الله من بلغه كتابي هذا لما نفر إلى ، فإن كنت محسنا أعانني ، وإن كنت مسيئا استعتبني .
* * * الشرح : ما أحسن هذا التقسيم وما أبلغه في عطف القلوب عليه ، واستماله النفوس إليه ! قال : لا يخلو حالى في خروجي من أحد أمرين : إما أن أكون ظالما أو مظلوما ، وبدأ بالظالم هضما لنفسه (1) ، ولئلا يقول عدوه : بدأ بدعوى كونه مظلوما ، فأعطى عدوه من نفسه ما أراد .
قال : فلينفر المسلمون إلى فإن وجدوني مظلوما أعانوني ، وإن وجدوني ظالما نهونى عن ظلمي لاعتب وأنيب إلى الحق .
وهذا كلام حسن ، ومراده عليه السلام يحصل على كلا الوجهين ، لانه إنما أراد أن يستنفرهم ، وهذان الوجهان يقتضيان نفيرهم إليه على كل حال ، والحى : المنزل ، ولما هاهنا بمعنى إلا ، كقوله تعالى : (إن كل نفس لما عليها حافظ) (1) في قراءة من قرأها بالتشديد .
__________
(1) في د " وأراد بالظالم هدم نفسه " .
(2) سورة الطارق 4 (*) .(17/140)
(58) الاصل : ومن كتاب له عليه السلام كتبه إلى أهل الامصار يقص فيه ما جرى بينه وبين أهل صفين : وكان بدء أمرنا أنا التقينا بالقوم من أهل الشام ، والظاهر أن ربنا واحد ، ونبينا واحد ، ودعوتنا في الاسلام واحدة ، ولا نستزيدهم في الايمان بالله والتصديق برسوله ولا يستزيدوننا ، والامر واحد إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان ، ونحن منه براء ، فقلنا : تعالوا نداوى ما لا يدرك اليوم بإطفاء النائرة ، وتسكين العامة ، حتى يشتد الامر ويستجمع ، فنقوى على وضع الحق في مواضعه ، فقالوا : بل نداويه بالمكابرة فأبوا حتى جنحت الحرب وركدت ، ووقدت نيرانها وحمشت (1) .
فلما ضرستنا وإياهم ، ووضعت مخالبها فينا وفيهم ، أجابوا عند ذلك إلى الذى دعوناهم إليه ، فأجبناهم إلى ما دعوا ، وسارعناهم إلى ما طلبوا ، حتى استبانت عليهم الحجة ، وانقطعت منهم المعذرة ، فمن تم على ذلك منهم فهو الذى أنقذه الله من الهلكة ومن لج وتمادى فهو الراكس الذى ران الله على قلبه ، وصارت دائرة السوء على رأسه * * *
__________
(1) في د " وحميت " (*) .(17/141)
الشرح : روى : " التقينا والقوم بالواو ، كما قال : * قلت إذ أقبلت وزهر تهادى * ومن لم يروها بالواو فقد استراح من التكلف .
قوله : والظاهر أن ربنا واحد " ، كلام من لم يحكم لاهل صفين من جانب معاوية حكما قاطعا بالاسلام ، بل قال : ظاهرهم الاسلام ، ولا خلف بيننا وبينهم فيه ، بل الخلف في دم عثمان .
قال عليه السلام : قلنا لهم : تعالوا فلنطفئ هذه النائرة الان يوضع الحرب ، إلى أن تتمهد قاعدتي في الخلافة وتزول هذه الشوائب التى تكدر على الامر ، ويكون للناس جماعه ترجع إليها ، وبعد ذلك أتمكن من قتلة عثمان بأعيانهم فأقتص منهم ، فأبوا إلا المكابرة والمغالبة .
والحرب .
قوله : " حتى جنحت الحرب وركدت " ، جنحت : أقبلت ، ومنه : قد جنح الليل ، أي أقبل ، وركدت : دامت وثبتت .
قوله : " ووقدت نيرانها " ، أي التهبت .
قوله : " وحمشت " ، أي استعرت وشبت .
وروى : " واستحشمت (1) " وهو أصح ، ومن رواها " حمست " بالسين المهملة أراد اشتدت وصلبت .
قوله : " فلما ضرستنا وإياهم " أي عضتنا بأضراسها ، ويقال : ضرسهم الدهر ، أي اشتد عليهم .
__________
(1) في د " واستجرت " .
والمغنى عليه يستقيم أيضا (*) .(17/142)
قال : لما اشتدت الحرب علينا وعليهم وأكلت منا ومنهم ، عادوا إلى ما كنا سألناهم ابتداء ، وضرعوا إلينا في رفع الحرب ، ورفعوا المصاحف يسألون النزول على حكمها ، وإغماد السيف ، فأجبناهم إلى ذلك .
قوله : " وسارعناهم إلى ما طلبوا " كلمة فصيحة ، وهى تعدية الفعل اللازم ، كأنها لما كانت في معنى المسابقة ، والمسابقة متعدية عدى المسارعة .
قوله : " حتى استبانت " ، يقول : استمررنا على كف الحرب ووضعها ، إجابة لسؤالهم ، إلى أن استبانت عليهم حجتنا ، وبطلت معاذيرهم وشبهتهم في الحرب وشق العصا ، فمن تم منهم على ذلك ، أي على انقياده إلى الحق بعد ظهوره له ، فذاك الذى خلصه الله من الهلاك وعذاب الاخرة ومن لج منهم على ذلك وتمادى في ضلاله فهو الراكس ، قال قوم : الراكس هنا بمعنى المركوس ، فهو مقلوب فاعل بمعنى مفعول ، كقوله تعالى : " فهو في عيشة راضية) (1) أي مرضية ، وعندي أن اللفظة على بابها ، يعنى أن من لج فقد ركس نفسه ، فهو الراكس ، وهو المركوس ، يقال : ركسه وأركسه بمعنى ، والكتاب العزيز جاء بالهمز فقال : (والله أركسهم بما كسبوا) (2) ، أي ردهم إلى كفرهم (3) ، ويقول : ارتكس فلان في أمر كان نجا منه ، وران على قلبه ، أي ران هو على قلبه ، كما قلنا في الراكس ، ولايجوز أن يكون الفاعل - وهو الله - محذوفا ، لان الفاعل لا يحذف ، بل يجوز أن يكون الفاعل كالمحذوف ، وليس بمحذوف ، ويكون المصدر وهو الرين ، ودل الفعل عليه كقوله تعالى : (ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الايات) (4) أي بدالهم البداء .
وران بمعنى غلب وغطى ، وروى " فهو الراكس الذى رين على قلبه "
__________
(1) القارعة 7 .
(2) سورة النساء 88 .
(3) في د " كيدهم " .
(4) سورة يوسف 35 (*) .(17/143)
قال : وصارت دائرة السوء على رأسه ، من ألفاظ القرآن العزيز ، قال الله تعالى : (عليهم دائره السوء) (1) والدوائر : الدول .
قال : * وإن على الباغى تدور الدوائر .
* والدائرة أيضا : الهزيمة ، يقال : على من الدائرة منهما ، والدوائر أيضا الدواهي .
__________
(1) سورة الفتح 7 (*) .(17/144)
(59) ومن كتاب له عليه السلام إلى الاسود بن قطبة صاحب جند حلوان : أما بعد ، فإن الوالى إذا اختلف هواه منعه ذلك كثيرا من العدل ، فليكن أمر الناس عندك في الحق سواء فإنه ليس في الجور عوض من العدل ، فاجتنب ما تنكر أمثاله ، وابتذل نفسك فيما افترض الله عليك ، راجيا ثوابه ، ومتخوفا عقابه .
واعلم أن الدنيا دار بلية لم يفرغ صاحبها فيها قط ساعة إلا كانت فرغته عليه حسرة يوم القيامة ، وإنه لن يغنيك عن الحق شئ أبدا ، ومن الحق عليك حفظ نفسك ، والاحتساب على الرعية بجهدك ، فإن الذى يصل إليك من ذلك أفضل من الذى يصل بك ، والسلام .
* * * الشرح : [ الاسود بن قطبة ] لم أقف إلى الان على نسب الاسود بن قطبة ، وقرأت في كثير من النسخ أنه حارثى من بنى الحار ث بن كعب ، ولم أتحقق ذلك ، والذى يغلب على ظنى انه الاسود بن زيد ابن قطبة بن غنم الانصاري من بنى عبيد بن عدى .
ذكره أبو عمر بن عبد البر في كتاب " الاستيعاب " وقال إن موسى بن عقبة عده فيمن شهد بدرا .
(1) .
__________
(1) سورة الفتح 7 (*) .(17/145)
قوله عليه السلام " ، إذا اختلف هوى الوالى منعه كثيرا من الحق قول صدق لانه متى لم يكن الخصمان عند الوالى سواء في الحق جار وظلم .
ثم قال له : فإنه ليس في الجور عوض من العدل ، وهذا أيضا حق ، وفى العدل كل العوض من الجور .
ثم أمره باجتناب ما ينكر مثله من غيره ، وقد تقدم نحو هذا ..وقوله : " إلا كانت فرغته " كلمة فصيحة وهى المرة الواحدة من الفراغ ، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وآله : " إن الله يبغض الصحيح الفارغ لا في شغل الدنيا ولافى شغل الاخرة " ، ومراد أمير المؤمنين عليه السلام هاهنا الفراغ من عمل الاخرة خاصة .
قوله فان الذى يصل إليك من ذلك أفضل من الذى يصل بك " ، معناه : فإن الذى يصل إليك من ثواب الاحتساب على الرعية ، وحفظ نفسك من مظالمهم والحيف عليهم ، أفضل من الذى يصل بك من حراسة دمائهم (1) وأعراضهم وأموالهم ، ولا شبهة في ذلك ، لان إحدى المنفعتين دائمة ، والاخرى منقطعة ، والنفع الدائم أفضل من المنقطع .
__________
(1) ب : " دعاتهم " تصحفيف ، صوابه في ا ، د (*) .(17/146)
(60) الاصل : ومن كتاب له عليه السلام إلى العمال الذين يطأ عملهم الجيوش (1) : من عبد الله على أمير المؤمنين إلى من مر به الجيش من جباه الخراج وعمال البلاد : أما بعد ، فإنى قد سيرت جنودا هي مارة بكم ان شاء الله ، وقد أوصيتهم بما يجب لله عليهم من كف الاذى وصرف الشذى ، وأنا أبرأ إليكم وإلى ذمتكم من معرة الجيش ، إلا من جوعه المضطر لا يجد عنها مذهبا إلى شبعه (2) ، فنكلوا من تناول منهم ظلما عن ظلمهم ، وكفوا أيدى سفهائكم عن مضادتهم ، والتعرض لهم فيما استثنيناه منهم ، وأنا بين أظهر الجيش ، فارفعو إلى مظالمكم ، وما عراكم مما يغلبكم من أمرهم ولا تطيقون دفعه إلا بالله (3) وبى ، أغيره بمعونة الله .
إن شاء الله .
* * * الشرح : روى " عن مضارتهم " بالراء المشددة .
وجباة الخراج : الذين يجمعونه ، جبيت الماء في الحوض ، أي جمعته .
والشذى والضرب والشر تقول : لقد أشذيت وآذيت .
وإلى ذمتكم ، أي إلى اليهود والنصارى الذين بينكم (4) ، قال عليه السلام : من آذى ذميا فكأنما (5) آذانى " ،
__________
(1) د " عملهم الجيش " .
(2) مخطوطة الهج : " إلا إلى شبعه " .
(3) د " يإذن الله " .
(4) د " بذمتكم " .
(5) د " فقد " (*) .(17/147)
وقال : انما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا ، وأموالهم كأموالنا ، ويسمى هؤلاء ذمه ، أي اهل ذمة ، بحذف المضاف .
والمعرة : المضرة قال الجيش ممنوع من أذى من يمر به من المسلمين وأهل الذمة إلا من سد جوعة المضطر منهم خاصة ، لان المضطر تباح له الميتة فضلا عن غيرها .
ثم قال : فنكلوا من تناول ، وروى " بمن تناول " بالباء ، أي عاقبوه .
و " عن " في قوله : " عن ظلمهم " يتعلق بنكلوا ، لانها في معنى " اردعوا " ، لان النكال يوجب الردع .
ثم أمرهم أن يكفوا أيدى أحداثهم وسفهائهم عن منازعة الجيش ومصادمته والتعرض لمنعه عما استثناه ، وهو سد الجوعة عند الاضطرار ، فإن ذلك لا يجوز في الشرع ، وأيضا فإنه يفضى إلى فتنه وهرج .
ثم قال : " وأنا بين أظهر الجيش " ، أي أنا قريب منكم ، وسائر على إثر الجيش ، فارفعوا إلى مظالمكم وما عراكم منهم على وجه الغلبة والقهر ، فإنى مغير ذلك ومنتصف لكم منهم .(17/148)
(61) الاصل : ومن كتاب له عليه السلام إلى كميل بن زياد النخعي وهو عامله على هيت ينكر عليه تركه دفع من يجتاز به من جيش العدو طالبا للغارة أما بعد ، فإن تضييع المرء ما ولى ، وتكلفه ما كفى ، لعجز حاضر ، ورأى متبر ، وإن تعاطيك الغارة على أهل قرقيسيا ، وتعطيلك مسالحك التى وليناك - ليس لها من يمنعها ولا يرد الجيش عنها - لرأى شعاع ، فقد صرت جسرا لمن أراد الغارة من أعدائك على أوليائك ، غير شديد المنكب ، ولا مهيب الجانب ، ولا ساد ثغرة ، ولا كاسر لعدو شوكة ، ولا مغن عن أهل مصره (1) ، ولا مجز عن أميره .
* * * الشرح : [ كميل بن زياد ونسبه ] هو كميل بن زياد بن سهيل بن هيثم بن سعد بن مالك بن الحارث بن صهبان ابن سعد بن مالك بن النخع بن عمرو بن وعلة بن خالد بن مالك بن أدد كان من أصحاب على عليه السلام وشيعته وخاصته ، وقتله الحجاج على المذهب فيمن قتل من الشيعة ، وكان كميل بن زياد عامل على عليه السلام على هيت ، وكان ضعيفا ، يمر عليه سرايا معاوية تنهب أطراف العراق ولا يردها ، ويحاول أن يجبر ما عنده من الضعف بأن يغير
__________
(1) في د " النصرة " (*) .(17/149)
على أطراف أعمال معاوية مثل قرقيسيا وما يجرى مجراها من القرى التى على الفرات ، فأنكر عليه السلام ذلك من فعله ، وقال : إن من العجز الحاضر أن يهمل الوالى ما وليه ، ويتكلف ما ليس من تكليفه .
* * * والمتبر الهالك ، قال تعالى : (ان هؤلاء متبر ما هم فيه .
) (1) والمسالح : جمع مسلحة ، وهى المواضع التى يقام فيها طائفة من الجند لحمايتها .
ورأى شعاع ، بالفتح ، أي متفرق .
ثم قال له : " قد صرت جسرا " أي يعبر عليك العدو كما يعبر الناس على الجسور ، وكما أن الجسر لا يمنع من يعبر به ويمر عليه فكذاك أنت .
والثغرة .
الثلمة .
ومجز : كاف ومغن ، والاصل " مجزئ " بالهمز ، فخفف .
__________
(1) سورة الاعراف 139 (*) .(17/150)
(62) الاصل : ومن كتاب له عليه السلام إلى أهل مصر مع مالك الاشتر رحمه الله لما ولاه إمارتها : أما بعد ، فإن الله سبحانه بعث محمدا صلى الله عليه وآله نذيرا للعالمين ، ومهيمنا على المرسلين ، فلما مضى صلى الله عليه وآله تنازع المسلمون الامر من بعده ، فو الله ما كان يلقى في روعى ، ولا يخطر ببالى أن العرب تزعج هذا الامر من بعده صلى الله عليه وآله عن أهل بيته ، ولا أنهم منحوه عنى من بعده ، فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه ، فامسكت بيدى حتى رأيت راجعه الناس قد رجعت عن الاسلام يدعون الى محق دين محمد صلى الله عليه وآله فخشيت إن لم أنصر الاسلام وأهله أن أرى فيه ثلما أو هدما ، تكون المصيبة به على أعظم من فوت ولايتكم ، التى إنما هي متاع أيام قلائل ، يزول منها ما كان ، كما يزول السراب ، وكما يتقشع السحاب ، فنهضت في تلك الاحداث حتى زاح الباطل وزهق ، واطمأن الدين وتنهنه .
* * * الشرح : المهيمن : الشاهد ، قال الله تعالى : (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا) ، أي تشهد بايمان من آمن وكفر من كفر .
وقيل تشهد بصحة نبوه الانبياء قبلك .(17/151)
وقوله على المرسلين يؤكد صحة هذا التفسير الثاني ، وأصل اللفظة من " آمن غيره من الخوف لان الشاهد يؤمن غيره من الخوف بشهادته ثم تصرفوا فيها فأبدلوا إحدى همزتي " مؤامن " ياء فصار " مؤيمن " ، ثم قلبوا الهمزه هاء كأرقت وهرقت فصار " مهيمن " .
والروع الخلد ، وفى الحديث : " إن روح القدس نفت في روعى " ، قال ما يخطر لى ببال أن العرب تعدل بالامر بعد وفاة محمد صلى الله عليه وآله عن بنى هاشم ، ثم من بنى هاشم عنى : لانه كان المتيقن بحكم الحال الحاضرة .
وهذا الكلام يدل على بطلان دعوى الامامية النص وخصوصا الجلى .
قال : فما راعني إلا انثيال الناس " ، تقول للشئ يفجؤك بغته : ما راعني إلا كذا ، والروع بالفتح ، الفزع ، كأنه يقول : ما أفزعني شئ بعد ذلك السكون الذى كان عندي وتلك الثقة التى اطمأننت إليها إلا وقوع ما وقع من انثيال الناس - أي انصبابهم من كل وجه كما ينثاب التراب - على أبى بكر ، وهكذا لفظ الكتاب الذى كتبه للاشتر ، وإنما الناس يكتبونه الان " إلى فلان " تذمما من ذكر الاسم كما يكتبون في أول الشقشقيه : " أما والله لقد تقمصها فلان " ، واللفظ " أما الله لقد تقمصها ابن أبى قحافه " .
قوله : " فأمسكت يدى " ، أي أمتنعت عن بيعته ، حتى رأيت راجعة الناس ، يعنى أهل الردة كمسيلمة ، وسجاح وطليحة بن خويلد ومانعي الزكاة وإن كان مانعو الزكاة قد اختلف في أنهم أهل ردة أم لا .
ومحق الدين إبطاله .
وزهق : خرج وزال .
تنهنه : سكن ، وأصله الكف ، تقول : نهنهت السبع فتنهنه ،(17/152)
أي كف عن حركته وإقدامه ، فكأن الدين كان متحركا مضطربا فسكن وكف عن ذلك الاضطراب .
* * * روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ الكبير أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما مات اجتمعت أسد وغطفان وطيئ على طليحه بن خويلد إلا ما كان من خواص أقوام في الطوائف الثلاث فاجتمعت ، أسد بسميراء ، وغطفان بجنوب طيبة (1) وطيئ في حدود أرضهم ، واجتمعت ثعلبه بن أسد ومن يليهم من قيس بالابرق (2) من الربذة ، وتأشب (3) إليهم ناس من بنى كنانة ، ولم تحملهم البلاد ، فافترقوا فرقتين : أقامت إحداهما بالابرق ، وسارت الاخرى إلى ذى القصة ، وبعثوا وفودا إلى أبى بكر يسألونه أن يقارهم على إقامة الصلاة ومنع الزكاة ، فعزم الله لابي بكر على الحق ، فقال : لو منعوني عقالا (3) لجاهدتهم عليه ، ورجع الوفود إلى قومهم فأخبروهم بقلة من أهل المدينة ، فأطمعوهم فيها وعلم أبو بكر والمسلمون بذلك ، وقال لهم أبو بكر : أيها المسلمون ، إن الارض كافرة ، وقد رأى وفدهم منكم قلة ، وإنكم لا تدرون أليلا تؤتون أم نهارا ، وأدناهم منكم على بريد ، وقد كان القوم يأملون أن نقبل منهم ونوادعهم ، وقد أبينا عليهم ، ونبذنا إليهم ، فاعدوا واستعدوا .
فخرج على عليه السلام بنفسه ، وكان على نقب من أنقاب المدينة ، وخرج الزبير وطلحة وعبد الله بن مسعود وغيرهم فكانوا على الانقاب الثلاثة ، فلم يلبثوا إلا قليلا حتى طرق القوم المدينة غاره مع الليل ، وخلفوا بعضهم بذى حسى
__________
(1) في الاصول : " طمية " والصواب ما أثبته من تاريخ الطبري (2) في الاصول : " الازرق " ، والصواب ما أثبته من الطبري .
(3) تأشبوا إليهم : انضموا .
(4) أراد بالعقال الحبل الذى يعقل به البعير الذى كان يؤخذ في إبل الصدقة ، وانظر نهاية ابن الاثير .
(*) .(17/153)
ليكونوا ردءا لهم فوا فوا الانقاب وعليها المسلمون ، فأرسلوا إلى أبى بكر بالخبر ، فأرسل إليهم أن الزموا مكانكم ففعلوا ، وخرج أبو بكر في جمع من أهل المدينة على النواضح ، فانتشر العدو بين أيديهم ، واتبعهم المسلمون على النواضح حتى بلغوا ذا حسى فخرج ، عليهم الكمين بأحناء (1) قد نفخوها وجعلوا ، فيها الحبال ، ثم دهدهوها بأرجلهم في وجوه الابل ، فتدهده (2) كل نحى منها في طوله (3) فنفرت إبل المسلمين ، وهم عليها - ولا تنفر الابل من شئ نفارها من الانحاء فعاجت بهم لا يملكونها حتى دخلت بهم المدينة ، ولم يصرع منهم أحد ولم يصب ، فبات المسلمون تلك الليلة يتهيئون ، ثم خرجوا على تعبية ، فما طلع الفجر إلا وهم والقوم على صعيد واحد ، فلم يسمعوا للمسلمين حسا ولا همسا حتى وضعوا فيهم السيف ، فاقتتلوا أعجاز ليلتهم ، فما ذر قرن الشمس إلا وقد ولوا الادبار وغلبوهم على عامة ظهرهم ، ورجعوا إلى المدينة ظافرين (4) .
قلت : هذا هو الحديث الذى أشار عليه السلام إلى أنه نهض فيه أيام أبى بكر .
وكأنه جواب عن قول قائل : إنه عمل لابي بكر ، وجاهد بين يدى أبى بكر ، فبين عليه السلام عذره في ذلك ، وقال : إنه لم يكن كما ظنه القائل ، ولكنه من باب دفع الضرر عن النفس والدين ، فإنه واجب سواء كان للناس إمام أو لم يكن .
[ ذكر ما طعن به الشيعة في امامة أبى بكر والجواب عنها ] وينبغى حيث جرى ذكر أبى بكر في كلام أمير المؤمنين عليه السلام أن نذكر ما أورده قاضى القضاة في " المغنى " من المطاعن التى طعن بها فيه وجواب قاضى القضاة
__________
(1) الانحاء : جمع نحى ، وه والزق .
(2) دهدهوها : دفعوها .
(3) الطول : الحبل يشد به .
(4) تاريخ الطبري 3 : 244 (طبعة المعارف) مع تصرف واختصار (*) .(17/154)
عنها ، واعتراض المرتضى في " الشافي " على قاضى القضاة ، ونذكر ما عندنا في ذلك ثم نذكر مطاعن أخرى لم يذكرها قاضى القضاة .
* * * [ الطعن الاول ] قال قاضى القضاة بعد أن ذكر ما طعن به فيه في أمر فدك ، وقد سبق القول فيه .
ومما طعن به عليه قولهم : كيف يصلح للامامة من يخبر عن نفسه أن له شيطانا يعتريه ومن يحذر الناس نفسه ، ومن يقول : " أقيلوني " بعد دخوله في الامامة ، مع أنه لا يحل للامام أن يقول : اقيلوني البيعة ! أجاب قاضى القضاة فقال : إن شيخنا أبا على قال : لو كان ذلك نقصا فيه لكان قول الله في آدم وحواء : (فوسوس لهما الشيطان) (1) ، وقوله : (فأزلهما الشيطان) (2) ، وقوله : (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنبته) (3) ، يوجب النقص في الانبياء ، وإذا لم يجب ذلك ، فكذلك ما وصف به أبو بكر نفسه ، وإنما أراد أنه عند الغضب يشفق من المعصية ويحذر منها ، ويخاف أن يكون الشيطان يعتريه في تلك الحال فيوسوس إليه ، وذلك منه على طريقه الزجر لنفسه عن المعاصي ، وقد روى عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه ترك مخاصمه الناس في حقوقه إشفاقا من المعصية ، وكان يولى ذلك عقيلا ، فلما أسن عقيل كان يوليها عبد الله بن جعفر .
فأما ما روى في إقالة البيعة فهو خبر ضعيف ، وإن صح فالمراد به التنبيه على أنه لا يبالى لامر يرجع إليه أن يقيله الناس البيعه ، وإنما يضرون بذلك انفسهم ، وكأنه نبه بذلك
__________
(1) سورة الاعراف 20 .
(2) سورة البقرة 36 .
(3) سورة الحج 52 (*) .(17/155)
على أنه غير مكره لهم ، وأنه قد خلاهم وما يريدون إلا أن يعرض ما يوجب خلافه .
وقد روى أن أمير المؤمنين عليه السلام أقال عبد الله بن عمر البيعة حين استقاله ، والمراد بذلك أنه تركه وما يختار .
اعترض المرتضى رضى الله عنه فقال : أما قول أبى بكر : " وليتكم ولست بخيركم ، فإن استقمت فاتبعوني ، وإن اعوججت فقوموني ، فإن لى شيطانا يعترينى عند غضبى ، فإذا رأيتموني مغضبا فاجتنبوني لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم " فإنه يدل على أنه لا يصلح للامامه من وجهين : أحدهما أن هذا صفة من ليس بمعصوم ، ولا يأمن الغلط على نفسه من يحتاج إلى تقويم رعيته له إذا وقع في المعصية ، وقد بينا ان الامام لا بد ان يكون معصوما موفقا مسددا ، والوجه الاخر أن هذه صفة من لا يملك نفسه ، ولا يضبط غضبه ومن هو في نهايه الطيش والحدة والخرق والعجلة .
ولا خلاف أن الامام يجب أن يكون منزها عن هذه الاوصاف ، غير حاصل عليها وليس يشبه قول أبى بكر ما تلاه من الايات كلها .
لان أبا بكر خبر عن نفسه بطاعة الشيطان عند الغضب ، وأن عادته بذلك جاريه ، وليس هذا بمنزلة من يوسوس إليه الشيطان ولا يطيعه ، ويزين له القبيح فلا يأتيه ، وليس وسوسة الشيطان بعيب على الموسوس له إذا لم يستزله ذلك عن الصواب ، بل هو زيادة في التكليف ، ووجه يتضاعف معه الثواب وقوله تعالى : (ألقى الشيطان في أمنيته) قيل : معناه في تلاوتة ، وقيل : في فكرته ، على سبيل الخاطر ، وأى الامرين كان ، فلا عار في ذلك على النبي صلى الله عليه وآله ولا نقص وإنما العار والنقص على من يطيع الشيطان ويتبع ما يدعو إليه .
وليس لاحد أن يقول : هذا إن سلم لكم في جميع الايات لم يسلم في قوله تعالى : (فأزلهما الشيطان) ، لانه قد خبر عن تأثير غوايته ووسوسته بما كان منهما من الفعل .
وذلك أن المعنى الصحيح في هذه الاية أن آدم وحواء كانا مندوبين إلى اجتناب الشجرة وترك التناول منها ، ولم يكن ذلك عليهما واجبا لازما ،(17/156)
لان الانبياء لا يخلون بالواجب ، فوسوس لهما الشيطان حتى تناولا من الشجره ، فتركا مندوبا إليه ، وحرما بذلك أنفسهما الثواب وسماه إزلالا ، لانه حط لهما عن درجة الثواب وفعل الافضل ، وقوله تعالى في موضع آخر : (وعصى آدم ربه فغوى) (1) لا ينافى هذا المعنى ، لان المعصية قد يسمى بها من أخل بالواجب والندب معا .
قوله : " فغوى " أي خاب من حيث لم يستحق الثواب على ما ندب إليه على أن صاحب الكتاب يقول : إن هذه المعصية من آدم كانت صغيرة لا يستحق بها عقابا ولا ذما ، فعلى مذهبه أيضا تكون المفارقة بينه وبين أبى بكر ظاهرة ، لان أبا بكر خبر عن نفسه ان الشيطان يعتريه حتى يؤثر في الاشعار والابشار ، ويأتى ما يستحق به التقويم ، فأين هذا من ذنب صغير لا ذم ولا عقاب عليه ، وهو يرجى من وجه من الوجوه مجرى المباح ، لانه لا يؤثر في أحوال فاعله (2) وحط رتبته ، وليس يجوز أن يكون ذلك منه على سبيل الخشية والاشفاق على ما ظن ، لان مفهوم خطابه يقتضى خلاف ذلك ، ألا ترى أنه قال : " إن لى شيطانا يعترينى " وهذا قول من قد عرف عادته ، ولو كان على سبيل الاشفاق والخوف لخرج عن هذا المخرج ، ولكان يقول : فإنى آمن من كذا وإنى لمشفق منه .
فأما ترك أمير المؤمنين عليه السلام مخاصمة الناس في حقوقه فكأنه إنما كان تنزها وتكرما وأى نسبة بين ذلك وبين من صرح وشهد على نفسه بما لا يليق بالائمة وأما خبر استقاله البيعه وتضعيف صاحب الكتاب له فهو أبد يضعف ما لا يوافقه من غير حجة يعتمدها في تضعيفه .
وقوله : إنه ما استقال على التحقيق ، وإنما نبه على أنه لا يبالى بخروج الامر عنه ، وأنه غير مكره لهم عليه فبعيد من الصواب : لان ظاهر قوله " أقيلوني " أمر بالاقالة ، وأقل أحواله أن يكون عرضا لها وبذلا ، وكلا الامرين قبيح .
ولو أراد ما ظنه لكان له
__________
(1) سورة طه 121 .
(2) الشافي : " حال فاعله " (*) .(17/157)
في غير هذا القول مندوحة ولكان يقول : إنى ما أكرهتكم ولا حملتكم على مبايعتي وما كنت أبالى ألا يكون هذا الامر في ولا إلى ، وإن مفارقته لتسرني لولا ما ألزمنيه الدخول فيه من التمسك به ، متى عدلنا عن ظواهر الكلام بلا دليل ، جر ذلك علينا ما لا قبل لنا به .
