مواطن كثيرة ، وخصوصا يوم أحد ثم اهتضموا بعده ، واستؤثر عليهم ، ولقوا من المشاق والشدائد ما يطول شرحه ، ولو لم يكن إلا يوم الحرة ، فإنه اليوم الذى لم يكن في العرب مثله ، ولا أصيب قوم قط بمثل ما أصيب به الانصار ذلك اليوم ! ثم قال : إن الله تعالى زوى الدنيا عن صالحي عباده وأهل الاخلاص له ، لانه لم يرها ثمنا لعبادتهم ، ولا كفؤا لاخلاصهم ، وأرجأ جزاءهم إلى دار أخرى غير هذه الدار ، في مثلها يتنافس المتنافسون ! * * * الاصل : منها في خطاب أصحابه : وقد بلغتم من كرامة الله تعالى لكم منزلة تكرم بها إماؤكم ، وتوصل بها جيرانكم ، ويعظمكم من لا فضل لكم عليه ، ولا يد لكم عنده ، ويهابكم من لا يخاف لكم سطوة ، ولا لكم عليه إمرة .
وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تغضبون ، وأنتم لنقض ذمم آبائكم تأنفون ، وكانت أمور الله عليكم ترد ، وعنكم تصدر ، وإليكم ترجع ، فمكنتم الظلمة من منزلتكم ، وألقيتم إليهم أزمتكم ، وأسلمتم أمور الله في أيديهم ، يعملون بالشبهات ، ويسيرون في الشهوات .
وايم الله لو فرقوكم تحت كل كوكب ، لجمعكم الله لشر يوم لهم ! * * * الشرح : هذا خطاب لاصحابه الذين أسلموا مدنهم ونواحيهم إلى جيوش معاوية ، التى كان(7/176)
يغير بها على أطراف أعمال على عليه السلام كالانبار وغيرها ، مما تقدم ذكرنا له ، قال لهم : إن الله أكرمكم بالاسلام بعد أن كنتم مجوسا ، أو عباد أصنام ، وبلغتم من كرامته إياكم بالاسلام منزلة عظيمة ، أكرم بها إماؤكم وعبيدكم ، ومن كان مظنة المهنة والمذلة .
ووصل بها جيرانكم ، أي من التجأ إليكم من معاهد أو ذمى ، فإن الله تعالى حفظ لهم ذمام المجاورة لكم ، حتى عصم دماءهم وأموالهم ، وصرتم إلى حال يعظمكم بها من لا فضل لكم عليه ، ولا نعمة لكم عنده ، كالروم والحبشة ، فإنهم عظموا مسلمى العرب لتقمصهم لباس الاسلام والدين ، ولزومهم ناموسه ، وإظهارهم شعاره .
ويهابكم من لا يخاف لكم سطوة ، ولا لكم عليه إمرة ، كالملوك الذين في أقاصى البلاد ، نحو الهند والصين وأمثالها ، وذلك لانهم هابوا دولة الاسلام ، وإن لم يخافوا سطوة سيفها ، لانه شاع وذاع أنهم قوم صالحون ، إذا دعوا الله استجاب لهم ، وأنهم يقهرون الامم بالنصر السماوي وبالملائكة ، لا بسيوفهم ولا بأيديهم .
قيل : إن العرب لما عبرت دجلة إلى القصر الابيض الشرقي بالمدائن عبرتها في أيام مدها ، وهى كالبحر الزاخر على خيولها وبأيديها رماحها ، ولا دروع عليها ولا بيض ، فهربت الفرس بعد رمى شديد منها للعرب بالسهام ، وهم يقدمون ويحملون ، ولا تهولهم السهام ، فقال فلاح نبطى ، بيده مسحاته وهو يفتح الماء إلى زرعه لاسوار من الاساورة معروف بالبأس وجودة الرماية : ويلكم ! أمثلكم في سلاحكم يهرب من هؤلاء القوم الحاسرين ! ولذعه باللوم والتعنيف : فقال له : أقم مسحاتك ، فأقامها فرماها ، فخرق الحديد حتى عبر النصل إلى جانبها الآخر ، ثم قال : انظر الآن ، ثم رمى بعض العرب المارين عليه عشرين سهما لم يصبه ولا فرسه منها بسهم واحد ، وإنه لقريب منه غير بعيد .
ولقد كان بعض السهام يسقط بين يدى الاسوار ، فقال له بالفارسية : أعلمت أن القوم مصنوع لهم ! قال : نعم .(7/177)
ثم قال عليه السلام : ما لكم لا تغضبون ، وأنتم ترون عهود الله منقوضة ! وإن من العجب أن يغضب الانسان ويأنف من نقض عهد أبيه ، ولا يغضب ولا يأنف لنقض عهود إلهه وخالقه ! ثم قال لهم : كانت الاحكام الشرعية إليكم ترد منى ومن تعليمي إياكم ، وتثقيفى لكم ، ثم تصدر عنكم إلى من تعلمونه إياها من اتباعكم وتلامذتكم ، ثم يرجع إليكم بأن يتعلمها بنوكم وإخوتكم من هؤلاء الاتباع والتلامذة ، ففررتم من الزحف لما أغارت جيوش الشام عليكم ، وأسلمتم منازلكم وبيوتكم وبلادكم إلى أعدائكم ، ومكنتم الظلمة من منزلتكم ، حتى حكموا في دين الله بأهوائهم ، وعملوا بالشبهة لا بالحجة ، واتسعوا في شهواتهم ومآرب أنفسهم .
ثم أقسم بالله : إن أهل الشام لو فرقوكم تحت كل كوكب ليجمعنكم الله ليوم ، وهو شر يوم لهم ، وكنى بذلك عن ظهور المسودة وانتقامها من أهل الشام وبنى أمية ، وكانت المسودة المنتقمة منهم عراقية وخراسانية .(7/178)
(106) ومن كلام له عليه السلام في بعض أيام صفين : وقد رأيت جولتكم ، وانحيازكم عن صفوفكم ، تحوزكم الجفاة الطغام ، وأعراب أهل الشام ، وأنتم لهاميم العرب ، ويآفيخ الشرف ، والانف المقدم ، والسنام الاعظم .
ولقد شفا وحاوح صدري أن رأيتكم بأخرة ، تحوزونهم كما حازوكم ، وتزيلونهم عن مواقفهم كما أزالوكم ، حسا بالنصال ، وشجرا بالرماح ، تركب أولاهم أخراهم كالابل الهيم المطرودة ، ترمى عن حياضها ، وتذاد عن مواردها ! * * * الشرح : جولتكم : هزيمتكم .
فأجمل في اللفظ ، وكنى عن اللفظ المنفر ، عادلا عنه إلى لفظ لا تنفير فيه ، كما قال تعالى : (كانا يأكلان الطعام) (1) ، قالوا : هو كناية عن إتيان الغائط ، وإجمال في اللفظ .
وكذلك قوله : " وانحيازكم عن صفوفكم " كناية عن الهرب أيضا ، وهو من قوله تعالى : (إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة) (2) .
__________
(1) سورة الفرقان 7 .
(2) سورة الانفال 16 (*)(7/179)
وهذا باب من أبواب البيان لطيف ، وهو حسن التوصل بإيراد كلام غير مزعج ، عوضا عن لفظ يتضمن جبها وتقريعا .
وتحوزكم : تعدل بكم عن مراكزكم .
والجفاة : جمع جاف ، وهو الفدم الغليظ .
والطغام : الاوغاد ، واللهاميم ، جمع لهموم وهو الجواد من الناس والخيل ، قال الشاعر : لا تحسبن بياضا في منقصة إن اللهاميم في أقرابها بلق (1) واليآفيخ : جمع يافوخ وهو معظم الشئ ، تقول : قد ذهب يافوخ الليل ، أي أكثره ، ويجوز أن يريد به اليافوخ ، وهو أعلى الرأس ، وجمعه يآفيخ أيضا .
وأفخت الرجل : ضربت يافوخه ، وهذا أليق ، لانه ذكر بعده الانف والسنام ، فحمل اليافوخ على العضو إذا أشبه .
والوحاوح : الحرق والحزازات .
ولقيته بأخرة على " فعلة " أي أخيرا .
والحس القتل ، قال الله تعالى : (إذ تحسونهم بإذنه) (2) .
وشجرت زيدا بالرمح : طعنته ، والتأنيث في " أولاهم " و " أخراهم " للكتائب .
والهيم : العطاش .
وتذاد تصد وتمنع ، وقد روى : " الطغاة " عوض " الطغام " .
وروى " حشأ " بالهمز من حشأت الرجل أي أصبت حشاه .
وروى " بالنضال " بالضاد المعجمة ، وهو المناضلة والمراماة .
وقد ذكرنا نحن هذا الكلام فيما أقتصصناه من أخبار صفين فيما تقدم من هذا الكتاب .
__________
(1) اللسان 16 : 29 ، من غير نسبة .
(2) سورة آل عمران 152 (*)(7/180)
(107) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام ، وهى من خطب الملاحم : الحمد لله المتجلى لخلقه بخلقه ، والظاهر لقلوبهم بحجته ، خلق الخلق من غير روية ، إذ كانت الرويات لا تليق إلا بذوى الضمائر ، وليس بذى ضمير في نفسه .
خرق علمه باطن غيب السترات ، وأحاط بغموض عقائد السريرات .
* * * الشرح : الملاحم : جمع ملحمة ، وهى الوقعة العظيمة في الحرب ، ولما كانت دلائل إثبات الصانع ظاهرة ظهور الشمس ، وصفه عليه السلام بكونه ظهر وتجلى لخلقه ، ودلهم عليه بخلقه إياهم وإيجاده لهم .
ثم أكد ذلك بقوله : " والظاهر لقلوبهم بحجته " ولم يقل " لعيونهم " لانه غير مرئى ، ولكنه ظاهر للقلوب بما أودعها من الحجج الدالة عليه .
ثم نفى عنه الروية والفكر والتمثيل بين خاطرين ، ليعمل على أحدهما ، لان ذلك إنما يكون لارباب الضمائر والقلوب أولى النوازع المختلفة والبواعث المتضادة .
ثم وصفه بأن علمه محيط بالظاهر والباطن والماضي والمستقبل ، فقال : إن علمه خرق باطن الغيوب المستورة ، وأحاط بالغامض من عقائد السرائر .
* * *(7/181)
الاصل : منها في ذكر النبي صلى الله عليه وآله : اختاره من شجرة الانبياء ، ومشكاة الضياء ، وذؤابة العلياء ، وسرة البطحاء ، ومصابيح الظلمة ، وينابيع الحكمة .
* * * الشرح : شجرة الانبياء أولاد إبراهيم عليه السلام ، لان أكثر الانبياء منهم .
والمشكاة : كوة غير نافذة ، يجعل فيها المصباح .
والذؤابة .
طائفة من شعر الرأس ، وسرة البطحاء : وسطها ، وبنو كعب بن لؤى يفخرون على بنى عامر بن لؤى بأنهم سكنوا البطاح ، وسكنت عامر بالجبال المحيطة بمكة ، وسكن معها بنو فهر بن مالك ، رهط أبى عبيدة ابن الجراح وغيره ، قال الشاعر : فحللت منها بالبطاح وحل غيرك بالظواهر .
وقال طريح بن إسماعيل : أنت ابن مسلنطح البطاح ولم تطرق عليك الحنى والولج (1) .
وقال بعض الطالبيين .
وأنا ابن معتلج البطاح إذا غدا غيرى ، وراح على متون ظواهر
__________
(1) قيل في الوليد بن زيد بن عبد الملك ، وكان من أخواله .
الحنى : ما انخفض من الارض ، والولوج : ما اتسع من الاودية ، أي لم تكن بينهما فيختفي حسبك ، والبيت في معجم البلدان 2 : 214 .
(*)(7/182)
يفتر عنى ركنها وحطيمها كالجفن يفتح عن سواد الناظر كجبالها شرفي ، ومثل سهولها خلقي ، ومثل ظبائهن مجاوري * * * الاصل : منها : طبيب دوار بطبه ، قد أحكم مراهمه ، وأحمى مواسمه ، يضع ذلك حيث الحاجة إليه ، من قلوب عمى ، وآذان صم ، وألسنة بكم ، متتبع بدوائه مواضع الغفلة ، ومواطن الحيرة .
* * * الشرح : إنما قال : " دوار بطبه " ، لان الطبيب الدوار أكثر تجربة ، أو يكون عنى به أنه يدور على من يعالجه ، لان الصالحين يدورون على مرضى القلوب ، فيعالجونهم .
ويقال : إن المسيح رئى خارجا من بيت مومسة ، فقيل له : يا سيدنا ، أمثلك يكون هاهنا ! فقال : إنما يأتي الطبيب المرضى .
والمراهم : الادوية المركبة للجراحات والقروح .
والمواسم : حدائد يوسم بها الخيل وغيرها .
ثم ذكر أنه إنما يعالج بذلك من يحتاج إليه ، وهم أولو القلوب العمى ، والآذان ، الصم ، والالسنة البكم ، أي الخرس .
وهذا تقسيم صحيح حاصر ، لان الضلال ومخالفة(7/183)
الحق يكون بثلاثة أمور إما بجهل القلب ، وبعدم سماع المواعظ والحجج ، أو بالامساك عن شهادة التوحيد وتلاوة الذكر ، فهذه أصول الضلال ، وأما أفعال المعاصي ففروع عليها .
[ فصل في التقسيم ، وما ورد فيه من الشعر ] وصحة التقسيم باب من أبواب علم البيان ، ومنه قوله سبحانه : (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ، ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات) (1) .
وهذه قسمة صحيحة ، لان المكلفين : إما كافر ، أو مؤمن ، أو ذو المنزلة بين المنزلتين ، هكذا قسم أصحابنا الآية على مذهبهم في الوعيد .
وغيرهم يقول : العباد : إما عاص ظالم لنفسه ، أو مطيع مبادر إلى الخير ، أو مقتصد بينهما .
ومن التقسيم أيضا قوله : (وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون) (2) ومثل ذلك .
وقوله تعالى : (هو الذى يريكم البرق خوفا وطمعا) (3) ، لان الناس عند رؤية البرق بين خائف وطامع .
ووقف سائل على مجلس الحسن البصري ، فقال : رحم الله عبدا أعطى من سعة ، أو واسى من كفاف ، أو آثر من قلة ! فقال الحسن : لم تترك لاحد عذرا .
__________
(1) سورة فاطر 32 (2) سورة الواقعة 7 - 10 (3) سورة الرعد 12 (*)(7/184)
ومن التقسيمات الفاسدة في الشعر قول البحترى : ذاك وادى الاراك فاحبس قليلا مقصر في ملامة أو مطيلا (1) قف مشوقا ، أو مسعدا ، أو حزينا ، أو معينا ، أو عاذرا ، أو عذولا فالتقسيم في البيت الاول صحيح ، وفي الثاني غير صحيح ، لان المشوق يكون حزينا ، والمسعد يكون معينا ، فكذلك يكون عاذرا ، ويكون مشوقا ، ويكون حزينا .
وقد وقع المتنبي في مثل ، ذلك ، فقال : فافخر ، فإن الناس فيك ثلاثة مستعظم أو حاسد أو جاهل (2) فان المستعظم يكون حاسدا ، والحاسد يكون مستعظما .
ومن الابيات التى ليس تقسيمها بصحيح ، ما ورد في شعر الحماسة : وأنت امرؤ إما ائتمنتك خاليا فخنت ، وإما قلت قولا بلا علم (3) فأنت من الامر الذى قد أتيته بمنزلة بين الخيانة والاثم وذلك لان الخيانة أخص من الاثم ، والاثم شامل لها ، لانه أعم منها ، فقد دخل أحد القسمين في الآخر .
ويمكن أن يعتذر له ، فيقال : عنى بالاثم الكذب نفسه ، وكذلك هو المعنى أيضا بقوله : " قولا بلا علم " ، كأنه قال له : إما أن أكون أفشيت سرى إليك فخنتني ، أو لم أفش فكذبت على ، فأنت فيما أتيت بين أن تكون خائنا أو كاذبا .
ومما جاء من ذلك في النثر قول بعضهم : " من جريح مضرج بدمائه ، أو هارب لا يلتفت إلى ورائه " ، وذلك ان الجريح قد يكون هاربا ، والهارب قد يكون جريحا .
وقد أجاد البحترى لما قسم هذا المعنى ، وقال :
__________
(1) ديوانه 2 : 210 (2) ديوانه 3 : 259 (3) لعبد الله بن همام السلولى ، حماسة أبى تمام بشرح المرزوقى 3 : 1139 (*)(7/185)
غادرتهم أيدى المنية صبحا للقنا بين ركع وسجود فهم فرقتان بين قتيل قبضت نفسه بحد الحديد أو أسير غدا له السجن لحدا فهو حى في حاله الملحود فرقة للسيوف ينفذ فيها الحكم قسرا وفرقة للقيود ومن ذلك قول بعض الاعراب : النعم ثلاث : نعمة في حال كونها ، ونعمة ترجى مستقبلة ، ونعمة تأتى غير محتسبة ، فأبقى الله عليك ما أنت فيه ، وحقق ظنك فيما ترتجيه ، وتفضل عليك بما لم تحتسبه .
وذلك أنه أغفل النعمة الماضية .
وأيضا فإن النعمة التى تأتى غير محتسبة داخلة في قسم النعمة المستقبلة .
وقد صحح القسمة أبو تمام ، فقال : جمعت لنا فرق الامانى منكم بأبر من روح الحياة وأوصل (1) كالمزن من ماضى الرباب ومقبل متنظر ومخيم متهلل فصنيعة في يومها وصنيعة قد أحولت ، وصنيعة لم تحول .
* * * فإن قلت : فإن ما عنيت به فساد التقسيم على البحترى والمتنبي يلزمك مثله فيما شرحته ، لان الاعمى القلب قد يكون أبكم اللسان ، أصم السمع .
قلت : إن الشاعرين ذكرا التقسيم ب " أو " ، وأمير المؤمنين عليه السلام قسم بالواو والواو للجمع ، فغير منكر أن تجتمع الاقسام لواحد ، أو أن تعطى معنى الانفراد فقط ، فافترق الموضعان * * *
__________
(1) ديوانه 3 : 51 ، وهناك البيت الثالث قبل الثاني .
(*)(7/186)
الاصل : لم يستضيئوا بأضواء الحكمة ، ولم يقدحوا بزناد العلوم الثاقبة ، فهم في ذلك كالانعام السائمة ، والصخور القاسية ، قد انجابت السرائر لاهل البصائر ، ووضحت محجة الحق لخابطها ، وأسفرت الساعة عن وجهها ، وظهرت العلامة لمتوسمها .
ما لى أراكم أشباحا بلا أرواح ، وأرواحا بلا أشباح ، ونساكا بلا صلاح ، وتجارا بلا أرباح ، أيقاظا نوما ، وشهودا غيبا ، وناظرة عمياء ، وسامعة صماء ، وناطقة بكماء ! * * * الشرح : انجابت : انكشفت .
والمحجة : الطريق .
والخابط : السائر على غير سبيل واضحة .
وأسفرت الساعة : أضاءت وأشرقت ، وعن متعلقة بمحذوف ، وتقديره : كاشفة عن وجهها .
والمتوسم : المتفرس .
أشباحا بلا أرواح ، أي أشخاصا لا أرواح لها ولا عقول ، وأرواحا بلا أشباح ، يمكن أن يريد به الخفة والطيش ، تشبيها بروح بلا جسد .
ويمكن أن يعنى به نقصهم ، لان الروح غير ذات الجسد ناقصة عن الاعتمال ، والتحريك اللذين كانا من فعلها حيث كانت تدير الجسد .
ونساكا بلا صلاح ، نسبهم إلى النفاق .
وتجارا بلا أرباح ، نسبهم إلى الرياء وإيقاع الاعمال على غير وجهها .
ثم وصفهم بالامور المتضادة ظاهرا ، وهى مجتمعة في الحقيقة ، فقال : أيقاظا نوما ،(7/187)
لانهم أولو يقظة ، وهم غفول عن الحق كالنيام ، وكذلك باقيها ، قال تعالى : (فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التى في الصدور) (1) .
* * * الاصل : راية ضلال قد قامت على قطبها ، وتفرقت بشعبها ، تكيلكم بصاعها ، وتخبطكم بباعها ، قائدها خارج من الملة ، قائم على الضلة ، فلا يبقى يومئذ منكم إلا ثفالة كثفالة القدر ، أو نفاضة كنفاضة العكم ، تعرككم عرك الاديم ، وتدوسكم دوس الحصيد ، وتستخلص المؤمن من بينكم استخلاص الطير الحبة البطينة من بين هزيل الحب .
* * * الشرح : هذا كلام منقطع عما قبله ، لان الشريف الرضى رحمه الله كان يلتقط الفصول التى في الطبقة العليا من الفصاحة من كلام أمير المؤمنين عليه السلام فيذكرها ، ويتخطى ما قبلها وما بعدها ، وهو عليه السلام يذكر هاهنا ما يحدث في آخر الزمان من الفتن ، كظهور السفياني وغيره .
والقطب في قوله عليه السلام : " قامت على قطبها " : الرئيس الذى عليه يدور أمر الجيش .
والشعب : القبيلة العظيمة ، وليس التفرق للراية نفسها ، بل لنصارها وأصحابها ، فحذف المضاف ، ومعنى تفرقهم ، أنهم يدعون إلى تلك الدعوة المخصوصة في بلاد متفرقة ، أي تفرق ذلك الجمع العظيم في الاقطار ، داعين إلى أمر واحد .
ويروى " بشعبها " جمع شعبة .
__________
(1) سورة الحج 46 (*)(7/188)
وتقدير " تكيلكم بصاعها " تكيل لكم ، فحذف اللام ، كما في قوله تعالى : (وإذا كالوهم أو وزنوهم) (1) أي : كالوا لهم ، أو وزنوا لهم ، والمعنى تحملكم على دينها ودعوتها ، وتعاملكم بما يعامل به من استجاب لها ، ويجوز أن يريد بقوله : " تكيلكم بصاعها " يقهركم أربابها على الدخول في أمرهم ، ويتلاعبون بكم ، ويرفعونكم ويضعونكم كما يفعل كيال البر به إذا كاله بصاعه .
وتخبطكم بباعها : تظلمكم وتعسفكم ، قائدها ليس على ملة الاسلام بل مقيم على الضلالة ، يقال : ضله لك ، وإنه ليلومنى ضلة ، إذا لم يوفق للرشاد في عذله .
والثفالة : ما ثفل في القدر من الطبيخ .
والنفاضة : ما سقط من الشئ المنفوض .
والعكم : العدل ، والعكم أيضا نمط تجعل فيه المرأة ذخيرتها .
وعركت الشئ : دلكته بقوة والحصيد : الزرع المحصود .
ومعنى استخلاص الفتنة المؤمن أنها تخصه بنكايتها وأذاها ، كما قيل : المؤمن ملقى والكافر موقى ، وفي الخبر المرفوع : " آفات الدنيا أسرع إلى المؤمن من النار في يبيس العرفج " .
* * * الاصل : أين تذهب بكم المذاهب ، وتتيه بكم الغياهب ، وتخدعكم الكواذب ؟ ومن أين تؤتون ، وأنى تؤفكون ! فلكل أجل كتاب ، ولكل غيبة أياب .
فاستمعوا من ربانيكم ، وأحضروه قلوبكم ، واستيقظوا إن هتف بكم .
__________
(1) سورة المطففين 3 (*)(7/189)
وليصدق رائد أهله ، وليجمع شمله ، وليحضر ذهنه ، فلقد فلق لكم الامر فلق الخرزة ، وقرفه قرف الصمغة .
* * * الشرح الغياهب : الظلمات ، الواحد غيهب ، وتتيه بكم : تجعلكم تائهين ، عدى الفعل اللازم بحرف الجر ، كما تقول في ذهب ذهبت به .
والتائه : المتحير .
والكواذب هاهنا : الامانى ، فحذف الموصوف وأبقى الصفة كقوله : * إلا بكفى كان من أرمى البشر * أي بكفى غلام هذه صفته .
وقوله : " ولكل أجل كتاب " أظنه منقطعا أيضا عن الاول مثل الفصل الذى تقدم ، وقد كان قبله ما ينطبق عليه ويلتئم معه لا محالة .
ويمكن على بعد أن يكون متصلا بما هو مذكور هاهنا .
وقوله " ولكل غيبة إياب " قد قاله عبيد بن الابرص ، واستثنى من العموم الموت ، فقال : وكل ذى غيبة يئوب وغائب الموت لا يئوب (1) وهو رأى زنادقة العرب ، فأما أمير المؤمنين ، وهو ثانى صاحب الشريعة التى جاءت بعود الموتى ، فإنه لا يستثنى ، ويحمق عبيدا في استثنائه .
والربانى : الذى أمرهم بالاستماع منه ، إنما يعنى به نفسه عليه السلام ، ويقال : رجل
__________
(1) ديوانه 13 (*)(7/190)
ربانى أي متأله عارف بالرب سبحانه .
وفي وصف الحسن لامير المؤمنين عليه السلام " كان والله ربانى هذه الامة وذا فضلها ، وذا قرابتها ، وذا سابقتها " .
ثم قال : وأحضروه قلوبكم ، أي اجعلوا قلوبكم حاضرة عنده ، أي لا تقنعوا لانفسكم بحضور الاجساد وغيبة القلوب ، فإنكم لا تنتفعون بذلك .
وهتف بكم : صاح ، والرائد : الذى يتقدم المنتجعين لينظر لهم الماء والكلا .
وفي المثل : الرائد لا يكذب أهله .
وقوله : " وليجمع شمله " ، أي وليجمع عزائمه وأفكاره لينظر ، فقد فلق هذا الربانى لكم الامر ، أي شق ما كان مبهما ، وفتح ما كان مغلقا ، كما تفلق الخرزة فيعرف باطنها .
وقرفه ، أي قشره ، كما تقشر الصمغة عن عود الشجرة ، وتقلع .
* * * الاصل : فعند ذلك أخذ الباطل مآخذه ، وركب الجهل مراكبه ، وعظمت الطاغية ، وقلت الداعية ، وصال الدهر صيال السبع العقور ، وهدر فنيق الباطل بعد كظوم ، وتواخي الناس على الفجور ، وتهاجروا على الدين ، وتحابوا على الكذب ، وتباغضوا على الصدق .
فإذا كان ذلك كان الولد غيظا ، والمطر قيظا ، وتفيض اللئام فيضا ، وتغيض الكرام ، غيضا وكان أهل ذلك الزمان ذئابا ، وسلاطينه سباعا ، وأوساطه أكالا ، وفقراؤه أمواتا ، وغار الصدق ، وفاض الكذب ، واستعملت المودة باللسان ، وتشاجر الناس بالقلوب ، وصار الفسوق نسبا ، والعفاف عجبا ، ولبس الاسلام لبس الفرو مقلوبا .
* * *(7/191)
الشرح : تقول : أخذ الباطل مأخذه ، كما تقول عمل عمله ، أي قوى سلطانه وقهر ، ومثله " ركب الجهل مراكبه " .
وعظمت الطاغية ، أي الطغيان ، فاعله بمعنى المصدر ، كقوله تعالى : (ليس لوقعتها كاذبة) (1) أي تكذيب ويجوز أن تكون الطاغية هاهنا صفة فاعل محذوف ، أي عظمت الفئة الطاغية .
وقلت الداعية مثله ، أي الفرقة الداعية .
وصال : حمل ووثب ، صولا وصولة ، يقال : رب قول أشد من صول ، والصيال والمصاولة هي المواثبة ، صايله صيالا وصيالة والفحلان يتصاولان ، أي يتواثبان .
والفنيق : فحل الابل .
وهدر : ردد صوته في حنجرته ، وإبل هوادر ، وكذلك هدر بالتشديد تهديرا ، وفي المثل : " هو كالمهدر في العنة " يضرب للرجل يصيح ويجلب ، وليس وراء ذلك شئ كالبعير الذى يحبس في العنة ، وهى الحظيرة ، ويمنع من الضراب ، وهو يهدر ، وقال الوليد بن عقبة لمعاوية : قطعت الدهر كالسدم المعنى تهدر في دمشق ولا تريم (2) والكظوم : الامساك والسكوت ، كظم البعير يكظم كظوما ، إذا أمسك الجرة ، وهو كاظم ، وإبل كظوم لا تجتر ، وقوم كظم ساكتون .
وتواخي الناس : صاروا إخوة ، والاصل تآخى الناس ، فأبدلت الهمزة واوا ، كآزرته أي أعنته ، ووازرته .
يقول اصطلحوا على الفجور .
وتهاجروا على الدين ، أي تعادوا وتقاطعوا .
فإن قلت : فإن من شعار الصالحين أن يهجروا في الدين ويعادوا فيه !
__________
(1) سورة الواقعة 2 (2) اللسان 15 : 176 ، وقال : " السدم الذى يرغب عن فحلته ، فيحال بينه وبين ألافه ، ويقيد إذا هاج ، فيرعى حوالى الدار " .
(*)(7/192)
قلت : لم يذهب أمير المؤمنين حيث ظننت ، وإنما أراد أن صاحب الدين مهجور عندهم ، لان صاحب الدين مهجور وصاحب الفجور جار عندهم مجرى الاخ في الحنو عليه ، والحب له ، لانه صاحب فجور .
ثم قال : " كان الولد غيظا " ، أي لكثرة عقوق الابناء للآباء ، " وصار المطر قيظا " يقال إنه من علامات الساعة وأشراطها .
وأوساطه أكالا ، أي طعاما ، يقال : ما ذقت أكالا ، وفي هذا الموضع إشكال ، لانه لم ينقل هذا الحرف إلا في الجحد خاصة ، كقولهم : ما بها صافر ، فالاجود الرواية الاخرى ، وهى " آكالا " بمد الهمزة على " أفعال " جمع أكل ، وهو ما أكل ، كقفل وأقفال .
وقد روى " أكالا " بضم الهمزة على " فعال " ، وقالوا : إنه جمع " أكل " للمأكول كعرق وعراق ، وظئر وظؤار ، إلا أنه شاذ عن القياس ، ووزن واحدهما مخالف لوزن واحد " أكال " لو كان جمعا ، يقول : صار أوساط الناس طعمة للولاة وأصحاب السلاطين ، وكالفريسة للاسد .
وغار الماء : سفل لنقصه ، وفاض : سال .
وتشاجر الناس تنازعوا وهى المشاجرة ، وشجر بين القوم ، إذا اختلف الامر بينهم ، واشتجروا ، مثل تشاجروا .
وصار الفسوق نسبا يصير الفاسق صديق الفاسق ، حتى يكون ذلك كالنسب بينهم ، وحتى يعجب الناس من العفاف لقلته وعدمه .
ولبس الاسلام لبس الفرو ، وللعرب عادة بذلك ، وهى أن تجعل الخمل إلى الجسد ، وتظهر الجلد ، والمراد انعكاس الاحكام الاسلامية في ذلك الزمان .(7/193)
(108) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : كل شئ خاشع له ، وكل شئ قائم به ، غنى كل فقير ، وعز كل ذليل ، وقوة كل ضعيف ، ومفزع كل ملهوف .
من تكلم سمع نطقه ، ومن سكت علم سره ، ومن عاش فعليه رزقه ، ومن مات فإليه منقلبه .
لم ترك العيون فتخبر عنك ، بل كنت قبل الواصفين من خلقك .
لم تخلق الخلق لوحشة ، ولا استعملتهم لمنفعة ، ولا يسبقك من طلبت ، ولا يفلتك من أخذت ، ولا ينقص سلطانك من عصاك ، ولا يزيد في ملكك من أطاعك ، ولا يرد أمرك من سخط قضاءك ، ولا يستغنى عنك من تولى عن أمرك .
كل سر عندك علانية ، وكل غيب عندك شهادة .
أنت الابد فلا أمد لك ، وأنت المنتهى فلا محيص عنك ، وأنت الموعد فلا منجى منك إلا إليك .
بيدك ناصية كل دابة ، وإليك مصير كل نسمة .
سبحانك ما أعظم شأنك سبحانك ما أعظم ما نرى من خلقك ! وما أصغر عظيمة في جنب قدرتك ! وما أهول ما نرى من ملكوتك ! وما أحقر ذلك فيما غاب عنا من سلطانك ! وما أسبغ نعمك في الدنيا وما أصغرها في نعم الآخرة ! * * *(7/194)
الشرح : قال : كل شئ خاضع لعظمة الله سبحانه ، وكل شئ قائم به ، وهذه هي صفته الخاصة ، أعنى كونه غنيا عن كل شئ ، ولا شئ من الاشياء يغنى عنه أصلا .
ثم قال : " غنى كل فقير ، وعز كل ذليل ، وقوة كل ضعيف ، ومفزع كل ملهوف " .
جاء في الاثر : من اعتز بغير الله ذل ، ومن تكثر بغير الله قل ، وكان يقال : ليس فقيرا من استغنى بالله .
وقال الحسن : وا عجبا للوط نبى الله ! قال : (لو أن لى بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد) (1) ، أتراه أراد ركنا أشد وأقوى من الله ! واستدل العلماء على ثبوت الصانع سبحانه بما دل عليه فحوى قوله عليه السلام : " ومفزع كل ملهوف " ، وذلك أن النفوس ببدائهها تفزع عند الشدائد والخطوب الطارقة إلى الالتجاء إلى خالقها وبارئها ، ألا ترى راكبي السفينة عند تلاطم الامواج ، كيف يجأرون إليه سبحانه اضطرارا لا اختيارا ، فدل ذلك على أن العلم به مركوز في النفس ، قال سبحانه : (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه) (2) .
ثم قال عليه السلام : " من تكلم سمع نطقه ، ومن سكت علم سره " يعنى أنه يعلم ما ظهر وما بطن .
ثم قال : " ومن عاش فعليه رزقه ، ومن مات فإليه منقلبه " ، أي هو مدبر الدنيا والآخرة ، والحاكم فيهما .
ثم انتقل عن الغيبة إلى الخطاب ، فقال : " لم ترك العيون " .
__________
(1) سورة هود 80 (2) سورة الاسراء 67 (*)(7/195)
[ فصل في الكلام على الالتفات ] واعلم أن باب الانتقال من الغيبة إلى الخطاب ، ومن الخطاب إلى الغيبة باب كبير من أبواب علم البيان ، وأكثر ما يقع ذلك إذا اشتدت عناية المتكلم بذلك المعنى المنتقل إليه ، كقوله سبحانه : (الحمد لله رب .
العالمين الرحمن الرحيم .
مالك يوم الدين) فأخبر عن غائب ، ثم انتقل إلى خطاب الحاضر فقال : (إياك نعبد وإياك نستعين) ، قالوا : لان منزلة الحمد دون منزلة العبادة ، فإنك تحمد نظيرك ولا تعبده ، فجعل الحمد للغائب وجعل العبادة لحاضر يخاطب بالكاف ، لان كاف الخطاب أشد تصريحا به سبحانه من الاخبار بلفظ الغيبة .
قالوا : ولما انتهى إلى آخر السورة ، قال : (صراط الذين أنعمت عليهم) فأسند النعمة إلى مخاطب حاضر .
وقال في الغضب : (غير المغضوب عليهم) ، فأسنده إلى فاعل غير مسمى ولا معين ، وهو أحسن من أن يكون قال : " لم تغضب عليهم ، وفي " النعمة " الذين أنعم عليهم " .
ومن هذا الباب قوله تعالى : (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا) فأخبر ب " قالوا " عن غائبين ، ثم قال : (لقد جئتم شيئا إدا) (1) فأتى بلفظ الخطاب استعظاما للامر كالمنكر على قوم حاضرين عنده .
ومن الانتقال عن الخطاب إلى الغيبة قوله تعالى : (هو الذى يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف ...
) (2) الآية .
* * *
__________
(1) سورة مريم 88 ، 89 (2) سورة يونس 22 (*)(7/196)
وفائدة ذلك أنه صرف الكلام من خطاب الحاضرين إلى إخبار قوم آخرين بحالهم ، كأنه يعدد على أولئك ذنوبهم ويشرح لهؤلاء بغيهم وعنادهم الحق ، ويقبح عندهم ما فعلوه ، ويقول : ألا تعجبون من حالهم كيف دعونا ، فلما رحمناهم ، واستجبنا دعاءهم ، عادوا إلى بغيهم ! وهذه الفائدة لو كانت الآية كلها على صيغة خطاب الحاضر مفقودة .
* * * قال عليه السلام : " ما رأتك العيون فتخبر عنك " ، كما يخبر الانسان عما شاهده ، بل أنت أزلى قديم موجود قبل الواصفين لك .
فإن قلت : فأى منافاة بين هذين الامرين ، أليس من الممكن أن يكون سبحانه قبل الواصفين له ، ومع ذلك يدرك بالابصار إذا خلق خلقه ، ثم يصفونه رأى عين ! قلت : بل هاهنا منافاة ظاهرة ، وذلك لانه إذا كان قديما لم يكن جسما ولا عرضا ، وما ليس بجسم ولا عرض تستحيل رؤيته ، فيستحيل أن يخبر عنه على سبيل المشاهدة .
ثم ذكر عليه السلام أنه لم يخلق الخلق لاستيحاشه وتفرده ، ولا استعملهم بالعبادة لنفعه ، وقد تقدم شرح هذا .
ثم قال : لا تطلب أحدا فيسبقك ، أي يفوتك ، ولا يفلتك من أخذته .
فإن قلت : أي فائدة في قوله : " ولا يفلتك من أخذته " ، لان عدم الافلات هو الاخذ ، فكأنه قال : لا يفلتك من لم يفلتك ! قلت : المراد أن من أخذت لا يستطيع أن يفلت ، كما يستطيع المأخوذون مع ملوك الدنيا أن يفلتوا بحيلة من الحيل .
فإن قلت : أفلت فعل لازم ، فما باله عداه ؟ قلت : تقدير الكلام : " لا يفلت منك " فحذف حرف الجر ، كما قالوا : " استجبتك " أي استجبت لك ، قال :(7/197)
* فلم يستجبه عند ذاك مجيب (1) * وقالوا : استغفرت الله الذنوب ، أي من الذنوب ، وقال الشاعر : أستغفر الله ذنبا لست محصيه رب العباد إليه الوجه والعمل قوله عليه السلام : " ولا يرد أمرك من سخط قضاءك ، ولا يستغنى عنك من تولى عن أمرك " ، تحته سر عظيم ، وهو قول أصحابنا في جواب قول المجبرة : " لو وقع منا ما لا يريده لاقتضى ذلك نقصه " : إنه لا نقص في ذلك ، لانه لا يريد الطاعات منا إرادة قهر وإلجاء ، ولو أرادها إرادة قهر لوقعت وغلبت إرادته إرادتنا ، ولكنه تعالى أراد منا أن نفعل نحن الطاعة واختيارا ، فلا يدل عدم وقوعها منا على نقصه وضعفه ، كما لا يدل بالاتفاق بيننا وبينكم عدم وقوع ما أمر به على ضعفه ونقصه .
ثم قال عليه السلام : " كل سر عندك علانية " ، أي لا يختلف الحال عليه في الاحاطة بالجهر والسر ، لانه عالم لذاته ، ونسبة ذاته إلى كل الامور واحدة .
ثم قال : " أنت الابد فلا أمد لك " ، هذا كلام علوى شريف ، لا يفهمه إلا الراسخون في العلم ، وفيه سمة من قول النبي صلى الله عيله وسلم : " لا تسبوا الدهر ، فإن الدهر هو الله " ، وفي مناجاة الحكماء لمحة منه أيضا ، وهو قولهم : " أنت الازل السرمد ، وأنت الابد الذى لا ينفد " ، بل قولهم : " أنت الابد الذى لا ينفد " ، هو قوله : أنت الابد فلا أمد لك " ، بعينه ، ونحن نشرحه هاهنا على موضوع هذا الكتاب ، فإنه كتاب أدب لا كتاب نظر ، فنقول : إن له في العربية محملين : أحدهما أن المراد به : أنت ذو الابد ، كما قالوا : رجل خال ، أي ذو خال ، والخال الخيلاء ، ورجل داء ، أي به داء ورجل
__________
(1) صدره : * وداع دعا يامن يجيب إلى الندى * أمالى القالى 2 : 151 ، من قصيدة لكعب بن سعد الغنوى يرثى بها أبا المغوار .
(*)(7/198)
مال ، أي ذو مال .
والمحمل الثاني ، أنه لما كان الازل والابد لا ينفكان عن وجوده سبحانه جعله عليه السلام ، كأنه أحدهما بعينه ، كقولهم : أنت الطلاق ، لما أراد المبالغة في البينونة جعلها كأنها الطلاق نفسه ، ومثله قول الشاعر : * فإن المندى رحلة فركوب (1) * وقال أبو الفتح في " الدمشقيات " استدل أبو على على صرف " منى " للموضع المخصوص ، بأنه مصدر " منى يمنى " ، قال : فقلت له : أتستدل بهذا على أنه مذكر ، لان المصدر إلى التذكير ! فقال : نعم ، فقلت : فما تنكر ألا يكون فيه دلالة عليه ، لانه لا ينكر أن يكون مذكر سمى به البقعة المؤنثة ، فلا ينصرف ، كامرأة سميتها بحجر وجبل وشبع ومعى ، فقال : إنما ذهبت إلى ذلك ، لانه جعل كأنه المصدر بعينه ، لكثرة ما يعانى فيه ذلك .
فقلت : الآن نعم .
ومن هذا الباب قوله : * فإنما هي إقبال وإدبار (2) * وقوله : * وهن من الاخلاف قبلك والمطل * وقوله : " فلا منجى منك إلا إليك " قد أخذه الفرزدق فقال لمعاوية : إليك فررت منك ومن زياد ولم أحسب دمى لكما حلالا (3) ثم استعظم واستهول خلقه الذى يراه ، وملكوته الذى يشاهده ، واستصغر واستحقر
__________
(1) لعلقمة وصدره : * تراد على دمن الحياض فإن تعف * (2) للخنساء ، ديوانها 78 ، وصدره : * ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت * (*)(7/199)
ذلك ، بالاضافة إلى قدرته تعالى ، وإلى ما غاب عنا سلطانه .
ثم تعجب من سبوغ نعمه تعالى في الدنيا ، واستصغر ذلك بالنسبة إلى نعم الآخرة ، وهذا حق لانه لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهى * * * الاصل : منها : من ملائكة أسكنتهم سماواتك ، ورفعتهم عن أرضك ، هم أعلم خلقك بك ، وأخوفهم لك ، وأقربهم منك ، لم يسكنوا الاصلاب ، ولم يضمنوا الارحام ، ولم يخلقوا من ماء مهين ، ولم يتشعبهم ريب المنون ، وإنهم على مكانهم منك ، ومنزلتهم عندك ، واستجماع أهوائهم فيك ، وكثرة طاعتهم لك ، وقلة غفلتهم عن أمرك ، لو عاينوا كنه ما خفى عليهم منك ، لحقروا أعمالهم ، ولزروا على أنفسهم ، ولعرفوا أنهم لم يعبدوك حق عبادتك ، ولم يطيعوك حق طاعتك .
سبحانك خالقا ومعبودا ! بحسن بلائك عند خلقك خلقت دارا ، وجعلت فيها مأدبة مشربا ومطعما وأزواجا ، وخدما وقصورا ، وأنهارا وزروعا وثمارا .
ثم أرسلت داعيا يدعو إليها ، فلا الداعي أجابوا ، ولا فيما رغبت رغبوا ، ولا إلى ما شوقت إليه اشتاقوا .
أقبلوا على جيفة قد افتضحوا بأكلها ، واصطلحوا على حبها ، ومن عشق شيئا أعشى بصره ، وأمرض قلبه ، فهو (1) ينظر بعين غير صحيحة ، ويسمع بأذن غير سميعة ، قد خرقت الشهوات عقله ، وأماتت الدنيا قلبه ، وولهت عليها نفسه ، فهو عبد لها ، ولمن في يديه شئ منها ، حيثما زالت زال إليها ، وحيثما أقبلت أقبل عليها ، لا ينزجر من الله بزاجر ، ولا يتعظ منه بواعظ ، وهو يرى المأخوذين
__________
(1) ساقطة من ب (*)(7/200)
على الغرة ، حيث لا إقالة لهم ولا رجعة ، كيف نزل بهم ما كانوا يجهلون ، وجاءهم من فراق الدنيا ما كانوا يأمنون ، وقدموا من الآخرة على ما كانوا .
يوعدون .
فغير موصوف ما نزل بهم ، اجتمعت عليهم سكرة الموت ، وحسرة الفوت ، ففترت لها أطرافهم ، وتغيرت لها ألوانهم ، ثم أزداد الموت فيهم ولوجا ، فحيل بين أحدهم وبين منطقه ، وإنه لبين أهله ينظر ببصره ، ويسمع بأذنه على صحة من عقله ، وبقاء من لبه ، يفكر فيم أفنى عمره ، وفيم أذهب دهره ! ويتذكر أموالا جمعها أغمض في مطالبها ، وأخذها من مصرحاتها ومشتبهاتها ، قد لزمته تبعات جمعها ، وأشرف على فراقها ، تبقى لمن وراءه ينعمون فيها ، ويتمتعون بها ، فيكون المهنأ لغيره ، والعبء على ظهره ، والمرء قد غلقت رهونه بها ، فهو يعض يده ندامة على ما أصحر له عند الموت من أمره ، ويزهد فيما كان يرغب فيه أيام عمره ، ويتمنى أن الذى كان يغبطه بها ويحسده عليها قد حازها دونه ، فلم يزل الموت يبالغ في جسده ، حتى خالط سمعه ، فصار بين أهله لا ينطق بلسانه ، ولا يسمع بسمعه ، يردد طرفه بالنظر في وجوههم ، يرى حركات ألسنتهم ، ولا يسمع رجع كلامهم ، ثم ازداد الموت التياطا ، فقبض بصره كما قبض سمعه ، وخرجت الروح من جسده ، فصار جيفة بين أهله ، قد أوحشوا من جانبه ، وتباعدوا من قربه ، لا يسعد باكيا ، ولا يجيب داعيا ، ثم حملوه إلى محط في الارض ، فأسلموه فيه إلى عمله ، وانقطعوا عن زورته .
حتى إذا بلغ الكتاب أجله ، والامر مقاديره ، وألحق آخر الخلق بأوله ، وجاء من أمر الله ما يريده من تجديد خلقه ، أماد السماء وفطرها ، وأرج الارض وأرجفها ، وقلع جبالها ونسفها ، ودك بعضها بعضا من هيبة جلالته ، ومخوف سطوته ، وأخرج من فيها فجددهم بعد إخلاقهم ، وجمعهم بعد تفرقهم ، ثم ميزهم لما يريده من(7/201)
مسألتهم عن خفايا الاعمال ، وخبايا الافعال ، وجعلهم فريقين : أنعم على هؤلاء وانتقم من هؤلاء .
فأما أهل الطاعة فأثابهم بجواره ، وخلدهم في داره ، حيث لا يظعن النزال ، ولا تتغير بهم الحال ، ولا تنوبهم الافزاع ، ولا تنالهم الاسقام ، ولا تعرض لهم الاخطار ، ولا تشخصهم الاسفار .
وأما أهل المعصية ، فأنزلهم شر دار ، وغل الايدى إلى الاعناق ، وقرن النواصي بالاقدام ، وألبسهم سرابيل القطران ، ومقطعات النيران ، في عذاب قد اشتد حره ، وباب قد أطبق على أهله ، في نار لها كلب ولجب ، ولهب ساطع ، وقصيف هائل ، لا يظعن مقيمها ، ولا يفادى أسيرها ، ولا تفصم كبولها ، لا مدة للدار فتفنى ، ولا أجل للقوم فيقضى .
* * * الشرح : هذا موضع المثل : " في كل شجرة نار ، واستمجد المرخ والعفار " ، الخطب الوعظية الحسان كثيرة ، ولكن هذا حديث يأكل الاحاديث : محاسن أصناف المغنين جمة وما قصبات السبق إلا لمعبد .
من أراد أن يتعلم الفصاحة والبلاغة ، ويعرف فضل الكلام بعضه على بعض ، فليتأمل هذه الخطبة ، فإن نسبتها إلى كل فصيح من الكلام - عدا كلام الله ورسوله - نسبة الكواكب المنيرة الفلكية إلى الحجارة المظلمة الارضية ، ثم لينظر الناظر إلى ما عليها من البهاء ، والجلالة والرواء ، والديباجة ، وما تحدثه من الروعة والرهبة ، والمخافة والخشية ، حتى لو تليت على زنديق ملحد مصمم على اعتقاد نفى البعث والنشور لهدت قواه ، وأرعبت قلبه ، وأضعفت على نفسه ، وزلزلت ، اعتقاده ، فجزى الله قائلها عن الاسلام أفضل(7/202)
ما جزى به وليا من أوليائه ! فما أبلغ نصرته له ! تارة بيده وسيفه ، وتارة بلسانه ونطقه ، وتارة بقلبه وفكره ! إن قيل جهاد وحرب فهو سيد المجاهدين والمحاربين ، وإن قيل وعظ وتذكير ، فهو أبلغ الواعظين والمذكرين ، وإن قيل فقه وتفسير ، فهو رئيس الفقهاء والمفسرين ، وإن قيل عدل وتوحيد ، فهو إمام أهل العدل والموحدين : ليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد ثم نعود إلى الشرح ، فنقول : قوله عليه السلام : " أسكنتهم سمواتك " ، لا يقتضى أن جميع الملائكة في السماوات ، فإنه قد ثبت أن الكرام الكاتبين في الارض ، وإنما لم يقتض ذلك ، لان قوله : " من ملائكة " ليس من صيغ العموم ، فإنه نكرة في سياق الاثبات .
وقد قيل أيضا : إن ملائكة الارض تعرج إلى السماء ومسكنها بها ، ويتناوبون على أهل الارض .
قوله : " هم أعلم خلقك بك " ، ليس يعنى به أنهم يعلمون من ماهيته تعالى ما لا يعلمه البشر ، أما على قول المتكلمين فلان ذاته تعالى معلومة للبشر ، والعلم لا يقبل الاشد والاضعف ، وأما على قول الحكماء ، فلان ذاته تعالى غير معلومة للبشر ولا للملائكة ، ويستحيل أن تكون معلومة لاحد ، منهم فلم يبق وجه يحمل عليه .
قوله عليه السلام : " هم أعلم خلقك بك " إلا أنهم يعلمون من تفاصيل مخلوقاته وتدبيراته ما لا يعلمه غيرهم ، كما يقال : وزير الملك أعلم بالملك من الرعية ، ليس المراد أنه أعلم بذاته وماهيته ، بل بأفعاله وتدبيره ومراده وغرضه .
قوله : " وأخوفهم لك " ، لان قوتي الشهوة والغضب مرفوعتان عنهم ، وهما منبع(7/203)
الشر ، وبهما يقع الطمع والاقدام على المعاصي .
وأيضا فإن منهم من يشاهد الجنة والنار عيانا ، فيكون أخوف لانه ليس الخبر كالعيان .
قوله : " وأقربهم منك " لا يريد القرب المكانى لانه تعالى منزه عن المكان والجهة ، بل المراد كثرة الثواب وزيادة التعظيم والتبجيل ، وهذا يدل على صحة مذهب أصحابنا في أن الملائكة أفضل من الانبياء .
ثم نبه على مزية لهم تقتضي أفضلية جنسهم على جنس البشر ، بمعنى الاشرفية ، لا بمعنى زيادة الثواب وهو قوله " لم يسكنوا الاصلاب ولم يضمنوا الارحام ، ولم يخلقوا من ماء مهين ، ولم يتشعبهم ريب المنون " ، وهذه خصائص أربع : فالاولى أنهم لم يسكنوا الاصلاب ، والبشر سكنوا الاصلاب ، ولا شبهة أن ما ارتفع عن مخالطة الصورة اللحمية والدموية أشرف مما خالطها ومازجها .
والثانية أنهم لم يضمنوا الارحام ، ولا شبهة أن من لم يخرج من ذلك الموضع المستقذر أشرف ممن خرج منه ، وكان أحمد بن سهل بن هاشم بن الوليد بن كامكاو بن يزد جرد ابن شهريار ، يفخر على أبناء الملوك بأنه لم يخرج من بضع امرأة ، لان أمه ماتت وهى حامل به ، فشق بطنها عنه وأخرج ، قال أبو الريحان البيرونى في كتاب " الآثار الباقية عن القرون الخالية " عن هذا الرجل : إنه كان يتيه على الناس ، وإذا شتم أحدا ، قال : ابن البضع ، قال أبو الريحان : وأول من اتفق له ذلك الملك المعروف بأغسطس ملك الروم ، وهو أول من سمى فيهم قيصر ، لان تفسير " قيصر " بلغتهم ، شق عنه ، وأيامه تاريخ ، كما أن أيام الاسكندر تاريخ لعظمه وجلالته عندهم .
والثالثة أنهم لم يخلقوا من ماء مهين ، وقد نص القرآن العزيز على أنه مهين ، وكفى ذلك في تحقيره وضعته ، فهم لا محالة أشرف ممن خلق منه ، لا سيما وقد ذهب كثير من العلماء إلى نجاسته .(7/204)
والرابعة أنهم لا يتشعبهم المنية ، ولا ريب أن من لا تتطرق إليه الاسقام والامراض ولا يموت ، أشرف ممن هو في كل ساعة ولحظة بعرض سقام ، وبصدد موت وحمام .
* * * واعلم أن مسأله تفضيل الملائكة على الانبياء لها صورتان : إحداهما أن " أفضل " بمعنى كونهم أكثر ثوابا ، والاخرى كونهم أفضل بمعنى أشرف ، كما تقول : إن الفلك أفضل من الارض ، أي أن الجوهر الذى منه جسمية الفلك أشرف من الجوهر الذى منه جسمية الارض .
وهذه المزايا الاربع ، دالة على تفضيل الملائكة بهذا الاعتبار الثاني .
قوله عليه السلام : " يتشعبهم ريب المنون " ، أي يتقسمهم ، والشعب : التفريق ، ومنه قيل للمنية : شعوب ، لانها تفرق الجماعات ، وريب المنون : حوادث الدهر ، وأصل الريب ما راب الانسان ، أي جاءه بما يكره ، والمنون الدهر نفسه ، والمنون أيضا المنية ، لانها تمن المدة أي تقطعها ، والمن : القطع ، ومنه قوله تعالى : " لهم أجر غير ممنون " (1) .
وقال لبيد : * غبس كواسب لا يمن طعامها (2) * ثم ذكر أنهم كثرة عبادتهم وإخلاصهم لو عاينوا كنه ما خفى عليهم من الباري تعالى لحقروا أعمالهم .
وزروا على أنفسهم ، أي عابوها : تقول زريت على فلان ، أي عبته ، وأزريت بفلان أي قصرت به .
__________
(1) سورة فصلت 8 .
(2) صدره : * لمعفر قهد تنازع شلوه * المعفر : الذى سحب في العفر ، وهو التراب .
والقهد : الابيض .
والغبس : الذئاب ، والعيسة لون فيه شبيه بالغيرة ، وكواسب : تكسب الصيد .
وقوله : " ما يمن طعامها " ، أي ما ينقص .
(المعلقات بشرح التبريزي 145) .
(*)(7/205)
فإن قلت : ما هذا الكنه الذى خفى عن الملائكة ، حتى قال : " لو عاينوه لحقروا عبادتهم ، ولعلموا أنهم قد قصروا فيها " ؟ قلت : إن علوم الملائكة بالبارى تعالى نظرية كعلوم البشر ، والعلوم النظرية دون العلوم الضرورية في الجلاء والوضوح ، فأمير المؤمنين عليه السلام يقول : لو كانت علومهم بك وبصفاتك الاثباتية والسلبية والاضافية ضرورية ، عوض علومهم هذه المتحققة الآن ، التى هي نظرية ، ولا نكشف لهم ما ليس الآن على حد ذلك الكشف والوضوح .
ولا شبهة أن العبادة والخدمة على قدر المعرفة بالمعبود ، فكلما كان العابد به أعرف ، كانت عبادته له أعظم ، ولا شبهة أن العظيم عند الاعظم حقير .
فإن قلت : فما معنى قوله : " واستجماع أهوائهم فيك " ، وهل للملائكة هوى ؟ وهل تستعمل الاهواء إلا في الباطل ؟ قلت : الهوى : الحب وميل النفس ، وقد يكون في باطل وحق ، وإنما يحمل على أحدهما بالقرينة ، والاهواء تستعمل فيهما ، ومعنى استجماع أهوائهم فيه أن دواعيهم إلى طاعته وخدمته لا تنازعها الصوارف ، وكانت مجتمعة مائلة إلى شق واحد .
فإن قلت : الباء في قوله : " بحسن بلائك " بماذا تتعلق ؟ قلت : الباء هاهنا للتعليل بمعنى اللام ، كقوله تعالى : (ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم) (1) ، أي لانهم ، فتكون متعلقة بما في " سبحانك " من معنى الفعل ، أي أسبحك لحسن بلائك .
ويجوز أن تتعلق بمعبود ، أي يعبد لذلك .
ثم قال : " خلقت دارا " يعنى الجنة .
والمأدبة والمأدبة ، بفتح الدال وضمها : الطعام الذى يدعى الانسان إليه ، أدب زيد القوم ، يأدبهم بالكسر ، أي دعاهم إلى طعامه ، والآدب : " الداعي إلى طعامه ، قال طرفة :
__________
(1) سورة غافر 22 .
(*)(7/206)
نحن في المشتاة ندعو الجفلى لا ترى الآدب فينا ينتقر (1) وفي هذا الكلام دلالة على أن الجنة الآن مخلوقة ، وهو مذهب أكثر أصحابنا .
ومعنى قوله : " وزروعا " أي وغروسا من الشجر ، يقال : زرعت الشجر ، كما يقال : زرعت البر والشعير ، ويجوز أن يقال : الزروع : جمع زرع وهو الانبات ، يقال : زرعه الله أي أنبته ، ومنه قوله تعالى : (أفرأيتم ما تحرثون .
أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون) (2) .
ولو قال قائل : إن في الجنة زروعا من البر والقطنية (3) لم يبعد .
قوله : ثم أرسلت داعيا يعنى الانبياء ، وأقبلوا على جيفة ، يعنى الدنيا ، ومن كلام الحسن رضى الله عنه : إنما يتهارشون على جيفة .
وإلى قوله : " ومن عشق شيئا أعشى بصره " نظر الشاعر فقال : وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدى المساويا (4) وقيل لحكيم : ما بال الناس لا يرون عيب أنفسهم ، كما يرون عيب غيرهم ؟ قال : إن الانسان عاشق لنفسه ، والعاشق لا يرى عيوب المعشوق .
قد خرقت الشهوات عقله ، أي أفسدته كما تخرق الثوب فيفسد .
وإلى قوله : " فهو عبد لها ولمن في يديه شئ منها " نظر ابن دريد ، فقال : عبيد ذى المال وإن لم يطمعوا من ماله في نغبة تشفى الصدا وهم لمن أملق أعداء وإن شاركهم فيما أفاد وحوى
__________
(1) ديوانه 68 .
المشتاة : يريد الشتاء .
والبرد ، والجفلى : أن يعم بدعوته إلى طعام ولا يخص أحدا والانتقار ، أن يدعو النقرى ، وهى أن يخصهم ولا يعمهم .
(2) سورة الواقعة 63 ، 64 (3) القطنية : ما سوى الحنطة والشعير والزبيب والتمر .
القاموس .
(4) لعبد الله بن معاوية ، زهر الآداب 85 (*)(7/207)
وإلى قوله : " حيثما زالت زال إليها ، وحيثما أقبلت أقبل عليها " نظر الشاعر ، فقال : ما الناس إلا مع الدنيا وصاحبها فكيفما انقلبت يوما به انقلبوا يعظمون أخا الدنيا فإن وثبت يوما عليه بما لا يشتهى وثبوا والغرة : الاغترار والغفلة ، والغار : الغافل ، وفد اغتررت بالرجل ، واغتره زيد ، أي أتاه على غرة منه ، ويجوز أن يعنى بقوله : " المأخوذين على الغرة " الحداثة والشبيبة ، يقول : كان ذلك في غرارتي وغرتي ، أي في حداثتى وصباي .
قوله : " سكرة الموت وحسرة الفوت " ، أي الحسرة على ما فاتهم من الدنيا ولذتها ، والحسرة على ما فاتهم من التوبة والندم واستدراك فارط المعاصي .
والولوج : الدخول ، ولج يلج .
قوله : " وبقاء من لبه " أي لبه باق لم يعدم ، ويروى " ونقاء " بالنون ، والنقاء : النظافة ، أي لبه غير مغمور .
أغمض في مطالبها ، أي تساهل في دينه في اكتسابه إياها ، أي كان يفنى نفسه بتأويلات ضعيفة في استحلال تلك المطالب والمكاسب ، فذاك هو الاغماض ، قال تعالى : (ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه) (1) ويمكن أن يحمل على وجه آخر ، وهو أنه قد كان يحتال بحيل غامضة دقيقة في تلك المطالب حتى حصلها واكتسبها .
قوله عليه السلام : " وأخذها من مصرحاتها ومشتبهاتها " ، أي من وجوه مباحة وذوات شبهة ، وهذا يؤكد المحمل الاول في " أغمض " .
والتبعات : الآثام ، الواحدة تبعة ومثلها التباعة ، قال :
__________
(1) سورة البقرة 267 (*)(7/208)
لم يحذروا من ربهم سوء العواقب والتباعه (1) والمهنأ : المصدر من هنئ الطعام وهنؤ بالكسر والضم ، مثل فقه وفقه ، فإن كسرت قلت : " يهنأ " ، وإن ضممت قلت : " يهنؤ " ، والمصدر " هناءة " و " مهنأ " ، أي صار هنيئا ، وهنأنى الطعام " يهنؤني " ويهنئني ، ولا نظير له في المهموز ، هنأ وهناء ، وهنئت الطعام ، أي تهنأت به ، ومنه قوله تعالى : (فكلوه هنيئا مريئا) .
والعبء : الحمل ، والجمع أعباء .
وغلق الرهن ، أي استحقه المرتهن ، وذلك إذا لم يفتكك في الوقت المشروط ، قال زهير : وفارقتك برهن لا فكاك له يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا (1) .
فإن قلت فما معنى قوله عليه السلام : " قد غلقت رهونه بها " في هذا الموضع ؟ قلت : لما كان قد شارف الرحيل وأشفى على الفراق ، وصارت تلك الاموال التى جمعها مستحقة لغيرة ، ولم يبق له فيها تصرف ، أشبهت الرهن الذى غلق على صاحبه ، فخرج عن كونه مستحقا له ، وصار مستحقا لغيره ، وهو المرتهن .
أصحر : انكشف ، وأصله الخروج إلى الصحراء والبروز من المكمن .
رجع كلامهم : ما يتراجعونه بينهم (3) من الكلام .
ازداد الموت التياطا به ، أي التصاقا .
قد أوحشوا ، أي جعلوا مستوحشين ، والمستوحش : المهموم الفزع ، ويروى " أوحشوا من جانبه " ، أي خلوا منه وأقفروا ، تقول : قد أوحش المنزل من أهله ، أي أقفر .
وخلا إلى مخط في الارض ، أي إلى خط ، سماه مخطا أو خطا لدقته ، يعنى اللحد ،
__________
(1) اللسان 9 : 275 ، وقبله : أكلت حنيفة ربها زمن التقحم والمجاعة (2) ديوانه 33 (3) ساقطة من ب .
(*)(7/209)
ويروى : " إلى محط " بالحاء المهملة ، وهو المنزل ، وحط القوم ، أي نزلوا .
وألحق آخر الخلق بأوله ، أي تساوى الكل في شمول الموت والفناء لهم ، فالتحق الآخر بالاول .
أماد السماء : حركها ، ويروى : " أمار " ، والموران ، الحركة : وفطرها : شقها .
وأرج الارض : زلزلها ، تقول رجت الارض ، وأرجها الله ، ويجوز " رجها " ، وقد روى " رج الارض " بغير همزة ، وهو الاصح ، وعليه ورد القرآن : (كلا إذا رجت الارض رجا) (1) .
أرجفها : جعلها راجفة ، أي مرتعدة متزلزلة ، رجفت الارض ، ترجف ، والرجفان : الاضطراب الشديد ، وسمى البحر رجافا لاضطرابه ، قال الشاعر : * حتى تغيب الشمس في الرجاف (2) * ونسفها : قلعها من أصولها .
ودك بعضها بعضا : صدمه ودقه حتى يكسره ويسويه بالارض ، ومنه قوله سبحانه : (وحملت الارض والجبال فدكتا دكة واحدة) (3) .
ميزهم ، أي فصل بينهم ، فجعلهم فريقين : سعداء وأشقياء ، ومنه قوله تعالى : (وامتازوا اليوم أيها المجرمون) (4) أي انفصلوا من أهل الطاعة .
يظعن : يرحل .
تنوبهم الافزاع : تعاودهم ، وتعرض لهم الاخطار : جمع خطر ، وهو ما يشرف به على الهلكة .
__________
(1) سورة الواقعة 4 (2) لمطرود بن كعب الخزاعى ، من أبيات يرثى فيها عبد المطلب ، أوردها صاحب اللسان 11 : 12 وابن هشام 1 : 117 (على هامش الروض الانف) ، وصدره : * المطعمون اللحم كل عشية * (3) سورة الحاقة 14 (4) سورة يس 59 (*)(7/210)
وتشخصهم الاسفار : تخرجهم من منزل إلى منزل ، شخص الرجل وأشخصه غيره .
وغل الايدى : جعلها في الاغلال ، جمع غل بالضم ، وهو القيد .
والقطران : الهناء ، قطرت البعير أي طليته بالقطران ، قال : * كما قطر المهنوءة الرجل الطالى (1) * وبعير مقطور ، وهذا من الالفاظ القرآنية ، قال الله تعالى : (سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار) (2) ، والمعنى أن النار إلى القطران سريعة جدا .
ومقطعات النيران ، أي ثياب من النيران ، قد قطعت وفصلت لهم ، وقيل : المقطعات : قصار الثياب .
والكلب : الشدة .
والجلب واللجب : الصوت .
والقصيف : الصوت الشديد .
لا يقصم كبولها : لا يكسر قيودها ، الواحد كبل .
ثم ذكر أن عذابهم سرمدي ، وأنه لا نهاية له ، نعوذ بالله من عذاب ساعة واحدة ، فكيف من العذاب الابدي ! [ موازنة بين كلام الامام على وخطب ابن نباته ] ونحن نذكر في هذا الموضع فصولا من خطب الخطيب الفاضل عبد الرحيم بن نباتة رحمه الله ، وهو الفائز بقصبات السبق من الخطباء ، وللناس غرام عظيم بخطبه وكلامه ، ليتأمل الناظر كلام أمير المؤمنين عليه السلام في خطبه ومواعظه ، وكلام هذا الخطيب المتأخر
__________
(1) لامرئ القيس ، ديوانه 33 ، وصدره : * أيقتلني وقد شغفت فؤادها * (2) سورة إبراهيم 50 (*)(7/211)
الذى قد وقع الاجماع على خطابته وحسنها ، وأن مواعظه هي الغاية التى ليس بعدها غاية .
فمن ذلك قوله : " أيها الناس ، تجهزوا فقد ضرب فيكم بوق الرحيل ، وابرزوا فقد قربت لكم نوق التحويل ، ودعوا التمسك بخدع الاباطيل ، والركون إلى التسويف والتعليل ، فقد سمعتم ما كرر الله عليكم من قصص أبناء القرى ، وما وعظكم به من مصارع من سلف من الورى ، مما لا يعترض لذوى البصائر فيه شك ولا مرا ، وأنتم معرضون عنه إعراضكم عما يختلق ويفترى ، حتى كأن ما تعلمون منه أضغاث أحلام الكرى ، وأيدي المنايا قد فصمت من أعماركم أوثق العرى ، وهجمت بكم على هول مطلع كريه القرى ، فالقهقري رحمكم الله عن حبائل العطب القهقرى ! واقطعوا مفاوز الهلكات بمواصلة السرى ، وقفوا على أجداث المنزلين من شناخيب الذرا ، المنجلين بوازع أم حبو كرى ، المشغولين بما عليهم من الموت جرى ، واكشفوا عن الوجوه المنعمة أطباق الثرى ، تجدوا ما بقى منها عبرة لمن يرى .
فرحم الله امرأ رحم نفسه فبكاها ، وجعل منها إليها مشتكاها ! قبل أن تعلق به خطاطيف المنون ، وتصدق فيه أراجيف الظنون ، وتشرق عليه بمائها مقل العيون ، ويلحق بمن دثر من القرون ، قبل أن يبدوا على المناكب محمولا ، ويغدو إلى محل المصائب منقولا ، ويكون عن الواجب مسئولا ، وبالقدوم على الطالب الغالب مشغولا .
هناك يرفع الحجاب ، ويوضع الكتاب ، وتقطع الاسباب ، وتذهب الاحساب ، ويمنع الاعتاب ، ويجمع من حق عليه العقاب ، ومن وجب له الثواب ، فيضرب بينهم بسور له باب ، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب " .
فلينظر المنصف هذا الكلام وما عليه من أثر التوليد أولا بالنسبة إلى ذلك الكلام العربي المحض ، ثم لينظر فيما عليه من الكسل والرخاوة ، والفتور والبلادة ، حتى كأن ذلك(7/212)
الكلام لعامر بن الطفيل (1) مستلئما شكته (2) ، راكبا جواده ، وهذا الكلام الدلال المدينى (3) المخنث ، آخدا زمارته ، متأبطا دفة .
والمح مافى " بوق الرحيل " من السفسفة واللفظ العامي الغث .
واعلم أنهم كلهم عابوا على أبى الطيب قوله : فإن كان بعض الناس سيفا لدولة ففى الناس بوقات لها وطبول (4) وقالوا : لا تدخل لفظة " بوق " في كلام يفلح أبدا .
والمح ما على قوله : " القهقرى القهقرى " متكررة من الهجنة ، وأهجن منها " أم حبو كرى " (5) .
وأين هذا اللفظ الحوشى الذى تفوح منه روائح الشيح والقيصوم ، وكأنه من أعرابي قح قد قدم من نجد لا يفهم محاورة أهل الحضر ، ولا أهل الحضر يفهمون حواره ، من هذه الخطبة اللينة الالفاظ التى تكاد أن تتثنى من لينها ، وتتساقط من ضعفها ! ثم المح هذه الفقر والسجعات ، التى أولها " القرى " ثم " المرا " ثم " يفترى " ثم " الكرى " إلى قوله : " عبرة لمن يرى " ، هل ترى تحت هذا الكلام معنى لطيفا ، أو مقصدا رشيقا ! أو هل تجد اللفظ نفسه لفظا جزلا فصيحا ، أو عذبا معسولا ! وإنما هي ألفاظ قد ضم بعضها إلى بعض ، والطائل تحتها قليل جدا .
وتأمل لفظة " مرا " فإنها ممدودة في اللغة ، فإن كان قصرها فقد ركب ضرورة مستهجنة ، وإن أراد جمع " مرية " فقد خرج
__________
(1) عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب العامري ، ابن عم لبيد ، أحد فرسان العرب وفتاكهم .
وانظر أخباره في خزانة الادب 1 : 473 .
(2) الشكة بالكسر : السلاح .
(3) الدلال المدينى ، واسمه ناقد ، وكنيته أبو زيد ، كان من أهل المدينة ، وأحد ظرفاء ثلاثة كانوا بها : طويس ، والدلال ، وهنب ، كان هنب أقدمهم ، والدلال أصغرهم ، وانظر أخباره في الاغانى 4 : 269 - 301 (4) ديوانه 3 : 108 (5) أم حبو كرى : من أسماء الداهية عندهم .
(*)(7/213)
عن الصناعة ، لانه يكون قد عطف الجمع المفرد ، فيصير مثل قول القائل : " ما أخذت منه دينارا ولا دراهم " ، في أنه ليس بالمستحسن في فن البيان .
ومن ذلك قوله : " أيها الناس ، حصحص الحق ، فما من الحق مناص ، وأشخص الخلق فما لاحد من الخلق خلاص ، وأنتم على ما يباعدكم من الله حراص ، ولكم على موارد الهلكة اغتصاص ، وفيكم عن مقاصد البركة انتكاص ، كأن ليس أمامكم جزاء ولا قصاص ، ولجوارح الموت في وحش نفوسكم اقتناص ، ليس بها عليها تأب ولا اعتياص " .
فليتأمل أهل المعرفة بعلم الفصاحة والبيان هذا الكلام بعين الانصاف ، يعلموا أن سطرا واحدا من كلام " نهج البلاغة " يساوى ألف سطر منه ، بل يزيد ويربى على ذلك ، فإن هذا الكلام ملزق عليه آثار كلفة وهجنة ظاهرة ، يعرفها العامي فضلا عن العالم .
ومن هذه الخطبة : " فاهجروا رحمكم الله وثير المراقد ، وادخروا طيب المكتسب ، تخلصوا من انتقاد الناقد ، واغتنموا فسحة المهل قبل انسداد المقاصد ، واقتحموا سبل الآخرة على قلة المرافق والمساعد " .
فهل يجد متصفح الكلام لهذا الفصل عذوبة ، أو معنى يمدح الكلام لاجله ؟ وهل هو إلا ألفاظ مضموم بعضها إلى بعض ، ليس لها حاصل ، كما قيل في شعر ذى الرمة : " بعر ظباء ونقط عروس " (1) ! ومن ذلك قوله : " فيا له من واقع في كرب الحشارج ، مصارع لسكرات الموت معالج ! حتى درج على تلك المدارج ، وقدم بصحيفته على ذى المعارج " .
__________
(1) من كلام جرير في وصف شعر ذى الرمة ، وانظر الموشح للمرزباني 171 .
(*)(7/214)
وغير خاف ما في هذا الكلام من التكلف .
ومن ذلك قوله : " فكأنكم بمنادي الرحيل قد نادى في أهل الاقامة ، فاقتحموا بالصغار محجة القيامة ، يتلو الاوائل منهم الاواخر ، ويتبع الاكابر منهم الاصاغر ، ويلتحق الغوامر من ديارهم بالغوامر ، حتى تبتلع جميعهم الحفر والمقابر " .
فإن هذا الكلام ركيك جدا ، لو قاله خطيب من خطباء قرى السواد لم يستحسن منه ، بل ترك واسترذل .
ولعل عائبا يعيب علينا فيقول : شرعتم في المقايسة والموازنة بين كلام أمير المؤمنين عليه السلام ، وبين كلام ابن نباتة ، وهل هذا إلا بمنزلة قول من يقول : السيف أمضى من العصا ، وفي هذه غضاضة على السيف ! فنقول : إنه قد اشتملت كتب المتكلمين على المقايسة بين كلام الله تعالى وبين كلام البشر ، ليبينوا فضل القرآن وزيادة فصاحته على فصاحة كلام العرب ، نحو مقايستهم بين قوله تعالى : (ولكم في القصاص حياة) (1) وبين قول القائل : " القتل أنفى للقتل " ونحو مقايستهم بين قوله تعالى : (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) (2) وبين قول الشاعر : فإن عرضوا بالشر فاصفح تكرما وإن كتموا عنك الحديث فلا تسل * * * ونحو إيرادهم كلام مسيلمة ، وأحمد بن سليمان المعرى ، وعبد الله بن المقفع ، فصلا فصلا ، والموازنة والمقايسة بين ذلك وبين القرآن المجيد ، وإيضاح أنه لا يبلغ ذلك إلى درجة
__________
(1) سورة البقرة 179 (2) سورة الاعراف 199 .
(*)(7/215)
القرآن العزيز ، ولا يقاربها ، فليس بمستنكر منا أن نذكر كلام ابن نباتة في معرض إيرادنا كلام أمير المؤمنين عليه السلام لتظهر فضيلة كلامه عليه السلام ، بالنسبة إلى هذا الخطيب الفاضل ، الذى قد اتفق الناس على أنه أوحد عصره في فنه .
واعلم أنا لا ننكر فضل ابن نباتة وحسن أكثر خطبه ، ولكن قوما من أهل العصبية والعناد ، يزعمون أن كلامه يساوى كلام أمير المؤمنين عليه السلام ويماثله ، وقد ناظر بعضهم في ذلك ، فأحببت أن أبين للناس في هذا الكتاب أنه لا نسبة لكلامه إلى كلام أمير المؤمنين عليه السلام ، وأنه بمنزلة شعر الابله وابن المعلم بالاضافة إلى زهير والنابغة .
* * * واعلم أن معرفة الفصيح والافصح ، والرشيق والارشق ، والحلو والاحلى ، والعالي والاعلى من الكلام أمر لا يدرك إلا بالذوق ، ولا يمكن إقامة الدلالة المنطقية عليه ، وهو بمنزلة جاريتين : أحداهما بيضاء مشربة حمرة دقيقة الشفتين ، نقية الثغر ، كحلاء العينين ، أسيلة الخد ، دقيقة الانف ، معتدلة القامة ، والاخرى دونها في هذه الصفات والمحاسن ، لكنها أحلى في العيون والقلوب منها ، وأليق وأصلح ، ولا يدرى لاى سبب كان ذلك ، ولكنه بالذوق والمشاهدة يعرف ، ولا يمكن تعليله ، وهكذا الكلام ، نعم يبقى الفرق بين الموضعين .
إن حسن الوجوه وملاحتها وتفضيل بعضها على بعض يدركه كل من له عين صحيحة ، وأما الكلام فلا يعرفه إلا أهل الذوق ، وليس كل من اشتغل بالنحو واللغة أو بالفقه كان من أهل الذوق ، وممن يصلح لانتقاد الكلام ، وإنما أهل الذوق هم الذين اشتغلوا بعلم البيان ، وراضوا أنفسهم بالرسائل والخطب والكتابة والشعر ، وصارت لهم(7/216)
بذلك دربة وملكة تامة ، فإلى أولئك ينبغى أن ترجع في معرفة الكلام وفضل بعضه على بعض ، إن كنت عادما لذلك من نفسك .
* * * الاصل : منها في ذكر النبي صلى الله عليه وآله : قد حقر الدنيا وصغرها ، وأهون بها وهونها ، وعلم أن الله زواها عنه اختيارا ، وبسطها لغيره احتقارا ، فأعرض عن الدنيا بقلبه ، وأمات ذكرها عن نفسه ، وأحب أن تغيب زينتها عن عينه ، لكيلا يتخذ منها رياشا ، أو يرجو فيها مقاما .
بلغ عن ربه معذرا ، ونصح لامته منذرا ، ودعا إلى الجنة مبشرا ، وخوف من النار محذرا .
* * * الشرح : فعل ، مشدد ، للتكثير ، " قتلت " أكثر من " قتلت " ، فيقتضى قوله عليه السلام : " قد حقر الدنيا " زيادة تحقير النبي صلى الله عليه وآله لها ، وذلك أبلغ في الثناء عليه وتقريظه .
