(ذكر ماكان من أمر طلحة مع عثمان) ذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في كتاب التاريخ قال : حدثنى عمر بن شبة ، عن على بن محمد ، عن عبد ربة ، عن نافع ، عن إسماعيل بن أبى خالد (1) ، عن حكيم (2) بن جابر ، قال : قال على عليه السلام لطلحة وعثمان محصور : أنشدك الله إلا رددت الناس عن عثمان قال : لا ، والله حتى تعطى بنو أمية الحق من أنفسها .
وروى الطبري أن عثمان كان له على طلحة خمسون ألفا ، فخرج عثمان يوما إلى المسجد ، فقال له طلحة : قد تهيأ مالك فاقبضه ، فقال : هو لك يا أبا محمد معونة لك على مروءتك (3) قال : فكان عثمان يقول وهو محصور : جزاء سنمار .
وروى الطبري أيضا أن طلحة باع أرضا له من عثمان بسبعمائة ألف ، فحملها إليه ، فقال طلحة : إن رجلا يبيت (4) وهذه عنده وفى بيته ، لا يدرى ما يطرقه من أمر الله لغرير بالله ! فبات ورسله تختلف بها في سكك المدينة يقسمها حتى أصبح ، وما عنده منها درهم واحد (5) .
قال الطبري : روى ذلك الحسن البصري ، وكان إذا روى ذلك يقول : ثم جاء إلينا يطلب الدينار والدرهم - أو قال : - والصفراء والبيضاء .
__________
(1) في الاصول : (أبو طالب) تحريف وصوابه من تاريخ الطبري .
(2) حكيم بمفتوحة وكسر الكاف ، كذا ضبط في التقريب .
(3) تاريخ الطبري 1 : 3037 (طبع إوربا) .
(5) تاريخ الطبري 1 : 3037 ، (*)(10/5)
وروى الطبري أيضا ، قال : قال ابن عباس رحمه الله : لما حججت بالناس نيابة عن عثمان وهو محصور ، مررت بعائشة بالصلصل (1) ، فقالت : يابن عباس أنشدك الله ! فإنك قد أعطيت لسانا وعقلا ، أن تخذل الناس عن طلحة ، فقد بانت لهم بصائرهم في عثمان وأنهجت (2) ، ورفعت لهم المنار ، وتحلبوا من البلدان لامر قد حم ، وإن طلحة - فيما بلغني - قد اتخذ رجالا على بيوت الاموال ، وأخذ مفاتيح الخزائن وأظنه يسير إن شاء الله بسيرة ابن عمه أبى بكر ، فقال : يا أمة ، لو حدث بالرجل حدث ما فزع الناس إلا إلى صاحبنا ، فقالت : إيها عنك يابن عباس ، إنى لست أريد مكابرتك ولا مجادلتك (3) .
وروى المدائني في كتاب مقتل عثمان إن طلحة منع من دفنه ثلاثة أيام ، وأن عليا (ع) لم يبايع الناس إلا بعد قتل عثمان بخمسة أيام ، وأن حكيم بن حزام أحد بنى أسد بن عبد العزى ، وجبير بن مطعم بن الحارث بن نوفل استنجدا بعلى (ع) على دفنه ، فأقعد طلحة لهم في الطريق ناسا بالحجارة ، فخرج به نفر يسير من أهله وهم يريدون به حائطا بالمدينة يعرف بحش كوكب (4) كانت اليهود تدفن فيه موتاهم ، فلما صار هناك رجم سريره ، وهموا بطرحه ، فأرسل على (ع) إلى الناس يعزم عليهم ليكفوا عنه ، فكفوا ، فانطلقوا به حتى دفنوه في حش كوكب .
__________
(1) صلصل : موضع بنواحي المدينة القديمة على سبعة أميال منها ، نزل صلى الله عليه وسلم يوم خرج من المدينة إلى مكة عام الفتح ، قال عبد الله بن مصعب الزبيري : أشرف على ظهر المدينة هل ترى برقا سرى في عارض متهلل نصح العقيق فبطن طيبة موهنا ثم إستمر يؤم قصد الصلصل (2) أنهج الطريق : وضح .
(3) تاريخ الطبري 1 : 3034 (طبع أوربا) .
(4) حش كوكب : موضع عند بقيع الغرق ، ذكره ياقوت ، وقال : إشتراه عثمان بن عفان ، وزاده في البقيع ، ولما قتل ألقى فيه ، ثم دفن في جنبه .
(*)(10/6)
وروى الطبري نحو ذلك ، إلا أنه لم يذكر طلحة بعينه ، وزاد فيه أن معاوية لما ظهر على الناس ، أمر بذلك الحائط فهدم حتى أفضى به إلى البقيع ، وأمر الناس أن يدفنوا موتاهم حول قبره حتى إتصل (ذلك) (1) بمقابر المسلمين .
وروى المدائني في هذا الكتاب ، قال دفن عثمان بين المغرب والعتمة ، ولم يشهد جنازته إلا مروان بن الحكم وإبنه عثمان وثلاثة من مواليه ، فرفعت أبنته صوتها تندبه ، وقد جعل طلحة ناسا هناك أكمنهم كمينا ، فأخذتهم الحجارة ، وصاحوا : نعثل نعثل (2) فقالوا : الحائط الحائط فدفن في حائط هناك .
وروى الواقدي ، قال : لما قتل عثمان تكلموا في دفنه ، فقال طلحة : يدفن بدير سلع يعنى مقابر اليهود .
وذكر الطبري في تاريخه هذا ، إلا أنه روى عن طلحة فقال : قال رجل : يدفن بدير سلع - فقال حكيم بن حزام : والله لا يكون هذا أبدا وأحد من ولد قصى (حى) (3) ، حتى كاد الشر يلتحم ، فقال ابن عديس البلوى : أيها الشيخ ، وما يضرك أين دفن قال : لا يدفن إلا ببقيع الغرقد (3) حيث دفن سلفه ورهطه ، فخرج به حكيم بن حزام ، في اثنى عشر رجلا ، منهم الزبير بن العوام ، فمنعهم الناس عن البقيع ، فدفنوه بحش كوكب (4) .
__________
(1) من تاريخ الطبري 1 : 3046 (طبع أوربا) .
(2) نعثل : رجل من أهل مصر ، كان طويل اللحية ، وكان شاتموا عثمان (رض) يسمونه بذلك اللسان .
(3) أصل البقيع في اللغة ، الموضع الذى فيه أروم الشجر ، والغرقد كبار الشجر المسمى بالعوسج .
وهو مقبرة أهل المدينة (ياقوت) .
(4) تاريخ الطبري 1 : 3047 .(10/7)
وروى الطبري في التاريخ أن عثمان لما حصر ، كان على (ع) بخيبر في أمواله ، فلما قدم أرسل إليه يدعوه ، فلما دخل عليه قال له : إن لى عليك حقوقا : حق الاسلام ، وحق النسب ، وحق مالى عليك من العهد والميثاق ، ووالله أن لو لم يكن من هذا كله شئ وكنا في جاهلية ، لكان عارا على بنى عبد مناف أن يبتزهم أخو تيم ملكهم - يعنى طلحة - فقال له (ع) سيأتيك الخبر ، ثم قام فدخل المسجد ، فرأى أسامة بن زيد جالسا ، فدعاه فاعتمد على يده ، وخرج يمشى إلى طلحة ، فدخل داره ، وهى دحاس (1) من الناس ، فقام (ع) ، فقال : يا طلحة ، ماهذا الامر الذى وقعت فيه ؟ فقال : يا أبا الحسن ، أبعد ما مس الحزام الطبيين ! فانصرف على عليه السلام ولم يحر إليه شيئا حتى أتى بيت المال ، فنادى : افتحوا هذا الباب ، فلم يقدروا على فتحه ، فقال : اكسروه ، فكسر فقال : أخرجوا هذا المال ، فجعلوا يخرجونه وهو يعطى الناس ، وبلغ الذين في دار طلحة ما صنع على عليه السلام ، فجعلوا يتسللون إليه حتى بقى طلحة وحده ، وبلغ الخبر عثمان ، فسر بذلك ، ثم أقبل طلحة يمشى عامدا إلى دار عثمان ، فاستأذن عليه ، فلما دخل قال : يا أمير المؤمنين ، أستغفر الله وأتوب إليه ، لقد رمت أمرا حال الله بينى وبينه .
فقال عثمان : إنك والله ما جئت تائبا ، ولكن جئت مغلوبا ، الله حسيبك يا طلحة (2) .
ثم قسم عليه السلام مال طلحة ، فقال : لا يخلو إما أن يكون معتقدا حل دم عثمان أو حرمته ، أو يكون شاكا في الامرين ، فإن كان يعتقد حله لم يجز له أن ينقض البيعة لنصرة إنسان حلال الدم ، وإن كان يعتقد حرمته ، فقد كان يجب عليه أن ينهنه عنه الناس ، أي يكفهم .
__________
(1) دحاس من الناس ، أي ممتلئة .
(2) تاريخ الطبري 1 : 3071 ، 3072 (*)(10/8)
وأن يعذر فيه ، بالتشديد أي يقصر ولم يفعل ذلك ، وإن كان شاك ، فقد كان يجب عليه أن يعتزل الامر ، ويركد جانبا ، ولم يعتزل وإنما صلى بنار الفتنة ، وأصلاها غيره .
فإن قلت : يمكن أن يكون طلحة اعتقد إباحة دم عثمان أولا ثم تبدل ذلك الاعتقاد بعد قتله ، فاعتقد أن قتله حرام وأنه يجب أن يقتص من قاتليه .
قلت : لو اعترف بذلك لم يقسم على عليه السلام هذا التقسيم ، وإنما قسمه لبقائه على اعتقاد واحد ، وهذا التقسيم مع فرض بقائه على اعتقاد واحد صحيح لا مطعن فيه ، وكذا كان حال طلحة ، فإنه لم ينقل عنه أنه قال : ندمت على ما فعلت بعثمان .
فان قلت : كيف قال أمير المؤمنين عليه السلام : (فما فعل واحدة من الثلاث) ، وقد فعل واحدة منها ، لانه وازر قاتليه حيث كان محصورا .
قلت : مراده عليه السلام أنه إن كان عثمان ظالما ، وجب أن يوازر قاتليه بعد قتله ، يحامى عنهم ، ويمنعهم ممن يروم دماءهم ، ومعلوم أنه لم يفعل ذلك ، وإنما وازرهم وعثمان حى ، وذلك غير داخل في التقسيم .(10/9)
(176) الاصل : من خطبة له عليه السلام : أيها الناس غير المغفول عنهم ، والتاركون ، والمأخوذ (1) منهم .
مالى أراكم عن الله ذاهبين ، وإلى غيره راغبين كأنكم نعم أراح بها سائم إلى مرعى وبى ، ومشرب دوى ، وإنما هي كالمعلوفة للمدى ، لا تعرف ماذا يراد بها إذا أحسن إليها تحسب يومها دهرها ، وشبعها أمرها .
والله لو شئت أن أخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت ، ولكن أخاف أن تكفروا في برسول الله صلى الله عليه وسلم .
ألا وإنى مفضيه إلى الخاصة ممن يؤمن ذلك منه .
والذى بعثه بالحق ، واصطفاه على الخلق ، ما أنطق إلا صادقا ، ولقد عهد إلي بذلك كله وبمهلك من يهلك ، ومنجى من ينجو ، ومال هذا الامر ، وما أبقى شيئا يمر على رأسي إلا أفرغه في أذنى ، وأفضى به إلى .
أيها الناس ، إنى والله ما أحثكم على طاعة إلا وأسبقكم إليه ، أو لا أنهاكم عن معصية إلا وأتناهى قبلكم عنها .
الشرح : خاطب المكلفين كافة ، وقال : إنهم غافلون عما يراد بهم ومنهم ، وليسوا بمغفول عنهم ، بل أعمالهم محفوظة مكتوبة .
__________
(1) ب : (المأخوذ) ، من غير واو .
(*)(10/10)
: ثم قال : والتاركون : أي يتركون الواجبات .
ثم قابل ذلك بقوله : (والمأخوذ منهم لان الاخذ في مقابلة الترك ، ومعنى الاخذ منهم انتقاص أعمارهم ، وانتقاض قواهم ، واستلاب أحبابهم وأموالهم .
ثم شبههم بالنعم التى تتبع نعما أخرى .
سائمة أي راعية ، وإنما قال ذلك لانها إذا اتبعت أمثالها كان أبلغ في ضرب المثل بجهلها من الابل التى يسيمها راعيها .
والمرعى الوبى : ذو الوباء والمرض .
والمشرب الدوى ذو الداء ، وأصل (الوبى) اللين الوبئ المهموز ، ولكنه لينه ، يقال : أرض وبيئة على (فعيلة) ، ووبئة على (فعلة) ، ويجوز أوبأت فهى موبئة .
والاصل في الدوى (دو) بالتخفيف ، ولكنه شدده للازدواج .
ثم ذكر أن هذه النعم الجاهلة التى أوقعت أنفسها في هذا المرتع والمشرب المذمومين كالغنم وغيرها من النعم المعلوفة .
للمدى : جمع مدية ، وهى السكين ، لا تعرف ماذا يراد بها ، وتظن أن ذلك العلف إحسان إليها على الحقيقة .
ومعنى قوله : (تحسب يومها دهرها) ، أي تظن أن ذلك العلف والاطعام كما هو حاصل لها ذلك اليوم ، يكون حاصلا لها أبدا .
و (شبعها أمرها) ، مثل ذلك ، أي تظن أنه ليس أمرها وشأنها إلا أن يطعمها أربابها لتشبع وتحسن وتسمن ، ليس يريدون بها غير ذلك .
ثم خرج عليه السلام من هذا الفن إلى فن آخر ، فأقسم أنه لو شاء أن يخبر كل واحد منهم من أين خرج ، وكيفية خروجه من منزله ، وأين يلج ، وكيفية ولوجه ، وجميع شأنه من مطعمه ومشربه ، وما عزم عليه من أفعاله ، وما أكله ، وما ادخره في بيته ، وغير ذلك من شئونه وأحواله ، لفعل .(10/11)
وهذا كقول المسيح عليه السلام : (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) (1) .
قال : إلا أنى أخاف أن تكفروا في برسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي أخاف عليكم الغلو في أمرى ، وأن تفضلوني على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل أخاف عليكم أن تدعوا في الالهية ، كما ادعت النصارى ذلك في المسيح لما أخبرهم بالامور الغائبة .
ثم قال : (ألا وإنى مفضيه إلى الخاصة) أي مفض به ومودع إياه خواص أصحابي وثقاتي الذين آمن منهم الغلو ، وأعلم أنهم لا يكفرون في بالرسول صلى الله عليه وسلم لعلمهم أن ذلك من إعلام نبوته ، إذ يكون تابع من أتباعه ، وصاحب من أصحابه بلغ إلى هذه المنزلة الجليلة .
ثم أقسم قسما ثانيا أنه ما ينطق إلا صادقا ، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله عهد بذلك كله إليه ، وأخبره بمهلك من يهلك من الصحابة وغيرهم من الناس ، وبنجاة (2) من ينجو ، وبمال هذا الامر - يعنى ما يفضى إليه أمر الاسلام وأمر الدولة والخلافة - وأنه ما ترك شيئا يمر على رأسه عليه السلام إلا وأخبره به وأسره إليه .
(فصل في ذكر بعض أقوال الغلاة في على) واعلم أنه غير مستحيل أن تكون بعض الانفس مختصة بخاصية تدرك بها المغيبات ، وقد تقدم من الكلام في ذلك ما فيه كفاية ، ولكن لا يمكن أن تكون نفس تدرك كل المغيبات لان القوة المتناهية لا تحيط بأمور غير متناهية ، وكل قوة في نفس حادثة فهى متناهية ، فوجب أن يحمل كلام أمير المؤمنين عليه السلام ، لا على أن يريد به عموم العالمية
__________
(1) سورة آل عمران / 49 (2) ا : (بمنجاة) .
(*)(10/12)
بل يعلم أمورا محدودة من المغيبات ، مما اقتضت حكمة البارئ سبحانه أن يؤهله لعلمه ، وكذلك القول في رسول الله صلى الله عليه وآله إنه إنما كان يعلم أمورا معدودة لا أمورا غير متناهية ، ومع أنه عليه السلام قد كتم ما علمه حذرا من أن يكفروا فيه برسول الله صلى الله عليه وآله ، فقد كفر كثير منهم ، وادعوا فيه النبوة ، وادعوا فيه أنه شريك الرسول في الرسالة ، وادعوا فيه أنه هو كان الرسول ، ولكن الملك غلط فيه ، وادعوا أنه هو الذى بعث محمدا صلى الله عليه وآله إلى الناس ، وادعوا فيه الحلول ، وادعوا فيه الاتحاد ، ولم يتركوا نوعا من أنواع الضلالة فيه إلا وقالوه واعتقدوه ، وقال شاعرهم فيه من أبيات : ومن أهلك عادا وثمودا بدواهيه ومن كلم موسى فوق طور إذ يناديه ومن قال على المنبر يوما وهو راقيه سلونى أيها الناس فحاروا في معانيه .
وقال بعض شعرائهم : إنما خالق الخلائق من زعزع أركان حصن خيبر جذبا قد رضينا به إماما ومولى وسجدنا له إلها وربا (جملة من أخبار علي بالامور الغيبية) وقد ذكرنا فيما تقدم من أخباره عليه السلام عن الغيوب طرفا صالحا ، ومن عجيب ما وقفت عليه من ذلك قوله في الخطبة التى يذكر فيها الملاحم وهو يشير إلى القرامطة (1) :
__________
(1) يرجع مذهب القرامطة إلى كبيرهم الحسن بن بهرام الجنابي أبو سعيد ، كان دقاقا من أهل جناية بفارس ، ونفى فيها ، فأقام في البحرين تاجرا ، وجعل يدعو العرب إلى نحلته ، فعظم أمره ، فحاربه الخليفة مظفر الحسن وصافاه المقتدر العباسي ، وكان أصحابه يسمونه السيد .
استولى على هجر والاحساء والقطيف وسائر بلاد البحرين ، وكان شجاعا ، قتله خادم له صقلي في الحمام بهجر مات سنة / 301 وانطر تاريخ إبن الاثير .
(*)(10/13)
(ينتحلون لنا الحب والهوى ، ويضمرون لنا البغض والقلى ، وآية ذلك قتلهم وراثنا ، وهجرهم أحداثنا) .
وصح ما أخبر به ، لان القرامطة قتلت من آل أبى طالب عليه السلام خلقا كثير ، وأسماؤهم مذكورة في كتاب (مقاتل الطالبيين) لابي الفرج الاصفهانى .
ومر أبو طاهر سليمان بن الحسن الجنابي في جيشه بالغرى (1) وبالحاير (2) ، فلم يعرج على واحد منهما ولا دخل ولا وقف .
وفى هذه الخطبة قال وهو يشير إلى السارية التى كان يستند إليها في مسجد الكوفة : كأنى بالحجر الاسود منصوبا هاهنا .
ويحهم إن فضيلته ليست في نفسه ، بل في موضعه وأسه ، يمكث هاهنا برهة ، ثم هاهنا برهة - وأشار إلى البحرين - ثم يعود إلى مأواه ، وأم مثواه .
ووقع الامر في الحجر الاسود بموجب ما أخبر به عليه السلام .
وقد وقفت له على خطب مختلفة فيها ذكر الملاحم ، فوجدتها تشتمل على ما يجوز أن ينسب إليه وما لا يجوز أن ينسب إليه ، ووجدت في كثير منها اختلالا ظاهرا ، وهذه المواضع التى أنقلها ليست من تلك الخطب المضطربة ، بل من كلام له وجدته متفرقا في كتب مختلفة ، ومن ذلك أن تميم بن أسامة بن زهير بن دريد التميمي اعترضه ، وهو يخطب على المنبر ويقول : (سلونى قبل أن تفقدوني ، فو الله لا تسألونى عن فئة تضل مائة ، أو تهدى مائة إلا نبأتكم بناعقها وسائقها ، ولو شئت لاخبرت كل واحد منكم بمخرجه ومدخله وجميع شأنه) .
فقال : فكم في رأسي طاقة شعر ؟ فقال له : أما والله إنى لاعلم ذلك ، ولكن أين برهانه لو أخبرتك به ولقد أخبرتك بقيامك ومقالك .
وقيل لى إن على كل
__________
(1) الغرى ، واحد الغريين ، وهما بناءان كالصومعتين ، كانا بظهر الكوفة ، قرب قبر على عليه السلام (مراصد الاطلاع) .
(2) الحاير ، بعد الالف ياء مكسورة : موضع قبر الحسين عليه السلام .
ذكره ياقوت .
(*)(10/14)
شعرة من شعر رأسك ملكا يلعنك وشيطانا يستفزك ، وآية ذلك أن في بيتك سخلا يقتل ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويحض على قتله (1) .
فكان الامر بموجب ما أخبر به عليه السلام ، كان ابنه حصين - بالصاد المهملة - يومئذ طفلا صغيرا يرضع اللبن ، ثم عاش إلى أن صار على شرطة عبيد الله بن زياد ، وأخرجه عبيد الله إلى عمر بن سعد يأمره بمناجزة الحسين عليه السلام ويتوعده على لسانه إن أرجأ ذلك ، فقتل عليه السلام صبيحة اليوم الذى ورد فيه الحصين بالرسالة في ليلته .
ومن ذلك قوله عليه السلام للبراء بن عازب يوما : يابراء ، أيقتل الحسين وأنت حى فلا تنصره ! فقال البراء : لا كان ذلك يا أمير المؤمنين .
فلما قتل الحسين عليه السلام كان البراء يذكر ذلك ، ويقول : أعظم بها حسره إذ لم أشهده وأقتل دونه .
وسنذكر من هذا النمط - فيما بعد إذا مررنا بما يقتضى ذكره - ما يحضرنا إن شاء الله .
__________
(1) ب : (قتاله) .(10/15)
(177) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : انتفعوا ببيان الله ، واتعظوا بمواعظ الله ، واقبلوا نصيحة الله ، فإن الله قد أعذر إليكم بالجلية ، وأخذ (1) عليكم الحجة ، وبين لكم محابه من الاعمال ومكارهه منها ، لتتبعوا هذه وتجتنبوا هذه ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : إن الجنة حفت بالمكاره ، وإن النار حفت بالشهوات .
واعلموا أنه ما من طاعة الله شئ إلا يأتي في كره ، وما من معصية الله شئ إلا يأتي في شهوة ، فرحم الله امرأ نزع عن شهوته ، وقمع هوى نفسه ، فإن هذه النفس أبعد شئ منزعا ، وإنها لا تزال تنزع إلى معصية في هوى .
واعلموا عباد الله ، أن المؤمن لا يمسى ولا يصبح إلا ونفسه ظنون عنده ، فلا يزال زاريا عليها ، ومستزيدا لها .
فكونوا كالسابقين قبلكم ، والماضين أمامكم ، قوضوا من الدنيا تقويض الراحل ، وطووها طي المنازل .
الشرح : أعذر إليكم : أوضح عذره في عقابكم إذا خالفتم أوامره .
والجلية : اليقين ، وإنما أعذر إليهم بذلك ، لانه مكنهم من العلم اليقيني بتوحيده وعدله ، وأوجب عليهم ذلك في
__________
(1) مخطوطة النهج : (واتخذ) .(10/16)
عقولهم ، فإذا تركوه ساغ له في الحكمة تعذيبهم وعقوبتهم ، فكأنه قد أبان لهم عذره أن لو قالوا : لم تعاقبنا ؟ .
ومحابه من الاعمال ، هي الطاعات التى يحبها ، وحبه لها إرادة وقوعها من المكلفين .
ومكارهه من الاعمال : القبائح التى يكرهها منهم ، وهذا الكلام حجة لاصحابنا على المجبرة .
والخبر الذى رواه عليه السلام مروى في كتب المحدثين ، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (حجبت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات) ، ومن المحدثين من يرويه : (حفت) فيهما ، وليس منهم من يرويه : (حجبت) في النار ، وذلك لان لفظ (الحجاب) إنما يستعمل فيما يرام دخوله وولوجه لمكان النفع فيه ، ويقال : حجب زيد مأدبة الامير ، ولا يقال : حجب زيد عن الحبس .
ثم ذكر عليه السلام أنه لا طاعة إلا في أمر تكرهه النفس ، ولا معصية إلا بمواقعة أمر تحبه النفس ، وهذا حق ، لان الانسان ما لم يكن متردد الدواعى لا يصح التكليف ، وإنما تتردد الدواعى إذا أمر بما فيه مشقة ، أو نهى عما فيه لذة ومنفعة .
فإن قلت : أليس قد أمر الانسان بالنكاح .
وهو لذة ؟ قلت : ما فيه من ضرر الانفاق ومعالجة أخلاق النساء يربى على اللذة الحاصلة فيه (1) مرارا .
ثم قال عليه السلام : (رحم الله امرأ نزع عن شهوته) أي أقلع .
وقمع هوى نفسه ، أي قهره .
ثم قال : فإن هذه النفس أبعد شئ منزعا ، أي مذهبا ، قال أبو ذؤيب : والنفس راغبة إذا رغبتها وإذا ترد إلى قليل تقنع (2) .
__________
(1) د : (منه) .
(2) ديوان الهذليين 1 : 3 (*) .(10/17)
ومن الكلام المروى عنه عليه السلام - ويروى أيضا عن غيره : (أيها الناس ، إن هذه النفوس طلعة (1) فإلا تقدعوها (2) تنزع بكم إلى شر غاية (3)) .
وقال الشاعر : وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى فإن أطمعت تاقت وإلا تسلت .
ثم قال عليه السلام : (نفس المؤمن ظنون عنده) ، الظنون : البئر (4) التى لا يدرى أفيها ماء أم لا ، فالمؤمن لا يصبح ولا يمسى إلا وهو على حذر من نفسه ، معتقدا فيها التقصير والتضجيع (5) في الطاعة ، غير قاطع على صلاحها وسلامة عاقبتها .
وزاريا عليها : عائبا ، زريت عليه : عبت .
ثم أمرهم بالتأسي بمن كان قبلهم ، وهم الذين قوضوا من الدنيا خيامهم ، أي نقضوها ، وطووا أيام العمر كما يطوى المسافر منازل طريقه ، الاصل : واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذى لا يغش ، والهادي الذى لا يضل ، والمحدث الذى لا يكذب : وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان ، زيادة في هدى ، أو نقصان من عمى .
واعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة ، ولا لاحد قبل القرآن من
__________
(1) الطلعة : الكثيرة التطلع .
(2) القدع : المنع والكف .
(3) الخبر في الفائق 1 : 246 منسوب إلى الحسن البصري بهذه الرواية : (حادثوا هذه القلوب بذكر الله ، فإنها سريعة الدثور ، واقدعوا هذه الانفس فإنها طلعة) .
وانظر نهاية ابن الاثير 3 : 42 ، 234 (4) في اللسان عن المحكم : (بئر ظنون : قليلة الماء لا يوثق بمائها) .
(5) التضجيع في الامر : التقصير فيه (*) .(10/18)
غنى ، فاستشفوه أدوائكم ، واستعينوا به على لاوائكم ، فإن فيه شفاء من أكبر الداء ، وهو الكفر والنفاق ، والغى والضلال ، فاسألوا الله به ، وتوجهوا إليه بحبه ، ولا تسألوا به خلقه ، إنه ما توجه العباد إلى الله تعالى بمثله .
واعلموا أنه شافع مشفع ، وقائل مصدق ، وأنه من شفع له القرآن يوم القيامة شفع فيه ، ومن محل به القرآن يوم القيامة صدق عليه ، فإنه ينادى مناد يوم القيامة : ألا إن كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله ، غير حرثة القرآن .
فكونوا من حرثته وأتباعه ، واستدلوه على ربكم ، واستنصحوه على أنفسكم ، واتهموا عليه آراءكم ، واستغشوا فيه أهواءكم .
الشرح : غشه يغشه ، بالضم ، غشا ، خلاف نصحه .
واللاواء : الشدة .
وشفع له القرآن شفاعة ، بالفتح ، وهو مما (1) يغلط فيه العامة فيكسرونه ، وكذلك شفعت كذا بكذا ، أتبعته ، مفتوح أيضا .
ومحل به إلى السلطان ، قال عنه ما يضره ، كأنه جعل القرآن يمحل يوم القيامة عند الله بقوم ، أي يقول عنهم شرا ، ويشفع عند الله لقوم ، أي يثنى عليهم خيرا .
والحارث : المكتسب ، والحرث : الكسب ، وحرثة القرآن : المتاجرون به الله .
واستنصحوه على أنفسكم ، أي إذا أشار عليكم بأمر وأشارت عليكم أنفسكم بأمر يخالفه .
__________
(1) ب (والتغلط) .
(*)(10/19)
فاقبلوا مشورة القرآن دون مشورة أنفسكم ، وكذلك معنى قوله : (واتهموا عليه آراءكم ، واستغشوا فيه أهواءكم) .
(فصل في القرآن وذكر الاثار التى وردت بفضله) واعلم أن هذا الفصل من أحسن ما ورد في تعظيم القرآن وإجلاله ، وقد قال الناس في هذا الباب فأكثروا .
ومن الكلام المروى عن أمير المؤمنين عليه السلام في ذكر القرآن أيضا ، ما رواه ابن قتيبة في كتاب عيون الاخبار عنه عليه السلام أيضا ، وهو : (مثل المؤمن الذى يقرأ القرآن كمثل الاترجة ، ريحها طيب ، وطعمها طيب ، ومثل المؤمن الذى لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها ، ومثل الفاجر الذى يقرأ القرآن كمثل الريحانة ، ريحها طيب ، وطعمها مر .
ومثل الفاجر الذى لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة طعمها مر ، وريحها منتنة) .
وقال الحسن رحمه الله : قراء القرآن ثلاثة : رجل اتخذه بضاعة فنقله من مصر إلى مصر ، يطلب به ما عند الناس ، ورجل حفظ حروفه ، وضيع حدوده ، واستدر به الولاة واستطال به على أهل بلاده ، وقد كثر الله هذا الضرب من حملة القرآن - لا كثرهم الله - ورجل قرأ القرآن فبدأ بما يعلم من دواء القرآن ، فوضعه على داء قلبه ، فسهر ليله ، وانهملت عيناه ، وتسربل بالخشوع ، وارتدى بالحزن ، فبذاك وأمثاله يسقى الناس الغيث ، وينزل النصر ، ويدفع البلاء ، والله لهذا الضرب من حملة القرآن أعز وأقل من الكبريت الاحمر .(10/20)
وفى الحديث المرفوع : (أن من تعظيم جلال الله إكرام ذى الشيبة في الاسلام ، وإكرام الامام العادل ، وإكرام حملة القرآن) .
وفى الخبر المرفوع أيضا : (لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو ، فإنى أخاف أن يناله العدو) .
وكانت الصحابة تكره بيع المصاحف وتراه عظيما ، وكانوا يكرهون أن يأخذ المعلم على تعليم القرآن أجرا .
وكان ابن عباس يقول : إذا وقعت في آل حم ، وقعت في روضات دمثات أتأنق فيهن .
وقال ابن مسعود : لكل شئ ديباجة ، وديباجة القرآن آل حم .
قيل لابن عباس : أيجوز أن يحلى المصحف بالذهب والفضة ؟ فقال : حليته في جوفه .
وقال النبي صلى الله عليه وآله : (أصفر البيوت جوف صفر من كتاب الله) .
وقال الشعبى : إياكم وتفسير القرآن ، فإن الذى يفسره إنما يحدث عن الله) .
الحسن رحمه الله : رحم الله امرأ عرض نفسه وعمله على كتاب الله ، فإن وافق ، حمد الله وسأله الزيادة ، وإن خالف ، أعتب وراجع من قريب .
حفظ عمر بن الخطاب سورة البقرة ، فنحر وأطعم .
وفد غالب بن صعصعة على على عليه السلام ومعه ابنه الفرزدق ، فقال له : من أنت ؟ فقال غالب بن صعصعة المجاشعى ، قال : ذو الابل الكثيرة ؟ قال : نعم ، قال : ما فعلت إبلك ؟ قال : أذهبتها النوائب ، وذعذعتها (1) الحقوق .
قال : ذاك خير سبلها .
ثم قال :
__________
(1) أي فرقتها وبددتها .
(*)(10/21)
يا أبا الاخطل ، من هذا الغلام معك ؟ قال : إبنى وهو شاعر ، قال : علمه القرآن فهو خير له من الشعر ، فكان ذلك في نفس الفرزدق ، حتى قيد نفسه ، وآلى ألا يحل قيده حتى يحفظ القرآن ، فما حله حتى حفظه ، وذلك قوله : وما صب رجلى في حديد مجاشع مع القد إلا حاجة لى أريدها (1) .
قلت : تحت قوله عليه السلام : (يا أبا الاخطل) قبل أن يعلم أن ذلك الغلام ولده وأنه شاعر ، سر غامض ، ويكاد يكون إخبارا عن غيب ، فليلمح .
الفضيل بن عياض : بلغني أن صاحب القرآن إذا وقف على معصية ، خرج القرآن من جوفه ، فاعتزل ناحية وقال : ألهذا حملتني ! قلت : وهذا القول على سبيل المثل والتخويف من مواقعة المعاصي لمن يحفظ القرآن .
أنس ، قال : قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يا بن أم سليم ، لا تغفل عن قراءة القرآن صباحا ومساء ، فإن القرآن يحيى القلب الميت ، وينهى عن الفحشاء والمنكر) .
كان سفيان الثوري إذا دخل شهر رمضان ترك جميع العبادة ، وأقبل على قراءة القرآن من المصحف .
كعب الاحبار : قال الله تعالى لموسى عليه السلام : مثل كتاب محمد في الكتب مثل سقاء فيه لبن ، كلما مخضته استخرجت منه زبدا .
أسلم الخواص : كنت أقرأ القرآن ، فلا أجد له حلاوة ، فقلت لنفسي : يا أسلم ، اقرأ القرآن كأنك تسمعه من رسول الله صلى الله عليه ، فجاءت حلاوة قليلة ، فقلت : اقرأه كأنك تسمعه من جبرئيل عليه السلام ، فازدادت الحلاوة ، فقلت : اقرأه كأنك تسمعه من الله عزوجل حين تكلم به ، فجاءت الحلاوة كلها .
__________
(1) ديوانه 1 : 215 ، وهو أيضا في اللسان 5 : 2 ، ويقال : صب رجلا فلان في القيد ، أي قيد .
(*)(10/22)
بعض أرباب القلوب : إن الناس يجمزون (1) في قراءة القرآن ما خلا المحبين ، فإن لهم خان إشارات إذا مروا به نزلوا .
يريد آيات من القرآن يقفون عندها فيفكرون فيها .
في الحديث المرفوع : (ما من شفيع من ملك ولا نبى ولا غيرهما ، أفضل من القرآن) .
وفى الحديث المرفوع أيضا : (من قرأ القرآن ثم رأى أن أحدا أوتى أفضل مما أوتى فقد استصغر عظمة الله) .
وجاء في بعض الاثار : إن الله تعالى خلق بعض القرآن قبل أن يخلق آدم ، وقرأه على الملائكة ، فقالوا : طوبى لامة ينزل عليها هذا ! وطوبى لاجواف تحمل هذا ! وطوبى لالسنة تنطق بهذا ! .
وقال النبي صلى الله عليه وآله : (إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد) ، قيل : يا رسول الله ، وما جلاؤها ؟ قال : (قراءة القرآن وذكر الموت) .
وعنه عليه السلام : (ما أذن الله لشئ إذنه لنبى حسن الترنم بالقرآن) وعنه عليه السلام : (إن ربكم لاشد أذنا إلى قارئ القرآن من صاحب القينة إلى قينته) .
وعنه عليه السلام : (أنت تقرأ القرآن ما نهاك ، فإذا لم ينهك فلست تقرؤه) .
ابن مسعود رحمه الله : ينبغى لحامل القرآن أن يعرف بليله إذ الناس نائمون ، وبنهاره إذ الناس مفطرون ، وبحزنه إذ الناس يفرحون ، وببكائه إذ الناس يضحكون وبخشوعه إذ الناس يختالون .
وينبغى لحامل القرآن أن يكون سكيتا زميتا لينا (2) ولا ينبغى أن يكون جافيا ولا مماريا ، ولا صياحا ولا حديدا (3) ولا صخابا .
__________
(1) يجمزون : يسرعون .
(2) السكيت : الكثير السكوت ، والزميت : الحليم الساكن القليل الكلام .
(3) الحديد : السريع الغضب .
(*)(10/23)
بعض السلف ، إن العبد ليفتتح سورة فتصلى عليه حتى يفرغ منها .
وإن العبد ليفتتح سورة فتلعنه حتى يفرغ منها ، قيل : كيف ذاك ؟ قال : إذا أحل حلالها ، وحرم حرامها ، صلت عليه وإلا لعنته .
ابن مسعود ، أنزل الله عليهم القرآن ليعملوا به ، فاتخذوا دراسته عملا ، إن أحدهم ليقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته ما يسقط منه حرفا ، وقد أسقط العمل به .
ابن عباس : لان أقرأ البقرة وآل عمران أرتلهما وأتدبرهما أحب إلي من أن أقرأ القرآن كله هذرمة (1) .
ثابت البنانى : كابدت في القرآن عشرين سنة ، وتنعمت به عشرين سنة .
الاصل : العمل العمل ، ثم النهاية النهاية ، والاستقامة الاستقامة ، ثم الصبر الصبر والورع الورع ! إن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم ، وإن لكم علما فاهتدوا بعلمكم ، وإن للاسلام غاية فانتهوا إلى غايته ، واخرجوا إلى الله مما افترض عليكم من حقه ، وبين لكم من وظائفه .
أنا شاهد لكم ، وحجيج يوم القيامة عنكم ، ألا وإن القدر السابق قد وقع ، والقضاء الماضي قد تورد .
وإنى متكلم بعدة الله وحجته ، قال الله جل ذكره : (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة
__________
(1) الهذرمة : السرعة في القراءة .(10/24)
التى كنتم توعدون) ، وقد قلتم : (ربنا الله) ، فاستقيموا على كتابه ، وعلى منهاج أمره وعلى الطريقة الصالحة من عبادته ، ثم لا تمرقوا منها ، ولا تبتدعوا فيها ، ولا تخالفوا عنها ، فإن أهل المروق منقطع بهم عند الله يوم القيامة .
الشرح : النصب على الاغراء ، وحقيقته فعل مقدر ، أي الزموا العمل ، وكرر الاسم لينوب أحد اللفظين عن الفعل المقدر ، والاشبه أن يكون اللفظ الاول هو القائم مقام الفعل ، لانه في رتبته .
أمرهم بلزوم العمل ثم أمرهم بمراعاة العاقبة والخاتمة ، وعبر عنها بالنهاية ، وهى آخر أحوال المكلف التى يفارق الدنيا عليها ، إما مؤمنا أو كافرا ، أو فاسقا ، والفعل المقدر هاهنا : راعوا وأحسنوا وأصلحوا ، ونحو ذلك .
ثم أمرهم بالاستقامة وأن يلزموها ، وهى أداء الفرائض .
ثم أمرهم بالصبر عليها وملازمته ، وبملازمة الورع .
ثم شرع بعد هذا الكلام المجمل في تفصيله فقال : (إن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم) ، وهذا لفظ رسول الله صلى الله عليه وآله : (أيها الناس ، إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم ، وإن لكم غاية فانتهوا إلى غايتكم) والمراد بالنهاية والغاية أن يموت الانسان على توبة من فعل القبيح والاخلال بالواجب .
ثم أمرهم بالاهتداء بالعلم المنصوب لهم ، وإنما يعنى نفسه عليه السلام .
ثم ذكر أن للاسلام غاية ، وأمرهم بالانتهاء إليها ، وهى أداء الواجبات ، واجتناب المقبحات .
ثم أوضح ذلك بقوله : (واخرجوا إلى الله مما افترض عليكم من حقه ، وبين لكم(10/25)
من وظائفه) ، فكشف بهذا الكلام معنى الغاية التى أجملها أولا .
ثم ذكر أنه شاهد لهم ، ومحاج يوم القيامة عنهم ، وهذا إشارة إلى قوله تعالى : (يوم ندعو كل أناس بإمامهم) (1) .
وحجيج (فعيل) بمعنى (فاعل) ، وإنما سمى نفسه حجيجا عنهم ، وإن لم يكن ذلك الموقف موقف مخاصمة (2) ، لانه إذا شهد ، لهم فكأنه أثبت لهم الحجة ، فصار محاجا عنهم .
قوله عليه السلام : (ألا وإن القدر السابق قد وقع) يشير به إلى خلافته .
وهذه الخطبة من أوائل الخطب التى خطب بها أيام بويع بعد قتل عثمان ، وفى هذا إشارة إلى أن رسول الله صلى الله عليه وآله قد أخبره أن الامر سيفضي إليه منتهى عمره ، وعند انقضاء أجله .
ثم أخبرهم أنه سيتكلم بوعد الله تعالى ومحجته على عباده في قوله : (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ...
) (3) الاية ، ومعنى الاية أن الله تعالى وعد الذين أقروا بالربوبية .
ولم يقتصروا على الاقرار ، بل عقبوا ذلك بالاستقامة أن ينزل عليهم الملائكة عند موتهم بالبشرى ، ولفظة (ثم) للتراخي ، والاستقامة مفضلة على الاقرار باللسان ، لان الشأن كله في الاستقامة ، ونحوها قوله تعالى : (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا) (4) ، أي ثم ثبتوا على الاقرار ومقتضياته ، والاستقامة هاهنا هي الاستقامة الفعلية شافعة للاستقامة القولية .
وقد اختلف فيه قول أمير المؤمنين عليه السلام وأبى بكر ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام : أدوا الفرائض ، وقال أبو بكر : استمروا على التوحيد .
__________
(1) سورة الاسراء 71 .
(2) د : (محاجه) .
(3) سورة فصلت 30 .
(4) سورة الحجرات 15 .
(*)(10/26)
وروى أن أبا بكر تلاها ، وقال : ما تقولون فيها ؟ فقالوا : لم يذنبوا ، فقال : حملتم الامر على أشده ، فقالوا : قل ، قال : لم يرجعوا إلى عبادة الاوثان ، ورأى أبى بكر في هذا الموضع - إن ثبت عنه - يؤكد مذهب الارجاء ، وقول أمير المؤمنين عليه السلام يؤكد مذهب أصحابنا .
وروى سفيان بن عبد الله الثقفى ، قال : قلت يا رسول الله ، أخبرني بأمر أعتصم به فقال : قل : لا إله إلا الله ، ثم استقم ، فقلت : ما أخوف ما تخافه علي ؟ فقال : هذا ، وأخذ بلسان نفسه صلى الله عليه وآله .
وتتنزل عليهم الملائكة ، عند الموت ، أوفى القبر ، أو عند النشور .
وألا تخافوا (أن) بمعنى (أي) ، أو تكون خفيفة من الثقيلة ، وأصله (أنه لا تخافوا) والهاء ضمير الشأن .
وقد فسر أمير المؤمنين الاستقامة المشترطة في الايه ، فقال : قد أقررتم بأن الله ربكم فاستقيموا على كتابه ، وعلى منهاج أمره ، وعلى الطريقة الصالحة من عبادته .
لا تمرقوا منها ، مرق السهم ، إذا خرج من الرمية مروقا .
ولا تبتدعوا : لا تحدثوا ما لم يأت به الكتاب والسنة .
ولا تخالفوا عنها ، تقول : خالفت عن الطريق ، أي عدلت عنها .
قال : فإن أهل المروق منقطع بهم ، بفتح الطاء ، انقطع بزيد بضم الهمزة ، فهو منقطع به ، إذا لم يجد بلاغا ووصولا إلى المقصد .(10/27)
الاصل : ثم إياكم وتهزيع الاخلاق تصريفها ، واجعلوا اللسان واحدا ، وليخزن الرجل لسانه ، فإن هذا اللسان جموح بصاحبه ، والله ما أرى عبدا يتقى تقوى تنفعه حتى يخزن لسانه ، وإن لسان المؤمن من وراء قلبه ، وإن قلب المنافق من وراء لسانه ، لان المؤمن إذا أراد أن يتكلم بكلام تدبره في نفسه ، فإن كان خيرا أبداه ، وإن كان شرا واراه ، وإن المنافق يتكلم بما أتى على لسانه لا يدرى ماذا له ، وماذا عليه ، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه : ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه .
فمن استطاع منكم أن يلقى الله سبحانه ، وهو نقى الراحة من دماء المسلمين وأموالهم ، سليم اللسان من أعراضهم ، فليفعل .
الشرح : تهزيع الاخلاق : تغييرها ، وأصل الهزع : الكسر ، أسد مهزع : يكسر الاعناق ويرض العظام ، ولما كان المتصرف بخلقه ، الناقل له من حال قد أعدم سمته الاولى كما يعدم الكاسر صورة المكسور ، اشتركا في مسمى شامل لهما ، فاستعمل التهزيع في الخلق للتغيير والتبديل مجازا .
قوله : (واجعلوا اللسان واحدا) ، نهى عن النفاق واستعمال الوجهين .
قال : (وليخزن الرجل لسانه) ، أي ليحبسه ، فإن اللسان يجمح بصاحبه فيلقيه في الهلكة .(10/28)
ثم ذكر أنه لا يرى التقوى نافعة إلا مع حبس اللسان ، قال : فإن لسان المؤمن وراء قلبه ، وقلب الاحمق وراء لسانه ، وشرح ذلك وبينه .
فإن قلت : المسموع المعروف : (لسان العاقل من وراء قلبه ، وقلب الاحمق وراء لسانه) ، كيف نقله إلى المؤمن والمنافق ؟ .
قلت : لانه قل أن يكون المنافق إلا أحمق ، وقل أن يكون العاقل إلا مؤمنا فلاكثرية ذلك ، استعمل لفظ (المؤمن) ، وأراد العاقل ، ولفظ (المنافق) وأراد الاحمق .
ثم روى الخبر المذكور عن النبي صلى الله عليه وآله وهو مشهور .
ثم أمرهم بالاجتهاد في أن يلقوا الله تعالى وكل منهم نقى الراحة من دماء المسلمين وأموالهم ، سليم اللسان من أعراضهم ، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله : (إنما المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) ، فسلامتهم من لسانه سلامة أعراضهم ، وسلامتهم من يده سلامة دمائهم وأموالهم ، وانتصاب (تهزيع) على التحذير ، وحقيقته تقدير فعل ، وصورته : جنبوا أنفسكم تهزيع الاخلاق ، ف (إياكم) قائم مقام أنفسكم ، والواو عوض عن الفعل المقدر ، وأكثر ما يجئ بالواو ، وقد جاء بغير واو في قول الشاعر : إياك إياك المراء فإنه إلى الشر دعاء وللشر جالب وكان يقال : ينبغى للعاقل أن يتمسك بست خصال ، فإنها من المروءة : أن يحفظ دينه ويصون عرضه ، ويصل رحمه ، ويحمى جاره ، ويرعى حقوق إخوانه ، ويخزن عن البذاء (1) لسانه .
وفى الخبر المرفوع : (من كفى شر قبقبه وذبذبه ، ولقلقه ، دخل الجنة) .
__________
(1) البذاء : السفه والفحش في المنطق .
(*)(10/29)
فالقبقب البطن : والذبذب : الفرج ، واللقلق : اللسان .
وقال بعض الحكماء : من علم أن لسانه جارحة من جوارحه أقل من إعتمالها ، واستقبح تحريكها ، كما يستقبح تحريك رأسه أو منكبه دائما .
الاصل : واعلموا عباد الله أن المؤمن يستحل العام ما استحل عاما أول ، ويحرم العام ما حرم عاما أول ، وأن ما أحدث الناس لا يحل لكم شيئا مما حرم عليكم ، ولكن الحلال ما أحل الله ، والحرام ما حرم الله ، فقد جربتم الامور وضرستموها ، ووعظتم بمن كان قبلكم ، وضربت الامثال لكم ، ودعيتم إلى الامر الواضح فلا يصم عن ذلك إلا أصم ، ولا يعمى عنه إلا أعمى .
ومن لم ينفعه الله بالبلاء والتجارب ، لم ينتفع بشئ من العظة ، وأتاه التقصير من أمامه ، حتى يعرف ما أنكر ، وينكر ما عرف ، فإن الناس رجلان : متبع شرعة ، ومبتدع بدعة ، ليس معه من الله سبحانه برهان سنة ، ولا ضياء حجة .
الشرح : يقول : إن الاحكام الشرعية لا يجوز بعد ثبوت الادلة عليها من طريق النص أن تنقض باجتهاد وقياس ، بل كل ما ورد به النص تتبع مورد النص فيه ، فما استحللته عاما أول ، فهو في هذا العام حلال لك ، وكذلك القول في التحريم ، وهذا هو مذهب أكثر أصحابنا ، أن النص مقدم على القياس ، وقد ذكرناه في كتبنا في أصول الفقة .
وأول هاهنا ، لا ينصرف ، لانه صفة على وزن (أفعل) .(10/30)
وقال : (إن ما أحدث الناس لا يحل لكم شيئا مما حرم عليكم) ، أي ما أحدثوه من القياس والاجتهاد ، وليس هذا بقادح في القياس ، ولكنه مانع من تقديمه على النص ، وهكذا يقول أصحابنا .
قوله : (وضرستموها) بالتشديد أي أحكمتموها تجربة وممارسة ، يقال : قد ضرسته الحرب ، ورجل مضرس .
قوله : (فلا يصم عن ذلك إلا أصم) ، أي لا يصم عنه إلا من هو حقيق أن يقال عنه : إنه أصم كما تقول : ما يجهل هذا الامر إلا جاهل ، أي بالغ في الجهل .
ثم قال : (من لم ينفعه الله بالبلاء) أي بالامتحان والتجربة ، لم تنفعه المواعظ ، وجاءه النقص من بين يديه حتى يتخيل فيما أنكره أنه قد عرفه ، وينكر ما قد كان عارفا به ، وسمى اعتقاد العرفان وتخيلة (عرفانا) على المجاز .
ثم قسم الناس إلى رجلين : إما متبع طريقة ومنهاجا ، أو مبتدع ما لا يعرف ، وليس بيده حجة ، فالاول المحق والثانى المبطل .
والشرعة : المنهاج .
والبرهان : الحجة .
الاصل : فإن الله سبحانه لم يعظ أحدا بمثل هذا القرآن ، فإنه حبل الله المتين وسببه الامين ، وفيه ربيع القلب ، وينابيع العلم ، وما للقلب جلاء غيره ، مع أنه قد ذهب المتذكرون ، وبقى الناسون أو المتناسون ، فإذا رأيتم خيرا فأعينوا عليه ، وإذا رأيتم شرا فاذهبوا عنه ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : يا بن آدم ، اعمل الخير ، ودع الشر ، فإذا أنت جواد قاصد .(10/31)
الشرح : إنما جعله حبل الله ، لان الحبل ينجو من تعلق به من هوة ، والقرآن ينجو من الضلال من يتعلق به .
وجعله متينا ، أي قويا ، لانه لا انقطاع له أبدا ، وهذه غاية المتانة والقوة .
ومتن الشئ ، بالضم ، أي صلب وقوى .
وسببه الامين ، مثل حبله المتين ، وإنما خالف بين اللفظين على قاعدة الخطابة .
وفيه ربيع القلب ، لان القلب يحيا به كما تحيا الانعام برعى الربيع .
وينابيع العلم ، لان العلم منه يتفرع كما يخرج الماء من الينبوع ويتفرع إلى الجداول .
والجلاء ، بالكسر : مصدر جلوت السيف ، يقول : لا جلاء لصدأ القلوب من الشبهات والغفلات إلا القرآن .
ثم قال : إن المتذكرين قد ذهبوا وماتوا ، وبقى الناسون الذين لا علوم لهم ، أو المتناسون الذين عندهم العلوم ، ويتكلفون إظهار الجهل لاغراض دنيوية تعرض لهم .
وروى : (والمتناسون) بالواو .
ثم قال : أعينوا على الخير إذا رأيتموه ، بتحسينه عند فاعله ، وبدفع الامور المانعة عنه ، وبتسهيل أسبابه وتسنية سبله ، وإذا رأيتم الشر فاذهبوا عنه ، ولا تقاربوه ولا تقيموا أنفسكم في مقام الراضي به ، الموافق على فعله ثم روى لهم الخبر .
والجواد القاصد : السهل السير ، لا سريع يتعب بسرعته ، ولا بطئ يفوت الغرض ببطئه .(10/32)
الاصل : ألا وإن الظلم ثلاثة : فظلم لا يغفر ، وظلم لا يترك ، وظلم مغفور لا يطلب .
فأما الظلم الذى لا يغفر ، فالشرك بالله ، قال الله سبحانه : (إن الله لا يغفر أن يشرك به) .
وأما الظلم الذى يغفر ، فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات .
وأما الظلم الذى لا يترك ، فظلم العباد بعضهم بعضا .
القصاص هناك شديد ، ليس هو جرحا بالمدى ، ولا ضربا بالسياط ، ولكنه ما يستصغر ذلك معه .
فإياكم والتلون في دين الله ، فإن جماعة فيما تكرهون من الحق ، خير من فرقة فيما تحبون من الباطل ، وإن الله سبحانه لم يعط أحدا بفرقة خيرا ممن مضى ، ولا ممن بقى .
يا أيها الناس ، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس ! وطوبى لمن لزم بيته ، وأكل قوته ، واشتغل بطاعة ربه ، وبكى على خطيئته ، فكان من نفسه في شغل ، والناس منه في راحة ! الشرح : قسم عليه السلام الظلم ثلاثة أقسام : أحدها : ظلم لا يغفر ، وهو الشرك بالله ، أي أن يموت الانسان مصرا على الشرك ، ويجب عند أصحابنا أن يكون أراد الكبائر ، وإن لم يذكرها ، لان حكمها حكم الشرك عندهم .(10/33)
وثانيها : الهنات المغفورة ، وهى صغائر الذنوب ، هكذا يفسر أصحابنا كلامه عليه السلام .
وثالثها : ما يتعلق بحقوق البشر بعضهم على بعض ، فإن ذلك لا يتركه الله هملا ، بل لا بد من عقاب فاعله ، وإنما أفرد هذا القسم مع دخوله في القسم الاول لتميزه بكونه متعلقا بحقوق بنى آدم بعضهم على بعض ، وليس الاول كذلك .
فإن قلت : لفظه عليه السلام مطابق للاية ، وهى قوله تعالى : (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) (1) والاية ولفظه عليه السلام صريحان في مذهب المرجئة ، لانكم إذا فسرتم قوله : (لمن يشاء) بإن المراد به أرباب التوبة قيل لكم : فالمشركون هكذا حالهم يقبل توبتهم ، ويسقط عقاب شركهم بها ، فلاى معنى خصص المشيئة بالقسم الثاني وهو ما دون الشرك ! وهل هذا إلا تصريح بأن الشرك لا يغفر لمن مات عليه ، وما دونه من المعاصي إذا مات الانسان عليه لا يقطع له بالعقاب ، ولا لغيره بل أمره إلى الله .
قلت : الاصوب في هذا الموضع ألا يجعل قوله : (لمن يشاء) معنيا به التائبون ، بل نقول : المراد أن الله لا يستر في موقف القيامة من مات مشركا ، بل يفضحه على رؤوس الاشهاد كما قال تعالى : (ويقول الاشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم) (2) .
وأما من مات على كبيرة من أهل الاسلام ، فإن الله تعالى يستره في الموقف ، ولا يفضحه بين الخلائق ، وإن كان من أهل النار ، ويكون معنى المغفرة في هذه الاية الستر وتغطية حال العاصى في موقف الحشر ، وقد يكون من أهل الكبائر ممن يقر بالاسلام
__________
(1) سورة النساء 48 .
(2) سورة هود 18 .
(*)(10/34)
لعظيم كبائره جدا ، فيفضحه الله تعالى في الموقف كما يفضح المشرك ، فهذا معنى قوله : (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) .
فأما الكلام المطول في تأويلات هذه الاية فمذكور في كتبنا الكلامية .
واعلم أنه لا تعلق للمرجئة ولا جدوى عليهم من عموم لفظ الاية ، لانهم قد وافقونا على أن الفلسفي غير مغفور له وليس بمشرك ، فإذا أراد بقوله تعالى : (إن الله لا يغفر أن يشرك به) ومن جرى مجرى المشركين ، قيل لهم : ونحن نقول : إن الزانى والقاتل يجريان مجرى المشركين كما أجريتم الفلاسفة مجرى المشركين ، فلا تنكروا علينا ما لم تنكروه على أنفسكم .
ثم ذكر عليه السلام أن القصاص في الاخرة شديد ، ليس كما يعهده الناس من عقاب الدنيا الذى هو ضرب السوط ، وغايته أن يذوق الانسان طعم الحديد ، وهو معنى قوله : (جرحا بالمدى) ، جمع مدية وهى السكين ، بل هو شئ آخر عظيم لا يعبر النطق عن كنهه وشدة نكاله وألمه .
(فصل في الاثار الواردة في شديد عذاب جهنم) قال الاوزاعي في مواعظه للمنصور : (روى لى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أن ثوبا من ثياب أهل النار علق بين السماء والارض لاحرق أهل الارض قاطبة ، فكيف بمن يتقمصه ! ولو أن ذنوبا من حميم جهنم صب على ماء الارض كله لاجنه حتى لا يستطيع مخلوق شربه ، فكيف بمن يتجرعه ! ولو أن حلقة من سلاسل النار وضعت على جبل لذاب كما يذوب الرصاص ، فكيف بمن يسلك فيها ، ويرد فضلها على عاتقه ! وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله : (لو كان في هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون ، وأخرج إليهم رجل من النار فتنفس وأصابهم نفسه لاحرق المسجد ومن فيه) .(10/35)
وروى أن رسول الله صلى عليه وآله قال لجبرئيل : ما لى لاأرى ميكائيل ضاحكا ! قال : إن ميكائيل لم يضحك منذ خلقت النار ورآها .
وعنه صلى الله عليه وآله : (لما أسرى بى سمعت هدة (1) ، فسألت جبريل عنها ، فقال : حجر أرسله الله من شفير جهنم ، فهو يهوى منذ سبعين خريفا حتى بلغ الان فيه) .
وروى عن النبي صلى الله عليه آله في قوله : (تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون) (2) .
قال : (تتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخى شفته السفلى حتى تضرب سرته) .
وروى عبيد بن عمير الليثى عنه عليه السلام : (لتزفرن جهنم زفرة لا يبقى ملك ولا نبى إلا خر مرتعدة فرائصه ، حتى إن إبراهيم الخليل ، ليجث على ركبتيه ، فيقول : يا رب إنى لاأسالك إلا نفسي) .
أبو سعيد الخدرى مرفوعا : (لو ضربت جبال الدنيا بمقمع (3) من تلك المقامع الحديد لصارت غبارا .
الحسن البصري : قال : الاغلال لم تجعل في أعناق أهل النار لانهم أعجزوا الرب ، ولكن إذا أصابهم اللهب أرسبتهم في النار - ثم خر الحسن صعقا ، وقال - ودموعه تتحادر : يابن آدم ، نفسك نفسك ! فإنما هي نفس واحدة ، إن نجت نجوت ، وإن هلكت لم ينفعك من نجا .
طاوس : أيها الناس ، إن النار لما خلقت طارت افئدة الملائكة ، فلما خلقتم سكنت .
__________
(1) الهدة صوت وقع الحائط أو الصخر أو نحوهما .
(2) سورة المؤمنين 104 .
(3) المقمع والمقمعة : العمود من الحديد ، أو خشبة يضرب بها الانسان على رأسه ليذل ويهان .
(*)(10/36)
مطرف بن الشخير : إنكم لتذكرون الجنة ، وإن ذكر النار قد حال بينى وبين أن أسال الله الجنة .
منصور بن عمار : يامن البعوضة تقلقه ، والبقة تسهره ، أمثلك يقوى على وهج السعير أو تطيق صفحة خده لفح سمومها ، ورقة أحشائه خشونة ضريعها (1) ، ورطوبة كبده تجرع غساقها (2) ! .
قيل لعطاء السلمى أيسرك أن يقال : لك قع في جهنم فتحرق فتذهب فلا تبعث أبدا لا إليها ولا إلى غيرها ؟ فقال : والله الذى لا إله إلا هو لو سمعت أن يقال لى ، لظننت أنى أموت فرحا قبل أن يقال لى ذلك .
الحسن : والله ما يقدر العباد قدر حرها ، روينا : لو أن رجلا كان بالمشرق ، وجهنم بالمغرب ، ثم كشف عن غطاء واحد منها لغلت جمجمته ، ولو أن دلوا من صديدها صب في الارض ما بقى على وجهها شئ فيه روح إلا مات .
كان الاحنف يصلى صلاة الليل ويضع المصباح قريبا منه ، فيضع أصبعه عليه ، ويقول : يا حنيف ، ما حملك على ما صنعت يوم كذا ! حتى يصبح .
(فصل في العزلة والاجتماع وما قيل فيهما) ثم نهاهم عليه السلام عن التفرق في دين الله ، وهو الاختلاف والفرقة ، ثم أمرهم باجتماع الكلمة ، وقال : إن الجماعة في الحق المكروة إليكم ، خير لكم من الفرقة في الباطل المحبوب عندكم ، فإن الله لم يعط أحدا خيرا بالفرقة ، لا ممن مضى ، ولا ممن بقى ، وقد تقدم
__________
(1) الضريع : نبات يسمى رطبه سبرقا ، ويابسه ضريعا ، لاتقربه دابة لخبثه .
(2) الغساق : ما يقطر من جلود أهل النار وصديدهم من قيح وغيره .
(*)(10/37)
ذكر ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله في الامر بلزوم الجماعة ، والنهى عن الاختلاف والفرقة .
ثم أمر عليه السلام بالعزلة ، ولزوم البيت والاشتغال بالعبادة ، ومجانبة الناس ومتاركتهم واشتغال الانسان بعيب نفسه عن عيوبهم .
وقد ورد في العزلة أخبار آثار كثيرة ، واختلف الناس قديما وحديثا فيها ، ففضلها قوم على المخالطة ، وفضل قوم المخالطة عليها .
فممن فضل العزلة سفيان الثوري ، وإبراهيم بن أدهم ، وداود الطائى ، والفضيل بن عياض ، وسليمان الخواص ، ويوسف بن أسباط ، وبشر الحافى ، وحذيفة المرعشي ، وجمع كثير من الصوفية ، وهو مذهب أكثر العارفين ، وقول المتألهين من الفلاسفة .
وممن فضل المخالطة على العزلة ابن المسيب ، والشعبى ، وابن أبى ليلى ، وهشام ابن عروة ، وابن شبرمة ، والقاضى شريح ، وشريك بن عبد الله ، وابن عيينة ، وابن المبارك .
فأما كلام أمير المؤمنين عليه السلام فيقتضى عند إمعان النظر فيه أن العزلة خير لقوم ، وأن المخالطة خير لقوم آخرين على حسب أحوال الناس واختلافهم .
وقد احتج أرباب المخالطة يقول الله تعالى : (فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا) (1) ، وبقوله : (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا) (2) ، وهذا ضعيف ، لان المراد بالاية تفرق الاراء واختلاف المذاهب في أصول الدين ، والمراد
__________
(1) سورة آل عمران 103 .
(2) سورة آل عمران 105 .
(*)(10/38)
بتأليف القلوب وبالاخوة عدم الاحن والاحقاد بينهم ، بعد استعار نارها في الجاهلية ، وهذا أمر خارج عن حديث العزلة .
واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وآله : (المؤمن إلف (1) مألوف ، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف) ، وهذا أيضا ضعيف ، لان المراد منه ذم سوء الخلق والامر بالرفق والبشر ، فلا يدخل تحته الانسان الحسن الخلق الذى لو خولط لالف وألف ، وإنما يمنعه من المخالطة طلب السلامة من الناس .
واحتجوا بقوله : (من شق عصا المسلمين فقد خلع ربقة الاسلام عن عنقه) ، وهذا ضعيف أيضا لانه مختص بالبغاة والمارقين عن طاعة الامام ، فلا يتناول أهل العزلة الذين هم أهل طاعة للائمة ، إلا أنهم لا يخالطون الناس .
واحتجوا بنهيه صلى الله عليه وآله عن هجر الانسان أخاه فوق ثلاث ، وهذا ضعيف لان المراد منه النهى عن الغضب ، واللجاج ، وقطع الكلام والسلام لثوران الغليظ ، فهذا أمر خارج عن الباب الذى نحن فيه .
واحتجوا بأن رجلا أتى جبلا يعبد فيه ، فجاء أهله إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فنهاه وقال له : إن صبر المسلم في بعض مواطن الجهاد يوما واحدا خير له من عبادة أربعين سنة .
وهذا ضعيف ، لانه إنما كان ذلك في ابتداء الاسلام والحث على جهاد المشركين .
واحتجوا بما روى عنه صلى الله عليه وآله أنه قال : الشيطان ذئب ، والناس كالغنم يأخذ القاصية والشاذة ، إياكم والشعاب وعليكم بالعامة والجماعة والمساجد .
وهذا ضعيف ، لان المراد به : من اعتزل الجماعة وخالفها .
__________
(1) الالف : العشير المؤانس .
(*)(10/39)
واحتج من رجح العزلة وآثرها على المخالطة بالاثار الكثيرة الواردة في ذلك نحو قول عمر : خذوا بحظكم من العزلة .
وقول ابن سيرين : العزلة عبادة .
وقول الفضيل : كفى بالله محبوبا ، وبالقرآن مؤنسا ، وبالموت واعظا ! اتخذ الله صاحبا ، ودع الناس جانبا .
وقال ابن الربيع الزاهد لداود الطائى : عظني ، فقال : صم عن الدنيا ، واجعل فطرك للاخره ، وفر من الناس فرارك من الاسد .
وقال الحسن : كلمات أحفظهن من التوراة : قنع ابن آدم فاستغنى ، واعتزل الناس فسلم ، ترك الشهوات فصار حرا ، ترك الحسد فظهرت مروءته ، صبر قليلا فتمتع طويلا .
وقال وهيب بن الورد : بلغنا أن الحكمة عشرة أجزاء ، تسعة منها الصمت ، والعاشر في العزلة عن الناس .
وقال يوسف بن مسلم لعلى بن بكار : ما أصبرك على الوحدة ! وكان قد لزم البيت - فقال : كنت وأنا شاب أصبر على أشد من هذا ، كنت أجالس الناس ولا أكلمهم .
وقال الثوري : هذا وقت السكوت وملازمة البيوت .
وقال بعضهم : كنت في سفينة .
ومعنا شاب علوى ، فمكث معنا سبعا لا نسمع له كلاما ، فقلنا له : قد جمعنا الله وإياك منذ سبع ، ولا نراك تخالطنا ولا تكلمنا ! فأنشد : قليل الهم لا ولد يموت وليس بخائف أمرا يفوت قضى وطر الصبا وأفاد علما فغايته التفرد والسكوت(10/40)
وأكبر همه مما عليه تناجز من ترى خلق وقوت .
قال النخعي لصاحب له : تفقه ثم اعتزل .
وكان مالك بن أنس الفقيه يشهد الجنائز ، ويعود المرضى ويعطى الاخوان حقوقهم ، ثم ترك واحدا واحدا من ذلك ، إلى أن ترك الجميع .
وقال : ليس يتهيأ للانسان أن يخبر بكل عذر له .
وقيل لعمر بن عبد العزيز : لو تفرغت لنا ! فقال : ذهب الفراغ فلا فراغ إلا عند الله تعالى .
وقال الفضيل بن عياض : إنى لاجد للرجل عندي يدا إذا لقيني ألا يسلم على ، وإذا مرضت ألا يعودني .
وقال الدارانى : بينا ابن خثيم جالس على باب داره ، إذ جاء حجر فصك وجهه ، فسجد ، وجعل يمسح الدم ، ويقول : لقد وعظت يا ربيع ! ثم قام فدخل الدار ، فما جلس بعد ذلك على بابه حتى مات .
وكان سعد بن أبى وقاص وسعيد بن زيد قد لزما بيوتهما بالعقيق ، فلم يكونا يأتيان المدينة لا لحاجه لهما ولا لغيرهما ، حتى ماتا بالعقيق .
قال بشر : أقلل من معرفة الناس ، فإنك لا تدري ما تكون يوم القيامة ! فإن تكن فضيحة كان من يعرفك أقل .
وأحضر بعض الامراء حاتما الاصم فكلمه ، ثم قال له : ألك حاجة ؟ قال : نعم ، ألا تراني ولا أراك .
وقيل للفضيل : إن إبنك يقول لوددت أنى في مكان أرى الناس ولا يروننى ! فبكى الفضيل ، وقال : يا ويح على ، ألا أتمها فقال : ولا أراهم ! .(10/41)
ومن كلام الفضيل أيضا : من سخافة عقل الرجل كثرة معارفه .
وقد جاء في الاحاديث المرفوعة ذكر العزلة وفضلها ، نحو قوله عليه السلام لعبد الله ابن عامر الجهنى ، لما سأله عن طريق النجاة ، فقال له : (ليسعك بيتك ، أمسك عليك دينك ، وابك على خطيئتك) .
وقيل له صلى الله عليه وآله : أي الناس أفضل ؟ فقال : (رجل معتزل في شعب من الشعاب ، يعبد ربه ، ويدع الناس من شره) .
وقال عليه السلام : (إن الله يحب التقى النقى الخفى) (فوائد العزلة) وفى العزلة فوائد : منها الفراغ للعبادة ، والذكر والاستئناس بمناجاة الله عن مناجاة الخلق ، فيتفرغ لاستكشاف أسرار الله تعالى في أمر الدنيا والاخرة وملكوت السموات والارض ، لان ذلك لا يمكن إلا بفراغ ، ولا فراغ مع المخالطة ، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله في ابتداء أمره يتبتل في جبل حراء ، ويعتزل فيه ، حتى أتته النبوة .
وقيل لبعض الحكماء : ما الذى أرادوا بالخلوة والعزلة ؟ فقال : دوام الفكر وثبات العلوم في قلوبهم ، ليحيوا حياة طيبة ، ويموتوا موتا طيبا .
وقيل لبعضهم : ما أصبرك على الوحدة ؟ فقال : لست وحدي ، أنا جليس ربى ، إذا شئت أن يناجيني قرأت كتابه ، وإذا شئت أن أناجيه صليت .
وقال سفيان بن عيينة : لقيت إبراهيم بن أدهم في بلاد الشام ، فقلت له : يا إبراهيم ،(10/42)
تركت خراسان ! فقال : ما تهنأت بالعيش إلا هاهنا ، أفربدينى من شاهق إلى شاهق ، فمن رأني قال : موسوس أو حمال .
: وقيل للحسن : يا أبا سعيد ، هاهنا رجل لم نره قط جالسا إلا وحده خلف سارية ، فقال الحسن : إذا رأيتموه فأخبروني ، فنظروا إليه ذات يوم ، فقالوا للحسن ، وأشاروا إليه ، فمضى نحوه ، وقال له : يا عبد الله ، لقد حببت إليك العزلة ، فما يمنعك من مجالسة الناس ؟ قال : أمر شغلنى عنهم ، قال : فما يمنعك أن تأتى هذا الرجل الذى يقال له الحسن : فتجلس إليه ؟ قال : أمر شغلنى عن الناس وعن الحسن ، قال : وما ذلك الشغل يرحمك الله ؟ قال : إنى أمسى وأصبح بين نعمة وذنب : فأشغل نفسي بشكر الله على نعمة ، والاستغفار من الذنب ، فقال الحسن : أنت أفقه عندي يا عبد الله من الحسن ، فالزم ما أنت عليه .
وجاء هرم بن حيان إلى أويس ، فقال له : ما حاجتك ؟ قال : جئت لانس بك ، قال : ماكنت أعرف أحدا يعرف ربه فيأنس بغيره ! .
وقال الفضيل : إذا رأيت الليل مقبلا فرحت به ، وقلت : أخلو بربي ، وإذا رأيت الصبح أدركني ، استرجعت كراهية لقاء الناس ، وأن يجئ إلى من يشغلني عن ربى .
وقال مالك بن دينار : من لم يأنس بمحادثة الله عن محادثة المخلوقين ، فقد قل علمه ، وعمى قلبه ، وضاع عمره .
وقال بعض الصالحين : بينا أنا أسير في بعض بلاد الشام ، إذا أنا بعابد خارج من بعض تلك الجبال ، فلما نظر إلي تنحى إلى أصل شجرة ، وتستر بها : فقلت : سبحان الله ! أتبخل علي بالنظر إليك ؟ فقال : يا هذا ، إنى أقمت في هذا الجبل دهرا طويلا ، أعالج قلبى في الصبر عن الدنيا وأهلها ، فطال في ذلك تعبي ، وفنى عمرى ، ثم سألت الله تعالى(10/43)
ألا يجعل حظى من أيامى في مجاهدة قلبى فقط ، فسكنه الله عن الاضطراب ، وآلفه الوحدة والانفراد ، فلما نظرت إليك وتريدني خفت أن أقع في الامر الاول فأعود إلى إلف المخلوقين : فإليك عنى فإنى أعوذ من شرك برب العارفين وحبيب التائبين .
ثم صاح : واغماه من طول المكث في الدنيا ! ثم حول وجهه عنى ، ثم نفض يده ، وقال : إليك عنى يادنيا ، لغيري فتزينى ، وأهلك فغرى ! ثم قال : سبحان من أذاق العارفين من لذة الخدمة وحلاوة الانقطاع إليه ما الهى قلوبهم عن ذكر الجنان ، والحور الحسان ، فإنى في الخلوة آنس بذكر الله ، وأستلذ بالانقطاع إلى الله ، ثم أنشد : وإنى لاستغشى وما بى نعسة لعل خيالا منك يلقى خياليا (1) وأخرج من بين البيوت لعلنى أحدث عنك النفس في السر خاليا .
وقال بعض العلماء : إنما يستوحش الانسان من نفسه لخلو ذاته عن الفضيلة ، فيتكثر حينئذ بملاقاة الناس ، ويطرد الوحشة عن نفسه بهم ، فإذا كانت ذاته فاضلة طلب الوحدة ليستعين بها على الفكرة ، ويستخرج العلم والحكمة ، وكان يقال : الاستئناس بالناس من علامات الافلاس .
ومنها التخلص بالعزلة عن المعاصي التى يتعرض الانسان لها غالبا بالمخالطة ، وهى الغيبة ، والرياء ، وترك الامر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وسرقة الطبع بعض الاخلاق الرديئة والاعمال الخبيثه من الغير .
أما الغيبة فإن التحرز منها مع مخالطة الناس صعب شديد لا ينجو من ذلك إلا الصديقون ، فإن عادة أكثر الناس التمضمض بأعراض من يعرفونه ، والتنقل بلذة
__________
(1) لمحنون ليلى ، ديوانه 294 ، 296 (*) .(10/44)
ذلك ، فهى أنسهم الذى يستريحون إليه في الجلوة والمفاوضة ، فإن خالطتهم ووافقت أثمت ، وإن سكت كنت شريكا ، فالمستمع أحد المغتابين ، وإن أنكرت تركوا ذلك المغتاب واغتابوك ، فازدادوا إثما على إثمهم .
فأما الامر بالمعروف والنهى عن المنكر ، فإن من خالط الناس لا يخلوا عن مشاهدة المنكرات ، فإن سكت عصى الله ، وإن أنكر تعرض بإنواع من الضرر ، وفى العزله خلاص عن ذلك ، وفى الامر بالمعروف إثارة للخصام ، وتحريك لكوامن مافى الصدور .
وقال الشاعر : وكم سقت في آثاركم من نصيحة وقد يستفيد الظنة المتنصح .
ومن تجرد للامر بالمعروف ندم عليه في الاكثر كجدار مائل ، يريد الانسان أن يقيمه وحده ، فيوشك أن يقع عليه ، فإذا سقط قال : يا ليتنى تركته مائلا ! نعم لو وجد الاعوان حتى يحكم ذلك الحائط ويدعمه استقام ، ولكنك لا تجد القوم أعوانا على الامر بالمعروف والنهى عن المنكر ، فدع الناس وانج بنفسك .
وأما الرياء فلا شبهة أن من خالط الناس داراهم ، ومن داراهم راءاهم ، ومن راءاهم كان منافقا ، وأنت تعلم أنك إذا خالطت متعاديين ، ولم تلق كل واحد منهما بوجه يوافقه صرت بغيضا إليهما جميعا ، وإن جاملتهما كنت من شرار الناس ، وصرت ذا وجهين ، وأقل ما يجب في مخالطة الناس ، إظهار الشوق والمبالغة فيه ، وليس يخلو ذلك عن كذب ، إما في الاصل وإما في الزيادة بإظهار الشفقة بالسؤال عن الاحوال ، فقولك : كيف أنت ؟ وكيف أهلك ؟ وأنت في الباطن فارغ القلب عن همومه ، نفاق محض .
قال سرى السقطى : لو دخل علي أخ فسويت لحيتى بيدى لدخوله ، خشيت أن أكتب في جريدة المنافقين .(10/45)
كان الفضيل جالسا وحده في المسجد ، فجاء إليه أخ له ، فقال : ما جاء بك ؟ قال : المؤانسه ، قال : هي والله بالمواحشه أشبه ، هل تريد إلا أن تتزين لى وأتزين لك ، وتكذب لى وأكذب لك ! إما أن تقوم عنى ، وإما أن أقوم عنك .
وقال بعض العلماء : ما أحب الله عبدا إلا أحب ألا يشعر به خلقه .
ودخل طاوس على هشام بن عبد الملك ، فقال : كيف أنت يا هشام ؟ فغضب ، وقال : لم لم تخاطبني بإمرة المؤمنين ؟ قال : لان جميع الناس ما إتفقوا على خلافتك ، فخشيت أن أكون كاذبا .
فمن أمكنه أن يحترز هذا الاحتراز ، فليخالط الناس ، وإلا فليرض بإثبات إسمه في جريدة المنافقين إن خالطهم ، ولا نجاة من ذلك إلا بالعزلة .
وأما سرقة الطبع من الغير ، فالتجربة تشهد بذلك ، لان من خالط الاشرار اكتسب من شرهم ، وكلما طالت صحبة الانسان لاصحاب الكبائر ، هانت الكبائر عنده وفى المثل : (فإن القرين بالمقارن يقتدى (1)) .
ومنها الخلاص من الفتن والحروب بين الملوك والامراء على الدنيا .
روى أبو سعيد الخدرى عن النبي صلى الله عليه وآله ، أنه قال : (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنيمات يتبع بها شعاف الجبال ، ومواضع القطر ، يفر بدينه من الفتن) .
وروى عبد الله بن عمرو بن العاص ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله ذكر الفتن ، فقال : إذا رأيت الناس قد مرجت عهودهم (2) ، وخفت أمانتهم ، وكانوا هكذا - وشبك
__________
(1) أصله قول الشاعر : عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدى .
(2) مرجت عهودهم ، أي اختلطت .
أملك عليك لسانك ، أي لاتجره إلا بما يكون لك لا عليك .
وانطر النهاية لابن الاثير 4 : 87 ، 106 .
(*)(10/46)
باصابعه - فقلت ما تأمرني ؟ فقال : (إلزم بيتك ، واملك عليك لسانك ، وخذ ما تعرف ، ودع ما تنكر ، وعليك بأمر الخاصة ، ودع عنك أمر العامة) .
وروى ابن مسعود عنه صلى الله عليه وآله أنه قال : (سيأتي على الناس زمان لا يسلم لذى دين دينه إلا من فر من قرية إلى قرية ، ومن شاهق إلى شاهق ، كالثعلب الرواغ) قيل : ومتى ذلك يارسول الله ؟ قال : (إذا لم تنل المعيشة إلا بمعاصي الله سبحانه ، فإذا كان ذلك الزمان كان هلاك الرجل على يد أبويه ، فإن لم يكن له أبوان فعلى يد زوجته وولده ، وإن لم يكن فعلى يد قرابته) ، قالوا : كيف ذلك يارسول الله ؟ قال : (يعيرونه بالفقر وضيق اليد ، فيكلفونه مالا يطيقه حتى يورده ذلك موارد الهلكة) .
وروى ابن مسعود أيضا أنه صلى الله عليه وآله ذكر الفتنة ، فقال : (الهرج) فقلت : وما الهرج يا رسول الله ؟ قال : (حين لا يأمن المرء جليسه) ، قلت : فبم تأمرني يا رسول الله ، إن أدركت ذلك الزمان ؟ قال : (كف نفسك ويدك ، وادخل دارك) ، قلت : أرأيت إن دخل على دارى ! قال : (ادخل بيتك) ، قلت : إن دخل على البيت ، قال : (ادخل مسجدك ، واصنع هكذا - وقبض على الكوع - وقل ربى الله ، حتى تموت) .
ومنها الخلاص من شر الناس ، فإنهم يؤذونك تارة بالغيبة ، وتارة بسوء الظن والتهمة وتارة بالاقتراحات والاطماع الكاذبة التى يعسر الوفاء بها ، وتارة بالنميمة والكذب مما يرونه منك من الاعمال والاقوال مما لا تبلغ عقولهم كنهه ، فيدخرون ذلك في نفوسهم عدة ، لوقت ينتهزون فيه فرصة الشر ، ومن يعتزلهم يستغن عن التحفظ لذلك .
وقال بعض الحكماء لصاحبه : أعلمك شعرا هو خير لك من عشرة آلاف درهم ! وهو :(10/47)
اخفض الصوت إن نطقت بليل والتفت بالنهار قبل المقال ليس للقول رجعة حين يبدو بقبيح يكون أو بجمال .
ومن خالط الناس لا ينفك من حاسد وطاعن ، ومن جرب ذلك عرف .
ومن الكلام المأثور عن على عليه السلام : (أخبر تقله) قال الشاعر : من حمد الناس ولم يبلهم ثم بلاهم ذم من يحمد وصار بالوحدة مستأنسا يوحشه الاقرب والابعد .
وقيل لسعد بن أبى وقاص : ألا تأتى المدينة ؟ قال : ما بقى فيها إلا حاسد نعمة ، أو فرح بنقمة .
وقال ابن السماك : كتب إلينا صاحب لنا : أما بعد ، فإن الناس كانوا دواء يتداوى به ، فصاروا داء لا دواء لهم ، ففر منهم فرارك من الاسد .
وكان بعض الاعراب يلازم شجرة ويقول : هذه نديمى وهو نديم فيه ثلاث خصال : إن سمع لم ينم علي ، وإن تفللت في وجهه احتمل ، وإن عربدت عليه لم يغضب ، فسمع الرشيد هذا الخبر ، فقال : قد زهدني سماعة في الندماء .
وكان بعضهم يلازم الدفاتر والمقابر ، فقيل له في ذلك ، قال : لم أر أسلم من الوحدة ولا أوعظ من قبر ، ولا أمتع من دفتر .
وقال الحسن مرة : إنى أريد الحج ، فجاء إلى ثابت البنانى ، وقال : بلغني أنك تريد الحج ، فأحببت أن نصطحب ، فقال الحسن : دعنا نتعاشر بستر الله ، إنى أخاف أن نصطحب فيرى بعضنا من بعض ما نتماقت عليه .
وقال بعض الصالحين : كان الناس ورقا لا شوك فيه ، فالناس اليوم شوك لاورق فيه .
وقال سفيان بن عيينه : قال لى سفيان الثوري ، في اليقظة في حياته ، وفى المنام بعد(10/48)
وفاته : أقلل معرفة الناس ، فإن التخلص منهم شديد ، ولا أحسبنى رأيت ما أكره إلا ممن عرفت .
وقال بعضهم : جئت إلى مالك بن دينار وهو قاعد وحده ، وعنده كلب رابض قريبا منه ، فذهبت أطرده فقال : دعه فإنه لا يضر ولا يؤذى ، وهو خير من الجليس السوء .
وقال أبو الدرداء : اتقوا الله واحذروا الناس ، فإنهم ما ركبوا ظهر بعير إلا أدبروه ، ولا ظهر جواد إلا عقروه ، ولا قلب مؤمن إلا أخربوه .
وقال بعضهم : أقلل المعارف ، فإنه أسلم لدينك وقلبك ، وأخف لظهرك ، وأدعى إلى سقوط الحقوق عنك ، لانه كلما كثرت المعارف كثرت الحقوق ، وعسر القيام بالجميع .
وقال بعضهم : إذا أردت النجاة فأنكر من تعرف ، ولا تتعرف إلى من لا تعرف .
ومنها : إن في العزلة بقاء الستر على المروءة والخلق والفقر وسائر العورات ، وقد مدح الله تعالى المستترين فقال : (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) (1) .
وقال الشاعر : ولا عار أن زالت عن الحر نعمة ولكن عارا أن يزول التجمل .
وليس يخلو الانسان في دينه ودنياه وأفعاله عن عورات يتقين ويجب سترها ، ولا تبقى السلامة مع انكشافها ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بترك المخالطة .
ومنها أن ينقطع طمع الناس عنك ، وينقطع طمعك عن الناس ، أما انقطاع طمع الناس عنك ففيه نفع عظيم ، فإن رضا الخلق غاية لا تدرك ، لان أهون حقوق الناس
__________
(1) سورة البقره 273 (*)(10/49)
وأيسرها حضور الجنازة ، وعيادة المريض ، وحضور الولائم ، والاملاكات (1) ، وفى ذلك تضييع الاوقات ، والتعرض للافات ، ثم يعوق عن بعضها العوائق ، وتستثقل فيها المعاذير ، ولا يمكن إظهار كل الاعذار ، فيقول لك قائل : إنك قمت بحق فلان ، وقصرت في حقى ، ويصير ذلك سبب عداوة ، فقد قيل : إن من لم يعد مريضا في وقت العيادة ، يشتهى موته خيفة من تخجيله إياه إذا برئ من تقصيره ، فأما من يعم الناس كلهم بالحرمان فإنهم يرضون كلهم عنه ، ومتى خصص وقع الاستيحاش والعتاب ، وتعميمهم بالقيام بجميع الحقوق ، مما لا قدرة عليه للمتجرد ليله ونهاره ، فكيف من له مهم يشغله دينى أو دنيوى ! .
ومن كلام بعضهم ، كثرة الاصدقاء زيادة (2) الغرماء .
وقال الشاعر : عدوك من صديقك مستفاد فلا تستكثرن من الصحاب فإن الداء أكثر ما تراه يكون من الطعام أو الشراب .
وأما انقطاع طمعك عنهم ، ففيه أيضا فائدة جزيلة ، فإن من نظر إلى زهرة الدنيا وزخرفها ، تحرك حرصه ، وانبعث بقوة الحرص طمعه ، وأكثر الاطماع يتعقبها الخيبة ، فيتأذى الانسان بذلك ، وإذا اعتزل لم يشاهد ، وإذا لم يشاهد لم يشته ولم يطمع ، ولذلك قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله : (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا) (3) وقال عليه السلام : (انظروا إلى من دونكم ، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم ، فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم) .
__________
(1) الاملاكات : مجامع التزويج .
(2) ب : (كثرة) ، وما أثبته من أ ، د (3) سورة الحجر 88 .
(*)(10/50)
وقال عون بن عبد الله : كنت أجالس الاغنياء ، فلا أزال مغموما أرى ثوبا أحسن من ثوبي ، ودابة أفره من دابتي ، فجالست الفقراء فاسترحت .
وخرج المزني صاحب الشافعي من باب جامع الفسطاط بمصر ، وكان فقيرا مقلا فصادف ابن عبد الحكم قد أقبل في موكبه ، فبهره ما رأى من حاله ، وحسن هيأته ، فتلا قوله تعالى : (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون) (1) ثم قال : نعم أصبر وأرضى .
فالمعتزل عن الناس في بيته لا يبتلى بمثل هذه الفتن ، فإن من شاهد زينة الدنيا ، إما أن يقوى دينه ويقينه فيصبر فيحتاج إلى أن يتجرع مرارة الصبر ، وهو أمر من الصبر ، أو تنبعث رغبته فيحتال في طلب الدنيا فيهلك دنيا وآخرة ، أما في الدنيا فبالطمع الذى في أكثر الاوقات يتضمن الذل المعجل ، وأما في الاخرة فلايثاره متاع الدنيا على ذكر الله ، والتقرب إليه ، ولذلك قال الشاعر : إذا كان باب الذل من جانب الغنى سموت إلى العلياء من جانب الفقر .
أشار إلى أن الطمع يوجب في الحال ذلا .
ومنها الخلاص من مشاهدة الثقلاء والحمقى ومعاناة أخلاقهم ، فإن رؤية الثقيل هي العمى الاصغر ، قيل للاعمش : بم عمشت عيناك (2) ؟ قال : بالنظر إلى الثقلاء .
ودخل على أبى حنيفة رحمه الله ، فقال له : روينا في الخبر أن من سلب كريمتيه عوضه الله ما هو خير منهما ، فما الذى عوضك ؟ قال : كفانى رؤية ثقيل مثلك يمازحه .
وقال الشافعي رحمه الله : ما جالست ثقيلا إلا وجدت الجانب الذى يليه من بدنى كأنه أثقل على من الجانب الاخر .
وهذه المقاصد وإن كان بعضها دنيويا ، إلا أنها تضرب في الدين بنصيب ، وذلك لان
__________
(1) سورة الفرقان 20 (2) د : (عينك) .
(*)(10/51)
من تأذى برؤية ثقيل لم يلبث أن يغتابه ويثلبه ، وذلك فساد في الدين ، وفى العزلة السلامة عن جميع ذلك .
واعلم أن كلام أمير المؤمنين عليه السلام تختلف مناهجه ، فقد رجح العزلة في هذا الفصل على المخالطة ، ونهى عن العزلة في موضع آخر سيأتي ذكره في الفصل الذى أوله (أنه دخل على العلاء بن زياد الحارثى عائد) ، ويجب أن يحمل ذلك على أن من الناس من العزلة خير له من المخالطة ، ومنهم من هو بالضد من ذلك ، وقد قال الشافعي قريبا من ذلك ، قال ليونس بن عبد الاعلى صاحبه : يا يونس ، الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة ، والانبساط إليهم مجلبة لقرناء السوء ، فكن بين المنقبض والمنبسط .
فإذا أردت العزلة فينبغي للمعتزل أن ينوى بعزلته كف شره عن الناس أولا ، ثم طلب السلامة من شر الاشرار ثانيا ، ثم الخلاص من آفة القصور عن القيام بحقوق المسلمين ثالثا ، ثم التجرد بكنه الهمة بعبادة الله تعالى رابعا ، فهذه آداب نيته ، ثم ليكن في خلوته مواظبا على العلم والعمل ، والذكر والفكر ، ليجتني ثمرة العزلة .
ويجب أن يمنع الناس عن أن يكثروا غشيانه وزيارته ، فيتشوش وقته ، وأن يكف نفسه عن السؤال عن أخبارهم وأحوالهم ، وعن الاصغاء إلى أراجيف الناس وما الناس مشغولون به ، فإن كل ذلك ينغرس في القلب حتى ينبعث على الخاطر والبال وقت الصلاة ووقت الحاجة إلى إحضار القلب ، فإن وقوع الاخبار في السمع كوقوع البذر في الارض ، لا بد أن ينبت وتتفرع عروقه وأغصانه ، وإحدى مهمات المعتزل قطع الوساوس الصارفة عن ذكر الله ، ولا ريب أن الاخبار ينابيع الوساوس وأصولها .
ويجب أن يقنع باليسير من المعيشة ، وإلا أضطره التوسع إلى الناس ، واحتاج إلى مخالطتهم .(10/52)
وليكن صبورا على ما يلقاه من أذى الجيران إذ يسد سمعه عن الاصغاء إلى ما يقول فيه من أثنى عليه بالعزلة ، وقدح فيه بترك المخالطة ، فإن ذلك لا بد أن يؤثر في القلب ، ولو مدة يسيرة ، وحال اشتغال القلب به لا بد أن يكون واقفا عن سيره في طريق الاخرة ، فإن السير فيها إما يكون بالمواظبة على ورد أو ذكر مع حضور قلب ، وإما بالفكر في جلال الله وصفاته وأفعاله وملكوت سماواته ، وإما بالتأمل في دقائق الاعمال ومفسدات القلب وطلب طرق التخلص منها ، وكل ذلك يستدعى الفراغ ، ولا ريب أن الاصغاء إلى ما ذكرناه يشوش القلب .
ويجب أن يكون للمعتزل أهل صالح أو جليس صالح ، لتستريح نفسه إليه ساعة عن كد المواظبة ، ففى ذلك عون له على بقية الساعات .
وليس يتم للانسان الصبر على العزلة إلا بقطع الطمع عن الدنيا ، وما الناس منهمكون فيه ، ولا ينقطع طمعه إلا بقصر الامل ، وألا يقدر لنفسه عمرا طويلا ، بل يصبح على أنه لا يمسى ، ويمسى على أنه لا يصبح ، فيسهل عليه صبر يوم ، ولا يسهل عليه العزم على صبر عشرين سنه لو قدر تراخى أجله ، وليكن كثير الذكر للموت ووحدة القبر ، مهما ضاق قلبه من الوحدة ، وليتحقق أن من لم يحصل في قلبه من ذكر الله ومعرفته ما يأنس به ، فإنه لا يطيق وحشة الوحدة بعد الموت ، وأن من أنس بذكر الله ومعرفته فإن الموت لا يزيل أنسه ، لان الموت ليس يهدم محل الانس والمعرفة ، بل يبقى حيا بمعرفته وأنسه فرحا بفضل الله عليه ، قال سبحانه : (ولا تحسبن الذن قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله) (1) .
وكل من يجرد نفسه في ذات الله فهو شهيد مهما أدركه الموت ، فالمجاهد من
__________
(1) سورة آل عمران 169 : 170 .
(*)(10/53)
جاهد نفسه وهواه ، كما صرح به عليه السلام ، وقال لاصحابه : (رجعنا من الجهاد الاصغر إلى الجهاد الاكبر) ، فالجهاد الاصغر محاربة المشركين ، والجهاد الاكبر جهاد النفس .
وهذا الفصل في العزلة نقلناه على طوله من كلام أبى حامد الغزالي في إحياء علوم الدين وهذبنا منه ما اقتضت الحال تهذيبه (1) .
__________
(1) كتاب آداب العزلة ، من كتاب الاحياء 2 : 221 - 244 ، وهو الكتاب السادس من ربع العادات .
(*)(10/54)
(178) الاصل : ومن كلام له عليه السلام في معنى الحكمين : فأجمع رأى ملئكم على أن اختاروا رجلين ، فأخذنا عليهما أن يجعجعا عند القرآن ، ولا يجاوزاه ، وتكون ألسنتهما معه وقلوبهما تبعه ، فتاها عنه ، وتركا الحق وهما يبصرانه ، وكان الجور هواهما ، والاعوجاج رأيهما ، وقد سبق استثناؤنا عليهما في الحكم بالعدل والعمل بالحق سوء رأيهما ، وجور حكمهما ، والثقة في أيدينا لانفسنا ، حين خالفا سبيل الحق ، وأتيا بما لا يعرف من معكوس الحكم .
الشرح : الملا : الجماعه .
ويجعجعا : يحبسا نفوسهما وآراءهما عند القرآن ، جعجعت ، أي حبست ، أخذت عليهما العهد والميثاق أن يعملا بما في القرآن ولا يتجاوزاه .
فتاها عنه ، أي عدلا ، وتركا الحق على علم منهما به .
والدأب : العادة ، (وسوء رأيهما) منصوب ، لانه مفعول (سبق) ، والفاعل استثناؤنا .
ثم قال : (والثقة في أيدينا) ، أي نحن على برهان وثقة من أمرنا ، وليس بضائر لنا ما فعلاه لانهما خالفا الحق ، وعدلا عن الشرط وعكسا الحكم .(10/55)
وروى الثوري ، عن أبى عبيده ، قال : أمر بلال بن أبى بردة وكان قاضيا ، بتفريق بين رجل وامرأته ، فقال الرجل : يا آل أبى موسى (1) ، إنما خلقكم الله للتفريق بين المسلمين ! (كتاب معاوية إلى عمرو بن العاص وهو على مصر) كتب معاوية إلى عمرو بن العاص وهو على مصر ، قد قبضها بالشرط الذى اشترط على معاوية : (أما بعد ، فإن سؤال أهل الحجاز وزوار أهل العراق كثروا على ، وليس عندي فضل عن أعطيات الحجاز ، فأعنى بخراج مصر هذه السنة) .
فكتب عمرو إليه : معاوى إن تدركك نفس شحيحة فما مصر إلا كالهباءة في الترب وما نلتها عفوا ولكن شرطتها وقد دارت الحرب العوان على قطب ولولا دفاعي الاشعري ورهطه لالفيتها ترغو كراغية السقب .
ثم كتب في ظاهر الكتاب - ورأيت أنا هذه الابيات بخط أبى زكريا يحيى بن على الخطيب التبريزي رحمه الله - معاوى حظى لا تغفل وعن سنن الحق لا تعدل أتنسى مخادعتي الاشعري وما كان في دومة الجندل ؟ ألين فيطمع في غرتي وسهمي قد خاض في المقتل فألمظه عسلا باردا وأخبا من تحته حنظلى وأعليته المنبر المشمخر كرجع الحسام إلى المفصل
__________
(1) الرغاء : صوت الابل : والثغب : ولد الناقه .
(*)(10/56)
فأضحى لصاحبه خالعا كخلع النعال من الارجل وأثبتها فيك موروثة ثبوت الخواتم في الانمل وهبت لغيري وزن الجبال وأعطيتني زنة الخردل وإن عليا غدا خصمنا سيحتج بالله والمرسل وما دم عثمان منج لنا فليس عن الحق من مزحل فلما بلغ الجواب إلى معاوية لم يعاوده في شئ من أمر مصر بعدها .
بعث عبد الملك روح بن زنباع وبلال بن أبى بردة بن أبى موسى ، إلى زفر بن الحارث الكلابي بكلام ، وحذرهما من كيده ، وخص بالتحذير روحا ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن أباه كان المخدوع يوم دومة الجندل لا أبى ، فعلام تخوفنى الخداع والكيد ! فغضب بلال وضحك عبد الملك .(10/57)
(179) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : لا يشغله شأن ، ولا يغيره زمان ، ولا يحويه مكان ، ولا يصفه لسان ، لا يعزب عنه عدد قطر الماء ، ولا نجوم السماء ، ولا سوافى الريح في الهواء ، ولا دبيب النمل على الصفا ، ولا مقيل الذر في الليلة الظلماء .
يعلم مساقط الاوراق ، وخفى طرف الاحداق .
وأشهد أن لا إله إلا الله غير معدول به ، ولا مشكوك فيه ، ولا مكفور دينه ، ولا مجحود تكوينه ، شهادة من صدقت نيته ، وصفت دخلته ، وخلص يقينه ، وثقلت موازينه .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، المجتبى من خلائقه ، والمعتام لشرح حقائقه ، والمختص بعقائل كراماته ، والمصطفى لكرائم رسالاته ، والموضحة به أشراط الهدى ، والمجلو به غربيب العمى .
الشرح : لا يشغله أمر ، لان الحى الذى تشغله الاشياء هو الحى العالم بالبعض دون البعض ، والقادر على البعض دون البعض ، فأما من لا يغيب عنه شئ أصلا ، ولا يعجز عن شئ أصلا ، ولا يمنعه من إيجاد مقدوره - إذا أراد - مانع أصلا ، فكيف يشغله شأن ! .
وكذلك لا يغيره زمان ، لانه واجب الوجود ، ولا يحويه مكان ، لانه ليس بجسم ،(10/58)
ولا يصفه لسان ، لان كنه ذاته غير معلوم ، وإنما المعلوم منه إضافات أو سلوب .
ولا يعزب عنه أمر من الامور ، أي لا يفوته علم شئ أصلا .
والسوافى : التى تسفى التراب ، أي تذريه .
والصفا ، مقصور : الصخر الاملس ، ولا وقف عليها هاهنا ، لان المقصور لا يكون في مقابلة الممدود ، وإنما الفقرة المقابلة للهواء هي (الظلماء) ، ويكون (الصفا) في أدراج الكلام أسوة بكلمة من الكلمات .
والذر : صغار النمل .
ويعلم مساقط الاوراق ، من قوله تعالى : (وما تسقط من ورقة إلا يعلمها) (1) .
وطرف الاحداق : مصدر طرف البصر يطرف طرفا ، إذا انطبق أحد الجفنين على الاخر ، ولكونه مصدرا وقع على الجماعة ، كما وقع على الواحد ، فقال عليه السلام : (طرف الاحداق) ، كما قال سبحانه : (لا يرتد إليهم طرفهم) (2) .
وغير معدول به : غير مسوى بينه وبين أحد .
والدخلة ، بكسر الدال : باطن الامر ، ويجوز الدخلة بالضم .
والمعتام : المختار .
والعيمة بالكسر خيار المال ، إعتام الرجل إذا أخذ العيمة .
فإن قلت : لفظة (معتام) و (مختار) تصلح للفاعل والمفعول ، فماذا يفصل بينهما ؟ .
قلت : بما يقترن باللفظ من الكلام قبله وبعده .
فإن قلت : فهل يختلفان في التقدير في صناعة النحو ، وإن اتفقا في اللفظ ؟ قلت : نعم ، فإن عين الكلمة ياء مفتوح ما قبلها ، فإن أردت الفاعل فهى مكسورة ،
__________
(1) سورة الانعام 59 (2) سورة إبراهيم 43 .
(*)(10/59)
وتقديره (مختير) مثل (مخترع) ، وإن كان مفعولا فهى مفتوحة ، وتقديره (مختير) مثل (مخترع) وعلى كلا التقديرين لابد من إنقلاب الياء ألفا ، واللفظ واحد ولكن يقدر على الالف كسرة للفاعل وفتحة للمفعول ، وكذلك القول في (معتام) و (مضطر) ونحوهما .
وحكى أن بعض المتكلمين من المجبرة ، قال : أسمى العبد مضطرا إلى الفعل ، إذا فعله ، ولا أسمى الله تعالى مضطرا إليه .
قيل : فكيف تقول ؟ قال (مضطر) بكسر الطاء ، فضحك أهل المجلس منه .
والعقائل : جمع عقيلة ، وهى كريمة كل شئ من الناس والابل وغير ذلك ، ويقال للذرة عقيلة البحر .
وأشراط الهدى : علاماته ، ومنه أشراط الساعة قال تعالى : (فقد جاء أشراطها) (1) .
والغربيب : الاسود الشديد السواد .
ويجلى به غربيب العمى : تكشف به ظلم الضلال ، وتستنير بهدايته ، وقوله تعالى : (وغرابيب سود) (2) ليس على أن الصفة قد تقدمت على الموصوف ، بل يجعل السود بدلا من الغرابيب .
فإن قلت : الهاء في (حقائقه) إلى ماذا ترجع ؟ قلت : إلى البارئ سبحانه ، وحقائقه حقائق توحيده وعدله ، فالمضاف محذوف ، ومعنى حقائق توحيده : الامور المحققة اليقينية التى لا تعتريها الشكوك ، ولا تتخالجها الشبه ، وهى أدلة أصحابنا المعتزلة التى استنبطوها بعقولهم ، بعد أن دلهم إليها ، ونبههم على طرق استنباطها رسول الله صلى الله عليه وآله بواسطة أمير المؤمنين عليه السلام ، لانه إمام المتكلمين الذى لم يعرف علم الكلام من أحد قبله .
__________
(1) سورة محمد 18 (2) سورة فاطر .
(*)(10/60)
الاصل : أيها الناس ، إن الدنيا تغر المؤمل لها ، والمخلد إليها ، ولا تنفس بمن نافس فيها ، وتغلب من غلب عليها .
وايم الله ماكان قوم قط في غض نعمة من عيش فزال عنهم إلا بذنوب اجترحوها ، لان الله ليس بظلام للعبيد .
ولو أن الناس حين تنزل بهم النقم ، وتزول عنهم النعم ، فزعوا إلى ربهم بصدق من نياتهم ، ووله من قلوبهم ، لرد عليهم كل شارد ، وأصلح لهم كل فاسد .
وإنى لاخشى عليكم أن تكونوا في فترة ، وقد كانت أمور مضت ملتم فيها ميلة ، كنتم فيها عندي غير محمودين ، ولئن رد عليكم أمركم إنكم لسعداء .
وما على إلا الجهد ، ولو أشاء أن أقول لقلت : عفا الله عما سلف ! الشرح : المخلد : المائل إليها ، قال تعالى : (ولكنه أخلد إلى الارض) (1) .
ولا تنفس بمن نافس فيها : لا تضن به ، أي من نافس في الدنيا فإن الدنيا تهينه ولا تصن به ، كما يضن بالعلق النفيس .
ثم قال : (وتغلب من غلب عليها) ، أي من غلب على الدنيا مقاهرة فسوف تغلبه الدنيا وتهلكه .
ثم أقسم إنه ما كان قوم في غض نعمة أي في نعمة غضة ، أي طرية ناضرة ، فزالت عنهم
__________
(1) سورة الاعراف 176 .
(*)(10/61)
إلا بذنوب اجترحوها ، أي اكتسبوها ، وهذا يكاد يشعر بمذهب أهل التناسخ ، ومن قال : إن الالم لا يحسن أن يفعله الحكيم سبحانه وتعالى بالحيوانات إلا مستحقا ، فأما مذهب أصحابنا فلا يتخرج هذا الكلام عليه ، لانه يجوز عندهم أن تزول النعم عن الناس لضرب من اللطف مضاف إلى عوض يعوضهم الله تعالى به في الاخرة ، فيجب أن يحمل هذا الكلام لا على عمومه ، بل على الاكثر والاغلب .
ثم قال عليه السلام : لو أن الناس عند حلول النقم بهم وزوال النعم عنهم يلتجئون إلى الله تعالى تائبين من ذنوبهم ، لرفع عنهم النقمة ، وأعاد إليهم النعمة .
والوله ، كالتحير يحدث عند الخوف أو الوجد .
والشارد : الذاهب .
قوله : (وإنى لاخشى عليكم أن تكونوا في فترة) ، أي في أمر جاهلية لغلبة الضلال والجهل على الاكثرين منهم .
وهذه خطبة خطب بها عليه السلام بعد قتل عثمان في أول خلافته عليه السلام ، وقد تقدم ذكر بعضها والامور التى مالوا فيها عليه اختيارهم عثمان وعدولهم عنه يوم الشورى .
وقال : (لئن رد عليكم أمركم) أي أحوالكم التى كانت أيام رسول الله صلى الله عليه وآله من صلاح القلوب والنيات إنكم سعداء .
والجهد ، بالضم الطاقة .
ثم قال : لو أشاء أن أقول لقلت ، أي لو شئت لذكرت سبب التحامل على وتأخري عن غيرى ، ولكني لا أشاء ذلك ، ولا أستصلح ذكره .(10/62)
ثم قال : (عفا الله عما سلف) لفظ مأخوذ من الكتاب العزيز (عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام) (1) .
وهذا الكلام يدل على مذهب أصحابنا في أن ما جرى من عبد الرحمن (2) وغيره في يوم الشورى ، وإن كان لم يقع على الوجه الافضل ، فإنه معفو عنه مغفور لفاعله ، لانه لو كان فسقا غير مغفور ، لم يقل أمير المؤمنين عليه السلام : (عفا الله عما سلف) .
__________
(1) سورة المائدة 95 .
(2) هو عبد الرحمن بن عوف .
(*)(10/63)
(180) الاصل : ومن كلام له عليه السلام وقد سأله ذعلب اليماني فقال : هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين ؟ فقال عليه السلام : أفأعبد مالا أرى ! فقال : كيف تراه ؟ قال : لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ، ولكن تدركه القلوب بحقائق الايمان ، قريب من الاشياء غير ملامس ، بعيد منها غير مباين ، متكلم بلا روية ، مريد بلابهمة ، صانع لا بجارحة .
لطيف لا يوصف بالخفاء ، كبير لا يوصف بالجفاء ، بصير لا يوصف بالحاسة ، رحيم لا يوصف بالرقة .
تعنو الوجوه لعظمته ، وتجب القلوب من مخافته .
الشرح : الذعلب في الاصل : الناقة السريعة ، وكذلك الذعلبة ، ثم نقل فسمى به إنسان ، وصار علما ، كما نقلوا (بكرا) عن فتى الابل إلى بكر بن وائل .
واليماني مخفف النون ، ولا يجوز تشديدها ، جعلوا الالف عوضا عن الياء الثانية ، وكذلك فعلوا في (الشامي) ، والاصل (يمنى) و (شامى) .
وقوله عليه السلام : (أفأعبد ما لا أرى ؟) مقام رفيع جدا لا يصلح أن يقوله غيره عليه السلام .(10/64)
ثم ذكر ماهية هذه الرؤية ، قال : إنها رؤية البصيرة ، لا رؤية البصر .
ثم شرح ذلك ، فقال : إنه تعالى قريب من الاشياء ، غير ملامس لها ، لانه ليس بجسم ، وإنما قربه (1) منها علمه بها ، كما قال تعالى : (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) (2) .
قوله : (بعيد منها غير مباين) ، لانه أيضا ليس بجسم فلا يطلق عليه البينونة ، وبعده منها هو عبارة عن انتفاء اجتماعه معها ، وذلك كما يصدق على البعيد بالوضع ، يصدق أفضل الصدق على البعيد بالذات الذى لا يصح الوضع والاين أصلا عليه .
قوله : (متكلم بلا روية) ، الروية : الفكرة يرتئى الانسان بها ليصدر عنه ألفاظ سديدة دالة على مقصده ، والبارئ تعالى متكلم لا بهذا الاعتبار ، بل لانه إذا أراد تعريف (خلقه) (3) من جهة الحروف والاصوات ، وكان في ذلك مصلحة ولطف لهم ، خلق الاصوات والحروف في جسم جمادى ، فيسمعها من يسمعها ، ويكون ذلك كلامه ، لان المتكلم في اللغة العربية فاعل الكلام لا من حله الكلام .
وقد شرحنا هذا في كتبنا الكلامية .
قوله : (مريد بلا همة) ، أي بلا عزم ، فالعزم عبارة عن إرادة متقدمة للفعل ، تفعل توطينا للنفس على الفعل ، وتمهيدا للارادة المقارنة له ، وإنما يصح ، ذلك على الجسم الذى يتردد فيها ، تدعوه إليه الدواعى ، فأما العالم لذاته ، فلا يصح ذلك فيه .
قوله : (صانع لا بجارحة) ، أي لا بعضو ، لانه ليس بجسم .
قوله : (لطيف لا يوصف بالخفاء) ، لان العرب إذا قالوا لشئ : إنه لطيف ، أرادوا أنه صغير الحجم ، والبارئ تعالى لطيف لا بهذا الاعتبار بل يطلق باعتبارين
__________
(1) د : (قربته) (2) سورة المجادلة 7 .
(3) زيادة يقتيضها السياق .
(*)(10/65)
أحدهما : أنه لا يرى لعدم صحة رؤية ذاته ، فلما شابه اللطيف من الاجسام في استحالة رؤيته ، أطلق عليه لفظ (اللطيف) إطلاقا للفظ السبب على المسبب .
وثانيهما : أنه لطيف بعباده ، كما قال في الكتاب العزيز ، أي يفعل الالطاف المقربة لهم من الطاعة ، المبعدة لهم من القبيح ، أو لطيف بهم بمعنى أنه يرحمهم ويرفق بهم .
قوله : (كبير لا يوصف بالجفاء) ، لما كان لفظ (كبير) إذا استعمل في الجسم أفاد تباعد أقطاره ، ثم لما وصف البارئ بأنه أراد أن ينزهه عما يدل لفظ (كبير) عليه ، إذا استعمل في الاجسام ، والمراد من وصفه تعالى بأنه كبير ، عظمة شأنه وجلالة سلطانه .
قوله : (بصير لا يوصف بالحاسة) ، لانه تعالى يدرك إما لانه حى لذاته ، أو أن يكون إدراكه هو علمه ، ولا جارحة له ولا حاسة على كل واحد من القولين .
قوله : (رحيم لا يوصف بالرقة) ، لان لفظة الرحمة في صفاته تعالى تطلق مجازا على (1) إنعامه على عباده ، لان الملك إذا رق على رعيته وعطف ، أصابهم بإنعامه ومعروفه .
قوله : (تعنو الوجوه) ، أي تخضع ، قال تعالى : (وعنت الوجوه للحى القيوم) (2) .
قوله : (وتجب القلوب) ، أي تخفق ، وأصله من وجب الحائط ، سقط .
ويروى : (توجل القلوب) أي تخاف ، وجل : خاف .
وروى : (صانع لا بحاسة) ، وروى (لا تراه العيون بمشاهدة العيان) عوضا عن (لا تدركه) .
__________
(1) ب ، د : (عن) .
(2) سورة طه 111 (*) .(10/66)
(181) الاصل : ومن كلام له عليه السلام في ذم أصحابه : أحمد الله على ما قضى من أمر ، وقدر من فعل ، وعلى ابتلائي بكم أيتها الفرقة التى إذا أمرت لم تطع ، وإذا دعوت لم تجب .
إن أهملتم خضتم ، وإن حوربتم خرتم ، وإن اجتمع الناس على إمام طعنتم ، وإن أجئتم إلى مشاقة نكصتم .
لاأبا لغيركم ! ما تنتظرون بنصركم ، والجهاد على حقكم ! الموت أو الذل لكم ! فوالله لئن جاء يومى - وليأتيني - ليفرقن بينى وبينكم ، وأنا لصحبتكم قال ، وبكم غير كثير .
لله أنتم ! أما دين يجمعكم ، ولا حمية تشحذكم ! أو ليس عجبا أن معاوية يدعو الجفاة الطغام فيتبعونه على غير معونة ولا عطاء ، وأنا أدعوكم - وانتم تريكة الاسلام وبقية الناس - إلى المعونة أو طائفة من العطاء ، فتتفرقون عنى ، وتختلفون على ! إنه لا يخرج إليكم من أمرى رضا فترضونه ، ولا سخط فتجتمعون عليه ، وإن أحب ما أنا لاق إلى الموت .
قد دارستكم الكتاب ، وفاتحتكم الحجاج ، وعرفتكم ما أنكرتم ، وسوغتكم مامججتم ، لو كان الاعمى يلحظ ، أو النائم يستيقظ(10/67)
وأقرب بقوم من الجهل بالله قائدهم معاوية ، ومؤدبهم ابن النابغة ! الشرح : قضى وقدر في هذا الموضع واحد .
ويروى : (على ما ابتلاني) .
وأهملتم : خليتم وتركتم ، ويروى : (امهلتم) ، أي أخرتم .
وخرتم : ضعفتم ، والخوار : الضعف ، رجل خوار ، ورمح خوار ، وأرض خوارة ، والجمع خور .
ويجوز أن يكون (خرتم) أي صحتم ، كما يخور الثور ، ومنه قوله تعالى : (عجلا جسدا له خوار) (1) .
ويروى : (جرتم) أي عدلتم عن الحرب فرارا .
وأجئتم : ألجئتم ، قال تعالى : (فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة) .
(2) .
والمشاقة : المقاطعة والمصارمة .
ونكصتم : أحجمتم ، قال تعالى : (فلما تراءى الجمعان نكص على عقبيه) ، أي رجع محجما ، أي دعيتم إلى كشف القناع مع العدو وجبنتم وهبتموه .
قوله : (لا أبا لغيركم) ، الافصح (لا أب) ، بحذف الالف ، كما قال الشاعر : أبى الاسلام لا أب لى سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم .
(3) وأما قولهم : (لا أبا لك) ، بإثباته فدون الاول في الفصاحة ، كأنهم قصدوا الاضافة ، وأقحموا اللام مزيدة مؤكدة ، كما قالوا : (ياتيم تيم عدى) ، وهو غريب لان حكم
__________
(1) سورة طه 88 (2) سورة مريم 23 .
(3) لنهار بن توسعة اليشكرى ، والبيت من شواهد سيبوية (*) .(10/68)
(لا) أن تعمل في النكرة فقط ، وحكم الالف أن تثبت مع الاضافة ، والاضافة تعرف ، فاجتمع فيها حكمان متنافيان ، فصار من الشواذ كالملامح والمذاكير ولدن غدوة (1) .
وقال الشيخ أبو البقاء رحمه الله : يجوز فيها وجهان آخران : أحدهما أنه أشبع فتحة الباء ، فنشأت الالف والاسم باق على تنكيره ، والثانى أن يكون استعمل (أبا) على لغة من قالها (أبا) في جميع أحوالها مثل (عصا) ، ومنه : إن أباها وأبا أباها (2) .
قوله : (الموت أو الذل لكم) ، دعاء عليهم بأن يصيبهم أحد الامرين ، كأنه شرع داعيا عليهم بالفناء الكلى ، وهو الموت ، ثم استدرك فقال : (أو الذل) ، لانه نظير الموت في المعنى ، ولكنه في الصورة دونه ، ولقد أجيب دعاؤه عليه السلام بالدعوة الثانية ، فإن شيعته ذلوا بعد في الايام الاموية ، حتى كانوا كفقع قرقر (3) .
ثم أقسم أنه إذا جاء يومه لتكونن مفارقته لهم عن قلى ، وهو البغض ، وأدخل حشوة بين أثناء الكلام ، وهى (ليأتيني) وهى حشوة لطيفة ، لان لفظة (إن) أكثر ما تستعمل لما لا يعلم حصوله ، ولفظة (إذا) لما يعلم أو يغلب على الظن حصوله ، تقول : إذا طلعت الشمس جئت إليك ، ولا تقول : إن طلعت الشمس جئت إليك ، وتقول : إذا احمر البسر جئتك ، ولا تقول : إن احمر البسر جئتك ، فلما قال : (لئن جاء يومى) ، أتى بلفظة دالة على إن الموضع موضع (إذا) لا موضع (إن) ، فقال : (وليأتيني) .
__________
(1) أي أنهم لا يستعملان إلا هكذا ، فلا يستعملون (ملمحة) ، ولا يستعملون (مذكارا) ، كما أن (لدن) اختصت بغدوة ، انظر سيبوية 1 : 348 .
(2) بقيته قد بلغا في المجد غايتاها * وهو من شواهد النحاة ، وانظر ابن عقيل 1 : 46 .
(3) الفقع : ضرب من أردأ الكمأة ، والقرقر : المكان المستوى الاملس ، ويشبه الرجل الذليل ، فيقال : هو أذل من فقع بقرقر ، لان الدواب تنجله بأرجلها .
(*)(10/69)
والواو في قوله : (وإنا لصحبتكم) ، واو الحال ، وكذلك الواو في قوله : (وبكم غير كثير) ، وقوله : (غير كثير) لفظ فصيح ، وقال الشاعر : لى خمسون صديقا بين قاض وأمير لبسوا الوفر فلم أخلع بهم ثوب النفير لكثير هم ولكني بهم غير كثير .
قوله : (لله أنتم لله) ، لله في موضع رفع ، لانه خبر عن المبتدأ الذى هو (أنتم) ، ومثله : لله در فلان ! ولله بلاد فلان ! ولله أبوك ! واللام هاهنا فيها معنى التعجب ، والمراد بقوله : (لله أنتم) لله سعيكم ، أو لله علمكم ، كما قالوا : (لله درك !) أي عملك ، فحذف المضاف وأقيم الضمير المنفصل المضاف إليه مقامه .
فإن قلت : أفجاءت هذه اللام بمعنى التعجب في غير لفظ (لله) ؟ قلت : لا ، كما أن تاء القسم لم تأت إلا في اسم الله تعالى .
قوله عليه السلام : (أما دين يجمعكم !) ارتفاع (دين) على أنه فاعل فعل مقدر ، له ، أي أما يجمعكم دين يجمعكم ! اللفظ الثاني مفسر للاول كما قدرناه بعد (إذا) في قوله سبحانه : (إذا السماء انشقت) ويجوز أن يكون (حمية) مبتدأ ، والخبر محذوف تقديره : أما لكم حمية ! والحمية : الانفة .
وشحذت النصل : أحددته .
فإن قلت : كيف قال : إن معاوية لم يكن يعطى جنده وأنه هو عليه السلام كان يعطيهم ، والمشهور أن معاوية كان يمد أصحابه بالاموال والرغائب ! قلت : إن معاوية لم يكن يعطى جنده على وجه المعونة والعطاء ، وإنما كان يعطى رؤساء القبائل من اليمن وساكني الشام الاموال الجليلة ، يستعبدهم بها ، ويدعو أولئك(10/70)
الرؤساء أتباعهم من العرب فيطيعونهم ، فمنهم من يعطيهم حمية ، ومنهم من يطيعهم لاياد وعوارف من أولئك الرؤساء عندهم ، ومنهم من يطيعهم دينا ، زعموا للطلب بدم عثمان ، ولم يكن يصل إلى هؤلاء الاتباع من أموال معاوية قليل ولا كثير .
وأما أمير المؤمنين عليه السلام ، فإنه كان يقسم بين الرؤساء والاتباع على وجه العطاء والرزق ، ولا يرى لشريف على مشروف فضلا ، فكان من يقعد عنه بهذا الطريق أكثر ممن ينصره وبقوم بأمره ، وذلك لان الرؤساء من أصحابه كانوا يجدون في أنفسهم من ذلك - أعنى المساواة بينهم وبين الاتباع - فيخذلونه عليه السلام باطنا ، وإن أظهروا له النصر ، وإذا أحس أتباعهم بتخاذلهم وتواكلهم تخاذلوا أيضا وتواكلوا أيضا ، ولم يجد عليه صلوات الله عليه ما أعطى الاتباع من الرزق ، لان انتصار الاتباع له وقتالهم دونه لا يتصور وقوعه ، والرؤساء متخاذلون ، فكان يذهب ما يرزقهم ضياعا .
فإن قلت : فأى فرق بين المعونة والعطاء ؟ .
قلت : المعونة إلى الجند شئ يسير من المال برسم ترميم أسلحتهم ، وإصلاح دوابهم ، ويكون ذلك خارجا عن العطاء المفروض شهرا فشهرا ، والعطاء المفروض شهرا فشهرا يكون شيئا له مقدار بصرف في أثمان الاقوات ، ومؤنة العيال ، وقضاء الديون .
والتريكة : بيضة النعام تتركها في مجثمها ، يقول : أنتم خلف الاسلام وبقيته كالبيضة التى تتركها النعامة .
فإن قلت : ما معنى قوله : (لا يخرج إليكم من أمرى رضا فترضونه ، ولاسخط فتجتمعون عليه) ؟ قلت : معناه أنكم لا تقبلون مما أقول لكم شيئا ، سواء كان مما يرضيكم أو مما يسخطكم ، بل لابد لكم من المخالفة والافتراق عنه .(10/71)
ثم ذكر أن أحب الاشياء إليه أن يلقى الموت ، وهذه الحال التى ذكرها أبو الطيب فقال : كفى بك داء أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن تكن أمانيا (1) تمنيتها لما تمنيت أن ترى صديقا فأعيا ، أو عدوا مداجيا .
قوله : (قد دارستكم الكتاب) ، أي درسته عليكم ، دارست الكتب وتدارستها وأدرستها ، ودرستها ، بمعنى ، وهى من الالفاظ القرآنية (2) .
وفاتحتكم الحجاج ، أي حاكمتكم بالمحاجة والمجادلة ، وقوله تعالى : (ربنا افتح بيننا) (3) أي احكم ، والفتاح : الحاكم .
وعرفتكم ما أنكرتم : بصرتكم ما عمى عنكم .
وسوغتكم ما مججتم ، يقال : مججت الشراب من فمى ، أي رميت به ، وشيخ ماج : يمج ريقه ، ولا يستطيع حبسه من كبره ، وأحمق ماج : أي يسيل لعابه ، يقول : ما كانت عقولكم وأذهانكم تنفر عنه من الامور الدينية أوضحته لكم حتى عرفتموه واعتقدتموه وانطوت قلوبكم عليه .
ولم يجزم عليه السلام بحصول ذلك لهم ، لانه قال : لو كان الاعمى يلحظ ، والنائم يستيقظ ! أي أنى قد فعلت معكم ما يقتضى حصول الاعتقادات الحقيقيه في أذهانكم لو أزلتم عن قلوبكم ما يمنع من حصولها لكم ، والمانع المشار إليه هو الهوى والعصبية والاصرار على اللجاج ، ومحبة نصره (4) عقيدة قد سبقت إلى القلب ، وزرعها التعصب ، ومشقة مفارقة
__________
(1) ديوانه 4 : 281 .
(2) من قوله تعالى في سورة آل عمران 79 : (كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون) .
(3) سورة الاعراف 89 .
(*)(10/72)
الاسلاف الذين قد انغرس في النفس تعظيمهم ، ومالت القلوب إلى تقليدهم لحسن الظن بهم .
ثم قال : (أقرب بقوم !) أي ما أقربهم من الجهل ! كما قال تعالى : (أسمع بهم وأبصر) (1) أي ما أسمعهم وأبصرهم ! .
فإن قلت : قد كان يجب أن يقول : (وأقرب بقوم قائدهم معاوية ومؤدبهم ابن النابغة من الجهل) فلا يحول بين النكرة الموصوفة وصفتها بفاصل غريب ، ولم يقل ذلك ، بل فصل بين الصفة والموصوف بأجنبى منهما ! .
قلت : قد جاء كثير من ذلك ، نحو قوله تعالى : (وممن حولكم من الاعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق) (2) في قول من لم يجعل (مردوا) صفة أقيمت مقام الموصوف ، لانه يجعل (مردوا) صفة القوم المحذوفين المقدرين بعد (الاعراب) وقد حال بين ذلك وبين (مردوا) قوله : (ومن أهل المدينة) .
ونحوه قوله تعالى : (أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ، قيما) (3) .
فإن (قيما) حال من الكتاب وقد توسط بين الحال وذى الحال (ولم يجعل له عوجا) والحال كالصفة ، ولانهم قد أجازوا : (مررت برجل - أيها الناس - طويل) ، والنداء أجنبي ، على أنا لا نسلم أن قوله : (من الجهل) أجنبي ، لانه متعلق بأقرب ، والاجنبى مالا تعلق له بالكلام .
__________
(1) سورة الكهف 26 .
(2) سورة التوبه 101 .
(3) سورة الكهف 1 ، 2 .
(*)(10/73)
(182) الاصل : ومن كلام له عليه السلام وقد أرسل رجلا من أصحابه يعلم له علم أحوال قوم من جند الكوفة قد هموا باللحاق بالخوارج ، وكانوا على خوف منه عليه السلام ، فلما عاد إليه الرجل قال له أأمنوا فقطنوا ، أم جبنوا فظعنوا ! فقال الرجل : بل ظعنوا يا أمير المؤمنين .
فقال عليه السلام : بعدا لهم كما بعدت ثمود ! أما لو أشرعت الاسنة إليهم ، وصبت السيوف على هاماتهم ، لقد ندموا على ماكان منهم .
إن الشيطان اليوم قد استفلهم ، وهو غدا متبرئ منهم ، ومتخل عنهم ، فحسبهم بخروجهم من الهدى ، وارتكاسهم في الضلال والعمى ، وصدهم عن الحق ، وجماحهم في التيه .
الشرح : قد ذكرنا قصة هولاء القوم فيما تقدم عند شرحنا قصة مصقلة بن هبيرة الشيباني .
وقطن الرجل بالمكان ، يقطن بالضم : أقام به وتوطنه ، فهو قاطن ، والجمع قطان وقاطنة وقطين أيضا ، مثل غاز وغزى .
وعازب للكلا البعيد وعزيب .
وظعن صار الرجل ظعنا وظعنا ، وقرئ بهما : (يوم ظعنكم) (1) ، وأظعنه سيره ، وانتصب (بعدا) على المصدر .
__________
(1) سورة النحل 80 .
(*)(10/74)
وثمود ، إذا أردت القبيلة غير مصروف ، وإذا أردت الحى أو اسم الاب مصروف ، ويقال : إنه ثمود بن عابر بن آدم بن سام بن نوح ، قيل : سميت ثمود لقلة مائها ، من الثمد وهو الماء القليل ، وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادى القرى .
وأشرعت الرمح إلى زيد ، أي سددته نحوه ، وشرع الرمح نفسه وصبت السيوف على هاماتهم : استعارة من صببت الماء ، شبه وقع السيوف وسرعة اعتوارها الرؤوس بصب الماء .
واستفلهم الشيطان : وجدهم مفلولين ، فاستزلهم ، هكذا فسروه .
ويمكن عندي أن يريد أنه وجدهم فلا ، لاخير فيهم ، والفل في الاصل : الارض لا نبات بها ، لانها لم تمطر ، قال حسان يصف العزى (1) : وإن التى بالجذع من بطن نخلة ومن دانها فل من الخير معزل (2) أي خال من الخير .
ويروى (من استفزهم) ، أي استخفهم .
والارتكاس في الضلال : الرجوع ، كأنه جعلهم في ترددهم في طبقات الضلال كالمرتكس الراجع إلى أمر قد كان تخلص منه .
والجماح في التيه : الغلو والافراط ، مستعار من جماح الفرس ، وهو أن يعتز صاحبه ويغلبه ، جمح فهو جموح .
__________
(1) في الاصل : (الغرى) ، تصحيف ، وفى الصحاح : (العزى ، وهى شجرة كانت تعبد .
(2) اللسان 14 : 47 ، ونسبه إلى عبد الله بن رواحة ، وذكر قبله : شهدت ولم أكذب بأن محمدا رسول الذى فوق السماوات من عل .
(*)(10/75)
(183) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : روى عن نوف البكالى ، قال : خطبنا بهذه الخطبة أمير المؤمنين على عليه السلام بالكوفة ، وهو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومى ، وعليه مدرعة من صوف ، وحمائل سيفه ليف ، وفى رجليه نعلان من ليف ، وكأن جبينه ثفنة بعير ، فقال عليه السلام ! الحمد لله الذى إليه مصائر الخلق ، وعواقب الامر ! نحمده على عظيم إحسانه ، ونير برهانه ، ونوامى فضله وامتنانه ، حمدا يكون لحقه قضاء ، ولشكره أداء ، وإلى ثوابه مقربا ، ولحسن مزيده موجبا ، ونستعين به استعانة راج لفضله ، مؤمل لنفعه ، واثق بدفعه ، معترف له بالطول ، مذعن له بالعمل والقول ، ونؤمن به إيمان من رجاه موقنا ، وأناب إليه مؤمنا ، وخنع له مذعنا ، وأخلص له موحدا ، وعظمه ممجدا ، ولاذ به راغبا مجتهدا .
الشرح : (نوف البكالى) قال الجوهرى في الصحاح : نوف البكالى ، بفتح الباء ، كان حاجب على عليه السلام ، ثم قال : وقال ثعلب : هو منسوب إلى بكالة ، قبيلة (1) .
__________
(1) صحاح الجوهرى 3 : 1638 .
(*)(10/76)
وقال القطب الراوندي في شرح نهج البلاغة بكال وبكيل شئ واحد ، هو اسم حى من همدان ، وبكيل أكثر ، قال الكميت : فقد شركت فيه بكيل وأرحب (1) .
والصواب غير ما قالاه ، وإنما بنو بكال ، بكسر الباء ، حى من حمير ، منهم هذا الشخص ، هو نوف بن فضالة ، صاحب على عليه السلام ، والرواية الصحيحة الكسر ، لان نوف بن فضالة بكالى ، بالكسر ، من حمير ، وقد ذكر ابن الكلبى نسب بنى بكال الحميريين ، فقال : هو بكال بن دعمى بن غوث بن سعد بن عوف بن عدى بن مالك بن زيد ابن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير .
(نسب جعدة بن هبيرة) وأما جعدة بن هبيرة ، فهو ابن أخت أمير المؤمنين عليه السلام ، أمه أم هانئ بنت أبى طالب بن عبد المطلب بن هاشم ، وأبوه هبيرة بن أبى وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران ابن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب .
وكان جعدة فارسا شجاعا ، فقيها وولى خراسان لامير المؤمنين عليه السلام ، وهو من الصحابة الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وآله يوم الفتح ، مع أمه أم هانئ بنت أبى طالب ، وهرب أبو هبيرة بن أبى وهب ذلك اليوم هو وعبد الله بن الزبعرى إلى نجران .
__________
(1) الصحاح ، وصدره : يقولون يورث ولولا تراثه .
(*)(10/77)
وروى أهل الحديث أن أم هانئ كانت يوم الفتح في بيتها ، فدخل عليها هبيرة ابن أبى وهب بعلها ، ورجل من بنى عمه ! هاربين من على عليه السلام ، وهو يتبعهما وبيده السيف ، فقامت أم هانئ في وجهه دونهما ، وقالت : ما تريده منهما ، ولم تكن رأته من ثمانى سنين ، فدفع في صدرها ، فلم تزل عن موضعها ، وقالت : أتدخل يا على بيتى ، وتهتك حرمتي ، وتقتل بعلى ، ولا تستحيى منى بعد ثمانى سنين ! فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله أهدر دمهما ، فلابد أن أقتلهما .
فقبضت على يده التى فيها السيف ، فدخلا بيتا ثم خرجا منه إلى غيره ، ففاتاه ، وجاءت أم هانئ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فوجدته يغتسل من جفنة فيها أثر العجين ، وفاطمة ابنته تستره بثوبها ، فوقفت حتى أخذ ثوبه ، فتوشح به ، ثم صلى ثمانى ركعات من الضحى ، ثم انصرف ، فقال : مرحبا وأهلا بأم هانئ ! ما جاء بك ؟ فأخبرته خبر بعلها وابن عمه ، ودخول على عليه السلام بيتها بالسيف .
فجاء على عليه السلام ورسول الله صلى الله عليه وآله يضحك ، فقال له : ما صنعت بأم هانئ ؟ فقال : سلها يارسول الله ما صنعت بى ! والذى بعثك بالحق لقد قبضت على يدى وفيها السيف ، فما استطعت أن أخلصها إلا بعد لاى ، وفاتني الرجلان .
فقال صلى الله عليه وآله : (لو ولد أبو طالب الناس كلهم لكانوا شجعانا ، قد أجرنا من أجارت أم هانئ ، وأمنا من أمنت ، فلا سبيل لك عليهما) .
فأما هبيرة فلم يرجع ، وأما الرجل الاخر ، فرجع فلم يعرض له .
قالوا : وأقام هبيرة بن أبى وهب بنجران حتى مات بها كافرا ، وروى له محمد بن إسحاق في كتاب المغازى شعرا أوله : أشاقتك هند أم أتاك سؤالها كذاك النوى أسبابها وانفتالها .
يذكر فيه أم هانئ وإسلامها ، وأنه مهاجر لها إذ صبت إلى الاسلام ، ومن جملته :(10/78)
فإن كنت قد تابعت دين محمد وقطعت الارحام منك حبالها (1) فكوني على أعلى سحوق بهضبة ململمة غبراء يبس قلالها (2) .
وقال ابن عبد البر في كتاب الاستيعاب (3) : ولدت أم هانئ لهبيرة بن أبى وهب بنين أربعة : جعدة ، وعمرا ، وهانئا ، ويوسف ، قال : وجعدة الذى يقول : أبى من بنى مخزوم إن كنت سائلا ومن هاشم أمي ، لخير قبيل (4) فمن ذا الذى ينأى على بخاله كخالي على ذى الندى وعقيل ! .
المدرعه : الجبه ، وتدرع : لبسها ، وربما قالوا : تمدرع .
وثفنة البعير ، واحدة ثفناته ، وهو ما يقع على الارض من أعضائه إذا استناخ فيغلظ ويكثف ، كالركبتين وغيرهما .
ويقال : ذو الثفنات الثلاثة لعلى بن الحسين ، وعلى بن عبد الله بن العباس عليه السلام ، ولعبد الله بن وهب الراسبى ، رئيس الخوارج ، لان طول السجود كان قد أثر في ثفناتهم ، قال دعبل :
__________
(1) الاستيعاب لابن عبد البر 782 .
(2) في الاستيعاب : ممنعة لاتستطاع قلالها ، وبعده : فإنى من قوم إذا جد جدهم على أي حال أصبح القوم حالها وإنى لاحمى من وراء عشيرتي إذا كثرت تحت العوالي مجالها وطارت بأيدى القوم بيض كأنها مخاريق ولدان ينوس ظلالها وأن كلام المرء في غير كنهه لنبل تهوى ليس فيها نصالها (3) الاستيعاب ص 82 - 92 (4) المصدر السابق .
(*)(10/79)
ديار على والحسين وجعفر وحمزة والسجاد ذى الثفنات (1) ومصائر الامور : جمع مصير ، وهو مصدر (صار) إلى كذا ، ومعناه المرجع ، قال تعالى : (وإلى الله المصير) (2) فأما المصدر من (صار الشئ كذا) فمصير وصيرورة ، والقياس في مصدر (صار إليه) أي رجع (مصارا) ، كمعاش ، وإنما جمع المصدر هاهنا لان الخلائق يرجعون إلى الله تعالى في أحوال مختلفة في الدنيا وفى الدار الاخرة ، فجمع المصدر ، وإن كان يقع بلفظه على القليل والكثير ، لاختلاف وجوهه ، كقوله تعالى : (ويظنون بالله الظنونا) (3) .
وعواقب الامر : جمع عاقبة ، وهى آخر الشئ .
ثم قسم الحمد ، فجعله على ثلاثة أقسام : أحدها : الحمد على عظيم إحسانه ، وهو أصول نعمه تعالى ، كالحياة والقدرة والشهوة وغيرها مما لا يدخل جنسه تحت مقدور القادر .
وثانيها : الحمد على نير برهانه ، وهو ما نصبه في العقول من العلوم البديهية المفضية إلى العلوم النظرية بتوحيده وعدله .
وثالثها : الحمد على أرزاقه النامية ، أي الزائدة وما يجرى مجراها من إطالة الاعمار ، وكثرة الارزاق ، وسائر ضروب الاحسان الداخلة في هذا القسم .
ثم بالغ في الحمد حمدا يكون لحقه قضاء ، ولشكره أداء ، وذلك لان الحمد والشكر (ولو بلغ)
__________
(1) من قصيدته التائية : مدارس آيات خلت من تلاوة ومنزل وحى مقفر العرصات وهى في معجم الادباء 11 : 103 - 115 .
(2) سورة آل عمران 28 .
(3) سورة الاحزاب 10 .
(*)(10/80)
أقصى غاياته لم يصل إلى أن يكون قاضيا لحق الله تعالى ، ولا مؤديا لشكره ولكنه قال ذلك على سبيل المبالغة .
ثم قال : (وإلى ثوابه مقربا ، ولحسن مزيده موجبا) ، وذلك لان الشكر يوجب الثواب والمزيد ، قال الله تعالى : (فاذكروني أذكركم) (1) ، أي (أثبكم) ، وقال : (لئن شكرتم لازيدنكم) (2) .
ثم شرع في الاستعانة بالله ففصلها أحسن تفصيل ، فذكر أنه يستعين به استعانة راج لفضله في الاخرة ، مؤمل لنفعه في الدنيا ، واثق بدفعه المضار عنه ، وذلك لانه أراد أن يحتوى على وجوه ما يستعان به تعالى لاجله ، فذكر الامور الايجابية ، وأعقبها بالامور السلبية ، فالاولى جلب المنافع ، والثانية دفع المضار .
والطول : الافضال .
والاذعان : الانقياد والطاعة .
وأناب إليه أقبل ، وتاب .
وخنع : خضع ، والمصدر الخنوع .
ولاذ به : لجأ إليه .
الاصل : لم يولد سبحانه فيكون في العز مشاركا ، ولم يلد فيكون موروثا هالكا .
ولم يتقدمه وقت ولا زمان ، ولم يتعاوره زيادة ولا نقصان ، بل ظهر للعقول بما أرانا من علامات التدبير المتقن ، والقضاء المبرم .
فمن شواهد خلقه خلق السموات موطدات بلا عمد ، قائمات بلا سند ، دعاهن فأجبن طائعات مذعنات ، غير متلكئآت ولا مبطئات .
ولولا إقرارهن له بالربوبية ، وإذعانهن له بالطواعية لما جعلهن موضعا لعرشه(10/81)
ولا مسكنا لملائكته ، ولا مصعدا للكلم الطيب ، والعمل الصالح من خلقه .
الشرح : نفى عليه السلام أن يكون البارئ سبحانه مولودا فيكون له شريك في العز والالهية ، وهو أبوه الذى ولده ، وإنما قال ذلك جريا على عادة ملوك البشر ، فإن الاكثر أن الملك يكون ابن ملك قبله ، ونفى أن يكون له ولد جريا أيضا على عادة البشر ، في أن كل والد في الاكثر ، فإنه يهلك قبل هلاك الولد ، ويرثه الولد ، وهذا النمط من الاحتجاج يسمى خطابة ، وهو نافع في مواجهة العرب به ، وأراد من الاحتجاج إثبات العقيدة ، فتارة تثبت في نفوس العلماء بالبرهان ، وتارة تثبت في نفوس العوام بالخطابة والجدل .
ثم نفى أن يتقدمه وقت أو زمان ، والوقت هو الزمان ، وإنما خالف بين اللفظين ، وأتى بحرف العطف ، كقوله تعالى : (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) .
ونفى أن يتعاوره ، أي تختلف عليه زيادة أو نقصان ، يقال : عاورت زيدا الضرب ، أي فعلت به من الضرب مثل ما فعل بى ، واعتوروا الشئ ، أي تداولوه فيما بينهم ، وكذلك تعوروه وتعاوروه ، وإنما ظهرت الواو في (اعتوروا) ، لانه في معنى (تعاوروا) فبنى عليه ولو لم يكن في معناه لاعتلت ، كما قالوا : (اجتوروا) لما كان في معنى : (تجاوروا) التى لا بد من صحة الواو فيها لسكون الالف ، قبلها .
واعتورت الرياح رسم الدار : اختلفت عليه .
فإن قلت : هذا يقتضى أن يقول : (ولم يتعاوره زيادة ونقصان) ، لان التعاور يستدعى الضدين معا ، ولا ينبغى أن يقول : (ولا نقصان) ، كما لا يجوز أن تقول : لم يختلف زيد ولا عمرو(10/82)
قلت : لما كانت مراتب الزيادة مختلفة جاز أن يقال : (لايعتوره الزيادة) ، فكذلك القول في جانب النقصان ، وجرى كل واحد من النوعين مجرى أشياء متنافية ، تختلف على الموضع الموصوف بها .
قوله عليه السلام : (موطدات) أي ممهدات مثبتات .
والعمد : جمع عماد ، نحو إهاب وأهب ، وإدام وأدم ، وهو على خلاف القياس ، ومنه قوله تعالى : (في عمد ممدة) (1) ، وقوله تعالى : (خلق السموات بغير عمد ترونها) (2) ، والسند ما يستند إليه .
ثم قال : (دعاهن فأجبن طائعات) ، هذا من باب المجاز والتوسع ، لان الجماد لا يدعى ، وأما من قال : إن السموات أحياء ناطقة ، فإنه لم يجعلهن مكلفات ليقال : ولولا إقرارهن له بالربوبية لما فعل كذا ، بل يقول ذلك على وجه آخر ، ولكن لغة العرب تنطق بمثل هذا المجاز ، نحو قول الراجز : امتلا الحوض وقال قطني مهلا رويدا قد ملات بطني (3) .
ومنه قوله تعالى : (ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) (4) .
ومنه قول مكاتب لبنى منقر التميميين ، كان قد ظلع (5) بمكاتبته ، فأتى قبر غالب بن صعصعة ، فاستجار به ، وأخذ منه حصيات فشدهن في عمامته ، ثم أتى الفرزدق فأخبره خبره ، وقال : إنى قد قلت شعرا ، قال : هاته ، فأنشده :
__________
(1) سورة الهمزة 9 .
(2) سورة الرعد 2 .
(3) اللسان (قطين) من غير نسبه .
(4) سورة فصلت 11 .
(5) يريد أنه ضاق بها .
(*)(10/83)
بقبر ابن ليلى غالب عذت بعد ما خشيت الردى أو أن أرد على قسر بقبر امرئ يقرى المئين عظامه ولم يك إلا غالبا ميت يقرى فقال لى استقدم أمامك إنما فكاكك أن تلقى الفرزدق بالمصر .
فقال : ما اسمك ؟ فقال : لهذم ، قال : يالهذم حكمك مسمطا ، قال : ناقة كوماء (1) سوداء الحدقة ، قال : يا جارية اطرحي لنا حبلا ، ثم قال : يالهذم اخرج بنا إلى المربد فألقه في عنق ما شئت من إبل الناس ، فتخير لهذم على عينه ناقة ، ورمى بالحبل في عنقها ، وجاء صاحبها ، فقال له الفرزدق : اغد على أوفك ثمنها ، فجعل لهذم يقودها ، والفرزدق يسوقها ، حتى أخرجها من البيوت إلى الصحراء ، فصاح به الفرزدق : يالهذم ، قبح الله أخسرنا ! فخبر الشاعر عن القبر ، بقوله : (فقال لى استقدم أمامك) والقبر والميت الذى فيه لا يخبران ، ولكن العرب وأهل الحكمة من العجم يجعلون كل دليل قولا وجوابا ، ألا ترى إلى قول زهير : أمن أم أوفى دمنة لم تكلم (2) .
وإنما كلامها عنده أن تبين ما يرى من الاثار فيها عن قدم العهد بأهلها .
ومن كلام بعض الحكماء : هلا وقفت على تلك الجنان والحيطان ، فقلت : أيتها الجنان ، أين من شق أنهارك ، وغرس أشجارك ، وجنى ثمارك ! فإن لم تجبك حوارا ، أجابتك اعتبارا ! .
وقال (3) النعمان بن المنذر ، ومعه عدى بن زيد ، في ظل شجرات مونقات يشرب ،
__________
(1) الكوماء : الناقة الضخمة .
(2) ديوانه وبقيته : بحومانة الدراج فالمتلثم .
(3) قال ، من القيلولة(10/84)
فقال عدى : أبيت اللعن ! وأراد أن يعظه : أتدرى ما تقول هذه الشجرات ؟ قال : ما تقول ؟ قال : رب ركب قد أناخوا حولنا يشربون الخمر بالماء الزلال (1) أضحوا عصف الدهر بهم وكذاك الدهر يودى بالرجال فتنغص النعمان يومه ذلك .
(1) والمذعن : المنقاد المطيع .
المتلكئ : المتوقف .
والكلم الطيب : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا صلى الله عليه وآله رسوله .
والعمل الصالح : أداء الواجبات والنوافل ، واللفظات من القرآن (2) العزيز .
والمصعد : موضع الصعود ، ولا شبهة أن السماء أشرف من الارض على رأى المليين وعلى رأى الحكماء ، أما أهل الملة ، فلان السماء مصعد الاعمال الصالحة ، ومحل الانوار ، ومكان الملائكة ، وفيها العرش والكرسي ، والكواكب المدبرات أمرا ، وأما الحكماء فلامور أخرى تقتضيها أصولهم الاصل : جعل نجومها أعلاما يستدل بها الحيران في مختلف فجاج الاقطار ، لم يمنع ضوء نورها ادلهمام سجف الليل المظلم ، ولا استطاعت جلابيب سواد الحنادس أن ترد ما شاع في السموات من تلالؤ نور القمر ، فسبحان من لا يخفى عليه سواد غسق داج ، ولا ليل ساج ، في بقاع الارضين المتطأطئات ، ولا في يفاع السفع
__________
(1) الشعر والخبر في الاغانى 2 : 96 (طبعة دار الكتب) .
(2) من قوله تعالى في سورة فاطر 10 : (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) .
(*)(10/85)
المتجاورات ، وما يتجلجل به الرعد في أفق السماء ، وما تلاشت عنه بروق الغمام ، وما تسقط من ورقة تزيلها عن مسقطها عواصف الانواء وانهطال السماء ! ويعلم مسقط القطرة ومقرها ، ومسحب الذرة ومجرها ، وما يكفى البعوضة من قوتها ، وما تحمل من الانثى في بطنها .
الشرح : أعلاما ، أي يستدل بها .
والفجاج : جمع فج ، وهو الطريق في الجبل .
ثم قال : إن إدلهمام سواد الليل - أي شدة ظلمته - لم يمنع الكواكب من الاضاءة ، وكذلك أيضا لم يمنع ظلام الليل القمر من تلالؤ نوره ، وأنما خص القمر بالذكر وإن كان من جملة الكواكب ، لشرفه بما يظهر للابصار من عظم حجمه ، وشدة إضاءته ، فصار كقوله تعالى : (فيهما فاكهة ونخل ورمان) (1) ، وقد روى بعض الرواة (ادلهمام) بالنصب ، وجعله مفعولا ، (وضوء نورها) بالرفع وجعله فاعلا ، وهذه الرواية أحسن في صناعة الكتابة لمكان الازدواج ، أي لا القمر ولا الكواكب تمنع الليل من الظلمة ، ولا الليل يمنع الكواكب والقمر من الاضاءة .
والسجف : جمع سجف ، وهو الستر ، ويجوز فتح السين .
وشاع : تفرق ، والتلالؤ : اللمعان .
والجلابيب : الثياب .
والغسق : الظلمة .
والساجى : الساكن .
والداجى : المظلم ، والمتطاطئ : المنخفض .
والسفع المتجاورات هاهنا : الجبال ، وسماها سفعا لان السفعة سواد مشرب بحمرة ، وكذلك لونها في الاكثر .
__________
(1) سورة الرحمن 68 .
(*)(10/86)
واليفاع : الارض المرتفعة .
والتجلجل : صوت الرعد .
وما تلاشت عنه بروق الغمام ، هذه الكلمة أهمل بناءها كثير من أئمة اللغة ، وهى صحيحة وقد جاءت ووردت ، قال ابن الاعرابي : لشا الرجل ، إذا اتضع ، وخس بعد رفعه ، وإذا صح إصلها ، صح استعمال الناس ، تلاشى الشئ ، بمعنى اضمحل .
وقال القطب الراوندي : تلاشى مركب من (لا شئ) ، ولم يقف على أصل الكلمة ، وقد ظهر الان أن معنى كلامه عليه السلام أنه سبحانه يعلم ما يصوت به الرعد ، ويعلم ما يضمحل عنه البرق .
فإن قلت : وهل يقصد الرعد بجلجلته معنى معقولا ليقال : إن البارئ يعلمه ؟ ثم ما المراد بكونه عالما بما يضمحل البرق عنه ؟ .
قلت : قد يكون تعالى يحدث في الرعد جلجلة ، أي صوتا ليهلك به قوما ، أو لينفع به قوما ، فعلمه بما تتضمنه تلك الجلجلة هو معنى قولنا : يعلم ما يصوت به الرعد ، ولا ريب أن البرق يلمع فيضئ أقطارا مخصوصة ، ثم يتلاشى عنها ، فالبارئ سبحانه عالم بتلك الاقطار التى يتلاشى البرق عنها .
فإن قلت : هو سبحانه عالم بما يضيئه البرق ، وبما لا يضيئه ، فلماذا خص بالعالمية ما يتلاشى عنه البرق ؟ قلت : لان علمه بما ليس بمضئ بالبرق أعجب وأغرب ، لان ما يضيئه البرق يمكن أن يعلمه أولو الابصار الصحيحة ، فأراد عليه السلام أن يشرح من صفاته سبحانه ما هو بخلاف المعتاد بين البشر ، ليكون إعظام السامعين له سبحانه أتم وأكمل .
والعواصف : الرياح الشديدة ، وأضافها إلى الانواء ، لان أكثر ما يكون عصفانها في الانواء ، وهى جمع نوء ، وهو سقوط النجم من منازل القمر الثمانية والعشرين في المغرب(10/87)
مع الفجر ، وطلوع رقيبة من المشرق مقابلا له من ساعته ، ومدة النوء ثلاثة عشر يوما ، إلا الجبهة فإن لها أربعة عشر يوما .
قال أبو عبيد : ولم يسمع في النوء أنه المسقوط إلا في هذا الموضع ، وكانت العرب نضيف الرياح والامطار والحر والبرد إلى الساقط منها .
وقال الاصمعي : بل إلى الطالع في سلطانه ، فتقول : مطرنا بنوء كذا وكذا ، ونهى النبي صلى الله عليه وآله عن ذلك ، والجمع أنواء ونوآن أيضا ، مثل بطن وبطنان وعبد وعبدان ، قال حسان بن ثابت : ويثرب تعلم أنا بها إذا قحط القطر نوآنها (1) .
والانهطال : الانصباب .
ومسقط القطرة من المطر موضع سقوطها ، ومقرها موضع قرارها ، ومسحب الذرة الصغيرة من النمل ومجرها : موضع سحبها وجرها .
وهذا الفصل من فصيح الكلام ونادره ، ويتضمن من توحيد الله تعالى وتمجيده والثناء عليه ما يشهد لنفسه .
الاصل : والحمد لله الكائن قبل أن يكون كرسى أو عرش أو سماء أو أرض أو جان أو أنس ، لا يدرك بوهم ، ولا يقدر بفهم ، ولا يشغله سائل ، ولا ينقصه نائل ، ولا ينظر بعين ، ولا يحد بأين ، ولا يوصف بالازواج ، ولا يخلق بعلاج ، ولا يدرك بالحواس ، ولا يقاس بالناس .
الذى كلم موسى تكليما ، وأراه من آياته عظيما ، بلا جوارح ولا أدوات ، ولا نطق ولا لهوات ، بل إن كنت صادقا أيها المتكلف لوصف ربك ، فصف
__________
(1) الصحاح 1 : 79 .
(*)(10/88)
جبريل وميكائيل ، وجنود الملائكة المقربين ، في حجرات القدس مرجحنين ، متولهة عقولهم أن يحدوا أحسن الخالقين ، وإنما يدرك بالصفات ذوو الهيئات والادوات ، ومن ينقضى إذا بلغ أمد حده بالفناء ، فلا إله إلا هو أضاء بنوره كل ظلام ، وأظلم بظلمته كل نور .
الشرح : ليس يعنى بالكائن هاهنا ما يعنيه الحكماء والمتكلمون ، بل مراده الموجود ، أي هو الموجود قبل أن يكون الكرسي والعرش وغيرهما ، والاوائل يزعمون أن فوق السموات السبع سماء ثامنة ، وسماء تاسعة ، ويقولون : إن الثامنة هي الكرسي ، وإن التاسعة هي العرش .
قوله عليه السلام : (لا يدرك بوهم) ، الوهم هاهنا (1) : الفكرة والتوهم .
ولا يقدر بفهم ، أي لا تستطيع الافهام أن تقدره وتحده .
ولا يشغله سائل كما يشغل السؤال منا من يسألونه .
ولا ينقصه العطاء ، كما ينقص العطاء خزائن الملوك .
ولا يبصر بجارحة ، ولا يحد بأين ، ولفظة أين في الاصل مبنية على الفتح ، فإذا نكرتها صارت اسما متمكنا ، كما قال الشاعر : ليت شعرى وأين منى ليت إن (ليتا) وإن (لوا) عناء .
وإن شئت قلت : إنه تكلم بالاصطلاح الحكمى والاين عندهم ، حصول الجسم في المكان ، وهو أحد المقولات العشر .
__________
(1) ساقطه من ب .
(*)(10/89)
قوله عليه السلام : ولا يوصف بالازواج ، أي صفات الازواج ، وهى الاصناف ، قال سبحانه : (وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج) (1) .
قوله : (ولا يخلق بعلاج) ، أي لا يحتاج في إيجاد المخلوقات إلى معالجة ومزاولة .
قوله : (وكلم موسى تكليما) (2) من الالفاظ القرآنية ، والمراد هاهنا من ذكر المصدر تأكيد الامر وإزالة لبس عساه يصلح للسامع ، فيعتقد أنه أراد المجاز ، وأنه لم يكن كلام على الحقيقة .
قوله : (وأراه من آياته عظيما) ، ليس يريد به الايات الخارجة عن التكليم ، كانشقاق البحر ، وقلب العصا ، لانه يكون بإدخال ذلك بين قوله : (تكليما) ، وقوله : (بلا جوارح ولا أدوات ، ولا نطق ولا لهوات) ، مستهجنا ، وإنما يريد أنه أراد بتكليمه إياه عظيما من آياته ، وذلك أنه كان يسمع الصوت من جهاته الست ، ليس على حد سماع كلام البشر من جهة مخصوصة ، وله دوى وصلصلة كوقع السلاسل العظيمة على الحصا الاصم .
فإن قلت : أتقول إن الكلام حل أجساما مختلفة من الجهات الست .
؟ قلت : لا وإنما حل الشجرة فقط ، وكان يسمع من كل جهة ، والدليل على حلوله في الشجرة قوله تعالى : (فلما أتاها نودى من شاطئ الواد الايمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى) (3) ، فلا يخلو إما أن يكون النداء حل الشجرة ، أو المنادى حلها ، والثانى باطل ، فثبت الاول .
ثم قال عليه السلام لمن يتكلف أن يصف ربه : إن كنت صادقا ، أنك قد وصلت إلى
__________
(1) سورة ق 7 .
(2) وهو قوله تعالى في سورة النساء 164 (وكلم الله موسى تكليما) .
(3) سورة القصص 30 .
(*)(10/90)
معرفة صفته فصف لنا الملائكة ، فإن معرفة ذات الملك أهون من معرفة ذات الاول سبحانه .
وحجرات القدس : جمع حجرة ، ومرجحنين : مائلين إلى جهة (تحت) خضوعا لجلال البارئ سبحانه ، ارجحن الحجر ، إذا مال هاويا .
متولهة عقولهم ، أي حائرة .
ثم قال : إنما يدرك بالصفات ويعرف كنه ماكان ذا هيئة وأداة وجارحة ، وما ينقضى ويفنى ويتطرق إليه العدم ، وواجب الوجود سبحانه بخلاف ذلك .
وتحت قوله : (أضاء بنوره كل ظلام ...
) إلى آخر الفصل ، معنى دقيق وسر خفى ، وهو أن كل رذيلة في الخلق البشرى مع معرفته بالادلة البرهانية غير مؤثرة ولا قادحة في جلالة المقام الذى قد بلغ إليه ، وذلك نحو أن يكون العارف بخيلا أو جبانا ، أو حريصا أو نحو ذلك ، وكل فضيلة في الخلق البشرى مع الجهل به سبحانه ، فليست بفضيلة في الحقيقة ولا معتد بها لان نقيصة الجهل به تكسف تلك الانوار ، وتمحق فضلها ، وذلك نحو أن يكون الجاهل به سبحانه جوادا ، أو شجاعا ، أو عفيفا ، أو نحو ذلك ، وهذا يطابق ما يقوله الاوائل ، من أن العارف المذنب يشقى بعد الموت قليلا ، ثم يعود إلى النعيم السرمدي ، وأن الجاهل ذا العبادة والاحسان يشقى بعد الموت شقاء مؤبدا ، ومذهب الخلص من مرجئة الاسلام يناقض هذه اللفطات ، ويقال : إنه مذهب أبى حنيفة رحمه الله ، ويمكن تأويلها على مذهب أصحابنا بأن يقال : كل ظلام من المعاصي الصغائر ، فإنه ينجلى بضياء معرفته وطاعته ، وكل طاعة يفعلها المكلف مع الكفر به سبحانه فإنها غير نافعة ولا موجبة ثوابا ، ويكون هذا التأويل من باب صرف اللفظ عن عمومه إلى خصوصه .(10/91)
الاصل : أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذى ألبسكم الرياش ، وأسبغ عليكم المعاش ، فلو أن أحدا يجد إلى البقاء سلما ، أو لدفع الموت سبيلا ، لكان ذلك سليمان بن داود عليه السلام ، الذى سخر له ملك الجن والانس ، مع النبوة وعظيم الزلفة ، فلما استوفى طعمته ، واستكمل مدته ، رمته قسى الفناء بنبال الموت ، وأصبحت الديار منه خالية ، والمساكن معطلة ، وورثها قوم آخرون .
وإن لكم في القرون السالفة لعبرة ! أين العمالقة وأبناء العمالقة ! أين الفراعنة وأبناء الفراعنة ! أين أصحاب مدائن الرس الذين قتلوا النبيين ، وأطفئوا سنن المرسلين ، وأحيوا سنن الجبارين ! أين الذين ساروا بالجيوش ، وهزموا الالوف ، وعسكروا العساكر ، ومدنوا المدائن ! الشرح : الرياش : اللباس .
وأسبغ : أوسع ، وإنما ضرب المثل بسليمان عليه لسلام ، لانه كان ملك الانس والجن ، ولم يحصل لغيره ذلك ، ومن الناس من أنكر هذا ، لان اليهود والنصارى يقولون : إنه لم يتعد ملكه حدود الشام ، بل بعض الشام ، وينكرون حديث الجن والطير والريح ، ويحملون ما ورد من ذلك على وجوه وتأويلات عقلية معنوية ، ليس هذا موضع ذكرها .
والزلفة : القرب .
والطعمة ، بضم الطاء : المأكلة ، يقال : قد جعلت هذه الضيعة طعمة لزيد .
والقسى : جمع قوس ، وأصلها (قووس) على (فعول) ، كضرب وضروب ، إلا أنهم قدموا(10/92)
اللام ، فقالوا (قسو) على (فلوع) ، ثم قلبت الواو ياء ، وكسروا القاف كما كسروا عين (عصى) فصارت (قسى) .
(نسب العمالقة) والعمالقة أولاد لاوذ إرم بن سام بن نوح ، كان الملك باليمن والحجاز وما تاخم ذلك من الاقاليم ، فمنهم عملاق بن لاوذ بن سام ، ومنهم طسم بن لاوذ أخوه .
ومنهم جديس بن لاوذ أخوهما ، وكان العز والملك بعد عملاق بن لاوذ في طسم ، فلما ملكهم عملاق بن طسم ، بغى وأكثر الفساد في الارض ، حتى كان يطأ العروس ليلة إهدائها إلى بعلها ، وإن كانت بكرا افتضها قبل وصولها إلى البعل ، ففعل ذلك بإمراه من جديس ، يقال لها غفيرة بنت غفار ، فخرجت إلى قومها ، وهى تقول : لاأحد أذل من جديس أهكذا يفعل بالعروس ! .
فغضب لها أخوها الاسود بن غفار ، وتابعه قومه على الفتك بعملاق بن طسم وأهل بيته ، فصنع الاسود طعاما ، ودعا عملاق الملك إليه ، ثم وثب به وبطسم ، فأتى على رؤسائهم ، ونجا منهم رياح بن مر ، فصار إلى ذى جيشان بن تبع الحميرى ملك اليمن ، فاستغاث به ، واستنجده على جديس ، فسار ذو جيشان في حمير ، فأتى بلاد جو ، وهى قصبة اليمامة ، فاستأصل جديسا كلها ، وأخرب اليمامة فلم يبق لجديس باقية ، ولا لطسم إلا اليسير منهم .
ثم ملك بعد طسم وجديس وبار بن أميم بن لاوذ بن إرم ، فسار بولده وأهله ، فنزل بأرض وبار ، وهى المعروفة الان برمل عالج ، فبغوا في الارض حينا حتى أفناهم الله .(10/93)
ثم ملك الارض بعد وبار عبد ضخم بن أثيف بن لاوذ ، فنزلوا بالطائف حينا ، ثم بادوا .
(نسب عاد وثمود) وممن يعد مع العمالقة عاد وثمود ، فأما عاد فهو عاد بن عويص بن إرم بن سام بن نوح ، كان يعبد القمر ، ويقال : إنه رأى من صلبه أولاد أولاد أولاده أربعة آلاف ، وإنه نكح ألف جارية ، وكانت بلاده الاحقاف المذكورة في القرآن ، وهى من شحر عمان إلى حضرموت ، ومن أولاده شداد بن عاد ، صاحب المدينة المذكورة .
وأما ثمود ، فهو ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح ، وكانت دياره بين الشام والحجاز إلى ساحل نهر الحبشة .
(نسب الفراعنة) قوله عليه السلام : (أين الفراعنة ، وأبناء الفراعنة) ، جمع فرعون ، وهم ملوك مصر ، فمنهم الوليد بن الريان فرعون يوسف ، ومنهم الوليد بن مصعب ، فرعون موسى .
ومنهم فرعون بن الاعرج الذى غزا بنى إسرائيل وأخرب بيت المقدس .
(نسب أصحاب الرس) قوله عليه السلام : (أين أصحاب مدائن الرس ؟) ، قيل : إنهم أصحاب شعيب النبي(10/94)
النبي صلى الله عليه وآله ، وكانوا عبدة أصنام ، ولهم مواش وآبار يسقون منها .
والرس : بئر عظيمة جدا انخسفت بهم ، وهم حولها ، فهلكوا وخسفت بأرضهم كلها وديارهم .
وقيل : الرس قرية بفلج اليمامة ، كان بها قوم من بقايا ثمود بغوا ، فأهلكوا .
وقيل قوم من العرب القديمة بين الشام والحجاز ، وكانت العنقاء تختطف صبيانهم فتقتلهم ، فدعوا الله أن ينقذهم منها ، فبعث إليهم حنظلة بن صفوان ، فدعاهم إلى الدين على أن يقتل العنقاء ، فشارطوه على ذلك فدعا عليها ، فأصابتها الصاعقة ، فلم يفوا له وقتلوه ، فأهلكوا .
وقيل : هم أصحاب الاخدود ، والرس ، هو الاخدود .
وقيل الرس أرض بأنطاكية قتل فيها حبيب النجار .
وقيل : بل كذب أهلها نبيهم ورسوه في بئر ، أي رموه فيها .
وقيل : إن الرس نهر في إقليم الباب ، والابواب مبدؤة من مدينة طراز ، وينتهى إلى نهر الكر ، فيختلط به حتى يصب في بحر الخزر ، كان هناك ملوك أولو بأس وقدرة ، فأهلكهم الله ببغيهم .
الاصل : منها : قد لبس للحكمة جنتها ، وأخذها بجميع أدبها ، من الاقبال عليها ، والمعرفة بها ، والتفرغ لها ، فهى عند نفسه ضالته التى يطلبها ، وحاجته التى يسأل عنها ، فهو مغترب إذا اغترب الاسلام ، وضرب بعسيب ذنبه ، وألصق الارض بجرانه ، بقية من بقايا حجته ، خليفة من خلائف أنبيائه .(10/95)
الشرح : هذا الكلام فسره كل طائفة على حسب اعتقادها ، فالشيعة الامامية ، تزعم أن المراد به المهدى المنتظر عندهم ، والصوفية يزعمون أنه يعنى به ولى الله في الارض ، وعندهم أن الدنيا لا تخلو عن الابدال ، وهم أربعون ، وعن الاوتاد ، وهم سبعة ، وعن القطب وهو واحد ، فإذا مات القطب صار أحد السبعة قطبا عوضه ، وصار أحد الاربعين وتدا ، عوض الوتد ، وصار بعض الاولياء الذين يصطفيهم الله تعالى أبدالا عوض ذلك البدل .
وأصحابنا يزعمون أن الله تعالى لا يخلى الامة من جماعة من المؤمنين العلماء بالعدل والتوحيد ، وأن الاجماع إنما يكون حجة باعتبار أقوال أولئك العلماء لكنه لما تعذرت معرفتهم بأعيانهم ، اعتبر إجماع سائر العلماء ، وإنما الاصل قول أولئك .
قالوا : وكلام أمير المؤمنين عليه السلام ليس يشير فيه إلى جماعة أولئك العلماء من حيث هم جماعة ، ولكنه يصف حال كل واحد منهم ، فيقول : من صفته كذا ، ومن صفته كذا .
والفلاسفة يزعمون أن مراده عليه السلام بهذا الكلام العارف ، ولهم في العرفان وصفات أربابه كلام يعرفه من له أنس بأقوالهم ، وليس يبعد عندي أن يريد به القائم من آل محمد صلى الله عليه وآله في آخر الوقت ، إذا خلقه الله تعالى ، وإن لم يكن الان موجودا ، فليس في الكلام ما يدل على وجوده الان ، وقد وقع إتفاق الفرق من المسلمين أجمعين على أن الدنيا والتكليف لا ينقضى إلا عليه .
قوله عليه السلام : (قد لبس للحكمة جنتها) ، الجنة : ما يستتر به من السلاح كالدرع ونحوها ، ولبس جنة الحكمة قمع النفس عن المشتهيات ، وقطع علائق النفس عن(10/96)
المحسوسات ، فإن ذلك مانع للنفس عن أن يصيبها سهام الهوى ، كما تمنع الدرع الدارع عن أن يصيبه سهام الرماية .
ثم عاد إلى صفة هذا الشخص ، فقال : (وأخذ بجميع أدبها من الاقبال عليها) ، أي شدة الحرص والهمة .
ثم قال : (والمعرفة بها) ، أي والمعرفة بشرفها ونفاستها .
ثم قال : (والتفرغ لها) ، لان الذهن متى وجهته نحو معلومين تخبط وفسد ، وإنما يدرك الحكمة بتخلية السر من كل ما مر سواها .
قال : (فهى عند نفسه ضالته التى يطلبها) ، هذا مثل قوله عليه السلام : (الحكمة ضالة المؤمن) ، ومن كلام الحكماء : لا يمنعك من الانتفاع بالحكمة حقارة من وجدتها عنده ، كما لا يمنعك خبث تراب المعدن من التقاط الذهب .
ووجدت بخط أبى محمد عبد الله بن أحمد الخشاب رحمه الله في تعاليق مسودة أبياتا للعطوى ، وهى : قد رأينا الغزال والغصن والنجمين شمس الضحى وبدر التمام فوحق البيان يعضده البرهان في مأقط شديد الخصام (1) ما رأينا سوى المليحة شيئا جمع الحسن كله في نظام هي تجرى مجرى الاصالة في الرأى ومجرى الارواح في الاجسام .
وقد كتب ابن الخشاب بخطه تحت (المليحة) : ما أصدقه إن أراد بالمليحة الحكمة ! قوله عليه السلام : (وحاجته التى يسأل عنها) ، هو مثل قوله : (ضالته التى يطلبها .
ثم قال : (هو مغترب إذا اغترب الاسلام) ، يقول هذا الشخص يخفى نفسه ويحملها
__________
(1) المأقط : ساحة القتال .
(*)(10/97)
إذا اغترب الاسلام ، واغتراب الاسلام أن يظهر الفسق والجور على الصلاح والعدل ، قال عليه السلام : (بدأ الاسلام غريبا وسيعود كما بدا) .
قال : (وضرب بعسيب ذنبه ، وألصق الارض بجرانه) ، هذا من تمام قوله : (إذا اغترب الاسلام) ، أي إذا صار الاسلام غريبا مقهورا ، وصار الاسلام كالبعير البارك يضرب الارض بعسيبه ، وهو أصل الذنب ، ويلصق جرانه وهو صدره في الارض ، فلا يكون له تصرف ولا نهوض .
ثم عاد إلى صفة الشخص المذكور .
وقال : (بقية من بقايا حججه ، خليفة من خلائف أنبيائه) ، الضمير هاهنا يرجع إلى الله سبحانه وإن لم يجر ذكره للعلم به ، كما قال : (حتى توارت بالحجاب) (1) ، ويمكن أن يقال : إن الضمير راجع إلى مذكور وهو الاسلام ، أي من بقايا حجج الاسلام وخليفة من خلائف أنبياء الاسلام .
فإن قلت : ليس للاسلام إلا نبى واحد .
قلت : بل له أنبياء كثير ، قال تعالى : (ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل) (2) وقال سبحانه : (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا) (3) ، وكل الانبياء دعوا إلى مادعا إليه محمد صلى الله عليه وآله من التوحيد والعدل ، فكلهم أنبياء للاسلام .
فإن قلت : أليس لفظ (الحجة) ولفظ (الخليفة) مشعرا بما تقوله الامامية ؟ .
قلت : لا ، فإن أهل التصوف يسمون صاحبهم حجة وخليفة ، وكذلك الفلاسفة
__________
(1) سورة ص 32 .
(2) سورة الحج 78 .
(3) سورة النحل 123 .
(*)(10/98)
وأصحابنا لا يمتنعون من إطلاق هذه الالفاظ على العلماء المؤمنين في كل عصر ، لانهم حجج الله ، أي إجماعهم حجة ، وقد استخلفهم الله في أرضه ليحكموا بحكمه .
وعلى ما اخترناه نحن فالجواب ظاهر .
الاصل : ثم قال عليه السلام : أيها الناس ، إنى قد بثثت لكم المواعظ التى وعظ بها الانبياء أممهم ، وأديت إليكم ما أدت الاوصياء إلى من بعدهم ، وأدبتكم بسوطي فلم تستقيموا ، وحدوتكم بالزواجر فلم تستوسقوا .
لله أنتم ! أتتوقعون إماما غيرى يطأ بكم الطريق ، ويرشدكم السبيل ! ألا إنه قد أدبر من الدنيا ماكان مقبلا ، وأقبل منها ما كان مدبرا ، وأزمع الترحال عباد الله الاخيار ، وباعوا قليلا من الدنيا لا يبقى ، بكثير من الاخرة لا يفنى ! ما ضر إخواننا الذين سفكت دماؤهم بصفين ألا يكونوا اليوم أحياء ، يسيغون الغصص ، ويشربون الرنق ! قد والله لقوا الله فوفاهم أجورهم ، وأحلهم دار الامن بعد خوفهم ! أين إخوانى الذين ركبوا الطريق ، ومضوا على الحق ! أين عمار ! وأين ابن التيهان ! وأين ذو الشهادتين ! وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنية وأبرد برؤوسهم إلى الفجرة ! قال : ثم ضرب عليه السلام بيده على لحيته الشريفة الكريمة ، فأطال البكاء ، ثم قال عليه السلام : أوه على إخوانى الذين قرءوا القرآن فأحكموه ، وتدبروا الفرض فأقاموه !(10/99)
أحيوا السنة ، وأماتوا البدعة ، دعوا للجهاد فأجابوا ، ووثقوا بالقائد فاتبعوه .
ثم نادى بأعلى صوته : الجهاد الجهاد عباد الله ! ألا وإنى معسكر في يومى هذا ، فمن أراد الرواح إلى الله فليخرج .
قال نوف : وعقد للحسين عليه السلام في عشرة آلاف ، ولقيس بن سعد رحمه الله في عشرة آلاف ، ولابي أيوب الانصاري في عشرة آلاف ، ولغيرهم على أعداد أخر ، وهو يريد الرجعة إلى صفين فما دارت الجمعة حتى ضربه الملعون ابن الملجم لعنه الله ، فتراجعت العساكر ، فكنا كأغنام فقدت راعيها ، تختطفها الذئاب من كل مكان ! الشرح : بثثت لكم المواعظ : فرقتها ونشرتها .
والاوصياء : الذين يأتمنهم الانبياء على الاسرار الالهية ، وقد يمكن ألا يكونوا خلفاء بمعنى الامرة والولاية ، فإن مرتبتهم أعلى من مراتب الخلفاء .
وحدوتكم : سقتكم كما تحدى الابل .
فلم تستوسقوا ، أي لم تجتمعوا ، قال : مستوسقات لم يجدن سائقا (1) .
قوله : (يطأ بكم الطريق) ، أي يحملكم على المنهاج الشرعي ، ويسلك بكم مسلك الحق ، كأنه جعلهم ضالين عن الطريق التى يطلبونها .
__________
(1) اللسان (وسق) ، وقبله : إن لنا لابلا نقانقا .
(*)(10/100)
وقال : أتريدون إماما غيرى يوقفكم على الطريق التى تطلبونها حتى تطئوها وتسلكوها .
! ثم ذكر أنه قد أدبر من الدنيا ماكان مقبلا ، وهو الهدى والرشاد ، فإنه كان في أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وخلفائه مقبلا ، ثم أدبر عند إستيلاء معاوية وأتباعه ، وأقبل منها ماكان مدبرا ، وهو الضلال والفساد ، ومعاوية عند أصحابنا مطعون في دينه ، منسوب إلى الالحاد ، قد طعن فيه صلى الله عليه وآله ، وروى فيه شيخنا أبو عبد الله البصري في كتاب (نقض السفيانية) على الجاحظ ، وروى عنه أخبارا كثيرة تدل على ذلك ، وقد ذكرناها في كتابنا في (مناقضة السفيانية) .
وروى أحمد بن أبى طاهر في كتاب (أخبار الملوك) أن معاوية سمع المؤذن يقول (أشهد أن لا إله إلا الله) ، فقالها ثلاثا ، فقال : أشهد أن محمدا رسول الله ! فقال : لله أبوك يابن عبد الله ! لقد كنت عالى الهمة ، ما رضيت لنفسك إلا أن يقرن اسمك باسم رب العالمين ! .
قوله عليه السلام : (وأزمع الترحال) أي ثبت عزمهم عليه ، يقال : أزمعت الامر ، ولا يقال : أزمعت على الامر ، هكذا يقول الكسائي ، وأجازه الخليل والفراء .
ثم قال عليه السلام : إنه لم يضر إخواننا القتلى بصفين كونهم اليوم ليسوا بأحياء حياتنا المشوبة بالنغص والغصص .
ويقال : ماء رنق ، بالتسكين ، أي كدر ، رنق الماء بالكسر ، يرنق رنقا فهو رنق ، وأرنقته ، أي كدرته ، وعيش رنق بالكسر ، أي كدر .
ثم أقسم أنهم لقوا الله فوفاهم أجورهم ، وهذا يدل على ما يذهب إليه جمهور أصحابنا من نعيم القبر وعذابه .
ثم قال عليه السلام : (أين إخوانى) ؟ ثم عددهم ، فقال : (أين عمار) .(10/101)
(عمار بن ياسر ونسبه ونبذ من أخباره) وهو عمار بن ياسر بن عامر بن كنانة بن قيس العنسى (بالنون) المذحجي ، يكنى أبا اليقظان ، حليف بنى مخزوم .
ونحن نذكر طرفا من أمره من كتاب الاستيعاب (1) لابي عمر بن عبد البر المحدث .
قال أبو عمر : كان ياسر والد عمار عربيا قحطانيا ، من عنس في مذحج ، إلا أن ابنه عمارا كان مولى لبنى مخزوم ، لان أباه ياسرا قدم مكه مع أخوين له ، يقال لهما : مالك والحارث ، في طلب أخ لهم رابع ، فرجع الحارث ومالك إلى اليمن ، وأقام ياسر بمكة ، فحالف أبا حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، فزوجه أبو حذيفة أمة يقال لها سمية ، فأولدها عمارا ، فأعتقه أبو حذيفة ، فمن هاهنا كان عمار مولى بنى مخزوم ، وأبوه عربي ، لا يختلفون في ذلك ، وللحلف والولاء الذى بين بنى مخزوم وعمار وأبيه ياسر ، كان احتمال بنى مخزوم على عثمان ، حين نال من عمار غلمان عثمان ما نالوا من الضرب ، حتى انفتق له فتق في بطنه ، زعموا ، وكسروا ضلعا من أضلاعه ، فاجتمعت بنو مخزوم ، فقالوا : والله لئن مات لا قتلنا به أحدا غير عثمان .
! قال أبو عمر : كان عمار بن ياسر ممن عذب في الله .
ثم أعطاهم عمار ما أرادوا بلسانه ، واطمأن الايمان بقلبه ، فنزل فيه : (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان) (2) ، وهذا مما أجمع عليه أهل التفسير (3) .
__________
(1) الاستيعاب 1 : 422 - 424 .
(2) سورة النحل 106 .
(3) في كتاب الجامع لاحكام القرآن للقرطبي 10 - 180 (هذه الاية نزلت في عمار بن ياسر ، في قول أهل التفسير ، لانه قارب بعض ماندبوه إليه) ، ثم قال : (وأما عمار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها ، فشكى ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (كيف تجد قلبك ؟) قال : مطمئن بالايمان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (فإن عادوا فعد) (*) .(10/102)
وهاجر إلى أرض الحبشة ، وصلى إلى القبلتين ، وهو من المهاجرين الاولين ، ثم شهد بدرا والمشاهد كلها ، وأبلى بلاء حسنا ، ثم شهد اليمامة ، فأبلى فيها أيضا يومئذ ، وقطعت أذنه .
قال أبو عمر : وقد روى الواقدي ، عن عبد الله بن نافع ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمر ، قال : رأيت عمارا يوم اليمامة على صخرة وقد أشرف عليها يصيح : يا معشر المسلمين ، أمن الجنة تفرون ؟ أنا عمار بن ياسر ، هلموا إلي ! وأنا أنظر إلى أذنه قد قطعت ، فهى تذبذب (1) ، وهو يقاتل أشد القتال .
قال أبو عمر : وكان عمار آدم طوالا مضطربا أشهل (2) العينين ، بعيد مابين المنكبين ، لا يغير شيبة .
قال : وبلغنا أن عمارا قال : كنت تربا لرسول الله صلى الله عليه وآله في سنه ، لم يكن أحد أقرب إليه مني سنا .
وقال ابن عباس في قوله تعالى : (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس) : إنه عمار بن ياسر ، (كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) (3) : إنه أبو جهل بن هشام .
قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وآله : (إن عمارا ملئ إيمانا إلى مشاشه) (4) .
ويروى إلى أخمص (5) قدميه .
وروى أبو عمر عن عائشة ، أنها قالت : مامن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله
__________
(1) تذبذب : تتحرك .
(2) الشهل ، محركة : أن يشوب سواد العين .
(3) سورة الانعام 122 ، وفى تفسير القرطبى عن إبن عباس أيضا أنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب وأبى جهل .
قال : (والصحيح أنها عامة في كل مؤمن وكافر) .
(4) المشاشة : رأس العظم .
(5) الاخمص : من باطن القدم ما لم يصب الارض .
(*)(10/103)
عليه وسلم أشاء أن أقول فيه إلا قلت ، إلا عمار بن ياسر ، فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (إنه ملئ إيمانا إلى أخمص قدميه) .
قال أبو عمر : وقال عبد الرحمن بن أبزى : شهدنا مع على عليه السلام صفين ثمانمائة ممن بايع بيعة الرضوان ، قتل منا ثلاثة وستون ، منهم عمار بن ياسر .
قال أبو عمر : ومن حديث خالد بن الوليد ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : (من أبغض عمارا أبغضه الله) ، فما زلت أحبه من يومئذ .
قال أبو عمر : ومن حديث على بن أبى طالب عليه السلام : إن عمارا جاء يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وآله يوما ، فعرف صوته ، فقال : (مرحبا بالطيب المطيب - يعنى عمارا - ائذنوا له) .
قال أبو عمر : ومن حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وآله : (اشتاقت الجنة إلى أربعة : على ، وعمار ، وسلمان ، وبلال) .
قال أبو عمر : وفضائل عمار كثيرة جدا يطول ذكرها .
قال : وروى الاعمش ، عن أبى عبد الرحمن السلمى ، قال : شهدنا مع على عليه السلام صفين ، فرأيت عمار بن ياسر لا يأخذ في ناحية ولا واد من أودية صفين ، إلا رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وآله يتبعونه ، كأنه علم لهم ، وسمعته يقول يومئذ لهاشم بن عتبة : يا هاشم ، تقدم الجنة تحت البارقة .
اليوم ألقى الاحبة محمدا وحزبة .
والله لو هزمونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق ، وأنهم على الباطل ، ثم قال : نحن ضربناكم على تنزيله فاليوم نضربكم على تأويله .(10/104)
ضربا يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله أو يرجع الحق على سبيله .
فلم أر أصحاب محمد صلى الله عليه وآله قتلوا في موطن ، ما قتلوا يومئذ .
قال : وقد قال أبو مسعود البدرى وطائفة لحذيفة حين احتضر ، وقد ذكر الفتنة : إذا اختلف الناس فبمن تأمرنا ؟ قال : عليكم بابن سمية ، فإنه لن يفارق الحق حتى يموت - أو قال : فإنه يزول مع الحق حيث زال .
قال أبو عمر : وبعضهم يجعل هذا الحديث عن حذيفة مرفوعا .
قال أبو عمر : وروى الشعبى ، عن الاحنف ، أن عمارا حمل يوم صفين ، فحمل عليه ابن جزء السكسكى ، وأبو الغادية الفزارى ، فأما أبو الغادية ، فطعنه ، وأما ابن جزء فاحتز رأسه .
قلت : هذا الموضع مما اختلف فيه قول أبى عمر رحمه الله ، فإنه ذكر في كتاب الكنى من الاستيعاب (1) أبا الغادية بالغين المعجمة ، وقال : إنه جهنى من جهينة ، وجهينة من قضاعة ، وقد نسبه هاهنا فزاريا .
وقال في كتاب الكنى : إن اسم أبى الغادية يسار ، وقيل مسلم .
وقد ذكر ابن قتيبة في كتاب (المعارف) عن أبى الغادية أنه كان يحدث عن نفسه بقتل عمار ، ويقول : إن رجلا طعنه فانكشف المغفر عن رأسه ، فضربت رأسه ، فإذا رأس عمار قد ندر (2) .
وكيفية هذا القتل تخالف الكيفية التى رواها ابن عبد البر .
قال أبو عمر : وقد روى وكيع ، عن شعبة ، عن عبد بن مرة ، عن عبد الله بن سلمة ،
__________
(1) الاستيعاب 680 .
(2) المعارف 112 .
(*)(10/105)
قال : لكأنى أنظر إلى عمار يوم صفين وهو صريع ، فاستسقى ، فأتى بشربة من لبن ، فشرب ، فقال : اليوم ألقى الاحبة .
إن رسول الله صلى الله عليه وآله عهد إلي أن آخر شربة أشربها في الدنيا شربة من لبن ، ثم استسقى ثانية فأتته امرأة طويلة اليدين بإناء ، فيه ضياح (1) من لبن ، فقال حين شربه : الحمد لله ، الجنة تحت الاسنة ، والله لو ضربونا حتى يبلغونا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق ، وأنهم على الباطل ، ثم قاتل حتى قتل .
قال أبو عمر : وقد روى حارثة بن المضراب : قرأت كتاب عمر إلى أهل الكوفة : أما بعد ، فإنى بعثت إليكم عمارا أميرا ، و عبد الله بن مسعود معلما ووزيرا ، وهما من النجباء ، من أصحاب محمد ، فاسمعوا لهما ، واقتدوا بهما ، فإنى قد آثرتكم بعبد الله على نفسي أثرة .
قال أبو عمر : وإنما قال عمر : هما من النجباء ، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله : (إنه لم يكن نبى إلا أعطى سبعة من أصحابه نجباء وزراء فقهاء ، وإنى قد أعطيت أربعة عشر : حمزة ، وجعفرا ، وعليا ، وحسنا ، وحسينا ، وأبا بكر ، وعمر ، وعبد الله بن مسعود ، وسلمان ، وعمارا ، وأبا ذر ، وحذيفة ، والمقداد ، وبلالا) .
قال أبو عمر : وتواترت الاخبار عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال : (تقتل عمارا الفئة الباغية) ، وهذا من إخباره بالغيب ، وأعلام نبوته صلى الله عليه وآله ، وهو من أصح الاحاديث .
وكانت صفين في ربيع الاخر سنة سبع وثلاثين ، ودفنه على عليه السلام في ثيابه ولم يغسله .
__________
(1) الضياح ، بالفتح : اللبن الرقيق الكثير الماء .
(*)(10/106)
وروى أهل الكوفة أنه صلى عليه ، وهو مذهبهم في الشهداء ، أنهم لا يغسلون ويصلى عليهم .