وأما أمير المؤمنين عليه السلام فإنه لم يقل ابن عمر البيعة بعد دخولها فيها وإنما استعفاه من أن يلزمه البيعة ابتداء فأعفاه قلة فكر فيه ، وعلما بأن إمامته لا تثبت بمبايعة من يبايعه عليها ، فأين هذا من استقاله بيعة قد تقدمت واستقرت (1) ! * * * قلت : أما قول أبى بكر : وليتكم ولست بخيركم " فقد صدق عند كثير من أصحابنا ، لان خيرهم على بن أبى طالب عليه السلام ، ومن لا يقول بذلك يقول بما قاله الحسن البصري : والله إنه ليعلم أنه خيرهم ، ولكن المؤمن يهضم نفسه .
ولم يطعن المرتضى فيه بهذه اللفظة لنطيل القول فيها .
وأما قول المرتضى عنه انه قال : فإن لى شيطانا يعترينى عند غضبى " ، فالمشهور في الرواية : " فإن لى شيطانا يعترينى " (2) ، قال المفسرون : أراد بالشيطان الغضب وسماه شيطانا على طريق الاستعارة ، وكذا ذكره شيخنا أبو الحسين في " الغرر " .
قال معاويه لانسان غضب في حضرته فتكلم بما لا يتكلم بمثله في حضره الخلفاء : أربع على ظلعك (3) أيها الانسان ، فانما الغضب شيطان ، وأنا لم نقل إلا خيرا .
وقد ذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في " كتاب التاريخ الكبير " خطبتى أبى بكر عقيب بيعته بالسقيفة ، ونحن نذكرهما نقلا من كتابه ، أما الخطبة الاولى فهى :
__________
(1) الشافي 415 ، 416 .
(2) أي من غير ذكر لفظ " عند الغضب " .
(3) اربع على نفسك ، أي توقف (*) .(17/158)
أما بعد أيها الناس ، فانى وليتكم ولست بخيركم ، فإن احسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوموني ، لان الصدق أمانة ، والكذب خيانة الضعيف منكم قوى عندي حتى أريح عليه حقه ، والقوى منكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه ، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل ، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء .
أطيعوني ما أطعت الله ورسوله ، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لى عليكم : قوموا إلى صلاتكم رحمكم الله .
وأما الخطبة الثانية : فهى : أيها الناس إنما أنا مثلكم ، وإنى لا أدرى لعلكم ستكلفوننى ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله يطيقه (1) .
إن الله اصطفى محمدا صلى الله عليه وآله على العالمين ، وعصمه من الافات ، وإنما أنا متبع ولست بمتبوع ، فإن استقمت فاتبعوني ، وإن زغت فقوموني ، وإن رسول الله صلى الله عليه وآله قبض وليس أحد من هذه الامة يطلبه بمظلمة ضربة سوط فما دونها .
ألا وان لى شيطانا يعترينى ، فإذا غضبت فاجتنبوني لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم .
ألا وإنكم تغدون وتروحون في أجل قد غيب عنكم علمه ، فإن استطعتم ألا يمضى هذا الاجل إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا ، ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله .
فسابقوا في مهل آجالكم من قبل ان تسلمكم آجالكم إلى انقطاع الاعمال ، فإن قوما نسوا آجالهم ، وجعلوا أعمالهم لغيرهم ، فأنهاكم أن تكونوا أمثالهم .
الجد الجد ! الوحا الوحا ! فإن وراءكم طالبا حثيثا أجل (2) مره سريع .
احذروا الموت ، واعتبروا بالاباء والابناء والاخوان .
ولا تغبطوا الاحياء إلا بما يغبط به الاموات (3) .
إن الله لا يقبل من الاعمال إلا ما يراد به وجهه فأريدوا وجه الله بأعمالكم ، واعلموا
__________
(1) الطبري : " يطيق " .
(2) الطبري : " أجلا " .
(3) إلى هنا في الطبري نهاية الخبة ، وما بعدها من خطبة أخرى (*) .(17/159)
أان ما أخلصتم لله من أعمالكم فلطاعة أتيتموها ، وحظ ظفرتم به ، وضرائب أديتموها ، وسلف قدمتموه من إيام فانية لاخرى باقية لحين فقركم وحاجتكم ، فاعتبروا عباد الله بمن مات منكم ، وتفكروا فيمن كان قبلكم ، أين كانوا أمس وأين هم اليوم ! أين الجبارون ؟ أين الذين كان لهم ذكر القتال والغلبة في مواطن الحرب ؟ قد تضعضع بهم الدهر ، وصاروا رميما ، قد تركت عليهم القالات الخبيثات ، وإنما الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات .
وأين الملوك الذين أثاروا الارض وعمروها ! قد بعدوا بسيئ ذكرهم ، وبقى ذكرهم وصاروا كلا شئ ألا إن الله قد أبقى عليهم التبعات ، وقطع عنهم الشهوات ومضوا والاعمال أعمالهم ، والدنيا دنيا غيرهم ، وبقينا خلفا من بعدهم فإن نحن اعتبرنا بهم نجونا ، وإن اغتررنا كنا مثلهم ، أين الوضاء (1) الحسنة وجوههم ، المعجبون بشبابهم ! صاروا ترابا ، وصار ما فرطوا فيه حسرة عليهم ، أين الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط ، وجعلوا فيها العجائب ، وتركوها لمن خلفهم ! فتلك مساكنهم خاوية ، وهم في ظلم القبور ، (هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا) (2) .
أين من تعرفون من آبائكم وإخوانكم ! قد انتهت بهم آجالهم فوردوا على ما قدموا عليه ، وأقاموا للشقوة وللسعادة .
ألا إن الله لا شريك له ، ليس بينه وبين أحد من خلقه سبب يعطيه به خيرا ، ولا يصرف عنه به شرا إلا بطاعتة واتباع أمره واعلموا أنكم عباد مدينون ، وأن ما عنده لا يدر ك إلا بتقواه وعبادته .
ألاو إنه لا خير بخير بعده النار ولا شر بشر بعد الجنة (3) .
فهذه خطبتا أبى بكر يوم السقيفة ، واليوم الذى يليه ، إنما قال : " إن لى شيطانا يعترينى ، وأراد بالشيطان الغضب ، ولم يرد أن له شيطانا من مردة الجن يعتريه إذا
__________
(1) الوضاء : ذووا الوضاءة والحسن .
(2) سورة مريم : 98 .
(3) تاريخ الطبري 3 : 223 ، 225 (*) .(17/160)
غضب فالزيادة فيما ذكره المرتضى في قوله : " إن لى شيطانا يعترينى عند غضبى " ، تحريف لا محالة ، ولو كان له شيطان من الجن يعتاده وينوبه لكان في عداد المصروعين من المجانين وما ادعى أحد على أبى بكر هذا لا من اوليائه ولا من اعدائه ، وإنما ذكرنا خطبته على طولها والمراد منها كلمة واحدة ، لما فيها من الفصاحة والموعظة على عادتنا في الاعتناء بإيداع هذا الكتاب ما كان ذاهبا هذا المذهب ، وسالكا هذا السبيل .
فأما قول المرتضى : " فهذه صفه من ليس بمعصوم " ، فالامر كذلك والعصمة عندنا ليست شرطا في الامامة ولو لم يدل على عدم اشتراطها ، إلا أنه قال على المنبر بحضور الصحابة هذا القول ، وأقروه على الامامة - لكفى في عدم كون العصمة شرطا ، لانه قد حصل الاجماع على عدم اشتراط ذلك ، إذ لو كان شرطا لانكر منكر إمامته كما لو قال : إنى لا أصبر عن شرب الخمر وعن الزنى .
فأما قوله : " هذه صفة طائش لا يملك نفسه " ، فلعمري إن أبا بكر كان حديدا ، وقد ذكره عمر بذلك ، وذكره غيره من الصحابة بالحدة والسرعة ولكن لا بحيث أن تبطل أهليته للامامة ، لان الذى يبطل الامامة من ذلك وما يخرج الانسان عن العقل ، وأما هو دون ذلك فلا .
وليس قوله : " فاجتنبوني لا أوثر في أشعاركم وأبشاركم " محمول على ظاهره ، وإنما أراد به المبالغة في وصف القوة الغضبية عنده ، وإلا فما سمعنا ولا نقل ناقل من الشيعة ولا من غير الشيعه أن أبا بكر في أيام رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا في الجاهلية ولا في أيام خلافته احتد على إنسان فقام إليه فضربه بيده ومزق شعره .
فأما ما حكاه قاضى القضاة عن الشيخ أبى على من تشبيه هذه اللفظه بما ورد في القرآن ، فهو على تقدير أن يكون أبو بكر عنى الشيطان حقيقه .
وما اعترض به المرتضى ثانية عليه غير لازم ، لان الله تعالى قال : فوسوس لهما الشيطان) ، وتعقب ذلك قبولهما(17/161)
وسوسته ، وأكلهما من الشجرة فكيف يقول المرتضى : ليس قول أبى بكر بمنزله من وسوس له الشيطان فلم يطعه ! وكذلك قوله تعالى في قصة موسى لما قتل القبطى : (هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين) ، وكذلك قوله : (فأزلهما الشيطان عنها) ، وقوله : (ألقى الشيطان في أمنيته) ، وما ذهب إليه المرتضى من التأويلات مبنى على مذهبه في العصمة الكلية ، وهو مذهب يحتاج في نصرته إلى تكلف شديد وتعسف عظيم في تأويل الايات ، على أنه إذا سلم أن الشيطان ألقى في تلاوة الرسول (صلى الله عليه وآله) ما ليس من القرآن حتى ظنه السامعون كلاما من كلام الرسول ، فقد نقض دلاله التنفير المقتضية عنده في العصمة لانه لا تنفير عنده أبلغ من تمكين الله الشيطان أن يخلط كلامه بكلامه ، ورسوله يؤديه إلى المكلفين حتى يعتقد السامعون كلهم أن الكلامين كلام واحد .
وأما قوله : إن آدم كان مندوبا إلى ألا يأكل من الشجرة لا محرم عليه أكلها ، ولفظة " عصى " إنما المراد بها خالف المندوب (1) ، ولفظة " غوى " ، إنما المراد " خاب : من حيث لم يستحق الثواب على اعتماد ما ندب إليه ، فقول يدفعه ظاهر الاية لان الصيغة صيغة النهي ، وهى قوله : (ولا تقربا هذه الشجرة) والنهى عند المرتضى يقتضى التحريم لا محالة ، وليس الامر الذى قد يراد به الندب ، وقد يراد به الوجوب .
وأما قول شيخنا أبى على : إن كلام أبى بكر خرج مخرج الاشفاق والحذر من المعصية عند الغضب فجيد .
واعتراض المرتضى عليه بأنه ليس ظاهر اللفظ ذاك غير لازم ، لان هذه عادة العرب ، يعبرون عن الامر بما هو منه بسبب وسبيل ، كقولهم : لا تدن من الاسد فيأكلك ، فليس أنهم قطعوا على الاكل عند الدنو ، وإنما المراد الحذر والخوف والتوقع للاكل عند الدنو .
__________
(1) ا : " الندب " (*) .(17/162)
وأما الكلام في قوله : " أقيلوني " ، فلو صح الخبر لم يكن فيه مطعن عليه ، لانه إنما أراد في اليوم الثاني اختبار حالهم في البيعة التى وقعت في اليوم الاول ليعلم وليه من عدوه منهم ، وقد روى جميع أصحاب السير أن أمير المؤمنين خطب في اليوم الثاني من بيعته فقال : أيها الناس ، إنكم بايعتموني على السمع والطاعة وأنا أعرض اليوم عليكم ما دعوتموني إليه أمس ، فإن أجبتم قعدت لكم ، وإلا فلا أجد على أحد .
وليس بجيد قول المرتضى : أنه لو كان يريد العرض والبذل لكان قد قال كذا وكذا .
فإن هذه مضايقة منه شديدة للالفاظ ، ولو شرعنا في مثل هذا لفسد أكثر ما يتكلم به الناس .
على أنا لو سلمنا أنه استقالهم البيعة حقيقة ، فلم قال المرتضى : إن ذلك لا يجوز ؟ أليس يجوز للقاضى أن يستقيل من القضاء بعد توليته (1) إياه ، ودخوله فيه ! فكذلك يجوز للامام أن يستقيل من الامامة إذا انس من نفسه ضعفا عنها ، أو أنس من رعيته نبوة عنه ، أو أحس بفساد ينشأ في الارض من جهة ولايته على الناس ، ومن يذهب إلى أن الامامة تكون بالاختيار كيف يمنع من جواز استقالة الامام وطلبه إلى الامة أن يختاروا غيره لعذر يعلمه من حال نفسه ! وإنما يمنع من ذلك المرتضى وأصحابه القائلون بأن الامامة بالنص ، وإن الامام محرم عليه ألا يقوم بالامامة ، لانه مأمور بالقيام بها لتعينه خاصة دون كل أحد من المكلفين .
وأصحاب الاختيار يقولون : إذا لم يكن زيد إماما كان عمرو إماما عوضه ، لانهم لا يعتبرون الشروط التى يعتبرها الامامية من العصمة ، وأنه أفضل أهل عصره وأكثرهم ثوابا وأعلمهم وأشجعهم ، وغير ذلك من الشروط التى ؟ تقتضي تفرده وتوحده بالامر ، على أنه إذا جاز عندهم أن يترك الامام الامامة في الظاهر كما فعله الحسن ، وكما فعله غيره من الائمة بعد الحسين (عليه السلام) للتقية جاز للامام
__________
(1) كذا في ا ود ، وفى ب : " توليه " (*) .(17/163)
على مذهب أصحاب الاختيار أن يترك الامامة ظاهرا وباطنا لعذر يعلمه من حال نفسه أو حال رعيته .
* * * الطعن الثاني قال قاضى القضاة بعد أن ذكر قول عمر : " كانت بيعة أبى بكر فلتة " - وقد تقدم منا القول في ذلك في أول هذا الكتاب : ومما طعنوا به على (1) أبى بكر أنه قال عند موته : ليتنى كنت سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن ثلاثة ، فذكر في أحدها : ليتنى كنت سألته : هل للانصار في هذا الامر حق ؟ قالوا ، وذلك يدل على شكه في صحه بيعته ، وربما قالوا : قد روى أنه قال في مرضه : ليتنى كنت تركت بيت فاطمة لم أكشفه ، وليتني في ظلة بنى ساعدة كنت : ضربت على [ يد ] (2) أحد الرجلين فكان هو الامير ، وكنت الوزير .
قالوا : وذلك يدل على ما روى من إقدامه على بيت فاطمة (عليها السلام) عند اجتماع على (عليه السلام) والزبير وغيرهما فيه ، ويدل على أنه كان يرى الفضل لغيره لا لنفسه .
قال قاضى القضاة : والجواب ان قوله : " ليتنى " لا يدل على الشك فيما تمناه ، وقول إبراهيم (عليه السلام) : (رب أرنى كيف تحيى الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبى) (3) أقوى من ذلك في الشبهة .
ثم حمل تمنيه على أنه أراد سماع شئ مفصل ، أو أراد : ليتنى سألته عند الموت ، لقرب العهد ، لان ما قرب عهد لا ينسى ويكون أردع للانصار على ما حاولوه ثم قال : على أنه ليس في ظاهره أنه تمنى أن
__________
(1) ب : " في " .
(2) تكملة من كتاب الشافي .
(3) سورة البقرة 62 (*) .(17/164)
يسأل هل لهم حق في الامامة أم لا ؟ لان الامامة قد يتعلق بها حقوق سواها .
ثم دفع الرواية المتعلقة ببيت فاطمة (عليه السلام) ، وقال : فأما تمنيه أن يبايع غيره ، فلو ثبت لم يكن ذما لان من اشتد التكليف عليه فهو يتمنى خلافه (1) .
* * * اعترض المرتضى رحمه الله هذا الكلام فقال : ليس يجوز أن يقول أبو بكر : " ليتنى كنت سألت عن كذا " .
إلا مع الشك والشبهة ، لان مع العلم واليقين (2) لا يجوز مثل هذا القول ، هكذا يقتضى الظاهر ، فأما قول إبراهيم (عليه السلام) ، فإنما ساغ أن يعدل ظاهره لان الشك لا يجوز على الانبياء ، ويجوز على غيرهم ، على أنه (عليه السلام) قد نفى عن نفسه الشك بقوله : (بلى ولكن ليطمئن قلبى) ، وقد قيل ، إن نمرود قال له : إذا كنت تزعم أن لك ربا يحيى الموتى فاسأله أن يحيى لنا ميتا إن كان على ذلك قادرا ، فإن لم تفعل ذلك قتلتك ، فأراد بقوله : (ولكن ليطمئن قلبى) ، أي لامن توعد عدوك لى بالقتل ، وقد يجوز أن يكون طلب ذلك لقومه وقد سألوه أن يرغب إلى الله تعالى فيه فقال : ليطمئن قلبى إلى إجابتك لى ، وإلى إزاحه علة قومي ، ولم يرد : ليطمئن قلبى إلى أنك تقدر على أن تحيى الموتى ، لان قلبه قد كان بذلك مطمئنا ، وأى شئ يريد أبو بكر من التفضيل أكثر من قوله : " إن هذا الامر لا يصلح إلا لهذا الحى من قريش " ! وأى فرق بين ما يقال عند الموت وبين ما يقال قبله إذا كان محفوظا معلوما ، لم ترفع كلمة ولم تنسخ ! وبعد ، فظاهر الكلام لا يقتضى (3) هذا التخصيص ، ونحن مع الاطلاق والظاهر .
وأى حق يجوز أن يكون للانصار في الامامة غير أن يتولاها رجل منهم حتى يجوز أن يكون الحق الذى تمنى أن يسال عنه غير الامامة ! وهل هذا إلا تعسف وتكلف !
__________
(1) نقله المرتضى في الشافي 419 .
(2) الشافي : " التيقن " .
(3) ا : " يقضى " (*) .(17/165)
وأى شبهة تبقى بعد قول أبى بكر : ليتنى كنت سألته : هل للانصار في هذا الامر حق فكنا لا ننازعه أهله ؟ ومعلوم أن التنازع لم يقع بينهم إلا في الامامة نفسها ، لا في حق آخر من حقوقها .
فأما قوله : إنا قد بينا أنه لم يكن منه في بيت فاطمة ما يوجب أن يتمنى أنه لم يفعله ، فقد بينا فساد ما ظنه فيما تقدم .
فأما قوله : إن من اشتد التكليف عليه قد يتمنى خلافه ، فليس بصحيح ، لان ولاية أبى بكر إذا كانت هي التى اقتضاها الدين ، والنظر للمسلمين في تلك الحال وما عداها كان مفسدة ومؤديا إلى الفتنة ، فالتمني لخلافها لا يكون إلا قبيحا (1) .
* * * قلت : أما قول قاضى القضاة : إن هذا التمنى لا يقتضى الشك في أن الامامه لا تكون إلا في قريش ، كما أن قول إبراهيم : (ولكن ليطمئن قلبى) ، لا يقتضى الشك في أنه تعالى قادر على ذلك فجيد .
فأما قول المرتضى : إنما ساغ أن يعدل عن الظاهر في حق إبراهيم لانه نبى معصوم لا يجوز عليه الشك ، فيقال له : وكذلك ينبغى أن يعدل عن ظاهر كلام أبى بكر ، لانه رجل مسلم عاقل ، فحسن الظن به يقتضى صيانة أفعاله وأقواله عن التناقض .
قوله : إن إبراهيم قد نفى عن نفسه الشك بقوله : " بلى ولكن ليطمئن قلبى " قلنا : إن أبا بكر قد نفى عن نفسه الشك بدفع الانصار عن الامامة وإثباتها في قريش خاصة ، فإن كانت لفظة " بلى " دافعة لشك إبراهيم الذى يقتضيه قوله : (ولكن ليطمئن قلبى) ، ففعل أبى بكر وقوله يوم السقيفة
__________
(1) الشافعي 419 ، وفى د : " إلا نسخا " (*) .(17/166)
يدفع الشك الذى يقتضيه قوله : " ليتنى سألته " ، ولا فرق في دفع الشك بين أن يتقدم الدافع أو يتأخر أو يقارن .
ثم يقال للمرتضى : " ألست في هذا الكتاب - وهو " الشافي " بينت (1) أن قصة السقيفة لم يجر فيها ذكر نص عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأن الائمة من قريش ، وأنه لم يكن هناك إلا احتجاج أبى بكر وعمر بأن قريشا أهل النبي (صلى الله عليه وآله) وعشيرته ، وأن العرب لا تطيع غير قريش ، وذكرت عن الزهري وغيره أن القول الصادر عن أبى بكر : إن هذا الامر لا يصلح إلا لهذا الحى من قريش ، ليس نصا مرويا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وإنما هو قول قاله أبو بكر من تلقاء نفسه ، ورويت في ذلك الروايات ، ونقلت من الكتب من تاريخ الطبري وغيرة صورة الكلام والجدال الدائر بينه وبين الانصار ! فإذا كان هذا قولك فلم تنكر على أبى بكر قوله : ليتنى كنت سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) : هل للانصار في هذا الامر حق ! لانه لم يسمع النص ولا رواه ولا روى له ، وإنما دفع الانصار بنوع من الجدل ، فلا جرم بقى في نفسه شئ من ذلك ، وقال عند موته : ليتنى كنت سالت رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
وليس ذلك مما يقتضى شكه في بيعته كما زعم الطاعن ، لانه إنما يشك في بيعته لو كان قال قائل أو ذهب ذاهب إلى أن الامامة ليست إلا في الانصار ، ولم يقل أحد ذلك ، بل النزاع كان في : هل الامامة مقصورة على قريش خاصة ، أم هي فوضى بين الناس كلهم ؟ وإذا كانت الحال هذه لم يكن شاكا في إمامته وبيعته بقوله : " ليتنى سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) : " هل للانصار في هذا حق ؟ " لان بيعته على كلا التقديرين تكون صحيحه .
__________
(1) في د " أثبت " (*) .(17/167)
فأما قول قاضى القضاة : لعله أراد حقا للانصار غير الامامة نفسها ، فليس بجيد ، والذى اعترضه به المرتضى جيد ، فإن الكلام لا يدل إلا على الامامة نفسها ، ولفظة المنازعة تؤكد ذلك .
وأما حديث الهجوم على بيت فاطمه (عليها السلام) فقد تقدم الكلام فيه ، والظاهر عندي صحة ما يرويه المرتضى والشيعة ، ولكن لا كل ما يزعمونه ، بل كان بعض ذلك ، وحق لابي بكر أن يندم ويتأسف على ذلك ، وهذا يدل على قوة دينه وخوفه من الله تعالى ، فهو بأن يكون منقبة (1) له أولى من كونه طعنا عليه .
فأما قول قاضى القضاة : أن من اشتد التكليف عليه فقد يتمنى خلافه واعتراض المرتضى عليه ، فكلام قاضى القضاة أصح وأصوب ، لان أبا بكر - وإن كانت ولايته - مصلحة وولاية غير مفسدة - فإنه ما يتمنى أن يكون الامام غيره ، مع استلزام ذلك للمفسدة ، بل تمنى أن يلى الامر غيره وتكون المصلحة بحالها ، ألا ترى أن خصال الكفارة في اليمين كل واحدة منها مصلحة وما عداها لا يقوم مقامها في المصلحة ، وأحدها يقوم مقام الاخرى في المصلحة ! فأبو بكر تمنى أن يلى الامر عمر أو أبو عبيدة بشرط أن تكون المصلحة الدينيه التى تحصل من بيعته حاصلة من بيعة كل واحد من الاخرين .
* * * الطعن الثالث قالوا : إنه ولى عمر الخلافه ، ولم يوله رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئا
__________
(1) منقبة ، أي مفخرة (*) .(17/168)
من أعماله البته إلا ما ولاه يوم خيبر ، فرجع منهزما وولاه الصدقة ، فلما شكاه العباس عزله .
أجاب قاضى القضاة بأن تركه (عليه السلام) أن يوليه لا يدل على أنه لا يصلح لذلك ، وتوليته أياه لا يدل على صلاحيته للامامة ، فإنه (صلى الله عليه وآله) قد ولى خالد بن الوليد وعمرو بن العاص ، ولم يدل ذلك على صلاحيتهما للامامة وكذلك تركه أن يولى لا يدل على أنه غير صالح ، بل المعتبر بالصفات التى تصلح للامامة ، فإذا كملت صلح لذلك ، ولى من قبل أو لم يول ، وقد ثبت أن النبي (صلى الله عليه وآله) ترك أن يولى أمير المؤمنين (عليه السلام) أمورا كثيره ولم يجب إلا من يصلح لها ، وثبت أن أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يول الحسين (عليه السلام) ابنه ، ولم يمنع ذلك من أن يصلح للامامة ، وحكى عن أبى على أن ذلك إنما كان يصح أن يتعلق به لو ظفروا بتقصير من عمر فيما تولاه ، فأما وأحواله معروفة في قيامه بالامر حين يعجز غيره ، فكيف يصح ما قالوه ! وبعد فهلا دل ما روى من قوله : وإن تولوا عمر تجدوه قويا في أمر الله ، قويا في بدنه على جواز ذلك ! وإن ترك النبي (صلى الله عليه وآله) توليته ، لان هذا القول اقوى من الفعل (1) .
اعترض المرتضى رحمه الله فقال : قد علمنا بالعادة أن من ترشح لكبار الامور لابد من أن يدرج إليها بصغارها ، لان من يريد بعض الملوك تأهيله للامر من بعده لابد من أن ينبه عليه بكل قول وفعل يدل على ترشيحه لهذه المنزلة ، ويستكفيه من أمور ولاياته (2) ما يعلم عنده أو يغلب على ظنه صلاحه لما يريده له .
وإن من يرى الملك مع حضوره وامتداد الزمان وتطاوله لا يستكفيه شيئا من الولايات ، ومتى ولاه عزله وإنما يولى غيره ويستكفى سواه ، لابد أن يغلب في الظن أنه ليس بأهل للولاية ، وإن جوزنا أنه لم يوله لاسباب كثيرة سوى أنه لا يصلح للولاية ، إلا أن مع هذا التجويز لا بد أن
__________
(1) نقله المرتضى في الشافي 419 .
(2) الشافي : من أموره وولاياته " (*) .(17/169)
يغلب على الظن بما ذكرناه .
فأما خالد وعمرو فإنما لم يصلحا للامامة لفقد شروط الامامة فيهما ، وإن كانا يصلحان لما ولياه من الامارة فترك الولاية مع امتداد الزمان وتطاول الايام ، وجميع الشروط التى ذكرناها تقتضي غلبه الظن لفقد الصلاح والولاية لشئ (1) لا تدل على الصلاح لغيره إذا كانت الشرائط في القيام بذلك الغير معلوما فقدها .
وقد نجد الملك يولى بعض أموره من لا يصلح للملك بعده لظهور فقد الشرائط فيه ، ولا يجوز أن يكون بحضرته من يرشحه للملك بعده ، ثم لا يوليه على تطاول الزمان شيئا من الولايات فبان الفرق بين الولاية وتركها فيما ذكرناه .
فأما أمير المؤمنين (عليه السلام) وإن يتول جميع أمور النبي (صلى الله عليه وآله) في حياته ، فقد تولى أكثرها وأعظمها وخلفه في المدينة ، وكان الامير على الجيش المبعوث إلى خيبر ، وجرى الفتح على يديه بعد انهزام من انهزم منها ، وكان المؤدى عنه سورة براءة بعد عزل من عزل عنها وارتجاعها ، منه ، إلى غير ذلك من عظيم الولايات والمقامات بما يطول شرحه ولو لم يكن إلا أنه لم يول عليه واليا قط لكفى .
فأما اعتراضه بأن أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يول الحسين فبعيد عن الصواب ، لان أيام أمير المؤمنين (عليه السلام) لم تطل فيتمكن فيها من مراداته ، وكانت على قصرها منقسمة بين قتال الاعداء ، لانه (عليه السلام) لما بويع لم يلبث أن خرج عليه أهل البصره فاحتاج إلى قتالهم ، ثم انكفأ من قتالهم إلى قتال أهل الشام ، وتعقب ذلك قتال أهل النهروان ، ولم تستقر به الدار ولا امتد به الزمان ، وهذا بخلاف أيام النبي (صلى الله عليه وآله) التى تطاولت وامتدت ، على أنه قد نص عليه بالامامة بعد أخيه الحسن ، وإنما تطلب الولايات لغلبة الظن بالصلاح للامامة .
فإن كان هناك وجه يقتضى العلم بالصلاح لها كان أولى من طريق الظن ، على أنه
__________
(1) الكافي للشئ (*) .(17/170)
لا خلاف بين المسلمين أن الحسين (عليه السلام) كان يصلح للامامة وإن لم يوله أبوه الولايات ، وفي مثل ذلك خلاف من حال عمر ، فافترق الامران .
فاما قوله : إنه لم يعثر على عمر بتقصير في الولاية ، فمن سلم بذلك ! أو ليس يعلم أن مخالفته تعد تقصرا كثيرا ، ولو لم يكن إلا ما اتفق عليه من خطئه في الاحكام ورجوعه من قول إلى غيره ، واستفتائه الناس في الصغير والكبير ، وقوله كل الناس أفقه من عمر ، لكان فيه كفاية .
وليس كل النهوض بالامامة يرجع إلى حسن التدبير والسياسة الدنياوية ورم الاعمال والاستظهار في جباية الاموال وتمصير الامصار ووضع الاعشار ، بل حظ الامامة من العلم بالاحكام والفتيا بالحلال والحرام ، والناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه أقوى ، فمن قصر في هذا لم ينفعه أن يكون كاملا في ذلك .
فأما قوله : فهلا دل ما روى من قوله (عليه السلام) : " فان وليتم عمر وجدتموه قويا في أمر الله قويا في بدنه " ، فهذا لو ثبت لدل ، وقد تقدم القول (1) عليه ، وأقوى ما يبطله عدول أبى بكر عن ذكره ، والاحتجاج به لما أراد النص على عمر ، فعوتب على ذلك وقيل له ما تقول لربك إذ وليت علينا فظا غليظا ! فلو كان صحيحا لكان يحتج به ويقول : وليت عليكم من شهد النبي (صلى الله عليه وآله) بأنه قوى في أمر الله ، قوى في بدنه .
وقد قيل في الطعن على صحة هذا الخبر : إن ظاهره يقتضى تفضيل عمر على أبى بكر ، والاجماع بخلاف ذلك ، لان القوة في الجسم فضل قال الله تعالى : (إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم) (2) .
وبعد فكيف يعارض ما اعتمدناه من عدوله (عليه السلام) عن ولايته - وهو أمر معلوم - بهذا الخبر المردود المدفوع ! .