قوله " وصغرها " أي وصغرها عند غيره ، ليكون قوله : " وأهون بها وهونها " مطابقا له ، أي أهون هو بها وهونها عند غيره .
وزواها : قبضها ، قال عليه الصلاة والسلام : " زويت لى الارض فرأيت مشارقها ومغاربها " .
وقوله : " اختيارا " أي قبض الدنيا عنه باختيار ورضا من النبي صلى الله عليه وآله بذلك ، وعلم بما فيه من رفعة قدره ، ومنزلته في الآخرة .(7/217)
" والرياش والريش " بمعنى ، وهو اللباس الفاخر كالحرم والحرام واللبس واللباس ، وقرئ " ريشا ورياشا " (ولباس التقوى ذلك خير) (1) ويقال : الريش والرياش : المال والخصب والمعاش ، وارتاش فلان : حسنت حاله .
ومعذرا : أي مبالغا ، أعذر فلان في الامر ، أي بالغ فيه .
* * * الاصل : نحن شجرة النبوة ، ومحط الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومعادن العلم ، وينابيع الحكم ، ناصرنا ومحبنا ينتظر الرحمة ، وعدونا ومبغضنا ينتظر السطوة .
* * * الشرح : هذا الكلام غير ملتصق بالاول كل الالتصاق ، وهو من النمط الذى ذكرناه مرارا ، لان الرضى رحمه الله يقتضب فصولا من خطبة طويلة ، فيوردها إيرادا واحدا ، وبعضها منقطع عن البعض .
قوله عليه الصلاة والسلام : " نحن شجرة النبوة " ، كأنه جعل النبوة كثمرة أخرجتها شجرة بنى هاشم .
ومحط الرسالة : منزلها .
ومختلف الملائكة : موضع اختلافها في صعودها ونزولها ، وإلى هذا المعنى نظر بعض الطالبيين ، فقال : يفتخر على بنى عم له ليسوا بفاطميين : هل كان يقتعد البراق أبوكم أم كان جبريل عليه ينزل أم هل يقول له الاله مشافها بالوحى قم يا أيها المزمل
__________
(1) سورة الاعراف 26 (*)(7/218)
وقال آخر يمدح قوما فاطميين : ويطرقه بالوحى وهنا وأنتم ضجيعان بين يدى جبريلا يعنى حسنا عليه السلام وحسينا عليه السلام .
واعلم أنه إن أراد بقوله : " نحن مختلف الملائكة " جماعة من جملتها رسول الله صلى الله عليه وآله ، فلا ريب في صحة القضية وصدقها ، وإن أراد بها نفسه وابنيه فهى أيضا صحيحة ، ولكن مدلوله مستنبط ، فقد جاء في الاخبار الصحيحة ، أنه قال : " يا جبريل ، إنه منى وأنا منه " ، فقال جبريل : وأنا منكما .
وروى أبو أيوب الانصاري مرفوعا : " لقد صلت الملائكة على وعلى على سبع سنين لم تصل على ثالث لنا " ، وذلك قبل أن يظهر أمر الاسلام ويتسامع الناس به .
وفي خطبة الحسن بن على عليه السلام لما قبض أبوه : " لقد فارقكم في هذه الليلة رجل لم يسبقه الاولون ولا يدركه الآخرون ، كان يبعثه رسول الله صلى الله عليه وآله للحرب وجبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره " .
وجاء في الحديث انه سمع يوم أحد صوت من الهواء من جهة السماء ، يقول : " لا سيف إلا ذو الفقار ، ولا فتى إلا على " ، وإن رسول الله الله عليه وآله قال : " هذا صوت جبريل " .
فأما قوله : " ومعادن العلم ، وينابيع الحكم " يعنى الحكمة أو الحكم الشرعي ، فإنه وإن عنى بها نفسه وذريته ، فإن الامر فيها ظاهر جدا ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله : " أنا مدينة العلم وعلى بابها ، فمن أراد المدينة فليأت الباب " ، وقال : " أقضاكم على " والقضاء أمر يستلزم علوما كثيرة .
وجاء في الخبر أنه بعثه إلى اليمن قاضيا ، فقال : يا رسول الله ، إنهم كهول وذوو أسنان(7/219)
وأنا فتى ، وربما لم أصب فيما أحكم به بينهم ، فقال له : " اذهب فإن الله سيثبت قلبك ويهدى لسانك " .
وجاء في تفسير قوله تعالى : (وتعيها أذن واعية) (1) : سألت الله أن يجعلها أذنك ففعل .
وجاء في تفسير قوله تعالى : (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) (2) أنها أنزلت في على عيله السلام ، وما خص به من العلم .
وجاء في تفسير قوله تعالى : (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) (3) : أن الشاهد على عليه السلام .
وروى المحدثون أنه قال لفاطمة : " زوجتك أقدمهم سلما ، وأعظمهم حلما ، وأعلمهم علما " .
وروى المحدثون أيضا عنه عليه السلام أنه قال : " من أراد أن ينظر إلى نوح في عزمه ، وموسى في علمه ، وعيسى في ورعه ، فلينظر إلى على بن أبى طالب " .
وبالجملة فحاله في العلم حال رفيعة جدا لم يلحقه أحد فيها ولا قاربه ، وحق له أن يصف نفسه بأنه معادن العلم وينابيع الحكم ، فلا أحد أحق بها منه بعد رسول الله صلى الله عليه وآله .
فإن قلت : كيف قال : " عدونا ومبغضنا ينتظر السطوة " ، ونحن نشاهد أعداءه ومبغضيه ، لا ينتظرونها ! قلت : لما كانت منتظرة لهم ومعلوما بيقين حلولها بهم ، صاروا كالمنتظرين لها .
وأيضا فإنهم ينتظرون الموت لا محالة الذى كل إنسان ينتظره ، ولما كان الموت مقدمة العقاب وطريقا إليه جعل انتظاره انتظار ما يكون بعده .
__________
(1) سورة الحاقة 12 (2) سورة النساء 54 (3) سورة هود 17 (*)(7/220)
(109) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : إن أفضل ما توسل به المتوسلون إلى الله سبحانه وتعالى ، الايمان به وبرسوله ، والجهاد في سبيله ، فإنه ذروة الاسلام ، وكلمة الاخلاص فإنها الفطرة وإقام الصلاة فإنها الملة ، وإيتاء الزكاة فإنها فريضة واجبة ، وصوم شهر رمضان فإنه جنة من العقاب ، وحج البيت واعتماره ، فإنهما ينفيان الفقر ويرحضان الذنب ، وصلة الرحم ، فإنها مثراة في المال ومنسأة في الاجل ، وصدقة السر ، فإنها تكفر الخطيئة ، وصدقة العلانية فإنها تدفع ميتة السوء ، وصنائع المعروف فإنها تقى مصارع الهوان .
أفيضوا في ذكر الله فإنه أحسن الذكر ، وارغبوا فيما وعد المتقين فإن وعده أصدق الوعد ، واقتدوا بهدى نبيكم فإنه أفضل الهدى ، واستنوا بسنته فإنها أهدى السنن ، وتعلموا القرآن فإنه أحسن الحديث ، وتفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب ، واستشفوا بنوره فإنه شفاء الصدور ، وأحسنوا تلاوته فإنه أنفع القصص .
وإن العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذى لا يستفيق من جهله ، بل الحجة عليه أعظم ، والحسرة له ألزم ، وهو عند الله ألوم .
* * * الشرح : ذكر عليه السلام ثمانية أشياء ، كل منها واجب .(7/221)
أولها الايمان بالله وبرسوله ، ويعنى بالايمان هاهنا مجرد التصديق بالقلب ، مع قطع النظر عما عدا ذلك من التلفظ بالشهادة ، ومن الاعمال الواجبة ، وترك القبائح .
وقد ذهب إلى أن ماهية الايمان هو مجرد التصديق القلبى جماعة من المتكلمين ، وهو وإن لم يكن مذهب أصحابنا ، فإن لهم أن يقولوا : إن أمير المؤمنين عليه السلام جاء بهذا اللفظ على أصل الوضع اللغوى ، لان الايمان في أصل اللغة هو التصديق ، قال سبحانه وتعالى : (وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين) (1) أي لست بمصدق لنا لا إن كنا صادقين ، ولا إن كنا كاذبين .
ومجيئه عليه السلام به على أصل الوضع اللغوى لا يبطل مذهبنا في مسمى الايمان ، لانا نذهب إلى أن الشرع استجد لهذه اللفظة مسمى ثانيا ، كما نذهب إليه في الصلاة والزكاة وغيرهما ، فلا منافاة إذا بين مذهبنا وبين ما أطلقه عليه السلام .
وثانيها الجهاد في سبيل الله ، وإنما قدمه على التلفظ بكلمتي الشهادة ، لانه من باب دفع الضرر عن النفس ، ودفع الضرر عن النفس مقدم على سائر الاعمال المتعلقة بالجوارح ، والتلفظ بكلمتي الشهادة من أعمال الجوارح ، وإنما أخره عن الايمان ، لان الايمان من أفعال القلوب ، فهو خارج عما يتقدم عليه ، ودفع الضرر من الافعال المختصة بالجوارح ، وأيضا فإن الايمان أصل الجهاد ، لانه ما لم يعلم الانسان على ماذا يجاهد ، لا يجاهد ، وإنما جعله ذروة الاسلام ، أي أعلاه ، لانه ما لم تتحصن دار الاسلام بالجهاد لا يتمكن المسلمون من القيام بوظائف الاسلام ، فكان إذا من الاسلام بمنزلة الرأس من البدن .
وثالثها كلمة الاخلاص ، يعنى شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله ، قال : فإنها الفطرة ، يعنى هي التى فطر الناس عليها ، والاصل الكلمة الاولى ، لانها التوحيد ، وعليها فطر البشر كلهم ، والكلمة الثانية تبع لها فأجريت مجراها ، وإنما أخرت
__________
(1) سورة يوسف 217(7/222)
هذه الخصلة عن الجهاد ، لان الجهاد كان هو السبب في إظهار الناس لها ونطقهم بها ، فصار كالاصل بالنسبة إليها .
ورابعها إقام الصلاة أي ادامتها ، والاصل " أقام إقواما " ، فحذفوا عين الفعل ، وتارة يعوضون عن العين المفتوحة هاء ، فيقولون : " إقامة " .
قال : فإنها الملة ، وهذا مثل قول النبي صلى الله عليه وآله : " الصلاة عماد الدين ، فمن تركها فقد هدم الدين " .
وخامسها إيتاء الزكاة ، وإنما أخرها عن الصلاة لان الصلاة آكد افتراضا منها ، وإنما قال في الزكاة " فإنها فريضة واجبة " ، لان الفريضة لفظ يطلق على الجزء المعين المقدر في السائمة ، باعتبار غير الاعتبار الذى يطلق به على صلاة الظهر لفظ الفريضة ، والاعتبار الاول من القطع ، والثانى من الوجوب ، وقال : فإنها فريضة واجبة ، مثل أن يقول : فإنها شئ مقتطع من المال موصوف بالوجوب .
وسادسها صوم شهر رمضان ، وهو أضعف وجوبا من الزكاة ، وجعله جنة من العقاب ، أي سترة .
وسابعها الحج والعمرة ، وهما دون فريضه الصوم ، وقال : إنهما ينفيان الفقر ، ويرحضان الذنب ، أي يغسلانه ، رحضت الثوب ، وثوب رحيض ، وهذا الكلام يدل على وجوب العمرة ، وقد ذهب إليه كثير من الفقهاء العلماء .
وثامنها صلة الرحم وهى واجبة ، وقطيعة الرحم محرمة ، قال : فإنها مثراة في المال ، أي تثريه وتكثره .
ومنسأة في الاجل ، أي تنسؤه و تؤخره ، ويقال : نسأ الله في أجلك .
ويجوز إنساء بالهمزة .
فإن قلت : فما الحجة على تقديم وجوب الصلاة ، ثم الزكاة ، ثم الصوم ، ثم الحج ؟(7/223)
قلت : أما الصلاة فلان تاركها يقتل ، وإن لم يجحد وجوبها ، وغيرها ليس كذلك ، وإنما قدمت الزكاة على الصوم ، لان الله تعالى قرنها بالصلاة في كثير من الكتاب العزيز ، ولم يذكر صوم شهر رمضان إلا في موضع واحد ، وكثرة تأكيد الشئ وذكره دليل على أنه أهم ، وإنما قدم الصوم على الحج ، لانه يتكرر وجوبه ، والحج لا يجب في العمر إلا مرة واحدة ، فدل على أنه أهم عند الشارع من الحج .
ثم قال عليه السلام : " وصدقه السر " ، فخرج من الواجبات إلى النوافل .
قال : " فإنها تكفر الخطيئة " ، والتكفير هو إسقاط عقاب مستحق بثواب أزيد منه أو توبة ، وأصله في اللغة الستر والتغطية ، ومنه الكافر ، لانه يغطى الحق ، وسمى البحر كافرا لتغطيته ما تحته ، وسمى الفلاح كافرا لانه يغطى الحب في الارض المحروثة .
ثم قال : " وصدقة العلانية " ، فإنها تدفع ميتة السوء كالغرق والهدم وغيرها .
قال : " وصنائع المعروف ، فإنها تقى مصارع الهوان " ، كأسر الروم للمسلم ، أو كأخذ الظلمة لغير المستحق للاخذ .
ثم شرع في وصايا أخر عددها .
والهدى : السيرة ، وفي الحديث .
" واهدوا هدى عمار " يقال : هدى فلان هدى فلان ، أي سار سيرته .
وسمى القرآن حديثا اتباعا لقول الله تعالى (نزل أحسن الحديث كتابا متشابها) (1) واستدل أصحابنا بالآية على أنه محدث ، لانه لا فرق بين حديث ومحدث في اللغة .
فإن قالوا .
إنما أراد أحسن الكلام ، قلنا : لعمري إنه كذلك ، ولكنه لا يطلق على الكلام القديم لفظة حديث ، لانه إنما سمى الكلام والمحاورة والمخاطبة حديثا ، لانه أمر يتجدد حالا فحالا ، والقديم ليس كذلك .
__________
(1) سورة الزمر 23 (*)(7/224)
ثم قال : " تفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب " ، من هذا أخذ ابن عباس قوله : " إذا قرأت الم ، حم ، وقعت في روضات دمثات " .
ثم قال : " فإنه شفاء الصدور " .
وهذا من الالفاظ القرآنية (1) .
ثم سماه قصصا ، اتباعا لما ورد في القرآن من قوله : (نحن نقص عليك أحسن القصص) (2) .
ثم ذكر أن العالم الذى لا يعمل بعلمه كالجاهل الحائر الذى لا يستفيق من جهله .
ثم قال : " بل الحجة عليه أعظم " ، لانه يعلم الحق ولا يعمل ، به فالحجة عليه أعظم من الحجة على الجاهل ، وإن كانا جميعا محجوجين ، أما أحدهما فبعلمه ، وأما الآخر فبتمكنه من أن يعلم .
ثم قال : " والحسرة له ألزم " ، لانه عند الموت يتأسف ألا يكون عمل بما علم ، والجاهل لا يأسف ذلك الاسف .
ثم قال : " وهو عند الله ألوم " ، أي أحق أن يلام ، لان المتمكن عالم بالقوة ، وهذا عالم بالفعل ، فاستحقاقه اللوم والعقاب أشد .
__________
(1) وهو قوله تعالى في سورة الاسراء 82 : (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) .
(2) سورة يوسف 3 (*)(7/225)
(110) ومن خطبة له عليه السلام : الاصل : أما بعد ، فإنى أحذركم الدنيا ، فإنها حلوة خضرة ، حفت بالشهوات ، وتحببت بالعاجلة ، وراقت بالقليل ، وتحلت بالآمال ، وتزينت بالغرور .
لا تدوم حبرتها ولا تؤمن فجعتها ، غرارة ضرارة ، حائلة زائلة ، نافدة بائدة ، أكالة غوالة ، لا تعدو - إذا تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها والرضا بها - أن تكون كما قال الله تعالى : (كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض فاصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شئ مقتدرا) (1) .
لم يكن امرؤ منها في حبرة إلا أعقبته بعدها عبرة ، ولم يلق من سرائها بطنا ، إلا منحته من ضرائها ظهرا ، ولم تطله فيها ديمة رخاء ، إلا هتنت عليه مزنة بلاء .
وحرى إذا أصبحت له منتصرة ، أن تمسى له متنكرة ، وإن جانب منها اعذوذب واحلولى ، أمر منها جانب فأوبى ! لا ينال امرؤ من غضارتها رغبا ، إلا أرهقته من نوائبها تعبا ، ولا يمسى منها في جناح أمن ، إلا أصبح على قوادم خوف .
غرارة ، غرور ما فيها فانية ، فإن من عليها ، لا خير في شئ من أزوادها إلا التقوى
__________
(1) سورة الكهف 45 (*)(7/226)
من أقل منها استكثر مما يؤمنه ، ومن استكثر منها استكثر مما يوبقه ، وزال عما قليل عنه .
كم من واثق بها قد فجعته ، وذى طمأنينة قد صرعته ، وذى أبهة قد جعلته حقيرا ، وذى نخوة قد ردته ذليلا ! سلطانها دول ، وعيشها رنق ، وعذبها أجاج ، وحلوها صبر ، وغذاؤها سمام ، و أسبابها رمام .
حيها بعرض موت وصحيحها بعرض سقم .
ملكها مسلوب ، وعزيزها مغلوب ، وموفورها منكوب ، وجارها محروب .
ألستم في مساكن من كان قبلكم أطول أعمارا ، وأبقى آثارا ، وأبعد آمالا ، وأعد عديدا ، وأكثف جنودا ! تعبدوا للدنيا أي تعبد ، وآثروها أي إيثار ، ثم ظعنوا عنها بغير زاد مبلغ ، ولا ظهر قاطع .
فهل بلغكم أن الدنيا سخت لهم نفسا بفدية ، أو أعانتهم بمعونة ، أو أحسنت لهم صحبة ! بل أرهقتهم بالفوادح ، وأوهقتهم بالقوارع ، وضعضعتهم بالنوائب ، وعفرتهم للمناخر ، ووطئتهم بالمناسم ، وأعانت عليهم ريب المنون .
فقد رأيتم تنكرها لمن دان لها ، وآثرها وأخلد إليها ، حين ظعنوا عنها لفراق الابد .
وهل زودتهم إلا السغب ، أو أحلتهم إلا الضنك ، أو نورت لهم إلا الظلمة ، أو أعقبتهم إلا الندامة ! أفهذه تؤثرون ، أم إليها تطمئنون ، أم عليها تحرصون ! فبئست الدار لمن لم يتهمها ، ولم يكن فيها على وجل منها ! فاعلموا - وأنتم تعلمون - بأنكم تاركوها ، وظاعنون عنها .
واتعظوا فيها بالذين قالوا : (من أشد منا قوة) (1) ، حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركبانا ، وأنزلوا
__________
(1) سورة فصلت 15 (*)(7/227)
الاجداث فلا يدعون ضيفانا .
وجعل لهم من الصفيح أجنان ، ومن التراب أكفان ، ومن الرفات جيران .
فهم جيرة لا يجيبون داعيا ، ولا يمنعون ضيما ، ولا يبالون مندبة .
إن جيدوا لم يفرحوا ، وإن قحطوا لم يقنطوا ، جميع وهم آحاد ، وجيرة وهم أبعاد ، متدانون لا يتزاورون ، وقريبون لا يتقاربون .
حلماء قد ذهبت أضغانهم ، وجهلاء قد ماتت أحقادهم ، لا يخشى فجعهم ، ولا يرجى دفعهم ، استبدلوا بظهر الارض بطنا ، وبالسعة ضيقا ، وبالاهل غربة ، وبالنور ظلمة ، فجاءوها كما فارقوها ، حفاة عراة ، قد ظعنوا عنها بأعمالهم ، إلى الحياة الدائمة ، والدار الباقية ، كما قال سبحانه وتعالى : (كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين) (1) .
* * * الشرح : خضرة ، أي ناضرة ، وهذه اللفظة من الالفاظ النبوية ، قال النبي صلى الله عليه وآله : " إن الدنيا حلوة ، خضرة ، وإن الله مستخلفكم فيها ، فناظر كيف تعملون ! " .
وحفت بالشهوات ، كأن الشهوات مستديرة حولها ، كما يحف الهودج بالثياب ، وحفوا حوله يحفون حفا : أطافوا به ، قال الله تعالى : (وترى الملائكة حافين من حول العرش) (2) .
قوله : " وتحببت بالعاجلة " ، أي تحببت إلى الناس بكونها لذة عاجلة ، والنفوس مغرمة مولعة بحب العاجل ، فحذف الجار والمجرور القائم مقام المفعول .
قوله : " وراقت بالقليل " ، أي أعجبت أهلها ، وإنما أعجبتهم بأمر قليل ليس بدائم .
__________
(1) سورة الانبياء 104 (2) سورة الزمر 75 (*)(7/228)
قوله : " وتحلت بالآمال " من الحلية ، أي تزينت عند أهلها بما يؤملون منها .
قوله : " وتزينت بالغرور " ، أي تزينت عند الناس بغرور لا حقيقة له .
والحبرة : السرور : وحائلة : متغيرة : ونافده : فانية .
وبائدة : منقضية .
وأكالة : قتالة ، وغوالة : مهلكة .
والغول : ما غال ، أي أهلك ، ومنه المثل : " الغضب غول الحلم " .
ثم قال : إنها إذا تناهت إلى أمنية ذوى الرغبات فيها لا تتجاوز أن تكون كما وصفها الله تعالى به وهو قوله : (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناة من السماء فاختلط به نبات الارض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شئ مقتدرا) .
فاختلط ، أي فالتف بنبات الارض .
وتكاثف به ، أي بسبب ذلك الماء وبنزوله عليه ، ويجوز أن يكون تقديره : فاختلط بنبات الارض ، لانه لما غذاه وأنماه ، فقد صار مختلطا به ، ولما كان كل واحد من المختلطين مشاركا لصاحبه في مسمى الاختلاط جاز " فاختلط به نبات الارض " ، كما يجوز : فاختلط هو بنبات الارض .
والهشيم : ما تهشم وتحطم ، الواحدة هشيمة .
وتذروه الرياح : تطيره .
وكان الله على ما يشاء ، من الانشاء والافناء مقتدرا .
قوله : " من يلق من سرائها بطنا " إنما خص السراء بالبطن ، والضراء بالظهر ، لان الملاقى لك بالبطن ملاق بالوجه ، فهو مقبل عليك ، والمعطيك ظهره مدبر عنك .
وقيل : لان الترس بطنه إليك وظهره إلى عدوك ، وقيل : لان المشى في بطون الاودية أسهل من السير على الظراب والآكام .
وطله السحاب يطله ، إذا أمطره مطرا قليلا ، يقول : إذا أعطت قليلا من الخير أعقبت ذلك بكثير من الشر ، لان التهتان الكثير المطر ، هتن يهتن بالكسر ، هتنا وهتونا وتهتانا .(7/229)
قوله : " وحرى " ، أي جدير وخليق ، يقال : بالحرى أن يكون هذا الامر كذا ، وهذا الامر محراة لذلك ، أي مقمنة ، مثل محجاة ، وما أحراه مثل ما أحجاه ، وأحر به ، مثل أحج به ، وتقول : هو حرى أن يفعل ذلك بالفتح ، أي جدير وقمين ، لا يثنى ولا يجمع ، قال الشاعر : وهن حرى ألا يثبنك نقرة وأنت حرى بالنار حين تثيب (1) فإذا قلت : هو حر بكسر الراء ، وحرى بتشديدها على " فعيل " ثنيت وجمعت ، فقلت : هما حريان وحريان ، وحرون مثل عمون ، وأحراء أيضا ، وفي المشدد حريون وأحرياء ، وهى حرية وحرية ، وهن حريات وحريات وحرايا .
فإن قلت : فهلا قال : " وحرية إذا أصبحت " ، لانه يخبر عن الدنيا ! قلت : أراد شأنها ، فذكر ، أي وشأنها خليق أن يفعل كذا .
واعذوذب : صار عذبا .
واحلولى : صار حلوا ، ومن هاهنا أخذ الشاعر قوله : ألا إنما الدنيا غضارة أيكة إذا اخضر منها جانب جف جانب فلا تكتحل عيناك منها بعبرة على ذاهب منها فإنك ذاهب .
وارتفع " جانب " المذكور بعد " إن " لانه فاعل فعل مقدر يفسره الظاهر ، أي وإن اعذوذب جانب منها ، لان " إن " تقتضي الفعل وتطلبه فهى : ك " إذا " في قوله تعالى : (إذا السماء انشقت) (2) .
وأمر الشئ ، أي صار مرا .
وأوبى : صار وبيا ، ولين الهمز ، لاجل السجع .
والرغب : مصدر رغبت في الامر رغبة ورغبا ، أي أردته .
يقول : لا ينال الانسان منها إرادته إلا أرهقته تعبا ، يقال : أرهقه إثما ، أي حمله ، وكلفه .
__________
(1) البيت في اللسان 18 : 188 ، من غير نسبة .
(2) سورة الانشقاق 1 (*)(7/230)
فإن قلت : لم خص الامن بالجناح والخوف بالقودام ؟ قلت : لان القوادم مقاديم الريش ، والراكب عليها بعرض خطر عظيم وسقوط قريب ، والجناح يستر ويقى البرد والاذى ، قال أبو نواس : تغطيت من دهري بظل جناحه فصرت أرى دهري وليس يرانى (1) فلو تسأل الايام ما اسمى لما درت وأين مكاني ما عرفن مكاني والهاء في " جناحه " ترجع إلى الممدوح (2) بهذا الشعر .
وتوبقه : تهلكه ، والابهة الكبر .
والرنق ، بفتح النون ، مصدر رنق الماء ، أي تكدر وبالكسر الكدر وقد روى هاهنا بالفتح والكسر ، فالكسر ظاهر ، والفتح على تقدير حذف المضاف ، أي ذو رنق .
وماء أجاج : قد جمع المرارة والملوحة ، أج الماء يؤج أجاجا .
والصبر ، بكسر الباء : هذا النبات المر نفسه ، ثم سمى كل مر صبرا ، والسمام : جمع سم لهذا القاتل ، يقال سم وسم ، بالفتح والضم ، والجمع سمام وسموم .
ورمام : بالية ، وأسبابها : حبالها .
وموفورها : وذو الوفر والثروة منها ، والمحروب : المسلوب ، أي لا تحمى جارا ولا تمنعه .
ثم أخذ قوله تعالى : (وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الامثال) (3) فقال : " ألستم في مساكن من كان قبلكم أطول أعمارا " ، نصب " أطول " بأنه خبر كان ، وقد دلنا الكتاب الصادق على أنهم كانوا أطول
__________
(1) ديوانه 97 (2) هو محمد بن الفضل بن الربيع .
(3) سورة إبراهيم 45 (*)(7/231)
أعمارا بقوله : (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما) (1) ، وثبت بالعيان أنهم أبقى آثارا ، فإن من آثارهم الاهرام والايوان ومنارة الاسكندرية وغير ذلك .
وأما بعد الآمال فمرتب على طول الاعمار ، فكلما كانت أطول كانت الآمال أبعد ، وإن عنى به علو الهمم ، فلا ريب أنهم كانوا أعلى همما من أهل هذا الزمان ، وقد كان فيهم من ملك معمورة الارض كلها ، وكذلك القول في " أعد عديدا ، وأكثف جنودا " ، والعديد : العدو الكثير ، وأعد منهم ، أي أكثر .
قوله : " ولا ظهر قاطع " ، أي قاطع لمسافة الطريق .
والفوادح المثقلات ، فدحه الدين أثقله ، ويروى " بالقوادح " بالقاف ، وهى آفه تظهر في الشجر ، وصدوع تظهر في الاسنان .
وأوهقتهم جعلتهم في الوهق ، بفتح الهاء ، وهو حبل كالطول (2) ويجوز التسكين ، مثل نهر ونهر .
والقوارع : المحن والدواهي ، وسميت القيامة قارعة في الكتاب العزيز من هذا المعنى .
وضعضعتهم : أذلتهم ، قال أبو ذؤيب : * أنى لريب الدهر لا أتضعضع * (3) وضعضعت البناء : أهدمته .
وعفرتهم للمناخر .
ألصقت أنوفهم بالعفر ، وهو التراب .
والمناسم : جمع منسم ، بكسر السين ، وهو خف البعير .
__________
(1) سورة العنكبوت 14 (2) الطول ، أو الطيل : حبل طويل يشد به قائمة الدابة .
(3) ديوان الهذليين 1 : 3 ، وصدره : * وتجلدى للشامتين أريهم * (*)(7/232)
ودان لها : أطاعها ، ودان لها أيضا : ذل .
وأخلد إليها : مال ، قال تعالى : (ولكنه أخلد إلى الارض) (1) ، والسغب : الجوع ، يقول : إنما زودتهم الجوع ، وهذا مثل ، كما قال : * ومدحته فأجازنى الحرمانا * ومعنى قوله : " أو نورت لهم إلا الظلمة " ، أي بالظلمة ، وهذا كقوله : " هل زودتهم إلا السغب " .
وهو من باب إقامة الضد مقام الضد ، أي لم تسمح لهم بالنور بل بالظلمة .
والضنك : الضيق .
ثم قال : فبئست الدار ، وحذف الضمير العائد إليها وتقديره " هي " كما قال تعالى : (نعم العبد) (2) وتقديره : " هو " .
ومن لم يتهمها : من لم يسؤ ظنا بها .
والصفيح : الحجارة .
والاجنان : القبور ، الواحد جنن ، والمجنون : المقبور ، ومنه قول الاعرابية " لله درك من مجنون في جنن ! " .
والاكنان : جمع كن : وهو الستر ، قال تعالى : (وجعل لكم من الجبال أكنانا) (3) .
والرفات : العظام البالية .
والمندبة : الندب على الميت .
لا يبالون بذلك : لا يكترثون به .
وجيدوا : مطروا .
وقحطوا : انقطع المطر عنهم فأصابهم القحط ، وهو الجدب .
وإلى معنى قوله عليه السلام : " فهم جيرة لا يجيبون داعيا ، ولا يمنعون ضيما ، جميع وهم آحاد ، وجيرة وهم أبعاد ، متدانون لا يتزاورون ، وقريبون لا يتقاربون " نظر البحترى ، فقال :
__________
(1) سورة الاعراف 176 (2) سورة ص 30 (3) سورة النحل 81 (*)(7/233)
بنا أنت من مجفوة لم تؤنب ومهجورة في هجرها لم تعتب (1) ونازحة والدار منها قريبة وما قرب ثاو في التراب مغيب ! وقد قال الشعراء والخطباء في هذا المعنى كثيرا ، فمن ذلك قول الرضى أبى الحسن رحمه الله في مرثيته لابي إسحاق الصابى : أعزز على بأن نزلت بمنزل متشابه الامجاد بالاوغاد (2) في عصبة جنبوا إلى آجالهم والدهر يعجلهم عن الارواد ضربوا بمدرجة الفناء قبابهم من غير أطناب ولا أوتاد ركب أناخوا لا يرجى منهم قصد لاتهام ولا إنجاد كرهوا النزول فأنزلتهم وقعة للدهر نازلة بكل مقاد فتهافتوا عن رحل كل مذلل وتطاوحوا عن سرج كل جواد بادون في صور الجميع وإنهم متفردون تفرد الآحاد فقوله : " بادون في صور الجمع ...
" البيت ، هو قوله عليه السلام : " جمع وهم آحاد " بعينه .
وقال الرضى رحمه الله تعالى أيضا : متوسدين على الخدود كأنما كرعوا على ظمإ من الصهباء (3) صور ضننت على العيون بحسنها أمسيت أوقرها من البوغاء (4) ونواظر كحل التراب جفونها قد كنت أحرسها من الاقذاء قربت ضرائحهم على زوارها ونأوا عن الطلاب أي تناء (5)
__________
(1) ديوانه 1 : 49 (2) ديوانه لوحة 129 مع اختلاف في الرواية وترتيب الابيات (3) ديوانه لوحة 116 ، من مرثية لوالدته .
(4) لحظها : ملاحظتها .
والبوغاء : التربة الرخوة .
(5) الضرائح : جمع ضريح ، وهو القبر .
(*)(7/234)
قوله : " قربت ضرائحهم ...
" البيت هو معنى قوله عليه السلام : " وجيرة وهم أبعاد " بعينه .
ومن هذا المعنى قول بعض الاعراب : لكل أناس مقبر في ديارهم (2) فهم ينقصون ، والقبور تزيد فكائن ترى من دار حى قد اخرجت وقبر بأكناف التراب جديد (3) هم جيرة الاحياء ، أما مزارهم (4) فدان ، وأما الملتقى فبعيد ومن كلام ابن نباته .
" وحيدا على كثرة الجيران ، بعيدا على قرب المكان " ومنه قوله : " أسير وحشة الانفراد ، فقير إلى اليسير من الزاد ، جار من لا يجير ، وضيف من لا يمير ، حملوا ولا يرون ركبانا ، وأنزلوا ولا يدعون ضيفانا ، واجتمعوا ولا يستمعون جيرانا ، واحتشدوا ولا يعدون أعوانا " .
وهذا كلام أمير المؤمنين عليه السلام بعينه المذكور في هذه الخطبة ، وقد أخذه مصالتة .
ومنه قوله : " طحنتهم طحن الحصيد ، وغيبتهم تحت الصعيد ، فبطون الارض لهم أوطان ، وهم في خرابها قطان ، عمروا فأخربوا ، واقتربوا فاغتربوا ، واصطحبوا وما اصطحبوا " .
ومنه قوله : " غيبا كأشهاد ، عصبا كآحاد ، همودا في ظلم الالحاد ، إلى يوم التناد " .
__________
(1) لعبد الله بن ثعلبة الحنفي ، حماسة أبى تمام - بشرح المرزوقى 891 (2) الحماسة : * لكل أناس مقبر بفنائهم * (3) رواية الحماسة : وما إن يزال رسم دار قد اخلقت وبيت لميت بالفناء جديد (4) الحماسة : " أما جوارهم " .
(*)(7/235)
واعلم أن هذه الخطبة ذكرها شيخنا أبو عثمان الجاحظ في كتاب " البيان والتبيين (1) ، ، والترواها لقطرى بن الفجاءة ، والناس يروونها لامير المؤمنين عليه السلام ، وقد رأيتها فكتاب " المونق " لابي عبيد الله المرزبانى مروية لامير المؤمنين عليه السلام ، وهى بكلام أمير المؤمنين أشبه وليس يبعد عندي أن يكون قطرى قد خطب بها بعد أن أخذها عن بعض أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام ، فإن الخوارج كانوا أصحابه وأنصاره ، وقد لقى قطرى أكثرهم .
__________
(1) البيان والتبيين 2 : 126 - 129 ، وهى أيضا بنسبتها إلى قطرى في العقد 1 : 141 ، وصبح الاعشى 1 : 223 ، وعيون الاخبار 2 : 250 ، ونهاية الادب 7 : 250 .
(*)(7/236)
(111) ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها ملك الموت وتوفية الانفس : هل يحس به إذا دخل منزلا ، أم هل تراه إذا توفى أحدا بل كيف يتوفى الجنين في بطن أمه ! أيلج عليه من بعض جوارحها ، أم الروح أجابته بإذن ربها ، أم هو ساكن معه في أحشائها ! كيف يصف إلهه من يعجز عن صفة مخلوق مثله ! الشرح : أما مذهب جمهور أصحابنا ، وهم النافون للنفس الناطقة ، فعندهم أن الروح جسم لطيف بخارى ، يتكون من ألطف أجزاء الاغذية ، ينفذ في العروق الضوارب ، والحياة عرض قائم بالروح وحال فيها ، فللدماغ روح دماغية وحياة حالة فيها ، وكذلك للقلب ، وكذلك للكبد ، وعندهم أن لملك الموت أعوانا تقبض الارواح بحكم النيابة عنه ، لو لا ذلك لتعذر عليه وهو جسم أن يقبض روحين في وقت واحد في المشرق والمغرب ، لان الجسم الواحد لا يكون في مكانين في وقت واحد .
قال أصحابنا : ولا يبعد أن يكون الحفظة الكاتبون هم القابضين للارواح عند انقضاء الاجل ، قالوا : وكيفية القبض ولوج الملك من الفم إلى القلب ، لانه جسم لطيف هوائي لا يتعذر عليه النفوذ في المخارق الضيقة ، فيخالط الروح(7/237)
التى هي كالشبيهة به ، لانها جسم لطيف بخارى ، ثم يخرج من حيث دخل وهى معه ، وإنما يكون ذلك في الوقت الذى يأذن الله تعالى له فيه ، وهو حضور الاجل ، فألزموا على ذلك أن يغوص الملك في الماء مع الغريق ، ليقبض روحه تحت الماء ، فالتزموا ذلك ، وقالوا : ليس بمستحيل أن يتخلل الملك الماء في مسام الماء ، فإن فيه مسام ومنافذ ، وفي كل جسم على قاعدتهم في إثبات الماء في الاجسام .
قالوا : ولو فرضنا أنه لا مسام فيه ، لم يبعد أن يلجه الملك فيوسع لنفسه مكانا كما يلجه الحجر والسمك وغيرهما ، وكالريح الشديدة التى تقرع ظاهر البحر فتقعره وتحفره ، وقوة الملك أشد من قوة الريح .
ثم نعود إلى الشرح فنقول : الملك أصله " مالك " بالهمز ، ووزنه " مفعل " والميم زائدة ، لانه من الالوكة والالوك ، وهى الرسالة ، ثم قلبت الكلمة وقدمت اللام فقيل ملاك ، قال الشاعر : فلست لانسى ولكن لملاك تنزل من جو السماء يصوب (1) ثم تركت همزته لكثرة الاستعمال ، فقيل : " ملك " ، فلما جمع ردت الهمزة إليه ، فقالوا : ملائكة وملائك ، قال أمية بن أبى الصلت : وكأن برقع والملائك حولها سدر تواكله القوائم أجرد (2) والتوفى : الاماتة وقبض الارواح ، قال الله تعالى : (الله يتوفى الانفس حين موتها) (3) .
والتقسيم الذى قسمة في وفاة الجنين حاصر ، لانه مع فرضنا إياه جسما يقبض الارواح التى في الاجسام ، أما أن يكون مع الجنين في جوف أمه فيقبض روحه عند حضور أجله ،
__________
(1) اللسان 12 : 274 من غير نسبة .
(2) اللسان 6 : 30 (3) سورة الزمر 42 (*)(7/238)
أو خارجا عنها .
والقسم الثاني ينقسم قسمين : أحدهما أن يلج جوف أمه لقبض روحه فيقبضها ، والثانى أن يقبضها من غير حاجة إلى الولوج إلى جوفها ، وذلك بأن تطيعه الروح وتكون مسخرة إذا أراد قبضها امتدت إليه فقبضها .
وهذه القسمة لا يمكن الزيادة عليها ، ولو قسمها واضع المنطق لما زاد .
ثم خرج إلى أمر آخر أعظم وأشرف مما ابتدأ به ، فقال : " كيف يصف إلهه من يعجز عن وصف مخلوق مثله " ! وإلى هذا الغرض كان يترامى وإياه كان يقصد ، وإنما مهد حديث الملك والجنين توطئة لهذا المعنى الشريف ، والسر الدقيق .
[ فصل في التخلص وسباق كلام للشعراء فيه ] وهذا الفن يسميه أرباب علم البيان التخلص ، وأكثر ما يقع في الشعر ، كقول أبى نواس : تقول التى من بيتها خف مركبي عزيز علينا أن نراك تسير (1) أ ما دون مصر للغنى متطلب ! بلى ، إن أسباب الغنى لكثير فقلت لها واستعجلتها بوادر جرت ، فجرى في جريهن عبير ذريني أكثر حاسديك برحلة إلى بلد فيه الخصيب أمير ومن ذلك قول أبى تمام : يقول في قومس صحبى وقد أخذت منا السرى وخطا المهرية القود (2) أ مطلع الشمس تبغى أن تؤم بنا فقلت كلا ولكن مطلع الجود
__________
(1) ديوانه 99 ، من قصيدة يمدح فيها الخصيب بن عبد الرحمن المرادى ، أمير مصر .
(2) ديوانه 2 : 130 ، قومس : بلد بين العراق وخراسان .
(*)(7/239)
ومنه قول البحترى : هل الشباب ملم بى فراجعة أيامه لى في أعقاب أيامى ! (1) لو أنه نائل غمر يجاد به إذن تطلبته عند ابن بسطام ومنه قول المتنبي ، وهو يتغزل بأعرابية ، ويصف بخلها وجبنها وقلة مطعمها ، وهذه كلها من الصفات الممدوحة في النساء خاصة (2) : في مقلتي رشأ تديرهما بدوية فتنت بها الحلل (3) تشكو المطاعم طول هجرتها وصدودها ، ومن الذى تصل ! ما أسأرت في القعب من لبن تركته ، وهو المسك والعسل قالت : ألا تصحو فقلت لها أعلمتني أن الهوى ثمل لو أن فناخسر صبحكم وبرزت وحدك عاقه الغزل (4) وتفرقت عنكم كتائبه إن الملاح خوادع قتل ما كنت فاعلة وضيفكم ملك الملوك وشأنك البخل أ تمنعين قرى فتفتضحي أم تبذلين له الذى يسل بل لا يحل بحيث حل به بخل ولا جور ولا وجل وهذا من لطيف التخلص ورشيقه ، والتخلص مذهب الشعراء ، والمتأخرون يستعملونه كثيرا ، ويتفاخرون فيه ويتناضلون ، فأما التخلص في الكلام المنثور فلا يكاد يظهر لمتصفح الرسالة أو الخطبة إلا بعد تأمل شديد ، وقد وردت منه مواضع في القرآن العزيز ، فمن
__________
(1) المثل السائر 2 : 265 (2) ديوانه 3 : 301 ، من قصيدة يمدح فيها ركن الدولة .
(3) الرشأ : ولد الظبية الصغير .
والحلل : جمع حلة ، وهى القوم المجتمعون في بيوت مجتمعة للنزول .
والبدوية : الساكنة البدو .
(4) فناخسر ، هو اسم عضد الدولة .
وصبحكم : أتاكم صباحا للغارة .
(*)(7/240)
أبينها وأظهرها أنه تعالى ذكر في سورة الاعراف الامم الخالية ، والانبياء الماضين من لدن آدم عليه الصلاة والسلام ، إلى أن انتهى إلى قصة موسى ، فقال في آخرها بعد أن شرحها وأوضحها : (واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياى أ تهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدى من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين .
واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون .
الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذى يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والاغلال التى كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذى أنزل معه أولئك هم المفلحون) (1) .
وهذا من التخلصات اللطيفة المستحسنة .
[ فصل في الاستطراد وإيراد شواهد للشعراء فيه ] واعلم أن من أنواع علم البيان نوعا يسمى الاستطراد ، وقد يسمى الالتفات وهو من جنس التخلص وشبيه به ، إلا أن الاستطراد هو أن تخرج بعد أن تمهد ما تريد أن تمهده إلى الامر الذى تروم ذكره فتذكره ، وكأنك غير قاصد لذكره بالذات ، بل قد حصل ووقع ذكره بالعرض عن غير قصد ، ثم تدعه وتتركه ، وتعود إلى الامر الذى كنت في تمهيده ، كالمقبل عليه ، وكالملغى عما استطردت بذكره ، فمن ذلك قول البحترى وهو يصف فرسا :
__________
(1) سورة الاعراف 155 - 157 (*)(7/241)
وأغر في الزمن البهيم محجل قد رحت منه على أغر محجل (1) كالهيكل المبنى إلا أنه في الحسن جاء كصورة في هيكل وافى الضلوع يشد عقد حزامه يوم اللقاء على معم مخول أخواله للرستمين بفارس وجدوده للتبعين بموكل يهوى كما هوت العقاب وقد رأت صيدا ، وينتصب انتصاب الاجدل متوجس برقيقتين كأنما تريان من ورق عليه مكلل ما إن يعاف قذى ولو أوردته يوما خلائق حمدويه الاحول ذنب كما سحب الرشاء يذب عن عرف ، وعرف كالقناع المسبل جذلان ينفض عذرة في غرة يقق تسيل حجولها في جندل كالرائح النشوان أكثر مشيه عرضا على السنن البعيد الاطول ذهب الاعالى حيث تذهب مقلة فيه بناظرها حديد الاسفل هزج الصهيل كأن في نغماته نبرات معبد في الثقيل الاول ملك القلوب ، فإن بدا أعطينه نظر المحب إلى الحبيب المقبل أ لا تراه كيف استطرد بذكر حمدويه الاحول الكاتب ، وكأنه لم يقصد ذلك ، ولا أراده وإنما جرته القافية ، ثم ترك ذكره وعاد إلى وصف الفرس ، ولو أقسم إنسان أنه ما بنى القصيدة منذ افتتحها إلا على ذكره ، ولذلك أتى بها على روى اللام ، لكان صادقا .
فهذا هو الاستطراد .
ومن الفرق بينه وبين التخلص أنك في التخلص متى شرعت في ذكر الممدوح
__________
(1) ديوانه 2 : 217 ، 218 (طبع الجوائب) .
(*)(7/242)
أو المهجو تركت ما كنت فيه من قبل بالكلية ، وأقبلت على ما تخلصت إليه من المديح والهجاء بيتا بعد بيت ، حتى تنقضي القصيدة ، وفي الاستطراد تمر على ذكر الامر الذى استطردت به مرورا كالبرق الخاطف ، ثم تتركه وتنساه ، وتعود إلى ما كنت فيه كأنك لم تقصد قصد ذاك ، وإنما عرض عروضا .
وإذا فهمت الفرق فاعلم أن الآيات التى تلوناها إذا حققت وأمعنت النظر ، من باب الاستطراد ، لا من باب التخلص ، وذلك لانه تعالى قال بعد قوله : (واتبعوا النور الذى أنزل معه أولئك هم المفلحون .
قل يأيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعا الذى له ملك السموات والارض لا إله إلا هو يحيى ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الامي الذى يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون وقطعناهم اثنتى عشرة أسباطا أمما وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) (1) .
فعاد إلى ما كان فيه أولا ، ثم مر في هذه القصة ، وفي أحوال موسى وبنى إسرائيل حتى قارب الفراغ من السورة .
ومن لطيف التخلص الذى يكاد يكون استطرادا ، لو لا أنه أفسده بالخروج إلى المدح ، قول أبى تمام في قصيدته التى يمدح بها محمد بن الهيثم التى أولها : أسقى طلولهم أجش هزيم وغدت عليهم نضرة ونعيم (2) ظلمتك ظالمة البرئ ظلوم والظلم من ذى قدرة مذموم زعمت هواك عفا الغداة كما عفت منها طلول باللوى ورسوم
__________
(1) سورة الاعراف 158 - 160 (2) ديوانه 3 : 289 (*)(7/243)
لا والذى هو عالم أن النوى صبر وأن أبا الحسين كريم ما حلت عما تعهدين ولا غدت (1) نفسي على إلف سواك تحوم فلو أتم متغزلا لكان مستطردا لا محالة ، ولكنه نقض الاستطراد ، وغمس يده في المدح ، فقال بعد هذا البيت : لمحمد بن الهيثم بن شبانة مجد إلى جنب السماك مقيم ملك إذا نسب الندى من ملتقى طرفيه فهو أخ له وحميم ومضى على ذلك إلى آخرها .
* * * ومن الاستطراد أن يحتال الشاعر لذكر ما يروم ذكره ، بوصف أمر ليس من غرضه ، ويدمج الغرض الاصلى في ضمن ذلك وفي غضونه ، وأحسن ما يكون ذلك إذا صرح بأنه قد استطرد ونص في شعره على ذلك ، كما قال أبو إسحاق الصابى في أبيات كتبها إلى أبى القاسم عبد العزيز بن يوسف كاتب عضد الدولة ، كتبها إليه إلى شيراز وأبو إسحاق في بغداد ، وكانت أخبار فتوح عضد الدولة بفارس وكرمان وما والاها متواصلة مترادفة إلى العراق ، وكتب عبد العزيز واصلة بها إلى عز الدولة بختيار والصابى يجيب عنها : يا راكب الجسرة العيرانة الاجد يطوى المهامه من سهل إلى جلد أبلغ أبا قاسم - نفسي الفداء له - مقالة من أخ للحق معتمد في كل يوم لكم فتح يشاد به بين الانام بذكر السيد العضد وما لنا مثله لكننا أبدا نجيبكم بجواب الحاسد الكمد فأنت أكتب منى في الفتوح وما تجرى مجيبا إلى شأوى ولا أمدى
__________
(1) الديوان : * ما زلت عن سنن الوداد ولا غدت * (*)(7/244)
وما ذممت ابتدائى في مكاتبة ولا جوابكم في القرب والبعد لكننى رمت أن أثنى على ملك مستطرد بمديح فيه مطرد ولقد ظرف وملح أبو إسحاق في هذه الابيات ، ومتى خلا أو عرى عن الظرف والملاحة ، ولقد كان ظرفا ولباقة كله ! وليس من الاستطراد ما زعم ابن الاثير الموصلي في كتابه المسمى " بالمثل (1) السائر " أنه استطراد ، وهو قول بعض شعراء الموصل يمدح قرواش بن المقلد ، وقد أمره أن يعبث بهجاء وزيره سليمان بن فهد ، وحاجبه أبى جابر ومغنيه المعروف بالبرقعيدى ، في ليلة من ليالى الشتاء وأراد بذلك الدعابة والولع بهم ، وهم في مجلس في شراب وأنس ، فقال وأحسن فيما قال : وليل كوجه البرقعيدى ظلمة وبرد أغانيه وطول قرونه سريت ونومى فيه نوم مشرد كعقل سليمان بن فهد ودينه على أولق فيه التفات كأنه أبو جابر في خبطه وجنونه إلى أن بدا ضوء الصباح كأنه سنا وجه قراوش وضوء جبينه وذلك لان الشاعر قصد إلى هجاء كل واحد منهم ، ووضع الابيات لذلك ، وأمره قرواش رئيسهم وأميرهم بذلك ، فهجاهم ومدحه ولم يستطرد .
وهذه الابيات تشبيهات كلها مقصود بها الهجاء ، لم يأت بالعرض في الشعر كما يأتي الاستطراد .
وهذا غلط من مصنف الكتاب .
__________
(1) المثل السائر 2 : 271 (*)(7/245)
(112) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : وأحذركم الدنيا فإنها منزل قلعة ، وليست بدار نجعة ، قد تزينت بغرورها ، وغرت بزينتها .
دار هانت على ربها فخلط حلالها بحرامها ، وخيرها بشرها ، وحياتها بموتها ، وحلوها بمرها .
لم يصفها الله تعالى لاوليائه ، ولم يضن بها عن أعدائه .
خيرها زهيد ، وشرها عتيد ، وجمعها ينفد ، وملكها يسلب ، وعامرها يخرب .
فما خير دار تنقض نقض البناء ، وعمر يفنى فيها فناء الزاد ، ومده تنقطع انقطاع السير ! اجعلوا ما افترض الله عليكم من طلبتكم ، واسألوه من أداء حقه ما سألكم ، وأسمعوا دعوة الموت آذانكم قبل أن يدعى بكم .
إن الزاهدين في الدنيا تبكى قلوبهم وإن ضحكوا ، ويشتد حزنهم وإن فرحوا ، ويكثر مقتهم أنفسهم وإن اغتبطوا بما رزقوا .
قد غاب عن قلوبكم ذكر الآجال ، وحضرتكم كواذب الآمال ، فصارت الدنيا أملك بكم من الآخرة ، والعاجلة أذهب بكم من الآجلة ، وإنما أنتم إخوان على دين الله ، ما فرق بينكم إلا خبث السرائر ، وسوء الضمائر ، فلا توازرون ولا تناصحون ، ولا تباذلون ولا توادون .
ما بالكم تفرحون باليسير من الدنيا تدركونه ، ولا يحزنكم الكثير من الآخرة تحرمونه ! ويقلقكم اليسير من الدنيا يفوتكم ، حتى يتبين ذلك في(7/246)
وجوهكم ، وقلة صبركم عما زوى منها عنكم ! كأنها دار مقامكم ، وكأن متاعها باق عليكم .
وما يمنع أحدكم أن يستقبل أخاه بما يخاف من عيبه ، إلا مخافة أن يستقبله بمثله .
قد تصافيتم على رفض الآجل ، وحب العاجل ، وصار دين أحدكم لعقة على لسانه ، صنيع من فرغ من عمله ، وأحرز رضا سيده .
* * * الشرح : قوله عليه السلام : " فإنها منزل قلعة " بضم القاف وسكون اللام ، أي ليست بمستوطنة .
ويقال : هذا مجلس قلعة ، إذا كان صاحبه يحتاج إلى أن يقوم مرة بعد مرة .
ويقال : هم على قلعة ، أي على رحلة ، ومن هذا الباب .
قولهم : فلان قلعة ، إذا كان ينقلع عن سرجه ، ولا يثبت في البطش والصراع ، والقلعة أيضا : المال العارية ، وفي الحديث : " بئس المال القلعة " .
والنجعة : طلب الكلا في موضعه ، وفلان ينتجع الكلا ، ومنه انتجعت فلانا ، إذا أتيته تطلب معروفه .
ثم وصف هوان الدنيا على الله تعالى ، فقال : " من هوانها أنه خلط حلالها بحرامها ...
" الكلام ، مراده تفضيل الدار الآتية على هذه الحاضرة ، فإن تلك صفو كلها وخير كلها ، وهذه مشوبة ، والكدر والشر فيها أغلب من الصفو والخير .
ومن كلام بعض الصالحين : من هوان الدنيا على الله أنه لا يعصى إلا فيها ، ولا ينال ما عنده إلا بتركها .
ويروى : " ولم " يضن بها على أعدائه " ، والرواية المشهورة " عن أعدائه " ، وكلاهما مستعمل .(7/247)
والزهيد : القليل ، والعتيد : الحاضر .
والسير : سير المسافر .
ثم أمرهم بأن يجعلوا الفرائض الواجبة عليهم من جملة مطلوباتهم ، وأن يسالوا الله من الاعانة والتوفيق على القيام بحقوقه الواجبة .
كما سألهم ، أي كما الزمهم وافترض عليهم ، فسمى ذلك سؤالا لاجل المقابلة بين اللفظين ، كما قال سبحانه : (وجزاء سيئة سيئة مثلها) (1) ، وكما قال النبي صلى الله عليه وآله : " فإن الله لا يمل حتى تملوا " وكما قال الشاعر : ألا لا يجلهن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا (2) ثم أمرهم أن يسمعوا أنفسهم دعوة الموت قبل أن يحضر الموت ، فيحل بهم .
ومثل قوله : " تبكى قلوبهم وإن ضحكوا " قول الشاعر ، وإن لم يكن هذا المقصد بعينه قصد : كم فاقة مستوره بمروءة وضرورة قد غطيت بتجمل ومن ابتسام تحته قلب شج قد خامرته لوعة ما تنجلي .
والمقت : البغض : واغتبطوا : فرحوا .
وقوله : " أملك بكم " مثل " أولى بكم " .
وقوله : " والعاجلة أذهب بكم من الآجلة " أي ذهبت العاجلة بكم واستولت عليكم أكثر مما ذهبت بكم الآخرة ، واستولت عليكم .
ثم ذكر أن الناس كلهم مخلوقون على فطرة واحدة ، وهى دين الله وتوحيده ، وإنما اختلفوا وتفرقوا باعتبار أمر خارجي عن ذلك ، وهو خبث سرائرهم وسوء ضمائرهم ، فصاروا إلى حال لا يتوازرون ، أي لا يتعاونون ، والاصل الهمز ، آزرته ، ثم تقلب الهمزة واوا ، وأصل قوله : " فلا توازرون " فلا تتوازرون " فحذفت إحدى التاءين ، كقوله تعالى : (ما لكم لا تناصرون) (3) ، أي لا تتناصرون ، والتبادل : أن يجود بعضهم على بعض بماله ويبذله له .
__________
(1) سورة الشورى 40 (2) لعمر بن كلثوم ، من المعلقات بشرح التبريزي 238 (3) سورة الصافات 25 : (*)(7/248)
ومثل قوله عليه السلام " ما بالكم تفرحون بكذا ، ولا تحزنون لكذا ، ويقلقكم اليسير من الدنيا يفوتكم " من هذا قول الرضى رحمه الله : نقص الجديدين من عمرى يزيد على ما ينقصان على الايام من مالى (1) دهر تؤثر في جسمي نوائبه فما اهتمامي أن أودى بسربالى والضمير في " يخاف " راجع إلى الاخ لا إلى المستقبل له ، أي ما يخافه الاخ من مواجهته بعينه .
قوله : " وصار دين أحدكم لعقة على لسانه " أخذه الفرزدق ، فقال للحسين بن على عليه السلام ، وقد لقيه قادما إلى العراق ، وسأله عن الناس " أما قلوبهم فمعك ، وأما سيوفهم فعليك ، والدين لعقة على ألسنتهم ، فإذا امتحصوا قل الديانون " ، واللفظة مجاز ، وأصل اللعقة شئ قليل يؤخذ بالملعقة من الاناء ، يصف بالنزارة والقلة كتلك اللعقة ، ولم يقنع بأن جعله لعقة حتى جعله على ألسنتهم فقط ، أي ليس في قلوبهم .
__________
(4) ديوانه ، لوحة 150 ، من قصيدة يرثى فيها صديقا له .
(*) :(7/249)
(113) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : الحمد لله الواصل الحمد بالنعم ، والنعم بالشكر ، نحمده على آلائه ، كما نحمده على بلائه ، ونستعينه على هذه النفوس البطاء عما أمرت به ، السراع إلى ما نهيت عنه .
ونستغفره مما أحاط به علمه ، وأحصاه كتابه ، علم غير قاصر ، وكتاب غير مغادر .
ونؤمن به إيمان من عاين الغيوب ، ووقف على الموعود ، إيمانا نفى إخلاصه الشرك ، ويقينه الشك .
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا صلى الله عليه عبده ورسوله ، شهادتين تصعدان القول ، وترفعان العمل ، لا يخف ميزان توضعان فيه ، ولا يثقل ميزان ترفعان منه .
* * * أوصيكم عباد الله بتقوى الله التى هي الزاد وبها المعاذ ، زاد مبلغ ، ومعاذ ، منجح ، دعا إليها أسمع داع ، ووعاها خير واع ، فأسمع داعيها ، وفاز واعيها .
عباد الله ، إن تقوى الله حمت أولياء الله محارمه ، وألزمت قلوبهم مخافته ، حتى أسهرت لياليهم ، وأظمأت هواجرهم ، فأخذوا الراحة بالنصب ، والرى بالظمإ ، واستقربوا الاجل فبادروا العمل ، وكذبوا الامل فلاحظوا الاجل .
ثم إن الدنيا دار فناء وعناء ، وغير وعبر ، فمن الفناء أن الدهر موتر (1) قوسه ، لا تخطئ سهامه ، ولا تؤسى جراحه ، يرمى الحى بالموت ، والصحيح بالسقم ، والناجي بالعطب ، آكل لا يشبع ، وشارب لا ينقع .
ومن العناء أن المرء يجمع
__________
(1) مخطوطة النهج : " موتور " بالتشديد .
(*)(7/250)
ما لا يأكل ، ويبنى ما لا يسكن ، ثم يخرج إلى الله تعالى ، لا مالا حمل ، ولا بناء نقل .
ومن غيرها أنك ترى المرحوم مغبوطا ، والمغبوط مرحوما ، ليس ذلك إلا نعيما زل ، وبؤسا نزل .
ومن عبرها أن المرء يشرف على أمله ، فيقتطعه حضور أجله ، فلا أمل يدرك ، ولا مؤمل يترك .
فسبحان الله ما أعز سرورها ! وأظمأ ريها ! وأضحى فيئها ! لا جاء يرد ، ولا ماض يرتد ، فسبحان الله ، ما أقرب الحى من الميت للحاقه به ! وأبعد الميت من الحى لانقطاعه عنه ! إنه ليس شئ بشر من الشر إلا عقابه ، وليس شئ بخير من الخير إلا ثوابه ، وكل شئ من الدنيا سماعه أعظم من عيانه ، وكل شئ من الآخرة عيانه أعظم من سماعه ، فليكفكم من العيان السماع ، ومن الغيب الخبر .
واعلموا أن ما نقص من الدنيا وزاد في الآخرة ، خير مما نقص من الآخرة وزاد في الدنيا ، فكم من منقوص رابح ، ومزيد خاسر ! إن الذى أمرتم به أوسع من الذى نهيتم عنه ، وما أحل لكم أكثر مما حرم عليكم ، فذروا ما قل لما كثر ، وما ضاق لما اتسع ، قد تكفلكم بالرزق ، وأمرتم بالعمل ، فلا يكونن المضمون لكم طلبه أولى بكم من المفروض عليكم .
عمله ، مع أنه والله لقد اعترض الشك ، ودخل اليقين ، حتى كأن الذى ضمن لكم قد فرض عليكم ، وكأن الذى فرض عليكم قد وضع عنكم .
فبادروا العمل ، وخافوا بغتة الاجل ، فإنه لا يرجى من رجعة العمر ، ما يرجى من رجعة الرزق .
ما فات اليوم من الرزق رجى غدا زيادته ، وما فات أمس من العمر لم يرج اليوم(7/251)
رجعته .
الرجاء مع الجائى ، واليأس مع الماضي ، فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ! * * * الشرح : لقائل أن يقول : أما كونه واصل الحمد له من عباده بالنعم منه عليهم في ملوم ، فكيف قال : إنه يصل النعم المذكورة بالشكر ، والشكر ، من أفعال العباد ، وليس من أفعاله ليكون واصلا للنعم به ؟ وجواب هذا القائل ، هو أنه لما وفق العباد للشكر بعد أن جعل وجوبه في عقولهم مقررا ، وبعد أن أقدرهم عليه ، صار كأنه الفاعل له ، فأضافه إلى نفسه توسعا ، كما يقال : أقام الامير الحد ، وقتل الوالى اللص ، فأما حمده سبحانه على البلاء ، كحمده على الآلاء فقد تقدم القول فيه .
ومن الكلام المشهور : " سبحان من لا يحمد على المكروه سواه " ، والسر فيه أنه تعالى إنما يفعل المكروه بنا لمصالحنا ، فإذا حمدناه عليه فإنما حمدناه على نعمة أنعم بها ، وإن كانت في الظاهر بلية وألما .
فإن قلت : فقد كان الاحسن في البيان أن يقول : " نحمده على بلائه ، كما نحمده على آلائه " .
قلت : إنما عكس لانه جاء باللفظين في معرض ذكر النعم والشكر عليها ، فاستهجن أن يلقبها بلفظة الحمد على البلاء للمنافرة التى تكون بينهما ، فقال : نحمده على هذه الآلاء التى أشرنا إليها ، التى هي آلاء في الحقيقة وهذا ترتيب صحيح منتظم .
ثم سأل الله أن يعينه على النفس البطيئة عن المأمور به ، السريعة إلى المنهى عنه .
ومن دعاء بعض الصالحين : اللهم إنى أشكو إليك عدوا بين جنبى قد غلب على .
وفسر قوم من أهل الطريقة والحقيقة قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا(7/252)
الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة) (1) قالوا : أراد مجاهدة النفوس .
ومن كلام رسول الله صلى الله عليه وآله : " أبت الانفس إلا حب المال والشرف ، وإن حبهما لاذهب بدين أحدكم من ذئبين ضاريين باتا في زريبة غنم إلى الصباح ، فماذا يبقيان منها " ! ثم شرع في استغفار الله سبحانه من كل ذنب ، وعبر عن ذلك بقوله : " مما أحاط به علمه ، وأحصاه كتابه " ، لانه تعالى عالم بكل شئ ، ومحيط بكل شئ ، وقد أوضح ذلك بقوله : " علم غير قاصر ، وكتاب غير مغادر " ، أي غير مبق شيئا لا يحصيه ، قال تعالى : (ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) (2) .
ثم قال : " ونؤمن به إيمان من عاين وشاهد " ، لان إيمان العيان أخلص وأوثق من إيمان الخبر ، فإنه ليس الخبر كالعيان ، وهذا إشارة إلى إيمان العارفين الذين هو عليه السلام سيدهم ورئيسهم ، ولذلك قال " لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا " .
وقوله : " تصعدان القول " إشارة إلى قوله تعالى : (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) (3) وروى : " تسعدان القول " بالسين ، أي هما شهادتان بالقلب يعاضدان الشهادة باللسان ، ويسعدانها .
ثم ذكر أنهما شهادتان لا يخف ميزان هما فيه ، ولا يثقل ميزان رفعا عنه .
أما إنه لا يثقل ميزان رفعا عنه ، فهذا لا كلام فيه ، وإنما الشأن في القضية الاولى ، لان ظاهر هذا القول يشعر بمذهب المرجئة الخلص ، وهم أصحاب مقاتل بن سليمان ، القائلون إنه لا يضر مع الشهادتين معصية أصلا ، وإنه لا يدخل النار من في قلبه ذرة من الايمان ،
__________
(1) سورة التوبة 123 (2) سورة الكهف 49 (3) سورة فاطر 10 .
(*)(7/253)
ولهم على ذلك احتجاج قد ذكرناه في كتبنا الكلامية ، فنقول في تأويل ذلك إنه لم يحكم بهذا على مجرد الشهادتين ، وإنما حكم بهذا على شهادتين مقيدتين ، قد وصفهما بأنهما يصعدان القول ، ويرفعان العمل ، وتانك الشهادتان المقيدتان بذلك القيد ، إنما هو الشهادتان اللتان يقارنهما فعل الواجب وتجنب القبيح ، لانه إن لم يقارنهما ذلك لم يرفعا العمل ، وإذا كان حكمه عليه السلام بعد خفة ميزان هما فيه ، إنما هو على شهادتين مقيدتين لا مطلقتين ، فقد بطل قول من يجعل هذا الكلام حجة للمرجئة .
ثم أخذ في الوصاة بالتقوى ، وقال : " إنها الزاد في الدنيا الذى يزود منه لسفر الآخرة وبها المعاذ ، مصدر من عذت بكذا ، أي لجأت إليه واعتصمت به .
ثم وصفهما - أعنى الزاد والمعاذ - فقال : " زاد مبلغ " ، أي يبلغك المقصد والغاية التى تسافر إليها ، ومعاذ منجح ، أي يصادف عنده النجاح .
دعا إليها : أسمع داع ، يعنى البارئ سبحانه ، لانه أشد الاحياء إسماعا لما يدعوهم إليه وبناء " أفعل " هاهنا من الرباعي ، كما جاء ما أعطاه للمال ، وما أولاه للمعروف ! وأنت أكرم لى من زيد ، أي أشد إكراما ، وهذا المكان أقفر من غيره ، أي أشد إقفارا ، وفي المثل " أفلس من ابن المذلق " (1) ، وروى : " دعا إليها أحسن داع " أي أحسن داع دعا ، ولا بد من تقرير هذا المميز لانه تعالى لا توصف ذاته بالحسن ، وإنما يوصف بالحسن أفعاله .
ووعاها خير واع ، أي من وعاها عنه تعالى وعقلها وأجاب تلك الدعوة ، فهو خير واع .
وقيل : عنى بقوله : " أسمع داع " رسول الله صلى الله عليه وآله ، وعنى بقوله : " خير واع " نفسه ، لانه أنزل فيه : (وتعيها أذن واعية) (2) والاول أظهر .
__________
(1) في القاموس : " وابن المذلق من عبد شمس لم يكن يجد بيت ليلة ، ولا أبوه ولا أجداده ، فقيل : " أفلس من ابن المذلق " .
(2) سورة الحاقة 12 (*)(7/254)
ثم قال : " فأسمع داعيها " أي لم يبق أحدا من المكلفين إلا وقد أسمعه تلك الدعوة وفاز واعيها ، أفلح من فهمها وأجاب إليها ، لا بد من تقدير هذا ، وإلا فأى فوز يحصل لمن فهم ولم يجب ! والتقوى : خشية الله سبحانه ومراقبته في السر والعلن ، والخشية أصل الطاعات ، وإليها وقعت الاشارة بقوله تعالى : (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (1) وقوله سبحانه : (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) (2) .
وقوله : " حتى أسهرت لياليهم ، وأظمأت هواجرهم " من قول العرب " نهاره صائم ، وليله قائم " ، نقلوا الفعل إلى الظرف ، وهو من باب الاتساع الذى يجرون فيه الظروف مجرى المفعول به ، فيقولون : الذى سرته يوم الجمعة ، أي سرت فيه ، وقال : * ويوم شهدناه سليما وعامرا (3) * أي شهدنا فيه سليما ، وقد اتسعوا فاضافوا إلى الظروف فقالوا : يا سارق الليلة أهل الدار (4) * وقال تعالى : (بل مكر الليل والنهار) (5) فأخرجوا بالاضافة عن الظرفية .
قوله عليه السلام : " فأخذوا الراحة النصب " يروى : " فاستبدلوا الراحة " والنصب : التعب .
واستقربوا الاجل : رأوه قريبا .
فإن قلت : لماذا كرر لفظة " الاجل " وفي تكرارها مخالفة لفن البيان ؟ قلت : إنه استعملها في الموضعين بمعنيين مختلفين ، فقوله : " استقربوا الاجل " يعنى المدة .
وقوله : " فلاحظوا الاجل " يعنى الموت نفسه .
__________
(1) سورة الحجر 13 (2) سورة الطارق 2 (3) الكتاب 1 : 9 ، ونسبه لبعض بنى عامر ، وبقيته : * قليل سوى طعن النهال نوافله * (4) الكتاب لسيبويه 1 : 89 ، ونسبه إلى بعض الرجاز .
(5) سورة سبأ 33 .
(*)(7/255)
ويروى : " موتر " و " موتور " بالتشديد .
ولا تؤسى جراحه : لا تطب ولا تصلح ، أسوت الجرح ، أي أصلحته .
ولا ينقع : لا يروى ، شرب حتى نقع ، أي شفى غليله ، وماء ناقع ، وهو كالناجع ، وما رأيت شربة أنقع منها .
وإلى قوله عليه السلام : " يجمع ما لا يأكل ، ويبنى ما لا يسكن " نظر الشاعر ، فقال : أموالنا لذوى الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها وقال آخر : ألم تر حوشبا أمسى يبنى بناء نفعه لبنى بقيله يؤمل أن يعمر عمر نوح وأمر الله يطرق كل ليله قوله : " ومن غيرها أنك ترى المرحوم مغبوطا والمغبوط مرحوما " ، أي يصير الفقير غنيا والغنى فقيرا ، وقد فسره قوم فقالوا : أراد أنك ترى من هو في باطن الامر مرحوم ، مغبوطا ، وترى من هو في باطن الامر مغبوط ، مرحوما ، أي تحسب ذاك وتتخيله ، وهذا التأويل غير صحيح ، لان قوله بعده : " ليس ذلك إلا نعيما زل ، وبؤسا نزل " ، يكذبه ويصدق التفسير الاول .
وأضحى فيها ، من أضحى الرجل إذا برز للشمس .
ثم قال : " لا جاء يرد ولا ماض يرتد " أي يسترد ويسترجع ، أخذه أبو العتاهية فقال : فلا أنا راجع ما قد مضى لى ولا أنا دافع ما سوف يأتي وإلى قوله : " ما أقرب الحى من الميت للحاقه به ، وما أبعد الميت من الحى لانقطاعه عنه " نظر الشاعر ، فقال : يا بعيدا عنى وليس بعيدا من لحاقي به سميع قريب(7/256)
صرت بين الورى غريبا كما أنك تحت الثرى وحيد غريب فإن قلت : ما وجه تقسيمه عليه السلام الامور التى عددها إلى الفناء والعناء ، والغير والعبر ؟ قلت : لقد أصاب الثغرة وطبق المفصل ، أ لا تراه ذكر في الفناء رمى الدهر الانسان عن قوس الردى ، وفي العناء جمع ما لا يأكل ، وبناء ما لا يسكن ، وفي الغير الفقر بعد الغنى والغنى بعد الفقر ، وفي العبر اقتطاع الاجل الامل ، فقد ناط بكل لفظة ما يناسبها .
وقد نظر بعض الشعراء إلى قوله عليه السلام : " ليس شئ بشر من الشر إلا عقابه ، وليس شئ بخير من الخير إلا ثوابه " فقال : خير البضائع للانسان مكرمة تنمى وتزكو إذا بارت بضائعه فالخير خير ، وخير منه فاعله والشر شر ، وشر منه صانعه إلا أن أمير المؤمنين عليه السلام استثنى العقاب والثواب ، والشاعر جعل مكانهما فاعل الخير والشر .
ثم ذكر أن كل شئ من أمور الدنيا المرغبة والمرهبة ، سماعه أعظم من عيانه ، والآخرة بالعكس ، وهذا حق ، أما القضية الاولى فظاهرة ، وقد قال القائل : أهتز عند تمنى وصلها طربا ورب أمنية أحلى من الظفر ولهذا يحرص الواحد منا على الامر ، فإذا بلغه برد وفتر ، ولم يجده كما كان يظن في اللذة .
ويوصف لنا البلد البعيد عنا ، بالخصب والامن والعدل ، وسماح أهله ، وحسن نسائه ، وظرف رجاله ، فإذا سافرنا إليه لم نجده كما وصف ، بل ربما وجدنا القليل من ذلك ، ويوصف لنا الانسان الفاضل بالعلم بفنون من الآداب والحكم ، ويبالغ الواصفون في ذلك .
فإذا اختبرناه وجدناه دون ما وصف ، وكذلك قد يخاف الانسان حبسا أو ضربا أو نحوهما فإذا(7/257)
وقع فيهما هان ما كان يتخوفه ، ووجد الامر دون ذلك ، وكذلك القتل والموت ، فإن ما يستعظمه الناس منهما دون أمرهما في الحقيقة ، وقد قال أبو الطيب - وهو حكيم الشعراء : كل ما لم يكن من الصعب في الانفس سهل فيها إذا هو كانا (1) ويقال في المثل : لج الخوف تأمن .
وأما أحوال الآخرة فلا ريب أن الامر فيها بالضد من ذلك ، لان الذى يتصوره الناس من الجنة أنها أشجار وأنهار ومأكول ومشروب ، وجماع ، وأمرها في الحقيقة أعظم من هذا وأشرف ، لان ملاذها الروحانية المقارنة لهذه الملاذ المضادة لها أعظم من هذه الملاذ بطبقات عظيمة ، وكذلك أكثر الناس يتوهمون أن عذاب النار يكون أياما وينقضى ، كما يذهب إليه المرجئة ، أو أنه لا عذاب بالنار لمسلم أصلا ، كما هو قول الخلص من المرجئة ، وأن أهل النار يألفون عذابها فلا يستضرون به إذا تطاول الامد عليهم ، وأمر العذاب أصعب مما يظنون ، خصوصا على مذهبنا في الوعيد ، ولو لم يكن إلا آلام النفوس باستشعارها سخط الله تعالى عليها ، فإن ذلك أعظم من ملاقاة جرم النار لبدن الحى .
وفي هذا الموضع أبحاث شريفة دقيقة ، ليس هذا الكتاب موضوعا لها .
ثم أمرهم بأن يكتفوا من عيان الآخرة وغيبها بالسماع والخبر ، لانه لا سبيل ونحن في هذه الدار إلى أكثر من ذلك .
وإلى قوله : " ما نقص من الدنيا وزاد في الآخرة ، خير مما نقص من الآخرة وزاد في الدنيا " نظر أبو الطيب ، فقال ، إلا أنه أخرجه في مخرج آخر : بلاد ما اشتهيت رأيت فيها فليس يفوتها إلا كرام (2)
__________
(1) ديوانه 4 : 241 (2) ديوانه 4 : 73 (*)(7/258)
فهلا كان نقص الاهل فيها وكان لاهلها منها التمام ثم قال : " فكم من منقوص في دنياه وهو رابح في آخرته ، وكم من مزيد في دنياه وهو خاسر في آخرته " .
ثم قال : إن الذى أمرتم به أوسع من الذى نهيتم عنه ، وما أحل لكم أكثر مما حرم عليكم " ، الجملة الاولى هي الجملة الثانية بعينها ، وإنما أتى بالثانية تأكيدا للاولى وإيضاحا لها ، ولان فن الخطابة والكتابة هكذا هو ، وينتظم كلتا الجملتين معنى واحد ، وهو أن فيما أحل الله غنى عما حرم ، بل الحلال أوسع ، أ لا ترى أن المباح من المآكل والمشارب أكثر عددا وأجناسا من المحرمات ! فإن المحرم ليس إلا الكلب والخنزير وأشياء قليلة غيرهما ، والمحرم من المشروب الخمر ونحوها من المسكر ، وما عدا ذلك حلال أكله وشربه ، وكذلك القول في النكاح والتسرى فإنهما طريقان مهيعان إلى قضاء الوطر ، والسفاح طريق واحد ، والطريقان أكثر من الطريق الواحد .
فإن قلت : فكيف قال : " إن الذى أمرتم به " فسمى المباح مأمورا به ؟ قلت : سمى كثير من الاصوليين المباح مأمورا به ، وذلك لاشتراكه مع المأمور به في إنه لا حرج في فعله ، فأطلق عليه اسمه .
وأيضا فإنه لما كان كثير من الامور التى عددناها مندوبا أطلق عليه لفظ الامر ، لان المندوب مأمور به ، وذلك كالنكاح والتسرى وأكل اللحوم ، التى هي سبب قوة البدن ، وشرب ما يصلح المزاج من الاشربة التى لا حرج في استعمالها .
وقال بعض العقلاء لبنيه : يا بنى ، إنه ليس شئ من اللذة ناله أهل الخسارة بخسارتهم إلا ناله أهل المروءة والصيانة بمروءتهم وصيانتهم ، فاستتروا بستر الله .
ودخل إنسان على على بن موسى الرضا عليه السلام ، وعليه ثياب مرتفعة القيمة ، فقال : يابن رسول الله ، أ تلبس مثل هذا ؟ فقال له : من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق !(7/259)
ثم أمر بالعمل والعبادة ، ونهى عن الحرص على طلب الرزق ، فقال : إنكم أمرتم بالاول وضمن لكم الثاني ، فلا تجعلوا المضمون حصوله لكم هو المخصوص بالحرص والاجتهاد ، بل ينبغى أن يكون الحرص والاجتهاد فيما أمرتم بعمله وهو العبادة .
