وأما قول المرتضى من أين لقاضي القضاة أن ما اعتمده الحسن والحسين من الكف والاقدام كان عن الاجتهاد ! فجيد وجواب صحيح على أصول الامامية لانه : ليس بمستحيل أن يعتمدا ذلك بوصية سابقة من أبيهما عليه السلام .
وأما قوله لقاضي القضاة : كلامك مضطرب لانك أسندت ما اعتمداه إلى الاجتهاد ثم قلت : وقد كان تمكن الحسن أكثر من تمكن الحسين عليه السلام ، وهذا يؤدى إلى أن أحدهما غرر بنفسه والاخر فرط في تسليم حقه فليس بجيد والذى أراده قاضى القضاة الدلالة على جواز الاجتهاد وأنه طريقة المسلمين كلهم وأهل البيت عليهم السلام وأوما إلى ما اعتمده الحسن من تسليم الامر إلى معاوية وما اعتمده الحسين من منازعة يزيد الخلافة فعملا فيها بموجب اجتهادهما وما غلب على ظنونهما من المصلحة وقد كان تمكن الحسن عليه السلام في الحال الحاضرة أكثر من تمكن الحسين عليه السلام في حاله الحاضرة لان جند الحسن كان حوله ومطيفا به - وهم كما روى مائه ألف - سيف ولم يكن مع الحسين عليه السلام ممن يحيط به ويسير بمسيره إلى العراق إلا دون مائة فارس ولكن ظنهما في عاقبة الامر ومستقبل الحال كان مختلفا فكان الحسن يظن خذلان أصحابه عند اللقاء والحرب وكان الحسين عليه السلام يظن نصرة أصحابه عند اللقاء والحرب فلذلك أحجم أحدهما وأقدم الاخر ، فقد بان أن قول قاضى القضاة غير مضطرب ولا متناقض .
الطعن الثامن ما روى عن عمر من قوله (متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما) وهذا اللفظ قبيح لو صح المعنى فكيف إذ فسد ! لانه ليس ممن(12/251)
يشرع فيقول هذا القول ولانه يوهم مساواة الرسول صلى الله عليه وآله في الامر والنهى وأن اتباعه أولى من اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله .
أجاب قاضى القضاة ، فقال : إنه إنما عنى (1) بقوله : (وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما) كراهته لذلك وتشدده فيه من حيث نهى رسول الله صلى الله عليه وآله عنهما بعد أن كانتا في أيامه منبها بذلك على حصول النسخ فيهما وتغير الحكم لانا نعلم أنه كان متبعا للرسول متدينا بالاسلام فلا يجوز أن نحمل قوله على خلاف ما تواتر من حاله وحكى عن أبى على أن ذلك بمنزلة أن يقول : إنى أعاقب من صلى إلى بيت المقدس وإن كان صلى إلى بيت المقدس في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله واعتمد في تصويبه على كف الصحابة عن النكير عنه وادعى أن أمير المؤمنين عليه السلام أنكر على ابن عباس إحلال المتعة وروى عن النبي صلى الله عليه وآله ، تحريمهما فأما متعة الحج فإنما أراد ما كانوا يفعلون من فسخ الحج لانه كان يحصل لهم عنده التمتع ولم يرد بذلك التمتع الذى يجرى مجرى تقدم العمرة وإضافة الحج إليها بعد ذلك ، لانه جائز لم يقع فيه قبح .
اعترض المرتضى هذا الكلام (2) ، فقال : ظاهر الخبر المروى عن عمر في المتعتين يبطل هذا التأويل لانه قال : (متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما) فأضاف النهى إلى نفسه ولو كان الرسول نهى عنهما لاضاف النهى إليه ، فكان آكد وأولى فكان يقول : فنهى عنهما أو نسخهما وأنا من بعده أنهى عنهما وأعاقب عليهما .
وليس يشبه ما ذكره من الصلاة إلى البيت المقدس ، لان نسخ
__________
(1) الشافي : (وهذا غير لازم ، لانه عنى بقوله : أنا انهى عنها) (2) الشافي : (يقال له : ظاهر الخبر المروي ...
) .
(*)(12/252)
الصلاة إلى بيت المقدس معلوم ضرورة من دينه صلى الله عليه وآله وليس كذلك المتعة على أنه لو قال : إن الصلاة إلى بيت المقدس كانت في أيام النبي صلى الله عليه وآله جائزة وأنا الان أنهى عنها لكان قبيحا شنيعا ، مثل ما استقبحنا من القول الاول وليس هذا القول منه ردا على الرسول صلى الله عليه وآله لانه لا يمتنع أن يكون استحسن حظرها في أيامه لوجه لم يكن فيما تقدم واعتقد أن الاباحة في أيام رسول الله صلى الله عليه وآله كان لها شرط لم يوجد في أيامه ، وقد روى عنه أنه صرح بهذا المعنى ، فقال : إنما أحل الله المتعة للناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله والنساء يومئذ قليلة ولذلك روى عنه في متعة الحج أنه قال : قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله فعلها وأصحابه ولكن كرهت أن يظلوا بها معرسين تحت الاراك ثم يرجعوا بالحج تقطر رؤوسهم .
وأما (1) اعتماده على الكف عن النكير ، فقد تقدم أنه ليس بحجة إلا على شرائط شرحناها ، على أنه قد روى أن عمر قال بعد نهيه عن المتعة : لا أوتى بأحد تزوج متعة إلا عذبته بالحجارة ولو كنت تقدمت فيها لرجمت وما وجدنا أحدا أنكر عليه هذا القول لان المتمتع عندهم لا يستحق الرجم ، ولم يدل ترك النكير على صوابه .
فأما ادعاؤه على أمير المؤمنين عليه السلام أنه أنكر على ابن عباس احلالها فالامر بخلافه وعكسه فقد روى عنه عليه السلام من طرق كثيرة أنه كان يفتى بها وينكر على محرمها و الناهي عنها ، وروى عمر بن سعد الهمداني ، عن حبيش بن المعتمر قال : سمعت عليا عليه السلام يقول : لولا ما سبق من ابن الخطاب في المتعة ما زنى الا شقى .
وروى أبو بصير قال : سمعت ابا جعفر محمد بن على الباقر ع يروى عن جده أمير المؤمنين عليه السلام : لولا ما سبقني به ابن الخطاب ما زنى الا شقى .
وقد افتى بالمتعة
__________
(1) الشافي : (فأما) .
(*)(12/253)
جماعة من الصحابة والتابعين كعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن مسعود ، وجابر بن عبد الله الانصاري ، وسلمة بن الاكوع ، وابى سعيد الخدرى ، وسعيد بن جبير ومجاهد ، وغير ما ذكرناه ممن يطول ذكره ، فأما سادة أهل البيت عليهم السلام وعلماؤهم فامرهم واضح في الفتيا بها ، كعلى بن الحسين زين العابدين ، وابى جعفر الباقر عليه السلام وابى عبد الله الصادق عليه السلام وابى الحسن موسى الكاظم وعلى بن موسى الرضا عليه السلام وما ذكرنا من فتيا من اشرنا إليه من الصحابة بها يدل على اوضح بطلان ما ذكره صاحب الكتاب من ارتفاع النكير لتحريمها ، لان مقامهم على الفتيا بها نكير .
فأما متعة الحج فقد فعلها النبي (ص) والناس اجمع من بعده ، والفقهاء في اعصارنا هذه لا يرونها خطأ بل صوابا .
فأما قول صاحب الكتاب : ان عمر انما انكر فسخ الحج فباطل ، لان ذلك اولا لا يسمى متعة ، ولان ذلك ما فعل في ايام النبي (ص) ولا فعله احد من المسلمين بعده وانما هو من سنن الجاهلية ، فكيف يقول عمر : متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ، وكيف يغلظ ويشدد فيما لم يفعل ، ولا فعل (1) .
قلت : لا شبهة ان الظاهر من كلام عمر اضافة النهى الى نفسه ، لكنايجب علينا ان نترك ظاهر اللفظ إذا علمنا من قائله ما يوجب صرف اللفظ عن الظاهر كما يعتمده كل احد في القرائن المقترنة بالالفاظ المعلوم من حال عمر انه لم يكن يدعى انه ناسخ لشريعة
__________
(1) الشافي 257 ، وفيه : (ولا يفعل) .
(*)(12/254)
الرسول صلى الله عليه وآله ، وانه كان متدينا بالاسلام وتابعا للرسول الذى جاء به فوجب أن يحمل كلامه على انه اراد انهما كانتا ثم حرمتا ، ثم انا الان اعاقب من فعلهما ، لانه قد كان بلغه عن قوم من المسلمين بعد علمهم بالتحريم ، وقول المرتضى : لعله كان اعتقد ان الاباحة ايام رسول الله صلى الله عليه وآله كانت مشروطة بشرط لم يوجد في ايامه ، قول يبطل طعنه في عمر ، ويمهد له عذرا ويصير المسأله اجتهادية .
واما طعنه في الاحتجاج على تصويب عمر بترك الانكار عليه وقوله : فهلا انكروا عليه قوله : لا ارى احدا يستمتع الا رجمته ، فليس بطعن مستقيم ، وانما يكون طعنا صحيحا لو كان اتى بمتمتع فامر برجمه ، فاما ان ينكروا عليه وعيده وتهديده لا لانسان معين بل كلاما مطلقا ، وقولا كليا يقصد به حسم المادة في المتعة ، وتخويف فاعلها ، فإنه ليس بمحل للانكار عليه ، وما زالت الائمة والصالحون يتوعدون بامر ليس في نفوسهم فعله ، على طريق التاديب والتهذيب ، على ان قوما من الفقهاء قد اوجبوا اقامة الحد على المتمتع ، فلا يمتنع ان يكون عمر ذاهبا الى هذا المذهب .
فأما ما رواه عن امير المؤمنين عليه السلام وعن الطاهرين من اولاده ، من تحليل المتعة ، فلسنا في هذا المقام نناكره في ذلك وننازعه فيها ، والمسألة فقهية من فروع الشريعة وليس كتابنا موضوعا لذكره ولا الموضع الذى نحن فيه يقتضى الحجاج فيها ، والبحث في تحليلها وتحريمها ، وانما الموضع موضع الكلام في حال عمر ، وما نقل عنه من الكلمة ، هل يقتضى ذلك الطعن في دينه ام لا ؟ فأما متعة الحج فقد اعتذر لنفسه ، وقال ما قدمنا ذكره ، من ان الحج بهاء من بهاء الله وان التمتع يكسفه ويذهب نوره ورونقه ، وانهم يظلون معرسين تحت الاراك ثم(12/255)
يهلون بالحج ورؤوسهم تقطر ، وإذا كان قد اعتذر لنفسه فقد كفانا مؤنة الاعتذار .
الطعن التاسع ما روى عنه من قصة الشورى ، وكونه خرج بها عن الاختيار والنص جميعا ، وانه ذم كل واحد ، بأن ذكر فيه طعنا ثم اهله للخلافة بعد ان طعن فيه ، وأنه جعل الامر الى سته ، ثم الى اربعه (1) ثم الى واحد ، قد وصفه بالضعف والقصور ، وقال : ان اجتمع على وعثمان فالقول ما قالاه ، وان صاروا ثلاثة وثلاثة فالقول للذين فيهم عبد الرحمن ، وذلك لعلمه بان عليا وعثمان لا يجتمعان ، وان عبد الرحمن لا يكاد يعدل بالامر عن ختنه وابن عمه ، وانه امر بضرب اعناقهم إن تأخروا عن البيعة فوق ثلاثة ايام ، وانه امر بقتل من يخالف الاربعة منهم أو الذين فيهم عبد الرحمن .
اجاب قاضى القضاة عن ذلك ، فقال : الامور الظاهرة لا يجوز ان يعترض عليها بأخبار غير صحيحة ، والامر في الشورى ظاهر ، وان الجماعه دخلت فيها بالرضا ولا فرق بين من قال في احدهم : انه دخل فيها لا بالرضا وبين من قال ذلك في جميعهم ، ولذلك جعلنا دخول امير المؤمنين عليه السلام في الشورى احد ما يعتمد عليه في ان لا نص يدل عليه ، انه المختص بالامامة ، لانه قد كان يجب عليه ان يصرح بالنص على نفسه ، بل يحتاج الى ذكر فضائله ومناقبه ، لان الحال حال مناظرة ولم يكن الامر مستقرا لواحد ، فلا يمكن ان يتعلق بالتقية والمتعالم من حاله انه لو امتنع من هذا الامر في الشورى اصلا لم يلحقه الخوف فضلا عن غيره ، ومعلوم ان دلالة الفعل احسن من دلالة القول ، من حيث كان الاحتمال فيه اقل ، والمروى ان عبد الرحمن (2) اخذ الميثاق على الجماعة
__________
(1) الشافي : (ثم جعل الامر إلى ستة ، ثم إلى أربعة) .
(2) في الاصول : (عمر) ، والصواب ما أثبته من الشافي .
(*)(12/256)
بالرضا بمن يختاره ، ولا يجب القدح في الافعال بالظنون ، بل يجب حملها على ظاهر الصحة دون الاحتمال ، كما يجب مثله في غيرها ، ويجب إذا تقدمت للفاعل حالة تقتضي حسن الظن به ، أن يحمل فعله على ما يطابقها ، وقد علمنا ان حال عمر ما كان عليه من النصيحة للمسلمين ، منع من صرف امره في الشورى الى الاغراض التى يظنها اعداؤه ، فلا يصح لهم ان يقولوا : كان مراده في الشورى بأن يجعل الامر الى الفرقة التى فيها عبد الرحمن عند الخلاف ان يتم الامر لعثمان ، لانه لو كان هذا مراده لم يكن هناك ما يمنعه من النص على عثمان ، كما لم يمنع ذلك ابا بكر ، لان امره ان لم يكن اقوى من امر ابى بكر لم ينقص عنه ، وليس ذلك بدعة ، لانه إذا جاز في غير الامام إذا اختار ان يفعل ذلك ، بان ينظر في اماثل القوم فيعلم انهم عشرة ، ثم ينظر في العشرة ، فيعلم ان امثلهم خمسة ، ثم ينظر في واحد من الخمسة ، فما الذى يمنع من مثله في الامام ، وهو في هذا الباب اقوى اختيارا ، لان له ان يختار واحدا بعينه ! ثم ذكر انه انما حصره في الجماعة الذين انتهى إليهم الفضل ، وجعله شورى بينهم ، ثم بين ان الانتقال من الستة الى الاربعة ، ومن الاربعة الى الثلاثة ، لا يكون متناقضا ، لان الاقوال مختلفة ، وليست واحدة ، ولو كانت ايضا واحدة لكان كالرجوع وللامام ان يرجع في مثل ذلك ، لانه في حكم الوصية .
قال : وقولهم : انه كان يعلم ان عثمان وعليا لا يجتمعان ، وان عبد الرحمن يميل الى عثمان ، قلة دين ، لان الامور المستقبلة ، لا تعلم وانما يحصل فيها امارة .
قال : والامارات توجب انه لم يكن فيهم حرص شديد على الامامةء بل الغالب من حالهم طلب الاتفاق والائتلاف والاسترواح الى قيام الغير بذلك .
وانما جعل عمر الامر الى عبد الرحمن عند الاختلاف ، لعلمه بزهده في الامر وأنه لاجل ذلك اقرب ان يتثبت ، لان الراغب(12/257)
عن الشئ يحصل له من التثبت ما لا يحصل للراغب فيه ، ومن كانت هذه حاله كان القوم الى الرضا به اقرب .
وحكى عن ابى على ان المخادعة انما تظن بمن قصده في الامور طريق الفساد ، وعمر برئ من ذلك .
قال : والضعف الذى وصف به عبد الرحمن ، انما اراد به الضعف عن القيام بالامامة ، لا ضعف الراى ، ولذلك رد الاختيار والراى إليه .
وحكى عن ابى على ضعف ما روى من امره بضرب اعناق القوم إذا تأخروا عن البيعة ، وان ذلك لو صح لا نكره القوم ولم يدخلوا في الشورى بهذا الشرط ، ثم تأوله إذ سلم صحته ، على انهم إن تأخروا عن البيعة على سبيل شق العصا وطلب الامر من غير وجهه .
وقال : ولا يمتنع ان يقول ذلك على طريق التهديد ، وإن بعد عنده ان يقدموا عليه ، كما قال تعالى : (لئن اشركت ليحبطن عملك) .
اعترض المرتضى هذا الكلام ، فقال : ان الذى رتبه عمر في قصة الشورى من ترتيب العدد واتفاقه واختلافه ، يدل اولا على بطلان مذهب اصحاب الاختيار في عدد العاقدين للامامة ، وانه يتم بعقد واحد لغيره برضا اربعة ، وانه لا يتم بدون ذلك ، فان قصه الشورى تصرح بخلاف هذا الاعتبار ، فهذا أحد وجوه المطاعن فيها .
ومن جملتها انه وصف كل واحد منهم بوصف زعم انه يمنع من الامامة ، ثم جعل الامر فيمن له تلك الاوصاف وقد روى محمد بن سعد ، عن الواقدي ، عن محمد بن عبد الله الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس ، قال : قال عمر : لا ادرى ما اصنع بأمه محمد صلى الله عليه وآله ؟ وذلك قبل ان يطعن ، فقلت : ولم تهتم وانت تجد من تستخلفه(12/258)
عليهم ؟ قال : أصاحبكم ؟ يعنى عليا ، قلت : نعم ، هو لها اهل ، في قرابته من رسول الله صلى الله عليه وآله ، وصهره وسابقته وبلائه ، قال : ان فيه بطالة (1) وفكاهة ، فقلت : فاين انت من طلحة ؟ قال : فاين الزهو والنخوة ! قلت : عبد الرحمن ؟ قال : هو رجل صالح على ضعف فيه ، قلت : فسعد ، قال : ذاك صاحب مقنب (2) وقتال لا يقوم بقرية لو حمل امرها ، قلت : فالزبير قال : وعقة لقس (3) مؤمن الرضا ، كافر الغضب ، شحيح وان هذا الامر لا يصلج الا لقوى في غير عنف ، رفيق في غير ضعف ، وجواد في غير سرف ، قلت : فأين انت عن عثمان ؟ قال : لو وليها لحمل بنى أبى معيط على رقاب الناس ، ولو فعلها لقتلوه (4) .
وقد يروى من غير هذا الطريق ان عمر قال لاصحاب الشورى : روحوا الى ، فلما نظر إليهم قال : قد جاءني كل واحد منهم يهز عفريته ، يرجو ان يكون خليفة ، اما انت يا طلحة ، أفلست القائل : ان قبض النبي صلى الله عليه وآله انكح ازواجه من بعده ؟ فما جعل الله محمدا احق ببنات اعمامنا منا ، فانزل الله تعالى فيك : (وما كان لكم ان تؤذوا رسول الله ولا ان تنكحوا ازواجه من بعده ابدا) (5) واما انت يا زبير ، فو الله ما لان قلبك يوما ولا ليلة .
وما زلت جلفا (6) جافيا ، واما انت يا عثمان ، فوالله لروثة (7) خير منك ، واما انت يا عبد الرحمن ، فانك رجل عاجز تحب قومك جميعا ، واما انت يا سعد فصاحب عصبية وفتنة ، واما انت يا على فو الله لو وزن ايمانك بايمان اهل الارض لرجحهم ، فقام على موليا يخرج ، فقال عمر : والله انى لاعلم مكان رجل لو وليتموه
__________
(1) الفائق : (ذاك رجل فيه دعابة) .
(2) المقنب من الخيل : الربعون أو الخمسون .
(3) في الفائق : (رجل وعقة ولعقة) ، إذا كان فيه حرث ووقوع في الامر ، بجهل وضيق نفس وسوء خلق) .
(4) خبر ابن عباس مع عمر في الفائق 2 : 425 ، 426 ، مع اختلاف في العبارة .
(5) سورة الحزاب 53 .
(6) الجلف : الرجل الجافي الغليظ .
(7) الروثة : واحدة الروث ، وهو سرجين الفرس (*)(12/259)
امركم لحمكم على المحجة البيضاء ، قالوا : من هو ؟ قال : هذا المولى من بينكم ، قالوا : فما يمنعك من ذلك ؟ قال : ليس الى ذلك سبيل .
وفى خبر آخر ، رواه البلاذرى في تاريخه ، أن عمر لما خرج اهل الشورى من عنده ، قال : ان ولوها الاجلح (1) سلك بهم الطريق ، فقال عبد الله بن عمر : فما يمنعك منه يا امير المؤمنين ؟ قال : اكره ان اتحملها حيا وميتا .
فوصف كما ترى كل واحد من القوم بوصف قبيح يمنع من الامامة ، ثم جعلها في جملتهم ، حتى كان تلك الاوصاف تزول في حال الاجتماع ونحن نعلم ان الذى ذكره ان كان مانعا من الامامة في كل واحد على الانفراد ، فهو مانع من الاجتماع ، مع انه وصف عليا عيه السلام بوصف لا يليق به ، ولا ادعاه عدو قط ، بل هو معروف بضده ، من الركانة والبعد عن المزاح والدعابة وهذا معلوم ضرورة لمن سمع اخباره عليه السلام ، وكيف يظن به ذلك ، وقد روى عن ابن عباس انه قال : كان امير المؤمنين على عليه السلام إذا اتى هبنا ان نبتدئه بالكلام ، وهذا لا يكون الا من شدة التزمت والتوقر ، وما يخالف الدعابة والفكاهة .
ومما تضمنته قصه الشورى من المطاعن ، انه قال : لا أتحملها حيا وميتا ، وهذا ان كان علة عدوله عن النص الى واحد بعينه ، فهو قول متلمس متخلص ، لا يفتات على الناس في آرائهم ، ثم نقض هذا بان نص على ستة من بين العالم كله ، ثم رتب العدد ترتيبا مخصوصا ، يؤول الى ان اختيار عبد الرحمن هو المقدم ، واى شئ يكون من التحمل اكثر (2) من هذا ! واى فرق بين ان يتحملها ، بان ينص على واحد بعينه ، وبين ان يفعل ما فعله من الحصر والترتيب !
__________
(1) الجلح : ذهاب الشعر من مقدم الرأس .
(2) ب : (أكبر) .
(*)(12/260)
ومن جملة المطاعن انه امر بضرب الاعناق ان تأخروا عن البيعة اكثر من ثلاثة ايام ، ومعلوم انهم بذلك لا يستحقون القتل ، لانهم إذا كانوا انما كلفوا ان يجتهدوا آراءهم في اختيار الامام ، فربما طال زمان الاجتهاد ، وربما قصر بحسب ما يعرض فيه من العوارض ، فأى معنى للامر بالقتل إذا تجاوزوا الايام الثلاثة ! ثم انه امر بقتل من يخالف الاربعة ، ومن يخالف العدد الذى فيه عبد الرحمن ، وكل ذلك مما لا يستحق به القتل .
فاما تضعيف ابى على لذكر القتل فليس بحجة ، مع ان جميع من روى قصة الشورى روى ذلك ، وقد روى الطبري [ ذلك ] (1) في تاريخه وغيره .
فاما تأوله الامر بالقتل على ان المراد به إذا تأخروا على طريق شق العصا ، وطلب الامر من غير وجهه ، فبعيد من الصواب ، لانه ليس في ظاهر الخبر ذلك ، ولانهم إذا شقوا العصا ، وطلبوا الامر من غير وجهه من اول يوم ، وجب ان يمنعوا ويقاتلوا ، فاى معنى لضرب الايام الثلاثة اجلا ! فاما تعلقه بالتهديد ، فكيف يجوز ان يتهدد الانسان على فعل بما لا يستحقه : وان علم انه لا يعزم عليه ! فاما قوله تعالى : (لئن اشركت ليحبطن عملك) (2) فيخالف ما ذكر ، لان الشرك يستحق به احباط الاعمال ، وليس يستحق بالتأخير عن البيعة القتل .
فاما ادعاء صاحب الكتاب ان الجماعة دخلوا في الشورى على سبيل الرضا ، وان عبد الرحمن اخذ عليهم العهد ان يرضوا بما يفعله ، فمن قرأ قصة الشورى على وجهها ، وعدل عما تسوله النفس من بناء الاخبار على المذاهب ، علم ان الامر بخلاف ما ذكر .
وقد روى الطبري في تاريخه عن اشياخه من طرق مختلفة ، ان امير المؤمنين عليه السلام قال حين خرج من عند عمر بعد خطابه للجماعة بما تقدم ذكره لقوم كانوا معه من بنى هاشم : إن طمع فيكم قومكم لم تؤمروا ابدا .
وتلقاه العباس بن عبد المطلب
__________
(1) من الشافي .
(2) سورة الزمر 65 (*)(12/261)
فقال : يا عم عدلت عنا ! قال : وما علمك ؟ قال : قرن بى عثمان ، وقال : كونوا مع الاكثر ، وان رضى رجلان رجلا ، ورجلان رجلا ، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن ، فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن ، وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفان ، فيوليها عبد الرحمن عثمان ، أو يوليها عثمان عبد الرحمن ، فلو كان الاخران معى لم ينفعاني بله انى لا ارجو الا احدهما .
فقال له العباس : لم ادفعك عن شئ الا رجعت الى مستاخرا ! اشرت عليك عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله ان تسأله فيمن هذا الامر ؟ فابيت ، واشرت عليك عند وفاته ان تعاجل الامر فأبيت ، واشرت عليك حين سماك عمر في الشورى الا تدخل معهم ، فابيت فاحفظ على واحدة ، كلما عرض عليك القوم فقل : لا ، الا ان يولوك ، واحذر هؤلاء الرهط ، فانهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الامر ، حتى يقوم لنا به غيرنا وغيرهم ، وايم الله لا تناله الا بشر لا ينفع معه خير .
فقال على عليه السلام : اما والله لئن بقى عمر لاذكرنه ما اتى الينا ، ولئن مات ليتداولنها بينهم ، ولئن فعلوا ليجدنني حيث يكرهون ، ثم تمثل : حلفت برب الراقصات عشية غدون خفافا فابتدرن المحصبا ليحتلبن رهط ابن يعمر مارئا نجيعا ، بنو الشداخ وردا مصلبا .
فالتفت فراى ابا طلحة الانصاري فكره مكانه ، فقال أبو طلحة : لا ترع ابا حسن (1) .
قال المرتضى : فان قال قائل : أي معنى لقول العباس : انى دعوتك الى ان تسأل رسول الله صلى الله عليه وآله فيمن هذا الامر من قبل وفاته ؟ أليس هذا مبطلا لما تدعونه من النص ! قلنا : غير ممتنع ان يريد العباس سؤاله عمن يصير الامر إليه ، وينتقل الى يديه
__________
(1) تاريخ الطبري 5 : 35 (المطبعة الحسينية) .
(*)(12/262)
لانه قد يستحقه من لا يصل إليه ، وقد يصل الى من لا يستحقه ، وليس يمتنع ان يريد : انما كنا نساله صلى الله عليه وآله اعاده النص قبل الموت ، ليتجدد ويتاكد ، ويكون لقرب العهد إليه بعيدا من ان يطرح .
فان قيل : أليس قد انكرتم على صاحب الكتاب من التأويل بعينه فيما ا ستعمله من الرواية عن ابى بكر من قوله : ليتنى كنت سالت رسول الله صلى الله عليه وآله هل للانصار في هذا الامر حق ؟ قلنا : انما انكرناه في ذلك الخبر ، لانه لا يليق به من حيث قال ، فكنا لا ننازعه اهله ، وهذا قول من لا علم له بانه ليس للانصار حق في الامامة ، ومن كان يرجع في ان لهم حقا في الامر أو لا حق لهم فيه ، الى ما يسمعه مستانفا ، وليس هذا في الخبر الذى ذكرناه .
(1) وروى العباس بن هشام الكلبى عن ابيه ، عن جده في اسناده ، ان امير المؤمنين عليه السلام شكا الى العباس ما سمع من قول عمر : كونوا مع الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن ابن عوف ، وقال : والله لقد ذهب الامر منا ، قال : وكيف قلت ذلك يا بن اخى ! قال : ان سعدا لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن ، وعبد الرحمن نظير عثمان وصهره ، فاحدهما يختار لصاحبه لا محالة وان كان الزبير وطلحة معى ، فلن انتفع بذلك إذا كان ابن عوف في الثلاثة الاخرين .
قال ابن الكلبى : عبد الرحمن زوج ام كلثوم بنت عقبة بن ابى معيط ، وامها اروى بنت كريز ، واروى ام عثمان ، فلذلك قال : صهره .
وفى روايه الطبري ان عبد الرحمن دعا عليا عليه السلام ، فقال : عليك عهد الله
__________
(1) الشافي 259 (*)(12/263)
وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله ، وسيرة الخليفتين ؟ فقال : ارجو ان افعل واعمل بمبلغ علمي وطاقتي (1) .
وفى خبر آخر عن ابى الطفيل ، ان عبد الرحمن قال لعلى عليه السلام : هلم يدك خذها بما فيها ، على ان تسير فينا بسيرة ابى بكر وعمر ، فقال : آخذها بما فيها ، على ان اسير فيكم بكتاب الله وسنة نبيه جهدي ، فترك يده ، وقال : هلم يدك يا عثمان ، أتأخذها بما فيها على ان تسير فينا بسيرة ابى بكر وعمر ؟ قال : نعم ، قال : هي لك يا عثمان .
وفى رواية الطبري انه قال لعثمان مثل قوله لعلى ، فقال : نعم ، فبايعه ، فقال على عليه السلام : ختونة حنت دهرا (2) .
وفى خبر آخر : نفعت الختونة يا بن عوف ! ليس هذا اول يوم تظاهرتم فيه علينا ! (فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) ، والله ما وليت عثمان الا ليرد الامر اليك ، والله كل يوم هو في شأن وفى غير رواية الطبري ان عبد الرحمن قال له : لقد قلت ذلك لعمر ، فقال عليه السلام : أو لم يكن ذلك كما قلت ! وروى الطبري ان عبد الرحمن قال : لا تجعلن يا على على نفسك سبيلا ، فانى نظرت وشاورت الناس ، فإذا هم لا يعدلون بعثمان ، فقام على عليه السلام ، وهو يقول : سيبلغ الكتاب اجله (3) .
وفى رواية الطبري ان الناس لما بايعوا عثمان تلكا على عليه السلام ، فقال عثمان : (فمن نكث فانما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه اجرا
__________
(1) تاريخ الطبري 5 : 36 (الحسينية) .
(2) الطبري : (حبوته حبوة دهر) ، والختونة المصاهرة .
(3) تاريخ الطبري 5 : 37 (الحسنية) .
(*)(12/264)
عظيما) (1) فرجع على عليه السلام حتى بايعه ، وهو يقو : خدعة واى (2) خدعه ! وروى البلاذرى في كتابه ، عن ابن الكلبى عن ابيه عن ابى مخنف ، في اسناد له ان عليا عليه السلام لما بايع عبد الرحمن عثمان كان قائما ، فقال له عبد الرحمن : بايع والا ضربت عنقك ولم يكن يومئذ مع احد سيف غيره ، فخرج على مغضبا ، فلحقه اصحاب الشورى ، فقالوا له : بايع والا جاهدناك .
فاقبل معهم يمشى حتى بايع عثمان .
قال المرتضى : فاى رضا هاهنا ، واى اجماع ! وكيف يكون مختارا من تهدد بالقتل وبالجهاد ! وهذا المعنى وهو حديث ضرب العنق لو روته الشيعة لتضاحك المخالفون منه وتغامزوا ، وقالوا : هذا من جملة ما تدعونه من المحال ، وتروونه من الاحاديث ، وقد انطق الله به رواتهم ، وأجراه على افواه ثقاتهم ، ولقد تكلم المقداد في ذلك اليوم بكلام طويل يفند فيه ما فعلوه من بيعة عثمان ، وعدولهم بالامر عن امير المؤمنين الى ان قال له عبد الرحمن : يا مقداد ، اتق الله ، فانى خائف عليك الفتنة .
ثم ان المقداد قام فاتى عليا ، فقال : أتقاتل فنقاتل معك ؟ فقال على : فبمن اقاتل ! وتكلم ايضا عمار - فيما رواه أبو مخنف - فقال : يا معشر قريش ، اين تصرفون هذا الامر عن بيت نبيكم ؟ تحولونه هاهنا مرة وهاهنا مرة ! اما والله ما انا بآمن ان ينزعه الله منكم فيضعه في غيركم كما انتزعتموه من اهله ، ووضعتموه في غير اهله .
فقال له هشام بن الوليد : يا بن سمية ، لقد عدوت طورك ، وما عرفت قدرك ، وما انت وما راته قريش لانفسها انك لست في شئ من امرها وامارتها فتنح عنها وتكلمت قريش باجمعها ، وصاحت بعمار وانتهرته ، فقال : الحمد لله ما زال اعوان الحق قليلا .
روى أبو مخنف ايضا ان عمارا قال هذا البيت ذلك اليوم :
__________
(1) سورة الفتح 10 (2) الطبري : (أيما) .
(3) تاريخ الطبري 5 : 41 .
(*)(12/265)
يا ناعى الاسلام قم فانعه قد مات عرف واتى منكر ! اما والله لو ان لى أعوانا لقاتلتهم ، وقال امير المؤمنين عليه السلام : لئن قاتلتهم بواحد لاكونن ثانيا ، فقال : والله ما اجد عليهم اعوانا ، ولا احب ان اعرضكم لما لا تطيقون .
وروى أبو مخنف ، عن عبد الرحمن بن جندب ، عن ابيه قال : دخلت على على عليه السلام وكنت حاضرا بالمدينة يوم بويع عثمان ، فإذا هو واجم كئيب ، فقلت : ما اصاب قوم صرفوا هذا الامر عنكم ! فقال صبر جميل ! فقلت : سبحان الله انك لصبور قال : فاصنع ماذا ؟ قلت : تقوم في الناس خطيبا فتدعو هم الى نفسك ، وتخبرهم انك اولى بالنبي صلى الله عليه وآله بالعمل والسابقة ، وتسالهم النصر على هؤلاء المتظاهرين عليك ، فان اجابك عشرة من مائه شددت بالعشرة على المائه ، فان دانوا لك كان ما احببت وان أبوا قاتلتهم ، فان ظهرت عليهم فهو سلطان الله آتاه نبيه صلى الله عليه وآله وكنت اولى به منهم إذ ذهبوا بذلك ، فرده الله اليك وان قتلت في طلبه فقتلت شهيدا ، وكنت اولى بالعذر عند الله تعالى في الدنيا والاخرة .
فقال عليه السلام : أو تراه كان تابعي من كل مائه عشرة ! قلت : لارجو ذلك ، قال : لكنى لا ارجو ولا والله من المائة اثنين وساخبرك من اين ذلك ! ان الناس انما ينظرون الى قريش ، فيقولون : هم قوم محمد صلى الله عليه وآله وقبيلته ، وان قريشا تنظر الينا فتقول : ان لهم بالنبوة فضلا على سائر قريش ، وانهم اولياء هذا الامر دون قريش والناس ، وانهم ان ولوه لم يخرج هذا السلطان منهم الى احد ابدا ، ومتى كان في غيرهم تداولتموه بينكم ، فلا والله لا تدفع قريش الينا هذا السلطان طائعة ابدا .
قلت : أفلا ارجع الى المصر فاخبر الناس بمقالتك هذه وأدعو الناس إليك فقال يا جندب ليس هذا زمان ذلك فرجعت فكلما ذكرت للناس شيئا من فضل على زبرونى(12/266)
ونهروني حتى رفع ذلك من أمرى للوليد بن عقبة فبعث إلى فحبسني .
قال وهذه الجملة التى أوردناها قليل من كثير ، في أن الخلاف كان واقما ، والرضا كان مرتفعا والامر إنما تم بالحيلة والمكر والخداع وأول شئ مكر به عبد الرحمن أنه ابتدأ فأخرج نفسه من الامر ليتمكن من صرفه إلى من يريد وليقال : إنه لولا إيثاره الحق وزهده في الولاية لما أخرج نفسه منها ، ثم عرض على أمير المؤمنين عليه السلام ما يعلم أنه لا يجيب إليه ولا تلزمه الاجابة إليه ، من السير فيهم بسيرة الرجلين وعلم أنه عليه السلام لا يتمكن من أن يقول : إن سيرتهما لا تلزمني لئلا ينسب إلى الطعن عليهما وكيف يلزم سيرتهما ، وكل واحد منهما لم يسر بسيرة الاخر ! بل اختلفا وتباينا في كثير من الاحكام ، هذا بعد أن قال لاهل الشورى : وثقوا إلى من أنفسكم بأنكم ترضون باختيارى إذا أخرجت نفسي ، فأجابوه - على ما رواه أبو مخنف بإسناده - إلى ما عرض عليهم إلا أمير المؤمنين عليه السلام ، فإنه قال : أنظر لعلمه بما يجر هذا المكر حتى أتاهم أبو طلحه ، فأخبره عبد الرحمن بما عرض وما جاء به القوم إياه إلا عليا فأقبل أبو طلحد على على عليه السلام ، فقال : يا أبا الحسن ، إن أبا محمد ثقة لك وللمسلمين ، فما بالك تخافه وقد عدل بالامر عن نفسه ، فلن يتحمل المأثم لغيره ! فأحلف علي عليه السلام عبد الرحمن بما عرض ألا يميل إلى الهوى وأن يؤثر الحق ويجتهد للامد ولا يحابى ذا قرابة ، فحلف له ، وهذا غايد ما يتمكن (1) منه أمير المؤمنين عليه السلام في الحال ، لان عبد الرحمن لما أخرج نفسه من الامر ، وظنت به الجماعة الخير ، وفوضت (2) إليه الاختيار لم يقدر أمير المؤمنين عليه السلام على أن يخالفهم وينقض ما اجتمعوا عليه ، فكان أكثر ما تمكن منه أن أحلفه ، وصرح بما يخافه من جهته ، من الميل إلى الهوى ، وإيثار القرابة ، غير أن ذلك كله لم يغن شيئا ! .
__________
(1) الشافي : (تمكن) .
(2) الشافي : (وفوضوا) .
(*)(12/267)
قال : وأما قول صاحب الكتاب : إن دخوله في الشورى دلالة على أنه لا نص عليه بالامامة ، ولو كان عليه نص لصرح به في تلك الحال ، وكان ذكره أولى من ذكر الفضائل ، والمناقب ، فإن المانع من ذكر النص كونه يقتضى تضليل من تقدم عليه وتفسيقهم ، وليس كذلك تعديد المناقب والفضائل .
وأما دخوله عليه السلام في الشورى ، فلو لم يدخل فيها إلا ليحتج بما احتج به من مقاماته وفضائله ودرايته (1) ووسائله إلى الامامة وبالاخبار الدالة عندنا عليها على النص والاشارة بالامامة إليه ، لكان غرضا صحيحا ، وداعيا قويا وكيف لا يدخل في الشورى وعندهم أن واضعها قد أحسن النظر للمسلمين ، وفعل ما لم يسبق إليه من التحرز للدين ! .
فأول ما كان يقال له لو امتنع منها : إنك مصرح بالطعن على واضعها وعلى جماعة المسلمين بالرضا بها وليس طعنك إلا لانك ترى أن الامر لك ، وأنك أحق به ! فيعود الامر إلى ما كان عليه السلام يخافه ، من تفرق الكلمة (2) ووقوع الفتنة (3) .
قال : وفى أصحابنا القائلين بالنص من يقول : إنه عليه السلام إنما دخل في الشورى لتجويزه أن ينال الامر منها ، وعليه أن يتوصل إلى ما يلزمه القيام به من كل وجه يظن أن يوصله إليه .
قال : وقول صاحب الكتاب إن التقية لا يمكن أن يتعلق بها ، لان الامر لم يكن استقر لواحد طريف ، لان الامر وإن لم يكن في تلك الحال مستقرا لاحد ، فمعلوم أن الاظهار بما يطعن في المتقدمين من ولاة الامر لا يمكن منه ، ولا يرضى به وكذلك
__________
(1) الشافي : (وذرائعه) .
(2) الشافي : (الامة) (3) بعدها في الشافي : (وتشتت الكلمة) .
(*)(12/268)
الخروج مما يتفق أكثرهم عليه ، ويرضى جمهورهم به ، ولا يقرون أحدا عليه ، بل يعدونه شذوذا عن الجماعة ، وخلافا على الامة .
فأما قوله : إن الافعال لا يقدح فيها بالظنون ، بل يجب أن تحمل على ظاهر الصحة ، وإن الفاعل إذا تقدمت له حالة تقتضي حسن الظن به ، يجب أن تحمل أفعاله على ما يطابقها ، فإنا متى سلمنا له بهذه المقدمة لم يتم قصده فيها ، لان الفعل إذا كان له ظاهر وجب أن يحمل على ظاهره إلا بدليل يعدل بنا عن ظاهره ، كما يجب مثله في الالفاظ وقد بينا أن ظاهر الشورى وما جرى فيها : يقتضى ما ذكرناه للامارات اللائحة ، والوجوه الظاهرة ، فما عدلنا عن ظاهر إلى محتمل بل المخالف هو الذى يسومنا أن نعدل عن الظاهر ، فأما الفاعل وما تقدم له من الاحوال ، فمتى تقدم للفاعل حالد تقتضي أن يظن به الخير من غير علم ولا يقين ، فلا بد أن يؤثر فيها ، ويقدح أن يرى له حالة أخرى تقتضي ظن القبيح به ، لدلالة ظاهرها على ذلك .
وليس لنا أن نقضى بالاولى على الثانية ، وهما جميعا مظنونتان لان ذلك بمنزلة أن يقول قائل : اقضوا بالثانية على الاولى ، وليس كذلك إذا تقدمت للفاعل حالة تقتضي بالخير منه ، ثم تليها حالة تقتضي ظن القبيح به ، لانا حينئذ نقتضى بالعلم على الظن ، ونبطل حكمة لمكان العلم ، وإذا صحت هذه الجملة فما تقدمت لمن ذكر حالة تقتضي العلم بالخير ، وإنما تقدم ما يقتضى حسن الظن ، فليس لنا ألا نسئ الظن به عند ظهور أمارات سوء الظن ، لان كل ذلك مظنون غير معلوم .
وقوله : لو أراد ذلك ما منعه من أن ينص على عثمان مانع ، كما لم يمنع ذلك أبا بكر من النص عليه ، فليس بشئ ، لانه قد فعل ما يقوم مقام النص على من أراد إيصاله إليه ، وصرفه عمن أراد أن يصرفه عنه ، من غير شناعة التصريح ، وحتى لا يقال فيه ما قيل في أبى بكر ، ويراجع في قصته كما روجع أبو بكر ، ولم يتعسف أبعد الطريقين وغرضه يتم من أقربهما ! .(12/269)
قال : فأما بيان صاحب الكتاب أن الانتقال من الستة إلى الاربعة في الشورى ومن الاربعة إلى الثلاثة لا يكون تناقضا فهو رد على من زعم أن ذلك تناقض وليس من هذا الوجه طعنا ، بل قد بينا وجوه المطاعن وفصلناها .
وأما قوله : إن الامور المستقبلة لا تعلم ، وإنما يحصل فيها أمارة ردا على من قال : إن عمر كان يعلم أن عليا عليه السلام وعثمان لا يجتمعان وأن عبد الرحمن يميل إلى عثمان فكلام في غير موضعه ، لان المراد بذلك الظن لا العلم ، وإن عبر عن الظن بالعلم على طريقة في الاستعمال معروفة لا يتناكرها المتكلمون .
ولعل صاحب الكتاب قد استعمل العلم في موضع الظن فيما لا يحصى كثرة من كتابه هذا وغيره ، وقد بينا فيما ذكرناه من رواية الكلبى عن أبى مخنف أن أمير المؤمنين عليه السلام أول من سبق إلى هذا المعنى في قوله للعباس شاكيا إليه : ذهب والله الامر منا ، لان سعدا لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن وعبد الرحمن صهر عثمان فأحدهما مختار لصاحبه لا محالة وإن كان الزبير وطلحة معى فلن أنتفع بذلك إذا كان ابن عوف في الثلاثة الاخرين .
فأما قوله : إن عبد الرحمن كان زاهدا في الامر والزاهد أقرب إلى التثبت ، فقد بينا وجه إظهاره الزهد فيه ، وإنه جعله الذريعة إلى مراده .
فأما قول صاحب الكتاب : إن الضعف الذى وصفه به إنما أراد به الضعف عن القيام بالامامة لا ضعف الرأى فهب أن الامر كذلك ، أليس قد جعله أحد من يجوز أن يختار للامامة ويفوض إليه مع ضعفه عنها ! وهذا بمنزلة أن يصفه بالفسق ثم يدخله في جملة القوم لان الضعف عن الامامة مانع منها ، كما أن الفسق كذلك .(12/270)
قلت : الكلام في الشورى والمطاعن فيها طويل جدا وقد ذكرت من ذلك في كتبي الكلامية وتعليقاتى ما قاله الناس وما لم أسبق إليه ولا يحتمل هذا الكتاب الاطالة باستقصاء ذلك ، لانه ليس بكتاب حجاج ونظر ولكني أذكر منه نكتا يسيرة ، فأقول : إن كانت أفعال عمر وأقواله قد تناقضت في واقعة الشورى - كما زعم المرتضى رحمه الله - فكذلك أفعال أمير المؤمنين - إن كان منصوصا عليه كما تقوله الامامية - قد تناقضت أيضا أما أولا فان كان منصوصا عليه فكيف أدخل نفسه في الشورى المبنية على صحة الاختيار وعدم النص ! إليس هذا إيهاما ظاهرا لاكثر المسلمين ، خصوصا الضعفة منهم ومن لا نظر له في دقائق الامور عنده أنه غير منصوص عليه ! فكيف يجوز له إضلال المكلفين وأن يوقع في نفوسهم عدم النص مع كون النص كان حاصلا ! .
وأما عذر المرتضى عن هذا ، بأنه دخل في الشورى ليتمكن من الاحتجاج على أهل الشورى بمقاماته وفضائله ، فيقال له : قد كان الدهر الاطول مخالطا لاهل الشورى وغيرهم مجتمعا معهم في المسجد وغيره من مواطن كل يوم بل كل ساعة فلا يجوز أن يقال : دخل ليضمه وإياهم أو يظلهم سقف ، فيتمكن بذلك من ذكر مقاماته وفضائله بينهم ، لان العاقل لا يجوز أن يرتكب أمرا يوهم القبيح ليفعل فعلا قد كان من قبله بثلاث عشرة سنة متمكنا من أن يفعله من غير أن يرتكب ذلك الامر الموهم للقبيح ، وليت شعرى من الذى كان يمنعه أيام أبى بكر وعمر من أن يذكر مقاماته وفضائله ويفتخر بها ! ولم انفك عليه السلام من ذكر فضائله والفخر بمناقبه في تلك المدة الطويلة وقد كان عمر وهو المعروف المشهور بالغلظة والفظاظة يذكر فضائله ويعترف بها فلست أرى لعذر المرتضى أصلا بهذا الوجه أو معنى ! .(12/271)
فأما عذره الثاني عن دخوله في الشورى بقوله : لو لم يدخل فيها لقيل له : إنك قد طعنت على واضع الشورى وليس ذلك إلا لانك ترى الامر لك فليس بعذر جيد لانه لو امتنع من الدخول فيها على وجه الزهد وقلد الالتفات إلى الولايد والاعراض عن السلطان والامرة لما نسبه أحد إلى ما ذكره المرتضى أصلا ولقال الناس رجل زاهد لا يريد الدنيا ولا يرغب في الرياسة ثم ما المانع من أن يقول لعمر وهو حى نشدتك الله لا تدخلني فيها فانى لا أريدها ولا أوثرها ! أتراه كان في جواب هذا الكلام يأمر بقتله ، ويقول له : إنما امتناعك لانك تدعى أن رسول الله صلى الله عليه وآله نص عليك ، فلا ترى أخذ الامر من جهتى وتوليه من طريقي وإنما تريده بمحض النص الاول لا غير ! ما أظن أن عاقلا يخطر له أن ذلك كان يكون فهذا العذر بارد لا معنى له كالعذر الاول .
فأما عذره الثالث ، وهو قوله : إنه كان يجب عليه أن يتوصل إلى القيام بالامر بكل طريق لانه يلزمه القيام به فعذر جيد لا بأس به .
وأما ثانيا فيقال للمرتضى : هب أنا نزلنا عن الدخول في الشورى هلا عرض للجماعة وهم مجتمعون ، وهو يعد لهم مناقبه وفضائله بذكر النص وذلك بأن يكنى عنه كناية لطيفة فيقول لهم : قد كان من رسول الله صلى الله عليه وآله بالامس في حقى ما تعلمون ! أتراهم كانوا في جواب هذه الكلمة يقتلونه ! ما أظن أنهم كانوا يجتمعون على ذلك ولا بد لو عرض بشئ من ذلك كان من كلام يدور بينهم في المعنى نحو أن يقولوا : إن ذلك النص رجع عنه رسول الله صلى الله عليه وآله أو يقولوا : رأى المسلمون تركه للمصلحة ، أو يجرى بينه وبينهم جدال ونزاع ولم يكن هناك خليفه يخاف جانبه وإنما كان مجلس مناظرة وبحث ولم يستقر الامر لاحد .
وقول المرتضى : إنه وإن كان كذلك ، إلا انهم كانوا لا يرضون أن يطعن في المتقدمين(12/272)
منهم ، ويكرهون منه ذلك ولا يقرونه عليه ويعدونه شذوذا له عن الجماعة وخلافا للامة قول صحيح إذا كان القائل يقوله على وجه شق العصا والمنابذة وكشف القناع وإذا قاله على وجه الاستعطاف لهم والاذكار بما عساهم نسوة وحسن التلطف والرفق بهم والاستمالة لهم وتذكيرهم حقوق رسول الله صلى الله عليه وآله وميثاقه الذى واثقهم به فانه لا يقع منهم في مقابلة ذلك قتله ولا قطع عضو من أعضائه ولا إقامة الحد عليه وأقصى ما في الباب أنهم كانوا يردون ذلك عليه بكلام مثل كلامه ويجيبونه بجواب يناسب جوابه ويدفعونه عما يرومه بوجه من وجوه الدفع ان كانوا مقيمين على الاصرار على غصب الحق منه .
وأما ثالثا ، فان كان عليه السلام - كما تقوله الامامية - منصوصا عليه فما الذى منعه لما قال له عبد الرحمن : أبايعك على أن تسير فينا بسيرة الشيخين أن يقول نعم ! فانه لو قال : نعم لبايعه عبد الرحمن ، ووصل إلى الامر الذى يلزمه القيام به ، وإلى الحال التى كان يتوصل بكل طريق إلى الوصول إليها .
وقول المرتضى : إن سيرتهما كانت مختلفه لان أحدهما حكم بكثير مما حكم الاخر بضده ليس بجيد لان السيرة التى كان عبد الرحمن يطلبها ذلك اليوم هو الامر الكلى في إياله الرعية وسياستهم وجباية الفئ وظلف الوالى نفسه وأهله عنه وصرفه إلى المسلمين ورم الامور وجمع العمال ، وقهر الظلمة وإنصاف المظلومين وحماية البيضة وتسريب الجيوش إلى بلاد الشرك هذه هي السيرة التى كان عبد الرحمن يشترطها وهى التى طلبها الناس بعد ذلك فقالوا لمعاوية في آخر أيامه ولعبد الملك ولغيرهما وصاحوا بهم تحت المنابر نطلب سيرة العمرين ، ولم يريدوا في الاحكام والفتاوى الشرعية نحو القول في الجد مع الاخوة(12/273)
والقول في الكلالة والقول في أمهات الاولاد ، فما أعلم الذى منع أمير المؤمنين عليه السلام من أن يقول لعبد الرحمن : نعم ، فيأخذها ! ثم كان إذا أخذها أقدر الناس على هذه السيرة ، وأقواهم عليها فواعجبا ! بينا هو يطلب الخلافة أشد الطلب ، فإذا هو ناكص عنها وقد عرضت عليه على أمر هو قيم به ! ولهذا كان الرأى عندي أن يدخل فيها حينئذ ومن الذى كان يناظره بعد ذلك ويجادله ، فيقول : قد أخللت بشئ من سيرة أبى بكر وعمر ! كلا إن السيف لضاربه ، والامر لمالكه ، والرعيه أتباع ، والحكم لصاحب السلطان منهم ! .
ومن العجب أن يقول المرتضى : إنه لاجل التقية وافق على الرضا بالشورى ! فهلا اتقى القوم ، وقد ذكروا له سيرة الشيخين فأباها وكرهها ! ومن كان يخاف على نفسه أن لو أظهر الزهد في الخلافة والرغبة عن الدخول في أمر الشورى ! كيف لم يخف على نفسه وقد ذكرت له سيرة الشيخين فتركها ، ولم يوافق عليها ، وقال لابل على أن أجتهد رأيى ! .
وأما قول المرتضى : إنه وصف القوم بصفات تمنع من الامامة ثم عينهم للامامة فنقول في جوابه : إن تلك الصفات لا تمنع من الامامة بالكلية بل هي صفات تنقص في الجملة أي لو لم تكن هذه الصفات فيهم ، لكانوا أكمل ألا ترى أنه قال في عبد الرحمن : رجل صالح على ضعف فيه ! فذكر أن فيه ضعفا يسيرا لانه لو كان يرى ضعفه مانعا من الامامة لقال : ضعيف عنها جدا أو لا يصلح لها لضعفه وكذلك قوله في أمير المؤمنين : فيه فكاهة ، لان ذلك لا يمنع من الامامة ولا زهو طلحة ونخوته ولا ما وصف به الزبير من أنه شديد السخط وقت غضبه وأنه بخيل ولا توليه الاقارب على رقاب الناس إذا لم يكونوا فساقا وأقوى عيب ذكره ما عاب به سعدا في قوله : صاحب(12/274)
مقنب وقتال ، لا يقوم بقرية لو حمل امرها .
ويجوز أن يكون قال : ذلك على سبيل المبالغة في استصلاحه لان يكون صاحب جيش يقاتل به بين يدى الامام وأنه ليس له دربة ونظر في تدبير البلاد والاطراف وجباية أموالها ألا تراه كيف قال : لا يقوم بقرية ! ويجوز أن يلى الخلافد من هذه حالة ويستعين في أمر العباد والبلاد وجباية الاموال بالكفاة الامناء فأما الرواية الاخرى التى قال فيها لعثمان : لروثة خير منك ! فهى من روايات الشيعة ولسنا نعرفها من كتب غيرهم .
فأما قوله كيف قال : لا أتحملها حيا وميتا فحصر الخلافة في العدد المخصوص ثم رتبها ذلك الترتيب ، إلى أن آلت إلى [ اختيار ] عبد الرحمن وحده ! فنقول في جوابه : إنه كان يحب إلا يستقل وحده بأمر الخلافة ، وأن يشاركه في ذلك غيره من صلحاء المهاجرين ليكون أعذر عند الله تعالى وعند الناس وإذا كان قد وضع الشورى على ذلك الوضع المخصوص فلم يتحملها استقلالا ، بل شركه فيها غيره ، فهو أقل لتحمله أمرها لو كان عين على واحد بعينه .
وأما حديث القتل فليس مراده إلا شق العصا ومخالفة الجماعة والتوثب على الامر مغالبة .
وقول المرتضى : لو كان ذلك من أول يوم لوجب أن يمنع فاعله ويقاتل ، فأى معنى لضرب الايام الثلاثة آجلا ! فانه يقال له : إن الاجل المذكور لم يضرب لقتل من يشق العصا وإنما ضرب لابرامهم الامر وفصله قبل أن تتطاول الايام بهم ، ويتسامع من بعد عن دار الهجرة أن الخليفة قد قتل ، وأنهم مضطربون إلى الان ، لم يقيموا لانفسهم خليفة بعده فيطمع أهل الفساد والدعارة (1) ولا يؤمن وقوع الفتن
__________
(1) الدعارة (بالفتح والكسر) : الخبث والشر .
(*)(12/275)
ولا يؤمن أيضا أن يسترد الروم وفارس بلادا قد كان الاسلام إستولى عليها لان عدم الرئيس مطمع للعدو في ملكه ورعيته .
فاما الاخبار والاثار التى ذكرها المرتضى في مبايعه على عليه السلام لعثمان وانه كان مكرها عليها أو كالمكره وإن الرضا كان مرتفعا والخلاف كان واقعا فكلام في غير موضعه لان قاضى القضاة لم ينح بكلامه هذا النحو ولا قصد هذا القصد ليناقضه بما رواة واسنده من الاخبار والاثار ولا هذا الموضع من كتاب المغنى موضع الكلام في بيعه عثمان وصحتها ووقوع الرضا بها فيطعن المرتضى في ذلك بما رواة من الاخبار والاثار الداله على تهضم القوم لامير المؤمنين عليه السلام واصحابه وشيعته وتهددهم وإنما الرضا الذى أشار إليه قاضى القضاة فهو رضا امير المؤمنين عليه السلام بان يكون في جمله اهل الشورى لان هذا الباب من كتاب المغنى هو باب نفى المطاعن عن عمر وقد تقدم ذكر كثير منها .
ثم انتهى إلى هذا الطعن وهو حديث الشورى فذكر قاضى القضاة ان الشورى مما طعن بها عليه وادعى انها كانت خطا من افعاله لانها لا نص ولا اختيار إ لا تراه كيف قال : في أول الطعن فخرج بها عن النص والاختيار فنقول في الجواب لو كانت خطا لما دخل على عليه السلام فيها ولا رضى بها فدخوله فيها ورضاه بها دليل على انها لم تكن خطا واين هذا من بيعه عثمان حتى يخلط احد البابين بالاخر .
فاما دعواه ان عمر عمل هذا الفعل حيله ليصرف الامر عن على عليه السلام من حيث علم ان عبد الرحمن صهر عثمان وان سعدا ابن عم عبد الرحمن فلا يخالفه فجعل(12/276)
الصواب في الثلاثة الذين يكون فيهم عبد الرحمن فنقول في جوابه ان عمر لو فعل ذلك وقصده لكان احمق الناس واجهلهم لانه من الجائز الا يوافق سعد ابن عمه لعداوة تكون بينهما خصوصا من بنى العم ويمكن ان يستميل على عليه السلام سعدا إلى نفسه بطريق آمنه بنت وهب وبطريق حمزة بن عبد المطلب وبطريق الدين والاسلام وعهد الرسول صلى الله عليه وآله ومن الجائز ان يعطف عبد الرحمن على على عليه السلام لوجه من الوجوه ويعرض عن عثمان أو يبدو من عثمان في الايام الثلاثة امر يكرهه عبد الرحمن فيتركه ويميل إلى على عليه السلام ومن الجائز ان يموت عبد الرحمن في تلك الايام أو يموت سعد أو يموت عثمان أو يقتل واحد منهم فيخلص الامر لعلى عليه السلام ومن الجائز ان يخالف أبو طلحة أمره له ان يعتمد على الفرقه التى فيها عبد الرحمن ولا يعمل بقوله ويميل إلى جهة على عليه السلام فتبطل حيلته وتدبيره .
ثم هب ان هذا كله قد اسقطناه من الذى اجبر عمر واكرهه وقسره على ادخال على عليه السلام في اهل الشورى وان كان مراده كما زعم المرتضى صرف الامر بالحيله فقد كان يمكنه ان يجعل الشورى في خمسه ولا يذكر عليا عليه السلام فيهم أتراه كان يخاف احدا لو فعل ذلك ومن الذى كان يجسر ان يراجعه في هذا أو غيره وحيث ادخله من الذى اجبره على ان يقول ان وليها ذلك لحملهم على المحجه البيضاء وحملهم على الصراط المستقيم ونحو ذلك من المدح قد كان قادرا الا يقول ذلك والكلام الغث البارد لا احبه .
فاما قوله ان عبد الرحمن فعل ما فعل من اخراج نفسه من الامامه حيله ليسلم الامر إلى عثمان ويصرفه عن على عليه السلام فكلام بعضه صحيح وبعضه غير صحيح اما الصحيح منه فميل عبد الرحمن إلى جهه عثمان وانحرافه عن على عليه السلام قليلا(12/277)
وليس هذا بمخصوص بعبد الرحمن بل قريش قاطبه كانت منحرفه عنه .
واما الذى هو غير صحيح فقوله انه اخرج نفسه منها لذلك فان هذا عندي غير صحيح لانه قد كان يمكنه الا يخرج نفسه منها ويبلغ غرضه بان يتجاوز هو وابن عمه إلى عثمان ويدع عليا وطلحه والزبير طائفة اخرى فيولى المسلمون الامر الطائفة التى فيها عبد الرحمن بمقتضى نص عمر على ذلك ثم يعتمد عبد الرحمن بعد ذلك ما يشاء ان شاء وليها هو أو احد الرجلين فاى حاجه كانت به إلى ان يخرج نفسه منها ليبلغ غرضا قد كان يمكنه الوصول إليه بدون ذلك .
وايضا فان كان غرضه ذلك فانه من رجال الدنيا قد كان لا محاله ولم يكن من رجال الاخرة ومن هو من رجال الدنيا ومحبيها كيف تسمح نفسه بترك الخلافه ليعطيها غيره وهلا واطا سعدا ابن عمه وطلحه صديقه على أن يولياه الخلافة وقد قال عمر : كونوا مع الثلاثه الذين فيهم عبد الرحمن لا سيما وطلحه منحرف عن على عليه السلام وعثمان لانهما ابنا عبد مناف وكذلك سعد وعبد الرحمن منحرفان عنهما لذلك ايضا ولما اختصا به من صهر رسول الله صلى الله عليه وآله والصحيح ان عبد الرحمن اخرج نفسه منها لانه استضعف نفسه عن تحمل اثقالها وكلفها وكره ان يدخل فيها فيقصر عن عمر ويراه الناس بعين النقص ولا يستطيع ان يقوم بما كان عمر يقوم به وكان عبد الرحمن غنيا موسرا كثير المال وشيخا قد ذهب عنه ترف الشباب فنفض عنها يده استغناء عنها وكراهيه لخلل يدخل عليه ان وليها .
واما ميله عن على عليه السلام فقد كان منه بعض ذلك والطباع لا تملك والحسد مستقر في نفوس البشر لا سيما إذا انضاف إليه ما يقتضى الازدياد في الامور .
فاما تنزيه المرتضى لعلى عليه السلام عن الفكاهة والدعابة فحق ولقد كان عليه(12/278)
السلام على قدم عظيمه من الوقار والجد والسمت العظيم والهدى الرصين ولكنه كان طلق الوجه سمح الاخلاق وعمر كان يريد مثله من ذوى الفظاظه والخشونه لان كل واحد يستحسن طبع نفسه ولا يستحسن طبع من يباينه في الخلق والطبع وانا اعجب من لفظه عمر أن كان قالها أن فيه بطالة وحاش لله أن يوصف على عليه السلام ! بذلك وإنما يوصف به أهل الدعابة واللهو ، وما أظن عمر - إن شاء الله - قالها وأظنها زيدت في كلامه ، وإن الكلمة هاهنا لدالة على انحراف شديد .
فأما قول أمير المؤمنين عليه السلام للعباس ولغيره : ذهب الامر منا ، أن عبد الرحمن لا يخالف ابن عمه ، فليس معناه أن عمر قصد ذلك وإنما معناه أن من سوء الاتفاق أن وقع الامر هكذا ويوشك ألا يصل إلينا حيث قد اتفق فيه هذه النكتة .
فأما قول قاضى القضاة : إذا تقدمت للفاعل حالة تقتضي حسن الظن وجب أن يحمل فعله على ما يطابقها واعتراض المرتضى عليه بقوله : إن ذلك إنما يجب إذا كان الخير معلوما منه فيما تقدم لا مظنونا ومتى كان مظنونا ثم وجدنا له فعلا يظن به القبيح لم يكن لنا أن نقضى بالسابق على اللاحق فنقول في جوابه : إن الانسان إذا كان مشهورا بالصلاح والخير وتكرر منه فعل ذلك مدة طويلة ثم رأيناه قد وقعت منه حركه تنافى ذلك فيما بعد فانه يجب علينا أن نحملها على ما يطابق أحواله الاولى ما وجدنا لها محملا لان أحواله الاولى كثيرة وهذه حالة مفردة شاذة وإلحاق القليل بالكثير وحمله عليه أولى من نقض الكثير بالقليل وقد كانت أحوال عمر مدة عشرين سنة منتظمة في إصلاح الرعية ومناصحة الدين وهذا معلوم منه ضرورة - أعنى ظاهر أحواله - فإذا وقعت عنه حالة واحدة وهى
__________
(1) البطالة (بفتح الباء) : التعطل والتفرغ من العمل .
(*)(12/279)
قصة الشورى فيها شبهة ما ، وجب أن نتأولها ما وجدنا لها في الخير محملا ، ونلحقها بتلك الاحوال الكثيرة التى تكررت منه في الازمان الطويلة ، ولا يجوز أن نضع اليد عليها ونقول : هذه لا غيرها ونقبحها ، ونهجنها ، ونسد أبواب هذه التأويلات عنها ، ثم نحمل أفعاله الكثيرة المتقدمة كلها عليها في التقبيح والتهجين ، فهذا خلاف الواجب فقد بان صحة ما ذكره قاضى القضاة ، لانه لا حاجة بنا في القضاء بالسابق على اللاحق ، إلا أن يكون خيره معلوما وعلم علما يقينا فإن الظن الغالب كاف في هذا المقام على الوجه الذى ذكرناه .
وأما قوله عن عمر : إنه بلغ ما في نفسه من أيصال الامر إلى من أراد ، وصرفه عمن أراد ، من غير شناعة بالتصريح ، وحتى لا يقال فيه ما قيل في أبى بكر أو يراجع في نصه كما روجع أبو بكر ، ولاى حال يتعسف أبعد الطريقين ، وغرضه يتم من أقربهما ، فقد قلنا في جوابه ما كفى ، وبينا أن عمر لو أراد ما ذكر لصرف الامر عمن يريد صرفه عنه ونص على من يريد إيصال الامر إليه ، ولم يبال بأحد فقد عرف الناس كلهم كيف كانت هيبته وسطوته وطاعة الرعية له ، حتى إن المسلمين أطاعوه أعظم من طاعتهم رسول الله صلى الله عليه وآله في حياته ونفوذ أمره فيهم أعظم من نفوذ أمره عليه السلام ، فمن الذى كان يجسر أو يقدر أن يراجعه في نصه ، أو يراده ، أو يلفظ عنده أو غائبا عنه بكلمة تنافى مراده ! وأى شئ ضر أبا بكر من مراجعة طلحة له حيث نص ، ليقول المرتضى : خاف عمر من أن يراجع كما روجع أبو بكر ، وقد سمع الناس ما قال أبو بكر لطلحة لما راجعه ، فإنه أخزاه وجبهه ، حتى دخل في الارض ، وقام من عنده وهو لا يهتدى إلى الطريق ! وأين كانت هيبة الناس لابي بكر من هيبتهم لعمر ! فلقد كان أبو بكر وهو خليفة يهابه وهو رعية وسوقة بين يديه ، وكل أفاضل الصحابة كان يهابه ، وهو بعد لم يل الخلافة ، حتى إن الشيعة تقول : إن النبي صلى الله عليه وآله يهابه ، فمن(12/280)
كانت هذه حاله وهو رعية وسوقة ، فكيف يكون وهو خليفة ، قد ملك مشارق الارض ومغاربها ، وخطب له على مائه ألف منبر ! ولو أراد عمر إن يخطب بالخلافة لابي هريرة لما خالفه أحد من الناس أبدا ! فكيف يقول المرتضى : لماذا يتعسف عمر أبعد الطريقين ، وغرضه يتم من أقربهما ! والعجب منه كيف يقول : خاف شناعة التصريح فمن لم يخف عندهم شناعة المخالفة لرسول الله صلى الله عليه وآله وهو يعلم أن المسلمين يعلمون أنه مخالف لله تعالى ولرسوله قائم في مقام لم يجعله الله تعالى له ، كيف يخاف شناعة التصريح باسم عثمان لو كان يريد استخلافه ! إن هذا لاعجب من العجب ! الطعن العاشر قولهم : إنه أبدع في الدين ما لا يجوز كالتراويح ، وما عمله في الخراج الذى وضعه على السواد وفي ترتيب الجزية وكل ذلك مخالف للقرآن والسنة ، لانه تعالى جعل الغنيمة للغانمين ، والخمس منها لاهل الخمس ، فخالف القرآن ، وكذلك السنة تنطق في الجزية أن على كل حالم دينارا ، فخالف في ذلك السنة وأن الجماعة لا تكون إلا في المكتوبات ، فخالف السنة .
أجاب قاضى القضاة عن ذلك ، بأن قيام شهر رمضان ، قد روى عن النبي صلى الله عليه وآله أنه عمله ثم تركه وإذا علم أن الترك ليس بنسخ صار سنة يجوز أن يعمل بها وإذا كان ما لاجله تركه (1) من التنبيه بذلك على أنه ليس بفرض ومن تخفيف التعبد
__________
(1) الشافي : (ترك) .
(*)(12/281)
ليس بقائم في فعل عمر لم يمتنع أن يدوم عليه وإذا كان فيه الدعاء إلى الصلاة و التشدد في حفظ القرآن فما الذى يمنع أن يعمل به ! فأما أمر الخراج فأصله السنة ، لان النبي صلى الله عليه وآله بين أن لمن يتولى الامر ضربا من الاختيار في الغنيمة ولذلك فصل بين الرجال والاموال فجعل الاختيار في الرجال إلى الامام في القتل والاسترقاق والمفاداة ، وفصل بينه وبين المال وإن كان الجميع غنيمة .
ثم ذكر أن الغنيمة لم تضف إلى الغانمين إضافة الملك وإنما المراد أن لهم في ذلك من الاختصاص والحق ما ليس لغيرهم فإذا عرض ما يقتضى تقديم أمر آخر جاز للامام أن يفعله ورأى عمر في أمر السواد الاحتياط للاسلام ، بأن يقر في أيديهم على الخراج الذى وضعه وإن كان في الناس من يقول : فعل ذلك برضا الغانمين وبأن عوض .
ويدل على صحة فعله إجماع الامة ورضاهم به ، ولما أفضى الامر إلى أمير المؤمنين عليه السلام تركه على جملته ولم يغيره .
ثم ذكر في الجزية أن طريقها الاجتهاد ، فان الخبر المروى في هذا الباب ليس بمقطوع به ولا معناه معلوم .
اعترض المرتضى هذا الجواب فقال : أما التراويح فلا شبهة إنها بدعة وقد روى عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال : (أيها الناس إن الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة جماعة بدعة وصلاة الضحى بدعة ألا فلا تجتمعوا ليلا في شهر رمضان في النافلة ولا تصلوا صلاة الضحى فان قليلا في سنة خيرمن كثير في بدعة ألا وإن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة سبيلها في النار) .(12/282)
وقد روى : أن عمر خرج في شهر رمضان ليلا فرأى المصابيح في المسجد ، فقال : ما هذا ؟ فقيل له : إن الناس قد اجتمعوا لصلاة التطوع ، فقال : بدعة فنعمت البدعة ! فاعترف كما ترى بأنها بدعة ، وقد شهد الرسول صلى الله عليه وآله أن كل بدعة ضلالة .
وقد روى أن أمير المؤمنين عليه السلام لما اجتمعوا إليه بالكوفة فسألوه أن ينصب لهم إماما يصلى بهم نافلة شهر رمضان ، زجرهم وعرفهم أن ذلك خلاف السنة فتركوه واجتمعوا لانفسهم وقدموا بعضهم فبعث إليهم ابنه الحسن عليه السلام فدخل عليهم المسجد ومعه الدرة فلما رأوه تبادروا الابواب وصاحوا وا عمراه ! قال : فأما ادعاؤه أن قيام شهر رمضان كان في أيام الرسول صلى الله عليه وآله ثم تركه فمغالطة منه لانا لا ننكر قيام شهر رمضان بالنوافل على سبيل الانفراد وإنما أنكرنا الاجتماع على ذلك ، فان ادعى أن الرسول صلى الله عليه وآله صلاها جماعة في أيامه فانها مكابرة ما أقدم عليها أحد ولو كان كذلك ما قال عمر : إنها بدعة وإن أراد غير ذلك فهو مما لا ينفعه لان الذى أنكرناه غيره .
قال : والذى ذكره من أن فيه التشدد في حفظ القرآن والمحافظة على الصلاة ليس بشئ لان الله تعالى ورسوله بذلك أعلم ولو كان كما قاله لكانا يسنان هذه الصلاة ويأمران بها وليس لنا أن نبدع في الدين بما نظن أن فيه مصلحة لانه لا خلاف في أن ذلك لا يسوغ ولا يحل .
وأما أمر الخراج فهو خلاف لنص القرآن لان الله تعالى جعل الغنيمة في وجوه مخصوصة فمن خالفها فقد أبدع وليس للامام ولا لغيره أن يجتهد فيخالف النص فبطل قوله : إنه رأى من الاحتياط للاسلام أن يقر في أيديهم على الخراج لان خلاف النص(12/283)
لا يكون من الاحتياط ورسوله أعلم بالاحتياط منه ولو كان لرضا الغانمين عن ذلك أو عوضهم منه على ما ادعاه صاحب الكتاب لوجب أن يظهر ذلك ويعلم وما عرفنا في ذلك شيئا ، ولا نقله الناقلون .
وأما ما ادعاه من الاجماع فمعوله فيه على ترك النكير وقد تقدم الكلام عليه وتكرر وكذلك قد تقدم الكلام في وجه إقرار أمير المؤمنين عليه السلام ما أقره من أحكام القوم وما ادعاه أن خبر الجزية غير معلوم ولا مقطوع به فهب أن ذلك مسلم على ما فيه ، أليس من مذهبه أن أخبار الاحاد في الشريعة يعمل بها وإن لم تكن معلومة ! فهلا عمل عمر بالخبر المروى في هذا الباب وعدل عن اجتهاده الذى أداه إلى مخالفة الله تعالى (1) ! (2) أما كون صلاة التراويح بدعة وإطلاق عمر عليها هذا اللفظ ، فان لفظ البدعة يطلق على مفهومين : أحدهما ما خولف به الكتاب والسنة ، مثل صوم يوم النحر وأيام التشريق ، فانه وإن كان صوما إلا أنه منهى عنه .
والثانى ما لم يرد فيه نص ، بل سكت عنه ففعله المسلمون بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله فان أريد بكون صلاة التراويح بدعة المفهوم الاول فلا نسلم أنها بدعة بهذا التفسير ، والخبر الذى رواه المرتضى غير معروف ولا يمكنه أن يسنده إلى كتاب من كتب المحدثين ولو قدر على ذلك لاسنده ولعله من أخبار أصحابه من محدثي الامامية والاخباريين منهم ، والالفاظ التى في آخر الحديث وهى (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة
__________
(1) الشافي 262 .
(2) من هذا بدء رد المؤلف على قول المرتضى .
(*)(12/284)
في النار) مروية مشهورة ولكن على تفسير البدعة بالمفهوم الاول وقول عمر : ((إنها لبدعة) خبر مروى مشهور ولكن أراد به البدعة بالتفسير الثاني والخبر الذى رواه أمير المؤمنين عليه السلام ينفرد هو وطائفته بنقله والمحدثون لا يعرفون ذلك ولا يثبتونه .
فأما إنكاره أن تكون نافلة شهر رمضان صلاها رسول الله صلى الله عليه وآله في جماعه فانكار لست أرتضيه لمثله ، فان كتب المحدثين مشحونة برواية ذلك وقد ذكره أحمد بن حنبل في مسنده غير مرة بعده طرق ورواه الفقهاء ذكره الطحاوي في كتاب (اختلاف الفقهاء) وذكره أبو الطيب الطبري الشافعي في شرحه كتاب المزني وقد ذكره المتأخرون أيضا ذكره الغزالي في كتاب (إحياء علوم الدين) وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله صلى التراويح في شهر رمضان في جماعة ليلتين أو ثلاثا ثم ترك وقال : أخاف أن يوجب عليكم وأجاز لى الشيخ أبو الفرج عبد الرحمن بن على بن الجوزى بروايته عن شيخه محمد بن ناصر عن شيوخه ورجاله إن رسول الله صلى الله عليه وآله صلى نافلة شهر رمضان في جماعة يأتمون به ليالى ثم لم يخرج وقام في بيته وصلى الناس فرادى بقية أيامه وأيام أبى بكر وصدرا من خلافة عمر فخرج عمر ليلة فرأى الناس أوزاعا يصلون في المسجد فقال : لو جمعتهم على إمام ! فأمر أبى بن كعب أن يصلى بهم فصلى بهم تلك الليلة ثم خرج فرآهم مجتمعين إلى أبى بن كعب يصلى بهم فقال : بدعة ونعمة البدعة ! أما إنها لفضل والتى ينامون عنها أفضل .
قال : يعنى قيام آخر الليل فانه أفضل من قيام أوله .
وأما قول قاضى القضاة إن في التراويح فائدة وهى التشدد في حفظ القرآن والدعاء إلى الصلاة واعتراض المرتضى أياه بقوله الله أعلم بالمصلحة وليس لنا أن نسن ما لم يسنه(12/285)
الله ورسوله فانه يقال له : أليس يجوز للانسان أن يخترع من النوافل صلوات مخصوصة بكيفيات مخصوصة وأعداد ركعات مخصوصة ولا يكون ذلك مكروها ولا حراما نحو أن يصلى ثلاثين ركعة بتسليمة واحدة ويقرأ في كل ركعة منها سورة من قصار المفصل أفيقول أحد : إن هذا بدعة لانه لم يرد فيه نص ولا سبق إليه المسلمون من قبل ! فان قال : هذا يسوغ ، فانه داخل تحت عموم ما ورد في فضل صلاة النافلة قيل له والتراويح جائزة ومسنونة لانها داخلة تحت عموم ما ورد في فضل صلاة الجماعة .
فان قال : كيف تكون نافلة وهى جماعة ! قيل له : قد رأينا كثيرا من النوافل تصلى جماعة نحو صلاة العيد وصلاة الكسوف وصلاة الاستسقاء وصلاة الجنازة إذا لم يتعين للمصلى بأن يقوم غيره مقامه فيها .
فأما ما أشار إليه قاضى القضاة من التشدد في حفظ القرآن فهو أنه روى أن عمر أتى بسارق فأمر بقطعه فقال : لم أعلم أن الله أوجب القطع في السرقة ولو علمت لم أسرق فأحلفه على ذلك .
وسن التراويح جماعة ليتكرر سماع القرآن على أسماع المسلمين .
وقد اختلف الفقهاء أيما أفضل في نافلة شهر رمضان ؟ الاجتماع عليها أم صلاتها فرادى ؟ فقال : قوم الجماعة أفضل لان الاجتماع بركة وله فضيلة ولولا فضيلته لم يسن في المكتوبة لانه ربما يكسل في الانفراد وينشط عند مشاهدة الجمع .
وقال : قوم الانفراد أفضل لانها سنة ليست من الشعائر كالعيدين فالحاقها بتحية المسجد أولى وقد جرت العادة بأن يدخل المسجد جمع معا ثم لم يصلوا التحية بالجماعة .
وروى القائلون بهذا القول عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال : (فضل صلاة المتطوع في بيته على صلاة المتطوع في المسجد كفضل صلاة المكتوبة في المسجد على صلاته في البيت)(12/286)
وقد روى عنه عليه السلام أن أفضل النوافل ركعتان يصليهما المسلم في زاوية بيته لا يعلمهما إلا الله وحده .
قالوا : ولانها إذا صليت فرادى كانت الصلاة أبعد من الرياء والتصنع وبالجملة الاختلاف في أيهما أفضل فأما تحريم الصلاة ولزوم الاثم بفعلها فمما لم يذهب إليه إلا الامامية وقد روى الرواة أن عليا عليه السلام خرج ليلا في شهر رمضان في خلافة عثمان بن عفان فرأى المصابيح في المساجد والمسلمون يصلون التراويح فقال : نور الله قبر عمر كما نور مساجدنا ! والشيعة يروون هذا الخبر ولكن بحمل اللفظ على معنى آخر .
فأما حديث الخراج فقد ذكره أرباب علم الخراج والكتاب وذكره الفقهاء أيضا في كتبهم وذكره أرباب السيرة وأصحاب التاريخ قال قدامة بن جعفر في كتاب (الخراج) : اختلف الفقهاء في أرض العنوة ، فقال بعضهم : تخمس ثم تقسم أربعة أخماس على الذين افتتحوها وقال بعضهم ذلك إلى الامام أن رأى إن يجعلها غنيمة ليخمسها ويقسم الباقي كما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله بخيبر فذلك إليه وإن رأى أن يجعلها فيئا فلا يخمسها ولا يقسمها بل تكون موقوفة على سائر المسلمين كما فعل عمر بأرض السواد وأرض مصر وغيرهما مما افتتحه عنوة فعلى الوجهين جميعا فيهما قدوة ومتبع لان النبي صلى الله عليه وآله قسم خيبر وصيرها غنيمة وأشار الزبير بن العوام على عمر في مصر وبلاد الشام بمثل ذلك وهو مذهب مالك بن أنس وجعل عمر السواد وغيره فيئا موقوفا على المسلمين من كان منهم حاضرا في وقته ومن أتى بعده ولم يقسمه وهو رأى رآه على بن أبى طالب عليه السلام ومعاذ ابن جبل وأشارا عليه وبه كان يأخذ سفيان بن سعيد وذلك رأى من جعل الخيار إلى الامام في تصيير أرض العنوة غنيمة أو فيئا راجعا للمسلمين في كل سنة .(12/287)
قال قدامة رحمه الله : فأما ما فعله رسول الله صلى الله عليه وآله من تصييره خيبر غنيمة فانه عليه السلام اتبع فيه آية محكمة وهى قوله تعالى (واعلموا أن ما غنمتم من شئ فان لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) (1) فهذه آية الغنيمة وهى لاهلها دون الناس وبها عمل رسول الله صلى الله عليه وآله وأما الاية التى عمل بها عمر وذهب إليها على عليه والسلام ومعاذ بن جبل فيما أشارا عليه به فهى قوله تعالى (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) إلى قوله (للفقراء المهاجرين والذين تبوءوا الدار والايمان من قبلهم) (والذين جاءوا من بعدهم) (2) انتهت الفاظ قدامة .
وروى محمد بن جرير الطبري في تاريخه أن عمر هم أن يقسم أرض السواد بين الغانمين كما يقسم الغنائم ثم قال : فكيف بالاجام ومناقع المياه والغياض والهضب المرتفع والغائط المنخفض ؟ وكيف يصنع هؤلاء بالماء وقسمته بينهم ؟ أخاف أن يضرب بعضهم وجوه بعض ! ثم جمع الغانمين فقال لهم : ذلك فرضوا أن تقر الارض حبيسا لهم يولونها من تراضوا عليه ثم يقتسمون غلتها كل عام فقال عمر : اللهم إنى قد اجتهدت وقد قضيت ما على ، اللهم إنى أشهدك عليهم فاشهد .
فأما قول قاضى القضاة : إن النبي صلى الله عليه وآله جعل لمتولى أمر الامة ضربا من الاختيار في الغنيمة وما ذكره من الفرق بين الرجال والاموال وما ذكره من أن الغانمين ليسوا مالكى الغنيمة ملكا صريحا ، وإنما هو ضرب من الاختصاص فكله جيد لا كلام عليه ولم يعترضه المرتضى بشئ ولا تعرض له .
وأما قول قاضى القضاة : إنه روى أن عمر فعل ما فعل برضا الغانمين وبأن عوضهم
__________
(1) سورة الانفال 41 (2) سورة الحشر 7 - 10 .
(*)(12/288)
عنه ، وإنكار المرتضى وقوع ذلك وقوله : إنه لم ينقل فقد بينا أن الطبري ذكر في تاريخه أن عمر فعل ذلك برضا الغانمين وبعد أن جمعهم وقال لهم : ما استصلحه وما أدى إليه اجتهاده فرضوا به وأشهدوا الله عليهم والحاضرين .
وقد ذكر كثير من الفقهاء أن عمر عوض الغانمين عن أرض السواد ووقفه على مصالح المسلمين وهذا ما رواه الشافعي وذكر حديث التعريض أبو الحسن على بن حبيب الماوردى في كتاب (الحاوى) في الفقه وذكره أيضا أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري في (شرح المزني) .
وأما تعلق قاضى القضاة باجماع المسلمين فتعلق صحيح وطعن المرتضى فيه بالتقية وموافقة الامام المعصوم على الباطل طعن يسمج التعلق به وللبحث فيه سبح طويل .
وأما أمر الجزية فطريقه الاجتهاد وللامام أن يرى فيه رأيه بمشاورة الصلحاء والفقهاء وقد قال قاضى القضاة : إن الخبر الذى ذكره المرتضى وذكر أنه مرفوع وهو (على كل حالم دينار) خبر مظنون غير معلوم واعتراض المرتضى عليه بقوله هب أن الامر كذلك ألستم تزعمون أن خبر الواحد معمول عليه في الفروع ! فهلا عمل عمر بهذا الخبر وإن كان خبر واحد - اعتراض ليس بلازم لانه إذا كان خبر واحد عندنا لم يلزم أن يكون أيضا خبر واحد عند عمر بل من الجائز أن يكون مفتعلا بعد وفاة عمر ولو كان قد ثبت أن عمر سمع هذا الخبر من واحد أو اثنين من الصحابة ثم لم يعمل به كان الغانمين ليسوا مالكى الغنيمة ملكا صريحا ، وإنما هو ضرب من الاختصاص فكله جيد لا كلام عليه ولم يعترضه المرتضى بشئ ولا تعرض له .
وأما قول قاضى القضاة : إنه روى أن عمر فعل ما فعل برضا الغانمين وبأن عوضهم
__________
(1) سورة الانفال 41 (2) سورة الحشر 7 - 10 .
(*)(12/289)
عنه ، وإنكار المرتضى وقوع ذلك وقوله : إنه لم ينقل فقد بينا أن الطبري ذكر في تاريخه أن عمر فعل ذلك برضا الغانمين وبعد أن جمعهم وقال لهم : ما استصلحه وما أدى إليه اجتهاده فرضوا به وأشهدوا الله عليهم والحاضرين .
وقد ذكر كثير من الفقهاء أن عمر عوض الغانمين عن أرض السواد ووقفه على مصالح المسلمين وهذا ما رواه الشافعي وذكر حديث التعريض أبو الحسن على بن حبيب الماوردى في كتاب (الحاوى) في الفقه وذكره أيضا أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري في (شرح المزني) .
وأما تعلق قاضى القضاة باجماع المسلمين فتعلق صحيح وطعن المرتضى فيه بالتقية وموافقة الامام المعصوم على الباطل طعن يسمج التعلق به وللبحث فيه سبح طويل .
وأما أمر الجزية فطريقه الاجتهاد وللامام أن يرى فيه رأيه بمشاورة الصلحاء والفقهاء وقد قال قاضى القضاة : إن الخبر الذى ذكره المرتضى وذكر أنه مرفوع وهو (على كل حالم دينار) خبر مظنون غير معلوم واعتراض المرتضى عليه بقوله هب أن الامر كذلك ألستم تزعمون أن خبر الواحد معمول عليه في الفروع ! فهلا عمل عمر بهذا الخبر وإن كان خبر واحد - اعتراض ليس بلازم لانه إذا كان خبر واحد عندنا لم يلزم أن يكون أيضا خبر واحد عند عمر بل من الجائز أن يكون مفتعلا بعد وفاة عمر ولو كان قد ثبت أن عمر سمع هذا الخبر من واحد أو اثنين من الصحابة ثم لم يعمل به كان الاعتراض لازما ولكن ذلك مما لم يثبت تم الجزء الثاني عشر من شرح نهج البلاغة ويليه الجزء الثالث عشر .
جيد لا كلام عليه ولم يعترضه المرتضى بشئ ولا تعرض له .
وأما قول قاضى القضاة : إنه روى أن عمر فعل ما فعل برضا الغانمين وبأن عوضهم
__________
(1) سورة الانفال 41 (2) سورة الحشر 7 - 10 .
(*)(12/289)
عنه ، وإنكار المرتضى وقوع ذلك وقوله : إنه لم ينقل فقد بينا أن الطبري ذكر في تاريخه أن عمر فعل ذلك برضا الغانمين وبعد أن جمعهم وقال لهم : ما استصلحه وما أدى إليه اجتهاده فرضوا به وأشهدوا الله عليهم والحاضرين .
وقد ذكر كثير من الفقهاء أن عمر عوض الغانمين عن أرض السواد ووقفه على مصالح المسلمين وهذا ما رواه الشافعي وذكر حديث التعريض أبو الحسن على بن حبيب الماوردى في كتاب (الحاوى) في الفقه وذكره أيضا أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري في (شرح المزني) .
وأما تعلق قاضى القضاة باجماع المسلمين فتعلق صحيح وطعن المرتضى فيه بالتقية وموافقة الامام المعصوم على الباطل طعن يسمج التعلق به وللبحث فيه سبح طويل .
وأما أمر الجزية فطريقه الاجتهاد وللامام أن يرى فيه رأيه بمشاورة الصلحاء والفقهاء وقد قال قاضى القضاة : إن الخبر الذى ذكره المرتضى وذكر أنه مرفوع وهو (على كل حالم دينار) خبر مظنون غير معلوم واعتراض المرتضى عليه بقوله هب أن الامر كذلك ألستم تزعمون أن خبر الواحد معمول عليه في الفروع ! فهلا عمل عمر بهذا الخبر وإن كان خبر واحد - اعتراض ليس بلازم لانه إذا كان خبر واحد عندنا لم يلزم أن يكون أيضا خبر واحد عند عمر بل من الجائز أن يكون مفتعلا بعد وفاة عمر ولو كان قد ثبت أن عمر سمع هذا الخبر من واحد أو اثنين من الصحابة ثم لم يعمل به كان الاعتراض لازما ولكن ذلك مما لم يثبت تم الجزء الثاني عشر من شرح نهج البلاغة ويليه الجزء الثالث عشر .(12/289)
شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد ج 13
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد ج 13(13/)
شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد بتحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم الجزء الثالث عشر دار احياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه(13/1)
الطبعة الثانية (1967 م - 1387 ه) جميع الحقوق محفوظة منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي قم - ايران 1404 ه ق(13/2)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل (224) الاصل : ومن كلام له عليه السلام في وصف بيعته بالخلافة ، وقد تقدم مثله بالفاظ مختلفة : : وبسطتم يدى فكففتها ، ومددتموها فقبضتها ، ثم تداككتم على تداك الابل الهيم على حياضها يوم وردها ; حتى انقطعت النعل ، وسقط الرداء ، ووطئ الضعيف ، وبلغ من سرور الناس ببيعتهم اياى أن ابتهج بها الصغير ، وهدج إليها الكبير ، وتحامل نحوها العليل ، وحسرت إليها الكعاب .
الشرح : التداك الازدحام الشديد .
والابل الهيم : العطاش .
وهدج إليها الكبير : مشى مشيا ضعيفا مرتعشا ، والمضارع يهدج بالكسر وتحامل نحوها العليل : تكلف المشى على مشقة .(13/3)
وحسرت إليها الكعاب : كشفت عن وجهها حرصا على حضور البيعة ، والكعاب : الجارية التى قد نهد ثديها ، كعبت تكعب ، بالضم .
قوله " حتى انقطع النعل وسقط الرداء " شبيه بقوله في الخطبة الشقشقية " حتى لقد وطئ الحسنان وشق عطفاى (1) " .
وقد تقدم ذكر بيعته عليه السلام بعد قتل عثمان واطباق الناس عليها وكيفية الحال فيها وشرح شرحا يستغنى عن اعادته
__________
(1) الجزء الاول ص 200 (*)(13/4)
(225) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : فان تقوى الله مفتاح سداد ، وذخيرة معاد ، وعتق من كل ملكة ، ونجاة من كل هلكة ، بها ينجح الطالب ، وينجو الهارب ، وتنال الرغائب .
فاعملوا والعمل يرفع والتوبة تنفع والدعاء يسمع ، والحال هادئة ، والاقلام جارية ، وبادروا بالاعمال عمرا ناكسا ، أو مرضا حابسا ، أو موتا خالسا ، فان الموت هادم لذاتكم ، ومكدر شهواتكم ، ومباعد طياتكم .
زائر غير محبوب ، وقرن غير مغلوب ، وواتر غير مطلوب ، قد اعلقتكم حبائله ، وتكنفتكم غوائله ، واقصدتكم معابله ، وعظمت فيكم سطوته ، وتتابعت عليكم عدوته ، وقلت عنكم نبوته ، فيوشك أن تغشاكم دواجى ظلله ، واحتدام علله ، وحنادس غمراته ، وغواشى سكراته ، واليم ارهاقه ، ودجو اطباقه ، وخشونة مذاقه .
فكان قد اتاكم بغته فاسكت نجيكم ، وفرق نديكم ، وعفى آثاركم ، وعطل دياركم ، وبعث وراثكم يقتسمون تراثكم ، بين حميم خاص لم ينفع ، وقريب محزون لم يمنع ، وآخر شامت لم يجزع .
فعليكم بالجد والاجتهاد ، والتاهب والاستعداد ، والتزود في منزل الزاد ، ولا تغرنكم الحياة الدنيا كما غرت من كان قبلكم من الامم الماضية ، والقرون الخالية ، الذين احتلبوا درتها ، واصابوا غرتها ، وافنوا عدتها ، واخلقوا جدتها ،(13/5)
واصبحت مساكنهم اجداثا ، واموالهم ميراثا ، لا يعرفون من اتاهم ، ولا يحفلون من بكاهم ، ولا يجيبون من دعاهم .
فاحذروا الدنيا فإنها غدارة غراره خدوع ، معطيه منوع ، ملبسه نزوع ، لا يدوم رخاؤها ، ولا ينقضى عناؤها ، ولا يركد بلاؤها .
الشرح : عتق من كل ملكة ، هو مثل قوله عليه السلام " التوبة تجب ما قبلها " ، أي كل ذنب موبق يملك الشيطان فاعله ويستحوذ عليه ، فان تقوى الله تعتق منه ، وتكفر عقابه ، ومثله قوله " ونجاة من كل هلكة " .
قوله عليه السلام " والعمل ينفع " ، أي اعملوا في دار التكليف ، فان العمل يوم القيامة غير نافع .
قوله عليه السلام " والحال هادئة " ، أي ساكنة ليس فيها مافى احوال الموقف من تلك الحركات الفظيعة ، نحو تطاير الصحف ، ونطق الجوارح 7 وعنف السياق الى النار .
قوله عليه السلام " والاقلام جارية " ، يعنى أن التكليف باق ، وأن الملائكة الحفظة تكتب اعمال العباد ، بخلاف يوم القيامة ، فانه يبطل ذلك ، ويستغنى عن الحفظة لسقوط التكليف .
قوله " عمرا ناكسا " ، يعنى الهرم ، من قوله تعالى (ومن نعمره ننكسه في الخلق) (1) ، لرجوع الشيخ الهرم الى مثل حال الصبى الصغير في ضعف العقل والبنية .
__________
(1) سورة يس 68 (*)(13/6)
والموت الخالس : المختطف .
والطيات : جمع طية بالكسر ، وهى منزل السفر .
والواتر : القاتل والوتر ، بالكسر : الذحل .
واعلقتكم حبائله جعلتكم معتلقين فيها ، ويروى " قد علقتكم " بغير همز .
وتكنفتكم غوائله : احاطت بكم دواهيه ومصائبه واقصدتكم : اصابتكم .
والمعابل : نصال عراض ، الواحدة معبلة ، بالكسر .
وعدوته بالفتح : ظلمه ونبوته : مصدر نبا السيف ، إذا لم يؤثر في الضريبة .
ويوشك بالكسر : يقرب وتغشاكم : تحيط بكم .
والدواجى : الظلم ، الواحدة داجية .
والظلل : جمع ظلة وهى السحاب والاحتدام : الاضطرام والحنادس : الظلمات .
وارهاقه : مصدر ارهقته ، أي اعجلته ، ويروى : " إزهاقه " بالزاى .
والاطباق : جمع طبق ، وهذا من باب الاستعارة ، أي تكاثف ظلماتها طبق فوق طبق .
ويروى " وجشوبة مذاقه " بالجيم والباء ، وهى غلظ الطعام .
والنجى : القوم يتناجون .
والندى : القوم يجتمعون في النادى .
واحتلبوا درتها : فازوا بمنافعها كما يحتلب الانسان اللبن .
وهذه الخطبة من محاسن خطبه عليه السلام ، وفيها من صناعة البديع ما هو ظاهر للمتامل .
الاصل : منها في صفة الزهاد : كانوا قوما من اهل الدنيا وليسوا من اهلها ، فكانوا فيها كمن ليس منها ،(13/7)
عملوا فيها بما يبصرون ، وبادروا فيها ما يحذرون ، تقلب ابدانهم بين ظهرانى اهل الاخرة ، ويرون اهل الدنيا يعظمون موت اجسادهم ، وهم اشد اعظاما لموت قلوب احيائهم .
الشرح : بين ظهرانى اهل الاخرة ، بفتح النون ، ولا يجوز كسرها ، ويجوز " بين ظهرى اهل الاخرة " ، لو روى ، والمعنى في وسطهم .
قوله عليه السلام : " كانوا قوما من اهل الدنيا وليسوا من اهلها " ، أي هم من اهلها في ظاهر الامر وفي مراى العين وليسوا من اهلها ، لانه لا رغبة عندهم في ملاذها ونعيمها ، فكأنهم خارجون عنها .
قوله : " عملوا فيها بما يبصرون " ، أي بما يرونه اصلح لهم ، ويجوز أن يريد أنهم لشده اجتهادهم قد ابصروا المآل ، فعملوا فيها على حسب ما يشاهدونه من دار الجزاء ، وهذا كقوله عليه السلام : " لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا " .
قوله عليه السلام : " وبادروا فيها ما يحذرون " ، أي سابقوه ، يعنى الموت .
قوله عليه السلام : " تقلب ابدانهم " ، هذا محمول تارة على الحقيقة ، وتارة على المجاز ، اما الاول فلانهم لا يخالطون الا اهل الدين ولا يجالسون اهل الدنيا ، واما الثاني فلانهم لما استحقوا الثواب كان الاستحقاق بمنزله وصولهم إليهم ، فابدانهم تتقلب بين ظهرانى اهل الاخرة ، أي بين ظهرانى قوم هم بمنزلة اهل الاخرة ، لان المستحق للشئ نظير لمن فعل به ذلك الشئ .
ثم قال : هؤلاء الزهاد يرون اهل الدنيا انما يستعظمون موت الابدان ، وهم اشد استعظاما لموت القلوب ، وقد تقدم من كلامنا في صفات الزهاد والعارفين ما فيه كفاية(13/8)
(226) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام خطبها بذى قار ، وهو متوجه الى البصره ، ذكرها الواقدي في كتاب " الجمل " : فصدع بما امر به وبلغ رسالات ربه ، فلم الله به الصدع ، ورتق به الفتق ، والف به الشمل بين ذوى الارحام ، بعد العداوة الواغرة في الصدور ، والضغائن القادحة في القلوب .
الشرح : ذو قار اسم موضع قريب من البصرة ، وفيه كانت وقعه للعرب مع الفرس قبل الاسلام .
وصدع بما امر به ، أي جهر ، واصل الصدع الشق .
ولم به : جمع ورتق : خاط والحم .
والعداوة الواغرة : ذات الوغرة ، وهى شدة الحر .
والضغائن : الاحقاد .
والقادحة في القلوب ، كأنها تقدح النار فيها كما تقدح النار بالمقدحة .(13/9)
(227) الاصل : ومن كلام له عليه السلام كلم به عبد الله بن زمعة ، وهو من شيعته ، وذلك انه قدم عليه في خلافته يطلب منه مالا ، فقال عليه السلام : إن هذا المال ليس لى ولا لك ، وانما هو فئ للمسلمين ، وجلب اسيافهم ، فان شركتهم في حربهم ، كان لك مثل حظهم ، والا فجناه ايديهم لا تكون لغير افواههم .
الشرح : [ عبد الله بن زمعة ونسبه ] هو عبد الله بن زمعة ، بفتح الميم ، لا كما ذكره الراوندي ، وهو عبد الله بن زمعة بن الاسود بن المطلب بن اسد بن عبد العزى بن قصى .
كان الاسود من المستهزئين الذين كفى الله رسوله امرهم بالموت والقتل ، وابنه زمعة ابن الاسود ، قتل يوم بدر كافرا ، وكان يدعى زاد الركب ، وقتل اخوه عقيل بن الاسود ايضا كافرا يوم بدر ، وقتل الحارث بن زمعة ايضا يوم بدر كافرا ، والاسود هو الذى سمع امراه تبكى على بعير تضله بمكة بعد يوم بدر ، فقال : اتبكى أن يضل لها بعير ويمنعها من النوم الهجود (1)
__________
(1) الابيات في ديوان الحماسة - بشرح المرزوقي 2 : 873 .
(*)(13/10)
ولا تبكى على بدر ولكن على بدر تقاصرت الجدود الا قد ساد بعدهم اناس ولو لا يوم بدر لم يسودوا .
وكان عبد الله بن زمعة شيعة لعلى عليه السلام ومن اصحابه ، ومن ولد عبد الله هذا أبو البخترى القاضى ، وهو وهب بن وهب بن كبير بن عبد الله بن زمعة ، قاضى الرشيد هارون بن محمد المهدى ، وكان منحرفا عن على عليه السلام ، وهو الذى افتى الرشيد ببطلان الامان الذى كتبه ليحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن ابى طالب عليه السلام ، واخذه بيده فمزقه .
وقال امية بن ابى الصلت يرثى قتلى بدر ، ويذكر زمعه بن الاسود : عين بكى لنوفل ولعمرو ثم لا تبخلي على زمعه (1) نوفل بن خويلد من بنى اسد بن عبد العزى ، ويعرف بابن العدوية ، قتله على عليه السلام ، وعمرو أبو جهل بن هشام ، قتله عوف بن عفراء ، واجهز عليه عبد الله ابن مسعود .
قوله عليه السلام : " وجلب اسيافهم " أي ما جلبته اسيافهم وساقته إليهم ، والجلب : المال المجلوب وجناه الثمر ما يجنى منه ، وهذه استعاره فصيحه .
__________
(1) سيرة ابن هشام 2 : 407 - بشرح الشيخ محمد محي الدين ; ورواية البيت فيه : عين بكي أبا الحارث لا تذخري على زمعة (*)(13/11)
(228) الاصل : ومن كلام له عليه السلام : الا وإن اللسان بضعة من الانسان ، فلا يسعده القول إذا امتنع ، ولا يمهله النطق إذا اتسع ، وانا لامراء الكلام ، وفينا تنشبت عروقه ، وعلينا تهدلت غصونه .
واعلموا رحمكم الله انكم في زمان القائل فيه بالحق قليل ، واللسان عن الصدق كليل ، واللازم للحق ذليل ، اهله معتكفون على العصيان 7 مصطلحون على الادهان ، فتاهم عارم ، وشائبهم آثم ، وعالمهم منافق ، وفارئهم مماذق ، لا يعظم صغيرهم كبيرهم ، ولا يعول غنيهم فقيرهم .
الشرح : بضعة من الانسان : قطعة منه ، والهاء في " يسعده " ترجع الى اللسان .
والضمير في " امتنع " يرجع الى الانسان ، وكذلك الهاء في " لا يمهله " يرجع الى اللسان .
والضمير في " اتسع " يرجع الى الانسان ، وتقديره : فلا يسعد اللسان القول إذا امتنع الانسان عن أن يقول ، ولا يمهل اللسان النطق إذا اتسع للانسان القول ، والمعنى : إن اللسان آلة للانسان ، فإذا صرفه صارف عن الكلام ، لم يكن اللسان(13/12)
ناطقا ، وإذا دعاه داع الى الكلام نطق اللسان بما في ضمير صاحبه .
وتنشبت عروقه ، أي علقت ، وروى " انتشبت " ، والرواية الاولى ادخل في صناعة الكلام ، لانها بازاء تهدلت ، والتهدل : التدلى ، وقد اخذ هذه الالفاظ بعينها أبو مسلم الخراساني ، فخطب بها في خطبة مشهوره من خطبه .
[ ذكر من ارتج عليهم أو حصروا عند الكلام ] واعلم إن هذا الكلام قاله امير المؤمنين عليه السلام في واقعة اقتضت أن يقوله ، وذلك انه امر ابن اخته جعده بن هبيرة المخزومى أن يخطب الناس يوما ، فصعد المنبر ، فحصر ولم يستطع الكلام ، فقام امير المؤمنين عليه السلام فتسنم ذروه المنبر ، وخطب خطبة طويلة ، ذكر الرضى رحمه الله منها هذه الكلمات ، وروى شيخنا أبو عثمان في كتاب البيان والتبيين أن عثمان صعد المنبر فارتج عليه فقال " إن ابا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالا ، وانتم الى امام عادل ، احوج منكم الى امام خطيب ، وستاتيكم الخطبة على وجهها " (1) .
ثم نزل .
قال أبو عثمان : وروى أبو الحسن المدائني قال : صعد ابن لعدى (2) بن ارطاة المنبر ، فلما راى الناس حصر فقال : " الحمد لله الذى يطعم هؤلاء ويسقيهم " (3) .
وصعد روح بن حاتم المنبر ، فلما راى الناس قد رشقوه بابصارهم ، (4) وصرفوا اسماعهم
__________
(1) البيان والتبيين 2 : 250 .
(2) كذا في الاصول ; وفي البيان والتبيين : " صعد عدي بن أرطاة " .
(3) البيان والتبيين 2 : 249 .
(4) البيان : " شفنوا أبصارهم " والشفن : أن يرفع المرء طرفه ناظرا الى الشئ كالمتعجب له .
(*)(13/13)
نحوه ، قال : " نكسوا رؤوسكم ، وغضوا ابصاركم ، فان اول مركب صعب ، فإذا يسر الله عز وجل فتح قفل تيسر " (1) ثم نزل .
وخطب مصعب بن حيان اخو مقاتل بن حيان خطبة نكاح فحصر ، فقال " لقنوا موتاكم لا اله الا الله " فقالت ام الجارية : عجل الله موتك ، ألهذا دعوناك (2) .
وخطب مروان بن الحكم فحصر ، فقال : " اللهم انا نحمدك ونستعينك ، ولا نشرك بك " .
ولما حصر عبد الله بن عامر بن كريز على المنبر بالبصره - وكان خطيبا - شق عليه ذلك ، فقال له زياد بن ابيه ، وكان خليفته ايها الامير لا تجزع ، فلو اقمت على المنبر عامه من ترى اصابهم اكثر مما اصابك فلما كانت الجمعة تأخر عبد الله بن عامر وقال زياد للناس : إن الامير اليوم موعوك ، فقيل لرجل من وجوه امراء القبائل : قم فاصعد المنبر ، فلما صعد حصر ، فقال : الحمد لله الذى يرزق هؤلاء .
، وبقى ساكتا ، فانزلوه ، واصعدوا آخر من الوجوه ، فلما استوى قائما قابل بوجهه الناس ، فوقعت عينه على صلعه (3) رجل ، فقال : ايها الناس ، إن هذا الاصلع قد منعنى الكلام ، اللهم فالعن هذه الصلعه .
فانزلوه وقالوا لوازع اليشكرى : قم الى المنبر فتكلم ، فلما صعد وراى الناس قال : ايها الناس انى كنت اليوم كارها لحضور الجمعة ، ولكن امراتى حملتني على اتيانها ، وانا اشهدكم انها طالق ثلاثا ، فانزلوه ، فقال زياد لعبد الله بن عامر : كيف رايت ؟ قم الان فاخطب الناس (4) .
__________
(1) البيان والتبيين 2 / 249 .
(2) البيان والتبيين 2 : 250 .
(3) الصلعة : موضع الصلع وهو إنحسار شعر مقدم الرأس .
(4) البيان والتبيين 2 : 251 .
(*)(13/14)
وقال سهل بن هارون دخل قطرب النحوي على المخلوع (1) فقال يا امير المؤمنين كانت عدتك ارفع من جائزتك وهو - يتبسم - فاغتاظ الفضل [ بن الربيع ] (2) فقلت له : إن هذا من الحصر والضعف ، وليس من الجلد والقوة ، اما تراه يفتل اصابعه ويرشح جبينه (3) .
ودخل معبد بن طوق العنبري على بعض الامراء ، فتكلم وهو قائم فاحسن ، فلما جلس تلهيع (4) في كلامه ، فقال له ما اظرفك قائما ، واموقك (5) قاعدا ! قال : إنى إذا قمت جددت ، وإذا قعدت هزلت ، فقال ما احسن ما خرجت منها .
(6) .
وكان عمرو بن الاهتم المنقرى والزبرقان بن بدر عند رسول الله صلى الله عليه وآله ، فسأل عليه السلام عمرا عن الزبرقان فقال : يا رسول الله ; انه لمانع لحوزته ، مطاع في ادانيه (7) ، فقال الزبرقان : حسدني يا رسول الله فقال عمرو : يا رسول الله ، انه لزمر المروءة ، (8) ضيق العطن ، لئيم الخال .
فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله الى وجه عمرو ، فقال : يا رسول الله ; رضيت فقلت احسن ما علمت ، وغضبت فقلت اقبح ما علمت ، وما كذبت في الاولى ، ولقد صدقت في الاخرى فقال عليه السلام إن من البيان لسحرا (9) .
وقال خالد بن صفوان ما الانسان لو لا اللسان الا صوره ممثلة أو بهيمة مهملة .
__________
(1) الخليفة المخلوع هو الامين .
(2) من البيان والتبيين .
(3) البيان والتبيين 1 : 346 .
(4) تلهيع : أفرط وفي البيان " تتعتع " .
(5) اللسان : " أموتك " .
(6) البيان والتبيين 1 : 348 واللسان 10 : 203 .
(7) الميداني : " أدنيه " .
(8) زمر المرؤة : قليلها .
(9) الميدان 1 : 7 .
(*)(13/15)
وقال ابن ابى الزناد : كنت كاتبا لعمر بن عبد العزيز ، فكان يكتب الى عبد الحميد بن عبد الرحمن ابن زيد بن الخطاب في المظالم فيراجعه ، فكتب إليه : انه يخيل الى انى لو كتبت اليك أن تعطى رجلا شاة لكتبت الى : أضانا ام معزا ؟ فإذا كتبت اليك باحدهما ، كتبت الى : أذكرا ام انثى وإذا كتبت اليك باحدهما ، كتبت الى : صغيرا ام كبيرا فإذا كتبت اليك في مظلمة ، فلا تراجعني والسلام (1) .
واخذ المنصور هذا فكتب الى سلم بن قتيبة عامله بالبصره يامره بهدم دور من خرج مع ابراهيم بن عبد الله بن الحسن وعقر نخلهم ، فكتب إليه : بايهما ابدا [ بالدور ام بالنخل ] (2) يا امير المؤمنين فكتب إليه : لو قلت لك بالنخل لكتبت الى بماذا ابدا بالشهريز ام بالبرنى (3) وعزله ، وولى محمد بن سليمان (4) .
وخطب عبد الله بن عامر مره فارتج عليه ، وكان ذلك اليوم يوم الاضحى ، فقال : لا اجمع عليكم عيا ولؤما : من اخذ شاة من السوق فهى له وثمنها على .
وخطب السفاح اول يوم صعد فيه المنبر فارتج عليه ، فقام عمه داود بن على ، فقال : ايها الناس إن امير المؤمنين يكره أن يتقدم قوله فيكم فعله ، ولاثر الافعال اجدى عليكم من تشقيق المقال ، وحسبكم كتاب الله علما فيكم ، وابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله خليفة عليكم .
قال الشاعر :
__________
(1) البيان والتبيين 2 : 280 .
(2) من البيان والتبيين .
(3) الشهريز : ضرب من التمر والبرني ضرب من التمر أيضا أصفر مدور وهو أجود التمر .
(4) البيان والتبيين 2 : 283 .
(*)(13/16)
وما خير من لا ينفع الدهر عيشه وإن مات لم يحزن عليه اقاربه كهام على الاقصى كليل لسانه وفي بشر الادنى حديد مخالبه .
وقال احيحة بن الجلاح : والصمت اجمل بالفتى ما لم يكن عى يشينه (1) والقول ذو خطل إذا ما لم يكن لب يزينه
__________
(1) البيان والتبيين 2 : 275 (*) .(13/17)
(229) الاصل : ومن كلام له عليه السلام : روى ذعلب اليمامى عن احمد بن قتيبة ، عن عبد الله بن يزيد عن مالك بن دحية ، قال كنا عند امير المؤمنين عليه السلام ، فقال وقد ذكر عنده اختلاف الناس : انما فرق بينهم مبادئ طينهم ، وذلك انهم كانوا فلقه من سبخ ارض وعذبها ، وحزن تربة وسهلها ، فهم على حسب قرب ارضهم يتقاربون ، وعلى قدر اختلافها يتفاوتون ، فتام الرواء ناقص العقل 7 وماد القامة قصير الهمة ، وزاكى العمل قبيح المنظر ، وقريب القعر بعيد السبر ، ومعروف الضريبة منكر الجليبة ، وتائه القلب متفرق اللب ، وطليق اللسان حديد الجنان ، الشرح : ذعلب واحمد وعبد الله ومالك ، رجال من رجال الشيعة ومحدثيهم .
وهذا الفصل عندي لا يجوز أن يحمل على ظاهره ، وما يتسارع الى افهام العامة منه ، وذلك لان قوله " انهم كانوا فلقة من سبخ ارض وعذبها " ، اما أن يريد به أن كل واحد من الناس ركب من طين ، وجعل صورة بشرية طينية براس وبطن ويدين ورجلين ، ثم نفخت فيه الروح كما فعل بآدم ، أو يريد به أن الطين الذى ركبت منه صورة آدم فقط كان مختلطا من سبخ وعذب ، فان اريد الاول فالواقع خلافه ، لان البشر الذين نشاهدهم ، والذين بلغتنا اخبارهم لم يخلقوا من الطين كما خلق آدم ، وانما خلقوا من نطف آبائهم .
وليس لقائل إن يقول : لعل تلك النطف(13/18)
افترقت لانها تولدت من اغذية مختلفه المنبت من العذوبة والملوحة ، وذلك لان النطفة لا تتولد من غذاء بعينه ، بل من مجموع الاغذية ، وتلك الاغذية لا يمكن أن تكون كلها من ارض سبخة محضة في السبخية ، لان هذا من الاتفاقات التى يعلم عدم وقوعها ، كما يعلم انه لا يجوز أن يتفق أن يكون اهل بغداد في وقت بعينه على كثرتهم لا ياكلون ذلك اليوم الا السكباج خاصة ، وايضا فان الارض السبخة ، أو التى الغالب عليها السبخية ، لا تنبت الاقوات اصلا وان اريد الثاني ، وهو أن يكون طين آدم عليه السلام مختلطا في جوهره ، مختلفا في طبائعه ، فلم كان زيد الاحمق يتولد من الجزء السبخى وعمرو العاقل يتولد من الجزء العذبي وكيف يؤثر اختلاف طين آدم من سته آلاف سنه في اقوام يتوالدون الان .
والذى اراه إن لكلامه عليه السلام تأويلا باطنا ، وهو أن يريد به اختلاف النفوس المدبرة للابدان ، وكنى عنها بقوله " مبادئ طينهم " ، وذلك انها لما كانت الماسكة للبدن من الانحلال ، العاصمة له من تفرق العناصر ، صارت كالمبدا وكالعلة له من حيث انها كانت عله في بقاء امتزاجه واختلاط عناصره بعضها ببعض ، ولذلك إذا فارقت عند الموت افترقت العناصر ، وانحلت الاجزاء ، فرجع اللطيف منها الى الهواء ، والكثيف الى الارض .
وقوله " كانوا فلقة من سبخ ارض وعذبها وحزن تربة وسهلها " تفسيره أن البارئ جل جلاله لما خلق النفوس ، خلقها مختلفة في ماهيتها ، فمنها الزكية ومنها الخبيثة ، ومنها العفيفة ومنها الفاجرة ، ومنها القوية ومنها الضعيفة ، ومنها الجريئة المقدمة ، ومنها الفشلة الذليلة (1) ، الى غير ذلك من اخلاق (2) النفوس المختلفة المتضادة .
ثم فسر عليه السلام وعلل تساوى قوم في الاخلاق وتفاوت آخرين فيها فقال :
__________
(1) ساقطة من ا .
(2) ا : " اختلاف " .
(*)(13/19)
إن نفس زيد قد تكون مشابهة أو قريبة من المشابهة لنفس عمرو ، فإذا هما في الاخلاق متساويتان ، أو متقاربتان ، ونفس خالد قد تكون مضادة لنفس بكر أو قريبة من المضادة ، فإذا هما في الاخلاق متباينتان أو قريبتان من المباينة .
والقول باختلاف النفوس في ماهياتها هو مذهب افلاطون ، وقد اتبعه عليه جماعة من اعيان الحكماء ، وقال به كثير من مثبتى النفوس من متكلمي الاسلام .
واما ارسطو واتباعه ، فانهم لا يذهبون الى اختلاف النفوس في ماهيتها والقول الاول عندي امثل .
ثم بين عليه السلام اختلاف آحاد الناس ، فقال منهم من هو تام الرواء ، لكنه ناقص العقل والرواء بالهمز والمد : المنظر الجميل ، ومن امثال العرب : " ترى الفتيان كالنخل وما يدريك ما الدخل " .
وقال الشاعر : عقله عقل طائر وهو في خلقة الجمل .
وقال أبو الطيب : وما الحسن في وجه الفتى شرف له إذا لم يكن في فعله والخلائق (1) .
وقال الاخر : وما ينفع الفتيان حسن وجوههم إذا كانت الاخلاق غير حسان فلا يغررنك المرء راق رواؤه فما كل مصقول الغرار يماني
__________
(1) ديوانه 2 : 320 .
(*)(13/20)
ومن شعر الحماسة : لقومي ارعى للعلا من عصابه من الناس يا حار بن عمرو تسودها (1) وانتم سماء يعجب الناس رزها بآبدة تنحى شديد وئيدها (2) تقطع اطناب البيوت بحاصب واكذب شئ برقها ورعودها فويل امها خيلا بهاء وشارة إذا لاقت الاعداء لو لا صدودها .
ومنه ايضا : وكاثر بسعد إن سعدا كثيرة ولا ترج من سعد وفاء ولا نصرا (3) يروعك من سعد بن زيد جسومها وتزهد فيها حين تقتلها خبرا قوله عليه السلام " وماد القامة قصير الهمة " ، قريب من المعنى الاول ، الا انه خالف بين الالفاظ ، فجعل الناقص بازاء التام ، والقصير بازاء الماد .
ويمكن أن يجعل المعنيان مختلفين ، وذلك لانه قد يكون الانسان تام العقل ، الا أن همته قصيرة ، وقد رأينا كثيرا من الناس كذلك ، فاذن هذا قسم آخر من الاختلاف غير الاول .
قوله عليه السلام " وزاكى العمل قبيح المنظر " يريد بزكاء اعماله حسنها وطهارتها ، فيكون قد اوقع الحسن بازاء القبيح ، وهذا القسم موجود فاش بين الناس .
قوله " وقريب القعر بعيد السبر " ، اي قد يكون الانسان قصير القامة ، وهو مع ذلك داهية باقعة ، والمراد بقرب قعره تقارب ما بين طرفيه ، فليست بطنه بمديدة
__________
(1) لقراد بن حنش الصاردي - ديوان الحماسة - بشرح المرزوقي 3 : 1430 .
(2) السماء هنا : الشحاب .
والرز والوئيد جميعا : الصوت .
ومعنى : " تنحي " تقبل .
(3) ديوان الحماسة - بشرح المرزوقي 3 : 1522 .(13/21)
ولا مستطيلة ، وإذا سبرته واختبرت ما عنده وجدته لبيبا فطنا ، لا يوقف على اسراره ، ولا يدرك باطنه ، ومن هذا المعنى قول الشاعر (1) : ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي اثوابه اسد مزير (2) ويعجبك الطرير فتبتليه فيخلف ظنك الرجل الطرير (3) .
وقيل لبعض الحكماء : ما بال القصار من الناس ادهى واحذق قال : لقرب قلوبهم من ادمغتهم .
ومن شعر الحماسة : الا يكن عظمي طويلا فانني له بالخصال الصالحات وصول (4) ولا خير في حسن الجسوم وطولها (5) إذا لم تزن حسن الجسوم عقول .
ومن شعر الحماسة ايضا وهو تمام البيتين المقدم ذكرهما : فما عظم الرجال لهم بفخر ولكن فخرهم كرم وخير ضعاف الطير اطولها جسوما ولم تطل البزاه ولا الصقور بغاث الطير اكثرها فراخا وام الصقر مقلات نزور (6) لقد عظم البعير بغير لب فلم يستغن بالعظم البعير .
قوله عليه السلام " ومعروف الضريبة منكر الجليبة " ، الجليبة هي الخلق الذى
__________
(1) للعباس بن مرداس ، ديوان الحماسة - بشرح المرزوقي 3 : 1153 .
(2) المزير : الجلد الخفيف النافذ في الامور .
(3) الطرير : الشاب الناعم .
(4) ديوان الحماسة 3 : 1181 - بشرح المرزوقي ونسبه الى بعض الفزاريين .
(5) الحماسة : " ونبلها " .
(6) المقلات من القلت وهو الهلاك .
والنزور : القليلة الاولاد من النزر ، وهو القليل .
(*)(13/22)
يتكلفه الانسان ويستجلبه ، مثل أن يكون جبانا بالطبع فيتكلف الشجاعة ، أو شحيحا بالطبع فيتكلف الجود ، وهذا القسم ايضا عام في الناس .
ثم لما فرغ من الاخلاق المتضادة ذكر بعدها ذوى الاخلاق والطباع المتناسبة المتلائمة ، فقال : " وتائه القلب متفرق اللب " ، وهذان الوصفان متناسبان لا متضادان .
ثم قال " و طليق اللسان حديد الجنان " ، وهذان الوصفان ايضا متناسبان ، وهما متضادان للوصفين قبلهما ، فالاولان ذم ، والاخران مدح .(13/23)
(230) الاصل : ومن كلام له عليه السلام : قاله وهو يلى غسل رسول الله صلى الله عليه وآله وتجهيزه : بابى انت وامى يا رسول الله لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والانباء واخبار السماء .
خصصت حتى صرت مسليا عمن سواك ، وعممت حتى صار الناس فيك سواء ، ولولا انك امرت بالصبر ، ونهيت عن الجزع ، لانفدنا عليك ماء الشؤون ، ولكان الداء مماطلا ، والكمد محالفا ، وقلا لك ولكنه مالا يملك رده ، ولا يستطاع دفعه .
بابى انت وامى اذكرنا عند ربك ، واجعلنا من بالك ! الشرح : بابى انت وامى أي بابى انت مفدى وامى .
والانباء : الاخبار مصدر انبا ينبئ ، وروى " والانباء " بفتح الهمزة جمع نبأ ، وهو الخبر .
واخبار السماء : الوحى .
قوله عليه السلام " خصصت وعممت " ، أي خصت مصيبتك اهل بيتك حتى انهم لا يكترثون بما يصيبهم بعدك من المصائب ، ولا بما اصابهم من قبل ، وعمت هذه(13/24)
المصيبة ايضا الناس ، حتى استوى الخلائق كلهم فيها ، فهى مصيبة خاصة بالنسبة ، وعامة بالنسبة .
ومثل قوله " حتى صرت مسليا عمن سواك " قول الشاعر : رزئنا ابا عمر ولا حى مثله فلله در الحادثات بمن تقع فان تك قد فارقتنا وتركتنا ذوى خلة ما في انسداد لها طمع لقد جر نفعا فقدنا لك اننا امنا على كل الرزايا من الجزع .
وقال آخر : اقول للموت حين نازله والموت مقدامة على البهم اظفر بمن شئت إذ ظفرت به ما بعد يحيى للموت من الم .
ولى في هذا المعنى كتبته الى صديق غاب عنى من جملة ابيات : وقد كنت اخشى من خطوب غوائل فلما ناى عنى امنت من الحذر فاعجب لجسم عاش بعد حياته واعجب لنفع حاصل جره ضرر .
وقال اسحاق بن خلف يرثى بنتا له (1) : امست اميمة معمورا بها الرجم لقا صعيد عليها الترب مرتكم (2) يا شقة النفس إن النفس والهة حرى عليك وإن الدمع منسجم (3) قد كنت اخشى عليها أن تقدمنى الى الحمام فيبدى وجهها العدم فالان نمت فلا هم يؤرقني تهدا العيون إذا ما اودت الحرم (4)
__________
(1) الكامل 4 : 20 .
(2) الرجم : القبر واللقى : الشئ الملقى .
(3) الشقة : نصف الشئ .
(4) أودت : هلكت .
(*)(13/25)
للموت عندي اياد لست اكفرها احيا سرورا وبى مما اتى الم .
وقال آخر : فلو انها احدى يدى رزيتها ولكن يدى بانت على اثرها يدى فآليت لا آسى على إثر هالك قدى الان من حزن على هالك قدى .
وقال آخر : أجارى ما ازداد الا صبابة عليك وما تزداد الا تنائيا أجارى لو نفس فدت نفس ميت فديتك مسرورا بنفسى وماليا وقد كنت ارجوا أن املاك حقبة فحال قضاء الله دون رجائيا الا فليمت من شاء بعدك انما عليك من الاقدار كان حذاريا .
وقال آخر : لتغد المنايا حيث شاءت فانها محللة بعد الفتى ابن عقيل فتى كان مولاه يحل بنجوه فحل الموالى بعده بمسيل .
قوله عليه السلام " ولكان الداء مماطلا " ; أي مماطلا بالبرء ، أي لا يجيب الى الاقلاع .
والابلال : الافاقة .(13/26)
[ ذكر طرف من سيره النبي عليه السلام عند موته ] فاما وفاه رسول الله صلى الله عليه وآله وما ذكره ارباب السيرة فيها فقد ذكرنا طرفا منه فيما تقدم ; ونذكر ها هنا طرفا آخر مما اورده أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه .
قال أبو جعفر : روى أبو مويهبة (1) مولى رسول الله صلى الله عليه وآله ، قال : ارسل (2) الى رسول الله صلى الله عليه وآله في جوف الليل ، فقال : " يا ابا مويهبة انى قد امرت أن استغفر لاهل البقيع ، فانطلق معى " فانطلقت معه ، فلما وقف بين اظهرهم ، قال : " السلام عليكم يا اهل المقابر ، ليهن لكم ما اصبحتم فيه مما اصبح الناس فيه أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ، يتبع آخرها اولها ، الاخرة شر من الاولى " ثم اقبل على فقال : " يا ابا مويهبة انى قد اوهبت (3) مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها والجنة (4) ، فخيرت بينها وبين الجنة ، فاخترت الجنة " ، فقلت : بابى انت وامى فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها والجنة جميعا ، فقال : " لا يا ابا مويهبة ، اخترت لقاء ربى " ثم استغفر لاهل البقيع وانصرف ، فبدا بوجعه الذى قبضه الله فيه (5) .
وروى محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن عائشة ، قالت : رجع رسول الله صلى الله عليه وآله تلك الليله من البقيع ، فوجدني وانا اجد صداعا في راسى ، واقول : واراساه فقال : بل انا واراساه ثم قال : " ما ضرك لو مت قبلى ، فقمت عليك فكفنتك ، وصليت عليك ودفنتك " فقلت : والله لكانى
__________
(1) ذكره الطبري 1 : 1780 (طبع أوربا) .
في موالي رسول الله صلى الله عليه وآله .
وقال : " قيل إنه كان من مولدي مزينة ، فاشتراه رسول الله صلى الله عليه وآله فأعتقه " .
(2) الطبري : " بعثني " .
(3) الطبري : " أتيت " .
(4) الطبري : " ثم الجنة " .
(5) تاريخ الطبري 1 : 1799 ، 1800 (*)(13/27)
بك - لو كان ذلك - رجعت الى منزلي ، فاعرست ببعض نسائك فتبسم عليه السلام ، وتتام به وجعه ، وهو مع ذلك يدور على نسائه حتى استعز (1) به ; وهو في بيت ميمونة ، فدعا نساءه فاستاذنهن أن يمرض في بيتى ، فاذن له ، فخرج بين رجلين من اهله ، احدهما الفضل ابن العباس ورجل آخر ، تخط قدماه في الارض ، عاصبا راسه حتى دخل بيته .
قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبه فحدثت عبد الله بن العباس بهذا الحديث فقال : أتدرى من الرجل الاخر قلت : لا ، قال على بن ابى طالب ، لكنها كانت لا تقدر أن تذكره بخير وهى تستطيع قالت : ثم غمر (2) رسول الله صلى الله عليه وآله واشتد به الوجع ، فقال " اهريقوا على سبع قرب من آبار شتى حتى اخرج الى الناس ، فاعهد إليهم " قالت : فاقعدته في مخضب لحفصة بنت عمر ، وصببنا عليه الماء حتى طفق يقول بيده : " حسبكم حسبكم " .
قلت : المخضب : المركن (4) .
وروى عطاء ، عن الفضل بن عباس رحمه الله قال جائنى رسول الله صلى الله عليه وآله حين بدا به مرضه ، فقال : اخرج ، فخرجت إليه ، فوجدته موعوكا قد عصب راسه فقال : خذ بيدى ، فاخذت بيده حتى جلس على المنبر ، ثم قال : ناد في الناس ، فصحت فيهم فاجتمعوا إليه فقال : ايها الناس ، انى احمد اليكم الله ، انه قد دنا مني حقوق من بين اظهركم ; فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهرى فليستقد منه ، ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضى فليستقد منه ، ومن كنت اخذت له مالا فهذا مالى فليأخذ منه ، ولا يقل رجل : انى اخاف الشحناء من قبل رسول الله .
الا وان الشحناء ليست من طبيعتي ولا من شانى ، الا وان احبكم الى من اخذ منى حقا
__________
(1) استعز به : اشتد عليه وجعه وغلبه على نفسه .
(2) غمر : اشتد به الوجع .
(3) تاريخ الطبري 1 : 1800 ، 1801 .
(4) المركن : الاجانة التي تغسل فيها الثياب .
(*)(13/28)
إن كان له ، أو حللني فلقيت الله وانا طيب النفس ، وقد ارانى إن هذا غير مغن عنى حتى اقوم فيكم به مرارا " ثم نزل فصلى الظهر .
ثم رجع فجلس على المنبر ، فعاد لمقالته الاولى في الشحناء وغيرها ، فقام رجل ، فقال : يا رسول الله ، إن لى عندك ثلاثة دراهم ، فقال : انا لا نكذب قائلا ولا نستحلفه على يمين ، فيم كانت لك عندي قال : اتذكر يا رسول الله يوم مر بك المسكين ، فأمرتني فاعطيته ثلاثة دراهم قال : اعطه يا فضل ، فأمرته فجلس ، ثم قال : " ايها الناس من كان عنده شئ فليؤده ولا يقل : فضوح الدنيا ، فان فضوح الدنيا اهون من فضوح الاخرة " فقام رجل فقال : يا رسول الله ، عندي ثلاثة دراهم غللتها في سبيل الله ، قال : ولم غللتها قال كنت محتاجا إليها ، قال : خذها منه يا فضل ثم قال " ايها الناس ، من خشى من نفسه شيئا فليقم ادعو له " فقام رجل فقال : يارسول الله ، انى لكذاب وانى لفاحش ، وانى لنئوم .
فقال : " اللهم ارزقه صدقا وصلاحا (1) ، واذهب عنه النوم إذا اراد " .
ثم قام رجل ، فقال : يارسول الله ، انى لكذاب ، وانى لمنافق ، وما شئ - أو قال وإن من شئ - الا وقد جئته (2) .
فقام عمر بن الخطاب فقال : فضحت نفسك ايها الرجل فقال النبي صلى الله عليه وآله (يا بن الخطاب فضوح الدنيا اهون من فضوح الاخرة ، اللهم ارزقه صدقا وايمانا وصير امره الى خير) (3) .
وروى عبد الله بن مسعود قال نعى الينا نبينا وحبيبنا نفسه قبل موته بشهر ، جمعنا في بيت امنا عائشة فنظر الينا [ وشدد ] ودمعت عينه ، وقال مرحبا بكم حياكم الله ، رحمكم الله ، آواكم الله ، حفظكم الله ، رفعكم الله ، نفعكم الله
__________
(1) الطبري : (وإيمانا) .
(2) الطبري : (جنيته) .
(3) تاريخ الطبري 1 : 1801 - 1803 وبقية الخبر : (فقال عمر : كلمة فضحك رسول الله ثم قال : عمر معي وانا مع عمر ، والحق مع عمر حيث كان) .
(4) من تاريخ الطبري .
(*)(13/29)
وفقكم الله ، رزقكم الله ، هداكم الله ، نصركم الله ، سلمكم الله ، تقبلكم الله ، اوصيكم بتقوى الله ، واوصى الله بكم ، واستخلفه عليكم ، انى لكم منه نذير وبشير ، الا تعلوا على الله في عباده وبلاده ، فانه قال لى ولكم : (تلك الدار الاخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الارض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) (1) فقلنا يا رسول الله ، فمتى اجلك قال (قد دنا الفراق ، والمنقلب الى الله والى سدرة المنتهى ، والرفيق الاعلى وجنة الماوى والعيش المهنا) قلنا فمن يغسلك يا رسول الله قال (اهلي الادنى فالادنى) قلنا ففيم نكفنك قال (في ثيابي هذه إن شئتم ، أو في بياض مصر ، أو حله يمنية) قلنا فمن يصلى عليك فقال إذا (غسلتموني وكفنتموني فضعونى على سريري في بيتى هذا ، على شفير قبري ، ثم اخرجوا عنى ساعة ، فان اول من يصلى على جليسى وحبيبي وخليلي جبرائيل ، ثم ميكائيل ، ثم اسرافيل ، ثم ملك الموت مع جنوده من الملائكة ، ثم ادخلوا على فوجا فوجا ، فصلوا على وسلموا ولا تؤذوني بتزكية ولا ضجة ولا رنة ، وليبدا بالصلاة على رجال اهل بيتى ثم نساؤهم ، ثم انتم بعد ، واقرئوا انفسكم منى السلام ، ومن غاب من اهلي فاقرئوه منى السلام ، ومن تابعكم بعدى على دينى فاقرئوه منى السلام فانى اشهدكم انى قد سلمت على من بايعني على دينى من اليوم الى يوم القيامة) قلنا فمن يدخلك قبرك يا رسول الله قال (اهلي مع ملائكة كثيرة يرونكم ولا ترونهم) (2) .
قلت العجب لهم كيف لم يقولوا له في تلك الساعة فمن يلى امورنا بعدك لان ولاية الامر اهم من السؤال عن الدفن ، وعن كيفية الصلاة عليه ، وما اعلم ما اقول في هذا المقام قال أبو جعفر الطبري وروى سعيد بن جبير ، قال كان ابن عباس رحمه الله يقول
__________
(1) سورة القصص 83 .
(2) تاريخ الطبري 1804 1 - 1806 .
(*)(13/30)
يوم الخميس وما يوم الخميس ثم يبكى حتى تبل دموعه الحصباء ، فقلنا له وما يوم الخميس قال يوم اشتد برسول الله صلى الله عليه وآله وجعه ، فقال (ائتونى باللوح والدواة - أو قال بالكتف والدواة - اكتب لكم ما لا تضلون بعدى ، فتنازعوا ، فقال اخرجوا ولا ينبغى عند نبى أن يتنازع قالوا ما شانه اهجر (1) استفهموه ، فذهبوا يعيدون عليه فقال (دعوني فما انا فيه خير مما تدعونني إليه) ثم اوصى بثلاث ; قال (اخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، واجيزوا الوفد بنحو مما كنت اجيزهم) ، وسكت عن الثالثة عمدا ، أو قالها ونسيتها (2) .
وروى أبو جعفر ، عن ابن عباس قال خرج على بن ابى طالب عليه السلام من عند رسول الله صلى الله عليه وآله في وجعه الذى توفى فيه ، فقال له الناس يا ابا الحسن ، كيف اصبح رسول الله صلى الله عليه وآله قال اصبح بحمد الله بارئا فاخذ العباس بيده وقال الا ترى انك بعد ثلاث عبد العصا انى لاعرف الموت في وجوه بنى عبد المطلب ، فاذهب الى رسول الله صلى الله عليه وآله فسله فيمن يكن هذا الامر ، فان كان فينا علمنا ذلك ، وان كان في غيرنا وصى بنا ، فقال على اخشى أن اساله فيمنعناها فلا يعطيناها الناس (3) ابدا .
وروت عائشة قالت اغمى على رسول الله صلى الله عليه وآله والدار مملوءه من النساء ام سلمة ، وميمونة ، واسماء بنت عميس ، وعندنا عمه العباس بن عبد المطلب ، فاجمعوا على أن يلدوه ، فقال العباس لا الده فلدوه ، فلما افاق قال من صنع بى هذا قالوا عمك قال لنا هذا دواء جاءنا من نحو هذه الارض واشار الى ارض الحبشة قال فلم فعلتم ذلك فقال العباس خشينا يا رسول الله ، أن يكون بك ذات الجنب ، فقال (إن ذلك
__________
(1) هجر أي اختلف كلامه .
(2) تاريخ الطبري 1 : 1806 .
(3) تاريخ الطبري 1 : 1807 .
(*)(13/31)
لداء ما كان الله ليقذفني به ، لا يبقى احد في البيت الا لد الا عمى) قال فلقد لدت ميمونة وانها لصائمة لقسم رسول الله صلى الله عليه وآله عقوبة لهم بما صنعوا .
قال أبو جعفر وقد وردت رواية اخرى عن عائشة ، قالت لددنا رسول الله صلى الله عليه وآله في مرضه ، فقال لا تلدوني ، فقلنا كراهية المريض للدواء ; فلما افاق قال لا يبقى احد الا لد غير العباس عمى فانه لم يشهدكم .
قال أبو جعفر والذى تولى اللدود بيده اسماء (1) بنت عميس .
قلت العجب من تناقض هذه الروايات في احداها أن العباس لم يشهد اللدود ، فلذلك اعفاه رسول الله صلى الله عليه وآله من أن يلد ولد من كان حاضرا ، وفى احداها أن العباس حضر لده عليه السلام ، وفى هذه الرواية التى تتضمن حضور العباس في لده كلام مختلف ، فيها أن العباس قال لا الده ، ثم قال فلد فافاق ، فقال من صنع بى هذا قالوا عمك انه قال هذا دواء جاءنا من ارض الحبشة لذات الجنب ; فكيف يقول لا الده ، ثم يكون هو الذى اشار بان يلد ، وقال هذا دواء جاءنا من ارض الحبشة لكذا .
وسالت النقيب ابا جعفر يحيى بن ابى زيد البصري عن حديث اللدود ، فقلت الد على بن ابى طالب ذلك اليوم فقال معاذ الله لو كان لد لذكرت عائشة ذلك فيما تذكره وتنعاه عليه قال وقد كانت فاطمة حاضرة في الدار ، وابناها معها ، افتراها لدت ايضا ، ولد الحسن والحسين كلا ، وهذا امر لم يكن ، وانما هو حديث ولده من ولده تقربا الى بعض الناس ، والذى كان إن اسماء بنت عميس اشارت بان يلد ، وقالت هذا دواء جاءنا من ارض الحبشه جاء به جعفر بن ابى طالب ، وكان بعلها ،
__________
(1) اللدود بالفتح من الادوية : ما يسقاه المريض في أحد شقي الفم .
(2) تاريخ الطبري 1 : 1808 ، 1809 .
(*)(13/32)
وساعدتها على تصويب ذلك والاشارة به ميمونة بنت الحارث ، فلد رسول الله صلى الله عليه وآله ، فلما افاق انكره ، وسال عنه فذكر له كلام اسماء ، وموافقة ميمونة لها ، فامر أن تلد الامرأتان لا غير ، فلدتا ولم يجر غير ذلك والباطل لا يكاد يخفى على مستبصر .
وروت عائشة قالت كثيرا ما كنت اسمع رسول الله يقول إن الله لم يقبض نبيا حتى يخيره ، فلما احتضر رسول الله صلى الله عليه وآله كان آخر كلمه سمعتها منه (بل الرفيق الاعلى) فقلت إذا والله لا يختارنا ، وعلمت أن ذلك ما كان يقوله من قبل (1) .
وروى الارقم بن شرحبيل ، قال سالت ابن عباس رحمه الله هل اوصى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال لا قلت فكيف كان فقال إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في مرضه (ابعثوا الى على فادعوه) فقالت عائشة لو بعثت الى ابى بكر وقالت حفصة لو بعثت الى عمر فاجتمعوا عنده جميعا - هكذا لفظ الخبر على ما اورده الطبري في التاريخ ، ولم يقل (فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله اليهما) - قال ابن عباس فقال رسول الله صلى الله عليه وآله (انصرفوا ، فان تكن لى حاجه ابعث اليكم) فانصرفوا وقيل لرسول الله الصلاة فقال (مروا ابا بكر أن يصلى بالناس) فقالت عائشة إن ابا بكر رجل رقيق فمر عمر ، فقال مروا عمر ، فقال عمر : ما كنت لاتقدم وابو بكر شاهد ، فتقدم أبو بكر ، فوجد رسول الله صلى الله عليه وآله خفه ، فخرج ، فلما سمع أبو بكر حركته تأخر ، فجذب رسول الله صلى الله عليه وآله ثوبه فاقامه مكانه ، وقعد رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقرا من حيث انتهى أبو بكر (2) .
قلت : عندي في هذه الواقعة كلام ، ويعترضني فيها شكوك واشتباه ; إذا كان قد
__________
(1) تاريخ الطبري 1 : 1810 .
(2) تاريخ الطبري 1811 ، 1812 (*)(13/33)
اراد أن يبعث الى على ليوصي إليه ، فنفست عائشة عليه ، فسالت أن يحضر ابوها ، ونفست حفصة عليه فسالت أن يحضر ابوها ، ثم حضرا ولم يطلبا ، فلا شبهة أن ابنتيهما طلبتاهما هذا هو الظاهر ، وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وقد اجتمعوا كلهم عنده (انصرفوا فان تكن لى حاجة بعثت اليكم) ، قول من عنده ضجر وغضب باطن لحضورهما ، وتهمة للنساء في استدعائهما ، فكيف يطابق هذا الفعل وهذا القول ما روى من أن عائشة قالت لما عين على ابيها في الصلاة إن ابى رجل رقيق ، فمر عمر واين ذلك الحرص من هذا الاستعفاء والاستقالة وهذا يوهم صحة ما تقوله الشيعة من أن صلاة ابى بكر كانت عن امر عائشة ، وان كنت لا اقول بذلك ، ولا اذهب إليه الا إن تأمل هذا الخبر ولمح مضمونه يوهم ذلك ، فلعل هذا الخبر غير صحيح .
وايضا ففى الخبر ما لا يجيزه اهل العدل ، وهو أن يقول (مروا ابا بكر) ، ثم يقول عقيبه (مروا عمر) ، لان هذا نسخ الشئ قبل تقضى وقت فعله .
فان قلت قد مضى من الزمان مقدار ما يمكن الحاضرين فيه أن يامروا ابا بكر ، وليس في الخبر الا انه امرهم أن يامروه ، ويكفى في صحة ذلك مضى زمان يسير جدا يمكن فيه أن يقال يا ابا بكر صل بالناس .
قلت الاشكال ما نشا من هذا الامر ، بل من كون ابى بكر مامورا بالصلاة ، وان كان بواسطة ، ثم نسخ عنه الامر بالصلاة قبل مضى وقت يمكن فيه أن يفعل الصلاة فان قلت : لم قلت في صدر كلامك هذا انه اراد أن يبعث الى على ليوصي إليه ولم لا يجوز أن يكون بعث إليه لحاجة له قلت لان مخرج كلام ابن عباس هذا المخرج ، الا ترى أن الارقم بن شرحبيل الراوى لهذا الخبر قال سالت ابن عباس هل اوصى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال لا ، فقلت فكيف كان فقال إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال في مرضه(13/34)
(ابعثوا الى على فادعوه) ، فسألته المراة أن يبعث الى ابيها ، وسالته الاخرى أن يبعث الى ابيها ، فلولا أن ابن عباس فهم من قوله صلى الله عليه وآله (ابعثوا الى على فادعوه) انه يريد الوصية إليه ، لما كان لاخبار الارقم بذلك متصلا بسؤاله عن الوصية معنى .
وروى القاسم بن محمد بن ابى بكر ، عن عائشة ، قالت رايت رسول الله صلى الله عليه وآله يموت وعنده قدح فيه ماء يدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء ، ويقول (اللهم اعني على سكرة الموت (1) !) .
وروى عروة عن عائشة ، قالت اضطجع رسول الله صلى الله عليه وآله يوم موته في حجري ، فدخل على رجل من آل ابى بكر ، في يده مسواك اخضر ، فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله إليه نظرا عرفت انه يريده ، فقلت له اتحب أن اعطيك هذا المسواك قال نعم ، فاخذته فمضغته حتى النته ثم اعطيته اياه ، فاستن به كاشد ما رايته يستن بسواك قبله ، ثم وضعه ، ووجدت رسول الله صلى الله عليه وآله يثقل في حجري ، فذهبت انظر في وجهه ، فإذا بصره قد شخص ، وهو يقول (بل الرفيق الاعلى من الجنه) فقلت لقد خيرت فاخترت والذى بعثك بالحق وقبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (2) .
قال الطبري وقد وقع الاتفاق على انه كان يوم الاثنين من شهر ربيع الاول ، واختلف في أي الاثانين كان فقيل لليلتين خلتا من الشهر ، وقيل لاثنتى عشره (3) خلت من الشهر واختلف في تجهيزه أي يوم كان فقيل يوم الثلاثاء الغد من وفاته ، وقيل انما دفن بعد وفاته بثلاثة ايام ، اشتغل القوم عنه بامر البيعة .
وقد روى الطبري ما يدل على ذلك عن زياد بن كليب ، عن ابراهيم النخعي أن
__________
(1) تاريخ الطبري 3 : 1812 .
(2) تاريخ الطبري 1 : 1814 .
(3) تاريخ الطبري 1 : 1815 (*)(13/35)
ابا بكر جاء بعد ثلاث الى رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقد اربد بطنه ، فكشف عن وجهه ، وقبل عينيه ، وقال بابى انت وامى طبت حيا وطبت ميتا (1) قلت وانا اعجب من هذا هب إن ابا بكر ومن معه اشتغلوا بامر البيعة ، فعلي ابن ابى طالب والعباس واهل البيت بما ذا اشتغلوا حتى يبقى النبي صلى الله عليه وآله مسجى بينهم ثلاثه ايام بلياليهن لا يغسلونه ولا يمسونه .
فان قلت الرواية التى رواها الطبري في حديث الايام الثلاثة ، انما كانت قبل البيعة لان لفظ الخبر عن ابراهيم ، وانه لما قبض النبي صلى الله عليه وآله كان أبو بكر غائبا فجاء بعد ثلاث ، ولم يتجرئ احد أن يكشف عن وجهه عليه السلام حتى اربد بطنه ، فكشف عن وجهه وقبل عينيه ، وقال بابى انت وامى طبت حيا وطبت ميتا ، ثم خرج الى الناس ، فقال من كان يعبد محمدا فان محمدا قد مات الحديث بطوله .
قلت لعمري إن الرواية هكذا اوردها ، ولكنها مستحيلة ، لان ابا بكر فارق رسول الله صلى الله عليه وآله وهو حى ، ومضى الى منزله بالسنح في يوم الاثنين ، وهو اليوم الذى مات فيه رسول الله صلى الله عليه وآله ، لانه رآه بارئا صالح الحال هكذا روى الطبري في كتابه وبين السنح وبين المدينة نصف فرسخ ، بل هو طائفة من المدينة ، فكيف يبقى رسول الله صلى الله عليه وآله ميتا يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الاربعاء لا يعلم به أبو بكر ، وبينهما غلوة ثلاثة اسهم وكيف يبقى طريحا بين اهله ثلاثة ايام لا يجترئ احد منهم أن يكشف عن وجهه ، وفيهم على بن ابى طالب وهو روحه بين جنبيه ، والعباس عمه القائم مقام ابيه ، وابنا فاطمة ، وهما كولديه ، وفيهم فاطمة بضعة منه ، افما كان في هؤلاء من يكشف عن وجهه ، ولا من يفكر في جهازه ، ولا من يانف له من
__________
(1) تاريخ الطبري 1 : 1817 .
(*)(13/36)
انتفاخ بطنه واخضرارها وينتظر بذلك حضور ابى بكر ليكشف عن وجهه انا لا اصدق ذلك ، ولا يسكن قلبى إليه والصحيح إن دخول ابى بكر إليه وكشفه عن وجهه ، وقوله ما قال ، انما كان بعد الفراغ من البيعة ، وانهم كانوا مشتغلين بها كما ذكر في الرواية الاخرى .
وبقى الاشكال في قعود على عليه السلام عن تجهيزه إذا كان اولئك مشتغلين بالبيعة ، فما الذى شغله هو فاقول يغلب على ظنى - إن صح ذلك - أن يكون قد فعله شناعة على ابى بكر واصحابه ، حيث فاته الامر ، واستؤثر عليه به ، فاراد أن يتركه صلى الله عليه وآله بحاله لا يحدث في جهازه امرا ليثبت عند الناس أن الدنيا شغلتهم عن نبيهم ثلاثة ايام ، حتى آل امره الى ما ترون ; وقد كان عليه السلام يتطلب الحيلة في تهجين امر ابى بكر حيث وقع في السقيفة ما وقع بكل طريق ، ويتعلق بادنى سبب من امور كان يعتمدها ، واقوال كان يقولها ، فلعل هذا من جملة ذلك ، أو لعله إن صح ذلك ، (1 فانما تركه صلى الله عليه وآله بوصيه منه إليه وسر كانا يعلمانه في ذلك .
فان قلت فلم لا يجوز أن يقال - إن صح ذلك - : انه 1) اخر جهازه ليجتمع رأيه وراى المهاجرين على كيفيه غسله وتكفينه ، ونحو ذلك من اموره قلت لان الرواية الاولى تبطل هذا الاحتمال ، وهى قوله صلى الله عليه وآله لهم قبل موته (يغسلني اهلي الادنى منهم فالادنى ، واكفن في ثيابي أو في بياض مصر أو في حله يمنية) .
قال أبو جعفر فاما الذين تولوا غسله فعلى بن ابى طالب ، والعباس بن عبد المطلب ، والفضل بن العباس ، وقثم بن العباس ، واسامة بن زيد ، وشقران مولى رسول الله صلى الله
__________
(1 - 1) ساقط من ب ، واثبته من ا .
(*)(13/37)
عليه وآله ، وحضر اوس بن خولى احد الخزرج ، فقال لعلى بن ابى طالب انشدك الله يا على وحظنا من رسول الله وكان اوس من اصحاب بدر ، فقال له ادخل ، فدخل فحضر غسله عليه الصلاة السلام ، وصب الماء عليه اسامة وشقران ، و كان على عليه السلام يغسله وقد اسنده الى صدره ، وعليه قميصه يدلكه من ورائه ، لا يفضى بيده الى بدن رسول الله صلى الله عليه وآله ، وكان العباس وابناه الفضل وقثم يساعدونه على قلبه من جانب الى جانب (1) .
قال أبو جعفر وروت عائشة انهم اختلفوا في غسله هل يجرد (2) ام لا فالقى الله عليهم السنة حتى ما منهم رجل الا وذقنه على صدره ، ثم كلمهم متكلم من ناحية البيت لا يدرى من هو : غسلوا النبي وعليه ثيابه فقاموا إليه فغسلوه ، وعليه قميصه فكانت عائشة تقول لو استقبلت من امرى ما استدبرت ما غسله الا نساؤه (3) .
قلت حضرت عند محمد بن معد العلوى في داره ببغداد ، وعنده حسن بن معالى الحلى المعروف بابن الباقلاوى وهما يقرآن هذا الخبر ، وهذه الاحاديث من تاريخ الطبري فقال محمد بن معد لحسن بن معالى : ما تراها قصدت بهذا القول قال حسدت اباك على ما كان يفتخر به من غسل رسول الله صلى الله عليه وآله فضحك محمد فقال هبها استطاعت أن تزاحمه في الغسل ، هل تستطيع أن تزاحمه في غيره من خصائصه .
قال أبو جعفر الطبري ثم كفن صلى الله عليه وآله في ثلاثه اثواب ثوبين صحاريين (4) وبرد حبره (5) ادرج (6) فيها ادراجا ، ولحد له على عاده اهل المدينة فلما فرغوا منه وضعوه على سريره .
(7) .
__________
(1) تاريخ الطبري 1 : 1830 ، 1833 .
(2) الطبري : (أنجرد) .
(3) تاريخ الطبري 1 : 1831 .
(4) صحاريان : منسوبان إلى صحار ، قرية في اليمن .
(5) حبرة بوزن عنبة ، أي مخطط وهو برد بمان ايضا على الوصف أو الاضافة .
(6) أي لف فيه .
(7) تاريخ الطبري 1 : 1831 .
(*)(13/38)
واختلفوا في دفنه ، فقال قائل ندفنه في مسجده ، وقال قائل ندفنه في البقيع مع اصحابه ، وقال أبو بكر سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول (ما قبض نبى الا ودفن حيث قبض) فرفع فراش رسول الله الذى توفى فيه ، فحفر له تحته .
قلت كيف اختلفوا في موضع دفنه ، وقد قال لهم (فضعونى على سريري في بيتى هذا ، على شفير قبري) وهذا تصريح بانه يدفن في البيت الذى جمعهم فيه ، وهو بيت عائشة ; فاما أن يكون ذلك الخبر غير صحيح ، أو يكون الحديث الذى تضمن انهم اختلفوا في موضع دفنه ، وان ابا بكر روى لهم انه قال (الانبياء يدفنون حيث يموتون) غير صحيح ، لان الجمع بين هذين الخبرين لا يمكن .
وايضا فهذا الخبر ينافى ما ورد في موت جماعة من الانبياء نقلوا من موضع موتهم الى مواضع اخر ، وقد ذكر الطبري بعضهم في اخبار انبياء بنى اسرائيل .
وايضا فلو صح هذا الخبر لم يكن مقتضيا ايجاب دفن النبي صلى الله عليه وآله حيث قبض ، لانه ليس بامر بل هو اخبار محض ، اللهم الا أن يكونوا فهموا من مخرج لفظه عليه السلام ومن مقصده انه اراد الوصيه لهم بذلك ، والامر بدفنه حيث يقبض .
قال أبو جعفر ثم دخل (1) الناس فصلوا عليه ارسالا ، حتى إذا فرغ الرجال ادخل النساء ، حتى إذا فرغ النساء ادخل الصبيان ، ثم ادخل العبيد ، ولم يؤمهم (2) امام ، ثم دفن عليه السلام وسط الليل من ليله الاربعاء (3) .
قال أبو جعفر وقد روت عمرة بنت عبد الرحمن بن اسعد بن زرارة ، عن عائشة قالت ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وآله حتى سمعنا صوت المساحى في جوف الليل ليلة الاربعاء (4) .
__________
(1) الطبري : (ودخل) .
(2) الطبري : (ولم يؤم الناس) .
(3) تاريخ الطبري 1 : 1832 .
(4) تاريخ الطبري 1 : 1833 .
(*)(13/39)
قلت وهذا ايضا من العجائب ، لانه إذا مات يوم الاثنين وقت ارتفاع الضحى - كما ذكر في الرواية - ودفن ليلة الاربعاء وسط الليل ، فلم يمض عليه ثلاثة ايام كما ورد في تلك الرواية .
وايضا فمن العجب كون عائشة ، وهو في بيتها لا تعلم بدفنه حتى سمعت صوت المساحى ، اتراها اين كانت وقد سالت عن هذا جماعة ، فقالوا لعلها كانت في بيت يجاور بيتها عندها نساء كما جرت عادة اهل الميت ; وتكون قد اعتزلت بيتها وسكنت ذلك البيت ، لان بيتها مملوء بالرجال من اهل رسول الله صلى الله عليه وآله وغيرهم من الصحابة ، وهذا قريب ، ويحتمل أن يكون .
قال الطبري : ونزل في قبر رسول الله صلى الله عليه وآله على بن ابى طالب عليه السلام ، والفضل بن عباس ، وقثم اخوه ، وشقران مولاهم .
وقال اوس بن خولى لعلى عليه السلام انشدك الله يا على وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وآله فقال له انزل ، فنزل مع القوم ، واخذ شقران قطيفة كان رسول الله صلى الله عليه وآله يلبسها ، فقذفها معه في القبر ، وقال لا يلبسها احد بعده (1) .
قلت من تأمل هذه الاخبار ، علم أن عليا عليه السلام كان الاصل والجملة والتفصيل في امر رسول الله صلى الله عليه وآله وجهازه ، الا ترى أن اوس بن خولى لا يخاطب احدا من الجماعة غيره ، ولا يسال غيره في حضور الغسل والنزول في القبر ثم انظر الى كرم على عليه السلام وسجاحة اخلاقه وطهارة شيمته ، كيف لم يضن بمثل هذه المقامات الشريفه ; عن اوس وهو رجل غريب من الانصار ، فعرف له حقه واطلبه (2) بما طلبه فكم بين هذه السجية الشريفة ، وبين قول من قال لو استقبلت من امرى ما استدبرت
__________
(1) تاريخ الطبري 1 : 1833 .
(2) أطلبه : أجابه إلى ما طلب .
(*)(13/40)
ما غسل رسول الله صلى الله عليه وآله الا نساؤه ولو كان في ذلك المقام غيره من اولى الطباع الخشنة ، وارباب الفظاظة والغلظة ، وقد سال اوس ذلك - لزجر وانتهر ورجع خائبا .
قال الطبري وكان المغيرة بن شعبة يدعى انه احدث الناس عهدا برسول الله صلى الله عليه وآله ، ويقول للناس اننى اخذت خاتمي فالقيته في القبر ، وقلت إن خاتمي قد سقط منى ، وانما طرحته عمدا ; لامس رسول الله صلى الله عليه وآله ، فاكون آخر الناس به عهدا (1) .
قال الطبري فروى عبد الله بن الحارث بن نوفل ، قال اعتمرت مع على بن ابى طالب عليه السلام في زمان عمر - أو عثمان - فنزل على اخته ام هانئ بنت ابى طالب ، فلما فرغ من عمرته رجع وقد سكب له غسل ، فلما فرغ من غسله دخل عليه نفر من اهل العراق ، فقالوا يا ابا الحسن ، جئناك نسالك عن امر نحب أن تخبرنا به فقال اظن المغيرة يحدثكم انه احدث الناس عهدا برسول الله صلى الله عليه وآله قالوا اجل ، عن ذا جئنا نسالك قال كذب احدث الناس عهدا برسول الله صلى الله عليه وآله قثم بن العباس ، كان آخرنا خروجا من قبره (2) .
قلت بحق ما عاب اصحابنا رحمهم الله المغيرة وذموه وانتقصوه فانه كان على طريقة غير محمودة ، وابى الله الا أن يكون كاذبا على كل حال ، لانه إن لم يكن احدثهم بالنبي عهدا ، فقد كذب في دعواه انه احدثهم به عهدا ، وان كان احدثهم به عهدا كما يزعم فقد اعترف بانه كذب في قوله لهم (سقط خاتمي منى) ; وانما القاه عمدا ، واين المغيرة ورسول الله صلى الله عليه وآله ليدعى القرب منه ، وانه أحدث الناس عهدا به
__________
(1) تاريخ الطبري 1 : 1833 .
(2) تاريخ الطبري 1 : 1833 ، 1834 .
(*)(13/41)
وقد علم الله تعالى والمسلمون انه لو لا الحدث الذى احدث ، والقوم الذين صحبهم فقتلهم غدرا ، واتخذ اموالهم ; ثم التجا الى رسول الله صلى الله عليه وآله ليعصمه لم يسلم ، ولا وطئ حصا المدينة .
قال الطبري وقد اختلف في سن رسول الله صلى الله عليه وآله ، فالاكثرون انه كان ابن ثلاث وستين سنة ، وقال قوم ابن خمس وستين سنة ، وقال قوم ابن ستين .
فهذا ما ذكره الطبري في تاريخه (1) .
وروى محمد بن حبيب في " اماليه " قال تولى غسل النبي صلى الله عليه وآله على عليه السلام والعباس رضى الله عنه .
وكان على عليه السلام يقول بعد ذلك ما شممت اطيب من ريحه ، ولا رايت اضوا من وجهه حينئذ ، ولم اره يعتاد فاه ما يعتاد افواه الموتى .
قال محمد بن حبيب فلما كشف الازار عن وجهه بعد غسله انحنى عليه فقبله مرارا ; وبكى طويلا وقال بابى انت وامى طبت حيا وطبت ميتا انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت احد سواك من النبوة والانباء واخبار السماء خصصت حتى صرت مسليا عمن سواك ; وعممت حتى صارت المصيبة فيك سواء ولو لا انك امرت بالصبر ، ونهيت عن الجزع لانفدنا عليك ماء الشئون ; ولكن اتى ما لا يدفع اشكو اليك كمدا وادبارا مخالفين وداء الفتنة ، فانها قد استعرت نارها وداؤها الداء الاعظم بابى انت وامى اذكرنا عند ربك ، واجعلنا من بالك وهمك .
ثم نظر الى قذاه في عينه فلفظها بلسانه ، ثم رد الازار على وجهه .
__________
(1) تاريخ الطبري 1 : 1834 ، 1835 .
(*)(13/42)
وقد روى كثير من الناس ندبه فاطمة عليه السلام اباها يوم موته وبعد ذلك اليوم وهى الفاظ معدوده مشهورة ، منها (يا ابتاه جنة الخلد مثواه ، يا ابتاه عند ذى العرش ماواه يا ابتاه كان جبرئيل يغشاه يا ابتاه لست بعد اليوم اراه) .
ومن الناس من يذكر انها كانت تشوب هذه الندبة بنوع من التظلم والتالم لامر يغلبها والله اعلم بصحة ذلك .
والشيعة تروى إن قوما من الصحابة انكروا بكاءها الطويل ، ونهوها عنه ، وامروها بالتنحي عن مجاورة المسجد الى طرف من اطراف المدينة .
وانا استبعد ذلك ، والحديث يدخله الزيادة والنقصان ، ويتطرق إليه التحريف والافتعال ، والا اقول انا في اعلام المهاجرين الا خيرا .(13/43)
(231) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد ، ولا تحويه المشاهد ، ولا تراه النواظر ، ولا تحجبه السواتر ، الدال على قدمه بحدوث خلقه ، وبحدوث خلقه على وجوده ، وباشتباههم على أن لا شبه له .
الذى صدق في ميعاده ، وارتفع عن ظلم عباده ، وقام بالقسط في خلقه ، وعدل عليهم في حكمه ، مستشهد بحدوث الاشياء على ازليته ، وبما وسمها به من العجز على قدرته ، وبما اضطرها إليه من الفناء على دوامه .
واحد لا بعدد ، ودائم لا بامد ، وقائم لا بعمد .
تتلقاه الاذهان لا بمشاعرة ، وتشهد له المرائى لا بمحاضرة ، لم تحط بها الاوهام ، بل تجلى لها بها ، وبها امتنع منها ، واليها حاكمها .
ليس بذى كبر امتدت به النهايات فكبرته تجسيما ، ولا بذى عظم تناهت به الغايات فعظمته تجسيدا ، بل كبر شانا ، وعظم سلطانا .
واشهد أن محمدا عبده ورسوله الصفى ، وامينه الرضى ، صلى الله عليه وآله ، ارسله بوجوب الحجج ، وظهور الفلج ، وايضاح المنهج ، فبلغ الرسالة صادعا بها ، وحمل على المحجة دالا عليها ، واقام اعلام الاهتداء ، ومنار الضياء ، وجعل امراس الاسلام متينة ، وعرى الايمان وثيقة .(13/44)
الشرح : الشواهد ها هنا ، يريد بها الحواس ، وسماها (شواهد) اما لحضورها ; شهد فلان كذا أي حضره ، أو لانها تشهد على ما تدركه وتثبته عند العقل ، كما يشهد الشاهد بالشئ ويثبته عند الحاكم .
والمشاهد ها هنا المجالس والنوادي ، يقال حضرت مشهد بنى فلان ، أي ناديهم ومجتمعهم .
ثم فسر اللفظة الاولى وابان عن مراده بها بقوله (ولا تراه النواظر) ، وفسر اللفظة الثانية وابان عن مرادها ، فقال (ولا تحجبه السواتر) .
ثم قال (الدال على قدمه بحدوث خلقه ، وبحدوث خلقه على وجوده) ; هذا مشكل ، لان لقائل أن يقول إذا دل على قدمه بحدوث خلقه ، فقد دخل في جملة المدلول كونه موجودا ، لان القديم هو الموجود ولم يزل ، فاى حاجة الى أن يعود فيقول وبحدوث خلقه على وجوده .
ولمجيب أن يجيب على طريقة شيوخنا اصحاب ابى هاشم ، فيقول لا يلزم من الاستدلال بحدوث الاجسام على انه لا بد من محدث قديم كونه موجودا ; لان عندهم إن الذات المعدومة قد تتصف بصفات ذاتية ، وهى معدومة ، فلا يلزم من كون صانع العالم عندهم عالما قادرا حيا أن يكون موجودا ، بل لا بد من دلالة زائده ، على أن له صفة الوجود وهى والدلالة التى يذكرونها ، من إن كونه قادرا عالما تقتضي تعلقه بالمقدور والمعلوم ، وكل ذات متعلقة ، فان عدمها يخرجها عن التعلق كالارادة ، فلو كان تعالى معدوما لم يجز أن يكون متعلقا ، فحدوث الاجسام إذا قد دل على امرين من وجهين مختلفين احدهما انه لا بد من صانع له ، وهذا هو المعنى بقدمه .(13/45)
والثانى إن هذا الصانع له صفة ، لاجلها يصح على ذاته أن تكون قادرة عالمة ، وهذا هو المعنى بوجوده .
فان قلت ايقول اصحاب شيخكم ابى هاشم إن الذات المعدومة التى لا اول لها تسمى قديمة ؟ قلت لا ، والبحث في هذا بحث في اللفظ لا في المعنى .
والمراد بقوله عليه السلام (الدال بحدوث الاشياء على قدمه) ، أي على كونه ذاتا لم يجعلها جاعل ، وليس المراد بالقدم ها هنا الوجود لم يزل ، بل مجرد الذاتية لم يزل .
ثم يستدل بعد ذلك بحدوث الاشياء على أن له صفة اخرى لم تزل زائده على مجرد الذاتية ، وتلك الصفة هي وجوده فقد اتضح المراد الان .
فان قلت فهل لهذا الكلام مساغ على مذهب البغداديين قلت نعم إذا حمل على منهج التأويل بان يريد بقوله (وبحدوث خلقه على وجوده) ، أي على صحة ايجاده له فيما بعد ، أي اعادته بعد العدم يوم القيامة ، لانه إذا صح منه تعالى احداثه ابتداء صح منه ايجاده ثانيا على وجه الاعادة ، لان الماهية قابلة للوجود والعدم ، والقادر قادر لذاته ، فاما من روى بحدوث خلقه على وجوده ، فانه قد سقطت عنه هذه الكلف كلها والمعنى على هذا ظاهر ; لانه تعالى دل المكلفين بحدوث خلقه على انه جواد منعم ، ومذهب اكثر المتكلمين انه خلق العالم جودا وانعاما واحسانا إليهم .
قوله عليه السلام (وباشتباههم على أن لا شبه له) هذا دليل صحيح ، وذلك لانه إذا ثبت أن جسما ما محدث ، ثبت أن سائر الاجسام محدثة ; لان الاجسام متماثلة ، وكل ما صح على الشئ صح على مثله ، وكذلك إذا ثبت أن سوادا ما أو بياضا ما محدث ، ثبت أن سائر السوادات والبياضات محدثة ، لان حكم الشئ حكم مثله ، والسواد في معنى(13/46)
كونه سوادا غير مختلف ، وكذلك البياض فصارت الدلالة هكذا الذوات التى عندنا يشبه بعضها بعضا ، وهى محدثة ; فلو كان الباري سبحانه يشبه شيئا منها لكان مثلها ، ولكان محدثا لان حكم الشئ حكم مثله ، لكنه تعالى ليس بمحدث ، فليس بمشابه لشئ ، منها فقد صح إذا قوله عليه السلام (وباشتباههم على أن لا شبه له) .
قوله عليه السلام (الذى صدق في ميعاده) ، لا يجوز الا يصدق ، لان الكذب قبيح عقلا ، والبارى تعالى يستحيل منه من جهة الداعي والصارف أن يفعل القبيح .
قوله عليه السلام (وارتفع عن ظلم عباده) ، هذا هو مذهب اصحابنا المعتزلة ، وعن امير المؤمنين عليه السلام اخذوه ; وهو استاذهم وشيخهم في العدل والتوحيد ، فاما الاشعريه ، فانها وان كانت تمتنع عن اطلاق القول بان الله تعالى يظلم العباد الا انها تعطى المعنى في الحقيقة ، لان الله عندهم يكلف العباد ما لا يطيقونه ، بل هو سبحانه عندهم لا يكلفهم الا ما لا يطيقونه ، بل هو سبحانه عندهم لا يقدر على يكلفهم ما يطيقونه ، وذلك لان القدرة عندهم مع الفعل ، فالقاعد غير قادر على القيام ، وانما يكون قادرا على القيام عند حصول القيام ، ويستحيل عندهم أن يوصف الباري تعالى باقدار العبد القاعد على القيام ، وهو مع ذلك مكلف له أن يقوم ، وهذا غاية ما يكون من الظلم سواء اطلقوا هذه اللفظة عليه أو لم يطلقوها .
ثم اعاد الكلام الاول في التوحيد تأكيدا ، فقال حدوث الاشياء دليل على قدمه ، وكونها عاجزة عن كثير من الافعال دليل على قدرته ، وكونها فانية دليل على بقائه .
فان قلت اما الاستدلال بحدوث الاشياء على قدمه فمعلوم ، فكيف يكون الاستدلال على الامرين الاخيرين(13/47)
قلت إذا شاركه سبحانه بعض الموجودات في كونه موجودا ، وافترقا في أن احدهما لا يصح منه فعل الجسم ، ولا الكون ، ولا الحياة ، ولا الوجود المحدث - ويصح ذلك من الموجودات القديمة - دل على افتراقهما في امر لاجله صح من القديم ذلك ، وتعذر ذلك على المحدث ، وذلك الامر هو الذى يسمى من كان عليه قادرا ، وينبغى أن تحمل لفظة (العجز) هاهنا على المفهوم اللغوى ، وهو تعذر الايجاد ، لا على المفهوم الكلامي .
واما الاستدلال الثاني ، فينبغي أن يحمل الفناء ها هنا على المفهوم اللغوى ، وهو تغير الصفات وزوالها ، لا على المفهوم الكلامي ، فيصير تقدير الكلام : لما كانت الاشياء التى بيننا تتغير وتتحول وتنتقل من حال الى حال ، وعلمنا أن العلة المصححة لذلك كونها محدثة ، علمنا انه سبحانه لا يصح عليه التنقل والتغير ، لانه ليس بمحدث .
ثم قال (واحد لا بعدد) لان وحدته ذاتية ، وليست صفة زائدة عليه ، وهذا من الابحاث الدقيقة في علم الحكمة ، وليس هذا الكتاب موضوعا لبسط القول في امثاله .
ثم قال (دائم لا بامد) ، لانه تعالى ليس بزماني وداخل تحت الحركه والزمان ، وهذا ايضا من دقائق العلم الالهى ، والعرب دون أن تفهم هذا أو تنطق به ، ولكن هذا الرجل كان ممنوحا من الله تعالى بالفيض المقدس والانوار الربانية .
ثم قال (قائم لا بعمد) ، لانه لما كان في الشاهد كل قائم فله عماد يعتمد عليه ابان عليه السلام تنزيهه تعالى عن المكان ، وعما يتوهمه الجهلاء من انه مستقر على عرشه بهذه اللفظة ومعنى القائم ها هنا ليس ما يسبق الى الذهن من انه المنتصب بل ما تفهمه من قولك فلان قائم بتدبير البلد ، وقائم بالقسط .
ثم قال (تتلقاه الاذهان لا بمشاعرة) ، أي تتلقاه تلقيا عقليا ، ليس كما يتلقى الجسم الجسم بمشاعره وحواسه وجوارحه ، وذلك لان تعقل الاشياء و هو حصول صورها(13/48)
في العقل بريئة من المادة ، والمراد بتلقيه سبحانه ها هنا تلقى صفاته ، لا تلقى ذاته تعالى ، لان ذاته تعالى لا تتصورها العقول ، وسياتى ايضاح أن هذا مذهبه عليه السلام .
ثم قال (وتشهد له المرائى لا بمحاضرة) ، المرائى جمع مرئى ، وهو الشئ المدرك بالبصر ، يقول المرئيات تشهد بوجود البارئ ، لانه لو لا وجوده لما وجدت ، ولو لم توجد لم تكن مرئيات ، وهى شاهدة بوجوده لا كشهادتها بوجود الابصار ، لانها شهدت بوجود الابصار لحضورها فيها .
واما شهادتها بوجود الباري فليست بهذه الطريق ، بل بما ذكرناه .
والاولى أن يكون (المرائى) ها هنا جمع (مرآة) بفتح الميم ، من قولهم هو حسن في مرآة عينى ، يقول إن جنس الرؤية يشهد بوجود الباري من غير محاضرة منه للحواس .
قوله عليه السلام (لم تحط به الاوهام) الى قوله عليه السلام (واليها حاكمها) ، هذا الكلام دقيق ولطيف ، والاوهام ها هنا هي العقول ، يقول انه سبحانه لم تحط به العقول ، أي لم تتصور كنه ذاته ، ولكنه تجلى للعقول بالعقول ، وتجليه ها هنا هو كشف ما يمكن أن تصل إليه العقول من صفاته الاضافية والسلبية لا غير ، وكشف ما يمكن أن تصل إليه العقول من اسرار مخلوقاته ; فاما غير ذلك فلا ; وذلك لان البحث النظرى قد دل على انا لم نعلم منه سبحانه الا الاضافة والسلب ، اما الاضافة فكقولنا عالم قادر ، واما السلب فكقولنا ليس بجسم ولا عرض ولا يرى ، فاما حقيقة الذات المقدسة المخصوصة من حيث هي هي ، فان العقل لا يتصورها ، وهذا مذهب الحكماء وبعض المتكلمين من اصحابنا ومن غيرهم .
ثم قال (وبالعقول امتنع من العقول) ، أي وبالعقول وبالنظر ; علمنا انه تعالى يمتنع أن تدركه العقول .
ثم قال (والى العقول حكم العقول) ، أي جعل العقول المدعية انها احاطت(13/49)
به وادركته كالخصم له سبحانه ، ثم حاكمها الى العقول السليمة الصحيحة النظر ، فحكمت له سبحانه على العقول المدعية لما ليست اهلا له .
واعلم أن القول بالحيرة في جلال ذات الباري والوقوف عند حد محدود لا يتجاوزه العقل قول ما زال فضلاء العقلاء قائلين به [ من اشعار الشارح في المناجاة ] ومن شعرى الذى اسلك فيه مسلك المناجاه عند خلواتي وانقطاعي بالقلب إليه سبحانه قولى : والله لا موسى ولا عيسى المسيح ولا محمد علموا ولا جبريل وهو الى محل القدس يصعد كلا ولا النفس البسيطة لا ولا العقل المجرد من كنه ذاتك غير انك واحدى الذات سرمد وجدوا اضافات وسلبا والحقيقة ليس توجد وراوا وجودا واجبا يفنى الزمان وليس ينفد فلتخسا الحكماء عن جرم له الافلاك تسجد من انت يا رسطو ومن افلاط قبلك يا مبلد ومن ابن سينا حين قرر ما بنيت له وشيد هل انتم الا الفراش راى الشهاب وقد توقد فدنا فاحرق نفسه ولو اهتدى رشدا لابعد .(13/50)
ومما قلته ايضا في قصور العقل عن معرفته سبحانه وتعالى : فيك يا اعجوبة الكون غدا الفكر كليلا انت حيرت ذوى اللب وبلبلت العقولا كلما اقدم فكرى فيك شبرا فر ميلا ناكصا يخبط في عمياء لا يهدى السبيلا ولى في هذا المعنى : فيك يا اغلوطة الفكر تاه عقلي وانقضى عمرى سافرت فيك العقول فما ربحت الا اذى السفر رجعت حسرى وما وقفت لا على عين ولا اثر فلحى الله الالى زعموا انك المعلوم بالنظر كذبوا إن الذي طلبوا خارج عن قوة البشر وقلت ايضا في المعنى : أفنيت خمسين عاما معملا نظرى فيه فلم ادر ما آتى وما اذر من كان فوق عقول القايسين فما ذا يدرك الفكر أو ما يبلغ النظر .
ولى ايضا : حبيبي انت لا زيد وعمرو وان حيرتني وفتنت دينى طلبتك جاهدا خمسين عاما فلم احصل على برد اليقين(13/51)
فهل بعد الممات بك اتصال فاعلم غامض السر المصون نوى قذف وكم قد مات قبلى بحسرته عليك من القرون .
ومن شعرى ايضا في المعنى ، وكنت انادى به ليلا في مواضع مقفرة خالية من الناس ، بصوت رفيع ، واجدح قلبى ايام كنت مالكا امرى ، مطلقا من قيود الاهل والولد وعلائق الدنيا : يا مدهش الالباب والفطن ومحير التقوالة اللسن افنيت فيك العمر انفقه والمال مجانا بلا ثمن اتتبع العلماء اسالهم واجول في الافاق والمدن واخالط الملل التى اختلفت في الدين حتى عابد الوثن وظننت انى بالغ غرضي لما اجتهدت ومبرئ شجني ومطهر من كل رجس هوى قلبى بذاك وغاسل درنى فإذا الذى استكثرت منه هو الجاني على عظائم المحن فضللت في تيه بلا علم وغرقت في يم بلا سفن ورجعت صفر الكف مكتئبا حيران ذا هم وذا حزن ابكى وانكت في الثرى بيدى طورا وادعم تارة ذقنى واصيح يا من ليس يعرفه احد مدى الاحقاب والزمن يا من له عنت الوجوه ومن قرنت له الاعناق في قرن آمنت يا جذر الاصم من الاعداد بل يا فتنة الفتن أن ليس تدركك العيون وأن الراى ذو افن وذو غبن(13/52)
والكل انت فكيف يدركه بعض وانت السر في العلن .
ومما قلته في المعنى : ناجيته ودعوته اكشف عن عشا قلبى وعن بصرى وانت النور وارفع حجابا قد سدلت ستوره دوني وهل دون المحب ستور فأجابني صه يا ضعيف فبعض ذا قد رامه موسى فدك الطور اعجبني هذا المعنى ، فنقلته الى لفظ آخر فقلت : حبيبي انت من دون البرايا وإن لم احظ منك بما اريد قنعت من الوصال بكشف حال فقيل ارجع فمطلبها بعيد الم تسمع جواب سؤال موسى وليس على مكانته مزيد تعرض للذى حاولت يوما فدك الصخر واضطرم الصعيد .
ولى في هذا المعنى ايضا : قد حار في النفس جميع الورى والفكر فيها قد غدا ضائعا وبرهن الكل على ما ادعوا وليس برهانهم قاطعا من جهل الصنعة عجزا فما اجدره أن يجهل الصانعا .
ولى ايضا في الرد على الفلاسفة الذين عللوا حركه الفلك بانه اراد استخراج الوضع اولا ; ليتشبه بالعقل المجرد في كماله ، وان كل ما له بالقوة فهو خارج الى الفعل : تحير ارباب النهى وتعجبوا من الفلك الاقصى لما ذا تحركا فقيل بطبع كالثقيل إذا هوى وقيل اختيارا والمحقق شككا فرد حديث الطبع إذ كان دائرا وليس على سمت قويم فيسلكا(13/53)
وقيل لمن قال اختيارا فما الذى دعاه الى أن دار ركضا فاوشكا فقالوا لوضع حادث يستجده يعاقب منه مطلبا ثم متركا فقيل لهم هذا الجنون بعينه ولو رامه منا امرؤ كان اعفكا (1) ولو أن انسانا غدا ليس قصده سوى الوضع واستخراجه عد مضحكا .
ولى ايضا في الرد على من زعم أن النبي صلى الله عليه وآله راى الله سبحانه بالعين ، وهو الذى انكرته عائشة ، والعجب لقوم من ارباب النظر جهلوا ما ادركته امراة من نساء العرب : عجبت لقوم يزعمون نبيهم راى ربه بالعين تبا لهم تبا وهل تدرك الابصار غير مكيف وكيف تبيح العين ما يمنع القلبا إذا كان طرف القلب عن كنهه نبا حسيرا فطرف العين عن كنهه انبى .
والمقطعات التى نظمتها في اجلال الباري سبحانه عن أن تحيط به العقول كثيرة ، موجودة في كتبي ومصنفاتي ، فلتلمح من مظانها ، وغرضنا بايراد بعضها أن لها هنا تشييدا لما قاله امير المؤمنين عليه السلام على في هذا الباب .
قوله عليه السلام (ليس بذي كبر) الى قوله (وعظم سلطانا) ، معناه انه تعالى يطلق عليه من اسمائه الكبير والعظيم ، وقد ورد بهما القرآن العزيز ، وليس المراد بهما ما يستعمله الجمهور من قولهم هذا الجسم اعظم واكبر مقدارا من هذا الجسم ، بل المراد عظم شانه وجلالة سلطانه .
والفلج : النصرة ، واصله سكون العين ، وانما حركه ليوازن بين الالفاظ ، وذلك
__________
(1) الاعفك : الذي لا يحسن العمل .
(*)(13/54)
لان الماضي ، منه فلج الرجل على خصمه بالفتح ، ومصدره الفلج بالسكون ، فاما من روى (وظهور الفلج) بضمتين فقد سقط عنه التأويل ، لان الاسم من هذا اللفظ (الفلج) بضم اول الكلمه ، فإذا استعملها الكاتب أو الخطيب جاز له ضم الحرف الثاني .
وصادعا بهما مظهرا مجاهدا ، واصله الشق .
والامراس : الحبال ، والواحد مرس ; بفتح الميم والراء .
الاصل : منها في صفة عجيب خلق اصناف من الحيوان : ولو فكروا في عظيم القدرة ، وجسيم النعمة ، لرجعوا الى الطريق ، وخافوا عذاب الحريق ، ولكن القلوب عليله ، والبصائر مدخولة .
الا ينظرون الى صغير ما خلق كيف احكم خلقه ، واتقن تركيبه ، وفلق له السمع والبصر ، وسوى له العظم والبشر .
انظروا الى النملة في صغر جثتها ، ولطافة هيئتها ، لا تكاد تنال بلحظ البصر ، ولا بمستدرك الفكر ، كيف دبت على ارضها ، وصبت على رزقها ، تنقل الحبة الى جحرها ، وتعدها في مستقرها ، تجمع في حرها لبردها ، وفى وردها لصدرها ; مكفول برزقها ، مرزوقه بوفقها ، لا يغفلها المنان ، ولا يحرمها الديان ، ولو في الصفا اليابس ، والحجر الجامس .
ولو فكرت في مجارى اكلها ، وفى علوها وسفلها ، وما في الجوف من شراسيف بطنها ، وما في الراس من عينها واذنها ، لقضيت من خلقها عجبا ، ولقيت من وصفها تعبا .(13/55)
فتعالى الذى اقامها على قوائمها ; وبناها على دعائمها لم يشركه في فطرتها فاطر ، ولم يعنه على خلقها قادر .
ولو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ، ما دلتك الدلالة الا على أن فاطر النملة هو فاطر النخلة ; لدقيق تفصيل كل شئ ، وغامض اختلاف كل حى .
وما الجليل واللطيف ، والثقيل والخفيف ، والقوى والضعيف في خلقه الا سواء .
وكذلك السماء والهواء ، والرياح والماء .
فانظر الى الشمس والقمر ، والنبات والشجر ، والماء والحجر ، واختلاف هذا الليل والنهار ، وتفجر هذه البحار ، وكثرة هذه الجبال ، وطول هذه القلال ، وتفرق هذه اللغات ، والالسن المختلفات .
فالويل لمن انكر المقدر ، وجحد المدبر .
زعموا انهم كالنبات ما لهم زارع ، ولا لاختلاف صورهم صانع ; ولم يلجاوا الى حجة فيما ادعوا ، ولا تحقيق لما دعوا ، وهل يكون بناء من غير بان ، أو جناية من غير جان .
الشرح : مدخولة : معيبة وفلق شق وخلق والبشر ظاهر الجلد .
قوله عليه السلام (وصبت على رزقها) ، قيل هو على العكس ، أي وصب رزقها عليها ، والكلام صحيح ولا حاجة فيه الى هذا ، والمراد كيف همت حتى انصبت على رزقها انصبابا ; أي انحطت عليه ويروى (وضنت على رزقها) بالضاد المعجمة والنون ، أي بخلت وجحرها بيتها .(13/56)
قوله عليه السلام (وفى وردها لصدرها) ، أي تجمع في ايام التمكن من الحركة لايام العجز عنها ، وذلك لان النمل يظهر صيفا ويخفى في شده الشتاء لعجزه عن ملاقاة البرد .
قوله عليه السلام (رزقها وفقها (1)) أي بقدر كفايتها ، ويروى (مكفول برزقها مرزوقه بوفقها) .
والمنان ; من اسماء الله تعالى العائد الى صفاته الفعلية ، أي هو كثير المن والانعام على عباده .
والديان المجازى للعباد على افعالهم ، قال تعالى (انا لمدينون) (2) أي مجزيون والحجر الجامس الجامد والشراسيف اطراف الاضلاع المشرفة على البطن .
[ فصل في ذكر احوال الذرة وعجائب النملة ] واعلم أن شيخنا ابا عثمان قد اورد في كتاب " الحيوان " في باب النملة والذرة - وهى الصغيره جدا من النمل - كلاما يصلح أن يكون كلام امير المؤمنين عليه السلام اصله ولكن ابا عثمان قد فرع عليه .
قال الذرة تدخر في الصيف للشتاء ، وتتقدم في حال المهلة ، ولا تضيع اوقات امكان الحزم ، ثم يبلغ من تفقدها وصحة تمييزها (3) ، والنظر في عواقب امورها (4) ; انها تخاف على الحبوب التى ادخرتها للشتاء [ في الصيف ] (5) ، أن تعفن وتسوس في
__________
(1) كذا في ا ، ب ، وما ورد في اصل النهج يوافق ما ورد في الرواية التالية .
(2) سورة الصافات 53 .
(3) الحيوان : (وحسن خبرها) .
(4) الحيوان : (أمرها) .
(5) من الحيوان .
(*)(13/57)
بطن الارض فتخرجها الى ظهرها لتنثرها (1) وتعيد إليها جفوفها ، ويمر بها النسيم فينفي عنها اللخن والفساد .
ثم ربما - بل في الاكثر - تختار ذلك العمل ليلا ، لان ذلك اخفى ، وفى القمر لانها فيه ابصر ، فان كان مكانها نديا وخافت أن تنبت الحبه نقرت موضع القطمير (2) من وسطها ; لعلمها انها من ذلك الموضع تنبت ، وربما فلقت الحبة نصفين .
فاما إن كان الحب من حب الكزبرة فانها تفلقه ارباعا ، لان انصاف حب الكزبرة تنبت من بين جميع الحبوب ، فهى من هذا الوجه مجاوزة لفطنة جميع الحيوانات ، حتى ربما كانت في ذلك احزم من كثير من الناس ، ولها مع لطافة شخصها وخفة وزنها في الشم والاسترواح ما ليس لشئ ، فربما اكل الانسان الجراد أو بعض ما يشبه الجراد ، فيسقط من يده الواحدة أو صدر واحدة ، وليس بقربه ذرة ولا له عهد بالذر في ذلك المنزل ، فلا يلبث أن تقبل ذرة قاصدة الى تلك الجرادة ، فترومها وتحاول نقلها وجرها الى جحرها ، فإذا اعجزتها بعد أن تبلى عذرا مضت الى جحرها راجعه ، فلا يلبث ذلك الانسان أن يجدها قد اقبلت وخلفها كالخيط الاسود الممدود ، حتى يتعاون عليها فيحملنها .