قال أبو عمر : وكان سن عمار يوم قتل نيفا وتسعين ، سنة ، وقيل : إحدى وتسعين ، وقيل : اثنتين وتسعين ، وقيل : ثلاثا وتسعين .
(ذكر أبى الهيثم بن التيهان وطرف من أخباره) ثم قال عليه السلام : (وأين ابن التيهان) ، هو أبو الهيثم بن التيهان ، بالياء المنقوطة ، باثنتين تحتها ، المشددة المكسورة ، وقبلها تاء منقوطة باثنتين فوقها ، واسمه مالك ، واسم أبيه مالك أيضا ، ابن عبيد بن عمرو بن عبد الاعلم بن عامر الانصاري ، أحد النقباء ليلة العقبة .
وقيل : إنه لم يكن من أنفسهم ، وإنه من بلي بن أبي الحارث بن قضاعة ، وإنه حليف لبنى عبد الاشهل ، كان أحد النقباء ليلة العقبة ، وشهد بدرا .
قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب (الاستيعاب) اختلف في وقت وفاته ، فذكر خليفة ، عن الاصمعي ، قال : سألت قومه ، فقالوا : مات في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله (1) .
قال أبو عمر : وهذا لم يتابع عليه قائله .
وقيل : إنه توفى سنة عشرين ، أو إحدى وعشرين .
وقيل : إنه أدرك صفين ، وشهدها مع على عليه السلام ، وهو الاكثر .
وقيل : إنه قتل بها .
ثم قال أبو عمر : حدثنا خلف بن قاسم ، قال : حدثنا الحسن بن رشيق ، قال :
__________
(1) الاستيعاب 696 .
(*)(10/107)
حدثنا الدولابى ، قال : حدثنا أبو بكر الوجيهى ، عن أبيه ، عن صالح بن الوجيه ، قال : وممن قتل بصفين عمار ، وأبو الهيثم بن التيهان ، وعبد الله بن بديل ، وجماعة من البدريين رحمهم الله .
ثم روى أبو عمر رواية أخرى ، فقال : حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن ، قال : حدثنا عثمان بن أحمد بن السماك ، قال : حدثنا حنبل بن إسحاق بن على ، قال : قال : أبو نعيم : أبو الهيثم بن التيهان ، اسمه مالك ، واسم التيهان عمرو بن الحارث ، أصيب أبو الهيثم مع على يوم صفين .
قال أبو عمر : هذا قول أبى نعيم وغيره .
قلت : وهذه الرواية أصح من قول ابن قتيبة في كتاب المعارف (1) ، وذكر قوم أن أبا الهيثم شهد صفين مع على عليه السلام ، ولا يعرف ذلك أهل العلم ولا يثبتونه فإن تعصب ابن قتيبة معلوم ، وكيف يقول : لا يعرفه أهل العلم ، وقد قاله أبو نعيم ، وقاله صالح بن الوجيه ، ورواه ابن عبد البر وهؤلاء شيوخ المحدثين ! (ترجمة ذى الشهادتين خزيمة بن ثابت) ثم قال عليه السلام : (وأين ذو الشهادتين) ، هو خزيمة بن ثابت بن الفاكه بن ثعلبة الخطمى الانصاري من بنى خطمة (2) من الاوس جعل رسول الله صلى الله عليه وآله
__________
(1) المعارف 117 ، قال : (وليس يعرف ذلك أهل العلم ولا يثبتونه) .
(2) بنو خطمة ، هم بنو عبد الله بن بن أوس .
(*)(10/108)
شهادته كشهادة رجلين ، لقصة مشهورة (1) ، يكنى أبا عمارة ، شهد بدرا وما بعدها من المشاهد ، وكانت راية بنى خطمة بيده يوم الفتح .
قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب (الاستيعاب) (2) : وشهد صفين مع على بن أبى طالب عليه السلام ، فلما قتل عمار قاتل حتى قتل .
قال أبو عمر : وقد روى حديث مقتله بصفين من وجوه كثيرة ، ذكرناها في كتاب الاستيعاب عن ولد ولده ، وهو محمد بن عمارة بن خزيمة ذى الشهادة ، وأنه كان يقول في صفين : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : (تقتل عمارا الفئة الباغية) ، ثم قاتل حتى قتل .
قلت : ومن غريب ما وقعت عليه من العصبية القبيحة ، أن أبا حيان التوحيدي قال في كتاب البصائر : إن خزيمة بن ثابت المقتول مع على عليه السلام بصفين ، ليس هو خزيمة بن ثابت ذا الشهادتين ، بل آخر من الانصار صحابي اسمه خزيمة بن ثابت ، وهذا خطأ ، لان كتب الحديث والنسب تنطق بأنه لم يكن في الصحابة من الانصار ، ولا من غير الانصار خزيمة بن ثابت إلا ذو الشهادتين ، وإنما الهوى لا دواء له ، على أن الطبري صاحب التاريخ قد سبق أبا حيان بهذا القول ، ومن كتابه نقل أبو حيان ، والكتب الموضوعة لاسماء الصحابة تشهد بخلاف ما ذكراه ، ثم أي حاجة لناصري أمير المؤمنين أن يتكثروا بخزيمة ، وأبى الهيثم ، وعمار وغيرهم ! لو أنصف هذا الرجل
__________
(1) ذكر ابن الاثير في أسد الغابة ، قال : (روى عنه إبنه عمارة أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى فرسا من سواء بن قيس المحاربي ، فجحده سواء ، فشهد خزيمة بن ثابت للنبى صلى الله عليه وسلم ، فقال له رسول الله : (ما حملك على الشهادة ، ولم تكن حاضرا معنا ؟ قال : صدقتك بما جئت به ، وعلمت أنك لا تقول إلا حقا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من شهد له خزيمة أو عليه فهو حسبه) .
(2) الاستيعاب 157 ، 158 .
(*)(10/109)
ورأوه بالعين الصحيحة ، لعلموا أنه لو كان وحده ، وحاربه الناس كلهم أجمعون ، لكان على الحق ، وكانوا على الباطل .
ثم قال عليه السلام : (وأين نظراؤهم من إخوانهم) ! يعنى الذين قتلوا بصفين معه من الصحابة ، كابن بديل ، وهاشم بن عتبة ، وغيرهما ممن ذكرناه في أخبار صفين .
وتعاقدوا على المنية : جعلوا بينهم عقدا ، وروى (تعاهدوا) .
وأبرد برؤوسهم إلى الفجرة : حملت رؤوسهم مع البريد إلى الفسقة للبشارة بها ، والفجرة هاهنا : أمراء عسكر الشام ، تقول : قد أبردت إلى الامير ، فأنا مبرد ، والرسول بريد ، ويقال للفرانق (1) البريد ، لانه ينذر قدام الاسد .
قوله : (أوه على إخوانى) ، ساكنة الواو مكسورة الهاء ، كلمة شكوى وتوجع ، وقال الشاعر : فأوه لذكراها إذا ما ذكرتها ومن بعد أرض دونها وسماء .
(2) وربما قلبوا الواو ألفا ، فقالوا : آه من كذا ، آه على كذا ، وربما شددوا الواو وكسروها وسكنوا الهاء ، فقالوا : أوه من كذا ، وربما حذفوا الهاء مع التشديد ، وكسروا الواو ، فقالوا : أو من كذا بلا مد ، وقد يقولون : آوه ، بالمد والتشديد وفتح الالف وسكون الهاء ، لتطويل الصوت بالشكاية ، وربما أدخلوا فيه الياء تارة يمدونه ، وتارة لا يمدونه ، فيقولون : (أوياه) و (آوياه) وقد أوه الرجل تأويها ، وتأوه تأوها ، إذا قال (أوه) ، الاسم منه (الاهه) بالمد ، قال المثقب العبدى : إذا ما قمت أرحلها بليل تأوه آهة الرجل الحزين (3) .
__________
(1) ذكره صاحب اللسان ، واستشهد بقول إمرئ القيس : وإنى إذين إن رجعت مملكا بسير ترى منه الفرانق أزورا .
(2) اللسان 17 : 365 .
(3) اللسان 17 : 365 .
(*)(10/110)
قوله عليه السلام : (ووثقوا بالقائد فاتبعوه) ، يعنى نفسه ، أي وثقوا بأنى على الحق ، وتيقنوا ذلك ، فاتبعوني في حرب من حاربت ، وسلم من سالمت .
قوله : (الجهاد الجهاد) ، منصوب بفعل مقدر .
وإنى معسكر في يومى ، أي خارج بالعسكر إلى منزل يكون لهم معسكرا (ذكر سعد بن عبادة ونسبه) وقيس بن سعد بن عبادة بن دليم (1) الخزرجي ، صحابي ، يكنى أبا عبد الملك ، روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله أحاديث ، وكان طوالا جدا سباطا شجاعا ، جوادا ، وأبوه سعد رئيس الخزرج ، وهو الذى حاولت الانصار إقامته في الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ، ولم يبايع أبا بكر حين بويع ، وخرج إلى حوران ، فمات بها ، قيل قتلته الجن لانه بال قائما في الصحراء ليلا ، ورووا بيتين من شعر ، قيل إنهما سمعا ليلة قتله ، ولم ير قائلهما : نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة ورميناه بسهمين فلم نخطئ فؤاده .
ويقول قوم : إن أمير الشام يومئذ كمن له من رماه ليلا ، وهو خارج إلى الصحراء بسهمين ، فقتله لخروجه عن طاعة الامام ، وقد قال بعض المتأخرين في ذلك : يقولون سعد شكت الجن قلبه ألا ربما صححت دينك بالغدر وما ذنب سعد أنه بال قائما ولكن سعدا لم يبايع أبا بكر وقد صبرت من لذة العيش أنفس وما صبرت عن لذة النهى والامر .
__________
(1) في الاصول : (دلهم) وأثبت مافى الاستيعاب .
(*)(10/111)
وكان قيس بن سعد من كبار شيعة أمير المؤمنين عليه السلام ، وقائل بمحبته وولائه ، وشهد معه حروبه كلها ، وكان مع الحسن عليه السلام ، ونقم عليه صلحه معاوية ، وكان طالبي الرأى ، مخلصا في اعتقاده ووده ، وأكد ذلك عنده فوات الامر أباه وما نيل يوم السقيفة وبعده منه ، فوجد من ذلك في نفسه وأضمره ، حتى تمكن من إظهاره في خلافة أمير المؤمنين ، وكما قيل : (عدو عدوك صديق لك) .
(ذكر أبى أيوب الانصاري ونسبه) وأما أبو أيوب الانصاري ، فهو خالد بن يزيد بن كعب بن ثعلبة الخزرجي ، من بنى النجار ، شهد العقبة وبدرا وسائر المشاهد ، وعليه نزل رسول الله صلى الله عليه وآله لما خرج عن بنى عمرو بن عوف ، حين قدم المدينة مهاجرا من مكة ، فلم يزل عنده حتى بنى مسجده ومساكنه ، ثم انتقل إليها ، ويوم المؤاخاة آخى رسول الله صلى الله عليه وآله بينه وبين مصعب بن عمير .
وقال أبو عمر في كتاب (الاستيعاب) (1) : إن أبا أيوب شهد مع على عليه السلام مشاهده كلها ، وروى ذلك عن الكلبى ، وابن إسحاق ، قالا : شهد معه يوم الجمل وصفين ، وكان مقدمته يوم النهروان .
قوله (تختطفها الذئاب) ، الاختطاف : أخذك الشئ بسرعة ، ويروى (تتخطفها) ، قال تعالى : (تخافون أن يتخطفكم الناس) (2) ويقال : إن هذه الخطبة آخر خطبة ، خطبها أمير المؤمنين عليه السلام قائما .
__________
(1) الاستيعاب 620 .
(2) سورة الانفال 26 .
(*)(10/112)
الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : الحمد لله المعروف من غير رؤية ، الخالق من غير منصبة ، خلق الخلائق بقدرته ، واستعبد الارباب بعزته ، وساد العظماء بجوده ، وهو الذى أسكن الدنيا خلقه ، وبعث إلى الجن والانس رسله ، ليكشفوا لهم عن غطائها ، وليحذروهم من ضرائها ، وليضربوا لهم أمثالها ، وليبصروهم عيوبها ، وليهجموا عليهم بمعتبر من تصرف مصاحها وأسقامها ، وحلالها وحرامها ، وما أعد الله سبحانه للمطيعين منهم والعصاة ، من جنة ونار ، وكرامة وهوان .
أحمده إلى نفسه ، كما استحمد إلى خلقه ، وجعل لكل شئ قدرا ، ولكل قدر أجلا ، ولكل أجل كتابا .
الشرح : المنصبة ، بالفتح والنصب : التعب ، والماضي نصب بالكسرة ، وهم ناصب في قول النابغة : كلينى لهم يا أميمة ناصب (1) .
ذو نصب ، مثل رجل تامر ولابن ، ويقال : هو (فاعل) بمعنى (مفعول فيه) لانه ينصب
__________
(1) ديوانه 2 ، وبقيته : وليل أقاسيه بطئ الكواكب .
(*)(10/113)
فيه ويتعب ، كقولهم : ليل نائم ، أي ينام فيه ، ويوم عاصف ، أي تعصف فيه الريح .
واستعبدت فلانا : اتخذته عبدا .
والضراء : الشدة .
ومعتبر (1) : مصدر بمعنى الاعتبار .
ومصاحها : جمع مصحة (مفعلة) من الصحة ، كمضار جمع مضرة .
وصفه سبحانه بأنه معروف بالادلة ، لا من طريق الرؤية كما تعرف المرئيات ، وبأنه يخلق الاشياء ولا يتعب كما يتعب الواحد منا فيما يزاوله ويباشر من أفعاله .
خلق الخلائق بقدرته على خلقهم ، لا بحركة واعتماد ، وأسبغ النعمة عليهم : أوسعها .
واستعبد الذين يدعون في الدنيا أربابا بعزه وقهره .
وساد كل عظيم بسعة جوده ، وأسكن الدنيا خلقه ، كما ورد في الكتاب العزيز : (إنى جاعل في الارض خليفة) (2) .
وبعث رسله إلى الجن والانس ، كما ورد في الكتاب العزيز : (يا معشر الجن والانس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتى وينذرونكم لقاء يومكم هذا) (3) .
قال : (ليكشفوا لهم عن غطاء الدنيا) ، أي عن عوراتها وعيوبها المستورة ، وليخوفوهم من مضرتها وغرورها المفضى إلى عذاب الابد .
وليضربوا لهم أمثالها ، كالامثال الواردة في الكتاب العزيز ، نحو قوله تعالى : (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض ...
) الاية .
(4) قوله : (وليهجموا عليهم) ، هجمت على الرجل : دخلت عليه بغتة ، يقول : ليدخلوا عليهم بما في تصاريف الدنيا ، من الامن (5) الصحة والسقم ، وما أحل وما حرم على طريق الابتلاء .
__________
(1) د : (بمعتبر) .
(2) سورة البقرة 30 .
(3) سورة الانعام 130 .
(4) سورة يونس 24 .
(5) ساقطة من ب .
(*)(10/114)
ثم قال : (وما أعد الله سبحانه للمطيعين منهم والعصاة) ، يجوز أن تكون (ما) معطوفة على (عيوبها) ، فيكون موضعها نصبا ، ويجوز أن يكون موضعها جرا ، ويكون من تتمة أقسام ما يعتبر به ، والاول أحسن .
ثم قال عليه السلام : إنى أحمد الله كما أستحمد (1) إلى خلقه ، استحمد (1) إليهم فعل ما يوجب عليهم حمده .
ثم قال : إنه سبحانه جعل لكل شئ من أفعاله قدرا ، أي فعله مقدرا محدود الغرض ، اقتضى ذلك القدر وتلك الكيفية ، كما قال سبحانه : (وكل شئ عنده بمقدار) (2) .
وجعل لكل شئ مقدر وقتا ينتهى إليه وينقطع عنده ، وهو الاجل .
ولكل أجل كتابا ، أي رقوما تعرفها الملائكة ، فتعلم انقضاء عمر من ينقضى عمره ، وعدم ما ألطافهم في معرفة عدمه .
الاصل : منها في ذكر القرآن : فالقرآن آمر زاجر ، وصامت ناطق ، حجة الله على خلقه ، أخذ عليه ميثاقهم ، وارتهن عليهم أنفسهم ، أتم نوره ، وأكرم به دينه ، وقبض نبيه صلى الله عليه وسلم وقد فرغ إلى الخلق من أحكام الهدى به .
فعظموا منه سبحانه ما عظم من نفسه ، فإنه لم يخف عنكم شيئا من دينه ، ولم يترك شيئا رضيه أو كرهه إلا وجعل له علما باديا ، وآية محكمة ، تزجر عنه ، أو تدعو إليه ، فرضاه فيما بقى واحد ، وسخطه فيما بقى واحد .
__________
(1) ساقط من ب .
(2) سورة الرعد 8 .
(*)(10/115)
واعلموا أنه لن يرضى عنكم بشئ سخطه على من كان قبلكم ، ولن يسخط عليكم بشئ رضيه ممن كان قبلكم ، وإنما تسيرون في أثر بين ، وتتكلمون برجع قول قد قاله الرجال من قبلكم .
قد كفاكم مؤونة دنياكم ، وحثكم على الشكر ، وافترض من ألسنتكم الذكر ، وأوصاكم بالتقوى ، وجعلها منتهى رضاه ، وحاجته من خلقه .
فاتقوا الله الذى أنتم بعينه ، ونواصيكم بيده ، وتقلبكم في قبضته ، إن أسررتم علمه ، وأن أعلنتم كتبه ، قد وكل بكم حفظة كراما ، لا يسقطون حقا ، ولا يثبتون باطلا .
واعلموا أنه من يتق الله يجعل له مخرجا من الفتن ، ونورا من الظلم ، ويخلده فيما اشتهت نفسه ، وينزله منزلة الكرامة عنده ، في دار اصطنعها لنفسه ، ظلها عرشه ، ونورها بهجته ، وزوارها ملائكته ، ورفقاؤها رسله .
فبادروا المعاد ، وسابقوا الاجال ، فإن الناس يوشك أن ينقطع بهم الامل ، ويرهقهم الاجل ، ويسد عنهم باب التوبة ، فقد أصبحتم في مثل ما سأل (1) إليه الرجعة من كان قبلكم ، وأنتم بنو سبيل ، على سفر من دار ليست بداركم ، وقد أوذنتم منها بالارتحال ، وأمرتم فيها بالزاد .
الشرح : جعل القرآن آمرا وزاجرا لما كان خالقه - وهو الله سبحانه - آمرا زاجرا به ، فأسند الامر والزجر إليه ، كما تقول : سيف قاتل ، وإنما القاتل الضارب به ، وجعله صامتا ناطقا ، لانه - من حيث هو حروف وأصوات - صامت ، إذ كان العرض يستحيل أن يكون ناطقا
__________
(1) آ : (يسأل) .
(*)(10/116)
لان النطق حركة الاداة بالكلام ، والكلام يستحيل أن يكون ذا أداة ينطق بالكلام بها ، وهو من حيث يتضمن الاخبار والامر والنهى والنداء وغير ذلك من أقسام الكلام ، كالناطق ، لان الفهم يقع عنده ، وهذا من باب المجاز كما تقول : هذه الربوع الناطقة ، وأخبرتني الديار بعد رحيلهم بكذا .
ثم وصفه بأنه حجة الله على خلقه ، لانه المعجزة الاصلية .
أخذ سبحانه على الخلائق ميثاقه ، وارتهن عليه أنفسهم ، لما كان سبحانه قد قرر في عقول المكلفين أدلة التوحيد والعدل ، ومن جملة مسائل العدل النبوة ، ويثبت نبوة محمد صلى الله عليه وآله عقلا ، كان سبحانه بذلك كالاخذ ميثاق المكلفين بتصديق دعوته ، وقبول القرآن الذى جاء ، وجعل به نفسهم رهنا على الوفاء بذلك ، فمن خالف خسر نفسه ، وهلك هلاك الابد .
هذا تفسير المحققين ، ومن الناس من يقول : المراد بذلك قصة الذرية قبل خلق آدم عليه السلام ، كما ورد في الاخبار ، وكما فسر قوم عليه الاية .
ثم ذكر عليه السلام أن الله تعالى قبض رسوله صلى الله عليه وآله ، وقد فرغ إلى الخلق بالقرآن من الاكمال والاتمام ، كقوله تعالى : (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) (1) ، وإذا كان قد أكمله لم يبق فيه نقص ينتظر إتمامه .
قال : فعظموا من الله ما عظم من نفسه ، لانه سبحانه وصف نفسه بالعظمة والجلال في أكثر القرآن ، فالواجب علينا أن نعظمه على حسب ما عظم نفسه سبحانه .
ثم علل وجوب تعظيمه ، وحسن أمره لنا بتعظيمه سبحانه بكونه لم يخف عنا شيئا من أمر ديننا ، وذلك لان الشرعيات مصالح المكلفين ، وإذا فعل الحكيم سبحانه بنا
__________
(1) سورة المائدة 3 .
(*)(10/117)
ما فيه صلاحنا ، فقد أحسن إلينا ، ومن جملة صلاحنا تعريفنا من الشرعيات ما فعله لطف ومفض بنا إلى الثواب ، وهذا أبلغ ما يكون من الاحسان ، والمحسن يجب تعظيمه وشكره .
قال : لم يترك شيئا إلا وجعل له نصا ظاهرا يدل عليه ، أو علما يستدل به عليه ، أي إما منصوص عليه صريحا ، أو يمكن أن يستنبط حكمه من القرآن ، إما بذكره أو بتركه ، فيبقى على البراءة الاصلية ، وحكم العقل .
قوله : (فرضاه فيما بقى واحد) معناه أن ما لم ينص عليه صريحا ، بل هو في محل النظر ، ليس يجوز للعلماء أن يجتهدوا فيه ، فيحله بعضهم ، ويحرمه بعضهم ، بل رضا الله سبحانه أمر واحد ، وكذلك سخطه ، فليس يجوز أن يكون شئ من الاشياء يفتى فيه قوم بالحل وقوم بالحرمة ، وهذا قول منه عليه السلام بتحريم الاجتهاد ، وقد سبق منه عليه السلام مثل هذا الكلام مرارا .
قوله : (واعلموا أنه ليس يرضى عنكم ...
) ، الكلام إلى منتهاه ، معناه أنه ليس يرضى عنكم بالاختلاف في الفتاوى والاحكام ، كما اختلف الامم من قبلكم ، فسخط اختلافهم قال سبحانه : (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ) (1) .
وكذلك ليس يسخط عليكم بالاتفاق والاجتماع الذى رضيه ممن كان قبلكم من القرون .
ويجوز أن يفسر هذا الكلام بأنه لا يرضى عنكم بما سخطه على الذين من قبلكم من الاعتقادات الفاسدة في التوحيد والعدل ، ولا يسخط عليكم بما تعتقدونه من الاعتقادات الصحيحة التى رضيها ممن كان قبلكم في التوحيد والعدل ، فيكون الكلام مصروفا إلى الاصول لا إلى الفروع .
__________
(1) سورة الانعام 159 .
(*)(10/118)
قال : (وإنما تسيرون في أثر بين) ، أي أن الادلة واضحة ، وليس مراده الامر بالتقليد ، وكذلك قوله : (وتتكلمون برجع قول قد قاله الرجال من قبلكم) ، يعنى كلمة التوحيد (لاإله إلا الله) ، قد قالها الموحدون من قبل هذه الملة ، لا تقليدا ، بل بالنظر والدليل ، فقولوها أنتم كذلك ! .
ثم ذكر أنه سبحانه قد كفى الخلق مؤونة دنياهم ، قال الحسن البصري : إن الله تعالى كفانا مؤونة دنيانا ، وحثنا على القيام بوظائف ديننا ، فليته كفانا مؤونة ديننا ، وحثنا على القيام بوظائف دنيانا .
قوله : (وافترض من ألسنتكم الذكر) ، افترض عليكم أن تذكروه وتشكروه بألسنتكم ، و (من) متعلقة بمحذوف دل عليه المصدر المتأخر ، تقديره : (وافترض عليكم الذكر من ألسنتكم الذكر) .
ثم ذكر أن التقوى المفترضة هي رضا الله وحاجته من خلقه ، لفظة (حاجته) مجاز ، لان الله تعالى غنى غير محتاج ، ولكنه لما بالغ في الحث والحض عليها ، وتوعد على تركها جعله كالمحتاج إلى الشئ ، ووجه المشاركة أن المحتاج يحث ويحض على حاجته وكذلك الامر المكلف إذا أكد الامر .
قوله : (أنتم بعينه) ، أي يعلم أحوالكم ، ونواصيكم بيده ، الناصية : مقدم شعر الرأس ، أي هو قادر عليكم قاهر لكم ، متمكن من التصرف فيكم ، كالانسان القابض على ناصية غيره .
وتقلبكم في قبضته ، أي تصرفكم تحت حكمه ، لو شاء أن يمنعكم منعكم ، فهو كالشئ في قبضة الانسان ، إن شاء استدام القبض عليه ، وإن شاء تركه .
ثم قال : إن أسررتم أمرا علمه ، وأن أظهرتموه كتبه ، ليس على أن الكتابة غير العلم ، بل هما شئ واحد ، ولكن اللفظ مختلف .(10/119)
ثم ذكر أن الملائكة موكلة بالمكلف ، وهذا هو نص الكتاب العزيز ، وقد تقدم القول في ذلك .
ثم انتقل إلى ذكر الجنة ، والكلام يدل على أنها في السماء ، وأن العرش فوقها .
ومعنى قوله : (اصطنعها لنفسه) إعظامها وإجلالها ، كما قال لموسى : (واصطنعتك لنفسي) (1) ، ولانه لما تعارف الناس في تعظيم ما يصنعونه ، أن يقول الواحد منهم لصاحبه : قد وهبتك هذه الدار التى اصطنعتها لنفسي ، أي أحكمتها ، ولم أكن في بنائها متكلفا بأن أبنيها لغيري ، صح وحسن من البليغ الفصيح أن يستعير مثل ذلك فيما لم يصطنعه في الحقيقة لنفسه ، وإنما هو عظيم جليل عنده .
قوله : (ونورها بهجته) ، هذا أيضا مستعار ، كأنه لما كان إشراق نورها عظيما جدا نسبه إلى بهجة الباري ، وليس هناك بهجة على الحقيقة ، لان البهجة حسن الخلقة ، قال تعالى : (وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج) (2) ، أي من كل صنف حسن .
قوله : (وزوارها ملائكته) قد ورد في هذا من الاخبار كثير جدا ، ورفقاؤها : رسله ، من قوله تعالى : (وحسن أولئك رفيقا) (3) .
ويوشك ، بكسر الشين ، فعل مستقبل ، ماضيه (أوشك) ، أي أسرع .
ورهقه الامر ، بالكسر : فاجأه .
ويسد عنهم باب التوبة ، لانه لا تقبل عند نزول الموت بالانسان من حيث كان يفعلها خوفا فقط ، لالقبح القبيح ، قال تعالى : (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إنى تبت الان) (4) .
__________
(1) سورة طه 49 .
(2) سورة ق 7 .
(3) سورة النساء 69 .
(4) سورة النساء 18 .
(*)(10/120)
وإنما قال : في مثل ما سأل إليه الرجعة من كان قبلكم ، كقوله سبحانه : (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون ، لعلى أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) (1) .
وبنو سبيل : أرباب طريق مسافرون .
وأوذن فلان بكذا : أعلم .
وآذنته : أعلمته .
وقد تقدم لنا كلام بالغ في التقوى وماهيتها وتأكيد وصاة الخالق سبحانه والرسول عليه الصلاة والسلام بها .
(نبذ وأقاويل في التقوى) روى المبرد في الكامل أن رجلا قال لعمر بن الخطاب : إتق الله يا أمير المؤمنين ، فقال له رجل : أتألت على أمير المؤمنين ! أي أتنتقصه ! (2) ، فقال عمر : دعه ، فلا خير فيهم إذا لم يقولوها ، ولا خير فينا إذا لم تقل لنا .
وكتب أبو العتاهية إلى سهل بن صالح (3) - وكان مقيما بمكة : أما بعد ، فأنا أوصيك بتقوى الله الذى لا غناء بك عن تقاته ، وأتقدم إليك عن الله ، ونذكرك مكر الله فيما دبت به إليك ساعات الليل والنهار ، فلا تخدعن عن دينك ، فإن ساعاتك وأوقاتك إن ظفرت بذلك منك ، وجدت الله فيك أسرع مكرا ، وأنفذ فيك أمرا ، ووجدت ما مكرت به في غير ذات الله غير راد عنك يد الله ، ولا مانع لك من أمر الله ، ولعمري لقد ملات عينك الفكر واضطربت في سمعك أصوات العبر ، ورأيت آثار نعم الله نسختها آثار نقمه حين استهزئ بأمره ، وجوهر بمعاندته ، ألا إن في حكم الله أته من أكرمه الله ، فاستهان بأمره ، أهانه الله
__________
(1) سورة المؤمنين 99 ، 100 .
(2) وانظر النهاية لابن الاثير 1 : 38 .
(3) د : (صاعد) .
(*)(10/121)
والسعيد من وعظ بغيره ، لاوعظك الله في نفسك ! وجعل عظتك في غيرك ، ولا جعل الدنيا عليك حسرة وندامة ، برحمته ! .
ومن كلام رسول الله صلى الله عليه وآله : (لا كرم كالتقوى ، ولا مال أعود من العقل ، ولا وحدة أوحش من العجب ، ولا عقل كالتدبير ، ولا قرين كحسن الخلق ، ولا ميراث كالادب ، ولا فائدة كالتوفيق ، ولا تجارة كالعمل الصالح ، ولا ربح كثواب الله ، ولا ورع كالوقوف عند الشبهة ، ولا زهد كالزهد في الحرام ، ولاعلم كالتفكر ، ولا عبادة كأداء الفرائض ، ولا إيمان كالحياء والصبر ، ولا حسب كالتواضع ، ولا شرف كالعلم ، ولا مظاهرة أوفق من المشورة ، فاحفظ الرأس وما حوى ، والبطن وما وعى ، واذكر الموت وطول البلى) .
الاصل : وعلموا أنه ليس لهذا الجلد الرقيق صبر على النار ، فارحموا نفوسكم ، فإنكم قد جربتموها في مصائب الدنيا ، فرأيتم جزع أحدكم من الشوكة تصيبه ، والعثرة تدميه ، والرمضاء تحرقه ، فكيف إذا كان بين طابقين من نار ، ضجيع حجر ، وقرين شيطان ! أعلمتم أن مالكا إذا غضب على النار حطم بعضها بعضا لغضبه ، وإذا زجرها توثبت بين أبوابها جزعا من زجرته .
أيها اليفن الكبير ، الذى قد لهزه القتير ، كيف أنت إذا التحمت أطواق النار بعظام الاعناق ، ونشبت الجوامع ، حتى أكلت لحوم السواعد ! فالله الله معشر العباد ! وأنتم سالمون في الصحة قبل السقم ، وفى الفسحة قبل الضيق ، فاسعوا في فكاك رقابكم من قبل أن تغلق رهائنها .(10/122)
أسهروا عيونكم ، وأضمروا بطونكم ، واستعملوا أقدامكم ، وأنفقوا أموالكم ، وخذوا من أجسادكم فجودوا بها على أنفسكم ، ولا تبخلوا بها عنها ، فقد قال الله سبحانه : (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) (1) ، وقال تعالى : (من ذا الذى يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم) (2) .
فلم يستنصركم من ذل ، ولم يستقرضكم من قل ، استنصركم وله جنود السموات والارض وهو العزيز الحكيم ، واستقرضكم وله خزائن السموات والارض وهو الغنى الحميد ، وإنما أراد أن يبلوكم أيكم أحسن عملا .
فبادروا بإعمالكم تكونوا مع جيران الله في داره ، رافق بهم رسله ، وأزارهم ملائكته ، وأكرم أسماعهم أن تسمع حسيس نار أبدا ، وصان أجسادهم أن تلقى لغوبا ونصبا : (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) (3) .
أقول ما تسمعون ، والله المستعان على نفسي وأنفسكم ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ! الشرح : الرمضاء : الارض الشديدة الحرارة ، والرمض ، بالتحريك : شدة وقع الشمس على الرمل وغيره ، وقد رمض يومنا بالكسر ، يرمض رمضا ، اشتد حره ، وأرض رمضة الحجارة ، ورمضت قدمه من الرمضاء : احترقت .
__________
(1) سورة محمد 7 .
(2) سورة البقرة 245 .
(3) سورة الحديد 21 .
(*)(10/123)
والطابق ، بالفتح : الاجرة الكبيرة ، وهو فارسي معرب .
وضجيع حجر : يومئ فيه إلى قوله تعالى : (وقودها الناس والحجارة) (1) ، قيل : إنها حجارة الكبريت .
وقرين شيطان : يومئ فيه إلى قوله تعالى : (قال قرينه ربنا ما أطغيته) (2) .
وحطم بعضها بعضا : كسره أو أكله ، والحطمة من أسماء النار ، لانها تحطم ما تلقى ، ومنه سمى الرجل الكثير الاكل : حطمة .
واليفن : الشيخ الكبير .
ولهزه : خالطه ، ويقال له حينئذ : ملهوز ، ثم أشمط ، ثم أشيب .
ولهزت القوم : خالطتهم ودخلت بينهم .
والقتير : الشيب ، وأصله رؤوس المسامير في الدروع تسمى قتيرا .
والتحمت أطواق النار بالعظام : التفت عليها ، وانضمت إليها ، والتصقت بها .
والجوامع : جمع جامعة ، وهى الغل لانها تجمع اليدين إلى العنق .
ونشبت : علقت .
والسواعد : جمع ساعد ، وهو الذراع .
و (في) من قوله : (في الصحة قبل السقم) ، متعلقة بالمحذوف الناصب لله ، وهو اتقوا ، أي اتقوه سبحانه في زمان صحتكم ، قبل أن ينزل بكم السقم ، وفى فسحة أعماركم قبل أن تبدل بالضيق .
وفكاك الرقاب : بفتح الفاء : عتقها قبل أن تغلق رهائنها ، يقال غلق الرهن ، بالكسر ، إذا استحقه المرتهن بألا يفكه الراهن في الوقت المشروط ، وكان ذلك من شرع الجاهلية ، فنهى عنه النبي صلى الله عليه وآله ، وقال : لا يغلق الرهن .
__________
(1) سورة البقرة 24 .
(2) سورة ق 23 .
(*)(10/124)
وخذوا من أجسادكم ، أي أتعبوها بالعبادة حتى تنحل .
والقل : القلة .
والذل : الذلة .
وحسيس النار : صوتها .
واللغوب .
النصب .
(طرف وأخبار) ونظير قوله عليه السلام : (استقرضكم وله خزائن السموات والارض) ، ما رواه المبرد في الكامل عن أبى عثمان المازنى ، عن أبى زيد الانصاري ، قال : وقف علينا أعرابي في حلقة يونس (النحوي) (1) ، فقال : الحمد لله كما هو أهله ، وأعوذ بالله أن أذكر به وأنساه ، خرجنا من المدينة ، مدينة الرسول صلى الله عليه وآله ، ثلاثين رجلا ممن أخرجته الحاجة ، وحمل على المكروه ، ولا يمرضون مرضاهم (2) ، ولا يدفنون ميتهم ، ولا ينتقلون من منزل إلى منزل وإن كرهوه ، والله يا قوم لقد جعت حتى أكلت النوى المحرق ، ولقد مشيت حتى انتعلت الدم ، وحتى خرج من قدمى بخص (3) ولحم كثير ، أفلا رجل يرحم ابن سبيل وفل (4) طريق ، ونضنو سفر ! فإنه لا قليل من الاجر ، ولا غنى عن (ثواب) (5) الله ، ولا عمل بعد الموت ، وهو سبحانه يقول : (من ذا الذى
__________
(1) من الكامل .
(2) الكامل : (مريضهم) .
(3) قال أبو العباس المبرد : قوله : (بخص) ، يريد الذى يركب القدم ، هذا قول الاصمعي .
وقال غيره : هو لحم يخلطه بياض من فساد يحل فيه .
ويقال : بخصت عينه - بالصاد - ولايجوز إلا ذلك ، ويقال : بخسته حقه ، بالسين : إذا ظلمته ونقصته ، كما قال الله عزوجل : (ولا تبخسوا الناس أشيائهم) وفى المثل : تحسبها حمقاء وهى باخس .
(4) قال أبو العباس : الفل في أكثر كلامهم المنهزم الذاهب ، وفى خبر بن معدان الاشقري : (إنا آثرنا الحد على الفل) .
(5) من الكامل .
(*)(10/125)
يقرض الله قرضا حسنا) (1) ، ملي وفي ماجد واجد ، (جواد) (1) لا يستقرض من عوز (2) ، ولكنه يبلو (3) الاخيار (4) .
قال المازنى : فبلغني إنه لم يبرح حتى أخذ ستين دينارا .
ومن كلام على بن عبيدة الريحاني : الايام مستودعات الاعمال ، ونعم الارضون هي لمن بذر فيها الخير والعمل الصالح .
وخطب الحجاج ، فقال : أيها الناس ، إنكم أغراض حمام ، وفرص هلكه .
قد أنذركم القرآن ، ونادى برحيلكم الجديدان ! ها إن لكم موعدا لا تؤخر ساعته ، ولا تدفع هجمته ، وكان قد دلفت إليكم نازلته ، فتعلق بكم ريب المنون ، وعلقت بكم أم اللهيم الحيزبون ، فماذا هيأتم للرحيل ؟ وماذا أعددتم للنزيل ؟ من لم يأخذ أهبه الحذر ، نزل به مرهوب القدر ! (خطبة لابي الشحماء العسقلاني) قلت : وقد شغف الناس في المواعظ بكلام كاتب محدث ، يعرف بابن أبى الشحماء
__________
(1) سورة البقرة 245 .
(2) قال أبو العباس : (لا يستقرض من عوز) ، فالعوز تعذر المطلوب ، يقال : أعوز فلان ، فهو معوز إذا لم يجد .
(3) قال أبو العباس : قوله : (ولكن ليبلو الاخيار) ، يقال : الله يبلوهم ويختبرهم في معنى وتأويله يمتحنهم العالم عزوجل بما يكون ، كعلمه بما كان ، قال الله جل ثناؤه : (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) .
(4) الخبر في الكامل 1 : 451 - 455 .
(*)(10/126)
العسقلاني ، وأنا أورد هاهنا خطبة من مواعظه ، هي أحسن ما وجدته له ، ليعلم الفرق بين الكلام الاصيل والمولد : أيها الناس ، فكوا أنفسكم من حلقات الامال المتعبة ، وخففوا ظهوركم من الاصار المستحقبة ، ولا تسيموا أطماعكم في رياض الامانى المتشعبة ، ولا تميلوا صغوكم إلى زبارج الدنيا المحببة ، فتظل أجسامكم في هشائمها عاملة نصبة ! أما علمتم أن طباعها على الغدر مركبة ، وأنها لاعمار أهلها منتهبة ، ولما ساءهم منتظرة مرتقبة ، في هبتها راجعة متعقبة ! فانضوا رحمكم الله ركائب الاعتبار مشرقة ومغربة ، وأجروا خيول التفكر مصعدة ومصوبة ، هل تجدون إلا قصورا على عروشها خربة ، وديارا معطشة من أهلها مجدبة ! أين الامم السالفة المتشعبة ، والجبابرة الماضية المتغلبة ، والملوك المعظمة المرجبة ، أولو الحفدة والحجبة ، والزخارف المعجبة ، والجيوش الحرارة اللجبة ، والخيام الفضفاضة المطنبة ، والجياد الاعوجية المجنبة ، والمصاعب الشدقمية المصحبة ، والدان المثقفة المدربة ، والماذية الحصينة المنتخبة ، طرقت والله خيامهم غير منتهبة ، وأزارتهم من الاسقام سيوفا معطبة ، وسيرت إليهم الايام من نوبها كتائب مكتبة ، فأصبحت أظفار المنية من مهجهم قانية مختضبة ، وغدت أصوات النادبات عليهم مجلبة ، وأكلت لحومهم هوام الارض السغبة ، ثم إنهم مجموعون ليوم لا يقبل فيه عذر ولا معتبة ، وتجازى كل نفس بما كانت مكتسبة ، فسعيدة مقربة تجرى من تحتها الانهار مثوبة ، وشقية معذبة في النار مكبكبة .
هذه أحسن خطبة خطبها هذا الكاتب ، وهى كما تراها ظاهرة التكلف ، بينة التوليد ، تخطب على نفسها ، وإنما ذكرت هذا ، لان كثيرا من أرباب الهوى يقولون : إن كثيرا من نهج البلاغة كلام محدث ، صنعه قوم من فصحاء الشيعة ، وربما عزوا بعضه إلى الرضى أبى الحسن وغيره ، وهؤلاء قوم أعمت العصبية أعينهم ، فضلوا عن النهج الواضح(10/127)
وركبوا بنيات (1) الطريق ، ضلالا وقلة معرفة بأساليب الكلام ، وأنا أوضح لك بكلام مختصر مافى هذا الخاطر من الغلط فاقول : (رأى للمؤلف في كتاب نهج البلاغة) لا يخلو إما أن يكون كل نهج البلاغة مصنوعا منحولا ، أو بعضه .
والاول باطل بالضرورة لانا نعلم بالتواتر صحة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، وقد نقل المحدثون كلهم أو جلهم ، والمؤرخون كثيرا منه ، وليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك ، والثانى يدل على ما قلناه ، لان من قد أنس بالكلام والخطابة ، وشدا طرفا من علم البيان ، وصار له ذوق في هذا الباب ، لابد أن يفرق بين الكلام الركيك والفصيح ، وبين الفصيح والافصح ، وبين الاصيل والمولد ، وإذا وقف على كراس واحد يتضمن كلاما لجماعة من الخطباء ، أو لاثنين منهم فقط ، فلا بد أن يفرق بين الكلامين ، ويميز بين الطريقتين ، ألا ترى أنا مع معرفتنا بالشعر ونقده ، لو تصفحنا ديوان أبى تمام ، فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره ، لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبى تمام ونفسه ، وطريقته ومذهبه في القريض ، ألا ترى أن العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه ، لمباينتها لمذهبه في الشعر ، وكذلك حذفوا من شعر أبى نواس شيئا كثيرا ، لما ظهر لهم أنه ليس من ألفاظه ، ولا من شعره ، وكذلك غيرهما من الشعراء ، ولم يعتمدوا في ذلك إلا على الذوق خاصة .
وأنت إذا تأملت نهج البلاغة وجدته كله ماء واحدا ، ونفسا واحدا ، وأسلوبا واحدا ، كالجسم البسيط الذى ليس بعض من أبعاضه مخالفا لباقي الابعاض في الماهية ، وكالقرآن العزيز ، أوله كأوسطه ، وأوسطه كآخره ، وكل سورة منه ، وكل آية مماثلة في
__________
(1) يقال : ركب بنيات الطريق ، أي ضل ، وأصل البنيات الطرق الصغار ، ثم أطلقت على الترهات (*) .(10/128)
المأخذ والمذهب والفن والطريق والنظم لباقي الايات والسور ، ولو كان بعض نهج البلاغة منحولا وبعضه صحيحا ، لم يكن ذلك كذلك ، فقد ظهر لك بهذا البرهان الواضح ضلال من زعم أن هذا الكتاب أو بعضه منحول إلى أمير المؤمنين عليه السلام .
واعلم أن قائل هذا القول يطرق على نفسه مالا قبل له به ، لانا متى فتحنا هذ الباب ، وسلطنا الشكوك على أنفسنا في هذا النحو ، لم نثق بصحة كلام منقول عن رسول الله صلى الله عليه وآله أبدا ، وساغ لطاعن أن يطعن ويقول : هذا الخبر منحول ، وهذا الكلام مصنوع ، وكذلك ما نقل عن أبى بكر وعمر من الكلام والخطب والمواعظ والادب وغير ذلك ، وكل أمر جعله هذا الطاعن مستندا له فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وآله ، والائمة الراشدين ، والصحابة والتابعين ، والشعراء والمترسلين ، والخطباء ، فلناصرى أمير المؤمنين عليه السلام أن يستندوا إلى مثله فيما يروونه عنه من نهج البلاغة وغيره ، وهذا واضح .(10/129)
(185) الاصل : ومن كلام له عليه السلام : قاله للبرج بن مسهر الطائى ، وقد قال له بحيث يسمعه : (لا حكم إلا لله) ، وكان من الخوارج .
اسكت قبحك (1) الله يا أثرم ! فو الله لقد ظهر الحق فكنت فيه ضئيلا شخصك ، خفيا صوتك ، حتى إذا نعر الباطل ، نجمت نجوم قرن الماعز .
الشرح : البرج بن مسهر - بضم الميم وكسر الهاء - بن الجلاس بن وهب بن قيس بن عبيد بن طريف بن مالك بن جدعاء بن ذهل بن رومان بن جندب بن خارجة بن سعد بن قطرة بن طى بن داود بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبا بن يشجب بن يعرب ابن قحطان ، شاعر مشهور من شعراء الخوارج ، نادى بشعارهم بحيث يسمعه أمير المؤمنين عليه السلام ، فزجره .
وقبحك الله ، لفظة معناها كسرك ، يقال : قبحت الجوزة ، أي كسرتها ، وقيل : قبحه نحاه عن الخير ، وكان البرج ساقط الثنية ، فأهانه بأن دعاه به ، كما يهان الاعور بأن يقال له : يا أعور .
والضئيل : الدقيق الخفى ، ضؤل الرجل ، بالضم ضآلة : نحف ، وضؤل رأيه : صغر ، ورجل متضائل ، أي شخت ، وكذلك : (ضؤله) .
__________
(1) مخطوطة النهج : قبحك ، بالتشديد .
(*)(10/130)
ونعر الباطل : صاح ، والمراد أهل الباطل ، ونعر فلان في الفتنة : نهض فيها .
ونجم : طلع ، أي طلع بلا شرف ولا شجاعة ولا قدم ، بل على غفلة ، كما ينبت قرن الماعز .
وهذا من باب البديع ، وهو أن يشبه الامر يراد إهانته بالمهين ، ويشبه الامر يراد إعظامه بالعظيم ، ولو كان قد تكلم في شأن ناجم يريد تعظيمه ، لقال : نجم نجوم الكوكب من تحت الغمام ، نجوم نور الربيع من الاكمام ، ونحو ذلك .(10/131)
(186) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : روى أن صاحبا لامير المؤمنين عليه السلام يقال له همام .
كان رجلا عابدا ، فقال له : يا أمير المؤمنين : صف لى المتقين حتى كأنى أنظر إليهم ، فتثاقل عليه السلام عن جوابه ، ثم قال : يا همام اتق الله وأحسن : ف (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) (1) .
فلم يقنع همام بهذا القول حتى عزم عليه ، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وآله .
ثم قال عليه السلام : أما بعد ، فأن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق - حين خلقهم - غنيا عن طاعتهم آمنا من معصيتهم ، لانه لا تضره معصية من عصاه ، ولا تنفعه طاعة من أطاعه ، فقسم بينهم معايشهم ، ووضعهم من الدنيا مواضعهم ، فالمتقون فيها هم أهل الفضائل ، منطقهم الصواب ، وملبسهم الاقتصاد ، ومشيهم التواضع .
غضوا أبصارهم عما حرم الله عليهم ، ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم .
نزلت أنفسهم منهم في البلاء ، كالذى نزلت في الرخاء .
لولا الاجل الذى كتب الله عليهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين ، شوقا إلى الثواب ، وخوفا من العقاب .
__________
(1) سورة النحل 128 .
(*)(10/132)
عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم ، فهم والجنة كمن قد رآها ، فهم فيها منعمون ، وهم والنار كمن قد رآها ، فهم فيها معذبون ، قلوبهم محزونة ، وشرورهم مأمونة ، وأجسادهم نحيفة ، وحاجاتهم خفيفة ، وأنفسهم عفيفة .
صبروا أياما قصيرة ، أعقبتهم راحة طويلة .
تجارة مربحة ، يسرها لهم ربهم .
أرادتهم الدنيا فلم يريدوها ، وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها .
أما الليل فصافون أقدامهم ، تالين لاجزاء القرآن يرتلونها ترتيلا ، يحزنون به أنفسهم ، ويستثيرون به دواء دائهم ، فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا ، وتطلعت نفوسهم إليها شوقا ، وظنوا أنها نصب أعينهم ، وإذا مروا بآية فيها تخويف ، أصغوا إليها مسامع قلوبهم ، وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم ، فهم حانون على أوساطهم ، مفترشون لجباههم وأكفهم وركبهم ، وأطراف أقدامهم ، يطلبون إلى الله تعالى في فكاك رقابهم .
وأما النهار فحلماء علماء ، أبرار أتقياء ، قد براهم الخوف برى القداح ، ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى ، وما بالقوم من مرض ، ويقول : لقد خولطوا ، ولقد خالطهم أمر عظيم ، لا يرضون من أعمالهم القليل ، ولا يستكثرون الكثير ، فهم لانفسهم متهمون ، ومن أعمالهم مشفقون ، إذا زكى أحد منهم خاف مما يقال له فيقول : أنا أعلم بنفسى من غيرى ، وربى أعلم بى منى بنفسى ! اللهم لا تؤاخذني بما يقولون ، واجعلني أفضل مما يظنون ، واغفر لى مالا يعلمون !(10/133)
الشرح : همام المذكور في هذه الخطبة : هو همام بن شريح بن يزيد بن عمرو بن جابر بن يحيى بن الاصهب بن كعب بن الحارث بن سعد بن عمرو بن ذهل بن مران بن صيفي بن سعد العشيرة .
وكان همام هذا من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام وأوليائه ، وكان ناسكا عابدا ، قال له : يا أمير المؤمنين ، صف لى المتقين حتى أصير بوصفك إياهم ، كالناظر إليهم .
فتثاقل عن جوابه ، أي أبطأ .
فعزم عليه ، أي أقسم عليه ، وتقول لمن يكرر عليك الطلب والسؤال : قد عزم على ، أي أصر وقطع ، وكذلك تقول في الامر تريد فعله وتقطع عليه : عزمت عزما وعزمانا وعزيمة وعزيما .
فإن قلت : كيف جاز له عليه السلام أن يتثاقل عن جواب المسترشد ؟ .
قلت : يجوز أن يكون تثاقل عن جوابه ، لانه علم أن المصلحة في تأخير الجواب ، ولعله كان حضر المجلس من لا يحب أن يجيب وهو حاضر ، فلما انصرف أجاب ، ولعله رأى أن تثاقله عن الجواب يشد تشوق همام إلى سماعه ، فيكون أنجع في موعظته ، ولعله كان من باب تأخير البيان إلى وقت الحاجة ، لامن باب تأخير البيان عن وقت الحاجة ، ولعله تثاقل عن الجواب ليرتب المعاني التى خطرت له في ألفاظ مناسبة لها ، ثم ينطق بها كما يفعله المتروى في الخطبة والقريض .
فإن قلت : فما معنى إجابته له أولا بقوله : يا همام ، اتق الله وأحسن ف (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) ؟ وأى جواب في هذا عن سؤال همام ؟ .(10/134)
قلت : كأنه لم ير في بادئ الحال شرح صفات المتقين على التفصيل ، فقال لهمام : ماهية التقوى معلومة في الجملة ، فاتق الله وأحسن ، فإن الله قد وعد في كتابه أن يكون وليا وناصرا لاهل التقوى والاحسان ، وهذا كما يقول لك قائل : ما صفات الله الذى أعبده أنا والناس ؟ فتقول له : لا عليك ألا تعرف صفاته مفصلة ، بعد أن تعلم أنه خالق العالم ، وأنه واحد لا شريك له ! فلما أبى همام إلا الخوض فيما سأله على وجه التفصيل ، قال له : إن الله تعالى خلق الخلق حين خلقهم ، ويروى : (حيث خلقهم) وهو غنى عن طاعتهم ، لانه ليس بجسم فيستضر بأمر أو ينتفع به .
وقسم بين الخلق معايشهم ، كما قال سبحانه : (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا) (1) .
وفى قوله : (وضعهم مواضعهم) معنى قوله : (ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا) (1) ، فكأنه عليه السلام أخذ الالفاظ ، فألغاها وأتى بمعناها .
فلما فرغ من هذه المقدمة شرع في ذكر صفات المتقين ، فقال : إنهم أهل الفضائل .
ثم بين ما هذه الفضائل ، فقال : (منطقهم الصواب) .
فإن قلت : أي فائدة في تقديم تلك المقدمة ، وهى كون البارئ سبحانه غنيا لا تضره المعصية ، ولا تنفعه الطاعة ! .
قلت : لانه لما تضمنت الخطبه مدح الله تعالى للمتقين وما أعده لهم من الثواب ، وذمه للعاصين وما أعده لهم من العقاب العظيم ، فربما يتوهم متوهم أن الله تعالى ما رغب في الطاعة
__________
(1) سورة الزخرف 32 .
(*)(10/135)
هذا الترغيب البالغ ، وخوف من المعصية هذا التخويف البالغ ، إلا وهو منتفع بالاولى ، مستضر بالثانية ، فقد عليه السلام تلك المقدمة نفيا لهذا الوهم .
(فصل في فضل الصمت والاقتصاد في المنطق) واعلم أن القول في خطر الكلام وفضل الصمت وفضل الاقتصار في المنطق وسيع جدا ، وقد ذكرنا منه طرفا فيما تقدم ، ونذكر الان منه طرفا آخر .
قال النبي صلى الله عليه وآله : (من صمت نجا) .
وقال أيضا : (الصمت حكم وقليل فاعله) .
وقال له صلى الله عليه وآله بعض أصحابه : أخبرني عن الاسلام بأمر لا أسأل عنه أحدا بعدك ، فقال : (قل : آمنت بالله ثم استقم) قال فما أتقى ؟ فأومأ بيده إلى لسانه .
وقال له عليه السلام عقبة بن عامر : يارسول الله ، ما النجاة ؟ قال : (املك عليك لسانك (1) ، وابك على خطيئتك ، وليسعك بيتك) .
وروى سهل بن سعد الساعدي ، عنه صلى الله عليه وآله : (من يتوكل لى بما بين لحييه ورجليه أتوكل له بالجنة) .
وقال : (من وقى شر قبقبه (2) وذبذبه (3) ولقلقه (4) فقد وقى) .
وروى سعيد بن جبير مرفوعا : (إذا أصبح ابن آدم أصبحت الاعضاء كلها تشكو
__________
(1) أملك عليك لسانك : أي لا تحركه إلا بما يكون لك لا عليك .
(2) القبقب : البطن ، من القبقبة ، وهى صوت يسمع من البطن فكأنها حكاية ذلك الصوت .
النهاية لابن الاثير 3 : 225 .
(3) ذبذبه ، أي ذكره .
وانظر النهاية لابن الاثير 2 : 43 .
(4) اللقلق : اللسان .
النهاية لابن الاثير 4 : 64 ، قال : ومنه حديث عمر : (ما لم يكن نقع ولا لقلقة) ، أراد الصياح والجلبة عند الموت ، وكأنها حكاية الاصوات الكثيرة .
(*)(10/136)
اللسان ، تقول : أي بنى آدم ، اتق الله فينا ، فإنك إن استقمت استقمنا ، وإن اعوججت اعوججنا) .
وقد روى أن عمر رأى أبا بكر ويمد لسانه ، فقال : ما تصنع ؟ قال : هذا الذى أوردني الموارد ، إن رسول الله صلى الله عليه وآله ، قال : (ليس شئ في الجسد إلا يشكو إلى الله تعالى اللسان على حدته) .
وسمع ابن مسعود يلبى على الصفا ، ويقول : يالسان ، قل خيرا تغنم ، أو اصمت تسلم من قبل أن تندم ، فقيل له : يا أبا عبد الرحمن أهذا شئ سمعته ، أم تقوله من تلقاء نفسك ؟ قال : بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : (أكثر خطايا ابن آدم من لسانه) .
وروى الحسن مرفوعا : (رحم الله عبدا تكلم فغنم ، أو سكت فسلم) .
وقالت التلامذة لعيسى عليه السلام : دلنا على عمل ندخل به الجنة ، قال : لا تنطقوا أبدا .
قالوا : لا نستطيع ذلك ، قال : فلا تنطقوا إلا بخير .
وقال النبي صلى الله عليه وآله : (إن الله عند لسان كل قائل ، فاتقى الله امرؤ علم ما يقول) .
وكان يقال : لا شئ أحق بطول سجن من لسان .
وكان يقال : لسانك سبع ، إن أطلقته أكلك .
في حكمة آل داود : حقيق على العاقل أن يكون عارفا بزمانه ، حافظا للسانه ، مقبلا على شأنه .
وكان يقال : من علم أن كلامه من عمله ، أقل كلامه فيما لا ينفعه .
وقال محمد بن واسع : حفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدينار والدرهم .(10/137)
اجتمع أربعة حكماء : من الروم ، والفرس ، والهند ، والصين ، فقال أحدهم : أنا أندم على ما قلت ولا أندم على ما لم أقل : وقال الاخر : إذا تكلمت بالكلمة ملكتنى ، ولم أملكها ، وإذا لم أتكلم ملكتها ولم تملكني .
وقال الاخر : عجبت للمتكلم ، إن رجعت عليه كلمته ضرته ، وإن لم ترجع لم تنفعه ، وقال الرابع : أنا على رد ما لم أقل ، أقدر منى على رد ما قلت .
(ذكر الاثار الواردة في آفات اللسان) واعلم أن آفات اللسان كثيرة : فمنها الكلام فيما لا يعنيك ، وهو أهون آفات اللسان ، ومع ذلك فهو عيب ، قال النبي صلى الله عليه وآله : (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) .
وروى أنه عليه السلام مر بشهيد يوم أحد ، فقال أصحابه : هنيئا له الجنة ! قال : وما يدريكم لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ! وقال ابن عباس : خمس هي أحسن وأنفع من حمر النعم : لا تتكلم فيما لا يعنيك ، فإنه فضل لا آمن عليه الوزر .
ولا تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعا ، فرب متكلم في أمر يعنيه قد وضعه في غير موضعه فأساء .
ولا تمار حليما ولا سفيها ، فإن الحليم يقليك ، والسفيه يؤذيك ، واذكر أخاك إذا تغيب عنك بما تحب أن يذكرك به ، وأعفه عما تحب أن يعفيك عنه .
واعمل عمل رجل يرى أنه مجازى بالاحسان ، مأخوذ بالجرائم .
ومنها فضول الكلام وكثرته ، وترك الاقتصار ، وكان يقال : فضول المنطق وزيادته نقص في العقل ، وهما ضدان متنافيان ، كلما زاد أحدهما نقص الاخر .(10/138)
وقال عبد الله بن مسعود : إياكم وفضول الكلام ، حسب امرئ ما بلغ به حاجته .
وكان يقال : من كثر كلامه كثر سقطه .
وقال الحسن : فضول الكلام كفضول المال ، كلاهما مهلك .
ومنها الخوض في الباطل ، والحديث فيما لا يحل ، كحديث النساء ومجالس الخمر ، ومقامات الفساق ، وإليه الاشارة بقوله تعالى : (وكنا نخوض مع الخائضين) (1) .
ومنها المراء (2) والجدال ، قال عليه السلام : (دع المراء وإن كنت محقا) .
وقال مالك بن أنس : المراء يقسى القلب ، ويورث الضغائن .
وقال سفيان الثوري : لو خالفت أخى في رمانة فقال حلوة ، وقلت حامضة ، لسعى بى إلى السلطان .
وكان يقال : صاف من شئت ثم أغصبه بالجدال والمراء ، فليرمينك بداهية تمنعك العيش .
وقيل لميمون بن مهران مالك لا تفارق أخالك عن قلى ؟ قال : لانى لا أشاريه ، ولا أماريه .
ومنها التقعر في الكلام بالتشدد ، والتكلف في الالفاظ ، قال النبي صلى الله عليه وآله
__________
(1) سورة المدثر (45) (2) المراء ، وفعله مارى يمارى : كثرة المنازعة واللجاجة في القول .
(*)(10/139)
(أبغضكم إلي ، وأبعدكم منى مجالس يوم القيامة الثرثارون (1) المتفيهقون (2) المتشدقون (3) .
) وقال عليه السلام : (هلك المتنطعون ...
) ، ثلاث مرات ، والتنطع : هو التعمق والاستقصاء .
وقال عمر : إن شقاشق الكلام من شقاشق الشيطان .
ومنها الفحش والسب والبذاء (4) قال النبي صلى الله عليه وآله : (إياكم والفحش ، فإن الله لا يحب الفحش ، ولا يرضى الفحش) .
وقال عليه السلام : (ليس المؤمن بالطعان ، ولا باللعان ، ولا بالسباب ، ولا البذئ) .
وقال عليه السلام : (لو كان الفحش رجلا لكان رجل سوء) .
ومنه المزاح الخارج عن قانون الشريعة ، وكان يقال : من مزح استخف به .
وكان يقال : المزاح فحل لا ينتج إلا الشر .
ومنها الوعد الكاذب ، وقد قال النبي صلى اله عليه وآله : العدة دين ، وقد أثنى الله سبحانه على إسماعيل ، فقال : (إنه كان صادق الوعد) (5) وقال سبحانه : (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) (6) .
(هامش) * (1) الثرثارون : الذين يكثرون الكلام تكلفا وتجاوزا وخروجا عن الحق ، وأصله من العين الواسعة من عيون الماء ، يقال : عين ثرثارة .
(2) المتفيقهون ، أصله من قولهم : (فهق الغدير يفهق ، إذا امتلا ماء فلم يكن فيه موضع مزيد .
(3) المتشدقون : المتوسعون في الكلام من غير احتياط واحتراز في اللسان : وقيل : (أراد بالمتشدق المستهزئ بالناس ، يلوى شدقه بهم وعليهم) .
(4) البذاء ، بالفتح : السفة والفحش في المنطق .
(5) سورة مريم 54 .
(6) سورة المائدة (1) .
(*)(10/140)
ومنها الكذب في القول واليمين ، والامر فيهما مشهور .
ومنها الغيبة وقد تقدم القول فيها .
قوله عليه السلام : (وملبسهم الاقتصاد) ، أي ليس بالثمين جدا ، ولا بالحقير جدا ، كالخرق التى تؤخذ من على المزابل ، ولكنه أمر بين أمرين ، وكان عليه السلام يلبس الكرابيس ، وهو الخام الغليظ ، وكذلك كان عمر رضى الله عنه .
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يلبس اللين تارة ، والخشن أخرى .
قوله عليه السلام : (ومشيهم التواضع) ، تقديره : وصفة مشيهم التواضع ، فحذف المضاف ، وهذا مأخوذ من قوله تعالى : (واقصد في مشيك واغضض من صوتك) (1) .
رأى محمد بن واسع ابنا له يمشى ، وهو يتبختر ويميس في مشيته ، فصاح به ، فأقبل ، فقال له : ويلك ! لو عرفت نفسك لقصدت في مشيك ، أما أمك فأمة ابتعتها بمائة درهم ، وأما أبوك فلا أكثر الله في الناس من أمثاله .
! والاصل في هذا الباب ، قوله تعالى : (ولا تمش في الارض مرحا إنك لن تخرق الارض ولن تبلغ الجبال طولا) (2) .
وقوله : (غضوا أبصارهم) أي خفضوها وغمضوها ، وغضضت طرفي عن كذا : احتملت مكروهه .
وقوله : (وقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم) أي لم يشغلوا سمعهم بشئ غير العلوم النافعة ، أي لم يشتغلوا بسماع شعر ولا غناء ولا أحاديث أهل الدنيا .
__________
(1) سورة لقمان 19 .
(2) سورة الاسراء 37 .
(*)(10/141)
قوله : (نزلت أنفسهم منهم في البلاء ، كالذى نزلت في الرخاء) ، يعنى أنهم قد طابوا نفسا في البلاء والشدة كطيب أنفسهم بأحوالهم في الرخاء والنعمة ، وذلك لقلة مبالاتهم بشدائد الدنيا ومصائبها ، وتقدير الكلام من جهة الاعراب : نزلت أنفسهم منهم في حال البلاء نزولا كالنزول الذى نزلته منهم في حال الرخاء ، فموضع (كالذى) نصب ، لانه صفة مصدر محذوف ، والموصول قد حذف العائد إليه ، وهو الهاء في (نزلته) كقولك : ضربت الذى ضربت ، أي ضربت الذى ضربته .
ثم قال عليه السلام : إنهم من شدة شوقهم إلى الجنة ، ومن شدة خوفهم من النار ، تكاد أرواحهم أن تفارق أجساد هم ، لولا أن الله تعالى ضرب لهم آجالا ينتهون إليها .
ثم ذكر أن الخالق لما عظم في أعينهم استصغروا كل شئ دونه ، وصاروا لشدة يقينهم ومكاشفتهم ، كمن رأى الجنة فهو يتنعم فيها ، وكمن رأى النار وهو يعذب فيها ، ولا ريب أن من يشاهد هاتين الحالتين ، يكون على قدم عظيمة من العبادة والخوف والرجاء ، وهذا مقام جليل ، ومثله قوله عليه السلام في حق نفسه : (لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا) .
والواو في (والجنة) واو (مع) ، وقد روى بالعطف بالرفع على أنه معطوف على (هم) ، .
الاول أحسن .
ثم وصفهم بحزن القلوب ونحافة الاجسام ، وعفة الانفس وخفة الحوائج ، وأن شرورهم مأمونة على الناس ، وأنهم صبروا صبرا يسيرا أعقبهم نعيما طويلا .
ثم ابتدأهم فقال : تجارة مربحة ، أي تجارتهم تجارة مربحة ، فحذف المبتدأ .
وروى : (تجارة مربحة) ، بالنصب على أنه مصدر محذوف الفعل .
قوله : (أما الليل) بالنصب على الظرفية ، وروى (أما الليل) على الابتداء .
قوله : (تالين) ، منصوب على أنه حال ، إما من الضمير المرفوع بالفاعلية في (صافون) أو من الضمير المجرور بالاضافة في : (أقدامهم) .
(*)(10/142)
والترتيل : التبيين والايضاح ، وهو ضد الاسراع والعجل : ويروى : (يرتلونه) على أن الضمير يعود إلى القرآن ، والرواية الاولى يعود الضمير فيها إلى أجزاء القرآن .
قوله : (يحزنون به أنفسهم) ، أي يستجلبون لها الحزن به ، ويستثيرون به دواء دائهم ، إشارة إلى البكاء ، فإنه دواء داء الحزين ، قال الشاعر : فقلت لها إن البكاء لراحة به يشتفى من ظن ألا تلاقيا وقال آخر : شجاك من ليلتك الطول فالدمع من عينيك مسدول وهو إذا أنت تأملته حزن على الخدين محلول ثم ذكر أنهم إذا مروا بآية فيها ذكر الثواب مالوا إليها ، واطمأنوا بها ، طمعا في نيله ، وتطلعت أنفسهم إليها شوقا ، أي اشرأبت .
(ونصب أعينهم) منصوب على الظرفية ، وروى بالرفع ، على أنه خبر إن ، والظن هاهنا يمكن أن يكون على حقيقته ، ويمكن أن يكون بمعنى العلم ، كقوله تعالى : (ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون) (1) وأصغى إلى الكلام : مال إليه بسمعه .
وزفير النار : صوتها .
وقد جاء في فضل قراءة القرآن شئ كثير ، روى عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال : (من قرأ القرآن ثم رأى أن أحدا أوتى أفضل مما أوتى فقد استصغر ما عظمه الله) .
وقال صلى الله وآله : (لو كان القرآن في إهاب ما مسته النار) .
وقال : (أفضل عبادة أمتى قراءة القرآن) .
__________
(1) سورة المطففين 4 .
(*)(10/143)
وقال : (أهل القرآن أهل الله وخاصته) .
وقال : (إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد) ، قيل : فما جلاؤها ؟ قال : (تلاوة القرآن وذكر الموت) .
وقال عليه السلام : (إن الله سبحانه لاشد أذنا (1) إلى قارئ القرآن من صاحب القينة إلى قينته) .
وقال الحسن رحمه الله : ما دون القرآن من غنى ، ولا بعد القرآن من فاقة .
ثم ذكر عليه السلام صورة صلاتهم وركوعهم ، فقال : (حانون على أوساطهم) ، حنيت العود : عطفته ، يصف هيئة ركوعهم وإنحنائهم في الصلاة .
مفترشون لجباههم : باسطون لها على الارض .
ثم ذكر الاعضاء السبعة التى مباشرتها بالارض فروض في الصلاة ، وهى : الجبهة ، والكفان ، والركبتان ، والقدمان .
قوله عليه السلام : (يطلبون إلى الله) ، أي يسألونه ، يقال : طلبت إليك في كذا ، أي سألتك ، والكلام على الحقيقة ، مقدر فيه حال محذوفة يتعلق بها حرف الجر ، أي يطلبون سائلين إلى الله في فكاك رقابهم ، لان (طلب) لا يتعدى بحرف الجر .
ثم لما فرغ من ذكر الليل ، قال : (وأما النهار فحلماء علماء ، أبرار أتقياء) ، هذه الصفات هي التى يطلع عليها الناظرون لهم نهارا ، وتلك الصفات المتقدمة من وظائف الليل .
ثم ذكر ما هم عليه من الخوف ، فقال عليه السلام : (إن خوفهم قد براهم برى
__________
(1) الاذن : الاستماع .
(*)(10/144)
القداح) وهى السهام ، واحدها قدح ، فينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بهم من مرض ، نظير هذا قول الشاعر (1) : ومخرق عنه القميص تخاله بين البيوت من الحياء سقيما (2) حتى إذا رفع اللواء رأيته تحت اللواء على الخميس زعيما (3) .
ويقال للمتقين لشدة خوفهم : كأنهم مرضى ، ولا مرض بهم .
وتقول العرب للكرام من الناس ، القليلى المأكل والمشرب ، رافضي اللباس الرفيع ، ذوى (4) الاجسام النحيفة : مراض من غير مرض ، ويقولون أيضا للمرأة ذات الطرف الغضيض الفاتر ، ذات الكسل : مريضة من غير مرض ، قال الشاعر : ضعيفة كر الطرف تحسب أنها حديثة عهد بالافاقة من سقم (5)
__________
(1) من أبيات لليلى الاخيلية ، ذكرها أبو تمام في الحماسة 4 : 1607 - بشرح التبريزي ، أولها : يأيها السدم الملوى رأسه ليقود من أهل الحجاز بريما أتريد عمرو بن الخليع ودونه كعب ، إذا لوجدته مرؤما وفى أمالى القالى 1 : 248 : (كان الاصمعي يرويها لحميد بن ثور الهلالي) .
وانظر تنبيهات البكري 78 .
(2) قال التبريزي : (أي لا يبالي كيف كان ثيابه لانه لا يزين نفسه ، إنما يزين حسبه ويصون كرمه ، وقيل : معناه أنه غليظ المناكب ، وإذا كان كذلك أسرع الخرق إلى قميصه ، وقيل : أرادت أنه كثير الغزوات متصل الاسفار ، فقميصه منخرق لذلك .
وقولها : (من الحياء سقيما) ، تعنى أنه ينتقع لونه من شدة الحياء ، وإنما يستحى من ألا يكون قد بلغ من إكرام القوم مافى نفسه) .
(3) الخميس : الجيش ، لانه يكون من خمس كتائب ، أو خمسة صفوف : المقدمة ، والميمنة ، الميسرة ، والقلب ، والساقة ، وسمى الرئيس زعيما ، لانه يزعم عن قومه ، أي يقول .
(4) ب : (ذو) ، وصوابه من د .
(*)(10/145)
(ذكر الخوف وما ورد فيه من الاثار) واعلم أن الخوف مقام جليل من مقامات العارفين ، وهو أحد الاركان التى هي أصول هذا الفن ، وهو التقوى التى حث الله تعالى عليها ، وقال : إن أكرم الناس عنده أشدهم خوفا له ، وفى هذه الاية وحدها كفاية ، وإذا نظرت القرآن العزيز وجدت أكثره ذكر المتقين ، وهم الخائفون ، وقال النبي صلى الله عليه وآله : (من خاف الله خافه كل شئ ، ومن خاف غير الله خوفه الله من كل شئ) .
وقال عليه السلام : (أتمكم عقلا أشدكم لله خوفا ، وأحسنكم فيما أمر به ونهى عنه نظرا) .
وقال يحيى بن معاذ : مسكين ابن آدم ، لو خاف النار كما يخاف الفقر ، دخل الجنة .
وقال ذو النون المصرى : ينبغى أن يكون الخوف أغلب من الرجاء ، فإن الرجاء إذا غلب تشوش القلب .
وقيل لبعض الصالحين : من آمن الخلق غدا ؟ قال : أشدهم خوفا اليوم .
وقيل للحسن : يا أبا سعيد ، كيف نصنع بمجالسة أقوام من أصحابك ، يخوفوننا حتى تكاد قلوبنا تطير ؟ فقال : إنك والله لان تصحب قوما يخوفونك حتى تدرك الامن ، خير لك من أن تصحب قوما يؤمنونك حتى يدركك الخوف .
وقيل للنبى صلى الله عليه وآله في قوله تعالى : (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة) (1) : هم الذين يعصون ويخافون المعصية ؟ قال : (لا ، بل الرجل يصوم ، ويتصدق ، ويخاف ألا يقبل منه) .
__________
(1) سورة المؤمنون 60 .
(*)(10/146)
وقال صلى الله عليه وآله : (ما من قطرة أحب إلى الله تعالى من قطرة دمع من خشية الله ، أو قطرة دم أريقت في سبيل الله) .
وقال عليه السلام : (سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله) ، وذكر منهم رجلا ذكر الله في خلوة ، ففاضت عيناه .
قوله عليه السلام : (ويقول قد خولطوا) ، أي أصابتهم جنة .
ثم قال : (ولقد خالطهم أمر عظيم) ، أي مازجهم خوف عظيم تولهوا لاجله ، فصاروا كالمجانين .
ثم ذكر أنهم لا يستكثرون في كثير من أعمالهم ، ولا يرضيهم اجتهادهم ، وأنهم يتهمون أنفسهم ، وينسبونها إلى التقصير في العبادة ، وإلى هذا نظر المتنبي ، فقال : يستصغر الخطر الكبير لنفسه ويظن دجلة ليس تكفى شاربا (1) .
قال : (ومن أعمالهم مشفقون) ، أي مشفقون من عباداتهم ألا تقبل ، وإلى هذا نظر أبو تمام ، فقال : يتجنب الاثام ثم يخافها فكأنما حسناته آثام .
ومثل قوله : (أنا أعلم بنفسى من غيرى) .
قوله عليه السلام لمن زكاه نفاقا : (أنا دون ما تقول ، وفوق ما في نفسك) .
وقوله : (اللهم لا تؤاخذني بما يقولون ...
) إلى آخر الكلام مفرد مستقل بنفسه ، منقول عنه عليه السلام ، أنه قال لقوم مر عليهم وهم مختلفون في أمره ، فمنهم الحامد له ، ومنهم الذام ، فقال : (اللهم لا تؤاخذني ...
) الكلمات إلى آخرها ، ومعناه : اللهم
__________
(1) ديوانه 21 : 125 (*) .(10/147)
إن كان ما ينسبه الذامون إلي من الافعال الموجبة للذم حقا ، فلا تؤاخذني بذلك ، واغفر لى مالا يعلمونه من أفعالى ، وإن كان ما يقوله الحامدون حقا ، فاجعلني أفضل مما يظنونه في .
الاصل : فمن علامة أحدهم ، أنك ترى له قوة في دين ، وحزما في لين ، وإيمانا في يقين ، وحرصا في علم ، وعلما في حلم ، وقصدا في غنى ، وخشوعا في عبادة ، وتجملا في فاقة ، وصبرا في شدة ، وطلبا في حلال ، ونشاطا في هدى ، وتحرجا عن طمع ، يعمل الاعمال الصالحة وهو على وجل .
يمسى وهمه الشكر ، ويصبح وهمه الذكر .
يبيت حذرا ، ويصبح فرحا ، حذرا لما حذر من الغفلة ، وفرحا بما أصاب من الفضل والرحمة .
إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره ، لم يعطها سؤلها فيما تحب .
قرة عينه فيما لا يزول ، وزهادته فيما لا يبقى ، يمزج الحلم بالعلم ، والقول بالعمل .
تراه قريبا أمله ، قليلا زلله ، خاشعا قلبه ، قانعة نفسه ، منزورا أكله ، سهلا أمره ، حريزادينه ، ميتة شهوته ، مكظوما غيظه .
الخير منه مأمول ، والشر منه مأمون ، إن كان في الغافلين كتب في الذاكرين ، وإن كان في الذاكرين ، لم يكتب من الغافلين .(10/148)
يعفو عمن ظلمه ، ويعطى من حرمه ، ويصل من قطعه ، بعيدا فحشه ، لينا قوله ، غائبا منكره ، حاضرا معروفه ، مقبلا خيره ، مدبرا شره .
في الزلازل وقور ، وفى المكاره صبور ، وفى الرخاء شكور ، لا يحيف على من يبغض ، ولا يأثم فيمن يحب .
يعترف بالحق قبل أن يشهد عليه ، لا يضيع ما استحفظ ، ولا ينسى ما ذكر ، ولا ينابز بالالقاب ، ولا يضار بالجار ، ولا يشمت بالمصائب ، ولا يدخل في الباطل ، ولايخرمن الحق .
إن صمت لم يغمه صمته ، وإن ضحك لم يعل صوته ، وإن بغى عليه صبر حتى يكون الله هو الذى ينتقم له .
نفسه منه في عناء ، والناس منه في راحة ، أتعب نفسه لاخرته ، وأراح الناس من نفسه .
بعده عمن تباعد عنه زهد ونزاهة ، ودنوه ممن دنا منه لين ورحمة ، ليس تباعده بكبر وعظمة ، ولا دنوه بمكر وخديعة .
قال : فصعق همام صعقة كانت نفسه فيها ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام : أما والله لقد كنت أخافها عليه .
ثم قال : هكذا تصنع المواعظ البالغة بإهلها ! فقال له قائل : فما بالك يا أمير المؤمنين ! فقال عليه السلام : ويحك ، إن لكل أجل وقتا لا يعدوه ، وسببا لا يتجاوزه ، فمهلا لاتعد لمثلها ، فإنما نفث الشيطان على لسانك ! (*)(10/149)
الشرح : هذه الالفاظ التى أولها : (قوة في دين) ، بعضها يتعلق حرف الجر فيه بالظاهر ، فيكون موضعه نصبا بالمفعولية ، وبعضها يتعلق بمحذوف ، فيكون موضعه نصبا أيضا على الصفة ، ونحن نفصلها .
فقوله : (قوة في دين) حرف الجر هاهنا متعلق بالظاهر ، وهو (قوة) ، تقول : فلان قوى في كذا وعلى كذا ، كما تقول : مررت بكذا ، وبلغت إلى كذا .
و (حزما في لين) ، هاهنا لا يتعلق حرف الجر بالظاهر ، لانه لا معنى له ، ألا ترى أنك لا تقول : فلان حازم في اللين ، لان اللين ليس أمرا يحزم الانسان فيه ، وليس كما تقول : فلان حازم في رأيه أو في تدبيره ! فوجب أن يكون حرف الجر متعلقا بمحذوف ، تقديره : وحزما كائنا في لين .
وكذلك قوله : (وإيمانا في يقين) ، حرف الجر متعلق بمحذوف : أي كائنا في يقين : أي مع يقين .
فإن قلت : الايمان هو اليقين فكيف ، قال : (وإيمانا في يقين) ؟ قلت : الايمان هو الاعتقاد مضافا إلى العمل ، واليقين هو سكون القلب فقط ، فأحدهما غير الاخر .
قوله : (وحرصا في علم) ، حرف الجر هاهنا يتعلق بالظاهر ، و (في) بمعنى (على) كقوله تعالى : (ولاصلبنكم في جذوع النخل) (1) .
قوله : (وقصدا في غنى) حرف الجر متعلق بمحذوف : أي هو مقتصد مع كونه غنيا ، وليس يجوز أن يكون متعلقا بالظاهر ، لانه لا معنى لقولك : اقتصد في الغنى ، إنما يقال : اقتصد في النفقة ، وذلك الاقتصاد موصوف بأنه مقارن للغنى ومجامع له .
__________
(1) سورة طه 71 .
(*)(10/150)
قوله : (وخشوعا في عبادة) حرف الجر هاهنا يحتمل الامرين معا .
قوله : (وتجملا في فاقة) ، حرف الجر هاهنا متعلق بمحذوف ، ولا يصح تعلقه بالظاهر ، لانه إنما يقال : فلان يتجمل في لباسه ومروؤته ، مع كونه ذا فاقة ، ولا يقال : يتجمل في الفاقة ، على أن يكون التجمل متعديا إلى الفاقة .
قوله : (وصبرا في شدة) ، حرف الجر هاهنا يحتمل الامرين .
قوله : (وطلبا في حلال) حرف الجر هاهنا يتعلق بالظاهر ، و (في) بمعنى (اللام) .
قوله : (ونشاطا في هدى) حرف الجر هاهنا يحتمل الامرين .
قوله : (وتحرجا عن طمع) ، حرف الجر هاهنا يتعلق بالظاهر لاغير .
قوله : (يعمل الاعمال الصالحة وهو على وجل) .
قد تقدم مثله .
قوله : (ويمسى وهمه الشكر) ، هذه درجة عظيمة من درجات العارفين ، وقد أثنى الله تعالى على الشكر والشاكرين في كتابه في مواضع كثيرة ، نحو قوله : (فاذكروني أذكركم واشكروا لى ولا تكفرون) (1) فقرن الشكر بالذكر .
وقال تعالى : (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم) (2) .
وقال تعالى : (وسيجزى الله الشاكرين) (3) .
ولعلو مرتبة الشكر طعن إبليس في بنى آدم ، فقال : (ولا تجد أكثرهم شاكرين) (4) ، وقد صدقه الله تعالى في هذا القول فقال : (وقليل من عبادي الشكور) (5) .
__________
(1) سورة البقرة 152 .
(2) سورة النساء 147 .
(3) سورة آل عمران 144 .
(4) سورة الاعراف 17 .
(5) سورة سبأ 13 .
(*)(10/151)
وقال بعض أصحاب المعاني : قد قطع الله تعالى بالمزيد مع الشكر ولم يستثن ، فقال : (لئن شكرتم لازيدنكم) (1) .
واستثنى في خمسة أمور : وهى الاغناء ، والاجابة ، والرزق ، والمغفرة ، والتوبة .
فقال : (فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء) (2) .
وقال : (بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء) (3) .
وقال : (يرزق من يشاء) (4) .
وقال : (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) (5) .
وقال : (ويتوب الله على من يشاء) (6) .
وقال بعضهم : كيف لا يكون الشكر مقاما جليلا ، وهو خلق من أخلاق الربوبيه ، قال تعالى في صفة نفسه : (والله شكور حليم) (7) .
وقد جعل الله تعالى الشكر مفتاح كلام أهل الجنة ، فقال : (وقالوا الحمد لله الذى صدقنا وعده) (8) ، وجعله خاتمة كلامهم أيضا فقال : (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين (9) .
وقيل للنبى صلى الله عليه وآله : قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فلم تقوم الليل ، وتتعب نفسك ؟ قال : أفلا أكون عبدا شكورا .
__________
(1) سورة إبراهيم 7 .
(2) سورة التوبة 28 .
(3) سورة الانعام 41 .
(4) سورة الشورى 19 .
(5) سورة النساء 48 .
(6) سورة التوبة 15 .
(7) سورة التغابن 17 .
(8) سورة الزمر 74 .
(9) سورة يونس 10 .
(*)(10/152)
قوله عليه السلام : (ويصبح وهمه الذكر) ، هذه أيضا درجة كبيرة عظيمة من درجات العارفين ، قال تعالى : (فاذكروني أذكركم) (1) قال بعض العارفين لاصحابه : أنا أعلم متى يذكرنى ربى .
ففزعوا منه فقال : إذا ذكرته ذكرني ، وتلا الاية ، فسكتوا .
وقال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا) (2) .
وقال : (فاذكروا الله عند المشعر الحرام) (3) .
وقال : (فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا) (4) .
وقال : (فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم) (5) .
وقال : (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم) (6) .
وقال في ذم المنافقين : (ولا يذكرون الله إلا قليلا) (7) .
وقال : (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة) (8) .
وقال : (ولذكر الله أكبر) (9) .
وقال النبي صلى الله عليه وآله : (ذاكر الله في الغافلين كالشجرة الخضراء في وسط الهشيم) .
وقال صلى الله عليه وآله : (من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر من ذكر الله) .
__________
(1) سورة البقرة 152 .
(2) سورة الاحزاب 41 .
(3) سورة البقرة 198 .
(4) سورة البقرة 200 .
(5) سورة النساء 103 .
(6) سورة آل عمران 191 .
(7) سورة النساء 142 .
(8) سورة الاعراف 205 .
(9) سورة العنكبوت 45 (*) .(10/153)
وسئل عليه السلام : أي الاعمال أفضل ؟ قال : (أن تموت ولسانك رطب بذكر الله) .
وقال صلى الله عليه وآله ، حكاية عن الله تعالى : (إذا ذكرني عبدى في نفسه ، ذكرته في نفسي ، وإذا ذكرني في ملا ذكرته في ملا خير من ملئه ، وإذا تقرب منى شبرا تقربت منه ذراعا ، وإذا تقرب منى ذراعا تقربت منه باعا ، وإذا مشى إلي هرولت إليه) .
وقال صلى الله عليه وآله : (ما جلس قوم مجلسا يذكرون الله تعالى إلا حفت بهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة ، وذكرهم الله فيمن عنده) .
قوله عليه السلام : (يبيت حذرا ويصبح فرحا ، حذرا لما حذر من الغفلة ، وفرحا بما أصاب من الفضل والرحمة .
وقد تقدم ذكر الخوف .
وقد عرض عليه السلام هاهنا بالرجاء المقابل للخوف ، فإن فرح العارف بما أصاب من الفضل والرحمة يمكن أن يحمل على أنه فرح بمجرد ما أصاب من فضل الله ورحمته .
ويمكن أن يحمل على أنه فرح بما يرجوه من ثواب الله ونعيمه ، لذا استدل على وصوله إليه وقوى ظنه بظفره به ، بما عجل الله تعالى له من الفضل والرحمة في الدنيا ، ومقام الرجاء للعارفين مقام شريف ، وهو في مقابلة مقام الخوف ، وهو المقام الذى يوجد العارف فيه فرحا ، قال الله تعالى : (إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور) (1) .
__________
(1) سورة فاطر 29 (*) .(10/154)
وقال النبي صلى الله عليه وآله ، حكاية عن الله تعالى (أنا عند ظن عبدى بى ، فليظن بى ما شاء) .
ودخل صلى الله عليه وآله على رجل من أصحابه ، وهو يجود بنفسه ، فقال : كيف تجدك ؟ قال : أجدني أخاف ذنوبي ، وأرجو رحمة ربى .
فقال صلى الله عليه وآله : (ما اجتمعا في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما رجاه ، وأمنه مما خافه) .
قوله عليه السلام : (إن استصعبت عليه نفسه) ، أي صارت صعبة غير منقادة ، يقول : إذا لم تطاوعه نفسه إلى ماهى كارهة له لم يعطها مرادها فيما تحبه .
قوله عليه السلام : (قرة عينه فيما لا يزول ، وزهادته فيما لا يبقى) ، يقال للفرح المسرور : إنه لقرير العين ، وقرت عينه تقر ، والمراد بردها ، لان دمعة السرور باردة ، ودمعة الحزن حارة .
وهذا الكلام يحتمل أمرين : أحدهما أن يعنى بما لا يزول البارئ سبحانه ، وهذا مقام شريف جدا أعظم من سائر المقامات ، وهو حب العارف لله سبحانه ، وقد أنكره قوم فقالوا : لا معنى لمحبة البارئ إلا المواظبة على طاعته ، ونحوه قول أصحابنا المتكلمين : إن محبة الله تعالى للعبد هي إرادته لثوابه ، ومحبة العبد للبارئ هي إرادته لطاعته ، فليست المحبة عندهم شيئا زائدا على الارادة ، ولا يجوز أن تتعلق بذات الله سبحانه ، لان الارادة لا تتعلق إلا بالحدوث ، وخالفهم شيخنا أبو الحسن ، فقال : إن الارادة يمكن أن تتعلق بالباقي ، ذكر ذلك في الكلام في الاكوان في أول التصفح ، فأما إثبات الحب في الجملة فقد نطق به القرآن قال سبحانه : (يحبهم(10/155)
ويحبونه) (1) .
وقال أيضا : (والذين آمنوا أشد حبا لله) (2) وقال : (إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) (3) .
وفى الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله نظر إلى مصعب بن عمير مقبلا عليه إهاب كبش قد تمنطق به ، فقال : (انظروا إلى الرجل الذى قد نور الله قلبه ، لقد رأيته بين أبوين يغذوا نه بأطيب الطعام والشراب ، فدعاه حب الله ورسوله إلى ما ترون) .
ويقال : أن عيسى عليه السلام مر بثلاثة نفر قد نحلت أبدانهم ، وتغيرت ألوانهم ، فقال : ما الذي بلغ بكم ما أرى ؟ قالوا : الخوف من النار ، قال : حق على الله أن يؤمن من يخافه ، ثم جاوزهم إلى ثلاثة آخرين ، فإذا هم أشد نحولا وتغيرا ، فقال : ما الذي بلغ بكم ما أرى ؟ قالوا : الشوق إلى الجنة ، فقال : حق على الله أن يعطى من رجاه .
ثم مر إلى ثلاثة آخرين ، فإذا هم أشد نحولا ، وعلى وجوههم مثل المرائى من النور ، فقال : ما الذى بلغ بكم ما أرى ؟ قالوا : حب الله عزوجل ، فقال : أنتم المقربون ، ثلاثا .
وقال بعض العارفين : أحبك حبين : حب الهوى وحبا لانك أهل لذاكا فأما الذى هو حب الهوى فشغلي بذكرك عمن سواكا وأما الذى أنت أهل له فكشفك لى الحجب حتى أراكا فلا الحمد من ذا ولا ذاك لى ولكن لك الحمد في ذا وذاكا .
__________
(1) سورة المائدة 54 .
(2) سورة البقرة 165 .
(3) سورة آل عمران 131 (*) .(10/156)
ليس يريد بكشف الحجب والرؤية ما يظنه الظاهريون من أنها الابصار العين ، بل المعرفة التامة ، وذلك لان المعارف النظرية يصح أن تصير ضرورية عند جمهور أصحابنا ، فهذا أحد محملى الكلام .
وثانيهما : أن يريد بما لا يزول ، نعيم الجنة ، وهذا أدون المقامين ، لان الخلص من العارفين يحبونه ويعشقونه سبحانه لذاته ، لا خوفا من النار ، ولا شوقا إلى الجنة ، وقد قال بعضهم : لست أرضى لنفسي أن أكون كأجير السوء ، إن دفعت إليه الاجرة رضى وفرح ، وإن منعها سخط وحزن ، إنما أحبه لذاته .
وقال بعض شعرائهم شعرا من جملته : فهجره أعظم من ناره ووصله أطيب من جنته .
وقد جاء في كلام أمير المؤمنين عليه السلام ، من هذا الكثير ، نحو قوله : (لم أعبده خوفا ولا طمعا ، لكنى وجدته أهلا للعبادة فعبدته .
قوله عليه السلام : (يمزج الحلم بالعلم) ، أي لا يحلم إلا عن علم بفضل الحلم ليس كما يحلم الجاهلون .
قوله : (والقول بالعمل) ، أي لا يقتصر على القول ، ومثل هذا قول الاحوص : وأراك تفعل ما تقول وبعضهم مذق اللسان يقول مالا يفعل .
قوله عليه السلام (تراه قريبا أمله) ، أي ليست نفسه متعلقة بما عظم من آمال الدنيا ، وإنما قصارى أمره أن يؤمل القوت والملبس .
قليلا زلله : أي خطؤه .
قوله : (منزورا أكله) ، أي قليلا ، ويحمد من الانسان الاكل النزر ، قال أعشى باهله : (*)(10/157)
تكفيه حرة فلذ إن ألم بها من الشواء ويكفى شربه الغمر (1) .
وقال متمم بن نويرة : لقد كفن المنهال تحت ردائه فتى غير مبطان العشيات أروعا (2) .
قوله عليه السلام : (مكظوما غيظه) كظم الغيظ من الاخلاق الشريفة ، قال زيد بن على عليه السلام : (ما سرنى بجرعة غيظ أتجرعها وأصبر عليها حمر النعم) .
جاء رجل إلى الربيع بن زياد الحارثى ، فقال : يا أبا عبد الرحمن ، إن فلانا يغتابك وينال منك ، فقال : والله لاغيظن من أمره بذلك ، قال الرجل : ومن أمره ؟ قال : الشيطان عدو الله ، استغواه ليؤثمه ، وأراد أن يغضبني عليه فأكافئه ، والله لا أعطيه ما أحب من ذلك .
غفر الله لنا وله ! .
وجهل (3) إنسان على عمر بن عبد العزيز ، فقال : أظنك أردت أن يستفزني الشيطان بعز السلطان ، فأنال منك اليوم ما تناله منى غدا ! انصرف عافاك الله .
وقال النبي صلى الله عليه وآله : (الغضب يفسد الايمان ، كما يفسد الصبر العسل) .
وقال إنسان لرسول الله صلى الله عليه وآله : أوصني ، فقال : (لا تغضب) ، فأعاد عليه السؤال ، فقال : (لا تغضب) ، فقال : (4) زدنى ، فقال (4) : (لا أجد مزيدا) .
ومن كلام بعض الحكماء : لا يفى عز الغضب بذله الاعتذار .
__________
(1) من قصيدة له في ديوان الاعشى 268 ، الكامل 4 : 65 ، 66 ، أمالى المرتضى 1 : 96 الفلذ : قطعة من الكبد ، ولا يقال الا للبعير ، والغمر - كصرد - القدح الصغير ، والحزة : القطعة الصغيرة ورواية الكامل * تكفيه فلذة كبد إن ألم بها (2) من قصيدة له في الكامل 4 : 72 - 74 ، والمفضليات 265 - 270 .
والمنهال ، هو إبن عصمة الرياحي ، كفن مالكا في ثوبيه .
غير مبطان العشيات : لا يعجل بالعشاء ، وينتظر الضيفان .
الاروع : الذى إذا رأيته راعك بجماله وحسنه .
(3) الجهل هنا : السفاهة .
(4 - 4) ساقط من ب (*) .(10/158)
قوله : (إن كان من الغافلين) ، معناه أنه لا يزال ذاكر الله تعالى ، سواء كان جالسا مع الغافلين أو مع الذاكرين ، أما إذا كان مع الغافلين فإنه يذكر الله بقلبه ، وأما إذا كان مع الذاكرين فإنه يذكره بقلبه ولسانه .
قوله عليه السلام : (يعفو عمن ظلمه ، ويعطى من حرمه ، ويصل من قطعة) ، من كلام المسيح عليه السلام في الانجيل : (أحبوا أعداءكم ، وصلوا قاطعيكم ، واعفوا عن ظالميكم ، وباركوا على لاعينكم ، لكى تكونوا أبناء أبيكم الذى في السماء ، الذى تشرق شمسه على الصالحين والفجرة ، وينزل مطره على المطيعين والاثمة .
قوله عليه السلام : (بعيدا فحشه) ، ليس يعنى به أنه قد يفحش تارة ، ويترك الفحش تارات ، بل لا فحش له أصلا ، فكنى عن العدم بالبعد ، لانه قريب منه .
قوله : (لينا قوله) العارف بسام طلق الوجه ، لين القول ، وفى صفات النبي صلى الله عليه وآله : (ليس بفظ ولا صخاب) .
قوله : (في الزلازل وقور) ، أي لا تحركه الخطوب الطارقة ، ويقال : إن على بن الحسين عليه السلام كان يصلى ، فوقعت عليه حية ، فلم يتحرك لها ، ثم انسابت بين قدميه فما حرك إحداهم اعن مكانه ، ولا تغير لونه .
قوله : (لا يحيف على من يبغض) ، هذا من الاخلاق الشريفة النبوية ، وفى كلام أبى بكر في صفات من يصلح للامامة : إن رضى لم يدخله رضاه في باطل ، وإن غضب لم يخرجه غضبه عن الحق .
قوله : (يعترف بالحق قبل أن يشهد عليه) ، لانه إن أنكر ثم شهد عليه فقد ثبت كذبه ، وإن سكت ثم شهد عليه فقد أقام نفسه في مقام الريبة (*) .(10/159)
قوله : (ولا ينابز بالالقاب) ، هذا من قوله تعالى : (ولا تنابزوا بالالقاب) (1) .
قوله : (ولا يضار بالجار) ، في الحديث المرفوع : (أوصاني ربى بالجار حتى ظننت أن يورثه) .
قوله : (ولا يشمت بالمصائب) ، نظير قول الشاعر : فلست تراه شامتا بمصيبة ولا جزعا من طارق الحدثان .
قوله : (إن صمت لم يغمه صمته) ، أي لا يحزن لفوات الكلام ، لانه يرى الصمت مغنما لا مغرما .
قوله : (وإن ضحك لم يعل صوته) ، هكذا كان ضحك رسول الله صلى الله عليه وآله ، أكثره التبسم ، وقد يفر أحيانا ، ولم يكن من أهل القهقهة والكركرة .
قوله : (وإن بغى عليه صبر) ، هذا من قول الله تعالى : (ثم بغى عليه لينصرنه الله) (2) .
قوله : (نفسه منه في عناء لانه يتعبها بالعبادة ، والناس لا يلقون منه عنتا ولا أذى) فحالهم بالنسبة إليه خلاف حال نفسه بالنسبة إليه .
قوله : (فصعق همام) ، أغمى عليه ومات ، قال الله تعالى : (فصعق من في السموات ومن في الارض) (3) .
__________
(1) سورة الحجرات 11 .
(2) سورة الحج 60 .
(3) سورة الزمر 68 (*) .(10/160)
(ذكر بعض أحوال العارفين) واعلم أن الوجد أمر شريف ، قد اختلف الناس (1) فيه ، فقالت الحكماء فيه أقوالا ، وقالت الصوفية فيه أقوالا ، أما الحكماء فقالوا : الوجد (2) هو حالة تحدث للنفس عند انقطاع علائقها عن المحسوسات بغته ، إذا كان قد ورد عليها وارد مشوق .
وقال بعضهم : الوجد هو اتصال النفس بمبادئها المجردة عند سماع ما يقتضى ذلك الاتصال .
وأما الصوفية فقد قال بعضهم : الوجد رفع الحجاب ، ومشاهدة المحبوب ، وحضور الفهم ، وملاحظة الغيب ، ومحادثة السر ، وهو فناؤك من حيث أنت أنت .
وقال بعضهم : الوجد سر الله عند العارفين ، ومكاشفة من الحق توجب الفناء عن الحق .
والاقوال فيه متقاربة في المعنى وإن اختلفت (3) العبارة ، وقد مات كثير من الناس بالوجد عند سماع وعظ ، أو صفقه (4) مطرب ، والاخبار في هذا الباب كثيرة جدا ، وقد رأينا نحن في زماننا من مات بذلك فجأة .
قوله : (كانت نفسه فيها) ، أي مات .
ونفث الشيطان على لسانك ، أي تكلم بلسانك ، وأصله النفخ بالفم ، وهو أقل من التفل ، وإنما نهى أمير المؤمنين القائل : (فهلا أنت يا أمير المؤمنين !) لانه اعترض في غير موضع الاعتراض ، وذلك أنه لا يلزم من موت العامي عند وعظ العارف أن يموت العارف عند وعظ نفسه ، لان انفعال العامي ذى الاستعداد التام للموت عند سماع المواعظ البالغة أتم من استعداد العارف عند سماع كلام
__________
(1) د : (قدامى الناس) (2) ساقطة من ب (3) الاصول : اختل .
(4) صفقة مطرب من صفقة العود ، إذا حركت أوتاره فاصطفق (اللسان) (*) .(10/161)
نفسه ، أو الفكر في كلام نفسه ، لان نفس العارف قوية جدا ، والالة التى يحفر بها الطين قد لا يحفر بها الحجر .
فإن قلت : فإن جواب أمير المؤمنين عليه السلام للسائل غير هذا لجواب ! قلت : صدقت ، إنما أجابه من حيث يعلم هو والسامعون ، وتصل أفهامهم إليه ، فخرج معه إلى حديث الاجال ، وأنها أوقات مقدرة لا تتعداها ، وما كان يمكنه عليه السلام أن يذكر الفرق بين نفسه ونفوسهم ، ولا كانت الحال تقتضيه ، فأجابه بجواب مسكت ، وهو مع إسكاته الخصم حق وعدل عن جواب يحصل منه اضطراب ، ويقع فيه تشويش ، وهذا نهاية السداد وصحة القول (*) .(10/162)
(187) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام يصف فيها المنافقين : نحمده على ما وفق له من الطاعة ، وذاد عنه من المعصية ، ونسأله لمنته تماما ، ولحبله اعتصاما .
ونشهد أن محمدا عبده ورسوله ، خاض إلى رضوان الله كل غمرة ، وتجرع فيه كل غصة ، وقد تلون له الادنون ، وتألب عليه الاقصون ، وخلعت عليه (1) العرب أعنتها ، وضربت إلى محاربته بطون رواحلها ، حتى أنزلت بساحته عداوتها ، من أبعد الدار ، وأسحق المزار .
أوصيكم عباد الله بتقوى الله ، وأحذركم أهل النفاق ، فإنهم الضالون المضلون ، والزالون المزلون ، يتلونون ألوانا ، يفتنون افتنانا ، ويعمدونكم بكل عماد ، ويرصدونكم بكل مرصاد .
قلوبهم دوية ، وصفاحهم نقية .
يمشون الخفاء ، ويدبون الضراء ، وصفهم دواء ، وقولهم شفاء ، وفعلهم الداء العياء ، حسدة الرخاء ، ومؤكدو البلاء ، ومقنطوا الرجاء .
لهم بكل طريق صريع ، وإلى كل قلب شفيع ، ولكل شجو دموع .
يتقارضون الثناء ، ويتراقبون الجزاء ، إن سألوا ألحفوا ، وإن عذلوا كشفوا ، وإن حكموا أسرفوا .
__________
(1) د : (إليه) (*) .(10/163)
قد أعدوا لكل حق باطلا ، ولكل قائم مائلا ، ولكل حى قاتلا ، ولكل باب مفتاحا ، ولكل ليل مصباحا ، يتوصلون إلى الطمع باليأس ليقيموا به أسواقهم ، وينفقوا به أعلاقهم ، يقولون فيشبهون ، ويصفون فيموهون .
قد هونوا الطريق ، وأضلعوا المضيق ، فهم لمة الشيطان ، وحمة النيران : (أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون) .
(1) الشرح : الضمير في (له) وهو الهاء راجع إلى (ما) التى بمعنى (الذى) ، وقيل : بل هو راجع إلى الله سبحانه ، كأنه قال : (نحمده على ما وفق من طاعته) ، والصحيح هو الاول ، لان (له) في الفقرة الاولى بازاء (عنه) في الفقرة الثانية .
والهاء في (عنه) ليست عائدة إلى (الله) .
وذاد : طرد ، والمصدر الذياد .
وخاض كل غمرة ، مثل قولك : ارتكب كل مهلكة ، وتقحم كل هول ، والغمرة : ما ازدحم وكثر من الماء ، وكذلك من الناس ، والجمع غمار .
والغصة : الشجا ، والجمع غصص .
وتلون له الادنون : تغير عليه أقاربه ألوانا .
وتألب عليه الاقصون : تجمع عليه الابعدون عنه نسبا .
وخلعت إليه العرب أعنتها ، مثل معناه أوجفوا إليه مسرعين لمحاربته ، لان الخيل أذا خلعت أعنتها كان أسرع لجريها .
وضربت إلى محاربته بطون رواحلها ، كناية عن إسراع العرب نحوه للحرب
__________
(1) سورة المجادلة 19 .
(*)(10/164)
لان الرواحل إذا ضربت بطونها لتساق كان أوحى لها ، ومراده أنهم كانوا فرسانا وركبانا .
قوله : (حتى أنزلت بساحته عداوتها) ، أي حربها ، فعبر عنها بالعداوة ، لان العداوة سبب الحرب ، فعبر بالسبب عن المسبب ، كما قالوا : ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناك ، يعنون الماء ، لما كان اعتقادهم أن السماء سبب الماء .
وأسحق المزار ، أبعده ، مكان سحيق ، أي بعيد ، والسحق بضم السين : البعد ، يقال : (سحقا له) ، ويجوز ضم الحاء ، كما قالوا : عسر وعسر ، وسحق الشئ ، بالضم ، أي بعد ، وأسحقه الله أبعده ، والمزار : المكان الذى يزار منه ، أو المكان الذى يزار فيه ، والمراد هاهنا هو الاول ، ومن قرأ كتب السيرة علم ما لاقى رسول الله صلى الله عليه وآله في ذات الله سبحانه من المشقة ، واستهزاء قريش به في أول الدعوة ، ورميهم إياه بالحجارة ، حتى أدموا عقبيه ، وصياح الصبيان به ، وفرث الكرش على رأسه ، وفتل الثوب في عنقه وحصره وحصر أهله في شعب بنى هاشم سنين عدة ، محرمة معاملتهم ومبايعتهم ومناكحتهم وكلامهم ، حتى كادوا يموتون جوعا ، لولا أن بعض من كان يحنوا عليهم لرحم أو لسبب غيره ، فهو يسرق الشئ القليل من الدقيق أو التمر فيلقيه إليهم ليلا ، ثم ضربهم أصحابه وتعذيبهم بالجوع والوثاق في الشمس ، وطردهم إياهم عن شعاب مكة ، حتى خرج من خرج منهم إلى الحبشة ، وخرج عليه السلام مستجيرا منهم تارة بثقيف ، وتارة ببنى عامر ، وتارة بربيعة الفرس ، وبغيرهم .
ثم أجمعوا على قتله والفتك به ليلا ، حتى هرب منهم لائذا بالاوس والخزرج ، تاركا أهله وأولاده ، وما حوته يده ، ناجيا بحشاشة نفسه ، حتى وصل إلى المدينة ، فناصبوه الحرب ورموه بالمناسر (1) والكتائب ، وضربوا إليه آباط الابل ،
__________
(1) المنسر : قطعة من الجيش تمر قدام الجيش الكبير .
(*)(10/165)
ولم يزل منهم في عناء شديد ، وحروب متصلة ، حتى أكرمه الله تعالى ونصره ، وأيد دينه وأظهره .
ومن له أنس بالتواريخ يعلم من تفاصيل هذه الاحوال ما يطول شرحه .
سمى النفاق نفاقا من النافقاء ، وهى بيت اليربوع ، له بابان يدخل من أحدهما ، ويخرج من الاخر ، وكذلك الذى يظهر دينا ويبطن غيره .
والضالون المضلون : الذين يضلون أنفسهم ويضلون غيرهم ، وكذلك الزالون المزلون ، زل فلان عن الامر ، أي أخطأه ، وأزله غيره .
قوله : (يفتنون) يتشعبون فنونا ، أي ضروبا .
ويعمدونكم ، أي يهدونكم ويفدحونكم ، يقال : عمده المرض يعمده ، أي هده ، ومنه قولهم للعاشق عميد : القلب .
قوله : (بعماد) ، أي بأمر فادح وخطب مؤلم ، وأصل العمد انشداخ سنام البعير ، وماضيه : عمد السنام بالكسر ، عمدا فهو عمد .
ويرصدونكم : يعدون المكايد لكم ، أرصدت أعددت ، ومنه في الحديث : (إلا أن أرصده لدين على) .
وقلب دو ، بالتخفيف أي فاسد ، من داء أصابه ، وامدوية ، فإذا قلت : رجل دوى ، بالفتح ، استوى فيه المذكر والمؤنث والجماعة ، لانه مصدر في الاصل ، ومن روى : (دوية) بالتشديد ، على بعده ، فإنما شدده ليقابل (نقية) .
والصفاح : جمع صفحة الوجه وهى ظاهره ، يقول : باطنهم عليل ، وظاهرهم صحيح .
يمشون الخفاء ، أي في الخفاء ، ثم حذف الجار فنصب ، وكذلك يدبون الضراء ،(10/166)
والضراء : شجر الوادي الملتف ، وهذا مثل يضرب لمن يختل صاحبه ، يقال : هو يدب له الضراء ويمشى له الخمر ، وهو جرف الوادي .
ثم قال : (وصفهم داء ، وقولهم شفاء ، وفعلهم الداء العياء) ، أي أقوالهم أقوال الزاهدين العابدين ، وأفعالهم أفعال الفاسقين الفاجرين .
والداء العياء : الذى يعيى الاساة .
ثم قال : (حسدة الرخاء) يحسدون على النعم .
(ومؤكدوا البلاء) ، إذا وقع واحد من الناس في بلاء أكدوه عليه بالسعايات والنمائم ، وإغراء السلطان به ، ولقد أحسن أبو الطيب في قوله يذم البشر : وكأنا لم يرض فينا بريب الدهر حتى أعانه من أعانا (1) كلما أنبت الزمان قناة ركب المرء في القناة سنانا .
(ومقنطوا الرجاء) ، أي أهل الرجاء ، أي يبدلون بشرورهم وأذاهم رجاء الراجى قنوطا .
قوله : (وإلى كل قلب شفيع) ، يصف خلائد ألسنتهم وشدة ملقهم ، فقد استحوذوا على قلوب الناس بالرياء والتصنع .
قوله : (ولكل شجو دموع) ، الشجو : الحزن ، أي يبكون تباكيا وتعملا لا حقا ، عند أهل كل حزن ومصاب .
يتقارضون الثناء ، أي يثنى زيد على عمرو ، ليثنى عمرو عليه ، في ذلك المجلس ، أو يبلغه فيثنى عليه في مجلس آخر ، مأخوذ من القرض .
ويتراقبون الجزاء : يرتقب كل واحد منهم على ثنائه ومدحه لصاحبه جزاء منه ،
__________
(1) ديوانه 4 : 240 .
(*)(10/167)
إما بالمال أو بأمر آخر ، نحو ثناء يثنى عليه ، أو شفاعة يشفع له ، أو نحو ذلك .
والالحاف في السؤال : الاستقصاء فيه ، وهو مذموم ، قال الله تعالى : (لا يسألون الناس إلحافا) (1) .
قوله : (وإن عذلوا كشفوا) ، أي إذا عذلك أحدهم كشف عيوبك في ذلك اللوم والعذل ، وجبهك بها ، وربما لا يستحى أن يذكرها لك بمحضر ممن لا تحب ذكرها بحضرته ، وليسوا كالناصحين على الحقيقة ، الذين يعرضون عند العتاب بالذنب تعريضا لطيفا ليقلع الانسان عنه .
وإن حكموا أسرفوا ، إذا سألك أحدهم ففوضته في مالك أسرف ولم يقنع بشئ ، وأحب الاستئصال .
قد أعدوا لكل حق باطلا ، يقيمون الباطل في معارضة الحق ، والشبهة في مصادمة الحجة .
ولكل دليل قائم وقول صحيح ثابت ، احتجاجا مائلا مضادا لذلك الدليل ، وكلاما مضطربا لذلك القول .
ولكل باب مفتاحا ، أي ألسنتهم ذلقة قادرة على فتح المغلقات ، للطف توصلهم ، وظرف منطقهم .
ولكل ليل مصباحا ، أي كل أمر مظلم فقد أعدوا له كلاما ينيره ويضيئه ، ويجعله كالمصباح الطارد لليل .
ويتوصلون إلى مطامعهم بإظهار اليأس عما في أيدى الناس ، وبالزهد في الدنيا ، وفى الاثر : شركم من أخذ الدنيا بالدين .
ثم قال : إنما فعلوا ذلك ليقيموا به أسواقهم ، أي لتنفق سلعتهم .
__________
(1) سورة البقرة 273 .
(*)(10/168)
والاعلاق : جمع علق ، وهو السلعة الثمينة .
يقولون فيشبهون ، يوقعون الشبه في القلوب .
ويصفون فيموهون ، التمويه التزيين ، وأصله أن تطلى الحديدة بذهب يحسنها .
قد هيئوا الطريق ، أي الطريق الباطل قد هيئوها لتسلك بتموياتهم .
وأضلعوا المضيق : أمالوه ، وجعلوه ضلعا ، أي معوجا ، أي جعلوا المسلك الضيق معوجا بكلامهم وتلبيسهم ، فإذا أسلكوه انسانا اعوج لاعوجاجه .
واللمة : بالتخفيف : الجماعة ، والحمة بالتخفيف أيضا : السم ، وكنى عن إحراق النار بالحمة للمشابهة في المضرة .(10/169)
(188) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : الحمد لله الذى أظهر من آثار سلطانه ، وجلال كبريائه ، ماحير مقل العقول من عجائب قدرته ، وردع خطرات هماهم النفوس عن عرفان كنه صفته .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، شهادة إيمان وإيقان ، وإخلاص وإذعان .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله وأعلام الهدى دارسة ، ومناهج الدين طامسة ، فصدع بالحق ، ونصح للخلق ، وهدى إلى الرشد ، وأمر بالقصد ، صلى الله عليه وآله وسلم ! واعلموا عباد الله ، أنه لم يخلقكم عبثا ، ولم يرسلكم هملا ، علم مبلغ نعمه عليكم ، وأحصى إحسانه إليكم ، فاستفتحوه واستنجحوه ، واطلبوا إليه واستمنحوه ، فما قطعكم عنه حجاب ، ولا أغلق عنكم دونه باب .
وإنه لبكل مكان ، وفى كل حين وأوان ، ومع كل إنس وجان ، لا يثلمه العطاء ، ولا ينقصه الحباء ، ولا يستنفده سائل ، ولا يستقصيه نائل ، ولا يلويه شخص عن شخص ، ولا يلهيه صوت عن صوت ، ولا تحجزه هبة عن سلب ، ولا يشغله غضب عن رحمة ، ولا تولهه رحمة عن عقاب ، ولا يجنه البطون عن الظهور ، ولا يقطعه الظهور عن البطون .
قرب فنأى ، وعلا فدنا ، وظهر فبطن ، وبطن فعلن ، ودان ولم يدن .
لم يذرإ الخلق باحتيال ، ولا استعان بهم لكلال .(10/170)
أوصيكم عباد الله بتقوى الله ، فإنها الزمام والقوام ، فتمسكوا بوثائقها ، واعتصموا بحقائقها ، تؤل بكم إلى أكنان الدعة ، وأوطان السعة ، ومعاقل الحرز ، ومنازل العز ، في يوم تشخص فيه الابصار ، وتظلم له الاقطار ، وتعطل فيه صروم العشار ، وينفخ في الصور ، فتزهق كل مهجة ، وتبكم كل لهجة ، وتذل الشم الشوامخ ، والصم الرواسخ ، فيصير صلدها سرابا رقراقا ، ومعهدها قاعا سملقا ، فلا شفيع يشفع ، ولا حميم ينفع ، ولا معذرة تدفع .
الشرح : أظهر سبحانه من آثار سلطانه ، نحو خلق الافلاك ودخول بعضها في بعض ، كالمميل الذى يشتمل على المائل ، وفلك التدوير وغيرهما ، ونحو خلق الانسان وما تدل كتب التشريح من عجيب الحكمة فيه ، ونحو خلق النبات والمعادن ، وترتيب العناصر وعلاماتها ، والاثار العلوية المتجددة ، حسب تجدد أسبابها ، ماحير عقول هؤلاء ، وأشعر بأنها إذا لم تحط بتفاصيل تلك الحكم مع أنها مصنوعة (1) ، فالاولى ألا تحيط بالصانع الذى هو برئ عن المادة وعلائق الحس .
والمقل : جمع مقلة ، وهى شحمة العين التى تجمع السواد والبياض ، ومقلت الشئ : نظرت إليه بمقلتى ، وأضاف المقل إلى (العقول) مجازا ومراده البصائر .
وردع : زجر ودفع .
وهماهم النفوس : أفكارها وما يهمهم به عند التمثيل والروية في الامر ، وأصل الهمهمة ، صويت يسمع ، لا يفهم محصوله .
__________
(1) د : (موضوعه) .
(*)(10/171)
والعرفان : المعرفة ، وكنه الشئ : نهايته وأقصاه .
والايقان : العلم القطعي ، والاذعان : الانقياد ، والاعلام : المنار والجبال يستدل بها في الطرقات .
والمناهج : السبل الواضحة ، والطامسة كالدارسة .
وصدع بالحق : بين ، وأصله الشق يظهر ما تحته ، ويقال : نصحت لزيد ، وهو أفصح من قولك : نصحت زيدا .
والقصد : العدل .
والعبث : ما لاغرض فيه ، أو ما ليس فيه غرض مثله ، والهمل : الابل بلا راع ، وقد أهملت الابل : أرسلتها سدى .
قوله : (علم مبلغ نعمه عليكم ، وأحصى إحسانه إليكم) أي هو عالم بكمية إنعامه عليكم علما مفصلا ، وكل من علم قدر نعمته على غيره كان أحرى أن تشتد نقمته عليه عند عصيانه له وجرأته عليه ، بخلاف من يجهل قدر نعمته على الغير ، فإنه لا يشتد غضبه ، لانه لا يعلم قدر نعمته المكفورة .
قوله : (فاستفتحوه) ، أي اطلبوا منه الفتح عليكم والنصر لكم .
واستنجحوه : اطلبوا منه النجاح والظفر .
واطلبوا إليه ، أي اسألوه ، يقال : طلبت إلى زيد كذا وفى كذا .
واستمنحوه ، بكسر النون : اطلبوا منه المنحة ، وهى العطية .
ويروى : (واستميحوه) بالياء ، استمحت الرجل : طلبت عطاءه ، ومحت بالرجل : أعطيته .
ثم ذكر عليه السلام أنه لاحجاب يمنع عنه ، ولا دونه باب يغلق ، وأنه بكل مكان موجود ، وفى كل حين وأوان ، والمراد بوجوده في كل مكان إحاطة علمه ، وهو معنى قوله(10/172)
تعالى : (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) (1) ، وقوله سبحانه : (وهو معكم أينما كنتم) (2) .
قوله : (لا يثلمه العطاء) بالكسر : لا ينقص قدرته .
والحباء : النوال .
ولا يستنفده ، أي لا يفنيه .
ولا يستقصيه : لا يبلغ الجود أقصى مقدوره وإن عظم الجود ، لانه قادر على ما لا نهاية له .
ولا يلويه شخص عن شخص : لا يوجب ما يفعله لشخص أو مع شخص إعراضا وذهولا عن شخص آخر ، بل هو عالم بالجميع ، لا يشغله شأن عن شأن .
لوى الرجل وجهه ، أي أعرض وانحرف ، ومثل هذا أراد بقوله : (ولا يلهيه صوت عن صوت) ، ألهاه كذا ، أي شغله .
ولا تحجزه - بالضم - هبة عن سلب ، أي لا تمنعه ، أي ليس كالقادرين بالقدرة مثلنا ، فإن الواحد منا يصرفه اهتمامه بعطية زيد عن سلب مال عمرو ، حالما يكون مهتما بتلك العطية ، لان اشتغال القلب بأحد الامرين يشغله عن الاخر .
ومثل هذا قوله : (ولا يشغله غضب عن رحمة ، ولاتولهه رحمة عن عقاب) ، أي لا تحدث الرحمة لمستحقها عنده ولها ، وهو التحير والتردد ، وتصرفه عن عقاب المستحق ، وذلك لان الواحد منا إذا رحم إنسانا حدث عنده رقة ، خصوصا إذا توالت منه الرحمة لقوم متعددين ، فإنه تصير الرحمة كالملكة عنده ، فلا يطيق مع تلك الحال أن ينتقم ، والبارى تعالى بخلاف ذلك ، لانه ليس بذى مزاج سبحانه .
ولا يجنه البطون عن الظهور ، ولا يقطعه الظهور عن البطون ، هذه كلها مصادر ، بطن
__________
(1) سورة المجادلة 7 .
(2) سورة الحديد 4 .
(*)(10/173)
بطونا أي خفى ، وظهر ظهورا ، أي تجلى ، يقول : لا يمنعه خفاؤه عن العقول أن تدركه عند ظهوره بأفعاله لها وإن لم يكن ظاهرا بذاته ، وكذلك لا يقطعه ظهوره بأفعاله عن أن يخفى كنهه عن إبصار العقول وإدراكها له .
ويقال : اجتننت كذا ، أي سترته ، ومنه الجنين ، والجنة للترس ، وسمى الجن جنا لاستتارهم .
ثم زاد المعنى تأكيدا فقال : (قرب فنأى) ، أي قرب فعلا فنأى ذاتا ، أي أفعاله قد تعلم ، ولكن ذاته لا تعلم .
ثم قال : (وعلا فدنا) ، أي لما علا عن أن تحيط به العقول عرفته العقول ، لاأنها عرفت ذاته ، لكن عرفت أنه شئ لا يصح أن يعرف ، وذلك خاصته سبحانه ، فإن ماهيته يستحيل أن تتصور للعقل لا في الدنيا ولا في الاخرة ، بخلاف غيره من الممكنات .
ثم أكد المعنى بعبارة أخرى ، قال : (وظهر فبطن ، وبطن فعلن) ، وهذا مثل الاول .
ودان : غلب وقهر ، ولم يدن : لم يقهر ولم يغلب .
ثم قال : (لم يذرأ الخلق باحتيال) ، أي لم يخلقهم بحيلة توصل بها إلى إيجادهم ، بل أوجدهم على حسب علمه بالمصلحة خلقا مخترعا من غير سبب ولا واسطة .
قال : (ولا استعان بهم لكلال) ، أي لاعياء ، أي لم يأمر المكلفين بالجهاد لحاجته في قهر أعدائه ، وجاحدي نعمته إليهم ، وليس بكال ولا عاجز عن إهلاكهم ، ولكن الحكمة اقتضت ذلك .
قال سبحانه : (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض) (1) أي لبطل التكليف .
ثم ذكر أن التقوى قوام الطاعات التى تقوم بها ، وزمام العبادات لانها تمسك وتحصن ، كزمام الناقة المانع لها من الخبط .
__________
(1) سورة البقرة 251 .
(*)(10/174)
والوثائق : جمع وثيقة ، وهى ما يوثق به .
وحقائقها : جمع حقيقة ، وهى الراية ، يقال : فلان حامى الحقيقة .
قوله : (تؤل) بالجزم ، لانه جواب الامر ، أي ترجع .
والاكنان : جمع كن وهو الستر .
والدعة : الراحة .
والسعة : الجدة .
والمعاقل : جمع معقل ، وهو الملجأ .
والحرز : الحفظ .
وتشخص الابصار : تبقى مفتوحة لا تطرف .
والاقطار : الجوانب .
والصروم : جمع صرم وصرمة ، وهى القطعة من الابل نحو الثلاثين .
والعشار : النوق أنى عليها من يوم أرسل الفحل فيها عشرة أشهر فزال عنها اسم المخاض ، ولا يزال ذلك اسمها حتى تضع ، والواحدة عشراء ، وهذا من قوله تعالى : (وإذا العشار عطلت) (1) ، أي تركت مسيبة مهملة لا يلتفت إليها أربابها ، ولا يحلبونها لاشتغالهم بأنفسهم .
وتزهق كل مهجة : تهلك .
وتبكم كل لهجة : أي تخرس .
رجل أبكم وبكيم ، والماضي بكم بالكسر .
والشم الشوامخ : الجبال العالية ، وذلها : تدكدكها ، وهى أيضا الصم الرواسخ ، فيصير صلدها - وهو الصلب الشديد الصلابة - سرابا ، وهو ما يتراءى في النهار فيظن ماء .
والرقراق : الخفيف .
ومعهدها : ما جعل منها منزلا للناس .
قاعا : أرضا خالية .
والسملق : الصفصف المستوى ، ليس بعضه أرفع وبعضه أخفض .(10/175)
(189) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : بعثه حين لاعلم قائم ، ولا منار ساطع ، ولا منهج واضح .
أوصيكم عباد الله بتقوى الله ، وأحذركم الدنيا ، فإنها دار شخوص ، ومحلة تنغيص ، ساكنها ظاعن ، وقاطنها بائن .
تميد بأهلها ميدان السفينة ، تقصفها العواصف في لجج البحار ، فمنهم الغرق الوبق ، ومنهم الناجى على بطون الامواج ، تحفزه الرياح بأذيالها ، وتحمله على أهوالها ، فما غرق منها فليس بمستدرك ، وما نجا منها فإلى مهلك .
عباد الله ، الان فاعلموا ، والالسن مطلقة ، والابدان صحيحة ، والاعضاء لدنة ، والمنقلب فسيح ، والمجال عريض ، قبل إرهاق الفوت ، وحلول الموت ، فحققوا عليكم نزوله ، ولا تنتظروا قدومه .
الشرح : يقول : بعث الله سبحانه محمدا صلى الله عليه وآله لما لم يبق علم يهتدى به المكلفون ، لانه كان زمان الفترة وتبدل المصلحة ، واقتضاء وجوب اللطف عليه سبحانه تجديدا لبعثته ، ليعرف المبعوث المكلفين الافعال التى تقربهم من فعل الواجبات العقلية ، وتبعدهم عن المقبحات الفعلية .(10/176)
والمنار الساطع : المرتفع .
سطع الصبح سطوعا : ارتفع .
ودار شخوص : دار رحلة ، شخص عن البلد : رحل عنه .
والظاعن : المسافر .
والقاطن : المقيم .
والبائن : البعيد .
يقول : ساكن الدنيا ليس بساكن على الحقيقة ، بل هو ظاعن في المعنى وإن كان في الصورة ساكنا ، والمقيم بها مفارق ، وإن ظن أنه مقيم .
وتميد بأهلها : تتحرك وتميل .
والميدان : حركة واضطراب .
وتصفقها العواصف : تضربها بشدة ، ضربا بعد ضرب .
والعواصف : الرياح القوية .
اللجج : جمع لجة ، وهى معظم البحر .
الوبق : الهالك ، وبق الرجل بالفتح ، يبق وبوقا : هلك ، والموبق منه كالموعد (مفعل) من وعد يعد ، ومنه قوله تعالى : (وجعلنا بينهم موبقا) (1) ، وفيه لغة أخرى : وبق الرجل يوبق وبقا ، وفيه لغة ثالثة : وبق الرجل ، بالكسر يبق بالسكر أيضا ، وأوبقه الله ، أي أهلكه .
وتحفزه الرياح : تدفعه .
ضرب عليه السلام لاهل الدنيا مثلا براكبى السفينة في البحر ، وقد مادت بهم ، فمنهم الهالك على الفور ، ومنهم من لا يتعجل هلاكه ، وتحمله الرياح ساعة أو ساعات ، ثم مآله إلى الهلاك أيضا .
ثم أمر عليه السلام بالعمل وقت الامكان قبل ألا يمكن العمل ، فكنى عن ذلك بقوله : والالسن منطلقة ، لان المحتضر يعتقل لسانه ، والابدان صحيحة ، لان المحتضر سقيم البدن .
والاعضاء لدنة ، أي لينة ، أي قبل الشيخوخة والهرم ويبس
__________
(1) سورة الكهف 52 .
(*)(10/177)
الاعضاء والاعصاب .
والمنقلب فسيح ، والمجال عريض ، أي أيام الشبيبة وفى الوقت والاجل مهلة ، قبل أن يضيق الوقت عليكم .
قبل إرهاق الفوت ، أي قبل أن يجعلكم الفوت - وهو فوات الامر وتعذر استدراكه عليكم - مرهقين ، والمرهق : الذى أدرك ليقتل ، قال الكميت : تندى أكفهم وفى أبياتهم ثقة المجاور والمضاف المرهق (1) .
قوله : (فحققوا عليكم نزوله ، ولا تنتظروا قدومه) ، أي اعملوا عمل من يشاهد الموت حقيقة ، لاعمل من ينتظره انتظارا ويطاول الاوقات مطاولة ، فإن التسويف داعية التقصير .
__________
(1) الصحاح واللسان (رهق) .
(*)(10/178)
(190) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، أنى لم أرد على الله ولا على رسوله ساعة قط ، ولقد واسيته بنفسى في المواطن التى تنكص فيها الابطال ، وتتأخر الاقدام ، نجدة أكرمنى الله بها .
ولقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن رأسه لعلى صدري ، ولقد سالت نفسه في كفى ، فأمررتها على وجهى .
ولقد وليت غسله صلى الله عليه وسلم والملائكة أعواني ، فضجت الدار والافنية : ملا يهبط ، وملا يعرج ، وما فارقت سمعي هينمة منهم ، يصلون عليه ، حتى واريناه في ضريحه ، فمن ذا أحق به منى حيا وميتا ! فانفذوا على بصائركم ، ولتصدق نياتكم في جهاد عدوكم ، فو الذى لا إله إلا هو إنى لعلى جادة الحق ، وإنهم لعلى مزلة الباطل .
أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله لى ولكم .
الشرح : يمكن أن يعنى بالمستحفظين الخلفاء الذين تقدموا ، لانهم الذين استحفظوا الاسلام ، أي جعلوا حافظين له ، وحارسين لشريعته ولحوزته ، ويجوز أن يعنى به العلماء والفضلاء من الصحابة ، لانهم استحفظوا الكتاب ، أي كلفوا حفظة وحراسته .(10/179)
والظاهر أنه يرمز في قوله عليه السلام : (لم أرد على الله ، ولا على رسوله ساعة قط) إلى أمور وقعت من غيره ، كما جرى يوم الحديبية عند سطر كتاب الصلح ، فإن بعض الصحابة (1) أنكر ذلك ، وقال : يا رسول الله ، ألسنا المسلمين ؟ قال : بلى ، قال : أو ليسوا الكافرين ؟ قال : بلى ، قال : فكيف نعطى الدنية في ديننا ! فقال صلى الله عليه وآله : (إنما أعمل بما أومر به) فقام فقال لقوم من الصحابة : ألم يكن قد وعدنا بدخول مكة ! وها نحن قد صددنا عنها ثم ننصرف بعد أن أعطينا الدنية في ديننا ، والله لو أجد أعوانا لم أعط الدنية أبدا ، فقال أبو بكر لهذا القائل : ويحك ! الزم غرزه (2) ، فوالله إنه لرسول الله صلى الله عليه وآله ، وأن الله لا يضيعه .
ثم قال له : أقال لك : إنه سيدخلها هذا العام ؟ قال : لا ، قال : فسيدخلها .
فلما فتح النبي صلى الله عليه وآله مكة ، وأخذ مفاتيح الكعبة ، دعاه فقال : هذا الذى وعدتم به .
واعلم أن هذا الخبر صحيح لاريب فيه ، والناس كلهم رووه ، وليس عندي بقبيح ولا مستهجن أن يكون سؤال هذا الشخص لرسول الله صلى الله عليه وآله عما سأله عنه على سبيل الاسترشاد ، والتماس الطمأنينة النفس ، فقد قال الله تعالى لخليله إبراهيم : (أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبى) (3) .
وقد كانت الصحابة تراجع رسول الله صلى الله عليه وآله في الامور ، وتسأله عما يستبهم عليها وتقول له : أهذا منك أم من الله ؟ وقال له السعدان (4) رحمهما الله يوم الخندق ، وقد عزم على مصالحة الاحزاب ببعض تمر المدينة : أهذا من الله أم رأى رأيته من نفسك ؟ قال : بل من نفسي ، قالا : لا ، والله لا نعطيهم منها تمرة واحدة وأيدينا في مقابض سيوفنا ! .
__________
(1) هو عمر بن الخطاب ، وانظر سيرة ابن هشام 3 : 331 (طبعة الحلبي) .
(2) الغرز في الاصل : ركاب كور الجمل ، والكلام هنا على المجاز ، أي أتبع قوله وفعله .
(3) سورة البقرة 261 .
(4) هما سعد بن معاذ ، وسعد بن عباده الانصاريان .(10/180)
وقالت الانصار له يوم بدر ، وقد نزل بمنزل لم يستصلحوه : أنزلت هذا المنزل عن رأى رأيت أم بوحى أوحى إليك ؟ قال : بل عن رأى رأيته ، قالوا : إنه ليس لنا بمنزل ، ارحل عنه فانزل بموضع كذا .
وأما قول أبى بكر له : (الزم غرزه ، فو الله إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم) فإنما هو تأكيد وتثبيت على عقيدته التى في قلبه ، ولا يدل ذلك على الشك ، فقد قال الله تعالى لنبيه : (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) (1) ، وكل أحد لا يستغنى عن زيادة اليقين والطمأنينة ، وقد كانت وقعت من هذا القائل أمور دون هذه القصة ، كقوله : دعني أضرب عنق أبى سفيان .
وقوله : دعني أضرب عنق عبد الله بن أبى ، وقوله : دعني أضرب عنق حاطب بن أبى بلتعة .
ونهى النبي صلى الله عليه وآله عن التسرع إلى ذلك ، وجذبه ثوب رسول الله صلى الله عليه وآله حين قام على جنازة ابن سلول يصلى .
وقوله : كيف تستغفر لرأس المنافقين ! وليس في ذلك جميعه ما يدل على وقوع القبيح منه ، وإنما الرجل كان مطبوعا على الشدة والشراسة والخشونة ، وكان يقول ما يقول على مقتضى السجية التى طبع عليها .
وعلى أي حال كان ، فلقد نال الاسلام بولايته وخلافته خيرا كثيرا .
قوله عليه السلام : (ولقد واسيته بنفسى) ، يقال : واسيته وآسيته ، وبالهمزة أفصح ، وهذا مما اختص عليه السلام بفضيلته غير مدافع ، ثبت معه يوم أحد وفر الناس ، وثبت معه يوم حنين وفر الناس ، وثبت تحت رايته يوم خيبر حتى فتحها وفر من كان بعث بها من قبله .
__________
(1) سورة الاسراء 74 .
(*)(10/181)
وروى المحدثون أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما ارتث (1) يوم أحد ، قال الناس : قتل محمد ، رأته كتيبة من المشركين وهو صريع بين القتلى ، إلا أنه حى ، فصمدت له .
فقال لعلى عليه السلام : اكفني هذه ، فحمل عليها عليه السلام وقتل رئيسها ، ثم صمدت له كتيبة أخرى ، فقال : يا على اكفني هذه ، فحمل عليها فهزمها ، وقتل رئيسها ، ثم صمدت له كتيبة ثالثة ، فكذلك ، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله بعد ذلك يقول : قال لى جبريل : يا محمد إن هذه للمواساة ، فقلت : وما يمنعه وهو منى وأنا منه ! فقال جبريل : وأنا منكما .
وروى المحدثون أيضا أن المسلمين سمعوا ذلك اليوم صائحا من جهة السماء ينادى : (لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا على) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لمن حضره : (ألا تسمعون ! هذا صوت جبريل) .
وأما يوم حنين فثبت معه في نفر يسير من بنى هاشم ، بعد أن ولى المسلمون الادبار ، وحامى عنه ، وقتل قوما من هوازن بين يديه ، حتى ثابت إليه الانصار ، وانهزمت هوازن وغنمت أموالها .
وأما يوم خيبر فقصته مشهورة .
قوله عليه السلام : (نجدة أكرمنى الله سبحانه بها) ، النجدة : الشجاعة ، وانتصابها هاهنا على أنها مصدر ، والعامل فيه محذوف .
ثم ذكر عليه السلام وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقال : (لقد قبض وإن رأسه لعلى صدري ، ولقد سالت نفسه في كفى ، فأمررتها على وجهى) ، يقال : إن رسول الله
__________
(1) ارتث : حمل من المعركة جريحا وفيه رمق .
(*)(10/182)
صلى الله عليه وآله قاء دما يسيرا وقت موته ، وإن عليا عليه السلام مسح بذلك الدم وجهه .
وقد روى أن أبا طيبة الحجام شرب دمه عليه السلام وهو حى ، فقال له : إذن لا يجع بطنك .
قوله عليه السلام : (فضجت الدار والافنية) ، أي النازلون في الدار من الملائكة ، أي ارتفع ضجيجهم ولجبهم ، يعنى أنى سمعت ذلك ولم يسمعه غيرى من أهل الدار .
والملا : الجماعة يهبط قوم من الملائكة ويصعد قوم .
والعروج : الصعود .
والهينمة : الصوت الخفى .
والضريح : الشق في القبر .
(ذكر خبر موت الرسول عليه السلام) وقد روى من قصة وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله أنه عرضت له الشكاة التى عرضت ، في أواخر صفر من سنة أحدى عشرة للهجرة ، فجهز جيش أسامة بن زيد ، فأمرهم بالمسير إلى البلقاء حيث أصيب زيد وجعفر عليهما السلام من الروم ، وخرج في تلك الليلة إلى البقيع ، وقال : إنى قد أمرت بالاستغفار عليهم ، فقال عليه السلام : السلام عليكم يا أهل القبور ، ليهنكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ، يتبع أولها آخرها .
ثم استغفر لاهل البقيع طويلا ، ثم قال لاصحابه : إن جبريل كان يعارضنى القرآن في كل عام مرة ، وقد عارضنى به العام مرتين ، فلا أراه إلا لحضور أجلى .
ثم انصرف إلى بيته ، فخطب الناس في غده ، فقال (1) : معاشر الناس ، قد حان منى خفوق من بين أظهركم ، فمن كان له عندي عده ، فليأتني أعطه إياها ، ومن كان على دين ، فليأتني أقضه .
أيها الناس ، إنه ليس بين الله وبين أحد نسب ولا أمر يؤتيه به خيرا ،
__________
(1) ساقطه من ب .
(*)(10/183)
أو يصرف عنه شرا إلا العمل ، ألا لا يدعين مدع ولا يتمنين متمن .
والذى بعثنى بالحق لا ينجى إلا عمل مع رحمه ، ولو عصيت لهويت .
اللهم قد بلغت .
ثم نزل فصلى بالناس صلاة خفيفة ، ثم دخل بيت أم سلمة ، ثم انتقل إلى بيت عائشة يعلله النساء والرجال ، أما النساء فأزواجه وبنته عليهما السلام ، وأما الرجال فعلى عليه السلام والعباس والحسن والحسين عليهما السلام ، وكانا غلامين يومئذ ، وكان الفضل بن العباس يدخل أحيانا إليهم ، ثم حدث الاختلاف بين المسلمين أيام مرضه ، فأول ذلك التنازع الواقع يوم قال صلى الله عليه وآله : (ائتونى بدواة وقرطاس) ، وتلا ذلك حديث التخلف عن جيش أسامة ، وقول عياش بن أبى ربيعة : أيولى هذا الغلام على جلة المهاجرين والانصار ! .
ثم اشتد به المرض ، وكان عند خفة مرضه يصلى بالناس بنفسه ، فلما اشتد به المرض ، أمر أبا بكر أن يصلى بالناس .
وقد اختلف في صلاته بهم ، فالشيعة تزعم أنه لم يصل بهم إلا صلاة واحدة ، وهى الصلاه التى خرج رسول الله صلى الله عليه وآله فيها يتهادى بين على عليه السلام والفضل ، فقام في المحراب مقامه ، وتأخر أبو بكر .
والصحيح عندي - وهو الاكثر الاشهر - أنها لم تكن آخر صلاة (1) في حياته صلى الله عليه وآله بالناس جماعة ، وأن أبا بكر صلى بالناس بعد ذلك يومين ، ثم مات صلى الله عليه وآله ، فمن قائل يقول : إنه توفى لليلتين بقيتا من صفر ، وهو القول الذى تقوله الشيعة ، والاكثرون أنه توفى في شهر ربيع الاول بعد مضى أيام منه .
وقد اختلف الرواية في موته ، فأنكر عمر ذلك ، وقال : إنه لم يمت ، وإنه غاب وسيعود ، فثناه أبو بكر عن هذا القول ، وتلا عليه الايات المتضمنة أنه سيموت ، فرجع إلى قوله .
__________
(1) ب : (الصلاة) .
(*)(10/184)
ثم اختلفوا في موضع دفنه ، فرأى قوم أن يدفنوه بمكة لانها مسقط رأسه ، وقال من قال : بل بالمدينة : ندفنه بالبقيع عند شهداء أحد .
ثم اتفقوا على دفنه في البيت الذى قبض فيه ، وصلوا عليه أرسالا لا يؤمهم أحد .
وقيل : أن عليا عليه السلام أشار بذلك فقبلوه .
وأنا أعجب من ذلك ، لان الصلاة عليه كانت بعد بيعة أبى بكر ، فما الذى منع من أن يتقدم أبو بكر فيصلى عليه إماما .
وتنازعوا في تلحيده وتضريحه ، فأرسل العباس عمه إلى أبى عبيدة بن الجراح - وكان يحفر لاهل مكة ويضرح (1) على عادتهم - رجلا ، وأرسل على رجلا إلى أبى طلحة الانصاري - وكان يلحد لاهل المدينة على عادتهم - وقال اللهم اختر لنبيك ، فجاء أبو طلحة فلحد له ، وأدخل في اللحد .
وتنازعوا فيمن ينزل معه القبر ، فمنع على عليه السلام الناس أن ينزلوا معه ، وقال : لا ينزل قبره غيرى وغير العباس ، ثم أذن في نزول الفضل وأسامة بن زيد مولاهم ، ثم ضجت الانصار ، وسألت أن ينزل منها رجل في قبره ، فأنزلوا أوس بن خولى - وكان بدريا .
فأما الغسل فإن عليا عليه السلام تولاه بيده ، وكان الفضل بن العباس يصب عليه الماء .
وروى المحدثون عن على عليه السلام ، أنه قال : ما قلبت منه عضوا إلا وانقلب ، لا أجد له ثقلا ، كأن معى من يساعدنى عليه ، وما ذلك إلا الملائكة .
وأما حديث الهينمة وسماع الصوت ، فقد رواه خلق كثير من المحدثين ، عن على
__________
(1) يضرح : أي يشق ويحفر له ضريحا .
(*)(10/185)
عليه السلام ، وتروى الشيعة أن عليا عليه السلام عصب عينى الفضل بن العباس ، حين صب عليه الماء ، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله أوصاه بذلك ، وقال : إنه لا يبصر عورتى أحد غيرك إلا عمى .
قوله عليه السلام : (فمن ذا أحق به منى حيا وميتا !) ، انتصابهما على الحال من الضمير المجرور في (به) ، أي أي شخص أحق برسول الله صلى الله عليه وآله حال حياته وحال وفاته منى ! ومراده من هذا الكلام ، أنه أحق بالخلافة بعده وأحق الناس بالمنزلة منه حيث كان بتلك المنزلة منه في الدنيا ، وليس يجوز أن يكونا حالين من الضمير المجرور في (منى) لانه لا يحسن أن يقول : أنا أحق به إذا كنت حيا من كل أحد ، وأحق به إذا كنت ميتا من كل أحد ، لان الميت لا يوصف بمثل ذلك ، ولانه لا حال ثبتت له من الاحقية إذا كان حيا إلا وهى ثابتة له إذا كان ميتا ، وإن كان الميت يوصف بالاحقية ، فلا فائدة في قوله : (وميتا) على هذا الفرض ، ولا يبقى في تقسيم الكلام إلى قسمين فائدة ، وأما إذا كان حالا من الضمير في (به) ، فإنه لا يلزم من كونه أحق بالمنزلة الرفيعة من رسول الله صلى الله عليه آله وهو حى أن يكون أحق بالخلافة بعد وفاته ، أي ليس أحدهما يلزم الاخر ، فاحتاج إلى أن يبين أنه أحق بالرسول صلى الله عليه وآله من كل أحد إن كان الرسول حيا ، وإن كان ميتا ، ولم يستهجن أن يقسم الكلام إلى القسمين المذكورين .
قوله عليه السلام : (فانفذوا إلى بصائركم) ، أي أسرعوا إلى الجهاد على عقائدكم التى أنتم عليها ولا يدخلن الشك والريب في قلوبكم .
قوله عليه السلام : (إنى لعلى جادة الحق ، وإنهم لعلى مزلة الباطل) ، كلام عجيب(10/186)
على قاعدة الصناعة المعنوية ، لانه لا يحسن أن يقول : وإنهم لعلى جادة الباطل ، لان الباطل لا يوصف بالجادة ، ولهذا يقال لمن ضل : وقع في بنيات الطريق (1) ، فتعوض عنها بلفظ (المزلة) ، وهى الموضع الذى يزل فيه الانسان ، كالمزلقة : موضع الزلق ، والمغرقة : موضع الغرق ، والمهلكة : موضع الهلاك .
__________
(1) بنيات الطريق في الاصل : الطرق الصغار تتشعب من الجادة .
(*)(10/187)
(191) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : يعلم عجيج الوحوش في الفلوات ، ومعاصي العباد في الخلوات ، واختلاف النينان في البحار الغامرات ، وتلاطم الماء بالرياح العاصفات .
وأشهد أن محمدا نجيب الله ، وسفير وحيه ، ورسول رحمته .
أما بعد ، فإنى أوصيكم بتقوى الله الذى ابتدأ خلقكم ، وإليه يكون معادكم ، وبه نجاح طلبتكم ، وإليه منتهى رغبتكم ، ونحوه قصد سبيلكم ، وإليه مرامي مفزعكم ، فإن تقوى الله دواء داء قلوبكم ، وبصر عمى أفئدتكم ، وشفاء مرض أجسادكم ، وصلاح فساد صدوركم ، وطهور دنس أنفسكم ، وجلاء غشاء أبصاركم ، وأمن فزع جأشكم ، وضياء سواد ظلمتكم .
الشرح : العجيج : رفع الصوت ، وكذلك العج ، وفى الحديث : (أفضل الحج العج والثج ، أي التلبية وإراقة الدم) وعجيج ، أي صوت ، ومضاعفة اللفظ دليل على تكرير التصويت .
والنينان : جمع نون ، وهو الحوت ، واختلافها هاهنا : هو إصعادها وانحدارها .
ونجيب الله : منتجبه ومختاره .
وسفير وحيه : رسول وحيه ، والجمع ، سفراء ، مثل فقيه وفقهاء .(10/188)
وإليه مرامي مفزعكم : إليه تفزعون وتلجئون ، ويقال : فلان مرمى قصدي ، أي هو الموضع الذى أنحوه وأقصده .
ويروى : (وجلاء عشى أبصاركم) ، بالعين المهملة والالف المقصورة ، والجأش : القلب ، وتقدير الكلام : وضياء سواد ظلمة عقائدكم ، ولكنه حذف المضاف للعلم به .
الاصل : فاجعلوا طاعة الله شعارا دون دثاركم ، ودخيلا دون شعاركم ، ولطيفا بين أضلاعكم ، وأميرا فوق أموركم ، ومنهلا لحين ورودكم ، وشفيعا لدرك طلبتكم ، وجنة ليوم فزعكم ، ومصابيح لبطون قبوركم ، وسكنا لطول وحشتكم ، ونفسا لكرب مواطنكم ، فإن طاعة الله حرز من متالف مكتنفة ، ومخاوف متوقعة ، وأوار نيران موقدة .
فمن أخذ بالتقوى عزبت عنه الشدائد بعد دنوها ، واحلولت له الامور بعد مرارتها ، وانفرجت عنه الامواج بعد تراكمها ، وأسهلت له الصعاب بعد إنصابها ، وهطلت عليه الكرامة بعد قحوطها .
وتحدبت عليه الرحمة بعد نفورها ، وتفجرت عليه النعم بعد نضوبها ، ووبلت عليه البركة بعد إرذاذها .
فاتقوا الله الذى نفعكم بموعظته ، ووعظكم برسالته ، وامتن عليكم بنعمته .
فعبدوا أنفسكم لعبادته ، واخرجوا إليه من حق طاعته .(10/189)
الشرح : الشعار : أقرب إلى الجسد من الدثار .
والدخيل : ما خالط باطن الجسد ، وهو (1) أقرب من الشعار .
ثم لم يقتصر على ذلك حتى أمر بأن يجعل التقوى لطيفا بين الاضلاع ، أي في القلب ، وذلك أمس بالانسان من الدخيل ، فقد يكون الدخيل في الجسد وإن لم يخامر القلب .
ثم قال : (وأميرا فوق أموركم) ، أي يحكم على أموركم كما يحكم الامير في رعيته .
والمنهل : الماء يرده الوارد من الناس وغيرهم .
وقوله : (لحين ورودكم) ، أي لوقت ورودكم .
والطلبة بكسر اللام : ما طلبته من شئ .
قوله (ومصابيح لبطون قبوركم) ، جاء في الخبر : إن العمل الصالح يضئ قبر صاحبه كما يضئ المصباح الظلمة .
والسكن : ما يسكن إليه .
قوله : (ونفسا لكرب مواطنكم) ، أي سعة وروحا .
ومكتنفة : محيطة .
والاوار : حر النار والشمس .
وعزبت : بعدت .
واحلولت : صارت حلوة .
وتراكمها : اجتماعها وتكاثفها .
وأسهلت : صارت سهلة .
بعد إنصابها ، أي بعد إتعابها لكم ، أنصبته : أتعبته .
وهطلت : سالت .
وقحوطها : قلتها ووتاحتها (2) .
وتحدبت عليه : عطفت وحنت .
نضوبها : انقطاعها ، كنضوب الماء : ذهابه .
__________
(1) ب : (فهو) .
(2) الوتاحة : القلة .
(*)(10/190)
ووبل المطر : صار وابلا ، وهو أشد المطر وأكثره .
وإرذاذها : إتيانها بالرذاذ وهو ضعيف المطر .
قوله : (فعبدوا أنفسكم) ، أي ذللوها .
ومنه طريق معبد .
واخرجوا إليه من حق طاعته ، أي أدوا المفترض عليكم من العبادة ، يقال : خرجت إلى فلان من دينه ، أي قضيته إياه .
الاصل : ثم إن هذا الاسلام دين الله الذى اصطفاه لنفسه ، واصطنعه على عينه ، وأصفاه خيرة خلقه ، وأقام دعائمه على محبته .
أذل الاديان بعزته ، ووضع الملل برفعه ، وأهان أعداءه بكرامته ، وخذل محاديه بنصره ، وهدم أركان الضلالة بركنه ، وسقى من عطش من حياضه ، وأتأق الحياض بمواتحه .
ثم جعله لا انفصام لعروته ، ولا فك لحلقته ، ولا انهدام لاساسه ، ولا زوال لدعائمه ، ولا انقلاع لشجرته ، ولا انقطاع لمدته ، ولا عفاء لشرائعه ، ولا جذ لفروعه ، ولا ضنك لطرقه ، ولا وعوثة لسهولته ، ولا سواد لوضحه ، ولا عوج لانتصابه ، ولا عصل في عوده ، ولا وعث لفجه ، ولا انطفاء لمصابيحه ، ولا مرارة لحلاوته .
فهو دعائم أساخ في الحق أسناخها ، وثبت لها آساسها ، وينابيع غزرت عيونها ، ومصابيح شبت نيرانها ، ومنار اقتدى بها سفارها ، وأعلام قصد بها فجاجها ، ومناهل روى بها ورادها .(10/191)
جعل الله فيه منتهى رضوانه ، وذروة دعائمه ، وسنام طاعته ، فهو عند الله وثيق الاركان ، رفيع البنيان ، منير البرهان ، مضئ النيران ، عزيز السلطان ، مشرف المنار ، معوذ المثار .
فشرفوه واتبعوه ، وأدوا إليه حقه ، وضعوه مواضعه .
الشرح : اصطنعه على عينه ، كلمة تقال لما يشتد الاهتمام به ، تقول للصانع : اصنع لى كذا على عينى ، أي اصنعه صنعة كاملة كالصنعة التى تصنعها وأنا حاضر أشاهدها بعينى ، قال تعالى : (ولتصنع على عينى) (1) .
وأصفاه خيره خلقه ، أي آثر به خيره خلقه ، وهم المسلمون ، وياء : (خيرة) مفتوحة .
قال : وأقام الله دعائم الاسلام ، على حب الله وطاعته .
والمحاد : المخالف ، قال تعالى : (من يحادد الله) (2) ، أي من يعاد الله كأنه يكون في حد وجهه ، وذلك الانسان في حد آخر وجهة أخرى ، وكذلك المشاق ، يكون في شق والاخر في شق آخر .
وأتأق الحياض : ملاها ، وتئق السقاء نفسه يتأق تأقا ، وكذلك الرجل ، إذا امتلا غضبا .
قوله : (بمواتحه) ، وهى الدلاء يمتح بها ، أي يسقى بها .
والانفصام : الانكسار .
والعفاء : الدروس .
والجذ : القطع ، ويروى بالدال المهملة ، وهو القطع أيضا .
والضنك : الضيق .
__________
(1) سورة طه 39 .
(2) سورة التوبه 9 .
(*)(10/192)
والوعوثة : كثرة في السهولة توجب صعوبة المشى ، لان الاقدام تعيث في الارض .
والوضح : البياض .
والعوج ، بفتح العين : فيما ينتصب كالنخلة والرمح ، والعوج بكسرها : فيما لا ينتصب ، كالارض والرأى والدين .
والعصل : الالتواء والاعوجاج ، ناب أعصل وشجرة عصلة ، وسهام عصل .
والفج : الطريق الواسع بين الجبلين ، يقول : لاوعث فيه ، أي ليس طريق الاسلام بوعث ، وقد ذكرنا أن الوعوثة ماهى .
قوله : (فهو دعائم أساخ في الحق أسناخها) ، الاسناخ : جمع سنخ ، وهو الاصل ، وأساخها في الارض : أدخلها فيها ، وساخت قوائم فرسه في الارض تسوخ وتسيخ : دخلت وغابت .
والاساس بالمد : جمع أسس ، مثل سبب وأسباب ، والاسس والاس والاساس واحد ، وهو أصل البناء .
وغزرت عيونها ، بضم الزاى : كثرت .
وشبت نيرانها بضم الشين : أوقدت ، والمنار : الاعلام في الفلاة .
قوله : (قصد بها فجاجها) ، أي قصد بنصب تلك الاعلام اهتداء المسافرين في تلك الفجاج ، فأضاف القصد إلى الفجاج .
وروى : (روادها) جمع رائد ، وهو الذى يسبق القوم فيرتاد لهم الكلا والماء .
والذروة : أعلى السنام والرأس وغيرهما .
قوله : (معوذ المثار) ، أي يعجز الناس إثارته وإزعاجه لقوته ومتانته .(10/193)
الاصل : ثم إن الله سبحانه بعث محمدا صلى الله عليه وآله بالحق ، حين دنا من الدنيا الانقطاع ، وأقبل من الاخرة الاطلاع ، وأظلمت بهجتها بعد إشراق ، وقامت بأهلها على ساق ، وخشن منها مهاد ، وأزف منها قياد ، في انقطاع من مدتها ، واقتراب من أشراطها ، وتصرم من أهلها ، وانفصام من حلقتها ، وانتشار من سببها ، وعفاء من أعلامها ، وتكشف من عوراتها ، وقصر من طولها .
جعله الله سبحانه بلاغا لرسالته ، وكرامة لامته ، وربيعا لاهل زمانه ، ورفعه لاعوانه ، وشرفا لانصاره .
ثم أنزل عليه الكتاب نورا لا تطفأ مصابيحه ، وسراجا لايخبؤ توقده ، وبحرا لا يدرك قعره ، ومنهاجا لا يضل نهجه ، وشعاعا لا يظلم ضوءه ، وفرقانا لا يخمد برهانه ، وتبيانا لا تهدم أركانه ، وشفاء لا تخشى أسقامه ، وعزا لا تهزم أنصاره ، وحقا لا تخذل أعوانه .
فهو معدن الايمان وبحبوحته ، وينابيع العلم وبحوره ، ورياض العدل وغدرانه ، وأثافى الاسلام وبنيانه ، وأودية الحق وغيطانه .
وبحر لا ينزفه المستنزفون ، وعيون لا ينضبها الماتحون ، ومناهل لا يغيضها الواردون ، ومنازل لا يضل نهجها المسافرون ، وأعلام لا يعمى عنها السائرون ، وإكام لا يجوز عنها القاصدون .(10/194)
(اختلاف الاقوال في عمر الدنيا) الشرح : قوله عليه السلام : (حين دنا من الدنيا الانقطاع) ، أي أزفت الاخرة وقرب وقتها .
وقد اختلف الناس في ذلك اختلافا شديدا ، فذهب قوم إلى أن عمر الدنيا خمسون ألف سنة ، قد ذهب بعضها وبقى بعضها .
واختلفوا في مقدار الذاهب والباقى ، واحتجوا لقولهم بقوله تعالى : (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) (1) ، قالوا : اليوم هو إشارة إلى الدنيا ، وفيها يكون عروج الملائكة والروح إليه ، واختلافهم بالامر من عنده إلى خلقه ، وإلى رسله ، قالوا : وليس قول بعض المفسرين أنه عنى يوم القيامة بمستحسن ، لان يوم القيامة لا يكون للملائكة والروح عروج إليه سبحانه ، لانقطاع التكليف ، ولان المؤمنين إما أن يطول عليهم ذلك اليوم بمقدار خمسين ألف سنة ، أو يكون هذا مختصا بالكافرين فقط ، ويكون قصيرا على المؤمنين ، والاول باطل ، لانه أشد من عذاب جهنم ، ولايجوز أن يلقى المؤمن هذه المشقة ، والثانى باطل ، لانه لا يجوز أن يكون الزمان الواحد طويلا قصيرا بالنسبة إلى شخصين ، اللهم إلا أن يكون أحدهما نائما ، أو ممنوا بعلة تجرى مجرى النوم ، فلا يحس بالحركة ، ومعلوم أن حال المؤمنين بعد بعثهم ، ليست هذه الحال .
قالوا : وليست هذه الاية مناقضه للاية الاخرى وهى قوله تعالى : (يدبر الامر من السماء إلى الارض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون) (2) ، وذلك لان سياق الكلام يدل على أنه أراد به الدنيا ، وذلك لانه قد ورد في الخبر أن
__________
(1) سورة المعارج 4 .
(2) سورة السجدة 5 .
(*)(10/195)
بين الارض والسماء مسيرة خمسمائة عام ، فإذا نزل الملك إلى الارض ، ثم عاد إلى السماء ، فقد قطع في ذلك اليوم مسيرة ألف عام ، ألا ترى إلى قوله : (يدبر الامر من السماء إلى الارض) ، أي ينزل الملك بالوحى والامر والحكم من السماء إلى الارض ، ثم يعود راجعا إليه وعارجا صاعدا إلى السماء ، فيجتمع من نزوله وصعوده مقدار مسير ألف سنة .
وذكر حمزة بن الحسن الاصفهانى في كتابه المسمى تواريخ الامم : أن اليهود تذهب إلى أن عدد السنين من ابتداء التناسل إلى سنة الهجرة لمحمد صلى الله عليه وآله أربعة آلاف واثنتان وأربعون سنة وثلاثة أشهر .
والنصارى تذهب إلى أن عدد ذلك خمسة آلاف وتسعمائة وتسعون سنة وثلاثة أشهر .
وأن الفرس تذهب إلى أن من عهد كيومرث والد البشر عندهم إلى هلاك يزد جرد بن شهريار الملك أربعة آلاف ومائة واثنتين وثمانين سنة وعشرة أشهر وتسعة عشر يوما ، ويسندون ذلك إلى كتابهم الذى جاء به زردشت ، وهو الكتاب المعروف بأبستا .
فأما اليهود والنصارى فيسندون ذلك إلى التوراة ويختلفون في كيفية استنباط المدة .
وتزعم النصارى واليهود أن مدة الدنيا كلها سبعة آلاف سنة ، قد ذهب منها ما ذهب ، وبقى ما بقى .
وقيل : إن اليهود إنما قصرت المدة ، لانهم يزعمون أن شيخهم الذى هو منتظرهم ، يخرج في أول الالف السابع ، فلولا تنقيصهم المدة وتقصيرهم أيامها لتعجل افتضاحهم ، ولكن سيفتضحون فيما بعد عند من يأتي بعدنا من البشر .(10/196)
قال حمزة : وأما المنجمون فقد أتوا بما يغمز هذا كله ، فزعموا أنه قد مضى من الدنيا منذ أول يوم سارت فيه الكواكب ، من رأس الحمل إلى اليوم الذى خرج فيه المتوكل ابن معتصم بن الرشيد من سامراء إلى دمشق ، ليجعلها دار الملك ، وهو أول يوم من المحرم سنة أربع وأربعين ومائتين للهجرة المحمدية ، أربعة آلاف ألف ألف ألف - ثلاث لفظات - وثلاثمائة ألف وعشرون ألف سنة ، بسنى الشمس .
قالوا : والذى مضى من الطوفان إلى صبيحة اليوم الذى خرج فيه المتوكل إلى دمشق ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وثلاثون سنة وعشرة أشهر واثنان وعشرون يوما .
وذكر أبو الريحان البيرونى في كتاب الاثار الباقية عن القرون الخالية : أن الفرس والمجوس يزعمون أن عمر الدنيا اثنا عشر ألف سنة ، على عدد البروج وعدد الشهور ، وأن الماضي منها إلى وقت ظهور زردشت صاحب شريعتهم ثلاثة آلاف سنة ، وبين ابتداء ظهور زردشت وبين أول تاريخ الاسكندر مائتان وثمان وخمسون سنة ، وبين تاريخ الاسكندر وبين سنته التى كتبنا فيها شرح هذا الفصل - وهى سنة سبع وأربعين وستمائة للهجرة النبوية - ألف وخمسمائة وسبعون سنة ، فعلى هذا يكون الماضي إلى يومنا هذا من أصل اثنى عشر ألف سنة ، أربعة آلاف وثمانمائة وثماني عشرة سنة ، فيكون الباقي من الدنيا على قولهم أكثر من الماضي .
وحكى أبو الريحان عن الهند في بعض كتبه ، أن مدة عمر الدنيا مقدار تضعيف الواحد من أول بيت في رقعة الشطرنج إلى آخر البيوت .
فأما الاخباريون من المسلمين ، فأكثرهم يقولون : إن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة(10/197)
ويقولون أننا في السابع ، والحق أنه لا يعلم أحد هذا إلا الله تعالى وحده ، كما قال سبحانه : (يسألونك عن الساعة أيان مرساها * فيم أنت من ذكراها * إلى ربك منتهاها) (1) ، وقال : (لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والارض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفى عنها قل إنما علمها عند الله) (2) .
ونقول مع ذلك كما ورد به الكتاب العزيز : (اقتربت الساعة) (3) و (اقترب للناس حسابهم) (4) ، و (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) (5) .
ولا نعلم كمية الماضي ولا كمية الباقي ، ولكنا نقول كما أمرنا ، ونسمع ونطيع كما أدبنا ، ومن الممكن أن يكون ما بقى قريبا عند الله ، وغير قريب عندنا ، كما قال سبحانه : (إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا) (6) .
وبالجملة هذا موضع غامض يجب السكوت عنه .
قوله عليه السلام : (وقامت بأهلها على ساق) ، الضمير الدنيا ، والساق الشدة ، أي انكشفت عن شدة عظيمة .
وقوله تعالى : (والتفت الساق بالساق) (7) أي التفت آخر شدة الدنيا بأول شدة الاخرة .
والمهاد : الفراش .
وأزف منها قياد ، أي قرب انقيادها إلى التقضى والزوال .
وأشراط الساعة : علاماتها ، وإضافتها إلى الدنيا لانها في الدنيا تحدث ، وإن كانت علامات للاخرى .
والعفاء : الدروس .
__________
(1) سورة النازعات 42 - 44 .
(2) سورة الاعراف 87 .
(3) سورة القمر 1 .
(4) سور الانبياء 1 .
(5) سورة النحل 1 .
(6) سورة المعارج 6 .
(7) سورة القيامة 29 .
(*)(10/198)
وروى : (من طولها) والطول : الحبل .
ثم عاد إلى ذكر النبي صلى الله عليه وآله فقال : جعله الله سبحانه بلاغا لرسالته ، أي ذا بلاغ ، والبلاغ التبليغ ، فحذف المضاف .
ولا تخبو : لا تنطفئ .
والفرقان : ما يفرق به بين الحق والباطل .
وأثافى الاسلام : جمع أثفية ، وهى الاحجار توضع عليها القدر ، شكل مثلث .
والغيطان : جمع غائط ، وهو المطمئن من الارض .
ولا يغيضها ، بفتح حرف المضارعة ، غاض الماء وغضته أنا ، يتعدى ولا يتعدى ، وروى (لا يغيضها) بالضم على قول من قال : أغضت الماء ، وهى لغة ليست بالمشهورة .
والاكام : جمع أكم ، مثل جبال جمع جبل ، والاكم جمع إكمة ، مثل عنب جمع عنبة ، والاكمة : ما علا من الارض ، وهى دون الكثيب .
الاصل : جعله الله ريا لعطش العلماء ، وربيعا لقلوب الفقهاء ، ومحاج لطرق الصلحاء ، ودواء ليس بعده داء ، ونورا ليس معه ظلمة ، وحبلا وثيقا عروته ، ومعقلا منيعا ذروته ، وعزا لمن تولاه ، وسلما لمن دخله ، وهدى لمن ائتم به ، وعذرا لمن انتحله ، وبرهانا لمن تكلم به ، وشاهدا لمن خاصم به ، وفلجا لمن حاج به ، وحاملا لمن حمله ، ومطية لمن أعمله ، وآية لمن توسم ، وجنة لمن استلام ، وعلما لمن وعى ، وحديثا لمن روى ، وحكما لمن قضى .(10/199)
الشرح : الضمير يرجع إلى القرآن ، جعله الله ريا لعطش العلماء ، إذا ضل العلماء في أمر والتبس عليهم رجعوا إليه ، فسقاهم كما يسقى الماء العطش ، وكذا القول في (ربيعا لقلوب الفقهاء) ، والربيع هاهنا : الجدول ، ويجوز أن يريد المطر في الربيع ، يقال : ربعت الارض فهى مربوعة .
والمحاج : جمع محجة ، وهى جادة الطريق .
والمعقل : الملجأ .
وسلما لمن دخله ، أي مأمنا ، وانتحله : دان به ، وجعله نحلته .
والبرهان : الحجة ، والفلج : الظفر والفوز .
وحاج به : خاصم .
قوله عليه السلام : (وحاملا لمن حمله) ، أي أن القرآن ينجى يوم القيامة من كان حافظا له في الدنيا ، بشرط أن يعمل به .
قوله عليه السلام : (ومطية لمن أعمله) ، استعارة ، يقول : كما أن المطية تنجي صاحبها إذا أعملها وبعثها على النجاء ، فكذلك القرآن إذا أعمله صاحبه أنجاه ، ومعنى إعماله ، اتباع قوانينه والوقوف عند حدوده .
قوله : (وآية لمن توسم) ، أي لمن تفرس ، قال تعالى : (إن في ذلك لايات للمتوسمين) (1) .
والجنة : ما يستتر به .
واستلام : لبس لامة الحرب ، وهى الدرع .
ووعى : حفظ .
قوله : (وحديثا لمن روى) قد سماه الله تعالى حديثا فقال : (الله نزل أحسن
__________
(1) سورة الحجر 75 .
(*)(10/200)
الحديث كتابا متشابها) (1) ، وأصحابنا يحتجون بهذه اللفظة على أن القرآن ليس بقديم ، لان الحديث ضد القديم .
وليس للمخالف أن يقول : ليس المراد بقوله : (أحسن الحديث) ما ذكرتم ، بل المراد أحسن القول ، وأحسن الكلام ، لان العرب تسمى الكلام والقول حديثا ، لانا نقول : لعمري إنه هكذا ، ولكن العرب ما سمت القول والكلام حديثا إلا أنه مستحدث متجدد حالا فحالا ، ألا ترى إلى قول عمرو لمعاوية : (قد مللت كل شئ إلا الحديث) ، فقال : إنما يمل العتيق ، فدل ذلك على أنه فهم معنى تسميتهم الكلام والقول حديثا ، وفطن لمغزاهم ومقصدهم في هذه التسمية ، وإذا كنا قد كلفنا أن نجرى على ذاته وصفاته وأفعاله ما أجراه سبحانه في كتابه ، ونطلق ما أطلقه على سبيل الوضع والكيفية التى أطلقها وكان قد وصف كلامه بأنه حديث - وكان القرآن في عرف اللغة إنما سمى حديثا لحدوثه وتجدده - فقد ساغ لنا أن نطلق على كلامه أنه محدث ومتجدد ، وهذا هو المقصود .
__________
(1) سورة الزمر 23 .
(*)(10/201)
(192) الاصل : ومن كلام له عليه السلام كان يوصى به أصحابه : تعاهدوا أمر الصلاة ، وحافظوا عليها ، واستكثروا منها ، وتقربوا بها ، فإنها كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ! ألا تسمعون إلى جواب أهل النار حين شئلوا : (ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين) (1) .
وإنها لتحت الذنوب حت الورق ، وتطلقها إطلاق الربق .
وشبهها رسول الله صلى الله عليه وآله بالحمة ، تكون على باب الرجل ، فهو يغتسل منها في اليوم والليلة خمس مرات ، فما عسى أن يبقى عليه من الدرن .
وقد عرف حقها رجال من المؤمنين الذين لا تشغلهم عنها زينة متاع ، ولا قرة عين ، من ولد ولا مال ، يقول الله سبحانه : (رجال لاتلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة) (2) .
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله نصبا بالصلاة بعد التبشير له بالجنة ، لقول الله سبحانه : (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) (3) ، فكان يأمر أهله ، ويصبر نفسه .
__________
(1) سورة المدثر 42 ، 43 .
(2) سورة النور 37 .
(3) سورة طه 132 .
(*)(10/202)
ثم إن الزكاة جعلت مع الصلاة قربانا لاهل الاسلام ، فمن أعطاها طيب النفس بها ، فإنها تجعل له كفارة ، ومن النار حجازا ووقاية ، فلا يتبعنها أحد نفسه ، ولا يكثرن عليها لهفه ، فإن من أعطاها غير طيب النفس بها يرجو بها ما هو أفضل منها فهو جاهل بالسنة ، مغبون الاجر ، ضال العمل ، طويل الندم .
ثم أداء الامانة ، فقد خاب من ليس من أهلها ، إنها عرضت على السموات المبنية ، والارضين المدحوة ، والجبال ذات الطول المنصوبة ، فلا أطول ولا أعرض ، ولا أعلى ولا أعظم منها .
ولو امتنع شئ بطول ، أو عرض ، أو قوة ، أو عز ، لامتنعن ، ولكن أشفقن من العقوبة ، وعقلن ما جهل من هو أضعف منهن ، وهو الانسان ، (إنه كان ظلوما جهولا) (1) .
إن الله سبحانه وتعالى لا يخفى عليه ما العباد مقترفون في ليلهم ونهارهم ، لطف به خبرا ، وأحاط به علما ، أعضاؤكم شهوده ، وجوارحكم جنوده ، وضمائركم عيونه ، وخلواتكم عيانه .
الشرح : هذه الاية يستدل بها الاصوليون من أصحابنا على أن الكفار يعاقبون في الاخرة على ترك الواجبات الشرعية ، وعلى فعل القبائح ، لانها في الكفار وردت ، ألا ترى إلى قوله : (في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر) (2) فليس يجوز أن يعنى بالمجرمين هاهنا الفاسقين من أهل القبلة ، لانه قال : (قالوا لم نك من المصلين *
__________
(1) سورة الاحزاب 72 .
(2) سورة المدثر 42 - 47 .
(*)(10/203)
ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نكذب بيوم الدين (1) .
قالوا : وليس لقائل أن يقول : معنى قوله : (لم نك من المصلين) لم نكن من القائلين بوجوب الصلاة ، لانه قد أغنى عن هذا التعليل قوله : (وكنا نكذب بيوم الدين) لان أحد الامرين هو الاخر ، وحمل الكلام على ما يفيد فائدة جديدة أولى من حمله على التكرار والاعادة ، فقد ثبت بهذا التقرير صحة احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام على تأكيد أمر الصلاة ، وأنها من العبادات المهمة في نظر الشارع .
قوله عليه السلام : (وإنها لتحت الذنوب) ، الحت : نثر الورق من الغصن ، وانحات ، أي تناثر ، وقد جاء هذا اللفظ في الخبر النبوى بعينه .
والربق : جمع ربقة ، وهى الحبل أي تطلق الصلاة الذنوب كما تطلق الحبال المعقدة ، أي تحل ما انعقد على المكلف من ذنوبه .
وهذا من باب الاستعارة .
ويروى : (تعهدوا أمر الصلاة) بالتضعيف ، وهو لغة ، يقال : تعاهدت ضيعتي وتعهدتها وهو القيام عليها ، وأصله من تجديد العهد بالشئ ، والمراد المحافظة عليه ، وقوله تعالى : (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) (2) أي واجبا ، وقيل موقوتا ، أي منجما كل وقت لصلاة معينة ، وتؤدى هذه الصلاة في نجومها .
وقوله : (كتابا) أي فرضا واجبا ، كقوله تعالى : (كتب ربكم على نفسه الرحمة) (3) أي أوجب .
والحمة : الحفيرة فيها الحميم وهو الماء الحار ، وهذا الخبر من الاحاديث الصحاح ، قال صلى الله عليه وآله : أيسر أحدكم أن تكون على بابه حمة يغتسل منها كل يوم خمس
__________
(1) .
(2) سورة النساء 103 .
(3) سورة الانعام 3 .
(*)(10/204)
مرات ، فلا يبقى عليه من درنه شئ ! قالوا نعم ، قال : (فإنها الصلوات الخمس) والدرن : الوسخ .
والتجارة في الاية ، إما أن يراد بها : لا يشغلهم نوع من هذه الصناعة عن ذكر الله .
ثم أفرد البيع بالذكر ، وخصه وعطفه على التجارة العامة ، لانه أدخل في الالهاء ، لان الربح في البيع بالكسب معلوم ، والربح في الشراء مظنون ، وإما أن يريد بالتجارة الشراء خاصة إطلاقا لاسم الجنس الاعم على النوع الاخص ، كما تقول رزق فلان تجارة رابحة ، إذا اتجه له شراء صالح ، فأما إقام الصلاة فإن التاء في (إقامة) عوض من العين الساقطة للاعلال ، فإن أصله (إقوام) مصدر أقام ، كقولك : أعرض إعراضا ، فلما أضيفت أقيمت الاضافة مقام حرف التعويض ، فأسقطت التاء .
قوله عليه السلام : وكان رسول الله صلى الله عليه وآله نصبا بالصلاة أي تعبا ، قال تعالى : (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) (1) .
وروى أنه عليه السلام قام حتى تورمت قدماه مع التبشير له بالجنة .
وروى أنه قيل له في ذلك فقال : (أفلا أكون عبدا شكورا !) .
ويصبر نفسه : من الصبر ، ويروى : (ويصبر عليها نفسه) أي يحبس ، قال سبحانه : (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم) (2) .
وقال عنترة يذكر حربا كان فيها : فصبرت عارفة لذلك حرة ترسو إذا نفس الجبان تطلع (3) (فصل في ذكر الاثار الواردة في الصلاة وفضلها) واعلم أن الصلاة قد جاء في فضلها الكثير الذى يعجزنا حصره ، ولو لم يكن
__________
(1) سورة طه 2 .
(2) سورة الكهف 28 .
(3) اللسان (صبر) .
(*)(10/205)
إلا ما ورد في الكتاب العزيز من تكرار ذكرها وتأكيد الوصاة بها والمحافظة عليها ، لكان بعضه كافيا .
وقال النبي صلى الله عليه وآله : (الصلاة عمود الدين ، فمن تركها فقد هدم الدين) .
وقال أيضا عليه السلام : (علم الايمان الصلاة ، فمن فرغ لها قلبه ، وقام بحدودها ، فهو المؤمن) .
وقالت أم سلمة : كان رسول الله صلى الله عليه وآله يحدثنا ونحدثه ، فإذا حضرت الصلاة فكأنه لم يعرفنا ولم نعرفه .
وقيل للحسن رحمه الله : ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوها ؟ قال : لانهم خلوا بالرحمن ، فألبسهم نورا من نوره .
وقال عمر : إن الرجل ليشيب عارضاه في الاسلام ما أكمل الله له صلاة ، قيل له : وكيف ذلك ؟ قال : لا يتم خشوعها وتواضعها وإقباله على ربه فيها .
وقال بعض الصالحين : إن العبد ليسجد السجدة عنده أنه متقرب بها إلى الله ، ولو قسم ذنبه في تلك السجدة على أهل مدينة لهلكوا ، قيل : وكيف ذلك ؟ قال : يكون ساجدا وقلبه عند غير الله ، إنما هو مصغ إلى هوى أو دنيا .
صلى أعرابي في المسجد صلاة خفيفة ، وعمر بن الخطاب يراه ، فلما قضاها قال : اللهم زوجنى الحور العين .
فقال عمر : يا هذا لقد أسأت النقد ، وأعظمت الخطبة ! .
وقال على عليه السلام : لا يزال الشيطان ذعرا من المؤمن ما حافظ على الخمس ، فإذا ضيعهن تجرأ عليه ، وأوقعه في العظائم .
وروى عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال : (الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ، ما اجتنبت الكبائر) .(10/206)
وجاء في الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة .
وقال هشام بن عروة : كان أبى يطيل المكتوبة ويقول : هي رأس المال .
قال يونس بن عبيد : ما استخف أحد بالنوافل إلا استخف بالفرائض .
يقال : إن محمد بن المنكدر جزأ الليل عليه وعلى أمه وأخته أثلاثا ، فماتت أخته ، فجزأه عليه وعلى أمه نصفين ، فماتت أمه فقام الليل كله .
كان مسلم بن يسار لا يسمع الحديث إذا قام يصلى ، ولا يفهمه ، وكان إذا دخل بيته سكت أهله فلا يسمع لهم كلام حتى يقوم إلى الصلاة ، فيتحدثون ويلغطون ، فهو لا يشعر بهم .
ووقع حريق إلى جنبه وهو في الصلاة ، فلم يشعر به حتى حرق .
كان خلف بن أيوب لا يطرد الذباب إذا وقع على وجهه وهو في الصلاة في بلاد كثيرة الذبان ، فقيل له : كيف تصبر ؟ فقال : بلغني أن الشطار يصبرون تحت السياط ليقال : فلان صبور ، أفلا أصبر وأنا بين يدى ربى على أذى ذباب يقع على ! .
قال ابن مسعود : الصلاة مكيال ، فمن وفى وفى له ، ومن طفف ، فويل للمطففين .
قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وآله : يا رسول الله ، ادع لى أن يرزقنى الله مرافقتك في الجنة ، فقال : (أعنى على إجابة الدعوة بكثرة السجود) .
قوله عليه السلام : (قربانا لاهل الاسلام) ، القربان : اسم لما يتقرب به من نسيكة أو صدقة .
وروى : (ومن النار حجازا) بالزاى أي مانعا .
واللهف : الحسرة ، ينهى عليه السلام(10/207)
عن إخراج الزكاة مع التسخط لاخراجها والتلهف والتحسر على دفعها إلى أربابها ، ويقول : إن من يفعل ذلك يرجو بها نيل الثواب ضال مضيع لماله ، غير ظافر بما رجاه من المثوبة .
(ذكر الاثار الواردة في فضل الزكاة والتصدق) وقد جاء في فضل الزكاة الواجبة وفضل صدقة التطوع الكثير جدا ، ولو لم يكن إلا أن الله تعالى قرنها بالصلاة في أكثر المواضع التى ذكر فيها الصلاة لكفى .
وروى بريدة الاسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : (ما حبس قوم الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر) .
وجاء في الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونهما في سبيل الله ما جاء في الذكر الحكيم ، وهو قوله تعالى : (يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم ...
) (1) الاية ، قال المفسرون : إنفاقها في سبيل الله إخراج الزكاة منها .
وروى الاحنف قال : قدمت المدينة ، فبينا أنا في حلقة فيها ملا من قريش ، إذ جاء رجل خشن الجسد ، خشن الثياب ، فقام عليهم ، فقال : بشر الكانزين برضف (2) يحمى عليها في نار جهنم ، فتوضع على حلمة ثدى الرجل حتى تخرج من نغض (3) كتفه ، ثم توضع على نغض كتفه حتى تخرج من حلمة ثديه ، فسألت عنه فقيل : هذا أبو ذر الغفاري ، وكان يذكره ويرفعه .
ابن عباس يرفعه : (من كان عنده ما يزكى فلم يزك ، وكان عنده ما يحج فلم يحج سأل الرجعة ، يعنى قوله : (رب ارجعون) .
__________
(1) سورة التوبة 24 .
(2) الرضف : الحجارة المحماة .
(3) النغص : أعلى الكتف ، وقيل هو العظم الرقيق الذى على طرفه .
(*)(10/208)
أبو هريرة : سئل رسول الله صلى الله عليه وآله : أي الصدقة أفضل ؟ فقال : أن تعطى وأنت صحيح ، شحيح ، تأمل البقاء ، وتخشى الفقر ، ولا تمهل ، (حتى إذ بلغت الحلقوم) قلت : لفلان كذا ولفلان كذا (1) .
وقيل للشبلى : ما يجب في مائتي درهم ؟ قال : أما من جهة الشرع فخمسة ، وأما من جهة الاخلاص فالكل .
أمر رسول الله صلى الله عليه وآله بعض نسائه أن تقسم شاة على الفقراء فقالت : يا رسول الله ، لم يبق منها غير عنقها ، فقال عليه السلام : كلها بقى غير عنقها .
أخذ شاعر هذا المعنى فقال : يبكى على الذاهب من ما له وإنما يبقى الذى يذهب السائب : كان الرجل من السلف يضع الصدقة ويمثل قائما بين يدى السائل الفقير ويسأله قبولها ، حتى يصير هو في صورة السائل .
وكان بعضهم يبسط كفه ويجعلها تحت يد الفقير ، لتكون يد الفقير العليا .
وعن النبي صلى الله عليه وآله : (ما أحسن عبد الصدقة إلا أحسن الله إليه في مخلفيه) .
وعنه صلى الله عليه وآله : (الصدقة تسد سبعين بابا من الشر) .
وعنه صلى الله عليه وآله : (أذهبوا مذمة السائل ولو بمثل رأس الطائر من الطعام) .
كان النبي صلى الله عليه وآله لايكل خصلتين إلى غيره : لا يوضئه أحد ، ولا يعطى السائل إلا بيده .
بعض الصالحين : الصلاة تبلغك نصف الطريق ، والصوم يبلغك باب الملك ، والصدقة تدخلك عليه بغير إذن .
الشعبى : من لم ير نفسه أحوج إلى ثواب الصدقة من الفقير إلى صدقته ، فقد أبطل صدقته ، وضرب بها وجهه .
__________
(1) ساقط من ب .
(*)(10/209)
كان الحسن بن صالح إذا جاءه سائل ، فإن كان عنده ذهب أو فضة أو طعام أعطاه ، فإن لم يكن ، أعطاه زيتا أو سمنا أو نحوهما مما ينتفع به ، فإن لم يكن ، أعطاه كحلا ، أو خرج بإبرة وخيط وخاط (1) بها ثوب السائل ، أو بخرقة يرقع بها ما تخرق من ثوبه .
ووقف مرة على بابه سائل ليلا ، ولم يكن عنده ما يدفعه إليه ، فخرج إليه بقصبة في رأسها شعلة ، وقال : خذ هذه وتبلغ بها إلى أبواب ناس لعلهم يعطونك .
قوله عليه السلام : (ثم أداء الامانة) هي العقد الذى يلزم الوفاء به ، وأصح ما قيل في تفسير الاية أن الامانة ثقيلة المحمل ، لان حاملها معرض لخطر عظيم ، فهى بالغة من الثقل وصعوبة المحمل مالو أنها عرضت على السموات والارض والجبال لامتنعت من حملها ، فأما الانسان فإنه حملها وألزم القيام بها .
وليس المراد بقولنا : إنها عرضت على السموات والارض أي لو عرضت عليها وهى جمادات ، بل المراد تعظيم شأن الامانة ، كما تقول : هذا الكلام لا يحمله الجبال ، وقوله : امتلا الحوض وقال قطني ، وقوله تعالى : (قالتا أتينا طائعين) (2) .
ومذهب العرب في هذا الباب وتوسعها ومجازاتها مشهور شائع .
__________
(1) ا : (يخيط) .
(2) سورة فصلت 11 .
(*)(10/210)
(193) الاصل : ومن كلام له عليه السلام : والله ما معاوية بأدهى منى ، ولكنه يغدر ويفجر ، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس ، ولكن كل غدرة فجرة ، وكل فجرة كفرة ، ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة .
والله ما استغفل بالمكيدة ، ولا أستغمز بالشديدة .
الشرح : الغدرة ، على (فعلة) الكثير الغدر ، والفجرة والكفرة الكثير الفجور والكفر ، وكل ماكان على هذا البناء فهو للفاعل ، فإن سكنت العين فهو للمفعول ، تقول : رجل ضحكة أي يضحك ، وضحكة يضحك منه ، وسخرة يسخر ، وسخرة يسخر به ، يقول عليه السلام : كل غادر فاجر ، وكل فاجر كافر .
ويروى : (ولكن كل غدرة فجره ، وكل فجرة كفرة) على (فعلة) للمرة الواحدة .
وقوله : (لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة) ، حديث صحيح مروى عن النبي صلى الله عليه وآله .
ثم أقسم عليه السلام أنه لا يستغفل بالمكيدة ، أي لا تجوز المكيدة علي ، كما تجوز على ذوى الغفلة ، وأنه لا يستغمز بالشديدة ، أي لا أهين وألين للخطب الشديد .(10/211)
(سياسة علي وجريها على سياسة الرسول عليه السلام) واعلم أن قوما ممن لم يعرف حقيقة فضل أمير المؤمنين عليه السلام ، زعموا أن عمر كان أسوس منه ، وإن كان هو أعلم من عمر ، وصرح الرئيس أبو على بن سينا بذلك في (الشفاء) في الحكمة ، وكان شيخنا أبو الحسين (1) يميل إلى هذا ، وقد عرض به في كتاب (الغرر) ، ثم زعم أعداؤه ومباغضوه أن معاوية كان أسوس منه وأصح تدبيرا ، وقد سبق لنا بحث قديم في هذا الكتاب في بيان حسن سياسة أمير المؤمنين عليه السلام وصحة تدبيره ، ونحن نذكر هاهنا ما لم نذكره هناك مما يليق بهذا الفصل الذى نحن في شرحه .