وقد يتوهم قوم أنه ارتفع " طلبه " ب " المضنون " ، كقولك : المضروب أخوه ، وهذا غلط لانه لم يضمن طلبه ، وإنما ضمن حصوله ، ولكنه ارتفع ، لانه مبتدأ وخبره أولى ، وهذا المبتدأ والخبر في موضع نصب ، لانه خبر " يكونن " أو ارتفع لانه بدل من " المضنون " ، وهذا أحسن وأولى من الوجه الاول ، وهو بدل الاشتمال .
ثم ذكر أن رجعة العمر غير مرجوة ، ورجعة الرزق مرجوة ، أوضح ذلك بأن الانسان قد يذهب منه اليوم درهم فيستعيضه ، أي يكتسب عوضه في الغد دينارا ، وأما " أمس " نفسه فمستحيل أن يعود ولا مثله ، لان الغد وبعد الغد محسوب من عمره ، وليس عوضا من الامس الذاهب .
وهذا الكلام يقتضى أن العمر مقدور ، وأن المكاسب والارزاق إنما هي بالاجتهاد ، وليست محصورة مقدرة ، وهذا يناقض في الظاهر ما تقدم من قوله : " إن الرزق مضمون فلا تحرصوا عليه " ، فاحتاج الكلام إلى تأويل ، وهو أن العمر هو الظرف الذى يوقع المكلف فيه الاعمال الموجبة له السعادة العظمى ، والمخلصة له من الشقاوة العظمى ، وليس له ظرف يوقعها فيه إلا هو خاصة ، فكل جزء منه إذا فات من غير عمل لما بعد الموت ، فقد فات على الانسان بفواته ما لا سبيل له إلى استدراكه بعينه ولا اغترام مثله ، لان المثل الذى له إنما هو زمان آخر ، وليس ذلك في مقدور الانسان ، والزمان المستقبل الذى يعيش فيه الانسان لم يكتسبه هو لينسب إليه ، فيقال : إنه حصله عوضا مما انقضى وذهب من عمره ، وإنما هو فعل غيره ، ومع ذلك فهو معد ومهيأ لافعال من العبادة توقع فيه ، كما كان الجزء الماضي معدا لافعال(7/260)
توقع فيه فليس أحدهما عوضا عن الآخر ولا قائما مقامه ، وأما المنافع الدنيوية كالمأكل والمشارب والاموال ، فإن الانسان إذا فاته شئ منها قدر على ارتجاعه بعينه ، إن كانت عينه باقية ، وما لا تبقى عينه يقدر على اكتساب مثله ، والرزق وإن كان مضمونا من الله إلا إن للحركة فيه نصيبا ، أما أن يكون شرطا أو أن يكون هو بذاته من أثر قدرة الانسان ، كحركته واعتماده وسائر أفعاله ، ويكون الامر بالتوكل والنهى عن الاجتهاد في طلب الرزق على هذا القول ، إنما هو نهى عن الحرص والجشع والتهالك في الطلب ، فإن ذلك قبيح يدل على دناءة الهمة وسقوطها .
ثم هذه الاغراض الدنيوية إذا حصلت أمثالها بعد ذهابها قامت مقام الذاهب ، لان الامر الذى يراد الذاهب له يمكن حصوله بهذا المكتسب ، وليس كذلك الزمان الذاهب من العمر ، لان العبادات والاعمال التى كان أمس متعينا لها ، لا يمكن حصولها اليوم ، على حد حصولها أمس ، فافترق البابان : باب الاعمال ، وباب الارزاق .
وقوله : " الرجاء مع الجائى ، واليأس مع الماضي " ، كلام يجرى مجرى المثل ، وهو تأكيد للمعنى الاول ، وجعل الجائى مرجوا لانه لا يعلم غيبه ، قال الشاعر : ما مضى فات والمقدر غيب ولك الساعة التى أنت فيها وقوله : " حق تقاته " أي حق تقيته ، أي خوفه ، اتقى يتقى تقية وتقاة ، ووزنها " فعلة " وأصلها الياء ، ومثلها أتخم تخمة ، واتهم تهمة .(7/261)
(114) ومن خطبة له عليه السلام في الاستسقاء : الاصل : اللهم قد انصاحت جبالنا ، واغبرت أرضنا ، وهامت دوابنا ، وتحيرت في مرابضها ، وعجت عجيج الثكالى على أولادها ، وملت التردد في مراتعها ، والحنين إلى مواردها ! اللهم فارحم أنين الآنة ، وحنين الحانة ! اللهم فارحم حيرتها في مذاهبها ، وأنينها في موالجها ! اللهم خرجنا إليك حين اعتكرت علينا حدابير السنين ، وأخلفتنا مخايل الجود ، فكنت الرجاء للمبتئس ، والبلاغ للملتمس .
ندعوك حين قنط الانام ، ومنع الغمام ، وهلك السوام ، ألا تؤاخذنا بأعمالنا ، ولا تأخذنا بذنوبنا ، وانشر علينا رحمتك بالسحاب المنبعق ، والربيع المغدق ، والنبات المونق ، سحا وابلا ، تحيى به ما قد مات ، وترد به ما قد فات .
اللهم سقيا منك محيية مروية ، تامة عامة ، طيبة مباركة ، هنيئة مريئة مريعة ، زاكيا نبتها ، ثامرا فرعها ، ناضرا ورقها ، تنعش بها الضعيف من عبادك ، وتحيى بها الميت من بلادك ! اللهم سقيا منك تعشب بها نجادنا ، وتجرى بها وهادنا ، ويخصب بها جنابنا ، وتقبل بها ثمارنا ، وتعيش بها مواشينا ، وتندى بها أقاصينا ، وتستعين بها ضواحينا ، من بركاتك الواسعة ، وعطاياك الجزيلة ، على بريتك المرملة ، ووحشك المهملة .
وأنزل علينا سماء مخضلة ، مدرارا هاطلة ، يدافع الودق منها الودق ، ويحفز القطر منها(7/262)
القطر ، غير خلب برقها ، ولا جهام عارضها ، ولا قزع ربابها ، ولا شفان ذهابها ، حتى يخصب لامراعها المجدبون ، ويحيا ببركتها المسنتون ، فإنك تنزل الغيث من بعد ما قنطوا ، وتنشر رحمتك وأنت الولى الحميد .
* * * قال الشريف الرضى رحمه الله تعالى : قوله عليه السلام : " انصاحت جبالنا " ، أي تشققت من المحول ، يقال : انصاح الثوب ، إذا انشق .
ويقال أيضا : انصاح النبت ، وصاح وصوح ، إذا جف ويبس ، كله بمعنى .
وقوله : " وهامت دوابنا " أي عطشت ، والهيام : العطش .
وقوله : " حدابير السنين " ، جمع حدبار ، وهى الناقة التى أنضاها السير ، فشبه بها السنة التى فشا فيها الجدب ، قال ذو الرمة : حدابير ما تنفك إلا مناخة على الخسف أو نرمى بها بلدا قفرا (1) وقوله : " ولا قزع ربابها " ، القزع : القطع الصغار المتفرقة من السحاب .
وقوله : " ولا شفان ذهابها " فإن تقديره : " ولا ذات شفان ذهابها " ، والشفان الريح الباردة ، والذهاب : الامطار اللينة ، فحذف " ذات " لعلم السامع به .
* * *
__________
(1) ديوانه 173 ، وروايته : " حراجيج ما تنفك " .
(*)(7/263)
الشرح : يجوز أن يريد بقوله : " وهامت دوابنا " معنى غير ما فسره الشريف الرضى رحمه الله به ، وهو ندودها وذهابها على وجوهها لشدة المحل ، يقول : هام على وجهه ، يهيم هيما وهيمانا .
والمرابض : مبارك الغنم ، وهى لها كالمواطن للابل ، واحدها مربض ، بكسر الباء مثل مجلس ، وعجت : صرخت .
ويحتمل الضمير في " أولادها " أن يرجع إلى الثكالى ، أي كعجيج الثكالى على أولادهن ، ويحتمل أن يرجع إلى الدواب ، أي وعجت على أولادها كعجيج الثكالى ، وإنما وصفها بالتحير في مرابضها ، لانها لشدة المحل تتحير في مباركها ، ولا تدرى ما ذا تصنع ، إن نهضت لترعى لم تجد رعيا ، وإن أقامت كانت إلى انقطاع المادة أقرب ! قوله : " وملت التردد في مراتعها ، والحنين إلى مواردها " ، وذلك لانها أكثرت من التردد في الاماكن التى كانت تعهد مراتعها فيها فلم تجد مرتعا ، فملت الترداد إليها ، وكذلك ملت الحنين إلى الغدران والموارد التى كانت تعتادها للشرب ، فإنها حنت إليها لما فقدتها ، حتى ضجرت ويئست فملت مما لا فائدة لها فيه .
والآنة والحانة : الشاه والناقة ، ويقال : ماله حانة ولا آنة .
وأصل الانين صوت المريض وشكواه من الوصب ، يقال : أن يئن أنينا وأنانا وتأنانا .
والموالج : المداخل ، وإنما ابتدأ عليه السلام بذكر الانعام وما أصابها من الجدب اقتفاء بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله ، ولعادة العرب ، أما سنة رسول الله صلى الله عليه وآله فإنه قال : " لو لا البهائم الرتع ، والصبيان الرضع ، والشيوخ الركع ، لصب(7/264)
عليكم العذاب صبا " ، وقد ذهب كثير من الفقهاء إلى استحباب إخراج البهائم في صلاة الاستسقاء .
وتقدير دعائه عليه السلام : اللهم إن كنت حرمتنا الغيث لسوء أعمالنا ، فارحم هذه الحيوانات التى لا ذنب لها ولا تؤاخذها بذنوبنا .
وأما عادة العرب فإنهم كانوا إذا أصابهم المحل استسقوا بالبهائم ، ودعوا الله بها واسترحموه لها ، ومنهم من كان يجعل في أذناب البقر السلع والعشر (1) ، ويصعد بها في الجبال والتلاع العالية ، وكانوا يسقون بذلك ، وقال الشاعر : أجاعل أنت بيقورا مسلعة ذريعة لك بين الله والمطر (2) فاعتكرت : ردف بعضها بعضا ، وأصل عكر عطف .
والعكرة .
الكرة ، وفي الحديث : قال له قوم : يا رسول الله ، نحن الفرارون .
فقال : " بل أنتم العكارون إن شاء الله (3) .
والبيت الذى ذكره الرضى رحمه الله لذى الرمة ، لا أعرفه إلا " حراجيج " ، وهكذا رأيته بخط ابن الخشاب رحمه الله ، والحرجوج : الناقة الضامرة في طول .
وفيه مسألة نحوية ، وهى أنه كيف نقض النفى من ما " تنفك " وهو غير جائز ، كما لا يجوز ما زال زيد إلا قائما ؟ وجوابها أن تنفك هاهنا تامة ، أي ما تنفصل ، ومناخة منصوب على الحال .
قوله : " وأخلفتنا مخايل الجود " ، أي كلما شمنا برقا ، واختلنا سحابا ، أخلفنا ولم يمطر .
والجود : المطر الغزير .
ويروى : " مخايل الجود " بالضم .
__________
(1) السلع : نبات ، وقيل شجر مر .
والعشر : شجر من العضاه ، وله صمغ حلو .
(2) اللسان 10 : 25 ، ونسبه إلى الورك الطائى .
(3) النهاية لابن الاثير 3 : 120 ، قال في شرحه : " أي الكرارون إلى الحرب ، والعطافون نحوها ، يقال للرجل الذى يولى عن الحرب ثم يكر راجعا إليها : عكر واعتكر " .
(*)(7/265)
والمبتئس : ذو البؤس .
والبلاغ للملتمس ، أي الكفاية للطالب .
وتقول : قنط فلان ، بالفتح ، يقنط ويقنط ، بالسكر والضم ، فهو قانط .
وفيه لغة أخرى قنط بالكسر ، يقنط قنطا ، مثل تعب يتعب تعبا ، وقناطة أيضا ، فهو قنط .
وقرئ : (ولا تكن من القنطين) (1) .
وإنما قال : " ومنع الغمام " ، فبنى الفعل للمفعول به ، لانه كره أن يضيف المنع إلى الله تعالى ، وهو منبع النعم ، فاقتضى حسن الادب أنه لم يسم الفاعل .
وروى " منع الغمام " ، أي ومنع الغمام القطر ، فحذف المفعول .
والسوام : المال الراعى .
فإن قلت : ما الفرق بين " تؤاخذنا " وبين " تأخذنا " ؟ قلت : المؤاخذة دون الاخذ ، لان الاخذ الاستئصال ، والمؤاخذة عقوبة وإن قلت .
والسحاب المنبعق : المتبعج بالمطر ، ومثله المتبعق ، ومثله البعاق .
والربيع المغدق : الكثير .
والنبات المونق : المعجب .
وانتصب " سحا " على المصدر .
والوابل : المطر الشديد .
ثم قال : " تحيى به ما قد مات " ، أي يكاد يتلف بها من الزرع .
وترد به ما قد فات ، أي يستدرك به الناس ما فاتهم من الزرع والحرث .
والسقيا مؤنثة ، وهى الاسم من سقى .
والمريعة : الخصيبة .
و " ثامرا فرعها " : ذو ثمر ، كما قالوا : لابن وتامر ، ذو لبن وتمر .
وتنعش : ترفع .
والنجاد : جمع نجد ، وهو ما ارتفع من الارض .
والوهاد : جمع وهد ، وهو المطمئن منها ، وروى : " نجادنا " بالنصب على أنه مفعول .
__________
(1) سورة الحجر 55 (*)(7/266)
قوله : " وتندى بها أقاصينا " ، أي الاباعد منا .
ويندى بها : ينتفع ، نديت بكذا ، أي انتفعت .
والضواحي : النواحى القريبة من المدينة العظمى .
والمرملة : الفقيرة ، أرمل افتقر ونفد زاده .
ووحشك المهملة : التى لا راعى لها ولا صاحب ولا مشفق .
وسماء مخضلة : تخضل النبت أي تبله ، وروى " مخضلة " أي ذات نبات وزروع مخضلة ، يقال : اخضل النبت اخضلالا ، أي ابتل ، وإنما أنث السماء وهو المطر وهو مذكر ، لانه أراد الامطار .
والودق : المطر .
ويحفز : يدفع بشدة ، وإذا دفع القطر القطر ، كان أعظم وأغزر له .
وبرق خلب : لا مطر معه ، وسحاب جهام : لا ماء فيه .
والمجدبون : أهل الجدب .
والمسنتون : الذين أصابتهم السنة وهى المحل والقحط الشديد .
* * * [ صلاة الاستسقاء وآدابها ] واعلم أن صلاة الاستسقاء عند اكثر الفقهاء سنة .
وقال أبو حنيفة : لا صلاة للاستسقاء .
قال أصحابه : يعنى ليست سنة في جماعة ، وإنما يجوز أن يصلى الناس وحدانا ، قالوا : وإنما الاستسقاء هو الدعاء والاستغفار .
وقال باقى الفقهاء كالشافعي وأبى يوسف ومحمد وغيرهم بخلاف ذلك .
قالوا : وقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وآله صلى بالناس جماعة في الاستسقاء ، فصلى ركعتين ، جهر بالقراءة فيهما وحول رداءه ورفع يديه واستسقى .
قالوا : والسنة أن يكون في المصلى ، وإذا أراد الامام الخروج لذلك وعظ الناس ، وأمرهم بالخروج من المظالم والتوبة من المعاصي ، لان ذلك يمنع القطر .(7/267)
قالوا : وقد روى عن عبد الله بن مسعود أنه قال : إذا بخس المكيال حبس القطر .
وقال مجاهد في قوله تعالى : (ويلعنهم اللاعنون) (1) ، قال : دواب الارض تلعنهم ، يقولون : منعنا القطر بخطاياهم .
قالوا : ويأمر الامام الناس بصوم ثلاثة أيام قبل الخروج ، ثم يخرج في اليوم الرابع وهم صيام ويأمرهم بالصدقة ، ويستسقى بالصالحين من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله كما فعل عمر ، ويحضر معه أهل الصلاح والخير ، ويستسقى بالشيوخ والصبيان .
واختلفوا في إخراج البهائم ، فمنهم من استحب ذلك ، ومنهم من كرهه .
ويكره إخراج أهل الذمة ، فإن حضروا من عند أنفسهم لم يمنعوا .
والغسل والسواك في صلاة الاستسقاء عندهم مسنونان ، ولا يستحب فيهما التطيب ، لان الحال لا يقتضيه .
وينبغى أن يكون الخروج بتواضع وخشوع وإخبات ، كما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله للاستسقاء .
قالوا : ولا يؤذن لهذه الصلاة ولا يقام ، وإنما ينادى لها : الصلاة جامعه ! وهى ركعتان كصلاة العيد ، يكبر في الاولى سبع تكبيرات ، وفي الثانية خمس تكبيرات .
قالوا : ويخطب بعد الصلاة خطبتين ، ويكون دعاء الاستسقاء في الخطبة الاولى .
قالوا : فيقول : اللهم اسقنا غيثا مغيثا ، هنيئا مريئا مريعا ، غدقا مجللا طبقا ، سحا دائما .
اللهم اسقنا الغيث ، ولا تجعلنا من القانطين .
اللهم إن بالعباد والبلاد من اللاواء والضنك والجهد ما لا نشكوه إلا إليك .
اللهم أنبت لنا الزرع وأدر لنا الضرع ، واسقنا من بركات السماء .
اللهم اكشف عنا الجهد والجوع والعرى ، واكشف عنا ما لا يكشفه غيرك .
اللهم إنا نستغفرك ، إنك كنت غفارا ، فأرسل السماء علينا مدرارا .
__________
(1) سورة البقرة 159 (*)(7/268)
قالوا : ويستحب أن يستقبل القبلة في أثناء الخطبة الثانية ، ويحول رداءه فيجعل ما على الايمن على الايسر ، وما على الايسر على الايمن تفاؤلا بتحول الحال .
وكذا روى أن رسول الله صلى الله عليه وآله فعل ، ويستحب للناس أن يحولوا أرديتهم مثله ، ويتركوها كما هي ، ولا يعيدوها إلى حالها الاولى إلا إذا رجعوا إلى منازلهم .
ويستحب أن يدعو في الخطبة الثانية سرا فيجمع بين الجهر والسر ، كما قال سبحانه وتعالى : (إنى أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا (1)) وكقوله تعالى : (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول (2)) .
قالوا : ويستحب رفع اليد في هذا الدعاء ، وأن يكثروا من الاستغفار ، لقوله تعالى : (استغفروا ربكم إنه كان غفارا .
يرسل السماء عليكم مدرارا (3)) ، فإن صلوا واستسقوا فلم يسقوا عادوا من الغد ، وصلوا واستسقوا ، وإن سقوا قبل الصلاة صلوا شكرا وطلبا للزيادة .
قالوا : ويستحب أن يقفوا تحت المطر حتى يصيبهم ، وأن يحسروا له عن رؤوسهم ، وقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وآله حسر عن رأسه حتى أصابه مطر الاستسقاء .
ويستحب إذا سال الوادي أن يغتسلوا فيه ، ويتوضئوا منه .
وقد استحب قوم من الفقهاء أن يخرج الناس للاستسقاء حفاة حاسرين ، والاكثرون على خلاف ذلك .
فأما مذهب الشيعة في هذه المسألة فأن يستقبل الامام القبلة بعد صلاة الركعتين ، فيكبر الله مائة تكبيرة ، ويرفع بها صوته ويكبر من حضر معه ، ثم يلتفت عن يمينه فيسبح الله مائة تسبيحة ، يرفع بها صوته ، ويسبح معه من حضر ، ثم يلتفت عن يساره فيهلل الله
__________
(1) سورة نوح 9 (2) سورة الانعام 63 (3) سورة نوح 10 ، 11 (*)(7/269)
مائة مرة ، يرفع بها صوته ، ويقول من حضر مثل ذلك ، ثم يستقبل الناس بوجهه ، فيحمد الله مائة مرة ، يرفع بها صوته ويقول معه من حضر مثل ذلك ، ثم يخطب بهذه الخطبة المروية عن أمير المؤمنين عليه السلام في الاستسقاء ، فإن لم يتمكن منها اقتصر على الدعاء .
[ أخبار وأحاديث في الاستسقاء ] وجاء في الاخبار الصحيحة رؤيا رقيقة في الجاهلية ، وهى رقيقة بنت أبى صيفي ابن هاشم بن عبد مناف (1) ، قالت رقيقة : تتابعت على قريش سنون أقحلت (2) الضرع وأرقت العظم ، فبينا أنا راقدة (3) اللهم أو مهومة (4) [ ومعى صنوى ] (5) ، إذا أنا بهاتف صيت (6) يصرخ بصوت صحل (7) : يا معشر قريش ! إن هذا النبي المبعوث فيكم قد اظلتكم أيامه ، وهذا إبان نجومه (8) ، فحيهلا (9) بالخصب والحيا (10) .
ألا فانظروا رجلا منكم عظاما جساما (11) ، أبيض بضا ، أوطف الاهداب (12) ،
__________
(1) وكانت لدة عبد المطلب بن هاشم .
(2) أقحلت ، من قحل قحولا ، وقحل قحلا إذا يبس .
(3) الرقود : النوم بالليل المستحكم الممتد ، ومنه قولهم : طريق مرقد ، إذا كانت بينا ممتدا .
(4) هوموا وتهوموا ، إذا هزوا هامهم من النعاس .
(5) من الفائق .
(6) الصيت : فيعل ، من صات يصوت ويصات كالميت من مات ، ويقال في معناه : صائت وصات ومصوات .
(7) الصحل : الذى في صوته ما يذهب بجدته ، وهو مستلذ في السمع .
(8) إبان نجومه : وقت ظهوره ، وهو فعلان من أب الشئ إذا تهيأ .
(9) فحيهلا ، بألف مزيدة ، ويجوز التنوين والتنكير ، أي عجل .
(10) الحيا : المطر ، لانه حياة الارض .
(11) الفائق : " طوالا " .
(12) أوطف الاهداب : طويلها .
(*)(7/270)
سهل الخدين ، أشم العرنين ، له سنة (1) تهدى إليه .
ألا فليخلص (2) هو وولده ، وليدلف إليه من كل بطن رجل ، ألا فليشنوا (3) عليهم من الماء ، وليمسوا من الطيب ، وليطوفوا بالبيت سبعا ، وليكن فيهم الطيب الطاهر [ لداته ] (4) فليستق الرجل ، وليؤمن القوم .
ألا فغثتم إذا ما شئتم .
قالت : فأصبحت - علم الله - مذعورة قد (6) قف جلدى ، ووله عقلي ، فاقتصصت رؤياي على الناس ، فذهبت في شعاب مكة ، فو الحرمة والحرم ، إن بقى أبطحي إلا وقال : هذا شيبة الحمد (7) .
فتتامت (8) رجال قريش ، وانقض إليه من كل بطن رجل ، فشنوا عليهم ماء ، ومسوا طيبا ، واستلموا واطوفوا ، ثم ارتقوا أبا قبيس ، وطفق القوم يدفون حول (9) عبد المطلب ، ما إن يدرك سعيهم مهله (10) ، حتى استقروا بذروة الجبل ، واستكفوا (11) جانبيه .
فقام فاعتضد ابن ابنه محمدا صلى الله عليه وآله ، فرفعه على عاتقه ، وهو يومئذ غلام
__________
(1) الفائق : له فخر .
(2) فليخلص : فليتميز هو وولده من الناس .
(3) شن الماء : صبه على رأسه .
(4) زيادة من الفائق ، قال في شرحه : يعنى أن مولده ومولد من مضى من آبائه كلها موصوف بالطهر والزكاء ، أو يراد أترابه ، وذكر الاتراب أسلوب من أساليبهم في تثبيت الصفة وتمكينها .
(5) غثتم : مطرتم .
(6) قف شعرى : تقبض .
(7) قال الزمخشري : اسم عبد المطلب عامر ، وإنما قيل له شيبة الحمد لسشيبة كانت في رأسه ، وعبد المطلب ، لان هاشما تزوج سلمى بنت زيد النجارية ، فولدته ، فلما توفى هاشم وشب الغلام انتزعه المطلب عمه من أمه ، وأردفه على راحلته ، وقدم به مكة .
فقال الناس : أردف المطلب عبده .
(8) التتام : التوافر .
(9) الدفيف : المر السريع .
(10) المهل ، بالاسكان : التؤدة ، أي لا يدرك إسراعهم إبطاءه .
(11) استكفوا : أحدقوا ، من الكفة وهى ما استدار .
(*)(7/271)
قد أيقع أو كرب (1) ، ثم قال : اللهم ساد الخلة وكاشف الكربة ، أنت عالم غير معلم ، ومسئول غير مبخل ، وهذه عبداؤك (2) وإماؤك بعذارات (3) حرمك ، يشكو إليك سنتهم التى أذهبت الخف والظلف ، فاسمعن اللهم ، وأمطرن علينا غيثا مغدقا مريعا سحا طبقا دراكا .
قالت : فو رب الكعبة ما راموا حتى انفجرت السماء بمائها واكتظ الوادي ثجثجه (4) وانصرف الناس يقولون لعبد المطلب : هنيئا لك سيد البطحاء ! وفي رواية أبى عبيدة معمر بن المثنى قال : فسمعنا شيخان (5) قريش وجلتها : عبد الله بن جدعان وحرب بن أمية وهشام بن المغيرة ، يقولون لعبد المطلب : هنيئا لك ، أبا البطحاء (6) ! وفي ذلك قال شاعر من قريش وقد روى هذا الشعر لرقيقة : بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا وقد فقدنا الحيا واجلوذ المطر (7) فجاد بالماء وسمى له سبل سحا ، فعاشت به الانعام والشجر (8) * * * وفي الحديث من رواية أنس بن مالك : أصاب أهل المدينة قحط على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقام إليه رجل وهو يخطب يوم جمعة ، فقال : يا رسول الله ، هلك الشاء ، هلك الزرع (9) ، ادع الله لنا أن يسقينا ، فمد عليه السلام يده ودعا واستسقى ،
__________
(1) كرب ، أي قرب من الايفاع .
(2) العبداء والعبدى : العبيد .
(3) العذرات : جمع العذرة ، وهى الفناء (4) الثجيج : المثجوج ، أي المصبوب .
(5) الشيخان : جمع شيخ ، كالضيفان في جمع ضيف .
(6) الخبر في الفائق بشرح 2 : 214 - 317 (7) اجلوذ المطر ، أي امتد وقت تأخره وانقطاعه .
(8) سبل ، أي مطر جود هاطل .
(9) سنن أبى داود : " هلك الكراع ، هلك الشاء " .
(*)(7/272)
وإن السماء كمثل الزجاجة ، فهاجت ريح ثم أنشأت سحابا ، ثم اجتمع ، ثم أرسلت عزاليها (1) ، فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا ، ودام القطر ، فقام إليه الرجل في اليوم الثالث : فقال : يا رسول الله ، تهدمت البيوت ، ادع الله أن يحبسه عنا .
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله ، ثم رفع يده : وقال : " اللهم حوالينا ولا علينا " .
قال أنس : فو الذى بعث محمدا بالحق ، لقد نظرت إلى السحاب ، وإنه لقد انجاب حول المدينة كالاكليل (2) .
* * * وفي حديث عائشة أنه عليه السلام استسقى حين بدأ قرن الشمس ، فقعد على المنبر ، وحمد الله وكبره ، ثم قال : إنكم شكوتم جدب دياركم ، وقد أمركم الله أن تدعوه ، ووعدكم أن يستجيب لكم فادعوه .
ثم رفع صوته فقال : " اللهم إنك أنت الغنى ، ونحن الفقراء ، فأنزل علينا الغيث ، ولا تجعلنا من القانطين .
اللهم اجعل ما تنزله علينا قوة لنا ، وبلاغا إلى حين ، برحمتك يا أرحم الراحمين " .
فأنشأ الله سحابا ، فرعدت وبرقت ، ثم أمطرت ، فلم يأت عليه السلام منزله ، حتى سالت السيول ، فلما رأى سرعتهم إلى الكن ضحك حتى بدت نواجذه ، وقال : أشهد أنى عبد الله ورسوله ، وأن الله على كل شئ قدير (3) .
* * * ومن دعائه عليه السلام في الاستسقاء ، وقد رواه الفقهاء وغيرهم : " اللهم اسقنا وأغثنا ، اللهم اسقنا غيثا مغيثا وحيا ربيعا ، [ وجدا ] (4) طبقا ، غدقا مغدقا (5) ، مونقا (6) ، عاما ،
__________
(1) العزالى في الاصل : جمع عزلاء ، وهو مصب الماء من الراوية ، ويريد شدة وقع المطر ، على التشبيه .
(2) الحديث في سنن أبى داود 1 : 416 ، مع اختلاف في الرواية .
(3) الحديث في سنن أبى داود 1 : 416 ، مع اختلاف الرواية أيضا .
(4) من الفائق ، والجدا : والطبق مثله .
(5) المغدق : الكثير المطر .
(6) مونقا : معجبا .
(*)(7/273)
هنيئا مريئا ، مريعا مربعا (1) مرتعا (2) وابلا سابلا (3) مسيلا ، مجللا (4) ، درا ، نافعا غير ضار ، عاجلا غير رائث (5) .
غيثا اللهم تحيى به العباد ، وتغيث به البلاد ، وتجعله بلاغا للحاضر منا والباد ، اللهم أنزل علينا في أرضنا زينتها ، وأنزل علينا في أرضنا سكنها .
اللهم أنزل علينا ماء طهورا ، فأحى به بلدة ميتا ، واسقه مما خلقت لنا أنعاما وأناسى كثيرا " (6) .
* * * وروى عبد الله بن مسعود أن عمر بن الخطاب خرج يستسقى بالعباس ، فقال : اللهم إنا نتقرب إليك بعم نبيك وقفية (7) آبائه وكبر (8) رجاله ، فإنك قلت ، وقولك الحق : (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة ...
) الآية ، فحفظتهما لصلاح أبيهما ، فاحفظ اللهم نبيك في عمه فقد دلونا به إليك مستشفعين ومستغفرين .
ثم أقبل على الناس ، فقال : استغفروا ربكم إنه كان غفارا .
قال ابن مسعود : رأيت العباس يومئذ وقد طال عمر ، وعيناه تنضحان ، وسبائبه تجول على صدره ، وهو يقول : اللهم أنت الراعى فلا تهمل الضالة ، ولا تدع الكسير بدار مضيعة فقد ضرع الصغير ، ورق الكبير ، وارتفعت الشكوى ، وأنت تعلم السر وأخفى .
اللهم أغثهم بغياثك من قبل أن يقنطوا فيهلكوا ، إنه لا ييأس من رحمة الله إلا القوم الكافرون (9) .
__________
(1) المريع : ذو المراعة ، وهى الخصب .
والمربع : الذى يربعهم عن الارتياد ، من ربعت بالمكان وأربعنى .
(2) المرتع : المنبت ما يرتع فيه .
(3) السابل ، من قولهم : سبل سابل ، أي مطر ماطر .
(4) المجلل : الذى يجلل الارض بمائه أو بنباته .
(5) الرائث : البطئ .
(6) الفائق للزمخشري 1 : 317 ، 318 (7) قفية آبائه : تلوهم وتابعهم (8) كبر قومه : أقعدهم في النسب .
(9) الخبر في الفائق 2 : 366 .
(*)(7/274)
قال : فنشأت طريرة (1) من سحاب ، وقال الناس : ترون ترون ! ثم تلاءمت واستتمت ومشت فيها ريح ، ثم هدت (2) ودرت ، فو الله ما برحوا حتى اعتلقوا الاحذية ، وقلصوا المآزر ، وطفق الناس يلوذون بالعباس ، يمسحون أركانه ، ويقولون : هنيئا لك ساقى الحرمين (3) !
__________
(1) الطريرة : تصغير طرة ، وهى القطعة المستطيلة من السحاب ، شبهت بطرة الثوب .
(2) هدت من الهدة ، وهى صوت ما يقع من السماء (3) قال الزمخشري : " سمى ساقى الحرمين بهذه السقيا .
(*)(7/275)
(115) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : أرسله داعيا إلى الحق ، وشاهدا على الخلق ، فبلغ رسالات ربه ، غير وان ولا مقصر ، وجاهد في الله أعداءه ، غير واهن ولا معذر ، إمام من اتقى ، وبصر من اهتدى .
* * * الشرح : قوله : " وشاهدا على الخلق " ، أي يشهد على القوم الذين بعث إليهم ، وشهد لهم ، فيشهد على العاصى بالعصيان والخلاف ، ويشهد للمطيع بالاطاعة والاسلام ، وهذا من قوله سبحانه وتعالى : (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) (1) .
ومن قوله تعالى : (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم) (2) .
فإن قلت : إذا كان الله تعالى عالما بكل شئ ، ومالكا لكل أحد ، فأى حاجة إلى الشهادة ؟ قلت : ليس بمنكر أن يكون في ذلك مصلحة للمكلفين في أديانهم ، من حيث إنه قد تقرر في عقول الناس ، أن من يقوم عليه شاهد بأمر منكر قد فعله ، فإنه يخزى
__________
(1) سورة النساء 41 (2) سورة المائدة 117 (*)(7/276)
ويخجل وتنقطع حجته ، فإذا طرق أسماعهم أن الانبياء تشهد عليهم ، والملائكة الحافظين تكتب أعمالهم ، كانوا عن مواقعة القبيح أبعد .
والواني : الفاتر الكال .
والواهن : الضعيف .
والمعذر : الذى يعتذر عن تقصيره بغير عذر ، قال تعالى : (وجاء المعذرون من الاعراب) (1) .
* * * الاصل : منها : ولو تعلمون ما أعلم مما طوى عنكم غيبه ، إذا لخرجتم إلى الصعدات ، تبكون على أعمالكم ، وتلتدمون على أنفسكم ، ولتركتم أموالكم لا حارس لها ، ولا خالف عليها ، ولهمت كل امرئ منكم نفسه ، لا يلتفت إلى غيرها ، ولكنكم نسيتم ما ذكرتم ، وأمنتم ما حذرتم ، فتاه عنكم رأيكم ، وتشتت عليكم أمركم .
ولوددت أن الله فرق بينى وبينكم ، وألحقني بمن هو أحق بى منكم ، قوم والله ميامين الرأى ، مراجيح الحلم ، مقاويل بالحق ، متاريك للبغي ، مضوا قدما على الطريقة ، وأوجفوا على المحجة ، فظفروا بالعقبى الدائمة والكرامة الباردة .
أما والله ليسلطن عليكم غلام ثقيف الذيال الميال ، يأكل خضرتكم ، ويذيب شحمتكم .
إيه أبا وذحة !
__________
(1) سورة التوبة 90 (*)(7/277)
قال الرضى رحمه الله تعالى : الوذحة : الخنفساء ، وهذا القول يومئ به إلى الحجاج ، وله مع الوذحة حديث ليس هذا موضع ذكره .
* * * الشرح : الصعيد : التراب ، ويقال وجه الارض ، والجمع صعد وصعدات ، كطريق وطرق وطرقات .
والالتدام : ضرب النساء صدورهن في النياحة .
ولا خالف عليها : لا مستخلف .
قوله : " ولهمت كل امرئ منكم نفسه " ، أي أذابته وأنحلته ، هممت الشحم ، أي أذبته .
ويروى : " ولاهمت كل امرئ " ، وهو أصح من الرواية الاولى ، أهمنى الامر ، أي أحزنني .
وتاه عن فلان رأيه ، أي عزب وضل .
ثم ذكر أنه يود ويتمنى أن يفرق الله بينه وبينهم ، ويلحقه بالنبي صلى الله عليه وآله وبالصالحين من أصحابه ، كحمزة وجعفر عليهما السلام وامثالهما ، ممن كان أمير المؤمنين يثنى عليه .
ويحمد طريقته من الصحابة .
فمضوا قدما ، أي متقدمين غير معرجين ولا معردين (1) .
وأوجفوا : أسرعوا .
ويقال : غنيمة باردة وكرامة باردة ، أي لم تؤخذ بحرب ولا عسف ، وذلك لان المكتسب بالحرب جار في المعنى لما يلاقى ويعاني في حصوله من المشقة .
وغلام ثقيف المشار إليه ، هو الحجاج بن يوسف .
والذيال : التائه ، وأصله من " ذال " أي تبختر ، وجر ذيله على الارض .
والميال : الظالم .
ويأكل خضرتكم : يستأصل أموالكم .
ويذيب شحمتكم مثله ، وكلتا اللفظتين استعارة .
__________
(1) يقال : عرد الرجل عن قرنه ، إذا أحجم ونكل .
(*)(7/278)
ثم قال له كالمخاطب لانسان حاضر بين يديه : " إيه أبا وذحة " ، إيه : كلمة يستزاد بها من الفعل ، تقديره : زد وهات أيضا ما عندك ، وضدها إيها ، أي كف وأمسك .
قال الرضى رحمه الله : والوذحة الخنفساء ، ولم أسمع هذا من شيخ من أهل الادب ، ولا وجدته في كتاب من كتب اللغة ، ولا أدرى من أين نقل الرضى رحمه الله ذلك ! ثم إن المفسرين بعد الرضى رحمه الله قالوا في قصة هذه الخنفساء وجوها : منها أن الحجاج رأى خنفساء تدب إلى مصلاه ، فطردها فعادت ، ثم طردها فعادت ، فأخذها بيده ، وحذف بها ، فقرصته قرصا ورمت يده منها ورما كان فيه حتفه ، قالوا : وذلك لان الله تعالى قتله بأهون مخلوقاته ، كما قتل نمرود بن كنعان بالبقة التى دخلت في أنفه ، فكان فيها هلاكه .
ومنها أن الحجاج كان إذا رأى خنفساء تدب قريبة منه ، يأمر غلمانه بإبعادها ، ويقول : هذه وذحة من وذح الشيطان ، تشبيها لها بالبعرة ، قالوا : وكان مغرى بهذا القول ، والوذح : ما يتعلق بأذناب الشاة من أبعارها فيجف .
ومنها أن الحجاج قال وقد رأى خنفساوات مجتمعات : وا عجبا لمن يقول إن الله خلق هذه ! قيل : فمن خلقها أيها الامير ؟ قال : الشيطان ، إن ربكم لاعظم شأنا أن يخلق هذه الوذح ! قالوا : فجمعها على " فعل " كبدنة وبدن ، فنقل قوله هذا إلى الفقهاء في عصره ، فأكفروه .
ومنها أن الحجاج كان مثفارا (1) ، وكان يمسك الخنفساء حية ليشفى بحركتها في الموضع حكاكه .
قالوا : ولا يكون صاحب هذا الداء إلا شائنا مبغضا لاهل البيت .
قالوا : ولسنا نقول كل مبغض فيه هذا الداء ، وإنما قلنا : كل من فيه هذا الداء فهو مبغض .
قالوا : وقد روى أبو عمر الزاهد - ولم يكن من رجال الشيعة - في أماليه وأحاديثه عن السيارى
__________
(1) رجل مثفار : نعت سوء .
(*)(7/279)
عن أبى خزيمة الكاتب ، قال : ما فتشنا أحدا فيه هذا الداء إلا وجدناه ناصبيا .
قال أبو عمر : وأخبرني العطافى عن رجاله ، قالوا : سئل جعفر بن محمد عليه السلام عن هذا الصنف من الناس ، فقال رحم منكوسة يؤتى ولا يأتي ، وما كانت هذه الخصلة في ولى لله تعالى قط ، ولا تكون أبدا ، وإنما تكون في الكفار والفساق والناصب للطاهرين .
وكان أبو جهل عمرو بن هشام المخزومى من القوم ، وكان أشد الناس عداوة لرسول الله صل عليه وآله ، قالوا : ولذلك قال له عتبة بن ربيعة يوم بدر : يا مصفر استه .
فهذا مجموع ما ذكره المفسرون ، وما سمعته من أفواه الناس في هذا الموضع ، ويغلب على ظنى أنه أراد معنى آخر ، وذلك أن عادة العرب أن تكنى الانسان إذا أرادت تعظيمه بما هو مظنة التعظيم ، كقولهم : أبو الهول ، وأبو المقدام ، وأبو المغوار ، فإذا أرادت تحقيره والغض منه كنته بما يستحقر ويستهان به ، كقولهم في كنية يزيد بن معاوية : أبو زنة ، يعنون القرد ، وكقولهم في كنية سعيد بن حفص البخاري المحدث : أبو الفار ، وكقولهم للطفيلي : أبو لقمة ، وكقولهم لعبد الملك : ابو الذبان لبخره ، وكقول ابن بسام لبعض الرؤساء : فأنت لعمري أبو جعفر ولكننا نحذف الفاء منه وقال أيضا : لئيم درن الثوب نظيف القعب والقدر أبو النتن ، أبو الدفر أبوالبعر أبوالجعر فلما كان أمير المؤمنين عليه السلام يعلم من حال الحجاج نجاسته بالمعاصى والذنوب ،(7/280)
التى لو شوهدت بالبصر لكانت بمنزلة البعر الملتصق بشعر الشاء ، كناه " أبو وذحة " .
ويمكن أيضا أن يكنيه بذلك لدمامته في نفسه ، وحقارة منظره ، وتشويه خلقته ، فإنه كان قصيرا دميما نحيفا ، أخفش العينين معوج الساقين ، قصير الساعدين ، مجدور الوجه ، أصلع الرأس ، فكناه بأحقر الاشياء ، وهو البعرة .
وقد روى قوم هذه اللفظة بصيغة أخرى ، فقالوا : " إيه أبا ودجة " ، قالوا : واحدة الاوداج ، كناه بذلك لانه كان قتالا يقطع الاوداج بالسيف ، ورواه قوم " أبا وحرة " ، وهى دويبة تشبه الحرباء قصيرة الظهر ، شبهه بها .
وهذا وما قبله ضعيف ، وما ذكرناه نحن أقرب إلى الصواب .(7/281)
(116) الاصل : ومن كلام له عليه السلام : فلا أموال بذلتموها للذى رزقها ، ولا أنفس خاطرتم بها للذى خلقها ، تكرمون بالله على عباده ، ولا تكرمون الله في عباده ! فاعتبروا بنزولكم منازل من كان قبلكم ، وانقطاعكم عن أوصل إخوانكم ! * * * الشرح : انتصاب " الاموال " بفعل مقدر دل عليه " بذلتموها " وكذلك " أنفس " ، يقول : لم تبذلوا أموالكم في رضا من رزقكم إياها ، ولم تخاطروا بأنفسكم في رضا الخالق لها ، والاولى بكم أن تبذلوا المال في رضا رازقه ، والنفس في رضا خالقها ، لانه ليس أحد أحق منه بالمال والنفس وبذلهما في رضاه .
ثم قال : من العجب أنكم تطلبون من عباد الله أن يكرموكم ويطيعوكم لاجل الله ، وانتمائكم إلى طاعته ، ثم إنكم لا تكرمون الله ولا تطيعونه في نفع عباده ، والاحسان إليهم .
ومحصول هذا القول : كيف تسيمون الناس أن يطيعوكم لاجل الله ، ثم إنكم أنتم لا تطيعون الله ، الذى تكلفون الناس أن يطيعوكم لاجله ! ثم أمرهم باعتبارهم بنزولهم منازل من كان قبلهم ، وهذا مأخوذ من قوله(7/282)
تعالى : (وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الامثال) (1) .
وروى عن " أصل إخوانكم " وذلك بموت الاب ، فإنه ينقطع أصل الاخ الواشج بينه وبين أخيه ، والرواية الاولى أظهر .
__________
(1) سورة إبراهيم 45 (*)(7/283)
(117) الاصل : ومن كلام له عليه السلام : أنتم الانصار على الحق ، والاخوان في الدين ، والجنن يوم البأس ، والبطانة دون الناس ، بكم أضرب المدبر ، وأرجو طاعة المقبل ، فأعينوني بمناصحة خلية من الغش ، سليمة من الريب ، فو الله إنى لاولى الناس بالناس ! * * * الشرح : الجنن : جمع جنة ، وهى ما يستر به .
وبطانة الرجل : خواصه وخالصته الذين لا يطوى عنهم سره .
فإن قلت : أما ضربه بهم المدبر فمعلوم ، يعنى الحرب ، فما معنى قوله عليه السلام : " وأرجو طاعة المقبل " ؟ قلت : لان من ينضوى إليه من المخالفين إذا رأى ما عليه شيعته وبطانته من الاخلاق الحميدة ، والسيرة الحسنة ، أطاعه بقلبه باطنا ، بعد أن كان انضوى إليه ظاهرا .
واعلم أن هذا الكلام قاله أمير المؤمنين عليه السلام للانصار بعد فراغه من حرب الجمل ، وقد ذكره المدائني والواقدى في كتابيهما (1) .
__________
(1) كتاب الجمل للمدائني ، ذكره ابن النديم في الفهرست 10 ، وكتاب الجمل للواقدي ذكره أيضا ابن النديم في ص 99 .
(*)(7/284)
(118) الاصل : ومن كلام له عليه السلام وقد جمع الناس ، وحضهم على الجهاد ، فسكتوا مليا ، فقال عليه السلام : ما بالكم ! أمخرسون أنتم ؟ فقال قوم منهم : يا أمير المؤمنين ، إن سرت سرنا معك .
فقال عليه السلام : ما بالكم ، لاسددتم لرشد ! ولاهديتم لقصد أفى مثل هذا ينبغى لى أن أخرج ! وإنما يخرج في مثل هذا رجل ممن أرضاه من شجعانكم ، وذوى بأسكم ، ولا ينبغى لى أن أدع الجند والمصر وبيت المال وجباية الارض ، والقضاء بين المسلمين ، والنظر في حقوق المطالبين ، ثم أخرج في كتيبة أتبع أخرى ، أتقلقل تقلقل القدح في الجفير الفارغ .
وإنما أنا قطب الرحى ، تدور على وأنا بمكانى ، فإذا فارقته استحار مدارها ، واضطرب ثفالها .
هذا لعمر الله الرأى السوء ، والله لو لا رجائي الشهادة عند لقائي العدو ، ولو قد حم لى لقاؤه ، لقربت ركابي ، ثم شخصت عنكم فلا أطلبكم ، ما اختلف جنوب وشمال ، طعانين عيابين ، حيادين رواغين .
إنه لا غناء في كثرة عددكم ، مع قلة اجتماع قلوبكم ، لقد حملتكم على الطريق الواضح التى لا يهلك عليها إلا هالك .
من استقام فإلى الجنة ، ومن زل فإلى النار ! * * *(7/285)
الشرح : سكتوا مليا ، أي ساعة طويلة ، ومضى ملى من النار كذلك ، قال الله تعالى : (واهجرني مليا) (1) .
وأقمت عند فلان ملاوة ، وملاوة ، وملاوة من الدهر ، بالحركات الثلاث ، أي حينا وبرهة ، وكذلك أقمت ملوة وملوة وملوة ، بالحركات الثلاث .
وقوله : " أمخرسون أنتم ؟ " اسم المفعول من أخرسه الله ، وخرس الرجل ، والخرس المصدر .
والكتيبة : قطعة من الجيش .
والتقلقل : الحركة في اضطراب .
والقدح : السهم .
والجفير : الكنانة ، وقيل وعاء للسهام أوسع من الكنانة .
واستحار مدارها : اضطرب ، والمدار هاهنا مصدر .
والثفال بكسر الثاء : جلد يبسط وتوضع الرحا فوقه ، فيطحن باليد ليسقط عليه الدقيق .
وحم : أي قدر ، والركاب : الابل ، وشخصت عنكم : خرجت .
ثم وصفهم بعيب الناس والطعن فيهم ، وأنهم يحيدون عن الحق وعن الحرب ، أي ينحرفون ويروغون كما يروغ الثعلب .
ثم قال : إنه لا غناء عندكم وإن اجتمعتم بالابدان مع تفرق القلوب .
والغناء ، بالفتح والمد : النفع .
وانتصب " طعانين " على الحال من الضمير المنصوب في " أطلبكم " .
* * *
__________
(1) سورة مريم 46 (*)(7/286)
وهذا كلام قاله أمير المؤمنين عليه السلام في بعض غارات أهل الشام على أطراف أعماله بالعراق بعد انقضاء أمر صفين والنهروان ، وقد ذكرنا سببه و وقعته فيما تقدم .
فإن قلت : كيف قال : الطريق الواضح ، فذكره ، ثم قال : " لا يهلك فيها " فأنثه ؟ قلت : لان الطريق يذكر ويؤنث ، تقول : الطريق الاعظم والطريق العظمى ، فاستعمل اللغتين معا .(7/287)
(119) الاصل : ومن كلام له عليه السلام : تالله لقد علمت تبليغ الرسالات ، وإتمام العدات ، وإتمام الكلمات ، وعندنا - أهل البيت - أبواب الحكم ، وضياء الامر .
ألا وإن شرائع الدين واحدة ، وسبله قاصدة ، من أخذ بها لحق وغنم ، ومن وقف عنها ضل وندم .
اعملوا ليوم تذخر له الذخائر ، وتبلى فيه السرائر ، ومن لا ينفعه حاضر لبه فعازبه عنه أعجز ، وغائبه أعوز .
واتقوا نارا حرها شديد ، وقعرها بعيد ، وحليتها حديد ، وشرابها صديد .
ألا وإن اللسان الصالح يجعله الله تعالى للمرء في الناس ، خير له من المال يورثه من لا يحمده .
* * * الشرح : رواها قوم " لقد علمت " بالتخفيف وفتح العين ، والرواية الاولى أحسن ، فتبليغ الرسالات تبليغ الشرائع بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله إلى المكلفين ، وفيه إشارة إلى قوله تعالى : (يبغلون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله) (1) ، وإلى قول النبي صلى الله عليه وآله في قصة براءة : " لا يؤدى عنى إلا أنا ورجل منى " .
__________
(1) سورة الاحزاب 39 .
(*)(7/288)
وإتمام العدات : إنجازها ، وفيه إشارة إلى قوله تعالى : (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) (1) ، وإلى قول النبي صلى الله عليه وآله في حقه عليه السلام : " قاضى دينى ومنجز موعدى " .
وتمام الكلمات تأويل القرآن ، وفيه إشارة إلى قوله تعالى : (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا) (2) ، وإلى قول النبي في حقه عليه السلام : اللهم اهد قلبه ، وثبت لسانه " .
وخلاصة : هذا أنه أقسم بالله أنه قد علم ، أو علم - على اختلاف الروايتين - أداء الشرائع إلى المكلفين ، والحكم بينهم بما أنزله الله ، وعلم مواعيد رسول الله التى وعد بها ، فمنها ما هو وعد لواحد من الناس بأمر ، نحو أن يقول له : سأعطيك كذا ، ومنها ما هو وعد بأمر يحدث ، كإخبار الملاحم والامور المتجددة ، وعلم تمام كلمات الله تعالى ، أي تأويلها وبيانها الذى يتم به ، لان في كلامه تعالى المجمل الذى لا يستغنى عن متمم ومبين يوضحه .
ثم كشف الغطاء وأوضح المراد فقال : " وعندنا - أهل البيت .
أبواب الحكم " ، يعنى الشرعيات والفتاوى .
وضياء الامر يعنى العقليات والعقائد ، وهذا مقام عظيم لا يجسر أحد من المخلوقين يدعيه سواه عليه السلام ، ولو أقدم أحد على إدعائه غيره لكذب وكذبه الناس .
و " أهل البيت " منصوب على الاختصاص .
وسبله قاصدة ، أي قريبة سهلة ، ويقال : بيننا وبين الماء ليلة قاصدة ورافهة ، أي هينة المسير لا تعب ولا بطء .
وتبلى فيه السرائر ، أي تختبر .
ثم قال : من لا ينفعه لبه الحاضر وعقله الموجود فهو بعدم الانتفاع بما هو غير حاضر
__________
(1) سورة الاحزاب 23 (2) سورة الانعام 115 (*)(7/289)
ولا موجود من العقل عنده أولى وأحرى ، أي من لم يكن له من نفسه ومن ذاته وازع وزاجر عن القبيح ، فبعيد أن ينزجر ، وأن يرتدع بعقل غيره وموعظة غيره له كما قيل : .........
وزاجر (1) .
ثم ذكر النار فحذر منها .
وقوله : " حليتها حديد " يعنى القيود والاغلال .
ثم ذكر أن الذكر الطيب يخلفه الانسان بين الناس خير له من مال يجمعه ويورثه من لا يحمده ، وجاء في الاثر أن أمير المؤمنين عليه السلام جاءه مخبر فأخبره أن مالا له قد انفجرت فيه عين خرارة ، يبشره بذلك ، فقال : بشر الوارث ، بشر الوارث ، يكررها ، ثم وقف ذلك المال على الفقراء ، وكتب به كتابا في تلك الساعة .
__________
(1) كذا في الاصول .
(*)(7/290)
(120) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : وقد قام إليه رجل من أصحابه ، فقال : نهيتنا عن الحكومة ثم أمرتنا بها ، فما ندر أي الامرين أرشد .
فصفق عليه السلام إحدى يديه على الاخرى ، ثم قال : هذا جزاء من ترك العقدة ! أما والله لو أنى حين أمرتكم بما أمرتكم به حملتكم على المكروه الذى يجعل الله فيه خيرا ، فإن استقمتم هديتكم ، وإن اعوججتم قومتكم ، وإن أبيتم تداركتكم ، لكانت الوثقى ، ولكن بمن وإلى من ! أريد أن أداوى بكم وأنتم دائي ، كناقش الشوكة بالشوكة ، وهو يعلم أن ضلعها معها ! اللهم قد ملت أطباء هذا الداء الدوى ، وكلت النزعة بأشطان الركى ! أين القوم الذين دعوا إلى الاسلام فقبلوه ، وقرءوا القرآن فأحكموه ، وهيجوا إلى الجهاد فولهوا وله اللقاح إلى أولادها ، وسلبوا السيوف أغمادها ، وأخذوا بأطراف الارض زحفا زحفا ، وصفا وصفا ، بعض هلك ، وبعض نجا ، لا يبشرون بالاحياء ، ولا يعزون عن الموتى ، مره العيون من البكاء ، خمص البطون من الصيام ، ذبل الشفاه من الدعاء ، صفر الالوان من السهر ، على وجوههم غبرة الخاشعين ، أولئك إخوانى الذاهبون ، فحق لنا أن نظمأ إإليهم ، ونعض الايدى على فراقهم .
إن لشيطان يسنى لكم طرقه ، ويريد أن يحل دينكم عقدة عقدة ، ويعطيكم(7/291)
بالجماعة الفرقة ، وبالفرقة الفتنة ، فاصدفوا عن نزغاته ونفثاته ، واقبلوا النصيحة ممن أهداها إليكم ، واعقلوها على أنفسكم .
* * * الشرح : هذه شبهة من شبهات الخوارج ، ومعناها أنك نهيت عن الحكومة أولا ثم أمرت بها ثانيا ، فإن كانت قبيحة كنت بنهيك عنها مصيبا ، وبأمرك بها مخطئا ، وإن كانت حسنة ، كنت بنهيك عنها مخطئا ، وبأمرك بها مصيبا ، فلا بد من خطئك على كل حال .
وجوابها أن للامام أن يعمل بموجب ما يغلب على ظنه من المصلحة ، فهو عليه السلام لما نهاهم عنها كان نهيه عنها مصلحة حينئذ ، ولما أمرهم بها كانت المصلحة في ظنه قد تغيرت ، فأمرهم على حسب ما تبدل وتغير في ظنه ، كالطبيب الذى ينهى المريض اليوم عن أمر ويأمره بمثله غدا .
وقوله : " هذا جزاء من ترك العقدة " ، يعنى الرأى الوثيق ، وفي هذا الكلام اعتراف بأنه بان له وظهر فيما بعد أن الرأى الاصلح كان الاصرار والثبات على الحرب ، وأن ذلك وإن كان مكروها ، فإن الله تعالى كان يجعل الخيرة فيه ، كما قال سبحانه : (فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) (1) .
ثم قال : كنت أحملكم على الحرب وترك الالتفات إلى مكيدة معاوية وعمرو ، من رفع المصاحف ، فإن استقمتم لى اهتديتم بى ، وإن لم تستقيموا فذلك ينقسم إلى قسمين : أحدهما أن تعوجوا ، أي يقع منكم بعض الالتواء ، ويسير من العصيان ، كفتور الهمة وقلة الجد في الحرب .
والثانى التأني والامتناع المطلق من الحرب ، فإن كان الاول قومتكم
__________
(1) سورة النساء 19 .
(*)(7/292)
بالتأديب والارشاد وإرهاق الهمم والعزائم ، بالتبصير والوعظ والتحريض والتشجيع ، وإن كان الثاني تداركت الامر معكم ، إما بالاستنجاد بغيركم من قبائل العرب وأهل خراسان والحجاز ، فكلهم كانوا شيعته وقائلين بإمامته ، أو بما أراه في ذلك الوقت من المصلحة التى تحكم بها الحال الحاضرة .
قال : لو فعلت ذلك لكانت هي العقدة الوثقى ، أي الرأى الاصوب الاحزم .
فإن قلت : أفتقولون إنه أخطأ في العدول عن هذا الرأى ؟ قلت : لا نقول إنه أخطأ بمعنى الاثم ، لانه إنما فعل ما تغلب على ظنه أنه المصلحة ، وليس الواجب عليه إلا ذلك ، ولكنه ترك الرأى الاصوب كما قال الحسن : " هلا مضيت قدما لا أبالك ! " ، ولا يلحق الاثم من غلب على ظنه في حكم السياسة أمر فاعتمده ، ثم بان له أن الاصوب كان خلافه ، وقد قيل إن قوله : لقد عثرت عثرة لا تنجبر سوف أكيس بعدها وأستمر * وأجمع الرأى الشتيت المنتشر * إشارة إلى هذا المعنى ، وقيل : فيه غير ذلك مما قدمنا ذكره قبل .
وقال شيخنا أبو عثمان الجاحظ رضى الله عنه : من عرفه عرف أنه غير ملوم في الانقياد معهم إلى التحكيم ، فإنه مل من القتل وتجريد السيف ليلا ونهارا ، حتى ملت الدماء من إراقته لها ، وملت الخيل من تقحمه الاهوال بها ، وضجر من دوام تلك الخطوب الجليلة ، والارزاء العظيمة ، واستلاب الانفس ، وتطاير الايدى والارجل بين يديه ، وأكلت الحرب أصحابه وأعداءه ، وعطلت السواعد ، وخدرت الايدى التى سلمت من وقائع السيوف بها ، ولو أن أهل الشام لم يستعفوا من الحرب ، ويستقيلوا من المقارعة والمصادمة ،(7/293)
لادت الحال إلى قعود الفيلقين معا ، ولزومهم الارض وإلقائهم السلاح ، فإن الحال أفضت بعظمها وهو لها إلى ما يعجز اللسان عن وصفه .
* * * واعلم أنه عليه السلام لما قال هذا القول ، واستدرك بكلام آخر حذرا أن يثبت على نفسه الخطأ في الرأى ، فقال : لقد كان هذا رأيا لو كان لى من يطيعني فيه ، ويعمل بموجبه ، وأستعين به على فعله ، ولكن بمن كنت أعمل ذلك ، وإلى من أخلد في فعله ! أما الحاضرون لنصري فأنتم وحالكم معلومة في الخلاف والشقاق والعصيان ، وأما الغائبون من شيعتي كأهل البلاد النائية فإلى أن يصلوا يكون قد بلغ العدو غرضه منى ، ولم يبق من أخلد إليه في إصلاح الامر وإبرام هذا الرأي الذى كان صوابا لو اعتمد ، إلا أن أستعين ببعضكم على بعض ، فأكون كناقش الشوكة بالشوكة ، وهذا مثل مشهور : " لا تنقش الشوكة بالشوكة " .
فإن ضلعها لها ، والضلع الميل ، يقول : لا تستخرج الشوكة الناشبة في رجلك بشوكة مثلها ، فإن إحداهما في القوة والضعف كالاخرى ، فكما أن الاولى انكسرت لما وطئتها فدخلت في لحمك ، فالثانية إذا حاولت إستخراج الاولى بها تنكسر ، وتلج في لحمك .
ثم قال : " اللهم إن هذا الداء الدوى ، قد ملت أطباؤه " ، والدوى : الشديد ، كما تقول : ليل أليل .
وكلت النزعة ، جمع نازع ، وهو الذى يستقى الماء ، والاشطان : جمع شطن ، وهو الحبل .
والركى : الآبار ، جمع ركية ، وتجمع أيضا على ركايا .
ثم قال : أين القوم ! هذا كلام متأسف على أولئك ، متحسر على فقدهم .
والوله : شدة الحب حتى يذهب العقل ، وله الرجل .
واللقاح : بكسر اللام : الابل ، والواحدة لقوح ، وهى الحلوب ، مثل قلاص وقلوص .(7/294)
قوله : " وأخذوا بأطراف الارض " ، أي أخذوا على الناس بأطراف الارض ، أي حصروهم ، يقال لمن استولى على غيره وضيق عليه : قد أخذ عليه بأطراف الارض ، قال الفرزدق : أخذنا بأطراف السماء عليكم لنا قمراها والنجوم الطوالع (1) وزحفا زحفا ، منصوب على المصدر المحذوف الفعل ، أي يزحفون زحفا ، والكلمة الثانية تأكيد للاولى .
وكذلك قوله : " وصفا صفا " .
ثم ذكر أن بعض هؤلاء المتأسف عليهم هلك ، وبعض نجا ، وهذا ينحى قوله تعالى : (فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر) (2) .
ثم ذكر أن هؤلاء قوم وقذتهم العبادة ، وانقطعوا عن الناس ، وتجردوا عن العلائق الدنيوية ، فإذا ولد لاحدهم مولود لم يبشر به ، وإذا مات له ميت لم يعز عنه .
ومرهت عين فلان ، بكسر الراء ، إذا فسدت لترك الكحل ، لكن أمير المؤمنين عليه السلام جعل مره عيون هؤلاء من البكاء من خوف خالقهم سبحانه .
وذكر أن بطونهم خماص من الصوم ، وشفاههم ذابلة من الدعاء ، ووجوههم مصفرة من السهر ، لانهم يقومون الليل وعلى وجوههم غبرة الخشوع .
ثم قال : " أولئك إخوانى الذاهبون " .
فإن قلت : من هؤلاء الذين يشير عليه السلام إليهم ؟ قلت : هم قوم كانوا في نأنأة الاسلام وفي زمان ضعفه وخموله أرباب زهد وعبادة وجهاد شديد في سبيل الله ، كمصعب بن عمير من بنى عبد الدار ، وكسعد بن معاذ من الاوس ، وكجعفر بن أبى طالب ، وعبد الله بن رواحة ، وغيرهم ممن استشهد من الصالحين
__________
(1) ديوانه 515 (2) سورة الاحزاب 23 .
(*)(7/295)
أرباب الدين والعبادة والشجاعة في يوم أحد ، وفي غيره من الايام في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكعمار ، وأبى ذر ، والمقداد ، وسلمان ، وخباب ، وجماعة من أصحاب الصفة وفقراء المسلمين أرباب العبادة ، الذين قد جمعوا بين الزهد والشجاعة .
وقد جاء في الاخبار الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الجنة لتشتاق إلى أربعة : على ، وعمار ، وأبى ذر ، والمقداد " ، وجاء في الاخبار الصحيحة أيضا ، أن جماعة من اصحاب الصفة مر بهم أبو سفيان بن حرب بعد إسلامه فعضوا أيديهم عليه ، وقالوا : وا أسفاه كيف لم تأخذ السيوف مأخذها من عنق عدو الله ! وكان معه أبو بكر فقال لهم : أتقولون هذا لسيد البطحاء ! فرفع قوله إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فأنكره ، وقال لابي بكر : " انظر لا تكون أغضبتهم ، فتكون قد أغضبت ربك " ، فجاء أبو بكر إليهم وترضاهم وسألهم أن يستغفروا له ، فقالوا : غفر الله لك .
قوله : " فحق لنا " يقال : حق له أن يفعل كذا ، وهو حقيق به ، وهو محقوق به ، أي خليق له ، والجمع أحقاء ومحقوقون .
ويسنى : يسهل .
وصدف عن الامر يصدف أي انصرف عنه .
ونزغات الشيطان : ما ينزغ به ، بالفتح أي يفسد ويغرى .
ونفثاته : ما ينفث به وينفث ، بالضم والكسر ، أي يخيل ويسحر .
واعقلوها على أنفسكم ، أي اربطوها والزموها(7/296)
(121) الاصل : ومن كلام له عليه السلام قاله للخوارج ، وقد خرج إلى معسكرهم وهم مقيمون على إنكار الحكومة ، فقال عليه السلام : أكلكم شهد معنا صفين ؟ فقالوا : منا من شهد ومنا من لم يشهد .
قال : فامتازوا فرقتين ، فليكن من شهد صفين فرقة ، ومن لم يشهدها فرقة ، حتى أكلم كل منكم بكلامه ، ونادى الناس ، فقال : أمسكوا عن الكلام ، وانصتوا لقولي ، وأقبلوا بأفئدتكم إلى ، فمن نشدناه شهادة فليقل بعلمه فيها .
ثم كلمهم عليه السلام بكلام طويل ، من جملته أن قال عليه السلام : ألم تقولوا عند رفعهم المصاحف حيلة وغيلة ، ومكرا وخديعة : إخواننا وأهل دعوتنا ، استقالونا واستراحوا إلى كتاب الله سبحانه ، فالرأى القبول منهم ، والتنفيس عنهم .
فقلت لكم : هذا أمر ظاهره إيمان ، وباطنه عدوان ، وأوله رحمة ، وآخره ندامة .
فأقيموا على شأنكم ، والزموا طريقتكم ، وعضوا على الجهاد بنواجذكم ، ولا تلتفتوا إلى ناعق نعق ، إن أجيب أضل ، وإن ترك ذل .
وقد كانت هذه الفعلة وقد رأيتكم أعطيتموها .
والله لئن أبيتها ما وجبت على فريضتها ، ولا حملني الله ذنبا ، ووالله إن جئتها إنى للمحق الذى يتبع ، وإن الكتاب لمعى ، ما فارقته مذ صحبته ، فلقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه ،(7/297)
وإن القتل ليدور على الآباء والابناء والاخوان والقرابات ، فما نزداد على كل مصيبة وشدة إلا إيمانا ومضيا على الحق ، وتسليما للامر ، وصبرا على مضض الجراح .
* * * ولكنا إنما أصبحنا نقاتل إخواننا في الاسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوعاج ، والشبهة والتأويل ، فإذا طمعنا في خصلة يلم الله بها شعثنا ، ونتدانى بها إلى البقية فيما بيننا ، رغبنا فيها ، وأمسكنا عما سواها ! * * * الشرح : هذا الكلام يتلو بعضه بعضا ، ولكنه ثلاثة فصول لا يلتصق أحدها بالآخر ، وهذه عادة الرضى ، تراه ينتخب من جملة الخطبة الطويلة كلمات فصيحة ، يوردها على سبيل التتالى ، وليست متتالية حين تكلم بها صاحبها ، وسنقطع كل فصل منها عن صاحبه إذا مررنا على متنها .
قوله : " إلى معسكرهم " الكاف مفتوحة ، ولا يجوز كسرها ، وهو موضع العسكر ومحطه .
وشهد صفين : حضرها ، قال تعالى : (فمن شهد منكم الشهر) (1) .
قوله : " فامتازوا أي انفردوا " ، قال الله تعالى : (وامتازوا اليوم أيها المجرمون) (2) .
قوله : " حتى أكلم كلا منكم بكلامه " ، أي بالكلام الذى يليق به .
والغيلة : الخداع ، والناعق : المصوت .
قوله : " إن أجيب ضل ، وإن ترك ذل ...
" هو آخر الفصل الاول .
وقوله : " ضل " ، أي ازداد ضلالا ، لانه قد ضل قبل أن يجاب .
__________
(1) سورة البقرة 158 (2) سورة يس 59 (*)(7/298)
فأما قوله : " فلقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه " ، فهو من كلام آخر ، وهو قائم بنفسه ، إلى قوله : " وصبرا على مضض الجراح " ، فهذا آخر الفصل الثاني .
فأما قوله : " لكنا إنما أصبحنا " ، فهو كلام ثالث غير منوط بالاولين ولا ملتصق بهما ، وهو في الظاهر مخالف ومناقض للفصل الاول ، لان الفصل الاول فيه إنكار الاجابة إلى التحكيم ، وهذا يتضمن تصويبها ، وظاهر الحال أنه بعد كلام طويل .
وقد قال الرضى رحمه الله في أول الفصل إنه من جملة كلام طويل ، وإنه لما ذكر التحكيم ، قال ما كان يقوله دائما ، وهو أنى إنما حكمت على أن نعمل في هذه الواقعة بحكم الكتاب ، وإن كنت أحارب قوما ما أدخلوا في الاسلام زيغا وأحدثوا به إعوجاجا ، فلما دعوني إلى تحكيم الكتاب أمسكت عن قتلهم ، وأبقيت عليهم ، لانى طمعت في أمر يلم الله به شعث المسلمين ، ويتقاربون بطريقة إلى البقية ، وهى الابقاء والكف .
فإن قلت : إنه قد قال " نقاتل إخواننا من المسلمين " وأنتم لا تطلقون على أهل الشام المحاربين له لفظة " المسلمين " ؟ قلت : إنا وإن كنا نذهب إلى أن صاحب الكبيرة لا يسمى مؤمنا ولا مسلما ، فإنا نجيز أن يطلق عليه هذا اللفظ إذا قصد به تمييزه عن أهل الذمة وعابدي الاصنام ، فيطلق مع قرينه حال أو لفظ يخرجه عن أن يكون مقصودا به التعظيم والثناء والمدح ، فإن لفظة " مسلم " و " مؤمن " تستعمل في أكثر الاحوال كذلك ، وأمير المؤمنين عليه السلام لم يقصد بذلك إلا تمييزهم من كفار العرب وغيرهم من أهل الشرك ، ولم يقصد مدحهم بذلك ، فلم ينكر مع هذا القصد إطلاق لفظ المسلمين عليهم .(7/299)
(122) ومن كلام له عليه السلام قاله لاصحابه في ساعة الحرب : وأى امرئ منكم أحس من نفسه رباطة جأش عند اللقاء ، ورأى من أحد من إخوانه فشلا ، فليذب عن أخيه بفضل نجدته التى فضل بها عليه ، كما يذب عن نفسه ، فلو شاء الله لجعله مثله .
إن الموت طالب حثيث لا يفوته المقيم ، ولا يعجزه الهارب .
إن أكرم الموت القتل ، والذى نفس ابن أبى طالب بيده ، لالف ضربة بالسيف أهون على من ميتة على الفراش في غير طاعة الله ! * * * الشرح : احس : علم ووجد .
ورباطة جأش ، أي شدة قلب ، والماضي " ربط " ، كأنه يربط نفسه عن الفرار .
والمروى : " رباطة " بالكسر ، ولا أعرفه نقلا وإنما القياس لا يأباه ، مثل عمر عمارة ، وخلب خلابة .
والفشل : الجبن .
وذب الرجل عن صاحبه ، أي أكثر الذب ، وهو الدفع والمنع .
والنجدة : الشجاعة .
والحثيث : السريع ، وفي بعض الروايات : " فليذب عن صاحبه " بالادغام ، وفي بعضها " فليذبب " بفك الادغام .
والميتة ، بالكسر : هيئة الميت كالجلسة والركبة هيئة الجالس والراكب ، يقال : مات فلان ميتة حسنة ، والمروى في " نهج(7/300)
البلاغة " بالكسر في أكثر الروايات ، وقد روى : " من موتة " وهو الاليق ، يعنى المرة الواحدة ، ليقع في مقابلة الالف .
* * * واعلم أنه عليه السلام أقسم أن القتل أهون من الموت حتف الانف ، وذلك على مقتضى ما منحه الله تعالى من الشجاعة الخارقة لعادة البشر ، وهو عليه السلام يحاول أن يحض أصحابه ، ويحرضهم ليجعل طباعهم مناسبة لطباعه ، وإقدامهم على الحرب مماثلا لاقدامه ، على عادة الامراء في تحريض جندهم وعسكرهم وهيهات ! إنما هو كما قال أبو الطيب : يكلف سيف الدولة الجيش همه وقد عجزت عنه الجيوش الخضارم (1) ويطلب عند الناس ما عند نفسه وذلك ما لا تدعيه الضراغم ليست النفوس كلها من جوهر واحد ، ولا الطباع والامزجة كلها من نوع واحد ، وهذه خاصية توجد لمن يصطفيه الله تعالى من عباده ، في الاوقات المتطاولة ، والدهور المتباعدة ، وما اتصل بنا نحن من بعد الطوفان ، فإن التواريخ من قبل الطوفان مجهولة ، عندنا إن أحدا أعطى من الشجاعة والاقدام ما أعطيه هذا الرجل من جميع فرق العالم على اختلافها ، من الترك والفرس والعرب والروم وغيرهم ، والمعلوم من حاله أنه كان يؤثر الحرب على السلم ، والموت على الحياة ، والموت الذى كان يطلبه ويؤثره ، إنما هو القتل بالسيف ، لا الموت على الفراش ، كما قال الشاعر : لو لم يمت بين أطراف الرماح إذا لمات إذ لم يمت من شدة الحزن
__________
(1) ديوانه 3 : 379 ، والخضارم : جمع خضرم ، وهو العظيم الكبير من كل شئ .
(*)(7/301)
وكما قال الآخر : يستعذبون مناياهم كأنهم لا ييأسون من الدنيا إذا قتلوا فإن قلت : فما قولك فيما أقسم عليه : هل ألف ضربة بالسيف أهون ألما على المقتول من موتة واحدة على الفراش بالحقيقة ، أم هذا قول قاله على سبيل المبالغة والتجوز ، ترغيبا لاصحابه في الجهاد ؟ قلت : الحالف يحلف على أحد أمرين : أحدهما أن يحلف على ظنه واعتقاده ، نحو أن يحلف أن زيدا في الدار ، أنا حالف ومقسم على أنى أظن أن زيدا في الدار ، أو أنى أعتقد كون زيد في الدار .
والثانى إن يحلف ، لا على ظنه بل يحلف على نفس الامر في الخارج ، فإن حملنا قسم أمير المؤمنين عليه السلام على المحمل الاول فقد اندفع السؤال ، لانه عليه السلام قد كان يعتقد ذلك .
فحلف أنه يعتقد وأنه يظن ذلك ، وهذا لا كلام فيه ، وإن حملناه على الثاني فالامر في الحقيقة يختلف ، لان المقتول بسيف صارم معجل للزهوق لا يجد من الالم وقت الضربة ما يجده الميت دون النزع من المد والكف ، نعم ، قد يجد المقتول قبل الضربة ألم التوقع لها ، وليس كلامنا في ذلك ، بل في ألم الضربة نفسها ، وألف سيف صارم مثل سيف واحد ، إذا فرضنا سرعة الزهوق ، وأما في غير هذه الصورة ، نحو أن يكون السيف كالا ، وتتكرر الضربات به ، والحياة باقية بعد ، وقايسنا بينه وبين ميت يموت حتف أنفه موتا سريعا ، إما بوقوف القوة الغاذية كما يموت الشيوخ ، أو بإسهال ذريع تسقط معه القوة ، ويبقى العقل والذهن ، إلى وقت الموت ، فإن الموت هاهنا أهون وأقل ألما ، فالواجب أن يحمل كلام أمير المؤمنين عليه السلام إما على جهة التحريض ، فيكون قد بالغ كعادة العرب ، والخطباء في المبالغات المجازية ، وإما أن يكون أقسم على أنه يعتقد ذلك ، وهو صادق فيما أقسم ، لانه هكذا كأن يعتقد بناء على(7/302)
ما هو مركوز في طبعه من محبة القتال ، وكراهية الموت على الفراش ، وقد روى أنه قيل لابي مسلم الخراساني : إن في بعض الكتب المنزلة : من قتل بالسيف فبالسيف يقتل ، فقال : القتل أحب إلى من اختلاف الاطباء ، والنظر في الماء ، ومقاساة الدواء والداء ، فذكر ذلك للمنصور بعد قتل أبى مسلم فقال : قد أبلغناه محبته !(7/303)
(123) الاصل : ومن كلام له عليه السلام : وكأني أنظر إليكم تكشون كشيش الضباب ، لا تأخذون حقا ، ولا تمنعون ضيما ، قد خليتم والطريق ، فالنجاة للمقتحم ، والهلكة للمتلوم .
* * * الشرح : الكشيش : الصوت يشوبه خور ، مثل الخشخشة ، وكشيش الافعى : صوتها من جلدها لا من فمها ، وقد كشت تكش ، قال الراجز : كشيش أفعى أجمعت لعض وهى تحك بعضها ببعض (1) يقرع عليه السلام أصحابه بالجبن والفشل ، ويقول لهم : لكأنى أنظر إليكم وأصواتكم غمغمة بينكم من الهلع الذى قد اعتراكم ، فهى أشبه شئ بأصوات الضباب المجتمعة .
ثم أكد وصف جبنهم حقا وخوفهم ، فقال : لا تأخذون حقا ، ولا تمنعون ضيما ، وهذه غاية ما يكون من الذل .
ثم ترك هذا الكلام وابتدأ فقال : قد خليتم وطريق النجاة عند الحرب ، ودللتم عليها ، وهى أن تقتحموا وتلحجوا ، ولا تهنوا ، فإنكم متى فعلتم ذلك نجوتم ، ومتى تلومتم وتثبطتم وأحجمتم هلكتم ، ومن هذا المعنى قول الشاعر :
__________
(1) اللسان 8 : 233 ، من غير نسبة .
(*)(7/304)
تأخرت أستبقى الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما (1) وقال قطرى بن الفجاءة : لا يركنن أحد إلى الاحجام يوم الوغى متخوفا لحمام (2) فلقد أرانى للرماح دريئة من عن يمينى تارة وأمامي حتى خضبت بما تحدر من دمى أكناف سرجى أو عنان لجامى ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب جذع البصيرة قارح الاقدام (3) وكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد : واعلم أن عليك عيونا من الله ترعاك وتراك ، فإذا لقيت العدو ، فاحرص على الموت توهب لك الحياة ، ولا تغسل الشهداء من دمائهم ، فإن دم الشهيد نور له يوم القيامة ، وقال أبو الطيب : يقتل العاجز الجبان وقد يعجز عن قطع بخنق المولود (4) ويوقى الفتى المخش وقد خوض في ماء لبة الصنديد (5) ولهذا المعنى الذى أشار إليه عليه السلام سبب معقول ، وهو أن المقدم على خصمه ، يرتاع له خصمه ، وتنخذل عنه نفسه ، فتكون النجاة والظفر للمقدم ، وأما المتلوم عن خصمه ، المحجم المتهيب له ، فإن نفس خصمه تقوى عليه ، ويزداد طمعه فيه ، فيكون الظفر له ، ويكون العطب والهلاك للمتلوم الهائب .