قلت : أما ما ادعاه من عادة الملوك ، فالامر بخلافه ، فإنا قد وقفنا على سير الاكاسرة وملوك الروم وغيرهم فما سمعنا أن أحدا منهم رشح ولده
__________
(1) في د " الكلام " (*) .(17/171)
للملك بعده باستعماله على طرف من الاطراف ، ولا جيش من الجيوش ، وإنما كانوا يثقفونهم بالاداب والفروسية في مقار ملكهم لا غير والحال في ملوك الاسلام كذلك ، فقد سمعنا بالدولة الاموية ، ورأينا الدولة العباسية ، فلم نعرف الدولة التى ادعاها المرتضى ، وإنما قد يقع في الاقل النادر شئ مما أشار إليه ، والاغلب الاكثر خلاف ذلك ، على أن أصحابنا لا يقولون إن عمر كان مرشحا للخلافة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليقال لهم : فلو كان قد رشحه للخلافة بعده لاستكفاه كثيرا من أموره ، وإنما عمر مرشح عندهم في أيام أبى بكر للخلافة بعد أبى بكر ، وقد كان أبو بكر استعمله على القضاء مدة خلافته ، بل كان هو الخليفة في المعنى ، لانه فوض إليه أكثر التدبير ، فعلى هذا يكون قد سلمنا أن ترك استعمال النبي (صلى الله عليه وآله) لعمر يدل على أنه غير مرشح في نظره للخلافة بعده ، وكذلك نقول : ولا يلزم من ذلك ألا يكون خليفه بعد أبى بكر ، على أنا لا نسلم أنه ما استعمله ، فقد ذكر الواقدي وابن اسحاق أنه بعثه في سرية في سنة سبع من الهجرة إلى الوادي المعروف ببرمة - بضم الباء وفتح الراء - وبها جمع من هوازن ، فخرج ومعه دليل من بنى هلال ، وكانوا يسيرون الليل ويكمنون النهار ، وأتى الخبر هوازن فهربوا ، وجاء عمر محالهم ، فلم يلق منهم أحدا ، فانصرف إلى المدينة .
ثم يعارض المرتضى بما ذكره قاضى القضاة من ترك تولية على ابنه الحسين (عليهما السلام) ، وقوله في العذر عن ذلك : إن عليا (عليه السلام) كان ممنوا بحرب البغاة والخوارج لا يدفع المعارضة ، لان تلك الايام التى هي أيام حروبه مع هؤلاء هي الايام التى كان ينبغى أن يولى الحسين (عليه السلام) بعض الامور فيها ، كاستعماله على جيش ينفذه سرية إلى بعض الجهات ، واستعماله على الكوفة بعد خروجه منها إلى حرب صفين ، أو استعماله على القضاء ،(17/172)
وليس اشتغاله بالحرب بمانع له عن ولايه ولده ، وقد كان مشتغلا بالحرب ، وهو يولى بنى عمه العباس الولايات والبلاد الجليلة فأما قوله : على أنه قد نص عليه بالامامة بعد أخيه الحسن ، فهذا يغنى عن توليته شيئا من الاعمال ، فلقائل أن يمنع ما ذكره من حديث النص ، فإنه أمر تنفرد به الشيعة وأكثر أرباب السير والتواريخ لا يذكرون أن أمير المؤمنين (عليه السلام) نص على أحد .
ثم إن ساغ له ذلك ساغ لقاضي القضاة ان يقول : إن قول النبي (صلى الله عليه وآله) : " اقتدوا باللذين من بعدى : أبى بكر وعمر " يغنى عن تولية عمر شيئا من الولايات ، لان هذا القول آكد من الولاية في ترشحه للخلافة .
فأما قوله : على أنه لا خلاف بين المسلمين في صلاحية الحسين للخلافة وإن لم يوله أبوه الولايات ، وفى عمر خلاف ظاهر بين المسلمين ، فلقائل أن يقول له : إجماع المسلمين على صلاحية الحسين للخلافه لا يدفع المعارضة ، بل يؤكدها ، لانه إذا كان المسلمون قد أجمعوا على صلاحيته للخلافة ولم يكن ترك توليه أبيه إياه الولايات قادحا في صلاحيته لها بعده ، جاز أيضا أن يكون ترك تولية رسول الله (صلى الله عليه وآله) عمر الولايات في حياته غير قادح في صلاحيته للخلافه بعده .
ثم ما ذكره من تقصير عمر في الخلافة بطريق اختلاف أحكامه ، ورجوعه إلى فتاوى العلماء ، فقد ذكرنا ذلك فيما تقدم لما تكلمنا في مطاعن الشيعة على عمر وأجبنا عنه .
واما قوله : لا يغنى حسن التدبير والسياسة ورم الامور ، مر القصور في الفقه ، فأصحابنا يذهبون إلى أنه إذا تساوى اثنان في خصال الامامة إلا أنه كان أحدهما اعلم والاخر :(17/173)
أسوس ، فإن الاسوس أولى بالامامة ، لان حاجه الامامة إلى السياسة وحسن التدبير آكد من حاجتها إلى العلم والفقه .
وأما الخبر المروى في عمر - وهو قوله : وإن تولوها عمر - فيجوز ألا يكون أبو بكر سمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ويكون الراوى له غيره ، ويجوز أن يكون سمعه وشذ عنه أن يحتج به على طلحة لما أنكر استخلاف عمر ، ويجوز ألا يكون شذ عنه وترك الاحتجاج به استغناء عنه لعلمه أن طلحة لا يعتد بقوله عند الناس إذا عارض قوله .
ولعله كنى عن هذا النص بقوله : إذا سألني ربى قلت له : استخلفت عليهم خير أهلك ، على أنا متى فتحنا باب " هلا احتج فلان بكذا " جر علينا ما لا قبل لنا به .
وقيل هلا احتج على (عليه السلام) على طلحة وعائشة والزبير بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : " من كنت مولاه فهذا على مولاه " ، وهلا احتج عليهم بقوله : " أنت منى بمنزلة هارون من موسى " ، ولا يمكن الشيعة أن يعتذروا هاهنا بالتقية ، لان السيوف كانت قد سلت من الفريقين ، ولم يكن مقام تقية .
وأما قوله : هذا الخبر لو صح لاقتضى أن يكون عمر أفضل من أبى بكر ، وهو خلاف إجماع المسلمين ، فلقائل أن يقول لم قلت إن المسلمين أجمعوا على أن أبا بكر أفضل من عمر ، مع أن كتب الكلام والتصانيف المصنفة في المقالات مشحونة بذكر الفرقة العمريه ، وهم القائلون إن عمر أفضل من أبى بكر ، وهى طائفة عظيمة من المسلمين ، يقال : إن عبد الله بن مسعود منهم ، وقد رأيت أن جماعة من الفقهاء يذهبون إلى هذا ، ويناظرون عليه ، على أنه لا يدل الخبر على ما ذكره المرتضى ، لانه وإن كان عمر أفضل منه باعتبار قوة البدن ، فلا يدل على أنه أفضل منه مطلقا ، فمن الجائز أن يكون بإزاء هذه الخصلة خصال كثيرة في أبى بكر من خصال الخير يفضل بها على عمر ،(17/174)
ألا ترى أنا نقول : أبو دجانه أفضل من أبى بكر بجهاده بالسيف في مقام الحرب ، ولا يلزم من ذلك أن يكون أفضل منه مطلقا ، لان في أبى بكر من خصال الفضل ما إذا قيس بهذه الخصلة أربى عليها أضعافا مضاعفه .
* * * الطعن الرابع قالوا : إن أبا بكر كان في جيش أسامة ، وإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كرر حين موته الامر بتنفيذ جيش أسامة ، فتأخره يقتضى مخالفة الرسول (صلى الله عليه وآله) ، فإن قلتم : إنه لم يكن في الجيش ، قيل لكم : لا شك أن عمر بن الخطاب كان في الجيش ، وأنه حبسه ومنعه من النفوذ مع القوم ، وهذا كالاول في أنه معصية ، وربما قالوا : إنه (صلى الله عليه وآله) جعل هؤلاء القوم في جيش أسامه ليبعدوا بعد وفاته عن المدينة ، فلا يقع منهم توثب على الامامة ، ولذلك لم يجعل أمير المؤمنين (عليه السلام) في ذلك الجيش ، وجعل فيه أبا بكر وعمر وعثمان وغيرهم ، وذلك من أوكد الدلالة على أنه لم يرد أن يختاروا للامامة (1) .
أجاب قاضى القضاة بأن أنكر أولا أن يكون أبو بكر في جيش أسامة ، وأحال على كتب المغازى ، ثم سلم ذلك وقال : إن الامر لا يقتضى الفور ، فلا يلزم من تأخر أبى بكر عن النفوذ أن يكون عاصيا .
ثم قال : إن خطابه (صلى الله عليه وآله) بتنفيذ الجيش يجب أن يكون متوجها إلى القائم بعده ، لانه من خطاب الائمة وهذا يقتضى ألا يدخل المخاطب بالتنفيذ في الجملة : ثم قال ، وهذا يدل على أنه لم يكن هناك إمام منصوص عليه ، لانه لو كان لاقبل بالخطاب عليه ، وخصه بالامر بالتنفيذ دون الجميع .
__________
(1) الشافي 42 .
(*)(17/175)
ثم ذكر أن أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) لابد أن يكون مشروطا بالمصلحة وبأن لا يعرض ما هو أهم منه ، لانه لا يجوز أن يأمرهم بالنفوذ ، وإن أعقب ضررا في الدين ، ثم قوى ذلك بأنه لم ينكر على أسامة تأخره ، وقوله : " لم أكن لاسأل عنك الركب " ، ثم قال : لو كان الامام منصوصا عليه لجاز أن يسترد جيش أسامة أو بعضه لنصرته ، وكذلك إذا كان بالاختيار ، ثم حكى عن الشيخ أبى على استدلاله على أن أبا بكر لم يكن في جيش أسامة بأنه ولاه الصلاة في مرضه ، مع تكريره أمر الجيش بالنفوذ والخروج .
ثم ذكر أن الرسول (صلى الله عليه وآله) إنما يأمر بما يتعلق بمصالح الدنيا من الحروب ونحوها عن اجتهاده ، وليس بواجب أن يكون ذلك عن وحى ، كما يجب في الاحكام الشرعية ، وأن اجتهاده يجوز أن يخالف بعد وفاته ، وإن لم يجز في حياته ، لان اجتهاده في الحياة أولى من اجتهاد غيره ، ثم ذكر أن العلة في احتباس عمر عن الجيش حاجة أبى بكر إليه ، وقيامه بما لا يقوم به غيره ، وأن ذلك أحوط للدين من نفوذه .
ثم ذكر أن أمير المؤمنين (عليه السلام) حارب معاوية بأمر الله تعالى وأمر رسوله ، ومع هذا فقد ترك محاربته في بعض الاوقات ، ولم يجب بذلك ألا يكون متمثلا للامر .
وذكر توليته (عليه السلام) أبا موسى ، وتولية الرسول (صلى الله عليه وآله) خالد بن الوليد مع ما جرى (1) منهما وأن ذلك يقتضى الشرط .
ثم ذكر أن من يصلح للامامة ممن ضمه جيش أسامة يجب تأخيره ليختار للامامة أحدهم ، فإن ذلك أهم من نفوذهم ، فإذا جاز لهذه العلة التأخير قبل العقد جاز التأخير بعده للمعاضدة وغيرها ، وطعن في قول من جعل إن إخراجهم في الجيش على جهة الابعاد لهم عن المدينة بأن قال : إن بعدهم عن المدينة لا يمنع من أن يختاروا للامامة ،
__________
(1) في د " ظهر " .
(*)(17/176)
ولانه (عليه السلام) لم يكن قاطعا على موته لا محالة ، يرد : نفذوا جيش أسامة في حياتي .
ثم ذكر أن ولاية أسامة عليهما لا تقتضي فضله وأنهما دونه ، وذكر ولاية عمرو بن العاص عليهما وإن لم يكونا دونه في الفضل ، وأن أحدا لم يفضل أسامة عليهما .
ثم ذكر أن السبب في كون عمر من جملة جيش أسامة أن عبد الله بن أبى ربيعة المخزومى قال عند ولاية أسامة : تولى علينا شاب حدث ونحن مشيخة قريش ! فقال عمر : يا رسول الله ، مرنى حتى أضرب عنقه ، فقد طعن في تأميرك إياه ، ثم قال : أنا أخرج في جيش أسامة تواضعا وتعظيما لامره (عليه السلام) .
اعترض المرتضى هذه الاجوبة ، فقال : أما كون أبى بكر في جملة جيش أسامة فظاهر ، قد ذكره أصحاب السير والتواريخ ، وقد روى البلاذرى في تاريخه وهو معروف بالثقة والضبط وبرئ من ممالاة الشيعة ومقاربتها ، أن أبا بكر وعمر معا كانا في جيش أسامة والانكار لما يجرى هذا المجرى لا يغنى شيئا ، وقد كان يجب على من أحال بذلك على كتب المغازى في الجملة أن يومئ إلى الكتاب المتضمن لذلك بعينه ليرجع إليه ، فأما خطابة (عليه السلام) بالتنفيذ للجيش فالمقصود به الفور دون التراخي ، إما من حيث مقتضى الامر على مذهب من يرى ذلك لغة ، وإما شرعا من حيث وجدنا جميع الامة من لدن الصحابة إلى هذا الوقت يحملون أو امره على الفور (1) ، ويطلبون في تراخيها الادلة .
ثم لو لم يثبت كل ذلك لكان قول أسامة : لم أكن لاسال عنك الركب ، أوضح دليل على أنه عقل من الامر الفور ، لان سؤال الركب عنه (عليه السلام) بعد وفاته لا معنى له .
__________
(1) الشافي : " من حيث دل دليل الشرع عليه " .
(*)(17/177)
وأما قول صاحب الكتاب : إنه لم ينكر على أسامة تأخره فليس بشئ ، وأى إنكار أبلغ من تكراره الامر ، وترداده القول في حال يشغل عن المهم ، ويقطع الفكر إلا فيها ! وقد كرر الامر على المأمور تارة بتكرار الامر ، وأخرى بغيره .
وإذا سلمنا أن أمره (عليه السلام) كان متوجها إلى القائم بعده بالامر لتنفيذ الجيش بعد الوفاة لم يلزم ما ذكره من خروج المخاطب بالتنفيذ عن الجملة ، كيف يصح ذلك وهو من جملة الجيش ، والامر متضمن تنفيذ الجيش ! فلابد من نفوذ كل من كان في جملته ، لان تأخر بعضهم يسلب النافذين اسم الجيش على الاطلاق .
أو ليس من مذهب صاحب الكتاب أن الامر بالشئ أمر بما لا يتم إلا معه ! وقد اعتمد على هذا في مواضع كثيره فإن كان خروج الجيش ونفوذه لا يتم إلا بخروج أبى بكر ، فالامر بخروج الجيش أمر لابي بكر بالنفوذ والخروج ، وكذلك لو أقبل عليه على سبيل التخصيص ، وقال : نفذوا جيش أسامة ، وكان هو من جمله الجيش ، فلا بد أن يكون ذلك أمرا له بالخروج .
واستدلاله على أنه لم يكن هناك إمام منصوص عليه بعموم الامر بالتنفيذ ، ليس بصحيح ، لانا قد بينا أن الخطاب إنما توجه إلى الحاضرين ، ولم يتوجه إلى الامام بعده ، على أن هذا لازم له ، لان الامام بعده لا يكون إلا واحدا ، فلم عمم الخطاب ولم يفرد به الواحد فيقول : لينفذ القائم من بعدى بالامر جيش أسامة ، فإن الحال لا يختلف في كون الامام بعده واحدا بين أن يكون منصوصا عليه أو مختارا .
وأما ما ادعاه أن الشرط (1) في أمره (عليه السلام) لهم بالنفوذ فباطل ، لان إطلاق الامر يمنع من إثبات الشرط ، وإنما يثبت من الشروط ما يقتضى الدليل إثباته من التمكن والقدرة ، لان ذلك شرط ثابت في كل أمر ورد من حكيم ، والمصلحة بخلاف ذلك ، لان الحكيم لا يأمر بشرط المصلحة ، بل إطلاق الامر منه يقتضى ثبوت المصلحة وانتفاء المفسدة وليس كذلك التمكن ، وما يجرى مجراه ، ولهذا لا يشترط
__________
(1) في د " وأما ادعاؤه الشرط " .
(*)(17/178)
أحد في أوامر الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) بالشرائع المصلحة وانتفاء المفسدة .
وشرطوا في ذلك التمكن ورفع التعذر ، ولو كان الامام منصوصا عليه بعينه واسمه لما جاز أن يسترد جيش أسامه ، بخلاف ما ظنه ، ولا يعزل من ولاه (عليه السلام) ولا يولى من عزله للعلة التى ذكرناها .
فأما استدلال أبى على على أن أبا بكر لم يكن في الجيش بحديث الصلاة ، فأول ما فيه أنه اعتراف بأن الامر بتنفيذ الجيش كان في الحياة دون بعد الوفاة ، وهذا ناقض لما بنى صاحب الكتاب عليه أمره (عليه السلام) .
ثم إنا قد بينا أنه (عليه السلام) لم يوله الصلاة وذكرنا ما في ذلك .
ثم ما المانع من أن يوليه تلك الصلاة إن كان ولاه إياها ثم يأمره بالنفوذ من بعد مع الجيش ! فإن الامر بالصلاة في تلك الحال لا يقتضى أمره بها على التأبيد .
وأما ادعاؤه أن النبي (صلى الله عليه وآله) يأمر بالحروب وما يتصل بها عن اجتهاد دون الوحى ، فمعاذ الله أن يكون صحيحا ، لان حروبه (عليه السلام) لم تكن مما يختص بمصالح أمور الدنيا ، بل للدين فيها أقوى تعلق ، لما يعود على الاسلام وأهله بفتوحه من العز والقوة وعلو الكلمة .
وليس يجرى ذلك مجرى أكله وشربه ونومه ، لان ذلك لا تعلق له بالدين ، فيجوز أن يكون عن رأيه ، ولو جاز أن تكون مغازيه وبعوثه مع التعلق القوى لها بالدين عن اجتهاد لجاز ذلك في الاحكام .
ثم لو كان ذلك عن اجتهاد لما ساغت مخالفته فيه بعد وفاته ، كما لا تسوغ في حياته .
فكل علة تمنع من أحد الامرين هي مانعة من الاخر .
فأما الاعتذار له عن حبس عمر عن الجيش بما ذكره فباطل ، لانا قد قلنا إن ما يأمر به (عليه السلام) لا يسوغ مخالفته مع الامكان ، ولا مراعاة لما عساه يعرض فيه من رأى غيره ، وأى حاجة إلى عمر بعد تمام العقد ، واستقراره ورضا الامة به ، على طريق (1) المخالف وإجماعها عليه ، ولم يكن
__________
(1) في د : " مذهب " .
(*)(17/179)
هناك فتنة ولا تنازع ولا اختلاف يحتاج فيه إلى مشاورته وتدبيره ! وكل هذا تعلل باطل .
فأما محاربة أمير المؤمنين (عليه السلام) معاوية فإنما كان مأمورا بها مع التمكن ووجود الانصار ، وقد فعل (عليه السلام) من ذلك ما وجب عليه لما تمكن منه ، فأما مع التعذر وفقد الانصار فما كان مأمورا بها .
وليس كذلك القول في جيش أسامة ، لان تأخر من تأخر عنه كان مع القدرة التمكن .
فأما تولية أبى موسى فلا ندرى كيف يشبه ما نحن فيه ، لانه إنما ولاه بأن يرجع إلى كتاب الله تعالى فيحكم وفى خصمه بما يقتضيه ، وأبو موسى فعل خلاف ما جعل إليه ، فلم يكن ممتثلا لامر من ولاه ، وكذلك خالد ابن الوليد إنما خالف ما أمره به الرسول (صلى الله عليه وآله) فتبرأ من فعله ، وكل هذا لا يشبه أمره (عليه السلام) بتنفيذ جيش أسامة أمرا مطلقا ، وتأكيده ذلك وتكراره له ، فأما جيش أسامه فإنه لم يضم من يصلح للامامة ، فيجوز تأخرهم ليختار أحدهم على ما ظنه صاحب الكتاب .
على أن ذلك لو صح أيضا لم يكن عذرا في التأخر : لان من خرج في الجيش يمكن أن يختار وإن كان بعيدا ، ولا يمنع بعده من صحة الاختيار ، وقد صرح صاحب الكتاب بذلك .
ثم لو صح هذا العذر لكان عذرا في التأخر قبل العقد ، فأما بعد إبرامه فلا عذر فيه ، والمعاضدة التى ادعاها قد بينا ما فيها .
فأما ادعاء (1) صاحب الكتاب رادا على من جعل إخراج القوم في الجيش ليتم أمر النص أن من أبعدهم لا يمنع أن يختاروا للامامة فيدل على أنه لم يتبين معنى هذا الطعن على حقيقته ، لان الطاعن به لا يقول إنه أبعدهم لئلا يختاروا للامامة ، وإنما يقول : إنه أبعدهم حتى ينتصب بعده في الارض من نص عليه ، ولا يكون هناك من ينازعه ويخالفه .
__________
(1) .
ف د : " قول " .
(*)(17/180)
وأما قوله : لم يكن قاطعا على موته فلا يضر تسليمه ، أليس كان مشفقا وخائفا ! وعلى الخائف أن يتحرز ممن يخاف منه ، فأما قوله : فإنه لم يرد نفذوا الجيش في حياتي فقد بينا ما فيه .
فأما ولاية أسامة على من ولى عليه فلا بد من اقتضائها لفضله على الجماعة فيما كان واليا فيه ، وقد دللنا فيما تقدم من الكتاب على أن ولاية المفضول على الفاضل فيما كان أفضل منه فيه قبيحة ، فكذلك القول في ولاية عمرو بن العاص عليهما فيما تقدم ، والقول في الامرين واحد .
وقوله : إن أحدا لم يدع فضل أسامة على أبى بكر وعمر ، فليس الامر على ما ظنه ، لان من ذهب إلى فساد إمامة المفضول لا بد من أن يفضل أسامة عليهما فيما كان واليا فيه ، فأما ادعاؤه ما ذكره من السبب في دخول عمر في الجيش فما نعرفه ، ولا وقفنا عليه إلا من كتابه ، ثم لو صح لم يغن شيئا ، لان عمر لو كان أفضل من أسامة لمنعه الرسول (صلى الله عليه وآله) من الدخول في إمارته والمسير تحت لوائه ، والتواضع لا يقتضى فعل القبيح (1) .
* * * قلت : إن الكلام في هذا الفصل قد تشعب شعبا كثيرة ، والمرتضى رحمه الله لا يورد كلام قاضى القضاة بنصه ، وإنما يختصره ويورده مبتورا ، ويومئ إلى المعاني إيماء لطيفا ، وغرضه الايجاز ، ولو أورد كلام قاضى القضاة بنصه لكان أليق ، وكان أبعد عن الظنة ، وأدفع لقول قائل من خصومه : إنه يحرف كلام قاضى القضاة ويذكر على غير وجه ، ألا ترى أن من نصب نفسه لاختصار كلام فقد ضمن على نفسه أنه قد فهم معاني ذلك الكلام حتى يصح منه اختصاره ، ومن الجائز أن يظن أنه قد فهم
__________
(1) الشافي 420 ، 421 .
(*)(17/181)
بعض المواضع ولم يكن قد فهمه على الحقيقة ، فيختصر ما في نفسه لا ما في تصنيف ذلك الشخص ، وأما من يورد كلام الناس بنصه فقد استراح من هذه التبعة ، وعرض عقل غيره وعقل نفسه على الناظرين والسامعين .
ثم نقول : إن هذا الفصل ينقسم أقساما : منها قول قاضى القضاة : لا نسلم أن أبا بكر كان في جيش أسامة .
وأما قول المرتضى : إنه قد ذكره أرباب السير والتواريخ ، وقوله : إن البلاذرى ذكره في تاريخه ، وقوله : هلا عين قاضى القضاة الكتاب الذى ذكر أنه يتضمن عدم كون أبى بكر في ذلك الجيش ! فإن الامر عندي في هذا الموضع مشتبه والتواريخ مختلفة في هذه القضية (1) ، فمنهم من يقول : إن أبا بكر كان في جمله الجيش ، ومنهم من يقول : إنه لم يكن ، وما أشار إليه قاضى القضاة بقوله في كتب المغازى لا ينتهى إلى أمر صحيح ، ولم يكن ممن يستحل القول بالباطل في دينه ولا في رئاسته .
ذكر الواقدي في كتاب المغازى أن أبا بكر لم يكن في جيش أسامة ، وإنما كان عمر ، وأبو عبيدة وسعد بن أبى وقاص ، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، وقتادة بن النعمان ، وسلمة بن أسلم ، ورجال كثير من المهاجرين ، والانصار ، قال : وكان المنكر لامارة أسامة عياش بن أبى ربيعه .
وغير الواقدي يقول : عبد الله بن عياش ، وقد قيل : عبد الله بن أبى ربيعة أخو عياش .
وقال الواقدي : وجاء عمر بن الخطاب فودع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليسير مع أسامة .
وقال : وجاء أبو بكر فقال : يا رسول الله ، أصبحت مفيقا بحمد الله ، واليوم يوم ابنه خارجة ، فإذن لى ، فأذن له ، فذهب إلى منزله بالسنح (2) وسار أسامة في العسكر ، وهذا تصريح بأن أبا بكر لم يكن في جيش أسامة .
__________
(1) في د : " القصة " .
(2) السنح : إحدي محال المدينة ، وكان بها منزل أبى بكر حين تزوج مليكة ، وقيل حبيبة بنت خارجة (ياقوت) .
(*) .(17/182)
وذكر موسى بن عقبة في كتاب " المغازى " أن أبا بكر لم يكن في جيش أسامة وكثير من المحدثين يقولون : بل كان في جيشه .
فأما أبو جعفر محمد بن جرير الطبري فلم يذكر أنه كان في جيش أسامة إلا عمر .
وقال أبو جعفر : حدثنى السدى بإسناد ذكره أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ضرب قبل وفاته بعثا على أهل المدينة ومن حولهم وفيهم عمر بن الخطاب ، وأمر عليهم أسامة ابن زيد ، فلم يجاوز آخرهم الخندق حتى قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فوقف أسامة بالناس ثم قال لعمر : أرجع إلى خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاستأذنه يأذن لى أرجع بالناس ، فإن معى وجوه الصحابة ، ولا آمن على خليفه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وثقل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأثقال المسلمين أن يتخطفهم المشركون حول المدينة ، وقالت الانصار لعمر سرا : فإن أبى إلا أن يمضى فأبلغه عنا ، واطلب إليه أن يولى امرنا رجلا أقدم سنا من أسامة ، فخرج عمر بأمر أسامة فأتى أبا بكر فأخبره بما قال أسامة ، فقال أبو بكر : لو تخطفتني الكلاب والذئاب لم أرد قضاء قضى به رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
قال : فإن الانصار أمروني أن ابلغك أنهم يطلبون إليك أن تولى أمرهم رجلا أقدم سنا من أسامة ، فوثب أبو بكر - وكان جالسا - فأخذ بلحية عمر وقال : ثكلتك أمك يابن الخطاب ! أيستعمله رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتأمرني أن أنزعه ! فخرج عمر إلى الناس ، فقالوا له : ما صنعت ؟ فقال : امضوا ثكلتكم أمهاتكم ! ما لقيت في سبيلكم اليوم من خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ! ثم خرج أبو بكر حتى أتاهم فأشخصهم (1) وسبيلكم اليوم من خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ! ثم خرج أبو بكر حتى أتاهم فأشخصهم (1) وشيعهم ، وهو ماش وأسامة راكب ، وعبد الرحمن ابن عوف يقود دابة أبى بكر ، فقال له أسامة بن زيد : يا خليفة رسول الله ، لتركبن أو لانزلن ، فقال : والله لا تنزل ولا أركب ، وما على أن أغبر قدمى في سبيل الله ساعة
__________
(1) أشخصهم : بعث بهم .
(*)(17/183)
فإن للغازي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة تكتب له ، وسبعمائة درجة ترفع له ، وسبعمائة خطيئة تمحى عنه ، حتى إذا انتهى قال لاسامة : إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل ، فاذن له ثم قال : أيها الناس ، قفوا حتى أوصيكم بعشر فاحفظوها عنى : لا تخونوا ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلا صغيرا ، ولا شيخا كبيرا ، ولا امرأة ، ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه ، ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بعيرا ولا بقرة إلا لمأكلة ، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم للعبادة في الصوامع ، فدعوهم فيما فرغوا أنفسهم له ، وسوف تقدمون على أقوام يأتونكم بصحاف فيها ألوان الطعام ، فلا تأكلوا من شئ حتى تذكروا اسم الله عليه ، وسوف تلقون أقواما قد حصوا (1) أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب ، فاخفقوهم (2) بالسيوف خفقا ، أفناهم الله بالطعن والطاعون ، سيروا على اسم الله .
وأما قول الشيخ أبى على فإنه يدل على أنه لم يكن في جيش أسامة أمره إياه بالصلاة .
وقول المرتضى : هذا اعتراف بأن الامر بتنفيذ الجيش كان في الحال دون ما بعد الوفاة ، وهذا ينقض ما بنى عليه قاضى القضاة أمره ، فلقائل أن يقول : إنه لا ينقض ما بناه لان قاضى القضاه ما قال : إن الامر بتنفيذ الجيش ما كان إلا بعد الوفاة ، بل قال : إنه أمر ، والامر على التراخي ، فلو نفذ الجيش في الحال لجاز ، ولو تأخر إلى بعد الوفاة لجاز .
فأما إنكار المرتضى أن تكون صلاة أبى بكر بالناس كانت عن أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقد ذكرنا ما عندنا في هذا فيما تقدم .
وأما قوله : يجوز أن يكون أمره بصلاة واحدة أو صلاتين ، ثم أمره بالنفوذ بعد
__________
(1) .
حص شعره : حلقه .
(2) اخفقوهم : اضربوهم .
(*)(17/184)
ذلك فهذا لعمري جائز ، وقد يمكن أن يقال إنه لما خرج متحاملا من شده المرض فتأخر أبو بكر عن مقامه ، وصلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالناس ، أمره بالنفوذ مع الجيش ، وأسكت رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أثناء ذلك اليوم ، واستمر أبو بكر على الصلاه بالناس ، إلى أن توفى (عليه السلام) ، فقد جاء في الحديث أنه أسكت ، وأن أسامة دخل عليه فلم يستطع كلامه لكنه كان يرفع يديه ويضعهما (1) عليه كالداعي له .
ويمكن أن يكون زمان هذه السكتة قد امتد يوما أو يومين ، وهذا الموضع من المواضع المشتبهة عندي ومنها قول قاضى القضاة : إن الامر على التراخي ، فلا يلزم من تأخر أبى بكر عن النفوذ أن يكون عاصيا .
فأما قول المرتضى : الامر على الفور إما لغة عند من قال به ، أو شرعا لاجماع الكل على ان الاوامر الشرعية على الفور إلا ما خرج بالدليل ، فالظاهر في هذا الموضع صحة ما قاله المرتضى ، لان قرائن الاحوال عند من يقرأ السير ويعرف التواريخ تدل على أن الرسول (صلى الله عليه وآله) كان يحثهم على الخروج والمسير ، وهذا هو الفور .