اعلم أن السائس لا يتمكن من السياسة البالغة إلا إذا كان يعمل برأيه ، وبما يرى فيه صلاح ملكه ، وتمهيد أمره ، وتوطيد قاعدته ، سواء وافق الشريعة أو لم يوافقها ، ومتى لم يعمل في السياسة والتدبير بموجب ما قلناه ، فبعيد أن يتنظم أمره ، أو يستوثق حاله ، وأمير المؤمنين كان مقيدا بقيود الشريعة ، مدفوعا إلى اتباعها ورفض ما يصلح اعتماده من آراء الحرب والكيد والتدبير إذا لم يكن للشرع موافقا ، فلم تكن قاعدته في خلافته قاعدة غيره ممن لم يلتزم بذلك ، ولسنا بهذا القول زارين على عمر بن الخطاب ، ولا ناسبين إليه ما هو منزه عنه ، ولكنه كان مجتهدا يعمل بالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة ، ويرى تخصيص عمومات النص بالاراء وبالاستنباط من أصول تقتضي خلاف ما يقتضيه عموم النصوص ، ويكيد خصمه ، ويأمر أمراءه بالكيد والحيلة ، ويؤدب بالدرة والسوط من
__________
(1) هو كتاب الغرر لابي الحسين البصري ، في أصول الكلام ، شرحه المؤلف ، وسماه (شرح مشكلات الغرر) ، ذكره صاحب روضات الجنات .
(*)(10/212)
يتغلب على ظنه أنه يستوجب ذلك ، ويصفح عن آخرين قد اجترموا ما يستحقون به التأديب ، كل ذلك بقوة اجتهاده وما يؤديه إليه نظره ، ولم يكن أمير المؤمنين عليه السلام يرى ذلك ، وكان يقف مع النصوص والظواهر ، ولا يتعداها إلى الاجتهاد والاقيسة ، ويطبق أمور الدنيا على أمور الدين ، ويسوق الكل مساقا واحدا ، ولا يضيع ولا يرفع إلا بالكتاب والنص ، فاختلفت طريقتاهما في الخلافة والسياسة ، وكان عمر مع ذلك شديد الغلظة والسياسة ، وكان على عليه السلام كثير الحلم والصفح والتجاوز ، فازدادت خلافة ذاك قوة ، وخلافة هذا لينا ، ولم يمن عمر بما منى به على عليه السلام من فتنة عثمان ، التى أحوجته إلى مداراة أصحابه وجنده ومقاربتهم ، للاضطراب الواقع بطريق تلك الفتنة ، ثم تلا ذلك فتنة الجمل ، وفتنة صفين ثم فتنة النهروان ، وكل هذه الامور مؤثرة في اضطراب أمر الوالى وانحلال معاقد ملكه ، ولم يتفق لعمر شئ من ذلك ، فشتان بين الخلافتين فيما يعود إلى انتظام المملكة وصحة تدبير الخلافة .
! فإن قلت : فما قولك في سياسة الرسول صلى الله عليه وآله وتدبيره ؟ أليس كان منتظما سديدا مع أنه كان لا يعمل إلا بالنصوص والتوقيف من الوحى ! فهلا كان تدبير على عليه السلام وسياسته كذلك ! إذا قلتم : أنه كان لا يعمل إلا بالنص ، قلت : أما سياسة رسول الله صلى الله عليه وآله وتدبيره فخارج عما نحن فيه ، لانه معصوم لا تتطرق الغفلة إلى أفعاله ، ولا واحد من هذين الرجلين بواجب العصمة عندنا .
وأيضا فإن كثيرا من الناس ذهبوا ألى أن الله تعالى أذن للرسول صلى الله عليه وآله أن يحكم في الشرعيات وغيرها برأيه ، وقال له : احكم بما تراه ، فإنك لا تحكم إلا بالحق ، وهذا مذهب يونس بن عمران ، وعلى هذا فقد سقط السؤال ، لانه صلى الله عليه وآله يعمل بما يراه من المصلحة ، ولا ينتظر الوحى .
وأيضا فبتقدير فساد هذا المذهب ، أليس قد ذهب خلق كثير من علماء أصول الفقة إلى أن الرسول صلى الله عليه وآله كان يجوز (1) له أن يجتهد في الاحكام والتدبير ، كما يجتهد
__________
(1) ساقط من ب .
(*)(10/213)
الواحد من العلماء ، وإليه ذهب القاضى أبو يوسف رحمه الله ، واحتج بقوله تعالى : (لتحكم بين الناس بما أراك الله) (1) .
والسؤال أيضا ساقط على هذا المذهب ، لان اجتهاد على عليه السلام لا يساوى اجتهاد النبي صلى الله عليه وآله ، وبين الاجتهادين كما بين المنزلتين .
وكان أبو جعفر بن أبى زيد الحسنى نقيب البصرة رحمه الله إذا حدثناه في هذا يقول : إنه لا فرق عند من قرأ السيرتين : سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسياسة أصحابه أيام حياته ، وبين سيرة أمير المؤمنين عليه السلام وسياسة أصحابه أيام حياته ، فكما أن عليا عليه السلام لم يزل أمره مضطربا معهم بالمخالفة والعصيان والهرب إلى أعدائه ، وكثرة الفتن والحروب ، فكذلك كان النبي صلى الله عليه وآله لم يزل ممنوا بنفاق المنافقين وأذاهم ، وخلاف أصحابه عليه وهرب بعضهم إلى أعدائه ، وكثرة الحروب والفتن .
وكان يقول : ألست ترى القرآن العزيز مملوءا بذكر المنافقين والشكوى منهم ، والتألم من أذاهم له ، كما أن كلام على عليه السلام مملوء بالشكوى من منافقي أصحابه والتألم من أذاهم له ، والتوائهم عليه ! وذلك نحو قوله تعالى : (ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالاثم والعدوان ومعصية الرسول وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير) (2) .
وقوله : (إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا ...
) (3) الاية .
وقوله تعالى : (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله ، والله يعلم إنك
__________
(1) سورة النساء 105 .
(2) سورة المجادلة 8 .
(3) سورة المجادلة 10 (*) .(10/214)
لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون * اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون ...
) السورة بأجمعها (1) .
وقوله تعالى : (ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم) (2) .
وقوله تعالى : (رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشى عليه من الموت فأولى لهم طاعة وقول معروف فإذا عزم الامر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم) (3) .
وقوله تعالى : (أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم * ولو نشاء لاريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم) (4) .
وقوله تعالى : (سيقول لك المخلفون من الاعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا * بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا) (5) .
وقوله تعالى : (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل
__________
(1) سورة المنافقين .
(2) سورة محمد 16 .
(3) سورة محمد 20 .
(4) سورة محمد 29 ، 30 .
(5) سورة الفتح 11 ، 12 (*) .(10/215)
فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا) (1) .
وقوله : (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون * ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم) (2) .
قال : وأصحابه هم الذين نازعوا في الانفال وطلبوها لانفسهم ، حتى أنزل الله تعالى : (قل الانفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين) (3) .
وهم الذين التووا عليه في الحرب يوم بدر ، وكرهوا لقاء العدو حتى خيف خذلانهم ، وذلك قبل أن تتراءى الفئتان ، وأنزل فيهم : (يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون .
(4) وهم الذين كانوا يتمنون لقاء العير دون لقاء العدو ، حتى إنهم ظفروا برجلين في الطريق ، فسألوهما عن العير ، فقالا لاعلم لنا بها ، وإنما رأينا جيش قريش من وراء ذلك الكثيب ، فضربوهما ورسول الله صلى الله عليه وآله قائم يصلى ، فلما ذاقا مس الضرب قالا : بل العير أمامكم فاطلبوها ، فلما رفعوا الضرب عنهما ، قالا : والله ما رأينا العير ولا رأينا إلا الخيل والسلاح والجيش ، فأعادوا الضرب عليهما مرة ثانية ، فقالا وهما يضربان : العير أمامكم ، فخلوا عنا ، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وآله من الصلاة ، وقال : إذا صدقاكم ضربتموهما ، وإذا كذباكم خليتم عنهما ! دعوهما ، فما رأيا إلا جيش أهل مكة ، وأنزل قوله تعالى : (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع
__________
(1) سورة الفتح 15 .
(2) سورة الحجرات 4 ، 5 .
(3) سورة الانفال 1 .
(4) سورة الانفال 6 (*) .(10/216)
دابر الكافرين) (1) .
قال المفسرون : الطائفتان : العير ذات اللطيمة الواصلة إلى مكة من الشام صحبة أبى سفيان بن حرب ، وإليها كان خروج المسلمين ، والاخرى الجيش ذو الشوكة ، وكان عليه السلام قد وعدهم بإحدى الطائفتين ، فكرهوا الحرب ، وأحبوا الغنيمة .
قال : وهم الذين فروا عنه صلى الله عليه وآله يوم أحد ، وأسلموه وأصعدوا في الجبل ، وتركوه حتى شج الاعداء وجهه ، وكسروا ثنيته ، وضربوه على بيضته ، حتى دخل جماجمه ، ووقع من فرسه إلى الارض بين القتلى ، وهو يستصرخ بهم ، ويدعوهم فلا يجيبه أحد منهم إلا من كان جاريا مجرى نفسه ، وشديد الاختصاص به ، وذلك قوله تعالى : (إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم) (2) أي ينادى فيسمع نداءه آخر الهاربين لا أولهم ، لان أولهم أو غلوا في الفرار ، وبعدوا عن أن يسمعوا صوته ، وكان قصارى الامر أن يبلغ صوته واستصراخه من كان على ساقة الهاربين منهم .
قال : ومنهم الذين عصوا أمره في ذلك اليوم ، حيث أقامهم على الشعب في الجبل ، وهو الموضع الذى خاف أن تكر عليه منه خيل العدو من ورائه ، وهم أصحاب عبد الله ابن جبير ، فإنهم خالفوا أمره وعصوه فيما تقدم به إليهم ، ورغبوا في الغنيمة ، ففارقوا مركزهم : حتى دخل الوهن على الاسلام بطريقهم ، لان خالد بن الوليد كر في عصابة من الخيل ، فدخل من الشعب الذى كانوا يحرسونه ، فما أحس المسلمون بهم إلا وقد غشوهم بالسيوف من خلفهم ، فكانت الهزيمة ، وذلك قوله تعالى : (حتى إذا فشلتم
__________
(1) سورة الانفال 7 .
(2) سورة آل عمران 351 (*) .(10/217)
وتنازعتم في الامر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الاخرة) (1) .
قال : وهم الذين عصوا أمره في غزاة تبوك ، بعد أن أكد عليهم الاوامر ، وخذلوه وتركوه ولم يشخصوا معه ، فأنزل فيهم : (يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الارض أرضيتم بالحياة الدنيا من الاخرة فما متاع الحياة الدنيا في الاخرة إلا قليل * إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شئ قدير) (2) ، وهذه الاية خطاب مع المؤمنين لا مع المنافقين ، وفيها أوضح دليل على أن أصحابه وأولياءه المصدقين لدعوته كانوا يعصونه ، ويخالفون أمره ، وأكد عتابهم وتقريعهم وتوبيخهم بقوله تعالى : (لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون) (3) .
ثم عاتب رسول الله صلى الله عليه وآله على كونه أذن لهم في التخلف ، وإنما أذن لهم لعلمه أنهم لا يجيبونه في الخروج ، فرأى أن يجعل المنة له عليهم في الاذن لهم ، وإلا قعدوا عنه ولم تصل له المنة ، فقال له : (عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين) (4) ، أي هلا أمسكت عن الاذن لهم حتى يتبين لك قعود من يقعد ، وخروج من يخرج ، صادقهم من كاذبهم ! لانهم كانوا قد وعدوه بالخروج معه كلهم ، وكان بعضهم ينوى الغدر ، وبعضهم يعزم على أن يخيس (5) بذلك الوعد ، فلو لم يأذن لهم لعلم من يتخلف ومن لا يتخلف ، فعرف الصادق منهم والكاذب .
__________
(1) سورة آل عمران 152 .
(2) سورة التوبة 38 ، 39 .
(3) سورة التوبة 42 .
(4) سورة التوبة 43 .
(5) يخيس : يغدر (*) .(10/218)
ثم بين سبحانه وتعالى أن الذين يستأذنونه في التخلف خارجون من الايمان ، فقال له : (لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الاخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين * إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الاخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون) (1) .
ولا حاجة إلى التطويل بذكر الايات المفصلة فيما يناسب هذا المعنى ، فمن تأمل الكتاب العزيز علم حاله صلوات الله عليه مع أصحابه كيف كانت ، ولم ينقله الله تعالى إلى جواره إلا وهو مع المنافقين له والمظهرين خلاف ما يضمرون من تصديقه في جهاد شديد ، حتى لقد كاشفوه مرارا ، فقال : لهم يوم الحديبية احلقوا وانحروا ...
مرارا ، فلم يحلقوا ولم ينحروا ، ولم يتحرك أحد منهم عند قوله ، وقال له بعضهم وهو يقسم الغنائم : (إعدل يا محمد فإنك لم تعدل) .
وقالت الانصار له مواجهة يوم حنين : أتأخذ ما أفاء الله علينا بسيوفنا فتدفعه إلى أقاربك من أهل مكة ! حتى أفضى الامر إلى أن قال لهم في مرض موته : (ائتونى بدواة وكتف أكتب لكم مالا تضلون بعده) ، فعصوه ولم يأتوه بذلك ، وليتهم اقتصروا على عصيانه ولم يقولوا له ما قالوا ، وهو يسمع .
وكان أبو جعفر رحمه الله يقول من هذا ما يطول شرحه ، والقليل منه ينبئ عن الكثير ، وكان يقول : إن الاسلام ماحلا عندهم ولا ثبت في قلوبهم إلا بعد موته ، حين فتحت عليهم الفتوح ، وجاءتهم الغنائم والاموال ، وكثرت عليهم المكاسب ، وذاقوا طعم الحياة ، وعرفوا لذة الدنيا ، ولبسوا الناعم ، وأكلوا الطيب ، وتمتعوا بنساء الروم ، وملكوا خزائن كسرى ، وتبدلوا بذلك القشف والشظف والعيش الخشن وأكل الضباب والقنافذ
__________
(1) سورة التوبة 44 ، 45 (*) .(10/219)
واليرابيع ولبس الصوف والكرابيس (1) ، وأكل اللوزينجات والفالوذجات ولبس الحرير والديباج ، فاستدلوا بما فتحه الله عليهم وأتاحه لهم على صحة الدعوة ، وصدق الرسالة ، وقد كان صلى الله عليه وآله وعدهم بأنه سيفتح عليهم كنوز كسرى وقيصر ، فلما وجدوا الامر قد وقع بموجب ما قاله عظموه وبجلوه ، وانقلبت تلك الشكوك وذاك النفاق وذلك الاستهزاء إيمانا ويقينا وإخلاصا ، وطاب لهم العيش ، وتمسكوا بالدين ، لانه زادهم طريقا إلى نيل الدنيا ، فعظموا ناموسه ، وبالغوا في إجلاله وإجلال الرسول الذى جاء به ، ثم انقرض الاسلاف وجاء الاخلاف على عقيدة ممهدة ، وأمر أخذوه تقليدا من أسلافهم الذين ربوا في حجورهم ، ثم انقرض ذلك القرن ، وجاء من بعدهم كذلك وهلم جرا .
قال : ولولا الفتوح والنصر والظفر الذى منحهم الله تعالى إياه ، والدولة التى ساقها إليهم ، لانقرض دين الاسلام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله ، وكان يذكر في التواريخ ، كما تذكر الان نبوة خالد بن سنان العبسى ، حيث ظهر ودعا إلى الدين .
وكان الناس يعجبون من ذلك ويتذاكرونه كما يعجبون ويتذاكرون أخبار من نبغ من الرؤساء والملوك والدعاة الذين انقرض أمرهم ، وبقيت أخبارهم .
وكان يقول : من تأمل حال الرجلين وجدهما متشابهتين في جميع أمورهما أو في أكثرها ، وذلك لان حرب رسول الله صلى الله عليه وآله مع المشركين كانت سجالا ، انتصر يوم بدر ، وانتصر المشركون عليه يوم أحد ، وكان يوم الخندق كفافا خرج هو وهم سواء ، لا عليه ولا له ، لانهم قتلوا رئيس الاوس وهو سعد بن معاذ ، وقتل منهم فارس قريش وهو عمرو بن عبد ود ، وانصرفوا عنه بغير حرب بعد تلك الساعة التى كانت ، ثم حارب بعدها قريشا يوم الفتح ، فكان الظفر له .
وهكذا كانت حروب على عليه السلام ، انتصر يوم الجمل ، وخرج الامر بينه وبين
__________
(1) الكرابيس : جمع كرباس ، وهو الثوب من القطن الابيض (*) .(10/220)
معاوية على سواء ، قتل من أصحابه رؤساء ، ومن أصحاب معاوية رؤساء ، وانصرف كل واحد من الفريقين عن صاحبه بعد الحرب على مكانه ، ثم حارب بعد صفين أهل النهروان ، فكان الظفر له .
قال : ومن العجب أن أول حروب رسول الله صلى الله عليه وآله كانت بدرا ، وكان هو المنصور فيها ، وأول حروب على عليه السلام الجمل ، وكان هو المنصور فيها ، ثم كان من صحيفة الصلح والحكومة يوم صفين نظير ما كان من صحيفة الصلح والهدنة يوم الحديبية .
ثم دعا معاوية في آخر أيام على عليه السلام إلى نفسه وتسمى بالخلافة ، كما أن مسيلمة والاسود العنسى دعوا إلى أنفسهما في آخر أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وتسميا بالنبوة ، واشتد على علي عليه السلام ذلك ، كما اشتد على رسول الله صلى الله عليه وآله أمر الاسود ومسيلمة ، وأبطل الله أمرهما بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله ، وكذلك أبطل أمر معاوية وبنى أمية بعد وفاة على عليه السلام .
ولم يحارب رسول الله صلى الله عليه وآله أحد من العرب إلا قريش ما عدا يوم حنين ، ولم يحارب عليا عليه السلام من العرب أحد إلا قريش ما عدا يوم النهروان ، ومات على عليه السلام شهيدا بالسيف ، ومات رسول الله صلى الله عليه وآله شهيدا بالسم ، وهذا لم يتزوج على خديجة أم أولاده حتى ماتت ، وهذا لم يتزوج على فاطمة أم أشرف أولاده حتى ماتت .
ومات رسول الله صلى الله عليه وآله عن ثلاث وستين سنه ، ومات على عليه السلام عن مثلها .
وكان يقول : انظروا إلى أخلاقهما وخصائصهما ، هذا شجاع وهذا شجاع ، وهذا فصيح وهذا فصيح ، وهذا سخى جواد وهذا سخى جواد ، وهذا عالم بالشرائع والامور الالهية ، وهذا عالم بالفقة والشريعة والامور الالهية الغامضة ، وهذا زاهد في الدنيا غير نهم ولا مستكثر منها ، وهذا زاهد في الدنيا تارك لها غير متمتع بلذاتها .
وهذا مذيب (1) نفسه في الصلاة والعبادة ، وهذا مثله .
وهذا غير محبب إليه شئ من الامور العاجلة
__________
(1) آ : (مدئب) (*) .(10/221)
إلا النساء ، وهذا مثله ، وهذا ابن عبد المطلب بن هاشم ، وهذا في قعدده (1) ، وأبواهما أخوان لاب واحد دون غيرهما من بنى عبد المطلب ، وربى محمد صلى الله عليه وآله في حجر والد هذا وهو أبو طالب ، فكان جاريا عنده مجرى أحد أولاده .
ثم لما شب صلى الله عليه وآله وكبر استخلصه من بنى أبى طالب وهو غلام ، فرباه في حجره مكافأة لصنيع أبى طالب به ، فامتزج الخلقان ، وتماثلت السجيتان ، وإذا كان القرين مقتديا بالقرين ، فما ظنك بالتربية والتثقيف الدهر الطويل ! فواجب أن تكون أخلاق محمد صلى الله عليه وآله كأخلاق أبى طالب ، وتكون أخلاق على عليه السلام كأخلاق أبى طالب أبيه ، ومحمد عليه السلام مربيه ، وأن يكون الكل شيمة واحدة وسوسا (2) واحدا ، وطينة مشتركة ، ونفسا غير منقسمة ولا متجزئة ، وألا يكون بين بعض هؤلاء وبعض فرق ولا فضل ، لولا أن الله تعالى اختص محمدا صلى الله عليه وآله برسالته ، واصطفاه لوحيه ، لما يعلمه من مصالح البرية في ذلك ، ومن أن اللطف به أكمل ، والنفع بمكانه أتم وأعم ، فامتاز رسول الله صلى الله عليه وآله بذلك عمن سواه ، وبقى ما عدا الرسالة على أمر الاتحاد ، وإلى هذا المعنى أشار صلى الله عليه وآله بقوله : (أخصمك (3) بالنبوة فلا نبوة بعدى ، وتخصم الناس بسبع) ، وقال له أيضا : (أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبى بعدى) ، فأبان نفسه منه بالنبوة ، وأثبت له ما عداها من جميع الفضائل والخصائص مشتركا بينهما .
وكان النقيب أبو جعفر رحمه الله ، غزير العلم ، صحيح العقل ، منصفا في الجدال ، غير متعصب للمذهب ، - وإن كان علويا - وكان يعترف بفضائل الصحابة ، ويثنى على الشيخين .
ويقول : إنهما مهدا دين الاسلام ، وأرسيا قواعده ، ولقد كان شديد الاضطراب في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله ، وإنما مهداه بما تيسر للعرب من الفتوح والغنائم في دولتهما .
وكان يقول في عثمان : إن الدولة في أيامه كانت على إقبالها وعلو جدها ، بل كانت الفتوح في أيامه أكثر ، والغنائم أعظم ، لولا أنه لم يراع ناموس الشيخين ، ولم يستطع أن يسلك (1) القعدد : القريب الاباء من الجد الاعلى .
(2) أي أصلا واحدا .
(3) أخصمك : أغلبك (*) .(10/222)
مسلكهما ، وكان مضعفا في أصل القاعدة ، مغلوبا عليه ، وكثير الحب لاهله ، وأتيح له من مروان وزير سوء أفسد القلوب عليه ، وحمل الناس على خلعه وقتله .
(كلام أبى جعفر الحسنى في الاسباب التى أوجبت محبة الناس لعلي) وكان أبو جعفر رحمه الله لا يجحد الفاضل فضله ، والحديث شجون .
قلت له مرة : ما سبب حب الناس لعلى بن أبى طالب عليه السلام ، وعشقهم له ، وتهالكهم في هواه ؟ ودعني في الجواب من حديث الشجاعة والعلم والفصاحة ، وغير ذلك من الخصائص التى رزقه الله سبحانه الكثير الطيب منها ! .
فضحك وقال لى : كم تجمع جراميزك على ! .
ثم قال : هاهنا مقدمة ينبغى أن تعلم ، وهى أن أكثر الناس موتورون من الدنيا ، أما المستحقون فلا ريب في أن أكثرهم محرومون ، نحو عالم يرى أنه لا حظ له في الدنيا ، ويرى جاهلا غيره مرزوقا وموسعا عليه .
وشجاع قد أبلى في الحرب ، وانتفع بموضعه ، ليس له عطاء يكفيه ، ويقوم بضروراته ، ويرى غيره وهو جبان فشل ، يفرق من ظله ، مالكا لقطر عظيم من الدنيا ، وقطعة وافرة من المال والرزق ، وعاقل سديد التدبير ، صحيح العقل ، قد قدر (1) عليه رزقه ، وهو يرى غيره أحمق مائقا تدر عليه الخيرات ، وتتحلب عليه أخلاف الرزق .
وذى دين قويم ، وعبادة حسنة ، وإخلاص وتوحيد ، وهو محروم ضيق الرزق ، ويرى غيره يهوديا أو نصرانيا أو زنديقا ، كثير المال حسن الحال ، حتى إن هذه الطبقات المستحقة يحتاجون في أكثر الوقت إلى الطبقات التى لا استحقاق
__________
(1) قدر عليه رزقه : ضيق (*) .(10/223)
لها ، وتدعوهم الضرورة إلى الذل لهم ، والخضوع بين أيديهم .
إما لدفع ضرر ، أو لاستجلاب نفع ، ودون هذه الطبقات من ذوى الاستحقاق أيضا ، ما نشاهده عيانا من نجار حاذق أو بناء عالم ، أو نقاش بارع ، أو مصور لطيف ، على غاية ما يكون من ضيق رزقهم ، وقعود الوقت بهم ، وقلة الحيلة لهم ، ويرى غيرهم ممن ليس يجرى مجراهم ، ولا يلحق طبقتهم ، مرزوقا مرغوبا فيه ، كثير المكسب طيب العيش ، واسع الرزق .
فهذا حال ذوى الاستحقاق والاستعداد .
وأما الذين ليسوا من أهل الفضائل ، كحشو العامة ، فإنهم أيضا لا يخلون من الحقد على الدنيا والذم لها ، والحنق والغيظ منها لما يلحقهم من حسد أمثالهم وجيرانهم ، ولا يرى أحد منهم قانعا بعيشه ، ولا راضيا بحاله ، بل يستزيد ويطلب حالا فوق حاله .
قال : فإذا عرفت هذه المقدمة ، فمعلوم أن عليا عليه السلام كان مستحقا محروما ، بل هو أمير المستحقين المحرومين ، وسيدهم وكبيرهم ، ومعلوم أن الذين ينالهم الضيم ، وتلحقهم المذلة والهضيمة ، يتعصب بعضهم لبعض ، ويكونون إلبا ويدا واحدة على المرزوقين الذين ظفروا بالدنيا ، ونالوا مأربهم منها ، لاشتراكهم في الامر الذى آلمهم وساءهم ، وعضهم ومضهم ، واشتراكهم في الانفة والحمية والغضب والمنافسة لمن علا عليهم ، وقهرهم ، وبلغ من الدنيا ما لم يبلغوه ، فإذا كان هؤلاء - أعنى المحرومين - متساوين في المنزلة والمرتبة ، وتعصب بعضهم لبعض ، فما ظنك بما إذا كان منهم رجل عظيم القدر جليل الخطر كامل الشرف ، جامع للفضائل محتو على الخصائص والمناقب ، وهو مع ذلك محروم محدود ، وقد جرعته الدنيا علاقمها ، وعلته عللا بعد نهل من صابها وصبرها ، ولقى منها برحا بارحا ، وجهدا جهيدا ، وعلا عليه من هو دونه ، وحكم فيه وفى بنيه وأهله ورهطه من لم يكن ما ناله من الامرة والسلطان في حسابه ، ولا دائرا في خلده ، ولا خاطرا بباله ، ولا كان أحد من الناس يرتقب ذلك له ولا يراه له .
ثم كان في آخر الامر أن قتل هذا الرجل الجليل في (*)(10/224)
محرابه ، وقتل بنوه بعده ، وسبى حريمه ونساؤه ، وتتبع أهله وبنو عمه بالقتل والطرد والتشريد والسجون ، مع فضلهم وزهدهم وعبادتهم وسخائهم ، وانتفاع الخلق بهم .
فهل يمكن ألا يتعصب البشر كلهم مع هذا الشخص ! وهل تستطيع القلوب ألا تحبه وتهواه ، وتذوب فيه وتفنى في عشقه ، انتصارا له ، وحمية من أجله ، وأنفة مما ناله ، وامتعاضا مما جرى عليه ! وهذا أمر مركوز في الطبائع ، ومخلوق في الغرائز ، كما يشاهد الناس على الجرف إنسانا قد وقع في الماء العميق ، وهو لا يحسن السباحة ، فإنهم بالطبع البشرى يرقون عليه رقة شديدة ، وقد يلقى قوم منهم أنفسهم في الماء نحوه ، يطلبون تخليصه ، لا يتوقعون على ذلك مجازاة منه بمال أو شكر ، ولا ثوابا في الاخرة ، فقد يكون منهم من لا يعتقد أمر الاخرة ، ولكنها رقة بشرية ، وكأن الواحد منهم يتخيل في نفسه أنه ذلك الغريق ، فكما يطلب خلاص نفسه لو كان هذا الغريق ، كذلك يطلب تخليص من هو في تلك الحال الصعبة ، للمشاركه الجنسية .
وكذلك لو أن ملكا ظلم أهل بلد من بلاده ظلما عنيفا ، لكان أهل ذلك البلد يتعصب بعضهم لبعض في الانتصار من ذلك الملك ، والاستعداء عليه ، فلو كان من جملتهم رجل عظيم القدر ، جليل الشأن ، قد ظلمه الملك أكثر من ظلمه إياهم ، وأخذ أمواله وضياعه ، وقتل أولاده وأهله ، كان لياذهم به ، وانضواؤهم إليه ، واجتماعهم والتفافهم به أعظم وأعظم ، لان الطبيعة البشرية تدعو إلى ذلك على سبيل الايجاب الاضطراري ، ولا يستطيع الانسان منه امتناعا .
محصول قول النقيب أبى جعفر رحمه الله ، قد حكيته والالفاظ لى والمعنى له ، لانى لا أحفظ الان ألفاظه بعينها ، إلا أن هذا هو كان معنى قوله وفحواه ، رحمه الله .
وكان لا يعتقد في الصحابة ما يعتقده أكثر الامامية فيهم ، ويسفه رأى من يذهب فيهم إلى النفاق والتكفير .
وكان يقول : حكمهم حكم مسلم مؤمن ، عصى في بعض الافعال وخالف الامر ، فحكمه إلى الله ، إن شاء آخذه ، وإن شاء غفر له (*) .(10/225)
قلت له مرة : افتقول إنهما من أهل الجنة ؟ فقال : إى والله ! أعتقد ذلك ، لانهما إما أن يعفو الله تعالى عنهما ابتداء ، إو بشفاعة الرسول صلى الله عليه وآله ، أو بشفاعة على عليه السلام ، أو يؤاخذهما بعقاب أو عتاب ثم ينقلهما إلى الجنة ، لا أستريب في ذلك أصلا ، ولا أشك في إيمانهما برسول الله صلى الله عليه وآله وصحة عقيدتهما .
فقلت له : فعثمان ؟ قال : وكذلك عثمان .
ثم قال : رحم الله عثمان ! وهل كان إلا واحدا منا ، وغصنا من شجرة عبد مناف ! ولكن أهله كدروه علينا ، وأوقعوا العداوة والبغضاء بينه وبيننا .
قلت له : فيلزمك (1) على ما تراه في أمر هؤلاء أن تجوز دخول معاوية الجنة ، لانه لم تكن منه إلا المخالفة وترك امتثال الامر النبوى ! .
فقال : كلا ، إن معاوية من أهل النار ، لا لمخالفته عليا ، ولا بمحاربته إياه ، ولكن عقيدته لم تكن صحيحة ، ولا إيمانه حقا ، وكان من رؤوس المنافقين هو وإبوه ، ولم يسلم قلبه قط ، وإنما أسلم لسانه ، وكان يذكر من حديث معاوية ومن فلتات قوله ، وما حفظ عنه من كلام يقتضى فساد العقيدة شيئا كثيرا ، ليس هذا موضعه فأذكره .
وقال لى مرة : حاش لله أن يثبت معاوية في جريدة الشيخين الفاضلين أبى بكر وعمر ! والله ما هما إلا كالذهب الابريز ، ولا معاوية إلا كالدرهم الزائف ، - أو قال : كالدرهم القسى (2) - ثم قال لى : فما يقول أصحابكم فيهما ؟ قلت : أما الذى استقر عليه رأى المعتزلة بعد اختلاف كثير بين قدمائهم في التفضيل وغيره ، أن عليا عليه السلام أفضل الجماعة ، وأنهم تركوا الافضل لمصلحة رأوها ، وأنه لم يكن هناك نص يقطع العذر ، وإنما كانت إشارة وإيماء لا يتضمن شئ منها صريح النص ، وإن عليا عليه السلام نازع ثم بايع ،
__________
(1) ب : (فيلزم لك) .
(2) درهم قسى ، وتخفف سينه ، أي ردئ (*) .(10/226)
وجمح ثم استجاب .
ولو أقام على الامتناع لم نقل بصحة البيعة ولا بلزومها ، ولو جرد السيف كما جرده في آخر الامر لقلنا بفسق كل من خالفه على الاطلاق ، كائنا من كان ، ولكنه رضى بالبيعة أخيرا ، ودخل في الطاعة .
وبالجملة ، أصحابنا يقولون : إن الامر كان له ، وكان هو المستحق والمتعين ، فإن شاء أخذه لنفسه ، وإن شاء ولاه غيره ، فلما رأيناه قد وافق على ولاية غيره ، اتبعناه ورضينا بما رضى ، فقال : فبقى بينى وبينكم قليل ، أنا أذهب إلى النص وأنتم لا تذهبون إليه ! .
فقلت له : إنه لم يثبت النص عندنا بطريق يوجب العلم ، وما تذكرونه أنتم صريحا فأنتم تنفردون بنقله ، وما عدا ذلك من الاخبار التى نشارككم فيها ، فلها تأويلات معلومة .
فقال لى وهو ضجر : يا فلان ، لو فتحنا باب التأويلات ، لجاز أن يتناول قولنا : (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ، دعني من التأويلات الباردة التى تعلم القلوب والنفوس أنها غير مرادة ، وأن المتكلمين تكلفوها وتعسفوها ، فإنما أنا وأنت في الدار ولا ثالث لنا ، فيستحيى أحدنا من صاحبه ويخافه .
فلما بلغنا إلى هذا الموضع ، دخل قوم ممن كان يخشاه ، فتركنا ذلك الاسلوب من الحديث ، وخضنا في غيره .
(سياسة علي ومعاوية وإيراد كلام للجاحظ في ذلك) فأما القول في سياسة معاوية ، وأن شنأة على عليه السلام ومبغضية زعموا أنها خير من سياسة أمير المؤمنين ، فيكفينا في الكلام على ذلك ماقاله شيخنا أبو عثمان ، ونحن نحكيه بألفاظه (*) .(10/227)
قال أبو عثمان : وربما رأيت بعض من يظن بنفسه العقل والتحصيل والفهم والتمييز - وهو من العامة ويظن أنه من الخاصة - يزعم أن معاوية كان أبعد غورا ، وأصح فكرا ، وأجود روية ، وأبعد غاية ، وأدق مسلكا ، وليس الامر كذلك ، وسأرمى إليك بجملة تعرف بها موضع غلطه ، والمكان الذى دخل عليه الخطا من قبله .
كان على عليه السلام لا يستعمل في حربه إلا ما وافق الكتاب والسنة ، وكان معاوية يستعمل خلاف الكتاب والسنة ، كما يستعمل الكتاب والسنة ، ويستعمل جميع المكايد ، حلالها وحرامها ، ويسير في الحرب بسيرة ملك الهند إذا لاقى كسرى ، وخاقان إذا لاقى رتبيل (1) ، وعلى عليه السلام يقول : لا تبدءوهم بالقتال حتى يبدءوكم ، ولا تتبعوا مدبرا ، ولا تجهزوا على جريح ، ولا تفتحوا بابا مغلقا ، هذه سيرته في ذى الكلاع ، وفى أبى الاعور السلمى ، وفى عمرو بن العاص ، وحبيب بن مسلمة ، وفى جميع الرؤساء ، كسيرته في الحاشية والحشو والاتباع والسفلة وأصحاب الحروب ، إن قدروا على البيات بيتوا ، وإن قدروا على رضخ الجميع بالجندل وهم نيام فعلوا ، وإن أمكن ذلك في طرفة عين لم يؤخروه إلى ساعة ، وإن كان الحرق أعجل من الغرق لم يقتصروا على الغرق ولم يؤخروا الحرق إلى وقت الغرق ، وإن أمكن الهدم لم يتكلفوا الحصار ، ولم يدعوا أن نصبوا المجانيق (2) ، والعرادات (3) ، والنقب ، والتسريب ، والدبابات (4) ، والكمين (5) ، ولم يدعوا دس السموم ، ولا التضريب بين الناس بالكذب وطرح
__________
(1) رتبيل : صاحب الترك .
(2) المنجنيق : آله ترمى بها الحجارة .
(3) العرادات : جمع عرادة ، وهى من آلات الحرب ، ترمى بالحجارة المرمى البعيد ، إلا أنها أصغر من المنجنيق .
(4) الدبابة : آله تتخذ في الحصار ، يدخل في جوفها الرجال ثم تدفع في أصل الحصن ، قينقبونه وهم في جوفها ، وجملها دبابات .
(5) الكمين : القوم يكمنون في الحرب حيلة ، وهو أن يستخفوا في مكمن ، بحيث لا يفطن لهم ثم ينتهزوا غرة العدو فينهضوا عليهم (*) .(10/228)
الكتب في عساكرهم بالسعايات ، وتوهيم الامور ، وإيجاش بعض من بعض ، وقتلهم بكل آله وحيلة ، كيف وقع القتل ، وكيف دارت بهم الحال ! فمن اقتصر - حفظك الله - من التدبير على ما في الكتاب والسنة كان قد منع نفسه الطويل العريض من التدبير ، وما لا يتناهى من المكايد والكذب - حفظك الله - أكثر من الصدق ، والحرام أكثر عددا من الحلال ، ولو سمى إنسان إنسانا باسمه لكان قد صدق ، وليس له اسم غيره ، ولو قال : هو شيطان أو كلب أو حمار أو شاة أو بعير أو كل ما خطر على البال ، لكان كاذبا في ذلك ، وكذلك الايمان والكفر ، وكذلك الطاعة والمعصية ، وكذلك الحق والباطل ، وكذلك السقم والصحة ، وكذلك الخطأ والصواب ، فعلى عليه السلام كان ملجما بالورع عن جميع القول إلا ما هو لله عزوجل رضا ، وممنوع اليدين من من كل بطش إلا ما هو لله رضا ، ولا يرى الرضا إلا فيما يرضاه الله ويحبه ، ولا يرى الرضا إلا فيما دل عليه الكتاب والسنة ، دون ما يعول عليه أصحاب الدهاء والنكراء (1) والمكايد والاراء ، فلما أبصرت العوام كثرة نوادر معاوية في المكايد ، وكثرة غرائبه في الخداع ، وما اتفق له وتهيأ على يده ، ولم يرو ذلك من على عليه السلام ، ظنوا بقصر عقولهم ، وقلة علومهم ، أن ذلك من رجحان عند معاوية ونقصان عند على عليه السلام ، فانظر بعد هذا كله ، هل يعد له من الخدع إلا رفع المصاحف ! ثم انظر هل خدع بها إلا من عصى رأى على عليه السلام وخالف أمره .
! فإن زعمت أنه قال ما أراد من الاختلاف فقد صدقت ، وليس في هذا اختلفنا ، ولا عن غرارة أصحاب على عليه السلام وعجلتهم وتسرعهم وتنازعهم دفعنا ، وإنما كان قولنا في التميز بينهما في الدهاء والنكراء وصحة العقل والرأى والبزلاء (2) ، على أنا لا نصف الصالحين
__________
(1) النكراء : الدهاء والفطنة .
(2) يقال : خطة بزلاء ، أي تفصل بين الحق والباطل (*) .(10/229)
بالدهاء والنكراء ، لانقول : ماكان أنكر أبا بكر بن أبى قحافة ! وما كان أنكر عمر بن الخطاب ! ولا يقول أحد عنده شئ من الخير : كان رسول الله صلى الله عليه وآله أدهى العرب والعجم وأنكر قريش وأمكر كنانة ، لان هذه الكلمة إنما وضعت في مديح أصحاب الارب ومن يتعمق في الرأى في توكيد أمر الدنيا وزبرجها وتشديد أركانها ، فأما أصحاب الاخرة الذين يرون الناس لا يصلحون على تدبير البشر ، وإنما يصلحون على تدبير خالق البشر ، فإن هؤلاء لا يمدحون بالدهاء والنكراء ، ولم يمنعوا هذا إلا ليعطوا أفضل منه .
ألا ترى أن المغيرة بن شعبة - وكان أحد الدهاة - حين رد على عمرو بن العاص قوله في عمر بن الخطاب - وعمرو بن العاص أحد الدهاة أيضا : أأنت كنت تفعل ، أو توهم عمر شيئا فيلقنه عنك ! ما رأيت عمر مستخليا بأحد إلا رحمته كائنا من كان ذلك الرجل ، كان عمر والله أعقل من أن يخدع ، وأفضل من أن يخدع .
ولم يذكره بالدهاء والنكراء ، هذا مع عجبه بإضافة الناس ذلك إليه ، ولكنه قد علم أنه إذا أطلق على الائمة الالفاظ التى لا تصلح في أهل الطهارة ، كان ذلك غير مقبول منه ، فهذا هذا .
وكذلك كان حكم قول معاوية للجميع : أخرجوا إلينا قتلة عثمان ، ونحن لكم سلم .
فاجهد كل جهدك ، واستعن بمن شايعك إلى أن تتخلص إلى صواب رأى في ذلك الوقت أضله على ، حتى تعلم أن معاوية خادع ، وأن عليا عليه السلام كان المخدوع .
فإن قلت : فقد بلغ ما أراد ، ونال ما أحب ، فهل رأيت كتابنا وضع إلا على أن عليا كان قد امتحن في أصحابه وفى دهره ، بما لم يمتحن إمام قبله من الاختلاف والمنازعة ، والتشاح من الرياسة والتسرع والعجلة ، ! وهل أتى عليه السلام إلا من هذا المكان ! أو لسنا قد فرغنا من هذا الامر ، وقد علمنا أن ثلاثة نفر تواطئوا على قتل ثلاثة نفر ، فانفرد ابن ملجم(10/230)
بالتماس ذلك من على عليه السلام ، وانفرد البرك الصريمى بالتماس ذلك من عمرو بن العاص ، وانفرد الاخر - وهو عمرو بن بكر التميمي - بالتماس ذلك من معاوية ، فكان من الاتفاق أو من الامتحان ، أن كان علي من بينهم هو المقتول .
وفى قياس مذهبكم أن تزعموا أن سلامة عمرو ومعاوية إنما كانت بحزم منهما وأن قتل على عليه السلام إنما هو من تضييع منه ، فإذ قد تبين لكم أنه من الابتلاء والامتحان في نفسه بخلاف الذى قد شاهدتموه في عدوه ، فكل شئ سوى ذلك ، فإنما هو تبع للنفس .
هذا آخر كلام أبى عثمان في هذا الموضع ، ومن تأمله بعين الانصاف ، ولم يتبع الهوى علم صحة جميع ما ذكره ، وأن أمير المؤمنين دفع - من اختلاف أصحابه ، وسوء طاعتهم له ، ولزومه سنن الشريعة ، ومنهج العدل ، وخروج معاوية وعمرو بن العاص عن قاعدة الشرع في استمالة الناس إليهم بالرغبة والرهبة - إلى ما لم يدفع إليه غيره .
فلولا أنه عليه السلام كان عارفا بوجوه السياسة وتدبير أمر السلطان والخلافة ، حاذقا في ذلك ، لم يجتمع عليه إلا القليل من الناس ، وهم أهل الاخرة خاصة ، الذين لا ميل لهم إلى الدنيا ، فلما وجدناه دبر الامر حين وليه ، واجتمع عليه من العساكر والاتباع ما يتجاوز العد والحصر ، وقاتل بهم أعداءه الذين حالهم حالهم ، فظفر في أكثر حروبه ، ووقف الامر بينه وبين معاوية على سواء ، وكان هو الاظهر والاقرب إلى الانتصار - علمنا أنه من معرفة تدبير الدول والسلطان بمكان مكين (*)(10/231)
(ذكر أقوال من طعن في سياسة علي والرد عليها) وقد تعلق من طعن في سياسته بأمور : منها قولهم : لو كان حين بويع له بالخلافة في المدينة أقر معاوية على الشام إلى أن يستقر الامر له ويتوطد ، ويبايعه معاوية وأهل الشام ثم يعزله بعد ذلك ، لكان قد كفى ما جرى بينهما من الحرب .
والجواب : أن قرائن الاحوال حينئذ ، قد كان علم أمير المؤمنين عليه السلام منها أن معاوية لا يبايع له وإن أقره على ولاية الشام ، بل كان إقراره له على إمرة الشام أقوى لحال معاوية ، وآكد في الامتناع من البيعة ، لانه لا يخلو صاحب السؤال إما أن يقول : كان ينبغى أن يطالبه بالبيعة ويقرن إلى ذلك تقليده بالشام ، فيكون الامران معا ، أو يتقدم منه إقراره على الشام وتتأخر المطالبة بالبيعة إلى وقت ثان .
فإن كان الاول فمن الممكن أن يقرأ معاوية على أهل الشام تقليده بالامرة ، فيؤكد حاله عندهم ويقرر في أنفسهم ، لولا أنه أهل لذلك لما اعتمده على عليه السلام معه ، ثم يماطله بالبيعة ، ويحاجزه عنها .
وإن كان الثاني فهو الذى فعله أمير المؤمنين عليه السلام .
وإن كان الثالث فهو كالقسم الاول ، بل هو آكد فيما يريده معاوية من الخلاف والعصيان .
وكيف يتوهم من يعرف السير أن معاوية كان يبايع له ، لو أقره على الشام وبينه وبينه ما لا تبرك الابل عليه ، من الترات القديمة ، والاحقاد ، وهو الذى قتل حنظلة أخاه والوليد خاله ، وعتبة جده في مقام واحد ، ثم ما جرى بينهما في أيام عثمان ، حتى أغلظ كل واحد منهما لصاحبه ، وحتى تهدده معاوية ، وقال له : إنى شاخص إلى الشام وتارك عندك هذا الشيخ - يعنى عثمان - والله لئن (*)(10/232)
انحصت (1) منه شعرة واحدة لاضربنك بمائة ألف سيف .
وقد ذكرنا شيئا مما جرى بينهما فيما تقدم .
وأما قول ابن عباس له عليه السلام : وله شهرا واعزله دهرا ، وما أشار به المغيرة ابن شعبة ، فإنهما قالا ما توهماه ، وما غلب على ظنونها وخطر بقلوبهما ، وعلى عليه السلام كان أعلم بحاله مع معاوية ، وأنها لا تقبل العلاج والتدبير .
وكيف يخطر ببال عارف بحال معاوية ونكره ودهائه ، وما كان في نفسه من على عليه السلام من قتل عثمان ومن قبل قتل عثمان ، أنه يقبل إقرار على عليه السلام له على الشام ، وينخدع بذلك ، ويبايع ويعطى صفقة (2) يمينه ! إن معاوية لادهى من أن يكاد بذلك ، وإن عليا عليه السلام لاعرف بمعاوية ممن ظن أنه لو استماله بإقراره لبايع له ، ولم يكن عند على عليه السلام دواء لهذا المرض إلا السيف ، لان الحال إليه كانت تئول لا محالة ، فجعل الاخر أولا .
وأنا أذكر في هذا الموضع خبرا رواه الزبير بن بكار في (الموفقيات) ليعلم من يقف عليه ، أن معاوية لم يكن لينجذب إلى طاعة على عليه السلام أبدا ، ولا يعطيه البيعة ، وأن مضادته له ، ومباينته إياه كمضادة السواد للبياض ، لا يجتمعان أبدا ، وكمباينة السلب للايجاب ، فإنها مباينة لا يمكن زوالها أصلا ، قال الزبير : حدثنى محمد بن محمد زكريا بن بسطام ، قال : حدثنى محمد بن يعقوب بن أبى الليث ، قال : حدثنى أحمد بن محمد بن الفضل بن يحيى المكى ، عن أبيه ، عن جده الفضل بن يحيى ، عن الحسن بن عبد الصمد ، عن قيس بن عرفجة ، قال : لما حصر عثمان أبرد مروان بن الحكم بخبره بريدين : أحدهما إلى الشام ، والاخر إلى اليمن - وبها يومئذ يعلى بن منية - ومع كل واحد منهما كتاب ، فيه أن بنى أمية في الناس كالشامة الحمراء ،
__________
(1) انحص شعره : انجرد وتناثر .
(2) الصفقة هنا : المبايعة (*) .(10/233)
وأن الناس قد قعدوا لهم برأس كل محجة ، وعلى كل طريق ، فجعلوهم مرمى العر والعضيهة (1) ، ومقذف القشب (2) والافيكة ، وقد علمتم أنها لم تأت عثمان إلا كرها ، تجبذ من ورائها .
وإنى خائف إن قتل أن تكون من بنى أمية بمناط الثريا ، إن لم نصر كرصيف الاساس المحكم ، ولئن وهى عمود البيت لتتداعين جدرانه ، والذى عيب عليه إطعامكما الشام واليمن ، ولا شك إنكما تابعاه إن لم تحذرا ، وأما أنا فمساعف كل مستشير ، ومعين كل مستصرخ ، ومجيب كل داع ، أتوقع الفرصة فأثب وثبة الفهد أبصر غفلة مقتنصة ، ولولا مخافة عطب البريد ، وضياع الكتب ، لشرحت لكما من الامر مالاتفزعان معه إلى أن يحدث الامر ، فجدا في طلب ما أنتما ولياه ، وعلى ذلك فليكن العمل إن شاء الله .
وكتب في آخره : وما بلغت عثمان حتى تخطمت رجال ودانت للصغار رجال لقد رجعت عودا على بدء كونها وإن لم تجدا فالمصير زوال سيبدئ مكنون الضمائر قولهم ويظهر منهم بعد ذاك فعال فإن تقعدا لا تطلبا ما ورثتما فليس لنا طول الحياة مقال نعيش بدار الذل في كل بلدة وتظهر منا كأبة وهزال .
فلما ورد الكتاب على معاوية ، أذن في الناس : الصلاة جامعة ! ثم خطبهم خطبة المستنصر المستصرخ .
وفى أثناء ذلك ورد عليه قبل أن يكتب الجواب ، كتاب مروان بقتل عثمان ، وكانت نسخته : وهب الله لك أبا عبد الرحمن قوة العزم ، وصلاح النية ، ومن عليك بمعرفة الحق واتباعه ، فإنى كتبت إليك هذا الكتاب بعد قتل عثمان أمير المؤمنين عليه السلام ،
__________
(1) العضيهد : الافك والبهتان .
(2) القشب من الكلام : الفرى ، وعن ابن الاعرابي : القاشب : الذى يعيب الناس بما فيه (*) .(10/234)
وأى قتلة قتل ! نحر كما ينحر البعير الكبير عند اليأس من أن ينوء بالحمل ، بعد أن نقبت صفحته بطى المراحل وسير الهجير ، وإنى معلمك من خبره غير مقصر ولا مطيل : إن القوم استطالوا مدته ، واستقلوا ناصره ، واستضعفوه في بدنه ، وأملوا بقتله بسط أيديهم فيما كان قبضة عنهم ، واعصوصبوا (1) عليه ، فظل محاصرا ، قد منع من صلاة الجماعة ، ورد المظالم ، والنظر في أمور الرعية ، حتى كأنه هو فاعل لما فعلوه .
فلما دام ذلك أشرف عليهم ، فخوفهم الله وناشدهم ، وذكرهم مواعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم له ، وقوله فيه ، فلم يجحدوا فضله ، ولم ينكروه ، ثم رموه بأباطيل اختلقوها ليجعلوا ذلك ذريعة إلى قتله ، فوعدهم التوبة مما كرهوا ، ووعدهم الرجعة إلى ما أحبوا .
فلم يقبلوا ذلك ، ونهبوا داره ، وانتهكوا حرمته ، ووثبوا عليه ، فسفكوا دمه ، وانقشعوا عنه انقشاع سحابة قد أفرغت ماءها ، منكفئين قبل ابن أبى طالب ، انكفاء الجراد إذ أبصر المرعى .
فأخلق ببنى أمية أن يكونوا من هذا الامر بمجرى العيوق إن لم يثأره ثائر ! فإن شئت أبا عبد الرحمن أن تكونه فكنه .
والسلام .
فلما ورد الكتاب على معاوية ، أمر بجمع الناس ، ثم خطبهم خطبة أبكى منها العيون ، وقلقل القلوب ، حتى علت الرنة ، وارتفع الضجيج ، وهم النساء أن يتسلحن ، ثم كتب إلى طلحة بن عبيد الله ، والزبير بن العوام ، وسعيد بن العاص ، وعبد الله بن عامر بن كريز ، والوليد بن عقبة ، ويعلى بن منية - وهو اسم أمه - وإنما اسم أبيه أمية .
فكان كتاب طلحة : أما بعد ، فإنك أقل قريش في قريش وترا ، مع صباحة وجهك وسماحة كفك ، وفصاحة لسانك .
فأنت بإزاء من تقدمك في السابقة ، وخامس المبشرين بالجنة ، ولك يوم أحد وشرفه وفضله ، فسارع رحمك الله إلى ما تقلدك الرعية من أمرها مما لا يسعك التخلف عنه ، ولا يرضى الله منك إلا بالقيام به ، فقد أحكمت لك الامر
__________
(1) اعصوصب القوم : اجتمعوا وصاروا عصائب (*) .(10/235)
قبلى ، والزبير فغير متقدم عليك بفضل ، وأيكما قدم صاحبه فالمقدم الامام ، والامر من بعده للمقدم له ، سلك الله بك قصد المهتدين ، ووهب لك رشد الموفقين .
والسلام .
وكتب إلى الزبير : أما بعد ، فإنك الزبير بن العوام ، بن أبى خديجة وابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه ، وسلفه ، وصهر أبى بكر ، وفارس المسلمين ، وأنت الباذل في الله مهجته بمكة عند صيحة الشيطان ، بعثك المنبعث ، فخرجت كالثعبان المنسلخ .
بالسيف المنصلت ، تخبط خبط الجمل الرديع (1) ، كل ذلك قوة إيمان ، وصدق يقين ، وسبقت لك من رسول الله صلى الله عليه وسلم البشارة بالجنة ، وجعلك عمر أحد المستخلفين على الامة .
واعلم يا أبا عبد الله ، أن الرعية أصبحت كالغنم المتفرقة لغيبة الراعى ، فسارع رحمك الله إلى حقن الدماء ولم الشعث ، وجمع الكلمة ، وصلاح ذات البين ، قبل تفاقم الامر وانتشار الامة ، فقد أصبح الناس على شفا جرف هار عما قليل ينهار إن لم يرأب .
فشمر لتأليف الامة ، وابتغ إلى ربك سبيلا ، فقد أحكمت الامر على من قبلى لك ولصاحبك على أن الامر للمقدم ، ثم لصاحبه من بعده .
جعلك الله من أئمة الهدى ، وبغاة الخير والتقوى .
والسلام .
وكتب إلى مروان بن الحكم : أما بعد ، فقد وصل إلي كتابك بشرح خبر أمير المؤمنين ، وما ركبوه به ، ونالوه منه ، جهلا بالله وجراءة عليه ، واستخفافا بحقه ، ولامانى لوح الشيطان بها في شرك الباطل ليدهدههم (2) في أهويات الفتن ، ووهدات الضلال ، ولعمري لقد صدق عليهم ظنه ، ولقد اقتنصهم بأنشوطة فخة .
فعلى رسلك أبا عبد الله ، يمشى الهوينى ويكون أولا ، فإذا قرأت كتابي هذا فكن كالفهد لا يصطاد إلا غيلة ، ولا يتشازر (3) إلا عن حيلة ،
__________
(1) الرديع ، أي المردوع ، من ردعه ، إذا كفه .
(2) أي (ليرديهم) .
(3) تشازر : نظر بمؤخر العين (*) .(10/236)
وكالثعلب لا يفلت إلا روغانا .
واخف نفسك منهم إخفاء القنفذ رأسه عند لمس الاكف ، وامتهن نفسك امتهان من ييأس القوم من نصره وانتصاره ، وابحث عن أمورهم بحث الدجاجة عن حب الدخن عند فقاسها ، وأنغل (1) الحجاز فإنى منغل الشام .
والسلام .
وكتب إلى سعيد بن العاص : أما بعد ، فإن كتاب مروان ورد على من ساعة وقعت النازلة ، تقبل به البرد بسير المطى الوجيف (2) ، تتوجس توجس الحية الذكر خوف ضربة الفأس ، وقبضة الحاوى (3) ، ومروان الرائد لا يكذب أهله ، فعلام الافكاك يابن العاص ، ولات حين مناص ! ذلك أنكم يا بنى أمية عما قليل تسألون أدنى العيش من أبعد المسافة ، فينكركم من كان منكم عارفا ، ويصد عنكم من كان لكم واصلا ، متفرقين في الشعاب تتمنون لمظة (4) المعاش ، إن أمير المؤمنين عتب عليه فيكم ، وقتل في سبيلكم ، ففيم القعود عن نصرته ، والطلب بدمه ، وأنتم بنو أبيه ، ذوو رحمه وأقربوه ، وطلاب ثأره ! أصبحتم متمسكين بشظف معاش زهيد ، عما قليل ينزع منكم عند التخاذل وضعف القوى .
فإذا قرأت كتابي هذا فدب دبيب البرء في الجسد النحيف ، وسر سير النجوم تحت الغمام ، واحشد حشد الذرة (5) في الصيف لانجحارها في الصرد ، فقد أيدتكم بأسد وتيم .
وكتب في الكتاب : تالله لا يذهب شيخي باطلا حتى أبير مالكا وكاهلا (6)
__________
(1) أنغلهم ، أي أحملهم على الضغن .
(2) الوجيف : السير السريع .
(3) الحاوى : الذى يرقى الحية .
(4) اللمظة في الاصل : اليسير من السمن ، تأخذه بإصبعك ، يقال : عنده لمظة من سمن ثم أطلق على كل شئ قليل .
(5) الذر : صغار النمل .
(6) لامرئ القيس ، ديوانه 134 .
أبير : أهلك .
ومالك وكاهل من بنى أسد (*) .(10/237)
القاتلين الملك الحلاحلا (1) خير معد حسبا ونائلا (2) .
وكتب إلى عبد الله بن عامر : أما بعد ، فإن المنبر مركب ذلول ، سهل الرياضة ، لا ينازعك اللجام .
وهيهات ذلك إلا بعد ركوب أثباج المهالك ، واقتحام أمواج المعاطب .
وكأني بكم يا بنى أمية شعارير (3) كالاوارك ، تقودها الحداة ، أو كرخم الخندمة (4) تذرق (5) خوف العقاب ، فثب الان رحمك الله قبل أن يستشرى الفساد وندب (6) السوط جديد ، والجرح لما يندمل ، ومن قبل استضراء الاسد ، والتقاء لحييه ، على فريسته وساور الامر مساورة الذئب الاطلس كسيرة القطيع .
ونازل الرأى ، وانصب الشرك ، وارم عن تمكن ، وضع الهناء مواضع النقب (7) ، واجعل أكبر عدتك الحذر ، وأحد سلاحك التحريض .
واغض عن العوراء ، وسامح اللجوج ، واستعطف الشارد ، ولاين الاشوس ، وقو عزم المريد ، وبادر العقبة ، وازحف زحف الحية .
واسبق قبل أن تسبق ، وقم قبل أن يقام لك .
واعلم أنك غير متروك ولا مهمل ، فإنى لكم ناصح أمين .
والسلام .
وكتب في أسفل الكتاب :
__________
(1) الحلاحل : السيد الشريف ، يعنى أباه .
(2) قال شارح ديوانه : قوله : (خير معد) ، هو راجع إلى قوله : (مالكا وكاهلا) ، لان بنى أسد من معد ، وإنما يريد : حتى أهلك أشرف معد وخيرهم ، انتصارا لابي .
النائل : العطاء .
(3) شعارير : متفرقون .
والاوراك : جمع أركة ، وهى الناقة التى تلزم الاراك وترعاه ، وشأنها التفرق لتتبع الاراك .
(4) الخندمة : موضع .
(5) ذرق الطائر : سلح .
(6) ندب السوط : أثره .
(7) هنأ البعير : طلاه بالهناء ، وهو القطران ، والنقب جمع نقبة ، وهى أول ما يبدو من الجرب ، وأصله قول دريد بن الصمة : متبذلا لا تبدو محاسنه يضع الهناء مواضع النقب وانظر اللسان (نقب) (*) .(10/238)
عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحما (1) تحية من أهدى السلام لاهله إذا شط دارا عن مزارك سلما فما كان قيس هلكة هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما وكتب إلى الوليد بن عقبة : يابن عقبه ، كن الجيش ، وطيب العيش أطيب من سفع سموم الجوزاء عند اعتدال الشمس في أفقها ، إن عثمان أخاك أصبح بعيدا منك فاطلب لنفسك ظلا تستكن به ، إنى أراك على التراب رقود ا ، وكيف بالرقاد بك ! لارقاد لك ، فلو قد استتب هذا الامر لمريده ألفيت كشريد النعام ، يفزع من ظل الطائر ، وعن قليل تشرب الرنق ، وتستشعر الخوف .
أراك فسيح الصدر ، مسترخى اللبب ، رخو الحزام ، قليل الاكتراث ، وعن قليل يجتث أصلك .
والسلام .
وكتب في آخر الكتاب : اخترت نومك أن هبت شآمية عند الهجير وشربا بالعشيات على طلابك ثأرا من بنى حكم هيهات من راقد طلاب ثارات .
وكتب إلى يعلى بن أميه : حاطك الله بكلاءته ، وأيدك بتوفيقه .
كتبت إليك صبيحة ورد على كتاب مروان بخبر قتل أمير المؤمنين ، وشرح الحال فيه .
وإن أمير المؤمنين طال به العمر حتى نقصت قواه ، وثقلت نهضته ، وظهرت الرعشة في أعضائه ، فلما رأى ذلك أقوام لم يكونوا عنده موضعا للامامة والامانة وتقليد الولاية ، وثبوا به ، وألبوا عليه ، فكان أعظم ما نقموا عليه وعابوه به ، ولايتك اليمن وطول مدتك عليها .
ثم ترامى بهم الامر حالا بعد حال ، حتى
__________
(1) لعبدة بن الطبيب يرثى قيس بن عاصم .
الشعر والشعراء 707 (*) .(10/239)
ذبحوه ذبح النطيحة (1) مبادرا بها الفوت ، وهو مع ذلك صائم معانق المصحف ، يتلو كتاب الله .
فيه عظمت مصيبة الاسلام بصهر الرسول ، والامام المقتول .
على غير جرم سفكوا دمه ، وانتهكوا حرمته ، وأنت تعلم أن بيعته في أعناقنا ، وطلب ثأره لازم لنا ، فلا خير في دنيا تعدل بنا عن الحق ، ولا في إمرة توردنا النار .
وإن الله جل ثناؤه لا يرضى بالتعذير في دينه ، فشمر لدخول العراق .
فأما الشام فقد كفيتك أهلها ، وأحكمت أمرها ، وقد كتبت إلى طلحة بن عبيد الله أن يلقاك بمكة ، حتى يجتمع رأيكما على إظهار الدعوة ، والطلب بدم عثمان أمير المؤمنين المظلوم ، وكتبت إلى عبد الله بن عامر يمهد لكم العراق ، ويسهل لكم حزونة عقابها (2) .
واعلم يابن أمية أن القوم قاصدوك بادئ بدء لاستنطاف ما حوته يداك من المال ، فاعلم ذلك واعمل على حسبه إن شاء الله .
وكتب في أسفل الكتاب : ظل الخليفه محصورا يناشدهم بالله طورا ، وبالقرآن أحيانا وقد تألف أقوام على حنق عن غير جرم وقالوا فيه بهتانا فقام يذكرهم وعد الرسول له وقوله فيه إسرارا وإعلانا فقال كفوا فإنى معتب لكم وصارف عنكم يعلى ومروانا فكذبوا ذاك منه ثم ساوره من حاض لبته ظلما وعدوانا (3) .
قال : فكتب إليه مروان جوابا عن كتابه : أما بعد ، فقد وصل كتابك ، فنعم كتاب زعيم العشيرة ، وحامى الذمار ! وأخبرك
__________
(1) النطيحة : الشاة المنطوحة .
(2) العقاب ، بالكسر : جمع عقبة ، وهى في الاصل : المرقى الصعب من الجبال (*) .(10/240)
أن القوم على سنن استقامة إلا شظايا شعب ، شتت بينهم مقولى على غير مجابهة ، حسب ما تقدم من أمرك ، وإنما كان ذلك رسيس (1) العصاة ، ورمى أخدر من أغصان الدوحة ، ولقد طويت أديمهم على نغل يحلم (2) منه الجلد .
كذبت نفس الظان بنا ترك المظلمة ، وحب الهجوع ، إلا تهويمة الراكب العجل ، حتى تجذ جماجم ، وجماجم جذ العراجين المهدلة حين إيناعها ، وأنا على صحة نيتى ، وقوة عزيمتي وتحريك الرحم لى ، وغليان الدم منى ، غير سابقك بقول ، ولا متقدمك بفعل ، وأنت ابن حرب ، طلاب الترات ، وآبى الضيم .
وكتابي إليك وأنا كحرباء السبسب في الهجير ترقب عين الغزالة (3) ، وكالسبع المفلت من الشرك يفرق من صوت نفسه ، منتظرا لما تصح به عزيمتك ، ويرد به أمرك ، فيكون العمل به ، والمحتذى عليه .
وكتب في أسفل الكتاب : أيقتل عثمان وترقا دموعنا ونرقد هذا الليل لانتفزع ! ونشرب برد الماء ريا وقد مضى على ظمأ يتلو القرآن ويركع فإنى ومن حج الملبون بيته وطافوا به سعيا ، وذو العرش يسمع سأمنع نفسي كل ما فيه لذة من العيش حتى لا يرى فيه مطمع وأقتل بالمظلوم من كان ظالما وذلك حكم الله ما عنه مدفع .
وكتب إليه عبد الله بن عامر :
__________
(1) الرسيس : الشئ الثابت ، يريد أن ذلك دأبهم وعادتهم .
(2) حلم الجلد ، إذا فسد .
(3) السبسب : المفازة ، أو الارض المستوية البعيدة .
والهجير : شدة الحر ، والغزالة : الشمس (*) .(10/241)
أما بعد ، فإن أمير المؤمنين كان لنا الجناح الحاضنة تأوى إليها فراخها تحتها ، فلما أقصده (1) السهم صرنا كالنعام الشارد .
ولقد كنت مشترك الفكر ، ضال الفهم ، ألتمس دريئة أستجن بها من خطأ الحوادث ، حتى وقع (2) إلي كتابك ، فانتبهت من غفلة طال فيها رقادي ، فأنا كواجد المحجة كان إلى جانبها حائرا وكأني أعاين ما وصفت من تصرف الاحوال .
والذى أخبرك به أن الناس في هذا الامر تسعة لك وواحد عليك ، ووالله للموت في طلب العز أحسن من الحياة في الذلة ، وأنت ابن حرب فتى الحروب ، ونضار (3) بنى عبد شمس ، والهمم بك منوطة وأنت منهضها ، (فإذا نهضت فليس حين قعود) وأنا اليوم على خلاف ما كانت عليه عزيمتي من طلب العافية ، وحب السلامة قبل قرعك سويداء القلب بسوط الملام ، ولنعم مؤدب العشيرة أنت ! وإنا لنرجوك بعد عثمان ، وهأنا متوقع ما يكون منك لامتثله ، وأعمل عليه إن شاء الله .
وكتب في أسفل الكتاب : لا خير في العيش في ذل ومنقصة * والموت أحسن من ضيم ومن عار إنا بنو عبد شمس معشر أنف * غرجحاجحة طلاب أوتار والله لو كان ذميا مجاورنا ليطلب العزلم نقعد عن الجار فكيف عثمان لم يدفن بمزبلة * على القمامة مطروحا بها عار ! فازحف إلي فإنى زاحف لهم بكل أبيض ماضى الحد بتار وكتب إليه الوليد بن عقبه : أما بعد ، فإنك أسد قريش عقلا ، وأحسنهم فهما ، وأصوبهم رأيا ، معك حسن
__________
(1) أقصده : أصابه .
(2) د : (دفع) .
(3) ب : (نصار) (*) .(10/242)
السياسة ، وأنت موضع الرياسة ، تورد بمعرفة ، وتصدر عن منهل روى .
مناوئك كالمنقلب من العيوق (1) يهوى به عاصف الشمال إلى لجة البحر .
كتبت إلي تذكر طيب الخيش ، ولين العيش ، فملء بطني علي حرام إلا مسكة الرمق (2) حتى أفرى (3) أوداج قتلة عثمان فرى الاهب (4) بشباة الشفار .
وأما اللين فهيهات إلا خيفة المرتقب يرتقب غفلة الطالب ، إنا على مداجاة ، ولما تبدو صفحاتنا بعد ، وليس دون الدم بالدم مزحل .
إن العار منقصة ، والضعف ذل ، أيخبط قتلة عثمان زهرة الحياة الدنيا ، ويسقون برد المعين ، ولما يمتطوا الخوف ، ويستحلسوا الحذر بعد مسافة الطرد وامتطاء العقبة الكئود في الرحلة ! لادعيت لعقبة إن كان ذلك حتى أنصب لهم حربا تضع الحوامل لها أطفالها ! قد ألوت بنا المسافة ، ووردنا حياض المنايا ، وقد عقلت نفسي على الموت عقل البعير ، واحتسبت أنى ثانى عثمان أو اقتل قاتله ! فعجل علي ما يكون من رأيك ، فإنا منوطون بك ، متبعون عقبك ، ولم أحسب الحال تتراخى بك إلى هذه الغاية ، لما أخافه من إحكام القوم أمرهم .
وكتب في أسفل الكتاب : نومى علي محرم إن لم أقم بدم ابن أمي من بنى العلات قامت على إذا قعدت ولم أقم بطلاب ذاك مناحة الاموات عذبت حياض الموت عندي بعد ما كانت كريهة مورد النهلات .
وكتب إليه يعلى بن أمية :
__________
(1) العيوق : نجم أحمر مضئ في طرف المجرة الايمن ، يتلو الثريا ، لا يتقدمها ، يضرب مثلا للبعد .
(2) الرمق : بقية الروح .
(3) فرى الجد : شقه .
(4) الاهب : جمع إهاب ، وهو الجلد ما لم يدبغ (*) .(10/243)
إنا وأنتم يا بنى أمية كالحجر لا يبنى بغير مدر ، وكالسيف لا يقطع إلا بضاربه .
وصل كتابك بخبر القوم وحالهم ، فلئن كانوا ذبحوه ذبح النطيحة بودر بها الموت لينحرن ذابحه نحر البدنة وافى بها الهدى الاجل ! ثكلتني من أنا ابنها إن نمت عن طلب وتر عثمان ، أو يقال : لم يبق فيه رمق ! إنى أرى العيش بعد قتل عثمان مرا ، إن أدلج القوم فإنى مدلج ، وأما قصدهم ما حوته يدى من المال ، فالمال أيسر مفقود إن دفعوا إلينا قتلة عثمان ، وإن أبوا ذلك أنفقنا المال على قتالهم ، وإن لنا ولهم لمعركة نتناحر فيها نحر القدار النقائع (1) ، عن قليل تصل لحومها .
وكتب في أسفل الكتاب : لمثل هذا اليوم أوصى الناس لا تعط ضيما أو يخر الراس .
قال : فكل هؤلاء كتبوا إلى معاوية يحرضونه ، ويغرونه ، ويحركونه ، ويهيجونه ، إلا سعيد بن العاص ، فإنه كتب بخلاف ما كتب به هؤلاء ، كان كتابه : أما بعد ، فإن الحزم في التثبت ، والخطأ في العجلة ، والشؤم في البدار ، والسهم سهمك ما لم ينبض به الوتر ، ولن يرد الحالب في الضرع اللبن .
ذكرت حق أمير المؤمنين علينا ، وقرابتنا منه ، وأنه قتل فينا ، فخصلتان ذكرهما نقص ، والثالثة تكذب ، وأمرتنا بطلب دم عثمان ، فأى جهة تسلك فيها أبا عبد الرحمن ! ردمت الفجاج ، وأحكم الامر عليك ، وولى زمامه غيرك ، فدع مناوأة من لو كان افترش فراشه صدر الامر لم يعدل به غيره .
وقلت : كأنا عن قليل لا نتعارف ، فهل نحن إلا حى من قريش ، إن لم تنلنا الولاية لم يضق عنا الحق ، إنها خلافة منافية ، وبالله أقسم قسما مبرورا ، لئن صحت عزيمتك على
__________
(1) القدار : الجزار ، والنقائع : جمع نقيعة ، وهيما نحر من إبل النهب .
(*)(10/244)
ما ورد به كتابك ، لا لفينك بين الحالين ، طليحا .
وهبني أخالك بعد خوض الدماء تنال الظفر ، هل في ذلك عوض من ركوب المأثم ، ونقص الدين .
! أما أنا فلا على بنى أمية ولا لهم ، أجعل الحزم دارى ، والبيت سجنى ، وأتوسد الاسلام ، واستشعر العافية .
فاعدل أبا عبد الرحمن زمام راحلتك إلى محجة الحق ، واستوهب العافية لاهلك ، واستعطف الناس على قومك ، وهيهات من قبلوك ما أقول حتى يفجر مروان ينابيع الفتن تأجج في البلاد ، وكأني بكما عند ملاقاة الابطال تعتذران بالقدر ، ولبئس العاقبة الندامة ! وعما قليل يضح لك الامر .
والسلام .
هذا آخر ما تكاتب القوم به ، ومن وقف عليه علم أن الحال لم يكن حالا يقبل العلاج والتدبير ، وأنه لم يكن بد من السيف ، وأن عليا عليه السلام كان أعرف بما عمل .
وقد أجاب ابن سنان في كتابه الذى سماه (العادل) عن هذا السؤال ، فقال : قد علم الناس كافة أنه عليه السلام في قصة الشورى عرض عليه عبد الرحمن بن عوف ، أن يعقد له الخلافة على أن يعمل بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة أبى بكر وعمر ، فلم يستجب إلى ذلك ، وقال : بل علي أن أعمل بكتاب الله وسنة رسوله ، وأجتهد رأيى .
وقد اختلف الناس في ذلك ، فقالت الشيعة : إنما لم يدخل تحت الشرط ، لانه لم يستصوب سيرتهما .
وقال غيرهم : إنما امتنع لانه مجتهد ، والمجتهد لا يقلد المجتهد ، فأيهما أقرب على القولين جميعا إثما ، وأيسر وزرا ! أن يقر معاوية على ولاية الشام مدة إلى أن تتوطد خلافته ، مع ما ظهر من جور معاوية وعداوته ، ومد يده إلى الاموال والدماء أيام سلطانه ، أو أن يعاهد عبد الرحمن على العمل بسيرة أبى بكر وعمر ، ثم يخالف بعض أحكامها إذا استقر الامر له ، ووقع العقد ! ولا ريب أن أحدا لا يخفى عليه فضل ما بين(10/245)
الموضعين ، وفضل ما بين الاثمين ، فمن لا يجيب إلى الخلافة والاستيلاء على جميع بلاد الاسلام إذا تسمح بلفظة يتلفظ بها ، يجوز أن يتأولها أو يورى فيها ، كيف يستجيب إلى إقرار الجائر ، وتقوية يده مع تمكينه في سلطانه ، لتحصل له طاعة أهل الشام واستضافة طرف من الاطراف ! وكأن معنى قول القائل : هلا أقر معاوية على الشام ، هو هلا كان عليه السلام متهاونا بأمر الدين راغبا في تشديد أمر الدنيا .
والجواب عن هذا ظاهر ، وجهل السائل عنه واضح .
واعلم أن حقيقة الجواب هو أن عليا عليه السلام ، كان لا يرى مخالفة الشرع ، لاجل السياسة ، سواء أكانت تلك السياسة دينية أو دنيوية ، أما الدنيوية فنحو أن يتوهم الامام في إنسان أنه يروم فساد خلافته من غير أن يثبت ذلك عليه يقينا ، فإن عليا عليه السلام لم يكن يستحل قتله ، ولا حسبه ، ولا يعمل بالتوهم وبالقول غير المحقق ، وأما الدينية فنحو ضرب المتهم بالسرقة ، فإنه أيضا لم يكن يعمل به ، بل يقول : إن يثبت عليه بإقرار أو بينة ، أقمت عليه الحد ، وإلا لم أعترضه .
وغير على عليه السلام قد كان منهم من يرى خلاف هذا الرأى ، ومذهب مالك بن أنس العمل على المصالح المرسلة ، وأنه يجوز للامام أن يقتل ثلث الامة لاصلاح الثلثين ، ومذهب أكثر الناس أنه يجوز العمل بالرأى وبغالب الظن ، وإذا كان مذهبه عليه السلام ما قلناه ، وكان معاوية عنده فاسقا ، وقد سبق عنده مقدمة أخرى يقينية ، هي أن استعمال الفاسق لا يجوز ولم يكن ممن يرى تمهيد قاعدة الخلافة بمخالفة الشريعة ، فقد تعين مجاهرته بالعزل ، وإن أفضى ذلك إلى الحرب .
فهذا هو الجواب الحقيقي ، ولو لم يكن هذا هو الجواب الحقيقي ، لكان لقائل أن(10/246)
يقول لابن سنان القول في عدوله عن الدخول تحت شرط عبد الرحمن ، كالقول في عدوله عن إقرار معاوية على الشام ، فإن من ذهب إلى تغليطه في أحد الموضعين ، له أن يذهب إلى تغليطه في الموضع الاخر .
قال ابن سنان : وجواب آخر ، وهو أنا قد علمنا أن أحد الاحداث التى نقمت على عثمان ، وأفضت بالمسلمين إلى حصاره وقتله ، تولية معاوية الشام ، مع ما ظهر من جوره وعدوانه ، ومخالفة أحكام الدين في سلطانه ، وقد خوطب عثمان في ذلك ، فاعتذر بإن عمر ولاه قبله ، فلم يقبل المسلمون عذره ، ولاقنعوا منه إلا بعزله ، حتى أفضى الامر إلى ما أفضى ، وكان على عليه السلام من أكثر المسلمين لذلك كراهية ، وأعرفهم بما فيه من الفساد في الدين .
فلو أنه عليه السلام افتتح عقد الخلافة له بتوليته معاوية الشام ، وإقراره فيه ، أليس كان يبتدئ في أول أمره بما انتهى إليه عثمان في آخره ، فأفضى إلى خلعه وقتله ! ولو كان ذلك في حكم الشريعة سائغا ، والوزر فيه مأمونا ، لكان غلطا قبيحا في السياسة ، وسببا قويا للعصيان والمخالفة ، ولم يكن يمكنه عليه السلام أن يقول للمسلمين : إن حقيقة رأيى عزل معاوية عند استقرار الامر ، وطاعة الجمهور لى ، وإن قصدي بإقراره على الولاية ، مخادعته ، وتعجيل طاعته ، ومبايعة الاجناد الذين قبله ، ثم استأنف بعد ذلك فيه ما يستحقه من العزل ، وأعمل فيه بموجب العدل ، لان إظهاره عليه السلام لهذا العزم كان يتصل خبره بمعاوية فيفسد التدبير الذى شرع فيه ، وينتقض الرأى الذى عول عليه .
ومنها قولهم : إنه ترك طلحة والزبير حتى خرجا إلى مكة ، وأذن لهما في العمرة ، وذهب عنه الرأى في ارتباطهما قبله ، ومنعهما من البعد عنه .(10/247)
والجواب عنه ، أنه قد اختلف الرواة في خروج طلحة والزبير من المدينة : هل كان بإذن على عليه السلام أم لا ! فمن قال : إنهما خرجا عن غير إذنه ولا علمه ، فسؤاله ساقط ، ومن قال : إنهما استأذناه في العمرة ، وأذن لهما ، فقد روى أنه قال : والله ما تريدان العمرة ، وإنما تريدان الغدرة ! وخوفهما بالله من التسرع إلى الفتنة ، وما كان يجوز له في الشرع أن يحبسهما ، ولا في السياسة .
أما في الشرع فلانه محظور أن يعاقب الانسان بما لم يفعل ، وعلى ما يظن منه ، ويجوز ألا يقع ، وأما في السياسة ، فلانه لو أظهر التهمة لهما - وهما من أفاضل السابقين ، وجلة المهاجرين - لكان في ذلك من التنفير عنه مالا يخفى ، ومن الطعن عليه ما هو معلوم ، بإن يقال : إنه ليس من إمامته على ثقة ، فلذلك يتهم الرؤساء ، ولا يأمن الفضلاء ، لا سيما وطلحة كان أول من بايعه ، والزبير لم يزل مشتهرا بنصرته ، فلو حبسهما ، وأظهر الشك فيهما لم يسكن أحد إلى جهته ، ولنفر الناس كلهم عن طاعته .
فإن قالوا : فهلا استصلحهما وولاهما ، وارتبطهما بالاجابة إلى أغراضهما ؟ .
قيل لهم : فحوى هذا أنكم تطلبون من أمير المؤمنين عليه السلام أن يكون في الامامة مغلوبا على رأيه ، مفتاتا عليه في تدبيره ، فيقر معاوية على ولاية الشام غصبا ، ويولى طلحة والزبير مصر والعراق كرها ، وهذا شئ ما دخل تحته أحد ممن قبله ، ولا رضوا أن يكون لهم من الامامة الاسم ، ومن الخلافة اللفظ ، ولقد حورب عثمان وحصر على أن يعزل بعض ولاته فلم يجب إلى ذلك ، فكيف تسومون عليا عليه السلام أن يفتتح أمره بهذه الدنية ويرضى بالدخول تحت هذه الخطة ! وهذا ظاهر .
ومنها تعلقهم بتولية أمير المؤمنين عليه السلام محمد بن أبى بكر مصر ، وعزله قيس بن سعد عنها ، حتى قتل محمد بها ، واستولى معاوية عليها .(10/248)
والجواب أنه ليس يمكن أن يقال : إن محمدا رحمه الله لم يكن بأهل لولاية مصر ، لانه كان شجاعا زاهدا فاضلا ، صحيح العقل والرأى ، وكان مع ذلك من المخلصين في محبة أمير المؤمنين عليه السلام ، والمجتهدين في طاعته ، وممن لا يتهم عليه ، ولا يرتاب بنصحه ، وهو ربيبه وخريجه ، ويجرى مجرى أحد أولاده عليه السلام ، لتربيته له ، وإشفاقه عليه .
ثم كان المصريون على غاية المحبة له ، والايثار لولايته ، ولما حاصروا عثمان وطالبوه بعزل عبد الله بن سعد بن أبى سرح عنهم ، اقترحوا تأمير محمد بن أبى بكر عليهم ، فكتب له عثمان بالعهد على مصر وصار مع المصريين حتى تعقبه كتاب عثمان إلى عبد الله بن سعد في أمره وأمر المصريين بما هو معروف ، فعادوا جميعا ، وكان من قتل عثمان ما كان ، فلم يكن ظاهر الرأى ووجة التدبير إلا تولية محمد بن أبى بكر على مصر ، لما ظهر من ميل المصريين إليه ، وإيثارهم له ، واستحقاقه لذلك بتكامل خصال الفضل فيه ، فكان الظن قويا باتفاق الرعية على طاعته ، وانقيادهم إلى نصرته ، واجتماعهم على محبته ، فكان من فساد الامر واضطرابه عليه حتى كان ما كان ، وليس ذلك يعيب على أمير المؤمنين عليه السلام ، فإن الامور إنما يعتمدها الامام على حسب ما يظن فيها من المصلحة ، ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى .
وقد ولى رسول الله صلى الله عليه وآله في مؤتة جعفرا فقتل ، وولى زيدا فقتل ، وولى عبد الله بن رواحة فقتل ، وهزم الجيش ، وعاد من عاد منهم إلى المدينة بأسوأ حال ، فهل لاحد أن يعيب رسول الله صلى الله عليه وآله بهذا ، ويطعن في تدبيره .
! ومنها قولهم : إن جماعة من أصحابه عليه السلام فارقوه ، وصاروا إلى معاوية ، كعقيل بن أبى طالب أخيه ، والنجاشى شاعره ، ورقبة بن مصقلة أحد الوجوه من أصحابه ، ولولا أنه(10/249)
كان يوحشهم ولا يستميلهم لم يفارقوه ويصيروا إلى عدوه ، وهذا يخالف حكم السياسة ، وما يجب من تألف قلوب الاصحاب والرعية .
والجواب : إنا أولا لاننكر أن يكون كل من رغب في حطام الدنيا وزخرفها ، وأحب العاجل من ملاذها وزينتها يميل إلى معاوية الذى يبذل منها كل مطلوب ، ويسمح بكل مأمول ، ويطعم خراج مصر عمرو بن العاص ، ويضمن لذى الكلاع وحبيب بن مسلمة ما يوفى على الرجاء والاقتراح ، وعلى عليه السلام لا يعدل فيما هو أمين عليه من مال المسلمين عن قضية الشريعة وحكم الملة ، حتى يقول خالد بن معمر السدوسى لعلباء بن الهيثم ، وهو يحمله على مفارقة على عليه السلام ، واللحاق بمعاوية : اتق الله يا علباء في عشيرتك ، وانظر لفنسك ولرحمك ، ماذا تؤمل عند رجل أردته على أن يزيد في عطاء الحسن الحسين دريهمات يسيرة ريثما يرأبان بها ظلف عيشهما ، فأبى وغضب فلم يفعل .
فأما عقيل ، فالصحيح الذى اجتمع ثقات الرواة عليه أنه لم يجتمع مع معاوية إلا بعد وفاة أمير المؤمنين عليه السلام ، ولكنه لازم المدينة ، ولم يحضر حرب الجمل وصفين ، وكان ذلك بإذن أمير المؤمنين عليه السلام ، وقد كتب عقيل إليه بعد الحكمين يستأذنه في القدوم عليه الكوفة بولده وبقية أهله ، فأمره عليه السلام بالمقام ، وقد روى في خبر مشهور ، أن معاوية وبخ سعيد بن العاص على تأخيره عنه في صفين ، فقال سعيد : لو دعوتني لوجدتني قريبا ، ولكني جلست مجلس عقيل وغيره من بنى هاشم ، ولو أوعبنا لاوعبوا (1) .
وأما النجاشي ، فإنه شرب الخمر في شهر رمضان ، فأقام على عليه السلام الحد عليه ،
__________
(1) أوعب عليه ، إذا خرجوا جميعهم للغزر .
(*)(10/250)
وزاده عشرين جلدة فقال النجاشي : ما هذه العلاوة (1) ؟ قال : لجرأتك على الله في شهر رمضان .
فهرب النجاشي إلى معاوية .
وأما رقبة بن مصقلة ، فإنه ابتاع سبى بنى ناجية وأعتقهم ، وألط بالمال (2) وهرب إلى معاوية ، فقال عليه السلام : فعل فعل السادة ، وأبق إباق العبيد ، وليس تعطيل الحدود وإباحة حكم الدين وإضاعة مال المسلمين من التألف والسياسة لمن يريد وجه الله تعالى ، والتلزم بالدين ، ولا يظن بعلى عليه السلام التساهل والتسامح في صغير من ذلك ولا كبير .
ومنها شبهة الخوارج وهى التحكيم ، وقد يحتج به على أنه اعتمد مالا يجوز في الشرع ، وقد يحتج به على أنه اعتمد ما ليس بصواب في تدبير الامر ، أما الاول فقولهم : إنه حكم الرجال في دين الله ، والله سبحانه يقول : (إن الحكم إلا لله) (3) وأما الثاني فقولهم : إنه كان قد لاح له النصر ، وظهرت أمارات الظفر بمعاوية ، ولم يبق إلا أن يأخذ برقبته فترك التصميم على ذلك ، وأخلد إلى التحكيم ، وربما قالوا : إن تحكيمه يدل على شك منه في أمره ، وربما قالوا : كيف رضى بحكومة أبى موسى وهو فاسق عنده بتثبيطه أهل الكوفة عنه في حرب البصرة ؟ وكيف رضى بتحكيم عمرو بن العاص وهو أفسق الفاسقين ؟ .
والجواب : أما تحكيم الرجال في الدين فليس بمحظور ، فقد أمر الله تعالى بالتحكيم بين المرأة وزوجها ، فقال : (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما
__________
(1) العلاوة ، بالكسر : ما زاد على الشئ .
(2) ألط بالمال ، أي أخذه وجحده .
(3) سورة الانعام 57 .
(*)(10/251)
من أهلها) (1) .
وقال في جزاء الصيد : (يحكم به ذوا عدل منكم) (2) .
وأما قولهم : كيف ترك التصميم بعد ظهور أمارات النصر ؟ فقد تواتر الخبر بأن أصحابه لما رفع أهل الشام المصاحف عند ظهور أهل العراق عليهم ، ومشارفة هلاك معاوية وأصحابه ، انخدعوا برفع المصاحف ، وقالوا : لا يحل لنا التصميم على حربهم ، ولايجوز لنا إلا وضع السلاح ورفع الحرب والرجوع إلى المصاحف وحكمها .
فقال لهم : إنها خديعة ، وإنها كلمة حق يراد بها باطل ، وأمرهم بالصبر ولو ساعة واحدة ، فأبوا ذلك ، وقالوا : أرسل إلى الاشتر فليعد ، فأرسل إليه ، فقال : كيف أعود وقد لاحت أمارات النصر والظفر ! فقالوا له : ابعث إليه مرة أخرى ، فبعث إليه ، فأعاد الجواب بنحو قوله الاول ، وسأل أن يمهل ساعة من النهار ، فقالوا : إن بينك وبينه وصية ألا يقبل ، فإن لم تبعث إليه من يعيده ، وإلا قتلناك بسيوفنا كما قتلنا عثمان ، أو قبضنا عليك وأسلمناك إلى معاوية فعاد الرسول إلى الاشتر ، فقال : أتحب أن تظفر أنت هاهنا وتكسر جنود الشام ، ويقتل أمير المؤمنين عليه السلام في مضربه ! قال : أو قد فعلوها ! لابارك الله فيهم ! أبعد أن أخذت بمخنق (3) معاوية ، ورأى الموت عيانا أرجع ! ثم عاد فشتم أهل العراق وسبهم ، وقال لهم وقالوا له ، ما هو منقول مشهور ، وقد ذكرنا الكثير منه فيما تقدم .
فإذا كانت الحال وقعت هكذا ، فأى تقصير وقع من أمير المؤمنين عليه السلام ! وهل ينسب المغلوب على أمره ، المقهور على رأيه إلى تقصير أو فساد تدبير ! .
وبهذا نجيب عن قولهم : إن التحكيم يدل على الشك في أمره ، لانه إنما يدل على ذلك لو ابتدأ هو به ، فأما إذا دعاه إلى ذلك غيره ، واستجاب إليه أصحابه ، فمنعهم وأمرهم
__________
(1) سورة النساء 35 .
(2) سورة المائدة 95 .
(3) المخنق : موضع الخنق من العنق .
(*)(10/252)
أن يمروا على وتيرتهم وشأنهم ، فلم يفعلوا ، وبين لهم أنها مكيدة فلم يتبينوا ، وخاف أن يقتل أو يسلم إلى عدوه ، فإنه لا يدل تحكيمه على شكه ، بل يدل على أنه قد دفع بذلك ضررا عظيما عن نفسه ، ورجا أن يحكم الحكمان بالكتاب ، فتزول الشبهة عمن طلب التحكيم من أصحابه .
وأما تحكيمه عمرا مع ظهور فسقه ، فإنه لم يرض به ، وإنما رضى به مخالفة ، وكرهه هو فلم يقبل منه .
وقد قيل : إنه أجاب ابن عباس رحمه الله عن هذا ، فقال للخوارج : أليس قد قال الله تعالى : (فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) (1) ! أرأيتم لو كانت المرأة يهودية فبعثت حكما من أهلها ، أكنا نسخط ذلك ! وأما أبو موسى فقد كرهه أمير المؤمنين عليه السلام ، وأراد أن يجعل بدله عبد الله ابن عباس ، فقال أصحابه : لا يكون الحكمان من مضر ، فقال : فالاشتر .
فقالوا : وهل أضرم النار إلا الاشتر ! وهل جر ما ترى إلا حكومة الاشتر ! ولكن أبا موسى ، فأباه فلم يقبلوا منه ، وأثنوا عليه ، وقالوا : لا نرضى إلا به ، فحكمه على مضض .
ومنها قولهم : ترك الرأى لما دعاه العباس وقت وفاة الرسول صلى الله عليه وآله إلى البيعة ، وقال له : امدد يدك أبا يعك ، فيقول الناس : عم رسول الله صلى الله عليه وآله بايع ابن عمه ، فلا يختلف عليك اثنان ، فلم يفعل ، وقال : وهل يطمع فيها طامع غيرى ! فما راعه إلا الضوضاء واللغط في باب الدار ، يقولون : قد بويع أبو بكر بن أبى قحافة .
الجواب : إن صواب الرأى وفساده فيما يرجع إلى مثل هذه الواقعة ، يستندان إلى
__________
(1) سورة النساء 35 .
(*)(10/253)
ما قد كان غلب على الظن ، ولا ريب أنه عليه السلام لم يغلب على ظنه أن أحدا يستأثر عليه بالخلافة لاحوال قد كان مهدها له رسول الله صلى الله عليه وآله ، وما توهم إلا أنه ينتظر ويرتقب خروجه من البيت وحضوره ، ولعله قد كان يخطر له أنه إما أن يكون هو الخليفة أو يشاور في الخلافة إلى من يفوض .
وما كان يتوهم أنه يجرى الامر على ما جرى من الفلتة عند ثوران تلك الفتنة ، ولا يشاور هو ولا العباس ولا أحد من بنى هاشم ، وإنما كان يكون تدبيره فاسدا لو كان يحاذر خروج الامر عنه ، ويتوهم ذلك ، ويغلب على ظنه إن لم يبادر تحصيله بالبيعة المعجلة في الدار من وراء الابواب والاغلاق ، وإلا فاته ، ثم يهمل ذلك ولا يفعله .
وقد صرح هو بما عنده ، فقال : وهل يطمع فيها طامع غيرى ! ثم قال : إنى أكره البيعة هاهنا وأحب أن أصحر (1) بها ، فبين أنه يستهجن أن يبايع سرا خلف الحجب والجدران ، ويحب أن يبايع جهرة بمحضر من الناس كما قال ، حيث طلبوا منه بعد قتل عثمان أن يبايعهم في داره ، فقال : لا ، بل في المسجد ، ولا يعلم ولا خطر له ما في ضمير الايام ، وما يحدث الوقت من وقوع مالا يتوهم العقلاء وأرباب الافكار وقوعه .
ومنها قولهم : إنه قصر في طلب الخلافة عند بيعة أبى بكر ، وقد كان اجتمع له من بنى هاشم وبنى أمية وغيرهم من أفناء الناس من يتمكن بهم من المنازعة وطلب الخلافة ، فقصر عن ذلك ، لا جبنا ، لانه كان أشجع البشر ، ولكن قصور تدبير وضعف رأى ، ولهذا أكفرته الكاملية (2) وأكفرت الصحابة ، فقالوا : كفرت الصحابة لتركهم بيعته ، وكفر هو بترك المنازعة لهم ! .
__________
(1) أصحر بالامر : أظهره .
(2) الكاملية : أتباع رجل من الرافضة كان يعرف بأبى كامل ، وكان يزعم أن الصحابة كفروا بتركهم بيعة علي ، وكفر علي بتركه قتالهم ، وكان يلزمه قتالهم كما لزم قتال أصحاب صفين .
الفرق بين الفرق 39 .
(*)(10/254)
والجواب : أما على مذهبنا ، فإنه لم يكن عليه السلام منصوصا عليه وإنما كان يدعيها بالافضلية والقرابة والسابقة والجهاد ونحو ذلك من الخصائص ، فلما وقعت بيعة أبى بكر رأى هو على عليه السلام أن الاصلح للاسلام ترك النزاع ، وأنه يخاف من النزاع حدوث فتنة تحل معاقد الملة وتزعزع أركانها ، فحضر وبايع طوعا ، ووجب علينا بعد مبايعته ورضاه أن نرضى بمن رضى هو عليه السلام ، ونطيع من أطاعه ، لانه القدوة ، وأفضل من تركه صلى الله عليه وآله بعده .
وأما الامامية ، فلهم عن ذلك جواب آخر معروف من قواعدهم .
ومنها قولهم : إنه قصر في الرأى حيث دخل في الشورى ، لانه جعل نفسه بدخوله فيها نظيرا لعثمان وغيره من الخمسة ، وقد كان الله تعالى رفعه عنهم وعلى من كان قبلهم ، فوهن بذلك قدره ، وطأطأ من جلالته ، ألا ترى أنه يستهجن ويقبح من أبى حنيفة والشافعي رحمهما الله أن يجعلا أنفسهما نظراء لبعض من بدا (1) طرفا من الفقه ، ويستهجن ويقبح من سيبويه والاخفش أن يوازيا أنفسهما بمن يعلم أبوابا يسيرة من النحو ! .
الجواب : إنه عليه السلام وإن كان أفضل من أصحاب الشورى ، فإنه كان يظن أن ولى الامر أحدهم بعد عمر ، لا يسير سيرة صالحة ، وأن تضطرب بعض أمور الاسلام ، وقد كان يثنى على سيرة عمر ويحمدها ، فوجب عليه بمقتضى ظنه أن يدخل معهم فيما أدخله عمر فيه ، توقعا لان يفضى الامر إليه ، فيعمل بالكتاب والسنة ، ويحيى معالم رسول الله صلى الله عليه وآله ، وليس اعتماما يقتضيه الشرع مما يوجب نقصا في الرأى ، فلا تدبير أصح ولا أسد من تدبير الشرع .(10/255)
ومنها قولهم : إنه ما أصاب حيث أقام بالمدينة وعثمان محصور ، وقد كان يجب في الرأى أن يخرج عنها بحيث لا تنوط بنو أمية به دم عثمان ، فإنه لو كان بعيدا عن المدينة لكان من قذفهم إياه بذلك أبعد ، وعنه أنزه .
والجواب : إنه لم يكن يخطر له مع براءته من دم عثمان ، أن أهل الفساد من بنى أمية يرمونه بأمره ، والغيب لا يعلمه إلا الله ، وكان يرى أن مقامه بالمدينة أدعى إلى انتصار عثمان على المحاصرين له ، فقد حضر هو بنفسه مرارا ، وطرد الناس عنه ، وأنفذ إليه ولديه وابن أخيه عبد الله ، ولولا حضور على عليه السلام بالمدينة لقتل عثمان قبل أن يقتل بمدة ، وما تراخى أمره وتأخر قتله ، إلا لمراقبة الناس له حيث شاهدوه ينتصر له ، ويحامى عنه .
ومنها قولهم : كان يجب في مقتضى الرأى حيث قتل عثمان ، أن يغلق بابه ، ويمنع الناس من الدخول إليه ، فإن العرب كانت تضطرب اضطرابة ثم تئول إليه ، لانه تعين للامر بحكم الحال الحاضرة .
فلم يفعل ، وفتح بابه ، وترشح للامر ، وبسط له يده ، فلذلك انتقضت عليه العرب من أقطارها .
والجواب : إنه عليه السلام كان يرى أن القيام بالامر يومئذ فرض عليه لا يجوز له الاخلال به ، لعدم من يصلح في ظنه للخلافة ، فما كان يجوز له أن يغلق بابه ويمتنع ، وما الذى كان يؤمنه أن يبايع الناس طلحة أو الزبير أو غيرهما ممن لا يراه أهلا للامر ! فقد كان عبد الله بن الزبير يومئذ يزعم أن عثمان عهد إليه بالخلافة وهو محصور .
وكان مروان يطمع أن ينحاز إلى طرف من الاطراف فيخطب لنفسه بالخلافة ، وله من بنى أمية شيعة وأصحاب ، بشبهة أنه ابن عم عثمان ، وأنه كان يدبر أمر الخلافة على عهده .
وكان معاوية يرجو أن ينال الخلافة ، لانه من بنى أمية وابن عم عثمان ، وأمير الشام عشرين سنة ، وقد كان قوم من بنى أمية يتعصبون لاولاد عثمان المقتول ، ويرومون إعادة الخلافة فيهم(10/256)
وما كان يسوغ لعلى عليه السلام في الدين إذا طلبه المسلمون للخلافة أن يمتنع عنها ، ويعلم أنها ستصير إذا امتنع إلى هؤلاء ، فلذلك فتح بابه ، وامتنع امتناع من يحاول أن يعلم ما في قلوب الناس ، هل لرغبتهم إليه حقيقة أم لا ! فلما رأى منهم التصميم وافق لوجوب الموافقة عليه ، قد قال في خطبته : (لولا حضور الحاضر ووجوب الحجة بوجود الناصر ...
لالقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أولها (1)) ، وهذا تصريح بما قلناه .
ومنها قولهم : هلا إذ ملك شريعة الفرات على معاوية ، بعد أن كان معاوية ملكها عليه ، ومنعه وأهل العراق منها ، منع معاوية وأهل الشام منها ، فكان يأخذهم قبضا بالايدي ! فإنه لم يصبر على منعهم عن الماء ، بل فسح لهم في الورود ، وهذا يخالف ما يقتضيه تدبير الحرب .
الجواب ، أنه عليه السلام لم يكن يستحل ما استحله معاوية من تعذيب البشر بالعطش ، فإن الله تعالى ما أمر في أحد من العصاة الذين أباح دماءهم بذلك ، ولا فسح فيه في نحو القصاص أو حد الزانى المحصن أو قتل قاطع الطريق ، أو قتال البغاة والخوارج ، وما كان أمير المؤمنين ممن يترك حكم الله وشريعته ، ويعتمد ما هو محرم فيها لاجل الغلبة والقهر والظفر بالعدو ، ولذلك لم يكن يستحل البيات (2) ولا الغدر ولا النكث .
وأيضا فمن الجائز أن يكون عليه السلام غلب على ظنه أن أهل الشام إن منعوا من الماء كان ذلك أدعى لهم إلى الحملات الشديدة المنكرة على عسكرة ، وأن يضعوا فيهم السيوف ، فيأتوا عليهم ويكسروهم بشدة حنقهم وقوة دواعيهم إلى ورود الماء ، فإن ذلك من أشد الدواعى إلى أن يستميت القوم ويستقتلوا .
ومن الذى يقف بين يدى جيش عظيم عرمرم حنق قد اشتد بهم العطش ، وهم يرون الماء كبطون الحيات ، لا يحول بينهم وبينه إلا قوم
__________
(1) من الخطبة الشقشقية ، وقد تقدمت في الجزء الاول ص 151 - 203 .
(2) يقال : بيت العدو ، إذا أوقع به ليلا .(10/257)
مثلهم ، بل أقل منهم عدة وأضعف عدة ، ولذلك لما حال معاوية بين أهل العراق وبين الماء وقال : لامنعنهم وروده فأقتلهم بشفار الظمأ ، قال له عمرو بن العاص : خل بين القوم وبين الماء ، فليسوا ممن يرى الماء ويصبر عنه ، فقال : لا والله لا أخلى لهم عنه .
فسفه رأيه وقال : أتظن أن ابن أبى طالب وأهل العراق يموتون بإزائك عطشا ، والماء بمقعد الازر ، وسيوفهم في أيديهم ! فلج معاوية ، وقال : لا أسقيهم قطرة كما قتلوا عثمان عطشا .
فلما مس أهل العراق العطش ، أشار على عليه السلام إلى الاشعث أن احمل ، وإلى الاشتر أن احمل ، فحملا بمن معهما فضربا أهل الشام ضربا أشاب الوليد ، وفر معاوية ومن رأى رأيه وتابعه على قوله عن الماء كما تفر الغنم خالطتها السباع ، وكان قصارى أمره ، ومنتهى همته أن يحفظ رأسه ، وينجو بنفسه .
وملك أهل العراق عليهم الماء ودفعوهم عنه ، فصاروا في البر القفر ، وصار على عليه السلام وأصحابه على شريعة الفرات ، مالكين لها ، فما الذى كان يؤمن عليا عليه السلام لو أعطش القوم أن يذوق هو وأصحابه منهم مثل ما أذاقهم ! وهل بعد الموت بالعطش أمر يخافه الانسان ! وهل يبقى له ملجأ إلا السيف يحمل به فيضرب خصمه إلى أن يقتل أحدهما ! .
ومنها قولهم : أخطا حيث محا اسمه بالخلافة من صحيفة الحكومة ، فإن ذلك مما وهنه عند أهل العراق ، وقوى الشبهة في نفوس أهل الشام .
والجواب ، أنه عليه السلام احتذى في ذلك - لما دعى إليه واقترحه الخصم عليه - فعل رسول الله صلى الله عليه وآله في صحيفة الحديبية ، حيث محا اسمه من النبوة لما قال له سهيل بن عمرو : علمنا أنك رسول الله صلى اله عليه وسلم لما حاربناك ، ولا منعناك عن البيت ، وقد قال له صلى الله عليه وآله وهو يومئذ كاتب تلك الصحيفة : ستدعى إلى مثلها فتجيب .
وهذا من أعلام نبوته صلوات الله عليه ، ومن دلائل صدقه ، ومثله جرى له حذو القذة بالقذة .(10/258)
ومنها قولهم : إنه كان غير مصيب في ترك الاحتراس ، فقد كان يعلم كثرة أعدائه ، ولم يكن يحترس منهم ، وكان يخرج ليلا في قميص ورداء وحده ، حتى كمن له ابن ملجم في المسجد فقتله ، ولو كان احترس وحفظ نفسه ولم يخرج إلا في جماعة .
ولو خرج ليلا كانت معه أضواء وشرطة ، لم يوصل إليه .
والجواب ، أن هذا إن كان قادحا في السياسة والتدبير ، فليكن قادحا في تدبير عمر وسياسته ، وهو عند الناس في الطبقة العليا في السياسة وصحة التدبير ، وليكن قادحا في تدبير معاوية ، فقد ضربه الخارجي بالسيف ليلة ضرب أمير المؤمنين عليه السلام فجرحه ، ولم يأت على نفسه ، ومعاوية عند هؤلاء سديد التدبير ، وليكن قادحا في صحة تدبير رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقد كان يخرج وحده في المدينة ليلا ونهارا مع كثرة أعدائه ، وقد كان يأكل ما دعى إليه ولا يحترس ، حتى أكل من يهودية شاة مشوية قد سمته فيها فمرض ، وخيف عليه التلف ، ولما برأ لم تزل تنتقض عليه حتى مات منها ، وقال عند موته : إنى ميت من تلك الاكلة ، ولم تكن العرب في ذلك الزمان تحترس ، ولا تعرف الغيلة والفتك ، وكان ذلك عندهم قبيحا يعير به فاعله ، لان الشجاعة غير ذلك ، والغيلة فعل العجزة من الرجال ، ولان عليا عليه السلام كانت هيبته قد تمكنت في صدور الناس ، فلم يكن يظن أن أحدا يقدم عليه غيلة أو مبارزة في حرب ، فقد كان بلغ من الذكر بالشجاعة مبلغا عظيما لم يبلغه أحد من الناس ، لا من تقدم ولا من تأخر ، حتى كانت أبطال العرب تفزع باسمه ، ألا ترى إلى عمرو بن معدى كرب وهو شجاع العرب ، الذى تضرب به الامثال ، كتب إليه عمر بن الخطاب في أمر أنكره عليه ، وغدر تخوفه منه : أما والله لئن أقمت على ما أنت عليه ، لابعثن إليك رجلا تستصغر معه نفسك ، يضع سيفه على هامتك فيخرجه من بين فخذيك ! فقال عمرو لما وقف على الكتاب : هددني بعلى والله ! ولهذا قال شبيب بن بجرة لابن ملجم ، لما رآه يشد الحرير على بطنه وصدره : ويلك ! ما تريد(10/259)
أن تصنع ! قال : أقتل عليا ، قال هبلتك الهبول ، لقد جئت شيئا إدا ! كيف تقدر على ذلك ! فاستبعد أن يتم لابن ملجم ما عزم عليه ، ورآه مراما وعرا .
والامر في هذا وأمثاله مسند إلى غلبات الظنون ، فمن غلبت على ظنه السلامة مع الاسترسال لم يجب عليه الاحتراس ، وإنما يجب الاحتراس على من يغلب على ظنه العطب إن لم يحترس .
فقد بان بما أوضحناه فساد قول من قال : إن تدبيره عليه السلام وسياسته لم تكن صالحة ، وبان أنه أصح الناس تدبيرا وأحسنهم سياسة ، وإنما الهوى والعصبية لا حيلة فيهما !(10/260)
(194) الاصل : ومن كلام له عليه السلام : أيها الناس ، لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله ، فإن الناس اجتمعوا على مائدة شبعها قصير ، وجوعها طويل .
أيها الناس ، إنما يجمع الناس الرضا والسخط ، وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمهم الله بالعذاب لما عموه بالرضا ، فقال سبحانه : (فعقروها فأصبحوا نادمين) ، فما كان إلا أن خارت أرضهم بالخسفة خوار السكة المحماة في الارض الخوارة .
أيها الناس ، من سلك الطريق الواضح ورد الماء ، ومن خالف وقع في التيه ! الشرح : الاستيحاش : ضد الاستئناس ، وكثيرا ما يحدثه التوحد وعدم الرفيق ، فنهى عليه السلام عن الاستيحاش في طريق الهدى لاجل قلة أهله ، فإن المهتدى ينبغى أن يأنس بالهداية ، فلا وحشة مع الحق .
وعنى بالمائدة الدنيا ، لذتها قليلة ، ونغصتها كثيرة ، والوجود فيها زمان قصير جدا ، والعدم عنها زمان طويل جدا .
ثم قال : ليست العقوبة لمن اجترم ذلك الجرم بعينه ، بل لمن اجترمه ومن رضى به ، وإن لم يباشره بنفسه ، فإن عاقر ناقة صالح إنما كان إنسانا واحدا ، فعم الله ثمود بالسخط(10/261)
لما كانوا راضين بذلك الفعل كلهم ، واسم (كان) مضمر فيها ، أي ماكان الانتقام منهم إلا كذا .
وخارت أرضهم بالخسفة : صوتت كما يخور الثور ، شبه عليه السلام ذلك بصوت السكة المحماة في الارض الخوارة ، وهى اللينة ، وإنما جعلها محماة لتكون أبلغ في ذهابها في الارض .
ومن كلامه عليه السلام يوم خيبر ، يقوله لرسول الله صلى الله عليه وآله ، وقد بعثه بالراية : أكون في أمرك كالسكة المحماة في الارض ، أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب ؟ فقال له : بل يرى الشاهد مالا يرى الغائب .
وقال له أيضا هذه اللفظة لما بعثه في شأن مارية القبطية ، وما كانت اتهمت به من أمر الاسود القبطى ، ولهذا عله في العلم الطبيعي ، وذلك أن السكة المحماة تخرق الارض بشيئين : أحدهما تحدد رأسها ، والثانى حرارته ، فإن الجسم المحدد الحار إذا اعتمد عليه في الارض اقتضت الحرارة إعانة ذلك الطرف المحدد على النفوذ بتحليلها ما تلاقى من صلابة الارض ، لان شأن الحرارة التحليل ، فيكون غوص ذلك الجسم المحدد في الارض أوحى وأسهل .
والتيه : المفازة يتحير سالكها .
(قصة صالح وثمود) قال المفسرون : إن عادا لما أهلكت عمرت ثمود بلادها وخلفوهم في الارض ، وكثروا وعمروا أعمارا طوالا ، حتى إن الرجل كان يبنى المسكن المحكم فينهدم في حياته ، فنحتوا البيوت في الجبال ، وكانوا في سعة ورخاء من العيش فعتوا على الله ، وأفسدوا في الارض ، وعبدوا الاوثان ، فبعث الله إليهم صالحا ، وكانوا قوما عربا ، وصالح من أوسطهم(10/262)
نسبا ، فما آمن به إلا قليل منهم مستضعفون ، فحذرهم وأنذرهم ، فسألوه آية ، فقال : أية آية تريدون ؟ قالوا : تخرج معنا إلى عيدنا - في يوم معلوم لهم من السنة - فتدعو إلهك وندعو إلهنا ، فإن استجيب لك اتبعناك ، وإن استجيب لنا اتبعتنا .
قال : نعم ، فخرج معهم ، ودعوا أوثانهم ، وسألوها الاستجابة فلم تجب ، فقال سيدهم جندع بن عمرو - وأشار إلى صخرة منفردة في ناحية الجبل يسمونها الكاثبة : أخرج لنا في هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء - والمخترجة : التى شاكلت البخت (1) - .
فإن فعلت صدقناك وأجبناك ، فأخذ عليهم المواثيق ، لئن فعلت ذلك لتؤمنن ولتصدقن ؟ قالوا : نعم ، فصلى ودعا ربه ، فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها ، فانصدعت عن ناقة عشراء (2) جوفاء وبراء كما وصفوا ، لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله ، وعظماؤهم ينظرون .
ثم نتجت ولدا مثلها في العظم ، فآمن به جندع ورهط من قومه ، ومنع أعقابهم ناس من رؤوسهم أن يؤمنوا ، فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر وتشرب الماء ، وكانت ترد غبا ، فإذا كان يومها وضعت رأسها في البئر ، فما ترفعه حتى تشرب كل ماء فيها ثم تتفجح ، فيحتلبون ما شاءوا حتى تمتلئ أوانيهم ، فيشربون ويدخرون فإذا وقع الحر تصيفت بظهر الوادي ، فتهرب منها أنعامهم ، فتهبط إلى بطنه ، وإذا وقع البرد تشتت ببطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى ظهره ، فشق ذلك عليهم ، وزينت عقرها لهم امرأتان : عنيزة أم غنم وصدفة بنت المختار ، لما أضرت به من مواشيهما ، وكانتا كثيرتى المواشى ، فعقروها ، عقرها قدار الاحمر ، واقتسموا لحمها وطبخوه .
__________
(1) البخت : الابل الخراسانية .
(2) االعشراء من النوق : التى مضى لحملها عشرة أشهر أو ثمانية ، وجمعها عشار ، بكسر العين .
(*)(10/263)
فانطلق سقبها (1) حتى رقى جبلا اسمه قارة ، فرغا ثلاثا ، وكان صالح قال لهم : أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب ، فلم يقدروا عليه ، وانفجت الصخرة بعد رغائه فدخلها ، فقال لهم صالح : تصبحون غدا ووجوهكم مصفرة وبعد غد وجوهكم محمرة ، واليوم الثالث وجوهكم مسودة ، ثم يغشاكم العذاب .
فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه ، فأنجاه الله سبحانه إلى أرض فلسطين ، فلما كان اليوم الرابع ، وارتفعت الضحوة ، تحنطوا بالصبر ، وتكفنوا بالانطاع ، فأتتهم صيحة من السماء وخسف شديد وزلزال ، فتقطعت قلوبهم فهلكوا .
وقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله مر بالحجر في غزوة تبوك ، فقال لاصحابه : لا يدخلن أحد منكم القرية ، ولا تشربوا من مائها ، ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تمروا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم .
وروى المحدثون أن النبي صلى الله عليه وآله قال لعلى عليه السلام : أتدرى من أشقى الاولين ؟ قال : نعم ، عاقر ناقة صالح قال : أفتدرى من أشقى الاخرين ؟ قال : الله ورسوله أعلم ، قال : من يضربك على هذه ، حتى تخضب هذه .
__________
(1) السقب : ولد الناقة ، خاص بالذكر .
(*)(10/264)
(195) الاصل : ومن كلام له عليه السلام : روى عنه أنه قاله عند دفن سيدة النساء فاطمة عليها السلام ، كالمناجي به رسول الله صلى الله عليه وآله عند قبره .
السلام عليك يارسول الله عنى ، وعن ابنتك النازلة في جوارك ، والسريعة اللحاق بك ! قل يارسول الله عن صفيتك صبرى ، ورق عنها تجلدي ، إلا أن في التأسي لى بعظيم فرقتك ، وفادح مصيبتك موضع تعز .
فلقد وسدتك في ملحودة قبرك ، وفاضت بين نحرى وصدري نفسك ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ! فلقد استرجعت الوديعة ، وأخذت الرهينة ! أما حزنى فسرمد ، وأما ليلى فمسهد ، إلى أن يختار الله لى دارك التى أنت بها مقيم .
وستنبئك ابنتك بتضافر أمتك على هضمها ، فاحفها السؤال ، واستخبرها الحال ، هذا ولم يطل العهد ، ولم يخل منك الذكر .
والسلام عليكما سلام مودع ، لاقال ولا سئم ، فإن أنصرف فلا عن ملالة ، وإن أقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين ! الشرح : أما قول الرضى رحمه الله : (عند دفن سيدة النساء) ، فلانه قد تواتر الخبر عنه صلى الله عليه وآله أنه قال : (فاطمة سيدة نساء العالمين) إما هذا اللفظ بعينه ، أو لفظ يؤدى هذا(10/265)
المعنى ، روى أنه قال وقد رآها تبكى عند موته : (ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الامة !) .
وروى أنه قال : (سادات نساء العالمين أربع : خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ، وآسية بنت مزاحم ، ومريم بنت عمران) .
قوله عليه السلام : (وسريعة اللحاق بك) جاء في الحديث ، أنه رآها تبكى عند موته فأسر إليها : (أنت أسرع أهلى لحوقا بى) ، فضحكت .
قوله : (عن صفيتك) أجله صلى الله عليه وآله عن أن يقول : (عن ابنتك) ، فقال : (صفيتك) ، وهذا من لطيف عبارته ، ومحاسن كنايته ، يقول عليه السلام : ضعف جلدى وصبرى عن فراقها ، لكنى أتأسى بفراقي لك فأقول : كل عظيم بعد فراقك جلل ، وكل خطب بعد موتك يسير .
ثم ذكر حاله معه وقت انتقاله صلوات الله عليه إلى جوار ربه ، فقال : لقد وسدتك في ملحودة قبرك ، أي في الجهة المشقوقة من قبرك ، واللحد : الشق في جانب القبر ، وجاء بضم اللام في لغة غير مشهورة .
قال : (وفاضت بين نحرى وصدري نفسك) ، يروى أنه صلى الله عليه وآله قذف دما يسيرا وقت موته ، ومن قال بهذا القول زعم أن مرضه كان ذات الجنب ، وأن القرحة التى كانت في الغشاء المستبطن للاضلاع انفجرت في تلك الحال ، وكانت فيها نفسه صلى الله عليه وآله .
وذهب قوم إلى أن مرضه إنما كان الحمى والسرسام الحار ، وأن أهل داره ظنوا أن به ذات الجنب ، فلدوه وهو مغمى عليه ، وكانت العرب تداوى باللدود (1) من به ذات الجنب ، فلما أفاق علم أنهم قد لدوه ، فقال : (لم يكن الله ليسلطها على ، لدوا كل من في الدار) فجعل بعضهم يلد بعضا .
__________
(1) في اللسان عن الفراء : (اللد أن يؤخذ بسان الصبى فيمد إلى أحد شقيه ، ويوجر في الاخر الدواء ، في الصدف بين اللسان وبين الشدق ، وفى الحديث أنه لد في مرضه .
(*)(10/266)
واحتج الذاهبون إلى أن مرضه كان ذات الجنب بما روى من انتصابه وتعذر الاضطجاع والنوم عليه قال سلمان الفارسى : دخلت عليه صبيحة يوم قبل اليوم الذى مات فيه ، فقال لى : يا سلمان ، ألا تسأل عما كابدته الليلة من الالم والسهر أنا وعلى ! فقلت : يارسول الله ، ألا أسهر الليلة معك بدله ؟ فقال : لا هو أحق بذلك منك .
وزعم آخرون أن مرضه كان أثرا لاكلة السم التى أكلها عليه السلام ، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وآله : (مازالت أكلة خيبر تعاودني ، فهذا أوان قطعت أبهرى) (1) .
ومن لم يذهب إلى ذات الجنب ، فأولوا قول على عليه السلام : (وفاضت بين نحرى وصدري نفسك) ، فقالوا : أراد بذلك آخر الانفاس التى يخرجها الميت ولا يستطيع إدخال الهواء إلى الرئة عوضا عنها ولابد لكل ميت من نفخة تكون آخر حركاته .
ويقول قوم : إنها الروح ، وعبر على عليه السلام عنها بالنفس ، لما كانت العرب لا ترى بين الروح والنفس فرقا .
واعلم أن الاخبار مختلفة في هذا المعنى ، فقد روى كثير من المحدثين عن عائشة أنها قالت : توفى رسول الله صلى الله عليه وآله بين سحري (2) ونحرى .
وروى كثير منهم اللفظ عن على عليه السلام ، أنه قال عن نفسه وقال في رواية أخرى : ففاضت نفسه في يدى ، فأمررتها على وجهى) .
__________
(1) الابهر : عرق إذا انقطع مات صاحبه ، وهما أبهران يخرجان من القلب ، ثم يتشعب منهما سائر الشرايين (2) السحر هنا : الرئة .
(*)(10/267)
والله أعلم بحقيقة هذه الحال ، ولا يبعد عندي أن يصدق الخبران معا ، بأن يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وقت الوفاة مستندا إلى على وعائشة جميعا ، فقد وقع الاتفاق على أنه مات وهو حاضر لموته ، وهو الذى كان يقلبه بعد موته ، وهو الذى كان يعلله ليالى مرضه ، فيجوز أن يكون مستندا إلى زوجته وابن عمه ومثل هذا لا يبعد وقوعه في زماننا هذا ، فكيف في ذلك الزمان الذى كان النساء فيه والرجال مختلطين لا يستتر البعض عن البعض ! فإن قلت : فكيف تعمل بآية الحجاب ، وما صح من استتار أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله عن الناس بعد نزولها ؟ .
قلت : قد وقع اتفاق المحدثين كلهم على أن العباس كان ملازما للرسول الله صلى الله عليه وآله أيام مرضه في بيت عائشة ، وهذا لا ينكره أحد ، فعلى القاعدة التى كان العباس ملازمه صلى الله عليه وآله كان على عليه السلام ملازمه ، وذلك يكون بأحد الامرين : أما بإن نساءه لا يستترن من العباس وعلى لكونهما أهل الرجل وجزء منه ، أو لعل النساء كن يختمرن بأخمرتهن ، ويخالطن الرجال فلا يرون وجوههن ، وما كانت عائشة وحدها في البيت عند موته ، بل كان نساؤه كلهن في البيت ، وكانت ابنته فاطمة عند رأسه صلى الله عليه وآله .
فأما حديث مرضه صلوات الله عليه ووفاته ، فقد ذكرناه فيما تقدم .
قوله : (إنا لله) إلى آخره ، أي عبيده ، كما تقول : هذا الشئ لزيد ، أي يملكه .
ثم عقب الاعتراف بالملكية بالاقرار بالرجعة والبعث ، وهذه الكلمة تقال عند المصيبة ، كما أدب الله تعالى خلقه وعباده .
والوديعة والرهينة ، عبارة عن فاطمة ، ومن هذا الموضع أخذ ابن ثوابة الكاتب قوله عن قطر الندى بنت خماروية بن أحمد بن طولون ، لما حملت من مصر إلى المعتضد أحمد بن(10/268)
طلحة بن المتوكل : (وقد وصلت الوديعة سالمة ، والله المحمود ، وكيف يوصى الناظر بنوره ، أم كيف يحض القلب على حفظ سروره) ! وأخذ الصابى هذه اللفظة أيضا ، فكتب عن عز الدولة بختيار بن بويه ، إلى عدة الدولة أبى تغلب بن حمدان ، وقد نقل إليه ابنته : (قد وجهت الوديعة يا سيدي ، وإنما تقلب من وطن إلى سكن ، ومن مغرس إلى مغرس ، ومن مأوى بر وانعطاف ، إلى مثوى كرامة وإلطاف) .
فأما الرهينة فهى المرتهنة ، يقال للمذكر : هذا رهين عندي على كذا ، وللانثى : هذه رهينة عندي على كذا ، كأنها عليها السلام كانت عنده عوضا من رؤية رسول الله صلى الله عليه وآله ، كما تكون الرهينة عوضا عن الامر الذى أخذت رهينة عليه .
ثم ذكر عليه السلام أن حزنه دائم ، وأنه يسهر ليله ولا ينام إلى أن يلتحق برسول الله صلى الله عليه وآله ويجاوره في الدار الاخرة ، وهذا من باب المبالغة كما يبالغ الخطباء والكتاب والشعراء في المعاني ، لانه عليه السلام ما سهر منذ ماتت فاطمة ودام سهره إلى أن قتل عليه السلام ، وإنما سهر ليلة أ وشهرا أو سنة ، ثم استمر مريره ، وارعوى وسنة ، فأما الحزن فإنه لم يزل حزينا إذا ذكرت فاطمة ، هكذا وردت الرواية عنه .
قوله عليه السلام : (وستنبئك ابنتك) أي ستعلمك .
فأحفها السؤال ، أي استقص في مسألتها ، واستخبرها الحال ، أحفيت إحفاء في السؤال : استقصيت ، وكذلك في الحجاج والمنازعة قال الحارث بن حلزة : إن إخواننا الاراقم يغلون علينا في قيلهم إحفاء (1) .
ورجل حفى ، أي مستقص في السؤال .
__________
(1) المعلقات بشرح التبريزي 245 .
يغلون ، أي يرتفعون .
والاحفاء : الاستقصاء .
(*)(10/269)
واستخبرها الحال ، أي عن الحال ، فحذف الجار ، كقولك : اخترت الرجال زيدا ، أي من الرجال ، أي سلها عما جرى بعدك من الاستبداد بعقد الامر دون مشاورتنا ، ولا يدل هذا على وجود النص ، لانه يجوز أن تكون الشكوى والتألم من اطراحهم وترك إدخالهم في المشاورة ، فإن ذلك مما تكرهه النفوس وتتألم منه ، وهجا الشاعر قوما ، فقال : ويقضى الامر حين تغيب تيم ولا يستأذنون وهم شهود (1) .
قوله : (هذا ولم يطل العهد ، ولم يخلق الذكر) أي لم ينس .
فإن قلت : فما هذا الامر الذى لم ينس ولم يخلق ، إن لم يكن هناك نص ؟ .
قلت : قوله صلى الله عليه وآله : (إنى مخلف فيكم الثقلين) ، وقوله : (اللهم أدر الحق معه حيث دار) ، وأمثال ذلك من النصوص الدالة على تعظيمه وتبجيله ومنزلته في الاسلام ، فهو عليه السلام كان يريد أن يؤخر عقد البيعة إلى أن يحضر ويستشار ، ويقع الوفاق بينه وبينهم ، على أن يكون العقد لواحد من المسلمين بموجبه ، إما له أو لابي بكر ، أو لغيرهما ، ولم يكن ليليق أن يبرم الامر وهو غير حاضر له ، مع جلالته في الاسلام ، وعظيم أثره ، وما ورد في حقه من وجوب موالاته والرجوع إلى قوله وفعله ، فهذا هو الذى كان ينقم عليه السلام ، ومنه كان يتألم ويطيل الشكوى ، وكان ذلك في موضعه .
وما أنكر إلا منكرا .
فأما النص فإنه لم يذكره عليه السلام ، ولا احتج به ، ولما طال الزمان صفح عن ذلك الاستبداد الذى وقع منهم ، وحضر عندهم فبايعهم ، وزال ما كان في نفسه .
__________
(1) لجرير ، من قصيدة له في ديوانه 160 - 166 ، يهجو فيها التيم ، قبيل عمر بن لجأ .
وشهود ، أي حاضرين .
(*)(10/270)
فإن قلت : فهل كان يسوغ لابي بكر ، وقد رأى وثوب الانصار على الامر أن يؤخره إلى أن يخرج عليه السلام ويحضر المشورة ؟ .
قلت : إنه لم يلم أبا بكر بعينه ، وإنما تألم من استبداد الصحابة بالامر دون حضوره ومشاورته .
ويجوز أن يكون أكثر تألمه وعتابه مصروفا إلى الانصار الذين فتحوا باب الاستبداد ، والتغلب .
(رسالة أبى بكر لعلي في شأن الخلافة ، رواية أبى حامد المروروذى) وروى القاضى أبو حامد أحمد بن بشير المروروذى العامري فيما حكاه عنه أبو حيان التوحيدي ، قال أبو حيان : سمرنا عند القاضى أبى حامد ليلة ببغداد بدار ابن جيشان ، في شارع الماذيان ، فتصرف الحديث بنا كل متصرف ، وكان الله معنا (1) مزيلا مخلطا (2) عزيز (3) الرواية ، لطيف الدراية (له) في كل جو متنفس ، وفى كل نار مقتبس ، فجرى حديث السقيفة ، وتنازع القوم الخلافة ، فركب كل منا فنا ، وقال قولا ، وعرض بشئ ونزع إلى مذهب ، فقال أبو حامد : هل فيكم من يحفظ رسالة أبى بكر إلى على ، وجواب على له ومبايعته إياه عقيب تلك الرسالة ؟ فقالت الجماعة : لا والله ، فقال : هي والله من درر الحقاق المصونة (4) ، ومخبآت الصناديق في الخزائن المحوطة ، ومنذ حفظتها ما رويتها إلا للمهلبي (5) في وزارته ، فكتبها عنى في خلوة بيده ، وقال : لا أعرف في الارض رسالة
__________
(1) المعن : الخطيب المتصرف .
(2) يقال : رجل مزيل مخلط : أي فائق رائق .
(3) في صبح الاعشى : (غزير) .
(4) صبح الاعشى : (من بنات الحقائق) .
والحقائق هنا : حمع حق ، بالضم ، وهو الوعاء .
(5) صبح الاعشى : (لابي محمد المهلبى) .
(*)(10/271)
أعقل منها ، ولا أبين ، وإنها لتدل على علم وحكم ، وفصاحة وفقاهة ، في دين ودهاء ، وبعد غور ، وشدة غوص .
فقال له واحد من القوم : أيها القاضى ، فلو أتممت المنة علينا بروايتها سمعناها ورويناه عنك ، فنحن أوعى لها من المهلبى ، وأوجب ذماما عليك .
فقال (1) : هذه الرسالة رواها عيسى بن دأب ، عن صالح بن كيسان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه عروة بن الزبير ، عن أبى عبيدة بن الجراح (1) .
قال أبو عبيدة : لما استقامت الخلافة لابي بكر بين المهاجرين والانصار ، ولحظ بعين الوقار والهيبة - بعد هنة (2) كاد الشيطان بها يسر فدفع الله شرها ، وأدحض عسرها ، فركد كيدها ، وتيسر خيرها ، وقصم ظهر النفاق والفسق بين أهلها - بلغ أبا بكر عن على عليه السلام تلكؤ وشماس ، وتهمهم (3) ونفاس ، فكره أن يتمادى الحال وتبدو له العورة ، وتنفرج (4) ذات البين ، ويصير ذلك دريئة لجاهل مغرور ، أو عاقل ذى دهاء ، أو صاحب سلامة ضعيف القلب ، خوار العنان ، دعاني في خلوة فحضرته ، وعنده عمر وحده - وكان عمر قبسا له وظهيرا معه ، يستضئ بناره ، ويستملى من لسانه - فقال لى : يا أبا عبيدة ، ما أيمن ناصيتك ، وأبين الخير بين عارضيك ! لقد كنت من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمكان المحوط ، والمحل المغبوط ، ولقد قال فيك في يوم مشهود : (أبو عبيدة أمين هذه الامة) ، وطالما أعز الله الاسلام بك ، وأصلح ثلمه على يديك ، ولم تزل للدين ناصرا وللمؤمنين روحا ، ولاهلك ركنا ، ولاخوانك مردا ! قد أردتك
__________
(1) في صبح الاعشى : (حدثنا خزاعي بمكة ، عن أبى ميسرة ، قال : حدثنا محمد بن أبى فليح ، عن عيسى بن دأب المتاح ، قال : سمعت مولاى أبا عبيدة يقول :) .
(2) صبح الاعشى : (بعد فتنة) .
(3) همهم الرجل : تكلم كلام خفيا ، والنفاس : مصدر نافس ، أي رغب في الشئ وفى نهاية الارب وصبح الاعشى : (تهمم) (4) نهاية الارب : (وتفرق) .
(*)(10/272)
لامر له ما بعده ، خطره (1) مخوف ، وصلاحه معروف .
ولئن لم يندمل جرحه بمسبارك (2) ورفقك ، ولم تجب حيته (3) برقيتك ، لقد وقع اليأس ، وأعضل البأس ، واحتيج بعدك إلى ما هو أمر من ذلك وأعلق ، وأعسر منه وأغلق ، والله أسأل تمامه بك ، ونظامه على (4) يدك .
فتأت (5) له يا أبا عبيدة ، وتلطف فيه ، وانصح لله ولرسوله ، ولهذه العصابة ، غير آل جهدا ، ولا قال حمدا ، والله كالئك وناصرك ، وهاديك ومبصرك .
أمض إلى على ، واخفض جناحك له ، واغضض من صوتك عنده ، واعلم إنه سلالة أبى طالب ، ومكانه ممن فقدناه بالامس مكانه ، قل له : البحر مغرقة ، والبر مفرقة ، والجو أكلف ، والليل أغلف ، والسماء جلواء ، والارض صلعاء ، والصعود متعذر ، والهبوط متعسر ، والحق عطوف رؤوف ، والباطل نسوف عصوف ، والعجب مقدحة الشر ، والضغن رائد البوار ، والتعريض شجار (6) الفتنة ، والقحة مفتاح العداوة ، والشيطان متكئ على شماله ، باسط ليمينه ، نافج (7) حضنيه لاهله ، ينتظر الشتات والفرقة ، ويدب بين الامة بالشحناء العداوة ، (8 عنادا لله ولرسوله ولدينه ، يوسوس بالفجور 8) ، ويدلى بالغرور ويمنى أهل الشرور ، ويوحى إلى أوليائه بالباطل ، دأبا له منذ كان على عهد أبينا
__________
(1) د : (خطره مخوف) .
صبح االاعشى : (لامر خطر مخوف) .
(2) المسبار : الميل الذى يسبر به الجرح .
وفى صبح الاعشى : بيسارك .
(3) الجب : القطع عامة (4) صبح الاعشى : (يديك) (5) تأت : تهيأ للامر برفق وحسن حيلة .
وفى ب : (تأن) ، (6) الشجار : مركب أصغر من الهودج ، ضربه مثلا .
(7) في اللسان : (كل ما ارتفع فقد نفج وانتفج وتنفج ، ونفجه هو ...
ونفجت الشئ فانتفج ، أي رفعته وعظمته ...
وفى حديث على نافجا حضنيه ، كنا به عن التعاظم والتكبر والخيلات .
والحضن : الجنب ، وهما حضنتان .
(8 - 8) صبح الاعشى : (عنادا لله عزوجل أولا ، ولادم ثانيا ، ولنبيه صلى الله عليه وسلم ولدينه ثالثا ، يوسوس بالفجور .
(*)(10/273)
آدم ، وعادة منه منذ أهانه الله في سالف الدهر ، لا ينجى (1) منه إلا بعض الناجذ على الحق ، وغض الطرف عن الباطل ، ووطئ هامة عدو الله والدين بالاشد فالاشد ، والاجد فالاجد ، وإسلام النفس لله فيما حاز رضاه ، وجنب سخطه .
ولا بد من قول ينفع إذ قد أضر السكوت وخيف غبه ، ولقد أرشدك من أفاء ضالتك ، وصافاك من أحيا مودته لك بعتابك ، وأراد الخير بك من آثر البقيا معك .
ماهذا الذى تسول لك نفسك ، ويدوى (2) به قلبك ، ويلتوى عليه رأيك ، ويتخاوص (3) دونه طرفك ، ويستشرى به ضغنك ، ويتراد معه نفسك ، وتكثر لاجله صعداؤك ، ولا يفيض به لسانك ! اعجمة بعد إفصاح ، ألبسا بعد إيضاح ! أدينا غير دين الله ! أخلقا غير خلق القرآن ! أهديا غير هدى محمد ! أمثلى يمشى له الضراء ويدب له (4) الخمر ! أم مثلك يغص عليه الفضاء ، ويكسف في عينه القمر ! ما هذه القعقعة بالشنان (5) ، والوعوعة باللسان ! إنك لجد عارف (6) باستجابتنا لله ولرسوله ، وخروجنا من أوطاننا وأولادنا وأحبتنا ، وهجرة إلى الله ونصرة لدينه ، في زمان أنت منه في كن الصبا وخدر الغرارة ، غافل ، تشبب وتربب ، لا تعى مايشاد ويراد ، ولا تحصل ما يساق ويقاد ، سوى ما أنت جار عليه من أخلاق الصبيان أمثالك ، وسجايا الفتيان أشكالك ، حتى بلغت إلى غايتك هذه التى إليها أجريت (7) ، وعندها حط رحلك ، غير مجهول القدر
__________
(1) صبح الاعشى : (لامنجى) (2) دوى الصدر يدوى ، من باب علم ، ضغن .
(3) تخاوص : غض بصره عن الامر شيئا .
(4) مثل يضرب للرجل يختل صاحبه ويمكر به .
ويقال : ماوارك من أرض فهو الضراء ، وما واراك من مشجر فهو الخمر .
(5) يقال فلان لا يقعقع له بالشنان ، أي لا يخدع ولا يروع ، وأصله من تحريك الجلد اليابس للبعير ليفزع (6) صبح الاعشى : (إنك والله) .
(7) صبح الاعشى : (التى إليها عدل بك) .
(*)(10/274)
ولا مجحود الفضل ، ونحن في أثناء ذلك نعاني أحوالا تزيل الرواسى ، ونقاسى أهوالا تشيب النواصي ، خائضين غمارها ، راكبين تيارها ، نتجرع صلبها ، ونشرج (1) عيابها ، ونحكم أساسها ، ونبرم أمراسها ، والعيون تحدج (2) بالحسد ، والانوف تعطس بالكبر ، والصدور تستعر بالغيظ ، والاعناق تتطاول بالفخر ، والاسنة (3) تشحذ بالمكر ، والارض تميد بالخوف ، لا ننتظر عند المساء صباحا ، ولا عند الصباح مساء ، ولا ندفع في نحر أمر إلا بعد أن نحسو الموت دونه ، ولا نبلغ إلى شئ إلا بعد تجرع العذاب قبله ، ولا نقوم منادا إلا بعد اليأس من الحياة عنده ، فأدين في كل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاب والام ، والخال والعم ، والمال والنشب ، والسبد (4) واللبد ، والهلة والبلة (5) ، بطيب أنفس وقرة أعين ، ورحب أعطان ، وثبات عزائم ، وصحة عقول ، وطلاقة أوجه ، وذلاقة ألسن .
هذا إلى خبيئات أسرار ، ومكنونات أخبار كنت عنها غافلا ، ولولا سنك لم تك عن شئ منها ناكلا .
كيف وفؤادك مشهوم (6) وعودك معجوم ، وغيبك مخبور ، والخير منك كثير ! فالان قد بلغ الله بك ، وأرهص (7) الخير لك ، (وجعل مرادك بين يديك (8)) ، فاسمع ما أقول لك (9) ، واقبل ما يعود قبوله عليك (10) ، ودع التحبس والتعبس (11)
__________
(1) أشرج العيبة : شد عراها .
(2) تحدج : تحدق .
(3) صبح الاعشى : (والشفار) .
(4) في اللسان : (السبد : الوبر ، وقيل : الشعر ، والعرب تقول : (ماله سبد ولا لبد) ، أي ماله ذو وبر ولا صوف متلبد ، يكنى بهما عن الابل والغنم ، وقيل : يكنى به عن المعز والضأن ...
وقال لاصمعي : ماله سبد ولا لبد ، أي ماله قليل ولا كثير (5) في اللسان : (ما جاء بهلة ولا بلة ، الهلة من الفرح والاستهلال ، والبلة : أدنى بلل من الخير ، وحكاهما كراع جميعا بالفتح .
ويقال : مأصاب عنده هلة ولا بلاه ، أي شيئا) .
(6) مشهوم ، أي ذكى متوقد .
(7) أرهص الخير لك : هيأه ، وجعله دانيا منك .
(8) من صبح الاعشى .
(9) في صبح الاعشى : (وعن علم أقول ما تسمع) .
(10) في صبح الاعشى : (فارتقب زمانك ، وقلص أردانك) (11) نهاية الارب : (التقاعس) .
(*)(10/275)
لمن لا يضلع (1) لك إذا خطأ ، ولا يتزحزح عنك إذا عطا ، فالامر غض ، وفى النفوس مض ، وأنت أديم هذه الامة فلا تحلم لجاجا ، وسيفها العضب فلا تنب اعوجاجا ، وماؤها العذب فلا تحل أجاجا ، والله لقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا لمن هو ؟ فقال : هو لمن يرغب عنه ، لا لمن يجاحش (2) عليه ، ولمن يتضاءل له لا لمن يشمخ (3) إليه ، وهو لمن يقال له : هو لك ، لا لمن يقول : هو لى .
ولقد شاورني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصهر ، فذكر فتيانا من قريش ، فقلت له : أين أنت من على ! فقال : إنى لاكره لفاطمة ميعة شبابه (4) ، وحدة سنه .
فقلت : متى كنفته يدك ، ورعته عينك ، حفت بهما البركة ، وأسبغت عليهما النعمة ، مع كلام كثير خطبت به رغبته فيك ، وما كنت عرفت منك في ذلك حوجاء ولا لوجاء (5) ، ولكني قلت ما قلت ، وأنا أرى مكان غيرك ، وأجد رائحة سواك ، وكنت لك إذ ذاك خيرا منك الان لى ولئن كان عرض بك رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الامر ، فقد كنى عن غيرك (6) ، وإن قال فيك ، فما سكت عن سواك ، وإن اختلج في نفسك شئ ، فهلم فالحكم مرضى ، والصواب مسموع ، والحق مطاع .
ولقد نقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما عند الله (7) وهو عن هذه العصابة راض وعليها حدب ، يسره ما سرها ، ويكيده ماكادها ، ويرضيه ما أرضاها ، ويسخطه
__________
(1) الضلع : الاعوجاج ، وفى صبح الاعشى ونهاية الارب : (يظلع) .
(2) يجاحش ، أي يدفع الناس عنه ليختص به لنفسه .
(3) صبح الاعشى : (يتنفج إليه) .
وفى نهاية الارب : (يتنفج) (4) ميعة الشباب : أوله .
(5) في اللسان : (الحوجاء : الحاجة ، ويقال : مافى صدري به حوجاء ولا لوجاء ، ولاشك ولا مرية بمعنى واحد) .
(6) صبحى الاعشى ونهاية الارب : (فلم يكن معرضا عن غيرك) .
(7) صبحى الاعشى : (إلى الله عزوجل) .
(*)(10/276)
ما أسخطها .
ألم تعلم (1) أنه لم يدع أحدا من أصحابه وخلطائه ، وأقاربه وسجرائه (2) ، إلا أبانه بفضيلة ، وخصه بمزية ، وأفرده بحالة ، لو أصفقت الامة عليه لاجلها لكان عنده إيالتها وكفالتها .
أتظن أنه عليه السلام ترك الامة سدى (3) بددا ، عدا (4) مباهل عباهل (5) طلاحى (6) مفتونة بالباطل ، ملوية (7) عن الحق ، لاذائد ولا رائد ، ولا ضابط ولا خابط ولا رابط ، ولا سافى ولا واقى ، ولا حادى ولا هادى ، كلا والله ما اشتاق إلى ربه ، ولا سأله المصير إلى رضوانه ، إلا بعد أن أقام الصوى ، وأوضح الهدى ، وأمن المهالك (8) وحمى المطارح والمبارك .
وإلا بعد أن شدخ يافوخ الشرك بإذن الله ، وشرم وجه النفاق لوجه الله ، وجدع أنف الفتنة في دين الله ، وتفل في عين الشيطان بعون الله ، وصدع بملء فيه ويده بأمر الله .
وبعد ، فهؤلاء المهاجرون والانصار عندك ومعك في بقعة جامعة ، ودار واحدة ، إن استقادوا لك (9) وأشاروا بك ، فأنا واضع يدى في يدك ، وصائر إلى رأيهم فيك ، وإن تكن الاخرى ، فادخل في صالح مادخل فيه المسلمون ، وكن العون على مصالحهم ، والفاتح لمغالقهم ، والمرشد لضالهم ، والرادع لغاويهم ، فقد أمر الله بالتعاون على البر وأهاب إلى التناصر على الحق .
ودعنا نقض هذه الحياة الدنيا بصدور برئية من الغل ، ونلقى الله بقلوب سليمة من الضغن .
__________
(1) صبح الاعشى : (أما تعلم) (2) السجراء : جمع سجير ، وهو الصديق .
(3) سدى : مهملون .
(4) بددا : متفرقون ، وعدا : متباعدون .
(5) عباهل مباهل : مهملون أيضا .
(6) الطلاحى : الابل التى تشكو بطونا من أكل الطلح ، أراد به هاهنا القوم الذين لاراعى لهم يصدهم عما يضرهم .
(7) صبحى الاعشى : (مغبونة) .
(8) صبحى الاعشى : (وأمن المسالك) .
(9) صبحى الاعشى : (إن استقاتلوني لك ، وأشاروا عندي بك) .
(*)(10/277)
وإنما الناس (1) ثمامة (2) فارفق بهم ، وأحن عليهم ، ولن لهم ، ولا تسول لك نفسك فرقتهم ، واختلاف كلمتهم ، واترك ناجم الشر حصيدا ، وطائر الحقد واقعا ، وباب الفتنة مغلقا ، لا قال ولا قيل ، ولا لوم ولا تعنيف ، ولا عتاب ولا تثريب ، والله على ما أقول وكيل ، وبما نحن عليه بصير .
قال أبو عبيدة : فلما تهيأت للنهوض ، قال لى عمر : كن على الباب هنيهة فلى معك ذرو (3) من الكلام .
فوقفت وما أدرى ما كان بعدى ، إلا أنه لحقني بوجه يندى تهللا ، وقال لى : قل لعلى : الرقاد محلمة ، واللجاج ملحمة ، والهوى مقحمة ، وما منا أحد إلا له مقام معلوم ، وحق مشاع أو مقسوم ، وبناء ظاهر أو مكتوم ، وإن أكيس الكيسى من منح الشارد تألفا ، وقارب البعيد تلطفا ، ووزن كل أمر بميزانه ، ولم يجعل خبره كعيانه ، ولا قاس فتره بشبره ، دينا كان أو دنيا ، وضلالا كان أو هدى ، ولا خير في علم معتمل (4) في جهل ، ولا في معرفة مشوبة بنكر ، ولسنا كجلدة رفع البعير بين العجان وبين الذنب (5) ، وكل صال فبناره يصلى ، وكل سيل فإلى قراره يجرى ، وما كان سكوت هذه العصابة إلى هذه الغاية لعى وحصر ، ولا كلامها اليوم لفرق أو حذر ، فقد جدع الله بمحمد عليه السلام أنف كل متكبر ، وقصم به ظهر كل جبار ، وسل لسان كل كذوب ، فماذا بعد الحق إلا الضلال ! ما هذه الخنزوانة (6) التى في فراش رأسك ؟ وما هذا الشجا المعترض في مدارج أنفاسك ، وما هذه الوحرة (7) التى أكلت شرا سيفك (8) ، والقذاة التى أعشت ناظرك ؟ وما هذا الدحس (9)
__________
(1) صبح الاعشى : (وبعد فإنما الناس) .
(2) الثمامة : واحد الثمام ، نبت ضعيف ، يضرب به المثل لما هو هين .
(3) ذرو من الكلام : طرف منه ، وفى صبح الاعشى : (دور) تحريف .
(4) صبحى الاعشى ونهاية الارب : (مستعمل) .
(5) الرثغ : أصول الفخذين من باطن .
(6) الخنزوانة : كبر .
(7) الوحرة : العداوة ، وأصلها دويبة يشبه بها (8) الشراسيف في الاصل : جمع شرسوف ، وهو غضروف معلق بكل ضلع ، مثل غضروف الكتف .
(9) الدحس : التدسيس في الامر .
(*)(10/278)
والدس اللذان يدلان على ضيق الباع ، وخور الطباع ! وما هذا الذى لبست بسببه جلد النمر ، واشتملت عليه بالشحناء والنكر ! لشدما استسعيت لها ، وسريت سرى ابن أنقد (1) إليها ، إن العوان لاتعلم (2) الخمرة .
ما أحوج الفرعاء إلى فالية ، وما أفقر الصلعاء إلى حالية ، ولقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم والامر معبد (3) مخيس ، ليس لاحد فيه ملمس ، لم يسير فيك قولا ، ولم يستنزل لك قرآنا ، ولم يجزم في شأنك حكما ، لسنا في كسروية كسرى ، ولا قيصرية قيصر ، (تأمل لاخوان فارس وأبناء الاصفر ، قد جعلهم الله جزرا لسيوفنا ، ودريئة لرماحنا ، ومرمى لطعاننا ! بل) (4) نحن في نور نبوة ، وضياء رسالة ، وثمرة حكمة وأثر رحمة ، وعنوان نعمة ، وظل عصمة ، بين أمة مهدية بالحق والصدق ، مأمونة على الرتق والفتق ، لها من الله تعالى قلب أبى ، وساعد قوى ، ويد ناصرة ، وعين ناظرة .
أتظن ظنا أن أبا بكر وثب على هذا الامر مفتاتا على الامة ، خادعا لها ، ومتسلطا عليها ! أتراه امتلخ أحلامها (5) ، وأزاغ أبصارها ، وحل عقودها ، وأحال عقولها ، واستل من صدورها حميتها ، وانتكث رشاءها ، وانتضب ماءها ، وأضلها عن هداها ، وساقها إلى رداها ، وجعل نهارها ليلا ، ووزنها كيلا ، ويقظتها رقادا ، وصلاحها فسادا ! إن كان هكذا ، إن سحره لمبين ، وإن كيده لمتين .
كلا والله ، بأى خيل ورجل ، وبأى سنان ونصل ، وبأى منة وقوة ، وبأى مال وعدة ، وبأى أيد وشدة ، وبأى عشيرة وأسرة ، وبأى قدرة ومكنة ، وبأى تدرع وبسطة ! لقد أصبح بما وسمته منيع الرقبة ، رفيع العتبة .
لا والله لكن سلا عنها فولهت نحوه ، وتطامن لها فالتفت به ، ومال عنها ، فمالت إليه ، واشمأز (6) دونها فاشتملت عليه ، حبوة حباه الله بها ، وغاية بلغه الله إليها ، ونعمة سربله جمالها ، ويد لله أوجب عليه شكرها ، وأمة نظر الله به
__________
(1) إبن أنقد : القنفذ .
(2) إن العوان لاتعلم الخمرة ، مثل ، والعوان : المرأة التى أسنت ولما تهرم .
(3) المعبد : المذلل ، ومثله المخيس .
(4) تكملة من صبح الاعشى .
(5) امتلخ أحلامها : اجتذبها ، يريد أمال عقولها نحوه .
(6) إشمأز : إنقبض .
(*)(10/279)
لها (1) .
وطالما حلقت فوقه في أيام النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت لفتها ، ولا يرتصد وقتها ، والله أعلم بخلقه ، وأرأف بعباده ، يختار ما كان لهم الخيرة .
وإنك بحيث لا يجهل موضعك من بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، وكهف الحكمة ، ولا يجحد حقك فيما آتاك ربك من العلم ، ومنحك من الفقه في الدين ، هذا إلى مزايا خصصت بها ، وفضائل اشتملت عليها ، ولكن لك (2) من يزاحمك بمنكب أضخم من منكبك ، وقربى أمس من قرباك ، وسن أعلى من سنك ، وشيبة أروع من شيبتك ، (3 وسيادة معروفة في الاسلام والجاهلية 3) ومواقف ليس لك فيها جمل ولا ناقة ، ولا تذكر فيها في مقدمة ولا ساقة ، ولا تضرب فيها بذراع ولا اصبع ، ولا تعد (4) منها ببازل ولا هبع (5) .
إن أبا بكر كان حبة قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلاقة (6) همه ، وعيبة سره ، ومثوى حزنه ، وراحة باله ، ومرمق طرفه (7) ، شهرته مغنية عن الدلالة عليه (8) .
ولعمري إنك لاقرب منه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة ، ولكنه أقرب منك قربة ، والقرابة لحم ودم ، والقربة روح ونفس ، وهذا فرق يعرفه المؤمنون ، ولذلك صاروا إليه أجمعون .
ومهما شككت فلا تشك في أن يد الله مع الجماعة ، ورضوانه لاهل الطاعة ، فادخل فيما هو خير لك اليوم وأنفع غدا ، والفظ من فيك ما هو متعلق (9) بلهاتك ، وانفث
__________
(1) صبحى الاعشى : (إليها) .
(2) في الاصول : (كل) ، واثبت مافى صبحى الاعشى .
(3 - 3) صبحى الاعشى : (وسيادة لها أصل في الجاهلية وفرع في الاسلام) .
(4) صبحى الاعشى : (ولا تخرج منها) .
(5) البازل من الابل : مادخل في التاسعة .
والهبع : البعير ينتج في الصيف ، يريد : ليس لك فيها شئ (6) صبحى الاعشى : (علاقة نفسه) .
(7) بعدها في صبحى الاعشى : (وذلك كله بمحضر الصادر والوارد من المهاجرين والانصار) .
(8) صبحى الاعشى : (الدليل) .
(9) صبحى الاعشى : (يعلق) .
(*)(10/280)
سخيمة صدرك ، فإن يكن في الامد طول ، وفى الاجل فسحة ، فستأكله مريئا أو غير مرئ ، وستشربه هنيئا أو غير هنئ ، حين لا راد لقولك إلا من كان آيسا منك ، ولا تابع لك إلا من كان طامعا فيك ، حين يمض أهابك ، ويفرى أديمك ، ويزري على هديك ، هناك تقرع السن من ندم ، وتشرب الماء ممزوجا بدم ، حين (1) تأسى على ما مضى من عمرك ، وانقضى وانقرض من دارج قومك ، وتود أن لو سقيت بالكأس التى سقيتها غيرك ، ورددت إلى الحال التى كنت تكرهها في أمسك ، ولله فينا وفيك أمر هو بالغه ، وعاقبه هو المرجو لسرائها وضرائها ، وهو الولى الحميد الغفور الودود .
قال أبو عبيدة : فمشيت إلى على مثبطا متباطئا ، كأنما أخطو على أم رأسي فرقا من الفتنة ، وإشفاقا على الامة ، وحذرا من الفرقة حتى وصلت إليه في خلاء فابثثته بثى كله ، وبرئت إليه منه ، ودفعته له .
فلما سمعها ووعاها ، وسرت في أوصاله حمياها قال : حلت معلوطة ، وولت مخروطة (2) ، ثم قال : أحدى لياليك فهيسى هيسى لا تنعمي الليلة بالتعريس (3) .
يا أبا عبيدة ، أهذا كله في أنفس القوم يستبطنونه (4) ويضطغنون عليه ! فقلت : لا جواب عندي ، إنما جئتك قاضيا حق الدين ، وراتقا فتق الاسلام (5) ، وسادا ثلمة الامة ، يعلم الله ذلك من جلجلان (6) قلبى ، وقرارة نفسي .
__________
(1) صبحى الاعشى : (حينئذ) .
(2) المعلوطة : من الاعلواط ، وهو ركوب الرأس ، والتفحم على الامور من غير روية ، والمخروطة : السريعة .
(3) في اللسان 8 : 139 : (الهيس : السير ، أي ضرب كان ، وهاس يهيس هيسا : سار أي سير كان ، حكاه أبو عبيدة) ، وروى البيت .
(4) صبحى الاعشى : (ويحسون به) .
(5) صبحى الاعشى : المسلمين) .
(6) الجلجلان : حبة القلب .
(*)(10/281)
فقال : ماكان قعودي في كسر هذا البيت قصدا لخلاف ، ولا إنكارا لمعروف ، ولا زراية على مسلم ، بل لما وقذنى به رسول الله صلى الله عليه وسلم من فراقه ، وأودعني من الحزن لفقده ، فإنى لم أشهد بعده مشهدا إلبا جدد على حزنا ، وذكرني شجنا ، وإن الشوق إلى اللحاق به كاف عن الطمع في غيره ، وقد عكفت على عهد الله أنظر فيه ، وأجمع ما تفرق منه ، رجاء ثواب معد لمن أخلص لله عمله ، وسلم لعلمه ومشيئته أمره ، على إنى أعلم إن التظاهر على واقع ، ولى عن الحق الذى سيق إلى دافع ، وإذ قد أفعم الوادي لى ، وحشد النادى على ، فلا مرحبا بما ساء أحدا من المسلمين ، وفى النفس كلام لولا سابق قول ، وسالف عهد ، لشفيت غيضي بخنصري وبنصرى ، وخضت لجته بأخمصى ومفرقي ، ولكني ملحم إلى أن ألقى الله تعالى ، عنده أحتسب ما نزل بى وأنا غاد إن شاء الله إلى جماعتكم ، ومبايع لصاحبكم ، وصابر على ما ساءني وسركم ، ليقضى الله أمرا كان مفعولا ، وكان الله على كل شئ شهيدا ، قال أبو عبيدة : فعدت إلى أبى بكر وعمر ، فقصصت القول على غرة ، ولم أترك شيئا من حلوه ومره ، ذكرت (1) غدوه إلى المسجد ، فلما كان صباح يومئذ (2 وافى على ، فخرق الجماعة إلى أبى بكر وبايعه 2) ، وقال خيرا ، ووصف جميلا ، وجلس زميلا (3) ، واستأذن للقيام ونهض ، فتبعه عمر إكراما له ، وأجلالا لموضعه ، وإستنباطا (4) لما في نفسه ، وقام أبو بكر فأخذ بيده ، وقال : إن عصابة أنت منها يا أبا الحسن لمعصومة ، وإن أمة أنت فيها لمرحومة ، ولقد أصبحت عزيزا علينا ، كريما لدينا ، نخاف الله إذا سخطت ، ونرجوه إذا رضيت ، ولولا إنى شدهت لما أجبت إلى ما دعيت إليه ، ولكني خفت
__________
(1) صبحى الاعشى : (وبكرت) .
(2 - 2) صبحى الاعشى : (وإذا على مخترق الجماعة إلى أبى بكر رضى الله عنه ، فبايعه) .
(3) صبحى الاعشى : (زميتا) ، أي حليما وقورا .
(4) صبحى الاعشى : (مستأثرا بما عنده) .
(*)(10/282)
الفرقة ، واستئثار الانصار بالمر على قريش ، وأعجلت عن حضورك ومشاورتك ، ولو كنت حاضرا لبايعتك ولم أعدل بك ، ولقد حط الله عن ظهرك ما أثقل كاهلى به ، وما أسعد (1) من ينظر الله إليه بالكفاية ! وإنا إليك لمحتاجون ، وبفضلك عالمون ، وإلى رأيك وهديك في جميع الاحوال راغبون ، وعلى حمايتك وحفيظتك معولون .
ثم انصرف وتركه مع عمر .
فالتفت على إلى عمر فقال : يا أبا حفص ، والله ما قعدت عن صاحبك جزعا على ما صار إليه ، ولا أتيته خائفا منه ، ولا أقول ما أقول بعلة (2) ، وإنى لاعرف مسمى طرفي ومخطى (3) قدمى ، ومنزع قوسى ، وموقع سهمي ، ولكني تخلفت إعذارا إلى الله ، وإلى من يعلم الامر الذى جعله لى رسول الله ، وأتيت فبايعت ، حفظا للدين ، وخوفا من انتشار أمر الله .
فقال له عمر : يا أبا الحسن ، كفكف من غربك ، ونهنه (4) من شرتك ، ودع العصا بلحائها ، والدلو برشائها ، فإنا من خلفها وورائها .
إن قدحنا أورينا ، وإن متحنا أروينا ، وإن قرحنا أدمينا ، وقد سمعت أمثالك التى ألغزت بها صادرة عن صدر دو ، وقلب جو زعمت أنك قعدت في كسر بيتك لما وقذك به فراق ، أفراق رسول الله صلى الله عليه ، وقذك وحدك ولم يقذ سواك ! إن مصابه لاعز وأعظم من ذاك ، وإن من حق مصابه ألا تصدع شمل الجماعة بكلمة لاعصام لها ، فإنك لترى الاعراب حول المدينة لو تداعت علينا في صبح يوم لم نلتقي في ممساه .
وزعمت أن الشوق إلى اللحاق به كاف عن الطمع في غيره ، فمن الشوق إليه نصرة دينه ، وموازرة المسلمين عليه ، ومعاونتهم فيه .
__________
(1) كذا في د ، وفى ب : (أسد) .
(2) صبح الاعشى : (تعله) .
(3) صبح الاعشى : (منتهى طرفي ومحط قدمى) .
(4) صبح الاعشى : (واستوقف من سربك) .(10/283)
وزعمت أنك مكب على عهد الله تجمع ما تفرق منه ، فمن العكوف على عهده النصيحة لعباده ، والرأفة على خلقه ، وأن تبذل من نفسك ما يصلحون به ويجتمعون عليه .
وزعمت أن التظاهر عليك واقع ، أي تظاهر وقع عليك ! وأى حق استؤثر به دونك ! لقد علمت ما قالت الانصار أمس سرا وجهرا ، وما تقلبت عليه ظهرا وبطنا ، فهل ذكرتك أو أشارت بك ، أو طلبت رضاها من عندك ! وهؤلاء المهاجرون ، من الذى قال منهم إنك صاحب هذا الامر ، أو أومأ إليك ، أو همهم بك في نفسك ! أتظن أن الناس ضلوا من أجلك ، أو عادوا كفارا زهدا فيك ، أو باعوا الله تعالى بهواهم بغضا لك ! (1 ولقد جاءني قوم من الانصار ، فقالوا : إن عليا ينتظر الامامة 1) ، ويزعم أنه أولى بها من أبى بكر ، فأنكرت عليهم ، ورددت القول في نحورهم ، حتى قالوا : إنه ينتظر الوحى ويتوكف (2) مناجاة الملك ! فقلت : ذاك أمر طواه الله بعد محمد عليه السلام .
ومن أعجب شأنك قولك : (لولا سابق قول لشفيت غيضي بخنصري وبنصرى) ! وهل ترك الدين لاحد أن يشفى غيضه بيده أو لسانه ! تلك جاهلية استئصل الله شأفتها ، واقتلع جرثومها ، ونور ليلها ، وغور سيلها ، وأبدل منها الروح والريحان ، والهدى والبرهان ! وزعمت أنك ملجم ، فلعمري إن من اتقى ، وآثر رضاه ، وطلب ما عنده ، أمسك لسانه ، وأطبق فاه ، وغلب عقله ودينه على هواه ، وأما قولك : (إنى لاعرف منزع قوسى) ، فإذا عرفت منزع قوسك عرف غيرك مضرب سيفه ، ومطعن رمحه .
وأما ما تزعمه من الامر الذى جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لك ، فتخلفت إعذارا إلى الله ، وإلى العارفة من المسلمين ، فلو عرفه المسلمون
__________
(1 - 1) صبح الاعشى : (لقد جاءني عقيل بن زياد الخزرجي في نفر من أصحابه ، ومعهم شرحبيل بن يعقوب الخزرجي ، وقالوا : إن عليا ينتظر الامامة) .
(2) يتوكف : ينتظر .
(*)(10/284)
لجنحوا إليه ، وأصفقوا عليه ، وما كان الله ليجمعهم على العمى ، ولا ليضربهم بالضلال بعد الهدى ، ولو كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيك رأى ، وعليك عزم ، ثم بعثه الله ، فرأى اجتماع أمته على أبى بكر ، لما سفه آراءهم ، ولاضلل أحلامهم ، ولا آثرك عليهم ، ولا أرضاك بسخطهم ، ولامرك باتباعهم ، والدخول معهم فيما ارتضوه لدينهم .
فقال على : مهلا أبا حفص أرشدك الله ! خفض عليك ، ما بذلت ما بذلت وأنا أريد عنه حولا ، وإن أخسر الناس صفقة عند الله من استبطن النفاق ، واحتضن الشقاق ، وفى الله خلف عن كل فائت ، وعوض من كل ذاهب ، وسلوة عن كل حادث ، وعليه التوكل في جميع الحوادث .
ارجع أبا حفص إلى مجلسك ناقع القلب ، مبرود الغليل ، فصيح اللسان ، رحب الصدر ، متهلل الوجه ، فليس وراء ما سمعته منى إلا ما يشد الازر ، ويحبط الوزر ، ويضع الاصر ، ويجمع الالفة ، ويرفع الكلفة ، إن شاء الله .
فانصرف عمر إلى مجلسه .
قال أبو عبيدة : فلم أسمع ولم أر كلاما ولا مجلسا كان أصعب من ذلك الكلام والمجلس (1) .
قلت : الذى يغلب على ظنى أن هذه المراسلات والمحاورات والكلام كله مصنوع موضوع ، وأنه من كلام أبى حيان التوحيدي ، لانه بكلامه ومذهبه في الخطابة والبلاغة أشبه ، وقد حفظنا كلام عمر ورسائله ، وكلام أبى بكر وخطبه ، فلم نجدهما يذهبان هذا المذهب ، ولا يسلكان هذا السبيل في كلامهما ، وهذا كلام عليه أثر التوليد ليس بخفى ، وأين أبو بكر وعمر من البديع وصناعة المحدثين ! ومن تأمل كلام أبى حيان عرف أن
__________
(1) الخبر في صبح الاعشى 1 : 237 - 247 ونهاية الارب 7 : 213 - 229 ، ومحاضرة الابرار 2 : 102 - 115 ، ونشره إبراهيم الكيلاني مع رسالتين لابي حيان في دمشق 1951 .
(*)(10/285)
هذا الكلام من ذلك المعدن خرج ، ويدل عليه أنه أسنده إلى القاضى أبى حامد المروروذى (1) ، وهذه عادته في كتاب البصائر يسند إلى القاضى أبى حامد كل ما يريد أن يقوله هو من تلقاء نفسه ، أذا كان كارها لان ينسب إليه ، وأنما ذكرناه نحن في هذا الكتاب ، لانه وإن كان عندنا موضوعا منحولا ، فإنه صورة ما جرت عليه حال القوم ، فهم وإن لم ينطقوا به بلسان المقال ، فقد نطقوا به بلسان الحال .
ومما يوضح لك أنه مصنوع ، أن المتكلمين على اختلاف مقالاتهم من المعتزلة والشيعة والاشعرية وأصحاب الحديث ، وكل من صنف في علم الكلام والامامة لم يذكر أحد منهم كلمة واحدة من هذه الحكاية ، ولقد كان المرتضى رحمه الله يلتقط من كلام أمير المؤمنين عليه السلام اللفظة الشاذة ، والكلمة المفردة الصادرة عنه عليه السلام ، في معرض التألم والتظلم ، فيحتج بها ، ويعتمد عليها ، نحو قوله : (مازلت مظلوما مذ قبض رسول الله حتى يوم الناس هذا) .
وقوله : (لقد ظلمت عدد الحجر والمدر) .
وقوله : (إن لنا حقا إن نعطه نأخذه ، وإن نمنعه نركب أعجاز الابل ، وإن طال السرى) .
وقوله : (فصبرت وفى الحلق شجا ، وفى العين قذى) .
وقوله : (اللهم إنى أستعديك على قريش فإنهم ظلموني حقى ، وغصبوني إرثى) .
وكان المرتضى إذا ظفر بكلمة من هذه ، فكأنما ظفر بملك الدنيا ويودعها كتبه وتصانيفه ، فأين كان المرتضى عن هذا الحديث ! وهلا ذكر في كتاب الشافي في الامامة
__________
(1) هو أحمد بن عامر بن بشر بن حامد أبو حامد المروروذى ، أحد فقهاء الشافعية ، ترجم له إبن خلطان 1 : 18 ، 19 توفى سنة 362 .(10/286)
كلام أمير المؤمنين عليه السلام هذا ، وكذلك من قبله من الامامية كابن النعمان ، وبنى نوبخت ، وبنى بابويه وغيرهم ، وكذلك من جاء بعده من متأخرى متكلمي الشيعة وأصحاب الاخبار والحديث منهم إلى وقتنا هذا ! وأين كان أصحابنا عن كلام أبى بكر وعمر له عليه السلام ! وهلا ذكره قاضى القضاة في المغنى مع احتوائه على كل ما جرى بينهم ، حتى إنه يمكن أن يجمع منه تاريخ كبير مفرد في أخبار السقيفة ! وهلا ذكره من كان قبل قاضى القضاة من مشايخنا وأصحابنا ومن جاء بعده من متكلمينا ورجالنا ! وكذلك القول في متكلمي الاشعرية وأصحاب الحديث كابن الباقلانى وغيره ، وكان ابن الباقلانى شديدا على الشيعة ، عظيم العصبية على أمير المؤمنين عليه السلام ، فلو ظفر بكلمة من كلام أبى بكر وعمر في هذا الحديث لملا الكتب والتصانيف بها ، وجعلها هجيراه ودأبه .
والامر في ما ذكرناه في وضع هذه القصة ظاهر لمن عنده أدنى ذوق من علم البيان ، ومعرفة كلام الرجال ، ولمن عنده أدنى معرفة بعلم السير ، وأقل أنس بالتواريخ .
وقوله عليه السلام : (مودع لا قال ولا مبغض ولا سئم) ، أي لاملول ، سئمت من الشئ أسأم سأما وسآما وسامه ، سئمته إذا مللته ، ورجل سؤوم .
ثم أكد عليه السلام هذا المعنى ، فقال : (إن انصرفت فلا عن ملالة ، وإن أقمت كلام أبى بكر وعمر في هذا الحديث لملا الكتب والتصانيف بها ، وجعلها هجيراه ودأبه .
والامر في ما ذكرناه في وضع هذه القصة ظاهر لمن عنده أدنى ذوق من علم البيان ، ومعرفة كلام الرجال ، ولمن عنده أدنى معرفة بعلم السير ، وأقل أنس بالتواريخ .
وقوله عليه السلام : (مودع لا قال ولا مبغض ولا سئم) ، أي لاملول ، سئمت من الشئ أسأم سأما وسآما وسامه ، سئمته إذا مللته ، ورجل سؤوم .
ثم أكد عليه السلام هذا المعنى ، فقال : (إن انصرفت فلا عن ملالة ، وإن أقمت فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين) ، أي ليست إقامتى على قبرك وجزعي عليك ، إنكارا منى لفضيلة الصبر والتجلد والتعزي والتأسى ، وما وعد الله به الصابرين من الثواب ، بل أنا عالم بذلك ، ولكن الجزع يغلبنى بالطبع البشرى .
وروى أن فاطمة بنت الحسين عليهما السلام ضربت فسطاطا على قب بعلها الحسن(10/287)
ابن الحسن عليه السلام سنة ، فلما انقضت السنة قوضت الفسطاط راجعة إلى بيتها ، فسمعت هاتفا يقول : هل بلغوا ما طلبوا ! فأجابه هاتف آخر ، بل يئسوا وانصرفوا .
وذكر أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتابه الكامل أن عليا عليه السلام تمثل عند قبر فاطمة : ذكرت أبا أروى فبت كأننى برد الهموم الماضيات وكيل (1) لكل اجتماع خليلين فرقة وكل الذى دون الفراق قليل وإن افتقادي واحدا بعد واحد دليل على أن لا يدوم خليل والناس يروونه : وإن افتقادي فاطما بعد أحمد تم الجزء العاشر من شرح نهج البذية لابن أبى الحديد ويليه الجزء الحادي عشر
__________
(1) الكامل 4 : 30 (طبعة نهضة مصر) ، ولم يذكر هناك البيت الاول(10/288)
شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد ج 11
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد ج 11(11/)
شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد بتحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم الجزء الحادي عشر دار أحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركائه(11/1)
الطبعة الثانية (1387 ه - 1967 م) جميع الحقوق محفوظة منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي قم - إيران 1404 ه ق(11/2)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل (196) الاصل ومن كلام له عليه السلام أيها الناس انما الدنيا دار مجاز والاخرة دار قرار فخذوا من ممركم لمقركم ولا تهتكوا استاركم عند من يعلم اسراركم واخرجوا من الدنيا قلوبكم من قبل أن تخرج منها ابدانكم ففيها اختبرتم ولغيرها خلقتم إن المرء إذا هلك قال الناس ما ترك وقالت الملائكة ما قدم لله ! آباؤكم فقدموا بعضا يكن لكم ولا تخلفوا كلا فيكون فرضا عليكم الشرح ذكر أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في الكامل (1) عن الاصمعي قال خطبنا اعرابي بالبادية فحمد الله واستغفره ووحده وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم فابلغ في ايجاز ثم قال ايها الناس إن الدنيا دار بلاغ والاخرة دار قرار فخذوا لمقركم من ممركم ولا تهتكوا استاركم عند من لا تخفى عليه اسراركم في الدنيا انتم
__________
(1) الكامل 4 : 108 (طبعة نهضة مصر) .
(*)(11/3)
ولغيرها خلقتم اقول قولى هذا واستغفر الله لى ولكم والمصلى عليه رسول الله والمدعو له الخليفة (1) والامير جعفر بن سليمان .
وذكر غيره الزيادة التى في كلام امير المؤمنين عليه السلام وهى " إن المرء إذا هلك ...
" الى آخر الكلام .
واكثر الناس على أن هذا الكلام لامير المؤمنين عليه السلام .
ويجوز أن يكون الاعرابي حفظه فاورده كما يورد الناس كلام غيرهم .
قوله عليه السلام دار مجاز أي يجاز فيها الى الاخرة منه سمى المجاز في الكلام مجازا لان المتكلم قد عبر الحقيقة الى غيرها كما يعبر الانسان من موضع الى موضع .
ودار القرار دار الاستقرار الذى لا آخر له .
فخذوا من ممركم أي من الدنيا لمقركم ، وهو الاخرة .
قوله عليه السلام " قال الناس ما ترك ! " يريد أن بنى آدم مشغولون بالعاجلة لا يفكرون في غيرها ولا يتساءلون الا عنها فإذا هلك احدكم فانما قولهم بعضهم لبعض ما الذى ترك فلان من المال ما الذى خلف من الولد وأما الملائكة فانهم يعرفون الاخرة ولا تستهويهم شهوات الدنيا وإنما هم مشغولون بالذكر والتسبيح فإذا هلك الانسان قالوا ما قدم أي أي شئ قدم من الاعمال ؟ ثم امرهم عليه السلام بان يقدموا من اموالهم بعضها صدقة فانها تبقى لهم ونهاهم أن يخلفوا اموالهم كلها بعد موتهم فتكون وبالا عليهم في الاخرة
__________
(1) يريد به أبا جعفر المنصور ، وقد ولى ابن عمه جعفر بن سليمان بن عبد الله بن العباس المدينة سنة ست وأربعين ومائة .
(*)(11/4)
(197) الاصل ومن كلام له عليه السلام كان كثيرا ما ينادى به اصحابه تجهزوا رحمكم الله فقد نودى فيكم بالرحيل واقلوا العرجة على الدنيا وانقلبوا بصالح ما بحضرتكم من الزاد فان امامكم عقبة كئودا ومنازل مخوفة مهولة لا بد من الورود عليها والوقوف عندها .
واعلموا أن ملاحظ المنية نحوكم دائبة (1) وكانكم بمخالبها وقد نشبت فيكم وقد دهمتكم منها مفظعات الامور ومضلعات (2) المحذور .
فقطعوا علائق الدنيا واستظهروا بزاد التقوى وقد مضى شئ من هذا الكلام فيما تقدم يخالف هذه الرواية الشرح تجهزوا لكذا أي تهيئوا له .
والعرجة التعريج وهو الاقامة تقول مالى على ربعك عرجة (3) أي إقامه وعرج فلان على المنزل إذا حبس عليه مطيته .
__________
(1) مخطوطة النهج : " دانية " .
(2) مخطوطة النهج : " المعضلات " .
(3) في اللسان : " مالى عندك عرجة [ مثلثة العين مع اسكان الراء ] ، ولا عرجة [ بفتحتين ] ، ولا تعريج ، ولا تعرج ، أي مقام ، وقيل محبس " .
(*)(11/5)
والعقبة الكئود الشاقة المصعد ودائبة جادة والمخلب للسبع بمنزلة الظفر للانسان .
وافظع الامر فهو مفظع إذا جاوز المقدار شدة .
ومضلعات المحذور الخطوب التى تضلع أي تجعل الانسان ضليعا أي معوجا والماضي ضلع بالكسر يضلع ضلعا .
ومن رواها بالظاء اراد الخطوب التى تجعل الانسان ظالعا أي يغمز في مشيه لثقلها عليه والماضي ظلع بالفتح يظلع ظلعها فهو ظالع(11/6)
(198) الاصل ومن كلام له عليه السلام كلم به طلحة والزبير بعد بيعته بالخلافة وقد عتبا عليه (1) من ترك مشهورتهما والاستعانه في الامور بهما لقد نقمتما يسيرا وأرجأتما كثيرا الا تخبراني أي شئ كان لكما فيه حق دفعتكما عنه أم أي قسم استاثرت عليكما به أو أي حق رفعه الي احد من المسلمين ضعفت عنه ام جهلته ام اخطات بابه .
والله ما كانت لى في الخلافة رغبة ولا في الولاية اربة ولكنكم دعوتموني إليها وحملتموني عليها فلما افضت الى نظرت الى تاب الله وما وضع لنا وامرنا بالحكم به فاتبعته وما استن النبي (2) صلى الله عليه وسلم فاقتديته فلم احتج الى رايكما ولا راى غيركما ولا وقع حكم جهلته فاستشيركما واخواني من المسلمين ولو كان ذلك لم ارغب عنكما ولا عن غيركما .
وأما ما ذكرتما من أمر الاسوة فان ذلك امر لم احكم انا فيه برأيى ولا وليته هوى منى بل وجدت أنا وانتما ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فرغ منه فلم احتج اليكما فيما قد فرغ الله من قسمة وامضى فيه حكمه فليس لكما والله عندي ولا لغير كما في هذا عتبى .
أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم الى الحق وألهمنا وإياكم الصبر !
__________
(1) ساقطة من مخطوطة النهج .
(2) مخطوطة النهج " استسن " .
(*)(11/7)
ثم قال عليه السلام رحم الله رجلا رأى حقا فاعان عليه أو رأى جورا فرده وكان عونا بالحق على صاحبه الشرح : نقمت عليه بالفتح أنقم هذه اللغة الفصيحة وجاء نقمت بالكسر انقم .
وارجأتما أخرتما أي نقمتما من احوالى اليسير وتركتما الكثير الذى ليس لكما ولا لغير كما فيه مطعن فلم تذكراه فهلا اغتفرتما اليسير للكثير ! .
وليس هذا اعترافا بان ما نقماه موضع الطعن والعيب ولكنه على جهه الجدل والاحتجاج كما تقول لمن يطعن في بيت من شعر شاعر مشهور لقد ظلمته إذ تتعلق عليه بهذا البيت وتنسى ما له من المحاسن الكثيرة في غيره ! .
تم ذكر وجوه العتاب والاسترادة (1) وهى أقسام إما أن يكون لهما حق يدفعهما عنه أو استأثر عليهما في قسم أو ضعف عن السياسة أو جهل حكما من احكام الشريعة أو أخطا بابه .
فان قلت أي فرق بين الاول والثانى قلت اما دفعهما عن حقهما فمنعهما عنه سواء صار إليه عليه السلام أو الى غيره أو لم يصر الى احد بل بقى بحاله في بيت المال .
__________
(1) الاسترادة : طلب الرجوع واللين والانقياد ، ومنه الحديث : فاسترداد لامر الله ، أي رجع ولان وانقاد .
(اللسان) .
(*)(11/8)
وأما القسم الثاني فهو أن يأخذ حقهما لنفسه وبين القسمين فرق ظاهر والثانى افحش من الاول .
فان قلت فاى فرق بين قوله " ام جهلته " أو " اخطات بابه " .
قلت جهل الحكم أن يكون الله تعالى قد حكم بحرمه شئ فاحله الامام أو المفتى وكونه يخطئ بابه هو أن يصيب في الحكم ويخطئ في الاستدلال عليه .
ثم اقسم انه لم يكن له في الخلافة رغبة ولا اربة بكسر الهمزة وهى الحاجة وصدق عليه السلام فهكذا نقل اصحاب التواريخ وارباب علم السير كلهم وروى الطبري في التاريخ ورواه غيره ايضا أن الناس غشوة وتكاثروا عليه يطلبون مبايعته وهو يابى ذلك ويقول دعوني والتمسوا غيرى فانا مستقبلون امرا له وجوه والوان لا تثبت عليه العقول ولا تقوم له القلوب قالوا ننشدك الله الا ترى الفتنة الا ترى الى ما حدث في الاسلام الا تخاف الله فقال قد اجبتكم لما ارى منكم واعلموا انى إن اجبتكم ركبت بكم ما اعلم وإن تركتمونى فانما انا كاحدكم بل انا اسمعكم واطوعكم لمن وليتموه امركم إليه فقالوا ما نحن بمفارقيك حتى نبايعك قال إن كان لا بد من ذلك ففى المسجد فان بيعتى لا تكون خفيا ولا تكون الا عن رضا المسلمين وفى ملا وجماعة فقام والناس حوله فدخل المسجد وانثال عليه المسلمون فبايعوه وفيهم طلحة والزبير (1) .
قلت قوله " إن بيعتى لا تكون خفيا ولا تكون الا في المسجد بمحضر من جمهور الناس " يشابه قوله بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله للعباس لما سامه مد يده للبيعة انى احب أن اصحر بها (2) واكره أن ابايع من وراء رتاج .
__________
(1) تاريخ الطبري 5 : 152 (المطبعة الحسينية) مع تصرف (2) أصحر : من قولهم : أصحر الامر وبه ، إذا أظهره .
(*)(11/9)
ثم ذكر عليه السلام انه لما بويع عمل بكتاب الله وسنة رسوله ولم يحتج الى رأيهما ولا رأى غيرهما ولم يقع حكم يجهله فيستشيرهما ولو وقع ذلك لاستشارهما وغيرهما ولم يانف من ذلك .
ثم تكلم في معنى التنفيل في العطاء فقال انى عملت بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله في ذلك وصدق عليه السلام فان رسول الله صلى الله عليه وآله سوى في العطاء بين الناس وهو مذهب ابى بكر .
والعتبى الرضا الست أرضيكما بارتكاب ما لا يحل لى في الشرع ارتكابه والضمير في " صاحبه " وهو الهاء المجرورة يرجع الى الجور أي وكان عونا بالعمل على صاحب الجور [ من اخبار طلحة والزبير ] قد تقدم منا ذكر ما عتب به طلحة والزبير على امير المؤمنين عليه السلام وانهما قالا ما نراه يستشيرنا في امر ولا يفاوضنا في راى ويقطع الامر دوننا ويستبد بالحكم عنا وكانا يرجوان غير ذلك واراد طلحة أن يوليه البصرة واراد الزبير أن يوليه الكوفة فلما شاهدا صلابته في الدين وقوته في العزم وهجرة الادهان والمراقبة ورفضه المدالسة والمواربة وسلوكه في جميع مسالكه منهج الكتاب والسنة وقد كانا يعلمان ذلك قديما من طبعه وسجيته وكان عمر قال لهما ولغيرهما إن الاجلح (1) إن وليها ليحملنكم على المحجة البيضاء والصراط المستقيم وكان رسول الله صلى الله عليه وآله
__________
(1) الاجلح ، من الجلح ، وهو ذهاب الشعر من مقدم الرأس ، وكان رضى الله عنه كذلك .
(*)(11/10)
من قبل قال وإن تولوها عليا تجدوه هاديا مهديا " الا انه ليس الخبر كالعيان ولا القول كالفعل ولا الوعد كالانجاز وحالا عنه وتنكرا له ووقعا فيه وعاباه وغمصاه (1) وتطلبا له العلل والتاويلات وتنقما عليه الاستبداد وترك المشاورة وانتقلا من ذلك الى الوقيعة فيه بمساواة الناس في قسمة المال واثنيا على عمر وحمدا سيرته وصوبا رأيه وقالا انه كان يفضل اهل السوابق وضللا عليا عليه السلام فيما رآه وقالا انه اخطا وانه خالف سيرة عمر وهى السيرة المحمودة التى لم تفضحها النبوة مع قرب عهدنا منها واتصالها بها واستنجدا عليه بالرؤساء من المسلمين كان عمر يفضلهم وينفلهم (2) في القسم على غيرهم والناس ابناء الدنيا ويحبون المال حبا جما - فتنكرت على امير المؤمنين عليه السلام بتنكرهما قلوب كثيرة ونغلت (3) عليه نيات كانت من قبل سليمه ولقد كان عمر موفقا حيث منع قريشا والمهاجرين وذوى السوابق من الخروج من المدينة ونهاهم عن مخالطة الناس ونهى الناس عن مخالطتهم وراى أن ذلك اس الفساد في الارض وأن الفتوح والغنائم قد ابطرت المسلمين ومتى بعد الرؤوس والكبراء منهم عن دار الهجرة وانفردوا بانفسهم وخالطهم الناس في البلاد البعيدة لم يامن أن يحسنوا لهم الوثوب وطلب الامرة ومفارقة الجماعة وحل نظام الالفة ولكنه رضى الله عنه نقض هذا الراى السديد بما فعله بعد طعن ابى لؤلؤة له من امر الشورى فان ذلك كان سبب كل فتنة وقعت وتقع الى أن تنقضي الدنيا وقد قدمنا ذكر ذلك وشرحنا ما ادى إليه امر الشورى من الفساد بما حصل في نفس كل من الستة من ترشيحه للخلافة .
__________
(1) غمصناه : تهاونا بحقه .
(2) ينفلهم : يعطيهم النفل .
(3) نفلت : فسدت .
(*)(11/11)
وروى أبو جعفر الطبري في تاريخه قال كان عمر قد حجر على اعلام قريش من المهاجرين الخروج في البلدان الا باذن واجل فشكوه فبلغه فقام فخطب فقال الا انى قد سننت الاسلام سن البعير يبدأ فيكون جذعا ثم ثنيا (1) ثم يكون رباعيا (2) ثم سديسا ثم بازلا (3) الا فهل ينتظر بالبازل الا النقصان الا وإن الاسلام قد صار بازلا وأن قريشا يريدون أن يتخذوا مال الله معونات على ما في انفسهم الا إن في قريش من يضمر الفرقة ويروم خلع الربقة اما وابن الخطاب حى فلا انى قائمك دون شعب الحرة آخذ بحلاقيم قريش وحجزها أن يتهافتوا في النار .
وقال أبو جعفر الطبري في التاريخ ايضا فلما ولى عثمان لم ياخذهم بالذى كان عمر ياخذهم به فخرجوا الى البلاد فلما نزلوها ورأوا الدنيا ورآهم الناس خمل من لم يكن له طول ولا قدم في الاسلام ونبه اصحاب السوابق والفضل فانقطع إليهم الناس وصاروا اوزاعا معهم واملوهم وتقربوا إليهم وقالوا يملكون فيكون لنا في ملكهم حظوة فكان ذلك اول وهن على الاسلام واول فتنه كانت في العامة .
وروى أبو جعفر الطبري عن الشعبى قال لم يمت عمر حتى ملته قريش وقد كان حصرهم بالمدينة وسألوه أن يأذن لهم في الخروج الى البلاد فامتنع عليهم وقال إن اخوف ما اخاف على هذه الامة انتشاركم في البلاد حتى إن الرجل كان يستاذنه في غزو الروم أو الفرس وهو ممن حبسه بالمدينة من قريش ولا سيما من المهاجرين فيقول له إن لك في غزوك مع رسول الله صلى الله عليه وآله ما يكفيك ويبلغك ويحسبك (4) وهو خير لك من الغزو اليوم وإن خيرا لك الا ترى الدنيا ولا تراك .
__________
(1) الثني : الذي يلقى ثنيته .
(2) الرباعي : هو الذى القى رباعيته ، والرباعية : السن التي بين الثنية والناب (3) البازل : البعير فطر نابه وانشق ، ويكون ذلك في السنة التاسعة .
(4) يقال : أحسبه إذا أرضاه أو أعطاه ما يرضيه وكفاه .
(*)(11/12)
فلما مات عمر وولى عثمان خلى عنهم فانتشروا في البلاد واضطربوا وانقطع إليهم الناس وخالطوهم فلذلك كان عثمان احب الى قريش من عمر .