(تم الجزء السابع من شرح نهج البلاغة ويليه الجزء الثامن)
__________
(1) للحصين بن الحمام المرى ، ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 1 : 192 (1) ديوان الحماسة ، بشرح التبريزي 1 : 130 (3) قال التبريزي في شرح البيت : " يقول : أنا جذع البصيرة ، أي استبصارى ويقينى لا يحتاجان إلى لا يركنن أحد إلى الاحجام يوم الوغى متخوفا لحمام (2) فلقد أرانى للرماح دريئة من عن يمينى تارة وأمامي حتى خضبت بما تحدر من دمى أكناف سرجى أو عنان لجامى ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب جذع البصيرة قارح الاقدام (3) وكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد : واعلم أن عليك عيونا من الله ترعاك وتراك ، فإذا لقيت العدو ، فاحرص على الموت توهب لك الحياة ، ولا تغسل الشهداء من دمائهم ، فإن دم الشهيد نور له يوم القيامة ، وقال أبو الطيب : يقتل العاجز الجبان وقد يعجز عن قطع بخنق المولود (4) ويوقى الفتى المخش وقد خوض في ماء لبة الصنديد (5) ولهذا المعنى الذى أشار إليه عليه السلام سبب معقول ، وهو أن المقدم على خصمه ، يرتاع له خصمه ، وتنخذل عنه نفسه ، فتكون النجاة والظفر للمقدم ، وأما المتلوم عن خصمه ، المحجم المتهيب له ، فإن نفس خصمه تقوى عليه ، ويزداد طمعه فيه ، فيكون الظفر له ، ويكون العطب والهلاك للمتلوم الهائب .
(تم الجزء السابع من شرح نهج البلاغة ويليه الجزء الثامن)
__________
(1) للحصين بن الحمام المرى ، ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 1 : 192 (1) ديوان الحماسة ، بشرح التبريزي 1 : 130 (3) قال التبريزي في شرح البيت : " يقول : أنا جذع البصيرة ، أي استبصارى ويقينى لا يحتاجان إلى تهذيب ولا تأديب ، كما لا يحتاج الجذع إلى الرياضة ، وإقدامى قارح ، أي قد بلغ النهاية ، كما أن القروح نهاية سن الفرس ، ولا سن بعده " .
(4) ديوانه 1 : 322 ، البخنق : ما يجعل على رأس الصبى ، وتلبسه المرأة عند إدهان رأسها .
(5) المخش : الرجل الجرئ على الليل .
والصنديد : السيد الكريم .
وخوض : أكثر الخوض .
(*)(7/305)
شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد ج 8
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد ج 8(8/)
شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد بتحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم الجزء الثامن (1960) دار احياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه(8/1)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل (124) الاصل : ومن كلام له عليه السلام في حث اصحابه على القتال : فقدموا الدارع ، واخروا الحاسر ، وعضو على الاضراس ، فانه انبى للسيوف عن الهام ، والتووا في اطراف الرماح ، فانه امور للاسنة ، وغضوا الابصار ، فإنه اربط للجاش ، واسكن للقلوب واميتوا الاصوات ، فانه اطرد للفشل ، ورأيتكم فلا تميلوها ولا تخلوها ، ولا تجعلوها الا بأيدى شجعانكم ، والمانعين الذمار منكم ، فان الصابرين على نزول الحقائق هم الذين يحفون براياتهم ، ويكتنفونها : حفافيها ، ووراءها وامامها ، لا يتاخرون عنها فيسلموها ، ولا يتقدمون عليها فيفردوها .
الشرح : الدارع : لابس الدرع ، والحاسر : الذى لا درع عليه و لا مغفر ، امرهم عليه السلام بتقديم المستلئم على غير المستلئم لان سوره الحرب وشدتها تلقى وتصادف الاول فالاول فواجب ان يكون اول القوم مستلئما ، وان يعضوا على الاضراس ، وقد تقدم شرح هذا ، وقلنا : انه يجوز ان يبدءوهم بالحنق والجد ، ويجوز أن يريد أن العض على الاضراس يشد شؤون الدماغ ورباطاته ، فلا يبلغ السيف منه مبلغه لو صادفه رخوا .
وأمرهم بأن يلتووا إذا طعنوا ،(8/3)
لانهم إذا فعلوا ذلك ، فبالحر أن يمور السنان ، أي يتحرك عن موضع الطعنة ، فيخرج زالقا ، وإذا لم يلتووا لم يمر السنان ، ولم يتحرك عن موضعه فيخرق وينفذ ، فيقتل .
وامرهم بغض الابصار في الحرب ، فانه أربط للجأش ، أي اثبت للقلب ، لان الغاض ، بصره في الحرب احرى ألا يدهش ولا يرتاع لهول ما ينظر .
وامرهم باماتة الاصوات واخفائها ، فانه اطرد للفشل ، وهو الجبن والخوف وذلك لان الجبان يرعد ويبرق ، والشجاع صامت .
وامرهم بحفظ رايتهم الا يميلوها ، فإنها إذا مالت انكسر العسكر ، لانهم انما ينظرون إليها وألا يخلوها من محام عنها ، وألا يجعلوها بايدى الجبناء وذوى الهلع منهم كى لا يخيموا ويجبنوا عن امساكها .
والذمار : ما وراء الرجل مما يحق عليه ان يحميه ، وسمى ذمارا ، لانه يجب على اهله التذمر له ، أي الغضب .
والحقائق : جمع حاقه ، وهى الامر الصعب الشديد ، ومنه قول الله تعالى : (الحاقه ما الحاقه) ، يعنى الساعه .
ويكتنفونها : يحيطون بها .
وحفافيها : جانباها ، ومنه قول طرفة : كأن جناحى مضرحى تكنفا * حفافيه شكا في العسيب بمسرد (1) الاصل : أجزأ امرؤ قرنة ، وآسى أخاه بنفسه ، ولم يكل قرنة إلى أخيه ، فيجتمع
__________
(1) المعلقات - بشرح التريزي ، 64 .
المضرحي : العتيق من النسور ، يضرب إلى البياض .
وحفافاه : جانباه .
والعسيب : عظم الذنب .
والمسرد : المخصف .
(*)(8/4)
عليه قرنه وقرن اخيه .
وايم الله لئن فررتم من سيف العاجلة ، لا تسلموا من سيف الاخرة .
وانتم لهاميم العرب ، والسنام الاعظم .
إن في الفرار موجدة الله ، والذل اللازم ، والعار الباقي .
وإن الفار لغير مزيد في عمره ، ولا محجوز بينه وبين يومه .
من رائح إلى الله كالظمآن يرد الماء ! الجنه تحت اطراف العوالي اليوم تبلى الاخبار .
والله لانا اشوق إلى لقائهم منهم إلى ديارهم .
اللهم فإن ردوا الحق فافضض جماعتهم ، وشتت كلمتهم وابسلهم بخطاياهم .
الشرح : من الناس من يجعل هذه الصيغة وهى صيغة الاخبار بالفعل الماضي ، في قوله : " أجزأ امرؤ قرنه " في معنى الامر ، كأنه قال : ليجز كل امرئ قرنه ، لانه إذا جاز الامر بصيغة الاخبار في المستقبل جاز الامر بصيغة الماضي ، وقد جاز الاول ، نحو قوله تعالى : (والوالدات يرضعن أولادهن) (1) ، فوجب ان يجوز الثاني .
ومن الناس من قال : معنى ذلك : هلا أجزأ امرؤ قرنه ! فيكون تحضيضا محذوف الصيغة للعلم بها .
وأجزأ بالهمزة ، أي كفى .
وقرنك : مقارنك في القتال أو نحوه .
وآسى أخاه بنفسه مؤاساة ، بالهمز ، أي جعله اسوة نفسه وفيه ، ويجوز : واسيت زيدا بالواو ، وهى لغة ضعيفة .
ولم يكل قرنه إلى اخيه ، أي لم يدع قرنه ينضم إلى قرن أخيه ، فيصيرا معافى
__________
(1) سورة البقرة 233 .
(*)(8/5)
مقاومة الاخ المذكور ، وذلك قبيح محرم ، مثاله : زيد وعمرو مسلمان ، ولهما قرنان كافران في الحرب ، لا يجوز لزيد ان ينكل عن قرنه فيجتمع قرنه وقرن عمرو على عمرو .
ثم اقسم عليه السلام أنهم إن سلموا من الالم النازل بهم لو قتلوا بالسيف في الدنيا ، فإنهم لم يسلموا من عقاب الله تعالى في الاخرة ، على فرارهم وتخاذلهم .
وسمى ذلك سيفا على وجه الاستعارة وصناعة الكلام ، لانه قد ذكر سيف الدنيا ، فجعل ذلك في مقابلته .
واللهاميم : السادات الاجواد من الناس ، والجياد من الخيل ، الواحد لهموم .
والسنام الاعظم ، يريد شرفهم وعلو أنسابهم ، لان السنام أعلى اعضاء البعير .
وموجدة الله : غضبه وسخطه .
ويروى : " والذل اللاذم " بالذال المعجمة ، وهو بمعنى اللازم ايضا ، لذمت المكان بالكسر ، أي لزمته .
ثم ذكر أن الفرار لا يزيد في العمر ، وقال الراجز : قد علمت حسناء دعجاء المقل * ان الفرار لا يزيد في الاجل .
ثم قال لهم : أيكم يروح إلى الله فيكون كالظمآن يرد الماء .
ثم قال : الجنه تحت أطراف العوالي ، وهذا من قول رسول الله صلى الله عليه وآله : " الجنه تحت ظلال السيوف " .
وسمع بعض الانصار رسول الله صلى الله عليه وآله ، يقول يوم احد " الجنه تحت ظلال السيوف " ، وفي يده تميرات يلوكها فقال : بخ بخ ! ليس بينى وبين الجنه إلا هذه التميرات ! ثم قذفها من يده ، وكسر جفن سيفه ، وحمل على قريش فقاتل حتى قتل .
ثم قال : " اليوم تبلى الاخبار ، ، هذا من قول الله تعالى : (ونبلو أخباركم) (1) ، أي نختبر أفعالكم .
__________
(1) سورة محمد 31 .
(*)(8/6)
ثم دعا على أهل الشام إن ردوا الحق بأن يفض الله جماعتهم ، أي يهزمهم .
ويشتت ، أي يفرق كلمتهم ، وان يبسلهم بخطاياهم أي يسلمهم لاجل خطاياهم التى اقترفوها ولا ينصرهم .
ابسلت فلانا ، إذا اسلمته إلى الهلكة ، فهو مبسل ، قال تعالى : (ان تبسل نفس) (1) ، أي تسلم ، وقال : (اولئك الذين ابسلوا بما كسبو) ، أي أسلموا للهلاك لاجل ما اكتسبوه من الاثم ، وهذه الالفاظ كلها لا يتلو بعضها بعضا ، وانما هي منتزعة من كلام طويل انتزعها الرضى رحمه الله واطرح ما عداها .
الاصل : إنهم لن يزولوا عن مواقفهم دون طعن دراك ، يخرج منه النسيم ، وضرب يفلق الهام ، ويطيح العظام ، ويندر السواعد والاقدام .
وحتى يرموا بالمناسر تتبعها المناسر ، ويرجموا بالكتائب تقفوها الحلائب .
وحتى يجر ببلادهم الخميس يتلوه الخميس .
وحتى تدعق الخيول في نواحر ارضهم ، وباعنان مساربهم ومسارحهم .
قال الشريف الرضى رحمه الله تعالى : أقول : الدعق : الدق ، أي تدق الخيول بحوافرها ارضهم .
ونواحر ارضهم : متقابلاتها ، ويقال منازل بنى فلان تتناحر أي تتقابل .
الشرح : طعن دراك ، أي متتابع يتلو بعضه بعضا .
ويخرج منه النسيم ، أي لسعته ، ومن هذا النحو قول الشاعر :
__________
(1) سورة الانعام 70 .
(*)(8/7)
طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر * لها نفذ لولا الشعاع اضاءها (1) ملكت بها كفى فأنهرت فتقها * يرى قائم من دونها ما وراءها (2) فهذا وصف الطعنة ، بأنها لاتساعها يرى الانسان المقابل لها ببصره ما وراءها ، وأنه لولا شعاع الدم ، وهو ما تفرق منه لبان منها الضوء .
وأمير المؤمنين عليه السلام أراد من أصحابه طعنات يخرج النسيم - وهو الريح اللينه - منهن .
وفلقت الشئ افلقه ، بكسر اللام فلقا ، أي شققته .
ويطيح العظام : يسقطها .
طاح الشئ ، أي سقط أو هلك أو تاه في الارض ، وأطاحه غيره ، وطوحه .
ويندر السواعد : يسقطها أيضا ، ندر الشئ يندر ندرا ، أي سقط ، ومنه النوادر ، وأندره غيره والساعد من الكوع إلى المرفق ، وهو الذراع .
والمناسر : جمع منسر ، وهو قطعة من الجيش تكون أمام الجيش الاعظم ، بكسر السين وفتح الميم ، ويجوز منسر بكسر الميم وفتح السين وقيل إنها اللغة الفصحى .
ويرجموا ، أي يغزوا بالكتائب ، جمع كتيبة وهى طائفة من الجيش .
تقفوها الحلائب ، أي تتبعها طوائف لنصرها والمحاماة عنها ، يقال : قد احلبوا ، إذا جاءوا من كل أوب للنصرة ، ورجل محلب ، أي ناصر ، حالبت الرجل ، إذا نصرته واعنته ، وقال الشاعر (3) : ألهفا بقرى سحبل حين احلبت * علينا الولايا والعدو المباسل (4)
__________
(1) لقيس بن الخطيم ، ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 1 : 178 .
الشعاع : المتفرق .
ومنه : تطاير القوم شعاعا ، والنفذ : الخرق ، يقول : لولا انتشار الشمس لاضاءها .
(2) ملكت ، من قولهم : ملكت العجين وأملكته ، إذا بالغت في عجنه ، أي شددت بهذه الطعنة كفى ووسعت خرقها حتى يرى القائم من دونها الشئ الذي وراءها .
(3) هو جعفر بن علبة الحارثي ، ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 1 : 44 (4) قرى : اسم موضع ، وسحبل : واد يعينة .
وأحلبت : أعانت : والولايا : جمع ولية ، وهي البرذعة ، يكنى بها عن النساء أو الضعفاء ، والحباسل ، من البسالة ، وهي الشجاعة .
(*)(8/8)
أي اعانت ونصرت .
والخميس : الجيش .
والدعق قد فسره الرضى رحمه الله ، ويجوز أن يفسر بأمر آخر ، وهو الهيج والتنفير ، دعق القوم يدعقهم دعقا أي هاج منهم ونفرهم .
ونواحر ارضهم ، قد فسره رحمه الله ايضا ، ويمكن أن يفسر بأمر آخر وهو أن يراد به اقصى أرضهم وآخرها ، من قولهم لاخر ليلة في الشهر ناحرة .
وأعنان مساربهم ومسارحهم : جوانبها ، والمسارب : ما يسرب فيه المال الراعى ، والمسارح : ما يسرح فيه ، والفرق بين " سرح " و " سرب " ، أن السروح إنما يكون في أول النهار وليس ذلك بشرط في السروب .
[ عود إلى أخبار صفين ] واعلم أن هذا الكلام قاله أمير المؤمنين عليه السلام لاصحابه في صفين ، يحرضهم به وقد ذكرنا من حديث صفين فيما تقدم أكثره ، ونحن نذكر هاهنا تتمة القصة ليكون من وقف على ما تقدم وعلى هذا المذكور آنفا هنا قد وقف على قصة صفين بأسرها .
اتفق الناس كلهم أن عمارا رضى الله عنه أصيب مع على عليه السلام بصفين ، وقال كثير منهم ، بل الاكثر أن اويسا (1) القرنى أصيب أيضا مع على عليه السلام بصفين .
وذكر ذلك نصر بن مزاحم في " كتاب صفين " ، رواه عن حفص بن عمران البرجمى ، عن عطاء بن السائب ، عن أبى البخترى ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله في أويس ما قال ، وقال الناس كلهم : إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : " إن الجنه لتشتاق إلى
__________
(1) هو أويس بن عامر القرني (بفتح القاف والراء) سيد التابعين ، ذكره ابن حجر في تهذيب التهذيب .
(*)(8/9)
عمار " ورووا عنه صلى الله عليه وآله أن عمارا جاء يستأذن عليه ، فقال : " ائذنوا له ، مرحبا بالطيب المطيب " (1) .
وروى سلمة بن كهيل ، عن مجاهد ، أن النبي صلى الله عليه وآله رأى عمارا وهو يحمل أحجار المسجد فقال : " ما لهم ولعمار ! يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار " (2) وروى الناس كافة أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال له : " تقتلك الفئه الباغيه " .
وروى نصر بن مزاحم في كتاب صفين ، عن عمرو بن شمر ، عن مالك بن أعين ، عن زيد بن وهب الجهنى ، أن عمار بن ياسر (3) نادى في صفين يوما قبل مقتله بيوم أو يومين : أين من يبغى رضوان الله عزوجل ولا يؤوب إلى مال ولا ولد ؟ فأتته عصابة من الناس ، فقال : أيها الناس اقصدوا بنا قصد هؤلاء القوم [ الذين يتبعون دم عثمان ، ويزعمون أنه قتل مظلوما ، والله إن كان إلا ظالما لنفسه ، الحاكم بغير ما أنزل الله ] (4) .
ودفع على عليه السلام الرايه إلى هاشم بن عتبة بن أبى وقاص ، وكان عليه ذلك اليوم درعان ، فقال له على عليه السلام كهيئه المازح : أيا هاشم ، أما تخشى على نفسك ان تكون أعور جبانا ! قال : ستعلم يا أمير المؤمنين ، والله لالفن بين جماجم العرب لف رجل ينوى الاخرة .
فأخذ رمحا فهزه فانكسر ، ثم أخذ آخر فوجده جاسيا فألقاه ، ثم دعا برمح لين فشد به اللواء (5) .
قال نصر : وحدثنا عمرو قال : لما دفع على عليه السلام الرايه إلى هاشم بن عتبة ، قال
__________
(1) صفين 367 .
(2) صفين 366 .
(3 - 3) صفين : " نادى يومئذ " .
(4) تكملة من صفين .
(5) صفين 369 - 370 .
(*)(8/10)
له رجل من أصحابه من بكر بن وائل أقدم هاشم ! يكررها .
ثم قال : مالك [ يا هاشم ] (1) ! قد انتفخ سحرك ! أعورا وجبنا ! قال : من هذا ؟ قالوا : فلان ، قال : أهلها وخير منها ، إذا رأيتني قد صرعت فخذها ثم قال لاصحابه : شدوا شسوع نعالكم ، وشدوا ازركم ، فإذا رأيتموني قد هززت الرايه ثلاثا ، فاعلموا أن أحدا منكم لا يسبقنى إلى الحملة (2) .
ثم نظر إلى عسكر معاوية ، فرأى جمعا عظيما ، فقال : من أولئك ؟ قيل : أصحاب ذى الكلاع ، ثم نظر فرأى جندا ، فقال من أولئك ؟ قيل : قريش وقوم من أهل المدينة فقال : قومي ، لا حاجه لى في قتالهم ، من عند هذه القبة البيضاء ؟ قيل : معاوية وجنده ، قال : فإنى أرى دونهم أسودة (3) ، قيل : [ ذاك ] (1) عمرو بن العاص وابناه ومواليه ، فأخذ الرايه فهزها ، فقال رجل من أصحابه : البث (4) قليلا ولا تعجل ، فقال هاشم : قد أكثرا لومى وما أقلا (5) * إنى شريت النفس لن أعتلا أعور يبغى أهله محلا * قد عالج الحياه حتى ملا لابد أن يفل أو يفلا (6) * أشلهم بذي الكعوب شلا (7)
__________
(1) تكملة من صفين .
(2) صفين : " إليها " .
(3) أسودة : جمع سواد ، وهو الشخص .
(4) صفين : " أمكث " .
(5) مروج الذهب 2 : 392 : " قد أكثر القوم " .
(6) الفل " الهزيمة .
(7) الشل : الطرد ، وذو الكعوب : الرمح .
ورواية الطبري 6 : 24 : * يتلهم بذي الكعوب تلا * ويتلهم : يصرعهم .
وفي إحدى روايتي صفين : " أشدهم بذي الكعوب " .
(*)(8/11)
مع ابن عم احمد المعلى (*) * أول من صدقه وصلى (2) .
قال نصر : وحدثنا عبد العزيز بن سياه ، عن حبيب بن أبى ثابت ، قال : لما تناول هاشم الراية ، جعل عمار بن ياسر يحرضه على الحرب ، ويقرعه (3) بالرمح ، ويقول : أقدم يا أعور : * لا خير في أعور لا يأتي الفزع * فيستحيى من عمار ، ويتقدم ، ويركز الراية ، فإذا ركزها عاوده عمار بالقول ، فيتقدم أيضا .
فقال عمرو بن العاص إنى لارى لصاحب الراية السوداء عملا ، لئن دام على هذا لتفنين العرب اليوم ! فاقتتلوا قتالا شديدا ، وعمار ينادى (4) صبرا ! والله إن الجنة (5) تحت ظلال البيض .
فكان بازاء هاشم وعمار أبو الأعور السلمى ، ولم يزل عمار بهاشم ينخسه وهو يزحف بالراية حتى اشتد القتال وعظم ، والتقى الزحفان ، واقتتلا قتالا لم يسمع السامعون بمثله ، وكثرت القتلى في الفريقين جميعا (5) .
وروى نصر ، عن عمرو بن شمر ، قال : حدثنى (6) من أثق به من أهل العراق ،
__________
(1) بعده في صفين : * فيه الرسول بالهدى استهلا * (2) بعده في صفين : * فجاهد الكفار حتى أبلى * والخبر في صفين 370 ، 371 ، وبعده هناك : " قال : وقد كان على قال : له أتخاف أن يكون أعور جبانا أبا هاشم المرقال ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، لتعلمني - إن شاء الله - ألف اليوم بين جماجم القوم ، فحمل يومئذ يرقل إرقالا " .
(3) صفين : " يتناوله " .
(4 - 4) صفين : " صبرا عباد الله ، الجنة " .
والبيض : السيوف .
(5) صفين : " كليهما " ، والخبر هناك في 371 ، 372 .
(6) في صفين : " عن عمرو بن شمر ، عن أبي إسحاق ، عن أبي السفر " .
(*)(8/12)
قال : لما التقينا بالقوم في ذلك اليوم ، وجدناهم خمسة صفوف [ قد قيدوا أنفسهم بالعمائم ] (1) فقتلنا صفا ، ثم صفا ، ثم خلصنا إلى الرابع ، ما على لارض شامى ولا عراقى يولى دبره ، وأبو الاعور يقول : إذا ما فررنا كان أسوا فرارنا * صدود الخدود وازورار المناكب (2) صدود الخدود والقنا متشاجر * ولا تبرح الاقدام عند التضارب قال نصر : والتقت في هذا اليوم همدان العراق بعك الشام ، فقال قائلهم : همدان همدان ، وعك وعك * ستعلم اليوم من الارك (3) وكانت على عك الدروع ، وليس عليهم رايات (4) ، فقالت : همدان : خدموا القوم .
أي اضربوا سوقهم - فقالت عك برك الكمل (5) ، فبركوا كما يبرك (6) الجمل ثم رموا الحجر وقالوا : لا نفر حتى يفر الحكر .
قال نصر : واقتتل الناس من لدن اعتدال النهار إلى صلاة المغرب ، ما كان صلاة القوم إلا التكبير عند مواقيت الصلاة .
ثم إن أهل العراق كشفوا ميمنة أهل الشام ، فطاروا في سواد الليل ، وكشف أهل الشام ميسرة أهل العراق فاختلطوا في سواد الليل ، وتبدلت الرايات بعضها ببعض ، فلما أصبح الناس وجد أهل الشام لواءهم وليس حوله إلا ألف رجل فاقتلعوه وركزوه من
__________
(1) من صفين .
(2) لقيس بن الخطيم ، ديوانه 10 (3) الارك : الضعيف (4) صفين : " رانات " ، والرانات : جمع ران ، وهو كالخف إلا أنه لاقدم له .
(5) يريد " الجمل " ، وعك تقلب الجيم كافا .
وانظر صفين 256 .
(6) صفين : " كما برك " .
(7) أي الحجر ، بلغة عك .
(*)(8/13)
وراء موضعه الاول وأحاطوا به ، ووجد أهل العراق لواءهم مركوزا وليس حوله إلا ربيعة ، وعلى عليه السلام بينها ، وهم محيطون به ، وهو لا يعلم من هم ، ويظنهم غيرهم ، فلما أذن مؤذن على عليه السلام الفجر قال على عليه السلام .
يا مرحبا بالقائلين عدلا * وبالصلاه مرحبا وأهلا ثم وقف وصلى الفجر ، فلما انفتل أبصر وجوها ليست بوجوه أصحابه بالامس ، وإذا مكانه الذى هو فيه ما بين الميسرة إلى القلب ، فقال : من القوم ؟ قالوا : ربيعة ، وإنك يا أمير المؤمنين لعندنا (1) منذ الليلة ، فقال : * فخر طويل لك يا ربيعة * ثم قال لهاشم بن عتبة : خذ اللواء : فو الله ما رأيت مثل هذه الليلة فخرج هاشم باللواء حتى ركزه في القلب (2) .
قال نصر : حدثنا عمرو بن شمر ، عن الشعبى قال : عبى معاويه تلك الليلة أربعة آلاف وثلثمائة من فارس وراجل معلمين (3) بالخضرة ، وأمرهم أن يأتوا عليا عليه السلام من ورائه ، ففطنت لهم همدان فواجهوهم وصمدوا إليهم ، فباتوا تلك الليلة يتحارسون ، وعلى عليه السلام قد أفضى به ذهابه ومجيئه إلى رايات ربيعة ، فوقف بينها وهو لا يعلم ، ويظن أنه في عسكر الاشعث ، فلما أصبح لم ير الاشعث ولا أصحابه ، ورأى سعيد بن قيس الهمداني على مركزه ، فجاء إلى سعيد رجل من ربيعة ، يقال له زفر (4) فقال [ له ] (5) : ألست القائل بالامس : لئن لم تنته ربيعة لتكونن ربيعة ربيعة ، وهمدان همدان ، فما أغنت همدان
__________
(1) صفين : " وقد بت فيهم تلك الليلة " .
(2) صفين 373 ، 374 .
(3) يقال رجل معلم ، بكسر اللام ، إذا علم مكانه في الحرب بعلامة أعلمها ، ومنه قول الشاعر : فتعرفوني إنني أنا ذا كم * شاك سلاحي في الحوادث معلم (4) صفين : " نفر " (5) من صفين .
(*)(8/14)
البارحة فنظر ، إليه على عليه السلام نظر ، منكر ونادى منادى على عليه السلام : أن اتعدوا للقتال ، واغدوا عليه ، وانهدوا إلى عدوكم .
فكلهم تحرك إلا ربيعة لم تتحرك ، فبعث إليهم على عليه السلام : أن انهدوا إلى عدوكم ، فبعث إليهم أبا ثروان ، فقال : إن أمير المؤمنين عليه السلام يقرئكم السلام ، ويقول لكم : يا معشر ربيعة ، ما لكم لا تنهدون إلى عدوكم وقد نهد الناس ؟ قالوا : كيف ننهد وهذه الخيل من وراء ظهرنا ! قل لأمير المؤمنين : فليأمر همدان أو غيرها بمناجزتهم لننهد .
فرجع أبوثروان إلى على عليه السلام ، فاخبره فبعث إليهم الاشتر ، فقال : يا معشر ربيعة ، ما منعكم أن تنهدوا وقد نهد الناس - وكان جهير الصوت - وأنتم أصحاب كذا وأصحاب كذا ! ، فجعل يعدد أيامهم .
فقالوا : لسنا نفعل حتى ننظر ما تصنع هذه الخيل التى خلف ظهورنا ، وهى أربعة آلاف ! قل لأمير المؤمنين فليبعث إليهم من يكفيه أمرهم .
وراية ربيعة يومئذ مع الحضين (1) بن المنذر .
فقال لهم الاشتر : فان أمير المؤمنين يقول لكم : أكفونيها ، إنكم لو بعثتم إليهم طائفة منكم لتركوكم في هذه الفلاة ، وفروا كاليعافير (2) .
فوجهت حينئذ ربيعة إليهم تيم الله والنمر بن قاسط وعنزة .
قالوا : فمشينا إليهم مستلئمين مقنعين في الحديد ، وكان عامة قتال صفين مشيا .
قال : فلما أتيناهم هربوا وانتشروا انتشار الجراد فذكرت قوله ة " وفروا كاليعافير " .
ثم رجعنا إلى أصحابنا وقد نشب القتال بينهم وبين أهل الشام ، وقد اقتطع أهل الشام طائفة من أهل العراق ، بعضها من ربيعة فأحاطوا بها فلم نصل إليها حتى حملنا على أهل الشام فعلوناهم بالاسياف ، حتى انفرجوا لنا ، فافضينا إلى أصحابنا فاستنقذناهم ، وعرفناهم تحت النقع بسيماهم وعلامتهم ، وكانت علامة أهل العراق بصفين الصوف الابيض قد جعلوه في رؤوسهم وعلى
__________
(1) في الاصول : " حصين " بالصاد المهملة ، تصحيف .
وهو الحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة الرقاشي ، كان من كبار التابعين ، وانظر المؤتلف 87 .
(2) اليعافر : جمع يعفور ، وهو الظبي .
(*)(8/15)
أكتافهم ، وشعارهم : يا ألله ، يا ألله ! يا أحد يا صمد ! يا رب محمد ! يا رحمن يا رحيم ! وكانت علامة أهل الشام خرقا صفرا ، قد جعلوها على رؤوسهم وأكتافهم ، وشعارهم : * نحن عباد الله حقا حقا * يا لثارات عثمان ! قال نصر : فاجتلدوا بالسيوف وعمد الحديد ، فلم يتحاجزوا حتى حجز بينهم الليل ، وما يرى رجل من هؤلاء ومن هؤلاء موليا (1) .
قال نصر : حدثنا عمر بن سعد (2) ، قال : كانوا عربا يعرف بعضهم بعضا في الجاهلية ، وإنهم لحديثو عهد بها ، فالتقوا في الاسلام ، وفيهم بقايا تلك الحمية وعند بعضهم بصيرة الدين والاسلام ، فتضاربوا واستحيوا من الفرار ، حتى كادت الحرب تبيدهم ، وكانوا إذا تحاجزوا دخل هؤلاء عسكر هؤلاء ، فيستخرجون قتلاهم فيدفنونهم (3) .
قال نصر : فحدثنا عمر بن سعد ، قال فبينا على عليه السلام واقفا بين جماعة من همدان وحمير وغيرهم من افناء (4) قحطان ، إذ نادى رجل من اهل الشام : من دل على أبى نوح الحميرى ؟ فقيل له : قد وجدته ، فما ذا تريد ؟ قال : فحسر عن لثامه ، فإذا هو ذو الكلاع الحميرى ، ومعه جماعة من أهله ورهطه ، فقال لابي نوح : سر معى ، قال : إلى أين ؟ قال : إلى أن نخرج عن الصف ، قال : وما شأنك ، قال : إن لى إليك لحاجة ، فقال أبو نوح : معاذ الله أن أسير إليك إلا في كتيبة ، قال ذو الكلاع : بلى فسر فلك ذمة الله وذمة رسوله
__________
(1) 274 - 276 .
(2) في صفين : " نصر ، عمر ، حدثني صديق أبي عن الافريقى بن أنعم قال " .
(3) الخبر في صفين 377 موصول بما بعده ، وهناك كلمة : " فيد فنونهم " : فلما أصبحوا - وذلك يوم الثلاثاء - خرج الناس إلى مصافهم ، فقال أبو نوح : فكنت في الخيل يوم صفين ، في خيل عليه عليه السلام ، وهو واقف بين جماعة من همدان وحمير وغيرهم من أفناء قحطان ...
" .
(4) أفناء الناس : أخلاطهم .
(*)(8/16)
وذمة ذى الكلاع ، حتى ترجع إلى خيلك ، فإنما أريد أن أسألك عن أمر فيكم تمارينا فيه .
فسار أبو نوح ، وسار ذو الكلاع ، فقال له : إنما دعوتك أحدثك حديثا حدثناه عمرو بن العاص قديما في خلافة (1) عمر بن الخطاب ، ثم أذكرناه الان به فأعاده .
إنه يزعم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه قال : " يلتقى أهل الشام وأهل العراق ، وفي إحدى الكتيبتين الحق ، وإمام الهدى ومعه عمار بن ياسر " .
فقال أبو نوح : نعم (2) والله إنه لفينا .
قال : نشدتك الله أجاد هو (3) على قتالنا ؟ قال أبو نوح : نعم ورب الكعبة ، لهو أشد على قتالكم منى ، ولوددت أنكم خلق واحد فذبحته وبدأت بك قبلهم وأنت ابن عمى (4) .
قال ذو الكلاع : ويلك ! علام تمنى ذلك منا ! فوالله ما قطعتك فيما بينى وبينك قط ، وإن رحمك لقريبة ، وما يسرنى أن أقتلك .
قال أبو نوح إن الله قطع بالاسلام أرحاما قريبة ، ووصل به أرحاما متباعدة ، وإنى قاتلك وأصحابك ، لانا على الحق وأنتم على الباطل .
قال ذو الكلاع : فهل تستطيع أن تأتى معى صف أهل الشام فأنا لك جار منهم ، حتى تلقى عمرو بن العاص ، فتخبره بحال عمار وجده في قتالنا لعله أن يكون صلح بين هذين الجندين ! - قلت : وا عجباه من قوم يعتريهم الشك في أمرهم لمكان عمار ، ولا يعتريهم الشك لمكان على عليه السلام ! ويستدلون على أن الحق مع أهل العراق بكون عمار بين أظهرهم ، ولا يعبئوون بمكان على عليه السلام ! ويحذرون من قول النبي صلى الله عليه سلم : " تقتلك الفئة الباغية " ويرتاعون لذلك ، ولا يرتاعون لقوله صلى الله عليه وآله في على عليه السلام : " اللهم وال من والاه وعاد من عاداه " ، ولا لقوله : " لا يحبك إلا مؤمن
__________
(1) صفين : " إمارة " .
(2) صفين : " لعمر الله " .
(3) صفين : " في قتالنا " .
(4) كذا في د ، وفي ب : " أنت وابن عمي " .
(*)(8/17)
ولا يبغضك إلا منافق " .
وهذا يدلك على أن عليا عليه السلام اجتهدت قريش كلها من مبدإ الامر في إخمال ذكره وستر فضائله ، وتغطية خصائصه حتى محى فضله ومرتبته من صدور الناس كافة إلا قليلا منهم - قال نصر : فقال له أبو نوح : إنك رجل غادر ، وأنت في قوم غدر ، وإن لم ترد الغدر أغدروك ، وإنى أن أموت أحب إلى من أن أدخل مع معاوية .
فقال ذو الكلاع : أنا جار لك من ذلك ، ألا تقتل ولا تسلب ولا تكره على بيعة ، ولا تحبس عن جندك ، وإنما هي كلمة تبلغها عمرو بن العاص ، لعل الله أن يصلح بذلك بين هذين الجندين ، ويضع عنهم الحرب .
فقال أبو نوح : إنى أخاف غدراتك وغدرات أصحابك .
قال ذو الكلاع : أنا لك بما قلت زعيم ، قال أبو نوح : اللهم إنك ترى ما أعطاني ذو الكلاع ، وأنت تعلم ما في نفسي ، فاعصمني واختر لى وانصرني ، وادفع عنى .
ثم سار مع ذى الكلاع حتى أتى عمرو بن العاص وهو عند معاوية وحوله الناس ، وعبد الله بن عمر يحرض الناس على الحرب ، فلما وقفا على القوم ، قال ذو الكلاع لعمرو : يا أبا عبد الله ، هل لك في رجل ناصح لبيب مشفق ، يخبرك عن عمار بن ياسر فلا يكذبك ؟ قال : ومن هو ؟ قال : هو ابن عمى هذا ، وهو من أهل الكوفة .
فقال عمرو : أرى عليك سيما أبى تراب ! فقال أبو نوح : على سيما محمد وأصحابه ، وعليك سيما أبى جهل وسيما فرعون ! فقام أبو الاعور فسل سيفه ، وقال : لا أرى هذا الكذاب اللئيم يسبنا بين أظهرنا وعليه سيما أبى تراب ! فقال ذو الكلاع : أقسم بالله لئن بسطت يدك إليه لاحطمن أنفك بالسيف ، ابن عمى وجاري ، عقدت له ذمتي ، وجئت به إليكم ليخبركم عما تماريتم فيه .
فقال له عمرو بن العاص : يا أبا نوح ، أذكرك بالله إلا ما صدقتنا ولم تكذبنا ، أفيكم عمار بن ياسر ؟ قال أبو نوح : ما أنا بمخبرك حتى تخبرني لم تسأل عنه ومعنا من أصحاب محمد صلى الله عليه عدة غيره ، وكلهم جاد على قتالكم ؟ فقال عمرو : سمعت رسول الله صلى الله عليه يقول : " إن(8/18)
عمارا تقتله الفئة الباغية ، وإنه ليس لعمار أن يفارق الحق ، ولن تأكل النار من عمار شيئا " ، فقال أبو نوح : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، والله إنه لفينا جاد على قتالكم ! فقال عمرو : الله الذى لا إله إلا هو إنه لجاد على قتالنا ! قال : نعم والله الذى لا إله إلا هو ، ولقد حدثنى يوم الجمل أنا سنظهر على أهل البصرة ولقد قال لى أمس إنكم لو ضربتمونا حتى تبلغوا بنا سعفات (1) هجر لعلمنا أنا على الحق ، وأنكم على باطل ولكانت قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار .
قال عمرو : فهل تستطيع أن تجمع بينى وبينه ؟ قال : نعم ، فركب عمرو بن العاص وابناه وعتبة بن أبى سفيان وذو الكلاع ، وأبو الاعور السلمى ، وحوشب ، والوليد بن عقبة وانطلقوا ، وسار أبو نوح ومعه شرحبيل بن ذى الكلاع يحميه ، حتى انتهى إلى أصحابه ، فذهب أبو نوح إلى عمار ، فوجده قاعدا مع أصحاب له ، منهم الاشتر وهاشم وابنا بديل ، وخالد بن معمر ، وعبد الله بن حجل ، وعبد الله بن العباس .
فقال لهم (2) أبو نوح : إنه دعاني ذو الكلاع ، وهو ذو رحم ، فقال : أخبرني عن عمار ابن ياسر ، أفيكم هو ؟ فقلت : لم تسأل ؟ فقال : أخبرني عمرو بن العاص في إمرة عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه ، يقول : " يلتقى أهل الشام وأهل العراق ، وعمار مع أهل الحق ، وتقتله الفئة الباغية " ، فقلت : نعم ، إن عمارا فينا ، فسألني أجاد هو على قتالنا ؟ فقلت : نعم والله ، إنه لاجد منى في ذلك ولوددت أنكم خلق واحد فذبحته وبدأت بك يا ذا الكلاع ، فضحك عمار ، وقال : أيسرك ذلك ؟ قال : نعم ، ثم قال أبو نوح : أخبرني الساعة عمر بن العاص ، إنه سمع رسول الله صلى الله عليه يقول : " تقتل عمارا الفئة الباغية " ، قال عمار أقررته بذلك ؟ قال : نعم ، لقد قررته بذلك فأقر ،
__________
(1) الحديث في النهاية 2 : 162 ، قال في شرحه : " السعفات : جمع سعفة ، بالتحريك ، وهي أغصان النخيل ، وقيل : إذا يبست سميت سعفة ، وإذا كانت رطبة ، فهي شطبة ، وإنما خص هجر للمباعدة في المسافة ، ولانها موصوفة بكثرة النخيل " .
(2) صفين : " وقال أبو نوح " .
(*)(8/19)
فقال عمار : صدق ، وليضرنه ما سمع ولا ينفعه .
قال أبو نوح : فإنه يريد أن يلقاك ، فقال عمار لاصحابه : اركبوا ، فركبوا وساروا .
قال : فبعثنا إليهم فارسا من عبد القيس يسمى عوف بن بشر فذهب ، حتى إذا كان قريبا منهم ، نادى : أين عمرو بن العاص ؟ قالوا : هاهنا فأخبره بمكان عمار وخيله ، قال عمرو : قل له : فليسر إلينا ، قال عوف : إنه يخاف غدارتك وفجراتك ، قال عمرو : ما أجرأك على وأنت على هذه الحال ؟ قال عوف : جرأنى عليك بصري فيك وفي أصحابك ، وإن شئت نابذتك الان سواء [ وإن شئت التقيت أنت وخصماؤك ، وأنت كنت غادرا ] (1) .
فقال عمرو : إنك لسفيه ، وإنى باعث إليك رجلا من أصحابي يواقفك (2) ، قال ابعث من شئت ، فلست بالمستوحش ، وإنك لا تبعث إلا شقيا ، فرجع عمرو وأنفذ إليه أبا الاعور ، فلما تواقفا تعارفا ، فقال عوف : إنى لاعرف الجسد وأنكر القلب ، وإنى لا أراك مؤمنا ولا أراك إلا من أهل النار .
قال أبو الأعور : يا هذا ، لقد أعطيت لسانا يكبك الله به على وجهك في النار ، قال عوف : كلا والله إنى لاتكلم بالحق وتتكلم بالباطل ، وإنى أدعوك إلى الهدى وأقاتلك على الضلال (3) وأفر من النار ، وأنت بنعمة الله ضال ، تنطق بالكذب وتقاتل على ضلالة ، وتشترى العقاب بالمغفرة والضلالة بالهدى ، انظر (4) إلى وجوهنا ووجوهكم وسيمانا وسيماكم ، واسمع دعوتنا ودعوتكم ، فليس أحد منا إلا وهو أولى بالحق وبمحمد ، وأقرب إليه منكم .
فقال أبو الأعور : لقد أكثرت الكلام ، وذهب النهار ، ويحك ! ادع أصحابك وأدعو أصحابي وليأت أصحابك في قلة إن شاءوا أو كثرة ، فإنى أجئ من أصحابي بعدتهم (5) ، [ فإن شاء أصحابك فليقلوا ،
__________
(1) تكملة من كتاب صفين .
(2) كذا في د ، وفي ب : " يوافقك " .
(3) صفين : " وأقاتل أهل الضلال " .
(4) صفين : " انظروا ...
واسمعوا ...
" .
(5) صفين : " بعددهم " .
وفي ب : " بعدة " .
(*)(8/20)
وإن شاءوا فليكثروا ] (1) فسار .
(2) عمار في اثنى عشر فارسا حتى إذا كانوا بالمنصف سار عمرو بن العاص في اثنى عشر فارسا حتى اختلفت أعناق الخيل (2) ، خيل عمار وخيل عمرو ، ونزل القوم واحتبوا بحمائل سيوفهم ، فتشهد عمرو بن العاص ، فقال له عمار : اسكت ، فلقد تركتها وأنا أحق بها منك ، فإن شئت كانت خصومة فيدفع حقنا باطلك ، وإن شئت كانت خطبة ، فنحن أعلم بفصل الخطاب منك ، وإن شئت أخبرتك بكلمة تفصل بيننا وبينك ، وتكفرك قبل القيام ، وتشهد بها على نفسك ولا تستطيع أن تكذبني فيها .
فقال عمرو : يا أبا اليقظان ، ليس لهذا جئت إنما جئت ، لانى رأيتك أطوع أهل هذا العسكر فيهم .
أذكرك الله إلا كففت سلاحهم ، وحقنت دماءهم وحرصت (3) على ذلك ، فعلام تقاتلوننا ! أو لسنا نعبد إلها واحدا ، ونصلي إلى قبلتكم وندعو دعوتكم ، ونقرأ كتابكم ، ونؤمن نبيكم ! قال عمار : الحمد لله الذى أخرجها من فيك ، إنها لى ولاصحابي : القبلة والدين وعبادة الرحمن ، والنبى ، والكتاب من دونك ودون أصحابك .
الحمد لله الذى قررك لنا بذلك ، وجعلك ضالا مضلا أعمى ، وسأخبرك على ما أقاتلك عليه وأصحابك ، إن رسول الله صلى الله عليه أمرنى أن أقاتل الناكثين ، فقد فعلت ، وأمرني أن أقاتل القاسطين وأنتم هم ، وأما المارقون فلا أدرى أدركهم أولا أيها الابتر ، أ لست تعلم أن رسول الله صلى الله عليه قال : " من كنت مولاه فعلى مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ! " ، فأنا مولى الله ورسوله وعلى مولاى بعدهما .
قال عمرو : لم تشتمني يا أبا اليقظان ولست أشتمك قال عمار : وبم تشتمني ؟ أتستطيع أن تقول : إنى عصيت الله ورسوله يوما قط ! قال عمرو : إن فيك لمساب (4) سوى ذلك ، قال عمار : إن الكريم من أكرمه
__________
(1) تكملة من كتاب صفين .
(2 - 2) صفين : " فسار أبو الأعور في مائة فارس حتى إذا كان حيث كنا بالمرة الاولى وقفوا وسار في عشرة بعمرو ، وسار عمار في اثنى عشر فارسا حتى اختلفت أعناق الخيل ...
" .
(3) صفين : " وحرضت على ذلك " .
(4) صفين : " لمسبات " .
(*)(8/21)
الله ! كنت وضيعا فرفعني الله ، ومملوكا فأعتقني الله ، وضعيفا فقوانى الله ، وفقيرا فأغناني الله ! قال عمرو : فما ترى في قتل عثمان ، قال : فتح لكم باب كل سوء ، قال عمرو : فعلى قتله ؟ قال عمار : بل الله رب على قتله وعلى معه ، قال عمرو : فكنت (1) فيمن قتله ؟ قال : كنت مع من قتله ، وأنا اليوم أقاتل معهم ، قال عمرو : فلم قتلتموه ؟ قال عمار : إنه أراد أن يغير ديننا فقتلناه ، فقال عمرو : ألا تسمعون ؟ قد إعترف بقتل إمامكم ! فقال عمار ، قد قالها فرعون قبلك لقومه : " ألا تستمعون " (2) .
فقام أهل الشام ولهم زجل فركبوا خيولهم ، ورجعوا ، وقام عمار وأصحابه فركبوا خيولهم ورجعوا ، وبلغ معاوية ما كان بينهم ، فقال : هلكت العرب إن حركتهم - خفة العبد الاسود - يعنى عمارا (3) .
قال نصر : فحدثنا عمرو بن شمر ، قال : فخرجت (4) الخيول إلى القتال واصطفت بعضها لبعض ، وتزاحف الناس وعلى عمار درع بيضاء ، وهو يقول : أيها الناس ، الرواح إلى الجنة .
فقاتل القوم قتالا شديدا لم يسمع السامعون بمثله ، وكثرت القتلى حتى أن كان الرجل ليشد طنب فسطاطه بيد الرجل أو برجله .
وحكى الاشعث بعد ذلك ، قال لقد رأيت أخبية صفين وأروقتها ، وما فيها خباء ولا رواق ولا فسطاط إلا مربوطا بيد إنسان أو برجله .
قال نصر : وجعل أبو السماك الاسدي يأخذ اداوة من ماء وشفرة حديدة ، فيطوف في القتلى ، فإذا رأى رجلا جريحا وبه رمق أقعده فيقول له : من أمير المؤمنين ؟ فإذا قال :
__________
(1) صفين : " أكنت " .
(2) من الاية 25 في سورة الشعراء (3) صفين 377 - 384 .
(4) صفين : " وخرج للقتال " أي عمار .
(*)(8/22)
" على " غسل الدم عنه ، وسقاه من الماء ، وإن سكت وجأه بالسكين حتى يموت ولا يسقيه (1) .
قال نصر : وحدثنا عمرو بن شمر ، عن جابر ، قال : سمعت الشعبى ، يقول : قال الاحنف بن قيس : والله إنى إلى جانب عمار بن ياسر ، [ بينى وبينه رجل من بنى الشعيراء ] (2) .
فتقدمنا حتى دنونا من هاشم بن عتبة ، فقال له عمار : احمل فداك أبى وأمى ! فقال له هاشم : يرحمك الله يا أبا اليقظان ! إنك رجل تأخذك خفة في الحرب ، وإنى إنما أزحف باللواء زحفا ، أرجو أن أنال بذلك حاجتى ، وإن خففت لم آمن الهلكة ، وقد كان قال معاوية لعمرو : ويحك ! إن اللواء اليوم مع هاشم بن عتبة ، وقد كان من قبل يرقل به إرقالا وإن زحف به اليوم زحفا إنه لليوم الاطول على أهل الشام ، فإن زحف في عنق (3) من أصحابه ، إنى لاطمع أن تقتطع .
فلم يزل به عمار حتى حمل ، فبصر به معاوية ، فوجه إليه حماة أصحابه ومن يزن (4) بالبأس والنجدة منهم في ناحية وكان في ذلك الجمع عبد الله بن عمرو بن العاص ، ومعه يومئذ سيفان قد تقلد بأحدهما ، وهو يضرب بالاخر ، فأطافت به خيول على عليه السلام ، وجعل عمرو يقول : يا الله ، يا رحمن ! ابني ، ابني ! فيقول معاوية اصبر فلا بأس عليه .
فقال عمرو : لو كان يزيد بن معاوية أصبرت (5) ! فلم يزل حماة أهل الشام تذب عن (6) عبد الله حتى نجا هاربا على فرسه (7) [ ومن معه ، وأصيب هاشم في المعركة ] (2) .
__________
(1) صفين 385 .
(2) من صفين .
(3) عنق : أي جماعة .
(4) أي يتهم .
(5) صفين : " إذا لصبرت " .
(6) صفين : " يذبون عنه " .
(7) صفين 385 ، 386 .
(*)(8/23)
قال نصر : وحدثنا عمر بن سعد ، قال : وفي هذا اليوم قتل عمار بن ياسر رضى الله عنه ، أصيب في المعركة ، وقد كان قال حين نظر إلى راية عمرو بن العاص : والله إنها لراية قد قاتلتها ثلاث عركات وما هذه بأرشدهن ، ثم قال : نحن ضربناكم على تأويله * كما ضربناكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله * أو يرجع الحق إلى سبيله * ثم استسقى وقد اشتد عطشه ، فأتته امرأة طويلة اليدين ، ما أدرى أعس معها أم إداوه فيها ضياح (1) من لبن ! فقال حين شرب : " الجنة تحت الاسنه ، اليوم ألقى الا حبه ، محمدا وحزبه ، " والله لو ضربونا حتى يبلغونا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق ، وأنهم على الباطل .
ثم حمل وحمل عليه ابن حوى السكسكى (2) وأبو العادية ، فأما أبو العادية فطعنه ، وأما ابن حوى فاحتز رأسه ، وقد كان ذو الكلاع يسمع عمرو ابن العاص ، يقول : إن النبي صلى الله عليه يقول لعمار : " تقتلك الفئة الباغية ، وآخر شربك ضياح من لبن " ، فقال ذو الكلاع لعمرو : ويحك ما هذا ! قال عمرو : إنه سيرجع إلينا ، ويفارق أبا تراب ، وذلك قبل أن يصاب عمار ، فلما أصيب عمار في هذا اليوم أصيب ذو الكلاع ، فقال عمرو لمعاوية : والله ما أدرى بقتل أيهما أنا أشد فرحا ! والله لو بقى ذو الكلاع حتى يقتل عمار لمال بعامة قومه إلى على ، ولافسد علينا أمرنا (3) ..قال نصر : وحدثنا عمر بن سعد ، قال : كان لا يزال رجل يجئ فيقول لمعاوية وعمرو ة أنا قتلت عمارا ، فيقول له عمرو : فما سمعته يقول ؟ فيخلط ، حتى أقبل ابن حوى (4) ،
__________
(1) الضياح بالفتح : اللبن الرقيق الكثير الماء .
(2) صفين : " ابن جون الكسكوني " ، وفي مروج الذهب 2 : 21 : " أبو حواء السكسكي " .
(3) صفين : " جندنا " 386 ، 387 .
(4) صفين : " ابن جون " .
(*)(8/24)
فقال : أنا قتلته ، فقال عمرو : فما كان آخر منطقه ، قال : سمعته يقول : " اليوم ألقى الا حبه ، محمدا وحزبه " .
فقال : صدقت ، أنت صاحبه ، أما والله ما ظفرت يداك ، ولقد أسخطت ربك (1) .
قال نصر : حدثنا عمرو بن شمر ، قال : حدثنى إسماعيل السدى ، عن عبد خير الهمداني ، قال : نظرت إلى عمار بن ياسر يوما من أيام صفين ، قد رمى رمية فأغمى عليه فلم يصل الظهر ولا العصر ولا المغرب ولا العشاء ولا الفجر ، ثم أفاق فقضاهن جميعا يبدأ بأول شئ فاته ، ثم بالتى تليها (2) .
قال نصر : وحدثنا عمرو بن شمر ، عن السدى عن أبى حريث ، قال : أقبل غلام لعمار بن ياسر ، اسمه راشد ، يحمل إليه يوم قتل بشربة من لبن ، فقال عمار : أما إنى سمعت خليلي رسول الله صلى الله عليه يقول : " إن آخر زادك من الدنيا شربة لبن " (3) .
قال نصر : وروى عمرو بن شمر ، عن السدى ، أن رجلين بصفين اختصما في سلب عمار وفى قتله ، فأتيا عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقال : ويحكما اخرجا عنى ! فإن رسول الله صلى الله عليه قال : " ما لقريش (4) ولعمار ! يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار .
قاتله وسالبه في النار " .
__________
(1) صفين : 387 - 388 .
(2) صفين : 388 .
(3) صفين : 388 .
(4) العبارة في صفين : " ولعت قريش بعمار ، مالهم ولعمار ...
" (*)(8/25)
قال السدى ، فبلغني أن معاوية قال لما سمع ذلك : إنما قتله من أخرجه ، يخدع بذلك طغام أهل الشام (1) .
قال نصر : وحدثنا عمرو ، عن جابر عن أبى الزبير ، قال أتى حذيفة بن اليمان رهط من جهينة ، فقالوا له : يا أبا عبد الله ، إن رسول الله صلى الله عليه استجار من أن تصطلم أمته (2) ، فأجير من ذلك واستجار من أن يذيق (3) أمته بعضها بأس بعض ، فمنع من ذلك ، فقال حذيفة : إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه سلم ، يقول : إن ابن سمية لم يخير بين أمرين قط إلا اختار أشدهما - يعنى عمارا - فالزموا سمته " (4) .
قال نصر : وحدثنا عمرو بن شمر ، قال : حمل عمار ذلك اليوم على صف أهل الشام وهو يرتجز : كلا ورب البيت لا أبرح أجى * حتى أموت أو أرى ما أشتهى لا أفتا الدهر أحامي عن على (5) * صهر الرسول ذى الامانات الوفى ينصرنا رب السموات العلى (6) * ويقطع الهام بحد المشرفى يمنحنا النصر على من يبتغى (7) * ظلما علينا جاهدا ما يأتلى قال : فضرب أهل الشام حتى اضطرهم إلى الفرار (8) .
__________
(1) صفين : 388 : 389 .
(2) تصطلم : تستأصل .
(3) صفين : " واستجار من أن يذوق بعضها بأس بعض " .
(4) صفين : 389 .
(5) صفين : " أنا مع الحق أحامي عن على " .
(6) صفين : نقتل أعداءه وينصرنا العلى .
(7) صفين : " والله ينصرنا " .
(8) صفين : 389 .
(*)(8/26)
قال نصر : وقد كان عبد الله بن سويد الحميرى من آل ذى الكلاع ، قال لذى الكلاع ! ما حديث سمعته من ابن العاص في عمار ؟ فأخبره ، فلما قتل عمار خرج عبد الله ليلا يمشى ، فأصبح في عسكر على عليه السلام ، وكان عبد الله من عباد أهل زمانه ، وكاد أهل الشام أن يضطربوا لولا أن معاوية قال لهم : إن عليا قتل عمارا ، لانه أخرجه إلى الفتنة .
ثم أرسل معاوية إلى عمرو : لقد أفسدت على أهل الشام ، أكل ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه تقوله ! فقال عمرو : قلتها ولست أعلم الغيب ، ولا أدرى أن صفين تكون ! قلتها وعمار يومئذ لك ولى ، وقد رويت أنت فيه مثل ما رويت .
فغضب معاوية وتنمر لعمرو ، وعزم على منعه خيره ، فقال عمرو لابنه وأصحابه : لا خير في جوار معاوية ، إن تجلت هذه الحرب عنه لافارقنه - وكان عمرو حمى الانف ، قال (1) : تعاتبني أن قلت شيئا سمعته * وقد قلت لو أنصفتني مثله قبلى أنعلك فيما قلت نعل ثبيتة * وتزلق بى في مثل ما قلته نعلي وما كان لى علم بصفين أنها * تكون وعمار يحث على قتلى ولو كان لى بالغيب علم كتمتها * وكايدت أقواما مراجلهم تغلى (2) أبى الله إلا أن صدرك واغر * على بلا ذنب جنيت ولا ذحل سوى أننى والراقصات عشية * بنصرك مدخول الهوى ذاهل العقل فلا وضعت عنى حصان قناعها * ولا حملت وجناء ذعلبة رحلى (3) ولا زلت أدعى في لؤى بن غالب * قليلا غنائي لا أمر ولا أحلى إن الله أرخى من خناقك مرة * ونلت الذى رجيت إن لم أزر أهلى
__________
(1) صفين : " فقال في ذلك " .
(2) ب : " كابدت " تصحيف صوابه من د .
(3) الوجناء : الناقة الشديدة ، شبهت بالوجين من الارض ، وهو الارض الصلبة .
والذعلبة : السريعة (*)(8/27)
وأترك لك الشام التى ضاق رحبها * عليك ، ولم يهنك بها العيش من أجلى فأجابه معاوية : الان لما ألقت الحرب بركها * وقام بنا الامر الجليل على رجل غمزت قناتي بعد ستين حجة * تباعا كأنى لا أمر ولا أحلى أتيت بأمر فيه للشام فتنة * و في دون ما اظهرته زلة النعل فقلت لك القول الذى ليس ضائرا * ولو ضر لم يضررك حملك لى ثقلى تعاتبني في كل يوم وليلة * كأن الذى أبليك ليس كما أبلى (1) فيا قبح الله العتاب وأهله * ألم تر ما أصبحت فيه من الشغل ! فدع ذا لكن هل لك اليوم حيلة * ترد بها قوما مراجلهم تغلى ! دعاهم على فاستجابوا لدعوة * أحب إليهم من ثرى المال والاهل إذا قلت هابوا حومة الموت أرقلوا * إلى الموت إرقال الهلوك إلى الفحل قال : فلما أتى عمرا شعر معاوية أتاه ، فاعتبه (2) وصار أمرهما واحدا .
قال " نصر : ثم إن عليا عليه السلام دعا في هذا اليوم هاشم بن عتبة ومعه لواؤه [ وكان اعور ] (3) فقال له : يا هاشم (4) حتى متى ! فقال هاشم : لاجهدن إلا أرجع إليك أبدا .
فقال على عليه السلام إن بإزائك ذا الكلاع ، وعنده الموت الاحمر .
فتقدم هاشم
__________
(1) صفين : " فعاتبتني " .
(2) أعتبه : أرضاه .
(3) من صفين .
(4) صفين : " يا هاشم حتى متى تأكل الخبز وتشرب الماء ؟ فقال هاشم : لاجهدن على ألا أرجع إليك أبدا ، قال على : إن بإزاك ذا الكلاع وعنده الموت الاحمر ! فتقدم هاشم فلما أقبل قال معاوية : من هذا المقبل ؟ فقيل : هاشم المرقال .
، فقال : أعور بني زهرة ! قاتله الله ! وقال : إن حماة اللواء ربيعة ، فأجبلوا القداح ، فمن خرج سهمه غيبته لهم ، فخرج سهم ذى الكلاع لبكر بن وائل ، فقال : ترحك الله من سهم كرهت الضراب ! وإنما كان جل أصحاب على أهل اللواء من بيعة ، لانه أمر حماة منهم أن يحاموا عن اللواء ، فأقبل هاشم وهو يقول " .
(*)(8/28)
فلما أقبل ، قال معاوية من هذا المقبل ؟ فقيل : هاشم المرقال ، فقال : أعور بنى زهرة ! قاتله الله ! فأقبل هاشم وهو يقول : أعور يبغى نفسه خلاصا * مثل الفنيق لابسا دلاصا (1) لا دية يخشى ولا قصاصا * كل امرئ وإن كبا وحاصا (2) * ليس يرى من يومه مناصا * فحمل صاحب لواء ذى الكلاع - وهو رجل من عذرة فقال : يا أعور العين وما بي من عور * أثبت فإنى لست من فرعى مضر نحن اليمانون وما فينا خور * كيف ترى وقع غلام من عذر ! ينعى ابن عفان ويلحى من عذر * سيان عندي من سعى ومن أمر فاختلفا طعنتين ، فطعنه هاشم فقتله ، وكثرت القتلى حول هاشم ، وحمل ذو الكلاع ، واختلط الناس واجتلدوا ، فقتل هاشم وذو الكلاع جميعا ، وأخذ عبد الله بن هاشم اللواء وارتجز ، فقال : يا هاشم بن عتبة بن مالك * أعزز بشيخ من قريش هلك ! تحيطه الخيلان بالسنابك * في أسود من نقعهن حالك أبشر بحور العين في الارائك * والروح والريحان عند ذلك (3) قال نصر : وحدثنا عمر بن سعد ، عن الشعبى قال : أخذ عبد الله بن هاشم بن عتبة راى : ابيه ، ثم قال أيها الناس ، إن هاشما كان عبدا من عباد الله الذى قدر أرزاقهم ،
__________
(1) بعده في صفين : * قد حرب الحرب ولا أناصا * (2) حاص : هرب .
(3) صفين 393 - 395 .
(*)(8/29)
وكتب آثارهم ، وأحصى أعمالهم ، وقضى آجالهم ، فدعاه الله ربه فاستجاب لامره (1) ، وسلم لامره ، وجاهد في طاعة ابن عم رسوله .
أول من آمن به ، وأفقههم في دين الله ، الشديد على اعداء الله ، المستحلين حرم الله ، الذين عملوا في البلاد بالجور والفساد ، واستحوذ عليهم الشيطان ، فأنساهم ذكر الله ، وزين لهم الاثم والعدوان ، فحق عليكم جهاد من خالف الله ، وعطل حدوده ، ونابذ اولياءه .
جودوا بمهجكم في طاعة الله في هذه الدنيا ، تصيبوا الاخرة والمنزل الاعلى ، والابد الذى لا يفنى .
فوالله لو لم يكن ثواب ولا عقاب ، ولا جنة ولا نار ، لكان القتال مع على أفضل من القتال مع معاوية ، فكيف وأنتم ترجون ما ترجون ! قال نصر : وحدثنا عمرو بن شمر ، قال : لما انقضى أمر صفين ، وسلم الحسن عليه السلام الامر إلى معاوية ، ووفدت عليه الوفود ، أشخص عبد الله بن هاشم إليه أسيرا ، فلما مثل بين يديه ، وعنده عمرو بن العاص ، قال : يا امير المؤمنين ، هذا المختال ابن المرقال ، فدونك الضب المضب (2) المغر المفتون فاقتله ، فان العصا من العصية وإنما تلد الحية حيية ، وجزاء السيئة سيئة مثلها .
فقال عبد الله : إن تقتلني فما أنا بأول رجل خذله قومه ، وأسلمه يومه .
فقال عمرو : يا أمير المؤمنين أمكنى منه أشخب أوداجه على أثباجه .
فقال عبد الله : فهلا كانت هذه الشجاعة منك يا بن العاص في أيام صفين ، ونحن ندعوك إلى النزال ، وقد ابتلب أقدام الرجال من نقيع الجريال (3) ، وقد تضايقت بك المسالك ، وأشرفت منها على المهالك ! وايم الله لولا مكانك منه لرميتك بأحد من وقع الاشافى (4) فإنك لا تزال تكثر في
__________
(1) د " له " .
(2) المضب : الملازم .
(3) الجريال : صبغ أحمر ، ويريد به الدم .
(4) الاشافي : جمع إشفى ، وهو مخصف الاسكاف .
(*)(8/30)
هوسك ، وتخبط في دهسك ، وتنشب في مرسك [ تخبط العشواء في الليلة الحندس الظلماء ] (1) .
فأمر (2) معاوية به إلى الحبس ، فكتب عمرو إلى معاوية (2) : أمرتك أمرا حازما فعصيتني * وكان من التوفيق قتل ابن هاشم وكان أبوه يا معاوية الذى * رماك على حرب بحز الغلاصم فقتلنا حتى جرت من دمائنا (3) * بصفين أمثال البحور الخضارم وهذا ابنه ، والمرء يشبه أصله * ستقرع إن أبقيتة سن نادم ! فبعث معاوية بالشعر إلى عبد الله بن هاشم ، فكتب في جوابه من السجن : معاوى إن المرء عمرا أبت له * ضغينة صدر ودها غير سالم يرى لك قتلى يابن حرب ، وإنما * يرى ما يرى عمرو ملوك الاعاجم على أنهم لا يقتلون أسيرهم * إذا كان فيه منعة للمسالم وقد كان منا يوم صفين نفرة * عليك ، جناها هاشم وابن هاشم قضى الله فيها ما قضى ثمت انقضى * وما ما مضى إلا كأضغاث حالم فإن تعف عنى تعف عن ذى قرابة * وان تر قتلى تستحل محارمي هذه رواية نصر بن مزاحم (4)
__________
(1) من صفين .
(2 - 2) صفين : " قال فأعجب معاوية ما سمع من كلام ابن هاشم فأمر به إلى السجن وكف عن قتله ، فبعث إليه عمرو بأبيات يقول له " .
(3) صفين : * فما برحوا حتى جرت من دمائنا * (4) صفين : 395 ، 360 .
(*)(8/31)
وروى أبو عبيدالله محمد بن موسى بن عبيدالله المرزبانى ، أن معاوية لما تم له الامر بعد وفاة على عليه السلام ، بعث زيادا على البصرة ونادى منادى معاوية : أمن الاسود والاحمر بأمان الله ، إلا عبد الله بن هاشم بن عتبة ! فمكث معاوية يطلبه أشد الطلب ، ولا يعرف له خبرا ، حتى قدم عليه رجل من أهل البصرة ، فقال له : أنا أدلك على عبد الله ابن هاشم بن عتبة ، اكتب إلى زياد ، فإنه عند فلانة المخزومية ، فدعا كاتبه فكتب : من معاوية بن أبى سفيان أمير المؤمنين إلى زياد بن أبى سفيان ، أما بعد فإذا أتاك كتابي هذا ، فاعمد إلى حى بنى مخزوم ، ففتشه دارا دارا ، حتى تأتى إلى دار فلانة المخزومية ، فاستخرج عبد الله بن هاشم المرقال منها ، فاحلق راسه ، وألبسه جبة شعر ، وقيده ، وغل يده إلى عنقه ، واحمله على قتب بعير بغير وطاء ولا غطاء ، وانفذ به إلى .
قال المرزبانى : فأما الزبير بن بكار فإنه قال : إن معاوية قال لزياد لما بعثه إلى البصرة إن عبد الله بن المرقال في بنى ناجية بالبصرة عند امرأة منهم يقال لها فلانة وأنا أعزم عليك إلا حططت رحلك ببابها ، ثم اقتحمت الدار واستخرجته منها ، وحملته إلى .
فلما دخل زياد إلى البصرة سأل عن بنى ناجية ، وعن منزل المرأة فاقتحم الدار ، واستخرج عبد الله (1) منها ، فأنفذه إلى معاوية فوصل إليه يوم الجمعة وقد لاقى نصبا كثيرا ، ومن الهجير ما غير جسمه ، وكان معاوية يأمر بطعام فيتخذ في كل جمعة لاشراف قريش ولاشراف الشام ووفود العراق ، فلم يشعر معاوية إلا وعبد الله بين يديه ، وقد ذبل وسهم وجهه ، فعرفه ولم يعرفه عمرو بن العاص ، فقال معاوية يا أبا عبد الله ، أتعرف هذا الفتى ؟ قال لا ، قال : هذا ابن الذى كان يقول في صفين : أعور يبغى أهله محلا * قد عالج الحياة حتى ملا * لابد أن يفل أو يفلا * قال عمرو : وإنه لهو ! دونك الضب المضب فاشخب أوداجه ، ولا ترجعه إلى أهل
__________
(1) ب : " واستخرجه " .
(*)(8/32)
العراق فإنهم أهل فتنة ونفاق ، وله مع ذلك هوى يرديه ، وبطانة تغويه فوالذي نفسي بيده لئن أفلت من حبائلك ، ليجهزن إليك جيشا تكثر صواهله ، لشر يوم لك .
فقال عبد الله وهو في القيد : يابن الابتر ، هلا كانت هذه الحماسة عندك يوم صفين ، ونحن ندعوك إلى البراز ، وتلوذ بشمائل الخيل كالامة السوداء والنعجة القوداء (1) ! أما إنه إن قتلني قتل رجلا كريم المخبرة ، حميد المقدرة (2) ، ليس بالجبس المنكوس ، ولا الثلب (3) المركوس .
فقال عمرو : دع كيت وكيت ، فقد وقعت بين لحيى لهزم فروس للاعداء ، يسعطك إسعاط الكودن (4) الملجم .
قال عبد الله : أكثر إكثارك ، فإنى أعلمك بطرا في الرخاء ، جبانا في اللقاء هيابة عند كفاح الاعداء ، ترى أن تقى مهجتك بأن تبدى سوأتك .
أنسيت صفين وأنت تدعى إلى النزال ، فتحيد عن القتال ، خوفا أن يغمرك رجال لهم أبدان شداد ، وأسنة حداد ، ينهبون السرح ، ويذلون العزيز ! قال عمرو : لقد علم معاوية أنى شهدت تلك المواطن ، فكنت فيها كمدرة الشوك ، ولقد رأيت أباك في بعض تلك المواطن تخفق أحشاؤه ، وتنق أمعاؤه .
قال : أما والله لو لقيك أبى في ذلك المقام ، لارتعدت منه فرائصك ، ولم تسلم منه مهجتك ، ولكنه قاتل غيرك فقتل دونك .
فقال معاوية ألا تسكت لا أم لك ! فقال : يا بن هند ، أتقول لى هذا ! والله لئن شئت لاعرقن جبينك ، ولاقيمنك وبين عينيك وسم يلين له أخدعاك .
أبأكثر من الموت تخوفنى ! فقال معاوية أو تكف يا بن أخى ! وأمر به إلى السجن .
فقال عمرو : وذكر الابيات ، فقال عبد الله : وذكر الابيات أيضا ، وزاد : " فأطرق معاوية طويلا حتى ظن أنه لن يتكلم " ثم قال :
__________
(1) القوداء : الذليلة المنقادة .
(2) المقدرة ، مثلثة الدال : القوة واليسار .
(3) الثلب : المعيب .
(4) الكودن : البرذون يوكف ويشبه به البليد .
(*)(8/33)
أرى العفو عن عليا قريش وسيلة * إلى الله في اليوم العبوس القماطر ولست أرى قتلى فتى ذا قرابة * له نسب في حى كعب وعامر بل العفو عنه بعد ما خاب قدحه * وزلت به إحدى الجدود العواثر وكان أبوه يوم صفين محنقا * علينا فأردته رماح يحابر ثم قال له : أتراك فاعلا ما قال عمرو من الخروج علينا ! قال ، لا تسل عن عقيدات الضمائر ، لا سيما إذا أرادت جهادا في طاعة الله .
قال : إذن يقتلك الله كما قتل أباك ، قال : ومن لى بالشهادة ! قال : فأحسن معاوية جائزته ، وأخذ عليه موثقا ألا يساكنه بالشام فيفسد عليه أهله .
قال نصر : وحدثنا عمرو بن شمر ، عن السدى ، عن عبد خير الهمداني ، قال : قال هاشم ابن عتبة يوم مقتله : أيها الناس ، إنى رجل ضخم ، فلا يهولنكم مسقطي إذا سقطت ، فإنه لا يفرغ منى أقل من نحر جزور ، حتى يفرغ الجزار من جزرها .
ثم حمل فصرع ، فمر عليه رجل وهو صريع بين القتلى ، فناداه : اقرأ على أمير المؤمنين السلام ، وقل له : بركات الله ورحمته عليك (1) يا أمير المؤمنين ، أنشدك الله إلا أصبحت وقد ربطت مقاود خيلك بارجل القتلى ، فإن الدبرة تصبح غدا لمن غلب على القتلى .
فأخبر الرجل عليا عليه السلام بما قاله ، فسار في الليل بكتائبه حتى جعل القتلى خلف ظهره ، فأصبح والدبرة له على أهل الشام (1) .
قال نصر : وحدثنا عمرو بن شمر ، عن السدى ، عن عبد خير ، قال : قاتل هاشم الحارث بن المنذر التنوخى ، حمل عليه بعد أن أعيا وكل ، وقتل بيده ، فطعنه بالرمح فشق بطنه فسقط ، وبعث إليه على عليه السلام وهو لا يعلم : أقدم بلوائك ، فقال للرسول : انظر
__________
(1) ساقطة من ب .
(2) صفين 401 .
(*)(8/34)
إلى بطني ، فإذا هو قد انشق ، فجاء على عليه السلام حتى وقف عليه ، وحوله عصابة من أسلم قد صرعوا معه ، وقوم من القراء ، فجزع عليه ، وقال : جزى الله خيرا عصبة أسلمية * صباح الوجوه صرعوا حول هاشم يزيد وسعدان وبشر ومعبد * وسفيان ، وابنا معبد ذى المكارم وعروة لا يبعد نثاه وذكره (1) * إذا اخترطت يوما خفاف الصوارم (2) قال نصر : وحدثنا عمر بن سعد ، عن الشعبى ، عن أبى سلمة (3) ، أن هاشم بن عتبة استصرخ الناس عند المساء : (4) ألا من كان له إلى الله حاجة ومن كان يريد الاخرة فليقبل (4) .
فأقبل إليه ناس كثير شد بهم على أهل الشام مرارا ، ليس من وجه يحمل عليه إلا صبروا له ، فقاتل قتالا شديدا ثم قال لاصحابه : لا يهولنكم ما ترون من صبرهم ، فوالله ما ترون منهم إلا حمية العرب وصبرها تحت راياتها ، وعند مراكزها ، وإنهم لعلى الضلال ، وإنكم لعلى الحق ، يا قوم اصبروا وصابروا واجتمعوا ، وامشوا بنا إلى عدونا على تؤده ، رويدا .
واذكروا الله ، ولا يسلمن رجل أخاه ، ولا تكثروا الالتفات ، واصمدوا صمدهم ، وجالدوهم محتسبين حتى يحكم الله بيننا وبينهم ، وهو خير الحاكمين .
قال أبو سلمة فبينا هو وعصابة من القراء يجالدون أهل الشام ، إذ طلع عليهم فتى شاب ، وهو يقول : أنا ابن أرباب ملوك غسان * والدائن اليوم بدين عثمان
__________
(1) نثاه : خبره .
(2) اخترطت : سلت ، والخبر في صفين 404 ، 405 .
(3) صفين : " عن عمرو بن شمر ، عن رجل " .
(4 - 4) صفين : " ألا من كان يريد الله والدار الاخرة فليقل " (5) صفين : " غسان " .
(*)(8/35)
أنبأنا قراؤنا بما كان (1) * أن عليا قتل ابن عفان ثم شد لا ينثنى حتى يضرب بسيفه ، ثم جعل يلعن عليا ويشتمه ويسهب في ذمه ، فقال له هاشم بن عتبة : يا هذا ، إن الكلام بعده الخصام ، وإن لعنك سيد الابرار بعده عقاب النار ، فاتق الله ، فإنك راجع إلى ربك فيسألك عن هذا الموقف وعن هذا المقال (2) .
قال الفتى : إذا سألني ربى قلت : قاتلت أهل العراق ، لان صاحبهم لا يصلى كما ذكر لى ، وإنهم لا يصلون ، وصاحبهم قتل خليفتنا ، وهم آزروه على قتله .
فقال له هاشم : يا بنى ، وما أنت وعثمان ! إنما قتله اصحاب محمد ، الذين هم أولى بالنظر في أمور المسلمين ، وإن صاحبنا كان أبعد القوم عن دمه ، وأما قولك : " إنه لا يصلى " ، فهو أول من صلى مع رسول الله وأول من آمن به .
وأما قولك : إن أصحابه لا يصلون ، فكل من ترى معه قراء الكتاب ، لا ينامون الليل تهجدا ، فاتق الله واخش عقابه ، ولا يغررك من نفسك الاشقياء الضالون .
فقال الفتى : يا عبد الله ، لقد دخل قلبى وجل من كلامك ، وإنى لاظنك صادقا صالحا ، وأظنني مخطئا آثما فهل لى من توبة ؟ قال : نعم ، ارجع إلى ربك وتب إليه ، فإنه يقبل التوبة ويعفو عن السيئات ، ويحب التوابين ويحب المتطهرين .
فرجع الفتى إلى صفه منكسرا نادما ، فقال له قوم من أهل الشام : خدعك العراقى ! قال : لا ، ولكن نصحنى العراقى (3) .
قال نصر : وفى قتل هاشم وعمار تقول امرأه من أهل الشام : لا تعدموا قوما أذاقوا ابن ياسر * شعوبا ولم يعطوكم بالخزائم
__________
(1) صفين : " أنبأنا أقواما " (2) صفين : " وما أردت به " (3) صفين 403 ، 404 .
(*)(8/36)
فنحن قتلنا اليثربي ابن محصن * خطيبكم وابنى بديل وهاشم (1) قال نصر : أما اليثربي ، فهو عمرو بن محصن الانصاري ، وقد رثاه النجاشي شاعر اهل العراق ، فقال : لنعم فتى الحيين عمرو بن محصن * إذا صارخ الحى المصبح ثوبا (2) إذا الخيل جالت بينها قصد القنا (3) * يثرن عجاجا ساطعا متنصبا لقد فجع الانصار طرا بسيد * أخى ثقة في الصالحات مجربا فيا رب خير قد افدت ، وجفنة * ملات وقرن قد تركت مسلبا (4) ويارب خصم قد رددت بغيظه * فآب ذليلا بعد أن كان مغضبا وراية مجد قد حملت وغزوة * شهدت إذ النكس الجبان تهيبا حويطا على جل العشيرة ماجدا * وما كنت في الانصار نكسا مؤنبا (5) طويل عماد المجد رحبا فناؤه * خصيبا إذا ما رائد الحى أجدبا عظيم رماد النار لم يك فاحشا * ولا فشلا يوم النزال مغلبا وكنت ربيعا ينفع الناس سيبه * وسيفا جرازا باتك الحد مقضبا فمن يك مسرورا بقتل ابن محصن * فعاش شقيا ثم مات معذبا وغودر منكبا لفيه ووجهه * يعالج رمحا ذا سنان وثعلبا (6) فإن يقتلوا الحر الكريم ابن محصن * فنحن قتلنا ذا الكلاع وحوشبا
__________
(1) صفين 405 .