فاعجب من صدق الشم لما لا يشمه الانسان الجائع ثم انظر الى بعد الهمة والجرأة على محاولة نقل شئ في وزن جسمها مائة مرة ، واكثر من مائة مرة ، بل اضعاف اضعاف المائة ، وليس شئ من الحيوان يحمل ما يكون اضعاف وزنه مرارا كثيرة غيرها .
فان قال قائل (3) : فمن اين علمتم إن التى حاولت نقل الجرادة فعجزت هي التى أخبرت صواحباتها من الذر ، وانها التى كانت على مقدمتهن قيل له لطول التجربة ، ولانا لم نر قط ذرة حاولت جر جرادة فعجزت عنها ، ثم
__________
(1) الحيوان : (لتيسها) .
(2) القطمير : شق النواة .
(3) الحيوان : (فإن قلت) .
(*)(13/58)
رأيناها راجعة الا رأينا معها مثل ذلك ، وان كنا لا نفصل في مراى العين بينها وبين اخواتها ، فانه ليس يقع في القلب غير الذى ، قلنا فدلنا ذلك على انها في رجوعها عن الجرادة انها انما كانت لاشباهها كالرائد الذى لا يكذب اهله .
قال أبو عثمان ولا ينكر قولنا إن الذرة توحى الى اخواتها بما اشرنا إليه الا من يكذب القرآن ، فانه تعالى قال في قصة سليمان (قالت نملة يا ايها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون * فتبسم ضاحكا من قولها) (1) فهل بعد هذا ريب أو شك في إن لها قولا وبيانا وتمييزا .
فان قلت فلعلها مكلفة ، ومأمورة ومنهية ، ومطيعة وعاصية قيل هذا سؤال جاهل ، وذلك انه لا يلزم أن يكون كل ذى حس ، وتمييز مكلفا مامورا منهيا ، مطيعا عاصيا ، لان الانسان غير البالغ الحلم قد يحفظ القرآن وكثيرا من الاثار ، وضروبا من الاخبار ، ويشترى ويبيع ، ويخدع الرجال ويسخر بالمعلمين ، وهو غير مكلف ولا مامور ، ولا منهى ولا عاص ولا مطيع ، فلا يلزم مما قلناه في الذرة أن تكون مكلفة (2) .
قال أبو عثمان ومن عجيب ما سمعته من امر النملة ، ما حدثنى به بعض المهندسين عن رجل معروف بصنعة الاسطرلابات (3) ، انه أخرج طوقا من صفر - أو قال من حديد - من الكير ، وقد احماه ، فرمى به على الارض ليبرد ، فاشتمل الطوق على نملة ، فارادت أن تنفر يمنة فلقيها وهج النار ، فاخذت يسر فلقيها وهج النار ، فمضت قدما فكذاك ، فرجعت الى خلفها فكذلك ، فرجعت الى وسط الدائرة ، فوجدها قد ماتت في موضع رجل البركار (4) من الدائرة ، وهذا من العجائب .
قال أبو عثمان وحدثني أبو عبيد الله الافوه ، وما كنت اقدم عليه في زمانه من مشايخ
__________
(1) سورة النمل 18 ، 19 .
(2) الحيوان 4 : 5 وما بعدها .
(3) الاسطربلات : حمع اسطرلاب ، وهي آلة يعرف بها الوقت ، انظر شفاء الغليل للخفاجي : 51 .
(4) البركاز : اسم لالة معروفة .
قال صاحب شفاء الغليل : هو معرب (فرجار) .
وقال : إنه لم يرد في شعر قديم .
(*)(13/59)
المعتزلة الا القليل ، قال قد كنت القى من الذر والنمل في الرطب يكون عندي وفي الطعام عنتا كثيرا ، وذلك لانى كنت لا استقذر النملة ولا الذرة ، ثم وجدت الواحدة منهما إذا وقعت في قارورة بان أو زئبق أو خيرى ، فسد ذلك الدهن وزنخ ، فقذرتها ونفرت منها ، وقلت اخلق بطبيعتها أن تكون فاسدة خبيثة ، وكنت ارى لها عضا منكرا ، فاقول انها من ذوات السموم ، ولو إن بدن النملة زيد في اجزائه حتى يلحق ببدن العقرب ، ثم عضت انسانا لكانت عضتها اضر عليه من لسعة العقرب .
قال فاتخذت عند ذلك لطعامي منملة وقيرتها ، وصببت في خندقها الماء ، ووضعت سلة الطعام على راسها ، فغبرت اياما اكشف راس السلة بعد ذلك ، وفيها ذر كثير ، ووجدت الماء في الخندق على حاله ، فقلت عسى أن يكون بعض الصبيان انزلها ، واكل مما فيها وطال مكثها في الارض ، وقد دخلها الذر ثم اعيدت على تلك الحال ، وتكلمت في ذلك وتعرفت الحال فيه ، فعرفت البراءة في عذرهم ، والصدق في خبرهم ، فاشتد تعجبي ، وذهبت بى الظنون والخواطر كل مذهب ، فعزمت على أن ارصدها واحرسها ، واتثبت في امرى ، واتعرف شانى ، فإذا هي بعد أن رامت الخندق فامتنع عليها تركته جانبا ، وصعدت في الحائط ، ثم مرت على جذع السقف ، فلما صارت محاذية للسلة ارسلت نفسها فقلت في نفسي انظر كيف اهتدت الى هذه الحيلة ولم تعلم انها تبقى محصورة .
ثم قلت وما عليها أن تبقى محصورة بل أي حصار على ذرة وقد وجدت ما تشتهى .
قال أبو عثمان ومن اعاجيب الذرة انها لا تعرض لجعل ولا لجرادة ولا لخنفساء ولا لبنت وردان ، ما لم يكن بها حبل أو عقر أو قطع رجل أو يد ، فان وجدت بها من ذلك ادنى علة ، وثبت عليها ، حتى لو أن حية بها ضربة أو خرق أو خدش ، ثم كانت من(13/60)
ثعابين مصر ، لوثب عليها الذر حتى ياكلها ، ولا تكاد الحية تسلم من الذر إذا كان بها ادنى عقر .
قال أبو عثمان وقد عذب الله بالذر والنمل امما وامما ، واخرج اهل قرى من قراهم ، واهل دروب من دروبهم .
وحدثني بعض من اصدق خبره ، قال سالت رجلا كان ينزل ببغداد في بعض الدروب التى في ناحية باب الكوفة التى جلا اهلها عنها ، لغلبة النمل والذر عليها ، فسألته عن ذلك ، فقال وما تصنع بالحديث امض معى الى دارى التى اخرجني منها النمل .
قال فدخلتها معه فبعث غلامه ، فاشترى رؤوسا من الراسين ليتغذى بها ، فانتقلنا هربا من النمل في اكثر من عشرين مكانا ، ثم دعا بطست ضخمة ، وصب فيها ماء صالحا ، ثم فرق عظام الرؤوس في الدار ، ومعه غلمانه ، فكان كلما اسود منها عظم لكثره النمل واجتماعه عليه - وذلك في اسرع الاوقات - اخذه الغلام ففرغه في الطست بعود ينثر به ما عليه في جوف الطست ، فما لبثنا مقدار ساعة من النهار حتى فاضت الطست نملا ، فقال كم تظن انى فعلت مثل هذا قبل الجلاء طمعا في أن اقطع اصلها فلما رايت عددها اما زائدا ، واما ثابتا ، وجاءنا ما لا يصبر عليه احد ، ولا يمكن معه مقام ، خرجت عنها .
قال أبو عثمان وعذب عمر بن هبيرة سعيد بن عمرو الحرشى بانواع العذاب ، فقيل له إن اردت الا يفلح ابدا فمرهم فلينفخوا في دبره النمل ، ففعلوا فلم يفلح بعدها (1) .
__________
(1) الحيوان 4 : 33 .(13/61)
قال أبو عثمان ومن الحيوان اجناس يشبه الانسان في العقل والروية والنظر في العواقب والفكر في الامور ، مثل النمل ، والذر ، والفار ، والجرذان ، والعنكبوت ، والنحل ، الا أن النحل لا يدخر من الطعم الا جنسا واحدا وهو العسل (1) .
قال وزعم البقطرى انك لو ادخلت نملة في جحر ذر لاكلتها حتى تأتى على عامتها ، وذكر انه قد جرب ذلك .
قال وزعم صاحب المنطق أن الضبع تأكل النمل اكلا ذريعا ، لانها تأتى قرية النمل وقت اجتماع النمل على باب القرية ، فتلحس ذلك النمل كله بلسانها ، بشهوة شديدة وارادة قوية .
قال وربما افسدت الارضة على اهل القرى منازلهم ، واكلت كل شئ لهم ، فلا تزال كذلك حتى ينشا في تلك القرى النمل ، فيسلط الله عز وجل ذلك النمل على تلك الارضة ، حتى تأتى على آخرها ، على أن النمل بعد ذلك سيكون له اذى ، الا انه دون اذى الارضة بعيدا ، وما اكثر ما يذهب النمل ايضا من تلك القرى ، حتى يتم لاهلها السلامة من النوعين جميعا .
قال وقد زعم بعضهم أن تلك الارضة باعيانها تستحيل نملا ، وليس فناؤها لاكل النمل لها ، ولكن الارضة نفسها تستحيل نملا ، فعلى قدر ما يستحيل منها يرى الناس النقصان في عددها ومضرتها على الايام (2) .
قال أبو عثمان وكان ثمامه يرى أن الذر صغار النمل ، ونحن نراه نوعا آخر كالبقر والجواميس .
قال ومن اسباب هلاك النمل نبات اجنحته ، وقال الشاعر : وإذا استوت للنمل اجنحة حتى يطير فقد دنا عطبه .
__________
(1) الحيوان 4 : 34 .
(2) الحيوان 4 : 34 ، 35 .
(*)(13/62)
وكان في كتاب عبد الحميد الى ابى مسلم لو اراد الله بالنملة صلاحا ، لما انبت لها جناحا ، فيقال إن ابا مسلم لما قرا هذا الكلام في اول الكتاب لم يتم قراءته والقاه في النار ، وقال اخاف إن قراته أن ينخب قلبى .
قال أبو عثمان ويقتل النمل بان يصب في افواه بيوتها القطران والكبريت الاصفر ، وان يدس في افواهها الشعر ، على انا قد جربنا ذلك فوجدناه باطلا .
فاما الحكماء ، فانهم لا يثبتون للنمل شراسيف ولا اضلاعا ، ويجب إن صح قولهم أن يحمل كلام امير المؤمنين عليه السلام على اعتقاد الجمهور ومخاطبه العرب بما تتخيله وتتوهمه حقا ، وكذلك لا يثبت الحكماء للنمل آذانا بارزة عن سطوح رؤوسها ، ويجب إن صح ذلك أن نحمل كلام امير المؤمنين عليه السلام على قوة الاحساس بالاصوات ، فانه لا يمكن الحكماء انكار وجود هذه القوة للنمل ، ولهذا إذا صيح عليهن هربن .
ويذكر الحكماء من عجائب النمل اشياء ، منها انه لا جلد له ، وكذلك كل الحيوان المخرز .
ومنها انه لا يوجد في صقلية نمل كبار اصلا .
ومنها إن النمل بعضه ماش وبعضه طائر .
ومنها إن حراقة النمل إذا اضيف إليها شئ من قشور البيض وريش هدهد وعلقت على العضد منعت من النوم .
قوله عليه السلام (ولو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته) ، أي غايات فكرك ، وضربت بمعنى سرت ، والمذاهب الطرق قال تعالى (وإذا ضربتم في(13/63)
الارض) (1) وهذا الكلام استعارة .
قال لو امعنت النظر لعلمت أن خالق النملة الحقيرة هو خالق النخلة الطويلة لان كل شئ من الاشياء تفصيل جسمه وهيئته تفصيل دقيق ، واختلاف تلك الاجسام في اشكالها والوانها ومقاديرها اختلاف غامض السبب ، فلا بد للكل من مدبر يحكم بذلك الاختلاف ويفعله ، على حسب ما يعلمه من المصلحة .
ثم قال وما الجليل والدقيق في خلقه الا سواء لانه تعالى قادر لذاته ، لا يعجزه شئ من الممكنات .
ثم قال (فانظر الى الشمس والقمر) الى قوله (والالسن المختلفات) ، هذا هو الاستدلال بامكان الاعراض على ثبوت الصانع والطرق إليه اربعة : احدها الاستدلال بحدوث الاجسام .
والثانى الاستدلال بامكان الاعراض والاجسام .
والثالث الاستدلال بحدوث الاعراض .
والرابع الاستدلال بامكان الاعراض .
وصورة الاستدلال هو أن كل جسم يقبل - للجسمية المشتركة بينه وبين سائر الاجسام - ما يقبله غيره من الاجسام ، فإذا اختلفت الاجسام في الاعراض فلا بد من مخصص خصص هذا الجسم بهذا العرض دون أن يكون هذا العرض لجسم آخر ، ويكون لهذا الجسم عرض غير هذا العرض ، لان الممكنات لا بد لها من مرجح يرجح احد طرفيها على الاخر ، فهذا هو معنى (قوله فانظر الى الشمس والقمر ، والنبات والشجر ، والماء والحجر ، واختلاف هذا الليل والنهار ، وتفجر هذه البحار ، وكثرة هذه الجبال ، وطول هذه القلال ، وتفرق هذه اللغات ، والالسن المختلفات) أي انه يمكن أن تكون هيئة
__________
(1) سورة النساء 101 .
(*)(13/64)
الشمس وضوءها ومقدارها حاصلا لجرم القمر ، ويمكن أن يكون النبات الذى لا ساق له شجرا ، والشجر ذو الساق نباتا ، ويمكن أن يكون الماء صلبا والحجر مائعا ، ويمكن أن يكون زمان الليل مضيئا وزمان النهار مظلما ، ويمكن الا تكون هذه البحار متفجرة بل تكون جبالا ، ويمكن الا تكون هذه الجبال الكبيرة كبيرة ، ويمكن الا تكون هذه القلال طويلة .
وكذلك القول في اللغات واختلافها .
وإذا كان كل هذا ممكنا فاختصاص الجسم المخصوص بالصفات والاعراض والصور المخصوصة لا يمكن أن يكون لمجرد الجسمية لتماثل الاجسام فيها ، فلا بد من امر زائد ، وذلك الامر الزائد هو المعنى بقولنا : صانع العالم .
ثم سفه آراء المعطلة ، وقال (انهم لم يعتصموا بحجة ، ولم يحققوا ما وعوه) أي لم يرتبوا العلوم الضرورية ترتيبا صحيحا يفضى بهم الى النتيجة التى هي حق .
ثم اخذ في الرد عليهم من طريق اخرى ، وهى دعوى الضرورة ، وقد اعتمد عليها كثير من المتكلمين ، فقال نعلم ضرورة أن البناء لا بد له من بان ثم قال (والجناية لا بد لها من جان) ، وهذه كلمة ساقته إليها القرينة ، والمراد عموم الفعلية لا خصوص الجناية ، أي مستحيل أن يكون الفعل من غير فاعل ، والذين ادعوا الضرورة في هذه المسالة من المتكلمين استغنوا عن الطرق الاربع التى ذكرناها ، وامير المؤمنين عليه السلام اعتمد اولا على طريق واحدة ، ثم جنح ثانيا الى دعوى الضرورة وكلا الطريقين صحيح .
الاصل : وان شئت قلت في الجرادة إذ خلق لها عينين حمراوين ; واسرج لها(13/65)
حدقتين قمراوين ; وجعل لها السمع الخفى ، وفتح لها الفم السوى ، وجعل لها الحس القوى ، ونابين بهما تقرض ، ومنجلين بهما تقبض ، يرهبها الزراع في زرعهم ، ولا يستطيعون ذبها ولو اجلبوا بجمعهم ، حتى ترد الحرث في نزواتها ، وتقضى منه شهواتها ، وخلقها كله لا يكون اصبعا مستدقة .
فتبارك الذى يسجد له من في السموات والارض طوعا وكرها ، ويعفر له خدا ووجها ; ويلقى بالطاعة إليها سلما وضعفا ، ويعطى القياد رهبة وخوفا .
فالطير مسخرة لامره ، احصى عدد الريش منها والنفس ، وارسى قوائمها على الندى واليبس ; وقدر اقواتها ، واحصى اجناسها ; فهذا غراب ، وهذا عقاب ، وهذا حمام ، وهذا نعام ، دعا كل طائر باسمه ، وكفل له برزقه .
وانشا السحاب الثقال فاهطل ديمها ، وعدد قسمها ، فبل الارض بعد جفوفها ، واخرج نبتها بعد جدوبها .
الشرح : قوله (واسرج لها حدقتين) أي جعلهما مضيئتين كما يضئ السراج ، ويقال حدقة قمراء أي منيرة ، كما يقال ليلة قمراء أي نيره بضوء القمر .
و (بهما تقرض) أي تقطع ، والراء مكسورة .
والمنجلان رجلاها ; شبههما بالمناجل لعوجهما وخشونتهما .
ويرهبها يخافها ونزواتها وثباتها والجدب المحل .(13/66)
[ ذكر غرائب الجراد وما احتوت عليه من صنوف الصنعة ] قال شيخنا أبو عثمان في كتاب " الحيوان " من عجائب الجرادة التماسها لبيضها الموضع الصلد ، والصخور الملس ، ثقة منها انها إذا ضربت باذنابها فيها ، انفرجت لها ، ومعلوم أن ذنب الجرادة ليس في خلقة المنشار (1) ولا طرف ذنبه كحد السنان ، ولها من قوة الاسر ، ولا لذنبها من الصلابة ما إذا اعتمدت به على الكدية (2) خرج (3) ، فيها كيف وهي تتعدى الى ما هو اصلب من ذلك ، وليس في طرفها كابرة العقرب .
وعلى أن العقرب ليس تخرق القمقم ، (4) من جهد الايد وقوة البدن ، بل انما ينفرج لها بطبع مجعول هناك ، وكذاك انفراج الصخور لاذناب الجراد .
ولو أن عقابا ارادت أن تخرق جلد الجاموس لما انخرق لها الا بالتكلف الشديد ، والعقاب هي التى تنكدر (5) على الذئب [ الاطلس ] (6) ; فتقد بدابرتها ما بين صلاه الى موضع الكاهل (7) .
فإذا غرزت (8) الجرادة ، والقت بيضها ، وانضمت عليها تلك الاخاديد التى هي احدثها ، وصارت كالافاحيص لها صارت حاضنة لها ومربية ، وحافظة وصائنة وواقية ، حتى إذا جاء وقت دبيب الروح فيها حدث عجب آخر ، وذلك لانه يخرج من بيضه
__________
(1) في الحيوان : (المسمار) .
(2) الكدية : الصفاة العظيمة .
وفي الحيوان : (الكدية والكذانة) واحدة الكذان ; وهي حجارة كأنها المدر فيها رخاوة .
(3) في الحيوان : (جرح) .
(4) القمقم : ما يسخن فيه الماء من نحاس وغيره ، ويكون ضيق الرأس .
(5) تنكدر : تنقض .
(6) من الحيوان .
(7) تقد : تقطع .
والدابرة : الاصبع التي من وراء رجلها .
والصلا بالفتح : وسط الظهر .
والكاهل : مقدم أعلى الظهر .
(8) غرزت الجرادة : أثبتت ذنبها في الارض لتبيض .
(*)(13/67)
اصهب الى البياض ، ثم يصفر وتتلون فيه خطوط الى السواد ، ثم يصير فيه خطوط سود وبيض ، ثم يبدو حجم جناحه ، ثم يستقل فيموج بعضه في بعض (1) .
قال أبو عثمان ويزعم قوم أن الجراد (2) قد يريد الخضرة ودونه النهر الجارى ، فيصير بعضه جسرا لبعض حتى يعبر الى الخضرة ، وان ذلك حيلة منها .
وليس كما زعموا ، ولكن الزحف الاول من الدبا يريد الخضرة فلا يستطيعها الا بالعبور إليها ، فإذا صارت تلك القطعة فوق الماء طافية صارت لعمري ارضا للزحف الثاني الذى يريد الخضرة ، فان سموا ذلك جسرا استقام ، فاما أن يكون الزحف الاول مهد للثاني ومكن له وآثره [ بالكفاية ] (3) فهذا ما لا يعرف ، ولو أن الزحفين جميعا اشرفا على النهر ، وامسك احدهما عن تكلف العبور حتى يمهد له الاخر لكان لما قالوه وجه (4) .
قال أبو عثمان ولعاب الجراد سم على الاشجار لا يقع على شئ الا احرقه .
فاما الحكماء فيذكرون في كتبهم أن ارجل الجراد تقلع الثآليل ، وانه [ إذا ] اخذت منه اثنتا عشره جرادة ونزعت رؤوسها واطرافها ، وجعل معها قليل آس يابس ، وشربت للاستسقاء كما هي ، نفعت نفعا بينا ; وان التبخر بالجراد ينفع من عسر البول ، وخاصة في النساء ، وان اكله ينفع من تقطيره ، وقد يبخر به للبواسير ، وينفع اكله من لسعة العقرب .
ويقال إن الجراد الطوال إذا علق على من به حمى الربع نفعه .
__________
(1) الحيوان 5 : 549 ، 555 .
(2) في الحيوان : (الدبا) .
(3) من الحيوان .
(4) الحيوان 5 : 562 .
(*)(13/68)
(232) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام في التوحيد ، وتجمع هذه الخطبة من اصول العلم ما لا تجمعه خطبة غيرها : ما وحده من كيفه ، ولا حقيقته اصاب من مثله ، ولا اياه عنى من شبهه ، ولا صمده من اشار إليه وتوهمه ، كل معروف بنفسه مصنوع ، وكل قائم في سواه معلول .
فاعل لا باضطراب آلة ، مقدر لا بجول فكرة ; غنى لا باستفادة ; لا تصحبه الاوقات ; ولا ترفده الادوات ، سبق الاوقات كونه ، والعدم وجوده ، والابتداء اوله .
الشرح : هذا الفصل يشتمل على مباحث متعددة : اولها قوله (ما وحده من كيفه) ، وهذا حق لانه إذا جعله مكيفا جعله ذا هيئة وشكل ، أو ذا لون وضوء ، الى غيرهما من اقسام الكيف ، ومتى كان كذلك كان جسما ولم يكن واحدا ، لان كل جسم قابل للانقسام ، والواحد حقا لا يقبل الانقسام فقد ثبت انه ما وحده من كيفه .
وثانيها قوله (ولا حقيقته اصاب من مثله) ، وهذا حق لانه تعالى لا مثل له وقد دلت الادلة الكلامية والحكمية على ذلك ، فمن اثبت له مثلا ، فانه لم يصب(13/69)
حقيقته تعالى ، والسجعة الاخرى تعطى هذا المعنى ايضا من غير زيادة عليه ، وهى قوله عليه السلام (ولا اياه عنى من شبهه) ولهذا قال شيوخنا إن المشبه لا يعرف الله ، ولا تتوجه عباداته وصلواته الى الله تعالى ; لانه يعبد شيئا يعتقده جسما ، أو يعتقده مشابها لبعض هذه الذوات المحدثة ، والعبادة تنصرف الى المعبود بالقصد ، فإذا قصد بها غير الله تعالى لم يكن قد عبد الله سبحانه ولا عرفه ، وانما يتخيل ويتوهم انه قد عرفه وعبده ، وليس الامر كما تخيل وتوهم .
وثالثها قوله عليه السلام (ولا صمده من اشار إليه) أي اثبته في جهه ، كما تقول الكرامية الصمد في اللغة العربية : السيد .
والصمد ايضا الذى لا جوف له ، وصار التصميد في الاصطلاح العرفي عبارة عن التنزيه ، والذى قال عليه السلام حق ، لان من اشار إليه - أي اثبته في جهة كما تقوله الكرامية - فانه ما صمده ، لانه ما نزهه عن الجهات ، بل حكم عليه بما هو من خواص الاجسام ، وكذلك من توهمه سبحانه ، أي من تخيل له في نفسه صورة أو هيئة أو شكلا ، فانه لم ينزهه عما يجب تنزيهه عنه .
ورابعها قوله (كل معروف بنفسه مصنوع) ، هذا الكلام يجب أن يتاول ، ويحمل على أن كل معروف بالمشاهدة والحس فهو مصنوع ، وذلك لان الباري سبحانه معروف من طريقين : احداهما من افعاله ، والاخرى بنفسه ; وهى طريقة الحكماء الذين بحثوا في الوجود من حيث هو وجود ، فعلموا انه لا بد من موجود واجب الوجود ، فلم يستدلوا عليه بافعاله ، بل اخرج لهم البحث في الوجود انه لا بد من ذات يستحيل عدمها من حيث هي هي .
فان قلت كيف يحمل كلامه على أن كل معروف بالمشاهدة والحس فهو مصنوع وهذا يدخل فيه كثير من الاعراض كالالوان وإذا دخل ذلك فسدت عليه الفقرة الثانية ،(13/70)
وهى قوله عليه السلام (وكل قائم فيما سواه معلول) لانها للاعراض خاصة ، فيدخل احد مدلول الفقرتين في الاخرى ، فيختل النظم .
قلت يريد عليه السلام بالفقرة الاولى كل معروف بنفسه من طريق المشاهدة مستقلا بذاته ، غير مفتقر في تقومه الى غيره فهو مصنوع ، وهذا يختص بالاجسام خاصة ، ولا يدخل الالوان وغيرها من الاعراض فيه ، لانها متقومة بمحالها .
وخامسها قوله (وكل قائم في سواه معلول) ، أي وكل شئ يتقوم بغيره فهو معلول ، وهذا حق لا محالة ، كالاعراض ; لانها لو كانت واجبة لاستغنت في تقومها عن سواها ، لكنها مفتقرة الى المحل الذى يتقوم به ذواتها ; فإذا هي معلولة ، لان كل مفتقر الى الغير فهو ممكن فلا بد له من مؤثر .
وسادسها قوله (فاعل لا باضطراب آلة) هذا لبيان الفرق بينه وبيننا ، فاننا نفعل بالالات وهو سبحانه قادر لذاته فاستغنى عن الالة .
وسابعها قوله (مقدر لا بجول فكرة) ، هذا ايضا للفرق بيننا وبينه ، لانا إذا قدرنا اجلنا افكارنا ، وترددت بنا الدواعى ، وهو سبحانه يقدر الاشياء على خلاف ذلك .
وثامنها قوله (غنى لا باستفادة) ، هذا ايضا للفرق بيننا وبينه ، لان الغنى منا من يستفيد الغنى بسبب خارجي ، وهو سبحانه غني بذاته من غير استفادة امر يصير به غنيا ، والمراد بكونه غنيا أن كل شئ من الاشياء يحتاج إليه ، وانه سبحانه لا يحتاج الى شئ من الاشياء اصلا .
وتاسعها قوله (لا تصحبه الاوقات) ، هذا بحث شريف جدا ، وذلك لانه سبحانه ليس بزمان ولا قابل للحركة ، فذاته فوق الزمان والدهر ; اما المتكلمون فانهم يقولون :(13/71)
انه تعالى كان ولا زمان ولا وقت ، واما الحكماء فيقولون إن الزمان عرض قائم بعرض آخر ، وذلك العرض الاخر قائم بجسم معلول لبعض المعلولات الصادرة عنه سبحانه ، فالزمان عندهم - وان كان لم يزل - الا إن العلة الاولى ليست واقعة تحته ، وذلك هو المراد بقوله (لا تصحبه الاوقات) إن فسرناه على قولهم ، وتفسيره على قول المتكلمين اولى .
وعاشرها قوله (ولا ترفده الادوات) ، رفدت فلانا إذا اعنته ; والمراد الفرق بيننا وبينه ، لاننا مرفودون بالادوات ، ولولاها لم يصح منا الفعل ، وهو سبحانه بخلاف ذلك .
وحادي عشرها قوله (سبق الاوقات كونه ...
) الى آخر الفصل ، هذا تصريح بحدوث العالم .
فان قلت ما معنى قوله (والعدم وجوده) ، وهل يسبق وجوده العدم مع كون عدم العالم في الازل لا اول له ؟ قلت ليس يعنى بالعدم ها هنا عدم العالم بل عدم ذاته سبحانه ، أي غلب وجود ذاته عدمها وسبقها ، فوجب له وجود يستحيل تطرق العدم إليه ازلا وابدا بخلاف الممكنات ، فان عدمها سابق بالذات على وجودها ، وهذا دقيق الاصل : بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له ، وبمضادته بين الامور عرف أن لا ضد له ، وبمقارنته بين الاشياء عرف أن لا قرين له .
ضاد النور بالظلمة ; والوضوح بالبهمة ، والجمود بالبلل ، والحرور بالصرد .(13/72)
مؤلف بين متعادياتها ، مقارن بين متبايناتها ، مقرب بين متباعداتها ، مفرق بين متدانياتها .
لا يشمل بحد ، ولا يحسب بعد ، وانما تحد الادوات انفسها ; وتشير الالات الى نظائرها الشرح : المشاعر الحواس ، قال بلعاء بن قيس : والراس مرتفع فيه مشاعره يهدى السبيل له سمع وعينان .
قال : بجعله تعالى المشاعر عرف أن لا مشعر له ; وذلك لان الجسم لا يصح منه فعل الاجسام ، وهذا هو الدليل الذى يعول عليه المتكلمون في انه تعالى ليس بجسم .
ثم قال (وبمضادته بين الامور عرف أن لا ضد له) ، وذلك لانه تعالى لما دلنا بالعقل على أن الامور المتضادة انما تتضاد على موضوع تقوم به وتحله كان قد دلنا على انه تعالى لا ضد له ، لانه يستحيل إن يكون قائما بموضوع يحله كما تقوم المتضادات بموضوعاتها .
ثم قال (وبمقارنته بين الاشياء عرف أن لا قرين له) ، وذلك لانه تعالى قرن بين العرض والجوهر ، بمعنى استحالة انفكاك احدهما عن الاخر ، وقرن بين كثير من الاعراض ، نحو ما يقوله اصحابنا في حياتي القلب والكبد ، ونحو الاضافات التى يذكرها الحكماء كالبنوة والابوة والفوقية والتحتية ، ونحو كثير من العلل والمعلولات ، والاسباب والمسببات ، فيما ركبه في العقول من وجوب هذه المقارنة واستحالة انفكاك احد الامرين
__________
(1) صحاح الجوهري 699 .
(*)(13/73)
عن الاخر ، علمنا انه لا قرين له سبحانه ، لانه لو قارن شيئا على حسب هذه المقارنة لاستحال انفكاكه عنه ، فكان محتاجا في تحقق ذاته تعالى إليه ، وكل محتاج ممكن ، فواجب الوجود ممكن هذا محال .
ثم شرع في تفصيل المتضادات ، فقال (ضاد النور بالظلمة) ، وهما عرضان عند كثير من الناس ، وفيهم من يجعل الظلمة عدمية .
قال (والوضوح بالبهمة) يعنى البياض والسواد .
قال (والجمود بالبلل) ، يعنى اليبوسة والرطوبة .
قال (والحرور بالصرد) يعنى الحرارة والبرودة ، والحرور ها هنا مفتوح الحاء ، يقال انى لاجد لهذا الطعام حرورا وحرورة في فمى ، أي حرارة ، ويجوز أن يكون في الكلام مضاف محذوف ، أي وحرارة الحرور بالصرد ; والحرور ها هنا يكون الريح الحارة ، وهى بالليل كالسموم بالنهار ، والصرد البرد .
ثم قال وانه تعالى مؤلف بين هذه المتباعدات ، المتعاديات : المتباينات ، وليس المراد من تأليفه بينها جمعه اياها في مكان واحد ، كيف وذلك مستحيل في نفسه ، بل هو سبحانه مؤلف لها في الاجسام المركبة حتى خلع منها صوره مفردة ، هي المزاج ، الا ترى انه جمع الحار والبارد والرطب واليابس ، فمزجه مزجا مخصوصا حتى انتزع منه طبيعة مفردة ، ليست حارة مطلقة ، ولا باردة مطلقة ، ولا رطبة مطلقة ، ولا يابسة مطلقة ، وهى المزاج ، وهو محدود عند الحكماء بانه كيفية حاصلة من كيفيات متضادة ، وهذا هو محصول كلامه عليه السلام بعينه .
والعجب من فصاحته في ضمن حكمته ، كيف اعطى كل لفظة من هذه اللفظات ما يناسبها ويليق بها ، فاعطى المتباعدات لفظة (مقرب) ; لان البعد بازاء القرب ،(13/74)
واعطى المتباينات لفظة (مقارن) ، لان البينونة بازاء المقارنة ، واعطى المتعاديات لفظة (مؤلف) لان الائتلاف بازاء التعادى .
ثم عاد عليه السلام فعكس المعنى ، فقال (مفرق بين متدانياتها) ، فجعل الفساد بازاء الكون ، وهذا من دقيق حكمته عليه السلام ، وذلك لان كل كائن فاسد ، فلما اوضح ما اوضح في الكون والتركيب والايجاد ، اعقبه بذكر الفساد والعدم ، فقال (مفرق بين متدانياتها) ، وذلك لان كل جسم مركب من العناصر المختلفة الكيفيات المتضادة الطبائع ، فانه سيؤول الى الانحلال والتفرق .
ثم قال (لا يشمل بحد) ، وذلك لان الحد الشامل ما كان مركبا من جنس وفصل ، والبارى تعالى منزه عن ذلك ، لانه لو شمله الحد على هذا الوجه يكون مركبا ، فلم يكن واجب الوجود ، وقد ثبت انه واجب الوجود ، ويجوز أن يعنى به انه ليس بذى نهاية ، فتحويه الاقطار وتحده .
ثم قال (ولا يحسب بعد) ، يحتمل أن يريد لا تحسب ازليته بعد ، أي لا يقال له منذ وجد كذا وكذا ، كما يقال للاشياء المتقاربة العهد ، ويحتمل أن يريد به انه ليس مماثلا للاشياء فيدخل تحت العدد ، كما تعد الجواهر ، وكما تعد الامور المحسوسة .
ثم قال (وانما تحد الادوات انفسها وتشير الالات الى نظائرها) ، هذا يؤكد معنى التفسير الثاني ، وذلك لان الادوات كالجوارح ، انما تحد وتقدر ما كان مثلها من ذوات المقادير ، ووكذلك انما تشير الالات - وهى الحواس - الى ما كان نظيرا لها في الجسمية ولوازمها ، والبارى تعالى ليس بذى مقدار ولا جسم ، ولا حال في جسم ، فاستحال أن تحده الادوات وتشير إليه الالات .(13/75)
الاصل : منعتها منذ القدمة ، وحمتها قد الازلية ، وجنبتها لو لا التكمله ، بها تجلى صانعها للعقول ، وبها امتنع عن نظر العيون ، ولا تجرى عليه الحركة والسكون ، وكيف يجرى عليه ما هو اجراه ، ويعود فيه ما هو ابداه ، ويحدث فيه ما هو احدثه .
إذا لتفاوتت ذاته ، ولتجزأ كنهه ، ولامتنع من الازل معناه ; ولكان له وراء إذ وجد له امام ، ولالتمس التمام إذ لزمه النقصان ; وإذا لقامت آية المصنوع فيه ، ولتحول دليلا بعد أن كان مدلولا عليه ، وخرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه ما يؤثر في غيره الشرح : قد اختلف الرواة في هذا الموضع من وجهين : احدهما قول من نصب (القدمة) و (الازلية) و (التكملة) فيكون نصبها عنده على انها مفعول ثان ، والمفعول الاول الضمائر المتصلة بالافعال ، وتكون (منذ) و (قد) و (لولا) في موضع رفع بانها فاعلة ، وتقدير الكلام إن اطلاق لفظة (منذ) على الالات والادوات يمنعها عن كونها قديمة ، لان لفظة (منذ) وضعت لابتداء الزمان كلفظة (من) لابتداء المكان ، والقديم لا ابتداء له ، وكذلك اطلاق لفظة (قد) على الالات ، والادوات تحميها وتمنعها من كونها ازلية ، لان (قد) لتقريب الماضي من الحال ، تقول قد قام زيد ، فقد دل على أن قيامه قريب من الحال التى اخبرت فيها(13/76)
بقيامه ، والازلى لا يصح ذلك فيه ، وكذلك اطلاق لفظة (لولا) على الادوات والالات يجنبها التكملة ، ويمنعها من التمام المطلق ، لان لفظة (لولا) وضعت لامتناع الشئ لوجود غيره ، كقولك لولا زيد لقام عمرو ، فامتناع قيام عمرو انما هو لوجود زيد ، وانت تقول في الادوات والالات وكل جسم ما احسنه لولا انه فان وما اتمه لولا كذا فيكون المقصد والمنحى بهذا الكلام على هذه الرواية بيان أن الادوات والالات محدثة ناقصة ، والمراد بالالات والادوات اربابها .
الوجه الثاني قول من رفع (القدمة) و (الازلية) و (التكملة) فيكون كل واحد منها عنده فاعلا ، وتكون الضمائر المتصلة بالافعال مفعولا اولا ، و (منذ) و (قد) و (لولا) مفعولا ثانيا ، ويكون المعنى إن قدم الباري وازليته وكماله منعت الادوات والالات من اطلاق لفظة (منذ) و (قد) و (لولا) عليه سبحانه ، لانه تعالى قديم كامل ولفظتا (منذ) و (قد) لا يطلقان الا على محدث ، لان احداهما لابتداء الزمان والاخرى لتقريب الماضي من الحال ، ولفظة (لولا) لا تطلق الا على ناقص ، فيكون المقصد والمنحى بهذا الكلام على هذه الرواية بيان قدم الباري تعالى وكماله ، وانه لا يصح أن يطلق عليه الفاظ تدل على الحدوث والنقص .
قوله عليه السلام (بها تجلى صانعها للعقول ، وبها امتنع عن نظر العيون) ، أي بهذه الالات والادوات التى هي حواسنا ومشاعرنا ، وبخلقه اياها ، وتصويره لها ، تجلى للعقول وعرف ، لانه لو لم يخلقها لم يعرف ، وبها امتنع عن نظر العيون ، أي بها استنبطنا استحاله كونه مرئيا بالعيون ، لانا بالمشاعر والحواس كملت عقولنا ، وبعقولنا استخرجنا الدلالة على انه لا تصح رؤيته ، فاذن بخلقه الالات والادوات لنا عرفناه عقلا ، وبذلك(13/77)
ايضا عرفنا انه يستحيل أن يعرف بغير العقل ، وان قول من قال انا سنعرفه رؤية ومشافهة بالحاسه باطل .
قوله عليه السلام (لا تجرى عليه الحركه والسكون) ، هذا دليل اخذه المتكلمون عنه عليه السلام فنظموه في كتبهم وقرروه ، وهو إن الحركة والسكون معان محدثة ، فلو حلت فيه لم يخل منها ، وما لم يخل من المحدث فهو محدث .
فان قلت انه عليه السلام لم يخرج كلامه هذا المخرج ، وانما قال كيف يجرى عليه ما هو اجراه ، وهذا نمط آخر غير ما يقرره المتكلمون .
قلت بل هو هو بعينه ، لانه إذا ثبت انه هو الذى اجرى الحركه والسكون ، أي احدثهما لم يجز أن يجريا عليه ، لانهما لو جريا عليه لم يخل اما أن يجريا عليه على التعاقب ، وليسا ولا واحد منهما بقديم ، أو يجريا عليه على أن احدهما قديم ثم تلاه الاخر ، والاول باطل بما يبطل به حوادث لا اول لها ، والثانى باطل بكلامه عليه السلام ، وذلك لانه لو كان احدهما قديما معه سبحانه لما كان اجراه ، لكن قد قلنا انه اجراه ، أي احدثه ، وهذا خلف محال .
وايضا فإذا كان احدهما قديما معه لم يجز أن يتلوه الاخر ، لان القديم لا يزول بالمحدث .
ثم قال عليه السلام (إذا لتفاوتت ذاته ، ولتجزا كنهه ، ولامتنع من الازل معناه) ، هذا تأكيد لبيان استحاله جريان الحركة والسكون عليه ، تقول لو صح عليه ذلك لكان محدثا ، وهو معنى قوله (لامتنع من الازل معناه) ، وايضا كان ينبغى أن تكون ذاته منقسمة ، لان المتحرك الساكن لا بد أن يكون متحيزا ، وكل متحيز جسم ، وكل جسم منقسم ابدا ، وفى هذا اشارة الى نفى الجوهر الفرد .(13/78)
ثم قال عليه السلام (ولكان له وراء إذا وجد له امام) هذا يؤكد ما قلناه انه اشارة الى نفى الجوهر الفرد ، يقول لو حلته الحركة لكان جرما وحجما ; ولكان احد وجهيه غير الوجه الاخر لا محالة ، فكان منقسما ، وهذا الكلام لا يستقيم الا مع نفى الجوهر الفرد ، لان من اثبته يقول يصح أن تحله الحركة ، ولا يكون احد وجهيه غير الاخر ، فلا يلزم أن يكون له وراء وامام .
ثم قال عليه السلام (ولا التمس التمام إذ لزمه النقصان) ، هذا اشارة الى ما يقوله الحكماء ، من إن الكون عدم ونقص ، والحركه وجود وكمال ، فلو كان سبحانه يتحرك ويسكن لكان حال السكون ناقصا قد عدم عنه كماله ، فكان ملتمسا كماله بالحركة الطارئة على السكون ، وواجب الوجود ، يستحيل أن يكون له حالة نقصان ، وان يكون له حالة بالقوة واخرى بالفعل .
قوله عليه السلام (إذا لقامت آيه المصنوع فيه) ، وذلك لان آيه المصنوع كونه متغيرا منتقلا من حال الى حال ، لانا بذلك استدللنا على حدوث الاجسام ، فلو كان تعالى متغيرا متحركا منتقلا من حال الى حال لتحقق فيه دليل الحدوث ، فكان مصنوعا ، وقد ثبت انه الصانع المطلق سبحانه .
قوله عليه السلام (ولتحول دليلا بعد أن كان مدلولا عليه) ، يقول انا وجدنا دليلنا على الباري سبحانه ، انما هو الاجسام المتحركة ، فلو كان الباري متحركا لكان دليلا على غيره ، وكان فوقه صانع آخر صنعه واحدثه ، لكنه سبحانه لا صانع له ولا ذات فوق ذاته ، فهو المدلول عليه والمنتهى إليه .
قوله عليه السلام (وخرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه ما اثر في غيره) ، في هذا الكلام يتوهم سامعه انه عطف على قوله (لتفاوتت) و (لتجزا) و (لامتنع)(13/79)
و (لكان له) و (لالتمس) و (لقامت) و (لتحول) وليس كذلك ، لانه لو كان معطوفا عليها لاختل الكلام وفسد ، لانها كلها مستحيلات عليه تعالى ، والمراد لو تحرك لزم هذه المحالات كلها .
وقوله (وخرج بسلطان الامتناع) ليس من المستحيلات عليه ، بل هو واجب له ، ومن الامور الصادقة عليه ، فإذا فسد أن يكون معطوفا عليها وجب أن يكون معطوفا على ما كان مدلولا عليه ، وتقدير الكلام كان يلزم أن يتحول الباري دليلا على غيره ، بعد أن كان مدلولا عليه ، وبعد أن خرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه ما اثر في غيره ، وخروجه بسلطان الامتناع المراد به وجوب الوجود والتجريد وكونه ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز فهذا هو سلطان الامتناع الذى به خرج عن أن يؤثر فيه ما اثر في غيره من الاجسام والممكنات .
الاصل : الذى لا يحول ولا يزول ، ولا يجوز عليه الافول ، لم يلد فيكون مولودا ، ولم يولد فيصير محدودا .
جل عن اتخاذ الابناء ، وطهر عن ملامسة النساء ، لا تناله الاوهام فتقدره ، ولا تتوهمه الفطن فتصوره ، ولا تدركه الحواس فتحسه ، ولا تلمسه الايدى فتمسه ، ولا يتغير بحال ، ولا يتبدل في الاحوال ، ولا تبليه الليالى والايام ، ولا يغيره الضياء والظلام .
الشرح : هذا الفصل كله واضح مستغن عن الشرح ، الا قوله عليه السلام (لم يلد(13/80)
فيكون (مولودا) ، لان لقائل أن يقول كيف يلزم من فرض كونه والدا أن يكون مولودا ؟ في جوابه : انه ليس معنى الكلام انه يلزم من فرض وقوع احدهما وقوع الاخر ، وكيف وآدم والد وليس بمولود وانما المراد انه يلزم من فرض صحه كونه والدا صحه كونه مولودا ، والتالى محال والمقدم محال ، و انما قلنا انه يلزم من فرض صحة كونه والدا صحة كونه مولودا ، لانه لو صح أن يكون والدا على التفسير المفهوم من الوالديه ، وهو أن يتصور من بعض اجزائه حى آخر من نوعه على سبيل الاستحالة لذلك الجزء كما نعقله في النطفة المنفصلة من الانسان المستحيلة الى صورة اخرى ; حتى يكون منها بشر آخر من نوع الاول لصح عليه أن يكون هو مولودا من والد آخر قبله ، وذلك لان الاجسام متماثلة في الجسمية ، وقد ثبت ذلك بدليل عقلي واضح في مواضعه التى هي املك به ، وكل مثلين فان احدهما يصح عليه ما يصح على الاخر ، فلو صح كونه والدا يصح كونه مولودا .
واما بيان انه لا يصح كونه مولودا ، فلان كل مولود متاخر عن والده بالزمان ، وكل متاخر عن غيره بالزمان محدث ، فالمولود محدث والبارى تعالى قد ثبت انه قديم ، وان الحدوث عليه محال ، فاستحال أن يكون مولودا ، وتم الدليل .
الاصل : ولا يوصف بشئ من الاجزاء ، ولا بالجوارح والاعضاء ، ولا بعرض من الاعراض ، ولا بالغيرية والابعاض ، ولا يقال له حد ولا نهاية ، ولا انقطاع ولا غاية ; ولا إن الاشياء تحويه ; فتقله أو تهويه ، أو إن شيئا يحمله فيميله(13/81)
أو يعدله .
ليس في الاشياء بوالج ، ولا عنها بخارج .
يخبر لا بلسان ولهوات ، ويسمع لا بخروق وادوات ، يقول ولا يلفظ ، ويحفظ ولا يتحفظ ، ويريد ولا يضمر .
يحب ويرضى من غير رقة ، ويبغض ويغضب من غير مشقة ، يقول لمن اراد كونه : كن فيكون .
لا بصوت يقرع ، ولا بنداء يسمع ، وانما كلامه سبحانه فعل منه انشاه ومثله ، لم يكن من قبل ذلك كائنا ، ولو كان قديما لكان الها ثانيا .
الشرح : في هذا الفصل مباحث : اولها : أن الباري سبحانه لا يوصف بشئ من الاجزاء ، أي ليس بمركب ; لانه لو كان مركبا لافتقر الى اجزائه ، واجزاؤه ليست نفس هويته ، وكل ذات تفتقر هويتها الى امر من الامور فهى ممكنة ; لكنه واجب الوجود ، فاستحال أن يوصف بشئ من الاجزاء .
وثانيها : انه لا يوصف بالجوارح والاعضاء كما يقول مثبتو الصورة ، وذلك لانه لو كان كذلك لكان جسما ، وكل جسم ممكن ، وواجب الوجود غير ممكن .
وثالثها : انه لا يوصف بعرض من الاعراض كما يقوله الكرامية ; لانه لو حله العرض لكان ذلك العرض ليس بان يحل فيه اولى من أن يحل هو في العرض ، لان معنى(13/82)
الحلول حصول العرض في حيز المحل تبعا لحصول المحل فيه ، فما ليس بمتحيز لا يتحقق فيه معنى الحلول ، وليس بان يجعل محلا اولى من أن يجعل حالا .
ورابعها : انه لا يوصف بالغيرية والابعاض ، أي ليس له بعض ، ولا هو ذو اقسام بعضها غيرا للبعض الاخر ، وهذا يرجع الى البحث الاول .
وخامسها : انه لا حد له ولا نهاية ، أي ليس ذا مقدار ، ولذلك المقدار طرف ونهاية ، لانه لو كان ذا مقدار لكان جسما ، لان المقدار من لوازم الجسمية ، وقد ثبت انه تعالى ليس بجسم .
وسادسها : انه لا انقطاع لوجوده ، ولا غاية ، لانه لو جاز عليه العدم في المستقبل لكان وجوده الان متوقفا على عدم سبب عدمه ، وكل متوقف على الغير فهو ممكن في ذاته ، والبارى تعالى واجب الوجوب ، فاستحال عليه العدم ; وأن يكون لوجوده انقطاع ، أو ينتهى الى غاية يعدم عندها .
وسابعها : أن الاشياء لا تحويه فتقله ; أي ترفعه ، أو تهويه ; أي تجعله هاويا الى جهة تحت ، لانه لو كان كذلك لكان ذا مقدار اصغر من مقدار الشئ الحاوى له ، لكن قد بينا انه يستحيل عليه المقادير ، فاستحال كونه محويا .
وثامنها : انه ليس يحمله شئ فيميله الى جانب ، أو يعدله بالنسبه الى جميع الجوانب ، لان كل محمول مقدر ، وكل مقدر جسم ، وقد ثبت انه ليس بجسم .
وتاسعها : انه ليس في الاشياء بوالج ، أي داخل .
ولا عنها بخارج ، هذا مذهب الموحدين ; والخلاف فيه مع الكرامية والمجسمة ، وينبغى أن يفهم قوله عليه السلام (ولا عنها بخارج) انه لا يريد سلب الولوج ، فيكون قد خلا من النقيضين ، لان ذلك محال ، بل المراد بكونه ليس خارجا عنها انه ليس كما يعتقده كثير من الناس ; أن الفلك الاعلى المحيط لا يحتوى عليه ; ولكنه ذات موجودة متميزة بنفسها ، قائمة(13/83)
بذاتها ، خارجة عن الفلك في الجهه العليا ، بينها وبين الفلك بعد ، اما غير متناه - على ما يحكى عن ابن الهيصم - أو متناه على ما يذهب إليه اصحابه ; وذلك أن هذه القضية وهى قولنا الباري خارج عن الموجودات كلها على هذا التفسير ليست مناقضة للقضية الاولى ، وهى قولنا الباري داخل العالم ، ليكون القول بخلوه عنهما قولا بخلوه عن النقيضين ، الا ترى انه يجوز أن تكون القضيتان كاذبتين معا ، بالا يكون الفلك المحيط محتويا عليه ، ولا يكون حاصلا في جهه خارج الفلك ، ولو كانت القضيتان متناقضتين لما استقام ذلك ، وهذا كما تقول زيد في الدار زيد في المسجد ، فان هاتين القضيتين ليستا متناقضتين ، لجواز الا يكون زيد في الدار ، ولا في المسجد ، فان هاتين لو تناقضتا لاستحال الخروج عن النقيضين ، لكن المتناقض (زيد في الدار ، زيد ليس في الدار) ، والذى يستشنعه العوام من قولنا (الباري لا داخل العالم ولا خارج العالم) غلط مبنى على اعتقادهم وتصورهم أن القضيتين تتناقضان ، وإذا فهم ما ذكرناه بان انه ليس هذا القول بشنيع ; بل هو سهل وحق ، ايضا فانه تعالى لا متحيز ولا حال في المتحيز ، وما كان كذلك استحال أن يحصل في جهة ; لا داخل العالم ولا خارج العالم ، و قد ثبت كونه غير متحيز ولا حال في المتحيز ، من حيث كان واجب الوجود ، فاذن القول بانه ليس في الاشياء بوالج ولا عنها بخارج صواب وحق .
وعاشرها : انه تعالى يخبر بلا لسان ولهوات ; وذلك لان كونه تعالى مخبرا هو كونه فاعلا للخبر ، كما إن كونه ضاربا هو كونه فاعلا للضرب ، فكما لا يحتاج في كونه ضاربا الى اداة وجارحة يضرب بها كذلك لا يحتاج في كونه مخبرا الى لسان ولهوات يخبر بها .
وحادي عشرها : انه تعالى يسمع بلا حروف وادوات ، وذلك لان الباري سبحانه حى لا آفة به ; وكل حى لا آفة به ; فواجب أن يسمع المسموعات ، ويبصر المبصرات ،(13/84)
ولا حاجة به سبحانه الى حروف وادوات ، كما نحتاج نحن الى ذلك ، لانا احياء بحياة تحلنا ، والبارى تعالى حى لذاته ، فلما افترقنا فيما به كان سامعا ومبصرا ، افترقنا في الحاجة الى الادوات والجوارح .
وثاني عشرها : انه يقول ولا يتلفظ ، هذا بحث لفظي ، وذلك لانه قد ورد السمع بتسميته قائلا ، وقد تكرر في الكتاب العزيز ذكر هذه اللفظه ، نحو قوله (واذ قال الله يا عيسى) (1) (وقال الله انى معكم) (2) ، ولم يرد في السمع اطلاق كونه متلفظا عليه ، وفي اطلاقه ايهام كونه ذا جارحة ، فوجب الاقتصار على ما ورد ، وترك ما لم يرد .
وثالث عشرها : انه تعالى يحفظ ولا يتحفظ ; اما كونه يحفظ فيطلق على وجهين : احدهما انه يحفظ بمعنى انه يحصى اعمال عباده ويعلمها ، والثانى كونه يحفظهم ويحرسهم من الافات والدواهي .
واما كونه لا يتحفظ فيحتمل معنيين .
احدهما انه لا يجوز أن يطلق عليه انه يتحفظ الكلام ، أي يتكلف كونه حافظا له ، ومحيطا وعالما به ، كالواحد منا يتحفظ الدرس ليحفظه ، فهو سبحانه حافظ غير متحفظ والثانى انه ليس بمتحرز ولا مشفق على نفسه خوفا أن تبدر إليه بادرة من غيره .
ورابع عشرها : انه يريد ولا يضمر ، اما كونه مريدا فقد ثبت بالسمع نحو قوله تعالى (يريد الله بكم اليسر) (3) ، وبالعقل لاختصاص افعاله باوقات مخصوصة ، وكيفيات مخصوصة ، جاز أن تقع على خلافها ، فلا بد من مخصص لها بما اختصت به ; وذلك كونه مريدا ، واما كونه لا يضمر فهو اطلاق لفظي لم ياذن فيه الشرع ، وفيه ايهام كونه ذا قلب ، لان الضمير في العرف اللغوى ما استكن في القلب ، والبارى ليس بجسم .
__________
(1) سورة المائدة 110 .
(2) سورة البقرة 185 .
(3) سورة المائدة 12 .
(*)(13/85)
وخامس عشرها : انه يحب ويرضى من غير رقة ، ويبغض ويغضب من غير مشقة ، وذلك لان محبته للعبد ارادته أن يثيبه ، ورضاه عنه أن يحمد فعله ، وهذا يصح ويطلق على الباري ، لا كاطلاقه علينا ، لان هذه الاوصاف يقتضى اطلاقها علينا رقة القلب ، والبارى ليس بجسم ، واما بغضه للعبد فارادة عقابه وغضبه كراهية فعله ووعيده بانزال العقاب به ، وفى الاغلب انما يطلق ذلك علينا ويصح منا مع مشقة تنالنا من ازعاج القلب وغليان دمه ، والبارى ليس بجسم .
وسادس عشرها : انه يقول لما اراد كونه كن ، فيكون من غير صوت يقرع ، ولا نداء يسمع ، هذا مذهب شيخنا ابى الهذيل ، واليه يذهب الكرامية واتباعها من الحنابلة وغيرهم ، والظاهر أن امير المؤمنين عليه السلام اطلقه حملا على ظاهر لفظ القرآن في مخاطبة الناس بما قد سمعوه وانسوا به ، وتكرر على اسماعهم واذهانهم ، فاما باطن الاية وتاويلها الحقيقي فغير ما يسبق الى اذهان العوام ، فليطلب من موضعه .
وسابع عشرها : إن كلامه سبحانه فعل منه انشاه ، ومثله لم يكن من قبل ذلك كائنا ، ولو كان قديما لكان الها ثانيا ، هذا هو دليل المعتزلة على نفى المعاني القديمة التى منها القرآن ، وذلك لان القدم عندهم اخص صفات الباري تعالى ، أو موجب عن الاخص ، فلو أن في الوجود معنى قديما قائما بذات الباري ; لكان ذلك المعنى مشاركا للبارى في اخص صفاته ، وكان يجب لذلك المعنى جميع ما وجب للبارى من الصفات ، نحو العالمية والقادرية وغيرهما ، فكان الها ثانيا .
فان قلت ما معنى قوله عليه السلام (ومثله) ؟ قلت : يقال مثلت له كذا تمثيلا ، إذا صورت له مثاله بالكتابة أو بغيرها ، فالبارئ مثل القرآن لجبريل عليه السلام بالكتابة في اللوح المحفوظ فانزله على محمد صلى الله عليه وآله .(13/86)
وايضا يقال مثل زيد بحضرتي إذا حضر قائما ، ومثلته بين يدى زيد أي احضرته منتصبا ، فلما كان الله تعالى فعل القرآن واضحا بينا كان قد مثله للمكلفين الاصل : لا يقال كان بعد أن لم يكن ، فتجرى عليه الصفات المحدثات ولا يكون بينها وبينه فصل ، ولا له عليها فضل ، فيستوى الصانع والمصنوع ، ويتكافا المبتدع والبديع .
خلق الخلائق على غير مثال خلا من غيره ، ولم يستعن على خلقها باحد من خلقه ، وانشا الارض فامسكها من غير اشتغال ، وارساها على غير قرار ، واقامها بغير قوائم ، ورفعها بغير دعائم ، وحصنها من الاود والاعوجاج ، ومنعها من التهافت والانفراج .
ارسى اوتادها ، وضرب اسدادها ، واستفاض عيونها ، وخد اوديتها ، فلم يهن ما بناه ولا ضعف ما قواه .
الشرح : عاد عليه السلام الى تنزيه البارئ تعالى عن الحدوث ، فقال لا يجوز أن يوصف به فتجرى عليه الصفات المحدثات كما تجرى على كل محدث ، وروى (فتجرى عليه صفات المحدثات) وهو اليق ، ليعود الى المحدثات ذوات الصفات ما بعده ; وهو قوله عليه السلام (ولا يكون بينه وبينها فصل) ، لانه لا يحسن أن يعود الضمير في قوله (وبينها) الى (الصفات) بل الى (ذوات الصفات) .(13/87)
قال لو كان محدثا لجرت عليه صفات الاجسام المحدثة ، فلم يكن بينه وبين الاجسام المحدثة فرق ، فكان يستوى الصانع والمصنوع ، وهذا محال .
ثم ذكر انه خلق الخلق غير محتذ لمثال ، ولا مستفيد من غيره كيفية الصنعة ، بخلاف الواحد منا ، فان الواحد منا لا بد أن يحتذى في الصنعه ، كالبناء ، والنجار والصانع وغيرها .
قال عليه السلام (ولم يستعن على خلقها باحد من خلقه) لانه تعالى قادر لذاته لا يعجزه شئ .
ثم ذكر انشاءه تعالى الارض ، وانه امسكها من غير اشتغال منه بامساكها ، وغير ذلك من افعاله ومخلوقاته ، ليس كالواحد منا يمسك الثقيل فيشتغل بامساكه عن كثير من اموره .
قال (وارساها) ، جعلها راسية على غير قرار تتمكن عليه ، بل واقفة بارادته التى اقتضت وقوفها ، ولان الفلك يجذبها من جميع جهاتها - كما قيل - أو لانه يدفعها من جميع جهاتها ، أو لان احد نصفيها صاعد بالطبع ، والاخر هابط بالطبع ، فاقتضى التعادل وقوفها ، أو لانها طالبه للمركز فوقفت .
والاود الاعوجاج ، وكرر لاختلاف اللفظ .
والتهافت التساقط والاسداد جمع سد ، وهو الجبل ، ويجوز ضم السين .
واستفاض عيونها ، بمعنى افاض ، أي جعلها فائضة .
وخد اوديتها ، أي شقها فلم يهن ما بناه ، أي لم يضعف .(13/88)
الاصل : هو الظاهر عليها بسلطانه وعظمته ، وهو الباطن لها بعلمه ومعرفته ، والعالي على كل شئ منها بجلاله وعزته ، لا يعجزه شئ منها طلبه ، ولا يمتنع عليه فيغلبه ، ولا يفوته السريع منها فيسبقه ، ولا يحتاج الى ذى مال فيرزقه ..خضعت الاشياء له ، وذلت مستكينة لعظمته ، لا تستطيع الهرب من سلطانه الى غيره فتمتنع من نفعه وضره ، ولا كفء له فيكافئه ، ولا نظير له فيساويه .
هو المفنى لها بعد وجودها حتى يصير موجودها كمفقودها ، وليس فناء الدنيا بعد ابتداعها باعجب من انشائها واختراعها .
وكيف ولو اجتمع جميع حيوانها - من طيرها وبهائمها ، وما كان من مراحها وسائمها ، واصناف اسناخها واجناسها ، ومتبلدة اممها واكياسها - على احداث بعوضة ، ما قدرت على احداثها ، ولا عرفت كيف السبيل الى ايجادها ، ولتحيرت عقولها في علم ذلك وتاهت ، وعجزت قواها وتناهت ، ورجعت خاسئة حسيرة ، عارفة بانها مقهورة ، مقرة بالعجز عن انشائها ، مذعنة بالضعف عن افنائها .
الشرح : الظاهر : الغالب القاهر ; والباطن : العالم الخبير .
والمراح بضم الميم النعم ترد الى المراح بالضم ايضا ; وهو الموضع الذى تاوى إليه النعم ، وليس المراح ضد السائم على ما يظنه بعضهم ، ويقول إن عطف احدهما على الاخر عطف(13/89)
على المختلف والمتضاد ، بل احدهما هو الاخر وضدهما المعلوفة ، وانما عطف احدهما على الاخر على طريقة العرب في الخطابة ، ومثله في القرآن كثير ، نحو قوله سبحانه (لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب) (1) .
واسناخها جمع سنخ بالكسر ، وهو الاصل .
وقوله (لو اجتمع جميع الحيوان على احداث بعوضة) هو معنى قوله سبحانه (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له) (2) .
فان قلت ما معنى قوله (لا تستطيع الهرب من سلطانه الى غيره فتمتنع من نفعه وضره) وهلا قال (من ضره) ولم يذكر النفع ، فانه لا معنى لذكره ها هنا .
قلت : هذا كما يقول المعتصم بمعقل حصين عن غيره ما يقدر اليوم فلان لى على نفع ولا ضر ، وليس غرضه الا ذكر الضرر ، وانما ياتي بذكر النفع على سبيل سلب القدرة عن فلان على كل ما يتعلق بذلك المعتصم ، وايضا فان العفو عن المجرم نفع له ، فهو عليه السلام يقول انه ليس شئ من الاشياء يستطيع أن يخرج إذا اجرم من سلطان الله تعالى الى غيره فيمتنع من باس الله تعالى ، ويستغنى عن أن يعفو عنه لعدم اقتداره عليه .
الاصل : وانه سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شئ معه ، كما كان قبل ابتدائها ، كذلك يكون بعد فنائها ; بلا وقت ولا مكان ، ولا حين ولا زمان .
عدمت عند ذلك الاجال والاوقات ، وزالت السنون والساعات ، فلا شئ
__________
(1) سورة فاطر 35 .
(2) سورة الحج 73 .
(*)(13/90)
الا الله الواحد القهار ; الذى إليه مصير جميع الامور .
بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها ، وبغير امتناع منها كان فناؤها ، ولو قدرت على الامتناع لدام بقاؤها .
لم يتكاءده صنع شئ منها إذ صنعه ، ولم يؤده منها خلق ما براه وخلقه ، ولم يكونها لتشديد سلطان ، ولا لخوف من زوال ونقصان ، ولا للاستعانة بها على ند مكاثر ، ولا للاحتراز بها من ضد مثاور ، ولا للازدياد بها في ملكه ، ولا لمكاثرة شريك في شركه ، ولا لوحشة كانت منه فاراد أن يستانس إليها .
ثم هو يفنيها بعد تكوينها ; لا لسام دخل عليه في تصريفها وتدبيرها ، ولا لراحه واصله إليه ، ولا لثقل شئ منه عليه ، لا يمله طول بقائها فيدعوه الى سرعه افنائها ، ولكنه سبحانه دبرها بلطفه ، وامسكها بامره ، واتقنها بقدرته ، ثم يعيدها بعد الفناء من غير حاجة منه إليها ، ولا استعانة بشئ منها عليها ، ولا لانصراف من حال وحشة الى حال استئناس ، ولا من حال جهل وعمى الى علم والتماس ، ولا من فقر وحاجة الى غنى وكثرة ، ولا من ذل وضعة الى عز وقدرة .
الشرح : شرع اولا في ذكر اعدام الله سبحانه الجواهر وما يتبعها ويقوم بها من الاعراض قبل القيامة ، وذلك لان الكتاب العزيز قد ورد به ، نحو قوله تعالى (كما بدانا اول خلق نعيده) (1) ومعلوم انه بداه عن عدم ، فوجب أن تكون الاعادة عن عدم ايضا وقال تعالى (هو الاول والاخر) (2) ; وانما كان اولا لانه كان موجودا ، ولا شئ من
__________
(1) سورة الانبياء 104 .
(2) سورة الحديد 3 .
(*)(13/91)
الاشياء بموجود ، فوجب أن يكون آخرا كذلك ، هذا هو مذهب جمهور اصحابنا وجمهور المسلمين .
ثم ذكر انه يكون وحده سبحانه بلا وقت ولا مكان ، ولا حين ولا زمان ، وذلك لان المكان اما الجسم الذى يتمكن عليه جسم آخر ، أو الجهه ، و كلاهما لا وجود له بتقدير عدم الافلاك وما في حشوها من الاجسام ، اما الاول فظاهر ، واما الثاني فلان الجهة لا تتحقق الا بتقدير وجود الفلك ، لانها امر اضافي بالنسبة إليه ، فبتقدير عدمه لا يبقى للجهة تحقق اصلا ، وهذا هو القول في عدم المكان حينئذ ، واما الزمان والوقت والحين فكل هذه الالفاظ تعطى معنى واحدا ، ولا وجود لذلك المعنى بتقدير عدم الفلك ، لان الزمان هو مقدار حركة الفلك ، فإذا قدرنا عدم الفلك فلا حركة ولا زمان .
ثم اوضح عليه السلام ذلك واكده ، فقال : (عدمت عند ذلك الاجال والاوقات ، وزالت السنون والساعات) ، لان الاجل هو الوقت الذى يحل فيه الدين أو تبطل فيه الحياة ، وإذا ثبت انه لا وقت ، ثبت انه لا اجل ، وكذلك لا سنة ولا ساعة ، لانها اوقات مخصوصة .
ثم عاد عليه السلام الى ذكر الدنيا ، فقال (بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها ، وبغير امتناع منها كان فناؤها) ; يعنى انها مسخرة تحت الامر الالهى .
قال (ولو قدرت على الامتناع لدام بقاؤها) ، لانها كانت تكون ممانعة للقديم سبحانه في مراده ، وانما تمانعه في مراده لو كانت قادرة لذاتها ، ولو كانت قادرة لذاتها وارادت البقاء لبقيت .
قوله عليه السلام (لم يتكاءده) بالمد ، أي لم يشق عليه ; ويجوز لم (يتكأده) بالتشديد والهمزة ، واصله من العقبة الكئود ، وهى الشاقة .(13/92)
قال (ولم يؤده) أي لم يثقله .
ثم ذكر انه تعالى لم يخلق الدنيا ليشد بها سلطانه ، ولا لخوفه من زوال أو نقص يلحقه ، ولا ليستعين بها على ند مماثل له ، أو يحترز بها عن ضد محارب له ، أو ليزداد بها ملكه ملكا ، أو ليكاثر بها شريكا في شركته له ، أو لانه كان قبل خلقها مستوحشا فاراد أن يستانس بمن خلق .
ثم ذكر انه تعالى (سيفنيها بعد ايجادها) لا لضجر لحقه في تدبيرها ، ولا لراحة تصله في اعدامها ، ولا لثقل شئ منها عليه حال وجودها ، ولا لملل اصابه فبعثه على اعدامها .
ثم عاد عليه السلام فقال انه سبحانه سيعيدها الى الوجود بعد الفناء ، لا لحاجة إليها ولا ليستعين ببعضها على بعض ، ولا لانه استوحش حال عدمها فاحب أن يستانس باعادتها ، ولا لانه فقد علما عند اعدامها فاراد باعادتها استجداد ذلك العلم ، ولا لانه صار فقيرا عند اعدامها فاحب أن يتكثر ويثرى باعادتها ، ولا لذل اصابه بافنائها فاراد العز باعادتها .
فان قلت إذا كان يفنيها لا لكذا ولا لكذا ، وكان من قبل اوجدها لا لكذا ولا لكذا ، ثم قلتم انه يعيدها لا لكذا ولا لكذا ، فلاى حال اوجدها اولا ، ولاى حال افناها ثانيا ، ولاى حال اعادها ثالثا خبرونا عن ذلك ، فانكم قد حكيتم عنه عليه السلام الحكم ولم تحكوا عنه العلة .
قلت : انما اوجدها اولا للاحسان الى البشر ليعرفوه ، فانه لو لم يوجدهم لبقى مجهولا لا يعرف ، ثم كلف البشر ليعرضهم للمنزلة الجليلة التى لا يمكن وصولهم إليها الا بالتكليف وهى الثواب ، ثم يفنيهم لانه لا بد من انقطاع التكليف ليخلص الثواب من مشاق التكاليف ; وإذا كان لا بد من انقطاعه فلا فرق بين انقطاعه بالعدم المطلق ،(13/93)
أو بتفريق الاجزاء ، وانقطاعه بالعدم المطلق قد ورد به الشرع ، وفيه لطف زائد للمكلفين ، لانه اردع واهيب في صدورهم من بقاء اجزائهم ، واستمرار وجودها غير معدومة .
ثم انه سبحانه يبعثهم ويعيدهم ليوصل الى كل انسان ما يستحقه من ثواب أو عقاب ، ولا يمكن ايصال هذا المستحق الا بالاعادة ، وانما لم يذكر امير المؤمنين عليه السلام هذه التعليلات ، لانه قد اشار إليها فيما تقدم من كلامه ، وهى موجوده في فرش خطبه ، ولان مقام الموعظة غير مقام التعليل ، وامير المؤمنين عليه السلام في هذه الخطبة يسلك مسلك الموعظة في ضمن تمجيد الباري سبحانه وتعظيمه ، وليس ذلك بمظنة التعليل والحجاج(13/94)
(233) الاصل ومن خطبة له عليه السلام تختص بذكر الملاحم : الا بابى وامى هم من عدة اسماؤهم في السماء معروفة ، وفى الارض مجهولة الا فتوقعوا ما يكون من ادبار اموركم ، وانقطاع وصلكم ، واستعمال صغاركم .
ذاك حيث تكون ضربد السيف على المؤمن اهون من الدرهم من حله ذاك حيث يكون المعطى اعظم اجرا من المعطى ; ذاك حيث تسكرون من غير شراب ، بل من النعمة والنعيم ، وتحلفون من غير اضطرار ، وتكذبون من غير احراج ، ذاك إذا عضكم البلاء ، كما يعض القتب غارب البعير .
ما اطول هذا العناء وابعد هذا الرجاء .
ايها الناس ، القوا هذه الازمة التى تحمل ظهورها الاثقال من ايديكم ، ولا تصدعوا على سلطانكم فتذموا غب فعالكم ، ولا تقتحموا ما استقبلتم من فور نار الفتنة ، واميطوا عن سننها ، وخلوا قصد السبيل لها ; فقد لعمري يهلك في لهبها المؤمن ، ويسلم فيها غير المسلم .
انما مثلى بينكم كمثل السراج في الظلمة يستضئ به من ولجها .
فاسمعوا ايها الناس وعوا واحضروا آذان قلوبكم تفهموا .(13/95)
الشرح : الامامية تقول هذه العدة هم الائمة الاحد عشر من ولده عليه السلام .
وغيرهم يقول انه عنى الابدال الذين هم اولياء الله في الارض ، وقد تقدم منا ذكر القطب والابدال ، واوضحنا ذلك ايضاحا جليا .
قوله عليه السلام (اسماؤهم في السماء معروفة) ، أي تعرفها الملائكة المعصومون ، اعلمهم الله تعالى باسمائهم .
وفى الارض مجهولة ، أي عند الاكثرين لاستيلاء الضلال على اكثر البشر .
ثم خرج الى مخاطبة اصحابه على عادته في ذكر الملاحم والفتن الكائنة في آخر زمان الدنيا فقال لهم توقعوا ما يكون من ادبار اموركم ، وانقطاع وصلكم - جمع وصلة - واستعمال صغاركم ، أي يتقدم الصغار على الكبار ، وهو من علامات الساعة .
قال ذاك حيث يكون احتمال ضربة السيف على المؤمن اقل مشقة من احتمال المشقة في اكتساب درهم حلال ، وذلك لان المكاسب تكون قد فسدت واختلطت ، وغلب الحرام الحلال فيها .
قوله (ذاك حيث يكون المعطى اعظم اجرا من المعطى) ، معناه أن اكثر من يعطى ويتصدق في ذلك الزمان يكون ماله حراما فلا اجر له في التصدق به ، ثم اكثرهم يقصد الرياء والسمعة بالصدقة أو لهوى نفسه ، أو لخطرة من خطراته ، ولا يفعل الحسن لانه حسن ، ولا الواجب لوجوبه ، فتكون اليد السفلى خيرا من اليد العليا ، عكس ما ورد في الاثر ، واما المعطى فانه يكون فقيرا ذا عيال ، لا يلزمه أن يبحث عن المال احرام هو ام حلال ! فإذا اخذه ليسد به خلته ، ويصرفه في قوت عياله ، كان اعظم اجرا ممن اعطاه .(13/96)
وقد خطر لى فيه معنى آخر ، وهو أن صاحب المال الحرام انما يصرفه في اكثر الاحوال واغلبها في الفساد وارتكاب المحظور كما قال (من اكتسب مالا من نهاوش اذهبه الله في نهابر) (1) فإذا اخذه الفقير منه على وجه الصدقة فقد فوت عليه صرفه في تلك القبائح والمحضورات التى كان بعرضته صرف ذلك القدر فيها لو لم ياخذه الفقير ، فإذا قد احسن الفقير إليه بكفه عن ارتكاب القبيح ، ومن العصمة الا يقدر فكان المعطى اعظم اجرا من المعطى .
قوله عليه السلام (ذاك حيث تسكرون من غير شراب بل من النعمة) ، بفتح النون ، وهى غضارة العيش ، وقد قيل في المثل سكر الهوى اشد من سكر الخمر .
قال (تحلفون من غير اضطرار) ; أي تتهاونون باليمين وبذكر الله عز وجل .
قال (وتكذبون من غير احراج) ، أي يصير الكذب لكم عادة ودربه ، لا تفعلونه لان آخر منكم قد احرجكم واضطركم بالغيظ الى الحلف .
وروى من غير (احواج) بالواو ، أي من غير أن يحوجكم إليه احد .
قال ذلك إذا عضكم البلاء كما يعض القتب غارب البعير .
هذا الكلام غير متصل بما قبله ، وهذه عادة الرضى رحمه الله يلتقط الكلام التقاطا ، ولا يتلو بعضه بعضا ، وقد ذكرنا هذه الخطبة أو اكثرها فيما تقدم من الاجزاء الاول ، وقبل هذا الكلام ذكر ما يناله شيعته من البؤس والقنوط ومشقة انتظار الفرج .
قوله عليه السلام (ما اطول هذا العناء ، وابعد هذا الرجاء) هذا حكاية كلام شيعته واصحابه .
__________
(1) النهاوش : المظالم : والنهابر : المهالك ; وانظر النهاية لابن الاثير ...
/ 1 .
(*)(13/97)
ثم قال مخاطبا اصحابه الموجودين حوله ايها الناس ، القوا هذه الازمة التى تحمل ظهورها الاثقال عن ايديكم هذه كناية عن النهى عن ارتكاب القبيح وما يوجب الاثم والعقاب .
والظهور ها هنا هي الابل انفسها والاثقال الماثم والقاء الازمة ترك اعتماد القبيح ، فهذا عمومه ، واما خصوصه فتعريض بما كان عليه اصحابه من الغدر ومخامرة العدو عليه ، واضمار الغل والغش له ، وعصيانه والتلوى عليه ، وقد فسره بما بعده فقال (ولا تصدعوا عن سلطانكم) أي لا تفرقوا ، (فتذموا غب فعالكم) أي عاقبته .
ثم نهاهم عن اقتحام ما استقبلوه من فور نار الفتنة وفور النار غليانها واحتدامها ويروى (ما استقبلكم) .
ثم قال (واميطوا عن سننها) أي تنحوا عن طريقها ، وخلوا قصد السبيل لها ، أي دعوها تسلك طريقها ولا تقفوا لها فيه فتكونوا حطبا لنارها .
ثم ذكر انه قد يهلك المؤمن في لهبها ، ويسلم فيه الكافر ، كما قيل المؤمن ملقى والكافر موقى .
ثم ذكر أن مثله فيهم كالسرج يستضئ بها من ولجها ; أي دخل في ضوئها .
وآذان قلوبكم ; كلمه مستعارة ، جعل للقلب آذانا كما جعل الشاعر للقلوب ابصارا ، فقال : يدق على النواظر ما أتاه فتبصره بابصار القلوب(13/98)
(234) الاصل : ومن خطبة عليه السلام : اوصيكم ايها الناس بتقوى الله وكثرة حمده على آلائه اليكم ، ونعمائه عليكم ، وبلائه لديكم ، فكم خصكم بنعمة ، وتدارككم برحمة ! اعورتم له فستركم ، وتعرضتم لاخذه فامهلكم ! واوصيكم بذكر الموت واقلال الغفلة عنه ، وكيف غفلتكم عما ليس يغفلكم ، وطمعكم فيمن ليس يمهلكم ; فكفى واعظا بموتى عاينتموهم ; حملوا الى قبورهم غير راكبين ، وانزلوا فيها غير نازلين ، كأنهم لم يكونوا للدنيا عمارا ، وكان الاخرة لم تزل لهم دارا .
اوحشوا ما كانوا يوطنون ، واوطنوا ما كانوا يوحشون ، واشتغلوا بما فارقوا ، واضاعوا ما إليه انتقلوا ، لا عن قبيح يستطيعون انتقالا ، ولا في حسن يستطيعون ازديادا ، انسوا بالدنيا فغرتهم ، ووثقوا بها فصرعتهم .
فسابقوا رحمكم الله الى منازلكم التى امرتم أن تعمروها ، والتى رغبتم فيها ودعيتم إليها واستتموا نعم الله عليكم بالصبر على طاعته ، والمجانبة لمعصيته ، فان غدا من اليوم قريب .
ما اسرع الساعات في اليوم ، واسرع الايام في الشهر ، واسرع الشهور في السنة ، واسرع السنين في العمر !(13/99)
الشرح : اعورتم ، أي انكشفتم وبدت عوراتكم ، وهى المقاتل ، تقول اعور الفارس ، إذا بدت مقاتله ، واعورك الصيد إذا امكنك منه .
قوله عليه السلام اوحشوا ما كانوا يوطنون أي اوطنوا قبورهم التى كانوا يوحشونها .
قوله عليه السلام (واشتغلوا بما فارقوا) ، أي اشتغلوا وهم في القبور بما فارقوه من الاموال والقينات ، لانها اذى وعقاب عليهم في قبورهم ، ولولاها لكانوا في راحة .
ويجوز أن يكون حكاية حالهم وهم بعد في الدنيا ، أي اشتغلوا ايام حياتهم من الاموال والمنازل بما فارقوه ، واضاعوا من امر آخرتهم ما انتقلوا إليه .
ثم ذكر انهم لا يستطيعون فعل حسنة ، ولا توبة من قبيح ، لان التكليف سقط ، والمنازل التى امروا بعمارتها ، والمقابر ، وعمارتها الاعمال الصالحة .
وقوله عليه السلام (إن غدا من اليوم قريب) كلام يجرى مجرى المثل ، قال * غد ما غد ما اقرب اليوم من غد * والاصل فيه قول الله تعالى (إن موعدهم الصبح اليس الصبح بقريب) (1) .
وقوله عليه السلام (ما اسرع الساعات في اليوم ...
) الى آخر الفصل ، كلام شريف وجيز بالغ في معناه ، والفصل كله نادر لا نظير له
__________
(1) سورة هود 81 .
(*)(13/100)
(235) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : فمن الايمان ما يكون ثابتا مستقرا في القلوب ، ومنه ما يكون عوارى بين القلوب والصدور ، الى اجل معلوم ، فإذا كانت لكم براءة من احد فقفوه حتى يحضره الموت ، فعند ذلك يقع حد البراءة .
والهجرة قائمة على حدها الاول ، ما كان لله في اهل الارض حاجة من مستسر الامة ومعلنها .
لا يقع اسم الهجرة على احد الا بمعرفة الحجة في الارض ، فمن عرفها واقر بها فهو مهاجر ، ولا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجة فسمعتها اذنه ، ووعاها قلبه .
إن امرنا صعب مستصعب لا يحمله الا عبد مؤمن امتحن الله قلبه للايمان ، ولا يعى حديثنا الا صدور امينة ، واحلام رزينة .
ايها الناس .
سلونى قبل أن تفقدوني ، فلانا بطرق السماء اعلم منى بطرق الارض ; قبل أن تشغر برجلها فتنة تطأ في خطامها ، وتذهب باحلام قومها .
الشرح : هذا الفصل يحمل على عده مباحث : اولها قوله عليه السلام فمن الايمان ما يكون كذا فنقول انه قسم الايمان الى ثلاثه اقسام :(13/101)
احدها الايمان الحقيقي ، وهو الثابت المستقر في القلوب بالبرهان اليقيني .
الثاني ما ليس ثابتا بالبرهان اليقيني بل بالدليل الجدلي ، كايمان كثير ممن لم يحقق العلوم العقلية ، ويعتقد ما يعتقده عن اقيسة جدلية لا تبلغ الى درجة البرهان ، وقد سمى عليه السلام هذا القسم باسم مفرد ، فقال انه عوارى في القلوب ، والعوارى جمع عارية أي هو وإن كان في القلب وفي محل الايمان الحقيقي الا أن حكمه حكم العارية في البيت ، فانها بعرضة الخروج منه ، لانها ليست اصلية كائنة في بيت صاحبها .
والثالث ما ليس مستندا الى برهان ولا الى قياس جدلى ، بل على سبيل التقليد وحسن الظن بالاسلاف ، وبمن يحسن ظن الانسان فيه من عابد أو زاهد أو ذى ورع ، وقد جعله عليه السلام عوارى بين القلوب والصدور لانه دون الثاني ، فلم يجعله حالا في القلب ، وجعله مع كونه عارية حالا بين القلب والصدر .
فيكون اضعف مما قبله .
فان قلت فما معنى قوله (الى اجل معلوم) ؟ قلت انه يرجع الى القسمين الاخيرين ; لان من لا يكون ايمانه ثابتا بالبرهان القطعي قد ينتقل ايمانه الى أن يصير قطعيا ، بان ينعم النظر ويرتب البرهان ترتيبا مخصوصا ، فينتج له النتيجة اليقينية ، وقد يصير ايمان المقلد ايمانا جدليا فيرتقى الى ما فوقه مرتبته ، وقد يصير ايمان الجدلي ايمانا تقليديا بان يضعف في نظره ذلك القياس الجدلي ، ولا يكون عالما بالبرهان ، فيؤول حال ايمانه الى أن يصير تقليديا ، فهذا هو فائدة قوله (الى اجل معلوم) في هذين القسمين .
فاما صاحب القسم الاول فلا يمكن أن يكون ايمانه الى اجل معلوم ، لان من ظفر بالبرهان استحال أن ينتقل عن اعتقاده ، لا صاعدا ولا هابطا ، اما لا صاعدا ، فلانه ليس فوق البرهان مقام آخر ، واما لا هابطا ، فلان مادة البرهان هي المقدمات البديهية(13/102)
والمقدمات البديهية يستحيل أن تضعف عند الانسان حتى يصير ايمانه جدليا أو تقليديا .
وثانيها قوله عليه السلام (فإذا كانت لكم براءة) ، فنقول انه عليه السلام نهى عن البراءة من احد ما دام حيا ، لانه وإن كان مخطئا في اعتقاده ، لكن يجوز أن يعتقد الحق فيما بعد ، وان كان مخطئا في افعاله ، لكن يجوز أن يتوب .
فلا تحل البراءة من احد حتى يموت على امر ; فإذا مات على اعتقاد قبيح أو فعل قبيح جازت البراءة منه ، لانه لم يبق له بعد الموت حاله تنتظر ; وينبغى أن تحمل هذه البراءة التى اشار إليها عليه السلام على البراءة المطلقة ، لا على كل براءة ، لانا يجوز لنا أن نبرا من الفاسق وهو حى ، ومن الكافر وهو حى ، لكن بشرط كونه فاسقا ، وبشرط كونه كافرا ، فاما من مات ونعلم ما مات عليه فانا نبرا منه براءة مطلقة غير مشروطة .
وثالثها قوله (والهجرة قائمة على حدها الاول) ، فنقول هذا كلام يختص به امير المؤمنين عليه السلام ، وهو من اسرار الوصية ، لان الناس يروون عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال لا (هجرة بعد الفتح) ، فشفع عمه العباس في نعيم بن مسعود الاشجعى أن يستثنيه ، فاستثناه وهذه الهجرة التى يشير إليها امير المؤمنين عليه السلام ليست تلك الهجرة ، بل هي الهجرة الى الامام ، قال انها قائمة على حدها الاول ما دام التكليف باقيا ، وهو معنى قوله (ما كان لله تعالى في اهل الارض حاجة) .
وقال الراوندي ما هاهنا نافيه ، أي لم يكن لله في اهل الارض من حاجة ، وهذا ليس بصحيح ، لانه ادخال كلام منقطع بين كلامين متصل احدهما بالاخر .
ثم ذكر انه لا يصح أن يعد الانسان من المهاجرين الا بمعرفه امام زمانه ، وهو(13/103)
معنى قوله (الا بمعرفه الحجة في الارض) قال (فمن عرف الامام واقر به فهو مهاجر) .
قال ولا يجوز أن يسمى من عرف الامام مستضعفا ، يمكن أن يشير به الى آيتين في القرآن : احدهما قوله تعالى (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي انفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الارض قالوا الم تكن ارض الله واسعة فتهاجروا فيها فاولئك ماواهم جهنم) (1) فالمراد على هذا انه ليس من عرف الامام وبلغه خبره بمستضعف كما كان هؤلاء مستضعفين ، وان كان في بلده واهله لم يخرج ولم يتجشم مشقه السفر .
ثانيهما قوله تعالى في الايه التى تلى الاية المذكورة (الا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا * فاولئك عسى الله أن يعفو عنهم) (2) فالمراد على هذا انه ليس من عرف الامام وبلغه خبره بمستضعف كهؤلاء الذين استثناهم الله تعالى من الظالمين ، لان اولئك كانت الهجرة بالبدن مفروضة عليهم ، وعفى عن ذوى العجز عن الحركة منهم ، وشيعة الامام عليه السلام ليست الهجرة بالبدن مفروضة عليهم ، بل تكفى معرفتهم به واقرارهم بامامته ، فلا يقع اسم الاستضعاف عليهم .
فان قلت فما معنى قوله (من مستسر الامة ومعلنها) ، وبما ذا يتعلق حرف الجر قلت معناه ما دام لله في اهل الارض المستسر منهم باعتقاده والمعلن حاجة ، ف (من) على هذا زائدة ، فلو حذفت لجر المستسر بدلا من اهل الارض ، ومن إذا كانت زائدة لا تتعلق نحو ، قولك ما جاءني من احد .
__________
(1) سورة النساء 97 .
(2) سورة النساء 98 ، 99 .
(*)(13/104)
ورابعها : قوله عليه السلام (إن امرنا هذا صعب مستصعب) ويروى (مستصعب - بكسر العين - لا يحتمله الا عبد امتحن الله تعالى قلبه للايمان) ، هذه من الفاظ القرآن العزيز ، قال الله تعالى (اولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى) (1) وهو من قولك امتحن فلان لامر كذا وجرب ودرب للنهوض به ، فهو مضطلع به غير وان عنه ، والمعنى انهم صبر على التقوى اقوياء على احتمال مشاقها ، ويجوز أن يكون وضع الامتحان موضع المعرفة ، لان تحققك الشئ انما يكون باختباره كما يوضع الخبر موضع المعرفة ، فكأنه قيل : عرف الله قلوبهم للتقوى ، فتتعلق اللام بمحذوف ، أي كائنه له ، وهى اللام التى في قولك انت لهذا الامر ، أي مختص به كقوله * اعداء من لليعملات على الوجا * .
وتكون مع معمولها منصوبة على الحال ، ويجوز أن يكون المعنى ضرب الله قلوبهم بانواع المحن والتكاليف الصعبة لاجل التقوى ، أي لتثبت فيظهر تقواها ، ويعلم انهم متقون ، لان حقيقة التقوى لا تعلم الا عند المحن والشدائد والاصطبار عليها .
ويجوز أن يكون المعنى انه اخلص قلوبهم للتقوى ، من قولهم امتحن الذهب ، إذا اذابه فخلص ابريزه من خبثه ونقاه .
وهذه الكلمة قد قالها عليه السلام مرارا ، ووقفت في بعض الكتب على خطبة من جملتها إن قريشا طلبت السعادة فشقيت ، وطلبت النجاة فهلكت ، وطلبت الهدى فضلت ، الم يسمعوا ويحهم قوله تعالى (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بايمان الحقنا بهم ذريتهم) (2) فاين المعدل والمنزع عن ذرية الرسول ، الذين شيد الله بنيانهم فوق بنيانهم ، واعلى رؤوسهم فوق رؤوسهم ، واختارهم عليهم الا إن الذرية افنان انا شجرتها ، ودوحة انا ساقها ، وانى من احمد بمنزلة الضوء من الضوء ، كنا
__________
(1) سورة الحجرات 3 .
(2) سورة فاطر 21 .
(*)(13/105)
ظلالا تحت العرش قبل خلق البشر ، وقبل خلق الطينة التى كان منها البشر ، اشباحا عالية ، لا اجساما نامية ، ان امرنا صعب مستصعب ، لا يعرف كنهه الا ثلاثه ملك مقرب ، أو نبى مرسل ، أو عبد امتحن الله قلبه للايمان ، فإذا انكشف لكم سر أو وضح لكم امر فاقبلوه ، والا فاسكتوا تسلموا ، وردوا علمنا الى الله فانكم في اوسع مما بين السماء والارض .
وخامسها : (قوله سلونى قبل أن تفقدوني) ، اجمع الناس كلهم على انه لم يقل احد من الصحابة ، ولا احد من العلماء (سلونى) غير على بن ابى طالب عليه السلام ، ذكر ذلك ابن عبد البر المحدث في كتاب " الاستيعاب " .
والمراد بقوله (فلانا اعلم بطرق السماء منى بطرق الارض) ، ما اختص به من العلم بمستقبل الامور ، ولا سيما في الملاحم والدول ، وقد صدق هذا القول عنه ما تواتر عنه من الاخبار بالغيوب المتكررة ، لا مرة ولا مائة مرة ، حتى زال الشك والريب في انه اخبار عن علم ، وانه ليس على طريق الاتفاق ، وقد ذكرنا كثيرا من ذلك فيما تقدم من هذا الكتاب .
وقد تأوله قوم على وجه آخر قالوا اراد انا بالاحكام الشرعية والفتاوى الفقهية اعلم منى بالامور الدنيوية ; فعبر عن تلك بطرق السماء ، لانها احكام الهية ، وعبر عن هذه بطرق الارض لانها من الامور الارضية .
والاول اظهر ، لان فحوى الكلام واوله يدل على انه المراد(13/106)
[ قصة وقعت لاحد الوعاظ ببغداد ] وعلى ذكر قوله عليه السلام (سلونى) ، حدثنى من اثق به من اهل العلم حديثا ، وان كان فيه بعض الكلمات العامية ، الا انه يتضمن ظرفا ولطفا ، ويتضمن ايضا ادبا .
قال كان ببغداد في صدر ايام الناصر لدين الله ابى العباس احمد بن المستضئ بالله ، واعظ مشهور بالحذق ومعرفة الحديث والرجال ، وكان يجتمع إليه تحت منبره خلق عظيم من عوام بغداد ومن فضلائها ايضا ، وكان مشتهرا بذم اهل الكلام وخصوصا المعتزلة واهل النظر ، على قاعدة الحشوية ، ومبغضي ارباب العلوم العقلية ، وكان ايضا منحرفا عن الشيعة برضا العامة بالميل عليهم ، فاتفق قوم من رؤساء الشيعة على أن يضعوا عليه من يبكته ويساله تحت منبره ، ويخجله ويفضحه بين الناس في المجلس ، وهذه عادة الوعاظ ; يقوم إليهم قوم فيسألونهم مسائل يتكلفون الجواب عنها ، وسالوا عمن ينتدب لهذا ، فاشير عليهم بشخص كان ببغداد يعرف باحمد بن عبد العزيز الكزى ، كان له لسن ، ويشتغل بشئ يسير من كلام المعتزلة ، ويتشيع ، وعنده قحة ، وقد شدا اطرافا من الادب ، وقد رايت انا هذا الشخص في آخر عمره ، وهو يومئذ شيخ والناس يختلفون إليه في تعبير الرؤيا ، فاحضروه وطلبوا إليه أن يعتمد ذلك ، فأجابهم ، وجلس ذلك الواعظ في يومه الذى جرت عادته بالجلوس فيه ، واجتمع الناس عنده على طبقاتهم ، حتى امتلات الدنيا بهم ، وتكلم على عادته فاطال ، فلما مر في ذكر صفات البارئ سبحانه في اثناء الوعظ ، قام إليه الكزى ، فسأله اسئله عقلية ، على منهاج كلام المتكلمين من المعتزلة ، فلم يكن للواعظ عنها جواب نظرى ، وانما دفعه بالخطابة والجدل ، وسجع الالفاظ ; وتردد الكلام بينهما طويلا ، وقال الواعظ في آخر الكلام اعين المعتزلة حول ، وصوتي(13/107)
في مسامعهم طبول ، وكلامي في افئدتهم نصول ، يا من بالاعتزال يصول ، ويحك كم تحوم وتجول ، حول من لا تدركه العقول ! كم اقول ، كم اقول ! خلوا هذا الفضول ! فارتج المجلس ، وصرخ الناس ، وعلت الاصوات ، وطاب الواعظ وطرب ، وخرج من هذا الفصل الى غيره فشطح شطح الصوفية ، وقال سلونى قبل أن تفقدوني ، وكررها ; فقام إليه الكزى ، فقال يا سيدى ما سمعنا انه قال هذه الكلمة الا على بن ابى طالب عليه السلام ، وتمام الخبر معلوم ، واراد الكزى بتمام الخبر قوله عليه السلام (لا يقولها بعدى الا مدع) .
فقال الواعظ وهو في نشوة طربه ، واراد اظهار فضله ومعرفته برجال الحديث والرواة من على بن ابى طالب ؟ اهو على بن ابى طالب بن المبارك النيسابوري ام على بن ابى طالب ابن اسحاق المروزى ام على بن ابى طالب بن عثمان القيرواني ام على بن ابى طالب ابن سليمان الرازي وعد سبعة أو ثمانية من اصحاب الحديث ، كلهم على بن ابى طالب فقام الكزى ، وقام من يمين المجلس آخر ، ومن يسار المجلس ثالث ، انتدبوا له ، وبذلوا انفسهم للحمية ووطنوها على القتل .
فقال الكزى اشا يا سيدى فلان الدين ، اشا صاحب هذا القول هو على بن ابى طالب زوج فاطمة سيدة نساء العالمين عليه السلام ، وان كنت ما عرفته بعد بعينه ، فهو الشخص الذى لما آخى رسول الله صلى الله عليه وآله بين الاتباع والاذناب آخى بينه وبين نفسه ، واسجل على انه نظيره ومماثله ، فهل نقل في جهازكم انتم من هذا شئ أو نبت تحت خبكم من هذا شئ .
فاراد الواعظ أن يكلمه ، فصاح عليه القائم من الجانب الايمن ، وقال يا سيدى فلان الدين ، محمد بن عبد الله كثير في الاسماء ، ولكن ليس فيهم من قال له رب العزة(13/108)
(ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو الا وحى يوحى) (1) وكذلك على بن ابى طالب كثير في الاسماء ، ولكن ليس فيهم من قال له صاحب الشريعة (انت منى بمنزلة هرون من موسى الا انه لا نبى بعدى) .
وقد تلتقي الاسماء في الناس والكنى كثيرا ولكن ميزوا في الخلائق .
فالتفت إليه الواعظ ليكلمه ، فصاح عليه القائم من الجانب الايسر ، وقال يا سيدى فلان الدين ، حقك تجهله ، انت معذور في كونك لا تعرفه : وإذا خفيت على الغبى فعاذر الا تراني مقلة عمياء .
فاضطرب المجلس وماج كما يموج البحر ، وافتتن الناس ، وتواثبت العامة بعضها الى بعض ، وتكشفت الرؤوس ، ومزقت الثياب ، ونزل الواعظ ، واحتمل حتى ادخل دارا اغلق عليه بابها ، وحضر اعوان السلطان فسكنوا الفتنة ، وصرفوا الناس الى منازلهم واشغالهم ، وانفذ الناصر لدين الله في آخر نهار ذلك اليوم ، فاخذ احمد بن عبد العزيز الكزى والرجلين اللذين قاما معه ، فحبسهم اياما لتطفا نائرة الفتنة .
ثم اطلقهم .
__________
(1) سورة النجم 2 - 4 .
(*)(13/109)
(236) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : احمده شكرا لانعامه ، واستعينه على وظائف حقوقه ، عزيز الجند ، عظيم المجد ، واشهد أن محمدا عبده ورسوله ، دعا الى طاعته ، وقاهر اعداءه ، جهادا عن دينه ، لا يثنيه عن ذلك اجتماع على تكذيبه ، والتماس لاطفاء نوره .
فاعتصموا بتقوى الله ; فان لها حبلا وثيقا عروته ، ومعقلا منيعا ذروته .
وبادروا الموت وغمراته ، وامهدوا له قبل حلوله ، واعدوا له قبل نزوله ، فان الغاية القيامة ; وكفى بذلك واعظا لمن عقل ، ومعتبرا لمن جهل .
وقبل بلوغ الغاية ما تعلمون من ضيق الارماس ، وشده الابلاس ، وهول المطلع ، وروعات الفزع ، واختلاف الاضلاع ، واستكاك الاسماع ، وظلمة اللحد ، وخيفة الوعد ، وغم الضريح ، وردم الصفيح .
فالله الله عباد الله فان الدنيا ماضية بكم على سنن ، وانتم والساعة في قرن ، وكانها قد جاءت باشراطها ، وازفت بافراطها ، ووقفت بكم على صراطها .
وكانها قد اشرفت بزلازلها ، واناخت بكلاكلها ، وانصرفت الدنيا باهلها ، واخرجتهم من حضنها ، فكانت كيوم مضى ، وشهر انقضى ، وصار جديدها رثا ، و سمينها غثا .
في موقف ضنك المقام ، وامور مشتبهة عظام ، ونار شديد كلبها ، عال لجبها ، ساطع لهبها ، متغيظ زفيرها ، متاجج سعيرها ، بعيد خمودها ، ذاك وقودها ، مخوف(13/110)
وعيدها ، عم قرارها ، مظلمة اقطارها ، حامية قدورها ، فظيعة امورها ، (وسيق الذين اتقوا ربهم الى الجنه زمرا) قد امن العذاب ، وانقطع العتاب ، وزحزحوا عن النار ، واطمانت بهم الدار ، ورضوا المثوى والقرار ; الذين كانت اعمالهم في الدنيا زاكية ، واعينهم باكية ، وكان ليلهم في دنياهم نهارا ، تخشعا واستغفارا ; وكان نهارهم ليلا ; توحشا وانقطاعا ، فجعل الله لهم الجنة مآبا ، والجزاء ثوابا ، وكانوا احق بها واهلها ، في ملك دائم ; ونعيم قائم .
فارعوا عباد الله ما برعايته يفوز فائزكم ، وباضاعته يخسر مبطلكم ، وبادروا آجالكم باعمالكم ; فانكم مرتهنون بما اسلفتم ، ومدينون بما قدمتم ، وكأن قد نزل بكم المخوف ، فلا رجعة تنالون ، ولا عثرة تقالون .
استعملنا الله واياكم بطاعته وطاعة رسوله ، وعفا عنا وعنكم بفضل رحمته .
الزموا الارض ، واصبروا على البلاء ، ولا تحركوا بايديكم وسيوفكم في هوى السنتكم ، ولا تستعجلوا بما لم يعجله الله لكم ; فانه من مات منكم على فراشه وهو على معرفة حق ربه وحق رسوله واهل بيته مات شهيدا ، ووقع اجره على الله ، واستوجب ثواب ما نوى من صالح عمله ، وقامت النية مقام اصلاته لسيفه ; فان لكل شئ مدة واجلا .
الشرح : وظائف حقوقه : الواجبات المؤقتة ، كالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان ، والوظيفة ما يجعل للانسان في كل يوم ، أو في كل شهر ، أو في كل سنة ، من طعام ، أو رزق .(13/111)
وعزيز منصوب ، لانه حال من الضمير في (استعينه) ، ويجوز أن يكون حالا من الضمير المجرور في (حقوقه) واضافة (عزيز) الى (الجند) اضافة في تقدير الانفصال ، لا توجب تعريفه ليمتنع من كونه حالا .
وقاهر اعداءه حاربهم ، وروى (وقهر اعداءه) .
والمعقل ما يعتصم به .
وذروته اعلاه .
وامهدوا له اتخذوا مهادا ، وهو الفراش ، وهذه استعارة .
قوله عليه السلام (فان الغاية القيامة) ، أي فان منتهى كل البشر إليها ولا بد منها .
والارماس جمع رمس وهو القبر والابلاس مصدر (ابلس) أي خاب ويئس ، والابلاس ايضا الانكسار والحزن .
واستكاك الاسماع صممها .
وغم الضريح ضيق القبر وكربه .
والصفيح الحجر وردمه سده .
والسنن الطريق .
والقرن الحبل .
واشراط الساعة علاماتها .
وازفت قربت .
وافراطها جمع فرط ، وهم المتقدمون السابقون من الموتى ، ومن روى (يإفراطها) فهو مصدر افرط في الشئ ، أي قربت الساعة بشده غلوائها وبلوغها غاية الهول والفظاعة ، ويجوز أن تفسر الرواية الاولى بمقدماتها وما يظهر قبلها من خوارق العادات المزعجة ، كالدجال ودابة الارض ونحوهما ، ويرجع ذلك الى اللفظة الاولى ، وهى اشراطها ، وانما يختلف اللفظ .
والكلاكل جمع كلكل ، وهو الصدر ، ويقال للامر الثقيل (قد اناخ عليهم بكلكله) ، أي هدهم ورضهم كما يهد البعير البارك من تحته إذا انحى عليه بصدره .
قوله عليه السلام (وانصرفت الدنيا باهلها) أي ولت ويروى (وانصرمت) أي انقضت .(13/112)
والحضن ، بكسر الحاء ما دون الابط الى الكشح .
والرث الخلق ، والغث الهزيل .
ومقام ضنك ، أي ضيق .
وشديد كلبها ، أي شرها واذاها .
واللجب الصوت .
ووقودها هاهنا ، بضم الواو ; وهو الحدث ، ولا يجوز الفتح ، لانه ما يوقد به كالحطب ونحوه ، وذاك لا يوصف بانه ذاك .
قوله عليه السلام (عم قرارها) ، أي لا يهتدى فيه لظلمته ، ولانه عميق جدا ، ويروى (وكأن ليلهم نهار) وكذلك اختها على التشبيه .
والمآب ، المرجع ومدينون مجزيون .
قوله عليه السلام (فلا رجعة تنالون) الرواية بضم التاء ، أي تعطون ، يقال انلت فلانا مالا ، أي منحته ، وقد روى (تنالون) بفتح التاء .
ثم امر اصحابه أن يثبتوا ولا يعجلوا في محاربة من كان مخالطا لهم من ذوى العقائد الفاسدة كالخوارج ، ومن كان يبطن هوى معاوية ، وليس خطابه هذا تثبيطا لهم عن حرب اهل الشام ، كيف وهو لا يزال يقرعهم ويوبخهم عن التقاعد والابطاء في ذلك ولكن قوما من خاصته كانوا يطلعون على ما عند قوم من اهل الكوفة ، ويعرفون نفاقهم وفسادهم ، ويرمون قتلهم وقتالهم ، فنهاهم عن ذلك ، وكان يخاف فرقة جنده وانتثار حبل عسكره ، فامرهم بلزوم الارض ، والصبر على البلاء .
وروى باسقاط الباء من قوله (بايديكم) ومن روى الكلمة بالباء جعلها زائدة ، ويجوز الا تكون زائدة ، ويكون المعنى ولا تحركوا الفتنة بايديكم وسيوفكم في هوى السنتكم ، فحذف المفعول .
والاصلات بالسيف مصدر اصلت ، أي سل .(13/113)
واعلم أن هذه الخطبة من اعيان خطبه عليه السلام ، ومن ناصع كلامه ونادره ، وفيها من صناعة البديع الرائقة المستحسنة البريئة من التكلف ما لا يخفى ، وقد اخذ ابن نباتة الخطيب كثيرا من الفاظها فاودعها خطبه ، مثل قوله (شديد كلبها ، عال لجبها ، ساطع لهبها ، متغيظ زفيرها ، متاجج سعيرها ، بعيد خمودها ذاك وقودها ، مخوف وعيدها ، عم قرارها ، مظلمة اقطارها ، حامية قدورها ، فظيعة امورها) فان هذه الالفاظ كلها اختطفها ، واغار عليها واغتصبها ، وسمط بها خطبه ، وشذر بها كلامه .
ومثل قوله (هول المطلع ، وروعات الفزع ، واختلاف الاضلاع ، واستكاك الاسماع ، وظلمة اللحد ، وخيفة الوعد ، وغم الضريح ، وردم الصفيح) فان هذه الالفاظ ايضا تمضى في اثناء خطبه ، وفى غضون مواعظه(13/114)
(237) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : الحمد لله الفاشى في الخلق حمده ، والغالب جنده ، والمتعالي جده ; احمده على نعمة التؤام ، وآلائه العظام ، الذى عظم حلمه فعفا ، وعدل في كل ما قضى ، وعلم بما يمضى وما مضى ، مبتدع الخلائق بعلمه ، ومنشئهم بحكمه ، بلا اقتداء ولا تعليم ; ولا احتذاء لمثال صانع حكيم ، ولا اصابة خطا ، ولا حضرة ملا .
واشهد أن محمدا عبده ورسوله ، ابتعثه والناس يضربون في غمرة ، ويموجون في حيرة ، قد قادتهم ازمه الحين ، واستغلقت على افئدتهم اقفال الرين .
عباد الله اوصيكم بتقوى الله فانها حق الله عليكم ; والموجبة على الله حقكم ، وان تستعينوا عليها بالله ، وتستعينوا بها على الله ; فان التقوى في اليوم الحرز والجنة ، وفى غد الطريق الى الجنة ; مسلكها واضح ، وسالكها رابح ، ومستودعها حافظ .
لم تبرح عارضة نفسها على الامم الماضين منكم ، والغابرين لحاجتهم إليها غدا ، إذا اعاد الله ما ابدى ، واخذ ما اعطى ، وسأل عما اسدي فما اقل من قبلها ، وحملها حق حملها ! اولئك الاقلون عددا ، وهم اهل صفة الله سبحانه إذ يقول (وقليل من عبادي الشكور) (1) .
فاهطعوا باسماعكم إليها ، والظوا بجدكم عليها ، واعتاضوها من كل سلف خلفا ، ومن كل مخالف موافقا .
__________
(1) سورة سبأ 13 .
(*)(13/115)
ايقظوا بها نومكم ، واقطعوا بها يومكم ، واشعروها قلوبكم ، وارحضوا بها ذنوبكم ، وداووا بها الاسقام ، وبادروا بها الحمام ، واعتبروا بمن اضاعها ، ولا يعتبرن بكم من اطاعها .
الا فصونوها وتصونوا بها ، وكونوا عن الدنيا نزاها ، والى الاخرة ولاها ولا تضعوا من رفعته التقوى ، ولا ترفعوا من رفعته الدنيا ، ولا تشيموا بارقها ، ولا تسمعوا ناطقها ، ولا تجيبوا ناعقها ، ولا تستضيئوا باشراقها ، ولا تفتنوا باعلاقها ، فان برقها خالب ، ونطقها كاذب ، واموالها محروبة ، واعلاقها مسلوبة .
الا وهى المتصدية العنون ، والجامحة الحرون ، والمائنة الخؤون ، والجحود الكنود ، والعنود الصدود ، والحيود الميود ! حالها انتقال ، ووطاتها زلزال ، وعزها ذل ، وجدها هزل ، وعلوها سفل .
دار حرب وسلب ، ونهب وعطب ، اهلها على ساق وسياق ، ولحاق وفراق ، قد تحيرت مذاهبها ، واعجزت مهاربها ، وخابت مطالبها ، فاسلمتهم المعاقل ، ولفظتهم المنازل ، واعيتهم المحاول ; فمن ناج معقور ، ولحم مجزور ، وشلو مذبوح ، ودم مسفوح ، وعاض على يديه ، وصافق بكفيه ، ومرتفق بخديه ، وزار على رأيه ، وراجع عن عزمه .
وقد ادبرت الحيلة ، واقبلت الغيلة ، ولات حين مناص هيهات هيهات قد فات ما فات ، وذهب ما ذهب ، ومضت الدنيا لحال بالها ، (فما بكت عليهم السماء والارض وما كانوا منظرين) (1) .
__________
(1) سورة الدخان 29 .
(*)(13/116)
الشرح : الفاشي : الذائع ، فشا الخبر يفشو فشوا ، أي ذاع ، وافشاه غيره وتفشى الشئ ، أي اتسع ، والفواشى كل منتشر من المال مثل الغنم السائمة والابل وغيرهما ، ومنه الحديث (ضموا فواشيكم حتى تذهب فحمة العشاء) ، فيجوز أن يكون عنى بفشو حمده اطباق الامم قاطبة على الاعتراف بنعمته ، ويجوز أن يريد بالفاشى سبب حمده ، وهو النعم التى لا يقدر قدرها ، فحذف المضاف .
قوله (والغالب جنده) ، فيه معنى قوله تعالى (الا إن حزب الله هم الغالبون) (1) .
قوله (والمتعالي جده) فيه معنى قوله تعالى (وانه تعالى جد ربنا) (2) والجد في هذا لموضع وفى الاية العظمة .
والتؤام جمع توءم على فوعل ، وهو الولد المقارن اخاه في بطن واحد ، وقد اتأمت المراه إذا وضعت اثنين كذلك ، فهى متئم ، فان كان ذلك عادتها فهى متآم ، وكل واحد من الولدين توءم ، وهما توءمان ، وهذا توءم هذا ، وهذه توءمته ، والجمع توائم ، مثل قشعم وقشاعم ، وجاء في جمعه (توءام) على فعال ، وهى اللفظة التى وردت في هذه الخطبة ، وهو جمع غريب لم يات نظيره الا في مواضع معدودة ، وهى غرق العظم يؤخذ عنه اللحم وعراق ، وشاة ربى للحديثة العهد بالولادة وغنم رباب ، وظئر للمرضعة غير ولدها وظؤار ، ورخل للانثى من اولاد الضان ورخال ، وفرير لولد البقرة الوحشية ، وفرار (3) .
والالاء النعم .
__________
(1) سورة المائدة 56 .
(2) سورة الجن 3 .
(3) انظر صحاح الجوهري 4 : 1523 واللسان - فرر .
(*)(13/117)
قوله عليه السلام (مبدع الخلائق بعلمه) ، ليس يريد أن العلم علة في الابداع ، كما تقول هوى الحجر بثقله ، بل المراد : ابدع الخلق وهو عالم ، كما تقول خرج زيد بسلاحه ، أي خرج متسلحا ، فموضع الجار والمجرور على هذا نصب بالحالية ، وكذلك القول في (ومنشئهم بحكمه) والحكم هاهنا الحكمه .
ومنه قوله عليه السلام (إن من الشعر لحكمة) .
قوله (بلا اقتداء ولا تعليم ولا احتذاء) قد تكرر منه عليه السلام امثاله مرارا .
قوله (ولا اصابة خطأ) تحته معنى لطيف ، وذلك لان المتكلمين يوردون على انفسهم سؤالا في باب كونه عالما بكل معلوم إذا استدلوا على ذلك فانه علم بعض الاشياء لا من طريق اصلا ، لا من احساس ولا من نظر واستدلال ، فوجب أن يعلم سائرها ، لانه لا مخصص ، فقالوا لانفسهم لم زعمتم ذلك ولم لا يجوز أن يكون فعل افعاله مضطربة ، فلما ادركها علم كيفية صنعها بطريق كونه مدركا لها فاحكمها بعد اختلالها واضطرابها واجابوا عن ذلك بانه لا بد أن يكون قبل أن فعلها عالما بمفرداتها من غير احساس ، ويكفى ذلك في كونه عالما بما لم يتطرق إليه ، ثم يعود الاستدلال المذكور اولا .
قوله عليه السلام (ولا حضره ملأ) ، الملا الجماعة من الناس وفيه معنى قوله تعالى (ما اشهدتهم خلق السموات والارض ولا خلق انفسهم) (1) .
قوله (يضربون في غمرة) ، أي يسيرون في جهل وضلالة ، والضرب السير السريع .
والحين الهلاك والرين الذنب على الذنب حتى يسود القلب ، وقيل الرين
__________
(1) سورة الكهف 51 .
(*)(13/118)
الطبع والدنس ، يقال ران على قلبه ذنبه ، يرين رينا ، أي دنسه ووسخه ، واستغلقت اقفال الرين على قلوبهم تعسر فتحها .
قوله (فانها حق الله عليكم والموجبة على الله حقكم) يريد انها واجبة عليكم ، فان فعلتموها وجب على الله أن يجازيكم عنها بالثواب ، وهذا تصريح بمذهب المعتزلة في العدل ، وان من الاشياء ما يجب على الله تعالى من باب الحكمة .
قوله (وان تستعينوا عليها بالله وتستعينوا بها على الله) ، يريدا وصيكم بان تستعينوا بالله على التقوى بان تدعوه وتبتهلوا إليه أن يعينكم عليها ، ويوفقكم لها وييسرها ويقوى دواعيكم الى القيام بها ، واوصيكم أن تستعينوا بالتقوى على لقاء الله ومحاكمته وحسابه ، فانه تعالى يوم البعث والحساب كالحاكم بين المتخاصمين (وترى كل امة جاثيه كل امة تدعى الى كتابها) (1) فالسعيد من استعان على ذلك الحساب وتلك الحكومة والخصومة بالتقوى في دار التكليف ، فانها نعم المعونة (وتزودوا فان خير الزاد التقوى) .
والجنة ما يستتر به .
قوله (ومستودعها حافظ) ، يعنى الله سبحانه ، لانه مستودع الاعمال ، ويدل عليه قوله تعالى (انا لا نضيع اجر من احسن عملا) (2) وليس ما قاله الراوندي من انه اراد بالمستودع قلب الانسان بشئ .
قوله (لم تبرح عارضة نفسها) ، كلام فصيح لطيف ، يقول إن التقوى لم تزل عارضة نفسها على من سلف من القرون ، فقبلها القليل منهم ، شبهها بالمراة العارضة نفسها نكاحا على قوم ، فرغب فيها من رغب ، وزهد من زهد ، وعلى الحقيقة ليست
__________
(1) سورة الجاثية 28 .
(2) سورة الكهف 30 .
(*)(13/119)
هي العارضة نفسها ، ولكن المكلفين ممكنون من فعلها ومرغبون فيها ، فصارت كالعارضة .
والغابر هاهنا الباقي ، وهو من الاضداد يستعمل بمعنى الباقي ، وبمعنى الماضي .
قوله عليه السلام (إذا اعاد الله ما ابدى) ، يعنى انشر الموتى واخذ ما اعطى وورث الارض مالك الملوك فلم يبق في الوجود من له تصرف في شئ غيره ، كما قال (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) (1) وقيل في الاخبار والحديث أن الله تعالى يجمع الذهب والفضة كل ماكان منه في الدنيا ، فيجعله امثال الجبال ، ثم يقول هذا فتنة بنى آدم ، ثم يسوقه الى جهنم فيجعله مكاوى لجباه المجرمين .
(وسأل عما اسدي) ; أي سال ارباب الثروة عما اسدي إليهم من النعم فيم صرفوها وفيم انفقوها .
قوله عليه السلام (فما اقل من قبلها) ، يعنى ما اقل من قبل التقوى العارضة نفسها على الناس .
وإذا في قوله (إذا اعاد الله) ; ظرف لحاجتهم إليها ، لان المعنى يقتضيه ، أي لانهم يحتاجون إليها وقت اعادة الله الخلق ; وليس كما ظنه الراوندي انه ظرف لقوله (فما اقل من قبلها) لان المعنى على ما قلناه ، ولان ما بعد الفاء لا يجوز أن يكون عاملا فيما قبلها .
قوله (فاهطعوا باسماعكم) ، أي اسرعوا اهطع في عدوه أي اسرع ويروى (فانقطعوا باسماعكم إليها) ، أي فانقطعوا إليها مصغين باسماعكم .
قوله (والظوا بجدكم) ، أي الحوا ، والالظاظ الالحاح في الامر ، ومنه قول
__________
(1) سورة غافر 16 .
(*)(13/120)
ابن مسعود الظوا في الدعاء بياذا الجلال والاكرام ، ومنه الملاظة في الحرب ، ويقال رجل ملظ وملظاظ أي ملحاح ، والظ المطر ، أي دام .
وقوله (بجدكم) أي باجتهادكم ، جددت في الامر جدا بالغت واجتهدت ، ويروى (واكضوا بحدكم) والمواكظة المداومة على الامر وقال مجاهد في قوله تعالى (الا ما دمت عليه قائما) (1) قال أي مواكظا .
قوله (واشعروا بها قلوبكم) يجوز أن يريد اجعلوها شعارا لقلوبكم ، وهو ما دون الدثار والصق بالجسد منه ، ويجوز أن يريد اجعلوها علامة يعرف بها القلب التقى من القلب المذنب كالشعار في الحرب يعرف به قوم من قوم ، ويجوز أن يريد اخرجوا قلوبكم بها من اشعار البدن ، أي طهروا القلوب بها ، وصفوها من دنس الذنوب ، كما يصفى البدن بالفصاد من غلبه الدم الفاسد ; ويجوز أن يريد الاشعار بمعنى الاعلام ، من اشعرت زيدا بكذا ، أي عرفته اياه ; أي اجعلوها عالمة بجلالة موقعها وشرف محلها .
قوله (وارحضوا بها) أي اغسلوا ، وثوب رحيض ومرحوض ، أي مغسول .
قال (وداووا بها الاسقام) ، يعنى اسقام الذنوب .
وبادروا بها الحمام عجلوا واسبقوا الموت أن يدرككم وانتم غير متقين .
واعتبروا بمن اضاع التقوى فهلك شقيا ، ولا يعتبرن بكم اهل التقوى ، أي لا تكونوا انتم لهم معتبرا بشقاوتكم وسعادتهم .
ثم قال و صونوا التقوى عن أن تمازجها المعاصي ، وتصونوا انتم بها عن الدناءة وما ينافى العدالة .
والنزه جمع نزيه ، وهو المتباعد عما يوجب الذم والولاه جمع واله ، وهو المشتاق ذو الوجد حتى يكاد يذهب عقله .(13/121)
ثم شرع في ذكر الدنيا ، فقال (لا تشيموا بارقها) ، الشيم النظر الى البرق انتظارا للمطر .
ولا تسمعوا ناطقها لا تصغوا إليها سامعين ، ولا تجيبوا مناديها .
والاعلاق جمع علق وهو الشئ النفيس وبرق خالب وخلب لا مطر فيه .
واموالها محروبة ، أي مسلوبة .
قوله عليه السلام (الا وهى المتصدية العنون) ; شبهها بالمراة المومس تتصدى للرجال تريد الفجور وتتصدى لهم تتعرض والعنون المتعرضة ايضا ، عن لى كذا أي عرض .
ثم قال (والجامحة الحرون) شبهها بالدابة ذات الجماح ، وهى التى لا يستطاع ركوبها لانها تعثر بفارسها وتغلبه ، وجعلها مع ذلك حرونا وهى التى لا تنقاد .
ثم قال (والمائنة الخئون) ، مان ، أي كذب شبهها بامراة كاذبة خائنة .
والجحود الكنود ، جحد الشئ انكره ، وكند النعمة كفرها ، جعلها كامراة تجحد الصنيعة ولا تعترف بها وتكفر النعمة ويجوز أن يكون الجحود من قولك رجل جحد وجحد ، أي قليل الخير ، وعام جحد ، أي قليل المطر ، وقد جحد النبت ، إذا لم يطل .
قال (والعنود الصدود) ، العنود الناقة تعدل عن مرعى الابل وترعى ناحية ، والصدود المعرضة ، صد عنه ، أي اعرض ; شبهها في انحرافها وميلها عن القصد بتلك .
قال (والحيود الميود) ، حادت الناقة عن كذا تحيد فهى حيود ، إذا مالت عنه .
ومادت تميد فهى ميود ، أي مالت ، فان كانت عادتها ذلك سميت الحيود الميود في كل حال .(13/122)
قال (حالها انتقال) ; يجوز أن يعنى به إن شيمتها وسجيتها الانتقال والتغير ، ويجوز أن يريد به معنى ادق وهو أن الزمان على ثلاثة اقسام : ماض ، وحاضر ، ومستقبل ، فالماضي والمستقبل لا وجود لهما الان ، وانما الموجود ابدا هو الحاضر ; فلما اراد المبالغة في وصف الدنيا بالتغير والزوال قال (حالها انتقال) ، أي أن الان الذى يحكم العقلاء عليه بالحضور منها ليس بحاضر على الحقيقة ، بل هو سيال متغير ، فلا ثبوت إذا لشئ منها مطلقا ويروى (وحالها افتعال) ، أي كذب وزور ، وهى رواية شاذة .
قال (ووطاتها زلزال) ، الوطاة كالضغطة ، ومنه قوله صلى الله عليه وآله (اللهم اشدد وطاتك على مضر) ، واصلها موضع القدم والزلزال الشدة العظيمة ، والجمع زلازل .
وقال الراوندي في شرحه يريد إن سكونها حركة ، من قولك وطؤ الشئ أي صار وطيئا ذا حال لينة ، وموضع وطئ ، أي وثير ، وهذا خطا ، لان المصدر من ذلك وطاءة بالمد ، وهاهنا وطاة ساكن الطاء ، فاين احدهما من الاخر .
قال (وعلوها سفل) ، يجوز ضم اولهما وكسره .
قال (دار حرب) الاحسن في صناعة البديع أن تكون الراء هاهنا ساكنة ليوازي السكون هاء (نهب) ومن فتح الراء ، اراد السلب ، حربته أي سلبت ماله .
قال (اهلها على ساق وسياق) يقال قامت الحرب على ساق ، أي على شده ومنه قوله سبحانه (يوم يكشف عن ساق) (1) والسياق نزع الروح ، يقال رايت فلانا يسوق ، أي ينزع عند الموت ، أو يكون مصدر ساق الماشية سوقا وسياقا .
وقال الراوندي في شرحه يريد أن بعض اهلها في اثر بعض كقولهم ولدت فلانة
__________
(1) سورة القلم 42 .
(*)(13/123)
ثلاثة بنين على ساق ، وليس ما قاله بشئ ، لانهم يقولون ذلك للمراة إذا لم يكن بين البنين انثى ، ولا يقال ذلك في مطلع التتابع اين كان .
قال عليه السلام (ولحاق وفراق) ، اللام مفتوحة ، مصدر لحق به ، وهذا كقولهم (الدنيا مولود يولد ، ومفقود يفقد) .
قال عليه السلام (قد تحيرت مذاهبها) ، أي تحير اهلها في مذاهبهم ، وليس يعنى بالمذاهب هاهنا الاعتقادات ، بل المسالك .
واعجزت مهاربها أي اعجزتهم جعلتهم عاجزين ، فحذف المفعول .
واسلمتهم المعاقل لم تحصنهم .
ولفظتهم بفتح الفاء رمت بهم وقذفتهم .
واعيتهم المحاول ، أي المطالب .
ثم وصف احوال الدنيا فقال (هم فمن ناج معقور) ، أي مجروح كالهارب من الحرب بحشاشة نفسه ، وقد جرح بدنه .
ولحم مجزور ، أي قتيل قد صار جزرا للسباع .
وشلو مذبوح الشلو ، العضو من اعضاء الحيوان ; المذبوح أو الميت .
وفى الحديث (ائتونى بشلوها الايمن) .
ودم مفسوح ، أي مسفوك .
وعاض على يديه ، أي ندما .
وصافق بكفيه ، أي تعسفا أو تعجبا .
ومرتفق بخديه جاعل لهما على مرفقيه فكرا وهما .
وزار على رأيه ، أي عائب ، أي يرى الواحد منهم رايا ويرجع عنه ويعيبه ، وهو البداء الذى يذكره المتكلمون ثم فسره بقوله (وراجع عن عزمه) .(13/124)
فان قلت فهل يمكن أن يفرق بينهما ، ليكون الكلام اكثر فائدة قلت نعم بان يريد بالاول من راى رايا وكشفه لغيره ، وجامعه عليه ثم بدا له وعابه ، ويريد بالثاني من عزم نفسه عزما ولم يظهر لغيره ثم رجع عنه ، ويمكن ايضا بان يفرق بينهما بان يعنى بالراى الاعتقاد ، كما يقال هذا راى ابى حنيفة ، والعزم امر مفرد خارج عن ذلك ، وهو ما يعزم عليه الانسان من امور نفسه ، ولا يقال عزم في الاعتقادات .
ثم قال عليه السلام (وقد ادبرت الحيلة) أي ولت ، واقبلت الغيلة ، أي الشر ، ومنه قولهم فلان قليل الغائلة أو يكون بمعنى الاغتيال ، يقال قتله غيلة ، أي خديعة يذهب به الى مكان يوهمه انه لحاجة ثم يقتله .
قال عليه السلام (ولات حين مناص) ، هذه من الفاظ الكتاب العزيز (1) ، قال الاخفش شبهوا (لات) بليس ، واضمروا فيها اسم الفاعل ; قال ولا تكون (لات) الا مع (حين) ، وقد جاء حذف (حين) في الشعر ، ومنه المثل (حنت ولات هنت) ، أي ولات حين حنت ، والهاء بدل من الحاء ، فحذف الحين وهو يريده .
قال وقرا بعضهم (ولات حين مناص) بالرفع ، واضمر الخبر .
وقال أبو عبيد هي لا ; والتاء انما زيدت في (حين) ، لا في (لا) ، وان كتبت مفردة ، والاصل (تحين) كما قال في (الان) (تلان) فزادوا التاء ، وانشد لابي وجزة : العاطفون تحين ما من عاطف والمطعمون زمان اين المطعم (2) .
وقال المؤرج زيدت التاء في (لات) كما زيدت في (ربت) و (ثمت) .
والمناص المهرب ، ناص عن قرنه ينوص نوصا ومناصا ، أي ليس هذا وقت الهرب والفرار .
__________
(1) وهو قوله تعالى في سورة ص 3 : (ولات حين مناص) .
(2) الصحاح 1 : 226 .
(*)(13/125)
ويكون المناص ايضا بمعنى الملجا والمفزع ، أي ليس هذا حين تجد مفزعا ومعقلا تعتصم به .
هيهات اسم للفعل ومعناه بعد ، يقال هيهات زيد فهو مبتدا وخبر ، والمعنى يعطى الفعلية ، والتاء في (هيهات) مفتوحة مثل كيف ، واصلها هاء ، وناس يكسرونها على كل حال بمنزلة نون التثنية ، وقال الراجز : هيهات من مصبحها هيهات حجر من صنيعات (1) .
وقد تبدل الهاء همزة ، فيقال (ايهات) مثل هراق واراق ، قال * ايهات منك الحياة ايهاتا (2) * .
قال الكسائي فمن كسر التاء وقف عليها بالهاء ، فقال (هيهاه) ، ومن فتحها وقف انشاء بالتاء وان شاء بالهاء .
قوله عليه السلام (ومضت الدنيا لحال بالها) ، كلمة تقال فيما انقضى وفرط امره ، ومعناها مضى بما فيه إن كان خيرا ، وإن كان شرا .
قوله عليه السلام (فما بكت عليهم السماء) ; هو من كلام الله تعالى ; والمراد اهل السماء وهم الملائكة واهل الارض وهم البشر ، والمعنى انهم لا يستحقون أن يتاسف عليهم ، وقيل اراد المبالغة في تحقير شانهم ; لان العرب كانت تقول في العظيم القدر يموت بكته السماء وبكته النجوم ، قال الشاعر : فالشمس طالعة ليست بكاسفة تبكى عليك نجوم الليل والقمرا (3) .
فنفى عنهم ذلك وقال ليسوا من يقال فيه مثل هذا القول ، وتاولها ابن عباس رضى الله عنه لما قيل له اتبكى السماء والارض على احد فقال نعم يبكيه مصلاه في الارض ومصعد عمله في السماء ; فيكون نفى البكاء عنهما كناية عن انه لم يكن لهم في الارض عمل صالح يرفع منهما الى السماء
__________
(1) اللسان 17 : 451 من رجز نسبه إلى حميد الارقط .
(2) انظر اللسان 17 : 452 .
(3) لجرير ، ديوانه 304 .
(*)(13/126)
(238) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : (ومن الناس من يسمى هذه الخطبة بالقاصعة ، وهى تتضمن ذم ابليس لعنه الله ، على استكباره وتركه السجود لادم عليه السلام وانه اول من اظهر العصبية وتبع الحمية وتحذير الناس من سلوك طريقته) : الحمد لله الذى لبس العز والكبرياء ، واختارهما لنفسه دون خلقه ، وجعلهما حمى وحرما على غيره ، واصطفاهما لجلاله ، وجعل اللعنة على من نازعه فيهما من عباده .
ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين ; ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين ، فقال سبحانه وهو العالم بمضمرات القلوب ومحجوبات الغيوب (انى خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين * فجسد الملائكة كلهم اجمعون * الا ابليس) (1) ; اعترضته الحمية فافتخر على آدم بخلقه ، وتعصب عليه لاصله ، فعدو الله امام المتعصبين ، وسلف المستكبرين ; الذى وضع اساس العصبية ، ونازع الله رداء الجبرية ، وادرع لباس التعزز ، وخلع قناع التذلل .
الا يرون كيف صغره الله بتكبره ، ووضعه بترفعه ، فجعله في الدنيا مدحورا ، واعد له في الاخرة سعيرا
__________
(1) سورة ص 71 - 74 .
(*)(13/127)
الشرح : يجوز أن تسمى هذه الخطبة (القاصعة) من قولهم قصعت الناقة بجرتها ، وهو أن تردها الى جوفها ، أو تخرجها من جوفها فتملا فاها ، فلما كانت الزواجر والمواعظ في هذه الخطبة مردده من اولها الى آخرها ، شبهها بالناقة التى تقصع الجرة .
ويجوز أن تسمى القاصعة لانها كالقاتلة لابليس واتباعه من اهل العصبية ، من قولهم قصعت القملة ، إذا هشمتها وقتلتها .
ويجوز أن تسمى القاصعة لان المستمع لها المعتبر بها يذهب كبره ونخوته فيكون من قولهم قصع الماء عطشه ، أي اذهبه وسكنه ، قال ذو الرمة بيتا في هذا المعنى : فانصاعت الحقب لم تقصع صرائرها وقد تشح فلا رى ولا هيم (1) .
الصرائر جمع صريرة ، وهى العطش ، ويجوز أن تسمى القاصعة ، لانها تتضمن تحقير ابليس واتباعه وتصغيرهم ، من قولهم قصعت الرجل إذا امتهنته وحقرته ، وغلام مقصوع ، أي قمئ لا يشب ولا يزداد .
والعصبية على قسمين عصبية في الله وهى محموده ، وعصبية في الباطل وهى مذمومة ; وهى التى نهى امير المؤمنين عليه السلام عنها ، وكذلك الحمية وجاء في الخبر (العصبية في الله تورث الجنة ، والعصبية في الشيطان تورث النار) .
وجاء في الخبر (العظمة ازارى ، والكبرياء ردائي ، فمن نازعنى فيهما قصمته) ; وهذا معنى قوله عليه السلام (اختارهما لنفسه دون خلقه ...
) الى آخر قوله (من عباده) .
قال عليه السلام (ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين) مع علمه بمضمراتهم ; وذلك لان اختباره سبحانه ليس ليعلم ، بل ليعلم غيره من خلقه طاعة من يطيع وعصيان من يعصى ، وكذلك ، قوله سبحانه (وما جعلنا القبلة التى كنت عليها الا لنعلم من يتبع
__________
(1) ديوانه 588 .
انصاعت : ذهبت هاربة .
والحقب : الحمر الوحشية .
وروايته : (وقد نشحن) .
(*)(13/128)
الرسول ممن ينقلب على عقبيه) (1) ، النون في (لنعلم) نون الجمع لا نون العظمة ، أي لتصير انت وغيرك من المكلفين عالمين لم يطيع ومن يعصى ، كما انا عالم بذلك ، فتكونوا كلكم مشاركين لى في العلم بذلك .
فان قلت وما فائدة وقوفهم على ذلك وعلمهم به ؟ قلت ليس بممتنع أن يكون ظهور حال العاصى والمطيع وعلم المكلفين أو اكثرهم أو بعضهم به يتضمن لطفا في التكليف .
فان قلت أن الملائكة لم تكن تعلم ما البشر ، ولا تتصور ماهيته ، فكيف قال لهم (انى خالق بشرا من طين) قلت قد كان قال لهم انى خالق جسما من صفته كيت وكيت ، فلما حكاه اقتصر على الاسم .
ويجوز أن يكون عرفهم من قبل أن لفظة (بشر) على ماذا تقع ، ثم قال لهم انى خالق هذا الجسم المخصوص الذى اعلمتكم أن لفظة (بشر) واقعة عليه من طين .
قوله تعالى (فإذا سويته) ; أي إذا اكملت خلقه .
فقعوا له ساجدين امرهم بالجسود له وقد اختلف في ذلك فقال قوم كان قبله ، كما الكعبة اليوم قبلة ، ولا يجوز السجود الا لله وقال آخرون بل كان السجود له تكرمة ومحنة ، والسجود لغير الله غير قبيح في العقل إذا لم يكن عباده ولم يكن فيه مفسده .
وقوله تعالى (ونفخت فيه من روحي) ، أي احللت فيه الحياة ، واجريت الروح إليه في عروقه ، واضاف الروح إليه تبجيلا لها ، وسمى ذلك نفخا على وجه الاستعارة ، لان العرب تتصور من الروح معنى الريح ، والنفخ يصدق على الريح ، فاستعار لفظة (النفخ) توسعا .
__________
(1) سورة البقرة 143 .
(*)(13/129)
وقالت الحكماء هذا عبارد عن النفس الناطقة .
فان قلت هل كان ابليس من الملائكة ام لا قلت قد اختلف في ذلك ، فمن جعله منهم احتج بالاستثناء ، ومن جعله من غيرهم احتج بقوله تعالى (كان من الجن) ، وجعل الاستثناء منقطعا ، وبان له نسلا وذرية ، قال تعالى (افتتخذونه وذريته اولياء من دوني) ، والملائكة لا نسل لهم ولا ذرية ، وبان اصله نار والملائكة اصلها نور ، وقد مر لنا كلام في هذا في اول الكتاب .
قوله (فافتخر على آدم بخلقه ، وتعصب عليه لاصله) كانت خلقته اهون من خلقه آدم عليه السلام ، وكان اصله من نار واصل آدم عليه السلام من طين .
فان قلت كيف حكم على ابليس بالكفر ، ولم يكن منه الا مخالفة الامر ، ومعلوم أن تارك الامر فاسق لا كافر قلت انه اعتقد أن الله امره بالقبيح ولم ير امره بالسجود لادم عليه السلام حكمة وامتنع من السجود تكبرا ، ورد على الله امره ، واستخف بمن اوجب الله اجلاله ، وظهر أن هذه المخالفة عن فساد عقيدة ، فكان كافرا .
فان قلت هل كان كافرا في الاصل ام كان مؤمنا ثم كفر قلت اما المرجئة فأكثرهم يقول كان في الاصل كافرا ، لان المؤمن عندهم لا يجوز أن يكفر ، واما اصحابنا فلما كان هذا الاصل عندهم باطلا توقفوا في حال ابليس ، وجوزوا كلا الامرين .
__________
(1) سورة الكهف 50 .
(*)(13/130)
قوله عليه السلام (رداء الجبرية) الباء مفتوحة ، يقال فيه جبرية ، وجبروة ، وجبروت ، وجبورة ، كفروجة ، أي كبر ، وانشدوا : فانك إن عاديتني غضب الحصا عليك وذو الجبورة المتغطرف (1) .
وجعله مدحورا ، أي مطرودا مبعدا ، دحره الله دحورا ، أي اقصاه وطرده .
الاصل : ولو اراد الله أن يخلق آدم من نور يخطف الابصار ضياؤه ، ويبهر العقول رواؤه ، وطيب ياخذ الانفاس عرفه ، لفعل ; ولو فعل لظلت له الاعناق خاضعة ، ولخفت البلوى فيه على الملائكة ، ولكن الله سبحانه يبتلى خلقه ببعض ما يجهلون اصله تمييزا بالاختبار لهم ، ونفيا للاستكبار عنهم ، وابعادا للخيلاء منهم ، فاعتبروا بما كان من فعل الله بابليس إذ احبط عمله الطويل ، وجهده الجهيد ، وكان قد عبد الله سته آلاف سنة ، لا يدرى امن سنى الدنيا ام من سنى الاخرة ، عن كبر ساعة واحدة ، فمن ذا بعد ابليس يسلم على الله بمثل معصيته كلا ما كان الله سبحانه ليدخل الجنة بشرا بامر اخرج به منها ملكا ، إن حكمه في اهل السماء والارض لواحد ، وما بين الله وبين احد من خلقه هوادة في اباحة حمى حرمه على العالمين .
الشرح : خطفت الشئ بكسر الطاء ، اخطفه ، إذا اخذته بسرعة استلابا ، وفيه لغه اخرى
__________
(1) لمغلس بن لقيط الاسدي ، وانظر الصحاح وحواشيه (جبر) .
(*)(13/131)
خطف بالفتح ، ويخطف بالفتح ويخطف بالكسر ، وهى لغه رديئة قليلة لا تكاد تعرف ، وقد قرا بها يونس في قوله تعالى (يكاد البرق يخطف ابصارهم) (1) .
والرواء ، بالهمزة والمد المنظر الحسن والعرف الريح الطيبة .
والخيلاء ، بضم الخاء وكسرها الكبر ، وكذلك الخال والمخيلة ، تقول اختال الرجل وخال ايضا ، أي تكبر .
واحبط عمله ابطل ثوابه ، وقد حبط العمل حبطا بالتسكين وحبوطا والمتكلمون يسمون ابطال الثواب احباطا وابطال العقاب تكفيرا .
وجهده بفتح الجيم اجتهاده وجده ووصفه بقوله (الجهيد) أي المستقصى ، من قولهم : مرعى جهيد ، أي قد جهده المال الراعى واستقصى رعيه .
وكلامه عليه السلام يدل على انه كان يذهب الى أن ابليس من الملائكة لقوله (اخرج منها ملكا) .
والهوادة الموادعة والمصالحة ، يقول إن الله تعالى خلق آدم من طين ، ولو شاء أن يخلقه من النور الذى يخطف أو من الطيب الذى يعبق لفعل ، ولو فعل لهال الملائكة امره وخضعوا له ، فصار الابتلاء والامتحان والتكليف بالسجود له خفيفا عليهم ، لعظمته في نفوسهم ، فلم يستحقوا ثواب العمل الشاق ، وهذا يدل على أن الملائكة تشم الرائحة كما نشمها نحن ، ولكن الله تعالى يبتلى عباده بامور يجهلون اصلها اختبارا لهم .
فان قلت ما معنى قوله عليه السلام (تمييزا بالاختبار لهم) .
قلت لانه ميزهم عن غيرهم من مخلوقاته ، كالحيوانات العجم ، وابانهم عنهم ، وفضلهم عليهم بالتكليف والامتحان .
__________
(1) سورة البقرة 20 .
(*)(13/132)
قال (ونفيا للاستكبار عنهم) ; لان العبادات خضوع وخشوع وذلة ، ففيها نفى الخيلاء والتكبر عن فاعليها ، فامرهم بالاعتبار بحال ابليس الذى عبد الله ستة آلاف سنة ; لا يدرى امن سنى الدنيا ام من سنى الاخرة وهذا يدل على انه قد سمع فيه نصا من رسول الله صلى الله عليه وآله مجملا لم يفسره له ، أو فسره له خاصة ، ولم يفسره امير المؤمنين عليه السلام للناس لما يعلمه في كتمانه عنهم من المصلحة .
فان قلت قوله (لا يدرى) على ما لم يسم فاعله يقتضى انه هو لا يدرى قلت انه لا يقتضى ذلك ، ويكفى في صدق الخبر إذا ورد بهذه الصيغة أن يجهله الاكثرون .
فاما القول في سنى الاخرة كم هي فاعلم انه قد ورد في الكتاب العزيز آيات مختلفات : احداهن قوله (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين الف سنة) (1) .
والاخرى قوله (يدبر الامر من السماء الى الارض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره الف سنة مما تعدون) (2) .
والثالثة قوله (وان يوما عند ربك كالف سنة مما تعدون) (3) .
واولى ما قيل فيها أن المراد بالاية الاولى مدة عمر الدنيا ، وسمى ذلك يوما ، وقال إن الملائكة لا تزال تعرج إليه باعمال البشر طول هذه المدة حتى ينقضى التكليف ، وينتقل الامر الى دار اخرى .
واما الايتان الاخيرتان فمضمونهما بيان كمية ايام الاخرة ، وهو أن كل يوم منها مثل الف سنة من سنى الدنيا .
__________
(1) سورة المعراج 4 .
(2) سورة السجدة 5 .
(3) سورة الحج 47 .
(*)(13/133)
فان قلت فعلى هذا كم تكون مدة عبادة ابليس إذا كانت ستة آلاف سنة من سنى الاخرة قلت يكون ما يرتفع من ضرب احد المضروبين في الاخرة ، وهو الفا الف الف ، ثلاث لفظات ، الاولى منهم مثناة ، ومائة الف الف لفظتان ، وستون الف الف سنة لفظتان ايضا من سنى الدنيا ولما راى امير المؤمنين عليه السلام هذا المبلغ عظيما جدا علم أن اذهان السامعين لا تحتمله ، فلذلك ابهم القول عليهم ، وقال (لا يدرى امن سنى الدنيا ام من سنى الاخرة) .
فان قلت فإذا كنتم قد رجحتم قول من يقول إن عمر الدنيا خمسون الف سنة ، فكم يكون عمرها إن كان الله تعالى اراد خمسين الف سنة من سنى الاخرة لانه لا يؤمن أن يكون اراد ذلك إذا كانت السنة عنده عبارة عن مدة غير هذه المدة التى قد اصطلح عليها الناس قلت يكون ما يرتفع من ضرب خمسين الفا في ثلثمائة وستين الف من سنى الدنيا ومبلغ ذلك ثمانية عشر الف الف الف سنة من سنى الدنيا ثلاث لفظات ، وهذا القول قريب من القول المحكى عن الهند .
وروى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه روايات كثيرة باسانيد اوردها عن جماعة من الصحابة أن ابليس كان إليه ملك السماء وملك الارض ، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن ، وانما سموا الجن لانهم كانوا خزان الجنان ، وكان ابليس رئيسهم ومقدمهم .
وكان اصل خلقهم من نار السموم ، وكان اسمه الحارث ، قال وقد روى أن الجن كانت في الارض ، وانهم افسدوا فيها ، فبعث الله إليهم ابليس في جند من الملائكة فقتلهم وطردهم الى جزائر البحار ، ثم تكبر في نفسه ، وراى انه قد صنع شيئا عظيما لم يصنعه غيره .
قال وكان شديد الاجتهاد في العبادة .(13/134)
وقيل كان اسمه عزازيل ، وان الله تعالى جعله حكما وقاضيا بين سكان الارض قبل خلق آدم ، فدخله الكبر والعجب لعبادته واجتهاده وحكمه في سكان الارض وقضائه بينهم ، فانطوى على المعصية حتى كان من امره مع آدم عليه السلام ما كان .
قلت ولا ينبغى أن نصدق من هذه الاخبار و امثالها الا ما ورد في القرآن العزيز الذى لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، أو في السنة ، أو نقل عمن يجب الرجوع الى قوله ، وكل ما عدا ذلك فالكذب فيه اكثر من الصدق ، والباب مفتوح ، فليقل كل احد في امثال هذه القصص ما شاء .
واعلم أن كلام امير المؤمنين في هذا الفصل يطابق مذهب اصحابنا في أن الجنة لا يدخلها ذو معصية ، الا تسمع قوله (فمن بعد ابليس يسلم على الله بمثل معصيته كلا ، ما كان الله ليدخل الجنة بشرا بامر اخرج به منها ملكا ، أن حكمه في اهل السماء والارض لواحد) .
فان قلت اليس من قولكم إن صاحب الكبيرة إذا تاب دخل الجنة فهذا صاحب معصية وقد حكمتم له بالجنة قلت إن التوبة احبطت معصيته فصار كانه لم يعص .
فان قلت إن امير المؤمنين عليه السلام انما قال (فمن ذا بعد ابليس يسلم على الله بمثل معصيته) ولم يقل بالمعصية المطلقة ; والمرجئة لا تخالف في أن من وافى القيامة بمثل معصية ابليس لم يكن من اهل الجنة .
قلت كل معصية كبيرة فهى مثل معصيته ، ولم يكن اخراجه من الجنة لانه كافر ، بل لانه عاص مخالف للامر ، الا ترى انه قال سبحانه (قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها) (1) ، فعلل اخراجه من الجنة بتكبره لا بكفره .
فان قلت هذا مناقض لما قدمت في شرح الفصل الاول .
__________
(1) سورة الاعراف : 130 .
(*)(13/135)
قلت كلا لانى في الفصل الاول عللت استحقاقه اسم الكفر بامر زائد على المعصية المطلقة ، وهو فساد اعتقاده ، ولم اجعل ذلك عله في خروجه من الجنة وهاهنا عللت خروجه من الجنة ، بنفس المعصية ، فلا تناقض .
فان قلت ما معنى قول امير المؤمنين عليه السلام (ما كان الله ليدخل الجنة بشرا بامر اخرج به منها ملكا) وهل يظن احد أو يقول إن الله تعالى يدخل الجنة احدا من البشر بالامر الذى اخرج به هاهنا ابليس كلا هذا ما لا يقوله احد ، وانما الذى يقوله المرجئة انه يدخل الجنة من قد عصى وخالف الامر - كما خالف الامر ابليس - برحمته وعفوه ، وكما يشاء ، لا انه يدخله الجنة بالمعصية ، وكلام امير المؤمنين عليه السلام يقتضى نفى دخول احد الجنة بالمعصية لان الباء للسببية ؟ قلت الباء ها هنا ليست للسببية كما يتوهمه هذا المعترض ; بل هي كالباء في قولهم خرج زيد بثيابه ، ودخل زيد بسلاحه ، أي خرج لابسا ، ودخل متسلحا ، أي يصحبه الثياب ويصحبه السلاح ، فكذلك قوله عليه السلام (بامر اخرج به منها ملكا) ، معناه إن الله تعالى لا يدخل الجنة بشرا يصحبه امر اخرج الله به ملكا منها .
الاصل : فاحذروا عباد الله عدو الله أن يعديكم بدائه ، وأن يستفزكم بخيله ورجله ، فلعمري لقد فوق لكم سهم الوعيد ، واغرق اليكم بالنزع الشديد ، ورماكم من مكان قريب ، فقال (رب بما اغويتني لازينن لهم في الارض ولاغوينهم اجمعين) (1) ، قذفا بغيب بعيد ورجما بظن
__________
(1) سورة الحجر : 39 .
(*)(13/136)
غير مصيب ; صدقه به ابناء الحمية ، واخوان العصبية ، وفرسان الكبر والجاهلية ، حتى إذا انقادت له الجامحة منكم ، واستحكمت الطماعية منه فيكم ، فنجمت فيه الحال من السر الخفى الى الامر الجلى ، استفحل سلطانه عليكم ، ودلف بجنوده نحوكم ، فاقحموكم ولجات الذل ، واحلوكم ورطات القتل ، واوطئوكم اثخان الجراحة ، طعنا في عيونكم ، وحزا في حلوقكم ، ودقا لمناخركم ، وقصدا لمقاتلكم ، وسوقا بخزائم القهر ، الى النار المعدة لكم ، فاصبح اعظم في دينكم حرجا ، واورى في دنياكم قدحا ، من الذين اصبحتم لهم مناصبين ، وعليهم متالبين .
فاجعلوا عليه حدكم وله جدكم فلعمر الله لقد فخر على اصلكم ، ووقع في حسبكم ، ودفع في نسبكم ، واجلب بخيله عليكم ، وقصد برجله سبيلكم يقتنصونكم بكل مكان ، ويضربون منكم كل بنان ، لا تمتنعون بحيلة ، ولا تدفعون بعزيمة ، في حومة ذل ، وحلقة ضيق ، وعرصة موت ، وجولة بلاء .
فاطفئوا ما كمن في قلوبكم من نيران العصبية ، واحقاد الجاهلية ، فانما تلك الحمية تكون في المسلم من خطرات الشيطان ونخواته ، ونزغاته ونفثاته .
واعتمدوا وضع التذلل على رؤوسكم ، والقاء التعزز تحت اقدامكم ، وخلع التكبر من اعناقكم ، واتخذوا التواضع مسلحة بينكم وبين عدوكم ابليس وجنوده ، فان له من كل امة جنودا واعوانا ، ورجلا وفرسانا ; ولا تكونوا كالمتكبر على ابن امه من غير ما فضل جعله الله فيه ، سوى ما الحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسب ، وقدحت الحمية في قلبه من نار الغضب ، ونفخ الشيطان في انفه من ريح الكبر ; الذى اعقبه الله به الندامة ، والزمه آثام القاتلين الى يوم القيامة .(13/137)
الشرح : موضع (أن يعديكم) نصب على البدل من (عدو الله) وقال الراوندي يجوز أن يكون مفعولا ثانيا ، وهذا ليس بصحيح لان (حذر) لا يتعدى الى المفعولين ، والعدوى ما يعدى من جرب أو غيره ، اعدى فلان فلانا من خلقه أو من علته ، وهو مجاوزته من صاحبه الى غيره ، وفى الحديث (لا عدوى في الاسلام) .
فان قلت فإذا كان النبي صلى الله عليه وآله قد ابطل امر العدوى ، فكيف قال امير المؤمنين (فاحذروه أن يعديكم) قلت إن النبي صلى الله عليه وآله ابطل ما كانت العرب تزعمه من عدوى الجرب في الابل وغيرها ، وامير المؤمنين عليه السلام حذر المكلفين من أن يتعلموا من ابليس الكبر والحمية ، وشبه تعلمهم ذلك منه بالعدوى لاشتراك الامرين في الانتقال من احد الشخصين الى الاخر .
قوله عليه السلام (يستفزكم) أي يستخفكم ، وهو من الفاظ القرآن (واستفزز من استطعت منهم بصوتك) (1) ، أي ازعجه واستخفه واطر قلبه والخيل الخيالة ، ومنه الحديث (يا خيل الله اركبي) .
والرجل اسم جمع لراجل كركب اسم جمع لراكب ، وصحب اسم جمع لصاحب ، وهذه ايضا من الفاظ القرآن العزيز (واجلب عليهم بخيلك ورجلك) (2) وقرئ (ورجلك) (3) بكسر الجيم على إن (فعلا) بالكسر بمعنى فاعل نحو تعب وتاعب ،
__________
(1) سورة الاسراء 64 .
(2) سورة الاسراء 64 .
(3) هي قراءة حفص ، وانظر تفسير القرطبي 10 : 288 .
(*)(13/138)
ومعناه ، وقد تضم الجيم ايضا ، فيكون مثل قولك رجل حدث وحدث وندس وندس .
فان قلت فهل لابليس خيل تركبها جنده قلت يجوز أن يكون ذلك ، وقد فسره قوم بهذا والصحيح انه كلام خرج مخرج المثل ، شبهت حاله في تسلطه على بنى آدم بمن يغير على قوم بخيله ورجله فيستأصلهم وقيل بصوتك ، أي بدعائك الى القبيح وخيله ورجله كل ماش وراكب من اهل الفساد من بنى آدم .
قوله (وفوقت السهم) جعلت له فوقا ، وهو موضع الوتر ، وهذا كناية عن الاستعداد ، ولا يجوز أن يفسر قوله (فقد فوق لكم سهم الوعيد) بانه وضع الفوق في الوتر ليرمى به ، لان ذاك لا يقال فيه قد فوق ، بل يقال افقت السهم واوفقته ايضا ولا يقال افوقته ، وهو من النوادر .
وقوله (واغرق اليكم بالنزع) ، أي استوفى مد القوس وبالغ في نزعها ليكون مرماه ابعد ، ووقع سهامه اشد .
قوله (ورماكم من مكان قريب) ، لانه كما جاء في الحديث (يجرى من ابن آدم مجرى الدم ويخالط القلب) ، ولا شئ اقرب من ذلك .
والباء في قوله (بما اغويتني) متعلق بفعل محذوف تقديره اجازيك بما اغويتني تزيينى لهم القبيح ف (ما) على هذا مصدرية ، أي اجازيك باغوائك لى تزيينى لهم القبيح ، فحذف المفعول ويجوز أن تكون الباء قسما ، كانه اقسم باغوائه اياه ليزينن لهم .
فان قلت واى معنى في أن يقسم باغوائه وهل هذا مما يقسم به قلت نعم لانه ليس اغواء الله تعالى اياه خلق الغى والضلال في قلبه ، بل تكليفه(13/139)
اياه السجود الذى وقع الغى عنده من الشيطان ، لا من الله ، فصار حيث وقع عنده ، كأنه موجب عنه ، فنسب الى البارئ ، والتكليف تعريض للثواب ولذة الابد ، فكان جدير أن يقسم به ، وقد اقسم في موضع آخر ، فقال (فبعزتك لاغوينهم اجمعين) (1) ، فاقسم بالعزة ، وهاهنا اقسم بالامر والتكليف .
ويجوز فيه وجه ثالث ، وهو الا تكون الباء قسما ، ويقدر قسم محذوف ، ويكون المعنى بسبب ما كلفتني فافضى الى غوايتي ، اقسم لافعلن بهم نحو ما فعلت بى ، وهو أن ازين لهم المعاصي التى تكون سبب هلاكهم .
فان قلت ليس هذا نحو ما فعله البارئ به ، لان البارئ امره بالحسن فاباه ، وعدل عنه الى القبيح ، والشيطان لا يامرنا بالحسن فنكرهه ونعدل عنه الى القبيح ، فكيف يكون ذلك نحو واقعته مع البارئ قلت المشابهة بين الواقعتين في إن كل واحدة منهما تقع عندها المعصية ، لا على وجه الاجبار والقسر ، بل على قصد الاختيار ، لان معصية ابليس كانت من نفسه ، ووقعت عند الامر بالسجود اختيارا منه لا فعلا من البارئ ، ومعصيتنا نحن عند التزيين والوسوسة تقع اختيارا منا لا اضطرارا يضطرنا ابليس إليه ، فلما تشابهت الصورتان في هذا المعنى حسن قوله (بما فعلت بى كذا لافعلن بهم نحوه) .
فان قلت ما معنى قوله (في الارض) ومن اين كان يعلم ابليس أن آدم سيصير له ذرية في الارض قلت اما علمه بذلك فمن قول الله تعالى له وللملائكة (انى جاعل في الارض خليفة) (2) واما لفظة (الارض) ، فالمراد بها هاهنا الدنيا التى هي دار التكليف ، كقوله تعالى
__________
(1) سورة ص 82 .
(2) سورة البقرة 30 .
(*)(13/140)
(ولكنه اخلد الى الارض) (1) ، ليس يريد به الارض بعينها بل الدنيا وما فيها من الملاذ وهوى الانفس .
قوله عليه السلام (قذفا بغيب بعيد) ، أي قال ابليس هذا القول قذفا بغيب بعيد ، والعرب تقول للشئ المتوهم على بعد هذا قذف بغيب بعيد والقذف في الاصل رمى الحجر واشباهه ، والغيب الامر الغائب ، وهذه اللفظة من الالفاظ القرآنية ، قال الله تعالى في كفار قريش (ويقذفون بالغيب من مكان بعيد) (2) ، أي يقولون هذا سحر ، أو هذا من تعليم اهل الكتاب ، أو هذه كهانة ، وغير ذلك مما كانوا يرمونه عليه الصلاة السلام به .
وانتصب (قذفا) على المصدر الواقع موقع الحال ، وكذلك (رجما) وقال الراوندي انتصبا لانهما مفعول له ، وليس بصحيح ، لان المفعول له ما يكون عذرا وعله لوقوع الفعل ، وابليس ما قال ذلك الكلام لاجل القذف والرجم ، فلا يكون مفعولا له .
فان قلت كيف قال عليه السلام (قذفا من مكان بعيد ، ورجما بظن غير مصيب) ، وقد صح ما توهمه واصاب في ظنه ، فان اغواءه وتزيينه تم على الناس كلهم الا على المخلصين قلت اما اولا فقد روى (ورجما بظن مصيب) بحذف (غير) ، ويؤكد هذه الرواية قوله تعالى (ولقد صدق عليهم ابليس ظنه فاتبعوه الا فريقا) (3) واما ثانيا على الرواية التى هي اشهر فنقول اما قذفا من مكان بعيد ، فانه قال ما قال على سبيل التوهم والحسبان لامر مستبعد لا يعلم صحته ولا يظنها ، وليس وقوع ما وقع من المعاصي وصحة ما توهمه بمخرج لكون قوله الاول (قذفا بغيب بعيد) ، واما (رجما بظن غير مصيب)
__________
(1) سورة الاعراف 176 .
(2) سورة سبأ 53 .
(3) سورة سبأ 20 .
(*)(13/141)
فيجب أن يحمل قوله (لاغوينهم اجمعين) (1) على الغواية بمعنى الشرك أو الكفر ; ويكون الاستثناء وهو قوله (الا عبادك منهم المخلصين) (1) معناه الا المعصومين من كل معصية ، وهذا ظن غير مصيب لانه ما اغوى كل البشر الغواية التى هي الكفر والشرك الا المعصومين العصمة المطلقة ، بل اغوى بعضهم كذلك ، وبعضهم بان زين له الفسق دون الكفر ، فيكون ظنه انه قادر على اغواء البشر كافه بمعنى الضلال بالكفر ظنا غير مصيب .
قوله (صدقه به ابناء الحمية) ، موضع (صدقه) جر ، لانه صفة (ظن) ، وقد روى (صدقه ابناء الحمية) من غير ذكر الجار والمجرور ، ومن رواه بالجار والمجرور كان معناه صدقه في ذلك الظن ابناء الحمية ، فاقام الباء مقام (في) .
قوله (حتى إذا انقادت له الجامحة منكم) ، أي الانفس الجامحة أو الاخلاق الجامحة .
قوله (فنجمت فيه الحال) أي ظهرت ، وقد روى (فنجمت الحال من السر الخفى) من غير ذكر الجار والمجرور ، ومن رواه بالجار والمجرور فالمعنى فنجمت الحال في هذا الشان المذكور بينه وبينكم من الخفاء الى الجلاء .
واستفحل سلطانه قوى واشتد وصار فحلا ، واستفحل جواب قوله (حتى إذا) .
دلف بجنوده تقدم بهم .
والولجات جمع ولجة بالتحريك ، وهى موضع ، أو كهف يستتر فيه المارة من مطر أو غير .
واقحموكم ادخلوكم والورطة الهلكة .
قوله (واوطئوكم اثخان الجراحة) ، أي جعلوكم واطئين لذلك ، والاثخان مصدر اثخن في القتل ، أي اكثر منه وبالغ حتى كثف شانه ، وصار كالشئ الثخين ، ومعنى
__________
(1) سورة ص : 82 ، 83 .
(*)(13/142)
ايطاء الشيطان ببنى آدم ذلك القاؤه اياهم فيه ، وتوريطهم وحمله لهم عليه .
فالاثخان على هذا منصوب لانه مفعول ثان ; لا كما زعم الراوندي انه انتصب بحذف حرف الخفض .
قوله عليه السلام (طعنا في عيونكم) ، انتصب (طعنا) على المصدر ، وفعله محذوف أي فعلوا بكم هذه الافعال فطعنوكم في عيونكم طعنا ، فاما من روى (واوطئوكم لاثخان الجراحة) باللام فانه يجعل (طعنا) منصوبا على انه مفعول به ، أي اوطئوكم طعنا وحزا ، كقولك اوطاته نارا ، واوطاته عشوة ، ويكون (لاثخان الجراحة) مفعولا له ، أي اوطئوكم الطعن ليثخنوا جراحكم .
وينبغى أن يكون (قصدا) و (سوقا) خالصين للمصدرية ، لانه يبعد أن يكون مفعولا به .
واعلم انه لما ذكر الطعن نسبه الى العيون ، ولما ذكر الحز ، وهو الذبح نسبه الى الحلوق ، ولما ذكر الدق ، وهو الصدم الشديد اضافة الى المناخر ، وهذا من صناعة الخطابة التى علمه الله اياها بلا تعليم ، وتعلمها الناس كلهم بعده منه .
والخزائم جمع خزامة ، وهى حلقة من شعر تجعل في وترة انف البعير فيشد فيها الزمام .
وتقول قد ورى الزند ، أي خرجت ناره ، وهذا الزند اورى من هذا ، أي اكثر اخراجا للنار يقول فاصبح الشيطان اضر عليكم وافسد لحالكم من اعدائكم الذين اصبحتم مناصبين لهم ، أي معادين ، وعليهم متالبين ، أي مجتمعين .
فان قلت اما اعظم في الدين حرجا فمعلوم ، فاى معنى لقوله (واورى في دنياكم قدحا) ، وهل يفسد ابليس امر الدنيا كما يفسد امر الدين قلت نعم لان اكثر القبائح الدينية مرتبطه بالمصالح والمفاسد الدنيوية ، الا ترى انه إذا اغرى السارق بالسرقة افسد حال السارق من جهة الدين وحال المسروق منه من جهة الدنيا ،(13/143)
وكذلك القول في الغصب والقتل وما يحدث من مضار الشرور الدنيوية من اختلاط الانساب واشتباه النسل ، وما يتولد من شرب الخمر والسكر الحاصل عنها من امور يحدثها السكران خبطا بيده ، وقذفا بلسانه ، الى غير ذلك من امثال هذه الامور واشباهها .
قوله عليه السلام (فاجعلوا عليه حدكم) ، أي شباتكم وباسكم .
وله جدكم : من جددت في الامر جدا ، أي اجتهدت فيه وبالغت .
ثم ذكر انه فخر على اصل بنى آدم ، يعنى اباهم آدم عليه السلام حيث امتنع من السجود له ، وقال (انا خير منه) .
ووقع في حسبكم أي عاب حسبكم وهو الطين ، فقال إن النار افضل منه ودفع في نسبكم مثله .
واجلب بخيله عليكم ، أي جمع خيالته وفرسانه والبها .
ويقتنصونكم يتصيدونكم والبنان اطراف الاصابع ، وهو جمع ، واحدته بنانه ، ويجمع في القلة على بنانات ، ويقال بنان مخضب ، لان كل جمع ليس بينه وبين واحده الا الهاء فانه يذكر ويوحد والحومة معظم الماء والحرب وغيرهما ، وموضع هذا الجار والمجرور نصب على الحال ، أي يقتنصونكم في حومة ذل .
والجولة الموضع الذى تجول فيه .
وكمن في قلوبكم استتر ، ومنه الكمين في الحرب .
ونزغات الشيطان وساوسه التى يفسد بها ونفثاته مثله .
قوله (واعتمدوا وضع التذلل على رؤوسكم ، والقاء التعزز تحت اقدامكم) كلام شريف جليل المحل ، وكذلك قوله عليه السلام (واتخذوا التواضع مسلحة بينكم وبين عدوكم ابليس وجنوده) ، والمسلحة خيل معدة للحماية والدفاع .(13/144)
ثم نهاهم أن يكونوا كقابيل الذى حسد اخاه هابيل فقتله ، وهما اخوان لاب وام ، وانما قال (ابن امه) ، فذكر الام دون الاب ، لان الاخوين من الام اشد حنوا ومحبة والتصاقا من الاخوين من الاب ، لان الام هي ذات الحضانة والتربية .
وقوله (من غير ما فضل) ، ما هاهنا زائده ، وتعطى معنى التأكيد ; نهاهم عليه السلام أن يحسدوا النعم ، وان يبغوا ويفسدوا في الارض ، فان آدم لما امر ولده بالقربان قرب قابيل شر ماله - وكان كافرا - وقرب هابيل خير ماله - وكان مؤمنا - فتقبل الله تعالى من هابيل ، واهبط من السماء نارا فاكلته ، قالوا لانه لم يكن في الارض حينئذ فقير يصل القربان إليه ، فحسده قابيل - وكان اكبر منه سنا - فقال لاقتلنك ، قال هابيل انما يتقبل الله من المتقين ، أي بذنبك وجرمك كان عدم قبول قربانك لانسلاخك من التقوى ، فقتله فاصبح نادما ، لا ندم التوبة بل ندم الحير ورقة الطبع البشرى ، ولانه تعب في حمله كما ورد في التنزيل انه لم يفهم ما ذا يصنع به حتى بعث الله الغراب .
قوله عليه السلام (والزمه آثام القاتلين الى يوم القيامة) ، لانه كان ابتدا بالقتل ، ومن سن سنة شر كان عليه وزرها ووزر من عمل بها الى يوم القيامة ، كما أن من سن سنة خير كان له اجرها واجر من عمل بها الى يوم القيامة .
وروى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه ، أن الروايات اختلفت في هذه الواقعة ، فروى قوم إن الرجلين كانا من بنى اسرائيل وليسا من ولد آدم لصلبه ، والاكثرون خالفوا في ذلك .
ثم اختلف الاكثرون ، فروى قوم أن القربان من قابيل وهابيل كان ابتداء ، والاكثرون قالوا بل اراد آدم عليه السلام أن يزوج هابيل اخت قابيل توءمته ، ويزوج(13/145)
قابيل اخت هابيل توءمته ، فابى قابيل لان توءمته كانت احسن ، فامرهما ابوهما بالقربان ، فمن تقبل قربانه نكح الحسناء .
فتقبل قربان هابيل ، فقتله اخوه كما ورد في الكتاب العزيز .
وروى الطبري مرفوعا انه صلى الله عليه وآله قال (ما من نفس تقتل ظلما الا كان على ابن آدم عليه السلام الاول كفل ، منها وذلك بانه اول من سن القتل) ، وهذا يشيد قول امير المؤمنين عليه السلام .
الاصل : الا وقد امعنتم في البغى ، وافسدتم في الارض ، مصارحة لله بالمناصبة ، ومبارزة للمؤمنين بالمحاربة .
فالله الله في كبر الحمية ، وفخر الجاهلية ! فانه ملاقح الشنآن ، ومنافخ الشيطان ; التى خدع بها الامم الماضية ، والقرون الخالية ، حتى اعنقوا في حنادس جهالته ، ومهاوى ضلالته ، ذللا عن سياقه ، سلسا في قياده ; امرا تشابهت القلوب فيه ; وتتابعت القرون عليه ; وكبرا تضايقت الصدور به .
الا فالحذر الحذر من طاعه ساداتكم وكبرائكم ! الذين تكبروا عن حسبهم ، وترفعوا فوق نسبهم ، والقوا الهجينة على ربهم ، وجاحدوا الله على ما صنع بهم ، مكابرة لقضائه ، ومغالبة لالائه ، فانهم قواعد آساس العصبية ، ودعائم اركان الفتنة ، وسيوف اعتزاء الجاهلية .
فاتقوا الله ولا تكونوا لنعمه عليكم اضدادا ، ولا لفضله عندكم حسادا ،(13/146)
ولا تطيعوا الادعياء الذين شربتم بصفوكم كدرهم ، وخلطتم بصحتكم مرضهم وادخلتم في حقكم باطلهم ، وهم آساس الفسوق ، واحلاس العقوق ، اتخذهم ابليس مطايا ضلال ، وجندا بهم يصول على الناس ، وتراجمة ينطق على السنتهم ، استراقا لعقولكم ، ودخولا في عيونكم ، ونفثا في اسماعكم ، فجعلكم مرمى نبله ، وموطئ قدمه ، وماخذ يده .
فاعتبروا بما اصاب الامم المستكبرين من قبلكم من باس الله وصولاته ، ووقائعه ومثلاته ، واتعظوا بمثاوى خدودهم ، ومصارع جنوبهم ، واستعيذوا بالله من لواقح الكبر ، كما تستعيذونه من طوارق الدهر .
الشرح : امعنتم في البغى بالغتم فيه ، من امعن في الارض ; أي ذهب فيها بعيدا ومصارحة لله ، أي مكاشفة .
والمناصبة المعاداة .
وملاقح الشنآن ، قال الراوندي الملاقح هي الفحول التى تلقح ، وليس بصحيح ، نص الجوهرى على أن الوجه لواقح كما جاء في القرآن (وارسلنا الرياح لواقح) (1) وقال هو من النوادر ، لان الماضي رباعى .
والصحيح إن ملاقح هاهنا جمع ملقح وهو المصدر ، من لقحت كضربت مضربا وشربت مشربا .
ويجوز فتح النون من الشنان وتسكينها ، وهو البغض .
ومنافخ الشيطان جمع منفخ ، وهو مصدر ايضا ، من نفخ ، ونفخ الشيطان ونفثه
__________
(1) سورة الحجر .
(*)(13/147)
واحد وهو وسوسته وتسويله ، ويقال للمتطاول الى ما ليس له قد نفخ الشيطان في انفه .
وفى كلامه عليه السلام يقوله لطلحة وهو صريع ، وقد وقف عليه ، واخذ سيفه (سيف طالما جلى به الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله ، ولكن الشيطان نفخ في انفه) .
قوله واعنقوا اصرعوا وفرس معناق ، والسير العنق ، قال الراجز : يا ناق سيرى عنقا فسيحا الى سليمان فنستريحا (1) .
والحنادس الظلم .
والمهاوى جمع مهواة بالفتح ; وهى الهوة يتردى الصيد فيها ، وقد تهاوى الصيد في المهواة ، إذا سقط بعضه في اثر بعض .
قوله عليه السلام (ذللا عن سياقه) ، انتصب على الحال ، جمع ذلول ، وهو السهل المقادة ، وهو حال من الضمير في (اعنقوا) أي اسرعوا منقادين لسوقه اياهم .
وسلسا جمع سلس وهو السهل ايضا وانما قسم (ذللا) و (سلسا) بين (سياقه) و (قياده) لان المستعمل في كلامهم قدت الفرس فوجدته سلسا أو صعبا ، ولا يستحسنون سقته فوجدته سلسا أو صعبا ، وانما المستحسن عندهم سقته فوجدته ذلولا أو شموسا .
قوله عليه السلام (امرا) منصوب بتقدير فعل ، أي اعتمدوا امرا و (كبرا) ، معطوف عليه ، أو ينصب (كبرا) على المصدر بان يكون اسما واقعا موقعه ، كالعطاء موضع الاعطاء .
وقال الراوندي (امرا) منصوب هاهنا لانه مفعول به وناصبة المصدر الذى هو سياقه وقياده ، تقول سقت وقدت قيادا ، وهذا غير صحيح لان مفعول هذين المصدرين محذوف تقديره عن سياقه اياهم وقياده اياهم ، وهذا هو معنى الكلام ، ولو فرضنا مفعول
__________
(1) الرجز لابي النجم العجلي ، وهو من شواهد ابن عقيل 2 : 274 .
(*)(13/148)
احد هذين المصدرين (امرا) لفسد معنى الكلام وقال الراوندي ايضا ويجوز أن يكون (امرا) حالا .
وهذا ايضا ليس بشئ ، لان الحال وصف هيئة الفاعل أو المفعول ، و (امرا) ليس كذلك .
قوله عليه السلام (تشابهت القلوب فيه) ، أي أن الحمية والفخر والكبر والعصبية ما زالت القلوب متشابهة متماثلة فيها .
وتتابعت القرون عليه جمع قرن بالفتح ، وهى الامة من الناس .
وكبرا تضايقت الصدور به ، أي كبر في الصدور حتى امتلات به وضاقت عنه لكثرته .
ثم امر بالحذر من طاعة الرؤساء ارباب الحمية ، وفيه اشارة الى قوله تعالى (انا اطعنا سادتنا وكبراءنا فاضلونا السبيلا) (1) .
وقد كان امر في الفصل الاول بالتواضع لله ، ونهى هاهنا عن التواضع للرؤساء ، وقد جاء في الخبر المرفوع (ما احسن تواضع الاغنياء للفقراء واحسن منه تكبر الفقراء على الاغنياء) .
الذين تكبروا عن حسبهم ، أي جهلوا انفسهم ولم يفكروا في اصلهم من النطف المستقذرة من الطين المنتن ، قال الشاعر : ما بال من اوله نطفة وجيفة آخره يفخر يصبح لا يملك تقديم ما يرجو ولا تأخير ما يحذر .
قوله عليه السلام (والقوا الهجينة على ربهم) روى (الهجينة) على (فعيلة) ، كالطبيعة والخليقة ، وروى (الهجنة) على (فعلة) كالمضغة واللقمة ، والمراد بهما الاستهجان ، من قولك هو يهجن كذا ، أي يقبحه ، ويستهجنه أي يستقبحه .
أي نسبوا ما في الانساب
__________
(1) سورة الاحزاب 67 .
(*)(13/149)
من القبح بزعمهم الى ربهم ، مثل أن يقولوا للرجل انت عجمى ونحن عرب ، فان هذا ليس الى الانسان ، بل هو الى الله تعالى ، فاى ذنب له فيه .
قوله (وجاحدوا الله) ، أي كابروه وانكروا صنعه إليهم .
وآساس بالمد جمع اساس .
واعتزاء الجاهلية قولهم يا لفلان وسمع ابى بن كعب رجلا يقول يا لفلان فقال عضضت بهن ابيك فقيل له يا ابا المنذر ما كنت فحاشا ، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول (من تعزى بعزاء الجاهلية فاعضوه بهن ابيه ولا تكنوا) .
قوله (فلا تكونوا لنعمه الله اضدادا) ; لان البغى والكبر يقتضيان زوال النعمة وتبدلها بالنقمة .
قوله (ولا تطيعوا الادعياء) ، مراده هاهنا بالادعياء الذين ينتحلون الاسلام ويبطنون النفاق .
ثم وصفهم فقال (الذين شربتم بصفوكم كدرهم) ، أي شربتم كدرهم مستبدلين ذلك بصفوكم ويروى (الذين ضربتم) ، أي مزجتم ويروى ; (شريتم) أي بعتم واستبدلتم .
والاحلاس جمع حلس ، وهو كساء رقيق يكون على ظهر البعير ملازما له ، فقيل لكل ملازم امر هو حلس ذلك الامر .
والترجمان بفتح التاء هو الذى يفسر لسانا بلسان غيره ، وقد تضم التاء .
ويروى (ونثا في اسماعكم) من نث الحديث ، أي افشاه .(13/150)
الاصل : فلو رخص الله في الكبر لاحد من عباده لرخص فيه لخاصة انبيائه ، ولكنه سبحانه كره إليهم التكابر ، ورضى لهم التواضع ، فالصقوا بالارض خدودهم ، وعفروا في التراب وجوههم ، وخفضوا اجنحتهم للمؤمنين ، وكانوا قوما مستضعفين ; قد اختبرهم الله بالمخمصة ، وابتلاهم بالمجهدة ، وامتحنهم بالمخاوف ، ومحصهم بالمكاره .
فلا تعتبروا الرضا والسخط بالمال والولد ، جهلا بمواقع الفتنة ، والاختبار في موضع الغنى والاقتار ، فقد قال سبحانه وتعالى (ايحسبون انما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون) (1) .
الشرح : التكابر التعاظم ، والغرض مقابلة لفظة (التواضع) لتكون الالفاظ مزدوجة .
وعفر وجهه الصقه بالعفر .
وخفضوا اجنحتهم الانوا جانبهم .
والمخمصة الجوع والمجهدة المشقة ، وامير المؤمنين عليه السلام كثير الاستعمال لمفعل ومفعلة بمعنى المصدر ، إذا تصفحت كلامه عرفت ذلك .
ومحصهم أي طهرهم ، وروى (مخضهم) بالخاء والضاد المعجمة ، أي حركهم وزلزلهم .
__________
(1) سورة (المؤمنون) 55 ، 56 .
(*)(13/151)
ثم نهى أن يعتبر رضا الله وسخطه بما نراه من اعطائه الانسان مالا وولدا ; فان ذلك جهل بمواقع الفتنة والاختبار .
وقوله تعالى (ايحسبون ..) ، الاية دليل على ما قاله عليه السلام ، والادلة العقلية ايضا دلت على أن كثيرا من الالام والغموم والبلوى انما يفعله الله تعالى للالطاف والمصالح .
وما الموصولة في الاية يعود إليها محذوف ومقدر لا بد منه ; والا كان الكلام غير منتظم ، وغير مرتبط بعضه ببعض ، وتقديره نسارع لهم في الخيرات .
الاصل : فان الله سبحانه يختبر عباده المستكبرين في انفسهم ; باوليائه المستضعفين في اعينهم ; ولقد دخل موسى بن عمران ومعه اخوه هارون صلى الله عليهما على فرعون وعليهما مدارع الصوف ، وبايديهما العصى فشرطا له - إن اسلم - بقاء ملكه ، ودوام عزه ; فقال الا تعجبون من هذين يشرطان لى دوام العز ، وبقاء الملك ; وهما بما ترون من حال الفقر والذل فهلا القى عليهما اساورة من ذهب ; اعظاما للذهب وجمعه ، واحتقارا للصوف ولبسه .
ولو اراد الله سبحانه لانبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان ، ومعادن العقيان ، ومغارس الجنان ، وأن يحشر معهم طيور السماء ، ووحوش الارضين ، لفعل ، ولو فعل لسقط البلاء ، وبطل الجزاء ، واضمحلت الانباء ، ولما وجب للقابلين اجور المبتلين ، ولا استحق المؤمنون ثواب المحسنين ، ولا لزمت الاسماء معانيها ، ولكن الله سبحانه جعل رسله اولى قوة في عزائمهم ، وضعفة فيما(13/152)
ترى الاعين من حالاتهم ، مع قناعه تملا القلوب والعيون غنى ، وخصاصة تملا الابصار والاسماع اذى .
الشرح : مدارع الصوف جمع مدرعة ، بكسر الميم ، وهى كالكساء ، وتدرع الرجل وتمدرع إذا لبسها والعصى جمع عصا .
وتقول هذا سوار المراة ، والجمع اسورة ، وجمع الجمع اساورة ، وقرئ (فلولا القى عليه اسورة من ذهب) (1) وقد يكون جمع اساور ، قال سبحانه (يحلون فيها من اساور من ذهب) (2) قال أبو عمرو بن العلاء اساور هاهنا جمع اسوار وهو السوار .
والذهبان بكسر الذال جمع ذهب ، كخرب لذكر الحبارى وخربان والعقيان الذهب ايضا .
قوله عليه السلام (واضمحلت الانباء) ، أي تلاشت وفنيت والانباء جمع نباء ، وهو الخبر ، أي لسقط الوعد والوعيد وبطلا .
قوله عليه السلام (ولا لزمت الاسماء معانيها) ، أي من يسمى مؤمنا أو مسلما حينئذ ، فان تسميته مجاز لا حقيقة ; لانه ليس بمؤمن ايمانا من فعله وكسبه ، بل يكون ملجا الى الايمان بما يشاهده من الايات العظيمة .
والمبتلين بفتح اللام جمع مبتلى ، كالمعطين والمرتضين ، جمع معطى ومرتضى .
والخصاصة الفقر .
__________
(1) سورة الزخرف 53 .
(2) سورة الحج 23 .
(*)(13/153)
وهذا الكلام هو ما يقوله اصحابنا بعينه في تعليل افعال البارئ سبحانه بالحكمة والمصلحة ، وان الغرض بالتكليف هو التعريض للثواب ، وانه يجب أن يكون خالصا من الالجاء ومن أن يفعل الواجب بوجه غير وجه وجوبه ، يرتدع عن القبيح لوجه غير وجه قبحه .
وروى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ ، دان موسى قدم هو واخوه هارون مصر على فرعون ، لما بعثهما الله تعالى إليه حتى وقفا على بابه يلتمسان الاذن عليه ، فمكثا سنين يغدوان على بابه ويروحان ، لا يعلم بهما ، ولا يجترئ احد على أن يخبره بشأنهما - وقد كانا قالا لمن بالباب انا رسولا رب العالمين الى فرعون - حتى دخل عليه بطال له يلاعبه ويضحكه ، فقال له ايها الملك إن على الباب رجلا يقول قولا عجيبا عظيما ، ويزعم أن له الها غيرك ، قال ببابى قال نعم ، قال ادخلوه ، فدخل وبيده عصاه ، ومعه هارون اخوه ، فقال انا رسول رب العالمين اليك ...
وذكر تمام الخبر .
فان قلت أي خاصية في الصوف ولبسه ولم اختاره الصالحون على غيره قلت ورد في الخبر أن اول لباس لبسه آدم لما هبط الى الارض صوف كبش قيضه الله له ، وامره أن يذبحه فيأكل لحمه ويلبس صوفه ; لانه اهبط عريان من الجنة فذبحه ، وغزلت حواء صوفه ، فلبس آدم منه ثوبا ، والبس حواء ثوبا آخر ، فلذلك صار شعار الاولياء وانتسبت إليه الصوفية(13/154)
الاصل : ولو كانت الانبياء اهل قوة لا ترام ، وعزة لا تضام ، وملك تمد نحوه اعناق الرجال ، وتشد إليه عقد الرحال ; لكان ذلك اهون على الخلق في الاعتبار ، وابعد لهم من الاستكبار ، ولامنوا عن رهبة قاهرة لهم ، أو رغبه مائلة بهم ، فكانت النيات مشتركة ، والحسنات مقتسمة ; ولكن الله سبحانه اراد أن يكون الاتباع لرسله ، والتصديق بكتبه ، والخشوع لوجهه ، والاستكانة لامره ، والاستسلام لطاعته ، امورا له خاصة ، لا يشوبها من غيرها شائبة .
الشرح : تمد نحوه اعناق الرجال ، أي لعظمته ; أي يؤمله المؤملون ويرجوه الراجون ، وكل من امل شيئا فقد طمح ببصره إليه معنى لا صورة ، فكنى عن ذلك بمد العنق .
وتشد إليه عقد الرحال يسافر ارباب الرغبات إليه ، يقول لو كان الانبياء ملوكا ذوى باس وقهر لم يمكن ايمان الخلق وانقيادهم إليهم ، لان الايمان في نفسه واجب عقلا ، بل كان لرهبة لهم أو رغبة ، فيهم فكانت النيات مشتركة هذا فرض سؤال وجواب عنه كانه قال لنفسه لم لا يجوز أن يكون ايمانهم على هذا التقدير لوجوبه ، ولخوف ذلك النبي ، أو لرجاء نفع ذلك النبي صلى الله عليه وآله فقال لان النيات تكون حينئذ مشتركة ، أي يكون المكلف قد فعل الايمان لكلا الامرين وكذلك تفسير قوله (والحسنات مقتسمة) قال ولا يجوز أن تكون طاعة الله تعالى تعلو الا لكونها طاعة له لا غير ، ولا يجوز أن يشوبها ويخالطها من غيرها شائبة .(13/155)
فان قلت ما معنى قوله (لكان ذلك اهون على الخلق في الاعتبار ، وابعد لهم من الاستكبار) قلت أي لو كان الانبياء كالملوك في السطوة والبطش ; لكان المكلف لا يشق عليه الاعتبار والانزجار عن القبائح مشقته عليه إذا تركه لقبحه لا لخوف السيف ، وكان بعد المكلفين عن الاستكبار والبغى لخوف السيف والتاديب اعظم من بعدهم عنهما إذا تركوهما لوجه قبحهما ، فكان يكون ثواب المكلف ; اما ساقطا ، واما ناقصا .
الاصل : وكلما كانت البلوى والاختبار اعظم ، كانت المثوبة والجزاء اجزل ; الا ترون أن الله سبحانه اختبر الاولين من لدن آدم صلى الله عليه وسلم الى الاخرين من هذا العالم ; باحجار لا تضر ولا تنفع ، ولا تبصر ولا تسمع ، فجعلها بيته الحرام الذى جعله الله للناس قياما ، ثم وضعه باوعر بقاع الارض حجرا ، واقل نتائق الدنيا مدرا ، واضيق بطون الاودية قطرا .
بين جبال خشنة ، ورمال دمثة ، وعيون وشلة ، وقرى منقطعة ; لا يزكو بها خف ، ولا حافر ولا ظلف ، ثم امر آدم عليه السلام وولده أن يثنوا اعطافهم نحوه ; فصار مثابة لمنتجع اسفارهم ، وغاية لملقى رحالهم ، تهوى إليه ثمار الافئدة ، من مفاوز قفار سحيقة ، ومهاوى فجاج عميقة وجزائر بحار منقطعة حتى يهزوا مناكبهم ذللا ، يهللون لله حوله ، ويرملون على اقدامهم ، شعثا غبرا له ، قد نبذوا السرابيل وراء ظهورهم ، وشوهوا باعفاء الشعور محاسن خلقهم ، ابتلاء عظيما ، وامتحانا شديدا ، واختبارا مبينا ، وتمحيصا بليغا ، جعله الله سببا لرحمته ، ووصله الى جنته .(13/156)
ولو اراد سبحانه أن يضع بيته الحرام ، ومشاعره العظام ، بين جنات وانهار ، وسهل وقرار ، جم الاشجار ، دانى الثمار ، ملتف البنى ، متصل القرى ، بين برة سمراء ، وروضة خضراء ، وارياف محدقة ، وعراص مغدقة ، وزروع ناضرة ، وطرق عامرة ، لكان قد صغر قدر الجزاء ، على حسب ضعف البلاء .
ولو كان الاساس المحمول عليها ، والاحجار المرفوع بها ، من زمردة خضراء ، وياقوتة حمراء ، ونور وضياء ، لخفف ذلك مصارعة الشك في الصدور ، ولوضع مجاهدة ابليس عن القلوب ، ولنفى معتلج الريب من الناس .
ولكن الله يختبر عباده بانواع الشدائد ، ويتعبدهم بانواع المجاهد ، ويبتليهم بضروب المكاره ، اخراجا للتكبر من قلوبهم ، واسكانا للتذلل في نفوسهم ، وليجعل ذلك ابوابا فتحا الى فضله ، واسبابا ذللا لعفوه .
الشرح : كانت المثوبة أي الثواب .
واجزل اكثر ، والجزيل العظيم ، وعطاء جزل وجزيل والجمع جزال ، وقد اجزلت له من العطاء ، أي اكثرت .