وأما قول المرتضى وقول أسامة : لم أكن لاسأل عنك الركب ، فهو أوضح دليل على أنه عقل من الامر الفور ، لان سؤال الركب عنه بعد الوفاة لا معنى له .
فلقائل أن يقول : إن ذلك لا يدل على الفور ، بل يدل على أنه مأمور في الجملة بالنفوذ والمسير ، فإن التعجيل والتأخير (2) مفوضان إلى رأيه ، فلما قال له النبي (صلى الله عليه وآله) : لم تأخرت عن المسير ؟ قال : لم أكن لاسير وأسأل عنك الركب ، إنى انتظرت عافيتك فإنى إذا سرت وأنت على هذه الحال لم يكن لى قلب للجهاد ، بل أكون قلقا شديد الجزع أسأل
__________
(1) في د " ويحطهما " .
(2) في د " والتأجيل " .
(*)(17/185)
عنك الركبان ، وهذا الكلام لا يدل على أنه عقل من الامر الفور لا محالة ، بل هو على أن يدل على التراخي أظهر ، وقول النبي (صلى الله عليه وآله) : " لم تأخرت عن المسير ؟ " لا يدل على الفور ، لانه قد يقال مثل ذلك لمن يؤمر بالشئ على جهة التراخي إذا لم يكن سؤال إنكار .
وقول المرتضى : لان سؤال الركب عنه بعد الوفاة لا معنى له ، قول من قد توهم على قاضى القضاة أنه يقول : " إن النبي (صلى الله عليه وآله) ما أمرهم بالنفوذ إلا بعد وفاته ، ولم يقل قاضى القضاة ذلك ، وإنما ادعى أن الامر على التراخي لا غير ، وكيف يظن بقاضي القضاه أنه حمل كلام أسامه على سؤال الركب بعد الموت ! وهل كان أسامة يعلم الغيب فيقول ذاك ! وهل سأل أحد عن حال أحد من المرضى بعد موته ! فأما قول المرتضى عقيب هذا الكلام : لا معنى لقول قاضى القضاة إنه لم ينكر على أسامة تأخره ، فإن الانكار قد وقع بتكرار الامر حالا بعد حال ، فلقائل أن يقول : إن قاضى القضاة لم يجعل عدم الانكار على أسامة حجه على كون الامر على التراخي ، وإنما جعل ذلك دليلا على أن الامر كان مشروطا بالمصلحة ومن تأمل كلام قاضى القضاة الذى حكاه عنه المرتضى تحقق ذلك ، فلا يجوز للمرتضى أن ينتزعه من الوضع الذى أورده فيه ، فيجعله في موضع آخر .
ومنها قول قاضى القضاة : الامر بتنفيذ الجيش يجب أن يكون متوجها إلى الخليفة بعده ، والمخاطب لا يدخل تحت الخطاب ، واعتراض المرتضى عليه بأن لفظة " الجيش " يدخل تحتها " أبو بكر " فلابد من وجوب النفوذ عليه ، لان عدم نفوذه يسلب الجماعه اسم " الجيش " فليس بجيد ، لان لفظة " الجيش " لفظة موضوعة لجماعة من الناس قد أعدت للحرب ، فإذا خرج منها واحد أو اثنان لم يزل مسمى الجيش عن الباقين ، والمرتضى(17/186)
اعتقد أن ذلك مثل الماهيات المركبة ، نحو العشرة إذا عدم منها واحد زال مسمى العشرة ، وليس الامر كذلك ، يبين ذلك أنه لو قال بعض الملوك لمائة إنسان : أنتم جيشي ، ثم قال لواحد منهم : إذا مت فأعط كل واحد من جيشي درهما من خزانتى ، فقد جعلتك أميرا عليهم لم يكن له أن يأخذ لنفسه درهما ، ويقول : أنا من جملة الجماعة الذين أطلق عليهم لفظة الجيش .
ومنها قول قاضى القضاه : هذه القضية تدل على أنه لم يكن هناك إمام منصوص عليه ، وأما قول المرتضى : فقد بينا أن الخطاب إنما توجه إلى الحاضرين لا إلى القائم بالامر بعده ، فلم نجد في كلامه في هذا الفصل بطوله ما بين فيه ذلك ، ولا أعلم على ماذا أحال ! ولو كان قد بين - على ما زعم - أن الخطاب متوجه إلى الحاضرين ، لكان الاشكال قائما ، لانه يقال له : إذا كان الامام المنصوص عليه حاضرا عنده فلم وجه الخطاب إلى الحاضرين ! ألا ترى أنه لا يجوز أن يقول الملك للرعية : اقضوا بين هذين الشخصين والقاضى حاضر عنده ، إلا إذا كان قد عزله عن القضاء في تلك الواقعة عن الرعية ! فأما قول المرتضى : هذا ينقلب عليكم ، فليس ينقلب ، وإنما ينقلب لو كان يريد تنفيذ الجيش بعد موته فقط ، ولا يريده وهو حى ، فكان يجئ ما قاله المرتضى لينفذ القائم بالامر بعدى جيش أسامة ، فأما إذا كان يريد نفوذ الجيش من حين ما أمر بنفوذه فقد سقط القلب ، لان الخليفة حينئذ لم يكن قد تعين ، لان الاختيار ما وقع بعد ، وعلى مذهب المرتضى الامام متعين حاضر عنده نصب عينه ، فافترق الوصفان .
* * * ومنها قول قاضى القضاة : إن مخالفه أمره (صلى الله عليه وآله) في النفوذ مع الجيش أو في انفاذ الجيش لا يكون معصية وبين ذلك من وجوه :(17/187)
أحدها : أن أمره (عليه السلام) بذلك لابد أن يكون مشروطا بالمصلحة ، وألا يعرض ما هو أهم من نفوذ الجيش ، لانه لا يجوز أن يأمرهم بالنفوذ وإن أعقب ضررا في الدين ، فأما قول المرتضى : الامر المطلق يدل على ثبوت المصلحة ، ولا يجوز أن يجعل الامر المطلق ، فقول جيد إذا اعترض به على الوجه الذى أورده قاضى القضاة ، فأما إذا أورده أصحابنا على وجه آخر فإنه يندفع كلام المرتضى ، وذلك أنه يجوز تخصيص عمومات النصوص بالقياس الجلى عند كثير من أصحابنا ، على ما هو مذكور في أصول الفقه ، فلم لا يجوز لابي بكر أن يخص عموم قوله : " أنفذوا بعث أسامة " لمصلحة غلبت على ظنه في عدم نفوذه نفسه ، ولمفسدة غلبت على نفسه (1) في نفوذه نفسه مع البعث ! وثانيها : أنه (عليه السلام) كان يبعث السرايا عن اجتهاد لا عن وحى يحرم مخالفته .
فأما قول المرتضى : إن للدين تعلقا قويا بأمثال ذلك (2) ، وإنها ليست من الامور الدنياوية المحضة نحو أكله شربه ونومه ، فإنه يعود على الاسلام بفتوحه عز وقوة وعلو كلمة فيقال له : وإذا أكل اللحم وقوى مزاجه بذلك ونام نوما طبيعيا يزول عنه به المرض والاعياء ، اقتضى ذلك أيضا عز الاسلام وقوته ، فقل إن ذلك أيضا عن وحى .
ثم إن الذى يقتضيه فتوحه وغزواته وحروبه من العز وعلو الكلمة لا ينافى كون تلك الغزوات والحروب باجتهاده ، لانه لا منافاة بين اجتهاده وبين عز الدين وعلو كلمته بحروبه ، وأن الذى ينافى اجتهاده بالرأى هو مثل فرائض الصلوات ومقادير الزكوات ومناسك الحج ، ونحو ذلك من الاحكام التى تشعر بأنها متلقاة من محض الوحى ، وليس للرأى والاجتهاد فيها مدخل ، وقد خرج بهذا الكلام الجواب عن قوله :
__________
(1) في د " ظنه " .
(2) ا : " هذا " .
(*)(17/188)
لو جاز أن تكون السرايا والحروب عن اجتهاده ، لجاز أن تكون الاحكام كلها عن اجتهاده .
وأيضا فإن الصحابة كانوا يراجعونه في الحروب وآرائه التى يدبرها بها ويرجع (عليه السلام) إليهم في كثير منها بعد أن قد رأى غيره .
وأما الاحكام فلم يكن يراجع فيها أصلا ، فكيف يحمل أحد البابين على الاخر .
فأما قوله : لو كانت عن اجتهاد لوجب أن يحرم مخالفته فيها وهو حى ، لا فرق بين الحالين ، فلقائل أن يقول : القياس يقتضى ما ذكرت ، إلا أنه وقع الاجماع على أنه لو كان في الاحكام أو في الحروب والجهاد ما هو باجتهاده لما جازت مخالفته ، والعدول عن مذهبه وهو حى لم يختلف أحد من المسلمين في ذلك ، وأجازوا مخالفته بعد وفاته بتقدير أن يكون ما صار إليه عن اجتهاد ، والاجماع حجة .
فأما قول قاضى القضاة : لان اجتهاده وهو حى أولى من اجتهاد غيره ، فليس يكاد يظهر ، لان اجتهاده ، وهو ميت أولى أيضا من اجتهاد غيره ، ويغلب على ظنى أنهم فرقوا بين حالتى الحياة والموت ، فإن في مخالفته وهو حى نوعا من اذى له ، وأذاه محرم لقوله تعالى : (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) (1) ، والاذى بعد الموت لا يكون ، فافترق الحالان .
* * * وثالثها : أنه لو كان الامام منصوصا عليه لجاز أن يسترد جيش أسامة أو بعضه لنصرته ، فكذلك إذا كان بالاختيار ، وهذا قد منع منه المرتضى ، وقال : إنه لا يجوز للمنصوص عليه ذلك ، ولا أن يولى من عزله رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ولا أيعزل من ولاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
__________
(1) سورة الاحزاب 53 .
(*)(17/189)
ورابعها : أنه (عليه السلام) ترك حرب معاوية في بعض الحالات ، ولم يوجب ذلك أن يكون عاصيا ، فكذلك أبو بكر في ترك النفوذ في جيش أسامة .
فأما قول المرتضى : إن عليا (عليه السلام) كان مأمورا بحرب معاوية مع التمكن ووجود الانصار ، فإذا عدما لم يكن مامورا بحربه ، فلقائل أن يقول : وأبو بكر كان مأمورا بالنفوذ في جيش أسامة مع التمكن ووجود الانصار ، وقد عدم التمكن لما استخلف ، فإنه قد تحمل أعباء الامامة وتعذر عليه الخروج عن المدينة ، التى هي دار الامامة ، فلم يكن مأمورا الحال هذه بالنفوذ في جيش أسامة .
فإن قلت : الاشكال عليكم إنما هو من قبل الاستخلاف ، كيف جاز لابي بكر أن يتأخر عن المسير ؟ وكيف جاز له أن يرجع إلى المدينة وهو مأمور بالمسير ؟ وهلا نفذ لوجهه ولم يرجع ، وإن بلغه موت رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
قلت لعل أسامة أذن له ، فهو مأمور بطاعته ، ولانه رأى أسامة وقد عاد باللواء فعاد هو لانه لم يكن يمكنه أن يسير إلى الروم وحده ، وأيضا فإن أصحابنا قالوا : إن ولاية أسامة بطلت بموت النبي (صلى الله عليه وآله) ، وعاد الامر إلى رأى من ينصب للامر ، قالوا : لان تصرف أسامة إنما كان من جهة النبي (صلى الله عليه وآله) ، ثم زال تصرف النبي (صلى الله عليه وآله) بموته ، فوجب أن يزول تصرف أسامة لان تصرفه تبع لتصرف الرسول (صلى الله عليه وآله) .
قالوا : وذلك كالوكيل تبطل وكالته بموت الموكل ، قالوا : ويفارق الوصي لان ولايته لا تثبت إلا بعد موت الموصى ، فهو كعهد الامام إلى غيره لا يثبت إلا بعد موت الامام ثم فرع أصحابنا على هذا الاصل مسألة وهى : الحاكم هل ينعزل بموت الامام أم لا قال قوم من أصحابنا : لا ينعزل وبنوه على أن التولى من غير جهة الامام يجوز ، فجعلوا الحاكم نائبا عن المسلمين أجمعين ، لا عن الامام ،(17/190)
وأن وقف تصرفه على اختياره ، وصار ذلك عندهم بمنزلة أن يختار المسلمون واحدا يحكم بينهم ، ثم يموت من رضى بذلك ، فإن تصرفه يبقى على ما كان عليه وقال قوم من أصحابنا : ينعزل ، وإن هذا النوع من التصرف لا يستفاد إلا من جهة الامام ولا يقوم به غيره ، وإذا ثبت أن أسامة قد بطلت ولايته لم تبق تبعة (1) على أبى بكر في الرجوع من بعض الطريق الى المدينة .
* * * وخامسها : أن أمير المؤمنين عليه السلام ولى أبا موسى الحكم ، وولى رسول الله (صلى الله عليه وآله) خالد بن الوليد السرية إلى الغميصاء (2) وهذا الكلام إنما ذكره قاضى القضاة تتمة لقوله : إن أمره عليه السلام بنفوذ بعث أسامة كان مشروطا بالمصلحة ، قال : كما أن توليته (عليه السلام) أبا موسى كانت مشروطة باتباع القرآن ، وكما أن تولية رسول الله (صلى الله عليه وآله) خالد بن الوليد كانت مشروطة بأن يعمل بما أوصاه به ، فخالفا ولم يعملا الحق ، فإذا كانت هذه الاوامر مشروطة فكذلك أمره جيش أسامة بالنفوذ كان مشروطا بالمصلحة وألا يعرض ما يقتضى رجوع الجيش أو بعضه إلى المدينة ، وقد سبق القول في كون الامر مشروطا .
وسادسها : أن أبا بكر كان محتاجا إلى مقام عمر عنده ليعاضده (3) ويقوم في تمهيد أمر الامامة ما لا يقوم به غيره ، فكان ذلك أصلح في باب الدين من مسيره (3) مع الجيش ، فجاز أن يحبسه عنده لذلك ، وهذا الوجه مختص بمن قال : إن أبا بكر لم يكن في الجيش ، وإيضاح عذره في حبس عمر عن النفوذ (5) مع الجيش .
__________
(1) ا : " شئ " .
(2) الغميصاء : موضع أوقع فيه خالد بن الوليد ببني جذيمة .
(3) بعدها في ا ، " ويعاونه " .
(4) ا : " سيره " .
(5) ا : " التنفيذ " .
(*)(17/191)
فأما قول المرتضى فإن ذلك غير جائز ، لان مخالفة النص حرام ، فقد قلنا : إن هذا مبنى على مسألة تخصيص العمومات الواردة في القرآن بالقياس .
وأما قوله : أي حاجة كانت لابي بكر إلى عمر بعد وقوع البيعة ، ولم يكن هناك تنازع ولا اختلاف ! فعجيب ، وهل كان لو لا مقام عمر وحضوره في تلك المقامات يتم لابي بكر أمر أو ينتظم له حال ! ولو لا عمر لما بايع على ولا الزبير ، ولا أكثر الانصار ، والامر في هذا أظهر من كل ظاهر .
وسابعها : أن من يصلح للامامة ممن ضمه جيش أسامة يجب تأخرهم ليختار للامامة أحدهم ، فإن ذلك أهم من نفوذهم ، فإذا جاز لهذه العلة التأخر قبل العقد جاز التأخر بعده للمعاضدة وغيرها .
فأما قول المرتضى : إن ذلك الجيش لم يضم من يصلح للامامة ، فبناء على مذهبه في أن كل من ليس بمعصوم لا يصلح للامامة .
فأما قوله : ولو صح ذلك لم يكن عذرا في التأخر ، لان من خرج في الجيش يمكن أن يختار ولو كان بعيدا ، ولا يمكن بعده من صحه الاختيار ، فلقائل أن يقول : دار الهجرة هي التى فيها أهل الحل والعقد ، وأقارب رسول الله (صلى الله عليه وآله) والقراء وأصحاب السقيفة ، فلا يجوز العدول عن الاجتماع والمشاورة فيها إلى الاختيار على البعد ، وعلى جناح السفر من غير مشاركة من ذكرنا من أعيان المسلمين .
فأما قوله : ولو صح هذا العقد لكان عذرا في التأخر قبل العقد ، فأما بعد إبرامه فلا عذر فيه ، فلقائل أن يقول : إذا أجزت التأخر قبل العقد لنوع من المصلحة فأجز التأخر بعد العقد لنوع آخر من المصلحة ، وهو المعاضدة والمساعدة .(17/192)
هذه الوجوه السبعة كلها لبيان قوله : تأخر أبى بكر أو عمر عن النفوذ في جيش أسامة وإن كان مأمورا بالنفوذ .
* * * ثم نعود إلى تمام أقسام الفصل .
ومنها قول قاضى القضاة لا معنى لقول من قال : إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قصد إبعادهم عن المدينة ، لان بعدهم عنها لا يمنعهم من أن يختاروا واحدا منهم للامامة ، ولانه (عليه السلام) لم يكن قاطعا على موته لا محالة ، لانه لم يرد نفذوا جيش أسامة في حياته .
وقد اعترض المرتضى هذا فقال : إنه لم يتبين معنى الطعن ، لان الطاعن لا يقول : إنهم أبعدوا عن المدينة كى لا يختاروا واحدا للامامة ، بل يقول : إنما أبعدوا لينتصب بعد موته (صلى الله عليه وآله) في المدينة الشخص الذى نص عليه ولا يكون حاضرا بالمدينة من يخالفه وينازعه ، وليس يضرنا ألا يكون (صلى الله عليه وآله) قاطعا على موته ، لانه وإن لم يكن قاطعا فهو لا محالة يشفق ويخاف من الموت ، وعلى الخائف أن يتحرز مما يخاف منه ، وكلام المرتضى في هذا الموضع أظهر من كلام قاضى القضاة .
ومنها قول قاضى القضاة : إن ولاية أسامة عليهما لا تقتضي كونهما دونه في الفضل ، كما أن عمرو بن العاص لما ولى عليهما لم يقتض كونه أفضل منهما .
وقد اعترض المرتضى هذا بأنه (2) يقبح تقديم المفضول على الفاضل فيما هو أفضل منه ، وأن تقديم عمرو بن العاص عليهما في الامرة يقتضى أن يكون أفضل منهما فيما يرجع إلى الامره والسياسة ، ولا يقتضى أفضليته عليهما في غير ذلك ، وكذلك القول في أسامة .
__________
(1) انظر ص 182 .
(2) د : " فإنه " .
(*)(17/193)
ولقائل أن يقول أن الملوك قد يؤمرون الامراء على الجيوش لوجهين : أحدهما أن يقصد الملك بتأمير ذلك الشخص أن يسوس الجيش ويدبره بفضل رأيه وشيخوخته وقديم تجربته وما عرف من يمن نقيبته في الحرب وقود العساكر ، والثانى أن يؤمر على الجيش غلاما حدثا من غلمانه أو من ولده أو من أهله ، ويأمر الاكابر من الجيش أن يثقفوه ويعلموه ، ويأمره أن يتدبر بتدبيرهم ، ويرجع إلى رأيهم ، ويكون قصد الملك من ذلك تخريج ذلك الغلام وتمرينه على الامارة ، وأن يثبت له في نفوس الناس منزلة ، وأن يرشحه لجلائل (1) الامور ومعاظم الشئون ، ففى الوجه الاول يقبح تقديم المفضول على الفاضل ، وفى الوجه الثاني لا يقبح ، فلم لا يجوز أن يكون تأمير أسامة عليهما من قبيل الوجه الثاني ؟ والحال يشهد لذلك ، لان أسامة كان غلاما لم يبلغ ثمانى عشرة سنة حين قبض النبي (صلى الله عليه وآله) ، فمن أين حصل له من تجربة الحرب وممارسة الوقائع وقود الجيش ما يكون به أعرف بالامرة من أبى بكر وعمر وأبى عبيدة وسعد بن أبى وقاص وغيرهم ! ومنها قول قاضى القضاة : إن السبب في كون عمر في الجيش أنه أنكر على عبد الله ابن عياش بن أبى ربيعة تسخطه إمرة أسامة ، وقال : أنا أخرج في جيش أسامة ، فخرج من تلقاء نفسه تعظيما لامر رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
وقد اعترضه المرتضى فقال : هذا شئ لم نسمعه من راو ، ولا قرأناه في كتاب ، وصدق المرتضى فيما قال ، فإن هذا حديث غريب لا يعرف .
وأما قول عمر : دعني أضرب عنقه فقد نافق ، فمنقول مشهور لا محالة ، وإنما الغريب الذى لم يعرف كون عمر خرج من تلقاء نفسه في الجيش مراغمة لعبد الله بن عياش ابن أبى ربيعه ، حيث أنكر ما انكر ، ولعل قاضى القضاة سمعه من راو أو نقله من كتاب ، إلا أنا نحن ما وقفنا على ذلك .
__________
(1) ب : " بجلائل " ، وما أثبته من ا ، د .
(2) ا : " سخطه " .
(*)(17/194)
الطعن الخامس قالوا : إنه (صلى الله عليه وآله) لم يول أبا بكر الاعمال وولى غيره ولما ولاه الحج بالناس وقراءه سورة براءة على الناس ، عزله عن ذلك كله .
وجعل الامر ألى أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وقال : " لا يؤدي عنى إلا أنا أو رجل منى " ، حتى يرجع أبو بكر إلى النبي (صلى الله عليه وآله) .
أجاب قاضى القضاة فقال : لو سلمنا أنه لم يوله ، لما دل ذلك على نقص ، ولا على أنه لم يصلح للامارة والامامة ، بل لو قيل : إنه لم يوله لحاجته إليه بحضرته ، وإن ذلك رفعة له لكان أقرب ، لا سيما ، وقد روى عنه ما يدل على انهما وزيراه ، وأنه كان (صلى الله عليه وآله) محتاجا إليهما ، وإلى رأيهما ، فلذلك لم يولهما ، ولو كان للعمل على تركه فضل لكان عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وغيرهما أفضل من أكابر الصحابة ، لانه (عليه السلام) ولاهما وقدمهما ، وقد قدمنا أن توليته هي بحسب الصلاح ، وقد يولى المفضول على الفاضل تارة والفاضل أخرى ، وربما ولى الواحد لاستغنائه عنه بحضرته ، وربما ولاه لاتصال بينه وبين من يولى عليه ، إلى غير ذلك .
ثم ادعى أنه ولى أبا بكر على الموسم والحج قد ثبتت بلا خلاف بين أهل الاخبار ولم يصح أنه عزله ولا يدل رجوع أبى بكر إلى النبي (صلى الله عليه وآله) مستفهما عن القصة على العزل ، ثم جعل إنكار من أنكر حج أبى بكر في تلك السنة بالناس ، كإنكار عباد وطبقته أخذ أمير المؤمنين (عليه السلام) سورة براءة من أبى بكر .
وحكى عن أبى على أن المعنى كان في أخذ السورة من أبى بكر أن من عاده العرب أن سيدا من سادات قبائلهم إذا عقد عقد القوم ، فإن ذلك العقد لا ينحل إلا أن يحله هو أو بعض سادات قومه ، فلما كان هذا عادتهم وأراد النبي (صلى الله عليه وآله) أن ينبذ (1) إليهم عقدهم ، وينقض ما كان بينه وبينهم علم
__________
(1) نبذ العقد : نقضه .
(*)(17/195)
أنه لا ينحل ذلك إلا به أو بسيد من سادات رهطه فعدل عن ابى بكر إلى أمير المؤمنين المقرب في النسب .
ثم ادعى أنه (صلى الله عليه وآله) ولى أبا بكر في مرضه الصلاة ، وذلك أشرف الولايات ، وقال في ذلك : يأبى الله ورسوله والمسلمون إلا أبا بكر .
ثم اعترض نفسه بصلاته (عليه السلام) خلف عبد الرحمن بن عوف : وأجاب بأنه (صلى الله عليه وآله) إنما صلى خلفه لا أنه ولاه الصلاة وقدمه فيها .
قال : وإنما قدم عبد الرحمن عند غيبة النبي (صلى الله عليه وآله) فصلى بغير أمره ، وقد ضاق الوقت ، فجاء النبي (صلى الله عليه وآله) فصلى خلفه .
اعترض المرتضى فقال : قد بينا أن تركه (صلى الله عليه وآله) الولاية لبعض أصحابه مع حضوره وإمكان ولايته والعدول عنه إلى غيره ، مع تطاول الزمان وامتداده ، لابد من أن تقتضي غلبة الظن بأنه لا يصلح للولاية ، فأما ادعاؤه أنه لم يوله لافتقاره إليه بحضرته وحاجته إلى تدبيره ورأيه ، فقد بينا أنه (عليه السلام) ما كان يفتقر إلى رأى أحد لكماله ورجحانه على كل أحد ، وإنما كان يشاور أصحابه على سبيل التعليم لهم والتأديب ، أو لغير ذلك مما قد ذكر .
وبعد فكيف استمرت هذه الحاجة ، واتصلت منه إليهما حتى لم يستغن في زمان من الازمان عن حضورهما فيوليهما ! وهل هذا إلا قدح في رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونسبته إلى أنه كان ممن يحتاج إلى أن يلقن ويوقف على كل شئ ، وقد نزهه الله تعالى عن ذلك ! فأما ادعاؤه أن الرواية قد وردت بأنهما وزيراه فقد كان يجب أن يصحح ذلك قبل أن يعتمده ويحتج به ، فإنا ندفعه عنه أشد دفع .
فأما ولاية عمرو بن العاص وخالد بن الوليد فقد تكلمنا عليها من قبل ، وبينا أن ولايتهما تدل على صلاحهما لما ولياه ، ولا تدل على صلاحهما للامامة لان شرائط الامامة لم تتكامل فيهما ، وبينا أيضا أن ولاية المفضول على الفاضل لا تجوز ، فأما تعظيمه
__________
(1) نقله المرتضى في الشافي 421 .
(*)(17/196)
وإكباره قول من يذهب إلى أن أبا بكر عزل عن أداء السورة والموسم جميعا ، وجمعه بين ذلك في البعد وبين إنكار عباد أن يكون أمير المؤمنين (عليه السلام) ارتجع سوره براءة من أبى بكر ، فأول ما فيه أنا لا ننكر أن يكون أكثر الاخبار واردة بأن ابا بكر حج بالناس في تلك السنه إلا أنه قد روى قوم من أصحابنا خلاف ذلك ، وأن أمير المؤمنين عليه السلام كان أمير الموسم في تلك السنة ، وإن عزل الرجل كان عن الامرين معا .
واستكبار ذلك .
وفيه خلاف لا معنى له ، فأما ما حكاه عن عباد فإنا لا نعرفه ، وما نظن أحدا يذهب إلى مثله ، وليس يمكنه بإزاء ذلك جحد مذهب أصحابنا الذى حكيناه ، وليس عباد لو صحت الرواية عنه بإزاء من ذكرناه ، فهو ملئ بالجهالات ودفع الضرورات .
وبعد ، فلو سلمنا أن ولاية الموسم لم تفسخ لكان الكلام باقيا ، لانه إذا كان ما ولى مع تطاول الزمان إلا هذه الولاية ثم سلب شطرها ، والافخم الاعظم منها ، فليس ذلك إلا تنبيها على ما ذكرناه .
فأما ما حكاه عن أبى على من أن عادة العرب ألا يحل ما عقده الرئيس منهم إلا هو أو المتقدم من رهطه ، فمعاذ الله أن يجرى النبي (صلى الله عليه وآله) سنته وأحكامه على عادات الجاهلية ، وقد بين (عليه السلام) لما رجع إليه أبو بكر يسأله عن اخذ السورة منه الحال ، فقال أنه أوحى إلى ألا يؤدى عنى إلا أنا أو رجل منى ، ولم يذكر ما ادعاه أبو على ، على أن هذه العادة قد كان يعرفها النبي (صلى الله عليه وآله) قبل بعثه أبا بكر بسورة براءة فما باله لم يعتمدها في الابتداء ويبعث من يجوز أن يحل عقده من قومه ! فأما ادعاؤه ولاية أبى بكر الصلاة فقد ذكرنا فيما تقدم أنه لم يوله إياها .
فأما فصله بين صلاته خلف عبد الرحمن وبين صلاه أبى بكر بالناس ، فليس بشئ ، لانا إذا كنا قد دللنا على أن الرسول (صلى الله عليه وآله) ما قدم أبا بكر إلى الصلاه ، فقد(17/197)
استوى الامران .
وبعد ، فأى فرق بين أن يصلى خلفه وبين أن يوليه ويقدمه ، ونحن نعلم أن صلاته خلفه إقرار لولايته ورضا بها ، فقد عاد الامر إلى أن عبد الرحمن كأنه قد صلى بأمره وإذنه ! على أن قصه عبد الرحمن أوكد ، لانه قد اعترف بأن الرسول صلى خلفه ، ولم يصل خلف أبى بكر ، وإن ذهب كثير من الناس إلى أنه قدمه وأمر بالصلاة قبل خروجه إلى المسجد وتحامله .
ثم سأل المرتضى رحمه الله نفسه ، فقال : إن قيل : ليس يخلو النبي (صلى الله عليه وآله) من أن يكون سلم في الابتداء سورة براءة إلى أبى بكر بأمر الله أو باجتهاده ورأيه فإن كان بأمر الله تعالى ، فكيف يجوز أن يرتجع منه السورة قبل وقت الاداء ، وعندكم أنه لا يجوز نسخ الشئ قبل تقضى وقت فعله ! وإن كان باجتهاده (صلى الله عليه وآله) ، فعندكم أنه لا يجوز أن يجتهد فيما يجرى هذا المجرى ! وأجاب فقال : إنه ما سلم السورة إلى أبى بكر إلا بإذنه تعالى ، إلا أنه لم يأمره بأدائها ، ولا كلفه قراءتها على أهل الموسم لان أحدا لم يمكنه أن ينقل عنه عليه السلام في ذلك لفظ الامر والتكليف ، فكأنه سلم سورة براءه (عليه السلام) إليه لتقرأ على أهل الموسم ، ولم يصرح بذكر القارئ المبلغ لها في الحال ، ولو نقل عنه تصريح لجاز أن يكون مشروطا بشرط لم يظهر .
فإن قيل : فأى فائدة في دفع السورة إلى أبى بكر وهو لا يريد أن يؤديها ثم ارتجاعها منه ؟ وهلا دفعت في الابتداء إلى أمير المؤمنين عليه السلام .
قيل : الفائدة في ذلك ظهور فضل أمير المؤمنين (عليه السلام) ومرتبته ، وأن الرجل الذى نزعت السورة عنه لا يصلح لما يصلح له ، وهذا غرض قوى في وقوع الامر على ما وقع عليه (1)
__________
(1) الشافي 421 ، 422 .