فقد بان لك حسن راى عمر في منع المهاجرين واهل السابقة من قريش من مخالطة الناس والخروج من المدينة وبان لك أن عثمان ارخى لهم في الطول (1) فخالطهم الناس وافسدوهم وحببوا إليهم الملك والامرة والرئاسة لا سيما مع الثروة العظيمة التى حصلت لهم والثراء مفسدة واى مفسدة وحصل لطلحة والزبير من ذلك ما لم يحصل لغيرهما ثروة ويسارا وقدما في الاسلام وصار لهما لفيف عظيم من المسلمين يمنونهما الخلافة ويحسنون لهما طلب الامرة لا سيما وقد رشحهما عمر لها واقامهما مقام نفسه في تحملها واى امرئ منى بها قط نفسه ففارقها حتى يغيب في اللحد ولا سيما طلحة قد كان يحدث بها نفسه وابو بكر حى ويروم أن يجعلها فيه بشبهه انه ابن عمه وسخط خلافه عمر وقال لابي بكر ما تقول لربك وقد وليت علينا فظا غليظا وكان له في ايام عمر قوم يجلسون إليه ويحادثونه سرا في معنى الخلافة ويقولون له لو مات عمر لبايعناك بغته جلب الدهر علينا ما جلب وبلغ ذلك عمر فخطب الناس بالكلام المشهور إن قوما يقولون إن بيعه ابى بكر كانت فلته وانه لو مات عمر لفعلنا وفعلنا اما أن بيعه ابى بكر كانت فلته الا إن الله وقى شرها وليس فيكم من تقطع إليه الرقاب كابى بكر فاى امرئ بايع امرا من غير مشورة من المسلمين فانهما بغرة أن يقتلا فلما صارت الى عثمان سخطها طلحة بعد أن كان رضيها واظهر ما في نفسه والب عليه حتى قتل ولم يشك أن الامر له فلما صارت الى على عليه السلام حدث منه ما حدث وآخر الدواء الكى .
واما الزبير فلم يكن الا علوى الرأى شديد الولاء جاريا من الرجل مجرى نفسه .
__________
(1) الطول : الحبل ، يريد أنه لان وترك لهم الحبل على الغارب ، حتى فعلوا ما فعلوا .
(*)(11/13)
ويقال انه عليه السلام لما استنجد بالمسلمين عقيب يوم السقيفة وما جرى فيه وكان يحمل فاطمة عليها السلام ليلا على حمار وابناها بين يدى الحمار ، وهو عليه السلام يسوقه فيطرق بيوت الانصار وغيرهم ، ويسألهم النصرة والمعونة ، أجابه اربعون رجلا فبايعهم على الموت وامرهم أن يصبحوا بكرة محلقى رؤوسهم ومعهم سلاحهم فاصبح لم يوافه منهم الا اربعة الزبير والمقداد وابو ذر وسلمان ثم اتاهم من الليل فناشدهم فقالوا نصبحك غدوة فما جاءة منهم الا اربعة وكذلك في الليلة الثالثة وكان الزبير اشدهم له نصرة وانفذهم في طاعته بصيرة حلق راسه وجاء مرارا وفي عنقه سيفه وكذلك الثلاثة الباقون الا أن الزبير هو كان الراس فيهم وقد نقل الناس خبر الزبير لما هجم عليه ببيت فاطمة عليه السلام وكسر سيفه في صخرة ضربت به ونقلوا اختصاصه بعلى عليه السلام وخلواته به ولم يزل مواليا له متمسكا بحبه ومودته حتى نشا ابنه عبد الله وشب فنزع به عرق من الام ومال الى تلك الجهة وانحرف عن هذه ومحبة الوالد للولد معروفة فانحرف الزبير لانحرافه على انه قد كانت جرت بين على عليه السلام والزبير هنات في ايام عمر كدرت القلوب بعض التكدير وكان سببها قصة موالى صفية ومنازعة على للزبير في الميراث فقضى عمر للزبير فاذعن على عليه السلام لقضائه بحكم سلطانه لا رجوعا عما كان يذهب إليه من حكم الشرع في هذه المسالة وبقيت في نفس الزبير على أن شيخنا ابا جعفر الاسكافي رحمه الله ذكر في كتاب " نقض العثمانية " الزبير كلاما أن صح فانه يدل على انحراف شديد ورجوع عن موالاة امير المؤمنين عليه السلام قال تفاخر على عليه السلام والزبير فقال الزبير اسلمت بالغا واسلمت طفلا وكنت اول من سل سيفا في سبيل الله بمكة وانت مستخف في الشعب (1) يكفلك الرجال
__________
(1) هو شعب أبي بمكة ، وانظر معجم البلدان 5 : 270 (*)(11/14)
ويمونك الاقارب من بنى هاشم وكنت فارسا وكنت راجلا وفى هيئتي نزلت الملائكة وانا حوارى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال شيخنا أبو جعفر وهذا الخبر مفتعل مكذوب ولم يجر بين على والزبير شئ من هذا الكلام ولكنه من وضع العثمانية ولم يسمع به في احاديث الحشوية ولا في كتب اصحاب السيرة .
ولعلى عليه السلام أن يقول طفل مسلم خير من بالغ كافر واما سل السيف بمكة فلم يكن في موضعه وفى ذلك قال الله تعالى (الم تر الى الذين قيل لهم كفوا ايديكم ...
) (1) الاية وانا على منهاج الرسول في الكف والاقدام وليس كفالة الرجال والاقارب بالشعب عارا على فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله في الشعب يكفله الرجال والاقارب واما حربك فارسا وحربي راجلا فهلا اغنت فروسيتك يوم عمرو ابن عبدود في الخندق وهلا اغنت فروسيتك يوم طلحة بن ابى طلحة في احد وهلا اغنت فروسيتك يوم مرحب بخيبر ما كانت فرسك التى تحارب عليها في هذه الايام الا اذل من العنز الجرباء ومن سلمت عليه الملائكة افضل ممن نزلت في هيئته وقد نزلت الملائكة في صورة دحية الكلبى افيجب من ذلك أن يكون دحية افضل منى واما كونك حوارى رسول الله صلى الله عليه وآله فلو عددت خصائصي في مقابله هذه اللفظة الواحدة للاستغرقت الوقت وافنيت الزمان ورب صمت ابلغ من نطق (2) .
ثم نرجع الى الحديث الاول فتقول إن طلحة والزبير لما ايسا من جهة على عليه
__________
(1) سورة النساء 77 .
(2) انظر رسالة العثمانية 224 وما بعدها .
(*)(11/15)
السلام ومن حصول الدنيا من قبله قلبا له ظهر المجن فكاشفاه وعاتباه قبل المفارقة عتابا لاذعا روى شيخنا أبو عثمان قال ارسل طلحة والزبير الى على عليه السلام قبل خروجهما الى مكة مع محمد بن طلحة وقالا لا تقل له " يا امير المؤمنين " ولكن قل له " يا أبا الحسن " لقد فال فيك رأينا وخاب ظننا اصلحنا لك الامر ووطدنا لك الامرة واجلبنا على عثمان حتى قتل فلما طلبك الناس لامرهم أسرعنا اليك وبايعناك وقدنا اليك اعناق العرب ووطئ المهاجرون والانصار اعقابنا في بيعتك حتى إذا ملكت عنانك استبددت برايك عنا ورفضتنا رفض التريكة (1) واذلتنا اذالة (2) الاماء وملكت امرك الاشتر وحكيم بن جبله وغيرهما من الاعراب ونزاع الامصار فكنا فيما رجوناه منك واملناه من ناحيتك كما قال الاول فكنت كمهريق الذى في سقائه لرقراق آل فوق رابية صلد فلما جاء محمد بن طلحة ابلغه ذاك فقال اذهب اليهما فقل لهما فما الذى يرضيكما فذهب وجاءه فقال انهما يقولان ول احدنا البصرة والاخر الكوفة فقال لاها الله اذن يحلم الاديم ويستشرى الفساد وتنتقض على البلاد من اقطارها والله انى لا آمنهما وهما عندي بالمدينة فكيف آمنهما وقد وليتهما العراقين اذهب اليهما فقل ايها الشيخان احذرا من سطوة الله ونقمته ولا تبغيا للمسلمين غائلة وكيدا وقد سمعتما قول الله تعالى (تلك الدار الاخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الارض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) (3) فقام محمد بن طلحة فأتاهما ولم يعد إليه وتاخرا عنه اياما ثم جاءاه فاستاذناه في الخروج الى مكة للعمرة فاذن لهما بعد أن احلفهما
__________
(1) التريكة : التي تترك فلا يتزوجها أحد .
(2) الاذالة الاهانة (3) سورة القصص 83 .
(*)(11/16)
الا ينقضا بيعته ولا يغدرا به ولا يشقا عصا المسلمين ولا يوقعا الفرقة بينهم وأن يعودا بعد العمرة الى بيوتهما بالمدينة فحلفا على ذلك كله ثم خرجا ففعلا ما فعلا .
وروى شيخنا أبو عثمان قال لما خرج طلحة والزبير الى مكة واوهما الناس انهما خرجا للعمرة قال على عليه السلام لاصحابه والله ما يريدان العمرة وانما يريدان الغدرة (فمن نكث فانما ينكث على نفسه ومن اوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه اجرا عظيما) .
(1) وروى الطبري في التاريخ قال لما بايع طلحة والزبير عليا عليه السلام سالاه أن يؤمرهما على الكوفة والبصرة فقال بل تكونان عندي اتجمل بكما فانني استوحش لفراقكما .
قال الطبري وقد كان قال لهما قبل بيعتهما له إن احببتما أن تبايعاني وإن احببتما بايعتكما فقالا لا بل نبايعك ثم قالا بعد ذلك انما بايعناه خشية على انفسنا وقد عرفنا انه لم يكن ليبايعنا ثم ظهرا الى مكة وذلك بعد قتل عثمان باربعة اشهر .
وروى الطبري ايضا في التاريخ قال لما بايع الناس عليا وتم له الامر قال طلحة للزبير ما ارى أن لنا من هذا الامر الا كحسة (2) انف الكلب .
وروى الطبري ايضا في التاريخ قال لما بايع الناس عليا عليه السلام بعد قتل عثمان جاء على الى الزبير فاستاذن عليه قال أبو حبيبة مولى الزبير : فاعلمته به فسل السيف ووضعه تحت فراشه وقال ائذن له فاذنت له فدخل فسلم على الزبير وهو واقف ثم خرج فقال الزبير لقد دخل لامر ما قضاه قم مقامه وانظر هل ترى من
__________
(1) سورة الفتح 10 (2) كذا في تاريخ الطبري 1 : 3069 (طبع اوربا) ، والكلمة غير واضحة الاصول (*)(11/17)
السيف شيئا ! فقمت في مقامه فرايت ذباب السيف فاخبرته وقلت إن ذباب السيف ليظهر لمن قام في هذا الموضع فقال ذاك أعجل الرجل وروى شيخنا أبو عثمان قال كتب مصعب بن الزبير الى عبد الملك من مصعب بن الزبير الى عبد الملك بن مروان سلام عليك فانى احمد اليك الله الذى لا اله الا هو اما بعد ستعلم يا فتى الزرقاء أنى ساهتك عن حلائلك الحجابا وأترك بلدة اصبحت فيها تهور من جوانبها خرابا أما أن لله على الوفاء بذلك الا أن تتراجع أو تتوب ولعمري ما انت كعبد الله بن الزبير ولا مروان كالزبير بن العوام حوارى رسول الله صلى الله عليه وآله وابن عمته فسلم الامر الى اهله فان نجاتك بنفسك اعظم الغنيمتين والسلام .
فكتب إليه عبد الملك من عبد الله عبد الملك امير المؤمنين الى الذلول الذى اخطا من سماه المصعب سلام عليك فانى احمد اليك الله الذى لا اله الا هو اما بعد اتوعدني ولم ار مثل يومى خشاش الطير يوعدن العقابا متى تلق العقاب خشاش طير يهتك عن مقاتلها الحجابا اتوعد بالذئاب اسود غاب واسد الغاب تلتهم الذئابا ! اما ما ذكرت من وفائك فلعمري لقد وفى ابوك لتيم وعدى بعداء قريش وزعانفها حتى إذا صارت الامور الى صاحبها عثمان الشريف النسب الكريم الحسب بغاه الغوائل واعد له المخاتل حتى نال منه حاجته ثم دعا الناس الى على وبايعه فلما(11/18)
دانت له امور الامه واجمعت له الكلمة وادركه الحسد القديم لبنى عبد مناف فنقض عهده ونكث بيعته بعد توكيدها ففكر وقدر وقتل كيف قدر وتمزقت لحمه الضباع بوادي السباع ولعمري انك تعلم يا اخا بنى عبد العزى بن قصى انا بنو عبد مناف لم نزل سادتكم وقادتكم في الجاهلية والاسلام ولكن الحسد دعاك الى ما ذكرت ولم ترث ذلك عن كلالة بل عن ابيك ولا أظن حسدك وحسد اخيك يؤول بكما الا الى ما آل إليه حسد ابيكما من قبل (ولا يحيق المكر السيئ الا باهله) (1) (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) (2) .
وروى أبو عثمان ايضا قال دخل الحسن بن علي عليهما السلام على معاوية وعنده عبد الله بن الزبير وكان معاوية يحب أن يغرى بين قريش فقال يا ابا محمد ايهما كان اكبر سنا على ام الزبير فقال الحسن ما اقرب ما بينهما وعلى اسن من الزبير رحم الله عليا فقال ابن الزبير رحم الله الزبير وهناك أبو سعيد بن عقيل بن ابى طالب فقال يا عبد الله وما يهيجك من أن يترحم الرجل على ابيه قال وانا ايضا ترحمت على ابى قال اتظنه ندا له وكفؤا قال وما يعدل به عن ذلك كلاهما من قريش وكلاهما دعا الى نفسه ولم يتم له قال دع ذاك عنك يا عبد الله إن عليا من قريش ومن الرسول صلى الله عليه وآله حيث تعلم ولما دعا الى نفسه أتبع فيه وكان رأسا ودعا الزبير الى امر وكان الرأس فيه امرأة ولما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وولى مدبرا قبل أن يظهر الحق فيأخذه أو يدحض الباطل فيتركه فادركه رجل لو قيس ببعض اعضائه لكان اصغر فضرب عنقه واخذ سلبه وجاء براسه ومضى على قدما كعادته مع ابن عمه رحم الله عليا
__________
(1) سورة فاطر 43 .
(2) سورة الشعراء 227 .
(*)(11/19)
فقال ابن الزبير اما لو أن غيرك تكلم بهذا يا ابا سعيد لعلم فقال إن الذى تعرض به يرغب عنك وكفه معاوية فسكتوا .
واخبرت عائشة بمقالتهم ومر أبو سعيد بفنائها فنادته يا ابا سعيد انت القائل لابن اختى كذا فالتفت أبو سعيد فلم ير شيئا فقال إن الشيطان يرانا ولا نراه فضحكت عائشة وقالت لله ابوك ما اذلق لسانك(11/20)
(199) الاصل ومن كلام له عليه السلام وقد سمع قوما من اصحابه يسبون اهل الشام ايام حربهم بصفين انى اكره لكم أن تكونوا سبابين ولكنكم لو وصفتم اعمالهم وذكرتم حالهم كان اصوب في القول وابلغ في العذر وقلتم مكان سبكم اياهم اللهم احقن دماءنا ودماءهم واصلح ذات بيننا وبينهم واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله ويرعوى عن الغى والعدوان من لهج به الشرح السب الشتم سبه يسبه بالضم والتساب التشاتم ورجل مسب بكسر الميم كثير السباب ورجل سبه أي يسبه الناس ورجل سببه أي يسب الناس ورجل سب كثير السباب وسبك الذى يسابك قال لا تسبننى فلست بسبي إن سبى من الرجال الكريم (1) والذى كرهه عليه السلام منهم انهم كانوا يشتمون اهل الشام ولم يكن يكره منهم لعنهم اياهم والبذاءة منهم لا كما يتوهمه قوم من الحشوية فيقولون لا يجوز
__________
(1) لعبد الرحمن بن حسان ، وانظر الصحاح 1 : 145 .
(*)(11/21)
لعن احد ممن عليه اسم الاسلام وينكرون على من يلعن ومنهم من يغالى في ذلك فيقول لا العن الكافر والعن ابليس وإن الله تعالى لا يقول لاحد يوم القيامة لم لم تلعن وانما يقول لم لعنت .
واعلم أن هذا خلاف نص الكتاب لانه تعالى قال (إن الله لعن الكافرين واعد لهم سعيرا) (1) .
وقال (اولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) .
(2) وقال في ابليس (وإن عليك لعنتي الى يوم الدين) (3) .
وقال (ملعونين اينما ثقفوا) (4) .
وفى الكتاب العزيز من ذلك الكثير الواسع .
وكيف يجوز للمسلم أن ينكر التبرؤ ممن يجب التبرؤ منه الم يسمع هؤلاء قول الله تعالى (لقد كان لكم اسوة حسنه في ابراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم انا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء ابدا) (5) وانما يجب النظر فيمن قد اشتبهت حاله فان كان قد قارف كبيرة من الذنوب يستحق بها اللعن والبراء فلا ضير على من يلعنه ويبرا منه وإن لم يكن قد قارف كبيرة لم يجز لعنه ولا البراءة منه .
ومما يدل على أن من عليه اسم الاسلام إذا ارتكب الكبيرة يجوز لعنه بل يجب في وقت قول الله تعالى في قصه اللعان (فشهادة احدهم اربع شهادات بالله انه
__________
(1) سورة الاحزاب 64 .
(2) سورة البقرة 159 .
(3) سورة ص 78 .
(4) سورة الاحزاب 61 .
(5) سورة الممتحنة 4 .
(*)(11/22)
لمن الصادقين * والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين) (1) وقال تعالى في القاذف (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والاخرة ولهم عذاب عظيم) (2) .
فهاتان الايتان في المكلفين من اهل القبلة والايات قبلهما في الكافرين والمنافقين ولهذا قنت امير المؤمنين عليه السلام على معاوية وجماعة من اصحابه ولعنهم في ادبار الصلوات .
فان قلت فما صورة السب الذى نهى امير المؤمنين عليه السلام عنه .
قلت كانوا يشتمونهم بالاباء والامهات ومنهم من يطعن في نسب قوم منهم ومنهم من يذكرهم باللؤم ومنهم من يعيرهم بالجبن والبخل وبانواع الاهاجى التى يتهاجى بها الشعراء واساليبها معلومة فنهاهم عليه السلام عن ذلك وقال انى اكره لكن أن تكونوا سبابين ولكن الاصوب أن تصفوا لهم اعمالهم وتذكروا حالهم أي أن تقولوا انهم فساق وانهم اهل ضلال وباطل .
ثم قال اجعلوا عوض سبهم أن تقولوا اللهم احقن دماءنا ودماءهم .
حقنت الدم احقنه بالضم منعت أن يسفك أي الهمهم الانابة الى الحق والعدول عن الباطل فان ذلك إذا تم حقنت دماء الفريقين .
فان قلت كيف يجوز أن يدعو الله تعالى بما لا يفعله اليس من اصولكم أن الله تعالى لا يضطر المكلف الى اعتقاد الحق وانما يكله الى نظرة .
قلت الامر وأن كان كذلك الا أن المكلفين قد تعبدوا بان يدعوا الله تعالى
__________
(1) سورة النور 6 ، 7 .
(2) سوة النور 23 .
(*)(11/23)
بذلك لان في دعائهم اياه بذلك لطفا لهم ومصالح في اديانهم كالدعاء بزيادة الرزق وتاخير الاجل .
قوله " واصلح ذات بيننا وبينهم " يعنى احوالنا واحوالهم ولما كانت الاحوال ملابسه للبين قيل لها " ذات البين " كما انه لما كانت الضمائر ملابسة للصدور قيل " ذات الصدور " وكذلك قولهم اسقنى ذا انائك لما كان ما فيه من الشراب ملابسا له ويقولون للمتبرز قد وضع ذا بطنه وللحبلى تضع القت ذا بطنها .
وارعوى عن الغى رجع وكف .
لهج به بالكسر يلهج اغرى به وثابر عليه(11/24)
(200) ومن كلام له عليه السلام في بعض ايام صفين وقد راى الحسن ابنه عليه السلام يتسرع الى الحرب املكوا عنى هذا الغلام لا يهدنى فانني انفس بهذين يعنى الحسن والحسين عليهما السلام على الموت لئلا ينقطع بهما نسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال الرضى أبو الحسن رحمه الله قوله عليه السلام " املكوا عنى هذا الغلام " من اعلى الكلام وافصحه الشرح الالف في " املكوا " الف وصل لان الماضي ثلاثى من ملكت الفرس والعبد والدار املك بالكسر أي احجروا عليه كما يحجر المالك على مملوكه .
وعن متعلقه بمحذوف تقديره استولوا عليه وابعدوه عنى ولما كان الملك سبب الحجر على المملوك عبر بالسبب عن المسبب كما عبر بالنكاح عن العقد وهو في الحقيقة اسم الوطء لما كان العقد طريقا الى الوطء وسببا له .
ووجه علو هذا الكلام وفصاحته انه لما كان في " املكوا " معنى البعد اعقبه(11/25)
بعن وذلك انهم لا يملكونه دون امير المؤمنين عليه السلام الا وقد ابعدوه عنه الا ترى انك إذا حجرت على زيد دون عمرو فقد باعدت زيدا عن عمرو فلذلك قال املكوا عنى هذا الغلام واستفصح الشارحون قول ابى الطيب إذا كان شم الروح ادنى اليكم فلا برحتنى روضه وقبول (1) قالوا ولما كان في " فلا برحتنى " معنى " فارقتني " عدى اللفظة وإن كانت لازمة نظرا الى المعنى .
(1) قوله " لا يهدنى " أي لئلا يهدنى فحذف كما حذف طرفه في قوله الا ايهذا الزاجرى احضر الوغى (2) أي لان احضر .
وانفس ابخل نفست عليه بكذا بالكسر .
فان قلت ايجوز أن يقال للحسن والحسين وولدهما ابناء رسول الله وولد رسول الله وذرية رسول الله ونسل رسول الله .
قلت نعم لان الله تعالى سماهم (ابناءه) في قوله تعالى (ندع ابناءنا وابناءكم) (3) وانما عنى الحسن والحسين ولو اوصى لولد فلان بمال دخل فيه اولاد البنات وسمى الله تعالى عيسى ذرية ابراهيم في قوله (ومن ذريته داود وسليمان) (4) الى أن قال (ويحيى وعيسى) ولم يختلف اهل اللغة في أن ولد البنات من نسل الرجل .
__________
(1) ديوانه 3 : 96 .
(2) من المعلقة - بشرح التبريزي 80 وبقيته * وأن أشهد اللذات هل انت مخلدي * (3) سورة آل عمران 61 .
(4) سورة الانعام 84 .
(*)(11/26)
فان قلت فما تصنع بقوله تعالى (ما كان محمد ابا احد من رجالكم) قلت اسالك عن ابوته لابراهيم بن مارية فكما تجيب به عن ذلك فهو جوابي عن الحسن والحسين عليهما السلام .
والجواب الشامل للجميع انه عنى زيد بن حارثة لان العرب كانت تقول زيد بن محمد على عادتهم في تبنى العبيد فابطل الله تعالى ذلك ونهى عن سنة الجاهلية وقال إن محمدا عليه السلام ليس ابا لواحد من الرجال البالغين المعروفين بينكم ليعتزى إليه بالنبوة وذلك لا ينفى كونه ابا لاطفال لم تطلق عليهم لفظة الرجال كابراهيم وحسن وحسين عليهم السلام .
فان قلت اتقول إن ابن البنت ابن على الحقيقة الاصلية ام على سبيل المجاز .
قلت لذاهب أن يذهب الى انه حقيقة اصلية لان اصل الاطلاق الحقيقة وقد يكون اللفظ مشتركا بين مفهومين وهو في احدهما اشهر ولا يلزم من كونه اشهر في احدهما الا يكون حقيقة في الاخر .
ولذاهب أن يذهب الى انه حقيقة عرفية وهى التى كثر استعمالها وهى في الاكثر مجاز حتى صارت حقيقة في العرف كالراوية للمزادة والسماء للمطر .
ولذاهب أن يذهب الى كونه مجازا قد استعمله الشارع فجاز اطلاقه في كل حال واستعماله كسائر المجازات المستعملة .
ومما يدل على اختصاص ولد فاطمة دون بنى هاشم كافة بالنبي عليه السلام انه ما كان يحل له عليه السلام أن ينكح بنات الحسن والحسين عليهما السلام ولا بنات ذريتهما وإن بعدن وطال الزمان الزمان ويحل له نكاح بنات غيرهم من بنى هاشم من الطالبيين وغيرهم وهذا يدل على مزيد الاقربية وهى كونهم اولاده لانه ليس هناك من القربى غير(11/27)
هذا الوجه لانهم ليسوا اولاد اخيه ولا اولاد اخته ولا هناك وجه يقتضى حرمتهم عليه الا كونه والدا لهم وكونهم اولادا له فان قلت قد قال الشاعر بنونا بنو ابنائنا وبناتنا بنوهن ابناء الرجال الاباعد .
وقال حكيم العرب اكثم بن صيفي في البنات يذمهن انهن يلدن الاعداء ويورثن البعداء .
قلت انما قال الشاعر ما قاله على المفهوم الاشهرو ليس في قول اكثم ما يدل على نفى بنوتهم وانما ذكر انهن يلدن الاعداء وقد يكون ولد الرجل لصلبه عدوا قال الله تعالى (إن من ازواجكم واولادكم عدوا لكم) (1) ولا ينفى كونه عدوا كونه ابنا .
قيل لمحمد بن الحنفية عليه السلام لم يغرر بك ابوك في الحرب ولم لا يغرر بالحسن والحسين فقال لانهما عيناه وانا يمينه فهو يذب عن عينيه بيمينه
__________
(1) سورة التغابن 14 .
(*)(11/28)
(201) الاصل ومن كلام عليه السلام قاله لما اضطرب عليه اصحابه في امر الحكومة ايها الناس انه لم يزل امرى معكم على ما احب حتى نهكتكم الحرب وقد والله اخذت منكم وتركت وهى لعدوكم انهك .
لقد كنت امس اميرا فاصبحت اليوم مامورا وكنت امس ناهيا فاصبحت اليوم منهيا وقد احببتم البقاء وليس لى أن احملكم على ما تكرهون الشرح نهكتكم بكسر الهاء ادنفتكم واذابتكم ويجوز فتح الهاء وقد نهك الرجل أي دنف وضنى فهو منهوك وعليه نهكه المرض أي اثره الحرب مؤنثة .
وقد اخذت منكم وتركت أي لم تستأصلكم بل فيكم بعد بقية وهى لعدوكم انهك لان القتل في اهل الشام كان اشد استحرارا والوهن فيهم اظهر ولو لا فساد اهل العراق برفع المصاحف لا ستؤصل الشام وخلص الاشتر الى معاوية فاخذه بعنقه ولم يكن قد بقى من قوة الشام الا كحركة ذنب الوزغة عند قتلها يضطرب يمينا وشمالا ولكن الامور السماوية لا تغالب .
فاما قوله (كنت امس اميرا فاصبحت اليوم مامورا) فقد قدمنا شرح حالهم من قبل وأن اهل العراق لما رفع عمرو بن العاص ومن معه المصاحف على وجه المكيدة(11/29)
حين احس بالعطب وعلو كلمة اهل الحق الزموا امير المؤمنين عليه السلام بوضع اوزار الحرب وكف الايدى عن القتال وكانوا في ذلك على اقسام فمنهم من دخلت عليه الشبهة برفع المصاحف وغلب على ظنه أن اهل الشام لم يفعلوا ذلك خدعة وحيلة بل حقا ودعاء الى الدين وموجب الكتاب فراى أن الاستسلام للحجة اولى من الاصرار على الحرب .
ومنهم من كان قد مل الحرب وآثر السلم فلما راى شبهة ما يسوغ التعلق بها في رفض المحاربة وحب العافية اخلد إليهم .
ومنهم من كان يبغض عليا عليه السلام بباطنه ويطيعه بظاهره كما يطيع كثير من الناس السلطان في الظاهر ويبغضه بقلبه فلما وجدوا طريقا الى خذلانه وترك نصرته اسرعوا نحوها فاجتمع جمهور عسكره عليه وطالبوه بالكف وترك القتال فامتنع امتناع عالم بالمكيدة وقال لهم انها حيلة وخديعة وانى اعرف بالقوم منكم انهم ليسوا باصحاب قرآن ولا دين قد صحبتهم وعرفتهم صغيرا وكبيرا فعرفت منهم الاعراض عن الدين والركون الى الدنيا فلا تراعوا برفع المصاحف وصمموا على الحرب وقد ملكتموهم فلم يبق منهم الا حشاشة ضعيفة وذماء قليل فابوا عليه والحوا واصروا على القعود والخذلان وامروه بالانفاذ الى المحاربين من اصحابه وعليهم الاشتر أن يامرهم بالرجوع وتهددوه إن لم يفعل باسلامه الى معاوية فارسل الى الاشتر يامره بالرجوع وترك الحرب فابى عليه فقال كيف ارجع وقد لاحت امارات الظفر فقولوا له (ليمهلني ساعة واحدة) ولم يكن علم صورة الحال كيف قد وقعت فلما عاد إليه الرسول بذلك غضبوا ونفروا وشغبوا وقالوا انفذت الى الاشتر سرا وباطنا تأمره بالتصميم وتنهاه عن الكف وإن لم تعده الساعة والا قتلناك كما قتلنا عثمان فرجعت الرسل الى الاشتر فقالوا له ا تحب أن تظفر بمكانك وامير المؤمنين قد سل عليه(11/30)
خمسون الف سيف فقال ما الخبر قال إن الجيش باسره قد احدق به وهو قاعد بينهم على الارض تحته نطع وهو مطرق والبارقة تلمع على راسه يقولون لئن لم تعد الاشتر قتلناك قال ويحكم فما سبب ذلك قالوا رفع المصاحب قال والله لقد ظننت حين رايتها رفعت انها ستوقع فرقة وفتنة .
ثم كر راجعا على عقبيه فوجد امير المؤمنين عليه السلام تحت الخطر قد ردده اصحابه بين امرين يسلموه الى معاوية أو يقتلوه ولا ناصر له منهم الا ولداه وابن عمه ونفر قليل لا يبلغون عشرة فلما رآهم الاشتر سبهم وشتمهم وقال ويحكم ابعد الظفر والنصر صب عليكم الخذلان والفرقة يا ضعاف الاحلام يا اشباه النساء يا سفهاء العقول فشتموه وسبوه وقهروه وقالوا المصاحف المصاحف والرجوع إليها لا نرى غير ذلك فأجاب امير المؤمنين عليه السلام الى التحكيم دفعا للمحذور الاعظم بارتكاب المحظور الاضعف فلذلك قال (كنت اميرا فاصبحت مامورا وكنت ناهيا فصرت منهيا) وقد سبق من شرح حال التحكيم وما جرى فيه ما يغنى عن اعادته(11/31)
(2) الاصل ومن كلام له عليه السلام بالبصرة وقد دخل على العلاء بن زياد الحارثى وهو من اصحابه يعوده فلما راى سعة داره قال ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا اما انت إليها في الاخرة كنت احوج وبلى إن شئت بلغت بها الاخرة تقرى فيها الضيف وتصل فيها الرحم وتطلع منها الحقوق مطالعها فإذا انت قد بلغت بها الاخرة فقال له العلاء يا امير المؤمنين اشكو اليك اخى عاصم بن زياد قال وما له قال لبس العباء وتخلى من الدنيا قال على به فلما جاء قال يا عدى نفسه لقد استهام بك الخبيث اما رحمت اهلك وولدك اترى الله احل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها انت اهون على الله من ذلك قال يا امير المؤمنين هذا انت في خشونة ملبسك وجشوبة ماكلك قال ويحك انى لست كانت إن الله تعالى فرض على ائمة الحق أن يقدروا انفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيغ بالفقير فقره(11/32)
الشرح كنت هاهنا زائدة مثل قوله تعالى (كيف نكلم من كان في المهد صبيا) (1) وقوله (وبلى إن شئت بلغت بها الاخرة) لفظ فصيح كانه استدرك وقال وبلى على انك قد تحتاج إليها في الدنيا لتجعلها وصلة الى نيل الاخرة بان تقرى فيها الضيف والضيف لفظ يقع على الواحد والجمع وقد يجمع فيقال ضيوف واضياف والرحم القرابة .
وتطلع منها الحقوق مطالعها توقعها في مظان استحقاقها .
والعباء جمع عباءة وهى الكساء وقد تلين كما قالوا عظاءة وعظاية وصلاءة وصلاية .
وتقول على بفلان أي احضره والاصل اعجل به على فحذف فعل الامر ودل الباقي عليه .
ويا عدى نفسه تصغير (عدو) وقد يمكن أن يراد به التحقير المحض هاهنا .
ويمكن أن يراد به الاستعظام لعداوته لها ويمكن أن يخرج مخرج التحنن والشفقة كقولك يا بنى .
واستهام بك الخبيث يعنى الشيطان أي جعلك هائما ضالا والباء زائدة .
فان قيل ما معنى قوله عليه السلام (انت اهون على الله من ذلك) ؟ .
قلت لان في المشاهد قد يحل الواحد منا لصاحبه فعلا مخصوصا محاباه ومراقبه له
__________
(1) سورة مريم 29 .
(*)(11/33)
وهو يكره أن يفعله والبشر اهون على الله تعالى من أن يحل لهم امرا مجامله واستصلاحا للحال معهم وهو يكره منهم فعله .
وقوله (هذا انت !) أي فما بالنا نراك خشن الملبس والتقدير (فها انت تفعل كذا فكيف تنهى عنه !) .
وطعام جشب أي غليظ وكذلك مجشوب وقيل انه الذى لا ادم معه .
قوله عليه السلام (أن يقدروا انفسهم بضعفه الناس) أي يشتبهوا ويمثلوا .
وتبيغ الدم بصاحبه وتبوغ به أي هاج به وفي الحديث (عليكم بالحجامة لا يتبيغ باحدكم الدم فيقتله) وقيل اصل (يتبيغ) يتبغى فقلب جذب وجبذ أي يجب على الامام العادل أن يشبه نفسه في لباسه وطعامه بضعفة الناس - جمع ضعيف - لكيلا يهلك الفقراء من الناس فانهم إذا راوا امامهم بتلك الهيئة وبذلك المطعم كان ادعى لهم الى سلوان لذات الدنيا والصبر عن شهوات النفوس [ ذكر بعض مقامات العارفين والزهاد ] وروى أن قوما من المتصوفة دخلوا خراسان على على بن موسى الرضى فقالوا له إن امير المؤمنين فكر فيما ولاه الله من الامور فرأكم - اهل البيت - اولى الناس أن تؤموا الناس ونظر فيك من اهل البيت فرآك اولى الناس بالناس فراى أن يرد هذا الامر اليك والامامة تحتاج الى من ياكل الجشب ويلبس الخشن ويركب الحمار ويعود المريض فقال لهم إن يوسف كان نبيا يلبس اقبية الديباج المزررة بالذهب ويجلس على متكات آل فرعون ويحكم انما يراد من الامام قسطه وعدله إذا قال صدق(11/34)
وإذا حكم عدل وإذا وعد انجز إن الله لم يحرم لبوسا ولا مطعما ثم قرا (قل من حرم زينة الله التى اخرج لعباده والطيبات من الرزق الايه ...
) (1) الاية .
وهذا القول مخالف للقانون الذى اشار امير المؤمنين إليه وللفلاسفة في هذا الباب كلام لا باس به وقد اشار إليه أبو على بن سينا في كتاب (الاشارات) وعليه يتخرج قولا امير المؤمنين وعلى بن موسى الرضى عليهما السلام قال أبو على في مقامات العارفين (العارفون قد يختلفون في الهمم بحسب ما يختلف فيهم من الخواطر على حسب ما يختلف عندهم من دواعى العبر فربما استوى عند العارف القشف الترف بل ربما آثر القشف وكذلك ربما سوى عنده التفل والعطر بل ربما آثر التفل وذلك عند ما يكون الهاجس بباله استحقار ما عدا الحق وربما صغا الى الزينة واحب من كل شئ عقيلته (2) وكره الخداج والسقط وذلك عند ما يعتبر عادته من صحبته الاحوال الظاهرة فهو يرتاد إليها في كل شئ لانه مزية خطوة من العناية الاولى واقرب أن يكون من قبيل ما عكف عليه بهواه وقد يختلف هذا في عارفين وقد يختلف في عارف بحسب وقتين .
واعلم أن الذى رويته عن الشيوخ ورايته بخط عبد الله بن احمد بن الخشاب رحمه الله أن الربيع بن زياد الحارثى اصابته نشابة في جبينه فكانت تنتقض عليه في كل عام فاتاه على عليه السلام عائدا فقال كيف تجدك ابا عبد الرحمن قال اجدني يا امير المؤمنين لو كان لا يذهب ما بى الا بذهاب بصرى لتمنيت ذهابه قال وما قيمة بصرك عندك قال لو كانت لى الدنيا لفديته بها قال لا جرم ليعطينك الله على قدر ذلك إن الله تعالى يعطى على قدر الالم والمصيبة وعنده تضعيف كثير قال الربيع
__________
(1) سورة الاعراف 32 (2) العقيلة من كل شئ أكرمه جمعها عقائل .
(*)(11/35)
يا امير المؤمنين الا اشكوا اليك عاصم بن زياد اخى قال ما له قال لبس العباء وترك الملاء وغم اهله وحزن ولده فقال على ادعوا لى عاصما فلما اتاه عبس في وجهه وقال ويحك يا عاصم ا ترى الله اباح لك اللذات وهو يكره ما اخذت منها لانت اهون على الله من ذلك أو ما سمعته يقول (مرج البحرين يلتقيان) (1) ثم يقول (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) (2) وقال (ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها) (3) اما والله إن ابتذال نعم الله بالفعال احب إليه من ابتذالها بالمقال وقد سمعتم الله يقول (واما بنعمة ربك فحدث) (4) وقوله (من حرم زينة الله التى اخرج لعباده والطيبات من الرزق) إن الله خاطب المؤمنين بما خاطب به المرسلين فقال (يا ايها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) (5) وقال (يا ايها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا) (6) وقال رسول الله صلى الله عليه وآ له وسلم لبعض نسائه (مالى اراك شعثاء مرهاء سلتاء) (7) .
قال عاصم فلم اقتصرت يا امير المؤمنين على لبس الخشن واكل الجشب قال إن الله تعالى افترض على ائمة العدل أن يقدروا لانفسهم بالقوام كيلا يتبيغ بالفقير فقره فما قام على عليه السلام حتى نزع عاصم العباء ولبس ملاءه .
والربيع بن زياد هو الذى افتتح بعض خراسان وفيه قال عمر دلوني على رجل إذا كان
__________
(1) سورة الرحمن 19 .
(2) سورة الرحمن 22 .
(3) سورة فاطر 12 .
(4) سورة الضحى 11 .
(5) سورة البقرة 172 .
(6) سورة المؤمنون 51 .
(7) المرهاء : التي لا تكتحل .
والسلتاء التي لاتخضب .
(*)(11/36)
في القوم اميرا فكأنه ليس بامير وإذا كان في القوم ليس بامير فكأنه الامير بعينه وكان خيرا متواضعا وهو صاحب الوقعة مع عمر لما احضر العمال فتوحش له الربيع وتقشف واكل معه الجشب من الطعام فاقره على عمله وصرف الباقين وقد ذكرنا هذه الحكاية فيما تقدم .
وكتب زياد بن ابيه الى الربيع بن زياد وهو على قطعة من خراسان إن امير المؤمنين معاوية كتب الى يامرك أن تحرز الصفراء والبيضاء وتقسم الخرثى (1) وما اشبهه على اهل الحرب فقال له الربيع انى وجدت كتاب الله قبل كتاب امير المؤمنين ثم نادى في الناس أن اغدوا على غنائمكم فاخذ الخمس وقسم الباقي على المسلمين ثم دعا الله أن يميته فما جمع حتى مات .
وهو الربيع بن زياد بن انس بن ديان بن قطر بن زياد بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن كعب بن مالك بن كعب بن الحارث بن عمرو بن وعلة بن خالد بن مالك بن ادد .
واما العلاء بن زياد الذى ذكره الرضى رحمه الله فلا اعرفه لعل غيرى يعرفه .
__________
(1) الخرثى : أردأ المتاع .
(*)(11/37)
(203) الاصل ومن كلام له عليه السلام وقد ساله سائل عن احاديث البدع وعما في ايدى الناس من اختلاف الخبر فقال عليه السلام إن في ايدى الناس حقا وباطلا وصدقا وكذبا وناسخا ومنسوخا وعاما وخاصا ومحكما ومتشابها وحفظا ووهما وقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم على عهده حتى قام خطيبا فقال (من كذب على متعمدا فليتبوا مقعده من النار) وانما اتاك بالحديث اربعة رجال ليس لهم خامس رجل منافق مظهر للايمان متصنع بالاسلام لا يتاثم ولا يتحرج يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم متعمدا فلو علم الناس انه منافق كاذب لم يقبلوا منه ولم يصدقوا قوله ولكنهم قالوا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم آه وسمع منه ولقف عنه فيأخذون بقوله وقد اخبرك الله عن المنافقين بما اخبرك ووصفهم بما وصفهم به لك ثم بقوا بعده فتقربوا الى ائمة الضلالة والدعاة الى النار بالزور والبهتان فولوهم الاعمال وجعلوهم حكاما على رقاب الناس فاكلوا بهم الدنيا وانما الناس مع الملوك والدنيا الا من عصم الله فهذا احد الاربعة ورجل سمع من رسول الله شيئا لم يحفظه على وجهه فوهم فيه ولم يتعمد(11/38)
كذبا فهو في يديه ويرويه ويعمل به ويقول انا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلو علم المسلمون انه وهم فيه لم يقبلوه منه ولو علم هو انه كذلك لرفضه ورجل ثالث سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا يامر به ثم انه نهى عنه وهو لا يعلم أو سمعه ينهى عن شئ ثم امر به وهو لا يعلم فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ فلو علم انه منسوخ لرفضه ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه انه منسوخ لرفضوه وآخر رابع لم يكذب على الله ولا على رسوله مبغض للكذب خوفا من الله وتعظيما لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يهم بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به على سمعه لم يزد فيه ولم ينقص منه فهو حفظ الناسخ فعمل به وحفظ المنسوخ فجنب عنه وعرف الخاص والعام والمحكم والمتشابه فوضع كل شئ موضعه وقد كان يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام له وجهان فكلام خاص وكلام عام فيسمعه من لا يعرف ما عنى الله سبحانه به ولا ما عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحمله السامع ويوجهه على غير معرفة بمعناه وما قصد به وما خرج من اجله وليس كل اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان يساله ويستفهمه حتى إن كانوا ليحبون أن يجئ الاعرابي والطارئ فيسأله عليه السلام حتى يسمعوا وكان لا يمر بى من ذلك شئ الا سألته عنه وحفظته فهذه وجوه ما عليه الناس في اختلافهم وعللهم في رواياتهم(11/39)
الشرح الكلام في تفسير الالفاظ الاصولية وهى العام والخاص والناسخ والمنسوخ والصدق والكذب والمحكم والمتشابه موكول الى فن اصول الفقه وقد ذكرناه فيما امليناه من الكتب الاصولية والاطالة بشرح ذلك في هذا الموضع مستهجنة .
قوله عليه السلام (وحفظا ووهما) الهاء مفتوحة وهى مصدر وهمت بالكسر اوهم أي غلطت وسهوت وقد روى (وهما) بالتسكين وهو مصدر وهمت بالفتح اوهم إذا ذهب وهمك الى شئ وانت تريد غيره والمعنى متقارب .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم فليتبوا مقعده من النار كلام صيغته الامر ومعناه الخبر كقوله تعالى (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا) (1) وتبوات المنزل نزلته وبواته منزلا انزلته فيه والتاثم الكف عن موجب الاثم والتحرج مثله واصله الضيق كانه يضيق على نفسه .
ولقف عنه تناول عنه .
وجنب عنه اخذ عنه جانبا .
و (إن) في قوله (حتى إن كانوا ليحبون) مخففة من الثقيلة ولذلك جاءت اللام في الخبر .
والطارئ بالهمز الطالع عليهم طرا أي طلع وقد روى (عللهم) بالرفع عطفا على (وجوه) وروى بالجر عطفا على (اختلافهم)
__________
(1) سورة مريم 75 .
(*)(11/40)
[ ذكر بعض احوال المنافقين بعد وفاة محمد عليه السلام ] واعلم أن هذا التقسيم صحيح وقد كان في ايام الرسول صلى الله عليه واله منافقون وبقوا بعده وليس يمكن أن يقال إن النفاق مات بموته والسبب في استتار حالهم بعده انه صلى الله عليه واله كان لا يزال بذكرهم بما ينزل عليه من القرآن فانه مشحون بذكرهم الا ترى أن اكثر ما نزل بالمدينة من القرآن مملوء بذكر المنافقين فكان السبب في انتشار ذكرهم واحوالهم وحركاتهم هو القرآن فلما انقطع الوحى بموته صلى الله عليه واله لم يبق من ينعى عليهم سقطاتهم ويوبخهم على اعمالهم ويامر بالحذر منهم ويجاهرهم تارة ويجاملهم تارة وصار المتولي للامر بعده يحمل الناس كلهم على كاهل المجاملة ويعاملهم بالظاهر وهو الواجب في حكم الشرع والسياسة الدنيوية بخلاف حال الرسول صلى الله عليه واله فانه كان تكليفه معهم غير هذا التكليف ا لا ترى انه قيل له (ولا تصل على احد منهم مات ابدا) (1) فهذا يدل على انه كان يعرفهم باعيانهم والا كان النهى له عن الصلاة عليهم تكليف ما لا يطاق والوالى بعده لا يعرفهم باعيانهم فليس مخاطبا بما خوطب به صلى الله عليه وسلم في امرهم ولسكوت الخلفاء عنهم بعده خمل ذكرهم فكان قصارى امر المنافق أن يسر ما في قلبه ويعامل المسلمين بظاهره ويعاملونه بحسب ذلك ثم فتحت عليهم البلاد وكثرت الغنائم فاشتغلوا بها عن الحركات التى كانوا يعتمدونها ايام رسول الله وبعثهم الخلفاء مع الامراء الى بلاد فارس والروم فالهتهم الدنيا عن الامور التى كانت تنقم منهم في حياة رسول الله صلى الله عليه واله ومنهم من استقام اعتقاده وخلصت نيته لما راوا الفتوح والقاء الدنيا افلاذ كبدها من الاموال العظيمة والكنوز الجليلة إليهم فقالوا لو لم يكن هذا الدين
__________
(1) سورة التوبة 84 .
(*)(11/41)
حقا لما وصلنا الى ما وصلنا إليه وبالجملة لما تركوا تركوا وحيث سكت عنهم سكتوا عن الاسلام واهله الا في دسيسه خفية يعملونها نحو الكذب الذى اشار إليه امير المؤمنين عليه السلام فانه خالط الحديث كذب كثير صدر عن قوم غير صحيحي العقيدة قصدوا به الاضلال وتخبيط القلوب والعقائد وقصد به بعضهم التنوية بذكر قوم كان لهم في التنويه بذكرهم غرض دنيوى وقد قيل انه افتعل في ايام معاوية خاصة حديث كثير على هذا الوجه ولم يسكت المحدثون الراسخون في علم الحديث عن هذا بل ذكروا كثيرا من هذه الاحاديث الموضوعة وبينوا وضعها وأن رواتها غير موثوق بهم الا أن المحدثين انما يطعنون فيما دون طبقة الصحابة ولا يتجاسرون في الطعن على احد من الصحابة لان عليه لفظ (الصحبة) على انهم قد طعنوا في قوم لهم صحبة كبسر بن ارطاة وغيره .
فان قلت من هم ائمة الضلالة الذين يتقرب إليهم المنافقون الذين راوا رسول الله صلى الله عليه واله وصحبوه للزور والبهتان وهل هذا الا تصريح بما تذكره الامامية وتعتقده .
قلت ليس الامر كما ظننت وظنوا وانما يعنى معاوية وعمرو بن العاص ومن شايعهما على الضلال كالخبر الذى الذى رواه من في حق معاوية اللهم قه العذاب والحساب وعلمه الكتاب وكرواية عمرو بن العاص تقربا الى قلب معاوية (إن آل ابى طالب ليسوا لى باولياء انما وليى الله وصالح المؤمنين) وكرواية قوم في ايام معاوية اخبارا كثيرة من فضائل عثمان تقربا الى معاوية بها ولسنا نجحد فضل عثمان وسابقته ولكنا نعلم أن بعض الاخبار الواردة فيه موضوع كخبر وعمرو بن مرة فيه وهو مشهور وعمر بن مرة ممن له صحبة وهو شامى(11/42)
[ ذكر بعض ما منى به آل البيت من الاذى والاضطهاد ] وليس يجب من قولنا إن بعض الاخبار الواردة في حق شخص فاضل مفتعلة أن تكون قادحة في فضل ذلك الفاضل فانا مع اعتقادنا أن عليا افضل الناس نعتقد أن بعض الاخبار الواردة في فضائله مفتعل ومختلق .
وقد روى أن ابا جعفر محمد بن على الباقر عليه السلام قال لبعض اصحابه يا فلان ما لقينا من ظلم قريش ايانا وتظاهرهم علينا وما لقى شيعتنا ومحبونا من الناس إن رسول الله صلى الله عليه واله قبض وقد اخبر انا اولى الناس بالناس فتمالات علينا قريش حتى اخرجت الامر عن معدنه واحتجت على الانصار بحقنا وحجتنا ثم تداولتها قريش واحد بعد واحد حتى رجعت الينا فنكثت بيعتنا ونصبت الحرب لنا ولم يزل صاحب الامر في صعود كئود حتى قتل فبويع الحسن ابنه وعوهد ثم غدر به واسلم ووثب عليه اهل العراق حتى طعن بخنجر في جنبه ونهبت عسكره وعولجت خلاليل امهات اولاده فوادع معاوية وحقن دمه ودماء اهل بيته وهم قليل حق قليل ثم بايع الحسين عليه السلام من اهل العراق عشرون الفا ثم غدروا به وخرجوا عليه وبيعته في اعناقهم وقتلوه ثم لم نزل - اهل البيت - نستذل ونستضام ونقصي ونمتهن ونحرم ونقتل ونخاف ولا نامن على دمائنا ودماء اوليائنا ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعا يتقربون به الى اوليائهم وقضاه السوء وعمال السوء في كل بلدة فحدثوهم بالاحاديث الموضوعة المكذوبة ورووا عنا ما لم نقله وما لم نفعله ليبغضونا الى الناس وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن عليه السلام فقتلت شيعتنا بكل بلدة وقطعت الايدى والارجل على الظنة وكان من يذكر بحبنا والانقطاع الينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد(11/43)
الى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين عليه السلام ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتله واخذهم بكل ظنه وتهمه حتى إن الرجل ليقال له زنديق أو كافر احب إليه من أن يقال شيعة على وحتى صار الرجل الذى يذكر بالخير - ولعله يكون ورعا صدوقا - يحدث باحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة ولم يخلق الله تعالى شيئا منها ولا كانت ولا وقعت وهو يحسب انها حق لكثرة من قد رواها ممن لم يعرف بكذب ولا بقلة ورع .
وروى أبو الحسن على بن محمد بن ابى سيف المدايني في كتاب (الاحداث) قال كتب معاوية نسخة واحدة الى عماله بعد عام الجماعة أن برئت الذمة ممن روى شيئا من فضل ابى تراب واهل بيته فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون عليا ويبرءون منه ويقعون فيه وفي اهل بيته وكان اشد الناس بلاء حينئذ اهل الكوفة لكثرة من بها من شيعة على عليه السلام فاستعمل عليهم زياد بن سمية وضم إليه البصرة فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف لانه كان منهم ايام على عليه السلام فقتلهم تحت كل حجر ومدر واخافهم وقطع الايدى والارجل وسمل العيون وصلبهم على جذوع النخل وطرفهم وشردهم عن العراق فلم يبق بها معروف منهم وكتب معاوية الى عماله في جميع الافاق الا يجيزوا لاحد من شيعة على واهل بيته شهادة وكتب إليهم أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه واهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه فادنوا مجالسهم وقربوهم واكرموهم واكتبوا لى بكل ما يروى كل رجل منهم واسمه واسم ابيه وعشيرته .
ففعلوا ذلك حتى اكثروا في فضائل عثمان ومناقبه لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع ويفيضه في العرب منهم والموالي فكثر ذلك في كل مصر وتنافسوا في المنازل والدنيا فليس يجئ احد مردود من الناس عاملا من(11/44)
عمال معاوية فيروى في عثمان فضيله أو منقبه الا كتب اسمه وقربه وشفعه فلبثوا بذلك حينا .
ثم كتب الى عماله أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه وناحية فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس الى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الاولين ولا تتركوا خبرا يرويه احد من المسلمين في ابى تراب الا وتأتوني بمناقض له في الصحابة فان هذا احب الى واقر لعيني وادحض لحجة ابى تراب وشيعته واشد عليهم من مناقب عثمان وفضله .
فقرئت كتبه على الناس فرويت اخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها وجد الناس في رواية ما يجرى هذا المجرى حتى اشادوا بذكر ذلك على المنابر والقى الى معلمي الكتاتيب فعلموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن وحتى علموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم فلبثوا بذلك ما شاء الله .
ثم كتب الى عماله نسخة واحدة الى جميع البلدان انظروا من قامت عليه البينة انه يحب عليا واهل بيته فامحوه من الديوان واسقطوا عطاءه ورزقه وشفع ذلك بنسخة اخرى من اتهمتوه بمولاة هؤلاء القوم فنكلوا به واهدمو داره فلم يكن البلاء اشد ولا اكثر منه بالعراق ولا سيما بالكوفة حتى إن الرجل من شيعة على عليه السلام لياتيه من يثق به فيدخل بيته فيلقى إليه سره ويخاف من خادمه ومملوكه ولا يحدثه حتى ياخذ عليه الايمان الغليظة ليكتمن عليه فظهر حديث كثير موضوع وبهتان منتشر ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة وكان اعظم الناس في ذلك بلية القراء المراءون والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الاحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويقربوا مجالسهم ويصيبوا به الاموال والضياع(11/45)
والمنازل حتى انتقلت تلك الاخبار والاحاديث الى ايدى الديانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها وهم يظنون انها حق ولو علموا انها باطلة لما رووها ولا تدينوا بها .
فلم يزل الامر كذلك حتى مات الحسن بن على عليه السلام فازداد البلاء والفتنة فلم يبق احد من هذا القبيل الا وهو خائف على دمه أو طريد في الارض .
ثم تفاقم الامر بعد قتل الحسين عليه السلام وولى عبد الملك بن مروان فاشتد على الشيعة وولى عليهم الحجاج بن يوسف فتقرب إليه اهل النسك والصلاح والدين ببغض على وموالاة اعدائه وموالاة من يدعى من الناس انهم ايضا اعداؤه فاكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم واكثروا من الغض من على عليه السلام و عيبه والطعن فيه والشنان له حتى إن انسانا وقف للحجاج - ويقال انه جد الاصمعي عبد الملك بن قريب - فصاح به ايها الامير إن اهلي عقونى فسموني عليا وانى فقير بائس وانا الى صلة الامير محتاج فتضاحك له الحجاج وقال للطف ما توسلت به قد وليتك موضع كذا .
وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه وهو من اكابر المحدثين واعلامهم - في تاريخه ما يناسب هذا الخبر وقال إن اكثر الاحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في ايام بنى امية تقربا إليهم بما يظنون انهم يرغمون به انوف بنى هاشم .
قلت ولا يلزم من هذا أن يكون على عليه السلام يسوءه أن يذكر الصحابة والمتقدمون عليه بالخير والفضل الا أن معاوية وبنى امية كانوا يبنون الامر من هذا على ما يظنونه في على عليه السلام من انه عدو من تقدم عليه ولم يكن الامر في الحقيقة كما(11/46)
يظنونه ولكنه كان يرى انه افضل منهم وانهم استاثروا عليه بالخلافة من غير تفسيق منه لهم ولا براءة منهم .
فاما قوله عليه السلام (ورجل سمع من رسول الله شيئا ولم يحفظه على وجهه فوهم فيه) فقد وقع ذلك وقال اصحابنا في الخبر الذى رواه عبد الله بن عمر (إن الميت ليعذب ببكاء اهله عليه) إن ابن عباس لما روى له هذا الخبر قال ذهل ابن عمر انما مر رسول الله صلى الله عليه واله على قبر يهودى فقال إن اهله ليبكون عليه وانه ليعذب .
وقالوا ايضا إن عائشة انكرت ذلك وقالت ذهل أبو عبد الرحمن كما ذهل في خبر قليب بدر انما قال عليه السلام (انهم ليبكون عليه وانه ليعذب بجرمه) .
قالوا وموضع غلطه في خبر القليب انه روى أن النبي صلى الله عليه واله وقف على قليب بدر فقال (هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا) ثم قال (انهم يسمعون ما اقول لهم) فانكرت عائشة ذلك وقالت انما (قال انهم يعلمون أن الذى كنت اقوله لهم هو الحق) واستشهد بقوله تعالى (انك لا تسمع الموتى) .
(1) فاما الرجل الثالث وهو الذى يسمع المنسوخ ولم يسمع الناسخ فقد وقع كثيرا وكتب الحديث والفقه مشحونة بذلك كالذين اباحوا لحوم الحمر الاهلية لخبر رووه في ذلك ولم يرووا الخبر الناسخ .
واما الرجل الرابع فهم العلماء الراسخون في العلم .
واما قوله عليه السلام (وقد كان يكون من رسول الله صلى الله عليه واله الكلام له)
__________
(1) سورة النمل 80 .
(*)(11/47)
وجهان) فهذا داخل في القسم الثاني وغير خارج عنه ولكنه كالنوع من الجنس لان الوهم والغلط جنس تحته انواع .
واعلم أن امير المؤمنين عليه السلام كان مخصوصا من دون الصحابة رضوان الله عليهم بخلوات كان يخلو بها مع رسول الله صلى الله عليه واله لا يطلع احد من الناس على ما يدور بينهما وكان كثير السؤال للنبى صلى الله عليه واله عن معاني القرآن وعن معاني كلامه صلى الله عليه واله وإذا لم يسال ابتداه النبي صلى الله عليه واله بالتعليم والتثقيف ولم يكن احد من اصحاب النبي صلى الله عليه واله كذلك بل كانوا اقساما فمنهم من يهابه أن يساله وهم الذين يحبون أن يجئ الاعرابي أو الطارئ فيسأله وهم يسمعون ومنهم من كان بليدا بعيد الفهم قليل الهمة في النظر والبحث ومنهم من كان مشغولا عن طلب العلم وفهم المعاني اما بعبادة أو دنيا ومنهم المقلد يرى أن فرضه السكوت وترك السؤال ومنهم المبغض الشانئ الذى ليس للدين عنده من الموقع ما يضيع وقته وزمانه بالسؤال عن دقائقه وغوامضه وانضاف الى الامر الخاص بعلى عليه السلام ذكاؤه وفطنته وطهارة طينته واشراق نفسه وضوءها وإذا كان المحل قابلا متهيئا كان الفاعل المؤثر موجودا والموانع مرتفعة حصل الاثر على اتم ما يمكن فلذلك كان على عليه السلام - كما قال الحسن - البصري ربانى هذه الامة وذا فضلها ولذا تسميه الفلاسفة امام الائمة وحكيم العرب [ فصل فيما وضع الشيعة والبكرية من الاحاديث ] واعلم أن اصل الاكاذيب في احاديث الفضائل كان من جهة الشعية فانهم وضعوا(11/48)
في مبدا الامر احاديث مختلفه في صاحبهم حملهم على وضعها عداوة خصومهم نحو حديث (السطل) وحديث (الرمانة) وحديث غزوة البئر التى كان فيها الشياطين وتعرف كما زعموا (بذات العلم) وحديث غسل سلمان الفارسى وطى الارض وحديث الجمجمة ونحو ذلك فلما رات البكرية ما صنعت الشيعة وضعت لصاحبها احاديث في مقابلة هذه الاحاديث نحو (لو كنت متخذا خليلا) فانهم وضعوه في مقابله حديث الاخاء ونحو سد الابواب فانه كان لعلى عليه السلام فقلبته البكرية الى ابى بكر ونحو (ائتونى بدواة وبياض اكتب فيه لابي بكر كتابا لا يختلف عليه اثنان) ثم قال (يابى الله تعالى والمسلمون الا ابا بكر) فانهم وضعوه في مقابلة الحديث المروى عنه في مرضه (ائتونى بدواة وبياض اكتب لكم ما لا تضلون بعده ابدا) فاختلفوا عنده وقال قوم منهم لقد غلبه الوجع حسبنا كتاب الله ونحو حديث (انا راض عنك فهل انت عنى راض) ونحو ذلك فلما رات الشيعة ما قد وضعت البكرية اوسعوا في وضع الاحاديث فوضعوا حديث الطوق الحديد الذى زعموا انه فتله في عنق خالد وحديث اللوح الذى زعموا انه كان في غدائر الحنفية ام محمد وحديث (لا يفعلن خالد ما آمر به) وحديث الصحيفة التى علقت عام الفتح بالكعبة وحديث الشيخ الذى صعد المنبر يوم بويع أبو بكر فسبق الناس الى بيعته واحاديث مكذوبة كثيرة تقتضي نفاق قوم من اكابر الصحابة والتابعين الاولين وكفرهم وعلى ادون الطبقات فيهم فقابلتهم البكرية بمطاعن كثيرة في على وفي ولديه ونسبوه تارة الى ضعف العقل وتارة الى ضعف السياسة وتارة الى حب الدنيا والحرص عليها ولقد كان الفريقان في غنية عما اكتسباه واجترحاه ولقد كان في فضائل على عليه السلام الثابتة الصحيحة وفضائل ابى بكر المحققة(11/49)
المعلومة ما يغنى عن تكلف العصبية لهما فان العصبية لهما اخرجت الفريقين من ذكر الفضائل الى ذكر الرذائل ومن تعديد المحاسن الى تعديد المساوئ والمقابح ونسال الله تعالى أن يعصمنا من الميل الى الهوى وحب العصبية وأن يجرينا على ما عودنا من حب الحق اين وجد وحيث كان سخط ذلك من سخط ورضى به من رضى بمنه ولطفه(11/50)
(204) الاصل ومن خطبة له عليه السلام وكان من اقتدار جبروته وبديع لطائف صنعته أن جعل من ماء البحر الزاخر المتراكم المتقاصف يبسا جامدا ثم فطر منه اطباقا فنتقها سبع سموات بعد ارتتاقها فاستمسكت بامره وقامت على حده يحملها الاخضر المثعنجر والقمقام المسخر قد ذل لامره واذعن لهيبته ووقف الجارى منه لخشيته وجبل جلاميدها ونشوز متونها واطوادها فارساها في مراسيها والزمها قرارتها فمضت رؤوسها في الهواء ورست اصولها في الماء فانهد جبالها عن سهولها واساخ قواعدها في متون اقطارها ومواضع انصابها فاشهق قلالها واطال انشازها وجعلها للارض عمادا وارزها فيها اوتادا فسكنت على حركتها من أن تميد باهلها أو تسيخ بحملها أو تزول عن مواضعها فسبحان من امسكها بعد موجان مياهها واجمدها بعد رطوبة اكنافها فجعلها لخلقه مهادا وبسطها لهم فراشا فوق بحر لجى راكد لا يجرى وقائم لا يسرى تكركره الرياح العواصف وتمخضه الغمام الذوارف إن في ذلك لعبرة لمن يخشى(11/51)
الشرح اراد أن يقول (وكان من اقتداره) فقال (وكان من اقتدار جبروته) تعظيما وتفخيما كما يقال للملك امرت الحضرة الشريفة بكذا والبحر الزاخر الذى قد امتد جدا وارتفع والمتراكم المجتمع بعضه على بعض والمتقاصف الشديد الصوت قصف الرعد وغيره قصيفا .
واليبس بالتحريك المكان يكون رطبا ثم ييبس ومنه قوله تعالى (فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا) (1) واليبس بالسكون اليابس خلقه حطب يبس هكذا يقوله اهل اللغه وفيه كلام لان الحطب ليس يابسا خلقه بل كان رطبا من قبل فالاصوب أن يقال لا تكون هذه اللفظة محركة الا في المكان خاصة وفطر خلق والمضارع يفطر بالضم فطرا .
والاطباق جمع طبق وهو اجزاء مجتمعة من جراد أو غيم أو ناس أو غير ذلك من حيوان أو جماد يقول خلق منه اجساما مجتمعة مرتتقة ثم فتقها سبع سموات وروى (ثم فطر منه طباقا) أي اجساما منفصلة في الحقيقة متصلة في الصورة بعضها فوق بعض وهى من الفاظ القرآن (2) المجيد والضمير في (منه) يرجع الى ماء البحر في اظهر النظر وقد يمكن أن يرجع الى اليبس .
واعلم انه قد تكرر في كلام امير المؤمنين ما يماثل هذا القول ويناسبه وهو مذهب :
__________
(1) سورة طه 77 (2) وهو قوله تعالى (الذي خلق سبع سموات طباقا) وقوله في سورة نوح 15 (ألم تر كيف خلق الله سبع سموات طباق) (*)(11/52)
كثير من الحكماء الذين قالوا بحدوث السماء منهم ثاليس الملطى قالوا اصل الاجسام الماء وخلقت الارض من زبدة والسماء من بخاره وقد جاء القرآن العزيز بنحو هذا قال سبحانه (الذى خلق السموات والارض في ستة ايام وكان عرشه على الماء) (1) .
قال شيخنا أبو على وابو القاسم رحمهما الله في تفسيريهما هذه الاية داله على أن الماء والعرش كانا قبل خلق السموات والارض قالا وكان الماء على الهواء قالا وهذا يدل ايضا على أن الملائكة كانوا موجودين قبل خلق السموات والارض لان الحكيم سبحانه لا يجوز أن يقدم خلق الجماد على خلق المكلفين لانه يكون عبثا .
وقال على بن عيسى الرماني من مشايخنا انه غير ممتنع أن يخلق الجماد قبل الحيوان إذا علم أن في اخبار المكلفين بذلك لطفا لهم ولا يصح أن يخبرهم الا وهو صادق فيما اخبر به وانما يكون صادقا إذا كان المخبر خبره على ما اخبر عنه وفى ذلك حسن تقديم خلق الجماد على خلق الحيوان وكلام امير المؤمنين عليه السلام انه كان يذهب الى أن الارض موضوعه على ماء البحر وأن البحر حامل لها بقدرة الله تعالى وهو معنى قوله (يحملها الاخضر المثعنجر والقمقام المسخر) وأن البحر الحامل لها قد كان جاريا فوقف تحتها وانه تعالى خلق الجبال في الارض فجعل اصولها راسخة في ماء البحر الحامل للارض واعاليها شامخة في الهواء وانه سبحانه جعل هذه الجبال عمادا للارض واوتادا تمنعها من الحركة والاضطراب ولولاها لماجت واضطربت وأن هذا البحر الحامل للارض تصعد فيه الرياح الشديدة فتحركه حركة عنيفة وتموج السحب التى تغترف الماء منه لتمطر الارض به وهذا كله مطابق لما في الكتاب العزيز والسنة النبوية والنظر الحكمى الا ترى الى قوله تعالى (أو لم ير الذين كفروا أن السموات والارض
__________
(1) سورة هود 7 (*)(11/53)
كانتا رتقا ففتقناهما) (1) وهذا هو صريح قوله عليه السلام (ففتقها سبع سموات بعد ارتتاقها) والى قوله تعالى (وجعلنا في الارض رواسي أن تميد بهم) (2) والى ما ورد في الخبر من أن الارض مدحوة على الماء وأن الرياح تسوق السحب الى الماء نازلة ثم تسوقها عنه صاعدة بعد امتلائها ثم تمطر .
واما النظر الحكمي فمطابق لكلامه إذا تأمله المتأمل وحمله على المحمل العقلي وذلك لان الارض هي آخر طبقات العناصر وقبلها عنصر الماء وهو محيط بالارض كلها الا ما برز منها وهو مقدار الربع من كرة الارض على ما ذكره علماء هذا الفن وبرهنوا عليه فهذا تفسير قوله عليه السلام (يحملها الاخضر المثعنجر) .
واما قوله (ووقف الجارى منه لخشيته) فلا يدل دلالة قاطعة على انه كان جاريا ووقف ولكن ذلك كلام خرج مخرج التعظيم والتبجيل ومعناه أن الماء طبعه الجريان والسيلان فهو جار بالقوة وإن لم يكن جاريا بالفعل وانما وقف ولم يجر بالفعل بقدرة الله تعالى المانعة له من السيلان وليس قوله (ورست اصولها في الماء) مما ينافى النظر العقلي لانه لم يقل (ورست اصولها في ماء البحر) ولكنه قال (في الماء) ولا شبهة في أن اصول الجبال راسية في الماء المتخلخل بين اجزاء الارض فان الارض كلها يتخلخل الماء بين اجزائها على طريق استحاله البخار من الصورة الهوائية الى الصورة المائية .
وليس ذكره للجبال وكونها مانعة للارض من الحركة بمناف ايضا للنظر الحكمى لان الجبال في الحقيقة قد تمنع من الزلزلة إذا وجدت اسبابها الفاعلة فيكون ثقلها مانعا من الهدة والرجفة .
__________
(1) سورة الانبياء 30 (2) سورة الانبياء 31 (*)(11/54)
ليس قوله (تكركره الرياح) منافيا للنظر الحكمى ايضا لان كرة الهواء محيطة بكرة وقد تعصف الرياح في كرة الهواء للاسباب المذكورة في موضعها من هذا العلم فيتموج كثير من الكرة المائية لعصف الرياح .
وليس قوله عليه السلام (تمخضه الغمام الذوارف) صريحا في أن السحب تنزل في البحر فتغترف منه كما قد يعتقد في المشهور العامي نحو قول الشاعر كالبحر تمطره السحاب وما لها فضل عليه لانها من مائه .
بل يجوز أن تكون الغمام الذراف تمخضه وتحركه بما ترسل عليه من الامطار السائلة منها فقد ثبت أن كلام امير المؤمنين عليه السلام إن شئت فسرته بما يقوله اهل الظاهر وإن شئت فسرته بما يعتقده الحكماء .
فان قلت فكيف قال الله تعالى (أو لم ير الذين كفروا أن السموات والارض كانتا رتقا ففتقناهما) وهل كان الذين كفروا رائين لذلك حتى يقول لهم (أو لم ير الذين كفروا) .
قلت هذا في قوله (اعلموا أن السموات والارض كانتا رتقا ففتقناهما) كما يقول الانسان لصاحبه الم تعلم أن الامير صرف حاجبه الليلة عن بابه أي اعلم ذلك إن كنت غير عالم والرؤية هنا بمعنى العلم .
واعلم انه قد ذهب قوم من قدماء الحكماء - ويقال انه مذهب سقراط - الى تفسير القيامة وجهنم بما يبتنى على وضع الارض على الماء فقالوا الارض موضوعة على الماء والماء على الهواء والهواء على النار والنار في حشو الافك ولما كان العنصران الخفيفان - وهما الهواء والنار - يقتضيان صعود ما يحيطان به العنصران الثقيلان اللذان في وسطهما وهما(11/55)
الماء والارض يقتضيان النزول والهبوط وقعت الممانعة والمدافعة فلزم من ذلك وقوف الماء والارض في الوسط .
قالوا ثم إن النار لا تزال يتزايد تأثيرها في اسخان الماء وينضاف الى ذلك حر الشمس والكواكب الى أن تبلغ البحار والعنصر المائى غايتهما في الغليان والفوران فيتصاعد بخار عظيم الى الافلاك شديد السخونة وينضاف الى ذلك حر فلك الاثير الملاصق للافلاك فتذوب الافلاك كما يذوب الرصاص وتتهافت وتتساقط وتصير كالمهل الشديد الحرارة ونفوس البشر على قسمين احدهما ما تجوهر وصار مجردا بطريق العلوم والمعارف وقطع العلائق الجسمانية حيث كان مدبرا للبدن والاخر ما بقى على جسمانيتة بطريق خلوة من اللعوم والمعارف وانغماسه في اللذات والشهوات الجسمانية فاما الاول فانه يلتحق بالنفس الكلية المجردة ويخلص من دائرة هذا العالم بالكلية واما الثاني فانه تنصب عليه تلك الاجسام الفلكية الذائبة فيحترق بالكلية ويتعذب ويلقى آلاما شديدة .
قالوا هذا هو باطن ما وردت به الرواية من العذاب عليها وخراب العالم والافلاك وانهدامها .
ثم نعود الى شرح الالفاظ قوله عليه السلام (فاستمسكت) أي وقفت وثبتت .
والهاء في (حدة) تعود الى امرة أي قامت على حد ما امرت به أي لم تتجاوزه ولا تعدته .
والاخضر البحر ويسمى ايضا (خضارة) معرفه غير مصروف والعرب تسميه بذلك اما لانه يصف لون السماء فيرى اخضر أو لانه يرى اسود لصفائه فيطلقون عليه لفظ(11/56)
الاخضر كما سموا الاخضر اسود نحو قوله (مدهامتان) (1) ونحو تسميتهم قرى العراق سوادا لخضرتها وكثرة شجرها ونحو قولهم للديزج (2) من الدواب اخضر .
المثعنجر السائل ثعجرت الدم وغيره فاثعنجر أي صببته فانصب وتصغير المثعنجر مثيعج ومثيعيج .
والقمقام بالفتح من اسماء البحر ويقال لمن وقع في امر عظيم وقع في قمقام من الامر تشبيها بالبحر .
قوله عليه السلام (وجبل جلاميدها) أي وخلق صخورها جمع جلمود .
والنشوز جمع نشز وهو المرتفع من الارض ويجوز فتح الشين .
ومتونها جوانبها واطوادها جبالها (ويروى) (واطوادها) بالجر عطفا على متونها .
فارساها في مراسيها اثبتها في مواضعها رسا الشئ يرسو ثبت ورست اقدامهم في الحرب ثبتت ورست السفينة ترسو رسوا ورسوا أي وقفت في البحر وقوله تعالى (بسم الله مجراها ومرساها) (3) بالضم من اجريت وارسيت ومن قرا بالفتح فهو من (رست) هي (وجرت) هي .
والزمها قرارتها امسكها حيث استقرت .
قوله (فانهد جبالها) أي اعلاها نهد ثدى الجارية ينهد بالضم إذا اشرف وكعب فهى ناهد وناهدة .
وسهولها ما تطامن منها عن الجبال .
واساخ قواعدها أي غيب قواعد الجبال في جوانب اقطار الارض ساخت قوائم
__________
(1) سورة الرحمن 64 .
(2) في اللسان : (يقال فرس اخضر وهو الديزج) (3) سورة هود 41 .
(*)(11/57)
الفرس في الارض تسوخ وتسيخ أي دخلت فيها وغابت مثل ثاخت واسختها انا مثل اثختها والانصاب الاجسام المنصوبة الواحد نصب بضم النون والصاد ومنه سميت الاصنام نصبا في قوله تعالى (وما ذبح على النصب) (1) لانها نصبت فعبدت من دون الله قال الاعشى وذا المنصوب لا تنسكنه لعاقبة والله ربك فاعبدا .
(2) أي واساخ قواعد الجبال في متون اقطار الارض وفي المواضع الصالحة لا تكون فيها الانصاب المماثلة وهى الجبال انفسها .
قوله (فاشهق قلالها) جمع قله وهى ما علا من راس الجبل اشهقها جعلها شاهقة أي عالية .
وارزها اثبتها فيها رزت الجرادة ترز رزا وهو أن تدخل ذنبها في الارض فتلقى بيضها وارزها الله اثبت ذلك منها في الارض ويجوز (ارزت) لازما غير متعد مثل رزت وارتز السهم في القرطاس ثبت فيه وروى (وآرزها) بالمد من قولهم شجرة آرزة أي ثابتة في الارض ارزت بالفتح تارز بالكسر أي ثبتت وآرزها - بالمد - غيرها أي اثبتها .
وتميد تتحرك وتسيخ تنزل وتهوى .
فان قلت ما الفرق بين الثلاثة تميد باهلها أو تسيخ بحملها أو تزول عن مواضعها .
قلت لانها لو تحركت لكانت اما أن تتحرك على مركزها أو لا على مركزها
__________
(1) سورة المائدة 3 .
(2) ديوانه 103 .
(*)(11/58)
والاول هو المراد بقوله (تميد باهلها) والثانى تنقسم الى أن تنزل الى تحت أو لا تنزل الى تحت فالنزول الى تحت هو المراد بقوله (أو تسيخ بحملها) والقسم الثاني هو المراد بقوله (أو تزول عن مواضعها) .
فان قلت ما المراد ب (على) في قوله (فسكنت على حركتها) ؟ .
قلت هي لهيئة الحال كما تقول عفوت عنه على سوء ادبه ودخلت إليه على شربه أي سكنت على أن من شانها الحركة لانها محمولة على سائل متموج .
قوله (موجان مياهها) بناء (فعلان) لما فيه اضطراب وحركة كالغليان والنزوان والخفقان ونحو ذلك .
واجمدها أي اجعلها جامدة واكنافها جوانبها والمهاد الفراش .
فوق بحر لجى كثير الماء منسوب الى اللجة وهى معظم البحر .
قوله (يكركره الرياح) الكركرة تصريف الريح السحاب إذا جمعته بعد تفريق و اصله (يكرر) من التكرير فاعادوا الكاف كركرت الفارس عنى أي دفعته ورددته .
والرياح العواصف الشديدة الهبوب وتمخضه يجوز فتح الخاء وضمها وكسرها والفتح افصح لمكان حرف الحلق من مخضت اللبن إذا حركته لتاخذ زبدة .
والغمام جمع والواحدة غمامة ولذلك قال (الذوارف) لان (فواعل) اكثر ما يكون لجمع المؤنث ذرفت عينه أي دمعت أي السحب المواطر والمضارع من (ذرفت) عينه (تذرف) بالكسر ذرفا وذرفا والمذارف المدامع .(11/59)
(205) الاصل ومن خطبة له عليه السلام اللهم ايما عبد من عبادك سمع مقالتنا العادلة غير الجائرة والمصلحة في الدين والدنيا غير المفسدة فابى بعد سمعه لها الا النكوص عن نصرتك والابطاء عن اعزاز دينك فانا نستشهدك عليه يا اكبر الشاهدين شهادة ونستشهد عليه جميع ما اسكنته ارضك وسمواتك ثم انت بعده المغنى عن نصره والاخذ له بذنبه الشرح ما في (ايما) زائدة مؤكدة ومعنى الفصل وعيد من استنصره فقعد عن نصره .
ووصف المقالة بانها عادلة اما تأكيد كما قالوا شعر شاعر واما ذات عدل كما قالوا رجل تامر ولابن أي ذو تمر ولبن ويجوز ايضا أن يريد بالعادلة المستقيمة التى ليست كاذبة ولا محرفة عن جهتها والجائرة نقيضها وهى المنحرفة جار فلان عن الطريق أي انحرف وعدل .
والنكوص التاخر .
قوله عليه السلام (نستشهدك عليه) أي نسالك أن تشهد عليه ووصفه تعالى(11/60)
بانه اكبر الشاهدين شهادة لقوله تعالى (قل أي شئ اكبر شهادة قل الله) (1) يقول اللهم انا نستشهدك على خذلان من استنصرناه واستنفرناه الى نصرتك والجهاد عن دينك فابى النهوض ونكث عن القيام بواجب الجهاد ونستشهد عبادك من البشر في ارضك وعبادك من الملائكة في سمواتك عليه ايضا ثم انت بعد ذلك المغنى لنا عن نصرته ونهضته بما تتيحه لنا من النصر وتؤيدنا به من الاعزاز والقوة والاخذ له بذنبه في القعود والتخلف .
وهذا قريب من قوله تعالى (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا امثالكم) (2)
__________
(1) سورة الانعام 19 (2) سورة محمد 28 (*)(11/61)
(206) الاصل ومن خطبه له عليه السلام الحمد لله العلى عن شبه المخلوقين الغالب لمقال الواصفين الظاهر بعجائب تدبيره للناظرين والباطن بجلال عزته عن فكر المتوهمين العالم بلا اكتساب ولا ازدياد ولا علم مستفاد المقدر لجميع الامور بلا روية ولا ضمير الذى لا تغشاه الظلم ولا يستضئ بالانوار ولا يرهقه ليل ولا يجرى عليه نهار ليس ادراكه بالابصار ولا علمه بالاخبار الشرح يجوز شبه وشبه والروايه هاهنا بالفتح وتعاليه سبحانه عن شبه المخلوقين كونه قديما واجب الوجود وكل مخلوق محدث ممكن الوجود .
قوله (الغالب لمقال الواصفين) أي إن كنه جلاله وعظمته لا يستطيع الواصفون وصفه وإن اطنبوا واسهبوا فهو كالغالب لاقوالهم لعجزها عن ايضاحه وبلوغ منتهاه والظاهر بافعاله والباطن بذاته لانه انما يعلم منه افعاله واما ذاته فغير معلومه .
ثم وصف علمه تعالى فقال انه غير مكتسب كما يكتسب الواحد منا علومه بالاستدلال والنظر ولا هو علم يزداد الى علومه الاولى كما تزيد علوم الواحد منا ومعارفه وتكثر لكثرة الطرق التى يتطرق بها إليها .(11/62)
ثم قال (ولا علم مستفاد) أي ليس يعلم الاشياء بعلم محدث مجدد كما يذهب إليه جهم واتباعه وهشام بن الحكم ومن قال بقوله .
ثم ذكر انه تعالى قدر الامور كلها بغير رويه أي بغير فكر ولا ضمير وهو ما يطويه الانسان من الراى والاعتقاد والعزم في قلبه .
ثم وصفه تعالى بانه لا يغشاه ظلام لانه ليس بجسم ولا يستضئ بالانوار كالاجسام ذوات البصر ولا يرهقه ليل أي لا يغشاه ولا يجرى عليه نهار لانه ليس بزماني ولا قابل للحركه ليس ادراكه بالابصار لان ذلك يستدعى المقابلة ولا علمه بالاخبار مصدر اخبر أي ليس علمه مقصورا على أن تخبره الملائكة باحوال المكلفين بل هو يعلم كل شئ لان ذاته ذات واجب لها أن تعلم كل شئ لمجرد ذاتها المخصوصة من غير زيادة امر على ذاتها الاصل منها في ذكر النبي صلى الله عليه واله ارسله بالضياء وقدمه في الاصطفاء فرتق به المفاتق وساور به المغالب وذلل به الصعوبة وسهل به الحزونة حتى سرح الضلال عن يمين وشمال الشرح ارسله بالضياء أي بالحق وسمى الحق ضياء لانه يهتدى به أو ارسله بالضياء أي بالقرآن .(11/63)
وقدمه في الاصطفاء أي قدمه في الاصطفاء على غيره من العرب والعجم قالت قريش (لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين) (1) أي على رجل من رجلين من القريتين عظيم أي اما على الوليد بن المغيرة من مكة أو على عروة بن مسعود الثقفى من الطائف .
ثم قال تعالى (اهم يقسمون رحمه ربك) (2) أي هو سبحانه العالم بالمصلحة في ارسال الرسل وتقديم من يرى في في الاصطفاء على غيره .
فرتق به المفاتق أي اصلح به المفاسد والرتق ضد الفتق والمفاتق جمع مفتق وهو مصدر كالمضرب والمقتل .
وساور به المغالب ساورت زيدا أي واثبته ورجل سوار أي وثاب وسورة الخمر وثوبها في الراس .
والحزونه ضد السهوله والحزن ما غلظ من الارض والسهل ما لان منها و استعير لغير الارض كالاخلاق ونحوها .
قوله (حتى سرح الضلال) أي طرده واسرع به ذهابا .
عن يمين وشمال من قولهم ناقة سرح ومنسرحة أي سريعة ومنه تسريح المراة أي تطليقها
__________
(1) سورة الزخرف 31 (2) سورة الزخرف 32 (*)(11/64)
(207) الاصل ومن خطبه له عليه السلام واشهد انه عدل عدل وحكم فصل واشهد أن محمدا عبده ورسوله وسيد عباده كلما نسخ الله الخلق فرقتين جعله في خيرهما لم يسهم فيه عاهر ولا ضرب فيه فاجر الا وإن الله سبحانه قد جعل للخير اهلا وللحق دعائم وللطاعة عصما وإن لكم عند كل طاعة عونا من الله سبحانه يقول على الالسنة ويثبت به الافئدة فيه كفاء لمكتف وشفاء لمشتف واعلموا أن عباد الله المستحفظين علمه يصونون مصونة ويفجرون عيونة يتواصلون بالولاية ويتلاقون بالمحبة ويتساقون بكاس روية ويصدرون برية لا تشوبهم الريبة ولا تسرع فيهم الغيبة على ذلك عقد خلقهم واخلاقهم فعليه يتحابون وبه يتواصلون فكانوا كتفاضل البذر ينتقى فيؤخذ منه ويلقى قد ميزه التخليص وهذبه التمحيص فليقبل امرؤ كرامة بقبولها وليحذر قارعة قبل حلولها ولينظر امرؤ في قصير ايامه وقليل مقامه في منزل حتى يستبدل به منزلا فليصنع لمتحوله ومعارف منتقله فطوبى لذى قلب سليم اطاع من يهديه وتجنب من يرديه واصاب سبيل السلامة ببصر من بصره وطاعه هاد امره وبادر الهدى قبل أن تغلق ابوابه(11/65)
وتقطع اسبابه واستفتح التوبة واماط الحوبة فقد اقيم على الطريق وهدى نهج السبيل الشرح الضمير في انه يرجع الى القضاء والقدر المذكور في صدر هذه الخطبة ولم يذكره الرضى رحمه الله يقول اشهد أن قضاءه تعالى عدل عدل وحكم بالحق فانه حكم فصل بين العباد بالانصاف ونسب العدل والفصل الى القضاء على طريق المجاز وهو بالحقيقة منسوب الى ذى القضاء والقاضى به هو الله تعالى .
قوله (وسيد عباده) هذا كالمجمع عليه بين المسلمين وإن كان قد خالف فيه شذوذ منهم واحتج الجمهور بقوله (انا سيد ولد آدم ولا فخر) وبقوله (ادعوا لى سيد العرب عليا) فقالت عائشة الست سيد العرب فقال (انا سيد البشر وعلى سيد العرب) وبقوله (آدم ومن دونه تحت لوائى) واحتج المخالف بقوله عليه السلام (لا تفضلوني على اخى يونس بن متى) .
واجاب الاولون تارة بالطعن في اسناد الخبر وتارة بانه حكاية كلام حكاه صلى الله عليه واله عن عيسى بن مريم وتارة بان النهى انما كان عن الغلو فيه كما غلت الامم في انبيائها فهو كما ينهى الطبيب المريض فيقول لا تأكل من الخبز ولا درهما وليس مراده تحريم اكل الدرهم والدرهمين بل تحريم ما يستضر باكله منه .
قوله عليه السلام (كلما نسخ الله الخلق فرقتين جعله في خيرهما) النسخ النقل ومنه نسخ الكتاب ومنه نسخت الريح آثار القوم ونسخت الشمس الظل يقول(11/66)
كلما قسم الله تعالى الاب الواحد الى ابنين جعل خيرهما وافضلهما لولاده محمد عليه السلام وسمى ذلك نسخا لان البطن الاول يزول ويخلفه البطن الثاني ومنه مسائل المناسخات في الفرائض .
وهذا المعنى قد ورد مرفوعا في عدة احاديث نحو قوله صلى الله عليه واله (ما افترقت فرقتان منذ نسل آدم ولده الا كنت في خيرهما) ونحو قوله (إن الله اصطفى من ولد ابراهيم اسماعيل واصطفى من ولد اسماعيل مضر واصطفى من مضر كنانة واصطفى من كنانة قريشا واصطفى من قريش هاشما واصطفانى من بنى هاشم) قوله (لم يسهم فيه عاهر ولاضرب فيه فاجر) لم يسهم لم يضرب فيه عاهر بسهم أي بنصيب وجمعه سهمان والعاهر ذو العهر بالتحريك وهو الفجور والزنا ويجوز تسكين الهاء مثل نهر ونهر وهذا هو المصدر والماضي عهر بالفتح والاسم العهر بكسر العين وسكون الهاء والمراة عاهرة ومعاهرة وعيهرة وتعيهر الرجل إذا زنى والفاجر كالعاهر هاهنا واصل الفجور الميل قال لبيد فان تتقدم تغش منها مقدما غليظا وإن اخرت فالكفل فاجر (1) يقول مقعد الرديف مائل [ ذكر بعض المطاعن في النسب وكلام للجاحظ في ذلك ] وفى الكلام رمز الى جماعة من الصحابة في انسابهم طعن كما يقال إن آل سعد ابن ابى وقاص ليسوا من بنى زهرة بن كلاب وانهم من بنى عذرة من قحطان
__________
(1) ديوانه 2 : 5 (*)(11/67)
وكما قالوا إن آل الزبير بن العوام من ارض مصر من القبط وليسوا من بنى اسد بن عبد العزى قال الهيثم بن عدى في كتاب (مثالب العرب) إن خويلد بن اسد بن عبد العزى كان اتى مصر ثم انصرف منها بالعوام فتبناه فقال حسان بن ثابت يهجو آل العوام بن خويلد بنى اسد ما باآل خويلد يحنون شوقا كل يوم الى القبط (1) متى يذكروا قهقى يحنوا لذكرها وللرمث المقرون والسمك الرقط عيون كامثال الزجاج وضيعه تخالف كعبا في لحى كثة ثط (2) يرى ذاك في الشبان والشيب منهم مبينا وفي الاطفال والجلة الشمط لعمر ابى العوام إن خويلدا غداة تبناه ليوثق في الشرط (3) وكما يقال في قوم آخرين نرفع هذا الكتاب عن ذكر ما يطعن به في انسابهم كى لا يظن بنا انا المقالة في الناس .
قال شيخنا أبو عثمان في كتاب (مفاخرات قريش) لا خير في ذكر العيوب الا من ضرورة ولانجد كتاب مثالب قط الا لدعى أو شعوبي ولست واجدة لصحيح النسب ولا لقليل الحسد وربما كانت حكاية الفحش افحش من الفحش ونقل الكذب اقبح من الكذب وقال النبي صلى الله عليه واله (اعف عن ذى قبر) وقال (لا تؤذوا الاحياء بسب الاموات) وقيل في المثل (يكفيك من شر سماعة) وقالوا اسمعك من ابلغك وقالوا من طلب عيبا وجده وقال النابغة ولست بمستبق اخا لا تلمه على شعث أي الرجال المهذب .
(4)
__________
(1) ديوانه 239 (2) يقال رجل : ثط وأثط إذا عرى وجهه من الشعر الاطاقات في أسفل ضلعه .
(3) يريد شرط الخليفة .
(4) ديوانه 14 .
(*)(11/68)
قال أبو عثمان وبلغ عمر بن الخطاب أن اناسا من رواة الاشعار وحملة الاثار يعيبون الناس ويثلبونهم في اسلافهم فقام على المنبر وقال اياكم وذكر العيوب والبحث عن الاصول فلو قلت لا يخرج اليوم من هذه الابواب الا من لا وصمة فيه لم يخرج منكم احد فقام رجل من قريش - نكره أن نذكره - فقال إذا كنت انا وانت يا امير المؤمنين نخرج فقال كذبت بل كان يقال لك يا قين بن قين اقعد .
قلت الرجل الذى قام هو المهاجر بن خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومى كان عمر يبغضه لبغضه اباه خالدا ولان المهاجر كان علوى الراى جدا وكان اخوه عبد الرحمن بخلافة شهد المهاجر صفين مع على عليه السلام وشهدها عبد الرحمن مع معاوية وكان المهاجر مع على عليه السلام في يوم الجمل وفقئت ذلك اليوم عينه ولان الكلام الذى بلغ عمر بلغه عن المهاجر وكان الوليد بن المغيرة مع جلالته في قريش - وكونه يسمى ريحانة قريش ويسمى العدل ويسمى الوحيد - حدادا يصنع الدروع وغيرها بيده ذكر ذلك عنه عبد الله بن قتيبة في كتاب المعارف .
(1) وروى أبو الحسن المدائني هذا الخبر في كتاب (امهات الخلفاء) وقال انه روى عند جعفر بن محمد عليه السلام بالمدينة فقال لا تلمه يا بن اخى انه اشفق أن يحدج (2) بقضية نفيل بن عبد العزى وصهاك امه الزبير بن عبد المطلب ثم قال رحم الله عمر فانه لم يعد السنه وتلا (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب اليم) .
(3) اما قول ابن جرير الاملي الطبرستانى في كتاب (المسترشد) إن عثمان والد
__________
(1) المعارف 250 (2) يقال حدجة بذنب غيره أي عزاه إليه (3) سورة النور 19 (*)(11/69)
ابى بكر الصديق كان ناكحا ام الخير ابنه اخته فليس بصحيح ولكنها ابنة عمه لانها ابنة صخر بن عامر وعثمان هو ابن عمرو بن عامر والعجب لمن اتبعه من فضلاء الامامية على هذه المقالة من غير تحقيق لها من كتب الانساب وكيف تتصور هذه الواقعة في قريش ولم يكن احد منهم مجوسيا ولا يهوديا ولا كان من مذهبهم حل نكاح بنات الاخ ولا بنات الاخت .
ثم نعود لاتمام حكايه كلام شيخنا ابى عثمان قال ومتى يقدر الناس - حفظك الله - على رجل مسلم من كل ابنة ومبرأ من كل آفة في جميع آبائه وامهاته واسلافه واصهاره حتى تسلم له اخواله واعمامه وخالاته وعماته واخواته وبناته وامهات نسائه وجميع من يناسبه من قبل جداته واجداده واصهاره واختانه ولو كان ذلك موجودا لما كان لنسب رسول الله صلى الله عليه واله فضيله في النقاء والتهذيب وفي التصفية والتنقيح قال رسول الله صلى الله عليه واله (ما مسنى عرق سفاح قط وما زلت انقل من الاصلاب السليمة من الوصوم (1) والارحام البريئة من العيوب) فلسنا نقضى لاحد بالنقاء من جميع الوجوه الا لنسب من صدقة القرآن واختاره الله على جميع الانام والا فلا بد من شئ يكون في نفس الرجل أو في طرفيه أو في بعض اسلافه أو في بعض اصهاره ولكنه يكون مغطى بالصلاح ومحجوبا بالفضائل ومغمورا بالمناقب .
ولو تأملت احوال الناس لوجدت اكثرهم عيوبا اشدهم تعييبا قال الزبرقان من بدر ما استب رجلان الا غلب الامهما وقال خصلتان كثيرتان في امرئ السوء
__________
(1) الوصوم : العيوب (*)(11/70)
كثرة اللطام وشدة السباب ولو كان ما يقوله اصحاب المثالب حقا لما كان على ظهرها عربي كما قال عبد الملك بن صالح الهاشمي إن كان ما يقول بعض في بعض حقا فما فيهم صحيح وإن كان ما يقول بعض المتكلمين في بعض حقا فما فيهم مسلم .
قوله عليه السلام (الا وإن الله قد جعل للخير اهلا وللحق دعائم وللطاعه عصما) الدعائم ما يدعم بها البيت لئلا يسقط والعصم جمع عصمة وهو ما يحفظ به الشئ ويمنع فاهل الخير هم المتقون ودعائم الحق الادلة الموصلة إليه المثبتة له في القلوب وعصم الطاعة هي الادمان على فعلها والتمرن على الاتيان بها لان المرون على الفعل يكسب الفاعل ملكة تقتضي سهولته عليه والعون هاهنا هو اللطف المقرب من الطاعة المبعد من القبيح .
ثم قال عليه السلام (انه يقول على الالسنة ويثبت الافئدة) وهذا من باب التوسع والمجاز لانه لما كان مستهلا للقول اطلق عليه انه يقول على الالسنة ولما كان الله تعالى هو الذى يثبت الافئدة كما قال (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت) (1) نسب التثبيت الى اللطف لانه من فعل الله تعالى كما ينسب الانبات الى المطر وانما المنبت للزرع هو الله تعالى والمطر فعله .
ثم قال عليه السلام (فيه كفاء لمكتف وشفاء لمشتف) والوجه فيه (كفاية) فان الهمز لا وجه له هاهنا لانه من باب آخر ولكنه اتى بالهمزة للازدواج بين (كفاء)
__________
(1) سورة ابراهيم 27 (*)(11/71)
و (شفاء) كما قالوا الغدايا والعشايا وكما قال عليه السلام (مازورات غير ماجورات) فاتى بالهمز والوجه الواو للازدواج [ ذكر بعض احوال العارفين والاولياء ] ثم ذكر العارفين فقال (واعلموا أن عباد الله المستحفظين علمه) الى قوله (وهذبه التمحيص) .
واعلم أن الكلام في العرفان لم ياخذه اهل المله الاسلاميه الا عن هذا الرجل ولعمري لقد بلغ منه الى اقصى الغايات وابعد النهايات والعارفون هم القوم الذين اصطفاهم الله تعالى وانتخبهم لنفسه واختصهم بانسه احبوه فاحبهم وقربوا منه فقرب منهم قد تكلم ارباب هذا الشان في المعرفة والعرفان فكل نطق بما وقع له واشار الى ما وجده في وقته .
وكان أبو على الدقاق يقول من امارات المعرفة حصول الهيبة من الله فمن ازدادت معرفته ازدادت هيبته .
وكان يقول المعرفة توجب السكينة في القلب كما أن العلم يوجب السكون فمن ازدادت معرفته ازدادت سكينته .
وسئل الشبلى عن علامات العارف فقال ليس لعارف علامة ولا لمحب سكون ولا لخائف قرار .
وسئل مرة اخرى عن المعرفة فقال اولها الله وآخرها ما لا نهاية له .
وقال أبو حفص الحداد منذ عرفت الله مادخل قلبى حق ولا باطل وقد اشكل هذا الكلام على ارباب هذا الشان وتاوله بعضهم فقال عند القوم أن المعرفة توجب(11/72)
غيبة العبد عن نفسه لاستيلاء ذكر الحق عليه فلا يشهد غير الله ولا يرجع الا إليه وكما أن العاقل يرجع الى قلبه وتفكره وتذكره فيما يسنح له من امر أو يستقبله من حال فالعارف رجوعه الى ربه لا الى قلبه وكيف يدخل المعنى قلب من لا قلب له .
وسئل أبو يزيد البسطامى عن العرفان فقال (إن الملوك إذا دخلوا قرية افسدوها وجعلوا اعزة اهلها اذلة) (1) وهذا معنى ما اشار إليه أبو حفص الحداد .
وقال أبو يزيد ايضا للخلق احوال ولا حال للعارف لانه محيت رسومه وفنى هو وصارت هويته هويه غيره وغيبت آثاره في آثار غيره .
قلت وهذا هو القول بالاتحاد الذى يبحث فيه اهل النظر .
وقال الواسطي لا تصح المعرفة وفى العبد استغناء بالله أو افتقار إليه وفسر بعضهم هذا الكلام فقال إن الافتقار والاستغناء من امارات صحو العبد وبقاء رسومه على ما كانت عليه والعارف لا يصح ذلك عليه لانه لاستهلاكه في وجوده أو لاستغراقه في شهوده إن لم يبلغ درجة الاستهلاك في الوجود مختطف عن احساسه بالغنى والفقر وغيرهما من الصفات ولهذا قال الواسطي من عرف الله انقطع وخرس وانقمع قال صلى الله عليه واله (لا احصى ثناء عليك انت كما اثنيت على نفسك) .
وقال الحسين بن منصور الحلاج علامة العارف أن يكون فارغا من الدنيا والاخرة .
وقال سهل بن عبد الله التسترى غايه العرفان شيئان الدهش والحيرة .
وقال ذو النون اعرف الناس بالله اشدهم تحيرا فيه .
وقيل لابي يزيد بماذا وصلت الى المعرفة قال ببدن عار وبطن جائع .
__________
(1) سورة النمل 24 (*)(11/73)
وقيل لابي يعقوب السوسى هل يتاسف العارف على شئ غير الله فقال وهل يرى شيئا غيره ليتاسف عليه .
وقال أبو يزيد العارف طيار والزاهد سيار .
وقال الجنيد لا يكون العارف عارفا حتى يكون كالارض يطؤها البر والفاجر وكالسحاب يظل كل شئ وكالمطر يسقى ما ينبت وما لا ينبت .
وقال يحيى بن معاذ يخرج العارف من الدنيا ولا يقضى وطره من شيئين بكائه على نفسه وحبه لربه .
وكان ابن عطاء يقول اركان المعرفة ثلاثة الهيبة والحياء والانس وقال بعضهم العارف انس بالله فاوحشه من خلقه وافتقر الى الله فاغناه عن خلقه وذل لله فاعزه في خلقه .
وقال بعضهم العارف فوق ما يقول والعالم دون ما يقول .
وقال أبو سليمان الدارانى إن الله يفتح للعارف على فراشه ما لا يفتح للعابد وهو قائم يصلى .
وكان رويم يقول رياء العارفين افضل من اخلاص العابدين .
وسئل أبو تراب النخشبى عن العارف فقال هو الذى لا يكدره شئ ويصفو به كل شئ .
وقال بعضهم المعرفة امواج ترفع وتحط .
وسئل يحيى بن معاذ عن العارف فقال الكائن البائن .
وقيل ليس بعارف من وصف المعرفة عند ابناء الاخرة فكيف عند ابناء الدنيا .
وقال محمد بن الفضل المعرفة حياة القلب مع الله .
وسئل أبو سعيد الخراز هل يصير العارف الى حال يجفو عليه البكاء ؟ قال(11/74)
نعم انما البكاء في اوقات سيرهم الى الله فإذا صاروا الى حقائق القرب وذاقوا طعم الوصول زال عنهم ذلك .
واعلم إن اطلاق امير المؤمنين عليه السلام عليهم لفظه (الولاية) في قوله (يتواصلون بالولاية ويتلاقون بالمحبة) يستدعى الخوض في مقامين جليلين من مقامات العارفين المقام الاول الولاية وهو مقام جليل قال الله تعالى (الا إن اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (1) وجاء في الخبر الصحيح عن النبي صلى الله عليه واله يقول الله تعالى (من آذى لى وليا فقد استحل محارمي وما تقرب الى العبد بمثل اداء ما فرضت عليه ولا يزال العبد يتقرب الى بالنوافل حتى احبه ولا ترددت في شئ انا فاعله كترددى في قبض نفس عبدى المؤمن يكره الموت واكره مساءته ولا بد له منه .
واعلم أن الولى له معنيان احدهما (فعيل) بمعنى (مفعول) كقتيل وجريح وهو من يتولى الله امره كما قال الله تعالى (إن وليى الله الذى نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين) (2) فلا يكله الى نفسه لحظة عين بل يتولى رعايته .
وثانيهما (فعيل) بمعنى (فاعل) كنذير وعليم وهو الذى يتولى طاعة الله وعبادته فلا يعصيه .
ومن شرط كون الولى وليا الا يعصى مولاه وسيده كما أن من شرط كون النبي
__________
(1) سورة يونس 62 .
(2) سورة الاعراف 196 .
(*)(11/75)
نبيا العصمة فمن ظن فيه انه من الاولياء ويصدر عنه ما للشرع فيه اعتراض فليس بولي عند اصحاب هذا العلم بل هو مغرور مخادع .
ويقال إن ابا يزيد البسطامى قصد بعض من يوصف بالولاية فلما وافى مسجده قعد ينتظر خروجه فخرج الرجل وتنخم في المسجد فانصرف أبو يزيد ولم يسلم عليه وقال هذا رجل غير مامون على ادب من آداب الشريعة كيف يكون امينا على اسرار الحق .
وقال ابراهيم بن ادهم لرجل اتحب أن تكون لله وليا قال نعم قال لا ترغب في شئ من الدنيا ولا من الاخرة وفرغ نفسك لله واقبل بوجهك عليه ليقبل عليك ويواليك .
وقال يحيى بن معاذ في صفة الاولياء هم عباد تسربلوا بالانس بعد المكابدة وادرعوا بالروح بعد المجاهدة بوصولهم الى مقام الولاية .
وكان أبو يزيد يقول اولياء الله عرائس الله ولا يرى العرائس الا المحارم فهم مخدرون عنده في حجاب الانس لا يراهم احد في الدنيا ولا في الاخرة .
وقال أبو بكر الصيدلانى كنت اصلح لقبر ابى بكر الطمستانى لوحا انقر فيه اسمه فيسرق ذلك اللوح فانقر له لوحا آخر وانصبه على قبره فيسرق وتكرر ذلك كثيرا دون غيره من الواح القبور فكنت اتعجب منه فسالت ابا على الدقاق عن ذلك فقال إن ذلك الشيخ آثر الخفاء في الدنيا وانت تريد أن تشهره باللوح الذى تنصبه على قبره فالله سبحانه يابى الا اخفاء قبره كما هو ستر نفسه .
وقال بعضهم انما سمى الولى وليا لانه توالت افعاله على الموافقة .(11/76)
وقال يحيى بن معاذ الولى لا يرائى ولا ينافق وما اقل صديق من يكون هذا خلقه .
المقام الثاني المحبة قال الله سبحانه (من يرتد منكم عن دينه فسوف ياتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) والمحبة عند ارباب هذا الشان حاله شريفه .
قال أبو يزيد البسطامى المحبة استقلال الكثير من نفسك واستكثار القليل من حبيبك .
وقال أبو عبد الله القرشى المحبة أن تهب كلك لمن احببت فلا يبقى لك منك شئ واكثرهم على نفى صفة العشق لان العشق مجاوزة الحد في المحبة والبارئ سبحانه اجل من أن يوصف بانه قد تجاوز احد الحد في محبته .
سئل الشبلى عن المحبة فقال هي أن تغار على المحبوب أن يحبه احد غيرك .
وقال سمنون ذهب المحبون بشرف الدنيا والاخرة لان النبي صلى الله عليه واله قال (المرء مع من احب) فهم مع الله تعالى .
وقال يحيى بن معاذ حقيقة المحبة ما لا ينقص بالجفاء ولا يزيد بالبر .
وقال ليس بصادق من ادعى محبته ولم يحفظ حدوده .
وقال الجنيد إذا صحت المحبة سقطت شروط الادب .
وانشد في معناه إذا صفت المودة بين قوم ودام ودادهم سمج الثناء وكان أبو على الدقاق يقول الست ترى الاب الشفيق لا يبجل ولده في الخطاب والناس يتكلفون في مخاطبته والاب يقول له يا فلان باسمه .
__________
(1) سورة المائدة 54 .
(*)(11/77)
وقال أبو يعقوب السوسى حقيقة المحبة أن ينسى العبد حظه من الله وينسى حوائجه إليه .
قيل للنصر اباذى يقولون انه ليس لك من المحبة شئ قال صدقوا ولكن لى حسراتهم فهو ذو احتراق فيه .
وقال النصراباذى ايضا المحبة مجانية السلو على كل حال ثم انشد ومن كان في طول الهوى ذاق سلوه فانى من ليلى لها غير ذائق واكثر شئ نلته في وصالها اماني لم تصدق كلمحة بارق .
وكان يقال الحب اوله خبل وآخره قتل .
وقال أبو على الدقاق في معنى قول النبي صلى الله عليه واله حبك الشئ يعمى ويصم قال يعمى ويصم عن الغير اعراضا وعن المحبوب هيبة ثم انشد إذا مابدا لى تعاظمته فاصدر في حال من لم يره .
وقال الجنيد سمعت الحارث المحاسبى يقول المحبة اقبالك على المحبوب بكليتك ثم ايثارك له على نفسك ومالك وولدك ثم موافقتك له في جميع الامور سرا وجهرا ثم اعتقادك بعد ذلك انك مقصر في محبته .
وقال الجنيد سمعت السرى يقول لا تصلح المحبة بين اثنين حتى يقول الواحد للاخر يا انا .
وقال الشبلى المحب إذا سكت هلك والعارف إذا لم يسكت هلك .
وقيل المحبة نار في القلب تحرق ما سوى ود المحبوب .
وقيل المحبة بذل الجهد والحبيب يفعل ما يشاء .
وقال الثوري المحبة هتك الاستار وكشف الاسرار .(11/78)
حبس الشيلى في المارستان بين المجانين فدخل عليه جماعة فقال من انتم قالوا محبوك ايها الشيخ فاقبل يرميهم بالحجارة ففروا فقال إذا ادعيتم محبتى فاصبروا على بلائى .
كتب يحيى بن معاذ الى ابى يزيد البسطامى قد سكرت من كثرة ما شربت من كاس محبته فكتب إليه أبو يزيد غيرك شرب بحور السموات والارض ومروى بعد ولسانه خارج ويقول هل من مزيد .
ومن شعرهم في هذا المعنى عجبت لمن يقول ذكرت ربى وهل انسى فاذكر ما نسيت شربت الحب كاسا بعد كاس فما نفد الشراب ولا رويت ويقال إن الله تعالى اوحى الى بعض الانبياء إذا اطلعت على قلب عبد فلم اجد فيه حب الدنيا والاخرة ملاته من حبى وقال أبو على الدقاق إن في بعض الكتب المنزلة عبدى انا وحقك لك محب فبحقي عليك كن لى محبا .
وقال عبد الله بن المبارك من اعطى قسطا من المحبة ولم يعط مثله من الخشية فهو مخدوع .
وقيل المحبة ما تمحو اثرك وتسلبك عن وجودك .
وقيل المحبة سكر لا يصحوا صاحبه الا بمشاهدة محبوبه ثم إن السكر الذى يحصل عند المشاهدة لا يوصف وانشد فاكسر القوم دور كاس وكان سكرى من المدير وكان أبو على الدقاق ينشد كثيرا(11/79)
لى سكرتان و للندمان واحدة شئ خصصت به من بينهم وحدي وكان يحيى بن معاذ يقول مثقال خردلة من الحب احب الى من عباده سبعين سنة بلا حب .
وقال بعضهم من اراد أن يكون محبا فليكن كما حكى عن بعض الهند انه احب جارية فرحلت عن ذلك البلد فخرج الفتى في وداعها فدمعت احدى عينيه دون الاخرى فغمض التى لم تدمع اربعا و ثمانين سنة ولم يفتحها عقوبة لانها لم تبك على فراق حبيبته .
وانشدوا في هذا المعنى بكت عينى غداة البين دمعا واخرى بالبكاء بخلت علينا فعاقبت التى بخلت علينا بان غمضتها يوم التقيا وقيل إن الله تعالى اوحى الى داود عليه السلام انى حرمت على القلوب أن يدخلها حبى وحب غيرى .
وقيل المحبة ايثار المحبوب على النفس كامراة العزيز لما افرط بها الحب قالت (انا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين) (1) وفي الابتداء قالت (ما جزاء من اراد باهلك سوءا الا أن يسجن) (2) فوركت (3) الذنب في الابتداء عليه ونادت في الانتهاء على نفسها بالخيانة وقال أبو سعيد الخراز رايت النبي صلى الله عليه واله في المنام فقلت يا رسول الله اعذرني فان محبة الله شغلتني عن حبك فقال يا مبارك من احب الله فقد احبني .
__________
(1) سورة يوسف 51 .
(2) سورة يوسف 25 .
(3) يقال ورك الذئب عليه : حمله .
(*)(11/80)
ثم نعود الى تفسير الفاظ الفصل قوله عليه السلام (يصونون مصونة) أي يكتمون من العلم الذى استحفظوه ما يجب أن يكتم ويفجرون عيونه يظهرون منه ما ينبغى اظهاره وذلك انه ليس ينبغى اظهار كل ما استودع العارف من الاسرار واهل هذا الفن يزعمون أن قوما منهم عجزوا عن أن يحملوا بما حملوه فباحوا به فهلكوا منهم الحسين بن منصور الحلاج ولابي الفتوح الجارودي المتأخر اتباع يعتقدون فيه مثل ذلك .
والولاية بفتح الواو المحبة والنصرة ومعنى (يتواصلون بالولاية) يتواصلون وهم اولياء ومثله (ويتلاقون بالمحبة) كما تقول خرجت بسلاحي أي خرجت وانا متسلح فيكون موضع الجار والمجرور نصبا بالحال أو يكون المعنى ادق والطف من هذا وهو أن يتواصلوا بالولاية أي بالقلوب لا بالاجسام كما تقول انا اراك بقلبي وازورك بخاطرى واواصلك بضميري .
قوله (ويتساقون بكاس روية) أي بكاس المعرفة والانس بالله ياخذ بعضهم عن بعض العلوم والاسرار فكأنهم شرب يتساقون بكاس من الخمر (1) .
قال (ويصدرون بريه) يقال من اين ريتكم مفتوحة الراء أي (2) من اين ترتوون الماء .
قال (لا تشوبهم الريبة) أي لا تخالطهم الظنة والتهمة ولا تسرع فيهم الغيبة لان اسرارهم مشغولة بالحق عن الخلق .
قال (على ذلك عقد خلقهم واخلاقهم) الضمير في (عقد) يرجع الى الله تعالى أي على هذه الصفات والطبائع عقد الخالق تعالى خلقتهم وخلقهم أي هم متهيئون لما صاروا إليه كما قال عليه السلام) (إذا ارادك لامر هياك له)
__________
(1) ب " الخمرة " ، وما أثبته من ا (2) ساقطة من ا .(11/81)
وقال عليه السلام كل (ميسر لما خلق له) .
قال (فعليه يتحابون وبه يتواصلون) أي ليس حبهم بعضهم بعضا الا في الله وليست مواصلتهم بعضهم بعضا الا لله لا للهوى ولا لغرض من اغراض الدنيا انشد منشد عند عمر قول طرفة فلو لا ثلاث هن من عيشة الفتى وجدك لم احفل متى قام عودي (1) فمنهن سبقي العاذلات بشربة كميت متى ما تعل بالماء تزبد (2) وكرى إذا نادى المضاف محنبا كسيد الغضا نبهته المتورد (3) وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ببهكنة تحت الطراف المعمد (4) فقال عمر وانا لو لا ثلاث هن من عيشه الفتى لم احفل متى قام عودي حبى في الله وبغضى في الله وجهادي في سبيل الله .
قوله عليه السلام (فكانوا كتفاضل البذر) أي مثلهم مثل الحب الذى ينتفى للبذر يستصلح بعضه ويسقط بعضه .
قد ميزه التخليص قد فرق الانتقاء بين جيده ورديئه وهذبه التمحيص قال النبي صلى الله عليه واله (إن المرض ليمحص الخطايا كما تمحص النار الذهب) أي كما تخلص النار الذهب مما يشوبه .
ثم امر عليه السلام المكلفين بقبول كرامة الله ونصحه ووعظه وتذكيره وبالحذر
__________
(1) من المعلقة بشرح التبريزي 81 ، 82 .
(2) الكميت من الخمر التي تضرب الى السواد وقوله متى ما تعل بالماء تزبد اي متى تمزج به تزبد لانها عتيقة .
(3) كرى عطفى والمضاف الذي اضافته الهموم والتحنيب احديداب في وضيفي يدى الفرس وليس ذلك بالاعوجاج الشديد وهو مما يوصف صاحبه بالشدة والسبد الذئب والغضا شجر وذئابه اخبث الذئاب ونبهته هيجته والمتورد الذي يطلب أن يرد الماء (4) الدجن الباس الغيم السماء ومعجب يعجب من رآه والبهكنة التامة الخلق .(11/82)
من نزول القارعة بهم وهى هاهنا الموت وسميت الداهية قارعة لانها تقرع أي تصيب بشده .
قوله (فليصنع لمتحوله) أي فليعد ما يجب اعداده للموضع الذى يتحول إليه تقول اصنع لنفسك أي اعمل لها .
قوله (ومعارف منتقلة) معارف الدار ما يعرفها المتوسم بها واحدها معرف مثل معاهد الدار ومعالم الدار ومنه معارف المراة وهو ما يظهر منها كالوجه واليدين والمنتقل بالفتح موضع الانتقال .
قوله (فطوبى) هي (فعلى) من الطيب قلبوا الياء واوا للضمة قبلها ويقال طوبى لك وطوباك ! بالاضافة .
وقول العامة (طوبيك) بالياء غير جائز .
قوله لذى قلب سليم هو من الفاظ الكتاب العزيز (1) أي سليم من الغل والشك .
قوله (اطاع من يهديه) أي قبل مشورة الناصح الامر له بالمعروف والناهي له عن المنكر .
وتجنب من يرديه أي يهلكه باغوائه وتحسين القبيح له .
والباء في قوله (ببصر من بصره) متعلقة ب (اصاب) .
قوله قبل أن تغلق ابوابه أي قبل أن يحضره الموت فلا تقبل توبته .
والحوبة الاثم واماطته ازالته ويجوز امطت الاذى عنه ومطت الاذى عنه أي نحيته ومنع الاصمعي منه الا بالهمزة
__________
(1) وذلك قوله تعالى في سورة الشعراء 89 (الا من اتى الله بقلب سليم) وقوله في سورة الصافات 84 (إذ جاء ربه بقلب سليم) .
(*)(11/83)
(208) الاصل ومن دعاء كان يدعو به عليه السلام كثيرا الحمد لله الذى لم يصبح بى ميتا ولا سقيما ولا مضروبا على عروقي لسوء ولا ماخوذا باسوا عملي ولا مقطوعا دابري ولا مرتدا عن دينى ولا منكرا لربى ولا مستوحشا من ايمانى ولا ملتبسا عقلي ولا معذبا بعذاب الامم من قبلى اصبحت عبدا مملوكا ظالما لنفسي لك الحجة على - ولا حجة لى ولا استطيع أن آخذ الا ما اعطيتني ولا اتقى الا ما وقيتني اللهم انى اعوذ بك أن افتقر في غناك أو اضل في هداك أو اضام في سلطانك أو اضطهد والامر لك اللهم اجعل نفسي اول كريمة تنتزعها من كرائمي واول وديعة ترتجعها من ودائع نعمك عندي اللهم انا نعوذ بك أن نذهب عن قولك أو أن نفتتن عن دينك أو تتابع بنا اهواؤنا دون الهدى الذى جاء من عندك(11/84)
الشرح قوله (كثيرا) منصوب بانه صفة مصدر محذوف أي دعاء كثيرا وميتا منصوب على الحال أي لم يفلق الصباح على ميتا ولا يجوز أن تكون (يصبح) ناقصة ويكون (ميتا) خبرها كما قال الراوندي لان خبر (كان) واخواتها يجب أن يكون هو الاسم الا ترى انهما مبتدا وخبر في الاصل واسم (يصبح) ضمير (الله) تعالى و (ميتا) ليس هو الله سبحانه .
قوله (ولا مضروبا على عروقي بسوء) أي ولا ابرص والعرب تكنى عن البرص بالسوء ومن امثالهم ما انكرك من سوء أي ليس انكاري لك عن برص حدث بك فغير صورتك .
واراد بعروقه اعضاءه ويجوز أن يريد ولا مطعونا في نسبي والتفسير الاول اظهر .
(ولا ماخوذا باسوا عملي) أي ولا معاقبا بافحش ذنوبي .
ولا مقطوعا دابري أي عقبى ونسلى والدابر في الاصل التابع لانه ياتي دبرا ويقال للهالك قد قطع الله دابره كانه يراد انه عفا اثره ومحا اسمه قال سبحانه (أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين) .
ولا مستوحشا أي ولا شاكا في الايمان لان من شك في عقيدة استوحش منها .
ولا متلبسا عقلي أي ولا مختلطا عقلي لبست عليهم الامر بالفتح أي خلطته وعذاب الامم من قبل المسخ والزلزلة والظلمة ونحو ذلك .
__________
(1) سورة الحجر 66 (*)(11/85)
قوله (لك الحجة على ولا حجة لى) لان الله سبحانه قد كلفه بعد تمكينه واقداره واعلامه قبح القبيح ووجوب الواجب وترديد دواعيه الى الفعل وتركه وهذه حجة الله تعالى على عباده ولا حجة للعباد عليه لانه ما كلفهم الا بما يطيقونه ولا كان لهم لطف في امر الا وفعله .
قوله (لا استطيع أن آخذ الا ما اعطيتني ولا اتقى الا ما وقيتني) لا استطيع أن ارزق نفسي امرا ولكنك الرزاق ولا ادفع عن نفسي محذورا من المرض والموت الا ما دفعته انت عنى .
وقال الشاعر لعمرك ما يدرى الفتى كيف يتقى نوائب هذا الدهر ام كيف يحذر يرى الشئ مما يتقى فيخافه (1) وما لا يرى مما يقى الله اكثر وقال عبد الله بن سليمان بن وهب كفاية الله اجدى من توقينا وعاده الله في الاعداء تكفينا كاد الاعادي فما ابقوا ولا تركوا عيبا وطعنا وتقبيحا وتهجينا ولم نزد نحن في سر وفى علن على مقالتنا الله يكفينا وكان ذاك - ورد الله حاسدنا بغيظه - لم ينل ماموله فينا .
قوله عليه السلام (أن افتقر في غناك) موضع الجار والمجرور نصب على الحال (وفي) متعلقه بمحذوف والمعنى أن افتقر وانت الموصوف بالغنى الفائض على الخلق وكذلك قوله (أو اضل في هداك) معناه أو اضل وانت ذو الهداية العامة للبشر كافه وكذلك (أو اضام في سلطانك) كما يقول المستغيث الى السلطان كيف اظلم في عدلك .
__________
(1) كذا في ا وفي ب " ويخافه " (*) .(11/86)
وكذلك قوله (أو اضطهد والامر لك) أي وانت الحاكم صاحب الامر والطاء في (اضطهد) هي تاء الافتعال واصل الفعل ضهدت فلانا فهو مضهود أي قهرته وفلان ضهده لكل احد أي كل من شاء أن يقهره فعل .
قوله (اللهم اجعل نفسي) هذه الدعوة مثل دعوة رسول الله صلى الله عليه واله وهى قوله (اللهم متعنا باسماعنا وابصارنا واجعله الوارث) منا أي لا تجعل موتنا متاخرا عن ذهاب حواسنا وكان على بن الحسين يقول في دعائه اللهم احفظ على سمعي وبصرى الى انتهاء اجلى .
وفسروا قوله عليه السلام (واجعله الوارث منا) فقالوا الضمير في (واجعله) يرجع الى الامتاع .
فان قلت كيف يتقى الامتاع بالسمع والبصر بعد خروج الروح .
قلت هذا توسع في الكلام والمراد لا تبلنا بالعمى ولا الصمم فنكون احياء في الصورة ولسنا باحياء في المعنى لان من فقدهما لا خير له في الحياة فحملته المبالغة على أن طلب بقاءهما بعد ذهاب النفس ايذانا واشعارا بحبه الا يبلى بفقدهما .
ونفتتن على ما لم يسم فاعله نصاب بفتنة تضلنا عن الدين وروى (نفتتن) بفتح حرف المضارعة على (نفتعل) افتتن الرجل أي فتن ولا يجوز أن يكون الافتتان متعديا كما ذكره الراوندي ولكنه قرا في (الصحاح) للجوهري (والفتون الافتتان يتعدى ولا يتعدى) فظن أن ذلك للافتتان وليس كما ظن وانما ذلك راجع الى الفتون .
والتتابع التهافت في اللجاج والشر ولا يكون الا في مثل ذلك وروى أو (تتابع) بطرح احدى التاءات(11/87)
(209) الاصل ومن خطبة له عليه السلام خطبها بصفين اما بعد فقد جعل الله سبحانه لى عليكم حقا بولاية امركم ولكم على من الحق مثل الذى لى عليكم والحق اوسع الاشياء في التواصف واضيقها في التناصف لا يجرى لاحد الا جرى عليه ولا يجرى عليه الا جرى له ولو كان لاحد أن يجرى له ولا يجرى عليه لكان ذلك خالصا لله سبحانه دون خلقه لقدرة على عباده ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه ولكنه سبحانه جعل حقه على العباد أن يطيعوه وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضلا منه وتوسعا بما هو من المزيد اهله الشرح الذى له عليهم من الحق هو وجوب طاعته والذى لهم عليه من الحق هو وجوب معدلته فيهم والحق اوسع الاشياء في التواصف واضيقها في التناصف معناه أن كل احد يصف الحق والعدل ويذكر حسنه ووجوبه ويقول لو وليت لعدلت فهو بالوصف باللسان وسيع وبالفعل ضيق لان ذلك العالم العظيم الذين كانوا يتواصفون حسنه ويعدون أن لو ولوا باعتماده وفعله لا تجد في الالف منهم واحدا لو ولى لعدل ولكنه قول بغير عمل .(11/88)
ثم عاد الى تقرير الكلام الاول وهو وجوب الحق له وعليه فقال انه لا يجرى لاحد الا وجرى عليه وكذلك لا يجرى عليه الا وجرى له أي ليس ولا واحد من الموجودين بمرتفع عن أن يجرى الحق عليه ولو كان احد من الموجودين كذلك لكان احقهم بذلك البارئ سبحانه لانه غايه الشرف بل هو فوق الشرف وفوق الكمال والتمام وهو مالك الكل وسيد الكل فلو كان لجواز هذه القضيه وجه ولصحتها مساغ لكان البارئ تعالى اولى بها وهى الا يستحق عليه شئ وتقدير الكلام لكنه يستحق عليه امور فهو في هذا الباب كالواحد منا يستحق و يستحق عليه ولكنه عليه السلام حذف هذا الكلام المقدر ادبا واجلالا لله تعالى أن يقول انه يستحق عليه شئ .
فان قلت فما بال المتكلمين لا يتادبون بادبه عليه السلام وكيف يطلقون عليه تعالى الوجوب والاستحقاق .
قلت ليست وظيفة المتكلمين وظيفه امير المؤمنين عليه السلام في عباراتهم هؤلاء ارباب صناعة وعلم يحتاج الى الفاظ واصطلاح لا بد لهم من استعماله للافهام والجدل بينهم وامير المؤمنين امام يخطب على منبره يخاطب عربا ورعية ليسوا من اهل النظر ولا مخاطبتة لهم لتعليم هذا العلم بل لاستنفارهم الى حرب عدوه فوجب عليه بمقتضى الادب أن يتوقى كل لفظة توهم ما يستهجنه السامع في الامور الالهية وفي غيرها .
فان قلت فما هذه الامور التى زعمت انها تستحق على البارئ سبحانه وأن امير المؤمنين عليه السلام حذفها من اللفظ واللفظ يقتضيها .
قلت الثواب والعوض و قبول التوبة واللطف والوفاء بالوعد والوعيد وغير ذلك مما يذكره اهل العدل .(11/89)
فان قلت فما معنى قوله (لكان ذلك خالصا لله سبحانه دون خلقه لقدرته على عباده ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه) وهب أن تعليل عدم استحقاق شئ على الله تعالى بقدرته على عباده صحيح كيف يصح تعليل ذلك بعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه الا ترى انه ليس بمستقيم أن تقول لا يستحق على البارئ شئ لانه عادل وانما المستقيم أن تقول لا يستحق عليه شئ لانه مالك ولذلك عللت الاشعرية هذا الحكم بانه مالك الكل والاستحقاق انما يكون على من دونه .
قلت التعليل صحيح وهو ايضا مما عللت به الاشعرية مذهبها وذلك لانه انما يتصور الاستحقاق على الفاعل المختار إذا كان ممن يتوقع منه أو يصح منه أن يظلم فيمكن حينئذ أن يقال قد وجب عليه كذا واستحق عليه كذا فاما من لا يمكن أن يظلم ولا يتصور وقوع الظلم منه ولا الكذب ولا خلف الوعد والوعيد فلا معنى لاطلاق الوجوب والاستحقاق عليه كما لا يقال كذا الداعي الخالص يستحق عليه أن يفعل ما دعاه إليه الداعي ويجب عليه أن يفعل ما دعاه إليه الداعي مثل الهارب من الاسد والشديد العطش إذا وجد الماء ونحو ذلك .
فان قلت اليس يشعر قوله عليه السلام (وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضلا منه) بمذهب البغداديين من اصحابكم وهو قولهم إن الثواب تفضل من الله سبحانه وليس بواجب .
قلت لا وذلك لانه جعل المتفضل به هو مضاعفة الثواب لا اصل الثواب وليس ذلك بمستنكر عندنا .
فان قلت ايجوز عندكم أن يستحق المكلف عشرة اجزاء من الثواب فيعطى عشرين جزءا منه اليس من مذهبكم أن التعظيم والتبجيل لا يجوز من البارئ سبحانه أن يفعلهما(11/90)
في الجنة الا على قدر الاستحقاق والثواب عندكم هو النفع المقارن للتعظيم والتبجيل فيكف قلت إن مضاعفة الثواب عندنا جائزة ! .
قلت مراده عليه السلام بمضاعفة الثواب هنا زيادة غير مستحقة من النعيم واللذة الجسمانية خاصة في الجنة فسمى تلك اللذة الجسمانية ثوابا لانها جزء من الثواب فاما اللذة العقلية فلا يجوز مضاعفتها .
قوله عليه السلام (بما هو من المزيد اهله أي بما هو اهله من المزيد فقدم الجار والمجرور وموضعه نصب على الحال وفيه دلالة على أن حال المجرور تتقدم عليه كما قال الشاعر لئن كان برد الماء حران صاديا الى حبيبا انها لحبيب الاصل ثم جعل سبحانه من حقوقه حقوقا افترضها لبعض الناس على بعض فجعلها تتكافا في وجوهها ويوجب بعضها بعضا ولا يستوجب بعضها الا ببعض .
واعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق الوالى على الرعية وحق الرعية على الوالى فريضة فرضها الله سبحانه لكل على كل فجعلها نظاما لالفتهم وعزا لدينهم فليست تصلح الرعية الا بصلاح الولاة ولا تصلح الولاة الا باستقامة الرعية فإذا ادت الرعية الى الوالى حقه وادى الوالى إليها حقها عز الحق بينهم وقامت مناهج الدين واعتدلت معالم العدل وجرت على اذلالها السنن فصلح بذلك الزمان وطمع في بقاء الدولة ويئست مطامع الاعداء .(11/91)
وإذا غلبت الرعية واليها أو اجحف الوالى برعيته اختلفت هنالك الكلمة وظهرت معالم الجور وكثر الادغال في الدين وتركت محاج السنن فعمل بالهوى وعطلت الاحكام وكثرت علل النفوس فلا يستوحش لعظيم حق عطل ولا لعظيم باطل فعل فهنالك تذل الابرار وتعز الاشرار وتعظم تبعات الله سبحانه عند العباد .
فعليكم بالتناصح في ذلك وحسن التعاون عليه فليس احد وإن اشتد على رضا الله حرصه وطال في العمل اجتهاده ببالغ حقيقة ما الله سبحانه اهله من الطاعة له ولكن من واجب حقوق الله سبحانه على عباده النصيحة بمبلغ جهدهم والتعاون على اقامه الحق بينهم وليس امرؤ وإن عظمت في الحق منزلته وتقدمت في الدين فضيلته بفوق أن يعان على ما حمله من حقه ولا امرؤ وإن صغرته النفوس واقتحمته العيون بدون أن يعين على ذلك أو يعان عليه الشرح تتكافا في وجوهها تتساوى و هي حق الوالى على الرعية وحق الرعية على الوالى .
وفريضة قد روى بالنصب و بالرفع فمن رفع فخبر مبتدا محذوف ومن نصب فباضمار فعل أو على الحال .
و جرت على اذلالها السنن بفتح الهمزة أي على مجاريها وطرقها .
واجحف الوالى برعيته ظلمهم .
والادغال في الدين الفساد .(11/92)
ومحاج السنن جمع محجة وهى جادة الطريق .
قوله (وكثرت علل النفوس) أي تعللها بالباطل ومن كلام الحجاج اياكم وعلل النفوس فانها ادوى لكم من علل الاجساد .
واقتحمته العيون احتقرته وازدرته قال ابن دريد ومنه ما تقتحم العين فان ذقت جناة ساغ عذبا في اللها (1) .
ومثل قوله عليه السلام وليس امرؤ وإن عظمت في الحق منزلته قول زيد ابن على عليه السلام لهشام بن عبد الملك انه ليس احد وإن عظمت منزلته بفوق أن يذكر بالله ويحذر من سطوته وليس احد وإن صغر بدون أن يذكر بالله ويخوف من نقمته .
ومثل قوله عليه السلام (وإذا غلبت الرعية) واليها قول الحكماء إذا علا صوت بعض الرعية على الملك فالملك مخلوع فان قال نعم فقال احد من الرعية لا فالملك مقتول [ فصل فيما ورد من الاثار فيما يصلح الملك ] وقد جاء فوجوب الطاعة لاولى الامر الكثير الواسع قال الله سبحانه (اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولى الامر منكم) (2) وروى عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه واله (السمع والطاعة على المرء
__________
(1) من المقصورة 23 (طبعة مصر سنة 1319) .
(2) سورة النساء 59 .
(*)(11/93)
المسلم فيما احب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا امر بها فلا سمع ولا طاعة) .
وعنه صلى الله عليه واله (إن امر عليكم عبد اسود مجدع فاسمعوا له واطيعوا) ومن كلام على عليه السلام (إن الله جعل الطاعه غنيمة الاكياس عند تفريط الفجرة) .
بعث سعد بن ابى وقاص جرير بن عبد الله البجلى من العراق الى عمر بن الخطاب بالمدينة فقال له عمر كيف تركت الناس قال تركتهم كقداح الجعبة منها الاعصل (1) الطائش ومنها القائم الرائش قال فكيف سعد لهم ؟ قال هو ثقافها الذى يقيم اودها ويغمز عصلها (2) قال فكيف طاعتهم قال يصلون الصلاة لاوقاتها ويؤدون الطاعة الى ولاتها قال الله اكبر إذا اقيمت الصلاة اديت الزكاة وإذا كانت الطاعة كانت الجماعة .
ومن كلام ابرويز الملك اطع من فوقك يطعك من دونك .
ومن كلام الحكماء قلوب الرعية خزائن واليها فما اودعه فيها وجده .
وكان يقال صنفان متباغضان متنافيان السلطان والرعية وهما مع ذلك متلازمان إن صلح احدهما صلح الاخر وإن فسد فسد الاخر .
وكان يقال محل الملك من رعيته محل الروح من الجسد ومحل الرعية منه محل الجسد من الروح فالروح تالم بالم كل عضو من اعضاء البدن وليس كل واحد من الاعضاء يالم بالم غيره وفساد الروح فساد جميع البدن وقد يفسد بعض البدن وغيره من سائر البدن صحيح .
__________
(1) السهم الاعصل : القليل الريش .
(2) العصل : الاعوجاج والميل .
(*)(11/94)
وكان يقال ظلم الرعية استجلاب البلية .
وكان يقال العجب ممن استفسد رعيته وهو يعلم أن عزه بطاعتهم .
وكان يقال موت الملك الجائر خصب شامل .
وكان يقال لا قحط اشد من جور السلطان .
وكان يقال قد تعامل الرعية المشمئزة بالرفق فتزول احقادها ويذل قيادها وقد تعامل بالخرق فتكاشف بما غيبت وتقدم على ما عيبت حتى يعود نفاقها شقاقا ورذاذها سيلا بعاقا (1) ثم إن غلبت وقهرت فهو الدمار وإن غلبت وقهرت لم يكن بغلبها افتخار ولم يدرك بقهرها ثار وكان يقال الرعيد وإن كانت ثمارا مجتناه وذخائر مقتناه وسيوفا منتضاة واحراسا مرتضاة فان لها نفارا كنفار الوحوش وطغيانا كطغيان السيول ومتى قدرت أن تقول قدرت على أن تصول .
وكان يقال ايدى الرعيه تبع السنتها فلن يملك الملك السنتها حتى يملك جسومها ولن يملك جسومها حتى يملك قلوبها فتحبه ولن تحبه حتى يعدل عليها في احكامه عدلا يتساوى فيه الخاصة والعامة وحتى يخفف عنها المؤن والكلف وحتى يعفيها من رفع اوضاعها واراذلها عليها وهذه الثالثة تحقد على الملك العلية من الرعية وتطمع السفلة في الرتب السنية .
وكان يقال الرعية ثلاثه اصناف صنف فضلاء مرتاضون بحكم الرياسة والسياسة يعلمون فضيلة الملك وعظيم غنائه ويرثون له من ثقل اعبائه فهؤلاء يحصل الملك موداتهم بالبشر عند اللقاء ويلقى احاديثهم بحسن الاصغاء وصنف فيهم خير وشر ظاهران فصلاحهم يكتسب من معاملتهم بالترغيب والترهيب وصنف من السفلة الرعاع اتباع
__________
(1) السيل البعاق .
المتصبت بشدة .
(*)(11/95)
لكل داع لا يمتحنون في اقوالهم واعمالهم بنقد ولا يرجعون في الموالاة الى عقد .
وكان يقال ترك المعاقبة للسفلة على صغار الجرائم تدعوهم الى ارتكاب الكبائر العظائم الا ترى اول نشور المراة كلمة سومحت بها واول حران الدابة حيده سوعدت عليها .
ويقال إن عثمان قال يوما لجلسائه وهو محصور في الفتنة وددت أن رجلا صدوقا اخبرني عن نفسي وعن هؤلاء فقام إليه فتى فقال انى اخبرك تطاطات لهم فركبوك وما جراهم على ظلمك الا افراط حلمك قال صدقت فهل تعلم ما يشب نيران الفتن قال نعم سالت عن ذلك شيخا من تنوخ كان باقعه قد نقب في الارض وعلم علما جما فقال الفتنة يثيرها امران اثره تضغن على الملك الخاصة وحلم يجزئ عليه العامة قال فهل سألته عما يخمدها قال نعم زعم أن الذى يخمدها في ابتدائها استقاله العثرة وتعميم الخاصة بالاثرة فإذا استحكمت الفتنة اخمدها الصبر قال عثمان صدقت وانى لصابر حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين ويقال إن يزدجرد بن بهرام سال حكيما ما صلاح الملك قال الرفق بالرعية واخذ الحق منها بغير عنف والتودد إليها بالعدل وامن السبل وانصاف المظلوم قال فما صلاح الملك قال وزراؤه إذا صلحوا صلح قال فما الذى يثير الفتن قال ضغائن يظهرها جراه عامة واستخفاف خاصة وانبساط الالسن بضمائر القلوب واشفاق موسر وامن معسر وغفلة مرزوق ويقظة محروم قال وما يسكنها قال اخذ العدة لما يخاف وايثار الجد حين يلتذ الهزل والعمل بالحزم وادراع الصبر والرضا بالقضاء .
وكان يقال خير الملوك من اشرب قلوب رعيته محبته كما اشعرها هيبته ولن ينال ذلك منها حتى تظفر منه بخمسة اشياء اكرام شريفها ورحمة ضعيفها واغاثة لهيفها(11/96)
وكف عدوان عدوها وتامين سبل رواحها وغدوها فمتى اعدمها شيئا من ذلك فقد احقدها (1) بقدر ما افقدها .
وكان يقال الاسباب التى تجر الهلك الى الملك ثلاثة احدها من جهة الملك وهو أن تتامر شهواته على عقله فتستهويه نشوات الشهوات فلا تسنح له لذة الا اقتنصها ولا راحه الا افترصها .
والثانى من جهة الوزراء وهو تحاسدهم المقتضى تعارض الاراء فلا يسبق احدهم الى حق الا كويد وعورض وعوند .
والثالث من جهة الجند المؤهلين لحراسة الملك والدين وتوهين المعاندين وهو نكولهم عن الجلاد وتضجيعهم في المناصحة والجهاد وهم صنفان صنف وسع الملك عليهم فابطرهم الاتراف وضنوا بنفوسهم عن التعريض للاتلاف وصنف قدر عليهم الارزاق فاضطغنوا الاحقاد (2) واستشعروا النفاق [ الاثار الواردة في العدل والانصاف ] قوله عليه السلام أو اجحف الوالى برعيته قد جاء من نظائره الكثير جدا وقد ذكرنا فيما تقدم نكتا حسنة في مدح العدل والانصاف وذم الظلم والاجحاف وقال النبي صلى الله عليه واله (زين الله السماء بثلاثة الشمس والقمر والكواكب وزين الارض بثلاثة العلماء والمطر والسلطان العادل .
وكان يقال إذا لم يعمر الملك ملكه بانصاف الرعية خرب ملكه بعصيان الرعية .
وقيل لانوشروان أي الجنن اوقى قال الدين قيل فاى العدد اقوى قال العدل .
__________
(1) يقال أحقده أي صيره حاقدا (2) اضطغنوا الاحقاد : انطووا عليها .
(*)(11/97)
وقع جعفر بن يحيى الى عامل من عماله كثر شاكوك وقل حامدوك فاما عدلت واما اعتزلت .
وجد في خزانة بعض الاكاسرة سفط ففتح فوجد فيه حب الرمان كل حبة كالنواة الكبيرة من منوى المشمش وفي السفط رقعة فيها هذا حب رمان عملنا في خراجه بالعدل .
جاء رجل من مصر الى عمر بن الخطاب متظلما فقال يا امير المؤمنين هذا مكان العائذ بك قال له عذت بمعاذ ما شأنك قال سابقت ولد عمرو بن العاص بمصر فسبقته فجعل يعنفنى بسوطه ويقول انا ابن الاكرمين وبلغ اباه ذلك فحبسني خشية أن اقدم عليك فكتب الى عمرو إذا اتاك كتابي هذا فاشهد الموسم انت وابنك فلما قدم عمرو وابنه دفع الدرة الى المصرى وقال اضربه كما ضربك فجعل يضربه وعمر يقول اضرب ابن الامير اضرب ابن الامير يرددها حتى قال يا امير المؤمنين قد استقدت منه فقال - واشار الى عمرو ضعها على صلعته فقال المصرى يا امير المؤمنين انما اضرب من ضربني فقال انما ضربك بقوة ابيه وسلطانه فاضربه إن شئت فو الله لو فعلت لما منعك احد منه حتى تكون انت الذى تتبرع بالكف عنه ثم قال يا بن العاص متى تعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرار .
خطب الاسكندر جنده فقال لهم بالرومية كلاما تفسيره يا عباد الله انما الهكم الله الذى في السماء الذى نصرنا بعد حين الذى يسقيكم الغيث عند الحاجه واليه مفزعكم عند الكرب والله لا يبلغني أن الله احب شيئا الا احببته وعملت به الى يوم اجلى ولا يبلغني انه ابغض شيئا الا ابغضته وهجرته الى يوم اجلى وقد انبئت أن الله يحب العدل في عباده ويبغض الجور فويل للظالم من سوطي وسيفي ومن ظهر منه(11/98)
العدل من عمالى فليتكئ في مجلسي كيف شاء وليتمن على ما شاء فلن تخطئه امنيته والله المجازى كلا بعمله .
قال رجل لسليمان بن عبد الملك وهو جالس للمظالم يا امير المؤمنين الم تسمع قول الله تعالى (فاذن مؤذن بينهم أن لعنه الله على الظالمين) (1) قال ما خطبك قال وكيلك اغتصبني ضيعتي وضمها الى ضيعتك الفلانية قال فان ضيعتي لك وضيعتك مردودة اليك ثم كتب الى الوكيل بذلك وبصرفه عن عمله .
ورقى الى كسرى قباذ أن في بطانة الملك قوما قد فسدت نياتهم وخبثت ضمائرهم لان احكام الملك جرت على بعضهم لبعضهم فوقع في الجواب انا املك الاجساد لا النيات واحكم بالعدل لا بالهوى وافحص عن الاعمال لا عن السرائر .
وتظلم اهل الكوفة الى المأمون من واليهم فقال ما علمت في عمالى اعدل ولا اقوم بامر الرعية ولا اعود بالرفق منه فقال له منهم واحد فلا احد اولى منك يا امير المؤمنين بالعدل والانصاف وإذا كان بهذه الصفة فمن عدل امير المؤمنين أن يوليه بلدا بلدا حتى يلحق اهل كل بلد من عدله مثل ما لحقنا منه ويأخذو بقسطهم منه كما اخذ منه سواهم وإذا فعل امير المؤمنين ذلك لم يصب الكوفة منه اكثر من ثلاث سنين فضحك وعزله .
كتب عدى بن ارطاة الى عمر بن عبد العزيز اما بعد فان قبلنا قوما لا يؤدون الخراج الا أن يمسهم نصب من العذاب فاكتب الى امير المؤمنين برايك فكتب اما بعد فالعجب لك كل العجب تكتب الى تستأذنني في عذاب البشر كان اذنى لك جنة من عذاب الله أو كان رضاى ينجيك من سخط الله فمن أعطاك ما عليه عفوا
__________
(1) سورة الاعراف 44 .
(*)(11/99)
فخذ منه ومن ابى فاستحلفه وكله الى الله فلان يلقوا الله بجرائمهم احب الى من أن القاه بعذابهم .
فضيل بن عياض ما ينبغى أن تتكلم بفيك كله اتدرى من كان يتكلم بفيه كله عمر بن الخطاب كان يعدل في رعيته ويجور على نفسه ويطعمهم الطيب وياكل الغليظ ويكسوهم اللين ويلبس الخشن ويعطيهم الحق ويزيدهم ويمنع ولده واهله اعطى رجلا عطاءه اربعه آلاف درهم ثم زاده الفا فقيل له الا تزيد ابنك عبد الله كما تزيد هذا فقال إن هذا ثبت ابوه يوم احد وإن عبد الله فر ابوه ولم يثبت .
وكان يقال لا يكون العمران الا حيث يعدل السلطان .
وكان يقال العدل حصن وثيق في راس نيق (1) لا يحطمه سيل ولا يهدمه منجنيق .
وقع المأمون الى عامل كثر التظلم منه انصف من وليت امرهم والا انصفهم منك من ولى امرك .
بعض السلف العدل ميزان الله والجور مكيال الشيطان
__________
(1) النبق : ارفع موقع في الجبل .
(*)(11/100)
(210) الاصل فاجابه عليه السلام رجل من اصحابه بكلام طويل يكثر فيه الثناء عليه ويذكر سمعه وطاعته له فقال عليه السلام إن من حق من عظم جلال الله سبحانه في نفسه وجل موضعه من قلبه أن يصغر عنده - لعظم ذلك - كل ما سواه وإن احق من كان كذلك لمن عظمت نعمة الله عليه ولطف احسانه إليه فانه لم تعظم نعمة الله على احد الا ازداد حق الله عليه عظما وإن من اسخف حالات الولاة عند صالح الناس أن يظن بهم حب الفخر ويوضع امرهم على الكبر وقد كرهت أن يكون جال في ظنكم انى احب الاطراء واستماع الثناء ولست بحمد الله كذلك ولو كنت احب أن يقال ذلك لتركته انحطاطا لله سبحانه عن تناول ما هو احق به من العظمة والكبرياء وربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء فلا تثنوا على بجميل ثناء لاخراجي نفسي الى الله سبحانه واليكم من البقية في حقوق لم افرغ من ادائها وفرائض لا بد من امضائها فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة ولا تتحفظوا بما يتحفظ به عند اهل البادرة ولا تخالطوني بالمصانعة ولا تظنوا بى استثقالا في حق قيل لى ولا التماس اعظام لنفسي فانه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما اثقل عليه(11/101)
فلا تكفوا عن مقاله بحق أو مشورة بعدل فانى لست في نفسي بفوق أن اخطئ ولا آمن ذلك من فعلى الا أن يكفى الله من نفسي ما هو املك به منى فانما انا وانتم عبيد مملوكون لرب لا رب غيره يملك منا مالا نملك من انفسنا واخرجنا مما كنا فيه الى ما صلحنا عليه فابدلنا بعد الضلالة بالهدى واعطانا البصيرة بعد العمى الشرح هذا الفصل وإن لم يكن فيه الفاظ غريبة سبيلها أن تشرح ففيه معان مختلفة سبيلها أن تذكر وتوضح وتذكر نظائرها وما يناسبها .
فمنها قوله عليه السلام أن من حق من عظمت نعمة الله عليه أن تعظم عليه حقوق الله تعالى وأن يعظم جلال الله تعالى في نفسه ومن حق من كان كذلك أن يصغر عنده كل ما سوى الله .
وهذا مقام جليل من مقامات العارفين وهو استحقار كل ما سوى الله تعالى وذلك أن من عرف الله تعالى فقد عرف ما هو اعظم من كل عظيم بل لا نسبة لشئ من الاشياء اصلا إليه سبحانه فلا يظهر عند العارف عظمة غيره البتة كما أن من شاهد الشمس المنيرة يستحقر ضوء القمر والسراج الموضوع في ضوء الشمس حال مشاهدته جرم الشمس بل لا تظهر له في تلك الحال صنوبرة السراج ولا تنطبع صورتها في بصره .
ومنها قوله عليه السلام من اسخف حالاة الولاة أن يظن بهم حب الفخر ويوضع(11/102)
امرهم على الكبر قال النبي صلى الله عليه وآله (لا يدخل الجنه من كان في قلبه مثقال حبه من كبر) وقال صلى الله عليه وآله (لولا ثلاث مهلكات لصلح الناس شح مطاع وهوى متبع واعجاب المرء بنفسه) .
وكان يقال ليس لمعجب راى ولا لمتكبر صديق .
وكان أبو مسلم صاحب الدولة يقول ما تاه الا وضيع ولا فاخر الا لقيط ولا تعصب الا دخيل .
وقال عمر لبعض ولده التمس الرفعة بالتواضع والشرف بالدين والعفو من الله بالفعو عن الناس واياك والخيلاء فتضع من نفسك ولا تحقرن احدا لانك لا تدرى لعل من تزدريه عيناك اقرب الى الله وسيلة منك .
ومنها قوله عليه السلام قد كرهت أن تظنوا بى حب الاطراء واستماع الثناء قد روى عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال (احثوا في وجوه المداحين التراب) وقال عمر المدح هو الذبح .
وكان يقال إذا سمعت الرجل يقول فيك من الخير ما ليس فيك فلا تأمن أن يقول فيك من الشر ما ليس فيك .
ويقال إن في بعض الكتب المنزلة القديمة عجبا لمن قيل فيه الخير وليس فيه كيف يفرح ولمن قيل فيه الشر وليس فيه كيف يغضب واعجب من ذلك من احب نفسه على اليقين وابغض الناس على الظن .
وكان يقال لا يغلبن جهل غيرك بك علمك بنفسك .
وقال رجل لعبد الملك انى اريد أن اسر اليك يا امير المؤمنين شيئا فقال لمن حوله(11/103)
إذا شئتم فانهضوا فتقدم الرجل يريد الكلام فقال له عبد الملك قف لا تمدحني فانى اعلم بنفسى منك ولا تكذبني فانه لا راى لمكذوب ولا تغتب عندي احدا فانى اكره الغيبة قال افياذن امير المؤمنين في الانصراف قال إذا شئت .
وناظر المأمون محمد بن القاسم النوشجانى في مسالة كلامية فجعل النوشجانى يخضع في الكلام ويستخذى له فقال يا محمد اراك تنقاد الى ما اقوله قبل وجوب الحجة لى عليك وقد ساءنى منك ذلك ولو شئت أن افسر الامور بعزة الخلافة وهيبة الرياسة لصدقت وإن كنت كاذبا وعدلت وإن كنت جائرا وصوبت وإن كنت مخطئا ولكني لا اقنع الا باقامة الحجة وازالة الشبهة وإن انقص الملوك عقلا واسخفهم رايا من رضى بقولهم صدق الامير .
وقال عبد الله بن المقفع في (اليتيمة) اياك إذا كنت واليا أن يكون من شأنك حب المدح والتزكية وأن يعرف الناس ذلك منك فتكون ثلمة من الثلم يقتحمون عيك منها وبابا يفتتحونك منه وغيبة يغتابونك بها ويسخرون منك لها واعلم أن قابل المدح كمادح نفسه وأن المرء جدير أن يكون حبه المدح هو الذى يحمله على رده فان الراد له ممدوح والقابل له معيب .
وقال معاوية لرجل من سيد قومك قال انا قال لو كنت كذلك لم تقله .
وقال الحسن ذم الرجل نفسه في العلانية مدح لها في السر .
كان يقال من اظهر عيب نفسه فقد زكاها .
ومنها قوله عليه السلام لو كنت كذلك لتركته انحطاطا لله تعالى عن تناول ما هو احق به من الكبرياء في الحديث المرفوع (من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر خفضه الله) .(11/104)
وفيه ايضا العظمة ازارى والكبرياء ردائي فمن نازعنى فيهما قصمته .
ومنها قوله عليه السلام (فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة ولا تتحفظوا منى بما يتحفظ به عند اهل البادرة) .
احسن ما سمعته في سلطان لا تخاف الرعية بادرته ولا يتلجلج المتحاكمون عنده مع سطوته وقوته لايثاره العدل قول ابى تمام في محمد بن عبد الملك وزير حق ووالى شرطة ورحا ديوان ملك وشيعي ومحتسب (1) كالارحبى المذكى سيرة المرطى والوخد والملع والتقريب والخبب (2) عود تساجله ايامه فبها من مسه وبه من مسها جلب (3) ثبت الخطاب إذا اصطكت بمظلمة في رحلة السن الاقوام والركب (4)
__________
(1) ديوانه 1 : 253 .
(2) قال شارح ديوانه : كان بعض الناس يقول لابي تمام انا استحسن قول امرئ القيس : وتعرف فيه من ابيه شمائلا ومن خاله ومن يزيد ومن حجر سماحة ذا وجود ذا ووفاء ذا ونائل ذا إذا صحا وإذا سكر فذكر اربعة ورد عليها اربعة اصناف فلقيه أبو تمام بعد مدة فقال له أنشدتني بيتى امرء القيس وتستحسن ذكره لاربعة ورده عليهم أربعة اصناف وقد ذكرت خمسة ورددت عليهم خمسة اصناف وانشده هذين البيتين الارحبي يعني به نجيبا من الابل منسوبا الى أرحب وهم حي من همدان والمذكى الذى قد تمت سنه وذكاؤه يقال فرس مذك ووحش مذك والمرطي ضرب من العدو سهل وقلما يستعمل الا في الابل فاما الوخد والملع فمجيئها كثير في وصف سير النوق والجمال ولا يكادون يقولون وخد الفرس وقد حكى ذلك أبو نصر صاحب الاصمعي والتقريب ايضا لا يكاد يستعمل في الجمال يقول هذا الممدوح جمع اصلاح الملك كما يجمع هذا الارحبي هذه الضروب من السير .
(3) العود المسن من الابل والمراد به هنا الرجل المجرب على الاستعارة والجلب جمع جلبة وهو الاثر في ظهر البعير وغيره من اثر حمل أو نحوه يقول قد جرب الامور خيرها وشرها يكون الدهر مرة معه ومرة عليه فكأنه يساجله (4) اصطكت اضطربت وقوله " بمظلمة " أي بخصلة مظلمة .
(*)(11/105)
لا المنطق اللغو يزكو في مقاومة يوما ولا حجة الملهوف تستلب (1) كانما هو في نادى قبيلته لا القلب يهفو ولا الاحشاء تضطرب (2) .
ومن هذا المعنى قول ابى الجهم العدوى في معاوية نقلبه لنخبر حالتيه فنخبر منهما كرما ولينا نميل على جوانبه كانا إذا ملنا نميل على ابينا .
ومنها قوله عليه السلام لا تظنوا بى استثقال رفع الحق الى فانه من استثقل الحق أن يقال له كان العمل به عليه اثقل .
هذا معنى لطيف ولم اسمع منه شيئا منثورا ولا منظوما .
ومنها قوله عليه السلام ولا تكفوا عن قول بحق أو مشورة بعدل .
قد ورد في المشورة شئ كثير قال الله تعالى (وشاورهم في الامر) (3) .
وكان يقال إذا استشرت انسانا صار عقله لك .
وقال اعرابي ما غبنت قط حتى يغبن قومي قيل وكيف ذاك قال لا افعل شيئا حتى اشاورهم .
وكان يقال من اعطى الاستشارة لم يمنع الصواب ومن اعطى الاستخارة لم يمنع الخيرة ومن اعطى التوبة لم يمنع القبول ومن اعطى الشكر لم يمنع المزيد .
وفي آداب ابن المقفع لا يقذفن في روعك انك إذا استشرت الرجال ظهر منك للناس حاجتك الى راى غيرك فيقطعك ذلك عن المشاورة فانك لا تريد الراى للفخر
__________
(1) المنطق اللغو : الهذر وما لا يحتاج إليه من الكلام ويزكو يروج وينمو مقاوم جمع مقام .
(2) لا القلب يهفو اي لا يزيع عما يريد .
(3) سورة آل عمران .
(*)(11/106)
ولكن للانتفاع به ولو انك اردته للذكر لكان احسن الذكر عند العقلاء أن يقال انه لا ينفرد برايه دون ذوى الراى من اخوانه .
ومنها أن يقال ما معنى قوله عليه السلام (وربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء ...
) الى قوله (لا بد من امضائها) فنقول إن معناه أن بعض من يكره الاطراء والثناء قد يحب ذلك بعد البلاء والاختبار كما قال مرداس بن ادية لزياد انما الثناء بعد البلاء وانما نثنى بعد أن نبتلى فقال لو فرضنا أن ذلك سائغ وجائز وغير قبيح لم يجز لكم أن تثنوا على في وجهى ولا جاز لى أن اسمعه منكم لانه قد بقيت علي بقية لم افرغ من ادائها وفرائض لم امضها بعد ولا بد لى من امضائها وإذا لم يتم البلاء الذى قد فرضنا أن الثناء يحسن بعده لم يحسن الثناء .
ومعنى قوله (لاخراجي نفسي الى الله واليكم) أي لاعترافي بين يدى الله وبمحضر منكم أن على حقوقا في ايالتكم ورياستي عليكم لم اقم بها بعد وارجوا من الله القيام بها .
ومنها أن يقال ما معنى قوله (فلا تخالطوني بالمصانعة) فنقول إن معناه لا تصانعوني بالمدح والاطراء عن عمل الحق كما يصانع به كثير من الولاة الذين يستفزهم المدح ويستخفهم الاطراء والثناء فيغمضون عن اعتماد كثير من الحق مكافاة لما صونعوا به من التقريظ والتزكية والنفاق .
ومنها قوله عليه السلام فانى لست بفوق أن اخطئ هذا اعتراف منه عليه السلام بعدم العصمة فاما أن يكون الكلام على ظاهره أو يكون قاله على سبيل هضم(11/107)
النفس كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله (ولا انا الا أن يتداركني الله برحمته) .
ومنها قوله عليه السلام (اخرجنا مما كنا فيه فابدلنا بعد الضلالة بالهدى واعطانا البصيرة بعد العمى) ليس هذا اشارة الى خاص نفسه عليه السلام لانه لم يكن كافرا فاسلم ولكنه كلام يقوله ويشير به الى القوم الذين يخاطبهم من افناء الناس فيأتي بصيغة الجمع الداخلة فيها نفسه توسعا ويجوز أن يكون معناه لو لا الطاف الله تعالى ببعثه محمد صلى الله عليه وآله لكنت انا وغيري على اصل مذهب الاسلاف من عباده الاصنام كما قال تعالى لنبيه (ووجدك ضالا فهدى) (1) ليس معناه انه كان كافرا بل معناه لو لا اصطفاء الله تعالى لك لكنت كواحد من قومك ومعنى (ووجدك ضالا) أي ووجدك بعرضة (2) للضلال فكأنه ضال بالقوة لا بالفعل
__________
(1) سورة الضحى .
(2) كذا وفي ب وفى ا : " بعرضية الضلال " .
(*)(11/108)
(211) الاصل ومن كلام له عليه السلام اللهم انى استعديك على قريش ومن اعانهم فانهم قد قطعوا رحمى واكفئوا انائي واجمعوا على منازعتي حقا كنت اولى به من غيرى وقالوا الا إن في الحق أن تأخذه وفي الحق أن تمنعه فاصبر مغموما أو مت متاسفا فنظرت فإذا ليس لى رافد ولا ذاب ولا مساعد الا اهل بيتى فضننت بهم عن المنية فاغضيت على القذى وجرعت ريقي على الشجا وصبرت من كظم الغيظ على امر من العلقم وآلم للقلب من وخز الشفار قال الرضى رحمه الله وقد مضى هذا لكلام في اثناء خطبة متقدمه الا انى ذكرته هاهنا لاختلاف الروايتين الشرح العدوى طلبك الى وال ليعديك على من ظلمك أي ينتقم لك منه يقال استعديت الامير على فلان فاعدانى أي استعنت به عليه فأعانني .
وقطعوا رحمى وقطعوا قرابتي أي اجروني مجرى الاجانب ويجوز أن يريد انهم عدوني كالأجنبي من رسول الله صلى الله عليه وآله ويجوز أن يريد انهم جعلوني كالأجنبي(11/109)
منهم لا ينصرونه ولا يقومون بامره .
واكفئوا انائي قلبوه وكبوه وحذف الهمزة من اول الكلمة افصح واكثر وقد روى كذلك ويقال لمن قد اضيعت حقوقه قد اكفا اناءه تشبيها باضاعة اللبن من الاناء .
وقد اختلفت الرواية في قوله (الا إن في الحق أن تأخذه) فرواها قوم بالنون وقوم بالتاء وقال الراوندي انها في خط الرضى بالتاء ومعنى ذلك انك إن وليت انت كانت ولايتك حقا وإن ولى غيرك كانت ولايته حقا على مذهب اهل الاجتهاد ومن رواها بالنون فالمعنى ظاهر .
والرافد المعين والذاب الناصر .
وضننت بهم بخلت بهم واغضيت على كذا صبرت .
وجرعت بالكسر والشجا ما يعترض في الحلق .
والوخز الطعن الخفيف وروى من (حز الشفار) والحز القطع والشفار جمع شفرة وهى حد السيف والسكين واعلم أن هذا الكلام قد نقل عن امير المؤمنين عليه السلام ما يناسبه ويجرى مجراه ولم يؤرخ الوقت الذى قاله فيه ولا الحال التى عناها به واصحابنا يحملون ذلك على انه عليه السلام قاله عقيب الشورى وبيعه عثمان فانه ليس يرتاب احد من اصحابنا على انه تظلم وتالم حينئذ .
ويكره اكثر اصحابنا حمل امثال هذا الكلام على التالم من يوم السقيفة .
ولقائل أن يقول لهم ا تقولون إن بيعة عثمان لم تكن صحيحة فيقولون لا فيقال(11/110)
لهم فعلى ما ذا تحملون كلامه عليه السلام مع تعظيمكم له وتصديقكم لاقواله فيقولون نحمل ذلك على تالمه وتظلمه منهم إذا تركوا الاولى والافضل فيقال لهم فلا تكرهوا قول من يقول من الشيعة وغيرهم إن هذا الكلام وامثاله صدر عنه عقيب السقيفة وحملوه على انه تالم وتظلم من كونهم تركوا الاولى والافضل فانكم لستم تنكرون انه كان الافضل والاحق بالامر بل تعترفون بذلك وتقولون ساغت امامه غيره وصحت لمانع كان فيه عليه السلام وهو ما غلب على ظنون العاقدين للامر من أن العرب لا تطيعه فانه يخاف من فتنة عظيمة تحدث إن ولى الخلافة لاسباب يذكرونها ويعدونها وقد روى كثير من المحدثين انه عقيب يوم السقيفة تالم وتظلم واستنجد واستصرخ حيث ساموه الحضور والبيعة وانه قال وهو يشير الى القبر (يا بن ام إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني) (1) وانه قال وا جعفراه ولا جعفر لى اليوم واحمزتاه ولا حمزة لى اليوم .
وقد ذكرنا من هذا المعنى جملة صالحة فيما تقدم وكل ذلك محمول عندنا على انه طلب الامر من جهة الفضل والقرابة وليس بدال عندنا على وجود النص لانه لو كان هناك نص لكان اقل كلفة واسهل طريقا وايسر لما يريد تناولا أن يقول يا هؤلاء إن العهد لم يطل وإن رسول الله صلى الله عليه وآله امركم بطاعتي واستخلفني عليكم بعده ولم يقع منه عليه السلام بعد ما علمتموه ونص ينسخ ذلك ولا يرفعه فما الموجب لتركي والعدول عنى .
فان قالت الامامية كان يخاف القتل لو ذكر ذلك قيل لهم فهلا يخاف القتل وهو يعتل ويدفع ليبايع وهو يمتنع ويستصرخ تارة بقبر رسول الله صلى الله عليه وآله
__________
(1) سورة الاعراف 150 .
(*)(11/111)
وتارة بعمه حمزة واخيه جعفر - وهما ميتان - وتارة بالانصار وتارة ببنى عبد مناف ويجمع الجموع في داره ويبث الرسل والدعاة ليلا ونهارا الى الناس يذكرهم فضله وقرابته ويقول للمهاجرين خصمتم (1) الانصار بكونكم اقرب الى رسول الله صلى الله عليه وآله وانا اخصمكم بما خصمتم به الانصار لان القرابة أن كانت هي المعتبرة فانا اقرب منكم .
وهلا خاف من هذا الامتناع ومن هذا الاحتجاج ومن الخلوة في داره باصحابه ومن تنفير الناس عن البيعة التى عقدت حينئذ لمن عقدت له .
وكل هذا إذا تأمله المنصف علم أن الشيعة اصابت في امر واخطات في امر اما الامر الذى اصابت فيه فقولها انه امتنع وتلكا واراد الامر لنفسه واما الامر الذى اخطات فيه فقولها انه كان منصوصا عليه نصا جليا بالخلافة تعلمه الصحابة كلها أو اكثرها وإن ذلك النص خولف طلبا للرئاسة الدنيوية وايثارا للعاجلة وإن حال المخالفين للنص لا تعدو احد امرين اما الكفر أو الفسق فان قرائن الاحوال واماراتها لا تدل على ذلك وانما تدل وتشهد بخلافة وهذا يقتضى أن امير المؤمنين عليه السلام كان في مبدا الامر يظن أن العقد لغيرة كان عن غير نظر في المصلحة وانه لم يقصد به الا صرف الامر عنه والاستئثار عليه فظهر منه ما ظهر من الامتناع والعقود في بيته الى أن صح عنده وثبت في نفسه انهم اصابوا فيما فعلوه وانهم لم يميلوا الى هوى ولا ارادوا الدنيا وانما فعلوا الاصلح في ظنونهم لانه راى من بغض الناس له وانحرافهم عنه وميلهم عليه وثوران الاحقاد التى كانت في انفسهم واحتدام النيران التى كانت في قلوبهم وتذكروا التراث التى وتراهم فيما قبل بها والدماء التى سفكها منهم وارقها .
__________
(1) خصمكم الانصار : غلبوكم .
(*)(11/112)
وتعلل طائفه اخرى منهم للعدول عنه بصغر سنه واستهجانهم تقديم الشباب على الكهول والشيوخ .
وتعلل طائفة اخرى منهم بكراهية الجمع بين النبوة والخلافة في بيت واحد فيجفخون (1) على الناس كما قاله من قاله واستصعاب قوم منهم شكيمته وخوفهم تعديه وشدته وعلمهم بانه لا يداجى ولا يحابى ولا يراقب ولا يجامل في الدين وأن الخلافة تحتاج الى من يجتهد برايه ويعمل بموجب استصلاحه وانحراف قوم آخرين عنه للحسد الذى كان عندهم له في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله لشدة اختصاصه له وتعظيمه اياه وما قال فيه فاكثر من النصوص الداله على رفعه شانه وعلو مكانه وما اختص به من مصاهرته واخوته ونحو ذلك من احواله معه وتنكر قوم آخرين له لنسبتهم إليه العجب والتيه كما زعموا واحتقاره العرب واستصغاره الناس كما عددوه عليه وإن كانوا عندنا كاذبين ولكنه قول قيل وامر ذكر وحال نسبت إليه واعانهم عليها ما كان يصدر عنه من اقوال توهم مثل هذا نحو قوله (فانا صنائع ربنا والناس بعد صنائع لنا) وما صح به عنده (2) أن الامر لم يكن ليستقيم له يوما واحدا ولا ينتظم ولا يستمر وانه لو ولى الامر لفتقت العرب عليه فتقا يكون فيه استئصال شافة الاسلام وهدم اركانه فاذعن بالبيعة وجنح الى الطاعة وامسك عن طلب الامرة وإن كان على مضض ورمض .
وقد روى عنه عليه السلام أن فاطمة عليها السلام حرضته يوما على النهوض والوثوب فسمع صوت المؤذن (اشهد أن محمدا رسول الله) فقال لها ايسرك زوال هذا النداء من الارض قالت لا قال فانه ما اقول لك .
__________
(1) فيجحفون : يفخرون ويتكبرون .
(2) ب : " عنده " وما اثبته من ا (*)(11/113)
وهذا المذهب هو اقصد المذاهب واصحها واليه يذهب اصحابنا المتأخرون من البغداديين وبه يقول .
واعلم أن حال على عليه السلام في هذا المعنى اشهر من أن يحتاج في الدلالة عليها الى الاسهاب والاطناب فقد رايت انتقاض العرب عليه من اقطارها حين بويع بالخلافة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله بخمس وعشرين سنة وفي دون هذه المدة تنسى الاحقاد وتموت التراث وتبرد الاكباد الحامية وتسلو القلوب الواجدة ويعدم قرن من الناس ويوجد قرن ولا يبقى من ارباب تلك الشحناء والبغضاء الا الاقل فكانت حاله بعد هذه المدة الطويلة مع قريش كأنها حاله لو افضت الخلافة إليه يوم وفاة ابن عمه صلى الله عليه وآله من اظهار ما في النفوس وهيجان ما في القلوب حتى إن الاخلاف من قريش والاحداث والفتيان الذين لم يشهدوا وقائعه وفتكاته في اسلافهم وآبائهم فعلوا به ما لو كانت الاسلاف احياء لقصرت عن فعله وتقاعست عن بلوغ شاوه فكيف كانت تكون حاله لو جلس على منبر الخلافة وسيفه بعد يقطر دما من مهج العرب لا سيما قريش الذين بهم كان ينبغى - لو دهمه خطب - أن يعتضد وعليهم كان يجب أن يعتمد اذن كانت تدرس اعلام المله وتنعفى رسوم الشريعة وتعود الجاهلية الجهلاء على حالها ويفسد ما اصلحه رسول الله صلى الله عليه وآله في ثلاث وعشرين سنه في شهر واحد فكان من عناية الله تعالى بهذا الدين أن الهم الصحابة ما فعلوه والله متم نوره ولو كره المشركون(11/114)
[ فصل في أن جعفرا وحمزة لو كان حيين لبايعا عليا ] وسالت النقيب ابا جعفر يحيى بن محمد بن ابى يزيد رحمه الله قلت له اتقول إن حمزة وجعفرا لو كانا حيين يوم مات رسول الله صلى الله عليه وآله اكانا يبايعانه بالخلافة فقال نعم كانا اسرع الى بيعته من النار في يبس العرفج فقلت له اظن أن جعفرا كان يبايعه ويتابعه وما اظن حمزة كذلك واراه جبارا قوى النفس شديد الشكيمة ذاهبا بنفسه شجاعا بهمة وهو العم والاعلى سنا وآثاره في الجهاد معروفة واظنه كان يطلب الخلافة لنفسه .
فقال الامر في اخلاقه وسجاياه كما ذكرت ولكنه كان صاحب دين متين وتصديق خالص لرسول الله صلى الله عليه وآله ولو عاش لراى من احوال على عليه السلام مع رسول الله صلى الله عليه وآله ما يوجب أن يكسر له نخوته وأن يقيم له صعره وأن يقدمه على نفسه وأن يتوخى رضا الله ورضا رسوله فيه وإن كان بخلاف ايثاره .
ثم قال اين خلق حمزة السبعى من خلق على الروحانى اللطيف الذى جمع بينه وبين خلق حمزة فانصفت بهما نفس واحدة واين هيولانية نفس حمزة وخلوها من العلوم من نفس على القدسية التى ادركت بالفطرة لا بالقوة التعليمية ما لم تدركه نفوس مدققي الفلاسفة الالهيين لو أن حمزة حيى حتى راى من على ما رآه غيره لكان اتبع له من ظله واطوع له من ابى ذر والمقداد اما قولك هو والعم والاعلى سنا فقد كان العباس العم والاعلى سنا وقد عرفت ما بذله له وندبه إليه وكان أبو سفيان كالعم وكان اعلى سنا وقد عرفت ما عرضه عليه ثم قال ما زالت الاعمام تخدم ابناء الاخوة وتكون اتباعا لهم الست ترى داود بن(11/115)
على وعبد الله بن على وصالح بن على وسليمان بن على وعيسى بن على واسماعيل ابن على وعبد الصمد بن على خدموا ابن اخيهم - وهو عبد الله السفاح بن محمد بن على - وبايعوه وتابعوه وكانوا امراء جيوشه وانصاره واعوانه الست ترى حمزة والعباس اتبعا ابن اخيهما صلوات الله عليه واطاعاه ورضيا برياسته وصدقا دعوته الست تعلم أن ابا طالب كان رئيس بنى هاشم وشيخهم والمطاع فيهم وكان محمد رسول الله صلى الله عليه وآله يتيمه ومكفوله وجاريا مجرى احد اولاده عنده ثم خضع له واعترف بصدقه ودان لامره حتى مدحه بالشعر كما يمدح الادنى الاعلى فقال فيه وابيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للارامل (1) يطيف به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل وإن سرا اختص به محمد صلى الله عليه وآله حتى اقام ابا طالب - وحاله معه حاله - مقام المادح له لسر عظيم وخاصيه شريفه وإن في هذا لمعتبر عبرة أن يكون هذا الانسان الفقير الذى لا انصار له ولا اعوان معه ولا يستطيع الدفاع عن نفسه فضلا عن أن يقهر غيره تعمل دعوته واقواله في الانفس ما تعمله الخمر في الابدان المعتدلة المزاج حتى تطيعه اعمامه ويعظمه مربيه وكافله ومن هو الى آخر عمره القيم بنفقته وغذاء بدنه وكسوة جسده حتى يمدحه بالشعر كما يمدح الشعراء الملوك والرؤساء وهذا في باب المعجزات عند المنصف اعظم من انشقاق القمر وانقلاب العصا ومن انباء القوم بما ياكلون وما يدخرون في بيوتهم .
ثم قال رحمه الله كيف قلت اظن أن جعفرا كان يبايعه ويتابعه ولا اظن في حمزة ذلك إن كنت قلت ذلك لانه اخوه فانه اعلى منه سنا هو اكبر من على بعشر
__________
(1) ديوانه 113 ثمال اليتامى : عمادهم وملاذهم .
عصمة للارامل : حافظ للمساكين .
(*)(11/116)
سنين وقد كانت له خصائص ومناقب كثيرة وقال فيه النبي صلى الله عليه وآله قولا شريفا اتفق عليه المحدثون قال له لما افتخر هو وعلى وزيد بن حارثه وتحاكموا الى رسول الله صلى الله عليه وآله (اشبهت خلقي وخلقي) فخجل فرحا ثم قال لزيد (انت مولانا وصاحبنا) فخجل ايضا ثم قال لعلى (انت اخى وخالصتي) قالوا فلم يخجل قالوا كان ترادف التعظيم له وتكرره عليه لم يجعل عنده للقول ذلك الموضع وكان غيره إذا عظم عظم نادرا فيحسن موقعه عنده واختلف الناس في أي المدحتين اعظم .
فقلت له قد وقفت لابي حيان التوحيدي في كتاب (البصائر) على فصل عجيب يمازج ما نحن فيه قال في الجزء الخامس من هذا الكتاب سمعت قاضى القضاة ابا سعد بشر بن الحسين - وما رايت رجلا اقوى منه في الجدل - في مناظرة جرت بينه وبين ابى عبد الله الطبري وقد جرى حديث جعفر بن ابى طالب وحديث اسلامه والتفاضل بينه وبين اخيه على فقال القاضى أبو سعد إذا انعم النظر علم أن اسلام جعفر كان بعد بلوغ واسلام البالغ لا يكون الا بعد استبصار وتبين و معرفة بقبح ما يخرج منه وحسن ما يدخل فيه وإن اسلام على مختلف في حاله وذلك انه قد ظن انه كان عن تلقين لا تبيين الى حين بلوغه واوان تعقبه ونظره وقد علم ايضا انهما قتلا وإن قتله جعفر شهادة بالاجمال وقتله على فيها اشد الاختلاف ثم خص الله جعفرا بان قبضه الى الجنة قبل ظهور التباين واضطراب الحبل وكثرة الهرج وعلى انه لو انعقد الاجماع وتظاهر جميع الناس على أن القتلتين شهادة لكانت الحال في الذى رفع إليها جعفر اغلظ واعظم وذلك انه قتل مقبلا غير مدبر واما على فانه اغتيل اغتيالا وقصد من حيث لا يعلم وشتان ما بين من فوجئ بالموت وبين من عاين مخايل الموت(11/117)
وتلقاه بالنحر والصدر وعجل الى الله بالايمان والصدق الا تعلم أن جعفرا قطعت يمناه فامسك اللواء بيسراه وقطعت يسراه فضم اللواء الى حشاه ثم قاتله ظاهر الشرك بالله وقاتل على ممن صلى الى القبلة و شهد الشهادة واقدم عليه بتأويل وقاتل جعفر كافر بالنص الذى لا خلاف فيه اما تعلم أن جعفرا ذو الجناحين وذو الهجرتين الى الحبشة والمدينة .
قال النقيب رحمه الله اعلم - فداك شيخك - أن ابا حيان رجل ملحد زنديق يحب التلاعب بالدين ويخرج ما في نفسه فيعزوه الى قوم لم يقولوه واقسم بالله أن القاضى ابا سعد لم يقل من هذا الكلام لفظة واحدة ولكنها من موضوعات ابى حيان واكاذيبه وترهاته كما يسند الى القاضى ابى حامد المروروذى كل منكر ويروى عنه كل فاقرة .
ثم قال يا ابا حيان مقصودك أن تجعلها مساله خلاف تثير بها فتنه بين الطالبيين لتجعل باسهم بينهم وكيف تقلبت الاحوال فالفخر لهم لم يخرج عنهم .
ثم ضحك رحمه الله حتى استلقى ومد رجليه وقال هذا كلام يستغنى عن الاطالة في ابطاله باجماع المسلمين فانه لا خلاف بين المسلمين في أن عليا افضل من جعفر وانما سرق أبو حيان هذا المعنى الذى اشار إليه من رسالة المنصور ابى جعفر الى محمد بن عبد الله النفس الزكية قال له وكانت بنو امية يلعنون اباك في ادبار الصلوات المكتوبات كما تلعن الكفرة فعنفناهم وكفرناهم وبينا فضله واشدنا بذكره فاتخذت ذلك علينا حجة وظننت انه لما ذكرناه من فضله انا قدمناه على حمزة والعباس وجعفر اولئك مضوا سالمين مسلمين منهم وابتلى ابوك بالدماء .
فقلت له رحمه الله وإذا لا اجماع في المسالة لان المنصور لم يقل بتفضيله عليهم(11/118)
وانت ادعيت الاجماع فقال إن الاجماع قد سبق هذا القائل وكل قول قد سبقه الاجماع لا يعتد به .
فلما خرجت من عند النقيب ابى جعفر بحثت في ذلك اليوم في هذا الموضوع مع احمد ابن جعفر الواسطي رحمه الله وكان ذا فضل وعقل وكان امامى المذهب فقال لى صدق النقيب فيما قال ا لست تعلم أن اصحابكم المعتزلة على قولين احدهما أن اكثر المسلمين ثوابا أبو بكر والاخر أن اكثرهم ثوابا على واصحابنا يقولون أن اكثر المسلمين ثوابا على وكذلك الزيدية واما الاشعرية والكرامية واهل الحديث فيقولون اكثر المسلمين ثوابا أبو بكر فقد خلص من مجموع هذه الاقوال أن ثواب حمزة وجعفر دون ثواب على عليه السلام اما على قول الامامية والزيدية والبغداديين كافة وكثير من البصريين من المعتزلة فالامر ظاهر واما الباقون فعندهم أن اكثر المسلمين ثوابا أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم على ولم يذهب ذاهب الى أن ثواب حمزة وجعفر اكثر من ثواب على من جميع الفرق فقد ثبت الاجماع الذى ذكره النقيب إذا فسرنا الافضلية بالاكثرية ثوابا وهو التفسير الذى يقع الحجاج والجدال في اثباته لاحد الرجلين واما إذا فسرنا الافضلية بزيادة المناقب والخصائص وكثرة النصوص الدالة على التعظيم فمعلوم أن احدا من الناس لا يقارب عليا عليه السلام في ذلك لا جعفر ولا حمزة ولا غيرهما .
ثم وقع بيدى بعد ذلك كتاب لشيخنا ابى جعفر الاسكافي ذكر فيه أن مذهب بشر بن المعتمر وابى موسى وجعفر بن مبشر وسائر قدماء البغداديين أن افضل المسلمين على بن ابى طالب ثم ابنه الحسن ثم ابنه الحسين ثم حمزة بن عبد المطلب ثم جعفر بن ابى طالب ثم أبو بكر بن ابى قحافه ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان(11/119)
قال والمراد بالافضل اكرمهم عند الله واكثرهم ثوابا وارفعهم في دار الجزاء منزلة .
ثم وقفت بعد ذلك على كتاب لشيخنا ابى عبد الله البصري يذكر فيه هذه المقالة وينسبها الى البغداديين وقال إن الشيخ ابا القاسم البلخى كان يقول بها وقبله الشيخ أبو الحسين الخياط وهو شيخ المتأخرين من البغداديين قالوا كلهم بها فاجبنى هذا المذهب وسررت بان ذهب الكثير من شيوخنا إليه ونظمته في الارجوزة التى شرحت فيها عقيدة المعتزلة فقلت وخير خلق الله بعد المصطفى اعظمهم يوم الفخار شرفا السيد المعظم الوصي بعل البتول المرتضى على وابناه ثم حمزة وجعفر ثم عتيق بعدهم لا ينكر المخلص الصديق ثم عمر فاروق دين الله ذاك القسور وبعده عثمان ذو النورين هذا هو الحق بغير مين(11/120)
(212) الاصل ومن كلام له عليه السلام في ذكر السائرين الى البصرة لحربه عليه السلام فقدموا على عمالى وخزان بيت مال المسلمين الذى في يدى وعلى اهل مصر كلهم في طاعتي وعلى بيعتى فشتتوا كلمتهم وافسدوا على جماعتهم ووثبوا على شيعتي فقتلوا طائفة منهم غدرا وطائفة عضوا على اسيافهم فضاربوا بها حتى لقوا الله صادقين الشرح عضوا على اسيافهم كناية عن الصبر في الحرب وترك الاستسلام وهى كناية فصيحة شبه قبضهم على السيوف بالعض وقد قدمنا ذكر ما جرى وأن عسكر الجمل قتلوا طائفة من شيعة امير المؤمنين عليه السلام بالبصرة بعد أن امنوهم غدرا وأن بعض الشيعة صبر في الحرب ولم يستسلم وقاتل حتى قتل مثل حكيم بن جبلة العبدى وغيره وروى (وطائفة عضوا على اسيافهم) بالرفع تقديره ومنهم طائفة .
قرات في كتاب (غريب الحديث) لابي محمد عبد الله بن قتيبة في حديث حذيفة بن اليمان انه ذكر خروج عائشة فقال (تقاتل معها مضر مضرها الله في النار (1)
__________
(1) قال ابن الاثير في شرحه للحديث (أي جعلها في النار فاشتق لذلك لظا من اسمها يقال مضرنا فلانا فتضمر اي صيرناه كذلك اي نسبناه إليها وقال الزمخشري مضرها جمعها كما يقال جند الجنود وقيل مضرها اهلكها من قولهم ذهب دمه خضرا مضرا اي هدرا .
النهاية 98 .
(*)(11/121)
وازد عمان سلت الله اقدامها (1) وإن قيسا لن تنفك تبغى دين الله شرا حتى يركبها الله بالملائكة فلا يمنعوا ذنب تلعه) (2) .
قلت هذا الحديث من اعلام نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله لانه اخبار عن غيب تلقاه حذيفة عن النبي صلى الله عليه وآله وحذيفة اجمع اهل السيرة على انه مات في الايام التى قتل عثمان فيها اتاه نعيه وهو مريض فمات وعلى عليه السلام لم يتكامل بيعه الناس ولم يدرك الجمل .
وهذا الحديث يؤكد مذهب اصحابنا في فسق اصحاب الجمل الا من ثبتت توبته منهم وهم الثلاثه
__________
(1) سلت الله اقدامها قطعها النهاية 2 : 174 (2) التلاع مسايل الماء من علو الى اسفل واحدها تلعة وذنب التلعة اسفلها قال الزمخشري (اي يذلها الله حتى لا تقدر على أن تمنع ذنب تلعة .
الفائق 3 : 32 .
(*)(11/122)
(213) الاصل ومن كلام له عليه السلام لما مر بطلحة بن عبيد الله وعبد الرحمن بن عتاب بن اسيد وهما قتيلان يوم الجمل لقد اصبح أبو محمد بهذا المكان غريبا اما والله لقد كنت اكره أن تكون قريش قتلى تحت بطون الكواكب ادركت وترى من بنى عبد مناف وافلتني اعيار بنى جمح لقد اتلعوا اعناقهم الى امر لم يكونوا اهله فوقصوا دونه الشرح [ عبد الرحمن بن عتاب بن اسيد ] هو عبد الرحمن بن عتاب بن اسيد بن ابى العيص بن امية بن عبد شمس ليس بصحابى ولكنه من التابعين وابوه عتاب بن اسيد بن ابى العيص بن امية بن عبد شمس من مسلمة الفتح ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله من مكة الى حنين استعمله عليها فلم يزل اميرها حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وبقى على حاله خلافه ابى بكر الصديق ومات هو وابو بكر في يوم واحد لم يعلم احدهما بموت الاخر وعبد الرحمن هذا هو الذى قال امير المؤمنين فيه وقد مر به قتيلا يوم الجمل لهفى عليك يعسوب قريش هذا فتى الفتيان هذا اللباب المحض من بنى عبد مناف شفيت نفسي وقتلت معشرى الى الله اشكو عجرى وبجرى فقال له قائل لشد ما اطريت(11/123)
الفتى يا امير المؤمنين منذ اليوم قال انه قام عنى وعنه نسوة لم يقمن عنك وعبد الرحمن هذا هو الذى احتملت العقاب كفه يوم الجمل وفيها خاتمه فالقتها باليمامة فعرفت بخاتمه وعلم اهل اليمامة بالوقعة .
ورايت في شرح نهج البلاغة للقطب الراوندي في هذا الفصل عجائب وطرائف فاحببت أن اوردها هاهنا منها انه قال في تفسير قوله عليه السلام (ادركت وترى (1) من بنى عبد مناف) قال يعنى طلحة والزبير كانا من بنى عبد مناف وهذا غلط قبيح لان طلحة من تيم بن مرة والزبير من اسد بن عبد العزى بن قصى وليس احد منهما من بنى عبد مناف وولد عبد مناف اربعة هاشم وعبد شمس ونوفل وعبد المطلب فكل من لم يكن من ولد هؤلاء الاربعة فليس من ولد عبد مناف .