وجعله للناس قياما ، أي عمادا ، وفلان قيام اهله ، أي يقيم شئونهم ، ومنه قوله تعالى (ولا تؤتوا السفهاء اموالكم التى جعل الله لكم قياما) (1) .
واوعر بقاع الارض حجرا ، أي اصعبها ، ومكان وعر ، بالتسكين صعب المسلك أو المقام .
__________
(1) سورة النساء 5 .
(*)(13/157)
واقل نتائق الدنيا مدرا ; اصل هذه اللفظه من قولهم (امراه منتاق) ، أي كثيرة الحبل والولادة ، ويقال ضيعة منتاق أي كثيرة الريع ، فجعل عليه السلام الضياع ذوات المدر التى تثار للحرث نتائق ، وقال إن مكة اقلها صلاحا للزرع ، لان ارضها حجرية .
والقطر الجانب ، ورمال دمثة سهلة ، وكلما كان الرمل اسهل ; كان ابعد عن أن ينبت .
وعيون وشلة ، أي قليلة الماء ، والوشل ، بفتح الشين الماء القليل ، ويقال وشل الماء وشلانا ، أي قطر .
قوله (لا يزكو بها خف) ، أي لا تزيد الابل فيها أي لا تسمن ، والخف هاهنا ، هو الابل والحافر الخيل والحمير ، والظلف الشاة ، أي ليس حولها مرعى يرعاه الغنم فتسمن .
وان يثنوا اعطافهم نحوه ، أي يقصدوه ويحجوه ، وعطفا الرجل جانباه .
وصار مثابة ، أي يثاب إليه ويرجع نحوه مرة بعد اخرى ، وهذه من الفاظ الكتاب العزيز (1) .
قوله عليه السلام (لمنتجع اسفارهم) ، أي لنجعتها ، والنجعة طلب الكلاء في الاصل ، ثم سمى كل من قصد امرا يروم النفع منه منتجعا .
قوله (وغاية لملقى رحالهم) أي صار البيت هو الغاية التى هي الغرض والمقصد ، وعنده تلقى الرحال ; أي تحط رحال الابل عن ظهورها ، ويبطل السفر ، لانهم قد انتهوا الى الغاية المقصودة .
__________
(1) وهو قوله تعالى في سورة البقرة : (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) .
(*)(13/158)
قوله (تهوى إليه ثمار الافئدة) ، ثمرة الفؤاد هو سويداء القلب ، ومنه قولهم للولد هو ثمرة الفؤاد ، ومعنى (تهوى إليه) أي تتشوقه وتحن نحوه .
والمفاوز هي جمع مفازة ، الفلاة سميت مفازة ، اما لانها مهلكة ، من قولهم فوز الرجل أي هلك ، واما تفاؤلا بالسلامة والفوز ، والرواية المشهورة (من مفاوز قفار) بالاضافة .
وقد روى قوم (من مفاوز) بفتح الزاء ، لانه لا ينصرف ، ولم يضيفوا جعلوا (قفار) صفة .
والسحيقة البعيدة .
والمهاوى المساقط .
والفجاج جمع فج ، وهو الطريق بين الجبلين .
قوله عليه السلام (حتى يهزوا مناكبهم) ، أي يحركهم الشوق نحوه الى أن يسافروا إليه ، فكنى عن السفر بهز المناكب .
وذللا ، حال ، اما منهم واما من المناكب ، وواحد المناكب ، منكب بكسر الكاف ، وهو مجمع عظم العضد والكتف .
قوله (ويهللون) ، يقولون لا اله الا الله ، وروى (يهلون لله) أي يرفعون اصواتهم بالتلبية ونحوها .
ويرملون ، الرمل السعي فوق المشى قليلا .
شعثا غبرا ; لا يتعهدون شعورهم ولا ثيابهم ولا ابدانهم ، قد نبذوا السرابيل ، ورموا ثيابهم وقمصانهم المخيطة .
وشوهوا باعفاء الشعور ، أي غيروا وقبحوا محاسن صورهم ، بان اعفوا شعورهم فلم يحلقوا ما فضل منها وسقط على الوجه ونبت في غيره من الاعضاء التى جرت العادة بازالتها عنها .(13/159)
والتمحيص التطهير ، من محصت الذهب بالنار إذا صفيته مما يشوبه ، والتمحيص ايضا الامتحان والاختبار .
والمشاعر معالم النسك .
قوله (وسهل وقرار) ، أي في مكان سهل يستقر فيه الناس ولا ينالهم من المقام به مشقة .
وجم الاشجار كثيرها .
ودانى الثمار قريبها .
وملتف البنى مشتبك العمارة .
والبرة الواحدة من البر ، وهو الحنطة .
والارياف جمع ريف وهو الخصب والمرعى في الاصل ، وهو هاهنا السواد والمزارع ، ومحدقة محيطة .
ومغدقة غزيرة ، والغدق الماء الكثير .
وناضرة ذات نضارة ورونق وحسن .
قوله (ولو كانت الاساس (1)) ، يقول لو كانت اساس البيت التى حمل البيت عليها واحجاره التى رفع بها من زمردة وياقوتة فالمحمول والمرفوع كلاهما مرفوعان ، لانهما صفة اسم كان والخبر من (زمردة) ، وروى (بين زمردة) ، ويجوز أن تحمل لفظتا المفعول وهما المحمول والمرفوع ضمير البيت ، فيكون قائما مقام اسم الفاعل ، ويكون موضع الجار والمجرور نصبا ، ويجوز الا تحملهما ذلك الضمير ، ويجعل الجار والمجرور هو الساد مسد الفاعل ، فيكون موضعه رفعا .
وروى (مضارعة الشك) بالضاد المعجمة ، ومعناه مقارنة الشك ودنوه من النفس ، واصله من مضارعة القدر إذا حان ادراكها ، ومن مضارعة الشمس إذا دنت للمغيب .
وقال الراوندي في تفسير هذه الكلمة من مضارعة الشك ، أي مماثلته ومشابهته ، وهذا بعيد ، لانه لا معنى للمماثلة والمشابهة هاهنا ، والرواية الصحيحة بالصاد المهملة .
قوله عليه السلام (ولنفى متعلج الريب) ، أي اعتلاجه ، أي ولنفى اضطراب الشك في القلوب وروى (يستعبدهم) و (يتعبدهم) ، والثانية احسن .
__________
(1) الاساس ، بالكسر : جمع أس .
(*)(13/160)
والمجاهد جمع مجهدة ، وهى المشقة .
وابوابا فتحا أي مفتوحة واسبابا ذللا ، أي سهلة .
واعلم أن محصول هذا الفصل انه كلما كانت العبادة اشق كان الثواب عليها اعظم ، ولو أن الله تعالى جعل العبادات سهلة على المكلفين لما استحقوا عليها من الثواب الا قدرا يسيرا ، بحسب ما يكون فيها من المشقة اليسيرة .
فان قلت فهل كان البيت الحرام موجودا ايام آدم عليه السلام ، ثم امر آدم وولده أن يثنوا اعطافهم نحوه قلت نعم هكذا روى ارباب السير واصحاب التواريخ ; روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في " تاريخه " عن ابن عباس ، أن الله تعالى اوحى الى آدم لما اهبطه الى الارض إن لى حرما حيال عرشى ، فانطلق فابن لى بيتا فيه ثم طف به كما رايت ملائكتي تحف بعرشي فهنالك استجيب دعاءك ودعاء من يحف به من ذريتك .
فقال آدم انى لست اقوى على بنائه ، ولا اهتدى إليه ، فقيض الله تعالى له ملكا ، فانطلق به نحو مكة - وكان آدم في طريقه كلما راى روضة أو مكانا يعجبه سال الملك أن ينزل به هناك ليبنى فيه ، فيقول الملك انه ليس هاهنا حتى اقدمه مكة - فبنى البيت من خمسة جبال طور سيناء ، وطور زيتون ، ولبنان ، والجودى ، وبنى قواعده من حراء .
فلما فرغ خرج به الملك الى عرفات ، فاراه المناسك كلها التى يفعلها الناس اليوم ، ثم قدم به مكة وطاف بالبيت اسبوعا ، ثم رجع الى ارض الهند فمات .
وروى الطبري في التاريخ أن آدم حج من ارض الهند الى الكعبه اربعين حجة على رجليه .(13/161)
وقد روى أن الكعبة انزلت من السماء و هي ياقوتة أو لؤلؤة ; على اختلاف الروايات وانها بقيت على تلك الصورة الى أن فسدت الارض بالمعاصى ايام نوح ، وجاء الطوفان فرفع البيت ، وبنى ابراهيم هذه البنية على قواعده القديمة .
وروى أبو جعفر ، عن وهب بن منبه أن آدم دعا ربه فقال يا رب اما لارضك هذه عامر يسبحك ويقدسك فيها غيرى فقال الله انى سأجعل فيها من ولدك من يسبح بحمدى ويقدسني ، وساجعل فيها بيوتا ترفع لذكرى ، يسبحنى فيها خلقي ، ويذكر فيها اسمى ، وساجعل من تلك البيوت بيتا اختصه بكرامتي ، واوثره باسمى ، فاسميه بيتى ، وعليه وضعت جلالتي وخصصته بعظمتي ، و انا مع ذلك في كل شئ ، اجعل ذلك البيت حرما آمنا يحرم بحرمته من حوله ، ومن تحته ، ومن فوقه فمن حرمه بحرمتي استوجب كرامتي ، ومن اخاف اهله فقد اباح حرمتي ، واستحق سخطى ، واجعله بيتا مباركا ياتيه بنوك شعثا غبرا على كل ضامر من كل فج عميق ، يرجون بالتلبية رجيجا ، ويعجون بالتكبير عجيجا ، من اعتمده لا يريد غيره ، ووفد الى وزارنى واستضاف بى ، اسعفته بحاجته ; وحق على الكريم أن يكرم وفده واضيافه ; تعمره يا آدم ما دمت حيا ، ثم تعمره الامم والقرون والانبياء من ولدك امة بعد امة ، وقرنا بعد قرن .
قال ثم امر آدم أن ياتي الى البيت الحرام الذى اهبط له الى الارض فيطوف به كما كان يرى الملائكة تطوف حول العرش ، وكان البيت حينئذ من درة أو من ياقوتة ، فلما اغرق الله تعالى قوم نوح رفعه ، وبقى اساسه فبواه الله لابراهيم فبناه .(13/162)
الاصل : فالله الله في عاجل البغى ; وآجل وخامة الظلم ; وسوء عاقبة الكبر ، فانها مصيدة ابليس العظمى ، ومكيدته الكبرى ; التى تساور قلوب الرجال مساورة السموم القاتلة ، فما تكدى ابدا ، ولا تشوى احدا ، لا عالما لعلمه ، ولا مقلا في طمره .
وعن ذلك ما حرس الله عباده المؤمنين بالصلوات والزكوات ، ومجاهدة الصيام في الايام المفروضات ، تسكينا لاطرافهم ، وتخشيعا لابصارهم ، وتذليلا لنفوسهم ، و تخفيضا لقلوبهم ، واذهابا للخيلاء عنهم ، ولما في ذلك من تعفير عتاق الوجوه بالتراب تواضعا ، والتصاق كرائم الجوارح بالارض تصاغرا ، ولحوق البطون بالمتون من الصيام تذللا ، مع ما في الزكاة من صرف ثمرات الارض ، وغير ذلك الى اهل المسكنة والفقر .
انظروا الى ما في هذه الافعال من قمع نواجم الفخر ، وقدع طوالع الكبر .
الشرح : بلدة وخمة ووخيمة بينه الوخامة ، أي وبيئة .
مصيدة ابليس ، بسكون الصاد وفتح الياء آلته التى يصطاد بها .
وتساور قلوب الرجال تواثبها ، وسار إليه يسور ، أي وثب ، والمصدر السور ، ومصدر (تساور) المساورة ، ويقال إن لغضبه سورة ، وهو سوار ، أي وثاب معربد ، .(13/163)
وسورة الشراب وثوبه في الراس ، وكذلك مساورة السموم التى ذكرها امير المؤمنين عليه السلام .
وما تكدى ما ترد عن تأثيرها ، من قولك اكدى حافر الفرس ، إذا بلغ الكدية وهى الارض الصلبة ، فلا يمكنه أن يحفر .
ولا تشوى احدا لا تخطئ المقتل وتصيب غيره ; وهو الشوى ، والشوى الاطراف ، كاليد والرجل .
قال لا ترد مكيدته عن احد لا عن عالم لاجل علمه ، ولا عن فقير لطمره ، والطمر الثوب الخلق .
و (ما) في قوله (وعن ذلك ما حرس الله) زائدة مؤكدة ، أي عن هذه المكايد التى هي البغى والظلم والكبر حرس الله عباده ، ف (عن) متعلقة ب (حرس) .
وقال الراوندي يجوز أن تكون مصدرية ، فيكون موضعها رفعا بالابتداء ، وخبر المبتدا قوله (لما في ذلك) .
وقال ايضا يجوز أن تكون نافية ، أي لم يحرس الله عباده عن ذلك الجاء وقهرا ، بل فعلوه اختيارا من انفسهم ، والوجه الاول باطل ، لان (عن) على هذا التقدير تكون من صلة المصدر ، فلا يجوز تقديمها عليه ، وايضا فان (لما في ذلك) لو كان هو الخبر ، لتعلق لام الجر بمحذوف ، فيكون التقدير حراسة الله لعباده عن ذلك كائنة لما في ذلك من تعفير الوجوه بالتراب ; وهذا كلام غير مفيد ولا منتظم الا على تأويل بعيد لا حاجة الى تعسفه ، والوجه الثاني باطل ، لان سياقه الكلام تدل على فساده ، الا ترى قوله (تسكينا و تخشيعا) ، وقوله (لما في ذلك من كذا) ، وهذا كله تعليل الحاصل الثابت لا تعليل المنفى المعدوم .
ثم بين عليه السلام الحكمة في العبادات ، فقال انه تعالى حرس عباده بالصلوات(13/164)
التى افترضها عليهم من تلك المكايد ، وكذلك بالزكاة والصوم ليسكن اطرافهم ، ويخشع ابصارهم ، فجعل التسكين والتخشيع عذرا وعلة للحراسة ، ونصب اللفظات على انها مفعول له .
ثم علل السكون والخشوع الذى هو عله الحراسة لما في الصلاة من تعفير الوجه على التراب ، فصار ذلك عله العلة قال وذلك لان تعفير عتاق الوجوه بالتراب تواضعا يوجب هضم النفس وكسرها وتذليلها .
وعتاق الوجوه كرائمها .
والصاق كرائم الجوارح بالارض كاليدين والساقين تصاغرا يوجب الخشوع والاستسلام ، والجوع في الصوم الذى يلحق البطن في المتن يقتضى زوال الاشر والبطر ، ويوجب مذلة النفس وقمعها عن الانهماك في الشهوات ، وما في الزكاة من صرف فواضل المكاسب الى اهل الفقر والمسكنة يوجب تطهير النفوس والاموال ومواساة ارباب الحاجات بما تسمح به النفوس من الاموال ، وعاصم لهم من السرقات وارتكاب المنكرات ، ففى ذلك كله دفع مكايد الشيطان .
وتخفيض القلوب حطها عن الاعتلاء والتيه .
والخيلاء التكبر والمسكنة اشد الفقر في اظهر الرأيين .
والقمع القهر .
والنواجم جمع ناجمة ، وهى ما يظهر ويطلع من الكبر وغيره .
والقدع بالدال المهملة الكف ، قدعت الفرس وكبحته باللجام ، أي كففته .
والطوالع ، كالنواجم .(13/165)
الاصل : ولقد نظرت فما وجدت احدا من العالمين يتعصب لشئ من الاشياء الا عن عله تحتمل تمويه الجهلاء ، أو حجة تليط بعقول السفهاء غيركم ، فانكم تتعصبون لامر ما يعرف له سبب ولا علة .
اما ابليس فتعصب على آدم لاصله ، وطعن عليه في خلقته ، فقال انا نارى وانت طيني .
واما الاغنياء من مترفه الامم فتعصبوا لاثار مواقع النعم ، فقالوا نحن اكثر اموالا واولادا وما نحن بمعذبين .
فان كان لا بد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال ، ومحامد الافعال ، ومحاسن الامور ، التى تفاضلت فيها المجداء والنجداء من بيوتات العرب ، ويعاسيب القبائل ; بالاخلاق الرغيبة ، والاحلام العظيمة ، والاخطار الجليلة ، والاثار المحمودة .
فتعصبوا لخلال الحمد ; من الحفظ للحوار ، والوفاء بالذمام ، والطاعة للبر ، والمعصية للكبر ، والاخذ بالفضل ، والكف عن البغى ، والاعظام للقتل ، والانصاف للخلق ، والكظم للغيظ ، واجتناب الفساد في الارض .
الشرح : قد روى (تحتمل) بالتاء ، وروى (تحمل) ، والمعنى واحد .
والتمويه التلبيس من موهت النحاس ، إذا طليته بالذهب ليخفى .
ولاط الشئ بقلبي يلوط ويليط ، أي التصق .
والمترف الذى اطغته النعمة .(13/166)
وتفاضلت فيها ، أي تزايدت .
والمجداء جمع ماجد ، والمجد الشرف في الاباء والحسب والكرم يكونان في الرجل وان لم يكونا في آبائه .
هكذا قال ابن السكيت ، وقد اعترض عليه بان المجيد من صفات الله تعالى ، قال سبحانه (ذو العرش المجيد) (1) على قراءة من رفع ، والله سبحانه يتعالى عن الاباء ، وقد جاء في وصف القرآن المجيد ، قال سبحانه : (بل هو قرآن مجيد .
) (2) .
والنجداء الشجعان ، واحدهم نجيد ، واما نجد ونجد ، بالكسر والضم ، فجمعه انجاد مثل يقظ وايقاظ .
وبيوتات العرب قبائلها .
ويعاسيب القبائل رؤساءها ، .
واليعسوب في الاصل ذكر النحل واميرها .
والرغيبة الخصلة يرغب فيها .
والاحلام العقول .
والاخطار الاقدار .
ثم امرهم بان يتعصبوا لخلال الحمد وعددها ، وينبغى أن يحمل قوله عليه السلام (فانكم تتعصبون لامر ما يعرف له سبب ولا علة) ، على انه لا يعرف له سبب مناسب ، فكيف يمكن أن يتعصبوا لغير سبب اصلا .
وقيل إن اصل هذه العصبية ; وهذه الخطبة ; أن اهل الكوفة كانوا قد فسدوا في آخر خلافة امير المؤمنين ، وكانوا قبائل في الكوفة ، فكان الرجل يخرج من منازل قبيلته فيمر بمنازل قبيلة اخرى ، فينادى باسم قبيلته يا للنخع مثلا ، أو يا لكندة نداء عاليا يقصد به الفتنة واثارة الشر ، فيتالب عليه فتيان القبيلة التى مر بها فينادون يا لتميم
__________
(1) سورة البروج 15 .
(2) سورة البروج 21 .
(*)(13/167)
ويا لربيعة ويقبلون الى ذلك الصائح فيضربونه ، فيمضى الى قبيلته فيستصرخها ، فتسل السيوف وتثور الفتن ، ولا يكون لها اصل في الحقيقة الا تعرض الفتيان بعضهم ببعض .
الاصل : واحذروا ما نزل بالامم قبلكم من المثلات بسوء الافعال ، وذميم الاعمال ، فتذكروا في الخير والشر احوالهم ، واحذروا أن تكونوا امثالهم ، فإذا تفكرتم في تفاوت حاليهم ، فالزموا كل امر لزمت العزة به حالهم ، وزاحت الاعداء له عنهم ، ومدت العافية به عليهم ، وانقادت النعمة له معهم ، ووصلت الكرامة عليه حبلهم ; من الاجتناب للفرقة ، واللزوم للالفه ، والتحاض عليها ، والتواصي بها .
واجتنبوا كل امر كسر فقرتهم ، واوهن منتهم ، من تضاغن القلوب ، وتشاحن الصدور ، وتدابر النفوس ، وتخاذل الايدى .
الشرح : المثلات العقوبات .
وذميم الافعال ما يذم منها .
وتفاوت حاليهم اختلافهما .
وزاحت الاعداء بعدت .
وله ، أي لاجله .
والتحاض عليها تفاعل يستدعى وقوع الحض ، وهو الحث من الجهتين ، أي يحث بعضهم بعضا .
والفقرة واحدة فقر الظهر ، ويقال لمن قد اصابته مصيبة شديدة قد كسرت فقرته .(13/168)
والمنة القوة .
وتضاغن القلوب وتشاحنها واحد .
وتخاذل الايدى الا ينصر الناس بعضهم بعضا .
الاصل : وتدبروا احوال الماضين من المؤمنين قبلكم ، كيف كانوا في حال التمحيص والبلاء الم يكونوا اثقل الخلائق اعباء ، واجهد العباد بلاء ، واضيق اهل الدنيا حالا اتخذتهم الفراعنة عبيدا فساموهم سوء العذاب ، وجرعوهم جرع المرار ، فلم تبرح الحال بهم في ذل الهلكة وقهر الغلبة ; لا يجدون حيلة في امتناع ، ولا سبيلا الى دفاع ، حتى إذا راى الله سبحانه جد الصبر منهم على الاذى في محبته ، والاحتمال للمكروه من خوفه ، جعل لهم من مضايق البلاء فرجا ، فابدلهم العز مكان الذل ، والامن مكان الخوف ، فصاروا ملوكا حكاما ، وائمة اعلاما ، وقد بلغت الكرامة من الله لهم ، ما لم تذهب الامال إليه بهم .
الشرح : تدبروا أي تأملوا والتمحيص التطهير والتصفية .
والاعباء الاثقال واحدها عبء .
واجهد العباد اتعبهم .
والفراعنة العتاة ، وكل عات فرعون .
وساموهم سوء العذاب الزموهم اياه ، وهذا اشارة الى قوله تعالى (يسومونكم سوء(13/169)
العذاب يذبحون ابناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم) (1) .
والمرار بضم الميم شجر مر في الاصل ، واستعير شرب المرار لكل من يلقى شديد المشقة .
وراى الله منهم جد الصبر ، أي اشده .
وائمة اعلاما ، أي يهتدى بهم ، كالعلم في الفلاة .
الاصل : فانظروا كيف كانوا حيث كانت الاملاء مجتمعة ، والاهواء مؤتلفة ، والقلوب معتدلة ، والايدى مترادفة ، والسيوف متناصرة ، والبصائر نافذة ، والعزائم واحدة .
الم يكونوا اربابا في اقطار الارضين ، وملوكا على رقاب العالمين .
فانظروا الى ما صاروا إليه في آخر امورهم ، حين وقعت الفرقة ، وتشتت الالفة ، واختلفت الكلمة والافئدة ; تشعبوا مختلفين ، وتفرقوا متحاربين ، وقد خلع الله عنهم لباس كرامته ، وسلبهم غضارة نعمته ، وبقى قصص اخبارهم فيكم عبره للمعتبرين منكم .
الشرح : الاملاء الجماعات ، الواحد ملا .
__________
(1) سورة البقرة 49 .
(*)(13/170)
ومترادفة متعاونة .
البصائر نافذة ، يقال نفذت بصيرتي في هذا الخبر ، أي اجتمع همي عليه ، ولم يبق عندي تردد فيه ، لعلمي به وتحقيقي اياه .
واقطار الارضين نواحيها ، وتشتت تفرقت .
وتشعبوا صاروا شعوبا وقبائل مختلفين .
وتفرقوا متحزبين اختلفوا احزابا ، وروى (متحازبين) .
وغضارة النعمة الطيب اللين منها .
والقصص الحديث .
يقول انظروا في اخبار من قبلكم من الامم ، كيف كانت حالهم في العز والملك لما كانت كلمتهم واحدة ، والى ما ذا آلت حالهم حين اختلفت كلمتهم فاحذروا إن تكونوا مثلهم ، وان يحل بكم إن اختلفتم مثل ما حل بهم .
الاصل : فاعتبروا بحال ولد اسماعيل وبنى اسحاق وبنى اسرائيل عليهم السلام ; فما اشد اعتدال الاحوال ، واقرب اشتباه الامثال .
تأملوا امرهم في حال تشتتهم وتفرقهم ، ليالى كانت الاكاسرة والقياصرة اربابا لهم ، يحتازونهم عن ريف الافاق ، وبحر العراق ، وخضرة الدنيا ، الى منابت الشيح ، ومهافى الريح ، ونكد المعاش ، فتركوهم عالة مساكين ، اخوان دبر ووبر .
اذل الامم دارا ، واجدبهم قرارا ، لا ياوون الى جناح دعوة يعتصمون بها ، ولا الى ظل الفة يعتمدون على عزها ، فالاحوال مضطربة والايدى مختلفة ، والكثرة متفرقة ، في بلاء ازل ، واطباق جهل ، من بنات موؤدة ، واصنام معبودة ، وارحام مقطوعة ، وغارات مشنونة .(13/171)
الشرح : لقائل أن يقول ما نعرف احدا من بنى اسحق وبنى اسرائيل احتازتهم الاكاسرة والقياصرة عن ريف الافاق الى البادية ومنابت الشيح ، الا أن يقال يهود خيبر والنضير وبنى قريظة وبنى قينقاع ، وهؤلاء نفر قليل لا يعتد بهم .
ويعلم من فحوى الخطبة انهم غير مرادين بالكلام ، ولانه عليه السلام قال تركوهم اخوان دبر ووبر ، وهؤلاء لم يكونوا من اهل الوبر والدبر ، بل من اهل المدر ; لانهم كانوا ذوى حصون وآطام .
والحاصل إن الذين احتازتهم الاكاسرة والقياصرة من الريف الى البادية ، وصاروا اهل وبر ولد اسماعيل ; لا بنو اسحاق وبنو اسرائيل .
والجواب انه عليه السلام ذكر في هذه الكلمات ، وهى قوله (فاعتبروا بحال ولد اسماعيل وبنى اسحاق وبنى اسرائيل المقهورين والقاهرين جميعا) ; اما المقهورون فبنو اسماعيل ، واما القاهرون فبنو اسحاق وبنو اسرائيل ، لان الاكاسرة من بنى اسحاق ; ذكر كثير من اهل العلم أن فارس من ولد اسحاق ، والقياصرة من ولد اسحاق ايضا ، لان الروم بنو العيص بن اسحاق ، وعلى هذا يكون الضمير في (امرهم) ، و (تشتتهم) و (تفرقهم) يرجع الى بنى اسماعيل خاصة .
فان قلت فبنو اسرائيل ، أي مدخل لهم هاهنا ؟ قلت لان بنى اسرائيل لما كانوا ملوكا بالشام في ايام اجاب الملك ، وغيره حاربوا العرب من بنى اسماعيل غير مرة ، وطردوهم عن الشام والجئوهم على المقام ببادية الحجاز .
ويصير تقدير الكلام فاعتبروا بحال ولد اسماعيل مع بنى اسحاق وبنى اسرائيل ; فجاء بهم في صدر الكلام على العموم ، ثم خصص فقال الاكاسرة والقياصرة ، وهم داخلون في عموم ولد اسحاق ، وانما لم يخصص عموم بنى اسرائيل لان العرب لم تكن تعرف ملوك(13/172)
ولد يعقوب ، فيذكر لهم اسماءهم في الخطبة ، بخلاف ولد اسحاق فانهم كانوا يعرفون ملوكهم من بنى ساسان ومن بنى الاصفر .
قوله عليه السلام (فما اشد اعتدال الاحوال) ، أي ما اشبه الاشياء بعضها ببعض وان حالكم لشبيهة بحال اولئك فاعتبروا بهم .
قوله (يحتازونهم عن الريف) يبعدونهم عنه ، والريف الارض ذات الخصب والزرع ، والجمع ارياف ; ورافت الماشية أي رعت الريف ، وقد ارفنا أي صرنا الى الريف ، وارافت الارض أي اخصبت ، وهى ارض ريفة ، بتشديد الياء .
وبحر العراق دجلة والفرات ، اما الاكاسرة فطردوهم عن بحر العراق ، واما القياصرة فطردوهم عن ريف الافاق ، أي عن الشام وما فيه من المرعى والمنتجع .
قوله عليه السلام (اربابا لهم) ، أي ملوكا ، وكانت العرب تسمى الاكاسرة اربابا ، ولما عظم امر حذيفة بن بدر عندهم سموه رب معد .
ومنابت الشيح ارض العرب ، والشيح نبت معروف .
ومهافى الريح المواضع التى تهفو فيها ، أي تهب وهى الفيافي والصحارى .
ونكد المعاش ضيقه وقلته .
وتركوهم عالة ، أي فقراء ، جمع عائل ، والعائل ذو العيلة والعيلة : الفقر ، قال تعالى (وان خفتم عيله فسوف يغنيكم الله من فضله) (1) ، قال الشاعر : تعيرنا اننا عالة صعاليك نحن وانتم ملوك .
* (هامش) (1) سورة التوبة 28 .
(*)(13/173)
نظيره قائد وقادة ، وسائس وساسه .
وقوله (اخوان دبر ووبر) ، الدبر مصدر دبر البعير ، أي عقره القتب .
والوبر للبعير بمنزلة الصوف للضان والشعر للمعز .
قوله (اذل الامم دارا) ، لعدم المعاقل والحصون المنيعة فيها .
واجذبهم قرارا ، لعدم الزرع والشجر والنخل بها .
والجدب المحل .
ولا ياوون لا يلتجئون ولا ينضمون .
والازل الضيق .
واطباق جهل جمع طبق أي جهل متراكم بعضه فوق بعض .
وغارات مشنونة متفرقة ، وهى اصعب الغارات [ فصل في ذكر الاسباب التى دعت العرب الى وأد البنات ] من بنات موءودة ; كان قوم من العرب يئدون البنات ، قيل انهم بنو تميم خاصة ، وانه استفاض منهم في جيرانهم وقيل بل كان ذلك في تميم ، وقيس ، واسد ، وهذيل ، وبكر بن وائل ، قالوا وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله دعا عليهم ، فقال (اللهم اشدد وطاتك على مضر واجعل عليهم سنين كسنى يوسف) ، فاجدبوا سبع سنين حتى اكلوا الوبر بالدم ، وكانوا يسمونه العلهز ، فوادوا البنات لاملاقهم وفقرهم ، وقد دل على ذلك بقوله (ولا تقتلوا اولادكم خشية املاق) (1) ، قال (ولا يقتلن اولادهن) (2) .
وقال قوم بل وادوا البنات انفة ، وزعموا أن تميما منعت النعمان الاتاوة سنة من
__________
(1) سورة الاسراء 31 .
(2) سورة الممتحنة 12 .
(*)(13/174)
السنين ، فوجه إليهم اخاه الريان بن المنذر ، وجل من معه من بكر بن وائل ، فاستاق النعم وسبى الذرارى ، وفى ذلك يقول بعض بنى يشكر : لما راوا راية النعمان مقبلة قالوا الا ليت ادنى دارنا عدن يا ليت ام تميم لم تكن عرفت مرا وكانت كمن اودى به الزمن إن تقتلونا فاعيار مخدعة أو تنعموا فقديما منكم المنن منكم زهير وعتاب ومحتضن وابنا لقيط واودى في الوغى قطن .
فوفدت بنو تميم الى النعمان ، واستعطفوه ، فرق عليهم ، واعاد عليهم السبى ، وقال كل امراة اختارت اباها ردت إليه ، وإن اختارت صاحبها تركت عليه ، فكلهن اخترن آباءهن ، الا ابنة قيس بن عاصم ، فانها اختارت من سباها ، وهو عمرو بن المشمرخ اليشكرى فنذر قيس بن عاصم المنقرى التميمي الا يولد له بنت الا وادها ، والواد أن يخنقها في التراب ويثقل وجهها به حتى تموت .
ثم اقتدى به كثير من بنى تميم ، قال سبحانه (وإذا الموءودة سئلت باى ذنب قتلت) (1) ، أي على طريق التبكيت والتوبيخ لمن فعل ذلك أو اجازه ، كما قال سبحانه (يا عيسى بن مريم اانت قلت للناس اتخذوني وامى الهين من دون الله) (2) .
ومن جيد شعر الفرزدق قوله في هجاء جرير : الم تر انا بنى دارم زرارة منا أبو معبد (3) ومنا الذى منع الوائدات واحيا الوليد فلم يواد (4) السنا باصحاب يوم النسار واصحاب الوية المربد
__________
(1) سورة التكوير 8 ، 9 .
(2) سورة المائدة 116 .
(3) ديوانه 202 ، 203 .
(4) يعني جده صعصعة بن ناجية .
(*)(13/175)
السنا الذين تميم بهم تسامى وتفخر في المشهد وناجية الخير والاقرعان وقبر بكاظمة المورد (1) إذا ما اتى قبره عائذ اناخ على القبر بالاسعد (2) ايطلب مجد بنى دارم عطية كالجعل الاسود قرنبى يحك قفا مقرف لئيم ماثره قعدد (3) ومجد بنى دارم فوقه مكان السماكين والفرقد .
وفى الحديث أن صعصعة بن ناجية بن عقال لما وفد على رسول الله صلى الله عليه وآله قال يا رسول الله ، انى كنت اعمل في الجاهلية عملا صالحا ، فهل ينفعني ذلك اليوم قال عليه السلام وما عملت قال ضللت ناقتين عشراوين ، (4) فركبت جملا ومضيت في بغائهما (5) ، فرفع لى بيت حريد (6) ، فقصدته ، فإذا شيخ جالس بفنائه فسألته عن الناقتين ، فقال ما نارهما (7) قلت ميسم بنى دارم ، قال هما عندي قد احيا الله بهما قوما من اهلك من مضر ، فجلست معه ليخرجهما الى ، فإذا عجوز قد خرجت من كسر البيت ، فقال لها ما وضعت إن كان سقبا (8) شاركنا في اموالنا ، وان كان حائلا (9) وادناها ، فقالت العجوز وضعت انثى ، فقلت له اتبيعها قال وهل تبيع العرب اولادها قلت انما اشترى حياتها ، ولا اشترى رقها ، قال فبكم قلت احتكم ، قال بالناقتين والجمل ، قلت اذاك لك على أن يبلغني الجمل واياها قال بعتك ، فاستنقذتها
__________
(1) ناجية هو محمد بن عقال بن سفيان بن مجاشع .
والاقرعان : الاقرع وفراس ابنا حابس بن عقال .
(2) الاسعد : نجم طالعه سعد .
(3) القرنبي : ضرب من الخنافس ارقط طويل القوائم ، والقعدد : اللئيم الاباء .
(4) العشراء من النياق : التي مضى لحملها عشرة اشهر ، كالنفساء .
(5) في بغائهما : في طلبهما .
(6) الحريد : المعتزل المتنحي .
(7) في النهاية واللسان : ما ناراهما ؟ والنار هنا : السمة بالمكوى سميت باسم النار .
(8) السقب : ولد الناقة ساعة يولد ; وهو خاص بالذكر .
(9) الحائل : الانثى من ولد الناقة ساعة تولد ; ولا يقال : (سقبة) .
(*)(13/176)
منه بالجمل والناقتين ، وآمنت بك يا رسول الله ، وقد صارت لى سنة في العرب أن اشترى كل موءودة بناقتين عشراوين وجمل ، فعندي الى هذه الغاية ثمانون ومائتا موءودة قد انقذتهن ، قال عليه السلام (لا ينفعك ذاك لانك لم تبتغ به وجه الله ، وان تعمل في اسلامك عملا صالحا تثب عليه) (1) .
وروى الزبير في " الموفقيات " أن ابا بكر قال في الجاهلية لقيس بن عاصم المنقري ما حملك على أن وادت قال مخافة أن يخلف عليهن مثلك .
الاصل : فانظروا الى مواقع نعم الله عليهم حين بعث إليهم رسولا ، فعقد بملنه طاعتهم ، وجمع على دعوته الفتهم ، كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها ، واسالت لهم جداول نعيمها ، والتفت الملة بهم في عوائد بركتها ، فاصبحوا في نعمتها غرقين ، وفي خضرة عيشها فاكهين ، قد تربعت الامور بهم ، في ظل سلطان قاهر ، وآوتهم الحال الى كنف عز غالب ، وتعطفت الامور عليهم في ذرى ملك ثابت ، فهم حكام على العالمين ، وملوك في اطراف الارضين ، يملكون الامور على من كان يملكها عليهم ، ويمضون الاحكام فيمن كان يمضيها فيهم ، لا تغمز لهم قناة ، ولا تقرع لهم صفاة .
الشرح : لما ذكر ما كانت العرب عليه من الذل والضيم والجهل ، عاد فذكر ما ابدل الله
__________
(1) انظر الفائق 3 : 133 .
(*)(13/177)
به حالهم ، حين بعث إليهم محمدا صلى الله عليه وآله ، فعقد عليهم طاعتهم كالشئ المنتشر المحلول ، فعقدها بملة محمد صلى الله عليه وآله .
والجداول الانهر .
والتفت الملة بهم ، أي كانوا متفرقين فالتفت ملة محمد بهم ، أي جمعتهم ، ويقال التف الحبل بالحطب ، أي جمعه ، والتف الحطب بالحبل ، أي اجتمع به .
و (في) في قوله (في عوائد بركتها) متعلقة بمحذوف ; وموضع الجار والمجرور نصب على الحال ، أي جمعتهم الملة كائنة في عوائد بركتها ، و العوائد جمع عائدة ، وهى المنفعة .
تقول هذا اعود عليك ، أي انفع لك .
وروى (والتقت الملة) بالقاف أي اجتمعت بهم من اللقاء والرواية الاولى اصح .
واصبحوا في نعمتها غرقين ، مبالغة في وصف ما هم فيه من النعمة .
وفاكهين ناعمين وروى (فكهين) أي اشرين وقد قرئ بهما في قوله تعالى (ونعمة كانوا فيها فاكهين) (1) ، وقال الاصمعي فاكهين مازحين ، والمفاكهة ، الممازحة ومن امثالهم (لاتفاكه امة ، ولا تبل على اكمة) ; فاما قوله تعالى (فظلتم تفكهون) (2) ، فقيل تندمون ، وقيل تعجبون .
و (عن) في قوله (وعن خضرة عيشها) ، متعلقة بمحذوف ، تقديره فاصبحوا فاكهين فكاهة صادرة عن خضرة عيشها ، أي خضرة عيش النعمة سبب لصدور الفكاهة والمزاح عنه .
وتربعت الامور بهم ، أي اقامت ، من قولك ربع بالمكان ، أي اقام به .
__________
(1) سورة الدخان 27 .
(2) سورة الواقعة 65 .
(*)(13/178)
وآوتهم الحال ، بالمد أي ضمتهم وانزلتهم ، قال تعالى (آوى إليه اخاه) (1) ، أي ضمه إليه وانزله ، ويجوز (اوتهم) بغير مد .
افعلت في هذا المعنى وفعلت واحد ; عن ابى زيد .
والكنف الجانب ، وتعطفت الامور عليهم كناية عن السيادة والاقبال ، يقال قد تعطف الدهر على فلان ، أي اقبل حظه وسعادته ، بعد أن لم يكن كذلك وفى ذرا ملك بضم الذال أي في اعاليه ، جمع ذروة ، ويكنى عن العزيز الذى لا يضام ، فيقال لا يغمز له قناة ، أي هو صلب .
والقناة إذا لم تلن في يد الغامز كانت ابعد عن الحطم والكسر .
ولا تقرع لهم صفاة ; مثل يضرب لمن لا يطمع في جانبه لعزته وقوته .
الاصل : ألا وانكم قد نفضتم ايديكم من حبل الطاعة ، وثلمتم حصن الله المضروب عليكم باحكام الجاهلية ، فان الله سبحانه قد امتن على جماعة هذه الامة ; فيما عقد بينهم من حبل هذه الالفة التى ينقلبون في ظلها ، وياوون الى كنفها ، بنعمة لا يعرف احد من المخلوقين لها قيمة ، لانها ارجح من كل ثمن ، واجل من كل خطر .
واعلموا انكم صرتم بعد الهجرة اعرابا ، وبعد الموالاة احزابا ، ما تتعلقون من الاسلام الا باسمه ، ولا تعرفون من الايمان الا رسمه ، تقولون النار ولا العار كانكم تريدون أن تكفئوا الاسلام على وجهه انتهاكا لحريمه ، ونقضا لميثاقه الذى وضعه الله لكم حرما في ارضه ، وامنا بين خلقه .
وانكم إن لجاتم الى غيره حاربكم اهل الكفر ، ثم لا جبرائيل
__________
(1) سورة يوسف 69 .
(*)(13/179)
ولا ميكائيل ، ولا مهاجرين ولا انصار ينصرونكم ، الا المقارعة بالسيف حتى يحكم الله بينكم .
وان عندكم الامثال من باس الله وقوارعه ، وايامه ووقائعه ، فلا تستبطئوا وعيده جهلا باخذه ، وتهاونا ببطشه ، وياسا من باسه ، فان الله سبحانه لم يلعن القرون الماضية بين ايديكم الا لتركهم الامر بالمعروف والنهى عن المنكر ، فلعن الله السفهاء لركوب المعاصي ، والحلماء لترك التناهى .
الشرح : نفضتم ايديكم كلمه تقال في اطراح الشئ وتركه ، وهى ابلغ من أن تقول تركتم حبل الطاعة ، لان من يخلى الشئ من يده ثم ينفض يده منه يكون اشد تخلية له ممن لا ينفضها بل يقتصر على تخليته فقط ، لان نفضها اشعار وايذان بشدة الاطراح والاعراض .
والباء في قوله (باحكام الجاهلية) متعلقه ب ثلمتم) ، أي ثلمتم حصن الله باحكام الجاهلية التى حكمتم بها في ملة الاسلام .
والباء في قوله (بنعمة لا يعرف) ، متعلقة ب (امتن) .
و (في) من قوله (فيما عقد) متعلقة بمحذوف ، وموضعها نصب على الحال ، وهذا اشارة الى قوله تعالى (لو انفقت ما في الارض جميعا ما الفت بين قلوبهم ولكن الله الف بينهم) (1) وقوله (فاصبحتم بنعمته اخوانا) (2) .
وروى (تتقلبون في ظلها)
__________
(1) سورة الانفال 63 .
(2) سورة آل عمران 79 .
(*) .(13/180)
قوله (صرتم بعد الهجرة اعرابا) ; الاعراب على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله من آمن به من اهل البادية ، ولم يهاجر إليه ، وهم ناقصو المرتبة عن المهاجرين لجفائهم وقسوتهم وتوحشهم ، ونشئهم في بعد من مخالطة العلماء ، وسماع كلام الرسول صلى الله عليه وآله ، وفيهم انزل (الاعراب اشد كفرا ونفاقا واجدر الا يعلموا حدود ما انزل الله على رسوله) (1) ; وليست هذه الاية عامة في كل الاعراب بل خاصة ببعضهم ، وهم الذين كانوا حول المدينة وهم جهينة ، واسلم واشجع ، وغفار ، واليهم اشار سبحانه بقوله (وممن حولكم من الاعراب منافقون) (2) وكيف يكون كل الاعراب مذموما ، وقد قال تعالى (ومن الاعراب من يؤمن بالله واليوم الاخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله) (1) ، وصارت هذه الكلمة جارية مجرى المثل .
وانشد الحجاج على منبر الكوفة : قد لفها الليل بعصلبى (4) اروع خراج من الدوى (5) * مهاجر ليس باعرابى (6) * .
وقال عثمان لابي ذر اخشى أن تصير بعد الهجرة اعرابيا .
وروى (ولا يعقلون من الايمان) .
وقولهم (النار ولا العار) ، منصوبتان باضمار فعل ، أي ادخلوا النار ولا تلتزموا العار ، وهى كلمه جارية مجرى المثل ايضا ، يقولها ارباب الحمية والاباء ، فإذا قيلت في حق كانت صوابا ، وإذا قيلت في باطل كانت خطا .
واكفات الاناء وكفاته لغتان أي كببته .
__________
(1) سورة التوبة 97 .
(2) سورة التوبة 101 .
(3) سورة التوبة 99 .
(4) العصلبي : الشديد الخلق .
(5) أروع أي ذكى .
يقول : خراج من كل غماء شديد .
ويقال للصحراء : دوية ، وهي التي لا تكاد تنقضي ، منسوبة الى الدو ، والدو : صحراء ملساء لا علم بها .
(6) الكامل للمبرد 1 : 381 (طبعة نهضة مصر) .
(*)(13/181)
قوله (ثم لا جبرائيل ولا ميكائيل ولا مهاجرين) ، الرواية المشهورة هكذا بالنصب ، وهو جائز على التشبيه بالنكرة ، كقولهم معضلة ولا ابا حسن لها قال الراجز : * لا هيثم الليلة للمطى * .
وقد روى بالرفع في الجميع .
والمقارعة منصوبة على المصدر وقال الراوندي هي استثناء منقطع ، والصواب ما ذكرناه ، وقد روى (إلا المقارعة) بالرفع ، تقديره ولا نصير لكم بوجه من الوجوه الا المقارعة .
والامثال التى اشار إليها امير المؤمنين عليه السلام هي ما تضمنه القرآن من ايام الله ونقماته على اعدائه ، وقال تعالى (وضربنا لكم الامثال) (1) .
والتناهى مصدر تناهى القوم عن كذا ، أي نهى بعضهم بعضا ، يقول لعن الله الماضين من قبلكم ، لان سفهاءهم ارتكبوا المعصية ، وحلماءهم لم ينهوهم عنها ، وهذا من قوله تعالى (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) (2) .
الاصل : الا وقد قطعتم قيد الاسلام ، وعطلتم حدوده ، وامتم احكامه .
الا وقد امرني الله بقتال اهل البغى والنكث والفساد في الارض ، فاما الناكثون فقد قاتلت ، واما القاسطون فقد جاهدت ، واما المارقة فقد دوخت ، واما شيطان الردهة فقد كفيته بصعقة سمعت لها وجبة قلبه ، ورجة صدره ،
__________
(1) سورة إبراهيم 45 .
(2) سورة المائدة 79 .
(*)(13/182)
وبقيت بقية من اهل البغى ; ولئن اذن الله في الكرة عليهم ، لاديلن منهم الا ما يتشذر في اطراف البلاد تشذرا .
الشرح : قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال له عليه السلام (ستقاتل بعدى الناكثين والقاسطين والمارقين) ، فكان الناكثون اصحاب الجمل ، لانهم نكثوا بيعته عليه السلام ، وكان القاسطون اهل الشام بصفين ، وكان المارقون الخوارج في النهروان ، وفى الفرق الثلاث قال الله تعالى (فمن نكث فانما ينكث على نفسه) (1) ، وقال (واما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا) (2) ، وقال النبي صلى الله عليه وآله (يخرج من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، ينظر احدكم في النصل فلا يجد شيئا ، فينظر في الفوق (3) ، فلا يجد شيئا ، سبق الفرث والدم) .
وهذا الخبر من اعلام نبوته صلى الله عليه وآله ومن اخباره المفصلة بالغيوب .
واما شيطان الردهة ، فقد قال قوم انه ذو الثدية صاحب النهروان ، ورووا في ذلك خبرا عن النبي صلى الله عليه وآله ، وممن ذكر ذلك واختاره الجوهرى صاحب " الصحاح " (4) وهؤلاء يقولون إن ذا الثدية لم يقتل بسيف ، ولكن الله رماه يوم النهروان بصاعقة ، واليها اشار عليه السلام بقوله (فقد كفيته بصعقة سمعت لها وجبه
__________
(1) سورة الفتح 10 .
(2) سورة الجن 15 .
(3) الفوق : مشق رأس السهم حيث يقع الوتر .
(4) الصحاح 8 : 2232 ، وفيه : قال الخليل : الردهة : شبه أكمة كثيرة الحجارة .
وفي الحديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم ذكر المقتول بالنهروان فقال : (شيطان الردهة) .
(*)(13/183)
قلبه) وقال قوم شيطان الردهة احد الابالسة المردة من اعوان عدو الله ابليس ، ورووا في ذلك خبرا عن النبي صلى الله عليه وآله ، وانه كان يتعوذ منه والردهة شبه نقرة في الجبل يجتمع فيها الماء ، وهذا مثل قوله عليه السلام (هذا ازب العقبة) ، أي شيطانها ، ولعل ازب العقبة هو شيطان الردهة بعينه ، فتارة يرد بهذا اللفظ ، وتارة يرد بذلك اللفظ .
وقال قوم شيطان الردهة مارد يتصور في صورة حية ، ويكون على الردهة .
و انما اخذوا هذا من لفظة (الشيطان) لان الشيطان الحية ، ومنه قولهم شيطان الحماطة ، والحماطة شجرة مخصوصة ، ويقال انها كثيرة الحيات .
قوله (ويتشذر في اطراف الارض) ، يتمزق ويتبدد ومنه قولهم ذهبوا شذر مذر .
والبقية التى بقيت من اهل البغى معاوية واصحابه ، لانه عليه السلام لم يكن اتى عليهم باجمعهم ، وانما وقفت الحرب بينه وبينهم بمكيدة التحكيم .
قوله عليه السلام (ولئن اذن الله في الكرة عليهم) ، أي إن مد لى في العمر لاديلن منهم ، أي لتكونن الدولة لى عليهم ، أدلت من فلان أي غلبته وقهرته ، وصرت ذا دولة عليه .
[ استدلال قاضى القضاة على امامة ابى بكر ورد المرتضى عليه ] واعلم إن اصحابنا قد استدلوا على صحة امامة ابى بكر بقوله تعالى (يا ايها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف ياتي الله بقوم يحبهم ويحبونه اذلة(13/184)
على المؤمنين اعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) (1) ، ثم قال قاضى القضاة في المعنى وهذا خبر من الله تعالى ، ولا بد أن يكون كائنا على ما اخبر به ، والذين قاتلوا المرتدين هم أبو بكر واصحابه ، فوجب أن يكونوا هم الذين عناهم الله سبحانه بقوله (يحبهم ويحبونه) ، وذلك يوجب أن يكونوا على صواب .
واعترض المرتضى رحمه الله على هذا الاحتجاج في " الشافي " فقال من اين قلت إن الاية نزلت في ابى بكر واصحابه فان قال لانهم الذين قاتلوا المرتدين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ، ولا احد قاتلهم سواهم ، قيل له ومن الذى سلم لك ذلك أو ليس امير المؤمنين عليه السلام قد قاتل الناكثين والقاسطين و المارقين بعد الرسول صلى الله عليه وآله وهؤلاء عندنا مرتدون عن الدين ويشهد بصحة التأويل زائدا على احتمال القول له ، ما روى عن امير المؤمنين عليه السلام من قوله يوم البصرة والله ما قوتل اهل الاية حتى اليوم ، وتلاها وقد روى عن عمار وحذيفة وغيرهما مثل ذلك .
فان قال دليلى على انها في ابى بكر واصحابه قول اهل التفسير ; قيل له أو كل اهل التفسير قال ذلك فان قال نعم ، كابر لانه قد روى عن جماعة التأويل الذى ذكرناه ، ولو لم يكن الا ما روى عن امير المؤمنين عليه السلام ووجوه اصحابه الذين ذكرناهم لكفى ، وان قال حجتى قول بعض المفسرين ، قلنا واى حجة في قول البعض ولم صار البعض الذى قال ما ذكرت اولى بالحق من البعض الذى قال ما ذكرنا .
ثم يقال له قد وجدنا الله تعالى قد نعت المذكورين في الاية بنعوت يجب أن
__________
(1) سورة المائدة 54 .
(*)(13/185)
نراعيها ، لنعلم افي صاحبنا هي ام في صاحبك وقد جعله الرسول صلى الله عليه وآله في خيبر حين فر من فر من القوم عن العدو صاحب هذه الاوصاف ، فقال لاعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، كرارا غير فرار ; فدفعها الى امير المؤمنين عليه السلام .
ثم قوله تعالى (اذلة على المؤمنين اعزة على الكافرين) (1) ، يقتضى ما ذكرنا ، لانه من المعلوم بلا خلاف حال امير المؤمنين عليه السلام في التخاشع والتواضع ، وذم نفسه ، وقمع غضبه ، وانه ما رئى قط طائشا ولا متطيرا في حال من الاحوال ، ومعلوم حال صاحبيكم في هذا الباب ، اما احدهما فانه اعترف طوعا بان له شيطانا يعتريه عند غضبه ، واما الاخر فكان معروفا بالجد والعجلة ، مشهورا بالفظاظة والغلظة ، واما العزة على الكافرين ، فانما تكون بقتالهم وجهادهم والانتقام منهم ، وهذه حال لم يسبق امير المؤمنين عليه السلام إليها سابق ، ولا لحقه فيها لاحق .
ثم قال تعالى (يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) (1) ، وهذا وصف امير المؤمنين المستحق له بالاجماع ، وهو منتف عن ابى بكر وصاحبه اجماعا ، لانه لا قتيل لهما في الاسلام ، ولا جهاد بين يدى الرسول صلى الله عليه وآله ، وإذا كانت الاوصاف المراعاة في الاية حاصلة لامير المؤمنين عليه السلام ، وغير حاصلة لمن ادعيتم ، لانها فيهم على ضربين ضرب معلوم انتفاؤه كالجهاد ، وضرب مختلف فيه كالاوصاف التى هي غير الجهاد ، وعلى من اثبتها لهم الدلالة على حصولها ، ولا بد أن يرجع في ذلك الى غير ظاهر الاية ، لم يبق في يده من الاية دليل .
هذه جملة ما ذكره المرتضى رحمه الله ، ولقد كان يمكنه التخلص من الاحتجاج بالاية
__________
(1) سورة المائدة 54 .
(*)(13/186)
على وجه الطف واحسن واصح مما ذكره ، فيقول المراد بها من ارتد على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله في واقعة الاسود العنسى باليمن ، فان كثيرا من المسلمين ضلوا به وارتدوا عن الاسلام ، وادعوا له النبوة ، واعتقدوا صدقه ، والقوم الذين يحبهم الله ويحبونه القوم الذين كاتبهم رسول الله صلى الله عليه وآله واغراهم بقتله ، والفتك به ، وهم فيروز الديلمى واصحابه والقصة مشهورة .
وقد كان له ايضا أن يقول لم قلت إن الذين قاتلهم أبو بكر واصحابه كانوا مرتدين فان المرتد من ينكر دين الاسلام بعد أن كان قد تدين به ، والذين منعوا الزكاة لم ينكروا اصل دين الاسلام ، وانما تاولوا فاخطئوا ; لانهم تاولوا قول الله تعالى (خذ من اموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) (1) ; فقالوا انما ندفع زكاة اموالنا الى من صلاته سكن لنا ، ولم يبق بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله من هو بهذه الصفة ، فسقط عنا وجوب الزكاة ، ليس هذا من الردة في شئ ، وانما سماهم الصحابة اهل الردة على سبيل المجاز ، اعظاما لما قالوه وتاولوه .
فان قيل انما الاعتماد على قتال ابى بكر واصحابه لمسيلمة وطليحة اللذين ادعيا النبوة ، وارتد بطريقهما كثير من العرب ، لا على قتال مانعي الزكاة .
قيل إن مسيلمة وطليحة جاهدهما رسول الله صلى الله عليه وآله قبل موته بالكتب والرسل ، وانفذ لقتلهما جماعة من المسلمين ، وامرهم أن يفتكوا بهما غيلة إن امكنهم ذلك ; واستنفر عليهما قبائل من العرب ، وكل ذلك مفصل مذكور في كتب السيرة والتواريخ ، فلم لا يجوز أن يكون اولئك النفر الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وآله للفتك بهما ، هم المعنيون بقوله (يحبهم ويحبونه) الى آخر الاية ولم يقل في الاية (يجاهدون
__________
(1) سورة التوبة 103 .
(*)(13/187)
فيقتلون) ، وانما ذكر الجهاد فقط ، وقد كان الجهاد من اولئك النفر حاصلا وان لم يبلغوا الغرض ، كما كان الجهاد حاصلا عند حصار الطائف وإن لم يبلغ فيه الغرض .
وقد كان له ايضا أن يقول سياق الاية لا يدل على ما ظنه المستدل بها ; من انه من يرتدد عن الدين ، فان الله ياتي بقوم يحبهم ويحبونه يحاربونه لاجل ردته ، وانما الذى يدل عليه سياق الاية انه من يرتد منكم عن دينه بترك الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وآله - وسماه ارتدادا على سبيل المجاز - فسوف ياتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ، يجاهدون في سبيل الله معه عوضا عنكم ، وكذلك كان كل من خذل النبي صلى الله عليه وآله وقعد عن النهوض معه في حروبه ، اغناه الله تعالى عنه بطائفة اخرى من المسلمين جاهدوا بين يديه .
واما قول المرتضى رحمه الله انها انزلت في الناكثين والقاسطين والمارقين الذين حاربهم امير المؤمنين عليه السلام فبعيد ، لانهم لا يطلق عليهم لفظ (الرده) عندنا ، ولا عند المرتضى واصحابه ، اما اللفظ فبالاتفاق وان سموهم كفارا .
واما المعنى فلان في مذهبهم إن من ارتد - وكان قد ولد على فطرة الاسلام - بانت امراته منه ، وقسم ماله بين ورثته ، وكان على زوجته عده المتوفى عنها زوجها ; معلوم أن اكثر محاربي امير المؤمنين عليه السلام كانوا قد ولدوا في الاسلام ، ولم يحكم فيهم بهده الاحكام .
وقوله (إن الصفات غير متحققة في صاحبكم) ، فلعمري أن حظ امير المؤمنين عليه السلام منها هو الحظ الاوفى ، ولكن الاية ما خصت الرئيس بالصفات المذكورة ، وانما اطلقها على المجاهدين ، هم الذين يباشرون الحرب ، فهب إن ابا بكر وعمر ما كانا بهذه الصفات ، لم لا يجوز أن يكون مدحا لمن جاهد بين ايديهما من المسلمين ، وباشر الحرب ، وهم شجعان المهاجرين والانصار الذين فتحوا الفتوح ، ونشروا الدعوة ، وملكوا الاقاليم .(13/188)
وقد استدل قاضى القضاة ايضا عن صحه امامة ابى بكر ; واسند هذا الاستدلال الى شيخنا ابى على بقوله تعالى (سيقول لك المخلفون من الاعراب شغلتنا اموالنا واهلونا فاستغفر لنا يقولون بالسنتهم ما ليس في قلوبهم) (1) وقال تعالى (فان رجعك الله الى طائفة منهم فاستاذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معى ابدا ولن تقاتلوا معى عدوا انكم رضيتم بالقعود اول مرة فاقعدوا مع الخالفين) (2) ، وقال تعالى) (سيقول المخلفون إذا انطلقتم الى مغانم لتاخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل) (3) ، يعنى قوله تعالى (لن تخرجوا معى ابدا ولن تقاتلوا معى عدوا) ثم قال سبحانه (قل للمخلفين من الاعراب ستدعون الى قوم اولى باس شديد تقاتلونهم أو يسلمون * فان تطيعوا يؤتكم الله اجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا اليما) (4) ، فبين أن الذى يدعو هؤلاء المخلفين من الاعراب الى قتال قوم اولى باس شديد غير النبي صلى الله عليه وآله ، لانه تعالى قد بين انهم لا يخرجون معه ولا يقاتلون معه عدوا ، باية متقدمة ، ولم يدعهم بعد النبي صلى الله عليه وآله الى قتال الكفار الا أبو بكر وعمر وعثمان ، لان اهل التأويل لم يقولوا في هذه الاية غير وجهين من التأويل ، فقال بعضهم عنى بقوله (ستدعون الى قوم اولى باس شديد) بنى حنيفة ، وقال بعضهم عنى فارس والروم ، وابو بكر هو الذى دعا الى قتال بنى حنيفة وقتال آل فارس والروم ، ودعاهم بعده الى قتال فارس والروم عمر ، فإذا كان الله تعالى قد بين انهم بطاعتهم لهما يؤتهم اجرا حسنا ، وان تولوا عن طاعتهما يعذبهم عذابا اليما ، صح انهما على حق ، وأن طاعتهما طاعة لله تعالى وهذا يوجب صحة امامتهما .
__________
(1) سورة الفتح 11 .
(2) سورة التوبة 83 .
(3) سورة الفتح 15 .
(4) سورة الفتح 16 .
(*)(13/189)
فان قيل انما اراد الله بذلك اهل الجمل وصفين قيل هذا فاسد من وجهين احدهما قوله تعالى (تقاتلونهم أو يسلمون) ، والذين حاربوا امير المؤمنين كانوا على الاسلام ، ولم يقاتلوا على الكفر .
والوجه الثاني انا لا نعرف من الذين عناهم الله تعالى بهذا من بقى الى ايام امير المؤمنين عليه السلام ، كما علمنا انهم كانوا باقين في ايام ابى بكر .
اعترض المرتضى رحمه الله على هذا الكلام من وجهين احدهما انه نازع في اقتضاء الاية داعيا يدعو هؤلاء المخلفين غير النبي صلى الله عليه وآله ، وذلك لان قوله تعالى (سيقول لك المخلفون من الاعراب شغلتنا اموالنا واهلونا فاستغفر لنا يقولون بالسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن اراد بكم ضرا أو اراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون الى اهليهم ابدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا) (1) .
انما اراد به سبحانه الذين تخلفوا عن الحديبية بشهادة جميع اهل النقل وإطباق المفسرين .
ثم قال تعالى (سيقول المخلفون إذا انطلقتم الى مغانم لتاخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون الا قليلا) (1) ، وانما التمس هؤلاء المخلفون أن يخرجوا الى غنيمة خيبر ، فمنعهم الله تعالى من ذلك ، وامر نبيه أن يقول لهم لن تتبعونا الى هذه الغزاة ، لان الله تعالى كان حكم من قبل بان غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ، وانه لا حظ لمن لم يشهدها ، وهذا هو معنى قوله تعالى (يريدون أن يبدلوا كلام الله) ، وقوله (كذلكم قال الله من قبل) ، ثم قال تعالى (قل للمخلفين
__________
(1) سورة الفتح 11 ، 12 .
(*)(13/190)
من الاعراب ستدعون الى قوم اولى باس شديد تقاتلونهم أو يسلمون) ، وانما اراد أن الرسول سيدعوكم فيما بعد الى قتال قوم اولى باس شديد ، وقد دعاهم النبي صلى الله عليه وآله بعد ذلك الى غزوات كثيرة ، الى قوم اولى باس شديد ، كمؤتة وحنين و تبوك وغيرهما ، فمن اين يجب أن يكون الداعي لهؤلاء غير النبي صلى الله عليه وآله ، مع ما ذكرناه من الحروب التى كانت بعد خيبر .
وقوله إن معنى قوله تعالى (كذلكم قال الله من قبل) ، انما اراد به ما بينه في قوله (فان رجعك الله الى طائفه منهم فاستاذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معى ابدا ولن تقاتلوا معى عدوا) ، بتبوك سنة تسع ، وآية الفتح نزلت في سنة ست ، فكيف يكون قبلها .
وليس يجب أن يقال في القرآن بالارادة ، وبما يحتمل من الوجوه في كل موضع دون الرجوع الى تاريخ نزول الاى ، والاسباب التى وردت عليها ، وتعلقت بها .
ومما يبين لك أن هؤلاء المخلفين غير اولئك لو لم نرجع في ذلك الى نقل وتاريخ ، قوله تعالى في هؤلاء (فان تطيعوا يؤتكم الله اجرا حسنا وان تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا اليما) (1) ، فلم يقطع منهم على طاعة ولا معصية ، بل ذكر الوعد والوعيد على ما يفعلونه من طاعة أو معصية ، وحكم المذكورين في آيه سورة التوبة بخلاف هذه لانه تعالى بعد قوله (انكم رضيتم بالقعود اول مرة فاقعدوا مع الخالفين * ولا تصل على احد منهم مات ابدا ولا تقم على قبره انهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون * ولا تعجبك اموالهم واولادهم انما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق انفسهم وهم كافرون) (2) ، واختلاف احكامهم وصفاتهم يدل
__________
(1) سورة الفتح : 16 .
(2) سورة التوبة 83 - 85 .
(*)(13/191)
على اختلافهم ، وان المذكورين في آيه سورة الفتح غير المذكورين في آية سوره التوبة .
واما قوله لان اهل التأويل لم يقولوا في هذه الاية غير وجهين من التأويل فذكرهما باطل ، لان اهل التأويل قد ذكروا شيئا آخر لم يذكره ، لان المسيب روى عن ابى روق عن الضحاك في قوله تعالى (ستدعون الى قوم اولى باس شديد) (1) الاية ، قال هم ثقيف وروى هشيم عن ابى يسر سعيد بن جبير ، قال هم هوازن يوم حنين .
وروى الواقدي ، عن معمر عن قتادة ، قال هم هوازن وثقيف ، فكيف ذكر من اقوال المفسرين ما يوافقه مع اختلاف الرواية عنهم على انا لا نرجع في كل ما يحتمله تأويل القرآن الى اقوال المفسرين ، فانهم ربما تركوا مما يحتمله القول وجها صحيحا ، وكم استخرج جماعة من اهل العدل في متشابة القرآن من الوجوه الصحيحة التى ظاهر التنزيل بها اشبه ، ولها اشد احتمالا ، مما لم يسبق إليه المفسرون ، ولا دخل في جملة تفسيرهم وتاويلهم .
والوجه الثاني سلم فيه أن الداعي هؤلاء المخلفين غير النبي صلى الله عليه وآله ، وقال لا يمتنع أن يعنى بهذا الداعي امير المؤمنين عليه السلام ، لانه قاتل بعده الناكثين والقاسطين والمارقين .
وبشره النبي صلى الله عليه وآله بانه يقاتلهم ، وقد كانوا اولى باس شديد بلا شبهة .
قال فاما تعلق صاحب الكتاب بقوله (أو يسلمون) ، وان الذين حاربهم امير المؤمنين عليه السلام كانوا مسلمين ، فاول ما فيه انهم غير مسلمين عنده وعند اصحابه ، لان الكبائر تخرج من الاسلام عندهم كما تخرج عن الايمان إذ كان الايمان هو الاسلام
__________
(1) سورة الفتح 16 .
(*)(13/192)
على مذهبهم ثم إن مذهبنا في محاربي امير المؤمنين عليه السلام معروف ، لانهم عندنا كانوا كفارا بمحاربته لوجوه : الاول منها إن من حاربه كان مستحلا لقتاله ، مظهرا انه في ارتكابه على حق ، ونحن نعلم أن من اظهر استحلال شرب جرعة خمر هو كافر بالاجماع ، واستحلال دماء المؤمنين فضلا عن افاضلهم واكابرهم اعظم من شرب الخمر واستحلاله ، فيجب أن يكونوا من هذا الوجه كفارا .
الثاني انه عليه السلام قال له بلا خلاف بين اهل النقل (حربك يا على حربى ، وسلمك سلمى) ونحن نعلم انه لم يرد الا التشبيه بينهما في الاحكام ، ومن احكام محاربي النبي صلى الله عليه وآله الكفر بلا خلاف .
الثالث إن النبي صلى الله عليه وآله قال له بلا خلاف ايضا (اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه وانصر من نصره ، واخذل من خذله) ، وقد ثبت عندنا أن العداوة من الله لا تكون الا للكفار الذين يعادونه دون فساق اهل الملة .
الرابع قوله انا لا نعلم ببقاء هؤلاء المخلفين الى ايام امير المؤمنين عليه السلام فليس بشئ ، لانه إذا لم يكن ذلك معلوما ومقطوعا عليه ، فهو مجوز وغير معلوم خلافه ، والجواز كاف لنا في هذا الموضع .
ولو قيل له من اين علمت بقاء المخلفين المذكورين في الاية على سبيل القطع الى ايام ابى بكر لكان يفزع الى أن يقول حكم الاية يقتضى بقاءهم حتى يتم كونهم مدعوين الى قتال اولى الباس الشديد على وجه يلزمهم فيه الطاعة ، وهذا بعينه يمكن أن يقال له ، ويعتمد في بقائهم الى ايام امير المؤمنين عليه السلام على ما يوجبه حكم الاية .
فان قيل كيف يكون اهل الجمل وصفين كفارا ولم يسر امير المؤمنين عليه السلام(13/193)
فيهم بسيره الكفار ، لانه ما سباهم ، ولا غنم اموالهم ، ولا تبع موليهم قلنا احكام الكفر تختلف ، وان شملهم اسم (الكفر) ، لان في الكفار من يقتل ولا يستبقى ، وفيهم من يؤخذ منه الجزية ولا يحل قتله الا بسبب طارئ غير الكفر ، ومنهم من لا يجوز نكاحه على مذهب اكثر المسلمين ، فعلى هذا يجوز أن يكون اكثر هؤلاء القوم كفارا ، وإن لم يسر فيهم بجميع سيرة اهل الكفر ، لانا قد بينا اختلاف احكام الكفار ، ويرجع في أن حكمهم مخالف لاحكام الكفار الى فعله عليه السلام وسيرته فيهم .
على انا لا نجد في الفساق من حكمه أن يقتل مقبلا ، ولا يقتل موليا ، ولا يجهز على جريحه ، الى غير ذلك من الاحكام التى سيرها في اهل البصرة وصفين .
فإذا قيل في جواب ذلك احكام الفسق مختلفة ، وفعل امير المؤمنين هو الحجة في أن حكم اهل البصرة وصفين ما فعله .
قلنا مثل ذلك حرفا بحرف ، ويمكن مع تسليم أن الداعي لهؤلاء المخلفين أبو بكر ، أن يقال ليس في الاية دلالة على مدح الداعي ولا على امامته ، لانه قد يجوز أن يدعو الى الحق والصواب من ليس عليهما ، فيلزم ذلك الفعل من حيث كان واجبا في نفسه ، لا لدعاء الداعي إليه ، وابو بكر انما دعا الى دفع اهل الردة عن الاسلام ، وهذا يجب على المسلمين بلا دعاء داع ، والطاعة فيه طاعة لله تعالى ، فمن اين له أن الداعي كان على حق وصواب وليس في كون ما دعا إليه طاعة ما يدل على ذلك .
ويمكن ايضا أن يكون قوله تعالى (ستدعون) ، انما اراد به دعاء الله تعالى لهم بايجاب القتال عليهم ، لانه إذا دلهم على وجوب قتال المرتدين ، ورفعهم عن بيضة الاسلام ، فقد دعاهم الى القتال ، ووجبت عليهم الطاعة ، ووجب لهم الثواب إن اطاعوا ، وهذا ايضا تحتمله الاية .(13/194)
فهذه جملة ما ذكره المرتضى رحمه الله في هذا الموضع ، واكثره جيد لا اعتراض عليه ، وقد كان يمكنه أن يقول لو سلمنا بكل هذا لكان ليس في قوله (لن تخرجوا معى ابدا) الاية ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله لا يكون هو الداعي لهم الى القوم اولى الباس الشديد ، لانه ليس فيها الا محض الاخبار عنهم بانهم لا يخرجون معه ، ولا يقاتلون العدو معه ، وليس في هذا ما ينفى كونه داعيا لهم ، كما انه عليه السلام قال (أبو لهب لا يؤمن بى) ، لم يكن هذا القول نافيا لكونه يدعوه الى الاسلام .
وقوله (فاقعدوا مع الخالفين) ليس بامر على الحقيقة ، وانما هو تهديد كقوله (اعملوا ما شئتم) (1) ولا بد للمرتضى ولقاضي القضاة جميعا من أن يحملا صيغة (افعل) على هذا المحمل ، لانه ليس لاحدهما بمسوغ أن يحمل الامر على حقيقته ، لان الشارع لا يامر بالقعود وترك الجهاد مع القدرة عليه ، وكونه قد تعين وجوبه .
فان قلت لو قدرنا أن هذه الاية ، وهى قوله تعالى (قل للمخلفين من الاعراب ستدعون الى قوم اولى باس شديد) ، انزلت بعد غزوة تبوك ، وبعد نزول سورة (براءة) ، التى تتضمن قوله تعالى (لن تخرجوا معى ابدا) ، وقدرنا أن قوله تعالى (لن تخرجوا معي ابدا ليس) اخبارا محضا كما تأولته انت وحملت الاية عليه ، بل معناه لا اخرجكم معى ولا اشهدكم حرب العدو ، هل كان يتم الاستدلال ؟ قلت لا لان للامامية أن تقول يجوز أن يكون الداعي الى حرب القوم اولى الباس الشديد مع تسليم هذه المقدمات كلها هو رسول الله صلى الله عليه وآله ، لانه دعاهم الى حرب الروم في سرية اسامة بن زيد في صفر من سنة احدى عشرة ، لما سيره الى البلقاء ، وقال له سر الى الروم مقتل ابيك فاوطئهم الخيول وحشد معه اكثر المسلمين ، فهذا الجيش قد دعى فيه المخلفون من الاعراب الذين قعدوا عن الجهاد
__________
(1) سورة الشورى : 40 .
(*)(13/195)
في غزاة تبوك الى قوم اولى باس شديد ، ولم يخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله ، ولا حاربوا معه عدوا .
فان قلت إذا خرجوا مع اسامة ، فكانما خرجوا مع رسول الله ، وإذا حاربوا مع اسامة العدو ، فكانما حاربوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقد كان سبق انهم لا يخرجون مع رسول الله صلى الله عليه وآله ولا يحاربون معه عدوا .
قلت وإذا خرجوا مع خالد بن الوليد وغيره في ايام ابى بكر ، ومع ابى عبيدة وسعد في ايام عمر ; فكانما خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله ، وحاربوا العدو معه ايضا .
فان اعتذرت بانه وإن شابه الخروج معه والحرب معه الا انه على الحقيقة ليس معه وانما هو مع امرئ من قبل خلفائه .
قيل لك وكذلك خروجهم مع اسامة ومحاربة العدو معه ، وان شابه الخروج مع النبي ومحاربة العدو معه ، الا انه على الحقيقة ليس معه ، وانما هو مع بعض امرائه .
ويمكن أن يعترض الاستدلال بالاية ، فيقال لا يجوز حملها على بنى حنيفة ، لانهم كانوا مسلمين ، وانما منعوا الزكاة مع قولهم (لا اله الا الله محمد رسول الله) صلى الله عليه وآله ، ومنع الزكاة لا يخرج به الانسان عن الاسلام عند المرجئة ، والامامية مرجئة ; ولا يجوز حملها على فارس والروم ، لانه تعالى اخبر انه لا واسطة بين قتالهم واسلامهم ، كما تقول اما كذا واما كذا ، فيقتضى ذلك نفى الواسطة ، وقتال فارس والروم بينه وبين اسلامهم واسطة ، وهو دفع الجزية ، وانما تنتفى هذه الواسطة في قتال العرب ، لان مشركي العرب لا تؤخذ منهم الجزية ، فالاية اذن دالة على أن المخلفين سيدعون الى قوم اولى باس شديد الحكم فيهم اما قتالهم واما اسلامهم ، وهؤلاء هم مشركو العرب ولم يحارب مشركي العرب ، الا رسول الله صلى الله عليه وآله ، فالداعي لهم إذا هو رسول الله ، وبطل الاستدلال بالاية(13/196)
الاصل : انا وضعت بكلاكل العرب ، وكسرت نواجم قرون ربيعة ومضر .
وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله ، بالقرابة القريبة ، والمنزلة الخصيصة ، وضعني في حجره ، وانا وليد يضمني الى صدره ، ويكنفني في فراشه ، ويمسنى جسده ، ويشمني عرفه ، وكان يمضغ الشئ ثم يلقمنيه ، وما وجد لى كذبة في قول ، ولا خطلة في فعل .
ولقد قرن الله به صلى الله عليه وآله من لدن إن كان فطيما اعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن اخلاق العالم ، ليله ونهاره .
ولقد كنت اتبعه اتباع الفصيل اثر امه ، يرفع لى في كل يوم من اخلاقه علما ، ويأمرني بالاقتداء به ، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فاراه ، ولا يراه غيرى ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله وخديجة وانا ثالثهما ، ارى نور الوحى والرسالة ، واشم ريح النبوة .
ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحى عليه صلى الله عليه وآله ، فقلت يا رسول الله ، ما هذه الرنة فقال هذا الشيطان ، قد ايس من عبادته ، انك تسمع ما اسمع ، وترى ما ارى ، الا انك لست بنبى ، ولكنك لوزير ، وانك لعلى خبر .
الشرح : الباء في قوله (بكلاكل العرب) زائدة والكلاكل الصدور ، الواحد كلكل ، والمعنى انى اذللتهم صرعتهم الى الارض .(13/197)
ونواجم قرون ربيعة ومضر من نجم منهم وظهر ، وعلا قدره ، وطار صيته .
فان قلت اما قهره لمضر فمعلوم ، فما حال ربيعة ، ولم نعرف انه قتل منهم احدا قلت بلى قد قتل بيده وبجيشه كثيرا من رؤسائهم في صفين والجمل ، فقد تقدم ذكر اسمائهم من قبل ، وهذه الخطبة خطب بها بعد انقضاء امر النهروان .
والعرف بالفتح الريح الطيبة ، ومضغ الشئ يمضغه بفتح الضاد .
والخطلة في الفعل الخطا فيه ، وايقاعه على غير وجهه .
وحراء اسم جبل بمكة معروف .
والرنة الصوت .
[ ذكر ما كان من صلة على برسول الله في صغره ] والقرابة القريبة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله دون غيره من الاعمام ، كونه رباه في حجره ، ثم حامى عنه ونصره عند اظهار الدعوة دون غيره من بنى هاشم ، ثم ما كان بينهما من المصاهرة التى افضت الى النسل الاطهر دون غيره من الاصهار .
ونحن نذكر ما ذكره ارباب السير من معاني هذا الفصل .
روى الطبري في تاريخه ، قال حدثنا ابن حميد ، قال حدثنا سلمة ، قال حدثنى محمد ابن اسحاق قال حدثنى عبد الله بن نجيح ، عن مجاهد ، قال كان من نعمة الله عز وجل على على بن ابى طالب عليه السلام ، وما صنع الله له ، واراده به من الخير ، أن قريشا اصابتهم ازمة شديدة ، وكان أبو طالب ذا عيال كثير ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله للعباس - وكان من ايسر بنى هاشم يا عباس ، إن اخاك ابا طالب كثير العيال ، وقد ترى ما اصاب الناس من هذه الازمة ، فانطلق بنا ، فلنخفف عنه من عياله ، آخذ من بيته واحدا ، وتاخذ واحدا ،(13/198)
فنكفيهما عنه فقال العباس نعم ، فانطلقا حتى اتيا ابا طالب ، فقالا له انا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه ، فقال لهما إن تركتما لى عقيلا فاصنعا ما شئتما فاخذ رسول الله صلى الله عليه وآله عليا فضمه إليه ، واخذ العباس جعفرا رضى الله عنه ، فضمه إليه فلم يزل على بن ابى طالب عليه السلام مع رسول الله صلى الله عليه وآله حتى بعثه الله نبيا ، فاتبعه على عليه السلام فاقر به وصدقه ، ولم يزل جعفر عند العباس حتى اسلم واستغنى عنه (1) .
قال الطبري وحدثنا ابن حميد ، قال حدثنا سلمه ، قال حدثنا محمد بن اسحاق ، قال كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا حضرت الصلاة خرج الى شعاب مكة ، وخرج معه على بن ابى طالب عليه السلام مستخفيا من عمه ابى طالب ، ومن جميع اعمامه وسائر قومه ، فيصليان الصلوات فيها ، فإذا امسيا رجعا ، فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا .
ثم إن ابا طالب عثر عليهما وهما يصليان ، فقال لرسول الله صلى الله عليه وآله يا بن اخى ، ما هذا الذى اراك تدين به قال يا عم هذا دين الله ودين ملائكته ودين رسله ودين ابينا ابراهيم - أو كما قال - بعثنى الله به رسولا الى العباد ، وانت يا عم احق من بذلت له النصيحة ، ودعوته الى الهدى ، واحق من اجابني إليه ، واعانني عليه - أو كما قال - فقال أبو طالب يا بن اخى ، انى لا استطيع أن افارق دينى ودين آبائى ، وما كانوا عليه ، ولكن والله لا يخلص اليك شئ تكرهه ما بقيت .
قال الطبري وقد روى هؤلاء المذكورون أن ابا طالب قال لعلى عليه السلام يا بنى ، ما هذا الذى انت عليه فقال يا ابت ، انى آمنت بالله وبرسوله ، وصدقته بما
__________
(1) تاريخ الطبري 2 : 313 (طبعة المعارف) .
(*)(13/199)
جاء به ، وصليت لله معه ، قال فزعموا انه قال له اما انه لا يدعو الا الى خير فالزمه (1) .
وروى الطبري في تاريخه ايضا ، قال حدثنا احمد بن الحسين الترمذي ، قال حدثنا عبد الله بن موسى ، قال اخبرنا العلاء ، عن المنهال بن عمر ، وعن عبد الله بن عبد الله ، قال سمعت عليا عليه السلام ، يقول انا عبد الله ، واخو رسوله ، وانا الصديق الاكبر ، لا يقولها بعدى الا كاذب مفتر ، صليت قبل الناس بسبع سنين (2) .
وفى غير رواية الطبري انا الصديق الاكبر وانا الفاروق الاول ، اسلمت قبل اسلام ابى بكر ، وصليت قبل صلاته بسبع سنين كانه عليه السلام لم يرتض أن يذكر عمر ولا رآه اهلا للمقايسة بينه وبينه ، وذلك لان اسلام عمر كان متاخرا .
وروى الفضل بن عباس رحمه الله قال سالت ابى عن ولد رسول الله صلى الله عليه وآله الذكور ، ايهم كان رسول الله صلى الله عليه وآله له اشد حبا فقال على بن ابى طالب عليه السلام ، فقلت له سألتك عن بنيه ، فقال انه كان احب إليه من بنيه جميعا واراف ، ما رأيناه زايله يوما من الدهر منذ كان طفلا ، الا أن يكون في سفر لخديجة ، وما رأينا ابا ابر بابن منه لعلى ، ولا ابنا اطوع لاب من على له .
وروى الحسين بن زيد بن على بن الحسين عليه السلام ، قال سمعت زيدا ابى عليه السلام يقول كان رسول الله يمضغ اللحمة والتمرة حتى تلين ، ويجعلهما في فم على عليه السلام وهو صغير في حجره ، وكذلك كان ابى على بن الحسين عليه السلام يفعل بى ، ولقد كان ياخذ الشئ من الورك وهو شديد الحرارة ، فيبرده في الهواء أو ينفخ عليه حتى يبرد ، ثم يلقمنيه ، افيشفق على من حرارة لقمة ولا يشفق على من النار لو كان اخى اماما بالوصية كما يزعم هؤلاء ، لكان ابى افضى بذلك الى ووقاني من حر جهنم .
__________
(1) تاريخ الطبري 2 : 314 (المعارف) .
(2) تاريخ الطبري 2 : 310 (المعارف) .
(*)(13/200)
وروى جبير بن مطعم ، قال قال ابى مطعم بن عدى لنا ونحن صبيان بمكة الا ترون حب هذا الغلام - يعنى عليا - لمحمد واتباعه له دون ابيه واللات والعزى ، لوددت أن ابني بفتيان بنى نوفل جميعا .
وروى سعيد بن جبير ، قال سالت انس بن مالك ، فقلت ارايت قول عمر عن الستة إن رسول الله صلى الله عليه وآله مات وهو عنهم راض الم يكن راضيا عن غيرهم من اصحابه فقال بلى ، مات رسول الله صلى الله عليه وآله وهو راض عن كثير من المسلمين ، ولكن كان عن هؤلاء اكثر رضا ، فقلت له فاى الصحابة كان رسول الله صلى الله عليه وآله له احمد ؟ أو كما قال - قال ما فيهم احد الا وقد سخط منه فعلا ، وانكر عليه امرا ، الا اثنان على بن ابى طالب وابو بكر بن ابى قحافة ، فانهما لم يقترفا منذ اتى الله بالاسلام امرا اسخطا فيه رسول الله صلى الله عليه وآله .
[ ذكر حال رسول الله في نشوئه ] وينبغى أن نذكر الان ما ورد في شان رسول الله صلى الله عليه وآله وعصمته بالملائكة ، ليكون ذلك تقريرا وايضاحا لقوله عليه السلام (ولقد قرن الله به من لدن كان فطيما اعظم ملك من ملائكته) ، وان نذكر حديث مجاورته عليه السلام بحراء ، وكون على عليه السلام معه هناك ، وان نذكر ما ورد في انه لم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله وعليا وخديجة ، وان نذكر ما ورد في سماعه رنة الشيطان ، وان نذكر ما ورد في كونه عليه السلام وزيرا للمصطفى صلى الله عليه وآله .
اما المقام الاول فروى محمد بن اسحاق بن يسار في كتاب " السيره النبوية " ، ورواه ايضا محمد بن جرير الطبري في تاريخه ، قال كانت حليمة بنت ابى ذؤيب السعدية(13/201)
ام رسول الله صلى الله عليه وآله التى ارضعته تحدث انها خرجت من بلدها ومعها زوجها وابن لها ترضعه في نسوة من بنى سعد بن بكر يلتمسن الرضاع (1) بمكة ، في سنة شهباء (2) لم تبق شيئا ، قالت فخرجت على اتان لنا قمراء (3) عجفاء ، ومعنا شارف (4) لنا ، ما تبض (5) بقطرة ، ولا ننام ليلنا اجمع من بكاء صبينا الذى معنا من الجوع ، ما في ثديى ما يغنيه ، ولا في شارفنا ما يغديه ، (6) ولكنا نرجو الغيث والفرج فخرجت على اتانى تلك ، ولقد اراثت بالركب ضعفا وعجفا ، (7) حتى شق ذلك عليهم ، حتى قدمنا مكة نلتمس الرضاع (8) فما منا امراة الا وقد عرض عليها محمد صلى الله عليه وآله فتاباه إذا قيل لها انه يتيم ، وذلك انا انما كنا نرجو المعروف من ابى الصبى ، فكنا نقول يتيم ، ما عسى أن تصنع امه وجده فكنا نكرهه لذلك ، فما بقيت امراة ذهبت معى الا اخذت رضيعا غيرى ، فلما اجتمعنا للانطلاق قلت لصاحبي والله انى لاكره أن ارجع من بين صواحبي لم آخذ رضيعا ، والله لاذهبن الى ذلك اليتيم فلاخذنه ، قال لا عليك أن تفعلي وعسى الله أن يجعل لنا فيه بركة ، فذهبت إليه فاخذته ، وما يحملنى على اخذه الا انى لم اجد غيره قالت فلما اخذته رجعت الى رحلى ، فلما وضعته في حجري اقبل عليه ثدياى بما شاء من لبن ، فرضع حتى روى وشرب معه اخوه حتى روى ، وما كنا ننام قبل ذلك من بكاء صبينا جوعا ، فنام ، وقام زوجي الى شارفنا تلك فنظر إليها فإذا انها حافل (9) ، فحلب منها ما شرب وشربت انتهينا ريا وشبعا ، فبتنا بخير ليلة ، قالت يقول
__________
(1) ابن هشام (تلتمس الرضعاء) .
(2) سنة شهباء ، تريد بها سنة الجدب ، وذلك أن الارض حينئذ تكون بيضاء لانبات فيها .
(3) القمرة بالضم : لون الى الخضرة أو بياض فيه كدرة وحمار اقمر واتان قمراء .
القاموس .
(4) الشارف : الناقة المسنة .
(5) قال أبو ذر الخشني : ما تبض بالضاد المعجمة ، معناه : ما تنشغ ولا ترشح ، ومن رواه بالصاد المهملة ، فمعناه : (لا يبرق عليها اثر لين ، من البصيص وهو اللمعان) .
(6) قال ابن هشام : (ما يغذيه) .
(7) ابن هشام : (فلقد ادمت بالركب حتى شق ذلك عليهم ضعفا وجعفا) .
(8) ابن هشام : (الرضعاء) .
(9) حافل : اي ممتلئة الضرع .
(*)(13/202)
صاحبي حين اصبحنا اتعلمين (1) والله يا حليمة لقد اخذت نسمة مباركة ، فقلت والله انى لارجو ذلك ، ثم خرجنا وركبت اتانى تلك ، وحملته معى عليها ، فوالله لقطعت بالركب ما يقدر عليها شئ من حميرهم (2) حتى إن صواحبي ليقلن لى ويحك يا بنت ابى ذؤيب اربعى (3) علينا ، اليس هذه اتانك التى كنت خرجت عليها فاقول لهن بلى والله ، انها لهى ، فيقلن والله إن لها لشانا .
قالت ثم قدمنا منازلنا من بلاد بنى سعد - وما اعلم ارضا من ارض العرب اجدب منها - فكانت غنمي تروح على حين قدمنا به معنا شباعا ملاى (4) لبنا ، فكنا نحتلب ونشرب ، وما يحلب انسان قطرة لبن ، ولا يجدها في ضرع ، حتى إن الحاضر من قومنا ليقولون لرعاتهم ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعى ابنة ابى ذؤيب فيفعلون ، فتروح اغنامهم جياعا ما تبض بقطرة ، وتروح غنمي شباعا لبنا ، فلم نزل نعرف من الله الزيادة والخير به حتى مضت سنتاه وفصلته ، فكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان [ فلم يبلغ سنتيه ] (5) ، حتى كان غلاما جفرا (6) ، فقدمنا به على امه آمنة بنت وهب ، ونحن احرص شئ على مكثه فينا ، لما كنا نرى من بركته ، فكلمنا امه ، وقلنا لها لو تركته عندنا حتى يغلظ فانا نخشى عليه (7) وباء مكة ، فلم نزل بها حتى ردته معنا .
فرجعنا به الى بلاد بنى سعد ، فو الله انه لبعد ما قدمنا باشهر مع اخيه في بهم (8) لنا خلف بيوتنا ، إذ اتانا اخوه يشتد ، فقال لى ولابيه ها هو ذاك اخى القرشى ، قد جاءه
__________
(1) ابن هشام : (تعلمي) .
(2) ابن هشام : (حمرهم) .
(3) اربعي علينا ، اي اقيمي وانتظري ، يقال : ربع فلان على فلان ، إذا اقام عليه وانتظره .
(4) ابن هشام : (لبنا) بالتشديد ، اي غزيرات اللبن .
(5) من ابن هشام .
(6) جفرا ، اي قويا شديدا .
(7) الوباء ، مهموز ومقصور : كثرة الامراض والموت .
(8) البهم : الصغار من الغنم ، واحدها بهمة .
(*)(13/203)
رجلان عليهما ثياب بياض ، فاضجعاه وشقا بطنه ، فهما يسوطانه (1) قالت فخرجت انا وابوه نشتد نحوه ، فوجدناه قائما (2) ممتقعا وجهه ، فالتزمته والتزمه ابوه ، وقلنا ما لك يا بنى قال جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فاضجعاني ثم شقا بطني ، فالتمسا فيه شيئا لا ادرى ما هو قالت فرجعنا به الى خبائنا ، وقال لى ابوه يا حليمة ، لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد اصيب ، فالحقيه باهله .
قالت فاحتملته حتى قدمت به على امه ، فقالت ما اقدمك به يا ظئر وقد كنت حريصة عليه وعلى مكثه عندك فقلت لها قد بلغ الله بابنى ، وقضيت الذى على ، وتخوفت عليه الاحداث واديته اليك كما تحبين قالت اتخوفت عليه الشيطان قلت نعم قالت كلا والله ما للشيطان عليه من سبيل ، وان لابنى شانا ، افلا اخبرك خبره قلت بلى ، قالت رايت حين حملت به انه خرج منى نور اضاءت له قصور بصرى من (3) الشام ، ثم حملت به ، فو الله ما رايت حملا قط كان اخف ولا ايسر منه ، ثم وقع حين ولدته وانه لواضع يديه بالارض ، ورافع راسه الى السماء ، دعيه عنك وانطلقي راشدة (4) .
قال وروى الطبري في " تاريخه " عن شداد بن اوس ، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يحدث عن نفسه ، ويذكر ما جرى له وهو طفل في ارض بنى سعد بن بكر ، قال لما ولدت استرضعت في بنى سعد ، فبينا انا ذات يوم منتبذ من
__________
(1) يسوطانه ، قال أبو ذر الخشني : يقال : (سطت اللبن والدم وغيرهما اسوطه ، إذا ضربت بعضه ببعض وحركته ، واسم العود الذي يضرب به المسوط) .
(2) ممتقعا : متغيرا ، وفي ابن هشام : (منتقعا) ، وهما سواء .
(3) قال السهيلي : (ذلك ما فتح الله عليه من تلك البلاد ، حتى كانت الخلافة فيها مدة بني امية ، واستضاءت تلك البلاد وغيرها بنوره صلى الله عليه وآله وسلم) .
(4) سيرة ابن هشام 1 : 173 - 177 (نشرة المكتبة التجارية) .
(*)(13/204)
اهلي في بطن واد مع اتراب لى من الصبيان ، نتقاذف بالجلة ، إذا اتانى رهط ثلاثة ، معهم طشت من ذهب مملوءة ثلجا ، فاخذوني من بين اصحابي ، فخرج اصحابي هرابا حتى انتهوا الى شفير الوادي ، ثم عادوا الى الرهط ، فقالوا ما اربكم الى هذا الغلام ، فانه ليس منا هذا ابن سيد قريش ، وهو مسترضع فينا ، غلام يتيم ليس له اب ، فما ذا يرد عليكم قتله وما ذا تصيبون من ذلك ولكن إن كنتم لا بد قاتليه ، فاختاروا منا اينا شئتم فاقتلوه مكانه ، ودعوا هذا الغلام ، فانه يتيم .
فلما راى الصبيان أن القوم لا يحيرون لهم جوابا ، انطلقوا هرابا مسرعين الى الحى يؤذنونهم ويستصرخونهم على القوم ، فعمد احدهم ، فاضجعني اضجاعا لطيفا ، ثم شق ما بين مفرق صدري الى منتهى عانتي ، وانا انظر إليه فلم اجد لذلك حسا ، ثم اخرج بطني فغسلها بذلك الثلج ، فانعم غسلها ، ثم اعادها مكانها ، ثم قام الثاني منهم ، فقال لصاحبه تنح ، فنحاه عنى ، ثم ادخل يده في جوفى ، واخرج قلبى ، وانا انظر إليه فصدعه ثم اخرج منه مضغة سوداء فرماها ، ثم قال بيده يمنة (1) منه وكانه (2) يتناول شيئا ، فإذا في يده خاتم من نور ، تحار ابصار الناظرين دونه ، فختم به قلبى ، ثم اعاده مكانه فوجدت برد ذلك الخاتم في قلبى دهرا ، ثم قال الثالث لصاحبه تنح عنه ، فامر يده ما بين مفرق صدري الى منتهى عانتي ، فالتام ذلك الشق ، ثم اخذ بيدى فانهضني من مكاني انهاضا لطيفا ، وقال للاول الذى شق بطني زنه بعشرة من امته ، فوزننى بهم فرجحتهم ، فقال دعوه ، فلو وزنتموه بامته كلها لرجحهم ، ثم ضموني الى صدرهم ، وقبلوا راسى وما بين عينى ، وقالوا يا حبيب الله ، لا ترع ، انك لو تدرى ما يراد بك من الخير لقرت عيناك فبينا انا كذلك إذا انا بالحى قد جاءوا بحذافيرهم ، وإذا امى - وهى
__________
(1) في الاصول : (نميه) تصحيف .
(2) الطبري : (وكأنه) .
(*)(13/205)
ظئرى - امام الحى تهتف باعلى صوتها ، وتقول يا ضعيفاه فانكب على اولئك الرهط فقبلوا راسى وما بين عينى ، وقالوا حبذا انت من ضعيف ثم قالت ظئرى يا وحيداه فانكبوا على ، وضموني الى صدورهم ، وقبلوا راسى وما بين عيني ، ثم قالوا حبذا انت من وحيد وما انت بوحيد إن الله وملائكته معك والمؤمنون من اهل الارض ، ثم فالت ظئرى يا يتيماه استضعفت من بين اصحابك ، فقتلت لضعفك ، فانكبوا علي وضموني الى صدورهم ، وقبلوا راسي وما بين عيني ، وقالوا حبذا انت من يتيم ما اكرمك على الله لو تعلم ما يراد بك من الخير فال فوصل الحي الى شفير الوادي ، فلما بصرت بي امي - وهي ظئري - نادت يا بني ، الا أراك حيا بعد فجاءت حتى انكبت علي ، وضمتني الى صدرها ، فوالذي نفسي بيده ، إني لفي حجرها فد ضمتني إليها ، وان يدي لفي يد بعضهم ، فجعلت التفت إليهم ، وظننت أن القوم يبصرونهم ، فإذا هم لا يبصرونهم ، فيقول بعض القوم إن هذا الغلام قد اصابه لمم ، أو طائف من الجن ، فانطلقوا به الى كاهن بني فلان ، حتى ينظر إليه ويداويه ، فقلت ما بي شئ مما يذكرون ، نفسي سليمة ، وان فؤادي صحيح ، ليست بي قلبة (1) فقال ابي - وهو زوج ظئري : الا ترون كلامه صحيحا اني ارجو الا يكون على ابني باس .
فاتفق القوم على أن يذهبوا الى الكاهن بي ، فاحتملوني حتى ذهبوا بي إليه ، فقصوا عليه قصتي ، فقال اسكتوا حتى اسمع من الغلام ، فهو اعلم بامره منكم ، فسألني فقصصت عليه امري ، وانا يومئذ ابن خمس سنين ، فلما سمع قولي وثب وقال يا للعرب اقتلوا هذا الغلام فهو واللات والعزى لئن عاش ليبدلن دينكم وليخالفن امركم ، ولياتينكم بما لم تسمعوا به قط ، فانتزعتني ظئرى من حجره ، وقالت لو علمت إن هذا يكون من قولك ما اتيتك به ،
__________
(1) ليس بي قلبة ، اي ليس به شئ واصله من القلاب ، وهو داء ياخذ الابل في رؤوسها ، فيقلبها الى فوق ، قال في اللسان : (ولا يستعمل الا في النفي) .
(*)(13/206)
ثم احتملوني فاصبحت وقد صار في جسدي اثر الشق ، ما بين صدري الى منتهى عانتي كانه الشراك (1) .
وروى أن بعض اصحاب ابى جعفر محمد بن على الباقر عليه السلام ساله عن قول الله عز وجل (الا من ارتضى من رسول فانه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا) (2) .
فقال عليه السلام يوكل الله تعالى بانبيائه ملائكة يحصون اعمالهم ، ويؤدون إليه تبليغهم الرساله ، ووكل بمحمد صلى الله عليه وآله ملكا عظيما منذ فصل عن الرضاع يرشده الى الخيرات ومكارم الاخلاق ، ويصده عن الشر ومساوئ الاخلاق ، وهو الذى كان يناديه السلام عليك يا محمد يا رسول الله وهو شاب لم يبلغ درجة الرسالة بعد ، فيظن أن ذلك من الحجر والارض ، فيتامل فلا يرى شيئا .
وروى الطبري في " التاريخ " عن محمد بن الحنفية ، عن ابيه على عليه السلام ، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول (ما هممت بشئ مما كان اهل الجاهلية يعملون به غير مرتين ، كل ذلك يحول الله تعالى بينى وبين ما اريد من ذلك ، ثم ما هممت بسوء حتى اكرمني الله برسالته ، قلت ليلة الغلام من قريش كان يرعى معى باعلى مكة لو ابصرت لى غنمي حتى ادخل مكة ، فاسمر بها كما يسمر الشباب ، فخرجت اريد ذلك ، حتى إذا جئت اول دار من دور مكة ، سمعت عزفا بالدف (3) والمزامير ، فقلت ما هذا قالوا هذا فلان تزوج ابنة فلان ، فجلست انظر إليهم ، فضرب الله على اذنى فنمت ، فما ايقظنى الا مس الشمس ، فرجعت الى صاحبي ، فقال ما فعلت فقلت ما صنعت شيئا ، ثم اخبرته الخبر ، ثم قلت له ليلة اخرى مثل ذلك ، فقال افعل ، فخرجت فسمعت حين دخلت مكة مثل ما سمعت حين دخلتها تلك الليلة ، فجلست
__________
(1) الخبر بتفصيل أو في الطبري : 2 : 161 - 165 (طبع المعارف) .
(2) سورة الجن 27 .
(3) الطبري : (بالدفوف) .
(*)(13/207)
انظر ، فضرب الله على اذنى ، فما ايقظنى الا مس الشمس ، فرجعت الى صاحبي ، فاخبرته الخبر ، ثم ما هممت بعدها بسوء ، حتى اكرمني الله برسالته (1) .
وروى محمد بن حبيب في اماليه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله اذكر وانا غلام ابن سبع سنين ، وقد بنى ابن جدعان دارا له بمكة ، فجئت مع الغلمان ناخذ التراب والمدر في حجورنا فننقله ، فملات حجري ترابا فانكشفت عورتى ، فسمعت نداء من فوق راسى يا محمد ، ارخ ازارك ، فجعلت ارفع راسى فلا ارى شيئا ، الا انى اسمع الصوت ، فتماسكت ولم ارخه ، فكان انسانا ضربني على ظهرى ، فخررت لوجهي ، وانحل ازارى فسترني ، وسقط التراب الى الارض ، فقمت الى دار ابى طالب عمى ولم اعد .
واما حديث مجاورته عليه السلام بحراء فمشهور ، وقد ورد في الكتب الصحاح انه كان يجاور في حراء من كل سنة شهرا ، وكان يطعم في ذلك الشهر من جاءه من المساكين ، فإذا قضى جواره من حراء ، كان اول ما يبدا به إذا انصرف أن ياتي باب الكعبة قبل أن يدخل بيته ، فيطوف بها سبعا ، أو ما شاء الله من ذلك ، ثم يرجع الى بيته ، حتى جاءت السنة التى اكرمه الله فيها بالرسالة ، فجاور في حراء شهر رمضان ، ومعه اهله خديجة وعلى بن ابى طالب وخادم لهم ، فجاءه جبريل بالرسالة ، وقال عليه الصلاة والسلام جائنى وانا نائم بنمط فيه كتاب ، فقال اقرا قلت ما اقرا فغتنى (2) حتى ظننت انه الموت ، ثم ارسلني فقال (اقرا باسم ربك الذى خلق) ، الى قوله (علم الانسان
__________
(1) تاريخ الطبري 2 : 279 (المعارف) .
(2) غتني ، قال ابن الاثير : (الغت والغط سواء ، كأنه اراد : عصرني عصرا شديدا حتى وجدت منه المشقة كما يجد من يغمس في الماء قهرا .
النهاية 3 : 149 .
(*)(13/208)
ما لم يعلم (1) .
فقراته ثم انصرف عنى فانتبهت من نومى ، وكانما كتب في قلبى كتاب ، وذكر تمام الحديث .
واما حديث أن الاسلام لم يجتمع عليه بيت واحد يومئذ الا النبي وهو - عليهما السلام - وخديجة ، فخبر عفيف الكندى مشهور ، وقد ذكرناه من قبل ، وان ابا طالب قال له اتدرى من هذا قال لا قال هذا ابن اخى محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، وهذا ابني على بن ابى طالب ، وهذه المراة خلفهما خديجة بنت خويلد ; زوجة محمد ابن اخى ، وايم الله ما اعلم على الارض كلها احدا على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة .
واما رنة الشيطان ، فروى أبو عبد الله احمد بن حنبل في مسنده ، عن على بن ابى طالب عليه السلام ، قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله صبيحة الليلة التى اسرى به فيها ، وهو بالحجر يصلى ، فلما قضى صلاته ، وقضيت ، صلاتي سمعت رنة شديدة ، فقلت يا رسول الله ، ما هذه الرنة قال الا تعلم هذه رنة الشيطان ، علم انى اسرى بى الليله الى السماء ، فايس من أن يعبد في هذه الارض .
وقد روى عن النبي صلى الله عليه وآله ما يشابه هذا ، لما بايعه الانصار السبعون ليلة العقبة سمع من العقبة صوت عال في جوف الليل يا اهل مكة ، هذا مذمم والصباة معه قد اجمعوا على حربكم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله للانصار الا تسمعون ما يقول هذا ازب العقبة يعنى شيطانها ، وقد روى (ازبب العقبة) .
ثم التفت إليه فقال (2) استمع يا عدو الله ، اما والله لافرغن لك .
__________
(1) سورة اقرأ : 5 .
(2) في اللسان : (كانت العرب تسمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصابئ لانه خرج من دين قريش الى الاسلام ، ويسمون من دخل في دين الاسلام مصبوا ، لانهم كانوا لا يهمزون ، فابدلوا من الهمزة واوا ، ويسمون المسلمين الصباة من غير همز ، كانه جمع الصابي) .
(*)(13/209)
وروى عن جعفر بن محمد الصادق عليه السلام ، قال كان على عليه السلام يرى مع رسول الله صلى الله عليه وآله قبل الرسالة الضوء ويسمع الصوت ، وقال له صلى الله عليه وآله (لولا انى خاتم الانبياء لكنت شريكا في النبوة ، فان لا تكن نبيا فانك وصى نبى ووارثه ، بل انت سيد الاوصياء وامام الاتقياء) .
واما خبر الوزارة ، فقد ذكره الطبري في تاريخه عن عبد الله بن عباس عن على بن ابى طالب عليه السلام ، قال لما انزلت هذه الاية (وانذر عشيرتك الاقربين) (1) ، على رسول الله صلى الله عليه وآله دعاني ، فقال يا على ، إن الله امرني أن انذر عشيرتك الاقربين ، فضقت بذلك ذرعا ، وعلمت انى متى انادهم بهذا الامر ار منهم ما اكره ، فصمت حتى جاءني جبريل عليه السلام ، فقال يا محمد ، انك إن لم تفعل ما امرت به يعذبك ربك ، فاصنع لنا صاعا من طعام ، واجعل عليه رجل شاة ، واملا لنا عسا من لبن ، ثم اجمع بنى عبد المطلب حتى اكلمهم ، وابلغهم ما امرت به ففعلت ما امرني به ، ثم دعوتهم وهم يومئذ اربعون رجلا ، يزيدون رجلا أو ينقصونه ، وفيهم اعمامه أبو طالب ، وحمزة ، والعباس ، وابو لهب ، فلما اجتمعوا إليه دعا بالطعام الذى صنعت لهم ، فجئت به ، فلما وضعته تناول رسول الله صلى الله عليه وآله بضعة (2) من اللحم فشقها باسنانه ، ثم القاها في نواحى الصحفة ، ثم قال كلوا باسم الله ، فاكلوا حتى ما لهم الى شئ من حاجة ، وايم الله الذى نفس على بيده ، إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمته لجميعهم ، ثم قال اسق القوم يا على ، فجئتهم بذلك العس فشربوا منه ، حتى رووا جميعا ، وايم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله ، فلما اراد رسول الله صلى الله عليه وآله أن يكلمهم بدره أبو لهب الى الكلام ، فقال لشد ما سحركم صاحبكم فتفرق القوم ، ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقال من الغد يا على ، إن هذا الرجل قد سبقني
__________
(1) سورة الشعراء 214 .
(2) البضعة بالفتح ، وقد تكسر : القطعة من اللحم .
(*)(13/210)
الى ما سمعت من القول ، فتفرق القوم قبل أن اكلمهم ، فعد لنا اليوم الى مثل ما صنعت بالامس ، ثم اجمعهم لى ففعلت ثم جمعتهم ، ثم دعاني بالطعام ، فقربته لهم ، ففعل كما فعل بالامس ، فاكلوا حتى مالهم بشئ حاجة ، ثم قال اسقهم ، فجئتهم بذلك العس ، فشربوا منه جميعا ، حتى رووا ، ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقال يا بنى عبد المطلب ، انى والله ما اعلم أن شابا في العرب جاء قومه بافضل مما جئتكم به ، انى قد جئتكم بخير الدنيا والاخرة ، وقد امرني الله أن ادعوكم إليه ، فايكم يوازرني على هذا الامر ، على أن يكون اخى ووصيي وخليفتي فيكم فاحجم القوم عنها جميعا ، وقلت انا (1) - وانى لاحدثهم سنا ارمصهم (2) عينا ، واعظمهم بطنا ، واحمشهم (3) ساقا انا يا رسول الله اكون وزيرك عليه ، فاعاد القول ، فامسكوا واعدت ما قلت ، فاخذ برقبتى ، ثم قال لهم هذا اخى ووصيي و خليفتي فيكم ، فاسمعوا له واطيعوا .
فقام القوم يضحكون ، ويقولون لابي طالب قد امرك أن تسمع لابنك وتطيع (4) .
ويدل على انه وزير رسول الله صلى الله عليه وآله من نص الكتاب والسنة قول الله تعالى (واجعل لى وزيرا من اهلي * هارون اخى * اشدد به ازرى * واشركه في امرى) (5) .
وقال النبي صلى الله عليه وآله في الخبر المجمع على روايته بين سائر فرق الاسلام (انت منى بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبى بعدى) ، فاثبت له جميع مراتب هارون عن موسى ، فاذن هو وزير رسول الله صلى الله عليه وآله ، وشاد ازره ، ولو لا انه خاتم النبيين لكان شريكا في امره
__________
(1) ساقطة من التاريخ .
(2) الرمص في العين : كالغمص ، وهو قذى تلفظ به كناية عن صغر سنه .
(3) حمش الساقين : رفيعهما .
(4) تاريخ الطبري 2 : 319 - 321 (المعارف) ، وتفسير الطبري 19 : 74 ، 75 (بولاق) ، بتفصيل اوفى .
(5) سورة طه 29 - 31 .
(*)(13/211)
وروى أبو جعفر الطبري ايضا في التاريخ أن رجلا قال لعلى عليه السلام يا امير المؤمنين ، بم ورثت ابن عمك دون عمك فقال على عليه السلام هاؤم ثلاث مرات ، حتى اشراب الناس ، ونشروا آذانهم ، ثم قال جمع رسول الله صلى الله عليه وآله بنى عبد المطلب بمكة ، وهم رهطه (1) كلهم ، ياكل الجذعة ، ويشرب الفرق (2) ، فصنع مدا من طعام ، حتى اكلوا وشبعوا وبقى الطعام كما هو ، كانه لم يمس ، ثم دعا بغمر (3) ، فشربوا ورووا ، وبقى الشراب كانه لم يشرب ، ثم قال يا بنى عبد المطلب ، انى بعثت اليكم خاصة ، والى الناس عامة ، فايكم يبايعني على أن يكون اخى وصاحبى ، ووارثى فلم يقم إليه احد ، فقمت إليه ، وكنت من اصغر القوم ، فقال اجلس ، ثم قال ذلك ثلاث مرات ، كل ذلك اقوم إليه ، فيقول اجلس ، حتى كان في الثالثة ، فضرب بيده على يدى ، فعند ذلك ورثت ابن عمى دون عمى (4) .
الاصل : ولقد كنت معه صلى الله عليه وآله ، لما اتاه الملا من قريش ، فقالوا له يا محمد ، انك قد ادعيت عظيما لم يدعه آباؤك ، ولا احد من بيتك ، ونحن نسالك امرا إن انت اجبتنا إليه واريتناه ، علمنا انك نبى ورسول ، وان لم تفعل علمنا انك ساحر كذاب .
فقال صلى الله عليه وآله وما تسألون قالواتدعو لنا هذه الشجرة ، حتى تنقلع بعروقها ، وتقف بين يديك .
فقال صلى الله عليه وآله إن الله على كل
__________
(1) في الاصول : (رهط) ، واثبت ما في الطبري .
(2) الفرق ، بكسر الفاء وبعضهم يقول بالفتح : مكيال كيبر لاهل المدينة يكال به اللبن .
(3) الغمر : القدح الصغير .
(4) تاريخ الطبري 2 : 321 ، 322 .
(*)(13/212)
شئ قدير ، فان فعل الله لكم ذلك ، اتؤمنون وتشهدون بالحق قالوا نعم ، قال فانى ساريكم ما تطلبون ، وانى لاعلم انكم لا تفيئون الى خير ، وإن فيكم من يطرح في القليب ، ومن يحزب الاحزاب ثم قال صلى الله عليه وآله يا ايتها الشجرة ، إن كنت تؤمنين بالله واليوم الاخر ، وتعلمين انى رسول الله ، فانقلعي بعروقك حتى تقفى بين يدى باذن الله ، والذى بعثه بالحق لانقلعت بعروقها ، وجاءت ولها دوى شديد ، وقصف كقصف اجنحة الطير ، حتى وقفت بين يدى رسول الله صلى الله عليه وآله مرفرفة ، والقت بغصنها الاعلى على رسول الله صلى الله عليه وآله وببعض اغصانها على منكبي ، وكنت عن يمينه صلى الله عليه وآله ، فلما نظر القوم الى ذلك قالوا علوا واستكبارا فمرها فلياتك نصفها ، ويبقى نصفها ، فأمرها فاقبل إليه نصفها كاعجب اقبال واشده دويا ، فكادت تلتفت برسول الله صلى الله عليه وآله ، فقالوا كفرا وعتوا فمر هذا النصف فليرجع الى نصفه كما كان ، فأمره صلى الله عليه وآله فرجع ، فقلت انا لا اله الا الله ، انى اول مؤمن بك يا رسول الله ، واول من اقر بان الشجرة فعلت ما فعلت بامر الله تعالى تصديقا بنبوتك ، واجلالا لكلمتك فقال القوم كلهم بل ساحر كذاب ، عجيب السحر خفيف فيه ، وهل يصدقك في امرك الا مثل هذا يعنوننى - وانى لمن قوم لا تأخذهم في الله لومة لائم ، سيماهم سيما الصديقين ، وكلامهم كلام الابرار ، عمار الليل ، ومنار النهار ، متمسكون بحبل القرآن ، يحيون سنن الله وسنن رسوله ، لا يستكبرون ولا يعلون ، ولا يغلون ولا يفسدون ، قلوبهم في الجنان ، واجسادهم في العمل .(13/213)
الشرح : الملا الجماعة ولا تفيئون لا ترجعون ومن يطرح في القليب ، كعتبة وشيبة ابني ربيعة بن عبد شمس وعمرو بن هشام بن المغيرة ، المكنى ابا جهل وغيرهم ، طرحوا في قليب بدر بعد انقضاء الحرب ، ومن يحزب الاحزاب ، أبو سفيان صخر بن حرب بن امية .
والقصف والقصيف الصوت .
وسيماهم علامتهم ومثله (سيمياء) .
ومعنى قوله عليه السلام (قلوبهم في الجنان ، واجسادهم في العمل) ، أن قلوبهم ملتذة بمعرفة الله تعالى واجسادهم نصبة بالعبادة .
واما امر الشجرة التى دعاها رسول الله صلى الله عليه وآله ، فالحديث الوارد فيها كثير مستفيض ، قد ذكره المحدثون في كتبهم ، وذكره المتكلمون في معجزات الرسول صلى الله عليه وآله ، والاكثرون رووا الخبر فيها على الوضع الذى جاء في خطبة امير المؤمنين ، ومنهم من يروى ذلك مختصرا انه دعا شجرة فاقبلت تخد إليه الارض خدا .
وقد ذكر البيهقى في كتاب دلائل النبوة حديث الشجرة ، ورواه ايضا محمد بن اسحاق بن يسار في كتاب السيره والمغازى على وجه آخر ، قال محمد بن اسحاق كان ركانة (1) بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف اشد قريش كلها ، فخلا يوما برسول الله صلى الله عليه وآله في بعض شعاب مكة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله يا ركانة ، تتقى الله ، وتقبل ما ادعوك إليه قال لو اعلم أن الذى تقول حق لاتبعتك ، قال افرايت إن صرعتك ، اتعلم أن ما اقول لك حق قال نعم ، قال فقم حتى اصارعك ، فقام ركانة ، فلما بطش به رسول الله صلى الله عليه وآله اضجعه لا يملك من نفسه شيئا ، فقال عد يا محمد ، فعاد فصرعه ، فقال يا محمد ، إن هذا لعجب حين تصرعنى (2) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله واعجب من ذلك إن شئت اريتكه ، إن اتقيت الله ، واتبعت امرى ،
__________
(1) كذا ضبطه صاحب الاشتقاق 78 ، بضم الراء .
(2) ب : (حتى) ، تصحيف ، وفي ابن هشام : (اتصرعني) .
(*)(13/214)
قال ما هو قال ادعو لك هذه الشجرة التى تراها ، فتاتي ، قال فادعها ، فدعاها ، فاقبلت حتى وقفت بين يدى رسول الله صلى الله عليه وآله ، ثم قال ارجعي الى مكانك ، فرجعت الى مكانها ، فرجع ركانة ، الى قومه ، وقال يا بنى عبد مناف ، ساحروا (1) بصاحبكم اهل الارض فما رأيت اسحر منه قط ، ثم اخبرهم بالذى راى ، والذى صنع (2) .
[ القول في اسلام ابى بكر وعلى وخصائص كل منهما ] وينبغى أن نذكر في هذا الموضع ملخص ما ذكره الشيخ أبو عثمان الجاحظ في كتابه المعروف بكتاب العثمانية في تفضيل اسلام ابى بكر على اسلام على عليه السلام ، لان هذا الموضع يقتضيه ، لقوله عليه السلام حكاية عن قريش لما صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وهل يصدقك في امرك الا مثل هذا لانهم استصغروا سنه ، فاستحقروا امر محمد رسول الله صلى الله عليه وآله حيث لم يصدقه في دعواه الا غلام صغير السن ، وشبهة العثمانية التى قررها الجاحظ من هذه الشبهة نشات ، ومن هذه الكلمة تفرعت ، لان خلاصتها أن ابا بكر اسلم وهو ابن اربعين سنة ، وعلى اسلم ولم يبلغ الحلم ، فكان اسلام ابى بكر افضل .
ثم نذكر ما اعترض به شيخنا أبو جعفر الاسكافي على الجاحظ في كتابه المعروف ب " نقض العثمانية " ، ويتشعب الكلام بينهما حتى يخرج عن البحث في الاسلامين الى البحث في افضلية الرجلين وخصائصهما ، فان ذلك لا يخلو عن فائدة جليلة ، ونكتة
__________
(1) ساحروا : اي غالبوهم بالسحر .
(2) سيرة ابن هشام 1 : 418 (نشرة المكتبة التجارية) .
(*)(13/215)
لطيفة ، لا يليق أن يخلو كتابنا هذا عنها ، ولان كلامهما بالرسائل والخطابة اشبه ، وفى الكتابة اقصد وادخل ، وكتابنا هذا موضوع لذكر ذلك امثاله .
قال أبو عثمان قالت العثمانية افضل الامة واولاها بالامامة أبو بكر بن ابى قحافة لاسلامه على الوجه الذى لم يسلم عليه احد في عصره ، وذلك إن الناس اختلفوا في اول الناس اسلاما ، فقال قوم أبو بكر ، وقال قوم زيد بن حارثة ، وقال قوم خباب بن الارت .
وإذا تفقدنا اخبارهم ، واحصينا احاديثهم ، وعددنا رجالهم ، ونظرنا في صحة اسانيدهم ، كان الخبر في تقدم اسلام ابى بكر اعم ورجاله اكثر ، واسانيده اصح ، وهو بذاك اشهر ، واللفظ فيه اظهر ، مع الاشعار الصحيحة ، والاخبار المستفيضة في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وبعد وفاته ، وليس بين الاشعار والاخبار فرق إذا امتنع في مجيئها ، واصل مخرجها التباعد والاتفاق والتواطؤ ، ولكن ندع هذا المذهب جانبا ، ونضرب عنه صفحا ، اقتدارا على الحجة ، ووثوقا بالفلج والقوة ، ونقتصر على ادنى نازل في ابى بكر ، وننزل على حكم الخصم ، فنقول انا وجدنا من يزعم انه اسلم قبل زيد وخباب ، ووجدنا من يزعم انهما اسلما قبله ، واوسط الامور اعدلها ، واقربها من محبة الجميع ، ورضا المخالف ، أن نجعل اسلامهم كان معا ، إذ الاخبار متكافئة ، والاثار متساوية على ما تزعمون ، وليست احدى القضيتين اولى في صحة العقل من الاخرى ، ثم نستدل على امامة ابى بكر بما ورد فيه من الحديث ، وبما ابانه به الرسول صلى الله عليه وآله من غيره .
قالوا فمما روى من تقدم اسلامه ما حدث به أبو داود وابن مهدى عن شعبة ، وابن عيينة عن الجريرى ، عن ابى هريرة ، قال أبو بكر انا احقكم بهذا الامر - يعنى الخلافة - الست اول من صلى .(13/216)
روى عباد بن صهيب ، عن يحيى بن عمير ، عن محمد بن المنكدر ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال (إن الله بعثنى بالهدى ودين الحق الى الناس كافة ، فقالوا كذبت ، وقال أبو بكر صدقت) .
وروى يعلى بن عبيد ، قال جاء رجل الى ابن عباس ، فسأله من كان اول الناس اسلاما فقال اما سمعت قول حسان بن ثابت : إذا تذكرت شجوا من اخى ثقة فاذكر اخاك ابا بكر بما فعلا (1) الثاني التالى المحمود مشهده واول الناس منهم صدق الرسلا (2) .
وقال أبو محجن : سبقت الى الاسلام والله شاهد وكنت حبيبا بالعريش المشهر (3) .
وقال كعب بن مالك : سبقت اخا تيم الى دين احمد وكنت لدى الغيران في الكهف صاحبا (4) وروى ابن ابى شيبة ، عن عبد الله بن ادريس ووكيع ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، قال : قال النخعي أبو بكر اول من اسلم .
وروى هيثم عن يعلى بن عطاء ، عن عمرو بن عنبسة ، قال اتيت النبي صلى الله عليه وآله وهو بعكاظ ، فقلت من بايعك على هذا الامر فقال بايعني حر وعبد ، فلقد رأيتني يومئذ وانا رابع الاسلام .
__________
(1) ديوانه 299 ، والعثمانية 111 .
(2) بعده في الديوان والعثمانية : وثاني اثنين في الغار المنيف وقد طاف العداة به إذ صعد الجبلا خير البرية اتقاها واطهرها الا النبي واوفاها بما حملا (3) في الاصول : (المشهرا) ، واثبت ما في العثمانية ، من ابيات ثلاثة اوردها على قافية الراء المكسورة .
(4) العثمانية 111 .
(*)(13/217)
قال بعض اصحاب الحديث يعنى بالحر ابا بكر وبالعبد بلالا .
وروى الليث بن سعد ، عن معاوية بن صالح ، عن سليم بن عامر ، عن ابى امامة ، قال حدثنى عمرو بن عنبسة ، انه سال النبي صلى الله عليه وآله وهو بعكاظ ، فقال له من تبعك قال تبعني حر وعبد أبو بكر وبلال .
وروى عمرو بن ابراهيم الهاشمي ، عن عبد الملك بن عمير ، عن اسيد بن صفوان ، صاحب النبي صلى الله عليه وآله قال لما قبض أبو بكر جاء على بن ابى طالب عليه السلام ، فقال رحمك الله ابا بكر كنت اول الناس اسلاما .
وروى عباد ، عن الحسن بن دينار ، عن بشر بن ابى زينب ، عن عكرمة مولى ابن عباس ، قال إذا لقيت الهاشميين قالوا على بن ابى طالب اول من اسلم ، وإذا لقيت الذين يعلمون ، قالوا أبو بكر اول من اسلم .
قال أبو عثمان الجاحظ قالت العثمانية فان قال قائل فما بالكم لم تذكروا على ابن ابى طالب في هذه الطبقة ، وقد تعلمون كثرة مقدمية والرواية فيه قلنا قد علمنا الرواية الصحيحة ، والشهادة القائمة ، انه اسلم وهو حدث غرير ، وطفل صغير ، فلم نكذب الناقلين ، ولم نستطع أن نلحق اسلامه باسلام البالغين ، لان المقلل زعم انه اسلم ، وهو ابن خمس سنين ، والمكثر زعم انه اسلم وهو ابن تسع سنين ، فالقياس أن يؤخذ بالاوسط بين الروايتين ، وبالامر بين الامرين ، وانما يعرف حق ذلك من باطله ، بان نحصى سنيه التى ولى فيها الخلافة ، وسنى عمر ، وسنى عثمان ، وسنى ابى بكر ، ومقام النبي صلى الله عليه وآله بالمدينة ، ومقامه بمكة عند اظهار الدعوة ، فإذا فعلنا ذلك صح انه اسلم وهو ابن سبع سنين ، فالتاريخ المجمع عليه انه قتل عليه السلام في شهر رمضان سنه اربعين .(13/218)
قال شيخنا أبو جعفر الاسكافي (1) لو لا ما غلب على الناس من الجهل وحب التقليد ، لم نحتج الى نقض ما احتجت به العثمانية ، فقد علم الناس كافة ، أن الدولة والسلطان لارباب مقالتهم ، وعرف كل احد علو اقدار شيوخهم وعلمائهم وامرائهم ، وظهور كلمتهم ، وقهر سلطانهم وارتفاع التقية عنهم والكرامة ، والجائزة لمن روى الاخبار والاحاديث في فضل ابى بكر ، وما كان من تأكيد بني امية لذلك ، وما واذه المحدثون من الاحاديث طلبا لما في ايديهم ، فكانوا لا يالون جهدا في طول ما ملكوا أن يخملوا ذكر علي عليه السلام وولده ، ويطفئوا نورهم ، ويكتموا فضائلهم ومناقبهم وسوابقهم ، ويحملوا على شتمهم وسبهم ولعنهم على المنابر ، فلم يزل السيف يقطر من دمائهم ، مع قلة عددهم وكثرة عدوهم ، فكانوا بين قتيل واسير ، وشريد وهارب ، ومستخف ذليل ، وخائف مترقب ، حتى أن الفقيه والمحدث والقاضى والمتكلم ، ليتقدم إليه ويتوعد بغاية الايعاد واشد العقوبة ، الا يذكروا شيئا من فضائلهم ، ولا يرخصوا لاحد أن يطيف بهم ، وحتى بلغ من تقية المحدث انه إذا ذكر حديثا عن على عليه السلام كنى عن ذكره ، فقال قال رجل من قريش ، وفعل رجل من قريش ، ولا يذكر عليا عليه السلام ، ولا يتفوه باسمه .
ثم رأينا جميع المختلفين قد حاولوا نقض فضائله ، ووجهوا الحيل والتاويلات نحوها ، من خارجي مارق ، وناصب حنق ، وثابت مستبهم ، وناشئ معاند ، ومنافق مكذب ، وعثماني حسود ، يعترض فيها ويطعن ، ومعتزلي قد نقض في الكلام ، وابصر علم الاختلاف ،
__________
(1) هو محمد بن عبد الله أبو جعفر المعروف بالاسكافي ، ذكره الخطيب في تاريخ بغداد 5 : 416 ، وقال عنه : (احد المتكلمين من معتزلة البغداديين ، وله تصانيف معروفة ...
وبلغني انه مات في سنة اربعين ومائتين) .
(*)(13/219)
وعرف الشبه ومواضع الطعن وضروب التأويل ، قد التمس الحيل في ابطال مناقبه وتاول مشهور فضائله ، فمرة يتاولها بما لا يحتمل ، ومرة يقصد أن يضع من قدرها بقياس منتقض ، ولا يزداد مع ذلك الا قوة ورفعة ، ووضوحا واستنارة ، وقد علمت أن معاوية ويزيد ومن كان بعدهما من بنى مروان ايام ملكهم - وذلك نحو ثمانين سنة - لم يدعوا جهدا في حمل الناس على شتمه ولعنه واخفاء فضائله ، وستر مناقبه وسوابقه .
روى خالد بن عبد الله الواسطي ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن هلال بن يساف ، عن عبد الله بن ظالم ، قال لما بويع لمعاوية اقام المغيرة بن شعبة خطباء يلعنون عليا عليه السلام ، فقال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل الا ترون الى هذا الرجل الظالم يامر بلعن رجل من اهل الجنة .
روى سليمان بن داود ، عن شعبة ، عن الحر بن الصباح ، قال سمعت عبد الرحمن بن الاخنس ، يقول شهدت المغيرة بن شعبة خطب فذكر عليا عليه السلام ، فنال منه .
روى أبو كريب ، قال حدثنا أبو اسامة ، قال حدثنا صدقة بن المثنى النخعي عن رياح بن الحارث ، قال بينما المغيرة بن شعبة بالمسجد الاكبر ، وعنده ناس إذ جاءه رجل يقال له قيس بن علقمة ، فاستقبل المغيرة ، فسب عليا عليه السلام .
روى محمد بن سعيد الاصفهانى ، عن شريك ، عن محمد بن اسحاق ، عن عمرو بن على ابن الحسين ، عن ابيه على بن الحسين عليه السلام ، قال قال لى مروان ما كان في القوم ادفع عن صاحبنا من صاحبكم قلت فما بالكم تسبونه على المنابر قال انه لا يستقيم لنا الامر الا بذلك .
روى مالك بن اسماعيل أبو غسان النهدي ، عن ابن ابى سيف ، قال خطب مروان والحسن عليه السلام ، جالس فنال من على عليه السلام فقال الحسن ويلك يا مروان اهذا الذى تشتم شر الناس قال لا ، ولكنه خير الناس .(13/220)
وروى أبو غسان ايضا ، قال قال عمر بن عبد العزيز كان ابى يخطب فلا يزال مستمرا في خطبته ، حتى إذا صار الى ذكر على وسبه تقطع لسانه ، واصفر وجهه ، وتغيرت حاله ، فقلت له في ذلك ، فقال أو قد فطنت لذلك ، إن هؤلاء لو يعلمون من على ما يعلمه ابوك ما تبعنا منهم رجل .
وروى أبو عثمان ، قال حدثنا أبو اليقظان ، قال قام رجل من ولد عثمان الى هشام بن عبد الملك يوم عرفة ، فقال إن هذا يوم كانت الخلفاء تستحب فيه لعن ابى تراب .
وروى عمرو بن الفناد ، عن محمد بن فضيل ، عن اشعث بن سوار ، قال سب عدى بن اوطاة عليا عليه السلام على المنبر ، فبكى الحسن البصري وقال لقد سب هذا اليوم رجل انه لاخو رسول الله صلى الله عليه وآله في الدنيا والاخرة .
وروى عدى بن ثابت عن اسماعيل بن ابراهيم ، قال كنت انا وابراهيم بن يزيد جالسين في الجمعة مما يلى ابواب كندة فخرج المغيرة فخطب ، فحمد الله ، ثم ذكر ما شاء أن يذكر ، ثم وقع في على عليه السلام ، فضرب ابراهيم على فخذي أو ركبتي ، ثم قال اقبل على ، فحدثني فانا لسنا في جمعة ، الا تسمع ما يقول هذا .
وروى عبد الله بن عثمان الثقفى ، قال حدثنا ابن ابى سيف ، قال قال ابن لعامر ابن عبد الله بن الزبير لولده لا تذكر يا بنى عليا الا بخير ، فان بنى امية لعنوه على منابرهم ثمانين سنة ، فلم يزده الله بذلك الا رفعة ، إن الدنيا لم تبن شيئا قط الا رجعت على ما بنت فهدمته ، وان الدين لم يبن شيئا قط وهدمه .
وروى عثمان بن سعيد ، قال حدثنا مطلب بن زياد ، عن ابى بكر بن عبد الله الاصبهاني ، قال كان دعى لبنى امية يقال له خالد بن عبد الله ، لا يزال يشتم عليا عليه(13/221)
السلام ، فلما كان يوم جمعة ، وهو يخطب الناس ، قال والله إن كان رسول الله ليستعمله ، وانه ليعلم ما هو ولكنه كان ختنه ، وقد نعس سعيد بن المسيب ففتح عينيه ، ثم قال ويحكم ما قال هذا الخبيث رايت القبر انصدع ورسول الله صلى الله عليه وآله يقول كذبت يا عدو الله .
وروى القناد (1) ، قال حدثنا اسباط بن نصر الهمداني ، عن السدى ، قال بينما انا بالمدينة عند احجار الزيت ، إذ اقبل راكب على بعير ، فوقف فسب عليا عليه السلام ، فحف به الناس ينظرون إليه ، فبينما هو كذلك إذ اقبل سعد بن ابى وقاص ، فقال اللهم إن كان سب عبدا لك صالحا ، فار المسلمين خزيه ، فما لبث أن نفر به بعيره فسقط ، فاندقت عنقه .
وروى عثمان بن ابى شيبة ، عن عبد الله بن موسى ، عن فطر بن خليفة ، عن ابى عبد الله الجدلي ، قال دخلت على ام سلمة رحمها الله فقالت لى ايسب رسول الله صلى الله عليه وآله فيكم وانتم احياء قلت وانى يكون هذا قالت اليس يسب على عليه السلام ومن يحبه .
وروى العباس بن بكار الضبى ، قال حدثنى أبو بكر الهذلى ، عن الزهري ، قال : قال ابن عباس لمعاوية ، الا تكف عن شتم هذا الرجل قال ما كنت لافعل حتى يربو عليه الصغير ويهرم فيه الكبير فلما ولى عمر بن عبد العزيز كف عن شتمه ، فقال الناس ترك السنة .
قال وقد روى عن ابن مسعود اما موقوفا عليه أو مرفوعا ، كيف انتم إذا شملتكم فتنة يربو عليها الصغير ويهرم فيها الكبير ، يجرى عليها الناس فيتخذونها سنة ، فإذا غير منها شئ قيل غيرت السنة .
__________
(1) القناد ، بنون مشددة ، وانظر تهذيب التهذيب 12 : 330 .
(*)(13/222)
قال أبو جعفر وقد تعلمون أن بعض الملوك ربما احدثوا قولا ، أو دينا لهوى فيحملون الناس على ذلك ، حتى لا يعرفوا غيره ، كنحو ما اخذ الناس الحجاج بن يوسف بقراءة عثمان ، وترك قراءة ابن مسعود وابى بن كعب ، وتوعد على ذلك بدون ما صنع هو وجبابرة بنى امية وطغاة مروان بولد على عليه السلام وشيعته ، وانما كان سلطانه نحو عشرين سنة ، فما مات الحجاج حتى اجتمع اهل العراق على قراءة عثمان ، ونشا ابناؤهم ولا يعرفون غيرها لامساك الاباء عنها ، وكف المعلمين عن تعليمها ، حتى لو قرات عليهم قراءة عبد الله وابى ما عرفوها ، ولظنوا بتأليفها الاستكراه والاستهجان ، لالف العادة وطول الجهالة ، لانه إذا استولت على الرعية الغلبة ، وطالت عليهم ايام التسلط ، وشاعت فيهم المخافة ، وشملتهم التقية ، اتفقوا على التخاذل والتساكت ، فلا تزال الايام تأخذ من بصائرهم ، وتنقص من ضمائرهم ، وتنقض من مرائرهم ، حتى تصير البدعة التى احدوثها غامرة للسنة التى كانوا يعرفونها ، ولقد كان الحجاج ومن ولاه ، كعبد الملك والوليد ومن كان قبلهما وبعدهما من فراعنة بنى امية على اخفاء محاسن على عليه السلام وفضائله وفضائل ولده وشيعته ، واسقاط اقدارهم ، احرص منهم على اسقاط قراءة عبد الله وابى ، لان تلك القراءات لا تكون سببا لزوال ملكهم ، وفساد امرهم ، وانكشاف حالهم ، وفي اشتهار فضل على عليه السلام وولده واظهار محاسنهم بوارهم ، وتسليط حكم الكتاب المنبوذ عليهم ، فحرصوا واجتهدوا في اخفاء فضائله ، وحملوا الناس على كتمانها وسترها ، وابى الله أن يزيد امره وامر ولده الا استنارة واشراقا ، وحبهم الا شغفا وشدة ، وذكرهم الا انتشارا وكثرة ، وحجتهم الا وضوحا وقوة ، وفضلهم الا ظهورا ، وشأنهم الا علوا ، واقدارهم الا اعظاما ، حتى اصبحوا باهانتهم اياهم اعزاء ، وباماتتهم ذكرهم احياء ، وما ارادوا به وبهم من الشر تحول خيرا ، فانتهى الينا من ذكر فضائله وخصائصه ومزاياه وسوابقه ما لم يتقدمه السابقون ، ولا ساواه فيه القاصدون ، ولا يلحقه الطالبون ، ولو لا انها كانت(13/223)
كالقبلة المنصوبة في الشهرة ، وكالسنن المحفوظة في الكثرة ، لم يصل الينا منها في دهرنا حرف واحد ، إذا كان الامر كما وصفناه .
قال فاما ما احتج به الجاحظ بامامة ابى بكر ، بكونه اول الناس اسلاما ، فلو كان هذا احتجاجا صحيحا ، لاحتج به أبو بكر يوم السقيفة ، وما رأيناه صنع ذلك لانه اخذ بيد عمر ويد ابى عبيده بن الجراح ، وقال للناس قد رضيت لكم احد هذين الرجلين ، فبايعوا منهما من شئتم ، ولو كان هذا احتجاجا صحيحا لما قال عمر كانت بيعه ابى بكر فلتة وقى الله شرها ، ولو كان احتجاجا صحيحا لادعى واحد من الناس لابي بكر الامامة في عصره أو بعد عصره ، بكونه سبق الى الاسلام ، وما عرفنا احدا ادعى له ذلك ، على أن جمهور المحدثين لم يذكروا أن ابا بكر اسلم الا بعد عدة من الرجال ، منهم على ابن ابى طالب ، وجعفر اخوه ، وزيد بن حارثة ، وابو ذر الغفاري ، وعمرو بن عنبسة السلمى ، وخالد بن سعيد بن العاص ، وخباب بن الارت ، وإذا تأملنا الروايات الصحيحة ، والاسانيد القوية والوثيقة ، وجدناها كلها ناطقة بان عليا عليه السلام اول من اسلم .
فاما الرواية عن ابن عباس أن ابا بكر اولهم اسلاما فقد روى عن ابن عباس خلاف ذلك ، باكثر مما رووا واشهر ، فمن ذلك ما رواه يحيى بن حماد ، عن ابى عوانه وسعيد ابن عيسى ، عن ابى داود الطيالسي ، عن عمرو بن ميمون ، عن ابن عباس ، انه قال اول من صلى من الرجال على عليه السلام .
وروى الحسن البصري ، قال حدثنا عيسى بن راشد ، عن ابى بصير عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال فرض الله تعالى الاستغفار لعلى عليه السلام في القرآن(13/224)
على كل مسلم ، بقوله تعالى (ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان) (1) فكل من اسلم بعد على فهو يستغفر لعلى عليه السلام .
وروى سفيان بن عيينة ، عن ابن ابى نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال السباق ثلاثة سبق يوشع بن نون الى موسى ، وسبق صاحب (يس) الى عيسى ، وسبق على بن ابى طالب الى محمد عليه وعليهم السلام .
فهذا قول ابن عباس في سبق على عليه السلام الى الاسلام ، وهو اثبت من حديث الشعبى واشهر ، على انه قد روى عن الشعبى خلاف ذلك من حديث ابى بكر الهذلى وداود بن ابى هند عن الشعبى ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعلى عليه السلام (هذا اول من آمن بى وصدقني وصلى معى) .
قال فاما الاخبار الواردة بسبقه الى الاسلام المذكورة في الكتب الصحاح والاسانيد الموثوق بها ، فمنها ما روى شريك بن عبد الله ، عن سليمان بن المغيرة ، عن زيد ابن وهب ، عن عبد الله بن مسعود ، انه قال اول شئ علمته من امر رسول الله صلى الله عليه وآله انى قدمت مكة مع عمومة لى وناس من قومي ، وكان من انفسنا شراء عطر ، فارشدنا الى العباس بن عبد المطلب ، فانتهينا إليه ، وهو جالس الى زمزم ، فبينا نحن عنده جلوسا ، إذ اقبل رجل من باب الصفا ، وعليه ثوبان ابيضان ، وله وفرة الى انصاف اذنيه جعدة ، اشم اقنى ، ادعج العينين ، كث اللحية ، براق الثنايا ، ابيض تعلوه حمرة ، كانه القمر ليلة البدر ، وعلى يمينه غلام مراهق أو محتلم ، حسن الوجه ، تقفوهم امراة ، قد سترت محاسنها ، حتى قصدوا نحو الحجر ، فاستلمه واستلمه الغلام ، ثم استلمته المراة ، ثم طاف بالبيت سبعا ، والغلام والمراة يطوفان معه ، ثم استقبل الحجر ،
__________
(1) سورة الحشر 10 .
(2) د : (فارشدونا) .
(*)(13/225)
فقام ورفع يديه وكبر ، وقام الغلام الى جانبه ، وقامت المراة خلفهما ، فرفعت يديها ، وكبرت ، فاطال القنوت ، ثم ركع وركع الغلام والمراة ، ثم رفع راسه فاطال ، ورفع الغلام والمراة معه يصنعان مثل ما يصنع ، فلما رأينا شيئا ننكره ، لا نعرفه بمكة ، اقبلنا على العباس ، فقلنا يا ابا الفضل ، إن هذا الدين ما كنا نعرفه فيكم ، قال اجل والله ، قلنا فمن هذا قال هذا ابن اخى ، هذا محمد بن عبد الله ، وهذا الغلام ابن اخى ايضا ، هذا على بن ابى طالب ، وهذه المراة زوجة محمد ، هذه خديجة بنت خويلد ، والله ما على وجه الارض احد يدين بهذا الدين ، الا هؤلاء الثلاثة .
ومن حديث موسى بن داود ، عن خالد بن نافع ، عن عفيف بن قيس الكندى ، وقد رواه عن عفيف ايضا ، مالك بن اسماعيل النهدي والحسن بن عنبسة الوراق وابراهيم ابن محمد بن ميمونة ، قالوا جميعا حدثنا سعيد بن جشم ، عن اسد بن عبد الله البجلى ، عن يحيى بن عفيف بن قيس ، عن ابيه ، قال كنت في الجاهلية عطارا ، فقدمت مكة ، فنزلت على العباس بن عبد المطلب ، فبينا انا جالس عنده ، انظر الى الكعبة ، وقد تحلقت الشمس في السماء ، اقبل شاب كان في وجهه القمر ، حتى رمى ببصره الى السماء ، فنظر الى الشمس ساعة ، ثم اقبل حتى دنا من الكعبة ، فصف قدميه يصلى ، فخرج على اثره فتى كأن وجهه صفيحة يمانية ، فقام عن يمينه ، فجاءت امراة متلففة في ثيابها ، فقامت خلفهما ، فاهوى الشاب راكعا ، فركعا معه ، ثم اهوى الى الارض ساجدا ، فسجدا معه ، فقلت للعباس يا ابا الفضل امر عظيم فقال امر والله عظيم اتدرى من هذا الشاب قلت لا ، قال هذا ابن اخى ، هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، اتدرى من هذا الفتى قلت لا ، قال هذا ابن اخى على بن ابى طالب بن عبد المطلب ، اتدرى من المراة قلت لا ، قال هذه ابنة خويلد بن اسد بن عبد العزى ، هذه خديجة زوج محمد هذا (1) ، وان محمدا هذا يذكر أن الهه اله السماء والارض ، وامره بهذا الدين فهو عليه كما ترى ،
__________
(1) ا : (زوج هذا) .
(*)(13/226)
ويزعم انه نبى ، وقد صدقه على قوله على ابن عمه هذا الفتى ، وزوجته خديجة ، هذه المراة ، والله ما اعلم على وجه الارض كلها احدا على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة قال عفيف فقلت له فما تقولون انتم قال ننتظر الشيخ ما يصنع يعنى ابا طالب اخاه .
وروى عبد الله بن موسى ، والفضل بن دكين ، والحسن بن عطية ، قالوا حدثنا خالد بن طهمان ، عن نافع بن ابى نافع ، عن معقل بن يسار ، قال كنت اوصى النبي صلى الله عليه وآله ، فقال لى هل لك أن نعود فاطمة قلت نعم يا رسول الله ، فقام يمشى متوكئا على ، وقال اما انه سيحمل ثقلها غيرك ، ويكون اجرها لك ، قال فوالله كانه لم يكن على من ثقل النبي صلى الله عليه وآله شئ ، فدخلنا على فاطمة عليها السلام ، فقال لها صلى الله عليه وآله كيف تجدينك قالت لقد طال اسفى ، واشتد حزنى ، وقال لى النساء زوجك ابوك فقيرا لا مال له فقال لها اما ترضين انى زوجتك اقدم امتى سلما ، واكثرهم علما ، وافضلهم حلما قالت بلى رضيت يا رسول الله .
وقد روى هذا الخبر يحيى بن عبد الحميد وعبد السلام بن صالح ، عن قيس بن الربيع ، عن ابى ايوب الانصاري ، بالفاظه أو نحوها .
وروى عبد السلام بن صالح ، عن اسحاق الازرق ، عن جعفر بن محمد ، عن آبائه ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما زوج فاطمة ، دخل النساء عليها ، فقلن يا بنت رسول الله ، خطبك فلان وفلان ، فردهم عنك ، وزوجك فقيرا لا مال له ، فلما دخل عليها ابوها صلى الله عليه وآله راى ذلك في وجهها ، فسألها فذكرت له ذلك ، فقال يا فاطمة ، إن الله امرني فانكحتك اقدمهم سلما ، واكثرهم علما ، واعظمهم حلما ، وما زوجتك الا بامر من السماء ، اما علمت انه اخى في الدنيا والاخرة(13/227)
وروى عثمان بن سعيد عن الحكم بن ظهير ، عن السدى ، أن ابا بكر وعمر خطبا فاطمة عليه السلام ، فردهما رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقال لم اومر بذلك ، فخطبها على عليه السلام ، فزوجه اياها ، وقال لها زوجتك اقدم الامة اسلاما ...
وذكر تمام الحديث قال وقد روى هذا الخبر جماعة من الصحابة ، منهم اسماء بنت عميس ، وام ايمن ، وابن عباس وجابر بن عبد الله .
قال وقد روى محمد بن عبد الله بن ابى رافع ، عن ابيه ، عن جده ابى رافع ، قال اتيت ابا ذر بالربذة اودعه ، فلما اردت الانصراف ، قال لى ولاناس معى ستكون فتنة ، فاتقوا الله ، وعليكم بالشيخ على بن ابى طالب ، فاتبعوه ، فانى سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول (له انت اول من آمن بى ، واول من يصافحني يوم القيامة ، وانت الصديق الاكبر ، وانت الفاروق الذى يفرق بين الحق والباطل ، وانت يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب الكافرين ، وانت اخى ووزيرى ، وخير من اترك بعدى ، تقضى دينى وتنجز موعدى) .
قال وقد روى ابن ابى شيبة ، عن عبد الله بن نمير ، عن العلاء بن صالح ، عن المنهال بن عمرو ، عن عباد بن عبد الله الاسدي ، قال سمعت على بن ابى طالب ، يقول انا عبد الله واخو رسوله ، وانا الصديق الاكبر ، لا يقولها غيرى الا كذاب ، ولقد صليت قبل الناس سبع سنين .
وروت معاذة بنت عبد الله العدوية ، قالت سمعت عليا عليه السلام ، يخطب على منبر البصرة ، ويقول انا الصديق الاكبر ، آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر ، واسلمت قبل أن يسلم .
وروى حبة بن جوين العرنى انه سمع عليا عليه السلام ، يقول انا اول رجل اسلم(13/228)
مع رسول الله صلى الله عليه وآله .
رواه أبو داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن سفيان الثوري ، عن سلمة بن كهيل ، عن حبة بن جوين .
وروى عثمان بن سعيد الخراز (1) ، عن على بن حرار ، عن على بن عامر ، عن ابى الحجاف ، عن حكيم مولى زاذان ، قال سمعت عليا عليه السلام ، يقول صليت قبل الناس سبع سنين ، وكنا نسجد ولا نركع ، واول صلاة ركعنا فيها صلاة العصر ، فقلت يا رسول الله ، ما هذا قال امرت به .
وروى اسماعيل بن عمرو ، عن قيس بن الربيع ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر بن عبد الله ، قال صلى رسول الله صلى الله عليه وآله يوم الاثنين ، وصلى على يوم الثلاثاء بعده .
وفى الرواية الاخرى ، عن انس بن مالك استنبئ النبي صلى الله عليه وآله يوم الاثنين ، واسلم على يوم الثلاثاء بعده .
وروى أبو رافع أن رسول الله صلى الله عليه وآله صلى اول صلاة صلاها غداة الاثنين ، وصلت خديجة آخر نهار يومها ذلك ، وصلى على عليه السلام يوم الثلاثاء غدا ذلك اليوم .
قال وقد روى بروايات مختلفة كثيرة متعددة ، عن زيد بن ارقم ، وسلمان الفارسى ، وجابر بن عبد الله ، وانس بن مالك ، أن عليا عليه السلام اول من اسلم ، وذكر الروايات والرجال باسمائهم وروى سلمة بن كهيل ، عن رجاله الذين ذكرهم أبو جعفر في الكتاب أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال (اولكم ورودا على الحوض اولكم اسلاما ، على بن ابى طالب) .
وروى ياسين بن محمد بن ايمن ، عن ابى حازم ، مولى ابن عباس ، عن ابن عباس ،
__________
(1) ب : (الحرار) .
(*)(13/229)
قال سمعت عمر بن الخطاب وهو يقول كفوا عن على بن ابى طالب ، فانى سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله يقول (1) فيه خصالا ، لو أن خصلة منها في جميع آل الخطاب ، كان احب لى مما طلعت عليه الشمس ، كنت ذات يوم وابو بكر وعثمان وعبد الرحمن ابن عوف وابو عبيدة مع نفر من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله نطلبه ، فانتهينا الى باب ام سلمة ، فوجدنا عليا متكئا على نجاف (2) الباب ، فقلنا اردنا رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقال هو في البيت ، رويدكم فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله فسرنا حوله ، فاتكا على علي عليه السلام وضرب بيده على منكبه ، فقال ابشر يا على ابن ابى طالب ، انك مخاصم ، وانك تخصم (3) الناس بسبع لا يجاريك احد في واحدة منهن ، انت اول الناس اسلاما ، واعلمهم بايام الله ..) وذكر الحديث .
قال وقد روى أبو سعيد الخدرى ، عن النبي صلى الله عليه وآله مثل هذا الحديث .
قال روى أبو ايوب الانصاري ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله انه قال (لقد صلت الملائكة على وعلى علي عليه السلام ، سبع سنين) وذلك انه لم يصلى معى رجل فيها غيره .
قال أبو جعفر فاما ما رواه الجاحظ من قوله صلى الله عليه وآله (انما تبعني حر وعبد) ، فانه لم يسم في هذا الحديث ابا بكر وبلالا ، وكيف وابو بكر لم يشتر بلالا الا بعد ظهور الاسلام بمكة ، فلما اظهر بلال اسلامه عذبه امية بن خلف ولم يكن ذلك حال اخفاء رسول الله صلى الله عليه وآله الدعوة ، ولا في ابتداء امر الاسلام ،
__________
(1) ساقطة من ا .
(2) النجاف : هو ما بني نائتا فوق الباب .
(3) تخصم الناس : تغلبهم في الخصومة .
(*)(13/230)
وقد قيل انه عليه السلام انما عنى بالحر على بن ابى طالب ، وبالعبد زيد بن حارثة .
وروى ذلك محمد بن اسحاق ، قال وقد روى اسماعيل بن نصر الصفار ، عن محمد ابن ذكوان ، عن الشعبى ، قال قال الحجاج للحسن ، وعنده جماعة من التابعين وذكر على بن ابى طالب ما تقول انت يا حسن فقال ما اقول هو اول من صلى الى القبلة ، واجاب دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله ، وان لعلى منزلة من ربه ، وقرابة من رسوله ، وقد سبقت له سوابق لا يستطيع ردها احد فغضب الحجاج غضبا شديدا ، وقام عن سريره ، فدخل بعض البيوت وامر بصرفنا .
قال الشعبى وكنا جماعة ما منا الا من نال من على عليه السلام مقاربة للحجاج ، غير الحسن بن ابى الحسن رحمه الله .
وروى محرز بن هشام ، عن ابراهيم بن سلمه ، عن محمد بن عبيد الله ، قال قال رجل للحسن ما لنا لا نراك تثنى على على وتقرظه قال كيف وسيف الحجاج يقطر دما انه لاول من اسلم ، وحسبكم بذلك .
قال فهذه الاخبار .
واما الاشعار المروية فمعروفة كثيرة منتشرة ، فمنها قول عبد الله بن ابى سفيان بن الحارث بن عبد المطلب مجيبا للوليد بن عقبه بن ابى معيط : وان ولى الامر بعد محمد على وفى كل المواطن صاحبه وصى رسول الله حقا وصنوه واول من صلى ومن لان جانبه .
وقال خزيمة بن ثابت في هذا : وصى رسول الله من دون اهله وفارسه مذ كان في سالف الزمن واول من صلى من الناس كلهم سوى خيرة النسوان والله ذو منن .(13/231)
وقال أبو سفيان بن حرب بن امية بن عبد شمس حين بويع أبو بكر : ما كنت احسب أن الامر منصرف عن هاشم ثم منها عن ابى حسن اليس اول من صلى لقبلتهم واعلم الناس بالاحكام والسنن .
وقال أبو الاسود الدؤلى يهدد طلحة والزبير : وان عليا لكم مصحر يماثله الاسد الاسود اما انه اول العابدين بمكة والله لا يعبد .
وقال سعيد بن قيس الهمداني يرتجز بصفين : هذا على وابن عم المصطفى اول من اجابه فيما روى * هو الامام لا يبالى من غوى * .
وقال زفر بن يزيد بن حذيفة الاسدي : فحوطوا عليا وانصروه فانه وصى وفى الاسلام اول اول وان تخذلوه والحوادث جمة فليس لكم عن ارضكم متحول قال والاشعار كالاخبار ، إذا امتنع في مجئ القبيلين التواطؤ والاتفاق ، كان ورودهما حجة .
فاما قول الجاحظ فاوسط الامور أن نجعل اسلامهما معا ، فقد ابطل بهذا ما احتج به لامامة ابى بكر ، لانه احتج بالسبق ، وقد عدل الان عنه .
قال أبو جعفر ويقال لهم لسنا نحتاج من ذكر سبق على عليه السلام الا مجامعتكم ايانا على انه اسلم قبل الناس ، ودعواكم انه اسلم وهو طفل دعوى غير مقبوله لا بحجة .
فان قلتم ودعوتكم انه اسلم وهو بالغ دعوى غير مقبوله الا بحجة(13/232)
قلنا قد ثبت اسلامه بحكم اقراركم ، ولو كان طفلا لكان في الحقيقة غير مسلم ، لان اسم الايمان والاسلام والكفر والطاعة والمعصية انما يقع على البالغين دون الاطفال والمجانين ، وإذا اطلقتم واطلقنا اسم الاسلام ، فالاصل في الاطلاق الحقيقة ، كيف وقد قال النبي صلى الله عليه وآله (انت اول من آمن بى ، وانت اول من صدقنى) وقال لفاطمة (زوجتك اقدمهم سلما - أو قال اسلاما -) فان قالوا انما دعاه النبي صلى الله عليه وآله الى الاسلام على جهة العرض لا التكليف .
قلنا قد وافقتمونا على الدعاء ، وحكم الدعاء حكم الامر والتكليف ثم ادعيتم إن ذلك كان على وجه العرض ، وليس لكم أن تقبلوا معنى الدعاء [ عن وجهه ] (1) الا لحجة .
فان قالوا لعله كان على وجه التاديب والتعليم ، كما يعتمد مثل ذلك مع الاطفال قلنا إن ذلك انما يكون إذا تمكن الاسلام باهله ، أو عند النشوء عليه والولادة فيه ، فاما في دار الشرك فلا يقع مثل ذلك ، لا سيما إذا كان الاسلام غير معروف ولا معتاد بينهم ، على انه ليس من سنة النبي صلى الله عليه وآله دعاء اطفال المشركين الى الاسلام والتفريق بينهم وبين آبائهم ، قبل أن يبلغوا الحلم .
وايضا فمن شان الطفل اتباع اهله وتقليد ابيه ، والمضى على منشئه ومولده ، وقد كانت منزلة النبي صلى الله عليه وآله حينئذ منزلة ضيق وشدة ووحدة ، وهذه منازل لا ينتقل إليها الا من ثبت الاسلام عنده بحجة ، ودخل اليقين قلبه بعلم ومعرفة .
فان قالوا إن عليا عليه السلام كان يالف النبي صلى الله عليه وآله ، فوافقه على طريق المساعدة له .
قلنا انه وان كان يالفه اكثر من ابويه واخوته وعمومته واهل بيته ، ولم يكن الالف ليخرجه عما نشا عليه ، ولم يكن الاسلام مما غذى (2) به وكرر على سمعه ،
__________
(1) تكملة من ا .
(2) ب : (عدي) ، تصحيف ، واثبت ما في ا .
(*)(13/233)
لان الاسلام هو خلع الانداد والبراءة ممن اشرك بالله ، وهذا لا يجتمع في اعتقاد طفل .
ومن العجب قول العباس لعفيف بن قيس ننتظر الشيخ وما يصنع فإذا كان العباس وحمزة ينتظران ابا طالب ، ويصدران عن رأيه ، فكيف يخالفه ابنه ، ويؤثر القلة على الكثرة ، ويفارق المحبوب الى المكروه ، والعز الى الذل ، والامن الى الخوف ، عن غير معرفة ولا علم بما فيه .
فاما قوله إن المقلل يزعم انه اسلم وهو ابن خمس سنين ، والمكثر يزعم انه اسلم وهو ابن تسع سنين ، فاول ما يقال في ذلك أن الاخبار جاءت في سنه عليه السلام يوم اسلم على خمسة اقسام فجعلناه في قسمين : القسم الاول الذين قالوا اسلم وهو ابن خمس عشرة سنة ، حدثنا بذلك احمد بن سعيد الاسدي ، عن اسحاق بن بشر القرشى ، عن الاوزاعي ، عن حمزة بن حبيب ، عن شداد بن اوس ، قال سالت خباب بن الارت عن اسلام على ، فقال اسلم وهو ابن خمس عشرة سنة ، ولقد رايته يصلى قبل الناس مع النبي صلى الله عليه وآله وهو يومئذ بالغ مستحكم البلوغ وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، عن الحسن ، إن اول من اسلم على بن ابى طالب ، وهو ابن خمس عشرة سنة .
القسم الثاني الذين قالوا انه اسلم وهو ابن اربع عشرة سنة ، رواه أبو قتادة الحرانى ، عن ابى حازم الاعرج ، عن حذيفة بن اليمان ، قال كنا نعبد الحجارة ، ونشرب الخمر وعلى من ابناء اربع عشرة سنة قائم يصلى مع النبي صلى الله عليه وآله ليلا ونهارا ، وقريش يومئذ تسافه رسول الله صلى الله عليه وآله ، ما يذب عنه الا على(13/234)
عليه السلام .
وروى ابن ابى شيبة عن جرير بن عبد الحميد ، قال اسلم على وهو ابن اربع عشرة سنة .
القسم الثالث الذين قالوا اسلم وهو ابن احدى عشرة سنة ، رواه اسماعيل بن عبد الله الرقى ، عن محمد بن عمر ، عن عبد الله بن سمعان ، عن جعفر بن محمد عليه السلام ، عن ابيه عن محمد بن على عليه السلام ، أن عليا حين اسلم كان ابن احدى عشرة سنة .
وروى عبد الله بن زياد المدنى ، عن محمد بن على الباقر عليه السلام ، قال اول من آمن بالله على بن ابى طالب ، وهو ابن احدى عشرة سنة وهاجر الى المدينة وهو ابن اربعة وعشرين سنة .
القسم الرابع الذين قالوا انه اسلم وهو ابن عشر سنين رواه نوح بن دراج ، عن محمد بن اسحاق ، قال اول ذكر آمن وصدق بالنبوة على بن ابى طالب عليه السلام ، وهو ابن عشر سنين ، ثم اسلم زيد بن حارثة ، ثم اسلم أبو بكر وهو ابن ست وثلاثين سنة فيما بلغنا .
القسم الخامس الذين قالوا انه اسلم وهو ابن تسع سنين ، رواه الحسن بن عنبسة الوراق ، عن سليم مولى الشعبى ، عن الشعبى ، قال اول من اسلم من الرجال على ابن ابى طالب وهو ابن تسع سنين ، وكان له يوم قبض رسول الله صلى الله عليه وآله تسع وعشرون سنة .
قال شيخنا أبو جعفر فهذه الاخبار كما تراها ، فاما أن يكون الجاحظ جهلها ، أو قصد العناد .
فاما قوله (فالقياس أن ناخذ باوسط الامرين من الروايتين) ، فنقول انه اسلم وهو ابن سبع سنين فان هذا تحكم منه ، ويلزمه مثله في رجل ادعى قبل رجل عشرة(13/235)
دراهم ، فانكر ذلك وقال انما يستحق قبلى اربعة دراهم ، فينبغي أن ناخذ الامر المتوسط ويلزمه سبعة دراهم ، ويلزمه في ابى بكر حيث قال قوم كان كافرا ، وقال قوم كان اماما عادلا ان نقول اعدل الاقاويل اوسطها وهو منزلة (1) بين المنزلتين ، فنقول كان فاسقا ظالما ، وكذلك في جميع الامور المختلف فيها .
فاما قوله وانما يعرف حق ذلك من باطله ، بان نحصى سنى ولاية عثمان وعمر وابى بكر وسنى الهجرة ، ومقام النبي صلى الله عليه وآله بمكة بعد الرسالة الى أن هاجر ، فيقال له لو كانت الروايات متفقة على هذه التاريخات ، لكان لهذا القول مساغ ، ولكن الناس قد اختلفوا في ذلك ، فقيل إن رسول الله صلى الله عليه وآله اقام بمكة بعد الرسالة خمس عشرة سنة ، رواه ابن عباس ، وقيل ثلاث عشرة سنة ، وروى عن ابن عباس ايضا ، واكثر الناس يرونه وقيل عشر سنين ، رواه عره بن الزبير ، وهو قول الحسن البصري وسعيد بن المسيب .
واختلفوا في سن رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقال ، قوم كان ابن خمس وستين ، وقيل كان ابن ثلاث وستين ، وقيل كان ابن ستين .
واختلفوا في سن على عليه السلام ، فقيل كان ابن سبع وستين ، وقيل كان ابن خمس وستين وقيل ابن ثلاث وستين ، وقيل ابن ستين ، وقيل ابن تسع وخمسين .
فكيف يمكن مع هذه الاختلافات تحقيق هذه الحال وانما الواجب أن يرجع الى اطلاق قولهم اسلم على ، فان هذا الاسم لا يكون مطلقا الا على البالغ ، كما لا يطلق اسم الكافر الا على البالغ ، على إن ابن احدى عشرة سنة يكون بالغا ، ويولد له الاولاد ، فقد روت الرواة أن عمرو بن العاص لم يكن اسن من ابنه عبد الله
__________
(1) ا : (أن ننزله) .
(*)(13/236)
الا باثنتى عشرة سنة ، وهذا يوجب انه احتلم وبلغ في اقل من احدى عشرة سنة .
وروى ايضا أن محمد بن عبد الله بن العباس كان اصغر من ابيه على بن عبد الله ابن العباس ، باحدى عشرة سنة ، فيلزم الجاحظ أن يكون عبد الله بن العباس حين مات رسول الله صلى الله عليه وآله غير مسلم على الحقيقة ، ولا مثاب ولا مطيع بالاسلام ، لانه كان يومئذ ابن عشر سنين رواه هشيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال توفى رسول الله صلى الله عليه وآله وانا ابن عشر سنين .
قال الجاحظ فان قالوا فلعله وهو ابن سبع سنين (1 أو ثمانى سنين 1) ، قد بلغ من فطنته وذكائه وصحة لبه وصدق حدسه (2) وانكشاف العواقب له وان لم يكن جرب الامور ، ولا فاتح الرجال ، ولا نازع الخصوم ، ما يعرف به جميع ما يحب على البالغ معرفته والاقرار به .
قيل (3) لهم انما نتكلم على ظواهر الاحوال ، وما شاهدنا عليه طبائع الاطفال ، فانا وجدنا حكم ابن سبع سنين أو ثمان - ما لم يعلم باطن امره وخاصة طبعه - حكم الاطفال ، وليس لنا أن نزيل ظاهر حكمه والذى نعرف من حال افناء جنسه بلعل وعسى ، لانا وان كنا لا ندرى ، لعله قد كان ذا فضيلة في الفطنة فلعله قد كان ذا نقص فيها .
هذا على تجويز أن يكون على عليه السلام في الغيب (4) قد اسلم وهو ابن سبع أو ثمان اسلام البالغ ، غير أن الحكم على مجرى امثاله واشكاله الذين اسلموا وهم في مثل سنه إذ كان اسلام هؤلاء عن تربية الحاضن ، وتلقين القيم ، ورياضة السائس .
فاما عند التحقيق ، فانه لا تجويز لمثل ذلك ، لانه لو كان اسلم ، وهو ابن سبع
__________
(1 - 1) ساقط من ا .
(2) العثمانية : (حسه) .
(3) العثمانية : (قيل) .
(4) العثمانية (المغيب) .
(*)(13/237)
أو ثمان وعرف فضل ما بين الانبياء والكهنة ، وفرق ما بين الرسل والسحرة ، وفرق ما بين خبر النبي والمنجم ، وحتى عرف كيد الاريب (1) ، وموضع الحجة ، و (2 وبعد غور المتنبي 2) ، كيف يلبس على العقلاء ، وتستمال عقول الدهماء ، وعرف الممكن في الطبع من الممتنع ، ما يحدث بالاتفاق مما يحدث بالاسباب ، وعرف قدر القوى وغاية الحيلة ومنتهى التمويه والخديعة ، وما لا يحتمل أن يحدثه الا الخالق سبحانه ، وما يجوز على الله في حكمته مما لا يجوز ، وكيف التحفظ من الهوى والاحتراس من الخداع ، لكان كونه على هذه الحال وهذه مع فرط الصبا و الحداثة وقلة التجارب والممارسة خروجا من العادة .
ومن المعروف مما عليه تركيب هذه الخلقة ، وليس يصل احد الى معرفه نبى وكذب متنبئ ، حتى يجتمع فيه هذه المعارف التى ذكرناها ، والاسباب التى وصفناها وفصلناها ، ولو كان على عليه السلام على هذه الصفة ومعه هذه الخاصية لكان حجة على العامة ، وآية تدل على النبوة ، ولم يكن الله عز وجل ليخصه بمثل هذه الاعجوبة الا وهو يريد أن يحتج بها ، ويجعلها قاطعة لعذر الشاهد وحجة على الغائب .
ولو لا إن الله اخبر عن يحيى بن زكريا انه اتاه الحكم صبيا ، وانه انطق عيسى في المهد ما كانا في الحكم [ ولا في المغيب ] ، (3) الا كسائر الرسل ، وما عليه جميع البشر .
فإذا لم ينطق لعلى عليه السلام بذلك قرآن ، ولا جاء الخبر به مجئ الحجة القاطعة والمشاهدة القائمة ، فالمعلوم عندنا في الحكم أن طباعه كطباع عميه حمزة والعباس ، وهما امس بمعدن جماع الخير منه ، أو كطباع جعفر وعقيل من رجال قومه ، وسادة رهطه .
ولو أن انسانا ادعى مثل ذلك لاخيه جعفر أو لعميه حمزة والعباس ، ما كان عندنا في امره الا مثل ما عندنا فيه (4) .
اجاب شيخنا أبو جعفر رحمه الله فقال هذا كله مبنى على انه اسلم وهو ابن سبع أو ثمان ، ونحن قد بينا انه اسلم بالغا ابن خمس عشره سنه أو ابن اربع عشره سنة ، على
__________
(1) العثمانية : (المريب) .
(2 - 2) في الاصول : (وفقد التمييز) ، واثبت ما في العثمانية .
(3) من العثمانية .
(4) العثمانية 6 - 8 .
(*)(13/238)
انا لو نزلنا على حكم الخصوم ، وقلنا ما هو الاشهر والاكثر من الرواية ، وهو انه اسلم وهو ابن عشر لم يلزم ما قاله الجاحظ ، لان ابن عشر قد يستجمع عقله ، ويعلم من مبادئ المعارف ما يستخرج به كثيرا من الامور المعقولة ، ومتى كان الصبى عاقلا مميزا كان مكلفا بالعقليات ، وان كان تكليفه بالشرعيات موقوفا على حد آخر وغاية اخرى ، فليس بمنكر أن يكون على عليه السلام وهو ابن عشر قد عقل المعجزة ، فلزمه الاقرار بالنبوة ، واسلم اسلام عالم عارف ، لا اسلام مقلد تابع ، وان كان ما نسقه الجاحظ وعدده من معرفه السحر والنجوم والفصل بينهما وبين النبوة ، ومعرفة ما يجوز في الحكمة مما لا يجوز ، وما لا يحدثه الا الخالق ، والفرق بينه وبين ما يقدر عليه القادرون بالقدرة ، ومعرفة التمويه والخديعة ، والتلبيس والمماكرة ، شرطا في صحة الاسلام لما صح اسلام ابى بكر ولا عمر ولا غيرهما من العرب ، وانما التكليف لهؤلاء بالجمل ومبادئ المعارف لا بدقائقها والغامض منها ، وليس يفتقر الاسلام الى أن يكون المسلم قد فاتح الرجال وجرب الامور ونازع الخصوم ، وانما يفتقر الى صحة الغريزة وكمال العقل وسلامة الفطرة ، الا ترى أن طفلا لو نشا في دار لم يعاشر الناس بها ، ولا فاتح الرجال ، ولا نازع الخصوم ، ثم كمل عقله ، وحصلت العلوم البديهية عنده ، لكان مكلفا بالعقليات .
فاما توهمه أن عليا عليه السلام اسلم عن تربية الحاضن ، وتلقين القيم ، ورياضة السائس ، فلعمري أن محمدا صلى الله عليه وآله كان حاضنه وقيمه وسائسه ، ولكن لم يكن منقطعا عن ابيه ابى طالب ولا عن اخوته طالب ، وعقيل وجعفر ، ولا عن عمومته واهل بيته ، وما زال مخالطا لهم ، ممتزجا بهم ، مع خدمته لمحمد صلى الله عليه وآله ، فما باله لم يمل الى الشرك وعبادة الاصنام لمخالطته اخوته واباه وعمومته واهله ، وهم كثير ومحمد صلى الله عليه وآله واحد وانت تعلم إن الصبى إذا كان له اهل ذوو كثرة ، وفيهم واحد(13/239)
يذهب الى راى مفرد ، لا يوافقه عليه غيره منهم ، فانه الى ذوى الكثرة اميل ، وعن ذى الراى الشاذ المنفرد ابعد ، وعلى إن عليا عليه السلام لم يولد في دار الاسلام ، وانما ولد في دار الشرك وربى بين المشركين ، وشاهد الاصنام ، وعاين بعينه اهله ورهطه يعبدونها ، فلو كان في دار الاسلام لكان في القول مجال ، ولقيل انه ولد بين المسلمين ، فاسلامه عن تلقين الظئر وعن سماع كلمة الاسلام ومشاهدة شعاره لانه لم يسمع غيره ، ولا خطر بباله سواه ، فلما لم يكن ولد كذلك ، ثبت إن اسلامه اسلام المميز العارف بما دخل عليه .
ولو لا انه كذلك لما مدحه رسول الله صلى الله عليه وآله بذلك ، ولا ارضى ابنته فاطمة لما وجدت من تزويجه بقوله لها زوجتك اقدمهم سلما ، ولا قرن الى قوله (واكثرهم علما ، واعظمهم حلما) ، والحلم العقل ، وهذان الامران غايه الفضل ، فلو لا انه اسلم اسلام عارف عالم مميز لما ضم اسلامه الى العلم والحلم اللذين وصفه بهما وكيف يجوز أن يمدحه بامر لم يكن مثابا عليه ، ولا معاقبا به لو تركه ، ولو كان اسلامه عن تلقين وتربية لما افتخر هو عليه السلام [ به ] (1) على رؤوس الاشهاد ، ولا خطب على المنبر ، وهو بين عدو ومحارب ، وخاذل منافق ، فقال انا عبد الله واخو رسوله وانا الصديق الاكبر والفاروق الاعظم ، صليت قبل الناس سبع سنين ، واسلمت قبل اسلام ابى بكر ، وآمنت قبل ايمانه فهل بلغكم أن احدا من اهل ذلك العصر انكر ذلك أو عابه أو ادعاه لغيره ، أو قال له انما كنت طفلا اسلمت على (2) تربية محمد صلى الله عليه وآله ذلك ، وتلقينه اياك ، كما يعلم الطفل الفارسية والتركية منذ يكون رضيعا فلا فخر له في تعلم ذلك ، وخصوصا في عصر قد حارب فيه اهل البصرة والشام والنهروان ، وقد اعتورته الاعداء وهجته الشعراء ، فقال فيه النعمان بن بشير :
__________
(1) تكملة من ا .
(2) (عن) .
(*)(13/240)
لقد طلب الخلافة من بعيد وسارع في الضلال أبو تراب معاوية الامام وانت منها على وتح بمنقطع السراب (1) وقال فيه ايضا بعض الخوارج : دسسنا له تحت الظلام ابن ملجم جزاء إذا ما جاء نفسا كتابها ابا حسن خذها على الراس ضربة بكف كريم ، بعد موت ثوابها .
وقال عمران بن حطان يمدح قاتله : يا ضربه من تقى ما اراد بها الا ليبلغ من ذى العرش رضوانا (2) انى لاذكره حينا فاحسبه اوفى البرية عند الله ميزانا فلو وجد هؤلاء سبيلا الى دحض حجة فيما كان يفخر به من تقدم اسلامه ، لبداوا بذلك ، وتركوا ما لا معنى له .
وقد اوردنا ما مدحه الشعراء به من سبقه الى الاسلام ، فكيف لم يرد على هؤلاء الذين مدحوه بالسبق شاعر واحد من اهل حربه ولقد قال في امهات الاولاد قولا خالف فيه عمر ، فذكروه بذلك وعابوه ، فكيف تركوا أن يعيبوه بما كان يفتخر به مما لا فخر فيه عندهم ، وعابوه بقوله في امهات الاولاد .
ثم يقال له خبرنا عن عبد الله بن عمر ، وقد اجازه النبي صلى الله عليه وآله يوم الخندق ، ولم يجزه يوم احد ، هل كان يميز ما ذكرته وهل كان يعلم فرق ما بين النبي والمتنبي ، ويفصل بين السحر والمعجزة ، الى غيره مما عددت وفصلت .
فان قال نعم ، وتجاسر على ذلك ، قيل له فعلى عليه السلام بذلك اولى من ابن عمر ، لانه اذكى وافطن بلا خلاف بين العقلاء ، وانى يشك في ذلك ، وقد رويتم انه
__________
(1) الوتح : القليل .
(2) الكامل 3 : 169 .
(*)(13/241)
لم يميز بين الميزان والعود بعد طول السن ، وكثرة التجارب ، ولم يميز ايضا بين امام الرشد وامام الغى ، فانه امتنع من بيعة على عليه السلام .
وطرق على الحجاج بابه ليلا ليبايع لعبد الملك ، كيلا يبيت تلك الليلة بلا امام ، زعم .
لانه روى عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال (من مات ولا امام له مات ميته جاهلية) ، وحتى بلغ من احتقار الحجاج له واسترذاله حاله ، أن اخرج رجله من الفراش ، فقال اصفق بيدك عليها ، فذلك تمييزه بين الميزان والعود ، وهذا اختياره في الائمة ، وحال على عليه السلام في ذكائه وفطنته ، وتوقد حسه ، وصدق حدسه ، معلومة مشهورة ، فإذا جاز أن يصح اسلام ابن عمر ، ويقال عنه انه عرف تلك الامور التى سردها الجاحظ ونسقها ، واظهر فصاحته وتشدقه فيها ، فعلى بمعرفة ذلك احق ، وبصحة اسلامه اولى .
وان قال لم يكن ابن عمر يعلم ويعرف ذلك ، فقد ابطل اسلامه ، وطعن في رسول الله صلى الله عليه وآله حيث حكم بصحة اسلامه واجازه يوم الخندق ، لانه عليه السلام كان قال لا اجيز الا البالغ العاقل ، ولذلك لم يجزه يوم احد .
ثم يقال له إن ما نقوله في بلوغ على عليه السلام الحد الذى يحسن فيه التكليف العقلي بل يجب - وهو ابن عشر سنين - ليس باعجب من مجئ الولد لستة اشهر ، وقد صحح ذلك اهل العلم ، واستنبطوه من الكتاب ، وإن كان خارجا من التعارف والتجارب والعادة .
وكذلك مجئ الولد لسنتين خارج ايضا عن التعارف والعادة ، وقد صححه الفقهاء والناس .
ويروى أن معاذا لما نهى عمر عن رجم الحامل تركها حتى ولدت غلاما قد نبتت ثنيتاه ، فقال ابوه ابني ورب الكعبه فثبت ذلك سنة يعمل بها الفقهاء ، وقد وجدنا العادة تقضى بان الجارية تحيض لاثنتى عشرة سنة ، وانه اقل سن تحيض فيه المراة ، وقد(13/242)
يكون في الاقل نساء يحضن لعشر ولتسع ، وقد ذكر ذلك الفقهاء ، وقد قال الشافعي في اللعان لو جاءت المراة بحمل وزوجها صبى له دون عشر سنين ، لم يكن ولدا له ، لان من لم يبلغ عشر سنين من الصبيان لا يولد له ، وان كان له عشر سنين جاز أن يكون الولد له ، وكان بينهما لعان إذا لم يقر به .
وقال الفقهاء ايضا إن نساء تهامة يحضن لتسع سنين ، لشدة الحر ببلادهن .
قال الجاحظ ولو لم يعرف باطل هذه الدعوى من آثر التقوى ، وتحفظ من الهوى ، الا بترك على عليه السلام ذكر ذلك لنفسه والاحتجاج به على خصمه ، وقد نازع الرجال وناوى الاكفاء ، وجامع اهل الشورى ، لكان كافيا ، ومتى لم تصح لعلى عليه السلام هذه الدعوى في ايامه ، ولم يذكرها اهل عصره ، فهى عن ولده اعجز ، ومنهم اضعف .
ولم ينقل أن عليا عليه السلام احتج بذلك في موقف ، ولا ذكره في مجلس ، ولا قام به خطيبا ، ولا ادلى به واثقا ، لا سيما وقد رضيه الرسول صلى الله عليه وآله عندكم مفزعا ومعلما ، وجعله للناس اماما .
ولا ادعى له احد ذلك في عصره ، كما لم يدعه لنفسه ، حتى يقول انسان واحد : الدليل على امامته أن النبي صلى الله عليه وآله دعاه الى الاسلام أو كلفه التصديق قبل بلوغه ، ليكون ذلك آية للناس في عصره ، وحجة له ولولده من بعده ، فهذا كان اشد على طلحة والزبير وعائشة من كل ما ادعاه من فضائله وسوابقه وذكر قرابته (1) .
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله إن مثل الجاحظ مع فضله وعلمه ، لا يخفى عليه كذب
__________
(1) العثمانية 9 - 12 ، مع تصرف واختصار .
(*)(13/243)
هذه الدعوى وفسادها ، ولكنه يقول ما يقوله تعصبا وعنادا ، وقد روى الناس كافة ، افتخار على عليه السلام بالسبق الى الاسلام ، وان النبي صلى الله عليه وآله استنبئ يوم الاثنين ، واسلم على يوم الثلاثاء ، وانه كان يقول صليت قبل الناس سبع سنين ، وانه ما زال يقول انا اول من اسلم ، ويفتخر بذلك ، ويفتخر له به اولياؤه ومادحوه وشيعته في عصره وبعد وفاته .
والامر في ذلك اشهر من كل شهير ، وقد قدمنا منه طرفا ، وما علمنا احدا من الناس فيما خلا استخف باسلام على عليه السلام ، ولا تهاون به ، ولا زعم انه اسلم اسلام حدث غرير ، وطفل صغير .
ومن العجب أن يكون مثل العباس وحمزة ينتظران ابا طالب وفعله ، ليصدرا عن رأيه ، ثم يخالفه على ابنه لغير رغبة ولا رهبة ، يؤثر القلة على الكثرة ، والذل على العزة ، من غير علم ولا معرفة بالعاقبة .
وكيف ينكر الجاحظ والعثمانية أن رسول الله صلى الله عليه وآله دعاه الى الاسلام وكلفه التصديق .
وقد روى في الخبر الصحيح انه كلفه في مبدا الدعوة قبل ظهور كلمة الاسلام وانتشارها بمكة أن يصنع له طعاما ، وان يدعو له بنى عبد المطلب ، فصنع له الطعام ، ودعاهم له ، فخرجوا ذلك اليوم ، ولم ينذرهم صلى الله عليه وآله لكلمة قالها عمه أبو لهب ، فكلفه في اليوم الثاني أن يصنع مثل ذلك الطعام ، وان يدعوهم ثانية ، فصنعه ، ودعاهم فاكلوا ، ثم كلمهم صلى الله عليه وآله فدعاهم الى الدين ، ودعاه معهم لانه من بنى عبد المطلب ، ثم ضمن لمن يوازره منهم وينصره على قوله ، أن يجعله اخاه في الدين ، ووصيه بعد موته ، وخليفته من بعده ، فامسكوا كلهم واجابه هو وحده ، وقال انا انصرك على ما جئت به ، واوازرك وأبايعك ، فقال لهم لما راى منهم الخذلان ، ومنه النصر ، وشاهد منهم المعصية ومنه الطاعة ، وعاين منهم الاباء ومنه الاجابة هذا اخى ووصيي وخليفتي من بعدى ، فقاموا يسخرون ويضحكون ، ويقولون لابي طالب اطع ابنك ، فقد امره عليك ، فهل يكلف عمل(13/244)
الطعام ودعاء القوم صغير مميز وغر غير عاقل وهل يؤتمن على سر النبوة طفل ابن خمس سنين أو ابن سبع وهل يدعى في جملة الشيوخ والكهول الا عاقل لبيب وهل يضع رسول الله صلى الله عليه وآله يده في يده ، ويعطيه صفقة يمينه ، بالاخوة والوصية والخلافة الا وهو اهل لذلك ، بالغ حد التكليف ، محتمل لولاية الله وعداوة اعدائه وما بال هذا الطفل لم يانس باقرانه ، ولم يلصق باشكاله ، ولم ير مع الصبيان في ملاعبهم بعد اسلامه ، وهو كاحدهم في طبقته ، كبعضهم في معرفته .
وكيف لم ينزع إليهم في ساعة من ساعاته ، فيقال دعاه داعى الصبا وخاطر من خواطر الدنيا ، وحملته الغرة والحداثة على حضور لهوهم والدخول في حالهم ، بل ما رأيناه الا ماضيا على اسلامه ، مصمما في امره ، محققا لقوله بفعله ، قد صدق اسلامه بعفافه وزهده ، ولصق برسول الله صلى الله عليه وآله من بين جميع من بحضرته ، فهو امينه واليفه في دنياه وآخرته ، وقد قهر شهوته ، وجاذب خواطره ، صابرا على ذلك نفسه ، لما يرجو من فوز العاقبة وثواب الاخرة ، وقد ذكر هو عليه السلام في كلامه وخطبة بدء حاله ، وافتتاح امره ، حيث اسلم لما دعا رسول الله صلى الله عليه وآله الشجرة ، فاقبلت تخد الارض ، فقالت قريش ساحر خفيف السحر فقال على عليه السلام يا رسول الله ، انا اول من يؤمن بك ، آمنت بالله ورسوله وصدقتك فيما جئت به ، وانا اشهد أن الشجرة فعلت ما فعلت بامر الله تصديقا لنبوتك ، وبرهانا على صحة دعوتك ، فهل يكون ايمان قط اصح من هذا الايمان واوثق عقدة ، واحكم مرة ولكن حنق العثمانية وغيظهم ، وعصبية الجاحظ وانحرافه مما لا حيلة فيه .
ثم لينظر المنصف وليدع الهوى جانبا ، ليعلم نعمة الله على على عليه السلام بالاسلام حيث اسلم على الوضع الذى اسلم عليه ، فانه لو لا الالطاف التى خص بها ، والهداية التى منحها ، لما كان الا كبعض اقارب محمد صلى الله عليه وآله واهله ، فقد كان ممازجا له كممازجته ، ومخالطا له كمخالطة كثير من اهله ورهطه ، ولم يستجب منهم(13/245)
احد له الا بعد حين .
ومنهم من لم يستجب له اصلا ، فان جعفرا عليه السلام كان ملتصقا به ، ولم يسلم حينئذ ، وكان عتبة بن ابى لهب ابن عمه وصهره زوج ابنته ولم يصدقه ، بل كان شديدا عليه ، وكان لخديجة بنون من غيره ، ولم يسلموا حينئذ ، وهم ربائبه (1) ومعه في دار واحدة .
وكان أبو طالب اباه في الحقيقة وكافله وناصره ، والمحامي عنه ، ومن لولاه لم تقم له قائمة ، ومع ذلك لم يسلم في اغلب الروايات ، وكان العباس عمه وصنو ابيه ، وكالقرين له في الولادة والمنشا والتربية ، ولم يستجب له الا بعد حين طويل ، وكان أبو لهب عمه ، وكدمه ولحمه ، ولم يسلم ، وكان شديدا عليه ، فكيف ينسب اسلام على عليه السلام الى الالف والتربية والقرابة واللحمة والتلقين والحضانة ، والدار الجامعة ، وطول العشرة والانس والخلوة وقد كان كل ذلك حاصلا لهؤلاء أو لكثير منهم ، ولم يهتد احد منهم إذ ذاك ، بل كانوا بين [ من ] (2) جحد وكفر ومات على كفره ، ومن ابطا وتاخر ، وسبق بالاسلام وجاء سكيتا ، وقد فاز بالمنزلة غيره .
وهل يدل تأمل حال على عليه السلام مع الانصاف الا على انه اسلم ، لانه شاهد الاعلام ، وراى المعجزات ، وشم ريح النبوة ، وراى نور الرسالة ، وثبت اليقين في قلبه بمعرفة وعلم ونظر صحيح ، لا بتقليد ولا حمية ، ولا رغبة ولا رهبة ، الا فيما يتعلق بامور الاخرة .
قال الجاحظ فلو أن عليا عليه السلام كان بالغا حيث اسلم ، لكان اسلام ابى بكر وزيد بن حارثة وخباب بن الارت افضل من اسلامه ، لان اسلام المقتضب (4) الذى لم يعتد به ولم يعوده ، ولم يمرن عليه ، افضل من اسلام الناشئ الذى ربى فيه ، ونشا وحبب
__________
(1) الربائب : اولاد الزوج .
(2) من ا .
(3) السكيت : الفرس يجئ آخر الحلبة .
(4) المقتضب : غير المستعد للشئ .
(*)(13/246)
إليه ، وذلك لان صاحب التربية يبلغ حيث يبلغ وقد اسقط الفه عنه مؤنة الروية والخاطر ، وكفاه علاج القلب واضطراب النفس ، وزيد وخباب وابو بكر يعانون من كلفة النظر ومؤنة التأمل ومشقة الانتقال من الدين الذى قد طال الفهم له ما هو غير خاف .
ولو كان على حيث اسلم بالغا مقتضبا كغيره ممن عددنا ، كان اسلامهم افضل من اسلامه ، لان من اسلم وهو يعلم أن له ظهرا كابى طالب ، وردءا كبنى هاشم ، وموضعا في بنى عبد المطلب ، ليس كالحليف والمولى ، والتابع والعسيف (1) ، وكالرجل من عرض قريش (2) .
أو لست تعلم أن قريشا خاصة واهل مكة عامة لم يقدروا على اذى النبي صلى الله عليه وآله ، ما كان أبو طالب حيا وايضا فان اولئك اجتمع عليهم مع فراق الالف مشقة الخواطر ، وعلى عليه السلام كان بحضرة رسول الله صلى الله عليه وآله ، يشاهد الاعلام في كل وقت ، ويحضر منزل الوحى ، فالبراهين له اشد انكشافا ، والخواطر على قلبه اقل اعتلاجا ، وعلى قدر الكلفة والمشقة يعظم الفضل ويكثر الاجر (3) .