(*)(17/198)
قلت : قد ذكرنا فيما تقدم القول في تولية الملك بعض أصحابه ، وترك تولية بعضهم ، وكيفيه الحال في ذلك ، على أنه قد روى أصحاب المغازى أنه أمر أبا بكر في شعبان من سنة سبع على سرية بعثها إلى نجد فلقوا جمعا من هوازن فبيتوهم (1) ، فروى إياس بن سلمة عن أبيه قال : كنت في ذلك البعث ، فقتلت بيدى سبعة منهم ، وكان شعارنا : " أمت أمت " ، وقتل من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) قوم ، وجرح أبو بكر وارتث (2) وعاد إلى المدينة ، على أن أمراء السرايا الذين كان يبعثهم (صلى الله عليه وآله) كانوا قوما مشهورين بالشجاعة ولقاء الحروب ، كمحمد بن مسلمة ، وأبى دجانة ، وزيد بن حارثة ونحوهم ، ولم يكن أبو بكر مشهورا بالشجاعة ولقاء الحروب ، ولم يكن جبانا ولا خوارا (3) وإنما كان رجلا مجتمع القلب عاقلا ، ذا رأى وحسن تدبير ، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يترك بعثه في السرايا ، لان غيره أنفع منه فيها ، ولا يدل ذلك على أنه لا يصلح للامامة ، وأن الامامة لا تحتاج أن يكون صاحبها من المشهورين بالشجاعة ، وإنما يحتاج إلى ثبات القلب ، وألا يكون هلعا طائر (4) الجنان .
وكيف يقول المرتضى : إنه (صلى الله عليه وآله) لم يكن محتاجا إلى رأى أحد ، وقد نقل الناس كلهم رجوعه من رأى إلى رأى عند المشورة ، نحو ما جرى يوم بدر من تغير المنزل لما أشار عليه الحباب بن المنذر ، ونحو ما جرى يوم الخندق من فسخ رأيه في دفع ثلث تمر المدينة إلى عيينه بن حصن ليرجع بالاحزاب عنهم ، لاجل ما رآه سعد بن معاذ وسعد بن عبادة من الحرب ، والعدول عن الصلح ، ونحو ما جرى في تلقيح النخل بالمدينة وغير ذلك ! فأما ولاية أبى بكر الموسم فأكثر الاخبار على ذلك ، ولم يرو عزله عن الموسم إلا قوم من الشيعة .
__________
(1) بيتوهم ، أي دبروا أمرهم .
(2) ارتث ، على البناء للمجهول : حمل من المعركة رثيثا ، أي جريحا وبه رمق .
(3) الخوار : الضعيف .
(4) الهلع : أفحش الجمع .
(*)(17/199)
وأما ما أنكره المرتضى من حال عباد بن سليمان ودفعه أن يكون على أخذ براءة من أبى بكر واستغرابه ذلك عجب ، فإن قول عباد قد ذهب إليه كثير من الناس ، ورووا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يدفع براءة إلى أبى بكر ، وأنه بعد أن نفذ أبو بكر بالحجيج أتبعه عليا ومعه تسع آيات من براءة ، وقد أمره أن يقرأها على الناس ويؤذنهم بنقض العهد وقطع الدنية ، فانصرف أبو بكر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فأعاده على الحجيج ، وقال له : أنت الامير ، وعلى المبلغ ، فإنه يبلغ عنى إلا أنا أو رجل منى ، ولم ينكر عباد أمر براءة بالكلية ، وإنما أنكر أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله) دفعها إلى أبى بكر ثم انتزعها ، منه وطائفة عظيمة من المحدثين يروون ما ذكرناه ، وإن كان الاكثر الاظهر أنه دفعها إليه ثم أتبعه بعلى (عليه السلام) فانتزعها منه ، والمقصود أن المرتضى قد تعجب مما لا يتعجب من مثله ، فظن أن عبادا أنكر حديث براءة بالكلية ، وقد وقفت أنا على ما ذكره عباد في هذه القضية في كتابه المعروف بكتاب " الابواب " ، وهو الكتاب الذى نقضه شيخنا أبو هاشم ، فأما عذر شيخنا أبى على ، وقوله : إن عادة العرب ذلك ، واعتراض المرتضى عليه ، فالذي قاله المرتضى أصح وأظهر ، وما نسب إلى عادة العرب غير معروف ، وإنما هو تأويل تأول به متعصبو أبى بكر لانتزاع براءة منه ، وليس بشئ .
ولست أقول ما قاله المرتضى من أن غرض رسول الله (صلى الله عليه وآله) إظهار أن أبا بكر لا يصلح للاداء عنه بل أقول : فعل ذلك لمصلحة رآها ، ولعل السبب في ذلك أن عليا (عليه السلام) من بنى عبد مناف وهم جمرة قريش بمكه ، وعلى أيضا شجاع لا يقام له (1) ، وقد حصل في صدور قريش منه الهيبة الشديدة والمخافة العظيمة فإذا حصل مثل هذا الشجاع البطل وحوله من بنى عمه وهم أهل العزة والقوة والحمية
__________
(1) ب : " لا يقال " تحريف .
(*)(17/200)
كان أدعى إلى نجاتة من قريش ، وسلامة نفسه وبلوغ الغرض من نبذ العهد على يده ألا ترى أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في عمره الحديبية بعث عثمان بن عفان إلى مكة يطلب منهم الاذن له في الدخول ، وإنما بعثه لانه من بنى عبد مناف ، ولم يكن بنو عبد مناف - وخصوصا بنى عبد شمس - ليمكنوا من قتله ، ولذلك حمله بنو سعيد ابن العاص على بعير يوم دخل مكة وأحدقوا به مستلئمين بالسلاح ، وقالوا له : أقبل وأدبر ، ولا تخف أحدا ، بنو سعيد أعزه الحرم .
وأما القول في تولية رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبا بكر الصلاة ، فقد تقدم ، وما رامه قاضى القضاة من الفرق بين صلاة أبى بكر بالناس وصلاة عبد الرحمن بهم ، مع كون رسول الله (صلى الله عليه وآله) صلى خلفه ضعيف ، وكلام المرتضى أقوى منه .
فأما السؤال الذى سأله المرتضى من نفسه فقوى ، والجواب الصحيح أن بعث براءة مع أبى بكر كان باجتهاد من الرسول (صلى الله عليه وآله) ولم يكن عن وحى ولا من جملة الشرائع التى تتلقى عن جبرائيل (عليه السلام) ، فلم يقبح نسخ ذلك قبل تقضى وقت فعله ، وجواب المرتضى ليس بقوى ، لانه من البعيد أن يسلم سورة براءة إلى أبى بكر ولا يقال له : ما ذا تصنع بها ؟ بل يقال : خذ هذه معك لا غير .
والقول بأن الكلام مشروط بشرط لم يظهر خلاف الظاهر ، وفتح هذا الباب يفسد كثيرا من القواعد .
* * * الطعن السادس إن أبا بكر لم يكن يعرف الفقه وأحكام الشريعة ، فقد قال في الكلالة (2) : أقول
__________
(1) المستلئم : لابس اللامة .
(2) الكلالة : من لا ولد والد ، وما لم يكن من النسب لى .
(*)(17/201)
فيها برأيى ، فإن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمنى (1) ، ولم يعرف ميراث الجد ، ومن حاله هذه لا يصلح للامامة .
أجاب قاضى القضاة بأن الامام لا يجب أن يعلم جميع الاحكام ، وأن القدر الذى يحتاج إليه هو القدر الذى يحتاج إليه الحاكم ، وأن القول بالرأى هو الواجب فيما لا نص فيه ، وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) بالرأى في مسائل كثيرة .
اعترض المرتضى فقال : قد دللنا على أن الامام لا بد أن يكون عالما بجميع الشرعيات ، وفرقنا بينه وبين الحاكم ، ودللنا على فساد الرأى والاجتهاد .
وأما أمير المؤمنين (عليه السلام) فلم يقل قط بالرأى ، وما يروى من خبر بيع أمهات الاولاد غير صحيح ، ولو صح لجاز أن يكون أراد بالرأى الرجوع إلى النصوص والادلة ، ولا شبهة عندنا أن قوله كان واحدا في الحالين (2) ، وإن ظهر في أحدهما خلاف مذهبه للتقية (3) .
قلت : هذا الطعن مبنى على أمرين : أحدهما هل من شرط الامامة أن يعلم الامام كل الاحكام الشرعية أم لا ؟ وهذا مذكور في كتبنا الكلامية ، والثانى هو القول في الاجتهاد والرأى حق أم لا ؟ وهذا مذكور في كتبنا الاصولية .
* * * الطعن السابع قصة خالد بن الوليد وقتله مالك بن نويرة ومضاجعته امرأته من ليلته ، وأن أبا بكر
__________
(1) الشافي : فمني ومن الشيطان ، ونحو قوله وقد سئل عن قوله : (وفاكهة وأبا) ، فلم يعرف معناه ، والاب : المرعي في اللغة ، لا يذهب على أحد له أدني له أنس بالعربية ، ونحو ميراث الجدة وأنه لم يعرف الحكم فيه ، ونظائر ذلك كثيرة معروفة .
(2) ب : " القولين " (3) انظر الشافي 422 .
(*)(17/202)
ترك إقامة الحد عليه ، وزعم أنه سيف من سيوف الله سله الله على أعدائه ، مع أن الله تعالى قد أوجب القود وحد الزنا عموما ، وأن عمر نبهه وقال له : اقتله ، فإنه قتل مسلما .
أجاب قاضى القضاة فقال : إن شيخنا أبا على قال : إن الردة ظهرت من مالك بن نويرة ، لانه جاء في الاخبار أنه رد صدقات قومه عليهم لما بلغه موت رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما فعله سائر أهل الرده فاستحق القتل ، فإن قال : قائل : فقد كان يصلى ، قيل له : وكذلك سائر أهل الردة ، وإنما كفروا بالامتناع من الزكاة ، واعتقادهم إسقاط وجوبها دون غيره .
فإن قيل : فلم أنكر عمر ؟ قيل : كان الامر إلى أبى بكر ، فلا وجه لانكار عمر ، وقد يجوز أن يعلم أبو بكر من الحال ما يخفى على عمر .
فإن قيل : فما معنى ما روى عن أبى بكر من أن خالدا تأول فأخطأ ، قيل : أراد عجلته عليه بالقتل ، وقد كان الواجب عنده على خالد أن يتوقف للشبهة .
واستدل أبو على على ردته ، بأن أخاه متمم بن نويرة لما أنشد عمر مرثيتة أخاه قال له : وددت أنى أقول الشعر فأرثى أخى زيدا بمثل ما رثيت به أخاك ! فقال متمم : لو قتل أخى على مثل ما قتل عليه أخوك ما رثيته ، فقال عمر : ما عزاني أحد بمثل تعزيتك فدل هذا على أن مالكا لم يقتل على الاسلام كما قتل زيد .
وأجاب عن تزويج خالد بامرائه بأنه إذا قتل على الردة في دار الكفر جاز تزويج امرأتة عند كثير من أهل العلم ، وإن كان لا يجوز أن يطأها إلا بعد الاستبراء .
وحكى عن أبى على أنه إنما قتله لانه ذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال : " صاحبك " ، وأوهم بذلك أنه ليس بصاحب له ، وكان عنده أن ذلك ردة وعلم عند المشاهدة(17/203)
المقصد ، وهو أمير القوم ، فجاز أن يقتله وإن كان الاولى ألا يستعجل ، وأن يكشف الامر في ردته حتى يتضح ، فلهذا لم يقتله أبو بكر به .
فاما وطؤه لامرأته فلم يثبت ، فلا يصح أن يجعل طعنا فيه (1) .
اعترض المرتضى فقال : أما منع خالد في قتل مالك بن نويرة واستباحة أمرأته وأمواله لنسبته إياه إلى رده لم تظهر منه ، بل كان الظاهر خلافها من الاسلام ، فعظيم .
ويجرى مجراه في العظم تغافل من تغافل عن أمره ، ولم يقم فيه حكم الله تعالى ، وأقره على الخطأ الذى شهد هو به على نفسه ، ويجرى مجراهما من أمكنه أن يعلم الحال فأهملها ولم يتصفح ما روى من الاخبار في هذا الباب وتعصب لاسلافه ومذهبه .
وكيف يجوز عند خصومنا على مالك وأصحابه جحد الزكاة مع المقام على الصلاة ، وهما جميعا في قرن (2) ! لان العلم الضرورى بأنهما من دينه (عليه السلام) وشريعته على حد واحد ، وهل نسبة مالك إلى الردة مع ما ذكرناه إلا قدح في الاصول ونقض لما تضمنته من أن الزكاة معلومة ضرورة من دينه (عليه السلام) .
وأعجب من كل عجيب قوله : وكذلك سائر أهل الردة ، يعنى أنهم كانوا يصلون ويجحدون الزكاة ، كل عجيب قوله : وكذلك سائر أهل الردة ، يعنى أنهم كانوا يصلون ويجحدون الزكاة ، لانا قد بينا أن ذلك مستحيل غير ممكن ! وكيف يصح ذلك ، وقد روى جميع أهل النقل أن أبا بكر لما وصى الجيش الذين أنفذهم بأن يؤذنوا ويقيموا ، فإن أذن القوم كأذانهم وإقامتهم كفوا عنهم ، وإن لم يفعلوا أغاروا عليهم ، فجعل أمارة الاسلام والبراءة من الردة الاذان والاقامة ! وكيف يطلق في سائر أهل الردة ما أطلقه من أنهم كانوا يصلون ، وقد علمنا أن أصحاب مسيلمة وطليحة وغيرهما ممن كان ادعى النبوة وخلع الشريعة ما كانوا يرون الصلاة ولا شيأ مما جاءت به شريعتنا .
وقصة مالك معروفة عند من تأمل كتب السير والنقل ، لانه كان على صدقات قومه بنى
__________
(1) نقله الشافي في المرتضى 422 ، 423 .
(2) القرن : الحبل ، والكلام على الاستعارة .
(*)(17/204)
يربوع واليا من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولما بلغته وفاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمسك عن أخذ الصدقة من قومه وقال لهم : تربصوا بها حتى يقوم قائم بعد النبي (صلى الله عليه وآله) ، وننظر ما يكون من أمره وقد صرح بذلك في شعره حيث يقول : وقال رجال سدد اليوم مالك * * وقال رجال مالك لم يسدد فقلت : دعوني لا أبا لابيكم * * فلم أخط رأيا في المقام ولا الندى وقلت : خذوا أموالكم غير خائف * * ولا ناظر فيما يجئ به غدى فدونكموها إنما هي مالكم * * مصورة أخلاقها لم تجدد سأجعل نفسي دون ما تحذرونه * * وأرهنكم يوما بما قلته يدى فإن قام بالامر المجدد قائم * * أطعنا وقلنا : الدين دين محمد .
فصرح كما ترى أنه استبقى الصدقة في أيدى قومه رفقا بهم وتقربا إليهم ، إلى أن يقوم بالامر من يدفع ذلك إليه .
وقد روى جماعة من أهل السير ، وذكره الطبري في تاريخه ، أن مالكا نهى قومه عن الاجتماع على منع الصدقات وفرقهم ، وقال يا بنى يربوع ، إنا كنا قد عصينا أمراءنا إذ دعونا الى هذا الدين وبطأنا الناس عنه ، فلم نفلح ولم ننجح ، وإنى قد نظرت في هذا الامر فوجدت الامر يتاتى لهؤلاء القوم بغير سياسه ، وإذا أمر لا يسوسه الناس فإياكم ومعاداة قوم يصنع لهم فتفرقوا على ذلك إلى أموالهم ، ورجع مالك إلى منزله ، فلما قدم خالد البطاح بث السرايا وأمرهم بداعية الاسلام وان يأتوه بكل من لم يجب ، وأمرهم إن امتنع أن يقاتلوه ، فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر من بنى يربوع ، واختلف السرية في أمرهم ، وفى السرية أبو قتادة الحارث بن ربعى ، فكان ممن شهد أنهم أذنوا وأقاموا وصلوا ، فلما اختلفوا فيهم(17/205)
أمر بهم خالد فحبسوا وكانت ليلة بارده لا يقوم لها شئ ، فأمر خالد مناديا ينادى : " ادفئوا (1) أسراءكم " (2) فظنوا أنهم أمروا بقتلهم ، لان هذه اللفظة تستعمل في لغة كنانة للقتل ، فقتل ضرار بن الازور مالكا ، وتزوج خالد زوجته أم تميم بنت المنهال (3) .
وفى خبر آخر أن السرية التى بعث بها خالد لما غشيت القوم تحت الليل راعوهم ، فأخذ القوم السلاح ! قال : فقلنا : إنا المسلمون ، فقالوا : ونحن المسلمون ، قلنا : فما بال السلاح معكم ! قلنا فضعوا السلاح ، فلما وضعوا السلاح ربطوا أسارى فأتوا بهم خالدا .
فحدث أبو قتادة خالد بن الوليد أن القوم نادوا بالاسلام ، وأن لهم أمانا ، فلم يلتفت خالد إلى قولهم وأمر بقتلهم ، وقسم سبيهم ، وحلف أبو قتادة ألا يسير تحت لواء خالد في جيش أبدا ، وركب فرسه شاذا إلى أبى بكر ، فأخبره الخبر ، وقال له : إنى نهيت خالدا عن قتله ، فلم يقبل قولى ، وأخذ بشهادة الاعراب الذين غرضهم الغنائم ، وإن عمر لما سمع ذلك تكلم فيه عند أبى بكر فأكثر وقال : إن القصاص قد وجب عليه .
ولما أقبل خالد ابن الوليد قافلا دخل المسجد وعليه قباء له عليه صدأ الحديد ، معتجرا (4) بعمامة له قد غرز في عمامته أسهما ، فلما دخل المسجد قام إليه عمر فنزع الاسهم عن رأسه فحطمها ، ثم قال له : فاعدو نفسه ، أعدوت على امرئ مسلم فقتلته ثم نزوت على امرأته ! والله لنرجمنك بأحجارك .
وخالد لا يكلمه ، ولا يظن إلا أن رأى أبى بكر مثل رأيه حتى دخل إلى أبى بكر واعتذر إليه بعذره وتجاوز عنه ، فخرج خالد وعمر جالس في المسجد فقال : هلم إلى يا بن أم شملة ! فعرف عمر أن أبا بكر قد رضى عنه فلم يكلمه ، ودخل بيته (5) .
وقد روى أيضا أن عمر لما ولى جمع من عشيرة مالك بن نويرة من وجد منهم
__________
(1) ب : " ادفو " ، صوابه في د والطبري .
(2) الطبري : " أسراءكم " .
(3) تاريخ الطبري 3 : 278 (المعارف) ، مع تصرف واختصار .
(4) اعتجر العمامة : لبسها .
(5) تاريخ الطبري 3 : 279 : 280 .
(*)(17/206)
واسترجع ما وجد عند المسلمين من أموالهم وأولادهم ونسائهم ، فرد ذلك عليهم جميعا مع نصيبه كان منهم .
وقيل : إنه ارتجع بعض نسائهم من نواحى دمشق ، وبعضهن حوامل ، فردهن على أزواجهن .
فالامر ظاهر في خطأ خالد .
وخطأ من تجاوز عنه .
وقول صاحب الكتاب : إنه يجوز أن يخفى عن عمر ما يظهر لابي بكر ليس بشئ لان الامر في قصة خالد لم يكن مشتبها ، بل كان مشاهدا معلوما لكل من حضره ، وما تأول به في القتل لا يعذر لاجله ، وما رأينا أبا بكر حكم فيه بحكم المتأول ولا غيره ، ولا تلافى خطأه وزلله ، وكونه سيفا من سيوف الله على ما ادعاه لا يسقط عنه الاحكام ، ويبرئه من الاثام ، وأما قول متمم : لو قتل أخى على ما قتل عليه أخوك لما رثيته ، لا يدل على أنه كان مرتدا ، فكيف يظن عاقل أن متمما يعترف بردة أخيه وهو يطالب أبا بكر بدمه والاقتصاص من قاتليه ، ورد سبيه ، وأنه أراد في الجملة التقرب إلى عمر بتقريظ أخيه ! ثم لو كان ظاهر هذا القول كباطنه لكان إنما يقصد تفضيل قتلة زيد على قتلة مالك ، والحال في ذلك أظهر ، لان زيدا قتل في بعث المسلمين ذابا عن وجوههم ، ومالك قتل على شبهة وبين الامرين فرق .
وأما قوله في النبي (صلى الله عليه وآله) : " صاحبك " فقد قال أهل العلم : إنه أراد القرشية لان خالدا قرشي .
وبعد ، فليس في ظاهر إضافته إليه دلالة على نفيه له عن نفسه ، ولو كان علم من مقصده الاستخفاف والاهانة على ما ادعاه صاحب الكتاب لوجب أن يعتذر خالد بذلك عند أبى بكر وعمر ويعتذر به أبو بكر لما طالبه عمر بقتله ، فإن عمر ما كان يمنع من قتل قادح في نبوة النبي (صلى الله عليه وآله) ، وإن كان الامر على ذلك فأى معنى لقول أبى بكر : تأول فأخطا ! وإنما تأول فأصاب إن كان الامر على ما ذكر (1) .
__________
(1) الشافي 422 ، 423 .
(*)(17/207)
قلت : أما تعجب المرتضى من كون قوم منعوا الزكاة وأقاموا على الصلاة ودعواه أن هذا غير ممكن ولا صحيح ، فالعجب منه كيف ينكر وقوع ذلك ، وكيف ينكر إمكانه ! أما الامكان فلانه لا ملازمة بين العبادتين إلا من كونهما مقترنتين في بعض المواضع في القرآن ، وذلك لا يوجب تلازمهما في الوجود ، أو من قوله : إن الناس يعلمون كون الزكاة واجبه في دين الاسلام ضرورة ، كما تعلمون كون الصلاة في دين الاسلام ضروره ، وهذا لا يمنع اعتقادهم سقوط وجوب الزكاة لشبهة دخلت عليهم .
فإنهم قالوا : إن الله تعالى قال لرسوله : (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم قالوا : فوصف الصدقة المفروضة بأنها صدقة من شأنها أن يطهر رسول الله (صلى الله عليه وآله) الناس ويزكيهم بأخذها منهم ، ثم عقب ذلك بأن فرض عليه مع أخذ الزكاة منهم أن يصلى عليهم صلاه تكون سكنا لهم .
قالوا : وهذه الصفات لا تتحقق في غيره ، لان غيره لا يطهر الناس ويزكيهم بأخذ الصدقة ، ولا إذا صلى على الناس كانت صلاته سكنا لهم ، فلم يجب علينا دفع الزكاة إلى غيره .
وهذه الشبهة لا تنافى كون الزكاة معلوما وجوبها ضرورة من دين محمد (صلى الله عليه وآله) لانهم ما جحدوا وجوبها ، ولكنهم قالوا : إنه وجوب مشروط ، وليس يعلم بالضرورة انتفاء كونها مشروطة وإنما يعلم ذلك بنظر وتأويل ، فقد بان أن ما ادعاه من الضرورة ليس بدال على أنه لا يمكن أحد اعتقاد نفى وجوب الزكاة بعد موت الرسول ، ولو عرضت مثل هذه الشبهة في صلاة لصح لذاهب أن يذهب إلى أنها قد سقطت عن الناس ، فأما الوقوع فهو المعلوم ضرورة بالتواتر ، كالعلم بأن أبا بكر ولى الخلافة بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) ضرورة بطريق التواتر ، ومن أراد الوقوف على ذلك فلينظر في كتب التواريخ
__________
(1) سورة التوبة 103 .
(*)(17/208)
فإنها تشتمل من ذلك على ما يشفى ويكفى .
وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ الكبير بإسناد ذكره : إن أبا بكر أقام بالمدينة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتوجيهه أسامة في جيشه إلى حيث قتل أبوه زيد بن حارثه لم يحدث شيئا وجاءته وفود العرب مرتدين يقرون بالصلاة ويمنعون الصدقة ، فلم يقيل منهم وردهم ، وأقام حتى قدم أسامة بعد أربعين يوما من شخوصه ، ويقال : بعد سبعين يوما (1) .
وروى أبو جعفر ، قال : امتنعت العرب قاطبة من أداء الزكاة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا قريشا وثقيفا (2) .
وروى أبو جعفر ، عن السرى عن شعيب ، عن سيف ، عن هشام بن عروة عن أبيه ، قال : ارتدت العرب ومنعت الزكاة إلا قريشا وثقيفا ، فأما هوازن فقدمت رجلا وأخرت أخرى ، أمسكوا الصدقة (4) .
وروى أبو جعفر ، قال : لما منعت العرب الزكاة كان أبو بكر ينتظر قدوم أسامة بالجيش ، فلم يحارب أحدا قبل قدومه إلا عبسا وذبيان ، فإنه قاتلهم قبل رجوع أسامة .
وروى أبو جعفر ، قال قدمت وفود من قبائل العرب المدينة ، فنزلوا على وجوه الناس بها ، ويحملونهم إلى أبى بكر أن يقيموا الصلاة وألا يؤتوا الزكاة ، فعزم الله لابي بكر على الحق ، وقال : لو منعوني عقال بعير لجاهدتهم عليه (6) .
وروى أبو جعفر شعرا للخطيل (7) بن أوس ، أخى الحطيئة في معنى منع الزكاة ، وأن
__________
(1) تاريخ الطبري 3 : 170 .
(2) تاريخ الطبري 3 : 242 (3) ب : " السدي " ، صوابه في ا ، د وتاريخ الطبري .
(4) تاريخ الطبري 3 : 242 .
(5) تاريخ الطبري 3 : 243 .
(6) تاريخ الطبري 3 : 244 .
والعقال : الحبل الذي كان يعقل به البعير الذي يؤخذ في الصدقة (7) في الاصول : " الخطل " ، وصوابه من تاريخ الطبري .
(*)(17/209)
أبا بكر رد سؤال العرب ولم يجبهم من جملته : أطعنا رسول الله إذ كان بيننا * * فيالعباد الله ما لابي بكر ! (1) أيورثها بكر إذا مات بعده * * وتلك لعمر الله قاصمة الظهر فهلا رددتم وفدنا بإجابة * * وهلا حسبتم منه راعية البكر فإن الذى سالوكم فمنعتم * * لكالتمر أو أحلى لحلف بنى فهر (2) وروى أبو جعفر قال : لما قدمت العرب المدينة على أبى بكر فكلموه في إسقاط الزكاة ، نزلوا على وجوه الناس بالمدينة فلم يبق أحد إلا وأنزل عليه ناسا منهم ، إلا العباس ابن عبد المطلب ، ثم اجتمع الى أبى بكر المسلمون ، فخوفوه بأس العرب واجتماعها .
قال ضرار بن الازور : فما رأيت أحدا - ليس رسول الله - أملا بحرب شعواء من أبى بكر فجعلنا (3) نخوفه (3) ونروعه ، وكأنما انما نخبره بما له لا ما عليه ، واجتمعت كلمة المسلمين على إجابة العرب إلى ما طلبت ، وأبى أبو بكر أن يفعل إلا ما كان يفعله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأن يأخذ إلا ما كان يأخذ ، ثم أجلهم يوما وليلة ، ثم أمرهم بالانصراف ، وطاروا إلى عشائرهم (5) .
وروى أبو جعفر قال : كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعث عمرو بن العاص إلى عمان قبل موته ، فمات وهو بعمان ، فأقبل قافلا إلى المدينة ، فوجد العرب قد منعت الزكاة ، فنزل في بنى عامر على قرة بن هبيرة ، وقرة يقدم رجلا ويؤخر أخرى ، وعلى ذلك بنو عامر كلهم إلا الخواص .
ثم قدم المدينة فأطافت به قريش ، فاخبرهم أن العساكر معسكرة حولهم ، فتفرق المسلمون ، وتحلقوا حلقا ، وأقبل عمر بن الخطاب ، فمر بحلقة
__________
(1) أورد صاحب الاغاني البيت الاول والثاني (2 : 157 - طبعة دار الكتب) ونسبهما إلى الحطيئة .
(2) الطبري 3 : 246 ، وفيه : " أو أحلى إلى من التمر : (3) ب : " يجعلنا " ، وصوابه من الطبري ، د .
(4) الطبري : " نخبره " .
(5) تاريخ الطبري 3 : 258 .
(*)(17/210)
وهم يتحدثون فيما سمعوا من عمرو ، وفي تلك الحلقة على وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن ابن عوف وسعد ، فلما دنا عمر منهم سكتوا ، فقال : في أي شئ انتم ؟ فلم يخبروه فقال : ما أعلمني بالذى خلوتم عليه ! فغضب طلحة وقال : الله يا بن الخطاب ! إنك لتعلم الغيب ! فقال : لا يعلم الغيب إلا الله ، ولكن أظن قلتم : ما أخوفنا على قريش من العرب وأخلقهم ألا يقروا بهذا الامر .
قالوا : صدقت ، فقال فلا تخافوا هذه المنزلة ، أنا والله منكم على العرب أخوف منى عليكم من العرب (1) .
قال أبو جعفر : وحدثني السرى ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : نزل عمرو بن العاص بمنصرفه من عمان بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقرة بن هبيرة بن سلمة بن يسير ، وحوله عساكر من أفنائهم ، فذبح له ، وأكرم منزلته ، فلما أراد الرحلة خلا به وقال : يا هذا ، إن العرب لا تطيب لكم أنفسا بالاتاوه فإن أنتم أعفيتموها من أخذ أموالها فستسمع وتطيع ، وأن أبيتم فإنها تجتمع عليكم فقال عمرو : أتوعدنا بالعرب وتخوفنا بها ! موعدنا حفش أمك ، أما والله لاوطئنه عليك الخليل ، وقدم على أبي بكر والمسلمين فأخبرهم (2) .
وروى أبو جعفر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فرق عماله في بنى تميم على قبض الصدقات فجعل الزبرقان بن بدر على عوف والرباب ، وقيس بن عاصم على مقاعس والبطون ، وصفوان بن صفوان وسبرة بن عمرو على بنى عمرو ، ومالك بن نويرة على بنى حنظلة ، فلما توفى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ضرب صفوان الى ابى بكر حين وقع إليه الخبر بموت النبي (صلى الله عليه وسلم) بصدقات بنى عمر ، وبما ولى منها ، وما ولى سبرة ، وأقام سبرة في قومه لحدث إن ناب ، وأطرق قيس بن عاصم ينظر ما الزبرقان صانع ؟ فكان له عدوا وقال وهو ينتظره وينتظر ما يصنع : ويلى عليه ! ما أدرى ما أصنع إن أنا
__________
(1) تاريخ الطبري 3 : 258 ، 259 .
(2) تاريخ الطبري 3 : 259 .