ومنها انه قال إن مروان بن الحكم من بنى جمح ولقد كان هذا الفقية رحمه الله بعيدا عن معرفة الانساب مروان من بنى امية بن عبد شمس وبنو جمح من بن هصيص بن كعب بن لؤى بن غالب واسم جمح تيم بن عمرو بن هصيص واخوه سهم بن عمرو بن هصيص رهط عمرو بن العاص فاين هؤلاء واين مروان ابن الحكم .
ومنها انه قال (وافلتتنى اغيار بنى جمح) بالغين المعجمة قال هو جمع غير الذى بمعنى (سوى) وهذا لم يرو ولا مثله مما يتكلم به امير المؤمنين لركته وبعده عن طريقته فانه يكون قد عدل عن أن يقول (ولم يفلتنى الا بنو جمح) الى مثل هذه العبارة الركيكة المتعسفة
__________
(1) الوتر : الذحل والثأر .
(*)(11/124)
[ بنو جمح ] واعلم انه عليه السلام اخرج هذا الكلام مخرج الذم لمن حضر الجمل مع عائشة زوجة النبي صلى الله عليه وآله من بنى جمح فقال (وافلتتنى اعيار بنى جمح) جمع عير وهو الحمار وقد كان معها منهم يوم الجمل جماعة هربوا ولم يقتل منهم الا اثنان فممن هرب ونجا بنفسه عبد الله الطويل بن صفوان بن امية بن خلف بن وهب بن حذافة ابن جمح وكان شريفا وابن شريف وعاش حتى قتل مع ابن الزبير بمكة .
ومنهم يحيى بن حكيم بن صفوان بن امية بن خلف عاش حتى استعمله عمرو بن سعيد الاشدق على مكة لما جمع له بين مكة والمدينة فاقام عمرو بالمدينة ويحيى بمكة .
ومنهم عامر بن مسعود بن امية بن خلف كان يسمى دحروجة الجعل لقصره وسواده وعاش حتى ولاه زياد صدقات بكر بن وائل وولاه عبد الله بن الزبير بن العوام الكوفة .
ومنهم ايوب بن حبيب بن علقمة بن ربيعة بن الاعور بن اهيب بن حذافة بن جمح عاش حتى قتل بقديد قتلته الخوارج .
فهؤلاء الذين اعرف حضورهم الجمل مع عائشة من بنى جمح وقتل من بنى جمح مع عائشة عبد الرحمن بن وهب بن اسيد بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح وعبد الله ابن ربيعة بن دراج العنبس بن وهبان بن وهب بن حذافة بن جمح لا اعرف انه قتل من بنى جمح ذلك اليوم غيرهما فان صحت الرواية (وافلتني اعيان بنى جمح) بالنون فالمراد رؤساءهم وساداتهم .
واتلعوا اعناقهم رفعوها ورجل اتلع بين التلع أي طويل العنق وجيد تليع أي طويل قال الاعشى(11/125)
يوم تبدى لنا قتيلة عن جيد تليع تزينه الاطواق (1) ووقص الرجل إذا اندقت عنقه فهو موقوص ووقصت عنق الرجل اقصها وقصا أي كسرتها ولا يجوز وقصت العنق نفسها .
الضمير في قوله عليه السلام (لقد اتلعوا) يرجع الى قريش أي راموا الخلافه فقتلوا دونها .
فان قلت اتقول أن طلحة والزبير لم يكونا من اهل الخلافة إن قلت ذلك تركت مذهب اصحابك وإن لم تقله خالفت قول امير المؤمنين (لم يكونوا اهله) .
قلت هما اهل للخلافة ما لم يطلبها امير المؤمنين فإذا طلبها لم يكونا اهلا لها لا هما ولا غيرهما ولو لا طاعته لمن تقدم وما ظهر من رضاه به لم نحكم بصحه خلافته
__________
(2) ديوانه : 140 .
(*)(11/126)
(214) الاصل ومن كلام له عليه السلام قد احيا عقله وامات نفسه حتى دق جليله ولطف غليظة وبرق له لامع كثير البرق فابان له الطريق وسلك به السبيل وتدافعته الابواب الى باب السلامه ودار الاقامة وثبتت رجلاه بطمانينة بدنه في قرار الامن والراحة بما استعمل قلبه وارضى ربه الشرح يصف العارف يقول قد احيا قلبه بمعرفة الحق سبحانه وامات نفسه بالمجاهدة ورياضة القوة البدنية بالجوع والعطش والسهر والصبر على مشاق السفر والسياحة .
حتى دق جليله أي حتى نحل بدنه الكثيف .
ولطف غليظه تلطفت اخلاقه وصفت نفسه فان كدر النفس في الاكثر انما يكون من كدر الجسد والبطنة - كما قيل - تذهب الفطنة [ فصل في مجاهدة النفوس وما ورد في ذلك من الاثار ] وتقول ارباب هذه الطريقة من لم يكن في بدايته صاحب مجاهدة لم يجد من هذه الطريقة شمه .(11/127)
وقال عثمان المغربي الصوفى من ظن انه يفتح عليه شئ من هذه الطريقة أو يكشف له عن سر من اسرارها من غير لزوم المجاهدة فهو غالط .
وقال أبو على الدقاق من لم يكن في بدايته قومه لم يكن في نهايته جلسه .
ومن كلامهم الحركة بركة حركات الظواهر توجب بركات السرائر .
ومن كلامهم من زين ظاهرة بالمجاهدة حسن الله سرائره بالمشاهدة .
وقال الحسن الفرازينى هذا الامر على ثلاثه اشياء الا تأكل الا عند الفاقة ولا تنام الا عند الغلبة ولا تتكلم الا عند الضرورة .
وقال ابراهيم بن ادهم لن ينال الرجل درجة الصالحين حتى يغلق عن نفسه باب النعمة ويفتح عليها باب الشدة .
ومن كلامهم من كرمت عليه نفسه هان عليه دينه .
وقال أبو على الروذبارى إذا قال الصوفى بعد خمسة ايام انا جائع فالزموه السوق ومروه بالكسب .
وقال حبيب بن اوس أبو تمام وهو يقصد غير ما نحن فيه ولكنه يصلح أن يستعمل فيما نحن فيه خذى عبرات عينك عن زماعى وصونى ما ازلت من القناع (1) اقلي قد اضاق بكاك ذرعي وما ضاقت بنازلة ذراعي أآلفه النحيب كم افتراق اظل فكان داعية اجتماع
__________
(1) ديوانه 2 : 336 قال في شرحه يقول لها : نحي عن عزمي بكاءك وزماع اسم من ازمعت وتقنعى بالقناع الذى القيتيه من راسك .
(*)(11/128)
فليست فرحة الاوبات الا لموقوف على ترح الوداع (1) تعجب إن رات جسمي نحيلا كان المجد يدرك بالصراع (2) اخو النكبات من ياوى إذا ما اطفن به الى خلق وساع (3) يثير عجاجة في كل فج يهيم به عدى بن الرقاع (4) ابن مع السباع الماء حتى لخالته السباع من السباع وقال ايضا فاطلب هدوءا بالتقلقل واستثر بالعيس من تحت السهاد هجودا (5) ما إن ترى الاحساب بيضا وضحا الا بحيث ترى المنايا سودا (6) وجاء في الحديث أن فاطمة جاءت الى رسول الله صلى الله عليه واله بكسرة خبز فقال ما هذه قالت قرص خبزته فلم تطب نفسي حتى اتيتك منه بهذه الكسرة فاكلها وقال (اما انها لاول طعام دخل فم ابيك منذ ثلاث) .
وكان يقال ينابيع الحكمة من الجوع وكسر عادية النفس بالمجاهدة .
__________
(1) قال في شرحه (أي لمن يعرف ترح الوداع من قولهم وقفت فلانا على امرى فهو موقوف عليه أي من لم يجد الما للفراق لم يجد فرحا باللقاء (2) الديوان (توجع إن رات) (3) رواية الديوان : فتى النكبات من ياوى إذا ما قطفن به الى خلق وساع وقال في شرحه (قطفن من قولهم دابة قطوف ويروى (اطفن به) ويروى (اضفن به) يقول هو صاحب النكبات والشدائد يرتكبها وياوي الى خلق واسع إذا ضيقن في مذاهبه وأحطن به) (4) في الديوان (في كل ثغر) (5) ديوانه 1 : 416 ، 422 قال في شرحه (أي اطلب بالحركة في الاسفار سكونا ودعة فيما بعد وبالارق نوما وقوله (بالعيس) أي بركوب العيس ومن تحت السهاد أي من تحت الصبر على السهاد (6) أي من لم يصبر في معركة الابطال لم يذكر .
(*)(11/129)
وقال يحيى بن معاذ لو أن الجوع يباع في السوق لما كان ينبغى لطلاب الاخرة إذا دخلوا السوق أن يشتروا غيره .
وقال سهل بن عبد الله لما خلق الله الدنيا جعل في الشبع المعصية والجهل وجعل في الجوع الطاعة والحكمة .
وقال يحيى بن معاذ الجوع للمريدين رياضة وللتائبين تجربة وللزهاد سياسة وللعارفين تكرمة .
وقال أبو سلمان الدارانى مفتاح الدنيا الشبع ومفتاح الاخرة الجوع .
وقال بعضهم ادب الجوع الا ينقص من عادتك الا مثل اذن السنور هكذا على التدريج حتى تصل الى ما تريد .
ويقال إن ابا تراب النخشبى خرج من البصرة الى مكة فوصل إليها على اكلتين اكلة بالنباج واكله بذات عرق .
قالوا وكان سهل بن عبد الله التسترى إذا جاع قوى وإذا اكل ضعف .
وكان منهم من ياكل كل اربعين يوما اكله واحدة ومنهم من ياكل كل ثمانين يوما اكله واحدة .
قالوا واشتهى أبو الخير العسقلاني السمك سنين كثيرة ثم تهيا له اكله من وجه حلال فلما مد يده ليأكل اصابت اصبعه شوكة من شوك السمك فقام وترك الاكل وقال يا رب هذا لمن مد يده بشهوة الى الحلال فكيف بمن مد يده بشهوة الى الحرام .
وفي الكتاب العزيز (واما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فان الجنة هي الماوى) (1) فالجملة الاولى هي التقوى والثانية هي المجاهدة .
__________
(1) سورة النازعات 40 ، 41 (*)(11/130)
وقال النبي صلى الله عليه واله اخوف ما اخاف على امتى اتباع الهوى وطول الامل اما اتباع الهوى فيصد عن الحق واما طول الامل فينسى الاخرة) .
وسئل بعض الصوفية عن المجاهدة فقال ذبح النفس بسيوف المخالفة .
وقال من نجمت طوارق نفسه افلت شوارق انسه .
وقال ابراهيم بن شيبان ما بت تحت سقف ولا في موضع عليه غلق (1) اربعين سنة وكنت اشتهى في اوقات أن اتناول شبعه (2) عدس فلم يتفق ثم جملت الى وانا بالشام غضارة (3) فيها عدسية فتناولت منها وخرجت فرايت قوارير معلقة فيها شبهة انموذجات فظننتها خلا فقال بعض الناس اتنظر الى هذه وتظنها خلا وانما هي خمر وهى انموذجات هذه الدنان - لدنان - هناك فقلت قد لزمنى فرض الانكار فدخلت حانوت ذلك الخمار لاكسر الدنان والجرار فحملت الى ابن طولون فامر بضربي مائتي خشبة وطرحى (4) في السجن فبقيت مدة حتى دخل أبو عبد الله الوبانى المغربي استاذ ذلك البلد فعلم انى محبوس فشفع في فاخرجت إليه فلما وقع بصره على قال أي شئ فعلت فقلت شبعة عدس ومائتي خشبه فقال لقد نجوت مجانا .
وقال ابراهيم الخواص كنت في جبل فرايت رمانا فاشتهيته فدنوت فاخذت منه واحده فشققها فوجدتها حامضه فمضيت وتركت الرمان فرايت رجلا مطروحا قد اجتمع عليه الزنابير فسلمت عليه فرد على باسمى فقلت كيف عرفتني قال من عرف الله لم يخف عليه شئ فقلت له ارى لك حالا مع الله فلو سألته أن يحميك ويقيك من اذى هذه الزنابير فقال وارى لك حالا مع الله فلو سألته أن يقيك من شهوة الرمان فان لذع الرمان يجد الانسان المه في الاخرة ولذع الزنابير
__________
(1) الغلق هنا الباب (2) الشبعة من الطعام : قدر ما يشبع به .
(3) الغضارة القصعة الكبيرة .
(4) كذا في ا ، وفى ب : وطرحني) .
(*)(11/131)
يجد الانسان المه في الدنيا فتركته ومضيت على وجهى .
وقال يوسف بن اسباط لا يمحو الشهوات من القلب الا خوف مزعج أو شوق مقلق .
وقال الخواص من ترك شهوة فلم يجد عوضها في قلبه فهو كاذب في تركها .
وقال أبو على الرباطى صحت عبد الله المروزى وكان يدخل البادية قبل أن اصحبه بلا زاد فلما صحبته قال لى ايما احب اليك تكون انت الامير ام انا قلت بل انت فقال وعليك الطاعة قلت نعم فاخذ مخلاة ووضع فيها زادا وحملها على ظهره فكنت إذا قلت له اعطني حتى احملها قال الامير انا وعليك الطاعة قال فاخذنا المطر ليله فوقف الى الصباح على راسى وعليه كساء يمنع عنى المطر فكنت اقول في نفسي يا ليتنى مت ولم اقل له انت الامير ثم قال لى إذا صحبت انسانا فاصحبه كما رأيتني صحبتك .
أبو الطيب المتنبي ذريني انل ما لا ينال من العلا فصعب العلافى الصعب والسهل في السهل تريدين ادراك المعالى رخيصة ولا بد دون الشهد من ابر النحل وله ايضا وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الاجسام (3) .
ومن امثال العامة من لم يغل دماغه في الصيف لم تغل قدره في الشتاء .
من لم يركب الاخطار لم ينل الاوطار
__________
(1) ديوانه 3 : 290 .
(2) في الديوان (تريدين لقيان المعالي) (3) ديوانه 3 : 345 .
(*)(11/132)
.
ادراك السول وبلوغ المأمول بالصبر على الجوع وفقد الهجوع وسيلان الدموع واعلم أن تقليل المأكول لا ريب في انه نافع للنفس والاخلاق والتجربة قد دلت عليه لانا نرى المكثر من الاكل يغلبة النوم والكسل وبلادة الحواس وتتبخر المأكولات الكثيرة ابخرة كثيرة فتتصاعد الى الدماغ فتفسد القوى النفسانية وايضا فان كثرة الماكل تزيل الرقه وتورث القساوة والسبعية والقياس ايضا يقتضى ذلك لان كثرة المزاولات سبب لحصول الملكات فالنفس إذا توفرت على تدبير الغذاء وتصريفه كان ذلك شغلا شاغلا لها وعائقا عظيما عن انصبابها الى الجهة الروحانية العالية ولكن ينبغى أن يكون تقليل الغذاء الى حد وجب جوعا قليلا فان الجوع المفرط يورث ضعف الاعضاء الرئيسة واضطرابها واختلال قواها وذلك يقتضى تشويش النفس واضطراب الفكر واختلال العقل ولذلك تعرض الاخلاط السوداوية لمن افرط عليه الجوع فاذن لا بد من اصلاح امر الغذاء بان يكون قليل الكمية كثير الكيفية فتؤثر قلة كميته في انه لا يشغل النفس بتدبير الهضم عن التوجه الى الجهة العالية الروحانية وتؤثر كثرة كيفيته في تدارك الخلل الحاصل له من قلة الكمية ويجب أن يكون الغذاء شديد الامداد للاعضاء الرئيسة لانها هي المهمة من اعضاء البدن وما دمت باقيه على كمال حالها لا يظهر كثير خلل من ضعف غيرها من الاعضاء(11/133)
[ فصل في الرياضة لنفسية واقسامها ] واعلم أن الرياضة والجوع هي امر يحتاج إليه المريد الذى هو بعد في طريق السلوك الى الله .
وينقسم طالبوا هذا الامر الجليل الشاق الى اقسام اربعة احدها الذين مارسوا العلوم الالهية واجهدوا انفسهم في طلبها والوصول الى كنهها بالنظر الدقيق في الزمان الطويل فهو لا يحصل لهم شوق شديد وميل عظيم الى الجهة العالية الشريفة فيحملهم حب الكمال على الرياضة .
وثانيها الانفس التى هي باصل الفطرة والجوهر مائلة الى الروحانية من غير ممارسة علم ولادربه بنظر وبحث وقد رأينا مثلهم كثيرا وشاهدنا قوما من العامة متى سنح لهم سانح مشوق مثل صوت مطرب أو انشاد بيت يقع في النفس أو سماع كلمة توافق امرا في بواطنهم فانه يستولى عليهم الوجد ويشتد الحنين وتغشاهم غواش لطيفة روحانية يغيبون بها عن المحسوسات والجسمانيات .
وثالثها نفوس حصل لها الامران معا الاستعداد الاصلى والاشتغال بالعلوم النظرية الالهية .
ورابعها النفوس التى لا استعداد لها في الاصل ولا ارتضات بالعلوم الالهية ولكنهم (1) قوم سمعوا كمال هذه الطريقة وأن السعادة الانسانية ليست الا بالوصول إليها فمالت نحوها وحصل لها اعتقاد فيها .
فهذه اقسام المريدين والرياضة التى تليق بكل واحد من هذه الاقسام غير الرياضة اللائقة بالقسم الاخر .
__________
(1) ا : (وكان) (*)(11/134)
ونحتاج قبل الخوض في ذلك الى تقديم امرين احدهما أن النفحات الالهية دائمة مستمرة وانه كل من توصل إليها وصل قال سبحانه وتعالى (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) وقال النبي صلى الله عليه وآله (إن لربكم في ايام عصركم نفحات الا فتعرضوا لنفحاته) .
وثانيهما أن النفوس البشرية في الاكثر مختلفه بالنوع فقد تكون بعض النفوس مستعدة غاية الاستعداد لهذا المطلب وربما لم تكن البتة متسعدة له وبين هذين الطرفين اوساط مختلفة بالضعف والقوة .
وإذا تقرر ذلك فاعلم أن القسمين الاولين لما اختلفا فيما ذكرناه لا جرم اختلفا في الكسب والمكتسب .
اما الكسب فان صاحب العلم الاولى به في الاكثر العزلة والانقطاع عن الخلق لانه قد حصلت له الهداية والرشاد فلا حاجة له الى مخالطة احد يستعين به على حصول ما هو حاصل واما صاحب الفطرة الاصلية من غير علم فانه لا يليق به العزلة لانه يحتاج الى المعلم والمرشد فانه ليس يكفى الفطرة الاصلية في الوصول الى المعالم الالهية والحقائق الربانية ولا بد من موقف ومرشد في مبدا الحال هذا هو القول في الكسب بالنظر إليها .
واما المكتسب فان صاحب العلم إذا اشتغل بالرياضة كانت مشاهداته ومكاشفاته اكثر كمية واقل كيفية مما لصاحب الفطرة المجردة ما كثرة الكمية فلان قوته النظرية تعينه على ذلك واما قلة الكيفية فلان القوة النفسانية تتوزع على تلك الكثرة وكلما كانت الكثرة اكثر كان توزع القوة الى اقسام اكثر وكان كل واحد منها
__________
(1) سورة العنكبوت 69 .
(*)(11/135)
اضعف مما لو كانت الاقسام اقل عددا وإذا عرفت ذلك عرفت أن الامر في جانب صاحب الفطرة الاصلية بالعكس من ذلك وهو أن مشاهداته ومكاشفاته تكون اقل كميه واكثر كيفية .
واما الاستعداد الثالث وهو النفس التى قد جمعت الفطرة الاصلية والعلوم الالهية النظرية بالنظر فهى النفس الشريفة الجليلة الكاملة .
وهذه الاقسام الثلاثة مشتركة في أن رياضتها القلبية يجب أن تكون زائدة في الكم والكيف على رياضتها البدنية لان الغرض الاصلى هو رياضة القلب وطهارة النفس وانما شرعت الرياضات البدنية والعبادات الجسمانية لتكون طريقا الى تلك الرياضة الباطنة فإذا حصلت كان الاشتغال بالرياضة البدنية عبثا لان الوسيلة بعد حصول المتوسل إليه فضله مستغنى عنها بل ربما كانت عائقة عن المقصود نعم لابد من المحافظة على الفرائض خاصة لئلا تعتاد النفس الكسل وربما افضى ذلك الى خلل في الرياضة النفسانية ولهذا حكى عن كثير من كبراء القوم قلة الاشتغال بنوافل العبادات .
واما القسم الرابع وهو النفس التى خلت عن الوصفين معا فهذه النفس يجب الا تكون رياضتها في مبدا الحال الا بتهذيب الاخلاق بما هو مذكور في كتب الحكمة الخلقية فإذا لانت ومرنت واستعدت للنفحات الاليهة حصل لها ذوق ما فاوجب ذلك الذوق شوقا فاقبلت بكليتها على مطلوبها(11/136)
[ فصل أن الجوع يؤثر في صفاء النفس ] واعلم أن السبب الطبيعي في كون الجوع مؤثرا في صفاء النفس أن البلغم الغالب على مزاج البدن يوجب بطبعه البلادة وابطاء الفهم لكثرة الارضية فيه وثقل جوهرة وكثرة ما يتولد عنه من البخارات التى تسد المجاري وتمنع نفوذ الارواح ولا ريب أن الجوع يقتضى تقليل البلغم لان القوة الهاضمة إذا لم تجد غذاء تهضمه عملت في الرطوبة الغريبة الكائنة في الجسد فكلما انقطع الغذاء استمر عملها في البلغم الموجود في البدن فلا تزال تعمل فيه وتذيبه الحرارة الكائنة في البدن حتى يفنى كل ما في البدن من الرطوبات الغريبة ولا يبقى الا الرطوبات الاصلية فان استمر انقطاع الغذاء اخذت الحرارة والقوة الهاضمة في تنقيص الرطوبات الاصلية من جوهر البدن فان كان ذلك يسيرا والى حد ليس بمفرط لم يضر ذلك بالبدن كل الاضرار وكان ذلك هو غاية الرياضة التى اشار امير المؤمنين عليه السلام إليها بقوله (حتى دق جليلة) ولطف غليظة) وإن افرط وقع الحيف والاجحاف على الرطوبة الاصلية وعطب البدن ووقع صاحبة في الدق والذبول وذلك منهى عنه لانه قتل للنفس فهو كمن يقتل نفسه بالسيف أو بالسكين [ كلام للفلاسفة والحكماء في المكاشفات الناشئة عن الرياضة ] واعلم أن قوله عليه السلام (وبرق له لامع كثير البرق) هو حقيقه مذهب الحكماء وحقيقة قول الصوفية اصحاب الطريقة والحقيقة وقد صرح به الرئيس أبو على ابن سينا في كتاب (الاشارات) فقال في ذكر السالك الى مرتبة العرفان ثم انه(11/137)
إذا بلغت به الارادة والرياضة حدا ما عنت له خلسات من اطلاع نور الحق إليه لذيذة كأنها بروق تومض إليه ثم تخمد عنه وهى التى تسمى عندهم اوقاتا وكل وقت يكتنفه وجد إليه ووجد عليه ثم انه لتكثر عليه هذه الغواشى إذا امعن في الارتياض ثم انه ليتوغل في ذلك حتى يغشاه في غير الارتياض فكلما لمح شيئا عاج منه الى جانب القدس فتذكر من امره امرا فغشيه غاش فيكاد يرى الحق في كل شئ ولعله الى هذا الحد تستولى عليه غواشيه ويزول هو عن سكينته ويتنبه جليسه لاستنفاره عن قراره فإذا طالت عليه الرياضة لم تستنفره غاشية وهدى للتانس بما هو فيه ثم انه لتبلغ به الرياضة مبلغا ينقلب له وقته سكينة فيصير المخطوب مألوفا والوميض شهابا بينا ويحصل له معارف مستمرة كأنها صحبة مستمرة ويستمتع فيها ببهجته فإذا انقلب عنها انقلب حيران آسفا .
فهذه الفاظ الحكيم ابى على بن سينا في (الاشارات) وهى كما نراها مصرح فيها بذكر البروق اللامعة للعارف .
وقال القشيرى في الرسالة لما ذكر الحال والامور الواردة على العارفين قال هي بروق تلمع ثم تخمد وانوار تبدو ثم تخفى ما احلاها لو بقيت مع صاحبها ثم تمثل بقول البحترى (1) خطرت في النوم منها خطرة خطرة البرق بدا ثم اضمحل أي زور لك لو قصدا سرى وملم بك لو حقا فعل .
فهو كما تراه يذكر البروق اللامعة حسبما ذكره الحكيم وكلاهما يتبع الفاظ امير المؤمنين عليه السلام لانه حكيم الحكماء وعارف العارفين ومعلم الصوفية ولولا اخلاقه
__________
(1) ديوانه 2 : 181 (*)(11/138)
وكلامه وتعليمه للناس هذا الفن تارة بقوله وتارة بفعله لما اهتدى احد من هذه الطائفة ولا علم كيف يورد ولا كيف يصدر .
وقال القشيرى ايضا في الرسالة المحاضرة قبل المكاشفة فإذا حصلت المكاشفة فبعدها المشاهدة .
وقال وهى ارفع الدرجات قال فالمحاضرة حضور القلب وقد تكون بتواتر البرهان والانسان بعد وراء الستر وإن كان حاضرا باستيلاء سلطان الذكر .
واما المكاشفة فهى حضور البين غير مفتقر الى تأمل الدليل وتطلب السبيل ثم المشاهدة وهى وجود الحق من غير بقاء تهمة .
واحسن ما ذكر في المشاهدة قول الجنيد هي وجود الحق مع فقدانك .
وقال عمرو بن عثمان المكى المشاهدة أن تتوالى انوار التجلى على القلب من غير أن يتخللها ستر ولا انقطاع كما لو قدر اتصال البروق في الليلة المظلمة فكما انها تصير من ذلك بضوء النهار فكذلك القلب إذا دام له التجلى مع النهار فلا ليل .
وانشدوا شعرا ليلى بوجهك مشرق وظلامه في الناس سار فالناس في سدف الضلام ونحن في ضوء النهار .
وقال الثوري لا تصح للعبد المشاهدة وقد بقى له عرق قائم .
وقالوا إذا طلع الصباح استغنى عن المصباح .
وانشدوا ايضا فلما استنار الصبح طوح ضوءه بانواره انوار ضوء الكواكب(11/139)
فجرعهم كاسا لو ابتليت لظى بتجريعه طارت كاسرع ذاهب .
كاس واى كاس تصطلمهم عنهم وتفنيهم وتخطفهم منهم ولا تبقيهم كاس لا تبقى ولا تذر تمحو بالكلية ولا تبقى شظيه من آثار البشرية كما قال قائلهم ساروا فلم يبق لا عين ولا اثر (1) .
وقال القشيرى ايضا هي ثلاث مراتب اللوائح ثم اللوامع ثم الطوالع فاللوائح كالبروق ما ظهرت حتى استترت كما قال القائل فافترقنا حولا فلما التقينا كان تسليمه على وداعا .
وانشدوا يا ذا الذى زار وما زارا كانه مقتبس نارا مر بباب الدار مستعجلا ما ضره لو دخل الدارا .
ثم اللوامع وهى اظهر من اللوائح وليس زوالها بتلك السرعة فقد تبقى وقتين وثلاثة ولكن كما قيل العين باكيه لم تشبع النظرا أو كما قالوا وبلائي من مشهد ومغيب وحبيب منى بعيد قريب لم ترد ماء وجهه العين حتى شرقت قبل ريها برقيب .
فأصحاب هذا المقام بين روح وفوح لانهم بين كشف وستر يلمع ثم يقطع لا يستقر لهم نور النهار حتى تكر عليه عساكر الليل فهم كما قيل والليل يشملنا بفاضل برده والصبح يلحفنا رداء مذهبا .
ثم الطوالع وهى ابقى وقتا واقوى سلطانا وادوم مكثا واذهب للظلمة وانفى للمهمة .
(2)
__________
(1) الرسالة القشيرية 43 .
(2) الرسالة القشيرية 43 ، 44 .
(*)(11/140)
افلا ترى كلام القوم كله مشحون بالبروق واللمعان .
وكان مما نقم حامد بن العباس وزير المقتدر وعلى بن عيسى الجراح وزيره ايضا على الحلاج انهما وجدا في كتبه لفظ (النور الشعشعانى) وذلك لجهالتهما مراد القوم واصطلاحهم ومن جهل امرا عاداه .
ثم قال عليه السلام (وتدافعته الابواب الى باب السلامة ودار الاقامه) أي لم يزل ينتقل من مقام من مقامات القوم الى مقام فوقه حتى وصل وتلك المقامات معروفة عند اهلها ومن له انس بها وسنذكرها فيما بعد .
ثم قال (وثبتت رجلاه بطمانينة بدنه في قرار الامن والراحة بما استعمل قلبه وارضى ربه) أي كانت الراحة الكلية والسعادة الابدية مستثمرة من ذلك التعب الذى تحمله لما استعمل قلبه وراض جوارحه ونفسه حتى وصل كما قيل عند الصباح يحمد القوم السرى وتنجلى عنا غيابات الكرى (1) .
وقال الشاعر تقول سليمى لو اقمت بارضنا ولم تدر انى للمقام اطوف .
وقال آخر ما ابيض وجه المرء في طلب العلا حتى يسود وجهه في البيد .
وقال فاطلب هدوءا بالتقلقل واستثر بالعيس من تحت السهاد هجودا (2) ما إن ترى الاحساب بيضا وضحا الا بحيث ترى المنايا سودا
__________
(1) مثل يضرب للرجل يحتمل المشقة رجاء الراحة واول من قاله خالد بن الوليد في ابيات ذكرها الميداني عند الكلام على مضرب المثل ومورده : (2 : 2) .
(2) لابي تمام ، ديوانه 1 : 416 .
(*)(11/141)
(215) الاصل ومن كلام له عليه السلام يحث فيه اصحابه على الجهاد والله مستاديكم شكره ومورثكم امره وممهلكم في مضمار ممدود لتتنازعوا سبقه فشدوا عقد المازر واطووا فضول الخواصر لا تجتمع عزيمة ووليمه ما انقض النوم لعزائم اليوم وامحى الظلم لتذاكير الهمم الشرح مستاديكم شكره أي طالب منكم اداء ذلك والقيام به استاديت دينى عند فلان أي طلبته .
وقوله (ومورثكم امره) أي سيرجع امر الدولة اليكم ويزول امر بنى امية .
ثم شبه الاجال التى ضربت للمكلفين ليقوموا فيها بالواجبات ويتسابقوا فيها الى الخيرات بالمضمار الممدود لخيل تتنازع فيه السبق .
ثم قال (فشدوا عقد المازر) أي شمروا عن ساق الاجتهاد ويقال لمن يوصى بالجد والتشمير اشدد عقدة ازارك لانه إذا شدها كان ابعد عن العثار واسرع للمشى .
قوله (واطووا فضول الخواصر) نهى عن كثرة الاكل لان الكثير الاكل لا يطوى فضول خواصره لامتلائها والقليل الاكل ياكل في بعضها ويطوى بعضها قال الشاعر(11/142)
كلوا في بعض بطنكم وعفو فان زمانكم زمن خميص .
وقال اعشى باهلة طاوى المصير على العزاء منصلت بالقوم ليلة لا ماء ولا شجر (1) .
وقال الشنفرى واطوى على الخمص الحوايا كما انطوت خيوطه مارى تغار وتفتل (2) ثم اتى عليه السلا بثلاثة امثال مخترعة له لم يسبق بها وإن كان قد سبق بمعناها وهى قوله (لا تجتمع عزيمة ووليمة) وقوله (ما انقض النوم العزئم اليوم) وقوله (وامحى الظلم لتذاكير الهمم) .
فمما جاء للمحدثين من ذلك ما كتبه بعض الكتاب الى ولده خدمة السلطان والكاسات في ايدى الملاح ليس يلتامان فاطلب رفعه أو شرب راح .
ومثله قول آخر لولده ما للمطيع هواه من الملام ملاذ فاختر لنفسك هذا مجد وهذا التذاذ .
وقال آخر وليس فتى الفتيان من راح واغتدى لشرب صبوح أو لشرب غبوق ولكن فتى الفتيان من راح واغتدى لضر عدو أو لنفع صديق .
__________
(1) الكامل للمبرد 4 : 65 قال في شرحه : (طاوى المصير) يقال لواحد المصران مصير والعزاء : الامر الشديد يقال سيف منصلت وصلت إذا جرد من غمده .
(2) من لاميته وهى من نوادر القالى 203 ، 207 .
(*)(11/143)
وهذا كثير جدا يناسب قوله (لا تجتمع عزيمة ووليمة) ومثل قوله (ما انقض النوم لعزائم اليوم) قول الشاعر فتى لا ينام على عزمه ومن صمم العزم لم يرقد وقوله (وامحى الظلم لتذاكير الهمم) أي الظلم التى ينام فيها لا كل الظلم الا ترى انه إذا لم ينم في الظلمة بل كان عنده من شدة العزم وقوة التصميم ما لا ينام معه فان الظلمة لا تمحو تذاكير هممه والتذاكير جمع تذكار .
والمثلان الاولان احسن من الثالث وكان الثالث من تتمه الثاني وقد قالت العرب في الجاهلية هذا المعنى وجاء في القرآن العزيز (ام حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما ياتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله الا إن نصر الله قريب) (1) .
وهذا مثل قوله (لا تجتمع عزيمة ووليمة) أي لا يجتمع لكم دخول الجنة والدعة والقعود عن مشقة الحرب
__________
(1) سورة البقرة 214 .
(*)(11/144)
(216) الاصل ومن كلام له عليه السلام قاله بعد تلاوته (الهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر) يا له مراما ما ابعده وزورا ما اغفله وخطرا ما افظعه لقد استخلوا منهم أي مدكر وتناوشوهم من مكان بعيد افبمصارع آبائهم يفخرون ام بعديد الهلكى يتكاثرون الشرح قد اختلف المفسرون في تأويل هاتين الايتين فقال قوم المعنى انكم قطعتم ايام عمركم في التكاثر بالاموال والاولاد حتى اتاكم الموت فكنى عن حلول الموت بهم بزيارة المقابر .
وقال قوم بل كانوا يتفاخرون بانفسهم وتعدى ذلك الى أن تفاخروا باسلافهم الاموات فقالوا منا فلان وفلان - لقوم كانوا وانقرضوا .
وهذا هو التفسير الذى يدل عليه كلام امير المؤمنين عليه السلام قال (يا له مراما) منصوب على التمييز .
ما ابعده أي لا فخر في ذلك وطلب الفخر من هذا الباب بعيد وانما الفخر بتقوى الله وطاعته .(11/145)
وزورا ما اغفله اشارة الى القوم الذين افتخروا جعلهم بتذكر الاموات السالفين كالزائرين لقبورهم والزور اسم للواحد والجمع كالخصم والضيف قال ما اغفلهم عما يراد منهم لانهم تركوا العبادة والطاعة وصرموا الاوقات بالمفاخرة بالموتى .
ثم قال (وخطرا ما افظعه) اشارة الى الموت أي ما اشده فظع الشئ بالضم فهو فظيع أي شديد شنيع مجاوز للمقدار .
قوله (لقد استخلوا منهم أي مدكر) قال الراوندي أي وجدوا موضع التذكر خاليا من الفائدة وهذا غير صحيح وكيف يقول ذلك وقد قال (وخطرا ما افظعه) وهل يكون امر اعظم تذكيرا من الاعتبار بالموتى والصحيح انه اراد ب (استخلوا) ذكر من خلا من آبائهم أي من مضى يقال هذا الامر من الامور الخالية وهذا القرن من القرون الخالية أي الماضية .
واستخلى فلان في حديثه أي حدث عن امور خالية والمعنى انه استعظم ما يوجبه حديثهم عما خلا وعمن خلا من اسلافهم وآثار اسلافهم من التذكير فقال أي مدكر (1) وواعظ في ذلك وروى أي مذكر بمعنى المصدر كالمعتقد بمعنى الاعتقاد والمعتبر بمعنى الاعتبار .
(وتناوشوهم من مكان بعيد) أي تناولوهم والمراد ذكروهم وتحدثوا عنهم فكأنهم تناولوهم وهذه اللفظة من الفاظ القرآن العزيز (وقالوا آمنا به وانى لهم التناوش من مكان بعيد) (2) وانى لهم تناول الايمان حينئذ بعد فوات الامر
__________
(1) ا : (تذكر) وما اثبته من ب .
(2) سورة سبأ 52 .
(*)(11/146)
الاصل يرتجعون (1) منهم اجسادا خوت وحركات سكنت ولان يكونوا عبرا احق من أن يكونوا مفتخرا ولان يهبطوا بهم جناب ذلة احجى من أن يقوموا بهم مقام عزة لقد نظروا إليهم بابصار العشوة وضربوا منهم في غمرة جهالة ولو استنطقوا عنهم عرصات تلك الديار الخاوية والربوع الخالية لقالت ذهبوا في الارض ضلالا وذهبتم في اعقابهم جهالا تطئون في هامهم وتستنبتون في اجسادهم وترتعون فيما لفظوا وتسكنون فيما خربوا وانما الايام بينكم وبينهم بواك ونوائح عليكم اولئكم سلف غايتكم وفراط مناهلكم الذين كانت لهم مقاوم العز وحلبات الفخر ملوكا وسوقا الشرح (يرتجعون منهم اجسادا) أي يذكرون آباءهم فكأنهم ردوهم الى الدنيا وارتجعوهم من القبور وخوت خلت .
قال وهؤلاء الموتى احق بان يكونوا عبرة وعظه من أن يكونوا فخرا وشرفا والمفتخرون بهم اولى بالهبوط الى جانب الذلة منهم بالقيام مقام العز .
وتقول هذا احجى من فلان أي اولى واجدر والجناب الفناء .
__________
(1) ب " ترجعون " .
(*)(11/147)
ثم قال (لقد نظروا إليهم بابصار العشوة) أي لم ينظروا النظر المفضى الى الرؤية لان ابصارهم ذات عشوة وهو مرض في العين ينقص به الابصار و في عين فلان عشاء وعشوة بمعنى ومنه قيل لكل امر ملتبس يركبه الراكب على غير بيان امر عشوة ومنه اوطاتني عشوة ويجوز بالضم والفتح .
قال (وضربوا بهم في غمرة جهالة) أي وضربوا من ذكر هؤلاء الموتى في بحر جهل والضرب ها هنا استعارة أو يكون من الضرب بمعنى السير كقوله تعالى (وإذا ضربتم في الارض) (1) أي خاضوا وسبحوا من ذكرهم في غمرة جهالة وكل هذا يرجع الى معنى واحد وهو تسفيه راى المفتخرين بالموتى والقاطعين الوقت بالتكاثر بهم اعراضا عما يجب انفاقه من العمر في الطاعة والعبادة .
ثم قال (لو سالوا عنهم ديارهم التى خلت منهم) ويمكن أن يريد بالديار والربوع القبور (لقالت ذهبوا في الارض ضلالا) أي هالكين ومنه قوله تعالى (وقالوا ائذا ضللنا في الارض ائنا لفى خلق جديد) (2) .
وذهبتم في اعقابهم أي بعدهم (جهالا) لغفلتكم وغروركم .
قوله عليه السلام (تطئون في هامهم) اخذ هذا المعنى أبو العلاء المعرى فقال خفف الوطء ما اظن اديم الارض الا من هذه الاجساد (3) رب لحد قد صار لحدا مرارا ضاحك من تزاحم الاضداد
__________
(1) سورة النساء 101 .
(2) سورة السجدة 10 .
(3) ديوانه سقط الزند 974 ، 975 مع اختلاف في الرواية وترتيب الابيات واديم الارض ظاهرها .
(*)(11/148)
ودفين على بقايا دفين من عهود الاباء والاجداد (1) صاح هذى قبورنا تملا الارض فاين القبور من عهد عاد (2) سر إن اسطعت في الهواء رويدا لا اختيالا على رفات العباد .
قوله (وتستنبتون في اجسادهم) أي تزرعون النبات في اجسادهم وذلك لان اديم الارض الظاهر إذا كان من ابدان الموتى فالزرع لا محالة يكون نابتا في الاجزاء الترابية التى هي ابدان الحيوانات وروى وتستثبتون بالثاء أي وتنصبون الاشياء الثابتة كالعمد والاساطين للاوطان في اجساد الموتى .
ثم قال (وترتعون فيما لفظوا) لفظت الشئ بالفتح رميته من فمى الفظه بالكسر ويجوز أن يريد بذلك انكم تأكلون ما خلفوه وتركوه ويجوز أن يريد انكم تأكلون الفواكه التى تنبت في اجزاء ترابية خالطها الصديد الجارى من افواههم ثم قال (وتسكنون فيما خربوا) أي تسكنون في المساكن التى لم يعمروها بالذكر والعبادة فكأنهم اخربوها في المعنى ثم سكنتم انتم فيها بعدهم ويجوز أن يريد أن كل دار عامرة قد كانت من قبل خربة وانما اخربها قوم بادوا وماتوا فاذن لا ساكن منا في عمارة الا ويصدق عليه انه ساكن فيما قد كان خرابا من قبل والذين اخربوه الان موتى ويجوز أن يريد بقوله (وتسكنون فيما خربوا) وتسكنون في دور فارقوها واخلوها فاطلق على الخلو والفراغ لفظ (الخراب) مجازا .
قوله (وانما الايام بينكم وبينهم بواك ونوائح عليكم) يريد أن الايام والليالي تشيع رائحا الى المقابر وتبكى وتنوح على الباقين الذين سيلتحقون به عن قريب .
__________
(1) الديوان : * في طويل الازمان والاباد * (2) الديوان : (تملا الرجب) .
(*)(11/149)
قوله (اولئكم سلف غايتكم) السلف المتقدمون والغاية الحد الذى ينتهى إليه اما حسيا أو معنويا والمراد هاهنا الموت .
والفرط القوم يسبقون الحى الى المنهل .
ومقاوم العز دعائمه جمع مقوم واصلها الخشبة التى يمسكها الحراث وحلبات الفخر جمع حلبة وهى الخيل تجمع للسباق .
والسوق بفتح الواو جمع سوقه وهو من دون الملك الاصل سلكوا في بطون البرزخ سبيلا سلطت الارض عليهم فيه فاكلت من لحومهم وشربت من دمائهم فاصبحوا في فجوات قبورهم جمادا ينمون وضمارا لا يوجدون لا يفزعهم ورود الاهوال ولا يحزنهم تنكر الاحوال ولا يحفلون بالرواجف ولا ياذنون للقواصف غيبا لا ينتظرون وشهودا لا يحضرون وانما كانوا جميعا فتشتتوا والافا فافترقوا وما عن طول عهدهم ولا بعد محلهم عميت اخبارهم وصمت ديارهم ولكنهم سقوا كاسا بدلتهم بالنطق خرسا وبالسمع صمما وبالحركات سكونا فكأنهم في ارتجال الصفة صرعى سبات جيران لا يتانسون واحباء لا يتزاورون بليت (1) بينهم عرا التعارف وانقطعت منهم اسباب الاخاء فكلهم وحيد وهم جميع وبجانب الهجر وهم اخلاء لا يتعارفون لليل صباحا ولا لنهار مساء أي الجديدين ظعنوا فيه كان
__________
(1) كذا في ا في ب (وبليت) .
(*)(11/150)
عليهم سرمدا شاهدوا من اخطار دارهم افظع مما خافوا وراوا من آياتها اعظم مما قدروا فكلا الغايتين مدت لهم الى مباءة فاتت مبالغ الخوف والرجاء فلو كانوا ينطقون بها لعيوا بصفة ما شاهدوا وما عاينوا ولئن عميت آثارهم وانقطعت اخبارهم لقد رجعت فيهم ابصار العبر وسمعت عنهم آذان العقول وتكلموا من غير جهات النطق فقالوا كلحت الوجوه النواضر وخوت الاجسام النواعم ولبسنا اهدام البلى وتكاءدنا ضيق المضجع وتوارثنا الوحشة وتهدمت علينا الربوع الصموت فانمحت محاسن اجسادنا وتنكرت معارف صورنا وطالت في مساكن الوحشة اقامتنا ولم نجد من كرب فرجا ولا من ضيق متسعا فلو مثلتهم بعقلك أو كشف عنهم محجوب الغطاء لك وقد ارتسخت اسماعهم بالهوام فاستكت واكتحلت ابصارهم بالتراب فخسفت وتقطعت الالسنة في افواههم بعد ذلاقتها وهمدت القلوب في صدورهم بعد يقظتها وعاث في كل جارحة منهم جديد بلى سمجها وسهل طرق الافة إليها مستسلمات فلا ايد تدفع ولا قلوب تجزع - لرايت اشجان قلوب واقذاء عيون لهم في كل فظاعة صفة حال لا تنتقل وغمرة لا تنجلي فكم اكلت الارض من عزيز جسد وانيق لون كان في الدنيا غذى ترف وربيب شرف يتعلل بالسرور في ساعة حزنة ويفزع الى السلوة إن مصيبة نزلت به ظنا بغضارة عيشه وشحاحه بلهوه ولعبه فبينا هو يضحك الى الدنيا وتضحك إليه في ظل عيش غفول إذ وطئ الدهر به حسكه ونقضت الايام قواه ونظرت إليه الحتوف من كثب فخالطه بث لا يعرفه ونجى هم(11/151)
ما كان يجده وتولدت فيه فترات علل آنس ما كان بصحته ففزع الى ما كان عوده الاطباء من تسكين الحار بالقار وتحريك البارد بالحار فلم يطفئ ببارد الا ثور حرارة ولا حرك بحار الا هيج برودة ولا اعتدل بممازج لتلك الطبائع الا امد منها كل ذات داء حتى فتر معلله وذهل ممرضه وتعايا اهله بصفة دائه وخرسوا عن جواب السائلين عنه وتنازعوا دونه شجى خبر يكتمونه فقائل هو لما به وممن لهم اياب عافيته ومصبر لهم على فقده يذكرهم اسى الماضين من قبله فبينا هو كذلك على جناح من فراق الدنيا وترك الاحبة إذ عرض له عارض من غصصه فتحيرت نوافذ فطنته ويبست رطوبة لسانه فكم من مهم من جوابه عرفه فعى عن رده ودعاء مؤلم بقلبه سمعه فتصام عنه من كبير كان يعظمه أو صغير كان يرحمه وإن للموت لغمرات هي افظع من أن تستغرق بصفة أو تعتدل على عقول اهل الدنيا الشرح هذا موضع المثل (ملعا (1) يا ظليم والا فالتخوية) من اراد أن يعظ ويخوف ويقرع صفاة القلب ويعرف الناس قدر الدنيا وتصرفها باهلها فليات بمثل هذه الموعظة في مثل هذا الكلام الفصيح والا فليمسك فان السكوت استر والعى خير من منطق يفضح صاحبه ومن تأمل هذا الفصل علم صدق معاوية في قوله فيه (والله ما سن
__________
(1) الملع : السير السريع ، ويقال : خوي الطائر إذا أرسل جناحيه (*)(11/152)
الفصاحة لقريش غيره) وينبغى لو اجتمع فصحاء العرب قاطبة في مجلس وتلى عليهم أن يسجدوا له كما سجد الشعراء لقول عدى بن الرقاع * قلم اصاب من الدواة مدادها (1) * .
فلما قيل لهم في ذلك قالوا انا نعرف مواضع السجود في الشعر كما تعرفون مواضع السجود في القرآن وانى لاطيل التعجب من رجل يخطب في الحرب بكلام يدل على أن طبعه مناسب لطباع الاسود والنمور وامثالهما من السباع الضارية ثم يخطب في ذلك الموقف بعينه إذا اراد الموعظة بكلام يدل على أن طبعه مشاكل لطباع الرهبان لابسى المسوح الذين لم ياكلوا لحما ولم يريقوا دما فتارة يكون في صورة بسطام بن قيس الشيباني وعتيبة ابن الحارث اليربوعي وعامر بن الطفيل العامري وتارة يكون في صورة سقراط الحبر اليونانى ويوحنا المعمدان الاسرائيلي والمسيح بن مريم الالهى .
واقسم بمن تقسم الامم كلها به لقد قرات هذه الخطبة منذ خمسين سنة والى الان اكثر من الف مرة ما قراتها قط الا واحدثت عندي روعة وخوفا وعظة واثرت في قلبى وجيبا وفي اعضائي رعدة ولا تأملتها الا وذكرت الموتى من اهلي واقاربي وارباب ودى وخيلت في نفسي انى انا ذلك الشخص الذى وصف عليه السلام حاله وكم قد قال الواعظون والخطباء والفصحاء في هذا المعنى وكم وقفت على ما قالوه وتكرر وقوفي عليه فلم اجد لشئ منه مثل تأثير هذا الكلام في نفسي فاما أن يكون ذلك لعقيدتي في قائله أو كانت نية القائل صالحة ويقينه كان ثابتا واخلاصه كان محضا
__________
(1) صدره : * تزجي أغن كان إبرة روقة * (*)(11/153)
خالصا فكان تأثير قوله في النفوس اعظم وسريان موعظته في القلوب ابلغ ثم نعود الى تفسير الفصل فالبرزخ الحاجز بين الشيئين والبرزخ ما بين الدنيا والاخرة من وقت الموت الى البعث فيجوز أن يكون البرزخ في هذا الموضع القبر لانه حاجز بين الميت وبين اهل الدنيا كالحائط المبنى بين اثنين فانه برزخ بينهما ويجوز أن يريد به الوقت الذى بين حال الموت الى حال النشور والاول اقرب الى مراده عليه السلام لانه قال (في بطون البرزخ) ولفظة (البطون) تدل على التفسير الاول ولفظتا (اكلت الارض من لحومهم وشربت من دمائهم) مستعارتان .
والفجوات جمع فجوة وهى الفرجة المتسعة بين الشيئين قال سبحانه (وهم في فجوة منه) (1) وقد تفاجى الشئ إذا صارت له فجوة .
وجمادا لا ينمون أي خرجوا عن صورة الحيوانية الى صورة الجماد الذى لا ينمى ولا يزيد ويروى (لا ينمون) بتشديد الميم من النميمة وهى الهمس والحركة ومنه قولهم اسكت الله نامته في قول من شدد ولم يهمز .
وضمارا يقال لكل ما لا يرجى من الدين والوعد وكل ما لا تكون منه على ثقه ضمار .
ثم ذكر أن الاهوال الحادثة في الدنيا لا تفزعهم وأن تنكر الاحوال بهم وباهل الدنيا لا يحزنهم ويروى (تحزنهم) على أن الماضي رباعى .
ومثله قوله (لا يحفلون بالرواجف) أي لا يكترثون بالزلازل
__________
(1) سورة الكهف 17 (*)(11/154)
قوله (ولا ياذنون للقواصف) أي لا يسمعون الاصوات الشديدة اذنت لكذا أي سمعته .
وجمع الغائب غيب وغيب وكلاهما مروى هاهنا واراد انهم شهود في الصورة وغير حاضرين في المعنى .
والاف على فعال جمع آلف كالطراق جمع طارق والسمار جمع سامر والكفار جمع كافر .
ثم ذكر انه لم تعم اخبارهم أي لم تستبهم اخبارهم وتنقطع عن بعد عهد بهم ولا عن بعد منزل لهم وانما سقوا كاس المنون التى اخرستهم بعد النطق واصمتهم بعد السمع واسكنتهم بعد الحركة .
وقوله (وبالسمع صمما) أي لم يسمعوا فيها نداء المنادى ولانوح النائح أو لم يسمع في قبورهم صوت منهم .
قوله (فكأنهم في ارتجال الصفة) أي إذا وصفهم الواصف مرتجلا غير مترو في الصفة ولا متهئ للقول .
قال (كأنهم صرعى سبات) وهو نوم لانه لا فرق في الصورة بين الميت حال موته والنائم المسبوت ثم وصفهم بانهم جيران الا انهم لا مؤانسه بينهم كجيران الدنيا وانهم احباء الا انهم لا يتزاورون كالاحباب من اهل الدنيا .
وقوله (احباء) جمع حبيب كخليل واخلاء وصديق واصدقاء .
ثم ذكر أن عرا التعارف قد بليت منهم وانقطعت بينهم اسباب الاخاء وهذه كلها استعارات لطيفة مستحسنة .(11/155)
ثم وصفهم بصفة اخرى فقال كل واحد منهم موصوف بالوحدة وهم مع ذلك مجتمعون بخلاف الاحياء الذين إذا انضم بعضهم الى بعض انتفى عنه وصف الوحدة .
ثم قال (وبجانب الهجر وهم اخلاء) أي وكل منهم في جانب الهجر وهم مع ذلك اهل خله ومودة أي كانوا كذلك وهذا كله من باب الصناعة المعنوية والمجاز الرشيق .
ثم قال انهم لا يعرفون للنهار ليلا ولا لليل نهارا وذلك لان الواحد من البشر إذا مات نهارا لم يعرف لذلك النهار ليلا ابدا وأن مات ليلا لم يعرف لذلك الليل صباحا ابدا وقال الشاعر لا بد من يوم بلا ليلة أو ليلة تأتى بلا يوم .
وليس المراد بقوله (أي الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا) انهم وهم موتى يشعرون بالوقت الذى ماتوا فيه ولا يشعرون بما يتعقبه من الاوقات بل المراد أن صورة ذلك الوقت لو بقيت عندهم لبقيت ابدا من غير أن يزيلها وقت آخر يطرا عليها ويجوز أن يفسر على مذهب من قال ببقاء الانفس فيقال إن النفس التى تفارق ليلا تبقى الصورة الليلية والظلمة حاصلة عندها ابدا لا تزول بطرآن نهار عليها لانها قد فارقت الحواس فلا سبيل لها الى أن يرتسم فيها شئ من المحسوسات بعد المفارقة وانما حصل ما حصل من غير زيادة عليه وكذلك الانفس التى تفارق نهارا [ بعض الاشعار والحكايات في وصف القبور والموتى ] واعلم أن الناس قد قالوا في حال الموتى فاكثروا فمن ذلك قول الرضى ابى الحسن رحمه الله تعالى(11/156)
اعزز على بان نزلت بمنزل متشابه الامجاد بالاوغاد (1) في عصبة جنبوا الى آجالهم والدهر يعجلهم عن الارواد ضربوا بمدرجة الفناء قبابهم من غير اطناب ولا اعماد ركب اناخوا لا يرجى منهم قصد لاتهام ولا انجاد كرهوا النزول فانزلتهم وقعة للدهر باركة بكل مفاد فتهافتوا عن رحل كل مذلل (2) وتطاوحوا عن سرج كل جواد بادون في صور الجميع وانهم متفردون تفرد الاحاد .
قوله (بادون في صور الجميع) ماخوذ من قول امير المؤمنين عليه السلام (فكلهم وحيد وهم جميع) .
وقال ايضا ولقد حفظت له فاين حفاظه ولقد وفيت له فاين وفاؤه (3) اوعى الدعاء فلم يجبه قطيعة ام ضل عنه من البعاد دعاؤه هيهات اصبح سمعه وعيانه في الترب قد حجبتهما اقذاؤه يمسى ولين مهادة حصباؤه فيه ومؤنس ليله ظلماؤه قد قلبت اعيانه وتنكرت اعلامه وتكسفت اضواؤه
__________
(1) من مرثيته لابي إسحق الصابي ومطلعها : أعلمت من حملوا على الاعواد أرأيت كيف خبا ضياء النادي ديوانه لوحة 129 .
(2) الديوان (عن ظهر كل مذلل) .
(3) ديوانه لوحة 116 ، من مرثية لبعض اصدقائه .
(*)(11/157)
مغف وليس للذة اغفاؤه مغض وليس لفكرة اغضاؤه وجه كلمع البرق غاض وميضه قلب كصدر العضب فل مضاؤه حكم البلى فيه فلو تلقى به اعداءه لرتى له اعداؤه .
وقال أبو العلاء استغفر الله ما عندي لكم خبر ومخطابى الا معشرا قبروا اصبحتم في البلى غبرا ملابسكم من الهباء فاين البرد والقطر (1) كنتم على كل خطب فادح صبرا فهل شعرتم وقد جادتكم الصبر (2) وما درى يوم احد بالذين ثووا فيه ولا يوم بدر انهم نصروا .
وقال أبو عارم الكلابي ا جازعة ردينه أن اتاها نعيى ام يكون لها اصطبار إذا ما اهل قبري ودعوني وراحوا والاكف بها غبار وغودر اعظمي في لحد قبر تراوحه الجنائب والقطار تهب الريح فوق محط قبري ويرعى حوله اللهق النوار (3) مقيم لا يكلمه صديق بقبر لا ازور ولا ازار فذاك الناى لا الهجران حولا وحولا ثم تجتمع الديار .
مر الاسكندر بمدينة قد ملكها سبعة املاك من بيت واحد وبادو فسال هل بقى من نسلهم احد قالوا بقى واحد وهو يلزم المقابر فدعا به فسأله لم تلزم المقابر قال اردت أن اميز عظام الملوك من عظام عبيدهم فوجدتها سواء قال هل لك أن تلزمني حتى انيلك بغيتك قال لو علمت انك تقدر على ذلك للزمتك قال وما بغيتك
__________
(1) القطر من البرود (2) الصبر السحابة البيضاء (3) اللهق الثور الابيض والنوار النافر .
(*)(11/158)
قال حياة لا موت معها قال لن اقدر على ذلك قال فدعني اطلبه ممن يقدر عليه .
قال النبي صلى الله عليه وآله (ما رايت منظرا الا والقبر افظع منه) وقال صلى الله عليه وآله (القبر اول منزل من منازل الاخرة فمن نجا منه فما بعده ايسر ومن لم ينج فما بعده شر له) .
مر عبد الله بن عمر رضى الله عنه بمقبرة فصلى فيها ركعتين وقال ذكرت اهل القبور وانه حيل بينهم وبين هذا فاحببت أن اتقرب بهما الى الله فان قلت ما معنى قوله عليه السلام (وبجانب الهجر) واى فائدة في لفظة (جانب) في هذا الموضع .
قلت لانهم يقولون فلان في جانب الهجر وفي جانب القطيعة ولا يقولون (في جانب الوصل) وفي (جانب المصافاة) وذلك أن لفظة (جنب) في الاصل موضوعة للمباعدة ومنه قولهم (الجار الجنب) وهو جارك من قوم غرباء يقال جنبت الرجل واجنبته وتجنبته وتجانبته كله بمعنى ورجل اجنبي واجنب وجنب وجانب كله بمعنى .
قوله عليه السلام (شاهدوا من اخطار دارهم) المعنى انه شاهد المتقون من آثار الرحمة واماراتها وشاهد المجرمون من آثار النقمة واماراتها عند الموت والحصول في القبر اعظم مما كانوا يسمعون ويظنون ايام كونهم في الدنيا .
ثم قال (فكلا الغايتين مدت لهم) المعنى مدت الغايتان غاية الشقى منهم وغاية السعيد .(11/159)
الى مباءة أي الى منزل يعظم حاله عن أن يبلغه خوف خائف أو رجاء راج وتلك المباءة هي النار أو الجنة و تقول قد استباء الرجل أي اتخذ مباءة وابات الابل رددتها الى مباءتها وهى معاطنها .
ثم قال (فلو كانوا ينطقون بها لعيوا) بتشديد الياء قال الشاعر عيوا بامرهم كما عيت ببيضتها الحمامة جعلت لها عودين من نشم وآخر من ثمامة .
وروى (لعيوا) بالتخفيف كما تقول (حيوا) قالوا ذهبت الياء الثانية لالتقاء الساكنين لان الواو ساكنة وضمت الياء الاولى لاجل الواو قال الشاعر وكنا حسبناهم فوارس كهمس حيوا بعد ما ماتوا من الدهر اعصرا .
قوله (لقد رجعت فيهم) يقال رجع البصر نفسه ورجع زيد بصره يتعدى ولا يتعدى يقول تكلموا معنى لا صورة فادركت حالهم بالابصار والاسماع العقلية لا الحسية وكلحت الوجوه كلوحا وكلاحا وهو تكشر في عبوس .
والنواضر النواعم والنضرة الحسن والرونق .
وخوت الاجساد النواعم خلت من دمها ورطوبتها وحشوتها ويجوز أن يكون خوت أي سقطت قال تعالى (فهى خاوية على عروشها) (1) والاهدام جمع هدم وهو الثوب البالى قال اوس وذات هدم عار نواشرها تصمت بالماء تولبا جذعا (2) .
__________
(1) سورة الحج 45 .
(2) ديوانه 55 النواشر عصب الذراع الواحد ناشرة وبها سمى الرجل واراد بالتولب طفلها والجذع السئ الغذاء تضمته بالماء لانه ليس لها لبن من شدة الضر (*)(11/160)
وتكاءدنا شق علينا ومنه عقبة كؤود ويجوز تكادنا جاءت هذه الكلمة في اخوات لها (تفعل وتفاعل) بمعنى ومثله تعهد الضيعه وتعاهدها .
ويقال قوله (وتوارثنا الوحشة) كانه لما مات الاب فاستوحش اهله منه ثم مات الابن فاستوحش منه اهله ايضا صار كان الابن ورث تلك الوحشة من ابيه كما تورث الاموال وهذا من باب الاستعارة .
قوله (وتهدمت علينا الربوع) يقال تهدم فلان على فلان غضبا إذا اشتد غضبه ويجوز أن يكون تهدمت أي تساقطت وروى (وتهكمت) بالكاف وهو كقولك (تهدمت) بالتفسيرين جميعا ويعنى بالربوع الصموت القبور وجعلها صموتا لانه لا نطق فيها كما تقول ليل قائم ونهار صائم أي يقام ويصام فيهما وهذا كله على طريق الهز والتحريك واخراج الكلام في معرض غير المعرض المعهود جعلهم لو كانوا ناطقين مخبرين عن انفسهم [ لاتوا ] بما وصفه من احوالهم وورد في الحديث أن عمر حضر جنازة رجل فلما دفن قال لاصحابه قفوا ثم ضرب فامعن في القبور واستبطاه الناس جدا ثم رجع وقد احمرت عيناه وانتفخت اوداجه فقيل ابطات يا امير المؤمنين فما الذى حبسك قال اتيت قبور الاحبة فسلمت فلم يردوا على السلام فلما ذهبت اقفى نادانى التراب فقال الا تسألني يا عمر ما فعلت باليدين قلت ما فعلت بهما قال قطعت الكفين من الرسغين وقطعت الرسغين من الذراعين وقطعت الذراعين من المرفقين وقطعت المرفقين من العضدين وقطعت العضدين من المنكبين وقطعت المنكبين من الكتفين فلما ذهبت اقفى نادانى التراب فقال ا لا تسألني يا عمر ما فعلت بالابدان والرجلين قلت ما فعلت قال قطعت الكتفين من الجنبين وقطعت الجنبين من الصلب وقطعت الصلب من الوركين وقطعت الوركين من الفخذين وقطعت الفخذين من الركبتين(11/161)
وقطعت الركبتين من الساقين وقطعت الساقين من القدمين فلما ذهبت اقفى نادانى التراب فقال يا عمر عليك باكفان لا تبلى فقلت وما اكفان لا تبلى قال تقوى الله والعمل بطاعته وهذا من الباب الذى نحن بصدده نسب الاقوال المذكورة الى التراب وهو جماد ولم يكن ذلك ولكنه اعتبر فانقدحت في نفسه هذه المواعظ الحكمية فافرغها في قالب الحكاية ورتبها على قانون المسالة والاجابة واضافها الى جماد موات لانه اهز لسامعها الى تدبرها ولو قال نظرت فاعتبرت في حال الموتى فوجدت التراب قد قطع كذا من كذا لم تبلغ عظته المبلغ الذى بلغته حيث اودعها في الصورة التى اخترعها .
قوله عليه السلام (فلو مثلتهم بعقلك أو كشف عنهم محجوب الغطاء لك) الى آخر جواب (لو) هذا الكلام اخذه ابن نباته بعينه فقال فلو كشفتم عنهم اغطية الاجداث بعد ليلتين أو ثلاث لوجدتم الاحداق على الخدود سائلة والالوان من ضيق اللحود حائلة وهوام الارض في نواعم الابدان جائلة والرؤوس الموسدة على الايمان زائلة ينكرها من كان لها عارفا ويفر عنها من لم يزل لها آنفا .
قوله عليه السلام (ارتسخت اسماعهم) ليس معناه ثبتت كما زعمة الراوندي لانها لم تثبت وانما ثبتت الهوام فيها بل الصحيح انه من رسخ الغدير إذا نش ماؤه ونضب و يقال قد ارتسخت الارض بالمطر إذا ابتلعته حتى يلتقى الثريان .
واستكت أي ضاقت وانسدت قال النابغة ونبئت خير الناس انك لمتنى وتلك التى تستك منها المسامع (1) .
__________
(1) ب (فيها) والبيت في ديوانه 53 وروايته * اتاني ابيت اللعن انك لمتنى * (*)(11/162)
قوله (واكتحلت ابصارهم بالتراب فخسفت) أي غارت وذهبت في الراس واخذ المتنبي قوله (واكتحلت ابصارهم بالتراب) فقال يدفن بعضنا بعضا ويمشى اواخرنا على هام الاوالى (1) وكم عين مقبلة النواحى كحيل بالجنادل والرمال ومغض كان لا يغضى لخطب وبال كان يفكر في الهزال .
وذلاقة الالسن حدتها ذلق اللسان والسنان يذلق ذلقا أي ذرب فهو ذلق واذلق .
وهمدت بالفتح سكنت وخمدت وعاث افسد وقوله (جديد بلى) من فن البديع لان الجدة ضد البلى وقد اخذ الشاعر هذه اللفظة فقال يا دار غادرني جديد بلاك رث الجديد فهل رثيث لذاك وسمجها قبح صورتها وقد سمج الشئ بالضم فهو سمج بالسكون مثل ضخم فهو ضخم ويجوز فهو سمج بالكسر مثل خشن فهو خشن .
قوله (وسهل طرق الافة إليها) وذلك انه إذا استولى العنصر الترابى على الاعضاء قوى استعدادها للاستحالة من صورتها الاولى الى غيرها .
ومستسلمات أي منقادة طائعة غير عاصية فليس لها ايد تدفع عنها ولا لها قلوب تجزع وتحزن لما نزل بها .
والاشجان جمع شجن وهو الحزن .
و الاقذاء جمع قذى وهو ما يسقط في العين فيؤذيها .
__________
(1) ديوانه 3 : 18 والاوالي الاوائل ولكنه قلب .
(*)(11/163)
قوله صفة حال لا تنتقل أي لا تنتقل الى حسن وصلاح وليس يريد لا تنتقل مطلقا لانها تنتقل الى فساد واضمحلال .
ورجل عزيز أي حدث وعزيز الجسد أي طرى وانيق اللون معجب اللون وغذي ترف قذ غذى بالترف وهو التنعم المطغى .
وربيب شرف أي قد ربى في الشرف والعز يقال رب فلان ولده يربه ربا ورباه يربيه تربية .
ويتعلل بالسرور يتلهى به عن غيره ويفزع الى السلوة يلتجئ إليها وضنا أي بخلا وغضارة العيش نعيمة ولينة .
وشحاحة أي بخلا شححت بالكسر اشح وشححت ايضا بالفتح اشح واشح بالضم والكسر شحا وشحاحة ورجل شحيح وشحاح بالفتح وقوم شحاح واشحة .
ويضحك الى الدنيا وتضحك إليه كناية عن الفرح بالعمر والعيشة وكذا كل واحد منهما يضحك الى صاحبة لشدة الصفاء كان الدنيا تحبه وهو يحبها .
وعيش غفول قد غفل عن صاحبه فهو مستغرق في العيش لم ينتبه له الدهر فيكدر عليه وقته قال الشاعر وكان المرء في غفلات عيش كان الدهر عنها في وثاق وقال الاخر الا إن احلى العيش ما سمحت به صروف الليالى والحوادث نوم .
قوله (إذ وطئ الدهر به حسكه) أي إذ اوطاه الدهر حسكه الهاء في (حسكه) ترجع الى الدهر عدى الفعل بحرف الجر كما تقول قام زيد بعمرو أي اقامه .(11/164)
وقواه جمع قوة وهى المرة من مرائر الحبل وهذا الكلام استعارة .
ومن كثب من قرب والبث الحزن والبث ايضا الامر الباطن الدخيل .
ونجى الهم ما يناجيك ويسارك والفترات اوائل المرض .
وآنس ما كان بصحته منصوب على الحال وقال الراوندي في الشرح هذا من باب (اخطب ما يكون الامير قائما) ثم ذكر أن العامل في الحال (فترات) قال تقديره (فترات آنس ما كان) وما ذكره الراوندي فاسد فانه ليس هذا من باب (اخطب ما يكون الامير قائما لان ذلك حال سد مسد خبر المبتدا وليس هاهنا مبتدا وايضا فليس العامل في الحال (فترات) ولا (فتر) بل العامل (تولدت) والقار البارد .
فان قلت لم قال (تسكين الحار بالقار وتحريك البارد بالحار) ولاى معنى جعل الاول التسكين والثانى التحريك قلت لان من شان الحرارة التهييج والتثوير فاستعمل في قهرها بالبارد لفظة (التسكين) ومن شان البرودة التخدير والتجميد فاستعمل في قهرها بالحار لفظة (التحريك) .
قوله (ولا اعتدل بممازج لتلك الطبائع الا امد منها كل ذات داء) أي ولا استعمل دواء مفردا معتدل المزاج أو مركبا كذلك الا وامد كل طبيعة منها ذات مرض بمرض زائد على الاول .
وينبغى أن يكون قوله (ولا اعتدل بممازج) أي ولا رام الاعتدال لممتزج لانه لو حصل له الاعتدال لكان قد برئ من مرضة فسمى محاولة الاعتدال اعتدالا لانه بالاستدلال المعتدلات قد تهيا للاعتدال فكان قد اعتدل بالقوة .
وينبغى ايضا أن يكون قد حذف مفعول (امد) وتقديره (بمرض) كما قدرناه نحن وحذف المفعولات كثير واسع .(11/165)
قوله (حتى فتر معللة) لان معللى المرض في اوائل المرض يكون عندهم نشاط لانهم يرجون البرء فإذا راوا امارات الهلاك فترت همتهم .
قوله (وذهل ممرضة) ذهل بالفتح وهذا كالاول لان الممرض إذا اعيا عليه المرض وانسدت عليه ابواب التدبير يذهل .
قوله (وتعايا اهله بصفة دائه) أي تعاطوا العى وتساكتوا إذا سئلوا عنه وهذه عادة اهل المريض المثقل يجمجمون إذا سئلوا عن حاله .
قوله (وتنازعوا دونه شجى خبر يكتمونه أي تخاصموا في خبر ذى شجى أي خبر ذى غصة يتنازعونه وهم حول المريض سترا دونه وهو لا يعلم بنجواهم وبما يفيضون فيه من امره .
فقائل منهم هو لمابه أي قد اشفى على الموت وآخر يمنيهم اياب عافيته أي عودها آب فلان الى اهله أي عاد .
وآخر يقول قد رأينا مثل هذا ومن بلغ الى اعظم من هذا ثم عوفي فيمنى اهله عود عافيته .
وآخر يصبر اهله على فقده ويذكر فضيله الصبر وينهاهم عن الجزع ويروى لهم اخبار الماضين .
واسى اهليهم والاسى جمع اسوة وهو ما يتاسى به الانسان قالت الخنساء وما يبكون مثل اخى ولكن اسلى النفس عنه بالتاسى (1) .
قوله (على جناح من فراق الدنيا) أي سرعان ما يفارقها لان من كان على جناح طائر فاوشك به أن يسقط .
__________
(1) ديوانها 153 وروايته " وما يبكين "(11/166)
قوله (إذ عرض له عارض) يعنى الموت ومن غصصه جمع غصة وهو ما يعترض مجرى الانفاس ويقال إن كل ميت من الحيوان لا يموت الا خنقا وذلك لانه من النفس يدخل فلا يخرج عوضة أو يخرج فلا يدخل عوضة ويلزم من ذلك الاختناق لان الرئة لا تبقى حينئذ مروحة للقلب وإذا لم تروحه اختنق .
قوله (فتحيرت نوافذ فطنته) أي تلك الفطنة النافذة الثاقبة تحيرت عند الموت وتبلدت .
قوله (ويبست رطوبة لسانه) لان الرطوبة اللعابية التى بها يكون الذوق تنشف حينئذ ويبطل الاحساس باللسان تبعا لسقوط القوة .
قوله (فكم من مهم من جوابه عرفة فعى عن رده) نحو أن يكون له مال مدفون يسال عنه حال ما يكون محتضرا فيحاول أن يعرف اهله به فلا يستطيع ويعجز عن رد جوابهم وقد رأينا من عجز عن الكلام فاشار اشاره فهموا معناها وهى الدواة والكاغذ فلما حضر ذلك اخذ القلم وكتب في الكاغد ما لم يفهم ويده ترعد ثم مات قوله (ودعاء مؤلم لقلبه سمعه فتصام عنه) اظهر الصمم لانه لا حيلة له .
ثم وصف ذلك الدعاء فقال (من كبير كان يعظمه) نحو صراخ الوالد على الولد والولد يسمع ولا يستطيع الكلام (وصغير كان يرحمه) نحو صراخ الولد على الوالد وهو يسمع ولا قدرة له على جوابه .
ثم ذكر غمرات الدنيا فقال انها افظع من أن تحيط الصفات بها وتستغرقها أي تأتى على كنهها وتعبر عن حقائقها .
قوله (أو تعتدل على عقول اهل الدنيا) هذا كلام لطيف فصيح غامض ومعناه(11/167)
أن غمرات الموت واهواله عظيمة جدا لا تستقيم على العقول ولا تقبلها إذا شرحت لها ووصفت كما هي على الحقيقة بل تنبو عنها ولا نصدق بما يقال فيها فعبر عن عدم استقامتها على العقول بقوله (أو يعتدل) كانه جعلها كالشئ المعوج عند العقل فهو غير مصدق به [ ايراد اشعار وحكايات في وصف الموت واحوال الموتى ] ومما يناسب ما ذكر من حال الانسان قول الشاعر بينا الفتى مرح الخطا فرحا بما يسعى له إذ قيل قد مرض الفتى إذ قيل بات بليلة ما نامها إذ قيل اصبح مثقلا ما يرتجى إذ قيل امسى شاخصا وموجها إذ قيل فارقهم وحل به الردى .
وقال أبو النجم العجلى والمرء كالحالم في المنام يقول انى مدرك امامى في قابل ما فاتني في العام والمرء يدنيه الى الحمام مر الليالى السود والايام إن الفتى يصبح للاسقام كالغرض المنصوب للسهام اخطا رام واصاب رام .
وقال عمران بن حطان ا في كل عام مرضه ثم نقهه وينعى ولا ينعى متى ذا الى متى(11/168)
ولا بد من يوم يجئ وليلة يسوقان حتفا راح نحوك أو غدا .
وجاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه واله مر بمقبرة فنادى يا اهل القبور الموحشة والربوع المعطلة الا اخبركم بما حدث بعدكم تزوج نساؤكم وتبوئت مساكنكم وقسمت اموالكم هل انتم مخبرون بما عاينتم ثم قال الا انهم لو اذن لهم في الجواب لقالوا وجدنا خير الزاد التقوى .
ونظر الحسن الى رجل يجود بنفسه فقال إن امرا هذا آخره لجدير أن يزهد في اوله وإن امرا هذا اوله لجدير أن يخاف آخره .
وقال عبده بن الطبيب - ويعجبنى قوله على الحال التى كان عليها فانه كان اسود لصا من لصوص بنى سعد بن زيد مناه بن تميم .
ولقد علمت بان قصرى حفرة غبراء يحملنى إليها شرجع (1) فبكى بناتى شجوهن وزوجتي والاقربون الى ثم تصدعوا وتركت في غبراء يكره وردها تسفى على الريح ثم اودع إن الحوادث يخترمن وانما عمر الفتى في اهله مستودع ونظير هذه الابيات في رويها وعروضها قول متمم بن نويرة اليربوعي ولقد علمت ولا محالة اننى للحادثات فهل ترينى اجزع (2) اهلكن عادا ثم آل محرق فتركنهم بلدا وما قد جمعوا (3)
__________
(1) من مفضليته 145 - 149 والشرجع خشب يشد بعضه الى بعض كالسرير يحمل عليه الموتى .
(2) من مفضليته 48 - 54 .
(3) بلدا أي ترابا .
(*)(11/169)
ولهن كان الحارثان كلاهما ولهن كان اخو المصانع تبع (1) فعددت آبائى الى عرق الثرى فدعوتهم فعلمت أن لم يسمعوا ذهبوا فلم ادركهم ودعتهم غول اتوها والطريق المهيع لا بد من تلف مصيب فانتظر ابارض قومك ام باخرى تصرع ولياتين عليك يوم مرة يبكى عليك مقنعا لا تسمع (2) .
لما فتح خالد بن الوليد عين التمر سال عن الحرقة بنت النعمان بن المنذر فدل عليها فأتاها - وكانت عمياء - فسألها عن حالها فقالت لقد طلعت علينا الشمس ما شئ يدب تحت الخورنق الا تحت ايدينا ثم غربت وقد رحمنا كل من يدور به وما بيت دخلته حبره الا دخلته عبرة ثم قالت وبينا نسوس الناس والامر امرنا إذا نحن فيه سوقه نتنصف فاف لدنيا لا يدوم نعيمها تقلب تارات بنا وتصرف فقال قائل ممن كان حول خالد قاتل الله عدى بن زيد لكانه ينظر إليها حين يقول إن للدهر صرعة فاحذرنها لا تبيتن قدامنت الدهورا (3) قد يبيت الفتى معافى فيردى ولقد كان آمنا مسرورا .
دخل عبد الله بن العباس على عبد الملك بن مروان يوم قر وهو على فرش
__________
(1) الحارثان : هما الحارث الاصغر والحارث الاكبر الاعرج المصانع القصور تبع ملك من ملوك اليمن .
(2) مقنع ملفف في اثوابه .
(3) الاغاني 2 : 138 - 140 .
(*)(11/170)
يكاد يغيب فيها فقال يا بن عباس انى لاحسب اليوم باردا قال اجل وإن ابن هند عاش في مثل ما ترى عشرين اميرا وعشرين خليفة ثم هو ذاك على قبره ثمامة تهتز .
فيقال إن عبد الملك ارسل الى قبر معاوية فوجد عليه ثمامة نابتة .
كان محمد بن عبد الله بن طاهر في قصره ببغداد على دجلة فإذا بحشيش على وجه الماء في وسطه قصبة على راسها رقعة فامر بها فوجد هذا تاه الاعيرج واستولى به البطر فقل لخير ما استعملته الحذر احسنت ظنك بالايام إذ حسنت ولم تخف سوء ما ياتي به القدر وسالمتك الليالى فاغتررت بها وعند صفو الليالى يحدث الكدر فلم ينتفع بنفسه اياما .
عدى بن زيد ايها الشامت المعير بالدهر اانت المبرا الموفور ام لديك العهد الوثيق من الايام بل انت جاهل مغرور من رايت المنون خلدن ام من ذا عليه من أن يضام خفير اين كسرى كسرى الملوك انو شروان ام اين قبله سابور (1) وبنو الاصفر الكرام ملوك الروم ولم يبق منهم مذكور
__________
(1) سابور الجنود هو ابن اردشير وسابور ذو الاكتاف هو سابور بن هرمز وكلاهما من ملوك العجم .
(*)(11/171)
واخو الحضر إذ بناه واذ دجلة تجبى إليه والخابور (1) لم يهبه ريب المنون فباد الملك عنه فبابه مهجور شاده مرمرا وجلله كلسا فللطير في ذراه وكور (2) وتبين رب الخورنق إذ اشرف يوما وللهدى تفكير (3) سره حاله وكثرة ما يملك والبحر معرضا والسدير (4) فارعوى قلبه وقال فما غبطه حى الى الممات يصير ثم بعد الفلاح والملك والامة وارتهم هناك القبور (5) ثم اضحو كأنهم ورق جف فالوت به الضبا والدبور (6) قد اتفق الناس على أن هذه الابيات احسن ما قيل من القريض في هذا المعنى وأن الشعراء كلهم اخذوا منها واحتذوا في هذا المعنى حذوها .
وقال الرضى أبو الحسن رضى الله عنه انظر الى هذا الانام بعبرة لا يعجنك خلقه ورواؤه (7) فتراه كالورق النضير تقصفت اغصانه وتسلبت شجراؤه (8) انى تحاماه المنون وانما خلقت مراعى للردى خضراؤه ام كيف تأمل فلتة اجساده من ذا الزمان وحشوها ادواؤه
__________
(1) الخابور اسم نهر كبير بين راس عين والفرات من ارض الجزيرة .
(2) الكلس الصاروخ واخلاطها التي تصرج (تطلى) بها النزل وغيرها .
(3) في الاغاني (وتذكر) .
(4) في الاغاني (سره ماله) (5) الامة النعمة .
(6) الوت به أي ذهبت به .
(7) ديوانه لوحة 116 .
(8) ديوانه (فبيناه) .
(*)(11/172)
لا تعجبن فما العجيب فناؤه بيد المنون بل العجيب بقاؤه انا لنعجب كيف حم حمامة عن صحة ويغيب عنا داؤه من طاح في سبل الردى آباؤه فليسلكن طريقهم ابناؤه ومؤمر نزلوا به في سوقه لا شكله فيهم ولا نظراؤه (1) قد كان يفرق ظله اقرانه ويغض دون جلالة اكفاؤه (2) ومحجب ضربت عليه مهابة يعشى العيون بهاؤه وضياؤه نادته من خلف الحجاب منية امم فكان جوابها حوباؤه (3) شقت إليه سيوفه ورماحه واميط عنه عبيده واماؤه لم يغنه من كان ود لو انه قبل المنون من المنون فداؤه حرم عليه الذل الا انه ابدا ليشهد بالجلال بناؤه (4) متخشع بعد الانيس جنابه متضائل بعد القطين فناؤه عريان تطرد كل ريح تربه ويطيع اول امرها حصباؤه ولقد مررت ببرزخ فسألته اين الالى ضمتهم ارجاؤه مثل المطى بواركا اجداثه تسفى على جنباتها بوغاؤه (5) ناديته فخفي على جوابه بالقول الا ما زقت اصداؤه (6)
__________
(1) الديوان (قرناؤه) (2) يفرق يخاف ويهاب .
(3) امم قريبة والحوباء النفس .
(4) حرم عليه حرام عليه .
(5) بواركا جمع بارك أو باركة البوغاء التراب .
(6) زقت صاحت الاصداء جمع صدى وهو حكاية الصوت في الجبال والكهوف والاماكن العالية .
(*)(11/173)
من ناظر مطروفة الحاظه أو خاطر مظلولة سوداؤه (1) أو واجد مكظومة زفراته أو حاقد منسية شحناؤه (2) ومسندين على الجنوب كأنهم شرب تخاذل بالطلا اعضاؤه تحت الصعيد لغير اشفاق الى يوم المعاد يضمهم احشاؤه اكلتهم الارض التى ولدتهم اكل الضروس حلت له اكلاؤه وقال ايضا وتفرق البعداء بعد تجمع صعب فكيف تفرق القرباء (3) وخلائق الدنيا خلائق مومس للمنع آونة وللاعطاء (4) طورا تبادلك الصفاء وتارة تلك تنكرها من البغضاء وتداول الايام يبلينا كما يبلى الرشاء تطاوح الارجاء (5) وكان طول العمر روحة راكب قضى اللغوب وجد في الاسراء (6) لهفى على القوم الاولى غادرتهم وعليهم طبق من البيداء (7)
__________
(1) مطروقة من قولهم طرق فلان بصره إذا اطبق احد جفنيه على الاخر ومطلولة من قولهم طل دم فلان ادا ذهب هدرا .
(2) واجد من الوجد وهو الحزن .
(3) من مرثية لوالدته فاطمة بنت الناصر واولها ابكيك لو نفع الغليل بكائي واقول لو ذهب المقال بدائي ديوانه لوحة 115 .
(4) المومس المراة الفاجر (5) الرشاء الحبل يستقى به من البئر والارجاء جمع رجا وهو ناحية البئر .
(6) روحة راكب راحته واللغوب الاعياء والاسراء سير الليل .
(7) الطبق وجه الارض أو عطاء كل شئ .
(*)(11/174)
متوسدين على الخدود كانما كرعوا على ظما من الصهباء صور ضننت على العيون بلحظها امسيت اوقرها من البوغاء (1) ونواظر كحل التراب جفونها قد كنت احرسها من الاقذاء قربت ضرائحهم على زوارها وناوا عن الطلاب أي تناء (2) ولبئس ما يلقى بعقر ديارهم اذن المصيخ بها وعين الرائى (3)
__________
(1) البوغاء التربة الرخوة (2) الضرائح جمع ضريح وهو القبر .
(3) عقر ديارهم وسطها (*)(11/175)
(217) الاصل ومن كلام له عليه السلام قاله عند تلاوته (يسبح له فيها بالغدو والاصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) (1) إن الله سبحانه وتعالى جعل الذكر جلاء للقلوب تسمع به بعد الوقرة وتبصر به بعد العشوة وتنقاد به بعد المعاندة وما برح لله - عزت آلاؤه في البرهة بعد البرهة وفي ازمان الفترات - عباد ناجاهم في فكرهم وكلمهم في ذات عقولهم فاستصبحوا بنور يقظة في الاسماع والابصار والافئدة يذكرون بايام الله ويخوفون مقامة بمنزلة الادلة في الفلوات من اخذ القصد حمدوا إليه طريقة وبشروة بالنجاة ومن اخذ يمينا وشمالا ذموا إليه الطريق وحذروه من الهلكة وكانوا كذلك مصابيح تلك الظلمات وادلة تلك الشبهات وإن للذكر لاهلا اخذوه من الدنيا بدلا فلم تشغلهم تجارة ولا بيع عنه يقطعون به ايام الحياة ويهتفون بالزواجر عن محارم الله في اسماع الغافلين ويامرون بالقسط وياتمرون به وينهون عن المنكر ويتناهون عنه فكأنهم قطعوا الدنيا الى الاخرة وهم فيها فشاهدوا ما وراء ذلك فكانما
__________
(1) سورة النور 36 ، 37 (*)(11/176)
اطلعوا غيوب اهل البرزخ في طول الاقامة فيه وحققت القيامة عليهم عداتها فكشفوا غطاء ذلك لاهل الدنيا حتى كأنهم يرون ما لا يرى الناس ويسمعون مالا يسمعون فلو مثلتهم لعقلك في مقاومهم المحمودة ومجالسهم المشهودة وقد نشروا دواوين اعمالهم وفرغوا لمحاسبة انفسهم على كل صغيرة وكبيرة امروا بها فقصروا عنها أو نهوا عنها ففرطوا فيها وحملوا ثقل اوزارهم ظهورهم فضعفوا عن الاستقلال بها فنشجوا نشيجا وتجاوبوا نحيبا يعجون الى ربهم من مقام ندم واعتراف - لرايت اعلام هدى ومصابيح دجى قد حفت بهم الملائكة وتنزلت عليهم السكينة وفتحت لهم ابواب السماء واعدت لهم مقاعد الكرامات في مقعد اطلع الله عليهم فيه فرضى سعيهم وحمد مقامهم يتنسمون بدعائه روح التجاوز رهائن فاقه الى فضله واسارى ذلة لعظمته جرح طول الاسى قلوبهم وطول البكاء عيونهم لكل باب رغبة الى الله منهم يد قارعة يسالون من لا تضيق لديه المنادح ولا يخيب عليه الراغبون فحاسب نفسك لنفسك فان غيرها من الانفس لها حسيب غيرك الشرح من قرا (يسبح له فيها) بفتح الباء (1) ارتفع (رجال) عنده بوجهين
__________
(1) هي قراءة ابن عامر وأبي بكر بن مجاهد والباقون بكسرها وانظر أيضا اتحاف فضلاء البشر 325 (*)(11/177)
احدهما أن يضمر له فعل يكون هو فاعله تقديره (يسبحه رجال) وعلى (يسبحه) يسبح كما قال الشاعر ليبك يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح (1) أي يبكيه ضارع ودل على (يبكيه) ل (يبك) .
والثانى أن يكون خبر مبتدا محذف تقديره (المسبحون رجال) ومن قرا (يسبح له فيها) بكسر الباء ف (رجال) فاعل واوقع لفظ (التجارة) في مقابلة لفظ (البيع) اما لانه اراد بالتجارة هاهنا الشراء خاصة أو لانه عمم بالتجارة المشتملة على البيع والشراء ثم خص البيع لانه ادخل في باب الالهاء لان البيع يحصل ربحه بيقين وليس كذلك الشراء والذكر يكون تارة باللسان وتارة بالقلب فالذي باللسان نحو التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد والدعاء والذى بالقلب فهو التعظيم والتبجيل والاعتراف والطاعة .
وجلوت السيف والقلب جلاء بالكسر وجلوت اليهود عن المدينة جلاء بالفتح .
والوقرة الثقل في الاذن والعشوة بالفتح فعله من العشا في العين وآلاؤه نعمة .
فان قلت أي معنى تحت قوله عزت آلاؤه وعزت بمعنى قلت وهل يجوز مثل ذلك في تعظيم الله .
قلت عزت هاهنا ليس بمعنى قلت ولكن بمعنى كرمت وعظمت تقول منه عززت على فلان بالفتح أي كرمت عليه وعظمت عنده وفلان عزيز علينا أي كريم معظم .
__________
(1) البيت من شواهد مغني اللبيب 620 .
(*)(11/178)
والبرهه من الدهر المدة الطويلة ويجوز فتح الباء .
وازمان الفترات ما يكون منها بين النوبتين .
وناجاهم في فكرهم الهمهم بخلاف مناجاة الرسل ببعث الملائكة إليهم وكذلك (وكلمهم في ذات عقولهم) فاستصبحوا بنور يقظة صار ذلك النور مصباحا لهم يستضيئون به .
قوله (من اخذ القصد حمدوا إليهم طريقة) الى هاهنا هي التى في قولهم احمد الله اليك أي منهيا ذلك اليك أو مفضيا به اليك ونحو ذلك وطريقة العرب في الحذف في مثل هذا معلومة قال سبحانه (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة) (1) أي لجعلنا بدلا منكم ملائكة وقال الشاعر فليس لنا من ماء زمزم شربة مبردة بانت على طهيان أي عوضا من ماء زمزم .
قوله (ومن اخذ يمينا وشمالا) أي ضل عن الجادة .
و (الى) في قوله (ذموا إليه الطريق) مثل (الى) الاولى .
ويهتفون بالزواجر يصوتون بها هتفت الحمامة تهتف هتفا وهتف زيد بالغنم هتافا بالكسر وقوس هتافه وهتفى أي ذات صوت .
والقسط العدل وياتمرون به يمتثلون الامر .
وقوله (فكانما قطعوا الدنيا الى الاخرة) الى قوله (ويسمعون ما لا يسمعون) هو شرح قوله عن نفسه عليه السلام (لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا) .
والاوزار الذنوب والنشيج صوت البكاء والمقعد موضع القعود .
__________
(1) سورة الزخرف 60 (*)(11/179)
ويد قارعة تطرق باب الرحمة وهذا الكلام مجاز .
والمنادح المواضع الواسعة .
و (على) في قوله (ولا يخيب عليه الراغبون) متعلقة بمحذوف مثل (الى) المتقدم ذكرها والتقدير (نادمين عليه) .
والحسيب المحاسب .
واعلم أن هذا الكلام في الظاهر صفة حال القصاص والمتصدين لانكار المنكرات الا تراه يقول (يذكرون بايام الله) أي بالايام التى كانت فيها النقمة بالعصاة ويخوفون مقامه من قوله (ولمن خاف مقام ربه جنتان) (1) ثم قال فمن سلك القصد حمدوه ومن عدل عن الطريق ذموا طريقة وخوفوه الهلاك ثم قال يهتفون بالزواجر عن المحارم في اسماع الغافلين ويامرون بالقسط وينهون عن المنكر .
وهذا كله ايضاح لما قلناه اولا أن ظاهر الكلام شرح حال القصاص وارباب المواعظ في المجامع والطرقات والمتصدين لانكار القبائح وباطن الكلام شرح حال العارفين الذين هم صفوة الله تعالى من خلقه وهو عليه السلام دائما يكنى عنهم و يرمز إليهم على انه في هذا الموضع قد صرح بهم في قوله (حتى كأنهم يرون ما لا يرى الناس ويسمعون ما لا يسمعون) .
وقد ذكر من مقامات العارفين في هذا الفصل الذكر ومحاسبة النفس والبكاء والنحيب والندم والتوبة والدعاء والفاقة والذلة والحزن وهو الاسى الذى ذكر انه جرح قلوبهم بطوله
__________
(1) سورة الرحمن 46 .
(*)(11/180)
[ بيان احوال العارفين ] وقد كنا وعدنا بذكر مقامات العارفين فيما تقدم وهذا موضعه فنقول إن اول مقام من مقامات العارفين واول منزل من منازل السالكين التوبة قال الله تعالى (وتوبوا الى الله جميعا اية المؤمنون لعلكم تفلحون) (1) وقال النبي صلى الله عليه وآله (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) وقال على عليه السلام (ما من شئ احب الى الله من شاب تائب) .
والتوبة في عرف ارباب هذه الطريقة الندم على ما عمل من المخالفة وترك الزلة في الحال والعزم على الا يعود الى ارتكاب معصية وليس الندم وحده عند هؤلاء توبة وإن جاء في الخبر (الندم توبة) لانه على وزان قوله عليه السلام (الحج عرفة) ليس على معنى أن غيرها ليس من الاركان بل المراد انه اكبر الاركان واهمها ومنهم من قال يكفى الندم وحدة لانه يستتبع الركنين الاخرين لاستحالة كونه نادما على ما هو مصر على مثله أو ما هو عازم على الاتيان بمثله .
قالوا وللتوبة شروط وترتيبات فاول ذلك انتباه القلب من رقدة الغفلة ورؤية العبد ما هو عليه من سوء الحالة وانما يصل الى هذه الجملة بالتوفيق للاصغاء الى ما يخطر بباله من زواجر الحق سبحانه يسمع قلبه فان في الخبر النبوى عنه صلى الله عليه وآله (واعظ كل حال الله في قلب كل امرئ مسلم) وفي الخبر (إن في بدن المرء لمضغة إذا صلحت صلح جميع البدن الا وهى القلب وإذا فسدت فسد جميع البدن الا وهى القلب) .
__________
(1) سورة النور 31 .
(*)(11/181)
وإذا أفكر العبد بقلبه في سوء صنيعه وابصر ما هو عليه من ذميم الافعال سنحت في قلبه ارادة التوبة والاقلاع عن قبيح المعاملة فيمده الحق سبحانه بتصحيح العزيمة والاخذ في طرق الرجوع والتاهب لاسباب التوبة .
واول ذلك هجران اخوان السوء فانهم الذين يحملونه على رد هذا القصد و عكس هذا العزم ويشوشون عليه صحة هذه الارادة ولا يتم ذلك له الا بالمواظبة على المشاهد والمجالس التى تزيده رغبة في التوبة وتوفر دواعيه الى اتمام ما عزم عليه مما يقوى خوفه ورجاءه فعند ذلك تنحل عن قلبه عقدة الاصرار على ما هو عليه من قبيح الفعال فيقف عن تعاطى المحظورات ويكبح نفسه بلجام الخوف عن متابعة الشهوات فيفارق الزلة في الحال ويلزم العزيمة على الا يعود الى مثلها في الاستقبال فان مضى على موجب قصده ونفذ على مقتضى عزمه فهو الموفق حقا وإن نقض التوبة مرة أو مرات ثم حملته ارادته على تجديدها فقد يكون مثل هذا كثيرا فلا ينبغى قطع الرجاء عن توبة امثال هؤلاء فان لكل اجل كتابا وقد حكى عن ابى سليمان الدارانى انه (1) قال اختلفت الى مجلس قاص فاثر كلامه في قلبى فلما قمت لم يبق في قلبى شئ فعدت ثانيا فسمعت كلامه فبقى من كلامه في قلبى اثر في الطريق ثم زال ثم عدت ثالثا فوقر كلامه في قلبى وثبت حتى رجعت الى منزلي وكسرت آلات المخالفة ولزمت الطريق .
وحكيت هذه الحكاية ليحيى بن معاذ فقال عصفور اصطاد كركيا يعنى بالعصفور القاص وبالكركى ابا سليمان .
ويحكى أن ابا حفص الحداد ذكر بدايته فقال تركت ذلك العمل - يعنى المعصية - كذا وكذا مرة ثم عدت إليها ثم تركني العمل فلم اعد إليه .
__________
(1) ساقط من : ب .
(*)(11/182)
وقيل إن بعض المريدين تاب ثم وقعت له فترة وكان يفكر ويقول ا ترى لو عدت الى التوبة كيف كان يكون حكمي فهتف به هاتف يا فلان اطعتنا فشكرناك ثم تركتنا فامهلناك وإن عدت الينا قبلناك فعاد الفتى الى الارادة .
وقال أبو على الدقاق التوبة على ثلاثة اقسام فاولها التوبة واوسطها الانابة وآخرها الاوبة فجعل التوبة بداية والاوبة نهاية والانابة واسطة بينهما والمعنى أن من تاب خوفا من العقاب فهو صاحب التوبة ومن تاب طمعا في الثواب فهو صاحب الانابة ومن تاب مراعاه للامر فقط فهو صاحب الاوبة .
وقال بو على ايضا التوبة صفة المؤمنين قال سبحانه (وتوبوا الى الله جميعا ايه المؤمنون) والانابة صفة الاولياء قال سبحانه (وجاء بقلب منيب) (2) والاوبة صفة الانبياء قال سبحانه (نعم العبد انه اواب) (3) .
وقال الجنيد دخلت على السرى يوما فوجدته متغيرا فسألته فقال دخل على شاب فسألني عن التوبة فقلت الا تنسى ذنبك فقال بل التوبة الا تذكر ذنبك قال الجنيد فقلت له إن الامر عندي ما قاله الشاب قال كيف قلت لانى إذا كنت في حال الجفاء فنقلني الى حال الصفاء فذكر الجفاء في حال الصفاء جفاء فسكت السرى .
وقال ذو النون المصرى الاستغفار من غير اقلاع توبة الكذابين .
وسئل البوشنجى عن التوبة فقال إذا ذكرت الذنب ثم لا تجد حلاوته عند ذكره فذاك حقيقة التوبة .
__________
(1) سورة النور 31 .
(2) سورة ق 33 .
(3) سورة ص 30 .
(*)(11/183)
وقال ذو النون حقيقة التوبة أن تضيق عليك الارض بما رحبت حتى لا يكون لك قرار ثم تضيق عليك نفسك كما اخبر الله تعالى في كتابه بقوله (حتى إذا ضاقت عليهم الارض بما رحبت وضاقت عليهم انفسهم وظنوا أن لا ملجا من الله الا إليه ثم تاب عليهم) (1) .
وقيل لابي حفص الحداد لم تبغض الدنيا فقال لانى باشرت فيها الذنوب قيل فهلا احببتها لانك وفقت فيها للتوبة فقال انا من الذنب على يقين ومن هذه التوبة على ظن .
وقال رجل لرابعة العدوية انى قد اكثرت من الذنوب والمعاصي فهل يتوب على إن تبت قالت لا بل لو تاب عليك لتبت .
قالوا ولما كان الله تعالى يقول في كتابه العزيز (إن الله يحب التوابين) دلنا ذلك على محبته لمن صحت له حقيقة التوبة ولا شبهة أن من قارف الزلة فهو من خطئه على يقين فإذا تاب فانه من القبول على شك لا سيما إذا كان من شرط القبول محبة الحق سبحانه له والى أن يبلغ العاصى محلا يجد في اوصافه امارة محبة الله تعالى اياه مسافة بعيدة فالواجب إذا على العبد إذا علم انه ارتكب ما يجب عنه التوبة دوام الانكسار وملازمة التنصل والاستغفار كما قيل استشعار الوجل الى الاجل .
وكان من سنته عليه السلام دوام الاستغفار وقال (انه ليغان على قلبى فاستغفر الله في اليوم سبعين مره) (2) .
__________
(1) سورة التوبة 25 .
(2) أورده ابن الاثير في النهاية 3 : 180 وقال الغين وغينت السماء تغان إذا اطبق عليها الغين وقيل الغين شجر ملتف اراد ما يغشاه من السهو الذي لا يخلو منه البشر لان قلبه ابدا كان مشغولا بالله تعالى فان عرض له وقتا ما عارض بشرى يشغله من امور الامة والملة ومصالحها عد ذلك ذنبا وتقصيرا فيفزع الى الاستغفار)(11/184)
وقال يحيى بن معاذ زلة واحدة بعد التوبة اقبح من سبعين قبلها .
ويحكى أن على بن عيسى الوزير ركب في موكب عظيم فجعل الغرباء يقولون من هذا من هذا فقالت امراة قائمة على السطح الى متى تقولون من هذا من هذا هذا عبد سقط من عين الله فابتلاه بما ترون فسمع على بن عيسى كلامها فرجع الى منزلة ولم يزل يتوصل في الاستعفاء من الوزارة حتى اعفي وذهب الى مكة فجاور بها .
ومنها المجاهدة وقد قلنا فيها ما يكفى فيما تقدم .
ومنها العزلة والخلوة وقد ذكرنا في جزء قبل هذا الجزء مما جاء في ذلك طرفا صالحا ومنها التقوى وهى الخوف من معصية الله ومن مظالم العباد قال سبحانه (إن اكرمكم عند الله اتقاكم) (1) وقيل إن رجلا جاء الى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال يارسول الله اوصني فقال (عليك بتقوى الله فانه جماع كل خير وعليك بالجهاد فانه رهبانية المسلم وعليك بذكر الله فانه نور لك) .
وقيل في تفسير قوله تعالى (اتقوا الله حق تقاته) (2) أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر .
__________
(1) سورة الحجرات 13 .
(2) سورة آل عمران 102 .
(*)(11/185)
وقال النصراباذى من لزم التقوى بادر الى مفارقة الدنيا لان الله تعالى يقول (وللدار الاخرة خير للذين يتقون) (1) .
وقيل يستدل على تقوى الرجل بثلاث التوكل فيما لم ينل والرضا (2) بما قد نال وحسن الصبر على ما فات .
وكان يقال من كان راس ماله التقوى كلت الالسن عن وصف ربحه .
وقد حكوا من حكايات المتقين شيئا كثيرا مثل ما يحكى عن ابن سيرين انه اشترى اربعين حبا (3) سمنا فاخرج غلامه فارة من حب فسأله من أي حب اخرجها قال لا ادرى فصبها كلها .
وحكى أن ابا يزيد البسطامى غسل ثوبه في الصحراء ومعه مصاحب له فقال صاحبه نضرب هذا الوتد في جدار هذا البستان ونبسط الثوب عليه فقال لا يجوز ضرب الوتد في جدار الناس قال فنعلقه على شجرة حتى يجف قال يكسر الاغصان فقال نبسطه على الاذخر (4) قال انه علف الدواب لا يجوز أن نستره منها فولى ظهره قبل الشمس وجعل القميص على ظهره حتى جف احد جانبيه ثم قلبه حتى جف الجانب الاخر .
ومنها الورع وهو اجتناب الشبهات وقال صلى الله عليه وآله لابي هريرة (كن ورعا تكن اعبد الناس) وقال بو بكر كنا ندع سبعين بابا من الحلال مخافة أن نقع في باب واحد من الحرام .
__________
(1) سورة الانعام 302 .
(2) ب (الشكر) وما اثبته من : ا .
(3) الحب هنا الجرة .
(4) الاذخر الحشيش الاخضر .
(*)(11/186)
وكان يقال الورع في المنطق اشد منه في الذهب والفضة والزهد في الرياسة اشد منه في الذهب والفضة لانك تبذلهما في طلب الرياسة .
وقال أبو عبد الله الجلاء اعرف من اقام بمكة ثلاثين سنة لم يشرب من ماء زمزم الا ما استقاه بركوته ورشائه .
وقال بشر بن الحارث اشد الاعمال ثلاثة الجود في القلة والورع في الخلوة وكلمة الحق عند من يخاف ويرجى .
ويقال إن اخت بشر بن الحارث (1) جاءت الى احمد بن حنبل فقالت انا نعزل على سطوحنا فتمر بنا مشاعل الطاهرية فيقع شعاعها علينا ا فيجوز لنا الغزل في ضوئها فقال احمد من انت يا امة الله قالت اخت بشر الحافي فبكى احمد وقال من بيتكم خرج الورع لا تغزلي في ضوء مشاعلهم .
وحكى بعضهم قال مررت بالبصرة في بعض الشوارع فإذا بمشايخ قعود وصبيان يلعبون فقلت اما تستحيون من هؤلاء المشايخ فقال غلام من بينهم هؤلاء المشايخ قل ورعهم فقلت هيبتهم .
ويقال إن مالك بن دينار مكث بالبصرة اربعين سنة ما صح له أن ياكل من تمر البصرة ولا من رطبها حتى مات ولم يذقه وكان إذا انقضى اوان الرطب يقول يا اهل البصرة هذا بطني ما نقص منه شئ سواء على اكلت من رطبكم أو لم آكل .
وقال الحسن مثقال ذرة من الورع خير من الف مثقال من الصوم والصلاة .
ودخل الحسن مكة فراى غلاما من ولد على بن ابى طالب قد اسند ظهره الى
__________
(1) هو بشر بن الحارث بن عبد الرحمن أبو نصر الحافي تاريخ بغداد 7 : 67 .
(*)(11/187)
الكعبة وهو يعظ الناس فقال له الحسن ما ملاك الدين قال الورع قال فما آفتة قال الطمع فجعل الحسن يتعجب منه .
وقال سهل بن عبد الله من لم يصحبه الورع اكل راس الفيل ولم يشبع .
وحمل الى عمر بن عبد العزيز مسك من الغنائم فقبض على مشمة وقال انما ينتفع من هذا بريحه وانا اكره أن اجد ريحه دون المسلمين .
وسئل أبو عثمان الحريري عن الورع فقال كان أبو صالح بن حمدون عند صديق له وهو في النزع فمات الرجل فنفث أبو صالح في السراج فاطفاه فقيل له في ذلك فقال الى الان كان الدهن الذى في المسرجة له فلما مات صار الى الورثة .
ومنها الزهد وقد تكلموا في حقيقتة فقال سفيان الثوري الزهد في الدنيا قصر الامل .
وقال الخواص الزهد أن تترك الدنيا فلا تبالي من اخذها .
وقال أبو سليمان الدارانى الزهد ترك كل ما يشغل عن الله .
وقيل الزهد تحت كلمتين من القرآن العزيز (لكيلا لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم) (1) .
وكان يقال من صدق في زهده اتته الدنيا وهى راغمة ولهذا قيل لو سقطت قلنسوة من السماء لما وقعت الا على راس من لا يريدها .
وقال يحيى بن معاذ الزهد يسعطك (2) الخل والخردل والعرفان يشمك المسك والعنبر .
__________
(1) سورة الحديد 23 .
(2) سعطه الدواء وغيره ادخله في انفه .
(*)(11/188)
وقيل لبعضهم ما الزهد في الدنيا قال ترك ما فيها على من فيها .
وقال رجل لذى النون المصرى متى تراني ازهد في الدنيا قال إذا زهدت في نفسك .
وقال رجل ليحيى بن معاذ متى تراني ادخل حانوت التوكل والبس رداء الزهد واقعد بين الزاهدين فقال إذا صرت من رياضتك لنفسك في السر الى حد لو قطع الله عنك القوت ثلاثة ايام لم تضعف في نفسك ولا في يقينك فاما ما لم تبلغ الى هذه الدرجة فقعودك على بساط الزاهدين جهل ثم لا آمن أن تفتضح .
وقال احمد بن حنبل الزهد على ثلاثة اوجه ترك الحرام وهو زهد العوام وترك الفضول من الحلال وهو زهد الخواص وترك كل ما يشغلك عن الله وهو زهد العارفين .
وقال يحيى بن معاذ الدنيا كالعروس فطالبها كماشطتها تحسن وجهها وتعطر ثوبها والزاهد فيها كضرتها تسخم وجهها وتنتف شعرها وتحرق ثوبها و العارف مشتغل بالله لا يلتفت إليها ولا يشعر بها .
وكان النصراباذى يقول في مناجاته يا من حقن دماء الزاهدين وسفك دماء العارفين .
وكان يقال إن الله تعالى جعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد وجعل الشر كله في بيت وجعل مفتاحه حب الدنيا .
ومنها الصمت وقدمنا فيما سبق من الاجزاء نكتا نافعه في هذا المعنى ونذكر الان شيئا آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله (من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فلا يؤذين جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الاخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الاخر فليقل خيرا أو فليصمت) .(11/189)
وقال اصحاب هذا العلم الصمت من آداب الحضرة قال الله تعالى (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وانصتوا) (1) .
وقال مخبرا عن الجن (فلما حضروه قالوا انصتوا) (2) .
وقال الله تعالى مخبرا عن يوم القيامة (وخشعت الاصوات للرحمن فلا تسمع الا همسا) (3) .
وقالوا كم بين عبد سكت تصونا عن الكذب والغيبة وعبد سكت لاستيلاء سلطان الهيبة .
وانشدوا ارتب ما اقول إذا افترقنا واحكم دائما حجج المقال فانساها إذا نحن التقينا وانطق حين انطق بالمحال .
وانشدوا فيا ليل كمن حاجة لى مهمة إذا جئتكم لم ادر بالليل ماهيا .
قالوا وربما كان سبب الصمت والسكوت حيرة البديهة فانه إذا ورد كشف بغتة خرست العبارات عند ذلك فلا بيان ولا نطق وطمست الشواهد فلا علم ولا حس قال الله تعالى (يوم يجمع الله الرسل فيقول ما ذا اجبتم قالوا لا علم لنا انك انت علام الغيوب) (4) فاما ايثار ارباب المجاهدة الصمت فلما علموا في الكلام من الافات ثم ما فيه من حط النفس واظهار صفات المدح والميل الى أن يتميز من بين اشكاله بحسن النطق وغير ذلك من ضروب آفات الكلام وهذا نعت ارباب
__________
(1) سورة الاعراف 204 .
(2) سورة الاحقاف 29 .
(3) سورة طه 108 (4) سورة المائدة 109 (*)(11/190)
الرياضة وهو احد اركانهم في حكم مجاهدة النفس ومنازلتها وتهذيب الاخلاق .
ويقال إن داود الطائى لما اراد أن يقعد في بيته اعتقد ان يحضر مجلس ابى حنيفة لانه كان تلميذا له ويقعد بين اضرابه من العلماء ولا يتكلم في مسالة على سبيل رياضته نفسه فلما قويت نفسه على ممارسة هذه الخصلة سنة كاملة قعد في بيته عند ذلك وآثر العزلة .
ويقال إن عمر بن عبد العزيز كان إذا كتب كتابا فاستحسن لفظه مزق الكتاب وغيره .
وقال بشر بن الحارث إذا اعجبك الكلام فاصمت فإذا اعجبك الصمت فتكلم وقال سهل بن عبد الله لا يصح لاحد الصمت حتى يلزم نفسه الخلوة ولا يصح لاحد التوبة حتى يلزم نفسه الصمت .
ومنها الخوف قال الله تعالى (يدعون ربهم خوفا وطمعا) (1) .
وقال تعالى (واياى فارهبون) (2) .
وقال (يخافون ربهم من فوقهم) (3) .
وقال أبو على الدقاق الخوف على مراتب خوف وخشية وهيبة .
فالخوف من شروط الايمان وقضاياه قال الله تعالى (فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين) (4) .
والخشية من شروط العلم قال الله تعالى (انما يخشى الله من عباده العلماء) (5) .
__________
(1) سورة السجدة 16 .
(2) سورة البقرة 40 .
(3) سورة النحل 50 .
(4) سورة ال عمران 175 .
(5) سورة فاطر 28 .
(*)(11/191)
والهيبة من شروط المعرفة قال سبحانه (ويحذركم الله نفسه) (1) .
وقال أبو عمر الدمشقي الخائف من يخاف من نفسه اكثر مما يخاف من الشيطان .
وقال بعضهم من خاف من شئ هرب منه ومن خاف الله هرب إليه .
وقال أبو سليمان الدارانى ما فارق الخوف قلبا الا خرب ومنها الرجاء وقد قدمنا فيما قبل من ذكر الخوف والرجاء طرفا صالحا قال سبحانه (من كان يرجو لقاء الله فان اجل الله لات) (2) .
والفرق بين الرجاء والتمنى وكون احدهما محمودا والاخر مذموما أن التمنى الا يسلك طريق الاجتهاد والجد والرجاء بخلاف ذلك فلهذا كان التمنى يورث صاحبه الكسل .
وقال أبو على الروذبارى الرجاء والخوف كجناحي الطائر إذا استويا استوى الطائر وتم طيرانه وإذا نقص احدهما وقع فيه النقص وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت .
وقال أبو عثمان المغربي من حمل نفسه على الرجاء تعطل ومن حمل نفسه على الخوف قنط ولكن من هذا مرة ومن هذا مرة .
ومن كلام يحيى بن معاذ ويروى عن على بن الحسين عليهما السلام يكاد رجائي لك مع الذنوب يغلب رجائي لك مع الاعمال لانى اجدني اعتمد في الاعمال على
__________
(1) سورة آل عمران 28 .
(2) سورة العنكبوت 5 .
(*)(11/192)
الاخلاص وكيف احرزها وانا بالافة معروف واجدنى في الذنوب اعتمد على عفوك وكيف لا تغفرها وانت بالجود موصوف .
ومنها الحزن وهو من اوصاف اهل السلوك .
وقال أبو على الدقاق صاحب الحزن يقطع من طريق الله في شهر ما لا يقطعه من فقد الحزن في سنتين .
في الخبر النبوى صلى الله عليه واله (إن الله يحب كل قلب حزين) .
وفي بعض كتب النبوات القديمة (إذا احب الله عبدا نصب في قلبه نائحة وإذا ابغض عبدا جعل في قلبه مزمارا) .
وروى أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان متواصل الاحزان دائم الفكر .
وقيل إن القلب إذا لم يكن فيه حزن خرب كما أن الدار إذا لم يكن فيها ساكن خربت .
وسمعت رابعة رجلا يقول وا حزناه فقالت قل وا قلة حزناه لو كنت محزونا ما تهيا لك أن تتنفس .
وقال سفيان بن عيينة لو أن محزونا بكى في امة لرحم الله تلك الامة ببكائه .
وكان بعض هؤلاء القوم إذا سافر واحد من اصحابه يقول إذا رايت محزونا فاقرئه عنى السلام .
وكان الحسن البصري لا يراه احد الا ظن انه حديث عهد بمصيبة .
وقال وكيع يوم مات الفضيل ذهب الحزن اليوم من الارض .
وقال بعض السلف اكثر ما يجده (1) المؤمن في صحيفته من الحسنات الحزن والهم .
__________
(1) ب (يوجده) وما اثبته من ا .
(*)(11/193)
وقال الفضيل ادركت السلف يقولون إن لله في كل شئ زكاة وزكاة العقل طول الحزن .
ومنها الجوع وترك الشهوات وقد تقدم ذكر ذلك .
ومنها الخشوع والتواضع قال سبحانه (الذين هم في صلاتهم خاشعون) (1) وفي الخبر النبوى عنه صلى الله عليه واله (لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ولا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من ايمان) فقال رجل يا رسول الله إن المرء ليحب أن يكون ثوبة حسنا فقال (إن الله جميل يحب الجمال انما المتكبر من بطر الحق وغمص الناس) وروى انس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يعود المريض ويشيع الجنائز ويركب الحمار ويجيب دعوة العبد .
وكان يوم قريظة والنضير على حمار مخطوم بحبل من ليف عليه اكاف من ليف .
ودخل مكة يوم فتحها راكب بعير برحل خلق وإن ذقنه لتمس وسط الرحل خضوعا لله تعالى وخشوعا وجيشه يومئذ عشرة آلاف .
قالوا في حد الخشوع هو الانقياد للحق وفي التواضع هو الاستسلام وترك الاعتراض على الحكم .
وقال بعضهم الخشوع قيام القلب بين يدى الحق بهم مجموع .
وقال حذيفة بن اليمان اول ما تفقدون من دينكم الخشوع .
__________
(1) سورة المؤمنين 2 .
(*)(11/194)
وكان يقال من علامات الخشوع أن العبد إذا اغضب أو خولف أو رد عليه استقبل ذلك بالقبول .
وقال محمد بن على الترمذي الخاشع من خمدت نيران شهوته وسكن دخان صدره واشرق نور التعظيم في قلبه فماتت حواسه وحيى قلبه وتطامنت جوارحه .
وقال الحسن الخشوع هو الخوف الدائم اللازم للقلب .
وقال الجنيد الخشوع تذلل القلوب لعلام الغيوب قال الله تعالى (وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونا) أي خاشعون متواضعون .
وراى بعضهم رجلا منقبض الظاهر منكسر الشاهد قد زوى منكبيه فقال يا فلان الخشوع هاهنا - واشار الى صدره لا هاهنا - واشار الى منكبيه .
وروى أن رسول الله صلى الله عليه واله راى رجلا يعبث بلحيته في صلاته فقال (لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه) .
وقيل شرط الخشوع في الصلاة الا يعرف من على يمينه ولا من على شماله .
وقال بعض الصوفية الخشوع قشعريرة ترد على القلب بغتة عند مفاجاه كشف الحقيقة .
وكان يقال من لم يتضع عند نفسه لم يرتفع عند غيره .
وقيل إن عمر بن عبد العزيز لم يكن يسجد الا على التراب .
وكان عمربن الخطاب يسرع في المشى ويقول هو انجح للحاجة وابعد من الزهو .
كان رجاء بن حيوة ليلة عند عمر بن عبد العزيز وهو خليفة فصعف المصباح فقام رجل ليصلحه فقال اجلس فليس من الكرم أن يستخدم المرء ضيفه فقال(11/195)
انبه (1) الغلام قال انها اول نومة نامها ثم قام بنفسه فاصلح السراج فقال رجاء ا تقوم الى السراج وانت امير المؤمنين قال قمت وانا عمر ابن عبد العزيز ورجعت وانا عمر ابن عبد العزيز .
وفي حديث ابى سعيد الخدرى أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يعلف البعير ويقم البيت ويخصف النعل ويرقع الثوب ويحلب الشاة وياكل مع الخادم ويطحن معها إذا اعيت وكان لا يمنعه الحياء أن يحمل بضاعته من السوق الى منزل اهله وكان يصافح الغنى والفقير ويسلم مبتدئا ولا يحقر ما دعى إليه ولو الى حشف التمر وكان هين المؤنة لين الخلق كريم السجية جميل المعاشرة طلق الوجه بساما من غير ضحك محزونا من غير عبوس متواضعا من غير ذلة جوادا من غير سرف رقيق القلب رحيما لكل مسلم ما تجشا قط من شبع ولا مد يده الى طبع .
وقال الفضيل اوحى الله الى الجبال انى مكلم على واحد منكم نبيا فتطاولت الجبال وتواضع طور سيناء فكلم الله عليه موسى لتواضعه .
سئل الجنيد عن التواضع فقال خفض الجناح ولين الجانب .
ابن المبارك التكبر على الاغنياء والتواضع للفقراء من التواضع .
وقيل لابي يزيد متى يكون الرجل متواضعا قال إذا لم ير لنفسه مقاما ولا حالا ولا يرى أن في الخلق من هو شر منه .
وكان يقال التواضع نعمة لا يحسد عليها والتكبر محنة لا يرحم منها والعز في التواضع فمن طلبه في الكبر لم يجده .
وكان يقال الشرف في التواضع والعز في التقوى والحرية في القناعة .
يحيى بن معاذ التواضع حسن في كل احد لكنه في الاغنياء احسن والتكبر سمج في كل احد ولكنه في الفقراء اسمج .
__________
(1) ب " انتبه " تصحيف (*)(11/196)
وركب زيد بن ثابت فدنا ابن عباس لياخذ بركابه فقال مه يا بن عم رسول الله فقال انا كذا امرنا أن نفعل بعلمائنا فقال زيد ارنى يدك فاخرجها فقبلها فقال هكذا امرنا أن نفعل باهل بيت نبينا .
وقال عروة بن الزبير رايت عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى وعلى عاتقة قربة ماء فقلت يا امير المؤمنين انه لا ينبغى لمثلك هذا فقال انه لما اتتنى الوفود سامعة مهادنة دخلت نفسي نخوة فاحببت أن اكسرها ومضى بالقربة الى حجرة امراة من الانصار فافرغها في انائها .
أبو سليمان الدارانى من راى لنفسه قيمة لم يذق حلاوة الخدمة .
يحيى بن معاذ التكبر على من تكبر عليك تواضع .
بشر الحافي سلموا على ابناء الدنيا بترك السلام عليهم بلغ عمر بن عبد العزيز أن ابنا له اشترى خاتما بالف درهم فكتب إليه بلغني انك اشتريت خاتما وفصة بالف درهم فإذا اتاك كتابي فبع الخاتم واشبع به الف بطن واتخذ خاتما من درهمين واجعل فصه حديدا صينيا واكتب عليه (رحم الله امرا عرف قدرة) .
قومت ثياب عمر بن عبد العزيز وهو يخطب ايام خلافته باثنى عشر درهما وهى قباء وعمامة وقميص وسراويل ورداء وخفان وقلنسوة .
وقال ابراهيم بن ادهم ما سررت قط سروري في ايام ثلاثة كنت في سفينة وفيها رجل مضحك كان يلعب لاهل (1) السفينة فيقول كنا ناخذ العلج من بلاد الترك هكذا وياخذ بشعر راسى فيهزني فسرني ذلك لانه لم يكن في تلك السفينة احقر منى في عينه وكنت عليلا في مسجد فدخل المؤذن وقال اخرج فلم اطق فاخذ
__________
(1) في الاصول " اهل " .
(*)(11/197)
برجلي وجرني الى خارج المسجد وكنت بالشام وعلى فرو فنظرت إليه فلم اميز بين الشعر وبين القمل لكثرته .
عرض على بعض الامراء مملوك بالوف من الدراهم فاستكثر الثمن فقال العبد اشترني يا مولاى ففى خصلة تساوى اكثر من هذا الثمن قال ما هي قال لو قدمتنى على جميع مماليك وخولتني بكل مالك لم اغلظ في نفسي بل اعلم انى عبدك فاشتراه .
تشاجر أبو ذر وبلال فعير أبو ذر بلالا بالسواد فشكاه الى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال يا ابا ذر ما علمت انه قد بقى في قلبك شئ من كبر الجاهلية فالقى أبو ذر نفسه وحلف الا يحمل راسه حتى يطا بلال خده بقدمه فما رفع راسه حتى فعل بلال ذلك مر الحسن بن على عليه السلام بصبيان يلعبون وبين ايديهم كسر خبز ياكلونها فدعوه فنزل واكل معهم ثم حملهم الى منزلة فاطعمهم وكساهم وقال الفضل لهم لانهم لم يجدوا غير ما اطعموني ونحن نجد اكثر مما اطعمناهم .
ومنها مخالفة النفس وذكر عيوبها وقد تقدم ذكر ذلك .
ومنها القناعة قال الله تعالى (من عمل صالحا من ذكر أو انثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة) (1) قال كثير من المفسرين هي القناعة .
وفي الحديث - النبوى ويقال انه من كلام امير المؤمنين عليه السلام (القناعة كنز لا ينفد)
__________
(1) سورة النحل 57 (*)(11/198)
وفى الحديث النبوى ايضا (كن ورعا تكن اعبد الناس وكن قنوعا تكن اشكر الناس واحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا واحسن مجاورة من جاورك تكن مسلما واقل الضحك فان كثرة الضحك تميت القلب) .
وكان يقال الفقراء اموات الا من احياه الله تعالى بعز القناعة .
وقال أبو سليمان الدارانى القناعة من الرضا بمنزلة الورع من الزهد هذا اول الرضا وهذا اول الزهد .
وقيل القناعة سكون النفس وعدم انزعاجها عند عدم المألوفات .
وقيل في تفسير قوله تعالى (ليرزقنهم الله رزقا حسنا (1)) انه القناعة .
وقال أبو بكر المراغى العاقل من دبر امر الدنيا بالقناعة والتسويف وانكر أبو عبد الله بن خفيف فقال القناعة ترك التسويف بالمفقود والاستغناء بالموجود .
وكان يقال خرج العز والغنى يجولان فلقيا القناعة فاستقرا .
وكان يقال من كانت قناعته سمينة طابت له كل مرقة .
مر أبو حازم الاعرج بقصاب فقال له خذ يا ابا حازم فقال ليس معى درهم قال انا انظرك قال نفسي احسن نظرة لى منك .
وقيل وضع الله تعالى خمسة اشياء في خمسة مواضع العز في الطاعة والذل في المعصية والهيبة في قيام الليل والحكمة في البطن الخالى والغنى في القناعة .
وكان يقال انتقم من فلان بالقناعة كما تنتقم من قاتلك بالقصاص .
ذو النون المصرى من قنع استراح من اهل زمانه واستطال على اقرانه .
وانشدوا واحسن بالفتى من يوم عار ينال به الغنى كرم وجوع
__________
(1) سورة الحج 58 .
(*)(11/199)
وراى رجل حكيماياكل ما تساقط من البقل على راس الماء فقال له لو خدمت السلطان لم تحتج الى اكل هذا فقال وانت لو قنعت بهذا لم تحتج الى خدمة السلطان .
وقيل العقاب عزيز في مطاره لا تسمو إليه مطامع الصيادين فإذا طمع في جيفة علقت على حباله نزل من مطاره فنشب في الاحبولة .
وقيل لما نطق موسى بذكر الطمع فقال (لو شئت لاتخذت عليه اجرا) (1) قال له الخضر (هذا فراق بينى وبينك) (1) وفسر بعضهم قوله (هب لى ملكا لا ينبغى لاحد من بعدى) (2) فقال مقاما في القناعة لا يبلغه احد .
ومنها التوكل قال الله تعالى (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) (3) وقال سهل بن عبد الله اول مقام في التوكل أن يكون العبد بين يدى الله تعالى كالميت بين يدى الغاسل يقلبه كيف يشاء لا يكون له حركة ولا تدبير .
وقال رجل لحاتم الاصم من اين تأكل فقال (ولله خزائن السموات والارض ولكن المنافقين لا يفقهون) (4) .
وقال اصحاب هذا الشان التوكل بالقلب وليس ينافيه الحركة بالجسد بعد أن يتحقق العبد أن التقدير من الله فان تعسر شئ فبتقديره وإن تسهل فبتيسيره .
__________
(1) سورة الكهف 77 ، 78 .
(2) سورة ص 35 .
(3) سورة الطلاق 3 .
(4) سورة المنافقون 7 .
(*)(11/200)
وفى الخبر النبوى انه عليه السلام قال للاعرابي الذى ترك ناقته مهملة فندت فلما قيل له قال توكلت فتركتها فقال عليه السلام (اعقل وتوكل) .
وقال ذو النون التوكل الانخلاع من الحول والقوة وترك تدبير الاسباب وقال بعضهم التوكل رد العيش الى يوم واحد باسقاط هم غد .
وقال أبو على الدقاق التوكل ثلاث درجات التوكل وهو ادناها ثم التسليم ثم التفويض فالاولى للعوام والثانية للخواص والثالثة لخواص الخواص .
جاء رجل الى الشبلى يشكو إليه كثرة العيال فقال ارجع الى بيتك فمن وجدت منهم ليس رزقه على الله فاخرجه من البيت .
وقال سهل بن عبد الله من طعن في التوكل فقط طعن في الايمان ومن طعن في الحركة فقد طعن في السنة .
وكان يقال المتوكل كالطفل لا يعرف شيئا ياوى إليه الا ثدى امة كذلك المتوكل لا يهتدى الا الى ربه .
وراى أبو سليمان الدارانى رجلا بمكة لا يتناول شيئا الا شربة من ماء زمزم فمضت عليه ايام فقال له يوما ارايت لو غارت - أي زمزم - أي شئ كنت تشرب فقام وقبل راسه وقال جزاك الله خيرا حيث ارشدتني فانى كنت اعبد زمزم منذ ايام ثم تركه ومضى .
وقيل التوكل نفى الشكوك والتفويض الى مالك الملوك .
ودخل جماعة على الجنيد فقالوا نطلب الرزق قال إن علمتم في أي موضع هو فاطلبوه قالوا فنسال الله ذلك قال إن علمتم انه ينساكم فذكروه قالوا لندخل البيت فنتوكل قال التجربة شك قالوا فما الحيلة قال ترك الحيلة .(11/201)
وقيل التوكل الثقة بالله والياس عما في ايدى الناس .
ومنها الشكر وقد تقدم منا ذكر كثير مما قيل فيه .
ومنها اليقين وهو مقام جليل قال الله تعالى (وبالاخرة هم يوقنون) (1) وقال على بن ابى طالب عليه السلام لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا .
وقال سهل بن عبد الله حرام على قلب أن يشم رائحة اليقين وفيه شكوى الى غير الله .
وذكر للنبى صلى الله عليه وآله ما يقال عن عيسى بن مريم عليه السلام انه مشى على الماء فقال لو ازداد يقينا لمشى على الهواء وفي الخبر المرفوع عنه صلى الله عليه وآله انه قال لعبد الله بن مسعود (لا ترضين احدا بسخط الله ولا تحمدن احدا على فضل الله ولا تذمن احدا على ما لم يؤتك الله واعلم أن الرزق لا يسوقه حرص حريص ولا يرده كراهة كاره أن الله جعل الروح والفرج في الرضا واليقين وجعل الهم والحزن في الشك والسخط) .
ومنها الصبر قال الله تعالى (واصبر وما صبرك الا بالله) (2) وقال على عليه السلام الصبر من الايمان بمنزلة الراس من الجسد .
وسئل الفضيل عن الصبر قال تجرع المرارة من غير تعبيس .
وقال رويم الصبر ترك الشكوى .
__________
(1) سورة البقرة 4 .
(2) سورة النحل 127 .
(*)(11/202)
وقال على عليه السلام الصبر مطية لا تكبو .
وقف رجل على الشبلى فقال أي صبر اشد على الصابرين قال الشبلى الصبر في الله تعالى فقال لا قال فالصبر لله فقال لا قال فالصبر مع الله تعالى فقال لا قال فاى شئ قال الصبر عن الله فصرخ الشبلى صرخه عظيمة ووقع .
ويقال إن الشبلى حبس في المارستان فدخل عليه قوم فقال من انتم قالوا محبوك جئناك زائرين فرماهم بالحجارة فهربوا فقال لو كنتم احباى لصبرتم على بلائى وجاء في بعض الاخبار عن الله تعالى بعينى ما يتحمل المتحملون من اجلى وقال عمر بن الخطاب لو كان الصبر والشكر بعيرين لم ابال ايهما ركبت وفي الحديث المرفوع (الايمان الصبر والسخاء) وفي الخبر العلم خليل المؤمن والحلم وزيره والعقل دليله العمل قائده والرفق والده والبر اخوه والصبر امير جنوده قالوا فناهيك بشرف خصلة تتامر على هذه الخصال والمعنى أن الثبات على هذه الخصال واستدامة التخلق بها انما يكون بالصبر فلذلك كان امير الجنود .
ومنها المراقبة جاء في الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله أن سائلا ساله عن الاحسان فقال (أن تعبد الله كانك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك) وهذه اشارة الى حال المراقبة لان المراقبة علم العبد باطلاع الرب عليه فاستدامة العبد لهذا العلم مراقبة للحق وهو اصل كل خير ولا يكاد يصل (1) الى هذه الرتبة الابعد فراغه عن المحاسبة فإذا حاسب نفسه على ما سلف واصلح حاله في الوقت
__________
(1) كذا في ا وفي ب : " يوصل " .
(*)(11/203)
ولازم طريق الحق واحسن بينه وبين الله تعالى بمراعاة القلب وحفظ مع الله سبحانه الانفاس راقبه تعالى في عموم احواله فيعلم انه تعالى رقيب عليه يعلم احواله ويرى افعاله ويسمع اقواله ومن تغافل عن هذه الجملة فهو بمعزل عن بداية الوصلة فكيف عن حقائق القربة .
ويحكى أن ملكا كان يتحظى جارية له وكان لوزيره ميل باطن إليها فكان يسعى في مصالحها ويرجح جانبها على جانب غيرها من حظايا الملك ونسائه فاتفق أن عرض عليها الملك حجرين من الياقوت الاحمر احدهما انفس من الاخر بمحضر من وزيره فتحيرت ايهما تأخذ فاوما الوزير بعينه الى الحجر الانفس وحانت من الملك التفاته فشاهد عين الوزير وهى مائلة الى ذلك الجانب فبقى الوزير بعدها اربعين سنة لا يراه الملك قط الا كاسرا عينه نحو الجانب الذى كان طرفه مائلا إليه ذلك اليوم أي كان (1) ذلك خلقه وهذا عزم قوى في المراقبة ومثله فليكن حال من يريد الوصول .
ويحكى ايضا أن اميرا كان له غلام يقبل عليه اكثر من اقباله على غيره من مماليكه ولم يكن اكثرهم قيمة ولا احسنهم صورة فقيل له في ذلك فاحب أن يبين لهم فضل الغلام في الخدمة على غيره فكان يوما راكبا ومعه حشمه وبالبعد منهم جبل عليه ثلج فنظر الامير الى الثلج واطرق فركض الغلام فرسه ولم يعلم الغلمان لما ذا ركض فلم يلبث الا قليلا حتى جاء ومعه شئ من الثلج فقال الامير ما ادراك انى اردت الثلج فقال انك نظرت إليه ونظر السلطان الى شئ لا يكون الا عن قصد فقال الامير لغلمانه انما اختصه قباكرامى واقبالي لان لكل واحد منكم شغلا وشغله مراعاة لحظاتي ومراقبة احوالى .
__________
(1) ب : " أن " (*)(11/204)
وقال بعضهم من راقب الله في خواطره عصمة الله في جوارحه .
ومنها الرضا وهو أن يرضى العبد بالشدائد والمصائب التى يقضيها الله تعالى عليه وليس المراد بالرضا رضا العبد بالمعاصى والفواحش أو نسبتها الى الرب تعالى عنها فانه سبحانه لا يرضاها كما قال جل جلاله (ولا يرضى لعباده الكفر) (1) .
وقال (كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها) (2) .
قال رويم الرضا أن لو ادخلك جهنم لما سخطت عليه .
وقيل لبعضهم متى يكون العبد راضيا قال إذا سرته المصيبة كما سرته النعمة .
قال الشبلى مرة - والجنيد حاضر لاحول ولا قوة الا بالله فقال الجنيد ارى أن قولك هذا ضيق صدر وضيق الصدر يجئ من ترك الرضا بالقضاء .
وقال أبو سليمان الدارنى الرضا الا تسال الله الجنة ولا تستعيذ به من النار .
و قال تعالى فيمن سخط قسمته (ومنهم من يلمزك في الصدقات فان اعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون) (3) .
ثم نبه على ما حرموه من فضيلة الرضا فقال (ولو انهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله انا الى الله راغبون) (3) وجواب (لو) هاهنا محذوف لفهم المخاطب وعلمه به .
__________
(1) سورة الزمر 7 .
(2) سورة الاسراء 38 .
(3) سورة التوبة 58 ، 59 (*)(11/205)
وفى حذفه فائدة لطيفة وهو أن تقديره (لرضى الله عنهم) ولما كان رضاه عن عباده مقاما جليلا جدا حذف ذكره لان الذكر له لا ينبئ عن كنهه وحقيقة فضله فكان الاضراب عن ذكره ابلغ في تعظيم مقامه .
ومن الاخبار المرفوعة انه صلى الله عليه وآله قال (اللهم انى اسالك الرضا بعد القضاء) قالوا انما قال (بعد القضاء) لان الرضا قبل القضاء لا يتصور وانما يتصور توطين النفس عليه وانما يتحقق الرضا بالشئ بعد وقوع ذلك الشئ .
وفي الحديث انه قال لابن عباس يوصيه (اعمل لله باليقين والرضا فان لم يكن فالصبر فان في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا) وفي الحديث انه ص راى رجلا من اصحابه وقد اجهده المرض والحاجة فقال ما الذى بلغ بك ما ارى قال المرض والحاجة قال اولا اعلمك كلاما إن انت قلته اذهب الله عنك ما بك قال والذى نفسي بيده ما يسرنى بحظى منهما أن شهدت معك بدرا والحديبية فقال صلى الله عليه وآله (وهل لاهل بدر والحديبية ما للراضي والقانع) .
وقال أبو الدرداء ذروة الايمان الصبر والرضا .
قدم سعد بن ابى وقاص مكة بعد ما كف بصره فانثال الناس عليه يسالونه الدعاء لهم فقال له عبد الله بن السائب يا عم انك تدعو للناس فيستجاب لك هلا دعوت أن يرد عليك بصرك فقال يا بن اخى قضاء الله تعالى احب الى من بصرى .
عمر بن عبد العزيز اصبحت وما لى سرور الا في مواقع القدر .
وكان يقال الرضا اطراح الاقتراح على العالم بالصلاح وكان يقال إذا كان القدر حقا كان سخطه حمقا .(11/206)
وكان يقال من رضى حظى ومن اطرح الاقتراح افلح واستراح .
وكان يقال كن بالرضا عاملا قبل أن تكون له معمولا وسر إليه عادلا والا سرت نحوه معدولا .
وقيل للحسن من اين اتى الخلق قال من قلة الرضا عن الله فقيل ومن اين دخلت عليهم قلة الرضا عن الله قال من قلة المعرفة بالله .
وقال صاحب (1) سلوان المطاع في الرضا (2) يا مفزعى فيما يجئ وراحمي فيما مضى عندي لما تقضيه ما يرضيك من حسن الرضا ومن القطيعة استعيذ مصرحا ومعرضا وقال ايضا (3) كن من مدبرك الحكيم علا وجل على وجل وارض القضاء فانه حتم اجل وله اجل وقال ايضا (4) يا من يرى حالى وأن ليس لى في غير قربى منه اوطار (5) وليس لى ملتحد دونه ولا عليه لى انصار حاشا لذاك العز الفضل أن يهلك من انت له جار وإن تشا هلكى فهب لى رضا بكل ما تقضى وتختار
__________
(1) هو شمس الدين أبو عبد الله عبد الله محمد بن محمد بن ظفر المكي المتوفى 565 .
(2) سلوان المطاع ص 66 .
(3) سلوان المطاع ص 66 .
(4) سلوان المطاع ص 66 ، 67 .
(5) في سلوان المطاع : في غير ما يرضيه اوطار .
(*)(11/207)
عندي لاحكامك يا مالكى قلب كما انعمت صبار (1) كل عذاب منك مستعذب ما لم يكن سخطك والنار (2) ومنها العبودية وهى امر وراء العبادة معناها التعبد والتذلل قالوا العبادة للعوام من المؤمنين والعبودية للخواص من السالكين .
وقال أبو على الدقاق العبادة لمن له علم اليقين والعبودية لمن له عين اليقين .
وسئل محمد بن خفيف متى تصح العبودية فقال إذا طرح كله على مولاه وصبر معه على بلواه .
وقال بعضهم العبودية معانقة ما امرت به ومفارقة ما زجرت عنه .
وقيل العبودية أن تسلم إليه كلك وتحمل عليه كلك .
وفي الحديث المرفوع (تعس عبد الدينار وتعس عبد الخبيصة) .
راى أبو يزيد البسطامى رجلا فقال له ما حرفتك قال خربندة قال امات الله حمارك لتكون عبدا لله لا عبدا للحمار .
وكان ببغداد في رباط شيخ الشيوخ صوفي كبير اللحية جدا وكان مغرى ومعنى بها اكثر زمانه يدهنها ويسرحهاو يجعلها ليلا عند نومه في كيس فقام بعض المريدين إليه في الليل وهو نائم فقصها من الاذن الى الاذن فاصبحت كالصريم واصبح الصوفى شاكيا الى شيخ الرباط فجمع الصوفية وسالهم فقال المريد انا قصصتها قال وكيف فعلت ويلك ذلك قال ايها الشيخ انها كانت صنمه وكان يعبدها من دون الله فانكرت ذلك بقلبي واردت أن اجعله عبدا لله لا عبدا للحية .
__________
(1) هذا البيت ساقط من السلوان .
(2) في السلوان بعدك والنار .
(*)(11/208)
قالوا وليس شئ اشرف من العبودية ولا اسم اتم للمؤمن من اسمه بالعبودية ولذلك قال سبحانه في ذكر النبي صلى الله عليه واله ليلة المعراج وكان ذلك الوقت اشرف اوقاته في الدنيا (سبحان الذى اسرى بعبده ليلا) (1) وقال تعالى (فأوحى الى عبده ما اوحى) (2) فلو كان اسم اجل من العبودية لسماه به .
وانشدوا لا تدعني الا بيا عبدها فانه اشرف اسمائي ومنها الارادة قال تعالى (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) (3) .
قالوا الارادة هي بدء طريق السالكين وهى اسم لاول منازل القاصدين الى الله وانما سميت هذه الصفة ارادة لان الارادة مقدمة كل امر فما لم يرد العبد شيئا لم يفعله فلما كان هذا الشان اول الامر لمن يسلك طريق الله سمى ارادة تشبيها له بالقصد الى الامور التى هو مقدمتها .
قالوا والمريد على موجب الاشتقاق من له ارادة ولكن المريد في هذا الاصطلاح من لا ارادة له فما لم يتجرد عن ارادته لا يكون مريدا كما أن من لا ارادة له على موجب الاشتقاق لا يكون مريدا .
وقد اختلفوا في العبارات الدالة على ماهية الارادة في اصطلاحهم فقال بعضهم الارادة ترك ما عليه العادة وعادة الناس في الغالب التعريج على اوطان الغفلة
__________
(1) سورة الاسراء 1 .
(2) سورة النجم 10 .
(3) سورة الانعام 52 .
(*)(11/209)
والركون الى اتباع الشهوة والاخلاد الى ما دعت إليه المنية والمريد هو المنسلخ عن هذه الجملة .
وقال بعضهم الارادة نهوض القلب في طلب الرب ولهذا قيل انها لوعة تهون كل روعة .
وقال أبو على الدقاق الارادة لوعة في الفؤاد ولذعة في القلب وغرام في الضمير وانزاج في الباطن ونيران تاجج في القلوب .
وقال ممشاذ الدينورى مذ علمت أن احوال الفقراء جد كلها لم امازح فقيرا وذلك أن فقيرا قدم على فقال ايها الشيخ اريد أن تتخذ لى عصيدة فجرى على لساني (ارادة وعصيدة) فتأخر الفقير ولم اشعر فأمرت باتخاذ عصيدة وطلبته فلم اجده فتعرفت خبره فقيل انه انصرف من فوره وهو يقول (ارادة وعصيدة ارادة وعصيدة) وهام على وجهه حتى خرج الى الباديه وهو يكرر هذه الكلمة فما زال يقول ويرددها حتى مات .
وحكى بعضهم قال كنت بالبادية وحدي فضاق صدري فصحت يا انس كلمونى يا جن كلمونى فهتف هاتف أي شئ ناديت فقلت الله فقال الهاتف كذبت لو اردته لما ناديت الانس ولا الجن .
فالمريد هو الذى لا يشغله عن الله شئ ولا يفتر آناء الليل واطراف النهار فهو في الظاهر بنعت المجاهدات وفي الباطن بوصف المكابدات فارق الفراش ولازم الانكماش وتحمل المصاعب وركب المتاعب وعالج الاخلاق ومارس المشاق وعانق الاهوال وفارق الاشكال فهو كما قيل ثم قطعت الليل في مهمة لا اسدا اخشى ولا ذيبا(11/210)
يغلبنى شوقي فاطوى السرى ولم يزل ذو الشوق مغلوبا وقيل من صفات المريدين التحبب إليه بالتوكل والاخلاص في نصيحه الامة والانس بالخلوة والصبر على مقاساة الاحكام والايثار لامرة والحياء من نظره وبذل المجهود في محبته والتعرض لكل سبب يوصل إليه والقناعة بالخمول وعدم الفرار من القلب الى أن يصل الى الرب .
وقال بعضهم آفة المريد ثلاثة اشياء التزويج وكتبه الحديث والاسفار .
وقيل من حكم المريد أن يكون فيه ثلاثة اشياء نومه غلبه واكله فاقه وكلامه ضرورة .
وقال بعضهم نهاية الارادة أن يشير الى الله فيجده مع الاشارة فقيل له واى شئ يستوعب الارادة فقال أن يجد الله بلا اشارة .
وسئل الجنيد ما للمريدين وسماع القصص والحكايات فقال الحكايات جند من جند الله تعالى يقوى بها قلوب المريدين فقيل له هل في ذلك شاهد فتلا قوله تعالى (وكلا نقص عليك من انباء الرسل ما نثبت به فؤادك) (1) .
وقال اصحاب الطريقة بين المريد والمراد فرق فالمريد من سلك الرياضة طلبا للوصول والمراد من فاضت عليه العناية الالهيه ابتداء فكان مخطوبا لا خاطبا وبين الخاطب والمخطوب فرق عظيم .
قالوا كان موسى عليه السلام مريدا قال (رب اشرح لى صدري) (2) وكان محمد صلى الله عليه وآله مرادا قال له (الم نشرح لك صدرك) (3) وسئل الجنيد عن
__________
(1) سورة هود 120 .
(2) سورة طه 25 .
(3) سورة الشرح 1 .
(*)(11/211)
المريد والمراد فقال المريد سائر والمراد طائر ومتى يلحق السائر الطائر .
ارسل ذو النون المصرى رجلا الى ابى يزيد وقال له الى متى النوم والراحة قد سارت القافلة فقال له أبو يزيد قل لاخى الرجل من ينام الليل كله ثم يصبح في المنزل قبل القافلة فقال ذو النون هنيئا له هذا الكلام لا تبلغه احوالنا .
وقد تكلم الحكماء في هذا المقام فقال أبو على بن سينا في كتاب (الاشارات) اول درجات حركات العارفين ما يسمونه هم الارادة وهو ما يعترى المستبصر باليقين البرهانى أو الساكن النفس الى العقد الايمانى من الرغبة في اعتلاق العروة الوثقى فيتحرك سره الى القدس لينال من روح الاتصال فما دامت درجته هذه فهو مريد .
ثم انه ليحتاج الى الرياضة والرياضة موجهه الى ثلاثة اغراض الاول تنحيه ما دون الحق عن سنن الايثار .
والثانى تطويع النفس الامارة للنفس المطمئنة لتنجذب قوى التخيل والوهم الى التوهمات المناسبة للامر القدسي منصرفة من التوهمات المناسبة للامر السفلى .
والثالث تلطيف السر لنفسه .
فالاول يعين عليه الزهد الحقيقي والثانى يعين عليه عدة اشياء العبادة المشفوعة بالفكرة ثم الالحان المستخدمة لقوى النفس الموقعة لما لحن بها من الكلام موقع القبول من الاوهام ثم نفس الكلام الواعظ من قائل ذكى بعبارة بليغة ونغمة رخيمة وسمت رشيد والثالث يعين عليه الفكر اللطيف والعشق العفيف الذى تتامر فيه شمائل المعشوق دون سلطان الشهوة .(11/212)
ومنها الاستقامة وحقيقتها الدوام والاستمرار على الحال قال تعالى (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) (1) .
وسئل بعضهم عن تارك الاستقامة فقال قد ذكر الله ذلك في كتابه فقال (ولا تكونوا كالتى نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا) (2) وفي الحديث المرفوع (شيبتني هود) فقيل له في ذلك فقال قوله (فاستقم كما امرت) (112) .
وقال تعالى وأن لو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماء غدقا فلم يقل (سقيناهم) بل (اسقيناهم) أي جعلنا لهم سقيا دائمة وذلك لان من دام على الخدمة دامت عليه النعمة .
ومنها الاخلاص وهو افراد الحق خاصة في الطاعة بالقصد والتقرب إليه بذلك خاصة من غير رياء ومن غير أن يمازجه شئ آخر من تصنع لمخلوق أو اكتساب محمدة بين الناس أو محبه مدح أو معنى من المعاني ولذلك قال ارباب هذا الفن الاخلاص تصفية العمل عن ملاحظة المخلوقين .
وقال الخواص من هؤلاء القوم نقصان كل مخلص في اخلاصه رؤية اخلاصه فإذا اراد الله أن يخلص اخلاص عبد اسقط عن اخلاصه رؤيته لاخلاصه فيكون مخلصا لا مخلصا .
وجاء في الاثر عن مكحول ما اخلص عبد لله اربعين صباحا الا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه .
__________
(1) سورة فصلت 30 .
(2) سورة النحل 92 (3) سورد هود 112 .
(4) سورة الجن 16 .
(*)(11/213)
ومنها الصدق ويطلق على معنيين تجنب الكذب وتجنب الرياء وقد تقدم القول فيهما .
ومنها الحياء وفي الحديث الصحيح (إذا لم تستحى فاصنع ما شئت) وفي الحديث ايضا (الحياء من الايمان) وقال تعالى (الم يعلم بان الله يرى) (1) قالوا معناه الم يستحى .
وفي الحديث انه قال لاصحابه (استحيوا من الله حق الحياء) قالوا انا لنستحيى ونحمد الله قال (ليس كذلك من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الراس وما وعى والبطن وما حوى وليذكر الموت وطول البلى وليترك زينة الحياة الدنيا فمن يعمل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء) .
وقال ابن عطاء العلم الاكبر الهيبة والحياء فإذا ذهبا لم يبق خير .
وقال ذو النون الحب ينطق والحياء يسكت والخوف يقلق .
وقال السرى الحياء والانس يطرقان القلب فان وجدا فيه الزهد والورع حطا والا رحلا .
وكان يقال تعامل القرن الاول من الناس فيما بينهم بالدين حتى رق الدين ثم تعامل القرن الثاني بالوفاء حتى ذهب الوفاء ثم تعامل القرن الثالث بالمروءة حتى فنيت المروءة ثم تعامل القرن الرابع بالحياء حتى قل الحياء ثم صار الناس يتعاملون بالرغبة والرهبة
__________
(1) سورة العلق 14 .
(*)(11/214)
وقال الفضيل خمس من علامات الشقاء القسوة في القلب وجمود العين وقلة الحياء والرغبة في الدنيا وطول الامل .
وفسر بعضهم قوله تعالى (ولقد همت به وهم بها لو لا أن راى برهان ربه) (1) انها كان لها صنم في زاوية البيت فمضت فالقت على وجهه ثوبا فقال يوسف ما هذا قالت استحيى منه قال فانا اولى أن استحيى من الله .
وفي بعض الكتب القديمة ما انصفني عبدى يدعوني فاستحيى أن ارده ويعصيني وانا اراه فلا يستحيى منى ومنها الحرية وهو الا يكون الانسان بقلبه رق شئ من المخلوقات لا من اغراض الدنيا ولا من اغراض الاخرة فيكون فردا لفرد لا يسترقه عاجل دنيا ولا آجل منى ولا حاصل هوى ولا سؤال ولا قصد ولا ارب .
قال له صلى الله عليه وآله بعض اصحاب الصفة قد عزفت نفسي يا رسول الله عن الدنيا فاستوى عندي ذهبها وحجرها قال صرت حرا .
وكان بعضهم يقول لو صحت صلاة بغير قرآن لصحت بهذا البيت اتمنى على الزمان (2) محالا أن ترى مقلتاى طلعة حر وسئل الجنيد عمن لم يبق له من الدنيا الا مقدار مص نواة فقال المكاتب عبد ما بقى عليه درهم .
ومنها الذكر قال الله تعالى (يا ايها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا) (3)
__________
(1) سورة يوسف 24 .
(2) ب " من الزمان " وما اثبته من ا .
(3) سورة الاحزاب 41 .
(*)(11/215)
وروى أبو الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال الا انبئكم بخير اعمالكم وازكاها عند خالقكم وارفعها في درجاتكم وخير من اعطائكم الذهب والفضة في سبيل الله ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا اعناقهم ويضربوا اعناقكم) قالوا ما ذلك يا رسول الله قال (ذكر الله) وفي الحديث المرفوع (لا تقوم الساعة على احد يقول الله الله) .
وقال أبو على الدقاق الذكر منشور الولاية فمن وفق للذكر فقد اعطى المنشور وسلب الذكر فقد عزل .
وقيل ذكر الله تعالى بالقلب سيف المريدين به يقاتلون اعداءهم وبه يدفعون الافات التى تقصدهم وإن البلاء إذا اظل العبد ففزع بقلبه الى الله حاد عنه كل ما يكرهه .
وفي الخبر المرفوع (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا فيها) قيل وما رياض الجنة قال (مجالس الذكر) وفي الخبر المرفوع (انا جليس من ذكرني) .
وسمع الشبلى هو ينشد ذكرتك لا انى نسيتك لمحة وايسر ما في الذكر ذكر لساني فكدت بلا وجد اموت من الهوى وهام على القلب بالخفقان فلما ارانى الوجد انك حاضرى شهدتك موجودا بكل مكان فخاطبت موجودا بغير تكلم ولاحظت معلوما بغير عيان .(11/216)
ومنها الفتوة قال سبحانه مخبرا عن اصحاب الاصنام (قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له ابراهيم) (1) .
وقال تعالى في اصحاب الكهف (انهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى) (2) .
وقد اختلفوا في التعبير عن الفتوة ما هي فقال بعضهم الفتوة الا ترى لنفسك فضلا على غيرك .
وقال بعضهم الفتوة الصفح عن عثرات الاخوان .
قالوا انما هتف الملك يوم احد بقوله لا سيف الا ذو الفقار ولا فتى الا على .
لانه كسر الاصنام فسمى بما سمى به ابوه ابراهيم الخليل حين كسرها وجعلها جذاذا .
قالوا وصنم كل انسان نفسه فمن خالف هواه فقد كسر صنمه فاستحق أن يطلق عليها لفظ الفتوة .
وقال الحارث المحاسبى الفتوة أن تنصف ولا تنتصف .
وقال عبد الله بن احمد بن حنبل سئل ابى عن الفتوة فقال ترك ما تهوى لما تخشى .
وقيل الفتوة الا تدخر ولا تعتذر .
سال شقيق البلخى جعفر بن محمد الصادق عليه السلام عن الفتوه فقال ما تقول انت قال إن اعطينا شكرنا وإن منعنا صبرنا قال إن الكلاب عندنا بالمدينة هذا شانها ولكن قل إن اعطينا آثرنا وإن منعنا شكرنا .
__________
(1) سورة الانبياء 60 .
(2) سورة الكهف 13 .
(*)(11/217)
ومنها الفراسة قيل في تفسير قوله تعالى (إن في ذلك لايات للمتوسمين) (1) أي للمتفرسين وقال النبي صلى الله عليه واله (اتقوا فراسة المؤمن فانها لا تخطى) قيل الفراسة سواطع انوار لمعت في القلوب حتى شهدت الاشياء من حيث اشهدها الحق اياها وكل من كان اقوى ايمانا كان اشد فراسه .
وكان يقال إذا صحت الفراسة ارتقى منها صاحبها الى المشاهدة .
ومنها حسن الخلق وهو من صفات العارفين فقد اثنى الله تعالى به على نبيه فقال (وانك لعلى خلق عظيم) (2) وقيل له صلى الله عليه وآله أي المؤمنين افضل ايمانا فقال احسنهم خلقا وبالخلق تظهر جواهر الرجال والانسان مستور بخلقه مشهور بخلقه .
وقال بعضهم حسن الخلق استصغار ما منك واستعظام ما اليك .
وقال النبي صلى الله عليه واله (انكم لن تسعوا الناس باموالكم فسعوهم باخلاقكم) .
قيل لذى النون من اكبر الناس هما قال اسوؤهم خلقا .
وكان يقال ما تخلق احد اربعين صباحا بخلق اصار ذلك طبيعة فيه .
قال الحسن في قوله تعالى (وثيابك فطهر) (3) أي وخلقك فحسن .
شتم رجل الاحنف بن قيس وجعل يتبعه ويشتمه فلما قرب الحى وقف وقال يا فتى إن كان قد بقى في قلبك شئ فقله كيلا يسمعك سفهاء الحى فيجيبوك .
__________
(1) سورة الحجر 75 .
(2) سورة القلم 4 .
(3) سورة المدثر 4 .
(*)(11/218)
ويقال إن معروفا الكرخي نزل دجلة ليسبح ووضع ثيابه ومصحفه فجاءت امراة فاحتملتهما فتبعها وقال انا معروف الكرخي فلا باس عليك ا لك ابن يقرا قالت لا قال ا فلك بعل قالت لا قال فهاتى المصحف وخذي الثياب .
قيل لبعضهم ما ادب الخلق قال ما ادب الله به نبيه في قوله (خذ العفو وامر بالعرف واعرض عن الجاهلين) (1) يقال إن في بعض كتب النبوات القديمة يا عبدى اذكرني حين تغضب اذكرك حين اغضب .
قالت امراة لمالك بن دينار يا مرائى فقال لقد وجدت اسمى الذى اضله اهل البصرة .
قال بعضهم - وقد سئل عن غلام سوء له لم يمسكه قال ا تعلم عليه الحلم .
وكان يقال ثلاثة لا يعرفون الا عند ثلاثة الحليم عند الغضب والشجاع عند الحرب والصديق عند الحاجة إليه .
وقيل في تفسير قوله تعالى (واسبغ عليكم نعمه ظاهره وباطنه) (2) الظاهرة تسوية الخلق والباطنة تصفية الخلق .
الفضيل لان يصحبني فاجر حسن الخلق احب الى من أن يصحبني عابد سيئ الخلق .
خرج ابراهيم بن ادهم الى بعض البراري فاستقبله جندي فسأله اين العمران فاشار الى المقبرة فضرب راسه فشجه وادماه فلما جاوزه قيل له إن ذلك ابراهيم بن ادهم (1) سورة الاعراف 199 .
(2) سورة لقمان 20 .
(*)(11/219)
زاهد خراسان فرد إليه يعتذر فقال ابراهيم انك لما ضربتني سالت الله لك الجنة .
قال لم سالت ذلك قال علمت انى اوجر على ضربك لى فلم ارد أن يكون نصيبي منك الخير ونصيبك منى الشر .
وقال بعض اصحاب الجنيد قدمت من مكة فبدات بالشيخ كى لا يتعنى الى فسلمت عليه ثم مضيت الى منزلي فلما صليت الصبح في المسجد إذا انابه خلفي في الصف فقلت انما جئتك امس لئلا تتعنى فقال ذلك فضلك وهذا حقك .
كان أبو ذر على حوض يسقى ابله فزاحمه انسان فكسر الحوض فجلس أبو ذر ثم اضطجع فقيل له في ذلك فقال امرنا رسول الله صلى الله عليه وآله (إذا غضب الرجل وهو قائم فليجلس فان ذهب عنه والا فليضطجع) .
دعا انسان بعض مشاهير الصوفية الى ضيافة فلما حضر باب داره رده واعتذر إليه ثم فعل به مثل ذلك وثانية وثالثة والصوفى لا يغضب ولا يضجر فمدحه ذلك الانسان واثنى عليه بحسن الخلق فقال انما تمدحني على خلق تجد مثله في الكلب إن دعوته حضر وإن زجرته انزجر .
مر بعضهم وقت الهاجرة بسكة فالقى عليه من سطح طست رماد فغضب من كان في صحبته فقال لا تغضبوا من استحق أن يصب عليه النار فصولح على الرماد لم تجز له أن يغضب .
كان لبعض الخياطين جار يدفع إليه ثيابا فيخيطها ويدفع إليه اجرتها دراهم زيوفا فيأخذها فقام يوما من حانوته واستخلف ولده فجاء الجار بالدراهم الزائفة فدفعها الى الولد فلم يقبلها فابدلها بدراهم جيدة فلما جاء ابوه دفع إليه الدراهم فقال ويحك هل جرى بينك وبينه امر قال نعم انه احضر الدراهم زيوفا فرددتها فاحضر هذه(11/220)
فقال بئس ما صنعت انه منذ كذا وكذا سنه يعاملني بالزائف واصبر عليه والقيها في بئر كى لا يغر غيرى بها وقيل الخلق السيئ هو أن يضيق قلب الانسان عن أن يتسع لغير ما تحبه النفس وتؤثره كالمكان الضيق لا يسع غير صاحبه .
وكان يقال من سوء الخلق أن تقف على سوء خلق غيرك وتعيبه به .
قيل لرسول الله ادع الله على المشركين فقال (انما بعثت رحمة ولم ابعث عذابا) دعا على عليه السلام غلاما له مرارا وهو لا يجيبه فقام إليه فقال الا تسمع يا غلام قال بلى قال فما حملك على ترك الجواب قال امني لعقوبتك قال اذهب فانت حر .
ومنها الكتمان قال رسول الله صلى الله عليه وآله (استعينوا على اموركم بالكتمان) .
وقال السرى علامة الحب الصبر والكتمان ومن باح بسرنا فليس منا .
وقال الشاعر كتمت حبك حتى منك تكرمة ثم استوى فيك اسراري واعلاني كانه غاض حتى فاض عن جسدي فصار سقمى به في جسم كتماني وهذا ضد ما يذهب إليه القوم من الكتمان وهو عذر لاصحاب السر والاعلان وكان يقال المحبة فاضحه والدمع نمام .
وقال الشاعر لا جزى الله دمع عينى خيرا وجزى الله كل خير لساني(11/221)
فاض دمعى فليس يكتم شيئا ووجدت اللسان ذا كتمان يقال إن بعض العارفين اوصى تلميذه بكتمان ما يطلع عليه من الحال فلما شاهد الامر غلب فكان يطلع في بئر في موضع خال فيحدثها بما يشاهد فنبتت في تلك البئر شجرة سمع منها صوت يحكى كلام ذلك التلميذ كما يحكى الصدا كلام المتكلم فاسقط بذلك من ديوان الاولياء .
وانشدوا ابدا تحن اليكم الارواح ووصالكم ريحانها والراح وقلوب اهل ودادكم تشتاقكم والى لقاء جمالكم ترتاح وارحمه للعاشقين تحملوا ثقل المحبة والهوى فضاح بالسر إن باحوا تباح دماؤهم وكذا دماء البائحين تباح .
وقال الحسين بن منصور الحلاج انى لاكتم من علمي جواهره كى يرى العلم ذو جهل فيفتننا وقد تقدمنى فيه أبو حسن الى الحسين واوصى قبله الحسنا يا رب مكنون علم لو ابوح به لقيل لى انت ممن يعبد الوثنا ولاستحل رجال صالحون دمى يرون اقبح ما ياتونه حسنا .
ومنها الجود والسخاء والايثار قال الله تعالى (ويؤثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة) (1) وقال النبي صلى الله عليه وآله السخى قريب من الله قريب من الناس
__________
(1) سورة الحشر 9 .
(*)(11/222)
والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس وإن الجاهل السخى احب الى الله من العابد البخيل .
قالوا لا فرق بين الجود والسخاء في اصطلاح اهل العربية الا أن الباري سبحانه لا يوصف بالسخاء لانه يشعر بسماح النفس عقيب التردد في ذلك واما في اصطلاح ارباب هذه الطريقة فالسخاء هو الرتبة الاولى والجود بعده ثم الايثار فمن اعطى البعض وابقى البعض فهو صاحب السخاء ومن اعطى الاكثر وابقى لنفسه شيئا فهو صاحب الجود والذى قاسى الضراء وآثر غيره بالبلغة فهو صاحب الايثار .
قال اسماء بن خارجة الفزارى ما احب أن ارد احدا عن حاجة طلبها إن كان كريما صنت عرضه عن الناس وإن كان لئيما صنت عنه عرضى .
كان مؤرق العجلى يتلطف في بر اخوانه يضع عندهم الف درهم ويقول امسكوها حتى اعود اليكم ثم يرسل إليهم انتم منها في حل .
وكان يقال الجود اجابه الخاطر الاول .
وكان أبو الحسن البوشنجى في الخلاء فدعا تلميذا له فقال انزع عنى هذا القميص وادفعه الى فلان فقيل له هلا صبرت فقال لم آمن على نفسي أن تغير على ما وقع لى من التخلق معه بالقميص .
رئى على عليه السلام يوما باكيا فقيل له لم تبكى فقال لم ياتنى ضيف منذ سبعة ايام اخاف أن يكون الله قد اهانني .
اضاف عبد الله بن عامر رجلا فاحسن قراه فلما اراد أن يرتحل لم يعنه غلمانه فسئل عن ذلك فقال انهم انما يعينون من نزل علينا لا من ارتحل عنا .
ومنها الغيرة قال رسول الله صلى الله عليه وآله (لا احد اغير من الله انما حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن لغيرته)(11/223)
وفي حديث ابى هريرة (إن الله ليغار وإن المؤمن ليغار) قال والغيرة هي كراهية المشاركة فيما هو حقك .
وقيل الغيرة الانفة والحمية .
وحكى عن السرى انه قرئ بين يديه (وإذا قرات القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالاخرة حجابا مستورا) (1) فقال لاصحابه ا تدرون ما هذا الحجاب هذا حجاب الغيرة ولا احد اغير من الله .
قالوا ومعنى حجاب الغيرة انه لما اصر الكافرون على الجحود عاقبهم بان لم يجعلهم اهلا لمعرفة اسرار القرآن .
وقال أبو على الدقاق إن اصحاب الكسل عن عبادته هم الذين ربط الحق باقدامهم مثقلة الخذلان فاختار لهم البعد واخرهم عن محل القرب ولذلك تأخروا .
وفي معناه انشدوا فقالوا انا صب بمن هويت ولكن ما احتيالى في سوء راى الموالى .
وفي معناه قالوا سقيم لا يعاد ومريد لا يراد .
وكان أبو على الدقاق إذا وقع شئ في خلال المجلس يشوش قلوب الحاضرين يقول هذا من غيره الحق يريد به الا يتم ما املناه من صفاء هذا الوقت .
وانشدوا في معناه همت باتياننا حتى إذا نظرت الى المراة نهانا وجهها الحسن .
وقيل لبعضهم ا تريد أن تراه قال لا قيل لم قال انزه ذلك الجمال عن نظر مثلى وفي معناه انشدوا انى لاحسد ناظري عليك حتى اغض إذا نظرت اليك
__________
(1) الاسراء : 45 .
(*)(11/224)
واراك تخطر في شمائلك التى هي فتنتى فاغار منك عليكا وسئل الشبلى متى تستريح قال إذا لم ار له ذاكرا .
وقال أبو على الدقاق في قول النبي صلى الله عليه وآله عند مبايعته فرسا من اعرابي وانه استقاله فاقاله فقال الاعرابي عمرك الله فمن انت قال صلى الله عليه وآله انا امرؤ من قريش فقال بعض الصحابة من الحاضرين للاعرابي كفاك جفاء الا تعرف نبيك فكان أبو على يقول انما قال (امرؤ من قريش) غيره ونوعا من الانفة والا فقد كان الواجب عليه أن يتعرف لكل احد انه من هو لكن الله سبحانه اجرى على لسان ذلك الصحابي التعريف للاعرابي بقوله (كفاك جفاء الا تعرف نبيك) .
وقال اصحاب الطريقة مساكنة احد من الخلق للحق في قلبك توجب الغيرة منه تعالى .
اذن الشبلى مرة فلما انتهى الى الشهادتين قال وحقك لو لا انك امرتني ما ذكرت معك غيرك .
وسمع رجل رجلا يقول جل الله فقال احب أن تجله عن هذا .
وكان بعض العارفين يقول لا اله الا الله من داخل القلب محمد رسول الله من قرط الاذن .
وقيل لابي الفتوح السهروردى - وقد اخذ بحلب ليصلب على خشبه ما الذى اباحهم هذا منك قال إن هؤلاء دعوني الى أن اجعل محمدا شريكا لله في الربوبية فلم افعل فقتلوني .(11/225)
ومنها التفويض قال الله تعالى (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وانتم لا تعلمون) (1) فاستوقف من عقل امره عن الاقتراح عليه وافهمه ما يرضاه به من التفويض إليه فالعاقل تارك للاقتراح على العالم بالصلاح .
وقال تعالى (فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) (2) فبعث على تأكيد الرجاء بقوله (خيرا كثيرا) .
ولما فوض مؤمن آل فرعون امره الى الله وقاه (الله سيئات ما مكروا وحاق بال فرعون سوء العذاب) (3) كما ورد في الكتاب العزيز .
وحقيقة التفويض هي التسليم لاحكام الحق سبحانه والى ذلك وقعت الاشارة بقوله تعالى (قل لن يصيبنا الاما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون) (4) فاس التفويض والباعث عليه هو اعتقاد العجز عن مغالبة القدر وانه لا يكون في الخير والشر - اعني الرخص والصحة وسعة الرزق والبلايا والامراض والعلل وضيق الرزق الا ما اراد الله تعالى كونه ولا يصح التفويض ممن لم يعتقد ذلك ولم يعلمه علم اليقين .
وقد بالغ النبي صلى الله عليه وآله في التصريح به والنص عليه بقوله لعبد الله بن مسعود (ليقل همك ما قدر اتاك وما لم يقدر لم ياتك ولو جهد الخلق أن ينفعوك بشئ لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه ولو جهدوا أن يضروك بشئ لم يكتبه الله عليك لم يقدروا على ذلك)
__________
(1) سورة البقرة 216 .
(2) سورة النساء 19 .
(3) سورة غافر 45 .
(4) سورة التوبة 51 .
(*)(11/226)
وفى صحيح مسلم بن الحجاج انه قال لابي هريرة في كلام له (فان اصابك شئ فلا تقل لو فعلت كذا لكان كذا فان (لو) تفتح عمل الشيطان ولكن قل ما قدر الله وما شاء فعل) وفي صحيح مسلم ايضا عن البراء بن عازب (إذا اخذت مضجعك فقل كذا ...
) الى أن قال (وجهت وجهى اليك والجات ظهرى اليك رغبة ورهبة اليك لا منجى ولا ملجا منك الا اليك) .
وكان يقال معارضة المريض طبيبة توجب تعذيبه وكان يقال انما الكيس الماهر من امسى (1) في قبضه القاهر .
وكان يقال إذا كانت مغالبة القدر مستحيلة فما من اعوان تقوده الى الحيلة .
وكان يقال إذا التبست المصادر ففوض الى القادر .
وكان يقال من الدلالة على أن الانسان مصرف مغلوب ومدبر مربوب أن يتبلد رأيه في بعض الخطوب ويعمى عليه الصواب المطلوب .
وإذا كان كذلك فربما كان تدميره في تدبيره واغتياله من احتياله وهلكته من حركته .
وفي ذلك انشدوا ايا من يعول في المشكلات على ما رآه وما دبره (2) إذا اعضل الامر فافزع به الى من يرى منه ما لم تره تكن بين عطف يقيل الخطوب ولطف يهون ما قدره إذا كنت تجهل عقبى الامور وما لك حول ولا مقدرة فلم ذا العنا وعلام الاسى ومم الحذار وفي م الشره .
__________
(1) كذا في ا وفى ب : (استسلم) (2) الابيات لابن ظفر وهى في كتابه سلوان المطاع 8 .
(*)(11/227)
وانشدوا في هذا العنى يا رب مغتبط ومغبوط بامر فيه هلكة (1) ومنافس في ملك ما يشقيه في الدارين ملكه علم العواقب دونه ستر وليس يرام هتكه ومعارض الاقدار بالاراء سئ الحال ضنكه فكن امرا محض اليقين وزيف الشبهات سبكة تفويضه توحيده وعناده المقدار شركه .
ومنها الولاية والمعرفة وقد تقدم القول فيهما .
ومنها الدعاء والمناجاة قال الله تعالى (ادعوني استجب لكم) (2) وفي الحديث المرفوع (الدعاء مخ العبادة) .
وقد اختلف ارباب هذا الشان في الدعاء فقال قوم (الدعاء مفتاح الحاجة ومستروح اصحاب الفاقات وملجا المضطرين ومتنفس ذوى المارب .
وقد ذم الله تعالى قوما فقال (ويقبضون ايديهم) (2) فسروه وقالوا لا يمدونها إليه في السؤال .
وقال سهل بن عبد الله التسترى خلق الله الخلق وقال تاجروا في فان لم تفعلوا فاسمعوا منى فان لم تفعلوا فكونوا ببابى فان لم تفعلوا فانزلوا حاجاتكم بى .
قالوا وقد اثنى الله على نفسه فقال (امن يجيب المضطر إذا دعاه) (4) قالوا الدعاء اظهار فاقة العبودية .
__________
(1) لابن ظفر سلوان المطاع 8 .
(2) سورة غافر 60 (3) سورة التوبة 67 (4) سورة النمل 62 (*)(11/228)
وقال أبو حاتم الاعرج لان احرم الدعاء اشد على من أن احرم الاجابة .
وقال قوم بل السكوت والخمود تحت جريان الحكم والرضا بما سبق من اختيار الحكيم العالم بالمصالح اولى ولهذا قال الواسطي اختيار ما جرى لك في الازل خير لك من معارضة الوقت .
وقال النبي صلى الله عليه وآله اخبارا عن الله تعالى (من شغله ذكرى عن مسالتي اعطيته افضل ما اعطى السائلين) .
وقال قوم يجب أن يكون العبد صاحب دعاء بلسانه وصاحب رضا بقلبه لياتى بالامرين جميعا .
وقال قوم إن الاوقات تختلف ففى بعض الاحوال يكون الدعاء افضل من السكوت وفي بعض الاحوال يكون بالعكس وانما يعرف هذا في الوقت لان علم الوقت يحصل في الوقت فإذا وجد في قلبه الاشارة الى الدعاء فالدعاء اولى وإن وجد بقلبه الاشارة الى السكوت فالسكوت له اتم واولى .
وجاء في الخبر (إن الله يبغض العبد فيسرع اجابته بغضا لسماع صوته وانه يحب العبد فيؤخر اجابته حبا لسماع صوته) .
ومن ادب الدعاء حضور القلب فقد روى عنه صلى الله عليه وآله (إن الله لا يستجيب دعاء قلب لاه) .
ومن شروط الاجابة طيب الطعمة وحل المكسب قال صلى الله عليه وآله لسعد بن ابى وقاص (اطب كسبك تستجب دعوتك) .(11/229)
وينبغى أن يكون الدعاء بعد المعرفة قيل لجعفر بن محمد الصادق عليه السلام ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا قال لانكم تدعون من لا تعرفونه .
كان صالح المرى يقول كثيرا ادعوا فمن ادمن قرع الباب يوشك أن يفتح له فقالت له رابعة العدوية ما ذا تقول اغلق هذا الباب حتى يستفتح فقال صالح شيخ جهل وامراة علمت .
وقيل فائدة الدعاء اظهار الفاقة من الخلق والا فالرب يفعل ما يشاء .
وقيل دعاء العامة بالاقوال ودعاء العابد بالافعال ودعاء العارف بالاحوال .
وقيل خير الدعاء ما هيجه الاحزان والوجد .
وقيل اقرب الدعاء الى الاجابة دعاء الاضطرار لقوله تعالى (امن يجيب المضطر إذا دعاه) .
قال اصحاب هذه الطريقة السنة المبتدئين ارباب الارادة منطلقة بالدعاء والسنة المحققين الواصلين قد خرست عن ذلك .
وكان عبد الله بن المبارك يقول ما دعوته منذ خمسين سنة ولا اريد أن يدعو لى احد .
وقيل الدعاء سلم المذنبين .
وقال من قال بنقيض هذا الدعاء مراسلة وما دامت المراسلة باقية فالامر جميل بعد .
وقالوا السنة المذنبين دموعهم .
وكان أبو على الدقاق يقول إذا بكى المذنب فقد راسل الله .
وفي معناه انشدوا دموع الفتى عما يجن تترجم وانفاسه تبدين ما القلب يكتم .(11/230)
وقال بعضهم لبعض العارفين ادع لى فقال كفاك من الاجابة الا تجعل بينك وبينه واسطة .
ومنها التأسي قال سبحانه (لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنه) (1) أي في مصابه ومانيل منه في نفسه وفي اهله يوم احد فلا تجزعوا إن اصيب بعضكم .
وجاء في الحديث المرفوع لا تنظروا الى من فوقكم وانظروا الى من دونكم فانه اجدر الا تزدروا نعم الله عليكم .
وقالت الخنساء ترثى اخاها ولو لا كثرة الباكين حولي على اخوانهم لقتلت نفسي (2) وما يبكون مثل اخى ولكن اعزى النفس عنه بالتاسى .
وحقيقة التأسي تهوين المصائب والنوائب على النفس بالنظر الى ما اصاب امثالك ومن هو ارفع محلا منك .
وقد فسر العلماء قوله تعالى (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم انكم في العذاب مشتركون) (3) قال انه لا يهون على احد من اهل النار عذابه وإن تأسي بغيره من المعذبين لان الله تعالى جعل لهم التأسي نافعا في الدنيا ولم يجعله نافعا لاهل النار مبالغة في تعذيبهم ونفيا لراحة تصل إليهم .
__________
(1) سورة الاحزاب 21 .
(2) ديوانها 152 (3) سورة الزخرف 39 (*)(11/231)
ومنها الفقر وهو شعار الصالحين قال رسول الله صلى الله عليه وآ له (اللهم احينى مسكينا وامتنى مسكينا واحشرني مع المساكين) .
قال لعلى عليه السلام (إن الله قد زينك بزينة لم يزين العباد باحسن منها وهب لك حب المساكين فجعلك ترضى بهم اتباعا ويرضون بك اماما) .
وجاء في الخبر المرفوع (الفقراء الصبر جلساء الله يوم القيامة) .
وسئل يحيى بن معاذ عن الفقر فقال الا تستغنى الا بالله .
وقال أبو الدرداء لان اقع من فوق قصر فاتحطم احب الى من مجالسة الغني لانى سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول (اياكم ومجالسه الموتى) فقيل له وما الموتى قال الاغنياء .
قيل للربيع بن خثيم قد غلا السعر قال نحن اهون على الله من أن يجيعنا انما يجيع اولياءه .
وقيل ليحيى بن معاذ ما الفقر قال خوف الفقر .
وقال الشبلى ادنى علامات الفقير أن لو كانت الدنيا باسرها لواحد فانفقها في يوم واحد ثم خطر بباله (لو امسكت منها قوت يوم آخر) لم يصدق في فقره .
سئل ابن الجلاء عن الفقر فسكت ثم ذهب قليلا وعاد فقال كانت عندي اربعة دوانيق فضه فاستحييت من الله أن اتكلم في الفقر وهى عندي فذهبت فاخرجتها ثم قعد فتكلم في الفقر .
وقال أبو على الدقاق في تفسير قوله صلى الله عليه وآله (من تواضع لغنى ذهب ثلثا دينه إن المرء بقلبه ولسانه وجوارحه فمن تواضع لغنى بلسانه وجوارحه ذهب ثلثا دينه فان تواضع له مع ذلك بقلبه ذهب دينه كله .(11/232)
ومنها الادب قالوا في تفسير قوله تعالى (ما زاع البصر وما طغى) (1) حفظ ادب لحضره .
قيل انه عليه السلام لم يمد نظره فوق المقام الذى اوصل إليه ليله شاهد السدرة وهى اقصى ما يمكن أن ينتهى إليه البشريون .
وفي الحديث المرفوع (ادبنى ربى فاحسن تأديبي) وقيل إن الجنيد لم يمد رجله في الخلوة عشرين سنة وكان يقول الادب مع الله اولى من الادب مع الخلق .
وقال أبو على الدقاق من صاحب الملوك بغير ادب اسلمه الجهل الى القتل .
ومن كلامه عليه السلام ترك الادب يوجب الطرد فمن اساء الادب على البساط رد الى الباب ومن اساء الادب على الباب رد الى ساحة الدواب .
وقال عبد الله بن المبارك قد اكثر الناس في الادب وعندي إن الادب معرفه الانسان بنفسه .
وقال الثوري من لم يتادب للوقت فوقته مقت .
وقال أبو على الدقاق في قوله تعالى حكايه عن ايوب (إذ نادى ربه انى مسنى الضر وانت ارحم الراحمين) (2) قال لم يقل (فارحمني) لانه حفظ آداب الخطاب وكذلك قال في قول عيسى (إن كنت قلته فقد علمته) (3) قال لم يقل (لم اقل) رعاية لادب الحضرة .
__________
(1) سورة النجم 17 .
(2) سورة الانبياء 83 .
(3) سورة المائدة 116 .
(*)(11/233)
ومنها المحبة وهى مقام جليل قالوا المحبة أن تهب كلك لمن احببت فلا يبقى لك منك شئ .
قيل لبعض العرب ما وجدت من حب فلانه قال ارى القمر على جدارها احسن منه على جدران الناس .
وقال أبو عبد الرحمن السلمى المحبة أن تغار على محبوبك أن يحبه غيرك .
وقال النصراباذى المحبه نوعان نوع يوجب حقن الدماء ونوع يوجب سفك الدماء .
وقال يحيى بن معاذ المحبة الخالصة الا تنقص بالجفاء ولا تزيد بالبر وقيل للنصر اباذى كيف حالك في المحبة قال عدمت وصال المحبين ورزقت حسراتهم فهو ذا انا احترق فيها ثم قال المحبة مجانبة السلو على كل حال .
وانشدوا ومن كان في طول الهوى ذاق سلوة فانى من ليلى لها غير ذائق واكثر شئ نلته من وصالها اماني لم تصدق كلمحه بارق وجاء في الحديث المرفوع (المرء مع من احب) ولما سمع سمنون هذا الخبر قال فاز المحبون بشرف الدنيا والاخرة لانهم مع الله تعالى .
وفي الحديث المرفوع (لاعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله) وهذا يتجاوز حد الجلالة والشرف .
وكان يقال الحب اوله ختل وآخره قتل .
قيل كتب يحيى بن معاذ الى ابى يزيد سكرت من كثرة ما شربت من محبته فكتب إليه أبو زيد غيرك شرب بحور السموات والارض وما روى بعد ولسانه خارج وهو يقول هل من مزيد .(11/234)
: وانشد عجبت لمن يقول ذكرت حبى وهل انسى فاذكر ما نسيت شربت الحب كاسا بعد كاس فما نفد الشراب ولا رويت .
وقيل المحبة سكر لا يصحو صاحبه الا بمشاهدة محبوبه ثم السكر الذى يحصل عند المشاهدة لا يوصف .
وانشدوا فاسكر القوم دور كاس وكان سكرى من المدير .
ومنها الشوق جاء في الخبر المرفوع إن الجنة لتشتاق الى ثلاثة على وسلمان وعمار .
الشوق مرتبة من مراتب القوم ومقام من مقامتهم سئل ابن عطاء الشوق اعلى ام المحبة فقال المحبة لان الشوق منها يتولد .
ومن الادعية النبوية المأثورة الدعاء الذى كان يدعو به عمار بن ياسر رضى الله عنه (اللهم بعلمك بالغيب وقدرتك على الخلق احينى ما علمت الحياة خيرا لى وتوفنى ما كانت الوفاة خيرا لى اللهم انى اسالك خشيتك في الغيب والشهادة واسالك كلمة الحق في الرضا والغضب واسالك القصد في الغنى والفقر واسالك نعيما لا يبيد وقرة عين لا تنقطع واسالك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت واسالك النظر الى وجهك والشوق الى لقائك من غير ضراء مضرة اللهم زينا بزينة الايمان واجعلنا هداة مهتدين) .
قالوا الشوق احتياج القلب الى لقاء المحبوب وعلى قدر المحبة يكون الشوق وعلامة الشوق حب الموت .(11/235)
وهذا هو السر في قوله تعالى (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) (1) أي إن من كان صاحب محبة يتمنى لقاء محبوبه فمن لا يتمنى ذلك لا يكون صادق المحبة .
قيل لبعض الصوفية هل تشتاق إليه فقال انما الشوق الى غائب وهو حاضر لا يغيب .
وقالوا في قوله تعالى (من كان يرجو لقاء الله فان اجل الله لات) (2) انه تطيب لقلوب المشتاقين .
ويقال انه مكتوب في بعض كتب النبوات القديمة شوقناكم فلم تشتاقوا وزمرنا لكم فلم ترقصوا وخوفناكم فلم ترهبوا ونحنا لكم فلم تحزنوا وقيل إن شعيبا بكى حتى عمى فرد الله إليه بصره ثم بكى حتى عمى فرد عليه بصره ثم كذلك ثلاثا فقال الله تعالى (إن كان هذا البكاء شوقا الى الجنة فقد ابحتها لك وإن كان خوفا من النار فقد اجرتك منها) فقال وحقك لا هذا ولا هذا ولكن شوقا اليك فقال له (لاجل ذلك اخدمتك نبيى وكليمي عشر سنين .
ومنها الزهد ورفض الدنيا قال سبحانه (ولا تمدن عينيك الى ما متعنا به ازواجا منهم زهرة الحياة الدنيا) (3) وجاء في الخبر إن يوسف عليه السلام كان يجوع في سنى الجدب فقيل له ا تجوع وانت على خزائن مصر فقال اخاف أن اشبع فانسى الجياع وكذلك قال على عليه السلام وقد قيل له ا هذا لباسك وهذا ما ماكولك وانت امير
__________
(1) سورة البقرة 94 (2) سورة العنكبوت 5 (3) سورة طه 131 (*)(11/236)
المؤمنين فقال نعم إن الله فرض على ائمه العدل أن يقدروا لانفسهم كضعفه الناس كيلا يتبيغ (1) بالفقير فقره .
ومنع عمر بن الخطاب نفسه عام الرمادة الدسم وقال لا آكله حتى يصيبه المسلمون جميعا .
وكان عمر بن عبد العزيز من اكثر الناس تنعما قبل أن يلى الخلافة قومت ثيابه حينئذ بالف دينار وقومت وهو يخطب الناس ايام خلافته بثلاثة دراهم .
واعلم إن بعض هذه المراتب والمقامات التى ذكرناها للقوم قد يكون متداخلا في الظاهر وله في الباطن عندهم فرق يعرفه من يانس بكتبهم وقد اتينا في تقسيم مراتبهم وتفصيل مقاماتهم في هذا الفصل بما فيه كفاية
__________
(1) يتبيع به فقره اي يغلبه ويحمله على الشر .