قال أبو جعفر رحمه الله ينبغى أن ينظر اهل الانصاف هذا الفصل ، ويقفوا على قول ا لجاحظ والاصم في نصرة العثمانية واجتهادهم في القصد الى فضائل هذا الرجل ، وتهجينها ، فمرة يبطلان معناها ، ومرة يتوصلان الى حط قدرها ، فلينظر في كل باب اعترضا فيه ، اين بلغت حيلتهما ، وما صنعا في احتيالهما في قصصهما وسجعهما اليس إذا تأملتها علمت انها الفاظ ملفقة بلا معنى ، وانها عليها شجى وبلاء والا فما عسى أن تبلغ حيلة الحاسد ويغنى كيد الكائد الشانئ (4) لمن قد جل قدره عن النقص ، واضاءت فضائله اضاءة الشمس واين قول الجاحظ ، من دلائل السماء ، وبراهين الانبياء ، وقد علم
__________
(1) العسيف : الاجير .
(2) من عرض قريش اي من دهائهم .
(3) العثمانية 22 - 24 .
مع تصرف واختصار كبير .
(4) ب (االثاني) ، تحريف وصوابه من ا .
(*)(13/247)
الصغير والكبير ، والعالم والجاهل ، ممن بلغه ذكر على عليه السلام ، وعلم مبعث النبي صلى الله عليه وآله أن عليا عليه السلام لم يولد في دار الاسلام ، ولا غذى في حجر الايمان ، وانما استضافه رسول الله صلى الله عليه وآله الى نفسه سنة القحط والمجاعة ، وعمره يومئذ ثمانى سنين ، فمكث معه سبع سنين حتى اتاه جبرئيل بالرسالة ، فدعاه وهو بالغ كامل العقل الى الاسلام ، فاسلم بعد مشاهدة المعجزة ، وبعد اعمال النظر والفكرة ، وان كان قد ورد في كلامه انه صلى سبع سنين قبل الناس كلهم ، فانما يعنى ما بين الثمان والخمس عشرة ، ولم يكن حينئذ دعوة ولا رسالة ، ولا ادعاء نبوة ، وانما كان رسول الله صلى الله عليه وآله يتعبد على ملة ابراهيم ودين الحنيفية ، ويتحنث ويجانب الناس ، ويعتزل ويطلب الخلوة ، وينقطع في جبل حراء ، وكان على عليه السلام معه كالتابع والتلميذ ، فلما بلغ الحلم ، وجاءت النبي صلى الله عليه وآله الملائكة ، وبشرته بالرسالة ، دعاه فاجابه عن نظر ومعرفة بالاعلام المعجزة ، فكيف يقول الجاحظ إن اسلامه لم يكن مقتضبا .
وان كان اسلامه ينقص عن اسلام غيره في الفضيلة لما كان يمرن عليه من التعبد مع رسول الله صلى الله عليه وآله قبل الدعوة ، لتكونن طاعة كثير من المكلفين افضل من طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وامثاله من المعصومين ، لان العصمة عند اهل العدل لطف يمنع من اختص به من ارتكاب القبيح ، فمن اختص بذلك اللطف كانت الطاعة عليه اسهل ، فوجب أن يكون ثوابه انقص من ثواب من اطاع مع تلك الالطاف .
وكيف يقول الجاحظ إن اسلامه ناقص عن اسلام غيره ، وقد جاء في الخبر انه اسلم يوم الثلاثاء ، واستنبئ النبي صلى الله عليه وآله يوم الاثنين ، فمن هذه حالة لم تكثر حجج الرسالة على سمعه ، ولا تواترت اعلام النبوة على مشاهدته ، ولا تطاول الوقت عليه لتخف محنته ، ويسقط ثقل تكليفه ، بل بان فضله ، وظهر حسن اختياره لنفسه ، إذ اسلم في حال بلوغه ، وعانى نوازع طبعه ، ولم يؤخر ذلك بعد سماعه .(13/248)
وقد غمر الجاحظ في كتابه هذا أن ابا بكر كان قبل اسلامه مذكورا ، ورئيسا معروفا ، يجتمع إليه كثير من اهل مكة فينشدون الاشعار ، ويتذاكرون الاخبار : ويشربون الخمر ، وقد كان سمع دلائل النبوة وحجج الرسل ، وسافر الى البلدان ، ووصلت إليه الاخبار ، وعرف دعوى الكهنة وحيل السحرة ، ومن كان كذلك كان انكشاف الامور له اظهر والاسلام عليه اسهل ، والخواطر على قلبه اقل اعتلاجا ، وكل ذلك عون لابي بكر على الاسلام ، ومسهل إليه سبيله ، ولذلك لما قال النبي صلى الله عليه وآله (اتيت بيت المقدس) ساله أبو بكر عن المسجد ومواضعه ، فصدقه وبان له امره ، وخفت مؤنته لما تقدم من معرفته بالبيت ، فخرج إذا اسلام ابى بكر على قول الجاحظ من معنى المقتضب وفى ذلك رويتم عنه صلى الله عليه وآله انه قال ما دعوت احدا الى الاسلام الا وكان له تردد ونبوة ، الا ما كان من ابى بكر ، فانه لم يتلعثم حتى هجم به اليقين الى المعرفة والاسلام ، فاين هذا واسلام من خلى وعقله ، والجئ الى نظره ، مع صغر سنه ، واعتلاج الخواطر على قلبه ونشاته ، في ضد ما دخل فيه ، والغالب على امثاله واقرانه حب اللعب واللهو فلجا الى ما ظهر له من دلائل الدعوة ، ولم يتاخر اسلامه فيلزمه التقصير بالمعصية ، فقهر شهوته ، وغالب خواطره وخرج من عادته وما كان غذى به لصحة نظره ، ولطافة فكره وغامض فهمه ، فعظم استنباطه ، ورجح فضله ، وشرف قدر اسلامه ، ولم ياخذ من الدنيا بنصيب ، ولا تنعم فيها بنعيم حدثا ولا كبيرا ، وحمى نفسه عن الهوى ، وكسر شره حداثته بالتقوى ، واشتغل بهم الدين عن نعيم الدنيا ، واشغل هم الاخرة قلبه ، ووجه إليه رغبته ، فاسلامه هو السبيل الذى لم يسلم عليه احد غيره ، وما سبيله في ذلك الا كسبيل الانبياء ، ليعلم أن منزلته من النبي صلى الله عليه وآله كمنزلة هارون من موسى ، وانه وإن لم يكن نبيا ، فقد كان في سبيل الانبياء سالكا ، ولمنهاجهم متبعا ، وكانت حاله كحال ابراهيم عليه السلام ، فان(13/249)
اهل العلم ذكروا انه لما كان صغيرا جعلته امه في سرب لم يطلع عليه احد ، فلما نشا ودرج وعقل قال لامه من ربى قالت ابوك ، قال فمن رب ابى فزبرته ونهرته ، الى أن طلع من شق السرب ، فراى كوكبا ، فقال هذا ربى فلما افل قال لا احب الافلين ، فلما راى القمر بازغا قال هذا ربى ، فلما افل قال لئن لم يهدنى ربى لاكونن من القوم الضالين ، فلما راى الشمس بازغة قال هذا ربى هذا اكبر ، فلما افلت قال يا قوم انى برئ مما تشركون ، انى وجهت وجهى للذى فطر السموات والارض حنيفا ، وما انا من المشركين ، وفى ذلك يقول الله جل ثناؤه (وكذلك نرى ابراهيم ملكوت السموات والارض وليكون من الموقنين) (1) وعلى هذا كان اسلام الصديق الاكبر عليه السلام ، لسنا نقول انه كان مساويا له في الفضيلة ، ولكن كان مقتديا بطريقه على ما قال الله تعالى (إن اولى الناس بابراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولى المؤمنين) (2) .
واما اعتلال الجاحظ بان له ظهرا كابى طالب وردءا كبنى هاشم ، فانه يوجب عليه أن تكون محنة ابى بكر وبلال ثوابهما وفضل اسلامهما اعظم مما لرسول الله صلى الله عليه وآله ، لان ابا طالب ظهره وبنى هاشم ردؤه ، وحسبك جهلا من معاند لم يستطع حط قدر على عليه السلام الا بحطه من قدر رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يكن احد اشد على رسول الله صلى الله عليه وآله من قراباته ، الادنى منهم فالادنى ، كابى لهب عمه وامراة ابى لهب ، وهى ام جميل بنت حرب بن امية واحدى اولاد عبد مناف ، ثم ما كان من عقبة بن ابى معيط ، وهو ابن عمه ، وما كان من النضر بن الحارث ، وهو من بنى عبد الدار بن قصى ، وهو ابن عمه ايضا ، وغير هؤلاء ممن يطول تعداده ، وكلهم كان يطرح الاذى في طريقه ، وينقل اخباره ، ويرميه بالحجارة ، ويرمى الكرش
__________
(1) سورة الانعام 75 .
(2) سورة آل عمران 68 .
(*)(13/250)
والفرث عليه ، وكانوا يؤذون عليا عليه السلام كاذاه ، ويجتهدون في غمه ويستهزئون به ، وما كان لابي بكر قرابة تؤذيه كقرابة على ولما كان بين على ، وبين النبي صلى الله عليه وآله من الاتحاد والالف والاتفاق ، احجم المنافقون بالمدينة عن اذى رسول الله صلى الله عليه وآله خوفا من سيفه ، ولانه صاحب الدار والجيش ، وامره مطاع ، وقوله نافذ ، فخافوا على دمائهم منه ، فاتقوه ، وامسكوا عن اظهار بغضه ، واظهروا بغض على عليه السلام وشنآنه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله في حقه في الخبر الذى روى في جميع الصحاح (لا يحبك الا مؤمن ، ولا يبغضك الا منافق) وقال كثير من اعلام الصحابة - كما روى في الخبر المشهور بين المحدثين (ما كنا نعرف المنافقين الا ببغض على ابن ابى طالب) واين كان ظهر ابى طالب عن جعفر ، وقد ازعجه الاذى عن وطنه ، حتى هاجر الى بلاد الحبشة وركب البحر ، ايتوهم الجاحظ أن ابا طالب نصر عليا ، وخذل جعفرا .
قال الجاحظ ولابي بكر فضيلة في اسلامه انه كان قبل اسلامه كثير الصديق ، عريض الجاه ، ذا يسار وغنى ، يعظم لماله ، ويستفاد من رأيه ، فخرج من عز الغنى وكثرة الصديق الى ذل الفاقة وعجز الوحدة ، وهذا غير اسلام من لا حراك به ، ولا عز له ، تابع غير متبوع ، لان من اشد ما يبتلى الكريم به ، السب بعد التحية ، والضرب بعد الهيبة ، والعسر بعد اليسر .
ثم كان أبو بكر دعية من دعاة الرسول ، وكان يتلوه في جميع احواله ، فكان الخوف إليه اشد ، والمكروه نحوه اسرع ، وكان ممن تحسن مطالبته ، ولا يستحيى من ادراك الثار عنده ، لنباهته ، وبعد ذكره ، والحدث الصغير يزدرى ويحتقر لصغر سنه وخمول ذكره (1) .
__________
(1) العثمانية 25 ، 26 ، مع تصرف واختصار .
(*)(13/251)
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله اما ما ذكر من كثرة المال والصديق ، واستفاضة الذكر وبعد الصيت وكبر السن ، فكله عليه لا له ، وذلك لانه قد علم أن من سيرة العرب واخلاقها حفظ الصديق والوفاء بالذمام والتهيب لذى الثروة واحترام ذى السن العالية ، وفى كل هذا ظهر شديد ، وسند وثقة يعتمد عليها عند المحن ، ولذلك كان المرء منهم إذا تمكن من صديقه ابقى عليه ، واستحيا منه ، وكان ذلك سببا لنجاته والعفو عنه ، على أن على بن ابى طالب عليه السلام إن لم يكن شهره سنه ، فقد شهره نسبه وموضعه من بنى هاشم ، وإن لم يستفض ذكره بلقاء الرجال ، وكثرة الاسفار استفاض بابى طالب ، فانتم تعلمون انه ليس تيم في بعد الصيت كهاشم ، ولا أبو قحافة كابى طالب ، وعلى حسب ذلك يعلو ذكر الفتى على ذى السن ويبعد صيت الحدث على الشيخ ، ومعلوم ايضا أن عليا على اعناق المشركين اثقل ، إذ كان هاشميا ، وان كان ابوه حامى رسول الله صلى الله عليه وآله ، والمانع لحوزته ، وعلى هو الذى فتح على العرب باب الخلاف ، واستهان بهم ، بما اظهر من الاسلام والصلاة ، وخالف رهطه وعشيرته ، واطاع ابن عمه فيما لم يعرف من قبل ، ولا عهد له نظير ، كما قال تعالى (لتنذر قوما ما انذر آباؤهم فهم غافلون) (1) ثم كان بعد صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله ، ومشتكى حزنه ، وانيسه في خلوته ، وجليسه واليفه في ايامه كلها ، وكل هذا يوجب التحريض عليه ، ومعاداة العرب له ، ثم انتم معاشر العثمانية ، تثبتون لابي بكر فضيلة بصحبة الرسول صلى الله عليه وآله من مكة الى يثرب ، ودخوله معه في الغار ، فقلتم مرتبة شريفة وحالة جليلة ، إذ كان شريكه في الهجرة ، وانيسه في الوحشة ، فاين هذه من صحبة على عليه السلام له في خلوته ، وحيث لا يجد انيسا غيره ، ليله ونهاره ، ايام مقامه بمكة يعبد الله
__________
(1) سورة يس 6 .
(*)(13/252)
معه سرا ، ويتكلف له الحاجة جهرا ، ويخدمه كالعبد يخدم مولاه ، ويشفق عليه ويحوطه ، وكالولد يبر والده ، ويعطف عليه ولما سئلت عائشة من كان احب الناس الى رسول الله صلى الله عليه وآله ، قالت اما من الرجال فعلى ، واما من النساء ففاطمة .
قال الجاحظ وكان أبو بكر من المفتونين المعذبين بمكة قبل الهجرة ، فضربه نوفل ابن خويلد المعروف بابن العدوية مرتين ، حتى ادماه وشده مع طلحة بن عبيد الله في قرن ، وجعلهما في الهاجرة عمير بن عثمان بن مرة بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة ، ولذلك كانا يدعيان القرينين ، ولو لم يكن له غير ذلك لكان لحاقه عسيرا ، وبلوغ منزلته شديدا ، ولو كان يوما واحدا لكان عظيما ، وعلى بن ابى طالب رافه وادع ، ليس بمطلوب ولا طالب ، وليس انه لم يكن في طبعه الشهامة والنجدة ، وفى غريزته البسالة في الشجاعة ، لكنه لم يكن قد تمت اداته ، ولا استكملت آلته ، ورجال الطلب واصحاب الثار يغمصون ذا الحداثة ويزدرون بذى الصبا والغرارة ، الى أن يلحق بالرجال ، ويخرج من طبع الاطفال (1) .
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله اما القول فممكن والدعوى سهلة ، سيما على مثل الجاحظ ، فانه ليس على لسانه من دينه وعقله رقيب ، وهو من دعوى الباطل غير بعيد ، فمعناه نزر ، وقوله لغو ، ومطلبه سجع ، وكلامه لعب ولهو ، يقول الشئ وخلافه ، ويحسن القول وضده ، ليس له من نفسه واعظ ولا لدعواه حد قائم ، والا فكيف تجاسر على القول بان عليا حينئذ لم يكن مطلوبا ولا طالبا ، وقد بينا بالاخبار الصحيحة ، والحديث المرفوع المسند انه كان يوم اسلم بالغا كاملا منابذا بلسانه وقلبه لمشركي قريش ،
__________
(1) العثمانية 27 ، 28 .
(*)(13/253)
ثقيلا على قلوبهم ، وهو المخصوص دون ابى بكر بالحصار في الشعب ، وصاحب الخلوات برسول الله صلى الله عليه وآله في تلك الظلمات ، المتجرع لغصص المرار من ابى لهب وابى جهل وغيرهما ، والمصطلى لكل مكروه والشريك لنبيه في كل اذى ، قد نهض بالحمل الثقيل ، وبان بالامر الجليل ، ومن الذى كان يخرج ليلا من الشعب على هيئة السارق ، يخفى نفسه ، ويضائل شخصه ، حتى ياتي الى من يبعثه إليه أبو طالب من كبراء قريش ، كمطعم بن عدى وغيره ، فيحمل لبنى هاشم على ظهره اعدال الدقيق والقمح ، وهو على اشد خوف من اعدائهم ، كابى جهل وغيره ، لو ظفروا به لاراقوا دمه .
اعلي كان يفعل دلك ايام الحصار في الشعب ، ام أبو بكر وقد ذكر هو عليه السلام حاله يومئذ ، فقال في خطبة له مشهورة فتعاقدوا الا يعاملونا ولا يناكحونا ، واوقدت الحرب علينا نيرانها ، واضطرونا الى جبل وعر ، مؤمننا يرجو الثواب ، وكافرنا يحامى عن الاصل ، ولقد كانت القبائل كلها اجتمعت عليهم ، وقطعوا عنهم المارة والميرة ، فكانوا يتوقعون الموت جوعا ، صباحا ومساء ، لا يرون وجها ولا فرجا ، قد اضمحل عزمهم ، وانقطع رجاؤهم ، فمن الذى خلص إليه مكروه تلك المحن بعد محمد صلى الله عليه وآله الا على عليه السلام وحده وما عسى أن يقول الواصف والمطنب في هذه الفضيلة ، من تقصى معانيها ، وبلوغ غاية كنهها ، وفضيلة الصابر عندها ودامت هذه المحنة عليهم ثلاث سنين ، حتى انفرجت عنهم بقصة الصحيفة ، د والقصه مشهورة .
وكيف يستحسن الجاحظ لنفسه أن يقول في على عليه السلام انه قبل الهجرة كان وادعا رافها لم يكن مطلوبا ولا طالبا ، وهو صاحب الفراش الذى فدى رسول الله صلى الله عليه وآله بنفسه ، ووقاه بمهجته ، واحتمل السيوف ورضح الحجارة دونه وهل ينتهى الواصف وان اطنب ، والمادح وان اسهب ، الى الابانة عن مقدار هذه الفضيلة ، والايضاح بمزية هذه الخصيصة .(13/254)
فاما قوله أن ابا بكر عذب بمكة ، فانا لا نعلم أن العذاب كان واقعا الا بعبد أو عسيف (1) ، أو لمن لا عشيرة له تمنعه ، فانتم في ابى بكر بين امرين تارة تجعلونه دخيلا ساقطا ، وهجينا رذيلا مستضعفا ذليلا ، وتارة تجعلونه رئيسا متبعا ، وكبيرا مطاعا ، فاعتمدوا على احد القولين لنكلمكم بحسب ما تختارونه لانفسكم .
ولو كان الفضل في الفتنه والعذاب ، لكان عمار وخباب وبلال وكل معذب بمكة افضل من ابى بكر ، لانهم كانوا من العذاب في اكثر مما كان فيه ، ونزل فيهم من القرآن ما لم ينزل فيه ، كقوله تعالى (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا) (2) قالوا نزلت في خباب وبلال ، ونزل في عمار قوله (الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان) (3) وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يمر على عمار وابيه وامه ، وهم يعذبون ، يعذبهم بنو مخزوم لانهم كانوا حلفاءهم ، فيقول (صبرا آل ياسر فان موعدكم الجنة) ، وكان بلال يقلب على الرمضاء ، وهو يقول احد احد وما سمعنا لابي بكر في شئ من ذلك ذكرا ، ولقد كان لعلى عليه السلام عنده يد غراء ، إن صح ما رويتموه في تعذيبه ، لانه قتل نوفل بن خويلد وعمير بن عثمان يوم بدر ، ضرب نوفلا فقطع ساقه ، فقال اذكرك الله والرحم فقال قد قطع الله كل رحم وصهر الا من كان تابعا لمحمد ، ثم ضربه اخرى ففاضت نفسه ، وصمد لعمير بن عثمان التميمي ، فوجده يروم الهرب ، وقد ارتج عليه المسلك ، فضربه على شراسيف صدره ، فصار نصفه الاعلى بين رجليه ، وليس أن ابا بكر لم يطلب بثاره منهما ، ويجتهد ، لكنه لم يقدر على أن يفعل فعل على عليه السلام ، فبان علي عليه السلام بفعله دونه قال الجاحظ ولابي بكر مراتب لا يشركه فيها على ولا غيره ، وذلك قبل الهجرة
__________
(1) العسيف : الاجير .
(2) سورة النحل 41 .
(3) سورة النحل 106 .
(*)(13/255)
فقد علم الناس أن عليا عليه السلام انما ظهر فضله ، وانتشر صيته ، وامتحن ولقى المشاق منذ يوم بدر ، وانه انما قاتل في الزمان الذى استوفى فيه اهل الاسلام ، واهل الشرك ، وطمعوا في أن يكون الحرب بينهم سجالا ، واعلمهم الله تعالى أن العاقبة للمتقين ، وابو بكر كان قبل الهجرة معذبا ومطرودا مشردا ، في الزمان الذى ليس بالاسلام واهله نهوض ولا حركة ، ولذلك قال أبو بكر في خلافته طوبى لمن مات في فافاه الاسلام يقول في ضعفه (1) .
قال أبو جعفر رحمه الله لا اشك أن الباطل خان ابا عثمان ، والخطا اقعده ، والخذلان اصاره الى الحيرة ، فما علم وعرف حتى قال ما قال ، فزعم أن عليا عليه السلام قبل الهجرة لم يمتحن ولم يكابد المشاق ، وانه انما قاسى مشاق التكليف ومحن الابتلاء منذ يوم بدر ، ونسى الحصار في الشعب ، وما منى به منه ، وابو بكر وادع رافه ، ياكل ما يريد ، ويجلس مع من يحب ، مخلى سربه ، طيبة نفسه ، ساكنا قلبه ، وعلى يقاسى الغمرات ، ويكابد الاهوال ، ويجوع ويظما ، ويتوقع القتل صباحا ومساء ، لانه كان هو المتوصل المحتال في احضار قوت زهيد من شيوخ قريش وعقلائها سرا ، ليقيم به رمق رسول الله صلى الله عليه وآله وبنى هاشم ، وهم في الحصار ، ولا يامن في كل وقت مفاجاة اعداء رسول الله صلى الله عليه وآله له بالقتل ، كابى جهل بن هشام وعقبه بن ابى معيط ، والوليد بن المغيرة ، وعتبة ابن ربيعة وغيرهم من فراعنة قريش وجبابرتها ، ولقد كان يجيع نفسه ويطعم رسول الله صلى الله عليه وآله زاده ، ويظمئ نفسه ويسقيه ماءه وهو كان المعلل له إذا مرض ، والمؤنس له إذا استوحش ، وابو بكر بنجوة عن ذلك لا يمسه مما يمسهم الم ، ولم يلحقه مما يلحقهم مشقة ، ولا يعلم بشئ من اخبارهم واحوالهم ، الا على سبيل الاجمال دون التفصيل ، ثلاث سنين ، محرمة معاملتهم ومناكحتهم ومجالستهم ، محبوسين محصورين ممنوعين من الخروج
__________
(1) العثمانية 39 ، 40 مع تصرف واختصار .
(*)(13/256)
والتصرف في انفسهم ، فكيف اهمل الجاحظ هذه الفضيلة ، ونسى هذه الخصيصة ، ولا نظير لها ولكن لا يبالى الجاحظ بعد أن يسوغ له لفظه ، وتنسق له خطابته ، ما ضيع من المعنى ، ورجع عليه من الخطا .
فاما قوله واعلموا أن العاقبة للمتقين ، ففيه اشارة الى معنى غامض قصده الجاحظ - يعنى أن لا فضيلة لعلى عليه السلام في الجهاد ، لان الرسول كان اعلمه انه منصور ، وان العاقبة له - وهذا من دسائس الجاحظ وهمزاته ولمزاته ، وليس بحق ما قاله ، لان رسول الله صلى الله عليه وآله اعلم اصحابه جملة أن العاقبة لهم ، ولم يعلم واحدا منهم بعينه انه لا يقتل ، لا عليا ولا غيره ، وان صح انه كان اعلمه انه لا يقتل ، فلم يعلمه انه لا يقطع عضو من اعضائه ، ولم يعلمه انه لا يمسه الم جراح في جسده ، ولم يعلمه انه لا يناله الضرب الشديد .
وعلى أن رسول الله صلى الله عليه وآله قد اعلم اصحابه قبل يوم بدر - وهو يومئذ بمكة - أن العاقبه لهم ، كما اعلم اصحابه بعد الهجرة ذلك ، فان لم يكن لعلى والمجاهدين فضيلة في الجهاد بعد الهجرة لاعلامه اياهم ذلك ، فلا فضيلة لابي بكر وغيره في احتمال المشاق قبل الهجرة لاعلامه اياهم بذلك ، فقد جاء في الخبر انه وعد ابا بكر قبل الهجرة بالنصر ، وانه قال له ارسلت الى هؤلاء بالذبح ، وان الله تعالى سيغنمنا اموالهم ، ويملكنا ديارهم ، فالقول في الموضعين متساو ومتفق .
قال الجاحظ وأن بين المحنة في الدهر الذى صار فيه اصحاب النبي صلى الله عليه وآله مقرنين لاهل مكة ومشركى قريش ، ومعهم اهل يثرب اصحاب النخيل والاطام و الشجاعة والصبر والمواساة ، والايثار والمحاماة والعدد الدثر ، والفعل الجزل ، وبين الدهر الذى كانوا فيه بمكة يفتنون ويشتمون ، ويضربون ويشردون ، ويجوعون ويعطشون ،(13/257)
مقهورين لا حراك بهم ، واذلاء لا عز لهم ، وفقراء لا مال عندهم ، ومستخفين لا يمكنهم اظهار دعوتهم ، لفرقا واضحا ، ولقد كانوا في حال احوجت لوطا وهو نبى الى أن قال (لو أن لى بكم قوه أو آوى الى ركن شديد) (1) وقال النبي صلى الله عليه وآله (عجبت من اخى لوط ، كيف قال أو آوى الى ركن شديد ، وهو ياوى الى الله تعالى) ثم لم يكن ذلك يوما ولا يومين ولا شهرا ولا شهرين ، ولا عاما ولا عامين ، ولكن السنين بعد السنين وكان اغلظ القوم واشدهم محنة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله أبو بكر ، لانه اقام بمكة ما اقام رسول الله صلى الله عليه وآله ثلاث عشرة سنة ، وهو اوسط ما قالوا في مقام النبي صلى الله عليه وآله (2) .
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله ما نرى الجاحظ احتج لكون ابى بكر اغلظهم واشدهم محنة ، الا بقوله لانه اقام بمكة مدة مقام الرسول صلى الله عليه وآله بها ، وهذه الحجة لا تخص ابا بكر وحده ، لان عليا عليه السلام اقام معه هذه المدة ، وكذلك طلحة وزيد وعبد الرحمن وبلال وخباب وغيرهم ، وقد كان الواجب عليه أن يخص ابا بكر وحده بحجة تدل على انه كان اغلظ الجماعة ، واشدهم محنة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ، فالاحتجاج في نفسه فاسد .
ثم يقال له ما بالك اهملت امر مبيت على عليه السلام على الفراش بمكة ليلة الهجرة هل نسيته ام تناسيته فانها المحنة العظيمة والفضيلة الشريفة التى متى امتحنها الناظر ، واجال فكره فيها ، راى تحتها فضائل متفرقة ومناقب متغايرة ، وذلك انه لما استقر الخبر عند المشركين أن رسول الله صلى الله عليه وآله مجمع على الخروج من بينهم للهجرة
__________
(1) سورة هود 80 .
(2) العثمانية 41 .
(*)(13/258)
الى غيرهم قصدوا الى معاجلته ، وتعاقدوا على أن يبيتوه في فراشه ، وان يضربوه باسياف كثيرة ، بيد كل صاحب قبيلة من قريش سيف منها ، ليضيع دمه بين الشعوب ، ويتفرق بين القبائل ، ولا يطلب بنو هاشم بدمه قبيلة واحدة بعينها من بطون قريش ، وتحالفوا على تلك الليلة ، واجتمعوا عليها ، فلما علم رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك من امرهم ، دعا اوثق الناس عنده ، امثلهم في نفسه ، وابذلهم في ذات الاله لمهجته ، واسرعهم اجابه الى طاعته ، فقال له إن قريشا قد تحالفت على أن تبيتنى هذه الليلة ، فامض الى فراشي ، ونم في مضجعي ، والتف في بردى الحضرمي ليروا انى لم اخرج ، وانى خارج إن شاء الله .
فمنعه اولا من التحرز واعمال الحيلة ، وصده عن الاستظهار لنفسه بنوع من انواع المكايد والجهات التى يحتاط بها الناس لنفوسهم ، والجاه الى أن يعرض نفسه لظبات السيوف الشحيذة من ايدى ارباب الحنق والغيظة ، فأجاب الى ذلك سامعا مطيعا طيبة بها نفسه ، ونام على فراشه صابرا محتسبا ، واقيا له بمهجته ، ينتظر القتل ، ولا نعلم فوق بذل النفس درجه يلتمسها صابر ، ولا يبلغها طالب ، (والجود بالنفس اقصى غاية الجود) ، ولو لا أن رسول الله صلى الله عليه وآله علم انه اهل لذلك ، لما اهله ، ولو كان عنده نقص في صبره أو في شجاعته أو في مناصحته لابن عمه ، واختير لذلك ، لكان من اختاره صلى الله عليه وآله منقوضا في رأيه ، مضرا في اختياره ، ولا يجوز أن يقول هذا احد من اهل الاسلام ، وكلهم مجمعون على أن الرسول صلى الله عليه وآله عمل الصواب ، واحسن في الاختيار .
ثم في ذلك - إذا تأمله المتأمل - وجوه من الفضل : منها انه وان كان عنده في موضع الثقة ، فانه غير مامون عليه الا يضبط السر فيفسد التدبير بافشائه تلك الليله الى من يلقيه الى الاعداء .
ومنها انه وان كان ضابطا للسر وثقه عند من اختاره ، فغير مامون عليه الجبن عند(13/259)
مفاجاة المكروه ، ومباشرة الاهوال ، فيفر من الفراش ، فيفطن لموضع الحيلة ، ويطلب رسول الله صلى الله عليه وآله فيظفر به .
ومنها انه وان كان ضابطا للسر ، شجاعا نجدا ، فلعله غير محتمل للمبيت على الفراش ، لان هذا امر خارج عن الشجاعة إن كان قد قامه مقام المكتوف الممنوع ، بل هو اشد مشقة من المكتوف الممنوع ، لان المكتوف الممنوع يعلم من نفسه انه لا سبيل له الى الهرب ، وهذا يجد السبيل الى الهرب والى الدفع عن نفسه ، ولا يهرب ولا يدافع .
ومنها انه وإن كان ثقة عنده ، ضابطا للسر ، شجاعا محتملا للمبيت على الفراش ، فانه غير مامون أن يذهب صبره عند العقوبة الواقعة ، والعذاب النازل بساحته ، حتى يبوح بما عنده ، ويصير الى الاقرار بما يعلمه ، وهو انه اخذ طريق كذا فيطلب فيؤخذ ، فلهذا قال علماء المسلمين إن فضيلة على عليه السلام تلك الليلة لا نعلم احدا من البشر نال مثلها ، الا ما كان من اسحاق وابراهيم عند استسلامه للذبح ، ولو لا أن الانبياء لا يفضلهم غيرهم لقلنا إن محنة على اعظم ، لانه قد روى أن اسحاق تلكا لما امره أن يضطجع ، وبكى على نفسه ، وقد كان ابوه يعلم أن عنده في ذلك وقفه ، ولذلك قال له (فانظر ماذا ترى) (1) وحال علي عليه السلام بخلاف ذلك ، لانه ما تلكا ولا تتعتع ، ولا تغير لونه ولا اضطربت اعضاؤه ، ولقد كان اصحاب النبي صلى الله عليه وآله يشيرون عليه بالراى المخالف لما كان امر به ، وتقدم فيه فيتركه ويعمل بما اشاروا به ، كما جرى يوم الخندق في مصانعته الاحزاب بثلث تمر المدينة ، فانهم اشاروا عليه بترك ذلك فتركه ، وهذه كانت قاعدته معهم ، وعادته بينهم ، وقد كان لعلى عليه السلام أن يعتل بعلة ، وان يقف ويقول يا رسول الله ، اكون معك احميك من العدو ، واذب بسيفي عنك ، فلست
__________
(1) سورة الصافات 102 .
(*)(13/260)
مستغنيا في خروجك عن مثلى ، ونجعل عبدا من عبيدنا في فراشك ، قائما مقامك ، يتوهم القوم - برؤيته نائما في بردك - انك لم تخرج ، ولم تفارق مركزك ، دفلم يقل ذلك ، ولا تحبس ولا توقف ، ولا تلعثم ، وذلك لعلم كل واحد منهما صلى الله عليه وآله أن احدا لا يصبر على ثقل هذه المحنة ، ولا يتورط هذه الهلكة ، الا من خصه الله تعالى بالصبر على مشقتها ، والفوز بفضيلتها ، وله من جنس ذلك افعال كثيرة ، كيوم دعا عمرو بن عبد ود المسلمين الى المبارزة ، فاحجم الناس كلهم عنه ، لما علموا من باسه وشدته ، ثم كرر النداء ، فقام على عليه السلام ، فقال انا ابرز إليه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله انه عمرو قال نعم ، وانا على فأمره بالخروج إليه ، فلما خرج قال صلى الله عليه وآله (برز الايمان كله الى الشرك كله) ، وكيوم احد حيث حمى رسول الله صلى الله عليه وآله من ابطال قريش وهم يقصدون قتله ، فقتلهم دونه ، حتى قال جبرئيل عليه السلام (يا محمد إن هذه هي المواساة) فقال (انه منى وانا منه) ، فقال جبريل (وانا منكما) ولو عددنا ايامه ومقاماته التى شرى فيها نفسه لله تعالى لاطلنا واسهبنا .
قال الجاحظ فان احتج محتج لعلى عليه السلام بالمبيت على الفراش ، فبين الغار والفراش فرق واضح ، لان الغار وصحبة ابى بكر للنبى صلى الله عليه وآله قد نطق به القرآن ، فصار كالصلاة والزكاة وغيرهما مما نطق به الكتاب ، وامر على عليه السلام ونومه على الفراش ، وإن كان ثابتا صحيحا ، الا انه لم يذكر في القرآن ، وانما جاء مجئ الروايات والسير ، وهذا لا يوازن هذا ولا يكايله (1) .
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله هذا فرق غير مؤثر ، لانه قد ثبت بالتواتر حديث
__________
(1) العثمانية 44 .
(*)(13/261)
الفراش ، فلا فرق بينه وبين ما ذكر في نص الكتاب ، ولا يجحده الا مجنون أو غير مخالط لاهل الملة ، ارايت كون الصلوات خمسا ، وكون زكاة الذهب ربع العشر ، وكون خروج الريح ناقضا للطهارة ، وامثال ذلك مما هو معلوم بالتواتر حكمه هل هو مخالف لما نص في الكتاب عليه من الاحكام هذا مما لا يقوله رشيد ولا عاقل ، على أن الله تعالى لم يذكر اسم ابى بكر في الكتاب ، وانما قال (إذ يقول لصاحبه) (1) ، وانما علمنا انه أبو بكر بالخبر وما ورد في السيرة ، وقد قال اهل التفسير إن قوله تعالى (ويمكر الله والله خير الماكرين) (2) كناية عن على عليه السلام ، لانه مكر بهم ، واول الاية (واذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) (2) انزلت في ليلة الهجرة ، ومكرهم كان توزيع السيوف على بطون قريش ، ومكر الله تعالى هو منام على عليه السلام على الفراش ، فلا فرق بين الموضعين في انهما مذكوران كناية لا تصريحا وقد روى المفسرون كلهم إن قول الله تعالى (ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله) (3) ، انزلت في على عليه السلام ليلة المبيت على الفراش ، فهذه مثل قوله تعالى (إذ يقول لصاحبه) لا فرق بينهما .
قال الجاحظ وفرق آخر وهو انه لو كان مبيت على عليه السلام على الفراش ، جاء مجئ كون ابى بكر في الغار ، لم يكن له في ذلك كبير طاعة ، لان الناقلين نقلوا انه صلى الله عليه وآله قال له (نم فلن يخلص اليك شئ تكرهه) ، ولم ينقل ناقل انه
__________
(1) سورة التوبة 40 .
(2) سورة الانفال 30 .
(3) سورة البقرة 207 .
(*)(13/262)
قال لابي بكر في صحبته اياه وكونه معه في الغار مثل ذلك ، ولا قال له انفق واعتق فانك لن تفتقر ، ولن يصل اليك مكروه (1) .
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله هذا هو الكذب الصراح ، والتحريف والادخال في الرواية ما ليس منها ، والمعروف المنقول انه صلى الله عليه وآله قال له اذهب فاضطجع في مضجعي ، وتغش ببردى الحضرمي ، فان القوم سيفقدوننى ، ولا يشهدون مضجعي ، فلعلهم إذا راوك يسكنهم ذلك حتى يصبحوا ، فإذا اصبحت فاغد في اداء امانتي ، ولم ينقل ما ذكره الجاحظ ، وانما ولده أبو بكر الاصم ، واخذه الجاحظ ، ولا اصل له ، ولو كان هذا صحيحا لم يصل إليه منهم مكروه ، وقد وقع الاتفاق على انه ضرب ورمى بالحجارة قبل أن يعلموا من هو حتى تضور ، وانهم قالوا له رأينا تضورك ، فانا كنا نرمى محمدا ولا يتضور ، ولان لفظة المكروه إن كان قالها انما يراد بها القتل ، فهب انه امن القتل ، كيف يامن من الضرب والهوان ، ومن أن ينقطع بعض اعضائه ، وبان سلمت نفسه اليس الله تعالى قال لنبيه (بلغ ما انزل اليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) (2) ومع ذلك فقد كسرت رباعيته وشج وجهه ، وادميت ساقه ، وذلك لانها عصمة من القتل خاصة ، وكذلك المكروه الذى اومن على عليه السلام منه - وان كان صح ذلك في الحديث - انما هو مكروه القتل .
ثم يقال له وابو بكر لا فضيلة له ايضا في كونه في الغار ، لان النبي صلى الله عليه وآله قال له (لا تحزن إن الله معنا) ، ومن يكن الله معه فهو آمن لا محالة من كل سوء ، فكيف قلت ولم ينقل ناقل انه قال لابي بكر في الغار مثل ذلك فكل ما يجيب به عن هذا فهو جوابنا عما اورده ، فنقول له هذا ينقلب عليك في النبي صلى الله عليه وآله
__________
(1) العثمانية 45 .
(2) سورة المائدة 67 .
(*)(13/263)
لان الله تعالى وعده بظهور دينه ، وعاقبة امره فيجب على قولك الا يكون مثابا عند الله تعالى على ما يحتمله من المكروه ، ولا ما يصيبه من الاذى إذ كان قد ايقن بالسلامة والفتح في عدته .
قال الجاحظ ومن جحد كون ابى بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله فقد كفر لانه جحد نص الكتاب ، ثم انظر الى قوله تعالى (إن الله معنا) (1) من الفضيلة لابي بكر ، لانه شريك رسول الله صلى الله عليه وآله في كون الله تعالى معه وانزال السكينة ، قال كثير من الناس انه في الاية مخصوص بابى بكر ، لانه كان محتاجا الى السكينة لما تداخله من رقة الطبع البشرى ، والنبى صلى الله عليه وآله كان غير محتاج إليها ، لانه يعلم انه محروس من الله تعالى ، فلا معنى لنزول السكينة عليه ، وهذه فضيلة ثالثة لابي بكر .
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله إن ابا عثمان يجر على نفسه ما لا طاقة له به من مطاعن الشيعة ، ولقد كان في غنيه عن التعلق بما تعلق به ، لان الشيعة تزعم أن هذه الاية ، بان تكون طعنا وعيبا على ابى بكر ، اولى من أن تكون فضيلة ومنقبة له ، لانه لما قال له (لا تحزن) دل على انه قد كان حزن وقنط واشفق على نفسه ، وليس هذا من صفات المؤمنين الصابرين ، ولا يجوز أن يكون حزنه طاعة ، لان الله تعالى لا ينهى عن الطاعة ، فلو لم يكن ذنبا لم ينه عنه ، وقوله (إن الله معنا) أي إن الله عالم بحالنا وما نضمره من اليقين أو الشك ، كما يقول الرجل لصاحبه لا تضمرن سوءا ولا تنوين قبيحا ، فان الله تعالى يعلم ما نسره وما نعلنه ، وهذا مثل قوله تعالى (ولا ادنى من ذلك ولا اكثر الا هو معهم اينما كانوا) (2) ، أي هو عالم بهم ، واما السكينة
__________
(1) سورة التوبة 40 .
(2) سورة المجادلة 7 .
(*)(13/264)
فكيف يقول انها ليست راجعة الى النبي صلى الله عليه وآله وبعدها قوله (وايده بجنود لم تروها) ، اترى المؤيد بالجنود كان ابا بكر ام رسول الله صلى الله عليه وآله .
وقوله انه مستغن عنها ، ليس بصحيح ولا يستغنى احد عن الطاف الله وتوفيقه وتاييده وتثبيت قلبه ، وقد قال الله تعالى في قصة حنين (وضاقت عليكم الارض بما رحبت ثم وليتم مدبرين * ثم انزل الله سكينته على رسوله) (1) صلى الله عليه وآله .
واما الصحبة فلا تدل الا على المرافقة والاصطحاب لا غير ، وقد يكون حيث لا ايمان ، كما قال تعالى (قال له صاحبه وهو يحاوره اكفرت بالذى خلقك) (2) ، ونحن وان كنا نعتقد اخلاص ابى بكر و ايمانه الصحيح السليم وفضيلته التامة ، الا انا لا نحتج له بمثل ما احتج به الجاحظ من الحجج الواهية ، ولا نتعلق بما يجر علينا دواهي الشيعة ومطاعنها .
قال الجاحظ وإن كان المبيت على الفراش فضيلة ، فاين هي من فضائل ابى بكر ايام مكة ، من عتق المعذبين وانفاق المال وكثرة المستجيبين ، مع فرق ما بين الطاعتين ، لان طاعة الشاب الغرير والحدث الصغير الذى في عز صاحبه عزه ، ليست كطاعة الحليم الكبير الذى لا يرجع تسويد صاحبه الى رهطه وعشيرته .
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله اما كثرة المستجيبين ، فالفضل فيها راجع الى المجيب
__________
(1) سورة التوبة 25 ، 26 .
(2) سورة الكهف 34 .
(*)(13/265)
لا الى المجاب ، على انا قد علمنا أن من استجاب لموسى عليه السلام اكثر ممن استجاب لنوح عليه السلام ، وثواب نوح اكثر ، لصبره على الاعداء ، ومقاساة خلافهم وعنتهم .
واما انفاق المال ، فاين محنة الغنى من محنة الفقير واين يعتدل اسلام من اسلم وهو غنى ، إن جاع اكل ، وإن اعيا ركب ، وإن عرى لبس ، قد وثق بيساره واستغنى بماله ، واستعان على نوائب الدنيا بثروته ، ممن لا يجد قوت يومه ، وان وجد لم يستاثر به ، فكان الفقر شعاره ، وفى ذلك قيل الفقر شعار المؤمن .
وقال الله تعالى لموسى (يا موسى إذا رايت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين) ، وفى الحديث (إن الفقراء يدخلون الجنة قبل الاغنياء بخمسمائة عام) ، وكان النبي صلى الله عليه وآله يقول (اللهم احشرني في زمرة الفقراء) ، ولذلك ارسل الله محمدا صلى الله عليه وآله فقيرا ، وكان بالفقر سعيدا ، فقاسى محنة الفقر ومكابدة الجوع ، حتى شد الحجر على بطنه ، وحسبك بالفقر فضيلة في دين الله لمن صبر عليه ، فانك لا تجد صاحب الدنيا يتمناه ، لانه مناف لحال الدنيا واهلها ، وانما هو شعار اهل الاخرة .
واما طاعة على عليه السلام ، وكون الجاحظ زعم انها كانت لان في عز محمد عزه وعز رهطه ، بخلاف طاعة ابى بكر ، فهذا يفتح عليه أن يكون جهاد حمزة كذلك ، وجهاد عبيدة بن الحارث ، وهجرة جعفر الى الحبشة ، بل لعل محاماة المهاجرين من قريش على رسول الله صلى الله عليه وآله كانت لان في دولته دولتهم ، وفي نصرته استجداد ملك لهم ، وهذا يجر الى الالحاد ، ويفتح باب الزندقة ، ويفضى الى الطعن في الاسلام والنبوة .
قال الجاحظ وعلى انا لو نزلنا الى ما يريدونه ، جعلنا الفراش كالغار ، وخلصت فضائل ابى بكر في غير ذلك عن معارض .
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله قد بينا فضيله المبيت على الفراش على فضيلة الصحبة(13/266)
في الغار ، بما هو واضح لمن انصف ، ونزيد هاهنا تأكيدا بما لم نذكره فيما تقدم فنقول إن فضيلة المبيت على الفراش على الصحبة في الغار لوجهين : احدهما أن عليا عليه السلام قد كان انس بالنبي صلى الله عليه وآله وحصل له بمصاحبته قديما انس عظيم ، والف شديد ، فلما فارقه عدم ذلك الانس ، وحصل به أبو بكر ، فكان ما يجده على عليه السلام من الوحشة والم الفرقة موجبا زيادة ثوابه ، لان الثواب على قدر المشقة .
وثانيهما أن ابا بكر كان يؤثر الخروج من مكة ، وقد كان خرج من قبل فردا ، فازداد كراهية للمقام ، فلما خرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وافق ذلك هوى قلبه ، ومحبوب نفسه ، فلم يكن له من الفضيلة ما يوازى فضيلة من احتمل المشقة العظيمة ، وعرض نفسه لوقع السيوف ، لرضخ الحجارة ، لانه على قدر سهولة العبادة يكون نقصان الثواب .
قال الجاحظ ثم الذى لقى أبو بكر في مسجده الذى بناه على بابه في بنى جمح ، فقد كان بنى مسجدا يصلى فيه ، ويدعو الناس الى الاسلام ، وكان له صوت رقيق ، ووجه عتيق ، وكان إذا قرا بكى ، فيقف عليه المارة من الرجال والنساء والصبيان والعبيد ، فلما اوذى في الله ، ومنع من ذلك المسجد ، استاذن رسول الله صلى الله عليه وآله في الهجرة فاذن له ، فاقبل يريد المدينة ، فتلقاه الكنانى (1) ، فعقد له جوارا ، وقال والله لا ادع مثلك يخرج من مكة ، فرجع إليها وعاد لصنيعه في المسجد ، فمشت قريش الى جاره الكنانى ، واجلبوا عليه ، فقال له دع المسجد وآدخل بيتك ، واصنع فيه ما بدا لك (2) .
__________
(1) الكناني هو مالك بن الدغنة ، احد بني الحارث بن بكر بن عبد مناة .
(2) العثمانية 28 ، 29 مع تصرف واختصار .
(*)(13/267)
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله كيف كانت بنو جمح تؤذى عثمان بن مظعون وتضربه ، وهو فيهم ذو سطوة وقدر ، وتترك ابا بكر يبنى مسجدا يفعل فيه ما ذكرتم ، وانتم الذين رويتم عن ابن مسعود انه قال (ما صلينا ظاهرين حتى اسلم عمر بن الخطاب) ، والذى تذكرونه من بناء المسجد كان قبل اسلام عمر ، فكيف هذا .
واما ما ذكرتم من رقة صوته وعتاق وجهه ، فكيف يكون ذلك وقد روى الواقدي وغيره أن عائشة رات رجلا من العرب خفيف العارضين ، معروق الخدين ، غائر العينين ، اجنأ (1) لا يمسك ازاره ، فقالت ما رايت اشبه بابى بكر من هذا فلا نراها دلت على شئ من الجمال في صفته .
قال الجاحظ وحيث رد أبو بكر جوار الكنانى ، وقال لا اريد جارا سوى الله ، لقى من الاذى والذل والاستخفاف والضرب ما بلغكم ، وهذا موجود في جميع السير ، وكان آخر ما لقى هو واهله في امر الغار ، وقد طلبته قريش وجعلت فيه مائة بعير ، كما جعلت في النبي صلى الله عليه وآله ، فلقى أبو جهل اسماء بنت بكر ، فسألها فكتمته ، فلطمها حتى رمت قرطا كان في اذنها (2) .
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله هذا الكلام وهجر السكران سواء ، في تقارب المخرج ، واضطراب المعنى ، وذلك أن قريشا لم تقدر على اذى النبي صلى الله عليه وآله ، وابو طالب حى يمنعه ، فلما مات طلبته لتقتله ، فخرج تارة الى بنى عامر ، وتارة الى ثقيف ، وتارة الى بنى شيبان ، ولم يكن يتجاسر على المقام بمكة الا مستترا ، حتى اجاره مطعم بن عدى ، ثم خرج الى المدينة ، فبذلت فيه مائة بعير لشدة حنقها عليه حين فاتها ، فلم تقدر عليه ، فما بالها بذلت في ابى بكر مائة بعير اخرى ، وقد كان رد الجوار ، وبقى بينهم فردا لا ناصر له
__________
(1) الاجنأ ، من الجنأ وهو ميل الظهر .
(2) العثمانية 29 ، مع تصرف واختصار .
(*)(13/268)
ولا دافع عنده ، يصنعون به ما يريدون اما أن يكونوا اجهل البرية كلها أو يكون العثمانية اكذب جيل في الارض واوقحه وجها فهذا مما لم يذكر في سيره ولا روى في اثر ، ولا سمع به بشر ، ولا سبق الجاحظ به احد .
قال الجاحظ ثم الذى كان من دعائه الى الاسلام وحسن احتجاجه ، حتى اسلم على يديه طلحة والزبير وسعد وعثمان وعبد الرحمن ، لانه ساعة اسلم دعا الى الله والى رسوله (1) .
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله ما اعجب هذا القول ، إذ تدعى العثمانية لابي بكر الرفق في الدعاء وحسن الاحتجاج ، وقد اسلم ومعه في منزله ابنه عبد الرحمن ، فما قدر أن يدخله في الاسلام طوعا برفقة ولطف احتجاجه ، ولا كرها بقطع النفقة عنه وادخال المكروه عليه ، ولا كان لابي بكر عند ابنه عبد الرحمن من القدر ما يطيعه فيما يامره به ، ويدعوه إليه ، كما روى أن ابا طالب فقد النبي صلى الله عليه وآله يوما ، وكان يخاف عليه من قريش أن يغتالوه ، فخرج ومعه ابنه جعفر يطلبان النبي صلى الله عليه وآله ، فوجده قائما في بعض شعاب مكة يصلى ، وعلى عليه السلام معه عن يمينه ، فلما رآهما أبو طالب ، قال لجعفر تقدم وصل جناح ابن عمك ، فقام جعفر عن يسار محمد صلى الله عليه وآله ، فلما صاروا ثلاثة تقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وتاخر الاخوان ، فبكى أبو طالب ، وقال : إن عليا وجعفرا ثقتى عند ملم الخطوب والنوب (2) لا تخذلا وانصرا ابن عمكما خى لامى من بينهم وابى والله لا اخذل النبي ولا يخذله من بنى ذو حسب
__________
(1) العثمانية 31 مع تصرف واختصار .
(2) ديوانه 42 .
(*)(13/269)
فتذكر الرواة أن جعفرا اسلم منذ ذلك اليوم ، لان اباه امره بذلك واطاع امره ، وابو بكر لم يقدر على ادخال ابنه عبد الرحمن في الاسلام حتى اقام بمكة على كفره ثلاث عشرة سنة ، وخرج يوم احد في عسكر المشركين ينادى انا عبد الرحمن بن عتيق ، هل من مبارز ثم مكث بعد ذلك على كفره ، حتى اسلم عام الفتح ، وهو اليوم الذى دخلت فيه قريش في الاسلام طوعا وكرها ، ولم يجد احد منها الى ترك ذلك سبيلا واين كان رفق ابى بكر وحسن احتجاجه عند ابيه ابى قحافة وهما في دار واحدة هلا رفق به ودعاه الى الاسلام فاسلم وقد علمتم انه بقى على الكفر الى يوم الفتح ، فاحضره ابنه عند النبي صلى الله عليه وآله وهو شيخ كبير راسه كالثغامة (1) ، فنفر رسول الله صلى الله عليه وآله منه ، وقال غيروا هذا ، فخضبوه ، ثم جاءوا به مرة اخرى ، فاسلم .
وكان أبو قحافة فقيرا مدقعا سيئ الحال ، وابو بكر عندهم كان مثريا فائض المال ، فلم يمكنه استمالته الى الاسلام بالنفقة والاحسان ، وقد كانت امراة ابى بكر ام عبد الله ابنه - واسمها نملة بنت عبد العزى بن اسعد بن عبد بن ود العامرية - لم تسلم ، واقامت على شركها بمكة ، وهاجر أبو بكر وهى كافرة ، فلما نزل قوله تعالى (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) (2) ، فطلقها أبو بكر ، فمن عجز عن ابنه وابيه وامراته فهو عن غيرهم من الغرماء اعجز ، ومن لم يقبل منه ابوه وابنه وامراته لا برفق واحتجاج ، ولا خوفا من قطع النفقة عنهم ، وادخال المكروه عليهم فغيرهم اقل قبولا منه ، واكثر خلافا عليه .
قال الجاحظ وقالت اسماء بنت ابى بكر ما عرفت ابى الا وهو يدين بالدين ، ولقد رجع الينا يوم اسلم ، فدعانا الى الاسلام ، فما رمنا حتى اسلمنا ، واسلم اكثر جلسائه ، ولذلك قالوا من اسلم بدعاء ابى بكر اكثر ممن اسلم بالسيف ، ولم يذهبوا في ذلك الى العدد ، بل عنوا الكثرة في القدر ، لانه اسلم على يديه خمسة من اهل الشورى ،
__________
(1) الثغام : كسحاب : ضرب من النبات ابيض .
(2) سورة الممتحنة 10 .
(*)(13/270)
كلهم يصلح للخلافة ، وهم اكفاء على عليه السلام ، ومنازعوه الرياسة والامامة ، فهؤلاء اكثر من جميع الناس (1) .
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله اخبرونا من هذا الذى اسلم ذلك اليوم من اهل بيت ابى بكر إذا كانت امراته لم تسلم وابنه عبد الرحمن لم يسلم ، وابو قحافة لم يسلم ، واخته ام فروة لم تسلم ، وعائشة لم تكن قد ولدت في ذلك الوقت ، لانها ولدت بعد مبعث النبي صلى الله عليه وآله بخمس سنين ، ومحمد بن ابى بكر ولد بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه وآله بثلاث وعشرين سنة ، لانه ولد في حجة الوداع ، واسماء بنت ابى بكر التى قد روى الجاحظ هذا الخبر عنها كانت يوم بعث رسول الله صلى الله عليه وآله بنت اربع سنين - وفى رواية من يقول بنت سنتين - فمن الذى اسلم من اهل بيته يوم اسلم نعوذ بالله من الجهل والكذب والمكابرة وكيف اسلم سعد والزبير وعبد الرحمن بدعاء ابى بكر وليسوا من رهطه ولا من اترابه ولا من جلسائه ، ولا كانت بينهم قبل ذلك صداقة متقدمة ، ولا انس وكيد وكيف ترك أبو بكر عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، لم يدخلهما في الاسلام برفقه وحسن دعائه ، وقد زعمتم انهما كانا يجلسان إليه لعلمه وطريف حديثه وما باله لم يدخل جبير بن مطعم في الاسلام ، وقد ذكرتم انه ادبه وخرجه ، ومنه اخذ جبير العلم بانساب قريش وماثرها فكيف عجز عن هؤلاء الذين عددناهم ، وهم منه بالحال التى وصفنا ، ودعا من لم يكن بينه وبينه انس ولا معرفة ، الا معرفة عيان وكيف لم يقبل منه عمر بن الخطاب ، وقد كان شكله ، اقرب الناس شبها به في اغلب اخلاقه ولئن رجعتم الى الانصاف لتعلمن أن هؤلاء لم يكن اسلامهم الا بدعاء الرسول صلى الله عليه وآله لهم ، وعلى يديه اسلموا ، ولو فكرتم في حسن التاتى في الدعاء ، ليصحن لابي طالب في ذلك
__________
(1) العثمانية 31 - 32 ، مع تصرف واختصار .
(*)(13/271)
على شركه اضعاف ما ذكرتموه لابي بكر ، لانكم رويتم أن ابا طالب قال لعلى عليه السلام : يا بنى الزمه ، فانه لن يدعوك الا الى خير ، وقال لجعفر صل جناح ابن عمك ، فاسلم بقوله ، ولاجله اصفق بنو عبد مناف على نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله بمكة من بنى مخزوم ، وبنى سهم ، وبنى جمح ، ولاجله صبر بنو هاشم على الحصار في الشعب ، وبدعائه واقباله على محمد صلى الله عليه وآله اسلمت امراته فاطمة بنت اسد ، فهو احسن رفقا ، وايمن نقيبة من ابى بكر وغيره ، وانما منعه عن الاسلام أن ثبت انه لم يسلم الا تقية ، وابو بكر لم يكن له الا ابن واحد ، وهو عبد الرحمن ، فلم يمكنه أن يدخله في الاسلام ، ولا امكنه إذ لم يقبل منه الاسلام أن يجعله كبعض مشركي قريش في قلة الاذى لرسول الله صلى الله عليه وآله ، وفيه (انزل والذى قال لوالديه اف لكما اتعداننى أن اخرج وقد خلت القرون من قبلى وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا الا اساطير الاولين) (1) ، وانما يعرف حسن رفق الرجل وتاتيه بان يصلح اولا امر بيته واهله ، ثم يدعو الاقرب فالاقرب ، فان رسول الله صلى الله عليه وآله لما بعث كان اول من دعا زوجته خديجة ، ثم مكفوله وابن عمه عليا عليه السلام ، ثم مولاه زيدا ، ثم ام ايمن خادمته ، فهل رأيتم احدا ممن كان ياوى الى رسول الله صلى الله عليه وآله لم يسارع وهل التاث عليه احد من هؤلاء فهكذا يكون حسن التاتى والرفق في الدعاء هذا ورسول الله مقل ، وهو من جملة عيال خديجة حين بعثه الله تعالى ، وابو بكر عندكم كان موسرا ، وكان ابوه مقترا ، وكذلك ابنه وامراته ام عبد الله ، والموسر في فطرة العقول اولى أن يتبع من المقتر ، وانما حسن التاتى والرفق في الدعاء ما صنعه مصعب بن عمير لسعد بن معاذ لما دعاه ، وما صنع سعد بن معاذ ببنى عبد الاشهل لما دعاهم وما صنع بريدة بن الحصيب باسلم لما دعاهم ، قالوا اسلم بدعائه ثمانون بيتا من قومه ،
__________
(1) سورة الاحقاف 17 .
(*)(13/272)
واسلم بنو عبد الاشهل بدعاء سعد في يوم واحد ، واما من لم يسلم ابنه ولا امراته ، ولا ابوه ولا اخته بدعائه فهيهات أن يوصف ويذكر بالرفق في الدعاء وحسن التاتى والاناة .
قال الجاحظ ثم اعتق أبو بكر بعد ذلك جماعة من المعذبين في الله ، وهم ست رقاب ، منهم بلال وعامر بن فهيرة ، وزنيرة النهدية ، وابنتها ومر بجارية يعذبها عمر بن الخطاب فابتاعها منه ، واعتقها ، واعتق ابا عيسى فانزل الله فيه (فاما من اعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى ...
) (1) ، الى آخر السورة .
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله اما بلال وعامر بن فهيرة ، فانما اعتقهما رسول الله صلى الله عليه وآله ، روى ذلك الواقدي وابن اسحاق وغيرهما ، واما باقى مواليهم الاربعة ، فان سامحناكم في دعواكم لم يبلغ ثمنهم في تلك الحال لشدة بغض مواليهم لهم الا مائة درهم أو نحوها ، فاى فخر في هذا واما الاية فان ابن عباس قال في تفسيرها (فاما من اعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى) ، أي لان يعود .
وقال غيره نزلت في مصعب بن عمير .
قال الجاحظ وقد علمتم أبو بكر في ماله ، وكان ماله اربعين الف درهم ، فانفقه في نوائب الاسلام وحقوقه ، ولم يكن خفيف الظهر ، قليل العيال والنسل ، فيكون فاقد جميع اليسارين ، بل كان ذا بنين وبنات وزوجة وخدم وحشم ، ويعول والديه وما ولدا ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله قبل ذلك عنده مشهورا ، فيخاف العار في ترك مواساته ، فكان انفاقه على الوجه الذى لا نجد في غاية الفضل مثله ، ولقد قال النبي صلى الله عليه وآله (ما نفعني مال كما نفعني مال ابى بكر) .
__________
(1) سورة الليل 5 .
(*)(13/273)
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله ، اخبرونا على أي نوائب الاسلام انفق هذا المال ، وفى أي وجه وضعه فانه ليس بجائز أن يخفى ذلك ويدرس حتى يفوت حفظه ، وينسى ذكره ، وانتم فلم تقفوا على شئ اكثر من عتقه بزعمكم ست رقاب لعلها لا يبلغ ثمنها في ذلك العصر مائة درهم .
وكيف يدعى له الانفاق الجليل ، وقد باع من رسول الله صلى الله عليه وآله بعيرين عند خروجه الى يثرب ، واخذ منه الثمن في مثل تلك الحال ، وروى ذلك جميع المحدثين ، وقد رويتم ايضا انه كان حيث كان بالمدينة غنيا موسرا ، ورويتم عن عائشة انها قالت هاجر أبو بكر وعنده عشرة آلاف درهم ، وقلتم إن الله تعالى انزل فيه (ولا ياتل اولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا اولى القربى) (1) ، قلتم هي في ابى بكر ومسطح بن اثاثة ، فاين الفقر الذى زعمتم انه انفق حتى تخلل بالعباءة ورويتم إن لله تعالى في سمائه ملائكة قد تخللوا بالعباءة وان النبي صلى الله عليه وآله رآهم ليلة الاسراء ، فسال جبرائيل عنهم فقال هؤلاء ملائكة تأسوا بابى بكر بن ابى قحافة صديقك في الارض ، فانه سينفق عليك ماله ، حتى يخلل عباءة في عنقه ، وانتم ايضا رويتم إن الله تعالى لما انزل آية النجوى ، فقال (يا ايها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدى نجواكم صدقة ذلك خير لكم) (2) ، الاية لم يعمل بها الا على ابن ابى طالب وحده ، مع اقراركم بفقره وقلة ذات يده ، وابو بكر في الحال التى ذكرنا من السعة امسك عن مناجاته ، فعاتب الله المؤمنين في ذلك ، فقال (ااشفقتم أن تقدموا بين يدى نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم) ، فجعله سبحانه ذنبا يتوب عليهم منه ، وهو امساكهم عن تقديم الصدقة ، فكيف سخت نفسه بانفاق اربعين الفا وامسك عن مناجاة الرسول ، وانما كان يحتاج فيها الى اخراج درهمين .
واما ما ذكر من كثره عياله ونفقته عليهم ، فليس في ذلك دليل على تفضيله ، لان
__________
(1) سورة النور 22 .
(2) سورة المجادلة 12 .
(*)(13/274)
نفقته على عياله واجبة ، مع أن ارباب السيرة ذكروا انه لم يكن ينفق على ابيه شيئا ، وانه كان اجيرا لابن جدعان على مائدته يطرد عنها الذبان .
قال الجاحظ وقد تعلمون ما كان يلقى اصحاب النبي صلى الله عليه وآله ببطن مكة من المشركين ، وحسن صنيع كثير منهم ، كصنيع حمزة حين ضرب ابا جهل بقوسه ففلق هامته ، وابو جهل يومئذ سيد البطحاء ورئيس الكفر ، وامنع اهل مكة ، وقد عرفتم أن الزبير سل سيفه ، واستقبل به المشركين ، لما ارجف أن محمدا صلى الله عليه وآله قد قتل ، وأن عمر بن الخطاب قال حين اسلم لا يعبد الله سرا بعد اليوم ، وان سعدا ضرب بعض المشركين بلحى جمل ، فاراق دمه ، فكل هذه الفضائل لم يكن لعلى بن ابى طالب فيها ناقة ولا جمل ، وقد قال الله تعالى (لا يستوى منكم من انفق من قبل الفتح وقاتل اولئك اعظم درجة من الذين انفقوا من بعد وقاتلوا) (1) ، فإذا كان الله تعالى قد فضل من انفق قبل الفتح ، لانه لا هجرة بعد الفتح ، على من انفق بعد الفتح ، فما ظنكم بمن انفق من قبل الهجرة ، ومن لدن مبعث النبي صلى الله عليه وآله الى الهجرة والى بعد الهجره (2) .
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله اننا لا ننكر فضل الصحابة وسوابقهم ، ولسنا كالامامية الذين يحملهم الهوى على جحد الامور المعلومة ، ولكننا ننكر تفضيل احد من الصحابة على على بن ابى طالب ، ولسنا ننكر غير ذلك ، وننكر تعصب الجاحظ للعثمانية ، وقصده الى فضائل هذا الرجل ومناقبه بالرد والابطال واما حمزة فهو عندنا ذو فضل عظيم ، ومقام جليل ، وهو سيد الشهداء الذين استشهدوا على عهد رسول الله
__________
(1) سورة الحديد 20 .
(2) العثمانية 37 ، مع تصرف واختصار .
(*) .(13/275)
صلى الله عليه وآله ، واما فضل عمر فغير منكر وكذلك الزبير وسعد ، وليس فيما ذكر ما يقتضى كون على عليه السلام مفضولا لهم أو لغيرهم ، الا قوله (وكل هذه الفضائل لم يكن لعلى عليه السلام فيها ناقة ولا جمل) ، فان هذا من التعصب البارد ، والحيف الفاحش ، وقد قدمنا من آثار على عليه السلام قبل الهجرة وما له إذ ذاك من المناقب والخصائص ، ما هو افضل واعظم واشرف من جميع ما ذكر لهؤلاء ، على أن ارباب السيرة يقولون إن الشجة التى شجها سعد ، وان السيف الذى سله الزبير ، هو الذى جلب الحصار في الشعب على النبي صلى الله عليه وآله وبنى هاشم ، وهو الذى سير جعفرا واصحابه الى الحبشة ، وسل السيف في الوقت الذى لم يؤمر المسلمون فيه بسل السيف غير جائز ، قال تعالى (الم تر الى الذين قيل لهم كفوا ايديكم واقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله) (1) ، فتبين أن التكليف له اوقات ، فمنها وقت لا يصلح فيه سل السيف ، ومنها وقت يصلح فيه ويجب ، فاما قوله تعالى (لا يستوى منكم من انفق) فقد ذكرنا ما عندنا من دعواهم لابي بكر انفاق المال .
وايضا فان الله تعالى لم يذكر انفاق المال مفردا ، وانما قرن به القتال ، ولم يكن أبو بكر صاحب قتال وحرب ، فلا تشمله الاية ، وكان على عليه السلام صاحب قتال وانفاق قبل الفتح ، اما قتاله فمعلوم بالضرورة ، واما انفاقه فقد كان على حسب حاله وفقره ، وهو الذى اطعم الطعام على حبه مسكينا ويتيما واسيرا ، وانزلت فيه وفى زوجته وابنيه سورة (2) كاملة من القرآن ، وهو الذى ملك اربعة دراهم فاخرج منها درهما سرا ودرهما علانية ليلا ، ثم اخرج منها في النهار درهما سرا ودرهما علانية ، فانزل فيه قوله تعالى (الذين ينفقون اموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية) (3) ، وهو الذى قدم بين يدى نجواه صدقة
__________
(1) سورة النساء 77 .
(2) زعم بعض غلاة الشيعة ، انه انزلت فيهم سورة مختلفة ، وانظر فصل الخطاب لحسين بن محمد الطبرسي 156 ، وحواشي ملحق العثمانية 319 .
(3) سورة البقرة 247 .
(*)(13/276)
دون المسلمين كافة ، وهو الذى تصدق بخاتمه وهو راكع ، فانزل الله فيه (انما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (1) .
قال الجاحظ والحجة العظمى للقائلين بتفضيل على عليه السلام قتله الاقران ، وخوضه الحرب ، وليس له في ذلك كبير فضيلة ، لان كثرة القتل والمشى بالسيف الى الاقران ، لو كان من اشد المحن واعظم الفضائل ، وكان دليلا على الرياسة والتقدم ، لوجب أن يكون للزبير وابى دجانة ومحمد بن مسلمة ، وابن عفراء ، والبراء بن مالك من الفضل ما ليس لرسول الله صلى الله عليه وآله ، لانه لم يقتل بيده الا رجلا واحدا ولم يحضر الحرب يوم بدر ، ولا خالط الصفوف وانما كان معتزلا عنهم في العريش ومعه أبو بكر ، وانت ترى الرجل الشجاع قد يقتل الاقران ، ويجندل الابطال ، وفوقه من العسكر من لا يقتل ولا يبارز ، وهو الرئيس أو ذوى الراى ، والمستشير في الحرب ، لان للرؤساء من الاكتراث والاهتمام وشغل البال والعناية والتفقد ما ليس لغيرهم ، ولان الرئيس هو المخصوص بالمطالبة ، وعليه مدار الامور ، وبه يستبصر المقاتل ، ويستنصر ، وباسمه ينهزم العدو ، ولو لم يكن له الا أن الجيش لو ثبت وفر هو لم يغن ثبوت الجيش كله ، وكانت الدبرة عليه ، ولو ضيع القوم جميعا وحفظ هو لانتصر وكانت الدولة له ، ولهذا لا يضاف النصر والهزيمة الا إليه ، ففضل ابى بكر بمقامه في العريش مع رسول الله يوم بدر اعظم من جهاد على عليه السلام ذلك اليوم ، وقتله ابطال قريش .
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله لقد اعطى أبو عثمان مقولا وحرم معقولا ، إن كان
__________
(1) سورة المائدة 55 .
(*)(13/277)
يقول هذا على اعتقاد وجد ، ولم يذهب به مذهب اللعب والهزل ، أو على طريق التفاصح والتشادق واظهار القوة ، والسلاطة وذلاقة اللسان وحدة الخاطر والقوة على جدال الخصوم ، الم يعلم أبو عثمان أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان اشجع البشر ، وانه خاض الحروب ، وثبت في المواقف التى طاشت فيها الالباب ، وبلغت القلوب الحناجر ، فمنها يوم احد ، ووقوفه بعد أن فر المسلمون باجمعهم ، ولم يبق معه الا اربعة على والزبير ، وطلحة ، وابو دجانة ، فقاتل ورمى بالنبل حتى فنيت نبله ، وانكسرت سية قوسه ، وانقطع وتره ، فامر عكاشة بن محصن أن يوترها ، فقال يا رسول الله لا يبلغ الوتر ، فقال اوتر ما بلغ قال عكاشة فو الذى بعثه بالحق لقد اوترت حتى بلغ ، وطويت منه شبرا على سية القوس ، ثم اخذها فما زال يرميهم ، حتى نظرت الى قوسه قد تحطمت وبارز ابى بن خلف ، فقال له اصحابه إن شئت عطف عليه بعضنا فابى ، وتناول الحربه من الحارث بن الصمة ثم انتقض باصحابه ، كما ينتقض البعير ، قالوا فتطايرنا عنه تطاير الشعارير (1) ، فطعنه بالحربة ، فجعل يخور كما يخور الثور ، ولو لم يدل على ثباته حين انهزم اصحابه وتركوه الا قوله تعالى (إذ تصعدون ولا تلوون على احد والرسول يدعوكم في اخراكم) (2) ، فكونه عليه السلام في اخراهم وهم يصعدون ولا يلوون ، هاربين ، دليل على انه ثبت ولم يفر ، وثبت يوم حنين في تسعة من اهله ورهطه الادنين ، وقد فر المسلمون كلهم والنفر التسعة محدقون به والعباس آخذ بحكمة بغلته ، وعلى بين يديه مصلت سيفه ، والباقون حول بغلة رسول الله صلى الله عليه وآله يمنة ويسرة ، وقد انهزم المهاجرون والانصار ، وكلما فروا اقدم هو صلى الله عليه وآله وصمم مستقدما ، يلقى السيوف والنبال بنحره وصدره ، ثم اخذ كفا من
__________
(1) الشعارير : ما يجتمع على دبرة البعير من الذبان ، فإذا هيجت تطايرت عنها .
(2) سورة آل عمران 151 .
(*)(13/278)
البطحاء ، وحصب المشركين ، وقال شاهت الوجوه والخبر المشهور عن على عليه السلام ، وهو اشجع البشر (كنا إذا اشتد الباس ، وحمى الوطيس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وآله ولذنا به) ، فكيف يقول الجاحظ انه ما خاض الحرب ، ولا خالط الصفوف واى فرية اعظم من فرية من نسب رسول الله صلى الله عليه وآله الى الاحجام واعتزال الحرب ثم أي مناسبة بين ابى بكر ورسول الله صلى الله عليه وآله في هذا المعنى ليقيسه وينسبه الى رسول الله صلى الله عليه وآله صاحب الجيش والدعوة ، ورئيس الاسلام والملة ، والملحوظ بين اصحابه واعدائه بالسيادة ، واليه الايماء والاشارة ، وهو الذى احنق قريشا والعرب ، وروى اكبادهم بالبراءة من الهتهم ، وعيب دينهم وتضليل اسلافهم ، ثم وترهم فيما بعد بقتل رؤسائهم واكابرهم وحق لمثله إذا تنحى عن الحرب واعتزلها أن يتنحى ويعتزل ، لان ذلك شان الملوك والرؤساء ، إذا كان الجيش منوطا بهم وببقائهم ، فمتى هلك الملك هلك الجيش ، ومتى سلم الملك امكن أن يبقى عليه ملكه ، وان عطب جيشه فانه يستجد جيشا آخر ، ولذلك نهى الحكماء أن يباشر الملك الحرب بنفسه ، وخطئوا الاسكندر لما بارز قوسرا ملك الهند ، ونسبوه الى مجانبة الحكمة ومفارقة الصواب والحزم ، فليقل لنا الجاحظ أي مدخل لابي بكر في هذا المعنى ومن الذى كان يعرفه من اعداء الاسلام ليقصده بالقتل وهل هو الا واحد من عرض المهاجرين ، حكمه حكم عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان ، وغيرهما بل كان عثمان اكثر منه صيتا ، واشرف منه مركبا ، والعيون إليه اطمح ، والعدو إليه احنق واكلب ، ولو قتل أبو بكر في بعض تلك المعارك ، هل كان يؤثر قتله في الاسلام ضعفا ، أو يحدث فيه وهنا أو يخاف على الملة لو قتل أبو بكر في بعض تلك الحروب أن تندرس وتعفى آثارها ، وينطمس منارها ليقول الجاحظ أن ابا بكر كان حكمه حكم رسول الله صلى الله عليه وآله في مجانبة الحروب واعتزالها ، نعوذ بالله من الخذلان وقد علم العقلاء كلهم ممن له(13/279)
بالسير معرفة ، وبالاثار والاخبار ممارسة ، حال حروب رسول الله صلى الله عليه وآله كيف كانت ، وحاله عليه السلام فيها كيف كان ، ووقوفه حيث وقف ، وحربه حيث حارب ، وجلوسه في العريش يوم جلس ، وان وقوفه صلى الله عليه وآله وقوف رياسة وتدبير ، ووقوف ظهر وسند ، يتعرف امور اصحابه ، ويحرس صغيرهم وكبيرهم بوقوفه من ورائهم ، وتخلفه عن التقدم في اوائلهم ، لانهم متى علموا انه في اخراهم اطمانت قلوبهم ، ولم تتعلق بامره نفوسهم ، فيشتغلوا بالاهتمام به عن عدوهم ، ولا يكون لهم فئه يلجئون إليها ، وظهر يرجعون إليه ، ويعلمون انه متى كان خلفهم تفقد امورهم ، وعلم مواقفهم ، وآوى كل انسان مكانه في الحماية والنكاية وعند المنازلة في الكر والحملة ، فكان وقوفه حيث وقف اصلح لامرهم ، واحمى واحرس لبيضتهم ، ولانه المطلوب من بينهم ، إذ هو مدبر امورهم ، ووالى جماعتهم ، الا ترون أن موقف صاحب اللواء موقف شريف ، وان صلاح الحرب في وقوفه ، وان فضيلته في ترك التقدم في اكثر حالاته ، فللرئيس حالات : الاولى حالة يتخلف ويقف آخرا ليكون سندا وقوة ، وردءا وعدة ، وليتولى تدبير الحرب ، ويعرف مواضع الخلل .
والحالة الثانية يتقدم فيها في وسط الصف ليقوى الضعيف ، ويشجع الناكص (1) .
وحالة ثالثة وهى إذا اصطدم الفيلقان ، وتكافح السيفان ، اعتمد ما تقتضيه الحال من الوقوف حيث يستصلح ، أو من مباشرة الحرب بنفسه ، فانها آخر المنازل ، وفيها تظهر شجاعة الشجاع النجد ، وفسالة الجبان المموه .
فاين مقام الرئاسة العظمى لرسول الله صلى الله عليه وآله واين منزله ابى بكر ليسوى بين المنزلتين ، ويناسب بين الحالتين .
ولو كان أبو بكر شريكا لرسول الله صلى الله عليه وآله في الرسالة ، وممنوحا من الله
__________
(1) ب : (الناكس) .
(*)(13/280)
بفضيلة النبوة ، وكانت قريش والعرب تطلبه كما تطلب محمدا صلى الله عليه وآله ، وكان يدبر من امر الاسلام وتسريب العساكر وتجهيز السرايا ، وقتل الاعداء ، ما يدبره محمد صلى الله عليه وآله ، لكان للجاحظ أن يقول ذلك ، فاما وحاله حاله ، وهو اضعف المسلمين جنانا ، واقلهم عند العرب ترة ، لم يرم قط بسهم ، ولا سل سيفا ، ولا اراق دما ، وهو احد الاتباع ، غير مشهور ولا معروف ، ولا طالب ولا مطلوب ، فكيف يجوز أن يجعل مقامه ومنزلته مقام رسول الله صلى الله عليه وآله ومنزلته ولقد خرج ابنه عبد الرحمن مع المشركين يوم احد فرآه أبو بكر ، فقام مغيظا عليه ، فسل من السيف مقدار اصبع ، يريد البروز إليه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله (يا ابا بكر ، شم سيفك (1) وامتعنا بنفسك) ، ولم يقل له (وامتعنا بنفسك) الا لعلمه بانه ليس اهلا للحرب وملاقاة الرجال ، وانه لو بارز لقتل .
وكيف يقول الجاحظ لا فضيلة لمباشره الحرب ، ولقاء الاقران ، وقتل ابطال الشرك وهل قامت عمد الاسلام الا على ذلك وهل ثبت الدين واستقر الا بذلك اتراه لم يسمع قول الله تعالى (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) (2) والمحبة من الله تعالى هي ارادة الثواب ، فكل من كان اشد ثبوتا في هذا الصف ، واعظم قتالا ، كان احب الى الله ، ومعنى الافضل هو الاكثر ثوابا ، فعلى عليه السلام إذا هو احب المسلمين الى الله ، لانه اثبتهم قدما في الصف المرصوص ، لم يفر قط باجماع الامة ، ولا بارزه قرن الا قتله .
اتراه لم يسمع قول الله تعالى (وفضل الله المجاهدين على القاعدين اجرا عظيما) (3) وقوله (إن الله اشترى من المؤمنين انفسهم واموالهم بان لهم الجنة يقاتلون
__________
(1) شم سيفك ، اي اغمده وهو من الاضداد .
(2) سورة الصف 4 .
(3) سورة النساء 95 .
(*)(13/281)
في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والانجيل والقرآن) (1) ، ثم قال سبحانه مؤكدا لهذا البيع والشراء (ومن اوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم) (1) ، وقال الله تعالى (ذلك بانهم لا يصيبهم ظما ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا الا كتب لهم به عمل صالح) (2) .
فمواقف الناس في الجهاد على احوال ، وبعضهم في ذلك افضل من بعض ، فمن دلف الى الاقران ، واستقبل السيوف والاسنة ، كان اثقل على اكتاف الاعداء ، لشدة نكايته فيهم ، ممن وقف في المعركة ، واعان ولم يقدم ، وكذلك من وقف في المعركة ، واعان ولم يقدم ، الا انه بحيث تناله السهام والنبل اعظم غناء ، وافضل ممن وقف حيث لا يناله ذلك ، ولو كان الضعيف والجبان يستحقان الرياسة بقله بسط الكف وترك الحرب ، وان ذلك يشاكل فعل النبي صلى الله عليه وآله ، لكان اوفر الناس حظا في الرياسة ، واشدهم لها استحقاقا حسان بن ثابت ، وان بطل فضل على عليه السلام في الجهاد ، لان النبي صلى الله عليه وآله كان اقلهم قتالا ، كما زعم الجاحظ ليبطلن على هذا القياس فضل ابى بكر في الانفاق ، لان رسول الله صلى الله عليه وآله كان اقلهم مالا .
وانت إذا تأملت امر العرب وقريش ، ونظرت السير ، وقرات الاخبار ، عرفت انها كانت تطلب محمدا صلى الله عليه وآله وتقصد قصده ، وتروم قتله ، فان اعجزها وفاتها طلبت عليا عليه السلام ، وارادت قتله ، لانه كان اشبههم بالرسول حالا ، واقربهم منه قربا ، واشدهم عنه دفعا ، وانهم متى قصدوا عليا فقتلوه اضعفوا امر محمد صلى الله عليه وآله وكسروا شوكته ، إذ كان اعلى من ينصره في الباس والقوة والشجاعة
__________
(1) سورة التوبة 111 .
(2) سورة التوبة 120 .
(*)(13/282)
والنجدة والاقدام والبسالة الا ترى الى قول عتبة بن ربيعة يوم بدر ، وقد خرج هو واخوه شيبة وابنه الوليد بن عتبة ، فاخرج إليه الرسول نفرا من الانصار ، فاستنسبوهم فانتسبوا لهم ، فقالوا ارجعوا الى قومكم ثم نادوا يا محمد اخرج الينا اكفاءنا من قومنا ، فقال النبي صلى الله عليه وآله لاهله الادنين قوموا يا بنى هاشم ، فانصروا حقكم الذى آتاكم الله على باطل هؤلاء قم يا على ، قم يا حمزة ، قم يا عبيدة ، الا ترى ما جعلت هند بنت عتبة لمن قتله يوم احد ، لانه اشترك هو وحمزة في قتل ابيها يوم بدر ، الم تسمع قول هند ترثى اهلها : ما كان عن عتبة لى من صبر ابى وعمى وشقيق صدري اخى الذى كان كضوء البدر بهم كسرت يا على ظهرى .
وذلك لانه قتل اخاها الوليد بن عتبة ، وشرك في قتل ابيها عتبة ، واما عمها شيبة ، فان حمزة تفرد بقتله .
وقال جبير بن مطعم لوحشي مولاه يوم احد إن قتلت محمدا فانت حر ، وإن قتلت عليا فانت حر ، وإن قتلت حمزة فانت حر فقال اما محمد فسيمنعه اصحابه ، واما على فرجل حذر كثير الالتفات في الحرب ، ولكني ساقتل حمزة ، فقعد له وزرقه بالحربة فقتله .
ولما قلنا من مقاربة حال على عليه السلام في هذا الباب لحال رسول الله صلى الله عليه وآله ومناسبتها اياها ما وجدناه في السير والاخبار ، من اشفاق رسول الله صلى الله عليه وآله وحذره عليه ، ودعائه له بالحفظ والسلامة ، قال صلى الله عليه وآله يوم الخندق ، وقد برز على الى عمرو ، ورفع يديه الى السماء بمحضر من اصحابه (اللهم انك اخذت منى(13/283)
حمزة يوم احد ، وعبيدة يوم بدر ، فاحفظ اليوم على عليا (رب لا تذرني فردا وانت خير الوارثين) (1) ، ولذلك ضن به عن مبارزة عمرو حين دعا عمرو الناس الى نفسه مرارا ، في كلها يحجمون ويقدم على ، فيسأل الاذن له في البراز حتى قال له رسول الله صلى الله عليه وآله (انه عمرو) ، فقال (وانا على) ، فادناه وقبله وعممه بعمامته ، وخرج معه خطوات كالمودع له ، القلق لحاله ، المنتظر لما يكون منه ، ثم لم يزل صلى الله عليه وآله رافعا يديه الى السماء ، مستقبلا لها بوجهه ، والمسلمون صموت حوله ، كانما على رؤوسهم الطير ، حتى ثارت الغبرة ، وسمعوا التكبير من تحتها ، فعلموا أن عليا قتل عمرا ، فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وكبر المسلمون تكبيرة سمعها من وراء الخندق من عساكر المشركين ، ولذلك قال حذيفة بن اليمان لو قسمت فضيلة على عليه السلام بقتل عمرو يوم الخندق بين المسلمين باجمعهم لوسعتهم وقال ابن عباس في قوله تعالى (وكفى الله المؤمنين القتال) (2) قال بعلى بن ابى طالب .
قال الجاحظ على أن مشى الشجاع بالسيف الى الاقران ، ليس على ما توهمه من لا يعلم باطن الامر ، لان معه في حال مشيه الى الاقران بالسيف امورا اخرى لا يبصرها الناس ، وانما يقضون على ظاهر ما يرون من اقدامه وشجاعته ، فربما كان سبب ذلك الهوج ، وربما كان الغرارة والحداثة ، وربما كان الاحراج والحمية ، وربما كان لمحبة النفخ والاحدوثة ، وربما كان طباعا كطباع القاسي والرحيم والسخى والبخيل (3)
__________
(1) سورة الانبياء 89 .
(2) سورة الاحزاب 25 .
(3) العثمانية 47 ، مع تصرف واختصار .
(*)(13/284)
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله فيقال للجاحظ فعلى ايها كان مشى على بن ابى طالب الى الاقران بالسيف فايما قلت من ذلك بانت عداوتك لله تعالى ولرسوله ، وان كان مشيه ليس على وجه مما ذكرت ، وانما كان على وجه النصرة والقصد الى المسابقة الى ثواب الاخرة ، والجهاد في سبيل الله ، واعزاز الدين ، كنت بجميع ما قلت معاندا ، وعن سبيل الانصاف خارجا ، وفى امام المسلمين طاعنا ، وان تطرق مثل هذا الوهم على علي عليه السلام ليتطرقن مثله على اعيان المهاجرين والانصار ارباب الجهاد والقتال ، الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وآله بانفسهم ووقوه بمهجهم ، وفدوه بابنائهم وآبائهم ، فلعل ذلك كان لعلة من العلل المذكورة ، وفى ذلك الطعن في الدين ، وفى جماعة المسلمين .
ولو جاز أن يتوهم هذا في على عليه السلام وفى غيره ، لما قال رسول الله صلى الله عليه وآله حكاية عن الله تعالى لاهل بدر (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ، ولا قال لعلى عليه السلام (برز الايمان كله الى الشرك كله) ، ولا قال (اوجب طلحة) (1) .
وقد علمنا ضرورة من دين الرسول صلى الله عليه وآله تعظيمه لعلى عليه السلام تعظيما دينيا ، لاجل جهاده ونصرته ، فالطاعن فيه طاعن في رسول الله صلى الله عليه وآله ، إذ زعم انه قد يمكن أن يكون جهاده لا لوجه الله تعالى ، بل لامر آخر من الامور التى عددها ، وبعثه على التفوه بها اغواء الشيطان وكيده ، والافراط في عداوة من امر الله بمحبته ، ونهى عن بغضه وعداوته .
__________
(1) اوجب طلحة ، اي عمل عملا يدخله الجنة .
(*)(13/285)
اترى رسول الله صلى الله عليه وآله خفى عليه من امر على عليه السلام ما لاح للجاحظ والعثمانية فمدحه وهو غير مستحق للمدح .
قال الجاحظ فصاحب النفس المختارة المعتدلة يكون قتاله طاعة ، وفراره معصية ، لان نفسه معتدلة ، كالميزان في استقامة لسانه وكفتيه ، فإذا لم يكن كذلك كان اقدامه طباعا ، وفراره طباعا (1) .
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله فيقال له فلعل انفاق ابى بكر على ما تزعم اربعين الف درهم لا ثواب له ، لان نفسه ربما تكون غير معتدلة ، لانه يكون مطبوعا على الجود والسخاء ، ولعل خروجه مع النبي صلى الله عليه وآله يوم الهجرة الى الغار لا ثواب له فيه ، لان اسبابه كانت له مهيجة ، ودواعيه غالبة ، محبة الخروج ، وبغض المقام ، ولعل رسول الله صلى الله عليه وآله في دعائه الى الاسلام واكبابه على الصلوات الخمس في جوف الليل ، وتدبيره امر الامة لا ثواب له فيه ، لانه قد تكون نفسه غير معتدلة ، بل يكون في طباعه الرياسة وحبها ، والعبادة والالتذاذ بها ، ولقد كنا نعجب من مذهب ابى عثمان أن المعارف ضرورة ، وانها تقع طباعا ، وفى قوله بالتولد وحركة الحجر بالطبع حتى رأينا من قوله ما هو اعجب منه ، فزعم انه ربما يكون جهاد على عليه السلام وقتله المشركين لا ثواب له فيه ، لانه فعله طبعا ، وهذا اطرف من قوله في المعرفة وفى التولد .
قال الجاحظ ووجه آخر أن عليا لو كان كما يزعم شيعته ، ما كان له بقتل الاقران كبير فضيلة ، ولا عظيم طاعة ، لانه قد روى عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال له
__________
(1) انظر العثمانية 47 ، 48 .
(*)(13/286)
(ستقاتل بعدى الناكثين والقاسطين والمارقين) ، فإذا كان قد وعده بالبقاء بعده فقد وثق بالسلامة من الاقران ، وعلم انه منصور عليهم وقاتلهم ، فعلى هذا يكون جهاد طلحة والزبير اعظم طاعة منه (1) .
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله هذا راجع على الجاحظ في النبي صلى الله عليه وآله ، لان الله تعالى قال له (والله يعصمك من الناس) (2) ، فلم يكن له في جهاده كبير طاعة ، وكثير طاعة ، وكثير من الناس يروى عنه صلى الله عليه وآله (اقتدوا باللذين من بعدى ابى بكر وعمر) فوجب أن يبطل جهادهما ، وقد قال للزبير (ستقاتل عليا ، وانت ظالم له) ، فاشعره بذلك انه لا يموت في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقال في الكتاب العزيز لطلحة (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا ازواجه من بعده) ، قالوا نزلت في طلحة ، فاعلمه بذلك انه يبقى بعده ، فوجب الا يكون لهما كبير ثواب في الجهاد ، والذى صح عندنا من الخبر وهو قوله (ستقاتل بعدى الناكثين) ، انه قال لما وضعت الحرب اوزارها ، ودخل الناس في دين الله افواجا ، ووضعت الجزية ، ودانت العرب قاطبة .
قال الجاحظ ثم قصد الناصرون لعلى ، والقائلون بتفضيله الى الاقران الذين قتلهم فاطروهم وغلوا فيهم ، وليسوا هناك فمنهم عمرو بن عبد ود تركتموه اشجع من عامر ابن الطفيل وعتبة بن الحارث وبسطام بن قيس ، وقد سمعنا باحاديث حروب الفجار وما كان بين قريش ودوس وحلف الفضول ، فما سمعت لعمرو بن عبد ود ذكرا في ذلك (3) .
__________
(1) انظر العثمانية 49 ، 50 .
(2) سورة المائدة 67 .
(3) انظر العثمانية 49 ، 50 .
(*)(13/287)
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله امر عمرو بن عبد ود اشهرو اكثر من أن يحتج له ، فلنتلمح كتب المغازى والسير ، ولينظر ما رثته به شعراء قريش لما قتل ، فمن ذلك ما ذكره محمد بن اسحاق في مغازيه ، قال وقال مسافع بن عبد مناف بن زهره بن حذافة بن جمح يبكى عمرو بن عبد الله بن عبد ود حين قتله على بن ابى طالب عليه السلام مبارزة لما جزع المذاد (1) أي قطع الخندق .
عمرو بن عبد كان اول فارس جزع المذاد وكان فارس مليل (2) سمح الخلائق ماجد ذو مرة يبغى القتال بشكة لم ينكل (3) ولقد علمتم حين ولوا عنكم أن ابن عبد منهم لم يعجل (4) حتى تكنفه الكماة وكلهم يبغى القتال له وليس بمؤتل (5) ولقد تكنفت الفوارس فارسا بجنوب سلع غير نكس اميل (6) سال النزال هناك فارس غالب بجنوب سلع ليته لم ينزل فاذهب علي ما ظفرت بمثلها فخرا ولو لاقيت مثل المعضل (7) نفسي الفداء لفارس من غالب لاقى حمام الموت لم يتحلحل (8) اعني الذى جزع المذاد ولم يكن فشلا وليس لدى الحروب بزمل (9) .
وقال هبيرة بن ابى وهب المخزومى ، يعتذر من فراره عن على بن ابى طالب ، وتركه عمرا يوم الخندق ويبكيه :
__________
(1) المذاد ، بالذال المعجمة : موضع بالمدينة حيث حفر الخندق ، وفي ط : (المزار) تصحيف ، وجزع ، اي قطع .
(2) مليل ، واد ببدر .
(3) المرة : القوة ، والشكة : السلاح .
(4) ابن هشام : (فيهم) .
(5) تكنفه الكماة : احاطوا به والتفوا حوله .
وليس بمؤتل اي ليس بمقصر .
(6) سلع : جبل بالمدينة .
والنكس : الدنئ من الرجال .
والاميل : الذي لا رمح معه .
(7) المعضل : الامر الشديد .
(8) لم يتحلحل : لم يبرح مكانه .
(9) الزمل : الضعيف الجبان .
(*)(13/288)
لعمرك ما وليت ظهرى محمدا واصحابه جبنا ولا خيفة القتل (1) ولكننى قلبت امرى فلم اجد لسيفى غناء إن وقفت ولا نبلى وقفت فلما لم اجد لى مقدما صدرت كضرغام هزبر الى شبل (2) ثنى عطفه عن قرنه حين لم يجد مجالا (3) وكان الحزم والراى من فعلى فلا تبعدن يا عمرو حيا وهالكا فقد مت محمود الثنا ماجد الفعل (4) ولا تبعدن يا عمرو حيا وهالكا فقد كنت في حرب العدا مرهف النصل فمن لطراد الخيل تقدع بالقنا وللبذل يوما عند قرقرة البزل (5) هنالك لو كان ابن عمرو لزارها وفرجها عنهم فتى غير ما وغل كفتك على لن ترى مثل موقف وقفت على شلو المقدم كالفحل (6) فما ظفرت كفاك يوما بمثلها امنت بها ما عشت من زلة النعل .
وقال هبيرة بن ابى وهب ايضا ، يرثى عمرا ويبكيه : لقد علمت عليا لؤى بن غالب لفارسها عمرو إذا ناب نائب (7) وفارسها عمرو إذا ما يسوقه على وان الموت لا شك طالب (8) عشية يدعوه على و انه لفارسها إذ خام عنه الكتائب (9)
__________
(1) سيرة ابن هشام 3 : 301 ، 302 .
(2) مقدما ، اي لم اجد من يقدمني .
وصدرت : اي رجعت .
الضرغام : الاسد .
الهزبر : الشديد : والشبل : ابن الاسد .
(3) ابن هشام : (لم يجد مكرا) .
(4) الثنا : الذكر الطيب .
والماجد : الشريف .
(5) تقدع : تكف .
والقرقرة : اصوات فحول الابل .
والبزل : جمع بازل وهو في الاصل البعير الذي فطر نابه ، وذلك زمان اكتمال قوته .
(6) ابن هشام : (فعنك علي) .
(7) إذا ناب نائب ، اي إذا عرض اي مكروه .
(8) ابن هشام : (لفرسها عمرو إذا ما يسومه) .
(9) خام : جبن ورجع هيبة وخوفا .
(*)(13/289)
فيا لهف نفسي إن عمرا لكائن بيثرب لا زالت هناك المصائب لقد احرز العليا على بقتله وللخير يوما لا محالة جالب .
وقال حسان بن ثابت الانصاري يذكر عمرا : امسى الفتى عمرو بن عبد ناظرا كيف العبور وليته لم ينظر (1) ولقد وجدت سيوفنا مشهورة ولقد وجدت جيادنا لم تقصر (2) ولقد لقيت غداة بدر عصبة ضربوك ضربا غير ضرب الحسر اصبحت لا تدعى ليوم عظيمة يا عمرو أو لجسيم امر منكر (3) .
وقال حسان ايضا : لقد شقيت بنو جمح بن عمرو ومخزوم وتيم ما نقيل وعمرو كالحسام فتى قريش كان جبينه سيف صقيل فتى من نسل عامر اريحى تطاوله الاسنة والنصول دعاه الفارس المقدام لما تكشفت المقانب والخيول أبو حسن فقنعه حساما جرازا لا افل ولا نكول فغادره مكبا مسلحبا على عفراء لا بعد القتيل .
فهذه الاشعار فيه بل بعض ما قيل فيه (4) .
واما الاثار والاخبار ، فموجوده في كتب السير وايام الفرسان ووقائعهم ، وليس
__________
(1) رواية البيت في ابن هشام : امسى الفتى بن عمرو بن عبيد يبتغي بجنوب يثرب ثأره لم ينظر .
(2) مشهورة اي قد شهرها اصحابها .
ولم تقصر : لم تكف وتحبس عن التجوال .
(3) فال ابن هشام : (وبعض اهل العلم بالشعر ينكرها لحسان) .
(4) سيرة ابن هشام 3 : 298 - 304 (نشرة المكتبة التجارية) (*)(13/290)
احد من ارباب هذا العلم يذكر عمرا الا قال كان فارس قريش وشجاعها ، وانما قال له حسان * ولقد لقيت غداة بدر عصبة * لانه شهد مع المشركين بدرا ، وقتل قوما من المسلمين ثم فر مع من فر ، ولحق بمكة ، وهو الذى كان قال وعاهد الله عند الكعبة الا يدعوه احد الى واحدة من ثلاث الا اجابة وآثاره في ايام الفجار مشهورة تنطق بها كتب الايام والوقائع ، ولكنه لم يذكر مع الفرسان الثلاثة وهم عتبة وبسطام وعامر ، لانهم كانوا اصحاب غارات ونهب ، واهل بادية ، وقريش اهل مدينة وساكنوا مدر وحجر ، لا يرون الغارات ، ولا ينهبون غيرهم من العرب ، وهم مقتصرون على المقام ببلدتهم وحماية حرمهم ، فلذلك لم يشتهر اسمه كاشتهار هؤلاء .
ويقال له إذا كان عمرو كما تذكر ليس هناك ، فما باله لما جزع الخندق في (1) ستة فرسان هو احدهم ، فصار مع اصحاب النبي صلى الله عليه وآله على ارض واحدة ، وهم ثلاثة آلاف ، ودعاهم الى البراز مرارا لم ينتدب احد منهم للخروج إليه ، ولا سمح منهم احد بنفسه ، حتى وبخهم وقرعهم ، وناداهم الستم تزعمون انه من قتل منا فالى النار ، ومن قتل منكم فالى الجنة افلا يشتاق احدكم الى أن يذهب الى الجنة ، أو يقدم عدوه الى النار فجبنوا كلهم ونكلوا ، وملكهم الرعب والوهل ، فاما أن يكون هذا اشجع الناس كما قيل عنه ، أو يكون المسلمون كلهم اجبن العرب واذلهم وافشلهم وقد روى الناس كلهم الشعر الذى انشده لما نكل القوم بجمعهم عنه ، وانه جال بفرسه واستدار وذهب يمنة ، ثم ذهب يسرة ، ثم وقف تجاه القوم ، فقال ولقد بححت من النداء بجمعهم هل من مبارز
__________
(1) جزع الخندق ، اي عبره .
(*)(13/291)
ووقفت إذ جبن المشيع وقفة القرن المناجز وكذاك انى لم ازل متسرعا نحو الهزاهز إن الشجاعة في الفتى والجود من خير الغرائز .
فلما برز إليه على اجابه ، فقال له : لا تعجلن فقد اتاك مجيب صوتك غير عاجز ذو نية وبصيرة يرجو الغداة نجاة فائز انى لارجو أن اقيم عليك نائحة الجنائز من ضربة تفنى ويبقى ذكرها عند الهزاهز .
ولعمري لقد سبق الجاحظ بما قاله بعض جهال الانصار ، لما رجع رسول الله من بدر ، وقال فتى من الانصار شهد معه بدرا إن قتلنا الا عجائز صلعا فقال له النبي صلى الله عليه وآله (لا تقل ذلك يا بن اخ ، اولئك الملا) .
قال الجاحظ وقد اكثروا في الوليد بن عتبة بن ربيعة قتيله يوم بدر ، وما علمنا الوليد حضر حربا قط قبلها ، ولا ذكر فيها (1) .
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله كل من دون اخبار قريش وآثار رجالها ، وصف الوليد بالشجاعة والبسالة ، وكان مع شجاعته انه يصارع الفتيان فيصرعهم ، وليس لانه لم يشهد حربا قبلها ما يجب أن يكون بطلا شجاعا ، فان عليا عليه السلام لم يشهد قبل بدر حربا ، وقد راى الناس آثاره فيها
__________
(1) العثمانية 59 .
(*)(13/292)
قال الجاحظ وقد ثبت أبو بكر مع النبي صلى الله عليه وآله يوم احد ، كما ثبت على فلا فخر لاحدهما على صاحبه في ذلك اليوم .
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله اما ثباته يوم احد فاكثر المؤرخين وارباب السير ينكرونه ، وجمهورهم يروى انه لم يبق مع النبي صلى الله عليه وآله الا على وطلحة والزبير ، وابو دجانة ، وقد روى عن ابن عباس انه قال ولهم خامس وهو عبد الله بن مسعود ، ومنهم من اثبت سادسا ، وهو المقداد بن عمرو ، وروى يحيى بن سلمة بن كهيل قال قلت لابي كم ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وآله يوم احد فقال اثنان ، قلت من هما قال على وابو دجانة .
وهب أن ابا بكر ثبت يوم احد كما يدعيه الجاحظ ، ايجوز له أن يقول ثبت كما ثبت على ، فلا فخر لاحدهما على الاخر ، وهو يعلم آثار على عليه السلام ذلك اليوم ، وانه قتل اصحاب الالوية من بنى عبد الدار ، منهم طلحة بن ابى طلحة ، الذى راى رسول الله صلى الله عليه وآله في منامه انه مردف كبشا ، فاوله وقال كبش الكتيبة نقتله .
فلما قتله على عليه السلام مبارزة - وهو اول قتيل قتل من المشركين ذلك اليوم - كبر رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقال (هذا كبش الكتيبة) .
وما كان منه من المحاماة عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقد فر الناس واسلموه ، فتصمد له كتيبة من قريش ، فيقول (يا على ، اكفني هذه) فيحمل عليها فيهزمها ، ويقتل عميدها ، حتى سمع المسلمون والمشركون صوتا من قبل السماء .
لا سيف الا ذو الفقار ولا فتى الا على وحتى قال النبي صلى الله عليه وآله عن جبرائيل ما قال .
اتكون هذه آثاره وافعاله ، ثم يقول الجاحظ لا فخر لاحدهما على صاحبه .(13/293)
(ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وانت خير الفاتحين) (1) .
قال الجاحظ ولابي بكر في ذلك اليوم مقام مشهور ، خرج ابنه عبد الرحمن فارسا مكفرا (2) في الحديد ، يسال المبارزة ، ويقول انا عبد الرحمن بن عتيق فنهض إليه أبو بكر يسعى بسيفه ، فقال له النبي صلى الله عليه وآله (شم سيفك وارجع الى مكانك ، ومتعنا بنفسك (3)) .
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله ما كان اغناك يا ابا عثمان عن ذكر هذا المقام المشهور لابي بكر ، فانه لو تسمعه الامامية لاضافته الى ما عندها من المثالب ، لان قول النبي صلى الله عليه وآله (ارجع) دليل على انه لا يحتمل مبارزة احد ، لانه إذا لم يحتمل مبارزة ابنه ، وانت تعلم حنو الابن على الاب وتبجيله له ، واشفاقه عليه وكفه عنه ، لم يحتمل مبارزة الغريب الأجنبي .
وقوله له (ومتعنا بنفسك) ، ايذان له بانه كان يقتل لو خرج ، ورسول الله كان اعرف به من الجاحظ ، فاين حال هذا الرجل من حال الرجل الذى صلى بالحرب ، ومشى الى السيف بالسيف ، فقتل السادة والقادة والفرسان والرجالة .
قال الجاحظ على أن ابا بكر - وان لم تكن آثاره في الحرب كاثار غيره - فقد بذل الجهد ، وفعل ما يستطيعه وتبلغه قوته ، وإذا بذل المجهود فلا حال اشرف من حاله (4) .
__________
(1) سورة الاعراف 89 .
(2) اي مستترا .
(3) العثمانية 62 .
(4) العثمانية 62 .
(*)(13/294)
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله اما قوله انه بذل الجهد ، فقد صدق ، واما قوله (لا حال اشرف من حاله) ، فخطا ، لان حال من بلغت قوته فاعملها في قتل المشركين اشرف من حال من نقصت قوته عن بلوغ الغاية ، الا ترى أن حال الرجل اشرف في الجهاد من حال المراة ، وحال البالغ الايد اشرف من حال الصبى الضعيف .
فهذه جملة ما ذكره الشيخ أبو جعفر محمد بن عبد الله الاسكافي رحمه الله في نقض العثمانية ، اقتصرنا عليها هاهنا ، وسنعود فيما بعد الى ذكر جملة اخرى من كلامه ، إذا اقتضت الحال ذكره * (هامش) (1) قام الاستاذ عبد السلام هارون بطبع كتاب العثمانية ، طبعة علمية محققة ، والحق بها ما عثر عليه من نقضها للاسكافي وطبعت في دار الكتاب العربي سنة 1955 .
(*)(13/295)
(239) الاصل : ومن كلام له عليه السلام قاله لعبد الله بن عباس ، وقد جاءه برسالة من عثمان ، وهو محصور يساله فيها الخروج الى ماله بينبع ، ليقل هتف الناس باسمه للخلافة ، بعد أن كان ساله مثل ذلك من قبل .
فقال عليه السلام : يا بن عباس ، ما يريد عثمان الا أن يجعلني جملا ناضحا بالغرب ، اقبل وادبر بعث الى أن اخرج ، ثم بعث الى أن اقدم ، ثم هو الان يبعث الى أن اخرج والله لقد دفعت عنه حتى خشيت أن اكون آثما .
الشرح : ينبع على (يفعل) مثل يحلم ويحكم اسم موضع ، كان فيه نخل لعلى بن ابى طالب عليه السلام ، وينبع الان بلد صغير من اعمال المدينة .
وهتف الناس باسمه نداؤهم ودعاؤهم ، واصله الصوت ، يقال هتف الحمام يهتف هتفا ، وهتف زيد بعمرو هتافا ، أي صاح به ، وقوس هتافه وهتفى ، أي ذات صوت .
والناضح البعير يستقى عليه ، وقال معاوية لقيس بن سعد - وقد دخل عليه(13/296)
في رهط من الانصار - ما فعلت نواضحكم يهزا به ، فقال انصبناها في طلب ابيك يوم بدر .
والغرب الدلو العظيمة .
قوله (اقبل وادبر) ، أي يقول لى ذلك ، كما يقال للناضح ، وقد صرح العباس بن مرداس بهذه الالفاظ فقال : اراك إذا اصبحت للقوم ناضحا يقال له بالغرب ادبر واقبل .
قوله (لقد دفعت عنه حتى خشيت أن اكون آثما) ، يحتمل أن يريد بالغت واجتهدت في الدفاع عنه ، حتى خشيت أن اكون آثما في كثرة مبالغتي واجتهادي في ذلك ، وانه لا يستحق الدفاع عنه لجرائمه واحداثه ، وهذا تأويل من ينحرف عن عثمان ، ويحتمل أن يريد لقد دفعت عنه حتى كدت أن القى نفسي في الهلكة ، وان يقتلنى الناس الذين ثاروا به ، فخفت الاثم في تغريرى بنفسى وتوريطها في تلك الورطة العظيمة ، ويحتمل أن يريد لقد جاهدت الناس دونه ودفعتهم عنه ، حتى خشيت أن اكون آثما بما نلت منهم من الضرب بالسوط ، والدفع باليد ، والاعانة بالقول ، أي فعلت من ذلك اكثر مما يحب .
[ وصية العباس قبل موته لعلى ] قرأت في كتاب صنفه أبو حيان التوحيدي في تقريظ الجاحظ ، قال نقلت من خط الصولى قال الجاحظ إن العباس بن عبد المطلب اوصى على بن ابى طالب عليه السلام في علته التى مات فيها ، فقال أي بنى انى مشف على الظعن عن الدنيا الى الله ، الذى فاقتي الى عفوه وتجوزه اكثر من حاجتى الى ما انصحك فيه ، واشير عليك به ،(13/297)
ولكن العرق نبوض (1) ، والرحم عروض ، وإذا قضيت حق العمومة ، فلا ابالى بعد إن هذا الرجل - يعنى عثمان - قد جاءني مرارا بحديثك ، وناظرني ملاينا ومخاشنا في امرك ، ولم اجد عليك الا مثل ما اجد منك عليه ، ولا رايت منه لك الا مثل ما اجد منك له ، ولست تؤتى من قلة علم ، ولكن من قلة قبول ، ومع هذا كله فالراي الذى اودعك به أن تمسك عنه لسانك ويدك ، وهمزك وغمزك ، فانه لا يبدؤك ما لم تبداه ، ولا يجيبك عما لم يبلغه ، وانت المتجنى وهو المتانى ، وانت العائب وهو الصامت .
فان قلت كيف هذا وقد جلس مجلسا انا به احق ، فقد قاربت ولكن ذاك بما كسبت يداك ، ونكص عنه عقباك ، لانك بالامس الادنى ، هرولت إليهم تظن انهم يحلون جيدك ، ويختمون اصبعك ، ويطئون عقبك ، ويرون الرشد بك ، ويقولون لا بد لنا منك ، ولا معدل لنا عنك ، وكان هذا من هفواتك الكبر ، وهناتك التى ليس لك منها عذر ، والان بعد ما ثللت عرشك بيدك ، ونبذت راى عمك في البيداء يتدهده (2) في السافياء (3) ، خذ باحزم مما يتوضح به وجه الامر لا تشار (4) هذا الرجل ولا تماره (5) ، ولا يبلغنه عنك ما يحنقه عليك ، فانه إن كاشفك اصاب انصارا ، وإن كاشفته لم تر الا ضرارا ، ولم تستلج (6) الا عثارا ، واعرف من هو بالشام له ، ومن هاهنا حوله من يطيع امره ، ويمتثل قوله ، لا تغتر بالناس يطيفون بك ، ويدعون الحنو عليك والحب لك ، فانهم بين مولى جاهل ، وصاحب متمن ، وجليس يرعى العين ويبتدر المحضر ، ولو ظن الناس بك ما تظن بنفسك لكان الامر لك ، والزمام في يدك ، ولكن هذا حديث يوم مرض رسول الله صلى الله عليه وآله فات ، ثم حرم الكلام فيه حين مات ، فعليك الان بالعزوف عن شئ عرضك
__________
(1) كذا في ا ، ونبوض : من نبض العرق ينبض نبوضا ، وهو ضرباته وفي ب : (يبوض) .
(2) يتدهده : يتدحرج .
(3) السافياء : الريح التي تحمل التراب .
(4) يقال : شاراه مشاراة ، إذا لاجه .
(5) تماره : تجادله .
(6) نستلج : تدخل .
(*)(13/298)
له رسول الله صلى الله عليه وآله ، فلم يتم ، وتصديت له مرة بعد مرة فلم يستقم ، ومن ساور الدهر غلب ، ومن حرص على ممنوع تعب ، فعلى ذلك فقد اوصيت عبد الله بطاعتك ، وبعثته على متابعتك ، واوجرته محبتك ، ووجدت عنده من ذلك ظنى به لك ، لا توتر قوسك الا بعد الثقة بها ، وإذا اعجبتك فانظر الى سيتها ، ثم لا تفوق الا بعد العلم ولا تغرق في النزع الا لتصيب الرمية ، وانظر لا تطرف يمينك عينك ، ولا تجن شمالك شينك ، ودعني بايات من آخر سورة الكهف ، وقم إذا بدا لك .
قلت الناس يستحسنون راى العباس لعلى عليه السلام في الا يدخل في اصحاب الشورى واما انا فانى استحسنه إن قصد به معنى ، ولا استحسنه إن قصد به معنى آخر ، وذلك لانه إن اجرى بهذا الراى الى ترفعه عليهم ، وعلو قدره عن أن يكون مماثلا لهم ، أو اجرى به الى زهده في الامارة ، ورغبته عن الولاية ، فكل هذا راى حسن وصواب ، وان كان منزعه في ذلك الى انك إن تركت الدخول معهم ، وانفردت بنفسك في دارك ، أو خرجت عن المدينة الى بعض اموالك ، فانهم يطلبونك ، ويضربون اليك آباط الابل ، حتى يولوك الخلافة ، وهذا هو الظاهر من كلامه ، فليس هذا الراى عندي بمستحسن ، لانه لو فعل ذلك لولوا عثمان أو واحدا منهم غيره ، ولم يكن عندهم من الرغبة فيه عليه السلام ما يبعثهم على طلبه ، بل كان تأخره عنهم قرة اعينهم ، وواقعا بايثارهم ، فان قريشا كلها كانت تبغضه اشد البغض ، ولو عمر عمر نوح ، وتوصل الى الخلافة بجميع انواع التوصل ، كالزهد فيها تارة ، والمناشدة بفضائله تارة ، وبما فعله في ابتداء الامر من اخراج زوجته واطفاله ليلا الى بيوت الانصار ، وبما اعتمده إذ ذاك من تخلفه في بيته ، واظهار انه قد انعكف على جمع القرآن ، وبسائر انواع الحيل فيها ، لم تحصل له الا بتجريد السيف ، كما فعل في آخر الامر ، ولست الوم العرب ، لا سيما قريشا في بغضها له ، وانحرافها عنه ، فانه وترها ، وسفك دماءها ، وكشف القناع في منابذتها ، ونفوس العرب واكبادهم كما تعلم ،(13/299)
وليس الاسلام بمانع من بقاء الاحقاد في النفوس ، كما نشاهده اليوم عيانا ، والناس كالناس الاول ، والطبائع واحدة ، فاحسب انك كنت من سنتين أو ثلاث جاهليا أو من بعض الروم ، وقد قتل واحد من المسلمين ابنك أو اخاك ، ثم اسلمت ، اكان اسلامك يذهب عنك ما تجده من بغض ذلك القاتل وشنآنه كلا إن ذلك لغير ذاهب ، هذا إذا كان الاسلام صحيحا والعقيدة محققة ، لا كاسلام كثير من العرب ، فبعضهم تقليدا ، وبعضهم للطمع والكسب ، وبعضهم خوفا من السيف ، وبعضهم على طريق الحمية والانتصار ، أو لعداوة قوم آخرين من اضداد الاسلام واعدائه .
واعلم أن كل دم اراقه رسول الله صلى الله عليه وآله بسيف على عليه السلام وبسيف غيره ، فان العرب بعد وفاته عليه السلام عصبت تلك الدماء بعلى بن ابى طالب عليه السلام وحده ، لانه لم يكن في رهطه من يستحق في شرعهم وسنتهم وعادتهم أن يعصب به تلك الدماء الا بعلى وحده ، وهذه عادة العرب إذا قتل منها قتلى طالبت بتلك الدماء القاتل ، فان مات ، أو تعذرت عليها مطالبته ، طالبت بها امثل الناس من اهله .
لما قتل قوم من بنى تميم اخا لعمرو بن هند ، قال بعض اعدائه يحرض عمرا عليهم (1) : من مبلغ عمرا بان المرء لم يخلق صبارة (2) وحوادث الايام لا يبقى لها الا الحجارة ها إن عجزه امة بالسفح اسفل من اواره (3) تسفى الرياح خلال كشحية وقد سلبوا ازاره فاقتل زرارة لا ارى في القوم امثل من زرارة .
__________
(1) هو عمرو بن ملقط الطائي ، والابيات في تاريخ ابن الاثير 1 : 335 ، ضمن خبره عن يوم اواره الثاني ، وهي ايضا في اللسان 6 : 111 .
(2) الصبارة : الحجارة الملس ، كانه يقول : ليس الانسان بحجر فيصبر على مثل هذا .
(3) اول ولد المراة يقال له زكمة ، والاخر عجزة .
(*)(13/300)
فأمره أن يقتل زرارة بن عدس رئيس بنى تميم ، ولم يكن قاتلا اخا الملك ولا حاضرا قتله .
ومن نظر في ايام العرب ووقائعها ومقاتلها عرف ما ذكرناه .
سالت النقيب ابا جعفر يحيى بن ابى زيد رحمه الله ، فقلت له : انى لاعجب من على عليه السلام كيف بقى تلك المدة الطويلة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ، وكيف ما اغتيل (1) وفتك به في جوف منزله ، مع تلظى الاكباد عليه .
فقال لو لا انه ارغم انفه بالتراب ، ووضع خده في حضيض الارض لقتل ، ولكنه اخمل نفسه ، واشتغل بالعبادة والصلاة والنظر في القرآن ، وخرج عن ذلك الزى الاول ، وذلك الشعار ونسى السيف ، وصار كالفاتك يتوب ويصير سائحا في الارض ، أو راهبا في الجبال ، ولما اطاع القوم الذين ولوا الامر ، وصار اذل لهم من الحذاء ، تركوه وسكتوا عنه ، ولم تكن العرب لتقدم عليه الا بمواطاة من متولى الامر ، وباطن في السر منه ، فلما لم يكن لولاه الامر باعث وداع الى قتله وقع الامساك عنه ، ولو لا ذلك لقتل (2) ، ثم اجل بعد معقل حصين .
فقلت له احق ما يقال في حديث خالد فقال إن قوما من العلوية يذكرون ذلك .
ثم قال وقد روى أن رجلا جاء الى زفر بن الهذيل ، صاحب ابى حنيفة ، فسأله عما يقول أبو حنيفة في جواز الخروج من الصلاة بامر غير التسليم ، نحو الكلام والفعل الكثير أو الحدث فقال انه جائز ، قد قال أبو بكر في تشهده ما قال ، فقال الرجل
__________
(1) ب : (ما قتل) ، واثبت ما في ا .
(2) ب : (لقتله) .
(*)(13/301)
وما الذى قاله أبو بكر قال لا عليك ، فاعاد عليه السؤال ثانية وثالثة ، فقال اخرجوه اخرجوه ، قد كنت احدث انه من اصحاب ابى الخطاب .
قلت له فما الذى تقوله انت قال انا استبعد ذلك وان روته الامامية .
ثم قال اما خالد فلا استبعد منه الاقدام عليه بشجاعته في نفسه ، ولبغضه اياه ، ولكني استبعده من ابى بكر ، فانه كان ذا ورع ، ولم يكن ليجمع بين اخذ الخلافة ومنع فدك ، واغضاب فاطمة وقتل على عليه السلام ، حاش لله من ذلك فقلت له اكان خالد يقدر على قتله قال نعم ، ولم لا يقدر على ذلك ، والسيف في عنقه ، وعلى اعزل غافل عما يراد به ، قد قتله ابن ملجم غيلة ، وخالد اشجع من ابن ملجم .
فسألته عما ترويه الامامية في ذلك ، كيف الفاظه فضحك وقال : * كم عالم بالشئ وهو يسائل * .
ثم قال دعنا من هذا ، ما الذى تحفظ في هذا المعنى قلت قول ابى الطيب : نحن ادرى وقد سالنا بنجد اطويل طريقنا ام يطول (1) وكثير من السؤال اشتياق وكثير من رده تعليل .
فاستحسن ذلك ، وقال لمن عجز البيت الذى استشهدت به قلت لمحمد بن هانئ المغربي ، واوله : في كل يوم استزيد تجاربا كم عالم بالشئ وهو يسائل (2) .
فبارك على مرارا ، ثم قال نترك الان هذا ونتمم ما كنا فيه ، وكنت اقرا عليه في ذلك الوقت " جمهرة النسب " لابن الكلبى ، فعدنا الى القراءة ، وعدلنا عن الخوض عما كان اعترض الحديث فيه .
__________
(1) ديوانه 3 : 151 ، 152 .
(2) ديوانه 114 .
(*)(13/302)
(240) الاصل : ومن كلام له عليه السلام اقتص فيه ذكر ما كان منه بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله ثم لحاقه به : فجعلت اتبع ماخذ رسول الله صلى الله عليه وآله ، فاطا ذكره حتى انتهيت الى العرج .
في كلام طويل قال الرضى رحمه الله تعالى قوله عليه السلام (فأطأ ذكره) ، من الكلام الذى رمى به الى غايتي الايجاز والفصاحة ، اراد انى كنت اعطى خبره صلى الله عليه وآله من بدء خروجي الى أن انتهيت الى هذا الموضع ، فكنى عن ذلك بهذه الكناية العجيبة .
الشرح : العرج منزل بين مكة والمدينة ، إليه ينسب العرجى الشاعر ، وهو عبد الله بن عمرو ابن عثمان بن عفان بن ابى العاص بن امية بن عبد شمس .
قال محمد بن اسحاق في كتاب " المغازى " لم يعلم رسول الله صلى الله عليه وآله احدا من المسلمين ما كان عزم عليه من الهجرة الا على بن ابى طالب وابا بكر بن ابى قحافة ، اما على ، فان رسول الله صلى الله عليه وآله اخبره بخروجه ، وامره أن يبيت على(13/303)
فراشه ، يخادع المشركين عنه ليروا انه لم يبرح فلا يطلبوه ، حتى تبعد المسافة بينهم وبينه ، وان يتخلف بعده بمكة حتى يؤدى عن رسول الله صلى الله عليه وآله الودائع التى عنده للناس ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله استودعه رجال من مكة ودائع لهم ، لما يعرفونه من امانته ، واما أبو بكر فخرج معه .
وسالت النقيب ابا جعفر يحيى بن ابى زيد الحسنى ، رحمه الله فقلت إذا كانت قريش قد محصت رأيها ، والقى إليها ابليس - كما روى - ذلك الراى ، وهو أن يضربوه باسياف من ايدى جماعة من بطون مختلفة ، ليضيع دمه في بطون قريش فلا تطلبه بنو عبد مناف ، فلما ذا انتظروا به تلك الليلة الصبح فان الرواية جاءت بانهم كانوا تسوروا الدار ، فعاينوا فيها شخصا مسجى بالبرد الحضرمي الاخضر ، فلم يشكوا انه هو ، فرصدوه الى أن اصبحوا ، فوجدوه عليا .
وهذا طريف ، لانهم كانوا قد اجمعوا على قتله تلك الليلة ، فما بالهم لم يقتلوا ذلك الشخص المسجى ، وانتظارهم به النهار دليل على انهم لم يكونوا ارادوا قتله تلك الليلة .
فقال في الجواب لقد كانوا هموا من النهار بقتله تلك الليلة ، وكان اجماعهم على ذلك ، وعزمهم في حقنه من بنى عبد مناف ، لان الذين محصوا هذا الراى واتفقوا عليه : النضر بن الحارث من بنى عبد الدار ، وابو البخترى بن هشام ، وحكيم بن حزام ، وزمعة بن الاسود ابن المطلب ، هؤلاء الثلاثة من بنى اسد بن عبد العزى ، وابو جهل بن هشام ، واخوه الحارث ، وخالد بن الوليد بن المغيرة ، هؤلاء الثلاثة من بنى مخزوم ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، وعمرو بن العاص ، هؤلاء الثلاثة من بنى سهم ، وامية بن خلف واخوه ابى بن خلف ، هذان من بنى جمح ، فنما هذا الخبر من الليل الى عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، فلقى منهم قوما ، فنهاهم عنه ، وقال إن بنى عبد مناف لا تمسك عن دمه ، ولكن صفدوه(13/304)
في الحديد ، واحبسوه في دار من دوركم ، وتربصوا به أن يصيبه من الموت ما اصاب امثاله من الشعراء وكان عتبة بن ربيعه سيد بنى عبد شمس ورئيسهم ، وهم من بنى عبد مناف ، وبنو عم الرجل ورهطه ، فاحجم أبو جهل واصحابه تلك الليلة عن قتله احجاما ، ثم تسوروا عليه ، وهم يظنونه في الدار ، فلما راوا انسانا مسجى بالبرد الاخضر الحضرمي لم يشكوا انه هو ، وائتمروا في قتله ، فكان أبو جهل يذمرهم (1) عليه فيهمون ثم يحجمون ثم قال بعضهم لبعض ارموه بالحجارة ، فرموه ، فجعل على يتضور منها ، ويتقلب ويتاوه تاوها خفيفا ، فلم يزالوا كذلك في اقدام عليه واحجام عنه ، لما يريده الله تعالى من سلامته ونجاته ، حتى اصبح وهو وقيذ (2) من رمى الحجارة ، ولو لم يخرج رسول الله صلى الله عليه وآله الى المدينة ، واقام بينهم بمكة ، ولم يقتلوه تلك الليلة ، لقتلوه في الليلة التى تليها ، وان شبت الحرب بينهم وبين عبد مناف ، فان ابا جهل لم يكن بالذى ليمسك عن قتله ، وكان فاقد البصيرة ، شديد العزم على الولوغ في دمه .
قلت للنقيب افعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وعلي عليه السلام بما كان من نهى عتبة لهم قال لا ، انهما لم يعلما ذلك تلك الليلة ، وانما عرفاه من بعد ، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله يوم بدر ، لما راى عتبة وما كان منه (إن يكن في القوم خير ففى صاحب الجمل الاحمر) .
ولو قدرنا أن عليا عليه السلام علم ما قال لهم عتبة لم يسقط ذلك فضيلته في المبيت ، لانه لم يكن على ثقة من انهم يقبلون قول عتبة ، بل كان ظن الهلاك والقتل اغلب .
واما حال على عليه السلام ، فلما ادى الودائع ، خرج بعد ثلاث من هجرة النبي
__________
(1) يذمرهم : يحضهم .
(2) الوقيذ : المشرف على الهلاك .
(*)(13/305)
صلى الله عليه وآله ، فجاء الى المدينة راجلا قد تورمت قدماه ، فصادف رسول الله صلى الله عليه وآله نازلا بقباء على كلثوم بن الهدم ، فنزل معه في منزله .
وكان أبو بكر نازلا بقباء ايضا في منزل حبيب بن يساف ، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وهما معه من قباء ، حتى نزل بالمدينة على ابى ايوب خالد بن يزيد الانصاري ، وابتنى المسجد .(13/306)
(241) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : فاعملوا وانتم في نفس البقاء ، والصحف منشورة ، والتوبة مبسوطة ، والمدبر يدعى ، والمسئ يرجى ، قبل أن يخمد العمل ، وينقطع المهل ، وتنقضي المدة ، ويسد باب التوبة ، وتصعد الملائكة ، فاخذ امرؤ من نفسه لنفسه ، واخذ من حى لميت ومن فان لباق ، ومن ذاهب لدائم ، امرؤ خاف الله .
وهو معمر الى اجله ، ومنظور الى عمله ، امرؤ الجم نفسه بلجامها ، وزمها بزمامها ، فامسكها بلجامها عن معاصي الله ، وقادها بزمامها الى طاعة الله .
الشرح : في نفس البقاء ، بفتح الفاء ، أي في سعته ، تقول انت في نفس من امرك ، أي في سعة .
والصحف منشورة ، أي وانتم بعد احياء ، لانه لا تطوى صحيفة الانسان الا إذا مات .
والتوبة مبسوطة لكم غير مقبوضة عنكم ، ولا مردودة عليكم إن فعلتم ، كما ترد على الانسان توبته إذا احتضر .
والمدبر يدعى ، أي من يدبر منكم ، ويولى عن الخير يدعى إليه ، وينادى يا فلان اقبل على ما يصلحك .(13/307)
والمسئ يرجى ، أي يرجى عوده واقلاعه .
قبل أن يجمد العمل ، استعاره مليحة ، لان الميت يجمد عمله ويقف ، ويروى (يخمد) بالخاء ، من خمدت النار ، والاول احسن .
وينقطع المهل ، أي العمر الذى امهلتم فيه .
وتصعد الملائكة ، لان الانسان عند موته تصعد حفظته الى السماء ، لانه لم يبق لهم شغل في الارض .
قوله (فاخذ امرؤ) ماض يقوم مقام الامر ، وقد تقدم شرح ذلك ، والمعنى إن من يصوم ويصلى فانما ياخذ بعض قوة نفسه مما يلقى من المشقة .
لنفسه أي عدة وذخيرة لنفسه يوم القيامة ، وكذلك من يتصدق ، فانه ياخذ من ماله ، وهو جار مجرى نفسه لنفسه .
واخذ من حى لميت ، أي من حال الحياة لحال الموت ، ولو قال من ميت لحى ، كان جيدا ايضا ، لان الحى في الدنيا ليس بحى على الحقيقة ، وانما الحياة حياة الاخرة ، كما قال الله تعالى (وان الدار الاخرة لهى الحيوان) (1) .
وروى (امسكها بلجامها) بغير فاء .
__________
(1) سورة العنكبوت 64 .
(*)(13/308)
(242) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام في شان الحكمين وذم اهل الشام : جفاة طغام ، عبيد اقزام ، جمعوا من كل اوب ، وتلقطوا من كل شوب ، ممن ينبغى أن يفقه ويؤدب ، ويعلم ويدرب ، ويولى عليه ، ويؤخذ على يديه ، ليسوا من المهاجرين والانصار ، ولا من الذين تبوءوا الدار والايمان .
الا وإن القوم اختاروا لانفسهم اقرب القوم مما يحبون ، وانكم اخترتم لانفسكم اقرب القوم مما تكرهون وانما عهدكم بعبد الله بن قيس ، بالامس يقول انها فتنة فقطعوا اوتاركم ، وشيموا سيوفكم ، فان كان صادقا فقد اخطا بمسيره غير مستكره ، وإن كان كاذبا فقد لزمته التهمة .
فادفعوا في صدر عمرو بن العاص بعبد الله بن العباس ، وخذوا مهل الايام ، وحوطوا قواصى الاسلام .
الا ترون الى بلادكم تغزى ، والى صفاتكم ترمى .
الشرح : جفاة جمع جاف ، أي هم اعراب اجلاف والطغام اوغاد الناس ، الواحد والجمع فيه سواء .
ويقال للاشرار واللئام عبيد ، وان كانوا احرارا .(13/309)
والاقزام ، بالزاى رذال الناس وسفلتهم ، والمسموع قزم ، الذكر والانثى والواحد والجمع فيه سواء ، لانه في معنى المصدر ، قال الشاعر : وهم إذا الخيل جالوا في كتائبها فوارس الخيل لا ميل ولا قزم (1) .
ولكنه عليه السلام قال (اقزام) ليوازن بها قوله (طغام) ، وقد روى (قزام) ، وهى رواية جيدة ، وقد نطقت العرب بهذه اللفظة وقال الشاعر : احصنوا امهم من عبدهم تلك افعال القزام الوكعة (2) .
وجمعوا من كل اوب ، أي من كل ناحية .
وتلقطوا من كل شوب ، أي من فرق مختلطة .
ثم وصف جهلهم وبعدهم عن العلم والدين ، فقال ممن ينبغى أن يفقه ويؤدب ، أي يعلم الفقه والادب ويدرب ، أي يعود اعتماد الافعال الحسنة والاخلاق الجميلة .
ويولى عليه ، أي لا يستحقون أن يولوا امرا ، بل ينبغى أن يحجر عليهم كما يحجر على الصبى والسفيه لعدم رشده وروى (ويولى عليه) بالتخفيف .
ويؤخذ على يديه ، أي يمنع من التصرف .
قوله عليه السلام (ولا الذين تبوءوا الدار والايمان) ، ظاهر اللفظ يشعر بان الاقسام ثلاثة وليست الا اثنين ، لان الذين تبوءوا الدار والايمان الانصار ، ولكنه عليه السلام كرر ذكرهم تأكيدا ، وايضا فان لفظة (الانصار) واقعه على كل من كان من الاوس والخزرج ، الذين اسلموا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله والذين تبوءوا الدار
__________
(1) الصحاح 5 : 2010 ، ونسبه الى زياد بن منقذ .
(2) الصحاح 5 : 2010 ، من غير نسبة ، واحصنوا اي زوجوا .
(*)(13/310)
والايمان في (1) الاية ، قوم مخصوصون منهم ، وهم اهل الاخلاص والايمان التام فصار ذكر الخاص بعد العام ، كذكره تعالى جبرئيل وميكائيل ، ثم قال (والملائكة بعد ذلك ظهير) (2) ، وهما من الملائكة ومعنى قوله تبوءوا الدار والايمان) سكنوهما ، وان كان الايمان لا يسكن كما تسكن المنازل ، لكنهم لما ثبتوا عليه ، واطمانوا سماه منزلا لهم ومتبوأ ، ويجوز أن يكون مثل قوله : ورايت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا (3) .
ثم ذكر عليه السلام أن اهل الشام اختاروا لانفسهم اقرب القوم مما يحبونه ، وهو عمرو بن العاص ، وكرر لفظة (القوم) ، وكان الاصل أن يقول الا وان القوم اختاروا لانفسهم اقربهم مما يحبون ، فاخرجه مخرج قول الله تعالى (واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور) (4) والذى يحبه اهل الشام هو الانتصار على اهل العراق والظفر بهم ، وكان عمرو بن العاص اقربهم الى بلوغ ذلك ، والوصول إليه بمكره وحيلته وخدائعه .
والقوم في قوله ثانيا (اقرب القوم) ، بمعنى الناس كانه قال واخترتم لانفسكم اقرب الناس ، مما تكرهونه ، وهو أبو موسى الاشعري ، واسمه عبد الله بن قيس ، والذى يكرهه اهل العراق هو ما يحبه اهل الشام ، وهو خذلان عسكر العراق وانكسارهم ، واستيلاء اهل الشام عليهم ، وكان أبو موسى اقرب الناس الى وقوع ذلك ، وهكذا وقع لبلهه وغفلته وفساد رأيه ، وبغضه عليا عليه السلام من قبل .
ثم قال انتم بالامس ، يعنى في واقعة الجمل ، قد سمعتم ابا موسى ينهى اهل الكوفة * (هامش * (1) وهو قوله تعالى في سورة الحشر 9 : (والذين تبوؤا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم) .
(2) سورة التحريم 4 .
(3) لعبد الله بن الزبعري ، كما في حواشي ابن القوطية على الكامل 189 (ليبسك) ، وانظر امالي المرتضى 2 : 260 ، وحواشي شرح المرزوقي للحماسة 1147 .
(4) سورة المائدة 7 .
(*)(13/311)
عن نصرتي ، ويقول لهم هذه هي الفتنة التى وعدنا بها ، فقطعوا اوتار قسيكم وشيموا سيوفكم ، أي اغمدوها فان كان صادقا فما باله سار الى ، وصار معى في الصف ، وحضر حرب صفين ، وكثر سواد اهل العراق وإن لم يحارب ، ولم يسل السيف ، فان من حضر في احدى الجهتين وإن لم يحارب كمن حارب ، وان كان كاذبا فيما رواه من خبر الفتنة فقد لزمته التهمة وقبح الاختلاف إليه في الحكومة ، وهذا يؤكد صحة احدى الروايتين في امر ابى موسى ، فانه قد اختلفت الرواية هل حضر حرب صفين مع اهل العراق ام لا فمن قال حضر ، قال : حضر ولم يحارب ، وما طلبه اليمانيون من اصحاب على عليه السلام ليجعلوه حكما كالاشعث بن قيس وغيره الا وهو حاضر معهم في الصف ، ولم يكن منهم على مسافة ، ولو كان على مسافة لما طلبوه ، ولكان لهم فيمن حضر غناء عنه ، ولو كان على مسافة لما وافق على عليه السلام على تحكيمه ، ولا كان على عليه السلام ممن يحكم من لم يحضر معه .
وقال الاكثرون انه كان معتزلا للحرب بعيدا عن اهل العراق واهل الشام .
فان قلت فلم لا يحمل قوله عليه السلام (فان كان صادقا فقد اخطا بسيره غير مستكره) على مسيره الى امير المؤمنين عليه السلام واهل العراق حيث طلبوه ليفوضوا إليه امر الحكومة ؟ قلت لو حملنا كلامه عليه السلام على هذا لم يكن لازما لابي موسى ، وكان الجواب عنه هينا ، وذلك لان ابا موسى يقول انما انكرت الحرب وما سرت لاحارب ولا لاشهد الحرب ، ولا اغرى بالحرب ، وانما سرت للاصلاح بين الناس ، واطفاء نائرة الفتنة ، فليس يناقض ذلك ما رويته عن الرسول من خبر الفتنة ، ولا ما قلته في الكوفة في واقعة الجمل : (قطعوا اوتار قسيكم) .(13/312)
قوله عليه السلام (فادفعوا في صدر عمرو بن العاص بعبد الله بن العباس) ، يقال لمن يرام كفه عن امر يتطاول له ادفع في صدره ، وذلك لان من يقدم على امر ببدنه فيدفع دافع في صدره حقيقة ، فانه يرده أو يكاد ، فنقل ذلك الى الدفع المعنوي .
قوله عليه السلام (وخذوا مهل الايام) ، أي اغتنموا سعة الوقت .
وخذوه مناهبه قبل أن يضيق بكم أو يفوت .
قوله عليه السلام (وحوطوا قواصى الاسلام) ما بعد من الاطراف والنواحى .
ثم قال لهم (الا ترون الى بلادكم تغزى) ، هذا يدل على أن هذه الخطبة بعد انقضاء امر التحكيم ، لان معاوية بعد أن تم على ابى موسى من الخديعة ما تم استعجل امره ، وبعث السرايا الى اعمال امير المؤمنين على عليه السلام .
وتقول قد رمى فلان صفاة فلان ، إذا دهاه بداهية قال الشاعر : والدهر يوتر قوسه يرمى صفاتك بالمعابل .
واصل ذلك الصخرة الملساء ، لا يؤثر فيها السهام ولا يرميها الرامى ، الا بعد أن نبل غيرها يقول قد بلغت غارات اهل الشام حدود الكوفة التى هي دار الملك وسرير الخلافة ، وذلك لا يكون الا بعد الاثخان في غيرها من الاطراف .
[ فصل في نسب ابى موسى والراى فيه عند المعتزلة ] ونحن نذكر نسب ابى موسى وشيئا من سيرته وحاله نقلا من كتاب " الاستيعاب " لابن عبد البر المحدث ، ونتبع ذلك بما نقلناه من غير الكتاب المذكور قال ابن عبد البر : هو عبد الله بن قيس بن سليم بن حضارة بن حرب بن عامر بن عنز بن بكر بن عامر(13/313)
ابن عذر بن وائل بن ناجية بن الجماهر بن الاشعر ، وهو نبت بن ادد بن زيد بن يشجب بن عريب بن كهلان بن سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان وامه امراة من عك ، اسلمت وماتت بالمدينة ، واختلف في انه هل هو من مهاجرة الحبشة ام لا والصحيح انه ليس منهم ، ولكنه اسلم ثم رجع الى بلاد قومه ، فلم يزل بها حتى قدم هو وناس من الاشعريين على رسول الله صلى الله عليه وآله ، فوافق قدومهم قدوم اهل السفينتين جعفر ابن ابى طالب واصحابه من ارض الحبشة ، فوافوا رسول الله صلى الله عليه وآله بخيبر ، فظن قوم أن ابا موسى قدم من الحبشة مع جعفر .
وقيل انه لم يهاجر الى الحبشة ، وانما اقبل في سفينة مع قوم من الاشعريين ، فرمت الريح سفينتهم الى ارض الحبشة ، وخرجوا منها مع جعفر واصحابه ، فكان قدومهم معا ، فظن قوم انه كان من مهاجرة الحبشة .
قال وولاه رسول الله صلى الله عليه وآله من مخاليف اليمن زبيد ، وولاه عمر البصرة ، لما عزل المغيرة عنها ، فلم يزل عليها الى صدر من خلافة عثمان فعزله عثمان عنها ، وولاها عبد الله بن عامر بن كريز ، فنزل أبو موسى الكوفة حينئذ ، وسكنها ، فلما كره اهل الكوفة سعيد بن العاص ودفعوه عنها ، ولوا ابا موسى ، وكتبوا الى عثمان يسالونه أن يوليه ، فاقره على الكوفة ، فلما قتل عثمان عزله على عليه السلام عنها ، فلم يزل واجدا لذلك على علي عليه السلام ، حتى جاء منه ما قال حذيفة فيه ، فقد روى حذيفة فيه كلاما كرهت ذكره والله يغفر له (1) .
قلت الكلام الذى اشار إليه أبو عمر بن عبد البر ولم يذكره قوله فيه ، وقد ذكر عنده بالدين ، اما انتم فتقولون ذلك ، واما انا فاشهد انه عدو لله ولرسوله ، وحرب لهما في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد ، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ، ولهم اللعنة ولهم
__________
(1) الاستيعاب 380 ، 658 ، 659 .
(*)(13/314)
سوء الدار وكان حذيفة عارفا بالمنافقين ، اسر إليه رسول الله صلى الله عليه وآله امرهم ، واعلمه اسماءهم .
وروى أن عمارا سئل عن ابى موسى ، فقال لقد سمعت فيه من حذيفة قولا عظيما ، سمعته يقول صاحب البرنس الاسود ، ثم كلح كلوحا علمت منه انه كان ليلة العقبة بين ذلك الرهط .
وروى عن سويد بن غفلة قال كنت مع ابى موسى على شاطئ الفرات في خلافة عثمان ، فروى لى خبرا عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، قال سمعته يقول (إن بنى اسرائيل اختلفوا ، فلم يزل الاختلاف بينهم ، حتى بعثوا حكمين ضالين ضلا واضلا من اتبعهما ، ولا ينفك امر امتى حتى يبعثوا حكمين يضلان ويضلان من تبعهما) ، فقلت له احذر يا ابا موسى أن تكون احدهما قال فخلع قميصه ، وقال ابرا الى الله من ذلك ، كما ابرا من قميصي هذا .
فاما ما تعتقده المعتزلة فيه ، فانا اذكر ما قاله أبو محمد بن متويه في كتاب " الكفاية " قال رحمه الله : اما أبو موسى فانه عظم جرمه بما فعله ، وادى ذلك الى الضرر الذى لم يخف حاله ، وكان على عليه السلام يقنت عليه وعلى غيره ، فيقول : اللهم العن معاوية اولا وعمرا ثانيا ، وابا الاعور السلمى ثالثا ، وابا موسى الاشعري رابعا .
روى عنه عليه السلام انه كان يقول في ابى موسى صبغ بالعلم صبغا وسلخ منه سلخا .
قال وابو موسى هو الذى روى عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال كان في(13/315)
بنى اسرائيل حكمان ضالان ، وسيكون في امتى حكمان ضالان ، ضال من اتبعهما .
وانه قيل له الا يجوز أن تكون احدهما فقال لا - أو كلاما ، ما هذا معناه - فلما بلى به ، قيل فيه البلاء موكل بالمنطق ، ولم يثبت في توبته ما ثبت في توبة غيره ، وان كان الشيخ أبو على ، قد ذكر في آخر كتاب الحكمين انه جاء الى امير المؤمنين عليه السلام في مرض الحسن بن على فقال له اجئتنا عائدا ، ام شامتا فقال بل عائدا وحدث بحديث في فضل العيادة .
قال ابن متويه ، وهذه امارة ضعيفة في توبته .
انتهى كلام ابن متويه وذكرته لك لتعلم انه عند المعتزلة من ارباب الكبائر ، وحكمه حكم امثاله ممن واقع كبيرة ومات عليها .
قال أبو عمر بن عبد البر واختلف في تاريخ موته ، فقيل سنة اثنتين واربعين ، وقيل سنة اربع واربعين ، وقيل سنة خمسين ، وقيل سنة اثنتين وخمسين .
واختلف في قبره ، فقيل مات بمكة ودفن بها ، وقيل مات بالكوفة ودفن بها .(13/316)
(243) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها آل محمد صلى الله عليه وآله : هم عيش العلم ، وموت الجهل ، يخبركم حلمهم عن علمهم ، وظاهرهم عن باطنهم ، وصمتهم عن حكم منطقهم .
لا يخالفون الحق ، ولا يختلفون فيه ، وهم دعائم الاسلام ، وولائج الاعتصام ، بهم عاد الحق الى نصابه ، وانزاح الباطل عن مقامه ، وانقطع لسانه عن منبته ، عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية ، لا عقل سماع ورواية ، فان رواة العلم كثير ، ورعاته قليل .
الشرح : يقول بهم يحيا العلم ويموت الجهل ، فسماهم حياة ذاك ، وموت هذا ، نظرا الى السببية ، يدلكم حلمهم وصفحهم عن الذنوب على علمهم وفضائلهم ، ويدلكم ما ظهر منهم من الافعال الحسنة على ما بطن من اخلاصهم ، ويدلكم صمتهم وسكوتهم عما لا يعنيهم ، عن حكمة منطقهم .
ويروى (ويدلكم صمتهم على منطقهم) ، وليس في هذه الرواية لفظة (حكم) .
لا يخالفون الحق لا يعدلون عنه ، ولا يختلفون فيه كما يختلف غيرهم من الفرق وارباب المذاهب ، فمنهم من له في المسالة قولان واكثر ، ومنهم من يقول قولا ثم يرجع عنه ، ومنهم من يرى في اصول الدين رايا ثم ينفيه ويتركه .(13/317)
ودعائم الاسلام اركانه .
والولائج جمع وليجة ، وهى الموضع يدخل إليه ويستتر فيه ، ويعتصم به .
وعاد الحق الى نصابه رجع الى مستقره وموضعه وانزاح الباطل زال .
وانقطع لسانه انقطعت حجته .
مقامه ، وانقطع لسانه عن منبته ، عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية ، لا عقل سماع ورواية ، فان رواة العلم كثير ، ورعاته قليل .
الشرح : يقول بهم يحيا العلم ويموت الجهل ، فسماهم حياة ذاك ، وموت هذا ، نظرا الى السببية ، يدلكم حلمهم وصفحهم عن الذنوب على علمهم وفضائلهم ، ويدلكم ما ظهر منهم من الافعال الحسنة على ما بطن من اخلاصهم ، ويدلكم صمتهم وسكوتهم عما لا يعنيهم ، عن حكمة منطقهم .
ويروى (ويدلكم صمتهم على منطقهم) ، وليس في هذه الرواية لفظة (حكم) .
لا يخالفون الحق لا يعدلون عنه ، ولا يختلفون فيه كما يختلف غيرهم من الفرق وارباب المذاهب ، فمنهم من له في المسالة قولان واكثر ، ومنهم من يقول قولا ثم يرجع عنه ، ومنهم من يرى في اصول الدين رايا ثم ينفيه ويتركه .(13/318)
ودعائم الاسلام اركانه .
والولائج جمع وليجة ، وهى الموضع يدخل إليه ويستتر فيه ، ويعتصم به .
وعاد الحق الى نصابه رجع الى مستقره وموضعه وانزاح الباطل زال .
وانقطع لسانه انقطعت حجته .
عقلوا الدين عقل رعاية ، أي عرفوا الدين وعلموه معرفة من وعى الشئ وفهمه واتقنه ووعاية ، أي وعوا الدين وحفظوه وحاطوه ، ليس كما يعقله غيرهم عن سماع ورواية ، فان من يروى العلم ويسنده الى الرجال ويأخذه من افواه الناس كثير ، ومن يحفظ العلم حفظ فهم وادراك ، اصالة لا تقليدا قليل .
تم الجزء الثالث عشر من شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ، ويليه الجزء الرابع عشر .(13/318)
شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد ج 14
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد ج 14(14/)
شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد بتحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم الجزء الرابع عشر دار احياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه(14/1)
الطبعة الثانية (1967 م - 1387 ه) جميع الحقوق محفوظة منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي قم - ايران 1404 ه ق(14/2)
باب الكتب و الرسائل(14/3)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل الاصل : باب المختار من كتب مولانا امير المؤمنين عليه السلام ورسائله الى أعدائه و أولياء (1) بلاده ، ويدخل في ذلك ما اختير من عهوده الى عماله ووصاياه لاهله واصحابه .
الشرح : لما فرغ من إيراد المختار من خطب أمير المؤمنين عليه السلام وكلامه الجارى مجرى الخطب من المواعظ والزواجر ، شرع في إيراد باب من مختار كلامه عليه السلام ، وهو ما كان جاريا مجرى الرسائل والكتب ، ويدخل في ذلك العهود والوصايا وقد أورد في هذا الباب ما هو بالباب الاول أشبه ، نحو كلامه عليه السلام لشريح القاضى لما اشترى دارا ، وكلامه لشريح بن هانئ لما جعله على مقدمته الى الشام .
وسمى ما يكتب للولاة عهدا اشتقاقا من قولهم عهدت الى فلان ، أي أوصيته من كتاب له عليه السلام الى أهل الكوفة عند مسيره من المدينة الى البصرة
__________
(1) ا : (وامراء بلاده) .
(*)(14/5)
الاصل : من كتاب له عليه السلام إلى أهل الكوفة عند مسيره من المدينة إلى البصرة : من عبد الله على أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة ، جبهة الانصار وسنام العرب أما بعد ، فانى أخبركم عن أمر عثمان حتى يكون سمعه كعيانه إن الناس طعنوا عليه ، فكنت رجلا من المهاجرين أكثر استعتابه وأقل (1) عتابه ، وكان طلحة والزبير أهون سيرهما فيه الوجويف ، وأرفق حدائهما العنيف وكان من عائشة فيه فلتة غضب ، فاتيح له قوم قتلوه ، وبايعني الناس غير مستكرهين ، ولا مجبرين ، بل طائعين مخيرين واعلموا أن دار الهجرة قد قلعت باهلها وقلعوا بها ، وجاشت جيش المرجل ، وقامت الفتنة على القطب ، فاسرعوا الى أميركم ، وبادروا جهاد عدوكم إن شاء الله .
الشرح : قوله (جبهة الانصار) ، يمكن أن يريد جماعة الانصار ، فان الجبهة في اللغة الجماعة ويمكن أن يريد به سادة الانصار وأشرافهم ، لان جبهة الانسان أعلى اعضائه ، وليس يريد بالانصار هاهنا بنى قيلة (2) ، بل الانصار هاهنا الاعوان .
__________
(1) مخطوطة النهج : (فأقل) .
(2) هي قيلة أم الاوس والخزرج .
(*)(14/6)
قوله عليه السلام (وسنام العرب) ، أي أهل الرفعة والعلو منهم ، لان السنام أعلى أعضاء البعير .
قوله عليه السلام (أكثر استعتابه واقل عتابه) ، الاستعتاب طلب العتبى ، وهى الرضا ، قال : كنت أكثر طلب رضاه ، وأقل عتابه وتعنيفه على الأمور ، وأما طلحة والزبير فكانا شديدين عليه .
والوجيف سير سريع ، وهذا مثل للمشمرين (1) في الطعن عليه ، حتى أن السير السريع أبطا ما يسيران في أمره ، والحداء العنيف أرفق ما يحرضان به عليه .
ودار الهجرة المدينة .
وقوله (قد قلعت بأهلها وقلعوا بها) ، الباء هاهنا زائدة في احد الموضعين ، وهو الاول ، وبمعنى من في الثاني ، يقول فارقت أهلها وفارقوها ، ومنه قولهم (هذا منزل قلعة) أي ليس بمستوطن .
وجاشت اضطربت والمرجل القدر .
ومن لطيف الكلام قوله عليه السلام (فكنت رجلا من المهاجرين) ، فإن في ذلك من التخلص والتبرى ما لا يخفى على المتأمل ، أ لا ترى أنه لم يبق عليه في ذلك حجة لطاعن ، حيث كان قد جعل نفسه كواحد من عرض المهاجرين ، الذين بنفر يسير منهم انعقدت خلافة ابى بكر ، وهم أهل الحل والعقد ، وإنما كان الاجماع حجة لدخولهم فيه .
ومن لطيف الكلام أيضا قوله (فأتيح له قوم قتلوه) ، ولم يقل (أتاح الله له قوما) ، ولا قال : (أتاح له الشيطان قوما) ، وجعل الامر مبهما .
وقد ذكر أن خط الرضى رحمه الله (مستكرهين) ، بكسر الراء والفتح أحسن وأصوب ، وإن كان قد جاء استكرهت الشئ بمعنى كرهته .
__________
(1) ا : (وهذا مثل في العرب للمشمر في الطعن عليه) .
(*)(14/7)
وقال الراوندي : المراد بدار الهجرة هاهنا الكوفة التى ها جر أمير المؤمنين عليه السلام إليها ، وليس بصحيح ، بل المراد المدينة ، وسياق الكلام يقتضى ذلك ، ولانه كان حين كتب هذا الكتاب الى أهل الكوفة بعيدا عنهم ، فكيف يكتب إليهم يخبرهم عن أنفسهم .
[ أخبار على عند مسيره إلى البصرة ، ورسله إلى أهل الكوفة ] وروى محمد بن إسحاق عن عمه عبد الرحمن بن يسار القرشى ، قال : لما نزل على عليه السلام الربذة متوجها إلى البصرة بعث إلى الكوفة محمد بن جعفر بن أبى طالب ومحمد بن أبى بكر الصديق ، وكتب إليهم هذا الكتاب ، وزاد في آخره : فحسبي بكم إخوانا ، وللدين أنصارا ، ف (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا باموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون) (1) وروى أبو مخنف ، قال : حدثنى الصقعب ، قال : سمعت عبد الله بن جنادة يحدث أن عليا عليه السلام لما نزل الربذة بعث هاشم بن عتبة بن أبى وقاص إلى إبى موسى الأشعري ، وهو الأمير يومئذ على الكوفة ، لينفر إليه الناس ، وكتب إليه معه من عبد الله على أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس أما بعد ، فانى قد بعثت اليك هاشم بن عتبة لتشخص إلى من قبلك من المسلمين ليتوجهوا إلى قوم نكثوا بيعتى ، وقتلوا شيعتي ، وأحدثوا في الاسلام هذا الحدث العظيم ، فاشخص بالناس الى معه حين يقدم عليك ، فإنى لم أو لك المصر الذى أنت فيه ، ولم أقرك عليه إلا لتكون من أعواني على الحق ، وأنصاري على هذا الامر ، والسلام .
__________
(1) سورة التوبة 41 .
(*)(14/8)
فأما رواية محمد بن اسحاق فإنه قال : لما قدم محمد بن جعفر ومحمد بن أبى بكر الكوفة ، استنفرا (1) الناس ، فدخل قوم منهم على أبى موسى ليلا ، فقالوا له أشر علينا برأيك في الخروج مع هذين الرجلين إلى على عليه السلام ، فقال أما سبيل الاخرة فالزموا بيوتكم ، وأما سبيل الدنيا فاشخصوا معهما فمنع بذلك أهل الكوفة من الخروج وبلغ ذلك المحمدين ، فاغلظا لابي موسى ، فقال أبو موسى : والله إن بيعة عثمان لفى عنق على وعنقي وأعناقكما ، ولو أردنا قتالا ما كنا لنبدأ باحد قبل قتله عثمان فخرجا من عنده ، فلحقا بعلى عليه السلام ، فاخبراه الخبر .
وأما رواية أبى مخنف ، فانه قال : أن هاشم بن عتبة لما قدم الكوفة ، دعا أبو موسى السائب بن مالك الأشعري ، فاستشاره ، فقال اتبع ما كتب به إليك فابى ذلك ، وحبس الكتاب ، وبعث إلى هاشم يتوعده ويخوفه .
قال السائب : فأتيت هاشما فاخبرته برأي أبى موسى ، فكتب الى على عليه السلام : لعبد الله على أمير المؤمنين من هاشم بن عتبة أما بعد يا أمير المؤمنين ، فانى قدمت بكتابك على امرئ مشاق بعيد الود ، ظاهر الغل والشنان ، فتهددني بالسجن ، وخوفني بالقتل ، وقد كتبت إليك هذا الكتاب مع المحل بن خليفة ، اخى طئ ، وهو من شيعتك وأنصارك ، وعنده علم ما قبلنا ، فاسأله عما بدا لك ، واكتب إلى برأيك والسلام .
قال : فلما قدم المحل بكتاب هاشم على على عليه السلام سلم عليه ، ثم قال : الحمد لله الذى أدى الحق الى أهله ، ووضعه موضعه ، فكره ذلك قوم قد والله كرهوا نبوة محمد صلى الله عليه وآله ، ثم بارزوه وجاهدوه ، فرد الله عليهم كيدهم في نحورهم ، وجعل دائرة السوء عليهم .
والله يا أمير المؤمنين لنجاهدنهم معك في كل موطن ، حفظا لرسول الله صلى الله عليه وآله في أهل بيته ، إذ صاروا أعداء لهم بعده .
__________
(1) ا : (واستنفرا) ، وما اثبته من ب .
(*)(14/9)
فرحب به على عليه السلام ، وقال له خيرا ، ثم أجلسه الى جانبه ، وقرأ كتاب هاشم ، وسأله عن الناس وعن ابى موسى ، فقال والله يا أمير المؤمنين ، ما أثق به ولا آمنه على خلافك ، إن وجد من يساعده على ذلك فقال على عليه السلام والله ما كان عندي بمؤتمن ولا ناصح ، ولقد أردت عزله فأتاني الاشتر فسألني أن أقره ، وذكر أن أهل الكوفة به راضون فاقررته .
وروى أبو مخنف ، قال : وبعث على عليه السلام من الربذة بعد وصول المحل بن خليفة ، (1 أخى طئ 1) ، عبد الله بن عباس ومحمد بن أبى بكر الى أبى موسى ، وكتب معهما من عبد الله على أمير المؤمنين الى عبد الله بن قيس ، أما بعد يا بن الحائك ، يا عاض أير أبيه ، فو الله انى كنت لارى أن بعدك من هذا الامر الذى لم يجعلك الله له أهلا ، ولا جعل لك فيه نصيبا ، سيمنعك من رد أمرى والانتزاء (2) على .
وقد بعثت اليك ابن عباس وابن أبى بكر فخلهما والمصر وأهله ، واعتزل عملنا مذءوما مدحورا .
فإن فعلت وإلا فانى قد أمرتهما أن ينابذاك على سواء ، إن الله لا يهدى كيد الخائنين فإذا ظهرا عليك قطعاك إربا إربا ، والسلام على من شكر النعمة ، ووفى بالبيعة ، وعمل برجاء العاقبة .
قال أبو مخنف : فلما أبطأ ابن عباس وابن أبى بكر عن على عليه السلام ، ولم يدر ما صنعا ، رحل عن الربذة الى ذى قار فنزلها ، فلما نزل ذا قار ، بعث الى الكوفة الحسن ابنه عليه السلام وعمار بن ياسر وزيد بن صوحان وقيس بن سعد بن عبادة ، ومعهم كتاب إلى أهل الكوفة ، فأقبلوا حتى كانوا بالقادسية ، فتلقاهم الناس ، فلما دخلوا الكوفة قرءوا كتاب على ، وهو من عبد الله على أمير المؤمنين ، إلى من بالكوفة من المسلمين :
__________
(1 - 1) ساقط من ب .
(2) الانتزاء : الوثوب .
(*)(14/10)
أما بعد ، فإنى خرجت مخرجى هذا ، إما ظالما ، وإما مظلوما ، وإما باغيا ، وإما مبغيا على ، فأنشد الله رجلا بلغه كتابي هذا إلا نفر إلى ، فإن كنت مظلوما أعانني ، وإن كنت ظالما استعتبني .
والسلام .
قال أبو مخنف : فحدثني موسى بن عبد الرحمن بن أبى ليلى ، عن أبيه ، قال : أقبلنا مع الحسن وعمار بن ياسر من ذى قار ، حتى نزلنا القادسية ، فنزل الحسن وعمار ، ونزلنا معهما ، فاحتبى عمار بحمائل سيفه ، ثم جعل يسأل الناس عن أهل الكوفة وعن حالهم ، ثم سمعته يقول ما تركت في نفسي حزة أهم إلى من ألا نكون نبشنا عثمان من قبره ، ثم أحرقناه بالنار .
قال : فلما دخل الحسن وعمار الكوفة ، إجتمع إليهما الناس ، فقام الحسن ، فاستنفر الناس ، فحمد الله وصلى على رسوله ، ثم قال : أيها الناس ، إنا جئنا ندعوكم الى الله وإلى كتابه وسنة رسوله ، وإلى افقه من تفقه من المسلمين ، وأعدل من تعدلون ، وأفضل من تفضلون ، وأوفى من تبايعون ، من لم يعبه القرآن ، ولم تجهله السنة ولم تقعد به السابقة ، إلى من قربه الله تعالى إلى (1) رسوله قرابتين : قرابة الدين وقرابة الرحم ، إلى من سبق الناس الى كل مأثرة ، إلى من كفى الله به رسوله والناس متخاذلون ، فقرب منه وهم متباعدون ، وصلى معه وهم مشركون ، وقاتل معه وهم منهزمون ، وبارز معهم وهم محجمون ، وصدقه وهم يكذبون .
إلى من لم ترد له رواية ولا تكفأ له سابقه ، وهو يسألكم النصر ، ويدعوكم إلى الحق ، ويامركم بالمسير إليه ، لتوازروه وتنصروه على قوم نكثوا بيعته ، وقتلوا أهل الصلاح من أصحابه ، ومثلوا بعماله ، وانتهبوا بيت ماله فاشخصوا إليه رحمكم الله ، فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ، واحضروا بما يحضر به الصالحون (2) .
قال أبو مخنف : حدثنى جابر بن يزيد ، قال : حدثنى تميم بن حذيم الناجى ، قال : قدم علينا
__________
(1) آ : (ورسوله) .
(2) تاريخ الطبري ....(*)(14/11)
الحسن بن على عليه السلام وعمار بن ياسر ، يستنفران الناس إلى على عليه السلام ، ومعهما كتابه ، فلما فرغا من قراءة كتابه ، قام الحسن - وهو فتى حدث ، والله انى لارثى له من حداثة سنه وصعوبة مقامه - فرماه الناس بابصارهم وهم يقولون اللهم سدد منطق ابن بنت نبينا فوضع يده على عمود يتساند إليه ، وكان عليلا من شكوى به ، فقال الحمد لله العزيز الجبار ، الواحد القهار ، الكبير المتعال ، (سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار) .
أحمده على حسن البلاء ، وتظاهر النعماء ، وعلى ما أحببنا وكرهنا من شدة ورخاء .
واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، أمتن علينا بنبوته ، واختصه برسالته ، وأنزل عليه وحيه ، واصطفاه على جميع خلقه ، وأرسله إلى الانس والجن ، حين عبدت الاوثان وأطيع الشيطان ، وجحد الرحمن ، فصلى الله عليه وعلى آله وجزاه أفضل ما جزى المسلمين .
أما بعد فإنى لا أقول لكم إلا ما تعرفون ، إن أمير المؤمنين على بن ابى طالب - أرشد الله امره ، وأعز نصره - بعثنى اليكم يدعوكم إلى الصواب ، وإلى العمل بالكتاب ، والجهاد في سبيل الله ، وإن كان في عاجل ذلك ما تكرهون ، فإن في آجله ما تحبون إن شاء الله .
ولقد علمتم أن عليا صلى مع رسول الله صلى الله عليه وآله وحده ، وأنه يوم صدق به لفى عاشرة من سنه ، ثم شهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله جميع مشاهده .
وكان من اجتهاده في مرضاه الله وطاعة رسوله وآثاره الحسنة في الاسلام ما قد بلغكم ، ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وآله راضيا عنه ، حتى غمضه بيده وغسله وحده ، والملائكة أعوانه ، والفضل ابن عمه ينقل إليه الماء ، ثم أدخله حفرته ، وأوصاه بقضاء دينه وعداته ، وغير ذلك من أموره ، كل ذلك من من الله عليه .
ثم والله ما دعا إلى نفسه ، ولقد تداك الناس عليه تداك الابل الهيم عند ورودها ، فبايعوه طائعين ، ثم نكث منهم ناكثون بلا حدث أحدثه ، ولا خلاف أتاه حسدا له وبغيا عليه .
فعليكم عباد الله بتقوى الله وطاعته ، والجد والصبر والاستعانة بالله(14/12)
والخفوف الى ما دعاكم إليه أمير المؤمنين .
عصمنا الله وإياكم بما عصم به أولياءه وأهل طاعته ، وألهمنا وإياكم تقواه ، وأعاننا وإياكم على جهاد أعدائه .
واستغفر الله العظيم لى ولكم .
ثم مضى إلى الرحبة ، فهيا منزلا لابيه أمير المؤمنين .
قال جابر : فقلت لتميم كيف أطاق هذا الغلام ما قد قصصته من كلامه فقال ولما سقط عنى من قوله أكثر ، ولقد حفظت بعض ما سمعت .
قال : ولما نزل على عليه السلام ذا قار ، كتبت عائشة إلى حفصة بنت عمر ، أما بعد فانى أخبرك أن عليا قد نزل ذا قار ، وأقام بها مرعوبا خائفا لما بلغه من عدتنا وجماعتنا ، فهو بمنزلة الاشقر ، إن تقدم عقر ، وإن تأخر نحر ، فدعت حفصة جواري لها يتغنين ويضربن بالدفوف ، فأمرتهن أن يقلن في غنائهن ما الخبر ما الخبر ، على في السفر ، كالفرس الاشقر ، إن تقدم عقر ، وإن تأخر نحر .
وجعلت بنات الطلقاء يدخلن على حفصة ، ويجتمعن لسماع ذلك الغناء .
فبلغ أم كلثوم بنت على عليه السلام ، فلبست جلابيبها ، ودخلت عليهن في نسوة متنكرات ، ثم أسفرت عن وجهها ، فلما عرفتها حفصة خجلت ، واسترجعت ، فقالت أم كلثوم لئن تظاهرتما عليه منذ اليوم ، لقد تظاهرتما على أخيه من قبل ، فأنزل الله فيكما ما أنزل فقالت حفصة كفى رحمك الله وأمرت بالكتاب فمزق ، واستغفرت الله .
قال : أبو مخنف روى هذا جرير بن يزيد ، عن الحكم ، ورواه الحسن بن دينار ، عن الحسن البصري .
وذكر الواقدي مثل ذلك ، وذكر المدائني أيضا مثله ، قال : فقال : سهل بن حنيف في ذلك هذه الاشعار :(14/13)
عذرنا الرجال بحرب الرجال فما للنساء وما للسباب أما حسبنا ما أتينا به لك الخير من هتك ذاك الحجاب ومخرجها اليوم من بيتها يعرفها الذنب نبح الكلاب إلى أن اتانا كتاب لها مشوم فيا قبح ذاك الكتاب .
قال : فحدثنا الكلبى ، عن أبى صالح أن عليا عليه السلام ، لما نزل ذا قار في قلة من عسكره ، صعد الزبير منبر البصرة ، فقال أ لا ألف فارس أسير بهم الى على ، فأبيته بياتا ، وأصبحه صباحا ، قبل أن يأتيه المدد فلم يجبه أحد ، فنزل واجما ، وقال هذه والله الفتنة التى كنا نحدث بها فقال له بعض مواليه رحمك الله يا أبا عبد الله تسميها فتنة ثم نقاتل فيها فقال ويحك والله إنا لنبصر ثم لا نصبر فاسترجع المولى ثم خرج في الليل فارا الى على عليه السلام فاخبره ، فقال : اللهم عليك به .
قال أبو مخنف : ولما فرغ الحسن بن على عليه السلام من خطبته ، قام بعده عمار ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على رسوله ، ثم قال : إيها الناس ، أخو نبيكم وابن عمه يستنفركم لنصر دين الله ، وقد بلاكم الله بحق دينكم ، وحرمة أمكم ، فحق دينكم أوجب ، وحرمته أعظم .
أيها الناس ، عليكم بامام لا يؤدب ، وفقيه لا يعلم ، وصاحب باس لا ينكل ، وذى سابقة في الاسلام ليست لاحد ، وإنكم لو قد حضرتموه بين لكم أمركم إن شاء الله .
قال : فلما سمع موسى خطبة الحسن وعمار ، قام فصعد المنبر وقال : الحمد لله الذى أكرمنا بمحمد ، فجمعنا بعد الفرقة ، وجعلنا إخوانا متحابين بعد العداوة ، وحرم علينا دماءنا وأموالنا ، قال الله سبحانه : (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) (1) .
__________
(1) سورة البقرة 188 .
(*)(14/14)
وقال تعالى : (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها) (1) .
فاتقوا الله عباد الله ، وضعوا أسلحتكم ، وكفوا عن قتال إخوانكم .
أما بعد يا أهل الكوفة ، إن تطيعوا الله باديا ، وتطيعوني ثانيا ، تكونوا جرثومة من جراثيم العرب ، يأوى اليكم المضطر ، ويامن فيكم الخائف .
إن عليا إنما يستنفركم لجهاد أمكم عائشة وطلحة والزبير حوارى رسول الله ومن معهم من المسلمين ، وأنا اعلم بهذه الفتن إنها إذا أقبلت شبهت ، وإذا أدبرت اسفرت ، إنى أخاف عليكم أن يلتقى غاران منكم فيقتتلا ثم يتركا كالاحلاس الملقاة بنجوة من الارض ، ثم يبقى رجرجة (2) من الناس ، لا يامرون بالمعروف ، ولا ينهون عن منكر .
انها قد جاءتكم فتنة كافرة لا يدرى من أين تؤتى تترك الحليم حيران كأنى أسمع رسول الله صلى الله عليه وآله بالامس يذكر الفتن ، فيقول (أنت فيها نائما خير منك قاعدا ، وأنت فيها جالسا خير منك قائما ، وأنت فيها قائما خير منك ساعيا) فثلموا سيوفكم وقصفوا رماحكم ، وانصلوا (3) سهامكم ، وقطعوا أوتاركم ، وخلوا قريشا ترتق فتقها ، وتراب صدعها ، فان فعلت فلانفسها ما فعلت ، وإن أبت فعلى أنفسها ما جنت ، سمنها في أديمها .
استنصحوني ولا تستغشونى ، واطيعوني ولا تعصوني ، يتبين لكم رشدكم ، ويصلى هذه الفتنة من جناها .
فقام إليه عمار بن ياسر ، فقال : أنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول ذلك قال : نعم هذه يدى بما قلت ، فقال إن كنت صادقا فانما عناك بذلك وحدك ، واتخذ عليك الحجة ، فالزم بيتك ولا تدخلن في الفتنة ، أما إنى اشهد أن رسول الله صلى الله عليه وآله أمر عليا بقتال الناكثين ، وسمى له فيهم من سمى ، وأمره بقتال القاسطين ، وإن شئت لاقيمن لك شهودا يشهدون أن رسول الله صلى الله عليه وآله
__________
(1) سورة النساء 93 .
(2) الرجرجة : البقية وأصله في الماء .
(3) انصل السهم : ازال عنه النصل .
(*)(14/15)
إنما نهاك وحدك ، وحذرك من الدخول في الفتنة .
ثم قال : له أعطني يدك على ما سمعت فمد إليه يده ، فقال له عمار غلب الله من غالبه وجاهده ثم جذبه فنزل عن المنبر .
وروى محمد بن جرير الطبري في التاريخ قال : لما أتى عليا عليه السلام الخبر وهو بالمدينة بأمر عائشة وطلحة والزبير ، وأنهم قد توجهوا نحو العراق ، خرج يبادر (1) ، وهو يرجو أن يدركهم ويردهم ، فلما انتهى إلى الربذة أتاه عنهم أنهم قد أمعنوا ، فأقام بالربذة اياما ، وأتاه عنهم انهم يريدون البصرة ، فسر بذلك وقال : إن أهل الكوفة اشد لى حبا ، وفيهم رؤساء العرب وأعلامهم .
فكتب إليهم انى قد اخترتكم على الامصار ، وإنى بالاثر (2) .
قال أبو جعفر محمد بن جرير رحمه الله : كتب على عليه السلام من الربذة إلى أهل الكوفة أما بعد ، فانى قد اخترتكم ، وآثرت النزول بين أظهركم ، لما أعرف من مودتكم وحبكم لله ورسوله ، فمن جاءني ونصرني فقد أجاب الحق ، وقضى الذى عليه .
قال أبو جعفر : فأول من بعثه على عليه السلام من الربذة إلى الكوفة محمد بن أبى بكر ومحمد بن جعفر ، فجاء أهل الكوفة الى أبى موسى ، وهو الامير عليهم ليستشيروه (3) في الخروج الى على بن ابى طالب عليه السلام ، فقال لهم أما سبيل الاخرة فأن تقعدوا ، وأما سبيل الدنيا فان تخرجوا .
وبلغ المحمدين قول أبى موسى الاشعري ، فأتياه وأغلظا له ، فأغلظ لهما ، وقال :
__________
(1) تاريخ الطبري : (يبادرهم) .
(2) تاريخ الطبري 1 : 3106 (طبعة اوربا) .
(3) ب : (يستشيرونه) .
(*)(14/16)
لا يحل لك القتال مع على حتى لا يبقى احد من قتلة عثمان إلا قتل حيث كان .
وقالت أخت على بن عدى ، من بنى عبد العزى بن عبد شمس ، وكان أخوها على ابن عدى من شيعة على عليه السلام ، وفي جملة عسكره : لا هم فاعقر بعلى جمله ولا تبارك في بعير حمله * ألا على بن عدى ليس له * .
قال أبو جعفر : ثم أجمع على عليه السلام على المسير من الربذة الى البصرة ، فقام إليه رفاعة بن رافع ، فقال يا أمير المؤمنين ، أي شئ تريد وأين تذهب بنا قال : أما الذى نريد وننوى فإصلاح ، إن قبلوا منا وأجابوا إليه ، قال : فإن لم يقبلوا ، قال : ندعوهم ونعطيهم من الحق ما نرجو أن يرضوا به (2) قال : فإن لم يرضوا قال : ندعهم ما تركونا قال : فإن لم يتركونا ، قال : نمتنع منهم ، قال : فنعم إذا .
وقام الحجاج بن غزية الانصاري ، فقال والله يا أمير المؤمنين لارضينك بالفعل ، كما أرضيتني منذ اليوم بالقول .
ثم قال : دراكها دراكها قبل الفوت وانفر بنا واسم بنا نحو الصوت * لا والت نفسي إن خفت الموت * ولله لننصرن الله عز وجل كما سمانا أنصارا .
قال أبو جعفر رحمه الله : وسار على عليه السلام نحو البصرة ، ورأيته مع ابنه محمد بن الحنفية ، وعلى ميمنته عبد الله بن عباس ، وعلى ميسرته عمر بن أبى سلمة ، وعلى عليه السلام في القلب على ناقة حمراء ، يقود فرسا كميتا (3) .
فتلقاه بفيد غلام من
__________
(1) تاريخ الطبري 1 : 3139 ، مع تصرف واختصار .
(2) الطبري : (ونعطيهم الحق ونصبر) .
(3) الكميت من الخيل : الذي خالط حمرته قنوء ، أي سواد غير خالص .
(*)(14/17)
بنى سعد بن ثعلبة ، يدعى مرة ، فقال من هؤلاء قيل هذا أمير المؤمنين ، فقال سفرة قانية ، فيها دماء من نفوس فانية .
فسمعها على عليه السلام فدعاه ، فقال ما اسمك قال : مرة ، قال : أمر الله عيشك أ كاهن سائر اليوم قال : بل عائف ، فخلى سبيله .
ونزل بفيد فاتته أسد وطئ ، فعرضوا عليه أنفسهم ، فقال الزموا قراركم ، ففى المهاجرين كفاية .
وقدم رجل من الكوفة فيدا ، فاتى عليا عليه السلام ، فقال له من الرجل قال عامر بن مطرف ، قال الليثى : قال الشيباني ، قال : أخبرني عما وراءك قال : إن أردت الصلح فأبو موسى صاحبك ، وإن أردت القتال فأبو موسى ليس لك بصاحب .
فقال عليه السلام ما أريد إلا الصلح إلا أن يرد علينا (1) .
قال أبو جعفر : وقدم عليه عثمان بن حنيف ، وقد نتف طلحة والزبير شعر رأسه ولحيته وحاجبيه ، فقال يا أمير المؤمنين ، بعثتني ذا لحية ، وجئتك أمرد ، فقال أصبت خيرا وأجرا .
ثم قال : أيها الناس ، إن طلحة والزبير بايعانى ، ثم نكثاني بيعتى ، وألبا على الناس ، ومن العجب إنقيادهما لابي بكر وعمر وخلافهما على ، والله إنهما ليعلمان إنى لست بدونهما (2) .
اللهم فاحلل ما عقدا ، ولا تبرم ما قد أحكما في أنفسهما ، وأرهما المساءة فيما قد عملا (3) .
قال أبو جعفر : وعاد محمد بن أبى بكر ومحمد بن جعفر إلى على عليه السلام ، فلقياه وقد انتهى إلى ذى قار ، فاخبراه الخبر ، فقال على عليه السلام لعبد الله بن العباس : إذهب انت إلى الكوفة ، فادع أبا موسى الى الطاعة ، وحذره من العصيان والخلاف ، واستنفر الناس .
فذهب عبد الله بن عباس حتى قدم الكوفة ، فلقى أبا موسى ، واجتمع الرؤساء من أهل الكوفة ، فقام أبو موسى فخطبهم ، وقال : إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله صحبوه في مواطن كثيرة ، فهم أعلم بالله ممن لم يصحبه ، وإن لكم على حقا ،
__________
(1) تاريخ الطبري 1 : 3141 - 3143 .
(2) الطبري : (بدون رجل) .
(3) تاريخ الطبري 1 : 3143 ، 3144 .
(*)(14/18)
وأنا مؤديه إليكم ، أمر ألا تستخفوا بسلطان الله ، وألا تجترئوا [ على الله ] أن تأخذوا كل من قدم عليكم من أهل المدينة في هذا الامر ، فتردوه الى المدينة ، حتى تجتمع الامة على إمام ترتضي به ، انها فتنة صماء ، النائم فيها خير من اليقظان ، واليقظان خير من القاعد ، والقاعد خير من القائم ، والقائم خير من الراكب ، فكونوا جرثومة من جراثيم العرب ، أغمدوا سيوفكم ، وأنصلوا أسنتكم ، وأقطعوا أوتار قسيكم ، حتى يلتئم هذا الامر ، وتنجلى هذه الفتنة .
قال أبو جعفر رحمه الله : فرجع ابن عباس إلى على عليه السلام ، فأخبره ، فدعا الحسن ابنه عليه السلام وعمار بن ياسر ، وأرسلهما إلى الكوفة ، فلما قدماها كان أول من أتاهما مسروق بن الاجدع ، فسلم عليهما ، وأقبل على عمار ، فقال يا أبا اليقظان ، علام قتلتم أمير المؤمنين قال : على شتم أعراضنا ، وضرب أبشارنا .
قال : فو الله ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به ، ولئن صبرتم لكان خيرا للصابرين .
ثم خرج أبو موسى فلقى الحسن عليه السلام فضمه إليه ، وقال لعمار : يا أبا اليقظان أغدوت فيمن غدا على أمير المؤمنين (1) ، وأحللت نفسك مع الفجار قال : لم أفعل ، ولم تسوءني فقطع عليهما الحسن ، وقال لابي موسى : يا أبا موسى لم تثبط الناس عنا ، فو الله ما أردنا إلا الاصلاح ، وما مثل أمير المؤمنين يخاف على شئ ، قال أبو موسى : صدقت بأبى وامى ولكن المستشار مؤتمن ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول (ستكون فتنة (2) ...
) وذكر تمام الحديث .
فغضب عمار وساءه ذلك ، وقال : أيها الناس ، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك له خاصة ، وقام رجل من بنى تميم فقال لعمار أسكت أيها العبد أنت أمس مع الغوغاء ، وتسافه أميرنا اليوم وثار زيد بن صوحان وطبقته ، فانتصروا لعمار ، وجعل أبو موسى يكف الناس ويردعهم عن الفتنة .
ثم انطلق حتى صعد المنبر ، واقبل زيد بن صوحان ومعه كتاب من عائشة إليه خاصة ، وكتاب منها الى أهل الكوفة عامة ، تثبطهم عن نصرة
__________
(1) الطبري : (أغدوت فيمن غدا) .
(2) بقية الحديث : القاعد فيها خير من النائم ، والقائم خير من الماشي والماشي خير من الراكب) .
(*)(14/19)
على ، وتأمرهم بلزوم الارض ، وقال : أيها الناس ، أنظروا إلى هذه ، أمرت أن تقر في بيتها ، وأمرنا نحن أن نقاتل ، حتى لا تكون فتنة ، فأمرتنا بما أمرت به ، وركبت ما أمرنا به ، فقام إليه شبث بن ربعى .
فقال له : وما أنت وذاك أيها العماني الاحمق سرقت أمس بجلولاء فقطعك الله ، وتسب أم المؤمنين فقام زيد ، وشال يده المقطوعة وأوما بيده الى أبى موسى وهو على المنبر ، وقال له : يا عبد الله بن قيس ، أترد الفرات عن أمواجه دع عنك ما لست تدركه ، ثم قرأ (الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا ...
) (1) الايتين ، ثم نادى سيروا إلى أمير المؤمنين وصراط سيد المرسلين ، وانفروا إليه أجمعين وقام الحسن بن على عليه السلام ، فقال أيها الناس ، أجيبوا دعوة إمامكم ، وسيروا إلى إخوانكم ، فإنه سيوجد لهذا الامر من ينفر إليه ، والله لان يليه أولو النهى أمثل في العاجلة ، وخير في العاقبة ، فأجيبوا دعوتنا ، وأعينونا على أمرنا ، أصلحكم الله .
وقام عبد خير فقال يا أبا موسى ، أخبرني عن هذين الرجلين ، ألم يبايعا عليا قال : بلى قال : أفأحدث على حدثا يحل به نقض بيعته قال : لا أدرى ، قال : لا دريت ولا أتيت إذا كنت لا تدرى فنحن تاركوك حتى تدرى أخبرني هل تعلم أحدا خارجا عن هذه الفرق الاربع : على بظهر الكوفة ، وطلحة والزبير بالبصرة ، ومعاوية بالشام ، وفرقة رابعة بالحجاز قعود لا يجبى بهم فئ ، ولا يقاتل بهم عدو فقال أبو موسى أولئك خير الناس ، قال : عبد خير أسكت يا أبا موسى ، فقد غلب عليك غشك (2) .
قال أبو جعفر : وأتت الاخبار عليا عليه السلام باختلاف الناس بالكوفة ، فقال للاشتر أنت شفعت في أبى موسى أن أقره على الكوفة ، فاذهب فأصلح ما أفسدت ،
__________
(1) سورة العنكبوت 1 - 3 .
(2) تاريخ الطبري 1 : 3146 - 3142 مع تصرف واختصار .
(*)(14/20)
فقام الاشتر ، فشخص نحو الكوفة ، فاقبل حتى دخلها والناس في المسجد الاعظم ، فجعل لا يمر بقبيلة إلا دعاهم ، وقال : اتبعونى الى القصر ، حتى وصل القصر ، فاقتحمه وأبو موسى يومئذ يخطب الناس على المنبر ، ويثبطهم ، وعمار يخاطبه ، والحسن عليه السلام يقول اعتزل عملنا وتنح عن منبرنا ، لا أم لك .
قال أبو جعفر : فروى أبو مريم الثقفى ، قال : والله إنى لفى المسجد يومئذ إذ دخل علينا غلمان أبى موسى يشتدون ويبادرون (1) أبا موسى : أيها الامير ، هذا الاشتر قد جاء ، فدخل القصر ، فضربنا وأخرجنا .
فنزل أبو موسى من المنبر ، وجاء حتى دخل القصر ، فصاح به الاشتر ، اخرج من قصرنا لا أم لك ، أخرج الله نفسك فو الله إنك لمن المنافقين قديما .
قال : أجلني هذه العشية ، قال : قد أجلتك ، ولا تبيتن في القصر [ الليلة ] (2) .
ودخل الناس ينتهبون متاع أبى موسى ، فمنعهم الاشتر ، وقال : إنى قد أخرجته وعزلته عنكم فكف الناس حينئذ عنه (3) .
قال أبو جعفر : فروى الشعبى ، عن أبى الطفيل ، قال : قال على عليه السلام : يأتيكم من الكوفة اثنا عشر ألف رجل ورجل واحد ، فو الله لقعدت على نجفة (4) ذى قار ، فأحصيتهم واحدا واحدا ، فما زادوا رجلا ، ولا نقصوا رجلا (5) .
[ فصل في نسب عائشة وأخبارها ] وينبغى أن نذكر في هذا الموضع طرفا من نسب عائشة وأخبارها ، وما يقوله أصحابنا المتكلمون فيها ، جريا على عادتنا في ذكر مثل ذلك كلما مررنا بذكر أحد من الصحابة
__________
(1) الطبري : (ينادون) .
(2) من الطبري .
(3) تاريخ الطبري 1 : 3153 ، 3154 .
(4) في الاصول : (لجفة) ، والصواب ما اثبته من الطبري .
والنجفة : المكان المشرف على ما حوله من الارض .
(5) تاريخ الطبري 1 : 3173 ، 3174 .
(*)(14/21)
أما نسبها ، فانها ابنة أبى بكر ، وقد ذكرنا نسبه فيما تقدم ، وأمها أم رومان إبنة عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتاب بن أذينة بن سبيع بن دهمان بن الحارث بن تميم ابن مالك بن كنانة .
تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله بمكة قبل الهجرة بسنتين - وقيل بثلاث - وهى بنت ست سنين - وقيل بنت سبع سنين - وبنى عليها بالمدينة وهى بنت تسع ، لم يختلفوا في ذلك .
وكانت تذكر لجبير بن مطعم وتسمى له ، وورد في الاخبار الصحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وآله أرى عائشة في المنام في سرقة حرير ، متوفى خديجة رضى الله ، عنها فقال إن يكن هذا من عند الله يمضه ، فتزوجها بعد موت خديجة بثلاث سنين ، وتزوجها في شوال ، وأعرس بها بالمدينة في شوال ، على رأس ثمانية عشر شهرا من مهاجره إلى المدينة (1) .
وقال ابن عبد البر في كتاب " الاستيعاب " : كانت عائشة تحب أن تدخل النساء من أهلها وأحبتها في شوال على أزواجهن ، وتقول هل كان في نسائه أحظى عنده منى وقد نكحنى وبنى على في شوال (1) .
قلت قرئ هذا الكلام على بعض الناس ، فقال كيف رأت الحال بينها وبين أحمائها وأهل بيت زوجها .
وروى أبو عمر بن عبد البر ، في الكتاب المذكور : أن رسول الله صلى الله عليه وآله توفى عنها وهى بنت ثمان عشرة سنة ، فكان سنها معه تسع سنين ، ولم ينكح بكرا غيرها ، واستأذنت رسول الله صلى الله عليه وآله في الكنية ، فقال لها إكتنى بإبنك عبد الله بن الزبير - يعنى ابن أختها - فكانت كنيتها أم عبد الله ، وكانت فقيهة عالمة بالفرائض والشعر والطب (1) .
__________
(1) الاستيعاب 474 .
(*)(14/22)
وروى أن النبي صلى الله عليه وآله ، قال : (فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام) ، وأصحابنا يحملون لفظة النساء في هذا الخبر على زوجاته ، لان فاطمة عليه السلام عندهم أفضل منها ، لقوله صلى الله عليه وآله (إنها سيدة نساء العالمين) .
وقذفت بصفوان بن المعطل السلمى في سنة ست ، منصرف رسول الله صلى الله عليه وآله من غزاة بنى المصطلق - وكانت معه - فقال فيها أهل الافك ما قالوا ، ونزل القرآن ببراءتها .