(*)(17/211)
بايعت أبا بكر وأتيته بصدقات قومي خلفنى فيهم فساءنى عندهم ، وأن رددتها عليهم فليأتين أبا بكر فيسوءنى عنده ، ثم عزم قيس على قسمتها في مقاعس والبطون ، ففعل وعزم الزبرقان على الوفاء ، فأتبع صفوان بصدقات عوف والرباب حتى قدم بها المدينة وقال شعرا يعرض فيه بقيس بن عاصم ، ومن جملته وفيت بأذواد الرسول وقد أبت * * سعاة فلم يردد بعيرأ أميرها .
فلما أرسل أبو بكر إلى قيس العلاء بن الحضرمي أخرج الصدقة ، فأتاه بها وقدم معه إلى المدينة (1) .
وفي تاريخ أبى جعفر الطبري من هذا الكثير الواسع ، وكذلك في تاريخ غيره من التواريخ ، وهذا أمر معلوم باضطرار ، لا يجوز لاحد أن يخالف فيه .
فأما قوله : كيف يصح ذلك ، وقد قال لهم أبو بكر ، إذا أذنوا وأقاموا كأذانكم وإقامتكم ، فكفوا عنهم ، فجعل أمارة الاسلام والبراءة من الردة الاذان والاقامة ، فإنه قد أسقط بعض الخبر ، قال أبو جعفر الطبري في كتابه : كانت وصيته لهم : إذا نزلتم فأذنوا واقيموا فإن أذن القوم وأقاموا فكفوا عنهم ، فإن لم يفعلوا فلا شئ إلا الغارة ، ثم اقتلوهم كل قتله الحرق فما سواه ، وإن أجابوا داعية الاسلام فاسألوهم ، فإن أقروا بالزكاه فاقبلوا منهم ، وإن أبوا فلا شئ إلا الغارة ولا كلمة (2) .
فأما قوله : وكيف يطلق قاضى القضاة في سائر أهل الردة ما أطلقه من أنهم كانوا يصلون ومن جملتهم أصحاب مسيلمة وطلحة ! فإنما أراد قاضى القضاة بأهل الردة هاهنا مانعي الزكاة لا غير ، ولم يرد من جحد الاسلام بالكلية .
فأما قصة مالك بن نويرة وخالد بن الوليد فإنها مشتبهة عندي ، ولا غرو فقد اشتهت على الصحابة ، وذلك أن من حضرها من العرب اختلفوا في حال القوم : هل كان
__________
(1) تاريخ الطبري 3 : 267 ، 268 .
(2) تاريخ الطبري 3 : 279 .
(*)(17/212)
عليهم شعار الاسلام أولا ؟ وأختلف أبو بكر وعمر في خالد مع شدة اتفاقهما ، فأما الشعر الذى رواه المرتضى لمالك بن نويرة فهو معروف إلا البيت الاخير ، فإنه غير معروف ، وعليه عمدة المرتضى في هذا المقام ، وما ذكره بعد من قصة القوم صحيح كله مطابق لما في التواريخ إلا مويضعات يسيره : منها قوله : إن مالكا نهى قومه عن الاجتماع على منع الصدقات ، فإن ذلك غير منقول وإنما المنقول أنه نهى قومه عن الاجتماع في موضع واحد ، وامرهم أن يتفرقوا في مياههم ، ذكر ذلك الطبري ولم يذكر نهيه إياهم عن الاجتماع على منع الصدقة ، وقال الطبري : إن مالكا تردد في أمره : هل يحمل الصدقات أم لا ؟ فجاءه خالد وهو متحير سبح .
ومنها أن الطبري ذكر أن ضرار بن الازور قتل مالكا عن غير أمر خالد ، وأن خالدا لما سمع الواعية خرج وقد فرغوا منهم ، فقال : إذا أراد الله أمرا أصابه ، قال الطبري : وغضب أبو قتاده لذلك ، وقال لخالد : هذا عملك ! وفارقه وأتى أبا بكر فأخبره فغضب عليه أبو بكر حتى كلمه فيه عمر ، فلم يرض إلا أن يرجع إلى خالد ، فرجع إليه حتى قدم معه المدينة (1) .
ومنها أن الطبري روى أن خالدا لما تزوج أم تميم بنت المنهال امرأة مالك لم يدخل بها وتركها حتى تقضى طهرها ، ولم يذكر المرتضى ذلك .
ومنها أن الطبري روى أن متمما لما قدم المدينة طلب إلى أبى بكر في سبيهم فكتب ، له برد السبى ، والمرتضى ذكر أنه لم يرد إلا في خلافة عمر .
فأما قول المرتضى : أن قول متمم : لو قتل أخى على مثل ما قتل عليه أخوك لما رثيته ،
__________
(1) تاريخ الطبري 3 : 278 .
(*)(17/213)
لا يدل على ردته ، فصحيح ، ولا ريب أنه قصد تقريظ زيد بن الخطاب وأن يرضى عمر أخاه بذلك .
نعما قال المرتضى ! إن بين القتلتين فرقا ظاهرا ، وإليه أشار متمم لا محاله .
فأما قول مالك : صاحبك ، يعنى النبي (صلى الله عليه وسلم) ، فقد روى هذه اللفظة الطبري في التاريخ ، قال : كان خالد يعتذر عن قتله ، فيقول : إنه قال له وهو يراجعه : ما إخال صاحبكم إلا قال كذا وكذا ، فقال له خالد : أو ما تعده لك صاحبا (1) ! وهذه لعمري كلمة جافية ، وإن كان لها مخرج في التأويل ، إلا أنه مستكره ، وقرائن الاحوال يعرفها من شاهدها وسمعها ، فإذا كان خالد قد كان يعتذر بذلك ، فقد اندفع قول المرتضى : هلا اعتذر بذلك ! ولست أنزه خالدا عن الخطأ ، وأعلم أنه كان جبارا فاتكا لا يراقب الدين فيما يحمله عليه الغضب وهوى نفسه ، ولقد وقع منه في حياة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مع بنى ؟ جذيمه بالغميصاء أعظم مما وقع منه في حق مالك بن نويره ، وعفا عنه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد أن غضب عليه مدة وأعرض عنه ، وذلك العفو هو الذى أطمعه حتى فعل ببنى يربوع ما فعل بالبطاح .
الطعن الثامن قولهم : إن مما يؤثر في حاله وحال عمر دفنهما مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بيته ، وقد منع الله تعالى الكل من ذلك في حال حياته - فكيف - بعد الممات - بقوله تعالى : " لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم) (2) .
أجاب قاضى القضاة بأن الموضع كان ملكا لعائشة ، وهى حجرتها التى كانت
__________
(1) تاريخ الطبري 3 : 280 .
(2) سورة الاحزاب 53 .
(*)(17/214)
معروفه بها والحجر كلها كانت املاكا لازواج النبي (صلى الله عليه وآله) ، وقد نطق القرآن بذلك في قوله : (وقرن في بيوتكن) (1) ، وذكر أن عمر استأذن عائشة في ان يدفن في ذلك الموضع ، وحتى قال : إن لم تأذن لى فادفنوني في البقيع ، وعلى هذا الوجه يحمل ما روى عن الحسن (عليه السلام) أنه لما مات أوصى أن يدفن إلى جنب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وإن لم يترك ففى البقيع ، فلما كان من مروان وسعيد بن العاص ما كان دفن بالبقيع .
وإنما أوصى بذلك بإذن عائشة ، ويجوز أن يكون علم من عائشة أنها جعلت الموضع في حكم الوقف ، فاستباحوا ذلك لهذا الوجه ، قال : وفى دفنه (عليه السلام) في ذلك الموضع ما يدل على فضل أبى بكر لانه (عليه السلام) لما مات اختلفوا في موضع دفنه ، وكثر القول حتى روى أبو بكر عنه (صلى الله عليه وآله أنه قال ما يدل على أن الانبياء إذا ماتوا دفنوا حيث ماتوا ، فزال الخلاف في ذلك (2) .
اعترض المرتضى فقال : لا يخلو موضع قبر النبي (صلى الله عليه وآله) من أن يكون باقيا على ملكه (عليه السلام) ، أو يكون انتقل في حياته إلى عائشة على ما ادعاه ، فإن كان الاول لم يخل أن يكون ميراثا بعده أو صدقه ، فإن كان ميراثا فما كان يحل لابي بكر ولا لعمر من بعده أن يأمرا بدفنهما فيه إلا بعد إرضاء الورثة الذين هم على مذهبنا فاطمة وجماعه الازواج ، وعلى مذهبهم هؤلاء ولعباس ، ولم نجد واحدا منهما خاطب أحدا من هؤلاء الورثة على ابتياع هذا المكان ولا استنزله عنه بثمن ولا غيره .
وإن كان صدقه فقد كان يجب أن يرضى عنه جماعة المسلمين ويبتاعه منهم ، هذا إن جاز الابتياع لما يجرى هذا المجرى ، وإن كان انتقل في حياته فقد كان يجب أن يظهر سبب انتقاله والحجة فيه ، فإن فاطمة (عليها السلام) لم يقنع منها في انتقال فدك إلى ملكها بقولها ، ولا بشهادة من
__________
(1) سورة الاحزاب : 33 .
(2) نقله المرتضى في الشافي 424 .
(*)(17/215)
شهد لها .
فأما تعلقه بإضافة البيوت إليهن في قوله : (وقرن في بيوتكن) ، فمن ضعيف الشبهة ، لانا قد بينا فيما مضى من هذا الكتاب أن هذه الاضافة لا تقتضي الملك ، وإنما تقتضي السكنى ، والعادة في استعمال هذه اللفظة فيما ذكرناه ظاهرة قال تعالى : (لا تخرجوهن من بيوتهن) (1) ، ولم يرد الله تعالى إلا حيث يسكن وينزلن دون حيث يملكن وما أشبهه ، وأظرف من كل شئ تقدم قوله : إن الحسن (عليه السلام) استأذن عائشة في أن يدفن في البيت حتى منعه مروان وسعيد بن العاص ، لان هذه مكابرة منه ظاهرة ، فان المانع للحسن (عليه السلام) من ذلك لم يكن إلا عائشة ، ولعل من ذكره من مروان وسعيد وغيرهما أعانها واتبع في ذلك أمرهما ، وروى أنها خرجت في ذلك اليوم على بغل حتى قال ابن عباس : يوما على بغل ويوما على جمل ! فكيف تأذن عائشة في ذلك ، وهى مالكة الموضع على قولهم ، ويمنع منه مروان وغيره ممن لا ملك له في الموضع ولا شركة ولا يد ! وهذا من قبيح (2) ما يرتكب .
وأى فضل لابي بكر في روايته عن النبي (صلى الله عليه وآله) حديث الدفن ! وعملهم بقوله إن صح فمن مذهب صاحب الكتاب وأصحابه العمل بخبر الواحد العدل في أحكام الدين العظيمة ، فكيف لا يعمل بقول أبى بكر في الدفن وهم يعملون بقول من هو دونه فيما هو أعظم من ذلك (3) ! * * * قلت : أما أبو بكر ، فإنه لا يلحقه بدفنه مع الرسول (صلى الله عليه وآله) ذم ، لانه ما دفن نفسه ، وإنما دفنه الناس وهو ميت ، فإن كان ذلك خطأ فالاثم والذم لاحقان بمن فعل به ذلك ، ولم يثبت عنه بأنه أوصى أن يدفن مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإنما قد يمكن أن يتوجه هذا الطعن إلى عمر ، لانه سأل عائشة أن يدفن في الحجرة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبى بكر .
والقول عندي مشتبه في أمر حجر الازواج :
__________
(1) سورة الطلاق 1 .
(2) الشافي : " أقبح " .
(3) الشافي 424 .
(*)(17/216)
هل كانت على ملك رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى أن توفى ، أم ملكها نساؤه والذى تنطق به التواريخ أنه لما خرج من قباء ودخل المدينة وسكن منزل أبى أيوب اختط المسجد واختط حجر نسائه وبناته ، وهذا يدل على أنه كان المالك للمواضع وأما خروجها عن ملكه إلى الازواج والبنات فمما لم أقف عليه .
ويجوز أن تكون الصحابة قد فهمت من قرائن الاحوال ومما شاهدوه منه (عليه السلام) ، أنه قد أقر كل بيت منها في يد زوجة من الزوجات على سبيل الهبة والعطية ، وأن لم ينقل عنه في ذلك صيغة لفظ معين ، والقول في بيت فاطمة (عليها السلام) كذلك ، لان فاطمة (عليها السلام) لم تكن تملك مالا ، وعلى (عليه السلام) بعلها كان فقيرا في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى إنه كان يستقى الماء ليهود ، بيده يسقى بساتينهم لقوت يدفعونه إليه ، فمن أين كان له ما يبتاع به حجرة يسكن فيها هو وزوجته (1) ! والقول في كثير من الزوجات كذلك أنهن كن فقيرات مدقعات ، نحو صفية بنت حيى بن أخطب ، وجويرية بنت الحارث ، وميمونة ، وغيرهن ، فلا وجه يمكن أن يتملك منه هؤلاء النسوة والبنت الحجر ، إلا أن يكون رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهبها لهن ، هذا إن ثبت أنها خرجت عن ملكيته (عليه السلام) ، وإلا فهى باقية على ملكيته باستصحاب الحال .
والقول في حجرة زينب بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) كذلك ، لانه أقدمها من مكة مفارقة لبعلها أبى العاص بن الربيع ، فاسكنها بالمدينة في حجرة منفردة خالية عن بعل ، فلا بد أن تكون تلك الحجرة بمقتضى ما يتغلب على الظن ملكا له (عليه السلام) ، فيستدام الحكم بملكه لها إلى أن نجد دليلا ينقلنا عن ذلك .
وأما رقية وأم كلثوم زوجتا عثمان ، فإن كان مثريا ذا مال فيجوز أن يكون ابتاع حجرة سكنت فيها الاولى منهما ، ثم الثانية بعدها .
__________
(1) ب : " زوجة " .
(*)(17/217)
فأما احتجاج قاضى القضاة بقوله : (وقرن في بيوتكن) ، فاعتراض المرتضى عليه قوى ، لان هذه الاضافة إنما تقتضي التخصيص فقط لا التمليك ، كما قال : (لا تخرجوهن من بيوتهن) (1) ، ويجوز أن يكون أبو بكر لما روى قوله : " نحن لا نورث " ترك الحجر في أيدى الزوجات والبنت على سبيل الاقطاع لهن لا التمليك ، أي أباحهن السكنى لا التصرف في رقاب الارض والابنية والالات ، لما رأى في ذلك من المصلحة ، ولانه كان من المتهجن القبيح إخراجهن من البيوت ، وليس كذلك فدك ، فانها قرية كبيرة ذات نخل كثير خارجة عن المدينة ، ولم تكن فاطمة متصرفة فيها من قبل نفسها ولا بوكيلها ، ولا رأتها قط ، فلا تشبه حالها حال الحجر .
وأيضا لاباحة هذه الحجر ونزارة أثمانهن ، فإنها كانت مبنية من طين قصيرة الجدران ، فلعل أبا بكر والصحابة استحقروها ، فأقروا النساء فيها وعوضوا المسلمين عنها بالشئ اليسير مما يقتضى الحساب أن يكون من سهم الازواج والبنت عند قسمة الفئ .
وأما القول في الحسن وما جرى من عائشة وبنى أمية فقد تقدم ، وكذلك القول في الخبر المروى في دفن الرسول (صلى الله عليه وآله) فكان أبو المظفر هبة الله بن الموسوي صدر المخزن المعمور ، كان في أيام الناصر لدين الله إذا حادثته حديث وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) روايه أبى بكر ما رواه من قوله (عليه السلام) : " الانبياء يدفنون حيث يموتون " ، يحلف أن أبا بكر افتعل هذا الحديث في الحال والوقت ، ليدفن النبي (صلى الله عليه وآله) في حجرة ابنته ، ثم يدفن هو معه عند موته ، علما منه أنه لم يبق من عمره إلا مثل ظمء (2) الحمار ، وأنه إذا دفن النبي (صلى الله عليه وآله) في حجرة ابنته فإن ابنته تدفنه لا محالة في حجرتها عند بعلها ، وأن دفن النبي (صلى الله عليه وآله) في موضع
__________
(1) سورة الطلاق 1 .
(2) يقال : ما بقى منه إلا ظمء الحمار ، أي شئ يسير لانه ليس شئ أقعر طمئا منه .
(*)(17/218)
آخر فربما لا يتهيأ له أن يدفن عنده ، فرأى أن هذا الفوز بهذا الشرف العظيم ، وهذا المكان الجليل ، مما لا يقتضى حسن التدبير فوته ، وإن انتهاز الفرصة فيه واجب ، فروى لهم الخبر ، فلا يمكنهم بعد روايته ألا يعملوا به ، لا سيما وقد صار هو الخليفة ، وإليه السلطان والنفع والضرر ، وأدرك ما كان في نفسه ، ثم نسج عمر على منواله ، فرغب إلى عائشة في مثل ذلك ، وقد كان يكرمها ويقدمها على سائر الزوجات في العطاء وغيره ، فأجابته إلى ذلك ، وكان مطاعا في حياته وبعد مماته ، وكان يقول : واعجبا للحسن وطمعه في أن يدفن في حجره عائشة والله لو كان أبوه الخليفة يومئذ لما تهيأ له ذلك ، ولا تم لبغض عائشة لهم ، وحسد الناس إياهم وتمالؤ بنى أمية وغيرهم من قريش عليهم ! ولهذا قالوا : يدفن عثمان في حش كوكب (1) ، ويدفن الحسن في حجره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فكيف والخليفة معاوية والامراء بالمدينة بنو أميه ، وعائشة صاحب الموضع ، والناصر لبنى هاشم قليل ، والشانئ كثير .
وأنا أستغفر الله مما كان أبو المظفر يحلف عليه ، وأعلم وأظن ظنا شبيها بالعلم أن أبا بكر ما روى إلا ما سمع ، وأنه كان أتقى لله من ذلك .
* * * الطعن التاسع قولهم : " إنه نص على عمر بالخلافة ، فخالف رسول الله (صلى الله عليه وآله) على زعمه ، لانه كان يزعم هو ومن قال بقوله أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يستخلف .
__________
(1) حش كوكب : موضع بالمدينة .
(*)(17/219)
والجواب أن كونه لم يستخلف لا يدل على تحريم الاستخلاف ، كما أنه من لم يركب الفيل لا يدل على تحريم ركوب الفيل .
فإن قالوا ركوب الفيل فيه منفعة ولا مضرة فيه ولم يرد نص بتحريمه ، فوجب أن يحسن .
قيل لهم : والاستخلاف مصلحة ، ولا مضرة فيه ، وقد أجمع المسلمون أنه طريق إلى الامامة ، فوجب كونه طريقا إليها ، وقد روى عن عمر أنه قال : إن أستخلف فقد استخلف من هو خير منى - يعنى أبا بكر - وإن أترك فقد ترك من هو خير منى - يعنى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأما الاجتماع المشار إليه فهو أن الصحابة أجمعوا على أن عمر إمام بنص أبى بكر عليه ، وأنفذوا أحكامه ، وانقادوا إليه لاجل نص أبى بكر لا لشئ سواه ، فلو لم يكن ذلك طريقا إلى الامامة لما أطبقوا عليه .
وقد اختلف الشيخان أبو على وأبو هاشم في أن نص الامام على إمام بعده : هل يكفى في انعقاد إمامته فقال أبو على : لا يكفى ، بل لابد من أن يرضى به أربعة حتى يجرى عهده إليه مجرى عقد الواحد برضا أربعة ، فإذا قارنه رضا أربعه صار بذلك إماما ، ويقول في بيعة عمر : إن أبا بكر أحضر جماعة من الصحابة لما نص عليه ورجع إلى رضاهم بذلك ، وقال أبو هاشم بل يكفى نصه عليه ولا يراعى في ذلك رضا غيره به ولو ثبت أن أبا بكر فعله لكان على طريق التبع للنص ، لا أنه يؤثر في إمامته مع العهد ، ولعل أبا بكر إن كان فعل ذلك فقد استطاب به نفوسهم ، ولهذا لم يؤثر فيه كراهية طلحة حين قال : وليت علينا فظا غليظا .
ويبين ذلك أنه لم ينقل استئناف العقد من الصحابة لعمر بعد موت أبى بكر ولا اجتماع جماعة لعقد البيعة له ، والرضا به ، فدل على أنهم اكتفوا بعهد أبى بكر إليه * * *(17/220)
الطعن العاشر قولهم : إنه سمى نفسه بخليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، لاستخلافه إياه بعد موته ، مع اعترافه أنه لم يستخلفه .
والجواب أن الصحابة سمته خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لاستخلافه إياه على الصلاة عند موته ، والاستخلاف على الصلاة عند الموت له مزية على الاستخلاف على الصلاة حال الحياة ، لان حال الموت هي الحال التى تكون فيها العهود والوصايا وما يهتم به الانسان من أمور الدنيا ، والدين لانها حال المفارقة .
وأيضا فان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما استخلف أحدا على الصلاة بالمدينة وهو حاضر ، وإنما كان يستخلف على الصلاه قوما أيام غيبته عن المدينة ، فلم يحصل الاستخلاف المطلق على الصلاه بالناس كلهم ، وهو (صلى الله عليه وآله) حاضر بين الناس حى إلا لابي بكر ، وهذه مزية ظاهرة على سائر الاستخلافات في أمر الصلاة فلذلك سموه خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
وبعد ، فإذا ثبت أن الاجماع على كون الاختيار طريقا (1) إلى الامامة وحجة ، وثبت أن قوما من أفاضل الصحابة اختاروه للخلافة ، فقد ثبت أنه خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، لانه لا فرق بين أن ينص الرسول (صلى الله عليه وآله) على شخص معين ، وبين أن يشير إلى قوم فيقول ؟ : من اختار هؤلاء القوم فهو الامام ، في أن كل واحد منهما يصح أن يطلق عليه خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) (2) .
__________
(1) ا : " سبيلا " .
(*)(17/221)
الطعن الحادى عشر قولهم : أنه حرق الفجاءة السلمى بالنار ، وقد نهى النبي (صلى الله عليه وآله) أن يحرق أحد بالنار .
والجواب أن الفجاءة جاء إلى أبى بكر كما ذكر أصحاب التواريخ فطلب منه سلاحا يتقوى به على الجهاد في أهل الردة ، فأعطاه ، فلما خرج قطع الطريق ونهب أموال المسلمين وأهل الردة جميعا ، وقتل كل من وجد ، كما فعلت الخوارج حيث خرجت ، فلما ظفر به أبو بكر راى حرقه بالنار إرهابا لامثاله من اهل الفساد ، ويجوز للامام أن يخص النص العام بالقياس الجلى عندنا (1) .
* * * الطعن الثاني عشر قولهم : إنه تكلم في الصلاة قبل التسليم ، فقال : لا يفعلن خالد ما أمرته ، قالوا : ولذلك جاز عند أبى حنيفه أن يخرج الانسان من الصلاة بالكلام وغيره من مفسدات الصلاه من دون تسليم ، وبهذا احتج أبو حنيفة .
والجواب أن هذا من الاخبار التى تتفرد بها الامامية ، ولم تثبت ، وأما أبو حنيفة فلم يذهب إلى ما ذهب إليه لاجل هذا الحديث ، وإنما احتج بأن التسليم خطاب آدمى ، وليس هو من الصلاة وأذكارها ، ولا من أركانها ، بل هو ضدها ، ولذلك يبطلها قبل التمام ، ولذلك لا يسلم المسبوق تبعا لسلام الامام ، بل يقوم من غير تسليم فدل على أنه ضد للصلاة وجميع الاضداد بالنسبة إلى رفع الضد على وتيرة واحدة ، ولذلك استوى الكل في
__________
(1) الجلي الواضح .
(*)(17/222)
الابطال قبل التمام ، فيستوى الكل في الانتهاء بعد التمام ، وما يذكره القوم من سبب كلام أبى بكر في الصلاة أمر بعيد ، ولو كان أبو بكر يريد ذلك لامر خالد أن يفعل ذلك الفعل بالشخص المعروف وهو نائم ليلا في بيته ، ولا يعلم أحد من الفاعل .
الطعن الثالث عشر قولهم : إنه كتب إلى خالد بن الوليد وهو على الشام يأمره أن يقتل سعد بن عباده فكمن له هو وآخر معه ليلا ، فلما مر بهما رمياه فقتلاه ، وهتف صاحب خالد في ظلام الليل بعد أن ألقيا سعدا في بئر هناك فيها ماء ببيتين : نحن قتلنا سيد الخزرج * * * سعد بن عباده ورميناه بسهمين * * فلم تخط فؤاده .
يوهم أن ذلك شعر الجن ، وأن الجن قتلت سعدا فلما أصبح الناس فقدوا سعدا ، وقد سمع قوم منهم ذلك الهاتف فطلبوه فوجدوه بعد ثلاثة أيام في تلك البئر وقد اخضر ، فقالوا هذا مسيس الجن وقال شيطان الطاق لسائل سأله : ما منع عليا أن يخاصم أبا بكر في الخلافه ؟ فقال : يا بن أخى ، خاف أن تقتله الجن .
والجواب ، أما أنا فلا أعتقد أن الجن قتلت سعدا ، ولا أن هذا شعر الجن ، ولا أرتاب أن البشر قتلوه ، وأن هذا الشعر شعر البشر ، ولكن لم يثبت عندي أن أبا بكر أمر خالدا ، ولا أستبعد أن يكون فعله من تلقاء نفسه ليرضى بذلك أبا بكر - وحاشاه فيكون الاثم على(17/223)
خالد ، وأبو بكر برئ من إثمه وما ذلك من أفعال خالد ببعيد .
* * * الطعن الرابع عشر قولهم : إنه لما استخلف قطع لنفسه على بيت المال اجره كل يوم ثلاثه دراهم ، قالوا : وذلك لا يجوز ، لان مصارف أموال بيت المسلمين لم يذكر فيها اجره للامام .
والجواب أنه تعالى جعل في جملة مصرف أموال الصدقات العاملين عليها ، وأبو بكر من العاملين .
واعلم أن الامامية لو أنصفت لرأت أن هذا الطعن بان يكون من مناقب أبى بكر أولى من أن يكون من مساويه (1) ومثالبه ، ولكن العصبية لا حيلة فيها .
* * * الطعن الخامس عشر قولهم : إنه لما استخلف صرخ مناديه في المدينة : من كان عنده شئ من كلام الله فليأتنا به ، فإنا عازمون على جمع القرآن ، ولا يأتنا بشئ منه إلا ومعه شاهدا عدل ، قالوا : وهذا خطأ ، لان القرآن قد بان بفصاحته عن فصاحة البشر ، فأى حاجه إلى شاهدى عدل ! والجواب ، أن المرتضى ومن تابعه من الشيعة لا يصح لهم هذا الطعن ، لان القرآن عندهم ليس معجزا بفصاحته ، على أن من جعل معجزته للفصاحة لم يقل : إن كل آية من القرآن هي معجزة في الفصاحة ، وأبو بكر إنما طلب كل آية من القرآن لا السورة بتمامها وكمالها التى يتحقق الاعجاز من طريق الفصاحة فيها .
وأيضا فإنه لو أحضر أنسان آية أو آيتين ولم يكن معه شاهد ، فربما تختلف العرب هل هذه في الفصاحة بالغة
__________
(1) ا : " عيوبه " .
(*)(17/224)
مبلغ الاعجاز الكلى ، أم هي ثابتة من كلام العرب بثبوته غير بالغة إلى حد الاعجاز فكان يلتبس الامر ويقع النزاع ، فاستظهر أبو بكر بطلب الشهود تأكيدا ، لانه إذا انضمت الشهادة إلى الفصاحة الظاهرة ثبت أن ذلك الكلام من القرآن .
* * * الاصل : ومن هذا الكتاب إنى والله لو لقيتهم واحدا وهم طلاع الارض كلها ما باليت ولا استوحشت ، وإنى من ضلالهم الذى هم فيه ، والهدى الذى أنا عليه ، لعلى بصيرة من نفسي ، ويقين من ربى وإنى إلى لقاء الله لمشتاق ، ولحسن ثوابه لمنتظر راج ، ولكننى آسى أن يلى هذه الامة سفهاؤها وفجارها ، فيتخذوا مال الله دولا وعباده خولا ، والصالحين حربا والفاسقين حزبا ، فإن منهم الذى شرب فيكم الحرام ، وجلد حدا في الاسلام .
وإن منهم من لم يسلم حتى رضخت له على الاسلام الرضائخ ، فلو لا ذلك ما أكثرت تأليبكم وتأنيبكم ، وجمعكم وتحريضكم ، ولتركتكم إذ أبيتم وونيتم .
ألا ترون إلى أطرافكم قد انتقصت ، وإلى أمصاركم قد افتتحت ، وإلى ممالككم تزوى ، وإلى بلادكم تغزى ! انفروا رحمكم الله الى قتال عدوكم ، ولا تثاقلوا إلى الارض فتقروا بالخسف ، ونبوءوا بالذل ، ويكون نصيبكم الاخس ، وأن أخا الحرب الارق ومن نام لم ينم عنه ، والسلام(17/225)
الشرح : طلاع الارض : ملؤها ، ومنه قول عمر : لو أن لى طلاع الارض ذهبا لافتديت به من هول المطلع .
وآسى : أحزن .
وأكثرت تأليبكم : تحريضكم وإغراءكم به .
والتأنيب : أشد اللوم .
وونيتم : ضعفتم وفترتم .
وممالككم تزوى ، أي تقبض .
ولا تثاقلوا ، بالتشديد ، أصله " تتثاقلوا " .
وتقروا بالخسف : تعترفوا بالضيم وتصبروا له .
وتبوءوا بالذل ترجعوا به .
والارق : الذى لا ينام .
ومثل قوله (عليه السلام) : " من نام لم ينم عنه " قول الشاعر : لله درك ما أردت بثائر * * حران ليس عن الترات براقد (1) أسهرته ثم اضطجعت ولم ينم * * حنقا عليك وكيف نوم الحاقد ! فأما الذى رضخت له على الاسلام الرضائخ ، فمعاوية والرضيخة شئ قليل يعطاه الانسان يصانع به عن شئ (2) يطلب منه كالاجر ، وذلك لانه من المؤلفة قلوبهم الذين رغبوا في الاسلام والطاعة بجمال وشاء دفعت إليهم ، وهم قوم معروفون كمعاوية وأخيه يزيد ، وأبيهما أبى سفيان ، وحكيم بن حزام ، وسهيل بن عمرو ، والحارث بن هشام ابن المغيرة ، وحويطب بن عبد العزى ، والاخنس بن شريق ، وصفوان بن أمية ، وعمير بن وهب الجمحى ، وعيينة بن حصن ، والاقرع بن حابس ، وعباس بن مرداس وغيرهم ، وكان إسلام هؤلاء للطمع والاغراض الدنياوية ، ولم يكن عن أصل ولا عن يقين وعلم .
__________
(1) التراث : جمع ترة ، وهي الاخذ بالثأر .
(2) في د " أمر " .