(2) المصبح : الدى صحبته الغارة ، والتثويب : الاستصراخ .
(3) صفين : " فخيبا " .
(5) صفين : " حووطا " .
(6) الثعلب : طرف الرمح (*)(8/37)
وإن يقتلوا ابني بديل وهاشما * فنحن تركنا منكم القرن أعضبا ونحن تركنا حميرا في صفوفكم * لدى الحرب صرعى كالنخيل مشذبا وأفلتنا تحت الاسنة مرثد * وكان قديما في الفرار مدربا ونحن تركنا عند مختلف القنا * أخاكم عبيدالله لحما ملحبا بصفين لما ارفض عنه رجالكم * ووجه ابن عتاب تركناه ملغبا (1) وطلحة من بعد الزبير ولم ندع * لضبة في الهيجا عريفا ومنكا (2) ونحن أحطنا بالبعير وأهله * ونحن سقيناكم سماما مقشبا (3) قال نصر : وكان ابن محصن من أعلام أصحاب على عليه السلام ، قتل في المعركة ، وجزع على عليه السلام لقتله .
قال : وفى قتل هاشم بن عتبة ، يقول ابو الطفيل عامر بن واثلة الكنانى ، وهو من الصحابة - وقيل إنه آخر من بقى من صحب رسول الله صلى الله عليه ، وشهد مع على صفين ، وكان من مخلصي الشيعة : يا هاشم الخير جزيت الجنه * قاتلت في الله عدو السنه والتاركي الحق وأهل الظنه * أعظم بما فزت به من منه ! صيرني الدهر كانى شنه * وسوف تعلو حول قبري رنه (4) * من زوجة وحوبة وكنه *
__________
(1) صفين : " عنه صفوفكم " .
ملغب ، من اللغب ، وهو التعب والنصب (2) العريف : النقيب دون الرئيس ، والمنكب : من يعاونه .
(3) المقشب : المخلوط .
(4) الرنة : الندب والعويل على الميت (*)(8/38)
قال نصر : والحوبة (1) القراب : ، يقال : لى في نبى فلان حوبة أي قربى (2) .
قال نصر : وقال رجل من عذرة ، من أهل الشام : لقد رأيت أمورا كلها عجب * وما رأيت كأيام بصفينا لما غدوا وغدونا كلنا حنق * كما رأيت الجمال الجلة الجونا خيل تجول وأخرى في أعنتها * وآخرون على غيظ يرامونا ثم ابتذلنا سيوفا في جماجمهم * وما نساقيهم من ذاك يجزونا كأنها في أكف القوم لامعة * سلاسل البرق يجد عن العرانينا ثم انصرفنا كأشلاء مقطعة * وكلهم عند قتلاهم يصلونا (3) قال نصر : وقال رجل (4) لعدى بن حاتم الطائى ، وكان من جملة أصحاب على عليه السلام : يا أبا طريف ، ألم أسمعك تقول يوم الدار : " والله لا تحبق فيها عناق حولية " (5) ! وقد رأيت ما كان فيها ! - وقد كان فقئت عين عدى ، وقتل بنوه فقال : أما والله لقد حبقت في قتله العناق والتيس الاعظم (6) .
قال نصر : وحدثنا عمرو بن شمر ، قال بعث على عليه السلام خيلا ليحبسوا عن معاوية مادته ، فبعث معاوية الضحاك بن قيس الفهرى في خيل إلى تلك الخيل ، فأزالوها
__________
(1) وفي اللسان عن أبي عبيد : " وهي عندي كل حرمة تضيع إن تركتها ، من أم أو أخت أو ابنة أو غيرها " .
(2) صفين 407 ، 408 .
(3) صفين 405 ، 406 .
(4) صفين : " نصر عن عمرو بن شمر بإسناده " .
(5) الحبق : ضراط المعز ، والعناق : الانثى من ولد المعز .
(6) صفين 408 ، 409 .
(*)(8/39)
وجاءت عيون على عليه السلام فأخبروه بما كان ، فقال لاصحابه : ما ترون فيما هاهنا ؟ فقال بعضهم : نرى كذا ، وقال بعضهم : نرى كذا ، فلما زاد الاختلاف ، قال على عليه السلام : اغدوا إلى القتال فغاداهم إلى القتال ، فانهزمت صفوف الشام من بين يديه ذلك اليوم ، حتى فر عتبة بن أبى سفيان عشرين فرسخا عن موضع المعركة فقال النجاشي فيه من قصيدة أولها : لقد أمعنت يا عتب الفرارا * وأورثك الوغى خزيا وعارا فلا يحمد خصاك سوى طمر * إذا أجريته انهمر انهمارا وقال كعب بن جعيل - وهو شاعر أهل الشام - بعد رفع المصاحف ، يذكر أيام صفين ويحرض معاوية : معاوى لا تنهض بغير وثيقة * فإنك بعد اليوم بالذل عارف تركتم عبيدالله بالقاع مسندا * يمج نجيعا والعروق نوازف ألا إنما تبكى العيون لفارس * بصفين أجلت خيله وهو واقف ينوء وتعلوه شآبيب من دم * كما لاح في جيب القميص اللفائف (1) تبدل من أسماء أسياف وائل * وأى فتى لو أخطاته المتالف ! ألا إن شر الناس في الناس كلهم * بنو أسد ، إنى بما قلت عارف وفرت تميم سعدها وربابها * وخالفت الجعراء فيمن يخالف (2) وقد صبرت حول ابن عم محمد * على الموت شهباء المناكب شارف فما برحوا حتى رأى الله صبرهم * وحتى أتيحت بالاكف المصاحف
__________
(1) الجعراء : لقب بنى العنبر بن عمرو بن تميم .
(2) ورد هذا البيت وتاليه في كتاب صفين منسوبين إلى أبي جهمة الاسدي ، يرد بهما على كعب ابن جعيل .
(*)(8/40)
وقد تقدم ذكر هذه الابيات بزيادة على ما ذكرناه الان (1) .
قال نصر : وهجا كعب بن جعيل عتبة بن أبى سفيان وعيره بالفرار ، وكان كعب من شيعة معاوية لكنه هجا عتبة تحريضا له ، فهجاه عتبة جوابا ، فقال له : وسميت كعبا بشر العظام * وكان أبوك يسمى الجعل (2) وإن مكانك من وائل * مكان القراد من است الجمل (3) قال نصر : ثم كانت بين الفريقين الوقعة المعروفة بوقعة الخميس ، حدثنا بها عمر ابن سعد ، عن سليمان الاعمش ، عن إبراهيم النخعي ، قال : حدثنا القعقاع بن الابرد الطهوى ، قال : والله إنى لواقف قريبا من على عليه السلام بصفين يوم وقعة الخميس ، وقد التقت مذحج - وكانوا في ميمنة على عليه السلام - وعك لخم وجذام والاشعريون ، وكانوا مستبصرين في قتال على عليه السلام ، فلقد والله رأيت ذلك اليوم من قتالهم ، وسمعت من وقع السيوف على الرؤوس وخبط الخيول بحوافرها في الارض وفى القتلى ، ما الجبال تهد ، ولا (4) الصواعق تصعق ، بأعظم من هؤلاء في الصدور من تلك الاصوات .
ونظرت إلى على عليه السلام وهو قائم ، فدنوت منه فأسمعه يقول : لا حول ولا قوة إلا بالله ! اللهم إليك الشكوى وأنت المستعان ! ثم نهض حين قام قائم الظهيرة وهو يقول : ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ، وأنت خير الفاتحين .
وحمل على الناس بنفسه ، وسيفه مجرد بيده ، فلا والله ما حجز بين الناس ذلك اليوم إلا الله رب العالمين ، في قريب من ثلث الليل
__________
(1) صفين 410 ، 411 .
(2) صفين : " سمى الجعل " .
(3) صفين : 412 .
(4) تهد : تحدث صوتا ، والهدة : الصوت .
(*)(8/41)
الاول ، وقتلت يومئذ أعلام العرب ، وكان في راس على عليه السلام ثلاث ضربات ، وفى وجهه ضربتان .
قال نصر : وقد قيل : إن عليا عليه السلام لم يخرج قط ، وقتل في هذا اليوم خزيمة ابن ثابت ذو الشهادتين ، وقتل من أهل الشام عبد الله بن ذى الكلا ع الحميرى ، فقال معقل بن نهيك بن يساف الانصاري : يا لهف نفسي ومن يشفى حزازتها * إذ أفلت الفاسق الضليل منطلقا وأفلت الخيل عمرو وهى شاحبة * تحت العجاج تحث الركض والعنقا (1) وافت منية عبد الله إذ لحقت * قب الخيول به ، أعجز بمن لحقا وانساب مروان في الظلماء مستترا * تحت الدجى كلما خاف الردى أرقا وقال مالك الاشتر : نحن قتلنا حوشبا * لما غدا قد أعلما و ذا الكلاع قبله * ومعبدا إذ أقدما إن تقتلوا منا أبا * اليقظان شيخا مسلما فقد قتلنا منكم * سبعين كهلا مجرما أضحوا بصفين وقد لاقوا نكالا مؤثما وقالت ضبيعة بنت خزيمة بن ثابت ذى الشهادتين ترثى أباها رحمه الله .
عين جودى على خزيمة بالدمع * قتيل الاحزاب يوم الفرات قتلوا ذا الشهادتين عتوا * أدرك الله منهم بالترات ! قتلوه في فتية غير عزل * يسرعون الركوب في الدعوات نصروا السيد الموفق ذا العدل ، * ودانوا بذاك حتى الممات
__________
(1) العنق : ضرب من السير .
(*)(8/42)
لعن الله معشرا قتلوه * ورماهم بالخزى والافات (1) قال نصر : وحدثنا عمر بن سعد ، عن الاعمش ، قال : كتب معاوية إلى أبى أيوب خالد بن زيد الانصاري ، صاحب منزل رسول الله صلى الله عليه وآله - وكان سيدا معظما من سادات الانصار ، وكان من شيعة على عليه السلام - كتابا ، وكتب إلى زياد بن سمية - وكان عاملا لعلى عليه السلام على بعض فارس - كتابا ثانيا .
فأما كتابه إلى أبى أيوب فكان سطرا واحدا : " حاجيتك ! لا تنسى الشيباء أبا عذرها ، ولا قاتل بكرها " ، فلم يدر أبو أيوب ما هو ! قال : فأتى به عليا عليه السلام فقال : يا أمير المؤمنين ، إن معاوية كهف المنافقين ، كتب إلى بكتاب لا أدرى ما هو .
قال على عليه السلام : فأين الكتاب ؟ فدفعه إليه ، فقرأه ، وقال : نعم ، هذا مثل ضربه لك ، يقول : لا تنسى الشيباء أبا عذرها .
والشيباء : المرأة البكر ليلة افتضاضها ، لا تنسى بعلها الذى افترعها أبدا ، ولا تنسى قاتل بكرها ، وهو أول ولدها ، كذلك لا أنسى أنا قتل عثمان .
وأما الكتاب الذى كتبه إلى زياد ، فإنه كان وعيدا وتهددا ، فقال زياد : ويلى على معاوية ، كهف المنافقين وبقية الاحزاب ! يتهددني ويتوعدني ، وبيني وبينه ابن عم محمد ، معه سبعون ألفا ، سيوفهم على عواتقهم ، يطيعونه (2) في جميع ما يأمرهم به ، لا يلتفت رجل منهم وراءه حتى يموت ! أما والله لو ظفر ثم خلص إلى ليجدنني أحمر ضرابا بالسيف .
قال نصر : أحمر أي مولى .
فلما ادعاه معاوية عاد عربيا منافيا .
__________
(1) صفين 413 - 416 .
(2) صفين : " ومعه سبعون ألفا طوائع ، سيوفهم عند أذقانهم " .
(*)(8/43)
قال نصر : وروى عمرو بن شمر أن معاوية كتب في أسفل كتابه إلى أبى أيوب : أبلغ لديك أبا أيوب مالكة * أنا وقومك مثل الذئب والنقد (1) إما قتلتم أمير المؤمنين فلا * ترجوا الهوادة منا آخر الابد (2) إن الذى نلتموه ظالمين له * أبقت حزازته صدعا على كبدي (3) إنى حلفت يمينا غير كاذبة * لقد قتلتم إماما غير ذى أود (4) لا تحسبوا أننى أنسى مصيبته * وفى البلاد من الانصار من أحد قد أبدل الله منكم خير ذى كلع * واليحصبيين أهل الخوف والجند (5) إن العراق لنا فقع بقرقرة * أو شحمة بزها شاو ولم يكد (6) والشام ينزلها الابرار ، بلدتها * أمن ، وبيضتها عريسة الاسد (7) فلما قرئ الكتاب على على عليه السلام ، قال لشد ما شحذكم معاوية ! يا معشر الانصار أجيبوا الرجل ، فقال أبو أيوب : يا أمير المؤمنين ، إنى ما أشاء أن أقول شيئا من الشعر يعيا به الرجال إلا قلته ، فقال : فأنت إذا أنت .
فكتب أبو أيوب إلى معاوية : أما بعد ، فإنك كتبت : " لا تنسى الشيباء أبا عذرها ولا قاتل بكرها " ، فضربتها مثلا بقتل عثمان ، وما نحن وقتل عثمان ! إن الذى تربص بعثمان
__________
(1) المألكة : الرسالة .
والنقد : جنس صغير من الغنم ، يكون بالبحرين .
(2) صفين : " عندي آخر الابد " .
(3) صفين : " حرارته " .
(4) الاود : الاعوجاج .
(5) الجند ، بالتحريك : مدينة باليمن ، وفي صفين : " أهل الحق والجند " .
(6) الفقع : البيضاء الرخوة من الكمأة .
والقرقرة : الارض المنخفضة ، ويقال في المثل : " هو أذل من فقع بقرقرة " ، لانه لا يمتنع على من جناه ، أو لانه يداس بالارجل .
(7) صفين : " وحومتها عريسة الاسد " .
(*)(8/44)
وثبط يزيد بن أسد وأهل الشام عن نصرته لانت ، وإن الذين قتلوه لغير الانصار ، وكتب في آخر كتابه : لا توعدنا ابن حرب إننا نفر * لا نبتغى ود ذى البغضاء من أحد (1) واسعوا جميعا بنى الاحزاب كلكم * لسنا نريد رضاكم آخر الابد نحن الذين ضربنا الناس كلهم * حتى استقاموا وكانوا عرضة الاود والعام قصرك منا إن ثبت لنا * ضرب يزيل بين الروح والجسد (2) أما على فإنا لا نفارقه * ما رفرف الال في الدوية الجرد (2) إما تبدلت منا بعد نصرتنا * دين الرسول أناسا ساكنى الجند لا يعرفون أضل الله سعيهم * إلا اتباعكم ، يا راعى النقد فقد بغى الحق هضما شر ذى كلع * واليحصبيون طرا بيضة البلد (4) قال : فلما أتى معاوية كتاب أبى أيوب كسره (5) .
قال نصر : وحدثنا عمرو بن شمر ، قال : حدثنى مجالد ، عن الشعبى ، عن زياد ابن النضر الحارثى ، قال : شهدت مع على عليه السلام صفين ، فاقتتلنا مرة ثلاثة أيام ، وثلاث ليال ، حتى تكسرت الرماح ، ونفدت السهام ، ثم صرنا إلى المسايفة ، فاجتلدنا بها إلى نصف الليل ، حتى صرنا نحن وأهل الشام في اليوم الثالث ، يعانق بعضنا بعضا ، ولقد قاتلت ليلتئذ بجميع السلاح ، فلم يبق شئ من السلاح إلا قاتلت به ، حتى تحاثينا بالتراب ،
__________
(1) صفين : " إننا بشر " .
(2) صفين : " أن أقمت لنا " .
(3) الدوية : المفازة ، وفي صفين : " الداوية " ، وهما سواء .
والجرد : الفضاء لا نبات فيه .
(4) اليحصبيون : بنو يحصب ، وهم بطن في حمير .
(5) صفين 417 - 419 .
(*)(8/45)
وتكادمنا بالافواه ، حتى صرنا قياما ينظر بعضنا إلى بعض ، ما يستطيع أحد من الفريقين أن ينهض إلى صاحبه ، ولا يقاتل ، فلما كان نصف الليل من الليلة الثالثة ، انحاز معاوية وخيله من الصف ، وغلب على عليه السلام على القتلى ، فلما أصبح أقبل على أصحابه يدفهم وقد قتل كثير منهم ، وقتل من أصحاب معاوية أكثر ، وقتل فيهم تلك الليلة شمر بن ابرهة (1) .
قال نصر : وحدثنا عمرو ، عن جابن عن تميم ، قال : والله إنى لمع على عليه السلام ، إذ أتاه علقمة بن زهير الانصاري ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن عمرو بن العاص يرتجز في الصف بشعر ، أفأسمعكه ؟ قال : نعم ، قال : إنه يقول : إذا تخازرت وما بى من خزر (2) * ثم كسرت العين من غير عور (3) ألفيتني ألوى بعيد المستمر (4) * ذا صولة في المصمئلات الكبر (5) أحمل ما حملت من خير وشر * كالحية الصماء في أصل الحجر فقال على : اللهم العنه ، فإن رسولك لعنه ، قال علقمة وإنه يا أمير المؤمنين يرتجز برجز آخر ، فأنشدك ؟ قال : قل ، فقال : أنا الغلام القرشى المؤتمن * الماجد الابلج ليث كالشطن ترضى بى الشام إلى أرض عدن * يا قادة الكوفة ، يا أهل الفتن (6)
__________
(1) صفين 420 .
(2) التخازر : تصنع الخزر ، وهو ضيق العين .
(3) صفين : " ثم خبأت العين " .
(4) الالوى : القوى الشديد المراس .
(5) المصمئلات : الوقائع الشديدة ، وأصل المصمئلة : الداهية .
(6) بعده في صفين : * يأيها الاشراف من أهل اليمن * (*)(8/46)
أضربكم ولا أرى أبا حسن (1) * كفى بهذا حزنا من الحزن ! فضحك على عليه السلام ، وقال إنه لكاذب ، وإنه بمكانى لعالم ، كما قال العربي : " غير الوهى ترقعين وأنت مبصرة " ، ويحكم ! أرونى مكانه ، لله أبوكم ، وخلاكم ذم ! وقال محمد بن عمرو بن العاص : لو شهدت جمل مقامي ومشهدي (2) * بصفين يوما شاب منها الذوائب غداة غدا أهل العراق كأنهم * من البحر موج لجه متراكب وجئناهم نمشي صفوفا كأننا * سحاب خريف صففته الجنائب فطارت إلينا بالرماح كماتهم * وطرنا إليهم والسيوف قواضب فدارت رحانا واستدارت رحاهم * سراة نهار ما تولى المناكب إذا قلت يوما قد ونوا برزت لنا * كتائب منهم وارحجنت كتائب وقالوا نرى من رأينا أن تبايعوا * عليا ، فقلنا بل نرى أن نضاربا (3) فأبنا وقد أردوا سراة رجالنا (4) * وليس لما لاقوا سوى الله حاسب فلم أر يوما كان أكثر باكيا * ولا عارضا منهم كميا يكالب كأن تلالى البيض فينا وفيهم * تلالؤ برق في تهامة ثاقب (5)
__________
(1) بعده في صفين : * أعنى عليا وابن عم المؤتمن * (2) صفين : " وموقفي " .
(3) في البيت إقواء .
(4) صفين : " نالوا سراة رجالنا " .
(5) في صفين : " فرد عليه محمد بن على بن أبي طالب : لو شهدت جمل مقامك أبصرت * مقام لئيم وسط تلك الكتائب أتذكر يوما لم يكن لك فخره * وقد ظهرت فيها عليك الجلائب وأعطيتمونا ما نقمتم أذلة * على غير تقوى الله والذين واصب (*)(8/47)
وقال النجاشي يذكر عليا عليه السلام ، وجده في الامر : إنى إخال عليا غير مرتدع * حتى تقام حقوق الله والحرم أما ترى النقع معصوبا بلمته * كأنه الصقر في عرنينه شمم (1) غضبان يحرق نابيه على حنق (2) * كما يغط الفنيق المصعب القطم (3) حتى يزيل ابن حرب عن إمارته * كما تنكب تيس الحبلة الحلم (4) قال نصر : وحدثنا عمر بن سعد عن الشعبى ، قال : بلغ النجاشي أن معاوية تهدده فقال : (5) يأيها الرجل المبدى عداوته * روى لنفسك أي الامر تأتمر ! لا تحسبني كأقوام ملكتهم * طوع الاعنة لما ترشح الغدر وما علمت بما أضمرت من حنق * حتى أتتنى به الركبان والنذر إذا نفست على الانجاد مجدهم (6) * فابسط يديك ، فإن الخير مبتدر واعلم بأن على الخير من نفر * شم العرانين لا يعلوهم بشر لا يجحد الحاسد الغضبان فضلهم (7) * ما دام بالحزن من صمائها حجر نعم الفتى أنت إلا أن بينكما * كما تفاضل ضوء الشمس والقمر
__________
(1) في صفين : " نقع القبائل في عرنينه شمم " .
(2) صفين : " تابيه بحرته " .
(3) المصعب : الفحل ، والقطم : المشتهى للضراب .
(4) صفين 420 - 424 ، وبعد هذا البيت هناك : لو تروه كمثل الصقر مرتبئا * يخفقن من حوله العقبان والرخم (5) في صفين : " وقال النجاشي أيضا يمدح عليا ويهجو معاوية ، وقد بلغه أنه يتهدده " .
(6) صفين : " الامجاد " .
(7) صفين : " لا يرتقى الحاسد الغضبان مجدهم " .
(*)(8/48)
ولا إخالك إلا لست منتهيا * حتى يمسك من أظفاره ظفر لاتحمدن امرأ حتى تجربه * ولا تذمن من لم يبله الخبر إنى امرؤ قلما أثنى على أحد * حتى أرى بعض ما يأتي وما يذر وإن طوى معشر عنى عداوتهم * في الصدر أو كان في أبصارهم خزر أجمعت عزما جراميزى بقافية * لا يبرح الدهر منها فيهم أثر (1) قال : فلما بلغ معاوية هذا الشعر ، قال : ما أراه إلا قد قارب (2) .
قال نصر : وحدثنا عمر بن سعد ، عن محمد بن إسحاق أن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب ، كان يحمل على الخيل يوما ، فجاءه رجل ، فقال هل من فرس يابن ذى الجناحين ! قال : تلك الخيل فخذ أيتها شئت ، فلما ولى قال ابن جعفر إن تصب أفضل الخيل تقتل ، فما عتم أن أخذ أفضل الخيل ، فركبه ثم حمل على فارس قد كان دعاه إلى البراز ، فقتله الشامي ، وحمل غلامان آخران من أهل العراق ، حتى انتهيا إلى سرادق معاوية ، فقتلا عنده ، وأقبلت الكتائب بعضها نحو بعض ، فاقتتلت قياما في الركب ، لا يسمع السامع إلا وقع السيوف على البيض والدرق .
وقال عمرو بن العاص : أجئتم إلينا تسفكون دماءنا * وما رمتم وعر من الامر أعسر لعمري لما فيه يكون حجاجنا * إلى الله أدهى لو عقلتم وأنكر تعاورتم ضربا بكل مهند * إذا شد وردان تقدم قنبر (3) كتائبكم طورا تشد وتارة * كتائبنا فيها القنا والسنور (4)
__________
(1) يقال : ضم فلان جراميزه ، إذا رفع ما انتشر من ثيابه ثم مضى ، يريد أنه أجمع أمره ومضى ، ويريد بالقافية الشعر بقوله في الهجاء ، وفي صفين : " جمعت صبرا " .
(2) صفين 424 .
(3) قنبر غلام على ، ووردان غلام عمرو بن العاص .
(4) السنور : الدروع .
(*)(8/49)
إذا ما التقوا يوما تدارك بينهم * طعان وموت في المعارك أحمر قال رجل من كلب مع معاوية يهجو أهل العراق ويوبخهم : لقد ضلت معاشر من نزار * إذا انقادوا لمثل أبى تراب وإنهم وبيعتهم عليا * كواشمة التغضن بالخضاب تزين من سفاهتها يديها * وتحسر باليدين عن النقاب فإياكم وداهية نئودا * تسير إليكم تحت العقاب (1) إذا ساروا سمعت لحافتيهم * دويا مثل تصفيق السحاب (2) يجيبون الصريخ إذا دعاهم * وقد طعن الفوارس بالحراب (3) عليهم كل سابغة دلاص * وأبيض صارم مثل الشهاب (4) وقال أبو حية بن غزية الانصاري ، وهو الذى عقر الجمل يوم البصرة ، واسمه عمرو : سائل حليلة معبد عن بعلها * وحليلة اللخمى وابن كلاع (5) واسأل عبيدالله عن فرساننا * لما ثوى متجدلا بالقاع (6) واسأل معاوية المولى هاربا * والخليل تمعج وهي جد سراع (7) ما ذا يخبرك المخبر منهم * عنهم وعنا عند كل وقاع (8) إن يصدقوك يخبروك بأننا * أهل الندى قدما مجيبو الداعي
__________
(1) النئود : الداهية .
والعقاب : الراية .
(2) صفين : " إذا هشوا " .
(3) الصريخ : المستغيث .
(4) الدلاص : الدرع .
(5) صفين : " عن فعلنا " .
(6) د : " متجدلا " .
(7) تمعج : تسرع ، وفي صفين : " والخيل تعدو " .
(8) الوقاع : المواقعة في الحرب .
(*)(8/50)
إن يصدقوك يخبروك بأننا * نحمى الحقيقة كل يوم مصاع (1) ندعو إلى التقوى ونرعى أهلها * برعاية المأمون لا المضياع ونسن للاعداء كل مثقف * لدن وكل مشطب قطاع (2) وقال عدى بن حاتم الطائى : أقول لما أن رأيت المعمعه * واجتمع الجندان وسط البلقعه هذا على والهدى حقا معه * يا رب فاحفظه ولا تضيعه فإنه يخشاك رب فارفعه * ومن أراد عيبه فضعضعه * أو كاده بالبغى منك فاقمعه * وقال النعمان بن جعلان الانصاري : سائل بصفين عنا عند غدوتنا * أم كيف كنا إلى العلياء نبتدر (3) ! وسل غداة لقينا الازد قاطبة * يوم البصيرة لما استجمعت مضر لولا الاله وعفو من أبى حسن * عنهم ، وما زال منه العفو ينتظر (4) لما تداعت لهم بالمصر داعية * إلا الكلاب ، وإلا الشاء والحمر كم مقعص قد تركناه بمقفرة * تعوى السباع عليه وهو منعفر (5) ما إن يؤوب ولا ترجوه أسرته * إلى القيامة حتى ينفخ الصور (6) قال عمرو بن الحمق الخزاعى :
__________
(1) المصاع : المجالدة والقتال .
وفي صفين : " عند كل مصاع " .
(2) سيف مشطب : فيه شطب ، وهى الخطوط والطرائق .
(3) صفين : " وكيف كنا غداة المحك نبتدر " .
(4) البيت في صفين : لولا الاله وقوم قد عرفتهم * فيهم عفاف ، وما يأتي به القدر (5) المقعص : المقتول بمكانه ، أو المجهز عليه .
(6) صفين : " ما إن تراه ولا يبكى علانية " .
(*)(8/51)
تقول عرسي لما أن رأت أرقي * ماذا يهيجك من أصحاب صفينا ! ألست في عصبة يهدى الاله بهم * لا يظلمون ، ولا بغيا يريدونا فقلت إنى على ما كان من رشد (1) * أخشى عواقب أمر سوف يأتينا إدالة القوم في أمر يراد بنا * فاقنى حياء وكفى ما تقولينا (2) وقال حجر بن عدى الكندى : يا ربنا سلم لنا عليا * سلم لنا المهذب التقيا (3) المؤمن المسترشد الرضيا * واجعله هادى أمة مهديا واحفظه رب حفظك النبيا * لا خطل الرأى ولا غبيا (4) فإنه كان لنا وليا * ثم ارتضيه بعده وصيا (5) قال نصر : وحدثنا عمر بن سعد ، عن الشعبى ، قال : قال الاحنف بن قيس في صفين لاصحابه : هلكت العرب ! قالوا له : وإن غلبنا يا أبا بحر ؟ قال : نعم ، قالوا : وإن غلبنا ؟ قال : نعم ، قالوا : والله ما جعلت لنا مخرجا .
فقال الاحنف : إنا إن غلبناهم لم نترك بالشام رئيسا إلا ضربنا عنقه وإن غلبونا لم يعرج بعدها رئيس عن معصية الله إبدا .
قال نصر : وحدثنا عمر بن سعد ، عن الشعبى ، قال : ذكر معاوية يوما صفين بعد عام الجماعة ، وتسليم الحسن عليه السلام الامر إليه ، فقال للوليد بن عقبة : أي بنى عمك
__________
(1) صفين : " من سدر " .
(2) اقنى حياء ، أي الزمى الحياء .
(3) د صفين : " النقيا " .
(4) في الاصول : " بغيا " ، وما أثبته من صفين .
(5) صفين 440 .
(*)(8/52)
كان أفضل يوم صفين [ يا وليد ] (1) ، عند وقدان الحرب ، واستشاطة لظاها حين قاتلت الرجال على الاحساب ؟ قال : كلهم قد وصل كنفيها عند انتشار وقعتها ، حتى ابتلت أثباج الرجال من الجريال ، بكل لدن عسال ، وبكل عضب قصال ، فقال عبد الرحمن بن خالد بن الوليد : أما والله لقد رأيتنا يوما من الايام ، وقد غشينا ثعبان في مثل الطود الارعن ، قد أثار قسطلا حال بيننا وبين الافق ، وهو على أدهم شائل الغرة ، - يعنى عليا عليه السلام - يضرب بسيفه ضرب غرائب الابل ، كاشرا عن نابه كشر المخدر الحرب ، فقال معاوية : نعم إنه كان يقاتل عن ترة له وعليه (2) .
قال نصر : وحدثنا عمر بن سعد ، عن الشعبى ، قال أرسل على عليه السلام إلى معاوية : أن أبرز إلى وأعف الفريقين من القتال ، فأينا قتل صاحبه كان الامر له .
فقال عمرو : لقد أنصفك الرجل ، فقال معاوية أنا أبارز الشجاع الاخرق ، أظنك يا عمرو طمعت فيها فلما ! لم يجب قال على عليه السلام وانفساه ! أيطاع معاوية وأعصى ! ما قاتلت أمة قط أهل بيت نبيها وهى مقره بنبيها غير هذه الامة ! ثم إن عليا عليه السلام أمر الناس أن يحملوا على أهل الشام ، فحملوا ، فنقضوا صفوف الشام ، فقال عمرو : على من هذا الرهج الساطع ؟ قالوا : على ابنيك عبد الله ومحمد ، فقال عمرو : يا وردان ، قدم لوائى ، فارسل إليه معاوية إنه ليس على ابنيك بأس فلا تنقض الصف ، والزم موقفك ، فقال عمرو : هيهات هيهات الليث يحمى شبليه * ما خيره بعد ابنيه ! ثم تقدم باللواء ، فأدركه رسول معاوية [ فقال ] (3) : إنه ليس على ابنيك بأس ، فلا تحملن ،
__________
(1) من صفين .
(2) صفين : 440 ، 441 .
(3) من د وصفين .
(*)(8/53)
فقال : قل له : إنك لم تلدهما ، وإنى أنا ولدتهما .
وبلغ مقدم الصفوف ، فقال له الناس : مكانك ! إنه لا بأس على ابنيك ، إنهما في مكان حريز .
فقال : أسمعوني أصواتهما حتى أعلم أحيان هما أم قتيلان ! ونادى : يا وردان ، قدم لواءك قيد قوس ، فقدم لواءه ، فأرسل على عليه السلام إلى أهل الكوفة : أن احملوا ، وإلى أهل البصرة ، أن احملوا .
فحمل الناس من كل جانب ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، وخرج رجل من أهل الشام ، فقال : من يبارز ؟ فبرز إليه رجل من أهل العراق ، فاقتتلا ساعة ، وضرب العراقى الشامي على رجله ، فأسقط قدمه ، فقاتل ولم يسقط إلى الارض ، فضربه العراقى أخرى ، فأسقط يده ، فرمى الشامي سيفه إلى أهل الشام ، وقال : دونكم سيفى هذا ، فاستعينوا به على قتال عدوكم .
فاشتراه معاوية من اوليائه بعشرة آلاف درهم (1) .
قال نصر : وحدثنا مالك الجهنى ، عن زيد بن وهب ، أن عليا عليه السلام مر على جماعة من أهل الشام بصفين ، منهم الوليد بن عقبة ، وهم يشتمونه ويقصبونه (2) ، فأخبر بذلك ، فوقف على ناس من أصحابه وقال : انهدوا إليهم ، وعليكم السكينة والوقار وسيما الصالحين ، أقرب بقوم من الجهل ، قائدهم ومؤدبهم معاوية ، وابن النابغة وابو الاعور [ السلمى ] (3) ، وابن أبى معيط شارب الحرام ، والمحدود (4) في الاسلام ! [ وهم اولاءء ] (3) ، يقصبونني ويشتمونني ، وقبل اليوم ما قاتلوني وشتموني ، وأنا إذ ذاك أدعوهم إلى الاسلام وهم يدعونني إلى عبادة الاصنام ، فالحمد لله ، ولا إله إلا الله ، لقديما ما عاداني الفاسقون ، إن هذا لهو الخطب الجلل ، إن فساقا كانوا عندنا غير مرضيين ، وعلى الاسلام
__________
(1) صفين 441 ، 442 .
(2) يقصبونه : يسبونه .
(3) من صفين .
(4) صفين : " المجلود " .
(*)(8/54)
وأهله متخوفين ، أصبحوا وقد خدعوا شطر هذه الامة ، واشربوا في قلوبهم حب الفتنة واستمالوا أهواءهم بالافك والبهتان ، ونصبوا لنا الحرب ، وجدوا في إطفاء نور الله ، والله متم نوره ولو كره الكافرون .
اللهم فانهم قد ردوا الحق فافضض جمعهم ، وشتت كلمتهم ، وأبلسهم بخطاياهم ، فإنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت (1) .
قال نصر : وكان على عليه السلام ، إذا أراد الحملة هلل وكبر ، ثم قال : من أي يومى من الموت أفر * أيوم لم يقدر أو يوم قدر ! فجعل معاوية لواءه الاعظم مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، فامر على عليه السلام جارية بن قدامة السعدى أن يلقاه بأصحابه ، وأقبل عمرو بن العاص بعده في خيل ، ومعه لواء ثان ، فتقدم حتى خالط صفوف العراق فقال على عليه السلام لابنه محمدا : امش نحو هذا اللواء رويدا ، حتى إذا أشرعت الرماح في صدورهم فامسك يدك ، حتى يأتيك أمرى .
ففعل - وقد كان أعد على عليه السلام مثلهم مع الاشتر - فلما اشرع محمد الرماح في صدور القوم ، أمر على عليه السلام الاشتر أن يحمل فحمل ، فأزالهم عن مواقفهم ، وأصاب منهم رجالا ، واقتتل الناس قتالا شديدا ، فما صلى من أراد الصلاة إلا إيماء ، فقال النجاشي في ذلك اليوم يذكر الاشتر : ولما رأينا اللواء العقاب (2) * يقحمه الشانئ الاخزر كليث العرين خلال العجاج * وأقبل في خيله الابتر دعونا لها الكبش كبش العراق * وقد أضمر الفشل العسكر (3) فرد اللواء على عقبه * وفاز بحظوتها الاشتر
__________
(1) صفين : 444 ، 445 .
(2) صفين : " رأيت اللواء لواء العقاب " .
(3) صفين : " وقد خالط العسكر العسكر " .
(*)(8/55)
كما كان يفعل في مثلها * إذا ناب معصوصب منكر فإن يدفع الله عن نفسه * فحظ العراق به الاوفر إذا الاشتر الخير خلى العراق * فقد ذهب العرف والمنكر وتلك العراق ومن عرفت * كفقع تضمنه القرقر (1) قال نصر : وحدثنا محمد بن عتبة الكندى ، قال : حدثنى شيخ من حضرموت شهد مع على عليه السلام صفين ، قال : كان منا رجل يعرف بهانئ بن فهد (2) ، وكان شجاعا ، فخرج رجل من أهل الشام يدعو إلى البراز فلم يخرج إليه أحد ، فقال هانئ : سبحان الله ! ما يمنعكم أن يخرج منكم رجل إلى هذا ! فوالله لولا أنى موعوك ، وأنى أجد ضعفا شديدا لخرجت إليه ، فما رد أحد عليه ، فقام وشد عليه سلاحه ليخرج ، فقال له أصحابه : يا سبحان الله ! أنت موعوك وعكة شديدة ، فكيف تخرج ! قال : والله لاخرجن ولو قتلني ، فخرج ، فلما رآه عرفه ، وإذا الرجل من قومه من حضرموت ، يقال : له يعمر بن أسد الحضرمي ، فقال : يا هانئ ، أرجع فإنه إن يخرج إلى رجل غيرك أحب إلى ، فإنى لا أحب قتلك .
قال هانئ : سبحان الله ! أرجع وقد خرجت ، لا والله لاقاتلن اليوم حتى أقتل ، ولا أبالى قتلتنى أنت أو غيرك ! ثم مشى نحوه ، وقال : اللهم في سبيلك ونصرا لابن عم رسولك .
واختلفا ضربتين ، فقتله هانئ ، وشد أصحاب يعمر بن أسد على هانئ ، فشد أصحاب هانئ عليهم ، فاقتتلوا وانفرجوا عن اثنين وثلاثين قتيلا .
ثم إن عليا عليه السلام أرسل إلى جميع العسكر : أن احملوا ، فحمل الناس كلهم على راياتهم ، كل منهم
__________
(1) الفقع : الكمأة الرخوة ، والقرقر : الارض اللينة المطمئنة .
والشعر في صفين 451 - 452 .
(2) صفين : " ابن نمر " .
(*)(8/56)
يحمل على من بإزائه (1) ، فتجالدوا بالسيوف ، وعمد الحديد لا يسمع إلا صوت ضرب الهامات ، كوقع المطارق على السنادين ، ومرت الصلوات كلها ، فلم يصل أحد إلا تكبيرا عند مواقيت الصلاة ، حتى تفانوا ، ورق الناس ، وخرج رجل من بين الصفين ، لا يعلم من هو ، فقال : أيها الناس ، أخرج فيكم المحلقون ؟ فقيل : لا فقال إنهم سيخرجون ، ألسنتهم أحلى من العسل ، وقلوبهم أمر من الصبر ، لهم حمة كحمة الحيات .
ثم غاب الرجل فلم يعلم من هو (2) ! قال نصر : وحدثنا عمرو بن شمر ، عن السدى ، قال : اختلط أمر الناس تلك الليلة ، وزال أهل الرايات عن مراكزهم ، وتفرق أصحاب على عليه السلام عنه ، فأتى ربيعة ليلا ، فكان فيهم ، وتعاظم الامر جدا ، وأقبل عدى بن حاتم يطلب عليا عليه السلام في موضعه الذى تركه فيه فلم يجده ، فطاف يطلبه ، فأصابه بين رماح ربيعة ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أما إذ كنت حيا ، فالامر أمم ، ما مشيت إليك إلا على قتيل ، وما أبقت هذه الوقعة لهم عميدا ، فقاتل حتى يفتح الله عليك ، فإن في الناس بقية بعد .
واقبل الاشعث يلهث جزعا ، فلما رأى عليا عليه السلام هلل فكبر ، وقال : يا أمير المؤمنين ، خيل كخيل ورجال كرجال ، ولنا الفضل عليهم إلى ساعتنا هذه فعد إلى مكانك الذى كنت فيه ، فإن الناس إنما يظنونك حيث تركوك .
وارسل سعيد بن قيس الهمداني إلى على عليه السلام : إنا مشتغلون بأمرنا مع القوم ، وفينا فضل ، فإن أردت أن نمد أحدا أمددناه .
فأقبل على عليه السلام على ربيعة ، فقال : أنتم درعى ورمحي - قال : فربيعة تفخر بهذا الكلام إلى اليوم - فقال عدى بن حاتم : يا أمير المؤمنين ، إن قوما أنست بهم ، وكنت في هذه الجولة
__________
(1) صفين : " فحمل الناس على راياتهم كل قوم بحيالهم " .
(2) صفين 447 ، 448 .
(*)(8/57)
فيهم ، لعظيم حقهم ، والله إنهم لصبر عند الموت ، أشداء عند القتال - فدعا على عليه السلام بفرس رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى كان يقال له المرتجز ، فركبه ، ثم تقدم أمام الصفوف ، ثم قال : بل البغلة ، بل البغلة ، فقدمت له بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت شهباء ، فركبها ثم تعصب بعمامه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت سوداء ، ثم نادى : أيها الناس من يشر نفسه الله يربح ، إن هذا ليوم (1) له ما بعده إن عدوكم قد مسه القرح كما مسكم ، فانتدبوا لنصرة دين الله .
فانتدب له ما بين عشرة آلاف إلى اثنى عشر ألفا ، قد وضعوا سيوفهم على عواتقهم ، فشد بهم على أهل الشام ، وهو يقول : دبوا دبيب النمل لا تفوتوا * وأصبحوا في حربكم وبيتوا حتى تنالوا الثأر أو تموتوا * أولا فإنى طالما عصيت قد قلتموا لو جئتنا ! فجيت * ليس لكم ما شئتم وشيت * بل ما يريد المحيى المميت * وتبعه عدى بن حاتم بلوائه ، وهو يقول : أبعد عمار وبعد هاشم * وابن بديل فارس الملاحم نرجو البقاء ، ضل حلم الحالم * لقد عضضنا أمس بالاباهم ! فاليوم لا نقرع سن نادم * ليس امرؤ من حتفه بسالم وحمل وحمل الاشتر بعدهما في أهل العراق كافة فلم يبق لاهل الشام صف إلا أنتقض ، وأهمد أهل (2) العراق ما أتوا عليه حتى أفضى الامر إلى مضرب معاوية وعلى عليه السلام يضرب الناس بسيفه قدما قدما ، ويقول :
__________
(1) ج ، د : " إن هذا اليوم " .
(2) صفين : " وأهمدوا ما أتوا عليه " (*)(8/58)
أضربهم ولا أرى معاوية * الاخزر العين العظيم الحاويه * هوت به في النار أم هاويه * فدعا معاوية بفرسه لينجو عليه ، فلما وضع رجله في الركاب توقف وتلوم قليلا ، ثم أنشد قول عمرو بن الاطنابة : أبت لى عفتى وأبى بلائى * وأخذ الحمد بالثمن الربيح وإقدامى على المكروه نفسي * وضربي هامة البطل المشيح وقولى كلما جشأت وجاشت * مكانك تحمدى أو تستريحي لادفع عن مآثر صالحات * وأحمى بعد عن عرض صحيح بذى شطب كلون الملح صاف * ونفس ما تقر على القبيح ثم قال : يا عمرو بن العاص ، اليوم صبر وغدا فخر ، قال صدقت ، إنك وما أنت فيه ، كقول القائل (1) : ما علتى وأنا جلد نابل (2) * والقوس فيها وتر عنابل (3) تزل عن صفحتها المعابل (4) الموت حق والحياة باطل فثنى معاوية رجله من الركاب ، ونزل واستصرخ بعك والاشعريين ، فوقفوا دونه ، وجالدوا عنه ، حتى كره كل من الفريقين صاحبه ، وتحاجز الناس (5) .
__________
(1) صفين : " ابن أبي الافلح " ، وهو عاصم بن ثابت بن أبي الافلح ، صحابي ، ذكره ابن حجر في الاصابة 2 : 235 .
والرجز في اللسان 13 : 506 .
(2) في اللسان : " طب خاتل " .
(3) العنابل : الوتر الغليظ .
(4) المعابل : جمع معبلة ، وهي النصل الطويل العريض .
(5) صفين 557 - 560 .
(*)(8/59)
قال نصر : جاء رجل إلى معاوية بعد انقضاء صفين وخلوص الامر له ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن لى عليك حقا ، قال : وما هو ؟ قال : حق عظيم ! قال : ويحك ما هو ! قال : أتذكر يوما قدمت فرسك لتفر ، وقد غشيك أبو تراب والاشتر ، فلما أردت أن تستوثبه وأنت على ظهره ، أمسكت بعنانك وقلت لك : أين تذهب ! إنه للؤم بك ان تسمح العرب بنفوسها لك شهرين ، ولا تسمح لها بنفسك ساعة وأنت ابن ستين ! وكم عسى أن تعيش في الدنيا بعد هذه السن إذا نجوت ! فتلومت في نفسك ساعة ، ثم أنشدت شعرا لا احفظه ثم نزلت ! فقال : ويحك ! فانك لانت هو ! والله ما أحلني هذا المحل إلا أنت ، وأمر له بثلاثين الف درهم .
قال نصر : وحدثنا عمرو بن شمر ، عن النخعي ، عن ابن عباس ، قال : تعرض عمرو بن العاص لعلى عليه السلام يوما من أيام صفين ، وظن أنه يطمع منه في غرة فيصيبه ، فحمل عليه على عليه السلام فلما كاد ان يخالطه أذرى نفسه عن فرسه ، ورفع ثوبه وشغر برجله ، فبدت عورته ، فصرف عليه السلام وجهه عنه [ وارتث ] (1) ، وقام معفرا بالتراب ، هاربا على رجليه ، معتصما بصفوفه .
فقال أهل العراق : يا أمير المؤمنين ، أفلت الرجل ! فقال أتدرون من هو ؟ قالوا : لا ، قال : فإنه عمرو بن العاص ، تلقاني بسوءته ، فصرفت وجهى عنه ، ورجع عمرو إلى معاوية ، فقال : ما صنعت يا أبا عبد الله ؟ فقال : لقيني على فصرعني ، قال : أحمد الله وعورتك ، والله إنى لاظنك لو عرفته لما أقحمت عليه ، وقال معاوية في ذلك : ألا لله من هفوات عمرو * يعاتبني على تركي برازى
__________
(1) من صفين .
(*)(8/60)
فقد لاقى أبا حسن عليا * فآب الوائلي مآب خازى فلو لم يبد عورته لطارت * بمهجته قوادم أي بازى (1) فإن تكن المنية أخطأته * فقد غنى بها أهل الحجاز ! فغضب عمرو وقال : ما أشد تعظيمك [ عليا ] (2) أبا تراب في أمرى ! هل (3) أنا إلا رجل لقيه ابن عمه فصرعه ! أفترى السماء قاطرة لذلك دما ! قال : لا ولكنها معقبة لك خزيا (4) .
قال نصر : وحدثنا عمر بن سعد ، قال : لما اشتد الامر ، وعظم على أهل الشام ، قال معاوية لاخيه عتبة بن أبى سفيان الق الاشعث ، فإنه إن رضى رضيت العامة - وكان عتبة فصيحا - فخرج فنادى الاشعث ، فقال الاشعث : سلوا من هو المنادى ؟ قالوا : عتبة بن أبى سفيان ، قال : غلام مترف ولابد من لقائه ! فخرج إليه ، فقال : ما عندك يا عتبة ؟ فقال : أيها الرجل ، إن معاوية لو كان لاقيا رجلا غير على للقيك ، إنك رأس أهل العراق ، وسيد أهل اليمن ، وقد سلف من عثمان إليك ما سلف من الصهر والعمل ، ولست كاصحابك ، أما الاشتر فقتل عثمان ، وأما عدى فحرض عليه ، وأما سعيد بن قيس فقلد عليا ديته ، وأما شريح وزحر بن قيس فلا يعرفان غير الهوى ، وإنك حاميت عن أهل العراق تكرما ، وحاربت أهل الشام حمية وقد بلغنا منك وبلغت منا ما أردت ، وإنا لا ندعوك إلى ترك على ، ونصرة معاوية ولكنا ندعوك إلى البقية التى فيها صلاحك وصلاحنا فتكلم الاشعث ، فقال : يا عتبة ، أما قولك : " إن معاوية لا يلقى إلا عليا " ،
__________
(1) صفين : " به ليثا يذلل كل نازى " .
(2) صفين .
(3) صفين : " هو " .
(4) صفين 463 ، 464 .
(*)(8/61)
فلو لقيني والله لما عظم عنى ، ولاصغرت عنه ، وإن أحب أن أجمع بينه وبين على فعلت .
وأما قولك " إنى رأس أهل العراق ، وسيد أهل اليمن " ، فإن الرأس المتبع والسيد المطاع ، هو على بن أبى طالب وأما ما سلف من عثمان إلى ، فوالله ما زادني صهره شرفا ، ولا عمله عزا .
وأما عيبك أصحابي فإنه لا يقربك منى ولا يباعدني عنهم ، وأما محاماتي عن أهل العراق ، فمن نزل بيتا حماه ، وأما البقية فلستم بأحوج إليها منا ، وسنرى رأينا فيها .
فلما عاد عتبه إلى معاوية وابلغه قوله قال له لا تلقه بعدها فإن الرجل عظيم عند نفسه وإن كان قد جنح للسلم وشاع في أهل العراق ما قاله عتبه للاشعث وما رده الاشعث عليه فقال النجاشي يمدحه : يا بن قيس وحارث ويزيد * أنت والله رأس أهل العراق * أنت والله حية تنفث السم قليل منها غناء الراقي (1) أنت كالشمس والرجال نجوم * لا يرى ضوءها مع الاشراق قد حميت العراق بالاسل السمر وبالبيض كالبروق الرقاق وسعرت القتال في الشام بالبيض المواضى وبالرماح الدقاق لا ترى غير أذرع وأكف ورؤوس بهامها افلاق (2) كلما قلت قد تصرمت الهيجا سقيتهم بكاس دهاق قد قضيت الذى عليك من الحق وسارت به القلاس المناقى (3) أنت حلو لمن تقرب بالود وللشانئين مر المذاق بئسما ظنه ابن هند ومن مثلك في الناس عند ضيق الخناق
__________
(1) صفين : " قليل فيها " (2) أفلاق : جمع فلق وهو المكسور (3) المنافى : النياق السمينة ، جمع منقية (*)(8/62)
قال نصر فقال معاوية لما يئس من جهة الاشعث لعمرو بن العاص إن رأس الناس بعد على هو عبد الله بن العباس فلو كتبت إليه كتابا لعلك ترققه ولعله لو قال شيئا لم يخرج على منه وقد أكلتنا الحرب ولا أرانا نصل إلى العراق إلا بهلاك أهل الشام فقال عمرو إن ابن عباس لا يخدع ولو طمعت فيه لطمعت في على قال معاوية : على ذلك فاكتب فكتب عمرو إليه : أما بعد فإن الذى نحن فيه وأنتم ليس بأول أمر قاده البلاء وأنت رأس هذا الجمع بعد على فانظر فيما بقى ودع ما مضى فوالله ما أبقت هذه الحرب لنا ولا لكم حياة ولا صبرا فاعلم أن الشام لا تهلك إلا بهلاك العراق وأن العراق لا تهلك إلا بهلاك الشام فما خيرنا بعد هلاك أعدادنا منكم وما خيركم بعد هلاك أعدادكم منا ولسنا نقول : ليت الحرب عادت ولكنا نقول ليتها لم تكن وإن فينا من يكره اللقاء كما إن فيكم من يكرهه وإنما هو أمير مطاع ومأمور مطيع أو مؤتمن مشاور وهو أنت فأما الاشتر الغليظ الطبع القاسي القلب فليس بأهل أن يدعى في الشورى ولا في خواص أهل النجوى وكتب في أسفل الكتاب : طال البلاء وما يرجى له آسى * بعد الاله سوى رفق ابن عباس قولا له قول من يرجو مودته لا (1) : * لا تنس حظك إن الخاسر الناسي انظر فدى لك نفسي قبل قاصمه * للظهر ليس لهاراق ولا آسى إن العراق وأهل الشام لن يجدوا * طعم الحياة مع المستغلق القاسي يا بن الذى زمزم سقيا الحجيج له * أعظم بذلك من فخر على الناس إنى أرى الخير في سلم الشام لكم * والله يعلم ما بالسلم من باس فيها التقى وأمور ليس يجهلها إلا الجهول وما نوكى كاكياس .
__________
(1) صفين : " قول من يرضى لخطوته " .
(*)(8/63)
فلما وصل الكتاب إلى ابن عباس عرضه على أمير المؤمنين عليه السلام فضحك وقال قاتل الله ابن العاص ما اغراه بك يا عبد الله أجبه وليرد إليه شعره الفضل بن العباس فإنه شاعر فكتب ابن عباس إلى عمرو : أما بعد فإنى لا أعلم أحدا من العرب أقل حياء منك إنه مال بك معاوية إلى الهوى فبعته دينك بالثمن اليسير ثم خبطت الناس في عشوه طمعا في الدنيا فأعظمتها إعظام أهل الدنيا ثم تزعم أنك تتنزه عنها تنزه أهل الورع فإن كنت صادقا فارجع إلى بيتك ودع الطمع في مصر والركون إلى الدنيا الفانيه واعلم أن هذه الحرب ما معاوية فيها كعلى بدأها على بالحق وانتهى فيها إلى العذر وبدأها معاوية بالبغى وانتهى فيها إلى السرف وليس أهل العراق فيها كأهل الشام ، بايع أهل العراق عليا ، وهو خير منهم ، وبايع أهل الشام معاوية وهم خير منه ولست أنا وأنت فيها سواء ، أردت الله وأردت مصر ، وقد عرفت الشئ الذى باعدك منى ولا أعرف الشئ الذى قربك من معاوية ، فإن ترد شرا لا نسبقك به وان ترد خيرا لا تسبقنا إليه والسلام .
ثم دعا أخاه الفضل ، فقال : يابن أم أجب عمرا فقال الفضل : يا عمرو حسبك من مكر ووسواس * فاذهب فليس لداء الجهل من آس إلا تواتر طعن في نحوركم يشجى النفوس ويشفى نخوة الراس اما على فان الله فضله * بفضل ذى شرف عال على الناس إن تعقلوا الحرب نعقلها مخيس ة * أو تبعثوها فانا غير انكاس (1)
__________
(1) بعده في صفين : قد كان منا ومنكم في عجاجبتها * مالا يرد وكل عرضة الباس (*)(8/64)
قتلى العراق بقتلى الشام ذاهبة * هذا بهذا ، وما بالحق من باس .
(1) ثم عرض الشعر والكتاب على على عليه السلام ، فقال لا أراه يجيبك بعدها ابدا بشئ إن كان يعقل وإن عاد عدت (2) عليه .
فلما انتهى الكتاب إلى عمرو بن العاص عرضه على معاوية فقال إن قلب ابن عباس وقلب على قلب واحد ، وكلاهما ولد عبد المطلب وان كان قد خشن فلقد لان ، وإن كان قد تعظم أو عظم صاحبه فلقد قارب وجنح إلى السلم .
قال نصر وقال : معاويه لاكتبن إلى ابن عباس كتابا أستعرض فيه عقله وأنظر ما في نفسه فكتب إليه : اما بعد فانكم معشر بنى هاشم لستم إلى احد اسرع بالمساءة منكم إلى أنصار ابن عفان ، حتى إنكم قتلتم طلحة والزبير لطلبهما دمه واستعظامهما ما نيل منه فإن كان ذلك منافسة لبنى أمية في السلطان ، فقد وليها عدى وتيم فلم تنافسوهم ، واظهرتم لهم الطاعة ، وقد وقع من الامر ما ترى واكلت هذه الحروب بعضها بعضا ، حتى استوينا فيها ، فما يطمعكم فينا يطمعنا فيكم وما يؤيسنا منكم يؤيسكم منا ، ولقد رجونا غير ما كان ، وخشينا دون ما وقع ، ولست ملاقينا اليوم بأحد من حد أمس ، ولا غدا بأحد من حد اليوم ، وقد قنعنا بما في ايدينا من ملك الشام فاقنعوا بما في أيديكم من ملك العراق ، وأبقوا على قريش ، فإنما بقى من رجالها ستة : رجلان بالشام ، ورجلان بالعراق ، ورجلان بالحجاز ، فأما اللذان بالشام فأنا وعمرو ، وأما اللذان بالعراق فأنت
__________
بعده في صفين : لابارك الله في مصر لقد جلبت * شرا وحظك منها حسوة الكاس يا عمرو إننك عار من مغاورمها * - والراقصات - ومن يوم الجزاكاس (2) صفين : " فتعود إليه " : (*)(8/65)
وعلى ، وأما اللذان بالحجاز فسعد وابن عمر ، فاثنان من الستة ناصبان لك واثنان و اقفان فيك وأنت رأس هذا الجمع ولو بايع لك الناس بعد عثمان كنا اليك أسرع منا إلى على .
(1) فلما وصل الكتاب إلى ابن عباس أسخطه ، وقال : حتى متى يخطب ابن هند إلى عقلي ! وحتى متى أجمجم على ما في نفسي ! وكتب إليه : أما بعد [ فقد ] (2) أتانى كتابك ، وقرأته .
فأما ما ذكرت من سرعتنا إليك بالمساءة إلى أنصار ابن عفان ، وكراهتنا لسلطان بني أميه ، فلعمري لقد أدركت في عثمان حاجتك حين استنصرك فلم تنصره ، حتى صرت إلى ما صرت إليه .
وبيني وبينك في ذلك ابن عمك وأخو عثمان ، وهو الوليد بن عقبة .
وأما طلحة والزبير فإنهما أجلبا عليه وضيقا خناقه ، ثم خرجا ينقضان البيعة ، ويطلبان الملك ، فقاتلناهما على النكث ، كما قاتلناك على البغى وأما قولك : إنه لم يبق من قريش غير ستة ، فما أكثر رجالها ، وأحسن بقيتها ! وقد قاتلك من خيارها من قاتلك ، ولم يخذلنا إلا من خذلك ، وأما إغراؤك إيانا بعدى وتيم ، فإن أبا بكر وعمر خير من عثمان ، كما أن عثمان خير منك وقد بقي لك منا ما ينسيك ما قبله وتخاف ما بعده ، وأما قولك : لو بايع الناس لى لاستقاموا فقد بايع الناس عليا وهو خير منى فلم يستقيموا له .
وما أنت والخلافة يا معاوية ! وإنما أنت طليق وابن طليق ! والخلافة للمهاجرين الاولين : وليس الطلقاء منها في شئ ! والسلام .
فلما وصل الكتاب إلى معاوية قال : هذا عملي بنفسى ، لا أكتب والله إليه كتابا سنة كاملة وقال :
__________
(1) بعدها في صفين : " في كلام كثير كتب إليه " .
(2) من صفين .
(*)(8/66)
دعوت ابن عباس إلى جل حظه (1) * * وكان امرأ أهدى إليه رسائلي فأخلف ظنى والحوادث جمة * * وما زاد أن أغلى عليه مراجلي فقل لابن عباس : أراك مخوفا * * بجهلك حلمي ، إننى غير غافل فأبرق وأرعد ما استطعت فإننى * * إليك بما يشجيك سبط الانامل (2) .
قال نصر : وحدثنا عمر بن سعد ، قال : عقد معاوية يوما من أيام صفين الرياسة على اليمن من قريش ، قصد بذلك اكرامهم ورفع منازلهم ، منهم عبيد الله بن عمر بن الخطاب ومحمد وعتبة أبنا أبى سفيان ، وبسر بن أبى أرطاة ، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، وذلك في الوقعات الاولى من صفين ، فغم ذلك أهل اليمن ، وأرادوا ألا يتأمر عليهم أحد إلا منهم .
فقام إليه رجل من كندة ، يقال له عبد الله بن الحارث السكوني ، فقال : أيها الامير ، إني قد قلت شيئا فاسمعه ، وضعه منى على النصيحة ، قال : هات ، فأنشده : معاوى أحييت فينا الاحن * * وأحدثت بالشام ما لم يكن عقدت لبسر وأصحابه * * وما الناس حولك إلا اليمن فلا تخلطن بنا * * غيرنا * * كما شيب بالماء صفو اللبن (3) وإلا فدعنا على حالنا * * فانا وإنا إذا لم نهن ستعلم إن جاش بحر العراق * * وأبدى نواجذه في الفتن وشد على بأصحابه (4) * * ونفسك إذ ذاك عند الذقن
__________
(1) صفين : " حد " .
(2) صفين 472 ، 473 .
(3) صفين : " محصن اللبن " .
(4) صفين : " على وأصحابه " .
(*) .(8/67)
بأنا شعارك دون الدثار * * وأنا الرماح وإنا الجنن وأنا السيوف ، وأنا الحتوف * * وأنا الدروع ، وإنا المجن قال : فبكى لها معاوية ، ونظر إلى وجوه أهل اليمن ، فقال : أعن رضاكم يقول ما قال ؟ قالوا : لا مرحبا بما قال ، إنما الامر إليك فاصنع ما أحببت فقال معاوية : إنما خلطت بكم أهل ثقتى ، ومن كان لى فهو لكم ، ومن كان لكم فهو لى .
فرضى القوم وسكتوا ، فلما بلغ أهل الكوفة مقال عبد الله بن الحارث لمعاوية [ فيمن عقد له من رؤوس أهل الشام ] (1) قام ، الاعور الشنى إلى على عليه السلام ، فقال يا أمير المؤمنين ، إنا لا نقول لك كما قال صاحب أهل الشام لمعاوية ، ولكن نقول : زاد الله في سرورك (2) وهداك ! نظرت بنور الله ، فقدمت رجالا ، وأخرت رجالا .
عليك أن تقول ، وعلينا أن نفعل .
أنت الامام ، فإن هلكت فهذان من بعدك - يعنى حسنا وحسينا عليهما السلام - وقد قلت شيئا فاسمعه ، قال : هات فأنشده : أبا حسن أنت شمس النهار * * وهذان في الحادثات القمر وأنت وهذان حتى الممات * * بمنزلة السمع بعد البصر وأنتم أناس لكم سورة * * تقصر عنها أكف البشر يخبرنا الناس عن فضلكم * * وفضلكم اليوم فوق الخبر عقدت لقوم أولى نجدة * * من أهل الحياء وأهل الخطر (3) مساميح بالموت عند اللقاء * * ء منا وإخواننا من مضر ومن حى ذى يمن جلة * * يقيمون في النائبات الصعر فكل يسرك في قومه ومن قال لا ، فبفيه الحجر
__________
(1) من صفين .
(2) صفين : " زاد الله في سرورك وهداك " .
(3) صفين 384 ، 484 .
(*)(8/68)
ونحن الفوارس يوم الزبير * * وطلحة إذ قيل أودى غدر ضربناهم قبل نصف النهار * * إلى الليل حتى قضيننا الوطر ولم يأخذ الضرب إلا الرؤوس * * ولم يأخذ الطعن إلا الثغر فنحن أولئك في * * أمسنا ونحن كذلك فيما غبر قال : فلم يبق أحد من الرؤساء إلا وأهدى إلى الشنى ، [ أو اتحفه ] .
قال نصر : وحدثنا عمر بن سعد ، قال : لما تعاظمت الامور على معاوية قبل قتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب ، دعا عمرو بن العاص ، وبسر بن أبي أرطاة ، وعبيد الله ابن عمر بن الخطاب ، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، فقال لهم : إنه قد غمني مقام رجال من أصحاب على ، منهم سعيد بن قيس الهمداني في قومه ، والاشتر في قومه ، والمرقال ، وعدى بن حاتم ، وقيس بن سعد في الانصار ، وقد علمتم أن يمانيتكم وقتكم بأنفسها أياما كثيرة ، حتى لقد استحييت لكم ، وأنتم عدتهم من قريش ، وأنا أحب أن يعلم الناس أنكم أهل غناء ، وقد عبأت لكل رجل منهم رجلا منكم ، فاجعلوا ذلك إلى ، قالوا : ذاك إليك ، قال فأنا أكفيكم غدا سعيد بن قيس وقومه ، وأنت يا عمرو للمرقال أعور بنى زهرة ، وأنت يا بسر لقيس بن سعيد ، وأنت يا عبيد الله للاشتر ، وأنت يا عبد الرحمن لاعور طيئ - يعنى عدى بن حاتم - وقد جعلتها نوبا في خمسة أيام ، لكل رجل منكم يوم ، فكونوا على أعنه الخيل ، قالوا : نعم ، فأصبح معاوية في غده ، فلم يدع فارسا إلا حشده ، ثم قصد لهمدان بنفسه ، وارتجز فقال : لن تمنع الحرمة بعد العام * * بين قتيل وجريح دام (1) سأملك العراق بالشآم * * أنعى ابن عفان مدى الايام .
__________
(1) قبله في صفين : لا عيش إلا فلق قحف الهام * * من أرحب وشاكر وشبام .
(*)(8/69)
فطعن في أعرض الخيل مليا .
ثم إن همدان تنادت بشعارها .
وأقحم سعيد بن قيس فرسه على معاوية ، وأشتد القتال حتى حجز بينهم الليل ، فهمدان تذكر أن سعيدا كاد يقتنصه ، إلا أنه فاته ركضا ، وقال سعيد في ذلك : يا لهف نفسي فاتني معاوية * * فوق طمر كالعقاب هاوية * والراقصات لا يعود ثانية (1) " قال نصر : وأنصرف معاوية ذلك اليوم ، ولم يصنع شيئا ، وغدا عمرو بن العاص في اليوم الثاني في حماة الخيل ، فقصد المرقال ، ومع المرقال لواء على عليه السلام الاعظم في حماة الناس ، [ وكان عمرو من فرسان قريش ] (2) ، فارتجز عمرو ، فقال : لا عيش إن لم ألق يوما هاشما * * ذاك الذى جشمنى المجاشما (3) ذاك الذى يشتم عرضى ظالما * * ذاك الذى إن ينج منى سالما * يكن شجى حتى الممات لازما * فطعن في أعراض الخيل مزبدا ، وحمل المرقال عليه ، وارتجز فقال : لا عيش إن لم ألق يوما عمرا * * ذاك الذى أحدث فينا الغدرا أو يبدل الله بأمر أمرا (4) * * لا تجزعي يا نفس صبرا صبرا ضربا هذا ذيك وطعنا شزرا (5) * * يا ليت ما تجنى يكون القبرا !
__________
(1) والرقص : ضرب من سير الابل ، وبعده في صفين : إلا على ذات خصيل طاويه * * إن يعد اليوم فكفى عالية (2) من صفين .
(3) بعده في صفين : * ذاك الذي أقام لى المآتما * (4) صفين : " أو يحدث الله لامر أمرا " .
(5) هذا ذيك ، أي هذا بعد هذ ، يعنى قطعا بعد قطع .
(*)(8/70)
فطاعن عمرا حتى رجع ، وأنصرف الفريقان بعد شدة القتال ، ولم يسر معاوية ذلك ، وغدا بسر بن أبى أرطاة في اليوم الثالث في حماة الخيل ، فلقى قيس بن سعد ابن عبادة في كماة الانصار ، فاشتدت الحرب بينهما ، وبرز قيس كأنه فنيق مقرم ، وهو يقول : أنا ابن سعد زانه عباده * * والخزرجيون كماة ساده ليس فرارى في الوغى بعاده * * إن الفرار للفتى قلاده يا رب أنت لقنى الشهادة * * فالقتل خير من عناق غاده * حتى متى تثنى لى الوسادة * وطاعن خيل بسر ، وبرز بسر فارتجز وقال : أنا ابن أرطاة العظيم القدر * * مردد في غالب وفهر ليس الفرار من طباع بسر * * إن أرجع اليوم بغير وتر وقد قضيت في العدو نذري * * يا ليت شعرى كم بقى من عمرى ! ويطعن بسر قيسا ، ويضربه قيس بالسيف ، فرده على عقبيه ، ورجع القوم جميعا ، ولقيس الفضل وتقدم عبيد الله بن عمر بن الخطاب في اليوم الرابع ، لم يترك فارسا مذكورا إلا جمعه ، واستكثر ما استطاع ، فقال له معاوية : إنك اليوم تلقى أفعى أهل العراق ، فارفق واتئد ، فلقيه الاشتر أمام الخيل مزبدا - وكان الاشتر إذا أراد القتال أزبد - وهو يقول : يا رب قيض لى سيوف الكفره * * واجعل وفاتي بأكف الفجرة فالقتل خير من ثياب الحبره * * لا تعدل الدنيا جميعا وبره * ولا بعوضا في ثواب البرره *(8/71)
وشد على الخيل خيل الشام ، فردها فاستحيا عبيد الله وبرز أمام الخيل ، وكان فارسا شجاعا ، وقال : أنعى ابن عفان وأرجو ربى * * ذاك الذى يخرجني من ذنبي ذاك الذى يكشف عنى كربى * * إن ابن عفان عظيم الخطب يأبي له حبى بكل قلبى * * إلا طعانى دونه وضربي * حسبى الذى أنويه حسبى حسبى * فحمل عليه الاشتر ، وطعنه واشتد الامر ، وانصرف القوم ، وللاشتر الفضل .
فغم ذلك معاوية ، وغدا عبد الرحمن بن خالد في اليوم الخامس ، وكان رجاء معاوية أن ينال حاجته ، فقواه بالخيل والسلاح ، وكان معاوية يعده ولدا ، فلقيه عدى بن حاتم في كماة مذحج وقضاعة ، فبرز عبد الرحمن أمام الخيل ، وقال : قل لعدى ذهب الوعيد أنا ابن سيف الله لا مزيد وخالد يزينه الوليد * * ذاك الذى قيل له الوحيد (1) ثم حمل فطعن الناس ، فقصده عدى بن حاتم ، وسدد إليه الرمح ، وقال : أرجو إلهى وأخاف ذنبي * * ولست أرجو غير عفو ربى يابن الوليد بغضكم في قلبى * * كالهضب بل فوق قنان الهضب .
فلما كاد أن يخالطه بالرمح ، توارى عبد الرحمن في العجاج ، واستتر بأسنة أصحابه ، واختلط القوم ، ثم تحاجزوا ، ورجع عبد الرحمن مقهورا ، وانكسر معاوية ، وبلغ أيمن ابن خزيم ما لقى معاوية وأصحابه ، فشمت بهم ، وكان ناسكا من أنسك أهل الشام ، وكان معتزلا للحرب في ناحية عنها ، فقال :
__________
(1) صفين : " ذاك الذي هو فيكم الوحيد " .
(*)(8/72)
معاوى إن الامر لله وحده * * وإنك لا تسطيع ضرا ولا نفعا عبأت رجالا من قريش لعصبة * * يمانية لا تستطيع لها دفعا فكيف رأيت الامر إذ جد جده * * لقد زادك الامر الذى جئته جدعا تعبي لقيس أو عدى بن حاتم * * والاشتر ، يا للناس أغمارك الجدعا وتجعل للمرقال عمرا وإنه * * لليث لقى من دون غايته ضبعا وإن سعيدا إذ برزت لرمحه * * لفارس همدان الذى يشعب الصدعا ملى بضرب الدارعين بسيفه * * إذ الخيل أبدت من سنابكها نقعا رجعت فلم تظفر بشئ تريده * * سوى فرس أعيت وأبت بها ظلعا فدعهم فلا والله لا تستطيعهم * * مجاهرة فاعمل لقهرهم خدعا قال : وإن معاوية أظهر لعمرو شماتة ، وجعل يقرعه ويوبخه ، وقال : لقد أنصفتكم ، إذ لقيت سعيد بن قيس في همدان ، وفررتم .
وإنك لجبان يا عمرو .
فغضب عمرو ، وقال : فهلا برزت إلى على إذ دعاك إن كنت شجاعا كما تزعم ! وقال : تسير إلى ابن ذى يزن سعيد * * وتترك في العجاجة من دعاكا فهل لك في أبى حسن على * * لعل الله يمكن من قفاكا ! دعاك إلى البراز فلم تجبه * * ولو نازلته تربت يداكا وكنت أصم ، إذ ناداك عنها * * وكان سكوته عنها مناكا فآب الكبش قد طحنت رحاه بنجدته وما طحنت رحاكا فما أنصفت صحبك يا بن هند * * أتفرقه وتغضب من كفاكا فلا والله ما أضمرت خيرا * * ولا أظهرت لى إلا هواكا(8/73)
قال وإن القرشيين استحيوا ما صنعوا ، وشمت بهم اليمانية من أهل الشام ، فقال معاويه : يا معشر قريش ، والله لقد قربكم لقاء القوم إلى الفتح ولكن لا مرد لامر الله ، ومم تستحيون إنما لقيتم كباش العراق ، فقتلتم منهم وقتلوا منكم ، وما لكم على من حجة لقد عبأت نفسي لسيدهم وشجاعهم سعيد بن قيس .
فانقطعوا عن معاوية أياما ، فقال معاوية [ في ذلك ] (1) : لعمري لقد أنصفت والنصف عادتي * * وعاين طعنا في العجاج المعاين ولو لا رجائي أن تئوبوا بنهزة (2) وأن تغسلوا عارا وعته الكنائن لناديت للهيجا رجالا سواكم * * ولكنما تحمى الملوك البطائن أتدرون من لاقيتم ، فل جيشكم ! لقيتم ليوثا أصحرتها العرائن (3) لقيتم صناديد العراق ومن بهم * * إذا جاشت الهيجاء تحمى الظعائن وما كان منكم فارس دون فارس * * ولكنه ما قدر الله كائن ! فلما سمع القوم ما قاله معاوية ، أتوه فاعتذروا إليه ، واستقاموا إليه على ما يحب .
(4) قال نصر : وحدثنا عمرو بن شمر ، قال : لما اشتد القتال وعظم الخطب ، أرسل معاوية إلى عمرو بن العاص : أن قدم عكا والاشعريين إلى من بازائهم .
فبعث عمرو إليه أن بإزاء عك همدان (5) .
فبعث إليه معاوية " أن قدم عكا .
فأتاهم عمرو .
فقال : يا معشرعك ، إن عليا قد عرف أنكم حى أهل الشام ، فعبأ لكم حى أهل العراق همدان ،
__________
(1) من صفين .
(2) صفين : " أن تبوءوا " .
(3) أصحرتها : أبرزتها .
والعرائن : جمع عرين ، مسكن الاسد .
(4) صفين 482 - 492 .
(5) صفين : " أن همدان بإزاء عك " .
(*)(8/74)
فاصبروا وهبوا إلى جماجمكم ساعة من النهار ، فقد بلغ الحق مقطعه .
فقال ابن مسروق العكى : أمهلنى حتى آتى معاوية ، فأتاه فقال : يا معاوية ، أجعل لنا فريضة ألفى رجل في ألفين ألفين ، ومن هلك فأبن عمه مكانه ، لنقر اليوم عينك .
فقال : لك ذلك ، فرجع ابن مسروق إلى أصحابه ، فأخبرهم الخبر ، فقالت عك : نحن لهمدان ، ثم تقدمت عك ، ونادى سعيد بن قيس : يا همدان ، أن تقدموا (1) ! فشدت همدان على عك رجالة ، فأخذت السيوف أرجل عك ، فنادى ابن مسروق : * يا لعك بركا كبرك الكمل * فبركوا تحت الحجف ، فشجرتهم (2) همدان بالرماح ، وتقدم شيخ من همدان ، وهو يقول : يالبكيل لخمها وحاشد (3) * * نفسي فداكم طاعنوا وجالدوا حتى تخر منكم القماحد (4) وأرجل تبعها سواعد * بذاك أوصى جدكم والوالد * وقام رجل من عك ، فارتجز فقال : تدعون همدان وندعو عكا * * بكوا الرجال يا لعك بكا إن خدم القوم فبركا بركا * * لا تدخلوا اليوم عليكم شكا (5) * قد محك القوم فزيدوا محكا *
__________
(1) صفين : " خدموا " .
(2) صفين " : وشجروهم بالرماح " ، وشجروهم طعنوهم .
(3) بكيل وحاشد : من بطون همدان .
(4) القماحد : جمع قمحددة ، وهى ما أشرف على القفا من عظم الرأس .
(5) خدموا ، أي اضربوا موضع الخدمة ، وهى الخلخال ، يعنى اضربوهم في سوقهم .
(*)(8/75)
قال : فالتقى القوم جميعا بالرماح ، وصاروا إلى السيوف ، وتجالدوا حتى أدركهم الليل .
فقالت همدان : يا معشر عك ، نحن نقسم بالله اننا لا ننصرف حتى تنصرفوا .
وقالت عك مثل ذلك ، فأرسل معاوية إلى عك أن أبروا قسم (1) إخوتكم وهلموا .
فانصرفت عك ، فلما انصرفت انصرفت همدان ، فقال عمرو : يا معاوية ، والله لقد لقيت أسد اسدا : لم أر والله كهذا اليوم قط لو أن معك حيا كعك ، أو مع على حى كهمدان لكان الفناء .
وقال عمرو في ذلك : إن عكا وحاشدا وبكيلا * * كأسود الضراء لاقت أسودا وجثا القوم بالقنا وتساقوا * * بظباة السيوف موتا عتيدا ازورار المناكب العلب بالشم وضرب المسومين الخدودا ليس يدرون ما الفرار ولو كا * * ن فرارا لكان ذاك سديدا يعلم الله ما رأيت من القو * * م ازورارا ، ولا رأيت صدودا غير ضرب فوق الطلى على الها * * م وقرع الحديد يعلو الحديدا ولقد قال قائل خدموا السو * * ق فخرت هناك عك قعودا كبروك الجمال أثقلها الحمل * * فما تستقل إلا وئيدا قال : ولما اشترطت علك والاشعريون على معاوية ما اشترطوا من الفريضة والعطاء فأعطاهم ، لم يبق من أهل العراق أحد في قلبه مرض إلا طمع في معاوية ، وشخص (2) ببصره إليه ، حتى فشا ذلك في الناس ، وبلغ عليا عليه السلام ، فساءه .
__________
(1) صفين : أبروا قسم القوم .
(2) صفين : " وشخص بصره إليه " .