وقوم من الشيعة زعموا أن الايات التى في سورة النور لم تنزل فيها ، وإنما انزلت في مارية القبطية ، وما قذفت به مع الاسود القبطى ، وجحدهم لانزال ذلك في عائشة جحد لما يعلم ضرورة من الاخبار المتواترة .
ثم كان من أمرها وأمر حفصة وما جرى لهما مع رسول الله صلى الله عليه وآله في الامر الذى أسره على إحداهما ما قد نطق الكتاب العزيز به .
واعتزل رسول الله صلى الله عليه وآله نساءه كلهن ، واعتزلهما معهن ثم صالحهن ، وطلق حفصة ثم راجعها ، وجرت بين عائشة وفاطمة إبلاغات ، وحديث يوغر الصدور ، فتولد بين عائشة وبين على عليه السلام نوع ضغينة ، وانضم الى ذلك إشارته على رسول الله صلى الله عليه وآله في قصة الافك بضرب الجارية وتقريرها وقوله (إن النساء كثير) .
ثم جرى حديث صلاة أبى بكر بالناس ، فتزعم الشيعة أن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يأمر بذلك ، وإنه إنما صلى بالناس عن أمر عائشة ابنته ، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله خرج متحاملا وهو مثقل ، فنحاه عن المحراب .
وزعم معظم المحدثين أن ذلك كان عن أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وقوله ، ثم اختلفوا ، فمنهم من قال : نحاه وصلى هو بالناس ، ومنهم من قال : بل ائتم بأبى بكر كسائر الناس ، ومنهم(14/23)
من قال : كان الناس يصلون بصلاة أبى بكر ، وأبو بكر يصلى بصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله .
ثم كان منها في امر عثمان ، وتضريب الناس عليه ، ما قد ذكرناه في مواضعه ، ثم تلا ذلك يوم الجمل .
واختلف المتكلمون في حالها وحال من حضر واقعة الجمل ، فقالت الامامية كفر اصحاب الجمل كلهم ، الرؤساء والاتباع .
وقال قوم من الحشوية والعامة : إجتهدوا فلا إثم عليهم ، ولا نحكم بخطئهم ولا خطأ على عليه السلام واصحابه .
وقال قوم من هؤلاء : بل نقول أصحاب الجمل أخطئوا ، ولكنه خطأ مغفور ، وكخطأ المجتهد في بعض مسائل الفروع عند من قال بالاشبه ، وإلى هذا القول يذهب أكثر الاشعرية .
وقال أصحابنا المعتزلة : كل أهل الجمل هالكون إلا من ثبتت توبته منهم ، قالوا وعائشة ممن ثبتت توبتها ، وكذلك طلحة والزبير ، أما عائشة فانها اعترفت لعلى عليه السلام يوم الجمل بالخطا ، وسالته العفو ، وقد تواترت الرواية عنها باظهار الندم ، وإنها كانت تقول ليته كان لى من رسول الله صلى الله عليه وآله بنون عشرة ، كلهم مثل عبد الرحمن بن الحارث بن هشام - وثكلتهم - ولم يكن يوم الجمل وإنها كانت تقول ليتنى مت قبل يوم الجمل ، وإنها كانت إذا ذكرت ذلك اليوم تبكى حتى تبل خمارها .
وأما الزبير فرجع عن الحرب معترفا بالخطا لما أذكره على عليه السلام ما أذكره .
وأما طلحة فانه مر به - وهو صريع - فارس فقال له قف ، فوقف ، قال : من أي الفريقين أنت قال : من أصحاب أمير المؤمنين ، قال : أقعدنى ، فأقعده ، فقال : امدد يدك أبايعك لامير المؤمنين ، فبايعه .(14/24)
وقال شيوخنا : ليس لقائل أن يقول ما يروى من أخبار الاحاد بتوبتهم لا يعارض ما علم قطعا من معصيتهم .
قالوا لان التوبة إنما يحكم بها للمكلف على غالب الظن في جميع المواضع ، لا على القطع ، أ لا ترى إنا نجوز أن يكون من أظهر التوبة منافقا وكاذبا ، فبان أن المرجع في قبولها في كل موضع إنما هو إلى الظن ، فجاز أن يعارض ما علم من معصيتهم بما يظن من توبتهم .(14/25)
(2) الاصل : ومن كتاب له عليه السلام إليهم بعد فتح البصرة : وجزاكم الله من اهل مصر عن أهل بيت نبيكم أحسن ما يجزى العاملين بطاعته ، والشاكرين لنعمته ، فقد سمعتم وأطعتم ، ودعيتم فاجبتم .
الشرح : موضع قوله (من أهل مصر) نصب على التمييز ، ويجوز أن يكون حالا .
فإن قلت كيف يكون تمييزا وتقديره : وجزاكم الله متمدنين أحسن ما يجزى المطيع ، والتمييز لا يكون إلا جامدا ، وهذا مشتق .
قلت إنهم اجازوا كون التمييز مشتقا في نحو قولهم : (ما أنت جاره) ، وقولهم : (يا سيدا ما أنت من سيد) .
وما يجوز أن تكون مصدرية ، أي أحسن جزاء العاملين ، ويجوز أن تكون بمعنى الذى ، ويكون قد حذف العائد إلى الموصول ، وتقديره أحسن الذى يجزى به العاملين .(14/26)
(3) الاصل : ومن كتاب له عليه السلام كتبه لشريح بن الحارث قاضيه روى أن شريح بن الحارث قاضى أمير المؤمنين عليه السلام إشترى على عهده دارا بثمانين دينارا ، فبلغه ذلك ، فاستدعى شريحا ، وقال له : بلغني إنك ابتعت دارا بثمانين دينارا ، وكتبت لها كتابا ، وأشهدت فيه شهودا .
فقال له شريح قد كان ذلك يا أمير المؤمنين ، قال : فنظر إليه نظر المغضب ، ثم قال له : يا شريح ، أما انه سيأتيك من لا ينظر في كتابك ، ولا يسألك عن بينتك ، حتى يخرجك منها شاخصا ، ويسلمك الى قبرك خالصا .
فانظر يا شريح لا تكون ابتعت هذه الدار من غير مالك ، أو نقدت الثمن من غير حلالك ، فإذا أنت قد خسرت دار الدنيا ودار الاخرة .
أما إنك لو كنت أتيتني عند شرائك ما اشتريت ، لكتبت لك كتابا على هذه النسخة ، فلم ترغب في شراء هذه الدار بالدرهم (1) فما فوق ، والنسخة هذه : (هذا ما اشترى عبد ذليل ، من ميت قد أزعج للرحيل .
اشترى منه دارا من دار الغرور ، من جانب الفانين ، وخطة الهالكين ، وتجمع هذه الدار حدود أربعة : الحد الاول ينتهى إلى دواعى الافات ، والحد الثاني ينتهى إلى دواعى المصيبات ، والحد الثالث ينتهى إلى الهوى المردى ، والحد الرابع ينتهى إلى الشيطان المغوى .
وفيه يشرع باب هذه الدار .
اشترى هذا المغتر بالامل ، من هذا
__________
(1) مخطوطة النهج : (بدرهم) .
(*)(14/27)
المزعج بالاجل هذه الدار بالخروج من عز القناعة ، والدخول في ذل الطلب والضراعة ، فما أدرك هذا المشترى فيما اشترى من درك .
فعلى مبلبل أجسام الملوك ، وسالب نفوس الجبابرة ، ومزيل ملك الفراعنة ، مثل كسرى وقيصر ، وتبع وحمير ، ومن جمع المال على المال فأكثر ، ومن بنى وشيد ، وزخرف ونجد ، وادخر واعتقد ، ونظر بزعمه للولد - إشخاصهم جميعا إلى موقف العرض والحساب ، وموضع الثواب والعقاب ، إذا وقع الامر بفصل القضاء ، (وخسر هنالك المبطلون) .
شهد على ذلك العقل إذا خرج من أسر الهوى ، وسلم من علائق الدنيا) .
الشرح : نسب شريح وذكر بعض أخباره هو شريح بن الحارث بن المنتجع بن معاوية بن جهم بن ثور بن عفير (1) بن عدى ابن الحارث بن مرة بن أدد الكندى ، وقيل إنه حليف لكندة من بنى الرائش .
وقال ابن الكلبى ليس أسم أبيه الحارث ، وإنما هو شريح بن معاوية ابن ثور .
وقال قوم هو شريح بن هانئ .
وقال قوم هو شريح بن شراحيل ، والصحيح انه شريح بن الحارث ، ويكنى أبا أمية .
استعمله عمر بن الخطاب على القضاء بالكوفة ، فلم يزل قاضيا ستين سنة ، لم يتعطل فيها إلا ثلاث سنين في فتنة ابن الزبير ، امتنع فيها من القضاء ، ثم استعفى الحجاج من
__________
(1) ب : (عقر) ، والصواب ما أثيته من الاستيعاب .
(*)(14/28)
العمل فاعفاه ، فلزم منزله إلى أن مات ، وعمر عمرا طويلا ، قيل إنه عاش مائة سنة وثمانيا وستين ، وقيل مائة سنة ، وتوفى سنة سبع وثمانين .
وكان خفيف الروح ، مزاحا ، فقدم إليه رجلان ، فأقر أحدهما بما ادعى به خصمه ، وهو لا يعلم فقضى عليه ، فقال لشريح : من شهد عندك بهذا قال : إبن اخت خالك وقيل إنه جاءته امرأته تبكى وتتظلم على خصمها ، فما رق لها حتى قال له إنسان كان بحضرته : ألا تنظر أيها القاضى إلى بكائها فقال إن اخوة يوسف جاءوا أباهم عشاء يبكون .
وأقر على عليه السلام شريحا على القضاء مع مخالفته له في مسائل كثيرة من الفقه مذكورة في كتب الفقهاء .
واستاذنه شريح وغيره من قضاة عثمان في القضاء أول ما وقعت الفرقة ، فقال اقضوا كما كنتم تقضون حتى تكون للناس جماعة ، أو أموت كما مات أصحابي .
وسخط على عليه السلام مرة عليه فطرده عن الكوفة ولم يعزله عن القضاء ، وأمره بالمقام ببانقيا - وكانت قرية قريبة من الكوفة أكثر ساكنها اليهود - فاقام بها مدة ، حتى رضى عنه وأعاده الى إلكوفة .
وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب أدرك شريح الجاهلية ، ولا يعد من الصحابة ، بل من التابعين ، وكان شاعرا محسنا ، وكان سناطا لا شعر في وجهه (1) .
قوله عليه السلام (وخطة الهالكين) بكسر الخاء ، وهى الارض التى يختطها الانسان ،
__________
(1) الاستيعاب 590 ، وذكر إنه توفي سنة سبع وثمانين وهو ابن مائة سنة ، وولي القضاء ستين سنة من زمن عمر إلى زمن عبد الملك بن مروان .
(*)(14/29)
أي يعلم عليها علامة بالخط ليعمرها ، ومنه خطط الكوفة والبصرة .
وزخرف البناء ، أي ذهب جدرانه بالزخرف ، وهو الذهب .
ونجد فرش المنزل بالوسائد ، والنجاد الذي يعالج الفرش والوسائد ويخيطهما ، والتنجيد التزيين بذلك ، ويجوز أن يريد بقوله (نجد) رفع وعلا ، من النجد ، وهو المرتفع من الارض .
واعتقد جعل لنفسه عقدة كالضيعة أو الذخيرة من المال الصامت .
(وأشخاصهم) مرفوع بالابتداء وخبره الجار المجرور المقدم ، وهو قوله (فعلى مبلبل أجسام الملوك) .
وموضع الاستحسان من هذا الفصل - وإن كان كله حسنا - أمران : أحدهما انه عليه السلام نظر إليه نظر مغضب ، إنكارا لابتياعه دارا بثمانين دينارا ، وهذا يدل على زهد شديد في الدنيا واستكثار للقليل منها ، ونسبه هذا المشترى إلى الاسراف ، وخوف من أن يكون ابتاعها بمال حرام .
الثاني إنه أملى عليه كتابا زهديا وعظيا ، مماثلا لكتب الشروط التى تكتب في ابتياع الاملاك ، فإنهم يكتبون (هذا ما اشترى فلان من فلان ، اشترى منه دارا من شارع كذا وخطه كذا ، ويجمع هذه الدار حدود أربعة ، فحد منها ينتهى إلى دار فلان ، وحد آخر ينتهى إلى ملك فلان ، وحد آخر ينتهى إلى ما كان يعرف بفلان ، وهو الان معروف بفلان ، وحد آخر ينتهى الى كذا .
ومنه شروع باب هذه الدار ، وطريقها : (اشترى هذا المشترى المذكور من البائع المذكور جميع الدار المذكورة بثمن مبلغه كذا وكذا دينارا ، أو درهما ، فما أدرك المشترى المذكور من درك فمرجوع به على من يوجب الشرع الرجوع به عليه) .
ثم تكتب الشهود في آخر الكتاب .
شهد فلان ابن فلان بذلك ، وشهد فلان ابن فلان به ايضا ، وهذا يدل على أن الشروط المكتوبة الان قد كانت(14/30)
في زمن الصحابة تكتب مثلها أو نحوها ، إلا انا ما سمعنا عن أحد منهم نقل صيغة الشرط الفقهى إلى معنى آخر كما قد نظمه هو عليه السلام ولا غرو فما زال سباقا إلى العجائب والغرائب .
فإن قلت لم جعل الشيطان المغوى في الحد الرابع قلت ليقول وفيه يشرع باب هذه الدار ، لانه إذا كان الحد إليه ينتهى كان أسهل لدخوله إليها ودخوله أتباعه وأوليائه من أهل الشيطنة والضلال .(14/31)
االاصل : ومن كتاب له كتبه عليه السلام الى بعض أمراء جيشه : فإن عادوا إلى ظل الطاعة ، فذاك الذى نحب ، وإن توافت الامور بالقوم إلى الشقاق والعصيان فانهد بمن أطاعك إلى من عصاك ، واستغن بمن انقاد معك ، عمن تقاعس عنك ، فإن المتكاره مغيبه خير من مشهده ، وقعوده اغنى من نهوضه .
الشرح : انهد أي انهض وتقاعس ، أي أبطأ وتاخر .
والمتكاره الذى يخرج إلى الجهاد من غير نية وبصيرة ، وإنما يخرج كارها مرتابا ، ومثل قوله عليه السلام : (فإن المتكاره مغيبه خير من مشهده ، وقعوده أغنى من نهوضه) قوله تعالى : (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا) (1)
__________
(1) سورة التوبة 47 .
(*)(14/32)
(5) الاصل : ومن كتاب له عليه السلام إلى الاشعث بن قيس ، وهو عامل اذربيجان : وإن عملك ليس لك بطعمة ، ولكنه في عنقك امانة ، وأنت مسترعى لمن فوقك ، ليس لك أن تفتات في رعية ، ولا تخاطر إلا بوثيقة ، وفي يديك مال من مال الله تعالى ، وانت من خزانة حتى تسلمه إلى ، ولعلى ألا اكون شر ولاتك لك .
والسلام .
الشرح : قد ذكرنا نسب أشعث بن قيس فيما تقدم .
وأذربيجان اسم اعجمي غير مصروف ، الألف مقصورة ، والذال ساكنة قال حبيب : وأذربيجان احتيال بعد ما كانت معرس عبرة ونكال (1) .
وقال الشماخ : تذكرتها وهنا وقد حال دونها قرى أذربيجان المسالح والجال (2) .
والنسبة إليه أذرى بسكون الذال ، هكذا القياس ، ولكن المروى عن أبى بكر في الكلام الذى قاله عند موته : (ولتألمن النوم على الصوف الاذرى) بفتح الذال .
والطعمة بضم الطاء المهملة المأكلة ، ويقال فلان خبيث الطعمة ، أي ردئ الكسب .
والطعمة بالكسر لهيئة التطعم ، يقول إن عملك لم يسوغه الشرع والوالى من قبلى أياه ،
__________
(1) ديوانه 3 : 132 .
(2) معجم البلدان 1 : 159 ، ولم أجده في ديوانه .
(*)(14/33)
ولا جعله لك أكلا ، ولكنه أمانة في يدك وعنقك للمسلمين ، وفوقك سلطان أنت له رعية فليس لك أن تفتات في الرعية الذين تحت يدك ، يقال أفتات فلان على فلان ، إذا فعل بغير إذنه ما سبيله أن يستأذنه فيه ، وأصله من الفوت وهو السبق ، كأنه سبقه إلى ذلك الامر .
وقوله (ولا تخاطر إلا بوثيقة) ، أي لا تقدم على امر مخوف فيما يتعلق بالمال الذى تتولاه إلا بعد أن تتوثق لنفسك ، يقال أخذ فلان بالوثيقة في أمره ، أي احتاط .
ثم قال له : (ولعلى لا أكون شر ولاتك) ، وهو كلام يطيب به نفسه ويسكن به جأشه ، لان في اول الكلام أيحاشا له ، إذ كانت ألفاظه تدل على أنه لم يره أمينا على المال ، فاستدرك ذلك بالكلمة الاخيرة ، أي ربما تحمد خلافتي وولايتي عليك ، وتصادف منى إحسانا اليك ، أي عسى ألا يكون شكرك لعثمان ومن قبله أكثر من شكرك لى ، وهذا من باب وعدك الخفى ، وتسمية العرب الملث .
وأول هذا الكتاب : (من عبد الله على أمير المؤمنين إلى الاشعث بن قيس .
أما بعد ، فلو لا هنات وهنات كانت منك ، كنت المقدم في هذا الامر قبل الناس ، ولعل أمرا كان يحمل بعضه بعضا إن اتقيت الله عز وجل ، وقد كان من بيعة الناس إياى ما قد علمت ، وكان من أمر طلحة والزبير ما قد بلغك ، فخرجت إليهما ، فابلغت في الدعاء ، وأحسنت في البقية ، وإن عملك ليس لك بطعمة ....) ، إلى آخر الكلام ، وهذا الكتاب كتبه إلى الاشعث ابن قيس بعد انقضاء الجمل .(14/34)
(6) الاصل : ومن كتاب له عليه السلام الى معاوية : إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ، ولا للغائب أن يرد ، وإنما الشورى للمهاجرين والانصار ، فان اجتمعوا على رجل وسموه اماما كان ذلك لله رضا ، فان خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه ، فان أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين ، وولاه الله ما تولى .
ولعمري يا معاوية ، لئن نظرت بعقلك دون هواك ، لتجدني أبرأ الناس من دم عثمان ، ولتعلمن أنى كنت في عزله عنه ، إلا أن تتجنى ، فتجن ما بدا لك ! والسلام .
الشرح : قد تقدم ذكر هذا الكلام في اثناء اقتصاص مراسلة أمير المؤمنين عليه السلام معاوية بجرير بن عبد الله البجلى ، وقد ذكره ارباب السيرة ، كلهم وأورده شيوخنا المتكلمون في كتبهم احتجاجا على صحة الاختيار ، وكونه طريقا إلى الامامة ، وأول الكتاب : (أما بعد فإن بيعتى بالمدينة لزمتك وأنت بالشام ، لانه بايعني القوم الذين بايعوا ..) إلى آخر الفصل .(14/35)
و المشهور المروى : (فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو رغبة) ، أي رغبة عن ذلك الامام الذى وقع الاختيار له .
والمروى بعد قوله (ولاه الله بعد ما تولى) ، (وأصلاه جهنم وساءت مصيرا) ، وإن طلحة والزبير بايعانى ثم نقضا بيعتى ، فكان نقضهما كردتهما ، فجاهدتهما على ذلك حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون .
فادخل فيما دخل فيه المسلمون ، فان أحب الامور إلى فيك العافية ، إلا أن تتعرض للبلاء ، فان تعرضت له قاتلتك ، واستعنت بالله عليك ، وقد أكثرت في قتلة عثمان ، فادخل فيما دخل الناس فيه ، ثم حاكم القوم إلى أحملك وإياهم على كتاب الله ، فاما تلك التى تريدها فخدعة الصبى عن اللبن ، ولعمري يا معاوية إن نظرت بعقلك ..) إلى آخر الكلام .
وبعده (واعلم أنك من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة ، ولا تعترض بهم الشورى ، وقد أرسلت اليك جرير بن عبد الله البجلى ، وهو من أهل الايمان والهجرة ، فبايع ولا قوة الا بالله) .
واعلم إن هذا الفصل دال بصريحه على كون الاختيار طريقا إلى الامامة كما يذكره أصحابنا المتكلمون ، لانه احتج على معاوية ببيعة اهل الحل والعقد له ، ولم يراع في ذلك إجماع المسلمين كلهم ، وقياسه على بيعة اهل الحل والعقد لابي بكر ، فانه ما روعى فيها إجماع المسلمين ، لان سعد بن عبادة لم يبايع ، ولا احد من أهل بيته وولده ، ولان عليا وبنى هاشم ومن انضوى إليهم لم يبايعوا في مبدا الامر ، وامتنعوا ، ولم يتوقف المسلمون في تصحيح إمامة أبى بكر وتنفيذ أحكامه على بيعتهم ، وهذا دليل على صحة الاختيار وكونه طريقا الى الامامة ، وإنه لا يقدح في إمامته عليه السلام إمتناع معاوية من البيعة وأهل الشام ، فأما الامامية فتحمل هذا الكتاب منه عليه السلام على التقية ، وتقول : إنه ما كان يمكنه(14/36)
أن يصرح لمعاوية في مكتوبه بباطن الحال ، ويقول له : أنا منصوص على من رسول الله صلى الله عليه وآله ، ومعهود إلى المسلمين أن أكون خليفة فيهم بلا فصل ، فيكون في ذلك طعن على الائمة المتقدمين ، وتفسد حاله مع الذين بايعوه من أهل المدينة ، وهذا القول من الامامية دعوى لو عضدها دليل لوجب أن يقال بها ، ويصار إليها ، ولكن لادليل لهم على ما يذهبون إليه من الاصول التى تسوقهم الى حمل هذا الكلام على التقية .
فأما قوله عليه السلام (وقد أكثرت في قتلة عثمان ، فادخل فيما دخل فيه المسلمون ، ثم حاكم القوم إلى أحملك وإياهم على كتاب الله) ، فيجب أن يذكر في شرحه ما يقول المتكلمون في هذه الواقعة .
قال أصحابنا المعتزلة رحمهم الله : هذا الكلام حق وصواب ، لان اولياء الدم يجب أن يبايعوا الامام ويدخلوا تحت طاعته ، ثم يرفعوا خصومهم إليه ، فان حكم بالحق استديمت إمامته ، وإن حاد عن الحق انقضت خلافته ، وأولياء عثمان الذين هم بنوه لم يبايعوا عليا عليه السلام ، ولا دخلوا تحت طاعته ثم ، وكذلك معاوية ابن عم عثمان لم يبايع ولا أطاع ، فمطالبتهم له بأن يقتص لهم من قاتلي عثمان قبل بيعتهم إياه وطاعتهم له ظلم منهم وعدوان .
فان قلت : هب أن القصاص من قتلة عثمان موقوف على ما ذكره عليه السلام ، اما كان يجب عليه لا من طريق القصاص أن ينهى عن المنكر وأنتم تذهبون الى أن النهى عن المنكر واجب على من هو سوقة ، فكيف على الامام الاعظم .
قلت هذا غير وارد هاهنا ، لان النهى عن المنكر إنما يجب قبل وقوع المنكر ، لكيلا يقع ، فإذا وقع المنكر ، فأى نهى يكون عنه وقد نهى على عليه السلام أهل مصر وغيرهم عن قتل عثمان قبل قتله مرارا ، ونابذهم بيده ولسانه وبأولاده فلم يغن(14/37)
شيئا وتفاقم الامر حتى قتل ، ولا يجب بعد القتل إلا القصاص ، فإذا امتنع أولياء الدم من طاعة الامام لم يجب عليه أن يقص من القاتلين ، لان القصاص حقهم ، وقد سقط ببغيهم على الامام وخروجهم عن طاعته ، وقد قلنا نحن فيما تقدم : إن القصاص إنما يجب على من باشر القتل ، والذين باشروا قتل عثمان قتلوا يوم قتل عثمان في دار عثمان ، والذين كان معاوية يطالبهم بدم عثمان لم يباشروا القتل ، وإنما كثروا السواد وحصروه عثمان في الدار ، وأجلبوا عليه وشتموه وتوعدوه ، ومنهم من تسور عليه داره ولم ينزل إليه ، ومنهم من نزل فحضر محضر قتله ولم يشرك فيه ، وكل هؤلاء لا يجب عليهم القصاص في الشرع .
[ جرير بن عبد الله البجلى عند معاوية ] وقد ذكرنا فيما تقدم شرح حال جرير بن عبد الله البجلى في إرسال على عليه السلام إياه إلى معاوية مستقصى .
وذكر الزبير بن بكار في الموفقيات أن عليا عليه السلام لما بعث جريرا إلى معاوية ، خرج وهو لا يرى أحدا قد سبقه إليه ، قال : فقدمت على معاوية فوجدته يخطب الناس وهم حوله يبكون حول قميص عثمان وهو معلق على رمح مخضوب بالدم ، وعليه أصابع زوجته نائلة بنت الفرافصة مقطوعة ، فدفعت إليه كتاب على عليه السلام ، وكان معى في الطريق رجل يسير بسيرى ، ويقيم بمقامي ، فمثل بين يديه في تلك الحال وأنشده إن بنى عمك عبد المطلب هم قتلوا شيخكم غير كذب * وأنت أولى الناس بالوثب فثب * .
وقد ذكرنا تمام هذه الابيات فيما تقدم .(14/38)
قال : ثم دفع إليه كتابا من الوليد بن عقبة بن أبى معيط ، وهو أخو عثمان لامه ، كتبه مع هذا الرجل من الكوفة سرا أوله : * معاوى أن الملك قد جب غاربه * .
الابيات التى ذكرنا فيما تقدم .
قال فقال لى معاوية : أقم فان الناس قد نفروا عند قتل عثمان حتى يسكنوا .
فاقمت أربعة أشهر ، ثم جاءه كتاب آخر من الوليد بن عقبه ، أوله : ألا أبلغ معاوية بن حرب فانك من أخى ثقة مليم (1) قطعت الدهر كالسدم المعنى تهدر في دمشق ولا تريم (2) وإنك والكتاب الى على كدابغة وقد حلم الاديم (3) فلو كنت القتيل وكان حيا لشمر لا ألف ولا سئوم (4) .
قال : فلما جاءه هذا الكتاب وصل بين طومارين (5) ابيضين ، ثم طواهما وكتب عنوانهما
__________
(1) المليم : من وقع منه ما يلام عليه .
(2) السدم في الاصل : الذي يرغب عن فحلته ، فيحال بينه وبين الافة ، والبيت في اللسان 15 : 176 .
(3) يقول : أنت تسعى في إصلاح امر قد تم فساده كالمرأة التي تدبغ الاديم الحلم الذي وقعت فيه الحلمة (وهي دودة) فنقبته وأفسدته فلا ينتفع به .
وقد وردت الاربعة في اللسان (حلم) ، وذكر بعدها : لك الويلات اقحمها عليهم فخير الطالبي الترة الغشوم فقومك بالمدينة قد تردوا فهم صرعى كأنهم الهشيم (4) رواية هذا البيت في اللسان : فلو كنت المصاب وكان حيا تجرد ، لا ألف ولا سئوم (5) الطومار : الصحيفة .
(*)(14/39)
(من معاوية بن أبى سفيان الى على بن أبى طالب) .
ودفعهما إلى لا اعلم ما فيهما ، ولا اظنهما إلا جوابا ، وبعث معى رجلا من بنى عبس لا أدرى ما معه ، فخرجنا حتى قدمنا الى الكوفة ، وأجتمع الناس في المسجد ، لا يشكون انها بيعة أهل الشام ، فلما فتح على عليه السلام الكتاب لم يجد شيئا ، وقام العبسى ، فقال : من هاهنا من أحياء قيس ، وأخص من قيس غطفان ، وأخص من غطفان عبسا إنى أحلف بالله لقد تركت تحت قميص عثمان أكثر من خمسين ألف شيخ خاضبى لحاهم بدموع أعينهم ، متعاقدين متحالفين ، ليقتلن قتلته في البر والبحر ، وإنى احلف بالله ليقتحمنها عليكم ابن أبى سفيان باكثر من أربعين الفا من خصيان الخيل ، فما ظنكم بعد بما فيها من الفحول .
ثم دفع إلى على عليه السلام كتابا من معاوية ففتحه فوجد فيه : أتانى أمر فيه للنفس غمه وفيه اجتداع للانوف اصيل مصاب أمير المؤمنين وهدة تكاد لها صم الجبال تزول .
وقد ذكرنا هذا الشعر فيما تقدم .(14/40)
(7) الاصل : ومن كتاب منه عليه السلام إليه أيضا : أما بعد فقد اتتنى منك موعظة موصلة ، ورسالة محبرة ، نمقتها بضلالك ، وأمضيتها بسوء رأيك .
وكتاب امرئ ليس له بصر يهديه ، ولا قائد يرشده ، قد دعاه الهوى فأجابه ، وقادة الضلال فاتبعه ، فهجر لاغطا ، وضل خابطا .
الشرح : موعظة موصلة ، أي مجموعة الالفاظ من هاهنا وهاهنا ، وذلك عيب في الكتابة والخطابة ، وإنما الكاتب من يرتجل فيقول قولا فصلا ، أو يروى فيأتي بالبديع المستحسن ، وهو في الحالين كليهما ينفق من كيسه ، ولا يستعير كلام غيره .
والرسالة المحبرة المزينة الالفاظ ، كأنه عليه السلام يشير إلى إنه قد كان يظهر عليها أثر التكلف والتصنع .
والتنميق التزيين أيضا .
وهجر الرجل ، أي هذى ، ومنه قوله تعالى في أحد التفسيرين (إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) (1) .
واللاغط ذو اللغط ، وهو الصوت والجلبة .
__________
(1) سورة الفرقان 30 .
(*)(14/41)
وخبط البعير فهو خابط ، إذا مشى ضالا فخبط بيديه كل ما يلقاه ، ولا يتوقى شيئا .
وهذا الكتاب كتبه على عليه السلام جوابا عن كتاب كتبه معاوية إليه في أثناء حرب صفين بل في أواخرها ، وكان كتاب معاوية : (من عبد الله معاوية بن أبى سفيان الى على بن أبى طالب ، أما بعد ، فان الله تعالى يقول في محكم كتابه : (ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) (1) ، وإنى أحذرك الله أن تحبط عملك وسابقتك بشق عصا هذه الامة وتفريق جماعتها ، فاتق الله واذكر موقف القيامة ، وأقلع عما أسرفت فيه من الخوض في دماء المسلمين ، وإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : (لو تمالا أهل صنعاء وعدن على قتل رجل واحد من المسلمين لاكبهم الله على مناخرهم في النار) ، فكيف يكون حال من قتل أعلام المسلمين وسادات المهاجرين ، بله ما طحنت رحا حربه من أهل القرآن ، وذى العبادة والايمان ، من شيخ كبير ، وشاب غرير ، كلهم بالله تعالى مؤمن ، وله مخلص ، وبرسوله مقر عارف ! فان كنت أبا حسن انما تحارب على الامرة والخلافة ، فلعمري لو صحت خلافتك لكنت قريبا من أن تعذر في حرب المسلمين ، ولكنها ما صحت لك ، إنى بصحتها وأهل الشام لم يدخلوا فيها ، ولم يرتضوا بها وخف الله وسطواته ، وأتق باسه ، ونكاله ، وأغمد سيفك عن الناس ، فقد والله أكلتهم الحرب ، فلم يبق منهم إلا كالثمد في قرارة الغدير .
والله المستعان) .
فكتب على عليه السلام إليه جوابا عن كتابه .
__________
(1) سورة الزمر : 65 .
(*)(14/42)
من عبد الله على أمير المؤمنين إلى معاوية بن ابى سفيان : (أما بعد فقد اتتنى منك موعظة موصلة ، ورسالة محبرة ، نمقتها بضلالك ، وأمضيتها بسوء رأيك ، وكتاب امرئ ليس له بصر يهديه ، ولا قائد يرشده ، دعاه الهوى فاجابه ، وقاده الضلال فاتبعه ، فهجر لاغطا ، وضل خابطا ، فاما أمرك لى بالتقوى فأرجو أن أكون من أهلها ، وأستعيذ بالله من أن أكون من الذين إذا أمروا بها اخذتهم العزة بالاثم ، وأما تحذيرك إياى أن يحبط عملي وسابقتي في الاسلام ، فلعمري لو كنت الباغى عليك ، لكان لك أن تحذرني ذلك ، ولكني وجدت الله تعالى يقول : (فقاتلوا التى تبغى حتى تفئ إلى أمر الله) (1) فنظرنا إلى الفئتين ، أما الفئة الباغية فوجدناها الفئة التى أنت فيها ، لان بيعتى بالمدينة لزمتك وأنت بالشام ، كما لزمتك بيعة عثمان بالمدينة وأنت أمير لعمر على الشام ، وكما لزمت يزيد أخاك بيعة عمر وهو أمير لابي بكر على الشام .
وأما شق عصا هذه الامة فانا أحق أن أنهاك عنه .
فاما تخويفك لى من قتل أهل البغى ، فان رسول الله صلى الله عليه وآله امرني بقتالهم وقتلهم ، وقال لاصحابه : (إن فيكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله) ، وأشار إلى وأنا أولى من أتبع امره .
وأما قولك أن بيعتى لم تصح لان أهل الشام لم يدخلوا فيها كيف وإنما هي بيعة واحدة ، تلزم الحاضر والغائب ، لا يثنى فيها النظر ، ولا يستانف فيها الخيار ، الخارج منها طاعن ، والمروى فيها مداهن .
فاربع على ظلعك ، وانزع سربال غيك ، واترك ما لا جدوى له عليك ، فليس لك عندي إلا السيف ، حتى تفئ إلى أمر الله صاغرا ، وتدخل في البيعة راغما .
والسلام) .
__________
(1) سورة الحجرات 9 .
(*)(14/43)
الاصل : ومن هذا الكتاب لانها بيعة واحدة لا يثنى فيها النظر ، ولا يستانف فيها الخيار ، الخارج منها طاعن ، والمروى فيها مداهن .
الشرح : لا يثنى فيها النظر ، أي لا يعاود ولا يراجع ثانية .
ولا يستانف فيها الخيار ليس بعد عقدها خيار لمن عقدها ولا لغيرهم ، لانها تلزم غير العاقدين كما تلزم العاقدين ، فيسقط الخيار فيها ، الخارج منها طاعن على الامة ، لانهم أجمعوا على أن الاختيار طريق الامامة .
والمروى فيها مداهن ، أي الذي يرتئى ويبطئ عن الطاعة ويفكر ، وأصله من الروية والمداهن المنافق .(14/44)
(8) الاصل : ومن كتاب له عليه السلام إلى جرير بن عبد الله البجلى لما أرسله إلى معاوية : أما بعد ، فإذا أتاك كتابي فاحمل معاوية على الفصل ، وخذه بالامر الجزم ، ثم خيره بين حرب مجلية ، أو سلم مخزية ، فإن اختار الحرب فانبذ إليه ، وإن اختار السلم فخذ بيعته .
والسلام .
الشرح : قد تقدم ذكر نسب جرير بن عبد الله البجلى .
وقوله عليه السلام : (فاحمل معاوية على الفصل) ، أي لا تتركه متلكئا مترددا ، يطمعك تارة ويؤيسك أخرى ، بل احمله على أمر فيصل ، إما البيعة ، أو أن ياذن بالحرب .
وكذلك قوله : (وخذه بالامر الجزم) ، أي الامر المقطوع به ، لا تكن ممن يقدم رجلا ويؤخر أخرى ، وأصل الجزم القطع .
وحرب مجلية تجلى المقهورين فيها عن ديارهم ، أي تخرجهم .
وسلم مخزية ، أي فاضحة ، وإنما جعلها مخزية لان معاوية أمتنع أولا من البيعة ، فإذا دخل في السلم فإنما يدخل فيها بالبيعة ، وإذا بايع بعد الامتناع ، فقد دخل تحت الهضم ورضى بالضيم ، وذلك هو الخزى .(14/45)
قوله (فانبذ إليه) من قوله تعالى : (فانبذ إليهم على سواء) (1) وأصله العهد والهدنة وعقد الحلف يكون بين الرجلين أو بين القبيلتين ، ثم يبدو لهما في ذلك فينتقلان إلى الحرب فينبذ احدهما إلى الاخر عهده ، كأنه كتاب مكتوب بينهما قد نبذه أحدهما يوم الحرب وأبطله ، فاستعير ذلك للمجاهرة بالعداوة والمكاشفة ، ونسخ شريعة السلام السابقة بالحرب المعاقبة لها .
__________
(1) سورة الانفال 58 .
(*)(14/46)
(9) الاصل : ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية : فأراد قومنا قتل نبينا ، واجتياح أصلنا ، وهموا بنا الهموم ، وفعلوا بنا الافاعيل ، ومنعونا العذب ، واحلسونا الخوف ، واضطرونا إلى جبل وعر ، وأوقدوا لنا نار الحرب .
فعزم الله لنا على الذب عن حوزته ، والرمى من وراء حومته ، مؤمننا يبغى بذلك الاجر ، وكافرنا يحامى عن الاصل ، ومن أسلم من قريش خلو مما نحن فيه بحلف يمنعه ، أو عشيرة تقوم دونه ، فهو من القتل بمكان أمن .
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا احمر الباس ، وأحجم الناس ، قدم أهل بيته فوقى بهم أصحابه حر السيوف والاسنة ، فقتل عبيدة بن الحارث يوم بدر ، وقتل حمزة يوم احد ، وقتل جعفر يوم مؤتة ، وأراد من لو شئت ذكرت اسمه مثل الذى أرادوا من الشهادة ، ولكن آجالهم عجلت ، ومنيته أخرت .
فيا عجبا للدهر إذ صرت يقرن بى من لم يسع بقدمى ، ولم تكن له كسابقتي التى لا يدلى احد بمثلها ، إلا أن يدعى مدع ما لا أعرفه ، ولا أظن الله يعرفه .
والحمد لله على كل حال .
وأما ما سألت من دفع قتلة عثمان ، إليك فإنى نظرت في هذا الامر ، فلم أره يسعنى دفعهم إليك ولا إلى غيرك ، ولعمري لم تنزع من غيك وشقاقك ، لتعرفنهم عن قليل يطلبونك ، لا يكلفونك طلبهم في بر ولا بحر ، ولا جبل(14/47)
ولا سهل ، إلا إنه طلب يسوءك وجدانه ، وزور لا يسرك لقيانه .
والسلام لاهله .
الشرح : قوله عليه السلام : (فأراد قومنا) ، يعنى قريشا .
والاجتياح الاستئصال ، ومنه الجائحة وهى السنة ، أو الفتنة التى تجتاح المال أو الانفس .
قوله (ومنعونا العذب) ، أي العيش العذب لا إنهم منعوهم الماء العذب ، على إنه قد نقل أنهم منعوا أيام الحصار في شعب بنى هاشم من الماء العذب وسنذكر ذلك .
قوله (وأحلسونا الخوف) ، أي ألزموناه والحلس كساء رقيق يكون تحت برذعة البعير وأحلاس البيوت ما يبسط تحت حر الثياب ، وفي الحديث (كن حلس بيتك) ، أي لا تخالط الناس واعتزل عنهم ، فلما كان الحلس ملازما ظهر البعير ، وأحلاس البيوت ملازمة لها ، قال : (وأحلسونا الخوف) ، أي جعلوه لنا كالحلس الملازم .
قوله (واضطرونا إلى جبل وعر) ، مثل ضربه عليه السلام لخشونه مقامهم وشظف منزلهم ، أي كانت حالنا فيه كحال من اضطر إلى ركوب جبل وعر ، ويجوز أن يكون حقيقة لا مثلا ، لان الشعب الذي حصروهم فيه مضيق بين جبلين .
قوله (فعزم الله لنا) ، أي قضى الله لنا ، ووفقنا لذلك ، وجعلنا عازمين عليه .
والحوزة الناحية ، وحوزة الملك : بيضته .(14/48)
وحومة الماء والرمل معظمه .
والرمى عنها المناضلة والمحاماة ، ويروى (والرمى من وراء حرمته) ، والضمير في (حوزته) و (حومته) راجع الى النبي صلى الله عليه وآله ، وقد سبق ذكره وهو قوله (نبينا) ويروى (والرميا) .
وقال الراوندي (وهموا بنا الهموم) ، أي هموا نزول الهم بنا ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه .
وليس ما قاله بجيد بل (الهموم) منصوب هاهنا على المصدر ، أي هموا بنا هموما كثيرة ، وهموا بنا أي أرادوا نهبنا ، كقوله تعالى (وهم بها) (1) ، على تفسير اصحابنا ، وإنما ادخل لام التعريف في الهموم ، أي هموا بنا تلك الهموم التى تعرفونها ، فاتى باللام ليكون أعظم وأكبر في الصدور من تنكيرها ، أي تلك الهموم معروفة مشهورة بين الناس لتكرر عزم المشركين في أوقات كثيرة مختلفة على الايقاع .
وقوله (وفعلوا بنا الافاعيل) ، يقال لمن أثروا آثار منكره فعلوا بنا الافاعيل ، وقل أن يقال ذلك في غير الضرر والاذى ، ومنه قول أمية بن خلف لعبد الرحمن بن عوف وهو يذكر حمزة بن عبد المطلب يوم بدر (ذاك الذى فعل بنا الافاعيل) .
قوله (يحامى عن الاصل) ، أي يدافع عن محمد ويذب عنه حمية ومحافظة على النسب .
قوله (خلو مما نحن فيه) ، أي خال .
والحلف العهد .
واحمر البأس ، كلمة مستعارة ، أي اشتدت الحرب حتى احمرت الارض من الدم ، فجعل البأس هو الاحمر مجازا ، كقولهم الموت الاحمر .
__________
(1) سورة يوسف 24 .
(*)(14/49)
قوله (وأحجم الناس) ، أي كفوا عن الحرب وجبنوا عن الاقدام ، يقال حجمت فلانا عن كذا احجمه بالضم ، فاحجم هو ، وهذه اللفظة من النوادر ، كقولهم (كببته فاكب) .
ويوم مؤتة بالهمز ، ومؤتة أرض معروفة .
وقوله (وأراد من لو شئت لذكرت اسمه) ، يعنى به نفسه .
قوله (إذ صرت يقرن بى من لم يسع بقدمى) إشارة إلى معاوية في الظاهر ، وإلى من تقدم عليه من الخلفاء في الباطن ، والدليل عليه قوله (التى لا يدلى احد بمثلها) ، فاطلق القول اطلاقا عاما مستغرقا لكل الناس اجمعين .
ثم قال : (إلا أن يدعى مدع ما لا أعرفه ، ولا أظن الله يعرفه) ، أي كل من أدعى خلاف ما ذكرته فهو كاذب ، لانه لو كان صادقا لكان على عليه السلام يعرفه لا محالة ، فإذا قال عن نفسه : إن كل دعوة تخالف ما ذكرت فانى لا أعرف صحتها ، فمعناه أنها باطلة .
وقوله (ولا أظن الله يعرفه) ، فالظن هاهنا بمعنى العلم ، كقوله تعالى : (ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها) (1) ، واخرج هذه الكلمة مخرج قوله تعالى (قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الارض) (2) ، وليس المراد سلب العلم بل العلم بالسلب ، كذلك ليس مراده عليه السلام سلب الظن الذى هو بمعنى العلم ، بل ظن السلب ، أي علم السلب ، أي واعلم أن الله سبحانه يعرف انتفاءه ، وكل ما يعلم الله انتفاءه فليس بثابت .
وقال الراوندي : قوله عليه السلام : (ولا أظن الله يعرفه) ، مثل قوله تعالى : (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين) (3) .
__________
(1) سورة الكهف 53 .
(2) سورة يونس 18 .
(3) سورة محمد 31 .
(*)(14/50)
والله يعلم كل شئ قبل وجوده ، وإنما معناه حتى نعلم جهادهم موجودا ، وليست هذه الكلمة من الاية بسبيل لتجعل مثالا لها ، ولكن الراوندي يتكلم بكل ما يخطر له من غير أن يميز ما يقول .
وتقول أدلى فلان بحجته ، أي احتج بها ، وفلان مدل برحمه ، أي مت بها وأدلى بماله الى الحاكم دفعه إليه ليجعله وسيلة إلى قضاء حاجته منه ، فأما الشفاعة فلا يقال فيها (أدليت) ، ولكن (دلوت بفلان) أي استشفعت به ، وقال عمر : لما استسقى بالعباس رحمه الله (اللهم إنا نتقرب اليك بعم نبيك وقفية آبائه ، وكبر رجاله ، دلونا به اليك مستشفعين) (1) .
قوله عليه السلام (فلم أره يسعنى) أي لم أر انه يحل لى دفعهم اليك والضمير في (أره) ضمير الشان والقصة ، و (أره) من الرأى ، لا من الرؤية ، كقولك لم أر الرأى الفلاني .
ونزع فلان عن كذا ، أي فارقه وتركه ، ينزع بالكسر ، والغى الجهل والضلال .
والشقاق الخلاف .
الوجدان مصدر وجدت كذا ، أي أصبته والزور الزائر .
واللقيان مصدر لقيت ، تقول لقيته لقاء ولقيانا .
ثم قال : (والسلام لاهله) لم يستجز في الدين أن يقول له (والسلام عليك) لانه عنده فاسق لا يجوز اكرامه ، فقال (والسلام لاهله) أي على أهله .
ويجب أن نتكلم في هذا الفصل في مواضع منها ذكر ما جاء في السيرة من إجلاب قريش على رسول الله صلى الله عليه وآله وبنى هاشم وحصرهم في الشعب .
__________
(1) الفائق 2 : 366 .
قفية آبائه : تلوهم .
وكبر قومه اقعدهم في النسب .
(*)(14/51)
ومنها الكلام في المؤمنين والكافرين من بنى هاشم الذين كانوا في الشعب محصورين معه صلى الله عليه وآله من هم .
ومنها شرح قصة بدر .
ومنها شرح غزاة أحد .
ومنها شرح غزاة مؤتة [ إجلاب قريش على بنى هاشم وحصرهم في الشعب ] فاما الكلام في الفصل الاول فنذكر منه ما ذكره محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب السيرة والمغازى ، فانه كتاب معتمد عند أصحاب الحديث والمؤرخين ، ومصنفه شيخ الناس كلهم .
قال محمد بن إسحاق رحمه الله : لم يسبق عليا عليه السلام إلى الايمان بالله ورسالة محمد صلى الله عليه وآله أحد من الناس ، اللهم إلا أن تكون خديجة زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله .
قال وقد كان صلى الله عليه وآله يخرج ومعه على مستخفين من الناس ، فيصليان الصلوات في بعض شعاب مكة ، فإذا أمسيا رجعا فمكثا بذلك ما شاء الله أن يمكثا ، لا ثالث لهما .
ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوما وهما يصليان ، فقال لمحمد صلى الله عليه وآله يا بن أخى ، ما هذا الذى تفعله فقال (أي عم ، هذا دين الله ودين ملائكته ورسله ، ودين أبينا إبراهيم - أو كما قال عليه السلام : - بعثنى الله به رسولا إلى العباد ، وأنت أي عم أحق من بذلت له النصيحة ، ودعوته إلى الهدى ، وأحق من أجابنى إليه ، وأعانني عليه) .
أو كما قال .
فقال أبو طالب : إنى لا أستطيع يا بن أخى أن أفارق(14/52)
دينى ودين آبائى وما كانوا عليه ، ولكن والله لا يخلص (1) اليك شئ تكرهه ما بقيت فزعموا (2) إنه قال لعلى : أي بنى ، ما هذا الذى تصنع قال : يا أبتاه ، آمنت بالله ورسوله وصدقته فيما جاء به ، وصليت إليه ، واتبعت قول نبيه .
فزعموا أنه قال له : اما إنه لا يدعوك - أو لن يدعوك - إلا الى خير ، فالزمه .
قال ابن إسحاق : ثم أسلم زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وآله ، فكان أول من أسلم ، وصلى معه بعد على بن أبى طالب عليه السلام .
ثم أسلم أبو بكر بن ابى قحافة ، فكان ثالثا لهما ، ثم أسلم عثمان بن عفان ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن ، وسعد بن ابى وقاص ، فصاروا ثمانية ، فهم الثمانية الذين سبقوا الناس إلى الاسلام بمكة ، ثم أسلم بعد هؤلاء الثمانية أبو عبيدة بن الجراح وأبو سلمة بن عبد الاسد وأرقم بن أبى أرقم ، ثم انتشر الاسلام بمكة ، وفشا ذكره ، وتحدث الناس به ، وأمر الله رسوله أن يصدع بما أمر به ، فكانت مدة إخفاء رسول الله صلى الله عليه وآله نفسه وشأنه إلى أن أمر بإظهار الدين ثلاث سنين فيما بلغني (3) .
قال محمد بن اسحاق : ولم تكن قريش تنكر أمره حينئذ كل الانكار ، حتى ذكر آلهتهم وعابها ، فأعظموا ذلك وأنكروه ، وأجمعوا على عداوته وخلافه ، وحدب عليه عمه أبو طالب فمنعه ، وقام دونه حتى مضى مظهرا لامر الله لا يرده عنه شئ .
قال : فلما رأت قريش محاماة أبى طالب عنه وقيامه دونه ، وامتناعه من أن يسلمه ، مشى إليه رجال من أشراف قريش ، منهم عتبة بن ربيعة ، وشيبة أخوه ، وأبو سفيان بن حرب ، وأبو البخترى بن هشام ، والاسود بن المطلب ، والوليد بن المغيرة ، وأبو جهل عمرو بن هشام ،
__________
(1) لا يخلص اليك بشئ ، اي لا يوصل اليك ، يقال : خلصت إليه ، اي وصلت إليه .
(2) ابن هشام : (وذكروا) .
(3) سيرة ابن هشام 1 : 265 .
(*)(14/53)
والعاص بن وائل ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، وأمثالهم من رؤساء قريش فقالوا يا ابا طالب ، إن ابن اخيك قد سب آلهتنا ، وعاب ديننا ، وسفه أحلامنا ، وضلل آراءنا ، فإما أن تكفه عنا ، وإما أن تخلى بيننا وبينه .
فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا ، وردهم ردا جميلا ، فانصرفوا عنه ، ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله على ما هو عليه ، يظهر دين الله ، ويدعو إليه ، ثم شرق (1) الامر بينه وبينهم ، تباعدا وتضاغنا (2) ، حتى أكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله بينها ، وتذامروا فيه ، وحض بعضهم بعضا عليه ، فمشوا الى أبى طالب مره ثانية ، فقالوا يا أبا طالب ، إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا ، وانا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا ، وإنا والله لا نصبر على شتم آبائنا ، وتسفيه احلامنا ، وعيب آلهتنا ، فاما أن تكفه عنا أو ننازله واياك (3) حتى يهلك أحد الفريقين .
ثم انصرفوا ، فعظم على أبى طالب فراق قومه وعداوتهم ، ولم تطب نفسه باسلام ابن إخيه لهم وخذلانه ، فبعث إليه فقال يا بن أخى ، إن قومك قد جاءوني ، فقالوا لى كذا وكذا - للذى قالوا - فابق على وعلى نفسك ، ولا تحملني من الامر ما لا أطيقه .
قال : فظن رسول الله صلى الله عليه وآله إنه قد بدا لعمه فيه بداء ، وإنه خاذله ومسلمه ، وإنه قد ضعف عن نصرته والقيام دونه ، فقال يا عم ، والله لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في شمالى على إن أترك هذا الامر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك .
ثم استعبر باكيا وقام ، فلما ولى ناداه أبو طالب أقبل يا بن أخى ، فاقبل راجعا ، فقال له اذهب يا بن أخى فقل ما أحببت ، فو الله لا أسلمك لشئ أبدا (4) .
__________
(1) ابن هشام : (ثم شرى الامر بينه وبينهم) ، قال أبو ذر : معناه (كثر وتزايد) ، وأصله في البرق ، يقال : شرى البرق : إذا كثر لمعانه .
(2) التضاغن : المعاداة .
(3) ننازله واياك : أي نحاربكما .
(4) سيرة ابن هشام 1 : 276 - 287 .
(*)(14/54)
قال ابن اسحاق : وقال أبو طالب يذكر ما أجمعت عليه قريش من حربه لما قام بنصر محمد صلى الله عليه وآله : والله لن يصلوا اليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا (1) فانفذ لامرك ما عليك مخافة وأبشر وقر بذاك منه عيونا ودعوتني وزعمت أنك ناصحى ولقد صدقت وكنت قبل أمينا وعرضت دينا قد علمت بانه من خير اديان البرية دينا لولا الملامة أو حذارى سبة لوجدتني سمحا بذاك مبينا .
قال محمد بن اسحاق : ثم إن قريشا حين عرفت أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله صلى الله عليه وآله وإسلامه إليهم ورأوا إجماعه على مفارقتهم وعداوتهم ، مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومى - وكان أجمل فتى في قريش - فقالوا له يا أبا طالب ، هذا عمارة بن الوليد ، أبهى (2) فتى في قريش وأجمله ، فخذه اليك (3) فاتخذه ولدا فهو لك ، وأسلم لنا هذا ابن أخيك الذى قد خالف دينك ودين آبائك ، وفرق جماعة قومك لنقتله ، فانما هو رجل برجل .
فقال أبو طالب والله ما أنصفتموني (4) تعطوني أبنكم أغذوه لكم ، وأعطيكم بنى تقتلونه هذا والله ما لا يكون أبدا ، فقال له المطعم بن عدى بن نوفل - وكان له صديقا مصافيا - والله يا أبا طالب ما أراك تريد إن تقبل من قومك شيئا لعمري قد جهدوا في التخلص مما تكره وأراك لا تنصفهم فقال أبو طالب والله ما أنصفوني ولا أنصفتني ، ولكنك قد أجمعت على خذلاني ومظاهرة (5) القوم على فاصنع ما بدا لك (6) !
__________
(1) ديوانه 176 ، 177 .
(2) ابن هشام : (أنهد فتى) اي اشده واقواه .
(3) بن هشام : (فخذه فلك عقله ونصره) .
(4) ابن هشام : (والله لبئس ما تسومونني) .
(5) مظاهرة القوم ، يريد إعانتهم .
(6) سيرة ابن هشام 1 : 275 .
(*)(14/55)
قال : فعند ذلك تنابذ القوم وصارت الاحقاد ، ونادى بعضهم بعضا ، وتذامروا بينهم على من في القبائل من المسلمين الذين اتبعوا محمدا صلى الله عليه وآله .
فوثبت كل قبيلة على من فيها منهم ، يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم ، ومنع الله رسوله منهم بعمه أبى طالب ، وقام في بنى هاشم وبنى عبد المطلب حين رأى قريشا تصنع ما تصنع ، فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه وآله ، والقيام دونه ، فاجتمعوا إليه ، وقاموا معه ، وأجابوه الى ما دعاهم إليه من الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وآله إلا ما كان من أبى لهب ، فانه لم يجتمع معهم على ذلك ، فكان أبو طالب يرسل إليه الاشعار ، ويناشده النصر ، منها القطعة التى أولها : حديث عن أبى لهب أتانا وكانفه على ذاكم رجال .
ومنها القطعة التى أولها : أظننت عنى قد خذلت وغالنى منك الغوائل بعد شيب المكبر .
ومنها القطعة التى إإلها : تستعرض الاقوام توسعهم عذرا وما إن قلت من عذر .
قال محمد بن إسحاق : فلم يؤثر عن أبى لهب خير قط إلا ما يروى أن أبا سلمة بن عبد الاسد المخزومى ، لما وثب عليه قومه ليعذبوه ويفتنوه عن الاسلام هرب منهم ، فاستجار بأبى طالب ، وأم أبى طالب مخزومية ، وهى أم عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وآله فأجاره ، فمشى إليه رجال من بنى مخزوم ، وقالوا له يا أبا طالب ، هبك منعت منا ابن أخيك محمدا ، فما لك ولصاحبنا تمنعه منا قال : إنه استجار بى وهو ابن أختى ، وإن أنا لم أمنع ابن أختى لم أمنع ابن أخى ، فارتفعت أصواتهم وأصواته ، فقام أبو لهب ولم ينصر أبا طالب قبلها ولا بعدها ، فقال يا معشر قريش ، والله لقد أكثرتم على هذا(14/56)
الشيخ ، لا تزالون تتوثبون عليه في جواره من بين قومه أما والله لتنتهن عنه أو لنقومن معه فيما قام فيه حتى يبلغ ما أراد .
فقالوا بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة .
فقاموا فانصرفوا ، وكان وليا لهم ومعينا على رسول الله صلى الله عليه وآله وأبى طالب ، فاتقوه وخافوا أن تحمله الحمية على الاسلام ، فطمع فيه أبو طالب حيث سمعه قال ما قال ، وأمل أن يقوم معه في نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقال يحرضه على ذلك : وإن امرأ أبو عتيبة عمه لفى معزل من أن يسام المظالما (1) ولا تقبلن الدهر ما عشت خطة تسب بها إما هبطت المواسما أقول له وأين منه نصيحتي أبا عتبة ثبت سوادك قائما وول سبيل العجز غيرك منهم فانك لم تخلق على العجز لازما وحارب فإن الحرب نصف ولن ترى أخا الحرب يعطى الخسف حتى يسالما كذبتم وبيت الله نبزى محمدا ولما تروا يوما من الشعب قائما .
وقال يخاطب أبا لهب ايضا : عجبت لحلم يا بن شيبة عازب وأحلام أقوام لديك سخاف (2) يقولون شايع من أراد محمدا بظلم وقم في أمره بخلاف أضاميم إما حاسد ذو خيانة وإما قريب عنك غير مصاف فلا تركبن الدهر منه ذمامة وأنت امرؤ من خير عبد مناف ولا تتركنه ما حييت لمعظم وكن رجلا ذا نجده وعفاف يذود العدا عن ذروة هاشمية إلافهم في الناس خير إلاف فإن له قربى لديك قريبة وليس بذى حلف ولا بمضاف ولكنه من هاشم ذى صميمها إلى أبحر فوق البحور طواف
__________
(1) ديوانه 162 ، 163 .
(2) ديوانه 90 .
(*)(14/57)
وزاحم جميع الناس عنه وكن له وزيرا على الاعداء غير مجاف وإن غضبت منه قريش فقل لها بنى عمنا ما قومكم بضعاف وما بالكم تغشون منه ظلامة وما بال أحقاد هناك خوافى فما قومنا بالقوم يخشون ظلمنا وما نحن فيما ساءهم بخفاف ولكننا أهل الحفائظ والنهى وعز ببطحاء المشاعر واف .
قال محمد بن إسحاق : فلما طال البلاء على المسلمين والفتنة والعذاب ، وارتد كثير عن الدين باللسان لا بالقلب ، كانوا إذا عذبوهم يقولون نشهد أن هذا الله وإن اللات والعزى هي الالهة ، فإذا خلوا عنهم عادوا إلى الاسلام ، فحبسوهم وأوثقوهم بالقد وجعلوهم في حر الشمس على الصخر والصفا ، وامتدت أيام الشقاء عليهم ولم يصلوا إلى محمد صلى الله عليه وآله لقيام أبى طالب دونه ، فاجمعت قريش على أن يكتبوا بينهم وبين بنى هاشم صحيفة يتعاقدون فيها ألا يناكحوهم ولا يبايعوهم ، ولا يجالسوهم ، فكتبوها وعلقوها في جوف الكعبة تأكيدا على أنفسهم ، وكان كاتبها منصور بن عكرمة بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصى .
فلما فعلوا ذلك انحازت هاشم والمطلب ، فدخلوا كلهم مع أبى طالب في الشعب .
فاجتمعوا إليه ، وخرج منهم أبو لهب الى قريش فظاهرها على قومه ..قال محمد بن إسحاق : فضاق الامر ببنى هاشم وعدموا القوت ، إلا ما كان يحمل إليهم سرا وخفية ، وهو شئ قليل لا يمسك أرماقهم ، وأخافتهم قريش ، فلم يكن يظهر منهم احد ، ولا يدخل إليهم أحد ، وذلك اشد ما لقى رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل بيته بمكة .
قال محمد بن إسحاق : فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا حتى جهدوا ألا يصل إليهم(14/58)
شئ إلا القليل سرا ممن يريد صلتهم من قريش ، وقد كان أبو جهل بن هشام لقى حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى ، معه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجه بنت خويلد - وهى عند رسول الله محاصرة في الشعب - فتعلق به ، وقال : أتحمل الطعام إلى بنى هاشم والله لا تبرح أنت و طعامك حتى أفضحك بمكة فجاءه أبو البخترى العاص ابن هشام بن الحارث بن أسد بن عبد العزى ، فقال ما لك وله قال : إنه يحمل الطعام إلى بنى هاشم ، فقال أبو البخترى يا هذا ، إن طعاما كان لعمته عنده بعثت إليه فيه ، أفتمنعه أن يأتيها بطعامها خل سبيل الرجل ، فابى أبو جهل حتى نال كل منهما من صاحبه ، فاخذ له أبو البخترى لحى بعير فضربه به فشجه ووطئه وطأ شديدا ، فانصرف وهو يكره أن يعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وبنو هاشم بذلك ، فيشمتوا ، فلما أراد الله تعالى من إبطال الصحيفة ، والفرج عن بنى هاشم من الضيق والازل الذى كانوا فيه ، قام هشام بن عمرو بن الحارث بن حبيب بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤى في ذلك أحسن قيام ، وذلك أن اباه عمرو بن الحارث كان أخا لنضلة بن هاشم بن عبد مناف بن قصى من أمه ، فكان هشام بن عمرو يحسب لذلك واصلا ببنى هاشم ، وكان ذا شرف في قومه بنى عامر بن لؤى ، فكان يأتي بالبعير ليلا وقد أوقره طعاما ، وبنو هاشم وبنو المطلب في الشعب ، حتى إذا أقبل به فم الشعب فمنع بخطامة من رأسه ، ثم يضربه على جنبه ، فيدخل الشعب عليهم ثم يأتي به مرة أخرى ، وقد أوقره تمرا ، فيصنع به مثل ذلك .
ثم إنه مشى إلى زهير بن أبى أمية بن المغيرة المخزومى ، فقال يا زهير ، أرضيت أن تأكل الطعام وتشرب الشراب وتلبس الثياب ، وتنكح النساء ، وأخوالك حيث قد علمت لا يبتاعون ولا يبتاع منهم ، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم ، ولا يواصلون ولا يزارون أما إنى أحلف لو كان أخوك أبو الحكم بن هشام ودعوته إلى مثل ما دعاك(14/59)
إليه منهم ما أجابك أبدا قال : ويحك يا هشام فماذا أصنع إنما أنا رجل واحد ، والله لو كان معى رجل آخر لقمت في نقض هذه الصحيفة القاطعة .
قال : قد وجدت رجلا ، قال : من هو قال : أنا ، قال زهير : ابغنا ثالثا ، فذهب إلى المطعم بن عدى بن نوفل بن عبد مناف ، فقال له يا مطعم ، أرضيت أن يهلك بطنان من عبد مناف جوعا وجهدا وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه أما والله لئن أمكنتموهم من هذا لتجدن قريشا إلى مساءتكم في غيره سريعة .
قال : ويحك ما ذا أصنع إنما أنا رجل واحد ، قال : قد وجدت ثانيا ، قال : من هو قال : أنا ، قال : ابغنى ثالثا ، قال : قد وجدت ، قال : من هو قال : زهير بن أمية ، قال : أنا ، قال : ابغنا رابعا ، فذهب الى أبى البخترى بن هشام ، فقال له نحو ما قال للمطعم ، قال : وهل من أحد يعين على هذا قال ، نعم وذكرهم ، قال : فابغنا خامسا ، فمضى إلى زمعة بن الاسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى فكلمه ، فقال وهل يعين على ذلك من أحد قال : نعم ، ثم سمى له القوم ، فاتعدوا خطم الحجون ليلا باعلى مكة ، فأجمعوا أمرهم ، وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها .
وقال زهير : أنا أبدؤكم وأكون أولكم يتكلم ، فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم ، وغدا زهير بن أبى أمية ، عليه حلة له .
فطاف بالبيت سبعا ، ثم أقبل على الناس ، فقال يا أهل مكة ، أناكل الطعام ، ونشرب الشراب ، ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة وكان أبو جهل في ناحية المسجد ، فقال كذبت والله لا تشق فقال زمعة بن الاسود لابي جهل والله أنت أكذب ، ما رضينا والله بها حين كتبت .
فقال أبو البخترى معه صدق والله زمعة ، لا نرضى بها ولا نقر بما كتب فيها فقال المطعم بن عدى صدقا والله ، وكذب من قال غير ذلك ، نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها .
وقال هشام بن عمرو مثل قولهم ، فقال أبو جهل : هذا أمر قضى بليل ، وقام مطعم بن عدى إلى الصحيفة فحطها وشقها ، فوجد الارضة قد أكلتها ، إلا(14/60)
ما كان من (باسمك اللهم) قالوا وأما كاتبها منصور بن عكرمة فشلت يده فيما يذكرون .
فلما مزقت الصحيفة خرج بنو هاشم من حصار الشعب .
قال محمد بن إسحاق : فلم يزل أبو طالب ثابتا صابرا مستمرا على نصر رسول الله صلى الله عليه وآله وحمايته والقيام دونه ، حتى مات في أول السنة الحادية العشرة من مبعث رسول الله صلى الله عليه وآله فطمعت فيه قريش حينئذ ، ونالت منه ، فخرج عن مكة خائفا يطلب أحياء العرب ، يعرض عليهم نفسه ، فلم يزل كذلك حتى دخل مكة في جوار المطعم بن عدى ، ثم كان من أمره مع الخزرج ما كان ليلة العقبة .
قال : ومن شعر أبى طالب الذى يذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وقيامه دونه : أرقت وقد تصوبت النجوم وبت ولا تسالمك الهموم (1) لظلم عشيرة ظلموا وعقوا وغب عقوقهم لهم وخيم هم انتهكوا المحارم من أخيهم وكل فعالهم دنس ذميم وراموا خطة جورا وظلما وبعض القول ذو جنف مليم لتخرج هاشما فتكون منها بلاقع بطن مكة فالحطيم فمهلا قومنا لا تركبونا بمظلمة لها خطب جسيم فيندم بعضكم ويذل بعض وليس بمفلح أبدا ظلوم أرادوا قتل أحمد زاعميه وليس بقتله منهم زعيم ودون محمد منا ندى هم العرنين والعضو الصميم ومن ذلك قوله : وقالوا لاحمد أنت امرؤ خلوف الحديث ، ضعيف السبب
__________
(1) ديوانه 149 .
(*)(14/61)
وإن كان أحمد قد جاءهم بصدق ولم يأتهم بالكذب فانا ومن حج من راكب وكعبة مكة ذات الحجب تنالون أحمد أو تصطلوا ظباه الرماح وحد القضب وتغترفوا بين أبياتكم صدور العوالي وخيلا شزب تراهن من بين ضافى السبيب قصير الحزام طويل اللبب عليها صناديد من هاشم هم الانجبون مع المنتجب .
وروى عبد الله بن مسعود ، قال : لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله من قتلى بدر ، وأمر بطرحهم في القليب ، جعل يتذكر من شعر أبى طالب بيتا فلا يحضره ، فقال له أبو بكر لعله قوله يا رسول الله : وإنا لعمر الله إن جد جدنا لتلتبسن اسيافنا بالاماثل (1) .
فسر بظفره بالبيت ، وقال إى لعمر الله لقد التبست .
ومن شعر أبى طالب قوله : ألا ابلغا عنى لؤيا رسالة بحق وما تغنى رسالة مرسل (2) بنى عمنا الادنين فيما يخصهم وإخواننا من عبد شمس ونوفل أظاهرتم قوما علينا سفاهة وأمرا غويا من غواة وجهل يقولون لو أنا قتلنا محمدا أقرت نواصى هاشم بالتذلل كذبتم ورب الهدى تدمى نحوره بمكة والبيت العتيق المقبل تنالونه أو تصطلوا دون نيله صوارم تفرى كل عضو ومفصل فمهلا ولما تنتج الحرب بكرها بخيل تمام أو بآخر معجل
__________
(1) ديوانه 111 .
(2) ديوانه 137 .
(*)(14/62)
وتلقوا بيع الابطحين محمدا على ربوة في رأس عنقاء عيطل وتأوى إليه هاشم ، إن هاشما عرانين كعب آخر بعد أول فان كنتم ترجون قتل محمد فروموا بما جمعتم نقل يذبل فانا سنحميه بكل طمرة وذى ميعة نهد المراكل هيكل وكل ردينى ظماء كعوبه وعضب كأيماض الغمامة مفصل .
قلت كان صديقنا على بن يحيى البطريق رحمه الله ، يقول لو لا خاصة النبوة وسرها لما كان مثل أبى طالب - وهو شيخ قريش ورئيسها وذو شرفها - يمدح ابن أخيه محمدا ، وهو شاب قد ربى في حجره وهو يتيمه ومكفوله ، وجار مجرى أولاده بمثل قوله : وتلقوا ربيع الابطحين محمدا على ربوة في رأس عنقاء عيطل وتأوى إليه هاشم ، إن هاشما عرانين كعب آخر بعد أول .
ومثل قوله : وابيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمه للارامل يطيف به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل .
فإن هذا الاسلوب من الشعر لا يمدح به التابع والذنابى من الناس ، وإنما هو من مديح الملوك والعظماء ، فإذا تصورت إنه شعر أبى طالب ، ذاك الشيخ المبجل العظيم في محمد صلى الله عليه وآله ، وهو شاب مستجير به ، معتصم بظله من قريش ، قد رباه في حجره غلاما ، وعلى عاتقه طفلا ، وبين يديه شابا ، يأكل من زاده ، ويأوى إلى داره ، علمت موضع خاصية النبوة وسرها ، وإن أمره كان عظيما ، وإن الله تعالى أوقع في القلوب والانفس له منزلة رفيعة ومكانا جليلا .(14/63)
وقرأت في أمالى أبى جعفر بن حبيب رحمه الله ، قال : كان أبو طالب إذا رأى رسول الله صلى الله عليه وآله احيانا يبكى ويقول إذا رأيته ذكرت أخى ، وكان عبد الله أخاه لابويه ، وكان شديد الحب والحنو عليه ، وكذلك كان عبد المطلب شديد الحب له ، وكان أبو طالب كثيرا ما يخاف على رسول الله صلى الله عليه وآله البيات إذا عرف مضجعه ، يقيمه ليلا من منامه ، ويضجع ابنه عليا مكانه ، فقال له على ليلة : يا أبت ، إنى مقتول ، فقال له ، اصبرن يا بنى فالصبر أحجى كل حى مصيره لشعوب (1) قدر الله والبلاء شديد لفداء الحبيب وابن الحبيب لفداء الاغر ذى الحسب الثاقب والباع والكريم النجيب إن تصبك المنون فالنبل تبرى فمصيب منها ، وغير مصيب كل حى وإن تملى بعمر آخذ من مذاقها بنصيب .
فأجاب على عليه السلام ، فقال له : أتأمرني بالصبر في نصر أحمد ووالله ما قلت الذى قلت جازعا (2) ولكننى أحببت أن ترى نصرتي وتعلم أنى لم ازل لك طائعا سأسعى لوجه الله في نصر أحمد نبى الهدى المحمود طفلا ويافعا [ القول في المؤمنين والكافرين من بنى هاشم ] الفصل الثاني في تفسير قوله عليه السلام (مؤمننا ينبغى بذلك الاجر ، وكافرنا يحامى عن الاصل ، ومن أسلم من قريش خلو مما نحن فيه لحلف يمنعه ، أو عشيرة تقوم دونه
__________
(1) ديوانه 41 ، وشعوب : المنية .
(2) ديوان أبي طالب 41 .
(*)(14/64)
فهم من القتل بمكان أمن) ، فنقول إن بنى هاشم لما حصروا في الشعب بعد أن منعوا رسول الله صلى الله عليه وآله من قريش ، كانوا صنفين مسلمين وكفارا ، فكان على عليه السلام وحمزة بن عبد المطلب مسلمين .
واختلف في جعفر بن أبى طالب هل حصر في الشعب معهم أم لا فقيل حصر في الشعب معهم ، وقيل بل كان قد هاجر إلى الحبشة ، ولم يشهد حصار الشعب ، وهذا هو القول الاصح .
وكان من المسلمين المحصورين في الشعب مع بنى هاشم عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف ، وهو وإن لم يكن من بنى هاشم إلا إنه يجرى مجراهم ، لان بنى المطلب وبنى هاشم كانوا يدا واحدة ، لم يفترقوا في جاهلية ولا إسلام .
وكان العباس رحمه الله في حصار الشعب معهم إلا إنه كان على دين قومه ، وكذلك عقيل بن أبى طالب ، وطالب بن أبى طالب ، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، وأبو سفيان ابن الحارث بن عبد المطلب ، وابنه الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب - وكان شديدا على رسول الله صلى الله عليه وآله ، يبغضه ويهجوه بالاشعار ، إلا إنه كان لا يرضى بقتله ، ولا يقار قريشا في دمه ، محافظة على النسب - وكان سيد المحصورين في الشعب ورئيسهم وشيخهم أبو طالب بن عبد المطلب ، وهو الكافل والمحامي .
[ اختلاف الرأى في إيمان أبى طالب ] واختلف الناس في إيمان أبى طالب (1) ، فقالت الامامية وأكثر الزيدية : ما مات إلا مسلما .
__________
(1) ب : (فيه) ، وما أثبته من ا .
(*)(14/65)
وقال بعض شيوخنا المعتزلة بذلك ، منهم الشيخ أبو القاسم البلخى وأبو جعفر الاسكافي وغيرهما .
وقال أكثر الناس من أهل الحديث والعامة من شيوخنا البصريين وغيرهم : مات على دين قومه ، ويروون في ذلك حديثا مشهورا ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال له عند موته : قل يا عم كلمة أشهد لك بها غدا عند الله تعالى ، فقال لو لا أن تقول العرب : إن أبا طالب جزع عند الموت لاقررت بها عينك .
وروى أنه قال : أنا على دين الاشياخ .
وقيل إنه قال : انا على دين عبد المطلب وقيل غير ذلك .
وروى كثير من المحدثين أن قوله تعالى : (ما كان للنبى والذين آمنوا معه أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم اصحاب الجحيم * وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلا عن موعده وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه) (1) الاية ، أنزلت في أبى طالب ، لان رسول الله استغفر له بعد موته .
ورووا أن قوله تعالى (إنك لا تهدى من أحببت) (2) نزلت في أبى طالب .
ورووا إن عليا عليه السلام جاء الى رسول الله صلى الله عليه وآله بعد موت أبى طالب ، فقال له إن عمك الضال قد قضى ، فما الذى تأمرني فيه .
واحتجوا بأنه لم ينقل احد عنه إنه رآه يصلى ، والصلاة هي المفرقة بين المسلم والكافر ، وإن عليا وجعفرا لم ياخذا من تركته شيئا ، ورووا عن النبي صلى الله عليه وآله إنه قال : (إن الله قد وعدني بتخفيف عذابه لما صنع في حقى ، وإنه في ضحضاح من نار) .
ورووا عنه أيضا انه قيل له لو استغفرت لابيك وأمك فقال (لو استغفرت لهما لاستغفرت لابي طالب ، فانه صنع الى ما لم يصنعا ، وإن عبد الله وآمنة وأبا طالب جمرات من جمرات جهنم) .
__________
(1) سورة التوبة 113 ، 114 .
(2) سورة القصص 56 .
(*)(14/66)
فأما الذين زعموا أنه كان مسلما ، فقد رووا خلاف ذلك ، وأسندوا خبرا إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : قال لى جبرائيل : إن الله مشفعك في ستة بطن حملتك ، آمنة بنت وهب ، وصلب أنزلك ، عبد الله بن عبد المطلب ، وحجر كفلك ، أبى طالب وبيت آواك ، عبد المطلب ، وأخ كان لك في الجاهلية - قيل يا رسول الله ، وما كان فعله قال : كان سخيا يطعم الطعام ، ويجود بالنوال - وثدى أرضعتك ، حليمة بنت أبى ذؤيب .
قلت سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن أبى زيد عن هذا الخبر ، وقد قرأته عليه هل كان لرسول الله صلى الله عليه وآله أخ من أبيه أو من أمه أو منهما في الجاهلية ، فقال لا ، إنما يعنى أخا له في المودة والصحبة ، قلت له : فمن هو قال : لا أدرى .
قالوا وقد نقل الناس كافة عن رسول الله صلى الله عليه وآله انه قال : نقلنا من الاصلاب الطاهرة إلى الارحام الزكية .
فوجب بهذا أن يكون آباؤه كلهم منزهين عن الشرك ، لانهم لو كانوا عبدة اصنام لما كانوا طاهرين .
قالوا وأما ما ذكر في القرآن من إبراهيم وأبيه آزر ، وكونه كان ضالا مشركا ، فلا يقدح في مذهبنا ، لان آزر كان عم إبراهيم ، فأما أبوه فتارخ بن ناحور ، وسمى العم أبا ، كما قال : (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه : ما تعبدون من بعدى قالوا نعبد إلهك وإله آبائك) (1) ، ثم عد فيهم اسماعيل وليس من آبائه ، ولكنه عمه .
قلت وهذا الاحتجاج عندي ضعيف ، لان المراد من قوله (نقلنا من الاصلاب الطاهرة إلى الارحام الزكية) تنزيه آبائه وأجداده وأمهاته عن السفاح لا غير ، هذا مقتضى
__________
(1) سورة البقرة 133 .
(*)(14/67)
سياقة الكلام ، لان العرب كان يعيب بعضها بعضا باختلاط المياه واشتباه الانساب ونكاح الشبهة .
وقولهم لو كانوا عبدة أصنام لما كانوا طاهرين ، يقال لهم لم قلتم أنهم لو كانوا عبدة أصنام لما كانوا طاهري الاصلاب فانه لا منافاة بين طهارة الاصلاب وعبادة الصنم ، ألا ترى إنه لو أراد ما زعموه لما ذكر الاصلاب والارحام ، بل جعل عوضها العقائد واعتذارهم عن إبراهيم وأبيه يقدح في قولهم في أبى طالب ، لانه لم يكن أبا محمد صلى الله عليه وآله ، بل كان عمه ، فإذا جاز عندهم أن يكون العم - وهو آزر - مشركا كما قد اقترحوه في تأويلهم - لم يكن لهم حجة من هذا الوجه على إسلام أبى طالب .
واحتجوا في إسلام الاباء بما روى عن جعفر بن محمد عليه السلام إنه قال : يبعث الله عبد المطلب يوم القيامة وعليه سيماء الانبياء وبهاء الملوك وروى أن العباس بن عبد المطلب قال لرسول الله صلى الله عليه وآله بالمدينة : يا رسول الله ، ما ترجو لابي طالب فقال أرجو له كل خير من الله عز وجل وروى أن رجلا من رجال الشيعة ، و هو إبان بن محمود كتب إلى على بن موسى الرضا عليه السلام جعلت فداك إنى قد شككت في إسلام ابى طالب فكتب إليه (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين) (1) الاية ، وبعدها إنك إن لم تقر بايمان ابى طالب كان مصيرك إلى النار وقد روى عن على بن محمد الباقر عليه السلام أنه سئل عما يقوله الناس أن أبا طالب في ضحضاح من نار ، فقال لو وضع ايمان ابى طالب في كفة ميزان وإيمان هذا الخلق في الكفة الاخرى لرجح إيمانه .
ثم قال : الم تعلموا أن أمير المؤمنين عليا عليه السلام كان يأمر أن يحج عن عبد الله وأبيه (2) أبى طالب في حياته ، ثم أوصى في وصيته بالحج عنهم .
وروى أن أبا بكر جاء بأبى قحافة إلى النبي صلى الله عليه وآله عام الفتح يقوده
__________
(1) سورة النساء : (2) في الاصول : (وابنه) .
(*)(14/68)
وهو شيخ كبير أعمى ، فقال رسول الله إلا تركت الشيخ حتى ناتيه فقال أردت يا رسول الله أن يأجره الله أما والذى بعثك بالحق لانا كنت أشد فرحا بإسلام عمك أبى طالب منى باسلام أبى ، ألتمس بذلك قرة عينك ، فقال صدقت .
وروى أن على بن الحسين عليه السلام سئل عن هذا ، فقال وأ عجبا إن الله تعالى نهى رسوله أن يقر مسلمة على نكاح كافر ، وقد كانت فاطمة بنت أسد من السابقات إلى الاسلام ، ولم تزل تحت أبى طالب حتى مات .
ويروى قوم من الزيدية أن أبا طالب أسند المحدثون عنه حديثا ينتهى إلى أبى رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله ، قال : سمعت أبا طالب يقول بمكة : حدثنى محمد ابن أخى أن ربه بعثه بصلة الرحم ، وإن يعبده وحده لا يعبد معه غيره ، ومحمد عندي الصادق الامين .
وقال قوم : إن قول النبي صلى الله عليه وآله : (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة) انما عنى به أبا طالب .
وقالت الامامية إن ما يرويه العامة من أن عليا عليه السلام وجعفرا لم يأخذا من تركة أبى طالب شيئا حديث موضوع ، ومذهب أهل البيت بخلاف ذلك ، فان المسلم عندهم يرث الكافر ، ولا يرث الكافر المسلم ، ولو كان أعلى درجة منه في النسب .
قالوا وقوله صلى الله عليه وآله (لا توارث بين أهل ملتين) ، نقول بموجبه ، لان التوارث تفاعل ، ولا تفاعل عندنا في ميراثهما ، واللفظ يستدعى الطرفين ، كالتضارب لا يكون إلا من اثنين ، قالوا وحب رسول الله صلى الله عليه وآله(14/69)
لابي طالب معلوم مشهور ، ولو كان كافرا ما جاز له حبه ، لقوله تعالى (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر يوادون من حاد الله ورسوله ...
) (1) الاية .
قالوا وقد اشتهر واستفاض الحديث وهو قوله صلى الله عليه وآله لعقيل : (أنا أحبك حبين حبا لك وحبا لحب أبى طالب فإنه كان يحبك) .
قالوا وخطبة النكاح مشهورة ، خطبها أبو طالب عند نكاح محمد صلى الله عليه وآله خديجة ، وهى قوله : (الحمد لله الذى جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع اسماعيل ، وجعل لنا بلدا حراما وبيتا محجوجا ، وجعلنا الحكام على الناس .
ثم إن محمد بن عبد الله أخى من لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح عليه برا وفضلا ، وحزما وعقلا ، ورأيا ونبلا ، وإن كان في المال قل فإنما المال ظل زائل ، وعارية مسترجعة ، وله في خديجة بنت خويلد رغبة ، ولها فيه مثل ذلك ، وما أحببتم من الصداق فعلى ، وله والله بعد نبأ شائع وخطب جليل) .
قالوا أفتراه يعلم نباه الشائع وخطبه الجليل ، ثم يعانده ويكذبه ، وهو من أولى الالباب هذا غير سائغ في العقول .
قالوا وقد روى عن أبى عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : (إن اصحاب الكهف أسروا الايمان ، وأظهروا الكفر فأتاهم الله أجرهم مرتين ، وإن أبا طالب أسر الايمان ، وأظهر الشرك ، فاتاه الله أجره مرتين) .
وفي الحديث المشهور إن جبرائيل عليه السلام قال له ليلة مات أبو طالب : (اخرج منها فقد مات ناصرك) .
قالوا وأما حديث الضحضاح من النار ، فإنما يرويه الناس كلهم عن رجل واحد ، وهو المغيرة بن شعبة ، وبغضه لبنى هاشم وعلى الخصوص لعلى عليه السلام مشهور معلوم ، وقصته وفسقه أمر غير خاف .
__________
(1) سورة المجادلة 22 .
(*)(14/70)
وقالوا وقد روى بأسانيد كثيرة بعضها عن العباس بن عبد المطلب ، وبعضها عن أبى بكر بن أبى قحافة ، أن أبا طالب ما مات حتى قال لا إله إلا الله محمد رسول الله .
والخبر مشهور أن أبا طالب عند الموت قال كلاما خفيا ، فاصغى إليه أخوه العباس ، ثم رفع رأسه الى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال : يا بن أخى ، والله لقد قالها عمك ، ولكنه ضعف عن أن يبلغك صوته .
وروى عن على عليه السلام أنه قال : ما مات أبو طالب حتى أعطى رسول الله صلى الله عليه وآله من نفسه الرضا .
قالوا وأشعار أبى طالب تدل على إنه كان مسلما ، ولا فرق بين الكلام المنظوم والمنثور إذا تضمنا إقرارا بالاسلام ، ألا ترى أن يهوديا لو توسط جماعة من المسلمين ، وأنشد شعرا قد ارتجله ونظمه يتضمن الاقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله ، لكنا نحكم بإسلامه كما لو قال اشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله فمن تلك الاشعار قوله (1) : يرجون منا خطة دون نيلها ضراب وطعن بالوشيج المقوم يرجون أن نسخي بقتل محمد ولم تختضب سمر العوالي من الدم كذبتم وبيت الله حتى تفلقوا (2) جماجم تلقى بالحطيم وزمزم وتقطع أرحام وتنسى حليلة حليلا ، ويغشى محرم بعد محرم على ما مضى من مقتكم وعقوقكم و غشيانكم في أمركم كل مأثم وظلم نبى جاء يدعو الى الهدى وأمر أتى من عند ذى العرش قيم
__________
(1) ديوانه 152 - 154 ، من قصيدة أولها : ألا من لهم آخر الليل معتم طواني ، وأخرى النجم لما تفحم (2) الديوان : (تعرفوا) .
(*)(14/71)
فلا تحسبونا مسلميه فمثله إذا كان في قوم فليس بمسلم .
ومن شعر أبى طالب في أمر الصحيفة التى كتبتها قريش في قطيعة بنى هاشم : ألا أبلغا عنى على ذات بينها لؤيا وخصا من لؤى بنى كعب (1) ا لم تعلموا إنا وجدنا محمدا رسولا كموسى خط في أول الكتب وأن عليه في العباد محبة ولا حيف فيمن خصه الله بالحب (2) وأن الذى رقشتم في كتابكم يكون لكم يوما كراغية السقب (3) أفيقوا أفيقوا قبل أن تحفر الزبى ويصبح من لم يجن ذنبا كذى ذنب ولا تتبعوا أمر الغواة وتقطعوا أواصرنا بعد المودة والقرب وتستجلبوا حربا عوانا وربما أمر على من ذاقه حلب الحرب فلسنا وبيت الله نسلم أحمدا لعزاء من عض الزمان ولا كرب ولما تبن منا ومنكم سوالف وأيد أترت بالمهندة الشهب (4) بمعترك ضيق ترى قصد القنا به والضباع العرج تعكف كالشرب (5) كأن مجال الخيل في حجراته وغمغمة الابطال معركة الحرب أليس أبونا هاشم شد أزره وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب ولسنا نمل الحرب حتى تملنا ولا نشتكي مما ينوب من النكب (6)
__________
(1) ديوانه 20 - 24 .
(2) الديوان : (ولا خير ممن خصه الله) .
(3) الرغاء : صوت الابل .
والسقب : ولد الناقة .
(4) أترت : قطعت .
والمهندة : السيوف .
(5) قصد القنا : قطع الرماح المتكسرة .
(6) النكب والنكبة : المصيبة .
(*)(14/72)
ولكننا أهل الحفائظ والنهى إذا طار أرواح الكماة من الرعب .
ومن ذلك قوله : فلا تسفهوا أحلامكم في محمد ولا تتبعوا أمر الغواة الاشائم (1) تمنيتم أن تقتلوه وإنما أمانيكم هذى كأحلام نائم وإنكم والله لا تقتلونه ولما تروا قطف اللحى والجماجم (2) زعمتم بأنا مسلمون محمدا ولما نقاذف دونه ونزاحم من القوم مفضال أبى على العدا تمكن في الفرعين من آل هاشم أمين حبيب في العباد مسوم بخاتم رب قاهر في الخواتم يرى الناس برهانا عليه وهيبة وما جاهل في قومه مثل عالم نبى أتاه الوحى من عند ربه ومن قال لا يقرع بها سن نادم .
ومن ذلك قوله - وقد غضب لعثمان بن مظعون الجمحى ، حين عذبته قريش ونالت منه : أمن تذكر دهر غير مأمون أصبحت مكتئبا تبكى كمحزون (3) أم من تذكر أقوام ذوى سفه يغشون بالظلم من يدعو إلى الدين ألا يرون - أذل الله جمعهم إنا غضبنا لعثمان بن مظعون ونمنع الضيم من يبغى مضامتنا بكل مطرد في الكف مسنون ومرهفات كأن الملح خالطها يشفى بها الداء من هام المجانين حتى تقر رجال لا حلوم لها بعد الصعوبة بالاسماح واللين
__________
(1) ديوانه 155 - 158 ، من قصيدة مطلعها : لمن أربع أقوين بين القدائم أقمن بمدحاة الرياح التوائم (2) الديوان : (الفلاصم) .
(3) ديوانه 173 .
(*)(14/73)
أو تؤمنوا بكتاب منزل عجب على نبى موسى أو كذى النون (1) .
قالوا وقد جاء في الخبر أن أبا جهل بن هشام جاء مرة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وهو ساجد وبيده حجر أن يرضخ به رأسه ، فلصق الحجر بكفه فلم يستطع ما أراد ، فقال أبو طالب في ذلك من جملة أبيات : أفيقوا بنى عمنا وانتهوا عن الغى من بعض ذا المنطق (2) والا فإنى إذا خائف بوائق في داركم تلتقي (3) كما ذاق من كان من قبلكم ثمود وعاد وما ذا بقى .
ومنها : واعجب من ذاك في أمركم عجائب في الحجر الملصق بكف الذى قام من حينه الى الصابر الصادق المتقى فأثبته الله في كفه على رغمه الخائن الاحمق قالوا وقد اشتهر عن عبد الله المأمون رحمه الله إنه كان يقول : أسلم أبو طالب والله بقوله : نصرت الرسول رسول المليك ببيض تلالا كلمع البروق (4) أذب وأحمى رسول الاله حماية حام عليه شفيق وما إن أدب لاعدائه دبيب البكار حذار الفنيق (5) ولكن أزير لهم ساميا كما زار ليث بغيل مضيق .
__________
(1) بعده في الديوان : يأتي بأمر جلي غير ذي عوج كما تبين في آيات ياسين (2) ديوانه 94 .
(3) بعده في الديوان : تكون لغيركم عبرة ورب المغارب والمشارق (4) ديوانه 98 .
(5) الفنيق : الفحل المكرم على أهله .
(*)(14/74)
قالوا وقد جاء في السيرة ، وذكره أكثر المؤرخين ، أن عمرو بن العاص لما خرج إلى بلاد الحبشة ليكيد جعفر بن ابى طالب وأصحابه عند النجاشي ، قال : تقول ابنتى : أين أين الرحيل وما البين منى بمستنكر فقلت دعينى فإنى امرؤ اريد النجاشي في جعفر لاكويه عنده كية أقيم بها نخوة الاصعر ولن أنثنى عن بنى هاشم بما اسطعت في الغيب والمحضر وعن عائب اللات في قوله ولو لا رضا اللات لم تمطر وانى لاشنى قريش له وإن كان كالذهب الاحمر .
قالوا فكان عمرو يسمى الشانئ ابن الشانئ ، لان أباه كان إذا مر عليه رسول الله صلى الله عليه وآله بمكة يقول له والله إنى لاشنؤك ، وفيه انزل (إن شانئك هو الابتر) (1) .
قالوا فكتب أبو طالب إلى النجاشي شعرا يحرضه فيه على إكرام جعفر وأصحابه والاعراض عما يقوله عمرو فيه وفيهم ، من جملته : ألا ليت شعرى كيف في الناس جعفر وعمرو وأعداء النبي الاقارب (2) وهل نال إحسان النجاشي جعفرا وأصحابه ام عاق عن ذاك شاغب .
في أبيات كثيرة .
قالوا وروى عن على عليه السلام انه قال : قال لى أبى : يا بنى الزم أبن عمك ، فإنك تسلم به من كل بأس عاجل وآجل ، ثم قال لى : إن الوثيقة في لزوم محمد فاشدد بصحبته على أيديكا .
__________
(1) سورة الكوثر 3 .
(2) ديوانه 25 .
(*)(14/75)
ومن شعره المناسب لهذا المعنى قوله : إن عليا وجعفرا ثقتى عند ملم الزمان والنوب (1) لا تخذلا وانصرا ابن عمكما أخى لامى من بينهم وأبى والله لا أخذل النبي ولا يخذله من بنى ذو حسب .
قالوا وقد جاءت الرواية أن أبا طالب لما مات جاء على عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ، فآذنه بموته ، فتوجع عظيما وحزن شديدا ، ثم قال له : امض فتول غسله ، فإذا رفعته على سريره فاعلمني ، ففعل ، فاعترضه رسول الله صلى الله عليه وآله وهو محمول على رءوس الرجال ، فقال وصلتك رحم يا عم ، وجزيت خيرا فلقد ربيت وكفلت صغيرا ، ونصرت وآزرت كبيرا ، ثم تبعه إلى حفرته ، فوقف عليه ، فقال أما والله لاستغفرن لك ولاشفعن فيك شفاعة يعجب لها الثقلان .
قالوا والمسلم لا يجوز أن يتولى غسل الكافر ، ولا يجوز للنبى أن يرق لكافر ، ولا أن يدعو له بخير ، ولا أن يعده بالاستغفار والشفاعة ، وإنما تولى على عليه السلام ، غسله لان طالبا وعقيلا لم يكونا أسلما بعد ، وكان جعفر بالحبشة ، ولم تكن صلاة الجنائز شرعت بعد ، ولا صلى رسول الله صلى الله عليه وآله على خديجة ، وإنما كان تشييع ورقة ودعاء .
قالوا ومن شعر أبى طالب يخاطب أخاه حمزة ، وكان يكنى أبا يعلى : فصبرا أبا يعلى على دين أحمد وكن مظهرا للدين وفقت صابرا وحط من أتى بالحق من عند ربه بصدق وعزم لا تكن حمز كافرا فقد سرنى إذ قلت أنك مؤمن فكن لرسول الله في الله ناصرا
__________
(1) ديوانه 42 .
(*)(14/76)
وباد قريشا بالذى قد أتيته جهارا وقل ما كان أحمد ساحرا .
قالوا : ومن شعره المشهور : أنت النبي محمد قرم أعز مسود (1) لمسودين أكارم طابوا وطاب المولد نعم الارومة اصلها عمرو الخضم الاوحد (2) هشم الربيكة في الجفان وعيش مكة أنكد (3) فجرت بذلك سنة فيها الخبيزة تثرد (4) ولنا السقاية للحجيج بها يماث العنجد (5) والمأزمان وما حوت عرفاتها والمسجد أنى تضام ولم أمت وأنا الشجاع العربد (6) وبطاح مكة لا يرى فيها نجيع أسود وبنو أبيك كأنهم أسد العرين توقد ولقد عهدتك صادقا في القول لا تتزيد ما زلت تنطق بالصواب وأنت طفل أمرد .
قالوا ومن شعره المشهور ايضا قوله يخاطب محمدا ، ويسكن جأشه ، ويأمره بإظهار الدعوة : لا يمنعنك من حق تقوم به أيد تصول ولا سلق بأصوات (7)
__________
(1) ديوانه 70 - 72 .
(2) الخضم : الكثير العطاء .
(3) الربيكة : طعام يعمل من تمر وأقط وسمن .
(4) الخبيزة : الخبز ، وفي الاساس : (ثردت الخبز أثرده ، وهو أن تفته ثم تبله بمرق) .
(5) العنجد : الزبيب .
(6) العربد في الاصل : الحية ، وهو كناية عن الشجاعة .
(7) ديوانه 50 .
(*)(14/77)
فان كفك كفى إن بليت بهم ودون نفسك نفسي في الملمات .
ومن ذلك قوله ، ويقال إنها لطالب بن أبى طالب : إذا قيل من خير هذا الورى قبيلا وأكرمهم اسرة (1) أناف لعبد مناف أب وفضله هاشم العزه لقد حل مجد بنى هاشم مكان النعائم والنثره وخير بنى هاشم أحمد رسول الاله على فتره .
ومن ذلك قوله : لقد أكرم الله النبي محمدا فاكرم خلق الله في الناس أحمد (2) وشق له من إسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد .
وقوله أيضا ، وقد يروى لعلى عليه السلام : يا شاهد الله على فاشهد (3) إنى على دين النبي احمد * من ضل في الدين فانى مهتد * .
قالوا فكل هذه الاشعار قد جاءت مجئ التواتر ، لانه إن لم تكن آحادها متواترة ، فمجموعها يدل على أمر واحد مشترك ، وهو تصديق محمد صلى الله عليه وآله ، ومجموعها متواتر ، كما إن كل واحدة من قتلات على عليه السلام الفرسان منقولة آحادا ، ومجموعها متواتر ، يفيدنا العلم الضرورى بشجاعته ، و كذلك القول فيما روى من سخاء حاتم ، وحلم الاحنف ومعاوية ، وذكاء أياس وخلاعة أبى نواس ، وغير ذلك ، قالوا واتركوا هذا كله جانبا ، ما قولكم في القصيدة اللامية ، التى شهرتها كشهرة " قفانبك " وإن جاز الشك فيها أو في شئ من أبياتها ، جاز الشك في " قفانبك " وفي بعض أبياتها ، ونحن نذكر منها هاهنا قطعة وهى قوله :
__________
(1) ديوانه 50 .
(2) ديوانه 75 .
(3) ديوانه 75 .
(*)(14/78)
أعوذ برب البيت من كل طاعن علينا بسوء أو يلوح بباطل (1) ومن فاجر يغتابنا بمغيبة ومن ملحق في الدين ما لم نحاول كذبتم وبيت الله يبزى محمد ولما نطاعن دونه ونناضل (2) وننصره حتى نصرع دونه ونذهل عن أبنائنا والحلائل وحتى نرى ذا الردع يركب ردعه من الطعن فعل الانكب المتحامل (3) وينهض قوم في الحديد اليكم نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل (4) وإنا وبيت الله من جد جدنا لتلتبسن أسيافنا بالاماثل (5) بكل فتى مثل الشهاب سميدع أخى ثقة عند الحفيظة باسل وما ترك قوم لا أبالك سيدا يحوط الذمار غير نكس مواكل (6) وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للارامل (7) يلوذ به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل وميزان صدق لا يخيس شعيره ووزان صدق وزنه غير عائل (8) ألم تعلموا أن ابننا لا مكذب لدينا ولا يعبأ بقول الا باطل لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد وأحببته حب الحبيب المواصل وجدت بنفسى دونه فحميته ودافعت عنه بالذرى والكواهل فلا زال للدنيا جمالا لاهلها وشينا لمن عادى وزين المحافل وأيده رب العباد بنصره وأظهر دينا حقه غير باطل .
__________
(1) ديوانه 100 - 134 .
(2) يبزي ، أي يغلب .
(3) يركب ردعه : يخر لوجهه على دمه ، والردع : اللطخ والاثر من الدم .
(4) الروايا : جمع راوية ، وهو البعير يستقى عليه .
وذات الصلاصل : المزادة التي ينقل فيها الماء ، والصلاصل جمع صلصلة ، وهي بقية الماء في الادواة .
(5) الاماثل : الاشراف .
(6) الديوان : (غير ذرب) .
(7) ثمال اليتامى : عمادهم .
(8) يقال : عال الميزان يعول ، إذا مال .
(*)(14/79)
وورد في السيرة والمغازى أن عتبة بن ربيعة أو شيبة لما قطع رجل عبيدة بن الحارث بن المطلب يوم بدر أشبل (1) عليه على وحمزة فاستنقذاه منه وخبطا عتبة بسيفيهما حتى قتلاه ، واحتملا صاحبهما من المعركة إلى العريش ، فألقياه بين يدى رسول الله صلى الله عليه وآله ، وإن مخ ساقه ليسيل ، فقال يا رسول الله ، لو كان أبو طالب حيا لعلم أنه قد صدق في قوله : كذبتم وبيت الله نخلى محمدا ولما نطاعن دونه ونناضل وننصره حتى نصرع حوله ونذهل عن ابنائنا والحلائل .
فقالوا إن رسول الله صلى الله عليه وآله استغفر له ولابي طالب يومئذ ، وبلغ عبيدة مع النبي صلى الله عليه وآله الى الصفراء فمات فدفن بها .
قالوا وقد روى أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله في عام جدب ، فقال أتيناك يا رسول الله ولم يبق لنا صبى يرتضع ، ولا شارف (2) يجتر ثم أنشده : أتيناك والعذراء تدمى لبانها وقد شغلت أم الرضيع عن الطفل وألقى بكفيه الفتى لاستكانة من الجوع حتى ما يمر ولا يحلى ولا شئ مما يأكل الناس عندنا سوى الحنظل العامي والعلهز الفسل وليس لنا إلا إليك فرارنا وأين فرار الناس إلا إلى الرسل .
فقام النبي صلى الله عليه وآله يجر رداءه ، حتى صعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : (اللهم اسقنا غيثا مغيثا ، مرئيا هنيئا ، مريعا سحا سجالا ، غدقا طبقا قاطبا دائما ، درا تحيى به الارض ، وتنبت به الزرع ، وتدر به الضرع ، واجعله سقيا نافعا عاجلا غير رائث ، فو الله ما رد رسول الله صلى الله عليه وآله يده إلى نحره حتى ألقت السماء
__________
(1) أشبل : عطف .
(2) الشارف : الناقة .
(*)(14/80)
أرواقها ، وجاء الناس يضجون الغرق الغرق يا رسول الله فقال اللهم حوالينا ولا علينا ، فانجاب السحاب عن المدينة حتى استدار حولها كالاكليل فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه ، ثم قال : لله در أبى طالب لو كان حيا لقرت عينه .
من ينشدنا قوله فقام على فقال يا رسول الله ، لعلك أردت : * وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * قال : أجل ، فأنشده أبياتا من هذه القصيدة ، ورسول الله يستغفر لابي طالب على المنبر ، ثم قام رجل من كنانة فأنشده : لك الحمد والحمد ممن شكر سقينا بوجه النبي المطر دعا الله خالقه دعوه إليه ، وأشخص منه البصر فما كان إلا كما ساعة أو أقصر حتى رأينا الدرر دفاق العزالى وجم البعاق (1) أغاث به الله عليا مضر فكان كما قاله عمه أبو طالب ذو رواء غرر به يسر الله صوب الغمام فهذا العيان وذاك الخبر فمن يشكر الله يلق المزيد ومن يكفر الله يلق الغير فقال رسول الله إن يكن شاعر أحسن فقد أحسنت .
قالوا وإنما لم يظهر أبو طالب الاسلام ويجاهر به ، لانه لو أظهره لم يتهيا له من نصرة النبي صلى الله عليه وآله ما تهيا له ، وكان كواحد من المسلمين الذين اتبعوه ، نحو أبى بكر وعبد الرحمن بن عوف ، وغيرهما ممن أسلم ، ولم يتمكن من نصرته والقيام دونه
__________
(1) العزالى : جمع عزلاء ، وهي في الاصل : مصب الماء من القربة والراوية ، ويقال للسحابة إذا انهمرت بالمطر قد حلت عزاليها .
والبعاق : المطر الذي ينبعق بالماء .
(*)(14/81)
حينئذ ، وإنما تمكن أبو طالب من المحاماة عنه بالثبات في الظاهر على دين قريش وإن أبطن الاسلام ، كما لو إن إنسانا كان يبطن التشيع مثلا ، وهو في بلد من بلاد الكرامية ، وله في ذلك البلد وجاهه وقدم ، وهو يظهر مذهب الكرامية ، ويحفظ ناموسه بينهم بذلك ، وكان في ذلك البلد نفر يسير من الشيعة لا يزالون ينالون بالاذى والضرر من أهل ذلك البلد ورؤسائه ، فإنه ما دام قادرا على إظهار مذهب أهل البلد ، يكون أشد تمكنا من المدافعة والمحاماة عن أولئك النفر ، فلو أظهر ما يجوز من التشيع ، وكاشف أهل البلد بذلك ، صار حكمه حكم واحد من اولئك النفر ، ولحقه من الاذى والضرر ما يلحقهم ، ولم يتمكن من الدفاع احيانا عنهم كما كان أولا .
قلت فإما أنا فإن الحال ملتبسه عندي ، والاخبار متعارضة ، والله أعلم بحقيقة حاله كيف كانت (1) .
ويقف صدري رسالة النفس الزكية (2) إلى المنصور ، وقوله فيها (فأنا ابن خير الاخيار ، وأنا ابن شر الاشرار ، وأنا ابن سيد أهل الجنة ، وأنا ابن سيد اهل النار) .
فإن هذه شهادة منه على ابى طالب بالكفر ، وهو ابنه وغير متهم عليه ، وعهده قريب من عهد النبي صلى الله عليه وآله ، لم يطل الزمان فيكون الخبر مفتعلا .
وجملة الامر أنه قد روى في إسلامه أخبار كثيرة ، وروى في موته على دين قومه أخبار كثيرة ، فتعارض الجرح والتعديل ، فكان كتعارض البينتين عند الحاكم ، وذلك يقتضى التوقف ، فأنا في أمره من المتوقفين .
__________
(1) وضع الشيخ المفيد رسالة في ايمان أبي طالب ، طبعت في مجموعة نفائس المخطوطات ، العدد الثالث من المخموعة الاولى .
طبعت في النجف سنة 1956 .
(2) هو محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن ابي طالب ، والملقب بالارقط وبالمهدي وبالنفس الزكية ، خرج على المنصور ثائرا لمقتل أبيه بالكوفة في مائتين وخمسين رجلا ، فقبض على أمير المدينة ، وبايعه أهلها فانتدب المنصور لقتاله ولي عهده عيسى بن موسى ، فسار إليه ، وانتهى الامر بمقتله سنة 145 .
(مقاتل الطالبيين 232) .
(*)(14/82)
فاما الصلاة وكونه لم ينقل عنه انه صلى ، فيجوز أن يكون لان الصلاة لم تكن بعد قد فرضت ، وانما كانت نفلا غير واجب ، فمن شاء صلى ، ومن شاء ترك ، ولم تفرض الا بالمدينة .
ويمكن أن يقول اصحاب الحديث : إذا تعارض الجرح و التعديل كما قد اشرتم إليه ، فالترجيح عند اصحاب اصول الفقه لجانب الجرح ، لان الجارح قد أطلع على زيادة لم يطلع عليها المعدل .
و لخصومهم أن يجيبوا عن هذا فنقول أن هذا إنما يقال ويذكر في أصول الفقه في طعن مفصل في مقابله تعديل مجمل ، مثاله أن يروى شعبة مثلا حديثا عن رجل ، فهو بروايته عنه قد وثقه ، ويكفى في توثيقه له أن يكون مستور الحال ، ظاهره العدالة ، فيطعن فيه الدار قطني مثلا بأن يقول كان مدلسا ، أو كان يرتكب الذنب الفلاني ، فيكون قد طعن طعنا مفصلا في مقابله تعديل مجمل ، وفيما نحن فيه وبصدده الروايتان متعارضتان تفصيلا لا إجمالا ، لان هؤلاء يروون أنه تلفظ بكلمتي الشهادة عند الموت ، وهؤلاء يروون إنه قال عند الموت : أنا على دين الاشياخ .
وبمثل هذا يجاب على من يقول من الشيعة : روايتنا في إسلامه أرجح ، لانا نروى حكما أيجابيا ونشهد على اثبات ، وخصومنا يشهدون على النفى ، ولا شهادة على النفى ، وذلك أن الشهادة في الجانبين معا ، إنما هي على أثبات ، ولكنه اثبات متضاد .
وصنف بعض الطالبيين في هذا العصر كتابا في إسلام ابى طالب ، وبعثه إلى وسألني أن اكتب عليه (1) بخطى نظما أو نثرا ، أشهد فيه بصحة ذلك ، وبوثاقة الادلة عليه ، فتحرجت أن أحكم بذلك حكما قاطعا ، لما عندي من التوقف فيه ، ولم أستجز أن أقعد عن تعظيم أبى طالب ، فانى أعلم أنه لولاه لما قامت للاسلام دعامة .
واعلم أن حقه واجب على كل مسلم في الدنيا إلى أن تقوم الساعة ، فكتبت على ظاهر المجلد :
__________
(1) ساقطة من ب .
(*)(14/83)
ولو لا أبو طالب وابنه لما مثل الدين شخصا فقاما فذاك بمكه آوى وحامى وهذا بيثرب جس الحماما (1) تكفل عبد مناف بامر وأودى فكان على تماما فقل في ثبير مضى بعد ما قضى ما قضاه وأبقى شماما فلله ذا فاتحا للهدى ولله ذا للمعالي ختاما وما ضر مجد أبى طالب جهول لغا أو بصير تعامى كما لا يضر إياة الصبا (2) ح من ظن ضوء النهار الضلاما .
فوفيته حقه من التعظيم والاجلال ، ولم أجزم بامر عندي فيه وقفه [ قصة غزوة بدر ] الفصل الثالث في شرح القصة في غزاة بدر ، ونحن نذكر ذلك من كتاب المغازى لمحمد بن عمر الواقدي ، ونذكر ما عساه زاده محمد بن إسحاق في كتاب المغازى ، وما زاده [ أحمد بن يحيى ] (3) بن جابر البلاذرى في تاريخ الاشراف .
قال الواقدي : بلغ (4) رسول الله صلى الله عليه وآله أن عير قريش قد فصلت من مكة تريد الشام ، وقد جمعت قريش فيها أموالها ، فندب لها أصحابه ، وخرج يعترضها على رأس ستة عشر شهرا من مهاجره عليه السلام ، فخرج في خمسين ومائة - ويقال في مائتين - فلم يلق العير ، وفاتته ذاهبة إلى الشام ...
وهذه غزاة ذى العشيرة ، رجع منها إلى المدينة فلم يلق حربا ، فلما تحين انصراف العير من الشام قافلة ندب أصحابه لها ، وبعث طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل قبل خروجه من المدينة بعشر ليال ،
__________
(1) ا : (حسن) .
(2) إياة الصبح : ضوءه ، وأصله في الشمس .
(3) من ا .
(4) مغازي الواقدي ص 11 وما بعدها .
(*)(14/84)
يتجسسان خبر العير ، حتى نزلا على كشد (1) الجهنى بالموضع المعروف بالنخبار (2) ، وهو من وراء ذى المروة على الساحل ، فأجارهما وأنزلهما ، فلم يزالا مقيمين في خباء وبر حتى مرت العير ، فرفعهما على نشز من الارض ، فنظرا إلى القوم وإلى ما تحمل العير ، وجعل أهل العير يقولون لكشد يا كشد ، هل رأيت أحدا من عيون محمد فيقول اعوذ بالله ، وأنى لمحمد عيون بالنخبار فلما راحت العير باتا حتى أصبحا ثم خرجا ، وخرج معهما كشد خفيرا ، حتى أوردهما ذا المروة ، وساحلت العير فأسرعت ، وسار بها أصحابها ليلا ونهارا ، فرقا من الطلب ، وقدم طلحة وسعيد المدينة في اليوم الذى لقى رسول الله صلى الله عليه وآله قريشا ببدر ، فخرجا يعترضان رسول الله صلى الله عليه وآله ، فلقياه بتربان - وتربان بين ملل والسالة على المحجة ، وكانت منزل عروة بن أذينة الشاعر - وقدم كشد بعد ذلك على النبي صلى الله عليه وآله ، وقد أخبر طلحة وسعيد رسول الله صلى الله عليه وآله بما صنع بهما ، فحباه وأكرمه ، وقال : ألا أقطع لك ينبع قال : إنى كبير ، وقد نفد عمرى .
ولكن إقطعها لابن أخى ، فأقطعها له (3) .
قالوا وندب رسول الله صلى الله عليه وآله المسلمين ، وقال هذه عير قريش ، فيها اموالهم لعل الله أن يغنمكموها .
فأسرع من أسرع ، حتى أن كان الرجل ليساهم أباه في الخروج ، فكان ممن ساهم أباه سعد بن خيثمة ، فقال سعد لابيه إنه لو كان غير الجنة آثرتك به ، إنى لارجو الشهادة في وجهى هذا ، فقال خيثمة آثرنى وقر مع نسائك ، فأبى سعد ، فقال خيثمة إنه لا بد لاحدنا من أن يقيم ، فاستهما ، فخرج سهم سعد ، فقتل ببدر .
وأبطأ عن النبي صلى الله عليه وآله بشر كثير من اصحابه ، وكرهوا خروجه ، وكان في ذلك كلام كثير واختلاف ، وبعضهم تخلف من أهل النيات والبصائر ، لم يظنوا انه يكون قتال ، إنما هو الخروج للغنيمة ، ولو ظنوا أنه يكون قتال لما تخلفوا ، منهم أسيد
__________
(1) في الاصابة : كسد بالسين المهملة وما أثبته من الاصول يوافق ما في المغازي .
(2) في مغازي الواقدي : (النخبار من وراء ذي المروة على الساحل) .
ولم أجده في ياقوت .
(3) الخبر في الاصابة 3 : 377 .
(*)(14/85)
ابن حضير ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله ، قال أسيد : الحمد لله الذى سرك وأظهرك على عدوك ، والذى بعثك بالحق ما تخلفت عنك رغبة بنفسى عن نفسك ، ولا ظننت أنك تلاقى عدوا ، ولا ظننت إلا أنها العير فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله صدقت .
قال : وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله ، حتى انتهى الى المكان المعروف بالبقع (1) وهى بيوت السقيا (2) ، وهى متصلة ببيوت المدينة ، فضرب عسكره هناك ، وعرض المقاتلة ، فعرض عبد الله بن عمر ، وأسامة زيد ، ورافع بن خديج ، والبراء بن عازب ، وأسيد بن ظهير ، وزيد بن أرقم ، وزيد بن ثابت ، فردهم ولم يجزهم .
قال الواقدي : فحدثني أبو بكر بن أسماعيل ، عن أبيه ، عن عامر بن سعد ، عن أبيه ، قال : رأيت أخى عمير بن أبى وقاص قبل أن يعرضنا رسول الله صلى الله عليه و آله يتوارى ، فقلت : ما لك يا أخى قال : انى أخاف أن يرانى رسول الله صلى الله عليه وآله فيستصغرني ، فيردني ، وأنا أحب الخروج ، لعل الله أن يرزقنى الشهادة .
قال : فعرض على رسول الله صلى الله عليه ، وآله فاستصغره ، فقال ارجع ، فبكى [ عمير ] (3) ، فأجازه .
قال : فكان سعد يقول كنت أعقد له حمائل سيفه من صغره ، فقتل ببدر وهو ابن ست عشرة سنة .
قال : فلما نزل عليه السلام بيوت السقيا امر اصحابه أن يستقوا (4) من بئرهم : وشرب عليه السلام منها ، كان أول من شرب وصلى عندها ، ودعا يومئذ لاهل المدينة ، فقال :
__________
(1) قال ياقوت : (البقع : اسم بئر بالمدينة) ، وقال الواقدي : (البقع من السقيا التي بنقب بني دينار بالمدينة) (2) في ياقوت : (عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستقي الماء العذب من بيوت السقيا ، وفي حديث آخر : كان يستعذب الماء العذب من بيوت السقيا ، والسقيا : قرية جامعة من عمل الفرع ، بينهما مما يلي الجحفة تسعة عشر ميلا ...
وقال ابن الفقيه : السقيا من أسافل أودية تهامة .
(3) من ا والواقدي .
(4) ب : (يستسقوا) ، وأثبت ما في ا والواقدي .
(*)(14/86)
اللهم إن ابراهيم عبدك وخليلك ونبيك ، دعاك لاهل مكة ، وإنى محمد عبدك ونبيك ، أدعوك لاهل المدينة ، أن تبارك لهم في صاعهم ومدهم وثمارهم ، أللهم حبب إلينا المدينة ، واجعل ما بها من الوباء بخم .
اللهم انى حرمت ما بين لابتيها ، كما حرم أبراهيم خليلك مكة .
قال الواقدي : وخم على ميلين من الجحفة .
وقدم رسول الله أمامة عدى بن أبى الزغباء وبسيس بن عمرو ، وجاء إليه عبد الله بن عمرو بن حرام ، فقال يا رسول الله ، لقد سرنى منزلك هذا ، وعرضك فيه أصحابك ، وتفاءلت به ، إن هذا منزلنا في بنى سلمة ، حيث كان بيننا وبين أهل حسيكة ما كان .
قال الواقدي : هي حسيكة (1) الذباب ، والذباب (2) : جبل بناحية المدينة ، وكان بحسيكة يهود ، وكان لهم بها منازل .
قال عبد الله بن عمرو بن حرام : فعرضنا يا رسول الله هاهنا اصحابنا ، فاجزنا من كان يطيق السلاح ، ورددنا من صغر عن حمل السلاح ، ثم سرنا إلى يهود حسيكة ، وهم أعز يهود كانوا يومئذ ، فقتلناهم كيف شئنا ، فذلت لنا سائر (3) يهود إلى اليوم ، وأنا أرجو يا رسول الله أن نلتقي نحن وقريش ، فيقر الله عينك منهم .
قال الواقدي : وكان خلاد بن عمرو بن الجموح لما كان من النهار رجع إلى أهله بخرباء ، فقال له أبوه عمرو بن الجموح ما ظننت إلا أنكم قد سرتم ، فقال إن رسول الله صلى الله عليه وآله يعرض الناس بالبقيع ، فقال عمرو نعم الفأل والله إنى لارجو أن تغنموا وأن تظفروا بمشركي قريش ، إن هذا منزلنا يوم سرنا إلى حسيكة .
__________
(1) حسيكة ، ضبطه ياقوت بالتصغير ، وقال : (هو موضع بالمدينة في طرف ذباب) .
(2) ضبطه ياقوت : (بكيسر أوله وبائين) ، وقال : (جبل بالمدينة له ذكر في المغازي والاخبار) .
(3) ب : (اليهود) .
(*)(14/87)
قال : فان رسول الله صلى الله عليه وآله قد غير اسمه ، وسماه السقيا قال : فكانت في نفسي أن أشتريها ، حتى اشتراها سعد بن أبى وقاص ببكرين ، ويقال بسبع أواق ، فذكر للنبى صلى الله عليه وآله إن سعدا اشتراها ، فقال ربح البيع .
قال الواقدي : فراح رسول الله صلى الله عليه وآله من بيوت السقيا ، لاثنتى عشرة ليلة (1) مضت من رمضان ، وخرج المسلمون معه ثلاثمائة وخمسة ، وتخلف ثمانية ، ضرب لهم بسهامهم وأجورهم ، فكانت الابل سبعين بعيرا ، وكانوا يتعاقبون الابل : الاثنين ، والثلاثة ، والاربعة ، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وعلى بن أبى طالب عليه السلام ومرثد بن أبى مرثد - ويقال زيد بن حارثة مكان مرثد - يتعاقبون بعيرا واحدا ، وكان حمزة بن عبد المطلب ، وزيد بن حارثة وأبو كبشة وأنسة ، موالى النبي صلى الله عليه وآله على بعير ، وكان عبيدة بن الحارث والطفيل والحصين ابنا الحارث ، ومسطح ابن أثاثة على بعير لعبيدة بن الحارث ناضح (2) ابتاعه من أبى داود المازنى ، وكان معاذ وعوف ومعوذ بنو عفراء ومولاهم أبو الحمراء على بعير ، وكان أبى بن كعب وعمارة بن حزام وحارثة بن النعمان على بعير ، وكان خراش بن الصمة وقطبة بن عامر ابن حديدة وعبد الله بن عمرو بن حزام على بعير ، وكان عتبة بن غزوان وطليب بن عمير على جمل لعتبة بن غزوان يقال له العبس ، وكان مصعب بن عمير وسويبط بن حرملة ومسعود بن ربيع على جمل لمصعب ، وكان عمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود على بعير ، وكان عبد الله بن كعب وأبو داود المازنى وسليط بن قيس على جمل لعبد الله بن كعب ، وكان عثمان بن عفان وقدامة بن مظعون وعبد الله بن مظعون والسائب بن عثمان على بعير يتعاقبون ، وكان أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف على بعير ، وكان سعد بن معاذ وأخوه وابن أخيه الحارث بن اوس والحارث بن أنس على جمل لسعد بن معاذ ناضح يقال له الذيال ، وكان سعيد بن زيد ، وسلمة بن
__________
(1) ساقطة من ب .
(2) الناضح : البعير يستقى عليه الماء .
(*)(14/88)
سلامة بن وقش وعباد بن بشر ورافع بن يزيد على ناضح لسعيد بن زيد ، ما تزودوا إلا صاعا من تمر .
قال الواقدي : فروى معاذ بن رفاعة ، عن أبيه ، قال : خرجت مع النبي صلى الله عليه وآله إلى بدر ، وكان كل ثلاثة يتعاقبون بعيرا ، فكنت أنا وأخى خلاد بن رافع على بكر لنا ومعنا عبيدة بن يزيد بن عامر ، فكنا نتعاقب ، فسرنا حتى إذا كنا بالروحاء إذ مر بنا بكرنا وبرك علينا وأعيا ، فقال أخى اللهم إن لك على نذرا ، لئن رددتنا إلى المدينة لانحرنه ، فمر بنا النبي صلى الله عليه وآله ونحن على تلك الحال ، فقلنا : يا رسول الله ، برك علينا بكرنا ، فدعا بماء فتمضمض وتوضا في إناء ، ثم قال : افتحا فاه ، ففعلنا فصبه في فيه ، ثم على رأسه ثم على عنقه ثم على حاركه ، ثم على سنامه ، ثم على عجزه ، ثم على ذنبه ، ثم قال : اركبا ، ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله فلحقناه أسفل من المنصرف ، وإن بكرنا لينفر بنا ، حتى إذا كنا بالمصلى راجعين من بدر ، برك علينا ، فنحره أخى ، فقسم لحمه وتصدق به .
قال الواقدي : وقد روى أن سعد بن عباده حمل في بدر على عشرين جملا .
قال : وروى عن سعد بن أبى وقاص ، انه قال : فخرجنا الى بدر مع رسول الله صلى الله عليه وآله ومعنا سبعون بعيرا ، فكانوا يتعاقبون الثلاثة والاربعة والاثنان على بعير ، وكنت أنا من أعظم أصحاب النبي عليه السلام عنه غناء ، وأرجلهم رجلة (1) ، وأرماهم لسهم ، لم أركب خطوة ذاهبا ولا راجعا .
قال الواقدي : وقال رسول الله صلى الله عليه وآله حين فصل من بيوت السقيا : اللهم إنهم حفاة فاحملهم ، وعراة فاكسهم ، وجياع فأشبعهم ، وعالة فأغنهم من فضلك ، فما رجع أحد منهم يريد أن يركب إلا وجد ظهرا ، للرجل البعير والبعيران ، واكتسى
__________
(1) الرجلة بالضم : القوة على المشي .
(*)(14/89)
من كان عاريا ، وأصابوا طعاما من أزوادهم ، وأصابوا فداء الاسرى (1) ، فاغنى به كل عائل .
قال : واستعمل رسول الله صلى الله عليه وآله على المشاة قيس بن أبى صعصعة - واسم أبى صعصعة عمر بن يزيد بن عوف بن مبذول - وأمره النبي صلى الله عليه وآله حين فصل من بيوت السقيا أن يعد المسلمين ، فوقف لهم ببئر أبى عبيدة يعدهم ، ثم اخبر النبي صلى الله عليه وآله ، وخرج من بيوت السقيا ، حتى سلك بطن العقيق ، ثم سلك طريق المكيمن (2) ، حتى خرج على بطحاء بن أزهر ، فنزل تحت شجرة هناك ، فقام أبو بكر إلى حجارة هناك ، فبنى منها مسجدا ، فصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأصبح يوم الاثنين وهو هناك ، ثم صار إلى بطن ملل وتربان بين الحفيرة وملل .
قال الواقدي : فكان سعد بن ابى وقاص ، يقول لما كنا بتربان ، قال لى رسول الله صلى الله عليه وآله : يا سعد ، انظر إلى الظبى ، فافوق له بسهم ، وقام رسول الله صلى الله عليه وآله فوضع رأسه بين منكبي وأذنى ، ثم قال : اللهم سدد رميته - قال : فما أخطأ سهمي عن نحره ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله ، وخرجت أعدو فاخذته وبه رمق فذكيته (3) ، فحملناه حتى نزلنا قريبا ، وأمر به رسول الله صلى الله عليه وآله فقسم بين أصحابه .
قال الواقدي : وكان معهم فرسان فرس لمرثد بن أبى مرثد الغنوى ، وفرس للمقداد بن عمرو البهرانى ، حليف بنى زهرة ، ويقال فرس للزبير ، ولم يكن إلا فرسان لاختلاف عندهم ، أن المقداد له فرس ، وقد روى عن ضباعة بنت الزبير عن المقداد ،
__________
(1) ا : (للاسرى) .
(2) المكيمن ، ضبطه ياقوت على التصغير ، وقال : عقيق المدينة) وفي الواقدي : (المكتمن) .
(3) ذكيته .
ذبحته .
(*)(14/90)
قال : كان معى يوم بدر فرس يقال له سبحة وقد روى سعد بن مالك الغنوى عن آبائه أن مرثد بن أبى مرثد الغنوى شهد بدرا على فرس له يقال له السيل .
قال الواقدي : ولحقت قريش بالشام في عيرها ، وكانت العير ألف بعير ، وكان فيها أموال عظام ، ولم يبق بمكة قرشي ولا قرشية له مثقال فصاعدا إلا بعث به في العير ، حتى إن المرأة لتبعث بالشئ التافه ، وكان يقال أن فيها لخمسين الف دينار وقالوا أقل ، وإن كان ليقال أن أكثر ما فيها من المال لال سعيد بن العاص لابي أحيحة إما مال لهم أو مال مع قوم قراض على النصف ، وكان عامة العير لهم ، ويقال بل كان لبنى مخزوم فيها مائتا بعير وخمسة أو أربعة آلاف مثقال ذهبا ، وكان يقال للحارث بن عامر بن نوفل فيها ألفا مثقال .
قال الواقدي : وحدثني هشام بن عمارة بن أبى الحويرث ، قال : كان لبنى عبد مناف فيها عشرة آلاف مثقال ، وكان متجرهم الى غزة من أرض الشام .
قال الواقدي : وحدثني عبد الله بن جعفر ، عن أبى عون مولى المسور ، عن مخرمة ابن نوفل ، قال : لما لحقنا بالشام أدركنا رجل من جذام ، فاخبرنا أن محمدا قد كان عرض لعيرنا في بدأتنا ، وإنه تركه مقيما ينتظر رجعتنا ، قد حالف علينا أهل الطريق ووادعهم .
قال مخرمة : فخرجنا خائفين نخاف الرصد ، فبعثنا ضمضم بن عمرو حين فصلنا من الشام .
قال الواقدي : وكان عمرو بن العاص مع العير ، وكان يحدث بعد ذلك يقول لما كنا بالزرقاء - والزرقاء بالشام من أذرعات على مرحلتين - ونحن منحدرون إلى مكة لقينا رجلا من جذام ، فقال قد كان عرض محمد لكم في بدأتكم في أصحابه ، فقلنا : ما شعرنا ، قال : بلى ، فأقام شهرا ، ثم رجع الى يثرب ، وأنتم يوم عرض محمد لكم مخفون فهو الان أحرى أن يعرض لكم ، إنما يعد لكم الايام عدا ، فاحذروا على عيركم ،(14/91)
وارتئوا آراءكم ، فو الله ما أرى من عدد ولا كراع ولا حلقة (1) .
فأجمع القوم أمرهم ، فبعثوا ضمضم بن عمرو ، وكان في العير ، وقد كانت قريش مرت به وهو بالساحل ، معه بكران ، فاستاجروه بعشرين مثقالا ، وأمره أبو سفيان أن يخبر قريشا أن محمدا قد عرض لعيرهم ، وأمره أن يجدع بعيره إذا دخل ، ويحول رحله ، ويشق قميصه من قبله ودبره ، ويصيح الغوث الغوث ويقال إنما بعثوه من تبوك ، وكان في العير ثلاثون رجلا من قريش ، فيهم عمرو بن العاص ، ومخرمة بن نوفل .
قال الواقدي : وقد كانت عاتكة بنت عبد المطلب رأت قبل مجئ ضمضم بن عمرو رؤيا أفزعتها ، وعظمت في صدرها ، فأرسلت الى أخيها العباس ، فقالت يا أخى ، لقد والله رأيت رؤيا افزعتني (2) ، وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة ، فاكتم على ما أحدثك منها ، رأيت راكبا اقبل على بعير حتى وقف بالابطح ، ثم صرخ باعلى صوته يا آل غدر ، انفروا إلى مصارعكم في ثلاث ، فصرخ بها ثلاث مرات ، فأرى الناس اجتمعوا إليه ، ثم دخل المسجد ، والناس يتبعونه إذ مثل به بعيره على ظهر الكعبة ، فصرخ مثلها ثلاثا ثم مثل به بعيره على رأس أبى قبيس ، فصرخ بمثلها ثلاثا ، ثم أخذ صخرة من أبى قبيس فارسلها ، فأقبلت تهوى ، حتى إذا كانت في أسفل الجبل أرفضت ، فما بقى بيت من بيوت مكة ولا دار من دورها إلا دخلته منها فلذة (3) .
قال الواقدي : وكان عمرو بن العاص يحدث بعد ذلك فيقول لقد رأيت كل هذا ، ولقد رايت في دارنا فلقة من الصخرة التى انفلقت من أبى قبيس ، ولقد كان ذلك عبرة ، ولكن الله لم يرد أن نسلم يومئذ ، لكنه أخر اسلامنا الى ما أراد .
قلت كان بعض أصحابنا يقول لم يكف عمرا أن يقول رأيت الصخرة في دور مكة عيانا ، فيخرج ذلك مخرج الاستهزاء باطنا على وجه النفاق واستخفافه بعقول المسلمين
__________
(1) الحلقة هنا : السلاح .
(2) الواقدي : (أفظعتها) .
الفلذة : القطعة من الحجارة .
(*)(14/92)
زعم ، حتى يضيف إلى ذلك القول بالخبر الصراح فيقول إن الله تعالى لم يكن أراد منه الاسلام يومئذ .
قال الواقدي : قالوا ولم يدخل دارا ولا بيتا من دور بنى هاشم ولا بنى زهرة من تلك الصخرة شئ قال : فقال العباس : إن هذه لرؤيا ، فخرج مغتما ، حتى لقى الوليد بن عتبة ابن ربيعة - وكان له صديقا - فذكرها له واستكتمه ، ففشا الحديث في الناس ، قال العباس : فغدوت أطوف بالبيت ، وأبو جهل في رهط من قريش يتحدثون برؤيا عاتكة ، فقال أبو جهل ما رأت عاتكة هذه فقلت وما ذاك فقال يا بنى عبد المطلب ، أما رضيتم بان تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساءكم زعمت عاتكة أنها رأت في المنام كذا وكذا - للذى رأت - فسنتربص بكم ثلاثا ، فإن يكن ما قالت حقا فسيكون ، وإن مضت الثلاث ولم يكن ، نكتب عليكم إنكم أكذب أهل بيت في العرب فقال له العباس يا مصفر أسته ، أنت أولى بالكذب واللؤم منا فقال أبو جهل إنا استبقنا المجد وأنتم ، فقلتم فينا السقاية ، فقلنا لا نبالي ، تسقون الحجاج ، ثم قلتم فينا الحجابة ، فقلنا لا نبالي تحجبون البيت ، ثم قلتم فينا الندوة ، قلنا لا نبالي يكون الطعام فتطعمون الناس ثم قلتم فينا الرفادة ، فقلنا لا نبالي ، تجمعون عندكم ما ترفدون به الضعيف ، فلما أطعمنا الناس وأطعمتم ، وازدحمت الركب واستبقنا المجد ، فكنا كفرسي رهان ، قلتم منا نبى ، ثم قلتم منا نبية فلا واللات والعزى لا كان هذا أبدا .
قلت لا أرى كلام ابى جهل منتظما ، لانه إذا سلم للعباس أن هذه الخصال كلها فيهم ، وهى الخصال التى تشرف بها القبائل بعضها على بعض ، فكيف يقول لا نبالي لا نبالي وكيف يقول فلما أطعمنا للناس وأطعمتم ، وقد كان الكلام منتظما ، لو قال : ولنا بإزاء هذه المفاخر كذا وكذا ، ثم يقول بعد ذلك استبقنا المجد فكنا كفرسي رهان ، وازدحمت الركب ، ولم يقل شيئا ولا عد مآثره ولعل أبا جهل قد قال ما لم ينقل .(14/93)
قال الواقدي : قال العباس : فو الله ما كان منى غير أنى جحدت ذلك ، وأنكرت أن تكون عاتكة رأت شيئا ، فلما أمسيت لم تبق امرأة أصابتها ولادة عبد المطلب إلا جاءت ، فقلن لى أرضيتم بهذا الفاسق الخبيث يقع في رجالكم ، ثم قد تناول نساءكم ولم تكن لك عند ذلك غيره فقلت والله ما قلت إلا لانى لا أبالى به ، ولايم الله لاعرضن له غدا ، فان عاد كفيتكن إياه فلما أصبحوا من ذلك اليوم الذى رأت فيه عاتكة ما رأت ، قال أبو جهل : هذه ثلاثة أيام ما بقى قال العباس : وغدوت في اليوم الثالث ، وأنا حديد مغضب ، أرى أن قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه ، وأذكر ما أحفظنى به النساء من مقالتهن ، فو الله إنى لامشى نحوه - وكان رجلا خفيفا حديد الوجه حديد اللسان حديد النظر - إذ خرج نحو باب بنى سهم يشتد ، فقلت ما باله لعنه الله أكل هذا فرقا من أن أشاتمه فإذا هو قد سمع صوت ضمضم بن عمرو وهو يقول يا معشر قريش ، يا آل لؤى بن غالب ، اللطيمة قد عرض لها محمد في أصحابه الغوث الغوث والله ما أرى أن تدركوها ، وضمضم ينادى بذلك في بطن الوادي وقد جدع أذنى بعيره وشق قميصه قبلا ودبرا ، وحول رحله ، وكان يقول لقد رأيتنى قبل أن أدخل مكة وإنى لارى في النوم وأنا على راحلتي كان وادى مكة يسيل من أسفله ألى أعلاه دما ، فاستيقظت فزعا مذعورا ، فكرهتها لقريش ، ووقع في نفسي أنها مصيبة في انفسهم .
قال الواقدي : وكان عمير بن وهب الجمحى يقول ما رأيت أعجب من أمر ضمضم قط ، وما صرح على لسانه إلا شيطان كأنه لم يملكنا من أمورنا شيئا ، حتى نفرنا على الصعب والذلول ، وكان حكيم بن حزام يقول ما كان الذى جاءنا فاستنفرنا إلى العير إنسانا إن هو إلا شيطان ، قيل كيف يا أبا خالد قال : إنى لاعجب منه ، ما ملكنا من أمرنا شيئا .
قال الواقدي : فجهز الناس وشغل بعضهم عن بعض ، وكان الناس بين رجلين إما خارج وإما باعث مكانه رجلا ، وأشفقت قريش لرؤيا عاتكة ، وسر بنو هاشم .(14/94)
وقال قائلهم : كلا ، زعمتم أنا كذبنا وكذبت عاتكة فأقامت قريش ثلاثا تتجهز - ويقال يومين - وأخرجت أسلحتها واشتروا سلاحا ، وأعان قويهم ضعيفهم ، وقام سهيل ابن عمرو في رجال من قريش ، فقال يا معشر قريش ، هذا محمد والصباة معه من شبانكم واهل يثرب قد عرضوا لعيركم ولطيمتكم (1) ، فمن أراد ظهرا فهذا ظهر ، ومن أراد قوة فهذه قوة .
وقام زمعة بن الاسود ، فقال إنه واللات والعزى ما نزل بكم أمر أعظم من أن طمع محمد وأهل يثرب أن يعرضوا لعيركم فيها خزائنكم ، فاوعبوا (2) ولا يتخلف منكم أحد ، ومن كان لا قوة له فهذه قوة ، والله لئن أصابها محمد وأصحابه لا يروعكم منهم ألا وقد دخلوا عليكم بيوتكم .
وقال طعيمة بن عدى يا معشر قريش ، والله ما نزل بكم أمر أجل من هذه أن يستباح عيركم ، ولطيمة قريش فيها أموالكم وخزائنكم ، والله ما أعرف رجلا ولا امرأة من بنى عبد مناف له نش (3) فصاعدا ، إلا وهو في هذه العير ، فمن كان لا قوة به فعندنا قوة نحمله ونقويه .
فحمل على عشرين بعيرا وقوى بهم ، وخلفهم في أهلهم بمعونة وقام حنظلة بن ابى سفيان وعمرو بن أبى سفيان فحضا الناس على الخروج ، ولم يدعوا إلى قوة ولا حملان ، فقيل لهما أ لا تدعوان إلى ما دعا إليه قومكما من الحملان قالا والله ما لنا مال ، وما المال إلا لابي سفيان .
ومشى نوفل بن معاوية الديلمى إلى أهل القوة من قريش ، وكلمهم في بذل النفقة والحملان لمن خرج ، فكلم عبد الله بن أبى ربيعة ، فقال هذه خمسمائة دينار تضعها حيث رأيت ، وكلم حويطب بن عبد العزى ، فاخذ منه مائتي دينار أو ثلثمائة ، ثم قوى بها في السلاح والظهر .
قال الواقدي : وذكروا إنه كان لا يتخلف أحد من قريش إلا بعث مكانه بعثا ، فمشت قريش إلى أبى لهب ، فقالوا له إنك سيد من سادات قريش ، وإنك إن تخلفت عن
__________
(1) اللطيمة : التجارة ، وقيل : اللطيمة : العطر خاصة .
(2) أوعبوا : استعدوا .
(*)(14/95)
النفير يعتبر بك غيرك من قومك ، فاخرج أو أبعث رجلا ، فقال و اللات والعزى لا أخرج ولا أبعث أحدا ، فجاءه أبو جهل فقال أقم يا أبا عتبة ، فو الله ما خرجنا إلا غضبا لدينك ودين آبائك وخاف أبو جهل أن يسلم أبو لهب ، فسكت أبو لهب ولم يخرج ولم يبعث ، وما منع أبا لهب أن يخرج إلا الاشفاق من رؤيا عاتكة ، كان يقول إنما رؤيا عاتكة اخذ باليد ، ويقال إنه بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة وكان له عليه دين ، فقال اخرج وديني عليك لك ، فخرج عنه .
وقال محمد بن اسحاق في المغازى كان دين أبى لهب على العاص بن هشام أربعة آلاف درهم ، فمطله بها وأفلس ، فتركها له على أن يكون مكانه ، فخرج مكانه .
قال الواقدي : وأخرج عتبة وشيبة دروعا لهما ، فنظر إليهما مولاهما عداس وهما يصلحان دروعهما وآله حربهما ، فقال ما تريدان فقالا أ لم تر إلى الرجل الذى أرسلناك إليه بالعنب في كرمنا بالطائف قال : نعم ، قالا نخرج فنقاتله ، فبكى ، وقال : لا تخرجا ، فو الله إنه لنبى ، فأبيا فخرجا ، وخرج معهما فقتل ببدر معهما .
قلت حديث العنب في كرم ابني ربيعة بالطائف قد ذكره أرباب السيرة ، وشرحه الطبري في التاريخ ، قال : لما مات أبو طالب بمكة طمعت قريش في رسول الله صلى الله عليه وآله ونالت منه ما لم تكن تناله في حياة أبى طالب ، فخرج من مكة خائفا على نفسه مهاجرا إلى ربه يؤم الطائف ، راجيا أن يدعو أهلها إلى الاسلام فيجيبوه ، وذلك في شوال من سنة عشر من النبوة ، فأقام بالطائف عشرة أيام ، وقيل شهرا ، لا يدع أحدا من أشراف ثقيف الا جاءه وكلمه ، فلم يجيبوه ، وأشاروا عليه أن يخرج عن أرضهم ، ويلحق بمجاهل الارض وبحيث لا يعرف ، وأغروا به سفهاءهم ، فرموه بالحجارة ، حتى إن رجليه لتدميان ، فكان معه زيد بن حارثة ، فكان يقيه بنفسه ، حتى لقد شج في رأسه .(14/96)
والشيعة تروى أن على بن أبى طالب كان معه ايضا في هجرة الطائف ، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وآله عن ثقيف وهو محزون ، بعد أن مشى إلى عبد ياليل ومسعود وحبيب ابني عمرو بن عمير ، وهم يومئذ سادة ثقيف ، فجلس إليهم ، ودعاهم إلى الله وإلى نصرته والقيام معه على قومه ، فقال له احدهم أنا أمرط (1) بباب الكعبة ، إن كان الله أرسلك وقال الاخر : أما وجد الله أحدا أرسله غيرك وقال الثالث : والله لا أكلمك كلمة أبدا ، لئن كنت رسولا من الله كما تقول ، لانت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام ولئن كنت كاذبا على الله ما ينبغى أن أكلمك فقام رسول الله صلى الله عليه وآله من عندهم ، وقد يئس من خير ثقيف ، واجتمع عليه صبيانهم وسفهاؤهم ، وصاحوا به وسبوه وطردوه ، حتى اجتمع عليه الناس يعجبون منه ، وألجئوه بالحجارة والطرد والشتم إلى حائط (2) لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ، وهما يومئذ في الحائط ، فلما دخل الحائط رجع عنه سفهاء ثقيف ، فعمد إلى ظل حبلة (3) منه فجلس فيه ، وابنا ربيعة ينظران ويريان ما لقى من سفهاء ثقيف .
قال الطبري : فلما اطمأن به قال - فيما ذكر لى : اللهم إليك اشكو ضعف قوتي وقلة حيلتى وهوانى على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربى ، إلى من تكلني إلى بعيد فيتجهمنى ، أم إلى عدو ملكته أمرى ، فإن لم يكن منك غضب على فلا أبالى ولكن عافيتك هي أوسع لى ، أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت به الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والاخرة ، من أن ينزل بى غضبك ، أو يحل على سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، لا حول ولا قوة إلا بك .
فلما رأى عتبة وشيبة ما لقى تحركت له رحمهما ، فدعوا غلاما نصرانيا لهما ، يقال له
__________
(1) في الطبري : (هو يمرط ثياب الكعبة) ، اي يمزقها .
(2) الحائط هنا : البستان .
(3) الحبلة : الكرمة .
(*)(14/97)
عداس ، فقالا له خذ قطفا (1) من هذا العنب وضعه في ذلك الطبق ، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل ، وقل له فليأكل منه ففعل واقبل به حتى وضعه بين يديه ، فوضع يده فيه فقال بسم الله ، وأكل ، فقال عداس والله إن هذه الكلمة لا يقولها أهل هذه البلدة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله من أي البلاد أنت وما دينك قال : أنا نصراني من أهل نينوى ، قال : أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى قال : وما يدريك من يونس بن متى قال : ذاك أخى ، كان نبيا وأنا نبى فاكب عداس على يديه ورجليه ورأسه يقبلها ، قال : يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه : أما غلامك فقد أفسده عليك ، فلما جاءهما قالا ويلك ويلك يا عداس ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه قال : يا سيدى ، ما في الارض خير من هذا ، فقد اخبرني بامر لا يعلمه إلا نبى (2) .
قال الواقدي : واستقسمت قريش بالازلام عند هبل للخروج ، واستقسم أمية بن خلف وعتبة وشيبة بالامر والناهي ، فخرج القدح (3) الناهي ، فاجمعوا المقام حتى أزعجهم أبو جهل ، فقال ما استقسمت ولا نتخلف عن عيرنا .
قال الواقدي : لما توجه زمعة بن الاسود خارجا ، فكان بذى طوى أخرج قداحه ، واستقسم بها ، فخرج الناهي عن الخروج ، فلقى غيظا ، ثم أعادها الثانية فخرج مثل ذلك فكسرها ، وقال : ما رايت كاليوم قدحا أكذب ومر به سهيل بن عمرو وهو على تلك الحال ، فقال ما لى أراك غضبان يا أبا حكيمة فاخبره زمعة ، فقال امض عنك أيها الرجل ، قد أخبرني عمير بن وهب أنه لقيه مثل الذى أخبرتني ، فمضوا على هذا الحديث (4) .
__________
(1) القطف : عنقود العنب .
وهوفي الاصل : اسم لكل ما يقطف .
(2) تاريخ الطبري 2 : 345 ، 346 (طبعة المعارف) .
(3) القدح هنا : السهم الذي كانوا يستقسمون به .
(4) مغازي الواقدي 27 .
(*)(14/98)
قال الواقدي : وحدثني موسى بن ضمرة بن سعيد ، عن أبيه ، قال : قال أبو سفيان ابن حرب لضمضم : إذا قدمت على قريش فقل لها لا تستقسم بالازلام .
قال الواقدي : وحدثني محمد بن عبد الله ، عن الزهري ، عن أبى بكر بن سليم بن أبى خيثمة ، قال : سمعت حكيم بن حزام يقول ما توجهت وجها قط كان أكره إلى من مسيرى إلى بدر ، ولا بان لى في وجه قط ما بان لى قبل أن اخرج ، ثم قال : قدم ضمضم ، فصاح بالنفير فاستقسمت بالازلام ، كل ذلك يخرج الذى أكره ، ثم خرجت على ذلك حتى نزلنا مر الظهران ، فنحر ابن الحنظلية جزورا منها بها حياة ، فما بقى خباء من أخبية العسكر إلا أصابه من دمها ، فكان هذا بين (1) ، ثم هممت بالرجوع ، ثم أذكر ابن الحنظلية وشؤمه ، فيردني حتى مضيت لوجهي .
وكان حكيم يقول لقد رأينا حين بلغنا الثنية البيضاء - وهى الثنية التى تهبطك على فخ وأنت مقبل من المدينة - إذا عداس (2) جالس عليها والناس يمرون ، إذ مر علينا ابنا ربيعة ، فوثب إليهما ، فأخذ بارجلهما في غرزهما ، وهو يقول بأبى أنتما وأمى والله إنه لرسول الله صلى الله عليه وآله ، وما تساقان إلا إلى مصارعكما وإن عينيه لتسيل دمعا على خديه ، فاردت أن أرجع ايضا ، ثم مضيت ومر به العاص بن منبه بن الحجاج ، فوقف عليه حين ولى عتبة وشيبة ، فقال : ما يبكيك قال : يبكيني سيدى - أو سيدا اهل (3) الوادي - يخرجان إلى مصارعهما ، ويقاتلان رسول الله صلى الله عليه وآله فقال العاص وإن محمدا لرسول الله فانتفض عداس انتفاضة واقشعر جلده ، ثم بكى ، وقال : أي والله ، إنه لرسول الله إلى الناس كافة .
قال : فأسلم العاص بن منبه ، ومضى وهو على الشك ، حتى قتل مع المشركين على شك وارتياب ويقال رجع عداس ولم يشهد بدرا ، ويقال شهد بدرا وقتل .
قال الواقدي : والقول الاول أثبت عندنا .
__________
(1) في الاصول : (بينه) والتصويب من الواقدي .
(2) قال صاحب القاموس : عداس ، كشداد .
(3) الواقدي 28 : (يبكيني سيداي وسيدا أهل الوادي) .
(*)(14/99)
قال الواقدي : وخرج سعد بن معاذ معتمرا قبل بدر ، فنزل على أمية بن خلف ، فأتاه أبو جهل ، وقال : أتترك هذا وقد آوى محمدا وآذننا بالحرب فقال سعد بن معاذ قل ما شئت ، أما إن طريق عيركم علينا ، قال أمية بن خلف : مه لا تقل هذا لابي الحكم فانه سيد أهل الوادي قال سعد بن معاذ : وأنت تقول ذلك يا أمية أما والله لسمعت محمدا يقول لاقتلن أمية بن خلف ، قال أمية : أنت سمعته قال سعد بن معاذ : فقلت : نعم قال : فوقع في نفسه ، فلما جاء النفير أبى أمية أن يخرج معهم إلى بدر ، فأتاه عقبة بن أبى معيط وأبو جهل ، ومع عقبة مجمرة فيها بخور ، ومع أبى جهل مكحلة ومرود ، فأدخلها عقبة تحته ، فقال تبخر ، فإنما أنت امرأة ، وقال أبو جهل : اكتحل فانما أنت امرأة فقال أمية : ابتاعوا لى افضل بعير في الوادي ، فابتاعوا له جملا بثلاثمائة دينار من نعم بنى قشير ، فغنمه المسلمون يوم بدر ، فصار في سهم خبيب (1) بن يساف .
قال الواقدي : وقالوا ما كان أحد ممن خرج إلى العير أكره للخروج من الحارث ابن عامر ، وقال : ليت قريشا تعزم على القعود وإن مالى في العير تلف ومال بنى عبد مناف أيضا فيقال له إنك سيد من ساداتها ، أفلا تردعها عن الخروج قال : إنى أرى قريشا قد أزمعت على الخروج ، ولا أرى أحدا به طرق (2) تخلف إلا من علة ، وأنا أكره خلافها ، وما أحب أن تعلم قريش ما أقول ، على أن ابن الحنظلية رجل مشئوم على قومه ، ما أعلمه إلا يحرز قومه أهل يثرب ، ولقد قسم الحارث (3) مالا من ماله بين ولده ، ووقع في نفسه أنه لا يرجع إلى مكة ، وجاءه ضمضم بن عمرو ، وكانت للحارث عنده أياد ، فقال أبا عامر ، إنى رأيت رؤيا كرهتها ، وإنى لكاليقظان على راحلتي واراكم أن واديكم يسيل دما من أسفله إلى أعلاه ، فقال الحارث ما خرج أحد وجها من الوجوه أكره له من وجهى هذا ، قال : يقول ضمضم : والله إنى لارى لك أن تجلس ، فقال لو سمعت
__________
(1) الواقدي 29 ، وفي الاصول (حبيب) ، والتصويب من الواقدي والاصابة .
(2) طرق ، أي قوة .
(3) ساقطة من الواقدي .
(*)(14/100)
هذا منك قبل أن اخرج ما سرت خطوة ، فاطو هذا الخبر أن تعلمه قريش ، فانها تتهم كل من عوقها عن المسير - وكان ضمضم قد ذكر هذا الحديث للحارث ببطن يأجج (1) - قالوا وكرهت قريش أهل الرأى منهم المسير ، ومشى بعضهم الى بعض ، وكان ممن أبطأ بهم عن ذلك الحارث بن عامر ، وأمية بن خلف ، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وحكيم بن حزام وأبو البخترى ، وعلى بن أمية بن خلف ، والعاص بن منبه ، حتى بكتهم أبو جهل بالجبن ، وأعانه عقبة بن أبى معيط والنضر بن الحارث بن كلدة ، وحضوهم على الخروج ، وقالوا هذا فعل النساء .
فأجمعوا المسير ، وقالت قريش لا تدعوا أحدا من عدوكم خلفكم (2) .
قال الواقدي : ومما استدل به على كراهة الحارث بن عامر للخروج وعتبة وشيبة ، إنه ما عرض رجل منهم حملانا ، ولا حملوا أحدا من الناس ، وإن كان الرجل ليأتيهم حليفا أو عديدا ، ولا قوة له ، فيطلب الحملان منهم ، فيقولون إن كان لك مال وأحببت أن تخرج فافعل وإلا فأقم ، حتى كانت قريش تعرف ذلك منهم .
قال الواقدي : فلما اجتمعت قريش إلى الخروج والمسير ، ذكروا الذى بينهم وبين بنى بكر من العداوة ، وخافوهم على من يخلفونه ، وكان أشدهم خوفا عتبة بن ربيعة ، وكان يقول يا معشر قريش ، أنكم وإن ظفرتم بالذى تريدون ، فإنا لا نأمن على من نخلف ، إنما نخلف نساء ولا ذرية ومن لا طعم به فارتئوا آراءكم (3) ، فتصور لهم أبليس في صورة سراقة بن جعشم المدلجى فقال يا معشر قريش ، قد عرفتم شرفي ومكاني في قومي ، أنا لكم جار أن تأتيكم كنانة بشئ تكرهونه ، فطابت نفس عتبة ، وقال له أبو جهل :
__________
(1) الاصول : (تأجج) واثبت ما في الواقدي .
(2) الواقدي 30 .
(3) الواقدي : (رأيكم) .
(*)(14/101)
فما تريد هذا سيد كنانة ، هو لنا جار على (1) من نخلف ، فقال عتبة : لا شئ ، أنا خارج (2) .
قال الواقدي : وكان الذى بين بنى كنانة وقريش أن ابنا لحفص بن الاحنف أحد بنى معيط بن عامر بن لؤى ، خرج يبغى ضالة ، وهو غلام في رأسه ذؤابة ، وعليه حلة ، وكان غلاما وضيئا ، فمر بعامر بن يزيد بن عامر بن الملوح بن يعمر ، أحد رؤساء بنى كنانة - وكان بضجنان - فقال من أنت يا غلام قال : ابن لحفص بن الاحنف ، فقال : يا بنى بكر ، ألكم في قريش دم قالوا نعم ، قال : ما كان رجل يقتل هذا برجله إلا استوفى ، فأتبعه رجل من بنى بكر فقتله بدم له في قريش ، فتكلمت فيه قريش فقال عامر ابن يزيد قد كانت لنا فيكم دماء ، فإن شئتم فأدوا ما لنا قبلكم ونؤدى اليكم ما كان فينا ، وإن شئتم فإنما هو الدم ، رجل برجل ، وإن شئتم فتجافوا عنا فيما قبلنا ، ونتجافى عنكم فيما قبلكم .
فهان ذلك الغلام على قريش ، وقالوا صدق رجل برجل ، فلهوا عنه أن يطلبوا بدمه ، فبينا أخوه مكرز بن حفص بمر الظهران ، إذ نظر عامر بن يزيد وهو سيد بنى بكر على جمل له ، فلما رآه قال : ما اطلب أثرا بعد عين وأناخ بعيره ، وهو متوشح سيفه ، فعلاه به حتى قتله ، ثم أتى مكة من الليل ، فعلق سيف عامر بن يزيد ، بأستار الكعبة فلما أصبحت قريش رأوا سيف عامر بن يزيد ، فعرفوا أن مكرز بن حفص قتله ، وقد كانت تسمع من مكرز في ذلك قولا ، وجزعت بنو بكر من قتل سيدها ، فكانت معدة لقتل رجلين من قريش سيدين أو ثلاثة من ساداتها ، فجاء النفير وهم على هذا الامر ، فخافوهم على من تخلف بمكة من ذراريهم ، فلما قال سراقة ما قال ، وهو ينطق بلسان أبليس شجع القوم (2) .
__________
(1) الواقدي : (علام نختلف !) .
(2) الواقدي 31 ، 32 .
(*)(14/102)
قال الواقدي : وخرجت قريش سراعا ، وخرجوا بالقيان والدفوف ، سارة مولاة عمرو بن هاشم بن عبد المطلب وعزة مولاة أسود بن المطلب ، وفلانة مولاة أمية بن خلف ، يغنين في كل منهل ، وينحرون الجزر ، وخرجوا بالجيش يتقاذفون بالحراب ، وخرجوا بتسعمائة وخمسين مقاتلا ، وقادوا مائة فرس ، بطرا ورئاء الناس ، كما ذكر الله تعالى في كتابه (1) ، وأبو جهل يقول أيظن محمد أن يصيب منا ما أصاب بنخلة وأصحابه ، سيعلم انمنع (2) عيرنا أم لا .
قلت سرية نخلة سرية قبل بدر ، وكان أميرها عبد الله بن جحش قتل فيها عمرو ابن الحضرمي ، حليف بنى عبد شمس ، قتله واقد بن عبد الله التميمي ، رماه بسهم فقتله ، وأسر الحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ، واستاق المسلمون العير ، وكانت خمسمائة بعير فخمسها رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقسم اربعمائة فيمن شهدها من المسلمين ، وهم مائتا رجل ، فاصاب كل رجل بعيران .
قال الواقدي : وكانت الخيل لاهل القوة منهم ، وكان في بنى مخزوم منها ثلاثون فرسا ، وكانت الابل سبعمائة بعير ، وكان أهل الخيل كلهم دارع ، وكانوا مائة ، وكان في الرجالة دروع سوى ذلك (3) .
قال الواقدي : وأقبل أبو سفيان بالعير ، وخاف هو وأصحابه خوفا شديدا حين دنوا من المدينة ، واستبطئوا ضمضما والنفير ، فلما كانت الليلة التي يصبحون فيها على ماء بدر ، جعلت العير تقبل بوجوهها إلى ماء بدر ، وكانوا باتوا من وراء بدر آخر ليلتهم ، وهم على
__________
(1) ذكر الواقدي بعدها الاية : (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ...
) .
إلى آخر الاية .
(2) الواقدي : (أمنع) .
(3) الواقدي 32 ، 33 .
(*)(14/103)
أن يصبحوا بدرا ، إن لم يعترض لهم ، فما أقرتهم العير حتى ضربوها بالعقل (1) على أن بعضها ليثنى بعقالين ، وهى ترجع (2) الحنين ، تواردا الى ماء بدر ، وما إن بها إلى الماء من حاجة ، لقد شربت بالامس ، وجعل أهل العير يقولون إن هذا شئ ما صنعته الابل منذ خرجنا ، قالوا وغشينا تلك الليلة ظلمة شديدة حتى ما نبصر شيئا (3) .
قال الواقدي : وكان بسبس بن عمرو وعدى بن أبى الزغباء وردا على مجدي بدرا يتجسسان (4) الخبر ، فلما نزلا ماء بدر ، أناخا راحلتيهما إلى قريب من الماء ، ثم أخذ أسقيتهما ، يسقيان من الماء ، فسمعا جاريتين من جواري جهينة ، يقال لاحداهما برزة وهى تلزم صاحبتها في درهم ، كان لها عليها وصاحبتها تقول إنما العير غدا أو بعد غد قد نزلت ، ومجدى بن عمر يسمعها ، فقال صدقت ، فلما سمع ذلك بسبس وعدى انطلقا راجعين إلى النبي صلى الله عليه وآله حتى أتياه بعرق الظبية ، فأخبراه الخبر (3) .
قال الواقدي : وحدثني كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني ، عن أبيه ، عن جده - وكان أحد البكائين - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : لقد سلك فج الروحاء موسى النبي عليه السلام في سبعين الفا من بنى إسرائيل وصلوا في المسجد الذى بعرق الظبية .
قال الواقدي : وهى من الروحاء على ميلين مما يلى المدينة ، إذا خرجت على يسارك .
قال الواقدي : وأصبح أبو سفيان ببدر ، قد تقدم العير وهو خائف من الرصد فقال يا مجدي ، هل أحسست احدا تعلم والله ما بمكة قرشي ولا قرشية له نش
__________
(1) العقل : جمع عقال ، وهو الرباط الذي تعقل به الدابة .
(2) الواقدي : (ترجع) .
(3) الواقدي 33 ، 34 .
(4) الواقدي : (يتحسسان) .
(*)(14/104)
فصاعدا - والنش نصف أوقية وزن عشرين درهما - إلا وقد بعث به معنا ولئن كتمتنا شأن عدونا لا يصالحك رجل من قريش ما بل بحر صوفه (1) .
فقال مجدي والله ما رأيت أحدا انكره ، ولا بينك وبين يثرب من عدو ، ولو كان بينك وبينها عدو لم يخف علينا ، وما كنت لاخفيه عنك ، إلا إنى قد رأيت راكبين اتيا إلى هذا المكان - وأشار الى مناخ عدى وبسبس - فاناخا به ، ثم استقيا باسقيتهما ، ثم انصرفا فجاء أبو سفيان مناخهما ، فاخذ أبعارا من أبعار بعيريهما ففتها ، فإذا فيها نوى ، فقال هذه والله علائف يثرب هذه والله عيون محمد وأصحابه ، ما أرى القوم إلا قريبا ، فضرب وجه عيره فساحل (2) بها ، وترك بدرا يسارا وانطلق سريعا ، وأقبلت قريش من مكة ينزلون كل منهل يطعمون الطعام من أتاهم ، وينحرون الجزور ، فبينا هم كذلك في مسيرهم إذ تخلف عتبة وشيبة ، وهما يترددان ، قال أحدهما لصاحبه : الم تر إلى رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب لقد خشيت (3) منها ، قال الاخر : فاذكرها وذكرها فادركهما أبو جهل ، فقال ما تتحادثون به قالا نذكر رؤيا عاتكة ، قال : يا عجبا من بنى عبد المطلب لم يرضوا أن تتنبأ علينا رجالهم حتى تنبات علينا النساء أما والله لئن رجعنا إلى مكة لنفعلن بهم ولنفعلن قال عتبه : إن لهم أرحاما وقرابة قريبة ثم قال أحدهما لصاحبه : هل لك أن ترجع قال أبو جهل : أترجعان بعد ما سرنا فتخذلان قومكما ، وتقطعان بهم بعد أن رأيتم ثأركم بأعينكم أتظنان أن محمدا وأصحابه يلاقونكما كلا والله ، إن معى من قومي مائة وثمانين كلهم من أهل بيتى يحلون إذا أحللت ، ويرحلون إذا رحلت ، فارجعا إن شئتما قالا والله لقد هلكت وأهلكت قومك .
ثم قال عتبة لاخيه شيبة : إن هذا رجل مشئوم - يعنى أبا جهل - وإنه لا يمسه من قرابة محمد ما يمسنا ، مع أن محمدا معه الولد فارجع بنا ودع قوله (4) .
__________
(1) في اللسان : (صوف البحر شئ على شكل هذا الصوف الحيواني واحدته صوفة ، ومن الامثال قولهم : (لا آتيك ما بل بحر صوفه) .
(2) سار بها نحو الساحل .
(3) ب : (سمعت) وأثبت ما في ا الواقدي .
(4) الواقدي 33 ، 35 .
(*)(14/105)
قلت مراده بقوله (مع أن محمدا معه الولد) ، أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، كان أسلم وشهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وآله .
قال الواقدي : فقال شيبة : والله تكون علينا سبه يا أبا الوليد إن نرجع الان بعد ما سرنا فمضينا ثم انتهى الى الجحفة عشاء ، فنام جهيم بن الصلت بن مخرمة بن عبد المطلب بن عبد مناف ، فقال إنى لارى بين النائم واليقظان ، أنظر إلى رجل أقبل على فرس معه بعير له ، حتى وقف على ، فقال قتل عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وزمعة بن الاسود ، وأمية بن خلف ، وأبو البخترى ، وأبو الحكم ، ونوفل بن خويلد ، في رجال سماهم من أشراف قريش ، وأسر سهيل بن عمرو ، وفر الحارث بن هشام عن أخيه ، قال : وكأن قائلا يقول والله إنى لاظنهم الذين يخرجون إلى مصارعهم ثم قال : أراه ضرب في لبة بعيره فأرسله في العسكر ، فقال أبو جهل وهذا نبى آخر من بنى عبد مناف ستعلم غدا من المقتول ، نحن أو محمد وأصحابه وقالت قريش لجهيم إنما يلعب بك الشيطان في منامك ، فسترى غدا خلاف ما رأيت يقتل أشراف محمد ويؤسرون قال : فخلا عتبة بأخيه شيبة ، فقال له هل لك في الرجوع فهذه الرؤيا مثل رؤيا عاتكة ، ومثل قول عداس ، والله ما كذبنا عداس ، ولعمري لئن كان محمد كاذبا إن في العرب لمن يكفيناه ، ولئن كان صادقا إنا لاسعد العرب به للحمته فقال شيبة هو على ما تقول ، أفنرجع من بين أهل العسكر فجاء أبو جهل وهما على ذلك فقال ما تريدان قالا الرجوع ألا ترى ألى رؤيا عاتكة ، وإلى رؤيا جهيم بن الصلت مع قول عداس لنا فقال لا تخذلان والله قومكما وتقطعان بهم قالا هلكت والله وأهلكت قومك فمضيا على ذلك .
قال الواقدي : فلما أفلت أبو سفيان بالعير ، ورأى أن قد أحرزها وأمن عليها ، أرسل إلى قريش قيس بن امرئ القيس - وكان مع أصحاب العير - خرج معهم من مكة ، فأرسله أبو سفيان يأمرهم بالرجوع ، ويقول قد نجت عيركم وأموالكم ، فلا تحرزوا أنفسكم(14/106)
أهل يثرب ، فلا حاجة لكم فيما وراء ذلك ، إنما خرجتم لتمنعوا عيركم وأموالكم ، وقد نجاها الله فإن أبوا عليك فلا يأبون خصلة واحدة ، يردون القيان (1) .
فعالج قيس بن امرئ القيس قريشا ، فأبت الرجوع قالوا أما القيان فسنردهن ، فردوهن من الجحفة (2) .
قلت لا أعلم مراد أبى سفيان برد القيان ، وهو الذى أخرجهن مع الجيش يوم أحد يحرضن قريشا على أدراك الثأر ، ويغنين ، ويضربن الدفوف ، فكيف نهى عن ذلك في بدر وفعله في أحد وأقول من تأمل الحال علم أن قريشا لم يمكن أن تنتصر يوم بدر ، لان الذى خالطها من التخاذل والتواكل وكراهية الحرب وحب الرجوع وخوف اللقاء وخفوق الهمم وفتور العزائم ، ورجوع بنى زهرة وغيرهم من الطريق ، واختلاف آرائهم في القتال ، يكفى بعضه في هلاكهم وعدم فلاحهم ، لو كانوا قد لقوا قوما جبناء ، فكيف وإنما لقوا الاوس والخزرج ، وهم أشجع العرب ، وفيهم على بن أبى طالب عليه السلام وحمزة بن عبد المطلب ، وهما أشجع البشر ، وجماعة من المهاجرين أنجاد أبطال ، ورئيسهم محمد بن عبد الله ، رسول الله ، الداعي إلى الحق والعدل والتوحيد ، المؤيد بالقوة الالهية ، دع ما أضيف الى ذلك من ملائكة السماء ، كما نطق به الكتاب .
قال الواقدي : ولحق الرسول أبا سفيان بالهدة - والهدة على سبعة أميال من عقبة عسفان ، على تسعة وثلاثين ميلا من مكة - فاخبره بمضي قريش ، فقال وا قوماه هذا عمل عمرو بن هشام ، يكره أن يرجع لانه قد ترأس على الناس وبغى ، والبغى منقصة وشؤم ، والله لئن أصاب أصحاب محمد النفير ذللنا إلى أن يدخل مكة علينا .
قال الواقدي : وقال أبو جهل : والله لا نرجع حتى نرد بدرا - وكانت بدر موسما
__________
(1) بعدها في الواقدي : (فإن الحرب إذا أكلت انكلت) .
(2) الواقدي 36 .
(*)(14/107)
من مواسم العرب في الجاهلية ، يجتمعون بها وفيها سوق - تسمع بنا العرب وبمسيرنا ، فنقيم على بدر ثلاثا ، ننحر الجزر ونطعم الطعام ، ونشرب الخمر ، وتعزف علينا القيان ، فلن تزال العرب تهابنا أبدا .
قال الواقدي : وكان الفرات بن حيان العجلى أرسلته قريش حين فصلت من مكة إلى أبى سفيان بن حرب يخبره بمسيرها وفصولها ، وما قد حشدت فحالف أبا سفيان في الطريق ، وذلك أن أبا سفيان لصق بالبحر ، ولزم الفرات بن حيان المحجة ، فوافى المشركين بالجحفة ، فسمع كلام أبى جهل ، وهو يقول لا نرجع ، فقال ما بانفسهم عن نفسك رغبة وإن الذى يرجع بعد أن رأى ثاره من كثب لضعيف ، فمضى مع قريش ، فترك أبا سفيان وجرح يوم بدر جراحات كثيرة ، وهرب على قدميه ، وهو يقول ما رأيت كاليوم أمرا أنكد (1) إن ابن الحنظلية لغير مبارك الامر .
قال الواقدي : وقال الاخنس بن شريق (2) - واسمه أبى ، وكان حليفا لبنى زهرة : يا بنى زهرة ، قد نجى الله عيركم ، وخلص أموالكم ، ونجى صاحبكم مخرمة بن نوفل ، وإنما خرجتم لتمنعوه وماله ، وإنما محمد رجل منكم ، ابن أختكم ، فان يك نبيا فانتم اسعد به ، وإن يك كاذبا يلى قتله غيركم خير من أن تلوا قتل ابن أختكم ، فارجعوا واجعلوا خبثها لى ، فلا حاجة لكم أن تخرجوا في غير ما يهمكم ، ودعوا ما يقوله هذا الرجل - يعنى أبا جهل - فانه مهلك قومه ، سريع في فسادهم ، فأطاعته بنو زهرة ، وكان فيهم مطاعا ، وكانوا يتيمنون به ، فقالوا فكيف نصنع بالرجوع حتى نرجع فقال الاخنس نسير مع القوم ، فإذا أمسيت سقطت عن بعيرى ، فيقولون نحل (3) الاخنس ، فإذا أصبحوا فقالوا سيروا ، فقولوا : لا نفارق صاحبنا ، حتى نعلم أحى هو أم ميت ،
__________
(1) في الاصول آكد ، وأثبت ما في الواقدي 36 .
(2) الواقدي : (وكان أعرابيا) .
(3) الواقدي : (نهش) .
(*)(14/108)
فندفنه ، فإذا مضوا رجعنا الى مكة ففعلت بنو زهرة ذلك ، فلما أصبحوا بالابواء راجعين تبين للناس أن بنى زهرة رجعوا فلم يشهدها زهرى (1) البتة ، وكانوا مائة ، وقيل أقل من مائة وهو أثبت وقال قوم : كانوا ثلثمائة ولم يثبت ذلك .
قال الواقدي : وقال عدى بن أبى الزغباء منحدره (2) من بدر الى المدينة ، [ وانتشرت الركاب عليه فجعل عدى يقول ] (3) : أقم لها صدورها يا بسسبس إن مطايا القوم لا تحبس وحملها على الطريق أكيس قد نصر الله وفر الاخنس (4) .
قال الواقدي : وذكر أبو بكر بن عمر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، إن بنى عدى خرجوا من النفير حتى كانوا بثنية لفت (5) ، فلما كان في السحر عدلوا في الساحل منصرفين الى مكة ، فصادفهم أبو سفيان فقال كيف رجعتم يا بنى عدى ولا في العير ولا في النفير قالوا أنت أرسلت الى قريش أن ترجع ، فرجع من رجع ومضى من مضى ، فلم يشهدها أحد من بنى عدى ويقال أنه لاقاهم بمر الظهران ، فقال تلك المقالة لهم .
قال الواقدي : وأما رسول الله صلى الله عليه وآله (5) ، فكان صبيحة اربع عشرة من شهر رمضان بعرق الظبية ، فجاء أعرابي قد أقبل من تهامة ، فقال له اصحاب النبي صلى الله عليه وآله هل لك علم بأبى سفيان بن حرب قال : ما لى بأبى سفيان علم ، قالوا تعال ، فسلم على رسول الله صلى الله عليه وآله ، قال : أو فيكم رسول الله قالوا نعم ، قال : فأيكم رسول الله قالوا : هذا ، فقال : أنت رسول الله قال : نعم ، قال : فما في
__________
(1) الواقدي : (أحد من بني زهرة) .
(2) الواقدي : (في منحدره) .
(3) من الواقدي .
(4) الواقدي 38 .
(5) الواقدي : (ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) .
(*)(14/109)
بطن ناقتي هذه إن كنت صادقا فقال سلمة بن سلامة بن وقش : نكحتها وهى حبلى منك فكره رسول الله صلى الله عليه وآله مقالته ، وأعرض عنه .
قال الواقدي : وسار رسول الله صلى الله عليه وآله حتى أتى الروحاء ليلة الاربعاء ، للنصف من شهر رمضان ، فقال لاصحابه هذا سجاسج - يعنى وادى الروحاء - هذا افضل أودية العرب (1) .
قال الواقدي : وصلى رسول الله صلى الله عليه وآله بالروحاء ، فلما رفع رأسه من الركعة الاخيرة من وتره لعن الكفرة ، ودعا عليهم فقال اللهم لا تفلتن أبا جهل ابن هشام فرعون هذه الامة ، اللهم لا تفلتن زمعه بن الاسود ، اللهم أسخن عين أبى زمعة اللهم اعم بصر أبى دبيلة (2) .
اللهم لا تفلتن سهيل بن عمرو ثم دعا لقوم من قريش ، فقال اللهم انج سلمة بن هشام وعياش بن أبى ربيعة والمستضعفين من المؤمنين ، ولم يدع للوليد بن المغيرة يومئذ ، وأسر ببدر ، ولكنه لما رجع الى مكة بعد بدر أسلم ، وأراد أن يخرج إلى المدينة فحبس ، فدعا له النبي صلى الله عليه وآله بعد ذلك .
قال الواقدي : وكان خبيب بن يساف (3) رجلا شجاعا ، وكان يأبى الاسلام ، فلما خرج النبي صلى الله عليه وآله الى بدر خرج هو وقيس بن محرث - ويقال ابن الحارث - وهما على دين قومهما ، فأدركا رسول الله صلى الله عليه وآله بالعقيق ، وخبيب مقنع في الحديد ، فعرفه رسول الله صلى الله عليه وآله من تحت المغفر ، فالتفت الى سعد بن معاذ وهو يسير الى جنبه ، فقال : أليس بخبيب بن يساف قال : بلى ، فاقبل خبيب حتى اخذ
__________
(1) الواقدي 39 .
(2) الواقدي : (واعم بصر أبي زمعة) .
(3) يساف بالكسر ، وقد يفتح ، وانظر القاموس .
(*)(14/110)
ببطان (1) ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقال له ولقيس بن محرث ما أخرجكما قال : كنت ابن أختنا وجارنا ، وخرجنا مع قومنا للغنيمة ، فقال صلى الله عليه وآله لا يخرجن معنا رجل ليس على ديننا ، فقال خبيب لقد علم قومي أنى عظيم الغناء في الحرب ، شديد النكاية ، فأقاتل معك للغنيمة ولا أسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لا ولكن أسلم ثم قاتل ، فلما كان بالروحاء جاء فقال يا رسول الله ، أسلمت لرب العالمين ، وشهدت أنك رسول الله ، فسر بذلك ، وقال امضه ، فكان عظيم الغناء في بدر وفى غير بدر وأما قيس بن الحارث فأبى أن يسلم ، فرجع إلى المدينة ، فلما قدم النبي صلى الله عليه وآله من بدر أسلم وشهد أحدا فقتل .
قال الواقدي : ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله صام يوما أو يومين ، ثم نادى مناديه يا معشر العصاة ، انى مفطر ، فأفطروا ، وذلك أنه قد كان قال : لهم قبل ذلك أفطروا فلم يفعلوا (2) .
قلت هذا هو سر النبوة وخاصيتها ، إذا تأمل المتأملون ذلك ، وهو أن يبلغ بهم حبه وطاعته وقبول قوله على أن يكلفهم ما يشق عليهم فيمتثلوه امتثالا صادرا عن حب شديد وحرص عظيم على الطاعة ، حتى إنه لينسخه عنهم ويسقط وجوبه عليهم ، فيكرهون ذلك ولا يسقطونه عن انفسهم ، إلا بعد الانكار التام ، وهذا أحسن من المعجزات الخارقة للعادات ، بل هذا بعينه معجزة خارقة للعادة أقوى وآكد من شق البحر وقلب العصا حية .
قال الواقدي : ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله حتى إذا كان دوين بدر ، أتاه الخبر بمسير قريش ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله بمسيرهم ، واستشار الناس
__________
(1) البطان : حزام القتب .
(2) الواقدي 40 ، 41 .
(*)(14/111)
فقام أبو بكر فقال فأحسن ثم قام عمر فقال فأحسن ، ثم قال : يا رسول الله ، إنها قريش وعزها والله ما ذلت منذ عزت ، ولا آمنت منذ كفرت ، والله لا تسلم عزها أبدا ، ولتقاتلنك فاتهب لذلك أهبته ، وأعد عدته ، ثم قام المقداد بن عمرو ، فقال : يا رسول الله لامر الله ، فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها (أذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون) (1) ، ولكن أذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون ، والذى بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا .
قال الواقدي : برك الغماد من وراء مكة بخمس ليال من وراء الساحل مما يلى البحر ، وهو على ثمان ليال من مكة الى اليمن .
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله خيرا ، ودعا له بخير ، ثم قال صلى الله عليه وآله : أشيروا على أيها الناس - وإنما يريد الانصار ، وكان يظن أن الانصار لا تنصره إلا في الدار ، وذلك أنهم شرطوا أن يمنعوه مما يمنعون منه انفسهم وأولادهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : أشيروا على ، فقام سعد بن معاذ ، فقال : أنا اجيب عن الانصار ، كأنك يا رسول الله تريدنا قال : أجل ، قال : إنك عسى أن تكون خرجت عن أمر قد أوحى اليك ، وإنا قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به حق ، وأعطيناك مواثيقنا وعهودنا على السمع والطاعة ، فامض يا نبى الله لما أردت ، فو الذى بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما بقى منا رجل ، وصل من شئت ، وخذا من أموالنا ما أردت ، فما أخذته من أموالنا أحب إلينا مما تركت ، والذى نفسي بيده ما سلكت هذه الطريق قط ، وما لى بها من علم ، وإنا لا نكره أن نلقى عدونا غدا ، إنا لصبر عند الحرب ، صدق عند اللقاء ، لعل الله يريك منا بعض ما تقر به عينك (2) .
__________
(1) سورة المائدة 24 .
(2) الواقدي 44 وفيه : (ما تقر به عينك) .
(*)(14/112)
قال الواقدي : وحدثني محمد بن صالح عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد قال : قال سعد بن معاذ يومئذ : يا رسول الله ، إنا قد خلفنا من قومنا قوما ما نحن بأشد حبا لك منهم ، ولا أطوع لهم رغبة ونية في الجهاد ، ولو ظنوا أنك يا رسول الله ملاق عدوا ما تخلفوا عنك ، ولكن إنما ظنوا أنها العير .
نبنى لك عريشا ، فتكون فيه ونعد عندك رواحلك ، ثم نلقى عدونا ، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا ، كان ذلك ما أحببنا ، وإن تكن الاخرى ، جلست على رواحلك ، فلحقت من وراءنا فقال له النبي صلى الله عليه وآله خيرا ، ثم قال : أو يقضى الله خيرا يا سعد (1) .
قال الواقدي : فلما فرغ سعد من المشورة ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله : سيروا على بركة الله ، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأنى أنظر إلى مصارع القوم .
قال الواقدي : وقالوا لقد أرانا رسول الله صلى الله عليه وآله مصارعهم يومئذ ، هذا مصرع فلان ، وهذا مصرع فلان ، فما عدا كل رجل منهم مصرعه ، قال : فعلم القوم انهم يلاقون القتال ، وإن العير تفلت ، ورجا القوم النصر لقول النبي صلى الله عليه وآله (1) .
قال الواقدي : فمن يومئذ عقد رسول الله صلى الله عليه وآله الالوية ، وكانت ثلاثة ، وأظهر السلاح ، وكان خرج من المدينة على غير لواء معقود ، وسار فلقى سفيان الضمرى ، ومع رسول الله صلى الله عليه وآله قتادة بن النعمان ومعاذ بن جبل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله من الرجل فقال الضمرى بل ومن أنتم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله تخبرنا ونخبرك ، فقال الضمرى : وذالك بذاك قال : نعم ، قال : الضمرى فاسألوا عما شئتم ، فقال له صلى الله عليه وآله أخبرنا عن قريش ، قال الضمرى : بلغني أنهم خرجوا يوم كذا من مكة ، فإن كان الخبر صادقا ، فإنهم بجنب هذا الوادي ، ثم قال
__________
(1) مغازي الواقدي 45 .
(*)(14/113)
الضمرى : فمن أنتم فقال النبي صلى الله عليه وآله نحن من ماء ، وأشار بيده نحو العراق ، فجعل الضمرى يقول : من ماء من أي ماء من العراق أم من غيره ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله الى اصحابه .
قال الواقدي : فبات الفريقان كل منهم لا يعلم بمنزل ، صاحبه إنما بينهم قوز (1) من رمل (2) .
قال الواقدي : ومر رسول الله صلى الله عليه وآله بجبلين ، فسأل عنهما فقالوا هذا مسلح (3) ومخرئ ، فقال من ساكنهما فقيل بنو النار وبنو حراق ، فانصرف عنهما وجعلهما يسارا (4) ، ولقيه بسبس بن عمرو وعدى بن أبى الزغباء فأخبراه خبر قريش ، ونزل رسول الله صلى الله عليه وآله وادى بدر عشاء ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان ، فبعث عليا عليه السلام والزبير وسعد بن ابى وقاص وبسبس بن عمرو يتحسسون (5) على الماء ، وأشار لهم إلى ظريب (6) ، وقال : أرجو أن تجدوا الخير عند القليب (7) الذى يلى هذا الظريب (8) ، فاندفعوا تلقاءه ، فوجدوا على تلك القليب روايا قريش فيها سقاؤهم ، فأسروهم ، وأفلت بعضهم ، فكان ممن عرف أنه أفلت عجير ، فكان أول من جاء قريشا بخبر النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه ، فنادى يا آل غالب هذا ابن أبى كبشة وأصحابه ، وقد أخذوا سقاءكم ، فماج العسكر وكرهوا ما جاء به (9) .
__________
(1) القوز من الرمل : العالي كأنه جبل ، وتشبه به ارداف النساء .
(2) الواقدي 46 ، وبعدها : (وكان قد صلى بالدبة ، ثم صلى بسيل ، ثم صلى بذات أجدال ، صلى بخيف عين العلا ، ثم صلى بالخبيرين ، ثم نظر إلى جبلين ...
) .
(3) الاصول : (مصلح) ، والتصويب من الواقدي .
(4) الواقدي : (فانصرف من عند الخبيرين ، فمضى حتى قطع الخبرف ، وجعلها يسارا حتى سلك في المعترضة) .
(5) كذا في الواقدي : وفي الاصول (يتجسسون) بالجيم ، تصحيف .
(6) كذا في الواقدي .
(7) الاصول : (التى) ، والتصويب من الواقدي .
(8) قال الواقدي : (والقليب بئر بأصل الظريب ، والظريب : جبل صغير .
(9) الواقدي 46 ، 47 .
(*)(14/114)
قال الواقدي : فكان حكيم بن حزام يحدث ، قال : كنا يومئذ في خباء لنا على جزور نشوى من لحمها ، فما هو إلا أن سمعنا الخبر ، فامتنع الطعام منا ، ولقى بعضنا بعضا ، ولقيني عتبة بن ربيعة ، فقال يا أبا خالد ما أعلم احدا يسير أعجب من مسيرنا ، إن عيرنا قد نجت ، وإنا جئنا إلى قوم في بلادهم بغيا عليهم ، فقلت أراه لامر حم ، ولا رأى لمن لا يطاع هذا شؤم ابن الحنظلية ، فقال عتبة أبا خالد ، أتخاف أن تبيتنا القوم قلت لانت آمن من ذلك ، قال : فما الرأى يا أبا خالد قلت نتحارس حتى نصبح وترون رأيكم .
قال عتبة : هذا الرأى ، قال : فتحارسنا حتى أصبحنا ، فقال أبو جهل هذا عن أمر عتبة كره قتال محمد وأصحابه ، أن هذا لهو العجب ، أتظنون أن محمدا وأصحابه يعترضون لجمعكم والله لانتحين ناحية بقومي فلا يحرسنا أحد ، فتنحى ناحية ، وإن السماء لتمطر عليه ، قال : يقول عتبة : إن هذا لهو النكد (1) .
قال الواقدي : أخذ من السقاء من على القليب يسار غلام سعيد بن العاص ، وأسلم غلام منبه بن الحجاج ، وأبو رافع غلام أمية بن خلف ، فأتى بهم النبي صلى الله عليه وآله وهو قائم يصلى ، فسألهم المسلمون ، فقالوا نحن سقاء قريش ، بعثونا نسقيهم من الماء ، فكره القوم خبرهم ، ورجوا أن يكونوا لابي سفيان وأصحاب العير ، فضربوهم ، فلما أذلقوهم (2) بالضرب قالوا نحن لابي سفيان ، ونحن في العير ، وهذا العير بهذا القوز ، فكانوا إذا قالوا ذلك يمسكون عن ضربهم ، فسلم رسول الله صلى الله عليه وآله من صلاته ، ثم قال : إن صدقوكم ضربتموهم ، وإن كذبوكم تركتموهم فقال اصحابه عليه السلام إنهم يا رسول الله يقولون إن قريشا قد جاءت ، فقال لقد صدقوكم خرجت قريش تمنع عيرها وخافوكم عليها ، ثم أقبل صلى الله عليه وآله على السقاء ، فقال : أين
__________
(1) الواقدي 47 .
(2) أذلقوهم : أوجعوهم ضربا .
(*)(14/115)
قريش فقالوا خلف هذا الكثيب الذى ترى ، قال : كم هم قالوا كثير ، قال : كم عددهم قالوا : لا ندرى ، قال : كم ينحرون قالوا يوما عشرة ويوما تسعة ، فقال القوم : ما بين الالف والتسعمائة ، ثم قال للسقاء : كم خرج من أهل مكة قالوا لم يبق احد به طعم إلا خرج ، فاقبل رسول الله صلى الله عليه وآله على الناس ، فقال هذه مكة قد ألقت اليكم أفلاذ كبدها ، ثم سألهم رسول الله صلى الله عليه وآله هل رجع منهم أحد قالوا نعم رجع ابن أبى شريق ببنى زهرة ، فقال صلى الله عليه وآله راشدهم (1) ، وما كان برشيد ، وإن كان ما علمت لمعاديا لله ولكتابه .
ثم قال : فأحد غيرهم قالوا نعم بنو عدى بن كعب ، فتركهم رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قال لاصحابه : أشيروا على في المنزل ، فقال الحباب بن المنذر : يا رسول الله ، ارأيت منزلك هذا ، أهو منزل أنزلكه الله ، فليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه ، أم هو الرأى والحرب والمكيدة قال : بل هو الرأى والحرب والمكيدة ، قال : فإن هذا ليس بمنزل إنطلق بنا إلى أدنى مياه القوم ، فإنى عالم بها وبقلبها ، فإن بها قليبا قد عرفت عذوبة مائها ، وماؤها كثير لا ينزح ، نبنى عليها حوضا ، ونقذف فيها بالانية فنشرب ، ونقاتل ونعور (2) ما سواها من القلب .
قال الواقدي : فكان ابن عباس يقول : نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وآله فقال : الرأى ما أشار به الحباب فقال : يا حباب ، أشرت بالرأى ، ونهض وفعل كذلك (3) .
قال الواقدي : وبعث الله السماء ، وكان الوادي دهسا - أي كثير الرمل - فاصاب المسلمين ما لبد الارض ولم يمنعهم من المسير ، وأصاب قريشا ما لم يقدروا معه أن يرتحلوا منه ، وإنما بين الطائفتين قوز من رمل .
قال الواقدي : وأصاب المسلمين تلك الليلة النعاس ألقى عليهم ، فناموا ولم يصبهم من المطر ما يؤذيهم .
__________
(1) الواقدي : (أرشدهم) .
(2) يقال : عور البئر ، إذا كبسها بالتراب .
(3) الواقدي 48 .
(*)(14/116)
قال الزبير بن العوام : لقد سلط الله عليهم النعاس تلك الليلة ، حتى إنى كنت لا تشدد ، والنعاس يجلد بى الارض فما أطيق إلا ذلك ، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وأصحابه على مثل ذلك الحال وقال سعد بن أبى وقاص : لقد رأيتنى ، وإن ذقنى بين ثديى ، فما أشعر حتى أقع على جنبى .
وقال رفاعة بن رافع بن مالك لقد غلبنى النوم ، فاحتلمت حتى اغتسلت آخر الليل .