(*)(11/237)
(218) الاصل ومن كلام له عليه السلام قاله عند تلاوته (يا ايها الانسان ما غرك بربك الكريم) (1) ادحض مسئول حجة واقطع مغتر معذرة لقد ابرح جهالة بنفسه يا ايها الانسان ما جراك على ذنبك وما غرك بربك وما انسك بهلكة نفسك ا ما من دائك بلول ام ليس من نومك يقظة اما ترحم من نفسك ما ترحم من غيرك فلربما ترى الضاحى من حر الشمس فتظله أو ترى المبتلى بالم يمض جسده فتبكى رحمة له فما صبرك على دائك وجلدك على مصابك وعزاك عن البكاء على نفسك وهى اعز الانفس عليك وكيف لا يوقظك خوف بيات نقمة وقد تورطت بمعاصيه مدارج سطواته فتداو من داء الفترة في قلبك بعزيمة ومن كرى الغفلة في ناظرك بيقظة وكن لله مطيعا وبذكره آنسا وتمثل في حال توليك عنه اقباله عليك يدعوك الى عفوه ويتغمدك بفضله وانت متول عنه الى غيره
__________
(1) سورة الانفطار 6 (*)(11/238)
فتعالى من قوى ما اكرمه وتواضعت من ضعيف ما اجراك على معصيته وانت في كنف ستره مقيم وفي سعة فضله متقلب فلم يمنعك فضله ولم يهتك عنك ستره بل لم تخل من لطفه مطرف عين في نعمه يحدثها لك أو سيئة يسترها عليك أو بلية يصرفها عنك فما ظنك به لو اطعته وايم الله لو إن هذه الصفة كانت في متفقين في القوة متوازيين في القدرة لكنت اول حاكم على نفسك بذميم الاخلاق ومساوئ الاعمال وحقا اقول ما الدنيا غرتك ولكن بها اغتررت ولقد كاشفتك العظات وآذنتك على سواء ولهى بما تعدك من نزول البلاء بجسمك والنقض في قوتك اصدق واوفى من أن تكذبك أو تغرك ولرب ناصح لها عندك متهم وصادق من خبرها مكذب ولئن تعرفتها في الديار الخاوية والربوع الخالية لتجدنها من حسن تذكيرك وبلاغ موعظتك بمحله الشفيق عليك والشحيح بك ولنعم دار من لم يرض بها دارا ومحل من لم يوطنها محلا وإن السعداء غدا هم الهاربون منها اليوم إذا رجفت الراجفة وحقت بجلائلها القيامة ولحق بكل منسك اهله وبكل معبود عبدته وبكل مطاع اهل طاعته فلم يجر في عدله وقسطه يومئذ خرق بصر في الهواء ولا همس قدم في الارض الا بحقه فكم حجه يوم ذاك داحضة وعلائق عذر منقطعة فتحر من امرك ما يقوم به عذرك وتثبت به حجتك وخذ ما يبقى لك مما لا تبقى له وتيسر لسفرك وشم برق النجاة وارحل مطايا التشمير(11/239)
الشرح لقائل إن يقول (لو قال ما غرك بربك العزيز أو المنتقم) أو نحو ذلك لكان اولى لان للانسان المعاتب أن يقول غرني كرمك الذى وصفت به نفسك .
وجواب هذا أن يقال إن مجموع الصفات صار كشئ واحد وهو الكريم الذى خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك والمعنى ما غرك برب هذه صفته وهذا شانه وهو قادر على أن يجعلك في أي صورة شاء فما الذى يؤمنك من أن يمسخك في صورة القردة والخنازير ونحوها من الحيوانات العجم ومعنى الكريم هاهنا الفياض على المواد بالصور ومن هذه صفته ينبغى أن يخاف منه تبديل الصورة .
قال عليه السلام (ادحض مسئول حجه) المبتدا محذوف والحجة الداحضة الباطلة .
والمعذرة بكسر الذال العذر .
ويقال لقد ابرح فلان جهالة وابرح لؤما وابرح شجاعة واتى بالبرح من ذلك أي بالشديد العظيم ويقال هذا الامر ابرح من هذا أي اشد وقتلوه ابرح قتل وجهالة منصوب على التمييز .
وقال القطب الراوندي مفعول به قال معناه جلب جهالة الى نفسه وليس بصحيح وابرح لا يتعدى هاهنا وانما يتعدى (ابرح) في موضعين احدهما ابرحه الامراى اعجبه والاخر ابرح زيد عمرا أي اكرمه وعظمه .
قوله (ما جراك) بالهمزة وفلان جرئ القوم أي مقدمهم .
وما انسك بالتشديد وروى (ما آنسك) بالمد كلاهما من اصل واحد وتانست(11/240)
بفلان واستانست بمعنى وفلان انيسى و مؤانسي وقد انسنى كله بمعنى أي كيف لم تستوحش من الامور التى تؤدى الى هلكه نفسك .
والبلول مصدر بل الرجل من مرضه إذا برئ ويجوز (ابل) قال الشاعر إذا بل من داء به ظن انه نجا وبه الداء الذى هو قاتله (1) .
والضاحى لحر الشمس البارز وهذا داء ممض أي مؤلم امضنى الجرح امضاضا ويجوز (مضنى) .
وروى وجلدك على مصائبك) بصيغة الجمع .
وبيات نقمة بفتح الباء طروقها ليلا وهى من الفاظ القرآن العزيز (2) .
وتورط وقع في الورطة بتسكين الراء وهى الهلاك واصل الورطة ارض مطمئنة لا طريق فيها وقد اورطه وورطه توريطا أي اوقعه فيها .
والمدارج الطرق والمسالك ويجوز انتصاب (مدارج) هاهنا لانها مفعول به صريح ويجوز أن ينتصب على تقدير حرف الخفض وحذفه أي في مدارج سطواته .
قوله و (تمثل) أي وتصور .
ويتغمدك بفضله أي يسترك بعفوه وسمى العفو والصفح فضلا تسميه للنوع بالجنس .
قوله (مطرف عين) بفتح الراء ازمان طرف العين وطرفها اطباق احد
__________
(1) الصحاح 4 : 1640 (من غير نسبة) .
(2) مكنه قوله تعالى (وكم من قرية اهلكناها فجاءها باسنا بياتا أو هم قائلون) .
4 سورة الاعراف (*)(11/241)
جفنيها على الاخر وانتصاب (مطرف) هاهنا على الظرفية كقولك وردت مقدم الحاج أي وقت قدومهم .
قوله (متوازيين في القدرة) أي متساويين وروى (متوازنين) بالنون .
والعظات جمع عظة وهو منصوب على نزع الخافض أي كاشفتك بالعظات وروى (العظات) بالرفع على انه فاعل وروى (كاشفتك الغطاء) .
وآذنتك أي اعلمتك .
وعلى سواء أي على عدل وانصاف وهذا من الالفاظ القرآنية (1) .
والراجفة الصيحة الاولى وحقت بجلائلها القيامة أي بامورها العظام والمنسك الموضع الذى تذبح فيه النسائك وهى ذبائح القربان ويجوز فتح السين وقد قرئ بهما في قوله تعالى (لكل امه جعلنا منسكا) (2) .
فان قلت إذا كان يلحق بكل معبود عبدته فالنصارى اذن تلحق بعيسى والغلاة من المسلمين بعلى وكذلك الملائكة فما القول في ذلك .
قلت لا ضرر في التحاق هؤلاء بمعبوديهم ومعنى الالتحاق أن يؤمر الاتباع في الموقف بالتحيز الى الجهة التى فيها الرؤساء ثم يقال للرؤساء اهؤلاء اتباعكم وعبدتكم فحينئذ يتبرءون منهم فينجو الرؤساء وتهلك الاتباع كما قال سبحانه (ا هؤلاء اياكم كانوا يعبدون * قالوا سبحانك انت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن اكثرهم بهم مؤمنون) (3) أي انما كانوا يطيعون الشياطين المضلة لهم فعبادتهم في
__________
(1) منه قوله تعالى (واما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء) 58 الانفال .
(1) سورة الحج 67 .
(3) سورة سبأ 41 .
(*)(11/242)
الحقيقة للشياطين لا لنا وانهم ما اطاعونا ولو اطاعونا لكانوا مهتدين وانما اطاعوا شياطينهم .
ولا حاجة في هذا الجواب الى أن يقال ما قيل في قوله تعالى (انكم وما تعبدون من دون الله) (1) من تخصيص العموم بالاية الاخرى وهى قوله تعالى (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى اولئك عنها مبعدون) (2) .
فان قلت فما قولك في اعتراض ابن الزبعرى على الايه هل هو وارد .
قلت لا لانه قال تعالى (انكم وما تعبدون) و (ما) لما لا يعقل فلا يرد عليه الاعتراض بالمسيح والملائكة والذى قاله المفسرون من تخصيص العموم بالاية الثانية تكلف غير محتاج إليه .
فان قلت فما الفائدة في إن قرن القوم باصنامهم في النار واى معنى لذلك في زيادة التعذيب والسخط .
قلت لان النظر الى وجه العدو باب من ابواب العذاب وانما اصاب هؤلاء ما اصابهم بسبب الاصنام التى ضلوا بها فكلما راوها معهم زاد غمهم وحسرتهم .
وايضا فانهم قدروا أن يستشفعوا بها في الاخرة فإذا صادفوا الامر على عكس ذلك لم يكن شئ ابغض إليهم منها .
قوله (فلم يجر) قد اختلف الرواة في هذه اللفظة فرواها قوم (فلم يجر) وهو مضارع (جرى يجرى) تقول ما الذى جرى للقوم فيقول من سألته قدم الامير من السفر فيكون المعنى على هذا فلم يكن ولم يتجدد في ديوان حسابه ذلك اليوم صغير ولا حقير الا بالحق والانصاف وهذا مثل قوله تعالى (لا ظلم اليوم إن الله سريع
__________
(1) سورة الانبياء 98 .
(2) سورة الانبياء 101 .
(*)(11/243)
الحساب) (1) ورواها قوم (فلم يجز) مضارع (جاز يجوز) أي لم يسغ ولم يرخص ذلك اليوم لاحد من المكلفين في حركة من الحركات المحقرات المستصغرات الا إذا كانت قد فعلها بحق وعلى هذا يجوز فعل مثلها ورواها قوم (فلم يجر) من (جار) أي عدل عن الطريق أي لم يذهب عنه سبحانه ولم يضل ولم يشذ عن حسابه شئ من امر محقرات الامور الا بحقه أي الا ما لا فائدة في اثباته والمحاسبة عليه نحو الحركات المباحة والعبثية التى لا تدخل تحت التكليف .
وقال الراوندي (خرق بصر) مرفوع لانه اسم ما لم يسم فاعله ولا اعرف لهذا الكلام معنى .
والهمس الصوت الخفى .
قوله (فتحر من امرك) تحريت كذا أي توخيته وقصدته واعتمدته .
قوله (وتيسر لسفرك) أي هيئ اسباب السفر ولا تترك لذاك عائقا .
والشيم النظر الى البرق .
ورحلت مطيتي إذا شددت على ظهرها الرحل قال الاعشى رحلت سمية غدوة اجمالها غضبى عليك فما تقول بدا لها (2) .
والتشمير الجد والانكماش في الامر .
ومعانى الفصل ظاهرة والفاظه الفصيحة تعطيها وتدل عليها بما لو اراد المفسر أن يعبر عنه بعبارة غير عبارته عليه السلام لكان لفظه عليه السلام اولى أن يكون تفسيرا لكلام ذلك المفسر
__________
(1) سورة غافر 17 .
(2) مطلع قصيدته ديوانه 22 .
(*)(11/244)
(219) الاصل ومن كلام له عليه السلام والله لان ابيت على حسك السعدان مسهدا أو اجر في الاغلال مصفدا احب الى من أن القى الله ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد وغاصبا لشئ من الحطام وكيف اظلم احدا لنفس يسرع الى البلى قفولها ويطول في الثرى حلولها والله لقد رايت عقيلا وقد املق حتى استماحني من بركم صاعا ورايت صبيانه شعث الشعور غبر الالوان من فقرهم كانما سودت وجوههم بالعظلم وعاودني مؤكدا وكرر على القول مرددا فاصغيت إليه سمعي فظن انى ابيعه دينى واتبع قياده مفارقا طريقتي فاحميت له حديدة ثم ادنيتها من جسمه لعتبر بها فضج ضجيج ذى دنف من المها وكاد أن يحترق من ميسمها فقلت له ثكلتك الثواكل يا عقيل اتئن من حديدة احماها انسانها للعبه وتجرنى الى نار سجرها جبارها لغضبه ا تئن من الاذى ولا ائن من لظى واعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها ومعجونة شنئتها كانما عجنت بريق حية أو فيئها فقلت اصله ام زكاة ام صدقة فذلك محرم علينا اهل البيت فقال لا ذا ولا ذاك ولكنها هديه فقلت هبلتك الهبول ا عن دين الله اتيتني لتخدعني امختبط ام ذو جنه ام تهجر والله لو اعطيت الاقاليم السبعة بما تحت افلاكها على أن اعصى الله في نملة اسلبها جلب شعيرة(11/245)
ما فعلته وإن دنياكم عندي لاهون من ورقة في فم جرادة تقضمها ما لعلى ولنعيم يفنى ولذة لا تبقى نعوذ بالله من سبات العقل وقبح الزلل وبه نستعين الشرح السعدان نبت ذو شوك يقال له حسك السعدان وحسكة السعدان وتشبه به حلمة الثدى فيقال سعدانه الثندوة وهذا النبت من افضل مراعى الابل وفي المثل (مرعى ولا كالسعدان) ونونه زائده لانه ليس في الكلام (فعلال) غير مضاعف الا (خزعال) وهو ظلع يلحق الناقه و (قهقار) وهو الحجر الصلب و (قسطال) وهو الغبار .
والمسهد الممنوع النوم وهو السهاد .
والاغلال القيود والمصفد المقيد والحطام عروض الدنيا ومتاعها شبه لزواله وسرعة فنائه بما يتحطم من العيدان ويتكسر .
ثم قال كيف اظلم الناس لاجل نفس تموت سريعا - يعنى نفسه عليه السلام .
فان قلت ا ليس قوله (عن نفس يسرع الى البلى قفولها) يشعر بمذهب من قال بقدم الانفس لان القفول الرجوع ولا يقال في مذهبه للمسافرة قافلة الا إذا كانت راجعة .
قلت لا حاجة الى القول بقدم الانفس محافظة على هذه اللفظة وذلك لان النفس إذا كانت حادثة فقد كان اصلها العدم فإذا مات الانسان عدمت نفسه فرجعت الى العدم الاصلى وهو المعبر عنه بالبلى .(11/246)
واملق افتقر قال تعالى (ولا تقتلوا اولادكم من املاق) (1) .
واستماحني طلب منى أن اعطيه صاعا من الحنطة والصاع اربعة امداد والمد رطل وثلث فمجموع ذلك خمسه ارطال وثلث رطل وجمع الصاع اصوع وإن شئت همزت والصواع لغه في الصاع ويقال هو اناء يشرب فيه .
والعظلم بالكسرة في الحرفين نبت يصبغ به ما يراد اسوداده ويقال هو الوسمه وشعث الالوان أي غبر .
واصغيت إليه املت سمعي نحوه .
واتبع قياده اطيعه وانقاد له .
واحميت الحديدة في النار فهى محماة ولا يقال حميت الحديدة .
وذى دنف أي ذى سقم مؤلم .
ومن ميسمها من اثرها في يده .
وثكلتك الثواكل دعاء عليه وهو جمع ثاكلة وفواعل لا يجئ الا جمع المؤنث الا فيما شذ نحو فوارس أي ثكلتك نساؤك .
قوله (احماها انسانها) أي صاحبها ولم يقل (انسان) لانه يريد أن يقابل هذه اللفظة بقوله (جبارها) .
وسجرها بالتخفيف اوقدها و احماها والسجور ما يسجر به التنور .
قوله (بملفوفة في وعائها) كان اهدى له الاشعث بن قيس نوعا من الحلواء تأنق فيه وكان عليه السلام يبغض الاشعث لان الاشعث كان يبغضه وظن الاشعث انه يستميله بالمهاداة لغرض دنيوى كان في نفس الاشعث وكان امير المؤمنين
__________
(1) سورة الانعام 151 .
(*)(11/247)
عليه السلام يفطن لذلك ويعلمه ولذلك رد هدية الاشعث ولو لا ذلك لقبلها لان النبي صلى الله عليه وآله قبل الهدية وقد قبل على عليه السلام هدايا جماعة من اصحابه ودعاه بعض من كان يانس إليه الى حلواء عملها يوم نوروز فاكل وقال لم عملت هذا فقال لانه يوم نوروز فضحك وقال نوروزا لنا في كل يوم إن استطعتم .
وكان عليه السلام من لطافه الاخلاق وسجاحه الشيم على قاعدة عجيبة جميلة ولكنه كان ينفر عن قوم كان يعلم من حالهم الشنان له وعمن يحاول إن يصانعه بذلك عن مال المسلمين وهيهات حتى يلين لضرس الماضغ الحجر .
وقال بملفوفة في وعائها لانه كان طبق مغطى .
ثم قال (ومعجونة شنئتها) أي ابغضتها ونفرت عنها كأنها عجنت بريق الحية أو بقيئها وذلك اعظم الاسباب للنفرة من المأكول .
وقال الراوندي وصفها باللطافة فقال كأنها عجنت بريق الحية وهذا تفسير ابعد من الصحيح .
قوله (ا صلة ام زكاة ام صدقة فذلك محرم علينا اهل البيت) الصلة العطية لا يراد بها الاجر بل يراد وصلة التقرب الى الموصول واكثر ما تفعل للذكر والصيت والزكاة هي ما تجب في النصاب من المال .
والصدقة هاهنا هي صدقة التطوع وقد تسمى الزكاة الواجبة صدقة الا انها هنا هي النافلة .
فان قلت كيف قال (فذلك محرم علينا اهل البيت) وانما يحرم عليهم الزكاة الواجبة خاصة ولا يحرم عليهم صدقة التطوع ولا قبول الصلات قلت اراد بقوله (اهل البيت) الاشخاص الخمسة محمدا وعليا وفاطمة وحسنا وحسينا(11/248)
عليهم السلام فهؤلاء خاصه دون غيرهم من بنى هاشم محرم عليهم الصلة وقبول الصدقة واما غيرهم من بنى هاشم فلا يحرم عليهم الا الزكاة الواجبة خاصة .
فان قلت كيف قلت إن هؤلاء الخمسة يحرم عليهم قبول الصلات وقد كان حسن وحسين عليه السلام يقبلان صلة معاوية .
قلت كلا لم يقبلا صلته ومعاذ الله أن يقبلاها وانما قبلا منه ما كان يدفعه اليهما من جملة حقهما من بيت المال فان سهم ذوى القربى منصوص عليه في الكتاب العزيز ولهما غير سهم ذوى القربى سهم آخر للاسلام من الغنائم .
قوله (هبلتك الهبول) أي ثكلتك امك والهبول التى لها عادة بثكل الولد .
فان قلت ما الفرق بين مختبط وذى جنة يهجر .
قلت المختبط المصروع من غلبة الاخلاط السوداوية أو غيرها عليه وذو الجنة من به مس من الشيطان والذى يهجر هو الذى يهذى في مرض ليس بصرع كالمحموم والمبرسم ونحوهما .
وجلب الشعيرة بضم الجيم قشرها والجلب والجلبة ايضا جليدة تعلو الجرح عند البرء يقال منه جلب الجرح يجلب ويجلب واجلب الجرح ايضا ويقال للجليدة التى تجعل على القتب جلبة ايضا .
وتقضمها بفتح الضاد والماضي قضم بالكسر(11/249)
[ نبذ من اخبار عقيل بن ابى طالب ] وعقيل هو عقيل بن ابى طالب - عليه السلام - بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف اخو امير المؤمنين عليه السلام لامه وابيه وكان بنو ابى طالب اربعة طالب وهو اسن من عقيل بعشر سنين وعقيل وهو اسن من جعفر بعشر سنين وجعفر وهو اسن من على بعشر سنين وعلى وهو اصغرهم سنا واعظمهم قدرا بل واعظم الناس بعد ابن عمه قدرا .
وكان أبو طالب يحب عقيلا اكثر من حبه سائر بنيه فلذلك قال للنبى صلى الله عليه وآله وللعباس حين اتياه لا ليقتسما بنيه عام المحل فيخففا عنه ثقلهم (دعوا لى عقيلا وخذوا من شئتم) فاخذ العباس جعفرا واخذ محمد صلى الله عليه وآله عليا عليه السلام وكان عقيل يكنى ابا يزيد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله (يا ابا يزيد انى احبك حبين حبا لقرابتك منى وحبا لما كنت اعلم من حب عمى اياك .
اخرج عقيل الى بدر مكرها كما اخرج العباس فاسر وفدى وعاد الى مكه ثم اقبل مسلما مهاجرا قبل الحديبية وشهد غزاة مؤته مع اخيه جعفر عليه السلام وتوفى في خلافة معاوية في سنة خمسين وعمره ست وتسعون سنة .
وله دار بالمدينة معروفة وخرج الى العراق ثم الى الشام ثم عاد الى المدينة ولم يشهد مع اخيه امير المؤمنين عليه السلام شيئا من حروبه ايام خلافته وعرض نفسه وولده عليه فاعفاه ولم يكلفه حضور الحرب .
وكان انسب قريش واعلمهم بايامها وكان مبغضا إليهم لانه كان يعد مساوئهم(11/250)
وكانت له طنفسه تطرح في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله فيصلى عليها ويجتمع إليه الناس في علم النسب وايام العرب وكان حينئذ قد ذهب بصره وكان اسرع الناس جوابا واشدهم عارضه .
كان يقال إن في قريش اربعة يتحاكم إليهم في علم النسب وايام قريش ويرجع الى قولهم عقيل بن ابى طالب ومخرمة بن نوفل الزهري وابو الجهم بن حذيفة العدوى وحويط بن عبد العزى العامري .
واختلف الناس في عقيل هل التحق بمعاوية وامير المؤمنين حى فقال قوم نعم ورووا أن معاوية قال يوما وعقيل عنده هذا أبو زيد لو لا علمه انى خير له من اخيه لما اقام عندنا وتركه فقال عقيل اخى خير لى في دينى وانت خير لى في دنياى وقد آثرت دنياى اسال الله خاتمة خير .
وقال قوم انه لم يعد الى معاوية الا بعد وفاة امير المؤمنين عليه السلام واستدلوا على ذلك بالكتاب الذى كتبه إليه في آخر خلافته والجواب الذى اجابه عليه السلام و قد ذكرناه فيما تقدم وسياتى ذكره ايضا في باب كتبه عليه السلام وهذا القول هو الاظهر عندي وروى المدائني قال قال معاوية يوما يوما لعقيل بن ابى طالب هل من حاجة فاقضيها لك قال نعم جارية عرضت على وابى اصحابها أن يبيعوها الا باربعين الفا فاحب معاوية أن يمازحه فقال وما تصنع بجارية قيمتها اربعون الفا وانت اعمى تجتزئ بجارية قيمتها خمسون درهما قال ارجو أن اطاها فتلد لى غلاما إذا اغضبته يضرب عنقك بالسيف فضحك معاوية وقال مازحناك يا ابا يزيد وامر فابتيعت له الجارية(11/251)
التى اولد منها مسلما فلما اتت على مسلم ثمانى عشرة سنة - وقد مات عقيل ابوه - قال لمعاوية يا امير المؤمنين إن لى ارضا بمكان كذا من المدينة وانى اعطيت بها مائة الف وقد احببت أن ابيعك اياها فادفع الى ثمنها فامر معاوية بقبض الارض ودفع الثمن إليه .
فبلغ ذلك الحسين عليه السلام فكتب الى معاوية اما بعد فانك غررت غلاما من بنى هاشم فابتعت منه ارضا لا يملكها فاقبض من الغلام ما دفعته إليه واردد الينا ارضنا .
فبعث معاوية الى مسلم فاخبره ذلك واقراه كتاب الحسين عليه السلام وقال اردد علينا مالنا وخذ ارضك فانك بعت ما لا تملك فقال مسلم اما دون أن اضرب راسك بالسيف فلا فاستلقى معاوية ضاحكا يضرب برجليه فقال يا بنى هذا والله كلام قاله لى ابوك حين ابتعت له امك .
ثم كتب الى الحسين انى قد رددت عليكم الارض وسوغت مسلما ما اخذ فقال الحسين عليه السلام ابيتم يا آل ابى سفيان الا كرما .
وقال معاوية لعقيل يا ابا يزيد اين يكون عمك أبو لهب اليوم قال إذا دخلت جهنم فاطلبه تجده مضاجعا لعمتك ام جميل بنت حرب بن امية .
وقالت له زوجته ابنه عتبه بن ربيعة يا بنى هاشم لا يحبكم قلبى ابدا ابن عمى اين اخى كان اعناقهم اباريق الفضة ترى آنافهم الماء قبل شفاههم قال إذا دخلت جهنم فخذي على شمالك .(11/252)
سال معاوية عقيلا عن قصة الحديدة المحماة المذكورة فبكى وقال انا احدثك يا معاوية عنه ثم احدثك عما سالت نزل بالحسين ابنه ضيف فاستسلف درهما اشترى به خبزا واحتاج الى الادام فطلب من قنبر خادمهم أن يفتح له زقا من زقاق عسل جاءتهم من اليمن فاخذ منه رطلا فلما طلبها عليه السلام ليقسمها قال يا قنبر اظن انه حدث بهذا الزق حدث فاخبره فغضب عليه السلام وقال على بحسين فرفع عليه الدرة فقال بحق عمى جعفر - وكان إذا سئل بحق جعفر سكن - فقاله ما حملك أن اخذت منه قبل القسمة قال إن لنا فيه حقا فإذا اعطيناه رددناه قال فداك ابوك وإن كان لك فيه حق فليس لك أن تنتفع بحقك قبل أن ينتفع المسلمون بحقوقهم اما لو لا انى رايت رسول الله صلى الله عليه وآله يقبل ثنيتك لاوجعتك ضربا ثم دفع الى قنبر درهما كان مصرورا في ردائه وقال اشتر به خير عسل تقدر عليه قال عقيل والله لكانى انظر الى يدى على وهى على فم الزق وقنبر يقلب العسل فيه ثم شده وجعل يبكى ويقول اللهم اغفر لحسين فانه لم يعلم .
فقال معاوية ذكرت من لا ينكر فضله رحم الله ابا حسن فلقد سبق من كان قبله واعجز من ياتي بعده هلم حديث الحديدة .
قال نعم اقويت واصابتني مخمصة شديدة فسألته فلم تند صفاته فجمعت صبياني وجئته بهم والبؤس والضر ظاهران عليهم فقال ائتنى عشية لادفع اليك شيئا فجئته يقودنى احد ولدى فأمره بالتنحي ثم قال ا لا فدونك فاوهيت حريصا - قد غلبنى الجشع اظنها صرة - فوضعت يدى على حديدة تلتهب نارا فلما قبضتها نبذتها وخرت كما يخور الثور تحت يد جازره فقال لى ثكلتك امك هذا من حديدة(11/253)
اوقدت لها نار الدنيا فكيف بك وبى غدا إن سلكنا في سلاسل جهنم ثم قرا (إذ الاغلال في اعناقهم والسلاسل يسحبون) (1) .
ثم قال ليس لك عندي فوق حقك الذى فرضه الله لك الا ما ترى فانصرف الى اهلك .
فجعل معاوية يتعجب ويقول هيهات هيهات عقمت النساء أن يلدن مثله
__________
(1) سورة غافر 71 .
(*)(11/254)
(220) الاصل ومن دعاء له عليه السلام اللهم صن وجهى باليسار ولا تبذل جاهى بالاقتار فاسترزق طالبي رزقك واستعطف شرار خلقك وابتلى بحمد من اعطاني وافتتن بذم من منعنى وانت من وراء ذلك كله ولى الاعطاء والمنع (انك على كل شئ قدير) الشرح صن وجهى باليسار أي استره بان ترزقني يسارا وثروه استغنى بهما عن مسالة الناس .
ولا تبذل جاهى بالاقتار أي لا تسقط مروءتي وحرمتي بين الناس بالفقر الذى احتاج معه الى تكفف الناس .
وروى أن عبد الله بن جعفر بن ابى طالب الجواد رقت حاله في آخر عمره لان عبد الملك جفاه فراح يوما الى الجمعه فدعا فقال اللهم انك عودتني عادة جريت عليها فان كان ذلك قد انقضى فاقبضني اليك فلم يلحق الجمعة الاخرى .
وكان الحسن بن على عليه السلام يدعو فيقول (اللهم وسع على فانه لا يسعنى الا الكثير) .(11/255)
قوله (فاسترزق) منصوب لانه جواب الدعاء كقولهم ارزقني بعيرا فاحج عليه بين عليه السلام كيفيه تبذل جاهه بالاقتار وفسره فقال بان اطلب الرزق ممن يطلب منك الرزق .
و استعطف الاشرار من الناس أي اطلب عاطفتهم وافضالهم ويلزم من ذلك امران محذوران احدهما أن ابتلى بحمد المعطى .
والاخر أن افتتن بذم المانع .
قوله عليه السلام (وانت من وراء ذلك كله) مثل يقال للمحيط بالامر القاهر له القادر عليه كما نقول للملك العظيم هو من وراء وزرائه وكتابه أي مستعد متهيئ لتتبعهم وتعقبهم واعتبار حركاتهم لاحاطته بها واشرافه عليها .
وولى مرفوع بانه خبر المبتدا ويكون خبرا بعد خبر ويجوز أن يكون (ولى) هو الخبر ويكون (من وراء ذلك) جملة مركبة من جار ومجرور منصوبة الموضع لانه حال(11/256)
(221) الاصل ومن خطبة له عليه السلام دار بالبلاء محفوفة وبالغدر معروفة لا تدوم احوالها ولا يسلم نزالها احوال مختلفة وتارات متصرفة العيش فيها مذموم والامان منها (1) معدوم وانما اهلها فيها اغراض مستهدفة ترميهم بسهامها وتفنيهم بحمامها واعلموا عباد الله انكم وما انتم فيه من هذه الدنيا على سبيل من قد مضى قبلكم ممن كان اطول منكم اعمارا واعمر ديارا وابعد آثارا اصبحت اصواتهم هامدة ورياحهم راكدة واجسادهم باليه وديارهم خالية وآثارهم عافيه فاستبدلوا بالقصور المشيدة والنمارق الممهدة الصخور والاحجار المسندة والقبور اللاطئة الملحدة التى قد بنى على الخراب فناؤها وشيد بالتراب بناؤها فمحلها مقترب وساكنها مغترب بين اهل محله موحشين واهل فراغ متشاغلين لا يستانسون بالاوطان ولا يتواصلون تواصل الجيران على ما بينهم من قرب الجوار ودنو الدار وكيف يكون بينهم تزاور وقد طحنهم بكلكلة البلى واكلتهم الجنادل والثرى وكان قد صرتم الى ما صاروا إليه وارتهنكم ذلك المضجع وضمكم ذلك المستودع فكيف بكم لو تناهت بكم الامور وبعثرت القبور (هنالك تبلو كل
__________
(1) ب " فيها " .
(*)(11/257)
نفس ما اسلفت وردوا الى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون) (1) الشرح بالبلاء محفوفه قد احاط بها من كل جانب .
وتارات جمع تارة وهى المرة الواحدة ومتصرفة منتقلة متحولة .
ومستهدفة بكسر الدال منتصبة مهياة للرمي وروى (مستهدفة) بفتح الدال على المفعولية كأنها قد استهدفها غيرها أي جعلها اهدافا .
ورياحهم راكدة ساكنة وآثارهم عافية مندرسة .
والقصور المشيدة العالية ومن روى (المشيدة) بالتخفيف وكسر الشين فمعناه المعمولة بالشيد وهو الجص .
والنمارق الوسائد .
والقبور الملحدة ذوات اللحود .
وروى (والاحجار المسندة) بالتشديد .
قوله عليه السلام (قد بنى على الخراب فناؤها) أي بنيت لا لتسكن الاحياء فيها كما تبنى منازل اهل الدنيا .
والكلكل الصدر وهو ها هنا استعارة .
والجنادل الحجارة وبعثرت القبور اثيرت .
وتبلو كل نفس ما اسلفت تخبر وتعلم جزاء اعمالها وفيه حذف مضاف ومن
__________
(1) سورة يونس 30 .
(*)(11/258)
قرا (تتلو) بالتاء بنقطتين أي تقرا كل نفس كتابها وضل عنهم ما كانوا يفترون بطل عنهم ما كانوا يدعونه ويكذبون فيه من القول بالشركاء وانهم شفعاء [ ذكر بعض الاثار والاشعار الواردة في ذم الدنيا ] ومن كلام بعض البلغاء في ذم الدنيا اما بعد فان الدنيا قد عاتبت نفسها بما ابدت من تصرفها وانبات عن مساوئها بما اظهرت عن مصارع اهلها ودلت على عوراتها بتغير حالاتها ونطقت السنة العبر فيها بزوالها وشهد اختلاف شئونها على فنائها ولم يبق لمرتاب فيها ريب ولا ناظر في عواقبها شك بل عرفها جل من عرفها معرفة يقين وكشفوها اوضح تكشيف ثم اختلجتهم الاهواء عن منافع العلم ودلتهم الامال بغرور فلججت بهم في غمرات العجز فسبحوا في بحورها موقنين بالهلكة ورتعوا في عراصها عارفين بالخدعة فكان يقينهم شكا وعلمهم جهلا لا بالعلم انتفعوا ولا بما عاينوا اعتبروا قلوبهم عالمة جاهلة وابدانهم شاهدة غائبة حتى طرقتهم المنية فاعجلتهم عن الامنية فبغتتهم القيامة واورثتهم الندامة وكذلك الهوى حلت مذاقته وسمت عاقبته والامل ينسى طويلا وياخذ وشيكا فانتفع امرؤ بعلمه وجاهد هواه أن يضله وجانب امله أن يغره وقوى يقينه على العمل ونفى عنه الشك بقطع الامل فان الهوى والامل إذا استضعفا اليقين صرعاه وإذا تعاونا على ذى غفلة خدعاه فصريعهما لا ينهض سالما وخديعهما لا يزال نادما والقوى من قوى عليهما والحازم من احترس منهما البسنا الله واياكم جنة السلامة ووقانا واياكم سوء العذاب .(11/259)
كان عمر بن عبد العزيز إذا جلس للقضاء قرا (ا فرايت إن متعناهم سنين * ثم جاءهم ما كانوا يوعدون * ما اغنى عنهم ما كانوا يمتعون) (1) .
قال منصور بن عمار لاهل مجلسه ما ارى اساءة تكبر على عفو الله فلا تياس وربما آخذ الله على الصغير فلا تأمن وقد علمت انك بطول عفو الله عنك عمرت مجالس الاغترار به ورضيت لنفسك المقام على سخطه ولو كنت تعاقب نفسك بقدر تجاوزه عن سيئاتك ما استمر بك لجاج فيما نهيت عنه ولا قصرت دون المبالغة فيه ولكنك رهين غفلتك واسير حيرتك .
قال اسماعيل بن زياد أبو يعقوب قدم علينا بعبادان راهب من الشام ونزل دير ابن ابى كبشه فذكروا حكمة كلامه فحملني ذلك على لقائه فاتيته وهو يقول إن لله عبادا سمت بهم هممهم فهووا عظيم الذخائر فالتمسوا من فضل سيدهم توفيقا يبلغهم سمو الهمم فان استطعتم ايها المرتحلون عن قريب أن تأخذوا ببعض امرهم فانهم قوم قد ملكت الاخرة قلوبهم فلم تجد الدنيا فيها ملبسا فالحزن بثهم والدمع راحتهم والدءوب وسيلتهم وحسن الظن قربانهم يحزنون بطول المكث في الدنيا إذا فرح اهلها فهم فيها مسجونون والى الاخرة منطلقون .
فما سمعت موعظة كانت انفع لى منها .
ومن جيد شعر ابى نواس في الزهد (2) يا بنى النقص والغير وبنى الضعف والخور وبنى البعد في الطباع على القرب في الصور
__________
(1) سورة الشعراء 205 ، 207 .
(2) ديوانه 195 .
(*)(11/260)
والشكول التى تباين في الطول والقصر اين من كان قبلكم من ذوى الباس والخطر سائلوا عنهم المدائن واستبحثوا الخبر سبقونا الى الرحيل وانا لبالاثر من مضى عبرة لنا وغدا نحن معتبر إن للموت اخذه تسبق اللمح بالبصر فكانى بكم غدا في ثياب من المدر قد نقلتم من القصور الى ظلمة الحفر حيث لا تضرب القباب عليكم ولا الحجر حيث لا تطربون منه للهو ولا سمر (1) رحم الله مسلما ذكر الموت فازدجر رحم الله مؤمنا خاف فاستشعر الحذر .
ومن جيد شعر الرضى ابى الحسن رحمه الله في ذكر الدنيا وتقلبها باهلها (1) وهل نحن الا مرامي السهام يحفزها نابل دائب (3) نسر إذا جازنا طائش ونجزع إن مسنا صائب ففى يومنا قدر لا بد وعند غد قدر واثب (4)
__________
(1) رواية الديوان : حيث لا تظهرون فيه للهو ولاسمر (2) ديوانه لوحة 711 من قصيدة يرثي فيها عميد الجيوش ابا على الحسن بن جعفر .
(3) النابل : صاحب النبل والدائب المجد .
(4) لابد : مقيم .
(*)(11/261)
طرائد تطردها النائبات ولا بد أن يدرك الطالب ارى المرء يفعل فعل وهو غدا حما لازب (1) عوارى من سلب الهالكين يمد يدا نحوها السالب لنا بالردى موعد صادق ونيل المنى موعد كاذب حبائل للدهر مبثوثه يرد الى جذبها الهارب وكيف نجاوز غاياتنا وقد بلغ المورد القارب (2) نصبح بالكاس مجدحة (3) ذعافا ولا يعلم الشارب (4) .
وقال ايضا وهى من محاسن شعره ما اقل اعتبارنا بالزمان واشد اغترارنا بالآماني (5) وقفات على غرور واقدام على مزلق من الحدثان في حروب مع الردى فكانا اليوم في هدنة مع الازمان وكفانا مذكرا بالمنايا علمنا اننا من الحيوان كل يوم رزية بفلان ووقوع من الردى بفلان كم تراني اضل نفسا والهو فكانى وثقت بالوجدان قل لهذى الهوامل استوقفي السير أو استنشدي عن الاعطان واستقيمي قد ضمك اللقم النهج وغنى وراءك الحاديان (6)
__________
(1) الحمأ الطين الاسود المنتن واللازب الصلب اللازق .
(2) المورد مكان ورد الماء والقارب الذى يطلب الماء .
(3) نصبح نؤتي بها وقت الصبح ومجدوحة مخلوطة (4) رواية الديوان : * ولاعلم لى اينا الشارب * (5) ديوانه لوحة 155 يرثي صديقا له من بنى العباس اسمه أبو عبد الله بن الامام .
(6) اللقم معظم الطريق .
(*)(11/262)
كم محيدا عن الطريق وقد ضرح خلج البرى وجذب العران ننثني جازعين من عدوة الدهر ونرتاع للمنايا الروانى جفلة السرب في الضلام وقد ذعذع روعا من عدوة الذؤبان ثم ننسى جرح الحمام وإن كان رغيبا يا قرب ذا النسيان كل يوم تزايل من خليط بالردى أو تباعد من دان (1) وسواء مضى بنا القدر الجد عجولا أو ماطل العصران .
وايضا من هذه القصيدة قد مررنا على الديار خشوعا وراينا البنا فاين البانى وجهلنا الرسوم ثم علمنا فذكرنا الاوطار بالاوطان التفاتا الى القرون الخوالى هل ترى اليوم غير قرن فان اين رب السدير فالحيرة البيضاء ام اين صاحب الايوان والسيوف الحداد من آل بدر والقنا الصم من بنى الريان طردتهم وقائع الدهر عن لعلع طرد السفاف عن نجران والمواضى من آل جفنة ارسى طنبا ملكهم على الجولان يكرعون العقار في فلق الابريز كرع الظماء في الغدران (2) من اباة اللعن الذين يحيون بها في معاقد التيجان تتراءاهم الوفود بعيدا ضاربين الصدور بالاذقان
__________
(1) الخليط : الصديق والدانى القريب (2) الفلق : القطعة من الجفان (*)(11/263)
في رياض من السماح حوال وجبال من الحلوم رزان وهم الماء لذ للناهل الظمان بردا والنار للحيران كل مستيقظ الجنان إذا اظلم ليل النوامة المبطان يغتدى في السباب غير شجاع ويرى في النزال غير جبان ما ثنت عنهم المنون يدا شوكاء اطرافها من المران (1) عطف الدهر فرعهم فرآه بعد بعد الذرا قريب المجاني وثنتهم بعد الجماح المنايا في عنان التسليم والاذعان عطلت منهم المقارى وباخت في حماهم مواقد النيران (2) ليس يبقى على الزمان جرئ في اباء أو عاجز في هوان لا شبوب من الصوار ولا اعنق يرعى منابت العلجان لا ولا خاضب من الربد يختال بريط احم غير يمان (3) برتمى وجهه الرئال إذا آنس لون الاظلام والادجان وعقاب الملاع تلحم فرخيها بازليقة زلول القنان نائلا في مطامح الجو هاتيك وذا في مهابط الغيطان وهذا شعر فصيح نادر معرق في العربيه
__________
(1) المران : الرماح .
(2) باخت خمدت (3) الربط : جمع ربطة .
(*)(11/264)
ومن شعره الجيد ايضا في ذكر الدنيا ومصائبها (1) أو ما رايت وقائع الدهر افلا تسئ الظن بالعمر بينا الفتى كالطود تكنفه هضباته والعضب ذى الاثر يابى الدنية في عشيرته ويجاذب الايدى على الفخر وإذا اشار الى قبائله حشدت عليه باوجه غر يترادفون على الرماح فهم سيل يعب وعارض يسرى إن نهنهوا زادوا مقاربة فكانما يدعون بالزجر عدد النجوم إذا دعى بهم يتزاحمون تزاحم الشعر عقدوا على الجلى مازرهم سبطى الانامل طيبى النشر زل الزمان بوطء اخمصه ومواطئ الاقدام للعثر نزع الاباء وكان شملته واقر اقرارا على صغر صدع الردى اعيا تلاحمه من الحم الصدفين بالقطر جر الجياد على الوجى ومضى امما يدق السهل بالوعر حتى التقى بالشمس مغمدة في قعر منقطع من البحر ثم انثنت كف المنون به كالضغث بين الناب والظفر لم تشتجر عنه الرماح ولا رد القضاء بماله الدثر جمع الجنود وراءه فكانما لاقته وهو مضيع الظهر وبنى الحصون تمنعا فكانما امسى بمضيعة وما يدرى وبرى المعابل للعدا فكانما لحمامة كان الذى يبرى
__________
(1) من قصيدة يرثى بها ابا الحسن عبد الله بن محمد ديوانه لوحة 132 .
(*)(11/265)
إن التوقى فرط معجزة فدع القضاء يقد أو يفرى وحمى المطاعم للبقا وذى الاجال ملء فروجها تجرى لو كان حفظ النفس ينفعنا كان الطبيب احق بالعمر الموت داء لا دواء له سيان ما يوبى وما يمرى .
وهذا من حر الكلام وفصيحة ونادرة ولا عجب فهذه الورقة من تلك الشجرة وهذا القبس من تلك النار(11/266)
(222) الاصل ومن دعاء عليه السلام اللهم انك آنس الانسين لاوليائك واحضرهم بالكفاية للمتوكلين عليك تشاهدهم في سرائرهم وتطلع عليهم في ضمائرهم وتعلم مبلغ بصائرهم فاسرارهم لك مكشوفة وقلوبهم اليك ملهوفة إن اوحشتهم الغربة آنسهم ذكرك وإن صبت عليهم المصائب لجاوا الى الاستجارة بك علما بان ازمة الامور بيدك ومصادرها عن قضائك اللهم إن فههت عن مسالتي أو عميت عن طلبتي فدلني على مصالحي وخذ بقلبي الى مراشدي فليس ذلك بنكر من هداياتك ولا ببدع من كفاياتك اللهم احملني على عفوك ولا تحملني على عدلك الشرح انست ضد وحشت والايناس ضد الايحاش وكان القياس أن يقول انك آنس المؤنسين لان الماضي (افعل) وانما الانسون جمع آنس وهو الفاعل من انست بكذا لا من (آنست) فالرواية الصحيحة اذن (باوليائك) أي انت اكثرهم انسا باوليائك وعطفا وتحننا عليهم .
واحضرهم بالكفاية أي ابلغهم احضارا لكفاية المتوكلين عليهم واقومهم بذلك(11/267)
تشاهدهم في سرائرهم أي تطلع على غيبهم والبصائر العزائم نفذت بصيرته في كذا أي حق عزمه .
وقلوبهم اليك ملهوفة أي صارخة مستغيثة .
وفههت عن مسالتي بالكسر عييت والفهة والفهاهة العى رجل افه ورجل فه ايضا وامراة فههة قال الشاعر فلم تلفنى فها ولم تلف حاجتى ملجلجة ابغى لها من يقيمها (1) .
وقد فههت يا رجل فههااى عييت ويقال سفيه فهيه وفههه الله وخرجت لحاجة فافهنى عنها فلان اي انسانيها .
ويروى (أو عمهت) بالهاء والميم المكسورة والعمه التحير والتردد عمه الرجل فهو عمه وعامه والجمع عمه وارض عمهاء لا اعلام بها .
والنكر العجب والبدع المبتدع ومنه قوله تعالى (قل ما كنت بدعا من الرسل) (2) أي لم آت بما لم اسبق إليه .
ومثل قوله عليه السلام (اللهم احملني على عفوك ولا تحملني على عدلك) قول المروانية للهاشمية لما قتل مروان في خبر قد اقتصصناه قديما ليسعنا عدلكم قالت الهاشمية اذن لا نبقى منكم احدا لانكم حاربتم عليا عليه السلام وسممتم الحسن عليه السلام وقتلتم الحسين وزيدا وابنه وضربتم على بن عبد الله وخنقتم ابراهيم الامام في جراب النورة .
قالت قد يسعنا عفوكم قالت اما هذا فنعم
__________
(1) الصحاح 1245 من غير نسبة (2) سورة الاحقاف 9 .
(*)(11/268)
[ ادعية فصيحة من كلام ابى حيان التوحيدي ] ومن الدعوات الفصيحة المستحسنة فصول من كلام ابى حيان التوحيدي نقلتها .
فمنها اللهم انى ابرا من الثقة الا بك ومن الامل الا فيك ومن التسليم الا لك ومن التفويض الا اليك ومن التوكل الا عليك ومن الطلب الا منك ومن الرضا الا عنك ومن الذل الا في طاعتك ومن الصبر الا على بلائك واسالك أن تجعل الاخلاص قرين عقيدتي والشكر على نعمك شعارى ودثارى والنظر الى ملكوتك دابى وديدنى والانقياد لك شانى وشغلى والخوف منك امني وايماني واللياذ بذكرك بهجتي وسروري .
اللهم تتابع برك واتصل خيرك وعظم رفدك وتناهى احسانك وصدق وعدك وبر قسمك وعمت فواضلك وتمت نوافلك ولم تبق حاجة الا وقد قضيتها أو تكلفت بقضائها فاختم ذلك كله بالرضا والمغفرة انك هل ذلك والقادر عليه والملى به .
ومنها اللهم انى اسالك خفايا لطفك وفواتح توفيقك ومالوف برك وعوائد احسانك وجاه المقدسين من ملائكتك ومنزلة المصطفين من رسلك ومكاثرة الاولياء من خلقك وعاقبة المتقين من عبادك .
واسالك القناعة برزقك والرضا بحكمك والنزاهة عن محظورك والورع في شبهاتك والقيام بحجتك والاعتبار بما ابديت والتسليم لما اخفيت والاقبال على ما امرت والوقوف عما زجرت حتى اتخذ الحق حجة عند ما خف وثقل والصدق سنة فيما عسر وسهل وحتى ارى أن شعار الزهد اعز شعار ومنظر الباطل اشوه منظر(11/269)
فاتبختر في ملكوتك بفضفاض الرداء بالدعاء اليك وابلغ الغاية القصوى بين خلقك بالثناء عليك .
ومنها اللهم اليك ارفع عجرى وبجرى وبك استعين في عسرى ويسرى واياك ادعو رغبا ورهبا فانك العالم بتسويل النفس وفتنة الشيطان وزينة الهوى وصرف الدهر وتلون الصديق وبائقة الثقة وقنوط القلب وضعف المنة وسوء الجزع .
فقنى اللهم ذلك كله واجمع من امرى شمله وانظم من شانى شتيته واحرسنى عند الغنى من البطر وعند الفقر من الضجر وعند الكفاية من الغفلة وعند الحاجة من الحسرة وعند الراحة من الفسولة وعند الطلب من الخيبة وعند المنازلة من الطغيان وعند البحث من الاعتراض عليك وعند التسليم من التهمة لك .
واسالك أن تجعل صدري خزانة توحيدك ولساني مفتاح تمجيدك وجوارحي خدم طاعتك فانه لا عز الا في الذل لك ولا غنى الا في الفقر اليك ولا امن الا في الخوف منك ولا قرار الا في القلق نحوك ولا روح الا في الكرب لوجهك ولا ثقة الا في تهمة خلقك ولا راحة الا في الرضا بقسمك ولا عيش الا في جوار المقربين عندك .
ومنها اللهم ببرهانك الصادع وبنور وجهك الساطع صل على محمد نبيك نبى الرحمة وقائد الامة وامام الائمة واحرس على ايمانى بك بالتسليم لك وخفف عنى مؤنة الصبر على امتحانك وواصل لى اسباب المزيد عند الشكر على نعمتك واجعل بقية عمرى في غنى عن خلقك ورضا بالمقدم من رزقك .(11/270)
اللهم انك إن آخذتنا بذنوبنا خسفت الارض بنا وإن جازيتنا على ظلمنا قطعت دوابرنا فانك قلت (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) (1) اللهم اليك نشكو قسوة قلوبنا وغل صدورنا وفتنة انفسنا وطموح ابصارنا ورفث السنتنا وسخف احلامنا وسوء اعمالنا وفحش لجاجنا وقبح دعوانا ونتن اشرارنا وخبث اخيارنا وتلزق ظاهرنا وتمزق باطننا .
اللهم فارحمنا واراف بنا واعطف علينا واحسن الينا وتجاوز عنا واقبل الميسور منا فاننا اهل عقوبة وانت اهل مغفرة وانت بما وصفت به نفسك احق منا بما وسمنا به انفسنا فان في ذلك ما اقترن بكرمك وادى الى عفوك ومن قبل ذلك وبعده فالب عيشنا بنعمتك وارح ارواحنا من كد الامل في خلقك وخذ بازمتنا الى بابك واله قلوبنا عن هذه الدار الفانية وازرع فيها محبة الدار الباقية وقلبنا على بساط لطفك وحثنا بالاحسان الى كنفك ورفهنا عن التماس ما عند غيرك واغضض عيوننا من ملاحظة ما حجب من غيرك وصل بيننا وبين الرضا عنك وارفع عنا مؤنة العرض عليك وخفف علينا كل ما اوصلنا اليك واذقنا حلاوة قربك واكشف عن سرائرنا سواتر حجبك ووكل بنا الحفظة وارزقنا اليقظة حتى لا نقترف سيئة ولا نفارق حسنة انك قائم على كل نفس بما كسبت وانت بما نخفى وما نعلن خبير بصير .
ومنها اللهم انت الحى القيوم والاول الدائم والاله القديم والبارئ المصور والخالق المقدس والجبار الرفيع والقهار المنيع والملك الصفوح والوهاب المنوح
__________
(1) سورة الانعام 45 .
(*)(11/271)
والرحمن الرؤوف والحنان العطوف والمنان اللطيف مالك الذوائب والنواصى وحافظ الاداني والاقاصى ومصرف المطيع والعاصي .
اللهم انت الظاهر الذى لا يجحدك جاحد الا زايلته الطمأنينة واسلمه الياس واوحشه القنوط ورحلت عنه العصمة وتردد بين رجاء قد ناى عنه التوفيق وامل قد حفت به الخيبة وطمع يحوم على ارجاء التكذيب وسر قد اطاف به الشقاء وعلانية قد اناف عليها البلاء موهون المنة منسوخ العقدة مسلوب العدة تشنؤه العين وتقليه النفس عقله عقل طائر ولبه لب حائر وحكمه حكم جائر لا يروم قرارا الا ازعج عنه ولا يستفتح بابا الا ارتج دونه ولا يقتبس ضرما الا اجج عليه عثرته موصولة بالعثرة وحسرته مقرونة الى حسرة إن سمع زيف وإن قال حرف وإن قضى خرف وإن احتج زخرف ولو فاء الى الحق لوجد ظله ظليلا واصاب تحته مثوى ومقيلا وانت الباطن الذى لا يرومك رائم ولا يحوم على حقيقتك حائم الا غشيه من نور الهيتك وعز سلطانك وعجيب قدرتك وباهر برهانك وغرائب غيوبك وخفى شأنك ومخوف سطوتك ومرجو احسانك ما يرده خاسئا من مزحزحه عن الغاية خجلا مبهورا ويرده الى عجزه ملتحفا بالندم مرتديا بالاستكانة راجعا الى الصغار موقوفا مع الذلة فظاهرك يدعو اليك بلسان الاضطرار وباطنك يحير فيك لسعة قضاء الاعتبار وفعلك يدل عليك الاسماع والابصار وحكمتك تعجب منك الالباب والاسرار لك السلطان والملكة وبيدك النجاة والهلكة فاليك المفر ومعك المقر ومنك صنوف الاحسان والبر اسالك باصح سر واكرم لفظ وافصح لغة واتم اخلاص واشرف همة وافضل نية واطهر عقيدة واثبت يقين أن تصد عنى(11/272)
كل ما يصد عنك وتصلنى بكل ما يصل بك وتحبب الى كل ما يحبب اليك فانك الاول و الثاني والمشار إليه في جميع المعاني لا اله الا انت .
ومنها اللهم انى اسالك جدا مقرونا بالتوفيق وعلما بريئا من الجهل وعملا عريا من الرياء وقولا موشحا بالصواب وحالا دائرة مع الحق وفطنة عقل مضروبة في سلامة صدور وراحة جسم راجعة الى روح بال وسكون نفس موصولا بثبات يقين وصحة حجة بعيدة من مرض شبهة حتى تكون غايتي في هذه الدنيا موصولة بالامثل فالامثل وعاقبتي عندك محمودة بالافضل فالافضل من حياة طيبة انت الواعد بها ونعيم دائم انت المبلغ إليه .
اللهم لا تخيب رجاء هو منوط بك ولا تصفر كفا هي ممدودة اليك ولا تعذب عينا فتحتها بنعمتك ولا تذل نفسا هي عزيزة بمعرفتك ولا تسلب عقلا هو مستضئ بنور هدايتك ولا تخرس لسانا عودته الثناء عليك فكما كنت اولا بالتفضل فكن آخرا بالاحسان .
الناصية بيدك والوجه عان لك والخير متوقع منك والمصير على كل حال اليك .
البسنى في هذه الحياة البائدة ثوب العصمة وحلنى في تلك الدار الباقية بزينة الامن وافطم نفسي عن طلب العاجلة الزائدة واجرني على العادة الفاضلة ولا تجعلني ممن سها عن باطن مالك عليه بظاهر ما لك عنده فالشقي من لم تأخذ بيده ولم تؤمنه من غده والسعيد من آويته الى كنفه نعمتك ونقلته حميدا الى منازل رحمتك غير مناقش في الحساب ولا سائق له الى العذاب فانك على ذلك قدير .
ومنها اللهم اجعل غدونا اليك مقرونا بالتوكل عليك ورواحنا عنك موصولا(11/273)
بالنجاح منك واجابتنا لك راجعة الى التهالك فيك وذكرنا اياك منوطا بالسكون معك وثقتنا بك هادية الى التفويض اليك ولا تخلنا من يد تستوعب الشكر ومن شكر يمترى خلف المزيد ومن مزيد يسبق اقتراح المقترحين وصنع يفوق ذرع الطالبين حتى نلقاك مبشرين بالرضا محكمين في المنى غير مناقشين ولا مطرودين .
اللهم اعذنا من جشع الفقير وريبة المنافق وتجليح (1) المعاند وطيشة العجول وفترة الكسلان وحيلة المستبد وفتور العقل (2) وحيرة المخرج وحسرة المحوج وفلتة الذهول وحرقة النكول (3) ورقة الخائف وطمانينة المغرور وغفلة الغرور .
واكفنا مؤنة اخ يرصد مسكونا إليه ويمكر موثوقا به ويخيس (4) معتمدا عليه .
وصل الكفاية بالسلوة عن هذه الدنيا واجعل التهافنا عليها حنينا الى دار السلام ومحل القرار وغلب ايماننا بالغيب على يقيننا بالعيان واحسرنا من انفسنا فانها ينابيع الشهوة ومفاتيح البلوى .
وارنا من قدرتك ما يحفظ علينا هيبتك واوضح لنا من حكمتك ما يقلبنا في ملكوتك واسبغ علينا من نعمتك ما يكون لنا عونا على طاعتك واشع في صدورنا من نورك ما تتجلى به حقائق توحيدك واجعل ديدننا ذكرك وعادتنا الشوق اليك وعلمنا النصح لخلقك واجعل غايتنا الاتصال بك واحجبنا عن قول يبرئ من رضاك وعمل يعمى صاحبه عن هداك والف بيننا وبين الحق وقربنا من معادن الصدق واعصمنا من بوائق الخلق وانقلنا من مضايق الرق واهدنا الى فوائد العتق .
اللهم انك بدات بالصنع وانت اهله فعد بالتوفيق فانك اهله
__________
(1) جلح في الامر ركب راسه (2) ا : " الفعل " (2) ب : " الثكول " وما اثبته من ا (4) يخيس يغدر .
(*)(11/274)
اللهم انا نتضاءل لك عند مشاهدة عظمتك وندل عليك عند تواتر برك ونذل لك عند ظهور آياتك ونلح عليك عند علمنا بجودك .
ونسالك من فضلك ما لا يرزؤك ولا ينكؤك ونتوسل اليك بتوحيد لا ينتمى إليه خلق ولا يفارقه حق .
ومنها اللهم عليك اتوكل وبك استعين وفيك اوالى وبك انتسب ومنك افرق ومعك استانس ولك امجد واياك اسال لسانا سمحا بالصدق وصدرا قد ملئ من الحق واملا منقطعا عن الخلق وحالا مكنونها يبوئ الجنة وظاهرها يحقق المنة وعاقبة تنسى ما سلف وتتصل بما يتمنى ويتوكف .
واسالك اللهم كبدا رجوفا خئوفا ودمعا نطوفا شوقا اليك ونفسا عزوفا اذعانا لك وسرا ناقعا ببرد الايمان بك ونهارا مشتملا على ما كسب من مرضاتك وليلا مالئا بما ازلف لديك .
اشكو اليك اللهم تلهفي على ما يفوتنى من الدنيا واننى في طاعة الهوى جاهلا بحقك ساهيا عن واجبك ناسيا ما تكرره من وعظك وارشادك وبيانك وتنبيهك حتى كان حلاوة وعدك لم تلج اذنى ولم تباشر فؤادى وحتى كان مرارة عتابك ولائمتك لم تهتك حجابي ولم تعرض على اوصابى .
اللهم اليك المفر من دار منهومها لا يشبع وحائمها لا ينقع (1) وطالبها لا يربع وواجدها لا يقنع والعيش عنك رقيق وللامل فيك تحقيق .
اللهم كما ابتليت بحكمتك الخفية التى اشكلت على العقول وحارت معها البصائر فعاف برحمتك اللطيفة التى تطاولت إليها الاعناق وتشوفت نحوها السرائر وخذ معنا بالفضل الذى اليك هو منسوب وعنك هو مطلوب وافطم نفوسنا من رضاع الدنيا
__________
(1) الحائم : العطشان .
ولا يقطع : لا يروى .
(*)(11/275)
والطف بما انت له اهل انك على كل شئ قدير .
اللهم قدنا بازمه التوحيد الى محاضر طاعتك واخلطنا في زمرة المخلصين لذكرك واجعل اجابتك من قبيل ما يتصل بكرم عفوك ولا تجعل خيبتنا من قبل جهلنا بقدرك واضرابنا عن امرك فلا سائل احوج منا ولا مسئول اجود منك .
اللهم احجر بيننا وبين كل ما دل على غيرك ببيانك ودعا الى سواك ببرهانك وانقلنا عن مواطن العجز مرتقيا بنا الى شرفات العز فقد استحوذ الشيطان وخبثت النفس وساءت العادة وكثر الصادون عنك وقل الداعون اليك وذهب المراعون لامرك وفقد الواقفون عند حدودك وخلت ديار الحق من سكانها وبيع دينك بيع الخلق واستهزئ بناشر مجدك واقصى المتوسل بك .
اللهم فاعد نضارة دينك وافض بين خلقك بركات احسانك وامدد عليهم ظل توفيقك واقمع ذوى الاعتراض عليك واخسف بالمقتحمين في دقائق غيبك واهتك استار الهاتكين لستر دينك والقارعين ابواب سرك القائسين بينك وبين خلقك اللهم انى اسالك أن تخصنى بالهام اقتبس الحق منه وتوفيق يصحبني واصحبه ولطف لا يغيب عنى ولا اغيب عنه حتى اقول إذا قلت لوجهك واسكت إذا سكت باذنك واسال إذا سالت بامرك وابين إذا ابنت بحجتك وابعد إذا بعدت باجلالك واقرب إذا قربت برحمتك واعبد إذا عبدت مخلصا لك واموت إذا مت منتقلا اليك اللهم فلا تكلني الى غيرك ولا تؤيسنى من خيرك .
ومنها اللهم انا بك نعز كما انا بغيرك نذل واياك نرجو كما انا من غيرك نياس واليك نفوض كما انا من غيرك نعرض اذنت لنا في دعائك وادنيتنا الى فنائك وهياتنا لعطائك وخصصتنا بحبائك ووسمتنا بولائك وعممتنا بالائك وغمستنا في نعمائك وناغيتنا بالسن ملكوتك عن دفائن ما في عالمك ولاطفتنا بظاهر قولك(11/276)
وتوليتنا بباطن فعلك فسمت نحوك ابصارنا وشامت بروق جودك بصائرنا فلما استقر ما بيننا وبينك ارسلت علينا سماء فضلك مدرارا وفتحت لنا منا اسماعا وابصارا فراينا ما طاح معه تحصيلنا وسمعنا ما فارقنا عنده تفضيلنا فلما سرنا الى خلقك من ذلك ذروا (1) اتخذونا من اجله لعبا وهزوا فبقدرتك على بلوانا بهم ارنا بك الغنى عنهم اللهم قيض لنا فرجا من عندك وانح لنا مخلصا اليك فانا قد تعبنا بخلقك وعجزنا عن تقويمهم لك ونحن الى مقاربتهم في مخالفتك اقرب منا الى منابذتهم في موافقتك لانه لا طاقة لنا بدهمائهم ولا صبر لنا على بلوائهم ولا حيلة لنا في شفائهم فنسألك بالضراعة التامة وبالاخلاص المرفود الا اخذت بايدينا وارسلت رحمتك علينا فما اقدرك على الاجابة وما اجودك بكل مصون يا ذا الجلال والاكرام .
ومنها اللهم انا قربنا بك فلا تنئنا عنك وظهرنا لك فلا تبطنا دونك ووجدناك بما القيت الينا من غيب ملكوتك وعزفنا عن كل ما لوانا عن بابك ووثقنا بكل ما وعدتنا في كتابك وتوكلنا بالسر والعلن على لطيف صنعك .
اللهم اليك نظرت العيون فعادت خاسئة عبرى وفيك تقسمت الظنون فانقلبت يائسة حسرى وفي قدرتك حارت الابصار وفي حكمتك طاحت البصائر وفي آلائك غرقت الارواح وعلى ما كان منك تقطعت الانفاس ومن اجل اعراضك التهبت الصدور ولذكر ما مضى منك هملت الدموع اللهم تولنا فيما وليتنا حتى لا نتولى عنك وامنا مما حوفتنا حتى نقر معك واوسعنا رحمتك حتى نطمئن الى ما وعدتنا في كتابك وفرق بيننا وبين الغل حتى لا نعامل به خلقك واغننا بك حتى لا نفتقر الى عبادك فانك إذا يسرت امرا تيسر ومهما بلوتنا فلا تبلنا بهجرك ولا تجرعنا مرارة سخطك قد اعترفنا بربوبيتك
__________
(1) ذروا : طرفا (*)(11/277)
عبودية لك فعرفنا حقيقتها بالعفو عنا والاقبال علينا والرفق بنا يا رحيم .
و منها اللهم إن الرغبات بك منوطة والوسائل اليك متداركة والحاجات ببابك مرفوعة والثقة بك مستحصفة (أي مستحكمة) والاخبار بجودك شائعة والامال نحوك نازعة والاماني وراءك منقطعة والثناء عليك متصل ووصفك بالكرم معروف الخلائق الى لطفك محتاجة والرجاء فيك قوى والظنون بك جميلة والاعناق لعزك خاضعة والنفوس الى مواصلتك مشتاقة والارواح لعظمتك مبهوتة لانك للاله العظيم والرب الرحيم والجواد الكريم الصدور ولذكر ما مضى منك هملت الدموع اللهم تولنا فيما وليتنا حتى لا نتولى عنك وامنا مما حوفتنا حتى نقر معك واوسعنا رحمتك حتى نطمئن الى ما وعدتنا في كتابك وفرق بيننا وبين الغل حتى لا نعامل به خلقك واغننا بك حتى لا نفتقر الى عبادك فانك إذا يسرت امرا تيسر ومهما بلوتنا فلا تبلنا بهجرك ولا تجرعنا مرارة سخطك قد اعترفنا بربوبيتك
__________
(1) ذروا : طرفا (*)(11/278)
عبودية لك فعرفنا حقيقتها بالعفو عنا والاقبال علينا والرفق بنا يا رحيم .
و منها اللهم إن الرغبات بك منوطة والوسائل اليك متداركة والحاجات ببابك مرفوعة والثقة بك مستحصفة (أي مستحكمة) والاخبار بجودك شائعة والامال نحوك نازعة والاماني وراءك منقطعة والثناء عليك متصل ووصفك بالكرم معروف الخلائق الى لطفك محتاجة والرجاء فيك قوى والظنون بك جميلة والاعناق لعزك خاضعة والنفوس الى مواصلتك مشتاقة والارواح لعظمتك مبهوتة لانك للاله العظيم والرب الرحيم والجواد الكريم والسميع العليم تملك العالم كله وما بعده وما قبله ولك فيه تصاريف القدرة وخفيات الحكمة ونوافذ الارادة ولك فيه ما لا ندريه مما تخفيه ولا تبديه جللت عن الاجلال وعظمت عن التعظيم وقد ازف ورودنا عليك ووقوفنا بين يديك وظننا ما قد علمت ورجاؤنا ما قد عرفت فكن عند ظننا بك وحقق رجاءنا فيك فما خالفناك جراه عليك ولا عصيناك تقحما في سخطك ولا اتبعنا هوانا استهزاء بامرك ونهيك ولكن غلبت علينا جواذب الطينة التى عجنتنا بها وبذور الفطرة التى انبتنا منها فاسترخت قيودنا عن ضبط انفسنا وعزبت البابنا عن تحصيل حظوظنا ولسنا ندعى حجة ولكن نسالك رافة فبسترك السابغ الذيال وفضلك الذى يستوعب كل مقال الا تممت ما سلف منك الينا وعطفت بجودك الفياض علينا وجذبت باضباعنا واقررت عيوننا وحققت آمالنا انك اهل ذلك وانت على كل شئ قدير(11/278)
شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد ج 12
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد ج 12(12/)
شرح نهج البلاغة لابن ابى الحديد بتحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم الجزء الثاني عشر عيسى البابي الحلبي وشركاؤه(12/1)
الطبعة الثانية (1378 ه - 1967 م) جميع الحقوق محفوظة منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي قم - ايران 1404 ه ق(12/2)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل (223) الاصل ومن كلام له عليه السلام لله بلاد فلان ، فلقد قوم الاود وداوى العمد ، واقام السنة ، وخلف الفتنة ! ذهب نقى الثوب ، قليل العيب ، اصاب خيرها ، وسبق شرها .
ادى الى الله طاعته ، واتقاه بحقه .
رحل وتركهم في طرق متشعبة ، لا يهتدى بها الضال ، ولا يستيقن المهتدى الشرح العرب تقول : لله بلاد فلان ، ولله در فلان ، ولله نادى فلان ، ولله نائح فلان ! والمراد بالاول : لله البلاد التى انشاته وانبتته ، وبالثانى : لله الثدى الذى ارضعه وبالثالث : لله المجلس الذى ربى فيه ، وبالرابع : لله النائحة التى تنوح عليه وتندبه ! ما ذا تعهد من محاسنه .
ويروى (لله بلاء فلان) ، أي لله ما صنع ! وفلان المكنى عنه عمر بن الخطاب ، وقد وجدت النسخة التى بخط الرضى ابى الحسن جامع (نهج البلاغة) وتحت (فلان) (عمر) ،(12/3)
حدثنى بذلك فخار بن معد الموسوي الاودى الشاعر ، وسألت عنه النقيب ابا جعفر يحيى ابن أبى زيد العلوى ، فقال لى : هو عمر ، فقلت له أيثنى عليه امير المؤمنين عليه السلام هذا الثناء ؟ فقال : نعم اما الامامية فيقولون : إن ذلك من التقية واستصلاح اصحابه واما الصالحيون (1) من الزيديه فيقولون : انه اثنى عليه حق الثناء ، ولم يضع المدح الا في موضعه ونصابه .
واما الجارودية (2) من الزيدية فيقولون : انه كلام قاله في امر عثمان اخرجه مخرج الذم له ، والتنقص (3) لاعماله ، كما يمدح الان الامير الميت في ايام الامير الحى بعده ، فيكون ذلك تعريضا به .
فقلت له الا انه لا يجوز التعريض والاستزادة للحاضر بمدح الماضي ، الا إذا كان ذلك المدح صدقا لا يخالطه ريب ولا شبهة .
فإذا اعترف امير المؤمنين بانه اقام السنة وذهب نقى الثوب ، قليل العيب ، وانه ادى الى الله طاعته واتقاه بحقه فهذا غاية ما يكون من المدح وفيه ابطال قول من طعن على عثمان بن عفان .
فلم يجبنى بشئ وقال هو ما قلت لك .
فاما الراوندي فانه قال في الشرح انه عليه السلام مدح بعض اصحابه بحسن السيرة وأن الفتنه هي التى وقعت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله من الاختيار والاثرة .
وهذا بعيد لان لفظ امير المؤمنين يشعر اشعارا ظاهرا بانه يمدح واليا ذا رعية وسيرة الا تراه كيف يقول (فلقد قوم الاود وداوى العمد واقام السنة وخلف الفتنة) وكيف يقول (اصاب خيرها وسبق شرها) وكيف يقول (ادى الى الله طاعته) وكيف يقول (رحل وتركهم في طرق متشعبة) .
__________
(1) الصالحيون من الزيدية : اصحاب الحسن بن صالح وانظر ارائهم في الملل والتحل للشهرستاني 143 (2) الجارودية من الزيدية اصحاب ابي الجارود زياد بن ابي زياد الملل والنحل للشهرستاني 140 (3) كذا في ب وفي ا (النقض) .
(*)(12/4)
وهذا الضمير وهو الهاء والميم في قوله عليه السلام (وتركهم) هل يصح أن يعود الا الى الرعايا وهل يسوغ أن يقال هذا الكلام لسوقه من عرض الناس وكل من مات قبل وفاة النبي صلى الله عليه وآله كان سوقه لا سلطان له فلا يصح أن يحمل هذا الكلام على ارادة احد من الذين قتلوا أو ماتوا قبل وفاة النبي صلى الله عليه وآله كعثمان بن مظعون أو مصعب بن عمير أو حمزة بن عبد المطلب أو عبيدة بن الحارث وغيرهم من الناس والتاويلات الباردة الغثة لا تعجبني على أن ابا جعفر محمد بن جرير الطبري قد صرح أو كاد يصرح بان المعنى بهذا الكلام عمر قال الطبري لما مات عمر بكته النساء فقالت احدى نوادبه وا حزناه على عمر حزنا انتشر حتى ملا البشر (1) وقالت ابنه ابى حثمة وا عمراه اقام الاود وابرا العمد وامات الفتن واحيا السنن خرج نقى الثوب بريئا من العيب (2) .
قال الطبري فروى صالح بن كيسان عن المغيرة بن شعبة (3) قال لما دفن عمر اتيت عليا عليه السلام وانا احب أن اسمع منه في عمر شيئا فخرج ينفض راسه ولحيته وقد اغتسل وهو ملتحف بثوب لا يشك أن الامر يصير إليه فقال رحم الله ابن الخطاب لقد صدقت ابنه ابى حثمه (ذهب بخيرها ونجا من شرها) اما والله ما قالت ولكن قولت) .
وهذا كما ترى يقوى الظن أن المراد والمعنى بالكلام انما هو عمر بن الخطاب .
__________
(1) الطبري : (واحرى على عمر حرا انتسر فملا البشر) وبعده وقالت اخرى (واخرى على عمر حرا انتشر حتى شاع في البشر) .
(2) تاريخ الطبري 4 : 218 (طبعة دار المعارف) .
(3) في الطبري (حدثني عمر قال حدثني على قال حدثنا ابن دأب وسعيد ابن خالد عن صالح بن كيسان عن المغيرة بن شعبة ...
) .
(*)(12/5)
قوله (فلقد قوم الاود) أي العوج اود الشئ بالكسر ياود اودا أي اعوج وتاود العود يتاود .
والعمد انفضاخ (1) سنام البعير ومنه يقال للعاشق عميد القلب ومعموده .
قوله (اصاب خيرها) أي خير الولاية وجاء بضميرها ولم يجر ذكرها لعادة العرب في امثال ذلك كقوله تعالى (حتى توارت بالحجاب) (2) .
وسبق شرها أي مات أو قتل قبل الاحداث والاختلاط الذى جرى بين المسلمين .
قوله (واتقاه بحقه) أي باداء حقه والقيام به .
فان قلت واى معنى في قوله (واتقاه باداء حقه) وهل يتقى الانسان الله باداء الحق انما قد تكون التقوى عله في اداء الحق فاما أن يتقى بادائه فهو غير معقول .
قلت اراد عليه السلام انه اتقى الله ودلنا على انه اتقى الله بادائه حقه فاداء الحق عله في علمنا بانه قد اتقى الله سبحانه .
ثم ذكر انه رحل وترك الناس في طرق متشعبة متفرقة فالضال لا يهتدى فيها و المهتدى لا يعلم انه على المنهج القويم وهذه الصفات إذا تأملها المنصف واماط عن نفسه الهوى علم أن امير المؤمنين عليه السلام لم يعن بها الا عمر لو لم يكن قد روى لنا توقيفا ونقلا أن المعنى بها عمر فكيف وقد رويناه عمن لا يتهم في هذا الباب [ نكت من كلام عمر وسيرته واخلاقه ] ونحن نذكر في هذا الموضع نكتا من كلام عمر وسيرته واخلاقه .
__________
(1) انفضخ سنام البعير : انشدخ .
(2) سورة ص 32 (*)(12/6)
اتى عمر بمال فقال له عبد الرحمن بن عوف يا امير المؤمنين لو حبست من هذا المال في بيت المال لنائبه تكون أو امر يحدث فقال كلمه ما عرض بها الا شيطان كفانى حجتها ووقاني فتنتها اعصى الله العام مخافه قابل اعد لهم تقوى الله قال الله سبحانه (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) (1) .
استكتب أبو موسى الاشعري نصرانيا فكتب إليه عمر اعزله واستعمل بدله حنيفيا فكتب له أبو موسى إن من غنائه وخيره وخبرته كيت وكيت فكتب له عمر ليس لنا أن ناتمنهم وقد خونهم الله ولا أن نرفعهم وقد وضعهم الله ولا أن نستنصحهم في الدين وقد وترهم الاسلام ولا أن نعزهم وقد امرنا بان يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .
فكتب أبو موسى إن البلد لا يصلح الا به فكتب إليه عمر مات النصراني والسلام .
وكتب الى معاويه اياك والاحتجاب دون الناس وائذن للضعيف وادنه حتى ينبسط لسانه ويجترئ قلبه وتعهد الغريب (2) فانه إذا طال حبسه ودام اذنه ضعف قلبه وترك حقه عزل عمر زيادا عن كتابه ابى موسى الاشعري في بعض قدماته عليه فقال له عن عجز ام عن خيانه فقال لا عن واحدة منهما ولكني اكره أن احمل على العامة فضل عقلك .
__________
(1) سورة الطلاق 3 .
(2) ب (القريب) .
(*)(12/7)
وقال انى والله لا ادع حقا لله لشكايه تظهر ولا لضب يحتمل ولا محاباة لبشر وانك والله ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل إن تطيع الله فيه .
وكتب الى سعد بن ابى وقاص يا سعد سعد بنى اهيب إن الله إذا احب عبدا حببه الى خلقه فاعتبر منزلتك من الله بمنزلتك من الناس واعلم أن ما لك عند الله مثل ما لله عندك .
وسال رجلا عن شئ فقال الله اعلم فقال قد شقينا إن كنا لا نعلم أن الله اعلم إذا سئل احدكم عما لا يعلم فليقل لا ادرى .
وقال عبد الملك [ على المنبر ] (1) انصفونا يا معشر الرعيه تريدون منا سيرة ابى بكر وعمر ولم تسيروا في انفسكم ولا فينا سيرة ابى بكر وعمر نسال الله أن يعين كلا على كل .
ودخل عمر على ابنه عبد الله فوجد عنده لحما عبيطا معلقا (2) فقال ما هذا اللحم قال اشتهيت فاشتريت فقال أو كلما اشتهيت شيئا اكلته كفى بالمرء سرفا أن اكل كل ما اشتهاه .
مر عمر على مزبله فتاذى بريحها اصحابه فقال هذه دنياكم التى تحرصون عليها .
__________
(1) من ا (2) لحم عبيط طري .
(*)(12/8)
ومن كلامه للاحنف يا احنف من كثر ضحكه قلت هيبته ومن مزح استخف به ومن اكثر من شئ عرف به ومن كثر كلامه كثر سقطه ومن كثر سقطه قل حياؤه ومن قل حياؤه قل ورعه ومن قل ورعه مات قلبه .
وقال لابنه عبد الله يا بنى اتق الله يقك واقرض الله يجزك واشكره يزدك واعلم انه لا مال لمن لا رفق له ولا جديد لمن لا خلق له ولا عمل لمن لا نية له .
وخطب يوم استخلف فقال ايها الناس انه ليس فيكم احد اقوى عندي من الضعيف حتى آخذ الحق له ولا اضعف من القوى حتى آخذ الحق منه .
وقال لابن عباس يا عبد الله انتم اهل رسول الله وآله وبنو عمه فما تقول منع قومكم منكم قال لا ادرى علتها والله ما اضمرنا لهم الا خيرا قال اللهم غفرا إن قومكم كرهوا أن يجتمع لكم النبوة والخلافة فتذهبوا في السماء شمخا وبذخا ولعلكم تقولون إن ابا بكر اول من اخركم اما انه لم يقصد ذلك ولكن حضر امر لم يكن بحضرته احزم مما فعل ولو لا راى ابى بكر في لجعل لكم من الامر نصيبا ولو فعل ما هناكم مع قومكم انهم ينظرون اليكم نظر الثور الى جازره .
وكان يقول ليت شعرى متى اشفى من غيظي ا حين اقدر فيقال لى لو عفوت ام حين اعجل فيقال لو صبرت .
وراى اعرابيا يصلى صلاة خفيفة فلما قضاها قال اللهم زوجنى الحور العين فقال له لقد اسات النقد واعظمت الخطبة .
وقيل له كان الناس في الجاهلية يدعون على من ظلمهم فيستجاب لهم ولسنا نرى(12/9)
ذلك الان قال لان ذلك كان الحاجز بينهم وبين الظلم واما الان فالساعه موعدهم والساعة ادهى وامر .
ومن كلامه من عرض نفسه للتهمة فلا يلومن من اساء به الظن ومن كتم سره كانت الخيرة بيده .
ضع امر اخيك على احسنه حتى ياتيك منه ما يغلبك ولا تظن بكلمه خرجت من اخيك المسلم شرا وانت تجد لها في الخير محملا .
وعليك باخوان الصدق وكيس اكياسهم فانهم زينه في الرخاء وعده عند البلاء ولا تتهاونن بالخلق فيهينك الله ولا تعترض بما لا يعنيك واعتزل عدوك وتحفظ من خليلك الا الامين فان الامين من الناس لا يعادله شئ ولا تصحب الفاجر فيعلمك من فجوره ولا تفش إليه (1) سرك واستشر في امرك اهل التقوى وكفى بك عيبا أن يبدو لك من اخيك ما يخفى عليك من نفسك وأن تؤذى جليسك بما تأتى مثله .
وقال ثلاث يصفين لك الود في قلب اخيك أن تبداه بالسلام إذا لقيته وأن تدعوه باحب اسمائه إليه وأن توسع له في المجلس .
وقال احب أن يكون الرجل في اهله كالصبى وإذا اصيخ إليه كان رجلا .
بينا عمر ذات يوم إذا راى شابا يخطز بيديه فيقول انا ابن بطحاء مكه كديها وكداها (1) فناداه عمر فجاء فقال إن يكن لك دين فلك كرم وإن يكن لك عقل فلك مروءة وإن يكن لك مال فلك شرف والا فانت والحمار سواء .
__________
(1) ساقطة من ب (2) كدى وكذا موضعان وقيل هما جبلان بمكة وقد قيل كدا بالقصر (اللسان) (*)(12/10)
وقال يا معشر المهاجرين لا تكثروا الدخول على اهل الدنيا وارباب الامرة والولاية فانه مسخطه للرب واياكم والبطنة فانها مكسله عن الصلاة ومفسدة للجسد مورثة للسقم وإن الله يبغض الحبر السمين ولكن عليكم بالقصد في قوتكم فانه أدنى من الاصلاح وابعد من السرف واقوى على عبادة الله ولن يهلك عبد حتى يؤثر شهوته على دينه .
وقال تعلموا أن الطمع فقر وأن الياس غنى ومن يئس من شئ استغنى عنه والتؤده في كل شئ خير الا ما كان من امر الاخرة .
وقال من اتقى الله لم يشف الله غيظه ومن خاف الله لم يفعل ما يريد ولو لا يوم القيامة لكان غير ما ترون .
وقال انى لاعلم اجود الناس واحلم الناس اجودهم من اعطى من حرمة واحلمهم من عفا عمن ظلمة .
وكتب الى ساكنى الامصار اما بعد فعلموا اولادكم العوم (1) والفروسية رووهم ما سار من المثل وحسن من الشعر .
وقال لا تزال العرب اعزة ما نزعت في القوس ونزت (2) في ظهور الخيل وقال وهو يذكر النساء اكثروا لهن من قول (لا) فان (نعم) مفسد تغريهن على المسالة .
وقال ما بال احدكم يثنى الوسادة عند امراة معزبة (3) إن المراة لحم على وضم الا ما ذب عنه .
__________
(1) ب (العلوم) تصحيف .
(2) نزت : وثبت .
(3) المعربة : المرأة المتزوجة (*)(12/11)
وكتب الى ابى موسى اما بعد فان للناس نفرة عن سلطانهم فاعوذ بالله أن يدركنى واياك عمياء مجهولة وضغائن محموله واهواء متبعه ودنيا مؤثرة اقم الحدود واجلس للمظالم ولو ساعه من نهار وإذا عرض لك امران احدهما لله والاخر للدنيا فابدا بعمل الاخرة فان الدنيا تفنى والاخرة تبقى وكن من مال الله عز وجل على حذر واجف الفساق واجعلهم يدا ويدا ورجلا ورجلا وإذا كانت بين القبائل نائرة (1) يا لفلان يا لفلان فانما تلك نجوى الشيطان فاضربهم بالسيف حتى يفيئوا الى امر الله وتكون دعواهم الى الله والى الاسلام وقد بلغني أن ضبه تدعو يا لضبة وانى والله اعلم أن ضبة ما ساق الله بها خيرا قط ولا منع بها من سوء قط فإذا جاءك كتابي هذا فانهكهم (2) ضربا وعقوبة حتى يفرقوا إن لم يفقهوا والصق بغيلان بن خرشة من بينهم وعد مرضى المسلمين واشهد جنائزهم وافتح لهم بابك وباشر امورهم بنفسك فانما انت رجل منهم غير أن الله قد جعلك اثقلهم حملا وقد بلغني انه فشا لك ولاهل بيتك هيئة في لباسك ومطعمك ومركبك ليس للمسلمين مثلها فاياك يا عبد الله بن قيس أن تكون بمنزلة البهيمة التى مرت بواد خصيب فلم يكن لها همة الا السمن وانما حظها من السمن لغيرها واعلم أن للعامل مردا الى الله فإذا زاغ العامل زاغت رعيته وإن اشقى الناس من شقيت به نفسه ورعيته والسلام وخطب عمر فقال اما بعد فانى اوصيكم بتقوى الله الذى يبقى ويفنى ما سواه والذى بطاعته ينفع اولياءه وبمعصيته يضر اعداءه انه ليس لهالك هلك عذر في تعمد ضلالة حسبها هدى ولا ترك حق حسبه ضلالة قد ثبتت الحجة ووضحت الطرق وانقطع العذر ولا حجة لاحد على الله عز وجل الا إن احق ما تعاهد به الراعى
__________
(1) النائرة : العداوة والدعوة الشر .
(2) نهكه : بالغ في ضربه وعقوبته .
(*)(12/12)
رعيته أن يتعاهدهم بالذى لله تعالى عليهم في وظائف دينهم الذى هداهم به وانما علينا أن نامركم بالذى امركم الله به من طاعته وننهاكم عما نهاكم الله عنه من معصيته وأن نقيم امر الله في قريب الناس وبعيدهم ولا نبالي على من قال الحق ليتعلم الجاهل ويتعظ المفرط و يقتدى المقتدى وقد علمت أن اقواما يتمنون في انفسهم ويقولون نحن نصلى مع المصلين ونجاهد مع المجاهدين الا إن الايمان ليس بالتمني ولكنه بالحقائق الا من قام على الفرائض وسدد نيته واتقى الله فذلكم الناجى ومن زاد اجتهادا وجد عند الله مزيدا .
وانما المجاهدون الذين جاهدوا اهواءهم والجهاد اجتناب المحارم الا إن الامر جد وقد يقاتل اقوام لا يريدون الا الذكر وقد يقاتل اقوام لا يريدون الا الاجر وإن الله يرضى منكم باليسير واثابكم على اليسير الكثير .
الوظائف الوظائف ادوها تؤدكم الى الجنة والسنة السنة الزموها تنجكم من البدعة .
تعلموا ولا تعجزوا فان من عجز تكلف وإن شرار الامور محدثاتها وإن الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في الضلالة فافهموا ما توعظون به فان الحريب من حرب (1) دينه وإن السعيد من وعظ بغيره .
وقال وعليكم بالسمع والطاعه فان الله قضى لهما بالعزة واياكم والتفرق والمعصية فان الله قضى لهما بالذلة .
اقول قولى هذا واستغفر الله العظيم لى ولكم .
بعث سعد بن ابى وقاص ايام القادسية الى عمر قباء كسرى وسيفه ومنطقته
__________
(1) حرب دينه : أي سلب .
(*)(12/13)
وسراويله وتاجه وقميصه وخفيه فنظر عمر في وجوه القوم عنده فكان اجسمهم وامدهم قامه سراقه بن مالك بن جعشم المدلجى فقال يا سراق قم فالبس قال سراقه طمعت فيه فقمت فلبست فقال ادبر فادبرت وقال اقبل فاقبلت فقال بخ بخ اعرابي من بنى مدلج عليه قباء كسرى وسراويله وسيفه ومنطقته وتاجه وخفاه رب يوم يا سراق لو كان فيه دون هذا من متاع كسرى وآل كسرى لكان شرفا لك ولقومك انزع فنزعت فقال اللهم انك منعت هذا نبيك ورسولك وكان احب اليك منى واكرم ومنعته ابا بكر وكان احب اليك منى واكرم ثم اعطيتنيه فاعوذ بك أن تكون اعطيتنيه لتمكر بى ثم بكى حتى رحمه من كان عنده .
وقال لعبد الرحمن بن عوف اقسمت عليك لما بعته ثم قسمته قبل أن تمسى فما ادركه المساء الا وقد بيع وقسم ثمنه على المسلمين .
جئ بتاج كسرى الى عمر فاستعظم الناس قيمته للجواهر التى كانت عليه فقال إن قوما ادوا هذا لامناء فقال على عليه السلام انك عففت فعفوا ولو رتعت لرتعوا (1) .
كان عمر يعس ليلا فنزلت رفقه من التجار بالمصلى فقال لعبد الرحمن بن عوف هل لك أن تحرسهم الليله من السرق فباتا يحرسانهم ويصليان ما كتب الله لهما فسمع عمر بكاء صبى فاصغى نحوه فطال بكاؤه فتوجه إليه فقال لامه اتقى الله واحسني الى صبيك ثم عاد الى مكانه فسمع بكاءه فعاد الى امه فقال لها مثل ذلك ثم عاد الى مكانه فسمع بكاءه فاتى امه فقال ويحك انى لاراك ام سوء لا ارى ابنك يقر منذ الليلة فقالت يا عبد الله لقد آذيتنى منذ الليلة انى اريغه
__________
(1) يقال رتع فلان إذا اكل وشرب ما شاء .
(*)(12/14)
على الفطام فيابى قال ولم قالت لان عمر لا يفرض لرضيع وانما يفرض للفطيم قال وكم له قالت اثنا عشر شهرا قال ويحك لا تعجليه فصلى الفجر وما يستبين الناس قراءته من غلبه البكاء عليه فلما سلم قال يا بؤسا لعمركم كم قتل من اولاد المسلمين فطلب مناديا فنادى الا لا تعجلوا صبيانكم عن الرضاع ولا تفطموا قبل اوان الفطام فانا نفرض لكل مولود في الاسلام .
وكتب بذلك الى سائر الافاق (1) .
مر عمر بشاب من الانصار وهو ظمان فاستسقاه فخاض له عسلا فرده ولم يشرب وقال انى سمعت الله سبحانه يقول (اذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها) (2) فقال الفتى انها والله ليست لك فاقرا يا امير المؤمنين ما قبلها (ويوم يعرض الذين كفروا على النار اذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا) افنحن منهم فشرب وقال كل الناس افقه من عمر .
واوصى عمر حين طعنه أبو لؤلؤة من يستخلفه المسلمون بعده من اهل الشورى فقال اوصيك بتقوى الله لا شريك له واوصيك بالمهاجرين الاولين خيرا أن تعرف لهم سابقتهم واوصيك بالانصار خيرا اقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم واوصيك باهل الامصار خيرا فانهم ردء العدو وجباه الفئ لا تحمل فيئهم الى غيرهم الا عن فضل منهم واوصيك باهل البادية خيرا فانهم اصل العرب ومادة الاسلام أن يؤخذ من حواشى اموالهم فيرد على فقرائهم واوصيك باهل الذمة خيرا أن تقاتل
__________
(1) تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي 48 .
(2) سورة الاحقاف 20 .
(*)(12/15)
من ورائهم ولا تكلفهم فوق طاقتهم إذا ادوا ما عليهم للمسلمين طوعا أو عن يد وهم صاغرون .
واوصيك بتقوى الله وشدة الحذر منه ومخافة مقته أن يطلع منك على ريبة واوصيك أن تخشى الله في الناس ولا تخشى الناس في الله واوصيك بالعدل في الرعية والتفرغ لحوائجهم وثغورهم والا تعين غنيهم على فقيرهم فان في ذلك باذن الله سلامة لقلبك وحطا لذنوبك وخيرا في عاقبة امرك واوصيك أن تشتد في امر الله وفي حدوده والزجر عن معاصيه على قريب الناس وبعيدهم ولا تأخذك الرافة والرحمة في احد منهم حتى تنتهك منه مثل جرمه واجعل الناس عندك سواء لا تبال على من وجب الحق لا تأخذك في الله لومة لائم واياك والاثرة والمحاباة فيما ولاك الله مما افاء الله على المسلمين فتجور وتظلم وتحرم نفسك من ذلك ما قد وسعه الله عليك فانك في منزلة من منازل الدنيا وانت الى الاخرة جد قريب فان صدقت في دنياك عفه وعدلا فيما بسط لك اقترفت رضوانا وايمانا وإن غلبك الهوى اقترفت فيه سخط الله ومقته .
واوصيك الا ترخص لنفسك ولا لغيرك في ظلم اهل الذمة .
واعلم انى قد اوصيتك وخصصتك ونصحت لك ابتغى بذلك وجه الله والدار الاخرة ودللتك على ما كنت دالا عليه نفسي فان عملت بالذى وعظتك وانتهيت الى الذى امرتك اخذت منه نصيبا وافرا وحظا وافيا وإن لم تقبل ذلك ولم تعمل ولم تترك معاظم الامور عند الذى يرضى الله به سبحانه عنك يكن ذاك بك انتقاصا ويكن رايك فيه مدخولا فالاهواء مشتركة وراس الخطيئة ابليس الداعي الى كل هلكة قد اضل القرون السالفة قبلك واوردهم النار ولبئس الثمن أن يكون حظ امرئ من دنياه موالاة عدو الله الداعي الى معاصيه اركب الحق وخض إليه الغمرات وكن واعظا لنفسك .(12/16)
وانشدك لما ترحمت الى جماعة المسلمين واجللت كبيرهم ورحمت صغيرهم وقربت عالمهم لا تضربهم فيذلوا ولا تستاثر عليهم بالفئ فتغضبهم ولا تحرمهم عطاياهم عند محلها فتفقرهم ولا تجمرهم (1) في البعوث فتقطع نسلهم ولا تجعل الاموال دوله بين الاغنياء منهم ولا تغلق بابك دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم .
هذه وصيتى اياك واشهد الله عليك واقرا عليك السلام والله على كل شئ شهيد .
وخطب عمر فقال لا يبلغني أن امراة تجاوز صداقها صداق زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم الا ارتجعت ذلك منها فقامت إليه امراة فقالت والله ما جعل الله ذلك لك انه تعالى يقول (وآتيتم احداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا) (2) فقال عمر الا تعجبون من امام اخطا وامراة اصابت ناضلت امامكم فنضلته (3) .
وكان يعس ليله فمر بدار سمع فيها صوتا فارتاب وتسور فراى رجلا عند امراة وزق خمر فقال يا عدو الله ا ظننت أن الله يسترك وانت على معصيته فقال لا تعجل يا امير المؤمنين إن كنت اخطات في واحدة فقد اخطات في ثلاث قال : الله تعالى : (ولا تجسسوا) (4) وقد تجسست ، وقال : (وأتوا البيوت من ابوابها) (5)
__________
(1) جمر الجيش : حبسه في أرض العدو ولم يقفليم من التغر .
وفي الحديث : لا تجمروا الجيش فتفتنوهم .
(2) سورة النساء 20 (3) نضلته : سبقته وغلبته .
(4) سورة الحجرات 12 (5) سورة البقرة 189 (*)(12/17)
وقد تسورت وقال : (فإذا دخلتم بيوتا فسلموا) (1) وما سلمت .
فقال : هل عندك من خير ان عفوت عنك ؟ قال : نعم ، والله لا اعود ، فقال : اذهب فقد عفوت عنك .
وخطب يوما ، فقال : ايها الناس ، ما الجزع مما لابد منه ! وما الطمع فيما لا يرجى وما الحيلة فيما سيزول ! وانما الشئ من اصله وقد مضت قبلكم الاصول ونحن فروعها ، فما بقاء الفرع بعد ذهاب اصله ! إنما الناس في هذه الدنيا اغراض تنتبل فيهم المنايا نصب المصائب ، في كل جرعة شرق وفى كل اكلة غصص ، لا تنالون نعمة الا بفراق اخرى ولا يستقبل معمر من عمره يوما الا بهدم آخر من أجله ، وهم اعوان الحتوف على انفسهم ، فأين المهرب مما هو كائن ! ما اصغر المصيبة اليوم ، مع عظم الفائدة غدا ! وما اعظم خيبة الخائب ، وخسران الخاسر ، (يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من أتى الله بقلب سليم) ! واكثر الناس روى هذا الكلام لعلى عليه السلام ، وقد ذكره صاحب " نهج البلاغة " وشرحناه فيما سبق .
حمل من العراق الى عمر مال فخرج هو ومولى له ; فنظر الى الابل فاستكثرها ، فجعل يقول : الحمد لله يكررها ويرددها ، وجعل مولاه يقول : هذا من فضل الله ورحمته .
ويكررها ويرددها .
فقال عمر : كذبت لا ام لك ! أظنك ذهبت الى ان هذا هو ما عناه سبحانه
__________
(1) سورد النور 61 (*)(12/18)
بقوله : (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) ، وانما ذلك الهدى ، اما تسمعه يقول : (هو خير مما يجمعون) (1) وهذا مما يجمعون .
وروى الاحنف بن قيس قال : قدمنا على عمر بفتح عظيم نبشره به ، فقال : أين نزلتم ؟ قلنا : في مكان كذا ، فقام معنا حتى انتهينا الى مناخ ركابنا وقد اضعفها الكلال وجهدها السير ، فقال هلا اتقيتم الله في ركابكم هذه ؟ اما علمتم ان لها عليكم حقا ! هلا أرحتموها ؟ هلا حللتم بها فأكلت من نبات الارض ؟ فقلنا : يا امير المؤمنين ، إنا قدمنا بفتح عظيم ، فاحببنا التسرع اليك والى المسلمين بما يسرهم .
فانصرف راجعا ونحن معه فاتى رجل فقال يا امير المؤمنين ان فلانا ظلمنى فاعدنى (2) عليه فرفع في السماء درته ، وضرب بها راسه ، وقال : تدعون عمر وهو معرض لكم حتى إذا شغل في امر المسلمين اتيتموه : أعدني أعدني ! فانصرف الرجل يتذمر فقال عمر : على بالرجل ، فجئ به فألقى إليه المخفقة (3) ، فقال : اقتص ، قال : بل ادعه لله ولك ، قال : ليس كذلك ، بل تدعه اما لله وارادة ما عنده ، وإما تدعه لي ، قال : أدعه لله ، قال : انصرف ثم جاء حتى دخل منزله ونحن معه ، فصلى ركعتين خفيفتين ثم جلس فقال : يا بن الخطاب ، كنت وضيعا فرفعك الله ، وكنت ضالا فهداك الله ، وكنت ذليلا فاعزك الله ، ثم حملك على رقاب الناس ، فجاء رجل يستعديك على من ظلمه .
فضربته ، ماذا تقول لربك غدا ! فجعل يعاتب نفسه معاتبة ظننت انه من خير اهل الارض .
__________
(1) سورة يونس 58 (2) أعدني عليه : انصرني وأعنى .
(3) المخففة : الدرد يضرب بها .
(*)(12/19)
وذكر أبو عبيد القاسم بن سلام في " غريب الحديث " ان رجلا اتى عمر يساله ويشكو إليه الفقر ، فقال : هلكت يا امير المؤمنين فقال : أهلكت وانت تنث نثيث الحميت (1) اعطوه .
فاعطوه ربعة (2) من مال الصدقة ، تبعها ظئراها .
ثم أنشا يحدث عن نفسه ، فقال : لقد رأيتنى واختا لى نرعى على ابوينا ناضحا (3) لنا ، قد ألبستنا أمنا نقبتها (4) وزودتنا يمنتيها هبيدا (5) فنخرج بناضحنا ، فإذا طلعت الشمس ، القيت النقبة الى أختى ، وخرجت أسعى عريان ، فنرجع الى امنا ، وقد جعلت لنا لفيتة (6) من ذلك الهبيد ، فياخصباه .
وروى ابن عباس رضى الله عنه ، قال : دخلت على عمر في اول خلافته وقد ألقى له صاع من تمر على خصفة (7) فدعاني الى الاكل ، فاكلت تمرة واحدة واقبل ياكل حتى أتى عليه ، ثم شرب من جر (8) كان عنده واستلقى على مرفقة له وطفق يحمد الله يكرر ذلك ، ثم قال : من اين جئت يا عبد الله ؟ قلت : من المسجد ، قال : كيف خلفت ابن عمك ؟ فظننته يعنى عبد الله بن جعفر قلت : خلفته يلعب مع اترابه ، قال : لم اعن ذلك ، انما عنيت عظيمكم اهل البيت قلت : خلفته يمتح بالغرب (9) على نخيلات من فلان وهو يقرأ القرآن قال : يا عبد الله عليك دماء البدن إن كتمتنيها ! هل بقى في نفسه
__________
(1) قال ابن الاثير : نث الزق ينث : إذا رشح ما فيه من السمن .
أراد : أتهلك وجسدك كأنه يقطر دسما ! والنثيت : إن يرشح ويعرق من كثرة لحمه .
ويروى : (تمث) بالميم .
والحنث : الزق والنحى .
(2) الربعة : مؤنث الربع ، وهو الفصيل ينتج في الربيع .
(3) الناضح : البعير يستقي عليه ، ثم استعمل في كل بعير وإن لم يحمل الماء (4) النقبة : ثوب كالازاء ، ويجعل له حجزة مخيطة .
(5) الهيد ، حب الحنظل (6) اللفيتة : العصيدة المغلظة ، لانها تلفت ، أي تلوى .
(7) الخصفة ، محركة : الجلة تعمل من الحوض للتمر .
(8) الجر بفتح الجيم وتشديد الراء : آنية من خزف ، الواحدة حرة .
(9) الغرب : الدلو (*)(12/20)
شئ من امر الخلافة ؟ قلت : نعم ، قال : ايزعم ان رسول الله صلى الله عليه وآله نص عليه ؟ قلت : نعم ، وازيدك سالت ابى عما يدعيه ، فقال : صدق ، فقال عمر : لقد كان من رسول الله صلى الله عليه وآله في امره ذرو (1) من قول لا يثبت حجة ، ولا يقطع عذرا ولقد كان يربع في امره وقتا ما ولقد اراد في مرضه ان يصرح باسمه فمنعت من ذلك اشفاقا وحيطة على الاسلام لا ورب هذه البنية لا تجتمع عليه قريش ابدا ولو وليها لانتقضت عليه العرب من اقطارها ، فعلم رسول الله صلى الله عليه واله انى علمت ما في نفسه ، فامسك وأبى الله إلا امضاء ما حتم .
ذكر هذا الخبر احمد بن ابى طاهر صاحب كتاب تاريخ بغداد في كتابه مسندا .
ابتنى أبو سفيان دارا بمكة فاتى اهلها عمر ، فقالوا : انه قد ضيق علينا الوادي ، واسال علينا الماء ، فاتاه عمر فقال : خذ هذا الحجر فضعه هناك ، وارفع هذا واخفض هذا ، ففعل ، فقال : الحمد لله الذى اذل ابا سفيان بابطح مكة .
وقال عمر : والله لقد لان قلبى في الله حتى لهو الين من الزبد ، ولقد اشتد قلبى في الله حتى لهو اشد من الحجر .
كان عمر إذا اتاه الخصمان برك على ركبتيه وقال : اللهم اعني عليهما .
فان كلا منهما يريدنى عن دينى .
__________
(1) ذرو : طرف (*)(12/21)
وخطب عمر ، فقال : ايها الناس ، انما كنا نعرفكم والنبى صلى الله عليه وآله بين اظهرنا ، إذ ينزل الوحى واذ ينبئنا الله من اخباركم ، الا وإن النبي صلى الله عليه وسلم قد انطلق ، والوحى قد انقطع وانما نعرفكم بما يبدو منكم .
من اظهر خيرا ظننا به خيرا واحببناه عليه من اظهر شرا ظننا به شرا وابغضناه عليه .
سرائركم بينكم وبين ربكم الا انه قد اتى على حين وانا احسب انه لا يقرا القرآن احد الا يريد به وجه الله وما عند الله وقد خيل الى باخرة ، ان رجالا قد قرءوه يريدون به ما عند الناس فأريدوا الله بقراءتكم ، واريدوا الله باعمالكم .
الا وإنى لا ارسل عمالى اليكم ايها الناس ليضربوا أبشاركم ولا لياخذوا اموالكم ولكن ارسلهم اليكم ليعلموكم دينكم وسنتكم ، فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه الى لاقتص له ، فقد رايت رسول الله صلى الله عليه وآله يقتص من نفسه .
الا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم ، ولا تمنعوهم حقوقهم فتفقروهم ، ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم .
وقال مرة : قد اعيانى اهل الكوفة ان استعملت عليهم لينا استضعفوه وان استعملت عليهم شديدا شكوه ! ولوددت انى وجدت رجلا قويا امينا استعمله عليهم .
فقال له رجل : انا ادلك يا امير المؤمنين على الرجل القوى الامين قال : من هو ؟ قال : عبد الله بن عمر ، قال : قاتلك الله ! والله ما اردت الله بها ، لاها الله ! لا استعمله عليها ولا على غيرها وانت فقم فاخرج ، فمذ الان لا اسميك إلا المنافق .
فقام الرجل وخرج .
وكتب الى سعد بن أبى وقاص ان شاور طليحة بن خويلد وعمرو بن معديكرب فإن كل صانع اعلم بصنعته ، ولا تولهما من امر المسلمين شيئا .(12/22)
وغضب عمر على بعض عماله ، فكلم امراة من نساء عمر في ان تسترضيه له فكلمته فيه فغضب وقال : وفيم انت من هذا يا عدوة الله ؟ انما انت لعبة نلعب بك وتفركين (1) .
ومن كلامه : اشكو الى الله جلد الخائن وعجز الثقة .
قال عمرو بن ميمون : لقد رايت عمر بن الخطاب قبل ان يصاب بايام واقفا على حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف وهو يقول لهما : أتخافان ان تكونا حملتما الارض ما لا تطيقه ؟ فقالا : لا انما حملناها امرا هي له مطيقة ، فاعاد عليهما القول : انظرا ان تكونا حملتما الارض ما لا تطيقة ، فقالا : لا ، فقال عمر : ان عشت لادعن ارامل العراق لا يحتجن بعدى الى رجل ابدا فما اتت عليه رابعة حتى اصيب .
كان عمر إذا استعمل عاملا كتب عليه كتابا واشهد عليه رهطا من المسلمين الا يركب برذونا ، ولا ياكل نقيا (2) ولا يلبس رقيقا ولا يغلق بابه دون حاجات المسلمين ثم يقول : اللهم اشهد .
واستعمل عمر النعمان بن عدى بن نضلة على ميسان ، فبلغه عنه الشعر الذى قاله وهو : ومن مبلغ الحسناء ان حليلها بميسان يسقى من زجاج وحنتم ! (3) إذا شئت غنتني دهاقين قرية وصناجة تحدو على كل منسم
__________
(1) تفركين : تبغضين .
(2) النقى : الشحم .
(3) الحنتم : الجرة الحضراء .
(*)(12/23)
فان كنت ندمانى فبالاكبر اسقنى ولا تسقنى بالاصغر المتثلم لعل امير المؤمنين يسوءه تنادمنا بالجوسق المتهدم فكتب إليه : بسم الله الرحمن الرحيم (حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب * ذى الطول لا اله الا هو إليه المصير) (1) اما بعد فقد بلغني قولك : لعل امير المؤمنين يسوءه * البيت وايم الله انه ليسوءني فاقدم فقد عزلتك .
فلما قدم عليه قال : يا امير المؤمنين والله ما شربتها قط ، وانما هو شعر طفح على لساني وانى لشاعر .
فقال عمر : اظن ذاك ، ولكن لا تعمل لى على عمل ابدا .
استعمل عمر رجلا من قريش على عمل ، فبلغه عنه انه قال : اسقنى شربة تروى عظامي واسق بالله مثلها ابن هشام فاشخصه إليه وفطن القرشى ، فضم إليه بيتا آخر ، فلما مثل بين يديه قال له انت القائل : اسقنى شربة تروى عظامي قال : نعم يا أمير المؤمنين ، فهلا ابلغك الواشى ما بعده ؟ قال : ما الذى بعده ؟ قال : عسلا باردا بماء غمام اننى لا احب شرب المدام قال آلله آلله ! ثم قال : ارجع الى عملك .
__________
(1) سورة غا ؟ 1 - 3 (*)(12/24)
قال عمر : ايما عامل من عمالى ظلم احدا : ثم بلغتني مظلمته ، فلم اغيرها ، فانا الذى ظلمته .
وقال للاحنف بن قيس وقد قدم عليه فاحتبسه عنده حولا : يا احنف انى قد خبرتك وبلوتك ، فرايت علانيتك حسنة وانا ارجو ان تكون سريرتك مثل علانيتك وان كنا لنحدث انه انما يهلك هذه الامة كل منافق عليم .
وكتب عمر الى سعد بن ابى وقاص : ان (مترس) (1) بالفارسية هو الامان فمن قلتم له ذلك ممن لا يفقه لسانكم فقد امنتموه .
وقال لامير من امراء الشام : كيف سيرتك ؟ كيف تصنع في القرآن والاحكام ؟ فاخبره ، فقال : احسنت اذهب فقد اقررتك على عملك .
فلما ولى رجع فقال : يا امير المؤمنين انى رايت البارحة رؤيا اقصها عليك رايت الشمس والقمر يقتتلان ومع كل واحد منهما جنود من الكواكب فقال : فمع ايهما كنت ؟ قال : مع القمر فقال : قد عزلتك قال الله تعالى : (وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آيه الليل وجعلنا آيه النهار مبصرة) .
(2) كان عمر جالسا في المسجد فمر به رجل ، فقال : ويل لك يا عمر من النار ! فقال : قربوه الى ، فدنا منه ، فقال : لم قلت لى ما قلت ؟ قال : تستعمل عمالك وتشترط عليهم
__________
(1) في الالفاظ الفارسية لادى شبر 143 : (المتراس : ما يستتر به من حائط ونحوه من العدو ، وخشبة توضع خلف الباب) .
(2) سورة الاسراء 12 .
(*)(12/25)
ثم لا تنظر هل وفوا لك بشروط ام لا ؟ قال : وما ذاك ؟ قال : عاملك على مصر اشترطت عليه فترك ما امرته به ، وارتكب ما نهيته عنه ، ثم شرح له كثيرا من امره .
فارسل عمر رجلين من الانصار ، فقال لهما : انتهيا إليه ، فاسالا عنه ، فان كان كذب عليه فاعلماني وان رأيتما ما يسوء كما فلا تملكاه من امره شيئا حتى تاتيا به ، فذهبا فسالا عنه فوجداه قد صدق عليه ، فجاءا الى بابه فاستاذنا عليه ، فقال حاجبه : انه ليس عليه اليوم اذن قالا : ليخرجن الينا أو لنحرقن عليه بابه وجاء احدهما بشعلة من نار فدخل الاذن فاخبره فخرج اليهما ، قالا : انا رسولا عمر اليك لتأتيه ، قال : ان لنا حاجة ، تمهلانني لاتزود قالا : انه عزم علينا الا نمهلك ، فاحتملاه فاتيا به عمر ، فلما اتاه سلم عليه فلم يعرفه ، وقال : من انت ؟ وكان رجلا اسمر ، فلما اصاب من ريف مصر ابيض وسمن فقال : انا عاملك على مصر ، انا فلان ، قال : ويحك ! ركبت ما نهيت عنه ، وتركت ما امرت به ! والله لاعاقبنك عقوبة ابلغ اليك فيها ، آتونى بكساء من صوف وعصا ، وثلاثمائة شاة من غنم الصدقة ، فقال : البس هذه الدراعة (1) ، فقد رايت اباك وهذه خير من دراعته وخذ هذه العصا فهى خير من عصا ابيك ، واذهب بهذه الشياه فارعها في مكان كذا - وذلك في يوم صائف - ولا تمنع السابلة من البانها شيئا الا آل عمر ، فانى لا اعلم احدا من آل عمر اصاب من البان غنم الصدقة ولحومها شيئا .
فلما ذهب رده ، وقال : أفهمت ما قلت ! فضرب بنفسه الارض ، وقال يا امير المؤمنين ، لا استطيع هذا ، فان شئت فاضرب عنقي ، قال : فان رددتك فاى رجل تكون ؟ قال : والله لا يبلغك بعدها الا ما تحب .
فرده ، فكان نعم الرجل .
وقال عمر : والله
__________
الدراعة ، كرمانة : جبة مشقوقة المقدم ، ولا تكون إلا من صوف (*)(12/26)
لا انزعن فلانا من القضاء حتى استعمل عوضه رجلا إذا رآه الفاجر فرق .
وروى عبد الله بن بريدة قال : بينا عمر يعس ذات ليلة انتهى الى باب متجاف وامرأة تغنى نسوة هل من سبيل الى خمر فاشربها ام هل سبيل الى نصر بن حجاج فقال عمر : اما ما عشت فلا .
فلما اصبح دعا نصر بن حجاج - وهو نصر بن الحجاج بن علابط البهزى السلمى - فابصره وهو من احسن الناس وجها ، وأصبحهم وأملحهم حسنا ، فامر ان يطم (1) شعره ، فخرجت جبهته فازداد حسنا ، فقال له عمر : اذهب فاعتم فاعتم فبدت وفرته (2) فامر بحلقها فازداد حسنا ، فقال له : فتنت نساء المدينة يا بن حجاج ! لا تجاورني في بلدة انا مقيم بها ثم سيره الى البصرة .
فروى الاصمعي قال : ابرد عمر بريدا الى عتبة بن ابى سفيان بالبصرة فاقام بها اياما ثم نادى منادى عتبة : من اراد ان يكتب الى اهله بالمدينة أو الى امير المؤمنين شيئا فليكتب فان بريد المسلمين خارج .
فكتب الناس ، ودس نصر بن حجاج كتابا فيه : لعبد الله عمر امير المؤمنين من نصر بن حجاج ، سلام عليك ، اما بعد ، يا امير المؤمنين : لعمري لئن سيرتني أو حرمتنى لما نلت من عرضى عليك حرام أئن غنت الذلفاء يوما بمنية وبعض اماني النساء غرام
__________
(1) طم شعره : عقصه .
(2) الوفرة : ما سأل على الاذنين من الشعر (*)(12/27)
ظننت بى الظن الذى ليس بعده بقاء فما لى في الندى كلام واصبحت منفيا على غير ريبة قد كان لى بالمكتين مقام (1) سيمنعنى مما تظن تكرمي وآباء صدق سالفون كرام ويمنعها مما تمنت صلاتها وحال لها في دينها وصيام فهاتان حالانا فهل انت راجع فقد جب منى كاهل وسنام (2) فقال عمر : اما ولى ولاية فلا .
وأقطعه ارضا بالبصرة ودارا .
فلما قتل عمر ركب راحلته ولحق بالمدينة .
وذكر المبرد محمد بن يزيد الثمالى قال : كان (3) عمر اصلع فلما حلق وفرة نصر ابن حجاج (4) قال نصر وكان شاعرا : تضن ابن خطاب على بجمة إذا رجلت تهتز هز السلاسل فصلع راسا لم يصلعه ربه يرف رفيفا بعد اسود جائل (5) لقد حسد الفرعان اصلع لم يكن إذا ما مشى بالفرع بالمتخايل .
محمد بن سعيد قال : بينا يطوف عمر في بعض سكك المدينة ، إذ سمع امراة تهتف من خدرها : هل من سبيل الى خمر فاشربها ام هل سبيل الى نصر بن حجاج
__________
(1) أي مكة والمدينة ، مثنى على التغليب .
(2) جب : قطع .
(3) الكامل 2 : 176 (4) في الكامل 2 : 176 ، وفيه : (وكان نصر بن حجاج السلمى ثم البهزى جميلا ، نعثر عليه عمر بن الحخطاب رحمة الله في إمر - الله أعلم به - فخلق رأسه ، وكان عمر أصلع لم يبق من شعره إلا حفاف ، كذلك قال الاصمعي ، فقال نصر بن حجاج) ، وأورد الابيات ..(5) الجائل : الشعر الكثير الملتف .
(6) الفرعان : جمع أفرع ، وهو الوافى الشعر .
قال المبرد ، قوله : (بالفرع بالمتخايل) ليس أنه جعل (بالفرع) من صلة المتخايل ، فيكون قد قدم الصلة على الموصول ، ولكنه جعل قوله : (بالفرع) تبيننا ، فصار بمنزلة (بك) التى تقع بعد (مرحبا) للتبيين .
(*)(12/28)
الى فتى ماجد الاعراق مقتبل سهل المحيا كريم غير ملجاج (1) تنميه اعراق صدق حين تنسبه اخى قداح عن المكروب فراج سامى النواظر من بهز له قدم تضئ صورته في الحالك الداجي فقال عمر : الا لا ادرى معى رجلا يهتف به العواتق في خدورهن ! على بنصر ابن حجاج فاتى به ، فإذا هو احسن الناس وجها وعينا وشعرا ، فامر بشعره فجز فخرجت له وجنتان كانه قمر ، فأمره ان يعتم فاعتم ففتن النساء بعينيه ، فقال عمر : لا ولله لا تساكننى بارض انابها ، قال : ولم يا امير المؤمنين قال : هو ما اقول لك فسيره الى البصرة .
وخافت المراة (2) التى سمع عمر منها ما سمع ان يبدر إليها منه شئ ، فدست إليه ابياتا قل للامير الذى تخشى بوادره مالى وللخمر أو نصر بن حجاج انى بليت ابا حفص بغيرهما شرب الحليب وطرف فاتر ساج لا تجعل الظن حقا أو تبينه ان السبيل سبيل الخائف الراجى ما منية قلتها عرضا بضائرة والناس من هالك قدما ومن ناج ان الهوى رعية التقوى تقيده حتى أقر بالجام وإسراج فبكى عمر وقال : الحمد لله الذى قيد الهوى بالتقوى .
واتته يوما ام نصر حين اشتدت عليها غيبة ابنها ، فتعرضت لعمر بين الاذان والاقامة فقعدت له على الطريق فلما خرج يريد الصلاة هتفت به ، وقالت : يا امير المؤمنين لاجاثينك (3) غدا بين يدى الله عز وجل ولا خاصمنك إليه ، يبيت عاصم وعبد الله الى
__________
(1) الملجاج : من الملاجة ، وهى التمادي في الخصومة .
(2) ذكروا أن المرأة المتمنية هي الفارعة بنت همام بن عروة بن مسعود الثقفى .
(3) الجثو : الجلوس على الركبتين للخصومة .
(*)(12/29)
جانبيك وبيني وبين ابني الفيافي والقفار والمفاوز والجبال ! قال : من هذه ؟ قيل : ام نصر بن حجاج ، فقال : يا ام نصر ، ان عاصما وعبد الله لم تهتف بهما العواتق من وراء الخدور .
ويروى ان نصر بن الحجاج لما سيره عمر الى البصرة نزل بها على مجاشع بن مسعود السلمى وكان خليفة ابى موسى عليها ، وكانت له امراة شابة جميلة فهويت نصرا ، وهويها فبينا الشيخ جالس ونصر عنده إذ كتب في الارض شيئا ، فقرأته المرأة ، فقالت : (انا والله) فقال مجاشع : ما قال لك ؟ قالت : انه قال : ما اصفى لقحتكم هذه ؟ فقال مجاشع : ان الكلمه التى قلت ليست اختا لهذا الكلام ، عزمت عليك لما اخبرتني ! قالت : انه قال : ما احسن سوار ابنتكم هذه ؟ قال : ولا هذه ، فانه كتب في الارض فراى الخط فدعا باناء فوضعه عليه ، ثم احضر غلاما من غلمانه ، فقال : اقرا فقرأه وإذا هو : انا والله احبك ، فقال : هذه لهذه ، اعتدى ايتها المرأة وتزوجها يا بن أخى ان اردت .
ثم غدا على ابى موسى فاخبره ، فقال أبو موسى اقسم ما اخرجه عمر عن المدينة من خير ، ثم طرده إلى فارس وعليها عثمان بن أبى العاص الثقفى ، فنزل على دهقانه فاعجبها فارسلت إليه ، فبلغ خبرها عثمان ، فبعث إليه ان اخرج عن ارض فارس ، فانك لم تخرج عن المدينة والبصرة من خير ، فقال : والله لئن اخرجتموني لالحقن ببلاد الشرك ، فكتب بذلك الى عمر ، فكتب ان جزوا شعره وشمرروا قميصه والزموه المساجد .
وروى عبد الله بن بريدة ان عمر خرج ليلا يعس ، فإذا نسوة يتحدثن وإذا هن(12/30)
يقلن : أي فتيان المدينة اصبح ؟ فقالت : امراة منهن أبو ذؤيب والله .
فلما اصبح عمر سأل عنه فإذا هو من بنى سليم ، وإذا هو ابن عم نصر بن حجاج ، فارسل إليه ، فحضر فإذا هو اجمل الناس واملحهم ، فلما نظر إليه ، قال : انت والله ذئبها ! يكررها ويرددها ، لا والذى نفسي بيده لا تجامعني بارض ابدا .
فقال يا امير المؤمنين ان كنت لابد مسيرى فسيرني حيث سيرت ابن عمى نصر ابن حجاج فامر بتسييره الى البصرة فاشخص إليها .
خطب عمر في الليلة التى دفن فيها أبو بكر فقال : ان الله تعالى نهج سبيله وكفانا برسوله ، فلم يبق الا الدعاء والاقتداء .
الحمد لله الذى ابتلاني بكم وابتلاكم بى وأبقاني فيكم بعد صاحبي ، وأعوذ بالله ان ازل أو اضل ، فاعادى له وليا ، أو اوالى له عدوا .
الا انى وصاحبى كنفر ثلاثة قفلوا من طيبة فاخذ احدهم مهلة الى داره وقراره فسلك ارضا مضيئة متشابهة الاعلام ، فلم يزل عن الطريق ولم يحرم السبيل ، حتى اسلمه الى اهله ثم تلاه الاخر فسلك سبيله ، واتبع اثره ، فافضى إليه ولقى صاحبه ، ثم تلاهما الثالث ، فإن سلك سبيلهما واتبع اثرهما افضى اليهما ولاقاهما ، وان زل يمينا أو شمالا لم يجامعهما ابدا .
الا وان العرب جمل انف (1) قد اعطيت خطامه ، الا وانى حامله على المحجة ومستعين بالله عليه .
الا وإنى داع فامنوا ، اللهم انى شحيح فسخني ، اللهم انى غليظ فلينى اللهم إنى ضعيف فقونى .
اللهم اوجب لى بموالاتك وموالاة اوليائك ولايتك ومعونتك ، وأبرئني
__________
(1) البعير الانف : الذلول الذى يانف من الزجر والضرب ويعطى ما عنده من السير عفوا سهلا .
(*)(12/31)
من الافات بمعاداة أعدائك ، وتوفنى مع الابرار ، ولا تحشرني في زمرة الاشقياء ، اللهم لا تكثر لى من الدنيا فاطغى ولا تقلل لى فاشقى ، فان ما قل وكفى خير مما كثر والهى .
وفد على عمر قوم من اهل العراق منهم جرير بن عبد الله ، فأتاهم بجفنة قد صبغت بخل وزيت وقال : خذوا فاخذوا اخذا ضفيفا فقال : ما بالكم تقرمون (1) قرم الشاة الكسيرة ! اظنكم تريدون حلوا وحامضا ، وحارا وباردا ، ثم قذفا في البطون ، لو شئت ان ادهمق (2) لكم لفعلت ، ولكنا نستبقي من دنيانا ما نجده في آخرتنا ، ولو شئنا ان نامر بصغار الضان فتسمط (3) ولبات الخبز فيخبز ونامر بالزبيب فينبذ لنا (4) في الاسعان (5) حتى إذا صار مثل عين اليعقوب (6) اكلنا هذا وشربنا هذا لفعلت ! والله انى ما اعجز عن كراكر (7) واسنمه وصلائق (8) ، وصناب لكن الله تعالى قال لقوم عيرهم امرا فعلوه (اذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا) (10) .
إنى نظرت في هذا الامر
__________
القوم : الاكل .
(2) في اللسان : (دهمق الطحين : دققه ولينه ، وفي حديث عمر بن الخطاب رضى الله عنه : لو شئت أن يدهق لى لفعلت ، ولكن الله تعالى عاب قوما فقال : (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها) ، معناه : لو شئت أن يلين لى الطعام ويجود) .
(2) يقال : سمط الجدى والحمل يسمطه - أي نتف عنه الصوف ونطفة من الشعر .
(4) النبذ في الاصل : طرحت الشئ من يدك أمامك أو وراءك ، قالوا : وإنما سمى النبيذ نبيذا ، لان الذى يتخذه يأخذ تمرا أو زبيبا فينبذه ، أي يطرحه في وعاء أو سقاء عليه الماء ويتركه حتى يفور .
(5) الاسعان : جمع سعن ، وهو قربة أو إداوة يقطع أسفلها ويشد عنقها وعتعلق إلى خشبة أو جذع نخلة ثم ينبذ فيها ، ثم يبرد ، وهو شبيه بدلو السقائين .
قال في اللسان : ومنه حديث عمر : أمرت بصاع من زبيب فجعل في سعن .
(6) اليعقوب : ذكر الحجل .
(7) الكركرة : الصدر من ذى الخف .
(8) الصلائق : ما عمل بالنار طبخا وشيا .
(9) الصناب : صباغ يتخذ من الخردل والزبيب .
(10) سورة الاحقاف 20 (*)(12/32)
فجعلت ان اردت الدنيا اضررت بالاخرة ، وان اردت الاخرة اضررت بالدنيا وإذا كان الامر هكذا ، فاضروا بالفانية .
خرج عمر يوما الى المسجد ، وعليه قميص في ظهره اربع رقاع ، فقرأ حتى انتهى الى قوله : (وفاكهه وأبا) (1) فقال : ما الاب ؟ ثم قال : ان هذا لهو التكلف ! وما عليك يا بن الخطاب الا تدرى ما الاب ! وجاء قوم من الصحابة الى حفصة فقالوا : لو كلمت اباك في ان يلين من عيشه ، لعله اقوى له على النظر في امور المسلمين ! فجاءته فقالت : إن ناسا من قومك كلمونى في ان اكلمك في ان تلين من عيشك .
فقال : يا بنية ، غششت اباك ونصحت لقومك .
وروى سالم بن عبد الله بن عمر ، قال : لما ولى عمر قعد على رزق ابى بكر الذى كان فرضه لنفسه ، فاشتدت حاجته ، فاجتمع نفر من المهاجرين ، منهم على وعثمان وطلحة والزبير وقالوا : لو قلنا (3) لعمر يزيد في رزقه ! فقال عثمان : انه عمر ، فهلموا فلنستبن (3) ما عنده من وراء وراء ، ناتى حفصة فنكلمها ونستكتمها اسماءنا .
فدخلوا عليها ، وسالوها ان تكلمه ولا تخبره باسماء من اتاها الا ان يقبل .
فلقيت عمر في ذلك ، فرأت الغضب في وجهه ، وقال : من اتاك ؟ قالت : لا سبيل الى ذلك ، فقال : لو علمت من هم لسؤت اوجههم ، انت بينى وبينهم ! نشدتك الله ما افضل ما اقتنى رسول الله صلى الله عليه وآله في بيتك من الملبس ؟ قالت : ثوبان ممشقان (4) ، كان يلبسهما للوفد ويخطب
__________
(1) سورة عبس 31 .
وفى الكشاف 4 : 563 (الاب : المرعى ، لانه يؤب ، أي يؤم وينتج .
وروى عن أبى يكر أنه سئل عن الاب ، فقال : أي سماء تظلنى ، وأى أرض تقلني أذا قلت في كتاب الله مالا علم لى به) ! (2) ا : (كلمنا عمر) .
(3) ب : (فلنستبرئ) .
(4) ثوب ممشق : مصبوغ .
(*)(12/33)
فيهما في الجمع ، قال : فأي طعام ناله عندك ارفع ؟ قالت : خبزنا مره خبزة شعير فصببت عليها - وهى حارة اسفلها - عكه (1) لنا كان فيها سمن وعسل فجعلتها هشة حلوة دسمة ، فاكل منها فاستطابها ، قال : فأى مبسط كان يبسط عندك اوطأ ؟ قالت : كساء ثخين كنا نرقعه في الصيف فنجعله ثخينا فإذا كان الشتاء بسطنا نصفه ، وتدثرنا بنصفه ، قال : فأبلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله قدر فوضع الفضول مواضعها ، وتبلغ ما أبر ، وإنى قدرت فو الله لاضعن الفضول مواضعها ، ولا تبلغن ما أبر حبة وفد على عمر وفد فيه رجال الناس من الافاق فوضع لهم بسطا من عباء ، وقدم إليهم طعاما غليظا فقالت له : ابنته حفصة أم المؤمنين : انهم وجوه الناس وكرام العرب فاحسن كرامتهم .
فقال : يا حفصة ، اخبريني بالين فراش فرشته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، واطيب طعام اكله عندك قالت : اصبنا كساء ملبدا عام خيبر ، فكنت افرشه له فينام عليه ، وانى رفعته ليلة ، فلما أصبح قال : ما كان فراشي الليلة ؟ قلت : فراشك كل ليلة الا ، أنى الليلة رفعته لك ليكون اوطأ ، فقال : اعيديه لحالته الاولى فان وطاءته منعتني الليله من الصلاة .
وكان لنا صاع من دقيق سلت (2) ، فنخلته يوما وطبخته له ، وكان لنا قعب من سمن فصببته عليه ، فبينا هو عليه السلام ياكل إذ دخل أبو الدرداء ، فقال : أرى سمنكم قليلا ، وان لنا لقعبا من سمن قال عليه السلام : فارسل فأت به ، فجاء به فصبه عليه فاكل ، فهذا أطيب طعام أكله عندي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فارسل عمر عينيه بالبكاء وقال لها : والله لا أزيدهم على ذلك العباء وذلك الطعام
__________
(1) العكة : للسمن ، كالشكوة للبن ، وقيل : العكة أصغر من القربة للسمن ، وهي زقيق صغير .
(2) السلت ، بالضم : ضرب من الشعير ، أو هو الشعير بعينه .
(*)(12/34)
شيئا وهذا فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا طعامه .
لما قدم عتبة بن مرثد أذربيجان أتى بالخبيص (1) ، فلما اكله وجد شيئا حلوا طيبا فقال : لو صنعت من هذا لامير المؤمنين ! فجعل له خبيصا في منقلين عظيمين ، وحملهما على بعيرين الى المدينة ، فقال عمر : ما هذا ؟ قالوا الخبيص (2) فذاقه فوجده حلوا فقال : للرسول : ويحك ! أكل المسلمين عندكم يشبع من هذا ؟ قال : لا ، قال : فارددهما ثم كتب الى عتبة : أما بعد ، فان خبيصك الذى بعثته ليس من كد ابيك ولا من كد أمك أشبع المسلمين مما تشبع منه في رحلك ولا تستاثر ، فان الاثرة شر والسلام .
روى عتبة بن مرثد أيضا قال : قدمت على عمر بحلواء من بلاد فارس ، في سلال عظام فقال : ما هذه قلت طعام طيب اتيتك به قال : ويحك ولم خصصتني به ؟ قلت : انت رجل تقضى حاجات الناس اول النهار ، فاحببت إذا رجعت الى منزلك أن ترجع الى طعام طيب ، فتصيب منه فتقوى على القيام بامرك .
فكشف عن سلة منها فذاق فاستطاب ، فقال : عزمت عليك يا عتبة إذا رجعت الا رزقت كل رجل من المسلمين مثله ! قلت : والذى يصلحك يا أمير المؤمنين لو أنفقت عليه اموال قيس كلها لما وسع ذلك ، قال : فلا حاجة لى فيه إذا ثم دعا بقصعة من ثريد ، ولحم غليظ ، وخبز خشن ، فقال : كل ، ثم جعل يأكل اكلا شهيا ، وجعلت أهوى الى البضعة البيضاء أحسبها سناما ، وإذا هي عصبة واهوى الى البضعة من اللحم امضغها ،
__________
(1) الخبيص : ضرب من الحلواء .
(2) ا : (هذا الخبيص) .
(*)(12/35)
فلا اسيغها ، وإذا هي من علباء العنق (1) فإذا غفل عنى جعلتها بين الخوان والقصعه ، فدعا بعس (2) من نبيذ كاد يكون خلا ، فقال : اشرب فلم أستطعه ولم أسغه أن اشرب فشرب ، ثم نظر إلي وقال : ويحك انه ليس بدرمك (3) العراق وودكه (4) ولكن ما تأكله أنت وأصحابك .
ثم قال : اسمع إنا ننحر كل يوم جزورا فأما أوراكها وودكها وأطايبها فلمن حضرنا من المهاجرين ، والانصار وأما عنقها فلال عمر ، واما عظامها وأضلاعها فلفقراء المدينة نأكل من هذا اللحم الغث ، ونشرب من هذا النبيذ الخاثر (5) ، وندع لين الطعام ليوم تذهل كل مرضعه عما أرضعت ، وتضع كل ذات حمل حملها .
حضر عند عمر قوم من الصحابة ، فأثنوا عليه ، وقالوا : والله ما رأينا يا أمير المؤمنين رجلا أقضى منك بالقسط ، ولا أقول بالحق ، ولا أشد على المنافقين منك ! إنك لخير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقال عوف بن مالك : كذبتم والله أبو بكر بعد رسول الله ، خير أمته رأينا أبا بكر .
فقال عمر : صدق عوف والله وكذبتم ! لقد كان أبو بكر والله أطيب من ريح المسك ، وأنا أضل من بعير أهلى .
لما أتى عمر الخبر بنزول رستم القادسية ، كان يخرج فيستخبر الركبان كل يوم عن اهل القادسية من حين يصبح إلى انتصاف النهار ، ثم يرجع إلى أهله ، فلما جاء البشير بالفتح ،
__________
(1) العلباء عصبة صفراء في صفحة العنق .
(2) العس : القدح الكبير .
(3) الدرمك : دقيق الحواري .
(4) الودك ، محركة : الدسم من اللحم والشحم .
(5) خثر النبيذ : ثخن واشتد .
(*)(12/36)
لقيه كما يلقى الركبان من قبل ، فسأله فأخبره ، فجعل يقول : يا عبد الله ، ايه ! حدثنى ! فيقول له : هزم الله العدو ، وعمر يحث معه ، ويسأله وهو راجل ، والبشير يسير على ناقته ولا يعرفه ، فلما دخل المدينة إذا الناس يسلمون عليه باسمه بأمرة المؤمنين ويهنئونه فنزل الرجل ، وقال : هلا أخبرتني يا أمير المؤمنين رحمك الله ! وجعل عمر يقول : لا عليك يا بن أخى ، لا عليك يابن اخى ! .
وروى أبو العالية الشامي ، قال : قدم عمر الجابية على جمل أورق (1) ، تلوح صلعته ، ليس عليه قلنسوة ، تصل رجلاه بين شعبتى رحله بغير ركاب ، وطاؤه كساء أنبجانى (2) كثير الصوف ، وهو وطاؤه إذا ركب ، وفراشه إذا نزل ، وحقيبته نمرة محشوة ليفا هي حقيبته إذا ركب ، ووسادته إذا نزل ، وعليه قميص من كرابيس (3) قد دسم وتخرق جيبه فقال : ادعوا إلي رأس القرية .
فدعوه له ، فقال : اغسلوا قميصي هذا وخيطوه وأعيرونى قميصا ريثما يجف قميصي ، فأتوه بقميص كتان ، فعجب منه ، فقال : ما هذا قالوا : كتان .
قال : وما الكتان ؟ فاخبروه ، فلبسه ثم غسل قميصه ، وأتى به فنزع قميصهم ولبس قميصه ، فقال له رأس القرية : أنت ملك العرب ، وهذه بلاد لا يصلح بها ركوب الابل ، فأتى ببرذون (4) ، فطرحت عليه قطيفة بغير سرج فركبه فهملج (5) تحته فقال ، للناس : احبسوا ، فحبسوه فقال : ما كنت اظن الناس يركبون الشيطان قبل هذا ! قدموا لى جملى فجئ .
به فنزل عن البرذون وركبه .
__________
(1) الاورق من الابل : ما في لونه بياض الى السواد .
وقالوا : هو من اطيب الابل لحما ، لاسيرا وعملا .
(2) أنبجاني ، منسوب الى منبج ، على غير قياس .
(3) الكرابيس : جمع كرباس ، وهو الثوب الخشن ، معرب (كرباس) بالفارسية .
(4) البرذون : ضرب من الدواب دون الخيل وأقدر من الحمر ، يقع على الذكر والانثى .
(5) هملج البرذون : مشى مشية سهلة في سرعة ، والهملجة : حسن سير الدابة .
(*)(12/37)
قدم عمر الشام فلقيه أمراء الاجناد وعظماء تلك الارض فقال : وأين أخى ؟ قالوا : من هو ؟ قال : أبو عبيدة ، قالوا : سيأتيك الان ، فجاء أبو عبيدة على ناقة مخطومة بحبل فسلم عليه ورد له ، ثم قال للناس : انصرفوا عنا فسار معه حتى اتى منزله فنزل عليه ، فلم ير فيه الا سيفا وترسا ، فقال له : لو اتخذت متاع ! البيت قال : حسبى هذا يبلغني المقيل .
وروى طارق بن شهاب ان عمر لما قدم الشام عرضت له مخاضه (1) فنزل عن بعيره ، ونزع جرموقية (2) فامسكهما بيده ، وخاض الماء وزمام بعيره في يده الاخرى ، فقال له أبو عبيدة : لقد صنعت اليوم صنيعا عظيما عند أهل هذه الارض ! فصك في صدره ، وقال : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ! انكم كنتم اذل الناس واحقر الناس واقل الناس فاعزكم الله بالاسلام ، فمهما تطلبوا العز بغيره يرجعكم الى الذل .
وروى محمد بن سعد صاحب الواقدي ، أن عمر قال يوما على المنبر : لقد رأيتنى وما لى من أكال (3) يأكله الناس إلا أن لى خالات من بنى مخزوم ، فكنت استعذب (4) لهن الماء ، فيقبضن لى القبضات من الزبيب ، فلما نزل قيل له : ما أردت بهذا قال : وجدت في نفسي بأوا فأردت أن أطأطئ منها .
__________
(1) المخاضنة : موضع الخوض من الماء .
(2) الجرموق : ما يلبس فوق الخف وقاية له .
(3) الأكال ، كسحاب : الطعام ، ويقولون : (ما ذقت أكالا) .
(4) يستغذب الماء : أي يطلب الماء العذب .
(5) البأو : العجب والخيلاء .
(*)(12/38)
ومن كلام عمر : رحم الله امرأ أهدى إلى عيوبي .
قدم عمرو بن العاص على عمر وكان واليا لمصر فقال له : في كم سرت قال : في عشرين ، قال عمر : لقد سرت سير عاشق فقال عمرو : انى والله ما تأبطتني الاماء ولا حملتني في غبرات المآلى ، فقال عمر : والله ما هذا بجواب الكلام الذى سألتك عنه ! وإن الدجاجة لتفحص في الرماد فتضع لغير الفحل ، وانما تنسب البيضة إلى طرقها فقام عمرو مربد الوجه .
قلت : المآلى : خرق سود يحملها النوائح ويسرن بها بأيديهن عند اللطم وأراد خرق الحيص هاهنا وشبهها بتلك ، وأنكر عمر فخره بالامهات وقال : إن الفخر للاب الذى إليه النسب وسألت النقيب أبا جعفر عن هذا الحديث في عمر فقال : إن عمرا فخر على عمر لان أم الخطاب زنجيه ، وتعرف بباطحلى ، تسمى صهاك ، فقلت له : وأم عمرو النابغة امة من سبايا العرب ، فقال : امة عربية من عنزة سبيت في بعض الغارات فليس يلحقها من النقص عندهم ما يلحق الاماء الزنجيات .
فقلت له : أكان عمرو يقدم على عمر بمثل ما قلت ؟ قال : قد يكون بلغه عنه قول قدح في نفسه فلم يحتمله له ونفث بما في صدره منه ، وإن لم يكن جوابا مطابقا للسؤال .
وقد كان عمر مع خشونته يحتمل نحو هذا ، فقد جبهه الزبير مرة وجعل يحكى كلامه يمططه ، وجبهه سعد بن أبى وقاص أيضا فأغضي عنه ومر يوما في السوق على ناقه له فوثب غلام من بنى ضبة فإذا هو خلفه ، فالتفت إليه ، فقال : فممن أنت قال : ضبى قال : جسور والله فقال : الغلام على : العدو ، قال عمر : وعلى الصديق أيضا ما حاجتك فقضى حاجته ، ثم قال : دع الان لنا ظهر راحلتنا .(12/39)
ومن كلام عمر أخشع عند القبور إذا نظرت إليها واستعص عند المعصية وذل عند الطاعة ولا تبذلن كلامك الا عند من يشتهيه ويتخذه غنما ولا تستعن على حاجتك إلا بمن يحب نجاحها لك وآخ الاخوان على التقوى وشاور في أمرك كله وإذا اشترى أحدكم بعيرا فليشتره جسيما ، فإن أخطأته النجابة لم يخطئه السوق .
أوفد بشر بن مروان وهو على العراق رجلا إلى عبد الملك ، فسأله عن بشر فقال : يا أمير المؤمنين ، هو اللين في غير ضعف الشديد في غير عنف فقال عبد الملك : ذاك الاحوذي (1) ابن حنتمه (2) الذى كان يأمن عنده البرئ ويخافه السقيم ، ويعاقب على الذنب ، ويعرف موضع العقوبة لابشر بن مروان ! .
أذن عمر يوما للناس ، فدخل شيخ كبير يعرج ، وهو يقود ناقه رجيعا (3) يجاذبها حتى وقف بين ظهرانى الناس ، ثم قال : وإنك مسترعى وإنا رعية وإنك مدعو بسيماك يا عمر لدى يوم شر شره لشراره وخير لمن كانت مؤانسه الخير .
فقال عمر : لا حول ولا قوة الا بالله من أنت قال : عمرو بن براقة قال : ويحك فما منعك أن تقول (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول) (4) ثم قرأها إلى آخرها وأمر بناقته فقبضت ، وحمله على غيرها وكساه وزوده .
__________
(1) الاحوذي : الرجل الذي يسوق الامور أحسن مساق لعلمه بها .
(2) حنتمة : أم عمر بن الخطاب .
(3) ناقة رجيع سفر ، أي رجعت فيه مرات .
(4) سورة الانفال 41 .
(*)(12/40)
بينا عمر يسير في طريق مكة يوما إذا بالشيخ بين يديه يرتجز ويقول ما إن رأيت كفتى الخطاب أبر بالدين وبالاحساب * بعد النبي صاحب الكتاب * فطعنه عمر بالسوط في ظهره ، فقال : ويلك ! وأين الصديق ! قال : ما لى بأمره علم يا أمير المؤمنين ، قال : أما إنك لو كنت عالما ، ثم قلت هذا لاوجعت ظهرك .
قال زيد بن أسلم : كنت عند عمر وقد كلمه عمرو بن العاص في الحطيئة وكان محبوسا ، فاخرجه من السجن ثم أنشده ماذا تقول لافراخ بذى مرخ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر (1) ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة فاغفر عليك سلام الله يا عمر انت الامام الذى من بعد صاحبه ألقت إليه مقاليد النهى البشر ما آثروك بها إذ قدموك لها لكن لانفسهم كانت بك الاثر .
(2) فبكى عمر لما قال له : (ماذا تقول لافراخ) فكان عمرو بن العاص بعد ذلك يقول : ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أتقى من رجل يبكى خوفا من حبس (3) الحطيئه ! ثم قال عمر لغلامه يرفأ : على بالكرسي ، فجلس عليه ثم قال : على بالطست ، فأتى بها ثم قال : على بالمخصف ، لابل على بالسكين ، فأتى بها فقال : لا بل على بالموسى ، فانها أوجى ، فأتى بموسى ثم قال : أشيروا على في الشاعر فانه يقول الهجر ، وينسب بالحرم ويمدح الناس ويذمهم بغير ما فيهم وما أرانى إلا قاطعا لسانه ! فجعل الحطيئة يزيد خوفا فقال : من حضر إنه لا يعود يا أمير المؤمنين ، وأشاروا إليه قل لا أعود يا أمير المؤمنين فقال : النجاء النجاء ! فلما ولى ناداه : يا حطيئة فرجع مرعوبا فقال : كانى بك يا حطيئة
__________
(1) ديوانه 8 .
(2) أي الخلافة .
وفي الديوان : (لم يؤثروك) .
(3) كذا في ا ، وفي ب : (حبسه) .
(*)(12/41)
عند فتى من قريش ، قد بسط لك نمرقة وكسر لك أخرى ثم قال : غننا يا حطيئة فطفقت تغنيه بأعراض الناس قال : يا أمير المؤمنين لا أعود ولا يكون ذلك .
قال : زيد بن أسلم ثم رأيت الحطيئة يوما بعد ذلك عند عبيد الله بن عمر قد بسط له نمرقة وكسر له اخرى ثم قال : تغنينا يا حطيئة وهو يغنيه فقلت يا حطيئة أما تذكر قول عمر لك ! ففزع وقال : رحم الله ذلك المرء أما لو كان حيا ما فعلنا هذا .
قال : فقلت لعبيد الله بن عمر : سمعت أباك يذكر كذا فكنت أنت ذلك الفتى .
كان عمر يصادر خونه العمال ، فصادر أبا موسى الاشعري وكان عامله على البصرة وقال له : بلغني أن لك جاريتين وأنك تطعم الناس من جفنتين و أعاده بعد المصادرة إلى عمله .
وصادر أبا هريرة وأغلظ عليه وكان عامله على البحرين فقال له : ألا تعلم أنى استعملتك على البحرين ، وأنت حاف لا نعل في رجلك وقد بلغني أنك بعت أفراسا بالف وستمائة دينار قال أبو هريرة : كانت لنا أفراس فتناتجت فقال : قد حبست لك رزقك ومؤنتك وهذا فضل قال أبو هريره : ليس ذلك لك قال : بلى والله وأوجع ظهرك ! ثم قام إليه بالدرة فضرب ظهره حتى أدماه ثم قال إئت بها فلما أحضرها قال أبو هريرة : سوف احتسبها عند الله قال عمر : ذاك لو أخذتها من حل وأديتها طائعا أما والله مارجت فيك أميمة أن تجبى أموال هجر واليمامه وأقصى البحرين لنفسك ، لا لله و لا للمسلمين ، ولم ترج فيك أكثر من رعية الحمر وعزله .
وصادر الحارث بن وهب احد بنى ليث بكر بن كنانة وقال له : ما قلاص وأعبد بعتها بمائة دينار قال : خرجت بنفقة لى فاتجرت فيها ، قال : وإنا والله ما بعثناك للتجارة(12/42)
ادها ، قال : إما والله لا أعمل لك بعدها .
قال : أنا والله لاأستعملك بعدها .
ثم صعد المنبر فقال : يا معشر الامراء ، إن هذا المال لو رأينا أنه يحل لنا لاحللنا لكم فأما إذ لم نره يحل لنا وظلفنا (1) انفسنا عنه فاظلفوا عنه أنفسكم فإنى والله ما وجدت لكم مثلا إلا عطشان ورد اللجة ولم ينظر الماتح ، فلما روى غرق .
وكتب عمر إلى عمرو بن العاص وهو عامله في مصر : أما بعد فقد بلغني أنه قد ظهر لك مال من ابل وغنم وخدم وغلمان ولم يكن لك قبله مال ، ولا ذلك من رزقك ، فأنى لك هذا ولقد كان لى من السابقين الاولين من هو خير منك ، ولكني استعملتك لغنائك ، فإذا كان عملك لك وعلينا بم نؤثرك على أنفسنا فاكتب الى من أين مالك وعجل .
والسلام .
فكتب إليه عمرو بن العاص : قرأت كتاب أمير المؤمنين ولقد صدق فأما ما ذكره من مالى ، فإنى قدمت بلدة : الاسعار فيها رخيصة والغزو فيها كثير فجعلت فضول ما حصل لى من ذلك فيما ذكره أمير المؤمنين والله يا أمير المؤمنين لو كانت خيانتك لنا حلالا ما خناك حيث ائتمنتنا فأقصر عنا عناك فإن لنا أحسابا إذا رجعنا إليها أغنتنا عن العمل لك وأما من كان لك من السابقين الاولين ، فهلا استعملتهم ! فو الله ما دققت لك بابا .
فكتب إليه عمر : أما بعد ، فإنى لست من تسطيرك وتشقيقك الكلام في شئ ، إنكم معشر الامراء أكلتم الاموال واخلدتم إلى الاعذار فإنما تأكلون النار وتورثون العار وقد وجهت إليك محمد بن مسلمه ليشاطرك على ما في يديك والسلام .
__________
(1) ظلف نفسسه عن الشئ : منعها .
(*)(12/43)
فلما قدم إليه محمد إتخذ له طعاما وقدمه إليه فأبى أن يأكل فقال : ما لك لا تأكل طعامنا ؟ قال : إنك عملت لى طعاما هو تقدمة للشر ولو كنت عملت لى طعام الضيف لاكلته فأبعد عنى طعامك ، وأحضر لى مالك .
فلما كان الغد وأحضر ماله جعل محمد يأخذ شطرا ويعطى عمرا شطرا فما رأى عمرو ما حاز محمد من المال قال : يا محمد أقول ؟ قال : قل ما تشاء : قال : لعن الله يوما كنت فيه واليا لابن الخطاب ! والله لقد رأيته ورأيت أباه وإن على كل واحد منهما عباءة قطوانية مؤتزرا بها ما تبلغ مأبض ركبتيه وعلى عنق كل واحد منهما حزمة من حطب وإن العاص إبن وائل لفى مزررات الديباج فقال : محمد إيها يا عمرو ! فعمر والله خير منك ، وأما أبوك وأبوه ففى النار ووالله لو لا ما دخلت فيه من الاسلام لالفيت معتلفا شاة يسرك غزرها ويسوءك بكؤها .
قال : صدقت فاكتم على قال : أفعل .
جاءت سرية لعبيد الله بن عمر الى عمر تشكوه ، فقالت : يا أمير المؤمنين ألا تعذرني من أبى عيسى ، قال : ومن أبو عيسى قالت : ابنك عبيد الله قال : ويحك وقد تكنى بأبى عيسى ! ودعاه ، وقال : إيها اكتنيت بأبى عيسى ! فحذر وفزع ، فاخذ يده فعضها حتى صاح ، ثم ضربه وقال : ويلك ! هل لعيسى أب أما تدرى ما كنى العرب ؟ أبو سلمه أبو حنظله أبو عرفطة أبو مرة .
كان عمر إذا غضب على بعض أهله لم يشتف حتى يعض يده ، وكان عبد الله بن الزبير كذلك يقال إنه لم يل ولاية من ولد عمر وال عادل
__________
(1) المأبض : كل ما يثبت عليه فخذك ، وقبل : المأبضان ما تحت الفخذين .
(*)(12/44)
وقال مالك بن أنس : إن عمر بن الخطاب إستفرغ كل عدل في ولده فلم يعدل بعده أحد منهم في ولايه وليها .
كان عمر ومن بعده من الولاة إذا أخذوا العصاة نزعوا عمائمهم وأقاموهم للناس ، حتى جاء زياد فضربهم بالسياط فجاء مصعب فحلق مع الضرب ، فجاء بشر بن مروان ، فكان يصلب تحت الابطين ، ويضرب الاكف بالمسامير .
فكتب إلى بعض الجند قوم من أهله يستزيرونه ، ويتشوقونه وقد أخرجه بشر إلى الرى فكتب إليهم : لو لا مخافة بشر أو عقوبته أو أن يرى شانئ كفي بمسمار إذا لعطلت ثغرى ثم زرتكم إن المحب المعنى جد زوار .
فلما جاء الحجاج قال : كل هذا لعب فقتل العصاة بالسيف .
زيد بن أسلم ، عن أبيه قال : خلا عمر لبعض شأنه وقال : أمسك على الباب فطلع الزبير فكرهته حين رأيته فأراد أن يدخل فقلت هو على حاجة فلم يلتفت إلى وأهوى ليدخل فوضعت يدى في صدره فضرب أنفى فأدماه ثم رجع فدخلت على عمر فقال : ما بك ؟ قلت : الزبير ! .
فأرسل إلى الزبير فلما دخل جئت فقمت لانظر ما يقول له فقال : ما حملك على ما صنعت أدميتني للناس فقال الزبير : يحكيه ويمطط في كلامه (أدميتني !) أتحتجب عنا يا بن الخطاب ! فو الله ما احتجب منى رسول الله ولا أبو بكر فقال عمر : كالمعتذر إنى كنت في بعض شأني ! .
قال : أسلم فلما سمعته يعتذر إليه يئست من أن يأخذ لى بحقى منه .(12/45)
فخرج الزبير فقال عمر : إنه الزبير وآثاره ما تعلم فقلت حقى حقك .
وروى الزبير بن بكار في كتاب الموفقيات عن عبد الله بن عباس قال : إنى لاماشى عمر بن الخطاب في سكة من سكك المدينة إذ قال لى : يا بن عباس ما أرى صاحبك إلا مظلوما فقلت في نفسي : والله لا يسبقنى بها ، فقلت يا أمير المؤمنين فاردد إليه ظلامته ، فانتزع يده من يدى ومضى يهمهم ساعة ثم وقف فلحقته ، فقال : يابن عباس ؟ ما أظنهم منعهم عنه إلا أنه استصغره ! قومه فقلت في نفسي : هذه شر من الاولى ! فقلت : والله ما استصغره الله ورسوله حين أمراه أن يأخذ براءة من صاحبك (1) .
فأعرض عنى وأسرع فرجعت عنه .
وقال ابن عباس : قلت لعمر لقد اكثرت التمنى للموت حتى خشيت أن يكون عليك غير سهل عند أوانه فماذا سئمت من رعيتك أن تعين صالحا أو تقوم فاسدا ! .
قال : يا بن عباس إنى قائل قولا فخذه إليك كيف لا حب فراقهم وفيهم من هو فاتح فاه للشهوة من الدنيا ، إما لحق لا ينوء به ، وإما لباطل لا يناله والله لولا أن أسأل عنكم لبرئت منكم فأصبحت الارض منى بلاقع ، ولم أقل ما فعل فلان وفلان .
جاءت إمرأه إلى عمر بن الخطاب فقالت : يا أمير المؤمنين إن زوجي يصوم
__________
(1) انظر الرياض النضرة 2 : 173 .
(*)(12/46)
النهار ويقوم الليل وإنى أكره أن أشكوه وهو يعمل بطاعة الله فقال : نعم الزوج زوجك ! فجعلت تكرر عليه القول وهو يكرر عليها الجواب .
فقال له كعب بن سور : يا أمير المؤمنين ، إنها تشكو زوجها في مباعدته إياها عن فراشه ففطن عمر حينئذ ، وقال له : قد وليتك الحكم بينهما ! .
فقال كعب : على بزوجها ، فأتى به فقال : إن زوجتك هذه تشكوك قال : في طعام أو شراب قال : لا قالت المرأة : أيها القاضى الحكيم رشده ألهى خليلي عن فراشي مسجده زهده في مضجعي تعبده نهاره وليله ما يرقده * فلست في أمر النساء أحمده * .
فقال زوجها : زهدني في فرشها وفى الحجل أنى امرؤ أذهلني ما قد نزل في سورة النمل وفى السبع الطول وفى كتاب الله تخويف جلل .
قال كعب : إن لها حقا عليك يا رجل تصيبها من أربع لمن عقل * فاعطها ذاك ودع عنك العلل * .
فقال لعمر : يا أمير المؤمنين إن الله أحل له من النساء مثنى ثلاث ورباع فله ثلاثة أيام ولياليهن يعبد فيها ربه ولها يوم وليلة .
فقال عمر : والله ما أعلم من أي أمريك أعجب أمن فهمك أمرهما أم من حكمك بينهما أذهب فقد وليتك قضاء البصرة .
وروى زيد بن أسلم عن أبيه قال : خرجت مع عمر بن الخطاب وهو يطوف بالليل(12/47)
فنظر إلى نار شرقي حرة المدينة فقال : إن هؤلاء الركب لم ينزلوا هاهنا إلا الليلة ! ثم أهوى (1) لهم فخرجت معه حتى دنونا ، فسمعنا تضاغى (2) الصبيان وبكاءهم .
فقال : السلام عليكم يا أصحاب الضوء ، هل ندنو منكم ! واحتبسنا قليلا ، فقالت : امرأة منهم : إدنوا بسلام ! فأقبلنا حتى وقفنا عليها ، فقال : ما يبكى هؤلاء الصبيان ؟ قالت : الجوع ، قال : فما هذا القدر على النار قالت : ماء اعللهم به ، قال : انتظرينى فانى بالغك ان شاء الله ! ثم خريهرول وأنا معه حتى جئنا دار الدقيق - وكانت دارا يطرح فيها ما يجئ من دقيق العراق ومصر وقد كان كتب إلى عمرو بن العاص وأبى موسى حين أمحلت السنة : الغوث ، الغوث أحملوا إلى أحمال الدقيق واجعلوا فيها جمائد الشحم .
فجاء إلى عدل منها فطأطأ ظهره ، ثم قال : احمله على ظهرى يا أسلم فقلت : أنا أحمله عنك ! فنظر الى وقال : أنت تحمل عنى وزرى يوم القيامة لا أبا لك ! قلت لا قال : فاحمله على ظهرى إذا ففعلت ، وخرج به يدلج (3) وأنا معه حتى ألقاه عند المرأه .
ثم قال : لى ذر (4) على ذرور الدقيق لا يتعرد وأنا أخزر ثم أخذ المسواط (5) يخزر ثم جعل ينفخ تحت البرمة وأنا أنظر إلى الدخان يخرج من خلل لحيته ويقول لا تعجل حتى ينضج ، ثم قال : ألق على من الشحم فإن القفار يوجع البطن .
__________
(1) أهوى لهم : نزل عليهم .
(2) التضاعي : الصياح والتضور من الجوع .
(3) الادلاج : السير أول الليل .
(4) ذر الشئ : أخذه بأطراف أصابعه ، ثم نثره على الشئ .
(5) الخزيرة .
العصيدة .
(6) السوط : خلط الشئ بعضه ببعض ، والمسوط والمسواط : ماسيط به .
(*)(12/48)
ثم أنزل القدر و قال للمرأة لا تعجلى لا تعطيهم حارا وأنا أسطح لك فجعل يسطح بالمسواط ويبرد طعامهم حتى إذا شبعوا ترك عندها الفضل ثم قال لها : ائتى أمير المؤمنين غدا فإنك عسيت أن تجديني قريبا منه فأشفع لك بخير ، وهى تقول من أنت يرحمك الله ! وتدعو له وتقول : أنت أولى بالخلافه من أمير المؤمنين ، فيقول قولى خيرا يرحمك الله لا يزيد على هذا .
ثم انصرف حتى إذا كان قريبا جلس فأقعى وجعل يسمع طويلا حتى سمع التضاحك منها ومن الصبيان ، وأنا أقول يا أمير المؤمنين ، قد فرغت من هذه ولك شغل في غيرها ويقول : لا تكلمني ، حتى إذا هدأ حسهم قام فتمطى وقال ويحك إنى سمعت الجوع أسهرهم فأحببت ألا أبرح حتى أسمع الشبع أنامهم .
ومن كلامه : الرجال ثلاثة الكامل ودون الكامل ولا شئ فالكامل ذو الرأى يستشير الناس فيأخذ من آراء الرجال الى رأيه ودون الكامل من يستبد به ولا يستشير ولا شئ من لا رأى له ولا يستشير .
والنساء ثلاث تعين أهلها على الدهر ولا تعين الدهر على أهلها وقلما تجدها وامرأه وعاء للولد ليس فيها غيره والثالثة غل قمل (1) يجعله الله في رقبة من يشاء ويفكه إذا شاء .
لما أخرج عمر الحطيئة من حبسه قال له إياك والشعر قال لا أقدر على تركه يا أمير المؤمنين مأكله عيالي ونملة تدب على لساني قال فشبب بأهلك وإياك
__________
(1) في اللسان : (في حديث عمر في صفة النساء : منهن غل قمل ، أي ذو قمل ، كانوا يغلون الاسير بالقد وعليه الشعر فيقمل ، ولا يسطيع دفعه عنه بحيلة) .
(*)(12/49)
وكل مدحه مجحفه قال وما المجحفة قال تقول إن بنى فلان خير من بنى فلان امدح ولا تفضل أحدا قال أنت والله يا أمير المؤمنين أشعر منى ! .
وروى الزبير في الموفقيات عن عبد الله بن عباس قال خرجت أريد عمر بن الخطاب فلقيته راكبا حمارا ، وقد ارتسنه بحبل أسود في رجليه نعلان مخصوفتان وعليه إزار وقميص صغير ، وقد انكشفت منه رجلاه إلى ركبتيه فمشيت إلى جانبه وجعلت أجذب الازار وأسويه عليه كلما سترت جانبا انكشف جانب فيضحك ويقول : إنه لا يطيعك ، حتى جئنا العالية فصلينا ، ثم قدم بعض القوم إلينا طعاما من خبز ولحم وإذا عمر صائم فجعل ينبذ (2) إلى طيب اللحم ، ويقول : كل لى ولك ، ثم دخلنا حائطا فألقى إلى رداءه وقال اكفنيه وألقى قميصه بين يديه ، وجلس يغسله وأنا أغسل رداءه ثم جففناهما وصلينا العصر ، فركب ومشيت إلى جانبه ، ولا ثالث لنا .
فقلت يا أمير المؤمنين إنى في خطبة فأشر على ، قال : ومن خطبت قلت فلانه ابنة فلان ، قال : النسب كما تحب وكما قد علمت ولكن في أخلاق أهلها دقة (3) لاتعدمك أن تجدها في ولدك ! قلت : فلا حاجة لى إذا فيها قال : فلم لا تخطب إلى ابن عمك - يعنى عليا ؟ قلت ألم تسبقني إليه ؟ قال : فالاخرى قلت هي لابن أخيه قال يا بن عباس إن صاحبكم إن ولى هذا الامر أخشى عجبه بنفسه أن يذهب به فليتني أراكم بعدى ! قلت يا أمير المؤمنين إن صاحبنا ما قد علمت إنه ما غير ولا بدل ولا أسخط رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام صحبته له .
__________
(1) ينبذ : يطرح .
(2) الدقة الخساسة .
(*)(12/50)
قال فقطع على الكلام فقال ولا في ابنه ابى جهل لما اراد ان يخطبها على فاطمه ! .
قلت قال الله تعالى ولم نجد له عزما وصاحبنا لم يعزم على سخط رسول الله صلى الله عليه وآله ولكن الخواطر التى لا يقدر أحد على دفعها عن نفسه وربما كان من الفقيه في دين الله العالم العامل بأمر الله .
فقال : يابن عباس ، من ظن أنه يرد بحوركم فيغوص فيها معكم حتى يبلغ قعرها فقد ظن عجزا ! أستغفر الله لى ولك خذ في غيرها .
ثم أنشأ يسألنى عن شئ من أمور الفتيا وأجيبه فيقول أصبت أصاب الله بك أنت والله أحق أن تتبع ! .
أشرف عبد الملك على أصحابه وهم يتذاكرون سيرة عمر فغاظه ذلك وقال إيها عن ذكر سيرة عمر فإنها مزراة على الولاة مفسدة للرعية .
قال ابن عباس : كنت عند عمر فتنفس نفسا ظننت أن أضلاعه قد انفرجت فقلت ما أخرج هذا النفس منك يا أمير المؤمنين : إلا هم شديد ! قال إى والله يابن عباس ! إنى فكرت فلم أدر فيمن أجعل هذا الامر بعدى ! ثم قال : لعلك ترى صاحبك لها أهلا قلت : وما يمنعه من ذلك مع جهاده وسابقته وقرابته وعلمه ! قال صدقت ، ولكنه امرؤ فيه دعابه ، قلت : فأين أنت عن طلحة قال ذو البأو وبإصبعه المقطوعة ! قلت : فعبد الرحمن ؟ قال : رجل ضعيف لو صار الامر إليه لوضع خاتمه في يد امرأته قلت : فالزبير ؟ قال شكس لقس (3) يلاطم في النقيع في صاع
__________
(1) سورة طه 115 .
(2) البأو : العجب والتفاخر .
(3) اللقس الشكس : سئ الخلق ، كذا فسره صاحب اللسان ، وأورد الخبر .
(*)(12/51)
من بر ! قلت : فسعد بن أبي وقاص ؟ قال صاحب سلاح ومقنب (1) ، قلت : فعثمان ؟ قال أوه ! ثلاثا ، والله لئن وليها ليحملن بنى أبى معيط على رقاب الناس ، ثم لتنهض العرب إليه .
ثم قال : يا بن عباس ، إنه لا يصلح لهذا الامر إلا خصيف (2) العقدة ، قليل الغرة لا تأخذه في الله لومة لائم ثم يكون شديدا من غير عنف لينا من غير ضعف سخيا من غير سرف ممسكا من غير وكف (3) قال بن عباس وكانت والله هي صفات عمر .
قال : ثم أقبل على بعد أن سكت هنيهة وقال : أجرؤهم والله إن وليها أن يحملهم على كتاب ربهم وسنة نبيهم لصاحبك ! أما إن ولى أمرهم حملهم على المحجة البيضاء والصراط المستقيم .
وروى عبد الله بن عمر قال : كنت عند أبى يوما ، وعنده نفر من الناس فجرى ذكر الشعر ، فقال من أشعر العرب فقالوا : فلان وفلان فطلع عبد الله بن عباس فسلم وجلس فقال عمر قد جاءكم الخبير من أشعر الناس يا عبد الله ؟ قال : زهير ابن أبى سلمى قال فأنشدني مما تستجيده له .
فقال : يا أمير المؤمنين إنه مدح قوما من غطفان ، يقال لهم بنو سنان فقال لو كان يقعد فوق الشمس من كرم قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا قوم أبوهم سنان حين تنسبهم طابوا وطاب من الاولاد ما ولدوا إنس إذا أمنوا جن إذا فزعوا مرزءون بها ليل إذا جهدوا (1) المقنب : جماعة الخيل (2) قال المحب الطبري في الرياض النضرة 2 : 60 : (خصيف العقدة : مستحكمها ، واستخصف الشئ : استحكم ، والخصيف : الرجل المحكم العقل ، وكني بذلك عمر عن الاشتداد في دين الله وقوة الايمان به .
(3) الوكف : العيب .
(*)(12/52)
محسدون على ما كان من نعم لا بنزع الله منهم ماله حسدوا .
فقال عمر والله لقد أحسن وما أرى هذا المدح يصلح إلا لهذا البيت من هاشم لقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابن عباس : وفقك الله يا أمير المؤمنين فلم تزل موفقا ، فقال : يابن عباس ، أتدرى ما منع الناس منكم ؟ قال لا يا أمير المؤمنين قال لكنى أدرى قال ما هو يا أمير المؤمنين ؟ قال : كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة والخلافة فيجخفوا جخفا (1) فنظرت قريش لنفسها فاختارت ووفقت فأصابت (2) .
فقال ابن عباس : أيميط أمير المؤمنين عنى غضبه فيسمع ! قال : قل ما تشاء قال أما قول أمير المؤمنين : إن قريشا كرهت ، فإن الله تعالى قال لقوم (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فاحبط أعمالهم) (3) .
وأما قولك : (إنا كنا نجخف) فلو جخفنا بالخلافة جخفنا بالقرابة ولكنا قوم أخلاقنا مشتقة من خلق رسول الله صلى الله عليه وآله الذى قال الله تعالى (وإنك لعلى خلق عظيم) (4) وقال له (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) .
وأما قولك (فإن قريشا اختارت) فإن الله تعالى يقول : (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة) (6) وقد علمت يا أمير المؤمنين أن الله اختار من خلقه لذلك من اختار ، فلو نظرت قريش من حيث نظر الله لها لوفقت وأصابت قريش .
فقال عمر : على رسلك يا بن عباس أبت قلوبكم يا بنى هاشم إلا غشا في أمر قريش لا يزول وحقدا عليها لا يحول فقال ابن عباس : مهلا يا أمير المؤمنين !
__________
(1) جخف : تكبر .
(2) الشعر والحبر الى هنا ، في ديوان زهير وشرحه 281 - 283 .
(3) سورة الاحزاب 19 .
(4) سورة ن 5 .
(5) سورة الشعراء 215 .
(6) سورة القصص 68 .
(*)(12/53)
لا تنسب هاشما إلى الغش فإن قلوبهم من قلب رسول الله الذى طهره الله وزكاه وهم أهل البيت الذين قال الله تعالى لهم (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) وأما قولك (حقدا) فكيف لا يحقد من غصب شيئه ويراه في يد غيره ! .
فقال عمر : أما أنت يا بن عباس فقد بلغني عنك كلام أكره أن أخبرك به فتزول منزلتك عندي ، قال : وما هو يا أمير المؤمنين أخبرني به فان يك باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه ، وإن يك حقا فإن منزلتي عندك لا تزول به .
قال : بلغني إنك لا تزال تقول : أخذ هذا الامر منك حسدا وظلما قال أما قولك يا أمير المؤمنين (حسدا) فقد حسد إبليس آدم فاخرجه من الجنة فنحن بنو آدم المحسود .
وأما قولك ظلما فأمير المؤمنين يعلم صاحب الحق من هو ! .
ثم قال يا أمير المؤمنين ، ألم تحتج العرب على العجم بحق رسول الله واحتجت قريش على سائر العرب بحق رسول الله صلى الله عيله وسلم ! فنحن أحق برسول الله من سائر قريش .
فقال له عمر : قم الان فارجع الى منزلك .
فقام فلما ولى هتف به عمر : أيها المنصرف إنى على ما كان منك لراع حقك ! .
فالتفت ابن عباس فقال : إن لى عليك يا أمير المؤمنين وعلى كل المسلمين حقا برسول الله صلى الله عليه وسلم فمن حفظ فحق نفسه حفظ ، ومن أضاعه فحق نفسه أضاع ثم مضى .
__________
(1) سورة الاحزاب 33 .(12/54)
فقال عمر لجلسائه واها لابن عباس ما رأيته لاحى أحدا قط إلا خصمه ! .
لما توفى عبد الله بن أبى رأس المنافقين في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ابنه وأهله فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلى عليه فقام بين يدى الصف يريد ذلك فجاء عمر فجذبه من خلفه وقال ألم ينهك الله أن تصلى على المنافقين فقال إنى خيرت فاخترت فقيل لى (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) (1) ولو أنى أعلم أنى إذا زدت على السبعين غفر له لزدت ثم صلى رسول الله عليه ومشى معه وقام على قبره .
فعجب الناس من جرأة عمر على رسول الله صلى الله عليه وآله ، فلم يلبث الناس إلا أن نزل قوله تعالى : (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره ..) (1) فلم يصل عليه السلام بعدها على احد من المنافقين .
وروى أبو هريرة قال كنا قعودا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر فقام من بين أظهرنا فأبطأ علينا وخشينا أن يقطع دوننا فقمنا وكنت أول من فزع فخرجت أبتغيه حتى أتيت حائطا (3) للانصار لقوم من بنى النجار ، فلم أجد له بابا إلا ربيعا فدخلت في جوف الحائط - والربيع الجدول - فدخلت منه بعد أن احتفرته فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو هريرة ! قلت : نعم ، قال : ما شأنك ؟ قلت : كنت بين أظهرنا فقمت فأبطأت عنا ، فخشينا أن تقتطع دوننا ففزعنا - وكنت أول من فزع فأتيت هذا الحائط فاحتفرته كما يحتفر الثعلب ، والناس من ورائي
__________
(1) سورة التوبة 80 ، 84 (2) الرياض النضرة 1 : 140 (3) الحائط هنا : البستان .
(*)(12/55)
.
فقال يا أبا هريرة اذهب بنعلى هاتين ، فمن لقيته وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله ، مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة فخرجت فكان أول من لقيت عمر ، فقال : ما هذان النعلان ؟ قلت : نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنى بهما وقال : من لقيته يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة .
فضرب عمر في صدري فخررت لاستى ، وقال : ارجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله .
فأجهشت بالبكاء راجعا ، فقال رسول الله : ما بالك ؟ قلت : لقيت عمر فأخبرته بالذى بعثتني به فضرب صدري ضربة خررت لاستى ، وقال ارجع إلى رسول الله .
فخرج رسول الله فإذا عمر ، فقال : ما حملك يا عمر على ما فعلت فقال عمر أنت بعثت أبا هريرة بكذا قال : نعم ، قال : فلا تفعل فانى أخشى أن يتكل الناس عليها فيتركوا العمل خلهم يعملون فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : خلهم يعملون وروى أبو سعيد الخدرى قال : أصابت الناس مجاعة في غزاة تبوك فقالوا : يا رسول الله ، لو أذنت لنا فذبحنا نواضحنا (1) وأكلنا شحمها ولحمها ! فقال افعلوا ، فجاء عمر فقال : يا رسول الله إنهم إن فعلوا قل الظهر ولكن ادعهم بفضلات أزوادهم فاجمعها ثم ادع لهم عليها بالبركة لعل الله يجعل في ذلك خيرا
__________
(1) الناضح : البعير يستقي عليه ، ثم استعمل في كل بعير ، وإن لم يحمل الماء .(12/56)
ففعل رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك ، فأكل الخلق الكثير من طعام قليل ولم تذبح النواضح وروى ابن عباس رضى الله عنه أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر له ذنبا أذنبه فأنزل الله تعالى في أمره (وأقم الصلاه طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين) (1) فقال يارسول الله ، لى خاصة أم للناس عامة .
فضرب عمر صدره بيده وقال لا ونعمى عين بل للناس عامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل للناس عامة .
وكان عمر يقول : وافقنى ربى في ثلاث : قلت : يارسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى ؟ فنزلت (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) (2) .
وقلت : يارسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن ! فنزلت آية الحجاب .
وتمالا عليه نساؤه غيرة فقلت له : (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن) (3) فنزلت بهذا اللفظ .
وقال عبد الله بن مسعود فضل عمر الناس بأربع : برأيه في أسارى بدر فنزل القرآن بموافقته : (ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن في الارض) (5) وبرأيه في حجاب نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزل قوله تعالى (وإذا سالتموهن
__________
(1) سورة هود 114 (2) سورة البقرة 125 .
(3) سورة التحريم 5 (4) الرياض النضرة 1 : 240 .
(5) سورة الانفال 67 .
(*)(12/57)
متاعا فأسالوهن من وراء حجاب) (1) وبدعوة النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم أيد الاسلام بأحد الرجلين) وبرأيه في أبى بكر كان أول من بايعه (2) .
وروت عائشة قالت كنت آكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيسا (3) قبل أن تنزل آية الحجاب ، ومر عمر فدعاه فأكل فأصابت يده إصبعى ، فقال : حس (4) لو أطاع فيكن ما رأتكن عين فنزلت آية الحجاب .
جاء عيينه بن حصن والاقرع بن حابس إلى أبى بكر ، فقالا : يا خليفة رسول الله إن عندنا أرضا سبخه ليس فيها كلا ولا منفعة فإن رأيت أن تقطعناها لعلنا نحرثها أو نزرعها ! ولعل الله أن ينفع بها بعد اليوم ! فقال أبو بكر لمن حوله من الناس المسلمين : ما ترون ؟ قالوا : لا بأس فكتب لهما بها كتابا وأشهد فيه شهودا .
وعمر ما كان حاضرا ، فانطلقا إليه ليشهد في الكتاب ، فوجداه قائما يهنأ (6) بعيرا ، فقالا إن خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله عكتب لنا هذا الكتاب وجئناك لتشهد على ما فيه أفتقرؤه أم نقرؤه عليك ؟ قال : أعلى الحال التى تريان ! إن شئتما فاقرآه ، وإن شئتما فانتظرا حتى أفرغ .
قالا بل نقرؤه عليك ، فلما سمع ما فيه ، أخذه منهما ، ثم تفل فيه ، فمحاه ، فتذامرا وقالا مقالة سيئة .
__________
(1) سورة الاحزاب 53 .
(2) الرياض النضرة 1 : 202 (3) الرياض النضرة : (حيسا في قعب) .
(4) قال المحب الطبري : (حس ، هي بكسر السين والتشديد : كلمة يقولها الانسان إذا أصابه مامضه وأحرقه كالجمرة والضربة ونحوهما .
(5) الرياض النضرة 1 : 202 (6) يهنأ بعيره : يطلبه بالقطران علاجا له من الجرب .
(*)(12/58)
فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألفكما والاسلام يومئذ ذليل ، وإن الله تعالى قد أعز الاسلام ، فاذهبا فاجهدا جهدكما ، لارعى الله عليكما إن رعيتما ! .
فذهبا إلى أبى بكر ، وهما يتذمران ، فقالا : والله ما ندرى أنت أمير أم عمر ؟ فقال : بل هو لو شاء كان .
وجاء عمر وهو مغضب ، حتى وقف على أبى بكر فقال أخبرني عن هذه الارض التى أقطعتها هذين الرجلين أهى لك خاصة أم بين المسلمين عامة ! فقال : بين المسلمين عامة قال : فما حملك على أن تخص بها هذين دون جماعة المسلمين قال : استشرت الذين حولي فأشاروا بذلك ، فقال أفكل المسلمين أوسعتهم مشورة ورضا ! فقال أبو بكر فلقد كنت قلت لك : إنك أقوى على هذا الامر منى لكنك غلبتني ! .
لما كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتاب الصلح في الحديبية بينه وبين سهيل ابن عمرو كان في الكتاب أن من خرج من المسلمين إلى قريش لا يرد ومن خرج من المشركين إلى النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليهم فغضب عمر وقال لابي بكر : ما هذا يا أبا بكر ! أيرد المسلمون إلى المشركين ! ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس بين يديه وقال يا رسول الله ألست رسول الله حقا ! قال بلى قال : ونحن المسلمون حقا ! قال : نعم قال : وهم الكافرون حقا ! قال : نعم ، قال : فعلام نعطى الدنية في ديننا فقال رسول الله : أنا رسول الله افعل ما يأمرنى به ولن يضيعني .
فقام عمر مغضبا وقال لو أجد أعوانا ما أعطيت الدنية أبدا وجاء إلى أبى بكر(12/59)
فقال له : يا أبا بكر ، ألم يكن وعدنا أننا سندخل مكه ، فأين ما وعدنا به ؟ فقال أبو بكر : أقال لك : إنه العام يدخلها ؟ قال : لا قال : فسيدخلها ، فقال : فما هذه الصحيفه التى كتبت ؟ وكيف نعطى الدنية من أنفسنا ! فقال أبو بكر : يا هذا الزم غرزه (1) فو الله انه لرسول الله وإن الله لا يضيعه .
فلما كان يوم الفتح وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة قال : ادعوا لى عمر ، فجاء فقال : هذا الذى كنت وعدتكم به (2) .
لما قتل المشركون يوم بدر أسر منهم سبعون أسيرا ، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم أبا بكر وعمر فقال أبو بكر يارسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والاخوان ، وأرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على المشركين وعسى أن يهديهم الله بعد اليوم ، فيكونوا لنا عذرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تقول أنت يا عمر ؟ قال : أرى أن تمكنني من فلان - قريب لعمر - فأضرب عنقه وتمكن عليا من عقيل ، فيضرب عنقه ، وتمكن حمزة من أخيه فيضرب عنقه حتى يعلم الله أنه ليس في قلوبنا هوادة للمشركين .
اقتلهم يا رسول الله ، فإنهم صناديدهم وقادتهم فلم يهو رسول الله ما قاله عمر .
قال عمر : فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجدته قاعدا وأبو بكر وهما يبكيان ، فقلت : ما يبكيكما ؟ حدثانى ، فإن وجدت بكاء بكيت وإلا تباكيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبكى لاخذ الفداء لقد عرض على عذابكم أدنى من هذه الشجرة - لشجرة قريبة منه .
__________
(1) الزم غرزه ، أي أمره ونهيه (2) الرياض النضرة 2 : 44 (*)(12/60)
قال عبد الله بن عمر : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : كدنا أن يصيبنا شر في مخالفة عمر .
وقال عمر في خلافته : لئن عشت إن شاء الله لاسيرن في الرعية حولا فإنى أعلم أن للناس حوائج تقتطع دوني أما عما لهم فلا يرفعونها إلى وأما هم فلا يصلون إلى أسير إلى الشام فأقيم بها شهرين ، ثم أسير إلى الجزيرة فأقيم بها شهرين ، ثم أسير إلى مصر فأقيم بها شهرين ، ثم أسير إلى البحرين فأقيم بها شهرين ، ثم أسير إلى الكوفة فأقيم بها شهرين ثم إلى البصرة فأقيم بها شهرين ، والله لنعم الحول هذا ! .
وقال أسلم : بعثنى عمر بابل من إبل الصدقة إلى الحمى ، فوضعت جهازي على ناقة منها كريمة ، فلما أردت أن أصدرها قال : اعرضها على فعرضتها عليه فرأى متاعى على ناقة حسناء ، فقال لا أم لك ، عمدت إلى ناقة تغنى أهل بيت من المسلمين فهلا ابن لبون (1) بوال أو ناقة شصوص (2) .
وقيل لعمر إن هاهنا رجلا من الاحبار نصرانيا ، له بصر بالديوان لو اتخذته كاتبا ! فقال : لقد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين ! .
قال وقد خطب الناس : والذى بعث محمد بالحق لو أن جملا هلك ضياعا بشط الفرات خشيت أن يسأل الله عنه آل الخطاب .
__________
(1) ابن اللبون : ولد الناقة إذا في العام الثاني .
(2) الشصوص : الناقة الغليظة اللبن .
(*)(12/61)
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يعنى بال الخطاب نفسه ما يعنى غيرها .
وكتب إلى أبى موسى : إنه لم يزل للناس وجوه من الامر فأكرم من قبلك من وجوه الناس وبحسب المسلم الضعيف من بين القوم أن ينصف في الحكم وفى القسم .
أتى أعرابي عمر ، فقال : إن ناقتي بها نقبا ودبرا ، فاحملني ، فقال له : والله ما ببعيرك من نقب (1) ولا دبر (2) فقال : اقسم بالله أبو حفص عمر ما مسها من نقب ولا دبر * فاغفر له اللهم إن كان فجر * فقال عمر اللهم اغفر لى ثم دعاه فحمله .
جاء رجل إلى عمر وكانت بينهما قرابة يسأله فزبره (3) وأخرجه فكلم فيه وقيل : يا أمير المؤمنين زبرته وأخرجته قال : إنه سألني من مال الله ، فما معذرتي إذا لقيته ملكا خائنا ؟ فلو سألني من مالى ! ثم بعث إليه ألف درهم من ماله .
__________
(1) نقب البعير : حفى ، وقيل : رقت أخفافه .
(2) الدبر : إصابة البعير بالدبرة ، وهي قرحة من الرحل .
(3) زبره : نهره .
(*)(12/62)
وكان يقول في عماله : اللهم إنى لم أبعثهم ليأخذوا أموال المسلمين ولا ليضربوا أبشارهم من ظلمه أميره فلا إمرة عليه دوني بينا عمر ذات ليلة يعس سمع صوت امرأة من سطح وهى تنشد : تطاول هذا الليل وازور جانبه وليس إلى جنبى خليل ألاعبه فو الله لو لا الله تخشى عواقبه لزعزع من هذا السرير جوانبه مخافة ربى والحياء يصدني وأكرم بعلى أن تنال مراكبه [ و لكننى أخشى رقيبا موكلا بأنفسنا لا يفتر الدهر كاتبه ] فقال عمر : لا حول ولا قوة إلا بالله ! ماذا صنعت يا عمر بنساء المدينة ثم جاء فضرب على حفصة ابنته ، فقالت : ما جاء بك في هذه الساعة قال : أخبريني كم تصبر المرأة المغيبة عن بعلها قالت : اقصاه أربعة أشهر .
فلما أصبح كتب إلى أمرائه في جميع النواحى ألا تجمر (2) البعوث وألا يغيب رجل عن أهله أكثر من أربعه أشهر (3) .
وروى أسلم ، قال : كنت مع عمر ، وهو يعس بالمدينة إذ سمع امرأة تقول لبنتها : قومي يا بنية إلى ذلك اللبن بعد المشرقين فامذقيه (4) ، قالت : : أو ما علمت ماكان من عزمة أمير المؤمنين بالامس ؟ قالت : وما هو ؟ قالت : إنه أمر مناديا فنادى ألا يشاب اللبن بالماء ، قالت : فإنك بموضع لا يراك أمير المؤمنين ولا منادى أمير المؤمنين ! قالت :
__________
(1) من الرياض النضرة (2) تجمر : تحبس في الغزو (3) ابن الجوزي 60 ، والرياض النضرة 2 : 58 (4) امذقيه ، أي اخلطيه بالماء .
(*)(12/63)
والله ماكنت لاطيعه في الملا وأعصيه في الخلاء - وعمر يسمع ذلك - فقال : يا أسلم اعرف الباب ، ثم مضى في عسه ، فلما أصبح قال : يا أسلم امض إلى الموضع ، فانظر من القائلة ومن المقول لها ؟ وهل لهما من بعل ؟ قال أسلم : فأتيت الموضع ، فنظرت فإذا الجارية أيم وإذا المتكلمة بنت لها ، ليس لهما رجل .
فجئت فأخبرته ، فجمع عمر ولده ، وقال : هل يريد أحد أن يتزوج فأزوجه امرأة صالحة فتاة لو كان في أبيكم حركة إلى النساء لم يسبقه أحد إليها ؟ فقال عاصم ابنه : أنا ، فبعث إلى الجارية فزوجها ابنه عاصما ، فولدت له بنتا هي المكناة أم عاصم وهى أم عمر بن عبد العزيز بن مروان .
حج عمر فلما كان بضجنان (1) قال لا إله إلا الله العلى العظيم ، المعطى ما يشاء لمن يشاء أذكر وأنا أرعى إبل الخطاب بهذا الوادي في مدرعة صوف - وكان فظا يتعبني إذا عملت ، ويضربنى إذا قصرت - وقد أمسيت اليوم وليس بينى وبين الله أحد ثم تمثل : لا شئ مما يرى تبقى بشاشته يبقى الاله ، ويودى المال والولد لم تغن عن هرمز يوما خزائنه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا ولا سليمان إذ تجرى الرياح له والانس والجن فيما بينها يرد أين الملوك التى كانت منازلها من كل أوب إليها راكب يفد حوض هنالك مورود بلا كذب لا بد من ورده يوما كما وردوا .
__________
(1) ضنجان : موضع بناحية مكة .
(2) الرياض النضرة 2 : 50 (*)(12/64)
وروى محمد بن سيرين أن عمر في آخر أيامه اعتراه نسيان حتى كان ينسى عدد ركعات الصلاة ، فجعل أمامه رجلا يلقنه فإذا أومى إليه أن يقوم أو يركع ، فعل .
وسمع عمر منشدا ينشد قول طرفة : فلو لا ثلاث هن من عيشه الفتى وجدك لم احفل متى قام عودي فمنهن سبقي العاذلات بشربه كميت متى ما تعل بالماء تزبد وكرى إذا نادى المضاف محنبا كسيد الغضا نبهته المتوسد وتقصير يوم الدجن و الدجن معجب ببهكنه تحت الطراف الممدد .