(*)(8/76)
قال نصر وجاء عدى بن حاتم يلتمس عليا عليه السلام ، ما يطأ إلا على قتيل أو قدم أو ساعد فوجده تحت رايات بكر بن وائل فقال : يا أمير المؤمنين ، ألا تقوم حتى نقاتل إلى أن نموت ! فقال له على عليه السلام : ادن فدنا حتى وضع أذنه عند أنفه ، فقال : ويحك ! إن عامة من معى اليوم يعصينى ، وإن معاوية فيمن يطيعه ولا يعصيه ! قال نصر : وجاء المنذر بن أبى حميصة الوداعى - وكان شاعر همدان وفارسها - عليا عليه السلام ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن عكا والاشعريين طلبوا إلى معاوية الفرائض والعطاء فأعطاهم ، فباعو الدين بالدنيا ، وإنا قد رضينا بالاخرة من الدنيا ، وبالعراق من الشام ، وبك من معاوية ، والله لاخرتنا خير من دنياهم ، ولعراقنا خير من شامهم ، ولامامنا أهدى من إمامهم ، فاستفتحنا بالحرب ، وثق منا بالنصر ، واحملنا على الموت ، وأنشده : إن عكا سألوا الفرائض والاشعر سالوا جوائزا بثنيه تركوا الدين للعطاء وللفرض ، فكانوا بذاك شر البريه وسألنا حسن الثواب من الله وصبرا على الجهاد ونيه فلكل ما سأله ونواه * * كلنا يحسب الخلاف خطيه ولاهل العراق أحسن في الحر * * ب إذا ما تدانت السمهريه ولاهل العراق أحمل للثقل إذا عمت البلاد بليه ليس منا من لم يكن في الله * * وليا يا ذا الولا والوصيه فقال على عليه السلام : حسبك الله يرحمك الله ! وأثنى عليه وعلى قومه خيرا .
وانتهى شعره إلى معاوية ، فقال : والله لاستميلن بالدنيا ثقات على ، ولاقسمن فيهم الاموال حتى تغلب دنياى آخرته .
قال نصر : فلما أصبح الناس غدوا على مصافهم ، وأصبح معاوية يدور في أحياء اليمن وقال : عبوا إلى كل فارس مذكور فيكم ، أتقوى به على هذا الحى من همدان(8/77)
فخرجت خيل عظيمة فلما رآها على عليه السلام وعرف أنها عيون الرجال ، فنادى : يا لهمدان ! فأجابه سعيد بن قيس ، فقال له على عليه السلام : أحمل ، فحمل حتى خالط الخيل بالخيل ، واشتد القتال ، وحطمتهم همدان حتى ألحقتهم بمعاوية : فقال معاوية : ما لقيت من همدان ! وجزع جزعا شديدا ، وأسرع القتل في فرسان الشام ، وجمع على عليه السلام همدان ، فقال لهم : يا معشر همدان ، أنتم درعى ورمحي ومجني ، يا همدان ما نصرتم إلا الله ، ولا أجبتم غيره .
فقال سعيد بن قيس : أجبنا الله وأجبناك ، ونصرنا رسول الله في قبره ، وقاتلنا معك من ليس مثلك ، فارمنا حيث شئت .
قال نصر : وفي هذا اليوم قال على عليه السلام : ولو كنت بوابا على باب جنة * * لقلت لهمدان ادخلي بسلام فقال على عليه السلام لصاحب لواء همدان : اكفني أهل حمص ، فإنى لم ألق من أحد ما لقيت منهم .
فتقدم وتقدمت همدان ، وشدوا شدة واحدة على أهل حمص ، فضربوهم ضربا شديدا متداركا ، بالسيوف وعمد الحديد ، حتى ألجئوهم إلى قبة معاوية ، وارتجز من همدان رجل ، عداده في أرحب ، فقال : قد قتل الله رجال حمص * * غروا بقول كذب وخرص حرصا على المال وأى حرص ! * * قد نكص القوم وأى نكص ! * عن طاعة الله وفحوى النص * قال نصر : فحدثنا عمر بن سعد ، قال : لما ردت خيول معاوية أسف ، فجرد سيفه وحمل في كماه أصحابه ، فحملت عليه فوارس همدان ، ففاز منها ركضا ، وانكسرت كماته ورجعت همدان إلى مراكزها ، فقال حجر بن قحطان الهمداني ، يخاطب سعيد ابن قيس :(8/78)
ألا يا بن قيس قرت العين إذا رأت * * فوارس همدان بن زيد بن مالك على عارفات للقاء عوابس * * طوال الهوادى مشرفات الحوارك معودة للطعن في ثغراتها * * يجلن فيحطمن الحصى بالسنابك عباها على لابن هند وخيله * * فلو لم يفتها كان أول هالك وكانت له في يومه عند ظنه * * وفي كل يوم كاسف الشمس حالك وكانت بحمد الله في كل كربة * * حصونا وعزا للرجال الصعالك فقل لامير المؤمنين أن ادعنا * * متى شئت إنا عرضه للمهالك (1) ونحن حطمنا السمر في حى حمير * * وكندة والحى الخفاف السكاسك وعك ولخم شائلين سياطهم * * حذار العوالي كالاماء العوارك (2) * * * قال نصر : وحدثنا عمر بن سعد عن رجاله ، أن معاوية دعا يوما بصفين مروان ابن الحكم ، فقال له : إن الاشتر قد غمني وأقلقنى ، فأخرج بهذه الخيل في يحصب والكلاعيين ، فالقه .
فقال مروان : ادعا لهما عمرا ، فإنه شعارك دون دثارك قال : فأنت نفسي دون وريدي .
قال : لو كنت كذلك ألحقتنى به في العطاء أو ألحقته بى في الحرمان ، ولكنك أعطيته ما في يدك ، ومنيته ما في يد غيرك ، فإن غلبت طاب له المقام ، وإن غلبت خف عليه الهرب .
فقال معاوية : سيغنى الله عنك .
قال : أما إلى اليوم فلم يغن .
فدعا معاوية عمرا ، فأمره بالخروج إلى الاشتر ، فقال : أما إنى لا أقول لك ما قال مروان ، قال : وكيف تقوله ، وقد قدمتك وأخرته ، وأدخلتك وأخرجته ! قال : أما والله إن كنت فعلت ، لقد قدمتنى كافيا ، وأدخلتني ناصحا ، وقد أكثر القوم عليك في أمر مصر ، وإن كان لا يرضيهم
__________
(1) صفين " : إذا شئت .
(2) العوارك : الحوائض .
(*)(8/79)
إلا رجوعك فيما وثقت لى به منها فارجع فيه .
ثم قام فخرج في تلك الخيل ، فلقيه الاشتر أمام القوم ، وقد علم أنه سيلقاه ، وهو يرتجز ويقول : ياليت شعرى كيف لى بعمرو * * ذاك الذى أوجبت فيه نذري ! ذاك الذى أطلبه بوترى * * ذاك الذى فيه شفاء صدري من بائعى يوما بكل عمرى * * يعلى به عند اللقاء قدري أجعله فيه طعام النسر * * أو لا فربى عاذري بعذري فلما سمع عمرو هذا الرجز فشل (1) وجبن ، واستحيا أن يرجع ، وأقبل نحو الصوت ، وقال : ياليت شعرى كيف لى بمالك ؟ * * كم كاهل جببته وحارك (2) وفارس قتلته وفاتك (3) ومقدم آب بوجه حالك * ما زلت دهري عرضة المهالك (4) * فغشيه الاشتر بالرمح ، فراغ عمرو عنه ، فلم يصنع الرمح شيئا ، ولوى عمرو عنان فرسه ، وجعل يده على وجهه ، وجعل يرجع راكضا نحو عسكره فنادى غلام من يحصب : يا عمرو عليك العفا ما هبت الصبا ، يا آل حمير [ إنا لكم ما كان معكم ] (5) ، هاتوا اللواء (6) ، فأخذه وتقدم ، وكان غلاما حدثا ، فقال :
__________
(1) صفين : " وفشل حبله وجبن " .
(2) جبيته : " قطعته ، والجارك أعلى الكامل .
(3) بعده في صفين : * ونابل فتكته وباتك * (4) صفين : " هذا وهذا عرضة المهالك " .
(5) من صفين .
(6) صفين : " أبلغوني اللواء " .
(*)(8/80)
إن يك عمرو قد علاه الاشتر * * بأسمر فيه سنان أزهر فذاك والله لعمري مفخر * * يا عمرو تكفيك الطعان حمير واليحصبى بالطعان أمهر * * دون اللواء اليوم موت أحمر فنادى الاشتر ابنه إبراهيم : خذ اللواء ، فغلام لغلام .
وتقدم فأخذ إبراهيم اللواء ، وقال : يأيها السائل عنى لا ترع * * أقدم فإنى من عرانين النخع كيف ترى طعن العراقى الجذع * * أطير في يوم الوغى ولا أفع ما ساءكم سر وما ضر نفع أعددت ذا اليوم لهول المطلع ويحمل على الحميرى فالتقاه الحميرى بلوائه ورمحه فلم يبرحا يطعن كل واحد منهما صاحبه ، حتى سقط الحميرى قتيلا وشمت مروان بعمرو وغضب القحطانيون على معاوية وقالوا : تولى علينا من لا يقاتل معنا ! ول رجلا منا ، وإلا فلا حاجة لنا فيك .
وقال شاعرهم : معاوى إما تدعنا لعظيمة * * يلبس من نكرائها الغرض بالحقب (1) فول علينا من يحوط ذمارنا من الحميريين الملوك على العرب ولا تأمرنا بالتى لا نريدها * * ولا تجعلنا بالهوى موضع الذنب ولا تغضبنا والحوادث جمة * * عليك ، فيفشو اليوم في يحصب الغضب فإن لنا حقا عظيما وطاعة * * وحبا دخيلا في المشاش وفي العصب (2) .
فقال لهم معاوية : والله لا أولى عليكم بعد هذا اليوم إلا رجلا منكم (3) .
__________
(1) الغرض : حزام الرجل .
والحقب : حبل يشد به الرجل في بطن البعير .
(2) المشاش : رءوس العظام ، وفى صفين : " في المشاشة والعصب " .
(3) صفين 499 - 502 (*) .(8/81)
قال نصر : وحدثنا عمر بن سعد ، قال : لما أسرع أهل العراق في أهل الشام ، قال لهم معاوية : هذا يوم تمحيص ، وإن لهذا اليوم ما بعده ، وقد أسرعتم في القوم كما أسرعوا فيكم ، فاصبروا وموتوا كراما .
وحرض على عليه السلام أصحابه فقام إليه الاصبغ بن نباتة وقال : يا أمير المؤمنين ، قدمنى في البقية من الناس ، فإنك لا تفقد لى اليوم صبرا ولا نصرا ، أما أهل الشام فقد أصبنا منهم ، وأما نحن ففينا بعض البقية ، ائذن لى فأتقدم ، فقال له : تقدم على اسم الله والبركة ، فتقدم وأخذ الراية ومضى بها ، وهو يقول : إن الرجاء بالقنوط يدمغ * * حتى متى يرجو البقاء الاصبغ ! أما ترى أحداث دهر تنبغ * * فأدبغ هواك ، والاديم يدبغ والرفق فيما قد تريد أبلغ * * اليوم شغل ، وغدا لا تفرغ فما رجع إلى على عليه السلام حتى خضب سيفه دما ورمحه .
وكان شيخا ناسكا عابدا ، وكان إذا لقى القوم بعضهم بعضا يغمد سيفه ، وكان من ذخائر على عليه السلام ممن قد بايعه على الموت ، وكان على عليه السلام يضن به عن الحرب والقتال (1) .
قال نصر : وحدثنا عمرو بن شمر ، عن جابر قال : نادى الاشتر يوما أصحابه ، فقال : أما من رجل يشرى نفسه لله ! فخرج أثال بن حجل بن عامر المذحجي فنادى بين العسكرين : هل من مبارز ؟ فدعا معاوية - وهو لا يعرفه - أباه حجل بن عامر المذحجي ، فقال : دونك الرجل - قال : وكانا مستبصرين في رأيهما - فبرز كل واحد منهما إلى صاحبه ، فبدره بطعنة وطعنه الغلام ، وانتسبا فإذا هو ابنه ، فنزلا فاعتنق كل
__________
(1) صفين 502 ، 503 (*) .(8/82)
واحد منهما صاحبه ، وبكيا .
فقال له الاب : يا بنى هلم إلى الدنيا .
فقال له الغلام : يا أبي هلم إلى الاخرة .
ثم قال : يا أبت والله لو كان من رأيى الانصراف إلى أهل الشام لوجب عليك أن يكون من رأيك لى أن تنهانى ، وأسوأتاه ! فماذا أقول لعلى وللمؤمنين الصالحين ! كن على ما أنت عليه ، وأنا على ما أنا عليه .
فانصرف حجل إلى صف الشام ، وانصرف ابنه أثال إلى أهل العراق ، فخبر كل واحد منهما أصحابه ، وقال في ذلك حجل : إن حجل بن عامر وأثالا * * أصبحا يضربان في الامثال أقبل الفارس المدجج في النقع أثال يدعو يريد نزالي دون أهل العراق يخطر كالفحل على ظهر هيكل ذيال فدعاني له ابن هند وما زا * * ل قليلا في صحبه أمثالى فتناولته ببادرة الرمح وأهوى بأسمر عسال فاطعنا وذاك من حدث الدهر عظيم ، فتى بشيخ بجال (1) شاجرا بالقناة صدر أبيه * * وعزيز على طعن أثال (2) لا أبالى حين اعترضت أثالا * * وأثال كذاك ليس يبالى فافترقنا على السلامة ، والنفس * * يقيها مؤخر الاجال لا يرانى على الهدى وأراه * * من هداى على سبيل ضلال فلما انتهى شعره إلى أهل العراق ، قال أثال ابنه مجيبا له (3) : إن طعنى وسط العجاجة حجلا * * لم يكن في الذى نويت عقوقا كنت أرجو به الثواب من الله وكوني مع النبي رفيقا
__________
(1) البجال : الكبير .
(2) صفين : " وعظيم على " .
(3) صفين : " وكان مجتهدا ومستبصرا " (*) .(8/83)
لم أزل أنصر العراق على الشا * * م أرانى بفعل ذاك حقيقا قال أهل العراق إذ عظم الخطب ونق المبارزون نقيقا من فتى يسلك الطريق إلى الله ، فكنت الذى سلكت الطريقا (1) حاسر الرأس لا أريد سوى المو * * ت أرى الاعظم الجليل دقيقا فإذا فارس تقحم في الرو * * ع خدبا مثل السحوق عتيقا (2) فبداني حجل ببادرة الطعن وما كنت قبلها مسبوقا فتلقيته بعالية الرمح كلانا يطاول العيوقا أحمد الله ذا الجلالة والقد * * رة حمدا يزيدنى توفيقا إذ كففت السان عنه ولم أد * * ن قتيلا منه ولا ثغروقا (3) قلت للشيخ لست أكفر نعما * * ك لطيف الغذاء والتفنيقا (4) غير أنى اخاف أن تدخل النا * * ر ، فلا تعصنى وكن لى رفيقا وكذا قال لى فغرب تغريبا ، وشرقت راجعا تشريقا (5) قال نصر : وحدثنا عمرو بن شمر بالاسناد المذكور ، أن معاوية دعا النعمان بن بشير بن سعد الانصاري ، ومسلمة بن مخلد الانصاري - ولم يكن معه من الانصار غيرهما - فقال : يا هذان لقد غمني ما لقيت من الاوس والخزرج ، واضعى سيوفهم على عواتقهم يدعون إلى النزال ، حتى لقد جبنوا أصحابي الشجاع منهم والجبان ، وحتى وألله ما أسأل عن
__________
(1) صفين : " فكنت الذى أخذت " .
(2) الخدب : الضخم العظيم .
والسحوق : النخلة الطويلة ، وفى صفين : " تقحم في النقع " .
(3) التفروق : قمع التمرة التمرة .
(4) التفنيق : التنعيم .
(5) صفين 503 ، 506 (*) .(8/84)
فارس من أهل الشام إلا قيل قتله الانصار ، أما والله لالقينهم بحدى وحديدي ، ولاعبين لكل فارس منهم فارسا ينشب في حلقه ، ولارمينهم بأعدادهم من قريش رجال لم يغذهم التمر والطفيشل (1) ، يقولون : نحن الانصار قد والله آووا ونصروا ، ولكن أفسدوا حقهم بباطلهم ! فغضب النعمان ، وقال : يا معاوية لا تلومن الانصار في حب الحرب والسرعة (2) نحوها فإنهم كذلك كانوا في الجاهلية .
وأما دعاؤهم إلى النزال (3) فقد رأيتهم مع رسول الله صلى الله عليه وآله يفعلون ذلك كثيرا .
وأما لقاؤك إياهم في أعدادهم من قريش فقد علمت ما لقيت قريش منهم قديما ، فإن أحببت أن ترى فيهم مثل ذلك آنفا فافعل .
وأما التمر والطفيشل ، فإن التمر كان لنا فلما (4) ذقتموه شاركتمونا فيه .
وأما الطفيشل ، فكان لليهود ، فلما أكلناه غلبناهم عليه ، كما غلبت قريش على السخينة (5) .
ثم تكلم مسلمة بن مخلد ، فقال : يا معاوية ، إن الانصار لا تعاب أحسابها ولا نجداتها .
وأما غمهم إياك فقد والله غمونا ، ولو رضينا ما فارقونا ولا فارقنا جماعتهم ، وإن في ذلك ما فيه من مباينة العشيرة ، ولكنا حملنا ذلك لك ، ورجونا منك عوضه .
وأما التمر والطفيشل ، فإنهما يجران عليك السخينة والخرنوب .
قال : وانتهى هذا الكلام إلى الانصار ، فجمع قيس بن سعد الانصار ، ثم قام فيهم خطيبا فقال إن معاوية قال ما بلغكم ، وأجابه عنكم صاحباكم ، ولعمري إن غظتم
__________
(1) الطفيشل ، بوزن سميدع ، ذكره صاحب .
القاموس وقال : إنه نوع من المرق .
(2) صفين : " بسرعتهم في الحرب " .
(3) صفين : " فأما دعاؤهم الله " .
(4) صفين : " فلما أن ذقتموه " .
(5) في اللسان : " السخينة : دقيق يلقى على ماء أو لبن فيطبخ ثم يؤكل بتمر أو يحسى ، وهو الحساء ...
وفى حديث معاوية أنه مازح الاحنف بن قيس فقال : ما الشئ الملفف في البجاد ؟ قال : هو السخينة يا أمير المؤمنين .
والملف في البجاد وطب اللبن يلف فيه ليحمى ويدرك ، وكانت تميم تعير به ، .
والسخينة : الحساء المذكور يؤكل في الجدب ، وكانت قريش تعير بها " (*) .(8/85)
معاوية اليوم لقد ، غظتموه أمس ، وإن وترتموه في الاسلام ، فلقد وترتموه في الشرك ، وما لكم إليه من ذنب أعظم من نصر هذا الدين ، فجدوا اليوم جدا تنسونه به ما كان أمس ، وجدوا غدا جدا تنسونه به ما كان اليوم ، فأنتم مع هذا اللواء الذى كان يقاتل عن يمينه جبريل ، وعن يساره ميكائيل ، والقوم مع لواء أبي جهل والاحزاب .
فأما التمر فإنا لم نغرسه ، ولكن غلبنا عليه من غرسه ، وأما الطفيشل ، فلو كان طعامنا لسمينا به كما سميت قريش بسخينة ، ثم قال سعد في ذلك : يابن هند دع التوثب في الحر * * ب إذا نحن بالجياد سرينا (1) نحن من قد علمت فادن إذا شئت بمن شئت في العجاج إلينا (2) إن تشأ فارس له فارس منا وإن شئت باللفيف التقينا أي هذين ما أردت فخذه * * ليس منا وليس منك الهوينى ثم لا نسلخ العجاجة حتى * * تنجلي حربنا ، لنا أو علينا (3) ليت ما تطلب الغداة أتانا * * أنعم الله بالشهادة عينا فلما أتى شعره وكلامه معاوية دعا عمرو بن العاص ، فقال : ما ترى في شتم الانصار ؟ قال : أرى أن توعدهم ولا تشتمهم (4) .
ما عسى أن تقول لهم إذا أردت ذمهم ! فذم أبدانهم ولا تذم أحسابهم .
(5 فقال : إن قيس بن سعد يقوم كل يوم خطيبا 5) ، وأظنه والله يفنينا غدا إن لم يحبسه عنا حابس الفيل ، فما الرأى ؟ قال : الصبر والتوكل ، وأرسل
__________
(1) صفين : " في البلاد نأينا " .
(2) بعده في صفين : إن برزنا بالجمع نلقك في الجمع ، وإن شئت محضة أسرينا فالقنا في اللفيف نلقك في الحز * * رج ندعو في حربنا أبوينا (3) في صفين : " ثم لا تنزع العجاجة " ، والعجاج : ما تثيره الريح من التراب ، واحده عجاجة .
(4) صفين : " أرى أن توعد ولا تشتم " .
(5 - 5) صفين : " قال معاوية ، إن خطيب الانصار قيس بن سعد يقوم كل يوم خطيبا " (*) .(8/86)
إلى رؤوس الانصار مع على فعاتبهم وأمرهم أن يعاتبوه ، فأرسل معاوية إلى أبى مسعود (1) والبراء بن عازب وخزيمه بن ثابت والحجاج بن غزية ، وأبى أيوب ، فعاتبهم فمشوا إلى قيس بن سعد ، وقالوا له : إن معاوية لا يحب الشتم ، فكف عن شتمه ، فقال : إن مثلى لا يشتم ولكني لا أكف عن حربه حتى ألقى الله .
قال : وتحركت الخيل غدوة ، فظن قيس أن فيها معاوية ، فحمل على رجل يشبهه ، فضربه بالسيف فإذا هو ليس ، به ثم حمل على آخر يشبهه أيضا فقنعه بالسيف (2) .
فلما تحاجز الفريقان شتمه معاوية شتما قبيحا ، وشتم الانصار فغضب النعمان ومسلمة ، فأرضاهما بعد أن هما أن ينصرفا إلى قومهما .
ثم إن معاوية سأل النعمان أن يخرج إلى قيس فيعاتبه ويسأله السلم .
فخرج النعمان ، فوقف بين الصفين ، ونادى : يا قيس بن سعد أنا النعمان بن بشير ، فخرج إليه ، وقال : هيه يا نعمان ! ما حاجتك ؟ قال : يا قيس ، إنه قد أنصفكم من دعاكم إلى ما رضى لنفسه .
يا معشر الانصار .
إنكم أخطأتم في خذل عثمان يوم الدار ، وقتلتم أنصاره يوم الجمل ، وأقحمتم خيولكم على أهل الشام بصفين ، فلو كنتم إذ خذلتم عثمان خذلتم عليا ، لكانت واحدة بواحدة ، ولكنكم (3) لم ترضوا أن تكونوا كالناس حتى أعلمتم في الحرب ، ودعوتم
__________
(1) صفين : " فأرسل معاوية إلى رجال من الانصار ، فعاتبهم ، فهم عقبة بن عمر وأبو مسعود ...
" .
(2) في صفين : ثم انصرف وهو يقول : قولوا لهذا الشاتمى معاوية * * إن كل ما أوعدت ريح هاويه خوفتنا أكلب قوم عاويه * * إلى يابن الخاطئين الماضية ترقل إرقال العجوز الجارية * * في أثر السارى ليالى الشاتيه (3) صفين : " ولكنكم خذلتم حقا ، ونصرتم باطلا ، ثم لم ترضوا ...
" .
(*)(8/87)
إلى البراز .
ثم لم ينزل بعلى حطب قط إلا هو نتم عليه المصيبة ، ووعدتموه الظفر .
وقد أخذت الحرب منا ومنكم ما قد رأيتم ، فاتقوا الله في البقية .
فضحك قيس ، وقال : ما كنت أظنك يا نعمان محتويا على هذه المقالة ، إنه لا ينصح أخاه من غش نفسه ، وأنت الغاش الضال المضل .
أما ذكرك عثمان ، فإن كانت الاخبار تكفيك فخذ منى واحدة ، قتل عثمان من لست خيرا منه ، وخذله من هو خير منك .
وأما أصحاب الجمل فقاتلناهم على النكث .
وأما معاوية فو الله لو اجتمعت عليه العرب قاطبة لقاتلته الانصار ، وأما قولك إنا لسنا كالناس .
فنحن في هذه الحرب كما كنا مع رسول الله ، نتقى السيوف بوجوهنا .
والرماح بنحورنا ، حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون .
ولكن انظر يا نعمان ، هل ترى مع معاوية إلا طليقا أو ، أعرابيا ، أو يمانيا مستدرجا بغرور ! انظر أين المهاجرون والانصار والتابعون لهم بإحسان ، الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه ! ثم انظر ، هل ترى مع معاوية أنصاريا غيرك وغير صويحبك ، ولستما والله ببدريين ولا عقبيين ولا أحديين ، ولا لكما سابقة في الاسلام ، ولا آية في القرآن .
ولعمري لئن شغبت علينا لقد شغب علينا أبوك (1) ! * * * قال نصر : وحدثنا عمر بن سعد عن مالك بن أعين ، عن زيد بن وهب ، قال : كان فارس أهل الشام الذى لا ينازع عوف بن مجزأة المرادى ، المكنى أبا أحمر ، وكان فارس أهل الكوفة العكبر بن جدير الاسدي .
فقام العكبر إلى على عليه السلام ، وكان
__________
(1) الخبر في صفين 507 - 512 ، وبعده ، وقال قيس في ذلك .
والراقصات بكل أشعث أغبر * * خوص العيون تحثها الركبان ما ابن المخلد ناسيا أسيافنا * * فيمن نحاربه ولا النعمان تركا البيان وفى العيان كفاية * * لو كان ينفع صاحبيه عيان(8/88)
منطيقا فقال يا أمير المؤمنين ، إن في أيدينا عهدا من الله لا نحتاج فيه إلى الناس ، قد ظننا بأهل الشام الصبر (1) وظنوا بنا ، فصبرنا وصبروا ، وقد عجبت من صبر أهل الدنيا [ لاهل الاخرة ، وصبر أهل الحق على أهل الباطل ورغبة أهل الدنيا (2) ] (3 ثم قرأت آية من كتاب الله فعلمت أنهم مفتونون 3) : (ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون .
ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) (4) .
فقال له عليه السلام خيرا .
وخرج الناس إلى مصافهم وخرج عوف ابن مجزأة المرادى نادرا من الناس ، وكذا كان يصنع ، وقد كان قتل نفرا من أهل العراق مبارزة ، فنادى : يا أهل العراق ، هل من رجل عصاه سيفه يبارزني ! ولا أغركم من نفسي ! أنا عوف بن مجزأة (5) .
فنادى الناس ، بالعكبر ، فخرج إليه منقطعا عن أصحابه ليبارزه ، فقال عوف : بالشام أمن ليس فيه خوف * * بالشام عدل ليس فيه حيف بالشام جود ليس فيه سوف * * أنا ابن مجزاة واسمى عوف هل من عراقى عصاه سيف * * يبرز لى وكيف لى وكيف ! فقال له العكبر : الشام محل والعراق ممطر (6) * * بها إمام طاهر مطهر (7) والشام فيها أعور ومعور * * أنا العراقى واسمى عكبر (8)
__________
(1) صفين : " وظنوه " .
(2) من صفين .
(3 - 3) صفين : " ثم نظرت فإذا أعجب ما يعجبنى جهله بآية من كتاب الله " .
(4) سورة العنكبوت 1 - 3 .
(5) صفين : " فأنا فارس زوف " ، وزوف أبو قبيلة (6) صفين : " تمطر " .
(7) صفين : بها الامام والامام معذر " .
(8) المعور : القبيح السريرة (*) .(8/89)
ابن جدير وأبوه المنذر * * أدن ، فإنى في البراز قسور (1) فاطعنا ، فصرعه العكبر وقتله ، ومعاوية على التل في وجوه قريش ونفر قليل من الناس ، فوجه العكبر فرسه ، يملا (2) فروجه ركضا ، ويضربه بالسوط مسرعا نحو التل .
فنظر معاوية إليه فقال : هذا الرجل مغلوب على عقله أو مستأمن ، فاسألوه ، فأتاه رجل وهو في حمو فرسه ، فناداه فلم يجبه ومضى مبادرا ، حتى انتهى إلى معاوية ، فجعل يطعن في أعراض الخيل ، ورجا أن ينفرد بمعاوية فيقتله ، فاستقبله رجال ، قتل منهم قوما ، وحال الباقون بينه وبين معاوية بسيوفهم ورماحهم ، فلما لم يصل إليه قال : أولى لك يا بن هند (3) ! أنا الغلام الاسدي ورجع إلى صف العراق ولم يكلم ، فقال له على عليه السلام : ما دعاك إلى ما صنعت ؟ لا تلق نفسك إلى التهلكة ، قال : يا أمير المؤمنين ، أردت غرة ابن هند فحيل بينى وبينه ، وكان العكبر شاعرا فقال : قتلت المرادى الذى كان باغيا * * ينادى وقد ثار العجاج نزال يقول أنا عوف بن مجزاة والمنى * * لقاء ابن مجزاة بيوم قتال فقلت له لما علا القوم صوته * * منيت بمشبوح اليدين طوال (4) فأوجرته في ملتقى الحرب صعدة * * ملات بها رعبا صدور رجال (5)
__________
(1) صفين : " فإنى للكمى مصحر " ، والمصحر : المنكشف لقرنه .
(2) صفين : " فملا فروجه " ، يقال : ملا الفرس فرجه وفروجه ، إذا أسرع ، والفرج : ما بين فخذي الفرس ورجليها .
(3) أولى لك ، كلمة تهدد ووعيد ، معناه قد وليك ، أي قاربك الشر فاحذر .
وقيل : أولاك الله ما تكرهه ، وقيل : معناه أولى لك العقاب والهلاك .
(4) رجل مشبوح الذراعين ، أي عريضهما ، وفى النهاية : في صفته صلى الله عليه وسلم أنه كان مشبوح الذراعين ، أي طويلهما ، وقيل : عريضهما ، وفى رواية : " كان شبح الدراعين " ، والشبح : مد الشئ بأوتاد كالجلد والحبل ، وشبحت العود إذا نحته حتى تعرضه " .
(5) يقال : أوجر فلانا الرمح طعنه به في فيه ، وقيل في صدره .
والصعدة : القناة المستوية تنبت كذلك لا تحتاج إلى تثقيف (*) .(8/90)
فغادرته يكبو صريعا لوجهه * * ينوء مرارا في مكر مجال (1) وقدمت مهرى راكضا نحو صفهم * * أصرفه في جريه بشمالي (2) أريد به التل الذى فوق رأسه * * معاوية الجاني لكل خبال (3) فقام رجال دونه بسيوفهم * * وقام رجال دونه بعوالي فلو نلته نلت التى ليس بعدها * * وفزت بذكر صالح وفعال (4) ولو مت في نيل المنى ألف موتة * * لقلت إذا ما مت : لست أبالى قال : فانكسر أهل الشام لقتل عوف المرادى ، وهدر معاوية دم العكبر ، فقال العكبر : يد الله فوق يده ، فأين الله جل جلاله ودفاعه عن المؤمنين (5) ! قال نصر : وروى عمر بن سعد ، عن الحارث بن حصين ، عن أبى الكنود ، قال : جزع أهل الشام على قتلاهم جزعا شديدا ، وقال معاوية بن خديج : قبح الله ملكا يملكه المرء بعد حوشب وذى الكلاع ، والله لو ظفرنا بأهل الدنيا بعد قتلهما بغير مئونة ما كان ظفرا .
وقال يزيد بن أسد لمعاوية : لا خير في أمر لا يشبه آخره أوله ، لا يدمى جريح ولا يبكى قتيل حتى تنجلي هذه الفتنة ، فإن يكن الامر لك أدميت وبكيت على
__________
(1) صفين : " ينادى مرارا " .
(2) في صفين : " فأضربه في حومة بشمال " .
(3) بعده في صفين : يقول ومهرى يعرف الجرى جامحا * * بفارسه قد بان كل ضلال فلما رأوني أصدق الطعن فيهم * * جلا عنهم رجم الغيوب فعالى (4) صفين : " من الامر شئ غير قيل وقال " .
(5) صفين 512 - 516 (*) .(8/91)
قرار ، وإن يكن لغيرك فما أصبت به أعظم .
فقال معاوية : يا أهل الشام ، ما جعلكم أحق بالجزع على قتلاكم من أهل العراق على قتلاهم ، والله ما ذو الكلاع فيكم بأعظم من عمار بن ياسر فيهم ، ولا حوشب فيكم بأعظم من هاشم فيهم ، وما عبيد الله بن عمر فيكم بأعظم من ابن بديل فيهم ، وما الرجال إلا أشباه ، وما التمحيص إلا من عند الله فأبشروا فإن الله قد قتل من القوم ثلاثة : قتل عمارا وكان فتاهم ، وقتل هاشما وكان حمزتهم ، وقتل ابن بديل وهو الذى فعل الافاعيل ، وبقى الاشتر ، والاشعث ، وعدى بن حاتم ، فأما الاشعث فإنما حمى عنه (1) مصره وأما الاشتر وعدى فغضبا والله [ للفتنة ] (2) ، قاتلهما غدا إن شاء الله تعالى ، فقال معاوية بن خديج : إن يكن الرجال عندك أشباها فليست عندنا كذلك ، وغضب ، وقال شاعر اليمن يرثى ذا الكلاع وحوشبا (3) : معاوى قد نلنا ونيلت سراتنا * * وجدع أحياء الكلاع ويحصب فذو كلع لا يبعد الله داره * * وكل يمان قد أصيب بحوشب هما ما هما كانا معاوى عصمة * * متى قلت كانا عصمة لا أكذب ولو قبلت في هالك بذل فدية * * فديتهما بالنفس والام والاب (4) وروى نصر ، عن عمر بن سعد ، عن عبيد الرحمن بن كعب ، قال : لما قتل عبد الله ابن بديل يوم صفين مر به الاسود بن طهمان الخزاعى ، وهو بآخر رمق ، فقال له : عز على والله مصرعك ! أما والله لو شهدتك لاسيتك ، ولدافعت عنك ، ولو رأيت الذى أشعرك (5)
__________
(1) صفين : " فحماه مصرى " .
(2) من صفين .
(3) صفين : " وقال الحضرمي في ذلك شعرا " .
(4) صفين 518 ، 519 .
(5) الاشعار : الادماء بطعن أو رمى أو وج بحديدة (*) .(8/92)
لاحببت إلا أزايله ولا يزايلنى حتى أقتله ، أو يلحقني بك .
ثم نزل إليه ، فقال : رحمك الله يا عبد الله [ والله ] (1) إن كان جارك ليأمن بوائقك ، وإن كنت لمن الذاكرين الله كثيرا .
أوصني رحمك الله .
قال : أوصيك بتقوى الله ، وأن تناصح أمير المؤمنين ، وتقاتل معه حتى يظهر الحق أو تلحق بالله ، وأبلغ أمير المؤمنين عنى السلام ، وقل له : قاتل على المعركة حتى تجعلها خلف ظهرك ، فإنه من أصبح والمعركة خلف ظهره ، كان الغالب .
ثم لم يلبث أن مات .
فأقبل أبو الأسود إلى على عليه السلام ، فأخبره ، فقال : رحمه الله جاهد معنا عدونا في الحياة ونصح لنا في الوفاة (2) .
قال نصر : وقد روى نحو هذا عن عبد الرحمن بن كلدة حدثنى محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبى بحر ، عن عبد الرحمن بن حاطب ، قال : خرجت ألتمس أخى سويدا في قتلى صفين ، فإذا رجل صريع في القتلى ، قد أخذ بثوبي فالتفت ، فإذا هو عبد الرحمن ابن كلدة ، فقلت : إنا لله وإنا إليه راجعون ! هل لك في الماء ومعى (3) إداوة ؟ فقال : لا حاجة لى فيه ، قد أنفذ في السلاح وخرقني ، فلست أقدر على الشراب ، هل أنت مبلغ عنى أمير المؤمنين رسالة أرسلك بها ؟ قلت : نعم ، قال : إذا رأيته فاقرأ عليه السلام ، وقل له : يا أمير المؤمنين ، احمل جرحاك إلى عسكرك حتى تجعلهم من وراء ظهرك ، فإن الغلبة لمن فعل ذلك ، ثم لم أبرح حتى مات .
فخرجت حتى أتيت أمير المؤمنين عليه السلام فقلت له : إن عبد الرحمن بن كلدة يقرأ عليك السلام ، قال وأين هو ؟ قلت : وجدته وقد أنفذه السلاح وخرقة ، فلم يستطع شرب الماء ، ولم أبرح حتى مات .
فاسترجع عليه السلام ، فقلت : قد أرسلني إليك برسالة ، قال : وما هي ؟ قلت : إنه يقول : أحمل جرحاك
__________
(1) من صفين .
(2) صفين 520 ، 521 .
(3) الاداوة : إناء صغير من جلد ، ويجمع على أداوى .(8/93)
إلى عسكرك ، وأجعلهم وراء ظهرك ، فإن الغلبة لمن فعل ذلك ، فقال : صدق فنادى مناديه في العسكر أن احملوا جرحاكم من بين القتلى إلى معسكركم ، ففعلوا (1) قال نصر : وحدثني عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن عامر ، عن صعصعة بن صوحان ، أن أبرهة بن الصباح الحمبرى قام بصفين ، فقال : ويحكم يا معشر أهل اليمن ! إنى لاظن الله قد أذن بفنائكم ! ويحكم خلوا بين الرجلين ، فليقتتلا ، فأيهما قتل صاحبه ملنا معه جميعا - وكان أبرهة من رؤساء أصحاب معاوية - فبلغ قوله عليا عليه السلام فقال : صدق أبرهة ! والله ما سمعت بخطبة منذ وردت الشام أنا بها أشد سرورا منى بهذه الخطبة ! قال : وبلغ معاوية كلام أبرهة فتأخر آخر الصفوف وقال لمن حوله : إنى لاظن أبرهة مصابا في عقله .
فأقبل أهل الشام يقولون والله إن أبرهة لاكملنا دينا وعقلا ، ورأيا وبأسا ، ولكن الامير (2) كره مبارزة على ، وسمع ما دار من الكلام أبو داود عروة ابن داود العامري - وكان من فرسان معاوية - فقال : إن كان معاوية كره مبارزة أبى حسن ، فأنا أبارزه ، ثم خرج بين الصفين ، فنادى : أنا أبو داود فابرز إلى يا أبا حسن ، فتقدم على عليه السلام نحوه ، فناداه الناس : ارجع يا أمير المؤمنين عن هذا الكلب فليس لك بخطر ، فقال : والله ما معاوية اليوم بأغيظ لى منه ، دعوني وإياه ثم حمل عليه فضربه فقطعه قطعتين ، سقطت إحداهما يمنية والاخرى شامية فارتج العسكران لهول الضربة ، وصرخ ابن عم لابي داود : واسوء صباحاه ! وقبح الله البقاء بعد أبى داود ! وحمل على على عليه السلام ، فطعنه فضرب الرمح فبراه ، ثم قنعه ضربة فألحقه بأبى داود ، ومعاوية
__________
(1) صفين 488 ، 449 .
(2) صفين : " معاوية " .
(*)(8/94)
واقف على التل ، يبصر ويشاهد ، فقال : تبا لهذه الرجال وقبحا ! أما فيهم من يقتل هذا مبارزة أو غيلة ، أو في اختلاط الفيلق وثوران النقع ! فقال الوليد بن عقبة : ابرز إليه أنت فإنك أولى الناس بمبارزته ، فقال : والله لقد دعاني إلى البراز حتى لقد استحييت من قريش ، وإنى والله لا أبرز إليه ، ما جعل العسكر بين يدى الرئيس إلا وقاية ، له فقال عتبة بن أبى سفيان : الهوا عن هذا كأنكم لم تسمعوا نداءه فقد علمتم أنه قتل حريثا ، وفضح عمرا ولا أرى أحدا يتحكك به إلا قتله .
فقال معاوية لبسر بن أرطاة : أتقوم لمبارزته ؟ فقال : ما أحد أحق بها منك ، أما إذ بيتموه فأنا له ، قال معاوية : إنك ستلقاه غدا في أول الخيل وكان عند بسر ابن عم له قدم من الحجاز يخطب ابنته ، فأتى بسرا ، فقال له : إنى سمعت أنك وعدت من نفسك أن تبارز عليا ، أما تعلم أن الوالى من بعد معاوية عتبة ثم بعده محمد أخوه ، وكل من هؤلاء قرن على ، فما يدعوك إلى ما أرى ! قال : الحياء ، خرج منى كلام ، فأنا أستحيى أن أرجع عنه .
فضحك الغلام ، وقال : تنازله يا بسر إن كنت مثله * * وإلا فإن الليث للشاء آكل (1) كأنك يا بسر بن أرطاة جاهل * * بآثاره في الحرب أو متجاهل معاوية الوالى وصنواه بعده * * وليس سواء مستعار وثاكل أولئك هم أولى به منك إنه * * على فلا تقربه ، أمك هابل ! متى تلقه فالموت في رأس رمحه * * وفي سيفه شغل لنفسك شاغل وما بعده في آخر الخيل عاطف * * ولا قبله في اول الخيل حامل .
فقال بسر : هل هو إلا الموت ، لابد من لقاء الله فغدا على عليه السلام منقطعا من خيله ، ويده في يد الاشتر وهما يتسايران رويدا يطلبان التل ليقفا عليه إذ برز له بسر مقنعا في الحديد ، لايعرف فناداه ابرز إلى أبا حسن ، فانحدر إليه على تؤده غير مكترث به
__________
(1) صفين : " للضبع آكل " (*) .(8/95)
حتى إذا قاربه طعنه وهو دارع فألقاه إلى الارض ، ومنع الدرع السنان أن يصل إليه ، فاتقاه بسر بعورته ، وقصد أن يكشفها ، يستدفع بأسه ، فانصرف عنه عليه السلام مستدبرا له فعرفه الاشتر حين سقط فقال : يا أمير المؤمنين ، هذا بسر بن أرطاة ، هذا عدو الله وعدوك ، فقال : دعه عليه لعنة الله ، أبعد أن فعلها ! فحمل ابن عم بسر من أهل الشام ، شاب ، على على عليه السلام ، وقال : أرديت بسرا والغلام ثأئره * * أرديت شيخا غاب عنه ناصره * وكلنا حام لبسر واتره * فلم يلتفت إليه على عليه السلام ، وتلقاه الاشتر فقال : له في كل يوم رجل شيخ شاغره * * وعورة وسط العجاج ظاهره تبرزها طعنة كف واتره * * عمرو وبسر منيا بالفاقره .
فطعنه الاشتر ، فكسر صلبه ، وقام بسر من طعنة على عليه السلام موليا ، وفرت خيله ، وناداه على عليه السلام : يا بسر ، معاوية كان أحق بها منك ، فرجع بسر إلى معاوية فقال له معاوية : أرفع طرفك ، فقد أدال الله عمرا منك ، وقال الشاعر في ذلك : أفى كل يوم فارس تندبونه * * له عورة تحت العجاجة باديه يكف بها عنه على سنانه * * ويضحك منها في الخلاء معاويه بدت أمس من عمرو فقنع رأسه * * وعورة بسر مثلها حذو حاذيه فقولا لعمرو وابن أرطاة أبصرا * * سبيلكما ، لا تلقيا الليث ثانيه ولا تحمدا إلا الحيا وخصاكما * * هما كانتا للنفس والله واقيه فلولاهما لم تنجوا من سنانه * * وتلك بما فيها عن العود ناهيه(8/96)
متى تلقيا الخيل المغيرة صبحة * * وفيها على فاتركا الخيل ناحيه (1) وكونا بعيدا حيث لا تبلغ القنا * * ونار الوغى ، إن التجارب كافيه (2) وإن كان منه بعد للنفس حاجة * * فعودا إلى ما شئتما هي ماهيه .
قال : فكان بسر بعد ذلك اليوم ، إذا لقى الخيل التى فيها على ينتحى ناحيه ، وتحامى فرسان الشام بعدها عليا عليه السلام (3) .
قال نصر : وحدثنا عمر بن سعد ، عن الاجلح بن عبد الله الكندى ، عن أبى جحيفة ، قال : جمع معاوية كل قرشي بالشام ، وقال لهم : العجب يا معشر قريش ! أنه ليس لاحد منكم في هذه الحرب فعال (4) يطول بها لسانه غدا ما عدا عمرا ، فما بالكم ! أين حمية قريش ؟ فغضب الوليد بن عقبة ، وقال : أي فعال تريد ؟ والله ما نعرف في أكفائنا من قريش العراق من يغنى غناءنا باللسان ولا باليد ، فقال معاوية : بلى إن اولئك وقوا عليا بأنفسهم .
قال الوليد : كلا ، بل وقاهم على بنفسه .
قال : ويحكم ! أما فيكم من يقوم لقرنه منهم مبارزه ومفاخره فقال مروان : أما البراز فإن عليا لا يأذن لحسن ولا لحسين ولا لمحمد بنيه فيه ، ولا لابن عباس واخوته ، ويصلى بالحرب دونهم ، فلايهم نبارز ! وأما المفاخرة ، فبماذا نفاخرهم ! بالاسلام أم بالجاهلية ! فإن كان بالاسلام ، فالفخر لهم بالنبوة ، وإن كان بالجاهلية فالملك فيه لليمن ، فإن قلنا قريش ، قالوا لنا عبد المطلب .
__________
(1) صفين : " الخيل المشيحة " .
(2) صفين : " وحمى الوغى " .
(3) صفين : 521 - 527 .
(4) فعال ، بالكسر : جمع فعل ، وفى صفين : " فعال يطول به لسانه " ، والفعال بالفتح : الفعل الحسن (*) .(8/97)
فقال عتبه بن أبى سفيان الهوا عن هذا ، فإنى لاق بالغداة جعدة بن هبيرة ، فقال معاوية : بخ بخ ! قومه بنو مخزوم ، وأمه أم هانئ بنت أبى طالب كفء كريم .
وكثر العتاب والخصام بين القوم ، حتى أغلظوا لمروان وأغلظ لهم ، فقال مروان : أما والله لو لا ما كان منى إلى على عليه السلام في أيام عثمان ، ومشهدي بالبصرة ، لكان لى في على رأى يكفى امرأ ذا حسب ودين ، ولكن ولعل .
ونابذ معاوية الوليد بن عقبة [ دون القوم ] (1) ، فأغلظ له الوليد فقال معاوية .
إنك إنما تجترئ على بنسبك من عثمان ، ولقد ضربك الحد وعزلك عن الكوفة .
ثم إنهم ما أمسوا حتى اصطلحوا ، وأرضاهم معاوية من نفسه ، ووصلهم بأموال جليلة .
وبعث معاوية إلى عتبة ، فقال : ما أنت صانع في جعدة ! قال : ألقاه اليوم وأقاتله غدا ، وكان لجعدة في قريش شرف عظيم ، وكان له لسان ، وكان من أحب الناس إلى على عليه السلام ، فغدا عليه عتبة فنادى : أبا جعدة أبا جعدة ! فاستاذن عليا عليه السلام في الخروج إليه ، فأذن له ، واجتمع الناس ، فقال عتبة : يا جعدة ، والله ما أخرجك علينا إلا حب خالك وعمك عامل البحرين ، وإنا والله ما نزعم إن معاوية أحق بالخلافة من على ، لو لا أمره في عثمان ، ولكن معاوية أحق بالشام لرضا أهلها به ، فاعفوا لنا عنها فو الله ما بالشام رجل به طرق (2) إلا وهو أجد من معاوية في القتال ، وليس بالعراق رجل له مثل جد على في الحرب ، ونحن أطوع لصاحبنا منكم لصاحبكم ، وما أقبح بعلى أن يكون في قلوب المسلمين أولى الناس ، بالناس حتى إذا أصاب سلطانا أفنى العرب .
فقال جعدة : أما حبى لخالي ، فلو كان لك خال مثله لنسيت أباك ، وأما ابن أبى سلمة فلم يصب أعظم من قدره ، والجهاد أحب إلى من العمل ، وأما فضل على على معاوية ،
__________
(1) من صفين .
(2) الطرق هنا : القوة : (*) .(8/98)
فهذا ما لا يختلف فيه اثنان .
وأما رضاكم اليوم بالشام ، فقد رضيتم بها أمس فلم نقبل .
وأما قولك : " ليس بالشام أحد إلا وهو أجد من معاوية وليس بالعراق رجل مثل جد على : فهكذا ينبغى أن يكون ، مضى بعلى يقينه ، وقصر بمعاوية شكة ، وقصد أهل الحق خير من جهد أهل الباطل .
وأما قولك : نحن أطوع لمعاوية منكم لعلى فو الله ما نسأله أن سكت ، ولا نرد عليه إن قال .
وأما قتل العرب ، فإن الله كتب القتل والقتال ، فمن قتله الحق فإلى الله .
فغضب عتبة ، وفحش على جعدة فلم يجبه .
وأعرض عنه .
فلما انصرف عنه .
جمع خيله فلم يستبق [ منها ] (1) شيئا ، وجل أصحابه السكون والازد والصدف وتهيأ جعدة بما استطاع ، والتقوا ، فصبر القوم جميعا ، وباشر جعدة يومئذ القتال بنفسه ، وجزع عتبة ، فأسلم خيله وأسرع هاربا إلى معاوية ، فقال له : فضحك جعدة وهزمتك لا تغسل رأسك منها أبدا .
فقال : والله لقد أعذرت ، ولكن أبى الله أن يديلنا منهم ، فما أصنع ! وحظي جعدة بعدها عند على عليه السلام .
وقال النجاشي فيما كان من فحش عتبة على جعدة : إن شتم الكريم يا عتب خطب * * فاعلمنه من الخطوب عظيم أمه أم هانئ وأبوه * * من معد ومن لؤى صميم ذاك منها هبيرة بن أبى وهب أقرت بفضله مخزوم كان في حربكم يعد بألف * * حين يلقى بها القروم القروم وابنه جعدة الخليفة منه * * هكذا تنبت الفروع الاروم (2)
__________
(1) من صفين .
(2) صفين : " هكذا يخلف الفرع الاروم " .
(*)(8/99)
كل شئ تريده فهو فيه * * حسب ثاقب ودين قويم وخطيب إذا تمعرت الاو * * جه يشجى به الالد الخصيم وحليم إذا الحبى حلها الجهل ، وخفت من الرجال الحلوم وشكيم الحروب قد علم النا * * س إذا حل في الحروب الشكيم وصحيح الاديم من نغل العيب إذا كان لا يصح الاديم حامل للعظيم في طلب الحمد إذا عظم الصغير اللئيم ما عسى أن تقول للذهب الاحمر عيبا ، هيهات منك النجوم ! كل هذا بحمد ربك فيه * * وسوى ذاك كان وهو فطيم وقال الاعور الشنى في ذلك ، يخاطب عتبة بن أبى سفيان : ما زلت تظهر في عطفيك أبهة * * لا يرفع الطرف منك التيه والصلف لا تحسب القوم إلا فقع قرقرة * * أو شحمة بزها شاو لها نطف (1) حتى لقيت ابن مخزوم وأى فتى * * أحيا مآثر آباءله سلفوا ! إن كان رهط أبى وهب جحاجحة * * في الاولين فهذا منهم خلف أشجاك جعدة إذ نادى فوارسه حاموا عن الدين والدنيا فما وقفوا هلا عطفت على قوم بمصرعة * * فيها السكون وفيها الازد والصدف (2) .
قال نصر : وحدثنا عمر بن سعد ، عن الشعبى ، قال : كان رجل من أهل الشام
__________
(1) الفقع : ضرب من أردأ الكمأة .
والقرقرة : الارض السهلة المطمئنة .
(2) صفين 527 - 533 ، وبعد هذا البيت : قد كنت في منظر من ذا ومستمع * * يا عتب لولا سفاه الرأى والسرف فاليوم يقرع منك السن من ندم * * ما للمبارز إلا العجز والنصف (*) .(8/100)
يقال له الاصبغ بن ضرار الازدي من مسالح معاوية وطلائعه فندب له على عليه السلام الاشتر فأخذه اسيرا من غير قتال ، فجاء به ليلا فشده وثاقا وألقاه عند أصحابه ينتظر به الصباح ، وكان الاصبغ شاعرا مفوها فأيقن بالقتل ونام أصحابه ، فرفع صوته فأسمع الاشتر ، وقال : ألا ليت هذا الليل أصبح سرمدا * * على الناس لا يأتيهم بنهار (1) يكون كذا حتى القيامة إننى * * أحاذر في الاصباح يوم بوارى (2) فياليل أطبق ، إن في الليل راحة * * وفي الصبح قتلى أو فكاك أسارى ولو كنت تحت الارض ستين واديا * * لما رد عنى ما أخاف حذارى فيا نفس مهلا إن للموت غاية * * فصبرا على ما ناب يا بن ضرار أأخشى ولى في القوم رحم قريبة * * أبى الله أن أخشى ومالك جارى (3) ولو أنه كان الاسير ببلدة * * أطاع بها ، شمرت ذيل إزارى ولو كنت جار الاشعث الخير فكنى * * وقل من الامر المخوف فرارى وجار سعيد أو عدى بن حاتم * * وجار شريح الخير قر قرارى وجار المرادى الكريم وهانئ * * وزحر بن قيس ما كرهت نهاري (4) ولو أننى كنت الاسير لبعضهم * * دعوت فتى منهم ففك إسارى (5) أولئك قومي لا عدمت حياتهم * * وعفوهم عنى وستر عوارى
__________
(1) صفين : " طبق سرمدا " .
(2) صفين : " ضرمة نار " .
(3) صفين : " والاشتر جارى " .
(4) صفين : " المرادي العظيم " .
(5) صفين : " دعوت رئيس القوم " (*) .(8/101)
قال : فغدا به الاشتر إلى على عليه السلام ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن هذا رجل من مسالح معاوية ، أصبته أمس وبات عندنا الليل ، فحركنا بشعره ، وله رحم ، فإن كان فيه القتل فاقتله ، وإن ساغ لك العفو عنه فهبه لنا ، فقال : هو لك يا مالك ، وإذا أصبت منهم أسيرا فلا تقتله ، فإن أسير أهل القبلة لا يقتل .
فرجع به الاشتر إلى منزله وخلى سبيله (1)
__________
(1) صفين 533 ، 534 (*) .(8/102)
(125) الاصل : ومن كلام له عليه السلام في الخوارج لما أنكروا تحكيم الرجال ، ويذم فيه أصحابه في التحكيم ، فقال : إنا لم نحكم الرجال وإنما حكمنا القرآن هذا القرآن إنما هو خط مستور بين الدفتين لا ينطق بلسان ، ولا بد له من ترجمان وإنما ينطق عنه الرجال .
ولما دعانا القوم إلى أن نحكم بيننا القرآن ، لم نكن الفريق المتولي عن كتاب الله سبحانه وتعالى ، وقد قال الله تعالى عز من قائل : (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) (1) فرده إلى الله أن نحكم بكتابه ، ورده إلى الرسول أن نأخذ بسنته ، فإذا حكم بالصدق في كتاب الله فنحن أحق الناس به ، وإن حكم بسنة رسول الله صلى الله عليه ، فنحن أحق الناس وأولاهم بها .
وأما قولكم : لم جعلت بينك وبينهم أجلا في التحكيم ؟ فإنما فعلت ذلك ليتبين الجاهل ، ويتثبت العالم ، ولعل الله أن يصلح في هذه الهدنة أمر هذه الامة ولا تؤخذ بأكظامها ، فتعجل عن تبين الحق ، وتنقاد لاول الغى .
إن أفضل الناس عند الله من كان العمل بالحق أحب إليه وإن نقصه وكرثه من الباطل وإن جر إليه فائدة (2) وزاده ، فأين يتاه بكم ومن أين أتيتم !
__________
(1) سورة النساء 59 .
(2) ساقطة من مخطوطة النهج (*) .(8/103)
استعدوا للمسير إلى قوم حيارى عن الحق لا يبصرونه وموزعين بالجور لا يعدلون به ، جفاة عن الكتاب ، نكب عن الطريق .
ما أنتم بوثيقة يعلق بها ، ولا زوافر عز يعتصم إليها ، لبئس حشاش نار الحرب أنتم ! أف لكم ! لقد لقيت منكم برحا (1) يوما أناديكم ، ويوما أناجيكم ، فلا أحرار صدق عند النداء ولا إخوان ثقة عند النجاء * * * الشرح : دفتا المصحف : جانباه اللذان يكنفانه ، وكان الناس يعملونهما قديما من خشب ، ويعملونهما الان من جلد ، يقول عليه السلام : لا اعتراض على في التحكيم ، وقول الخوارج : " حكمت الرجال " دعوى غير صحيحة ، وإنما حكمت القرآن ، ولكن القرآن لا ينطق بنفسه ، ولا بد له ممن يترجم عنه والترجمان بفتح التاء وضم الجيم ، هو مفسر اللغة بلسان آخر ، ويجوز ضم التاء لضمة الجيم ، قال الراجز : * كالترجمان لقى الانباطا * ثم قال : لما دعينا إلى تحكيم الكتاب ، لم نكن القوم الذين قال الله تعالى في حقهم : (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون) (2) ، بل أجبنا إلى ذلك ، وعملنا بقول الله تعالى : (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) .
وقال : معنى ذلك أن نحكم بالكتاب والسنة ، فإذا عمل الناس بالحق في هذه الواقعة ، وأطرحوا الهوى والعصبية كنا أحق بتدبير الامة وبولاية الخلافة من المنازع لنا عليها .
__________
(1) مخطوطة النهج : " ترحا " .
(2) سورة النور 48 (*) .(8/104)
فإن قلت : إنه عليه السلام لم يقل هكذا ، وإنما قال : إذا حكم بالصدق في كتاب الله ، فنحن أولى به ، وإذا حكم بالسنة فنحن أحق بها ! قلت : إنه رفع نفسه عليه السلام أن يصرح بذكر الخلافه فكنى عنها وقال نحن : إذا حكم بالكتاب والسنة أولى بالكتاب والسنة ، ويلزم من كونه أولى بالكتاب والسنة من جميع الناس أن يكون أولى بالخلافة من جميع الناس ، فدل على ماكنى عنه بالامر المستلزم له .
فإن قلت إذا كان الرجال الذين يترجمون القرآن ويفسرونه وقد كلفوا أن يحكموا في واقعة أهل العراق وأهل الشام ، بما يدلهم القرآن عليه ، يجوز أن يختلفوا في تفسير القرآن وتأويله ، فيدعى صاحب أهل العراق من تفسيره ما يستدل به على مراده ، ويدعى وكيل أهل الشام ما يقابل ذلك ويناقضه ، بطريق الشبهة التى تمسكوا بها من دم عثمان ، ومن كون الاجماع لم يحصل على بيعة أمير المؤمنين عليه السلام ، احتاج الحكمان حينئذ إلى أن يحكم بينهما حكمان آخران ، والقول فيهما كالقول في الاول إلى مالا نهايه له وإنما كان يكون التحكيم قاطعا للشغب لو كان القرآن ينص بالصريح الذى لا تأويل فيه ، أما على أمير المؤمنين عليه السلام وإما على معاوية ، ولا نص صريح فيه ، بل الذى فيه يحتمل التأويل والتجاذب فما الذى يفيد التحكيم والحال تعود لا محالة جذعة ! قلت : لو تأمل الحكمان الكتاب حق التأمل ، لوجدا فيه النص الصريح على صحة خلافة أمير المؤمنين عليه السلام ، لان فيه النص الصريح على أن الاجماع حجة ، ومعاوية لم يكن مخالفا في هذه المقدمة ولا أهل الشام ، وإذا كان الاجماع حجة ، فقد وقع الاجماع لما توفى رسول الله صلى الله عليه وآله ، على أن اختيار خمسة من صلحاء المسلمين لواحد منهم وبيعته توجب لزوم طاعته وصحة خلافته ، وقد بايع أمير المؤمنين عليه السلام خمسة من(8/105)
صلحاء الصحابة بل خمسون فوجب ، أن تصح خلافته ، وإذا صحت خلافته نفذت أحكامه ، ولم يجب عليه أن يقيد بعثمان ، إلا إن حضر أولياؤه عنده ، طائعين له مبايعين ، ملتزمين لاحكامه ، ثم بعد ذلك يطلبون القصاص من أقوام بأعيانهم يدعون ، عليهم دم المقتول ، فقد ثبت أن الكتاب لو تؤمل حق التأمل لكان الحق مع أهل العراق ، ولم يكن لاهل الشام من الشبهة ما يقدح في استنباطهم المذكور .
ثم قال عليه السلام : فأما ضربي للاجل في التحكيم فإنما فعلته لان الاناة والتثبت من الامور المحمودة أما الجاهل فيعلم فيه ما جهله ، وأما العالم فيثبت فيه على ما علمه ، فرجوت أن يصلح الله في ذلك الاجل أمر هذه الامة المفتونة .
ولا تؤخذ بأكظامها : جمع كظم ، وهو مخرج النفس ، يقول كرهت أن أعجل القوم عن التبين والاهتداء ، فيكون إرهاقى لهم ، وتركي للتنفيس عن خناقهم ، وعدولى عن ضرب الاجل بينى وبينهم ، أدعى إلى استفسادهم ، وأحرى أن يركبوا غيهم وضلالهم ، ولا يقلعوا عن القبيح الصادر عنهم .
ثم قال : أفضل الناس من آثر الحق وإن كرثه - أي اشتد عليه ، وبلغ منه المشقة .
ويجوز " أكرثه " بالالف - على الباطل وإن انتفع به وأورثه زيادة .
ثم قال : " فأين يتاه بكم ؟ " أي أين تذهبون في التيه ؟ يعنى في الحيرة .
وروي : " فأني يتاه بكم ؟ " .
ومن أين أتيتم ؟ أي كيف دخل عليكم الشيطان أو الشبهة ، ومن أي المداخل دخل اللبس عليكم ! ثم أمرهم بالاستعداد للمسير إلى حرب أهل الشام ، وذكر أنهم موزعون بالجور ،(8/106)
أي ملهمون ، قال تعالى : (رب أوزعني أن أشكر نعمتك) (1) أي ألهمنى ، أوزعته بكذا وهو موزع به ، والاسم والمصدر جميعا الوزع بالفتح ، واستوزعت إليه تعالى شكره فأوزعني ، أي استلهمته فألهمني .
ولا يعدلون عنه ، لا يتركونه إلى غيره ، وروى " لا يعدلون به " أي لا يعدلون بالجور شيئا آخر ، أي لا يرضون إلا بالظلم والجور ولا يختارون عليهما غيرهما .
قوله : " جفاة عن الكتاب " : جمع جاف وهو النابى عن الشئ ، أي قد نبوا عن الكتاب لا يلائمهم ولا يناسبونه تقول : جفا السرج عن ظهر الفرس إذا نبا وارتفع ، واجفيته أنا ، ويجوز أن يريد أنهم أعراب جفاة ، أي أجلاف لا أفهام لهم .
قوله : " نكب عن الطريق " ، أي عادلون ، جمع ناكب ، نكب ينكب عن السبيل ، بضم الكاف نكوبا .
قوله : " وما أنتم بوثيقة " ، أي بذى وثيقة ، فحذف المضاف ، والوثيقة : الثقة يقال : قد أخذت في أمر فلان بالوثيقة ، أي بالثقة ، والثقة مصدر .
والزوافر : العشيرة والانصار ، ويقال : هم زافرتهم عند السلطان ، للذين يقومون بأمره عنده .
وقوله : " يعتصم " إليها " ، أي بها ، فأناب " إلى " مناب الباء ، كقول طرفة : وإن يلتق الحى الجميع تلاقنى * * إلى ذروة البيت الرفيع المصمد (2) .
وحشاش النار : ما تحش به ، أي توقد ، قال الشاعر : أفى أن أحش الحرب فيمن يحشها * * ألام ، وفي ألا أقر المخازيا ! .
__________
(1) سورة النمل 19 .
(2) من المعلقة - بشرح التبريزي 77 (*) .(8/107)
وروى حشاش بالفتح كالشياع ، وهو الحطب الذى يلقى في النار قبل الجزل ، وروى : " حشاش " بضم الحاء وتشديد الشين ، جمع حاش ، وهو الموقد للنار .
قوله : " أف لكم " من الالفاظ القرآنية وفيها لغات " أف " بالكسر وبالضم وبالفتح و " أف " منونا بالثلاث أيضا ، ويقال : أفا وتفا ، وهو اتباع له ، وأفة وتفة ، والمعنى استقذار المعنى بالتأفيف .
قوله : " لقد لقيت منكم برحا " ، أي شدة ، يقال : لقيت منهم برحا بارحا ، أي شدة وأذى ، قال الشاعر : أجدك هذا عمرك الله كلما * * دعاك الهوى برح لعينك بارح (1) ! ويروى : " ترحا " ، أي حزنا .
ثم ذكر أنه يناديهم جهارا طورا ، ويناجيهم سرا طورا ، فلا يجدهم أحرارا عند ندائه ، أي لا ينصرون ولا يجيبون ، ولا يجدهم ثقاتا وذوى أمانة عند المناجاة ، أي لا يكتمون السر .
والنجاء : المناجاة ، مصدر ناجيته نجاء ، مثل ضاربته ضرابا ، وصارعته صراعا .
__________
(1) اللسان (برح) من غير نسبة (*) .(8/108)
(126) الاصل : ومن كلام له عليه السلام لما عوقب على التسوية ؟ ؟ في العطاء وتصبيره ؟ ؟ الناس أسوة في العطاء من غير تفضيل أولى السابقات والشرف : أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه ! والله لا أطور به ما سمر سمير ، وما أم نجم في السماء نجما ! ولو كان المال لى لسويت بينهم ، فكيف وإنما المال مال الله ! ثم قال عليه السلام : ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف ، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ، ويضعه في الاخرة ، ويكرمه في الناس ، ويهينه عند الله ، ولم يضع امرؤ ماله في غير حقه ، وعند غير أهله ، إلا حرمه الله شكرهم ، وكان لغيره ودهم ، فإن زلت به النعل يوما فاحتاج إلى معونتهم فشر خليل ، والام خدين .
* * * الشرح : أصل " تأمروني " : تأمرونني ، بنونين ، فأسكن الاولى وأدغم ، قال تعالى : (أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون) (1) .
__________
(1) سورة الزمر 64 (*) .(8/109)
ولا أطور به : لا أقربه ولا تطر حولنا ، أي لا تقرب ما حولنا ، وأصله من طوار الدار .
وهو ما كان ممتدا معها من الفناء .
وقوله : " ماسمر سمير " يعنى الدهر ، أي ما أقام الدهر وما بقى ، والاشهر في المثل : " ما سمر ابنا سمير قالوا : السمير الدهر ، وابناه الليل والنهار .
وقيل : ابنا سمير الليل والنهار ، لانه يسمر فيهما ، ويقولون : لافعله السمر والقمر ، أي ما دام الناس يسمرون في ليلة قمراء ، ولا أفعله سمير الليالى ، أي أبدا ، قال الشنفرى : هنا لك لا أرجو حياة تسرني * * سمير الليالى مبسلا بالجرائر (1) قوله : " وما أم نجم في السماء نجما " ، أي قصد وتقدم لان النجوم تتبع بعضها بعضا ، فلا بد فيها من تقدم وتأخر فلا يزال النجم يقصد نجما غيره ، ولا يزال النجم يتقدم نجما غيره .
والخدين : الصديق يقول عليه السلام : كيف تأمرونني أن أطلب النصر من الله بأن أجور على قوم وليت عليهم ! يعنى الذين لا سوابق لهم ولا شرف ، وكان عمر ينقصهم في العطاء عن غيرهم .
ثم قال عليه السلام : لو كان المال لى وأنا أفرقه بينهم لسويت ، فكيف وإنما هو مال الله وفيئه ! ثم ذكر أن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف ، وقد نهى الله عنه وأنه يرفع صاحبه عند الناس ، ويضعه عند الله ، وأنه لم يسلك أحد هذه المسلك إلا حرمه الله ود الذين يتحبب إليهم بالمال ، ولو احتاج إليهم يوما عند عثرة يعثرها لم يجدهم .
* * *
__________
(1) ديوانه 36 (*) .(8/110)
واعلم أن هذه مسألة فقهية ورأى على عليه السلام وأبى بكر فيها واحد ، وهو التسوية بين المسلمين في قسمة الفئ والصدقات ، وإلى هذا ذهب الشافعي رحمه الله ، وأما عمر فإنه لما ولى الخلافة فضل بعض الناس على بعض ، ففضل السابقين على غيرهم ، وفضل المهاجرين من قريش على غيرهم من المهاجرين وفضل المهاجرين كافة على الانصار كافة وفضل العرب على العجم ، وفضل الصريح على المولى ، وقد كان أشار على أبى بكر أيام خلافته بذلك ، فلم يقبل ، وقال : إن الله لم يفضل أحدا على أحد ، ولكنه قال : (إنما الصدقات للفقراء والمساكين (1)) ، ولم يخص قوما دون قوم فلما أفضت إليه الخلافة عمل بما كان أشار به أولا ، وقد ذهب كثير من فقهاء المسلمين إلى قوله ، والمسألة محل اجتهاد ، وللامام أن يعمل بما يؤديه إليه اجتهاده ، وإن كان اتباع على عليه السلام عندنا أولى ، لا سيما إذا عضده موافقة أبى بكر على المسألة ، وإن صح الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سوى فقد صارت المسألة منصوصا عليها ، لان فعله عليه السلام كقوله
__________
(1) سورة التوبة 9 (*) .(8/111)
(127) الاصل : ومن كلام له عليه السلام : فإن أبيتم إلا أن تزعموا أنى أخطأت وضللت ، فلم تضللون عامة أمه محمد صلى الله عليه بضلالي ، وتأخذونهم بخطئى ، وتكفرونهم بذنوبى ! سيوفكم على عواتقكم تضعونها مواضع البرء والسقم ، وتخلطون من أذنب بمن لم يذنب ، وقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه رجم الزانى المحصن ، ثم صلى عليه ، ثم ورثه أهله ، وقتل القاتل وورث ميراثه أهله ، وقطع وجلد الزانى غير المحصن ، ثم قسم عليهما من الفئ ، ونكحا المسلمات ، فآخذهم رسول الله صلى الله عليه بذنوبهم وأقام حق الله فيهم ، ولم يمنعهم سهمهم من الاسلام ، ولم يخرج أسماءهم من بين أهله .
ثم أنتم شرار الناس ، ومن رمى به الشيطان مراميه وضرب به تيهه .
وسيهلك في صنفان : محب مفرط يذهب به الحب إلى غير الحق ، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق .
وخير الناس في حالا النمط الاوسط فالزموه ، والزموا السواد الاعظم ، فإن يد الله على الجماعة ، وإياكم والفرقة ، فإن الشاذ من الناس للشيطان ، كما أن الشاذ من الغنم للذئب .
ألا من دعا إلى هذا الشعار فاقتلوه ، ولو كان تحت عمامتى هذه ، فإنما حكم(8/112)
الحكمان ليحييا ما أحيا القرآن ، ويميتا ما أمات القرآن ، وإحياؤه الاجتماع عليه ، وماتته الافتراق عنه ، فإن جرنا القرآن إليهم اتبعناهم ، وإن جرهم إلينا اتبعونا ، فلم آت لا أبا لكم بجرا ، ولا ختلتكم عن أمركم ، ولا لبسته عليكم .
إنما اجتمع رأى ملئكم على اختيار رجلين ، أخذنا عليهما ألا يتعديا القرآن ، فتاها عنه ، وتركا الحق وهما يبصرانه ، وكان الجور هواهما ، فمضيا عليه ، وقد سبق استثناؤنا عليهما في الحكومة بالعدل ، والصمد للحق سوء رأيهما ، وجور حكمهما .
* * * الشرح : ليس لقائل أن يقول له عليه السلام معتذرا عن الخوارج : إنهم إنما ضللوا عامة أمة محمد صلى الله عليه وآله ، وحكموا بخطئهم وكفرهم وقتلهم بالسيف خبطا ، لانهم وافقوك في تصويب التحكيم ، وهو عندهم كفر فلم يأخذوهم بذنبك كما قلت لهم ؟ وذلك لان أمير المؤمنين عليه السلام ما قال هذه المقالة إلا لمن رأى منهم استعراض العامة ، وقتل الاطفال حتى البهأئم ، فقد كان منهم قوم فعلوا ذلك .
وقد سبق منا شرح أفعالهم ووقائعهم بالناس ، وقالوا : إن الدار دار كفر لا يجوز الكف عن أحد من أهلها ، فهؤلاء هم الذين وجه أمير المؤمنين عليه السلام إليهم خطابه وإنكاره ، دون غيرهم من فرق الخوارج .
[ مذهب الخوارج في تكفير أهل الكبائر ] واعلم أن الخوارج كلها تذهب إلى تكفير أهل الكبائر ، ولذلك أكفروا عليا عليه السلام ومن اتبعه على تصويب التحكيم ، وهذا الاحتجاج الذى احتج به عليهم لازم وصحيح ، لانه لو كان صاحب الكبيرة كافرا لما صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله ، ولا ورثه من(8/113)
المسلم ، ولا مكنه من نكاح المسلمات ، ولا قسم عليه من الفئ ، ولاخرجه عن لفظ الاسلام .
وقد احتجت الخوارج لمذهبها بوجوه : منها قوله تعالى : " (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غنى عن العالمين) (1) ، قالوا : فجعل تارك الحج كافرا .
والجواب أن هذه الاية مجملة ، لانه تعالى لم يبين (ومن كفر) بماذا ؟ فيحتمل أن يريد تارك الحج ، ويحتمل أن يريد تارك اعتقاد وجوبه على من استطاع إليه سبيلا ، فلا بد من الرجوع إلى دلالة ، والظاهر أنه أراد لزوم الكفر لمن كفر باعتقاد كون الحج غير واجب ، ألا تراه في أول الاية قال : (ولله على الناس حج البيت) ، فأنبأ عن اللزوم ، ثم قال : (ومن كفر) بلزوم ذلك ! ونحن نقول : إن من لم يقل : لله على الناس حج البيت ، فهو كافر .
ومنها قوله تعالى : (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) (2) ، قالوا : والفاسق لفسقه وإصراره عليه آيس من روح الله ، فكان كافرا .
والجواب أنا لا نسلم أن الفاسق آيس من روح الله مع تجويزه تلافى أمره بالتوبة والاقلاع ، وإنما يكون اليأس مع القطع ، وليس هذه صفة الفاسق ، فأما الكافر الذى يجحد الثواب والعقاب ، فإنه آيس من روح الله ، لانه لا تخطر له التوبة والاقلاع ، ويقطع على حسن معتقده .
ومنها قوله تعالى : (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (3) وكل مرتكب للذنوب فقد حكم بغير ما أنزل الله ولم يحكم بما أنزل الله .
__________
(1) سورة آل عمران 97 .
(2) سورة يوسف 87 .
(3) سورة المائدة 44 (*) .(8/114)
والجواب أن هذا مقصور على اليهود لان ذكرهم هو المقدم في الاية : قال سبحانه وتعالى : (سماعون للكذب أكالون للسحت) (1) ثم قال عقيب قوله : (هم الكافرون) : (وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم) (2) فدل على أنها مقصورة على اليهود .
ومنها قوله تعالى : (فأنذرتكم نارا تلظى * لا يصلاها إلا الاشقى * الذى كذب وتولى) (3) قالوا وقد اتفقنا مع المعتزلة على أن الفاسق يصلى النار ، فوجب أن يسمى كافرا .
والجواب ، أن قوله تعالى : (نارا) نكرة في سياق الاثبات فلا تعم ، وأنما تعم النكرة في سياق النفي نحو قولك : " ما في الدار من رجل " ، وغير ممتنع أن يكون في الاخرة نار مخصوصه لا يصلاها إلا الذين كذبوا وتولوا ، ويكون للفساق نار أخرى غيرها .
ومنها قوله تعالى : (وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) (4) ، قالوا : والفاسق تحيط به جهنم ، فوجب أن يكون كافرا .
والجواب أن لم يقل سبحانه : " وإن جهنم لا تحيط إلا بالكافرين " وليس يلزم من كونها محيطة بقوم ألا تحيط بقوم سواهم .
ومنها قوله سبحانه : (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم اكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) (5) .
قالوا :
__________
(1) سورة المائدة 43 .
(2) سورة المائدة 46 .
(3) سورة الليل 14 - 16 .
(4) سورة التوبة 49 .
(5) سورة آل عمران 107 (*) .(8/115)
والفاسق لا يجوز أن يكون ممن ابيضت وجوههم ، فوجب أن يكون ممن اسودت ، ووجب أن يسمى كافرا ، لقوله : بما كنتم تكفرون .
والجواب أن هذه القسمة ليست متقابلة ، فيجوز أن يكون المكلفون ثلاثة أقسام : بيض الوجوه ، وسود الوجوه ، وصنف آخر ثالث بين اللونين وهم الفساق .
ومنها قوله تعالى : (وجوه يومئذ مسفره ضاحكه مستبشره * ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة * أولئك هم الكفرة الفجرة) (1) .
قالوا : والفاسق على وجهه غبرة ، فوجب أن يكون من الكفرة والفجرة .
والجواب أنه يجوز أن يكون الفساق قسما ثالثا لا غبرة على وجوههم ، ولا هي مسفرة ضاحكة ، بل على ما كانت عليه في دار الدنيا .
ومنها قوله تعالى : (ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازى إلا الكفور) (2) قالوا : والفاسق لابد أن يجازى ، فوجب أن يكون كفورا .
والجواب ، أن المراد بذلك : " وهل نجازى بعقاب الاستئصال إلا الكفور " ! لان الاية وردت في قصة أهل سبأ ، لكونهم استؤصلوا بالعقوبة .
ومنها أنه تعالى قال : (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين (3) وقال في آية أخرى : (إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون (4) فجعل الغاوى الذى يتبعه مشركا .
والجواب أنا لا نسلم أن لفظة " إنما " تفيد الحصر وأيضا فإنه عطف قوله :
__________
(1) سورة عبس 38 - 42 .
(2) سورة سبأ 47 .
(3) سورة الحجر 42 .
(4) سورة النحل 100 (*) .(8/116)
(والذين هم به مشركون) على قوله : (الذين يتولونه) ، فوجب أن يثبت التغاير بين الفريقين وهذا مذهبنا لان الذين يتولونه هم الفساق ، والذين هم به مشركون هم الكفار .
ومنها قوله تعالى : " وأما الذين فسقوا فمأواهم النار) إلى قوله تعالى : (وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذى كنتم به تكذبون) (1) فجعل الفاسق مكذبا .
والجواب ، أن المراد به الذين فسقوا عن الدين ، أي خرجوا عنه بكفرهم ، ولا شبهة أن من كان فسقه من هذا الوجه فهو كافر مكذب ، ولا يلزم منه أن كل فاسق على الاطلاق فهو مكذب وكافر .
ومنها قوله تعالى : (ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) (2) ، قالوا : فأثبت الظالم جاحدا ، وهذه صفة الكفار .