(*)(17/226)
وقال الراوندي عنى بقوله : " رضخت لهم الرضائخ عمرو بن العاص ، وليس بصحيح ، لان عمرا لم يسلم بعد الفتح ، وأصحاب الرضائخ كلهم أسلموا بعد الفتح ، صونعوا على الاسلام بغنائم حنين .
ولعمري إن أسلام عمرو كان مدخولا أيضا إلا أنه لم يكن عن رضيخة ، وإنما كان لمعنى آخر .
فأما الذى شراب الحرام ، وجلد في حد الاسلام ، فقد قال الراوندي : هو المغيرة بن شعبة ، وأخطا فيما قال ، لان المغيرة إنما اتهم بالزنا ولم يحد ولم يجر للمغيرة ذكر في شرب الخمر ، وقد تقدم خبر المغيره مستوفى ، وايضا فان المغيره لم يشهد صفين مع معاوية ولا مع على (عليه السلام) وما للراوندي ولهذا ! إنما يعرف هذا الفن أربابه والذى عناه على (عليه السلام) الوليد بن عقبة بن أبى معيط ، وكان أشد الناس عليه وأبلغهم تحريضا لمعاوية وأهل الشام على حربه .
* * * [ أخبار الوليد بن عقبة ] ونحن نذكر خبر الوليد وشربه الخمر منقولا من كتاب " الاغانى " لابي الفرج على بن الحسين الاصفهانى ، قال أبو الفرج : كان سبب إماره الوليد بن عقبة الكوفة لعثمان ما حدثنى به أحمد بن عبد العزيز الجوهرى ، قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنى عبد العزيز بن محمد بن حكيم ، عن خالد بن سعيد بن عمرو بن سعيد ، عن ابيه ، قال لم يكن يجلس مع عثمان على سريره إلا العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن حرب ، والحكم ابن أبى ، العاص ، والوليد بن عقبة ، ولم يكن سريره يسع إلا عثمان وواحدا منهم ، فأقبل الوليد يوما فجلس ، فجاء الحكم بن أبى العاص فأومأ عثمان إلى الوليد ، فرحل له عن مجلسه ، فلما قام الحكم قال الوليد : والله يا أمير المؤمنين لقد تلجلج في صدري بيتان قلتهما حين رأيتك آثرت ابن عمك على ابن أمك - وكان الحكم عم عثمان ، والوليد أخاه(17/227)
لامه - فقال عثمان : إن الحكم شيخ قريش ، فما البيتان ؟ فقال : رأيت لعم المرء زلفى قرابة * * دوين أخيه حادثا لم يكن قدما فأملت عمرا أن يشب وخالدا * * لكى يدعوانى يوم نائبة عما .
يعنى عمرا وخالدا ابني عثمان .
قال : فرق له عثمان وقال : قد وليتك الكوفة ، فأخرجه إليها (1) .
قال أبو الفرج : وأخبرني أحمد بن عبد العزيز ، قال حدثنى عمر بن شبه قال : حدثنى بعض أصحابنا ، عن ابن (2) داب قال : لما ولى عثمان الوليد بن عقبه الكوفه قدمها وعليها سعد بن أبى وقاص ، فأخبر بقدومه ولم يعلم أنه قد أمر فقال : وما صنع ؟ قالوا : وقف في السوق فهو يحدث الناس هناك ، ولسنا ننكر شيئا من أمره ، فلم يلبث أن جاءه نصف النهار ، فاستاذن على سعد ، فأذن له ، فسلم عليه بالامرة ، وجلس معه ، فقال له سعد : ما أقدمك يا أبا وهب ؟ قال : أحببت زيارتك ، قال وعلى ذاك أجئت بريدا ؟ قال : أنا أرزن من ذلك ، ولكن القوم احتاجوا إلى عملهم فسرحوني إليه ، وقد استعملني أمير المؤمنين على الكوفة فسكت سعد طويلا ، ثم قال : لا والله ما أدرى أصلحت بعدنا أم فسدنا بعدك ! ثم قال : كلينى وجرينى ضباع وأبشرى * * بلحم امرئ لم يشهد اليوم ناصره .
فقال الوليد : أما والله لانا أقول للشعر منك ، وأروى له ، ولو شئت لاجبتك ، ولكني أدع ذاك لما تعلم ، نعم والله لقد أمرت بمحاسبتك ، والنظر في أمر عمالك ، ثم بعث إلى عمال سعد فحبسهم وضيق عليهم ، فكتبوا إلى سعد يستغيثون به ، فكلمه فيهم فقال له : أو للمعروف عندك موضع ؟ قال : نعم فخلى سبيلهم .
(3)
__________
(1) الاغاني 4 : 174 (ساسي) ، وفي د " فأخرج " .
(*)(17/228)
قال أحمد (1) : وحدثني عمر ، عن أبى بكر الباهلى ، عن هشيم ، عن العوام ابن حوشب .
قال : لما قدم الوليد على سعد قال له سعد : والله ما أدرى كست بعدنا ام حمقنا بعدك ! فقال : لا تجزعن يا أبا إسحاق ، فإنه الملك يتغداه قوم ويتعشاه آخرون .
فقال سعد : أراكم والله ستجعلونه ملكا (2) .
قال أبو الفرج : وحدثنا أحمد قال : حدثنى عمر قال : حدثنى هارون بن معروف ، عن ضمرة بن ربيعة ، عن ابن شوذب قال : صلى الوليد بأهل الكوفة الغداة أربع ركعات ، ثم التفت إليهم فقال : أزيدكم ؟ فقال عبد الله بن مسعود : ما زلنا معك في زيادة منذ اليوم (3) .
قال أبو الفرج : وحدثني أحمد قال : حدثنا عمر قال حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن الاجلح عن الشعبى قال : قال الحطيئة يذكر الوليد : شهد الحطيئة يوم يلقى ربه * * أن الوليد أحق بالغدر (4) نادى وقد تمت صلاتهم * * أأزيدكم - سكرا - ولم يدر (5) فأبوا أبا وهب ولو أذنوا * * لقرنت بين الشفع والوتر (6) كفوا عنانك إذ جريت ولو * * تركوا عنانك لم تزي (7) ترجى .
__________
(1) هو أحمد بن عبد العزيز الجوهري .
(2) الاغاني 4 : 176 .
(3) الاغاني 4 : 176 .
(4) الاغاني 4 : 176 وفي د " حين يذكر ربه " .
(5) الديوان : " أأزيدكم ثملا " .
(6) الديوان .
" ليزيدهم خيرا ولو قبلوا " .
(7) الديوان : " خلعوا عنانك " ، وبعده : ورأوا شمائل ماجد أنف * * يعطي على الميسور والعسر قرعت مكذوبا عليك ولم * * تردد إلى عذر ولا فقر .
(*)(17/229)
وقال الحطيئه أيضا تكلم في الصلاة وزاد فيها * * علانية وأعلن بالنفاق (1) ومج الخمر في سنن المصلى * * ونادى والجميع إلى افتراق أزيدكم على أن تحمدوني * * فما لكم وما لى من خلاق .
(2) قال أبو الفرج : وأخبرنا محمد بن خلف وكيع قال : حدثنا حماد بن إسحاق ، قال : حدثنى أبى قال : قال أبو عبيدة وهشام بن الكلبى والاصمعى : كان الوليد زانيا يشرب الخمر ، فشرب بالكوفة وقام ليصلى بهم الصبح في المسجد الجامع ، فصلى بهم أربع ركعات ثم التفت إليهم فقال : أزيدكم ؟ وتقيأ في المحراب بعد أن قرأ بهم رافعا صوته في الصلاة علق القلب الربابا * * بعد ما شابت وشابا .
فشخص أهل الكوفة إلى عثمان فأخبروه بخبره ، وشهدوا عليه بشرب الخمر ، فأتى به ، فأمر رجلا من المسلمين أن يضربه الحد ، فلما دنا منه قال : نشدتك الله وقرابتي من أمير المؤمنين ! فتركه ، فخاف على بن أبى طالب (عليه السلام) أن يعطل الحد ، فقام إليه فحده بيده ، فقال الوليد : نشدتك الله والقرابة ! فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : أسكت أبا وهب ، فإنما هلك بنو إسرائيل لتعطيلهم الحدود ، فلما ضربه وفرغ منه قال : لتدعوني قريش بعدها جلادا ، قال إسحاق : وحدثني مصعب بن الزبير قال : قال الوليد بعد ما شهدوا عليه فجلد : اللهم إنهم قد شهدوا على بزور ، فلا ترضهم عن أمير ، ولا ترض عنهم أميرا ، قال : وقد عكس الحطيئة أبياته فجعلها مدحا للوليد : شهد الحطيئه حين يلقى ربه * * أن الوليد أحق بالعذر
__________
(1) ملحق ديوانه 119 ، وفيه : " وجاهر بالنفاق " .
(2) الاغاني 4 : 176 .
(*)(17/230)
كفوا عنانك إذ جريت ولو * * تركوا عنانك لم تزل تجرى ورأوا شمائل ماجد أنف * * يعطى على الميسور والعسر فنزعت مكذوبا عليك ولم * * تنزع على طمع ولا ذعر (1) .
قال أبو الفرج : ونسخت من كتاب هارون بن الرباب بخطه ، عن عمر بن شبة ، قال : شهد رجل عند أبى العجاج - وكان على قضاء البصرة - على رجل من المعيطيين بشهادة ، وكان الشاهد سكران ، فقال المشهود عليه ، وهو المعيطى : أعزك الله أيها القاضى ، إنه لا يحسن من السكر أن يقرأ شيئا من القرآن ، فقال الشاهد : بلى أحسن ، قال : فاقرأ فقال : علق القلب الربابا * * بعد ما شابت وشابا .
يمجن (2) بذلك ، ويحكى ما قاله الوليد في الصلاة ، وكان أبو العجاج أحمق ، فظن أن هذا الكلام من القرآن ، فجعل يقول : صدق الله ورسوله ، ويلكم ، كم تعلمون ولا تعملون ! (3) قال أبو الفرج : وأخبرني أحمد بن عبد العزيز ، قال : حدثنا عمر بن شبة ، عن المدائني ، عن مبارك بن سلام ، عن فطر بن خليفه ، عن أبى الضحى ، قال كان ناس من أهل الكوفه يتطلبون عثره الوليد بن عقبة ، منهم أبو زينب الازدي ، وأبو مورع ، فجاءا يوما ولم يحضر الوليد الصلاة ، فسالا عنه ، فتلطفا حتى علما أنه يشرب ، فاقتحما الدار فوجداه يقئ ، فاحتملاه وهو سكران حتى وضعاه على سريره ، وأخذا خاتمه من يده ، فأفاق ، فافتقد خاتمه ، فسأل عنه أهله ، فقالوا : لا ندرى ، وقد رأينا رجلين دخلا عليك
__________
(1) الاغاني 4 : 176 - 177 .
(2) يمجن : يقول قولا لا يدرى ما عاقبته ، ومنه الماجن ، وفي الاغاني : " وانما تماجن " .
(3) الاغاني 4 : 178 177 .
(*)(17/231)
فاحتملاك فوضعاك على سريرك .
فقال : صفوهما لى ، فقالوا : أحدهما آدم (1) طوال حسن الوجه ، والاخر عريض مربوع عليه خميصة (2) ، فقال : هذا أبو زينب ، وهذا أبو مورع ، قال : ولقى أبو زينب وصاحبه عبد الله بن حبيش الاسدي وعلقمة بن يزيد البكري وغيرهما ، فأخبروهم ، فقالوا : اشخصوا إلى أمير المؤمنين فاعلموه ، وقال بعضهم : إنه لا يقبل قولكم في أخيه ، فشخصوا إليه فقالوا : إنا جئناك في أمر ، ونحن مخرجوه إليك من أعناقنا ، وقد قيل : إنك لا تقبله ، قال : وما هو قالوا : رأينا الوليد وهو سكران من خمر شربها ، وهذا خاتمه أخذناه من يده وهو لا يعقل .
فأرسل عثمان إلى على (عليه السلام) فأخبره ، فقال : أرى أن تشخصه ، فإذا شهدوا عليه بمحضر منه حددته .
فكتب عثمان إلى الوليد ، فقدم عليه ، فشهد عليه أبو زينب وأبو مورع وجندب الازدي وسعد ابن مالك الاشعري ، فقال عثمان لعلى (عليه السلام) قم يا أبا الحسن فاجلده ، فقال على (عليه السلام) للحسن ابنه : قم فاضربه فقال الحسن : مالك ولهذا ، يكفيك غيرك ، فقال على لعبد الله بن جعفر : قم فاضربه فضربة بمخصره (3) فيها سير له رأسان ، فلما بلغ أربعين قال : حسبك .
قال أبو الفرج : وحدثني أحمد قال : حدثنا عمر قال : حدثنى المدائني عن الوقاصى ، عن الزهري قال : خرج رهط من أهل الكوفة إلى عثمان في أمر الوليد ، فقال : أكلما غضب رجل على أميره رماه بالباطل ! لئن أصبحت لكم لانكلن بكم ، فاستجاروا بعائشة ، وأصبح عثمان فسمع من حجرتها صوتا وكلاما فيه بعض الغلظة ، فقال : أما يجد فساق العراق ومراقها ملجا إلا بيت عائشة ! فسمعت ، فرفعت نعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقالت : تركت سنة صاحب هذا النعل ، وتسامع الناس فجاءوا حتى ملاوا المسجد ، فمن قائل : قد أحسنت ومن قائل : ما للنساء ولهذا ! حتى تخاصموا
__________
(1) الادم : الاسمر .
(2) الخميصة : كساء أسود مربع له علمان .
(3) المخصرة : ما اختصره الانسان بيده فأمسكه من عصا أو مقرعة أو عكازة وما أشبهها .
(*)(17/232)
وتضاربوا بالنعال ، ودخل رهط من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) على عثمان فقالوا له : اتق الله ولا تعطل الحدود ، وأعزل أخاك عنهم ، ففعل (1) .
قال أبو الفرج : حدثنا أحمد قال : حدثنى عمر ، عن المدائني ، عن أبى محمد الناجى عن مطر الوراق ، قال قدم رجل من أهل الكوفة إلى المدينة فقال لعثمان : إنى صليت صلاه الغداة خلف الوليد ، فالتفت في الصلاة إلى الناس ، فقال : أأزيدكم ، فانى أجد اليوم نشاطا ؟ وشممنا منه رائحة الخمر ، فضرب عثمان الرجل ، فقال الناس : عطلت الحدود ، وضربت الشهود (2) .
قال أبو الفرج : وحدثنا أحمد قال : حدثنا عمر قال : حدثنا أبو بكر الباهلى ، عن بعض من حدثه قال : لما شهد على الوليد عند عثمان بشرب الخمر كتب إليه يامره بالشخوص ، فخرج وخرج معه قوم يعذرونه منهم عدى بن حاتم الطائى فنزل الوليد يوما يسوق بهم ، فارتجز وقال : لا تحسبنا قد نسينا الاحقاف (3) * * والنشوات من معتق صاف * وعزف قينات علينا عزاف * فقال عدى : فاين تذهب بنا إذن ! فأقم (3) .
قال أبو الفرج : وقد روى أحمد عن عمر ، عن رجاله ، عن الشعبى ، عن جندب الازدي قال : كنت فيمن شهد على الوليد عند عثمان ، فلما استتممنا عليه الشهادة حبسه عثمان .
ثم ذكر باقى الخبر وضرب على (عليه السلام) إياه ، وقول الحسن ابنه : " مالك ولهذا " .
وزاد فيه وقال على (عليه السلام) : لست إذن مسلما ، أو قال : من المسلمين .
__________
(1) الاغاني 4 : 178 .
(2) الاغاني 4 : 178 .
(3) الاغاني : " الايجاف " ، وهو ضرب من السير .
(4) الاغاني 4 : 178 - 179 .
(5) الاغاني 4 : 179 .
(*)(17/233)
قال أبو الفرج وأخبرني أحمد ، عن عمر عن رجاله ، أن الشهادة لما تمت قال عثمان لعلى (عليه السلام) : دونك ابن عمك فأقم عليه الحد .
فامر على (عليه السلام) ابنه الحسن (عليه السلام) ، فلم يفعل ، فقال : يكفيك غيرك ! فقال على (عليه السلام) : بل ضعفت ووهنت وعجزت ، قم يا عبد الله بن جعفر فاجلده ، فقام فجلده ، وعلى (عليه السلام) يعد حتى بلغ أربعين ، فقال له على (عليه السلام) : أمسك حسبك ، جلد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أربعين ، وجلد أبو بكر أربعين ، وكملها عمر ثمانين ، وكل سنة (1) .
قال أبو الفرج : وحدثني أحمد عن عمر ، عن عبد الله بن محمد بن حكيم ، عن خالد ابن سعيد ، قال : وأخبرني بذلك أيضا إبراهيم بن محمد بن أيوب ، عن عبد الله بن مسلم ، قالوا جميعا : لما ضرب عثمان الوليد الحد ، قال : إنك لتضربني اليوم بشهادة قوم ليقتلنك عاما قابلا (2) .
قال أبو الفرج : وحدثني أحمد بن عبد العزيز الجوهرى ، عن عمر بن شبة ، عن عبد الله بن محمد بن حكيم ، عن خالد بن سعيد .
وأخبرني أيضا إبراهيم ، عن عبد الله ، قالوا جميعا : كان أبو زبيد الطائى نديما للوليد بن عقبة أيام ولايته الكوفة ، فلما شهدوا عليه بالسكر من الخمر خرج عن الكوفة معزولا ، فقال أبو زبيد يتذكر أيامه وندامته : من يرى العير أن تمشى على ظهر * * المرورى حداتهن عجال ! ناعجات والبيت بيت أبى وهب * * خلاء تحن فيه الشمال يعرف الجاهل المضلل أن الدهر * * فيه النكراء والزلزال ليت شعرى كذا كم العهد أم كانوا * * أناسا كمن يزول فزالوا !
__________
(1) الاغاني 4 : 179 .
(2) 4 : 179 .
(3) ابن أروي ، هو الوليد بن عقبة ، وأروي هي أم عثمان بن عفان .
(*)(17/234)
بعد ما تعلمين يا أم عمرو * * كان فيهم عزلنا وجمال ووجوه تودنا مشرقات * * ونوال إذا أريد النوال أصبح البيت قد تبدل بالحى * * وجوها كأنها الاقيال (1) كل شئ يحتال فيه الرجال * * غير أن ليس للمنايا احتيال ولعمر الاله لو كان * * للسيف مضاء وللسان مقال (2) ما تناسيتك الصفاء ولا الود ولا حال دونك الاشغال ولحرمت لحمك المتعضى * * ضلة ضل حلمهم ما اغتالوا (3) قولهم شربك الحرام وقد كان * * شراب سوى الحرام حلال وأبى ظاهر العداوة والشنان * * إلا مقال ما لا يقال من رجال تقارضوا منكرات * * لينالوا الذى ارادوا فنالوا غير ما طالبين ذحلا ولكن * * مال دهر على أناس فمالوا من يخنك الصفاء أو يتبدل * * أو يزل مثل ما يزول الظلال فاعلمن أننى أخوك أخو الود حياتي حتى تزول الجبال ليس بخلى عليك يوما بمال * * أبدا ما أقل نعلا قبال (4) ولك النصر باللسان وبالكف إذا كان لليدين مصال (5) قال أبو الفرج : وحدثني أحمد قال : حدثنى عمر قال : لما قدم الوليد بن عقبة الكوفه قدم عليه أبو زبيد فأنزله دار عقيل بن أبى طالب على باب المسجد ، وهى التى(17/235)
تعرف بدار القبطى ، فكان مما احتج به عليه أهل الكوفه أن أبا زبيد كان يخرج إليه من داره وهو نصراني يخترق المسجد فيجعله طريقا (1) .
قال : أبو الفرج : وأخبرني محمد بن العباس اليزيدى قال : حدثنى عمى عبيد الله ، عن ابن حبيب عن ابن الاعرابي ، أن أبا زبيد وفد على الوليد حين استعمله عثمان على الكوفة ، فأنزله الوليد دار عقيل بن أبى طالب عند باب المسجد ، واستوهبها منه ، فوهبها له ، فكان ذلك أول الطعن عليه من أهل الكوفة لان أبا زبيد كان يخرج من داره حتى يشق المسجد إلى الوليد فيسمر عنده ، ويشرب معه ، ويخرج فيشق المسجد وهو سكران ، فذاك نبههم عليه .
قال : وقد كان عثمان ولى الوليد صدقات بنى تغلب ، فبلغه عنه شعر فيه خلاعة ، فعزله .
قال : فلما ولاه الكوفة اختص أبا زبيد الطائى وقربه ، ومدحه أبو زبيد بشعر كثير ، وقد كان الوليد استعمل الربيع بن مرى بن أوس بن حارثة بن لام الطائى على الحمى فيما بين الجزيرة وظهر الحيرة : فأجدبت الجزيرة ، وكان أبو زبيد في بنى تغلب نازلا ، فخرج بإبلهم ليرعيهم ، فأبى عليهم الربيع بن مرى ومنعهم ، وقال لابي زبيد : أن شئت أرعيك وحدك فعلت ، فأتى أبو زبيد إلى الوليد فشكاه ، فأعطاه ما بين القصور الحمر من الشام ، إلى القصور الحمر من الحيرة وجعلها له حمى ، وأخذها من الربيع ابن مرى ، فقال أبو زبيد يمدح الوليد ، والشعر يدل على أن الحمى كان بيد مرى بن أوس ، لا بيد الربيع ابنه ، وهكذا هو في رواية عمر بن شبة : لعمر أبيك يا بن أبى مرى * * لغيرك من أباح لنا الديارا (2) أباح لنا أبارق ذات قور * * ونرعى القف منها والقفارا (3)
__________
(1) الاغاني 4 : 180 .
(2) الاغاني : " لها الديارا " .
(3) الابارق : جمع الابرق ، وهو الارض الغليظة فيها حجارة ورمل وطين مختلطة .
والقف ما يبس من البقول وتنائر حبه وورقه ، ترعاه الابل وتسمن عليه .
(*)(17/236)
بحمد الله ثم فتى قريش * * أبى وهب غدت بدنا غزارا (1) أباح لنا ولا نحمى عليكم * * إذا ما كنتم سنة جزارا .
قال : يقول : إذا أجدبتم فإنا لا نحميها عليكم ، وإذا كنتم أسأتم وحميتموها علينا .
فتى طالت يداه إلى المعالى * * وطحطحت المجذمة القصارا (2) .
قال ، ومن شعر أبى زبيد فيه يذكر نصره له على مرى بن أوس بن حارثة : يا ليت شعرى بأنباء أنبؤها * * قد كان يعنى بها صدري وتقديري عن امرئ ما يزده الله من شرف * * أفرح به ومرى غير مسرور إن الوليد له عندي وحق له * * ود الخليل ونصح غير مذخور لقد دعاني وأدناني أظهرني * * على الاعادي بنصر غير تغرير وشذب القوم عنى غير مكترث * * حتى تناهوا على رغم وتصغير نفسي فداء أبى وهب وقل له * * يا أم عمرو فحلى اليوم أو سيرى (3) .
وقال أبو زبيد يمدح الوليد ويتألم لفراقه حين عزل عن الكوفة : لعمري لئن أمسى الوليد ببلدة * * سواى لقد أمسيت للدهر معورا (4) خلا أن رزق الله غاد ورائح * * وإنى له راج وإن سار أشهرا وكان هو الحصن الذى ليس مسلمى * * إذا أنا بالنكراء هيجت معشرا إذا صادفوا دوني الوليد فإنما * * يرون بوادي ذى حماس مزعفرا (5) .
__________
(1) غزارا : جمع غزيرة ، وهي من الابل الكثيرة اللبن .
(2) طحطح الرجل ماله : فرقة .
(3) الاغاني 4 : 180 .
(4) المعور : الذي لا حافظ له .
(5) ذو حماس : موضع تلقاء عرعر ، أو مأسدة .
والمزعفر : الاسد الورد ، وبعده في الاغني : خضيب بنان ما يزال براكب * * يخب وضاحى جلده قد تقشرا .
(*)(17/237)
وهى طويلة يصف فيها الاسد (1) .
قال أبو الفرج : وحدثنا أحمد بن عبد العزيز قال : حدثنا عمر عن رجاله ، عن الوليد قال : لما فتح رسول الله (صلى الله عليه وآله) مكة جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم ، فيدعو لهم بالبركة ، ويمسح يده على رؤوسهم ، فجئ بى إليه وأنا مخلق ، فلم يمسني ، وما منعه إلا أن أمي خلقتني بخلوق ، فلم يمسني من أجل الخلوق (2) .
قال أبو الفرج : وحدثني إسحاق بن بنان الانماطى ، عن حنيش بن ميسر ، عن عبد الله ابن موسى ، عن أبى ليلى ، عن الحكم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال الوليد بن عقبة لعلى بن أبى طالب (عليه السلام) : أنا أحد منك سنانا ، وأبسط منك لسانا ، وأملا للكتيبة ، فقال على (عليه السلام) : اسكت يا فاسق فنزل القرآن فيهما : (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون (3) .
قال أبو الفرج : وحدثني أحمد بن عبد العزيز ، عن عمر بن شبة عن محمد ابن حاتم ، عن يونس بن عمر ، عن شيبان ، عن يونس ، عن قتاده في قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبا فتبينوا) (4) .
قال : هو الوليد بن عقبة بعثه النبي (صلى الله عليه وآله) مصدقا إلى بنى المصطلق ، فلما رأوه أقبلوا نحوه ، فهابهم ، فرجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال له : إنهم ارتدو عن الاسلام ، فبعث النبي (صلى الله عليه وآله) خالد بن الوليد ، فعلم عملهم ، وأمره أن يتثبت ، وقال له : انطلق ولا تعجل ، فانطلق حتى أتاهم ليلا ، وأنفذ عيونه نحوهم ، فلما جاءوه أخبروه أنهم متمسكون بالاسلام وسمع أذانهم وصلاتهم ، فلما أصبح أتاهم فرأى ما يعجبه ، فرجع إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) فاخبره ، فنزلت هذه الاية (5) .
__________
(1) الاغاني 4 : 182 .
(2) الاغاني 4 : 182 .
(3) سورة السجدة : 18 .
(4) سورة الحجرات 6 .
(5) الاغاني 4 : 182 .
(*)(17/238)
قلت : قد لمح ابن عبد البر صاحب كتاب " الاستيعاب " في هذا الموضع نكتة حسنة ، فقال في حديث الخلوق : هذا حديث مضطرب منكر ، لا يصح ، وليس يمكن أن يكون من بعثه النبي (صلى الله عليه وآله) مصدقا صبيا يوم الفتح ، قال : ويدل أيضا على فساده أن الزبير بن بكار وغيره من أهل العلم بالسير والاخبار ذكروا أن الوليد وأخاه عمارة ابني عقبة بن أبى معيط خرجا من مكة ليردا أختهما أم كلثوم عن الهجرة ، وكانت هجرتها في الهدنة التى بين النبي (صلى الله عليه وآله) وبين أهل مكة ، ومن كان غلاما مخلقا بالخلوق يوم الفتح ليس يجئ منه مثل هذا .
قال : ولا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن أن قوله عز وجل : (إن جاءكم فاسق بنباء فتبينوا) أنزلت في الوليد لما بعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله) مصدقا ، فكذب على بنى المصطلق وقال : إنهم ارتدوا وامتنعوا من أداء الصدقة .
قال أبو عمر : وفيه وفي على (عليه السلام) نزل : (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون) (1) ، في قصتهما المشهورة قال : ومن كان صبيا يوم الفتح لا يجئ منه مثل هذا ، فوجب أن ينظر في حديث الخلوق ، فإنه رواية جعفر بن برقان ، عن ثابت ، عن الحجاج ، عن أبى موسى الهمداني ، وأبو موسى مجهول لا يصح حديثه .
* * * ثم نعود إلى كتاب أبى الفرج الاصبهاني ، قال أبو الفرج : وأخبرني أحمد بن عبد العزيز ، عن عمر بن شبة ، عن عبد الله بن موسى ، عن نعيم بن حكيم ، عن أبى مريم ، عن على (عليه السلام) أن امرأة الوليد بن عقبة جاءت إلى النبي (صلى الله عليه وآله) تشتكى إليه الوليد ، وقالت : إنه يضربها ، فقال لها : ارجعي إليه وقولى له : إن رسول الله قد أجارني ، فانطلقت ، فمكثت ساعة ، ثم رجعت فقالت : إنه(17/239)
ما أقلع عنى ، فقطع رسول الله (صلى الله عليه وآله) هدبه (1) من ثوبه وقال ، اذهبي بها إليه وقولى له : إن رسول الله قد أجارني ، فانطلقت فمكثت ساعة ثم رجعت فقالت : ما زادني إلا ضربا ، فرفع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يده قال : اللهم عليك بالوليد " مرتين أو ثلاثا (2) .
قال أبو الفرج : واختص الوليد لما كان واليا بالكوفة ساحرا كاد يفتن الناس ، كان يريه كتيبتين تقتتلان فتحمل إحداهما على الاخرى فتهزمها ، ثم يقول له أيسرك أن أريك المنهزمة تغلب الغالبه فتهزمها ؟ فيقول : نعم ، فجاء جندب الازدي مشتملا على سيفه ، فقال : أفرجوا ، لى ، فأفرجوا فضربه حتى قتله ، فحبسه الوليد قليلا ثم تركه .
(3) قال أبو الفرج : وروى أحمد عن عمر ، عن رجاله : أن جندبا لما قتل الساحر حبسه الوليد ، فقال له دينار بن دينار : فيم حبست هذا ، وقد قتل من أعلن بالسحر في دين محمد (صلى الله عليه وسلم) ، ثم مضى إليه فأخرجه من الحبس ، فأرسل الوليد إلى دينار ابن دينار فقتله (4) .
قال أبو الفرج : حدثنى عمى الحسن بن محمد قال : حدثنى الخراز ، عن المدائني ، عن على بن مجاهد ، عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان ، عن الزهري وغيره ، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما انصرف عن غزاة بنى المصطلق نزل رجل من المسلمين فساق بالقوم ورجز ، ثم آخر فساق بهم ورجز ، ثم بدا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يواسى أصحابه ، فنزل فساق بهم ورجز ، وجعل يقول فيما يقول : جندب وما جندب والاقطع زيد الخير
__________
(1) الاستيعاب .
(2) الاغاني 4 : 183 .
(3) الاغاني 4 : 183 .
(4) الاغاني 4 : 183 .
(*)(17/240)
فدنا منه أصحابه فقالوا : يا رسول الله ، ما ينفعنا سيرنا مخافة أن تنهشك دابة ، أو تصيبك نكبة .
فركب ودنوا منه وقالوا : قلت قولا لا ندرى ما هو ؟ قال : وما ذاك ؟ قالوا : كنت تقول : جندب وما جندب ، والاقطع زيد الخير .