فقال وانا لو لا ثلاث هن من عيشه الفتى لم احفل متى قام عودي ان اجاهد في سبيل الله ، وأن أضع وجهى في التراب لله ، وإن أجالس قوما يلتقطون طيب القول كما يلتقط طيب التمر .
وروى عبد الله بن بريدة ، قال : كان عمر ربما ياخذ بيد الصبى فيقول ادع لى فانك لم تذنب بعد وكان عمر كثير المشاورة كان يشاور في أمور المسلمين حتى المرأة .
وروى يحيى بن سعيد قال ، أمر عمر الحسين بن على عليه السلام أن يأتيه
__________
(1) المعلقة - بشرح التبريزي 81 ، 82 (2) الكميت من الخمر التي تضرب الى السواد .
(3) كرى : عطفى .
والمحنب من التحنيب ، وهو احديداب في وظيفي يدي الفرس .
والسيد : الذئب .
والغضا : شجر ، وذئابه أخبث الذئاب .
(4) الدجن : إلباس الغيم السماء .
والبهكنة : التامة الخلق .
(*)(12/65)
في بعض الحاجه فلقى الحسين عليه السلام من عبد الله بن عمر فسأله من أين جاء قال أستاذنت على أبى فلم يأذن لى ، فرجع الحسين ولقيه عمر من الغد ، فقال : ما منعك يا حسين أن تأتيني قال : قد أتيتك ولكن اخبرني ابنك عبد الله انه لم يؤذن له عليك فرجعت فقال عمر : وأنت عندي مثله ! وهل أنبت الشعر على الرأس غيركم ! .
قال عمر يوما ، والناس حوله : والله ما أدرى أخليفة أنا أم ملك ! فإن كنت ملكا ، فقد ورطت في أمر عظيم فقال له قائل : يا أمير المؤمنين إن بينهما فرقا ، وإنك إن شاء الله لعلى خير ، قال كيف قال : إن الخليفة لا يأخذ إلا حقا ولا يضعه إلا في حق ، وأنت بحمد الله كذلك ، والملك يعسف الناس ويأخذ مال هذا فيعطيه هذا .
فسكت عمر وقال : أرجو أن أكونه .
وروى مالك عن نافع ، عن ابن عمر ، أن عمر تعلم سورة البقرة في اثنتى عشرة سنة فلما ختمها نحر جزورا .
وروى أنس قال : كان يطرح لعمر كل يوم صاع من تمر فيأكله حتى حشفه .
وروى يوسف بن يعقوب الماجشون ، قال : قال لى ابن شهاب ولاخ لى وابن عم لنا ونحن صبيان أحداث لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم ، فإن عمر كان إذا نزل به الامر المعضل ، دعا الصبيان فاستشارهم ، يبتغى حده (2) عقولهم .
__________
(1) ب : (قلت) : والصواب ما أثبته من ا .
(2) ساقطة من ب .
(*)(12/66)
وروى الحسن ، قال : كان رجل لا يزال يأخذ من لحية عمر شيئا فاخذ يوما من لحيته فقبض على يده فإذا فيها بشئ ، فقال : إن الملق من الكذب ثم علاه بالدرة .
انقطع شسع نعل عمر فاسترجع (1) وقال : كل ما ساءك فهو مصيبة .
وقف أعرابي على عمر ، فقال له : يا بن خطاب جزيت الجنة اكس بنياتى وأمهنه * أقسم بالله لتفعلنه * فقال عمر : إن لم أفعل يكون ماذا ؟ قال : * إذا أبا حفص لامضينه * فقال إذا مضيت يكون ماذا ؟ قال : تكون عن حالى لتسألنه يوم تكون الاعطيات جنة والواقف المسئول يبهتنه إما إلى نار وإما جنه فبكى عمر ثم قال لغلامه : أعطه قميصي هذا لذلك اليوم ، لا لشعره ، والله ما أملك ثوبا غيره .
وروى ابن عباس قال : قال لى عمر ليلة : أنشدني لشاعر الشعراء ، قلت : ومن هو ؟ قال : زهير الذى يقول :
__________
(1) استرجع أي قال : إنا لله وإنا إليه راجعون .
(*)(12/67)
إذا ابتدرت قيس بن عيلان غاية من المجد من يسبق إليها يسود (1) .
فأنشدته حتى برق الفجر ، فقال : أيها الان ! اقرأ يا عبد الله قلت : ما أقرأ ؟ قال : سورة الواقعة .
سمع عمر صوت بكاء في بيت ، فدخل وبيده الدرة ، فمال عليهم ضربا حتى بلغ النائحة ، فضربها حتى سقط خمارها ، ثم قال لغلامه : اضرب النائحة ويلك ! اضربها فإنها نائحة لا حرمة لها لانها لا تبكى بشجوكم ، إنها تهريق دموعها على أخذ دراهمكم ، إنها تؤذى أمواتكم في قبورهم ، وأحياءكم في دورهم ، إنها تنهى عن الصبر ، وقد امر الله به وتأمر بالجزع وقد نهى الله عنه .
ومن كلامه من اتجر : في شئ ثلاث مرات فلم يصب فيه ، فليتحول عنه إلى غيره .
ومن كلامه : لو كنت تاجرا لما اخترت على العطر شيئا ، إن فاتني ربحه لم يفتنى ريحه .
ومن كلامه : تفقهوا قبل أن تسودوا .
ومن كلامه : تعلموا المهنة ، فإنه يوشك أحدكم يحتاج إلى مهنته .
ومن كلامه : مكسبة فيها بعض الدناءة ، خير من مسألة الناس .
ومن كلامه : أعقل الناس اعذرهم لهم .
رأى عمر ناسا يتبعون أبى بن كعب ، فرفع عليه الدرة ، فقال : يا أمير المؤمنين ، اتق الله ، قال : فما هذه الجموع خلفك يابن كعب ! أما علمت أنها فتنة للمتبوع ، مذلة للتابع .
جاء رجل إلى عمر ، فقال : إن بنتا لى واريتها في الجاهلية ، فاستخرجناها قبل أن
__________
(1) ديوانه 234 .
(*)(12/68)
تموت فأدركت معنا الاسلام فأسلمت ، ثم قارفت حدا من حدود الله ، فأخذت الشفرة لتذبح نفسها ، فأدركناها وقد قطعت بعض أوداجها ، فداويناها حتى برئت وتابت توبه حسنة ، وقد خطبها قوم ، أفأخبرهم بالذى كان من شأنها ؟ فقال عمر : أتعمد إلى ما ستره الله فتبديه والله لئن أخبرت بشأنها أحدا لاجعلنك نكالا لاهل الامصار ! أنكحها نكاح العفيفة السليمة .
أسلم غيلان بن سلمه الثقفى من عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : اختر منهن أربعا ، وطلق ستا : فلما كان على عهد عمر طلق نساءه الاربع ، وقسم ماله بين بنيه فبلغ ذلك عمر ، فأحضره فقال له : إنى لاظن الشيطان فيما يسترق من السمع ، سمع بموتك فقذفه في نفسك ، ولعلك لا تمكث إلا قليلا ، وإيم الله لتراجعن نساءك ولترجعن في مالك ، أو لاورثنهن منك ، ولامرن بقبرك فيرجم ، كما رجم قبر أبى رغال وقال عمر : أن الجزف في المعيشة أخوف عندي عليكم من العيال ، إنه لا يبقى مع الفساد شئ ، ولا يقل مع الاصلاح شئ .
وكان عمر يقول : أدبوا الخيل ، وانتضلوا ، واقعدوا في الشمس ، ولا يجاورنكم الخنازير ، ولا تقعدوا على مائدة يشرب عليها الخمر ، أو يرفع عليها الصليب ، وأياكم وأخلاق العجم ، ولا يحل لمؤمن (1) أن يدخل الحمام إلا مؤتزرا ، ولا لامرأة أن تدخل الحمام إلا من سقم ، فإذا وضعت المرأة خمارها في غير بيت زوجها ، فقد هتكت الستر بينها وبين الله تعالى .
__________
(1) ا : (لاحد) .
(*)(12/69)
وكان يكره أن يتزيا الرجال بزى النساء وألا يزال الرجل يرى مكتحلا مدهنا وأن يحف لحيته وشاربه كما تحف المرأة .
سمع عمر سائلا يقول : من يعشى السائل ؟ فقال : عشوا سائلكم ، ثم جاء إلى دار إبل (1) الصدقة يعشيها ، فسمع صوته مرة أخرى : من يعشى السائل ؟ فقال : ألم آمركم أن تعشوه ! فقالوا : قد عشيناه فأرسل إليه عمر ، وإذا معه جراب مملوء خبزا ، فقال : إنك لست سائلا ، إنما أنت تاجر تجمع لاهلك فأخذ بطرف الجراب فنبذه بين يدى الابل .
وقال عمر : من مزح استخف به وقال : أتدرون لم سمى المزاح مزاحا لانه أزاح الناس عن الحق .
ومن كلامه : لن يعطى أحد بعد الكفر بالله شرا من زوجة حديدة اللسان ، سيئة الخلق ، عقيم .
ولن يعطى أحد بعد الايمان بالله خيرا من زوجة كريمة ودود ولود حسنة الخلق .
وكان يقول : إن شقاشق الكلام من شقاشق اللسان ، فأقلوا ما استطعتم .
ونظر إلى شاب قد نكس رأسه خشوعا ، فقال يا هذا ، ارفع رأسك ، فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب فمن أظهر للخلق خشوعا فوق ما في قلبه فإنما أظهر نفاقا .
ومن كلامه إن أحبكم إلينا ما لم نركم أحسنكم أسماء ، فإذا رأيناكم فأحبكم إلينا أحسنكم أخلاقا فإذا بلوناكم فأحبكم إلينا أعظمكم أمانه وأصدقكم حديثا .
وكان يقول : لا تنظروا إلى صلاة امرئ ولا صيامه ، ولكن انظروا إلى عقله وصدقه .
__________
(1) ب : (أهل) تحريف ، وصوابه من ا (*)(12/70)
ومن كلامه : إن العبد إذا تواضع لله رفع حكمته (1) ، وقال له : انتعش نعشك الله فهو في نفسه صغير وفى أعين الناس عظيم .
وإذا تكبر وعتا وهضه (2) الله إلى الارض وقال اخسأ خسأك الله ! فهو في نفسه عظيم ، وفى أعين الناس حقير حتى يكون عندهم أحقر من الخنزير .
وقال الانسان لا يتعلم العلم لثلاث ولا يتركه لثلاث : لا يتعلمه ليمارى به ولا ليباهى به ولا ليرائى به .
ولا يتركه حياء من طلبه ، ولا زهادة فيه ولا رضا بالجهل بدلا منه .
وقال : تعلموا أنسابكم تصلوا أرحامكم .
وقال : إنى لا أخاف عليكم أحد الرجلين ، مؤمنا قد تبين إيمانه وكافرا قد تبين كفره ، ولكن أخاف عليكم منافقا يتعوذ بالايمان ويعمل بغيره .
ومن كلامه : إن الرجف (3) من كثره الزنا ، وإن قحوط المطر من قضاة السوء وأئمة الجور .
وقال في النساء : استعينوا عليهن بالعرى ، فإن إحداهن إذا كثرت ثيابها وحسنت زينتها أعجبها الخروج .
ومن كلامه إن الجبت السحر ، وإن الطاغوت الشيطان وإن الجبن والشجاعه غرائز تكون في الرجال يقاتل الشجاع عمن لا يعرف ويفر الجبان عن أمه وإن كرم الرجل دينه ، وحسب الرجل خلقه وإن كان فارسيا أو نبطيا .
وقال تفهموا العربيه ، فإنها تشحذ العقل ، وتزيد في المروءة .
وقال النساء ثلاث : امرأة هينة لينة عفيفة ودود ولود ، تعين بعلها على الدهر ولا تعين الدهر على بعلها ، وقلما تجدها .
وأخرى وعاء للولد لا تزيد على ذلك شيئا والثالثة غل قمل يجعله الله في عنق من يشاء وينزعه إذا شاء .
__________
(1) الحكمة ، بالتحريك : الشأن والامر .
(2) الوهضة : المطمئن من الارض (3) الرجف : الاضطراب .
(*)(12/71)
والرجال ثلاثة : رجل عاقل يورد الامور ويصدرها ، فيحسن إيرادا وإصدارا ، وآخر يشاور الرجال ، ويقف عند آرائهم ، والثالث حائر بائر لا يأتمر رشدا ولا يطيع مرشدا .
وقال : ما يمنعكم إذا رأيتم السفيه يخرق أعراض النساء أن تعربوا (1) عليه ، قالوا : نخاف لسانه ، قال : ذاك أدنى الا تكونوا شهداء .
ورأى رجلا عظيم البطن فقال : ما هذا ؟ قال : بركة من الله .
وقال إذا رزقت مودة من أخيك فتشبث بها ما استطعت .
وقال لقوم يحصدون الزرع : إن الله جعل ما أخطأت أيديكم رحمة لفقرائكم فلا تعودوا فيه .
وقال : ما ظهرت قط نعمة على أحد إلا وجدت له حاسدا ولو أن امرأ كان أقوم من قدح لوجدت له غامزا .
وقال إياكم والمدح فإنه الذبح .
وقال لقبيصة بن ذؤيب : أنت رجل حديث السن ، فصيح اللسان .
وإنه يكون في الرجل تسعة أخلاق حسنة وخلق واحد سيئ فيغلب الواحد التسعة فتوق عثرات (2) السيئات .
وقال يحسب امرئ من الغى أن يؤذى جليسه ، أو يتكلف ما لا يعنيه ، أو يعيب الناس بما يأتي مثله ، ويظهر له منهم ما يخفى عليهم من نفسه .
وقال : احترسوا من الناس بسوء الظن .
وقال في خطبه له : لا يعجبنكم من الرجل طنطنته ولكن من أدى الامانة وكف عن أعراض الناس فهو الرجل .
وقال : الراحة في مهاجرة خلطاء السوء .
__________
(1) التعريب : أن يتكلم بالكلمة فيفحش فيها أو يخطئ ، فيقول له الاخر : ليس كذا ولكنه كذا للذي هو أصوب .
كذا فسره صاحب اللسان ، وذكر قول عمر .
(2) ب : (عشرات) ، وما أثبته من ا .
(*)(12/72)
وقال : إن لؤما بالرجل أن يرفع يديه من الطعام قبل أصحابه .
وأثنى رجل على رجل عند عمر ، فقال له : أعاملته ؟ قال : لا قال : أصحبته في السفر ؟ قال : لا ، قال : فانت إذا القائل ما لا يعلم .
وقال : لان أموت بين شعبتى رحلى ، أسعى في الارض ، أبتغى من فضل الله كفاف وجهى أحب إلى من أن أموت غازيا .
وكان عمر قاعدا والدرة معه ، والناس حوله إذ أقبل الجارود العامري ، فقال رجل : هذا سيد ربيعة ، فسمعها عمر ومن حوله ، وسمعها الجارود ، فلما دنا منه ، خفقه بالدرة ! فقال : ما لى ولك يا أمير المؤمنين قال ويلك ! سمعتها ! قال : وسمعتها فمه ! قال : خشيت أن تخالط القوم ويقال : هذا أمير فأحببت أن أطأطى منك .
وقال من أحب أن يصل أباه في قبره ، فليصل إخوان أبيه من بعده .
وقال : إن أخوف ما أخاف أن يكون إعجاب المرء برأيه فمن قال : إنى عالم فهو جاهل ومن قال : إنى في الجنة فهو في النار .
وخرج للحج فسمع غناء راكب يغنى وهو محرم ، فقيل : يا أمير المؤمنين ، ألا تنهاه عن الغناء وهو محرم فقال : دعوه فإن الغناء زاد الراكب .
وقال : يثغر (1) الغلام لسبع ، ويحتلم لاربع عشرة وينتهى طوله لاحدى وعشرين ويكمل عقله لثمان وعشرين ويصير رجلا كاملا لاربعين .
__________
(1) أثغر الغلام : أي سقطت أسنانه (*)(12/73)
وروى سعيد بن المسيب ، أن عمر لما صدر من الحج في الشهر الذى قتل فيه ، كوم كومة من بطحاء ، وألقى عليها طرف ثوبه ، ثم استلقى عليها ، ورفع يديه إلى السماء ، وقال اللهم كبرت سنى ، وضعفت قوتي ، وانتشرت (1) رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط .
ثم قدم المدينة فخطب الناس فقال : أيها الناس قد فرضت لكم الفرائض وسننت لكم السنن ، وتركتكم على الواضحة إلا أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا إياكم أن تنتهوا عن آية الرجم وأن يقول قائل : لانجد ذلك حدا في كتاب الله فقد رأيت رسول الله رجم ورجمنا بعده ، ولو لا أن يقول الناس : إن ابن الخطاب أحدث آية في كتاب الله لكتبتها ، ولقد كنا نقرؤها (والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة فما انسلخ ذو الحجة حتى طعن دفع إلى عمر صك (2) محلة في شعبان ، فقال : أي شعبان ؟ الذى مضى أم الذى نحن فيه ؟ ثم جمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقال : ضعوا للناس تاريخا يرجعون إليه ، فقال قائل منهم : اكتبوا على تاريخ الروم ، فقيل : إنه يطول ، وإنه مكتوب من عهد ذى القرنين .
وقال قائل : بل اكتبوا على تاريخ الفرس ، [ فقيل ان الفرس ] (3) كلما قام ملك طرحوا ما كان قبله فقال علي عليه السلام : اكتبوا تاريخكم منذ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من دار الشرك إلى دار النصرة وهى دار الهجرة فقال عمر : نعم ما أشرت به ، فكتب للهجرة ، بعد مضى سنتين ونصف من خلافة عمر (4) .
__________
(1) انتشرت الرعية : أي تفرقت في شتى النواحي .
(2) الصك : كتاب الاقرار بالمال .
(3) تكملة من تاريخ الطبري .
(4) الخبر في تاريخ الطبري 2 : 253 (الحسينية) ، وفيه : (فاجتمع رأيهم على أن ينظروا كم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، فوجدوه عشر سنين ، فكتب التاريخ من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم) .
(*)(12/74)
قال المؤرخون : إن عمر أول من سن قيام رمضان في جماعة وكتب به إلى البلدان وأقام الحد في الخمر ثمانين ، وأحرق بيت رويشد الثقفى ، وكان نباذا ، وأقام في عمله بنفسه .
وأول من حمل الدرة وأدب بها .
وقيل بعده : كانت درة عمر أهيب من سيف الحجاج .
وهو أول من فتح الفتوح ، فتح العراق كله : السواد والجبال وأذربيجان وكور البصرة وكور الكوفة والاهواز وفارس وفتح الشام كلها ما خلا أجنادين فإنها فتحت في خلافة أبى بكر وفتح كور الجزيرة والموصل ومصر والاسكندرية وقتله أبو لؤلؤة وخيله على الرى .
وهو أول من مسح السواد ووضع الخراج على الارض ، والجزيه على جماجم أهل الذمة فيما فتحه من البلدان ، وبلغ خراج السواد في أيامه مائة ألف ألف درهم وعشرين ألف ألف درهم بالوافية ، وهى وزن الدينار من الذهب .
وهو أول من مصر الامصار وكوف الكوفة (1) وبصر البصرة ، وأنزلها العرب ، وأول من استقضى القضاة في الامصار وأول من دون الدواوين وكتب الناس على قبائلهم وفرض لهم الاعطيه ، وهو أول من قاسم العمال وشاطرهم أموالهم وكان يستعمل قوما ويدع أفضل منهم لبصرهم بالعمل وقال أكره أن أدنس هؤلاء بالعمل وهو الذى هدم مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله ، وزاد فيه وأدخل دار العباس فيما زاد .
وهو الذى أخرج اليهود من الحجاز ، وأجلاهم عن جزيرة العرب إلى الشام .
وهو الذى فتح البيت المقدس وحضر الفتح بنفسه .
وهو الذى أخر المقام إلى موضعه اليوم ، وكان ملصقا بالبيت وحج بنفسه خلافته كلها إلا السنة الاولى فإنه استخلف على الحج عبد الرحمن بن عوف .
وهو
__________
(1) في اللسان عن المفضل : يقال : كونوا هذا الرمل ، أي نحوه ، ومنه سميت الكوفة .
(*)(12/75)
الذى جاء بالحصى من العقيق فبسطه في مسجد المدينة وكان الناس إذا رفعوا رؤوسهم من السجود نفضوا أيديهم .
وروى أبو هريرة قال : قدمت على عمر من عند أبى موسى بثمانمائة ألف درهم ، فقال لى : بما ذا قدمت ؟ قلت بثمانمائة ألف درهم فقال ألم أقل لك إنك يمان أحمق ويحك ! إنما قدمت بثمانين ألف درهم فقلت : يا أمير المؤمنين إنما قدمت بثمانمائة ألف درهم فجعل يعجب ويكررها ، فقال : ويحك ! وكم ثمانمائة ألف درهم ؟ فعددت مائة ألف ومائة ألف حتى بلغت ثمانية ، فاستعظم ذلك ، وقال أطيب هو ويحك ! قلت : نعم فبات عمر ليلته تلك أرقا حتى إذا نودى لصلاة الصبح قالت له امرأته : ما نمت هذه الليلة ، قال : وكيف أنام وقد جاء الناس ما لم يأتهم مثله منذ قام الاسلام ، فظنت المرأة أنها داهية ، فسألته فقال : مال جم ، حمله أبو موسى ، قالت : فما بالك ؟ قال : ما يؤمننى لومت وهذا المال عندي لم أضعه في حقه ! فخرج يصلى الصبح واجتمع الناس إليه ، فقال لهم : قد رأيت في هذا المال رأيا فأشيروا على ، رأيت أن أكيله للناس بالمكيال ، قالوا : لا يا أمير المؤمنين ، قال : لا بل أبدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وبأهله ثم الاقرب فالاقرب فبدأ ببنى هاشم ، ثم ببنى المطلب ، ثم بعبد شمس ونوفل ، ثم بسائر بطون قريش .
قسم عمر مروطا بين نساء المدينة فبقى مرط (1) جيد له فقال بعض من عنده اعط هذا يا أمير المؤمنين ابنة رسول الله التى عندك - يعنون أم كلثوم ابنه علي عليه
__________
(1) المرط ، بالكسر : كساء من صوف أو من خز أو من كتان يؤتزر به ، وربما تلقيه المرأة على رأسها وتتلفع به .
(*)(12/76)
السلام - فقال : أم سليط أحق به فإنها ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت تزفر لنا (1) [ القرب ] (2) يوم احد .
وروى زيد بن أسلم عن أبيه ، قال : خرجت مع عمر إلى السوق فلحقته إمرأة شابة فقالت : يا أمير المؤمنين هلك زوجي وترك صبية صغارا لا ينضحون كراعا (3) لا زرع لهم ولا ضرع ، وقد خشيت عليهم الضيعة وأنا ابنه خفاف بن أسماء الغفاري وقد شهد أبى الحديبية فوقف عمر معها ولم يمض ، وقال مرحبا بنسيب قريب ! ثم انصرف إلى بعير ظهير (4) كان مربوطا في الدار فحمل عليه غرارتين ملاهما طعاما وجعل بينهما نفقة وثيابا ثم ناولها خطامه وقال : اقتاديه فلن يفنى هذا حتى يأتيكم الله بخير .
فقال له رجل : لقد أكثرت لها يا أمير المؤمنين ! فقال : ثكلتك أمك ! والله لكأنى أرى أبا هذه وأخاها ، وقد حاصرا حصنا فافتتحاه .
فافترقنا ، ثم أصبحنا نستقرئ سهماننا فيه .
وروى الاوزاعي أن طلحة تبع عمر ليلة ، فرآه دخل بيتا ثم خرج ، فلما أصبح ذهب طلحة إلى ذلك البيت فرأى امرأة عمياء مقعدة ، فقال لها : ما بال رجل أتاك الليلة ؟ قالت : إنه رجل يتعاهدني منذ كذا وكذا يأتيني بما يصلحني ، فقال طلحة : ثكلتك أمك يا طلحة ! تريد تتبع عمر ! .
خرج عمر إلى الشام حتى إذا كان ببعض الطريق ، لقيه أمراء الاجناد أبو عبيدة ابن الجراح وأصحابه فاخبروه أن الوباء قد وقع بالشام ، فقال لابن عباس ادع لى المهاجرين ، فدعاهم فسألهم فاختلفوا عليه ، فقال بعضهم خرجت : لامر ولا نرى أن
__________
(1) تزفر القرب : أي تحمل القرب مملوءة بالماء لنسقي الناس .
نهاية ابن الاثير واللسان - زفر .
(2) من اللسان والنهاية .
(3) الكراع : مستدق الساق : ويقال للضعيف الدفاع عن نفسه : ما ينضح كراعا .
(4) بعير ظهير : قوي .
(*)(12/77)
ترجع عنه وقال بعضهم : معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء ، فقال : ارتفعوا عنى ، ثم قال لابن عباس : ادع لى الانصار فدعاهم فاستشارهم ، فاختلفوا عليه اختلاف المهاجرين ، فقال لابن عباس : ادع لى من كان من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فدعاهم فقالوا باجمعهم : نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء ، فنادى عمر في الناس : إنى مصبح على ظهر فأصبحوا عليه فقال له أبو عبيدة بن الجراح اأفرارا من قدر الله تعالى ، فقال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ! نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا له عدوتان ، إحداهما خصبة والاخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله ! فجاء عبد الرحمن بن عوف - وكان متغيبا في بعض حاجته - فقال : إن عندي من هذا علما ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه) .
فحمد عمر الله عز وجل وانصرف إلى المدينة .
وروى ابن عباس ، قال : خرجت مع عمر إلى الشام في إحدى خرجاته ، فانفرد يوما يسير على بعيره فاتبعته ، فقال لى : يابن عباس ، أشكو إليك ابن عمك ، سألته أن يخرج معى فلم يفعل ولم أزل أراه واجدا ، فيم تظن موجدته ؟ قلت : يا أمير المؤمنين إنك لتعلم ، قال أظنه لا يزال كئيبا لفوت الخلافة (1) قلت : هو ذاك ، إنه يزعم أن رسول الله أراد الامر له ، فقال : يا بن عباس ، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الامر له فكان ما ذا إذا لم يرد الله تعالى ذلك ! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أمرا (2) ، وأراد
__________
(1) كذا في ، وفي ا : (على الخلافة) .
(2) ا : (ذلك) .
(*)(12/78)
الله غيره ، فنفذ مراد الله تعالى ولم ينفذ مراد رسوله أو كلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ! إنه أراد إسلام عمه ولم يرده الله فلم يسلم ! .
وقد روى معنى هذا الخبر بغير هذا اللفظ ، وهو قوله : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يذكره للامر في مرضه ، فصددته عنه خوفا من الفتنة وانتشار أمر الاسلام ، فعلم رسول الله ما في نفسي وأمسك وأبى الله الا إمضاء ما حتم .
وحدثني الحسين بن محمد السينى ، قال : قرأت على ظهر كتاب ، أن عمر نزلت به نازلة ، فقام لها وقعد ، وترنح لها وتقطر (1) وقال لمن عنده معشر الحاضرين ما تقولون في هذا الامر ؟ ، فقالوا : يا أمير المؤمنين انت المفزع والمنزع ، فغضب وقال : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا) (2) ، ثم قال : أما والله إنى وإياكم لنعلم ابن بجدتها والخبير بها ، قالوا : كأنك أردت ابن أبى طالب ! قال : وأنى يعدل بى عنه ، وهل طفحت حرة مثله قالوا : فلو دعوت به يا أمير المؤمنين ! قال هيهات ! إن هناك شمخا من هاشم وأثره من علم ، ولحمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يؤتى ولا يأتي ، فامضوا بنا إليه فانقصفوا نحوه (3) وأفضوا إليه فألفوه في حائط له ، عليه تبان (4) وهو يتركل (5) على مسحاته ، ويقرأ : (أيحسب الانسان أن يترك سدى) (6) إلى آخر السورة ، ودموعه تهمى على خديه ، فأجهش الناس لبكائه فبكوا ، ثم سكت وسكتوا فسأله عمر عن تلك الواقعة فأصدر جوابها ، فقال عمر : أما
__________
(1) تقطر : شمخ برأسه كبرا .
(2) سورة الاحزاب 70 .
(3) انقصفوا نحوه : اجتمعوا .
(4) التبان : سراويل صغير .
(5) يتركل على مسحاته : أي يضربها برجله لتغيب في الارض .
والمسحاة : ما يسحى به الطين عن الارض ، أي يحرف .
(6) سورة القيامة 36 .
(*)(12/79)
والله لقد أرادك الحق ولكن أبى قومك ، فقال : يا أبا ، حفص خفض عليك من هنا ومن هنا (إن يوم الفصل كان ميقاتا) (1) فوضع عمر إحدى يديه على الاخرى وأطرق إلى الارض ، وخرج كأنما ينظر في رماد .
قلت : أجدر بهذا الخبر أن يكون موضوعا وفيه ما يدل على ذلك ، من كون عمر أتى عليا يستفتيه في المسأله ، والاخبار كثيرة بأنه ما زال يدعوه إلى منزلة وإلى المسجد ، وأيضا فإن عليا لم يخاطب عمر منذ ولى الخلافة بالكنية وإنما كان يخاطبه بأمره المؤمنين هكذا تنطق كتب الحديث وكتب السير والتواريخ كلها .
وأيضا فإن هذا الخبر لم يسند إلى كتاب معين ولا إلى راو معين بل ذكر ذلك أنه قرأه على ظهر كتاب فيكون مجهولا ، والحديث المجهول غير الصحيح .
فأما ثناء عمر على أمير المؤمنين فصحيح غير منكر وفى الروايات منه الكثير الواسع ، ولكنا أنكرنا هذا الخبر بعينه خاصة وقد روى عن ابن عباس أيضا ، قال : دخلت على عمر يوما ، فقال : يا بن العباس لقد ، أجهد هذا الرجل نفسه في العبادة حتى نحلته ، رياء .
قلت : من هو ؟ فقال : هذا ابن عمك - يعنى عليا - قلت : وما يقصد بالرياء أمير المؤمنين ؟ قال يرشح نفسه بين الناس للخلافة ، قلت : وما يصنع بالترشيح ! قد رشحه لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصرفت عنه .
قال : إنه كان شابا حدثا فاستصغرت العرب سنه ، وقد كمل الان ، ألم تعلم أن الله تعالى لم يبعث نبيا إلا بعد الاربعين ! قلت يا أمير المؤمنين ، أما أهل الحجى والنهى فإنهم ما زالوا يعدونه كاملا منذ رفع الله منار الاسلام ، ولكنهم يعدونه محروما مجدودا ، فقال : أما إنه سيليها بعد هياط ومياط (2) ، ثم تزل فيها قدمه ولا يقضى منها أربه ، ولتكونن شاهدا ذلك يا عبد الله ، ثم يتبين الصبح لذى عينين وتعلم العرب صحة رأى المهاجرين الاولين
__________
(1) سورة النبأ 17 .
(2) في اللسان عن اللحياني : (الهياط : الاقبال ، والمياط الادبار) .
وقال غيره : (الهياط : اجماع الناس للصلح ، والمياط : التفرق عن ذلك) .
(*)(12/80)
الذين صرفوها عنه بادئ بدء فليتني أراكم بعدى يا عبد الله ! إن الحرص محرمة ، وإن دنياك كظلك كلما هممت به ازداد عنك بعدا .
نقلت هذا الخبر من (أمالى أبى جعفر محمد بن حبيب) رحمه الله .
ونقلت منه أيضا ما رواه عن ابن عباس ، قال : تبرم عمر بالخلافة في آخر أيامه ، وخاف العجز ، وضجر من سياسة الرعية ، فكان لا يزال يدعو الله بأن يتوفاه ، فقال لكعب الاحبار يوما وانا عنده : إنى قد أحببت أن أعهد إلى من يقوم بهذ الامر وأظن وفاتي قد دنت ، فما تقول في على ؟ أشر على في رأيك وأذكرني ما تجدونه عندكم ، فإنكم تزعمون أن أمرنا هذا مسطور في كتبكم ، فقال : أما من طريق الرأى فانه لا يصلح ، إنه رجل متين الدين ، لا يغضى على عورة ولا يحلم عن زلة ولا يعمل باجتهاد رأيه وليس هذا من سياسة الرعية في شئ وأما ما نجده في كتبنا فنجده لا يلى الامر ولا ولده ، وإن وليه كان هرج شديد ، قال : كيف ذاك ؟ قال : لانه أراق الدماء ، فحرمه الله الملك .
إن داود لما أراد أن يبنى حيطان بيت المقدس أوحى الله إليه إنك لا تبنيه لانك أرقت الدماء وإنما يبنيه سليمان ، فقال عمر : أليس بحق اراقها ؟ ، قال كعب : وداود بحق أراقها يا أمير المؤمنين ، قال : فإلى من يفضى الامر تجدونه عندكم ؟ قال : نجده ينتقل بعد صاحب الشريعة والاثنين من أصحابه ، إلى أعدائه الذين حاربهم وحاربوه ، وحاربهم على الدين .
فاسترجع عمر مرارا ، وقال أتستمع يابن عباس ! أما والله لقد سمعت من رسول الله ما يشابه هذا ، سمعته يقول : ليصعدن بنو أميه على منبرى ، ولقد أريتهم في منامي ينزون عليه نزو القردة " وفيهم أنزل (وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن) (1)
__________
(1) سورة الاسراء 60 .
(*)(12/81)
وقد روى الزبير بن بكار في (الموفقيات) ما يناسب هذا عن المغيرة بن شعبة قال : قال لى عمر يوما : يا مغيرة هل أبصرت بهذه عينك العوراء منذ أصيبت ؟ قلت : لا ، قال : أما والله ليعورن بنو أمية الاسلام كما أعورت عينك هذه ، ثم ليعمينه حتى لا يدرى أين يذهب ولا أين يجئ ؟ قلت : ثم ما ذا يا أمير المؤمنين ؟ قال : ثم يبعث الله تعالى بعد مائه وأربعين أو بعد مائة وثلاثين وفدا كوفد الملوك طيبة ريحهم يعيدون إلى الاسلام بصره وشتاته .
قلت : من هم يا أمير المؤمنين قال : حجازى وعراقى ، وقليلا ماكان ، وقليلا مادام .
وروى أبو بكر الانباري في (أماليه) أن عليا عليه السلام جلس إلى عمر في المسجد ، وعنده ناس ، فلما قام عرض واحد بذكره ، ونسبه إلى التيه والعجب ، فقال عمر : حق لمثله أن يتيه ! والله لو لا سيفه لما قام عمود الاسلام ، وهو بعد أقضى الامة وذو سابقتها وذو شرفها ، فقال له ذلك القائل : فما منعكم يا أمير المؤمنين عنه ؟ قال : كرهناه على حداثة السن وحبه بنى عبد المطلب .
قلت سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن محمد بن أبى زيد وقد قرأت عليه هذه الاخبار - فقلت له : ما أراها إلا تكاد تكون دالة على النص ، ولكني أستبعد أن يجتمع الصحابة على دفع نص رسول الله صلى الله عليه وآله على شخص بعينه كما استبعدنا من الصحابة على رد نصه على الكعبة وشهر رمضان وغيرهما من معالم الدين ، فقال لى رحمه الله : أبيت إلا ميلا إلى المعتزلة ! ثم قال : إن القوم لم يكونوا يذهبون في الخلافة إلى أنها من معالم ، الدين وأنها جارية مجرى العبادات الشرعية ، كالصلاة والصوم ، ولكنهم كانوا يجرونها مجرى الامور الدنيوية ويذهبون لهذا (1) مثل تأمير الامراء وتدبير الحروب وسياسة الرعية وما كانوا يبالون في أمثال هذا من مخالفة نصوصه صلى الله عليه وآله إذا رأوا المصلحة في
__________
(1) ا : (هذا) .(12/82)
غيرها ألا تراه كيف نص على أخراج أبى بكر وعمر في جيش أسامه ولم يخرجا لما رأيا أن في مقامهما مصلحة للدولة (1) وللملة وحفظا للبيضة ودفعا للفتنة وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يخالف وهو حى في أمثال ذلك فلا ينكره لا يرى به بأسا ألست تعلم أنه نزل في غزاة بدر منزلا على أن يحارب قريشا فيه ، فخالفته الانصار وقالت له : ليس الرأى في نزولك هذا المنزل فاتركه ، وانزل في منزل كذا ، فرجع إلى آرائهم ! وهو الذى قال للانصار عام قدم إلى المدينة : (لا تؤبروا النخل) ، فعملوا على قوله فحالت نخلهم في تلك السنة ولم تثمر حتى قال لهم : (أنتم أعرف بأمر دنياكم وأنا أعرف بأمر دينكم) وهو الذى أخذ الفداء من أسارى بدر فخالفه عمر ، فرجع إلى تصويب رأيه بعد أن فات الامر وخلص الاسرى ورجعوا إلى مكة ، وهو الذى أراد أن يصالح الاحزاب على ثلث تمر المدينة ليرجعوا عنه ، فأتى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فخالفاه ، فرجع إلى قولهما وقد كان قال لابي هريرة : إخرج فناد في الناس (من قال لا إله إلا الله مخلصا بها قلبه دخل الجنه) فخرج أبو هريرة فأخبر عمر بذلك فدفعه في صدره ، حتى وقع على الارض ، فقال : لا تقلها ، فإنك إن تقلها يتكلوا عليها ، ويدعوا العمل فأخبر أبو هريرة رسول الله صلى الله عليه وآله بذلك ، فقال : (لا تقلها وخلهم يعملون) ، فرجع إلى قول عمر ! وقد أطبقت الصحابة إطباقا واحدا على ترك كثير من النصوص لما رأوا المصلحة في ذلك كإسقاطهم سهم ذوى القربى وإسقاط سهم المؤلفة قلوبهم وهذان الامران أدخل في باب الدين منهما في باب الدنيا وقد عملوا بآرائهم أمورا لم يكن لها ذكر في الكتاب (2) والسنة ، كحد الخمر فإنهم عملوه اجتهادا ، ولم يحد رسول الله صلى الله عليه وآله شاربى الخمر وقد شربها الجم الغفير في زمانه بعد نزول آية التحريم ولقد كان أوصاهم في مرضه
__________
(1) كذا في ا ، وفي ب : (لله) .
(2) ساقطة من : ب .
(*)(12/83)
أن أخرجوا نصارى نجران من جزيرة العرب فلم يخرجوهم حتى مضى صدر من خلافه عمر ، وعملوا في أيام أبى بكر برأيهم في ذلك بأستصلاحهم وهم الذين هدموا المسجد بالمدينة وحولوا المقام بمكة ، وعملوا بمقتضى ما يغلب في ظنونهم من المصلحة ولم يقفوا مع موارد النصوص ، حتى اقتدى بهم الفقهاء من بعد ، فرجح كثير منهم القياس على النص ، حتى استحالت الشريعة وصار أصحاب القياس أصحاب شريعة جديدة .
قال : النقيب : وأكثر ما يعملون بأرائهم فيما يجرى مجرى الولايات والتأمير والتدبير وتقرير قواعد الدولة وما كانوا يقفون مع نصوص الرسول صلى الله عليه وآله وتدبيراته إذا رأوا المصلحة في خلافها كأنهم كانوا يقيدون نصوصه المطلقة بقيد غير مذكور لفظا وكأنهم كانوا يفهمونه من قرائن أحواله وتقدير ذلك القيد (افعلوا كذا إن رأيتموه مصلحه) .
قال : وأما مخالفتهم له فيما هو محض الشرع والدين وليس بمتعلق بإمور الدنيا وتدبيراتها فإنه يقل جدا ، نحو أن يقول : (الوضوء شرط في الصلاة) ، فيجمعوا على رد ذلك ويجيزوا الصلاة من غير وضوء ، أو يقول : (صوم شهر رمضان واجب) فيطبقوا على مخالفة ذلك ويجعلوا شوالا عوضا عنه ، فإنه بعيد ، إذ لا غرض لهم فيه ، ولا يقدرون على إظهار مصلحة عثروا عليها خفيت عنه صلى الله عليه وآله .
والقوم الذين كانوا قد غلب على ظنونهم أن العرب لا تطيع عليا عليه السلام ، فبعضها للحسد ، وبعضها للوتر والثأر وبعضها لاستحداثهم سنة ، وبعضها لاستطالته عليهم ورفعه عنهم ، ، وبعضها كراهة اجتماع النبوة والخلافة في بيت واحد وبعضها للخوف من شدة وطأته وشدته في دين الله وبعضها خوفا لرجاء تداول قبائل العرب الخلافة إذا لم يقتصر بها على بيت مخصوص عليه فيكون رجاء كل حى لوصولهم إليها ثابتا مستمرا ، وبعضها ببغضه ، لبغضهم من قرابته(12/84)
لرسول الله صلى الله وآله - وهم المنافقون من الناس ، ومن في قلبه زيغ من أمر النبوة فأصفق الكل إصفاقا واحدا على صرف الامر عنه لغيره ، وقال رؤساؤهم : إنا خفنا الفتنة وعلمنا أن العرب لا تطيعه ولا تتركه ، وتأولوا عند أنفسهم النص ، ولا ينكر النص وقالوا : إنه النص ولكن الحاضر يرى ما لا يرى الغائب والغائب قد يترك لاجل المصلحة الكلية وأعانهم على ذلك مسارعة الانصار إلى ادعائهم الامر وإخراجهم سعد بن عبادة من بيته وهو مريض لينصبوه خليفه - فيما زعموا - واختلط الناس وكثر الخبط وكادت الفتنة أن تشتعل (1) نارها ، فوثب رؤساء المهاجرين ، فبايعوا أبا بكر وكانت فلته - كما قال قائلهم - وزعموا أنهم أطفئوا بها نائرة الانصار ، فمن سكت من المسلمين ، وأغضى ولم يتعرض فقد كفاهم أمر نفسه ، ومن قال سرا أو جهرا : إن فلانا قد كان رسول الله صلى الله عليه وآله ذكره أو نص عليه أو أشار إليه أسكتوه في الجواب بأنا بادرنا إلى عقد البيعة مخافة الفتنة واعتذروا عنده ببعض ما تقدم ، إما أنه حديث السن أو تبغضه العرب ، لانه وترها وسفك دماءها ، أو لانه صاحب زهو وتيه ، أو كيف تجتمع النبوة والخلافة في مغرس واحد ! بل قد قالوا في العذر ما هو أقوى من هذا وأوكد قالوا : أبو بكر أقوى على هذا الامر منه لا سيما وعمر يعضده ويساعده والعرب تحب أبا بكر ويعجبها لينه ورفقه وهو شيخ مجرب للامور لا يحسده أحد ولا يحقد عليه أحد ، ولا يبغضه أحد ، وليس بذى شرف في النسب فيشمخ على الناس بشرفه ولا بذى قربى من الرسول صلى الله عليه وآله فيدل بقربه ، ودع ذا كله فإنه فضل مستغنى عنه قالوا : لو نصبنا عليا عليه السلام ، ارتد الناس عن الاسلام وعادت الجاهلية كما كانت ، فأيما أصلح في الدين ؟ الوقوف مع النص المفضى إلى ارتداد الخلق ورجوعهم إلى الاصنام والجاهلية أم العمل بمقتضى الاصلح و استبقاء الاسلام واستدامه العمل بالدين وإن كان فيه مخالفة النص ! .
__________
(1) ا : (يضطرم) .
(*)(12/85)
قال رحمه الله : وسكت الناس عن الانكار ، فإنهم كانوا متفرقين فمنهم من هو مبغض شانئ لعلى عليه السلام ، فالذي تم من صرف الامر عنه هو قرة عينه ، وبرد فؤاده ، ومنهم ذو الدين وصحة اليقين ، إلا أنه لما رأى كبراء الصحابة قد اتفقوا على صرف الامر عنه ، ظن أنهم إنما فعلوا ذلك لنص سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وآله ينسخ ما قد كان سمعه من النص على أمير المؤمنين عليه السلام لا سيما ما رواه أبو بكر من قول النبي صلى الله عليه وآله (الائمة من قريش) فإن كثيرا من الناس توهموا أنه ناسخ للنص الخاص ، وأن معنى الخبر أنكم مباحون في نصب إمام من قريش من أي بطون قريش كان فانه يكون إماما .
وأكد أيضا في نفوسهم رفض النص الخاص ما سمعوه من قول رسول الله صلى الله عليه وآله : (ما رأه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن) ، وقوله عليه السلام : (سألت الله ألا يجمع أمتى على ضلال ، فأعطانيها فأحسنوا الظن بعاقدى البيعة) .
وقالوا : هؤلاء أعرف بأغراض رسول الله صلى الله عليه وآله من كل أحد فأمسكوا وكفوا عن الانكار ومنهم فرقة أخرى - وهم الاكثرون - أعراب وجفاة ، وطغام أتباع كل ناعق ، يميلون مع كل ريح ، فهؤلاء مقلدون لا يسألون ولا ينكرون ، ولا يبحثون ، وهم مع أمرائهم وولاتهم ، لو أسقطوا عنهم الصلاة الواجبة لتركوها ، فلذلك امحق النص وخفى ودرس ، وقويت كلمة العاقدين لبيعة أبى بكر ، وقواها زيادة على ذلك اشتغال على وبنى هاشم برسول الله صلى الله عليه وآله وإغلاق ، بابهم عليهم وتخليتهم الناس يعملون ما شاءوا وأحبوا من غير مشاركة لهم فيما هم فيه ، لكنهم أرادوا استدراك ذلك بعد ما فات ، وهيهات الفائت لا رجعة له ! .
وأراد على عليه السلام بعد ذلك نقض البيعة فلم يتم له ذلك وكانت العرب لا ترى(12/86)
الغدر ، ولا تنقض البيعة صوابا كانت أو خطأ وقد قالت له الانصار وغيرها : أيها الرجل لو دعوتنا إلى نفسك قبل البيعة لما عدلنا بك أحدا ولكنا قد بايعنا فكيف السبيل إلى نقض البيعة بعد وقوعها ! .
قال النقيب : ومما جرأ عمر على بيعه أبى بكر والعدول عن على - مع ما كان يسمعه من الرسول صلى الله عليه وآله في أمره - أنه أنكر مرارا على الرسول صلى الله عليه وآله أمورا اعتمدها فلم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وآله إنكاره بل رجع في كثير منها إليه وأشار عليه بأمور كثيرة نزل القرآن فيها بموافقته ، فأطمعه ذلك في الاقدام على اعتماد كثير من الامور التى كان يرى فيها المصلحة ، مما هي خلاف النص ، وذلك نحو إنكاره عليه في الصلاة على عبد الله بن أبى المنافق ، وإنكاره فداء أسارى بدر وإنكاره عليه تبرج نسائه للناس ، وإنكاره قضية الحديبية وإنكاره أمان العباس لابي سفيان ابن حرب وإنكاره واقعة أبى حذيفة بن عتبة وإنكاره أمره بالنداء : (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) وإنكاره أمره بذبح النواضح وإنكاره على النساء بحضرة رسول الله صلى الله عليه وآله هيبتهن له دون رسول الله صلى الله عليه وآله ...
إلى غير ذلك من أمور كثيرة تشتمل عليها كتب الحديث ولو لم يكن الا إنكاره قول رسول الله صلى الله عليه وآله في مرضه : (أئتونى بدواة وكتف أكتب لكم ما لا تضلون بعدى) وقوله ما قال ، وسكوت رسول الله صلى الله عليه وآله عنه .
وأعجب الاشياء أنه قال ذلك اليوم : حسبنا كتاب الله ، فافترق الحاضرون من المسلمين في الدار فبعضهم ، يقول القول ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وبعضهم يقول : القول ما قال عمر ، فقال رسول الله : وقد كثر اللغط ، وعلت الاصوات (قوموا عنى فما ينبغى لنبى أن يكون عنده هذا التنازع) فهل بقى للنبوة مزية أو فضل إذا كان الاختلاف قد وقع بين القولين وميل(12/87)
المسلمون بينهما ، فرجح قوم هذا وقوم هذا فليس ذلك دالا على أن القوم سووا بينه وبين عمر وجعلوا القولين مسألة خلاف ، ذهب كل فريق إلى نصرة واحد منهما ، كما يختلف اثنان من عرض المسلمين في بعض الاحكام فينصر قوم هذا وينصر ذاك آخرون فمن بلغت قوته وهمته إلى هذا كيف ينكر منه أنه يبايع أبا بكر لمصلحة رآها ، ويعدل عن النص ! ومن الذى كان ينكر عليه ذلك ، وهو في القول الذى قاله للرسول صلى الله عليه وآله في وجهه غير خائف من الانصار ولا ينكر عليه أحد لا رسول الله صلى الله عليه وآله ولا غيره وهو أشد من مخالفة النص في الخلافة وأفظع وأشنع قال النقيب : على أن الرجل ما أهمل أمر نفسه ، بل أعد أعذارا وأجوبه وذلك لانه قال لقوم عرضوا له بحديث النص : إن رسول الله صلى الله عليه وآله رجع عن ذلك باقامته أبا بكر في الصلاة مقامه وأوهمهم أن ذلك جار مجرى النص عليه بالخلافة ، وقال يوم السقيفة : أيكم يطيب نفسا أن يتقدم قدمين قدمهما رسول الله صلى الله عليه وآله في الصلاة ! ثم أكد ذلك بأن قال لابي بكر وقد عرض عليه البيعة : أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المواطن كلها ، شدتها ورخائها ، رضيك لديننا أفلا نرضاك لدنيانا .
ثم عاب عليا بخطبته بنت أبى جهل فأوهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله كرهه لذلك ووجد عليه ، وأرضاه عمرو بن العاص ، فروى حديثا افتعله واختلقه على رسول الله قال : سمعته يقول : (إن آل أبى طالب ليسوا لى بأولياء ، إنما وليى الله وصالح المؤمنين) فجعلوا ذلك كالناسخ لقوله صلى الله عليه وآله : (من كنت مولاه فهذا مولاه) .
قلت للنقيب : أيصح النسخ في مثل هذا ؟ أليس هذا نسخا للشئ قبل تقضى وقت فعله ؟ فقال : سبحان الله ! من أين تعرف العرب هذا ! وأنى لها أن تتصوره فضلا عن أن تحكم بعدم جوازه فهل يفهم حذاق الاصوليين هذه المسأله ، فضلا عن حمقى العرب ! هؤلاء قوم ينخدعون بأدنى شبهة ويستمالون بأضعف (1) سبب وتبنى الامور معهم على ظواهر
__________
(1) ا : (بأدنى) .
(*)(12/88)
النصوص واوائل الادله وهم اصحاب جهل وتقليد لا اصحاب تفضيل ونظر .
قال : ثم أكد حسن ظن الناس بهم أنهم اطلقوا أنفسهم عن الاموال وزهدوا في متاع الدنيا وزخرفها وسلكوا مسلك الرفض لزينتها والرغبة عنها والقناعة بالطفيف النزر منها وأكلوا الخشن ولبسوا الكرابيس ولما ألقت إليهم الدنيا أفلاذ كبدها وفرقوا الاموال على الناس ، وقسموها بينهم ولم يتدنسوا منها بقليل ولا كثير فمالت إليهم القلوب وأحبتهم النفوس وحسنت فيهم الظنون ، وقال : من كان في نفسه شبهة منهم أو وقفة في أمرهم لو كان هؤلاء قد خالفوا النص لهوى أنفسهم لكانوا أهل الدنيا ولظهر عليهم الميل إليها والرغبة فيها والاستئثار بها وكيف يجمعون على أنفسهم مخالفة النص وترك لذات الدنيا ومآربها فيخسروا الدنيا والاخرة ! وهذا لا يفعله عاقل والقوم عقلاء ذوو الباب وآراء صحيحة ، فلم يبق عند أحد شك في أمرهم ولا أرتياب لفعلهم وثبتت العقائد على ولايتهم وتصويب أفعالهم ونسوا لذة الرياسة وإن أصحاب الهمم العالية لا يلتفون إلى المأكل والمشرب والمنكح ، وأنما يريدون الرياسة ونفوذ الامر كما قال الشاعر : وقد رغبت عن لذة المال أنفس وما رغبت عن لذة النهى والامر .
قال رحمه الله : والفرق بين الرجلين وبين الثالث ، ما أصيب به الثالث وقتل تلك القتلة وخلعه الناس وحصروه وضيقوا عليه بعد أن توالى إنكارهم أفعاله وجبهوه في وجهه وفسقوه ، وذلك لانه أستاثر هو وأهله بالاموال وانغمسوا فيها واستبدوا بها فكانت طريقته وطريقتهم مخالفة لطريق الاولين ، فلم تصبر العرب على ذلك ولو كان عثمان سلك طريق عمر في الزهد ، وجمع الناس ، وردع الامراء والولاة عن الاموال وتجنب استعمال أهل بيته ووفر أعراض الدنيا وملاذها وشهواتها على الناس زاهدا فيها تاركا لها ، معرضا عنها لما ضره شئ قط ولا أنكر عليه أحد قط ولو حول الصلاة من(12/89)
الكعبة إلى بيت المقدس ، بل لو أسقط عن الناس إحدى الصلوات الخمس واقتنع منهم باربع وذلك لان همم الناس مصروفه إلى الدنيا والاموال ، فإذا وجدوها سكتوا ، وإذا فقدوها هاجوا واضطربوا ألست ترى رسول الله صلى الله عليه وآله كيف قسم غنائم هوازن على المنافقين وعلى اعدائه الذين يتمنون قتله وموته وزوال دولته فلما أعطاهم أحبوه إما كلهم أو أكثرهم ومن لم يحبه منهم بقلبه جامله وداراه ، وكف عن إظهار عداوته والاجلاب عليه ولو أن عليا صانع أصحابه بالمال وأعطاه الوجوه والرؤساء لكان أمره إلى الانتظام والاطراد أقرب ، ولكنه رفض جانب التدبير الدنيوي وآثر لزوم الدين وتمسك بأحكام الشريعة ، والملك أمر آخر غير الدين فاضطرب عليه أصحابه وهرب كثير منهم إلى عدوه .
وقد ذكرت في هذا الفصل خلاصه ما حفظته عن النقيب أبى جعفر ولم يكن إمامى المذهب ، ولا كان يبرأ من السلف ولا يرتضى قول المسرفين من الشيعه ولكنه كلام أجراه على لسانه البحث والجدل بينى وبينه على أن العلوى لو كان كراميا لا بد أن يكون عنده نوع من تعصب وميل على الصحابة وإن قل .
ولنرجع إلى ذكر كلام عمر من خطبته وسيرته .
كتب عمر إلى أبى موسى لما استعمله قاضيا وبعثه إلى العراق من عبد الله أمير المؤمنين عمر إلى عبد الله بن قيس سلام عليك أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم إذا أدلى إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لانفاد له آس (1) بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في
__________
(1) قال أبو العباس المبرد : (قوله : آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك ، أي سو بينهم .
وتقديره : اجعل بعضهم أسوة بعض) .
(*)(12/90)
حيفك (1) ولا ييأس ضعيف من عدلك البينة على من ادعى واليمين على من أنكر والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا لا يمنعنك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق فان الحق ومراجعه الحق خير من التمادي في الباطل الفهم الفهم فيما تلجلج (2) في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة ثم اعرف الاشباه والامثال وقس الامور عند ذلك واعمد إلى أقربها إلى الله عز وجل وأشبهها بالحق واجعل لمن ادعى حقا غائبا أو بينه أمدا ينتهى إليه فإن أحضر بينته أخذت له بحقه وإلا استحللت عليه القضية فإنه أنفى للشك وأجلى للعمى .
المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو مجربا عليه شهادة زور أو ظنينا (3) في ولاء أو نسب فإن الله عز وجل تولى منكم السرائر ودرأ عنكم (4) بالبينات والايمان الشبهات إياك والغلق (5) والضجر والتأذى بالخصوم والتنكر عند الخصومات فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الاجر ، ويحسن به الذخر ، فمن صحت نيته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس ومن تخلق للناس بما يعلم الله عز وجل منه أنه ليس من نفسه ، شانه الله ، فما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته ، والسلام .
ذكر هذه الرسالة أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتاب (الكامل) (6) وأطراها فقال : إنه جمع فيها جمل الاحكام واختصرها بأجود الكلام وجعل الناس بعده يتخذونه إماما فلا يجد محق عنها معدلا ولا ظالم عن حدودها محيصا .
__________
(1) حيفك : ميلك .
(2) تلجلج : تردد .
(3) الظنين : المتهم .
(4) درأ بالبينات : دفع .
(5) الغلق : ضيق الصدر وقلة الصبر .
(6) الكامل 1 : 12 - 14 (طبعة نهضة مصر) (*)(12/91)
وكتب عمر إلى عماله يوصيهم ، فقال في جملة الكتاب : ارتدوا ، وائتزروا ، وانتعلوا ، وألقوا الخفاف والسراويلات والقوا الركب (1) وانزوا نزوا على الخيل واخشوشنوا وعليكم بالمعدية - أو قال : وتمعددوا وأرموا الاغراض ، وعلموا فتيانكم العوم والرماية ، وذروا التنعم وزى العجم ، وإياكم والحرير ، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عنه وقال : (لا تلبسوا من الحرير إلا ما كان هكذا) وأشار بأصبعه .
وكتب إلى بعض عماله إن أسعد الرعاة من سعدت به رعيته وإن أشقى الرعاة من شقيت به رعيته فإياك أن تزيغ فتزيغ رعيتك فيكون مثلك عند الله مثل البهيمة رأت الخضرة في الارض فرعت فيها تبغى السمن ، وحتفها في سمنها وكتب إلى أبى موسى وهو بالبصرة ، بلغني أنك تأذن للناس الجماء (2) الغفير فإذا جاءك كتابي هذا فإذن لاهل الشرف وأهل القرآن والتقوى والدين ، فإذا أخذوا مجالسهم فأذن للعامة ، ولا تؤخر عمل اليوم لغد فتتداك عليك الاعمال فتضيع ، وإياك واتباع الهوى فإن للناس أهواء متبعة ودنيا مؤثرة ، وضغائن محمولة وحاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة فانه من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة كان مرجعه إلى الرضا والغبطة ومن ألهته حياته ، وشغلته أهواؤه ، عاد أمره إلى الندامة والحسرة إنه لا يقيم أمر الله في الناس إلا خصيف العقدة (3) بعيد القرارة لا يحنق على جرة ولا يطلع الناس منه على عورة ، ولا يخاف في الحق لومه لائم الزم أربع خصال يسلم لك دينك تحيط بأفضل حظك : إذا حضر الخصمان فعليك بالبينات العدول والايمان القاطعة ثم ائذن
__________
(1) الركب : جمع ركاب ، وهو للسرج كالغرز للرحل .
(2) أي القوم مجتمعين .
(3) أي الذي يحكم أمره .
(*)(12/92)
للضعيف حتى ينبسط لسانه ويجترئ قلبه وتعاهد الغريب فإنه إذا طال حبسه ترك حاجته وانصرف إلى أهله واحرص على الصلح ما لم يبن لك القضاء والسلام عليك .
وكان رجل من الانصار لا يزال يهدى لعمر فخذ جزور إلى أن جاء ذات يوم مع خصم له فجعل في أثناء الكلام يقول : يا أمير المؤمنين ، افصل القضاء بينى وبينه كما يفصل فخذ الجزور .
قال عمر : فما زال يرددها حتى خفت على نفسي فقضيت .
عليه وكتبت إلى عمالى : أما بعد فإياكم والهدايا ، فإنها من الرشا .
ثم لم أقبل له هدية فيما بعد ، ولا لغيره .
وكان عمر يقول : اكتبوا عن الزاهدين في الدنيا ما يقولون ، فإن الله عز وجل وكل بهم ملائكة واضعة أيديهم على أفواههم فلا يتكلمون إلا بما هيأه الله لهم .
وروى أبو جعفر الطبري في تاريخه قال : كان عمر يقول : جردوا القرآن ولا تفسروه ، وأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنا شريككم .
وقال أبو جعفر : وكان عمر إذا أراد أن ينهى الناس عن شئ جمع أهله ، فقال : إنى عسيت أن أنهى الناس عن كذا ، وأن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم وأقسم بالله لا أجد أحدا منكم يفعل إلا أضعفت عليه العقوبة .
قال أبو جعفر : وكان عمر شديدا على أهل الريب وفى حق الله ، صليبا حتى يستخرجه ولينا سهلا فيما يلزمه حتى يؤديه وبالضعيف رحيما .(12/93)
وروى زيد بن أسلم ، عن أبيه إن نفرا من المسلمين كلموا عبد الرحمن بن عوف فقالوا : كلم لنا عمر بن الخطاب فقد والله أخشانا حتى لا نستطيع أن نديم إليه أبصارنا ، فذكر عبد الرحمن له ذلك ، فقال : أو قد قالوا ذلك ! والله لقد لنت لهم حتى تخوفت الله في أمرهم وقد تشددت عليهم حتى خفت الله في امرهم ، وأنا والله أشد فرقا لله منهم لى .
وروى جابر بن عبد الله قال : قال رجل لعمر يا خليفة الله ، قال : خالف الله بك ، قال : جعلني الله فداك ! قال : إذن يهينك الله .
وروى أبو جعفر قال : استشار عمر في أمر المال كيف يقسمه ، فقال له : على بن أبى طالب عليه السلام : تقسم كل سنة ما اجتمع معك من المال ولا تمسك منه شيئا وقال عثمان ابن عفان : أرى مالا كثيرا يسع الناس وإن لم يحصوا حتى يعرف من أخذ ممن لم يأخذ خشيت أن ينتشر الامر .
فقال الوليد بن هشام بن المغيرة : يا أمير المؤمنين قد جئت الشام فرأيت ملوكها قد دونوا ديوانا وجندوا جنودا وفرضوا لهم أرزاقا فأخذ بقوله فدعا عقيل بن أبى طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم - وكانوا نساب قريش - وقال : اكتبوا الناس على منازلهم فكتبوا فبدءوا ببنى هاشم ثم أتبعوهم أبا بكر وقومه ، ثم عمر وقومه ، على ترتيب الخلافة ، فلما نظر إليه قال : وددت أنه كان هكذا ، لكن أبدأ بقرابة النبي صلى الله عليه وآله الاقرب فالاقرب ، حتى تضعوا عمر حيث وضعه الله .
قال أبو جعفر : جاءت بنو عدى إلى عمر ، فقالوا له يا عمر ، أنت خليفه رسول الله(12/94)
صلى الله عليه وآله ، قال : أو خليفه أبى بكر وأبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : وذاك ، فلو جعلت نفسك حيث جعلك هؤلاء القوم ! فقال : بخ بخ يا بنى عدى ! أردتم الاكل على ظهرى وأن أذهب حسناتي لكم ! لا والله ولو كتبتم آخر الناس ، أن لى صاحبين سلكا طريقا ، فإن أنا خالفتهما خولف بى والله ما أدركنا الفضل في الدنيا إلا بمحمد ولا نرجو ما نرجو من الاخرة وثوابها إلا بمحمد صلى الله عليه وآله فهو شرفنا ، وقومه أشرف العرب ثم الاقرب منه فالاقرب وما بيننا وبين أن نلقاه ثم لا نفارقه إلى آدم الا آباء يسيرة ، والله لئن جاءت الاعاجم بالاعمال وجئنا بغير عمل فانهم أولى بمحمد صلى الله عليه وآله منا يوم القيامة لا ينظرن رجل إلى قرابته وليعمل بما عند الله ، فإن من قصر به عمله لم يسرع به نسبه .
وروى السائب بن يزيد قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول والله ما من أحد إلا له في هذا المال حق أعطيه أو منعه وما أحد أحق به من أحد إلا عبد مملوك وما أنا فيه إلا كأحدكم ولكنا على منازلنا من كتاب الله ، وقسمنا من رسول الله صلى الله عليه وآله فالرجل وبلاؤه في الاسلام والرجل وغناؤه والرجل وحاجته والله لئن بقيت ليأتين الراعى بجبل صنعاء حظه من المال وهو مكانه .
وروى نافع مولى آل الزبير قال : سمعت أبا هريرة يقول رحم الله أبن حنتمه (1) لقد رأيته عام الرمادة وإنه ليحمل على ظهره جرابين ، وعكة زيت في يده وإنه ليعتقب (2) هو وأسلم فلما رأني قال : من أين يقال : من أين يا أبا هريرة ؟ قلت قريبا ، فأخذت
__________
(1) حنتمة بفتح الحاء ، أم عمر بن الخطاب ، وبنت عبد الرحمن بن الحارث (القاموس) .
(2) يعتقب أي يركب هذا عقبه وهذا عقبه ، والعقبة : النوبة .
(*)(12/95)
أعقبه فحملناه حتى انتهينا إلى ضرار فإذا صرم (1) من نحو عشرين بيتا من محارب فقال عمر : ما أقدمكم ؟ قالوا الجهد وأخرجوا لنا جلد الميتة مشويا كانوا ياكلونه ورمة العظام مسحوقة كانوا يستفونها فرأيت عمر طرح رداءه ثم برز فما زال يطبخ لهم حتى شبعوا وأرسل أسلم إلى المدينة فجاء بأبعره فحملهم عليها ، ثم أنزلهم الجبانة ، ثم كساهم وكان يختلف إليهم وإلى غيرهم حتى كفى الله ذلك .
وروى راشد بن سعد أن عمر أتى بمال ، فجعل يقسم بين الناس ، فازدحموا عليه فاقبل سعد بن أبى وقاص يزاحم الناس حتى خلص إليه فعلاه عمر بالدرة وقال : إنك أقبلت ، لاتهابن سلطان الله في الارض ، فأحببت بأن أعلمك أن سلطان الله لا يهابك .
وقالت : الشفاء ابنة عبد الله - ورأت فتيانا من النساك يقتصدون في المشى ويتكلمون رويدا : ما هؤلاء فقيل ؟ نساك ، فقالت كان عمر بن الخطاب هو الناسك حقا ، وكان إذا تكلم أسمع ، وإذا مشى أسرع وإذا ضرب أوجع .
أعان عمر رجلا على حمل شئ ، فدعا له الرجل وقال : نفعك بنوك يا أمير المؤمنين ! قال : بل اغناني الله عنهم .
من كلامه القوة في العمل ألا يؤخر عمل اليوم لغد والامانة ، ألا تخالف سريرتك علانيتك والتقوى بالتوقي ، ومن يتق الله يقه .
__________
(1) الصوم ، بالكسر : الجماعة .
(*)(12/96)
وقال عمر : كنا نعد المقرض بخيلا ، إنما كانت المواساة .
أتى رهط إلى عمر فقالوا يا أمير المؤمنين كثر العيال واشتدت المؤونة فزدنا في إعطياتنا (1) فقال : فعلتموها ! جمعتم بين الضرائر ، واتخذتم الخدم من مال الله ! أما لوددت أنى وإياكم في سفينتين في لجة البحر ، تذهب بنا شرقا وغربا ، فلن يعجز الناس أن يولوا رجلا منهم فإن استقام اتبعوه وإن جنف قتلوه .
فقال طلحة : وما عليك لو قلت وإن أعوج عزلوه ! فقال : القتل أرهب لمن بعده ، احذروا فتى قريش فإنه كريمها الذى لا ينام إلا على الرضا ويضحك عند الغضب ، ويتناول ما فوقه من تحته .
وكان يقول في آخر أيامه عند تبرمه بالامر وضجره من الرعية اللهم ملوني ومللتهم وأحسست من نفسي وأحسوا منى ! ولا أدرى بأينا يكون اللوت (2) وقد أعلم أن لهم قتيلا منهم فاقبضني إليك .
وذكر قوم من الصحابة لعمر رجلا ، فقالوا : فاضل لا يعرف الشر ، قال : ذاك أوقع له فيه وروى الطبري في التاريخ أن عمر استعمل عتبه بن أبى سفيان على عمل (3) فقدم منه بمال فقال له : ما هذا يا عتبة ؟ قال : مال خرجت به معى وتجرت فيه قال : وما لك تخرج المال معك إلى هذا الوجه ؟ فأخذ المال منه فصيره في بيت المال فلما قام عثمان قال لابي سفيان :
__________
(1) ب : إعطائنا (2) اللوت : النقص .
(3) الطبري : (على كنانة) .
(*)(12/97)
إنك إن طلبت ما أخذه عمر من عتبه رددته عليك (1) فقال له أبو سفيان : إياك وما هممت به إنك إن خالفت صاحبك قبلك ساء رأى الناس فيك إياك أن ترد على من كان قبلك فيرد عليك من بعدك (2) .
وروى الطبري أيضا إن هندا بنت عتبة بن ربيعة قامت إلى عمر فسألته أن يقرضها من بيت المال أربعة آلاف درهم تتجر فيها وتضمنها .
فخرجت بها إلى بلاد كلب ، فباعت واشترت وبلغها أن أبا سفيان قد أتى معاوية يستميحه ومعه ابنة عمرو بن أبى سفيان ، فعدلت إليه من بلاد كلب - وكان أبو سفيان قد طلقها - فقال معاوية : ما أقدمك يا أمه ؟ قالت : النظر إليك يا بنى إنه عمر وانما يعمل لله وقد أتاك أبوك فخشيت أن تخرج إليه من كل شئ ، وأهل ذلك هو ! ولكن لا يعلم عمر من أين أعطيته ، فيؤنبوك ويؤنبك ولا تستقبلها أبدا فبعث معاوية إلى أبيه وأخيه مائة دينار وكساهما وحملهما فسخطها عمر فقال أبو سفيان : لا تسخطها فإنها عطاء لم تغب عنه هند ورجع هو وابنه إلى المدينة فسأله عمر بكم أجازك معاوية ؟ فقال : بمائة دينار ، فسكت عمر (3) .
وروى الاحنف قال : أتى عبد الله بن عمير عمر وهو يقرض الناس ، فقال : يا أمير المؤمنين أقرض لى ، فلم يلتفت إليه فنخسه ، فقال عمر : حس (4) وأقبل عليه ، فقال : من أنت فقال : عبد الله بن عمير - : وكان أبوه استشهد يوم حنين - فقال : يا يرفأ أعطه ستمائة فأعطاه ستمائة فلم يقبها لو رجع إلى عمر فأخبره فقال : يا يرفأ ، أعطه
__________
(1) الطبري : (عليه) (2) تاريخ الطبري 1 : 2766 (طبع أوربا) .
(3) تاريخ الطبري 1 : 2767 (4) حس : كلمة يقولها الانسان إذا أصابه ما أمضه (*)(12/98)
ستمائة حلة فأعطاه فلبس الحلة التى كساه عمر ورمى ما كان عليه ، فقال له : خذ ثيابك هذه فلتكن في مهنة أهلك وهذه لزينتك .
وروى إياس بن سلمه عن أبيه قال : مر عمر في السوق ومعه الدرة فخفقني خفقه فأصاب طرف ثوبي وقال : أمط (1) عن الطريق فلما كان في العام المقبل لقيني فقال : يا سلمه أتريد الحج ؟ قلت : نعم فأخذ بيدى وانطلق بى إلى منزله فأعطاني ستمائة درهم ، وقال : استعن بها على حجك واعلم أنها بالخفقة التى خفقتك ، فقلت يا أمير المؤمنين ، ما ذكرتها قال : وأنا منسيتها .
وخطب عمر فقال : أيتها الرعية إن لنا عليكم حقا النصيحة بالغيب والمعاونة على الخير إنه ليس من حلم أحب إلى الله ولا أعم نفعا من حلم إمام ورفقه وليس من جهل أبغض إلى الله من جهل امام وخرفه (2) أيها الرعية إنه من يأخذ بالعافية من بين ظهرانيه فوته الله العافية من فوقه .
وروى الربيع بن زياد قال : قدمت على عمر بمال من البحرين فصليت معه العشاء ثم سلمت عليه فقال : ما قدمت به قلت : خمسمائة ألف ، قال : ويحك ! إنما قدمت بخمسين ألفا ، قلت : بل خمسمائة الف قال : كم يكون ذلك ؟ قلت : مائة ألف ومائه ألف ومائة ألف ، حتى عددت خمسا فقال : إنك ناعس إرجع إلى بيتك ثم اغد ، على فغدوت عليه .
فقال : ما جئت به قلت ما قلته لك قال : كم هو ؟ قلت خمسمائه ألف قال : أطيب هو ؟ قلت : نعم ، لا أعلم إلا ذلك فاستشار الصحابة فيه ، فأشير عليه بنصب الديوان فنصبه وقسم المال بين المسلمين ففضلت عنده فضله
__________
(1) أمط : تنح .
(2) الخرف : فساد العقل .
وفي ا : (وخرقه) .
(*)(12/99)
فاصبح فجمع المهاجرين والانصار وفيهم على بن أبى طالب وقال للناس : ما ترون في فضل فضل عندنا من هذا المال ؟ فقال الناس : يا أمير المؤمنين إنا شغلناك بولاية أمورنا عن أهلك وتجارتك وصنعتك فهو لك فالتفت إلى على فقال : ما تقول أنت قال : قد أشاروا عليك قال : فقل أنت فقال : له لم تجعل يقينك ظنا ؟ فلم يفهم عمر قوله فقال : لتخرجن مما قلت قال : أجل والله لاخرجن منه أتذكر حين بعثك رسول الله صلى الله عليه وآله (1) ساعيا فأتيت العباس بن عبد المطلب فمنعك صدقته فكان بينكما شئ فجئتما إلى وقلتما انطلق معنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فجئنا إليه فوجدناه خاثرا (2) فرجعنا ، ثم غدونا عليه فوجدناه طيب النفس فأخبرته بالذى صنع العباس فقال : لك يا عمر أما علمت أن عم الرجل صنو أبيه ! فذكرنا له ما رأينا من خثوره في اليوم الاول وطيب نفسه في اليوم الثاني فقال : إنكم أتيتم في اليوم الاول وقد بقى عندي من مال الصدقة ديناران فكان ما رأيتم من خثورى لذلك وأتيتم في اليوم الثاني وقد وجهتهما ، فذاك الذى رأيتم من طيب نفسي أشير عليك ألا تأخذ من هذا الفضل شيئا ، وأن تفضه على فقراء المسلمين ، فقال : صدقت والله لاشكرن لك والاولى والاخيرة .
وروى أبو سعيد الخدرى قال : حججنا مع عمر أول حجة حجها في خلافته ، فلما دخل المسجد الحرام ، دنا من الحجر الاسود فقبله واستلمه ، وقال : إنى لاعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولو لا أنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله قبلك واستلمك لما قبلتك ولا استلمتك ، فقال له : على بلى يا أمير المؤمنين إنه ليضر وينفع ولو علمت تأويل ذلك من كتاب الله لعلمت أن الذى أقول لك كما أقول قال : الله تعالى (وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست
__________
(1) الساعي : من يجمع الزكاة .
(2) خاثرا : فاترا .
(*)(12/100)
بربكم قالوا بلى) (1) فلما أشهدهم وأقروا له أنه الرب عز وجل وأنهم العبيد كتب ميثاقهم في رق ثم ألقمه هذا الحجر وإن له لعينين ولسانا وشفتين تشهد لمن وافاه بالموافاة فهو أمين الله عز وجل في هذا المكان فقال عمر : لا أبقاني الله بأرض لست بها يا أبا الحسن .
قلت قد وجدنا في الاثار والاخبار في سيرة عمر أشياء تناسب قوله في هذا الحجر الاسود كما أمر بقطع الشجرة التى بويع رسول الله صلى الله عليه وآله تحتها بيعه الرضوان في عمرة الحديبية لان المسلمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله كانوا يأتونها فيقيلون تحتها ، فلما تكرر ذلك أوعدهم عمر فيها ثم أمر بها فقطعت .
وروى المغيرة بن سويد قال : خرجنا مع عمر في حجة حجها فقرأ بنا في الفجر (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) (2) و (لايلاف قريش) (3) فلما فرغ رأى الناس يبادرون إلى مسجد هناك ، فقال : ما بالهم ؟ قالوا : مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم والناس يبادرون إليه فناداهم فقال : هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم ! اتخذوا آثار أنبيائهم بيعا من عرضت له صلاة في هذا المسجد فليصل ومن لم تعرض له صلاة فليمض .
وأتى رجل من المسلمين إلى عمر فقال : إنا لما فتحنا المدائن أصبنا كتابا فيه علم من علوم الفرس ، وكلام معجب ، فدعا بالدرة فجعل يضربه بها ثم قرأ (نحن نقص عليك أحسن القصص) (4) ويقول ويلك ! أقصص أحسن من كتاب الله ! إنما هلك
__________
(1) سورة الاعراف 172 .
(2) سورة الفيل : 1 .
(3) سورة قريش : 2 .
(4) سورة يوسف 3 .
(*)(12/101)
من كان قبلكم ، لانهم أقبلوا على كتب علمائهم وأساقفتهم وتركوا التوراة والانجيل حتى درسا وذهب ما فيهما من العلم .
وجاء رجل إلى عمر فقال : إن ضبيعا التميمي لقينا يا أمير المؤمنين فجعل يسألنا عن تفسير حروف من القرآن فقال : اللهم أمكنى منه فبينا عمر يوما جالس يغدى الناس إذ جاءه الضبيع وعليه ثياب وعمامة فتقدم فأكل حتى إذا فرغ قال : يا أمير المؤمنين ما معنى قوله تعالى (والذاريات ذروا * فالحاملات وقرا) (1) ؟ قال : ويحك أنت هو ! فقام إليه فحسر عن ذراعيه فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته ، فإذا له ضفيرتان ، فقال : والذى نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقا لضربت رأسك ثم أمر به فجعل في بيت ، ثم كان يخرجه كل يوم فيضربه مائة فإذا برأ أخرجه فضربه مائة أخرى ثم حمله على قتب وسيره إلى البصرة وكتب إلى أبى موسى يأمره أن يحرم على الناس مجالسته وأن يقوم في الناس خطيبا ثم يقول إن ضبيعا قد ابتغى العلم فأخطأه فلم يزل وضيعا في قومه وعند الناس حتى هلك وقد كان من قبل سيد قومه .
وقال عمر : على المنبر الا إن أصحاب الرأى أعداء السنن أعيتهم الاحاديث أن يحفظوها فأفتوا بآرائهم فضلوا وأضلوا ألا إنا نقتدى ولا نبتدى ونتبع ولا نبتدع إنه ما ضل متمسك بالاثر وروى زيد بن أسلم عن أبيه قال : سمعت عمر يقول في الحج : فيم الرملان (1) الان والكشف عن المناكب وقد أظهر الله الاسلام ونفى الكفر وأهله ومع ذلك لا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله .
__________
(1) سورة الذاريات : 1 ، 2 .
(2) الرملان : الهرولة حول البيت .
(*)(12/102)
مر عمر برجل فسلم عليه فرد عليه ، فقال : ما اسمك ؟ قال : جمرة ، قال : أبو من ؟ قال : أبو شهاب ، قال : ممن ؟ قال : من الحرقة ، قال : وأين مسكنك ؟ قال : بحرة النار قال : بأيها ؟ قال : بذات لظى ، فقال : ويحك ! أدرك أهلك فقد احترقوا فمضى عليهم فوجدهم قد احترقوا .
وروى الليث بن سعد ، قال : أتى عمر بفتى أمرد قد وجد قتيلا ملقى على وجه الطريق فسأل عن أمره واجتهد فلم يقف له على خبر فشق عليه فكان يدعو ويقول اللهم أظفرني بقاتله حتى إذا كان رأس الحول أو قريبا من ذلك وجد طفل مولود ملقى في موضع ذلك القتيل فأتى به عمر ، فقال : ظفرت بدم القتيل إن شاء الله تعالى ! فدفع الطفل إلى امرأة ، وقال : لها قومي بشأنه وخذي منا نفقته وانظرى من يأخذه منك ، فإذا وجدت إمرأة تقبله وتضمه إلى صدرها فأعلميني مكانها فلما شب الصبى جاءت جارية ، فقالت : للمرأة إن سيدتي بعثتني اليك لتبعثي إليها بهذا الصبى فتراه وترده إليك قالت : نعم ذهبي به إليها وأنا معك فذهبت بالصبى حتى دخلت على امرأة شابة فأخذت الصبى فجعلت تقبله وتفديه وتضمه إليها وإذا هي بنت شيخ من الانصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءت المرأة وأخبرت عمر ، فاشتمل على سيفه وأقبل إلى منزلها ، فوجد أباها متكئا على الباب ، فقال له : ما الذى تعلم من حال ابنتك ؟ قال : أعرف الناس بحق الله وحق أبيها مع حسن صلاتها وصيامها والقيام بدينها فقال : إنى أحب أن أدخل إليها وأزيدها رغبة في الخير فدخل الشيخ ، ثم خرج فقال : الدخل يا أمير المؤمنين فدخل وأمر أن يخرج كل من في الدار إلا أباها ثم سألها عن الصبى فلجلجت فقال : لتصدقيني ثم انتضى السيف فقالت : على رسلك يا أمير المؤمنين ! فو الله ! لاصدقنك إن عجوزا كانت تدخل على فاتخذتها أما وكانت تقوم في أمرى بما تقوم به الوالدة وأنا لها بمنزلة البنت(12/103)
فمكثت كذلك حينا ثم قالت : إنه قد عرض لى سفر ولى بنت أتخوف عليها بعدى الضيعة وأنا أحب أن أضمها إليك حتى أرجع من سفري ثم عمدت إلى ابن لها أمرد فهيأته وزينته كما تزين المرأة وأتتنى به ولا أشك أنه جارية فكان يرى منى ما ترى المرأة من المرأة فاغتفلني يوما وأنا نائمة فما شعرت به حتى علانى وخالطني فمددت يدى إلى شفره كانت عندي فقتلته ثم أمرت به فألقى حيث رأيت فاشتملت منه على هذا الصبى فلما وضعته ألقيته في موضع أبيه هذا والله خبرهما على ما أعلمتك فقال عمر : صدقت بارك الله فيك ثم ! أوصاها ووعظها وخرج وكان عمر يقول لو أدركت عروة وعفراء لجمعت بينهما .
ذكر عمرو بن العاص يوما عمر فترحم عليه وقال : ما رأيت أحدا أتقى منه ولا أعمل بالحق منه لا يبالى على من وقع الحق من ولد أو والد إنى لفى منزلي بمصر ضحى إذ أتانى آت فقال : قدم عبد الله وعبد الرحمن ابنا عمر غازيين فقلت أين نزلا ؟ قال : في موضع كذا - لاقصى مصر - وقد كان عمر كتب إلى إياك وأن يقدم عليك أحد من أهل بيتى فتجيزه أو تحبوه بأمر لا تصنعه بغيره فأفعل بك ما أنت أهله فضقت ذرعا بقدومهما ولا أستطيع أن أهدى لهما ولا أن آتيهما في منزلهما خوفا من أبيهما فو الله إنى لعلى ما أنا عليه وإذا قائل يقول هذا عبد الرحمن بن عمر بالباب وأبو سروعه يستأذنان عليك فقلت : يدخلان فدخلا وهما منكسران فقالا : أقم علينا حد الله فإنا أصبنا الليلة شرابا فسكرنا فزبرتهما وطردتهما وقلت إبن أمير المؤمنين وآخر معه من أهل بدر ! فقال عبد الرحمن : إن لم تفعل أخبرت أبى إذا قدمت عليه أنك لم تفعل فعلمت أنى إن لم أقم عليهما الحد غضب عمر وعزلني فنحن على ما نحن عليه(12/104)
إذ دخل عبد الله بن عمر فقمت إليه ورحبت به ، وأردت أن أجلسه في صدر مجلسي فأبى على وقال : إن أبى نهانى أن أدخل عليك إلا ألا أجد من الدخول بدا وإنى لم أجد من الدخول عليك بدا إن أخى لا يحلق على رؤوس الناس أبدا فأما الضرب فاصنع ما بدا لك - قال : وكانوا يحلقون مع الحد - فأخرجتهما إلى صحن الدار وضربتهما الحد ودخل عبد الله بن عمر بأخيه عبد الرحمن إلى بيت من الدار فحلق رأسه وحلق أبا سروعه والله ما كتبت إلى عمر بحرف مما كان وإذا كتابه قد ورد من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى العاصى ابن العاصى عجبت لك يا بن العاصى ولجراتك على ومخالفتك عهدي أما إنى خالفت فيك أصحاب بدر ومن هو خير منك واخترتك وأنت الخامل وقدمتك وأنت المؤخر وأخبرني الناس بجراتك وخلافك وأراك كما أخبروا وما أرانى إلا عازلك فمسئ عزلك ويحك ! تضرب عبد الرحمن ابن عمر في داخل بيتك وتحلق رأسه في داخل بيتك وقد عرفت أن في هذا مخالفتي ! وإنما عبد الرحمن رجل من رعيتك تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين ، ولكن قلت : هو ولد أمير المؤمنين وقد عرفت ألا هوادة لاحد من الناس عندي في حق يجب لله عز وجل فإذا جاءك كتابي هذا فابعث به في عباءة على قتب ، حتى يعرف سوء ما صنع قال : فبعثت به كما قال أبوه : وأقرأت أخاه عبد الله كتاب أبيهما وكتبت إلى عمر كتابا أعتذر فيه وأخبرته أنى ضربته في صحن الدار ، وحلفت بالله الذى لا يحلف بأعظم منه أنه الموضع الذى أقيم فيه الحدود على المسلم والذمى وبعثت بالكتاب مع عبد الله بن عمر فذكر أسلم مولى عمر قال : قدم عبد الله بأخيه عبد الرحمن على أبيهما فدخل عليه في عباءة وهو لا يقدر على المشى من مركبه فقال : يا عبد الرحمن فعلت وفعلت ! السياط السياط فكلمه(12/105)
عبد الرحمن بن عوف وقال : يا أمير المؤمنين قد أقيم عليه الحد مرة ، فلم يلتفت إليه وزبره فاخذته السياط ، وجعل يصيح : أنا مريض وأنت والله قاتلي ! فلم يرق له حتى استوفى الحد وحبسه ثم مرض شهرا ومات .
وروى الزبير بن بكار ، قال : خطب عمر ام كلثوم بنت على عليه السلام فقال له : انها صغيرة ، فقال زوجنيها يا ابا الحسن فانى ارصد من كرامتها ما لا يرصده احد فقال : انا ابعثها اليك ، فان رضيتها زوجتكها .
فبعثها إليه ببرد وقال لها قولى : هذا البرد الذى ذكرته لك .
فقالت له ذلك ، فقال : قولى له : قد رضيته رضى الله عنك - ووضع يده على ساقها - فقالت له : اتفعل هذا لولا انك امير المؤمنين لكسرت انفك ثم جاءت اباها فاخبرته الخبر ، وقالت بعثتني الى شيخ سوء ! قال : مهلا يا بنية ، انه زوجك ، فجاء عمر الى مجلس المهاجرين في الروضة ، وكان يجلس فيها المهاجرون الاولون فقال : رفئونى (1) رفئونى ، قالوا : بماذا يا امير المؤمنين ؟ قال تزوجت ام كلثوم بنت على بن ابى طالب ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : (كل سبب ونسب وصهر ينقطع يوم القيامة الا سببي ونسبي وصهري) .
وكتب عثمان الى ابى موسى : إذا جاءك كتابي هذا فاعط الناس اعطياتهم واحمل ما بقى الى .
ففعل وجاء زيد بن ثابت بالمال فوضعه بين يدى عثمان ، فجاء ابن لعثمان ، فاخذ منه استاندانة من فضه ، فمضى بها فبكى زيد ، قال عثمان : ما يبكيك ؟ قال : اتيت عمر مثل ما اتيتك به ، فجاء ابن له فاخذ درهما فامر به فانتزع منه ، حتى ابكى
__________
(1) رفأه : إذا قاله له : بالرفاء والبنين .
(*)(12/106)
الغلام ، وان ابنك قد اخذ هذه فلم ار احدا قال شيئا .
فقال عثمان : ان عمر كان يمنع اهله وقرابته ابتغاء وجه الله ، وانا اعطى اهلي واقاربي ابتغاء وجه الله ، ولن تلقى مثل عمر .
وروى اسماعيل بن خالد ، قال : قيل لعثمان : ألا تكون مثل عمر ! قال : لا استطيع ان اكون مثل لقمان الحكيم .
ذكرت عائشة عمر ، فقالت : كان اجودنا ، نسيج وحده ، قد اعد للامور اقرانها .
جاء عبد الله بن سلام بعد ان صلى الناس على عمر ، فقال : ان كنتم سبقتموني بالصلاة عليه فلا تسبقوني بالثناء عليه ، ثم قال : نعم اخو الاسلام كنت يا عمر ! جوادا بالحق بخيلا بالباطل ، ترضى حين الرضا وتسخط حين السخط ، لم تكن مداحا ولا معيابا طيب الطرف ، عفيف الطرف .
وروى جويرية بن قدامة قال : دخلت مع اهل العراق على عمر حين اصيب ، فرأيته قد عصب بطنه بعمامة سوداء والدم يسيل ، فقال له الناس : اوصنا ، فقال عليكم بكتاب الله ، فانكم لن تضلوا ما اتبعتموه فاعدنا القول عليه ثانية : اوصنا ، قال : اوصيكم بالمهاجرين ، فان الناس سيكثرون ويقلون واوصيكم بالانصار ، فانهم شعب الاسلام الذى لجأ إليه واوصيكم بالاعراب فانهم اصلكم الذى لجأتم إليه ومأواكم وأوصيكم باهل الذمه ، فانهم عهد نبيكم ورزق عيالكم ، قوموا عنى .(12/107)
فلم احفظ من كلامه الا هذه الكلمات .
وروى عمرو بن ميمون ، قال : سمعت عمر وهو يقول - وقد اشار الى الستة ولم يكلم احدا منهم الا على بن ابى طالب وعثمان ، ثم امرهم بالخروج فقال لمن كان عنده : إذا اجتمعوا على رجل فمن خالف فلتضرب رقبته ، ثم قال : ان يولوها الاجلح (1) يسلك بهم الطريق ، فقال له قائل : فما يمنعك من العهد إليه ؟ قال : اكره ان اتحملها حيا وميتا [ خطب عمر الطوال ] وقال الجاحظ في كتاب " البيان والتبيين " : لم يكن عمر من اهل الخطب الطوال وكان كلامه قصيرا ، وانما صاحب الخطب الطوال على بن ابى طالب عليه السلام .
وقد وجدت انا لعمر خطبا فيها بعض الطول ، ذكرها أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ .
فمنها خطبة خطب بها حين ولى الخلافة ، وهى بعد حمد الله والثناء عليه وعلى رسوله : ايها الناس ، انى وليت عليكم ولولا رجاء ان اكون خيركم لكم ، واقواكم عليكم وأشدكم استضلاعا بما ينوب من مهم اموركم ، ما توليت ذلك منكم ، ولكفى عمر فيها مجزى (2) العطاء موافقة الحساب ، بأخذ حقوقكم كيف آخذها ووضعها اين أضعها
__________
(1) الجلح : انحسار الشعر عن جانبى الرأس ، ويريد بالاجلح على بن أبي طالب .
(2) الطبري : (ولكفى مهما محزنا انتظار موافقة الحساب) .
(*)(12/108)
وبالسير فيكم كيف اسير ! فربى المستعان ، فان عمر لم يصبح يثق بقوة ولا حيلة ، ان لم يتداركه الله برحمته وعونه .
(1) ايها الناس ان الله قد ولانى امركم ، وقد علمت انفع مالكم وأسأل الله ان يعيننى عليه وان يحرسنى عنده ، كما حرسني عند غيره ، وان يلهمني العدل في قسمكم كالذى امر به ، فإنى امرؤ مسلم وعبد ضعيف الا ما اعان الله ، ولن يغير الذى وليت من خلافتكم من خلقي شيئا ان شاء الله .
انما العظمة لله ، وليس للعباد منها شئ فلا يقولن احدكم ان عمر تغير منذ ولى ، وانى اعقل الحق من نفسي ، واتقدم وابين لكم امرى ، فأيما رجل كانت له حاجة أو ظلم مظلمة أو عتب علينا في خلق ، فليؤذني ، فانما انا رجل منكم ، فعليكم بتقوى الله في سركم وعلانيتكم وحرماتكم واعراضكم واعطوا الحق من انفسكم ، ولا يحمل بعضكم بعضا على الا تتحاكموا الى ، فانه ليس بينى وبين احد هوادة وانا حبيب الى صلاحكم ، عزيز على عنتكم ، وانتم اناس عامتكم حضر في بلاد الله واهل بلد لا زرع فيه ولا ضرع الا ما جاء الله به إليه ، وان الله عز وجل قد وعدكم كرامة كبيرة ، وانا مسئول عن أمانتى وما أنا فيه ومطلع على ما يحضرني بنفسى ان شاء الله لا اكله الى احد ، ولا أستطيع ما بعد منه الا بالامناء وأهل النصح منكم للعامة ، ولست أحمل أمانتى الى احد سواهم ان شاء الله .
(2) وخطب عمر مرة اخرى ، فقال بعد حمد الله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله :
__________
(1) الطبري 5 : 25 ، وهى آخر الخطبة هنا : وما يليها خطبة أخرى .
(2) تاريخ الطبري 5 : 25 ، 26 (*)(12/109)
ايها الناس ، ان [ بعض ] (1) الطمع فقر ، وان بعض اليأس غنى ، وإنكم تجمعون ما لا تأكلون وتؤملون ما لا تدركون ، وانتم مؤجلون في دار غرور ، وقد كنتم على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله تؤخذون بالوحى ، ومن اسر شيئا اخذ بسريرته ، ومن اعلن شيئا اخذ بعلانيته ، فاظهروا لنا حسن اخلاقكم ، والله اعلم بالسرائر ، فانه من اظهر لنا قبيحا وزعم ان سريرته حسنة لم نصدقه ، ومن أظهر لنا علانية حسنة ظننا [ به حسنا ] (1) .
واعلموا ان بعض الشح شعبة من النفاق ، فانفقوا خيرا لانفسكم ، ومن يوق شح نفسه فاولئك هم المفلحون .
ايها الناس ، اطيبوا مثواكم ، واصلحوا اموركم ، واتقوا الله ربكم ولا تلبسوا نساءكم القباطى (2) فانه إن لم يشف (3) فانه يصف .
ايها الناس ، انى لوددت ان انجو كفافا لالى ولا على انى لارجو ان عمرت فيكم يسيرا أو كثيرا ، ان اعمل فيكم بالحق ان شاء الله ، والا يبقى احد من المسلمين - وإن كان في بيته - إلا اتاه حقه ونصيبه من مال الله ، وان لم يعمل إليه نفسه ، ولم ينصب إليه بدنه ، فأصلحوا اموالكم التى رزقكم الله ، فقليل في رفق خير من كثير في عنف .
واعلموا ان القتل حتف من الحتوف يصيب البر والفاجر - والشهيد من احتسب نفسه ، وإذا أراد احدكم بعيرا فليعمد الى الطويل العظيم فليضربه بعصاه ، فان وجده حديد الفؤاد فليشتره .
وخطب عمر مرة اخرى فقال :
__________
(1) تكملة من تاريخ الطبري .
(2) القباطى : ثياب كتان بيض رقاق كانت تعمل في مصر .
(3) يشف : يرق حتى يحكى ما تحته .
(3) تاريخ الطبري 6 : 26 (*)(12/110)
ان الله سبحانه قد استوجب عليكم الشكر ، واتخذ عليكم الحجج فيما اتاكم من كرامة الدنيا والاخره من غير مسالة منكم ، لا رغبة منكم فيه إليه ، فخلقكم - تبارك وتعالى - ولم تكونوا شيئا لنفسه وعبادته ، وكان قادرا ان يجعلكم لاهون خلقه عليه فجعلكم عامة خلقه ، ولم يجعلكم لشئ غيره ، وسخر لكم ما في السموات والارض ، واسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة وحملكم في البر والبحر ، ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون .
ثم جعل لكم سمعا وبصرا .
ومن نعم الله عليكم نعم عم بها بنى آدم ومنها نعم اختص بها اهل دينكم ، ثم صارت تلك النعم خواصها في دولتكم وزمانكم وطبقتكم ، وليس من تلك النعم نعمة وصلت الى امرئ خاصة الا لو قسمتم ما وصل منها بين الناس كلهم اتعبهم شكرها ، وفدحهم حقها الا بعون الله مع الايمان بالله ورسوله فأنتم مستخلفون في الارض قاهرون لاهلها ، قد نصر الله دينكم فلم تصبح امة مخالفة لدينكم ، إلا امتين أمة مستعبدة للاسلام واهله ، يتجرون لكم ، تستصفون (1) معايشهم وكدائحهم ، ورشح جباههم ، عليهم المؤنة ، ولكم المنفعة ، وامة تنتظر وقائع الله وسطواته في كل يوم وليلة ، قد ملا الله قلوبهم رعبا ، فليس لهم معقل يلجئون إليه ولا مهرب يتقون به ، قد دهمتهم جنود الله ونزلت بساحتهم ، مع رفاغة (2) العيش واستفاضة المال وتتابع البعوث وسد الثغور باذن الله ، في العافية الجليلة العامة التى لم تكن الامة على احسن منها منذ كان الاسلام ، والله المحمود مع الفتوح العظام في كل بلد فما عسى ان يبلغ شكر الشاكرين ، وذكر الذاكرين واجتهاد المجتهدين ، مع هذه النعم التى لا يحصى عددها ، ولا يقدر قدرها ، ولا يستطاع أداء حقها إلا بعون الله ورحمته وطفه ! فنسأل الله الذى أبلانا هذا ان يرزقنا العمل بطاعته ، والمسارعة الى مرضاته .
واذكروا عباد الله بلاء الله عندكم واستتموا نعمة الله عليكم وفى مجالسكم مثنى وفرادى ، فإن الله تعالى قال لموسى :
__________
(1) استصفى الشئ : أخذ منه صفوه .
(2) الرفاغة : سعة العيش وطيبه .
(*)(12/111)
(اخرج قومك من الظلمات الى النور وذكرهم بايام الله) (1) وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم : (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الارض) (2) فلو كنتم إذ كنتم مستضعفين محرومين خير الدنيا على شعبة من الحق تؤمنون بها ، وتستريحون إليها ، مع المعرفة بالله وبدينه ، وترجون الخير فيما بعد الموت ، ولكنكم كنتم اشد الناس عيشة واعظم الناس بالله جهالة ، فلو كان هذا الذى ابتلاكم به لم يكن معه حظ في دنياكم غير انه ثقه لكم في آخرتكم التى إليها المعاد والمنقلب ، وانتم من جهد المعيشة على ما كنتم عليه كنتم أحرياء ان تشحوا على نصيبكم منه ، ون تظهروه على غيره فبله (3) .
أما انه قد جمع لكم فضيلة الدنيا وكرامة الاخرة ، أو لمن شاء ان يجمع ذلك منكم ، فأذكركم الله الحائل بينكم وبين قلوبكم الا ما عرفتم حق الله وعملتم له ، وسيرتم انفسكم على طاعته ، وجمعتم مع السرور بالنعم خوفا لزوالها وانتقالها ، ووجلا من تحويلها ، فإنه لا شئ اسلب للنعمة من كفرانها وان الشكر امن للغير ، ونماء للنعمة ، واستجلاب للزيادة ، وهذا على في امركم ونهيكم واجب ان شاء الله .
وروى أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب " مقاتل الفرسان " قال : كتب عمر الى سلمان بن ربيعة الباهلى - أو الى النعمان بن مقرن : ان في جندك رجلين من العرب : عمرو بن معديكرب طليحة بن خويلد ، فأحضرهما الناس وادبهما وشاورهما في الحرب ، وابعثهما في الطلائع ، ولا تولهما عملا من أعمال المسلمين ، وإذا وضعت الحرب أوزارها ، فضعهما حيث وضعا انفسهما .
قال : وكان عمرو ارتد ، وطليحة تنبأ .
__________
(1) سورة إبراهيم : 5 (2) سورة الانفال : 26 (3) بله : اسم فعل بمعنى دع واترك .(12/112)
وروى أبو عبيدة ايضا في هذا الكتاب ، قال : قدم عمرو بن معديكرب والاجلح بن وقاص الفهمى على عمر ، فأتياه وبين يديه مال يوزن ، فقال : متى قدمتما ؟ قالا : يوم الخميس ، قال : فما حبسكما عنى ؟ قالا : شغلنا المنزل يوم قدمنا ، ثم كانت الجمعة ، ثم غدونا عليك اليوم .
فلما فرغ من وزن المال نحاه ، وأقبل عليهما ، فقال : هيه ! فقال عمرو بن معديكرب يا امير المؤمنين هذا الاجلح بن وقاص ، الشديد المرة البعيد الغرة ، الوشيك الكرة ، والله ما رايت مثله حين الرجال صارع ومصروع والله لكانه لا يموت .
فقال عمر للاجلح - واقبل عليه ، وقد عرف الغضب في وجهه : هيه يا اجلح ! فقال الاجلح : يا امير المؤمنين تركت الناس خلفي صالحين ، كثيرا نسلهم ، دارة ارزاقهم خصبة بلادهم ، أجرياء على عدوهم ، فاكلا عدوهم عنهم ، فسيمتع الله بك ، فما رأينا مثلك إلا من سبقك ، فقال : ما منعك ان تقول في صاحبك مثل ما قال فيك ؟ قال : ما رايت من وجهك ، قال : اصبت ، اما انك لو قلت فيه مثل الذى قال فيك لاوجعتكما ضربا وعقوبة فإذ تركتك لنفسك فسأتركه لك ، والله لوددت لو سلمت لكم حالكم ، ودامت عليكم اموركم .
أما انه سيأتي عليك يوم تعضه وينهشك ، وتهره وينبحك ، ولست له يومئذ وليس لك ، فان لا يكن بعهدكم ، فما اقربه منكم .
لما أسر الهرمزان صاحب الاهواز وتستر وحمل الى عمر ، حمل ومعه رجال من المسلمين ، فيهم الاحنف بن قيس وانس بن مالك فادخلوه في المدينة في هيئته ، وعليه تاجه الذهب وكسوته ، فوجدوا عمر نائما في جانب المسجد ، فجلسوا عنده ينتظرون انتباهه ، فقال الهرمزان : اين عمر ؟ فقالوا : هو ذا ، قال : واين حراسد وحجابه ؟ قالوا : لا حارس له ولا حاجب ، قال : فينبغي ان يكون هذا نبيا ! قالوا : انه يعمل عمل الانبياء .(12/113)
فاستيقظ عمر فقال : الهرمزان ! قالوا : نعم ، قال : لا اكلمه حتى لا يبقى عليه من حليته شئ ، فرموا بالحلية والبسوه ثوبا ضعيفا ، فقال عمر : يا هرمزان كيف رايت وبال الغدر ؟ - وقد كان صالح المسلمين مرة ثم نكث - فقال : يا عمر انا واياكم في الجاهلية كنا نغلبكم إذ لم يكن الله معكم ولا معنا ، فلما كان الله معكم غلبتمونا ، قال : فما عذرك في انتقاضك مرة بعد مرة ؟ قال : أخاف إن قلت ان تقتلني ، قال : لا باس عليك ! فاخبرني ، فاستسقى ماء فاخذه وجعلت يده ترعد ، قال : مالك ؟ قال : أخاف ان تقتلني وانا اشرب ، قال : لا باس عليك حتى تشربه ، فالقاه من يده ، فقال : ما بالك ! اعيدوا عليه الماء ولا تجمعوا عليه بين القتل والعطش ، قال : كيف تقتلني وقد أمنتنى ؟ قال : كذبت ! قال : لم أكذب ، فقال انس : صدق يا امير المؤمنين ، قال : ويحك يا انس ! انا اؤمن قاتل مجزاة بن ثور والبراء بن مالك ! والله لتاتيني بالمخرج أو لاعاقبنك ! قال : انك قلت : (لا باس عليك حتى تخبرني ولا باس عليك حتى تشرب) وقال له ناس من المسلمين مثل قول انس ، فاقبل على الهرمزان ، فقال : تخدعني ! والله لا تخدعني الا ان تسلم ، فاسلم ، ففرض له ألفين ، وانزله المدينة .
بعث عمر عمير بن سعيد الانصاري عاملا على حمص ، فمكث حولا لا يأتيه خبره ، ثم كتب إليه بعد حول : إذا أتاك كتابي هذا فأقبل واحمل ما جبيت من مال المسلمين ، فاخذ عمير جرابه ، وجعل فيه زاده وقصعته ، وعلق اداته ، وأخذ عنزته (1) وأقبل ماشيا من حمص حتى دخل المدينة وقد شحب لونه ، واغبر وجهه ، وطال شعره .
فدخل على عمر فسلم ، فقال عمر : ما شأنك يا عمير ؟ قال : ما ترى من شأني ، ألست تراني صحيح البدن ، ظاهر الدم ، معى الدنيا اجرها بقرنيها ؟ قال : وما معك - فظن عمر أنه قد جاء
__________
العنزة : عصا مثل الحربة (*)(12/114)
بمال ، قال : معى جرابى اجعل فيه زادي ، وقصعتي آكل فيها واغسل منها رأسي وثيابى ، وأداتى أحمل فيها وضوئي وشرابي ، وعنزتي أتوكا عليها واجاهد بها عدوا ان عرض لى .
قال عمر : أفجئت ماشيا ؟ قال : نعم ، لم يكن لى دابة : قال : أفما كان في رعيتك احد يتبرع لك بدابة تركبها ؟ قال : ما فعلوا ، ولا سألتهم ذلك ، قال عمر : بئس المسلمون خرجت من عندهم ! قال عمير : اتق الله يا عمر ، ولا تقل الا خيرا ، قد نهاك الله عن الغيبة وقد رأيتهم يصلون ! قال عمر : فماذا صنعت في امارتك ؟ قال : وما سؤالك ؟ قال : سبحان الله ! قال : أما إنى لولا أخشى ان اعمل ما اخبرتك .
أتيت البلد ، فجمعت صلحاء اهله فوليتهم جبايته ووضعه في مواضعه ولو اصابك منه شئ لاتاك ، قال : أفما جئت بشئ ؟ قال : لا ، فقال : جددوا لعمير عهدا ، قال : ان ذلك لشئ لا اعمله بعد لك ، ولا لاحد بعدك ، والله ما كدت اسلم - بل لم أسلم ، قلت لنصراني معاهد : أخزاك الله ، فهذا ما عرضتني له يا عمر ! ان اشقى ايامي ليوم صحبتك ! ثم استأذنه في الانصراف ، فاذن له ، ومنزله بقباء بعيدا عن المدينة ، فامهله عمر اياما ثم بعث رجلا يقال له الحارث ، فقال : انطلق الى عمير بن سعد وهذه مائة دينار ، فإن وجدت عليه أثرا فاقبل على بها ، وان رايت حالا شديدة فادفع إليه هذه المائة ، فانطلق الحارث فوجد عميرا جالسا يفلى قميصا له الى جانب حائط ، فسلم عليه ، فقال عمير : انزل رحمك الله ! فنزل فقال : من اين جئت ؟ قال : من المدينة ، قال : كيف تركت امير المؤمنين ؟ قال : صالحا ، قال : كيف تركت المسلمين ؟ قال : صالحين ، قال : أليس عمر يقيم الحدود ؟ قال : بلى ، ضرب ابنا له على فاحشة فمات من ضربه ، فقال عمير : اللهم أعن عمر ، فانى لا أعلمه إلا شديدا حبه لك ! قال : فنزل به ثلاثة ايام ، وليس لهم الا قرص من شعير كانوا يخصونه كل يوم به ويطوون ، حتى نالهم الجهد ، فقال له عمير : إنك قد اجعتنا ، فإن رأيت ان تتحول عنا فافعل ، فاخرج الحارث الدنانير فدفعها إليه ، وقال : بعث بها امير المؤمنين فاستغن بها ، فصاح وقال : ردها ، لا حاجة لى فيها ، فقالت المرأة : خذها(12/115)
ثم ضعها في موضعها ، فقال : مالى شئ أجعلها فيه ! فشقت اسفل درعها (1) فأعطته خرقه فشدها فيها ، ثم خرج فقسمها كلها بين أبناء الشهداء والفقراء فجاء الحارث الى عمر فاخبره ، فقال : رحم الله عميرا ! ثم لم يلبث ان هلك ، فعظم مهلكه على عمر ، وخرج مع رهط من أصحابه ماشين الى بقيع الغرقد ، فقال لاصحابه : ليتمنين كل واحد منا امنيته ، فكل واحد تمنى شيئا ، وانتهت الامنية الى عمر ، فقال : وددت أن لى رجلا مثل عمير بن سعد استعين به على أمور المسلمين ! [ نبذ من كلام عمر ] ومن كلام عمر : اياكم وهذه المجازر ، فان لها ضراوة كضراوة الخمر .
وقال : اياكم والراحة فإنها غفله .
وقال : السمن غفلة .
وقال : لا تسكنوا نساءكم الغرف ، ولا تعلموهن الكتابة ، واستعينوا عليهن بالعرى وعودوهن قول (لا) فإن (نعم) تجرئهن على المسألة .
وقال : تبين عقل المرء في كل شئ ، حتى في علته ، فإذا رأيته يتوقى على نفسه الصبر عن شهوته ، ويحتمى من مطعمه ومشربه ، عرفت ذلك في عقله ، وما سألني رجل عن شئ قط الا تبين لى عقله في ذلك .
وقال : إن للناس حدودا ومنازل ، فانزلوا كل رجل منزلته ، وضعوا كل انسان في حده ، واحملوا كل امرئ بفعله على قدره .
وقال : اعتبروا عزيمة الرجل بحميته ، وعقله بمتاع بيته .
قال أبو عثمان الجاحظ : لانه
__________
(1) الدرع : القميص .
(*)(12/116)
ليس من العقل أن يكون فرشه لبدا ومرقعته طبرية .
وقال : من يئس من شئ استغنى عنه ، وعز المؤمن استغناؤه عن الناس .
وقال : لا يقوم بأمر الله الا من لا يصانع ، ولا يصارع ولا يتبع المطامع .
وقال : لا تضعفوا همتكم فانى لم ار شيئا اقعد برجل عن مكرمة من ضعف همته .
ووعظ رجلا فقال : لا تلهك الناس عن نفسك ، فان الامور اليك تصل دونهم ، ولا تقطع النهار سادرا ، فإنه محفوظ عليك ، فإذا أسأت فأحسن ، فإنى لم أر شيئا اشد طلبا ، ولا اسرع إدراكا من حسنة حديثة لذنب قديم .
وقال : احذر من فلتات السباب ، وكل ما أورثك النبز (1) وأعلقك اللقب ، فإنه إن يعظم بعده شأنك يشتد على ذلك ندمك .
وقال : كل عمل كرهت من اجله الموت فاتركه ، ثم لا يضرك متى مت .
وقال : أقلل من الدين تعش حرا ، واقلل من الذنوب يهن عليك الموت ، وانظر في أي نصاب تضع ولدك ، فإن العرق دساس .
وقال : ترك الخطيئة اسهل من معالجة التوبة .
وقال : احذروا النعمة حذركم المعصية ، وهى اخفهما عليكم عندي .
وقال : احذروا عاقبة الفراغ ، فإنه أجمع لابواب المكروه من السكر .
وقال ، أجود الناس من يجود على من لا يرجو ثوابه ، وأحلمهم من عفا بعد القدرة ، وأبخلهم من بخل بالسلام ، وأعجزهم من عجز في دعائه .
وقال : رب نظرة زرعت شهوة ، ورب شهوة أورثت حزنا دائما .
__________
(1) النبز : اللقب المعيب ، ومنه قوله تعالى : (ولا تنابزوا بالالقاب) .
(*)(12/117)
وقال : ثلاث خصال من لم تكن فيه لم ينفعه الايمان : حلم يرد به جهل الجاهل ، وورع يحجزه عن المحارم ، وخلق يدارى به الناس .
[ اخبار عمر مع عمرو بن معديكرب ] وذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب " مقاتل الفرسان " أن سعد بن ابى وقاص اوفد عمرو بن معديكرب بعد فتح القادسية الى عمر ، فسأله عمر عن سعد : كيف تركته ، وكيف رضا الناس عنه ؟ فقال : يا امير المؤمنين ، هو لهم كالاب يجمع لهم جمع الذره ، اعرابي في نمرته (1) ، أسد في تامورته (2) نبطى في جبايته ، يقسم بالسوية ، ويعدل في القضية ، وينفر في السرية .
وكان سعد كتب يثنى على عمرو ، فقال عمر : لكانما تعاوضتما الثناء ! كتب يثنى عليك وقدمت تثنى عليه ! فقال : لم أثن الا بما رايت ، قال دع عنك سعدا ، وأخبرني عن مذحج قومك .
قال ، في كل فضل وخير ، قال : ما قولك في علة بن خالد ؟ قال : اولئك فوارس اعراضنا ، احثنا طلبا ، واقلنا هربا ، قال : فسعد العشيرة ؟ قال : أعظمنا خميسا (3) وأكبرنا رئيسا ، واشدنا شريسا (4) .
قال : فالحارث بن كعب ؟ قال : حكمة لا ترام قال : فمراد ؟ قال : الاتقياء البررة والمساعير الفجرة ، الزمنا قرارا ، وابعدنا آثارا .
__________
(1) النمرة : بردة من صوف يلبسها الاعراب .
(2) قال في اللسان : (وسأل عمر بن الخطاب رضى الله عنه عمرو بن معديكرب عن سعد فقال : أسد في تامورته ، أي في عرينه ، وهو بيت الاسد الذى يكون فيه ، .
وى في الاصل الصومعة .
فاستعارها للاسد) .
(3) الخميس : الجيش .
(4) شريسا ، أي شراسة .
(*)(12/118)
قال : فاخبرني عن الحرب ، قال : مرة المذاق ، إذا قلصت عن ساق ، من صبر فيها عرف ، ومن ضعف عنها تلف ، وإنها لكما قال الشاعر : الحرب اول ما تكون فتيه تسعى بزينتها لكل جهول (1) حتى إذا استعرت وشب ضرامها عادت عجوزا غير ذات حليل شمطاء جزت راسها وتنكرت مكروهة للشم والتقبيل .
قال فاخبرني عن السلاح ، قال : سل عما شئت منه ، قال : الرمح ؟ قال : اخوك وربما خانك ، قال النبل ؟ قال : منايا تخطئ وتصيب قال الترس ؟ قال : ذاك المجن وعليه تدور الدوائر ، قال : الدرع ؟ قال : مشغلة للراكب (2) متعبة للراجل وانها لحصن حصين .
قال : السيف ؟ قال : هناك قارعت امك الهبل ، قال : بل امك قال : بل امى والحمى اضرعتني (3) لك (4) .
عرض سليمان بن ربيعة الباهلى جنده بارمينية ، فكان لا يقبل من الخيل الا عتيقا ، فمر عمرو بن معديكرب بفرس غليظ ، فرده وقال : هذا هجين ، قال عمرو : انه ليس بهجين ، ولكنه غليظ ، قال : بل هو هجين ، فقال عمرو : ان الهجين ليعرف الهجين .
فكتب بكلمته الى عمر ، فكتب إليه : اما بعد يا بن معديكرب ، فإنك القائل لاميرك ما قلت ، فانه بلغني ان عندك سيفا تسميه الصمصامة ، وأن عندي سيفا اسميه مصمما ، وأقسم بالله لئن وضعته بين أذنيك لا يقلع حتى يبلغ قحفك .
__________
(1) تنسب هذه الابيات لامرئ القيس ، ديوانه 353 .
(2) في العقد : (مثقلة للراكب متعبة للفارس) .
(3) أراد أن الاسلام قيده ، ولو كان في الجاهلية ما استطاع عمر أن يكلمه بهذا الكلام .
(4) الخبر في العقد 1 : 210 ، عيون الاخبار 1 : 130 (*)(12/119)
وكتب الى سليمان بن ربيعة يلومه في حلمه عنه ، فلما قرأ عمرو الكتاب ، قال : من ترونه يعنى ؟ قالوا : أنت اعلم ، قال هددني بعلى والله ، وقد كان صلى بناره مرة في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله ، وافلت من يده بجريعة (1) الذقن ، وذلك حين ارتدت مذحج ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله أمر عليها فروة بن مسيك المرادى ، فاساء السيرة ، و نابذ عمرو بن معد يكرب ففارقه في كثير من قبائل مذحج فاستجاش فروة عليه و عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله ، فأرسل خالد بن سعيد بن العاص في سرية وخالد بن الوليد بعده في سرية ثانية وعلى بن أبى طالب عليه السلام في سرية ثالثة وكتب إليهم كل واحد منكم أمير من معه فإذا اجتمعتم فعلى امير على الكل فاجتمعوا بموضع من أرض اليمن يقال له (كسر) فاقتتلوا هناك وصمد عمرو بن معد يكرب لعلى عليه السلام - وكان يظن أن لا يثبت له أحد من شجعان العرب - فثبت له فعلا عليه وعاين منه ما لم يكن يحتسبه ففر من بين يديه هاربا ناجيا بحشاشة نفسه بعد أن كاد يقتله وفر معه رؤساء مذحج وفرسانهم وغنم المسلمون أموالهم وسبيت ذلك اليوم ريحانه بنت معد يكرب أخت عمرو فأدى خالد بن سعيد بن العاص فداءها من ماله فأصابه عمرو أخوها الصمصامة فلم يزل ينتقل في بنى أمية ويتداولونه واحدا بعد واحد حتى صار إلى بنى العباس في أيام المهدى محمد بن المنصور أبى جعفر [ فصل فيما نقل عن عمر من الكلمات الغريبة ] فأما ما نقل عن عمر من الالفاظ الغريبة اللغوية التى شرحها المفسرون فنحن نذكر من ذلك ما يليق بهذا الكتاب .
__________
(1) أي قرب الموت منه كقرب الجريعة من الذقن ، وذلك إذا أشرف على التلف ثم نجا ، وهذا مثل يضرب في إفلات الجبان .
والجريعة : بقية الروح .
وانظر الميداني 2 : 69 .
(*)(12/120)
قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه : روى عبد الرحمن بن أبى زيد عن عمران بن سودة الليثى ، قال : صليت الصبح مع عمر ، فقرأ (سبحان) وسورة معها ثم انصرف ، فقمت معه فقال أحاجة ؟ قلت : حاجة قال : فالحق فلحقت ، فلما دخل أذن فإذا هو على رمال (1) سرير ليس فوقه شئ ، فقلت : نصيحة ! قال : مرحبا بالناصح غدوا وعشيا قلت عابت أمتك - أو قال رعيتك - عليك أربعا قال : فوضع عود الدرة ثم ذقن عليها - هكذا روى ابن قتيبه - وقال : أبو جعفر (فوضع رأس درته في ذقنه) ووضع أسفلها على فخذه ، وقال هات - قال : ذكروا أنك حرمت المتعة في أشهر الحج - وزاد أبو جعفر (وهى حلال) - ولم يحرمها (2) رسول الله صلى الله عليه وآله ولا أبو بكر فقال : أجل ! إنكم إذا أعتمرتم في أشهر حجكم رأيتموها مجزئه عن حجكم فقرع حجكم وكانت قابية قوب عامها والحج بهاء من بهاء الله وقد أصبت قال : وذكروا أنك حرمت متعة النساء وقد كان رخصة من الله نستمتع بقبضة ونفارق عن ثلاث ، قال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله أحلها في زمان ضرورة ورجع الناس إلى السعة ثم لم أعلم أحدا من المسلمين عاد إليها ولا عمل بها فالان من شاء نكح بقبضة وفارق عن ثلاث بطلاق وقد أصبت .
وقال ذكروا أنك أعتقت الامة إذا وضعت ذا بطنها بغير عتاقة سيدها .
قال : ألحقت حرمة بحرمة وما أردت إلا الخير واستغفر الله .
قال وشكوا منك عنف السياق ونهر الرعية قال : فنزع الدرة ثم مسحها حتى أتى على سيورها ، وقال : وأنا زميل محمد رسول الله صلى الله عليه وآله في غزاة قرقرة
__________
(1) ساقطة من تاريخ الطبري .
(2) الطبري : (ولم يفعل ذلك) .
(*)(12/121)
الكدر فو الله إنى لارتع فأشبع وأسقى فأروى وإنى لاضرب العروض وأزجر العجول وأؤدب قدري وأسوق خطوتي وأرد اللفوت وأضم العنود وأكثر الضجر وأقل الضرب ، وأشهر بالعصا وأدفع باليد ولو لا ذلك لاعذرت .
قال أبو جعفر : فكان معاوية إذا حدث بهذا الحديث يقول : كان والله عالما برعيته .
قال ابن قتيبه : رملت السرير وأرملته إذا نسجته بشريط من خوص أو ليف .
وذقن عليها ، أي وضع عليها ذقنه يستمع الحديث .
وقوله فقرع حجكم ، أي خلت أيام الحج من الناس ، وكانوا يتعوذون من قرع الفناء وذلك ألا يكون عليه غاشية وزوار ومن قرع المراح وذلك ألا يكون فيه إبل .
والقابية قشر البيضة إذا خرج منها الفرخ .
والقوب الفرخ ، قال الكميت : لهن وللمشيب ومن علاه من الامثال قابية وقوب .
أراد أن النساء ينفرن من ذى الشيب ويفارقنه كما يفارق الفرخ البيضة فلا يعود إليها بعد خروجه منها أبدا وروى عن عمر إنكم إذا رأيتم العمرة في أشهر الحج كافية من الحج خلت مكة من الحجاج فكانت كبيضة فارقها فرخها قوله (إنى لارتع فأشبع وأسقى فأروى) مثل مستعار من رعيت الابل أي إذا أرتعت الابل أي أرسلتها ترعى تركتها حتى تشبع وإذا سقيتها تركتها حتى تروى .
وقوله (أضرب العروض) العروض الناقة تأخذ يمينا وشمالا ولا تلزم المحجة يقول أضربها حتى تعود إلى الطريق .
ومثله قوله : (وأضم العنود) .
والعجول : البعير يند عن الابل ، يركب رأسه عجلا ويستقبلها .
__________
(1) تاريخ الطبري 4 : 225 (طبعة المعارف) (*)(12/122)
قوله (وأؤدب قدري) أي قدر طاقتي .
وقوله : (وأسوق خطوتي) أي قدر خطوتي .
واللفوت : البعير يلتفت يمينا وشمالا ويروغ .
وقوله : (وأكثر الزجر وأقل الضرب) أي أنه يقتصر من التأديب في السياسة على ما يكتفى به حتى يضطر إلى ما هو أشد منه وأغلظ .
وقوله : (وأشهر بالعصا وأدفع باليد) يريد أنه يرفع العصا يرهب بها ولا يستعملها ولكنه يدفع بيده .
قوله : (ولو لا ذلك لاعذرت) أي لو لا هذا التدبير وهذه السياسة لخلفت بعض ما أسوق ويقال أعذر الراعى الشاة والناقة إذا تركها والشاة العذيرة وعذرت هي إذا تخلفت عن الغنم .
قال ابن قتيبه ، وهذه أمثال ضربها وأصلها في رعية الابل وسوقها ، وإنما يريد بها حسن سياسته للناس في الغزاة التى ذكرها ، يقول فإذا كنت أفعل كذا في أيام رسول الله صلى الله عليه وآله مع طاعة الناس له وتعظيمهم إياه فكيف لا أفعله بعده ! .
وعندي أن ابن قتيبة غالط في هذا التأويل وليس في كلام عمر ما يدل على ذلك وليس عمر في غزاة قرقرة الكدر يسوس الناس ولا يأمرهم ولا ينهاهم ، وكيف ورسول الله صلى الله عليه وآله حاضر بينهم ! ولا كان في غزاة قرقرة الكدر حرب ولا ما يحتاج فيه إلى السياسة وهل كان لعمر أو لغير عمر ورسول الله صلى الله عليه وآله حى أن يرتع فيشبع ويسقى فيروى ! وهل تكون هذه الصفات وما بعدها إلا للرئيس الاعظم ! والذى أراده عمر ذكر حاله في خلافته رادا على عمران بن سوادة في قوله : (إن الرعية يشكون منك عنف السياق وشدة النهر) ، فقال : ليشكون ! فوالله إنى لرفيق بهم ومستقص في سياستهم ،(12/123)
ولا ناهك لهم عقوبة ، وإنى لاقنع بالهيبة والتهويل عليهم ، ولا أعمل العصا حيث يمكننى الاكتفاء باليد وإنى أرد الشارد منهم وأعدل المائل ...
، إلى غير ذلك من الامور التى عددها وأحسن في تعديدها .
وإنما ذكر قوله : (أنا زميل رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة قرقرة الكدر) الكدر على عادة العرب في الافتخار وقت المنافرة وعند ما تجيش النفس ويحمى القلب كما كان على عليه السلام يقول وقت الحاجة : (أنا عبد الله وأخو رسوله) ، فيذكر أشرف أحواله و المزية التى اختص بها عن غيره ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة قرقرة الكدر أردف عمر معه على بعيره فكان عمر يفخر بها ويذكرها وقت الحاجه إليها .
وفى حديث عمر أنه خرج من الخلاء فدعا بطعام فقيل له : ألا تتوضأ فقال : لو لا التنطس ما باليت ألا أغسل يدى (1) .
قال أبو عبيد القاسم بن سلام : قال ابن علية : التنطس التقذر وقال الاصمعي : هو المبالغة في التطهر ، فكل من أدق النظر في الامور فاستقصى علمها فهو متنطس ومنه قيل للطبيب : النطاسى والنطيس لدقة علمه بالطب .
وفى حديث عمر حين سأل الاسقف عن الخلفاء فحدثه حتى إذا انتهى إلى الرابع فقال صدع من حديد ، وقال عمر : وادفراه (2) .
قال أبو عبيدة ، قال الاصمعي : كان حماد بن سلمة يقول : (صدأ من حديد وهذا أشبه بالمعنى لان الصدأ له دفر وهو النتن ، والصدع لا دفر له وقيل للدنيا أم دفر لما فيها من الدواهي والافات فأما الذفر بالذال المعجمة وفتح الفاء فهو الريح الذكية من طيب أو نتن .
__________
(1) الفائق 3 : 104 (2) نهاية ابن الاثير 2 : 26 .
(*)(12/124)
عندي في هذا الحديث كلام والاظهر أن الرواية المشهورة هي الصحيحة وهى قوله : (صدع من حديد) ولكن بفتح الدال وهو ما كان من الوعول ، بين العظيم والشخت فان ثبتت الرواية بتسكين الدال فغير ممتنع أيضا يقال ، رجل صدع إذا كان ضربا من الرجال ليس برهل ولا غليظ .
ورابع الخلفاء هو على بن أبى طالب عليه السلام وأراد بالاسقف مدحه .
وقول عمر (وادفراه !) إشارة إلى نفسه كأنه استصغر نفسه وعابها بالنسبة إلى ما وصفه الاسقف من مدح الرابع وإطرائه .
فأما تأويل أبى عبيدة فانه ظن أن الرابع عثمان وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله معدودا من الجملة ليصح كون عثمان رابعا وجعل الدفر والنتن له وصرف اللفظ عن الرواية المشهورة إلى غيرها فقال : (صدا حديد) ليطابق لفظة النتن على ما يليق بها فغير خاف ما فيه من التعسف ورفض الرواية المشهورة .
وأيضا فان رسول الله صلى الله عليه وآله لا يجوز إدخاله في لفظ الخلفاء لانه ليس بخليفة لان الخليفة من يخلف غيره ورسول الله صلى الله عليه وآله مستخلف الناس كلهم ليس بخليفه لاحد .
وفي حديث عمر ، قال عند موته : (لو أن لى ما في الارض جميعا لافتديت به من هول المطلع) (1) .
قال أبو عبيد : هو موضع الاطلاع من إشراف إلى انحدار أو من انحدار إلى اشراف وهو من الاضداد ، فشبه ما أشرف عليه من أمر الاخرة .
__________
(1) الفائق 2 : 88 .
(*)(12/125)
وفى حديث عمر حين بعث حذيفة وابن حنيف إلى السواد ففلجا الجزية على أهله (1) .
قال أبو عبيد : فلجا أي قسما بالفلج وأصله من الفلج وهو المكيال الذى يقال له الفلج لان خراجهم كان طعاما .
وفي حديث عمر حين قال له حذيفه : إنك تستعين بالرجل الذى فيه - وبعضهم يرويه بالرجل الفاجر فقال : (استعمله لاستعين بقوته ثم أكون على قفانه) (2) .
قال أبو عبيد عن الاصمعي : قفان كل شئ جماعة واستقصاء معرفته ، يقول : أكون على تتبع أمره حتى أستقصى عمله وأعرفه .
قال أبو عبيد : ولا أحسب هذه الكلمة عربية وإنما أصلها (قبان) ومنه قول العامة فلان قبان على فلان إذا كان بمنزلة الامين عليه والرئيس الذى يتتبع أمره ويحاسبه وبه سمى هذا الميزان الذى يقال له القبان .
وفي حديث عمر حين قال لابن عباس ، وقد شاوره في شئ فأعجبه كلامه نشنشه [ أعرفها ] من أخشن هكذا الرواية وأما أهل العلم فيقولون : (شنشنة أعرفها من أخزم) (3) .
والشنشنة في بعض الاحوال قد تكون بمعنى المضغة أو القطعة تقطع من اللحم والقول المشهور أن الشنشنة مثل الطبيعة والسجية فأراد عمر إنى أعرف فيك مشابه من أبيك في رأيه ويقال : إنه لم يكن لقرشي مثل رأى العباس .
قال : وقد قال أبو عبيدة معمر بن المثنى : يجوز (شنشنة) و (نشنشة) وغيره ينكر (نشنشة) .
__________
(1) الفائق 2 : 269 .
(2) النهاية 3 : 296 .
والفائق 2 : 365 .
(3) والنهاية 2 : 238 (*)(12/126)
وفى حديث عمر يوم السقيفة ، قال : (وقد كنت زورت في نفسي قالة أقوم بها بين يدى أبى بكر فلم يترك أبو بكر شيئا مما زورته إلا تكلم به) .
قال أبو عبيد : التزوير إصلاح الكلام وتهيئته كالتزويق (1) .
وفي حديث عمر حين ضرب الرجل الذى أقسم على أم سلمة ثلاثين سوطا كلها تبضع وتحدر (2) .
قال أبو عبيد : أي تشق وتورم حدر الجلد يحدره وأحدره غيره .
وفي حديثه أنه قال لمؤذن بيت المقدس : (إذا أذنت فترسل) وإذا أقمت فاحذم (3) .
قال أبو عبيدة : الحذم بالحاء المهملة الحدر في الاقامة وقطع التطويل وأصله في المشى وهو الاسراع فيه وأن يكون مع هذا كأنه يهوى بيده إلى خلفه والجذم بالجيم أيضا القطع وكذلك الخذم بالخاء المعجمة .
وفى حديثه أنه قال : (لا يقر رجل أنه كان يطأ جاريته إلا ألحقت به ولدها فمن شاء فليمسكها ومن شاء فليرسلها) .
قال أبو عبيد : هكذا الرواية بالسين المهملة والمعروف أنه (الارشال) بالشين المعجمة ولعله حول الشين إلى السين كما يقال سمت العاطش أي شمته وفي حديثه : (كذب عليكم الحج كذب عليكم العمرة كذب عليكم الجهاد ثلاثة أسفار كذبت عليكم (4) .
__________
(1) النهاية 2 : 134 (2) النهاية 2 : 83 (3) النهاية 1 : 210 .
(4) الفائق 2 : 401 ، نهاية ابن الاثير 4 : 12 ، اللسان (كذب) .
(*)(12/127)
قال أبو عبيد : معنى كذب عليكم الاغراء أي عليكم به وكان الاصل في هذا أن يكون نصبا ولكنه جاء عنهم بالرفع شاذا على غير قياس ومما يحقق أنه مرفوع قول الشاعر كذبت عليك لا تزال تقوفنى كما قاف آثار الوثيقة قائف فقوله (كذبت عليك) إنما أغراه بنفسه أي عليك بى فجعل (نفسه) في موضع رفع ألا تراه قد جاء بالباء فجعلها اسمه .
وقال معقر بن حمار البارقى : وذبيانيه وصت بنيها بأن كذب القراطف والقروف (1) فرفع والشعر مرفوع ومعناه عليكم بالقراطف والقروف والقراطف القطف واحدها قرطف والقروف الاوعية .
ومما يحقق الرفع أيضا قول عمر (كذبت عليكم) قال أبو عبيد : ولم أسمع النصب في هذا إلا حرفا كان أبو عبيد يحكيه عن أعرابي نظر إلى ناقة نضو (2) لرجل ، فقال : كذب عليك البزر والنوى (2) لم أسمع في هذا نصبا غير هذا الحرف .
قال : والعرب تقول للمريض كذب عليك العسل (4) بالرفع أي عليك به .
وفي حديثه (ما يمنعكم إذا رأيتم الرجل يخرق أعراض الناس ألا تعربوا عليه) ؟ قالوا نخاف لسانه ، قال : (ذاك ألا تكونوا شهداء) (5) .
قال أبو عبيد : (ألا تعربوا) أي إلا تفسدوا عليه كلامه وتقبحوه له .
وفي حديثه ، أنه نهى عن الفرس في الذبيحة (6)
__________
(1) الفائق 2 : 401 ، اللسان 2 : 205 (2) نضو : هزيلة .
(3) اللسان (كذب) .
(4) اللسان (الكذب) .
(5) الفائق 2 : 134 .
(6) الفائق 2 : 265 .
(*)(12/128)
قال أبو عبيد : قيل في تفسيره : أن ينتهى بالذبح إلى النخاع وهو عظم في الرقبة وربما فسر النخاع بأنه المخ الذى في فقار الصلب متصلا بالقفا ، فنهى أن ينتهى بالذبح إلى ذلك .
وقيل في تفسيره أيضا أن يكسر رقبة الذبيحة قبل أن تبرد ويؤكد هذا التفسير قوله في تمام الحديث (ولا تعجلوا الانفس حتى تزهق) .
وفى حديثه حين أتاه رجل يسأله أيام المحل ، فقال له : هلكت وأهلكت ، فقال عمر : (أهلكت وأنت تنث نثيث الحميت ، أعطوه ربعه من الصدقة) فخرجت يتبعها ظئراها (1) .
قال أبو عبيد : قد روتمث بالميم والمحفوظ بالنون وتنث أي ترشح وتعرق من سمنك وكثرة لحمك .
والحميت : النحى وفيه الرب أو السمن أو نحوها والربعة ما ولد في أول النتاج والذكر ربع .
وفى حديثه أنه خرج إلى المسجد للاستسقاء فصعد المنبر ، فلم يزد على الاستغفار حتى نزل فقيل : إنك لم تستسق ، فقال : (لقد استسقيت بمجاديح السماء) (3) .
قال أبو عبيد : جعل الاستغفار استسقاء تأول فيه قوله تعالى (استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا) (4) والمجاديح : جمع مجدح وهو النجم الذى كانت العرب تزعم أنها تمطر به ويقال مجدح بضم الميم وإنما قال عمر : ذلك على أنها كلمة جارية على ألسنة العرب ليس على تحقيق الانواء ولا التصديق بها
__________
(1) النهاية لابن الاثير 4 : 125 ، الفائق 3 : 210 (2) النهاية لابن الاثير 4 : 77 .
(3) نهاية ابن الاثير 1 : 146 (4) سورة نوح 10 ، 11 .
(*)(12/129)
وهذا شبيه بقول ابن عباس في رجل جعل أمر امرأته بيدها فقالت له : أنت طالق ثلاثا فقال : خطأ الله نوءها ! إلا طلقت نفسها ثلاثا ! ليس هذا دعاء منه ألا تمطر إنما ذلك على الكلام المقول .
ومما يبين أن عمر أراد إبطال الانواء والتكذيب بها قوله : (لقد استسقيت بمجاديح السماء) التى يستسقى بها الغيث فجعل الاستغفار هو المجاديح لا الانواء .
وفى حديثه وهو يذكر حال صباه في الجاهلية لقد رأيتنى مرة وأختا لى نرعى على أبوينا ناضحا لنا قد ألبستنا أمنا نقبتها وزودتنا يمينتيها من الهبيد فنخرج بناضحنا فإذا طلعت الشمس ألقيت النقبة إلى أختى وخرجت أسعى عريان فنرجع إلى أمنا وقد جعلت لنا لفينه من ذلك الهبيد ، فياخصباه ! (1) .
قال أبو عبيد : الناضح البعير الذى يسنى عليه فيسقى به الارض والانثى ناضحة وهى السانية أيضا والجمع سوان وقد سنت تسنو ولا يقال ناضح لغير المستسقى .
والنقبة أن تؤخذ القطعة من الثوب قدر السراويل فيجعل لها حجزة مخيطة من غير نيفق (1) ، وتشد كما تشد حجزة السراويل فإذا كان لها نيفق وساقان فهى سراويل .
وقال : والذى وردت به الرواية (زودتنا يمينتيها) والوجه في الكلام أن يكون (يمينتيها) بالتشديد لانه تصغير (يمين) بلا هاء وإنما قال : (يمينتيها) ولم يقل : يديها ولا كفيها لانه لم يرد أنها جمعت كفيها ثم أعطتنا بهما ، وإنما أراد أنها أعطت كل واحد كفا كفا بيمينها فهاتا يمينان .
الهبيد حب الحنظل زعموا أنه يعالج حتى يمكن أكله ويطيب
__________
(1) الفائق 3 : 211 .
(2) نيفق السراويل : المتسع منها .
(*)(12/130)
واللفتية : ضرب من الطبيخ كالحساء .
وفي حديثه : (إذا مر أحدكم بحائط فليأكل منه ولا يتخذ ثبانا) (1) .
قال أبو عبيد : هو الوعاء الذى يحمل فيه الشئ فان حملته بين يديك فهو ثبان وإن جعلته في حضنك فهى خبنة .
وفى حديثه (لو أشاء لدعوت بصلاء وصناب وصلائق وكراكرة وأسنمة وأفلاذ) (2) .
قال أبو عبيد : الصلاء : الشواء .
والصناب الخردل بالزبيب .
والصلائق الخبز : الرقيق ومن رواه (سلائق) بالسين أراد ما يسلق من البقول وغيرها والكراكر كراكر الابل والافلاذ جمع فلذ وهو القطعة من الكبد .
وفى حديثه (لو شئت أن يدهمق لى لفعلت) (3) قال أبو عبيد : دهمقت الطعام إذا لينته ورققته وطيبته .
وفى حديثه (لئن بقيت لاسوين بين الناس حتى يأتي الراعى حقه في صفنه لم يعرق جبينه) (4) .
الصفن خريطة للراعي فيها طعامه وما يحتاج إليه .
وروى بفتح الصاد ويقال أيضا (في صفينه) .
__________
(1) الفائق 1 : 142 (2) الفائق 2 : 34 (3) الفائق 1 : 421 (4) النهاية 2 : 268 (*)(12/131)
وفى حديثه (لئن بقيت إلى قابل ليأتين كل مسلم حقه حتى يأتي الراعى بسرو حمير لم يعرق جبينه (1)) .
السرو مثل الخيف وهو ما انحدر عن الجبل وارتفع عن المسيل .
وفى حديثه (لئن عشت إلى قابل لالحقن آخر الناس بأولهم حتى يكونوا ببانا واحدا (2)) .
قال أبو عبيد : قال ابن مهدى : يعنى شيئا واحدا ولا أحسب هذه الكلمة عربية ولم أسمعها في غير هذا الحديث .
وفي حديثه أنه خطب فقال : (ألا أن الاسيفع (2) - أسيفع جهينه (3) - رضى من دينه وأمانته بأن يقال سابق الحاج أو قال : سبق الحاج - فادان معرضا فأصبح قد رين به فمن كان له عليه دين فليغد بالغداة فلنقسم ماله بينهم بالحصص) (4) .
قوله (فأدان معرضا) أي إستدان معرضا ، وهو الذى يعترض الناس فيستدين ممن أمكنه ، وكل شئ أمكنك من عرضه فهو معرض لك كقوله (والبحر معرضا والسدير) (5) .
ورين بالرجل إذا وقع فيما لا يمكنه الخروج منه
__________
(1) النهاية لابن الاثير ، والخبر هناك : (لولا أن أترك الناس بيانا واحدا ما فتحت على قرية إلا قسمتها) ، أي أتركهم شيئا واحدا .
(2) قال الزمخشري : (الاسيفع تصغير الاسفع ، صفة وعلما) .
(3) جهينة : من بطون قضاعة .
(4) الفائق 1 : 600 .
(5) قطعة من بيت لعدي بن زيد ، والبيت بتمامة : سره ماله وكثرة ما يملك والبحر معرضا والسدير .
(*)(12/132)
منه .
وفى حديثه أنه قال لمولاه أسلم - ورآه يحمل متاعه على بعير من إبل الصدقة - فقال : (فهلا ناقة شصوصا أو ابن لبون بوالا !) .
الشصوص : التى قد ذهب لبنها ووصف ابن اللبون بالبول وإن كانت كلها تبول إنما أراد : ليس عنده سوى البول أي ليس عنده مما ينتفع به من ظهر ولا له ضرع فيحلب لا يزيد على أنه بوال فقط .
وفى حديثه حين قيل له : إن النساء قد اجتمعن يبكين على خالد بن الوليد فقال : (وما على نساء بنى المغيرة أن يسفكن من دموعهن على أبى سليمان ، ما لم يكن نقع ولا لقلقة !) .
قيل النقع هاهنا طعام المأتم والاشبه أن النقع رفع الصوت واللقلقة مثله .
وفى حديثه : أن سلمان بن ربيعه الباهلى شكا إليه عاملا من عماله ، فضربه بالدرة حتى انهج (3) .
قال أبو عبيد : أي أصابه النفس والبهر من الاعياء .
وفى حديثه حين قدم عليه أحد بنى ثور فقال له : هل من مغربة خبر ؟ فقال : نعم أخذنا رجلا من العرب ، كفر بعد إسلامه فقدمناه فضربنا عنقه ، فقال : فهلا أدخلتموه جوف بيت فألقيتم إليه كل يوم رغيفا ثلاثه أيام ، لعله يتوب أو يراجع ! اللهم لم أشهد ولم آمر ، ولم أرض إذ بلغني) (4) .
__________
(1) الفائق 1 : 658 (2) نهاية ابن الاثير 4 : 64 ، 172 .
(3) نهاية ابن الاثير 4 : 185 ، وقال في شرحه : (أي وقع عليه الربو - يعني عمر) .
(4) الفائق 2 : 221 (*)(12/133)
يقال هل من مغربة خبر بكسر الراء ويروى بفتحها وأصله البعد ومنه شاو مغرب .
وفى حديثه أنه قال : آلله ليضربن أحدكم أخاه بمثل آكلة اللحم ثم يرى أنه لا أقيده والله (1) لاقيدنه (2) .
قال أبو عبيد : آكلة اللحم : عصا محددة .
وفى حديثه (أعضل بى (3) أهل الكوفة ما يرضون بأمير ولا يرضاهم أمير (4)) هو من العضال وهو الداء والامر الشديد الذى لا يقوم له صاحبه (3) .
وفى حديثه أنه خطب فذكر الربا فقال : (إن منه أبوابا لا تخفى على أحد منها السلم في السن وأن تباع الثمرة وهى مغضفة ولما تطب وأن يباع الذهب بالورق نساء (5) .
قال أبو عبيد : السلم في السن أن يسف الرجل في الرقيق والدواب وغيرها من الحيوان لانه ليس له حد معلوم .
والمغضفة المتدلية في شجرها وكل مسترخ أغضف أي تكون غير مدركة .
وفى حديثه أنه خطب فقال : ألا لا تغالوا في صداق النساء فان الرجل يغالى بصداق المرأة حتى يكون ذلك لها في قلبه عداوة تقول جشمت إليك عرق القربة (6) .
__________
(1) في الفائق : (الله) بالجر ، قال : وأصله : (أبالله) ، فأضمر الباء (2) الفائق 1 : 38 .
(3) وفي رواية نقلها الزمخشري : (غلبني أهل الكوفة) .
(4) الفائق 2 : 163 ، وتمام الرواية : (أستعمل عليهم المؤمن فيضعف ، وأستعمل عليهم الفاجر فيفجر) .
(5) نهاية ابن الاثير 3 : 164 ، والفائق 1 : 618 .
(6) الفائق 2 : 135 (*)(12/134)
قال : معناه تكلفت لك حتى عرقت عرق القربة وعرقها : سيلان مائها وفى حديثه : أنه رفع إليه غلام ابتهر جارية في شعره فقال : (انظروا إليه فلم يوجد أنبت فدرأ عنه الحد (1) .
قال أبو عبيد : ابتهرها أي قذفها بنفسه ، فقال : فعلت بها .
وفى حديثه أنه قضى في الارنب بحلان إذا قتلها المحرم (2) .
قال : الحلان الجدى .
وفي حديثه أنه قال : (حجة هاهنا ، ثم احدج هاهنا حتى تفنى) (3) .
قال : يأمر بحجة الاسلام لا غير ثم بعدها الغزو في سبيل الله .
حتى تفنى أي حتى تهرم .
وفي حديثه : أنه سافر في عقب رمضان ، وقال : (إن الشهر قد تسعسع ، فلو صمنا بقيته) (4) .
قال أبو عبيد : السين مكررة مهملة والعين مهملة أي أدبر وفنى .
وفى حديثه - وقد سمع رجلا خطب فأكثر - فقال : (إن كثيرا من الخطب من شقاشق الشيطان) (5) .
الواحدة شقشقة وهو ما يخرج من شدق الفحل عند نزوانه شبيهة بالرئة والشيطان (5)
__________
(1) النهاية 1 : 100 (2) الفائق 1 : 286 (3) النهاية 1 : 208 (4) الفائق 2 : 175 (5) الفائق 1 : 671 .
(*)(12/135)
لاشقشقه له إنما هذا مثل لما يدخل في الخطب من الكلام المكذوب وتزوير الباطل .
وفى حديثه : أنه قدم مكة فأذن أبو محذورة فرفع صوته فقال له : (أما خشيت يا أبا محذورة أن ينشق مريطاؤك (1) !) .
قال : المريطاء ما بين السرة إلى العانة ويروى بالقصر .
وفى حديثه : أنه سئل عن المذى ، فقال هو الفطر وفيه الوضوء (2) .
قال : سماه فطرا (3) من قولهم : فطرت الناقة فطرا إذا حلبتها بأطراف الاصابع فلا يخرج اللبن إلا قليلا وكذلك المذى وليس المنى كذلك لانه يخرج منه مقدار كثير .
وفى حديثه : أنه سئل عن حد الامة الزانية فقال : (إن الامة ألقت فروة رأسها من وراء الدار) (4) .
قال : الفروة : جلدة الرأس ، وهذا مثل إنما أراد أنها ألقت القناع وتركت الحجاب وخرجت إلى حيث لا يمكنها أن تمتنع من الفجور نحو رعاية الغنم فكأنه يرى أن لاحد عليها .
وفى حديثه أنه أتى بشارب فقال لابعثنك إلى رجل لا تأخذه فيك هوادة فبعث به إلى مطيع بن الاسود العدوى (5) ، فقال : إذا أصبحت غدا فاضربه الحد فجاء عمر
__________
(1) الفائق 3 : 20 (2) الفائق 2 : 286 (3) قال الزمخشري : وروى (الفطر) بالضم (4) الفائق 2 : 265 .
(5) الفائق : (العبدي) .
(*)(12/136)
وهو يضربه ضربا شديدا فقال : قتلت الرجل كم ضربته ؟ قال ستين ، قال (أقص عنه بعشرين (1)) .
قال : معناه اجعل شدة هذا الضرب قصاصا بالعشرين التى بقيت من الحد فلا تضربه إياها .
وفي حديثه أن رجلا أتاه فذكر له أن شهادة الزور قد كثرت في أرضهم ، فقال (لا يؤسر أحد في الاسلام بشهادة (2) الزور فانا لا نقبل إلا العدول) (3) .
قال لا يؤسر لا يحبس ومنه الاسير المسجون .
وفى حديثه : أنه جدب السمر بعد عتمة (4) .
جدبه (5) أي عابه ووصمه .
ومثل هذا الحديث في كراهيته السمر حديثه الاخر أنه كان ينش الناس بعد العشاء بالدرة ويقول انصرفوا إلى بيوتكم (6) .
قال : هكذا روى بالشين المعجمة وقيل إن الصحيح (ينس) بالسين المهملة والاظهر أنه ينوش الناس بالواو ، من التناوش قال تعالى (وأنى لهم التناوش) (7) .
وفى حديثه (هاجروا ولا تهجروا واتقوا الارنب أن يحذفها أحدكم بالعصا ولكن ليذك لكم الاسل الرماح والنبل) (8) .
(1) الفائق 3 : 229 (2) الفائق : (لشهداء السوء) .
(3) الفائق 1 : 31 .
(4) الفائق : (الثمر) .
(5) الفائق 1 : 164 .
(6) النهاية لابن الاثير 4 : 145 .
(7) سورة سبأ 52 .
(8) الفائق 2 : 445 .
(*)(12/137)
قال : رواه زر بن حبيش قال قدمت المدينة فخرجت في يوم عيد فإذا رجل متلبب أعسر أيسر يمشى مع الناس كأنه راكب وهو يقول كذا وكذا ، فإذا هو عمر يقول : هاجروا وأخلصوا الهجرة ولا تهجروا .
ولا تشبهوا بالمهاجرين على غير صحة منكم كقولك : تحلم الرجل ، وليس بحليم وتشجع وليس بشجاع .
والذكاة : الذبح والاسل أعم من الرماح وأكثر ما يستعمل في الرماح خاصة .
والمتلبب المتحزم بثيابه .
وفلان أعسر يسر : يعمل بكلتا يديه والذى جاء في الرواية (أيسر) بالهمزة .
وفى حديثه أنه أفطر في رمضان وهو يرى أن الشمس قد غربت ثم نظر فإذا الشمس طالعة فقال : (لا نقضيه ، ما تجانفنا فيه الاثم) (1) .
يقول لم نتعمد فيه الاثم ولا ملنا إليه والجنف : الميل .
وفى حديثه : أنه قال لما مات عثمان بن مظعون على فراشه (هبنه الموت عندي منزلة حين (2) لم يمت شهيدا فلما مات رسول الله صلى الله عليه وآله على فراشه وأبو بكر علمت أن موت الاخيار على فرشهم (3) .
هبته أي طأطأه وحط من قدره .
وفى حديثه أن رجلا من الجن لقيه فقال : هل لك أن تصارعني فإن صرعتني
__________
(1) الفائق 1 : 218 .
(2) اللسان : (حيث لم يمت شهيدا) .
(3) الفائق : 3 : 189 .
(*)(12/138)
علمتك آية إذا قرأتها حين تدخل بيتك لم يدخله شيطان فصارعه فصرعه عمر ، وقال له إنى أراك ضئيلا شخيتا كان ذراعيك ذراعا كلب أفهكذا أنتم كلكم أيها الجن أم أنت من بينهم ؟ فقال : إنى من بينهم لضليع فعاودني فصارعه فصرعه الانسى فقال : أتقرا آية الكرسي ؟ فانه لا يقرؤها أحد إذا دخل بيته إلا خرج الشيطان منه وله خبج كخبج الحمار (1) .
قال : رواه عبد الله بن مسعود وقال : خرج رجل من الانس ، فلقيه رجل من الجن ...
ثم ذكر الحديث ، فقيل له هو عمر فقال : ومن عسى أن يكون إلا عمر ! الشخيت النحيف الجسم ومثله الشخت .
والضليع العظيم (2) الخلق .
والخبج الضراط .
وفى حديثه أنه كان يطوف بالبيت وهو يقول : (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفى الاخرة حسنة وقنا عذاب النار) (3) ماله هجيرى غيرها (4) .
قال : هجيرى الرجل دأبه وديدنه وشأنه (5) .
ومثلها من قول عمر : لو أطيق الاذان مع الخليقى لاذنت .
ومثلها من قول عمر بن عبد العزيز لا رديدى في الصدقة (6) أي لاترد .
ومثلها قول العرب : كانت بينهم رميا أي مراماة ثم حجزت بينهم حجيزي أي محاجزه .
__________
(1) الفائق 2 : 48 ، 49 .
(2) في الفائق : (والضليع : المجفر الجنين الوافر الاضلاع ، وقد ضلع ضلاعة .
(3) سورة البقرة 201 .
(4) الفائق 3 : 195 .
(5) 3 : 194 (6) الفائق 1 : 475 .
(*)(12/139)
وفى حديثه حين قال للرجل الذى وجد منبوذا فأتاه به فقال : عسى الغوير أبؤسا (1) قال عريفه : يا أمير المؤمنين إنه وإنه ...
(2) فأثنى عليه خيرا ، وقال فهو حر ولاؤه لك (3) .
الا بؤس جمع بأس (4) والمثل قديم مشهور ومراد عمر : لعلك أنت صاحب هذا المنبوذ ! كأنه اتهمه وساء ظنه فيه فلما أثنى عليه عريفه - أي كفيله - قال له هذا المنبوذ حر وولاؤه لك لانه بانقاذه إياه من الهلكة كأنه أعتقه .
وفي حديثه إن قريشا تريد أن تكون مغويات لمال الله (5) .
هكذا يروى بالتخفيف والكسر ، والمعروف (مغويات) بتشديد الياء وفتحها واحدتها مغواة هي حفرة كالزبية تحفر للذئب ويجعل فيها جدى فإذا نظر إليها الذئب سقط يريده فيصاد ولهذا قيل : لكل مهلكة مغواة .
وفى حديثه (فرقوا عن المنية واجعلوا الرأس رأسين ولا تلثوا بدار معجزة وأصلحوا مثاويكم وأخيفوا الهوام قبل أن تخيفكم واخشوشنوا واخشوشبوا وتمعددوا (6)) .
__________
(1) الفائق : (الغوير ماء الكلب ، وهذا مثل ، أول من تكلم به الزباء الملكة حين رأت الابل عليها الصناديق ، فاستنكرت شأن قصير إذ أخذ على غير الطريق ، أرادت : عسى أن يأتي ذلك الطريق بشر ، ومراد عمر رضي الله عنه اتهام الرجل بأن يكون صاحب المنيود ، حتى أثنى عليه عريفه خيرا) .
(2) قال في الفائق : (إنه إنه ، أراد أنه أمين عفيف ، وما أشبه ذلك فحذف (3) الفائق 2 : 239 (4) الفائق : (انتصابه بعسى على أنه خبره على ما عليه أصل القياس) .
(5) الفائق 2 : 240 (6) الفائق 2 : 265 .
(*)(12/140)
قال (فرقوا عن المنية واجعلوا الرأس رأسين أي إذا أراد أحدكم أن يشترى شيئا من الحيوان كمملوك أو دابة فلا يغالين به فانه لا يدرى ما يحدث فيه ولكن ليجعل ثمنه في رأسين وإن كان كل واحد منهما دون الاول فان مات أحدهما بقى الاخر .
وقوله (ولا تلثوا بدار معجزة) فالالثاث الاقامه أي لا تقيموا ببلد يعجزكم فيه الرزق ولكن اضطربوا في البلاد للكسب .
وهذا شبيه بحديثه الاخر (إذا اتجر أحدكم في شئ ثلاث مرات فلم يرزق منه فليدعه) .
والمثاوى : المنازل جمع مثوى .
وأخيفوا الهوام أي اقتلوا ما يظهر في دوركم من الحيات والعقارب لتخافكم فلا تظهر .
واخشوشنوا أمر بالخشونة في العيش ومثله (اخشوشبوا) بالباء أراد ابتذال النفس في العمل والاحتفاء في المشى ليغلظ الجلد ويجسو .
وتمعددوا قيل إنه من الغلظ أيضا يقال للغلام إذا أنبت وغلظ قد تمعدد .
وقيل أراد تشبهوا بمعد بن عدنان وكانوا أهل قشف وغلظ في المعاش أي دعوا التنعم وزى العجم .
وقد جاء عنه في حديث آخر مثله (عليكم باللبسة المعدية) .
وفى حديثه : أنه كتب إلى خالد بن الوليد (أنه بلغني أنك دخلت حماما بالشام وأن من بها من الاعاجم أعدوا لكم دلوكا عجن بخمر وإنى أظنكم آل المغيرة ذرو النار (1)) .
__________
(1) الفائق 1 : 407 .
(*)(12/141)
الدلوك ما يتدلك به كالسحور والفطور ونحوهما .
وذرو النار خلق النار ويروى (ذرء النار) بالهمزة من ذرأ الله الناس أي صورهم وأوجدهم .
وفي حديثه (املكوا العجين فانه أحد الريعين) (1) .
ملكت العجين : أجدت عجنه .
والريع الزيادة والريع الثاني ما يزيد عند خبزه في التنور وفى حديثه حين طعن فدخل عليه ابن عباس فرآه مغتما بمن يستخلف بعده فذكر عثمان فقال كلف بأقاربه (2) قال : فعلى ؟ قال : فيه دعابة قال فطلحة ؟ قال : لو لا بأو فيه قال فالزبير ؟ قال : وعقه لقس (4) قال فعبد الرحمن ؟ قال : أوه ! ذكرت رجلا صالحا ولكنه ضعيف وهذا الامر لا يصلح له إلا اللين من غير ضعف والقوى من غير عنف (5) قال : فسعد (6) قال : ذاك يكون في مقنب من مقانبكم (7) .
قوله (كلف بأقاربه) أي شديد الحب لهم .
والدعابة المزاح .
__________
(1) الفائق 1 : 518 .
(2) الفائق : (وروى أخشى حقده وأثرته) .
(3) الفائق : الفائق : وروي أنه قال : (الاكنع قلما إن فيه بأو أو نخوة) .
(4) الفائق : (وروى ضرس ضبيس أو قال : ضميس) .
(5) الفائق : وروى لا يصلح أن يلي هذا الامر إلا حصيف العقدة ، قليل الغرة ، الشديد في غير عنف ، اللين في غير ضعف ، الجواد في غير سرف ، البخيل في غير وكف) .
(6) ابن أبي وقاص .
(7) الفائق 4 : 425 ، 426 .
(6) ابن أبي وقاص .
(7) الفائق 4 : 425 ، 426 .
(*)(12/142)
والبأو الكبر والعظمة .
وقوله (وعقة لقس) ويروى (ضبيس) ومعناه كله الشراسة وشد الخلق وخبث النفس والمقنب جماعة من الفرسان .
وفى حديثه : أنه قال عام الرمادة : لقد هممت أن أجعل مع كل أهل بيت من المسلمين مثلهم فان الانسان لا يهلك على نصف شبعه فقال له رجل : لو فعلت يا أمير المؤمنين ما كنت فيها ابن ثأداء .
قال : يريد أن الانسان إذا اقتصر على نصف شبعه ، لم يهلك جوعا وابن ثأداء (1) بفتح الهمزة ابن الامة (2) .
وفى حديثه أنه قرأ في صلاة الفجر بالناس سورة يوسف فلما انتهى إلى قوله تعالى : (إنما أشكو بثى وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون) (3) بكى حتى سمع نشيجه (4) .
النشيج صوت البكاء يردده الصبى في صدره ولا يخرجه .
وفى حديثه أنه أتى في نساء - أو إماء - ساعيات (5) في الجاهلية فأمر بأولادهن أن يقوموا على آبائهم فلا يسترقوا (6) .
__________
(1) في الفائق سكون الهمزة ، وقال : الثأداة : الامة ، سميت بذلك لفسادها لوما ومهانة ، من قولهم ثئد المبرك على البعير ، إذا انتل وفسد حتى لم يسقر عليه .
(2) الفائق 1 : 141 ، وفيه رواية أخرى : (إن رجلا قال له عام الرمادة : لقد انكشت وما كنت فيها ابن ثأداء ، فقال : ذلك لو أنفقت عليهم من مال الخطاب) .
(3) سورة يوسف : 86 .
(4) النهاية لابن الاثير 4 : 143 .
(5) الفائق : (ساعين) .
(6) الفائق 1 : 595 .
(*)(12/143)
المساعاه زنا الاماء خاصة (1) قضى عمر في أولادهن في الجاهلية أن يسومن على آبائهم بدفع الاباء قيمتهم إلى سادات الاماء ويصير الاولاد أحرارا لاحقى النسب بابائهم .
وفي حديثه (ليس على عربي ملك ولسنا بنازعين من يد رجل شيئا أسلم عليهم ولكنا نقومهم الملة خمسا من الابل) (2) .
قال كانت العرب تسبى بعضها بعضا في الجاهلية فيأتى الاسلام والمسبي في يد الانسان كالمملوك له فقضى عمر في مثل هذا أن يرد حرا إلى نسبه وتكون قيمته على نفسه يؤديها إلى الذى سباه لانه أسلم وهو في يده وقيمته كائنا ما كان خمس من الابل (3) .
قوله (والملة) أي تقوم ملة الانسان وشرعها .
وفى حديثه لما ادعى الاشعث بن قيس رقاب أهل نجران لانه كان سباهم في الجاهلية واستعبدهم تغلبا فصاروا كمماليكه فلما أسلموا أبوا عليه فخاصموه عند عمر في رقابهم فقالوا : يا أمير المؤمنين إنما كنا له عبيد مملكه ولم نكن عبيد قن فتغيظ عمر عليه وقال : (أردت أن تتغفلنى !) (4) .
يعنى أردت غفلتي .
__________
(1) الفائق : (ساعاها فلان ، إذا فجر بها ، وهو من السعي ، كأن كل واحد منها يسعى لصاحبه) .
(2) النهاية : 4 : 19 (3) في النهاية عن الازهري : (كان أهل الجاهلية يطئون الاماء ويلدن لهم ، فكانوا ينسبون إلي آبائهم ، وهم عرب ، فرأى عمر أن يردهم على آبائهم ، فيعتقون ، ويأخذ من آبائهم لمواليهم عن كل واحد خمسا من الابل) .
(4) الفائق 2 : 380 ، وقال : (وروى أن تعنتني) ، والتعنت طلب العنت .
(*)(12/144)
وعبد قن ملك وملك أبواه وعبد مملكة بفتح اللام وضمها من غلب عليه واستعبد وكان في الاصل حرا فقضى عمر فيهم أن صيرهم أحرارا بلا عوض لانه ليس بسباء على (1) الحقيقة .
وفى حديثه أنه قضى في ولد المغرور بغرة (2) .
قال : هو الرجل يزوج رجلا آخر مملوكة لانسان آخر على أنها حرة فقضى عمر أن يغرم الزوج لمولى الامة غرة أي عبدا أو أمة ويكون ولده حرا ثم يرجع الرجل الزوج على من غره بما غرم .
وفى حديثه أنه رأى جارية متكمكمة فسأل عنها فقالوا : أمة آل فلان فضربها بالدرة ضربات وقال يا لكعاء أتشبهين بالحرائر (3) .
قال متكمكمة لابسة قناع أصله من الكمة وهى كالقنسوة والاصل مكممة فأعاد الكاف كما قالوا : كفكف فلان عن كذا وتصرصر الباب .
ولكعاء ولكاع بالكسر والبناء شتم للامة وللرجل يقال يالكع .
وفى حديثه (ورع اللص ولا تراعه) .
يقول ادفعه إذا رأيته في منزلك واكففه بما استطعت ولا تنتظر فيه شيئا وكل
__________
(1) ا : (في الحقيقة) .
(2) النهاية لابن الاثير 3 : 156 (3) الفائق 2 : 429 (4) نهاية ابن الاثير 4 : 205 (*)(12/145)
شئ كففته فقد ورعته وكل ما تنتظره فأنت تراعيه والمعنى أنه رخص في الاقدام على اللص بالسلاح ونهى أن يمسك عنه نائما .
وفى حديثه أن رجلا أتاه ، فقال : إن ابن عمى شج موضحة فقال أمن أهل القرى أم من أهل البادية ؟ قال من أهل البادية فقال عمر إنا لا نتعاقل المضغ بيننا (1) .
قال سماها مضغا استصغارا لها ولامثالها كالسن والاصبع .
قال ومثل ذلك لاتحمله العاقلة عند كثير من الفقهاء وكذلك كل ما كان دون الثلث .
وفي حديثه أنه لما حصب المسجد قال له فلان لم فعلت ؟ قال : هو أغفر للنخامة وألين في الموطئ (2) .
أغفر لها : استر لها .
وحصب المسجد فرشه بالحصباء وهى رمل فيه حصى صغار .
وفي حديثه أن الحارث بن أوس سأله عن المرأة تطوف بالبيت ثم تنفر من غير أن تطوف طواف الصدر إذا كانت حائضا فنهاه عمر عن ذلك فقال الحارث كذلك أفتانى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال عمر : أربت يداك ! أتسألني وقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم كى أخالفه (3) ! قال دعا عليه بقطع اليدين من قولك قطعت الشاة إربا إربا (4) .
__________
(1) الفائق 3 : 168 ، ومضغ الامور - كسكر - صغارها .
(2) 1 : 265 .
(3) الفائق 1 : 23 .
(4) الارب : العضو .
(*)(12/146)
وفى حديثه أنه سمع رجلا يتعوذ من الفتن فقال عمر : اللهم إنى أعوذ بك من الضفاطه أتسأل ربك ألا يرزقك مالا وولدا (1) ! .
قال أراد قوله تعالى (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) (2) والضفاطة الحمق وضعف العقل رجل ضفيط أي أحمق .
وفى حديثه (ما بال رجال لا يزال أحدهم كاسرا وسادة عند امرأة مغزية يتحدث إليها وتتحد ث إليه ! عليكم بالجنبة فانها عفاف إنما النساء لجم على وضم إلا ما ذب عنه (3) .
قال : مغزية قد غزا زوجها فهو غائب عنها أغزت المرأة إذا كان بعلها غازيا وكذلك أغابت فهى مغيبة .
وعليكم بالجنبة أي الناحية يقول تنحوا عنهن وكلموهن من خارج المنزل والوضم : الخشبة أو البارية يجعل عليها اللحم .
قال : وهذا مثل حديثه الاخر (ألا لا يدخلن رجل على إمرأة وإن قيل حموها ألا حموها الموت) (4) .
قال دعا عليها فإذا كان هذا رأيه في أبى الزوج وهو محرم لها فكيف بالغريب ! وفى حديثه (إن بيعة أبى بكر كانت فلتة وقى الله شرها فلا بيعة الا عن مشورة وأيما رجل بايع رجلا عن غير مشورة فلا يؤمر واحد منهما تغره أن يقتلا (5) .
قال : التغرة التغرير غررت بالقوم تغريرا وتغره كقولك : حللت اليمين تحليلا
__________
(1) النهاية 3 : 22 (2) سورة التغابن : 15 .
(3) الفائق 2 : 411 (4) الفائق : 1 : 195 (5) الفائق 2 : 297 .
(*)(12/147)
وتحله ومثله في المضاعف كثير أي أن في ذلك تغريرا بأنفسهما وتعريضا لهما أن يقتلا .
وفى حديثه (إن العبد إذا تواضع لله رفع الله حكمته وقال انتعش نعشك الله وإذا تكبر وعدا طوره وهصه الله إلى الارض) (1) .
قال وهصه أي كسره وعدا طوره أي قدره .
وفى حديثه (حجوا بالذرية لا تأكلوا أرزاقها وتذروا أرباقها في أعناقها) (2) .
قال أراد بالذرية هنا النساء ولم يرد الصبيان لانه لا حج عليهم .
والارباق جمع ربق وهو الحبل .
وفى حديثه أنه وقف بين الحرتين - وهما داران لفلان - فقال : (شوى (3) أخوك حتى إذا أنضج رمد) (4) .
هذا مثل يضرب للرجل يصنع معروفا ثم يفسده .
وفي حديثه (السائبة والصدقة ليومها) (5) .
قال السائبة المعتق .
__________
(1) الفائق 1 : 279 ، وقال : (الحكمة من الانسان : أسفل وجهه ، ورفع الحكمة ، كناية عن الاعزاز ، لان من صفة الذليل أن ينكس ويضرب بذقنه وصدره .
وقيل : الحكمة : القدر والمنزلة من قولهم : لا يقدر على هذا من هو أعظم حكمة منك) .
(2) الفائق 1 : 428 .
(3) في الاصول : (ثوى) ، وما أثبته من الفائق ، وشوى ، أي ألقى الشواء في النار ، قال الزمخشري : (وهذا مثل ، نحوه قولهم : (المنة تهدم الصنيعة) .
(4) رمد : ألقاه في الرماد ، والخبر في الفائق 1 : 507 (5) الفائق 1 : 630 (*)(12/148)
وليومهما ليوم القيامة الذى فعل ما فعله لاجله .
وفى حديثه (لا تشتروا رقيق أهل الذمة فانهم أهل خراج يؤدى بعضهم عن بعض وأرضهم فلا تتنازعوها ، ولا يقرن أحدكم بالصغار بعد إذ نجاه الله) .
قال : كره أن يشترى أرضهم المسلمون وعليها خراج فيصير الخراج منتقلا إلى المسلم وإنما منع من شراء رقيقهم لان جزيتهم تكثر على حسب كثرة رقيقهم فإذا ابتيع رقيقهم قلت جزيتهم وإذا أقلت جزيتهم يقل بيت المال .
وفى حديثه في قنوت الفجر (وإليك نسعى ونحفد ، نرجو رحمتك ، ونخشى عذابك إن عذابك بالكفار ملحق) (1) .
قال : حفد العبد مولاه يحفد أي خدم ، ومنه قوله تعالى (بنين وحفدة) (2) أي خدما وملحق اسم فاعل بمعنى لاحق من الحق وهو لغة في لحق يقال : لحقت زيدا وألحقته بمعنى .
وفى حديثه (لا تشتروا الذهب بالفضة إلا يدا بيد هاء وهاء إنى أخاف عليكم الرماء) (3) .
قال الرماء الزيادة وهو بمعنى الربا يقال أرميت على الخمسين أي زدت عليها .
__________
(1) النهاية 1 : 239 (2) سورة النحل 72 .
(3) النهاية 2 : 107 هاء وهاء : صوت بعنى خذ .
(*)(12/149)
وفى حديثه من لبد أو عقص أو ضفر فعليه الحلق) (1) .
قال التلبيد أن تجعل في رأسك شيئا من صمغ أو عسل يمنع من أن يقمل .
والعقص والضفر فتل الشعر ونسجه وفي حديثه ما تصعدتنى خطبة (2) كما تصعدتنى خطبة النكاح (3) .
قال : معناه ما شق على وأصله من الصعود وهى العقبة المنكرة قال تعالى : (سأرهقه صعودا) (4) .
وفى حديثه أنه قال لمالك بن أوس (يا مالك إنه قد دفت علينا من قومك دافة وقد أمرنا لهم برضخ فاقسمه فيهم) (5) .
قال : الدافة جماعة تسير سيرا ليس بالشديد .
وفى حديثه أنه سأل جيشا فقال (هل ثبت لكم العدو قدر حلب شاة بكيئة (6) ؟) .
قال البكيئه القليلة اللبن .
وفى حديثه أنه قال في متعة الحج (قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلها وأصحابه ، ولكن كرهت أن يظلوا بهن معرسين تحت الاراك ثم يلبون بالحج تقطر رؤوسهم) (7) .
__________
(1) الفائق 2 : 446 .
(2) الفائق : (شئ) ، وفي اللسان : (ماتكاءدني شئ ماتكائدني خطبة النكاح) (3) الفائق 2 : 24 (4) سورة المدثر 17 .
(5) الفائق 1 : 402 (6) نهاية ابن الاثير 1 : 90 .
(7) الفائق 2 : 136 .
(*)(12/150)
قال : المعرس الذى يغشى امرأته قال : كره أن يحل الرجل من عمرته : ثم يأتي النساء ثم يهل بالحج .
وفى حديثه (نعم المرء صهيب لو لم يخف الله لم يعصه) .
قال : المعنى أنه لا يترك المعصية خوف العقاب بل يتركها لقبحها فلو كان لا يخاف عقوبة الله لترك المعصية .
وفى حديثه أنه أتى بسكران في شهر رمضان ، فقال : للمنخرين للمنخرين أصبياننا صيام وأنت مفطر ! .
قال معناه الدعاء عليه كقولك كبه الله للمنخرين ! وكقولهم : لليدين وللفم ! .
وفى حديثه أنه قال لما توفى رسول الله صلى الله عليه وآله قام أبو بكر فتلا هذه الايه في خطبته (إنك ميت وإنهم ميتون) (1) قال عمر فعقرت حتى وقعت إلى الارض (2) .
قال : يقال للرجل : إذا بهت وبقى متحيرا دهشا : قد عقر ومثله بعل وخرق .
وفي حديثه أنه كتب إلى أبى عبيدة وهو بالشام حين وقع بها الطاعون (إن الاردن أرض غمقه وإن الجابية أرض نزهة فأظهر بمن معك من المسلمين إلى الجابية) (3) .
__________
(1) سورة الزمر 30 (2) النهاية 3 : 114 (3) الفائق 2 : 236 (*)(12/151)
قال الغمقة الكثيرة الانداء والوباء والنزهة البعيدة من ذلك .
وفى حديثه أنه قال لبعضهم في كلام كلمه به (بل تحوسك فتنة) (1) .
قال معناه تخالطك وتحثك على ركوبها قال : وتحوس مثل : تجوس بالجيم ، قال تعالى (فجاسوا خلال الديار) (2) .
وفى حديثه حين ذكر الجراد فقال : (وددت أن عندنا منه قفعة أو قفعتين) (3) .
قال القفعة شئ شبيه بالزنبيل ليس بالكبير يعمل من خوص ليس له عرى وهو الذى يسمى القفة .
في حديثه إن أذينة العبدى أتاه يسأله فقال : إنى حججت من رأس هزا وخازك أو بعض هذه المزالف فمن أين أعتمر ؟ فقال : ائت عليا فاسأله فسألته فقال من حيث ابتدأت (4) .
قال رأس هزا وخازك موضعان من ساحل فارس والمزالف كل قرية تكون بين البر وبلاد الريف وهى المزارع أيضا كالانبار وعين التمر والحيرة .
وفى حديثه أنه نهى عن المكايلة (5) .
قال معناه مكافأة الفعل القبيح بمثله ! .
__________
(1) النهاية 1 : 170 .
(2) سورة الاسراء 5 .
(3) النهاية لابن الاثير 1 : 268 .
(4) الفائق 1 : 443 .
(5) النهاية لابن الاثير 4 : 42 .
(*)(12/152)
وفى حديثه (ليس الفقير الذى لا مال له إنما الفقير الاخلق الكسب) (1) .
قال أراد الرجل الذى لا يرزأ في ماله ولا يصاب بالمصائب وأصله أن يقال للجبل المصمت الذى لا يؤثر فيه شئ : أخلق وصخرة خلقاء إذا كانت كذلك فأراد عمر أن الفقر الاكبر إنما هو فقر الاخرة لمن لم يقدم من ماله لنفسه شيئا يثاب عليه هناك وهذا نحو قول النبي صلى الله عليه وآله (ليس الرقوب (2) الذى لا يبقى له ولد إنما الرقوب الذى لم يقدم من ولده أحدا) .
فهذا ما لخصته من غريب كلام عمر من كتاب أبى عبيد .
فأما ما ذكره ابن قتيبه من غريب حديثه في كتابه فأنا ألخص منه ما أنا ذاكره .
قال ابن قتيبه فمن غريب حديث عمر أنه خطب فقال إن أخوف ما أخاف عليكم أن يؤخذ الرجل المسلم البرئ عند الله فيدسر كما يدسر الجزور ويشاط لحمه كما يشاط لحم الجزور يقال عاص وليس بعاص فقال على عليه السلام فكيف ذاك ولما تشتد البلية وتظهر الحمية وتسبى الذرية وتدقهم الفتن دق الرحى بثفالها (3) ! .
قال ابن قتيبه يدسر أي يدفع ومنه حديث ابن عباس ليس في العنبر زكاة إنما هو شئ يدسره البحر (4) .
ويشاط لحمه أي يقطع ويبضع والاصل في الاشاطة الاحراق فاستعير ، وفى الحديث (إن زيد بن حارثه قاتل يوم مؤته حتى شاط في رماح القوم .
والثفال جلدة تبسط تحت الرحى فيقع عليها الدقيق .
__________
(1) الفائق 1 : 366 (2) نهاية ابن الاثير 2 : 95 .
(3) الفائق 1 : 397 .
(4) الفائق 1 : 397 وفيه : (سره البحر) (*)(12/153)
وفى حديث عمر (القسامة (1) توجب العقل ولا تشيط الدم (2) .
قال ابن قتيبة العقل الدية يقول إذا حلفت فانما تجب الدية لا القود وقد روى عن ابن الزبير وعمر بن عبد العزيز أنهما أقادا بالقسامة .
وفى حديثه (لا تفطروا حتى تروا الليل يغسق على الظراب) (3) .
قال يغسق أي يظلم .
والظراب جمع ظرب وهو ما كان دون الجبل وإنما خص الظراب بالذكر لقصرها أراد أن ظلمة الليل تقرب من الارض .
وفي حديثه أن رجلا كسر منه عظم فأتى عمر يطلب القود فأبى أن يقتص له فقال الرجل فكاسر عظمي إذن كالارقم إن يقتل ينقم وإن يترك يلقم فقال عمر (هو كالارقم) (4) .
قال : كانت الجاهلية تزعم أن الجن يتصور بعضهم في صورة الحيات وأن من قتل حية منها طلبت الحية بالثأر فربما مات أو أصابه خبل فهذا معنى قوله (إن يقتل ينقم) ومعنى (يلقم) يقول إن تركته أكلك وهذا مثل يضرب للرجل يجتمع عليه أمران من الشر لا يدرى كيف يصنع فيهما ونحوه قولهم هو كالاشقر إن تقدم عقر وإن تأخر نحر .
__________
(1) ان الفائق : (القسامة مخرجة على بناء الغرامة والحمالة لما يلزم أهل المحلة إذا وجد قتيل فيها لا يعلم قاتله من الحكومة بأن يقسم خمسون رجلا منهم ، ليس فيهم صبي ولا مجنون ولا أمرأة ولا عبد ، يتخيرهم الوالي وقسمهم أن يقولوا : بالله ما قتلنا ولاعلمنا له قاتلا ، فإذا أقسموا قضى على أهل المحلة بالدية ، وإن لم يكملوا خمسين كررت عليهم الايمان حتى تبلغ خمسين يمينا) .
(2) الفائق 2 : 345 (3) الفائق 2 : 226 .
(4) النهاية 4 : 64 ، 173 .
(*)(12/154)
قال وإنما لم يقده لانه يخاف من القصاص في العظم الموت ولكن فيه الدية .
وفى حديثه أنه أتى مسجد قباء فرأى فيه شيئا من غبار وعنكبوت فقال لرجل (ائتنى بجريدة واتق العواهن) قال فجئته بها فربط كميه بوذمة ثم أخذ الجريدة فجعل يتتبع بها الغبار (1) .
قال الجريدة السعفة وجمعها جريد .
والعواهن السعفات التى يلين القلبة والقلبة جمع قلب وأهل نجد يسمون العواهن الحوانى وإنما نهاه عنها إشفاقا على القلب أن يضر به قطعها .
والوذمة سير من سيور الدلو يكون بين آذان الدلو والعراقي .
وفي حديثه (ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم ولا تجمروهم فتفتنوهم) (2) .
قال التجمير ترك الجيش في مغازيهم لا يقفلون .
وفي حديثه إنه أتى بمروط فقسمها بين نساء المسلمين ورفع مرطا بقى إلى أم سليط الانصارية وقال إنها كانت تزفر القرب يوم أحد تسقى المسلمين) .
قال تزفرها تحملها ومنه زفر اسم رجل كان يحمل الاثقال .
__________
(1) الفائق 1 : 185 .
(2) نهاية ابن الاثير 2 : 127 .
(*)(12/155)
وفى حديثه أنه قال (أعطوا من الصدقة من أبقت له السنة غنما ولا تعطوا من ابقت له السنة غنمين) (1) .
قال : السنة هاهنا الازمنة ومنه قوله تعالى (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين) (2) .
قال وكان عمر لا يجيز نكاحا في عام سنة يقول (لعل الضيعة تحملهم على أن ينكحوا غير الاكفاء) وكان أيضا لا يقطع سارقا في عام سنة .
وقوله (غنما) أي قطعة من الغنم يقال لفلان غنمان أي قطعتان من الغنم وأراد عمر أن من له قطعتان غنى لا يعطى من الصدقة شيئا لانها لم تكن قطعتين إلا لكثرتها .
وفي حديثه أنه انكفأ لونه في عام الرمادة حين قال (لا آكل سمنا ولا سمينا وأنه اتخذ أيام كان يطعم الناس قدحا فيه فرض فكان يطوف على القصاع فيغمز القدح فان لم تبلغ الثريدة الفرض قال : فانظر ماذا يفعل (3) بصاحب الطعام (4) .
قال انكفأ تغير عن حاله وأصله الانقلاب ، من كفأت الاناء .
وسمى عام الرمادة من قولهم أرمد الناس إذا جهدو والرمد : الهلاك .
والقدح : السهم والفرض : الحز جعل عمر هذا الحز علامة لعمق الثريد في الصفحة
__________
(1) الفائق 1 : 617 .
(2) سورة الاعراف 130 .
(3) الفائق : (بالذي ولي الطعام) (4) الفائق 2 : 417 ، 418 .
(*)(12/156)
وفى حديثه : أن عطاء بن يسار ، قال قلت للوليد : بن عبد الملك روى لى أن عمر بن الخطاب قال : وددت أنى سلمت من الخلافة كفافا لا على ولا لى فقال : كذبت (1) ! الخليفة يقول هذا فقلت : أو كذبت ؟ فأفلت منه بجريعة الذقن (2) .
قال يقال خلص من خصمه كفافا أي كف كل واحد منهما على صاحبه ، فلم ينل أحدهما من الاخر شيئا (3) .
وأفلت فلان بجريعة ذقن أي أن نفسه قد صارت في فيه وجريعة تصغير جرعة .
قلت وإنما استعظم الوليد ذلك لان بنى أمية كانو يرون أن من ولى الخلافة فقد وجبت له الجنة ، ولهذا خطب هشام يوم ولى فقال : الحمد لله الذى أنقذني من النار بهذا المقام وفى حديثه أن سماك بن حرب قال رأيت عمر فرأيت رجلا أروح كأنه راكب والناس يمشون كأنه من رجال بنى سدوس (4) .
قال الا روح الذى تتدانى عقباه وتتباعد صدور قدميه يقال أروح بين الروح والا فحج الذى تتدانى صدور قدميه وتتباعد عقباه وتتفحج ساقاه والاوكع الذى يميل إبهام رجله على أصابعه حتى يزول فيرى شخص أصلها خارجا وهو الوكع ومنه أمة وكعاء وبنو سدوس : فخذ من بنى شيبان والطول أغلب عليهم .
__________
(1) الاصول : (كذب) ، وصوابه ما في الفائق .
(2) الفائق 2 : 421 (3) فسره صاحب الفائق ، وقال : (أي رأسا برأس لا أرزأ منك ولا ترزأ مني وحقيقته ، أكف عنك وتكف عني) .
(4) النهاية لابن الاثير 2 : 110 .
(*)(12/157)
وفى حديثه عن ابن عباس قال : دعاني فإذا حصير بين يديه عليه الذهب منثور نثر الحثا فأمرني بقسمه (1) .
قال الحثا التبن (2) مقصور ، قال الراجز يهجو رجلا ويأكل التمر ولا يلقى النوى ولا يوارى فرجه إذا اصطلى * كأنه غرارة ملاى حثا * وفى حديثه أنه قال : (النساء ثلاث فهينة لينة عفيفة مسلمة تعين أهلها على العيش ولا تعين الغيش على أهلها وأخرى وعاء للولد وأخرى غل قمل يضعه الله في عنق من يشاء ويفكه عمن يشاء والرجال ثلاثة رجل ذو رأى وعقل ورجل إذا حزبه أمر أتى ذا رأى فاستشاره ورجل حائر بائر لا يأتمر رشدا ولا يطيع مرشدا) (4) .
قال البائر الهالك ، قال تعالى (وكنتم قوما بورا) (5) والاصل في قوله (غل قمل) أنهم كانوا يغلون بالقد وعليه الشعر فيقمل على الرجال .
ولا يأمر رشدا أي لا يأتي برشد من ذات نفسه يقال لمن فعل الشئ من غير مشاورة قد ائتمر وبئس ما ائتمرت لنفسك قال النمر بن تولب واعلمن أن كل مؤتمر مخطئ في الرأى أحيانا .
وفى حديثه أنه خرج ليلة في شهر رمضان والناس أوزاع فقال (إنى لاظن لو جمعناهم على قارئ واحد كان أفضل) فأمر أبى بن كعب فأمهم ثم خرج ليلة وهم
__________
__________
(1) النهاية 1 : 201 .
(2) النهاية : (دقاق التبن) .
(3) اللسان 18 : 179 ، وذكر قبلة : تسألني عن زوجها أي فتى خب جروز وإذا جاع بكى (4) الفائق 3 : 224 (5) سورة الفتح 12 .
(*)(12/158)
يصلون بصلاته فقال (نعم البدعة هذه ! والتى ينامون عنها أفضل من التى يقومون) (1) .
قال الاوزاع الفرق يريد أنهم كانوا يصلون فرادى (2) يقال وزعت المال بينهم أي فرقته .
وقوله (والتى ينامون عنها أفضل) يريد صلاة آخر الليل فانها خير من صلاة أوله .
وفي حديثه أن أصحاب محمد صلى الله عليه وآله تذاكروا الوتر فقال أبو بكر أما أنا فأبدا بالوتر وقال عمر لكنى أوتر حين ينام الضفطى (3) .
قال هو جمع ضفيط وهو الرجل الجاهل الضعيف الرأى .
ومنه ما روى عن ابن عباس أنه قال لو لم يطلب الناس بدم عثمان لرموا بالحجارة من السماء فقيل أتقول هذا وأنت عامل لفلان ؟ فقال : إن في ضفطات ، وهذه إحدى ضفطاتى (4) .
وفى حديثه أنه قال في وصيته (إن توفيت وفى يدى صرمة ابن الاكوع فسنتها سنة ثمغ (5) .
__________
(1) الفائق 3 : 159 ، 160 .
(2) في الفائق : (يريد أنهم كانوا يتنفلون بعد صلاة العشاء فرقا ، قال المسيب بن علس : أحللت بيتك بالجميع وبعضهم متفرق ليحل في الاوزاع (3) الفائق 3 : 67 (4) الفائق 3 : 67 .
(5) الفائق 2 : 21 .
(*)(12/159)
قال الصرمة هاهنا : قطعة من النخل ويقال للقطعة الخفيفة من الابل صرمة و يقال لصاحبها مصرم ولعله قيل للمقل مصرم من هذا .
وثمغ : مال كان لعمر ووقفه .
وفى حديثه : أنه لما قدم الشام تفحل له أمراء الشام (1) قال : أي اخشوشنوا له في الزى واللباس والمطعم تشبها به وأصله من الفحل لان التصنع في اللباس والقيام على النفس إنما هو عندهم للاناث لا للفحول .
وفى حديثه أنه قدم مكه فسأل من يعلم موضع المقام - وكان السيل احتمله من مكانه - فقال المطلب بن أبى وداعة السهمى يا أمير المؤمنين قد كنت قدرته وذرعته بمقاط عندي (2) .
قال المقاط الحبل وجمعه مقط .