والجواب أن المكلف قد يكون ظالما بالسرقة والزنا ، وإن كان عارفا بالله تعالى ، وإذا جاز إثبات ظالم ليس بكافر ولا جاحد بآيات الله تعالى ، جاز إثبات فاسق ليس بكافر .
ومنها قوله تعالى : (ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) (3) .
والجواب أن هذه الاية تدل على أن الكافر فاسق ، ولا تدل على أن الفاسق كافر .
ومنها قوله تعالى : (فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون * تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون * ألم تكن آياتى تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون) (4) .
__________
(1) سورة السجدة 20 .
(2) سورة الانعام 33 .
(3) سورة النور 55 .
(4) سورة الاعراف 102 - 105 (*) .(8/117)
فنص سبحانه على أن من تخف موازينه يكون مكذبا ، والفاسق تخف موازينه ، فكان مكذبا ، وكل مكذب كافر .
والجواب أن ذلك لا يمنع من قسم ثالث ، وهم الذين لا تخف موازينهم ولا تثقل ، وهم الفساق ، ولا يلزم من كون كل من خفت موازينه يدخل النار ألا يدخل النار إلا من خفت موازينه .
ومنها قوله تعالى : (هو الذى خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن) (1) وهذا يقتضى أن من لا يكون مؤمنا فهو كافر والفاسق ليس بمؤمن ، فوجب أن يكون كافرا .
والجواب أن " من " هاهنا للتبعيض ، وليس في ذكر التبعيض نفى الثالث ، كما أن قوله : (فمنهم من يشمى على رجلين ومنهم يمشى على أربع) (2) ، لا ينفى وجود دابة تمشى على أكثر من أربع كبعض الحشرات .
* * * ثم نعود إلى الشرح : قوله عليه السلام : " ومن رمى به الشيطان مراميه " ، أي أضله ، كأنه رمى به مرمى بعيدا ، فضل عن الطريق ، ولم يهتد إليها .
قوله : " وضرب به تيهه " أي حيره وجعله تائها .
ثم قال عليه السلام : يهلك في رجلان ، فأحدهما من أفرط حبه له واعتقاده فيه حتى ادعى له الحلول كما ادعت النصارى ذلك في المسيح عليه السلام ، والثانى من أفرط بغضه له ، حتى حاربه ، أو لعنه ، أو برئ منه ، أو أبغضه ، هذه المراتب الاربع ، والبغض أدناها ، وهو
__________
(1) سورة التغابن 2 .
(2) سورة النور 45 (*) .(8/118)
موبق مهلك ، وفي الخبر الصحيح المتفق عليه أانه لا يحبه إلا مؤمن ، ولا يبغضه إلا منافق ، وحسبك بهذا الخبر ، ففيه وحده كفاية .
[ فصل في ذكر الغلاة من الشيعة والنصيرية وغيرهم ] فأما الغلاة فيه فهالكون كما هلك الغلاة في عيسى عليه السلام .
وقد روى المحدثون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال له عليه السلام : " فيك مثل من عيسى بن مريم ، أبغضته اليهود فبهتت أمه ، وأحبته النصارى فرفعته فوق قدره " ، وقد كان أمير المؤمنين عثر على قوم من أصحابه خرجوا من حد محبته باستحواذ الشيطان عليهم إ أن كفروا بربهم ، وجحدوا ما جاء به نبيهم ، فاتخذوه ربا وادعوه إلها ، وقالوا له : أنت خالقنا ورازقنا ، فاستتابهم ، واستأنى وتوعدهم ، فأقاموا على قولهم ، فحفر لهم حفرا دخن عليهم فيها ، طمعا في رجوعهم ، فأبوا فحرقهم ، وقال : ألا ترونى قد حفرت حفرا (1) * * إنى إذا رأيت أمرا منكرا * أوقدت نارى ودعوت قنبرا * وروى أبو العباس أحمد بن عبيد الله بن عمار الثقفى ، عن محمد بن سليمان بن حبيب المصيصى ، المعروف بنوين وروى أيضا عن على بن محمد النوفلي عن مشيخته ، أن عليا عليه السلام مر بقوم وهم يأكلون في شهر رمضان نهارا ، فقال : أسفر أم مرضى ؟ قالوا : لا ولا واحدة منهما ، قال : فمن أهل الكتاب أنتم فتعصمكم الذمة والجزية ؟ قالوا : لا ، قال : فما بال الاكل في نهار رمضان ؟ فقاموا إليه ، فقالوا : أنت أنت ! يومون إلى ربوبيته ، فنزل عليه السلام عن فرسه ، فألصق خده بالارض ، وقال : ويلكم ! إنما عبد من عبيد الله ، فاتقوا الله وارجعوا إلى الاسلام .
فأبوا فدعاهم مرارا ، فأقاموا على كفرهم فنهض إليهم ، وقال شدوهم وثاقا وعلى بالفعله والنار وا لحطب ثم امر بحفر بئرين
__________
(1) الحفر : البئر الواسعة (*) .(8/119)
فحفرتا فعجل ، أحداهما سربا والاخرى مكشوفة ، وألقى الحطب في المكشوفة ، وفتح بينهما فتحا ، وألقى النار في الحطب ، فدخن عليهم ، وجعل يهتف بهم ويناشدهم ليرجعوا إلى الاسلام ، فأبوا ، فأمر بالحطب والنار فألقى عليهم ، فأحرقوا ، فقال الشاعر : لترم بى المنية حيث شاءت * * إذا لم ترمنى في الحفرتين إذا ماحشتا حطبا بنار * * فذاك الموت نقدا غير دين .
قال : فلم يبرح عليه السلام حتى صاروا حمما .
ثم استترت هذه المقالة سنة أو نحوها ، ثم ظهر عبد الله بن سبأ ، وكان يهوديا يتستر بالاسلام بعد وفاة أمير المؤمنين عليه السلام فأظهرها واتبعه قوم فسموا السبئية (1) ، وقالوا : إن عليا عليه السلام لم يمت ، وإنه في السماء ، والرعد صوته والبرق صوته ، وإذا سمعوا صوت الرعد قالوا : السلام عليك يا أمير المؤمنين ! وقالوا في رسول الله صلى الله عليه وآله أغلظ قول ، وافتروا عليه أعظم فرية ، فقالوا : كتم تسعة أعشار الوحى ، فنعى عليهم قولهم الحسن بن على بن محمد بن الحنفية رضى الله عنه في رسالته ، التى يذكر فيها الارجاء رواها عنه سليمان بن أبى شيخ ، عن الهيثم بن معاوية ، عن عبد العزيز بن أبان ، عن عبد الواحد بن أيمن المكى ، قال : شهدت الحسن بن على بن محمد بن الحنفية يملى هذه الرسالة فذكرها وقال فيها ومن قول هذه السبئية هدينا لوحى ضل عنه الناس ، وعلم خفى عنهم وزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتم تسعه أعشار الوحى ولو كتم صلى الله عليه وآله شيئا مما أنزل الله عليه لكتم شأن أمرأة زيد ، وقوله تعالى : (تبتغى مرضات أزواجك) (2) .
__________
(1) والسبئية هم أول فرقة قالت بالتوقف والغيبة والرجعة ، وقالت بتناسخ الجزء الالهي بعد على رضى الله عنه .
وانظر الملل والنحل للشهرستاني 1 : 154 ، 155 .
(2) سورة التحريم 1 (*)(8/120)
ثم ظهر المغيرة بن سعيد (1) مولى بجيلة ، فأراد أن يحدث لنفسه مقالة يستهوى بها قوما ، وينال بها ما يريد الظفر به من الدنيا ، فغلا في على عليه السلام ، وقال : لو شاء على لاحيا عادا وثمود وقرونا بين ذلك كثيرا .
وروى على بن محمد النوفلي ، قال جاء المغيرة بن سعيد ، فاستأذن على أبى جعفر محمد ابن على بن الحسين ، وقال له : أخبر الناس أنى أعلم الغيب ، وأنا أطعمك العراق .
فزجره أبو جعفر زجرا شديدا ، وأسمعه ماكره ، فانصرف عنه ، فأتى أبا هاشم عبد الله ابن محمد بن الحنفية رحمه الله ، فقال له مثل ذلك - وكان أبو هاشم أيدا - فوثب عليه فضربه ضربا شديدا أشفى به على الموت ، فتعالج حتى برئ ، ثم أتى محمد بن عبد الله ابن الحسن بن الحسن رحمه الله - وكان محمد سكيتا (2) - فقال له كما قال للرجلين ، فسكت محمد فلم يجبه ، فخرج وقد طمع فيه بسكوته ، وقال : أشهد أن هذا هو المهدى الذى بشر به رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأنه قائم أهل البيت ، وأدعى أن على بن الحسين عليه السلام أوصى إلى محمد بن عبد الله بن الحسن .
ثم قدم المغيرة الكوفة ، وكان مشعبذا ، فدعا الناس إلى قوله ، واستهواهم واستغواهم ، فاتبعه خلق كثير ، وادعى ، على محمد ابن عبد الله أنه أذن له في خنق الناس وإسقائهم السموم ، وبث أصحابه في الاسفار يفعلون ذلك بالناس ، فقال له بعض اأحابه : إنا نخنق من لا نعرف ، فقال : لا عليكم ! إن كان من أصحابكم عجلتموه إلى الجنة ، وأن كان من عدوكم عجلتموه إلى النار ، ولهذا السبب كان المنصور يسمى محمد بن عبد الله الخناق ، وينحله ما ادعاه عليه المغيرة .
ثم تفاقم أمر الغلاة بعد المغيرة وأمعنوا في الغلو ، فادعوا حلول الذات الالهية
__________
(1) هو المنيرة بن سعيد العجلى ، مولى خالد بن عبد الله القسرى ، وادعى الامامة لنفسه بعد الامام محمد بن على بن الحسين ، وبعد ذلك ادعى النبوة ادعى النبوة لنفسه ، واستحل المحارم ، وغلا في على غلوا لا بعتقده عاقل ، وزاد على ذلك قوله بالتشبيه .
الشهرستاني 1 : 155 .
(2) السكيت ، على التصغير : الكثير السكوت (*) .(8/121)
المقدسة في قوم من سلالة أمير المؤمنين عليه السلام ، وقالوا بالتناسخ وجحدوا البعث والنشور ، وأسقطوا الثواب والعقاب ، وقال قوم منهم : إن الثواب والعقاب إنما هو ملاذ هذه الدنيا ومشاقها ، وتولدت من هذه المذاهب القديمة التى قال بها سلفهم مذاهب أفحش منها قال بها خلفهم ، حتى صاروا إلى المقالة المعروفة بالنصيرية (1) ، وهى التى أحدثها محمد ابن نصير النميري ، وكان من أصحاب الحسن العسكري عليه السلام ، والمقالة المعروفة بالاسحاقية وهى التى أحدثها إسحاق بن زيد بن الحارث ، وكان من أصحاب عبد الله ابن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب ، كان يقول بالاباحة وإسقاط التكاليف ، ويثبت لعلى عليه السلام شركة مع رسول الله صلى الله عليه وآله في النبوة على وجه غير هذا الظاهر الذى يعرفه الناس ، وكان محمد بن نصير من أصحاب الحسن بن على بن محمد ابن الرضا ، فلما مات ادعى وكالة لابن الحسن الذى تقول الامامية بإمامته ، ففضحه الله تعالى بما أظهره من الالحاد والغلو والقول بتناسخ الارواح ، ثم ادعى أنه رسول الله ونبى من قبل الله تعالى ، وأنه أرسله على بن محمد بن الرضا ، وجحد إمامة الحسن العسكري وإمامة ابنه ، وادعى بعد ذلك الربوبية ، وقال بإباحة ، المحارم .
وللغلاة أقوال كثيرة طويلة عريضة ، وقد رأيت أنا جماعة منهم ، وسمعت أقوالهم ، ولم أر فيهم محصلا ، ولا من يستحق أن يخاطب ، وسوف أستقصى ذكر فرق الغلاة وأقوالهم في الكتاب الذى كنت متشاغلا بجمعه ، وقطعني عنه اهتمامي بهذا الشرح ، وهو الكتاب المسمى " بمقالات الشيعة " إن شاء الله تعالى .
* * * قوله عليه السلام : " والزموا السواد الاعظم ، وهو الجماعة وقد جاء في الخبر عن
__________
(1) انظر الشهرستاني 1 : 168 ، 169 .
(*)(8/122)
رسول الله صلى الله عليه وآله هذه اللفظه التى ذكرها عليه السلام ، وهى : " يد الله على الجماعة ولا يبالى بشذوذ من شذ " وجاء في معناها كثير ، نحو قوله عليه السلام : " الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد " ، وقوله : " لا تجتمع أمتى على خطأ " ، وقوله : سألت الله إلا تجتمع أمتى على خطأ ، فأعطانيها " ، وقوله : ما رآه المسلمين حسنا فهو عند الله حسن " ، وقوله : " لا تجتمع أمتى على ضلالة " ، و " سألت ربى إلا تجتمع أمتى على ضلالة فأعطانيها " .
و " لم يكن الله ليجمع أمتى على ضلال ولا خطأ " .
وقوله عليه السلام : " عليكم بالسواد الاعظم " ، وقوله : " من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الاسلام عن عنقه " .
وقوله : من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية " .
وقوله : " من سره بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة " .
والاخبار في هذا المعنى كثيرة جدا .
ثم قال عليه السلام من دعا إلى هذا الشعار فاقتلوه " ، يعنى شعار الخوارج ، وكان شعارهم أنهم يحلقون وسط رؤوسهم ويبقى الشعر مستديرا حوله كالاكليل .
قال : " ولو كان تحت عمامتى هذه - أي لو اعتصم واحتمى بأعظم الاشياء حرمة - فلا تكفوا عن قتله .
ثم ذكر أنه إنما حكم الحكمان ليحييا ما أحياه القرآن أي ليجتمعا على ما شهد القرآن باستصوابه واستصلاحه ، ويميتا ما أماته القرآن ، أي ليفترقا ويصدا وينكلا عما كرهه القرآن ، وشهد بضلاله .
والبجر ، بضم الباء : الشر العظيم ، قال الراجز : * أرمى عليها وهى شئ بجر(8/123)
أي داهية .
ولاختلتكم : أي خدعتكم ، ختله وخاتله : أي خدعة والتخاتل : التخادع .
ولا لبسته عليكم ، أي جعلته مشتبها ملتبسا ، ألبست عليهم الامر ألبسه بالكسر .
والملا : الجماعه من الناس .
والصمد : القصد .
قال : سبق شرطنا سوء رأيهما ، لانا اشترطنا عليهما في كتاب الحكومة مالا مضرة علينا ، مع تأمله فيما فعلاه من اتباع الهوى وترك النصيحة للمسلمين(8/124)
(128) الاصل : ومن كلام له عليه السلام فيما يخبر به عن الملاحم بالبصرة : يا أحنف ، كأني به وقد سار بالجيش الذى لا يكون له غبار ولا لجب ولا قعقعة لجم ، ولا حمحمة خيل ، يثيرون الارض بأقدامهم كأنها أقدام النعام .
- قال الشريف الرضى أبو الحسن رحمه الله تعالى : يومئ بذلك إلى صاحب الزنج - * * * ثم قال عليه السلام : ويل لسكككم العامرة والدور المزخرفة ، التى لها أجنحة كأجنحة النسور ، وخراطيم كخراطيم الفيلة ، من أولئك الذين لا يندب قتيلهم ، ولا يفقد غائبهم .
إنا كاب الدنيا لوجهها ، وقادرها بقدرها ، وناظرها بعينها ! الشرح : اللجب الصوت .
والدور المزخرفة : المزينة المموهة بالزخرف ، وهو الذهب .
وأجنحة الدور التى شبهها بأجنحة النسور : رواشينها .
والخراطيم : ميازيبها .(8/125)
وقوله : " لا يندب قتيلهم " : ليس يريد به من يقتلونه ، بل القتيل منهم ، وذلك لان أكثر الزنج الذين أشار إليهم ، كانوا عبيدا لدهاقين البصرة وبناتها ، ولم يكونوا ذوى زوجات وأولاد ، بل كانوا على هيئة الشطار عزابا فلا نادبة لهم .
وقوله : " ولا يفقد غائبهم " ، يريد به كثرتهم وأنهم كلما قتل منهم قتيل سد مسدة غيره ، فلا يظهر أثر فقده .
وقوله : " أنا كاب الدنيا لوجهها " مثل الكلمات المحكية عن عيسى عليه السلام أنا الذى كببت الدنيا على وجهها ليس ، لى زوجة تموت ، ولا بيت يخرب ، وسادى الحجر وفراشى المدر ، وسراجى القمر .
* * * [ أخبار صاحب الزنج وفتنته وما انتحله من عقائد ] فأما صاحب الزنج (1) هذا فإنه ظهر في فرات البصرة في سنة خمس وخمسين ومائتين رجل زعم أنه على بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب عليه السلام فتبعه الزنج الذين كانوا يكسحون (2) السباخ في البصرة .
وأكثر الناس يقدحون في نسبه وخصوصا الطالبيين ..وجمهور النسابين اتفقوا على
__________
(1) ذكره صاحب الاعلام فقال : " على بن محمد الورزنينى العلوى ، الملقب بصاحب الزنج ، من كبار أصحاب الفتن في العهد العباسي ، وفتنته معروفة بفتنة الزنج ، لان أكثر أنصاره منهم .
ولد ونشأ في ورزنين ، إحدى قرى الرى ، وظهر في أيام المهتدى بالله العباسي ، سنة 255 ه ، وكان يرى رأى الازارقة ، والتف حوله سودان أهل البصرة ورعاعها ، فامتلكها واستولى على الابلة ، وتتابعت لقتاله الجيوش ، فكان يظهر عليها ويشتتها ، ونزل البطائح ، وامتلك الاهواز ، وأغار على واسط ، وبلغ عدد جيشه ثمانمائة ألف مقاتل ، وجعل مقامه في قصر اتخذه بالمختارة ، وعجز عن قتاله الخلفاء ، حتى ظفر به الموفق بالله ، فقتله ، وبعث برأسه إلى بغداد .
قال المرزباني : تروى له أشعار كثيرة في البسالة والفتك كان يقولها وينحلها غيره ، وفي نسبه العلوى طعن وخلاف .
(2) كسح البيت : كنسه ، ثم استغير لتنقية البئر والنهر وغيره (*) .(8/126)
أنه من عبد القيس ، وأنه على بن محمد بن عبد الرحيم ، وأمه سدية من أسد بن خزيمة ، جدها محمد بن حكيم الاسدي ، من أهل الكوفة ، أحد الخارجين مع زيد بن على بن الحسين عليه السلام على هشام بن عبد الملك ، فلما قتل زيد ، هرب فلحق بالرى وجاء إلى القرية التى يقال لها ورزنين ، فأقام بها مدة ، وبهذه القرية ولد على بن محمد صاحب الزنج ، وبها منشؤه ، وكان أبو أبيه المسمى عبد الرحيم رجلا من عبد القيس ، كان مولده بالطالقان ، فقدم العراق ، واشترى جارية سندية ، فأولدها محمدا أباه .
وكان على هذا متصلا بجماعة من حاشية السلطان وخول بنى العباس ، منهم غانم الشطرنجى ، وسعيد الصغير ، وبشير (1) ، خادم المنتصر ، وكان منهم معاشه ومن قوم من كتاب الدولة يمدحهم ويستمنحهم بشعره ، ويعلم الصبيان الخط والنحو والنجوم ، وكان حسن الشعر (2) مطوعا عليه ، فصيح اللهجة بعيد الهمة ، تسمو نفسه إلى معالى الامور ، ولا يجد إليها سبيلا ، ومن شعره القصيدة المشهورة التى أولها
__________
(1) الطبري : " بشر " .
(2) وذكره المرزباني في معجم الشعراء 29 ، وقال : تروى له أشعار كثيرة في البسالة والفتك ، سمعت ابن دريد يذكر أنها - أو أكثرها - له ، لانه كان يقولها وينحلها لغيره ، وقرئت عليه بحضرتي فاغترف بها .
قال : وفيما يروى لعلى لما هرب من الدار التي كان فيها في اليوم الذي قتل فيه : عليك سلام الله يا خير منزل * * خرجنا وخلفناه غير ذميم فإن تكن الايام أحدثن فرقة * * فمن ذا الذي من ريبهن سليم .
وله : لهف نفسي على قصور ببغدا * * د ، وما قد حوته كل عاص * * وخمور هناك تشرب جهرا * * ورجال على المعاصي حراص لست بابن الفواطم الغر إن لم * * أجل الخيل حول تلك العراص لست بابن الفواطم الغر إن لن * * أجل الخيل حول تلك العراص (*)(8/127)
رايت المقام على الاقتصاد * * قنوعا به ذلة في العباد ومن جملتها : إذا النار ضاق بها زندها * * ففسحتها في فراق الزناد إذا صارم قر في غمده * * حوى غيره السبق يوم الجلاد .
ومن الشعر المنسوب إليه : وإنا لتصبح أسيافنا * * إذا ما انتضين ليوم سفوك منابرهن بطون الاكف * * وأغمادهن رءوس الملوك ومن شعره في الغزل : ولما تبينت المنازل بالحمى * * ولم أقض منها حاجة المتورد زفرت إليها زفرة لو حشوتها * * سرابيل أبدان الحديد المسرد (1) لرقت حواشيها ، وظلت متونها * * تلين كما لانت لداود في اليد ومن شعره أيضا : وإذا تنازعني أقول لها قرى * * موت يريحك أو صعود المنبر ما قد قضى سيكون فاصطبري له * * ولك الامان من الذى لم يقدر * * * وقد ذكر المسعودي في كتابه المسمى " مروج الذهب " ، أن أفعال على بن محمد صاحب الزنج ، تدل على أنه لم يكن طالبيا ، وتصدق ما رمى به من دعوته في النسب ، لان ظاهر حاله كان ذهابه إلى مذهب الازارقة ، في قتل النساء والاطفال والشيخ الفاني والمريض ،
__________
(1) البدن : الدرع القصيرة ، وجمعه أبدان (*) .(8/128)
وقد روى أنه خطب مرة ، فقال في أول خطبته : " لا إله إلا الله والله أكبر ، الله أكبر لا حكم إلا لله " ، وكان يرى الذنوب كلها شركا (1) .
ومن الناس من يطعن في دينه ويرميه بالزندقة والالحاد ، وهذا هو الظاهر من أمره ، لانه كان متشاغلا في بدايته بالتنجيم والسحر والاصطرلابات .
* * * وذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (2) ، أن على بن محمد شخص من سامراء وكان يعلم الصبيان بها ، ويمدح الكتاب ، ويستميح الناس ، في سنة تسع وأربعين ومائتين إلى البحرين ، فادعى بها أنه على بن محمد بن الفضل بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن على ابن أبى طالب عليه السلام ، ودعا الناس بهجر إلى طاعته ، فاتبعه جماعة كثيرة من أهلها ، واتبعه (3) جماعة أخرى ، فكانت بسببه بين الذين اتبعوه والذين أبوه عصبية ، قتل فيها بينهم جماعة ، فانتقل عنهم لما حدث ذلك إلى الاحساء ، وضوي (4) إلى حى من بنى تميم ، ثم من بنى سعد يقال لهم بنو الشماس ، فكان بينهم مقامه ، وقد كان أهل البحرين أحلوه من أنفسهم محل النبي صلى الله عليه وآله - فيما ذكر - حتى جبى له الخراج هنالك ونفذ حكمه فيهم ، وقاتلوا أسباب السلطان لاجله ، ووتر منهم جماعة كثيرة فتنكروا له ، فتحول عنهم إلى البادية ، ولما انتقل إلى البادية صحبه جماعة من أهل البحرين ، منهم رجل كيال من أهل الاحساء ، يقال له يحيى بن محمد الازرق ، مولى بنى دارم ، ويحيى بن أبى
__________
(1) مروج الذهب 4 : 194 ، 195 .
(2) تاريخ الطبري 3 : 1743 وما بعدها (طبع أوربا) .
(3) في الطبري : " وأبته جماعة أخر " .
(4) ضوى : التجأ وانضم (*) .(8/129)
ثغلب ، وكان تاجرا من أهل هجر وبعض موالى بنى حنظلة ، أسود يقال له سليمان ابن جامع ، وكان قائد جيشه حيث كان بالبحرين .
ثم تنقل في البادية من حى إلى حى ، فذكر عنه أنه كان يقول : أوتيت في تلك الايام آيات من آيات إما متى ، منها أنى لقيت سورا من القرآن لم أكن أحفظها ، فجرى بها لساني في ساعة واحدة منها " سبحان " و " الكهف " و " صاد " ، ومنها أنى ألقيت نفسي على فراشي ، وجعلت أفكر في الموضع الذى أقصد له ، وأجعل مقامي به إذا نبت البادية بى .
وضقت ذرعا بسوء طاعة أهلها ، فأظلتني سحابة ، فبرقت ورعدت ، واتصل صوت الرعد منها بسمعي ، فخوطبت فقيل لى : اقصد البصرة ، فقلت لاصحابي وهم يكتنفوننى : إنى أمرت بصوت من هذا الرعد بالمصير إلى البصرة .
وذكر عنه أنه عند مصيره إلى البادية أوهم أهلها أنه يحيى بن عمر أبو الحسين (1) المقتول بناحية الكوفه في أيام المستعين ، فاختدع بذلك قوما منهم ، حتى اجتمع عليه منهم جماعة ، فزحف بهم إلى موضع من البحرين ، يقال له الردم ، فكانت بينه وبين أهله وقعة عظيمة كانت ، الدبرة (2) فيها عليه وعلى أصحابه ، قتلوا فيها قتلا ذريعا فتفرقت عنه العرب وكرهته ، وتجنبت صحبته .
فلما تفرقت العرب عنه ونبت به البادية ، شخص عنها إلى البصرة ، فنزل بها في بنى ضبيعة فاتبعه بها جماعة ، منهم على بن أبان المعروف بالمهلبى من ولد المهلب بن أبى صفرة ، وأخواه محمد والخليل وغيرهم ، وكان قدومه البصرة في سنة أربع وخمسين ومائتين
__________
(1) هو يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد بن على بن الحسين بن على بن أبي طالب ، خرج في أيام المتوكل ، وقتل في أيام المستعين سنة 250 ، ورثاه الشعراء .
قال أبو الفرج : وما بلغني أن أحدا ممن قتل في الدولة العباسية من آل أبي طالب رثى بأكثر مما رثى به يحيى ، ولا قيل فيه الشعر بأكثر مما قيل فيه .
وانظر أخباره في مقاتل الطالبيين 639 - 664 .
(2) في الطبري : " الدائرة " ، وهما بمعنى (*) .(8/130)
وعامل السلطان بها يومئذ محمد بن رجاء ، ووافق ذلك فتنة أهل البصرة بالبلالية والسعدية فطمع في إحد الفريقين أن يميل إليه ، فأرسل أربعة من أصحابه يدعون إليه ، وهم محمد ابن سلم القصاب الهجرى وبريش القريعى وعلى الضراب ، والحسين الصيدنانى ، وهم الذين كانوا صحبوه بالبحرين فلم يستجب لهم أحد من أهل البلد ، وثار عليهم الجند فتفرقوا ، وخرج على بن محمد من البصرة هاربا ، وطلبه ابن رجاء فلم يقدر عليه وأخبر ابن رجاء بميل جماعة من أهل البصرة إليه ، فأخذهم فحبسهم وحبس معهم زوجة على ابن محمد ، وابنه الاكبر ، وجارية له كانت حاملا ، ومضى على بن محمد لوجهه يريد بغداد ومعه قوم من خاصته ، منهم محمد بن سلم ، ويحيى بن محمد ، وسليمان بن جامع ، وبريش القريعى ، فلما صاروا بالبطيحة ، نذر بهم بعض موالى الباهليين ، كان يلى أمر البطيحة ، فأخذهم وحملهم إلى محمد بن أبى عون وهو عامل السلطان بواسط ، فاحتال لابن أبى عون حتى تخلص هو وأصحابه من يده ، ثم صار إلى بغداد فأقام بها سنة ، وانتسب في هذه السنة إلى محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد ، وكان يزعم أنه ظهر له أيام مقامه ببغداد في هذه السنة آيات ، وعرف ما في ضمائر أصحابه وما يفعله كل واحد منهم ، وأنه سأل ربه أن يعلمه حقيقة أمور كانت في نفسه ، فرأى كتابا يكتب له على حائط ، ولا يرى شخص كاتبه .
* * * قال أبو جعفر : واستمال ببغداد جماعة منهم جعفر بن محمد الصوحانى ، من ولد زيد ابن صوحان العبدي ، ومحمد بن القاسم وغلامان لبنى خاقان (1) ، وهما مشرق ورفيق ، فسمى مشرقا حمزة وكناه أبا أحمد ، وسمى رفيقا جعفرا وكناه أبا الفضل : فلما انقضى عامه ذلك ببغداد ، عزل محمد بن رجاء عن البصرة ، فوثبت رؤساء الفتنة بها من البلالية والسعدية ،
__________
(1) الطبري : " وغلاما يحيى بن عبد الرحمن بن خاقان " (*) .(8/131)
ففتحوا المحابس ، وأطلقوا من كان فيها فتخلص أهله وولده فيمن تخلص ، فلما بلغه ذلك شخص عن بغداد ، فكان رجوعه إلى البصرة في شهر رمضان من سنة خمس وخمسين ومائتين ومعه على بن أبان المهلبى ، وقد كان لحق به وهو بمدينة السلام مشرق ورفيق ، وأربعة أخر من خواصه ، وهم يحيى بن محمد ، ومحمد بن سلم وسليمان بن جامع وأبو يعقوب المعروف بجربان ، فساروا جميعا حتى نزلوا بالموضع المعروف ببرنخل من أرض البصرة في قصر هناك يعرف بقصر القرشى على نهر يعرف بعمود بن المنجم ، كان بنو موسى بن المنجم احتفروه ، وأظهر أنه وكيل لولد الواثق في بيع ما يملكونه هناك من السباخ .
قال أبو جعفر : فذكر عن ريحان بن صالح ، أحد غلمان الشورجيين الزنوج ، وهو أول من صحبه منهم ، قال : كنت موكلا بغلمان مولاى ، أنقل الدقيق إليهم فمررت به وهو مقيم بقصر القرشى يظهر الوكالة لاولاد الواثق ، فأخذني أصحابه وصاروا بى إليه ، وأمروني بالتسليم عليه بالامرة ففعلت ذلك ، فسألني عن الموضع الذى جئت منه ، فأخبرته أنى أقبلت من البصرة فقال : هل سمعت لنا بالبصرة خبرا ؟ قلت : لا ، قال : فخبر البلالية والسعدية قلت : لم أسمع لهم خبرا ، فسألني عن غلمان الشورجيين وما يجرى لكل جماعه منهم من الدقيق والسويق والتمر ، وعمن يعمل في الشورج من الاحرار والعبيد ، فأعلمته ذلك ، فدعاني إلى ما هو عليه ، فأجبته فقال لى : احتل فيمن قدرت عليه من الغلمان ، فأقبل بهم إلى .
ووعدني أن يقودنى على من آتيه به منهم ، وأن يحسن إلى واستحلفني ألا أعلم احدا بموضعه ، وأن أرجع إليه ، فخلى سبيلى ، فأتيت بالدقيق الذى معى إلى غلمان مولاى ، وأخبرتهم خبره ، وأخذت له البيعة عليهم ، ووعدتهم عنه بالاحسان والغنى ، ورجعت إليه من غد ذلك اليوم ، وقد وافاه رفيق غلام الخاقانية (1) .
__________
(1) في الطبري : " غلام يحيى بن عبد الرحمن " (*) .(8/132)
وقد كان وجهه إلى البصرة ، يدعو إليه غلمان الشورج (1) ، ووافى إليه صاحب له آخر يعرف بشبل بن سالم (2 ، قد كان دعا إليه قوما منهم أيضا 2) ، وأحضر معه حريرة كان أمره بابتياعها ، ليتخذها لواء ، فكتب فيها بالحمرة (3) : (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله) الاية ، وكتب اسمه واسم أبيه عليها ، وعلقها في رأس مردى (4) ، وخرج وقت السحر من ليلة السبت لليلتين بقيتا من شهر رمضان ، فلما صار إلى مؤخر القصر الذى كان فيه ، لقيه غلمان رجل من الشورجيين ، يعرف بالعطار [ متوجهين إلى أعمالهم ] (5) فأمر بأخذ وكيلهم ، فأخذ وكتف ، واستضم غلمانه إلى غلمانه ، وكانوا خمسين غلاما ، ثم صار إلى الموضع المعروف بالسنائى فاتبعه الغلمان الذين كانوا فيه ، وهم خمسمائة غلام فيهم الغلام المعروف بأبى حديد ، وأمر بأخذ وكيلهم ، وكتفه ثم مضى إلى الموضع المعروف بالسيرافي ، فاتبعه من كان فيه من غلمان ، وهم مائة وخمسون غلاما ، منهم زريق وأبو الخنجر ، ثم صار إلى الموضع المعروف بسبخة ابن عطاء ، فأخذ طريفا ، وصبيحا الاعسر ، وراشدا المغربي ، وراشدا القرمطى ؟ (6) ؟ ، وكل هؤلاء من وجوه الزنج وأعيانهم الذين صاروا قوادا وأمراء في جيوشه ، وأخذ معهم ثمانين غلاما .
ثم أتى إلى الموضع المعروف بغلام سهل الطحان ، فاستضاف من كان به من الغلمان ، ثم لم يزل يفعل مثل ذلك في يومه حتى اجتمع إليه بشر كثير من الزنج ، ثم قام فيهم
__________
(1) الطبري : " في حوائج من حوائجه " .
(2 - 2) الطبري : " وكان من غلمان الدباسين " .
(3) الطبري : " بحمرة وخضرة " .
(4) المردى : خشبة تدفع بها السفينة .
(5) من الطبري .
(6) الطبري : " القرماطى " (*) .(8/133)
آخر الليل خطيبا ، فمناهم ووعدهم أن يقودهم ويرئسهم ويملكهم الاموال والضياع ، وحلف لهم بالايمان الغليظة ألا يغدر بهم ، ولا يخذلهم ، ولا يدع شيئا من الاحسان إلا أتى إليهم .
ثم دعا وكلاءهم ، فقال : قد أردت ضرب أعناقكم لما كنتم تأتون إلى هؤلاء الغلمان الذين استضعفتموهم وقهرتموهم ، وفعلتم بهم ما حرم الله عليكم أن تفعلوه بهم ، وكلفتموهم مالا يطيقونه ، فكلمنى أصحابي فيكم ، فرأيت إطلاقكم .
فقالوا له : أصلحك الله ! إن هؤلاء الغلمان أباق (1) ، وإنهم سيهربون منك فلا يبقون عليك ولا علينا ، فخذ من مواليهم مالا ، وأطلقهم .
فأمر الغلمان فأحضروا شطوبا (2) ، ثم بطح كل قوم وكيلهم ، فضرب كل رجل منهم خمسمائة شطبة ، [ واحلفهم بطلاق نسائهم ألا يعلموا أحدا بموضعه ] (3) ، ثم أطلقهم فمضوا نحو البصرة ومضى رجل منهم حتى عبر دجيل الاهواز ، فأنذر الشورجيين ليحفظوا غلمانهم ، وكان هناك خمسة عشر ألف غلام زنجى (4) ، ثم سار ، وعبر دجيلا ، وسار إلى نهر ميمون بأصحابه ، واجتمع إليه السودان من كل جهة .
فلما كان يوم الفطر جمعهم وخطب خطبة ذكر فيها ما كانوا عليه من سوء الحال ، وأن الله تعالى قد استنقذهم من ذلك ، وأنه يريد أن يرفع أقدارهم ، ويملكهم العبيد والاموال والمنازل ، ويبلغ بهم أعلى الامور ، ثم حلف لهم على ذلك .
فلما فرغ من خطبته
__________
(1) أباق : هاربون .
(2) الشطوب : جريد النخل المجفف .
(3) من الطبري .
(4) في الطبري : " يقال له عبد الله ، وبعرف بكريخا " (*) .(8/134)
أمر الذين فهموا عنه قوله أن يفهموه من لا فهم له من عجمهم ، لتطيب بذلك أنفسهم ، ففعلوا ذلك .
* * * قال أبو جعفر : فلما كان في اليوم الثالث من شوال ، وافاه الحميرى أحد عمال السلطان بتلك النواحى ، في عدد كثير ، فخرج إليه صاحب الزنج في أصحابه ، فطرده وهزم أصحابه ، حتى صاروا في بطن دجلة ، واستأمن إلى صاحب الزنج رجل من رؤساء السودان ، يعرف بأبى صالح القصير في ثلثمائة من الزنج ، فلما كثر من اجتمع إليه من الزنج قود قواده ، وقال لهم : من أتى منكم برجل من السودان فهو مضموم إليه .
قال أبو جعفر : وانتهى إليه أن قوما من أعوان السلطان هناك ، منهم خليفة بن أبى عون على الابلة ، ومنهم الحميرى قد أقبلوا نحوه ، فأمر أصحابه بالاستعداد لهم ، فاجتمعوا للحرب ، وليس في عسكره يومئذ إلا ثلاثة أسياف : سيفه ، وسيف على بن أبان ، وسيف محمد بن سلم ، ولحقه القوم ونادى الزنج ، فبدر مفرج النوبى والمكنى بأبى صالح ، وريحان ابن صالح ، وفتح الحجام ، وقد كان فتح حينئذ يأكل وبين يديه طبق فلما نهض تناول ذلك الطبق ، وتقدم أمام أصحابه ، فلقيه رجل من عسكر أصحاب السلطان ، فلما رآه فتح حمل عليه وحذفه بالطبق الذى كان في يده ، فرمى الرجل (1) سلاحه ، وولى هاربا ، وانهزم القوم كلهم ، وكانوا أربعة آلاف ، فذهبوا على وجوههم وقتل من قتل منهم ، ومات بعضهم عطشا ، وأسر كثير منهم ، فأتى بهم صاحب الزنج ، فأمر بضرب أعناقهم ، فضربت ، وحملت الرؤوس على بغال كان أخذها من الشورجيين ، كانت تنقل الشورج .
* * *
__________
(1) الطبري : " فرمى بلبل " (*) .(8/135)
قال أبو جعفر : ومر في طريقه بالقرية المعروفة بالمحمدية (1) فخرج منها رجل من موالى الهاشميين ، فحمل على بعض السودان فقتله ، ودخل القرية ، فقال له أصحابه : ائذن لنا في انتهاب القرية وطلب قاتل صاحبنا ، فقال : لا سبيل إلى ذلك دون أن نعرف ما عند أهلها (2) ، وهل فعل القاتل ما فعل عن رأيهم ، ونسائلهم أن يدفعوه إلينا ، فإن فعلوا وإلا حل (3) لنا قتالهم ، وعجل المسير من القرية ، فتركها وسار (4) .
قال أبو جعفر : ثم مر على القرية المعروفة بالكرخ ، فأتاه كبراؤها ، وأقاموا له الانزال (5) ، وبات ليلته تلك عندهم ، فلما أصبح أهدى له رجل من أهل القرية المسماة جبى فرسا كميتا ، فلم يجد سرجا ولا لجاما ، فركبه بحبل وشنفه (6) بحبل ليف .
* * * قلت : هذا تصديق قول أمير المؤمنين عليه السلام ، كأنه به قد سار في الجيش الذى ليس له غبار ولا لجب ، ولا قعقعة لجم ، ولا حمحمة خيل ، يثيرون الارض بأقدامهم كأنها أقدام النعام .
* * * قال أبو جعفر : وأول مال صار إليه مائتا دينار وألف درهم ، لما نزل القرية المعروفة بالجعفرية ، أحضر بعض رؤسائها وسأله عن المال فجحد ، فأمر بضرب عنقه ، فلما خاف
__________
(1) في الطبري : " ومضى حتى وافى القادسية " .
(2) الطبري : " القوم " .
(3) الطبري : " وإلا ساغ " .
(4) الطبري : " وأعجلهم عن المسير ، فصاروا إلى نهر ميمون راجعين ، فأقام في المسجد الذى كان أقام فيه .
في بدأته ، وأمر بالرءوس المحمولة ، معه ، وأمر بالاذان أبا صالح النوبى فأذن وسلم عليه بالامرة ، فأقام فصلى بأصحابه العشاء الاخرة ، وبات ليلته بها ، ثم مضى من الند حتى من بالكرخ ...
" (5) الانزل : جمع نزل ، وهو ما هيئ للضيف أن ينزل عليه .
(6) سنفه : شده بالسناف ، وهو حبل يشد على رقبة البعير (*) .(8/136)
أحضر له هذا القدر ، وأحضر له ثلاثة برازين كميتا وأشقر وأشهب ، فدفع أحدها إلى محمد بن سلم ، والاخر إلى يحيى بن محمد ، والاخر إلى مشرق غلام الخاقانيه .
ووجدوا في دار لبعض الهاشميين سلاحا فانتهبوه ، فصار ذلك اليوم بأيدى بعض الزنج سيوف وآلات وأتراس .
قال أبو جعفر : ثم كانت بينه وبين من يليه من أعوان السلطان كالحميري ، ورميس وعقيل وغيرهم وقعات ، كان الظفر فيها كلها له ، وكان يأمر بقتل الاسرى ، ويجمع الرؤوس معه ، وينقلها من منزل إلى منزل ، وينصبها أمامه إذا نزل ، وأوقع الهيبة والرهبة في في صدور الناس بكثرة القتلى ، وقلة العفو ، وعلى الخصوص المأسورين ، فإنه كان يضرب أعناقهم ولا يستبقى منهم أحدا .
قال أبو جعفر : ثم كان له مع أهل البصرة وقعة بعد ذلك سار يريدها في ستة آلاف زنجى ، فاتبعه أهل الناحية المعروفة بالجعفرية ليحاربوه ، فعسكر عليهم فقتل منهم مقتلة عظيمة ، أكثر من خمسمائة رجل ، فلما فرغ منهم صمد نحو البصرة واجتمع أهلها ومن بها من الجند ، وحاربوه حربا شديدا ، فكانت الدائرة عليه ، وانهزم أصحابه ، ووقع كثير منهم في النهرين المعروفين بنهر كثير ونهر شيطان ، وجعل يهتف بهم ويردهم ولا يرجعون ، وغرق من أعيان جنده وقواده جماعة منهم أبو الجون ، ومبارك البحراني وعطاء البربري ، وسلام الشامي ، فلحقه قوم من جند البصرة ، وهو على قنطرة نهر كثير ، فرجع إليهم بنفسه ، وسيفه في يده ، فرجعوا عنه ، حتى صاروا إلى الارض وهو يومئذ في دراعة (1) وعمامة ونعل وسيف وفي يده اليسرى ترس ، ونزل عن القنطرة فصعدها البصريون يطلبونه ، فرجع إليهم ، فقتل منهم رجلا بيده على خمس مراق من القنطرة ، وجعل يهتف بأصحابه ، ويعرفهم مكانه ، ولم يكن بقى معه في ذلك الموضع من أصحابه
__________
(1) الدراعة : جبة مشقوقة من المقدم ، وهو ضرب من الثياب (*) .(8/137)
إلا أبو الشوك ومصلح ورفيق ومشرق غلاما الخاقانية ، وضل أصحابه عنه ، وانحلت عمامته ، فبقى على رأسه كور (1) منها أو كوران ، فجعل يسحبها من ورائه ، ويعجله المشى عن رفعها وأسرع غلاما الخاقانية في الانصراف وقصر عنهما فغابا عنه ، واتبعه رجلان من أهل البصرة بسيفيهما ، فرجع إليهما ، فانصرفا عنه ، وخرج إلى الموضع الذى فيه ، مجمع أصحابه ، وقد كانوا تحيروا ، فلما رأوه سكنوا .
* * * قال أبو جعفر : ثم سأل عن رجاله وإذا قد هرب كثير منهم ، ونظر فإذا هو من جميع أصحابه في مقدار خمسمائة رجل ، فأمر بالنفخ في البوق الذى كانوا يجتمعون لصوته ، فنفخ فيه فلم يرجع إليه أحد .
قال : وانتهب أهل البصرة سفنا كانت معه ، وظفروا بمتاع من متاعه ، وكتب من كتبه واصطرلابات كان معه ، ثم تلاحق به جماعة ممن كان هرب ، فأصبح وإذا معه ألف رجل ، فأرسل محمد بن سلم وسليمان بن جامع ويحيى بن محمد إلى أهل البصرة يعظهم ويعلمهم أنه لم يخرج إلا غضبا لله وللدين ، ونهيا عن المنكر ، فعبر محمد بن سلم حتى توسط أهل البصرة ، وجعل يكلمهم ويخاطبهم ، فرأوا منه غرة فوثبوا عليه فقتلوه ، ورجع سليمان ويحيى إلى صاحب الزنج ، فأخبراه ، فأمرهما بطى ذلك عن أصحابه ، حتى يكون هو الذى يخبرهم .
فلما صلى بهم العصر ، نعى إليهم محمد بن سلم ، وقال لهم : إنكم تقتلون به في غد عشرة آلاف من أهل البصرة .
قال أبو جعفر : وكان الوقعة التى كانت الدبرة عليه فيها يوم الاحد لثلاث عشرة
__________
(1) كور العمامة : يريد كل دائرة من العمامة ، وكل دور منها كور .
(اللسان) (*) .(8/138)
ليلة خلون من ذى القعدة سنة خمس وخمسين ومائتين ، فلما كان يوم الاثنين جمع له أهل البصرة وحشدوا لما رأوا من ظهورهم عليه يوم الاحد ، وانتدب لذلك رجل من أهل البصرة يعرف بحماد الساجى ، وكان من غزاة البحر في الشذا (1) ، وله علم بركوبها والحرب فيها ، فجمع المطوعة ورماة الاهداف وأهل المسجد الجامع ومن خف معه من حزبى البلالية والسعدية ، ومن غير هذه الاصناف من الهاشميين والقرشيين ومن يحب النظر ومشاهدة الحرب من سائر أصناف الناس ، فشحن ثلاثة مراكب من الشذا (1) بالرماة ، وجعل الناس يزدحمون في الشذا حرصا على حضور ذلك المشهد ، ومضى جمهور الناس رجالة منهم من معه سلاح ومنهم من لا سلاح معه بل نظارة ، فدخلت السفن النهر المعروف بأم حبيب ، بعد زوال الشمس من ذلك اليوم في المد ، ومرت الرجالة والنظارة على شاطئ النهر ، قد سدوا ما ينفذ فيه البصر كثرة وتكاثفا ، فوجه صاحب الزنج صاحبه زريقا وأبا الليث الاصبهاني ، فجعلهم كمينا من الجانب الشرقي من نهر شيطان ، وكان مقيما بموضع منه ، ووجه صاحبيه شبلا وحسينا الحمامى فجعلهما كمينا في غربيه ، ومع كل من الكمينين جماعة ، وأمر على بن أبان المهلبى أن يتلقى القوم فيمن بقى معه من جمعه ، وأمره أن يستتر هو وأصحابه بتراسهم ، ولا يثور إليهم منه ثائر ، حتى يوافيهم القوم ويخالطوهم بأسيافهم فإذا فعلوا ذلك ثاروا إليهم وتقدم إلى الكمينين إذا جاوزهما الجمع ، وأحسا بثورة أصحابهم إليهم أن يخرجا من جنبى النهر ، ويصيحا بالناس .
وكان يقول لاصحابه بعد ذلك : لما أقبل إلى جمع البصرة وعاينته ، رأيت أمرا هائلا راعني وملا صدري رهبة وجزعا ، ففزعت إلى الدعاء ، وليس معى من أصحابي إلا نفر يسير منهم مصلح ، وليس منا أحد إلا وقد خيل إليه مصرعه ، فجعل مصلح يعجبنى من
__________
(1) الشذا : ضرب عن السفن ، الواحدة شذاة ، قال صاحب التهذيب : هذا معروف ، لكنه ليس بعربي (اللسان) (*) .(8/139)
كثرة ذلك الجمع ، وجعلت أومى إليه أن أسكت (1) ، فلما قرب القوم منى قلت : اللهم إن هذه ساعة العسرة فأعنى ، فرأيت طيورا بيضا أقبلت فتلقت ذلك الجمع ، فلم أستتم دعائي حتى بصرت بسميرية (2) من سفنهم قد انقلبت بمن فيها ، فغرقوا ، ثم تلتها ، الشذا فغرقت واحدة بعد واحدة وثار أصحابي إلى القوم ، وخرج الكمينان من جنبى النهر ، وصاحوا وخبطوا الناس ، فغرقت طائفة ، وقتلت طائفة ، وهربت طائفة نحو الشط طمعا ، فأدركها السيف ، فمن ثبت قتل ، ومن رجع إلى الماء غرق ، حتى أبيد أكثر ذلك الجمع ، ولم ينج منهم إلا الشريد ، وكثر المفقودون بالبصرة ، وعلا العويل من نسائهم .
* * * قال أبو جعفر : وهذا يوم الشذا الذى ذكره الناس في أشعارهم ، وعظموا ما فيه من القتل ، فكان ممن قتل من بنى هاشم ، جماعة من ولد جعفر بن سليمان (3) وانصرف صاحب الزنج (4) وجمع الرؤوس وملا بها سفنا ، وأخرجها من النهر المعروف بأم حبيب في الجزر وأطلقها ، فوافت البصرة ، فوقفت في مشرعة تعرف بمشرعة القيار ، فجعل الناس يأتون تلك الرؤوس ، فيأخذ رأس كل رجل أولياؤه ، وقوى صاحب الزنج بعد هذا اليوم ، وسكن الرعب قلوب أهل البصرة منه ، وامسكوا عن حربه ، وكتب إلى السلطان بخبره ، فوجه جعلان التركي مددا لاهل البصرة ، في جيش ذوى عدة وأسلحة (5) .
__________
(1) الطبري : " أن يمسك " .
(2) السيرية على التصغير : ضرب من السفن (اللسان) .
(3) بعدها في الطبري : " وأربعون رجلا من الرماة المشهورين في خلق كثير لا يحصى عددهم " .
(4) في الطبري : " وانصرف الخبيث وجمعت له الرؤوس " .
(5) في الطبري : " وأمر أبا الحوص الباهلى بالمصير إلى الابلة واليا ، وأمدة برجل من الاتراك يقال له جريج " (*) .(8/140)
قال أبو جعفر : وقال أصحاب على بن محمد له (1) : أنا قد قتلنا مقاتلة أهل البصرة ولم يبق فيها إلا ضعفاؤهم ، ومن لا حراك به ، فإذن لنا في تقحمها ، فنهاهم (2) وهجن آراءهم وقال : بل نبعد عنها ، فقد رعبناهم وأخفناهم ، ولنقتحمها وقتا آخر ، وانصرف بأصحابه إلى سبخة في آخر أنهار البصرة تعرف بسبخة (3) أبى قرة ، قريبة من النهر المعروف بالحاجر فأقام هناك ، وأمر أصحابه باتخاذ الاكواخ ، وهذه السبخة متوسطة النخل والقرى والعمارات ، وبث أصحابه يمينا وشمالا ، يعيثون ويغيرون على القرى ، ويقتلون الاكرة ، وينهبون أموالهم ، ويسرقون مواشيهم (4) .
وجاءه شخص من أهل الكتاب من اليهود يعرف بما رويه ، فقبل يده وسجد له وسأله عن مسائل كثيرة ، فأجابه عنها ، فزعم اليهودي أنه يجد صفته في التوراة ، وأنه يرى القتال معه ، وسأله عن علامات في يده وجسده ذكر أنها مذكورة في الكتب ، فأقام معه .
قال أبو جعفر : ولما صار جعلان التركي إلى البصرة بعسكره ، أقام ستة أشهر يحارب صاحب الزنج ، فإذا التقوا لم يكن بينهم إلا الرمى بالحجارة والنشاب ، ولم يجد جعلان إلى لقائه سبيلا ، لضيق الموضع بما فيه من النخل والدغل (5) عن مجال الخيل ، ولان صاحب الزنج قد كان خندق على نفسه وأصحابه .
__________
(1) في الطبري : " فزعم الخبيث أن أصحابه قالوا له بعقب هذه الوقعة : إنا قد قتلنا مقاتلة أهل البصرة ...
" .
(2) في الطبري : " فزبرهم " .
(3) في الطبري عن شبل : " هي سبخة أبى قرة ، موقعها بين النهرين : نهر أبى قرة ، والنهر المعروف بالحاجر " .
(4) في الطبري : فهذا ما كان من خبره وخبر الناس الذين قربوا من موضعه في هذه السنة " ، أي سنة أربع وخمسين ومائتين .
(5) الدغل بالتحريك : الشجر الكثير الملتلف .
وكل موضع يخاف فيه الاغتيال (*) .(8/141)
ثم إن صاحب الزنج بيت جعلان ، فقتل جماعة من أصحابه وروع الباقون روعا شديدا ، فانصرف جعلان إلى البصرة ووجه إليه مقاتلة السعدية والبلالية في جمع كثيف ، فواقعهم صاحب الزنج ، فقهرهم ، وقتل منهم مقتلة عظيمة ، وانصرفوا مفلولين ، ورجع جعلان بأصحابه إلى البصرة ، فأقام بها معتصما بجدرانها ، وظهر عجزه للسلطان ، فصرفه عن حرب الزنج ، وأمر سعيد الحاجب بالشخوص إلى البصرة لحربهم .
قال أبو جعفر : واتفق لصاحب الزنج من السعادة أن أربعا وعشرين مركبا من مراكب البحر كانت اجتمعت تريد البصرة ، وانتهى إلى أصحابها خبر الزنج وقطعهم السبل ، وفيها أموال عظيمة للتجار ، فاجتمعت آراؤهم على أن شدوا المراكب بعضها إلى بعض ، حتى صارت كالجزيرة ، يتصل أولها بآخرها ، وسارت في دجلة ، فكان صاحب الزنج يقول : نهضت ليلة إلى الصلاة وأخذت في الدعاء والتضرع ، فخوطبت بأن قيل لى : قد أظلك فتح عظيم ، فالتفت فلم ألبث أن طلعت المراكب ، فنهض أصحابي إليها في شذاتها فلم يلبثوا أن حووها ، وقتلوا مقاتلتها ، وسبوا ما فيها من الرقيق ، وغنموا منها أموالا لا تحصى ، ولا يعرف قدرها فأنهبت ذلك أصحابي ثلاثة أيام وأمرت بما بقى منها فحيز لى .
قال أبو جعفر : ثم دخل الزنج الابلة في شهر رجب من سنة ست وخمسين ومائتين ، وذلك أن جعلان لما تنحى إلى البصرة ، لح صاحب الزنج بالسرايا على أهل الابلة ، فجعل يحاربهم من ناحية شط عثمان بالرجالة ، وبما خف له من السفن من ناحية دجلة ، وجعلت سراياه تضرب إلى ناحية نهر معقل .(8/142)
فذكر عن صاحب الزنج أنه قال : ميلت (1) بين عبادان والابلة ، فملت إلى التوجه إلى عبادان فندبت الرجال إلى ذلك ، فخوطبت وقيل لى : إن أقرب عدو دارا ، وأولاه ألا يتشاغل عنه بغيره أهل الابلة ، فرددت بالجيش الذى كنت سيرته نحو عبادان إلى الابلة ، ولم يزالوا يحاربون (2) أهلها إلى أن اقتحموها وأضرموها نارا ، وكانت مبنية بالساج بناء متكاثفا ، فأسرعت فيها النار ، ونشأت ريح عاصف ، فأطارت شرر ذلك الحريق إلى أن انتهى إلى شط عثمان ، وقتل بالابلة خلق كثير ، وحويت الاسلاب والاموال ، على أن الذى أحرق منها كان أكثر مما انتهب ، واستسلم أهل عبادان بعدها لصاحب الزنج فإن قلوبهم ضعفت وخافوه على أنفسهم وحرمهم ، فأعطوا بأيديهم ، وسلموا إليه بلدهم ، فدخلها أصحابه ، فأخذوا من كان فيها من العبيد ، وحملوا ما كان فيها من السلاح ، ففرقه على أصحابه ، وصانعه أهلها بمال كف به عنهم .
* * * قال أبو جعفر : ثم دخل الزنج بعد عبادان إلى الاهواز ولم يثبت لهم أهلها ، فأحرقوا ما فيها ، وقتلوا ونهبوا ، وأخربوا ، فكان بالاهواز إبراهيم بن محمد المدبر الكاتب ، إليه خراجها (3) وضياعها ، فأسروه بعد أن ضربوه ضربة على وجهه ، وحووا كل ما كان يملكه من مال وأثاث ورقيق وكراع ، واشتد خوف أهل البصرة وانتقل كثير ما أهلها عنها ، وتفرقوا في بلاد شتى وكثرت الاراجيف من عوامها .
* * *
__________
(1) في الاصول : " مثلث " ، وما أثبته من الطبري .
(2) الطبري : " فلم يزالوا يحاربون أهل الابلة ليلة الاربعاء لخمس بقين من رجب سنة 256 ، فلما كان في هذه الليلة اقتحمها الزنج مما يلى دجلة ونهر الابلة ، فقتل بها أبو الأحوص وابنه وأضرمت نارا " وكانت مبنية بالساج " .
(3) الطبري : " وإليه الخراج والضياع " (*) .(8/143)
قال أبو جعفر : فلما دخلت سنة سبع وخمسين أنفذ السلطان بغراج التركي على حرب البصرة وسعيد بن صالح الحاجب للقاء صاحب الزنج ، وأمر بغراج بإمداده بالرجال ، فلما صار سعيد إلى نهر معقل ، وجد هناك جيشا لصاحب الزنج في النهر المعروف بالمرغاب ، فأوقع بهم سعيد فهزمهم ، واستنقذ ما في أيديهم من النساء والنهب ، وأصابت سعيدا في تلك الوقعة جراحات منها جراحة في فيه .
ثم بلغه أن جيشا لصاحب الزنج في الموضع المعروف بالفرات فتوجه إليه فهزمه واستأمن إليه بعض قواد صاحب الزنج ، حتى لقد كانت المرأة من سكان ذلك الموضع تجد الزنجي مستترا بتلك الادغال فتقبض عليه ، حتى تأتى به عسكر سعيد ، ما به عنها امتناع .
ثم قصد سعيد حرب صاحب الزنج ، فعبر إليه إلى غربي دجلة ، فأوقع به وقعات متتالية كلها يكون الظفر فيها لسعيد ، إلى أن تهيأ لصاحب الزنج عليه أن وجه إلى يحيى ابن محمد البحراني صاحبه ، وهو إذ ذاك مقيم بنهر معقل ، في جيش من الزنج ، فأمره بتوجيه ألف رجل من أصحابه ، عليهم سليمان بن جامع وأبو الليث القائدان ، ويأمرهما بقصد عسكر سعيد ليلا ، حتى يوقعا به وقت طلوع الفجر ، من ليلة عينها لهم ، ففعلا ذلك وصارا إلى عسكر سعيد في ذلك الوقت ، فصادفا منه غرة وغفلة ، فأوقعا به وبأصحابه ، وقت طلوع الفجر ، فقتل منهم مقتلة عظيمة ، وأصبح سعيد وقد ضعف أمره ، واتصل بالسلطان خبره ، فأمره بالانصراف إلى باب السلطان ، وتسليم الجيش الذى معه إلى منصور ابن جعفر الخياط ، وكان إليه يومئذ حرب الاهواز وكوتب بحرب صاحب الزنج ، وأن يصمد له ، فكانت بينهم وقعة كان الظفر فيها للزنج ، فقتل من أصحاب منصور خلق كثير عظيم وحمل من الرؤوس خمسمائة رأس إلى عسكر يحيى بن محمد البحراني القائد ، فنصبت على نهر معقل .(8/144)
قال أبو جعفر : ثم كانت بين الزنج وبين أصحاب السلطان بالاهواز وقعات كثيرة تولاها على بن أبان المهلبى ، فقتل شاهين بن بسطام ، وكان من أكابر أصحاب السلطان ، وهزم إبراهيم بن سيما ، وكان أيضا من الامراء المشهورين ، واستولى الزنج على عسكره .
* * * قال أبو جعفر : ثم كانت الواقعة العظمى بالبصرة في هذه السنة وذلك أن صاحب الزنج قطع الميرة عنهم ، فأضر ذلك بهم ، وألح بجيوشه وزنوجه عليهم بالحرب صباحا ومساء ، فلما كان في شوال من هذه السنة ، أزمع على جمع أصحابه للهجوم على البصرة ، والجد في خرابها ، وذلك لعلمه بضعف أهلها وتفرقهم ، وإضرار الحصار بهم ، وخراب ما حولها من القرى .
وكان قد نظر في حساب النجوم ، ووقف على انكساف القمر ، الليلة الرابعة عشرة من هذا الشهر ، فذكر محمد بن الحسن بن سهل أنه قال : سمعته يقول : اجتهدت في الدعاء على أهل البصرة ، وابتهلت إلى الله تعالى في تعجيل خرابها ، فخوطبت وقيل لى : إنما البصرة خبزه [ لك ] (1) تأكلها من جوانبها ، فإذا أنكسر نصف الرغيف خربت البصرة .
فأولت انكسار نصف الرغيف بانكساف نصف القمر المتوقع في هذه الليالى ، وما أخلق أمر أهل البصر أن يكون بعده ! قال : فكان يحدث بهذا حتى أفاض فيه أصحابه ، وكثر تردده في أسماعهم وإجالتهم إياه بينهم .
ثم ندب محمد بن يزيد الدارمي - وهو أحد من كان صحبه بالبحرين للخروج إلى
__________
(1) من الطبري (*) .(8/145)
الاعراب واستنفار من قدر عليه منهم - فأتاه منهم بخلق كثير ، ووجه إلى بصرة سليمان بن موسى الشعرانى ، فأمره بتطرق البصرة ، والايقاع بأهلها ، وتقدم إلى سليمان [ بن موسى ] (1) بتمرين (2) الاعراب على ذلك .
فلما وقع الكسوف ، أنهض إليها على بن أبان ، وضم إليه جيشا من الزنج وطائفة من الاعراب ، وأمره بإتيان البصرة مما يلى بنى سعد ، وكتب إلى يحيى بن محمد البحراني في إتيانها مما يلى نهر عدى ، وضم باقى الاعراب إليه ، فكان أول من واقع أهل البصرة على بن أبان وبغراج التركي يومئذ بالبصرة في جماعة من الجند ، فأقام يقاتلهم يومين ، وأقبل يحيى بن محمد مما يلى قصر أنس ، قاصدا نحو الجسر ، فدخل على بن أبان البلد وقت صلاة الجمعة ، لثلاث عشرة بقين من شوال .
فأقبل يقتل الناس ويحرق المنازل والاسواق بالنار ، فتلقاه بغراج وأبراهيم بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن سليمان الهاشمي ، المعروف ببرية - وكان وجيها مقدما مطاعا - في جمع عظيم - فرداه ، فرجع فأقام ليلته تلك (3) .
ثم غاداهم وقد تفرق جند البصرة فلم يكن في وجهه أحد يدافعه ، وانحاز بغراج بمن معه ، وهرب إبراهيم بن محمد الهاشمي المعروف ببريه ، فوضع على بن أبان السيف في الناس ، وجاء إليه إبراهيم بن محمد المهلبى - وهو ابن عمه - فاستأمنه لاهل البصرة ، فحضر أهل البصرة قاطبة فأمنهم ، ونادى مناديه : من أراد الامان فليحضر دار إبراهيم بن محمد المهلبى .
فحضر أهل البصرة قاطبة ، حتى ملئوا الازقة ، فلما رأى اجتماعهم انتهز الفرصة ، فأمر بأخذ السكك والطرق عليهم ، وغدر بهم ، وأمر الزنوج بوضع السيف فيهم ، فقتل كل من شهد ذلك المشهد .
__________
(1) من الطبري .
(2) الطبري : " في تمرين " .
(3) الطبري : " يومه ذلك " (*) .(8/146)
ثم انصرف آخر نهار يومه ذلك ، فأقام بقصر عيسى بن جعفر بالخربية .
وروى أبو جعفر قال : حدثنى محمد بن الحسن بن سهل ، قال : حدثنى محمد بن سمعان ، قال : كنت يومئذ بالبصرة ، فمضيت مبادرا إلى منزلي لاتحصن به ، وهو في سكة المربد ، فلقيت أهل البصرة هاربين ، يدعون بالويل والثبور ، وفي آخرهم القاسم بن جعفر ابن سليمان الهاشمي على بغل ، متقلدا سيفا يصيح بالناس ويحكم ! تسلمون بلدكم وحرمكم ! هذا عدوكم قد دخل البلد ، فلم يلووا عليه ، ولم يسمعوا منه ، فمضى هاربا ، ودخلت أنا منزلي ، وأغلقت بابى ، وأشرفت فمر بى الاعراب ورجالة الزنج يقدمهم رجل على حصان كميت ، بيده رمح ، وعليه عذبة صفراء ، فسألت بعد ذلك عنه ، فقيل لى : إنه على بن أبان .
قال : ونادى منادى على بن أبان : من كان من آل المهلب فليدخل دار إبراهيم ابن يحيى المهلبى ، فدخلت جماعة قليلة ، وأغلق الباب دونهم ، ثم قيل للزنج : دونكم الناس فاقتلوهم ، ولا تبقوا منهم أحدا ، وخرج إليهم أبو الليث الاصفهانى أحد قواد الزنج ، فقال للزنج : كيلوا : وهي العلامة التى كانوا يعرفونها فيمن يؤمرون بقتله ، فأخذ الناس السيف ، قال : فو الله إنى لاسمع تشهدهم وضجيجهم وهم يقتلون ، وقد ارتفعت أصواتهم بالتشهد ، حتى سمعت بالطفاوة ، وهو على بعد من الموضع الذى كانوا فيه .
قال : ثم انتشر الزنج في سكك البصرة وشوارعها ، يقتلون من وجدوا ، ودخل على بن أبان يومئذ المسجد فأحرقه وبلغ إلى الكلاء فأحرقه إلى الجسر ، وأخذت النار كل ما مرت به من إنسان وبهيمة وأثاث ومتاع ، ثم ألحوا بالغدو والرواح على من وجدوه ، ويسوقونهم إلى يحيى بن محمد البحراني ، وهو نازل ببعض سكك البصرة فمن كان ذا مال قرره حتى يستخرج ماله ثم يقتله ، ومن كان مختلا قتله معجلا .(8/147)
قال أبو جعفر : وقد كان على بن أبان كف بعض الكف عن العيث بناحية بنى سعد وراقب قوما من المهلبيين وأتباعهم ، فانتهى ذلك إلى على بن محمد صاحب الزنج ، فصرفه عن البصرة ، وأقر يحيى بن محمد البحراني بها لموافقته على رأيه في الاثخان في القتل ، ووقوع ذلك بمحبته ، وكتب إلى يحيى بن محمد يأمره بإظهار الكف ليسكن الناس ، ويظهر المستخفى ، ومن قد عرف باليسار والثروة ، فإذا ظهر فليؤخذوا بالدلالة على ما دفعوه وأخفوه من أموالهم ، ففعل يحيى بن محمد ذلك ، وكان لا يخلو في اليوم من الايام من جماعة يؤتى بهم ، فمن عرف منهم باليسار استنزف ما عنده ثم قتله ، ومن ظهرت له خلته عاجله بالقتل حتى لم يدع أحدا ظهر له إلا قتله .
* * * قال أبو جعفر : وحدثني محمد بن الحسن ، قال : لما انتهى (1) إلى على بن محمد عظيم ما فعل أصحابه بالبصرة سمعته يقول : دعوت على أهل البصرة في غداة اليوم الذى دخل فيه أصحابي إليها واجتهدت في الدعاء ، وسجدت وجعلت أدعو في سجودي ، فرفعت إلى البصرة فرأيتها ورأيت أصحابي يقاتلون فيها ، ورأيت بين السماء والارض رجلا واقفا في صورة جعفر المعلوف المتولي كان للاستخراج في ديوان الخراج بسامراء ، وهو قائم قد خفض يده اليسرى ، ورفع يده اليمنى ، يريد قلب البصرة فعلمت أن الملائكة تولت إخرابها دون أصحابي ، ولو كان أصحابي تولوا ذلك ما بلغوا هذا الامر العظيم الذى يحكى عنها ، ولكن الله تعالى نصرنى بالملائكة ، وأيدني في حروبي ، وثبت بهم من ضعف قلبه من أصحابي .
قال أبو جعفر وانتسب صاحب الزنج (2) في هذه الايام إلى محمد بن محمد بن زيد بن على بن الحسين ، بعد انتسابه الذى كان إلى أحمد بن عيسى بن زيد وذلك لانه بعد
__________
(1) الطبري : " لما أخرب الخائن البصرة " .
(2) الطبري : " وانتسب الخبيث " (*) .(8/148)
إخرابه البصرة جاء إليه جماعة من العلوية الذين كانوا بالبصرة ، وأتاه فيمن أتاه منهم قوم من ولد أحمد بن عيسى بن زيد ، في جماعة من نسائهم وحرمهم ، فلما خافهم ترك الانتساب إلى أحمد بن عيسى ، وانتسب إلى محمد بن محمد بن زيد .
قال أبو جعفر فحدثني محمد بن الحسن بن سهل ، قال : (1 كنت حاضرا عنده وقد حضر جماعة من النوفليين 1) ، فقال له القاسم بن إسحاق النوفلي : إنه انتهى إلينا أن الامير (2) من ولد أحمد بن عيسى بن زيد ، فقال : لست من ولد عيسى ، أنا من ولد يحيى بن زيد .
قال محمد بن الحسن : فانتقل من أحمد بن عيسى بن زيد إلى محمد بن محمد بن زيد ، ثم انتقل من محمد إلى يحيى بن زيد ، وهو كاذب لان الاجماع واقع على أن يحيى بن زيد مات ولم يعقب ولم يولد له إلا بنت واحدة ماتت ، وهى ترضع .
فهذا ما ذكره أبو جعفر الطبري في " التاريخ الكبير " (3) .
* * * وذكر على بن الحسن المسعودي في " مروج الذهب " أن هذه الواقعة بالبصرة ، هلك فيها من أهلها ثلاثمائة ألف إنسان ، وأن على بن أبان المهلبى بعد فراغه من الواقعة ، نصب منبرا في الموضع المعروف ببنى يشكر ، صلى فيه يوم الجمعة وخطب لعلى بن محمد صاحب الزنج ، وترحم بعد ذلك على أبى بكر وعمر ، ولم يذكر عثمان ولا عليا عليه السلام في خطبته ، ولعن أبا موسى الاشعري وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبى سفيان ، قال :
__________
(1 - 1) الطبري : " سمعت الخبيث وقد حضره جماعة من النوفليين " .
(2) الطبري : " إنك " .
(3) في الجزء الحادى عشر 187 - 222 (*) .(8/149)
وهذا يؤكد ما ذكرناه وحكيناه من رأيه ، وأنه كان يذهب ألى قول الازارقة .
قال : واستخفى من سلم من أهل البصرة في آبار الدور ، فكانوا يظهرون ليلا ، فيطلبون الكلاب فيذبحونها ويأكلونها ، والفار والسنانير .
فأفنوها حتى لم يقدروا على شئ منها ، فصاروا إذا مات الواحد منهم أكلوه ، فكان يراعى بعضهم موت بعض ، ومن قدر على صاحبه قتله وأكله ، وعدموا مع ذلك الماء ، وذكر عن امرأة منهم أنها حضرت امرأة قد احتضرت ، وعندها أختها وقد احتوشوها ينتظرون أن تموت فيأكلوا لحمها ، قالت المرأة : فما ماتت حسناء حتى ابتدرناها فقطعنا لحمها فأكلناه ، ولقد حضرت أختها ونحن على شريعة عيسى بن حرب وهى تبكى ومعها رأس الميت ، فقال لها قائل : ويحك ! مالك تبكين ! فقالت : اجتمع هؤلاء على أختى فما تركوها تموت حسنا حتى قطعوها ، وظلموني فلم يعطونى من لحمها شيئا إلا الرأس ، وإذا هي تبكى شاكية من ظلمهم لها في أختها .
قال : وكان مثل هذا وأكثر منه وأضعافه ، وبلغ من أمر عسكره أنه ينادى فيه على المرأة من ولد الحسن والحسين والعباس وغيرهم من أشراف قريش ، فكانت الجارية تباع منهم بدرهمين وبثلاثة دراهم ، وينادى عليها بنسبها : هذه ابنة فلان بن فلان ، وأخذ كل زنجى منهم العشرين والثلاثين يطؤهن الزنج ويخدمن النساء الزنجيات كما تخدم الوصائف ، ولقد استغاثت إلى صاحب الزنج امرأة من ولد الحسن بن على عليه السلام ، وكانت عند بعض الزنج وسألته ، أن يعتقها مما هي فيه ، أو ينقلها من عنده إلى غيره ، فقال لها : هو مولاك ، وهو أولى بك .
* * * قال أبو جعفر : وأشخص السلطان لحرب صاحب الزنج محمدا المعروف بالمولد ، في جيش(8/150)
كثيف ، فجاء حتى نزل الابلة ، وكتب صاحب الزنج إلى يحيى بن محمد البحراني يأمره بالمصير إليه ، فصار إليه بزنوجه ، وأقام على محاربته عشرة أيام ، ثم فتر المولد عن الحرب ، وكتب على ابن محمد إلى يحيى ، يأمره ، أن يبيته ، فبيته فهزمه ، ودخل الزنج عسكره فغنموا ما فيه ، وكتب يحيى إلى صاحب الزنج يخبره ، فأمره باتباعه ، فاتبعه إلى الحوانيت ، ثم انصرف عنه فمر بالجامدة ، وأوقع بأهلها وانتهب كل ما كان في تلك القرى ، وسفك ما قدر على سفكه من الدماء ، ثم عاد إلى نهر معقل .
قال أبو جعفر : واتصلت الاخبار بسامراء وبغداد وبالقواد والموالي وأهل الحضرة بما جرى على أهل البصرة فقامت عليهم القيامة ، وعلم المعتمد أنه لا يرتق هذا الفتق إلا بأخيه أبى أحمد طلحة بن المتوكل - وكان منصورا مؤيدا عارفا بالحرب وقيادة الجيوش ، وهو الذى أخذ بغداد للمعتز ، وكسر جيوش المستعين ، وخلعه من الخلافة ، ولم يكن لبنى العباس في هذا الباب مثله ومثل ابنه أبى العباس - فعقد له المعتمد على ديار مضر وقنسرين والعواصم ، وجلس له مستهل شهر ربيع الاخر من سنة سبع وخمسين ، فخلع عليه وعلى مفلح ، وشخصا نحو البصرة لحرب على بن محمد وإصلاح ما أفسده من الاعمال ، وركب المعتمد ركوبا ظاهرا يشيع أخاه أبا أحمد إلى القرية المعروفة ببركوارا ، وعاد .
* * * قال أبو جعفر : وأما صاحب الزنج فإنه بعد هزيمة محمد المولد أنفذ على بن أبان المهلبى إلى حرب منصور بن جعفر وإلى الاهواز ، فكانت بينهما حروب كثيرة في أيام متفرقة حتى كان آخرها اليوم الذى انهزم فيه أصحاب منصور ، وتفرقوا عنه ، وأدركت منصورا طائفة من الزنج ، فلم يزل يكر عليهم حتى انقصف رمحه ، ونفدت سهامه ، ولم يبق معه سلاح ،(8/151)
وانتهى إلى نهر يعرف بنهر ابن مروان ، فصاح بحصان كان تحته ليعبر ، فوثب فقصر (1) فانغمس في الماء .
وقيل : إن الحصان لم يقصر في الوثبة ، ولكن رجلا من الزنج سبقه إلى النهر ، فألقى نفسه ، فيه لعلمه أنه لا محيص لمنصور عن النهر ، فلما وثب الفرس تلقاه الاسود ، فنكص فغاص الفرس ومنصور ، ثم أطلع منصور رأسه ، فنزل إليه غلام من السودان من عرفاء مصلح ، يقال له ابزون ، فاحتز رأسه ، وأخذ سلبه ، فولى يارجوخ التركي صاحب حرب خورستان ، ما كان مع منصور من العمل أصغجون التركي .
وقال أبو جعفر : وأما أبو أحمد فانه شخص عن سامراء في جيش لم يسمع السامعون بمثله ، كثرة وعدة قال : وقد عاينت أنا ذلك الجيش ، وأنا يومئذ ببغداد بباب الطاق ، فسمعت جماعة من مشايخ أهل بغداد يقولون : قد رأينا جيوشا كثيرة للخلفاء ، فما رأينا مثل هذا الجيش أحسن عدة وأكمل عتادا وسلاحا وأكثر عددا وجمعا ، واتبع ذلك الجيش من متسوقة أهل بغداد خلق كثير .
* * * قال أبو جعفر : فحدثني محمد بن الحسن بن سهل ، أن يحيى بن محمد البحراني كان مقيما بنهر معقل قبل موافاه أبى أحمد فاستأذن صاحب الزنج في المصير إلى نهر العباس فكره ذلك ، وخاف أن يوافيه جيش من قبل السلطان ، وأصحابه متفرقون ، فألح عليه يحيى حتى أذن له ، فخرج واتبعه أكثر أهل عسكر صاحب الزنج ، وكان على بن أبان
__________
(1) الطبري : " وقصرت رجلاه فانفمس ؟ في الماء " (*) .(8/152)
مقيما بجبى في جمع كثير من الزنج والبصرة قد صارت مغنما لاهل عسكر صاحب الزنج ، يغادونها ويراوحونها لنقل ما نالته أيديهم منها إلى منازلهم ، فليس بمعسكر على بن (1) محمد يومئذ من أصحابه إلا القليل ، فهو على ذلك من حاله ، حتى وافى أبو أحمد في الجيش ومعه مفلح ، فورد جيش عظيم لم يرد على الزنج مثله ، فلما وصل إلى نهر معقل ، انصرف من كان هناك من الزنج فالتحقوا بصاحبهم مرعوبين ، فراعه ذلك ، ودعا برئيسين منهما ، فسألهما عن السبب الذى له تركا موضعهما ، فأخبراه بما عاينا من عظم أمر الجيش الوارد وكثرة عدد أهله وإحكام عدتهم ، وأن الذى عايناه من ذلك لم يكن في قوتهما الوقوف له في العدة التى كانا فيها ، فسألهما : هل علما من يقود هذا الجيش ؟ فقالا : قد اجتهدنا في علم ذلك ، فلم نجد من يصدقنا عنه .