(1) قال الواقدي : فلما تحول رسول الله صلى الله عليه وآله إلى المنزل بعد أن اخذ السقاء ، أرسل عمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود ، فأطافا بالقوم ، ثم رجعا إليه فقالا له يا رسول الله ، القوم مذعورون فزعون ، إن الفرس ليريد أن يصهل فيضرب وجهه ، مع أن السماء تسح عليهم (2) .
قال الواقدي : فلما أصبحوا قال منبه بن الحجاج - وكان رجلا يبصر الاثر : هذا والله أثر ابن سمية ، وابن أم عبد ، أعرفهما ، لقد جاءنا محمد بسفهائنا وسفهاء أهل يثرب ، ثم قال : لم يترك الجوع لنا مبيتا لا بد أن نموت أو نميتا (3) .
يا معشر قريش ، انظروا غدا إن لقينا محمد وأصحابه ، فاتقوا على شبانكم وفتيانكم ،
__________
(1) الوافدي 49 ، 50 .
(2) الواقدي 50 .
(3) بعدها في الواقدي : قال أبو عبد الله : قد ذكرت قول منبه بن الحجاج : * لم يترك الجوع لنا مبيتا * لمحمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة ، فقال : لعمري لقد كانوا شباعا ، لقد اخبرني أبي أنه سمع نوفل ابن معاوية يقول : نحرنا تلك الليلة عشر جزائر ، فنحن في خباء من أخبيتهم نشوي السنام والكبد وطيبة اللحم ونحن نخاف من البيات فنحن نتحارس إلى أن أضاء الفجر فأسمع منبها يقول بعد أن اسفر : هذا ابن سمية وابن مسعود ، وأسمعه يقول : لم يترك الخوف لنا مبيتا لا بد أن نموت أو نميتا (*)(14/117)
باهل يثرب ، فإنا إن نرجع بهم إلى مكة يبصروا من ضلالتهم ما فارقوا من دين آبائهم (1) .
قال الواقدي : ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وآله على القليب بنى له عريش من جريد ، فقام سعد بن معاذ على باب العريش متوشحا سيفه ، فدخل النبي صلى الله عليه وآله وابو بكر (1) .
قلت لاعجب من أمر العريش ، من أين كان لهم ، أو معهم من سعف النخل ما يبنون به عريشا ، وليس تلك الارض - أعنى أرض بدر - أرض نخل ، والذى كان معهم من سعف النخل يجرى مجرى السلاح كان يسيرا جدا قيل أنه كان بايدى سبعة منهم سعاف عوض السيوف ، والباقون كانوا بالسيوف والقسى ، وهذا قول شاذ ، والصحيح أنه ما خلا أحد منهم عن سلاح ، أللهم إلا أن يكون معهم سعافات يسيرة ، وظلل عليها بثوب أو ستر ، وإلا فلا أرى لبناء عريش من جريد النخل هناك وجها .
قال الواقدي : وصف رسول الله صلى الله عليه وآله أصحابه قبل أن تنزل قريش ، فطلعت قريش ورسول الله صلى الله عليه وآله يصف أصحابه ، وقد أترعوا حوضا يفرطون فيه من السحر ، وقذفت فيه الانية ، ودفع رسول الله صلى الله عليه وآله رايته إلى مصعب بن عمير ، فتقدم بها إلى الموضع الذى أمره أن يضعها ، ووقف رسول الله صلى الله عليه وآله ينظر إلى الصفوف ، فاستقبل المغارب ، وجعل الشمس خلفه ، وأقبل المشركون ، فاستقبلوا الشمس ، ونزل بالعدوة الدنيا من الوادي ، ونزلوا بالعدوة (2) اليمانية ، وهى القصوى ، وجاءه رجل من أصحابه فقال يا رسول الله ، إن كان هذا عن وحى فامض له ، والا فانى
__________
(1) الواقدي 50 .
(2) في الواقدي : (عدوتا النهر والوادي : جنبتاه) .
(*)(14/118)
أرى أن تعلوا الوادي ، فانى أرى ريحا قد هاجت من أعلاها ، وأراها بعثت بنصرك .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : (قد صففت صفوفي ووضعت رايتى ، فلا أغير ذلك) .
ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وآله ، فأمده الله بالملائكة (1) .
قال الواقدي : وروى عروة بن الزبير ، قال : عدل رسول الله صلى الله عليه وآله الصفوف يومئذ ، فتقدم سواد بن غزية أمام الصف ، فدفع النبي صلى الله عليه وآله بقدح في بطنه ، وقال : استو يا سواد ، فقال : أوجعتني والذى بعثك بالحق ، أقدنى فكشف صلى الله عليه وآله عن بطنه ، وقال : استقد ، فاعتنقه وقبله ، فقال : ما حملك على ما صنعت قال : حضر يا رسول الله من أمر الله ما قد ترى ، وخشيت القتل ، فأردت أن يكون آخر عهدي بك ، وأن اعتنقك (2) .
قال الواقدي : فحدثني موسى بن يعقوب ، عن أبى الحويرث ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن رجل من بنى اود قال : سمعت عليا عليه السلام يخطب على منبر الكوفة ، ويقول : بينا أنا أميح (3) في قليب بدر جاءت ريح لم أر مثلها قط شدة ، ثم ذهبت فجاءت أخرى لم أر مثلها إلا التى كانت قبلها ، ثم جاءت ريح أخرى لم أر مثلها إلا الاوليين ، فكانت الاولى جبريل في ألف مع رسول الله صلى الله عليه وآله ، والثانية ميكائيل في ألف عن ميمنته ، والثالثة أسرا فيل في ألف عن ميسرته ، فلما هزم الله أعداءه ، حملني رسول الله صلى الله عليه وآله على فرس ، فجرت بى ، فلما جرت بى خررت على عنقها ، فدعوت ربى ، فأمسكني حتى استويت ، وما لى وللخيل ، وإنما كنت صاحب الحشم ، فلما استويت طعنت فيهم بيدى هذه حتى اختضبت منى (4) ذى - يعنى إبطه (5) -
__________
(1) في الواقدي 51 : (فنزل عليه جبريل : (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بالف من الملائكة مردفين) ، بعضهم على أثر بعض .
(2) الواقدي 52 .
(3) في الاصول : (أمتح) .
وفي الواقدي : (أميح يعني أستسقى ، وهو من ينزع الدلاء ، وهو المتح ايضا) .
(4) الواقدي : (ذه) .
(5) الواقدي 52 ، 53 .
(*)(14/119)
قلت أكثر الرواة يروونه : (فحملني رسول الله على فرسه) ، والصحيح ما ذكرناه ، لانه لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وآله فرس يوم بدر ، وإنما حضرها راكب بعير ، ولكنه لما اصطدم الصفان ، وقتل قوم من فرسان المشركين ، حمل رسول الله صلى الله عليه وآله عليا عليه السلام على بعض الخيل المأخذوة منهم .
قال الواقدي : قالوا : كان على ميمنة رسول الله صلى الله عليه وآله أبو بكر ، وكان على ميسرته على بن أبى طالب عليه السلام ، وكان على ميمنة قريش هبيرة بن أبى وهب المخزومى ، وعلى ميسرتهم عمرو بن عبدود قيل كان زمعة بن الاسود على ميسرتهم ، وقيل بل كان على خيل المشركين ، وقيل الذى على الخيل الحارث بن هشام ، وقال قوم : لم يكن هبيرة على الميمنة ، بل كان عليها الحارث بن عامر بن نوفل (1) .
قال الواقدي : وحدثني محمد بن صالح عن يزيد بن رومان وابن أبى حبيبة ، قالا ما كان على ميمنة النبي صلى الله عليه وآله يوم بدر ولا على ميسرته أحد يسمى ، وكذلك ميمنة المشركين وميسرتهم ما سمعنا فيها باحد (1) .
قال الواقدي : وهذا هو الثبت عندنا قال : وكان لواء رسول الله صلى الله عليه وآله يومئذ الاعظم لواء المهاجرين مع مصعب بن عمير ، ولواء الخزرج مع الحباب بن المنذر ولواء الاوس مع سعد بن معاذ ، وكان مع قريش ثلاثة الوية ، لواء مع أبى عزيز (2) ، ولواء مع المنذر بن الحارث ، ولواء مع طلحة بن أبى طلحة (2) .
قال الواقدي : وخطب رسول الله صلى الله عليه وآله المسلمين يومئذ ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، فانى أحثكم على ما حثكم الله عليه ، وأنهاكم عما نهاكم الله عنه فإن الله عظيم شانه ، يأمر بالحق ، ويحب الصدق ، ويعطى على الخير أهله على منازلهم عنده
__________
(1) في الاصول : (عزيزة) ، وهو خطأ ، وهو أبو عزيز بن عمر بن هاشم ، وانظر الاصابة 4 : 133 ، والاستيعاب 4 : 1714 .
(2) الواقدي 53 ، 54 .
(*)(14/120)
به يذكرون ، وبه يتفاضلون ، وإنكم اصبحتم بمنزل من منازل الحق ، لا يقبل الله فيه من أحد إلا ما ابتغى به وجهه .
وأن الصبر في البأس مما يفرج الله به الهم ، وينجى به من الغم ، تدركون به النجاة في الاخرة ، فيكم نبى الله يحذركم ويأمركم ، فاستحيوا اليوم أن يطلع الله على شئ من أمركم يمقتكم عليه ، فإنه تعالى يقول (لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم) (1) انظروا إلى الذي أمركم به من كتابه ، وأراكم من آياته ، وما أعزكم به بعد الذلة ، فاستمسكوا به يرض ربكم عنكم ، وابلوا ربكم في هذه المواطن أمرا تستوجبون به الذى وعدكم من رحمته ومغفرته ، فإن وعده حق ، وقوله صدق ، وعقابه شديد ، وإنما أنا وأنتم بالله الحى القيوم ، إليه الجأنا ظهورنا ، وبه أعتصمنا ، وعليه توكلنا ، وإليه المصير ، ويغفر الله لى وللمسلمين (2) .
قال الواقدي : ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله قريشا تصوب من الوادي ، وكان أول من طلع زمعة بن الاسود على فرس له يتبعه ابنه ، فاستجال بفرسه ، يريد أن يبنوا للقوم منزلا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله اللهم إنك أنزلت على الكتاب ، وأمرتني بالقتال ، ووعدتني أحدى الطائفتين ، وأنت لا تخلف الميعاد اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها ، تخاذل وتكذب رسولك .
اللهم نصرك الذى وعدتني اللهم أحنهم الغداة وطلع عتبة بن ربيعة على جمل أحمر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله إن يك في أحد من القوم خير ففى صاحب الجمل الاحمر ، إن يطيعوه يرشدوا .
قال الواقدي : وكان إيماء بن رحضة قد بعث الى قريش إبنا له بعشر جزائر حين مروا به أهداها لهم ، وقال : إن أحببتم أن يمدكم بسلاح ورجال فإنا معدون لذلك ، مؤدون فعلنا ، فأرسلوا إن وصلتك رحم ، قد قضيت الذى عليك ، ولعمري لئن
__________
سورة غافر 10 .
(2) مغازي الواقدي 53 .
(*)(14/121)
كنا إنما نقاتل الناس ما بنا ضعف عنهم ، ولئن كنا نقاتل الله - بزعم محمد - فما لاحد بالله طاقة (1) .
قال الواقدي : فروى خفاف بن إيماء بن رحضة ، قال : كان أبى ليس شئ أحب إليه من إصلاح بين الناس ، موكلا بذلك ، فلما مرت به قريش أرسلني بجزائر عشر هدية لها ، فاقبلت أسوقها ، وتبعني أبى ، فدفعتها الى قريش فقبلوها ووزعوها في القبائل ، فمر أبى على عتبة بن ربيعة ، وهو سيد الناس يومئذ ، فقال : يا أبا الوليد ، ما هذا المسير قال : لا أدرى والله غلبت ، قال : فأنت سيد العشيرة ، فما يمنعك أن ترجع بالناس ، وتحمل دم حليفك ، وتحمل العير التى أصابوا بنخلة ، فتوزعها على قومك فو الله ما يطلبون قبل محمد إلا هذا ، والله يا أبا الوليد ما تقتلون بمحمد وأصحابه إلا أنفسكم (2) .
قال الواقدي ، وحدثني ابن أبى الزناد ، عن أبيه ، قال : ما سمعنا باحد سار بغير مال إلا عتبة بن ربيعة (2) .
قال الواقدي : وروى محمد بن جبير بن مطعم ، قال : لما نزل القوم أرسل رسول الله صلى الله عليه وآله عمر بن الخطاب إلى قريش ، فقال : ارجعوا ، فلان يلى هذا الامر منى غيركم أحب إلى من أن تلوه منى ، وإن إليه من غيركم احب إلى من أن إليه منكم ، فقال حكيم بن حزام قد عرض نصفا ، فلبوه (3) ، والله لا تنصرون عليه بعد أن عرض عليكم من النصف ما عرض .
وقال أبو جهل : لا نرجع بعد أن أمكننا الله منهم ، ولا نطلب أثرا بعد عين ، ولا يعرض (4) لعيرنا بعد هذا أبدا .
قال الواقدي : وأقبل نفر من قريش حتى وردوا الحوض ، منهم حكيم بن حزام ، فأراد المسلمون تنحيتهم (5) عنه ، فقال النبي صلى الله عليه وآله دعوهم ، فوردوا الماء ،
__________
(1) مغازي الواقدي 55 .
(2) الواقدي 56 .
(3) الواقدي : (فاقبلوه) .
(4) الواقدي : (يعترض) .
(5) الواقدي : (تخليتهم) ، قال : (يعني طردهم) .
(*)(14/122)
فشربوا فلم يشرب منهم أحد إلا قتل ، إلا ما كان من حكيم بن حزام (1) ..قال الواقدي : فكان سعيد بن المسيب ، يقول نجا حكيم من الدهر مرتين ، لما أراد الله تعالى به من الخير ، خرج رسول الله صلى الله عليه وآله على نفر من المشركين وهم جلوس يريدونه ، فقرأ (يس) ونثر على رؤوسهم التراب ، فما أفلت منهم أحد إلا قتل ، ما عدا حكيم بن حزام وورد الحوض يوم بدر مع من ورده مع المشركين ، فما ورده الا من قتل إلا حكيم بن حزام .
قال الواقدي : فلما اطمان القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحى ، وكان صاحب قداح ، فقالوا : أحزر (2) لنا محمدا وأصحابه ، فاستجال بفرسه حول العسكر ، وصوب في الوادي وصعد ، يقول عسى أن يكون لهم مدد أو كمين ثم رجع فقال لا مدد ولا كمين ، والقوم ثلثمائة ، إن زادوا قليلا ومعهم سبعون بعيرا ومعهم فرسان ، ثم قال : يا معشر قريش ، البلايا تحمل المنايا ، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع ، قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم ، ألا ترونهم خرسا لا يتكلمون ، يتلمظون تلمظ الافاعى والله ما أرى أن يقتل منهم رجل حتى يقتل رجلا ، فإذا أصابوا منكم عددهم ، فما خير في العيش بعد ذلك فروا رأيكم (3) .
قال الواقدي : وحدثني يونس بن محمد الظفرى ، عن أبيه ، إنه قال : لما قال لهم عمير بن وهب هذه المقالة ، ارسلوا أبا أسامة الجشمى ، وكان فارسا ، فأطاف بالنبي صلى الله عليه وآله وأصحابه ، ثم رجع إليهم ، فقالوا له : ما رأيت قال : والله ما رأيت جلدا ولا عددا ولا حلقة ولا كراعا ، ولكني والله رأيت قوما لا يريدون أن يردوا إلى أهليهم رأيت قوما مستميتين ، ليست معهم منعة ولا ملجا إلا سيوفهم ، زرق العيون ،
__________
(1) الواقدي 56 .
(2) في الاصول : (احذر) تصحيف .
(3) الواقدي 59 .
(4) الحلقة هنا : السلاح .
(*)(14/123)
كأنهم الحصا تحت الحجف (1) ، ثم قال : أخشى أن يكون لهم كمين أو مدد ، فصوب في الوادي ثم صعد ، ثم رجع إليهم ، فقال لا كمين ولا مدد فروا رأيكم (2) .
قال الواقدي : ولما سمع حكيم بن حزام ما قال عمير بن وهب ، مشى في الناس ، فأتى عتبة بن ربيعة ، فقال يا أبا الوليد ، أنت كبير قريش وسيدها والمطاع فيها ، فهل لك ألا تزال تذكر فيها بخير آخر الدهر ، مع ما فعلت يوم عكاظ وعتبة يومئذ رئيس الناس ، فقال : وما ذاك يا أبا خالد قال : ترجع بالناس ، وتحمل دم حليفك ، وما أصابه محمد من تلك العير ببطن نخلة ، إنكم لا تطلبون من محمد شيئا غير هذا الدم والعير فقال عتبة : قد فعلت ، وأنت على بذلك ثم جلس عتبة على جمله ، فسار في المشركين من قريش يقول : يا قوم أطيعوني ، ولا تقاتلوا هذا الرجل وأصحابه ، واعصبوا هذا الامر برأسي ، واجعلوا جبنها (3) في ، فان منهم رجالا قرابتهم قريبة ، ولا يزال الرجل منكم ينظر إلى قاتل أبيه وأخيه فيورث ذلك بينكم شحناء وأضغانا ، ولن تخلصوا إلى قتلهم حتى يصيبوا منكم عددهم ، مع إنه لا آمن أن تكون الدائرة عليكم ، وأنتم لا تطلبون إلا دم القتيل منكم ، والعير التى أصيبت ، وأنا أحتمل ذلك ، وهو على ، يا قوم إن يك محمد كاذبا يكفيكموه ذؤبان العرب ، وإن يك ملكا كنتم في ملك ابن أخيكم ، وإن يك نبيا كنتم أسعد الناس به يا قوم لا تردوا نصيحتي ، ولا تسفهوا رأيى فحسده أبو جهل حين سمع خطبته ، وقال : إن يرجع الناس عن خطبة عتبة يكن سيد الجماعة ، وكان عتبة أنطق الناس ، وأطولهم لسانا ، وأجملهم جمالا ، ثم قال عتبة لهم : أنشدكم الله في هذه الوجوه التى كأنها المصابيح ، أن تجعلوها أندادا لهذه الوجوه التى كأنها وجوه الحيات فلما فرغ عتبة من كلامه قال أبو جهل : إن عتبة يشير عليكم بهذا
__________
(1) الحجف : التروس .
(2) مغازي الواقدي 57 ، 58 .
(3) في الاصول : (حينها) ، وأثبت ما في الواقدي .
(*)(14/124)
لان محمدا ابن عمه ، وهو يكره أن يقتل ابنه وابن عمه ، أمتلا والله سحرك يا عتبة وجبنت حين التقت حلقتا البطان (1) .
الان تخذل بيننا وتأمرنا بالرجوع لا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد فغضب عتبة ، فقال يا مصفرا أسته ، ستعلم أينا أجبن والام وستعلم قريش من الجبان المفسد لقومه وأنشد هذاى وأمرت أمرى فبشرى بالثكل أم عمرو (2) قال الواقدي : وذهب أبو جهل الى عامر بن الحضرمي ، أخى عمرو بن الحضرمي المقتول بنخلة ، فقال له هذا حليفك - يعنى عتبة - يريد أن يرجع بالناس ، وقد رأيت ثارك بعينك ، وتخذل بين الناس اقد تحمل دم أخيك ، وزعم أنك قابل الدية ، ألا تستحى تقبل الدية وقد قدرت على قاتل أخيك قم فانشد خفرتك ، فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف (3) ، ثم حثا على أسته التراب ، وصرخ وا عمراه يخزى بذلك عتبة ، لانه حليفه من بين قريش ، فافسد على الناس الرأى الذي دعاهم إليه عتبة ، وحلف عامر لا يرجع حتى يقتل من أصحاب محمد وقال أبو جهل لعمير بن وهب : حرش بين الناس ، فحمل عمير فناوش المسلمين ، لان ينفض الصف ، فثبت المسلمون على صفهم ، ولم يزولوا ، وتقدم ابن الحضرمي فشد على القوم ، فنشبت الحرب (4) ..قال الواقدي : فروى نافع بن جبير عن حكيم بن حزام ، قال : لما أفسد الرأى أبو جهل على الناس ، وحرش بينهم عامر بن الحضرمي فاقحم فرسه ، كان أول من خرج إليه من المسلمين مهجع مولى عمر بن الخطاب ، فقتله عامر ، وكان أول قتيل قتل من الانصار حارثة ابن سراقة ، قتله حيان بن العرقة (5) .
قال الواقدي : وقال عمر بن الخطاب في مجلس ولايته : يا عمير بن وهب ، أنت
__________
(1) حلقتا البطان ، كناية عن اشتداد الامر .
(2) مغازي الواقدي 58 ، 59 .
(3) اكتشف : تعرى .
(4) الواقدي 59 .
(5) الواقدي 60 : (ويقال : عمير بن الحمام ، قتله خالد بن الاعلم العقيلي) .
(*)(14/125)
حاذرنا للمشركين يوم بدر ، تصعد في الوادي وتصوب ، كأنى أنظر إلى فرسك تحتك تخبر المشركين إنه لا كمين لنا ولا مدد قال : إى والله يا امير المؤمنين ، وأخرى ، أنا والله الذى حرشت بين الناس يومئذ ، ولكن الله جاءنا بالاسلام ، وهدانا له ، وما كان فينا من الشرك اعظم من ذلك ، قال عمر : صدقت .
قال الواقدي : وكان عتبة بن ربيعة كلم حكيم بن حزام ، وقال : ليس عند أحد خلاف إلا عند ابن الحنظلية ، فاذهب إليه ، فقل له أن عتبة يحمل دم حليفه ، ويضمن العير قال حكيم : فدخلت على أبى جهل ، وهو يتخلق بخلوق طيب ، ودرعه موضوعه بين يديه ، فقلت إن عتبة بن ربيعة بعثنى إليك ، فاقبل على مغضبا ، فقال ما وجد عتبة أحدا يرسله غيرك ، فقلت والله لو كان غيره أرسلني ما مشيت في ذلك ، ولكني مشيت في إصلاح بين الناس - وكان أبو الوليد سيد العشيرة - فغضب غضبه أخرى .
قال : وتقول أيضا سيد العشيرة ، فقلت : أنا أقوله ، وقريش كلها تقوله ، فأمر عامرا أن يصيح بخفرته ، واكتشف ، وقال : إن عتبة جاع ، فاسقوه سويقا ، وجعل المشركين يقولون عتبه جاع ، فاسقوه سويقا ، وجعل أبو جهل يسر بما صنع المشركون بعتبة قال حكيم : فجئت إلى منبه بن الحجاج فقلت له مثل ما قلت لابي جهل ، فوجدته خيرا من أبى جهل ، قال : نعما مشيت فيه ، وما دعا إليه عتبة فرجعت إلى عتبة فوجدته قد غضب من كلام قريش ، فنزل عن جمله ، وقد كان طاف عليهم في عسكرهم يامرهم بالكف عن القتال ، فيأبون ، فحمى ، فنزل فلبس درعه ، وطلبوا له بيضة فلم يوجد في الجيش بيضة تسع رأسه من عظم هامته ، فلما رأى ذلك إعتجر ، ثم برز راجلا بين أخيه شيبة وبين ابنه الوليد ابن عتبة فبينا أبو جهل في الصف على فرس أنثى ، حاذاه عتبة ، وسل سيفه ، فقيل هو والله يقتله ، فضرب بالسيف عرقوب فرس أبى جهل ، فاكتسعت (2) الفرس ،
__________
(1) مغازي الواقدي 60 .
(2) اكتسعت الفرس : سقطت من ناحية مؤخرتها ورمت به .
(*)(14/126)
وقال : انزل ، فان هذا اليوم ليس بيوم ركوب ، ليس كل قومك راكبا ، فنزل أبو جهل وعتبة يقول سيعلم أينا شؤم عشيرته الغداة قال حكيم : فقلت تا لله ما رأيت كاليوم .
قال الواقدي : ثم دعا عتبة إلى المبارزة ورسول الله صلى الله عليه وآله في العريش ، وأصحابه على صفوفهم ، فاضطجع فغشيه النوم ، وقال : لا تقاتلوا حتى أوذنكم ، وإن كثبوكم فارموهم ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم فقال أبو بكر يا رسول الله قد دنا القوم ، وقد نالوا منا ، فاستيقظ ، وقد أراه الله أياهم في منامه قليلا ، وقلل بعضهم في أعين بعض ، ففزع رسول الله صلى الله عليه وآله وهو رافع يديه يناشد ربه ما وعده من النصر ، ويقول : (اللهم إن تظهر على هذه العصابة يظهر الشرك ، ولا يقم لك دين ، ، وأبو بكر يقول والله لينصرنك الله وليبيضن وجهك قال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله ، إنى أشير عليك وأنت أعظم وأعلم بالله من أن يشار عليك إن الله أجل وأعظم من أن ينشد وعده فقال عليه السلام يا بن رواحة ، ألا أنشد الله وعده ، إن الله لا يخلف الميعاد وأقبل عتبة يعمد إلى القتال ، فقال له حكيم بن حزام مهلا مهلا يا أبا الوليد لا تنه عن شئ وتكون أوله (1) .
قال الواقدي : قال خفاف بن ايماء : فرأيت اصحاب النبي صلى الله عليه وآله يوم بدر ، وقد تصاف الناس وتزاحفوا ، وهم لا يسلون السيوف ، ولكنهم قد انتضوا القسى ، وقد تترس بعضهم عن بعض بصفوف متقاربة ، لا فرج بينها ، والاخرون قد سلوا السيوف حين طلعوا ، فعجبت من ذلك ، فسالت بعد ذلك رجلا من المهاجرين ، فقال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله ألا نسل السيوف حتى يغشونا (2) .
قال الواقدي : فلما تزاحف الناس قال الاسود بن عبد الاسد المخزومى حين دنا من
__________
(1) مغازي الواقدي 60 ، 61 .
(*)(14/127)
الحوض : أعاهد الله لاشربن من حوضهم أو لاهدمنه أو لاموتن دونه فشد حتى دنا من الحوض ، واستقبله حمزة بن عبد المطلب ، فضربه فأطن (1) قدمه ، فزحف الاسود ليبر قسمه زعم ، حتى وقف في الحوض فهدمه برجله الصحيحة ، وشرب منه ، واتبعه حمزة ، فضربه في الحوض فقتله ، والمشركون ينظرون ذلك على صفوفهم (2) .
قال الواقدي : ودنا الناس بعضهم من بعض ، فخرج عتبة وشيبة والوليد حتى فصلوا من الصف ، ثم دعوا الى المبارزة ، فخرج إليهم فتيان ثلاثة من الانصار ، وهم بنو عفراء معاذ ومعوذ وعوف ، بنو الحارث - ويقال إن ثالثهم عبد الله بن رواحة ، والثابت عندنا أنهم بنو عفراء - فاستحى رسول الله صلى الله عليه وآله من ذلك ، وكره أن يكون أول قتال لقى المسلمون فيه المشركين في الانصار ، وأحب أن تكون الشوكة لبنى عمه وقومه ، فأمرهم ، فرجعوا الى مصافهم ، وقال لهم خيرا ، ثم نادى منادى المشركين يا محمد ، أخرج إلينا الاكفاء من قومنا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله يا بنى هاشم ، قوموا فقاتلوا بحقكم الذى بعث الله به نبيكم إذ جاءوا بباطلهم ليطفئوا نور الله .
فقام حمزة بن عبد المطلب وعلى بن أبى طالب وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف ، فمشوا إليهم فقال عتبة تكلموا نعرفكم - وكان عليهم البيض ، فانكروهم - فان كنتم أكفاءنا قاتلناكم (3) .
وروى محمد بن إسحاق في كتاب المغازى خلاف هذه الرواية ، قال : إن بنى عفراء وعبد الله بن رواحة برزوا إلى عتبة وشيبة والوليد ، فقالوا لهم من أنتم قالوا رهط من الانصار ، فقالوا ارجعوا فما لنا بكم من حاجة ثم نادى مناديهم
__________
(1) أطن قدمه : قطعها .
(2) على صفوفهم : أي على حالتهم التي كانوا عليها .
(3) مغازي الواقدي 62 ، 63 .
(*)(14/128)
أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله قم يا فلان ، قم يا فلان ، قم يا فلان (1) .
قلت وهذه الرواية أشهر من رواية الواقدي ، وفى رواية الواقدي ما يؤكد صحة رواية محمد بن إسحاق ، وهو قوله أن منادى المشركين نادى يا محمد ، أخرج إلينا الاكفاء من قومنا فلو لم يكن قد كلمهم بنو عفراء وكلموهم وردوهم ، لما نادى مناديهم بذلك ويدل على ذلك قول بعض القرشيين لبعض الانصار في فخر فخر به عليه أنا من قوم لم يرض مشركوهم أن يقتلوا مؤمنى قومك .
قال الواقدي : فقال حمزة : أنا حمزة بن عبد المطلب ، أسد الله وأسد رسوله ، فقال عتبة : كفؤ كريم ، وأنا أسد الحلفاء ، من هذان معك قال : على بن أبى طالب وعبيدة بن الحارث بن المطلب ، فقال : كفآن كريمان (2) .
قال الواقدي : قال ابن أبى الزناد : حدثنى أبى ، قال : لم أسمع لعتبة كلمة قط أوهن من قوله : (أنا أسد الحلفاء) يعنى بالحلفاء الاجمة .
قلت : قد روى هذه الكلمة على صيغة أخرى : (وأنا أسد الحلفاء) ، وروى : (أنا أسد الاحلاف) .
قالوا في تفسيرهما أراد أنا سيد أهل الحلف المطيبين ، وكان الذين حضروه بنى عبد مناف وبنى أسد بن عبد العزى وبنى تيم وبنى زهرة وبنى الحارث بن فهر ، خمس قبائل ورد قوم هذا التأويل ، فقالوا إن المطيبين لم يكن يقال لهم الحلفاء ولا الاحلاف ، وإنما ذلك لقب خصومهم وأعدائهم الذين وقع التحالف لاجلهم ، وهم بنو عبد الدار ، وبنو مخزوم ، وبنو سهم ، وبنو جمح ، وبنو عدى بن كعب ، خمس
__________
(1) سيرة ابن هشام 2 : 265 ، وفيها : (قم يا عبيدة بن الحارث ، قم يا حمزة ، قم يا علي) .
(2) مغازي الواقدي 63 .
(*)(14/129)
قبائل وقال قوم في تفسيرهما : إنما عنى حلف الفضول ، وكان بعد حلف المطيبين بزمان ، وشهد حلف الفضول رسول الله صلى الله عليه وآله وهو صغير في دار ابن جدعان ، وكان سببه أن رجلا من اليمن قدم مكة بمتاع ، فاشتراه العاص بن وائل السهمى ومطله بالثمن حتى أتعبه ، فقام بالحجر وناشد قريشا ظلامته ، فاجتمع بنو هاشم وبنو اسد بن عبد العزى وبنو زهرة ، وبنو تميم ، في دار ابن جدعان ، فتحالفوا ، غمسوا أيديهم في ماء زمزم ، بعد أن غسلوا به أركان البيت ، أن ينصروا كل مظلوم بمكة ، ويردوا عليه ظلامته ، ويأخذوا على يد الظالم ، وينهوا عن كل منكر ، ما بل بحر صوفه ، فسمى حلف الفضول لفضله ، وقد ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله فقال (شهدته وما أحب أن لى به حمر النعم ، ولا يزيده الاسلام إلا شدة) ، وهذا التفسير ايضا غير صحيح ، لان بنى عبد الشمس لم يكونوا في حلف الفضول ، فقد بان أن ما ذكره الواقدي أصح وأثبت .
قال الواقدي : ثم قال عتبة لابنه : قم يا وليد ، فقام الوليد وقام إليه على - وكانا أصغر النفر - فاختلفا ضربتين ، فقتله على بن أبى طالب عليه السلام ، ثم قام عتبة ، وقام إليه حمزة فاختلفا ضربتين ، فقتله حمزة رضى الله عنه ، ثم قام شيبة ، وقام إليه عبيدة - وهو يومئذ أسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله - فضرب شيبة رجل عبيدة بذباب السيف ، فاصاب عضلة ساقه ، فقطعها وكر حمزة وعلى على شيبة فقتلاه ، واحتملا عبيدة فحازاه إلى الصف ، ومخ ساقه يسيل ، فقال عبيدة يا رسول الله أ لست شهيدا قال : بلى ، قال : أما والله لو كان أبو طالب حيا لعلم أنى أحق بما قال حين يقول : كذبتم وبيت الله نخلى محمدا ولما نطاعن دونه ونناضل (1) وننصره حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل .
ونزلت فيهم هذه الاية (هذان خصمان اختصموا في ربهم) (2) .
__________
(1) ديوانه 110 ، وفيه : (بنزى محمدا) .
(2) سورة الحج 19 والخبر في الواقدي 63 ، 64 .
(*)(14/130)
وروى محمد بن إسحاق أن عتبة بارز عبيدة بن الحارث ، وأن شيبة بارز حمزة بن عبد المطلب ، فقتل حمزة شيبة ، لم يمهله أن قتله ، ولم يمهل على الوليد أن قتله ، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين ، كلاهما أثبت (1) صاحبه ، وكر حمزة وعلى عليه السلام على عتبة بإسيافهما ، حتى وقعا عليه (2) ، واحتملا صاحبهما فحازاه الى الصف (3) .
قلت وهذه الرواية توافق ما يذكره أمير المؤمنين عليه السلام في كلامه ، إذ يقول لمعاوية وعندي السيف الذى أعضضت به اخاك وخالك وجدك يوم بدر .
ويقول في موضع آخر قد عرفت مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدك ، وما هي من الظالمين ببعيد .
واختار البلاذرى رواية الواقدي وقال : إن حمزة قتل عتبة ، وإن عليا عليه السلام قتل الوليد ، وشرك في قتل شيبة (4) .
وهذا هو المناسب لاحوالهم من طريق السن ، لان شيبة أسن الثلاثة ، فجعل بإزاء عبيدة وهو أسن الثلاثة ، والوليد أصغر الثلاثة سنا ، فجعل بإزاء على عليه السلام وهو أصغر الثلاثة سنا ، وعتبة أوسطهم سنا ، فجعل بإزاء حمزة وهو أوسطهم سنا .
وأيضا فان عتبة كان أمثل الثلاثة ، فمقتضى القياس أن يكون قرنه أمثل الثلاثة ، وهو حمزة إذ ذاك ، لان عليا عليه السلام لم يكن قد اشتهر أمره جدا ، وإنما اشتهر الشهرة التامة بعد بدر .
ولمن روى أن حمزة بارز شيبة - وهى رواية ابن إسحاق - أن ينتصر بشعر هند بنت عتبة ترثى أباها : أعيني جودا بدمع سرب على خير خندف لم ينقلب (5) تداعى له رهطه قصرة بنو هاشم وبنو المطلب (6) يذيقونه حر أسيافهم يعلونه بعد ما قد عطب (7) .
__________
(1) أصبته : جرحه .
(2) ابن هشام : (ذففا عليه) .
(3) سيرة ابن هشام 2 : 265 .
(4) أنساب الاشراف 1 : 297 .
(5) سيرة ابن هشام 2 : 541 .
(6) يقال : هو ابن عمي قصرة ، أي قريب .
وفي ا والواقدي غدوة .
(7) ا : (شجب) .
(*)(14/131)
فإذا كانت قد قالت أن عتبة أباها أذاقه بنو هاشم وبنو المطلب حر اسيافهم ، فقد ثبت أن المبارز لعتبة إنما هو عبيدة لانه من بنى المطلب جرح عتبة ، فأثبته ثم ذفف (1) عليه حمزة وعلى عليه السلام .
فاما الشيعة ، فانها تروى أن حمزة بادر عتبة فقتله ، وإن إشتراك على وحمزة إنما هو في دم شيبة بعد أن جرحه عبيدة بن الحارث ، هكذا ذكر محمد ابن النعمان في كتاب " الارشاد " ، وهو خلاف ما تنطق به كتب أمير المؤمنين عليه السلام إلى معاوية ، والامر عندي مشتبه في هذا الموضع .
وروى محمد بن النعمان ، عن أمير المؤمنين عليه السلام ، إنه كان يذكر يوم بدر ويقول اختلف أنا والوليد بن عتبة ضربتين ، فأخطأتني ضربته ، واضربه فاتقاني بيده اليسرى ، فأبانها السيف ، فكأني أنظر إلى وميض خاتم في شماله ، ثم ضربته أخرى فصرعته وسلبته ، فرايت به الردع (2) من خلوق ، فعلمت أنه قريب عهد بعرس .
قال الواقدي : وقد روى أن عتبة بن ربيعة حين دعا إلى البراز ، قام إليه ابنه أبو حذيفة بن عتبة يبارزه ، فقال له النبي صلى الله عليه وآله : إجلس ، فلما قام إليه النفر أعان أبو حذيفة على أبيه عتبة بضربة (3) .
قال الواقدي : وأخبرني ابن أبى الزناد ، عن أبيه ، قال : شيبة أكبر من عتبة بثلاث سنين ، وحمزة أسن من النبي صلى الله عليه وآله باربع سنين ، والعباس أسن من النبي صلى الله عليه وآله بثلاث سنين (4) .
قال الواقدي : واستفتح أبو جهل يوم بدر ، فقال اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعلم ، فأحنه الغداة ، فانزل الله تعالى (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ...
) (5) الاية .
__________
(1) ذفف عليه : أي أجهز .
(2) الردع : (الزعفران) .
(3) مغازي الواقدي 64 .
(4) مغازي الواقدي 65 ، والخبر هنا أوفى وأشمل .
(5) سورة الانفال 19 ، والخبر في الواقدي 65 ، وتاريخ الطبري 2 : 441 (طبعة المعارف) .
(*)(14/132)
قال الواقدي : وروى عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله جعل شعار المهاجرين يوم بدر يا بنى عبد الرحمن ، وشعار الخزرج يا بنى عبد الله ، وشعار الاوس يا بنى عبد الله .
قال : وروى زيد بن على بن الحسين عليه السلام ، أن شعار رسول الله صلى الله عليه وآله يوم بدر يا منصور أمت (1) .
قال الواقدي : ونهى رسول الله صلى الله عليه وآله عن قتل أبى البخترى ، وكان قد لبس السلاح بمكة يوما قبل الهجرة في بعض ما كان ينال النبي صلى الله عليه وآله من الاذى ، وقال : لا يعرض اليوم أحد لمحمد باذى إلا وضعت فيه السلاح فشكر ذلك له النبي صلى الله عليه وآله قال أبو داود المازنى : فلحقته يوم بدر ، فقلت له إن رسول الله صلى الله عليه وآله قد نهى عن قتلك إن أعطيت بيدك ، قال : وما تريد إلى إن كان قد نهى عن قتلى ، فقد كنت أبليته ذلك ، فاما أن اعطى بيدى ، فو اللات والعزى لقد علمت نسوة بمكة أنى لا أعطى بيدى ، وقد عرفت إنك لا تدعني ، فافعل الذى تريد فرماه أبو داود بسهم ، وقال : اللهم سهمك ، وأبو البخترى عبدك ، فضعه في مقتله وأبو البخترى دارع ، ففتق السهم الدرع فقتله .
قال الواقدي : ويقال أن المجذر بن ذياد قتل أبا البخترى ولا يعرفه ، وقال المجذر في ذلك شعرا عرف منه إنه قاتله (2) .
وفي رواية محمد بن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى يوم بدر عن قتل أبى البخترى ، واسمه الوليد بن هشام بن الحارث بن أسد بن عبد العزى ، لانه كان أكف
__________
(1) مغازي الواقدي 66 .
(2) مغازي الواقدي 75 .
(*)(14/133)
الناس عن رسول الله صلى الله عليه وآله بمكة ، كان لا يؤذيه ولا يبلغه عنه شئ يكرهه ، وكان فيمن قام في نقض الصحيفة التى كتبتها قريش على بنى هاشم ، فلقيه المجذر بن ذياد البلوى حليف الانصار ، فقال له إن رسول الله صلى الله عليه وآله نهانا عن قتلك ، ومع أبى البخترى زميل له خرج معه من مكة يقال له جنادة بن مليحة ، فقال البخترى وزميلي قال المجذر : والله ما نحن بتاركي زميلك ، ما نهانا رسول الله صلى الله عليه وآله إلا عنك وحدك (1) ، قال : إذا والله لاموتن أنا وهو جميعا ، لا تتحدث عنى نساء أهل مكة إنى تركت زميلي حرصا على الحياة ، فنازله المجذر وارتجز أبو البخترى (2) فقال : لن يسلم ابن حرة زميله حتى يموت أو يرى سبيله .
ثم اقتتلا ، فقتله المجذر ، وجاء الى رسول الله صلى الله عليه وآله ، فاخبره ، وقال : والذى بعثك بالحق لقد جهدت أن يستاسر فاتيك به ، فأبى إلا القتال فقاتلته (3) فقتلته (4) .
قال الواقدي : ونهى النبي صلى الله عليه وآله عن قتل الحارث بن عامر بن نوفل ، وقال : ائسروه ولا تقتلوه ، وكان كارها للخروج الى بدر ، فلقيه خبيب بن يساف فقتله ولا يعرفه ، فبلغ النبي صلى الله عليه وآله ذلك ، فقال لو وجدته قبل أن يقتل لتركته لنسائه ونهى عن قتل زمعة بن الاسود فقتله ثابت بن الجذع ، ولا يعرفه .
قال الواقدي : وارتجز عدى بن أبى الزغباء يوم بدر ، فقال : أنا عدى والسحل امشى بها مشى الفحل .
يعنى درعه فقال النبي صلى الله عليه وآله من عدى فقال رجل من القوم أنا يا رسول الله ، قال : وماذا [ قال ابن فلان ، قال : لست أنت عديا ، فقال عدى بن أبى
__________
(1) ابن هشام : (ما أمرنا رسول الله إلا بك وحدك) .
(2) ابن هشام : (فقال أبو البختري حين نازله المجذر ، وأبى إلا القتال) .
(3) ابن هشام : (إلا أن يقاتلني) .
(4) الخبر في سيرة ابن هشام 2 : 270 ، 271 .
(*)(14/134)
الزغباء أنا يا رسول الله عدى ، قال وماذا ] (1) قال : (والسحل ، أمشى بها مشى الفحل) ، قال النبي صلى الله عليه وآله : وما السحل ، قال : درعى ، فقال صلى الله عليه وآله (نعم العدى ، عدى بن أبى الزغباء) (2) .
قال الواقدي : وكان عقبة بن أبى معيط قال : بمكة حين هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله إلى المدينة : يا راكب الناقة القصواء هاجرنا عما قليل تراني راكب الفرس أعل رمحي فيكم ثم أنه له والسيف ياخذ منكم كل ملتبس .
فبلغ قوله النبي صلى الله عليه وآله ، فقال (اللهم أكبه لمنخره واصرعه) ، فجمح به فرسه يوم بدر بعد أن ولى الناس ، فأخذه عبد الله بن سلمة العجلاني أسيرا ، وأمر النبي صلى الله عليه وآله عاصم بن أبى الاقلح ، فضرب عنقه صبرا (3) .
قال الواقدي : وكان عبد الرحمن يحدث يقول إنى لاجمع أدراعا يوم بدر ، بعد أن ولى الناس ، فإذا أمية بن خلف - وكان لى صديقا في الجاهلية ، وكان اسمى عبد عمرو ، فلما جاء الاسلام تسميت عبد الرحمن ، فكان يلقانى بمكة فيقول يا عبد عمرو ، فلا أجيبه فيقول إنى لا أقول لك عبد الرحمن ، إن مسيلمة باليمامة (4) تسمى بالرحمن ، فأنا لا أدعوك إليه ، فكان يدعوني عبد الاله ، فلما كان يوم بدر رأيته وكانه جمل يساق ، ومعه ابنه على ، فناداني يا عبد عمرو ، فأبيت أن أجيبه ، فناداني يا عبد الاله ، فاجبته ، فقال أما لكم حاجة في اللبن نحن خير لك من أدرعك هذه ، فقلت أمضيا فجعلت أسوقهما أمامى ، وقد رأى أمية انه قد أمن بعض الامن ، فقال لى أمية رأيت رجلا فيكم اليوم معلما في صدره بريشة نعامة ، من هو فقلت حمزة بن عبد المطلب
__________
(1) من مغازي الواقدي .
(2) مغازي الواقدي 76 .
(3) مغازي الواقدي 76 ، 77 .
(4) الواقدي (يتسمى) .
(*)(14/135)
فقال ذاك الذى فعل بنا الافاعيل ثم قال : فمن رجل دحداح قصير معلم بعصابة حمراء قلت ذاك رجل من الانصار ، يقال له سماك بن خرشة ، قال : وبذاك ايضا يا عبد الاله صرنا اليوم جزرا لكم قال : فبينا هو معى أزجيه (1) أمامى ، ومعه ابنه ، إذ بصر به بلال وهو يعجن عجينا له ، فترك العجين ، وجعل يفتل يديه منه فتلا ذريعا ، وهو ينادى يا معشر الانصار ، أمية بن خلف رأس الكفر لا نجوت إن نجوت - قال : لانه كان يعذبه بمكة ، فأقبلت الانصار كأنهم عوذ حنت إلى اولادها ، حتى طرحوا أمية على ظهره واضطجعت عليه أحميه منهم ، فأقبل الخباب بن المنذر ، فادخل سيفه فاقتطع أرنبة أنفه ، فلما فقد أمية انفه ، قال لى : إيها عنك أي خل بينى وبينهم ، قال عبد الرحمن : فذكرت قول حسان * أو عن ذلك الانف جادع * .
قال : ويقبل إليه خبيب بن يساف ، فضربه حتى قتله ، وقد كان أمية ضرب خبيب بن يساف حتى قطع يده من المنكب ، فأعادها النبي صلى الله عليه وآله فالتحمت واستوت ، فتزوج خبيب بن يساف بعد ذلك ابنة أمية بن خلف ، فرأت تلك الضربة ، فقالت لا يشل الله يد رجل فعل هذا فقال خبيب وأنا والله قد أوردته شعوب ، فكان خبيب يحدث يقول فأضربه فوق العاتق ، فأقطع عاتقه حتى بلغت مؤتزره ، وعليه الدرع ، وأنا أقول خذها وأنا ابن يساف وأخذت سلاحه ودرعه ، واقبل على أبن امية فتعرض له الخباب ، فقطع رجله ، فصاح صيحة ما سمع مثلها قط ، ولقيه عمار فضربه ضربة فقتله .
ويقال إن عمارا لاقاه قبل ضربه الخباب ، فاختلفا ضربات ، فقتله عمار .
والاولى أثبت ، أنه ضربه بعد أن قطعت رجله (2) .
قال الواقدي : وقد سمعنا في قتل أمية غير ذلك ، حدثنى عبيد بن يحيى ، عن معاذ بن
__________
(1) أزجيه : أسوقه .
(2) مغازي الواقدي 77 ، 78 .
(*)(14/136)
رفاعة ، عن أبيه ، قال : لما كان يوم بدر وأحدقنا بأمية بن خلف ، وكان له فيهم شان ، ومعى رمحي ، ومعه رمحه ، فتطاعنا حتى سقطت أزجتها ، ثم صرنا إلى السيفين فتضاربنا بهما حتى انثلما ، ثم بصرت بفتق في درعه تحت أبطه ، فحششت السيف فيه حتى قتلته ، وخرج السيف عليه الودك (1) .
قال الواقدي : وقد سمعنا وجها آخر حدثنى محمد بن قدامة بن موسى ، عن أبيه ، عن عائشة بنت قدامة ، قالت قال صفوان بن أمية بن خلف يوما : يا قدام - لقدامة بن مظعون - أنت المشلى (2) بأبى يوم بدر الناس فقال قدامة لا والله ما فعلت ، ولو فعلت ما اعتذرت من قتل مشرك قال صفوان : فمن يا قدام المشلى به يوم بدر قال : رأيت فتية من الانصار أقبلوا إليه ، فيهم معمر بن خبيب بن عبيد الحارث ، يرفع سيفه ويضعه فيه ، فقال صفوان أبو قرد وكان معمر رجلا دميما ، فسمع بذلك الحارث بن حاطب ، فغضب له ، فدخل على أم صفوان ، فقال ما يدعنا صفوان من الاذى في الجاهلية والاسلام قالت وما ذاك فاخبرها بمقالة صفوان لمعمر حين قال أبو قرد : فقالت أم صفوان : يا صفوان ، أتنتقص معمر بن خبيب من اهل بدر والله لا أقبل لك كرامة سنة .
قال صفوان : يا أمة ، لا أعود والله أبدا ، تكلمت بكلمة لم ألق لها بالا (3) .
قال الواقدي : وحدثني محمد بن قدامة ، عن أبيه ، عن عائشة بنت قدامة ، قالت قيل لام صفوان بن أمية - ونظرت إلى الخباب بن المنذر بمكة هذا الذى قطع رجل على بن أمية يوم بدر ، قالت دعونا عن ذكر من قتل على الشرك ، قد أهان الله عليا بضربة الخباب بن المنذر ، وأكرم الله الخباب بضربته عليا ، ولقد كان على الاسلام حين خرج من هاهنا ، فقتل على غير ذلك (4) .
__________
(1) مغازي الواقدي 78 ، 79 .
(2) المشلى : المحرض .
(3) مغازي الواقدي 79 .
(4) مغازي الواقدي 79 ، 80 ، وانظر سيرة ابن هشام 2 : 272 ، 273 .
(*)(14/137)
فاما محمد بن إسحاق ، فانه قال : قال عبد الرحمن بن عوف : أخذت بيد أمية بن خلف ويد ابنه على بن أمية أسيرين يوم بدر ، فبينا أنا أمشى بينهما ، رآنا بلال - وكان أمية هو الذى يعذب بلالا بمكة ، يخرجه إلى رمضاء (1) مكة إذا حميت ، فيضجعه على ظهره ، ثم يأمره بالصخرة العظيمة فتوضع بحرارتها على صدره ، ويقول له لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد فيقول بلال أحد أحد لا يزيده على ذلك - فلما رآه صاح رأس الكفر أمية بن خلف ، لا نجوت إن نجوت قال عبد الرحمن : فقلت : أي بلال ، أسيرى فقال لا نجوت إن نجا ، فقلت استمع يا بن السوداء ، قال : لا نجوت إن نجا ، ثم صرخ بأعلى صوته يا أنصار الله ، أمية بن خلف رأس الكفر ، لا نجوت إن نجا ، فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المسكة (2) ، وأنا أذب عنه ، (3 ويحذف عمار بن ياسر عليا ابنه بالسيف ، فأصاب رجله ، فوقع وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط 3) ، فخليت عنه ، وقلت انج بنفسك ولا نجاء به فو الله ما أغنى عنك شيئا ، قال : فهبروهما (4) بأسيافهم حتى فرغوا منهما قال : فكان عبد الرحمن بن عوف ، يقول : رحم الله بلالا أذهب أدرعى ، وفجعني باسيرى (5) .
قال الواقدي : وكان الزبير بن العوام يحدث فيقول لما كان يومئذ لقيت عبيدة ابن سعد بن العاص على فرس ، عليه لامة كاملة لا يرى منه إلا عيناه ، وهو يقول - وكانت له صبية صغيرة ، يحملها وكان لها بطين وكانت مقسمة : أنا أبو ذات الكرش ، أنا إبو ذات
__________
(1) الرمضاء : الرمل الشديد الحرارة من الشمس .
(2) المسكة : السوار .
(3 - 3) ابن هشام : (فاخلف رجل السيف فضرب رجل ابنا فوقع وصاح أمية صيحة عظيمة ما سمعت بمثلها قط) .
(4) هبروهما : قطعوا لحمهما ، تقول : هبرت اللحم إذا قطعته قطعا) .
(5) سيرة ابن هشام 2 : 272 ، 273 .
(*)(14/138)
الكرش قال : وفي يدى عنزة (1) فأطعن بها في عينه ووقع ، وأطؤه برجلي على خده ، حتى أخرجت العنزة متعقفة ، وأخرجت حدقته ، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله تلك العنزة ، فكانت تحمل بين يديه ، ثم صارت تحمل بين يدى أبى بكر وعمر وعثمان (2) .
قال الواقدي : وأقبل عاصم بن ابى عوف بن صبيرة السهمى ، لما جال الناس واختلطوا ، وكانه ذئب ، وهو يقول يا معشر قريش ، عليكم بالقاطع مفرق الجماعة ، الاتى بما لا يعرف ، محمد ، لا نجوت إن نجا ويعترضه أبو دجانة ، فاختلفا ضربتين ، ويضربه أبو دجانة فقتله ، ووقف على سلبه يسلبه ، فمر به عمر بن الخطاب ، فقال دع سلبه حتى يجهض (3) العدو ، أنا اشهد لك به (4) .
قال الواقدي : ويقبل معبد بن وهب ، أحد بنى عامر بن لؤى ، فضرب أبا دجانة ضربة برك منها أبو دجانة كما يبرك الجمل ، ثم انتهض ، وأقبل على معبد ، فضربه ضربات لم يصنع سيفه شيئا ، حتى يقع معبد بحفرة أمامه لا يراها ، ونزل أبو دجانة عليه ، فذبحه ذبحا ، وأخذ سلبه .
قال الواقدي : ولما كان يومئذ ، ورأت بنو مخزوم مقتل من قتل قالت أبو الحكم لا يخلص إليه ، فان ابني ربيعة عجلا وبطرا ولم تحام عنهما (6) عشيرتهما فاجتمعت بنو مخزوم ، فأحدقوا به ، فجعلوه [ في ] (7) مثل الحرجة ، وأجمعوا أن يلبسوا لامة أبى جهل رجلا منهم ، فألبسوها عبد الله بن المنذر بن أبى رفاعة ، فصمد له على عليه السلام ، فقتله وهو يراه أبا جهل ، ومضى عنه وهو يقول أنا ابن عبد المطلب ثم البسوها أبا قيس بن
__________
(1) العنزة : شبيه العكازة ، أطول من العصا وأقصر من الرمح ، لها زج من أسفلها .
(2) مغازي الواقدي 80 .
(3) ا والواقدي : (نجهض) .
(4) مغازي الواقدي 81 .
(5) مغازي الواقدي 80 ، 81 .
(6) كذا في ا ، وفي ب والواقدي : (عليهما) .
(7) من الواقدي .
(*)(14/139)
الفاكه بن المغيرة ، فصمد له حمزة وهو يراه أبا جهل ، فضربه فقتله وهو يقول خذها وأنا ابن عبد المطلب ثم ألبسوها حرملة بن عمرو ، فصمد له على عليه السلام فقتله ، ثم أرادوا أن يلبسوها خالد بن الاعلم ، فأبى أن يلبسها قال معاذ بن عمرو بن الجموح : فنظرت يومئذ إلى إبى جهل في مثل الحرجة ، وهم يقولون أبو الحكم لا يخلص إليه ، فعرفت إنه هو ، فقلت والله لاموتن دونه اليوم أو لاخلصن إليه ، فصمدت له ، حتى إذا أمكنتني منه غرة حملت عليه ، فضربته ضربة طرحت رجله من الساق ، فشبهتها النواة تنزو من تحت المراضخ ، فاقبل ابنه عكرمة على فضربني على عاتقي ، فطرح يدى من العاتق ، إلا أنه بقيت جلده ، فذهبت أسحب يدى بتلك الجلدة خلفي ، فلما آذتنى وضعت عليها رجلى ، ثم تمطيت عليها فقطعتها ، ثم لاقيت عكرمة وهو يلوذ كل ملاذ ، ولو كانت يدى معى لرجوت يومئذ أن أصيبه ومات معاذ في زمن عثمان (1) .
قال الواقدي : فروى أن رسول الله صلى الله عليه وآله نفل معاذ بن عمرو بن الجموح سيف أبى جهل ، وإنه عند آل معاذ بن عمرو اليوم وبه فل ، بعد أن ارسل النبي صلى الله عليه وآله إلى عكرمة بن أبى جهل ، يسأله من قتل أباك قال : الذى قطعت يده ، فدفع رسول الله صلى الله عليه وآله سيفه إلى معاذ بن عمرو ، لان عكرمة بن أبى جهل قطع يده يوم بدر (2) .
قال الواقدي : وما كان بنو المغيرة يشكون أن سيف أبى الحكم صار الى معاذ بن عمرو بن الجموح ، وإنه قاتله يوم بدر (2) .
قال الواقدي : قد سمعت في قتله وأخذ سلبه غير هذا ، حدثنى عبد الحميد بن جعفر ، عن عمر بن الحكم بن ثوبان ، عن عبد الرحمن بن عوف ، قال : عبأنا رسول الله صلى الله عليه وآله بليل ، فأصبحنا ونحن على صفوفنا ، فإذا بغلامين ، ليس منهما واحد إلا قد
__________
(1) مغازي الواقدي 81 .
(2) مغازي الواقدي 81 ، 82 .
(*)(14/140)
ربطت حمائل سيفه في عنقه لصغره ، فالتفت إلى أحدهما ، فقال يا عم ، أيهم أبو جهل قال : قلت : وما تصنع به يا بن أخى قال : بلغني إنه يسب رسول الله صلى الله عليه وآله ، فحلفت لئن رأيته لاقتلنه أو لاموتن دونه .
فأشرت إليه ، فالتفت إلى الاخر ، وقال لى مثل ذلك ، فأشرت له إليه ، وقلت له : من أنتما قالا ابنا الحارث ، قال : فجعلا لا يطرفان عن أبى جهل ، حتى إذا كان القتال خلصا إليه فقتلاه وقتلهما (1) .
قال الواقدي : فحدثني محمد بن عوف ، عن إبراهيم بن يحيى بن زيد بن ثابت ، قال : لما كان يومئذ ، قال عبد الرحمن ، : ونظر إليهما عن يمينه وعن شماله ليته كان إلى جنبى من هو أبدن من هذين الصبيين فلم أنشب أن التفت إلى عوف ، فقال أيهم أبو جهل فقلت ذاك حيث ترى ، فخرج يعدو إليه كأنه سبع ، ولحقه أخوه ، فأنا أنظر إليهم يضطربون بالسيوف ، ثم نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله يمر بهم في القتلى ، وهما إلى جانب أبى جهل (2) .
قال الواقدي : وحدثني محمد بن رفاعة بن ثعلبة ، قال : سمعت أبى ينكر ما يقول الناس في ابني عفراء من صغرهما ، ويقول : كانا يوم بدر أصغرهما ابن خمس وثلاثين سنة ، فهذا يربط حمائل سيفه قال الواقدي : والقول الاول أثبت (3) .
وروى محمد بن عمار بن ياسر ، عن ربيع بنت معوذ ، قالت : دخلت في نسوة من الانصار على أسماء أم أبى جهل في زمن عمر بن الخطاب ، وكان ابنها عبد الله بن أبى ربيعة يبعث إليها بعطر من اليمن ، فكانت تبيعه إلى الاعطية ، فكنا نشترى منها ، فلما جعلت لى في قواريري ، ووزنت لى كما وزنت لصواحبي ، قال : أكتبن لى عليكن حقى ، قلت نعم ، أكتب لها على الربيع بنت معوذ ، فقالت أسماء خلفي وإنك
__________
(1) مغازي الواقدي 82 ، 83 .
(2) مغازي الواقدي 83 .
(3) مغازي الواقدي 83 .
(*)(14/141)
لابنه قاتل سيده فقلت لا ، ولكن ابنه قاتل عبده ، فقالت والله لا أبيعك شيئا أبدا ، فقلت أنا والله لا أشترى منك أبدا ، فو الله ما هو بطيب ولا عرف ، والله يا بنى ما شممت عطرا قط كان أطيب منه ، ولكني يا بنى غضبت (1) .
قال الواقدي : فلما وضعت الحرب أوزارها ، أمر رسول الله صلى الله عليه وآله أن يلتمس أبو جهل ، قال ابن مسعود : فوجدته في آخر رمق ، فوضعت رجلى على عنقه ، فقلت الحمد لله الذى اخزاك قال : إنما أخزى الله العبد ابن أم عبد لقد ارتقيت يا رويعى الغنم مرتقا صعبا لمن الدبرة قلت لله ولرسوله ، قال ابن مسعود : فأقلع بيضته عن قفاه ، وقلت : إنى قاتلك قال : لست بأول عبد قتل سيده ، أما إن شد ما لقيته اليوم لقتلك إياى ، ألا يكون ولى قتلى رجل من الاحلاف أو من المطيبين قال : فضربه عبد الله ضربة وقع رأسه بين يديه ، ثم سلبه وأقبل بسلاحه ودرعه وبيضته ، فوضعها بين يدى رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقال أبشر يا نبى الله بقتل عدو الله أبى جهل فقال رسول الله أ حقا يا عبد الله فو الذى نفسي بيده لهو أحب إلى من حمر النعم أو كما قال ثم قال : انه أصابه جحش (2) من دفع دفعته في مأدبة ابن جدعان ، فجحشت ركبته فالتمسوه فوجدوا ذلك الاثر (3) .
قال الواقدي : وروى أن أبا سلمة بن عبد الاسد المخزومى كان عند النبي صلى الله عليه وآله تلك الساعة ، فوجد في نفسه ، واقبل على ابن مسعود ، وقال : أنت قتلته قال : نعم ، الله قتله قال أبو سلمة : أنت وليت قتله قال : نعم ، قال : لو شاء لجعلك في كمه فقال ابن مسعود فقد والله قتلته وجردته ، فقال أبو سلمة : فما علامته قال : شامة سوداء ببطن فخذه اليمنى ، فعرف أبو سلمة النعت ، فقال : اجردته ، ولم يجرد قرشي غيره فقال
__________
(1) مغازي الواقدي 84 .
(2) الجحش : الخدش ، أو فوقه دون الجرح .
(3) الواقدي 84 ، 85 .
(*)(14/142)
ابن مسعود إنه والله لم يكن في قريش ولا في حلفائها أحد أعدى لله ولا لرسوله منه ، وما أعتذر من شئ صنعته به فأمسك أبو سلمة (1) .
قال الواقدي : سمع أبو سلمة بعد ذلك يستغفر الله من كلامه في أبى جهل ، وقال : اللهم إنك قد أنجزت ما وعدتني ، فتمم على نعمتك قال : وكان عبد الله بن عتبة بن مسعود ، يقول سيف أبى جهل عندنا محلى بفضه ، غنمه عبد الله بن مسعود يومئذ (1) .
قال الواقدي : اجتمع قول اصحابنا أن معاذ بن عمرو وابنى عفراء أثبتوه ، وضرب ابن مسعود عنقه في آخر رمق ، فكل شرك في قتله (1) .
قال الواقدي : وقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وقف على مصرع ابني عفراء ، فقال يرحم الله ابني عفراء ، فانهما قد شركا في قتل فرعون هذه الامة ، ورأس أئمة الكفر ، فقيل : يا رسول الله ومن قتله معهما قال : الملائكة ، وذفف عليه ابن مسعود ، فكان قد شرك في قتله (2) .
قال الواقدي : وحدثني معمر ، عن الزهري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله يوم بدر : اللهم اكفني نوفل بن العدوية - وهو نوفل بن خويلد ، من بنى أسد بن عبد العزى - وأقبل نوفل يومئذ يصيح وهو مرعوب ، قد رأى قتل أصحابه ، وكان في أول ما التقوا هم والمسلمون ، يصيح بصوت له زجل ، رافعا عقيرته يا معشر قريش ، إن هذا اليوم يوم العلاء والرفعة فلما رأى قريشا قد انكشفت جعل يصيح بالانصار ما حاجتكم الى دمائنا أما ترون من تقتلون أما لكم في اللبن من حاجة فأسره جبار بن صخر ، فهو يسوقه أمامه ، فجعل نوفل يقول لجبار ، ورأى عليا عليه السلام مقبلا نحوه يا أخا الانصار ، من هذا واللات والعزى إنى لارى رجلا ، إنه ليريدني قال
__________
(1) مغازي الواقدي 85 .
(2) مغازي الواقدي 85 ، 86 ، وذفف عليه ، أي أجهز على قتله .
(*)(14/143)
جبار : هذا على بن أبى طالب ، قال نوفل : تا لله ما رأيت كاليوم رجلا أسرع في قومه فصمد له على عليه السلام فيضربه فينشب سيف على في حجفته (1) ساعة ، ثم ينزعه فيضرب به ساقيه ، ودرعه مشتمرة ، فيقطعها ثم أجهز عليه فقتله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله من له علم بنوفل بن خويلد قال على عليه السلام : أنا قتلته ، فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقال : الحمد لله الذى أجاب دعوتي فيه (2) .
قال الواقدي : واقبل العاص بن سعيد بن العاص يبحث للقتال ، فالتقى هو وعلى عليه السلام ، وقتله على ، فكان عمر بن الخطاب يقول لابنه سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص ما لى أراك معرضا ، تظن إنى قتلت أباك فقال سعيد : لو قتلته لكان على الباطل وكنت على الحق ، قال : فقال عمر : إن قريشا اعظم الناس أحلاما ، وأكثرها أمانة ، لا يبغيهم احد الغوائل إلا كبه الله لفيه (3) .
قال الواقدي : وروى أن عمر قال لسعيد بن العاص : ما لى أراك معرضا كانى قتلت أباك يوم بدر ، وإن كنت لا أعتذر من قتل مشرك ، لقد قتلت خالي بيدى العاص بن هاشم بن المغيرة .
ونقلت من غير كتاب الواقدي أن عثمان بن عفان وسعيد بن العاص حضرا عند عمر في أيام خلافته ، فجلس سعيد بن العاص حجرة ، فنظر إليه عمر ، فقال ما لى أراك معرضا كانى قتلت أباك إنى لم اقتله ، ولكنه قتله أبو حسن وكان على عليه السلام حاضرا ، فقال اللهم غفرا ذهب الشرك بما فيه ، ومحا الاسلام ما قبله ، فلما ذا تهاج
__________
(1) الحجفة : الترس .
(2) مغازي الواقدي 86 .
(3) مغازي الواقدي 86 ، 87 .
(4) حجرة ، اي ناحية .
(*)(14/144)
القلوب فسكت عمر ، وقال سعيد : لقد قتله كفؤ كريم ، وهو أحب الى من أن يقتله من ليس من بنى عبد مناف .
قال الواقدي : وكان على عليه السلام يحدث ، فيقول إنى يومئذ بعد ما متع (1) النهار ، ونحن والمشركون قد اختلطت صفوفنا وصفوفهم ، خرجت في أثر رجل منهم ، فإذا رجل من المشركين على كثيب رمل وسعد بن خيثمة ، وهما يقتتلان حتى قتل المشرك سعد بن خيثمة ، والمشرك مقنع في الحديد ، وكان فارسا ، فاقتحم عن فرسه ، فعرفني وهو معلم ، فناداني هلم يا بن أبى طالب إلى البراز فعطفت إلى البراز ، فعطفت عليه ، فانحط إلى مقبلا ، وكنت رجلا قصيرا ، فانحططت راجعا لكى ينزل إلى ، كرهت أن يعلونى ، فقال يا بن أبى طالب ، فررت فقلت قريبا مفر ابن الشتراء .
فلما استقرت قدماى وثبت أقبل فاتقيت فلما دنا منى ضربني بالدرقة ، فوقع سيفه ، فلحج (2) فأضربه على عاتقه وهو دارع ، فارتعش ولقد قط سيفى درعه ، فظننت أن سيفى سيقتله ، فإذا بريق سيف من ورائي فطاطات رأسي ، ويقع السيف ، فاطن قحف رأسه بالبيضة ، وهو يقول خذها وأنا ابن عبد المطلب ، فالتفت من ورائي ، فإذا هو حمزة عمى (3) ، والمقتول طعيمة ابن عدى (4) .
قلت في رواية محمد بن إسحاق بن يسار أن طعيمة بن عدى قتله على بن أبى طالب عليه السلام ، ثم قال : وقيل قتله حمزة (5) .
وفي رواية الشيعة قتله على بن أبى طالب ، شجرة بالرمح ، فقال له : والله لا تخاصمنا في الله بعد اليوم ابدا ، وهكذا روى محمد بن إسحاق .
* (همش) * (1) الواقدي : (ارتفع) .
(2) الواقدي : يعني (لزم) .
(3) الواقدي : (حمزة بن عبد المطلب) .
(4) مغازي الواقدي 87 .
(5) سيرة ابن هشام 2 : 357 .
(*)(14/145)
وروى محمد بن إسحاق قال : وخرج النبي صلى الله عليه وآله من العريش الى الناس ينظر القتال ، فحرض المسلمين وقال : كل امرئ بما أصاب ، وقال : والذى نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل في جملة ، فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر ، إلا أدخله الله الجنة فقال عمير بن الحمام أخو بنى سلمة ، وفى يده تمرات يأكلهن بخ بخ فما بينى وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلنى هؤلاء ثم قذف التمرات من يده ، وأخذ سيفه ، فقاتل القوم حتى قتل (1) .
قال محمد بن إسحاق : وحدثني عاصم بن عمرو بن قتاده أن عوف بن الحارث - وهو ابن عفراء - قال لرسول الله صلى الله عليه وآله يوم بدر : يا رسول الله ، ما يضحك الرب من عبده قال : غمسه يده في العدو حاسرا فنزع عوف درعا كانت عليه وقذفها ، ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل (2) .
قال الواقدي وابن إسحاق : واخذ رسول الله صلى الله عليه وآله كفا من البطحاء ، فرماهم بها ، وقال : شاهت الوجوه (3) اللهم ارعب قلوبهم ، وزلزل أقدامهم فانهزم المشركون لا يلوون على شئ ، والمسلمون يتبعونهم يقتلون وياسرون (2) .
قال الواقدي : وكان هبيرة بن أبى وهب المخزومى لما رأى الهزيمة انخزل ظهره فعقر ، فلم يستطع أن يقوم ، فأتاه أبو أسامة الجشمى حليفه ، ففتق درعه واحتمله - ويقال ضربه أبو داود المازنى بالسيف فقطع درعه ، ووقع لوجهه ، وأخلد الى الارض ، وجاوزه أبو داود وبصر به ابنا زهير الجشميان مالك ، وأبو أسامة ، وهما حليفاه ، فذبا عنه حتى نجوا به ، واحتمله أبو أسامة ومالك يذب عنه ، حتى خلصاه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله حماه كلباه الحليفان (4) .
__________
(1) سيرة ابن هشام 2 : 268 .
(2) سيرة ابن هشام 2 : 268 .
(3) بعدها في ابن هشام : (ثم بعجهم بها) .
(4) مغازي الواقدي 89 مع اختلاف في الرواية .
(*)(14/146)
قال الواقدي : وحدثني عمر بن عثمان عن عكاشة بن محصن ، قال : انقطع سيفى يوم بدر ، فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وآله عودا ، فإذا هو سيف أبيض طويل ، فقاتلت به حتى هزم الله المشركين ، ولم يزل ذلك السيف عند عكاشه حتى هلك .
قال : وقد روى رجال من بنى عبد الاشهل عدة ، قالوا انكسر سيف سلمة بن اسلم (1) بن حريش (2) يوم بدر ، فبقى أعزل لا سلاح معه ، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله قضيبا كان في يده من عراجين ابن طاب (3) ، فقال اضرب به ، فإذا هو سيف جيد ، فلم يزل عنده حتى قتل يوم جسر أبى عبيد (4) .
قال الواقدي : وأصاب حارثة بن سراقة ، وهو يكرع في الحوض سهم غرب (5) من المشركين فوقع في نحره ، فمات ، فلقد شرب القوم آخر النهار من دمه ، وبلغ أمه وأخته - وهما بالمدينة مقتله - فقالت أمه والله لا أبكى عليه ، حتى يقدم رسول الله صلى الله عليه وآله فأسأله ، فإن كان في الجنة لم أبك عليه ، وإن كان في النار بكيته لعمر الله فأعولته فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله من بدر جاءت أمه إليه ، فقالت يا رسول الله ، قد عرفت موضع حارثة في قلبى ، فاردت أن أبكى عليه ، ثم قلت لا أفعل حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وآله عنه ، فإن كان في الجنة لم أبكه ، وإن كان في النار بكيته فاعولته فقال النبي صلى الله عليه وآله : (هبلت أجنة واحدة انها جنان كثيرة ، والذى نفسي بيده إنه لفى الفردوس الاعلى) ، قالت فلا أبكى عليه أبدا .
قال الواقدي : ودعا رسول الله صلى الله عليه وآله حينئذ بماء في إناء ، فغمس يده فيه ومضمض فاه ، ثم ناول أم حارثة بن سراقة ، فشربت ثم ناولت ابنتها فشربت ،
__________
(1) ب : (أشهل) ، وصوابه من ا والواقدي وابن هشام .
(2) ا : (جريش) ، والصواب ما في ب والواقدي .
(3) في اللسان : (عذق ابن طالب نخلة بالمدينة ، وقيل : ابن طاب ضرب من الرطب هنالك) .
(4) مغازي الواقدي 88 .
(5) سهم غرب على الوصف : لا يدري راميه .
(*)(14/147)
ثم أمرهما فنضحتا في جيوبهما ، ثم رجعتا من عند النبي صلى الله عليه وآله ، وما بالمدينة امرأتان أقر عينا منهما ولا أسر (1) .
قال الواقدي : وكان حكيم بن حزام يقول انهزمنا يوم بدر ، فجعلت أسعى وأقول قاتل الله ابن الحنظلية يزعم أن النهار قد ذهب ، والله إن النهار لكما هو ، قال حكيم : وماذا بى إلا حبا أن ياتي الليل فيقصر عنا طلب القوم ، فيدرك حكيم عبيد الله وعبد الرحمن بنى العوام على جمل لهما ، فقال عبد الرحمن لاخيه إنزل فاحمل أبا خالد ، وكان عبيد الله رجلا أعرج ، لا رجلة (2) به ، فقال عبيد الله إنه لا رجلة بى كما ترى ، وقال عبد الرحمن : والله إن منه لا بد ألا نحمل رجلا ، إن متنا كفانا ما خلفنا من عيالنا ، وإن عشنا حملنا كلنا فنزل عبد الرحمن وأخوه الاعرج ، فحملاه ، فكانوا يتعاقبون الجمل ، فلما دنا من مكة وكان بمر الظهران ، قال : والله لقد رأيت هاهنا أمرا ما كان يخرج على مثله أحد له رأى ، ولكنه شؤم ابن الحنظلية أن جزورا نحرت هاهنا فلم يبق خباء إلا أصابه من دمها فقالا قد رأينا ذلك ، ولكن رأيناك وقومك قد مضيتم فمضينا معكم ، ولم يكن لنا معكم أمر .
قال الواقدي : فحدثني عبد الرحمن بن الحارث عن مخلد بن خفاف ، عن أبيه ، قال : كانت الدروع في قريش كثيرة يومئذ ، فلما انهزموا جعلوا يلقونها ، وجعل المسلمون يتبعونهم ويلقطون ما طرحوا ، ولقد رأيتنى يومئذ التقطت ثلاث أدرع جئت بها اهلي ، فكانت عندنا بعد ، فزعم لى رجل من قريش - ورأى درعا منها عندنا فعرفها - قال : هذه درع الحارث بن هشام (3) .
قال الواقدي : وحدثني محمد بن حميد ، عن عبد الله بن عمرو بن أمية ، قال : أخبرني من انكشف من قريش يومئذ منهزما ، وإنه ليقول في نفسه ، ما رأيت مثل هذا فر منه إلا النساء .
__________
(1) مغازي الواقدي 88 .
(2) الرجلة ، بالضم : القوة على المشي .
(3) مغازي الواقدي 89 ، 90 .
(4) مغازي الواقدي 90 .
(*)(14/148)
قال الواقدي : كان قباث بن أشيم الكنانى يقول شهدت مع المشركين بدرا ، وإنى لانظر إلى قلة أصحاب محمد في عينى ، وكثرة من معنا من الخيل والرجل ، فانهزمت فيمن انهزم ، فلقد رأيتنى وإنى لانظر إلى المشركين في كل وجه ، وإنى لاقول في نفسي ما رأيت مثل هذا الامر فر منه إلا النساء وصاحبني رجل ، فبينا هو يسير معى إذ لحقنا من خلفنا ، فقلت لصاحبي : أبك نهوض قال : لا والله ما بى قال : وعقر وترفعت ، فلقد صبحت غيقة - قال : وغيقة عن يسار السقيا بينهما وبين الفرع ليلة وبين الفرع والمدينة ثمانية برد - قبل الشمس ، كنت هاديا بالطريق ، ولم أسلك المحاج (1) ، وخفت من الطلب فتنكبت عنها ، فلقينى رجل من قومي بغيقة ، فقال ما وراءك قلت لا شئ قتلنا وأسرنا وانهزمنا ، فهل عندك من حملان قال : فحملني على بعير ، وزودني زادا ، حتى لقيت الطريق بالجحفة ، ثم مضيت حتى دخلت مكة ، وإنى لانظر إلى الحيسمان بن حابس الخزاعى بالغميم ، فعرفت إنه تقدم ينعى قريشا بمكة ، فلو أردت أن أسبقه لسبقته ، فتنكبت (2) عنه حتى سبقني ببعض النهار ، فقدمت وقد انتهى إلى مكة خبر قتلاهم ، وهم يلعنون الخزاعى ، ويقولون ما جاءنا بخير فمكث بمكة ، فلما كان بعد الخندق ، قلت لو قدمت المدينة ، فنظرت ما يقول محمد وقد وقع في قلبى الاسلام ، فقدمت المدينة ، فسألت عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقالوا هو ذاك في ظل المسجد مع ملا من أصحابه ، فأتيته وأنا لا أعرفه من بينهم ، فسلمت فقال يا قباث بن أشيم ، أنت القائل يوم بدر ما رأيت مثل هذا الامر فر منه إلا النساء قلت اشهد إنك رسول الله ، وإن هذا الامر ما خرج منى إلى أحد قط وما ترمرمت (3) به ، إلا شيئا حدثت به نفسي ، فلو لا إنك نبى ما أطلعك الله عليه ، هلم حتى أبايعك فاسلمت (4) .
__________
(1) الواقدي : (المحاج) .
(2) ب (فنكبت) ، واثبت ما في الواقدي .
(3) ما ترمرمت به ، اي ما نطقت به .
(4) مغازي الواقدي 90 ، 91 .
(*)(14/149)
قال الواقدي : وقد روى أنه لما توجه المشركون الى بدر كان فتيان ممن تخلف عنهم بمكة سمارا يسمرون بذى طوى في القمر حتى يذهب الليل ، يتناشدون الاشعار و يتحدثون ، فبيناهم كذلك إذ سمعوا صوتا قريبا منهم ولا يرون القائل ، رافعا صوته يتغنى : أزاد الحنيفيون بدرا مصيبة سينقض منها ركن كسرى وقيصرا أرنت لها صم الجبال وأفزعت قبائل ما بين الوتير فخيبرا (1) أجازت جبال الاخشبين وجردت حرائر يضربن الترائب حسرا (2) .
قال الواقدي : انشدنيه (3) ، ورواه لى عبد الله بن ابى عبيدة ، عن محمد بن عمار بن ياسر ، قال : فاستمعوا الصوت ، فلا يرون أحدا ، فخرجوا في طلبه ، فلم يروا أحدا ، فخرجوا فزعين ، حتى جازوا الحجر ، فوجدوا مشيخة منهم جلة سمارا ، فأخبروهم الخبر ، فقالوا لهم إن كان ما تقولون ، فإن محمدا وأصحابه يسمون الحنيفية قال : فلم يبق أحد من الفتيان الذين كانوا بذى طوى إلا وعك ، فما مكثوا إلا ليلتين أو ثلاثا ، حتى قدم الحيسمان (4) الخزاعى بخبر أهل بدر ، ومن قتل منهم ، فجعل يخبرهم ، فيقول قتل عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وقتل ابنا الحجاج وأبو البخترى ، وزمعة بن الاسود - قال : وصفوان بن أمية في الحجر جالس يقول لا يعقل هذا شيئا مما يتكلم به سلوه عنى ، فقالوا صفوان بن أمية لك به علم قال : نعم ، هو ذاك في الحجر ، ولقد رأيت أباه وأخاه مقتولين ، ورأيت سهيل بن عمرو والنضر بن الحارث أسيرين ، رأيتهما مقرونين في الحبال (5) .
__________
(1) كذا في ا والواقدي ، وفي ب : (وخيبرا) .
(2) كذا في ا ، وفي ب : (التراب وحسرا) .
(3) الواقدي : (انشدني) (4) في الاصول : (الحيثمان) ، والثواب ما أثبته الواقدي والبلاذري وابن هشام والطبري .
(5) مغازي الواقدي 114 .
(*)(14/150)
قال الواقدي : وبلغ النجاشي مقتل قريش وما ظفر الله به (1) رسوله ، فخرج في ثوبين ابيضين ، ثم جلس على الارض ، ودعا جعفر بن أبى طالب وأصحابه ، فقال أيكم يعرف (2) بدرا فأخبروه فقال أنا عارف بها ، قد رعيت الغنم [ في ] (3) جوانبها ، هي من الساحل على بعض نهار ، ولكني أردت أن أتثبت منكم ، قد نصر الله رسوله ببدر ، فاحمدوا الله على ذلك فقال بطارقته : أصلح الله الملك إن هذا شئ لم تكن تصنعه ، يريدون لبس البياض والجلوس على الارض ، فقال : إن عيسى بن مريم كان إذا حدثت له نعمة إزداد بها تواضعا (4) .
قال الواقدي : فلما رجعت قريش الى مكة ، قام فيهم أبو سفيان بن حرب ، فقال يا معشر قريش ، لا تبكوا على قتلاكم ، ولا تنح عليهم نائحة ، ولا يندبهم شاعر ، وأظهروا الجلد والعزاء ، فإنكم إذا نحتم عليهم وبكيتموهم بالشعر أذهب ذلك غيظكم فأكلكم [ ذلك ] (5) عن عداوة محمد وأصحابه ، مع أن محمدا إن بلغه واصحابه ذلك شمتوا بكم ، فتكون أعظم المصيبتين ، ولعلكم تدركون ثأركم ، فالدهن والنساء على حرام حتى أغزو محمدا .
فمكثت قريش شهرا لا يبكيهم شاعر ، ولا تنوح عليهم نائحة .
قال الواقدي : وكان الاسود بن المطلب قد ذهب بصره ، وقد كمد على من قتل من ولده ، وكان يحب أن يبكى عليهم فتأبى عليه قريش ذلك ، فكان يقول لغلامه بين اليومين ويلك احمل معى خمرا ، واسلك بى الفج الذى سلكه أبو حكيمة - يعنى زمعة ولده المقتول ببدر - فيأتى به غلامه على الطريق عند ذلك الفج فيجلس ، فيسقيه الخمر
__________
(1) الواقدي : (نبيه) .
(2) الواقدي : (اين بدر) .
(3) من ا والواقدي .
(4) الواقدي : 115 (تلبس ثوبين وتجلس على الارض ، فقال اني من قوم إذا احدث الله لهم نعمة إزدادوا بها تواضعا .
ويقال : انه قال : إن عيسى بن مريم عليه السلام كان إذا حدثت له نعمة إزداد بها تواضعا) والخبر في الواقدي 114 .
(5) من الواقدي 115 .
(*)(14/151)
حتى ينتشى ، ثم يبكى على أبى حكيمة وأخوته ، ثم يحثى التراب على رأسه ، ويقول لغلامه ويحك أكتم على ، فإنى أكره أن تعلم بى قريش ، إنى أراها لم تجمع البكاء على قتلاها (1) .
قال الواقدي : حدثنى مصعب بن ثابت عن عيسى بن معمر ، عن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن عائشة قالت قالت قريش حين رجعوا الى مكة لا تبكوا على قتلاكم ، فيبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بكم ، ولا تبعثوا في أسراكم ، فيأرب (2) بكم القوم ، إلا فأمسكوا عن البكاء .
قال : وكان الاسود بن المطلب أصيب له ثلاثة من ولده زمعة وعقيل والحارث بن زمعة ، فكان يحب أن يبكى على قتلاه ، فبينا هو كذلك إذ سمع نائحة من الليل ، فقال لغلامه - وقد ذهب بصره - انظر ، هل بكت قريش على قتلاها لعلى أبكى على أبى حكيمة - يعنى زمعة - فإن جوفى قد احترق ، فذهب الغلام ورجع إليه ، فقال انما هي امرأة تبكى على بعيرها قد أضلته ، فقال الاسود : تبكى أن يضل لها بعير ويمنعها من النوم السهود (3) فلا تبكى على بكر ولكن على بكر تصاغرت الخدود (4) فبكى إن بكيت على عقيل وبكى حارثا أسد الاسود وبكيهم ولا تسمى جميعا (5) فما لابي حكيمة من نديد
__________
(1) مغازي الواقدي 114 .
(2) فيأرب : فيشتد .
(3) الخبر والشعر - مع اختلاف الرواية - في سيرة ابن هشام 2 : 291 ، والشعر ايضا في ديوان الحماسة - بشرح المرزوقي 2 : 872 .
(4) الحماسة : (تقاصرت الجدود ، قال المرزوقي : (هو تفاعل من القصور والعجز ، لا القصر الذي هو ضد الطول ، وفي الواقدي عن هشام : سمعت أبي ينشد (تصاغرت الخدود) ، ولا ينكر (الخدود) .
(5) لا تسمى ، لا تسأمي .
(*)(14/152)
على بدر سراة بنى هصيص ومخزوم ورهط أبى الوليد إلا قد ساد بعدهم رجال ولو لا يوم بدر لم يسودوا .
قال الواقدي : ومشت نساء من قريش إلى هند بنت عتبة ، فقلن : ألا تبكين على أبيك وأخيك وعمك وأهل بيتك فقالت : حلانى (1) أن أبكيهم ، فيبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بنا ونساء بنى الخزرج ، لا والله حتى أثار محمدا وأصحابه ، والدهن على حرام إن دخل رأسي حتى نغزو محمدا والله لو أعلم أن الحزن يذهب عن قلبى لبكيت ، ولكن لا يذهبه إلا أن أرى ثارى بعينى من قتلة الاحبة ، فمكثت على حالها لا تقرب الدهن ، ولا قربت فراش أبى سفيان من يوم حلفت حتى كانت وقعة أحد (2) .
قال الواقدي : وبلغ نوفل بن معاويه الديلى وهو في أهله - وقد كان شهد معهم بدرا - أن قريشا بكت على قتلاها ، فقدم مكة ، فقال يا معشر قريش ، لقد خفت احلامكم ، وسفه رأيكم ، وأطعتم نساءكم ، أمثل قتلاكم يبكى عليهم هم أجل من البكاء ، مع أن ذلك يذهب غيظكم عن عداوة محمد وأصحابه ، فلا ينبغى أن يذهب الغيظ عنكم ، إلا أن تدركوا ثأركم من عدوكم فسمع أبو سفيان بن حرب كلامه ، فقال يا أبا معاوية ، غلبت ، والله ما ناحت امرأة من بنى عبد شمس على قتيل لها إلى اليوم ، ولا بكاهم شاعر إلا نهيته حتى ندرك ثأرنا من محمد وأصحابه ، وإنى لانا الموتور الثائر ، قتل ابني حنظلة ، وسادة أهل هذا الوادي ، أصبح هذا الوادي مقشعرا لفقدهم (3) .
قال الواقدي : وحدثني معاذ بن محمد الانصاري ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، قال : لما رجع المشركون إلى مكة ، وقد قتل صناديدهم وأشرافهم ، أقبل عمير بن وهب بن عمير الجمحى حتى جلس الى صفوان بن أمية في الحجر ، فقال صفوان بن أمية قبح العيش
__________
(1) حلاني : منعني .
(2) مغازي الواقدي 116 ، 117 .
(3) مغازي الواقدي 118 .
(*)(14/153)
بعد قتلى بدر قال عمير بن وهب : أجل والله ، ما في العيش بعدهم خير ، ولو لا دين على لا أجد له قضاء ، وعيال لا أدع لهم شيئا ، لرحلت الى محمد حتى أقتله أن ملات عينى منه ، فإنه بلغني انه يطوف في الاسواق ، فان لى عندهم علة ، اقول قدمت على ابني هذا الاسير ففرح صفوان بقوله ، وقال : يا أبا أمية ، وهل نراك فاعلا قال : إى ورب هذه البنية قال صفوان : فعلى دينك ، وعيالك أسوة عيالي ، فأنت تعلم أنه ليس بمكة رجل أشد توسعا على عياله منى .
قال عمير : قد عرفت ذلك يا أبا وهب ، قال صفوان : فان عيالك مع عيالي ، لا يسعنى شئ ونعجز عنهم ، ودينك على .
فحمله صفوان على بعيره ، وجهزه وأجرى على عياله مثل ما يجرى على عيال نفسه ، وأمر عمير بسيفه فشحذ وسم ، ثم خرج إلى المدينة ، وقال لصفوان : اكتم على أياما حتى أقدمها ، وخرج فلم يذكره صفوان ، وقدم عمير ، فنزل على باب المسجد ، وعقل راحلته وأخذ السيف فتقلده ، ثم عمد نحو رسول الله صلى الله عليه وآله ، وعمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون (1) ، ويذكرون نعمة الله عليهم في بدر ، فرأى عميرا وعليه السيف ، ففزع عمر منه ، وقال لاصحابه : دونكم الكلب هذا عمير بن وهب عدو الله الذى حرش بيننا يوم بدر ، وحزرنا للقوم ، وصعد فينا وصوب ، يخبر قريشا أنه لا عدد لنا ولا كمين فقاموا إليه فأخذوه ، فانطلق عمر الى رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقال يا رسول الله ، هذا عمير بن وهب ، قد دخل المسجد ومعه السلاح ، وهو الغادر الخبيث الذى لا يؤمن على شئ ، فقال النبي صلى الله عليه وآله أدخله على ، فخرج عمر فأخذ بحمائل سيفه ، فقبض بيده عليها ، وأخذ بيده الاخرى قائم السيف ، ثم أدخله على رسول الله صلى الله عليه وآله ، فلما رآه ، قال : يا عمر تأخر عنه ، فلما دنا عمير إلى النبي صلى الله عليه وآله قال : أنعم صباحا ، فقال له النبي صلى الله عليه وآله : قد أكرمنا الله عن تحيتك ، وجعل تحيتنا السلام ، وهى تحية أهل الجنة قال عمير : إن عهدك بها لحديث ، فقال النبي صلى الله عليه وآله : قد أبدلنا
__________
(1) الواقدي : (فنظر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وهو في نفر من أصحابه يتحدثون) .
(*)(14/154)
الله خيرا ، فما أقدمك يا عمير قال : قدمت في أسيرى عندكم تفادونه وتقاربوننا فيه ، فانكم العشيرة والاصل قال النبي صلى الله عليه وآله : فما بال السيف قال عمير : قبحها الله من سيوف وهل أغنت من شئ إنما نسيته حين نزلت وهو في رقبتي ، ولعمري أن لى لهما غيره ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : أصدق يا عمير ، ما الذى أقدمك قال : ما قدمت إلا في أسيرى ، قال صلى الله عليه وآله : فما شرطت لصفوان بن أمية في الحجر ففزع عمير ، وقال : ما ذا شرطت له قال : تحملت بقتلى ، على أن يقضى دينك ، ويعول عيالك ، والله حائل بينك وبين ذلك قال عمير : أشهد أنك صادق ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، كنا يا رسول الله نكذبك بالوحى ، وبما ياتيك من السماء ، وإن هذا الحديث كان بينى وبين صفوان كما قلت ، لم يطلع عليه غيره وغيري ، وقد أمرته أن يكتمه (1) ليالى ، فأطلعك الله عليه ، فآمنت بالله ورسوله ، وشهدت أن ما جئت به حق .
الحمد لله الذى ساقنى هذا المساق وفرح المسلمون حين هداه الله ، وقال عمر بن الخطاب : لخنزير كان أحب الى منه حين طلع ، وهو الساعة أحب إلى من بعض ولدى .
وقال النبي صلى الله عليه وآله : (علموا أخاكم القرآن ، وأطلقوا له أسيره) ، فقال عمير : يا رسول الله ، إنى كنت جاهدا على إطفاء نور الله ، فله الحمد أن هداني ، فأذن لى فألحق قريشا فادعوهم إلى الله وإلى الاسلام ، فلعل الله يهديهم ويستنقذهم من الهلكة ، فأذن له فخرج ، فلحق بمكة .
وكان صفوان يسال عن عمير بن وهب كل راكب يقدم من المدينة ، يقول هل حدث بالمدينة من حدث ويقول لقريش أبشروا بوقعة تنسيكم وقعة بدر ، فقدم رجل من المدينة فسأله صفوان عن عمير ، فقال أسلم ، فلعنه صفوان ولعنه المشركون بمكة ، وقالوا صبا عمير ، وحلف صفوان ألا يكلمه أبدا ، ولا ينفعه ، وطرح عياله .
وقدم عمير ، فنزل في أهله ، ولم يأت صفوان ، واظهر الاسلام ، فبلغ صفوان .
فقال قد عرفت حين لم يبدأ بى قبل منزله ، وقد كان رجل
__________
(1) ا : (يكتم عني) .
(*)(14/155)
أخبرني أنه ارتكس ، لا أكلمه من رأسي أبدا ، ولا أنفعه ولا عياله بنافعة أبدا ، فوقع عليه عمير وهو في الحجر فقال يا أبا وهب فاعرض صفوان عنه ، فقال عمير أنت سيد من ساداتنا ، أرأيت الذى كنا عليه من عبادة حجر ، والذبح له أهذا دين أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فلم يجبه صفوان بكلمة ، وأسلم مع عمير بشر كثير (1) .
قال الواقدي : وكان فتية من قريش خمسة قد أسلموا ، فاحتبسهم آباؤهم ، فخرجوا مع أهلهم وقومهم إلى بدر ، وهم على الشك والارتياب ، لم يخلصوا إسلامهم ، وهم قيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة ، والحارث بن زمعة بن الاسود ، وعلى بن أمية بن خلف ، والعاص بن منبه بن الحجاج ، فلما قدموا بدرا ورأوا قلة أصحاب النبي صلى الله عليه وآله ، قالوا غر هؤلاء دينهم ، ففيهم أنزل (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم) (2) ، ثم أنزل فيهم (إن الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الارض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ...
) (3) إلى تمام ثلاث آيات (4) .
قال : فكتب بها المهاجرون بالمدينة إلى من أقام بمكة مسلما ، فقال جندب بن ضمرة الخزاعى لا عذر لى ولا حجة في مقامي بمكة - وكان مريضا - فقال لاهله اخرجوني ، لعلى أجد روحا قالوا أي وجه أحب إليك قال : نعم التنعيم فخرجوا به إلى التنعيم ، وبين التنعيم ومكة إربعة أميال من طريق المدينة - فقال : اللهم إنى خرجت إليك مهاجرا ، فأنزل الله تعالى : (ومن يخرج من بيته مهاجرا الى الله ورسوله ...
) (5) الاية ، فلما رأى ذلك من كان بمكة ممن يطيق الخروج ، خرجوا فطلبهم أبو سفيان في رجال من المشركين ،
__________
(1) مغازي الواقدي 117 - 123 .
(2) سورة الانفال 49 .
(3) سورة النساء 97 وما بعدها .
(4) مغازي الواقدي 67 .
(5) سورة النساء 100 .
(*)(14/156)
فردوهم وسجنوهم ، فافتتن منهم ناس ، وكان الذين افتتنوا إنما افتتنوا حين أصابهم البلاء فانزل الله تعالى فيهم (ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذى في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ...
) (1) الاية وما بعدها فكتب بها المهاجرون بالمدينة الى من كان بمكة مسلما ، فلما جاءهم الكتاب بما أنزل فيهم ، قالوا اللهم إن لك علينا إن أفلتنا ألا نعدل بك أحدا ، فخرجوا الثانية ، فطلبهم أبو سفيان والمشركون ، فأعجزوهم هربا في الجبال ، حتى قدموا المدينة ، واشتد البلاء على من ردوا من المسلمين ، فضربوهم وآذوهم وأكرهوهم على ترك الاسلام ، ورجع ابن إبى سرح مشركا ، فقال لقريش ما كان يعلم محمدا إلا ابن قمطة (2) ، عبد نصراني ، لقد أكتب له فأحول ما أردت ، فانزل الله تعالى (ولقد نعلم إنهم يقولون إنما يعلمه بشر (3) ...
) الاية (4) .
القول في نزول الملائكة يوم بدر ومحاربتها المشركين أختلف المسلمون في ذلك ، فقال الجمهور منهم نزلت الملائكة حقيقة ، كما ينزل الحيوان والحجر من الموضع العالي إلى الموضع السافل .
وقال قوم من أصحاب المعاني غير ذلك .
واختلف أرباب القول الاول ، فقال الاكثرون نزلت وحاربت ، وقال قوم منهم : نزلت ولم تحارب ، وروى كل قوم في نصرة قولهم روايات .
فقال الواقدي في كتاب المغازى حدثنى عمر بن عقبة ، عن شعبة مولى ابن عباس ، قال : سمعت ابن عباس يقول : لما تواقف الناس أغمى على رسول الله صلى
__________
(1) سورة العنكبوت 10 .
(2) كذا في الاصول ومغازي الواقدي ، وفي تفسير القرطبي 10 : 177 ، اسمه جبر ، وقيل اسمه يعيش .
(3) سورة النحل 103 .
(4) مغازي الواقدي 67 .
(*)(14/157)
الله عليه وآله ساعة ، ثم كشف عنه فبشر المؤمنين بجبرائيل في جند من الملائكة في ميمنة الناس ، وميكائيل في جند آخر في ميسرة الناس ، وإسرافيل في جند آخر في ألف ، وكان إبليس قد تصور للمشركين في صورة سراقة بن جعشم المدلجى ، يذمر المشركين ، ويخبرهم أنه لا غالب لهم من الناس ، فلما أبصر عدو الله الملائكة نكص على عقبيه ، وقال : (إنى برئ منكم إنى أرى ما لا ترون) ، فتشبث به الحارث بن هشام ، وهو يرى أنه سراقة لما سمع من كلامه ، فضرب في صدر الحارث ، فسقط الحارث ، وانطلق إبليس لا يرى حتى وقع في البحر ، ورفع يديه قائلا يا رب موعدك الذى وعدتني وأقبل أبو جهل على أصحابه يحضهم على القتال وقال : لا يغرنكم خذلان سراقة بن جعشم إياكم ، فإنما كان على ميعاد من محمد وأصحابه ، سيعلم إذا رجعنا الى قديد ما نصنع بقومه ولا يهولنكم مقتل عتبة وشيبة والوليد ، فانهم عجلوا وبطروا حين قاتلوا ، وأيم الله لا نرجع اليوم حتى نقرن محمدا وأصحابه في الحبال ، فلا ألفين أحدا منكم قتل منهم أحدا ، ولكن خذوهم أخذا نعرفهم بالذى صنعوا ، لمفارقتهم دينكم ورغبتهم عما كان يعبد آباؤهم .
قال الواقدي : وحدثني عتبة بن يحيى ، عن معاذ بن رفاعة بن رافع ، عن أبيه ، قال : إن كنا لنسمع لابليس يومئذ خوارا ودعاء بالثبور والويل ، وتصور في صورة سراقة بن جعشم حتى هرب ، فاقتحم البحر ، ورفع يديه مادا لهما ، يقول يا رب ما وعدتني ولقد كانت قريش بعد ذلك تعير سراقة بما صنع يومئذ ، فيقول والله ما صنعت شيئا .
قال الواقدي : فحدثني أبو إسحاق الاسلمي ، عن الحسن بن عبيد الله ، مولى بنى العباس ، عن عمارة الليثى ، قال : حدثنى شيخ صياد من الحى - وكان يومئذ على ساحل البحر - قال : سمعت صياحا يا ويلاه يا ويلاه قد ملا الوادي يا حرباه يا حرباه فنظرت فإذا سراقة بن جعشم ، فدنوت منه ، فقلت ما لك فداك أبى وأمى فلم يرجع إلى شيئا ، ثم أراه اقتحم البحر ، ورفع يديه مادا ، يقول يا رب ما وعدتني فقلت(14/158)
في نفسي جن وبيت الله سراقة وذلك حين زاغت الشمس ، وذلك عند انهزامهم يوم بدر (1) .
قال الواقدي : قالوا : كانت سيماء الملائكة عمائم قد أرخوها بين أكتافهم ، خضراء وصفراء وحمراء من نور ، والصوف في نواصى خيلهم .
قال الواقدي : حدثنى محمد بن صالح ، عن عاصم بن عمر ، عن محمود بن لبيد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله يوم بدر : (إن الملائكة قد سومت فسوموا) ، فأعلم المسلمون بالصوف في مغافرهم وقلانسهم (2) .
قال الواقدي : حدثنى محمد بن صالح قال : كان أربعة من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله يعلمون (3) في الزحوف حمزة بن عبد المطلب كان يوم بدر معلما بريشة نعامة ، وكان على عليه السلام معلما بصوفة بيضاء ، وكان الزبير معلما بعصابة صفراء ، وكان أبو دجانة يعلم بعصابة حمراء ، وكان الزبير يحدث أن الملائكة نزلت يوم بدر على خيل بلق عليها عمائم صفر فكانت على صورة الزبير .
قال الواقدي : فروى عن سهيل بن عمرو ، قال : لقد رأيت يوم بدر رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والارض معلمين يقبلون ويأسرون .
قال الواقدي : وكان أبو أسد الساعدي يحدث بعد أن ذهب بصره ، ويقول : لو كنت معكم الان ببدر ومعى بصرى لاريتكم الشعب الذى خرجت منه الملائكة ، لا أشك فيه ولا أمترى قال : وكان أسيد يحدث عن رجل من بنى غفار حدثه ، قال : أقبلت أنا وابن عم لى يوم بدر ، حتى صعدنا على جبل ، ونحن يومئذ على الشرك ننظر الوقعة وعلى من تكون الدبرة فننتهب مع من ينتهب إذا رأيت سحابة دنت منا ، فسمعت منها
__________
(1) مغازي الواقدي 70 .
(2) مغازي الواقدي 70 .
(3) يقال : رجل معلم بكسر اللام ، إذا علم مكانه في الحرب بعلامة أعلمها .
(*)(14/159)
همهمة الخيل ، وقعقعة الحديد ، وسمعت قائلا يقول أقدم حيزوم فأما ابن عمى ، فانكشف قناع قلبه ، فمات ، واما أنا فكدت أهلك ، فتماسكت واتبعت بصرى حيث تذهب السحابة ، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وأصحابه ثم رجعت ، وليس فيها شئ مما كنت اسمع .
قال الواقدي : وحدثني خارجة بن أبراهيم بن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس ، عن أبيه قال : سأل رسول الله صلى الله عليه وآله جبرائيل من القائل يوم بدر أقبل حيزوم فقال جبرائيل يا محمد ، ما كل أهل السماء أعرف .
قال الواقدي : وحدثني عبد الرحمن بن الحارث ، عن أبيه ، عن جده ، عبيدة بن أبى عبيدة ، عن أبى رهم الغفاري عن ابن عم له ، قال : بينا أنا وابن عم لى على ماء بدر ، فلما رأينا قلة من مع محمد وكثرة قريش ، قلنا إذا التفت الفئتان عمدنا إلى عسكر محمد واصحابه فانتهبناه ، فانطلقنا نحو المجنبة اليسرى من أصحاب محمد ، ونحن نقول هؤلاء ربع قريش ، فبينا نحن نمشي في الميسرة إذ جاءت سحابة فغشيتنا ، فرفعنا أبصارنا لها ، فسمعنا أصوات الرجال والسلاح ، وسمعنا قائلا يقول لفرسه (أقدم حيزوم) ، وسمعناهم يقولون (رويدا تتام أخراكم) ، فنزلوا على ميمنة رسول الله صلى الله عليه وآله ، ثم جاءت أخرى مثل تلك فكانت مع النبي صلى الله عليه وآله ، فنظرنا إلى أصحاب محمد وإذا هم على الضعف من قريش ، فمات ابن عمى ، وأما أنا فتماسكت ، وأخبرت النبي صلى الله عليه وآله بذلك ، وأسلمت .
قال الواقدي : وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال : (ما رئى الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغضب منه في يوم عرفة ، وما ذاك إلا لما رأى من نزول الرحمة وتجاوز الله تعالى عن الذنوب العظام ، إلا ما رأى يوم بدر) .
قيل وما رأى(14/160)
يا رسول الله يوم بدر قال : أما إنه رأى جبريل يوزع الملائكة قال : وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله انه قال يومئذ : (هذا جبرائيل يسوق بريح ، كأنه دحية الكلبى ، إنى نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور) (1) .
قال الواقدي : وكان عبد الرحمن بن عوف يقول رأيت يوم بدر رجلين ، أحدهما عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم ، والاخر عن يساره ، يقاتلان أشد القتال ، ثم ثلثهما ثالث من خلفه ، ثم ربعهما رابع أمامه (2) .
قال : وقد روى سعد بن أبى وقاص مثل ذلك ، قال : رأيت رجلين يوم بدر ، يقاتلان عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أحدهما عن يمينه ، والاخر عن يساره ، وإنى لاراه ينظر إلى ذا مرة ، وإلى ذا مرة ، سرورا بما فتحه (3) الله تعالى (4) .
قال الواقدي : وحدثني إسحاق بن يحيى ، عن حمزة بن صهيب ، عن ابيه ، قال : ما أدرى كم يد مقطوعة وضربة جائفة لم يدم كلمها يوم بدر ، قد رأيتها (5) .
قال الواقدي : وروى أبو بردة بن نيار ، قال : جئت يوم بدر بثلاثة رؤوس فوضعتها بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت يا رسول الله ، أما اثنان فقتلتهما وأما الثالث فانى رأيت رجلا طويلا أبيض ضربه فتدهده (6) أمامه ، فاخذت رأسه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ذاك فلان من الملائكة (7)) .
قال الواقدي : وكان ابن عباس رحمه الله ، يقول : لم تقاتل الملائكة الا يوم بدر (7) .
* (هامضش) * (1) مغازي الواقدي 72 .
(2) مغازي الواقدي 73 .
(3) الواقدي : (ظفره الله) .
(4) مغازي الواقدي 73 .
(5) مغازي الواقدي 73 .
(6) تدهده : تدحرج ، وفي الواقدي (تدهدي) .
(7) مغازي الواقدي 73 .
(*)(14/161)
قال : وحدثني ابن أبى حبيبة عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان الملك يتصور في صورة من يعرفه المسلمون من الناس (1) ليثبتهم ، فيقول إنى قد دنوت من المشركين ، فسمعتهم يقولون لو حملونا علينا ما ثبتنا لهم ، وليسوا بشئ ، فاحملوا عليهم ، وذلك قول الله عز وجل (إذ يوحى ربك إلى الملائكة إنى معكم فثبتوا الذين آمنوا ...
) (2) الاية (3) .
قال الواقدي : وحدثني موسى بن محمد ، عن أبيه ، قال : كان السائب بن أبى حبيش الاسدي يحدث في زمن عمر بن الخطاب ، فيقول والله ما أسرني يوم بدر أحد من الناس ، فيقال فمن فيقول لما انهزمت قريش إنهزمت معها فيدركني رجل أبيض طويل ، على فرس أبلق بين السماء والارض ، فأوثقني رباطا وجاء عبد الرحمن بن عوف فوجدني مربوطا ، وكان عبد الرحمن ينادى في العسكر من أسر هذا فليس أحد يزعم أنه أسرني ، حتى انتهى بى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لى رسول الله يا بن أبى حبيش ، من أسرك قلت لا أعرفه ، وكرهت أن أخبره بالذى رأيت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : (أسره ملك من الملائكة كريم إذهب يا بن عوف بأسيرك) ، فذهب بى عبد الرحمن قال السائب : وما زالت تلك الكلمة أحفظها ، وتاخر إسلامى حتى كان من إسلامى ما كان (4) .
قال الواقدي : وكان حكيم بن حزام ، يقول لقد رأيتنا يوم بدر ، وقد وقع بوادي خلص بجاد من السماء قد سد الافق - قال : ووادى خلص ناحية الرويثة - قال : فإذا الوادي يسيل نملا ، فوقع في نفسي أن هذا شئ من السماء أيد به محمد ، فما كانت إلا الهزيمة ، وهى الملائكة (5) .
__________
(1) الواقدي : (من تعرفون من الناس) .
(2) سورة الانفال 12 .
(3) مغازي الواقدي 73 ، 74 .
(4) مغازي الواقدي 74 .
(5) مغازي الواقدي 74 ، 75 .
(*)(14/162)
قال الواقدي : وقد قالوا إنه لما التحم القتال ، ورسول الله صلى الله عليه وآله رافع يديه يسأل الله النصر وما وعده ، ويقول أللهم إن ظهرت على هذه العصابة ، ظهر الشرك ، ولا يقوم لك دين ، وأبو بكر يقول والله لينصرنك الله وليبيضن وجهك ، فأنزل الله تعالى ألفا من الملائكة مردفين عند أكتاف العدو ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : (يا أبا بكر ، أبشر هذا جبرائيل ، معتجر بعمامة صفراء ، آخذ بعنان فرسه بين السماء والارض) ، ثم قال : إنه لما نزل الارض تغيب عنى ساعة ، ثم طلع على ثناياه النقع ، يقول أتاك النصر من الله إذ دعوته (1) .
قال الواقدي : وحدثني موسى بن يعقوب ، عن عمه ، قال : سمعت أبا بكر بن سليمان بن أبى خيثمة ، يقول سمعت مروان بن الحكم يسأل حكيم بن حزام عن يوم بدر ، فجعل الشيخ يكره ذلك ، حتى ألح عليه ، فقال حكيم التقينا فاقتتلنا ، فسمعت صوتا وقع من السماء إلى الارض مثل وقع الحصاة في الطست ، وقبض النبي صلى الله عليه وآله القبضة ، فرمى بها فانهزمنا .
قال الواقدي : وقد روى عبد الله بن ثعلبه بن صغير ، قال : سمعت نوفل بن معاوية الدؤلى ، يقول انهزمنا يوم بدر ، ونحن نسمع كوقع الحصا في الطساس بين ايدينا ومن خلفنا ، فكان ذلك أشد الرعب علينا .
فأما الذين قالوا نزلت الملائكة ولم تقاتل ، فذكر الزمخشري في كتابه في تفسير القرآن المعروف بالكشاف إن قوما أنكروا قتال الملائكة يوم بدر ، وقالوا لو قاتل واحد من الملائكة جميع البشر لم يثبتوا له ولاستأصلهم باجمعهم ببعض قوته ، فإن جبرائيل عليه السلام رفع مدائن قوم لوط - كما جاء في الخبر - على خافقة من جناحه ،
__________
(1) مغازي الواقدي 75 ، 76 .
(*)(14/163)
حتى بلغ بها إلى السماء ، ثم قلبها فجعل عاليها سافلها ، فما عسى أن يبلغ قوة ألف رجل من قريش ليحتاج في مقاومتها وحربها إلى ألف ملك من ملائكة السماء مضافين إلى ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا من بنى آدم وجعل هؤلاء قوله تعالى : (فاضربوا فوق الاعناق ...
) (1) أمرا للمسلمين لا أمرا للملائكة .
ورووا في نصرة قولهم روايات ، قالوا وإنما كان نزول الملائكة ليكثروا سواد المسلمين في أعين المشركين ، فإنهم كانوا يرونهم في مبدأ الحال قليلين في أعينهم ، كما قال تعالى : (ويقللكم) (2) ليطمع المشركون فيهم ويجترئوا على حربهم ، فلما نشبت الحرب كثرهم الله تعالى بالملائكة في أعين المشركين ليفروا ولا يثبتوا .
وأيضا فإن الملائكة نزلت وتصورت بصور البشر الذين يعرفهم المسلمون ، وقالوا لهم ما جرت العادة أن يقال مثله من تثبيت القلوب يوم الحرب ، نحو قولهم ليس المشركون بشئ ، لا قوة عندهم ، لا قلوب لهم ، لو حملتم عليهم لهزمتموهم ...
وأمثال ذلك .
ولقائل أن يقول إذا كان قادرا على أن يقلل ثلاثمائة إنسان في أعين قريش حتى يظنوهم مائة ، فهو قادر على أن يكثرهم في أعين قريش بعد التقاء حلقتي البطان ، فيظنوهم الفين وأكثر من غير حاجة إلى إنزال الملائكة .
فان قلت لعل في إنزالهم لطفا للمكلفين قلت ولعل في محاربتهم لطفا للمكلفين ، وأما أصحاب المعاني فإنهم لم يحملوا الكلام على ظاهره ، ولهم في تأويله قول ليس هذا موضع ذكره :
__________
(1) سورة الانفال 12 .
(2) سورة الانفال 44 .
(*)(14/164)
القول فيما جرى في الغنيمة والاسارى بعد هزيمة قريش ورجوعها الى مكة قال الواقدي : لما تصاف المشركون والمسلمون ، قال النبي صلى الله عليه وآله : (من قتل قتيلا فله كذا وكذا ، ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا) ، فلما انهزم المشركون كان الناس ثلاث فرق ، فرقة قامت عند خيمة رسول الله صلى الله عليه وآله - وكان أبو بكر معه في الخيمة - وفرقة أغارت على النهب تنتهب ، وفرقة طلبت العدو فأسروا وغنموا ، فتكلم سعد بن معاذ - وكان ممن أقام على خيمة رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقال يا رسول الله ، ما منعنا أن نطلب العدو زهادة في الاجر ، ولا جبن عن العدو ، ولكنا خفنا أن نعرى موضعك ، فيميل عليك خيل من خيل المشركين ورجال من رجالهم ، وقد أقام عند خيمتك وجوه الناس من المهاجرين والانصار ، والناس كثير ، ومتى تعط هؤلاء لا يبقى لاصحابك شئ ، والقتلى والاسرى كثير ، والغنيمة قليلة ، فاختلفوا فأنزل الله عز وجل (يسألونك عن الانفال قل الانفال لله والرسول ...
) الاية ، فرجع المسلمون ، وليس لهم من الغنيمة شئ ثم أنزل الله فيما بعد (واعلموا أنما غنمتم من شئ فان لله خمسه وللرسول ...
) (1) فقسمه عليهم بينهم .
قال الواقدي : وقد روى عبادة بن الوليد بن عبادة عن جده عبادة بن الصامت ، قال : سلمنا الانفال يوم بدر لله وللرسول ، ولم يخمس رسول الله صلى الله عليه وآله بدرا ، ونزلت بعد (واعلموا أنما غنمتم من شئ) فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وآله بالمسلمين
__________
(1) سورة الانفال 41 .
(*)(14/165)
الخمس فيما كان من أول غنيمة بعد بدر .
قال الواقدي : وقد روى عن أبى أسيد الساعدي مثله .
وروى عكرمة قال : اختلف الناس في الغنائم يوم بدر ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله بالغنائم أن ترد في المقسم ، فلم يبق منها شئ إلا رد .
وظن أهل الشجاعة أنه صلى الله عليه وآله يخصهم بها دون غيرهم من أهل الضعف ، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وآله أن تقسم بينهم على سواء ، فقال سعد بن أبى وقاص يا رسول الله تعطى فارس القوم الذى يحميهم مثل ما تعطى الضعيف فقال صلى الله عليه وآله : (ثكلتك أمك وهل تنصرون إلا بضعفائكم) .
قال الواقدي : فروى محمد بن سهل بن خيثمة ، قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وآله أن ترد الاسرى والاسلاب ، وما أخذوا من المغنم ، ثم أقرع بينهم في الاسرى ، وقسم أسلاب المقتولين الذين يعرف قاتلوهم بين قاتليهم ، وقسم ما وجده في العسكر بين جميع المسلمين عن فراق .
قال الواقدي : وحدثني عبد الحميد بن جعفر ، قال : سألت موسى بن سعد بن زيد بن ثابت كيف فعل النبي صلى الله عليه وآله يوم بدر في الاسرى والاسلاب والانفال فقال : نادى مناديه يومئذ من قتل قتيلا فله سلبه ، ومن أسر أسيرا فهو له ، وأمر بما وجد في العسكر وما أخذ بغير قتال ، فقسمه بينهم عن فراق فقلت لعبد الحميد فلمن أعطى سلب أبى جهل فقال قد قيل إنه أعطاه معاذ بن عمرو بن الجموح ، وقيل أعطاه ابن مسعود .
قال : وأخذ على عليه السلام درع الوليد بن عتبة وبيضته ومغفره ، وأخذ حمزة سلاح عتبة ، وأخذ عبيدة بن الحارث سلاح شيبة ، ثم صار إلى ورثته .(14/166)
قال الواقدي : فكانت القسمة على ثلاثمائة وسبعة عشر ، سهما لان الرجال كانت ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، وكان معهم فرسان لهما أربعة أسهم ، وقسم أيضا فوق ذلك لثمانية أسهم ، لم يحضروا ، ضرب لهم بسهامهم ، وأجورهم ، ثلاثة من المهاجرين لا خلاف فيهم ، وهم عثمان بن عفان خلفه رسول الله صلى الله عليه وآله على ابنته رقية وماتت يوم قدم زيد بن حارثة بالبشارة إلى المدينة ، وطلحة بن عبيد الله و سعد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، بعثهما رسول الله صلى الله عليه وآله يتجسسان خبر العير .
وخمسة من الانصار هم أبو لبابة بن عبد المنذر ، خلفه على المدينة وعاصم بن عدى ، خلفه على قباء وأهل العالية ، والحارث بن حاطب أمره بأمر في بنى عمرو بن عوف ، وخوات بن جبير كسر بالروحاء ، والحارث بن الصمة مثله ، فلا اختلاف في هؤلاء واختلف في أربعة غيرهم ، فروى أنه ضرب لسعد بن عبادة بسهمه وأجره ، وقال لئن لم يشهدها لقد كان فيها راغبا ، وذلك انه كان يحض الناس على الخروج إلى بدر ، فنهش فمنعه ذلك من الخروج .
وروى أنه ضرب لسعد بن مالك الساعدي بسهمه وأجره ، وكان تجهز الى بدر ، فمرض بالمدينة فمات خلاف رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأوصى إليه عليه السلام .
وروى أنه ضرب لرجلين آخرين من الانصار ولم يسمهما الواقدي وقال : هؤلاء الاربعة غير مجمع عليهم كإجماعهم على الثمانية .
قال : وقد اختلف هل ضرب بسهم في الغنيمة لقتلى بدر فقال الاكثرون لم يضرب لهم ، وقال بعضهم : بل ضرب لهم ، حدثنى ابن أبى سبرة ، عن يعقوب بن زيد ، عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله ضرب لشهداء بدر أربعة عشر رجلا .
قال : وقد قال عبد الله ابن سعد بن خيثمة : اخذنا سهم أبى الذى ضرب له رسول الله صلى الله عليه وآله حين(14/167)
قسم الغنائم ، وحمله إلينا عويمر بن ساعدة قال : وقد روى السائب بن أبى لبابة ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله اسهم لمبشر بن عبد المنذر ، قال : وقد قدم بسهمه علينا معن بن عدى .
قال الواقدي : وكانت الابل التى اصابوا يومئذ مائة وخمسين بعيرا ، وكان معه أدم كثير ، حملوه للتجارة ، فمنعه المسلمون يومئذ ، وكان فيما أصابوا قطيفة حمراء ، فقال بعضهم ما لنا لا نرى القطيفة ما نرى رسول الله صلى الله عليه وآله إلا أخذها ، فانزل الله تعالى (وما كان لنبى أن يغل) (1) وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقال : يا رسول الله ، إن فلانا غل قطيفة ، فسال رسول الله صلى الله عليه وآله الرجل ، فقال لم أفعل فقال الدال يا رسول الله ، احفروا هاهنا فحفرنا فاستخرجت القطيفة ، فقال قائل يا رسول الله ، إستغفر لفلان مرتين ، أو مرارا ، فقال عليه السلام دعونا من أبى حر .
قال الواقدي : وأصاب المسلمون من خيولهم عشرة أفراس ، وكان جمل أبى جهل فيما غنموه ، فأخذه النبي صلى الله عليه وآله ، فلم يزل عنده يضرب في إبله ويغزو عليه حتى ساقه في هدى الحديبية ، فسأله يومئذ المشركون الجمل بمائة بعير ، فقال لو لا إنا سميناه في الهدى لفعلنا .
قال الواقدي : وكان لرسول الله صلى الله عليه وآله صفى (2) من الغنيمة قبل القسمة ، فتنفل سيفه ذا الفقار ، يومئذ ، كان لمنبه بن الحجاج .
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله قد غزا إلى بدر بسيف وهبه له سعد بن عبادة يقال له العضب .
قال : وسمعت ابن أبى سبرة ، يقول : سمعت صالح بن كيسان ، يقول : خرج رسول
__________
(1) سورة آل عمران 161 .
(2) الصفي من الغنيمة : نصيب الرئيس .
(*)(14/168)
الله صلى الله عليه وآله يوم بدر ، وما معه سيف ، وكان أول سيف قلده سيف منبه بن الحجاج غنمه يوم بدر .
وقال البلاذرى كان ذو الفقار للعاص بن منبه بن الحجاج ، ويقال لمنبه ، ويقال لشيبة ، والثبت عندنا إنه كان للعاص بن منبه .
قال الواقدي : وكان أبو أسيد الساعدي أذا ذكر الارقم بن أبى الارقم ، يقول ما يومى منه بواحد ، فيقال ما هذا هو فيقول أمر رسول الله صلى الله عليه وآله المسلمين أن يردوا يوم بدر ما في أيديهم من المغنم ، فرددت سيف أبى عائذ المخزومى - واسم السيف المرزبان ، وكان له قيمة وقدر - وأنا أطمع أن يرد إلى ، فكلم الارقم رسول الله صلى الله عليه وآله فيه - وكان رسول الله صلى الله عليه وآله لا يمنع شيئا يسأله - فاعطاه السيف وخرج بنى له يفعة (1) فاحتمله الغول ، فذهبت به متوركة ظهرا ، فقيل لابي أسيد وكانت الغيلان في ذلك الزمان فقال نعم ، ولكنها قد هلكت ، فلقى بنى الارقم بن أبى الارقم ، فبهش (2) إليه باكيا مستجيرا به ، فقال من أنت فأخبره ، فقالت الغول أنا حاضنته ، فلها عنه والصبى يكذبها ، فلم يعرج عليه حتى الساعة ، فخرج من دارى فرس لى ، فقطع رسنه ، فلقيه الارقم بالغابة فركبه ، حتى إذا دنا من المدينة أفلت منه فتعذر إلى أنه أفلت منى ، فلم أقدر عليه حتى الساعة .
قال : وروى عامر بن سعد بن أبى وقاص عن أبيه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله يوم بدر سيف العاص بن منبه ، فأعطاه قال : وأخذ عليه السلام مماليك حضروا بدرا ، ولم يسهم لهم وهم ثلاثة أعبد ، غلام لحاطب بن أبى بلتعة ، وغلام لعبد الرحمن
__________
(1) غلام يفع ويفعة ، إذا كان مترعرعا .
(2) بهش إليه : خف إليه .
(*)(14/169)
بن عوف ، وغلام لسعد بن معاذ ، واستعمل صلى الله عليه وآله شقران غلامه على الاسرى ، فاخذوا من كل أسير ما لو كان حرا ما أصابه في المقسم .
وروى عامر بن سعد بن أبى وقاص ، عن أبيه ، قال : رميت سهيل بن عمرو يوم بدر فقطعت نساءه ، فاتبعت أثر الدم حتى وجدته قد أخذه مالك بن الدخشم ، وهو ممسك بناصيته ، فقلت أسيرى رميته فقال أسيرى أخذته فأتينا رسول الله فاخذه منا جميعا ، وأفلت سهل الروحاء ، فصاح عليه السلام بالناس ، فخرجوا في طلبه فقال صلى الله عليه وآله من وجده فليقتله ، فوجده هو صلى الله عليه وآله فلم يقتله .
قال الواقدي : وأصاب أبو بردة بن نيار أسيرا من المشركين ، يقال له معبد بن وهب ، من بنى سعد بن ليث فلقيه عمر بن الخطاب وكان عمر يحض على قتل الاسرى ، لا يرى أحدا في يديه اسيرا إلا أمر بقتله ، وذلك قبل أن يتفرق الناس ، فلقيه معبد وهو أسير مع أبى بردة ، فقال أترون يا عمر أنكم قد غلبتم كلا واللات والعزى فقال عمر عباد الله المسلمين ، أتتكلم وأنت أسير في أيدينا ثم أخذه من أبى بردة فضرب عنقه - و يقال أن أبا بردة قتله .
قال الواقدي : وروى أبو بكر بن إسماعيل ، عن أبيه ، عن عامر بن سعد ، قال : قال النبي صلى الله عليه وآله يومئذ : (لا تخبروا سعدا بقتل أخيه ، فيقتل كل أسير في أيديكم) .
قال الواقدي : ولما جئ بالاسرى كره ذلك سعد بن معاذ ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله كانه شق عليك أن يؤسروا قال : نعم يا رسول الله ، كانت أول(14/170)
وقعة التقينا فيها بالمشركين فاحببت أن يذلهم الله ، وأن يثخن فيهم القتل .
قال الواقدي : وكان النضر بن الحارث أسره المقداد يومئذ ، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله من بدر ، فكان الاثيل عرض عليه الاسرى ، فنظر إلى النضر بن الحارث فابده البصر ، فقال لرجل إلى جنبه محمد والله قاتلي لقد نظر إلى بعينين فيهما الموت فقال الذى إلى جنبه والله ما هذا منك إلا رعب ، فقال النضر لمصعب بن عمير يا مصعب ، أنت أقرب من هاهنا بى رحما ، كلم صاحبك أن يجعلني كرجل من أصحابي ، هو والله قاتلي إن لم تفعل قال مصعب : إنك كنت تقول في كتاب الله كذا وكذا ، وتقول في نبيه كذا وكذا ، قال : يا مصعب ، فليجعلني كأحد أصحابي إن قتلوا قتلت ، وإن من عليهم من على قال مصعب : إنك كنت تعذب اصحابه ، قال : أما والله لو أسرتك قريش ما قتلت أبدا وأنا حى قال مصعب : والله إنى لاراك صادقا ، ولكن لست مثلك قطع الاسلام العهود .
قال الواقدي : وعرضت الاسرى على رسول الله صلى الله عليه وآله ، فرأى النضر بن الحارث ، فقال اضربوا عنقه ، فقال المقداد أسيرى يا رسول الله فقال اللهم اغن المقداد من فضلك ، قم يا على فاضرب عنقه ، فقام على فضرب عنقه بالسيف صبرا ، وذلك بالاثيل ، فقالت أخته (1) : يا راكبا إن الاثيل مظنه من صبح خامسة وأنت موفق (2) بلغ به ميتا فإن تحية ما إن تزال بها الركائب تخفق منى إليه وعبرة مسفوحة جادت لمائحها ، وأخرى تخنق
__________
(1) واسمها قتيلة ، ذكرها التبريزي في الحماسة .
(2) الابيات في ديوان الحماسة 3 : 17 - بشرح التبريزي .
(*)(14/171)
فليسمعن النضر أن ناديته إن كان يسمع ميت أو ينطق ظلت سيوف بنى أبيه تنوشه لله أرحام هناك تمزق (1) صبرا يقاد إلى المدينة راغما رسف المقيد وهو عان موثق (2) أمحمد ولانت نجل نجيبة في قومها ، والفحل فحل معرق (3) ما كان ضرك لو مننت وربما من الفتى وهو المغيظ المحنق والنضر أقرب من قتلت وسيلة وأحقهم أن كان عتق يعتق .
قال الواقدي : وروى أن النبي صلى الله عليه وآله لما وصل إليه شعرها رق له ، وقال : (لو كنت سمعت شعرها قبل أن أقتله لما قتلته) .
قال الواقدي : ولما أسر سهيل بن عمرو ، قال عمر بن الخطاب ، يا رسول الله ، أنزع ثنيتيه يدلع لسانه ، فلا يقوم عليك خطيبا أبدا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : (لا أمثل به فيمثل الله بى وإن كنت نبيا ، ولعله يقوم مقاما لا تكرهه) .
فقام سهيل بن عمرو بمكة حين جاءه وفاة النبي صلى الله عليه وآله بخطبة أبى بكر بالمدينة ، كانه كان يسمعها ، فقال عمر حين بلغه كلام سهيل أشهد أنك رسول الله - يريد قوله صلى الله عليه وآله (لعله يقوم مقاما لا تكرهه) .
قال الواقدي : وكان على عليه السلام يحدث ، فيقول أتى جبريل النبي صلى الله عليه وآله يوم بدر ، فخيره في الاسرى أن يضرب أعناقهم ، أو ياخذ منهم الفداء ، ويستشهد من المسلمين في قابل عدتهم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله أصحابه ، وقال : هذا جبريل يخيركم في الاسرى ، بين أن تضرب اعناقهم أو تؤخذ منهم الفدية ويستشهد
__________
(1) الحماسة : (تشقق) .
(2) لم يرد في رواية الحماسة .
(3) في الحماسة : (ضن كريم) قال في شرحه : (ضنء نجيبة) أي ولدها .
ومعرق : له عرق في الكرم .
(*)(14/172)
منكم قابلا عدتهم .
قالوا بل نأخذ الفدية ونستعين بها ، ويستشهد منا من يدخل الجنة ، فقبل منهم الفداء ، وقتل من المسلمين قابلا عدتهم بأحد .
قلت لو كان هذا الحديث صحيحا لما عوتبوا ، فقيل لهم (ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن في الارض تريدون عرض الدنيا والله يريد الاخرة) (1) ، ثم قال : (لو لا كتاب من الله سبق لمسكم فيما اخذتم عذاب عظيم) (2) ، لانه إذا كان خيرهم ، فقد أباحهم اخذ الفداء ، وأخبرهم إنه حسن ، فلا يجوز فيما بعد أن ينكره عليهم ، ويقول إنه قبيح .
قال الواقدي : لما حبس الاسرى وجعل عليهم شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وآله طمعوا في الحياة ، فقالوا لو بعثنا إلى أبى بكر فإنه أوصل قريش لارحامنا فبعثوا إلى أبى بكر ، فأتاهم فقالوا يا أبا بكر ، إن فينا الاباء والابناء والاخوان ، والعمومة وبنى العم ، وأبعدنا قريب ، كلم صاحبك فليمن علينا ويفادنا ، فقال نعم إن شاء الله ، لا آلوكم خيرا ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وآله قالوا وابعثوا إلى عمر بن الخطاب ، فإنه من قد علمتم ولا يؤمن أن يفسد عليكم لعله يكف عنكم فأرسلوا إليه ، فجاءهم فقالوا له مثل ما قالوا لابي بكر ، فقال لا آلوكم شرا ، ثم انصرف إلى النبي صلى الله عليه وآله ، فوجد أبا بكر عنده ، والناس حوله ، وأبو بكر يلينه ويغشاه ، ويقول يا رسول الله ، بأبى أنت وأمى قومك فيهم الاباء والابناء والعمومة والاخوان وبنو العم ، وأبعدهم عنك قريب فامنن عليهم ، من الله عليك ، أو فادهم قوة للمسلمين ، فلعل الله يقبل بقلوبهم إليك ثم قام فتنحى ناحية ، وسكت رسول الله صلى الله عليه وآله فلم يجبه ، فجاء عمر فجلس مجلس أبى بكر ، فقال يا رسول الله ، هم أعداء الله ، كذبوك
__________
(1) سورة الانفال 67 .
(2) سورة الانفال 68 .
(*)(14/173)
وقاتلوك واخرجوك ، إضرب رقابهم ، فهم رؤوس الكفر وأئمة الضلالة ، يوطئ الله بهم الاسلام ، ويذل بهم الشرك فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يجبه ، وعاد أبو بكر إلى مقعده الاول ، فقال بأبى أنت وأمى قومك فيهم الاباء والابناء والعمومة والاخوان وبنو العم ، وأبعدهم منك قريب فامنن عليهم أو فادهم هم عشيرتك وقومك لا تكن أول من يستأصلهم ، وإن يهديهم الله خير من أن يهلكهم فسكت صلى الله عليه وآله عنه فلم يرد عليه شيئا ، وقام ناحية فقام عمر فجلس مجلسه ، فقال يا رسول الله ، ما تنتظر بهم إضرب اعناقهم ، يوطئ الله بهم الاسلام ، ويذل أهل الشرك ، هم أعداء الله ، كذبوك وأخرجوك يا رسول الله ، إشف صدور المؤمنين ، لو قدروا منا على مثل هذا ما أقالونا أبدا فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله فلم يجبه ، فقام ناحية ، فجلس وعاد أبو بكر ، فكلمه مثل كلامه الاول فلم يجبه ، ثم تنحى ، فجاء عمر فكلمه بمثل كلامه الاول فلم يجبه ، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وآله ، فدخل قبته ، فمكث فيها ساعة ، ثم خرج ، والناس يخوضون في شأنهم ، يقول بعضهم : القول ما قال أبو بكر ، وآخرون يقولون : القول ما قال عمر فلما خرج قال للناس : ما تقولون في صاحبيكم هذين دعوهما فان لهما مثلا ، مثل أبى بكر في الملائكة كميكائيل ينزل برضا الله وعفوه على عباده ، ومثله في الانبياء كمثل إبراهيم كان ألين على قومه من العسل ، أوقد له قومه النار فطرحوه فيها ، فما زاد على أن قال : (أف لكم ولما تعبدون من دون الله أ فلا تعقلون) (1) وقال : (فمن تبعني فإنه منى ومن عصاني فإنك غفور رحيم) (2) وكعيسى إذ يقول : (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) (3) .
ومثل عمر في الملائكة كمثل جبريل ينزل بالسخط من الله والنقمة على أعداء الله ، ومثله في الانبياء كمثل نوح ، كان أشد على قومه من الحجارة ، إذ يقول : (رب لا تذر على
__________
(1) سورة الانبياء 67 .
(2) سورة إبراهيم 14 .
(3) سورة المائدة 118 .
(*)(14/174)
الارض من الكافرين ديارا) (1) فدعا عليهم دعوة أغرق الله بها الارض جميعا ، ومثل موسى إذ يقول (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الاليم) (2) وإن بكم عيلة ، فلا يفوتنكم رجل من هؤلاء إلا بفداء أو ضربة عنق .
فقال عبد الله بن مسعود يا رسول الله ، الا سهيل بن بيضاء .
قال الواقدي : هكذا روى ابن أبى حبيبة ، وهذا وهم ، سهيل بن بيضاء مسلم من مهاجرة الحبشة ، وشهد بدرا ، وإنما هو أخ له .
ويقال له سهيل قال ، قال عبد الله بن مسعود : فإنى رأيته يظهر الاسلام بمكة - قال : فسكت النبي صلى الله عليه وآله ، قال عبد الله : فما مرت على ساعة قط كانت أشد على من تلك الساعة ، جعلت أنظر إلى السماء أتخوف أن تسقط على الحجارة لتقدمي بين يدى الله ورسوله بالكلام ، فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله رأسه ، فقال : (إلا سهيل بن بيضاء) قال : فما مرت على ساعة أقر لعيني منها ، إذ قالها رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قال : (إن الله عز وجل ليشدد القلب حتى يكون أشد من الحجارة ، وإنه ليلين القلب حتى يكون ألين من الزبد) ، فقبل الفداء ثم قال بعد : (لو نزل عذاب يوم بدر لما نجا منه إلا عمر) كان يقول اقتل ولا تأخذ الفداء وكان سعد بن معاذ يقول : اقتل ولا تأخذ الفداء .
قلت عندي في هذا كلام ، أما في أصل الحديث فلان فيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال ، ومثله كعيسى إذ قال : (إن تعذبهم فانهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) ، وهذه الاية من المائدة والمائدة أنزلت في آخر عمره ، ولم ينزل بعدها إلا سورة براءة ، وبدر كانت في السنة الثانية من الهجرة ، فكيف هذا اللهم إلا أن يكون قوله تعالى : (وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمى الهين ...
) الايات ، قد كانت أنزلت إما بمكة أو بالمدينة قبل بدر ،
__________
(1) سورة نوح 26 .
(2) سورة يونس 88 .
(*)(14/175)
فلما جمع عثمان القرآن ضمها إلى سورة المائدة ، فلعله قد كان ذلك فينبغي أن ننظر في هذا ، فهو مشكل .
وأما حديث سهيل بن بيضاء فإنه يوهم مذهب موسى بن عمران في أن النبي صلى الله عليه وآله كان يحكم في الوقائع بما يشاء ، لانه قيل له أحكم بما تشاء ، فإنك لا تحكم إلا بالحق ، وهو مذهب متروك إلا إنه يمكن أن يقال : لعله لما سكت صلى الله عليه وآله عندما قال ابن مسعود ذلك القول ، نزل عليه في تلك السكتة الوحى وقيل له إلا سهيل بن بيضاء ، فقال حينئذ (إلا سهيل بن بيضاء) ، كما أوحى إليه .
وأما الحديث الذى فيه (لو نزل عذاب لما نجا منه إلا عمر) ، فالواقدي وغيره من المحدثين اتفقوا على أن سعد بن معاذ كان يقول مثل ما قاله عمر ، بل هو المتبدئ بذلك الرأى ، ورسول الله صلى الله عليه وآله بعد في العريش ، والمشركون لم ينفض جمعهم كل ذلك الانفضاض ، فكيف خص عمر بالنجاة وحده دون سعد ويمكن أن يقال إنه كان شديد التأليب والتحريض عليهم ، وكثير الالحاح على رسول الله صلى الله عليه وآله في أمرهم ، فنسب ذلك الرأى إليه لاشتهاره به ، وإن شركه فيه غيره .
قال الواقدي : وحدثني معمر عن الزهري ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله يوم بدر : (لو كان مطعم بن عدى حيا لوهبت له هؤلاء النتنى) (1) .
قال : وكانت لمطعم بن عدى عند النبي صلى الله عليه وآله يد أجاره حين رجع من الطائف .
__________
(1) قال ابن الاثير في النهاية 4 : 124 : (يعني أسارى بدر ، واحدهم نتن ، كزمن وزمني ، سماهم نتن لكفرهم ، كقوله تعالى (إنما المشركون نجس) .
(*)(14/176)
قال الواقدي : وحدثني محمد بن عبد الله ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، قال : امن رسول الله صلى الله عليه وآله من الاسرى يوم بدر أبا عزة عمرو بن عبد الله بن عمير الجمحى - وكان شاعرا - فأعتقه رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقال له : إن لى خمس بنات ، ليس لهن شئ ، فتصدق بى عليهم يا محمد ، ففعل رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك وقال أبو عزة : أعطيك موثقا إلا اقاتلك ، ولا أكثر عليك أبدا فارسله رسول الله صلى الله عليه وآله ، فلما خرجت قريش إلى أحد ، جاء صفوان بن أمية ، فقال اخرج معنا قال : إنى قد أعطيت محمدا موثقا ألا أقاتله ، ولا أكثر عليه أبدا .
وقد من على ولم يمن على غيرى حتى قتله أو أخذ منه الفداء .
فضمن له صفوان أن يجعل بناته مع بناته إن قتل ، وإن عاش أعطاه مالا كثيرا لا يأكله عياله .
فخرج أبو عزة يدعو العرب ويحشرها ، ثم خرج مع قريش يوم أحد ، فأسر ولم يؤسر غيره من قريش ، فقال يا محمد إنما خرجت كرها ولى بنات ، فامنن على فقال رسول الله (أين ما اعطيتني من العهد والميثاق لا والله لا تمسح عارضيك بمكة تقول سخرت بمحمد مرتين) (1) .
فقتله .
قال : وروى سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال يومئذ : (إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين ، يا عاصم بن ثابت ، قدمه فاضرب عنقه) ، فقدمه عاصم فضرب عنقه .
قال الواقدي : وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله يوم بدر بالقلب (2) أن تغور ثم أمر بالقتلى ، فطرحوا فيها كلهم إلا أمية بن خلف فإنه كان مسمنا (3) أنتفخ من يومه .
فلما أرادوا أن يلقوه تزايل لحمه ، فقال النبي صلى الله عليه وآله أتركوه (4) .
__________
(1) مغازي الواقدي 105 .
(2) تغور : تملا بالتراب .
(3) المسمن : السمين خلقة .
(4) مغازي الواقدي 106 .
(*)(14/177)
وقال ابن إسحاق : انتفخ أمية بن خلف في درعه حتى ملاها ، فلما ذهبوا يحركونه تزايل ، فاقروه وألقوا عليه التراب والحجارة ما غيبه (1) .
قال الواقدي : ونظر رسول الله صلى الله عليه وآله إلى عتبة بن ربيعة يجر إلى القليب - وكان رجلا جسيما ، وفي وجهه أثر الجدرى - فتغير وجه ابنه أبى حذيفة بن عتبة ، فقال له النبي صلى الله عليه وآله : ما لك كأنك ساءك (2) ما أصاب أباك قال : لا والله يا رسول الله ، ولكني رأيت لابي عقلا وشرفا ، كنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الاسلام ، فلما أخطأه ذلك ، ورأيت ما اصابه غاظنى .
فقال أبو بكر كان والله يا رسول الله أبقى في العشيرة من غيره ، ولقد كان كارها لوجهه ، ولكن الحين ومصارع السوء فقال رسول الله صلى الله عليه وآله (الحمد لله الذى جعل خد أبى جهل الاسفل وصرعه وشفانا منه) فلما توافوا في القليب وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يطوف عليهم وهم مصرعون ، جعل أبو بكر يخبره بهم رجلا رجلا ، ورسول الله صلى الله عليه وآله يحمد الله ويشكره ويقول الحمد لله الذى أنجز لى ما وعدني فقد وعدني إحدى الطائفتين ، ثم وقف على أهل القليب فناداهم رجلا رجلا (يا عتبة بن ربيعة ، ويا شيبة بن ربيعة ، ويا أمية بن خلف ، ويا أبا جهل بن هشام هل وجدتم ما وعد ربكم حقا فانى وجدت ما وعدني ربى حقا بئس القوم كنتم لنبيكم كذبتموني وصدقني الناس ، وأخرجتموني وآواني الناس ، وقاتلتموني ونصرني الناس ، فقالوا يا رسول الله ، أ تنادى قوما قد ماتوا فقال (لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حق) (3) .
وقال ابن إسحاق في كتاب المغازى : أن عائشة كانت تروى هذا الخبر ، وتقول فالناس يقولون إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (لقد سمعوا ما قلت لهم) ، وليس كذلك ، انما قال : (لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حق (4)) .
__________
(1) سيرة ابن هشام 2 : 279 .
(2) ابن هشام : (قد دخلك من أمر أبيك شئ) .
(3) مغازي الواقدي 106 ، وسيرة ابن هشام 2 : 282 .
(4) سيرة ابن هشام 2 : 280 .
(*)(14/178)
قال محمد بن إسحاق : وحدثني حميد الطويل ، عن أنس بن مالك ، قال : لما ناداهم رسول الله صلى الله عليه وآله قال له المسلمون : يا رسول الله ، أتنادى قوما قد أنتنوا فقال : (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني) .
قلت لقائل أن يقول لعائشة : إذا جاز أن يعلموا وهم موتى ، جاز أن يسمعوا وهم موتى ، فإن قالت ما أخبرت أن يعلموا وهم موتى ، و لكن تعود الارواح إلى أبدانهم ، وهى في القليب ، ويرون العذاب ، فيعلمون أن ما وعدهم به الرسول حق قيل لها ولا مانع من أن تعود الارواح إلى أبدانهم وهى في القليب ، فيسمعوا صوت رسول الله صلى الله عليه وآله ، فإذن لا وجه لانكارها ما يقوله الناس .
ويمكن أن ينتصر لقول عائشة على وجه حكمي ، وهو أن الانفس بعد المفارقة تعلم ولا تسمع ، لان الاحساس إنما يكون بواسطة الالة ، وبعد الموت تفسد الالة ، فأما العلم فإنه لا يحتاج إلى الالة ، لان النفس تعلم بجوهرها فقط .
قال الواقدي : وكان انهزام قريش وتوليها حين زالت الشمس ، فأقام رسول الله صلى الله عليه وآله ببدر ، وأمر عبد الله بن كعب بقبض الغنائم وحملها وأمر نفرا من أصحابه أن يعينوه ، فصلى العصر ببدر ثم راح فمر بالاثيل قبل غروب الشمس فنزل به ، وبات به وبأصحابه جراح ، وليست بالكثيرة ، وقال من رجل يحفظنا الليلة فأسكت القوم ، فقام رجل فقال : من أنت قال : ذكوان بن عبد قيس ، قال : إجلس ، ثم أعاد القول الثانية ، فقام رجل ، فقال : من أنت قال : ابن عبد القيس ، فقال : إجلس ، ثم مكث ساعة وأعاد القول ، فقام رجل فقال : من أنت قال : أبو سبع (2) ، فسكت .
__________
(1) سيرة ابن هشام 2 : 280 .
(2) في الاصول : (سبيع) ، وصوابه ما في الواقدي ، وانظر ما في الاستيعاب .
(*)(14/179)
ثم مكث ساعة ، وقال : قوموا ثلاثتكم فقام ذكوان بن عبد قيس وحده ، فقال له : وأين صاحباك قال : يا رسول الله أنا الذى كنت أجيبك الليلة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : فحفظك الله فبات ذكوان يحرس المسلمين تلك الليلة ، حتى كان آخر الليل فارتحل (1) .
قال الواقدي : وروى أن رسول الله صلى الله عليه وآله صلى العصر بالاثيل ، فلما صلى ركعة تبسم ، فلما سلم سئل عن تبسمه فقال مر بى ميكائيل وعلى جناحه النقع ، فتبسم إلى ، وقال إنى كنت في طلب القوم ، وأتانى جبريل على فرس أنثى معقود الناصية ، قد عم ثنيتيه الغبار فقال يا محمد إن ربى بعثنى إليك ، وامرني ألا أفارقك حتى ترضى ، فهل رضيت فقلت نعم (2) .
قال الواقدي : وأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله بالاسرى ، حتى إذا كان بعرق الظبية أمر عاصم بن ثابت بن أبى الاقلح أن يضرب عنق عقبة بن أبى معيط بن أبى عمرو بن أمية بن عبد شمس ، وكان أسره عبد الله بن سلمه العجلاني ، فجعل عقبة يقول يا ويلى علا م أقتل يا معشر قريش من بين من هاهنا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : لعداوتك لله و لرسوله ، فقال : يا محمد ، منك أفضل ، فاجعلني كرجل من قومي إن قتلتهم قتلتنى ، وإن مننت عليهم مننت على ، وإن أخذت منهم الفداء كنت كأحدهم ، يا محمد من للصبية فقال : النار ، قدمه يا عاصم ، فاضرب عنقه ، فقدمه عاصم فضرب عنقه ، فقال النبي صلى الله عليه وآله : بئس الرجل كنت والله ما علمت كافرا بالله وبرسوله ، وبكتابه مؤذيا لنبيه ، فاحمد الله الذى قتلك وأقر عينى منك (3) .
قال محمد بن إسحاق : وروى عكرمة مولى ابن عباس ، عن أبى رافع ، قال : كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب ، وكان الاسلام قد فشا فينا أهل البيت ، فأسلم العباس ،
__________
(1) مغازي الواقدي 107 .
(2) مغازي الواقدي 107 .
(3) مغازي الواقدي 107 ، 108 .
(*)(14/180)
وأسلمت أم الفضل زوجته ، وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم ، فكان يكتم إسلامه ، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه ، وكان عدو الله أبو لهب قد تخلف عن بدر ، وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة ، وكذلك كانوا صنعوا ، لم يتخلف رجل إلا بعث مكانه رجلا ، فلما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش ، كبته (1) الله وأخزاه ووجدنا في أنفسنا قوة وعزا .
قال : وكنت رجلا ضعيفا ، وكنت أعمل القداح (2) ، أنحتها في حجرة زمزم ، فو الله إنى لجالس أنحت قداحى ، وعندي أم الفضل جالسة ، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر ، أذ إقبل الفاسق أبو لهب يجر رجليه بشر ، حتى جلس الى طنب (3) الحجرة ، فكان ظهره إلى ظهرى ، فبينا هو جالس إذ قال للناس ، هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم - وكان شهد مع المشركين بدرا - فقال أبو لهب : هلم يا بن أخى فعندك والله الخبر ، قال : فجلس إليه والناس قيام حوله ، فقال : يا بن أخى ، أخبرني كيف كان أمر الناس قال : لا شئ ، والله إن هو إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا ، فقتلونا كيف شاؤوا ، وأسرونا كيف شاؤوا ، وأيم الله مع ذلك ما لمت الناس ، لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والارض .
لا والله ما تبقى (4) شيئا ، ولا يقوم لها شئ .
قال أبو رافع : فرفعت طنب الحجرة ، ثم قلت تلك والله الملائكة ، قال : (5 فرفع أبو لهب يده ، فضرب بى الارض ثم برك على يضربني 5) ، وكنت رجلا ضعيفا ، فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة ، فاخذته فضربته على (6) رأسه ، فشجته شجة منكرة ، وقالت استضعفته إذ غاب
__________
(1) كبته الله : ذله وأخزاه .
(2) ابن هشام : الاقداح .
(3) طنب الحجرة : طرفها .
(4) ابن هشام : (ما تلين شيئا) ، أي ما تبقي شيئا .
(5 - 5) العبارة في ابن هشام : (فرفع أبو لهب يده ، فضرب بها وجهي ضربة شديدة ، قال : وثاورته ، فاحتملني فضرب بي الارض ، ثم برك على يضربني) .
أي وثبت إليه .
(6) ابن هشام : (فضربته به ضربة قلعت في رأسه شجة منكرة) ، وقلعت ، اي شقت .
(*)(14/181)
سيده ، فقام موليا ذليلا ، فو الله ما عاش إلا سبع ليال ، حتى رماه الله بالعدسة (1) فقتلته (2) .
ولقد تركه ابناه ليلتين أو ثلاثا وما يدفنانه ، حتى أنتن في بيته - وكانت قريش تتقى العدسة وعدواها ، كما يتقى الناس الطاعون - حتى قال لهما رجل من قريش : ويحكما ألا تستحيان أن أباكما قد أنتن في بيته لا تغيبانه قالا إنا نخشى هذه القرحة ، قال : فانطلقا وأنا معكما ، فو الله ما غسلوه إلا قذفا عليه بالماء من بعيد ، ما يمسونه ، وأخرجوه فالقوه بأعلى مكة إلى كنان هناك ، وقذفوا عليه بالحجارة حتى واروه .
قال محمد بن إسحاق : فحضر العباس بدرا ، فأسر فيمن أسر ، وكان الذى أسره أبو اليسر كعب بن عمرو أحد بنى سلمة ، فلما أمسى القوم والاسارى محبوسون في الوثاق ، وبات رسول الله صلى الله عليه وآله تلك الليلة ساهرا ، فقال له أصحابه ما لك لا تنام يا رسول الله قال : (سمعت أنين العباس من وثاقه) ، فقاموا إليه فاطلقوه ، فنام رسول الله صلى الله عليه وآله (3) .
قال : وروى ابن عباس رحمه الله ، قال : كان أبو اليسر رجلا مجموعا ، وكان العباس طويلا جسيما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : يا أبا اليسر ، كيف أسرت العباس قال : يا رسول الله ، لقد أعانني عليه رجل ما رأيته من قبل ، من هيئته كذا ، قال صلى الله عليه وآله : (لقد أعانك عليه ملك كريم) .
قال محمد بن إسحاق : قد كان رسول الله صلى الله عليه وآله في أول الوقعة ، فنهى أن يقتل أحد من بنى هاشم ، قال : حدثنى بذلك الزهري ، عن عبد الله بن ثعلبة حليف بنى زهرة ، قال : وحدثني العباس بن عبد الله بن معبد بن العباس ، عن بعض أهله ، عن عبد الله بن عباس رحمه الله ،
__________
(1) العدسة ، قال أبو ذر : (هي قرحة قاتلة كالطاعون ، وقد عدس الرجل ، إذا أصابه ذلك) .
(2) الخبر الى هنا في سيرة ابن هشام 2 : ، 289 ، 291 .
(3) تاريخ الطبري 2 : 462 (طبعة المعارف) ، والاغاني 4 : 205 ، 206 (طبعة دار الكتب) .
(*)(14/182)
قال : وقال النبي صلى الله عليه وآله لاصحابه : إنى قد عرفت أن رجالا من بنى هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها ، لا حاجة لنا بقتلهم ، فمن لقى منكم أحدا من بنى هاشم فلا يقتله ومن لقى أبا البخترى فلا يقتله ، ومن لقى العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وآله فلا يقتله ، فإنه إنما خرج مستكرها ، فقال أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة انقتل آباءنا وإخواننا وعشائرنا ونترك العباس والله لئن لقيته لالحمنه (1) السيف ، فسمعها رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقال لعمر بن الخطاب يا أبا حفص يقول عمر والله إنه لاول يوم كنانى فيه رسول الله صلى الله عليه وآله بأبى حفص - أيضرب وجه عم رسول الله صلى الله عليه وآله بالسيف فقال عمر يا رسول الله ، دعني أضرب عنقه بالسيف ، فو الله لقد نافق ، قال : فكان أبو حذيفة يقول : والله ما أنا بأمن من تلك الكلمة التى قلت يومئذ ، ولا أزال منها خائفا أبدا إلا أن يكفرها الله عنى بشهادة ، فقتل يوم اليمامة شهيدا (2) .
قال محمد بن إسحاق : وكان رسول الله صلى الله عليه وآله لما استشار أبا بكر وعمر وسعد بن معاذ في أمر الاسارى ، غلظ عمر عليهم غلظة شديدة ، فقال يا رسول الله أطعنى فيما أشير به عليك ، فانى لا آلوك نصحا ، قدم عمك العباس فاضرب عنقه بيدك ، وقدم عقيلا إلى على أخيه يضرب عنقه ، وقدم كل أسير منهم الى اقرب الناس إليه يقتله ، قال : فكره رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك ولم يعجبه .
قال محمد بن إسحاق : فلما قدم بالاسرى إلى المدينة قال رسول الله صلى الله عليه وآله :
__________
(1) لالحمنه ، اي لاطعنن لحمه بالسيف ، ولاخالطنه ، وقال ابن هشام : لالحمنه بالسيف ، اي لاضربنه به في وجهه) .
(2) تاريخ الطبري 2 : 450 طبعة المعارف ، وسيرة ابن هشام .
(*)(14/183)
إفد نفسك يا عباس وابنى أخويك عقيل بن ابى طالب ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب وحليفك عقبة بن عمرو ، فانك ذو مال فقال العباس يا رسول الله ، إنى كنت مسلما ، ولكن القوم إستكرهونى ، فقال صلى الله عليه وآله الله أعلم بإسلامك ، إن يكن ما قلت حقا فإن الله يجزيك به ، وأما ظاهر أمرك فقد كان علينا ، فافتد نفسك وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله اخذ منه عشرين اوقية من ذهب اصابها معه حين أسر ، فقال العباس يا رسول الله إحسبها لى من فدائي ، فقال صلى الله عليه وآله ذاك شئ أعطانا الله منك ، فقال : يا رسول الله ، فإنه ليس لى مال ، قال : فأين المال الذى وضعته بمكة حين خرجت عند أم الفضل بنت الحارث ، وليس معكما احد ثم قلت : إن أصبت في سفري هذا فللفضل كذا وكذا ، ولعبد الله كذا وكذا ، ولقثم كذا وكذا فقال العباس والذى بعثك بالحق يا رسول الله ، ما علم بهذا أحد غيرى وغيرها ، وإنى لاعلم إنك رسول الله ، ثم فدى نفسه وابنى اخويه وحليفه .
قال الواقدي : قدم رسول الله صلى الله عليه وآله من الاثيل زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة يبشران الناس بالمدينة فجاء يوم الاحد في الضحى ، وفارق عبد الله زيدا بالعقيق ، فجعل عبد الله ينادى عوالي المدينة يا معشر الانصار ، أبشروا بسلامة رسول الله وقتل المشركين وأسرهم ، قتل ابنا ربيعة ، وابنا الحجاج ، وأبو جهل ، وزمعة بن الاسود ، وأمية بن خلف ، وأسر سهيل بن عمرو ذو الانياب ، في أسرى كثير قال عاصم بن عدى : فقمت إليه فنحوته ، فقلت أ حقا ما تقول يا بن رواحة قال : إى والله ، وغدا يقدم رسول الله إن شاء الله ، ومعه الاسرى مقرنين ، ثم تتبع دور الانصار بالعالية يبشرهم ، دارا دارا ، والصبيان يشتدون معه ، ويقولون قتل أبو جهل الفاسق ، حتى انتهوا إلى(14/184)
دور بنى أمية بن زيد ، وقدم زيد بن حارثة على ناقة النبي صلى الله عليه وآله القصواء ، يبشر أهل المدينة ، فلما جاء المصلى صاح على راحلته قتل عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وابنا الحجاج وأبو جهل ، وأبو البخترى وزمعة بن الاسود وأمية بن خلف ، وأسر سهيل بن عمرو ذو الانياب في أسرى كثيرة ، فجعل الناس لا يصدقون زيد بن حارثة ، ويقولون ما جاء زيد إلا فلا ، حتى غاظ المسلمين ذلك ، وخافوا ، قال : وكان قدوم زيد حين سووا على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وآله التراب بالبقيع ، فقال رجل من المنافقين لاسامة بن زيد : قتل صاحبكم ومن معه ، وقال رجل من المنافقين لابي لبابة بن عبد المنذر : قد تفرق اصحابكم تفرقا لا يجتمعون معه أبدا ، وقد قتل عليه اصحابكم ، وقتل محمد ، وهذه ناقته نعرفها ، وهذا زيد بن حارثة لا يدرى ما يقول من الرعب ، وقد جاء فلا ، فقال أبو لبابة كذب الله قولك ، وقالت يهود ما جاء زيد إلا فلا قال أسامة بن زيد : فجئت حتى خلوت بابى ، فقلت : يا أبت أحق ما تقول فقال : أي والله حقا يا بنى ، فقويت نفسي ، فرجعت إلى ذلك المنافق ، فقلت : أنت المرجف برسول الله وبالمسلمين لنقدمنك الى رسول الله صلى الله عليه وآله إذا قدم ، فليضربن عنقك ، فقال يا أبا محمد ، إنما هو شئ سمعت الناس يقولونه .
قال الواقدي : فقدم بالاسرى وعليهم شقران وهم تسعة واربعون رجلا الذين أحصوا ، وهم سبعون في الاصل ، مجمع عليه لا شك فيه ، إلا أنهم لم يحص سائرهم ، ولقى الناس رسول الله صلى الله عليه وآله بالروحاء يهنئونه بفتح الله عليه ، فلقيه وجوه الخزرج ، فقال سلمة بن سلامة بن وقش ما الذى تهنئونه فو الله ما قتلنا إلا عجائز صلعا فتبسم النبي صلى الله عليه وآله فقال يا بن أخى ، أولئك الملا ، لو رأيتهم لهبتهم ، ولو أمروك لاطعتهم ، ولو رأيت فعالك مع فعالهم لاحتقرتها وبئس القوم كانوا على ذلك لنبيهم فقال سلمة اعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله ، إنك يا رسول الله لم تزل عنى معرضا منذ كنا بالروحاء(14/185)
في بدأتنا ، فقال صلى الله عليه وآله اما قلت للاعرابي وقعت على ناقتك فهى حبلى منك ، ففحشت وقلت ما لا علم لك به ، وأما ما قلت في القوم ، فانك عمدت إلى نعمة من نعم الله تزهدها ، فقبل رسول الله صلى الله عليه وآله معذرته ، وكان من علية أصحابه .
قال الواقدي : فروى الزهري ، قال : لقى أبو هند البياضى مولى فروة بن عمرو رسول الله صلى الله عليه وآله ومعه حميت مملوء حيسا (1) أهداه له ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : (إنما أبو هند رجل من الانصار فأنكحوه ، وأنكحوا إليه) .
قال الواقدي : ولقيه أسيد بن حضير ، فقال يا رسول الله ، الحمد لله الذى ظفرك وأقر عينك ، والله يا رسول الله ، ما كان تخلفي عن بدر وأنا أظن بك إنك تلقى عدوا ، ولكني ظننت أنها العير ، ولو ظننت أنه عدو لما تخلفت ، فقال رسول الله صدقت .
قال : ولقيه عبد الله بن قيس بتربان (2) ، فقال يا رسول الله الحمد لله على سلامتك وظفرك ، كنت يا رسول الله ليالى خرجت مورودا - أي محموما - فلم تفارقني حتى كان بالامس ، فاقبلت اليك ، فقال آجرك الله .
قال الواقدي : وكان سهيل بن عمرو لما كان بتنوكة بين السقيا وملل ، كان مع مالك بن الدخشم الذى أسره ، فقال له خل سبيلى للغائط ، فقام معه ، فقال سهيل إنى احتشم فاستأخر عنى ، فاستاخر عنه فمضى سهيل على وجهه ، انتزع يده من القران ، ومضى ، فلما أبطأ سهيل على مالك بن الدخشم ، أقبل فصاح في الناس ، فخرجوا في طلبه ، وخرج النبي صلى الله عليه وآله في طلبه بنفسه ، وقال : من وجده فليقتله ، فوجده رسول الله
__________
(1) الحميت : الزق يجعل فيه السمن والعسل والزيت .
والحيس : تمر يخلط بسمط واقط فيعجن ويدلك شديدا حتى يمتزج ، ثم يندر نواه ، وقد يجعل فيه سويق .
(2) تربان ، بالضم ، ذكره ياقوت ، وقال : (واد فيه مياه كثيرة ، نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم في غزوة بدر .
(*)(14/186)
صلى الله عليه وآله بنفسه أخفى نفسه بين شجرات ، فأمر به فربطت يداه إلى عنقه ، ثم قرنه إلى راحلته ، فلم يركب سهيل خطوة حتى قدم المدينة (1) .
قال الواقدي : فحدثني إسحاق بن حازم بن عبد الله بن مقسم ، عن جابر بن عبد الله الانصاري ، قال : لقى رسول الله صلى الله عليه وآله أسامة بن زيد ، ورسول الله صلى الله عليه وآله على ناقته القصوى ، فأجلسه بين يديه وسهيل بن عمرو مجبوب ، ويداه إلى عنقه ، فلما نظر الى سهيل قالوا : يا رسول الله ، أبو يزيد قال : نعم ، هذا الذى كان يطعم الخبز بمكة .
وقال البلاذرى : قال أسامة - وهو يومئذ غلام - : يا رسول الله ، هذا الذى كان يطعم الناس بمكة السريد - يعنى الثريد (2) .
قلت هذه لثغة مقلوبة ، لان الالثغ يبدل السين ثاء ، وهذا أبدل الثاء سينا ، ومن الناس من يرويها (هذا الذى كان يطعم الناس بمكة الشريد) بالشين المعجمة .
قال البلاذرى : وحدثني مصعب بن عبد الله الزبيري ، عن أشياخه أن أسامة رأى سهيلا يومئذ ، فقال : يا رسول الله هذا الذى كان يطعم السريد بمكة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : (هذا أبو يزيد الذى يطعم الطعام ، ولكنه سعى في إطفاء نور الله ، فأمكن الله منه) .
قال : وفيه يقول أمية بن أبى الصلت الثقفى : يا با يزيد رأيت سيبك واسعا وسماء جودك تستهل فتمطر .
__________
(1) أنساب الاشراف 1 : 303 (طبعة المعارف) .
(2) أنساب الاشراف 1 : 304 .
(*)(14/187)
قال : وفيه يقول مالك بن الدخشم (1) ، وهو الذى أسره يوم بدر اسرت سهيلا فلا أبتغى به غيره من جميع الامم وخندف تعلم أن الفتى سهيلا فتاها إذا تظلم ضربت بذى الشفر حتى انثنى وأكرهت نفسي على ذى العلم .
أي على ذى العلم بسكون اللام ، ولكنه حركه للضرورة .
وكان سهيل أعلم مشقوق الشفة العليا ، فكانت أنيابه ، بادية ، فلذلك قالوا ذو الانياب .
قال الواقدي : ولما قدم بالاسرى كانت سودة بنت زمعة زوجة النبي صلى الله عليه وآله عند آل عفراء في مناحتهم على عوف ومعوذ ، وذلك قبل أن يضرب الحجاب ، قالت سودة فاتينا فقيل لنا هؤلاء الاسرى قد أتى بهم ، فخرجت إلى بيتى ورسول الله صلى الله عليه وآله فيه ، وإذا أبو يزيد مجموعة يداه إلى عنقه في ناحية البيت ، فو الله ما ملكت نفسي حين رأيته مجموعة يداه إلى عنقه أن قلت أبا يزيد ، اعطيتم بايديكم إلا متم كراما فو الله ما راعني إلا قول رسول الله صلى الله عليه وآله من البيت : (يا سودة ، أعلى الله وعلى رسوله) ، فقلت يا نبى الله ، والذى بعثك بالحق إنى ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه الى عنقه أن قلت ما قلت .
قال الواقدي : وحدثني خالد بن إلياس ، قال : حدثنى أبو بكر بن عبد الله بن أبى جهم ، قال : دخل يومئذ خالد بن هشام بن المغيرة وأمية بن أبى حذيفة منزل أم سلمة وأم سلمة في مناحة آل عفراء ، فقيل لها : أتى بالاسرى ، فخرجت فدخلت عليهم فلم تكلمهم حتى
__________
(1) البلاذري : (مالك ابن الدخشم بن مالك بن الدخشم بن مرضخة بن غنم - وهو قوقل - بن عوف ابن الخزرج .
(*)(14/188)
رجعت ، فتجد رسول الله صلى الله عليه وآله في بيت عائشة ، فقالت يا رسول الله ، إن بنى عمى طلبوا أن يدخل بهم على فأضيفهم ، وأدهن رؤوسهم والم من شعثهم ، ولم أحب أن أفعل شيئا من ذلك حتى استامرك ، فقال صلى الله عليه وآله : (لست أكره شيئا من ذلك ، فافعلي من هذا ما بدا لك) قال الواقدي : وحدثني محمد بن عبد الله ، عن الزهري ، قال : قال أبو العاص بن الربيع : كنت مستأسرا مع رهط من الانصار جزاهم الله خيرا) كنا إذا تعشينا أو تغدينا آثرونى بالخبز ، وأكلوا التمر ، والخبز عندهم قليل والتمر زادهم ، حتى أن الرجل لتقع في يده الكسرة فيدفعها إلى ، وكان الوليد بن الوليد بن المغيرة يقول مثل ذلك ويزيد قال : وكانوا يحملوننا ويمشون .
وقال محمد بن إسحاق في كتابه : كان أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس ختن رسول الله صلى الله عليه وآله زوج ابنته زينب ، وكان أبو العاص من رجال مكة المعدودين مالا وأمانة وتجارة ، وكان ابنا لهالة بنت خويلد أخت خديجة بنت خويلد ، وكان الربيع بن عبد العزى بعل هذه فكانت خديجة خالته ، فسألت خديجة رسول الله صلى الله عليه وآله أن يزوجه زينب ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله لا يخالف خديجة ، وذلك قبل أن ينزل عليه الوحى ، فزوجه إياها ، فكان أبو العاص من خديجة بمنزلة ولدها ، فلما أكرم الله رسوله بنبوته آمنت به خديجة وبناته كلهن وصدقته وشهدن أن ما جاء به حق ودن بدينه ، وثبت أبو العاص على شركه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله قد زوج عتبة بن أبى إحدى ابنتيه رقيه أو أم كلثوم ، وذلك من قبل أن ينزل عليه ، فلما أنزل عليه الوحى ونادى قومه بأمر الله باعدوه ، فقال بعضهم لبعض إنكم قد فرغتم محمد من همه ، أخذتم عنه بناته وأخرجتموهن من عياله ، فردوا عليه بناته ، فأشغلوه بهن فمشوا إلى أبى العاص بن الربيع ، فقالوا فارق صاحبتك بنت محمد ، ونحن نزوجك أي(14/189)
امرأة شئت من قريش ، فقال لا ها الله إذن لا أفارق صاحبتي ، وما أحب أن لى بها امرأة من قريش فكان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا ذكره يثنى عليه خيرا في صهره ، ثم مشوا إلى الفاسق عتبة بن أبى لهب ، فقالوا له طلق بنت محمد ، ونحن ننكحك أي امرأة شئت من قريش ، فقال إن أنتم زوجتموني ابنة إبان بن سعيد بن العاص ، أو ابنة سعيد بن العاص ، فارقتها فزوجوه ابنة سعيد بن العاص ، ففارقها ولم يكن دخل بها ، فأخرجها الله من يده كرامة لها وهوانا له ثم خلف عليها عثمان بن عفان بعده ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله مغلوبا على أمره بمكة لا يحل ولا يحرم ، وكان الاسلام قد فرق بين زينب وأبى العاص ، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان لا يقدر وهو بمكة أن يفرق بينهما ، فأقامت معه على أسلامها وهو على شركه ، حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله إلى المدينة ، ، وبقيت زينب بمكة مع أبى العاص ، فلما سارت قريش إلى بدر سار أبو العاص معهم ، فأصيب في الاسرى يوم بدر ، فأتى به النبي صلى الله عليه وآله ، فكان عنده مع الاسارى ، فلما بعث أهل مكة في فداء أساراهم ، بعثت زينب في فداء أبى العاص بعلها بمال ، وكان فيما بعثت به قلادة كانت خديجة أمها أدخلتها بها على أبى العاص ليلة زفافها عليه ، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وآله رق لها رقة شديدة ، وقال للمسلمين : إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها ، وتردوا عليها ما بعثت به من الفداء فافعلوا ، فقالوا : نعم يا رسول الله ، نفديك بانفسنا وأموالنا ، فردوا عليها ما بعثت به ، وأطلقوا لها أبا العاص بغير فداء (1) .
قلت : قرأت على النقيب أبى جعفر يحيى بن أبى زيد البصري العلوى رحمه الله هذا الخبر ، فقال : أترى أبا بكر وعمر لم يشهدا هذا المشهد أما كان يقتضى التكريم والاحسان
__________
(1) سيرة ابن هشام 2 : 296 ، 297 .
(*)(14/190)
أن يطيب قلب فاطمة بفدك ، ويستوهب لها من المسلمين ، أتقصر منزلتها عند رسول الله صلى الله عليه وآله عن منزلة زينب أختها وهى سيدة نساء العالمين هذا إذا لم يثبت لها حق ، لا بالنحلة ولا بالارث ، فقلت له : فدك بموجب الخبر الذى رواه أبو بكر قد صار حقا من حقوق المسلمين فلم يجز له أن ياخذه منهم ، فقال : وفداء أبى العاص بن الربيع قد صار حقا من حقوق المسلمين ، وقد أخذه رسول الله صلى الله عليه وآله منهم فقلت : رسول الله صلى الله عليه وآله صاحب الشريعة ، والحكم حكمه ، وليس أبو بكر كذلك ، فقال : ما قلت هلا أخذه أبو بكر من المسلمين قهرا فدفعه إلى فاطمة ، وإنما قلت هلا استنزل المسلمين عنه واستوهبه منهم لها كما استوهب رسول الله صلى الله عليه وآله المسلمين فداء أبى العاص أ تراه لو قال : هذه بنت نبيكم قد حضرت تطلب هذه النخلات ، أفتطيبون عنها نفسا أ كانوا منعوها ذلك فقلت له قد قال قاضى القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد نحو هذا ، قال : إنهما لم ياتيا بحسن في شرع التكرم ، وإن كان ما أتياه حسنا في الدين .
قال محمد بن إسحاق : وكان رسول الله صلى الله عليه وآله لما أطلق سبيل أبى العاص أخذ عليه فيما نرى أو شرط عليه في إطلاقه ، أو إن أبا العاص وعد رسول الله صلى الله عليه وآله ابتداء بأن يحمل زينب إليه إلى المدينة ، ولم يظهر ذلك من أبى العاص ، ولا من رسول الله صلى الله عليه وآله إلا إنه لما خلى سبيله ، وخرج إلى مكة بعث رسول الله صلى الله عليه وآله بعده زيد بن حارثة ورجلا من الانصار ، فقال لهما كونا بمكان كذا (1) حتى تمر بكما زينب فتصحبانها حتى تأتياني بها ، فخرجا نحو مكة ، وذلك بعد بدر بشهر
__________
(1) سيرة ابن هشام : (كمونا ببطن يأجج) ، ويأجج : إسم لمكانين : أحدهما على ثلاثة أميال من مكة ، وثانيهما أبعد منه ، وفيه بني مسجد الشجرة ، وبينه وبين مسجد التنعيم ميلان .
(*)(14/191)
أو [ شيعه ] (1) ، فلما قدم أبو العاص مكة أمرها باللحوق بأبيها ، فاخذت تتجهز (2) قال محمد بن إسحاق : فحدثت عن زينب إنها قالت بينا أنا أتجهز للحوق بأبى ، لقيتني هند بنت عتبة ، فقالت ألم يبلغني يا بنت محمد إنك تريدين اللحوق بأبيك فقلت ما أردت ذلك ، فقالت أي بنت عم لا تفعلي إن كانت لك حاجة في متاع أو فيما يرفق بك في سفرك أو مال تبلغين به إلى أبيك فإن عندي حاجتك ، فلا تضطنى (3) منى ، فإنه لا يدخل بين النساء ما يدخل بين الرجال ، قالت وأيم الله ، إنى لاظنها حينئذ صادقة ، ما أظنها قالت حينئذ ألا لتفعل ، ولكن خفتها فأنكرت أن أكون أريد ذلك قالت وتجهزت حتى فرغت من جهازي ، فحملني أخو بعلى وهو كنانة بن الربيع .
قال محمد بن إسحاق : قدم لها كنانة بن الربيع بعيرا فركبته ، وأخذ قوسه وكنانته ، وخرج بها نهارا يقود بعيرها ، وهى في هودج لها ، وتحدث بذلك الرجال من قريش والنساء ، وتلاومت في ذلك ، وأشفقت أن تخرج ابنه محمد من بينهم على تلك الحال ، فخرجوا في طلبها سراعا حتى أدركوها بذى طوى ، فكان أول من سبق إليها هبار بن الاسود بن عبد المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصى ، ونافع بن عبد القيس الفهرى ، فروعها هبار بالرمح وهى في الهودج ، وكانت حاملا ، فلما رجعت طرحت ما في بطنها ، وقد كانت من خوفها رأت دما وهى في الهودج ، فلذلك أباح رسول الله صلى الله عليه وآله يوم فتح مكة دم هبار ابن الاسود (4) .
__________
(1) من سيرة ابن هشام .
وشيعه أي قريب منه .
(2) سيرة ابن هشام 2 : 297 ، 298 .
(3) تضطني ، أي تستحي ، ومنه قول الطرماح : إذا ذكرت مسعاة والده أضطنى ولا يضطني من شتم أهل الفضائل (4) سيرة ابن هشام 2 : 298 ، 299 .
(*)(14/192)
قلت وهذا الخبر أيضا قرأته على النقيب أبى جعفر رحمه الله ، فقال إذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله أباح دم هبار بن الاسود لانه روع زينب فألقت ذا بطنها ، فظهر الحال إنه لو كان حيا لاباح دم من روع فاطمة حتى ألقت ذا بطنها .
فقلت أروى عنك ما يقوله قوم إن فاطمة روعت فالقت المحسن (1) فقال لا تروه عنى ولا ترو عنى بطلانه ، فإنى متوقف في هذا الموضع لتعارض الاخبار عندي فيه .
قال الواقدي : فبرك حموها كنانة بن الربيع ، ونثل (2) كنانته بين يديه ، ثم أخذ منها سهما فوضعه في كبد قوسه ، وقال : أحلف بالله لا يدنو اليوم منها رجل إلا وضعت فيه سهما ، فتكر (3) الناس عنه .
قال : وجاء أبو سفيان بن حرب في جلة من قريش ، فقال : أيها الرجل ، أكفف عنا نبلك حتى نكلمك ، فكف فأقبل أبو سفيان حتى وقف عليه ، فقال : إنك لم تحسن ولم تصب ، خرجت بالمرأة على رؤوس الناس علانية جهارا ، وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا ، وما دخل علينا من محمد أبيها ، فيظن الناس إذا أنت خرجت بابنته إليه جهارا أن ذلك عن ذل أصابنا ، وإن ذلك منا وهن ، ولعمري ما لنا في حبسها عن أبيها من حاجة ، وما فيها من ثأر ، ولكن ارجع بالمرأة حتى إذا هدأت الاصوات ، وتحدث الناس بردها سلها سلا خفيا ، فالحقها بابيها فردها كنانة بن الربيع إلى مكة ، فاقامت بها ليالى حتى إذا هدا الصوت عنها حملها على بعيرها ، وخرج بها ليلا حتى سلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه ، فقدما بها على رسول الله صلى الله عليه وآله (4) .
قال محمد بن إسحاق : فروى سليمان بن يسار ، عن أبى إسحاق الدوسى ، عن
__________
(1) ا : (محسنا) .
(2) نثل كنانته : أخرج ما فيها .
(3) تكر عنه ، أي ترجع ، وفي ابن هشام : (فتكرر الناس عنه) .
(4) انظر سيرة ابن هشام 2 : 299 .
(*)(14/193)
أبى هريرة ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وآله سرية أنا فيها إلى عير لقريش ، فيها متاع لهم وناس منهم ، فقال : إن ظفرتم بهبار بن الاسود ونافع بن عبد قيس ، فحرقوهما بالنار ، حتى إذا كان الغد بعث فقال لنا : (إنى كنت قد أمرتكم بتحريق الرجلين إن أخذتموهما ، ثم رأيت أنه لا ينبغى لاحد أن يعذب بالنار إلا الله تعالى ، فإن ظفرتم بهما فاقتلوهما ولا تحرقوهما) (1) .
قلت : لقائل من المجبرة أن يقول أليس هذا نسخ الشئ قبل تقضى (2) وقت فعله ، وأهل العدل لا يجيزون ذلك وهذا السؤال مشكل ، ولا جواب عنه إلا بدفع الخبر إما بتضعيف احد من رواته ، أو إبطال الاحتجاج به لكونه خبر واحد ، أو بوجه آخر ، وهو أن نجيز للنبى الاجتهاد في الاحكام الشرعية كما يذهب إليه كثير من شيوخنا ، وهو مذهب القاضى أبى يوسف صاحب أبى حنيفة ، ومثل هذا الخبر حديث براءة وإنفاذها مع أبى بكر ، وبعث على عليه السلام ، فأخذها منه في الطريق ، وقرأها على أهل مكة بعد أن كان أبو بكر هو المأمور بقراءتها عليهم .
فإما البلاذرى فإنه روى أن هبار بن الاسود كان ممن عرض لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله حين حملت من مكة إلى المدينة ، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله يأمر سراياه إن ظفروا به أن يحرقوه بالنار ، ثم قال (3) : لا يعذب بالنار إلا رب النار ، و أمرهم إن ظفروا به أن يقطعوا يديه ورجليه ويقتلوه ، فلم يظفروا به ، حتى إذا كان يوم الفتح هرب هبار ، ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله بالمدينة - ويقال أتاه بالجعرانة - حين فرغ من أمر حنين ، فمثل بين يديه ، وهو يقول أشهد أن لا إله إلا الله وإنك رسول الله ، فقبل أسلامه وأمر ألا يعرض له ، وخرجت سلمى مولاة رسول الله صلى الله عليه وآله
__________
(1) سيرة ابن هشام 2 : 302 .
(2) ا (مضى) .
(3) ساقطة من ب .
(*)(14/194)
فقالت لا أنعم الله بك عينا : فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : (مهلا فقد محا الاسلام ما قبله) .
قال البلاذرى : فقال الزبير بن العوام : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله بعد غلظته على هبار بن الاسود يطاطئ رأسه استحياء منه وهبار يتعذر إليه ، وهو يعتذر إلى هبار أيضا (1) .
قال محمد بن إسحاق : فاقام أبو العاص بمكة على شركه ، وأقامت زينب عند أبيها صلى الله عليه وآله بالمدينة ، قد فرق بينهما الاسلام ، حتى إذا كان قبل الفتح ، خرج أبو العاص تاجرا إلى الشام بمال له ، وأموال لقريش أبضعوا (2) بها معه ، وكان رجلا مأمونا ، فلما فرغ من تجارته وأقبل قافلا لقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وآله ، فأصابوا ما معه وأعجزهم هو هاربا ، فخرجت السرية بما أصابت من ماله ، حتى قدمت به على رسول الله صلى الله عليه وآله ، وخرج أبو العاص تحت الليل ، حتى دخل على زينب - ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله - منزلها فاستجار بها فأجارته ، وإنما جاء في طلب ماله الذى أصابته تلك السرية ، فلما كبر رسول الله صلى الله عليه وآله في صلاة الصبح ، وكبر الناس معه ، صرخت زينب من صفة النساء أيها الناس ، إنى قد أجرت أبا العاص بن الربيع ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وآله بالناس الصبح ، فلما سلم من الصلاة ، أقبل عليهم فقال : (أيها الناس ، هل سمعتم ما سمعت) قالوا : نعم ، قال : (أما والذى نفس محمد بيده ما علمت بشئ مما كان حتى سمعتم ، إنه يجير على الناس أدناهم) .
ثم إنصرف ودخل على ابنته زينب ، فقال : (أي بنية ، أكرمي مثواه ، وأحسنى قراه ، ولا يصلن إليك ، فإنك
__________
(1) أنساب الاشراف 1 : 398 مع اختلاف في الرواية .
(2) ا : (أبضعوها معه) .
(*)(14/195)
لا تحلين له) .
ثم بعث إلى تلك السرية الذين كانوا أصابوا مال أبى العاص ، فقال لهم إن هذا الرجل منا بحيث علمتم ، وقد أصبتم له مالا ، فإن تحسنوا وتردوا عليه الذى له ، فإنا نحب ذلك ، وإن أبيتم فهو فئ الله الذى أفاء عليكم ، وأنتم أحق به فقالوا يا رسول الله ، بل نرده عليه ، فردوا عليه ماله ومتاعه ، حتى أن الرجل كان يأتي بالحبل (1) ، ويأتى الاخر بالشنة (2) ، ويأتى الاخر بالاداوة (3) ، والاخر بالشظاظ (4) ، حتى ردوا ماله ومتاعه بأسره من عند آخره ولم يفقد منه شيئا ثم أحتمل إلى مكة ، فلما قدمها أدى إلى كل ذى مال من قريش ماله ممن كان أبضع معه بشئ ، حتى إذا فرغ من ذلك ، قال لهم : يا معشر قريش ، هل بقى لاحد منكم عندي مال لم يأخذه قالوا لا فجزاك الله خيرا ، لقد وجدناك وفيا كريما ، قال : فإنى أشهد أن لا إله إلا الله وإن محمدا رسول الله ، والله ما منعنى من الاسلام إلا تخوف أن تظنوا إنى أردت أن آكل أموالكم ، وأذهب بها فإذ سلمها الله لكم ، وأداها إليكم ، فإنى أشهدكم إنى قد أسلمت واتبعت دين محمد ثم خرج سريعا حتى قدم على رسول الله المدينة (5) .
قال محمد بن إسحاق : فحدثني داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله رد زينب بعد ست سنين على أبى العاص بالنكاح الاول لم يحدث شيئا (6) .
قال الواقدي : فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله من أمر الاسارى ، وفرق الله عز وجل ببدر بين الكفر والايمان ، أذل رقاب المشركين والمنافقين واليهود ، ولم يبق بالمدينة يهودى ولا منافق الا خضعت عنقه .
__________
(1) ابن هشام : (بالدلو) .
(2) الشنة : السقاء البالي .
(3) الادواة : المطهرة التي يتوضأ بها .
(4) الشظاظ : عود يشد به فم الغرارة .
(5) سيرة ابن هشام 2 : 303 ، 304 .
(6) سيرة ابن هشام 2 : 304 .
(*)(14/196)
وقال قوم من المنافقين ليتنا خرجنا معه حتى نصيب غنيمة .
وقالت يهود فيما بينها هو الذى نجد نعته في كتبنا ، والله لا ترفع له راية بعد اليوم إلا ظهرت .
وقال كعب بن الاشرف بطن الارض اليوم خير من ظهرها ، هؤلاء أشراف الناس وساداتهم ، وملوك العرب وأهل الحرم والامن قد أصيبوا .
وخرج إلى مكة ، فنزل على أبى وداعة بن ضبيرة ، وجعله يرسل هجاء المسلمين ، ورثى قتل بدر من المشركين ، فقال طحنت رحا بدر لمهلك أهله ولمثل بدر يستهل ويدمع (1) قتلت سراة الناس حول حياضه لا تبعدوا أن الملوك تصرع (2) ويقول أقوام أذل بعزهم (3) إن ابن أشرف ظل كعبا يجزع صدقوا فليت الارض ساعة قتلوا ظلت تسيخ بأهلها وتصدع (4) نبئت أن الحارث بن هشامهم في الناس يبنى الصالحات ويجمع (5) ليزور يثرب بالجموع وإنما يسعى على الحسب القديم الاروع (6) .
قال الواقدي : أملاها على عبد الله بن جعفر ومحمد بن صالح وابن أبى الزناد فلما أرسل كعب هذه الابيات اخذها الناس بمكة عنه ، وأظهروا المراثى - وقد كانوا حرموها كيلا يشمت المسلمون بهم - وجعل الصبيان والجوارى ينشدونها بمكة ، فناحت بها قريش
__________
(1) سيرة ابن هشام 2 : 431 ، 432 ، وأنساب الاشراف 1 : 284 ، والبيتان الاخيران في نسب قريش 301 .
(2) سراة الناس : خيارهم .
(3) البلاذري : (غوى أمرهم) ، ابن هشام : (أسر بسخطهم) .
الواقدي : (أذل بسخطهم) .
(4) بعده في ابن هشام : صار الذي أثر الحديث بطعنة أو عاش اعمى مرعشا لا يسمع نبئت أن بني المغيرة كلهم خشعوا لقتل أبي الحكيم وجدعوا وابنا ربيعة عنده ومنبه ما نال مثل الهالكين وتبع (5) تسب فريش : (يبني المكرمات) .
(6) نسب قريش : (ليزور اثرب) ، وأثرب لغة في يثرب .
(*)(14/197)
على قتلاها شهرا ، ولم تبق دار بمكة إلا فيها النوح - وجز النساء شعورهن ، وكان يؤتى براحلة الرجل منهم أو بفرسه ، فتوقف بين أظهرهم ، فينوحون حولها ، وخرجن إلى السكك ، و ضربن الستور في الازقة ، [ وقطعن ] (1) فخرجن إليها ينحن ، وصدق أهل مكة رؤيا عاتكة وجهيم بن الصلت (2) .
قال الواقدي : وكان الذين قدموا من قريش في فداء الاسرى أربعة عشر رجلا ، وقيل خمسة عشر رجلا ، وكان أول من قدم المطلب بن أبى وداعة ، ثم قدم الباقون بعده بثلاث ليال .
قال : فحدثني إسحاق بن يحيى ، قال : سألت نافع بن جبير كيف كان الفداء قال : أرفعهم أربعة آلاف إلى ثلاثة آلاف إلى ألفين إلى الف ، إلا قوما لا مال لهم من عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله .
قال الواقدي : وقال رسول الله صلى الله عليه وآله في أبى وداعة ، أن له بمكة ابنا كيسا له مال ، وهو مغل فداءه ، فلما قدم إفتداه بأربعة آلاف ، وكان أول أسير افتدى ، وذلك أن قريشا قالت لابنه المطلب بن أبى وداعة - ورأته يتجهز ، يخرج إليه - لا تعجل ، فإنا نخاف أن تفسد علينا في أسارانا ، ويرى محمد تهالكنا فيغلى علينا الفدية ، فإن كنت تجد فإن كل قومك لا يجدون من السعة ما تجد .
فقال لا أخرج حتى تخرجوا ، فخادعهم حتى إذا غفلوا خرج من الليل على راحلته ، فسار أربعة ليال إلى المدينة فافتدى أباه بأربعة آلاف ، فلامه قريش في ذلك ، فقال : ما كنت لاترك أبى أسيرا في أيدى القوم وأنتم مضجعون ، فقال أبو سفيان بن حرب : إن هذا غلام حدث يعجب بنفسه وبرأيه ، وهو مفسد عليكم ، إنى والله غير مفتد عمرو بن أبى سفيان ، ولو مكث سنة
__________
(1) من الواقدي .