وفى حديثه أنه قال للذى قتل الظبى وهو محرم (خذ شاة من الغنم فتصدق بلحمها وأسق إهابها) (3) .
قال الاهاب الجلد .
وأسقه أي اجعله سقاء لغيرك كما تقول أسقني عسلا أي اجعله لى سقاء وأقد بى خيلا أي أعطني خيلا أقودها وأسقنى إبلا أعطني إبلا أسوقها .
__________
(1) الفائق 2 : 250 (2) الفائق 3 : 41 .
(3) النهاية 2 : 170 .
(*)(12/160)
وقالت بنو تميم للحجاج أقبرنا صالحا يعنون صالح بن عبد الرحمن وكان قتله وصلبه فسألوه أن يمكنهم من دفنه .
وفى حديثه أنه ذكر عنده التمر والزبيب أيهما أفضل ؟ ويروى أنه قال لرجل من أهل الطائف : الحبلة أفضل أم النخلة ؟ فأرسل إلى أبى حثمة الانصاري فقال إن هؤلاء اختلفوا في التمر والزبيب أيهما أفضل .
وفى رواية أخرى وجاء أبو عمرة عبد الرحمن بن محصن الانصاري فقال أبو حثمة ليس الصقر في رؤوس الرقل الراسخات في الوحل المطعمات في المحل تعله الصبى وقرى الضيف وبه يحترش الضب في الارض الصلعاء كزبيب إن أكلته ضرست وإن تركته غرثت .
وفى الرواية الاخرى فقال أبو عمرة الزبيب إن آكله أضرس وإن أتركه أغرث ليس كالصقر في رؤوس الرقل الراسخات في الوحل والمطعمات في المحل خرفة الصائم وتحفة الكبير وصمتة الصغير وخرسة مريم ويحترش به الضباب من الصلعاء (1) .
قال الحبلة بفتح الحاء وتسكين الباء الاصل من الكرم وفى الحديث إن نوحا لما خرج من السفينة غرس الحبلة وكانت لانس بن مالك حبلة تحمل كذا وكان يسميها أم العيال فأما الحبلة بالضم فثمر العضاه .
ومنه الحديث كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وآله وما لنا طعام الا الحبلة وورق السمر والحبلة بالضم أيضا ضرب من الحلى يجعل في القلائد شبه بورق العضاه لانه يصاغ على صورته .
وأغرث أجوع والغرث الجوع .
__________
(1) الفائق 1 : 231 .
(*)(12/161)
والصقر عسل الرطب .
والرقل : جمع رقلة وهى النخلة الطويلة .
وقوله (خرفة الصائم) اسم لما يخترف أي يجتنى ونسبها إلى الصائم لانهم كانوا يحبون أن يفطروا على التمر .
وقوله (وصمته الصغير) لان الصغير كان إذا بكى عندهم سكتوه به .
وتعلة الصبى نحوه من التعليل .
وخرسة مريم الخرسة ما تطعمه النفساء عند ولادتها أشار إلى قوله تعالى (وهزى اليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا) (1) فأما الخرس بغير هاء فهو الطعام الذى يصنع لاجل الولادة كالاعذار للختان والنقيعة للقادم والوكيرة للبناء .
ويحترش به الضب أي يصطاد ، يقال إن الضب يعجب بالتمر والحارش صائد الضباب .
والصلعاء : الصحراء التى لا نبات بها كرأس الاصلع .
وفى حديثه أنه قال للسائب (ورع عنى بالدرهم والدرهمين) (2) .
قال أي كف الخصوم عنى في قدر الدرهم والدرهمين بأن تنظر في ذلك وتقضى فيه بينهم وتنوب عنى وكل من كففته فقد ورعته ومنه الورع في الدين إنما هو الكف عن المعاصي ومنه حديث عمر لا تنظروا إلى صلاة الرجل وصيامه ولكن من إذا حدث صدق وإذا ائتمن أدى وإذا أشفى ورع أي إذا أشرف على المعصية كف عنها .
__________
(1) سورة مريم : 25 .
(2) الفائق 3 : 156 (*)(12/162)
وفي حديثه أنه خطب الناس فقال (أيها الناس لينكح الرجل منكم لمته من النساء ولتنكح المرأة لمتها من الرجال) (1) قال لمة الرجل من النساء مثله في السن ومنه ما روى أن فاطمة عليه السلام خرجت في لمة من نسائها [ تتوطا ذيلها ] (2) حتى دخلت على أبى بكر (3) .
وأراد عمر بن الخطاب : لا تنكح الشابة الشيخ الكبير ولا ينكح الشاب العجوز وكان سبب هذه الخطبة أن شابة زوجها أهلها شيخا فقتلته .
وفى حديثه أن رجلا أتاه يشكو إليه النقرس فقال : كذبتك الظهائر (4) .
قال الظهائر جمع ظهيرة وهى الهاجرة ووقت زوال الشمس .
وكذبتك أي عليك بها وهى كلمة معناها الاغراء يقولون كذبك كذا أي عليك به .
ومنه الحديث المرفوع : [ الحجامه على الريق فيها شفاء وبركة ] فمن احتجم في يوم الخميس ويوم الاحد كذباك ! (5) .
أي عليك بهما وإنما أمر عمر صاحب النقرس أن يبرز للحر في الهاجرة ويمشى حافيا ويبتذل نفسه لان ذلك يذهب النقرس .
وفى حديثه أنه قال (من يدلني على نسيج وحده ؟) فقال أبو موسى : ما نعلمه غيرك ، فقال : ماهى إلا إبل موقع ظهورها .
(6) قال معنى قولهم : (نسيج وحده) أي لا عيب فيه ، ولا نظير له أصله من الثوب النفيس لا ينسج على منواله غيره .
__________
(1) الفائق 2 : 156 (2) من الفائق .
(3) الفائق 2 : 476 (4) الفائق 2 : 400 .
(5) النهاية لابن الاثير 3 : 12 والتكملة من هناك .
(6) الفائق 3 : 86 .
(*)(12/163)
والبعير الموقع الذى يكثر آثار الدبر بظهره لكثرة ما يركب وأراد عمر أنا كلنا مثل ذلك في العيب .
وفى حديثه إن الطبيب الانصاري سقاه لبنا حين طعن فخرج من الطعنة أبيض يصلد (1) .
قال أي يبرق ولم يتغير لونه وفى حديثه أن نادبة عمر قالت : واعمراه ! أقام الاود وشفى العمد فقال على عليه السلام : أما والله ما قالته ولكن قولته (2) .
والعمد ورم ودبر يكون في ظهر البعير وأراد على عليه السلام أنه كأنما ألقى هذا الكلام على لسانها لصحته وصدقه .
وفى حديثه أنه استعمل رجلا على اليمن فوفد إليه وعليه حلة مشتهرة وهو مرجل دهين فقال أهكذا بعثناك ! ثم أمر بالحلة فنزعت عنه وألبس جبة صوف ثم سأل عن ولايته فلم يذكر إلا خيرا فرده على عمله ثم وفد إليه بعد ذلك فإذا أشعث مغبر عليه أطلاس فقال ولا كل هذا إن عاملنا ليس بالشعث ولا العافى كلوا واشربوا وادهنوا إنكم لتعلمون الذى أكره من أمركم (3) ! .
قال ثياب أطلاس أي وسخة ومنه قيل للذئب أطلس .
__________
(1) الفائق 2 : 35 (2) الفائق 1 : 50 (3) الفائق 1 : 683 .
(*)(12/164)
والعافي الطويل الشعر ، يقال عفى وبر البعير إذا طال ومنه الحديث المرفوع (أمر أن تعفى اللحى وتحفى الشوارب) .
وفى حديثه أنه قال للرجل أما تراني لو شئت أمرت بشاة فتية سمينة [ أو قنية ] (1) فألقى عنها صوفها ، ثم أمرت بدقيق فنخل في خرقة فجعل منه خبز مرقق وأمرت بصاع من زبيب فجعل في سعن حتى يكون كدم الغزال (2) .
قال السعن قربه أو إداوة ينتبذ فيها وتعلق بجذع .
وفي حديثه أنه رأى رجلا يأنح ببطنه فقال ماهذا ؟ قال بركة من الله ، قال بل هو عذاب من الله يعذبك به (3) .
قال : يأنح يصوت ، وهو ما يعترى الانسان السمين من البهر إذا مشى أنح يأنح أنوحا .
وفى حديثه أنه لما دنا من الشام ولقيه الناس جعلوا يتراطنون فأشكعه ذلك وقال لاسلم مولاه إنهم لم يروا على صاحبك بزة قوم غضب الله (4) عليهم .
قال أشكعه أغضبه قال أراد أنهم لم يتحاموا عنه اللغط والكلام بالفارسية والنبطية بحضرته لانهم لم يروه بعين الامارة والسلطان كما يرون أمراءهم لانهم لم يروا عليه بزة الامراء وزيهم .
__________
(1) من الفائق ، قال : (القنية : ما أفتى من شاة أو ناقة) (2) الفائق 2 : 379 (3) النهاية 1 : 46 (4) الفائق 1 : 48 .
(*)(12/165)
وفي حديثه أن عاملا على الطائف كتب إليه : إن رجالا منهم كلمونى في خلايا لهم أسلموا عليها وسألوني أن أحميها لهم فكتب إليه عمر : (إنها ذباب غيث فإن أدوا زكاته فاحمه لهم) (1) .
قال الخلايا موضع النحل التى تعسل الواحدة خلية وأراد بقوله (إنها ذباب غيث) أنها تعيش بالمطر لانها تأكل ما ينبت عنه فإذا لم يكن غيث فقدت ما تأكل فشبهها بالسائم من النعم لا مؤنه على صاحبها منها وأوجب فيها الزكاة .
وفى حديثه أن سعد بن الاخرم قال كان بين الحى وبين عدى بن حاتم تشاجر فأرسلوني إلى عمر فأتيته وهو يطعم الناس من كسور إبل وهو قائم متوكئ على عصا مؤتزر إلى أنصاف ساقيه خدب من الرجال كأنه راعى غنم وعلى حله ابتعتها بخمسمائة درهم فسلمت عليه فنظر إلى بذنب عينه وقال لى إما لك معوز ؟ قلت : بلى ، قال : فألقها فألقيتها وأخذت معوزا ثم لقيته فسلمت فرد على السلام (2) .
قال كسور (3) الابل : أعضاؤها .
والخدب العظيم الجافي وكأنه راعى غنم يريد في الجفاء والبذاذة وخشونة الهيئة واللبسة .
والمعوز الثوب الخلق والميم مكسورة وإنما ترك رد السلام عليه أولا لانه أشهر الحلة فأدبه بترك رد السلام فلما خلعها ولبس المعوز رده عليه .
__________
(1) الفائق 1 : 366 .
(2) الفائق 2 : 411 .
(3) واحده كسر ، بالفتح والكسر .
(*)(12/166)
وفى حديثه أنه ذكر فتيان قريش وسرفهم في الانفاق فقال : لحرفة أحدهم أشد على من عيلته (1) .
قال الحرفة هاهنا أن يكون الرجل لا يتجر ولا يلتمس الرزق فيكون محدودا لا يرزق إذا طلب ومنه قيل فلان محارف والعيلة : الفقر .
وفى حديثه أنه قال لرجل : ما مالك ؟ قال : أقرن لى وآدمة في المنيئة قال : قومها وزكها (2) .
قال الاقرن جمع قرن وهى جعبة من جلود تكون للصيادين يشق منها جانب ليدخلها الريح فلا يفسد الريش .
وآدمه جمع اديم كجريب وأجربة .
والمنيئة الدباغ وإنما أمره بتزكيتها لانها كانت للتجارة .
وفى حديثه أن أبا وجزة السعدى قال شهدته يستقى فجعل يستغفر فأقول ألا يأخذ فيما خرج له ! ولا أشعر أن الاستسقاء هو الاستغفار فقلدتنا السماء قلدا كل خمس عشرة ليلة حتى رأيت الارنبة يأكلها صغار الابل من وراء حقاق العرفط (3) .
قال فقلدتنا مطرتنا لوقت معين ومنه قلد الحمى وقلد الزرع سقيه لوقت وهو وقت الحاجة .
وقال رأيت الارنب يحتملها السيل حتى تتعلق بالعرفط وهو شجر ذو شوك وزاد في الارنب هاء كما قالوا عقرب وعقربة وحقاق العرفط صغارها وقيل الارنب
__________
(1) الفائق 1 : 252 (2) الفائق 2 : 332 (3) الفائق 2 : 371 (*)(12/167)
ضرب من النبت لا يكاد يطول فأراد أنه طال بهذا المطر حتى أكلته صغار الابل من وراء شجر العرفط .
وفى حديثه أنه قال ما ولى أحد إلا حامى (1) على قرابته وقرى في عيبته ولن يلى الناس قرشي عض على ناجذه (2) .
قال حامى عليهم عطف عليهم وقرى في عيبته أي اختان وأصل قرى جمع .
وفى حديثه لن تخور قوى ما كان صاحبها ينزع وينزو (3) .
يخور يضعف والنزع في القوس والنزو على الخيل .
وروى أن عمر كان يأخذ بيده اليمنى أذنه اليسرى ثم يجمع جراميزه ويثب فكأنما خلق على ظهر فرسه .
وفى حديثه (تعلموا السنة والفرائض واللحن كما تتعلمون القرآن) (4) .
قال اللحن هاهنا اللغة والنحو .
وفى حديثه أنه مر على راع فقال يا راعي عليك بالظلف [ من الارض ] (5) لا ترمض فانك راع وكل راع مسئول (6) .
قال الظلف المواضع الصلبة أمره أن يرعى غنمه فيها ونهاه أن يرمض وهو أن يرعى غنمه في الرمضاء وهى تشتد جدا في الدهاس والرمل وتخف في الارض الصلبة .
__________
(1) الفائق : (حام) (2) الفائق 1 : 311 .
(3) الفائق 1 : 376 (4) الفائق 2 : 457 .
(5) من الفائق .
(6) الفائق 2 : 101 .
(*)(12/168)
وفي حديثه أن رجلا قرأ عليه حرفا فانكره فقال من أقرأك هذا ؟ قال أبو موسى فقال إن أبا موسى لم يكن من أهل البهش (1) .
قال البهش المقل الرطب فإذا يبس فهو الخشل وأراد أن أبا موسى ليس من أهل الحجاز لان المقل بالحجاز نبت والقرآن نزل بلغة الحجاز .
وفى حديثه أن عقبة بن أبى معيط لما قال للنبى صلى الله عليه وآله وسلم أأقتل من بين قريش ؟ فقال عمر : حن قدح ليس منها (2) .
قال : هذا مثل يضرب للرجل يدخل نفسه في القوم وليس منهم والقدح أحد قداح الميسر وكانوا يستعيرون القدح يدخلونه في قداحهم يتيمنون به ويثقون بفوزه .
وفي حديثه أن أهل الكوفة لما أوفدوا العلباء بن الهيثم السدوسى إليه فرأى عمر هيئته رثة وأعجبه كلامه وعمله قال لكل أناس في حميلهم خير .
قال : هذا مثل والمراد أنهم سودوه على معرفة منهم بما فيه من الخلال المحمودة والمعنى أن خبره فوق منظره .
وفى حديثه أنه أخذ من القطنية الزكاة (3) .
قال هي الحبوب كالعدس والحمص وفى أخذ الزكاة منها خلاف بين الفقهاء .
__________
(1) الفائق 1 : 118 (2) الفائق 1 : 300 .
(3) النهاية 3 : 265 .
(*)(12/169)
وفى حديثه أنه كان يقول للخارص (1) (إذا وجدت قوما قد خرفوا في حائطهم فانظر قدر ما ترى أنهم يأكلونه فلا تخرصه) (2) .
قال خرفوا فيه أي نزلوا فيه أيام اختراف الثمرة .
وفى حديثه (إذا أجريت الماء على الماء جزى عنك) (3) .
قال يريد صب الماء على البول في الارض فإنه يطهر المكان ولا حاجة إلى غسله وجزى قضى وأغنى من قوله تعالى : (لا تجزى نفس عن نفس شيئا) (4) فإن أدخلت الالف قلت (أجزأك) وهمزت ومعناه كفاك .
وفى حديثه أنه قال (لا يعطى من المغانم شئ حتى تقسم إلا لراع والدليل غير موليه) (5) .
قال الراعى هاهنا الطليعة لانه يرعى القوم أي يحفظهم .
وقوله (غير موليه) أي غير معطية شيئا لا يستحقه .
وفي حديثه (إن من الناس من يقاتل رياء وسمعة ومنهم من يقاتل وهو ينوى الدنيا ومنهم من ألجمه القتال فلم يجد بدا ، ومنهم من يقاتل صابرا محتسبا أولئك هم الشهداء) قال : ألجمه القتال ، أي رهقه وغشيه فلم يجد مخلصا .
__________
(1) خرص النخلة : إذا حرز ما عليها من الرطب ، من الخرص ، وهو الظن .
(2) الفائق 1 : 327 (3) النهاية لابن الاثير 1 : 162 .
(4) سورة البقرة 123 (5) النهاية 2 : 88 ، 4 : 232 .
(*)(12/170)
وفى حديثه أنه أرسل إلى أبى عبيدة رسولا فقال له حين رجع فكيف رأيت أبا عبيدة ؟ قال : رأيت بللا من عيش فقصر من رزقه ، ثم أرسل إليه وقال للرسول حين قدم : كيف رأيته ؟ قال : رأيته حفوفا ، قال : رحم الله أبا عبيد بسطنا له فبسط وقبضنا له فقبض (1) .
قال الحفوف والحفف واحد وهو ضيق العيش وشدته يقال ما عليهم حفف ولاضفف أي ما عليهم أثر عوز والشظف : مثل الحفف .
وفى حديثه أنه رئى في المنام فسئل عن حاله ، فقال (ثل عرشى (2) لو لا أنى صادفت ربى رحيما) .
قال ثل عرشه أي هدم .
وفى حديثه أنه قال لابي مريم الحنفي (لانا أشد بغضا لك من الارض للدم) ، قالوا : كان عمر عليه غليظا كان قاتل زيد بن الخطاب أخيه فقال أينقصني ذلك من حقى شيئا ؟ قال لا ، قال : فلا ضير (3) .
قال هذا مثل لا الارض لا يغوص فيها الدم كما يغوص الماء فهذا بغض الارض له ويقال إن دم البعير تنشفه الارض وحده وفى حديثه (إن اللبن يشبه عليه) (4) .
__________
(1) الفائق 1 : 111 .
(2) في النهاية : (كاد يثل عرشي) .
(3) النهاية 1 : 32 .
(4) الفائق 1 : 634 .
(*)(12/171)
قال : معناه أن الطفل ربما نزع به الشبه إلى الظئر من أجل لبنها فلا تسترضعوا إلا من ترضون أخلاقها .
وفي حديثه (اغزوا والغزو حلو خضر ، قبل أن يكون ثماما ثم يكون رماما ثم يكون حطاما) (1) .
قال : هذا مثل والثمام : نبت ضعيف .
والرمام بالضم والرميم واحد مثل طوال وطويل .
والحطام يبس النبت إذا ومعنى الكلام أنه أمرهم بالغزو حين عزائمهم قويه وبواعثهم إليه شديدة فان مع ذلك يكون الظفر قبل أن يهى ويضعف فيكون كالثمام الضعيف ثم كالرميم ثم يكون حطاما فيذهب .
وفى حديثه (إذا انتاطت المغازى واشتدت العزائم ومنعت الغنائم أنفسها فخير غزوكم الرباط) .
قال : انتاطت بعدت والنطئ البعيد .
واشتدت العزائم : صعبت ومنعت الغنائم أنفسها فخير غزوكم الرباط في سبيل الله .
وفى حديثه أنه وضع يده في كشية (2) ضب وقال إن النبي صلى الله عليه وآله لم يحرمه ولكن (3) قذره .
قال كشية الضب شحم بطنه .
__________
(1) الفائق 1 : 352 .
(2) ويروي : (كشه) .
(3) الفائق 1 : 169 .
(*)(12/172)
وقوله (وضع) أي أكل منه .
وفى حديثه (لا أوتى بأحد انتقص من سبل المسلمين إلى مثاباته شيئا إلا فعلت به كذا) (1) .
قال المثابات هاهنا المنازل يثوب أهلها إليها أي يرجعون والمراد من اقتطع شيئا من طريق المسلمين وأدخله في داره .
وفى حديثه أنه كره النير (2) .
قال هو علم الثوب وأظنه كرهه إذا كان حريرا .
وفى حديثه أنه انكسرت قلوص من إبل الصدقة فجفنها (3) .
قال : اتخذ منها جفنه من طعام وأجمع عليه (4) .
وفى حديثه (عجبت لتاجر هجر وراكب البحر) (5) ! .
قال عجب كيف يختلف إلى هجر مع شدة وبائها وكيف يركب البحر مع الخطار بالنفس ! .
وفى حديثه : أنه قال ليلة لابن عباس في مسير له : أنشدنا لشاعر الشعراء قال ومن
__________
(1) الفائق 1 : 163 (2) الفائق 3 : 139 .
(3) النهاية 1 : 168 (4) النهاية : (وجمع الناس عليه) .
(5) نهاية ابن الاثير 4 : 240 .
(*)(12/173)
هو ؟ قال : الذى لم يعاظل بين القول ولم يتبع حوشى الكلام قال ومن هو ؟ قال : زهير فجعل ينشد إلى أن برق الصبح (1) .
قال : هو مأخوذ من تعاظل الجراد إذا ركب بعضه بعضا .
وحوشى الكلام : وحشيه .
وفى حديثه أن نائلا مولى عثمان قال سافرت مع مولاى وعمر في حج أو عمرة فكان عمر وعثمان وابن عمر لفا وكنت أنا وابن الزبير في شببة معنا لفا فكنا نتمازح ونترامى بالحنظل فما يزيدنا عمر على أن يقول لنا كذاك لا تذعروا علينا فقلنا لرياح بن العترف (2) لو نصبت لنا نصب العرب ! فقال : [ أقول ] (3) مع عمر فقلنا : افعل وإن نهاك فانته ففعل ولم يقل عمر شيئا حتى إذا كان في وجه السحر ناداه يا رياح إتها اكفف فانها ساعه ذكر (4) .
قال لفا أي حزبا وفرقة .
وشببة جمع شاب مثل كاتب وكتبة وكاذب وكذبة وكافر وكفرة .
وقوله (كذاك) أي حسبكم .
وقوله (لا تذعروا علينا) أي لا تنفروا إبلنا .
ونصب العرب غناء لهم يشبه الحداء إلا أنه أرق منه .
وفي حديثه أنه كتب في الصدقد إلى بعض عماله كتابا فيه (ولا تحبس الناس أولهم على آخرهم فان الرجن للماشيد عليها شديد ولها مهلك وإذا وقف الرجل عليك غنمه فلا تعتم من غنمه ولا تأخذ من أدناها وخذ الصدقد من أوسطها وإذا وجب على
__________
(1) الفائق : 165 (2) الفائق : المغترف .
(3) من الفائق .
(4) الفائق 2 : 469 .
(*)(12/174)
الرجل سن لم تجدها في إبله فلا تأخذ إلا تلك السن من شروى إبله أو قيمد عدل وانظر ذوات الدر والماخض فتنكب عنها فانها ثمال حاضريهم) (1) .
قال الرجن الحبس رجن بالمكان أقام به ومثله دجن بالدال .
ولا تعتم لا تختر اعتام اعتياما أي اختار .
من شروى إبله أي من مثلها .
وذوات الدر ذوات اللبن .
والماخض الحامل .
وثمال حاضريهم عصمتهم وغياثهم وحاضريهم من يسكن الحضر .
وفى حديثه : أنه كان يلقط النوى من الطريق والنكث فإذا مر بدار قوم ألقاها فيها وقال (ليأكل هذا داجنتكم وانتفعوا بباقيه) (2) .
قال الداجنة ما يعلفه الناس في منازلهم من الشاة والدجاج والطير .
و النكث : الخيوط الخلق من صوف أو شعر أو وبر .
وفى حديثه (ثلاث من الفواقر جار مقامه إن رأى حسنة دفنها وإن رأى سيئة أذاعها وامرأة إن دخلت عليها لسنتك وإن غبت عنها لم تأمنها وإمام إن أحسنت لم يرض عنك وإن أسأت قتلك (3) .
__________
(1) الفائق 1 : 466 .
(2) الفائق 3 : 134 .
(3) الفائق : 290 .
(*)(12/175)
قال الفواقر الدواهي واحدتها فاقرة لانها تكسر فقار الظهر .
ولسنتك أخذتك بلسانها .
وفي حديثه في خطبة له : (من أتى هذا البيت لا ينهره إليه غيره رجع وقد غفر له) .
قال ينهره يدفعه يريد من حج لا ينوى بالحج إلا الطاعة غفر له .
وفى حديثه (اللبن لا يموت) .
قال : قيل في معناه إن اللبن إذا أخذ من ميتة لم يحرم وكل شئ أخذ من الحى فلم يحرم فانه إن أخذ من الميت لم يحرم .
وقيل في معناه : إن رضع الطفل من امرأة ميتة حرم عليه من أولادها وقرابتها من يحرم عليها منها لو كانت حية .
وقيل معناه : إن اللبن إذا انفصل من الضرع فأوجر به الصبى أو أدم به أو ديف له في دواء وسقيه فانه إن لم يسم في اللغة رضاعا إلا أنه يحرم به ما يحرم بالرضاع فقال اللبن لا يموت أي لا يبطل عمله بمفارقة الثدى .
وفي حديثه : (من حظ المرء نفاق أيمه وموضع خفه) (1) .
قال الايم التى لا بعل لها والخف الابل كما تسمى الحمر والبغال حافرا والبقر والغنم ظلفا يريد من حظ الانسان أن يخطب إليه ويتزوج بناته وأخواته وأشباههن فلا يبرن
__________
(1) النهاية 1 : 270 ، وفيه : (موضع حقه) ، وقال في شرحه : (وأن يكون حقه في ذمة مأمون جحوده وتهضمه) .
(*)(12/176)
ومن حظه أيضا أن ينفق إبله حتى ينتابه التجار وغيرهم فيبتاعوها في مواضعها يستطرقونه لا يحتاج أن يعرضها عليهم .
وفي حديثه أن العباس بن عبد المطلب سأله عن الشعراء فقال امرؤ القيس سابقهم خسف لهم عين الشعر فافتقر عن معان عور أصح بصر (1) .
قال خسف لهم من الخسيف وهى البئر تحفر في حجارة فيخرج منها ماء كثير وجمعها خسف .
وقوله (افتقر) أي فتح وهو من الفقير والفقير فم القناة .
وقوله (عن معان عور) يريد أن امرأ القيس من اليمن واليمن ليست لهم فصاحة نزار فجعل معانيهم عورا وفتح امرؤ القيس عنها أصح بصر [ ذكر الاحاديث الواردة في فضل عمر ] فأما الحديث الوارد في فضل عمر فمنه ما هو مذكور في الصحاح ومنه ما هو غير مذكور فيها فمما ذكر في المسانيد الصحيحة من ذلك ما روت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وآله قال : (كان في الامم محدثون فان يكن في أمتى فعمر) أخرجاه في الصحيحين وروى سعد بن أبى وقاص قال : استأذن عمر على رسول الله صلى الله عليه وآ له وعنده نساء من قريش يكلمنه عالية أصواتهن فلما استأذن قمن يبتدرن الحجاب فدخل ورسول الله صلى الله عليه وآله يضحك قال : أضحك الله سنك يا رسول الله ! قال عجبت من هؤلاء اللواتى كن عندي فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب فقال عمر أنت
__________
(1) الفائق 6 : 343 .
(*)(12/177)
أحق أن يهبن ثم قال أي عدوات أنفسهن أتهبننى ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلن نعم أنت أغلظ وأفظ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : (والذى نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك) أخرجاه في الصحيحين وقد روى في فضله من غير الصحاح أحاديث منها (إن السكينة لتنطق على لسان عمر) ومنها (إن الله تعالى ضرب بالحق على لسان عمر وقلبه) ومنها إن بين عينى عمر ملكا يسدده ويوفقه) ومنها (لو لم أبعث فيكم لبعث عمر) ومنها (لو كان بعدى نبى لكان عمر) ومنها (لو نزل إلى الارض عذاب لما نجا منه إلا عمر) منها (ما أبطأ عنى جبريل إلا ظننت إنه بعث إلى عمر) ومنها (سراج أهل الجنة عمر) ومنها : أن شاعرا أنشد النبي صلى الله عليه وآله شعرا فدخل عمر فأشار النبي صلى الله عليه واله إلى الشاعر أن اسكت فلما خرج عمر قال له عد فعاد فدخل عمر فأشار النبي صلى الله عليه وآله بالسكوت مرة ثانية فلما خرج عمر سأل الشاعر رسول الله صلى الله عليه وآله عن الرجل فقال (هذا عمر بن الخطاب وهو رجل لا يحب الباطل) ومنها : أن النبي صلى الله عليه وآله قال : (وزنت بأمتى فرجحت ووزن أبو بكر بها فرجح ووزن عمر بها فرجح ثم رجح ثم رجح) .(12/178)
وقد رووا في فضله حديثا كثيرا غير هذا ولكنا ذكرنا الاشهر وقد طعن اعداؤه ومبغضوه في هذه الاحاديث فقالوا : لو كان محدثا وملهما لما اختار معاوية الفاسق لولاية الشام ولكن الله تعالى قد ألهمه وحدثه بما يواقع من القبائح والمنكرات والبغى والتغلب على الخلافة والاستئثار بمال الفئ وغير ذلك من المعاصي الظاهرة قالوا : وكيف لا يزال الشيطان يسلك فجا غير فجه وقد فر مرارا من الزحف في أحد وحنين وخيبر والفرار من الزحف من عمل الشيطان وإحدى الكبائر الموبقة .
قالوا : وكيف يدعى له أن السكينة تنطق على لسانه : أترى كانت السكينة تلاحى رسول الله صلى الله عليه وآله يوم الحديبية حتى أغضبه ! .
قالوا : ولو كان ينطق على لسانه ملك أو بين عينيه ملك يسدده ويوفقه أو ضرب الله بالحق على لسانه وقلبه لكان نظيرا لرسول الله صلى الله عليه وآله بل كان أفضل منه لانه صلى الله عليه وآله كان يؤدى الرسالة إلى الامة عن ملك من الملائكة وعمر قد كان ينطق على لسانه ملك وزيد ملكا آخر بين عينيه يسدده ويوفقه فهذا الملك الثاني مما قد فضل به على رسول الله صلى الله عليه وآله وقد كان حكم في أشياء فيخطئ فيها حتى يفهمه إياها على بن أبى طالب ومعاذ بن جبل وغيرهما حتى قال لو لا على لهلك عمر ولو لا معاذ لهلك عمر وكان يشكل عليه الحكم فيقول لابن عباس غص يا غواص فيفرج عنه فأين كان الملك الثاني المسدد له ! وأين الحق الذى ضرب به على لسان عمر ؟ ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان ينتظر في الوقائع نزول الوحى وعمر على مقتضى هذه الاخبار لا حاجة به إلى نزول ملك عليه لان الملكين معه في كل وقت وكل حال ملك ينطق على لسانه وملك آخر بين عينيه يسدده ويوفقه وقد عززا بثالث وهى السكينة فهو إذا أفضل من رسول الله صلى الله عليه وآله ! .(12/179)
وقالوا : والحديث الذى مضمونه لو لم أبعث فيكم لبعث عمر فيلزم أن يكون رسول الله صلى الله عليه وآله عذابا على عمر وأذى شديدا له لانه لو لم يبعث لبعث عمر نبيا ورسولا ولم تعلم رتبة أجل من رتبة الرسالة فالمزيل لعمر عن هذه الرتبة التى ليس وراءها رتبة ينبغى ألا يكون في الارض أحد أبغض إليه منه ! .
قالوا واما كونه سراج أهل الجنة فيقتضى أنه لو لم يكن تجلى عمر لكانت الجنة مظلمة لا سراج لها .
قالوا وكيف يجوز أن يقال لو نزل العذاب لم ينج منه إلا عمر والله تعالى يقول (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) (1) .
قالوا وكيف يجوز أن يقال إن النبي صلى الله عليه وآله كان يسمع الباطل ويحبه ويشهده وعمر لا يسمع الباطل ولا يشهده ولا يحبه ! أليس هذا تنزيها لعمر عما لم ينزه عنه رسول الله صلى الله عليه وآله ! .
قالوا : ومن العجب أن يكون النبي صلى الله عليه وآله أرجح من الامة يسيرا وكذلك أبو بكر ويكون عمر أرجح منهما كثيرا ! فان هذا يقتضى أن يكون فضله أبين وأظهر من فضل أبى بكر ومن فضل رسول الله صلى الله عليه وآله ! .
والجواب أنه ليس يجب فيمن كان محدثا ملهما أن يكون محدثا ملهما في كل شئ بل الاعتبار بأكثر أفعاله وظنونه وآرائه ولقد كان عمر كثير التوفيق مصيب الرأى في جمهور أمره ومن تأمل سيرته علم صحه ذلك ولا يقدح في ذلك أن يختلف ظنه في القليل من الامور .
وأما الفرار من الزحف فانه لم يفر إلا متحيزا (2) إلى فئة وقد استثنى الله تعالى ذلك فخرج به عن الاثم .
__________
(1) سورة الانفال 33 (2) هو قوله تعالى في سورة الانفال 16 : (ومن يولهم يومئذ دبره إلا منحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله) (*)(12/180)
وأما باقى الاخبار فالمراد بالملك فيها الاخبار عن صحة ظنه وصدق فراسته وهو كلام يجرى مجرى المثل فلا يقدح فيه ما ذكروه .
وأما قوله صلى الله عليه وآله (لو نزل إلى الارض عذاب لما نجا منه إلا عمر) فهو كلام قاله عقيب أخذ الفدية من أسارى بدر فان عمر لم يشر عليه ونهاه عنه فأنزل الله تعالى (لو لا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) وإذا كان القرآن قد نطق بذلك وشهد لم يلتفت إلى طعن من طعن في الخبر .
وأما قوله عليه السلام (سراج أهل الجنة عمر فمعناه سراج القوم الذين يستحقون الجنة من أهل الدنيا أيام كونهم في الدنيا مع عمر أي يستضيئون بعلمه كما يستضاء بالسراج .
وأما حديث منع الشاعر فان رسول الله صلى الله عليه وآله خاف أن يذكر في شعره ما يقتضى الانكار فيعنف به عمر وكان شديد الغلظة فأراد النبي صلى الله عليه وآله أن ينكر هو على الشاعر إن قال في شعره ما يقتضى ذلك على وجه اللطف والرفق وكان عليه السلام رؤوفا رحيما كما قال الله تعالى (2) .
وأما حديث الرجحان فالمراد به الفتوح وملك البلاد وتأويله أنه عليه السلام أرى في منامه ما يدل على أنه يفتح اللإإه عليه بلادا وعلى أبى بكر مثله ويفتح على عمر أضعاف ذلك وهكذا وقع .
واعلم أن من تصدى للعيب وجده ومن قصر همته على الطعن على الناس انفتحت
__________
(1) سورة الانفال 68 .
(2) وهو قوله تعالى في سورة التوبة 128 (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) .
(*)(12/181)
له أبواب كثيرة والسعيد من أنصف من نفسه ورفض الهوى وتزود التقوى وبالله التوفيق ! [ ذكر ما ورد من الخبر عن إسلام عمر ] وأما إسلام عمر فانه أسلم فكان تمام أربعين إنسانا في أظهر الروايات وذلك في السنة السادسة من النبوة وسنه إذ ذاك ست وعشرون سنة وكان عمر ابنه عبد الله يومئذ ست سنين وأصح ماروى في إسلامه رواية أنس بن مالك عنه قال خرجت متقلدا سيفى فلقيت رجلا من بنى زهرة فقال أين تعمد ؟ قلت : أقتل محمدا قال وكيف تأمن في بنى هاشم وبنى زهرة ؟ فقلت : ما أراك إلا صبوت ! قال أفلا أدلك على العجب ! إن أختك وزوجها قد صبوا فمشى عمر فدخل عليهما ذامرا وعندهما رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله يقال له خباب بن الارت فلما سمع خباب حس عمر توارى فقال عمر ما هذه الهينمة (1) التى سمعتها عندكم ؟ وكانوا يقرءون (طه) على خباب فقال ما عندنا شئ إنما هو حديث كنا نتحدثه بيننا قال فلعلكما قد صبوتما (2) فقال له ختنه أرايت يا عمر إن كان الحق في غير دينك ! فوثب عمر على ختنه فوطئه وطئا شديدا فجاءت أخته فدفعته عن زوجها فنفحها بيده فأدمى وجهها فجاهرته فقالت إن الحق في غير دينك وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فاصنع ما بدا لك ! فلما يئس قال أعطوني هذا الكتاب الذى عندكم فأقرؤه وكان عمر يقرأ الخط -
__________
(1) الهيمنة : الصوت الخفي .
(2) صبا ، أي خرج عن دينه .
(*)(12/182)
فقالت له أخته إنك رجس وإن هذا الكتاب لا يمسه إلا المطهرون فقم فتوضأ فقام فأصاب ماء ثم أخذ الكتاب فقرأ (طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى) إلى قوله (إننى أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدنى وإقم الصلاة لذكرى) فقال عمر دلوني على محمد فلما سمع خباب قول عمر ورأى منه الرقة خرج من البيت فقال أبشر يا عمر فانى لارجو أن تكون دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله ليلة الخميس لك سمعته يقول (اللهم أعز الاسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام) - قال : ورسول الله صلى الله عليه وآله في الدار التى في أصل الصفا - فانطلق عمر حتى أتى الدار وعلى الباب حمزة بن عبد المطلب وطلحة بن عبيد الله وناس من أهل رسول الله صلى الله عليه وآله فلما رأى الناس عمر قد أقبل كأنهم وجدوا وقالوا قد جاء عمر فقال حمزة قد جاء عمر فان يرد الله به خيرا يسلم وإن يرد غير ذلك كان قتله علينا هينا قال والنبى صلى الله عليه وآله من داخل البيت يوحى إليه فسمع رسول الله صلى الله عليه وآله كلام القوم فخرج مسرعا حتى انتهى إلى عمر فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل سيفه وقال ما أنت منتهيا يا عمر حتى ينزل الله بك - يعنى من الخزى والنكال - ما أنزل بالوليد بن المغيرة ثم قال اللهم هذا عمر اللهم أعز الاسلام بعمر ! فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله فكبر أهل الدار ومن كان على الباب تكبيرة سمعها من كان في المسجد من المشركين (1) .
وقد روى أن عمر كان موعودا ومبشرا بما وصل إليه من قبل أن يظهر أمر الاسلام قرأت في كتاب من تصانيف أبى أحمد العسكري رحمه الله أن عمر خرج عسيفا (2) مع الوليد ابن المغيره إلى الشام في تجارة للوليد وعمر يومئذ ابن ثمانى عشرة سنة فكان يرعى
__________
(1) الرياض النضرة 1 : 191 ، 192 (2) الصيف : الاجير .
(*)(12/183)
للوليد إبله ويرفع أحماله ويحفظ متاعه فلما كان بالبلقاء لقيه رجل من علماء الروم فجعل ينظر إليه ويطيل النظر لعمر ثم قال أظن اسمك يا غلام (عامرا) أو (عمران) أو نحو ذلك قال اسمى (عمر) قال : اكشف عن فخذيك فكشف فإذا على أحدهما شامة سوداء في قدر راحة الكف فسأله أن يكشف عن رأسه فكشف فإذا هو أصلع فسأله أن يعتمل بيده فاعتمل فإذا أعسر أيسر فقال له : أنت ملك العرب وحق مريم البتول ! قال فضحك عمر مستهزئا قال أو تضحك وحق مريم البتول إنك ملك العرب وملك الروم وملك الفرس ! فتركه عمر وانصرف مستهينا بكلامه وكان عمر يحدث بعد ذلك ويقول تبعني ذلك الرومي وهو راكب حمارا فلم يزل معى حتى باع الوليد متاعه وابتاع بثمنه عطرا وثيابا وقفل إلى الحجاز والرومى يتبعني لا يسألنى حاجة ويقبل يدى كل يوم إذا أصبحت كما تقبل يد الملك حتى خرجنا من حدود الشام ودخلنا في أرض الحجاز راجعين إلى مكة فودعني ورجع وكان الوليد يسألنى عنه فلا أخبره ولا أراه إلا هلك ولو كان حيا لشخص إلينا [ تاريخ موت عمر والاخبار الواردة في ذلك ] فأما تاريخ موته فان أبا لؤلؤة طعنه يوم الاربعاء لاربع بقين من ذى الحجة من سنة ثلاث وعشرين ودفن يوم الاحد صباح هلال المحرم سنة أربع وعشرين وكانت ولايته عشر سنين وستة أشهر وهو ابن ثلاث وستين في أظهر الاقوال وقد كان قال على المنبر يوم جمعة وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وأبا بكر إنى قد رأيت رؤيا أظنها لحضور أجلى رأيت كأن ديكا نقرني نقرتين فقصصتها على أسماء
__________
(1) الاعسر : الذي يعمل بيده اليسرى ، وفي النهاية لابن الاثير : 4 : 265 : (كان عمر أعسر أيسر) هكذا يروى ، والصواب (أعسر يسر) وهو الذي يعمل بيديه جميعا ، ويسمى الاضبط) .
(*)(12/184)
بنت عميس فقالت يقتلك رجل من العجم وإنى أفكرت فيمن أستخلف ثم رأيت أن الله لم يكن ليضيع دينه وخلافته التى بعث بها رسوله وروى ابن شهاب قال كان عمر لا يأذن لصبى قد احتلم في دخول المدينة حتى كتب المغيرة وهو على الكوفة يذكر له غلاما صنعا عنده ويستأذنه في دخول المدينة ويقول : إن عنده أعمالا كثيرة فيها منافع للناس إنه حداد نقاش نجار فأذن له أن يرسل به إلى المدينة وضرب عليه المغيرة مائة درهم في كل شهر فجاء إلى عمر يوما يشتكى إليه الخراج فقال له عمر ما ذا تحسن من الاعمال ؟ فعد له الاعمال التى يحسن فقال له ليس خراجك بكثير في كنه عملك هذا هو الذى رواه أكثر الناس من قوله له ومن الناس من يقول إنه جهر بكلام غليظ واتفقوا كلهم على أن العبد انصرف ساخطا يتذمر فلبث أياما ثم مر بعمر فدعاه فقال قد حدثت أنك تقول لو أشاء لصنعت رحا تطحن بالريح فالتفت العبد عابسا ساخطا إلى عمر ومع عمر رهط من الناس فقال لاصنعن لك رحا يتحدث الناس بها فلما ولى أقبل عمر على الرهط فقال ألا تسمعون إلى العبد ! ما أظنه إلا أوعدنى آنفا ! فلبث ليالى ثم اشتمل أبو لؤلؤد على خنجر ذى رأسين نصابه فوسطه فكمن في زاوية من زوايا المسجد في غلس السحر فلم يزل هنالك حتى جاء عمر يوقظ الناس لصلاة الفجر كما كان يفعل فلما دنا منه وثب عليه فطعنه ثلاث طعنات إحداهن تحت السرة قد خرقت الصفاق (1) - وهى التى قتلته - ثم انحاز إلى أهل المسجد فطعن فيهم من يليه حتى طعن أحد عشر رجلا سوى عمر ثم انتحر بخنجره فقال عمر حين أدركه النزف قولوا لعبد الرحمن بن عوف فليصل بالناس ثم غلبه النزف فاغمى عليه
__________
(1) الصفاق : الجلد الاسفل الذي تحت الجلد الذي عليه الشعر .
(*)(12/185)
فاحتمل حتى أدخل بيته ثم صلى عبد الرحمن بالناس قال ابن عباس فلم أزل عند عمر وهو مغمى عليه لم يزل في غشية واحدة حتى أسفر فلما أسفر أفاق فنظر في وجوه من حوله وقال أصلى الناس ؟ فقيل : نعم فقال لا إسلام لمن ترك الصلاة ثم دعا بوضوء فتوضأ وصلى ثم قال اخرج يا بن عباس فاسأل من قتلني ؟ فجئت حتى فتحت باب الدار فإذا الناس مجتمعون فقلت من طعن أمير المؤمنين ؟ قالوا : طعنه أبو لؤلؤة غلام المغيرة قال ابن عباس فدخلت فإذا عمر ينظر إلى الباب يستأنى خبر ما بعثنى له فقلت يا أمير المؤمنين زعم الناس أنه عدو الله أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة وأنه طعن رهطا ثم قتل نفسه فقال الحمد لله الذى لم يجعل قاتلي يحاجنى عند الله بسجدة سجدها له قط ما كانت العرب لتقتلني ثم قال أرسلوا إلى طبيب ينظر جرحى فأرسلوا إلى طبيب من العرب فسقاه نبيذا فخرج من الجرح فاشتبه عليهم الدم بالنبيذ ثم دعوا طبيبا آخر فسقاه لبنا فخرج اللبن من الطعنة صلدا أبيض فقال الطبيب اعهد يا أمير المؤمنين عهدك فقال لقد صدقنى ولو قال غير ذلك لكذب فبكى عليه القوم حتى أسمعوا من خارج الدار فقال لا تبكوا علينا ألا ومن كان باكيا فليخرج فان النبي صلى الله عليه وآله قال (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه) .
وروى عن عبد الله بن عمر أنه قال سمعت أبى يقول لقد طعننى أبو لؤلؤة طعنتين وما أظنه إلا كلبا حتى طعننى الثالثة وروى أن عبد الرحمن بن عوف طرح على أبى لؤلؤة بعدأان طعن الناس خميصة (1) كانت عليه فلما حصل فيها نحر نفسه فاحتز عبد الرحمن رأسه واجتمع البدريون وأعيان المهاجرين والانصار بالباب فقال عمر لابن عباس اخرج إليهم فاسألهم أعن ملا منكم
__________
(1) الخميصة : كساء أسود مربع له علمان ، فإن لم يكن معلما فليس بخميصة .
(*)(12/186)
كان هذا الذى أصابني ؟ فخرج يسألهم فقال القوم لا والله ولوددنا أن الله زاد في عمره من أعمارنا ! .
وروى عبد الله بن عمر قال كان أبى يكتب إلى أمراء الجيوش لا تجلبوا إلينا من العلوج أحدا جرت عليه المواسى فلما طعنه أبو لؤلؤة قال من بى ؟ قالوا غلام المغيرة قال ألم أقل لكم لا تجلبوا إلينا من العلوج أحدا فغلبتموني ! .
وروى محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون قال إنى (1) لقائم ما بينى وبين عمر إلا عبد الله بن عباس غداة أصيب وكان إذا مر بين الصفين قال استووا حتى إذا لم ير بيننا (2) خللا تقدم فكبر وربما قرأ سورة يوسف أو النحل في الركعة الاولى [ أو نحو ذلك في الركعة الثانية ] (3) حتى يجتمع الناس فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول قتلني - أو أكلني - الكلب وذلك حين طعنه العلج بسكين ذات طرفين لا يمر على أحد يمينا ولا شمالا إلا طعنه حتى طعن ثلاثة عشر رجلا مات منهم ستة (4) فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسا فلما ظن العلج إنه مأخوذ نحر نفسه وتناول عمر بيده عبد الرحمن بن عوف فقدمه فمن يلى عمر فقد رأى الذى رأى وأما نواحى المسجد فانهم لا يدرون غير أنهم فقدوا صوت عمر فهم يقولون سبحان الله ! فصلى عبد الرحمن صلاة خفيفة فلما انصرفوا قال يا بن عباس انظر من قتلني ؟ فجال ساعة ثم جاء فقال غلام المغيرة قال : الصنع ! قال : نعم
__________
(1) صدر الحديث كما في البخاري (رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يصاب بأيام بالمدينة وقف على حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف ، قال : كيف فعلتما ؟ أتخافان أن تكونا قد حملتما الارض مالا تطيق ؟ قالا : حملناها أمرا هي له مطيقة ، ما فيها كبير فضل ، قال : انظرا أن تكونا حملتما الارض ما لا تطيق ؟ قالا : لا ، فقال عمر : لئن سلمني الله لادعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبدا .
قال : فما أتت عليه رابعة حتى أصيب ، قال : إني لقائم ...
) .
(2) البخاري : (فيهن) (3) من رواية البخاري (4) البخاري : (سبعة) .
(*)(12/187)
قال قاتله الله لقد أمرت به معروفا الحمد لله الذى لم يجعل منيتى (1) بيد رجل يدعى الاسلام وقد كنت أنت وأبوك تحبان أن يكثر العلوج وكان العباس أكثرهم رقيقا فقال إن شئت فعلنا (2) أي قتلناهم قال كذبت بعد أن تكلموا بلسانكم وصلوا قبلتكم وحجوا حجكم فاحتمل إلى بيته وانطلقنا معه وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ فقائل يقول لا بأس عليه وقائل يقول أخاف عليه فأتى بنبيذ فشربه فخرج من جوفه ثم أتى بلبن فشربه فخرج من جوفه فعلموا أنه ميت فدخل الناس يثنون عليه وجاء [ رجل ] (3) شاب فقال أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك صحبة برسول الله وقدم في الاسلام ما قد علمت ثم وليت فعدلت ثم الشهادة فقال عمر وددت أن ذلك كله كان كفافا لا على ولالى فلما أدبر إذا رداؤه (4) يمس الارض فقال ردوا على الغلام فردوه فقال يا بن أخى ارفع ثوبك فانه أبقى لثوبك وأتقى لربك يا عبد الله بن عمر انظر ما على من دين فحسبوه فوجدوه سته وثمانين ألفا أو نحوه فقال إن وفى به مال آل عمر فأده من أموالهم وإلا فسل في بنى عدى بن كعب فان لم تف به أموالهم فسل في قريش ولا تعدهم إلى غيرهم وأد عنى هذا المال انطلق إلى عائشة فقل لها يقرأ عليك السلام عمر - ولا تقل (أمير المؤمنين) فانى اليوم لست للمؤمنين أمير أو قل يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه فمضى وسلم واستأذن ودخل عليها فوجدها قاعدة تبكى ، فقال يقرأ عليك عمر السلام ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه فقالت كنت أريده لنفسي - يعنى الموضع - ولاوثرنه اليوم على نفسي فلما أقبل قيل هذا عبد الله قد جاء قال ارفعوني فأسندوه إلى رجل منهم قال يا عبد الله ما لديك ؟ قال الذى تحب يا أمير المؤمنين قد أذنت قال الحمد لله ما كان شئ أهم إلى من
__________
(1) البخاري : (ميتتي) (2) البخاري : (فعلت) .
(3) من صحيح البخاري .
(4) البخاري : (إزاره) .
(*)(12/188)
ذلك إذا أنا قبضت فاحملني ثم سلم عليها وقل يستأذن عمر بن الخطاب فان أذنت لى فأدخلوني وإن ردتني فردوني إلى مقابر المسلمين وادفنوني بين المسلمين وجاءت ابنته حفصة والنساء معها قال فلما رأيناها قمنا فولجت عليه فبكت عنده ساعة واستأذن الرجال فولجت بيتا داخلا لهم فسمعنا بكاءها من البيت الداخل فقال أوص يا أمير المؤمنين واستخلف فقال ما أجد أحق بهذا الامر من هؤلاء النفر - أو قال الرهط - الذين توفى رسول الله صلى الله عليه وآله وهو عنهم راض فسمى عليا وعثمان والزبير وطلحة وسعدا وعبد الرحمن وقال : يشهدكم عبد الله بن عمر وليس له من الامر شئ - كهيئة التعزية له فان أصابت الامارة سعدا فهو أهل لذلك وإلا فليستعن به أيكم أمر فانى لم أعزله عن عجز ولا عن خيانة ثم قال : أوصى الخليفة من بعدى بالمهاجرين الاولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم حرمتهم وأوصيه بالانصار خيرا الذين تبوءوا الدار والايمان من قبلهم أن يقبل من محسنهم وأن يعفو عن مسيئهم وأوصيه بأهل الامصار خيرا فانهم ردء الاسلام وجباة الاموال وغيظ العدو ألا يأخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم وأوصيه بالاعراب خيرا فانهم أصل العرب ومادة الاسلام ، أن يؤخذ من حواشى أموالهم ويرد على فقرائهم وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله أن يوفى لهم بعهدهم وأن يقاتل من وراءهم وألا يكلفوا إلا طاقتهم .
قال : فلما قبض خرجنا به فانطلقنا نمشي فسلم عبد الله بن عمر وقال : يستأذن عمر ابن الخطاب فقالت : أدخلوه فأدخل فوضع هنالك مع صاحبيه (2) .
__________
(1) البخاري : (الامرة) .
(2) صحيح البخاري 2 : 297 ، - 299 ، وبقية الحديث : (فلما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط ، فقال عبد الرحمن : اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم ، فقال : الزبير ، جعلت أمري إلى علي فقال طلحة قد جعلت أمري إلى عثمان ، وقال سعد : قد جعلت أمري إلى عثمان ، وقال سعد : قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف ، فقال عبد الرحمن : أيكما تبرأ من هذا فنجعله عليه والله عليه ، والاسلام لينظرن أفضلهم في نفسه ؟ فأسكت الشيخان ، فقال = (*)(12/189)
وقال ابن عباس أنا أول من أتى عمر حين طعن فقال احفظ عنى ثلاثا فانى أخاف ألا يدركنى الناس أما أنا فلم أقض في الكلالة ولم أستخلف على الناس وكل مملوك لى عتيق فقلت له : أبشر بالجنة صاحبت رسول الله صلى الله عليه وآله فأطلت صحبته ووليت أمر المسلمين فقويت عليه وأديت الامانة قال : أما تبشيرك لى بالجنة فو الله الذى لا إله إلا هو لو أن لى الدنيا بما فيها لافتديت به من هول ما أمامى قبل أن أعلم ما الخبر وأما ما ذكرت من أمر المسلمين فلوددت أن ذلك كان كفافا لا على ولا لى وأما ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وآله فهو ذلك وروى معمر عن الزهري عن سالم عن عبد الله قال دخلت على أبى فقلت : سمعت الناس يقولون مقالة : - وآليت أن أقولها لك - زعموا أنك غير مستخلف وأنه لو كان لك راعى إبل أو غنم ثم جاءك وتركها رأيت أنه قد ضيع فرعاية الناس أشد فوضع رأسه ثم رفعه فقال إن الله تعالى يحفظ دينه إن لم أستخلف فان رسول الله صلى الله عليه وآله لم يستخلف وإن استخلفت فان أبا بكر قد استخلف فو الله ما هو إلا أن ذكر رسول الله وأبا بكر ، فعلمت أنه لم يكن يعدل برسول الله صلى الله عليه وآله أحدا وأنه غير مستخلف .
وروى أنه قال وقد أذنت له عائشة في أن يدفن في بيتها إذا مت فاستأذنوها مرة ثانية فان أذنت وإلا فاتركوها فانى أخشى أن تكون أذنت لى لسلطاني فاستأذنوها بعد موته فأذنت .
__________
= عبد الرحمن : أفتجعلونه إلي ، والله علي ألا آلوا عن أفضلكم ؟ قالا : نعم فأخذ بيد أحدهما فقال : لك قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدم في الاسلام ما قد علمت ، فالله عليك لئن أمرتك لتعدلن ! وإن أمرت عثمان لتسمعن ولتطيعن ! ثم خلا بالاخر فقال مثل ذلك ، فلما أخذ الميثاق قال : ارفع يدك يا عثمان ، فبايعه فبايع علي ، وولج أهل الدار فبايعوه) .
(*)(12/190)
وروى عمر بن ميمون قال لما طعن عمر دخل عليه كعب الاحبار فقال (الحق من ربك فلا تكونن من الممترين) (1) قد أنباتك أنك شهيد فقال من أين لى بالشهادة وأنا بجزيرة العرب ! .
وروى ابن عباس قال : لما طعن عمر وجئته بخبر أبى لؤلؤة أتيته والبيت ملان فكرهت أن أتخطى رقابهم - وكنت حديث السن - فجلست وهو مسجى وجاء كعب الاحبار وقال لئن دعا أمير المؤمنين ليبقيه الله لهذه الامة حتى يفعل فيها كذا وكذا ! حتى ذكر المنافقين فيمن ذكر فقلت : أبلغه ما تقول : قال : ما قلت إلا وأنا أريد أن تبلغه فتشجعت وقمت فتخطيت رقابهم حتى جلست عند رأسه وقلت إنك أرسلتني بكذا إن عبد المغيرة قتلك وأصاب معك ثلاثه عشر إنسانا وإن كعبا هاهنا وهو يحلف بكذا فقال ادعو إلى كعبا فدعى فقال : ما تقول ؟ قال : أقول كذا قال لا والله لا أدعو ولكن شقى عمر إن لم يغفر الله له .
وروى المسورين مخرمة أن عمر لما طعن أغمى عليه طويلا فقيل إنكم لم توقظوه بشئ مثل الصلاة إن كانت به حياة ! فقالوا ! الصلاة يا أمير المؤمنين ، الصلاة قد صليت ! فانتبه فقال : الصلاة لاها الله لا أتركها لا حظ في الاسلام لمن ترك الصلاة ! فصلى وإن جرحه لينثعب (2) دما .
وروى المسور بن مخرمة أيضا قال : لما طعن عمر جعل يألم ويجزع فقال ابن عباس : ولا وكل ذلك يا أمير المؤمنين لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وآله فأحسنت صحبته ثم فارقته وهو عنك راض وصحبت أبا بكر وأحسنت صحبته وفارقك وهو عنك راض ثم صحبت المسلمين فأحسنت إليهم وفارقتهم وهم عنك راضون
__________
(1) سورة البقرة 147 (2) ينثعب : يسيل .
(*)(12/191)
قال أما ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وأبى بكر فذلك مما من الله به على وأما ما ترى من جزعى فوالله لو أن لى بما في الارض ذهبا لافتديت به من عذاب الله قبل أن أراه - وفى رواية لافتديت به من هول المطلع .
وفى رواية المغرور من غررتموه ! لو أن لى ما على ظهرها من صفراء وبيضاء لافتديت به من هول المطلع وفي رواية : في الامارة على تثنى يا بن عباس ! قلت : وفى غيرها ، قال : والذى نفسي بيده لوددت أنى خرجت منها كما دخلت فيها لا حرج ولا وزر وفى رواية لو كان لى ما طلعت عليه الشمس لافتديت به من كرب ساعة - يعنى الموت - كيف ولم أرد الناس بعد ! وفى رواية لو أن لى الدنيا وما فيها لافتديت به من هول ما أمامى قبل أن أعلم ما الخبر .
قال ابن عباس فسمعنا صوت أم كلثوم وا عمراه ! وكان معها نسوة يبكين فارتج البيت بكاء فقال عمر : ويلم عمر إن الله لم يغفر له ! فقلت : والله إنى لارجو ألا تراها إلا مقدار ما قال الله تعالى (وإن منكم إلا واردها) (1) إن كنت - ما علمنا - لامير المؤمنين وسيد المسلمين تقضى بالكتاب وتقسم بالسوية .
فأعجبه قولى فاستوى جالسا فقال أتشهد لى بهذا يا بن عباس ؟ فكععت - أي جبنت - فضرب على عليه السلام بين كتفي وقال : أشهد وفي رواية لم تجزع يا أمير المؤمنين ؟ فوالله لقد كان إسلامك عزا وإمارتك فتحا ولقد ملات الارض عدلا فقال : أتشهد لي بذلك يا بن عباس ؟ قال : فكأنه كره الشهادة فتوقف فقال له على عليه السلام قل : نعم ، وأنا معك ، فقال : نعم .
وفى رواية أنه قال : مسست جلده وهو ملقى فقلت : جلد لا تمسه النار أبدا فنظر إلى نظرة جعلت أرثى له منها ، قال : وما علمك بذلك ؟ قلت : صحبت رسول الله صلى الله عليه وآله فأحسنت صحبته ...
الحديث ، فقال : لو أن لى ما في الارض لافتديت
__________
(1) سورة مريم 71 .
(*)(12/192)
به من عذاب الله قبل أن ألقاه أو أراه .
وفي رواية قال فأنكرنا الصوت وإذا عبد الرحمن بن عوف وقيل طعن أمير المؤمنين فانصرف الناس وهو في دمه مسجى لم يصل الفجر بعد فقيل يا أمير المؤمنين الصلاة ! فرفع رأسه وقال لاها الله إذن لا حظ لامرئ في الاسلام ضيع صلاته .
ثم وثب ليقوم فانثعب جرحه دما فقال هاتوا لى عمامه فعصب بها جرحه ثم صلى وذكر ثم التفت إلى ابنه عبد الله وقال ضع خدى إلى الارض يا عبد الله قال عبد الله فلم أعج بها وظننت أنها اختلاس من عقله فقالها مرة أخرى : ضع خدى إلى الارض يا بنى فلم أفعل فقال الثالثة : ضع خدى إلى الارض لا أم لك ! فعرفت أنه مجتمع العقل ولم يمنعه أن يضعه هو إلا ما به من الغلبة فوضعت خده إلى الارض حتى نظرت إلى أطراف شعر لحيته خارجة من أضعاف التراب وبكى حتى نظرت إلى الطين قد لصق بعينه فأصغيت أذنى لاسمع ما يقول فسمعته يقول يا ويل عمر ! وويل أم عمر إن لم يتجاوز الله عنه وقد جاء في رواية أن عليا عليه السلام جاء حتى وقف عليه فقال : ما أحد أحب إلى أن ألقى الله بصحيفته من هذا المسجى ! وروى عن حفصه أم المؤمنين ، قالت : سمعت أبى يقول في دعائه اللهم قتلا في سبيلك ووفاة في بلد نبيك ! قلت : وأنى يكون هذا ؟ قال : يأتي به الله إذا شاء ويروى أن كعبا كان يقول له نجدك في كتبنا تموت شهيدا فيقول كيف لى بالشهادة وأنا في جزيرة العرب ! .
وروى المقدام بن معد يكرب قال لما أصيب عمر دخلت عليه حفصة ابنته فنادت يا صاحب رسول الله ويا صهر رسول الله ويا أمير المؤمنين ! فقال لابنه عبد الله أجلسني فلا صبر لى على ما أسمع فأسنده إلى صدره فقال لها : إنى أحرج عليك(12/193)
بما لى عليك من الحق أن تندبيني عينك فلن أملكها إنه ليس من ميت يندب عليه بما ليس فيه إلا الملائكة تمقته .
وروى الاحنف قال : سمعت عمر يقول : إن قريشا رؤوس الناس ليس أحد منهم يدخل من باب إلا دخل معه طائفة من الناس فلما أصيب عمر أمر صهيبا أن يصلى بالناس ثلاثة أيام ويطعمهم حتى يجتمعوا على رجل فلما وضعت الموائد كف الناس عن الطعام فقال العباس بن عبد المطلب أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات فأكلنا بعده ومات أبو بكر فأكلنا بعده وإنه لا بد للناس من الاكل ثم مد يده فأكل من الطعام فعرفت قول عمر .
ويروى كثير من الناس الشعر المذكور في الحماسة ويزعم أن هاتفا من الجن هتف به وهو جزيت عن الاسلام خيرا وباركت يد الله في ذاك الاديم الممزق (1) فمن يسع أو يركب جناحى نعامة ليدرك ما قدمت بالامس يسبق قضيت أمورا ثم غادرت بعدها بوائق في أكمامها لم تفتق (2) أبعد قتيل بالمديند أظلمت له الارض تهتز العضاد بأسؤق ! (3) وما كنت أخشى أن تكون وفاته بكفى سبنتى أزرق العين مطرق (4) تظل الحصان البكر يلقى جنينها نثا خبر فوق المطى معلق .
والاكثرون يروونها لمزرد أخى الشماخ ومنهم من يرويها للشماخ نفسه * (هامش) (1) ديوان الحماسة - بشرح المرزوقي 3 : 1090 ونسبها إلى الشماخ .
(2) البوائق : الدواهي العامة .
(3) العضاه : شجر .
(4) السبنتي ، أصله في النمر ، ويستعمل في الجرئ المقدم .
والمطرق : الغليظ الجفن الثقيله .
(*)(12/194)
[ فصل في ذكر ما طعن به على عمر والجواب عنه ] ونذكر في هذا الموضع به على عمر في (المغنى) من المطاعن وما اعترض به الشريف المرتضى على قاضى القضاد وما أجاب به قاضى القضاة في كتابه المعروف (بالشافي) ونذكر ما عندنا في البعض من ذلك الطعن الاول قال قاضى القضاة : أول ما طعن به عليه قول من قال : إنه بلغ من قلة علمه أنه لم يعلم أن الموت يجوز على النبي صلى الله عليه وآله وأنه أسوة الانبياء في ذلك حتى قال والله ما مات محمد ولا يموت حتى تقطع أيدى رجال وأرجلهم فلما تلا عليه أبو بكر قوله تعالى (إنك ميت وإنهم ميتون) (1) وقوله (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل إنقلبتم على اعقابكم ...
) (2) الاية قال : أيقنت بوفاته وكأني لم أسمع هذه الايه فلو كان يحفظ القرآن أو يفكر فيه لما قال ذلك وهذا يدل على بعده من حفظ القرآن وتلاوته ومن هذا حاله لا يجوز أن يكون إماما .
قال قاضى القضاة وهذا لا يصح لانه قد روى عنه أنه قال كيف يموت وقد قال الله تعالى (ليظهره على الدين كله) (3) وقال : (وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) (4) ولذلك نفى موته عليه السلام لانه حمل الاية على أنها خبر عنه في حال حياته
__________
(1) سورة المؤمن 15 (2) سورة آل عمران 144 .
(3) سورة التوبة 33 (4) سورة النور 55 .
(*)(12/195)
حتى قال له أبو بكر : إن الله وعده بذلك وسيفعله وتلا عليه ما تلا فأيقن عند ذلك بموته وإنما ظن أن موته يتأخر عن ذلك الوقت لاأنه منع من موته .
ثم سأل (1) قاضى القضاة نفسه فقال : فإن قيل : فلم قال لابي بكر عند قراءة الاية : كأنى لم أسمعها ووصف نفسه بأنه أيقن بالوفاة ! .
وأجاب بأن قال : لما كان الوجه في ظنه ما أزال أبو بكر الشبهة فيه جاز أن يتيقن ثم سأل نفسه عن سبب يقينه فيما لا يعلم إلا بالمشاهدة .
وأجاب بأن قرينة الحال عند سماع الخبر أفادته اليقين ولو لم يكن في ذلك إلا خبر أبى بكر وادعاؤه لذلك والناس مجتمعون لحصل اليقين .
وقوله كأنى لم أقرأ هذه الاية أو لم أسمعها تنبيه على (2) ذهوله عن الاستدلال بها لا أنه على الحقيقة لم يقرأها ولم يسمعها ولا يجب فيمن ذهب عن بعض أحكام الكتاب ألا يعرف القرآن لان ذلك لو دل لوجب ألا يحفظ القرآن إلا من يعرف جميع أحكامه ثم ذكر أن حفظ القرآن كله غير واجب ولا يقدح الاخلال به في الفضل .
وحكى عن الشيخ أبى على أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يحط علمه بجميع الاحكام ولم يمنع ذلك من فضله واستدل بما روى من قوله كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله حديثا نفعني الله به ما شاء أن ينفعني وإذا حدثنى غيره أحلفته فان حلف لى صدقته وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر وذكر أنه لم يعرف أي موضع يدفن فيه رسول الله صلى الله عليه وآله حتى رجع إلى ما رواه أبو بكر وذكر قصة الزبير في موالى صفية وإن أمير المؤمنين عليه السلام أراد أن يأخذ ميراثهم كما أن عليه أن يحمل عقلهم حتى أخبره عمر بخلاف ذلك من أن الميراث للاب والعقل على العصبة
__________
(1) الشافي : (ثم قال) .
(2) الشافي : (تنبيه عن ذهابه إلى الاستدلال) .
(*)(12/196)
.
ثم سأل نفسه فقال : كيف يجوز ما ذكرتم على أمير المؤمنين عليه السلام مع قوله (سلونى قبل أن تفقدوني) وقوله إن هاهنا علما جما) يومئ إلى قلبه وقوله (لو ثنيت لى الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الانجيل بانجيلهم وبين أهل الزبور بزبورهم وبين أهل القرآن بقرآنهم) وقوله : (كنت إذا سئلت أجبت وإذا سكت ابتديت) .
وأجاب عن ذلك بأن هذا إنما يدل على عظم المحل في العلم من غير أن يدل على الاحاطد بالجميع .
وحكى عن أبى على استبعاده ماروى من قوله (لو ثنيت الوسادة) قال : لانه لا يجوز أن يصف نفسه بانه يحكم بما لا يجوز ومعلوم أنه عليه السلام لا يحكم بين الجميع إلا بالقرآن ثنيت له الوسادة أو لم تثن وهذا يدل على أن الخبر موضوع .
فاعترض الشريف المرتضى فقال : ليس يخلو خلاف عمر في وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله من أن يكون على سبيل الانكار لموته على كل حال والاعتقاد بأن الموت لا يجوز عليه على كل وجه أو يكون منكرا لموته في تلك الحال من حيث لم يظهر دينه على الدين كله وما أشبه ذلك مما قال صاحب الكتاب : إنها كانت شبهد في تأخر موته عن تلك الحال .
فإن كان الوجه الاول فهو مما لا يجوز خلاف العقلاء في مثله والعلم بجواز الموت على سائر البشر لا يشك فيه عاقل والعلم من دينه عليه السلام بأنه سيموت كما مات من قبله ضروري وليس يحتاج في مثل هذا إلى الايات التى تلاها أبو بكر من قوله تعالى (إنك ميت وإنهم ميتون) وما أشبهها وإن كان خلافه على الوجه الثاني تأول ما فيه أن هذا الخلاف لا يليق بما احتج به أبو بكر من قوله تعالى (إنك ميت وإنهم ميتون) لانه لم ينكر على هذا جواز الموت وإنما خالف في تقدمه وقد كان يجب أن يقول له وأى حجة في هذه الايات على(12/197)
من جوز عليه صلى الله عليه وآله الموت في المستقبل وأنكره في هذه الحال ! وبعد فكيف دخلت الشبهة البعيدة على عمر من بين سائر الخلق ! ومن أين زعم أنه لا يموت حتى يقطع أيدى رجال وأرجلهم ! وكيف حمل معنى قوله تعالى : (ليظهره على الدين كله) وقوله (وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) على أن ذلك لا يكون في المستقبل بعد الوفاة ! وكيف لم يخطر هذا إلا لعمر وحده ومعلوم أن ضعف الشبهة إنما يكون من ضعف الفكرة وقلة التأمل والبصيرة ! وكيف لم يوقن بموته لما رأى ما عليه أهل الاسلام من اعتقاد موته وما ركبهم من الحزن والكابه لفقده ! وهلا دفع بهذا اليقين ذلك التأويل البعيد فلم يحتج إلى موقف ومعرف ! وقد كان يجب - إن كانت هذه شبهة - أن يقول في حال مرض رسول الله صلى الله عليه وآله وقد رأى جزع أهله وأصحابه وخوفهم عليه من الوفاة حتى يقول أسامة بن زيد معتذرا من تباطئه (1) عن الخروج في الجيش الذى كان رسول الله صلى الله عليه وآله يكرر ويردد الامر حينئذ بتنفيذه لم أكن لاسأل عنك الركب - : ما هذا الجزع والهلع وقد أمنكم الله من موته بكذا في وجه كذا وليس هذا من أحكام الكتاب التى يعذر من لا يعرفها على ما ظنه صاحب الكتاب (2) .
قلت الذى قرأناه ورويناه من كتب التواريخ يدل على إن عمر أنكر موت رسول الله صلى الله عليه وآله من الوجهين المذكورين أنكر أولا أن يموت إلى يوم القيامة واعتقد عمر أنه يعمر كما يعتقد كثير من الناس في الخضر فلما حاجه أبو بكر بقوله تعالى (إنك ميت وإنهم ميتون) وبقوله (أفإن مات أو قتل) رجع عن ذلك الاعتقاد .
وليس يرد على هذا ما اعترض به المرتضى لان عمر ما كان يعتقد استحالة الموت عليه كاستحالة الموت على البارئ تعالى - أعنى الاستحالة الذاتية بل اعتقد استمرار حياته إلى يوم
__________
(1) الشافي : (من تأخره) .
(2) الشافي 252 .
(3) سورة الزمر 30 (4) سورة آل عمران 144 .
(*)(12/198)
القيامة مع كون الموت جائزا في العقل عليه ولا تناقض في ذلك فإن إبليس يبقى حيا إلى يوم القيامة مع كون موته جائزا في العقل وما أورده أبو بكر عليه لازم على إن يكون نفيه للموت على هذا أوجه .
وأما الوجه الثاني فهو أنه لما دفعه أبو بكر عن ذلك الاعتقاد وقف مع شبهه أخرى اقتضت عنده أن موته يتأخر وإن لم يكن إلى يوم القيامة وذلك أنه تأول قوله تعالى (هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله) (1) فجعل الضمير عائدا على الرسول لا على الدين وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يظهر بعد على سائر الاديان فوجب أن تستمر حياته إلى أن يظهر على الاديان بمقتضى الوعد الذى لا يجوز عليه الخلف والكذب فحاجه أبو بكر من هذا المقام فقال له : إنما أراد ليظهر دينه وسيظهره فيما بعد ولم يقل (ليظهره الان) فمن ثم قال له : ولو أراد ليظهر الرسول صلى الله عليه وسلم على الدين كله لكان الجواب واحدا لانه إذا ظهر دينه فقد أظهره هو .
فأما قول المرتضى رحمه الله (وكيف دخلت هذه الشبهة على عمر من بين الخلق ؟) فهكذا تكون الخراطر والشبه ! والاعتقادات تسبق إلى ذهن واحد دون غيره وكيف دخلت الشبهة على جماعة منعوا الزكاة واحتجوا بقوله تعالى (وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) (2) دون غيرهم من قبائل العرب ! وكيف دخلت الشبهة على أصحاب الجمل وصفين دون غيرهم ! وكيف دخلت الشبهة على خوارج النهروان دون غيرهم ! وهذا باب واسع فأما قوله (ومن أين زعم أنه لا يموت حتى تقطع أيدى رجال وأرجلهم) فإن الذى
__________
(1) سورة التوبة 23 (2) سورة التوبة 96 .
(*)(12/199)
ذكره المؤرخون أنه قال : ما مات رسول الله صلى الله عليه وآله وإنما غاب عنا كما غاب موسى عن قومه وسيعود فتقطع أيدى رجال وأرجلهم ممن أرجف بموته وهذه الرواية تخالف ما ذكره المرتضى .
فأما قوله : وكيف حمل معنى قوله : (ليظهره على الدين كله) وقوله (وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) (1) على أن ذلك لا يكون في المستقبل ! فقد بينا الشبهة الداخلة عليه في ذلك وكونه ظن أن ذلك يكون معجلا على الفور وكذلك قوله (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملو الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) (1) فانه ظن أن هذا العموم يدخل فيه رسول الله صلى الله عليه وآله لانه سيد المؤمنين وسيد الصالحين أو أنه لفظ عام والمراد به رسول الله وحده كما ورد في كثير من آيات القرآن مثل ذلك فظن أن هذا الاستخلاف في جميع الارض وتبديل الخوف بالامن إنما هو على الفور لا على التراخي وليست هذه الشبهة بضعيفة جدا كما ظن المرتضى بل هي موضع نظر .
فأما قوله (كيف لم يؤمن بموته لما رأى من كآبه الناس وحزنهم !) فلان الناس يبنون الامر على الظاهر وعمر نظر في أمر باطن دقيق فأعتقد أن الرسول لم يمت وإنما ألقى شبهة على غيره كما ألقى شبه عيسى على غيره فصلب وعيسى قد رفع ولم يصلب واعلم أن أول من سن لاهل الغيبة من الشيعة القول بأن الامام لم يمت ولم يقتل وإن كان في الظاهر وفى مرأى العين قد قتل أو مات إنما هو عمر ولقد كان يجب على المرتضى وطائفته أن يشكروه على ما أسس لهم من هذا الاعتقاد .
__________
(1) سورة النور 55 .
(*)(12/200)
فأما قوله فهلا قال في مرض رسول الله صلى الله عليه وآله لما رأى جزعهم لموته : (قد أمنكم الله من موته) ! فغير لازم لان الشبهة لا تجب أن تخطر بالبال في كل الاوقات فلعله قد كان في ذلك الوقت غافلا عنها مشغول الذهن بغيرها ولو صح للمرتضى هذا لوجب أن يدفع ويبطل كل ما يتجدد ويطرأ على الناس من الشبهة في المذاهب والاراء فنقول : كيف طرأت عليهم هذه الشبهات الان ولم تطرأ عليهم من قبل ؟ وهذا من اعتراضات المرتضى الضعيفة على أنا قد ذكرنا نحن في الجزء الاول من هذا الكتاب ما قصده عمر بقوله (أن رسول الله لم يمت) وقلنا فيه قولا شافيا لم نسبق إليه فليعاود ثم قال المرتضى : فأما ما روى عن أمير المؤمنين عليه السلام من خبر الاستحلاف في الاخبار فلا يدل على عدم علم أمير المؤمنين بالحكم لانه يجوز أن يكون استحلافه ليرهب المخبر ويخوفه من الكذب على النبي صلى الله عليه وآله لان العلم بصحة الحكم الذى يتضمنه الخبر لا يقتضى صدق المخبر وأيضا فلا تاريخ لهذا الحديث (1) ويمكن أن يكون استحلافه عليه السلام للرواة (2) إنما كان في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وفى تلك الحال لم يكن محيطا بجميع الاحكام .
فأما حديث الدفن وإدخاله في باب أحكام الدين التى يجب معرفتها فطريف وقد يجوز أن يكون أمير المؤمنين عليه وآله سمع من النبي صلى الله عليه وآله في باب الدفن مثل ما سمعه أبو بكر وكان عازما على العمل به حتى روى أبو بكر ما رواه فعمل بما كان يعلمه لا من طريق أبى بكر وظن الناس أن العمل لاجله ويجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وآله خير وصيه عليه السلام في موضع دفنه ولم يعين له موضعا بعينه فلما روى أبو بكر ما رواه رأى موافقته فليس في هذا دلالة على أنه عليه السلام استفاد حكما لم يكن عنده .
__________
(1) الشافي : (الخبر) .
(2) الشافي : (في الاخبار) .
(*)(12/201)
وأما موالى صفية فحكم الله فيهم ما أفتى به أمير المؤمنين عليه السلام وليس سكوته حيث سكت عند عمر رجوعا عما أفتى به ولكنه كسكوته عن كثير من الحق تقيه ومداراة للقوم .
وأما قوله عليه السلام (سلونى قبل أن تفقدوني) وقوله (إن هاهنا لعلما جما) إلى غير ذلك فانه لا يدل على عظم المحل في العلم فقط على ما ظنه صاحب الكتاب بل هو قول واثق بنفسه آمن من أن يسأل عما لا يعلمه وكيف يجوز أن يقول مثله على رؤوس الاشهاد وظهور المنابر (سلونى قبل أن تفقدوني) وهو يعلم أن كثيرا من أحكام الدين يعزب عنه (1) وأين كان أعداؤه والمنتهزون لفرصته وزلته عن سؤاله عن مشكل المسائل وغوامض الاحكام ! والامر في هذا ظاهر .
فأما استبعاد أبى على لما روى عنه عليه السلام من قوله (لو ثنيت لى الوسادة) للوجه الذى ظنه فهو البعيد فانه لم يفطن لغرضه عليه السلام وإنما أراد : أنى كنت أقاضيهم إلى كتبهم الدالة على البشارة بنبينا صلى الله عليه وآله وصحة شرعه فأكون حاكما حينئذ عليهم بما تقتضيه كتبهم من هذه الشريعة واحكام هذا القرآن وهذا من جليل الاغراض وعظيمها (2) .
الطعن الثاني أنه أمر برجم حامل حتى نبهه معاذ وقال : إن يكن لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها فرجع عن حكمه وقال : لو لا معاذ لهلك عمر ومن يجهل هذا القدر لا يجوز أن يكون إماما لانه يجرى مجرى أصول الشرع بل العقل يدل عليه لان الرجم عقوبة ولا يجوز أن يعاقب من لا يستحق .
__________
(1) الشافي : (يغرب) .
(2) الشافي 252 ، 253 .
(*) .(12/202)
اعتذر قاضى القضاة عن هذا فقال : إنه ليس في الخبر إنه أمر برجمها مع علمه بأنها حامل لانه ليس ممن يخفى عليه هذا القدر وهو أن الحامل لا ترجم حتى تضع وإنما ثبت عنده زناها فأمر برجمها على الظاهر وإنما قال : ما قال : في معاذ لانه نبهه على أنها حامل .
ثم سأل (1) نفسه فقال : فإن قيل : إذا لم تكن منه معصية فكيف يهلك لولا معاذ ! وأجاب بأنه لم يرد لهلك من جهة العذاب وإنما أراد أنه كان يجرى بقوله قتل من لا يستحق القتل ويجوز أن يريد بذلك تقصيره في تعرف حالها لان ذلك لا يمتنع أن يكون بخطيئة وإن صغرت .
اعترض المرتضى على هذا الاعتذار فقال : لو كان (2) الامر على ما ظننته لم يكن تنبيه معاذ له على هذا الوجه بل كان يجب أن ينبهه بأن يقول له : هي حامل ولا يقول له : إن كان لك سبيل عليها فلا سبيل لك على ما في بطنها لان هذا قول من عنده أنه أمر برجمها مع العلم بحملها وأقل ما يجب لو كان الامر كما ظنه صاحب الكتاب أن يقول لمعاذ ما ذهب على أن الحامل لا ترجم وإنما أمرت برجمها لفقد علمي بحملها فكان ينفى بهذا القول عن نفسه الشبهة ! وفى إمساكه عنه مع شدة الحاجة إليه دليل على صحة قولنا وقد كان يجب أيضا أن يسأل عن الحمل لانه أحد الموانع من الرجم فإذا علم انتفاءه وارتفاعه أمر بالرجم وصاحب الكتاب قد أعترف بأن ترك المسأله عن ذلك تقصير وخطيئة وادعى أنها صغيرة ومن أين له ذلك ولا دليل يدل عنده في غير الانبياء عليه السلام إن معصية بعينها صغيرة .
فأما إقراره بالهلاك لولا تنبيه معاذ فانه يقتضى التعظيم والتفخيم لشأن الفعل ولا يليق ذلك إلا بالتقصير الواقع أما في الامر برجمها مع العلم بانها حامل أو ترك البحث عن ذلك
__________
(1) الشافي : (قال : (فإن قيل) .
(2) الشافي : (يقال له : ما تأولت به في الخبر من التأويل البعيد ، لان لو كان الامر على ما ظنه ...
) .
(*)(12/203)
والمسألة عنه وأى لوم عليه في أن يجرى بقوله قتل من لا يستحق القتل إذا لم يكن ذلك عن تفريط منه ولا تقصير (1) .
قلت أما ظاهر لفظ معاذ فيشعر بما قاله المرتضى ولم يمتنع أن يكون عمر لم يعلم أنها حامل وأن معاذا قد كان من الادب أن يقول له حامل يا أمير المؤمنين فعدل عن هذا اللفظ بمقتضى أخلاق العرب وخشونتهم فقال له : إن كان لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها فنبهه على العلة والحكم معا وكان الادب أن ينبهه على العلة فقط .
وأما عدول عمر عن أن يقول أنا أعلم أن الحامل لا ترجم وإنما أمرت برجمها لانى لم أعلم أنها حامل فلانه إنما يجب أن يقول مثل هذا من يخاف من اضطراب حاله أو نقصان ناموسه وقاعدته إن لم يقله وعمر كان أثبت قدما في ولايته وأشد تمكنا من أن يحتاج إلى الاعتذار بمثل هذا .
وأما قول المرتضى كان يجب أن يسأل عن الحمل لانه أحد الموانع من الرجم فكلام صحيح لازم ولاريب أن ترك السؤال عن ذلك نوع من الخطأ ولكن المرتضى قد ظلم قاضى القضاة لانه زعم أنه ادعى أن ذلك صغيرة ثم أنكر عليه ذلك ومن أين له ذلك ! وأى دليل دل على أن هذه المعصية صغيرة وقاضي القضاة ما ادعى أن ذلك صغيرة ! بل قال : لا يمتنع أن يكون ذلك خطيئة وإن صغرت والعجب أنه حكى لفظ قاضى القضاة بهذه الصورة ، ثم قال : إنه ادعى أنها صغيرة ، وبين قول القائل (لا يمتنع أن يكون صغيرة) وقوله (هي صغيرة) لا محالة فرق عظيم .
وأما قول عمر : لولا معاذ لهلك عمر فان ظاهر اللفظ يشعر بما يريده المرتضى وينحو إليه ولا يمتنع أن يكون المقصود به ما ذكره قاضى القضاة وإن كان مرجوحا فإن القائل خطأ
__________
(1) الشافي 353 .
(*)(12/204)
قد يقول : هلكت ليس يعنى به العقاب يوم القيامة بل لوم الناس وتعنيفهم إياه على ترك الاحتراس وإهمال التثبت الطعن الثالث خبر المجنونة التى أمر برجمها ، فنبهه أمير المؤمنين عليه السلام ، وقال : إن القلم مرفوع عن المجنون حتى يفيق فقال : لولا على لهلك عمر (1) ! وهذا يدل على أنه لم يكن يعرف الظاهر من الشريعة .
أجاب قاضى القضاة فقال : ليس في الخبر أنه عرف جنونها فيجوز أن يكون الذى نبه عليه هو جنونها دون الحكم لانه كان يعلم أن الحد لا يقام في حال الجنون وإنما قال : لو لا على لهلك عمر لا من جهة المعصية والاثم لكن لان حكمه لو نفذ لعظم غمه ويقال : في شدة الغم إنه هلاك كما يقال : في الفقر وغيره وذلك مبالغة منه لما كان يلحقه من الغم الذى زال بهذا التنبيه على أن هذا الوجه مما لا يمتنع في الشرع أن يكون صحيحا وأن يقال : إذا كانت مستحقة للحد فاقامته عليها تصح وإن لم يكن لها عقل لانه لا يخرج الحد من أن يكون واقعا موقعه ويكون قوله عليه السلام : (رفع القلم عن ثلاث) يراد به زوال التكليف عنهم دون زوال إجراء الحكم عليهم ومن هذه حاله لا يمتنع أن يكون مشتبها فرجع فيه إلى غيره ولا يكون الخطأ فيه مما يعظم فيمنع من صحة الامامة .
اعترض الشريف المرتضى هذا فقال : لو كان أمر برجم المجنونة من غير علم بجنونها لما قال : له أمير المؤمنين أما علمت أن القلم مرفوع عن المجنون حتى يفيق ! بل كان يقول له بدلا من ذلك هي مجنونة وكان ينبغى أن يقول عمر متبرئا من الشبهة ما علمت بجنونها ولست ممن يذهب عليه أن المجنون لا يرجم فلما رأيناه استعظم ما أمر به وقال : لو لا
__________
(1) بعدها في الشافي : (ويرى ذلك لمعاذ) .
(*)(12/205)
على لهلك عمر دلنا على أنه كان تأثم وتحرج بوقوع الامر بالرجم وأنه مما لا يجوز ولا يحل وإلا فلا معنى لهذا الكلام وأما ذكر الغم فأى غم كان يلحقه إذا فعل ما له أن يفعله ! ولم يكن منه تفريط ولا تقصير لانه إذا كان جنونها لم يعلم به فكانت المسأله عن حالها والبحث لا يجبان عليه فاى وجه لتألمه وتوجعه واستعظامه لما فعله ! وهل هذا إلا كرجم المشهود عليه بالزنا في أنه لو ظهر للامام بعد ذلك براءة ساحته لم يجب أن يندم على فعله ويستعظمه لانه وقع صوابا مستحقا .
وأما قوله إنه كان لا يمتنع في الشرع أن يقام الحد على المجنون وتأوله الخبر المروى على أنه يقتضى زوال التكليف دون الاحكام فان أراد أنه لا يمتنع في العقل أن يقام على المجنون ما هو من جنس الحد بغير استخفاف ولا إهانه فذلك صحيح كما يقام على التائب وأما الحد في الحقيقة وهو الذى تضمنه الاستخفاف والاهانه فلا يجوز إلا على المكلفين ومستحقى العقاب وبالجنون قد أزيل التكليف فزال استحقاق العقاب الذى تبعه الحد .
وقوله : لا يمتنع أن يرجع فيما هذه حاله من المشتبه إلى غيره فليس هذا من المشتبه الغامض بل يجب أن يعرفه العوام فضلا عن العلماء على أنا قد بينا إنه لا يجوز أن يرجع الامام في جلى ولا مشتبه من أحكام الدين إلى غيره .
وقوله : إن الخطأ في ذلك لا يعظم فيمنع من صحة الامامة اقتراح بغير حجة لانه إذا اعترف بالخطأ فلا سبيل للقطع على أنه صغير (1) .
قلت لو كان قد نقل أن أمير المؤمنين قال له : (أما علمت) لكان قول المرتضى قويا ظاهرا إلا أنه لم ينقل هذه الصيغة بعينها والمعروف المنقول أنه قال له : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : (رفع القلم عن ثلاث) فرجع عن رجمها ويجوز أن يكون أشعره بالعلة
__________
(1) الشافي 353 ، 354 .
(*)(12/206)
والحكم معا لان هذا الموضع أكثر اشتباها من حديث رجم الحامل فغلب على ظن أمير المؤمنين أنه لو اقتصر على قوله : إنها مجنونة لم يكن ذلك دافعا لرجمها فأكده برواية الحديث واعتذار قاضى القضاة بالغم جيد وقول المرتضى أي غم كان يلحقه إذا فعل ما له أن يفعله ! ليس بانصاف ولا مثل هذا يقال فيه إنه فعل ما له أن يفعله ولا يقال في العرف لمن قتل إنسانا خطأ إنه فعل ما له أن يفعله والمرجوم في الزنا إذا ظهر للامام بعد قتله براءة ساحته قد يغتم بقتله غما كثيرا بالطبع البشرى ويتألم وإن لم يكن آثما وليس من توابع الاثم ولوازمه .
وقول المرتضى لم يجب أن يندم على ما فعله كلام خارج عما هو بصدده لانه لم يجر ذكر للندم وإنما الكلام في الغم ولا يلزم أن يكون كل مغتم نادما .
وأما اعتراضه على قاضى القضاة في قوله لا يمتنع في الشرع أن ترجم المجنونة فلما اشتبه على عمر الامر سأل غيره عنه بقوله (أن أردت الحد الحقيقي فمعلوم وإن أردت ما هو جنس الحد فمسلم) فليس بجيد لان هذا إنما يكون طعنا على عمر بتقدير ثلاثة أمور : أحدها أن يكون النبي صلى الله عليه وآله قد قال : (أقيموا الحد على الزانى) بهذا اللفظ أعنى أن يكون في لفظ النص ذكر الحد وثانيها أن يكون الحد في اللغة العربية أو في عرف الشرع الذى يتفاهمه الصحابة هو العقوبة المخصوصة التى يقارنها الاستخفاف والاهانة وثالثها ألا يصح إهانه المجنون والاستخفاف به وأن يعلم عمر ذلك فإذا اجتمعت هذه الامور الثلاثة ثم أمر عمر بأن يقام الحد على المجنونة فقد توجه الطعن ومعلوم أنه لم تجتمع هذه الامور الثلاثة فانه ليس في القرآن ولا في السنة ذكر الحد بهذا اللفظ ولا الحد في اللغة العربية هو العقوبة التى يقارنها الاستخفاف والاهانة ولا عرف الشرع ومواضعة الصحابة يشتمل على ذلك وإنما هذا شئ استنبطه المتكلمون المتأخرون بأذهانهم وأفكارهم ثم بتقدير تسليم هذين المقامين لم قال : إن المجنون(12/207)
لا يصح عليه الاستخفاف والاهانة ؟ فمن الجائز أن يصح ذلك عليه وإن لم يتألم بالاستخفاف والاهانة كما يتألم بالعقوبة وإذا صح عليه أن يألم بالعقوبة صح عليه أن يألم بالاستخفاف والاهانة لان الجنون لا يبلغ - وإن عظم - مبلغا يبطل تصور الانسان لاهانته ولاستخفافه وبتقدير ألا يصح على المجنون الاستخفاف والاهانة من أين لنا أن عمر علم أن ذلك لا يصح عليه ! فمن الممكن أن يكون ظن أن ذلك يصح عليه لان هذا مقام اشتباه والتباس .
فاما قوله (قد بينا أنه لا يجوز أن يرجع الامام أصلا إلى غيره) فهو مبنى على مذهبهم وقواعدهم وقوله معترضا على كلام قاضى القضاة : إن الخطأ في ذلك قد لا يعظم ليمنع من صحة الامامة إن هذا اقتراح بغير حجة لانه إذا اعترف بالخطأ فلا سبيل إلى القطع على أنه صغير غير لازم لان قاضى القضاة لم يقطع بأنه صغير بل قال : لا يمتنع وإذا جاز أن يكون صغيرا لم نكن قاطعين على فساد الامامة به .
فإن قال المرتضى كما أنكم لا تقطعون على أنه صغير فتكون الامامة مشكوكا فيها ، قيل له الاصل عدم الكبير ، فإذا حصل الشك في أمر هل هو صغير أم كبير تساقط التعارض ورجعنا إلى الاصل وهو عدم كون ذلك الخطأ كبيرا فلا يمنع ذلك من صحة الامامة .
الطعن الرابع حديث أبى العجفاء وأن عمر منع من المغالاة في صدقات النساء اقتداء بما كان من النبي صلى الله عليه وآله في صداق فاطمه حتى قامت المرأة ونبهته بقوله تعالى (وآتيتم إحداهن قنطارا) (1) على جواز ذلك فقال : كل النساء أفقه من عمر !
__________
(1) سورة النساء 20 .
(*)(12/208)
بما روى أنه تسور على قوم ووجدهم على منكر فقالوا له : إنك أخطات من جهات تجسست وقال الله تعالى : (ولا تجسسوا) (1) ودخلت بغير إذن ولم تسلم (2) .
أجاب قاضى القضاة فقال : علمنا بتقدم عمر في العلم وفضله فيه ضروري فلا يجوز أن يقدح فيه بأخبار أحاديث غير مشهورة وإنما أراد في المشهور أن المستحب الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وأن المغالاة فيها ليس بمكرمة ثم عند التنبيه علم أن ذلك مبنى على طيب النفس فقال : ما قاله على جهه التواضع لان من أظهر الاستفادة من غيره - وإن قل علمه - فقد تعاطى الخضوع ونبه على أن طريقته أخذ الفائدة أينما وجدها وصير نفسه قدوة في ذلك وأسوة وذلك حسن من الفضلاء وأما حديث التجسس فإن كان فعله فقد كان له ذلك لان للامام أن يجتهد في إزاله المنكر بهذا الجنس من الفعل وإنما لحقه - على ما (3) يروى في الخبر - الخجل لانه لم يصادف الامر على ما القى إليه في إقدامهم على المنكر اعترض المرتضى على هذا الجواب فقال له : أما تعويلك على العلم الضرورى بكونه من أهل العلم والاجتهاد فذلك إذا صح لم ينفعك لانه قد يذهب على من هو بهذه الصفة كثير من الاحكام حتى ينبه عليها ويجتهد فيها وليس العلم الضرورى ثابتا بأنه عالم بجميع أحكام الدين فيكون قاضيا على هذه الاخبار فأما تأوله الحديث وحمله على الاستحباب فهو دفع للعيان لان المروى أنه منع من ذلك وحظره حتى قالت المرأة ما قالت ولو كان غير حاظر للمغالاة لما كان في الاية حجة ولا كان لكلام المرأة موقع ولا كان يعترف لها بأنها أفقه منه بل كان الواجب أن يرد عليها ويوبخها ويعرفها أنه ما حظر لذلك وإنما تكون
__________
(1) سورة الحجرات 12 (2) ا : (ودخلت ولم تسلم) .
(3) ا : (روى) .
(*) .(12/209)
الاية حجة عليه لو كان حاظر مانعا فأما التواضع فلا يقتضى إظهار القبيح وتصويب الخطأ ولو كان الامر على ما توهمه صاحب الكتاب لكان هو المصيب والمرأة مخطئة فكيف يتواضع بكلام يوهم أنه المخطئ وهى المصيبة ! فأما التجسس فهو محظور بالقرآن والسنة وليس للامام أن يجتهد فيما يؤدى إلى مخالفه الكتاب والسنة وقد كان يجب إن كان هذا عذرا صحيحا أن يعتذر به إلى من خطأه في وجهه وقال له : إنك أخطأت السنة من وجوه فانه بمعاذير نفسه أعلم من صاحب الكتاب وتلك الحال حال تدعو إلى الاحتجاج وإقامة العذر (1) .
قلت قصارى هذا الطعن إن عمر اجتهد في حكم أو أحكام فأخطأ فلما نبه عليها رجع وهذا عند المعتزلة وأكثر المسلمين غير منكر وإنما ينكر أمثال هذا من يبطل الاجتهاد ويوجب عصمة الامام فإذا هذا البحث ساقط على أصول المعتزلة والجواب عنه غير لازم علينا .
الطعن الخامس أنه كان يعطى من بيت المال ما لا يجوز حتى إنه كان يعطى عائشة وحفصة عشرة آلاف درهم في كل سنة منع أهل البيت خمسهم الذى يجرى مجرى الواصل إليهم من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وأنه كان عليه ثمانون ألف درهم من بيت المال على سبيل القرض .
أجاب قاضى القضاة : بأن دفعه إلى الازواج جائز من حيث أن لهن حقا في بيت
__________
(1) الشافي 254 ، وزاد بعدها : (وكل هذا تلزيق وتلفيق) .
(*)(12/210)
المال وللامام أن يدفع ذلك على قدر ما يراه وهذا الفعل قد فعله من قبله ومن بعده ولو كان منكرا لما استمر عليه أمير المؤمنين عليه السلام وقد ثبت استمراره عليه ولو كان ذلك طعنا لوجب - إذا كان يدفع إلى الحسن والحسين وإلى عبد الله بن جعفر وغيرهم من بيت المال شيئا - أن يكون في حكم الخائن وكل ذلك يبطل ما قالوه لان بيت المال إنما يراد لوضع الاموال في حقوقها ثم الاجتهاد وإلى المتولي للامر في الكثرة والقلة .
فأما أمر الخمس فمن باب الاجتهاد وقد اختلف الناس فيه فمنهم من جعله حقا لذوى القربى وسهما مفردا لهم على ما يقتضيه ظاهر الاية ومنهم من جعله حقا لهم من جهة الفقر وأجراهم مجرى غيرهم وإن كانوا قد خصوا بالذكر كما أجرى الايتام - وإن خصوا بالذكر - مجرى غيرهم في أنهم يستحقون بالفقر والكلام في ذلك يطول فلم يخرج عمر بما حكم به عن طريقة الاجتهاد ومن قدح في ذلك فانما يقدح في الاجتهاد الذى هو طريقه الصحابة .
فأما اقتراضه من بيت المال فان صح فهو غير محظور بل ربما كان أحوط إذا كان على ثقة من رده بمعرفة الوجه الذى يمكنه منه الرد وقد ذكر الفقهاء ذلك وقال : أكثرهم إن الاحتياط في مال الايتام وغيرهم أن يجعل في ذمة الغنى المأمون لبعده عن الخطر ولا فرق بين أن يقرض الغير أو يقترضه لنفسه ومن بلغ في أمره أن يطعن على عمر بمثل هذه الاخبار - مع ما يعلم من سريرته وتشدده في ذات الله واحتياطه فيما يتصل بملك الله وتنزهه عنه حتى فعل بالصبى الذى أكل من تمر الصدقة واحدة ما فعل وحتى كان يرفع نفسه عن الامر الحقير ويتشدد على كل أحد حتى على ولده - فقد أبعد في القول .
اعترض المرتضى فقال : أما تفصيل الازواج فانه لا يجوز لانه لا سبب فيهن(12/211)
يقتضى ذلك وإنما يفضل الامام في العطاء ذوى الاسباب المقتضية لذلك مثل الجهاد وغيره من الامور العام نفعها للمسلمين .
وقوله إن لهن حقا في بيت المال صحيح إلا أنه لا يقتضى تفضيلهن على غيرهن وما عيب بدفع حقهن إليهن وإنما عيب بالزيادة عليه وما يعلم أن أمير المؤمنين عليه السلام استمر على ذلك - وإن كان صحيحا كما ادعى - فالسبب الداعي إلى الاستمرار عليه هو السبب الداعي إلى الاستمرار على جميع الاحكام فأما تعلقه بدفع أمير المؤمنين إلى الحسن والحسين وغيرهما شيئا من بيت المال فعجب ! لانه لم يفضل هؤلاء في العطية فيشبه ما ذكرناه في الازواج وإنما أعطاهم حقوقهم وسوى بينهم وبين غيرهم .
فأما الخمس فهو للرسول ولاقربائه على ما نطق به القرآن وإنما عنى تعالى بقوله (ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) (1) من كان من آل الرسول خاصة لادلة كثيرة لا حاجة بنا إلى ذكرها هاهنا وقد روى سليم بن قيس الهلالي قال : سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول : نحن والله الذين عنى الله بذى القربى قرنهم الله بنفسه ونبيه صلى الله عليه وآله فقال : (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) (2) كل هؤلاء منا خاصة ولم يجعل لنا سهما في الصدقة أكرم الله تعالى نبيه وأكرمنا أن يطعمنا أوساخ ما في أيدى الناس وروى يزيد بن هرم قال : كتب نجده إلى ابن عباس يسأله عن الخمس لمن هو ؟ فكتب إليه كتبت تسألني عن الخمس لمن هو ؟ وإنا كنا نزعم أنه لنا فأبى قومنا علينا ذلك فصبرنا عليه .
قال : وأما الاجتهاد الذي عول عليه فليس عذرا في إخراج الخمس عن أهله فقد أبطلناه .
__________
(1) سورة الانفال 41 .
(2) سورة الحشر 7 .
(*)(12/212)
وأما الاقتراض من بيت المال فهو مما يدعو إلى الريبة ومن كان من التشدد والتحفظ والتقشف على الحد الذى ذكره كيف تطيب نفسه بالاقتراض من بيت المال وفيه حقوق وربما مست الحاجة إلى الاخراج منها وأى حاجة لمن كان جشب المأكل خشن الملبس يتبلغ بالقوت إلى اقتراض الاموال ! .
فأما حكايته عن الفقهاء أن الاحتياط أن يحفظ مال الايتام في ذمة الغنى المأمون فذلك إذا صح لم يكن نافعا له لان عمر لم يكن غنيا ولو كان غنيا لما اقترض فقد خرج اقتراضه عن أن يكون من باب الاحتياط وإنما اشترط (1) الفقهاء مع الامانة الغنى لئلا تمس الحاجة إليه فلا يمكن ارتجاعه ولهذا قلنا إن اقتراضه لحاجته إلى المال لم يكن صوابا وحسن نظر للمسلمين (2) .
قلت أما قوله : لا يجوز للامام أن يفضل في العطاء الا لسبب يقتضى ذلك كالجهاد فليست أسباب التفضيل مقصورة على الجهاد وحده فقد يستحق الانسان التفضيل في العطاء على غيره لكثرة عبادته أو لكثرة علمه أو انتفاع الناس به فلم لا يجوز أن يكون عمر فضل الزوجات لذلك ! .
وأيضا فان الله تعالى فرض لذوى القربى من رسول الله صلى الله عليه وآله نصيبا في الفئ والغنيمة ليس إلا لانهم ذوو قرابته فقط فما المانع من أن يقيس عمر على ذلك ما فعله في العطاء فيفضل ذوى قرابة رسول في ذلك على غيرهم ليس إلا لانهم ذوو قرابته والزوجات وإن لم يكن لهن قربى النسب فلهن قربى الزوجية وكيف يقول المرتضى ما جاز أن يفضل أحدا إلا بالجهاد ! وقد فضل الحسن والحسين على كثير من أكابر المهاجرين والانصار وهما صبيان ماجاهدا ولا بلغا الحلم بعد وأبوهما أمير المؤمنين (1) الشافي : (شرط) .
(2) الشافي 255 ، وبعدها : (وفيه كفاية) .
(*)(12/213)
موافق على ذلك راض به غير منكر له وهل فعل عمر ذلك الا لقربهما من رسول الله صلى الله عليه وآله ! .
ونحن نذكر ما فعله عمر في هذا الباب مختصرا نقلناه من كتاب أبى الفرج عبد الرحمن ابن على بن الجوزى المحدث في (أخبار عمر وسيرته) .
روى أبو الفرج عن أبى سلمه بن عبد الرحمن قال : استشار عمر الصحابة بمن يبدأ في القسم والفريضة فقالوا : ابدأ بنفسك فقال : بل أبدأ بآل رسول الله صلى الله عليه وآله وذوى قرابته فبدأ بالعباس قال : ابن الجوزى وقد وقع الاتفاق على أنه لم يفرض لاحد أكثر مما فرض له .
وروى أنه فرض له اثنى عشر ألفا وهو الاصح ثم فرض لزوجات رسول الله صلى الله عليه وآله لكل واحدة عشرة آلاف وفضل عائشة عليهن بالفين فأبت فقال : ذلك بفضل منزلتك عند رسول الله صلى الله عليه وآله فإذا أخذت فشأنك واستثنى من الزوجات جويرية وصفية وميمونة ففرض لكل واحدة منهن ستة آلاف فقالت عائشة : إن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يعدل بيننا فعدل عمر بينهن وألحق هؤلاء الثلاث بسائرهن ثم فرض للمهاجرين الذين شهدوا بدرا لكل واحد خمسه آلاف ولمن شهدها من الانصار لكل واحد أربعة آلاف .
وقد روى أنه فرض لكل واحد ممن شهد بدرا من المهاجرين أو من الانصار أو من غيرهم من القبائل خمسه آلاف ثم فرض لمن شهد أحدا وما بعدها إلى الحديبية أربة آلاف ثم فرض لكل من شهد المشاهد بعد الحديبية ثلاثة آلاف ثم فرض لكل من شهد المشاهد بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله ألفين وخمسمائة ، وألفين ، وألفا
__________
(1) سيرة عمر بن الخطاب لابن الجوزي 80 .
(*)(12/214)
وخمسمائة وألفا واحدا إلى مائتين وهم أهل هجر ومات عمر على ذلك (1) .
قال ابن الجوزى : وأدخل عمر في أهل بدر ممن لم يحضر بدرا أربعة وهم الحسن والحسين وأبو ذر وسلمان ففرض لكل واحد منهم خمسة آلاف .
قال ابن الجوزى : وروى السدى أن عمر كسا أصحاب النبي صلى الله عليه وآله فلم يرتض في الكسوة ما يستصلحه للحسن والحسين عليهما السلام فبعث إلى اليمن فأتى لهما بكسوة فاخرة فلما كساهما قال : الان طابت نفسي .
قال ابن الجوزى : فأما ما اعتمده في النساء فانه جعل نساء أهل بدر على خمسمائة ونساء من بعد بدر إلى الحديبية على أربعمائة ونساء من بعد ذلك على ثلاثمائة وجعل نساء أهل القادسية على مائتين مائتين ثم سوى بين النساء بعد ذلك .
ولو لم يدل على تصويب عمر فيما فعله إلا إجماع الصحابة واتفاقهم عليه وترك الانكار لذلك كان كافيا .
فأما الخمس والخلاف فيه فانها مسألة اجتهادية والذى يظهر لنا فيه ويغلب (2) عندنا من أمرها أن الخمس حق صحيح ثابت وأنه باق إلى الان على ما يذهب إليه الشافعي وأنه لم يسقط بموت رسول الله صلى الله عليه وآله ولكنا لا نرى ما يعتقده المرتضى من أن الخمس لال الرسول صلى الله عليه وآله وأن الايتام أيتامهم والمساكين مساكينهم وابن السبيل منهم لانه على خلاف ما يقتضيه ظاهر الاية والعطف ويمكن أن يحتج على ذلك بأن قوله تعالى في سورة الحشر (للفقراء المهاجرين) يبطل هذا القول لان هذه اللام لا بد أن تتعلق بشئ وليس قبلها ما تتعلق به أصلا إلا أن تجعل بدلا من اللام التى قبلها في قولا (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول
__________
(1) سيرة عمر بن الخطاب 81 (2) ب : (يتغلب) .
(*)(12/215)
ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وليس يجوز أن تكون بدلا من اللام في (لله) ولا من اللام في قوله (وللرسول) فبقى أن تكون بدلا من اللام في قوله (ولذي القربى) أما الاول فتعظيما له سبحانه وأما الثاني فلانه تعالى قد أخرج رسوله من الفقراء بقوله (وينصرون الله ورسوله) ولانه يجب أن يرفع رسول الله صلى الله عليه وآله عن التسمية بالفقير وأما الثالث فإما أن يفسر هذا البدل وما عطف عليه المبدل منه أو يفسر هذا البدل وحده دون ما عطف عليه المبدل منه والاول لا يصح لان المعطوف على هذا البدل ليس من أهل القرى وهم الانصار ألا ترى كيف قال سبحانه : (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم ...
) (2) الاية ثم قال سبحانه : (والذين تبوءوا الدار والايمان من قبلهم) (3) وهم الانصار وإن كان الثاني صار تقدير الاية أن الخمس لله وللرسول ولذي القربى الذين وصفهم الله ونعتهم بأنهم هاجروا وأخرجوا من ديارهم وللانصار فيكون هذا مبطلا لما يذهب إليه المرتضى في قصر الخمس على ذوى القربى .
ويمكن أن يعترض هذا الاحتجاج فيقال : لم لا يجوز أن يكون قوله (والذين تبوءوا الدار والايمان) ليس بعطف ولكنه كلام مبتدا وموضع (الذين) رفع بالابتداء وخبره (يحبون) ؟ .
وأيضا فإن هذه الحجة لا يمكن التمسك بها في آية الانفال وهو قوله تعالى (واعلموا أنما غنمتم من شئ) (4) .
فأما رواية سليم بن قيس الهلالي فليست بشئ وسليم معروف المذهب ويكفى في رد روايته كتابه المعروف بينهم المسمى (كتاب سليم) .
__________
(1) سورة الحشر 7 (2) سورة الحشر 8 .
(3) سورة الحشر 9 (4) سورة الانفال 41 .
(*)(12/216)
على أنى قد سمعت من بعضهم من يذكر أن هذا الاسم على غير مسمى وأنه لم يكن في الدنيا أحد يعرف بسليم بن قيس الهلالي وأن (1) الكتاب المنسوب إليه منحول موضوع لا أصل له وإن كان بعضهم يذكره في اسم الرجال والرواية المذكورة عن ابن عباس في كتابه إلى نجدة الحروري صحيحة ثابتة وليس فيها ما يدل على مذهب المرتضى من أن الخمس كله لذوى القربى لان نجده إنما سأله عن خمس الخمس لا عن الخمس كله .
وينبغى أن يذكر في هذا الموضع اختلاف الفقهاء في الخمس أما أبو حنيفة فعنده أن قسمة الخمس كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله على خمسة أسهم سهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسهم لذوى قرباه من بنى هاشم وبنى المطلب دون بنى عبد شمس ونوفل استحقوه حينئذ بالنصرة والمظاهرة لما روى عن عثمان بن عفان وجبير بن مطعم أنهما قالا لرسول الله صلى الله عليه وآله هؤلاء إخوتك من بنى هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذى جعلك الله منهم أرأيت إخواننا بنى المطلب أعطيتهم وحرمتنا ! وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة فقال صلى الله عليه وآله : (إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام إنما بنو هاشم وبنو المطلب شئ واحد) وشبك بين أصابعه وثلاثة أسهم ليتامى المسلمين ومساكينهم وأبناء السبيل منهم وأما بعد رسول الله صلى الله عليه وآله فسهمه ساقط بموته وكذلك سهم ذوى القربى وإنما يعطون لفقرهم فهم إسوة سائر الفقراء ولا يعطى اغنياؤهم فيقسم الخمس إذن على ثلاثة أسهم : اليتامى والمساكين وابن السبيل .
وأما الشافعي فيقسم الخمس عنده بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله على خمسة أسهم سهم لرسول الله صلى الله عليه وآله يصرف إلى ما كان يصرفه إليه رسول الله صلى الله عليه وآله أيام حياته من مصالح المسلمين كعدة الغزاة من الكراع والسلاح
__________
(1) ب : (فإن) .
(*)(12/217)
ونحو ذلك وسهم لذوى القربى من أغنيائهم وفقرائهم يقسم بينهم للذكر مثل حظ الانثيين من بنى هاشم وبنى المطلب والباقى للفرق الثلاث .
وأما مالك بن أنس فعنده إن الامر في هذه المسألة مفوض إلى إجتهاد الامام إن رأى قسمه بين هؤلاء وإن رأى أعطاه بعضهم دون بعض وإن رأى الامام غيرهم أولى وأهم فغيرهم .
وبقى الان البحث عن معنى قوله سبحانه وتعالى (فلله وللرسول) وما المراد بسهم الله سبحانه ؟ وكيف يقول الفقهاء الخمس مقسوم خمسة أقسام وظاهر الايه يدل على ستة أقسام ؟ فنقول : يحتمل أن يكون معنى قوله سبحانه (لله وللرسول) لرسول الله كقوله (والله ورسوله أحق أن يرضوه) (1) أي ورسول الله أحق ومذهب أبى حنيفة والشافعي يجئ على هذا الاحتمال .
ويحتمل أن يريد بذكره إيجاب سهم سادس يصرف إلى وجه من وجوه القرب ومذهب أبى العالية يجئ على هذا الاحتمال لانه يذهب إلى أن الخمس يقسم ستة أقسام : أحدها سهمه تعالى يصرف إلى رتاج الكعبة وقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه فيأخذ منه قبضة فيجعلها للكعبة ويقول : سهم الله تعالى ثم يقسم ما بقى على خمسه أقسام .
وقال قوم : سهم الله لبيت الله .
ويحتمل احتمالا ثالثا وهو أن يراد بقوله (فان لله خمسه) إن من حق الخمس أن يكون متقربا به إليه سبحانه لا غير ثم خص من وجوه القرب هذه الخمسة تفضيلا لها
__________
(1) سورة التوبة 13 .
(*)(12/218)
على غيرها كقوله (وجبريل وميكال) (1) ومذهب مالك يجئ على هذا الاحتمال وقد روى عن ابن عباس رضى الله عنه إنه كان على ستة : لله وللرسول سهمان وسهم لاقاربه وثلاثة أسهم للثلاثة حتى قبض عليه السلام فاسقط أبو بكر ثلاثة أسهم وقسم الخمس كله على ثلاثة أسهم وكذلك فعل عمر وروى أن أبا بكر منع بنى هاشم الخمس وقال : إنما لكم أن نعطى فقيركم ونزوج أيمكم ونخدم من لا خادم له منكم وأما الغنى منكم فهو بمنزلة ابن سبيل غنى لا يعطى شيئا ولا يتيم موسر وقد روى عن زيد بن على عليه السلام مثل ذلك قال : ليس لنا أن نبنى منه القصور ولا أن نركب منه البراذين فأما مذهب الامامية فإن الخمس كله للقرابة .
ويروون عن أمير المؤمنين عليه السلام إنه قال : أيتامنا ومساكيننا فإن صح عنه ذلك فقوله عندنا أولى بالاتباع وإنما الكلام في صحته .
فأما اقتراض عمر من بيت المال ثمانين ألفا فليس بمعروف والمعروف المشهور أنه كان يظلف (2) نفسه عن الدرهم الواحد منه .
وقد روى ابن سعد في كتاب (الطبقات) أن عمر خطب فقال : إن قوما يقولون : إن هذا المال حلال لعمر وليس كما قالوا لاها الله إذن ! أنا أخبركم بما أستحل منه يحل لى منه حلتان حله في الشتاء وحلة في القيظ وما أحج عليه وأعتمر من الظهر وقوتى وقوت أهلى كقوت رجل من قريش ليس بأغناهم ولا أفقرهم ثم أنا بعد رجل من المسلمين يصيبني ما أصابهم .
(1)
__________
(1) سورة البقرة 98 .
(2) يظلف نفسه يمنعها .
(3) نقله ابن الجوزي في كتابه سيرة عمر ص 75 ، 76 .
(*)(12/219)
وروى ابن سعد أيضا إن عمر كان إذا احتاج أتى إلى صاحب بيت المال فاستقرضه فربما عسر عليه القضاء فيأتيه صاحب بيت المال فيتقاضاه فيحتال له وربما خرج عطاؤه فقضاه ولقد اشتكى مرة فوصف له الطبيب العسل فخرج حتى صعد المنبر وفي بيت المال عكة (1) فقال : إن أذنتم لى فيها أخذتها وإلا فهى على حرام فأذنوا له فيها ثم قال : إن مثلى ومثلكم كقوم سافروا فدفعوا نفقاتهم إلى رجل منهم لينفق عليهم فهل يحل له أن يستأثر منها بشئ ! .
وروى ابن سعد أيضا قال : مكث عمر زمانا لا يأكل من مال المسلمين شيئا حتى أصابته خصاصة فأرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله فاستشارهم فقال لهم : قد شغلت نفسي بأمركم فما الذى يصلح أن أصيبه من مالكم فقال عثمان : كل واطعم وكذلك قال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل : فتركهما وأقبل على على عليه السلام فقال : ما تقول أنت ؟ قال : غداء وعشاء قال أصبت وأخذ بقوله (2) وروى أبو الفرج بن الجوزى في كتاب (سيرة عمر) عن نائلة عن ابن عمر قال : جمع عمر الناس لما انتهى إليه فتح القادسية ودمشق فقال : إنى كنت امرأ تاجرا يغنى الله عيالي بتجارتي وقد شغلتموني عن التجارة بأمركم فما ترون إنه يحل لى من هذا المال ؟ فقال : القوم فأكثروا وعلى عليه السلام ساكت فقال عمر : ما تقول أنت يا أبا الحسن ؟ قال : ما أصلحك وأصلح عيالك بالمعروف وليس لك من هذا المال غيره فقال : القول ما قاله أبو الحسن وأخذ به (2) .
وروى عبد اللبن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده إن عبد الله وعبيد الله ابني عمر مرا بأبى موسى وهو على العراق وهما مقبلان من أرض فارس فقال : مرحبا بابني أخي
__________
(1) العكة : زقيق صغير .
(2) سيرة عمر لابن الجوزي 76 .
(*)(12/220)
لو كان عندي شئ وبلى قد اجتمع هذا المال عندي فخذاه واشتريا به متاعا فإذا قدمتما فبيعاه ولكما ربحه وأديا إلى أمير المؤمنين رأس المال ففعلا فلما قدما على عمر بالمدينة أخبراه فقال : أكل أولاد المهاجرين يصنع بهم أبو موسى مثل ذلك فقالا : لا ، قال : فان عمر يأبى أن يجيز ذلك وجعل قرضا .
وروى عن قتادة قال : كان معيقيب على بيت المال لعمر فكسح عمر بيت المال يوما واخرجه إلى المسلمين فوجد معيقيب فيه درهما فدفعه إلى ابن عمر قال : معيقيب ثم انصرفت إلى بيتى فإذا رسول عمر قد جاء يدعوني فجئت فإذا الدرهم في يده فقال : ويحك يا معيقيب ! أوجدت على في نفسك شيئا قلت : وما ذاك ؟ قال : أردت أن تخاصمني أمة محمد في هذا الدرهم يوم القيامة (1) ! .
وروى عمر بن شبة عن عبد الله بن الارقم - وكان خازن عمر - فقال : إن عندنا حلية من حلية جلولاء وآنية من فضة فانظر ما تأمر فيها ؟ قال : إذا رأيتنى فارغا فاذني فجاءه يوما فقال : إنى أراك اليوم فارغا فما تأمر بتلك الحلية ؟ قال : ابسط لى نطعا فبسطه ثم أتى بذلك المال فصب عليه فرفع يديه وقال : اللهم إنك ذكرت هذا المال فقلت (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب و الفضة) (1) ثم قلت (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم) (2) اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا اللهم إنى أسألك أن تضعه في حقه وأعوذ بك من شره ثم ابتدأ فقسمه بين الناس فجاءه ابن بنت له فقال : يا أبتاه ! هب لى منه خاتما فقال : اذهب إلى أمك تسقك سويقا فلم يعطه شيئا (3) .
وروى الطبري في تاريخه أن عمر خطب أم كلثوم بنت أبى بكر فأرسل فيها إلى
__________
(1) سورة آل عمران 14 (2) سورة الحديد 23 .
(3) سيرة عمر بن الخطاب لابن الجوزي 78 .
(*)(12/221)
عائشة فقالت الامر إليها فقالت أم كلثوم لا حاجة لى فيه قالت لها عائشة : ويلك ! أترغبين عن أمير المؤمنين ؟ قالت : نعم إنه يغلق بابه ويمنع خيره ويدخل عابسا ويخرج عابسا فأرسلت عائشة إلى عمرو بن العاص فأخبرته فقال : أنا أكفيك فأتى عمر فقال : يا أمير المؤمنين بلغني خبر أعيذك بالله منه قال : ما هو ؟ قال خطبت أم كلثوم بنت أبى بكر ؟ قال : نعم أفترغب بى عنها أم ترغب بها عنى قال : لا واحدة ولكنها حدثة نشأت تحت كنف أم المؤمنين في لين ورفق وفيك غلظة ونحن نهابك ولا نستطيع أن نردك عن خلق من أخلاقك فكيف بها إن خالفتك في شئ فسطوت بها ! كنت قد خلفت أبا بكر في ولده بغير ما يحق عليك قال : فكيف لى بعائشة وقد كلمتها فيها ؟ قال : أنا لك بها وأدلك على خير منها أم كلثوم بنت على بن أبى طالب تعلق منها بسبب من رسول الله فصرفه عنها إلى أم كلثوم بنت فاطمة .
وروى عاصم بن عمر قال : بعث إلى عمر عند الهاجرة - أو قال : عند صلاة الصبح - فأتيته فوجدته جالسا في المسجد فقال : يا بنى إنى لم أكن أرى شيئا من هذا المال يحل لى قبل أن ألى إلا بحقه وما كان أحرم على منه حين وليته فعاد أمانتى وإنى كنت أنفقت عليك من مال الله شهرا ولست بزائدك عليه وقد أعطيتك تمرى بالعالية فبعه وخذ ثمنه ثم ائت رجلا من تجار قومك فكن إلى جانبه فإذا ابتاع شيئا فاستشركه وأنفق ما تربحه عليك وعلى أهلك قال : فذهبت ففعلت (1) .
وروى الحسن البصري أن عمر كان يمشى يوما في سكة من سكك المدينة إذ صبية تطيش على وجه الارض تقعد مرة وتقوم أخرى من الضعف والجهد فقال عمر : ما بال هذه ؟ قال عبد الله ابنه : أما تعرف هذه ؟ قال : لا ، قال : إنها إحدى بناتك
__________
(1) سيرة عمر 78 .
(*)(12/222)
فأنكر عمر ذلك فقال : هذه ابنتى من فلانة ! قال : ويحك وما صيرها إلى ما أرى قال : منعك [ ما عندك ] (1) قال أنا منعتك ما عندي فما الذى منعك أن تطلب لبناتك ما يكسب الاقوام (2) لبناتهم ! إنه والله ما لك عندي غير سهمك في المسلمين وسعك أو عجز عنك وكتاب الله بينى وبينك (3) .
وروى سعيد بن المسيب قال : كتب عمر لما قسم العطاء وفضل من فضل للمهاجرين الذين شهدوا بدرا خمسة آلاف وكتب لمن لم يشهد بدرا أربعه آلاف فكان منهم عمر بن أبى سلمة المخزومى وأسامة بن زيد بن حارثة ومحمد بن عبد الله بن جحش وعبد الله بن عمر بن الخطاب فقال عبد الرحمن بن عوف وهو الذى كان يكتب : يا أمير المؤمنين إن عبد الله بن عمر ليس من هؤلاء إنه وأنه ...
يطريه ويثنى عليه فقال له عمر : ليس له عندي إلا مثل واحد منهم فتكلم عبد الله وطلب الزيادة وعمر ساكت فلما قضى كلامه قال عمر لعبد الرحمن : اكتبه على خمسة آلاف واكتبني على أربعه آلاف فقال عبد الله : لا أريد هذا فقال عمر : والله لا أجتمع أنا وأنت على خمسة آلاف قم إلى منزلك فقام عبد الله كئيبا وقال أبو وائل : استعملني ابن زياد على بيت المال بالكوفة فأتاني رجل بصك يقول فيه أعط صاحب المطبخ ثمانمائة درهم فقلت له مكانك ودخلت على ابن زياد فقلت له : إن عمر استعمل عبد الله بن مسعود بالكوفة على القضاء وبيت المال واستعمل عثمان بن حنيف على سقى الفرات واستعمل عمار بن ياسر على الصلاة والجند فرزقهم كل يوم شاة واحدة فجعل نصفها وسقطها وأكارعها لعمار لانه كان على الصلاة والجند وجعل لابن مسعود ربعها ولابن حنيف ربعها ثم قال : إن مالا يؤخذ منه كل يوم شاة إن ذلك فيه لسريع فقال : ابن زياد ضع المفتاح فاذهب حيث شئت .
__________
(1) من سيرة عمر .
(2) سيرة عمر : (الاقوياء) .
(3) سيرة عمر 77 ، 78 .
(*)(12/223)
وروى أبو جعفر الطبري في التاريخ أن عمر بعث سلمة بن قيس الاشجعى إلى طائفة من الاكراد كانوا على الشرك فخرج إليهم في جيش سرحه معه من المدينة فلما انتهى إليهم دعاهم إلى الاسلام أو إلى أداء الجزية فأبوا فقاتلهم فنصره الله عليهم فقتل المقاتلة وسبى الذرية وجمع الرثة (1) ووجد حلية وفصوصا وجواهر فقال : لاصحابه أتطيب أنفسكم أن نبعث بهذا إلى أمير المؤمنين ؟ فانه غير صالح لكم وإن على أمير المؤمنين لمؤنه وأثقالا ! قالوا : نعم قد طابت أنفسنا فجعل تلك الجواهر في سفط وبعث به مع واحد من أصحابه وقال له : سر فإذا أتيت البصرة فاشتر راحلتين فأوقرهما زادا لك ولغلامك وسر إلى أمير المؤمنين قال : ففعلت فأتيت عمر وهو يغدى الناس قائما متكئا على عصا كما يصنع الراعى وهو يدور على القصاع فيقول ياير فأزد هؤلاء لحما زد هؤلاء خبزا زد هؤلاء مرقة فجلست في أدنى الناس فإذا طعام فيه خشونة طعامي الذى معى أطيب منه فلما فرغ أدبر فاتبعته فدخل دارا فأستأذنت ولم أعلم حاجبه من أنا فأذن لى فوجدته في صفة جالسا على مسح متكئا على وسادتين من أدم محشوتين ليفا وفى الصفة عليه ستر من صوف فنبذ إلى إحدى الوسادتين فجلست عليها فقال : يا أم كلثوم ألا تغدوننا ! فأخرج إليه خبزة بزيت في عرضها ملح لم يدق فقال : يا أم كلثوم ألا تخرجين إلينا تأكلين معنا ؟ فقالت : إنى أسمع عندك حس رجل قال : نعم ولا أراه من أهل هذا البلد قال : قذاك حين عرفت أنه لم يعرفني - فقالت لو أردت أن أخرج إلى الرجال لكسوتني كما كسا الزبير امرأته وكما كسا طلحه امرأته قال : أو ما يكفيك أنك أم كلثوم ابنة على بن أبى طالب وزوجة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ! قالت : إن ذاك عنى لقليل الغناء قال : كل فلو كانت راضية لاطعمتك أطيب من هذا فأكلت قليلا وطعامي الذى معى أطيب منه
__________
(1) الرثة : المتاع .
(*)(12/224)
وأكل فما رأيت أحدا أحسن أكلا منه ما يتلبس طعامه بيده ولا فمه ثم قال : اسقونا فجاءوا بعس من سلت (1) فقال : أعط الرجل فشربت قليلا وإن سويقى الذى معى لاطيب منه ثم إخذه فشربه حتى قرع القدح جبهته ثم قال : الحمد لله الذى أطعمنا فأشبعنا وسقانا فأروانا إنك يا هذا لضعيف الاكل ضعيف الشرب فقلت يا أمير المؤمنين إن لحاجة قال : ما حاجتك ؟ قلت : أنا رسول سلمة بن قيس فقال : مرحبا بسلمة ورسوله فكأنما خرجت من صلبه حدثنى عن المهاجرين كيف هم ؟ قلت كما تحب يا أمير المؤمنين من السلامة والظفر والنصر على عدوهم قال : كيف أسعارهم ؟ قلت : أرخص أسعار قال : كيف اللحم فيهم فإنه شجرة العرب ولا تصلح العرب إلا على شجرتها ؟ قلت : البقرة فيهم بكذا ، والشاة فيهم بكذا ثم سرنا يا أمير المؤمنين حتى لقينا عدونا من المشركين فدعوناهم إلى الذى أمرت به من الاسلام فأبوا فدعوناهم إلى الخراج فأبوا فقاتلناهم فنصرنا الله عليهم فقتلنا المقاتلة وسبينا الذرية وجمعنا الرثة (2) فرأى سلمة في الرثة حلية فقال للناس : إن هذا لا يبلغ فيكم شيئا أفتطيب أنفسكم أن أبعث به إلى أمير المؤمنين ؟ قالوا : نعم ثم استخرجت سفطى ففتحته (3) فلما نظر إلى تلك الفصوص من بين أحمر وأخضر وأصفر وثب وجعل يده في خاصرته يصيح صياحا عاليا ويقول لا أشبع الله إذن بطن عمر ! يكررها فظن النساء أنى جئت لاغتاله فجئن إلى الستر فكشفنه فسمعنه يقول لف ما جئت به يا يرفأ جأ عنقه (4) قال : فأنا أصلح سفطى ويرفأ يجأ عنقي .
ثم قال : النجاء النجاء ! قلت يا أمير المؤمنين انزع بى فاحلمني فقال : يا يرفأ أعطه راحلتين من إبل الصدقة
__________
(1) السلت : شعير لاقشر له ، يتبرد بسويقه .
(2) الطبري : (الرشة) .
(3) السفط وعاء كالجوالق .
(4) جأ : اضرب .
(*)(12/225)
فإذا لقيت أفقر إليهما منك فادفعهما إليه ، وقال : اظنك ستبطئ أما والله لئن تفرق المسلمون في مشاتيهم قبل أن يقسم هذا فيهم لافعلن بك وبصاحبك الفاقرة (1) .
قال : فارتحلت حتى أتيت إلى سلمة بن قيس فقلت ما بارك الله فيما اختصصتني به اقسم هذا في الناس قبل أن تصيبني وإياك فاقرة فقسمه فيهم .
فإن الفص ليباع بخمسة دراهم وبستة وهو خير من عشرين ألفا (1) .
وجملة الامر أن عمر لا يجوز أن يطعن فيه بمثل هذا ولا ينسب إلى شره وحب للمال ، فان طريقته في التعفف والتقشف وخشونة العيش والزهد أظهر من كل ظاهر وأوضح من كل واضح وحاله في ذلك معلومة وعلى كل تقدير سواء كان يفعل ذلك دينا أو ورعا - كما هو الظاهر من حاله - أو كان يفعل ذلك ناموسا وصناعة ورياء وحيلة - كما تزعم الشيعة - فانه عظيم لانه أما أن يكون على غاية الدين والتقى أو يكون أقوى الناس نفسا وأشدهم عزما وكلا الامرين فضيله ة .
والذى ذكره المحدثون وأرباب السير أن عمر لما طعن واحتمل في دمه إلى بيته وأوصى بما أوصى قال : لابنه عبد الله انظروا ما على من دين فحسبوه فوجدوه ستمائة وثمانين ألف درهم هكذا ورد في الاخبار أنها كانت ديونا للمسلمين ولم تكن من بيت المال فقال عمر : انظر يا عبد الله فان وفى به مال آل عمر فأده من أموالهم وإلا فسل في بنى عدى بن كعب فإن لم تف به أموالهم فسل في قريش ولا تعدهم إلى غيرهم فهكذا وردت الرواية فلذلك قال قاضى القضاة : فإن صح فالعذر كذا وكذا لانه لم يثبت عنده صحة اقتراضه هذا المقدار من بيت المال .
وقد روى أن عمر كان له نخل بالحجاز غلته كل سنة أربعون الفا يخرجها في
__________
(1) الفاقرة : الداهية .
(2) تاريخ الطبري 1 : 2713 - 2721 (طب أوربا) مع اختلاف في الرواية .
(*)(12/226)
النوائب والحقوق ويصرفها إلى بنى عدى بن كعب إلى فقرائهم وأراملهم وأيتامهم روى ذلك ابن جرير الطبري في التاريخ .
فأما قول المرتضى أي حاجة بخشن العيش وجشب المأكل إلى اقتراض الاموال ؟ فجوابه أن المتزهد المتقشف قد يضيق على نفسه ويوسع على غيره إما من باب التكرم والاحسان أو من باب الصدقة وابتغاء الثواب وقد يصل رحمه وإن قتر على نفسه .
وقد روى الطبري إن عمر دفع إلى أم كلثوم بنت أمير المؤمنين عليه السلام صداقها يوم تزوجها أربعين ألف درهم فلعل هذا الاقتراض من الناس كان لهذا الوجه ولغيره من الوجوه التى قل أن يخلو أحد منها الطعن السادس إنه عطل حد الله في المغيرة بن شعبة لما شهد (1) عليه بالزنا ولقن الشاهد الرابع الامتناع عن الشهادة اتباعا لهواه فلما فعل ذلك عاد إلى الشهود فحدهم وضربهم (2) فتجنب أن يفضح المغيرة وهو واحد وفضح الثلاثة مع تعطيله لحكم الله ووضعه في غير موضعه .
أجاب قاضى القضاة فقال : إنه لم يعطل الحد إلا من حيث لم تكمل الشهادة وبارادة الرابع لئلا يشهد لا تكمل البينة وإنما تكمل بالشهادة .
وقال إن قوله (أرى وجه رجل لا يفضح الله به رجلا من المسلمين) يجرى في أنه سائغ صحيح مجرى ما روى عن النبي صلى الله عليه وآله من أنه أتى بسارق فقال : (لا تقر) .
__________
(1) الشافي : (شهدوا) .
(2) كذا في الشافي ، وفي الاصول : (فضحهم) .
(*)(12/227)
وقال عليه السلام لصفوان بن امية لما أتاه بالسارق وأمر بقطعه فقال : هو له - يعنى ما سرق هلا قبل أن تأتيني به ! فلا يمتنع من عمر ألا يحب أن تكمل الشهادة وينبه الشاهد على ألا يشهد وقال : إنه جلد الثلاثة من حيث صاروا قذفه وإنه ليس حالهم - وقد شهدوا - كحال من لم تتكامل الشهادة عليه لان الحيلة في إزاله الحد عنه - ولما تتكامل الشهادة عليه - ممكنة بتلقين وتنبيه غيره ولا حيلة فيما قد وقع من الشهادة فلذلك حدهم .
قال : وليس في إقامة الحد عليهم من الفضيحة ما في تكامل الشهادة على المغيرة لانه يتصور بأنه زان ويحكم بذلك وليس كذلك حال الشهود لانهم لا يتصورون بذلك وإن وجب في الحكم أن يجعلوا في حكم القذفة .
وحكى عن أبى على إن الثلاثة كان القذف قد تقدم منهم للمغيرة بالبصرة لانهم صاحوا به من نواحى المسجد بأنا نشهد أنك زان فلو لم يعيدوا الشهادة لكان يحدهم لا محالة فلم يمكن في إزالة الحد عنهم ما أمكن في المغيرة .
وحكى عن أبى على في جواب اعتراضه عن نفسه بما روى عن عمر إنه كان رآه يقول لقد خفت أن يرمينى الله عز وجل بحجارة من السماء إن هذا الخبر غير صحيح ولو كان حقا لكان تأويله التخويف وإظهار قوة الظن لصدق القوم الذين شهدوا عليه ليكون ردعا له وذكر أنه غير ممتنع أن يحب ألا يفتضح لما كان متوليا للبصرة من قبله .
ثم أجاب عن سؤال من سأله عن امتناع زياد من الشهادة وهل يقتضى الفسق أم لا ؟ فان قال : لا نعلم أنه كان يتمم الشهادة : ولو علمنا ذلك لكان حيث ثبت في الشرع أن له(12/228)
السكوت لا يكون طعنا ولو كان ذلك طعنا وقد ظهر أمره لامير المؤمنين عليه السلام لما ولاه فارس ولما ائتمنه على أموال الناس ودمائهم .
اعترض المرتضى فقال : انما نسب إلى تعطيل الحد من حيث كان في حكم الثابت وإنما بتلقينه لم تكمل الشهادة لان زيادا ما حضر إلا ليشهد بما شهد به أصحابه وقد صرح بذلك كما صرحوا قبل حضورهم ولو لم يكن هذا لما شهد القوم قبله وهم لا يعلمون هل حاله في ذلك الحكم كحالهم لكنه أحجم في الشهادة لما رأى كراهية متولى الامر لكمالها وتصريحه بأنه لا يريد أن يعمل بموجبها .
ومن العجائب أن يطلب الحيلة في دفع الحد عن واحد وهو لا يندفع إلا بانصرافه إلى ثلاثة فان كان درء الحد والاحتيال في دفعه من السنن المتبعة فدرؤه عن ثلاثة أولى من درئه عن واحد ! .
وقوله إن دفع الحد عن المغيرة ممكن ودفعه عن ثلاثة - وقد شهدوا - غير ممكن طريف لانه لو لم يلقن الشاهد الرابع الامتناع عن الشهادة لاندفع الحد عن الثلاثة وكيف لا تكون الحيلة ممكنة فيما ذكره ! .
وقوله : إن المغيرة يتصور بصورة زان لو تكاملت الشهادة وفي هذا من الفضيحة ما ليس في حد الثلاثة غير صحيح لان الحكم في الامرين واحد لان الثلاثة إذا حدوا يظن بهم الكذب وإن جوز أن يكونوا صادقين والمغيرة لو تكاملت الشهادة عليه بالزنا لظن به ذلك مع التجويز لان يكون الشهود كذبة وليس في أحد إلا ما في الاخر .
وما روى عنه عليه السلام من أنه أتى بسارق فقال له : (لا تقر) إن كان صحيحا لا يشبه ما نحن فيه لانه ليس في دفع الحد عن السارق إيقاع غيره في المكروه .
وقصة المغيرة تخالف هذا لما ذكرناه .(12/229)
فأما قوله عليه السلام (هلا قبل أن تأتيني به !) فلا يشبه كل ما نحن فيه لانه بين أن ذلك القول يسقط الحد لو تقدم وليس فيه تلقين يوجب إسقاط الحد .
فأما ما حكاه عن أبى على من أن القذف من الثلاثة كان قد تقدم وأنهم لو لم يعيدوا الشهادة لكان يحدهم لا محالة فغير معروف والظاهر المروى خلافه وهو أنه حدهم عند نكول زياد عن الشهادة وأن ذلك كان السبب في إيقاع الحد بهم وتأوله (1) عليه : لقد خفت أن يرمينى الله بحجارة من السماء لا يليق بظاهر الكلام لانه يقتضى التندم والتأسف على تفريط وقع ولم يخاف أن يرمى بالحجارة وهو لم يدرأ الحد عن مستحق له ! ولو أراد الردع والتخويف للمغيرة لاتى بكلام يليق بذلك ولا يقتضى إضافه التفريط إلى نفسه وكونه واليا من قبله لا يقتضى أن يدرأ عنه الحد ويعدل به إلى غيره .
وأما قوله : إنا ما كنا نعلم أن زيادا كان يتمم الشهادة ، فقد بينا أن ذلك كان معلوما بالظاهر ومن قرأ ما روى في هذه القصة علم بلا شك أن حال زياد كحال الثلاثة في أنه إنما حضر للشهادة ، وإنما عدل عنها لكلام عمر .
وقوله : إن الشرع يبيح السكوت ، ليس بصحيح لان الشرع قد حظر كتمان الشهادة .
فأما استدلاله على أن زيادا لم يفسق بالامساك عن الشهادة بتوليه أمير المؤمنين عليه السلام له فارس فليس بشئ يعتمد لانه لا يمتنع أن يكون قد تاب بعد ذلك وأظهر توبته لامير المؤمنين عليه السلام فجاز أن يوليه وقد كان بعض أصحابنا يقول في قصة المغيرة شيئا طيبا وإن كان معتملا في باب الحجة كان يقول : إن زيادا إنما امتنع من التصريح بالشهادة المطلوبة في الزنا وقد شهد بأنه شاهده بين شعبها الاربع وسمع نفسا عاليا فقد صح على المغيرة بشهادة الاربع جلوسه منها مجلس الفاحشة إلى غير ذلك
__________
(1) الشافي : (وما تأول عليه) .
(*)(12/230)
من مقدمات الزنا وأسبابه .
فهلا ضم عمر إلى جلد الثلاثة تعزير هذا الذى قد صح عنده بشهادة الاربعة ما صح من الفاحشة ، مثل تعريك أذنه ، أو ما يجرى مجراه من خفيف التعزير ويسيره ! وهل في العدول عن ذلك - حتى عن لومه وتوبيخه والاستخفاف - به إلا ما ذكروه من السبب الذى يشهد الحال به (1) قلت : أما المغيره فلا شك عندي أنه زنى بالمرأة ، ولكني لست أخطئ عمر في درء الحد عنه وإنما أذكر أولا قصته من كتابي أبى جعفر محمد بن جرير الطبري وأبى الفرج على بن الحسن الاصفهانى ليعلم أن الرجل زنى بها لا محالة ثم أعتذر لعمر في درء الحد عنه .
قال الطبري في تاريخه (2) : وفي هذه السنة - يعنى سنة سبع عشرة - ولى عمر أبا موسى البصرة وأمره أن يشخص إليه المغيرة بن شعبة وذلك لامر بلغه عنه قال الطبري : حدثنى محمد بن يعقوب بن عتبة ، قال : حدثنى أبى قال : كان المغيرة يخالف إلى أم جميل امرأة من بنى هلال بن عامر وكان لها زوج من ثقيف هلك قبل ذلك يقال له الحجاج بن عبيد وكان المغيرة - وكان أمير البصرة - يختلف إليها سرا فبلغ ذلك أهل البصرة فاعظموه فخرج المغيرة يوما من الايام إلى المرأة فدخل عليها وقد وضعوا عليهما الرصد فانطلق القوم الذين شهدوا عند عمر فكشفوا الستر فرأوه قد واقعها فكتبوا بذلك إلى عمر وأوفدوا إليه بالكتاب أبا بكرة فانتهى أبو بكرة إلى المدينة وجاء إلى باب عمر فسمع صوته وبينه وبينه حجاب فقال : أبو بكرة فقال : نعم ، قال : لقد جئت لشر ! قال : إنما جاء به المغيرة ثم قص عليه القصة وعرض عليه الكتاب فبعث أبا موسى عاملا وأمره
__________
(1) الشافي 255 ، 256 .
(2) تاريخ الطبري ا : 2529 - 261 (طبع أوربا) .
(*)(12/231)
أن يبعث إليه المغيرة فلما دخل أبو موسى البصرة وقعد في الامارة أهدى إليه المغيرة عقيلة وقال : إننى قد رضيتها لك ، فبعث أبو موسى بالمغيرة إلى عمر .
قال الطبري : وروى الواقدي قال : حدثنى عبد الرحمن بن محمد بن أبى بكر بن عمرو ابن حزم الانصاري عن أبيه عن مالك بن أوس بن الحدثان ، قال : قدم المغيرة على عمر ، فتزوج في طريقه امرأة من بنى مرة فقال له عمر : إنك لفارغ القلب شديد الشبق طويل الغرمول ثم سأل عن المرأة فقيل (1) له - يقال لها الرقطاء : كان زوجها من ثقيف وهى من بنى هلال .
قال الطبري : وكتب إلى السرى عن شعيب عن سيف أن المغيرة كان يبغض أبا بكرة وكان أبو بكرة يبغضه ويناغى (2) كل واحد منهما صاحبه وينافره عند كل ما يكون منه وكانا متجاورين بالبصرة بينهما طريق وهما في مشربتين متقابلتين فهما في داريهما في كل واحدة منهما كوة مقابلة الاخرى فاجتمع إلى أبى بكرة نفر يتحدثون في مشربته فهبت ريح ففتحت باب الكوة فقام أبو بكرة ليصفقه (3) فبصر بالمغيرة وقد فتحت الريح باب الكوة التى في مشربته وهو بين رجلى امرأة ، فقال للنفر : قوموا فانظروا فقاموا فنظروا ، ثم قال : اشهدوا قالوا : ومن هذه ، قال : أم جميل إحدى نساء بنى عامر بن صعصعة ، فقالوا : إنما رأينا أعجازا ولا ندرى الوجوه ! فلما قامت صمموا وخرج المغيرة إلى الصلاة فحال أبو بكرة بينه وبين الصلاة ، وقال : لا تصل بنا وكتبوا إلى عمر بذلك ، وكتب المغيرة إليه أيضا فأرسل عمر إلى أبى موسى ، فقال : يا أبا موسى إنى مستعملك وإنى باعثك إلى الارض التى قد باض بها الشيطان وفرخ فالزم ما تعرف ولا تستبدل فيستبدل الله بك ، فقال : يا أمير المؤمنين أعنى بعدة من
__________
(1) الطبري : (فقال) .
(2) كذا في الطبري ، ويناغيه : يباريه .
وفي الاصول : (يباغيه) .
(3) أصفق الباب : رده .
(*)(12/232)
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله من المهاجرين والانصار فانى وجدتهم في هذه الامة وهذه الاعمال كالملح لا يصلح الطعام إلا به قال عمر : فاستعن بمن أحببت فاستعان بتسعه وعشرين رجلا منهم أنس بن مالك وعمران بن حصين وهشام بن عامر وخرج أبو موسى بهم حتى أناخ بالبصرة في المربد وبلغ المغيرة أن أبا موسى قد أناخ بالمربد فقال : والله ما جاء أبو موسى زائرا ولا تاجرا ولكنه جاء أميرا فانهم لفى ذلك إذ جاء أبو موسى حتى دخل عليهم فدفع إلى المغيرة كتابا من عمر إنه لاوجز كتاب كتب به أحد من الناس أربع كلم ، عزل فيها وعاتب ، واستحث وأمر (أما بعد فانه بلغني نبأ عظيم ، فبعثت أبا موسى ، فسلم ما في يديك إليه ، والعجل) .
وكتب إلى أهل البصرة (أما بعد فانى قد بعثت أبا موسى أميرا عليكم ليأخذ لضعيفكم من قويكم ليقاتل بكم عدوكم وليدفع عن ذمتكم وليجبى (1) لكم فيئكم وليقسم فيكم وليحمى (2) لكم طرقكم) .
فأهدى إليه المغيرة وليدة من مولدات الطائف تدعى عقيله وقال : إنى قد رضيتها لك - وكانت فارهة - وارتحل المغيرة وأبو بكرة ونافع بن كلدة وزياد وشبل بن معبد البجلى حتى قدموا على عمر فجمع بينهم وبين المغيرة فقال المغيرة : يا أمير المؤمنين ، سل هؤلاء الاعبد : كيف رأوني ؟ مستقبلهم أم مستدبرهم ! وكيف رأوا المرأة وعرفوها فان كانوا مستقبلي فكيف لم أستتر ! وإن كانوا مستدبري فباى شئ استحلوا النظر إلى في منزلي على امرأتي ! والله ما أتيت إلا امرأتي فبدأ بأبى بكرة فشهد عليه أنه رآه بين رجلى أم جميل وهو يدخله ويخرجه قال عمر : كيف رأيتهما ، قال : مستدبرهما ، قال : كيف استثبت رأسها ، قال : تجافيت فدعا بشبل بن معبد فشهد مثل ذلك ، وقال : استقبلتهما واستدبرتهما وشهد نافع بمثل شهادة أبى بكرة ولم يشهد زياد بمثل شهادتهم ، قال :
__________
(1) الطبري : (ليحصى) .
(2) الطبري : (لينقي) .
(*)(12/233)
رأيته جالسا بين رجلى امرأة ورأيت قدمين مرفوعتين تخفقان واستين مكشوفتين وسمعت حفزا شديدا (1) ، قال عمر : فهل رأيته فيها كالميل في المكحلة ؟ قال : لا ، قال : فهل تعرف المرأة ؟ قال : لا ولكن أشبهها فأمر عمر بالثلاثة فجلدوا الحد وقرأ (فإذا لم يأتوا بالشهداء فاولئك عند الله هم الكاذبون) (2) فقال المغيرة : الحمد لله الذى أخزاكم فصاح ! به عمر : اسكت أسكت الله نأمتك ! أما والله لو تمت الشهادة لرجمتك بأحجارك فهذا ما ذكره الطبري .
وأما أبو الفرج على بن الحسين الاصفهانى فإنه ذكر في كتاب الاغانى (3) أن أحمد بن عبد العزيز الجوهرى حدثه عن عمر بن شبة عن على بن محمد عن قتادة ، قال : كان المغيرة بن شعبة - وهو أمير البصرة - يختلف سرا إلى امرأة من ثقيف يقال لها الرقطاء فلقيه أبو بكرة يوما ، فقال له : أين تريد ؟ قال : ازور آل فلان فأخذ بتلابيبه ، وقال : إن الامير يزار ولا يزور .
قال أبو الفرج : وحدثني بحديثه جماعة - ذكر أسماءهم بأسانيد مختلفة لا نرى الاطالة بذكرها - إن المغيرة كان يخرج من دار الامارة وسط النهار فكان أبو بكرة يلقاه فيقول له : أين يذهب الامير ؟ فيقول له : إلى حاجة ، فيقول : حاجة ماذا ؟ إن الامير يزار ولا يزور ! .
قالوا : وكانت المرأة التى يأتيها جارة لابي بكرة ، فقال : فبينا أبو بكرة في غرفة له مع أخويه نافع وزياد ورجل آخر يقال له شبل بن معبد - وكانت غرفة جارته تلك محاذية غرفة أبى بكرة - فضربت الريح باب غرفة المرأة ففتحته فنظر القوم فإذا هم بالمغيرة ينكحها ، فقال : أبو بكرة هذه بلية قد ابتليتم بها فانظروا فنظروا حتى أثبتوا (4)
__________
(1) الطبري : (حفزانا) .
(2) سورة النور 13 .
(3) الاغاني 16 : 77 - 100 (طبع دار الكتب) .
(4) أثبتوا : تيقنوا .
(*)(12/234)
فنزل أبو بكرة فجلس حتى خرج عليه المغيرة من بيت المرأة ، فقال له أبو بكرة : إنه قد كان من أمرك ما قد علمت فاعتزلنا فذهب المغيرة وجاء ليصلى بالناس الظهر فمنعه أبو بكرة وقال : لا والله لا تصلى بنا وقد فعلت ما فعلت ! فقال الناس : دعوه فليصل إنه الامير ! واكتبوا إلى عمر فكتبوا إليه فورد كتابه أن يقدموا عليه جميعا المغيرة والشهود .
قال أبو الفرج : وقال المدائني في حديثه فبعث عمر بأبى موسى وعزم عليه ألا يضع كتابه من يده حتى يرحل المغيرة .
قال أبو الفرج : وقال على بن هاشم في حديثه إن أبا موسى قال لعمر لما أمره أن يرحل المغيرة من وقته : أو خير من ذلك يا أمير المؤمنين ؟ نتركه فيتجهز ثلاثا ثم يخرج .
قالوا : فخرج أبو موسى حتى صلى صلاة الغداة بظهر المربد وأقبل إنسان فدخل على المغيرة ، فقال : إنى رأيت أبا موسى قد دخل المسجد الغداة وعليه برنس وها هو في جانب المسجد ، فقال المغيرة : إنه لم يأت زائرا ولا تاجرا قالوا : وجاء أبو موسى حتى دخل على المغيرة ومعه صحيفة ملء يده فلما رآه قال : أمير ! فأعطاه أبو موسى الكتاب فلما ذهب يتحرك عن سريره قال له : مكانك ! تجهز ثلاثا .
قال أبو الفرج : وقال آخرون : إن أبا موسى أمره أن يرحل من وقته فقال المغيرة : قد علمت ما وجهت له فألا تقدمت وصليت ! فقال : ما أنا وأنت في هذا الامر إلا سواء فقال المغيرة : انى أحب أن أقيم ثلاثا لاتجهز فقال أبو موسى : قد عزم على أمير المؤمنين ألا أضع عهدي من يدى إذا قرأته حتى أرحلك إليه ، قال : إن شئت شفعتني وأبررت قسم أمير المؤمنين بأن تؤجلنى إلى الظهر وتمسك الكتاب في يدك .
قالوا : فلقد رئى أبو موسى مقبلا ومدبرا وإن الكتاب في يده معلق بخيط فتجهز المغيرة وبعث إلى أبى موسى بعقيلة جارية عربية من سبى اليمامة من(12/235)
بنى حنيفة ويقال إنها مولدة الطائف ومعها خادم وسار المغيرة حين صلى الظهر حتى قدم على عمر .
قال أبو الفرج : فقال محمد بن عبد الله بن حزم في حديثه : إن عمر قال له لما قدم عليه : لقد شهد عليك بأمر أن كان حقا لان تكون مت قبل ذلك كان خيرا لك ! .
قال أبو الفرج : قال أبو زيد عمر بن شبه : فجلس له عمر ، ودعا به وبالشهود فتقدم أبو بكرة فقال : أرأيته بين فخذيها ؟ قال : نعم والله لكأنى أنظر إلى تشريم جدري بفخذيها ، قال المغيرة : لقد ألطفت النظر ، قال أبو بكرة : لم آل أن أثبت ما يخزيك الله به ! فقال عمر : لا والله حتى تشهد لقد رأيته يلج فيها كما يلج المرود في المكحلة قال : نعم أشهد على ذلك ، فقال عمر : اذهب عنك مغيرة ذهب ربعك .
قال أبو الفرج : ويقال إن عليا عليه السلام هو قائل هذا القول ثم دعا نافعا فقال : علام تشهد ؟ قال : على مثل شهادة أبى بكرة فقال عمر : لا حتى تشهد أنك رأيته يلج فيها ولوج المرود في المكحلة ، قال : نعم حتى بلغ قذذه (1) فقال : اذهب عنك مغيرة ذهب نصفك ، ثم دعا الثالث وهو شبل بن معبد ، فقال : علام تشهد ؟ قال : على مثل شهادة صاحبي ، فقال : اذهب عنك مغيرة ، ذهب ثلاثة أرباعك .
قال : فجعل المغيرة يبكى إلى المهاجرين وبكى إلى أمهات المؤمنين حتى بكين معه ، قال : ولم يكن زياد حضر ذلك المجلس فأمر عمر أن ينحى الشهود الثلاثة وألا يجالسهم أحد من أهل المدينة وانتظر قدوم زياد ، فلما قدم جلس في المسجد واجتمع رؤوس المهاجرين والانصار قال : المغيرة وكنت قد اعددت كلمة اقولها فلما رأى عمر زيادا مقبلا ، قال : إنى لارى رجلا لن يخزى الله على لسانه رجلا من المهاجرين .
__________
(1) قذذة : جمع قذة ، وهي جانب الخباء .
(*)(12/236)
قال أبو الفرج : وفي حديث أبى زيد بن عمر بن شبة ، عن السرى عن عبد الكريم ابن رشيد عن أبى عثمان النهدي أنه لما شهد الشاهد الاول عند عمر تغير الثالث لذلك لون عمر ثم جاء الثاني فشهد فانكسر لذلك انكسارا شديدا ثم جاء فشهد فكان الرماد نثر على وجه عمر فلما جاء زياد جاء شاب يخطر بيديه فرفع عمر رأسه إليه وقال : ما عندك أنت يا سلح العقاب - وصاح أبو عثمان النهدي صيحة تحكى صيحة عمر - قال عبد الكريم بن رشيد : لقد كدت أن يغشى على لصيحته .
قال أبو الفرج : فكان المغيرة يحدث ، قال : فقمت إلى زياد فقلت : لا مخبأ لعطر بعد عروس يا زياد ، أذكرك الله وأذكرك موقف القيامة وكتابه ورسوله أن تتجاوز إلى ما لم تر ! ثم صحت : يا أمير المؤمنين إن هؤلاء قد احتقروا دمى فالله الله في دمى ! قال : فترنقت عينا زياد واحمر وجهه ، وقال : يا أمير المؤمنين أما إن أحق ما حق القوم فليس عندي ولكني رأيت مجلسا قبيحا وسمعت نفسا حثيثا وانتهارا ورأيته متبطنها ، فقال عمر : أرأيته يدخل ويخرج كالميل في المكحلة ؟ قال : لا ! قال أبو الفرج : وروى كثير من الرواة أنه ، قال : رأيته رافعا برجليها ورأيت خصيتيه مترددتين بين فخذيها وسمعت حفزا شديدا وسمعت نفسا عاليا ، فقال عمر : أرأيته يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة ؟ قال : لا ، فقال : عمر الله أكبر ! قم يا مغيرة إليهم فاضربهم فجاء المغيرة إلى أبى بكرة فضربه ثمانين وضرب الباقين .
وروى قوم أن الضارب لهم الحد لم يكن المغيرة وأعجب عمر قول زياد ودرأ الحد عن المغيرة ، فقال : أبو بكرة بعد أن ضرب أشهد أن المغيرة فعل كذا وكذا ! فهم عمر بضربه ، فقال له : على عليه السلام إن ضربته رجمت صاحبك ! ونهاه عن ذلك .(12/237)
قال أبو الفرج : يعنى إن ضربه تصير شهادته شهادتين فيوجب بذلك الرجم على المغيرة .
قال : فأستتاب عمر أبا بكرة ، فقال : إنما تستتيبنى لتقبل شهادتى ، قال : أجل ! قال : فانى لا أشهد بين اثنين ما بقيت في الدنيا ! قال : فلما ضربوا الحد ، قال المغيرة : الله اكبر الحمد لله الذى أخزاكم ! فقال عمر : أسكت أخزى الله مكانا رأوك فيه ! .
قال : وأقام أبو بكرة على قوله ، وكان يقول والله ما انسى قط فخذيها وتاب الاثنان فقبل شهادتهما وكان أبو بكرة بعد ذلك إذا طلب إلى شهادة ، قال : اطلبوا غيرى فان زيادا أفسد على شهادتى .
وقال أبو الفرج : وروى إبراهيم بن سعيد عن أبيه عن جده ، قال : لما ضرب أبو بكرة أمرت أمه بشاة فذبحت وجعل جلدها على ظهره ، قال : إبراهيم فكان أبى يقول : ما ذاك إلا من ضرب شديد .
قال أبو الفرج : فحدثنا الجوهرى عن عمربن شبة عن على بن محمد عن يحيى بن زكريا عن مجالد ، عن الشعبى ، قال : كانت الرقطاء التى رمى بها المغيرة تختلف إليه في أيام إمارته الكوفة في خلافة معاوية في حوائجها فيقضيها لها .
قال أبو الفرج : وحج عمر بعد ذلك مرة فوافق الرقطاء بالموسم فرآها وكان المغيرة يومئذ هناك ، فقال عمر للمغيرة : ويحك ! أتتجاهل على ! والله ما أظن أبا بكرة كذب عليك وما رأيتك إلا خفت أن أرمى بحجارة من السماء ! .
قال : وكان على عليه السلام بعد ذلك يقول إن ظفرت بالمغيرة لاتبعته الحجارة .
قال أبو الفرج : فقال حسان بن ثابت يهجو المغيرة ويذكر هذه القصة لو أن اللؤم ينسب كان عبدا قبيح الوجه أعور من ثقيف(12/238)
تركت الدين والاسلام لما بدت لك غدوة ذات النصيف وراجعت الصبا وذكرت لهوا (1) مع القينات في العمر اللطيف .
قال أبو الفرج : وروى المدائني أن المغيرة لما شخص إلى عمر في هذه الوقعة رأى في طريقه جارية فاعجبته فخطبها إلى أبيها فقال له : وأنت على هذه الحال ! قال : وما عليك إن أبق (2) فهو الذى تريد وإن أقتل ترثني فزوجه .
وقال أبو الفرج : قال الواقدي كانت امرأة من بنى مرة تزوجها بالرقم (3) فلما قدم بها على عمر ، قال : إنك لفارغ القلب طويل الشبق .
فهذه الاخبار كما تراها تدل متأملها على أن الرجل زنى بالمرأة لا محالة وكل كتب التواريخ والسير تشهد بذلك وإنما اقتصرنا نحن منها على ما في هذين الكتابين .
وقد روى المدائني أن المغيرة كان أزنى الناس في الجاهلية فلما دخل في الاسلام قيده الاسلام وبقيت عنده منه بقية ظهرت في أيام ولايته البصرة .
وروى أبو الفرج في كتاب الاغانى عن الجاحظ أبى عثمان عمرو بن بحر قال : كان المغيرة بن شعبة والاشعث بن قيس وجرير بن عبد الله البجلى يوما متوافقين بالكناسة في نفر وطلع عليهم أعرابي فقال لهم المغيرة : دعوني أحركه ، قالوا : لا تفعل فان للاعراب جوابا يؤثر ، قال : لا بد ، قالوا : فأنت أعلم ، فقال له : يا أعرابي أتعرف المغيرة ابن شعبة ؟ قال : نعم أعرفه أعور زانيا فوجم ثم تجلد ، فقال : أتعرف الاشعث بن قيس ؟ قال : نعم ذاك رجل لا يعرى قومه ، قال : وكيف ذاك ؟ قال : لانهم حاكة .
قال : فهل تعرف جرير بن عبد الله ؟ قال : كيف لا أعرف رجلا لولاه ما عرفت عشيرته ! فقالوا : قبحك الله فانك شر جليس هل تحب أن يوقر لك بعيرك هذا مالا وتموت
__________
(1) الاغاني : (عهد) .
(2) الاغاني : (أعطف) .
(3) الزغم : موضع بالحجاز قريب من وادي القرى .
(*)(12/239)
أكرم العرب موتة ؟ قال : فمن يبلغه إذن أهلى ؟ فانصرفوا عنه فتركوه (1) قال أبو الفرج : وروى على بن سليمان الاخفس ، قال : خرج المغيرة بن شعبة وهو يومئذ على الكوفة ومعه الهيثم بن التيهان النخعي غب مطر يسير في ظهر الكوفة والنجف فلقى ابن لسان الحمرة أحد بنى تيم الله بن ثعلبه ، وهو لا يعرف المغيرة ولا يعرفه المغيرة ، فقال له : من أين أقبلت يا أعرابي ، قال : من السماوة قال : كيف تركت الارض خلفك ؟ قال : عريضة أريضة (2) ، قال : فكيف كان المطر ؟ قال : عفى الاثر وملا الحفر ، قال : فمن أنت ؟ قال : من بكر بن وائل ، قال : كيف علمك بهم ؟ قال : إن جهلتهم لم أعرف غيرهم ، قال : فما تقول في بنى شيبان ؟ قال : سادتنا وسادة غيرنا قال فما تقول في بنى ذهل ؟ قال : سادة نوكى ، قال : فقيس بن ثعلبة ؟ قال : إن جاورتهم سرقوك وإن ائتمنتهم خانوك ، قال : فبنو تيم الله بن ثعلبه ؟ قال : رعاء النقد (3) وعراقيب الكلاب ، قال : فبنى يشكر ؟ قال : صريح تحسبه مولى .
قال هشام بن الكلبى : لان في ألوانهم حمرة ، قال : فعجل ؟ قال : أحلاس (4) الخيل ، قال : فعبد (5) القيس ؟ قال : يطعمون الطعام ويضربون الهام ، قال : فعنزة ؟ قال : لا تلتقي بهم الشفتان لؤما ، قال : فضبيعة أضجم ؟ قال : جدعا وعقرا (6) ! قال : فاخبرني عن النساء ، قال : النساء أربع : ربيع مربع وجميع مجمع وشيطان سمعمع وغل لا يخلع ، قال : فسر ، قال : أما الربيع المربع ، فالتى إذا نظرت إليها سرتك وإذا أقسمت عليها برتك ، وأما التى هي جميع مجمع ، فالمرأة تتزوجها ولها نسب فيجتمع نسبها إلى نسبك وأما الشيطان السمعمع فالكالحة في وجهك إذا دخلت المولولة في أثرك
__________
(1) الاغاني 16 : 89 .
(2) الاريضة : المعشبة .
(3) النقد : صغار الغنم ، وفي الاغاني : (البقر) .
(4) أحلاس الخيل : شجعان فرسان ملازمون لركوب الخيل .
(5) الاغاني : (فحنفية) .
(6) دعا عليهم بالجدع والعقر ، يريد أصابهم الاستئصال .
(*)(12/240)
إذا خرجت وأما الغل الذى لا يخلع فبنت عمك السوداء القصيرة الفوهاء الدميمة التى قد نثرت لك بطنها إن طلقتها ضاع ولدك وإن أمسكتها فعلى جدع انفك ، قال (1) المغيرة بل أنفك .
قال : فما تقول في أميرك المغيرة بن شعبة ؟ قال : أعور زان ، فقال : الهيثم بن الاسود : فض الله فاك ! ويلك إنه الامير المغيرة ! قال : إنها كلمة تقال فانطلق به المغيرة إلى منزله وعنده يومئذ أربع نسوة وستون - أو سبعون - أمة وقال : ويحك ! هل يزنى الحر وعنده مثل هؤلاء ! ثم قال لهن : ارمين إليه بحليكن (2) ففعلن ، فخرج بملء كسائه ذهبا وفضة (3) .
وإنما أوردنا هذين الخبرين ليعلم السامع أن الخبر بزناه كان شائعا مشهورا مستفيضا بين الناس ولانهما يتضمنان أدبا وكتابنا هذا موضوع للادب .
وإنما قلنا : إن عمر لم يخطئ في درء الحد عنه لان الامام يستحب له ذلك وإن غلب على ظنه أنه قد وجب الحد عليه روى المدائني أن أمير المؤمنين عليا عليه السلام أتى برجل قد وجب عليه الحد فقال : أهاهنا شهود ؟ قالوا : نعم ، قال : فأتوني بهم إذا أمسيتم ولا تأتوني إلا معتمين فلما أعتموا جاءوه فقال لهم : نشدت الله رجلا ما لى عنده مثل هذا الحد إلا انصرف ! قال : فما بقى منهم أحد فدرأ عنه الحد ذكر هذا الخبر أبو حيان في كتاب البصائر في الجزء السادس منه والخبر المشهور الذى كاد يكون متواترا أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال (ادرءوا الحدود بالشبهات) ومن تأمل المسائل الفقهية في باب الحدود علم أنها بنيت على الاسقاط عند أدنى سبب وأضعفه ألا ترى أنه لو أقر بالزنا ثم رجع عن إقراره قبل إقامة الحد أو في وسطه قبل رجوعه وخلى سبيله ! .
__________
(1) الاغاني : (فقال) (2) الاغاني : (بحلاكن) (3) الاغاني 16 : 90 ، 91 .
(*)(12/241)
وقال أبو حنيفة وأصحابه : يستحب للامام أن يلقن المقر الرجوع ويقول له تأمل ما تقول لعلك مسستها أو قبلتها ويجب على الامام أن يسأل الشهود ما الزنا ؟ وكيف هو ؟ وأين زنى ؟ وبمن زنى ؟ ومتى زنى ؟ وهل رأوه وطئها في فرجها كالميل في المكحلة ؟ فإذا ثبت كل ذلك سأل عنهم فلا يقيم الحد حتى يعدلهم القاضى في السر والعلانية ولا يقام الحد بإقرار الانسان على نفسه حتى يقر أربع مرات في أربعه مجالس كلما أقر رده القاضى وإذا تم إقراره سأله القاضى عن الزنا ؟ ما هو ؟ وكيف هو ؟ وأين زنى ؟ وبمن زنى ؟ ومتى زنى ؟ .
قال الفقهاء : يجب أن يبتدئ الشهود برجمه إذا تكاملت الشهادة فان امتنعوا من الابتداء برجمه سقط الحد .
قالوا : ولا حد على من وطئ جارية ولده ، أو ولد ولده ، وإن قال : علمت أنها على حرام وإن وطئ جارية أبيه أو أمه أو أخته ، وقال ظننت أنها تحل لى فلا حد عليه ومن أقر أربع مرات في مجالس مختلفه بالزنا بفلانة فقالت هي بل تزوجني فلا حد عليه وكذلك إن أقرت المرأة بأنه زنى بها فلان فقال الرجل بل تزوجتها فلا حد عليها قالوا وإذا شهد الشهود بحد متقادم من الزنا لم يمنعهم عن إقامته بعدهم عن الامام لم تقبل شهادتهم إذا كان حد الزنا وإن شهدوا أنه زنى بامرأة ولا يعرفونها لم يحد وإن شهد اثنان أنه زنى بامرأة بالكوفة وآخران أنه زنى بالبصرة درئ الحد عنهما جميعا وإن شهد أربعة على رجل أنه زنى بامرأة بالنخيلة عند طلوع الشمس من يوم كذا وكذا وأربعة شهدوا بهذه المرأة عند طلوع الشمس ذلك اليوم بدير هند درئ الحد عنه وعنها وعنهم جميعا وإن شهد أربعة على شهادة أربعة بالزنا لم يحد المشهود عليه .(12/242)
وهذه المسائل كلها مذهب أبى حنيفة ويوافقه الشافعي في كثير منها ومن تأملها علم أن مبنى الحدود على الاسقاط بالشبهات وإن ضعفت .
فان قلت : كل هذا لا يلزم المرتضى ، لان مذهبه في فروع الفقه مخالف لمذهب الفقهاء قلت : ذكر محمد بن النعمان - وهو شيخ المرتضى ، الذى قرأ عليه فقه الامامية - في كتاب (المقنعة) إن الشهود الاربعة إن تفرقوا في الشهادة بالزنا ولم يأتوا بها مجتمعين في وقت في مكان واحد سقط الحد عن المشهود عليه ، ووجب عليهم حد القذف .
قال : وإذا أقر الانسان على نفسه بالزنا أربع مرات على اختيار منه للاقرار وجب عليه الحد وإن أقر مرة أو مرتين أو ثلاثا لم يجب عليه الحد بهذا الاقرار وللامام أن يؤدبه باقراره على نفسه حسب ما يراه فان كان أقر على امرأة بعينها جلد حد القذف .
قال : وإن جعل في الحفرة ليرجم وهو مقر على نفسه بالزنا ففر منها ، ترك ولم يرد لان فراره رجوع عن الاقرار وهو أعلم بنفسه .
قال : ولا يجب الرجم على المحصن الذى يعده الفقهاء محصنا وهو من وطئ امرأة في نكاح صحيح وإنما الاحصان عندنا من له زوجه أو ملك يمين يستغنى بها عن غيرها ويتمكن من وطئها فان كانت مريضة لا يصل إليها بنكاح أو صغيرة لا يوطأ مثلها أو غائبة عنه أو محبوسة لم يكن محصنا بها ولا يجب عليه الرجم .
قال : ونكاح المتعة لا يحصن عندنا وإذا كان هذا مذهب الامامية فقد اتفق قولهم وأقوال الفقهاء في سقوط الرجم بأدنى سبب والذى رواه أبو الفرج الاصفهانى إن زيادا لم يحضر في المجلس الاول وأنه حضر في مجلس ثان فلعل إسقاط الحد كان لهذا .
ثم نعود إلى تصفح ما اعترض به المرتضى كلام قاضى القضاة .(12/243)
أما قوله كان الحد في حكم الثابت فإن الله تعالى لم يوجب الحد إلا إذا كان ثابتا ولم يوجبه إذا كان في حكم الثابت ويسأل عن معنى قوله في (حكم الثابت) هل المراد بذلك أنه قريب من الثبوت وإن لم يثبت حقيقة أم المراد أنه قد ثبت وتحقق ؟ فإن أراد الثاني ، قيل له : لا نسلم أنه ثبت لان الشهادة لم تتم وقد اعترف المرتضى بذلك وأقر بأن الشهادة لم تكمل ولكنه نسب ذلك إلى تلقين عمر وإن أراد الاول قيل له : ليس يكفى في وحوب الحد أن يكون قريبا إلى الثبوت لانه لو كفى ذلك لحد الانسان بشهادة ثلاثة من الشهود .
وأما قوله : إن عمر لقنه وكره أن يشهد فلا ريب أن الامر وقع كذلك ، وقد قلنا : إن هذا جائز بل مندوب إليه ، وروينا عن أمير المؤمنين ما رويناه وذكرنا قول الفقهاء في ذلك وأنهم استحبوا أن يقول القاضى للمقر بالزنا تأمل ما تقوله ، لعلك مسستها أو قبلتها ! .
فأما قول المرتضى : إنه درأ الحد عن واحد وكان درؤه عن ثلاثة أولى فقد أجاب قاضى القضاة عنه بأنه ما كان يمكن دفعه عنهم فأما قول المرتضى : بل قد كان يمكن دفعه عنهم ، بألا يلقن الرابع الامتناع من الشهادة ، فقد أجاب قاضى القضاة عنه : بأن الزنا ووسم الانسان به أعظم وأشنع وأفحش من أن يوسم بالكذب والافتراء وعقوبة الزانى أعظم من عقوبة الكاذب القاذف عند الله تعالى في دار التكليف ، يبين ذلك أن الله تعالى أوجب جلد ثلاثة من المسلمين لتخليص واحد شهد الثلاثة عليه بالزنا فلو لم يكن هذا المعنى ملحوظا في نظر الشارع لما أوجبه فكيف يقول المرتضى : ليس لاحد الامرين إلا ما في الاخر ! .
وأما خبر السارق الذى رواه قاضى القضاة وقول المرتضى في الاعتراض عليه ليس في دفع الحد عن السارق إيقاع غيره في المكروه وقصة المغيرة تخالف هذا فليس بجيد(12/244)
لان في دفع الحد عن السارق إضاعة مال المسلم الذى سرق السارق في زمانه وفيه أيضا إغراء أهل الفساد بالسرقة لانهم إذا لم يقم الحد عليهم لمكان الجحود أقدموا على سرقة الاموال فلو لم يكن عناية الشارع بالدماء أكثر من عنايته بغيره من الاموال و الابشار لما قال : للمكلف لا تقر بالسرقة ولا بالزنا ولما رجح واحدا على ثلاثة وهان في نظره أن تضرب أبشارهم بالسياط وهم ثلاثة حفظا لدم واحد .
وأما حديث صفوان وقول المرتضى فلا يشبه كل ما نحن فيه لان الرسول صلى الله عليه وآله بين أن ذلك القول يسقط الحد لو تقدم وليس فيه تلقين يوجب إسقاط الحد .
فجوابه أن قاضى القضاة لم يقصد بإيراد هذا الخبر إلا تشييد قول عمر أرى وجه رجل لا يفضح الله به رجلا من المسلمين لان عمر كره فضيحة المغيرة كما كره رسول الله صلى الله عليه وآله فضيحة السارق الذى قال : صفوان (هو له) وقال : عليه السلام (هلا قبل أن تأتيني به !) أي هلا قلت ذلك قبل أن تحضره فلم يفتضح بين الناس ! فإن قولك (هو له) وإن درأ الحد إلا أنه لا يدرأ الفضيحة ! .
فأما ما حكاه قاضى القضاة عن أبى على من أن القذف قد كان تقدم منهم وهم بالبصرة فقد ذكرنا في الخبر ما يدل على ذلك فبطل قول المرتضى : إن ذلك غير معروف وإن الظاهر المروى خلافه .
وأما قول عمر للمغيرة : ما رأيتك إلا خفت أن يرمينى الله بحجارة من السماء فالظاهر أن مراده ما ذكره قاضى القضاة من التخويف وإظهار قوة الظن بصدق الشهود ليكون ردعا له ولذلك ورد في الخبر ما أظن أبا بكرة كذب عليك تقديره : أظنه لم يكذب ولو كان كما قال المرتضى ندما وتأسفا على تفريط وقع لاقام الحد عليه ولو بعد حين ومن الذى كان يمنعه من ذلك لو أراده ! .
(1) ساقطة من : ب .
(*)(12/245)
وقوله لم يخاف أن يرمى بالحجارة وهو لم يدرأ الحد عن مستحق له ؟ جوابه أن هذا القول يجرى مجرى التهويل والتخويف للمغيرة كيلا يقدم على أن يعرض نفسه لشبهة فيما بعد .
فأما قول قاضى القضاة : إنه غير ممتنع أن يحب ألا يفتضح لما كان متوليا للبصرة من قبله وقول المرتضى معترضا عليه أن كونه واليا من قبله لا يقتضى أن يدرأ عنه الحد فغير لازم لان قاضى القضاة ما جعل كونه واليا من قبله مقتضيا أن يدرأ عنه الحد وإنما قاله في جواب من أنكر على عمر محبته لدرء الحد عنه ، فقال : إنه غير قبيح ولا يحرم محبة درء الحد عنه لانه وال من قبله ! فجعل الولاية للبصرة مسوغة لمحبة عمر لدفع الحد عنه لا مسوغة لدفع الحد عنه ، وبين الامرين فرق واضح .
وأما قول المرتضى : إن الشرع حظر كتمان الشهادة ، فصحيح فيما عدا الحدود فأما في الحدود فلا وقد ورد في الخبر الصحيح (من رأى على أخيه شيئا من هذه القاذورات وستر ، ستره الله يوم يفتضح المجرمون) .
فأما قول المرتضى : هب أن الحد سقط أما اقتضت الحال تأديب المغيرة بنوع من أنواع التعزير وإن خف ! فكلام لازم جواب عنه ولو فعله عمر لبرئ من التهمة براءة الذئب من دم يوسف ، وما أدرى كيف فاته ذلك مع تشدده في الدين وصلابته في السياسة ! ولعله كان له مانع عن اعتماد ذلك لا نعلمه ! .
الطعن السابع أنه كان يتلون في الاحكام حتى روى أنه قضى في الجد بسبعين قضية - وروى(12/246)
مائة قضية - وإنه كان يفضل في القسمة والعطاء وقد سوى الله تعالى بين الجميع وأنه قال في الاحكام من جهة الرأى والحدس (1) والظن .
أجاب قاضى القضاة عن ذلك ، فقال : مسائل الاجتهاد يسوغ فيها الاختلاف والرجوع عن رأى إلى رأى بحسب الامارات وغالب الظن وقد (2) ذكر أن ذلك طريقه أمير المؤمنين عليه السلام في أمهات الاولاد ومقاسمة الجد مع الاخوة ومسأله الحرام .
قال : وإنما الكلام في أصل القياس والاجتهاد فإذا ثبت ذلك خرج من أن يكون طعنا وقد ثبت أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يولى من يرى خلاف رأيه كابن عباس وشريح ولا يمنع زيدا وابن مسعود من الفتيا مع الاختلاف بينه وبينهما .
فأما ما روى من السبعين قضية فالمراد به في مسائل من الجد لان مسألة واحدة لا يوجد فيها سبعون قضية مختلفة وليس في ذلك عيب ، بل يدل على سعة علمه .
وقال : قد صح في زمان الرسول صلى الله عليه وآله مثل ذلك لانه لما شاور في أمر الاسرى أبا بكر أشار ألا يقتلهم وأشار عمر بقتلهم ، فمدحهما جميعا فما الذى يمنع من كون القولين صوابا من المجتهدين ومن الواحد في حالين ؟ .
وبعد فقد ثبت أن اجتهاد الحسن عليه السلام في طلب الامامة كان بخلاف اجتهاد الحسين عليه السلام لانه سلم الامر وتمكنه أكثر من تمكن الحسين عليه السلام ولم يمنع ذلك من كونهما عليه السلام مصيبين .
__________
(1) في الاصول : (الحد) ، والصواب ما أثبته من الشافي .
(2) الشافي : (وادعى أن ذلك طريقة أمير المؤمنين) .
(3) الشافي : (خلافه) .
(*)(12/247)
اعترض المرتضى هذا الجواب فقال (1) : لا شك أن التلون في الاحكام والرجوع من قضاء إلى قضاء ، إنما يكون عيبا وطعنا إذا أبطل الاجتهاد الذى يذهبون إليه فأما لو ثبت لم يكن ذلك عيبا فأما الدعوى على أمير المؤمنين عليه السلام أنه تنقل في الاحكام ورجع من مذهب إلى آخر فانها غير صحيحه ولا نسلمه (2) ونحن ننازعه فيها (3) وهو لا ينازعنا في تلون صاحبه وتنقله فلم يشتبه الامران .
وأظهر ما روى في ذلك خبر أمهات الاولاد وقد بينا فيما سلف من الكتاب ما فيه ، وقلنا : إن مذهبه في بيعهن كان واحدا غير مختلف وإن كان قد وافق عمر في بعض الاحوال لضرب من الرأى فأما توليته لمن يرى خلاف رأيه فليس ذلك لتسويغه الاجتهاد الذى يذهبون إليه بل لما بيناه من قبل أنه عليه السلام كان غير متمكن من اختياره وأنه يجرى أكثر الامور مجراها المتقدم للسياسة والتدبير وهذا السبب في أنه لم يمنع من خالفه في الفتيا .
فأما قوله إن السبعين قضية لم تكن في مسألة واحدة وإنما كانت في مسائل من الجد فكلا الامرين واحد فيما قصدناه لان حكم الله تعالى لا يختلف في المسألة الواحدة والمسائل فأما أمر الاسارى فإن صح فإنه لا يشبه أحكام الدين المبنية على العلم واليقين لانه لا سبيل لابي بكر وعمر إلى المشورة في أمر الاسارى إلا من طريق الظن والحسبان وأحكام الدين معلومة وإلى العلم بها سبيل .
وما ادعاه من اجتهاد الحسن بخلاف اجتهاد الحسين ليس على ما ظنه لان ذلك لم يكن عن اجتهاد وظن بل كان عن علم ويقين فمن أين له أنهما عملا على الظن ! فما نراه اعتمد على حجة ! ومن أين له أن تمكن الحسن كان أكثر من تمكن الحسين !
__________
(1) الشافي : (يقال له) .
(2 - 3) الشافي : (ونحن ننازعه في ذلك كل النزاع ، ونذهب إلى دفعه أشد الدفع ، وهو لا ينازعه في تلوين صاحبه في الاحكام ، فلم يشتبه الامران) .
(*)(12/248)
على أن هذا لو كان على ما قاله لم يحسن من هذا التسليم ومن ذاك القتال ، لان المقاتل قد يكون مغررا ملقيا بيديه إلى التهلكة والمسالم مضيعا للامر مفرطا ، وإذا كان عند صاحب الكتاب التسليم والقتال إنما كانا عن ظن وأمارات فليس يجوز أن يغلب على الظن بأن الرأى في القتال مع ارتفاع أمارات التمكن ولا أن يغلب في الظن المسالمة مع قوة أمارات التمكن (1) .
قلت : أما القول في صحة الاجتهاد وبطلانه فله مواضع غير هذا الموضع وكذلك القول في تقية الامام واستصلاحه وفعله مالا يسوغ لضرب من السياسة والتدبير .
وأما مسائل الجد فلم يعترض المرتضى قول قاضى القضاة فيها وأما قاضى القضاة فقد استبعد بل أحال أن تكون مسألة واحدة بعينها تحتمل سبعين حكما مختلفه فحمل الحديث على أن عمر أفتى في باب ميراث الاجداد والجدات بسبعين فتيا في سبعين مسألة مختلفة الصور وذلك دليل على علمه وفقهه وتمكنه من البحث في تفاريع المسائل الشرعية هذا هو جواب قاضى القضاة فكيف يعترض بقوله كلا الامرين واحد فيما قصدناه لان حكم الله لا يختلف في المسألة الواحدة والمسائل المتعددة أليس هذا اعتراض من ظن أن قاضى القضاة قد اعترض بتناقض أحكامه ولكن لا في مسألة بعينها بل في مسائل من باب ميراث الجد ! ولم يقصد قاضى القضاة ما ظنه والوجه أن يعترض قاضى القضاة فيقال : إن الرواة كلهم اتفقوا على أن عمر تلون تلونا شديدا في الجد مع الاخوة كيف يقاسمهم ؟ وهى مسألة واحدة فقضى فيها بسبعين قضية فاخرجوا الرواية مخرج التعجب من تناقض فتاويه ولم يخرج أحد من المحدثين الرواية مخرج المدح له بسعة تفريعه في الفقه والمسائل فلا يجوز صرف الرواية عن الوضع الذى وردت عليه .
__________
(1) الشافي 256 .
(*)(12/249)
وقول قاضى القضاة كيف تحتمل مسألة واحدة سبعين وجها ! جوابه أنه لم يقع الامر بموجب ما توهمه بل المراد أن قوما تحاكموا إليه في هذه المسألة مثلا اليوم ، فأفتى فيها بفتيا ، نحو أن يقول في جد وبنت وأخت : للبنت النصف والباقى بين الجد والاخت للذكر مثل حظ الانثيين ، وهو قول زيد بن ثابت ، ثم يتحاكم إليه بعد أيام في هذه المسألة بعينها قد وقعت لقوم آخرين فيقول : للبنت النصف وللجد السدس والباقى للاخت وهو المذهب المحكى عن على عليه السلام وذلك بأن يتغلب على ظنه ترجيح هذه الفتيا على ما كان أفتى به من قبل ثم تقع هذه المسألة بعينها بعد شهر آخر فيفتى فيها بفتيا أخرى فيقول : للبنت النصف والباقى بين الجد والاخت نصفين وهو مذهب ابن مسعود ثم تقع المسألة بعينها بعد شهر آخر فيقضى فيها بالفتيا الاولى وهى مذهب زيد بأن يعود ظنه مترجحا متغلبا لمذهب زيد ثم تقع المسأله بعينها بعد وقت آخر فيفتى فيها بقول على عليه السلام وهكذا لا تزال المسألة بعينها تقع واقواله فيها تختلف وهى ثلاثة لا مزيد عليها إلا أنه لا يزال يفتى فيها فتاوى مختلفة إلى أن توفى فأحصيت فكانت سبعين فتيا .
فما احتجاج قاضى القضاة بقصة أسرى بدر فجيد وأما ما اعترض به المرتضى فليس بجيد لان المسألة من باب الشرع ، وهو قتل الاسرى أو تخليتهم بالفداء والقتل وإراقة الدم من أهم المسائل الشرعية وقد علم من الشارع شدة العناية بأمر الدنيا فإن كانت أحكام الشرع لا يجوز أن تتلقى وأن يفتى فيها إلا بطريق معلومة وأن الظن والاجتهاد لا مدخل له في الشرع - كما يذهب إليه - المرتضى فكيف جاز من رسول الله صلى الله عليه وآله أن يشاور في أحكام شرعية من لا طريق له إلى العلم وإنما قصارى أمره الظن والاجتهاد والحسبان ! وكيف مدحهما جميعا وقد اختلفا ولا بد أن يكون أحدهما مخطئا ! .(12/250)