فقال : رجلان يكونان في هذه الامة يضرب أحدهما ضربة يفرق بين الحق والباطل ، وتقطع يد الاخر في سبيل الله ثم ، يتبع الله آخر جسده بأوله ، وكان زيد ، هو زيد بن صوحان ، وقطعت يده في سبيل الله يوم جلولاء ، وقتل يوم الجمل مع على بن أبى طالب (عليه السلام) وأما جندب هذا فدخل على الوليد بن عقبة وعنده ساحر يقال له : أبو شيبان ، يأخذ أعين الناس ، فيخرج مصارين بطنهم ثم يردها ، فجاء من خلفه فضربه فقتله ، وقال : العن وليدا وأبا شيبان وابن حبيش راكب الشيطان * رسول فرعون إلى هامان (1) * قال أبو الفرج : وقد روى أن هذا الساحر كان يدخل عند الوليد في جوف بقرة حية ، ثم يخرج منها ، فرآه جندب فذهب إلى بيته ، فاشتمل على سيف ، فلما دخل الساحر في البقرة قال جندب : (أفتأتون السحر وانتم تبصرون ثم ضرب وسط البقره فقطعها وقطع الساحر معها ، فذعر الناس ، فسجنه الوليد ، وكتب بأمره إلى عثمان (3) .
* * * قال أبو الفرج : فروى أحمد بن عبد العزيز ، عن حجاج بن نصير ، عن قره ، عن
__________
(1) الاغاني 4 : 183 ، 184 .
(2) سورة الانبياء 3 .
(3) الاغاني 4 : 184 .
(*)(17/241)
محمد بن سيرين ، قال : انطلق بجندب بن كعب الازدي قاتل الساحر بالكوفة إلى السجن ، وعلى السجن رجل نصراني من قبل الوليد ، وكان يرى جندب بن كعب يقوم بالليل ويصبح صائما ، فوكل بالسجن رجلا ، ثم خرج فسأل الناس عن أفضل أهل الكوفة ، فقالوا : الاشعث بن قيس ، فاستضافه فجعل يراه ينام الليل ثم يصبح فيدعو بغدائه ، فخرج من عنده وسأل : أي أهل الكوفة أفضل ؟ قالوا : جرير بن عبد الله ، فذهب إليه فوجده ينام الليل ثم يصبح فيدعو بغدائه ، فاستقبل القبلة ، وقال : ربى رب جندب ، وديني دين جندب .
ثم أسلم (1) .
قال أبو الفرج : فلما نزع عثمان الوليد عن الكوفة أمر عليها سعيد بن العاص ، فلما قدمها قال : اغسلوا هذا المنبر ، فإن الوليد كان رجلا نجسا ، فلم يصعده حتى غسل .
قال أبو الفرج : وكان الوليد أسن من سعيد بن العاص ، وأسخى نفسا ، وألين جانبا ، وأرضى عندهم ، فقال بعض شعرائهم : وجاءنا من بعده سعيد (2) * * ينقص في الصاع ولا يزيد وقال آخر منهم : فررت من الوليد إلى سعيد * * كأهل الحجر إذ فزعوا فباروا يلينا من قريش كل عام * * أمير محدث أو مستشار لنا نار تحرقنا فنخشى * * وليس لهم - ولا يخشون - نار (3) .
قال أبو الفرج : وحدثنا أحمد ، قال : حدثنا عمر ، عن المدائني ، قال : قدم الوليد بن
__________
(1) الاغاني 4 : 183 .
(2) أول الرجز في الاغاني : * يا ويلنا قد ذهب الوليد * (3) الاغاني 4 : 184 .
(*)(17/242)
عقبة الكوفة في أيام معاوية زائرا للمغيرة بن شعبة ، فأتاه أشراف الكوفة فسلموا عليه .
وقالوا : والله ما رأينا بعدك مثلك ، فقال : أخيرا أم شرا ! قالوا : بل خيرا ، قال : ولكني ما رأيت بعدكم شرا منكم .
فأعادوا الثناء عليه ، فقال : بعض ما تأتون به ! فو الله إن بغضكم لتلف ، وإن حبكم لصلف (1) .
قال أبو الفرج : وروى عمر بن شبة ، أن قبيصة بن جابر كان ممن كثر (2) على الوليد ، فقال معاوية يوما والوليد وقبيصة عنده : يا قبيصة ما كان شأنك وشأن الوليد ؟ قال : خير يا أمير المؤمنين ، إنه في أول الامر وصل الرحم ، وأحسن الكلام ، فلا تسأل عن شكر وحسن ثناء ، ثم غضب على الناس وغضبوا عليه ، وكنا معهم ، فإما ظالمون فنستغفر الله ، وأما مظلومون فيغفر الله له ، فخذ في غير هذا يا أمير المؤمنين ، فإن الحديث ينسى القديم .
قال معاوية : ما أعلمه إلا قد أحسن السيرة ، وبسط الخير ، وقبض الشر .
قال : فأنت يا أمير المؤمنين اليوم أقدر على ذلك فافعله ، فقال : اسكت لا سكت ، فسكت وسكت القوم ، فقال معاوية بعد يسير : ما لك لا تتكلم يا قبيصة ؟ قال : نهيتني عما كنت أحب فسكت عما لا أحب .
قال أبو الفرج : ومات الوليد بن عقبة فويق الرقة ، ومات أبو زبيد هناك ، فدفنا جميعا في موضع واحد ، فقال في ذلك أشجع السلمى وقد مر بقبريهما : مررت على عظام أبى زبيد * * وقد لاحت ببلقعة صلود فكان له الوليد نديم صدق * * فنادم قبره قبر الوليد وما أدرى بمن تبدو المنايا * * بحمزة أم باشجع أم يزيد ! قيل : هم إخوته ، وقيل : ندماؤه (3) .
قال أبو الفرج : وحدثني أحمد بن عبد العزيز ، عن محمد بن زكريا الغلابى ،
__________
(1) الاغاني 4 : 184 .
(2) كذا في ا ، د ، وفي ب : " كبر " .
(3) الاغاني 4 : 185 .
(*)(17/243)
عن عبد الله بن الضحاك ، عن هشام بن محمد عن أبيه قال : وفد الوليد بن عقبة - وكان جوادا - إلى معاوية فقيل له هذا الوليد بن عقبة بالباب ، فقال : والله ليرجعن مغيظا غير معطى ، فإنه الان قد أتانا يقول : على دين وعلى كذا ، ائذن له ، فأذن له ، فسأله وتحدث معه ، ثم قال له معاوية : أما والله إن كنا لنحب إتيان مالك بالوادي ، ولقد كان يعجب أمير المؤمنين ، فإن رأيت أن تهبه ليزيد فافعل ، قال : هو ليزيد ، ، ثم خرج وجعل يختلف إلى معاوية ، فقال له يوما : انظر يا أمير المؤمنين في شأني ، ، فإن على مؤونة ، وقد أرهقني دين ، فقال له : ألا تستحيى لنفسك وحسبك ، تأخذ ما تأخذه فتبذره ، ثم لا تنفك تشكو دينا ! فقال الوليد : أفعل ، ثم انطلق من مكانه ، فسار إلى الجزيرة ، وقال يخاطب معاوية : فإذا سئلت تقول : " لا " * * وإذا سألت تقول : هات تأبى فعال الخير لا * * تروى وأنت على الفرات أفلا تميل إلى " نعم " * * أو ترك " لا " حتى الممات ! وبلغ معاوية شخوصه إلى الجزيره فخافة ، وكتب إليه : أقبل ، فكتب : أعف وأستعفى كما قد أمرتنى * * فأعط سواى ما بدا لك وابخل سأحدو ركابي عنك إن عزيمتي * * إذا نابنى أمر كسلة منصل وإنى امرؤ للنأى منى تطرب * * وليس شبا قفل على بمقفل ثم رحل إلى الحجاز ، فبعث إليه معاويه بجائزه (1) * * * .
وأما أبو عمر بن عبد البر فإنه ذكر في " الاستيعاب " في باب الوليد ، قال : إن له أخبارا فيها شناعة تقطع على سوء حاله ، وقبح أفعاله ، غفر الله لنا وله ، فلقد كان من رجال قريش
__________
(1) الاغاني 4 : 187 .
(*)(17/244)
ظرفا وحلما وشجاعة وجودا وأدبا ، وكان من الشعراء المطبوعين .
قال : وكان الاصمعي وأبو عبيدة وابن الكلبى وغيرهم يقولون : إنه كان فاسقا شريب خمر ، وكان شاعرا كريما .
قال : وأخباره في شربه الخمر ومنادمته أبا زبيد الطائى كثيرة مشهورة ، ويسمج بنا ذكرها ، ولكنا نذكر منها طرفا .
ثم ذكر ما ذكره أبو الفرج في الاغانى ، وقال : إن خبر الصلاة وهو سكران ، وقوله : " أأزيدكم ؟ " خبر مشهور روته الثقات من نقلة الحديث .
قال أبو عمر بن عبد البر : وقد ذكر الطبري في رواية أنه تغضب عليه قوم من أهل الكوفه حسدا وبغيا ، وشهدوا عليه بشرب الخمر ، وقال : إن عثمان قال له : يا أخى اصبر ، فإن الله يأجرك ويبوء القوم بإثمك .
قال أبو عمر : هذا الحديث لا يصح عند أهل الاخبار ونقلة الحديث ، ولا له عند أهل العلم أصل ، والصحيح ثبوت الشهادة عليه عند عثمان ، وجلده الحد ، وأن عليا هو الذى جلده .
قال : ولم يجلده بيده ، وإنما أمر بجلده ، فنسب الجلد إليه .
قال أبو عمر : ولم يرو الوليد من السنة ما يحتاج فيها إليه ، ولكن حارثة بن مضرب روى عنه أنه قال : " ما كانت نبوة إلا كان بعدها ملك
__________
(1) الاستيعاب 1552 وما بعدها (طبعة نهضة مصر) .
(*)(17/245)
(63) الاصل : ومن كتاب له (عليه السلام) إلى أبى موسى الاشعري وهو عامله على الكوفة ، وقد بلغه عنه تثبيطه الناس عن الخروج إليه لما ندبهم لحرب أصحاب الجمل : من عبد الله على أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس : أما بعد ، فقد بلغني عنك قول هو لك وعليك ، فإذا قدم عليك رسولي فارفع ذيلك ، واشدد مئزرك وأخرج من جحرك ، واندب من معك ، فإن حققت فانفذ ، وإن تفشلت فابعد ، وأيم الله لتؤتين من حيث أنت ، ولا تترك حتى يخلط زبدك بخاثرك ، وذائبك بجامدك ، وحتى تعجل عن قعدتك ، وتحذر من أمامك ، كحذرك من خلفك ، وما هي بالهوينى التى ترجو ، ولكنها الداهية الكبرى ، يركب جملها ، ويذل صعبها ، ويسهل جبلها .
فاعقل عقلك ، واملك أمرك ، وخذ نصيبك وحظك ، فإن كرهت فتنح إلى غير رحب ، ولا في نجاة فبالحرى لتكفين وأنت نائم حتى لا يقال : أين فلان ! والله إنه لحق مع محق وما يبالى ما صنع الملحدون ! والسلام .
* * * الشرح : المراد بقوله : " قول هو لك وعليك " ، أن أبا موسى كان يقول لاهل الكوفة : إن عليا أمام هدى ، وبيعته صحيحة إلا أنه لا يجوز القتال معه لاهل القبلة ، وهذا القول بعضه حق ، وبعضه باطل .(17/246)
وقوله : " فارفع ذيلك " ، أي شمر للنهوض معى واللحاق بى ، لنشهد حرب أهل البصرة ، وكذلك قوله : " واشدد مئزرك " وكلتاهما كنايتان عن الجد والتشمير في الامر .
قال : " واخرج من جحرك " أمر له بالخروج من منزله للحاق به ، وهى كناية فيها غض من أبى موسى واستهانه به لانه لو أراد إعظامه لقال : واخرج من خيسك (1) ، أو من غيلك (2) كما يقال للاسد ، ولكنه جعله ثعلبا أو ضبا .
قال : " واندب من معك " ، أي واندب رعيتك من أهل الكوفة إلى الخروج معى واللحاق بى .
ثم قال : " وإن تحققت فانفذ " " أي أمرك مبنى على الشك ، وكلامك في طاعتي ؟ كالمنتاقض ؟ فإن حققت لزوم طاعتي لك فانفذ ، أي سر حتى تقدم على ، وإن أقمت على الشك فاعتزل العمل ، فقد عزلتك .
قوله : " وايم الله لتؤتين " معناه إن أقمت على الشك والاسترابة وتثبيط أهل الكوفة عن الخروج إلى وقولك لهم : لا يحل لكم سل السيف لا مع على ولا مع طلحة ، والزموا بيوتكم ، واكسروا سيوفكم ، ليأتنيكم .
وأنتم في منازلكم بالكوفة أهل البصرة مع طلحة ، ونأتينكم نحن بأهل المدينة والحجاز ، فيجتمع عليكم سيفان من أمامكم ومن خلفكم ، فتكون ذلك الداهية الكبرى التى لا شواة لها .
قوله : " ولا تترك حتى يخلط زبدك بخاثرك " تقول للرجل إذا ضربته حتى أثخنته : لقد ضربته حتى خلطت زبده بخاثره وكذلك حتى خلطت ذائبه بجامده ، والخاثر : اللبن الغيظ ، والزبد خلاصه اللبن وصفوته ، فإذا أثخنت الاسنان ضربا كنت كأنك
__________
(1) الخيس : معرس الاسد .
(2) الغيل : الشجر الكثير الملتف .
(*)(17/247)
خلطت ما رق ولطف من أخلاطه بما كثف وغلظ منها ، وهذا مثل ، ومعناه لتفسدن حالك ولتخلطن ، وليضربن ما هو الان منتظم من أمرك .
قوله : وحتى تعجل عن قعدتك " ، القعدة بالكسر هيئة القعود كالجلسة والركبه أي وليعجلنك الامر عن هيئة قعودك ، يصف شدة الامر وصعوبته .
قوله : وتحذر من أمامك كحذرك من خلفك " ، يعنى يأتيك من خلفك إن أقمت على منع الناس عن الحرب معنا ومعهم أهل البصره وأهل المدينة ، فتكون كما قال الله تعالى : (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم) (1) .
قوله : " (وما هي بالهوينى التى ترجو " ، الهوينى تصغير " الهونى " التى هي أنثى " أهون " ، أي ليست هذه الداهية والجائحة التى اذكرها لك بالشئ الهين الذى ترجو اندفاعه وسهولته .
ثم قال : بل هي الداهية الكبرى ستفعل لا محالة إن استمررت على ما أنت عليه ، وكنى عن قوله : " ستفعل لا محالة " بقوله : " يركب جملها " وما بعده ، وذلك لانها إذا ركب جملها ، وذلل صعبها وسهل وعرها فقد فعلت ، أي لا تقل : هذا أمر عظيم صعب المرام ، أي قصد الجيوش من كلا الجانبين الكوفة ، فإنه إن دام الامر على ما أشرت إلى أهل الكوفة من التخاذل والجلوس في البيوت ، وقولك لهم : " كن عبد الله المقتول " لنقعن بموجب ما ذكرته لك ، وليرتكبن أهل الحجاز وأهل البصرة هذا الامر المستصعب ، لانا نحن نطلب أن نملك الكوفة ، وأهل البصرة كذلك ، فيجتمع عليها الفريقان .
ثم عاد إلى أمره بالخروج إليه فقال له : " فاعقل عقلك ، واملك أمرك ، وخذ نصيبك
__________
(1) سورة الاحزاب 10 .
(*)(17/248)
وحظك " ، أي من الطاعة ، واتباع الامام الذى لزمتك بيعته ، فإن كرهت ذلك ، فتنح عن العمل فقد عزلتك ، وابعد عنا لا في رحب ، أي لا في سعة ، وهذا ضد قولهم مرحبا .
ثم قال : فجدير أن تكفى ما كلفته من حضور الحرب وأنت نائم ، أي لست معدودا عندنا ولا عند الناس من الرجال الذين تفتقر الحروب والتدبيرات إليهم فسيغنى الله عنك ولا يقال : أين فلان ؟ ثم أقسم أنه لحق ، أي أنى في حرب هؤلاء لعلى حق ، وإن من أطاعنى مع إمام محق ليس يبالى ما صنع الملحدون ، وهذا إشاره إلى قول النبي (صلى الله عليه وآله) : " اللهم أدر الحق معه حيثما دار(17/249)
(64) الاصل : ومن كتاب له (عليه السلام) إلى معاوية جوابا عن كتابه * : أما بعد ، فإنا كنا نحن وأنتم على ما ذكرت من الالفة والجماعة ، ففرق بيننا وبينكم أمس أنا آمنا وكفرتم ، واليوم أنا استقمنا وفتنتم ، وما أسلم مسلمكم إلا كرها ، وبعد أن كان أنف الاسلام كله لرسول الله (صلى الله عليه وآله) حربا .
وذكرت أنى قتلت طلحة والزبير ، وشردت بعائشة ، ونزلت بين المصرين ، وذلك أمر غبت عنه ، فلا عليك ، ولا العذر فيه إليك .
وذكرت أنك زائري في جمع المهاجرين والانصار ، وقد انقطعت الهجرة يوم أسر أخوك ، فإن كان فيك عجل فاسترفه ، فإنى أن أزرك فذلك جدير أن يكون الله إنما بعثنى إليك للنقمه منك ، وإن تزرنى فكما قال أخو بنى أسد : مستقبلين رياح الصيف تضربهم * * بحاصب بين أغوار وجلمود وعندي السيف الذى أعضضتة بجدك وخالك وأخيك في مقام واحد فإنك والله ما علمت الاغلف القلب ، المقارب العقل ، والاولى أن يقال لك : إنك رقيت سلما أطلعك مطلع سوء عليك لا لك ، لانك نشدت غير ضالتك ، ورعيت غير سائمتك وطلبت أمرا لست من أهله ولا في معدنه ، فما أبعد قولك من فعلك !
__________
(*) بقية شرح هذه الرسالة في الجزء الثامن عشر .
(*)(17/250)
وقريب ما أشبهت من أعمام وأخوال ! حملتهم الشقاوة وتمنى الباطل ، على الجحود بمحمد (صلى الله عليه وآله) فصرعوا مصارعهم حيث علمت ، لم يدفعوا عظيما ، ولم يمنعوا حريما ، بوقع سيوف ما خلا منها الوغى ، ولم تماشها الهوينى .
وقد أكثرت في قتله عثمان ، فادخل فيما دخل فيه الناس ، ثم حاكم القوم إلى ، أحملك وإياهم على كتاب الله تعالى ، وأما تلك التى تريد ، فانها خدعة الصبى عن اللبن في أول الفصال ، والسلام لاهله .
* * * الشرح : [ كتاب معاويه إلى على ] أما الكتاب الذى كتبه إليه معاوية ، وهذا الكتاب جوابه ، فهو : من معاوية بن أبى سفيان ، إلى على بن أبي طالب : أما بعد ، فإنا بنى عبد مناف لم نزل ننزع من قليب واحد ، ونجرى في حلبة واحدة ، ليس لبعضنا على بعض فضل ، ولا لقائمنا على قاعدنا فخر ، كلمتنا مؤتلفة وألفتنا جامعة ، ودارنا واحدة ، يجمعنا كرم العرق ، ويحوينا شرف النجار ، ويحنو قوينا على ضعيفنا ، ويواسى غنينا فقيرنا ، قد خلصت قلوبنا من وغل الحسد ، وطهرت أنفسنا من خبث النية فلم نزل كذلك حتى كان منك ما كان من الادهان في أمر ابن عمك ، والحسد له ، ونصرة الناس عليه ، حتى قتل بمشهد منك ، لا تدفع عنه بلسان ولا يد .
فليتك(17/251)
أظهرت نصره ، حيث أسررت خبره ، فكنت كالمتعلق بين الناس بعذر (1) وإن ضعف ، والمتبرئ من دمه بدفع وإن وهن ، ولكنك جلست في دارك تدس إليه الدواهي ، وترسل إليه الافاعى ، حتى إذا قضيت وطرك منه ، أظهرت شماتة وأبديت طلاقة ، وحسرت للامر عن ساعدك ، وشمرت عن ساقك ، ودعوت الناس إلى نفسك ، وأكرهت أعيان المسلمين على بيعتك ، ثم كان منك بعد ما كان ، من قتلك شيخي المسلمين أبى محمد طلحة وأبى عبد الله الزبير ، وهما من الموعودين بالجنة ، والمبشر قاتل أحدهما بالنار في الاخرة ، هذا إلى تشريدك بأم المؤمنين عائشة وإحلالها محل الهون ، متبذلة بين أيدى الاعراب وفسقه أهل الكوفة ، فمن بين مشهر لها ، وبين شامت بها ، وبين ساخر منها .
ترى ابن عمك كان بهذه لو رآه راضيا ، أم كان يكون عليك ساخطا ، ولك عنه زاجرا ! أن تؤذى أهله وتشرد بحليلته ، وتسفك دماء أهل ملته .
ثم تركك دار الهجرة التى قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) عنها : " إن المدينة لتنفى خبثها كما ينفى الكير (2) خبث الحديد " ، فلعمري لقد صح وعده وصدق قوله ، ولقد نفت خبثها ، وطردت عنها من ليس بأهل أن يستوطنها ، فأقمت بين المصرين ، وبعدت عن بركة الحرمين ، ورضيت بالكوفة بدلا من المدينة وبمجاورة الخورنق والحيرة عوضا من مجاورة خاتم النبوة ، ومن قبل ذلك ما عبت خليفتي رسول الله (صلى الله عليه وآله) أيام حياتهما ، فقعدت عنهما وألبت عليهما ، وامتنعت من بيعتهما ، ورمت أمرا لم يرك الله تعالى له أهلا ورقيت سلما وعرا ، وحاولت مقاما دحضا ، وادعيت ما لم تجد عليه ناصرا ، ولعمري لو وليتها حينئذ لما أزدادت إلا فسادا واضطرابا ، ولا أعقبت ولايتكها إلا انتشارا وارتدادا ، لانك الشامخ بأنفه ، الذاهب بنفسه ، المستطيل على الناس بلسانه ويده ، وها أنا سائر إليك في جمع
__________
(1) ا : " بعدو " .
(2) الكير : زق ينفخ قيه الحداد .
(*)(17/252)
من المهاجرين والانصار تحفهم سيوف شامية ، ورماح قحطانية حتى يحاكموك إلى الله .
فانظر لنفسك وللمسلمين ، وادفع إلى قتله عثمان ، فإنهم خاصتك وخلصاؤك والمحدقون بك ، فإن أبيت إلا سلوك سبيل اللجاج ، والاصرار على الغى والضلال ، فاعلم أن هذه الايه إنما نزلت فيك وفي اهل العراق معك : (وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) (1) * * * ثم نعود إلى تفسير ألفاظ الفصل ومعانيه ، قال (عليه السلام) : لعمري إنا كنا بيتا واحدا في الجاهلية ، لانا بنو عبد مناف ، إلا أن الفرقه بيننا وبينكم حصلت منذ بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله) ، فأنا آمنا وكفرتم ثم تأكدت الفرقة اليوم بأنا استقمنا على منهاج الحق وفتنتم .
ثم قال : " وما أسلم من أسلم منكم إلا كرها " ، كأبى سفيان وأولاده يزيد ومعاوية وغيرهم من بنى عبد شمس .
قال : " وبعد أن كان أنف الاسلام محاربا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أي في أول الاسلام ، يقال : كان ذلك في أنف دوله بنى فلان ، أي في أولها ، وأنف كل شئ أوله وطرفه ، وكان أبو سفيان وأهله من بنى عبد شمس أشد الناس على رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أول الهجرة ، إلى أن فتح مكة ، ثم أجابه عن قوله : " قتلت طلحة والزبير ، وشردت بعائشة ، ونزلت بين المصرين " بكلام مختصر أعرض فيه عنه
__________
(1) سورة النحل 112 .
(*)(17/253)
هوانا به ، فقال هذا أمر غبت عنه ، فليس عليك كان العدوان الذى تزعم ، ولا العذر إليك لو وجب على العذر عنه .
فأما الجواب المفصل فأن يقال : إن طلحه والزبير قتلا أنفسهما ببغيهما ونكثهما ، ولو استقاما على الطريقة لسلما ، ومن قتله الحق فدمه هدر ، وأما كونهما شيخين من شيوخ الاسلام فغير مدفوع ، ولكن العيب يحدث ، وأصحابنا يذهبون إلى أنهما تابا وفارقا الدنيا نادمين على ما صنعا ، وكذلك نقول نحن ، فان الاخبار كثرت بذلك ، فهما من أهل الجنة لتوبتهما ولو لا توبتهما لكانا هالكين كما هلك غيرهما ، فإن الله تعالى لا يجابى أحدا في الطاعة والتقوى ، (ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حى عن بينه (1)) .
وأما الوعد لهما بالجنة فمشروط بسلامة العاقبة ، والكلام في سلامتهما ، وإذا ثبتت توبتهما فقد صح الوعد لهما وتحقق ، وقوله : " بشر قاتل ابن صفية بالنار " ، فقد اختلف فيه ، فقال قوم من أرباب السير وعلماء الحديث : هو كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) غير مرفوع ، وقوم منهم جعلوه مرفوعا ، وعلى كل حال فهو حق ، لان ابن جرموز قلته موليا خارجا من الصف ، مفارقا للحرب ، فقد قتله على توبة وإنابة ورجوع من الباطل ، وقاتل من هذه حاله فاسق مستحق للنار ، وأما أم المؤمنين عائشة فقد صحت توبتها ، والاخبار الواردة في توبتها أكثر من الاخبار الواردة في توبة طلحه والزبير ، لانها عاشت زمانا طويلا ، وهما لم يبقيا ، والذى جرى لها كان خطأ منها ، فأى ذنب لامير المؤمينن (عليه السلام) في ذلك ولو أقامت في منزلها لم تبتذل بين الاعراب وأهل الكوفة ، على أن أمير المؤمنين (عليه السلام) أكرمها وصانها وعظم من شأنها ، ومن أحب أن يقف على ما فعله معها فليطالع كتب السيرة .
ولو كانت فعلت بعمر ما فعلت به ، وشقت عصا الامة عليه ، ثم ظفر بها ، لقتلها ومزقها إربا إربا ، ولكن عليا كان حليما كريما .
__________
(1) سورة الانفال 42 .
(*)(17/254)
وأما قوله : " لو عاش رسول الله (صلى الله عليه وآله) فبربك هل كان يرضى لك أن تؤذى حليلته ! فلعلي (عليه السلام) أن يقلب الكلام عليه ، فيقول أفتراه لو عاش أكان يرضى لحليلته أن تؤذى أخاه ووصيه ! وأيضا أتراه لو عاش أكان يرضى لك يا بن أبى سفيان أن تنازع عليا الخلافة وتفرق جماعه هذه الامة ! وأيضا أتراه لو عاش أكان يرضى لطلحة والزبير أن يبايعا ، ثم ينكثا لا لسبب ، بل قالا : جئنا نطلب الدراهم ، فقد قيل لنا : إن بالبصرة أموالا كثيرة ! هذا كلام يقوله مثلهما .
فأما قوله : " تركت دار الهجرة " ، فلا عيب عليه إذا انقضت عليه أطراف الاسلام بالبغى والفساد أن يخرج من المدينة إليها ، ويهذب أهلها وليس كل من خرج من المدينة كان خبثا ، فقد كان خبثا ، خرج عنها عمر مرارا إلى الشام .
ثم لعلى (عليه السلام) أن يقلب عليه الكلام فيقول له : وأنت يا معاوية فقد نفتك المدينة أيضا عنها ، فأنت إذا خبث ، وكذلك طلحه والزبير وعائشة الذين تتعصب لهم وتحتح على الناس بهم وقد خرج عن المدينة الصالحون ، كابن مسعود وأبى ذر وغيرهما ، وماتوا في بلاد نائية عنها ، وأما قوله : " بعدت عن حرمة الحرمين ، ومجاورة قبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فكلام إقناعى ضعيف ، والواجب على الامام أن يقدم الاهم فالاهم من مصالح الاسلام ، وتقديم قتال أهل البغى على المقام بين الحرمين أولى .
فأما ما ذكره من خذلانه عثمان وشماتته به ودعائه الناس بعد قتله إلى نفسه وإكراهه طلحة والزبير وغيرهما على بيعته فكله دعوى والامر بخلافها ، ومن نظر كتب السير عرف أنه قد بهته وادعى عليه ما لم يقع منه .
وأما قوله : " التويت على أبى بكر وعمر ، وقعدت عنهما ، وحاولت الخلافة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فإن عليا (عليه السلام) لم يكن يجحد ذلك ولا ينكره ، ولا ريب(17/255)
أنه كان يدعى الامر بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لنفسه على الجملة ، إما لنص كما تقوله الشيعة ، أو لامر آخركما يقوله أصحابنا .
فأما قوله : " لو وليتها حينئذ لفسد الامر واضطرب الاسلام " ، فهذا علم غيب لا يعلمه إلا الله ، ولعله لو وليها حينئذ لاستقام الامر وصلح الاسلام وتمهد فإنه ، ما وقع الاضطراب عند ولايته بعد عثمان إلا لان أمره هان عندهم بتأخره عن الخلافة ، وتقدم غيره عليه ، فصغر شأنه في النفوس ، وقرر من تقدمه في قلوب الناس أنه لا يصلح لها كل الصلاحية ، والناس على ما يحصل في نفوسهم ، ولو كان وليها ابتداء وهو على تلك الحالة التى كان عليها أيام حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتلك المنزلة الرفيعة والاختصاص الذى كان له ، لكان الامر غير الذى رأيناه عند ولايته بعد عثمان .
وأما قوله : " لانك الشامخ بأنفه ، الذاهب بنفسه " ، فقد أسرف في وصفه بما وصفه به ، ولا شك أن عليا (عليه السلام) كان عنده زهو لكن لا هكذا ، وكان (عليه السلام) مع زهوه ألطف الناس خلقا .
* * * ثم نرجع إلى تفسير ألفاظه (عليه السلام) ، قوله : وذكرت أنك زائري في جمع من المهاجرين والانصار ، وقد انقطعت الهجرة يوم أسر أخوك " هذا الكلام تكذيب له في قوله : " في جمع من المهاجرين والانصار " ، أي ليس معك مهاجر لان أكثر من معك ممن رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) هم أبناء الطلقاء ومن أسلم بعد الفتح ، وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله) : " لا هجرة بعد الفتح " .
وعبر عن يوم الفتح بعبارة حسنه فيها تقريع لمعاوية وأهله بالكفر ، وأنهم ليسوا من ذوى السوابق ، فقال : " قد انقطعت الهجرة يوم أسر أخوك يعنى يزيد بن أبى سفيان أسر يوم الفتح في باب الخندمه ، وكان خرج في نفر من قريش يحاربون ويمنعون(17/256)