(2) مغازي الواقدي 115 ، 116 .
(*)(14/198)
أو يرسله محمد والله ما أنا باعوذكم ، ولكني أكره أن ادخل عليكم ما يشق عليكم ، ولكن يكون عمرو كاسوتكم .
قال الواقدي : فأما أسماء القوم الذين قدموا في الاسرى ، فإنه قدم من بنى عبد شمس الوليد بن عقبة بن أبى معيط ، وعمرو بن الربيع أخو أبى العاص بن الربيع .
ومن بنى نوفل بن عبد مناف جبير بن مطعم ومن بنى عبد الدار بن قصى طلحة بن أبى طلحة ، ومن بنى أسد بن عبد العزى بن قصى عثمان بن أبى حبيش .
ومن بنى مخزوم عبد الله بن أبى ربيعة وخالد بن الوليد وهشام بن الوليد بن المغيرة وفروة بن السائب وعكرمة بن أبى جهل ومن بنى جمح أبى بن خلف وعمير بن وهب ومن بنى سهم المطلب بن أبى وداعة وعمرو بن قيس ومن بنى مالك بن حسل مكرز بن حفص بن الاحنف ، كل هؤلاء قدموا المدينة في فداء أهلهم وعشائرهم وكان جبير بن مطعم يقول دخل الاسلام في قلبى منذ قدمت المدينة في الفداء ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقرأ في صلاة المغرب : (والطور * وكتاب مسطور) ، فاستمعت قراءته ، فدخل الاسلام في قلبى منذ ذلك اليوم (1) القول في تفصيل أسماء أسارى بدر ومن أسرهم .
قال الواقدي : أسر من بنى هاشم العباس بن عبد المطلب ، أسره أبو اليسر كعب بن عمرو ، وعقيل بن أبى طالب أسره عبيد (2) بن أوس الظفرى ، ونوفل بن الحارث
__________
(1) انظر مغازي الواقدي 133 - 141 .
(2) (عبيدة) والصواب ما أثبته من ا والواقدي وابن هشام .
(*)(14/199)
بن عبد المطلب أسره جبار بن صخر ، وأسر حليف لبنى هاشم من بنى فهر ، إسمه عتبة فهؤلاء أربعة .
ومن بنى المطلب بن عبد مناف السائب بن عبيد ، وعبيد بن عمرو (1) بن علقمة ، رجلان أسرهما سلمة أسلم بن حريش الاشهلى .
قال الواقدي : حدثنى بذلك ابن أبى حبيبة ، قال : ولم يقدم لهما أحد ، وكانا لا مال لهما ، ففك رسول الله صلى الله عليه وآله عنهما بغير فدية .
ومن بنى عبد شمس بن عبد مناف عقبة بن أبى معيط المقتول صبرا (2) ، على يد عاصم بن ثابت بن أبى الاقلح بامر رسول الله ، أسره عبد الله بن أبى سلمه العجلاني ، والحارث بن أبى وحرة بن أبى عمرو بن أمية ، أسره سعد بن أبى وقاص ، فقدم في فدائه الوليد بن عقبة بن أبى معيط فافتداه بأربعة آلاف .
قال الواقدي : وقد كان الحارث هذا لما أمر النبي صلى الله عليه وآله برد الاسارى ، ثم اقرع بين أصحابه عليهم ، وقع في سهم سعد بن أبى وقاص الذى كان أسره اول مرة - وعمرو بن أبى سفيان ، أسره على بن أبى طالب عليه السلام ، وصار بالقرعة في سهم رسول الله صلى الله عليه وآله ، فأطلقه بغير فدية ، أطلقه بسعد بن النعمان بن أكال من بنى معاوية ، خرج معتمرا ، فحبس بمكة ، فلم يطلقه المشركون حتى أطلق رسول الله صلى الله عليه وآله عمرو بن ابى سفيان .
وروى محمد بن إسحاق في كتاب المغازى أن عمرو بن أبى سفيان أسره على عليه السلام يوم بدر ، وكانت أمه ابنة عقبة بن أبى معيط ، فمكث في يد رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقيل لابي سفيان : ألا تفتدي ابنك عمرا قال : أيجمع على دمى ومالى قتلوا حنظلة وافتدى عمرا دعوه في ايديهم فليمسكوه ما بدا لهم فبينا هو محبوس بالمدينة ، خرج
__________
(1) كذا في الاصول والواقدي ، وأنساب الاشراف ، وفي ابن هشام : (نعمان بن عمرو) .
(2) الواقدي : (قتل صبرا) .
(*)(14/200)
سعد بن النعمان بن أكال أخو بنى عمرو بن عوف معتمرا ، ومعه امرأة (1) له ، وكان شيخا كبيرا لا يخشى ما صنع (2) به أبو سفيان وقد عهد قريشا ألا يعرض لحاج ولا معتمر (3) ، فعدا عليه أبو سفيان ، فحبسه بمكة بابنه عمرو بن أبى سفيان ، وأرسل إلى قوم بالمدينة هذا الشعر أرهط ابن أكال أجيبوا دعاءه تعاقدتم لا تسلموا السيد الكهلا فإن بنى عمرو لئام أذلة لئن لم يفكوا عن أسيرهم الكبلا .
فمشى بنو عمرو بن عوف حين بلغهم الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ، فأخبروه بذلك ، وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبى سفيان ليفكوا به صاحبهم ، فأعطاهم إياه ، فبعثوا به إلى أبى سفيان فخلى سبيل سعد وقال حسان بن ثابت يجيب أبا سفيان : ولو كان سعد يوم مكة مطلقا لاكثر فيكم قبل أن يؤسر القتلى بعضب حسام أو بصفراء نبعه تحن إذا ما أنبضت تحفز التبلا (4) .
وأبو العاص بن الربيع ، أسره خراش بن الصمة ، فقدم في فدائه عمرو بن أبى الربيع أخوه ، وحليف لهم ، يقال له أبو ريشة إفتداه عمرو بن الربيع أيضا وعمرو بن الازرق إفتكه عمرو بن الربيع أيضا ، وكان قد صار في سهم تميم مولى خراش بن الصمة ، وعقبة بن الحارث الحضرمي أسره عماره بن حزم ، فصار في القرعة لابي بن كعب ، إفتداه عمرو بن أبى سفيان بن أمية ، وأبو العاص بن نوفل بن عبد شمس ، أسره عمار بن ياسر قدم في فدائه ابن عمه فهؤلاء ثمانية .
__________
(1) ابن هشام : (مرية) .
(2) ابن هشام : (ما صنع به) .
(3) ابن هشام : لا يعرفون لاحد جاء حاجا أو معتمرا إلا بخير) .
(4) العضب : السيف القاطع ، وكذلك الحسام .
وصفراء أراد بها قوسا .
والنبعة : شجرة تنبت بالجبال ، تصنع منها القسي .
وتحن : تصوت .
وانبضت : مد وترها .
والانباض : أن يحرك وتر القوس ويمد .
والخبر في سيرة ابن هشام 2 : 294 ، 295 .
(*)(14/201)
ومن بنى نوفل بن عبد مناف عدى بن الخيار ، أسره خراش بن الصمة ، وعثمان بن عبد شمس ، ابن أخى عتبة بن غزوان حليفهم (1) ، أسره حارثة بن النعمان ، وأبو ثور ، أسره أبو مرثد الغنوى ، فهؤلاء ثلاثة افتداهم جبير بن مطعم .
ومن بنى عبد الدار بن قصى أبو عزيز بن عمير ، أسره أبو اليسر ، ثم صار بالقرعة لمحرز بن نضلة - قال الواقدي : أبو عزيز هذا هو أخو مصعب بن عمير لابيه وأمه ، وقال مصعب لمحرز بن نضلة : اشدد يديك به ، فإن له أما بمكة كثيرة المال ، فقال له أبو عزيز هذه وصاتك بى يا أخى فقال مصعب إنه أخى دونك ، فبعثت فيه أمه أربعة آلاف ، وذلك بعد أن سألت ما أغلى ما تفادى به قريش فقيل لها أربعة آلاف - والاسود بن عامر بن الحارث بن السباق ، أسره حمزة بن عبد المطلب ، فهذان اثنان قدم في فدائهما طلحة بن أبى طلحة .
ومن بنى أسد بن عبد العزى بن قصى ، السائب بن أبى حبيش بن المطلب بن أسد بن عبد العزى ، أسره عبد الرحمن بن عوف .
وعثمان بن الحويرث بن عثمان بن أسد بن عبد العزى ، أسره حاطب بن أبى بلتعة ، وسالم بن شماخ أسره سعد بن أبى وقاص ، فهؤلاء ثلاثة قدم في فدائهم عثمان بن أبى حبيش بأربعة آلاف لكل رجل منهم .
ومن بنى تميم بن مرة ، مالك بن عبد الله بن عثمان ، أسره قطبة بن عامر بن حديدة ، فمات في المدينة أسيرا .
ومن بنى مخزوم خالد بن هشام بن المغيرة ، أسره سواد بن غزية .
وأمية بن أبى حذيفة بن المغيرة ، أسره بلال .
وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ، وكان أفلت يوم نخلة ، أسره واقد بن عبد الله التميمي يوم بدر ، فقال له الحمد لله الذى أمكننى منك ، فقد كنت أفلت يوم نخلة - وقدم في فداء هؤلاء الثلاثة عبد الله بن أبى ربيعة ، إفتدى كل واحد منهم بأربعة آلاف - والوليد بن الوليد بن المغيرة ، أسره عبد الله بن جحش ،
__________
(1) الواقدي : (حليف لهم) .
(*)(14/202)
فقدم في فدائه أخواه خالد بن الوليد وهشام بن الوليد ، فتمنع عبد الله بن جحش حتى افتكاه بأربعة آلاف ، فجعل هشام بن الوليد يريد ألا يبلغ ذلك - يريد ثلاثة آلاف فقال خالد لهشام إنه ليس بابن أمك ، والله لو أبى فيه إلا كذا وكذا لفعلت ، فلما افتدياه خرجا به حتى بلغا به ذا الحليفة ، فأفلت ، فأتى النبي صلى الله عليه وآله فأسلم ، فقيل ألا أسلمت قبل أن تفتدي قال : كرهت أن أسلم حتى أكون أسوة بقومي .
قال الواقدي : ويقال إن الذى أسر الوليد بن الوليد سليط بن قيس المازنى - وقيس بن السائب ، أسره عبده بن الحسحاس ، فحبسه عنده حينا ، وهو يظن أن له مالا ، ثم قدم في فدائه أخوه فروة بن السائب ، فاقام أيضا حينا ، ثم افتداه بأربعة آلاف فيها عروض .
ومن بنى أبى رفاعة صيفي بن أبى رفاعة بن عائذ بن عبد الله بن عمير بن مخزوم ، وكان لا مال له ، أسره رجل من المسلمين ، فمكث عندهم ، ثم أرسله .
وأبو المنذر بن أبى رفاعة بن عائذ افتدى بألفين ، - ولم يذكر الواقدي من أسره - وعبد الله ، وهو أبو عطاء بن السائب بن عائذ بن عبد الله ، إفتدى بألف درهم ، أسره سعد بن أبى وقاص ، والمطلب بن حنظلة بن الحارث بن عبيد بن عمير بن مخزوم ، أسره أبو أيوب الانصاري - ولم يكن له مال فأرسله بعد حين - وخالد بن الاعلم العقيلى ، حليف لبنى مخزوم ، وهو الذى يقول : ولسنا على الاعقاب تدمى لومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدما (1) .
__________
(1) رواية ابن هشام 2 : 365 : ولسنا على الادبار تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا يقطر الدم (*)(14/203)
وقال محمد بن إسحاق : روى أنه كان أول المنهزمين ، أسره الخباب بن المنذر بن الجموج ، وقدم في فدائه عكرمة بن أبى جهل ، فهؤلاء عشرة .
ومن بنى جمح عبد الله بن أبى بن خلف ، أسره فروة بن أبى عمرو البياضى ، قدم في فدائه أبوه أبى بن خلف فتمنع به فروة حينا .
وأبو غزة عمرو بن عبد الله بن وهب ، أطلقه رسول الله صلى الله عليه وآله بغير فدية ، وكان شاعرا خبيث اللسان ، ثم قتله يوم أحد ، بعد أن أسره - ولم يذكر الواقدي الذى أسره يوم بدر - ووهب بن عمير بن وهب ، أسره رفاعة بن رافع الزرقى ، وقدم أبوه عمير بن وهب في فدائه ، فأسلم فأرسل النبي صلى الله عليه وآله له ابنه بغير فداء ، وربيعة بن دراج بن العنبس بن وهبان (2) بن وهب بن حذافة بن جمح ، وكان لا مال له ، فأخذ منه بشئ يسير ، وأرسل به - ولم يذكر الواقدي من أسره - والفاكه مولى أمية بن خلف ، أسره سعد بن أبى وقاص ، فهؤلاء خمسة .
ومن بنى سهم بن عمرو أبو وداعة بن ضبيره وكان أول أسير افتدى ، قدم في فدائه ابنه المطلب ، فافتداه بأربعة آلاف - ولم يذكر الواقدي من أسره - وفروة بن قيس بن عدى بن حذافة بن سعيد بن سهم ، أسره ثابت بن اقزم ، وقدم في فدائه عمرو بن قيس ، افتداه بأربعة آلاف ، وحنظلة بن قبيصة بن حذاقة بن سعد ، أسره عثمان بن مظعون .
والحجاج بن الحارث بن قيس بن سعد بن سهم ، أسره عبد الرحمن بن عوف ، فأفلت ، فأخذه أبو داود المازنى .
فهؤلاء أربعة .
ومن بنى مالك بن حسل سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبدود بن نصر بن مالك ، أسره مالك بن الدخشم ، وقدم في فدائه مكرز بن حفص بن الاحنف ، وانتهى في فدائه إلى إرضائهم بأربعة آلاف ، فقالوا هات المال ، فقال نعم ، اجعلوا رجلا مكان رجل ،
__________
(1) ابن هشام : (أول من ولى فارا منهزما) .
(2) ابن هشام : (اهبان) .
(*)(14/204)
وقوم يروونها : (رجلا مكان رجل) ، فخلوا سبيل سهيل ، وحبسوا مكرز بن حفص عندهم ، حتى بعث سهيل بالمال من مكة وعبد الله بن زمعة بن قيس بن نصر بن مالك ، أسره عمير بن عوف ، مولى سهيل بن عمرو .
وعبد العزى بن مشنوء بن وقدان بن قيس بن عبد شمس بن عبدود سماه رسول الله صلى الله عليه وآله بعد أسلامه عبد الرحمن ، أسره النعمان بن مالك فهؤلاء ثلاثة .
ومن بنى فهر الطفيل بن أبى قنيع ، فهؤلاء ستة واربعون (1) أسيرا .
وفي كتاب الواقدي إنه كان الاسارى الذين احصوا وعرفوا تسعة وأربعين ، ولم نجد التفصيل يلحق هذه الجملة (2) .
وروى الواقدي عن سعيد بن المسيب ، قال : كانت الاسارى سبعين ، وأن القتلى كانت زيادة على سبعين إلا أن المعروفين من الاسرى هم الذين ذكرناهم ، والباقون لم يذكر المؤرخون اسماءهم .
القول في المطعمين في بدر من المشركين قال الواقدي : المتفق عليه ولا خلاف بينهم فيه تسعة ، فمن بنى عبد مناف الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد منات وعتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس .
ومن بنى أسد بن عبد العزى ، زمعة بن الاسود بن المطلب بن أسد ، ونوفل بن خويلد المعروف بابن العدوية .
ومن بنى مخزوم ، أبو جهل عمرو بن هشام بن المغيرة .
ومن بنى جمح ، أمية بن خلف .
__________
(1) عدتهم في ابن هشام (ثلاثة واربعون) .
(2) مغازي الواقدي 133 - 139 ، وانظر انساب الاشراف 1 : 301 - 306 ، وسيرة ابن هشام 2 : 364 - 367 .
(*)(14/205)
ومن بنى سهم نبيه ومنبه ابنا الحجاج .
فهؤلاء تسعة .
قال الواقدي : وكان سعيد بن المسيب يقول ما أطعم أحد ببدر إلا قتل .
قال الواقدي : قد ذكروا عدة من المطعمين ، اختلف (1) فيهم ، كسهيل بن عمرو وأبى البخترى وغيرهما (2) .
قال : حدثنى إسماعيل بن أبراهيم ، عن موسى بن عتبة ، قال : أول من نحر لهم أبو جهل بمر الظهران عشرا ، ثم أمية بن خلف بعسفان تسعا ، ثم سهيل بن عمرو بقديد عشرا ، ثم مالوا إلى مياه من نحو البحر ضلوا الطريق ، فأقاموا بها يوما ، فنحر لهم شيبة بن ربيعة تسعا ، ثم اصبحوا بالابواء فنحر لهم قيس الجمحى تسعا ، ثم نحر عتبة عشرا ، ونحر لهم الحارث بن عمرو تسعا ، ثم نحر لهم أبو البخترى على ماء بدر عشرا ، ونحر لهم مقيس بن ضبابة على ماء بدر تسعا ، ثم شغلتهم الحرب .
قال الواقدي : وقد كان ابن أبى الزناد يقول والله ما أظن مقيسا كان يقدر على قلوص واحدة .
قال الواقدي : وأما أنا فلا أعرف قيسا الجمحى قال : وقد روت أم بكر ، عن المسور بن مخرمة ابنها ، قال : كان النفر يشتركون في الاطعام ، فينسب إلى الرجل الواحد ويسكت عن سائرهم (3) .
وروى محمد بن إسحاق أن العباس بن عبد المطلب كان من المطعمين في بدر ، وكذلك طعيمة بن عدى بن نوفل ، كان يعتقب هو وحكيم والحارث بن عامر بن نوفل ، وكان أبو البخترى يعتقب هو وحكيم بن حزام في الاطعام ، وكان النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار من المطعمين .
قال : وكان النبي صلى الله عليه وآله يكره قتل
__________
(1) أو مغازي الواقدي : (وقد اختلف علينا فيهم) .
(2) مغازي الواقدي : (وغيرهم) (3) مغازي الواقدي 123 ، 124 .
(*)(14/206)
الحارث بن عامر ، قال يوم بدر : (من ظفر به منكم فليتركه لايتام بنى نوفل) ، فقتل في المعركة (1) .
القول فيمن استشهد من المسلمين ببدر .
قال الواقدي : حدثنى عبد الله بن جعفر ، قال : سألت الزهري كم استشهد من المسلمين ببدر قال : اربعة عشر (2) ، ستة من المهاجرين وثمانية من الانصار .
قال : فمن بنى المطلب بن عبد مناف عبيدة بن الحارث ، قتله شيبة بن ربيعة ..وفي رواية الواقدي قتله عتبة ، فدفنه النبي صلى الله عليه وآله بالصفراء .
ومن بنى زهرة عمير بن أبى وقاص ، قتله عمرو بن عبد ود ، فارس الاحزاب ، وعمير بن عبد ود ذو الشمالين ، حليف لبنى زهرة بن خزاعة ، قتله أبو أسامة الجشمى .
ومن بنى عدى بن كعب عاقل بن أبى البكير ، حليف لهم من بنى سعد بن بكر ، قتله مالك بن زهير الجشمى ، ومهجع مولى عمر بن الخطاب ، قتله عامر بن الحضرمي ، ويقال أن مهجعا أول من قتل من المهاجرين .
ومن بنى الحارث بن فهر صفوان بن بيضاء ، قتله طعيمة بن عدى .
وهؤلاء الستة من المهاجرين .
ومن الانصار ، ثم من بنى عمرو بن عوف ، مبشر بن عبد المنذر ، قتله أبو ثور .
وسعد بن خيثمة ، قتله عمرو بن عبد ود - ويقال طعيمة بن عدى - ومن بنى عدى بن النجار حارثة بن سراقة رماه حبان بن العرقة بسهم فأصاب حنجرته ، فقتله .
ومن بنى مالك بن النجار ، عوف ومعوذ ابنا عفراء ، قتلهما أبو جهل .
__________
(1) سيرة ابن هشام 2 : 311 .
(2) في مغازي الواقدي : (ثم عددهم على ، فهم هؤلاء الذين سميت) .
(*)(14/207)
ومن بنى سلمة بن حرام عمير بن الحمام بن الجموح ، قتله خالد بن الاعلم العقيلى - ويقال أن عمير بن الحمام أول قتيل قتل من الانصار ، وقد روى أن أول قتيل منهم حارث بن سراقة .
ومن بنى زريق ، رافع بن المعلى ، قتله عكرمة بن أبى جهل .
ومن بنى الحارث بن الخزرج يزيد بن الحارث بن قسحم ، قتله نوفل بن معاوية الديلى .
فهؤلاء الثمانية من الانصار .
قال الواقدي : وقد روى عن عكرمة ، عن ابن عباس أن أنسة مولى النبي صلى الله عليه وآله قتل ببدر .
وروى [ أن ] (2) معاذ بن ماعص جرح ببدر ، فمات من جراحته بالمدينة ، وأن عبيد بن السكن جرح فاشتكى جرحه ، فمات منه حين قدم (3) .
القول فيمن قتل ببدر من المشركين وأسماء قاتليهم قال الواقدي : فمن بنى عبد شمس بن عبد مناف حنظلة بن أبى سفيان بن حرب ، قتله على بن أبى طالب عليه السلام ، والحارث بن الحضرمي قتله عمار بن ياسر ، وعامر بن الحضرمي قتله عاصم بن ثابت بن أبى الاقلح ، وعمير بن أبى عمير وابنه ، موليان لهم ، قتل سالم مولى أبى حذيفة منهم عمير بن أبى عمير - ولم يذكر الواقدي من قتل ابنه - وعبيدة بن سعيد بن العاص ، قتله الزبير بن العوام ، والعاص بن سعيد بن العاص ، قتله على بن أبى طالب عليه السلام ، وعقبة بن أبى معيط ، قتله عاصم بن ثابت صبرا بالسيف بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله .
__________
(1) الواقدي : (بسحم) .
(2) من الواقدي .
(3) مغازي الواقدي 142 ، 143 .
(*)(14/208)
وروى البلاذرى أن رسول الله صلى الله عليه وآله صلبه بعد قتله ، فكان أول مصلوب في الاسلام قال : وفيه يقول ضرار بن الخطاب : عين بكى لعقبة بن أبان فرع فهر وفارس الفرسان (1) .
وعتبة بن ربيعة ، قتله حمزة بن عبد المطلب .
وشيبة بن ربيعة ، قتله عبيدة بن الحارث وحمزة وعلى ، الثلاثة اشتركوا في قتله والوليد بن عتبة بن ربيعة ، قتله على بن أبى طالب عليه السلام وعامر بن عبد الله حليف لهم من انمار ، قتله على بن أبى طالب عليه السلام ، وقيل قتله سعد بن معاذ ، فهؤلاء اثنا عشر .
ومن بنى نوفل بن عبد مناف الحارث بن نوفل ، قتله خبيب بن يساف (2) ، وطعيمة بن عدى ، ويكنى أبا الريان ، قتله حمزة بن عبد المطلب في رواية الواقدي ، وقتله على بن إبى طالب عليه السلام في رواية محمد بن إسحاق (3) .
وروى البلاذرى روايه غريبة ، أن طعيمة بن عدى أسر يوم بدر ، فقتله النبي صلى الله عليه وآله صبرا على يد حمزة ، فهؤلاء اثنان .
ومن بنى أسد بن عبد العزى زمعة بن الاسود ، قتله أبو دجانة (4) ، وقيل قتله ثابت بن الجذع (5) ، والحارث بن زمعة بن الاسود ، قتله على بن أبى طالب عليه السلام .
وعقيل بن الاسود بن المطلب ، قتله على وحمزة شركا في قتله .
قال الواقدي : وحدثني أبو معشر ، قال : قتله على بن أبى طالب عليه السلام وحده ، وقيل : قتله أبو داود المازنى وحده .
وأبو البخترى ، وهو العاص بن هشام ، قتله المجذر بن
__________
(1) أنساب الاشراف 1 : 297 ، وفيه : (عين فابكي) .
(2) في ابن هشام : (إياف) بهمزة مكسورة ، قال ابن حجر في الاصابة : (وقد تبدل تحتانية) .
(3) سيرة ابن هشام 2 : 357 .
(4) دجانة ، كثمامة : سماك بي خرشة .
(5) الاصابة : الجدع .
(*)(14/209)
زياد ، وقيل قتله أبو اليسر .
ونوفل بن خويلد بن أسد بن عبد العزى ، وهو ابن العدوية ، قتله على عليه السلام ، فهؤلاء خمسة .
ومن بنى عبد الدار بن قصى ، النضر بن الحارث بن كلدة ، قتله على بن أبى طالب عليه السلام صبرا بالسيف بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله ، وكان الذى أسره المقداد بن عمرو ، فوعد المقداد - إن استنقذه - بفداء جليل ، فلما قدم ليقتل ، قال المقداد : يا رسول الله ، إنى ذو عيال ، وأحب الدين ، فقال : اللهم اغن المقداد من فضلك يا على ، قم فاضرب عنقه .
وزيد بن مليص مولى عمرو بن هاشم بن عبد مناف ، من عبد الدار ، قتله على بن أبى طالب عليه السلام ، وقيل قتله بلال فهؤلاء اثنان .
ومن بنى تيم بن مرة عمير بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة ، قتله على بن أبى طالب عليه السلام .
وعثمان بن مالك بن عبيد الله بن عثمان ، قتله صهيب ، فهؤلاء اثنان - ولم يذكر البلاذرى عثمان بن مالك .
ومن بنى مخزوم بن يقظة ثم من بنى المغيرة بن عبد الله بن عمير بن مخزوم ، أبو جهل عمرو بن هشام بن المغيرة ، ضربة معاذ بن عمرو بن الجموح ، ومعوذ وعوف ابنا عفراء ، وذفف (1) عليه عبد الله بن مسعود والعاص بن هاشم بن المغيرة ، خال عمر بن الخطاب ، قتله عمرو بن يزيد بن تميم التميمي ، حليف لهم ، قتله عمار بن ياسر ، وقيل قتله على عليه السلام .
ومن بنى الوليد بن المغيرة ، أبو قيس بن الوليد بن الوليد ، أخو خالد بن الوليد ، قتله على بن أبى طالب عليه السلام .
ومن بنى الفاكه بن المغيرة ، أبو قيس بن الفاكه بن المغيرة ، قتله حمزة بن عبد المطلب ، وقيل قتله الحباب بن المنذر .
__________
(1) أنساب الاشراف للبلاذري 1 : 297 .
(2) ذفف عليه : أجهز .
(*)(14/210)
ومن بنى أمية بن المغيرة مسعود بن أبى أمية ، قتله على بن أبى طالب عليه السلام .
ومن بنى عائذ بن عبد الله بن عمير بن مخزوم ثم من بنى رفاعة ، أمية بن عائذ بن رفاعة بن أبى رفاعة ، قتله سعد بن الربيع وأبو المنذر بن أبى رفاعة ، قتله معن بن عدى العجلاني وعبد الله بن أبى رفاعة ، قتله على بن أبى طالب عليه السلام .
وزهير بن أبى رفاعة ، قتله أبو أسيد الساعدي .
والسائب بن أبى رفاعة ، قتله عبد الرحمن بن عوف .
ومن بنى أبى السائب المخزومى - وهو صيفي بن عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم - السائب بن السائب ، قتله الزبير بن العوام .
والاسود بن عبد الاسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، قتله حمزة بن عبد المطلب .
وحليف لهم من طيئ ، وهو عمرو بن شيبان (1) قتله يزيد بن قيس وحليف آخر ، وهو جبار بن سفيان ، أخو عمرو بن سفيان المقدم ذكره ، قتله أبو بردة بن نيار .
ومن بنى عمران بن مخزوم حاجز (2) بن السائب بن عويمر بن عائذ ، قتله على عليه السلام .
وروى البلاذرى أن حاجزا هذا وأخاه عويمر بن السائب بن عويمر ، قتلهما على بن أبى طالب عليه السلام (3) - وعويمر بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم ، قتله النعمان بن أبى مالك ، فهؤلاء تسعة عشر .
ومن بنى جمح بن عمرو بن هصيص ، أمية بن خلف قتله خبيب بن يساف وبلال ، شركا فيه .
قال الواقدي : وكان معاذ بن رفاعة بن رافع يقول بل قتله أبو رفاعة بن رافع .
__________
(1) الواقدي : (سفيان) .
(2) في البلاذري : (جابر) .
(3) أنساب الاشراف 1 : 300 .
(*)(14/211)
وعلى بن أمية بن خلف ، قتله عمار بن ياسر وأوس بن المغيرة بن لوذان ، قتله على عليه السلام ، وعثمان بن مظعون ، شركا فيه فهؤلاء ثلاثة .
ومن بنى سهم ، منبه بن الحجاج ، قتله على بن أبى طالب عليه السلام ، وقيل قتله أبو أسيد الساعدي ونبيه بن الحجاج قتله على بن أبى طالب عليه السلام .
والعاص بن منبه بن الحجاج قتله على عليه السلام وأبو العاص بن قيس بن عدى بن سعد بن سهم ، قتله أبو دجانة - قال الواقدي : وحدثني أبو معشر عن أصحابه ، قالوا قتله على عليه السلام - وعاص بن أبى عوف بن صبيره بن سعيد بن سعد ، قتله أبو دجانة ، فهؤلاء خمسة .
ومن بنى عامر بن لؤى ، ثم من بنى مالك بن حسل ، معاوية بن عبد قيس حليف لهم ، قتله عكاشة بن محصن .
ومعبد بن وهب ، حليف لهم من كلب ، قتله أبو دجانة فهؤلاء اثنان .
فجميع من قتل ببدر في رواية الواقدي من المشركين في الحرب صبرا ، اثنان وخمسون رجلا ، قتل على عليه السلام منهم مع الذين شرك في قتلهم أربعة وعشرين رجلا .
وقد كثرت الرواية أن المقتولين ببدر كانوا سبعين ، ولكن الذين عرفوا وحفظت اسماؤهم من ذكرناه ، وفي رواية الشيعة أن زمعة بن الاسود بن المطلب قتله على ، والاشهر في الرواية أنه قتله الحارث بن زمعة ، وأن زمعة قتله أبو دجانة (1) .
القول فيمن شهد بدرا من المسلمين قال الواقدي : كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر رجلا مع القوم الذين ضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وآله بسهامهم وهم غائبون وعدتهم ثمانية .
قال : وهذا هو الاغلب في الرواية ،
__________
(1) انظر التسمية من قتل المشركين ببدر في الواقدي 143 - 151 .
(*)(14/212)
قال : ولم يشهد بدرا من المسلمين الا قرشي أو حليف لقرشي أو نصارى أو حليف لانصاري أو مولى واحد منهما ، وهكذا من جانب المشركين ، فإنه لم يشهدها إلا قرشي أو حليف لقرشي أو مولى لهم .
قال : فكانت قريش ومواليها وحلفاؤها ستة وثمانين رجلا ، وكانت الانصار ومواليها وحلفاؤها مائتين وسبعة وعشرين رجلا (1) .
فاما تفصيل أسماء من شهدها من المسلمين فله موضع في كتب المحدثين أملك به من هذا الموضع .
[ قصة غزوة أحد ] الفصل الرابع في شرح قصة غزاة أحد .
ونحن نذكر ذلك من كتاب الواقدي (2) رحمه الله على عاداتنا في ذكر غزاة بدر ، ونضيف إليه من الزيادات التى ذكرها ابن إسحاق والبلاذري ما يقتضى الحال ذكره .
قال الواقدي : لما رجع من حضر بدرا من المشركين الى مكة وجدوا العير التى قدم بها أبو سفيان بن حرب من الشام موقوفة في دار الندوة ، وكذلك كانوا يصنعون ، فلم يحركها أبو سفيان ولم يفرقها لغيبة أهل العير ، ومشت أشراف قريش ألى أبى سفيان : الاسود بن عبد المطلب بن أسد ، وجبير بن مطعم ، وصفوان بن أمية ، وعكرمة بن أبى جهل ، والحارث بن هشام ، وعبد الله بن أبى ربيعة ، وحويطب بن عبد العزى ، فقالوا يا أبا سفيان انظر هذه العير التى قدمت بها فاحتبستها (3) ، فقد عرفت إنها أموال أهل مكة ولطيمة (4) قريش ، وهم طيبوا الانفس ، يجهزون بهذه العير جيشا كثيفا إلى محمد ، فقد
__________
(1) مغازي الواقدي 151 ، 152 .
(2) أخبار غزوة احد في مغازي الواقدي ص 197 وما بعدها .
(3) الواقدي : (فاحتبسها) .
(4) اللطيمة : العير تحمل الطيب وبز التجار .
(*)(14/213)
ترى من قتل من آبائنا وابنائنا وعشائرنا فقال أبو سفيان وقد طابت أنفس قريش بذلك قالوا نعم ، قال : فأنا أول من أجاب إلى ذلك وبنو عبد مناف معى ، فأنا والله الموتور والثائر (1) ، وقد قتل ابني حنظلة ببدر وأشراف قومي فلم تزل العير موقوفة حتى تجهزوا للخروج ، فباعوها فصارت ذهبا عينا ، ويقال أنما قالوا يا أبا سفيان ، بع العير ثم أعزل أرباحها ، فكانت العير ألف بعير ، وكان المال خمسين ألف دينار ، وكانوا يربحون في تجاراتهم للدينار دينارا ، وكان متجرهم من الشام غزة ، لا يعدونها إلى غيرها ، وكان أبو سفيان ، قد حبس عير بنى زهرة ، لانهم رجعوا من طريق بدر ، وسلم ما كان لمخرمة بن نوفل ولبنى أبيه وبنى عبد مناف بن زهرة ، فأبى مخرمة أن يقبل عيره حتى يسلم إلى بنى زهرة جميعا (2) ، وتكلم الاخنس ، فقال وما لعير بنى زهرة من بين عيرات قريش قال أبو سفيان : لانهم رجعوا عن قريش ، قال الاخنس : أنت أرسلت إلى قريش أن ارجعوا فقد أحرزنا العير ، لا تخرجوا في غير شئ ، فرجعنا ، فأخذت بنو زهرة عيرها وأخذ أقوام من أهل مكة أهل ضعف لا عشائر لهم ولا منعة ، كل ما كان لهم في العير .
قال الواقدي : وهذا يبين إنه إنما أخرج القوم أرباح العير .
قال : وفيهم أنزل (3) : (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله ....) الاية .
قال : فلما أجمعوا على المسير ، قالوا نسير في العرب فنستنصرهم ، فإن عبد مناة غير متخلفين عنا ، هم أوصل العرب لارحامنا ومن اتبعنا من الاحابيش فإجمعوا على أن يبعثوا أربعة من قريش يسيرون في العرب ، يدعونهم إلى نصرهم ، فبعثوا عمرو بن العاص وهبيرة بن وهب وابن الزبعرى وأبا عزة الجمحى ، فابى أبو عزة أن يسير (4) وقال : من
__________
(1) الثائر : الذي يقوم بالثأر .
(2) ا : (جمعا) .
(3) ا : (أنزلت) .
(4) في الواقدي : (فأطاع النفر وأبى أبو عزة) .
(*)(14/214)
على محمد يوم بدر ، وحلفت ألا أظاهر (1) عليه عدوا أبدا فمشى إليه صفوان بن أمية فقال أخرج فابى ، وقال : عاهدت محمدا يوم بدر ألا أظاهر عليه عدوا أبدا ، وأنا أفى له بما عاهدته عليه (2) ، من على ولم يمن على غيرى حتى قتله أو أخذ منه الفداء فقال صفوان : اخرج معنا ، فإن تسلم أعطك من المال ما شئت ، وإن تقتل تكن عيالك مع عيالي فأبى أبو عزة ، حتى كان الغد ، وانصرف عنه صفوان بن امية آيسا منه ، فلما كان الغد جاءه صفوان وجبير بن مطعم ، فقال له صفوان الكلام الاول فأبى ، فقال : جبير ما كنت أظن إنى أعيش حتى يمشى إليك أبو وهب في أمر تأبى عليه فأحفظه ، فقال أنا أخرج ، قال : فخرج إلى العرب يجمعها ، ويقول : إيه بنى عبد مناة الرزام (3) أنتم حماة وأبوكم حام لا تسلموني لا يحل إسلام لا يعدونى نصركم بعد العام (4) وخرج النفر مع أبى عزة فألبوا العرب وجمعوا ، وبلغوا ثقيفا فاوعبوا (5) فلما أجمعوا المسير وتألب من كان معهم من العرب وحضروا ، واختلفت قريش في إخراج الظعن معهم ، قال صفوان بن أمية : اخرجوا بالظعن (6) فأنا أول من فعل ، فإنه أقمن أن يحفظنكم ويذكرنكم قتلى بدر ، فإن العهد حديث ، ونحن قوم موتورون مستميتون ، لا نريد أن نرجع إلى ديارنا حتى ندرك ثأرنا أو نموت دونه .
فقال عكرمة بن أبى جهل أنا أول من أجاب إلى ما دعوت إليه ، وقال عمرو بن العاص مثل ذلك ، فمشى في ذلك
__________
(1) الواقدي : (لا أظاهر) .
(2) من الواقدي .
(3) ابن هشام 3 : 4 (إيها بني عبد مناة) .
والرزام : جمع رازم ، وهو الذي يثبت في مكانه لا يبرحه ، تقول : رزم البعير ، إذا ثبت في مكانه .
(4) ابن هشام : (لا تعدوني) .
(5) ب : (أرغبوا) ، وأثبت ما في ا والواقدي ، وأوعبوا ، أي خرجوا للغزو .
(6) الظعن : جمع ظعينة ، وهي المرأة في الهودج ، وأصل الظعينة الهودج ، سميت المرأة به لقربها منه في السفر ، وقيل : سميت ظعينة لانها تظعن مع زوجها .
(*)(14/215)
نوفل بن معاوية الديلى ، فقال يا معشر قريش ، هذا ليس برأى ، أن تعرضوا حرمكم لعدوكم ، ولا آمن أن تكون الدبرة (1) لهم فتفتضحوا في نسائكم فقال صفوان لا كان غير هذا أبدا فجاء نوفل إلى أبى سفيان بن حرب ، فقال له تلك المقالة ، فصاحت هند بنت عتبة إنك والله سلمت يوم بدر ، فرجعت إلى نسائك ، نعم نخرج فنشهد القتال ، فقد ردت القيان من الجحفة في سفرهم إلى بدر ، فقتلت الاحبة يومئذ فقال أبو سفيان لست أخالف قريشا ، أنا رجل منها ، ما فعلت فعلت .
فخرجوا بالظعن ، فخرج أبو سفيان بن حرب بامرأتين : هند بنت عتبة بن ربيعة وأميمة بنت سعد بن وهب بن أشيم بن كنانة ، وخرج صفوان بن أمية بامرأتين : برزة بنت مسعود الثقفى وهى أم عبد الله الاكبر والبغوم بنت المعذل من كنانة ، وهى ام عبد الله الاصغر ، وخرج طلحة بن ابى طلحة بامرأته سلافة بنت سعد بن شهيد ، وهى من الاوس ، وهى أم بنيه مسافع ، والحارث ، وكلاب والجلاس بنى طلحة بن أبى طلحة ، وخرج عكرمة بن أبى جهل بامرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام ، وخرج الحارث بن هشام بامرأته فاطمة بنت الوليد بن المغيرة ، وخرج عمرو بن العاص بامرأته هند بنت منبه بن الحجاج ، وهى أم عبد الله بن عمرو بن العاص - وقال محمد بن إسحاق : أسمها ريطة - وخرجت خناس بنت مالك بن المضرب إحدى نساء بنى مالك بن حسل مع ابنها أبى عزيز بن عمير ، أخى مصعب بن عمير من بنى عبد الدار ، وخرج الحارث بن سفيان بن عبد الاسد بامرأته رملة بنت طارق بن علقمة الكنانية ، وخرج كنانة بن على بن ربيعة بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف بامرأته أم حكيم بنت طارق ، وخرج سفيان بن عويف بامرأته قتيله بنت عمرو بن هلال ، وخرج النعمان بن عمرو وجابر مسك الذئب أخوه ، بأمهما
__________
(1) الدبرة : العاقبة .
(2) من ا والواقدي .
(*)(14/216)
الدغينة ، وخرج غراب بن سفيان بن عويف بامرأته عمرة بنت الحارث بن علقمة الكنانية ، وهى التى رفعت لواء قريش حين سقطت حتى تراجعت قريش إلى لوائها ، وفيها يقول حسان ولو لا لواء الحارثية أصبحوا يباعون في الاسواق بالثمن البخس .
قالوا وخرج سفيان بن عويف بعشرة من ولده ، وحشدت بنو كنانة .
وكانت الالوية يوم خرجوا من مكة ثلاثة عقدوها في دار الندوة ، لواء يحمله سفيان بن عويف لبنى كنانة ، ولواء الاحابيش يحمله رجل منهم ، ولواء لقريش يحمله (1) طلحة بن أبى طلحة .
قال الواقدي : ويقال خرجت قريش ولفها (2) كلهم ، من كنانة والاحابيش وغيرهم على لواء واحد ، يحمله طلحة بن أبى طلحة وهو الا ثبت عندنا .
قال : وخرجت قريش وهم ثلاثة آلاف بمن ضوى (3) إليها ، وكان فيهم من ثقيف مائة رجل ، وخرجوا بعده وسلاح كثير ، وقادوا مائتي فرس ، وكان فيهم سبعمائة دراع وثلاثة آلاف بعير فلما أجمعوا على المسير كتب العباس بن عبد المطلب كتابا وختمه ، واستأجر رجلا من بنى غفار ، وشرط عليه أن يسير ثلاثا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله يخبره أن قريشا قد أجتمعت (4) للمسير إليك ، فما كنت صانعا إذا حلوا (5) بك فاصنعه .
وقد وجهوا وهم ثلاثة آلاف ، وقادوا مائتي فرس ، وفيهم سبعمائة دراع ، وثلاثة آلاف بعير ، وقد أوعبوا من السلاح .
فقدم الغفاري فلم يجد رسول الله صلى الله عليه وآله بالمدينة ، وجده بقباء ، فخرج حتى وجد رسول الله صلى الله عليه وآله على باب مسجد قباء يركب
__________
(1) ب : (يحمله) ، وأثبت ما في ا والواقدي .
(2) لفها ، أي من اجتمع إليها من القبائل .
(3) صوى إليها : انضم إليها ، وفي ا والواقدي : (إنضم) .
(4) ا : (أجمعت المسير) .
(5) ب : (خلوا) وأثبت ما في ا والواقدي .
(*)(14/217)
حماره ، فدفع إليه الكتاب ، فقرأه عليه أبى بن كعب ، واستكتم أبيا ما فيه ، ودخل منزل سعد بن الربيع ، فقال : أفى البيت أحد فقال سعد : لا ، فتكلم بحاجتك ، فأخبره بكتاب العباس بن عبد المطلب ، فجعل سعد يقول : يا رسول الله ، والله إنى لارجو ا أن يكون في ذلك خير ، وأرجعت (1) يهود المدينة والمنافقون ، وقالوا : ما جاء محمدا شئ يحبه ، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وآله إلى المدينة ، وقد استكتم سعد بن الربيع الخبر فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله من منزله ، خرجت امرأة سعد بن الربيع إليه ، فقالت : ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وآله قال : ما لك ولذاك ، لا أم لك قالت كنت أستمع عليكم ، وأخبرت سعدا الخبر ، فاسترجع سعد ، وقال لا أراك تستمعين علينا وأنا أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم بحاجتك ثم أخذ بجمع لمتها (2) ، ثم خرج يعدو بها حتى أدرك رسول الله صلى الله عليه وآله بالجسر ، وقد بلحت ، فقال : يا رسول الله إن امرأتي سألتنى عما قلت فكتمتها ، فقالت قد سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وآله ، ثم جاءت بالحديث كله - فخشيت يا رسول الله أن يظهر من ذلك شئ فتظن إنى أفشيت سرك ، فقال صلى الله عليه وسلم : خل سبيلها وشاع الخبر بين الناس بمسير قريش وقدم عمرو بن سالم الخزاعى في نفر من خزاعة ، ساروا من مكة أربعا ، فوافوا قريشا وقد عسكروا بذى طوى ، فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وآله الخبر ، ثم انصرفوا ولقوا قريشا ببطن رابغ ، وهو أربع ليال من المدينة ، فنكبوا عن قريش .
قال الواقدي : فلما أصبح أبو سفيان بالابواء أخبر أن عمرو بن سالم وأصحابه راحوا أمس ممسين إلى مكة ، فقال أبو سفيان : أحلف بالله إنهم جاؤوا محمدا فخبروه بمسيرنا وعددنا (3) ، وحذروه منا ، فهم الان يلزمون صياصيهم ، فما أرانا نصيب منهم شيئا في وجهنا .
فقال صفوان بن أمية : إن لم يصحروا (4) لنا عمدنا إلى نخل الاوس والخزرج فقطعناه ،
__________
(1) الواقدي : (وقد أرجفت) .
(2) ا (لبتها) .
(3) الواقدي : (فأخبروه بعددنا) .
(4) أصحروا : خرجوا إلى الصحراء ، وهو الفضاء المستوى الواسع .
(*)(14/218)
فتركناهم ولا أموال لهم ، فلا يختارونها أبدا ، وإن أصحروا لنا فعددنا أكثر من عددهم ، وسلاحنا أكثر من سلاحهم ، ولنا خيل ولا خيل معهم ، ونحن نقاتل على وتر عندهم ولا وتر لهم عندنا .
قال الواقدي : وكان أبو عامر الفاسق قد خرج في خمسين رجلا من الاوس ، حتى قدم بهم مكة حين قدم النبي صلى الله عليه وآله يحرضها ويعلمها إنها على الحق وما جاء به محمد باطل ، فسارت قريش الى بدر ، ولم يسر معها ، فلما خرجت قريش إلى أحد سار معها ، وكان يقول لقريش : إنى لو قدمت على قومي لم يختلف عليكم منهم اثنان ، وهؤلاء مغى نفر منهم خمسون رجلا .
فصدقوه بما قال ، وطمعوا في نصره .
قال الواقدي : وخرج النساء معهن الدفوف يحرضن الرجال ويذكرنهم قتلى بدر في كل منزل ، وجعلت قريش تنزل كل منهل ، ينحرون ما نحروا من الجزر مما كانوا جمعوا من العين ، ويتقوون به في مسيرهم ، ويأكلون من أزوادهم مما جمعوا من الاموال .
قال الواقدي : وكانت قريش لما مرت بالابواء ، قالت إنكم قد خرجتم بالظعن معكم ، ونحن نخاف على نسائنا ، فتعالوا ننبش قبر أم محمد ، فإن النساء عورة ، فإن يصب من نسائكم أحدا قلتم هذه رمة أمك ، فإن كان برا بأمه - كما يزعم - فلعمري لنفادينكم برمة أمه ، وإن لم يظفر بأحد من نسائكم فلعمري ليفدين رمة أمه بمال كثير إن كان بها برا فاستشار أبو سفيان بن حرب أهل الرأى من قريش في ذلك ، فقالوا : لا تذكر من هذا شيئا ، فلو فعلنا نبشت بنو بكر وخزاعة موتانا .
قال الواقدي : وكانت قريش بذى الحليفة يوم الخميس صبيحة عشر من مخرجهم من مكة ، وذلك لخمس ليال مضين من شوال على رأس اثنين وثلاثين شهرا من الهجرة ، فلما(14/219)
أصبحوا بذى الحليفة خرج فرسان منهم فأنزلوهم الوطاء (1) ، وبعث النبي صلى الله عليه وآله عينين له ، آنسا ومؤنسا ابني فضاله ليلة الخميس ، فاعترضا لقريش بالعقيق ، فسارا معهم ، حتى نزلوا الوطاء ، وأتيا رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبراه ، وكان المسلمون قد ازدرعوا العرض (2) - والعرض ما بين الوطاء بأحد إلى الجرف إلى العرصة ، عرصة البقل اليوم ، وكان أهله بنو سلمة وحارثة وظفر وعبد الاشهل ، وكان الماء يومئذ بالجرف نشطة لا يرمم سابق الناضح مجلسا واحدا ينفتل الجمل في ساعته ، حتى ذهبت بمياهه عيون الغابة التى حفرها معاوية بن أبى سفيان (3) ، وكان المسلمون قد أدخلوا آلة زرعهم ليلة الخميس المدينة ، فقدم المشركون على زرعهم فخلوا فيه إبلهم وخيولهم ، وكان لاسيد بن حضير في العرض عشرون ناضحا تسقى شعيرا ، وكان المسلمون قد حذروا على جمالهم وعمالهم وآلة حرثهم ، وكان المشركون يرعون يوم الخميس ، فلما أمسوا جمعوا الابل وقصلوا عليها القصيل ، وقصلوا على خيولهم ليلة الجمعة ، فلما اصبحوا يوم الجمعة خلوا ظهرهم في الزرع وخيلهم ، حتى تركوا العرض ليس به خضراء .
قال الواقدي : فلما نزلوا وحلوا العقد ، وأطأنوا بعث رسول الله صلى الله عليه وآله الحباب بن المنذر بن الجموح إلى القوم ، فدخل فيهم وحزر ونظر إلى جميع ما يريد ، وكان قد بعثه سرا ، وقال له : إذا رجعت فلا تخبرني بين أحد من المسلمين ألا أن ترى في القوم قلة ، فرجع إليه فأخبره خاليا ، وقال له : رأيت عددا حزرتهم ثلاث آلاف يزيدون قليلا أو ينقصون قليلا ، والخيل مائتا فرس ، ورأيت دروعا ظاهرة حزرتها سبعمائة درع .
وقال : هل رأيت ظعنا قال : نعم رأيت النساء معهن الدفاف و الاكبار - وهى الطبول - فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : أردن أن يحرضن القوم ويذكرنهم قتلى بدر ، هكذا
__________
(1) الوطاء : ما انخفض من الارض .
(2) العرض : الوادي .
(3) كذا وردت العبارة في لاصول وفي الواقدي وفيها غموض .
(*)(14/220)
جاءني خبرهم ، لا تذكر من شأنهم حرفا ، حسبنا الله و نعم الوكيل أللهم بك أحول ، وبك أصول .
قال الواقدي : وخرج سلمة بن سلامة بن وقش يوم الجمعة ، حتى إذا كان بأدنى العرض إذا طليعة خيل المشركين عشرة أفراس ركضوا في أثره ، فوقف لهم على نشز (1) من الحرة ، فرشقهم بالنبل مرة ، وبالحجارة أخرى حتى انكشفوا عنه ، فلما ولوا جاء إلى مزرعته بأدنى العرض ، فاستخرج سيفا كان له ، ودرع حديد كان له ، دفنا في ناحية المزرعة ، وخرج بهما يعدو ، حتى أتى بنى عبد الاشهل ، فخبر قومه بما لقى .
قال الواقدي : وكان مقدم قريش يوم الخميس لخمس خلون من شوال ، وكانت الوقعة يوم السبت لسبع خلون من شوال ، وباتت وجوه الاوس والخزرج سعد بن معاذ وأسيد بن حضير ، وسعد بن عبادة ، في عدة منهم ليلة الجمعة ، عليهم السلاح في المسجد بباب النبي صلى الله عليه وآله خوفا من تبييت المشركين ، وحرست المدينة تلك الليلة ، حتى أصبحوا ، ورأى رسول الله صلى الله عليه وآله رؤيا ليلة الجمعة ، فلما أصبح واجتمع المسلمون خطبهم .
قال الواقدي : فحدثني محمد بن صالح ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ، قال : ظهر النبي صلى الله عليه وآله المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، إنى رأيت في منامي رؤيا ، رأيت كأنى في درع حصينة ، ورأيت كان سيفى ذا الفقار انفصم (2) من عند ظبته ، ورأيت بقرا تذبح ، ورأيت كأنى مردف كبشا ، فقال الناس : يا رسول الله ، فما أولتها قال : أما الدرع الحصينة فالمدينة ، فامكثوا فيها ، وأما
__________
(1) ب : (نشزة) .
(2) ا والواقدي : (انقصم) .
(*)(14/221)
إنفصام (1) سيفى عند ظبته فمصيبة في نفسي ، وأما البقر المذبح فقتلي في أصحابي ، وأما إنى مردف (2) كبشا فكبش الكتيبة نقتله إن شاء الله .
قال الواقدي : وروى عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : (أما انفصام سيفى فقتل رجل من أهل بيتى) .
قال الواقدي : وروى المسور بن مخرمة ، قال : قال النبي صلى الله عليه وآله : ورأيت في سيفى فلا فكرهته ، هو الذى أصاب وجهه عليه السلام .
قال الواقدي : وقال النبي صلى الله عليه وآله : أشيروا على ، ورأى صلى الله عليه وآله ألا يخرج من المدينة لهذه الرؤيا ، ورسول الله صلى الله عليه وآله يحب أن يوافق على مثل ما رأى ، وعلى ما عبر عليه الرؤيا ، فقام عبد الله بن أبى ، فقال : يا رسول الله ، كنا نقاتل في الجاهلية في هذه المدينة ، ونجعل النساء والذراري في هذه الصياصى ، ونجعل معهم الحجارة ، والله لربما مكث الولدان شهرا ينقلون الحجارة ، إعدادا لعدونا ، ونشبك المدينة بالبنيان فتكون كالحصن من كل ناحية ، وترمى المرأة والصبى من فوق الصياصى والاطام ، ونقاتل بأسيافنا في السكك .
يا رسول الله إن مدينتنا عذراء ما فضت علينا قط ، وما خرجنا إلى عدو قط منها إلا أصاب منا ، وما دخل علينا قط إلا أصبناه ، فدعهم يا رسول الله ، فإنهم إن أقاموا اقاموا بشر محبس ، وإن رجعوا رجعوا خاسرين مغلوبين ، لم ينالوا خيرا .
يا رسول الله ، اطعني في هذا الامر ، واعلم أنى ورثت هذا الرأى من أكابر قومي وأهل الرأى منهم ، فهم كانوا أهل الحرب والتجربة .
قال الواقدي : فكان رأى رسول الله صلى الله عليه وآله مع رأى ابن أبى ، وكان ذلك رأى الاكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله من المهاجرين والانصار
__________
(1) ا والواقدي : (انقصام) .
(2) ا : (وأما الكبش المردف) .
(*)(14/222)
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : امكثوا في المدينة ، واجعلوا النساء والذراري في الاطام ، فإن دخل علينا قاتلناهم في الازقة ، فنحن أعلم بها منهم ، ورموا من فوق الصياصى والاطام - وكانوا قد شبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية ، فهى كالحصن - فقال فتيان أحداث لم يشهدوا بدرا ، وطلبوا من رسول الله الخروج إلى عدوهم ، ورغبوا في الشهادة ، وأحبوا لقاء العدو ، وقالوا اخرج بنا الى عدونا ، وقال رجل من أهل النبه (1) وأهل السن ، منهم حمزة بن عبد المطلب وسعد بن عبادة ، والنعمان بن مالك بن ثعلبة ، وغيرهم من الاوس والخزرج : إنا نخشى يا رسول الله ، أن يظن عدونا إنا كرهنا الخروج إليهم جبنا عن لقائهم ، فيكون هذا جرأة منهم علينا ، وقد كنت يوم بدر في ثلثمائة رجل ، فظفرك الله بهم ، ونحن اليوم بشر كثير ، وكنا نتمنى هذا اليوم ، وندعو الله به ، فقد ساقه الله إلينا في ساحتنا هذه - ورسول الله صلى الله عليه وآله لما رأى من الحاحهم كاره ، وقد لبسوا السلاح يخطرون بسيوفهم ، يتساومون كأنهم الفحول .
وقال مالك بن سنان أبو أبى سعيد الخدرى : يا رسول الله ، نحن والله بين إحدى الحسنيين ، إما يظفرنا الله بهم ، فهذا الذى نريد ، فيذلهم الله لنا فتكون هذه وقعة مع وقعة بدر ، فلا يبقى منهم إلا الشريد ، والاخرى يا رسول الله يرزقنا الله الشهادة ، والله يا رسول الله ، ما نبالي أيهما كان ، إن كلا لفيه الخير .
فلم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وآله رجع إليه قولا ، وسكت وقال حمزة بن عبد المطلب : والذى أنزل عليه الكتاب ، لا أطعم اليوم طعاما حتى أجالدهم بسيفي خارجا من المدينة ، وكان يقال كان حمزة يوم الجمعة صائما ، ويوم السبت ، فلاقاهم وهو صائم .
وقال النعمان بن مالك بن ثعلبة أخو بنى سالم : يا رسول الله ، أنا أشهد أن البقر المذبح قتلى من اصحابك ، وإنى منهم ، فلم تحرمنا الجنة فو الله الذى لا إله إلا هو
__________
(1) النبه : الفطنة ، وفي ا : (النبة) .
(*)(14/223)
لادخلنها قال رسول الله ، بم قال : إنى أحب الله ورسوله ، ولا أفر يوم الزحف .
فقال صدقت فاستشهد يومئذ .
وقال إياس بن أوس بن عتيك : يا رسول الله ، نحن بنو عبد الاشهل من البقر المذبح ، نرجو يا رسول الله أن نذبح في القوم ، ويذبح فينا ، فنصير إلى الجنة ، ويصيرون إلى النار ، مع إنى يا رسول الله لا أحب أن ترجع قريش إلى قومها ، فتقول حصرنا محمد في صياصى يثرب وآطامها ، فتكون هذه جرأة لقريش ، وقد وطئوا سعفنا ، فإذا لم نذب عن عرضنا ، فلم ندرع وقد كنا يا رسول في جاهليتنا ، والعرب يأتوننا ، فلا يطمعون بهذا منا حتى نخرج إليهم بأسيافنا فنذبهم عنا ، فنحن اليوم أحق إذ أمدنا الله بك ، وعرفنا مصيرنا ، لا نحصر أنفسنا في بيوتنا .
وقام خيثمة ، أبو سعد بن خيثمة فقال يا رسول الله ، إن قريشا مكثت حولا تجمع الجموع وتستجلب العرب في بواديها ومن اتبعها من أحابيشها ثم جاؤونا قد قادوا الخيل ، واعتلوا الابل حتى نزلوا بساحتنا ، فيحصروننا في بيوتنا وصياصينا ، ثم يرجعون وافرين لم يكلموا ، فيجرئهم ذلك علينا حتى يشنوا الغارات علينا ، ويصيبوا أطلالنا ويضعوا العيون والارصاد علينا ، مع ما قد صنعوا بحروثنا ، ويجترئ علينا العرب حولنا حتى يطمعوا فينا إذا رأونا لم نخرج إليهم ، فنذبهم عن حريمنا ، وعسى الله أن يظفرنا بهم ، فتلك عادة الله عندنا ، أو تكون الاخرى ، فهى الشهادة .
لقد اخطأتني وقعة بدر ، وقد كنت عليها حريصا ، لقد بلغ من حرصي أن ساهمت ابني في الخروج ، فخرج سهمه ، فرزق الشهادة وقد كنت حريصا على الشهادة ، وقد رأيت ابني البارحة في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها ، وهو يقول الحق بنا ترافقنا في الجنة ، فقد وجدت ما وعدني ربى حقا ، وقد و الله يا رسول الله أصبحت مشتاقا إلى مرافقته في الجنة ، وقد كبرت سنى ، ودق عظمي ، وأحببت(14/224)
لقاء ربى ، فادع الله يا رسول الله أن يرزقنى الشهادة ، ومرافقة سعد في الجنة ، فدعا له رسول الله بذلك ، فقتل بأحد شهيدا .
قال أنس بن قتادة : يا رسول الله ، هي إحدى الحسنيين ، إما الشهادة وإما الغنيمة والظفر بقتلهم .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله إنى أخاف عليكم الهزيمة .
فلما أبوا إلا الخروج والجهاد ، صلى رسول الله يوم الجمعة بالناس ، ثم وعظهم ، وأمرهم بالجد والاجتهاد ، وأخبرهم أن لهم الصبر ما صبروا ، ففرح الناس حيث أعلمهم رسول الله صلى الله عليه وآله بالشخوص إلى عدوهم ، وكره ذلك المخرج بشر كثير من أصحاب رسول الله ، وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم ، ثم صلى العصر بالناس ، وقد حشد الناس ، وحضر أهل العوالي ، ورفعوا النساء إلى الاطام ، فحضرت بنو عمرو بن عوف بلفها ، والنبيت ولفها ، وتلبسوا السلاح ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله بيته ، ودخل معه أبو بكر وعمر فعمماه ولبساه وصف [ الناس ] (1) له ما بين حجرته الى منبره ، ينتظرون خروجه ، فجاءهم سعد بن معاذ ، وأسيد بن حضير ، فقالا لهم قلتم لرسول الله ما قلتم ، واستكرهتموه على الخروج ، والامر ينزل عليه من السماء ، فردوا الامر إليه ، فما أمركم فافعلوه ، وما رأيتم فيه [ له ] (1) هوى أو أدبا فأطيعوه .
فبينا (2) القوم على ذلك من الامر ، وبعض القوم يقول : القول ما قال سعد ، وبعضهم على البصيرة على الشخوص ، وبعضهم للخروج كاره ، إذ خرج رسول الله صلى الله عليه وآله قد لبس لامته ، وقد لبس الدرع فأظهرها ، وحزم وسطها بمنطقه من حمائل سيف من أدم كانت بعد عند آل أبى رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واعتم ، وتقلد السيف .
فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله ندموا جميعا
__________
(1) من الواقدي .
(2) ا : (فبينما) ، وهي رواية الواقدي .
(*)(14/225)
على ما صنعوا ، وقال الذين يلحون على رسول الله صلى الله عليه وآله : ما كان لنا أن نخالفك ، فاصنع ما بدا لك ، وما كان لنا أن نستكرهك والامر إلى الله ثم إليك ، فقال : قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم ، ولا ينبغى لنبى إذا لبس لامته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه - قال : وكانت الانبياء قبله إذا لبس النبي لامته لم يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه - ثم قال لهم : انظروا ما أمرتكم به فاتبعوه ، امضوا على اسم الله ، فلكم النصر ما صبرتم .
قلت فمن تأمل أحوال المسلمين في هذه الغزاة ، من فشلهم وخورهم واختلافهم في الخروج من المدينة والمقام بها ، وكراهة النبي صلى الله عليه وآله للخروج ، ثم خروجه على مضض ، ثم ندم القوم الذين أشاروا بالخروج ، ثم انخزال طائفة كثيرة من الجيش عن الحرب ، ورجوعهم إلى المدينة ، علم أنه لا انتصار لهم على العدو أصلا ، فإن النصر معروف بالعزم والجد والبصيرة في الحرب ، واتفاق الكلمة .
ومن تأمل ايضا هذه الاحوال ، علم أنها ضد الاحوال التى كانت في غزاة بدر ، وإن أحوال قريش لما خرجت إلى بدر كانت مماثلة لاحوال المسلمين لما خرجوا إلى أحد ، ولذلك كانت الدبرة في بدر على قريش .
قال الواقدي : وكان مالك بن عمرو النجارى مات يوم الجمعة ، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله فلبس لامته وخرج وهو موضوع عند موضع الجنائز ، صلى (1) عليه ، ثم دعا بدابته ، فركب إلى أحد .
قال الواقدي : وجاء جعيل بن سراقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوجه إلى أحد ، فقال يا رسول الله ، قيل لى إنك تقتل غدا - وهو يتنفس مكروبا - فضرب النبي صلى الله عليه وآله بيده الى صدره ، وقال : أليس الدهر كله غدا قال : ثم دعا بثلاثة ارماح ، فعقد ثلاثة ألوية ، فدفع لواء الاوس إلى أسيد بن حضير ، ودفع لواء الخزرج إلى الحباب بن المنذر بن الجموح - ويقال إلى سعد بن عبادة - ودفع لواء المهاجرين
__________
(1) ب : (فصلى) ، والصواب ما أثبته من ا والواقدي .
(*)(14/226)
إلى على بن أبى طالب عليه السلام - ويقال إلى مصعب بن عمير - ثم دعا بفرسه ، فركبه ، وتقلد القوس وأخذ بيده قناة - زج الرمح يومئذ من شبه - والمسلمون متلبسون السلاح ، قد أظهروا الدروع ، فهم مائة دارع ، فلما ركب صلى الله عليه وآله خرج السعدان أمامه يعدوان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، كل واحد منهما دارع ، والناس عن يمينه وشماله حتى سلك على البدائع ، ثم زقاق الحسى ، حتى أتى الشيخين - وهما أطمأن كانا في الجاهلية فيهما شيخ أعمى وعجوز عمياء يتحدثان ، فسمى الاطمان الشيخين - فلما انتهى إلى رأس الثنية ، التفت فنظر إلى كتيبة خشناء لها زجل (1) خلفه ، فقال : ما هذه قال : هذه حلفاء (2) ابن أبى من اليهود فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لا نستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك .
ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله وعرض عسكره بالشيخين ، فعرض عليه غلمان ، منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب ، وزيد بن ثابت ، وأسامة بن زيد ، والنعمان بن بشير ، وزيد بن أرقم ، والبراء بن عازب ، وأسيد بن ظهير ، وعرابة بن أوس ، وأبو سعيد الخدرى ، وسمرة بن جندب ، ورافع بن خديج .
قال الواقدي : فردهم رسول الله صلى الله عليه وآله ، قال : رافع بن خديج فقال ظهير بن رافع ، يا رسول الله ، إنه رام يعيننى .
قال : وجعلت أتطاول ، وعلى خفان لى ، فأجازنى رسول الله صلى الله عليه وآله ، فلما أجازني قال سمرة بن جندب لمرى بن سنان الحارثى - وهو زوج أمه يا أبيه ، أجاز رسول الله صلى الله عليه وآله رافع بن خديج ، وردنى وأنا أصرع رافعا فقال : مرى يا رسول الله ، رددت إبنى ، وأجزت رافع بن خديج وإبنى يصرعه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : تصارعا ، فصرع سمرة رافعا ، فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال الواقدي : و أقبل ابن أبى ، فنزل ناحية العسكر ، فجعل حلفاؤه ومن معه (3) من المنافقين يقولون لابن أبى أشرت عليه بالرأى ، ونصحته وأخبرته أن هذا رأى من
__________
(1) الزجل ، محركة : رفع الصوت والجلبة .
(2) ب : (خلفاء) .
(3) كذا في ا والواقدي وفي ب : (زمعة) .
(*)(14/227)
مضى من آبائك ، وكان ذلك رأيه مع رأيك ، فأبى أن يقبله ، وأطاع هؤلاء الغلمان الذين معه قال : فصادفوا من ابن أبى نفاقا وغشا ، فبات رسول الله صلى الله عليه وآله بالشيخين ، وبات ابن أبى في أصحابه ، وفرغ رسول الله صلى الله عليه وآله من عرض من عرض ، وغابت الشمس ، فأذن بلال بالمغرب ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وآله بأصحابه ، ثم أذن بالعشاء ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وآله بأصحابه ، ورسول الله صلى الله عليه وآله نازل في بنى النجار ، واستعمل على الحرس محمد بن مسلمة في خمسين رجلا يطيفون بالعسكر ، حتى أدلج (1) رسول الله صلى الله عليه وآله ، وكان المشركون قد رأوا رسول الله صلى الله عليه وآله حيث أدلج ، ونزل بالشيخين ، فجمعوا خيلهم وظهرهم ، واستعملوا على حرسهم عكرمة بن أبى جهل في خيل من المشركين ، وباتت صاهلة خيلهم لا تهدأ ، تدنو طلائعهم ، حتى تلصق بالحرة ، فلا تصعد فيها حتى ترجع خيلهم ، ويهابون موضع الحرة ، ومحمد بن مسلمة .
قال الواقدي : وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله قال حين صلى العشاء : من يحفظنا الليلة فقال رجل : أنا يا رسول الله فقال : من أنت قال : ذكوان بن عبد القيس ، فقال : إجلس ، ثم قال ثانية : من رجل يحفظنا الليلة فقام رجل ، فقال : من أنت قال : أبو سبع ، قال : اجلس ، ثم قال ثالثة مثل ذلك ، فقام رجل ، فقال : من أنت فقال : أنا ابن عبد قيس ، فمكث رسول الله صلى الله عليه وآله ساعة ، ثم قال : قوموا ثلاثتكم ، فقام ذكوان بن عبد قيس ، فقال رسول الله : وأين صاحباك فقال ذكوان : أنا الذى كنت أجيبك الليلة قال : فاذهب حفظك الله .
قلت : قد تقدم هذا الحديث بذاته في غزوة بدر ، وظاهر الحال إنه مكرر ،
__________
(1) الادلاج : السير في آخر الليل .
(*)(14/228)
وإنه إنما كان في غزاة واحدة ، ويجوز أن يكون قد وقع في الغزاتين ، ولكن على بعد .
قال الواقدي : فلبس ذكوان درعه ، وأخذ درقته ، فكان يطوف على العسكر تلك الليلة ، ويقال كان يحرس رسول الله صلى الله عليه وآله لم يفارقه .
قال : ونام رسول الله صلى الله عليه وآله حتى أدلج ، فلما كان في السحر ، قال رسول الله : أين الادلاء من رجل يدلنا على الطريق ، ويخرجنا على القوم من كثب فقام أبو خثيمة الحارثى ، فقال أنا يا رسول الله ، ويقال أوس بن قيظى ويقال محيصة .
قال الواقدي : وأثبت ذلك عندنا أبو خثيمة خرج برسول الله صلى الله عليه وآله ، وركب فرسه ، فسلك به في بنى حارثة ، ثم أخذ في الاموال حتى مر بحائط مربع بن قيظى ، وكان أعمى البصر منافقا ، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله حائطه ، قام يحثى التراب في وجوه المسلمين ، ويقول إن كنت رسول الله فلا تدخل حائطي ، فلا أحله لك .
قال محمد بن أسحاق : وقذ ذكر أنه أخذ حفنة من تراب ، وقال : والله لو أعلم أنى لاأصيب غيرك يا محمد لضربت بها وجهك (1) .
قال الواقدي : فضربه سعد بن زيد الاشهلى بقوس يده فشجه في رأسه ، فنزل الدم ، فغضب له بعض بنى حارثة ممن هو على مثل رأيه ، فقال : (2 هي على عداوتكم يا بنى عبد الاشهل ، لا تدعونها أبدا لنا 2) فقال أسيد بن حضير : لا والله ، ولكن نفاقكم ، والله لو لا إنى لا أدرى ما يوافق النبي صلى الله عليه وآله لضربت عنقه وعنق من هو على مثل رأيه .
قال : ونهاهم النبي صلى الله عليه وآله عن الكلام فاسكتوا .
* (هامش) 8 (1) سيرة ابن هشام 3 : 9 .
(2 - 2) الواقدي : (هي عدواتكم يا بني عبد الاشهل لا تدعوها أبدا) .
(*)(14/229)
وقال محمد بن إسحاق : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : دعوه ، فإنه أعمى البصر ، أعمى القلب .
يعنى مربع بن قيظى .
قال الواقدي : ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله ، فبينا هو في مسيره إذ ذب فرس أبى بردة بن نيار بذنبه فأصاب كلاب سيفه ، فسل سيفه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : يا صاحب السيف ، شم (2) سيفك ، فإنى أخال السيوف ستسل اليوم فيكثر سلها .
قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يحب الفأل ، ويكره الطيرة ، قال : ولبس رسول الله صلى الله عليه وآله من الشيخين درعا واحدة ، حتى انتهى إلى أحد ، فلبس درعا أخرى ومغفرا ، وبيضة فوق المغفر ، فلما نهض رسول الله صلى الله عليه وآله من الشيخين ، زحف المشركين على تعبية حتى انتهوا إلى موضع أرض ابن عامر اليوم ، فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وآله إلى موضع القنطرة اليوم جاءه وقد حانت الصلاة ، وهو يرى المشركين ، فأمر بلالا فاذن ، وأقام وصلى بأصحابه الصبح صفوفا ، وانخزل (3) عبد الله بن أبى من ذلك المكان في كتيبته ، كأنه هيقه (4) تقدمهم ، فأتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام ، فقال : أذكركم الله ودينكم ونبيكم ، وما شرطتم له أن تمنعوه مما تمنعون منه أنفسكم وأولادكم ونساءكم فقال ابن أبى : ما أرى إنه يكون بينهم قتال ، وإن أطعتني يا أبا جابر لترجعن ، فان أهل الرأى والحجى قد رجعوا ، ونحن ناصروه في مدينتنا ، وقد خالفنا ، وأشرت عليه بالرأى فأبى إلا طواعية الغلمان فلما أبى على عبد الله بن عمرو أن يرجع ، ودخل هو وأصحابه أزقة المدينة ، قال لهم أبو جابر : أبعدكم الله إن الله سيغنى النبي والمؤمنين عن نصركم .
فانصرف ابن أبى وهو يقول : أيعصيني ويطيع الولدان وانصرف عبد الله بن عمرو يعدو حتى لحق رسول الله وهو يسوى الصفوف ، فلما أصيب أصحاب
__________
(1) سيرة ابن هشام 3 : 9 .
(2) شم سيفك ، أي إغمده .
(3) إنخزل ، أي انفرد ، وانظر اللسان .
(4) الهيق : ذكر النعام .
(*)(14/230)
رسول الله صلى الله عليه وآله سر ابن أبى ، وأظهر الشماتة ، وقال : عصاني وأطاع من لا رأى له .
قال الواقدي : وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله يصف أصحابه ، وجعل الرماة خمسين رجلا على عينين ، عليهم عبد الله بن جبير - ويقال سعد بن أبى وقاص ، والثبت انه عبد الله بن جبير - قال : وجعل أحدا خلف ظهره ، واستقبل المدينة وجعل عينين عن يساره ، وأقبل المشركون ، واستدبروا المدينة في الوادي ، وإستقبلوا أحدا ، ويقال جعل عينين خلف ظهره ، واستدبر الشمس ، واستقبلها المشركون .
قال : والقول الاول أثبت عندنا ، أن أحدا كان خلف ظهره ، وهو عليه السلام مستقبل المدينة .
قال : ونهى أن يقاتل أحد حتى يأمرهم بالقتال ، فقال عمارة بن يزيد بن السكن أنى نغير على زرع بنى قيلة ولما نضارب واقبل المشركون قد صفوا صفوفهم ، واستعملوا على الميمنة خالد بن الوليد ، وعلى الميسرة عكرمه بن أبى جهل ، ولهم مجنبتان ، مائتا فرس ، وجعلوا على الخيل صفوان بن أمية - ويقال عمرو بن العاص - وعلى الرماة عبد الله بن أبى ربيعة ، وكانوا مائة رام ، ودفعوا اللواء إلى طلحة بن أبى طلحة - واسم أبى طلحة عبد الله (1) بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصى - وصاح أبو سفيان يومئذ يا بنى عبد الدار ، نحن نعرف إنكم أحق باللواء منا ، وأنا إنما أتينا يوم بدر من اللواء ، وإنما يؤتى القوم من قبل لوائهم ، فالزموا لواءكم ، وحافظوا عليه ، وخلوا بيننا وبينه ، فإنا قوم مستميتون موتورون ، نطلب ثأرا حديث العهد وجعل يقول : إذا زالت الالوية ، فما قوام الناس وبقاؤهم بعدها فغضبت بنو عبد الدار ، وقالوا : نحن نسلم لواءنا لا كان هذا أبدا وأما المحافظة (2) عليه فسترى .
ثم أسندوا الرماح إليه ، واحدقت به بنو عبد الدار ،
__________
(1) في الواقدي : (عبد العزي بن عثمان) .
(2) في الواقدي : (فأما محافظة عليه) .
(*)(14/231)
وأغلظوا لابي سفيان بعض الاغلاظ ، فقال أبو سفيان : فنجعل لواء آخر قالوا نعم ، ولا يحمله إلا رجل من بنى عبد الدار ، لا كان غير ذلك أبدا .
قال الواقدي : وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله يمشى على رجليه ، يسوى تلك الصفوف ، ويبوئ أصحابه مقاعد للقتال ، يقول : تقدم يا فلان ، وتأخر يا فلان ، حتى إنه ليرى منكب الرجل خارجا فيؤخره ، فهو يقومهم كأنما يقوم القداح ، حتى إذا استوت الصفوف ، سأل من يحمل لواء المشركين قيل عبد الدار ، قال : نحن أحق بالوفاء منهم ، أين مصعب بن عمير قال : ها أنا ذا قال : خذ اللواء ، فاخذه مصعب فتقدم به بين يدى رسول الله صلى الله عليه وآله .
قال البلاذرى : أخذه من على عليه السلام ، فدفعه إلى مصعب بن عمير لانه من بنى عبد الدار (1) .
قال الواقدي : ثم قام عليه السلام ، فخطب الناس ، فقال صلى الله عليه وسلم : أيها الناس ، أوصيكم بما أوصاني به الله في كتابه ، من العمل بطاعته ، والتناهى عن محارمه .
ثم إنكم اليوم بمنزل أجر وذخر لمن ذكر الذى عليه ، ثم وطن نفسه على الصبر واليقين والجد والنشاط ، فان جهاد العدو شديد كريه ، قليل من يصبر عليه ، إلا من عزم له على رشده .
إن الله مع من أطاعه ، وإن الشيطان مع من عصاه ، فاستفتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد ، والتمسوا بذلك ما وعدكم الله ، وعليكم بالذى آمركم به ، فإنى حريص على رشدكم .
إن الاختلاف والتنازع والتثبيط من أمر العجز والضعف ، وهو مما لا يحبه الله ، ولا يعطى عليه النصر والظفر .
أيها الناس إنه قذف في قلبى إن من كان على حرام فرغب عنه ابتغاء ما عند الله غفر الله له ذنبه ، ومن صلى على محمد (2) صلى الله عليه وملائكته
__________
(1) أنساب الاشراف 1 : 317 .
(2) ا ، والواقدي : (ومن صلى علي) .
(*)(14/232)
عشرا ، ومن أحسن ، من مسلم أو كافر وقع أجره على الله في عاجل دنياه أو في آجل آخرته ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الاخر فعليه الجمعة يوم الجمعة ، إلا صبيا أو امرأة أو مريضا أو عبدا مملوكا ، ومن استغنى عنها إستغنى الله عنه ، والله غنى حميد .
ما أعلم من عمل يقربكم إلى الله إلا وقد أمرتكم به ، ولا اعلم من عمل يقربكم إلى النار إلا وقد نهيتكم عنه ، وأنه قد نفث الروح الامين في روعى إنه لن تموت نفس حتى تستوفى أقصى رزقها ، لا ينقص منه شئ وإن ابطا عنها ، فاتقوا الله ربكم ، وأجملوا في طلب الرزق ، ولا يحملنكم استبطاؤه على أن تطلبوه بمعصية ربكم ، فإنه لا يقدر على ما عنده إلا بطاعته ، قد بين لكم الحلال والحرام ، غير أن بينهما شبها من الامر لم يعلمها كثير من الناس إلا من عصم ، فمن تركها حفظ عرضه ودينه ، ومن وقع فيها كان كالراعي إلى جنب الحمى أوشك أن يقع فيه ويفعله ، وليس ملك إلا وله حمى ، ألا وإن حمى الله محارمه ، والمؤمن من المؤمنين كالرأس من الجسد ، إذا اشتكى تداعى إليه سائر جسده .
والسلام عليكم .
قال الواقدي : فحدثني ابن أبى سبرة ، عن خالد بن رباح عن المطلب بن عبد الله ، قال : أول من أنشب الحرب بينهم أبو عامر ، طلع في خمسين من قومه ، معه عبيد قريش فنادى أبو عامر - واسمه عبد عمرو - يا للاوس أنا أبو عامر ، قالوا ، لا مرحبا بك ولا أهلا ، يا فاسق فقال : لقد أصاب قومي بعدى شر .
قال : ومعه عبيد أهل مكة ، فتراموا بالحجارة هم والمسلمون ، حتى تراضخوا بها ساعة إلى أن ولى أبو عامر وأصحابه ، ويقال إن العبيد لم يقاتلوا ، وإنهم أمروهم بحفظ عسكرهم .
قال الواقدي : وجعل نساء المشركين قبل أن يلتقى الجمعان أمام صفوف المشركين يضربن بالاكبار (1) والدفاف والغرابيل (2) ، ثم يرجعن فيكن إلى مؤخر الصف ، حتى
__________
(1) الاكبار : جمع كبر ، بفتحتين ، وهو الطبل ، معرب .
(2) الغرابيل : جمع غربال ، وهو هنا الدف .
(*)(14/233)
إذا دنوا من المسلمين تأخر النساء ، فقمن خلف الصفوف ، وجعلن كلما ولى رجل حرضنه ، وذكرنه قتلى بدر .
وقال الواقدي : وكان قزمان من المنافقين ، وكان قد تخلف عن أحد ، فلما أصبح عيره نساء بنى ظفر ، فقلن يا قزمان ، قد خرج الرجال وبقيت إستحى يا قزمان ، ألا تستحيى مما صنعت ما أنت إلا امرأة ، خرج قومك وبقيت في الدار فأحفظنه فدخل بيته ، فأخرج قوسه وجعبته وسيفه - وكان يعرف بالشجاعة - وخرج يعدو ، حتى إنتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يسوى صفوف المسلمين ، فجاء من خلف الصف ، حتى انتهى إلى الصف الاول ، فكان فيه ، وكان أول من رمى بسهم من المسلمين ، جعل يرسل نبلا كأنها الرماح ، وإنه ليكت كتيت (1) الجمل ثم صار إلى السيف ، ففعل الافاعيل ، حتى إذا كان آخر ذلك قتل نفسه .
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا ذكره قال : من أهل النار .
قال : فلما انكشف المسلمون ، كسر جفن سيفه وجعل يقول : الموت أحسن من الفرار .
يا للاوس قاتلوا على الاحساب ، واصنعوا مثل ما أصنع قال : فيدخل بالسيف وسط المشركين ، حتى يقال قد قتل ، ثم يطلع فيقول أنا الغلام الظفرى ، حتى قتل منهم سبعة ، وأصابته الجراحة ، وكثرت فيه ، فوقع فمر به قتادة بن النعمان ، فقال له : أبا الغيداق ، قال قزمان : لبيك ، قال : هنيئا لك الشهادة قال قزمان : إنى والله ما قاتلت يا أبا عمرو على دين ، ما قاتلت إلا على الحفاظ ، أن تسير قريش إلينا فتطأ سعفنا ، قال : فأذته الجراحة فقتل نفسه ، فقال النبي صلى الله عليه وآله : (إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر (2)) .
__________
(1) الكتيت : صياح الجمل .
(2) في ابن هشام 3 : 37 عن ابن إسحاق : (حدثني عاصم بن عمر بن قتادة ، قال : كان فينا رجل أتي لا يدرى ممن هو ، يقال له قزمان ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول إذا ذكر له : (إنه لمن أهل النار) قال : (فلما كان يوم احد قاتل قتالا شديدا ، فقتل وحده ثمانية أو سبعة من المشركين .
وكان ذا بأس ، فاثبتته الجراحة ، فاحتمل إلى دار بني مظفر .
قال : فجعل رجال من المسلمين يقولون له : والله لقد أبليت اليوم يا قزمان فأبشر ، قال : بماذا أبشر ؟ فوالله إن قاتلت إلا على أحساب قومي ، ولولا ذلك ما قاتلت ، قال : فلما اشتدت به جراحته أخذ سهما من كنانته ، فقتل به نفسه) .
(*)(14/234)
قال الواقدي : وتقدم رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الرماة ، فقال : احموا لنا ظهورنا ، فإنا نخاف أن نؤتى من ورائنا ، والزموا مكانكم ، لا تبرحوا منه ، وإن رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل عسكرهم ، فلا تفارقوا مكانكم ، وإن رأيتمونا نقتل ، فلا تعينونا ، ولا تدفعوا عنا .
اللهم إنى أشهدك عليهم ، ارشقوا (1) خيلهم بالنبل ، فإن الخيل لا تقدم على النبل ، وكان للمشركين مجنبتان ميمنة عليها خالد بن الوليد ، وميسرة عليها عكرمة بن أبى جهل .
قال الواقدي : وعمل رسول الله صلى الله عليه وآله لنفسه ميمنة وميسرة ، ودفع اللواء الاعظم إلى مصعب بن عمير ، ودفع لواء الاوس إلى اسيد بن حضير ، ولواء الخزرج إلى سعد بن عبادة - وقيل إلى الحباب بن المنذر - فجعلت الرماة تحمى ظهور المسلمين ، وترشق خيل المشركين بالنبل ، فولت هاربة قال بعض المسلمين (2) : والله لقد رمقت نبلنا يومئذ ، ما رأيت سهما واحدا مما يرمى به خيلهم يقع في الارض ، إما في فرس أو في رجل ، ودنا القوم بعضهم من بعض ، وقدموا طلحة بن أبى طلحة صاحب لوائهم ، وصفوا صفوفهم ، واقاموا النساء خلف الرجال يضربن بين أكتافهم بالاكبار والدفوف ، وهند وصواحبها يحرضن ويذمرن (3) الرجال ، ويذكرن من أصيب ببدر ، ويقلن : نحن بنات طارق نمشي على النمارق إن تقبلوا نعانق أو تدبروا نفارق * فراق غير وامق * .
قال الواقدي : وبرز طلحة ، فصاح : من يبارز فقال على عليه السلام له : هل لك في مبارزتي قال : نعم ، فبرزا بين الصفين ورسول الله صلى الله عليه وآله جالس تحت
__________
(1) ارشق الرامي : رمى وجها ، أي أطلق السهم إلى المكان المواجه له .
(2) الواقدي : (الرماة) .
(3) يذمرون الرجال : يحضونهم على القتال .
(*)(14/235)
الراية ، عليه درعان ومغفر وبيضته ، فالتقيا فبدره على عليه السلام (1) بضربة على رأسه ، فمضى السيف حتى فلق هامته إلى أن انتهى إلى لحيته فوقع ، وانصرف على عليه السلام ، فقيل له هلا ذففت (2) عليه قال : إنه لما صرع إستقبلنى بعورته ، فعطفتني عليه الرحم ، وقد علمت أن الله سيقتله ، هو كبش الكتيبة .
قال الواقدي : وروى أن طلحة حمل على على عليه السلام ، فضربه بالسيف ، فاتقاه بالدرقة ، فلم يصنع شيئا ، وحمل على عليه السلام وعلى طلحة درع ومغفر ، فضربه بالسيف ، فقطع ساقيه ، ثم أراد أن يذفف عليه ، فسأله طلحة بالرحم ألا يفعل ، فتركه ولم يذفف عليه .
قال الواقدي : ويقال أن عليا عليه السلام دفف عليه ، ويقال أن بعض المسلمين مر به في المعركة فذفف عليه .
قال : فلما قتل طلحة سر رسول الله صلى الله عليه وآله وكبر تكبيرا عاليا وكبر المسلمون ، ثم شد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله على كتائب المشركين ، فجعلوا يضربون وجوههم ، حتى انتقضت صفوفهم ، ولم يقتل إلا طلحة بن أبى طلحه وحده .
قال الواقدي : ثم حمل لواء المشركين بعد طلحة أخوه عثمان بن أبى طلحة ، وهو أبو شيبة ، فارتجز وقال : إن على رب اللواء حقا أن تخصب الصعدة أو تندقا .
فتقدم باللواء ، والنسوة خلفه يحرضن ويضربن بالدفوف ، فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب رحمه الله ، فضربه بالسيف على كاهله ، فقطع يده وكتفه ، حتى انتهى إلى
__________
(1) ب : (فبرزه) تحريف ، والصواب ما في ا ، والواقدي .
(2) ذففت عليه أجهز .
(*)(14/236)
مؤتزره فبدا سحره (1) ، ورجع فقال أنا ابن ساقى الحجيج ، ثم حمل اللواء أخوهما أبو سعد بن أبى طلحة ، فرماه سعد بن أبى وقاص فاصاب حنجرته ، وكان دراعا ، وعليه مغفر لا رفرف عليه (2) ، وعلى رأسه بيضته فأدلع لسانه (3) إدلاع الكلب .
قال الواقدي : وقد روى أن أبا سعد لما حمل اللواء ، قام النساء خلفه يقلن ضربا بنى عبد الدار ضربا حماة الادبار * ضربا بكل بتار * .
قال سعد بن أبى وقاص : فأحمل عليه فأقطع يده اليمنى ، فأخذ اللواء باليد اليسرى ، فأضربه على يده اليسرى ، فقطعتها ، فأخذ اللواء بذراعيه جميعا وضمه إلى صدره ، وحنى عليه ظهره .
قال سعد : فأدخل سية القوس بين الدرع والمغفر ، فاقلع (4) المغفر ، فأرمى به وراء ظهره ، ثم ضربته حتى قتلته ، وأخذت أسلبه درعه ، فنهض إلى سبيع بن عبد عوف ونفر معه فمنعوني سلبه ، وكان سلبه أجود سلب رجل من المشركين ، درع فضفاضة ، ومغفر وسيف جيد ، ولكن حيل بينى وبينه .
قال الواقدي : وهذا أثبت القولين .
قلت شتان بين على وسعد هذا يجاحش على السلب ويتأسف على فواته ، وذلك يقتل عمرو بن عبدود يوم الخندق ، وهو فارس قريش وصنديدها ومبارزه ، فيعرض عن سلبه ، فيقال له كيف تركت سلبه وهو أنفس سلب فيقول كرهت أن أبز السبى ، ثيابه فكان حبيبا عناه بقوله
__________
(1) السحر هنا : الرئة .
(2) الواقدي : (له) .
(3) أدلع لسانه ، أخرجه .
(4) الواقدي : (فاقتلع) .
(*)(14/237)
إن الاسود أسود الغاب همتها يوم الكريهة في المسلوب لا السلب (1) .
قال الواقدي : ثم حمل لواء المشركين بعد أبى سعد بن أبى طلحة مسافع بن أبى طلحة ، فرماه عاصم بن ثابت بن أبى الاقلح فقتله ، فحمل ألى أمه سلافة بنت سعد بن الشهيد ، وهى مع النساء بأحد ، فقالت : من أصابك قال : لا أدرى ، سمعته يقول : خذها وأنا ابن الاقلح ، فقالت : أقلحى والله أي هو من رهطي - وكانت من الاوس .
قال الواقدي : وروى أن عاصما لما رماه ، قال له : خذها وأنا ابن كسرة ، وكانوا يقال لهم في الجاهلية بنو كسر الذهب ، فقال لامه لا أدرى ، إلا إنى سمعته يقول خذها وأنا ابن كسرة ، فقالت سلافة أوسى والله كسرى ، أي إنه منا ، فيومئذ نذرت سلافة أن تشرب في قحف رأس عاصم بن ثابت الخمر ، وجعلت لمن جاءها به مائة من الابل .
قلت فلما قتله المشركون في يوم الرجيع أرادوا أن ياخذوا رأسه ، فيحملوه إلى سلافة فحمته الدبر (2) يومه ذلك ، فلما جاء الليل فظنوا أن الدبر لا تحميه ليلا ، جاء الوادي بسيل عظيم ، فذهب برأسه وبدنه ، إتفق المؤرخون على ذلك .
قال الواقدي : ثم حمل اللواء بعد الحارث أخوه كلاب بن طلحة بن أبى طلحة ، فقتله الزبير بن العوام ، ثم حمله أخوه الجلاس بن طلحة بن أبى طلحة ، فقتله طلحة بن عبيد الله ، ثم حمله أرطاة بن عبد شرحبيل ، فقتله على بن أبى طالب عليه السلام ، ثم حمله شريح بن
__________
(1) ديوانه 1 : 71 ، وروايته : (إن أسود الغيل) .
(2) الدبر : جماعة النحل أو الزنابير .
(*)(14/238)
قانط (1) ، فقتل لا يدرى من قتله ، ثم حمله صواب ، غلام بنى عبد الدار ، فاختلف في قاتله فقيل قتله على بن أبى طالب عليه السلام ، وقيل سعد بن أبى وقاص .
وقيل قزمان ، وهو أثبت الاقوال .
قال الواقدي : إنتهى قزمان الى صواب ، فحمل عليه ، فقطع يده اليمنى ، فاحتمل اللواء باليسرى فقطع اليسرى ، فاحتضن اللواء بذراعيه وعضديه ، وحنى عليه ظهره ، وقال : يا بنى عبد الدار ، هل أعذرت فحمل عليه قزمان فقتله .
قال الواقدي : وقالوا ما ظفر الله تعالى نبيه في موطن قط ما ظفره وأصحابه يوم أحد ، حتى عصوا الرسول ، وتنازعوا في الامر ، لقد قتل اصحاب اللواء وانكشف المشركون منهم لا يلوون ، ونساؤهم يدعون بالويل بعد ضرب الدفاف والفرح .
قال الواقدي : وقد روى كثير من الصحابة ممن شهد أحدا ، قال : كل واحد منهم والله إنى لانظر إلى هند وصواحبها منهزمات ، ما دون أخذهن شئ لمن أراده ، ولكن لا مرد لقضاء الله .
قالوا وكان خالد بن الوليد كلما أتى من قبل ميسرة النبي صلى الله عليه وآله ليجوز حتى يأتيهم من قبل السفح ، ترده الرماة ، حتى فعل وفعلوا ذلك مرارا ، ولكن المسلمين أتوا من قبل الرماة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اوعز إليهم فقال قوموا على مصافكم هذه فاحموا ظهورنا ، فان رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا ، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا .
فلما انهزم المشركون ، وتبعهم المسلمون يضعون السلاح فيهم حيث شاؤوا حتى أجهزوهم عن المعسكر ، ووقعوا ينتهبونه .
قال بعض الرماة لبعض : لم تقيمون هاهنا في غير شئ قد هزم الله العدو ، وهؤلاء إخوانكم ينهبون عسكرهم ، فادخلوا عسكر المشركين ، فاغنموا مع إخوانكم ، فقال بعضهم ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكم : (أحموا ظهورنا ، وإن غنمنا فلا يشركونا) ،
__________
(1) الواقدي : (فارظ) .
(*)(14/239)
فقال الاخرون لم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا ، وقد أذل الله المشركين وهزمهم ، فادخلوا العسكر ، فانتهبوا مع إخوانكم .
فلما اختلفوا خطبهم أميرهم عبد الله بن جبير ، وكان يومئذ معلما بثياب بيض ، فحمد الله وأمرهم بطاعة رسوله ، وألا يخالف أمره ، فعصوه ، وانطلقوا فلم يبق معه إلا نفير ما يبلغون العشرة ، منهم الحارث بن أنس بن رافع ، يقول يا قوم ، اذكروا عهد نبيكم إليكم ، وأطيعوا أميركم .
فأبوا ، وذهبوا إلى عسكر المشركين ينتهبون ، وخلوا الجبل (1) ، وانتقضت صفوف المشركين ، واستدارت رحالهم ، ودارت (2) الريح - وكانت إلى أن انتقض صفهم صبا ، فصارت دبورا - فنظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل وقلة أهله ، فكر بالخيل ، وتبعه عكرمة بالخيل ، فانطلقا إلى موضع الرماة ، فحملوا عليهم ، فرماهم القوم حتى أصيبوا ، ورمى عبد الله بن جبير حتى فنيت نبله ، ثم طاعن بالرمح حتى انكسر ، ثم كسر جفن سيفه ، فقاتل حتى قتل ، وأفلت جعيل بن سراقة وأبو بردة بن نيار بعد أن شاهدا قتل عبد الله بن جبير ، وكان آخر من انصرف من الخيل ، فلحقا بالمسلمين .
قال الواقدي : فروى رافع بن خديج ، قال : لما قتل خالد الرماة أقبل بالخيل وعكرمة بن أبى جهل يتلوه ، فخالطنا وقد انتقضت صفوفنا ، ونادى إبليس - وتصور في صورة جعيل بن سراقة : أن محمدا قد قتل ثلاث صرخات ، فابتلى يومئذ جعيل بن سراقة ببلية عظيمة حين تصور إبليس في صورته ، وإن جعيلا ليقاتل مع المسلمين أشد القتال ، وإنه إلى جنب أبى بردة بن نيار وخوات بن جبير .
قال رافع بن خديج : فو الله ما رأينا دولة كانت أسرع من دولة المشركين علينا ، وأقبل المسلمون على جعيل بن سراقة يريدون قتله ، يقولون هذا الذى صاح أن محمدا قد قتل ، فشهد له خوات بن جبير وأبو بردة ، إنه كان الى جنبهما حين صاح الصائح ، وإن الصائح غيره .
__________
(1) الواقدي : (عينين) ، وهو الجبل .
(2) الواقدي : (وحالت) .
(*)(14/240)
قال الواقدي : فروى رافع ، قال : أتينا من قبل أنفسنا ، ومعصية نبينا ، واختلط المسلمون ، وصاروا يقتلون ويضرب بعضهم بعضا ، وما يشعرون بما يصنعون من الدهش والعجل ، وقد جرح يومئذ أسيد بن حضير جرحين ، ضربه احدهما أبو بردة بن نيار ، وما يدرى ، يقول خذها وأنا الغلام الانصاري ، وكر أبو زعنة في حومة القتال ، فضرب أبا بردة ضربتين ، ما يشعر أنه هو يقول خذها وأنا أبو زعنة ، حتى عرفه بعد ، فكان إذا لقيه قال : انظر ما صنعت بى ، فيقول أبو زعنة : وأنت فقد ضربت أسيد بن حضير ولا تشعر ولكن هذا الجرح في سبيل الله ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله ، فقال هو في سبيل الله يا أبا بردة ، لك أجره ، حتى كأنك ضربك أحد المشركين ، ومن قتل فهو شهيد .
قال الواقدي : وكان الشيخان حسيل بن جابر ورفاعة بن وقش شيخين كبيرين ، قد رفعا في الاطام مع النساء ، فقال أحدهما لصاحبه : لا أبا لك ما نستبقى من أنفسنا فو الله ما نحن إلا هامة اليوم أو غد ، وما بقى من أجلنا قدر ظمء (1) دابة ، فلو أخذنا أسيافنا فلحقنا برسول الله صلى الله عليه وآله لعل الله يرزقنا الشهادة قال : فلحقا برسول الله صلى الله عليه وآله ، فأما رفاعة فقتله المشركون ، وأما حسيل بن جابر فالتفت عليه سيوف المسلمين ، وهم لا يعرفونه حين اختلطوا ، وابنه حذيفة يقول أبى أبى حتى قتل ، فقال حذيفة يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ، ما صنعتم فزاد به عند رسول الله صلى الله عليه وآله خيرا ، وأمر رسول الله بديته أن تخرج ، ويقال إن الذى أصابه عتبة بن مسعود ، فتصدق حذيفة ابنه بدمه على المسلمين .
قال الواقدي : وأقبل يومئذ الحباب بن المنذر بن الجموح يصيح يا آل سلمة فأقبلوا
__________
(1) يقال : ما بقي منه إلا ظمء دابة ، أي لم يبق من عمره إلا اليسير .
(*)(14/241)
عنقا (1) واحدا : لبيك داعى الله ، لبيك داعى الله ! فيضرب يومئذ جبار بن صخر ضربة في رأسه مثقلة وما يدرى ، حتى أظهروا الشعار بينهم ، فجعلوا يصيحون أمت أمت فكف بعضهم عن بعض .
قال الواقدي : وكان نسطاس مولى ضرار بن أمية ممن حضر أحدا مع المشركين ، ثم أسلم بعد ، وحسن أسلامه ، فكان يحدث ، قال : قد كنت ممن خلف في العسكر يومئذ ، ولم يقاتل معهم عبد إلا وحشى وصواب غلام بنى عبد الدار ، فكان أبو سفيان صاح فيهم يا معشر قريش ، خلوا (2) غلمانكم على متاعكم يكونوا هم الذين يقومون على رحالكم ، فجمعنا بعضها إلى بعض ، وعقلنا الابل ، وانطلق القوم على تعبيتهم ، ميمنة وميسرة وألبسنا الرحال الانطاع ، ودنا القوم بعضهم من بعض ، فاقتتلوا ساعة ، وإذا أصحابنا منهزمون ، فدخل المسلمون معسكرنا ، ونحن في الرحال ، فأحدقوا (3) بنا ، فكنت فيمن أسروا ، وانتهبوا المعسكر أقبح انتهاب ، حتى أن رجلا منهم قال : أين مال صفوان بن أمية فقلت : ما حمل إلا نفقة في الرحل ، فخرج يسوقنى حتى أخرجتها من العيبة خمسين ومائة مثقال ذهبا ، وقد ولى أصحابنا وأيسنا منهم ، وانحاش النساء ، فهن في حجرهن سلم لمن أرادهن ، فصار النهب في أيدى المسلمين .
قال نسطاس : فانا لعلى ما نحن عليه من الاستسلام ، ونظرت إلى الجبل ، فإذا خيل مقبلة تركض ، فدخلوا العسكر ، فلم يكن أحد يردهم ، قد ضيعت الثغور التي كان بها الرماة وجاؤوا إلى النهب والرماة ينتهبون ، وأنا أنظر إليهم متأبطى قسيهم وجعابهم ، كل واحد منهم في يديه أو حضنه شئ قد أخذه ، فلما دخلت خيلنا دخلت على قوم غارين آمنين ، فوضعوا فيهم السيوف ، فقتلوهم قتلا ذريعا ، وتفرق المسلمون في كل وجه ،
__________
(1) العنق : الجماعة من الناس .
(2) ا والواقدي : (خلفوا) .
(3) ا والواقدي : (فدخل أصحاب محمد في الرحال ، فأحدقوا بنا) .
(*)(14/242)
وتركوا ما انتهبوا ، وأجلوا عن عسكرنا ، فارتجعنا بعد ، لم نفقد منه شيئا ، وخلوا أسرانا ، ووجدنا الذهب في المعركة ، ولقد رأيت يومئذ رجلا من المسلمين ضم صفوان بن أمية إليه ضمه ظننت أنه سيموت ، حتى أدركته وبه رمق ، فوجات (1) ذلك المسلم بخنجر معى ، فوقع ، فسألت عنه ، فقيل رجل من بنى ساعدة .
ثم هداني الله بعد للاسلام .
قال الواقدي : فحدثني ابن أبى سبرة ، عن إسحاق بن عبد الله ، عن عمر بن الحكم ، قال : ما علمنا أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله الذين أغاروا على النهب فأخذوا ما أخذوا من الذهب بقى معه من ذلك شئ يرجع به حيث غشينا المشركون ، واختلفوا إلا رجلين أحدهما عاصم بن ثابت بن أبى الاقلح ، جاء بمنطقة وجدها في العسكر ، فيها خمسون دينارا فشدها على حقويه من تحت ثيابه ، وجاء عباد بن بشر بصرة فيها ثلاثة عشر مثقالا ألقاها في جيب قميصه ، وفوقها الدرع وقد حزم وسطه ، فأتيا بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله فلم يخمسه و نفلهما إياه .
قال الواقدي : وروى يعقوب بن أبى صعصعة ، عن موسى بن ضمرة ، عن أبيه ، قال : لما صاح الشيطان أزب (2) العقبة ، أن محمدا قد قتل لما أراد الله عز وجل من ذلك ، سقط في أيدى المسلمين ، وتفرقوا في كل وجه ، وأصعدوا في الجبل ، فكان أول من بشرهم بكون رسول الله صلى الله عليه وآله سالما كعب بن مالك .
قال كعب عرفته ، فجعلت أصيح هذا رسول الله وهو يشير إلى بإصبعه على فيه أن اسكت .
قال الواقدي : وروت عميرة بنت عبد الله بن كعب بن مالك ، عن أبيها ، قالت قال أبى : لما انكشف الناس كنت أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وآله
__________
(1) وجأته ، أي ضربته .
(2) لزب العقبة : إسم لشيطان معروف ذكر في حديث العقبة .
أنظر القاموس .
(*)(14/243)
وبشرت به المسلمين حيا سويا ، عرفت عينيه من تحت المغفر ، فناديت يا معشر الانصار أبشروا ، فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله ، فأشار الى رسول الله صلى الله عليه وآله أن اصمت .
قال : ودعا رسول الله صلى الله عليه وآله بكعب ، فلبس لامته ، وألبس كعبا لامة نفسه ، وقاتل كعب قتالا شديدا ، جرح سبعة عشر جرحا .
قال الواقدي : وحدثني ابن أبى سبرة عن خالد بن رباح ، عن الاعرج ، قال : لما صاح الشيطان أن محمدا قد قتل ، قال أبو سفيان بن حرب : يا معشر قريش ، أيكم قتل محمدا قال ابن قميئة : أنا قتلته .
قال : نسورك (1) كما تفعل الاعاجم بأبطالها .
وجعل أبو سفيان يطوف بأبى عامر الفاسق في المعركة ، هل يرى محمدا بين القتلى فمر بخارجة بن زيد بن أبى زهير ، فقال : يا أبا سفيان ، هل تدرى من هذا قال : لا ، قال : هذا خارجة بن زيد ، هذا أسيد بنى الحارث بن الخزرج ، ومر بعباس بن عبادة بن نضلة إلى جنبه ، قال : أتعرفه قال : لا ، قال : هذا ابن قوقل ، هذا الشريف في بيت الشرف ، ثم مر بذكوان بن عبد قيس ، فقال : وهذا من ساداتهم ، ثم مر بابنه حنظلة بن أبى عامر ، فوقف عليه ، فقال أبو سفيان : من هذا قال : هذا أعز من هاهنا على ، هذا ابني حنظلة .
قال أبو سفيان : ما نرى مصرع محمد ، ولو كان قتل لرأيناه ، كذب ابن قميئة .
ولقى خالد بن الوليد ، فقال : هل تبين عندك قتل محمد قال : لا ، رأيته أقبل في نفر من أصحابه مصعدين في الجبل ، فقال أبو سفيان : هذا حق ، كذب ابن قميئة ، زعم أنه قتله .
قلت قرأت على النقيب أبى يزيد رحمه الله هذه الغزاة من كتاب الواقدي ، وقلت له كيف جرى لهؤلاء في هذه الوقعة فإنى أستعظم ما جرى فقال وما في ذلك مما تستعظمه حمل قلب المسلمين من بعد قتل اصحاب الالوية على قلب المشركين ، فكسره
__________
(1) نسورك : نلبسك السوار ، وهذا مما كانت تفعله الاعاجم بملوكهم .
(*)(14/244)
فلو ثبتت مجنبتا رسول الله اللتان فيهما أسيد بن حضير والحباب بن المنذر بازاء مجنبتى المشركين ، لم ينكسر عسكر الاسلام ، ولكن مجنبتا المسلمين أطبقت إطباقا واحدا على قلب المشركين ، مضافا إلى قلب المسلمين ، فصار عسكر رسول الله صلى الله عليه وآله قلبا واحدا ، وكتيبة واحدة ، فحطمه قلب قريش حطمة شديدة .
فلما رأت مجنبتا قريش إنه ليس بإزائها أحد ، استدارت المجنبتان من وراء عسكر المسلمين ، وصمد كثير منهم للرماة الذين كانوا يحمون ظهر المسلمين ، فقتلوهم عن آخرهم ، لانهم لم يكونوا ممن يقومون لخالد وعكرمة ، وهما في ألفى رجل ، وإنما كانوا خمسين رجلا ، لا سيما وقد ترك كثير منهم مركزه وشره إلى الغنيمة ، فاكب على النهب قال رحمه الله : والذى كسر المسلمين يومئذ ، ونال كل منال خالد بن الوليد ، وكان فارسا شجاعا ، ومعه خيل كثيرة ، ورجال أبطال موتورون ، واستدار خلف الجبل ، فدخل من الثغرة التى كان الرماة عليها ، فاتاه من وراء المسلمين ، وتراجع قلب المشركين بعد الهزيمة ، فصار المسلمون بينهم في مثل الحلقة المستديرة ، واختلط الناس ، فلم يعرف المسلمون بعضهم بعضا ، وضرب الرجل منهم أخاه وأباه بالسيف وهو لا يعرفه لشدة النقع والغبار ، ولما اعتراهم من الدهش والعجلة والخوف ، فكانت الدبرة عليهم ، بعد أن كانت لهم ، ومثل هذا يجرى دائما في الحرب .
فقلت له رحمه الله : فلما انكشف المسلمون ، وفر منهم من فر ، ما كانت حال رسول الله صلى الله عليه وآله فقال : ثبت في نفر يسير من أصحابه يحامون عنه .
فقلت : ثم ماذا ، قال : ثم ثابت إليه الانصار ، وردت إليه عنقا واحدا بعد فرارهم وتفرقهم ، وامتاز المسلمون على المشركين وكانوا ناحية ، ثم التحمت الحرب ، واصطدم الفيلقان (1) .
__________
(1) الفيلق ، كصيقل الجيش .
(*)(14/245)
قلت : ثم ماذا قال : لم يزل المسلمون يحامون عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، والمشركون يتكاثرون عليهم ، ويقتلون فيهم حتى لم يبق من النهار إلا القليل ، والدولة للمشركين .
قلت : ثم ماذا قال : ثم علم الذين بقوا من المسلمين إنه لا طاقة لهم بالمشركين ، فأصعدوا في الجبل فاعتصموا به .
فقلت له : فرسول الله صلى الله عليه وآله ما الذى صنع فقال : صعد في الجبال .
قلت له : أفيجوز أن يقال إنه فر فقال : إنما يكون الفرار ممن أمعن في الهرب في الصحراء والبيداء ، فأما من الجبل مطل عليه وهو في سفحه ، فلما رأى ما لا يعجبه أصعد في الجبل ، فإنه لا يسمى .
فارا ثم سكت رحمه الله ساعة ، ثم قال : هكذا وقعت الحال ، فان شئت أن تسمى ذلك فرارا فسمه ، فقد خرج من مكة يوم الهجرة فارا من المشركين ، ولا وصمة عليه في ذلك .
فقلت له قد روى الواقدي عن بعض الصحابة ، قال : لم يبرح رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك اليوم شبرا واحدا ، حتى تحاجزت الفئتان فقال دع صاحب هذه الرواية فليقل ما شاء ، فالصحيح ما ذكرته لك ، ثم قال : كيف يقال لم يزل واقفا حتى تحاجزت الفئتان وإنما تحاجرا بعد أن ناداه أبو سفيان ، وهو في أعلى الجبل بما ناداه ، فلما عرف إنه حى وإنه في إعلى الجبل ، وإن الخيل لا تستطيع الصعود إليه ، وأن القوم إن صعدوا إليه رجاله لم يثقوا بالظفر به ، لان معه اكثر أصحابه وهم مستميتون إن صعد القوم إليهم ، وإنهم لا يقتلون منهم واحدا حتى يقتلوا منهم إثنين أو ثلاثة ، لانهم لا سبيل لهم إلى الهرب ، لكونهم محصورين في ذرو واحد ، فالرجل منهم يحامى عن خيط رقبته - كفوا عن الصعود وقنعوا بما وصلوا إليه من قتل من قتلوه في الحرب ، وأملوا(14/246)
يوما ثانيا يكون لهم فيه الظفر الكلى بالنبي صلى الله عليه وآله ، فرجعوا عنهم وطلبوا مكة .
وروى الواقدي عن أبى سبرة عن اسحاق بن عبد الله بن أبى فروة ، عن أبى الحويرث ، عن نافع بن جبير ، قال : سمعت رجلا من المهاجرين يقول شهدت أحدا ، فنظرت إلى النبل ياتي من كل ناحية ، ورسول الله صلى الله عليه وآله في وسطها كل ذلك يصرف عنه ، ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ دلوني على محمد ، فلا نجوت إن نجا وأن رسول الله صلى الله عليه وآله إلى جنبه ، ما معه أحد ، ثم جاوزه ، ولقى عبد الله بن شهاب صفوان بن امية ، فقال له صفوان : ترحت (1) هلا ضربت محمدا ، فقطعت هذه الشافة ، فقد أمكنك الله منه قال ابن شهاب : وهل رأيته قال : نعم أنت إلى جنبه ، قال : والله ما رأيته ، أحلف بالله إنه منا لممنوع ، خرجنا أربعة تعاهدنا وتعاقدنا على قتله ، فلم نخلص إلى ذلك .
قال الواقدي : فروى نملة - واسم أبى نملة عبد الله بن معاذ ، وكان أبوه معاذ أخا البراء بن معرور لامه - قال : لما انكشف المسلمون ذلك اليوم نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وما معه أحد إلا نفير قد أحدقوا به من أصحابه من المهاجرين والانصار ، فانطلقوا به إلى الشعب وما للمسلمين لواء قائم ولا فئه ولاجمع ، وإن كتائب المشركين لتحوشهم مقبلة ومدبرة في الوادي ، يلتقون ويفترقون ما يرون أحدا يردهم .
قال الواقدي ، وحدثني إبراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدرى ، عن ابيه ، قال : حمل مصعب اللواء ، فلما جال المسلمون ثبت به مصعب قبل ابن قميئة ، وهو فارس ، فضرب يد مصعب فقطعها ، فقال مصعب : (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) .
وأخذ اللواء بيده اليسرى ، وحنى عليه فضربه فقطع اليسرى ، فضمه بعضديه إلى صدره ،
__________
(1) ا : (نزحت) .
(*)(14/247)
وهو يقول : (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) ، ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فانفذه ، واندق الرمح ، ووقع مصعب وسقط اللواء ، وابتدره رجلان من بنى عبد الدار ، سويبط بن حرملة وأبو الروم ، فاخذه أبو الروم ، فلم يزل بيده حتى دخل به المدينة ، حين انصرف المسلمون .
قال الواقدي : وقالوا إن رسول الله لما لحمه القتال ، وخلص إليه وذب عنه مصعب بن عمير وأبو دجانة ، حتى كثرت به الجراحة ، جعل رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : (من رجل يشرى نفسه ؟) فوثب فئة من الانصار خمسة ، منهم عمارة بن زياد بن السكن ، فقاتل حتى أثبت ، وفاءت فئة من المسلمين حتى أجهضوا أعداء الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لعمارة بن زياد : إدن منى ، حتى وسده رسول الله صلى الله عليه وآله قدمه ، وإن به لاربعة عشر جرحا حتى مات ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله يذمر الناس ويحضهم على القتال ، وكان رجال من المشركين قد أذلقوا (1) المسلمين بالرمي : منهم حيان بن العرقة وأبو أسامة الجشمى ، فجعل النبي صلى الله عليه وآله يقول لسعد : (إرم فداك أبى وأمى) فرمى حيان بن العرقة بسهم فأصاب ذيل أم أيمن ، وكانت جاءت يومئذ تسقى الجرحى ، فقلبها ، وانكشف ذيلها عنها ، فاستغرب حيان بن العرقة ضحكا ، وشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله ، فدفع الى سعد بن أبى وقاص سهما لا نصل له ، وقال : ارم به ، فرمى فوضع السهم في ثغرة نحر حيان ، فوقع مستلقيا ، وبدت عورته .
قال سعد : فرأيت النبي صلى الله عليه وآله ضحك يومئذ حتى بدت نواجذه ، وقال : استقاد لها سعد ، أجاب الله دعوتك ، وسدد رميتك ، ورمى يومئذ مالك بن زهير الجشمى أخو أبى أسامة الجشمى المسلمين رميا شديدا ، وكان هو وريان بن العرقة قد أسرعا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأكثرا فيهم القتل يستتران بالصخر ، ويرميان ،
__________
(1) أذلقوهم : أوجعوهم .
(*)(14/248)
فبيناهم على ذلك أبصر سعد بن أبى وقاص مالك بن زهير يرمى من وراء صخرة قد رمى ، واطلع رأسه ، فيرميه سعد ، فأصاب السهم عينه ، حتى خرج من قفاه ، فترى (1) في السماء قامة ، ثم رجع فسقط ، فقتله الله عز وجل .
قال الواقدي : ورمى رسول الله صلى الله عليه وآله عن قوسه يومئذ حتى صارت شظايا ، فأخذها قتادة بن النعمان ، وكانت عنده ، وأصيبت يومئذ عين قتادة حتى وقعت على وجنته .
قال قتادة : فجئت الى رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقلت يا رسول الله ، إن تحتي امرأة شابة جميلة ، أحبها وتحبنى ، وأنا أخشى أن تقذر مكان عينى ، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وآله فردها وانصرف بها ، وعادت كما كانت ، فلم تضرب عليه ساعة من ليل ونهار ، وكان يقول بعد أن أسن هي أقوى عينى - وكانت أحسنهما .
قال الواقدي : وباشر رسول الله صلى الله عليه وآله القتال بنفسه ، فرمى بالنبل حتى فنيت نبله ، وانكسرت سية قوسه ، وقبل ذلك انقطع وتره ، وبقيت في يده قطعة تكون شبرا في سية القوس ، فأخذ القوس عكاشة بن محصن يوتره له ، فقال يا رسول الله ، لا يبلغ الوتر ، فقال مده يبلغ ، قال عكاشة : فو الذى بعثه بالحق لمددته حتى بلغ ، وطويت منه ليتين أو ثلاثة على سية القوس ، ثم أخذه رسول الله صلى الله عليه وآله ، فما زال يرامى القوم ، وأبو طلحة أمامه يستره مترسا عنه ، حتى نظرت إلى سية قوسه قد تحطمت ، فاخذها قتادة بن النعمان .
قال الواقدي : وكان أبو طلحة يوم أحد قد نثل كنانته (3) بين يدى النبي صلى الله عليه وآله ، وكان راميا ، وكان صيتا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : (لصوت أبى طلحة في الجيش خير من أربعين رجلا) ، وكان في كنانته خمسون سهما نثلها بين يدى
__________
(1) ا : (فتراءى) .
(2) نثل كنانته : أخرج ما فيها .
(*)(14/249)
رسول الله صلى الله عليه وآله ، وجعل يصيح نفسي دون نفسك يا رسول الله فلم يزل يرمى بها سهما سهما ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يطلع رأسه من خلف أبى طلحة بين إذنه ومنكبه ، ينظر إلى مواقع النبل حتى فنيت نبله ، وهو يقول نحرى دون نحرك جعلني الله فداك قالوا إنه كان رسول الله صلى الله عليه وآله ، ليأخذ العود من الارض فيقول أرم يا أبا طلحة ، فيرمى به سهما جيدا .
قال الواقدي : وكان الرماة المذكورون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله جماعه منهم سعد بن أبى وقاص ، وأبو طلحة ، وعاصم بن ثابت ، والسائب بن عثمان بن مظعون ، والمقداد بن عمرو ، وزيد بن حارثة ، وحاطب بن أبى بلتعة ، وعتبة بن غزوان ، وخراش بن الصمة ، وقطبة بن عامر بن حديدة ، وبشر بن البراء بن معرور ، وأبو نائلة ملكان بن سلامة ، وقتادة بن النعمان .
قال الواقدي : ورمى أبو رهم الغفاري بسهم فأصاب نحره ، فجاء الى رسول الله صلى الله عليه وآله فبصق عليه ، فبرأ ، فكان أبو رهم بعد ذلك يسمى المنحور .
وروى أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد اللغوى ، غلام ثعلب ، ورواه أيضا محمد بن حبيب في أماليه ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما فر معظم أصحابه عنه يوم أحد ، كثرت عليه كتائب المشركين ، وقصدته كتيبة من بنى كنانة ، ثم من بنى عبد مناة بن كنانة ، فيها بنو سفيان بن عويف ، وهم خالد بن سفيان ، وأبو الشعثاء بن سفيان وأبو الحمراء بن سفيان ، وغراب بن سفيان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله يا على إكفنى هذه الكتيبة ، فحمل عليها وإنها لتقارب خمسين فارسا ، وهو عليه السلام راجل ، فما زال يضربها بالسيف حتى تتفرق عنه ثم تجتمع (1) عليه ، هكذا مرارا حتى قتل بنى سفيان بن عويف الاربعة ، وتمام العشرة منها ، ممن لا يعرف باسمائهم ، فقال جبرئيل
__________
(1) ا : (يجمع) .
(*)(14/250)
عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وآله يا محمد ، إن هذه المواساة ، لقد عجبت الملائكة من مواساة هذا الفتى فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وما يمنعه وهو منى وأنا منه فقال جبرائيل عليه السلام وأنا منكما .
قال : وسمع ذلك اليوم صوت من قبل السماء ، لا يرى شخص الصارخ به ، ينادى مرارا : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا على فسئل رسول الله صلى الله عليه وآله عنه ، فقال هذا جبرائيل .
قلت وقد روى هذا الخبر جماعة من المحدثين وهو من الاخبار المشهورة ، ووقفت عليه في بعض نسخ مغازى محمد بن إسحاق ، ورأيت بعضها خاليا عنه ، وسألت شيخي عبد الوهاب بن سكينة رحمه الله عن هذا الخبر ، فقال : خبر صحيح ، فقلت : فما بال الصحاح لم تشتمل عليه قال : أو كلما كان صحيحا تشتمل عليه كتب الصحاح كم قد أهمل جامعوا الصحاح من الاخبار الصحيحة .
قال الواقدي : وأقبل عثمان بن عبد الله بن المغيرة المخزومى يحضر (1) فرسا له أبلق ، يريد رسول الله صلى الله عليه وآله ، عليه لامة كاملة ، ورسول الله صلى الله عليه وآله متوجه إلى الشعب وهو يصيح لا نجوت إن نجوت فيقف رسول الله صلى الله عليه وآله ، ويعثر بعثمان فرسه في بعض تلك الحفر التى حفرها أبو عامر الفاسق للمسلمين ، فيقع الفرس لوجهه ، وسقط عثمان عنه ، وخرج الفرس غائرا ، فيأخذه بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ، ويمشى إليه الحارث بن الصمة ، فاضطربا ساعة بالسيفين ، ثم يضرب الحارث رجله ، وكانت درعه مشمرة فبرك ، وذفف (2) عليه ، وأخذ الحارث
__________
(1) يحضر فرسا : يجريه ، والحضر : ضرب من السير .
(2) ذفف عليه : أجهز .
(*)(14/251)
يومئذ سلبه : درعا جيدا ، ومغفرا ، وسيفا جيدا ، ولم يسمع بأحد من المشركين سلب يومئذ غيره ، ورسول الله صلى الله عليه وآله ينظر إلى قتالهما ، فسأل عن الرجل قيل عثمان بن عبد الله بن المغيرة ، قال : الحمد لله الذى أحانه (1) ، وقد كان عبد الله بن جحش أسره من قبل ببطن نخلة ، حتى قدم به على رسول الله صلى الله عليه وآله ، فافتدى ورجع إلى قريش ، وغزا معهم أحدا ، فقتل هناك ، ويرى مصرع عثمان عبيد بن حاجز العامري احد بنى عامر بن لؤى ، فاقبل يعدو كأنه سبع ، فيضرب حارث بن الصمة ضربة على عاتقه ، فوقع الحارث جريحا حتى احتمله أصحابه ، ويقبل أبو دجانة على عبيد بن حاجز ، فتناوشا ساعة من نهار ، وكل واحد منهما يتقى بالدرقة سيف صاحبه ، ثم حمل عليه أبو دجانة فاحتضنه ، ثم جلد به الارض ، وذبحه بالسيف كما تذبح الشاة ، ثم انصرف ، فلحق برسول الله صلى الله عليه وآله .
قال الواقدي : ويروى أن سهل بن حنيف ، جعل ينضح بالنبل عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقال نبلوا سهلا (2) فإنه سهل ، ونظر رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أبى الدرداء ، والناس منهزمون في كل وجه ، فقال نعم الفارس عويمر ، غير أنه لم يشهد أحدا .
قال الواقدي : وروى الحارث بن عبيد الله بن كعب بن مالك ، قال : حدثنى من نظر إلى أبى سبرة بن الحارث بن علقمة ، ولقى أحد المشركين ، فاختلفا ضربات ، كل ذلك يروغ أحدهما عن الاخر ، قال : فنظر الناس إليهما كأنهما سبعان ضاريان يقفان مرة ويقتلان أخرى ، ثم تعانقا ، فوقعا إلى الارض جميعا ، فعلاه أبو سبرة فذبحه بسيفه كما تذبح الشاة ، ونهض عنه فيقبل خالد بن الوليد وهو على فرس أدهم أغر محجل ، يجر قناة طويلة ، فطعن أبا سبرة من خلفه ، فنظرت إلى سنان الرمح خرج من صدره ،
__________
(1) أحانه : أهلكه .
(2) نبلوا سهلا ، أي أعطوه النبل .
(*)(14/252)
ووقع أبو سبرة ميتا ، وانصرف خالد بن الوليد ، يقول أنا أبو سليمان .
قال الواقدي : وقاتل طلحة بن عبيد الله يومئذ عن النبي صلى الله عليه وآله قتالا شديدا ، وكان طلحة يقول لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله حيث إنهزم أصحابه ، وكثر المشركون ، فأحدقوا بالنبي صلى الله عليه وآله من كل ناحية ، فما أدرى أقوم من بين يديه أو من ورائه أم عن يمينه أم شماله فأذب بالسيف عنه هاهنا وهاهنا حتى انكشفوا ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله يومئذ يقول لطلحة : (لقد أوجب) وروى (لقد أنحب) أي قضى نذره .
قال الواقدي : وروى أن سعد بن ابى وقاص ذكر طلحة فقال يرحمه الله : إنه كان أعظمنا غناء عن رسول الله صلى الله عليه وآله يوم أحد ، قيل : كيف يا أبا إسحاق قال : لزم النبي صلى الله عليه وآله وكنا نتفرق عنه ، ثم نثوب إليه ، لقد رأيته يدور حول النبي صلى الله عليه وآله يترس بنفسه .
قال الواقدي : وسئل طلحة يا أبا محمد ، ما أصاب إصبعك قال : رمى مالك بن زهير الجشمى بسهم يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكان لا تخطى رميته - فاتقيت بيدى عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأصاب خنصرى فشل .
قال الواقدي : وقالوا إن طلحة قال : لما رمى حس (1) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : لو قال : (بسم الله لدخل الجنة ، والناس ينظرون [ إليه ] (2) ، من أحب إن ينظر إلى رجل يمشى في الدنيا وهو من أهل الجنة ، فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله ، طلحة ممن قضى نحبه (3) .
__________
(1) حس ، بالبناء على الكسر ، كل من يفجؤه ما يؤلمه ، ومنه قولهم : ضرب فما قال حس .
(2) أنساب الاشراف 1 : 318 .
(3) في اللسان : (طلحة ممن قضى نحبه) النحب : النذر ، كأنه ألزم نفسه أن يصدق الاعداء في الحرب فوفى به ولم يفسح ، وقيل : هو النحب الموت ، كأنه ألزم نفسه أن يقاتل حتى يموت) .
(*)(14/253)
قال الواقدي : وكان طلحة يحدث يقول لما جال المسلمون تلك الجولة ، ثم تراجعوا أقبل رجل من بنى عامر بن لؤى يدعى شيبة بن مالك بن المضرب ، يجر رمحه ، وهو على فرس أغر كميت مدججا في الحديد ، يصيح أنا أبو ذات الوذع ، دلوني على محمد ، فاضرب عرقوب فرسه ، فاكتسعت (1) به ، (2) ثم أتناول رمحه ، فو الله ما أخطأت به عن حدقته ، فخار كما يخور الثور ، فما برحت به واضعا رجلى على خده حتى أزرته شعوب (3) .
قال الواقدي : وكان طلحة قد أصابته في رأسه المصلبه ضربه رجل من المشركين ، ضربتين ، ضربة وهو مقبل ، وضربه وهو معرض عنه ، وكان نزف منها الدم ، قال أبو بكر : جئت النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، فقال : عليك بابن عمك ، فأتى طلحة بن عبيد الله ، وقد نزف الدم ، فجعلت أنضح في وجهه الماء وهو مغشى عليه ، ثم أفاق ، فقال ما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله فقلت خيرا ، هو أرسلني إليك ، فقال الحمد لله ، كل مصيبة بعده جلل .
قال الواقدي : وكان ضرار بن الخطاب الفهرى يقول نظرت إلى طلحة بن عبيد الله قد حلق رأسه عند المروة في عمرة ، فنظرت إلى المصلبة في رأسه ، فكان ضرار يقول انا والله ضربته ، هو استقبلني فضربته ، ثم أكر عليه ، وقد أعرض ، فاضربه ضربه أخرى .
__________
(1) كذا في ا واللسان ، وفي ب والواقدي : (انكسعت) ، وفي اللسان : (وحديث طلحة يوم أحد : (فضربت عرقوب فرسه فاكتسعت به ، أي سقطت) .
(2) من اللسان .
(3) في اللسان : (وفي حديث طلحة : حتى أزرته شعوب ، أوردته المنية فزارها .
وشعوب من أسماء المنية .
(*)(14/254)
قال الواقدي : ولما كان يوم الجمل ، وقتل على عليه السلام من قتل من الناس ، ودخل البصرة ، جاءه رجل من العرب ، فتكلم بين يديه ، ونال من طلحة ، فزبره على عليه السلام ، وقال : إنك لم تشهد يوم أحد ، وعظم غنائه عن الاسلام ، مع مكانه من رسول الله صلى الله عليه وآله ، فانكسر الرجل وسكت ، فقال له قائل من القوم وما كان غناؤه وبلاؤه يرحمه الله يوم أحد فقال على عليه السلام نعم ، يرحمه الله ، لقد رأيته وإنه ليترس بنفسه دون رسول الله صلى الله عليه وآله وأن السيوف لتغشاه ، والنبل من كل ناحية ، وما هو إلا جنة لرسول الله صلى الله عليه وآله ، يقيه بنفسه ، فقال رجل لقد كان يوم أحد يوما قتل فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأصابت رسول الله صلى الله عليه وآله فيه الجراحة ، فقال على عليه السلام أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول ليت أنى غودرت مع أصحابي بنحص (1) الجبل ، ثم قال على عليه السلام : لقد رأيتنى يومئذ وإنى لاذبهم في ناحية ، وإن أبا دجانة لفى ناحية يذب طائفة منهم ، حتى فرج الله ذلك كله ، ولقد رأيتنى وانفردت منهم يومئذ فرقة خشناء (2) ، فيها عكرمة بن أبى جهل ، فدخلت وسطهم بالسيف ، فضربت به ، واشتملوا على حتى أفضيت إلى آخرهم ، ثم كررت فيهم الثانية ، حتى رجعت من حيث جئت ، ولكن الاجل استأخر ، ويقضى الله أمرا كان مفعولا .
قال الواقدي : وحدثني جابر بن سليم عن عثمان بن صفوان ، عن عمارة بن خزيمة ، قال : حدثنى من نظر إلى الحباب بن المنذر بن الجموح ، وإنه ليحوشهم (3) يومئذ كما تحاش الغنم ، ولقد اشتملوا عليه حتى قيل قد قتل ، ثم برز والسيف في يده ، وافترقوا عنه ، وجعل يحمل على فرقه منهم ، وإنهم ليهربون منه إلى جمع منهم ،
__________
(1) ب : (بحصن ، وصوابه من ا والواقدي ، وفيه : قال ابن أبي الزناد : نحص الجبل أسفله) .
(2) فرقة خشناء ، أي كثيرة السلاح .
(3) يحوشهم ، أي يجمعهم .
(*)(14/255)
وصار الحباب إلى النبي صلى الله عليه وآله ، وكان الحباب يومئذ معلما بعصابة خضراء في مغفره .
قال الواقدي : وطلع يومئذ عبد الرحمن بن أبى بكر على فرس مدججا لا يرى منه إلا عيناه ، فقال من يبارز أنا عبد الرحمن بن عتيق فنهض إليه أبو بكر ، وقال : أنا أبارزه ، وجرد سيفه فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : شم سيفك ، وارجع إلى مكانك ، ومتعنا بنفسك .
قال الواقدي : وقال رسول الله صلى الله عليه وآله : ما وجدت لشماس بن عثمان شبها إلا الجنة ، يعنى مما يقاتل عن رسول الله يومئذ ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأخذ يمينا ولا شمالا إلا رأى شماس بن عثمان في ذلك الوجه ، يذب بسيفه عنه ، حتى غشى رسول الله صلى الله عليه وآله ، فترس (1) بنفسه دونه ، حتى قتل ، فذلك قول رسول الله صلى الله عليه وآله : (ما وجدت لشماس شبها إلا الجنة) .
قال الواقدي : ولما ولى المسلمون حين عطف عليهم خالد بن الوليد من خلفهم ، كان أول من اقبل من المسلمين بعد التولية قيس بن محرث مع طائفة من الانصار ، وقد كانوا بلغوا بنى حارثة فرجعوا سراعا فصادفوا المشركين في كثرتهم ، فدخلوا في حومتهم ، فما أفلت منهم رجل حتى قتلوا كلهم ، ولقد ضاربهم قيس بن محرث ، فامتنع بسيفه حتى قتل منهم نفرا ، فما قتلوه إلا بالرماح ، نظموه ، ولقد وجد به أربع عشرة طعنة جائفة (2) وعشر ضربات بالسيف .
قال الواقدي : وكان عباس بن عبادة بن نظلة المعروف بابن قوقل ، وخارجة بن
__________
(1) ترس بنفسه ، أي جعل نفسه كالترس .
(2) الطعنة الجائفة : التي تبلع الجوف ، وفي الواقدي : (قد جافته) .
(*)(14/256)
زيد بن أبى زهير ، وأوس بن أرقم بن زيد ، وعباس رافع صوته يقول يا معشر المسلمين ، الله ونبيكم هذا الذى أصابكم بمعصية نبيكم ، وعدكم (1) النصر فما صبرتم ثم نزع مغفره عن رأسه ، وخلع درعه وقال لخارجة : بن زيد : هل لك في درعى ومغفري قال خارجة : لا ، أنا أريد الذى تريد ، فخالطوا القوم جميعا ، وعباس يقول ما عذرنا عند ربنا إن أصيب نبينا ومنا عين تطرف قال : فيقول (2) خارجة : لا عذر لنا والله عند ربنا ولا حجة ، فأما عباس فقتله سفيان بن عبد شمس السلمى ، ولقد ضربه عباس ضربتين ، فجرحه جرحين عظيمين ، فارتث يومئذ جريحا ، فمكث جريحا سنة ، ثم استبل .
وأخذت خارجة بن زيد الرماح ، فجرح بضعة عشر جرحا ، فمر به صفوان بن أمية ، فعرفه فقال هذا من أكابر أصحاب محمد ، وبه رمق ، فأجهز عليه .
وقتل أوس بن أرقم ، وقال صفوان : من رأى خبيب بن يساف وهو يطلبه فلا يقدر عليه .
ومثل يومئذ بخارجة ، وقال هذا ممن أغرى بأبى يوم بدر - يعنى أمية بن خلف - وقال الان شفيت نفسي حين قتلت الاماثل من أصحاب محمد ، قتلت ابن قوقل ، وقتلت ابن أبى زهير ، وقتلت أوس بن أرقم .
قال الواقدي : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ : من يأخذ هذا السيف بحقه قالوا : وما حقه يا رسول الله قال : يضرب به العدو ، فقال عمر : أنا يا رسول الله ، فاعرض عنه ، ثم عرضه رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك الشرط ، فقام الزبير ، فقال : أنا ، فأعرض عنه ، حتى وجد (3) عمر والزبير في أنفسهما ، ثم عرضه الثالثة ، فقام أبو دجانة ، وقال : أنا يا رسول الله آخذه بحقه ، فدفعه إليه .
فصدق حين لقى به العدو ، وأعطى السيف حقه ، فقال أحد الرجلين - أما عمر بن الخطاب أو الزبير : : والله لاجعلن هذا الرجل الذى أعطاه السيف ومنعنيه من شأني ، قال : فاتبعته ، فو الله ما رأيت أحدا قاتل أفضل
__________
(1) ا : (فيوعدكم) .
(2) الواقدي : (يقول) .
(3) أي غضبا .
(*)(14/257)
من قتاله ، لقد رأيته يضرب به حتى إذا كل عليه وخاف ألا يحيك (1) عمد به إلى الحجارة ، فشحذه ، ثم يضرب به العدو ، حتى يرده (2) كأنه منجل ، وكان حين أعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله السيف مشى بين الصفين ، واختال في مشيته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله حين رآه يمشى تلك المشيه إن هذه لمشية يبغضها الله تعالى إلا في مثل هذا الموطن ، قال : وكان أربعة من اصحاب النبي صلى الله عليه وآله يعلمون في الزحوف ، أحدهم أبو دجانة ، كان يعصب رأسه بعصابة حمراء ، وكان قومه يعلمون إنه إذا اعتصب بها أحسن القتال ، وكان على عليه السلام يعلم بصوفة بيضاء ، وكان الزبير يعلم بعصابة صفراء ، وكان حمزة يعلم بريش نعامة .
قال الواقدي : وكان أبو دجانة يحدث يقول انى لانظر يومئذ إلى امرأة تقذف الناس وتحوشهم حوشا منكرا ، فرفعت عليها السيف ، وما أحسبها إلا رجلا ، حتى علمت إنها امرأة ، وكرهت أن اضرب بسيف رسول الله صلى الله عليه وآله امرأة - والمرأة عمرة بنت الحارث .
قال الواقدي : وكان كعب بن مالك يقول أصابني الجراح يوم أحد ، فلما رأيت المشركين يمثلون بالمسلمين أشد المثل وأقبحها ، قمت فتنحيت عن القتلى ، فإنى لفى موضعي أقبل خالد بن الاعلم العقيلى جامع اللامة يحوش المسلمين ، يقول استوسقوا (3) كما يستوسق جرب الغنم ، وهو مدجج في الحديد ، يصيح يا معشر قريش ، لا تقتلوا محمدا ، ائسروه أسرا حتى نعرفه ما صنع ، ويصمد له قزمان فيضربه بالسيف ضربة على عاتقه رأيت منها سحره ، ثم أخذ سيفه وانصرف ، فطلع عليه من المشركين فارس ما أرى منه إلا عينيه ، فحمل عليه قزمان ، فضربه ضربة جزلة اثنين ، فإذا هو الوليد بن العاص بن هشام المخزومى ، ثم يقول كعب إنى لانظر يومئذ وأقول ما رأيت مثل هذا الرجل أشجع
__________
(1) لا يحيك : لا يؤثر .
(2) ا : (رده) .
(3) استوسقوا : اجتمعوا .
(*)(14/258)
بالسيف ، ثم ختم له بما ختم له به فيقال له فما ختم له به فيقول من أهل النار ، قتل نفسه يومئذ .
قال الواقدي : وروى أبو النمر الكنانى ، قال : أقبلت يوم أحد وأنا من المشركين ، وقد انكشف المسلمون ، وقد حضرت في عشرة من إخوتى ، فقتل منهم أربعة ، وكان الريح للمسلمين أول ما التقينا ، فلقد رأيتنى وانكشفنا مولين ، وأقبل اصحاب النبي صلى الله عليه وآله على نهب العسكر ، حتى بلغت الجماء ، ثم كرت خيلنا ، فقلت والله ما كرت الخيل إلا عن أمر رأته ، فكررنا على أقدامنا كأننا الخيل ، فنجد القوم قد أخذ بعضهم بعضا ، يقاتلون على غير صفوف ، ما يدرى بعضهم من يضرب ، وما للمسلمين لواء قائم ، ومع رجل من بنى عبد الدار لواء المشركين ، وأنا أسمع شعار أصحاب محمد بينهم : (أمت أمت) ، فاقول في نفسي : ما (أمت) وإنى لانظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن أصحابه محدقون به ، وأن النبل ليمر عن يمينه ويساره ، ويقع بين يديه ، ويخرج من ورائه ، ولقد رميت يومئذ بخمسين مرماة ، فأصبت منها بأسهم بعض أصحابه ، ثم هداني الله إلى الاسلام .
قال الواقدي : وكان عمرو بن ثابت بن وقش شاكا في الاسلام ، وكان قومه يكلمونه في الاسلام ، فيقول لو أعلم ما تقولون حقا ما تأخرت عنه ، حتى إذا كان يوم أحد بدا له الاسلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد ، وأخذ سيفه وأسلم ، وخرج حتى دخل في القوم ، فقاتل حتى أثبت (1) ، فوجد في القتلى جريحا ميتا ، فدنوا منه وهو بآخر رمق ، فقالوا : ما جاء بك يا عمرو قال : الاسلام ، آمنت بالله وبرسوله ، وأخذت سيفى وحضرت فرزقني الله الشهادة ، ومات في أيديهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إنه لمن أهل الجنة) .
__________
(1) اثبت ، أي جرح .
(*)(14/259)
قال الواقدي : فكان أبو هريرة يقول ، والناس حوله : أخبروني برجل يدخل الجنة لم يصل لله تعالى سجدة فيسكت الناس ، فيقول أبو هريرة : هو أخو بنى عبد الاشهل عمرو بن ثابت بن وقش .
قال الواقدي : وكان مخيرق اليهودي من أحبار يهود ، فقال يوم السبت ورسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد : يا معشر يهود ، والله إنكم لتعلمون أن محمدا نبى ، وأن نصره عليكم حق .
فقالوا ويحك اليوم يوم السبت ، فقال لا سبت ، ثم أخذ سلاحه وحضر مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فأصيب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (مخيرق خير يهود) .
قال الواقدي : وكان مخيرق قال حين خرج إلى أحد : إن أصبت فأموالى لمحمد يضعها حيث أراه الله فيه ، فهى عامة صدقات النبي صلى الله عليه وسلم .
قال الواقدي : وكان حاطب بن أمية منافقا ، وكان ابنه يزيد بن حاطب رجل صدق ، شهد أحدا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأرتث (1) جريحا ، فرجع به قومه إلى منزله ، قال : يقول أبوه وهو يرى أهل الدار يبكون عنده : أنتم والله صنعتم هذا به ، قالوا : كيف قال : أغررتموه من نفسه حتى خرج فقتل ، ثم صرتم معه إلى شئ آخر تعدونه جنة ، يدخل فيها حبة من حرمل ، قالوا قاتلك الله قال : هو ذاك ، ولم يقر بالاسلام (2) .
قال الواقدي : وكان قزمان عسيفا (3) من بنى ظفر ، لا يدرى ممن هو ، وكان لهم محبا ،
__________
(1) أرثت : حمل من المعركة جريحا وبه رمق .
(2) الخبر في ابن هشام 3 : 37 عن عاصم بن عمر بن قتادة : (أن رجلا منهم كان يدعى حاطب ابن أمية بن رافع ، وگان له ابن يقال له زيد بن حاطب ، أصابته جراحة يوم أحد ، فأتي به إلى قومه وهو بالموت ، فاجتمع إليه أهل الدار ، فجعل المسلمون يقولون له من الرجال والنساء : أبشر يابن حاطب بالجنة ، قال : وكان حاطب شيخا قد عسا (أي كبر) في الجاهلية ، فنجم يومئذ نفاقه ، فقال : بأي شئ تبشرونه ! أبحقه من حرمل ! غررتم والله هذا الغلام من نفسه ! (3) عسيفا ، أي اجيرا .
(*)(14/260)
وكان مقلا ولا ولد له ولا زوجة ، وكان شجاعا يعرف بذلك في حروبهم التى كانت تكون بينهم ، فشهد أحدا ، وقاتل قتالا شديدا ، فقتل ستة أو سبعة ، فأصابته الجراح فقيل للنبى صلى الله عليه وسلم أن قزمان قد أصابته الجراح ، فهو شهيد ، فقال : بل من أهل النار ، فجاؤوا الى قزمان ، فقالوا هينئا لك أبا الغيداق الشهادة فقال : بم تبشرونني والله ما قاتلنا إلا على الاحساب ، قالوا : بشرناك بالجنة ، قال : حبة والله من حرمل ، إنا والله ما قاتلنا على جنة ولا على نار ، إنما قاتلنا على أحسابنا ، ثم أخرج سهما من كنانته ، فجعل يتوجأ به نفسه ، فلما أبطأ عليه المشقص ، أخذ السيف ، فاتكأ عليه ، حتى خرج من ظهره ، فذكر ذلك للنبى صلى الله عليه وآله فقال : (هو من أهل النار) .
قال الواقدي : وكان عمرو بن الجموح رجلا أعرج ، فلما كان يوم أحد ، وكان له بنون أربعة يشهدون مع النبي صلى الله عليه وسلم المشاهد أمثال الاسد ، أراد قومه أن يحبسوه ، وقالوا أنت رجل أعرج ، ولا حرج عليك ، وقد ذهب بنوك مع النبي صلى الله عليه وسلم قال : بخ ! يذهبون إلى الجنة وأجلس أنا عندكم فقالت هند بنت عمرو بن حزام امرأته : كأنى أنظر إليه موليا قد أخذ درقته ، وهو يقول اللهم لا تردني إلى أهلى ، فخرج ولحقه بعض قومه يكلمونه في القعود ، فأبى وجاء الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن قومي يريدون أن يحبسونى عن هذا الوجه والخروج معك ، والله إنى لارجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة ، فقال له أما أنت فقد عذرك الله ولا جهاد عليك ، فأبى ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقومه وبنيه : لا عليكم أن تمنعوه ، لعل الله يرزقه الشهادة ، فخلوا عنه .
فقتل يومئذ شهيدا .
وكان أبو طلحة يحدث ، يقول نظرت إلى عمرو بن الجموح حين انكشف المسلمون ، ثم ثابوا وهو في الرعيل الاول ، لكأنى أنظر إلى ضلعه وهو يعرج في مشيته ، وهو يقول أنا والله مشتاق إلى الجنة ، ثم انظر إلى إبنه يعدو في أثره ، حتى قتلا جميعا .(14/261)
قال الواقدي : وكانت عائشة خرجت في نسوة تستروح الخبر ، ولم يكن قد ضرب الحجاب يومئذ ، حتى كانت بمنقطع الحرة وهى هابطه من بنى حارثة إلى الوادي ، لقيت هندا بنت عمرو بن حزام ، أخت عبد الله بن عمرو بن حزام ، تسوق بعيرا لها ، عليه زوجها عمرو بن الجموح ، وابنها خلاد بن عمرو بن الجموح ، وأخوها عبد الله بن عمرو بن حزام (1) أبو جابر بن عبد الله ، فقالت لها عائشة : عندك الخبر ، فما وراءك فقالت هند : خير ، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فصالح ، وكل مصيبة بعده جلل ، واتخذ الله من المؤمنين شهداء : (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا) .
قلت هكذا وردت الرواية ، وعندي إنها لم تقل كل ذلك ، ولعلها قالت : (ورد الله الذين كفروا بغيظهم) ، لا غير ، وإلا فكيف يواطئ كلامها آية من كلام الله تعالى أنزلت بعد الخندق والخندق بعد أحد هذا من البعيد جدا .
قال : فقالت لها عائشة : فمن هؤلاء قالت أخى وابني وزوجي قتلى ، قالت فاين تذهبين بهم قالت إلى المدينة أقبرهم بها ، (حل حل) ، تزجر بعيرها ، فبرك البعير ، فقالت عائشة : لثقل ما حمل ، قالت هند : ما ذاك به ، لربما حمل ما يحمله البعيران ، ولكني أراه لغير ذلك ، فزجرته فقام ، فلما وجهت به إلى المدينة برك ، فوجهته راجعة إلى أحد ، فأسرع ، فرجعت الى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك ، فقال إن الجمل لمأمور ، هل قال عمرو شيئا قالت : نعم ، إنه لما وجه إلى أحد إستقبل القبلة ، ثم قال : اللهم لا تردني إلى أهلى ، وارزقني الشهادة ، فقال صلى الله عليه وسلم : فلذلك الجمل لا يمضى ، إن منكم يا معشر الانصار من لو أقسم على الله لابره ، منهم عمرو بن الجموح ، يا هند ما زالت الملائكة مظلة على أخيك من لدن قتل إلى الساعة ، ينظرون أين يدفن ثم مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبرهم ، ثم قال : يا هند ، قد ترافقوا في الجنة
__________
(1) الواقدي : (حرام) .
(*)(14/262)
جميعا ، عمرو بن الجموح بعلك ، وخلاد ابنك ، وعبد الله أخوك .
فقالت هند يا رسول الله ، فادع الله لى عسى أن يجعلني معهم .
قال الواقدي : وكان جابر بن عبد الله ، يقول اصطبح ناس يوم أحد الخمر ، منهم أبى ، فقتلوا شهداء .
قال الواقدي : وكان جابر يقول : أول قتيل من المسلمين يوم أحد أبى ، قتله سفيان بن عبد شمس أبو الاعور السلمى ، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهزيمة .
قال الواقدي : وكان جابر يحدث ، ويقول : استشهد أبى ، وجعلت عمتى تبكى ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما يبكيها ما زالت الملائكة تظل عليه بأجنحتها حتى دفن .
قال الواقدي : وقال عبيد الله بن عمرو بن حزام : رأيت في النوم قبل يوم أحد بأيام مبشر بن عبد المنذر ، أحد الشهداء ببدر ، يقول لى أنت قادم علينا في أيام فقلت : فأين أنت قال : في الجنة نسرح منها حيث نشاء ، فقلت له : ألم تقتل يوم بدر قال : بلى ، ثم أحييت ، فذكر ذلك لرسول الله قال : (هذه الشهادة يا جابر) .
قال الواقدي : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد : ادفنوا عبد الله بن عمرو بن حزام وعمرو بن الجموح في قبر واحد ، ويقال : إنهما وجدا وقد مثل بهما كل مثلة قطعت آرابهما (1) عضوا عضوا ، فلا تعرف أبدانهما .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم (ادفنوهما في قبر واحد) ويقال إنما أمر بدفنهما في قبر واحد ، لما كان بينهما
__________
(1) الاراب : جمع أرب ، بالكسر والسكون ، وهو العضو .
(*)(14/263)
من الصفاء ، فقال : ادفنوا هذين المتحابين في الدنيا في قبر واحد .
وكان عبد الله بن عمرو بن حرام رجلا أحمر أصلع ، ليس بالطويل ، وكان عمرو بن الجموح طويلا ، فعرفا ودخل السيل بعد عليهما ، وكان قبرهما مما يلى السيل ، فحفر عنهما ، وعليهما نمرتان وعبد الله قد أصابه جرح في وجهه ، فيده على وجهه (1) فأميطت يده عن جرحه ، فثعب (2) الدم ، فردت إلى مكانها فسكن الدم .
قال الواقدي : وكان جابر بن عبد الله يقول رأيت أبى في حفرته ، وكأنه نائم ، وما تغير من حاله قليل ولا كثير ، فقيل له : أفرايت أكفانه قال : إنما كفن في نمرة (3) خمر بها وجهه ، وعلى رجليه الحرمل فوجدنا النمرة كما هي ، والحرمل على رجليه كهيئته ، وبين ذلك وبين وقت دفنه ست وأربعون سنة ، فشاورهم جابر في أن يطيبه بمسك ، فأبى ذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا لا تحدثوا فيهم شيئا .
قال : ويقال أن معاوية لما أراد أن يجرى العين التى أحدثها بالمدينة ، وهى كظلمة نادى مناديه بالمدينة : من كان له قتيل بأحد فليشهد .
فخرج الناس إلى قتلاهم فوجدوهم رطابا يتثنون ، فأصابت المسحاة رجل رجل منهم ، فثعبت دما ، فقال أبو سعيد الخدرى : لا ينكر بعد هذا منكر أبدا .
قال : ووجد عبد الله بن عمرو بن حزام وعمرو بن الجموح في قبر واحد ، ووجد خارجة بن زيد بن أبى زهير وسعد بن الربيع في قبر واحد ، فأما قبر عبد الله وعمرو فحول ، وذلك أن القناة كانت تمر على قبرها ، وأما قبر خارجة وسعد فترك ، وذلك لان مكانه كان معتزلا ، وسوى عليهما التراب ، ولقد كانوا يحفرون التراب ، فكلما حفروا قترة من تراب ، فاح عليهم المسك .
__________
(1) ا : (جرحه) .
(2) ثعب الدم : سال .
(3) النمرة : بردة من صوف .
(*)(14/264)
قال : وقالوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجابر ، يا جابر ، ألا أبشرك فقال : بلى ، بأبى وأمى قال : فان الله أحيا أباك ، ثم كلمه كلاما ، فقال له تمن على ربك ما شئت فقال اتمنى أن أرجع فأقتل مع نبيك ، ثم أحيا فاقتل مع نبيك ، فقال إنى قد قضيت أنهم لا يرجعون .
قال الواقدي : وكانت نسيبة بنت كعب أم عمارة بن غزية بن عمرو قد شهدت أحدا ، وزوجها (1) غزية وابناها عمارة بن غزية وعبد الله بن زيد ، وخرجت ومعها شن (2) لها في أول النهار تريد تسقى الجرحى ، فقاتلت يومئذ وأبلت بلاء حسنا ، فجرحت إثنى عشر جرحا بين طعنة برمح أو ضربة بسيف ، فكانت أم سعد بنت سعد بن الربيع تحدث ، فتقول : دخلت عليها ، فقالت لها يا خالة ، حدثينى خبرك ، فقالت خرجت أول النهار إلى أحد ، وأنا أنظر ما يصنع الناس ، ومعى سقاء فيه ماء ، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصحابة والدولة والريح للمسلمين ، فلما انهزم المسلمون ، إنحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعلت أباشر القتال ، وأذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف ، وأرمى بالقوس ، حتى خلصت إلى الجراح ، فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غور ، فقلت يا أما عمارة ، من أصابك بهذا قالت أقبل ابن قميئة ، وقد ولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصيح دلوني على محمد ، لا نجوت إن نجا فاعترض له مصعب بن عمير وناس معه ، فكنت فيهم ، فضربني هذه الضربة ، ولقد ضربته على ذلك ضربات ، ولكن عدو الله كان عليه درعان .
فقالت لها يدك ما أصابها قالت أصيبت يوم اليمامة ، لما جعلت الاعراب تنهزم بالناس ، نادت الانصار : أخلصونا .
فأخلصت الانصار ، فكنت معهم ، حتى انتهينا إلى حديقة الموت ، فاقتتلنا عليها ساعة ، حتى قتل أبو دجانة على باب الحديقة ، ودخلتها
__________
(1) كذا في ا والواقدي ، وفي ب : (وتزوجها) .
(2) الشن : القربة الخلق الصغيرة ، يكون فيها الماء أبرد من غيرها .
(*)(14/265)
وأنا أريد عدو الله مسيلمة ، فيعرض لى رجل ، فضرب يدى فقطعها ، فو الله ما كانت ناهية ، ولا عرجت عليها ، حتى وقفت على الخبيث مقتولا ، وابنى عبد الله بن يزيد المازنى يمسح سيفه بثيابه ، فقلت : أقتلته قال : نعم ، فسجدت شكرا لله عز وجل وانصرفت .
قال الواقدي : وكان ضمرة بن سعيد يحدث عن جدته ، وكانت قد شهدت أحدا تسقى الماء ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يومئذ : لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان .
وكان يراها يومئذ تقاتل أشد القتال ، وإنها لحاجزة ثوبها على وسطها ، حتى جرحت ثلاثة عشر جرحا .
قلت ليت الراوى لم يكن هذه الكناية ، وكان يذكرها بإسمهما حتى لا تترامى الظنون إلى أمور مشتبهة ومن أمانة المحدث أن يذكر الحديث على وجهه ولا يكتم منه شيئا ، فما باله كتم اسم هذين الرجلين .
قال : فلما حضرت نسيبة (1) الوفاة ، كنت فيمن غسلها فعددت جراحها جرحا جرحا فوجدتها ثلاثة عشر ، وكانت تقول إنى لانظر إلى ابن قميئة وهو يضربها على عاتقها - وكان أعظم جراحها ، لقد داوته سنة - ثم نادى منادى النبي صلى الله عليه وسلم بعد انقضاء أحد : إلى حمراء الاسد فشدت عليها ثيابها ، فما استطاعت من نزف الدم ، ولقد مكثنا ليلتنا نكمد الجراح ، حتى أصبحنا ، فلما رجع رسول الله من حمراء الاسد ، لم يصل إلى بيته حتى أرسل إليها عبد الله بن كعب المازنى يسأل عنها ، فرجع إليه فأخبره بسلامتها ، فسر بذلك .
قال الواقدي : وحدثني عبد الجبار بن عمارة بن غزية ، قال : قالت أم عمارة :
__________
(1) الواقدي : (فلما حضرتها) .
(*)(14/266)
لقد رأيتنى وانكشف الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فما بقى إلا نفير ما يتمون عشرة ، وأنا وابنائي وزوجي بين يديه نذب عنه ، والناس يمرون عنه منهزمين ، فرأني ولا ترس معى ، ورأى رجلا موليا معه ترس ، فقال يا صاحب الترس ، ألق ترسك إلى من يقاتل .
فألقى ترسه فأخذته ، فجعلت أترس به على النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما فعل بنا الافاعيل أصحاب الخيل ، ولو كانوا رجاله مثلنا أصبناهم ، فيقبل رجل على فرس ، فضربني وترست له ، فلم يصنع سيفه شيئا ، وولى وأضرب عرقوب فرسه ، فوقع على ظهره ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصيح : يا بن عمارة ، أمك أمك قالت فعاونني عليه حتى أوردته شعوب (1) .
قال الواقدي : وحدثني ابن أبى سبرة ، عن عمرو بن يحيى ، عن أبيه ، عن عبد الله بن زيد المازنى ، قال : جرحت جرحا في عضدي اليسرى ، ضبنى رجل كأنه الرقل ولم يعرج على ، ومضى عنى ، وجعل الدم لا يرقأ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اعصب جرحك ، فتقبل إمى إلى ، ومعها عصائب في حقويها قد أعدتها للجراح ، فربطت جرحى والنبى صلى الله عليه وسلم واقف ينظر ، ثم قالت إنهض يا بنى ، فضارب القوم ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة قالت : وأقبل الرجل الذى ضربني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا ضارب أبنك ، فاعترضت أمي له ، فضربت ساقه ، فبرك ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم تبسم حتى بدت نواجذه ، ثم قال : استقدت يا أم عمارة .
ثم أقبلنا نعلوه (2) بالسلاح حتى أتينا على نفسه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الحمد لله الذى ظفرك وأقر عينك من عدوك ، وأراك ثأرك بعينك .
__________
(1) شعوب : اسم المنية .
(2) ب : (نعله) ، والصواب ما أثبته من ا والواقدي .
(*)(14/267)
قال الواقدي : وروى موسى بن ضمرة بن سعيد ، عن أبيه ، قال : أتى عمر بن الخطاب في أيام خلافته بمروط (1) كان فيها مرط واسع جيد ، فقال بعضهم إن هذا المرط بثمن كذا ، فلو أرسلت به إلى زوجة عبد الله بن عمر صفية بنت أبى عبيد ، وذلك حدثان (2) ما دخلت على ابن عمر ، فقال بل أبعث به إلى من هو أحق منها ، أم عمارة نسيبة بنت كعب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد يقول : ما التفت يمينا وشمالا إلا وأنا أراها تقاتل دوني .
قال الواقدي : وروى مروان بن سعيد بن المعلى ، قال : قيل لام عمارة يا أم عمارة ، هل كن نساء قريش يومئذ يقاتلن مع أزواجهن فقالت : أعوذ بالله ، لا والله ما رأيت امرأة منهن رمت بسهم ولا حجر ، ولكن رأيت معهن الدفاف والاكبار يضربن ويذكرن القوم قتلى بدر ، ومعهن مكاحل ومراود ، فكلما ولى رجل أو تكعكع ناولته إحداهن مرودا ومكحلة ، ويقلن إنما أنت امرأة ، ولقد رأيتهن ولين منهزمات مشمرات ، ولها عنهن الرجال أصحاب الخيل ، ونجوا على متون خيلهم ، وجعلن يتبعن الرجال على أقدامهن ، فجعلن يسقطن في الطريق ، ولقد رأيت هندا بنت عتبة ، وكانت امرأة ثقيلة ، ولها خلق ، قاعدة خاشية من الخيل ، ما بها مشى ، ومعها امرأة أخرى ، حتى كثر القوم علينا ، فأصابوا منا ما أصابوا ، فعند الله نحتسب ما أصابنا يومئذ من قبل الرماة ومعصيتهم لرسول (3) الله صلى الله عليه وسلم .
قال الواقدي : وحدثني ابن أبى سبرة ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبى صعصعة ، عن الحارث بن عبد الله ، قال : سمعت عبد الله بن زيد بن عاصم ، يقول : شهدت أحد
__________
(1) المرط ، بالكسر : كساء من صوف أو خز أو كتان يؤتزر به ، وربما تلقيه المرأة على رأسها وتتلفع به وجمعه مروط .
(2) حدثان الامر : ابتداؤه .
(3) ا : (الرسول) .
(*)(14/268)
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما تفرق الناس عنه ، دنوت منه ، وأمى تذب عنه ، فقال : يا بن عمارة ، قلت نعم ، قال : إرم ، فرميت بين يديه رجلا من المشركين بحجر ، وهو على فرس ، فأصيبت عين الفرس ، فاضطرب الفرس حتى وقع هو وصاحبه ، وجعلت أعوله بالحجارة ، حتى نضدت عليه منها وقرا ، والنبى صلى الله عليه وسلم ينظر إلى ويتبسم ، فنظر إلى جرح بامى على عاتقها ، فقال أمك أمك أعصب جرحها ، بارك الله عليكم من أهل بيت لمقام أمك خير من مقام فلان وفلان .
ومقام ربيبك - يعنى زوج أمه - خير من مقام فلان ، رحمكم الله من أهل بيت فقالت : أمي ادع لنا الله يا رسول الله أن نرافقك في الجنة ، فقال : (اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة) ، قالت : فما أبالى ما أصابني من الدنيا .
قال الواقدي : وكان حنظلة بن أبى عامر تزوج جميلة بنت عبد الله بن أبى بن سلول ، فأدخلت عليه في الليلة التى في صبيحتها قتال أحد ، وكان قد استأذن رسول الله صلى الله عليه وآله أن يبيت عندها ، فأذن له ، فلما صلى الصبح غدا يريد النبي صلى الله عليه وسلم ، فلزمته جميلة ، فعاد فكان معها ، فأجنب منها ، ثم أراد الخروج ، وقد أرسلت قبل ذلك إلى أربعة من قومها ، فأشهدتهم أنه قد دخل بها ، فقيل لها بعد لم أشهدت عليه قالت : رأيت كأن السماء فرجت ، فدخل فيها ثم أطبقت .
فقلت : هذه الشهادة ، فأشهدت عليه أنه قد دخل بى ، فعلقت منه بعبد الله بن حنظلة .
ثم تزوجها ثابت بن قيس بعد ، فولدت له محمد بن ثابت بن قيس .
وأخذ حنظلة بن أبى عامر سلاحه ، فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم باحد ، وهو يسوى الصفوف ، فلما انكشف المشركون ، إعترض حنظلة لابي سفيان بن حرب ، فضرب عرقوب فرسه ، فاكتسعت الفرس ، ويقع أبو سفيان إلى الارض ، فجعل يصيح : يا معشر قريش ، أنا أبو سفيان بن حرب ! وحنظلة يريد ذبحه بالسيف ، فأسمع الصوت رجالا لا يلتفتون إليه من الهزيمة ، حتى عاينه الاسود بن شعوب ، فحمل على حنظلة بالرمح ،(14/269)
فأنفذه ، ومشى حنظلة إليه في الرمح فضربه ثانية فقتله ، وهرب أبو سفيان يعدو على قدميه ، فلحق ببعض قريش ، فنزل عن صدر فرسه ، وردف وراءه أبا سفيان ، فذلك قول أبى سفيان يذكر صبره ، ووقوفه و إنه لم يفر ، وذكره محمد بن إسحاق (1) : ولو شئت نجتنى كميت طمرة ولم أحمل النعماء لابن شعوب (2) وما زال مهرى مزجر الكلب فيهم لدن غدوة حتى دنت لغروب (3) أقاتلهم وأدعى يال غالب وأدفعهم عنى بركن صليب (4) فبكى ولا ترعى مقالة عاذل ولا تسامى من عبرة ونحيب إياك وإخوانا لنا قد تتابعوا (5) وحق لهم من حسرة بنصيب وسلى الذى قد كان في النفس إننى قتلت من النجار كل نجيب ومن هاشم قرما كريما ومصعبا وكان لدى الهيجاء غير هيوب (6) ولو أننى لم أشف نفسي منهم لكانت شجا في الصدر ذات ندوب (7) فآبوا وقد أودى الجلابيب منهم بهم كمد من واجم وكئيب (8) أصابهم من لم يكن لدمائهم كفاء ولا في سنخهم بضريب (9) .
قال الواقدي : مر أبو عامر الراهب على حنظلة ابنه وهو مقتول الى جنب
__________
(1) سيرة ابن هشام 3 : 21 ، 22 .
(2) الطمرة : الفرس السريعة الوثب ، وفي الاصول : (النعمان) تحريف .
(3) ابن هشام : (منهم) ، ومزجر الكلب ، يريد إنه قريب ، والضمير في (دنت) يعود إلى الشمس .
(4) صليب : شديد قوي (5) ابن هشام : (وإخوانا له) .
(6) القرم في الاصل : الفحل الكريم من الابل ، وعني به هاهنا حمزة بن عبد المطلب .
والمصعب : الفحل من الابل ايضا .
(7) الندوب : آثار الجروح .
(8) الجلاليب : الجماعات .
وفي ابن هشام : * بهم حدب من معبط وكئيب * (9) في ابن هشام : (ولا في حطة بضريب) .
(*)(14/270)
حمزة بن عبد المطلب ، وعبد الله بن جحش ، فقال : إن كنت لاحدرك هذا الرجل - يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم - من قبل هذا المصرع ، والله إن كنت لبرا بالوالد ، شريف الخلق في حياتك ، وإن مماتك لمع سراة أصحابك وأشرافهم ، إن جزى الله هذا القتيل - يعنى حمزة - خيرا ، أو جزى أحدا من أصحاب محمد خيرا ، فليجزك ثم نادى يا معشر قريش ، حنظلة لا يمثل به ، وإن كان خالفني وخالفكم ، فلم يأل لنفسه فيما يرى خيرا ، فمثل بالناس وترك حنظلة فلم يمثل به .
وكانت هند بنت عتبة أول من مثل باصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمرت النساء بالمثل ، وبجدع الانوف والاذان ، فلم تبق امرأة إلا عليها معضدان (1) ومسكتان (2) وخدمتان (3) إلا حنظلة لم يمثل به ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إنى رأيت الملائكة تغسل حنظلة بن أبى عامر بين السماء والارض بماء المزن في صحاف الفضة) ، قال أبو أسيد الساعدي : فذهبنا فنظرنا إليه ، فإذا رأسه يقطر ماء ، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فارسل إلى امرأته فسألها ، فأخبرته إنه خرج وهو جنب .
قال الواقدي : وأقبل وهب بن قابوس المزني ، ومعه ابن أخيه الحارث بن عقبة بن قابوس بغنم لهما من جبل مزينة ، فوجد المدينة خلوا ، فسألا : أين الناس قالوا بأحد ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين من قريش ، فقال : لا نبتغى أثرا بعد عين ، فخرجا حتى أتيا النبي صلى الله عليه وسلم بأحد ، فيجدان القوم يقتتلون ، والدولة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فأغارا مع المسلمين في النهب ، وجاءت الخيل من ورائهم ، خالد بن الوليد وعكرمة بن أبى جهل ، فاختلط الناس ، فقاتلا أشد القتال ، فانفرقت فرقة من المشركين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من لهذه الفرقة فقال وهب بن قابوس : أنا يا رسول الله ، فقام فرماهم بالنبل حتى انصرفوا ، ثم رجع فانفرقت فرقة
__________
(1) المعضد : الدملج ، وهو حلي يلبس في المعصم .
(2) المسك ، الاسورة من القرون والعاج .
(3) الخدمة : الخلخال .
(*)(14/271)
أخرى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من لهذه الكتيبة فقال المزني : أنا يا رسول الله ، فقام فذبها بالسيف حتى ولت ، ثم رجع فطلعت كتيبة أخرى ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من يقوم لهؤلاء فقال المزني : أنا يا رسول الله فقال : قم وأبشر بالجنة .
فقام المزني مسرورا يقول : والله لا أقيل ولا أستقيل ، فجعل يدخل فيهم فيضرب بالسيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه والمسلمون ، حتى خرج من أقصى الكتيبة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : اللهم ارحمه ، ثم يرجع فيهم ، فما زال كذلك وهم محدقون به ، حتى اشتملت عليه أسيافهم ورماحهم ، فقتلوه فوجد به يومئذ عشرون طعنة بالرماح ، كلها قد خلصت إلى مقتلي ، ومثل به أقبح المثل يومئذ .
ثم قام ابن أخيه ، فقاتل كنحو قتاله ، حتى قتل ، فكان عمر بن الخطاب يقول إن أحب ميتة أموت عليها لما مات عليها المزني .
قال الواقدي : وكان بلال بن الحارث المزني يحدث يقول : شهدنا القادسية مع سعد بن أبى وقاص ، فلما فتح الله علينا ، وقسمت بيننا غنائمنا ، أسقط فتى من آل قابوس من مزينة ، فجئت سعدا حين فزع من نومه ، فقال بلال : قلت : بلال ، قال : مرحبا بك ، من هذا معك قلت : رجل من قومي ، قال : ما أنت يا فتى من المزني الذى قتل يوم أحد قال : ابن أخيه .
قال سعد : مرحبا وأهلا ، أنعم الله بك عينا لقد شهدت من ذلك الرجل يوم أحد مشهدا ما شهدت من أحد قط ، لقد رأيتنا وقد أحدق المشركون بنا من كل ناحية ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطنا ، والكتائب تطلع من كل ناحية ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمى ببصره في الناس يتوسمهم ، ويقول من لهذه الكتيبة كل ذلك يقول المزني : أنا يا رسول الله ، كل ذلك يرد الكتيبة ، فما أنسى آخر مرة قالها ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم قم(14/272)
وأبشر بالجنة ، فقام وقمت على أثره ، يعلم الله إنى أطلب مثل ما يطلب يومئذ من الشهادة ، فخضنا حومتهم ، حتى رجعنا فيهم الثانية ، فأصابوه رحمه الله ، ووددت والله إنى كنت أصبت يومئذ معه ، ولكن أجل (1) استأخر ، ثم دعا من ساعته بسهمه فأعطاه وفضله ، وقال اختر في المقام عندنا أو الرجوع إلى أهلك ، فقال بلال إنه يستحب الرجوع ، فرجع .
فقال الواقدي : وقال سعد بن أبى وقاص : أشهد لرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله واقفا على المزني ، وهو مقتول وهو يقول رضى الله عنك ، فإنى عنك راض ، ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله قام على قدميه ، وقد ناله عليه السلام من ألم الجراح ما ناله ، وإنى لاعلم أن القيام يشق عليه على قبره ، حتى وضع في لحده وعليه بردة ، لها أعلام حمر ، فمد رسول الله صلى الله عليه وآله البردة على رأسه ، فخمره وأدرجه فيها طولا ، فبلغت نصف ساقيه ، فأمرنا فجمعنا الحرمل ، فجعلناه على رجليه وهو في لحده ، ثم انصرف فما حال أحب إلى من أن أموت عليها وألقى الله عليها من حال المزني قال الواقدي : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد قد خاصم إليه يتيم من الانصار أبا لبابة بن عبد المنذر في عذق بينهما ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لابي لبابة ، فجزع اليتيم على العذق ، فطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم العذق إلى أبى لبابة لليتيم ، فأبى أن يدفعه إليه ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لابي لبابة ادفعه إليه ولك عذق في الجنة ، فأبى أبو لبابة ، وقال ثابت (2) بن أبى الدحداحة : يا رسول الله ، أرأيت إن أعطيت اليتيم عذقه من مالى قال : لك به عذق في الجنة ، فذهب ثابت بن الدحداحة ، فاشترى من أبى لبابة ذلك العذق بحديقة نخل ، ثم رد العذق إلى الغلام ،
__________
(1) الواقدي : (أجلى استأخر) .
(2) كذا في الاستيعاب 1 : 203 .
(*)(14/273)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (رب عذق مذلل (1) لابن الدحداحة في الجنة) ، فكانت ترجى له الشهادة بذلك القول ، فقتل يوم أحد .
قال الواقدي ، ويقبل ضرار بن الخطاب فارسا يجر قناة له طويلة ، فيطعم عمرو بن معاذ ، فأنفذه ويمشى عمرو إليه حتى غلب ، فوقع لوجهه ، قال : يقول ضرار : لا تعدمن رجلا زوجك من الحور العين ، وكان يقول زوجت يوم أحد عشرة من أصحاب محمد الحور العين .
قال الواقدي : فسألت شيوخ الحديث : هل قتل عشرة قالوا : ما بلغنا إنه قتل إلا ثلاثة ، ولقد ضرب يومئذ عمر بن الخطاب حين جال المسلمون تلك الجولة بالقناة ، وقال يا بن الخطاب ، إنها نعمة مشكورة ، ما كنت لاقتلك .
قال الواقدي : وكان ضرار يحدث بعد ، ويذكر وقعة أحد ، ويذكر الانصار فيترحم عليهم ، ويذكر غناءهم في الاسلام ، وشجاعتهم وأقدامهم على الموت ، ثم يقول لقد قتل أشراف قومي ببدر ، فأقول من قتل أبا الحكم فيقال (2) ابن عفراء .
من قتل أمية بن خلف فيقال خبيب بن يساف .
من قتل عقبة بن أبى معيط فيقال عاصم بن ثابت .
من قتل فلان بن فلان فيسمى لى من الانصار ، من أسر سهيل بن عمرو فيقال مالك بن الدخشم .
فلما خرجنا إلى أحد ، وأنا أقول إن قاموا في صياصيهم فهى منيعة لا سبيل لنا إليهم نقيم أياما ثم ننصرف ، وإن خرجوا إلينا من صياصيهم أصبنا منهم ، فإن معنا عددا أكثر من عددهم ، ونحن قوم موتورون ، خرجنا بالظعن يذكرننا قتلى بدر ، ومعنا كراع ولا كراع معهم ، وسلاحنا أكثر من سلاحهم ، فقضى لهم أن خرجوا ، فالتقينا ، فو الله ما قمنا لهم حتى هزمنا وانكشفنا مولين ، فقلت
__________
(1) االعذق بالفتح : النخلة .
وبالكسر : العرجون بما فيه من الشماريخ ، وقد ورد هذا الحديث في اللسان (عذق) .
(2) الواقدي : (فقال) .
(*)(14/274)
في نفسي هذه أشد من وقعة بدر ، وجعلت أقول لخالد بن الوليد : كر على القوم ، فيقول وترى وجها نكر فيه حتى نظرت إلى الجبل الذى كان عليه الرماة خاليا ، فقلت يا أبا سليمان ، أنظر وراءك ، فعطف عنان فرسه ، وكررنا معه ، فانتهينا إلى الجبل ، فلم نجد عليه أحدا له بال ، وجدنا نفيرا فأصبناهم ، ثم دخلنا العسكر ، والقوم غارون ينتهبون عسكرنا ، فأقحمنا الخيل عليهم ، فتطايروا في كل وجه ، ووضعنا السيوف فيهم حيث شئنا ، وجعلت أطلب الاكابر من الاوس والخزرج قتلة الاحبة ، فلا أرى أحدا ، هربوا فما كان حلب ناقة حتى تداعت الانصار بينها ، فاقبلت فخالطونا ونحن فرسان ، فصبرنا لهم ، وصبروا لنا ، وبذلوا أنفسهم حتى عقروا فرسى ، وترجلت فقتلت منهم عشرة ، ولقيت من رجل منهم الموت الناقع ، حتى وجدت ريح الدم ، وهو معانقى ما يفارقنى ، حتى أخذته الرماح من كل ناحية ، فوقع .
فالحمد لله الذى أكرمهم بيدى ، ولم يهنى بأيديهم .
قال الواقدي : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد : من له علم بذكوان بن عبد قيس فقال على عليه السلام : أنا رأيت يا رسول الله فارسا يركض في أثره حتى لحقه ، وهو يقول لا نجوت إن نجوت فحمل عليه فرسه وذكوان راجل ، فضربه وهو يقول خذها وأنا ابن علاج فقتله ، فأهويت إلى الفارس ، فضربت رجله بالسيف ، حتى قطعتها من نصف الفخذ ، ثم طرحته عن فرسه فذففت عليه ، وإذا هو أبو الحكم بن أخنس بن شريق بن علاج بن عمرو بن وهب الثقفى .
قال الواقدي : وقال على عليه السلام : لما كان يوم أحد وجال الناس تلك الجولة اقبل أمية بن أبى حذيفة بن المغيرة ، وهو دارع مقنع في الحديد ما يرى منه إلا عيناه ، وهو يقول يوم بيوم بدر فيعرض له رجل من المسلمين ، فقتله أمية ، قال على عليه السلام : وأصمد له ، فأضربه بالسيف على هامته ، وعليه بيضة ، وتحت البيضة مغفر ، فنبا سيفى ،(14/275)
وكنت رجلا قصيرا ، ويضربنى بسيفه ، فإتقى بالدرقة ، فلحج سيفه ، فأضربه ، وكانت درعه مشمرة ، فأقطع رجليه ، فوقع وجعل يعالج سيفه ، حتى خلصه من الدرقة ، وجعل يناوشني وهو بارك حتى نظرت إلى فتق تحت أبطه فاحش فيه بالسيف ، فمال فمات ، وانصرفت .
قال الواقدي : وفي يوم أحد إنتمى رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقال : (أنا ابن العواتك) ، وقال أيضا : أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب قال الواقدي : بينا عمر بن الخطاب يومئذ في رهط من المسلمين قعود ، مر بهم أنس بن النضر بن ضمضم عم أنس بن مالك ، فقال ما يقعدكم قالوا قتل رسول الله صلى الله عليه وآله ، قال : فما تصنعون بالحياة بعده قوموا فموتوا على ما مات عليه ، ثم قام ، فجالد بسيفه حتى قتل ، فقال عمر بن الخطاب إنى لارجو أن يبعثه الله أمة وحده يوم القيامة ، وجد به سبعون ضربة في وجهه ما عرف حتى عرفته أخته .
قال الواقدي : وقالوا إن مالك بن الدخشم مر على خارجة بن زيد بن زهير يومئذ وهو قاعد ، وفى حشوته (1) ثلاثة عشر جرحا كلها قد خلصت إلى مقتل ، فقال له مالك : أما علمت أن محمدا قد قتل قال خارجة : فإن كان محمد قد قتل ، فإن الله حى لا يقتل ولا يموت ، وأن محمدا قد بلغ رسالة ربه ، فاذهب أنت فقاتل عن دينك .
قال : ومر مالك بن الدخشم أيضا على سعد بن الربيع ، وبه اثنا عشر جرحا كلها قد خلصت إلى مقتل ، فقال أعلمت أن محمدا قد قتل فقال سعد أشهد أن محمدا قد بلغ رسالة ربه ، فقاتل أنت عن دينك ، فإن الله حى لا يموت .
__________
(1) حشوة البطن : (أمعاؤه) .
(*)(14/276)
قال محمد بن إسحاق : وحدثني محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى صعصعة المازنى ، أخو بنى النجار ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله يومئذ : من رجل ينظر ما فعل سعد بن الربيع ، أفى الاحياء هو أم في الاموات فقال رجل من الانصار : أنا أنظر يا رسول الله ما فعل ، فنظر فوجده جريحا في القتلى ، وبه رمق فقال له إن رسول الله صلى الله عليه وآله أمرنى أن أنظر في الاحياء أنت أم في الاموات ، قال : أنا في الاموات ، فأبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله منى السلام ، وقل له إن سعد بن الربيع يقول جزاك الله خيرا عنا ما جزى نبيا عن أمته وأبلغ قومك السلام عنى ، وقل لهم إن سعد بن الربيع يقول لكم : لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى نبيكم ومنكم عين تطرف ، قال : فلم أبرح عنده حتى مات ، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبرته ، فقال اللهم ارض عن سعد بن الربيع قال الواقدي : وحدثني عبد الله بن عمار ، عن الحارث بن الفضيل الخطمى ، قال : أقبل ثابت بن الدحداحة يومئذ والمسلمون أوزاع ، قد سقط في أيديهم ، فجعل يصيح يا معشر الانصار ، إلى إلى أنا ثابت بن الدحداحة إن كان محمد قد قتل ، فإن الله حى لا يموت قاتلوا عن دينكم ، فإن الله مظهركم وناصركم ، فنهض إليه نفر من الانصار ، فجعل يحمل بمن معه من المسلمين ، وقد وقفت لهم كتيبة خشناء (1) فيها رؤساؤهم : خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، وعكرمة بن ابى جهل ، وضرار بن الخطاب ، وجعلوا يناوشونهم ، ثم حمل عليه خالد بن الوليد بالرمح فطعنه ، فأنفذه فوقع ميتا ، وقتل من كان معه من الانصار ، فيقال إن هؤلاء آخر من قتل من المسلمين في ذلك اليوم وقال عبد الله بن الزبعرى يذكر يوم أحد : ألا ذرفت من مقلتيك دموع وقد بان في حبل الشباب قطوع (2)
__________
(1) كتيبة خشناء : كثيرة السلاح .
(2) سيرة ابن هشام 3 : 104 - 106 ، وفيه : (من حبل الشباب) .
(*)(14/277)
وشط بمن تهوى المزار وفرقت نوى الحى دار بالحبيب فجوع وليس لما ولى على ذى صبابة (1) وإن طال تذراف الدموع رجوع فدع ذا ولكن هل أتى أم مالك أحاديث قومي والحديث يشيع ومجنبنا جردا إلى أهل يثرب عناجيج فيها ضامر وبديع (2) عشية سرنا من كداء يقودها ضرور الاعادي للصديق نفوع (3) يشد علينا كل زحف كأنها غدير نضوح الجانبين نقيع (4) فلما رأونا خالطتهم مهابة وخامرهم رعب هناك فظيع فودوا لو أن الارض ينشق ظهرها بهم ، وصبور القوم ثم جزوع وقد عريت بيض كان وميضها حريق وشيك في الاباء سريع (5) بإيماننا نعلو بها كل هامة وفيها سمام للعدو ذريع فغادرن قتلى الاوس عاصبة بهم ضباع وطير فوقهن وقوع ومر بنو النجار في كل تلعة بأثوابهم من وقعهن نجيع ولولا علو الشعب غادرن أحمدا ولكن علا والسمهري شروع (6) كما غادرت في الكر حمزة ثاويا وفي صدره ماضى الشباه وقيع (7) .
وقال ابن الزبعرى أيضا من قصيدة مشهورة ، وهى :
__________
(1) ابن هشام : (على ذي حرارة) .
(2) جنبت الفرس ، إذا قدتها ولم تركبها .
والجرد : جمع اجرد ، وهو العتيق من الخيل .
والعناجيج : الطوال الحسان ، واحدها عنجوج .
وانظر ابن هشام .
(3) ابن هشام : (سرنا في لهام) .
(4) النقيع : الماء البارد العذب .
(5) الوميض : الضوء .
والاباء : جمع إباءة ، وهي أجمة القصب .
(6) الشعب : الطريق في الجبل .
والسمهري : الرمح ، وشروع : مائل إلى الطعن .
(7) شباة كل شئ : حده .
ووقيع : محدد .
(*)(14/278)
يا غراب البين أسمعت فقل إنما تندب أمرا قد فعل (1) إن للخير وللشر مدى وسواء قبر مثر ومقل (2) كل خير ونعيم زائل وبنات الدهر يلعبن بكل أبلغا حسان عنى آية فقريض الشعر يشفى ذا الغلل كم ترى بالجسر من جمجمة وأكفأ قد أترت ورجل (3) وسرابيل حسان شققت عن كمأة غودروا في المنتزل (4) كم قتلنا من كريم سيد ماجد الجدين مقدام بطل صادق النجدة قرم بارع غير ملطاط لدى وقع الاسل (5) فسل المهراس من ساكنه من كراديس وهام كالحجل (6) ليت أشياخى ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الاسل حين حطت بقباء بركها واستحر القتل في عبد الاشل (7) ثم خفوا عند ذاكم رقصا رقص الحفان تعدو في الجبل (8)
__________
(1) سيرة ابن هشام 3 : 96 - 98 ، وروايته .
* إنما تنطق شيئا قد فعل * (2) ابن هشام : * وكلا ذلك وجه وقبل * (3) ابن هشام : (بالجر) ، أي الجبل .
واترت : قطعت .
(4) المتنزل : موضع النزال .
(5) رواية ابن هشام : * غير ملتاث لدى وقع الاسل * (6) المهراس : ماء بجبل أحد ، والكراديس جمع كردوسة ، وهي جماعة الخيل .
والحجل : طائر في حجم الحمام ، ورواية ابن هشام : * بين أقحاف وهام كالحجل * (7) البرك : الصدر .
واستحر القتل : إشتد ، وعبد الاشل ، أراد عبد الاشهل ، فحذف الهاء .
(8) الرقص : ضرب من المشي السريع .
والحفان : صغار النعام .
(*)(14/279)
فقتلنا النصف من ساداتهم وعدلنا ميل بدر فاعتدل لا ألوم النفس إلا إننا لو كررنا لفعلنا المفتعل بسيوف الهند تعلو هامهم تبرد الغيظ ويشفين الغلل (1) .
قلت كثير من الناس يعتقدون أن هذا البيت ليزيد بن معاوية ، وهو قوله (ليت أشياخى) ، وقال من أكره التصريح بإسمه : هذا البيت ليزيد ، فقلت له إنما قاله يزيد متمثلا لما حمل إليه رأس الحسين عليه السلام ، وهو لابن الزبعرى ، فلم تسكن نفسه إلى ذلك ، حتى أوضحته له ، فقلت ألا تراه يقول : (جزع الخزرج من وقع الاسل) ، والحسين عليه السلام لم تحارب عنه الخزرج ، وكان يليق أن يقول (جزع بنى هاشم من وقع الاسل) ، فقال بعض من كان حاضرا لعله قاله في يوم الحرة فقلت المنقول أنه أنشده لما حمل إليه رأس الحسين عليه السلام ، والمنقول أنه شعر ابن الزبعرى ، ولا يجوز أن يترك المنقول إلى ما ليس بمنقول .
وعلى ذكر هذا الشعر فانى حضرت وأنا غلام بالنظامية ببغداد في بيت عبد القادر بن داود الواسطي المعروف بالمحب ، خازن دار الكتب بها وعنده في البيت باتكين الرومي الذي ولى أربل اخيرا وعنده أيضا جعفر بن مكى الحاجب ، فجرى ذكر يوم إحد وشعر ابن الزبعرى هذا وغيره ، وأن المسلمين إعتصموا بالجبل ، فاصعدوا فيه ، وإن الليل حال أيضا بين المشركين وبينهم ، فأنشد ابن مكى بيتين لابي تمام متمثلا .
لو لا الظلام وقلة علقوا بها باتت رقابهم بغير قلال (2)
__________
(1) رواية ابن هشام : * عللا تعلوهم بعد نهل * (2) ديوانه 3 : 139 ، من قصيدة يمدح فيها المعتصم ، ويذكر فتح الخرمة .
وقلة الجبل : أعلاه ، وجمعه قلل وقلال .
(*)(14/280)
رأس الحسين عليه السلام ، والمنقول أنه شعر ابن الزبعرى ، ولا يجوز أن يترك المنقول إلى ما ليس بمنقول .
وعلى ذكر هذا الشعر فانى حضرت وأنا غلام بالنظامية ببغداد في بيت عبد القادر بن داود الواسطي المعروف بالمحب ، خازن دار الكتب بها وعنده في البيت باتكين الرومي الذي ولى أربل اخيرا وعنده أيضا جعفر بن مكى الحاجب ، فجرى ذكر يوم إحد وشعر ابن الزبعرى هذا وغيره ، وأن المسلمين إعتصموا بالجبل ، فاصعدوا فيه ، وإن الليل حال أيضا بين المشركين وبينهم ، فأنشد ابن مكى بيتين لابي تمام متمثلا .
لو لا الظلام وقلة علقوا بها باتت رقابهم بغير قلال (2)
__________
(1) رواية ابن هشام : * عللا تعلوهم بعد نهل * (2) ديوانه 3 : 139 ، من قصيدة يمدح فيها المعتصم ، ويذكر فتح الخرمة .
وقلة الجبل : أعلاه ، وجمعه قلل وقلال .
(*)(14/281)
فليشكر جنح الظلام ودروذا فهم لدروذ والضلام موالى .
فقال باتكين لا تقل هذا ، ولكن قل : (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الامر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الاخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين) (1) وكان باتكين مسلما ، وكان جعفر سامحه الله مغموصا عليه في دينه .
تم الجزء الرابع عشر من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ويليه الجزء الخامس عشر
__________
(1) سورة آل عمران 152 .
(*)(14/281)
شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد ج 15
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد ج 15(15/)
شرح نهج البلاغة لابن ابى الحديد بتحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم الجزء الخامس عشر دار احياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه(15/1)
الطبعة الثانية (1967 م - 1387 ه) جميع الحقوق محفوظة منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي قم - ايران 1404 ه ق(15/2)
بسم الله الرحمن الرحيم (1) وبه ثقتي الحمد لله الواحد العدل (1) القول في اسماء الذين تعاقدوا من قريش على قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وما أصابوه به في المعركة يوم الحرب قال الواقدي (2) : تعاقد من قريش على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن شهاب الزهري وابن قميئة (3) احد بني الحارث بن فهر ، وعتبة بن ابى وقاص الزهري ، وأبي بن خلف الجمحي .
فلما أتى خالد بن الوليد من وراء المسلمين ، واختلطت الصفوف ، ووضع المشركون السيف في المسلمين ، رمى عتبة بن ابى وقاص رسول الله صلى عليه وسلم بأربعة أحجار ، فكسر رباعيته ، وشجه في وجهه حتى غاب حلق المغفر في وجنتيه (4) ، وأدمى شفتيه (5) .
قال الواقدي : وقد روي أن عتبه اشظى (6) باطن رباعيته السفلى .
قال والثبت عندنا أن الذي رمى وجنتي رسول الله صلى الله عليه وآله ابن قميئة والذى رمى شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص .
قال الواقدي : أقبل ابن قميئة يومئذ وهو يقول : دلوني على محمد ، فوالذي يحلف به ، لئن رأيته لاقتلنه ، فوصل الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلاه بالسيف ورماه عتبه
__________
(1 - 1) أ : " وبك اعتمادي يا كريم " (2) انظر أخبار غزوة أحد في الجزء الرابع عشر من ص 213 إلى ص 281 من هذا الكتاب .
(3) قميئة ، كسفينة ، عمرو بن قميئة ، ذكره صاحب تاج العروس ، وقال : " شاعر ، وهو الذي كسر رباعية النبي صللى الله عليه وسلم يوم أحد " .
(4) كذا في أ ، وهو تاوجه والذي في ب " وجنته " ، تحريف .
(5) مغازي الواقدي ص 246 وما بعدها .
(6) أشظى رباعيته : كسرها .(15/3)
بن أبي وقاص في الحال التي جلله ابن قميئة فيها السيف ، وكان عليه السلام فارسا ، وهو لابس درعين مثقل بهما ، فوقع رسول الله صلى الله عليه وآله عن الفرس في حفرة كانت أمامه .
قال الواقدي : أصيب ركبتاه ، جحشتا (1) لما وقع في تلك الحفرة ، وكانت هناك حفر حفرها أبو عامر الفاسق كالخنادق للمسلمين ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا على بعضها وهو لا يشعر (2) ، فجحشت ركبتاه ، ولم يصنع سيف ابن قميئة شيئا إلا وهز (3) الضربة بثقل السيف ، فقد وقع رسول الله صلى الله عليه وآله ، ثم انتهض وطلحة يحمله من ورائه ، وعلي عليه السلام آخذ بيديه حتى استوى قائما .
قال الواقدي : فحدثني الضحاك بن عثمان عن حمزة بن سعيد ، عن أبي بشر المازني ، قال : حضرت يوم أحد وأنا غلام فرأيت ابن قميئة علا رسول الله صلى الله عليه وآله بالسيف ، ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقع على ركبتيه في حفرة أمامه حتى توارى في الحفرة ، فجعلت أصيح وأنا غلام حتى رأيت الناس ثابوا إليه .
قال فأنظر الى طلحة بن عبيد الله آخذا بحضنه حتى قام .
قال الواقدي : ويقال أن الذى شج رسول الله صلى الله عليه وآله في جبهته ابن شهاب ، والذى أشظى رباعيته وأدمى شفتيه عتبه بن أبى وقاص ، والذى أدمى وجنتيه حتى غاب الحلق فيهما ابن قميئة ، وإنه سال الدم من الشجة التى في جبهته حتى أخضل لحيته .
وكان سالم مولى أبى حذيفة يغسل الدم عن وجهه ورسول الله صلى الله عليه ، يقول : كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم ، وهو يدعوهم الى الله تعالى ! فانزل الله تعالى قوله : (ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم ...
) (4) الاية .
__________
(1) الجحش : الخدش ، أو فوقه .
(2) الواقدي : " ولا يشعر به " .
(3) كذا في الواقدي .
ويقال : وهزه ، أي ضربه بثقل يده ، وفي الاصول : " وهن " تحريف .
(4) سورة آلل عمران 128 .(15/4)
قال الواقدي : وروى سعد بن أبى وقاص قال (1) : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ : اشتد غضب الله على قوم دموا فا رسول الله صلى الله عليه وآله ، اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسول الله ، اشتد غضب الله على رجل قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال سعد : فلقد شفاني من عتبة أخي دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولقد حرصت على قتله حرصا ما حرصت على شئ قط ، وإن كان ما علمت لعاقا بالوالد ، سيئ الخلق ، ولقد تخرقت صفوف المشركين مرتين أطلب أخي لاقتله ، ولكنه راغ مني روغان الثعلب ، فلما كان الثالثة قال رسول الله صلى الله عليه وآله : يا عبد الله ما تريد ؟ أ تريد أن تقتل نفسك ؟ فكففت .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : اللهم لا تحولن الحول على أحد منهم .
قال سعد : فوالله ما حال الحول على أحد ممن رماه أو جرحه .
مات عتبة ، وأما ابن قميئة فاختلف فيه ، : [ فقائل يقول : قتل في المعرك و ] (2) قائل [ يقول ] : إنه رمى بسهم في ذلك اليوم فأصاب مصعب بن عمير فقتله ، فقال : خذها وأنا ابن قميئة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : أقماه الله ، فعمد الى شاة يحتلبها فتنطحه بقرنها وهو معتلقها (3) فقتلته ، فوجد ميتا بين الجبال لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان عدو الله رجع الى أصحابه فأخبرهم أنه قتل محمدا .
قال : وابن قميئة رجل من بني الادرم من بني فهر .
وزاد البلاذري في الجماعة التى تعاهدت وتعاقدت على قتل رسول الله صلى الله عليه وآله يوم أحد عبد الله بن حميد بن زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن قصي (4) .
قال : وابن شهاب الذى شج رسول الله صلى الله عليه وآله في جبهته هو عبد الله
__________
(1) الواقدي : " سمعته يقول : اشتد ...
" .
(2) من الواقدي .
والمعرك والمعترك : موضع القتال .
(3) كذا في أ وهو الصواب ، والذي في ب " معتقلها " ، تصحيف .
(4) أنساب الاشراف 1 : 319 .
(*)(15/5)
ابن شهاب الزهري ، جد الفقيه المحدث محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب (1) ، وكان ابن قميئة أدرم ناقص الذقن ، ولم يذكر اسمه ولا ذكره الواقدي أيضا .
قلت : سألت النقيب أبا جعفر عن اسمه فقال : عمرو ، فقلت له : أ هو عمرو بن قميئة الشاعر ؟ قال : لا هو غيره .
فقلت له : ما بال بني زهرة في هذا اليوم فعلوا الافاعيل برسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أخواله ، ابن شهاب وعتبه بن أبى وقاص ! فقال : يابن أخي ، حركهم أبو سفيان وهاجهم على الشر لانهم رجعوا يوم بدر من الطريق إلى مكة فلم يشهدوها ، فاعترض عيرهم ومنعهم عنها ، وأغرى بها سفهاء أهل مكة ، فعيروهم برجوعهم ، ونسبوهم الى الجبن وإلى الادهان في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، واتفق أنه كان فيهم مثل هذين الرجلين ، فوقع منهما يوم أحد ما وقع .
قال البلاذري : مات عتبة يوم أحد من وجع أليم أصابه ، فتعذب به ، وأصيب ابن قميئة في المعركة ، وقيل نطحته عنز فمات .
قال : ولم يذكر الواقدي ابن شهاب كيف مات ، وأحسب ذلك بالوهم منه .
قال : وحدثني بعض قريش أن أفعى نهشت عبد الله بن شهاب في طريقه إلى مكة ، فمات .
قال : وسألت بعض بني زهرة عن خبره ، فانكروا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وآله دعا عليه ، أو يكون شج رسول الله صلى الله عليه وآله .
وقالوا إن الذى شجه في وجهه عبد الله بن حميد الاسدي (2) .
فأما عبد الله بن حميد الفهري ، فإن الواقدي وإن لم يذكره في الجماعة الذين
__________
(1) أنساب الاشراف 1 : 319 .
(2) أنساب الاشراف 1 : 324 .(15/6)
تعاقدوا على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه قد ذكر كيفية قتله .
قال الواقدي : ويقبل عبد الله بن حميد بن زهير حين رأى رسول الله صلى الله عليه وآله على تلك الحال - يعني سقوطه من ضربة ابن قميئة - يركض فرسه مقنعا في الحديد يقول : أنا ابن زهير ، دلوني على محمد ، فوالله لاقتلنه أو لاموتن دونه ! فتعرض (1) له أبو دجانة فقال : هلم إلى من يقي نفس محمد صلى الله عليه وآله بنفسه ، فضرب فرسه فعرقبها ، فاكتسعت ، ثم علاه بالسيف وهو يقول : خذها وأنا ابن خرشة ، حتى قتله ، ورسول الله صلى الله عليه وآله ينظر إليه ويقول : اللهم ارض عن ابن خرشة كما أنا عنه راض .
هذه رواية الواقدي ، وبها قال البلاذرى : إن عبد الله بن حميد قتله أبو دجانه (2) .
فأما محمد بن إسحاق فقال : إن الذى قتل عبد الله بن حميد علي بن أبى طالب عليه السلام (3) .
وبه قالت الشيعة .
وروى الواقدي والبلاذري أن قوما قالوا : إن عبد الله بن حميد هذا قتل يوم بدر .
فالاول الصحيح أنه قتل يوم أحد .
وقد روى كثير من المحدثين أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لعلي عليه السلام حين سقط ثم أقيم : اكفني هؤلاء - لجماعه قصدت نحوه - فحمل عليهم فهزمهم ، وقتل منهم عبد الله بن حميد من بني أسد بن عبد العزى ، ثم حملت عليه طائفة أخرى ، فقال له : اكفني هؤلاء ، فحمل عليهم فانهزموا من بين يديه ، وقتل منهم أميه بن أبى حذيفة بن المغيرة المخزومي .
قال : فأما أبي بن خلف فروى الواقدي أنه أقبل يركض فرسه ، حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وآله ، اعترض له ناس من أصحابه ليقتلوه ، فقال لهم : استأخروا
__________
(1) أ والواقدي : " ليعرض " .
(2) أنساب الاشراف 1 : 324 .
(3) سيرة ابن هشام 3 : 82 .
(*)(15/7)
عنه .
ثم قام إليه وحربته في يده ، فرماه بها بين سابغة البيضة والدرع (1) ، فطعنه هناك فوقع عن فرسه ، فانكسر ضلع من أضلاعه ، واحتمله قوم من المشركين ثقيلا (2) حتى ولوا قافلين ، فمات في الطريق ، وقال : وفيه أنزلت : (وما من رميت إذ رميت ولكن الله رمى) (3) ، قال : يعني قذفه إياه بالحربة .
قال الواقدي : وحدثني يونس بن محمد الظفري ، عن عاصم بن عمر ، عن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن أبيه ، قال : كان أبي بن خلف قدم في فداء ابنه ، وكان أسر يوم بدر ، فقال : يا محمد ، إن عندي فرسا لي أعلفها فرقا (4) من ذرة كل يوم لاقتلك عليها .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : بل أنا أقتلك عليها إن شاء الله تعالى .
ويقال : إن أبيا إنما قال ذلك بمكه ، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله بالمدينة كلمته فقال : بل أنا أقتله عليها إن شاء الله .
قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وآله في القتال لا يلتفت وراءه ، فكان يوم أحد يقول لاصحابه : إني أخشى أن يأتي أبي بن خلف من خلفي ، فإذا رأيتموه فآذنوني وإذا بأبي يركض على فرسه ، وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وآله فعرفه ، فجعل يصيح بأعلى صوته : يا محمد لا نجوت إن نجوت ! فقال القوم : يا رسول الله ما كنت صانعا حين يغشاك أبي ؟ فاصنع ، فقد جاءك ، وإن شئت عطف عليه بعضنا ، فأبى رسول الله صلى الله عليه وآله ، ودنا أبي ، فتناول رسول الله صلى الله عليه وآله الحربة من الحارث بن الصمة ، ثم انتفض كما ينتفض البعير .
قال : فتطايرنا
__________
(1) الدرع السابغة : التي تجرها في الارض وعلى كعبيك طولا وسعة ، وتسبغة البيضة : ما توصل به البيضة من حلق الدروع فتستر العنق .
(2) ثقيلا : مشرفا على الموت .
(3) سورة الانفال 17 .
(4) الفرق ، بسكون الراء وبفتحها : مكيال ضخم لاهل المدينة معروف .(15/8)
عنه تطاير الشعارير (1) ، ولم يكن أحد يشبه رسول الله صلى الله عليه وآله إذا جد الجد ، ثم طعنه بالحربة في عنقه وهو على فرسه لم يسقط ، إلا أنه خار كما يخور الثور ، فقال له أصحابه : أثا عامر ، والله ما بك بأس ، ولو كان هذا الذي بك بعين أحد ما ضره .
قال : واللات والعزى ، لو كان الذي بي بأهلل المجاز لماتوا كلهم أجمعون ، أليس قال : لاقتلنه ! فاحتملوه ، وسغللهم ذلك عن طلب رسول الله صلى الله عليه وآله حتى التحق (2) بعظم أصحابه في الشعب .
قال الواقدي : ويقال ، إنه تناول الحربة من الزبير بن العوام .
قال : ويقال إنه لما تناول الحربة من الزبير حمل أبي على رسول الله صلى الله عليه وآله ليضربه بالسيف ، فاستقبله مصعب بن عمير حائلا بنفسه بينهما ، وإن مصعبا ضرب بالسيف أبيا في وجهه ، وأبصر رسول الله صلى الله عليه وآله فرجة من بين سابغة البيضة والدرع ، فطعنه هناك ، فوقع وهو يخور .
قالل الواقدي : وكان عبد الله بن عمر يقول : مات أبي بن خلف ببطن رابغ (3) منصرفهن إلى مكة .
قال : فإني لاسير ببطن رابغ بعد ذلك ، وقد مضى هوى من الليل إذا نار تأجج ، فهبتها ، وإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذبها يصيح : العطش ، وإذا رجل يقول : لا تسقه ، فإن هذا قتيل رسول الله صلى الله عليه وآله ، هذا أبي بن خلف ، فقلت : ألا سحقا ! ويقالل : إنه مات بسرف (4) .
__________
(1) الشعارير : الذباب .
(2) أ والواقدي : " لحق " .
(3) طن رابغ : واد من دون الجحفة ، قال الواقدي : هو على عشرة أميال من مكة .
ياقوت .
(4) سرف ، ككتف : موضع على سبعة أميال من مكة ، تزوج به رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة بنت الحارث ، وهناك بنى بها ، وهناك توفيت - ياقوت .
(*)(15/9)
القول في الملائكة نزلت بأحد وقاتلت أم لا قال الواقدي : حدثني الزبير بن سعيد ، عن عبد الله بن الفضل ، قال : أعطى رسول الله صلى الله عليه وآله مصعب بن عمير اللواء فقتل ، فأخذه ملك في صورة مصعب فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله يقول له في آخر النهار : تقدم يا مصعب ، فالتفت إليه الملك ، فقال : لست بمصعب ، فعرف رسول الله صلى اللله عليه وآله أنه ملك أيد به .
قال الواقدي : سمعت أبا معشر يقول مثل ذلك .
قال : وحدثتني عبيدة بنت نائل ، عن عائشة بنت سعد بن أبى وقاص ، عنه ، قال : لقد رأيتنى أرمى بالسهم يومئذ ، فيرده عني رجل أبيض حسن الوجه لا أعرفه ، حتى كان بعد ، فظننت أنه ملك .
قال الواقدي : وحدثني ابراهيم بن سعد ، عن أبيه عن جده سعد بن أبى وقاص ، قال : رأيت ذلك اليوم رجلين عليهما ثياب بيض ، أحدهما عن يمين رسول الله صللى الله عليه وآله ، و الاخر عن شماله يقاتلان أشد القتال ، ما رأيتهما قبل ولا بعد .
قال : وحدثني عبد الملك بن سليمان ، عن قطن بن وهب ، عن عبيد بن عمير ، قال : لما رجعت قريش من أحد جعلوا يتحدثون في أنديتهم بما ظفروا ، يقولون : لم نر الخيل البلق ولا الرجال البيض الذين كنا نراهم يوم بدر .
قال : وقال عبيد بن عمير : لم تقاتل الملائكة يوم أحد .
قال الواقدي : وحدثني ابن أبى سبرة ، عن عبد المجيد بن سهيل ، عن عمر بن الحكم ، قال : لم يمد رسول الله صللى الله عليه وآله يوم أحد بملك واحد وإنما كانوا يوم بدر .
قال : ومثله عن عكرمة .
__________
(1) في أ " عبيد الله " ، تحريف والتصويب عن ب .
(*)(15/10)
قال : وقال مجاهد : حضرت الملائكة يوم أحد ولم تقاتل ، وإنما قاتلت يوم بدر .
قال : وروي عن أبى هريرة أنه قال : وعدهم الله أن يمدهم لو صبروا ، فلما انكشفوا لم تقاتل الملائكة يومئذ .
القول في مقتل حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه قال الواقدي : كان وحشي عبدا لابنة الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف ، ويقال : كان لجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف ، فقالت له ابنة الحارث : ان أبي قتل يوم بدر ، فإن أنت قتلت أحد الثلاثة فانت حر : محمد ، وعلي بن أبي طالب ، وحمزة (1) بن عبد المطلب ، فإني لا أرى في القوم كفؤا لابي غيرهم .
فقال وحشي : أما محمد فقد علمت أنى لا أقدر عليه ، وإن أصحابه لن يسلموه ، وأما حمزه فوالله لو وجدته نائما ما أيقظته من هيبته ، وأما علي فألتمسه .
قال وحشي : فكنت يوم أحد ألتسمه فبينا أنا في طلبه طلع علي ، فطلع رجل حذر مرس (2) كثير الالتفات ، فقلت : ما هذا بصاحبي الذى ألتمس ، إذ رأيت حمزة يفري الناس فريا ، فكمنت له إلى صخره وهو مكبس له كتيت (3) فاعترض له سباع بن أم نيار ، وكانت أمه ختانة بمكة ، مولاة لشريف بن علاج بن عمرو بن وهب الثقفى ، وكان سباع يكنى أبا نيار ، فقال له حمزة : وأنت أيضا يا بن مقطعة البظور ممن يكثر علينا ! هلم إلى ، فاحتمله ، حتى إذا برقت قدماه رمى به فبرك عليه ، فشحطه شحط الشاة ، ثم أقبل علي مكبا حين رآني ، فلما
__________
(1) كذا في أ ، وهو الوجه ، وفي ب " أو " تحر يف .
(2) المرس : الذى قد مارس الامور وعالجها .
(3) الكتيت : صوت في صدر الرجل كصوت البكر من شدة الغيظ .
(*)(15/11)
بلغ المسيل ، وطئ على جرف فزلت قدمه ، فهززت حربتى حتى رضيت منها ، فأضرب بها في خاصرته حتى خرجت من مثانته ، وكر عليه طائفه من أصحابه فأسمعهم يقولون : أبا عمارة ، فلا يجيب ، فقلت : قد والله مات الرجل ، وذكرت هندا وما لقيت على أبيها وعمها وأخيها ، وانكشف عنه أصحابه حين أيقنوا بموته ، ولا يروني فأكر عليه فشققت بطنه ، فاستخرجت كبده ، فجئت بها الى هند بنت عتبة ، فقلت ما ذا لي إن قتلت قاتل أبيك ؟ قالت : سلنى ، فقلت : هذه كبد حمزة : فمضغتها ثم لفظتها ، فلا أدري : لم تسغها أو قذرتها ، فنزعت ثيابها وحليها فأعطتنيه ، ثم قالت : إذا جئت مكة فلك عشرة دنانير ، ثم قالت أرني مصرعه ، فأريتها مصرعه ، فقطعت مذاكيره وجدعت أنفه ، وقطعت أذنيه ، ثم جعلت ذلك مسكتين (1) ومعضدين وخدمتين ، حتى قدمت بذلك مكة وقدمت بكبده أيضا معها .
قال الواقدي : وحدثني عبد الله بن جعفر ، عن ابن أبى عون ، عن الزهري ، عن عبيدالله بن عدى بن الخيار ، قال : غزونا الشام في زمن عثمان بن عفان ، فمررنا بحمص (2) بعد العصر ، فقلنا : وحشى ، فقيل لا تقدرون عليه ، هو الان يشرب الخمر حتى يصبح ، فبتنا من أجله ، وإننا لثمانون رجلا ، فلما صلينا الصبح جئنا الى منزله ، فإذا شيخ كبير قد طرحت له زربية (3) قدر مجلسه ، فقلنا له : أخبرنا عن قتل حمزة وعن قتل مسيلمة ، فكره ذلك ، وأعرض عنه ، فقلنا : ما بتنا هذه الليله إلا من أجلك .
فقال : إنى كنت عبدا لجبير بن مطعم بن عدى ، فلما خرج الناس الى أحد دعاني فقال : قد رأيت مقتل طعيمة بن عدى ، قتله حمزة بن عبد المطلب يوم بدر ، فلم تزل نساؤنا في حزن
__________
(1) المسكة ، بالتحريك : الاسورة .
والمعضد : الدملج ، والخدمة ، بالتحريك : الخلخال .
(2) حمص : مدينة معروفة في بلاد الشام .
(3) الزريبة : النمرقة ، أو البساط الذى يتكأ عليه ، واحده زربى ، دوالجماعة زرابى .
(*)(15/12)
شديد إلى يومي هذا ، فإن قتلت حمزة فأنت حر ، فخرجت مع الناس ولي مزاريق (1) كنت أمر بهند بنت عتبة فتقول : إيه أبا دسمة ! اشف واشتف .
فلما وردنا أحدا نظرت إلى حمزة يقدم الناس يهدهم هدا ، فرآني وقد كمنت له تحت شجرة ، فاقبل نحوي ، وتعرض له سباع الخزاعى ، فأقبل إليه وقال ، وأنت أيضا يا بن مقطعه البظور ممن يكثر علينا ! هلم إلى ، وأقبل نحوه حتى رأيت برقان رجليه ، ثم ضرب به الارض وقتله ، وأقبل نحوي سريعا ، فيعترض له جرف فيقع فيه ، وأزرقه بمزراق فيقع في لبته حتى خرج من بين رجليه .
فقتله ، ومررت بهند بنت عتبة فأذنتها ، فاعطتني ثيابها وحليها ، وكان في ساقيها خدمتان من جزع ظفار (2) ومسكتان من ورق ، وخواتيم من ورق كن في أصابع رجليها ، فأعطتني بكل ذلك ، وأما مسيلمة فإنا دخلنا حديقة الموت يوم اليمامة فلما رأيته زرقته بالمزراق وضربه ، رجل من الانصار بالسيف ، فربك أعلم أينا قتله ! إلا أنى سمعت امرأة تصيح فوق جدار : قتله العبد الحبشى .
قال عبيد الله : فقلت : أتعرفني ؟ فأكر بصره علي وقال : ابن عدي لعاتكه بنت العيص ؟ قلت : نعم ، قال : أما والله ما لى بك عهد بعد أن دفعتك الى أمك في محفتك التى كانت ترضع ك فيها ، ونظرت الى برقان قدميك حتى كأنه الان .
وروى محمد بن إسحاق في كتاب المغازى ، قال علت هند يومئذ صخرة مشرفة ، وصرخت بأعلى صوتها : نحن جزيناكم بيوم بدر * * والحرب بعد الحرب ذات سعر (3) ما كان عن عتبة لي من صبر * * ولا أخى وعمه وبكري شفيت نفسي وقضيت نذري * * شفيت وحشى غليل صدري
__________
(1) المزاريق .
جمع مزراق ، وهو الرمح القصير .
(2) طفار كقطام : بلد باليمن ينسب إليه الجزع .
(3) ذات سعر ، أي حر .
(*)(15/13)
فشكر وحشي علي عمرى * * حتى ترم أعظمي في قبري (1) قال : فأجابتها هند بنت أثاثة بن المطلب بن عبد مناف : خزيت في بدر وغير بدر * * يا بنت غدار عظيم الكفر (2) أفحمك الله غداة الفجر * * بالهاشميين الطوال الزهر بكل قطاع حسام يفري * * حمزة ليثي وعلي صقري إذ رام شيب وأبوك قهرى * * فخضبا منه ضواحي النحر قال محمد بن إسحاق : ومن الشعر الذى ارتجزت به هند بنت عتبة يوم أحد : شفيت من حمزة نفسي بأحد * * حين بقرت بطنه عن الكبد (3) أذهب عني ذاك ما كنت أجد * * من لوعة الحزن الشديد المعتمد (4) والحرب تعلوكم بشؤ بوب برد * * نقدم إقداما عليكم كالاسد (5) قال محمد بن إسحاق : حدثنى صالح بن كيسان ، قال : حدثت أن عمر بن الخطاب قال لحسان : يا أبا الفريعة ، لو سمعت ما تقول هند ! ولو رأيت شرها قائمة على صخرة ترتجز بنا ، وتذكر ما صنعت بحمزة ! فقال حسان : والله إنى لانظر إلى الحربه تهوى وأنا على فارع - يعنى أطمة - فقلت : والله إن هذه لسلاح ليس بسلاح العرب ، وإذا بها تهوى إلى حمزة ولا أدري ، [ ولكن ] (6) أسمعني بعض قولها أكفيكموها ، فأنشده عمر بعض ما قالت ، فقال حسان يهجوها : أشرت لكاع وكان عادتها * * لؤما إذا أشرت مع الكفر (7) * 0 (هامش) * (1) ترم أعظمي : تبلى .
(2) في ابن هشام : " يا بنت وقاع " .
(3) سيرة ابن هشام 3 : 43 .
(4) المعتمد : القاصد المؤلم .
(5) الشؤبوب : الدفعة من المطر .
وبرد - بفتح فكسر - أي ذو برد .
(6) من سيرة ابن هشام .
(7) الخبر وهذا البيت في ابن هشام 3 : 44 ، والابيات في ديوانه 229 ، 230 .
(*)(15/14)
أخرجت مرقصة إلى أحد * * في القوم مقتبة على بكر (1) بكر ثفال لا حراك به * * لا عن معاتبه ولا زجر (2) أخرجت ثائرة محاربة (3) * * بأبيك وابنك بعد في بدر (4) وبعمك المتروك منجدلا * * واخيك منعفرين في الجفر (5) فرجعت صاغرة بلا ترة * * منا ظفرت بها ولا وتر وقال أيضا يهجوها : لمن سواقط ولدان مطرحة * * باتت تفحص في بطحاء أجياد (6) باتت تمخض لم تشهد قوابلها * * إلا الوحوش وإلا جنة الوادي يظل يرجمه الصبيان منعفرا * * وخاله وأبوه سيدا النادى (7) في أبيات كرهت ذكرها لفحشها .
قال : وروى الواقدي ، عن صفية بنت عبد المطلب ، قالت : كنا قد رفعنا (8) يوم أحد في الآطام ، ومعنا حسان بن ثابت ، وكان من أجبن الناس ، ونحن في فارع ، فجاء نفر من يهود يرومون الاطم ، فقلت : دونك يا بن الفريعة ، فقال لا والله لا أستطيع القتال ، ويصعد يهودي الى الاطم ، فقلت شد على يدى السيف ، ثم برئت ، ففعل فضربت
__________
(1) مرقصة ، أي مرقصة بكرها ، ورقص البعير أسرع في سيره .
وفي الديوان : " معنقة " .
(2) البكر الثفال : البطئ .
(3) في الديوان : " أقبلت زائرة مبادرة " .
(4) الديوان : " يوم ذي بدر " .
(5) والجفر : البئر .
(6) ديوانه 158 .
وفي الديوان : " منبذة " .
(7) منعفرا ، أي علاه التراب ، ورواية الديوان : قد غادروه لحر اللوجه نتعفرا * * وخاله وأبوه سيدا النادي (8) رفعنا : عدونا .
(*)(15/15)
عنق اليهودي ورميت برأسه إليهم ، فلما رأوه انكشفوا ، قالت : وإني لفي فارع أول النهار مشرفة على الاطم ، فرأيت المزراق ، فقلت أ ومن سلاحهم المزاريق ! أفلا أراه هوى إلى أخي ولا أشعر ! ثم خرجت آخر النهار حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقد كنت أعرف انكشاف المسلمين وأنا على الاطم برجوع حسان الى أقصى الاطم ، فلما رأى الدولة للمسلمين اقبل حتى وقف على جدار الاطم .
قال : فلما انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ومعي نسوة من الانصار لقيته وأصحابه أوزاع ، فأول من لقيت علي ابن أخي فقال : ارجعي يا عمة ، فإن في الناس تكشفا ، فقلت رسول الله صللى الله عليه .
آله ؟ قال : صالح ، قلت : أدللني عليه حتى أراه ، فأشار إليه إشارة خفية ، فانتهيت إليه وبه الجراحة .
قال الواقدي : وكان رسول الله ضلى الله عليه وآله يقول يوم أحد ما فعل عمي ، ما فعل عمي ! فخرج الحارث بن الصمة يطلبه فأبطا فخرج على عليه السلام يطلبه فيقول : يا رب إن الحارث بن الصمة * * كان رفيقا وبنا ذا ذمة (1) قد ضل في مهامه مهمه * * يلتمس الجنه فيها ثمه (2) حتى انتهى الى الحارث ، ووجد حمزة مقتولا ، فجاء فأخبر النبي صلى الله عليه وآله ، فأقبل يمشى حتى وقف عليه فقال : ما وقفت موقفا قط أغيظ إلي من هذا الموقف .
فطلعت صفية ، فقال يا زبير ، اغن عني أمك ، وحمزة يحفر له ، فقال الزبير : يا أمه ، إن في الناس تكشفا ، فارجعي ، فقالت : ما أنا بفاعلة حتى أرى رسول الله صلى الله عليه وآله ، فلما رأته قالت : يا رسول الله ، أين ابن أمي حمزة ؟ فقال : هو في الناس ، قالت : لا أرجع حتى أنظر إليه ، قال الزبير : فجعلت أطدها إلى الارض حتى دفن وقال رسول الله
__________
(1) سيرة ابن هشام 3 : 154 مع اختلاف في الرواية .
(2) المهامه : جمع مهمه ، وهي المفازة البعيدة .
(*)(15/16)
صلى الله عليه وآله : لو لا أن تحزن نساؤنا لذلك لتركناه للعافية ، يعنى السباع والطير حتى يحشر يوم القيامة من بطونها وحواصلها .
قال الواقدي : وروى أن صفية لما جاءت حالت الانصار بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقال : دعوها ، فجلست عنده ، فجعلت إذا بكت يبكي رسول الله صلى الله عليه وآله ، وإذا نشجت (1) ينشج رسول الله صلس الله عليه وآله ، وجعلت فاطمه عليها السلام تبكي ، فلما بكت بكى رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قال : لن أصاب بمثل حمزة أبدا ، ثم قال صللى اللله عليه وآله لصفية وفاطمة : أبشرا ، أتاني جبرائيل عليه السلام فأخبرني أن حمزه مكتوب في أهل السموات السبع : حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله .
قال الواقدي : ورأى رسول الله صلى الله عليه وآله بحمزة مثلا (2) شديدا ، فحزنه ذلك وقال : إن ظفرت بقريش لامثلن بثلاثين منهم ، فأنزل الله عليه : (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) (3) فقال صلى الله عليه وآله : بل نصبر ، فلم يمثل بأحد من قريش .
قال الواقدي : وقام أبو قتادة الانصاري فجعل ينال من قريش لما رأى من غم رسول الله صلى الله عليه وآله ، وفي كل ذلك يشير إليه أن اجلس ثلاثا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : يا أبا قتادة إن قريشا أهل أمانة ، من بغاهم العواثر كبه الله لفيه ، وعسى إن طالت بك مدة أن تحقر عملك مع أعمالهم ، وفعالك مع فعالهم ،
__________
(1) يقال : نشج الباكي ، غص بالبكاء في حلقه من غير انتحاب .
(2) يقال : مثل بفلان ومثلة بالضم : نكل به .
(3) سورة النحل : 126 .
(*)(15/17)
لو لا أن تبطر قريش لاخبرتها بما لها عند الله تعالى .
فقال أبو قتادة : والله يارسول الله ما غضبت إلا لله ورسوله حين نالوا منه ما نالوا ، فقال : صدقت .
بئس القوم كانوا لنبيهم .
قال الواقدي : وكان عبد الله بن جحش قبل أن تقع الحرب قال : يارسول الله ، إن هؤلاء القوم قد نزلوا بحيث ترى ، فقد سألت الله فقلت : اللهم أقسم عليك أن نلقى العدو غدا فيقتلوني ويبقروا بطني ويمثلوا بي ، فتقول لي : فيم صنع بك هذا ؟ فأقول : فيك .
قال : وأنا أسألك يا رسول الله أخرى ، أن تلى تركتي من بعدي .
فقال له : نعم ، فخرج عبد الله فقتل ومثل به كل المثل ، ودفن هو وحمزة في قبر واحد ، وولي تركته رسول الله صلى الله عليه وآله ، فاشترى لامه مالا بخيبر .
قال الواقدي : وأقبلت أخته حمنة بنت جحش ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله : يا حمن (1) ، احتسبي ، قالت : من يارسول الله ؟ قال : خالك حمزة ، قالت : (إنا لله وإنا إليه راجعون) (2) غفر الله له ورحمه ، وهنيئا له الشهادة ، ثم قال لها : احتسبي .
قالت : من يارسول الله ؟ قال : أخوك عبد الله ، قالت : (إنا لله وإنا إليه راجعون) (2) غفر الله له و رحمه وهنيئا له الشهادة ، ثم قال : احتسبي ، قالت : من يارسول ؟ قال : بعلك مصعب بن عمير ، فقالت واحزناه ! ويقال : إنها قالت : واعقراه .
قال محمد بن إسحاق في كتابه : فصرخت وولولت .
قال الواقدي : فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : إن للزوج من المرأة مكانا ما هو لاحد .
وهكذا روى ابن إسحاق أيضا .
قال الواقدي : ثم قال لها رسول الله صلى الله عليه وآله : لم قلت هذا ؟ قالت ذكرت يتم بنيه فراعني .
فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله لولده أن يحسن الله عليهم الخلف ،
__________
(1) يا حمن ، مرخم " يا حمنة " .
(2) سورة البقرة 156 .
(*)(15/18)
فتزوجت طلحة بن عبيد الله ، فولدت منه محمد بن طلحة فكان أوصل الناس لولد مصعب بن عمير .
القول فيمن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وآله يوم أحد قال الواقدي : حدثنى موسى بن يعقوب ، عن عمته ، عن أمها ، عن المقداد ، قال : لما تصاف القوم للقتال يوم أحد جلس رسول الله صلى الله عليه وآله تحت رأيه مصعب بن عمير ، فلما قتل أصحاب اللواء وهزم المشركون الهزيمة الاولى ، وأغار المسلمون على معسكرهم ، ينهبونه ثم كر المشركون على المسلمين ، فأتوهم من خلفهم ، فتفرق الناس ، ونادى رسول الله صلى الله عليه وآله في أصحاب الالوية ، فقتل مصعب بن عمير حامل لوائه صلى الله عليه وآله ، وأخذ راية الخزرج سعد بن عبادة ، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله تحتها ، وأصحابه محدقون به ، ودفع لواء المهاجرين إلى أبى الردم أحد بنى عبد الدار آخر نهار ذلك اليوم ، ونظرت إلى لواء الاوس مع أسيد بن حضير ، فناوشوا المشركين ساعة ، واقتتلوا على اختلاط من الصفوف ، ونادى المشركون بشعارهم : يا للعزى ! يا لهبل ! فأوجعوا والله فينا قتلا ذريعا ، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وآله ما نالوا ، لا والذى بعثه بالحق ما زال شبرا واحدا ، إنه لفي وجه العدو وتثوب إليه طائفة من أصحابه مرة ، وتتفرق عنه مرة ، فربما رأيته قائما يرمي عن قوسه أو يرمى بالحجر حتى تحاجزوا ، وكانت العصابة التى ثبتت مع رسول الله صلى الله عليه وآله أربعة عشر رجلا ، سبعة من المهاجرين ، وسبعة من الانصار ، أما المهاجرون فعلي عليه السلام وأبو بكر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبى وقاص وطلحه بن عبيدالله وأبو عبيدة بن الجراح والزبير بن العوام ،(15/19)
وأما الانصار فالحباب بن المنذر وأبو دجانة (1) وعاصم بن ثابت بن أبى الاقلح والحارث بن الصمة وسهل بن حنيف وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير .
قال الواقدي : وقد روي أن سعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة ثبتا يومئذ ولم يفرا .
ومن روى ذلك جعلهما مكان سعد بن معاذ وأسيد بن حضير .
قال الواقدي : وبايعه يومئذ على الموت ثمانية : ثلاثة من المهاجرين وخمسة من الانصار ، فأما المهاجرون فعلي عليه السلام ، وطلحة ، والزبير ، وأما الانصار فأبو دجانة والحارث بن الصمة والحباب بن المنذر وعاصم بن ثابت وسهل بن حنيف ، ولم يقتل منهم ذلك اليوم أحد ، وأما باقي المسلمين ففروا ورسول الله صلى الله عليه وآله يدعوهم في أخراهم حتى انتهى منهم إلى قريب من المهراس (2) .
قال الواقدي : وحدثني عتبة بن جبير ، عن يعقوب بن عمير بن قتادة قال : ثبت يومئذ بين يديه ثلاثون رجلا كلهم يقول : وجهي دون وجهك ، ونفسي دون نفسك ، وعليك السلام غير مودع .
قلت : قد اختلف في عمر بن الخطاب هل ثبت يومئذ أم لا ، مع اتفاق الرواة كافة على أن عثمان لم يثبت ، فالواقدي ذكر أنه لم يثبت ، وأما محمد بن إسحاق والبلاذري فجعلاه مع من ثبت ولم يفر ، واتفقوا كلهم على أن ضرار بن الخطاب الفهرى قرع رأسه بالرمح وقال : إنها نعمة مشكورة يا بن الخطاب ، إنى آليت ألا أقتل رجلا من قريش .
وروى ذلك محمد بن إسحاق وغيره ، ولم يختلفوا في ذلك ، وإنما اختلفوا ، هل قرعه بالرمح وهو فار هارب ، أم مقدم ثابت ! والذين رووا أنه قرعه بالرمح وهو هارب لم يقل * 0 هامش) * (1) أبو دجانة ، هو سماك بن خرشة .
(2) المهراس : ماء بأحد .
(*)(15/20)
أحد منهم أنه هرب حين هرب عثمان ولا إلى الجهة التى فر إليها عثمان ، وإنما هرب معتصما بالجبل ، وهذا ليس بعيب ولا ذنب ، لان الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله اعتصموا بالجبل كلهم وأصعدوا فيه ، ولكن يبقى الفرق بين من أصعد في الجبل في آخر الامر ومن أصعد فيه والحرب لم تضع أوزارها ، فإن كان عمر أصعد فيه آخر الامر ، فكل المسلمين هكذا صنعوا حتى رسول الله صلى الله عليه وآله ، وإن كان ذلك والحرب قائمة بعد تفرق .
ولم يختلف الرواة من أهل الحديث في أن أبا بكر لم يفر يومئذ ، وأنه ثبت فيمن ثبت ، وإن لم يكن نقل عنه قتل أو قتال ، والثبوت جهاد وفيه وحده كفاية .
وأما رواة الشيعة فانهم يروون أنه لم يثبت إلا علي وطلحة والزبير وأبو دجانة وسهل بن حنيف وعاصم بن ثابت ، ومنهم من روى أنه ثبت معه أربعة عشر رجلا من المهاجرين والانصار ، ولا يعدون أبا بكر وعمر منهم .
روى كثير من أصحاب الحديث أن عثمان جاء بعد ثالثة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فسأله إلى أين انتهيت ؟ فقال : إلى الاعرض ، فقال : لقد ذهبت فيها عريضة (1) .
روى الواقدي قال : كان بين عثمان أيام خلافته وبين عبد الرحمن بن عوف كلام ، فأرسل عبد الرحمن إلى الوليد بن عقبة فدعاه ، فقال : اذهب الى أخيك فأبلغه عنى ما أقول لك ، فإني لا أعلم أحدا يبلغه غيرك .
قال الوليد : أفعل .
قال : قل له يقول لك عبد الرحمن ، شهدت بدرا ولم تشهدها ، وثبت يوم أحد ووليت ، وشهدت بيعه الرضوان ولم تشهدها ، فلما أخبره قال عثمان : صدق أخى ، تخلفت عن بدر على ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي مريضة فضرب لي رسول الله صلى الله عليه وآله بسهمى وأجرى ، فكنت بمنزلة من
__________
(1) في النهاية لابن الاثير : " وفي حديث أحد قال للمنهزمين : لقد ذهبتم فيها عريضة ، أي واسعة " .
(*)(15/21)
حضر بدرا ، ووليت يوم أحد فعفا الله عني في محكم كتابه ، وأما بيعة الرضوان فإني خرجت إلى أهل مكة ، بعثنى رسول الله صلى الله عليه وآله وقال : إن عثمان في طاعة الله وطاعة رسوله ، وبايع عنى بإحدى يديه على الاخرى ، فكان شمال النبي خيرا من يمينى فلما جاء الوليد إلى عبد الرحمن بما قال قال : صدق أخى .
قال الواقدي : ونظر عمر إلى عثمان بن عفان فقال : هذا ممن عفا الله عنه ، وهم الذين تولوا يوم التقى الجمعان والله ما عفا الله عن شئ فرده .
قال : وسأل رجل عبد الله بن عمر عن عثمان فقال : أذنب يوم أحد ذنبا عظيما ، فعفا الله عنه ، وأذنب فيكم ذنبا صغيرا فقتلتموه ، واحتج من روى أن عمر فر يوم أحد بما روي أنه جاءته في أيام خلافته امرأة تطلب بردا من برود كانت بين يديه ، وجاءت معها بنت لعمر تطلب بردا أيضا فأعطى المرأة ورد ابنته ، فقيل له في ذلك ، فقال : إن أبا هذه ثبت يوم أحد وأبا هذه فر يوم أحد ولم يثبت .
وروى الواقدي : أن عمر كان يحدث فيقول : لما صاح الشيطان قتل محمد ، قلت أرقي في الجبل كأني أروية ، وجعل بعضهم هذا حجة في إثبات فرار عمر ، وعندي أنه ليس بحجة لان تمام الخبر فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله .
وهو يقول : (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) (1) الايه ، وأبو سفيان في سفح الجبل في كتيبته يرومون أن يعلوا الجبل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : اللهم إنه ليس لهم أن يعلونا .
فانكشفوا ، وهذا يدل على أن رقيه في الجبل قد كان بعد إصعاد رسول الله صلى الله عليه آله فيه ، وهذا بأن يكون منقبة له أشبه .
وروى الواقدي قال : حدثنى ابن أبى سبرة ، عن أبى بكر بن عبد الله بن أبى جهم ، اسم أبى جهم عبيد ، قال : كان خالد بن الوليد يحدث وهو بالشام فيقول الحمد : لله
__________
(1) سورة آل عمران 144 .(15/22)
الذى هداني للاسلام ، لقد رأيتنى ورأيت عمر بن الخطاب حين جال المسلمون وانهزموا يوم أحد وما معه أحد ، وإني لفي كتيبة خشناء (1) ، فما عرفه منهم أحد غيرى ، وخشيت إن أغريت به من معى أن يصمدوا له ، فنظرت إليه وهو متوجه إلى الشعب .
قلت : يجوز أن يكون هذا حقا ، ولا خلاف أنه توجه الى الشعب تاركا للحرب ، لكن يجوز أن يكون ذلك في آخر الامر لما يئس المسلمون من النصره ، فكلهم توجه نحو الشعب حينئذ ، وأيضا فان خالدا متهم في حق عمر بن الخطاب لما كان بينه وبينه من الشحناء والشنان ، فليس بمنكر من خالد أن ينعى عليه حركاته ، ويؤكد صحة هذا الخبر ، وكون خالد عف عن قتل عمر يومئذ ، ما هو معلوم من حال النسب بينهما من قبل الام ، فإن أم عمر حنتمة بنت هاشم بن المغيرة ، وخالد هو ابن الوليد بن المغيرة ، فأم عمر ابنة عم خالد لحا ، والرحم تعطف .
حضرت عند محمد بن معد العلوى الموسوي الفقيه على رأي الشيعة الامامية رحمه الله في داره بدرب الدواب ببغداد في سنة ثمان وستمائة ، وقارئ يقرأ عنده مغازى الواقدي ، فقرأ : حدثنا الواقدي قال : حدثنى ابن أبى سبرة ، عن خالد بن رياح ، عن أبى سفيان مولى ابن أبى أحمد قال : سمعت محمد بن مسلمة يقول : سمعت أذناي وأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وآله يقول يوم أحد وقد انكشف الناس الى الجبل ، وهو يدعوهم وهم لا يلوون عليه ، سمعته يقول : إلي يا فلان ، إلي يا فلان ، أنا رسول الله ، فما عرج عليه واحد منهما ومضيا ، فأشار ابن معد إلي أن اسمع ، فقلت : وما في هذا ؟ قال هذه كناية عنهما ، فقلت : ويجوز ألا يكون عنهما ، لعله عن غيرهما .
قال : ليس في الصحابة من
__________
(1) كتيبة خشناء : كثيرة السلاح .
(*)(15/23)
يحتشم ويستحيا من ذكره بالفرار وما شابهه من العيب فيضطر ، القائل إلى الكناية إلا هما قلت له : هذا وهم (1) ، فقال : دعنا من جدلك ومنعك ، ثم حلف أنه ما عنى الواقدي غيرهما ، وإنه لو كان غيرهما لذكره صريحا ، وبان في وجهه التنكر من مخالفتي له .
روى الواقدي قال : لما صاح إبليس : أن محمدا قد قتل ، تفرق الناس فمنهم من ورد المدينة ، فكان أول من وردها يخبر أن محمدا قد قتل ، سعد بن عثمان أبو عبادة ، ثم ورد بعده رجال حتى دخلوا على نسائهم حتى جعل النساء يقلن : أعن رسول الله تفرون ! ويقول لهم ابن أم مكتوم : أعن رسول الله تفرون ؟ يؤنب بهم ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله خلفه بالمدينة يصلي بالناس ، ثم قال دلوني على الطريق - يعنى طريق أحد - فدلوه ، فجعل يستخبر كل من لقي في الطريق حتى لحق القوم ، فعلم بسلامة النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم رجع .
وكان ممن ولى عمر وعثمان والحارث بن حاطب وثعلبه بن حاطب وسواد بن غزية وسعد بن عثمان وعقبة بن عثمان وخارجة بن عمر بلغ ملل (2) ، وأوس بن قيظي في نفر من بني حارثة بلغوا الشقرة (3) ولقيتهم أم أيمن تحثي (3) في وجوههم التراب وتقول لبعضهم : هاك المغزل فاغزل به ، وهلم .
واحتج من قال بفرار عمر بما رواه الواقدي في كتاب المغازى في قصة الحديبية ، قال : قال عمر يومئذ : يا رسول الله ، أ لم تكن حدثتنا أنك ستدخل المسجد الحرام وتأخذ مفتاح الكعبة وتعرف مع المعرفين ، وهدينا لم يصل إلى البيت ولا نحر ! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : أ قلت لكم في سفركم هذا ؟ قال عمر : لا ، قال : أما إنكم ستدخلونه وآخذ مفتاح الكعبة وأحلق رأسي ورؤوسكم ببطن مكة وأعرف مع المعرفين ، ثم أقبل على عمر وقال : أ نسيتم يوم
__________
(1) كذا في ب : والذي في أ " ممنوع " .
(2) ملل ، كجبل : موضع بعينه .
(3) الشقرة : موضع معروف لبني سليم .
(4) يقال : حثا اللتراب في وجهه يحثوه ويحثيه ، إذا رماه به .
(*)(15/24)
أحد ، (إذ تصعدون ولا تلوون على أحد) (1) وأنا أدعوكم في أخراكم ! أ نسيتم يوم الاحزاب (إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر) (2) أ نسيتم يوم كذا ! وجعل يذكرهم أمورا ، أ نسيتم يوم كذا ! فقال المسلمون : صدق الله وصدق رسوله ، أنت يا رسول الله أعلم بالله منا ، فلما دخل عام القضية وحلق رأسه قال : هذا الذى كنت وعدتكم به ، فلما كان يوم الفتح وأخذ مفتاح الكعبة قال : ادعوا إلي عمر بن الخطاب ، فجاء فقال : هذا الذى كنت قلت لكم .
قالوا : فلو لم يكن فر يوم أحد لما قال له : أ نسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون .
القول فيما جرى للمسلمين بعد إصعادهم في الجبل قال الواقدي : حدثنى موسى بن محمد بن ابراهيم ، عن أبيه قال : لما صاح الشيطان لعنه الله : إن محمدا قد قتل يحزنهم بذلك ، تفرقوا في كل وجه ، وجعل الناس يمرون على النبي صلى الله عليه وآله لا يلوى عليه أحد منهم ، ورسول الله يدعوهم في أخراهم ، حتى انتهت هزيمة قوم منهم إلى المهراس ، فتوجه رسول الله صلى الله عليه وآله يريد أصحابه في الشعب فانتهى إلى الشعب وأصحابه في الجبل أوزاع ، يذكرون مقتل من قتل منهم ، ويذكرون ما جاءهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، قال كعب بن مالك : فكنت أول من عرفه وعليه المغفر فجعلت أصيح وأنا في الشعب : هذا رسول الله صلى الله عليه آله حي ، فجعل يومئ إلي بيده على فيه أي اسكت ، ثم دعا بلامتى (1) فلبسها ونزع لامته .
قال الواقدي : طلع رسول الله صلى الله عليه وآله على أصحابه في الشعب بين السعدين :
__________
(1) سورة آل عمران 153 .
(2) سورة الاحزاب : 10 .
(3) اللامة : الدرع .
(*)(15/25)
سعد بن عبادة ، وسعد بن معاذ يتكفأ في الدرع ، وكان إذا مشى تكفأ تكفؤا ، ويقال : إنه كان يتوكأ على طلحة بن عبيد الله .
قال الواقدي : وما صلى يومئذ الظهر إلا جالسا للجرح الذى كان أصابه .
قال الواقدي : وقد كان طلحة قال له : إن بي قوه ، فقم لاحملك ، فحمله حتى انتهى إلى الصخرة التى على فم شعب الجبل ، فلم يزل يحمله حتى رفعه عليها ثم مضى إلى أصحابه ومعه النفر الذين ثبتوا معه ، فلما نظر المسلمون إليهم ظنوهم قريشا ، فجعلوا يولون في الشعب هاربين منهم ، ثم جعل أبو دجانه يليح إليهم بعمامة حمراء على رأسه ، فعرفوه فرجعوا ، أو بعضهم .
قال الواقدي : روي أنه لما طلع عليهم في النفر الذين ثبتوا معه - وهم أربعة عشر ، سبعة من المهاجرين ، وسبعة من الانصار - جعلوا يولون في الجبل خائفين منهم يظنونهم المشركين ، جعل رسول الله صلى الله عليه وآله يتبسم إلى أبى بكر وهو على جنبه ويقول له : ألح إليهم : فجعل أبو بكر يليح إليهم وهم لا يعرجون حتى نزع أبو دجانة عصابة حمراء على رأسه فأوفى (1) على الجبل ، فجعل يصيح ويليح ، فوقفوا حتى عرفوهم .
ولقد وضع أبو بردة بن نيار سهما على كبد قوسه ، فأراد أن يرمى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فلما تكلموا وناداهم رسول الله صلى الله عليه وآله امسك ، وفرح المسلمون برؤيته حتى كأنهم لم تصبهم في أنفسهم مصيبة ، وسروا لسلامته وسلامتهم من المشركين .
قال الواقدي : ثم إن قوما من قريش صعدوا الجبل فعلوا على المسلمين وهم في الشعب قال : فكان رافع بن خديج يحدث فيقول : إني يومئذ إلى جنب أبى مسعود الانصاري وهو يذكر من قتل من قومه ، ويسأل عنهم فيخبر برجال : منهم سعد بن
__________
(1) أفى : أشرف وعلا .
(*)(15/26)
الربيع ، وخارجة بن زهير ، وهو يسترجع (1) ويترحم عليهم ، وبعض المسلمين يسأل بعضا عن حميمه وذى رحمه فيهم ، يخبر بعضهم بعضا ، فبينا هم على ذلك رد الله المشركين ليذهب ذلك الحزن عنهم ، فإذا عدوهم فوقهم قد علوا ، وإذا كتائب المشركين بالجبل ، فنسوا ما كانوا يذكرون ، وندبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وحضنا على القتال ، والله لكأنى أنظر إلى فلان وفلان في عرض الجبل يعدوان هاربين .
قال الواقدي : فكان عمر يحدث يقول : لما صاح الشيطان : قتل محمد ، أقبلت أرقي إلى الجبل ، فكأني أرويه ، فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول : (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) الاية ، وأبو سفيان في سفح الجبل فقال رسول الله صلى الله عليه وآله يدعو ربه : اللهم ليس لهم أن يعلوا .
فانكشفوا .
قال الواقدي : فكان أبو أسيد الساعدي يحدث فيقول : لقد رأيتنا قبل أن يلقى النعاس علينا في الشعب وإنا لسلم لمن أرادنا ، لما بنا من الحزن فألقى علينا النعاس ، فنمنا حتى تناطح الحجف (2) ، ثم فزعنا وكأنا لم يصبنا قبل ذلك نكبة .
قال : وقال الزبير بن العوام : غشينا النعاس فما منا رجل إلا وذقنه في صدره من النوم ، فأسمع معتب بن قشير - وكان من المنافقين - يقول : وإني لكالحالم : (لو كان لنا من الامر شئ ما قتلنا ها هنا) فانزل الله تعالى فيه ذلك .
قال : وقال أبو اليسر : لقد رأيتني ذلك اليوم في رجال من قومي إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وآله وقد أنزل الله علينا النعاس أمنه منه ، ما منهم رجل إلا يغط غطيطا حتى إن الحجف لتناطح ، ولقد رأيت سيف بشر بن البراء بن معرور سقط من يده
__________
(1) استرجع : قال : إنا لله وإنا إليه راجعون .
(2) الحجف بالتحريك : جمع حجفة ، وهي الترس .
(3) سورة آل عمران 154 .
(*)(15/27)
وما يشعر به حتى أخذه بعد ما تثلم ، وإن المشركين لتحتنا ، وسقط سيف أبي طلحة أيضا ولم يصب أهل الشك والنفاق نعاس يومئذ ، وإنما أصاب النعاس أهل الايمان واليقين ، فكان المنافقون يتكلم كل منهم بما في نفسه ، والمؤمنون ناعسون .
قلت : سألت ابن النجار المحدث عن هذا الموضع فقلت له : من قصة أحد تدل على أن المسلمين كانت الدولة لهم بادئ الحال ثم صارت عليهم ، وصاح الشيطان : قتل محمد ، فانهزم أكثرهم ، ثم ثاب أكثر المنهزمين إلى النبي صلى الله عليه وآله ، فحاربوا دونه حربا كثيرة طالت مدتها حتى صار آخر النهار ، ثم أصعدوا في الجبل معتصمين به ، وأصعد رسول الله صلى الله عليه وآله معهم ، فتحاجز الفريقان حينئذ ، وهذا هو الذى يدل عليه تأمل قصة أحد ، إلا أن بعض الروايات التى ذكرها الواقدي يقتضى غير ذلك ، نحو روايته في هذا الباب أن رسول الله صلى الله عليه وآله ، لما صاح الشيطان : إن محمدا قد قتل ، كان ينادى المسلمين فلا يعرجون عليه ، وإنما يصعدون في الجبل ، وإنه وجه نحو الجبل ، فانتهى إليهم وهم أوزاع يتذاكرون بقتل من قتل منهم وهذه الرواية تدل على أنه أصعد صلى الله عليه وآله في الجبل من أول الحرب ، حيث صاح الشيطان ، وصياح الشيطان كان حال كون خالد بن الوليد بالجبل من وراء المسلمين لما غشيهم وهم مشتغلون بالنهب واختلط الناس ، فكيف هذا ! فقال : إن الشيطان صاح : قتل محمد دفعتين : دفعة في أول الحرب ، ودفعة في آخر الحرب ، لما تصرم النهار وغشيت الكتائب رسول الله صلى الله عليه وآله وقد قتل ناصروه وأكلتهم الحرب ، فلم يبق معه إلا نفر يسير لا يبلغون عشرة ، وهذه كانت أصعب وأشد من الاولى ، وفيها اعتصم ، وما اعتصم في صرخة الشيطان الاولى بالجبل ، بل ثبت وحامى عنه أصحابه ، ولقد لقي في الاولى مشقة عظيمة من ابن قميئة وعتبة بن أبى وقاص وغيرهما ،(15/28)
ولكنه لم يفارق عرصة الحرب ، وإنما فارقها وعلم أنه لم يبق له وجه مقام في صرخته الثانية .
قلت له : فكان القوم مختلطين في الصرخة الثانية حتى يصرخ الشيطان : قتل محمد ! قال : نعم ، المشركون قد أحاطوا بالنبي صلى الله عليه وآله وبمن بقي معه من أصحابه ، فاختلط المسلمون بهم ، وصاروا مغمورين بينهم ، لقلتهم بالنسبة إليهم ، وظن قوم من المشركين أنهم قد قتلوا النبي صلى الله عليه وآله لانهم فقدوا وجهه وصورته ، فنادى الشيطان : قتل محمد ، ولم يكن قتل صلى الله عليه وآله ، ولكن اشتبهت صورته عليهم وظنوه غيره ، وأكثر من حامى عنه في تلك الحال علي عليه السلام وأبو دجانة وسهل بن حنيف ، وحامى هو عن نفسه ، وجرح قوما بيده تاره بالسهام ، وتارة بالسيف ولكن لم يعلموا بأعيانهم لاختلاط القوم وثوران النقع (1) ، وكانت قريش تظنه واحدا من المسلمين ولو عرفوه بعينه في تلك الثورة لكان الامر صعبا جدا ، ولكن الله تعالى عصمه منهم بأن أزاغ أبصارهم عنه ، فلم يزل هؤلاء الثلاثه يجالدون دونه وهو يقرب من الجبل حتى صار في أعلى الجبل أصعد من فم الشعب الى تدريج هناك في الجبل ورقي في ذلك التدريج صاعدا حتى صار في أعلى الجبل ، وتبعه النفر الثلاثة فلحقوا به .
قلت له : فما بال القوم الذين صعدوا الجبل من المشركين ، وكيف كان إصعادهم وعودهم ؟ قال : أصعدوا لحرب المسلمين لا لطلب رسول الله صلى الله عليه وآله ، لانهم ظنوا أنه قد قتل ، وهذا هو كان السبب في عودهم من الجبل ، لانهم قالوا : قد بلغنا الغرض
__________
(1) النقع : غبار الحرب .
(*)(15/29)
الاصلي وقتلنا محمدا ، فما لنا والتصميم على الاوس والخزرج وغيرهم من أصحابه ، مع ما في ذلك من عظم الخطر بالانفس ! قلت له : فإذا كان هذا قد خطر لهم فلماذا صعدوا في الجبل .
قال : يخطر لك خاطر ويدعوك داع إلى بعض الحركات ، فإذا شرعت فيها خطر لك خاطر آخر يصرفك عنها ، فترجع ولا تتمها ! قلت : نعم فما بالهم لم يقصدوا قصد المدينة وينهبوها ؟ قال : كان فيها عبد الله بن أبى في ثلثمائة مقاتل وفيها خلق كثير من الاوس والخزرج ، لم يحضروا الحرب وهم مسلمون ، وطوائف أخر من المنافقين لم يخرجوا ، وطوائف أخرى من اليهود ، أولو بأس وقوة ، ولهم بالمدينة عيال وأهل ونساء ، وكل هؤلاء كانوا يحامون عن المدينة ، ولم تكن قريش تأمن مع ذلك أن يأتيها رسول الله صلى الله عليه وآله من ورائها بمن يجامعه من أصحابه فيحصلوا بين الاعداء من خلفهم ومن أمامهم فكان الرأي الاصوب لهم العدول عن المدينة وترك قصدها .
قال الواقدي : حدثنى الضحاك بن عثمان ، عن حمزة بن سعيد ، قال : لما تحاجزوا وأراد أبو سفيان الانصراف ، أقبل يسير على فرس له حوراء (1) فوقف على أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وهم في عرض الجبل ، فنادى بأعلى صوته : أعل هبل ثم صاح ، أين ابن أبى كبشة ؟ يوم بيوم بدر ، ألا إن الايام دول .
وفي رواية أنه نادى أبا بكر وعمر أيضا ، فقال : أين ابن أبى قحافة ؟ أين ابن الخطاب ؟ ثم قال : الحرب سجال ، حنظلة بحنظلة ، يعنى حنظلة بن أبى عامر بحنظلة بن
__________
(1) حوراء : واسعة العينين .(15/30)
أبى سفيان ، فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله أجيبه ؟ قال : نعم فأجبه ، فلما قال : اعل هبل قال عمر : الله أعلى وأجل .
ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر : قل له : الله أعلى وأجل ، فقال أبو سفيان : إن لنا العزى ولا عزى لكم ، فقال عمر : أو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قل له ، الله مولانا ولا مولى لكم ، فقال أبو سفيان : إنها قد أنعمت ، فقال : عنها يا بن الخطاب ، فقال سعيد بن أبى سفيان : ألا إن الايام دول وان الحرب سجال ، فقال عمر : ولا سواء (1) ، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار ، فقال أبو سفيان : إنكم لتقولون ذلك لقد جبنا إذا وخسرنا ، ثم قال يا بن الخطاب ، قم إلي أكلمك : فقام إليه فقال : أنشدك بدينك : هل قتلنا محمدا ؟ قال : اللهم لا ، وإنه ليسمع كلامك الان ، قال أنت عندي أصدق من ابن قميئة ، ثم صاح أبو سفيان ورفع صوته : إنكم واجدون في قتلاكم عنتا ومثلا ، ألا إن ذلك لم يكن عن رأي سراتنا ، ثم أدركته حمية الجاهلية فقال : وأما إذ كان ذلك فلم نكرهه ؟ ثم نادى : ألا إن موعدكم بدر الصفراء ، على رأس الحول ، فوقف عمر وقفة ينتظر ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : قل نعم ، فانصرف أبو سفيان إلى أصحابه وأخذوا في الرحيل ، فأشفق رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من أن يغيروا على المدينة فيهلك الذراري والنساء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله اسعد بن أبي وقاص : اذهب فأتنا بخبر القوم ، فإنهم إن ركبوا الابل وجنبوا (2) الخيل فهو الظعن إلى مكة ، وإن ركبوا الخيل وجنبوا الابل فهو الغارة على المدينة ، والذي نفسي بيده ، إن ساروا إليها لاسيرن إليهم ثم لاناجزهم .
قال سعد : فتوجهت أسعى وأرصدت نفسي إن أفرعني شئ رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أسعى ، فبدأت بالسعي حين ابتدأت ، فخرجت في آثارهم
__________
(1) ولا سواء : يعني لا يستوي هذا وذاك .
(2) جنبوا الخيل ، أي ساقوها إلى جانبهم .
(*)(15/31)
حتى إذا كانوا بالعقيق (1) وأنا بحيث أراهم وأتأملهم ركبوا الابل وجنبوا الخيل ، فقلت : إنه الظعن إلى بلادهم ، ثم وقفوا وقفة بالعقيق ، وتشاوروا في دخدلل المدينة ، فقال لهم صفوان ابن أمية : قد أصبتم القوم ، فانصرفوا ولا تدخلوا عليهم وأنتم كالون ، ولكم الظفر ، فإنكم لا تدرون ما يغشاكم ، فقد وليتم يوم بدر ، لا والله ما تبعوكم وكان الظفر لهم .
فيقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : نهاهم صفوان .
فلما رآهم سعد على تلك الحال منطلقين وقد دخلوا في المكمن رجع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كالمنكسر فقال : وجه القوم يا رسول الله إللى مكة ، امتطوا الابل وجنبوا الخيل .
فقال : ما تقول ؟ قلت : ما قلت يا رسول الله ، فخلا بي فقال : أ حقا ما تقول ؟ قلت : نعم يا رسول الله ، قال : فما بالي رأيتك منكسرا ؟ فقلت : كرهت أن آتي المسلمين فرحا بقفولهم إلى بلادهم ، فقال صلى الله عليه وسلم : إن سعدا لمجرب .
قال الواقدي : وقد روي خلاف هذا ، روي أن سعدا لما رجع رفع صوته بأن جنبوا الخيل ، وامتطوا الابل ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إلى سعد : خفض صوتك فإن الحرب خدعة ، فلا ترى الناس مثل هذا الفرح بانصرافهم ، فإنما ردهم الله تعالى .
قال الواقدي : وحدثني ابن أبى سبرة ، عن يحيى بن شبل ، عن أبى جعفر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبى وقاص : إن رأيت القوم يريدون المدينة فأخبرني فيما بيني وبينك ، ولا تفت في أعضاد المسلمين ، فذهب فرآهم قد امتطوا الابل ، فرجع ، فما ملك أن جعل يصيح سرورا بانصرافهم .
قال الواقدي : وقيل لعمرو بن العاص : كيف كان افتراق المسلمين والمشركين يوم
__________
(1) العقيق : موضع بالمدينة فيه عيون ونخيل .
(ياقوت) .
(*)(15/32)
أحد فقال ما تريدون إلى ذلك ! قد جاء الله بالاسلام ، ونفى الكفر وأهله ، ثم قال : لما كررنا عليهم أصبنا من أصبنا منهم وتفرقوا في كل وجه ، وفاءت لهم فئة بعد ، فتشاورت قريش ، فقالوا : لنا الغلبة ، فلو انصرفنا فإنه بلغنا أن ابن أبي انصرف بثلث الناس ، وقد تخلف الناس من الاوس والخزرج ، ولا نأمن أن يكروا علينا ، وفينا جراح ، وخيلنا عامتها قد عقرت من النبل ، فمضينا ، فما بلغنا الروحاء (1) حتى قام علينا عدة منها ، وانصرفنا إلى مكة .
قال الواقدي : حدثنى إسحاق بن يحيى بن طلحة ، عن عائشة ، قال : سمعت أبا بكر يقول : لما كان يوم أحد ورمي رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه حتى دخلت في وجهه حلقتان من المغفر أقبلت أسعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنسان قد أقبل من قبل المشرق يطير طيرانا ، فقلت : اللهم اجعله طلحة بن عبيد الله ، حتى توافينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا أبو عبيدة بن الجراح فبدرني فقال : أسالك بالله يا أبا بكر إلا تركتني فانتزعه من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال أبو بكر : فتركته .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عليكم صاحبكم " يعنى طلحة ، فأخذ أبو عبيده بثنيته حلقة المغفر ، فنزعها وسقط على ظهره ، وسقطت ثنية أبى عبيدة ، ثم أخذ الحلقة بثنيتة الاخرى ، فكان أبو عبيدة في الناس أثرم (2) .
ويقال : أن الذى نزع الحلقتين من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عقبة بن وهب بن كلدة ، ويقال : أبو اليسر .
قال الواقدي : وأثبت ذلك عندنا عقبة بن وهب بن كلدة .
قال الواقدي : وكان أبو سعيد الخدرى يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (هامش) * (1) الروحاء : موضع على أربعين ميلا من المدينة .
(2) الاثرم : الذي لا أسنان له .
(*)(15/33)
أصيب وجهه يوم أحد ، فدخلت الحلقتان من المغفر في وجنتيه ، فلما نزعتا جعل الدم يسرب كما يسرب الشن (1) ، فجعل مالك بن سنان يمج الدم بفيه ، ثم ازدرده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أحب أن ينظر إلى من خالط دمه بدمي فلينظر إلى مالك بن سنان .
فقيل لمالك : تشرب الدم ! فقال : نعم ، أشرب دم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من مس دمه دمى لم تصبه النار " .
قال الواقدي : وقال أبو سعيد : كنا ممن رد من الشيخين (2) لم نجئ مع المقاتلة ، فلما كان من النهار بلغنا مصاب رسول الله صلى الله عليه وآله ، وتفرق الناس عنه ، جئت مع غلمان بني خدرة نعرض لرسول الله صلى الله عليه وآله ننظر إلى سلامته ، فنرجع بذلك إلى أهلنا ، فلقينا الناس متفرقين ببطن قناة ، فلم يكن لنا همة إلا النبي صلى الله عليه وسلم ، ننظر إليه ، فلما رأني قال : سعد بن مالك ! قلت : نعم ، بأبي أنت وأمي ! ودنوت منه ، فقبلت ركبته وهو على فرسه ، فقال آجرك الله في أبيك ! ثم نظرت إلى وجهه ، فإذا في وجنتيه مثل موضع الدرهم في كل وجنة ، وإذا شجة في جبهته عند أصول الشعر ، وإذا شفته السفلى تدمى ، وإذا في رباعيته اليمنى شظية ، وإذا على جرحه شئ أسود ، فسألت : ما هذا على وجهه ؟ فقالوا : حصير محرق .
وسألت : من أدمى وجنتيه ؟ فقيل ابن قميئة ، فقلت : فمن شجه في وجهه ؟ فقيل : ابن شهاب ، فقلت : من أصاب شفتيه ؟ قيل : عتبة بن أبى وقاص ، فجعلت أعدو بين يديه حتى نزل ببابه ، ما نزل إلا محمولا ، وأرى ركبتيه مجحوشتين (3) يتكئ [ على ] السعدين : سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، حتى دخل بيته ، فلما غربت الشمس وأذن بلال بالصلاة ، خرج على تلك الحال
__________
(1) الشن : القربة الخلق .
(2) الشيخان : موضع بالمدينة ، كان به معسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد ، وهما أطمأن سميا به .
(3) يقال : جحش الجلد : سحجه ، وهو كالخدش أو فوقه .
(4) من أ .
(*)(15/34)
يتوكأ على السعدين : سعد بن عبادة وسعد بن معاذ ، ثم انصرف إلى بيته والناس في المسجد يوقدون النيران يتمكدون بها من الجراح ، ثم أذن بلال بالعشاء حين غاب الشفق ، فلم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجلس بلال عند بابه صلى الله عليه وسلم حتى ذهب ثلث الليل ، ثم ناداه : الصلاه يا رسول الله ! فخرج ، وقد كان نائما ، قال فرمقته فإذا هو أخف في مشيته منه حين دخل بيته ، فصليت معه العشاء ، ثم رجع إلى بيته قد صفف له الرجال ما بين بيته الى مصلاه يمشى وحده حتى دخل ، ورجعت إلى أهلى فخبرتهم بسلامته ، فحمدوا الله وناموا ، وكانت وجوه الاوس والخزرج في المسجد على النبي صلى الله عليه وسلم يحرسونه فرقا من قريش أن تكر .
قال الواقدي : وخرجت فاطمه عليها السلام في نساء وقد رأت الذي بوجه أبيها صلى الله عليه وسلم ، فاعتنقته ، وجعلت تمسح الدم عن وجهه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسوله .
وذهب علي عليه السلام فأتى بماء من المهراس ، وقال لفاطمة : امسكي هذا السيف غير ذميم ، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مختضبا بالدم ، فقال : لئن كنت أحسنت القتال اليوم ، فلقد أحسن عاصم بن ثابت والحارث بن الصمة وسهل بن حنيف ، وسيف أبي دجانة غير مذموم ، هكذا روى الواقدي .
وروى محمد بن إسحاق أن عليا عليه السلام قال لفاطمة بيتي شعر ، وهما : أ فاطم هاء السيف غير ذميم * * فلست برعديد ولا بلئيم لعمري لقد جاهدت في نصر أحمد * * وطاعة رب بالعباد رحيم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : لئن كنت صدقت القتال اليوم لقد صدق معك سماك بن خرشة ، وسهل بن حنيف .(15/35)
قال الواقدي : فلما أحضر علي عليه السلام الماء ، أراد رسول الله صلى اللله عليه وسلم أن يشرب منه ، فلم يستطع ، وقد كان عطشا ووجد ريحا من الماء كرهها ، فقال : هذا ماء آجن ، فتمضمض منه للدم الذى كان بفيه ثم مجه ، وغسلت فاطمة به الدم عن أبيها صللى الله عليه وسلم ، فخرج محمد بن مسلمة يطب مع النساء ، وكن أربع عشرة امرأة ، قد جئن من المدينة يتلقين الناس منهن فاطمه عليها السلام يحملن الطعام والشراب على ظهورهن ، ويسقين الجرحى ويداوينهم .
قال الواقدي : قال كعب بن مالك : رأيت عائشة وأم سليم على ظهورهما القرب تحملانها يوم أحد ، وكانت حمنة بنت جحش تسقى العطشى وتداوى الجرحى ، فلم يجد محمد بن مسلمة عندهن ماء ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عطشه ، فذهب محمد بن مسلمة الى قناة ومعه سقاؤه حتى استقى من حسى - قناه عند قصور التميميين اليوم - فجاء بماء عذب ، فشرب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له بخير ، وجعل الدم لا ينقطع من وجهه عليه السلام وهو يقول : لن ينالوا منا مثلها حتى نستلم الركن ! فلما رأت فاطمة الدم لا يرقا وهى تغسل جراحه ، وعلي يصب الماء عليها بالمجن ، أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رمادا ، ثم ألصقته بالجرح ، فاستمسك الدم .
ويقال : إنها داوته بصوفة محرقة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يداوى الجراح الذى في وجهه بعظم بال حتى ذهب أثره .
ولقد مكث يجد وهن ضربة ابن قميئة على عاتقه شهرا أو أكثر من شهر ، ويداوي الاثر الذى في وجهه بعظم .
قال الواقدي : وقال رسول الله صلى الله عليه وآله قبل أن ينصرف إلى المدينة : من يأتينا بخبر سعد بن الربيع ؟ فإني رأيته - وأشار بيده إلى ناحية من الوادي - قد شرع فيه اثنا عشر سنانا ، فخرج محمد بن مسلمة - ويقال أبي بن كعب - نحو تلك الناحية .
قال : فأنا وسط القتلى لتعرفهم ، إذ مررت به صريعا في الوادي ، فناديته فلم يجب ، ثم قلت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليك .
قال : فتنفس كما يتنفس الطير ، ثم قال :(15/36)
وإن رسول الله صلى اللله عليه وسلم لحي ! قلت : نعم ، وقد أخبرنا أنه شرع لك إثنا عشر سنانا ، فقال : طعنت اثنتى عشرة طعنة كلها أجافتني ، أبلغ قومك الانصار السلام وقل لهم : الله الله وما عاهدتم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة ! والله مالكم عذر عند الله إن خلص إلى نبيكم ومنكم عين تطرف ، فلم أرم (1) من عنده حتى مات ، فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فرأيته استقبل القبلة رافعا يديه يقول : " اللهم الق سعد بن الربيع وأنت عنه راض " .
قال الواقدي : وخرجت السمداء بنت قيس ، إحدى نساء بني دينار ، وقد أصيب ابناها مع النبي صلى الله عليه وسلم بأحد : النعمان بن عبد عمر ، وسليم بن الحارث ، فلما نعيا لها قالت : فما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ قالوا : بخير ، هو بحمد الله صالح على ما تحبين ، فقالت : أرونيه أنظر إليه ، فأشاروا لها إليه ، فقالت كل مصيبة بعدك يا رسول الله جلل (2) ! وخرجت تسوق بابنيها بعيرا ، [ تردهما الى المدينة ] (3) ، فلقيتها عائشة ، فقالت ما وراءك ؟ فأخبرتها (4) ، قالت : فمن هؤلاء معك ؟ قالت ابناي ، حل حل (5) تحملهما الى القبر .
قال الواقدي : وكان حمزة بن عبد المطلب أول من جئ به إلى النبي صلى الله عليه وآله بعد انصراف قريش - أو كان من أولهم - فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله ، ثم قال : رأيت الملائكة تغسله ، - قالوا : لان حمزة كان جنبا ذلك اليوم - ولم يغسل رسول الله صلى الله عليه وآله الشهداء يومئذ ، وقال : لفوهم بدمائهم وجراحهم فإنه ليس أحد يجرح في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة لون جرحه لون الدم ، وريحه ريح المسك ، ثم
__________
(1) لم أرم : لم أبرح .
(2) جلل ، أي هينة .
(3) من الواقدي .
(4) في الواقدي : قالت : أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فبخير لم يمت ، واتخذ الله من المؤمنين شهداء : (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال) (5) حل : زجر للبعير .
(*)(15/37)
قال : ضعوهم فأنا الشهيد على هؤلاء يوم القيامة ، وكان حمزه أول من كبر عليه أربعا ، ثم جمع إليه الشهداء فكان كلما أتى بشهيد وضع الى جنب حمزة فصلى عليه وعلى الشهيد ، حتى صلى عليه سبعين مرة ، لان الشهداء سبعون .
قال الواقدي : ويقال : كان يؤتى بتسعة وحمزة عاشرهم ، فيصلي عليهم ، وترفع التسعة ، ويترك حمزة مكانه ، ويؤتى بتسعة آخرين فيوضعون إلى جنب حمزة فيصلى عليه وعليهم ، حتى فعل ذلك سبع مرات ، ويقال أنه كبر عليه خمسا وسبعا وتسعا .
قال الواقدي : وقد اختلفت الرواية في هذا ، وكان طلحة بن عبيد الله وابن عباس وجابر بن عبد الله يقولون : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد ، وقال : " أنا شهيد على هؤلاء " ، فقال أبو بكر : أ لسنا إخوانهم أسلمنا كما أسلموا ، وجاهدنا كما جاهدوا ! قال : بلى ، ولكن هؤلاء لم يأكلوا من أجورهم ، شيئا ولا أدرى ما تحدثون بعدى ! فبكى أبو بكر وقال : إنا لكائنون بعدك ! وقال أنس بن مالك وسعيد بن المسيب : لم يصل رسول الله صلى الله عليه وآله على قتلى أحد .
قال الواقدي : وقال لاهل القتلى : احفروا وأوسعوا وأحسنوا ، وادفنوا الاثنين والثلاثة في القبر ، وقدموا أكثرهم قرآنا .
وأمر بحمزة أن تمد بردته عليه وهو في القبر ، وكانت قصيرة ، فكانوا إذا خمروا بها رأسه بدت رجلاه ، وإذا خمروا بها رجليه انكشف وجهه ، فبكى المسلمون يومئذ ، فقالوا : يا رسول الله : عم رسول الله يقتل فلا يوجد له ثوب ! فقال بلى إنكم بأرض جردية (1) ذات أحجار ، وستفتح - يعنى الارياف والامصار - فيخرج الناس إليها ، ثم يبعثون إلى أهليهم ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ،
__________
(1) جردية ، قال الواقدي : التي ليس بها شئ من الاشجار .
(*)(15/38)
والذى نفسي بيده لا تصبر نفس على لاوائها وشدتها إلا كنت لها شفيعا - أو قال : شهيدا يوم القيامة .
قال الواقدي : وأتى عبد الرحمن بن عوف في خلافة عثمان بثياب وطعام فقال : ولكن حمزة لم يوجد له كفن ، ومصعب بن عمير لم يوجد له كفن ، وكانا خيرا منى ! قال الواقدي : ومر رسول الله صلى الله عليه وآله بمصعب بن عمير وهو مقتول مسجى ببردة خلق ، فقال : لقد رأيتك بمكه وما بها أحد أرق حلة ولا أحسن لمة منك ، ثم أنت اليوم أشعث الرأس في هذه البردة ! ثم أمر به فقبر ، ونزل في قبره أخوه أبو الروم وعامر بن ربيعة وسويبطة بن عمرو بن حرملة ، ونزل في قبر حمزة علي عليه السلام والزبير وأبو بكر وعمر ورسول الله صلى الله عيه وآله جالس على حفرته .
قال الواقدي : ثم إن الناس أو عامتهم حملوا قتلاهم إلى المدينة ، فدفن بالبقيع منهم عدة ، عند دار زيد بن ثابت ، ودفن بعضهم ببنى سلمة ، فنادى منادى رسول الله صلى الله عليه وآله : ردوا القتلى إلى مضاجعهم - وكان الناس قد دفنوا قتلاهم - فلم يرد أحد أحدا منهم إلا رجلا واحدا أدركه المنادي ولم يدفن ، وهو شماس بن عثمان المخزومي ، كان قد حمل إلى المدينة وبه رمق ، فأدخل على عائشة فقالت أم سلمة : ابن عمى يدخل إلى غيرى ! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : احملوه إلى أم سلمة ، فحملوه إليها فمات عندها ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله أن يرد إلى أحد فيدفن هناك كما هو في ثيابه التى مات فيها ، وكان قد مكث يوما وليلة ولم يذق شيئا ، فلم يصل عليه رسول الله صلى الله عليه وآله ولا غسله .
قال الواقدي : فأما القبور المجتمعة هناك فكثير من الناس يظنها قبور قتلى أحد ، وكان طلحة بن عبيد الله وعباد بن تميم المازنى يقولان : هي قبور قوم من الاعراب كانوا(15/39)
عام الرمادة في عهد عمر هناك ، فماتوا ، فتلك قبورهم .
وكان ابن أبى ذئب وعبد العزيز بن محمد يقولان : لا نعرف تلك القبور المجتمعة ، إنما هي قبور ناس من أهل البادية ، قالوا : إنا نعرف قبر حمزة وقبر عبد الله بن حزام وقبر سهل بن قيس ، ولا نعرف غير ذلك .
قال الواقدي : وكان رسول الله صبلى الله عليه وآله يزور قتلى أحد في كل حول ، وإذا لقوه بالشعب رفع صوته يقول : السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ! وكان أبو بكر يفعل مثل ذلك ، وكذلك عمر بن الخطاب ، ثم عثمان ، ثم معاوية ، حين يمر حاجا ومعتمرا .
قال : وكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله تأتيهم بين اليومين والثلاثة فتبكى عندهم وتدعو ، وكان سعد بن أبى وقاص يذهب إلى ما له بالغابة فيأتي من خلف قبور الشهداء فيقول : السلام عليكم ، ثلاثا ، ويقول : لا يسلم عليهم أحد إلا ردوا عليه السلام إلى يوم القيامة .
قال : ومر رسول الله صلى الله عليه وآله على قبر مصعب بن عمير ، فوقف عليه ، ودعا وقرا : (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) (1) ، ثم قال : إن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة ، فأتوهم فزوروهم وسلموا عليهم ، والذى نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه .
وكان أبو سعيد الخدرى يقف على قبر حمزة فيدعو ويقرأ ويقول مثل ذلك .
وكانت أم سلمة رحمها الله ، تذهب فتسلم عليهم في كل شهر فتظل يومها ، فجاءت يوما ومعها غلامها أنبهان ، فلم يسلم ، فقالت : أي لكع ! أ لا تسلم عليهم ! والله لا يسلم عليهم أحد إلا ردوا عليه إلى يوم القيامة .
قال وكان أابو هريرة وعبد الله بن عمر يذهبان فيسلمان عليهم ، قالت فاطمة
__________
(1) سورة الاحزاب 23 .
(*)(15/40)
الخزاعية : سلمت على قبر حمزة يوما ومعى أخت لي ، فسمعنا من القبر قائلا يقول : وعليكما السلام ورحمة الله ! قالت : ولم يكن قربنا أحد من الناس .
قال الواقدي : فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله من دفنهم دعا بفرسه فركبه ، وخرج المسلمون حوله عامتهم جرحى ، ولا مثل بني سلمة وبني عبد الاشهل ، فلما كانوا بأصل الحرة قال : اصطفوا ، فاصطفت الرجال صفين وخلفهم النساء وعدتهن أربع عشرة امرأة ، فرفع يديه فدعا ، فقال : اللهم لك الحمد كله ، اللهم لا قابض لما بسطت ، ولا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا هادي لمن أضللت ، ولا مضل لمن هديت ، ولا مقرب لما باعدت ، ولا مباعد لما قربت .
اللهم إنى أسالك من بركتك ورحمتك وفضلك وعافيتك ، اللهم إنى أسالك النعيم المقيم الذى لا يحول ولا يزول ، اللهم إنى أسالك الامن يوم الخوف ، والغناء يوم الفاقة ، عائذا بك ، اللهم من شر ما أعطيت ، ومن شر ما منعت ، اللهم توفنا مسلمين ، اللهم حبب إلينا الايمان ، وزينه في قلوبنا ، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، واجعلنا من الراشدين ، اللهم عذب كفرة أهل الكتاب الذين يكذبون رسلك ، ويصدون عن سبيلك ، اللهم أنزل عليهم رجسك وعذابك إله الحق ، آمين .
! قال الواقدي : وأقبل حتى نزل ببنى حارثة يمينا حتى طلع على بنى عبد الاشهل وهم يبكون على قتلاهم ، فقال : لكن حمزة لا بواكي له ! فخرج النساء ينظرن إلى سلامة رسول الله صلى الله عليه وآله ، فخرجت إليه أم عامر الاشهلية ، وتركت النوح ، فنظرت إليه وعليه الدرع كما هي ، فقالت : كل مصيبة بعدك جلل .
وخرجت كبشة بنت عتبة بن معاوية بن بلحارث بن الخزرج تعدو نحو رسول الله صلى الله عليه وآله وهو واقف على فرسه ، وسعد بن معاذ آخذ بعنان فرسه ، فقال سعد : يا رسول الله ، أمي ، فقال : مرحبا بها ! فدنت حتى تأملته ، وقالت : إذ رأيتك سالما فقد شفت (1) المصيبة .
فعزاها بعمرو
__________
(1) شفت المصيبة ، أي هانت .
(*)(15/41)
بن معاذ ، ثم قال : يا أم سعد أبشري وبشري أهليهم أن قتلاهم قد ترافقوا في الجنة جميعا وهم إثنا عشر رجلا ، وقد شفعوا في أهليهم ، فقالت : رضينا يا رسول الله ، ومن يبكى عليهم بعد هذا ! ثم قالت : يا رسول الله ، أدع لمن خلفوا ، فقال : أللهم أذهب حزن قلوبهم ، وآجر مصيبتهم ، وأحسن الخلف على من خلفوا ، ثم قال : لسعد بن معاذ : حل أبا عمرو الدابة فحل ، الفرس ، وتبعه الناس ، فقال : يا أبا عمرو إن الجراح في أهل دارك فاشية ، وليس منهم مجروح إلا يأتي يوم القيامة جرحه كأغزر ما كان ، اللون لون دم ، والريح ريح مسك ، فمن كان مجروحا فليقر في داره وليداو جرحه ، ولا تبلغ معى بيتى ، عزمة منى .
فنادى فيهم سعد : عزمة من رسول الله صلى الله عليه وآله ألا يتبعه جريح من بنى عبد الاشهل ، فتخلف كل مجروح ، وباتوا يوقدون النيران ويداوون الجراح ، وإن فيهم لثلاثين جريحا ، ومضى سعد بن معاذ مع رسول الله صلى الله عليه وآله إلى بيته ، ثم رجع إلى نسائه فساقهن ، فلم تبق امرأة إلا جاء بها إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وآله ، فبكين بين المغرب والعشاء ، وقام رسول الله صلى الله عليه وآله حين فرغ من النوم لثلث الليل ، فسمع البكاء فقال : ما هذا ؟ قيل نساء الانصار يبكين على حمزة ، فقال رضى الله تعالى عنكن وعن أولادكن ، وأمر النساء أن يرجعن إلى منازلهن ، قالت أم سعد بن معاذ : فرجعنا إلى بيوتنا بعد ليل ومعنا رجالنا ، فما بكت منا امرأة قط إلا بدأت بحمزة الى يومنا هذا .
ويقال : إن معاذ بن جبل جاء بنساء بنى سلمة ، وجاء عبد الله بن رواحه بنساء بلحارث بن الخزرج ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : ما أردت هذا ، ونهاهن الغد عن النوح أشد النهى .
قال الواقدي : وجعل ابن أبي والمنافقون معه يشمتون ويسرون بما أصاب المسلمين ، ويظهرون أقبح القول ، ورجع عبد الله بن أبي الى ابنه وهو جريح ، فبات يكوى الجراحة بالنار حتى ذهب عامة الليل وأبوه يقول : ما كان خروجك مع محمد إلى هذا(15/42)
الوجه برأيي ، عصاني محمد وأطاع الولدان ! والله لكأنى كنت أنظر إلى هذا ، فقال ابنه : الذى صنع الله لرسوله وللمسلمين خير إن شاء الله .
قال : وأظهرت اليهود القول السيئ ، وقالوا : ما محمد إلا طالب ملك ، ما أصيب هكذا نبى قط في بدنه وأصيب في أصحابه ، وجعل المنافقون يخذلون (1) عن رسول الله صلى الله عليه وآله وأصحابه ويأمرونهم بالتفرق عنه ، وقالوا لاصحاب النبي صلى الله عليه وآله : لو كان من قتل منكم عندنا ما قتل ، حتى سمع عمر بن الخطاب ذلك في أماكن ، فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه في قتل من سمع ذلك منهم من اليهود والمنافقين ، فقال له : يا عمر ، إن الله مظهر دينه ومعز نبيه ، ولليهود ذمة فلا أقتلهم .
قال : فهؤلاء المنافقون يا رسول الله يقولون ، فقال : أ ليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله ! قال بلى ، وإنما يفعلون تعوذا من السيف ، وقد بان لنا أمرهم ، وأبدى الله أضغانهم عند هذه النكبة ، فقال : إني نهيت عن قتل من قال : لا إله إلا الله محمد رسول الله يا بن الخطاب ، إن قريشا لن ينالوا ما نالوا منا مثل هذا اليوم حتى نستلم الركن .
(2) .
وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إخوانكم لما أصيبوا بأحد جعلت أرواحهم في أجواف طير خضر ، ترد أنهار الجنة فتأكل من ثمارها ، وتأوى إلى قناديل من ذهب في ظل العرش ، فلما وجدوا طيب مطعمهم ومشربهم ورأوا حسن منقلبهم قالوا : ليت إخواننا يعلمون بما أكرمنا الله وبما نحن فيه لئلا يزهدوا في الجهاد ، ويكلوا عند الحرب ! فقال لهم الله تعالى : أنا أبلغهم عنكم ، فأنزل : (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) (3) .
__________
(1) يخذلون عنه : يمنعون من نصرته .
(2) استلم الركن : قبله أو لمسه بيده .
(3) سدرة آل عمران 169 .
(*)(15/43)
القول فيما جرى للمشركين بعد انصرافهم إلى مكة قال الواقدي : حدثنى موسى بن شيبة ، عن قطن بن وهيب الليثى ، قال : لما تحاجز الفريقان ، ووجه قريش إلى مكة ، وامتطوا الابل ، وجنبوا الخيل ، سار وحشى ، عبد جبير بن مطعم على راحلته أربعا ، فقدم مكة يبشر قريشا بمصاب المسلمين ، فانتهى إلى الثنية التى تطلع على الحجون فنادى بأعلى صوته : يا معشر قريش ، مرارا حتى ثاب الناس إليه وهم خائفون أن يأتيهم بما يكرهون ، فلما رضى منهم قال : أبشروا فقد قتلنا من أصحاب محمد مقتلة لم نقتل مثلها في زحف قط ، وجرحنا محمدا فأثبتناه بالجراح ، وقتلنا رأس الكتيبة حمزة بن عبد المطلب ، فتفرق الناس عنه في كل وجه بالشماته بقتل أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وإظهار السرور ، وخلا جبير بن مطعم بوحشى ، فقال انظر ما تقول ! قال وحشى : قد والله صدقت .
قال : قتلت حمزة ؟ قال : إى والله ولقد زرقته بالمزراق (1) في بطنه ، فخرج من بين فخذيه ، ثم نودى فلم يجب ، فأخذت كبده وحملتها إليك لتراها .
فقال : أذهبت حزن نسائنا ، وبردت حر قلوبنا ، فأمر يومئذ نسائه بمراجعه الطيب والدهن .
قال الواقدي : وقد كان عبد الله بن أبى أمية بن المغيرة المخزومى لما انكشف المشركون بأحد في أول الامر ، خرج هاربا على وجهه ، وكره أن يقدم مكة ، فقدم الطائف ، فأخبر ثقيفا أن أصحاب محمد قد ظفروا وانهزمنا ، وكنت أول من قدم عليكم ، ثم جاءهم الخبر بعد أن قريشا ظفرت وعادت الدولة لها .
قال الواقدي : فسارت قريش قافلة إلى مكة ، فدخلتها ظافرة ، فكان ما دخل على قلوبهم من السرور يومئذ نظير ما دخل عليهم من الكآبة والحزن يوم بدر ، وكان ما دخل
__________
(1) المزراق : الرمح القصير ، وزرقه ، أي رماه .
(*)(15/44)
على قلوب المسلمين من الغيظ والحزن يومئذ نظير ما دخل عليهم من السرور والجذل يوم بدر ، كما قال الله تعالى : (وتلك الايام نداولها بين الناس) (1) وقال سبحانه : (أ ولما أصابتكم مصيبه قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم) ، قال : يعنى إنكم يوم بدر قتلتم من قريش سبعين ، وأسرتم سبعين ، وأما يوم أحد فقتل منكم سبعون ، ولم يؤسر منكم أحد ، فقد أصبتم قريشا بمثلي ما أصابوكم يوم أحد ، وقوله : (أنى هذا) أي كيف هذا ، ونحن موعودون بالنصر ونزول الملائكة ، وفينا نبى ينزل عليه الوحي من السماء ! فقال لهم في الجواب : (هو من عند أنفسكم) يعنى الرماة الذين خالفوا الامر وعصوا الرسول ، وإنما كان النصر ونزول الملائكه مشروطا بالطاعة وألا يعصى أمر الرسول ، أ لا ترى إلى قوله : (بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين) فعلقه على الشرط ! القول في مقتل أبى عزة الجمحى ومعاوية بن المغيره بن أبى العاص بن أميه بن عبد شمس قال الواقدي : أما أبو عزة - واسمه عمرو بن عبد الله بن عمير بن وهب بن حذافة بن جمح - فإن رسول الله صلى الله عليه وآله أخذه أسيرا يوم أحد - ولم يؤخذ يوم أحد أسير غيره - فقال : يا محمد ، من علي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين ، لا ترجع إلى مكة تمسح عارضيك ، فتقول سخرت بمحمد مرتين .
ثم أمر عاصم بن ثابت فضرب عنقه .
__________
(1) سورة آل عمران 140 .
(2) سورة آل عمران 165 .
(3) سورة آل عمران 125 .
(*)(15/45)
قال الواقدي : وقد سمعنا في أسره غير هذا ، حدثنى بكير بن مسمار ، قال : لما انصرف المشركون عن أحد نزلوا بحمراء الاسد في أول الليل ساعة ، ثم رحلوا وتركوا ابا عزة مكانه حتى ارتفع النهار ، فلحقه المسلمون وهو مستنبه يتلدد ، وكان الذى أخذه عاصم بن ثابت ، فأمره النبي صلى الله عليه وآله فضرب عنقه .
قلت : وهذه الرواية هي الصحيحة عندي ، لان المسلمين لم تكن حالهم يوم أحد حال من يتهيأ له أسر أحد من المشركين في المعركة لما أصابهم من الوهن .
فأما معاويه بن المغيرد فروى البلاذري أنه هو الذى جدع أنف حمزة ومثل به ، وأنه انهزم يوم أحد فمضى على وجهه ، فبات قريبا من المدينة ، فلما أصبح دخل المدينة فأتى منزل عثمان بن عفان بن أبى العاص - وهو ابن عمه لحا - فضرب بابه ، فقالت ، أم كلثوم زوجته وهى ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله : ليس هو هاهنا ، فقال : ابعثي إليه ، فإن له عندي ثمن بعير ابتعته منه عام أول ، وقد جئته به فإن لم يجئ ذهبت فأرسلت إليه ، وهو عند رسول الله صلى الله عليه وآله ، فلما جاء قال لمعاوية : أهلكتني وأهلكت (1) نفسك ! ما جاء بك ؟ قال : يا بن عم ، لم يكن أحد أقرب إلى ولا أمس رحما بى منك ، فجئتك لتجيرني ، فأدخله عثمان داره وصيره في ناحية منها ، ثم خرج إلى النبي صلى الله عليه وآله ليأخذ له منه أمانا ، فسمع رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : إن معاوية في المدينة ، وقد أصبح بها فاطلبوه .
فقال بعضهم : ما كان ليعدو منزل عثمان ، فاطلبوه به ، فدخلوا منزل عثمان فأشارت أم كلثوم الى الموضع الذى صيره فيه ، فاستخرجوه من تحت حمارة لهم ، فانطلقوا به إلى النبي صلى الله عليه وآله ، فقال عثمان حين رآه : والذى بعثك بالحق ما جئت إلا لاطلب له الامان ، فهبه لي ، فوهبه له ، وأجله ثلاثا ،
__________
(1) البلاذري : " أهلكتني ونفسك " .
(*)(15/46)
وأقسم : لئن وجده بعدها يمشى في أرض المدينة وما حولها ليقتلنه .
وخرج عثمان فجهزه واشترى له بعيرا ، ثم قال : ارتحل .
وسار رسول الله صلى الله عليه وآله إلى حمراء الاسد وأقام معاويه إلى اليوم الثالث ليعرف أخبار النبي صلى الله عليه وآله ، ويأتي بها قريشا ، فلما كان في اليوم الرابع قال رسول الله صلى الله عليه وآله : إن معاوية أصبح قريبا لم ينفذ ، فاطلبوه .
فأصابوه وقد أخطا الطريق ، فأدركوه ، وكان اللذان أسرعا في طلبه زيد بن حارثة وعمار بن ياسر ، فوجداه بالجماء (1) فضربه زيد بالسيف ، وقال عمار : إن لي فيه حقا ، فرمياه بسهم فقتلاه ، ثم انصرفا إلى المدينة بخبره ، ويقال : إنه أدرك على ثمانية أميال من المدينة ، فلم يزل زيد وعمار يرميانه بالنبل حتى مات .
قال : و معاوية هذا أبو عائشة بنت معاوية أم عبد الملك بن مروان .
قال : وذكر الواقدي في كتابه مثل هذه الرواية سواء .
قال البلاذرى : وقال ابن الكلبى : إن معاوية بن المغيرة جدع أنف حمزة يوم أحد وهو قتيل ، فأخذ بقرب أحد ، فقتل على أحد بعد انصراف قريش بثلاث ، ولا عقب له إلا عائشة أم عبد الملك بن مروان .
قال : ويقال إن عليا عليه السلام هو الذى قتل معاوية بن المغيرة (2) .
قلت : ورواية ابن الكلبى عندي أصح ، لان هزيمة المشركين كانت في الصدمة الاولى عقيب قتل بنى عبد الدار أصحاب الالوية ، وكان قتل حمزة بعد ذلك لما كر خالد بن الوليد الخيل من وراء المسلمين ، فاختلطوا وانتقض صفهم ، وقتل بعضهم بعضا ، فكيف يصح أن يجتمع لمعاوية كونه قد جدع أنف حمزة ، وكونه قد انهزم مع المشركين في الصدمة الاولى ! هذا متناقض ، لانه إذا كان قد انهزم في أول الحرب استحال أن يكون
__________
(1) الجماء ، تطلق على ثلاثة مواضع بالمدينة .
(2) أنساب الاشراف 1 : 337 ، 338 مع تصرف واختصار .
(*)(15/47)
حاضرا عند حمزة حين قتل .
والصحيح ما ذكره ابن الكلبى من أنه شهد الحرب كلها ، وجدع أنف حمزة ، ثم حصل في أيدى المسلمين بعد انصراف قريش ، لانه تأخر عنهم لعارض عرض له فأدركه حينه ، فقتل .
القول في مقتل المجذر بن زياد البلوي والحارث بن سويد بن الصامت قال الواقدي : كان المجذر بن زياد البلوي حليف بنى عوف بن الخزرج ممن شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وآله ، وكانت له قصة في الجاهلية قبل قدوم النبي صلى الله عليه وآله المدينة ، وذلك أن حضير الكتائب والد أسيد بن حضير ، جاء إلى بنى عمرو بن عوف ، فكلم سويد بن الصامت وخوات بن جبير وأبا لبابة بن عبد المنذر - ويقال سهل بن حنيف - فقال : هل لكم أن تزوروني فأسقيكم شرابا ، وأنحر لكم ، وتقيمون عندي أياما ! قالوا : نعم ، نحن نأتيك يوم كذا ، فلما كان ذلك اليوم جاءوه فنحر لهم جزورا ، وسقاهم خمرا ، وأقاموا عنده ثلاثة أيام حتى تغير اللحم - وكان سويد بن الصامت يومئذ شيخا كبيرا - فلما مضت الايام الثلاثة قالوا : ما نرانا إلا راجعين إلى أهلنا ! فقال حضير : ما أحببتم ! إن أحببتم فأقيموا ، وإن أحببتم فانصرفوا ، فخرج الفتيان بسويد بن الصامت يحملانه على جمل من الثمل (1) ، فمروا لاصقين بالحرة حتى كانوا قريبا من بنى عيينة (2) فجلس سويد يبول وهو ثمل سكرا ، فبصر به إنسان من الخزرج ، فخرج حتى أتى المجذر بن زياد ، فقال : هل لك في الغنيمة الباردة ! قال : ما هي ؟ قال : سويد بن الصامت ، أعزل لا سلاح معه ، ثمل ، فخرج المجذر بن زياد بالسيف مصلتا ، فلما رآه الفتيان وهما أعزلان لا سلاح معهما وليا ، والعداوة بين الاوس
__________
(1) الثمل بفتحتين : أي السكر .
(2) الواقدي : " غصينة " .
(*)(15/48)
والخزرج شديدة .
فانصرفا مسرعين ، وثبت الشيخ ولا حراك به ، فوقف المجذر بن زياد ، فقال : قد أمكن الله منك ! قال : ما تريد بى ؟ قال : قتلك .
قال : فارفع عن الطعام ، واخفض عن الدماغ ، فإذا رجعت إلى أمك ، فقل : إنى قتلت سويد بن الصامت .
فقتله ، فكان قتله هو الذى هيج وقعة بعاث .
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله المدينة أسلم الحارث بن سويد بن الصامت ، وأسلم المجذر فشهدا بدرا ، فجعل الحارث بن سويد يطلب المجذر في المعركة ليقتله بأبيه ، فلا يقدر عليه يومئذ فلما كان يوم أحد وجال المسلمون تلك الجولة أتاه الحارث من خلفه فضرب عنقه ، فرجع رسول الله صلى الله عليه وآله إلى المدينة ، ثم خرج الى حمراء الاسد ، فلما رجع من حمراء الاسد أتاه جبرائيل عليه السلام ، فأخبره أن الحارث بن سويد قتل المجذر غيلة ، وأمره بقتله ، فركب رسول الله صلى الله عليه وآله إلى قباء في اليوم الذى أخبره جبرائيل في يوم حار - وكان ذلك يوما لا يركب فيه رسول الله صلى الله عليه وآله إلى قباء ، إنما كانت الايام التى يأتي فيها رسول الله صلى الله عليه وآله قباء يوم السبت ويوم الاثنين - فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله مسجد قباء صلى فيه ما شاء الله أن يصلى ، وسمعت الانصار فجاؤوا يسلمون عليه ، وأنكروا إتيانه تلك الساعة ، في ذلك اليوم .
فجلس عليه السلام يتحدث ويتصفح الناس حتى طلع الحارث بن سويد في ملحفة مورسة (1) ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وآله دعا عويم بن ساعدة فقال له : قدم الحارث بن سويد الى باب المسجد فاضرب عنقه بمجذر بن زياد ، فإنه قتله يوم أحد ، فأخذه عويم ، فقال الحارث : دعني أكلم رسول الله - ورسول الله صلى الله عليه وآله يريد أن يركب ، ودعا بحماره إلى باب المسجد - فجعل الحارث يقول : قد والله قتلته يارسول الله وما كان قتلي إياه رجوعا عن الاسلام
__________
(1) مورسة : مصبوغة بالورس وهو نبات باليمن معروف .
(*)(15/49)
ولا ارتيابا فيه ، ولكنه حمية الشيطان ، وأمر وكلت فيه إلى نفسي وإنى أتوب إلى الله وإلى رسوله مما عملت ، وأخرج ديته وأصوم شهرين متتابعين ، وأعتق رقبة ، وأطعم ستين مسكينا ، إني أتوب إلى الله يا رسول الله ! وجعل يمسك بركاب رسول الله صلى الله عليه وآله وبنو المجذر حضور ، لا يقول لهم رسول الله صلى الله عليه وآله شيئا ، حتى إذا استوعب كلامه قال : قدمه يا عويم فاضرب عنقه .
وركب رسول الله صلى الله عليه وآله فقدمه عويم بن ساعدة على باب المسجد ، فضرب عنقه .
قال الواقدي : ويقال : أن الذى أعلم رسول الله قتل الحارث المجذر يوم أحد حبيب بن يساف ، نظر إليه حين قتله ، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله ، فأخبره ، فركب رسول الله صلى الله عليه وآله يتفحص عن هذا الامر ، فبينا هو على حماره نزل جبرائيل عليه السلام ، فخبره بذلك ، فامر رسول الله صلى الله عليه وآله عويما فضرب عنقه ، ففى ذلك قال حسان : يا حار في سنة من نوم أولكم * * أم كنت ويحك مغترا بجبريل (1) .
فأما البلاذرى فإنه ذكر هذا ، وقال : ويقال : إن الجلاس بن سويد بن الصامت هو الذى قتل المجذر يوم أحد غيلة ، إلا أن شعر حسان يدل على أنه الحارث (2) .
قال الواقدي والبلاذري : وكان سويد بن الصامت حين ضربه المجذر بقى قليلا ثم مات ، فقال قبل أن يموت يخاطب أولاده : أبلغ جلاسا وعبد الله مألكة * * وإن دعيت فلا تخذلهما حار
__________
(1) ديوانه 318 ، وبعده : أم كنت يابن ذياد حين تقتله * * بغرة في فضاء الله مجهول وقلتم لن نرى والله مبصركم * * وفيكم محكم الايات والقيل محمد والعزيز اللله يخبره * * بما يكن سريرات الاقاويل (2) أنساب الاشراف 1 : 332 .
(*)(15/50)
اقتل جذارة إذ ما كنت لاقيهم * * والحى عوفا على عرف وإنكار قال البلاذرى : جذرة وجذارة أخوان ، وهما ابنا عوف بن الحارث بن الخزرج (1) .
قلت : هذه الروايات كما ترى وقد ذكر ابن ماكولا في " الاكمال " أن الحارث بن سويد قتل المجذر غيلة يوم أحد ، ثم التحق بمكة كافرا ، ذكره في حرف الميم من هذا الكتاب ، وهذا هو الاشبه عندي .
القول فيمن مات من المسلمين بأحد جملة قال الواقدي : ذكر سعيد بن المسيب وأبو سعيد الخدرى أنه قتل من الانصار خاصة أحد وسبعون ، وبمثله قال مجاهد .
قال : فأربعه من قريش ، وهم حمزة بن عبد المطلب ، قتله وحشى ، وعبد الله بن جحش بن رئاب ، قتله أبو الحكم بن الاخنس بن شريق ، وشماس بن عثمان بن الشريد من بنى مخزوم ، قتله أبي بن خلف ، ومصعب بن عمير ، قتله ابن قميئة .
قال : وقد زاد قوم خامسا ، وهو سعد مولى حاطب من بنى أسد بن عبد العزى .
وقال قوم أيضا : إن أبا سلمة بن عبد الاسد المخزومى جرح يوم أحد ، ومات من تلك الجراحة بعد أيام .
قال الواقدي : وقال قوم : قتل ابنا الهبيب من بنى سعد بن ليث ، وهما عبد الله
__________
(1) أنساب الاشراف 1 : 332 .
(*)(15/51)
وعبد الرحمن ورجلان من بنى مزينة وهما وهب بن قابوس وابن أخيه الحارث بن عتبة بن قابوس ، فيكون جميع من قتل من المسلمين ذلك اليوم نحو أحد وثمانين رجلا ، فأما تفصيل أسماء الانصار فمذكور في كتب المحدثين ، وليس هذا الموضع مكان ذكره .
القول فيمن قتل من المشركين بأحد قال الواقدي : قتل من بنى عبد الدار طلحة بن أبى طلحة صاحب لواء قريش ، قتله على بن أبى طالب عليه السلام مبارزة ، وعثمان بن أبى طلحة ، قتله حمزة بن عبد المطلب وأبو سعيد بن أبى طلحة قتله سعد بن أبى وقاص ، ومسافع بن طلحة بن أبى طلحة ، قتله عاصم بن ثابت بن أبى الاقلح ، وكلاب بن طلحة بن أبى طلحة ، قتله الزبير بن العوام والحارث بن طلحة بن أبى طلحة ، قتله عاصم بن ثابت ، والجلاس بن طلحة بن أبى طلحة ، قتله طلحة بن عبيد الله ، وأرطاة بن عبد شرحبيل ، قتله على بن أبى طالب عليه السلام وقارظ (1) بن شريح بن عثمان بن عبد الدار - ويروى قاسط بالسين والطاء المهملتين - .
قال الواقدي : لا يدرى من قتله ، وقال البلاذرى (2) : قتله على بن أبى طالب عليه السلام ، وصواب مولاهم : قتله على بن أبى طالب عليه السلام - وقيل : قتله قزمان (3) - وأبو عزيز بن عمير أخو مصعب بن عمير ، قتله قزمان ، فهؤلاء أحد عشر .
ومن بنى أسد بن عبد العزى عبد الله بن حميد بن زهير بن الحارث بن أسد ، قتله أبو دجانة في رواية الواقدي ، وفي رواية محمد بن إسحاق قتله على بن أبى طالب عليه السلام .
وقال البلاذرى : قال ابن الكلبى : إن عبد الله بن حميد قتل يوم بدر
__________
(1) الواقدي : " فارط " ، والبلاذري : " قاسط " .
(2) أنساب الاشراف 1 : 334 .
(3) أنساب الاشراف : " غيره " .
(*)(15/52)
ومن بنى زهرة أبو الحكم بن الاخنس بن شريق ، قتله على بن أبى طالب عليه السلام ، وسباع بن عبد العزى الخزاعي - واسم عبد العزى عمر بن نضلة ابن عباس بن سليم ، وهو ابن أم أنمار الحجامة بمكة - قتله حمزة بن عبد المطلب ، فهذان رجلان .
ومن بنى مخزوم أميه بن أبى حذيفة بن المغيرة ، قتله علي عليه السلام ، وهشام بن أبى أميه بن المغيره ، قتله قزمان ، والوليد بن العاص بن هشام ، قتله قزمان ، وخالد بن أعلم العقيلى ، قتله قزمان ، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ، قتله الحارث بن الصمة فهؤلاء خمسه .
ومن بنى عامر بن لؤى عبيد بن حاجز ، قتله أبو دجانة ، وشيبة بن مالك بن المضرب قتله طلحة بن عبيد الله ، وهذان اثنان .
ومن بنى جمح أبى بن خلف ، قتله رسول الله صلى الله عليه وآله بيده ، وأبو عزة قتله عاصم بن ثابت صبرا بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله ، فهذان اثنان .
ومن بنى عبد مناة بن كنانة خالد بن سفيان بن عويف ، وأبو الشعثاء بن سفيان بن عويف ، وأبو الحمراء بن سفيان بن عويف ، وغراب بن سفيان بن عويف ، هؤلاء الاخوه الاربعة قتلهم على بن أبى طالب عليه السلام في رواية محمد بن حبيب .
فأما الواقدي فلم يذكر في باب من قتل من المشركين بأحد لهم قاتلا معينا ، ولكنه ذكر في كلام آخر قبل هذا الباب أن أبا سبرة بن الحارث بن علقمة قتل أحد بنى سفيان بن عويف ، وأن رشيدا الفارسي مولى بني معاويه لقي آخر من بنى سفيان بن عويف مقنعا في الحديد وهو يقول : أنا ابن عويف ، فيعرض له سعد مولى حاطب فضربه ابن(15/53)
عويف ضربة جزله باثنتين ، فأقبل رشيد على ابن عويف فضربه على عاتقه - فقطع الدرع - حتى جزله اثنتين وقال : خذها وأنا الغلام الفارسى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يراه ويسمعه : أ لا قلت : أنا الغلام الانصاري ! قال : فيعرض لرشيد أخ للمقتول أحد بنى سفيان بن عويف أيضا ، وأقبل يعدو نحوه كأنه كلب ، يقول : أنا ابن عويف ، ويضربه رشيد أيضا على رأسه وعليه المغفر ، ففلق رأسه ، وقال : خذها وأنا الغلام الانصاري ! فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وقال : أحسنت يا أبا عبد الله ! فكناه رسول الله صلى الله عليه وآله يومئذ ولا ولد له .
قلت : فأما البلاذرى فلم يذكر لهم قاتلا ، ولكنه عدهم في جملة من قتل من المشركين بأحد ، وكذلك ابن إسحاق لم يذكر من قتلهم ، فإن صحت رواية الواقدي فعلى عليه السلام لم يكن قد قتل منهم إلا واحدا ، وإن كانت رواية ابن حبيب صحيحة فالاربعة من قتلاه عليه السلام .
وقد رأيت في بعض كتب أبى الحسن المدائني أيضا أن عليا عليه السلام هو الذى قتل بنى سفيان بن عويف يوم أحد ، وروى له شعرا في ذلك .
ومن بنى عبد شمس معاوية بن المغيرة بن أبى العاص ، قتله على عليه السلام في إحدى الروايات ، وقيل : قتله زيد بن حارثة وعمار بن ياسر .
فجميع من قتل من المشركين يوم أحد ثمانية وعشرون ، قتل علي عليه السلام منهم - ما اتفق عليه وما اختلف فيه - اثنى عشر ، وهو إلى جمله القتلى كعدة من قتل يوم بدر إلى جملة القتلى يومئذ ، وهو قريب من النصف .(15/54)
القول في خروج النبي صلى الله عليه وآله وبعد انصرافه من أحد إلى المشركين ليوقع بهم على ما هو به من الوهن قال الواقدي : بلغ (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المشركين قد عزموا أن يردوا إلى المدينة فينهبوها ، فأحب أن يريهم قوة ، فصلى الصبح يوم الاحد لثمان خلون من شوال ومعه وجوه الاوس والخزرج ، وكانوا باتوا تلك الليلة في بابه يحرسونه من البيات ، فيهم سعد بن عبادة ، وسعد بن معاذ ، والحباب بن المنذر ، وأوس بن خولي ، وقتادة بن النعمان في عدة منهم .
فلما انصرف من صلاة الصبح أمر بلالا أن ينادى في الناس ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله يأمركم بطلب عدوكم ، ولا يخرج معنا إلا من شهد القتال بالامس ، فخرج سعد بن معاذ راجعا إلى قومه يأمرهم بالمسير ، والجراح في الناس فاشية ، عامة بنى عبد الاشهل جريح ، بل كلها ، فجاء سعد بن معاذ فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تطلبوا عدوكم .
قال : يقول أسيد بن حضير - وبه سبع جراحات ، وهو يريد أن يداويها : سمعا وطاعة لله ولرسوله ! فأخذ سلاحه ولم يعرج على دواء جراحه ، ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم .
وجاء سعد بن عبادة قومه بنى ساعدة ، فأمرهم بالمسير فلبسوا ولحقوا ، وجاء أبو قتادة أهل خربا ، وهم يداوون الجراح ، فقال : هذا منادى رسول الله صلى الله عليه وآله يأمركم بطلب العدو ، فوثبوا إلى سلاحهم ، ولم يعرجوا على جراحاتهم فخرج من بنى سلمة أربعون جريحا ، بالطفيل بن النعمان ثلاثة عشر جرحا ، وبخراش بن الصمة عشر جراحات ، وبكعب بن مالك بضعة عشر جرحا ، وبقطبة بن عامر بن خديج بيده تسع جراحات ، حتى وافوا النبي صلى الله عليه وسلم بقبر أبى عتبة ، وعليهم السلاح
__________
(1) مغازي الواقدي 325 وما بعدها .
(*)(15/55)
وقد صفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
فلما نظر إليهم والجراح فيهم فاشية ، قال : اللهم ارحم بنى سلمة .
قال الواقدي : وحدثني عتبة بن جبيرة عن رجال [ من ] (1) قومه ، أن عبد الله بن سهل ورافع بن سهل من بنى عبد الاشهل رجعا من أحد وبهما جراح كثيرة وعبد الله أثقلهما جرحا ، فلما أصبحا وجاء سعد بن معاذ قومه يخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله يأمرهم بطلب العدو ، قال أحدهما لصاحبه : والله إن تركنا غزاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لغبن ، والله ما عندنا دابه نركبها ، ولا ندرى كيف نصنع ! قال عبد الله انطلق بنا .
قال رافع : لا والله ما بي مشي ، قال أخوه : انطلق بنا نقصد ونجوز ، وخرجا يزحفان ، فضعف رافع فكان عبد الله يحمله على ظهره عقبة ، ويمشى الاخر عقبة ، حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العشاء وهم يوقدون النيران ، فأتى بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى حرسه تلك الليلة عباد بن بشر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما : ما حبسكما ؟ فأخبراه بعلتهما فدعا لهما بخير ، وقال : إن طالت لكما مدة كانت لكما مراكب من خيل وبغال وإبل ، وليس ذلك بخير لكما .
قال الواقدي : وقال جابر بن عبد الله : يا رسول الله ، إن مناديا نادى ألا يخرج معنا إلا من حضر القتال بالامس ، وقد كنت حريصا بالامس على الحضور ، ولكن أبي خلفنى على أخوات لي ، وقال : يا بنى لا ينبغى لك أن تدعهن ولا رجل معهن ، وأخاف عليهن ، وهن نسيات ضعاف ، وأنا خارج مع رسول الله صلى الله عليه وآله لعل الله يرزقنى الشهادة ، فتخلفت عليهن فاستأثر على بالشهادة ، وكنت رجوتها فأذن لي يا رسول الله أن أسير معك .
فأذن له رسول الله صلى الله عليه وآله .
قال جابر : فلم يخرج معه أحد لم يشهد القتال بالامس غيري ، واستأذنه رجال لم يحضروا القتال .
فأبى ذلك
__________
(1) من الواقدي .
(*)(15/56)
عليهم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله بلوائه وهو معقود لم يحل من أمس ، فدفعه إلى علي عليه السلام ، ويقال دفعه إلى أبى بكر ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وهو مجروح ، في وجهه أثر الحلقتين ، ومشجوج في جبهته في أصول الشعر ، ورباعيته قد شظيت ، وشفته قد كلمت من باطنها ، ومنكبه الايمن موهن بضربة ابن قميئة ، وركبتاه مجحوشتان ، فدخل المسجد فصلى ركعتين ، والناس قد حشدوا ، ونزل أهل العوالي (1) حيث جاءهم الصريخ (2) .
ودعا بفرسه على باب المسجد ، وتلقاه طلحة بن عبيد الله ، وقد سمع المنادي ، فخرج ينظر متى يسير رسول الله صلى الله عليه وآله ! فإذا هو وعليه الدرع والمغفر لا يرى منه إلا عيناه ، فقال : يا طلحة سلاحك ، قال : قريبا ، قال طلحة : فأخرج ، وأعدو فألبس درعي وآخذ سيفي ، وأطرح درقتي في صدري ، وإن بي لتسع جراحات ، ولانا أهتم بجراح رسول الله صلى الله عليه وآله مني بجراحي ، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله على طلحة ، فقال : أين ترى القوم الان ؟ قال : هم بالسيالة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : ذلك الذى ظننت ، أما إنهم يا طلحة لن ينالوا منا مثل أمس حتى يفتح الله مكة علينا ، قال : وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله ثلاثة نفر من أسلم طليعة في آثار القوم ، فانقطع أحدهم ، وانقطع قبال نعل الاخر ، ولحق الثالث بقريش وهم بحمراء الاسد ، ولهم زجل (3) يأتمرون (4) في الرجوع إلى المدينة ، وصفوان بن أمية ينهاهم عن ذلك ، ولحق الذى انقطع قبال نعله بصاحبه ، فبصرت قريش بالرجلين ، فعطفت عليهما ، فأصابوهما ، وانتهى المسلمون إلى مصرعهما بحمراء الاسد ، فقبرهما رسول الله صلى الله عليه وآله في قبر واحد ، فهما القرينان .
__________
(1) العوالي : ضيعة بينها وبين المدينة أربعة أميال .
(2) الصريخ : المغيث .
(3) زجل ، أي صوت وجلبة .
(4) يأتمرون : يتشاورون .
(*)(15/57)
قال الواقدي : اسماهما سليط ونعمان .
قال الواقدي : قال جابر بن عبد الله : كانت عامة أزوادنا ذلك اليوم التمر ، وحمل سعد بن عبادة ثلاثين بعيرا تمرا حتى وافت حمراء الاسد ، وساق جزرا ، فنحروا في يوم ثنتين ، وفي يوم ثلاثا ، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله بجمع الحطب ، فإذا امسوا أمرهم أن يوقدوا النيران : فيوقد كل رجل نارا ، فلقد كنا تلك الليلة نوقد خمسمائه نار حتى نرى من المكان البعيد ، وذهب ذكر معسكرنا ونيراننا في كل وجه وكان ذلك مما كبت الله به عدونا .
قال الواقدي : وجاء معبد بن أبى معبد الخزاعى - وهو يومئذ مشرك - ئإلى النبي صلى الله عليه وآله ، وكانت خزاعة سلما (1) للنبى صلى الله عليه وآله ، فقال يا محمد عز علينا ما أصابك في نفسك ، وما أصابك في أصحابك ، ولوددنا أن الله تعالى أعلى كعبك ، وأن المصيبة كانت بغيرك ، ثم مضى معبد حتى يجد أبا سفيان وقريشا بالروحاء (2) وهم يقولون : لا محمدا أصبتم ، ولا الكواعب أردفتم ، فبئسما صنعتم ! وهم مجمعون على الرجوع الى المدينة ، ويقول قائلهم فيما بينهم ، ما صنعنا شيئا ، أصبنا أشرافهم ، ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم ، وقبل أن يكون لهم وفر ، وكان المتكلم بهذا عكرمة بن أبى جهل ، فلما جاء معبد الى أبى سفيان ، قال : هذا معبد ، وعنده الخبر ، ما وراءك يا معبد ؟ قال : تركت محمدا وأصحابه خلفي يتحرقون عليكم بمثل النيران ، وقد اجتمع معه من تخلف عنه بالامس من الاوس والخزرج ، وتعاهدوا ألا يرجعوا حتى يلحقوكم فيثأروا منكم ، وقد غضبوا (3) لقومهم غضبا شديدا ولمن أصبتم من أشرافهم .
قالوا : ويحك ما تقول ؟ قال : والله ما أرى
__________
(1) سلما ، أي مسالمون .
(2) الروحاء : قطيعة كانت لعدي بن حاتم ، على نحو أربعين ميلا من المدينة .
(3) أ الواقدي : " وغضبوا " .
(*)(15/58)
أن ترتحلوا حتى تروا نواصي (1) الخيل ، ولقد (2) حملني ما رأيت منهم أن قلت أبياتا ، قالوا : وما هي ؟ فأنشدهم هذا الشعر : كادت تهد من الاصوات راحلتي * * إذ سالت الارض بالجرد الابابيل (3) تعدو بأسد ضراء لا تنابلة (4) * * عند اللقاء ولا ميل معازيل (5) فقلت ويل ابن حرب من لقائهم * * إذا تغطمطت البطحاء بالجيل ! (6) وقد كان صفوان بن أمية رد القوم بكلامه قبل أن يطلع معبد ، وقال لهم صفوان : يا قوم ، لا تفعلوا ، فإن القوم قد حربوا (7) ، واخشى أن يجمعوا عليكم من تخلف من الخزرج ، فارجعوا والدولة لكم ، فإني لا آمن إن رجعتم إليهم أن تكون الدولة عليكم .
قال : فلذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله : أرشدهم صفوان وما كان برشيد ، ثم قال : و الذى نفسي بيده لقد سومت لهم الحجارة ، ولو رجعوا لكانوا كأمس الذاهب ، قال : فانصرف القوم سراعا خائفين من الطلب لهم ، ومر بأبي سفيان قوم من عبد القيس يريدون المدينة ، فقال لهم هل أنتم مبلغو محمد وأصحابه ما أرسلكم به ، على أن أوقر لكم أباعركم زبيبا غدا بعكاظ ، إن أنتم جئتموني ! قالوا : نعم ، قال : حيثما
__________
(1) أ الواقدي : " حتى ترى نواصي الخيل " .
(2) الواقدي : " ثم قال معبد ...
" .
(3) الابيات في ابن هشام 3 : 54 .
تهد ، أي تسقط من الاعياء .
والجرد : الخيل العتاق .
والابابيل : الجماعات .
(4) ابن هشام : " تردى بأسد كرام " .
والتنابلة : القصار .
(5) الميل : جمع أميل ، وهو الذي لا رمح له .
والمعازيل : جمع معزال ، وهو من لا سلاح معه .
(6) تغطمطت : اهتزت واضطربت .
والبطحاء : السهل من الارض .
والجيل : الصنف من الناس ، وبعدها في ابن هشام : إني نذير لاهل البسل ضاحية * * لكل ذي إربة منهم ومعقول من جيش أحمد لا وخش قنابله * * وليس يوصف ما أنذرت بالقيل (7) حربوا ، أي غضبوا .(15/59)
لقيتم محمدا وأصحابه فأخبروهم أنا قد أجمعنا الرجعة إليهم ، وإنا آثاركم .
وانطلق أبو سفيان إلى مكة ، وقدم الركب على النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه بالحمراء فأخبروهم بالذى أمرهم أبو سفيان ، فقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ، فأنزل ذلك في القرآن ، وأرسل معبد رجلا من خزاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله يعلمه أنه قد انصرف أبو سفيان وأصحابه خائفين وجلين ، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وآله بعد ثلاث إلى المدينة .(15/60)
الفصل الخامس في شرح غزاة مؤتة نذكرها من كتاب الواقدي - ونزيد على ذلك ما رواه محمد بن إسحاق في كتابه على عادتنا فيما تقدم قال الواقدي : حدثنى (1) ربيعة بن عثمان ، عن عمر بن الحكم ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وآله الحارث بن عمير الازدي في سنة ثمان إلى ملك بصرى بكتاب ، فلما نزل مؤته عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني ، فقال : أين تريد ؟ قال : الشام ، قال : لعلك من رسل محمد .
قال : نعم ، فأمر به فأوثق رباطا ثم قدمه فضرب عنقه ، ولم يقتل لرسول الله صلى الله عليه وآله رسول غيره ، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله ، فاشتد عليه ، وندب الناس وأخبرهم بمقتل الحارث ، فأسرعوا وخرجوا ، فعسكروا بالجرف ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله الظهر جلس وجلس أصحابه حوله ، وجاء النعمان بن مهض اليهودي فوقف مع الناس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : زيد بن حارثة أمير الناس فان قتل زيد بن حارثة فجعفر بن أبى طالب ، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة ، فإن أصيب ابن رواحة فليرتض المسلمون من بينهم رجلا فليجعلوه عليهم .
فقال النعمان بن مهض : يا أبا القاسم ، إن كنت نبيا فسيصاب من سميت قليلا كانوا أو كثيرا ، إن الانبياء في بنى إسرائيل كانوا إذا استعملوا الرجل على القوم ثم قالوا إن أصيب فلان فلو سمى مائة أصيبوا جميعا .
ثم جعل اليهودي يقول لزيد بن حارثة : اعهد فلا ترجع إلى محمد أبدا إن كان نبيا .
قال زيد : أشهد أنه نبى صادق فلما أجمعوا
__________
(1) أخبار مؤتة في الواقدي ص 401 وما بعدها ، وسيرة ابن هشام 3 : 427 وما بعدها .
(*)(15/61)
المسير وعقد رسول الله صلى الله عليه وآله لهم اللواء بيده دفعه إلى زيد بن حارثة ، وهو لواء أبيض ، ومشى الناس إلى أمراء رسول الله صلى اللله عليه وآله يودعونهم ويدعون لهم وكانوا ثلاثة آلاف ، فلما ساروا في معسكرهم ناداهم المسلمون : دفع الله عنكم ، وردكم صالحين سالمين غانمين ، فقال عبد الله بن رواحة : لكننى أسأل الرحمن مغفرة * * وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا (1) أو طعنة بيدي حران مجهزة * * بحربة تنفذ الاحشاء والكبدا (2) حتى يقولوا إذا مروا على جدثي * * يا أرشد الله من غاز فقد رشدا (3) قلت : اتفق المحدثون على أن زيد بن حارثة كان هو الامير الاول ، وأنكرت الشيعة ذلك ، وقالوا كان جعفر بن أبى طالب هو الامير الاول ، فإن قتل فزيد بن حارثة ، فإن قتل فعبد الله بن رواحة ، ورووا في ذلك روايات ، وقد وجدت في الاشعار التى ذكرها محمد بن إسحاق في كتاب المغازى ما يشهد لقولهم ، فمن ذلك ما رواه عن حسان بن ثابت وهو : تأوبني ليل بيثرب أعسر * * وهم إذا ما نوم الناس مسهر (4) لذكرى حبيب هيجت لي عبرة * * سفوحا وأسباب البكاء التذكر بلى إن فقدان الحبيب بلية (5) * * وكم من كريم يبتلى ثم يصبر ! فلا يبعدن الله قتلى تتابعوا * * بمؤته منهم ذو الجناحين جعفر وزيد وعبد الله حين تتابعوا * * جميعا وأسياف المنية تخطر
__________
(1) سيرة ابن هشام 3 : 429 .
ذات فرغ ، أي واسعة ، والزبد ، أصله ما يعلو الماء إذا غلا ، وأراد هنا ما يعلو الدم الذي ينفجر من الطعنة .
(2) مجهزة : سريعة القتل ، وتنفذ الاحشاء : تخرقها وتصل إليها .
(3) ابن هشام : " وقد " .
(4) ديوانه 179 - 181 ، وسيرة ابن هشام 3 : 440 - 442 .
تأوبني : عاودني ورجع إلي ، ومسهر : داع إلى السهر .
(5) الديوان : " بلاء وفقدان الحبيب " .
(*)(15/62)
رأيت خيار المؤمنين تواردوا * * شعوب وخلق بعدهم يتأخر (1) غداة غدوا بالمؤمنين يقودهم * * إلى الموت ميمون النقيبه أزهر أغر كضوء البدر من آل هاشم * * أبي إذا سيم الظلامة أصعر (2) فطاعن حتى مال غير موسد * * بمعترك فيه القنا متكسر فصار مع المستشهدين ثوابه * * جنان وملتف الحدائق أخضر وكنا نرى في جعفر من محمد * * وقارا وأمرا حازما حين يأمر وما زال في الاسلام من آل هاشم * * دعائم صدق لا ترام ومفخر هم جبل الاسلام والناس حولهم * * رضام إلى طور يطول ويقهر بهاليل منهم جعفر وابن أمه * * علي ومنهم أحمد المتخير * * وحمزة والعباس منهم ومنهم * * عقيل وماء العود من حيث يعصر بهم تفرج الغماء من كل مأزق * * عماس إذا ما ضاق بالناس مصدر هم أولياء الله أنزل حكمه * * عليهم وفيهم والكتاب المطهر ومنها قول كعب بن مالك الانصاري من قصيدة أولها (3) : نام العيون ودمع عينك يهمل * * سحا كما وكف الرباب المسبل (4) وجدا على النفر الذين تتابعوا * * قتلى بمؤتة اسندوا لم ينقلوا ساروا أمام المسلمين كأنهم * * طود يقودهم الهزبر المشبل (5) إذ يهتدون بجعفر ولوائه * * قدام أولهم ونعم الاول حتى تقوضت الصفوف وجعفر * * حيث التقى جمع الغواة مجدل (6)
__________
(1) شعوب : من أسماء المنية .
(2) ابن هشام والديوان : " محسر " .
(3) سيرة ابن هشام 3 : 442 - 445 ، برواية مخالفة .
(4) الرباب : السحاب ، والمسبل : المنصب ، وفي ابن هشام : " الطباب المخضل " .
(5) المشبل : ذو الشبل ، والشبل : ولد الاسد .
(6) مجدل : مطروح على الجدالة ، وهي الارض .
وفي ابن هشام : " وعث الصفوف مجدل " .
(*)(15/63)
فتغير القمر المنير لفقده * * والشمس قد كسفت (1) وكادت تأفل قوم علا بنيانهم من هاشم * * فرع أشم وسؤدد متأثل (2) قوم بهم عصم الاله عباده * * وعليهم نزل الكتاب المنزل فضلوا المعاشر عفة وتكرما * * وتعمدت أخلاقهم من يجهل (3) قال الواقدي : فحدثني ابن أبى سبرة ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبى طلحة ، عن رافع بن إسحاق ، عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وآله خطبهم فأوصاهم فقال : أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيرا ، اغزوا باسم الله وفي سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، لا تغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليدا ، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث : فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم ، واكفف عنهم ، ادعهم الى الدخول في الاسلام ، فإن فعلوا فاقبل واكفف .
ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى المهاجرين .
فإن فعلوا فأخبرهم أن لهم ما للمهاجرين ، وعليهم ما على المهاجرين .
وإن دخلوا في الاسلام واختاروا دارهم فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين ، يجرى عليهم حكم الله ، ولا يكون لهم في الفئ ولا في الغنيمة شئ ، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين ، فان أبوا فادعهم الى إعطاء الجزية فإن فعلوا فاقبل منهم واكفف عنهم ، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم ، وإن أنت حاصرت أهل حصن أو مدينة فأرادوا أن تستنزلهم على حكم الله فلا تستنزلهم على حكم الله ، ولكن أنزلهم على حكمك ، فإنك لا تدرى أ تصيب حكم الله فيهم أم لا ! وإن حاصرت إهل حصن أو مدينة وأرادوا أن تجعل لهم ذمة الله وذمة رسول الله فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة رسول الله ، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أبيك وأصحابك ، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم آبائكم خير لكم من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله .
__________
(1) في ب " كاسفة " ، وهو مستقيم الوزن أيضا .
(2) ابن هشام : " ما يثقل " .
(3) ابن هشام : " وتغمدت أحلامهم " .
(*)(15/64)
قال الواقدي : وحدثني أبو صفوان ، عن خالد بن يزيد ، قال : خرج النبي صلى الله عليه وآله مشيعا لاهل مؤتة حتى بلغ ثنية الوداع ، فوقف ووقفوا حوله ، فقال : اغزوا بسم الله ، فقاتلوا عدو الله وعدوكم بالشام ، وستجدون فيها رجالا في الصوامع معتزلين الناس ، فلا تعرضوا لهم ، وستجدون آخرين للشيطان في رؤوسهم مفاحص ، فاقلعوها بالسيوف ، ولا تقتلن امرأة ، ولا صغيرا ضرعا (1) ولا كبيرا فانيا ، ولا تقطعن نخلا ولا شجرا ، ولا تهدمن بناء .
قال الواقدي : فلما دعا ودع عبد الله بن رواحة رسول الله صلى الله عليه وآله قال له : مرنى بشئ أحفظه عنك ، قال إنك قادم غدا بلدا ، السجود فيه قليل ، فأكثروا السجود .
فقال عبد الله : زدنى يا رسول الله ، قال : اذكر الله ، فإنه عون لك على ما تطلب .
فقام من عنده حتى إذا مضى ذاهبا رجع فقال : يا رسول الله ، إن الله وتر يحب الوتر ، فقال : يا بن رواحة : ما عجزت فلا تعجز إن أسأت عشرا أن تحسن واحدة .
فقال ابن رواحة : لا أسالك عن شئ بعدها .
وروى محمد بن إسحاق أن عبد الله بن رواحة ودع رسول الله صلى الله عليه وآله بشعر منه : فثبت الله ما آتاك من حسن * * تثبيت موسى ونصرا كالذى نصروا إني تفرست فيك الخير نافلة * * فراسة خالفتهم في الذى نظروا أنت الرسول فمن يحرم نوافله * * والبشر منه فقد أودى به القدر قال محمد بن إسحاق : فلما ودع المسلمين بكى ، فقالوا له : ما يبكيك يا عبد الله ؟ قال : والله ما بى حب الدنيا ولا صبابه إليها ، ولكني سمعت رسول الله صلى الله
__________
(1) الضرع : الصغير من كل شئ .
(*)(15/65)
عليه وآله يقرأ : (وإن منكم إلا واردها) ، (1) فلست أدرى كيف لى بالصدر بعد الورود (2) ! قال الواقدي : وكان زيد بن أرقم يحدث ، قال : كنت يتيما في حجر عبد الله بن رواحة ، فلم أر والي يتيم كان خيرا لى منه ، خرجت معه في وجهه إلى مؤتة وصب بى وصببت به ، فكان يردفني خلف رحله ، فقال ذات ليلة وهو على راحلته بين شعبتي رحله : إذا بلغتني وحملت رحلي * * مسافة أربع بعد الحساء (3) فشأنك فانعمى وخلاك ذم * * ولا أرجع إلى أهلى ورائي وآب المسلمون وخلفوني * * بأرض الشام مشتهر الثواء وزودني الاقارب من دعاء * * إلى الرحمن وانقطع الاخاء هنالك لا أبالي طلع نخل * * ولا نخل أسافلها رواء (5) فلما سمعت منه هذا الشعر بكيت : فخفقني بالدرة وقال : وما عليك يا لكع أن يرزقنى الله الشهادة فأستريح من الدنيا ونصبها ، وهمومها وأحزانها وأحداثها ، وترجع إنت بين شعبتي الرحل .
قال الواقدي : ومضى المسلمون فنزلوا وادي القرى فأقاموا به أياما ، وساروا حتى نزلوا بمؤتة ، وبلغهم أن هرقل ملك الروم قد نزل ماء من مياه البلقاء في بكر وبهراء ولخم وجذام وغيرهم مائه الف مقاتل ، وعليهم رجل من بلي ، فأقام المسلمون ليلتين ينظرون
__________
(1) سورة مريم : 71 .
(2) سيرة ابن هشام 3 : 428 ، 429 .
(3) سيرة ابن هشام 3 : 432 .
(4) ولا أرجع ، جزم الفعل على الدعاء ، يدعو على نفسة بأن يستشهد في هذه الوقعة ولا يرجع لاهله (5) في البيت إقواء .
(*)(15/66)
في أمرهم ، وقالوا : نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فنخبره الخبر ، فأما أن يردنا أو يزيدنا رجالا ، فبينا الناس على ذلك من أمرهم جاءهم عبد الله بن رواحة فشجعهم ، وقال : والله ما كنا نقاتل الناس بكثرة عدة ولا كثرة سلاح ولا كثرة خيل ، إلا بهذا الدين الذى أكرمنا الله به ، انطلقوا فقاتلوا ، فقد والله رأينا يوم بدر ، وما معنا إلا فرسان ، أنما هي إحدى الحسنيين : إما الظهور عليهم فذاك ما وعدنا الله ورسوله ، وليس لوعده خلف ، وإما الشهادة فنلحق بالاخوان ، نرافقهم في الجنان .
فشجع الناس على قول ابن رواحة .
قال الواقدي : وروى أبو هريرة قال : شهدت مؤته فلما رأينا المشركين رأينا ما لا قبل لنا به من العدد والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب ، فبرق بصري ، فقال لي ثابت بن أرقم : ما لك يا أبا هريرة ، كأنك ترى جموعا كثيرة ! قلت : نعم ، قال : لم تشهدنا ببدر ، إنا لم ننصر بالكثرة .
قال الواقدي : فالتقى القوم ، فأخذ اللواء زيد بن حارثة ، فقاتل حتى قتل ، طعنوه بالرماح ، ثم أخذه جعفر فنزل عن فرس له شقراء فعرقبها ، ثم قاتل حتى قتل .
قال الواقدي : قيل إنه ضربه رجل من الروم فقطعه نصفين ، فوقع أحد نصفيه في كرم هناك ، فوجد فيه ثلاثون أو بضع وثلاثون جرحا .
قال الواقدي : وقد روى نافع عن ابن عمر أنه وجد في بدن جعفر بن أبى طالب اثنتان وسبعون ضربة وطعنة بالسيوف والرماح .
قال البلاذرى : قطعت يداه ولذلك قال رسول الله صلى اللع عليه وآله : " لقد أبدله الله بهما جناحين يطير بهما في الجنة " ، ولذلك سمي الطيار .
قال الواقدي : ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فنكل يسيرا ، ثم حمل فقاتل(15/67)
حتى قتل ، فلما قتل انهزم المسلمون أسوا هزيمة كانت في كل وجه ، ثم تراجعوا ، فأخذ اللواء ثابت بن أرقم ، وجعل يصيح بالانصار ، فثاب إليه منهم قليل ، فقال لخالد بن الوليد : خذ اللواء يا أبا سليمان ، قال خالد : لا بل خذه أنت فلك سن ، وقد شهدت بدرا .
قال ثابت : خذه أيها الرجل ، فوالله ما أخذته إلا لك .
فأخذه خالد وحمل به ساعه ، وجعل المشركون يحملون عليه حتى دهمه منهم بشر كثير ، فانحاز بالمسلمين ، وانكشفوا راجعين .
قال الواقدي : وقد روي أن خالدا ثبت بالناس فلم ينهزموا ، والصحيح أن خالدا انهزم بالناس .
قال الواقدي : حدثنى محمد بن صالح ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، أن النبي صلى الله عليه وآله لما التقى الناس بمؤته جلس على المنبر ، وكشف له ما بينه وبين الشام ، فهو ينظر إلى معركتهم ، فقال أخذ الراية زيد بن حارثة ، فجاءه الشيطان فحبب إليه الحياه ، وكره إليه الموت ، وحبب إليه الدنيا ، فقال : الان حين استحكم الايمان في قلوب المؤمنين تحبب إلي الدنيا ! فمضى قدما حتى استشهد ، ثم صلى عليه ، وقال : استغفروا له فقد دخل الجنة وهو يسعى ، ثم أخذ الراية جعفر بن أبى طالب ، فجاءه الشيطان فمناه الحياة وكره إليه الموت ، ومناه الدنيا ، فقال : الان حين استحكم الايمان في قلوب المؤمنين تتمنى الدنيا ! ثم مضى قدما حتى استشهد فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله ودعا له ، ثم قال : استغفروا لاخيكم فإنه شهيد قد دخل الجنة ، فهو يطير فيها بجناحين من ياقوت حيث شاء .
ثم قال : أخذ الراية عبد الله بن رواحة ، ثم دخل معترضا فشق ذلك على الانصار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : أصابته الجراح .
قيل يا رسول الله ، فما اعتراضه ؟ قال : لما أصابته الجراح نكل فعاتب نفسه فشجع فاستشهد ، فدخل الجنة فسرى عن قومه .(15/68)
وروى محمد بن إسحاق (1) قال : لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله زيدا وجعفرا سكت عن عبد الله بن رواحة حتى تغيرت وجوه الانصار ، وظنوا أنه قد كان من عبد الله بعض ما يكرهون ، ثم قال : أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل شهيدا ، ثم قال : لقد رفعوا لي في الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب فرأيت في سرير ابن رواحه ازورارا عن سريري صاحبيه ، فقلت لم هذا ؟ فقيل لانهما مضيا ، وتردد هذا بعض التردد ، ثم مضى .
قال : وروى محمد بن إسحاق أنه لما أخذ جعفر بن أبى طالب الراية قاتل قتالا شديدا حتى إذا لحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ، ثم قاتل القوم حتى قتل (2) ، فكان جعفر رضى الله عنه أول رجل عقر فرسه في الاسلام .
قال محمد بن اسحاق : ولما أخذ ابن رواحة الراية جعل يتردد بعض التردد ، ويستقدم نفسه يستنزلها (3) ، وقال : أقسمت يا نفس لتنزلنه * * طوعا وإلا سوف تكرهنه ما لي أراك تكرهين الجنة * * إذ أجلب الناس وشدوا الرنة (4) قد طالما قد كنت مطمئنه * * هل أنت إلا نطفة في شنه .
(5) ثم ارتجز أيضا فقال : يا نفس إلا تقتلي تموتي * * هذا حمام الموت قد صليت
__________
(1) سيرة ابن هشام 3 : 436 .
(2) بعدها في ابن هشام 3 : 434 ، وهو يقول : يا حبذا الجنة واقترابها * * طيبة وباردا شرابها والروم روم قد دنا عذابها * * كافرة بعيدة أنسابها * علي إذ لاقيتها ضرابها * (3) ابن هشام : " يسمنزل نفسه " .
(4) أجلب الناس : اخملطت أصواتهم وضجوا .
(5) النطفة : القليل من الماء الصافي .
والشنة : القربة الخلق .
(*)(15/69)
وما تمنيت فقد أعطيت * * إن تفعلي فعلهما هديت * وإن تأخرت فقد شقيت * ثم نزل عن فرسه فقاتل ، فأتاه ابن عم له ببضعة من لحم ، فقال اشدد بهذا صلبك .
فأخذها من يده فانتهش (1) منها نهشة ثم سمع الحطمة (2) في ناحية من الناس ، فقال : وأنت يا بن رواحة في الدنيا ! ثم ألقاها من يده وأخذ سيفه ، فتقدم فقاتل حتى قتل (3) .
قال الواقدي : حدثنى داود بن سنان ، قال : سمعت ثعلبة بن أبى مالك يقول : انكشف خالد بن الوليد يومئذ بالناس حتى عيروا بالفرار ، وتشاءم الناس به .
قال : وروى أبو سعيد الخدرى ، قال : أقبل خالد بالناس منهزمين ، فلما سمع أهل المدينة بهم تلقوهم بالجرف ، فجعلوا يحثون في وجوههم التراب ويقولون : يا فرار ، أ فررتم في سبيل الله ! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : ليسوا بالفرار ، ولكنهم كرار ، إن شاء الله .
قال الواقدي : وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة : ما لقي جيش بعثوا مبعثا ما لقي أصحاب مؤته من أهل المدينة ، لقوهم بالشر ، حتى أن الرجل ينصرف إلى بيته وأهله فيدق عليهم فيأبون أن يفتحوا له يقولون : ألا تقدمت مع أصحابك فقتلت ، وجلس الكبراء منهم في بيوتهم استحياء من الناس ، حتى أرسل النبي صلى الله عليه وآله رجلا ، يقول لهم : أنتم الكرار في سبيل الله .
فخرجوا .
قال الواقدي : فحدثني مالك بن أبى الرجال عن عبد الله بن أبى بكر بن حزم ، عن أم جعفر بنت محمد بن جعفر ، عن جدتها أسماء بنت عميس ، قالت : أصبحت في اليوم الذى أصيب فيه جعفر وأصحابه ، فأتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وقد منأت أربعين منا من أدم وعجنت عجيني ، وأخذت بنى ، فغسلت وجوههم ودهنتهم ، فدخلت على
__________
(1) انتهش منها : أخذ بفمه يسيرا .
(2) الحطمة : زحام الناس .
(3) يسيرة ابن هشام 3 : 434 ، 435 .
(*)(15/70)
رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقال : يا أسماء ، أين بنو جعفر ؟ فجئت بهم إليه ، فضمهم وشمهم ، ثم ذرفت عيناه ، فبكى ، فقلت : يا رسول الله ، لعله بلغك عن جعفر شئ ! قال : نعم ، إنه قتل اليوم ، فقمت أصيح ، واجتمع إلى النساء ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يا أسماء ، لا تقولي هجرا ، ولا تضربى صدرا ، ثم خرج حتى دخل على ابنته فاطمة رضى الله عنها ، وهى تقول : وا عماه ! فقال : على مثل جعفر فلتبك الباكية .
ثم قال : اصنعوا لال جعفر طعاما ، فقد شغلوا عن أنفسهم اليوم .
قال الواقدي : وحدثني محمد بن مسلم ، عن يحيى بن أبى يعلى ، قال : سمعت عبد الله بن جعفر يقول : أنا أحفظ حين دخل النبي صلى اللله عليه وآله على أمي ، فنعى إليها أبى ، فأنظر إليه وهو يمسح على رأسي ورأس أخي ، وعيناه تهراقان بالدمع حتى قطرت لحيته ، ثم قال : اللهم إن جعفرا قدم إلى أحسن الثواب ، فاخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت أحدا من عبادك في ذريته ، ثم قال : يا أسماء ، أ لا أبشرك ؟ قالت : بلى بأبى وأمى .
قال : فإن الله جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة ، قالت : بأبى وأمى ، فأعلم الناس ذلك ! فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وأخذ بيدى يمسح بيده رأسي حتى رقي على المنبر وأجلسني أمامه على الدرجة السفلى ، وإن الحزن ليعرف عليه ، فتكلم فقال : إن المرء كثير بأخيه وابن عمه ، ألا إن جعفرا قد استشهد وقد جعل الله له جناحين يطير بهما في الجنة .
ثم نزل ، فدخل بيته وأدخلني ، و أمر بطعام فصنع لنا ، وأرسل إلى أخى فتغدينا عنده غداء طيبا ، عمدت سلمى خادمته إلى شعير فطحنته ، ثم نشفته ، ثم أنضجته وآدمته بزيت ، وجعلت عليه فلفلا ، فتغديت أنا وأخي معه ، وأقمنا عنده ثلاثة أيام ندور معه في بيوت نسائه ، ثم أرجعنا إلى بيتنا ، وأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك وأنا أساوم في شاة ، فقال اللهم بارك له في صفقته ، فوالله ما بعت شيئا ولا اشتريت إلا بورك فيه .(15/71)
[ فصل في ذكر بعض مناقب جعفر بن أبى طالب ] روى أبو الفرج الاصفهانى في كتاب " مقاتل الطالبيين " أن كنية جعفر بن أبى طالب أبو المساكين ، وقال وكان ثالث الاخوه من ولد أبى طالب ، أكبرهم طالب ، وبعده عقيل ، وبعده جعفر ، وبعده على ، وكل واحد منهم أكبر من الاخر بعشر سنين ، [ و علي أصغرهم سنا ] (1) ، وأمهم جميعا فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف (2) .
وهى أول هاشمية ولدت لهاشمي ، وفضلها كثير وقربها من رسول الله صلى الله عليه وآله وتعظيمه لها معلوم عند أهل الحديث .
وروى أبو الفرج : لجعفر رضى الله عنه فضل كثير .
وقد ورد فيه حديث كثير ، من ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح خيبر قدم جعفر بن أبى طالب من الحبشة ، فالتزمه (3) رسول الله صلى الله عليه وآله وجعل يقبل بين عينيه ويقول : ما أدرى بأيهما أنا أشد فرحا ! بقدوم جعفر ، أم بفتح خيبر ! قال : وقد روى خالد الحذاء ، عن عكرمة ، عن أبى هريرة أنه قال : ما ركب المطايا ، ولا ركب الكور (4) ، ولا انتعل ، ولا احتذى النعال أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله أفضل من جعفر بن أبى طالب .
قال : وقد روى عطية ، عن أبى سعيد الخدرى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله ، خير الناس حمزة وجعفر وعلي .
وقد روى جعفر بن محمد عن أبيه عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : خلق الناس من أشجار شتى ، وخلقت أنا وجعفر من شجرة واحدة - أو قال - من طينة واحدة .
__________
(1) نت مقاتل الطالبيين .
(2) مقاتل الطالبيين 6 ، 7 مع تصرف .
(3) التزمه : اعتنقه .
(4) الكور (بضم الكاف) : الرحل بأداته .
(*)(15/72)
قال : وبالاسناد قال رسول الله صلى الله عليه وآله لجعفر : أنت أشبهت خلقي وخلقي .
قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب " الاستيعاب " كانت سن جعفر عليه السلام يوم قتل أحدى وأربعين سنة .
قال أبو عمر : وقد روى ابن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : مثل لي جعفر وزيد وعبد الله في خيمة من در ، كل واحد منهم على سرير فرأيت زيدا وابن رواحة في أعناقهما صدودا ، ورأيت جعفرا مستقيما ليس فيه صدود ، فسألت فقيل لي : إنهما حين غشيهما الموت أعرضا وصدا بوجهيهما ، وأما جعفر فلم يفعل .
قال أبو عمر أيضا : وروي عن الشعبي ، قال : سمعت عبد الله بن جعفر يقول : كنت إذا سألت عمي عليا عليه السلام شيئا ويمنعنى ، أقول له : بحق جعفر ، فيعطيني (1) .
وروى أبو عمر أيضا في حرف الزاى في باب زيد بن حارثة ، أن رسول الله صلى الله عليه آله لما أتاه قتل جعفر وزيد بمؤتة بكى ، وقال : أخواي ومؤنساي ومحدثاي (2) .
واعلم أن هذه الكلمات التى ذكرها الرضى رحمة الله عليه ملتقطة من كتابه عليه السلام الذى كتبه جوابا عن كتاب معاوية النافذ إليه مع أبى مسلم الخولاني وقد ذكره أهل السيرة في كتبهم ، روى نصر بن مزاحم في كتاب " صفين " عن عمر بن سعد عن أبى ورقاء ، قال : جاء أبو مسلم الخولاني في ناس من قراء أهل الشام إلى معاوية قبل مسير أمير المؤمنين عليه السلام إلى صفين فقالوا له : يا معاوية ، علام تقاتل عليا وليس لك
__________
(1) الاستيعاب 81 ، 82 .
(2) الاستيعاب 191 .
(*)(15/73)
مثل صحبته ولا هجرته ولا قرابته ولا سابقته ! فقال : (1 إني لا أدعي أن لي في الاسلام مثل صحبته ولا مثل هجرته ولا قرابته 1) ، ولكن خبروني عنكم ، أ لستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما ! قالوا : بلى ، قال : فليدفع إلينا قتلته لنقتلهم به ، ولا قتال بيننا وبينه ، قالا : فاكتب إليه كتابا يأته به بعضنا ، فكتب مع أبي مسلم الخولانى : من معاوية بن أبى سفيان إلى علي بن أبى طالب ، سلام عليك ، فإني أحمد اليك الله الذى لا إله إلا هو ، أما بعد ، فإن الله اصطفى محمدا بعلمه ، وجعله الامين على وحيه ، والرسول إلى خلقه ، واجتبى له من المسلمين أعوانا أيده الله تعالى بهم ، فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الاسلام ، فكان أفضلهم في الاسلام ، وانصحهم لله ورسوله الخليفة من بعده ، ثم خليفة خليفته من بعد خليفته ، ثم الثالث الخليفة المظلوم عثمان ، فكلهم حسدت ، وعلى كلهم بغيت ، عرفنا ذلك في نظرك الشزر ، وقولك الهجر ، وتنفسك (2) الصعداء ، وإبطائك عن الخلفاء ، تقاد إلى كل منهم كما يقاد الفحل المخشوش (3) حتى تبايع وأنت كاره ، ثم لم تكن لاحد منهم بأعظم حسدا منك لابن عمك عثمان ، وكان أحقهم ألا تفعل ذلك في قرابته وصهره ، فقطعت رحمه ، وقبحت محاسنه ، وألبت (4) الناس عليه ، وبطنت وظهرت حتى ضربت إليه آباط الابل ، وقيدت إليه الابل العراب ، وحمل عليه السلاح في حرم رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقتل معك في المحلة وأنت تسمع في داره الهائعة (5) ، لا تردع الظن والتهمة عن نفسك بقول ولا عمل .
وأقسم قسما صادقا لو قمت فيما كان من أمره مقاما واحدا تنهنه الناس
__________
(1 - 1) صفين : " ما أقاتل عليا وأنا أدعي في الاسلام مثل صحبته ولا هجرته ولا سابقته " .
(2) صفين : " وفي تنفسك " .
(3) المخشوش : الذي جعل في عظم أنفه الخشاش ، وهو بالكسر عويد يجعل في أنف البعير يشد به الزمام ليكون أسرع في انقياده " .
(4) ألبت الناس : جمعتهم عليه .
(5) الهائعة : الصوت الشديد .
(*)(15/74)
عنه ، ما عدل بك من قبلنا من الناس أحدا ، ولمحا ذلك عندهم ما كانوا يعرفونك به من المجانبة لعثمان والبغي عليه ، وأخرى أنت بها عند أنصار عثمان ظنين (1) إيواؤك قتلة عثمان ، فهم عضدك وأنصارك ، ويدك وبطانتك ، وقد ذكر لي أنك تتنصل من دمه ، فإن كنت صادقا فأمكنا من قتلته نقتلهم به ، ونحن أسرع الناس إليك ، وإلا فإنه ليس لك ولاصحابك إلا السيف ، والذى لا إله إلا هو لنطلبن قتلة عثمان في الجبال والرمال ، والبر والبحر ، حتى يقتلهم الله أو لتلحقن أرواحنا بالله والسلام (2) .
قال نصر ، فلما قدم أبو مسلم على علي عليه السلام بهذا الكتاب ، قام فحمد الله واثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، فإنك قد قمت بأمر وليته ووالله ما أحب أنه لغيرك .
إن أعطيت الحق من نفسك .
إن عثمان قتل مسلما محرما مظلوما ، فادفع إلينا قتلته ، وأنت أميرنا ، فإن خالفك من الناس أحد كانت أيدينا لك ناصرة ، وألسنتنا لك شاهدة ، وكنت ذا عذر وحجة .
فقال له علي عليه السلام : أغد على غدا ، فخذ جواب كتابك فانصرف ، ثم رجع من غد ليأخذ جواب كتابه ، فوجد الناس قد بلغهم الذى جاء فيه قبل ، فلبست الشيعة أسلحتها ثم غدوا فملئوا المسجد ، فنادوا كلنا قتلة عثمان ، وأكثروا من النداء بذلك وأذن لابي مسلم ، فدخل فدفع علي عليه السلام جواب كتاب معاوية ، فقال أبو مسلم : لقد رأيت قوما ما لك معهم أمر ، قال : وما ذاك ؟ قال بلغ القوم أنك تريد أن تدفع إلينا قتلة عثمان فضجوا ، واجتمعوا ، ولبسوا السلاح ، وزعموا أنهم قتلة عثمان .
فقال علي عليه السلام ، والله ما أردت أن أدفعهم إليكم طرفة عين قط ، لقد ضربت هذا الامر أنفه وعينه ، فما رأيته ينبغي لي أن أدفعهم إليك ، ولا إلى غيرك .
فخرج أبو مسلم بالكتاب وهو يقول الان طاب الضراب !
__________
(1) ظنين : متهم .
(2) صفين 97 ، 98 .
(*)(15/75)
وكان جواب علي عليه السلام : من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبى سفيان .
أما بعد ، فإن أخا خولان قدم علي بكتاب منك تذكر فيه محمدا صلى الله عليه وآله وما أنعم الله به عليه من الهدى والوحي ، فالحمد لله الذى صدقه الوعد ، وأيده (1) بالنصر ، ومكن له في البلاد ، وأظهره على أهل العداوة (2) والشنآن من قومه الذين وثبوا عليه ، وشنفوا له (3) ، وأظهروا تكذيبه (4) ، وبارزوه بالعداوة ، وظاهروا على إخراجه وعلى إخراج أصحابه وأهله ، وألبوا عليه [ العرب ، وجادلوهم على حربه ] (5) ، وجهدوا في أمره كل الجهد ، وقلبوا له الامور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون ، وكان أشد الناس عليه تأليبا (6) وتحريضا أسرته ، والادنى فالادنى من قومه ، إلا من عصم الله .
وذكرت أن الله تعالى اجتبى له من المسلمين أعوانا أيده الله بهم ، فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الاسلام ، فكان أفضلهم - زعمت - في الاسلام ، وأنصحهم لله ولرسوله الخليفة وخليفة الخليفة ، ولعمري إن مكانهما في الاسلام لعظيم ، وإن المصاب بهما لجرح في الاسلام شديد ، فرحمهما الله وجزاهما أحسن ما عملا ! وذكرت أن عثمان كان في الفضل تاليا ، فإن يك عثمان محسنا فسيجزيه الله بإحسانه ، وإن يك مسيئا فسيلقى ربا غفورا لا يتعاظمه ذنب إن يغفره ، ولعمري إني لارجو إذا أعطى الله الناس على قدر فضائلهم في الاسلام ونصيحتهم لله ولرسوله ، أن يكون نصيبنا في ذلك الاوفر .
إن محمدا صلى الله عليه وآله لما دعا إلى الايمان بالله والتوحيد له كنا أهل البيت أول من آمن به وصدقه فيما جاء ، فبتنا أحوالا كاملة مجرمة (7) تامة ، وما يعبد الله في ربع ساكن من
__________
(1) صفين : " وتمم له النصر " .
(2) صفين : " العداء " وهو يوافق ما في أ .
(3) شنف له ، أي أبغضه .
(4) صفين : " التكذيب " .
(5) من صفين .
(6) صفين : " إلبا " .
(7) مجرمة ، أي كاملة .
(*)(15/76)
العرب غيرنا ، فأراد قومنا قتل نبينا ، واجتياح أصلنا ، وهموا بنا الهموم ، وفعلوا بنا الافاعيل ، ومنعونا الميرة (1) وأمسكوا عنا العذب ، وأحلسونا الخوف (2) .
وجعلوا علينا الارصاد والعيون ، واضطرونا إلى جبل وعر ، وأوقدوا لنا نار الحرب ، وكتبوا بينهم كتابا ، لا يؤاكلوننا ، ولا يشاربوننا ، ولا يناكحوننا ، ولا يبايعوننا ، ولا نأمن منهم حتى ندفع إليهم محمدا فيقتلوه ويمثلوا به ، فلم نكن نأمن فيهم إلا من موسم إلى موسم ، فعزم الله لنا على منعه ، والذب عن حوزته ، والرمى من وراء حرمته ، والقيام بأسيافنا دونه في ساعات الخوف بالليل والنهار ، فمؤمننا يرجو بذلك الثواب وكافرنا يحامى عن الاصل ، وأما من أسلم من قريش فإنهم مما نحن فيه خلاء ، منهم الحليف الممنوع ، ومنهم ذو العشيرة التى تدافع عنه ، فلا يبغيه أحد مثل ما بغانا به قومنا من التلف ، فهم من القتل بمكان (3) نجوة وأمن ، فكان ذلك ما شاء الله أن يكون .
ثم أمر الله تعالى رسوله بالهجرة ، وأذن له بعد ذلك في قتال المشركين ، فكان إذا احمر البأس ، ودعيت نزال (4) أقام أهل بيته ، فاستقدموا ، فوقى أصحابه بهم حد الاسنة والسيوف ، فقتل عبيدة يوم بدر ، وحمزة يوم أحد ، وجعفر وزيد يوم مؤتة ، وأراد من لو شئت ذكرت اسمه مثل الذى أرادوا من الشهادة مع النبي صلى اللله عليه وسلم غير مرة ، إلا أن آجالهم عجلت ، ومنيته أخرت ، والله ولي الاحسان إليهم ، والمنة عليهم ، بما أسلفوا من أمر الصالحات ، فما سمعت بأحد ولا رأيته هو أنصح في طاعة رسوله ولا لنبيه ، ولا أصبر على اللاواء (5) والسراء والضراء وحين البأس ، ومواطن المكروه مع النبي صلى الله عليه وسلم من هؤلاء النفر الذين سميت لك ، وفي المهاجرين خير كثير يعرف ، جزاهم الله خيرا بأحسن
__________
(1) اللميرة بالكسر : ما يجلب ، ويزيد بالعذب الماء .
(2) أحلسونا الخوف ، أي ألزموناه .
(3) انظر صفين 100 ، 111 .
(4) دعيت نزال ، كقطام ، أي تنازلوا للحزب .
(5) اللاواء : الشدة .
(*)(15/77)
أعمالهم .
وذكرت حسدي الخلفاء ، وإبطائي عنهم ، وبغيي عليهم ، فأما البغي فمعاذ الله أن يكون ، وأما الابطاء عنهم والكراهية لامرهم فلست أعتذر إلى الناس من ذلك ، إن الله تعالى ذكره لما قبض نبيه صلى الله عليه وسلم قالت قريش : منا أمير ، وقالت الانصار : منا أمير ، فقالت قريش : منا محمد ، نحن أحق بالامر ، فعرفت ذلك الانصار فسلمت لهم الولاية والسلطان ، فإذا استحقوها بمحمد صلى الله عليه وسلم دون الانصار فإن أولى الناس بمحمد أحق به منهم ، وإلا فإن الانصار أعظم العرب فيها نصيبا ، فلا أدرى : أصحابي سلموا من أن يكونوا حقي أخذوا ، أو الانصار ظلموا بل عرفت أن حقي هو المأخوذ ، وقد تركته لهم تجاوز الله عنهم .
وأما ما ذكرت من أمر عثمان ، وقطيعتي رحمه ، وتأليبى عليه فإن عثمان عمل ما قد بلغك ، فصنع الناس به ما رأيت ، وإنك لتعلم أنى قد كنت في عزلة عنه إلا أن تتجنى ، فتجن (1) ما بدا لك ، وأما ما ذكرت من أمر قتلة عثمان فإني نظرت في هذا الامر وضربت أنفه وعينه فلم أر دفعهم إليك ولا إلى غيرك ، ولعمري لئن لم تنزع عن غيك وشقاقك لتعرفنهم عن قليل يطلبونك لا يكلفونك أن تطلبهم في بر ولا بحر ولا سهل ولا جبل ، وقد أتاني أبوك حين ولى الناس أبا بكر ، فقال : أنت أحق بمقام محمد ، وأولى الناس بهذا الامر ، وأنا زعيم لك بذلك على من خالف ، ابسط يدك أبايعك ، فلم أفعل ، وأنت تعلم أن أباك قد قال ذلك وأراده حتى كنت أنا الذى أبيت ، لقرب عهد الناس بالكفر مخافة الفرقة بين أهل الاسلام ، فأبوك كان أعرف بحقي منك ، فإن تعرف من حقي ما كان أبوك يعرف تصب رشدك ، وإن لم تفعل فسيغني الله عنك ، والسلام (2)
__________
(1) تجنى عليه : ادعى ذنبا لم يجنه .
(2) صفين 98 - 102 .
(*)(15/78)
(10) الاصل : ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية أيضا : وكيف أنت صانع إذا تكشفت عنك جلابيب ما أنت فيه من دنيا قد تبهجت بزينتها ، وخدعت بلذتها ، دعتك فأجبتها ، وقادتك فاتبعتها .
وأمرتك فاطعتها ، وإنه يوشك أن يقفك واقف على ما لا ينجيك منه منج .
فاقعس عن هذا الامر ، وخذ أهبة الحساب ، وشمر لما قد نزل بك ، ولا تمكن الغواة من سمعك ، وإلا تفعل أعلمك ما أغفلت من نفسك ، فإنك مترف قد أخذ الشيطان منك مأخذه ، وبلغ فيك أمله ، وجرى منك مجرى الروح والدم .
ومتى كنتم يا معاوية ساسة الرعية ، وولاه أمر الامة ، بغير قدم سابق ، ولا شرف باسق ، ونعوذ بالله من لزوم سوابق الشقاء .
وأحذرك أن تكون متماديا في غرة الامنية ، مختلف العلانية والسريرة .
وقد دعوت إلى الحرب فدع الناس جانبا ، واخرج إلي ، واعف الفريقين من القتال ، لتعلم أينا المرين على قلبه ، والمغطى على بصره ! فأنا أبو حسن ، قاتل جدك وأخيك وخالك شدخا يوم بدر ، وذلك السيف معي ، وبذلك القلب ألقى عدوي ما استبدلت دينا ، ولا استحدثت نبيا ، وإنى لعلى المنهاج الذى تركتموه طائعين ، ودخلتم فيه مكرهين .
وزعمت أنك جئت ثائرا بدم عثمان ! ولقد علمت حيث وقع دم عثمان ، فاطلبه(15/79)
من هناك إن كنت طالبا ، فكأني قد رأيتك تضج من الحرب إذا عضتك ضجيج الجمال بالاثقال وكأني بجماعتك تدعوني جزعا من الضرب المتتابع ، والقضاء الواقع ، ومصارع بعد مصارع ، إلى كتاب الله ، وهى كافرة جاحدة ، أو مبايعة حائدة .
الشرح الجلابيب : جمع جلباب ، وهى الملحفة في الاصل ، واستعير لغيرها من الثياب ، وتجلبب الرجل جلببة ، ولم تدغم لانها ملحقة ب " دحرجة " .
قوله : " وتبهجت بزينتها " : صارت ذات بهجة ، أي زينة ، وحسن ، وقد بهج الرجل بالضم ، ويوشك : يسرع .
ويقفك واقف : يعنى الموت ، ويروى : " ولا ينحيك مجن " ، وهو الترس ، والرواية الاولى أصح .
قوله : " فاقعس عن هذا الامر " ، أي تأخر عنه ، والماضي قعس بالفتح ، ومثله تقاعس واقعنسس .
وأهبة الحساب : عدته ، وتأهب : استعد ، وجمع الاهبة أهب .
وشمر لما قد نزل بك ، أي جد واجتهد وخف ، ومنه رجل شمري بفتح الشين وتكسر .
والغواة : جمع غاو ، وهو الضال .
قوله : " وإلا تفعل " يقول : وان كنت لا تفعل ما قد أمرتك ووعظتك به فإني أعرفك من نفسك ما أغفلت معرفته .
إنك مترف ، والمترف الذى قد أترفته النعمة أي أطغته .(15/80)
قد أخذ الشيطان منك مأخذه ، ويروى " مآخذه " بالجمع ، أي تناول الشيطان منك لبك وعقلك .
ومأخذه مصدر ، أي تناولك الشيطان تناوله المعروف ، وحذف مفعول " أخذ " لدلالة الكلام عليه ، ولان اللفظة تجرى مجرى المثل .
قوله : " وجرى منك مجرى الروح والدم " ، هذه كلمة رسول الله صلى الله عليه وآله : " إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم " .
ثم خرج عليه السلام إلى أمر آخر ، فقال لمعاوية : " ومتى كنتم ساسة الرعية ، وولاة أمر الامة ! " ينبغى أن يحمل هذا الكلام على نفى كونهم سادة وولاة في الاسلام ، وإلا ففى الجاهلية لا ينكر رياسة بنى عبد شمس .
ولست أقول برياستهم على بنى هاشم ، ولكنهم كانوا رؤساء على كثير من بطون قريش ، أ لا ترى أن بنى نوفل بن عبد مناف ما زالوا أتباعا لهم ، وأن بنى عبد شمس كانوا في يوم بدر قادة الجيش ، كان رئيس الجيش عتبة بن ربيعة ، وكانوا في يوم أحد ويوم الخندق قادة الجيش ! كان الرئيس في هذين اليومين أبا سفيان بن حرب ، وأيضا فإن في لفظة أمير المؤمنين عليه السلام ما يشعر بما قلناه ، وهو قوله : " وولاة أمر الامة " فإن الامة في العرب هم المسلمون ، أمة محمد صلى الله عليه وآله .
قوله عليه السلام : " بغير قدم سابق " ، يقال لفلان قدم صدق ، أي سابقة وأثرة حسنة .
قوله عليه السلام : " ولا شرف باسق " ، أي عال .
وتمادى : تفاعل ، من المدى ، وهو الغاية ، أي لم يقف بل مضى قدما .
والغرة : الغفلة : والامنية : طمع النفس .
ومختلف السريرة والعلانية : منافق .
قوله عليه السلام : " فدع الناس جانبا " ، منصوب على الظرف .(15/81)
والمرين على قلبه : المغلوب عليه ، من قوله تعالى : " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) (1) .
وقيل : الرين : الذنب على القريب .
وإنما قال أمير المؤمنين عليه السلام لمعاوية هذه الكلمة لان معاوية قالها في رسالة كتبها ، ووقفت عليها من كتاب أبى العباس يعقوب بن أبى أحمد الصيمري الذى جمعه من كلام علي عليه السلام وخطبه ، وأولها : أما بعد ، فإنك المطبوع على قلبك ، المغطى على بصرك ، الشر من شيمتك ، والعتو من خليقتك ، فشمر للحرب ، واصبر للضرب ، فو الله ليرجعن الامر إلى ما علمت ، والعاقبة للمتقين .
هيهات هيهات ! أخطأك ما تمنى ، وهوى قلبك فيما هوى ، فأربع على ظلعك ، وقس شبرك بفترك ، تعلم أين حالك من حال من يزن الجبال حلمه ، ويفصل بين أهل الشك علمه ، والسلام .
فكتب إليه أمير المؤمنين عليه السلام : أما بعد ، يا بن صخر ، يابن اللعين ، يزن الجبال فيما زعمت حلمك ، ويفصل بين أهل الشك علمك ، وأنت الجاهل القليل الفقه ، المتفاوت العقل ، الشارد عن الدين .
وقلت : " فشمر للحرب ، واصبر " ، فإن كنت صادقا فيما تزعم ، ويعينك عليه ابن النابغة ، فدع الناس جانبا ، وأعف الفريقين من القتال ، وابرز إلي لتعلم أينا المرين على قلبه ، المغطى على بصره ، فأنا أبو الحسن حقا ، قاتل أخيك وخالك وجدك ، شدخا يوم بدر ، وذلك السيف معي وبذلك القلب ألقى عدوي !
__________
(1) سورة المطففين 14 .
(*)(15/82)
قوله عليه السلام " شدخا " ، الشدخ : كسر الشئ الاجوف ، شدخت رأسه فانشدخ ، وهؤلاء الثلاثة : حنظلة بن أبى سفيان ، والوليد بن عتبة ، وأبوه عتبة بن ربيعة ، فحنظلة أخوه ، والوليد خاله ، وعتبة جده ، وقد تقدم ذكر قتله إياهم في غزاة بدر .
والثائر : طالب الثأر .
وقوله : " قد علمت حيث وقع دم عثمان فاطلبه من هناك " ، يريد به إن كنت تطلب ثأرك من عند من أجلب وحاصر ، فالذي فعل ذلك طلحة والزبير ، فاطلب ثأرك من بني تيم ومن بني أسد بن عبد العزى ، وإن كنت تطلبه ممن خذل ، فاطلبه من نفسك فإنك خذلته ، وكنت قادرا على أن ترفده (1) وتمده بالرجال ، فخذلته وقعدت عنه بعد أن استنجدك واستغاث بك .
وتضج : تصوت .
والجاحدة : المنكرة ، والحائدة : العادلة عن الحق .
واعلم أن قوله : " وكأني بجماعتك يدعونني جزعا من السيف إلى كتاب الله تعالى " ، إما أن يكون فراسة نبوية صادقة ، وهذا عظيم ، وإما أن يكون إخبارا عن غيب مفصل ، وهو أعظم وأعجب ، وعلى كلا الامرين فهو غاية العجب .
وقد رأيت له ذكر هذا المعنى في كتاب غير هذا ، وهو : إما بعد ، فما أعجب ما يأتيني منك ، وما أعلمني بمنزلتك التى أنت إليها صائر ، ونحوها سائر ، وليس إبطائي عنك إلا لوقت أنا به مصدق ، وأنت به مكذب ، وكأني أراك وأنت تضج من الحرب ، وإخوانك يدعونني خوفا من السيف إلى كتاب هم به كافرون ، وله جاحدون .
ووقفت له عليه السلام على كتاب آخر الى معاوية يذكر فيه هذا المعنى ، أوله : أما بعد ، فطالما دعوت أنت وأولياؤك أولياء الشيطان الحق أساطير ، ونبذتموه وراء
__________
(1) ترفده : تعينه .
(*)(15/83)
ظهوركم ، وحاولتم إطفاءه بأفواهكم ، (ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) (1) .
ولعمري لينفذن العلم فيك ، وليتمن النور بصغرك وقماءتك ، ولتخسأن طريدا مدحورا أو قتيلا مثبورا (2) ، ولتجزين بعملك حيث لا ناصر لك ، ولا مصرخ (3) عندك .
وقد أسهبت في ذكر عثمان ، ولعمري ما قتله غيرك ، ولا خذله سواك ، ولقد تربصت به الدوائر ، وتمنيت له الاماني ، طمعا فيما ظهر منك ، ودل عليه فعلك ، وإني لارجو أن ألحقك به على أعظم من ذنبه ، وأكبر من خطيئته .
فأنا ابن عبد المطلب صاحب السيف ، وإن قائمه لفي يدى ، وقد علمت من قتلت به من صناديد بني عبد شمس ، وفراعنة بني سهم وجمح وبني مخزوم ، وأيتمت أبناءهم ، وأيمت نساءهم ، وأذكرك ما لست له ناسيا ، يوم قتلت أخاك حنظلة ، وجررت برجله إلى القليب (5) ، وأسرت أخاك عمرا ، فجعلت عنقه بين ساقيه رباطا ، وطلبتك ففررت ولك حصاص (6) ، فلو لا أني لا أتبع فارا ، لجعلتك ثالثهما ، وأنا أولي لك بالله ألية برة غير فاجرة ، لئن جمعتني وإياك جوامع الاقدار ، لاتركنك مثلا يتمثل به الناس أبدا ، ولاجعجعن بك في مناخك حتى يحكم الله بينى وبينك ، وهو خير الحاكمين .
ولئن أنسأ (7) الله في أجلي قليلا لاغزينك سرايا المسلمين ، ولانهدن إليك في جحفل من المهاجرين والانصار ، ثم لا أقبل لك معذرة ولا شفاعة ، ولا أجيبك إلى طلب وسؤال ، ولترجعن إلى تحيرك وترددك وتلددك ، فقد شاهدت وأبصرت ورأيت
__________
(1) سورة التوبة 32 .
(2) مثبورا : هالكا ، أو مصروفا عن الخير .
(3) المصرخ : المستغيث .
(4) أيمت نساءهم ، أي تركتهن بلا أزواج .
(5) القليب : البئر .
(6) الحصاص : شدة العدو .
(7) أنسأ الله في أجلي ، أي أخره قليلا .
(*)(15/84)
سحب الموت كيف هطلت عليك بصيبها (1) حتى اعتصمت بكتاب أنت وأبوك أول من كفر وكذب بنزوله .
ولقد كنت تفرستها ، وآذنتك أنك فاعلها ، وقد مضى منها ما مضى ، وانقضى من كيدك فيها ما انقضى ، وأنا سائر نحوك على أثر هذا الكتاب ، فاختر لنفسك ، وانظر لها ، وتداركها فإنك إن فطرت واستمررت على غيك وغلوائك (2) حتى ينهد إليك عباد الله ، ارتجت عليك الامور ، ومنعت أمرا هو اليوم منك مقبول .
يا بن حرب ، إن لجاجك في منازعة الامر أهله من سفاه الرأي ، فلا يطمعنك أهل الضلال ، ولا يوبقنك سفه رأي الجهال ، فو الذى نفس علي بيده لئن برقت في وجهك بارقة من ذى الفقار لتصعقن صعقة لا تفيق منها حتى ينفخ في الصور النفخة التى يئست منها (كما يئس الكفار من أصحاب القبور) (3) .
قلت : سألت النقيب أبا زيد عن معاوية : هل شهد بدرا مع المشركين ؟ فقال : نعم شهدها ثلاثة من أولاد أبي سفيان : حنظلة وعمرو ومعاوية ، قتل أحدهم ، وأسر الاخر ، وأفلت معاوية هاربا على رجليه ، فقدم مكة ، وقد انتفخ قدماه ، وورمت ساقاه ، فعالج نفسه شهرين حتى برأ .
قال النقيب أبو زيد : ولا خلاف عند أحد أن عليا عليه السلام قتل حنظلة وأسر عمرا أخاه ، ولقد شهد بدرا ، وهرب على رجليه من هو أعظم منهما ومن أخيهما عمرو بن عبد ود فارس يوم الاحزاب ، شهدها ونجا هاربا على قدميه ، وهو شيخ كبير ،
__________
(1) الصيب : المطر المنصب .
(2) الغلواء : الكبر ، (3) الممتحنة 12 .
(*)(15/85)
وارتث (1) جريحا ، فوصل إلى مكة وهو وقيذ (2) فلم يشهد أحدا ، فلما برأ شهد الخندق ، فقتله قاتل الابطال ، والذى فاته يوم بدر استدركه يوم الخندق .
ثم قال لى النقيب رحمه الله : أ ما سمعت نادرة الاعمش ومناظره ؟ فقلت : ما أعلم ما تريد ، فقال : سأل رجل الاعمش - وكان قد ناظر صاحبا له : هل معاوية من أهل بدر أم لا ؟ - فقال له : أصلحك الله هل شهد معاويه بدرا ؟ فقال : نعم من ذلك الجانب .
واعلم أن هذه الخطبة قد ذكرها نصر بن مزاحم في كتاب " صفين " على وجه يقتضى أن ما ذكره الرضى - رحمه الله - منها قد ضم إليه بعض خطبة أخرى ، وهذه عادته ، لان غرضه التقاط الفصيح والبليغ من كلامه ، والذى ذكره نصر بن مزاحم هذه صورته : من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبى سفيان ، سلام على من اتبع الهدى فإني أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو ، أما بعد ، فإنك قد رأيت مرور الدنيا وانقضاءها وتصرمها وتصرفها بأهلها ، وخير ما اكتسب من الدنيا ما أصابه العباد الصالحون منها من التقوى ، ومن يقس الدنيا بالاخرة يجد بينهما بعيدا .
واعلم يا معاوية أنك قد ادعيت أمرا لست من أهله (3 لا في القديم ولا في الحديث 3) ، ولست تقول فيه بأمر بين يعرف له أثر (4) ، ولا عليك منه شاهد [ من كتاب الله ] (5) ، ولست متعلقا بآية من
__________
(1) ارتث جريحا : حمل من المعركة رثيثا ، أي جريحا وبه رمق .
(2) اللوقيذ : الشديد المرض ، المشرف على الهلاك .
(3 - 3) صفين : " لا في القدم ولا في الولاية " .
(4) صفين : " أثرة " .
(5) من صفين .
(*)(15/86)
كتاب الله ، ولا عهد من رسول الله صلى الله عليه وآله ، فكيف أنت صانع (1 إذا تقشعت عنك غيابة ما أنت فيه من دنيا قد فتنت بزينتها ، وركنت إلى لذاتها 1) ، وخلي بينك وبين عدوك فيها ، وهو عدو وكلب مضل جاهد مليح (2) ، ملح ، مع ما قد ثبت في نفسك من جهتها ، دعتك فأجبتها ، وقادتك فأتبعتها ، وأمرتك فأطعتها ، فاقعس (3) عن هذا الامر ، وخذ أهبة الحساب ، فإنه يوشك أن يقفك واقف على ما لا يجنك (4) مجن .
ومتى كنتم يا معاوية ساسة الرعية ، أو ولاة لامر هذه الامة ، بلا قدم حسن ، ولا شرف تليد على قومكم ، فاستيقظ من سنتك ، وارجع الى خالقك ، وشمر لما سينزل بك ، ولا تمكن عدوك الشيطان من بغيته فيك ، مع أنى أعرف أن الله ورسوله صادقان ، نعوذ (5) بالله من لزوم سابق الشقاء وإلا تفعل فإني أعلمك ما أغفلت من نفسك ، إنك مترف ، قد أخذ منك الشيطان مأخذه ، فجرى منك مجرى الدم في العروق ، ولست من أئمة هذه الامة ولا من رعاتها .
واعلم أن هذا الامر لو كان إلى الناس أو بأيديهم لحسدوناه ، و لامتنوا علينا به ، ولكنه قضاء ممن منحناه واختصنا به ، على لسان نبيه الصادق المصدق ، لا أفلح من شك بعد العرفان والبينة ! رب احكم بيننا وبين عدونا بالحق وأنت خير الحاكمين (6) .
قال نصر : (7 فكتب معاوية إليه الجواب 7) : من معاوية بن أبى سفيان إلى علي بن أبى طالب ، أما بعد ، فدع الحسد ، فإنك طالما لم تنتفع به ، ولا تفسد سابقة
__________
(1 - 1) صفين : " إذا انقشعت عنك جلابيب ما أنت فيه من دنيا أبهجت بزينتها ، وركنت إلى لذاتها " .
(2) المليح : الملوح بالسيف ، يقال : ألاح بالسيف ، ولوح : إذا حركه ولمع به .
(3) أقعس عن هذا الامر ، أي تأخر .
(4) كذا في صفين وأ ، وفي ب : " يخبيك " .
(5) صفين : " فنعوذ " .
(6) صفين 121 ، 122 .
(7 - 7) صفين : " فكتب معاوية بسم الله الرحمن الرحيم " .
(*)(15/87)
جهادك بشرة نخوتك ، فإن الاعمال بخواتيمها ، ولا تمحص سابقتك بقتال من لا حق لك في حقه (1) ، فإنك إن تفعل لا تضر بذلك إلا نفسك ، ولا تمحق إلا عملك ، ولا تبطل إلا حجتك ، ولعمري إن ما مضى لك من السابقات لشبيه أن يكون ممحوقا ، لما اجترأت عليه من سفك الدماء ، وخلاف أهل الحق ، فاقرأ السورة التى يذكر فيها الفلق وتعوذ من نفسك (2) فإنك الحاسد إذا حسد (3) .
__________
(1) حق الرجل وأحقه ، إذا غلبه على الحق .
(2) صفين : " وتعوذ بالله من شر نفسك " .
(3) صفين 123 .
(*)(15/88)
(11) الاصل : ومن وصية له عليه السلام وصى بها جيشا بعثه إلى العدو : فإذا نزلتم بعدو أو نزل بكم ، فليكن معسكركم في قبل الاشراف ، أو سفاح الجبال * أو أثناء الانهار ، كيما يكون لكم ردءا ، ودونكم مردا .
ولتكن مقاتلتكم من وجه واحد أو اثنين ، واجعلوا لكم رقباء في صياصي الجبال ، ومناكب الهضاب ، لئلا يأتيكم العدو من مكان مخافة أو أمن .
واعلموا أن مقدمة القوم عيونهم ، وعيون المقدمة طلائعهم ، وإياكم والتفرق ، فإذا نزلتم فانزلوا جميعا ، وإذا ارتحلتم فارتحلوا جميعا ، وإذا غشيكم الليل فاجعلوا الرماح كفة ، ولا تذوقوا النوم إلا غرارا أو مضمضة الشرح : المعسكر ، بفتح الكاف : موضع العسكر ، وحيث ينزل .
الاشراف : الاماكن العالية ، وقبلها : ما استقبلك منها ، وضده الدبر .
وسفاح الجبال : أسافلها حيث يسفح منها الماء .
وأثناء الانهار : ما انعطف منها ، وأحدها ثنى .
والمعنى أنه أمرهم أن ينزلوا مسندين ظهورهم إلى مكان عال كالهضاب العظيمة ، أو الجبال ، أو منعطف الانهار التى تجرى مجرى الخنادق على العسكر ليأمنوا بذلك من البيات ، وليأمنوا أيضا من إتيان العدو لهم(15/89)