فوجه صاحب الزنج طلائعه في سميريات ليعرف الخبر ، فرجعت طلائعه إليه بتعظيم أمر الجيش وتفخيمه ، ولم يقف أحد منهم على من يقوده ، فزاد ذاك في جزعه وارتياعه ، فأمر بالارسال إلى على بن أبان يعلمه خبر الجيش الوارد ، ويأمره بالمصير إليه فيمن معه ووافى جيش أبى أحمد ، فأناخ بازاء صاحب الزنج ، فلما كان اليوم الذى كانت فيه الواقعة خرج على بن محمد يطوف في عسكره ماشيا ، ويتأمل الحال فيمن هو من حزبه ومن هو [ مقيم ] (2) بإزائه على حزبه ، وقد كانت السماء مطرت ذلك اليوم مطرا خفيفا ، والارض ثرية (3) تزل عنها الاقدام ، فطوف ساعة من أول النهار ورجع ، فدعا بدواة وقرطاس ليكتب كتابا إلى على بن أبان ، ليعلمه ما قد أظله من الجيش ويأمره بتقديم من قدر على تقديمه من الرجال : فإنه لفى ذلك إذ أتاه أبو دلف القائد أحد قواد الزنج فقال له : إن
__________
(1) الطبري : " الخبيث " .
(2) من الطبري .
(3) في الاصول : " تربة " وما أثبته من الطبري (*) .(8/153)
القوم قد غشوك ورهقوك ، وانهزم الزنج من بين أيديهم ، وليس ، في وجوههم من يردهم ، فانظر لنفسك ، فإنهم قد انتهوا إليك (1) فصاح به وانتهره وقال : اغرب (2) عنى فإنك كاذب فيما حكيت ، إنما ذلك جزع داخل (3) داخل قلبك لكثرة من رأيت من الجمع ، فانخلع قلبك ، فلست تدرى ما تقول ! فخرج أبو دلف من بين يديه وأقبل يكتب ، وقال لجعفر بن إبراهيم السجان ناد في الزنج ، وحركهم للخروج إلى موضع الحرب ، فقال له : إنهم قد خرجوا ، وقد ظفروا بسميريتين من سفن أصحاب السلطان ، فأمره بالرجوع لتحريك الرجالة ، وكان من القضاء والقدر أن أصيب مفلح - وهو القائد الجليل ، المرشح لقيادة الجيش بعد أبى أحمد - بسهم غرب (4) لا يدرى من رماه ، فمات لوقته ، ووقعت الهزيمة على أصحاب أبى أحمد ، وقوى الزنج على حربهم ، فقتلوا منهم جمعا كثيرا ، ووافى على بن محمد زنجه بالرءوس قابضين عليها بأسنانهم حتى ألقوها بين يديه ، فكثرت الرؤوس يومئذ حتى ملات الفضاء وجعل الزنج يقتسمون لحوم القتلى ويتهادونها بينهم ، وأتى بأسير من الجيش فسأله عن رأس العسكر ، فذكر أبا أحمد ومفلحا ، فارتاع لذكر أبى أحمد ، وكان إذا راعه أمر كذب به ، وقال : ليس في الجيش إلا مفلح ، لانى لست أسمع الذكر إلا له ، ولو كان في الجيش من ذكر هذا الاسير لكان صوته أبعد ، ولما كان مفلح إلا تابعا له ، ومضافا إليه (5) .
قال أبو جعفر : وقد كان قبل أن يصيب السهم مفلحا ، انهزم الزنج لما خرج عليهم
__________
(1) الطبري : " إلى الحبل الرابع " .
(2) في الاصول : " اعزب " ، وما أثبته من الطبري .
(3) الطبري : " دخلك " .
(4) يقال : أصابه سهم غرب ، بالاضافة أو الوصف ، أي لا يدرى راميه .
(5) الطبري : " إلى صحبته " (*) .(8/154)
جيش أبى أحمد ، وجزعوا جزعا شديدا ، ولجئوا إلى النهر المعروف بنهر أبى الخصيب ، ولا جسر يومئذ عليه ، فغرق منهم خلق كثير ، ولم يلبث صاحب الزنج إلا يسيرا حتى وافاه على بن أبان في أصحابه ، فوافاه وقد استغنى عنه بهزيمة الجيش السلطاني ، وتحيز أبو أحمد بالجيش إلى الابلة ، ليجمع ما فرقت الهزيمة منه ، ويجدد الاستعداد للحرب ، ثم صار إلى نهر أبى الاسد فأقام به .
* * * قال أبو جعفر : فحدثني محمد بن الحسن ، قال : فكان صاحب الزنج لا يدرى كيف قتل مفلح ، فلما لم ير أحدا ينتحل رميه ادعى أنه كان الرامى له ، قال فسمعته يقول : سقط بين يدى سهم من السماء ، فأتاني به واح خادمي فدفعه إلى ، فرميت به فأصاب مفلحا فقتله ، قال محمد : وكذب في ذلك ، لانى كنت حاضرا معه ذلك المشهد ، ما زال عن فرسه حتى أتاه خبر الهزيمة (1) .
* * * قال أبو جعفر : ثم إن الله تعالى أصاب صاحب الزنج بمصيبة تعادل فرحه وسروره بقتل مفلح عقيب قتل مفلح ، وذلك أن قائده الجليل يحيى بن محمد البحراني أسر وقتل ، وصورة ذلك أن صاحب الزنج كان قد كتب إلى يحيى بن محمد ، يعلمه ورود هذا الجيش عليه ، ويأمره بالقدوم والتحرر في منصرفه من أن يلقاه أحد منهم ، وقد كان يحيى غنم سفنا فيها متاع وأموال ، لتجار الاهواز جليلة ، وحامى عنها أصحاب أصغجون التركي فلم يغن ، وهزمهم يحيى ، ومضى الزنج بالسفن المذكورة يمدونها متوجهين نحو معسكر صاحب الزنج على سمت البطيحة المعروفة بسبخة السحناة وهى طريقة متعسقة وعرة ،
__________
(1) بعدها في الطبري : " وأتى بالرءوس وانقضت الحرب " (*) .(8/155)
فيها مشاق متعبة ، وإنما سلكها يحيى وأصحابه ، وتركوا الطريق الواضح ، للتحاسد الذى كان بين يحيى بن محمد وعلى بن أبان ، فإن أصحاب يحيى أشاروا عليه ألا يسلك الطريق التى يمر فيها على أصحاب على بن أبان ، فاصغى إلى مشورتهم ، فشرعوا له الطريق المؤدى إلى البطيحة المذكورة فسلكها ، وهذه البطيحة ينتهى السائر فيها إلى نهر أبى الاسد ، وقد كان أبو أحمد انحاز إليه ، لان أهل القرى والسواد كاتبوه يعرفونه خبر يحيى بن محمد البحراني ، وشدة بأسه ، وكثرة جمعه ، وأنه ربما خرج من البطيحة إلى نهر أبى الاسد ، فعسكر به ، ومنع أبا أحمد الميرة ، وحال بينه وبين من يأتيه من الاعراب وغيرهم ، فسبقه أبو أحمد إلى نهر أبى الاسد ، وسار يحيى حتى إذا قرب من نهر أبى الاسد ، وافته طلائعه ، فأخبرته بالجيش ، وعظمت أمره ، وخوفته منه ، فرجع من الطريق الذى كان سلكه بمشقة شديده نالته ، ونالت أصحابه ، وأصابهم مرض لترددهم في تلك البطيحة وجعل يحيى على مقدمته سليمان بن جامع ، وسار حتى وقف على قنطرة فورج نهر العباس ، في موضع ضيق تشتد فيه جرية الماء ، وهو مشرف ينظر أصحابه الزنج : كيف يجرون تلك السفن التى فيها الغنائم ، فمنها ما يغرق وما يسلم .
* * * قال أبو جعفر : فحدثني محمد بن سمعان قال : كنت في تلك الحال واقفا مع يحيى على القنطرة وقد أقبل على متعجبا من شدة جرية الماء ، وشدة ما يلقى أصحابه من تلقيه بالسفن ، فقال : أرأيت لو هجم علينا عدو في هذه الحال من كان يكون أسوأ حالا منا ! فو الله ما انقضى كلامه حتى وافى كاشهم التركي في جيش قد أنفذه معه أبو أحمد عند رجوعه من الابله إلى نهر أبى الاسد ، يتلقى به يحيى ، فوقعت الصيحة ، واضطربت الزنج ، فنهضت متشوفا للنظر ، فإذا الاعلام الحمر قد أقبلت في الجانب الغربي من نهر العباس ويحيى به ، فلما رآها الزنج ألقوا أنفسهم جملة في الماء ، فعبروا إلى الجانب الشرقي ،(8/156)
وخلا الموضع الذى فيه يحيى فلم يبق معه إلا بضعة عشر رجلا منهم ، فنهض عند ذلك فأخذ درقته وسيفه ، واحتزم بمنديل ، ثم تلقى القوم (1) في النفر الذين تخلفوا معه فرشقهم أصحاب كاشهم التركي بالسهام ، حتى كثر فيهم الجراح ، وجرح يحيى بأسهم ثلاثة في عضده اليمنى وساقه اليسرى ، فلما رآه أصحابه جريحا ، تفرقوا عنه ولم يعرف فيقصد له ، فرجع حتى دخل بعض تلك السفن ، وعبر به إلى الجانب الشرقي من النهر ، وذلك وقت الضحى ، وأثقلته الجراحات التى أصابته ، فلما رأت الزنج شدة ما نزل به ، اشتد جزعهم وضعفت قلوبهم ، فتركوا القتال ، وكانت همتهم النجاة بأنفسهم ، وحاز أصحاب السلطان تلك الغنائم التى كانت في السفن في الجانب الغربي من النهر ، وانفض الزنج بالجانب الشرقي عن يحيى ، فجعلوا يتسللون بقية نهارهم بعد قتل ذريع فيهم ، وأسر كثير ، فلما أمسوا وأسدف الليل ، طاروا على وجوههم .
فلما رأى يحيى تفرق أصحابه ركب سميرية كانت هناك ، وأقعد معه فيها متطببا ، يقال له عباد (2) ، وطمع في الخلاص إلى عسكر صاحب الزنج ، فسار حتى قرب من فوهة النهر ، فأبصر سميريات وشذايات لاصحاب السلطان في فوهة النهر ، فخاف أن تعترض سميريته ، وجزع من المرور بها ، فعبر به الملاح إلى الجانب الغربي من النهر ، فألقاه وطبيبه على الارض في زرع هناك ، فخرج يمشى وهو مثقل حتى ألقى نفسه في بعض تلك المواضع ، فأقام هناك ليلته تلك ، فلما أصبح نزفه الدم ، ونهض عباد الطبيب (3) فجعل يمشى متشوفا أن يرى إنسانا ، فرأى بعض أصحاب السلطان ، فأشار لهم إلى موضع يحيى ، فجاءوا ، حتى وقفوا عليه فأخذوه ، وانتهى خبره إلى [ الخبيث ] (4) صاحب الزنج فجزع عليه جزعا شديدا ، وعظم عليه توجعه .
__________
(1) الطبري : " القوم الذين أتوه " .
(2) الطبري : " ويعرف بأبى جيش " .
(3) بعد في الطبري : " المتطبب " .
(4) من الطبري (*) .(8/157)
ثم حمل يحيى إلى أبى أحمد فحمله أبو أحمد إلى المعتمد ، فأدخل إلى سامراء راكب جمل ، والناس مجتمعون ينظرونه ، ثم أمر المعتمد ببناء دكة عالية بحضرة مجرى الحلية ، فبنيت ، ورفع للناس عليها حتى أبصره الخلائق كافة ، ثم ضرب (1 بين يدى المعتمد وقد جلس له مائتي سوط بثمارها 1) ، ثم قطعت يداه ورجلاه من خلاف ، [ ثم خبط بالسيوف ] ثم ذبح وأحرق .
* * * قال أبو جعفر : فحدثني محمد بن الحسن ، قال : لما قتل يحيى البحراني ، فانتهى خبره إلى صاحب الزنج ، قال لاصحابه لما عظم على قتله ، واشتد اهتمامي به ، خوطبت فقيل لى : قتله خير لك ! إنه كان شرها .
ثم أقبل على جماعة أنا فيهم ، فقال : من شرهه أنا غنمنا غنيمة من بعض ما كنا نغنمه (2) ، وكان فيها عقدان ، فوقعا في يد يحيى ، فأخفى عنى أعظمهما خطرا ، وعرض على أخسهما ، ثم استوهبه فوهبته له ، فرفع إلى العقد الذى أخفاه حتى رأيته فدعوته فقلت : أحضر لى العقد الذى أخفيته ، فأتاني بالعقد الذى وهبته له ، وجحد أن يكون أخذ غيره ، فرفع إلى العقد ثانية ، فجعلت أصفه له وأنا أراه وهو لا يراه ، فبهت وذهب ، فأتاني ، ثم استوهبنيه فوهبته له ، وأمرته بالاستغفار .
قال أبو جعفر : وذكر محمد بن الحسن ، أن محمد بن سمعان حدثه أن صاحب الزنج ، قال في بعض أيامه : لقد عرضت على النبوة فأبيتها .
فقيل له : ولم ذاك ؟ قال : إن لها أعباء خفت ألا أطيق حملها .
__________
(1 - 1) الطبري : " ثم رفع للناس حتى أبصروه ، فضرب بالسياط ، وذكر أنه دخل سامرا يوم الاربعاء لتسع خلون من رجب على جمل ، وجلس المعتمد من غير ذلك اليوم ، وذلك يوم الخميس ، فضرب بين يديه مائة سوط بثمارها " .
(2) الطبري : " نصيبه " (*) .(8/158)
قال أبو جعفر : فأما الامير أبو أحمد ، فإنه لما صار إلى نهر أبى الاسد وأقام به ، كثرت العلل فيمن معه من جنده وغيرهم ، وفشا فيهم الموت ، فلم يزل مقيما هنالك حتى أبل من نجا منهم من علته ، ثم انصرف ، راجعا إلى باذاورد ، فعسكر به ، وأمر بتجديد الالات وإصلاح الشذوات والسميريات وإعطاء الجند أرزاقهم وشحن السفن بقواده ومواليه وغلمانه ، ونهض نحو عسكر الناجم ، وأمر جماعة من قواده بقصد مواضع سماها لهم من نهر أبى الخصيب وغيره ، وأمر الباقين بملازمته والمحاربة معه ، في الموضع الذى يكون فيه ، وهم الاقلون ، وعرف الزنج تفرق أصحاب أبى أحمد عنه ، فكثروا في جهته ، واستعرت الحرب ، بينه وبينهم ، وكثرت القتلى والجراح بين الفريقين ، وأحرق أصحاب أبى أحمد قصورا ومنازل كان الزنج ابتنوها ، واستنقذوا من نساء أهل البصرة جمعا كثيرا .
ثم صرف الزنج سورتهم وشدة حملتهم إلى الموضع الذى به أبو أحمد ، فجاءه منهم جمع لا يقاوم ، بمثل العدة اليسيرة التى كان فيها ، فرأى أن الحزم في محاجزتهم ، فأمر أصحابه بالرجوع إلى سفنهم على تؤدة وتمهل ، ففعلوا وبقيت طائفة من جنده ولجوا تلك الادغال والمضايق ، فخرج عليهم كمين للزنج فأوقعوا بهم فحاموا عن أنفسهم ، وقتلوا عددا كثيرا من الزنج إلى أن قتلوا بأجمعهم ، وحملت رؤوسهم إلى الناجم ، فزاد ذلك في قوته وعتوه وعجبه بنفسه ، وانصرف أبو أحمد بالجيش إلى الباذاورد ، وأقام يعبى أصحابه للرجوع إلى الزنج ، فوقعت نار في طرف من أطراف عسكره ، وذلك في أيام عصوف الرياح ، فاحترق العسكر ، ورحل أبو أحمد منصرفا وذلك في شعبان من هذه السنة إلى واسط (1) .
فأقام بها إلى ربيع الاول ، ثم انصرف عنها إلى سامراء ، وذلك أن المعتمد كاتبه واستقدمه
__________
(1) بعدها في الطبري : " فلما صار إلى واسط تفرق عنه عامة من كان معه من أصحابه " (*) .(8/159)
لحرب يعقوب بن الليث الصفار أمير خراسان ، فاستخلف على حرب الناجم محمد المولد ، وأما الناجم فإنه لم يعلم خبر الحريق الذى وقع في عسكر أبى أحمد ، حتى ورد عليه رجلان من أهل عبادان ، فأخبراه ، فأظهر أن ذلك من صنع الله تعالى له ونصره على أعدائه ، وأنه دعا الله على أبى أحمد وجيشه ، فنزلت نار من السماء فأحرقتهم .
وعاد إلى العبث ، واشتد طغيانه وعتوه ، وأنهض على بن أبان المهلبى ، وضم إليه أكثر الجيش ، وجعل على مقدمته سليمان بن جامع ، وأضاف إليه الجيش الذى كان مع يحيى بن محمد البحراني وسليمان بن موسى الشعرانى ، وأمرهم بأن يقصدوا الاهواز وبها حينئذ صفجوز (1) التركي ، ومعه نيزك القائد ، فالتقى العسكران بصحراء تعرف بدشت ميسان (2) ، واقتتلوا ، فظهرت (3) الزنج ، وقتل نيزك في كثير من أصحابه ، وغرق أصغجون التركي ، وأسر كثير من قواد السلطان ، منهم الحسن بن هرثمة المعروف بالشارى (4) ، والحسن بن جعفر .
وكتب على بن أبان بالخبر إلى الناجم ، وحمل إليه أعلاما ورؤوسا كثيرة وأسرى ، ودخل على بن أبان الاهواز ، وأقام بها بزنوجه يعيث وينهب القرى والسواد ، إلى أن ندب المعتمد على الله موسى بن بغا لحربه ، فشخص عن سامرا ، في ذى القعدة من هذه السنة ، وشيعه المعتمد بنفسه إلى خلف الحائطين .
وخلع عليه هنالك فقدم أمامه عبد الرحمن بن مفلح إلى الاهواز وإسحاق بن كنداخ إلى البصرة ، وإبراهيم بن سيما إلى الباذاورد .
قال أبو جعفر : فلما ورد عبد الرحمن بن مفلح على الاهواز أناخ بقنطرة أريق (5) عشرة أيام ، ثم مضى إلى على بن أبان المهلبى فواقعه فهزمه على بن أبان ، فانصرف فاستعد
__________
(1) في الطبري : " أصغجون " .
(2) الطبري : " رستادان " .
(3) الطبري : " فكانت الدبرة يومئذ على أصغجون " .
(4) الطبري : " الشار " .
(5) الطبري : " أربك " (*) .(8/160)
ثم عاد لمحاربته ، فأوقع به وقعة عظيمة ، وقتل من الزنج قتلا ذريعا وأسر أسرى كثيرة ، وأنهزم على بن أبان ومن معه من الزنج حتى أتوا الموضع المعروف ببيان ، فأراد الناجم ردهم فلم يرجعوا ، للذعر الذى خالط قلوبهم ، فلما رأى ذلك أذن لهم في دخول عسكره ، فدخلوا جميعا ، فأقاموا معه بالمدينة التى كان بناها ، ووافى عبد الرحمن بن مفلح حصن مهدى ليعسكر به ، فوجه إليه الناجم على بن أبان فواقعه فلم يقدر عليه ، ومضى على بن أبان إلى قريب من الباذاورد ، وهناك إبراهيم بن سيما ، فواقعه إبراهيم ، فهزم على بن أبان ، فعاوده فهزمه إبراهيم ، فمضى في الليل وسلك الادغال والاجام ، حتى وافى نهر يحيى ، فانتهى خبره إلى عبد الرحمن بن مفلح ، فوجه إليه طاشتمر التركي في جمع من الموالى ، فلم يصل إلى على بن أبان ، ومن معه ، لوعورة الموضع الذى كانوا فيه ، وامتناعه بالقصب والحلافى (1) ، فأضرمه عليهم نارا ، فخرجوا منه هاربين ، وأسر منهم أسرى ، وانصرف إلى عبد الرحمن ابن مفلح بالاسرى والظفر ، ومضى على بن أبان ، فأقام بأصحابه في الموضع المسمى بنسوخا ، وانتهى الخبر بذلك إلى عبد الرحمن بن مفلح ، فصار إلى العمود ، فأقام به ، وصار على بن أبان إلى نهر السدرة ، وكتب إلى الناجم يستمده ويسأله التوجيه إليه بالشذا ، فوجه إليه ثلاث عشرة شذاة ، فيها جمع كثير من أصحابه ، فسار على بن أبان ومن معه في الشذا ، ووافى عبد الرحمن بمن معه ، فلم يكن بينهما قتال ، وتواقف الجيشان يومهما ذلك .
فلما كان الليل انتخب على بن أبان من أصحابه جماعة يثق بجلدهم وصبرهم ، ومضى ومعه (2) سليمان بن موسى المعروف بالشعرانى ، وترك سائر عسكره مكانه ليخفى أمره ، فصار من وراء عبد الرحمن ، ثم بيته وعسكره (3) ، فنال منه ومن أصحابه نيلا ما ، وانحاز
__________
(1) الحلافى : مكان ينبت الحلفاء .
(2) الطبري : " فيهم " .
(3) الطبري : " في عسكره " (*) .(8/161)
عبد الرحمن عنه وترك أربع شذوات من شذواته ، فغنمها على بن أبان ، وانصرف ومضى عبد الرحمن لوجهه ، حتى وافى دولاب (1) ، فأقام بها ، وأعد رجالا من رجاله ، وولى عليهم طاشتمر التركي ، وأنفذهم إلى على بن أبان ، فوافوه وهو في الموضع المعروف بباب آزر ، فأوقعوا به وقعة انهزم منها إلى نهر السدرة ، وكتب طاشتمر إلى عبد الرحمن بانهزامه عنه ، فأقبل عبد الرحمن بجيشه حتى وافى العمود ، فأقام به واستعد أصحابه للحرب ، وهيأ شذواته ، وولى عليها طاشتمر ، وسار إلى فوهة نهر السدرة ، فواقع على بن أبان وقعة عظيمة ، فانهزم منها على بن أبان ، وأخذ منه عشر شذوات ، ورجع على بن أبان إلى الناجم مفلولا مهزوما ، وسار عبد الرحمن من فوره ، فعسكر ببيان ، فكان عبد الرحمن بن مفلح وإبراهيم بن سيما ، يتناوبان المصير إلى عسكر الناجم ، فيوقعان به ، ويخيفان من فيه وإسحاق بن كنداجيق (2) يومئذ بالبصرة ، وقد قطع الميرة عن عسكر الناجم ، فكان الناجم يجمع أصحابه في اليوم الذى يخاف فيه موافاة عبد الرحمن بن مفلح وإبراهيم ابن سيما ، حتى ينقضى الحرب ، ثم يصرف فريقا منهم إلى ناحية البصرة ، فيواقع بهم إسحاق ابن كنداجيق ، فأقاموا على هذه الحال بضعة عشر شهرا إلى أن صرف موسى بن بغا عن حرب الزنج (3) .
قال أبو جعفر : وسبب ذلك أن المعتمد رد أمر فارس والاهواز والبصرة وغيرها من
__________
(1) الطبري : " الدولاب " .
(2) الطبري : " كنداج " .
(3) في الطبري : " إلى أن صرف موسى بن بغا عن حرب الخبيث ، ووليها مسرور البلخى ، وانتهى .
الخبر بذلك إلى الخبيث " (*) .(8/162)
النواحى والاقطار إلى أخيه أبى أحمد بعد فراغه من حرب يعقوب بن الليث الصفار وهزيمته له ، فاستخلف أبو أحمد على حرب صاحب الزنج مسرورا البلخى ، وصرف موسى بن بغا عن ذلك ، واتفق أن ابن واصل حارب عبد الرحمن بن مفلح ، فأسره وقتله ، وقتل طاشتمر التركي أيضا ، وذلك بناحية رامهرمز ، فاستخلف مسرور البلخى على الحرب أبا الساج وولى الاهواز ، فكانت بينه وبين على بن أبان المهلبى وقعة بناحية دولاب ، قتل فيها عبد الرحمن صهر أبى الساج ، وانحاز أبو الساج إلى عسكر مكرم ، ودخل الزنج الاهواز ، فقتلوا أهلها ، وسبواو أحرقوا [ دورها ] (1) .
* * * قال أبو جعفر : ثم وجه صاحب الزنج جيوشه بعد هزيمة أبى الساج إلى ناحية البطيحة والحوانيت ودستميسان ، قال : وذلك لان واسطا خلت من أكثر الجند في وقعة أبى أحمد ويعقوب بن الليث التى كانت عند دير العاقول ، فطمع الزنج فيها ، فتوجه إليها سليمان ابن جامع في عسكر من الزنج ، وأردفه الناجم بجيش آخر مع أحمد بن مهدى في سميريات ، فيها رماة من أصحابه ، أنفذه إلى نهر المرأة وأنفذ عسكرا آخر فيه سليمان بن موسى فأمره أن يعسكر بالنهر المعروف باليهودى ، فكانت بين هؤلاء وبين من تخلف بهذه الاعمال من عساكر السلطان حروب شديدة ، وكانت سجالا لهم وعليهم ، حتى ملكوا البطيحة والحوانيت ، وشارفوا واسطا ، وبها يومئذ محمد المولد من قبل السلطان ، فكانت بينه وبين سليمان بن جامع حروب كثيرة يطول شرحها وتعداده .
وأمده الناجم بالخليل بن أبان ، أخى على بن أبان المهلبى في ألف وخمسمائة فارس ، ومعه أبو عبد الله الزنجي المعروف بالمذوب ، أحد قوادهم المشهورين ، فقوى سليمان بهم ، وأوقع بمحمد المولد ، فهزمه ودخل واسطا في ذى الحجة سنة أربع وستين ومائتين بزنوجه وقواده ، فقتل منها خلقا كثيرا ، ونهبها وأحرق دورها وأسواقها ، وأخرب كثيرا من منازل أهلها ، وثبت للمحاماة عنها قائد
__________
(1) من تاريخ الطبري .
(*)(8/163)
كان بها من جانب محمد بن المولد يقال له أذ كنجور البخاري : فحامى يومه ذلك إلى العصر ، ثم قتل ، وكان الذى يقود الخيل يومئذ في عسكر سليمان بن جامع ، الخليل بن أبان وعبد الله المعروف بالمذوب ، وكان أحمد بن مهدى الجبائى في السميريات ، وكان مهريار (1) الزنجي في الشذوات ، وكان سليمان بن موسى الشعرانى وأخوه في ميمنته وميسرته ، وكان سليمان بن جامع ، وهو الامير على الجماعة في قواده السودان ورجالته منهم ، وكان الجميع يدا واحدة ، فلما قضوا وطرهم من نهب واسط وقتل أهلها ، خرجوا بأجمعهم عنها ، فمضوا إلى جنبلاء ، وأقاموا هناك يعيثون ويخربون .
وفي أوائل سنة خمس وستين ، دخلوا إلى النعمانية ، وجرجرايا وجبل ، فنهبوا وأخربوا وقتلوا وأحرقوا ، وهرب منهم أهل السواد فدخلوا إلى بغداد .
* * * قال أبو جعفر : فأما على بن أبان المهلبى فإنه استولى على معظم أعمال الاهواز ، وعاث هناك وأخرب وأحرق ، وكانت بينه وبين عمال السلطان وقواده مثل أحمد بن ليثويه ، ومحمد بن عبد الله الكردى ، وتكين البخاري ، ومطر بن جامع ، وأغرتمش التركي وغيرهم ، وبينه وبين عمال يعقوب بن الليث الصفار ، مثل خضر بن العنبر وغيره حروب عظيمة ، ووقعات كثيرة ، وكانت سجالا ، تارة له وتارة عليه ، وهو في أكثرها المستظهر عليهم ، وكثرت أموال الزنج والغنائم التى حووها من البلاد والنواحى ، وعظم امرهم ، وأهم الناس شأنهم ، وعظم على المعتمد وأخيه أبى أحمد خطبهم ، واقتسموا الدنيا ، فكان على بن محمد الناجم صاحب الزنج وإمامهم مقيما بنهر أبى الخصيب ، قد بنى مدينة عظيمة سماها المختارة (2) ، وحصنها بالخنادق ، واجتمع إليه فيها من الناس ما لا ينتهى العد والحصر إليه ، رغبة ورهبة ، وصارت مدينة تضاهي سامراء وبغداد ، وتزيد عليهما وأمراؤه وقواده
__________
(1) الطبري : " الزنجي بن مهريان " (*) .(8/164)
بالبصرة وأعمالها يجبون الخراج على عادة السلطان لما كانت البصرة في يده ، وكان على بن أبان المهلبي وهو أكبر أمرائه وقواده قد استولى على الاهواز وأعمالها ، ودوخ بلادها كرامهرمز وتستر وغيرهما ، ودان له الناس وجبا الخراج ، وملك أموالا لا تحصى .
وكان سليمان بن جامع وسليمان بن موسى الشعرانى ، ومعهما أحمد بن مهدى الجبائى في الاعمال الواسطية ، قد ملكوها وبنوا بها المدن الحصينة وفازوا بأموالها وارتفاعها ، وجبوا خراجها ، ورتبوا عمالهم وقوادهم فيها ، إلى أن دخلت سنة سبع وستين ومائتين ، وقد عظم الخطب وجل ، وخيف على ملك بنى العباس أن يذهب وينقرض ، فلم يجد أبو أحمد الموفق - وهو طلحة بن المتوكل على الله - بدا من التوجه بنفسه ومباشرته هذا الامر الجليل برأيه وتدبيره ، وحضوره معارك الحرب فندب أمامه ابنه أبا العباس ، وركب أبو أحمد إلى بستان الهادى ببغداد ، وعرض أصحاب أبى العباس ، وذلك في شهر ربيع الاخر من هذه السنة ، فكانوا عشرة آلاف ، فرسانا ورجالة في أحسن زى وأجمل هيئة ، وأكمل عدة ومعهم الشذوات والسميريات والمعابر برسم الرجالة (1) كل ذلك قد أحكمت صنعته .
فركب أبو العباس من بستان الهادى ، وركب أبو أحمد مشيعا له حتى نزل القرية المعروفة بالفرك ثم عاد وأقام أبو العباس بالفرك أياما ، حتى تكامل عدده وتلاحق به أصحابه .
ثم رحل إلى المدائن ، فأقام بها أياما ثم رحل إلى دير العاقول ، فورد عليه كتاب نصير المعروف بأبى حمزة وهو من جلة أصحابه ، وكان صاحب الشذا والسميريات ، وقد كان قدمه على مقدمته بدجلة يعلمه فيه أن سليمان بن جامع قد وافى لما علم بشخوص أبى العباس ، والجبائي يقدمه في خيلهما ورجالهما وسفنهما ، حتى نزلا الجزيرة التى بحضرة بردودا ، فوق
__________
(1) الطبري : " للرجالة " (*) .(8/165)
واسط بأربعة فراسخ ، وأن سليمان بن موسى الشعرانى قد وافى نهر أبان بعسكره ، عسكر البر وعسكر الماء ، فرحل أبو العباس لما قرأ هذا الكتاب حتى وافى جرجرايا ، ثم منها إلى فم الصلح ، ثم ركب الظهر ، وسار حتى وافى الصلح ، ووجه طلائعه ليتعرف الخبر ، فأتاه منهم من أخبره بموافاة القوم ، وأن أولهم قريبا من الصلح ، وآخرهم ببستان موسى بن بغا ، أسفل واسط ، فلما عرف ذلك عدل عن سنن الطريق ، ولقى أصحابه أوائل القوم ، فتطاردوا لهم عن وصية أوصاهم أبو العباس بها ، حتى طمع الزنج فيهم ، واغتروا وأمعنوا في اتباعهم ، وجعلوا يصيحون بهم : اطلبوا أميرا للحرب ، فإن أميركم مشغول بالصيد ! فلما قربوا من أبى العباس بالصلح ، خرج إليهم فيمن معه من الخيل والرجل ، وأمر فصيح بأبى حمزة : يا نصير إلى أين تتأخر عن هؤلاء الكلاب ! ارجع إليهم ، فرجع نصير بشذواته وسميرياته ، وفيها الرجال ، وركب أبو العباس في سميرية ومعه محمد بن شعيب ، وحفت أصحابه بالزنج من جميع جهاتهم ، فانهزموا ومنح الله أبا العباس وأصحابه أكتافهم ، يقتلونهم ويطردونهم ، إلى أن وافوا قرية عبد الله ، وهى على ستة فراسخ ، من الموضع الذى لقوهم فيه ، وأخذوا منهم خمس شذوات وعشر سميريات ، وأستامن منهم قوم ، وأسر منهم أسرى ، وغرق من سفنهم كثير ، فكان هذا اليوم أول الفتح على أبى العباس .
* * * قال أبو جعفر فلما انقضى هذا اليوم ، أشار على أبى العباس قواده وأولياؤه أن يجعل معسكره بالموضع الذى كان انتهى إليه ، إشفاقا عليه من مقاربة القوم ، فأبى إلا نزول واسط بنفسه ، ولما انهزم سليمان بن جامع ومن معه ، وضرب الله وجوههم ، انهزم سليمان بن(8/166)
موسى الشعرانى عن نهر أبان ، حتى وافى سوق الخميس ، ولحق سليمان بن جامع بنهر الامير ، وقد كان القوم حين لقوا أبا العباس ، أجالوا الرأى بينهم فقالوا : هذا فتى حدث لم تطل ممارسته الحرب وتدربه بها ، والرأى أن نرميه بحدنا كله ، ونجتهد في أول لقية نلقاه في إزالته ، فلعل ذلك أن يروعه ، فيكون سببا لانصرافه عنا ، ففعلوا ذلك وحشدوا واجتهدوا ، فأوقع الله تعالى بهم بأسه ونقمته ، ولم يتم لهم ما قدروه ، وركب أبو العباس من غد يوم الوقعة ، حتى دخل واسطا في أحسن رى ، وكان ذلك يوم جمعة ، فأقام حتى صلى بها صلاة الجمعة ، واستأمن إليه خلق كثير من أتباع الزنج وأصحابهم ، ثم انحدر إلى العمر ، وهو على فرسخ واحد من واسط ، فاتخذه معسكرا ، وقد كان أبو حمزة نصير وغيره أشاروا عليه أن يجعل معسكره فوق واسط ، حذرا عليه من الزنج فامتنع ، وقال : لست نازلا إلا العمر ، وأمر أبا حمزة أن ينزل فوهة بردودا فوق واسط ، وأعرض أبو العباس عن مشاورة أصحابه واستماع شئ من آرائهم واستبد برأى نفسه ، فنزل العمر وأخذ في بناء الشذوات والسميريات ، وجعل يراوح الزنج القتال ويغاديهم ، وقد رتب خاصة غلمانه ومواليه في سميريات ، فجعل في كل سميريه أميرا منهم .
ثم إن سليمان استعد وحشد وفرق أصحابه ، فجعلهم في ثلاثة أوجه ، فرقه أتت من نهر أبان ، وفرقة من بر تمرتا ، وفرقة من بردودا ، فلقيهم أبو العباس ، فلم يلبثوا أن انهزموا ، فلحقت طائفة منهم بسوق الخميس ، وطائفة بمازروان وطائفة ببر تمرتا ، وسلك آخرون نهر الماذيان ، واعتصم قوم منهم ببردودا ، وتبعهم أصحاب أبى العباس ، وجعل أبو العباس قصده القوم الذين سلكوا نهر الماذيان ، فلم يرجع عنهم حتى وافى بهم برمساور ، ثم انصرف ، فجعل يقف على القرى والمسالك ويسأل عنها ويتعرفها ، ومعه الادلاء وأرباب الخبرة ، حتى عرف جميع تلك الارض ومنافذها ، وما ينتهى إليه من(8/167)
البطائح والاجام وغيرها ، وعاد إلى معسكره بالعمر ، فأقام به أياما مريحا نفسه وأصحابه .
نم أتاه مخبر فأخبره أن الزنج قد اجتمعوا واستعدوا لكبس عسكره ، وأنهم على إتيانه من ثلاثة أوجه ، وأنهم قالوا : إن أبا العباس غلام يغرر بنفسه وأجمع رأيهم على تكمين الكمناء ، والمصير إليه من الجهات الثلاث ، فحذر أبولعباس من ذلك واستعد له ، وأقبلوا إليه وقد كمنوا زهاء عشرة آلاف في برتمرتا ، ونحوا من العدة في برهثا (1) وتقدم منها عشرون سميرية إلى عسكر أبى العباس على أن يخرج إليهم فيهربوا بعد مناوشة يسيرة فيجيزوا أبا العباس وأصحابه إلى أن يجاوزوا الكمناء ، ثم يخرج الكمين عليهم من ورائهم .
فمنع أبو العباس أصحابه من اتباعهم لما واقعوهم ، وأظهروا الكسرة والعود ، فعلموا أن كيدهم لم ينفذ فيه ، وخرج حينئذ سليمان والجبائي في الشذا والسميريات العظيمة ، وقد كان أبو العباس أحسن تعبئه أصحابه فامر أبا حمزة نصيرا أن يخرج إليهم في الشذا والسميريات المرتبة ، فخرج إليهم ، ونزل أبو العباس في شذاة من شذوات قد كان سماها الغزال ، وأختار لها جدافين ، وأخذ معه محمد بن شعيب الاشتيام ، واختار من خاصة أصحابه وغلمانه جماعة ، دفع إليهم الرماح ، وأمر الخيالة بالمسير بإزائه على شاطئ النهر ، وقال لهم : لا تدعوا المسير ما أمكنكم ، إلى أن تقطعكم الانهار .
ونشبت الحرب بين الفريقين ، فكانت معركة القتال من حد قرية الرمل إلى الرصافة ، حتى أذن الله في هزيمة الزنج ، فانهزموا ، وحاز أصحاب أبى العباس منهم أربع عشر شذاه ، وأفلت سليمان والجبائي في ذلك اليوم بعد أن أشفيا على الهلاك راجلين ، وأخذت دوابهما ، ومضى جيش الزنج بأجمعه ، لا ينثنى أحد منهم حتى وافواطهيثا ، وأسلموا ما كان معهم من أثاث وآلة ، ورجع
__________
(1) الطبري : " قس هثا " (*) .(8/168)
أبو العباس ، فأقام بمعسكره بالعمر ، وأصلح ما كان أخذ منهم من الشذا والسفن (1) ، ورتب الرجال فيها وأقام الزنج بعد ذلك عشرين يوما لا يظهر منهم أحد .
قال أبو جعفر : ثم أن الجبائى صار بعد ذلك يجئ في الطلائع كل ثلاثه أيام وينصرف ، وحفر في طريق عسكر أبى العباس آبارا ، وصير فيها سفافيد حديد ، وغشاها بالبوارى ، وأخفى مواضعها ، وجعلها على سنن مسير الخيل ليتهور فيها المجتازون بها ، وجعل بواقى طرف العسكر متعرضا به ، لتخرج الخيل طالبة له ، فجاء يوما وطلبته الخيل كما كانت تطلبه ، فقطر (2) فرس رجل من قواد الفراغنه في بعض تلك الابار فوقف أصحاب أبى العباس بما ناله من ذلك على ما كان دبره الجبائى ، فحذروا ذلك ، وتنكبوا سلوك تلك الطريق .
قال أبو جعفر : وألح الزنج في مغاداة العسكر في كل يوم بالحرب ، وعسكروا بنهر الامير في جمع كثير ، وكتب سليمان إلى الناجم يسأله إمداده بسميريات ، لكل واحدة منهن أربعون مجدافا ، فوافاه من ذلك في مقدار عشرين يوما أربعون سميرية فيها الرجال والسيوف والتراس والرماح ، فكانت لابي العباس معهم وقعات عظيمة ، وفي أكثرها الظفر لاصحابه والخذلان على الزنج ، ولج أبو العباس في دخول الانهار والمضايق ، حتى انتهى إلى مدينة سليمان بن موسى الشعرانى بنهر الخميس التى بناها وسماها المنيعة وخاطر أبو العباس بنفسه مرارا ، وسلم بعد أن شارف العطب ، واستأمن إليه جماعة من قواد الزنج فأمنهم ، وخلع عليهم وضمهم إلى عسكره ، وقتل من قواد
__________
(1) الطبري : " والسميريات " .
(2) قطر : ذهب وأسرع (*) .(8/169)
الزنج جماعة وتمادت الايام بينه وبينهم ، واتصل بأبى أحمد الموفق أن سليمان بن موسى الشعرانى والجبائي ومن بالاعمال الواسطية من قواد صاحب الزنج ، كاتبوا صاحبهم ، وسألوه إمدادهم بعلى بن أبان المهلبي وهو المقيم حينئذ بأعمال الاهواز ، والمستولى عليها ، وكان على بن أبان قائد القواد وأمير الامراء فيهم ، فكتب الناجم إلى على بن أبان يأمره بالمصير بجميع من معه إلى ناحية سليمان بن جامع ، ليجتمعا على حرب أبى العباس .
فصح عزم أبى أحمد على الشخوص إلى واسط وحضور الحرب بنفسه فخرج عن بغداد في صفر من هذه السنة ، وعسكر بالفرك وأقام بها أياما ، حتى تلاحق به عسكره ، ومن أراد المسير معه ، وقد أعد آلة الماء (1) ورحل من الفرك إلى المدائن ، ثم إلى دير العاقول ، ثم إلى جر جرايا ، ثم قنى ، ثم جبل ، ثم الصلح ، حتي نزل على فرسخ من واسط .
وتلقاه ابنه أبو العباس في جريدة خيل فيها وجوه قواده ، فسأله أبوه عن خبرهم ، فوصف له بلاءهم ونصحهم ، فخلع أبو أحمد على أبى العباس ، ثم على القواد الذين كانوا معه ، وانصرف أبو العباس إلى معسكره بالعمر فبات به ، فلما كان صبيحة الغد ، رجل أبو أحمد منحدرا في الماء ، وتلقاه أبنه أبو العباس في آلات الماء بجميع العسكر في هيئة الحرب ، على الوضع الذى كانوا يحاربون الزنج عليه فاستحسن أبو أحمد هيئتهم ، وسر بذلك ، وسار أبو أحمد حتى نزل بإزاء القرية المعروفة بقرية عبد الله ، ووضع العطاء ، فأعطى الجيش كله أرزاقهم ، وقدم ابنه أبا العباس أمامه في السفن ، وسار وراءه .
فتلقاه
__________
(1) الطبري : " وقد أعد له قبل ذلك الشذا والسميريات والمعابر " (*) .(8/170)
أبو العباس برؤوس وأسرى من أصحاب الشعرانى ، كان ، لقيهم ، فأمر أبو أحمد بالاسرى فضربت أعناقهم ، ورحل يريد المدينة التى بناها الشعرانى ، وسماها المنيعة بسوق الخميس .
وإنما بدأ أبو أحمد بحرب الشعرانى قبل حرب سليمان بن جامع ، لان الشعرانى كان وراءه ، فخاف إن بدأ بابن جامع ، أن يأتيه الشعرانى من ورائه ، فيشغله عمن هو أمامه ، فلما قرب من المدينة ، خرج إليه الزنج ، فحاربوه حربا ضعيفة ، وانهزموا ، فعلا أصحاب أبى العباس السور ، ووضعوا السيف فيمن لقيهم وتفرق الزنج ، ودخل أبو العباس المدينة ، فقتلوا وأسروا ، وحووا ما كان فيها ، وأفلت الشعرانى هاربا ومعه خواصه ، فاتبعهم أصحاب أبى العباس ، حتى وافوا بهم البطائح ، فغرق منهم خلق كثير ، ولجأ الباقون إلى الاجام ، وانصرف الناس ، وقد استنقذ من المسلمات اللواتى كن بأيدى الزنج في هذه المدينة خاصة خمسة آلاف امرأة ، سوى من ظفر به من الزنجيات (1) .
فأمر أبو أحمد بحمل النساء اللواتى سباهن الزنج إلى واسط ، وأن يدفعن إلى أوليائهن ، وبات أبو أحمد بحيال المدينة ، ثم باكرها ، وأذن للناس في نهب ما فيها من أمتعة الزنج ، فدخلت ونهب كل ما كان بها ، وأمر بهدم سورها ، وطم (2) خندقها وإحراق ما كان بقى منها ، وظفر في تلك القرى التى كانت في يد الشعرانى بمالا يحصى من الارز والحنطة والشعير ، وقد كان الشعرانى استولى على ذلك كله ، وقتل أصحابه ، فأمر أبو أحمد ببيعه وصرف ثمنه في أعطيات مواليه وغلمانه وجنده .
__________
(1) الطبري : " من الزنجيات اللواتي كن في سوق الخميس " .
(2) طم الخندق والنهر : ردمه (*) .(8/171)
وأما الشعرانى فإنه التحق هو وأخوه بالمذار ، وكتب إلى الناجم يعرفه ذلك وأنه معتصم بالمذار .
* * * قال أبو جعفر : فحدثني محمد بن الحسن بن سهل ، قال : حدثنى محمد بن هشام الكرنبائى المعروف بأبى واثلة ، قال : كنت بين يدى الناجم ذلك اليوم وهو يتحدث ، إذ ورد عليه كتاب سليمان بخبر الواقعة وما نزل به ، وانهزامه إلى المذار ، فما كان إلا أن فض الكتاب ، ووقعت عينه على ذكر الهزيمة ، حتى انحل وكاء بطنه ، فنهض لحاجته ثم عاد .
فلما استوى به مجلسه ، أخذ الكتاب وتأمله ، فوقعت عينه على الموضع الذى أنهضه أولا ، فنهض لحاجته حتى فعل ذلك مرارا ، فلم أشك في عظم المصيبة ، وكرهت أن أسأله ، فلما طال الامر تجاسرت ، فقلت : أليس هذا كتاب سليمان بن موسى قال : بلى ، ورد بقاصمة الظهر ، ذكر أن الذين أنأخوا عليه أوقعوا به وقعة لم تبق منه ولم تذر ، فكتب كتابه هذا وهو بالمذار ، ولم يسلم بشئ غير نفسه ، قال فأكبرت ذلك ، والله يعلم ما أخفى من السرور الذي وصل إلى قلبى .
قال : وصبر على بن محمد على مكروه ما وصل إليه ، وجعل يظهر الجلد ، وكتب إلى سليمان بن جامع يحذره مثل الذى نزل بالشعرانى ، ويأمره بالتيقظ في أمره وحفظ ما قبله .
قال أبو جعفر : ثم لم يكن لابي أحمد بعد ذلك هم إلا في طلب سليمان بن جامع ، فأتته طلائعه ، فأخبرته أنه بالحوانيت ، فقدم أمامه ابنه أبا العباس في عشرة آلاف ، فانتهى إلى الحوانيت ، فلم يجد سليمان بن جامع بها ، وألفى هناك من قواد السودان المشتهرين بالبأس والنجدة القائدين ، المعروف أحدهما بشبل ، والاخر بأبى الندى (1) ، وهما من قدماء
__________
(1) الطبري : " أبو النداء " (*) .(8/172)
أصحاب الناجم الذين كان قودهم في بدء مخرجه ، وكان سليمان قد خلف هذين القائدين بالحوانيت ، لحفظ غلات كثيرة كانوا قد أخذوها ، فحاربهما أبو العباس ، فقتل من رجالهما وجرح بالسهام خلقا كثيرا - وكانوا أجلد رجال سليمان بن جامع ونخبتهم الذين يعتمد عليهم - ودامت الحرب بين أبى العباس وبينهم ذلك اليوم إلى أن حجز الليل بين الفريقين .
ورمى أبو العباس في ذلك اليوم كر كيا طائرا ، فوقع بين الزنج والسهم فيه ، فقالوا : هذا سهم أبى العباس ، وأصابهم منه ذعر ، وأستامن في هذا اليوم بعضهم إلى أبى العباس ، فسأله عن الموضع الذى فيه سليمان بن جامع ، فأخبره أنه مقيم بمدينته التى بناها بطهيثا ، فانصرف أبو العباس حينئذ إلى أبيه بحقيقة مقام سليمان ، وأن معه هنالك جميع أصحابه إلا شبلا وأبا الندى ، فإنهما بالحوانيت لحفظ الغلات التى حووها .
فأمر حينئذ أبو أحمد أصحابه بالتوجه إلى طهيثا ، ووضع العطاء فأعطى عسكره ، وشخص مصاعدا إلى بردودا ، ليخرج منها إلى طهيثا ، إذ كان لا سبيل له إليها إلا بذلك ، فظن عسكره أنه هارب ، وكادوا ينفضون لو لا أنهم عرفوا ؟ حقيقة الحال ، فانتهى إلى القرية بالحوذية ، وعقد جسرا على النهر المعروف بمهروذ وعبر عليه الخيل ، وسار إلى أن صار بينه وبين مدينة سليمان التى سماها المنصورة بطهيثا ميلان ، فأقام هناك بعسكره ، ومطرت السماء مطرا جودا ، واشتد البرد أيام مقامه هنالك ، فشغل بالمطر والبرد عن الحرب فلم يحارب ، فلما فتر ركب في نفر من قواده ومواليه لارتياد موضع لمجال الخيل ، فانتهى إلى قريب من سور تلك المدينة ، فتلقاه منهم خلق كثير وخرج عليه كمناء من مواضع شتى ، ونشبت الحرب واشدت ، فترجل جماعة من الفرسان ، ودافعوا حتى خرجوا عن المضايق التى كانوا أو غلوها ، وأسر من غلمان أبى أحمد غلام يقال له وصيف العلمدار وعدة من قواد زيرك ، وقتل في هذا اليوم أحمد بن مهدى الجبائى أحد القواد العظماء من الزنج ، رماه أبو العباس بسهم فأصاب أحد منخريه حتى خالط دماغه ، فخر صريعا ، وحمل من المعركة وهو حى ، فسأل أن يحمل(8/173)
إلى الناجم فحمل من هناك إلى نهر أبى الخصيب إلى مدينة الناجم التى سماها المختارة ، فوضع بين يديه ، وهو على ما به ، فعظمت المصيبة عليه به إذ كان من أعظم أصحابه غناء ، وأشدهم تصبرا لاطاعته ، فمكث الجبائى يعالج هنالك أياما ثم هلك ، فاشتد جزع الناجم عليه ، وصار إليه فولى غسله وتكفينه والصلاة عليه ، والوقوف على قبره إلى أن دفن ، ثم أقبل على أصحابه فوعظهم ، وذكر موت الجبائى .
وكانت وفاته في ليلة ذات رعود وبروق .
فقال فيما ذكر عنه : موت الجبائى .
وكانت وفاته في ليلة ذات رعود وبروق .
فقال فيما ذكر عنه .
لقد سمعت وقت قبض روحه زجل الملائكه بالدعاء له والترحم عليه .
وانصرف من دفنه منكسرا عليه الكآبة .
* * * قال أبو جعفر : فلما أنصرف أبو أحمد ذلك اليوم من الوقعة ، غاداهم بكرة الغد ، وعبأ أصحابه كتائب فرسانا ورجالة ، وأمر بالشذا والسميريات أن يسار بها معه في النهر الذى يشق مدينة طهيثا ، وهو النهر المعروف بنهر المنذر ، وسار نحو الزنج ، حتى انتهى إلى سور المدينة قريب قواد غلمانه في المواضع التى يخاف خروج الزنج عليه منها ، وقدم الرجالة أمام الفرسان ، ونزل فصلى أربع ركعات ، وابتهل إلى الله تعالى في النصر والدعاء للمسلمين ، ثم دعا بسلاحه فلبسه ، وأمرا ابنه أبا العباس أن يتقدم إلى السور ويحض الغلمان على الحرب ففعل ، وقد كان سليمان بن جامع أعد أمام سور المدينة التى سماها المنصورة خندقا ، فلما انتهى الغلمان إليه تهيبوا عبوره ، وأحجموا عنه ، فحرضهم قوادهم ، وترجلوا معهم فاقتحموه متجاسرين عليه ، فعبروه وانتهوا إلى الزنج وهم مشرفون من سور مدينتهم ، فوضعوا السلاح فيهم ، وعبرت شرذمة من الفرسان الخندق خوضا ، فلما رأى الزنج خبر هؤلاء الذين لقوهم وجراءتهم عليهم ، ولوا منهزمين ، واتبعهم أصحاب أبى أحمد ودخلوا(8/174)
المدينة من جوانبها ، وكان الزنج قد حصنوها بخمسة خنادق ، وجعلوا أمام كل خندق منها سورا يمتنعون به ، فجعلوا يقفون عند كل سور وخندق انتهوا إليه ، وأصحاب أبى أحمد يكشفونهم في كل موقف وقفوه ، ودخلت الشذا والسميريات مدينتهم مشحونة بالغلمان المقاتلة من النهر الذى يشقها بعد انهزامهم ، فأغرقت كل ما مرت به لهم من شذاة أو سميرية واتبعوا من تجافى النهر منهم ، يقتلون ويأسرون ، حتى أجلوهم عن المدينة وعما يتصل بها ، وكان ذلك زهاء فرسخ ، فحوى أبو أحمد ذلك كله ، وأفلت سليمان بن جامع في نفر من أصحابه ، واستحر القتل فيهم والاسر ، واستنقذ من نساء أهل واسط وصبيانهم وما اتصل بذلك من القرى ونواحى الكوفة زهاء عشرة آلاف ، فأمر أبو أحمد بحياطتهم والانفاق عليهم ، وحملوا إلى واسط فدفعوا إلى أهليهم ، واحتوى أبو أحمد على كل ما كان في تلك المدينة من الذخائر والاموال والاطعمة والمواشى ، فكان شيئا جليل القدر ، فأمر ببيع الغلات وغيرها من العروض ، وصرفه في أعطيات عسكره ومواليه ، وأسر من نساء سليمان وأولاده عدة واستنقذ يومئذ وصيف العلمدار ومن كان أسره الزنج معه ، فأخرجوا من الحبس وقد كان الزنج أعجلهم الامر عن قتله وقتلهم ، وأقام أبو أحمد بطهيثا سبعة عشر يوما ، وأمر بهدم سور المدينة ، وطم خنادقها ، ففعل ذلك ، وأمر بتتبع من لجأ منهم إلى الاجام ، وجعل لكل من أتاه برجل منهم جعلا ، فسارع الناس إلى طلبهم ، فكان إذا أتى بالواحد منهم خلع عليه وأحسن إليه ، وضمه إلى قواد غلمانه لما دبر من استمالتهم ، وصرفهم عن طاعة صاحبهم ، وندب نصيرا صاحب الماء في شذا وسميريات لطلب سليمان بن جامع والهاربين معه من الزنج وغيرهم ، وأمره بالجد في اتباعهم ، حتى يجاوز البطائح وحتى يلح دجلة المعروفة بالعوراء ، وتقدم إليه في فتح السكور (1) التى كان سليمان أحدثها ليقطع بها الشذا عن دجلة فيما بينه وبين النهر المعروف بأبى الخصيب ، وتقدم إلى
__________
(1) السكور : جمع سكر ، بالكسر ، وهو ما سد به النهر (*) .(8/175)
زيرك في المقام بطهيثا في جمع كثير من العسكر ، ليتراجع إليها الذين كان سليمان أجلاهم عنها من أهلها ، فلما أحكم ما أراد إحكامه ، تراجع بعسكره مزمعا على التوجه إلى الاهواز ليصلحها ، وقد كان قدم أمامه ابنه أبا العباس ، وقد تقدم ذكر على بن أبان المهلبى ، وكونه استولى على معظم كور الاهواز ، ودوخ جيوش السلطان هناك ، وأوقع بهم ، وغلب على معظم تلك النواحى والاعمال .
فلما تراجع أبو أحمد وافى بردودا ، فأقام بها أياما ، وأمر بإعداد ما يحتاج إليه للمسير على الظهر إلى الاهواز ، وقدم أمامه من يصلح الطرق والمنازل ، ويعد فيها الميرة للجيوش التى معه ، ووافاه قبل أن يرحل عن واسط زيرك منصرفا عن طهيثا ، بعد أن تراجع إلى النواحى التى كان بها الزنج أهلها ، وخلفهم آمنين ، فأمره أبو أحمد بالاستعداد والانحدار في الشذا والسميريات في نخبة عسكره وأنجادهم ، فيصير بهم إلى دجلة العوراء ، فتجتمع يده ويد نصير صاحب الماء على نقض دجلة ، واتباع المنهزمين من الزنج والايقاع بكل من لقوا من أصحاب سليمان إلى أن ينتهى بهم المسير إلى مدينة الناجم بنهر أبى الخصيب ، فإن راوا موضع حرب حاربوه في مدينته ، وكتبوا بما يكون منهم إلى أبى أحمد ، ليرد عليهم من أمره ما يعملون بحسبه .
واستخلف أبو أحمد على من خلفه من عسكره بواسط ابنه هارون ، وأزمع على الشخوص في خف من رجاله وأصحابه ، ففعل ذلك ، بعد أن تقدم إلى ابنه هارون في أن يحذر الجيش الذى خلفه معه في السفن إلى مستقره بدجلة ، إذا وافاه كتابه بذلك .
وارتحل شاخصا من واسط إلي الاهواز وكورها ، فنزل باذبين إلى الطيب ، إلي قرقوب إلى وادى السوس ، وقد كان عقد له عليه جسر فأقام به من أول النهار إلى وقت الظهر ، حتى عبر عسكره أجمع ، ثم سار حتى وافى السوس فنزلها ، وقد كان أمر مسرورا البلخى وهو عامله على الاهواز بالقدوم ، عليه فوافاهم في جيشه وقواده من غد اليوم الذى نزل فيه السوس ،(8/176)
فخلع عليه وعليهم ، وأقام بالسوس ثلاثا ، وكان ممن أسر من الزنج بطهيثا أحمد بن موسى ابن سعيد البصري المعروف بالقلوص ، وكان قائدا جليلا عندهم ، وأحد عدد الناجم ، ومن قدماء أصحابه ، أسر بعد أن أثخن جراحات كانت فيها منيته ، فأمر أبو أحمد باحتزاز رأسه ونصبه على جسر واسط .
* * * قال أبو جعفر : واتصل بالناجم خبر هذه الوقعة بطهيثا ، وعلم ما نيل من أصحابه ، فانتقض عليه تدبيره وضلت حيلته ، فحمله الهلع إلى أن كتب إلى على بن أبان المهلبى ، وهو يومئذ مقيم بالاهواز في زهاء ثلاثين ألفا ، يأمره بترك كل ما كان قبله من الميرة والاثاث ، والاقبال إليه بجميع جيوشه ، فوصل الكتاب إلى المهلبى ، وقد أتاه الخبر بإقدام أبى أحمد إلى الاهواز وكورها ، فهو لذلك طائر العقل .
فقرأ الكتاب ، وهو يحفزه فيه حفزا بالمصير إليه ، فترك جميع ما كان قبله ، واستخلف عليه محمد بن يحيى بن سعيد الكرنبائى .
فلما شخص المهلبى عنه لم يثبت ولم يقم ، لما عنده من الوجل وترادف الاخبار بوصول أبى أحمد إليه ، فأخلى ما استخلف عليه ، وتبع المهلبى - وبالاهواز يومئذ ونواحيها من أصناف الحبوب والتمر والمواشى شئ عظيم - فخرجوا عن ذلك كله ، وكتب الناجم أيضا إلى بهبوذ بن عبد الوهاب القائد وإليه يومئذ الاعمال التى بين الاهواز وفارس ، يأمره بالقدوم عليه بعسكره ، فترك بهبوذ ما كان قبله من الطعام والتمر والمواشى ، فكان ذلك شيئا عظيما ، فحوى جمع ذلك أبو أحمد ، فكان قوة له على الناجم ، وضعفا للناجم .
ولما رحل المهلبى عن الاهواز بث أصحابه في القرى التى بينه وبين مدينة الناجم ، فانتهبوها وأجلوا عنها أهلها ، وكانوا في سلمهم ، وتخلف خلق كثير ممن كان مع المهلبى من الفرسان والرجالة عن اللحاق به ، وأقاموا بنواحي الاهواز ، وكتبوا يسألون أبا أحمد الامان(8/177)
لما انتهى عنه إليهم من عفوه عمن ظفر به من أصحاب الناجم .
وكان الذى دعا الناجم إلى أمر المهلبى وبهبوذ بسرعة المصير إليه ، خوفه موافاة أبى أحمد بجيوشه إليه ، على الحالة التى الزنج عليها من الوجل وشدة الرعب ، مع انقطاع المهلبى ، وبهبوذ فيمن كان معهما عنه .
ولم يكن الامر كما قدر فإن أبا أحمد إنما كان قاصدا إلى الاهواز ، فلو أقام المهلبى بالاهواز وبهبوذ بمكانه في جيوشهما ، لكان أقرب إلى دفاع جيش أبى أحمد عن الاهواز ، وأحفظ للاموال والغلات التى تركت بعد أن كانت اليد قابضة عليها .
* * * قال أبو جعفر : وأقام أبو أحمد حتى أحرز الاموال التى كان المهلبى وبهبوذ وخلفاؤهما تركوها ، وفتحت السكور التى كان الناجم أحدثها في دجلة ، وأصلحت له طرقه ومسالكه ، ورحل أبو أحمد عن السوس إلى جندي سابور ، فأقام بها ثلاثا ، وقد كانت الاعلاف ضاقت على أهل العسكر ، فوجه في طلبها وحملها ، ورحل عن جندي سابور إلى تستر ، فأقام بها لجباية الاموال من كور الاهواز ، وأنفذ إلى كل كورة قائدا ليروج بذلك حمل المال ، ووجه أحمد بن أبى الاصبغ إلى محمد بن عبد الله الكردى صاحب رامهرمز وما يليها من القلاع والاعمال ، وقد كان مالا المهلبى ، وحمل إلى الناجم أموالا كثيرة وأمره بإيناسه وإعلامه ما عليه رأيه في العفو عنه ، والتغمد لزلته ، وأن يتقدم إليه في حمل الاموال والمسير إلى سوق الاهواز ، بجميع من معه من الموالى والغلمان والجند ، ليعرضهم ويأمر بإعطائهم الارزاق وينهضهم معه لحرب الناجم ، ففعل وأحضرهم ، وعرضوا رجلا رجلا ، وأعطوا ثم رحل إلى عسكر مكرم ، فجعله منزله أياما ، ثم رحل منه فوافى الاهواز وهو يرى أنه قد تقدمه إليها من الميرة ما يحمل عساكره ، فلم يكن كذلك ، وغلظ الامر في ذلك اليوم ، واضطرب الناس اضطرابا شديدا ، فأقام ثلاثة أيام ينتظر ورود الميرة ، فلم ترد فساءت أحوال الناس وكاد ذلك يفرق جماعتهم ، فبحث عن السبب المؤخر لورودها(8/178)
فوجد الزنج قد كانوا قطعوا قنطرة قديمة أعجمية ، كانت بين سوق الاهواز ورمهرمز ، يقال لها قنطرة أربق ، فامتنع التجار ومن كان يحمل الميرة من الورود ، لقطع تلك القنطرة فركب أبو أحمد إليها ، وهى على فرسخين من سوق الاهواز ، فجمع من كان في العسكر من السودان ، وأخذهم بنقل الصخر والحجارة لاصلاح هذه القنطرة ، وبذل لهم من أموال الرعية ، فلم يرم حتى أصلحت في يومه ذلك ، وردت إلى ما كانت عليه ، فسلكها الناس ، ووافت القوافل بالميرة ، فحيى أهل العسكر ، وحسنت أحوالهم ، وأمر بجمع السفن لعقد الجسر على دجيل الاهواز ، فجمعت من جميع الكور ، وأقام بالاهواز أياما حتى أصلح أصحابه أمورهم ، وما احتاجوا إليه من آلاتهم ، وحسنت أحوال دوابهم ، وذهب عنها ما كان بها من الضر بتأخر الاعلاف ، ووافت كتب القوم الذين تخلفوا عن المهلبي ، وأقاموا بعده بسوق الاهواز يسألون أبا أحمد الامان ، فأمنهم ، فأتاه منهم نحو ألف رجل فأحسن إليهم ، وضمهم إلى قواد غلمانه ، وأجرى لهم الارزاق ، وعقد الجسر على دجيل الاهواز ، ورحل بعد أن قدم جيوشه أمامه ، وعبر دجيلا ، فأقام بالموضع المعروف بقصر المأمون ثلاثا ، وقد كان قدم أبنه أبا العباس إلى نهر المبارك ، من فرات البصرة ، وكتب إلى ابنه هارون بالانحدار إليه ليجتمع العساكر هناك ، ورحل أبو أحمد عن قصر المأمون إلى قورج العباس ، ووافاه أحمد بن أبى الاصبغ هنالك بهدايا محمد بن عبد الله الكردى صاحب رامهرمز من دواب ومال (1) ثم رحل عن القورج فنزل الجعفرية ، ولم يكن بها ماء وقد كان أنفذ إليها وهو بعد في القورج من حفر آبارها ، فأقام بها يوما وليلة ، وألفى بها ميرا مجموعة فاتسع الجند بها ، وتزودوا منها ثم رحل إلى المنزل المعروف بالبشير ، فألفى فيه غديرا من ماء المطر ، فأقام به يوما وليلة ، ورحل إلى المبارك وكان منزلا بعيد المسافة
__________
(1) الطبري : " وضوار وغير ذلك " (*) .(8/179)
فتلقاه ابناه أبو العباس وهارون في طريقه ، وسلما عليه ، وسارا بسيره ، حتى ورد بهم المبارك وذلك يوم السبت للنصف من رجب سنة : سبع وستين .
قال أبو جعفر : فأما نصير ولزيرك ، فقد كانا اجتمعا بدجلة العوراء ، وانحدرا حتى وافيا الابلة بسفنهما وشذاهما ، فاستأمن إليهما رجل من أصحاب الناجم ، فأعلمهما أنه قد أنفذ عددا كثيرا من السميريات والزواريق مشحونة بالزنج ، يرأسهم قائد من قواده يقال له محمد بن إبراهيم ، ويكنى أبا عيسى .
قال أبو جعفر ومحمد بن إبراهيم هذا ، رجل من أهل البصرة ، جاء به إلى الناجم صاحب شرطته المعروف بيسار واستصلحه لكتابته فكان يكتب له حتى مات (1) وقد كانت ارتفعت حال أحمد بن مهدى الجبائى عند الناجم ، وولاه أكثر أعماله ، فضم محمد بن إبراهيم هذا إليه ، فكان كاتبه ، فلما قتل الجبائى في وقعة سليمان الشعرانى طمع محمد بن إبراهيم هذا في مرتبته ، وأن يحله الناجم محله ، فنبذ القلم ، والدواة ولبس آلة الحرب ، وتجرد للقتال ، فأنهضه الناجم في هذا الجيش ، وأمره بالاعتراض في دجلة لمدافعة من يردها من الجيوش ، فكان (2) يدخله أحيانا ، وأحيانا يأتي بالجمع الذى معه إلى النهر المعروف بنهر يزيد ، وكان معه في ذلك الجيش من قواد الزنج شبل بن سالم وعمرو المعروف بغلام بوذى (3) وأخلاط من السودان وغيرهم ، فاستأمن رجل منهم كان في ذلك الجيش إلى لزيرك ونصير ، وأخبرهما خبره ، وأعلمهما أنه على القصد لسواد عسكر نصير ، وكان نصير يومئذ معسكرا بنهر المرأة ، وإنهم على أن يسلكوا الانهار المعترضة على نهر معقل ، وبثق
__________
(1) الطبري : " فكان يكتب ليسار على ما يلى حتى مات " .
(2) الطبري : " فكان في دجلة أحيانا " .
(3) كذا في الطبري (*) .(8/180)
شيرين حتى يوافوا الشرطة ويخرجوا من وراء العسكر فيكبوا على من فيه ، فرجع نصير عند وصول هذا الخبر إليه من الابلة ، مبارزا إلى عسكره وسار لزيرك قاصدا بثق شيرين ، معارضا لمحمد بن إبراهيم ، فلقيه في الطريق ، فوهب الله له العلو عليه بعد صبر من الزنج له ، ومجاهدة شديدة فانهزموا ولجئوا إلى النهر الذى فيه كمينهم وهو نهر يزيد ، فدل لزيرك عليهم ، فتوغلت إليهم سميرياته ، فقتل منهم طائفه وأسر طائفة ، فكان محمد بن إبراهيم فيمن أسر ، وعمرو غلام بوذى ، وأخذ ما كان معهم من السميريات ، وهى نحو ثلاثين سميرية ، وأفلت شبل بن سالم في الذين نجوا معه ، فلحق بعسكر الناجم ، وخرج لزيرك في بثق شيرين سالما ظافرا ، ومعه الاسارى ورؤوس القتلى ، مع ما حوى من السميريات والسفن ، وانصرف من دجلة العوراء إلى واسط ، وكتب إلى أبى أحمد بالفتح ، وعظم الجزع على كل من كان بدجلة وكورها من أتباع الناجم ، فاستأمن إلى نصير صاحب الماء ، وهو مقيم حينئذ بنهر المرأة زهاء ألفى رجل من الزنج وأتباعهم .
فكتب إلى أبى أحمد بخبرهم ، فأمره بقبولهم وإقرارهم على الامان ، وإجراء الارزاق عليهم ، وخلطهم بأصحابه ، ومناهضة العدو بهم ، ثم كتب إلى نصير يأمره بالاقبال إليه إلى نهر المبارك ، فوافاه هنالك .
وقد كان أبو العباس عند منصرفه إلى نهر المبارك ، أنحدر إلى عسكر الناجم في الشذا ، فأوقع بهم في مدينته بنهر أبى الخصيب ، فكانت الحرب بينهما من أول النهار إلى آخر وقت الظهر .
واستأمن إليه قائد جليل من قواد الناجم من المضمومين ، كانوا إلى سليمان بن جامع ، يقال له منتاب ، ومعه جماعة من أصحابه ، فكان ذلك مما كسر من الناجم ، وانصرف أبو العباس بالظفر وخلع على منتاب الزنجي ، ووصله وحمله .
فلما لقى أباه أخبره خبره ، وذكر(8/181)
إليه خروجه إليه في الامان ، فأمر أبو أحمد له بخلع وصلة وحملان ، وكان منتاب أول من استأمن من جملة قواد الناجم .
* * * قال أبو جعفر : ولما نزل أبو أحمد نهر المبارك (1) كان أول ما عمل به في أمر الناجم أن كتب إليه كتابا يدعوه فيه إلى التوبة والانابة إلى الله تعالى ، مما ارتكب من سفك الدماء ، وانتهاك المحارم ، وإخراب البلدان والامصار ، واستحلال الفروج والاموال ، وانتحال ما لم يجعله الله له أهلا من النبوة والامامة ، ويعلمه أن التوبة له مبسوطة ، والامان له موجود ، فإن نزع عما هو عليه من الامور التى يسخطها الله تعالى ، ودخل في جماعة المسلمين ، محا ذلك ما سلف من عظيم جرائمه ، وكان له به الحظ الجزيل في دنياه وآخرته ، وأنفذ ذلك إليه مع رسول ، فالتمس الرسول إيصاله إليه ، فامتنع الزنج من قبول الكتاب ، ومن إيصاله إلى صاحبهم ، فألقى الرسول الكتاب إليهم إلقاء ، فأخذوه وأتوا به صاحبهم ، فقرأه ولم يجب عنه بشئ ورجع الرسول إلى أبى أحمد ، فأخبره فأقام خمسة أيام متشاغلا بعرض السفن ، وترتيب القواد والموالي والغلمان فيها ، وتخير الرماة ، وانتخابهم للمسير بها .
ثم سار في اليوم السادس في أصحابه ومعه أبنه أبو العباس إلى مدينة الناجم (2) التى سماها المختارة ، من نهر أبى الخصيب فأشرف عليها ، وتأملها فرأى منعتها وحصانتها بالسور والخنادق المحيطة بها ، وغور (3) الطريق المؤدى إليها ، وماقد أعد من المجانيق
__________
(1) الطبري : " ولما نزل أبو أحمد نهر المبارك يوم السبت للنصف من رجب سنة سبع وستين ومائتين " (2) الطبري : " فلما كان يوم الخميس سار أبو أحمد في أصحابه ومعه ابنه أبو العباس إلى مدينة الخبيث " .
(3) الطبري : " وما عور من الطرق المؤدية لها " (*) .(8/182)
والعرادات القسى الناوكية ، وسائر الالات على سورها ، فرأى ما لم ير مثله ممن تقدم من منازعي السلطان ، ورأى من كثرة عدد مقاتلتهم واجتماعهم ما استغلظ أمره .
ولما عاين الزنج أبا أحمد وأصحابه ، ارتفعت أصواتهم بما أرتجت له الارض ، فأمر أبو أحمد عند ذلك ابنه أبا العباس بالتقدم إلى سور المدينة ، ورشق من عليه بالسهام ، ففعل ودنا حتى ألصق شذواته بمسناة قصر الناجم ، وانحاز الزنج بأسرهم إلى المواضع الذى دنت منه الشذا .
وتحاشدوا ، وتتابعت سهامهم وحجارة منجنيقاتهم وعراداتهم ومقاليعهم ، ورمى عوامهم بالحجارة عن أيديهم ، حتى ما يقع طرف ناظر على موضع إلا رأى فيه سهما أو حجرا .
وثبت أبو العباس فرأى الناجم وأشياعه من جهدهم واجتهادهم وصبرهم ما لا عهد لهم بمثله من أحد ممن حاربهم ، وحينئذ أمر أبو أحمد ابنه أبا العباس بالرجوع بمن معه إلى مواقفهم ليروحوا عن أنفسهم ، ويداووا جروحهم ففعلوا ذلك ، واستأمن في هذه الحال إلى أبى أحمد مقاتلان من مقاتلة السميريات من الزنج ، فأتياه بسميرياتهما وما فيها من الملاحين والالات ، فأمر لها بخلع ديباج ومناطق محلاة بالذهب ، ووصلهما بمال ، وأمر للملاحين بخلع من الحرير الاحمر والاخضر الذى حسن موقعه منهم ، وعمهم جميعا بصلاته ، وأمر بإدنائهم من الموضع الذى يراهم فيه نظراؤهم ، فكان ذلك من أنجع (1) المكايد التى كيد بها صاحب الزنج ، فلما رأى الباقون ما صار إليه أصحابهم من العفو عنهم ، والاحسان إليهم رغبوا في الامان ، وتنافسوا فيه ، فابتدر منهم جمع كثير مسرعين نحوه راغبين فيما شرع لهم منه ، فأمر أبو أحمد لهم بمثل ما أمر به لاصحابهم فلما رأى الناجم ركون أصحاب السميريات إلى الامان ، ورغبتهم فيه ، أمر برد من كان منهم في دجلة إلى نهر أبى
__________
(1) الطبري : " أنجع " (*) .(8/183)
الخصيب ، ووكل بفوهة النهر من يمنعهم الخروج ، وأمر بإظهار شذاوته الخاصة وندب لهم بهبوذ بن عبد الوهاب ، وهو من أشد كماته بأسا ، وأكثرهم عددا وعدة ، فانتدب بهبود لذلك ، وخرج في جمع كثيف من الزنج فكانت بينه وبين أبى حمزة نصير صاحب الماء ، وبين أبى العباس بن أبى أحمد وقعات شديدة ، في كلها يظهر عليه أصحاب السلطان ، ثم يعود فيرتاش ويحتشد فيخرج فيواقعهم حتى صدقوه الحرب ، وهزموه وألجئوه إلى فناء قصر الناجم وأصابته طعنتان ، وجرح بالسهام وأوهنت اعضاءه الحجارة ، وأولجوه نهر أبى الخصيب وقد أشفى على الموت ، وقتل قائد جليل معه من قواد الزنج ذو بأس ونجدة ، وتقدم في الحرب ، يقال له عميرة .
واستأمن إلى أبى أحمد جماعة أخرى فوصلهم وحباهم وخلع عليهم ، وركب أبو أحمد في جميع جيشه وهو يومئذ في خمسين ألف رجل ، والناجم في ثلاثمائة ألف رجل ، كلهم يقاتل ويدافع ، فمن ضارب بسيف ، وطاعن برمح ، ورام بقوس وقاذف بمقلاع ورام بعرادة ومنجنيق .
وأضعفهم أمر الرماة بالحجارة عن أيديهم ، وهم النظارة المكثرون للسواد والمعينون بالنعير والصياح ، والنساء يشركنهم في ذلك أيضا ، فأقام أبو أحمد بإزاء عسكر الناجم إلى أن أضحى ، وأمر فنودى : الامان مبسوط للناس : أسودهم وأحمرهم ، إلا لعدو الله الداعي على بن محمد ، وأمر بسهام فعلقت فيها رقاع مكتوب فيها من الامان ، مثل الذى نودى به ، ووعد الناس فيها الاحسان ورمى بها إلى عسكر الناجم ، فمالت إليه قلوب خلق كثير من أولئك ، ممن لم يكن له بصيرة في اتباع الناجم ، فأتاه في ذلك اليوم جمع كثيرة من الشذا والسميريات ، فوصلهم وحباهم ، وقدم عليه قائدان من قواده ، وكلاهما من مواليه ببغداد أحدهما بكتمر والاخر بغرا (1) في جمع
__________
(1) الطبري : " جعفر بن بغلانجر " (*) .(8/184)
من أصحابهما ، فكان ورودهما زيادة في قوته ، ثم رحل في غد هذا اليوم بجميع جيشه ، فنزل متاخما لمدينة الناجم في موضع كان تخيره للنزول ، فأوطن (1) هذا الموضع ، وجعله معسكرا له وأقام به ، ورتب قواده ورؤساء أصحابه مراتبهم ، فجعل نصيرا صاحب الماء في أول العسكر ، وجعل زيرك التركي في موضع آخر ، وعلى بن جهشار حاجبه في موضع آخر ، وراشدا مولاه في مواليه وغلمانه الاتراك والخزر والروم والديالمة والطبرية والمغاربة والزنج والفراغنة والعجم والاكراد ، محيطا هو وأصحابه بمضارب أبى أحمد وفساطيطة وسرادقاته ، وجعل صاعد بن مخلد وزيره وكاتبه في جيش آخر من الموالى والغلمان ، فوق عسكر راشد ، وأنزل مسرورا البلخى القائد صاحب الاهواز في جيش آخر على جانب من جوانب عسكره ، وأنزل الفضل ومحمدا ابني موسى بن بغا في جانب آخر بجيش آخر (2) وتلاهما القائد المعروف بموسى (3) ، ولجوا في جيشه وأصحابه ، وجعل بغراج التركي على ساقته في جيش كثيف ، بعدة عظيمة ، وعدد جم ، ورأى أبو أحمد من حال الناجم وحصانة موضعه وكثرة جمعه ، ما علم معه أنه لا بد له من الصبر عليه ، وطول الايام في محاصرته ، وتفريق جموعه ، وبذل الامان لهم والاحسان إلى من أناب منهم والغلظة على من أقام على غيه منهم ، واحتاج إلى الاستكثار من الشذا وما يحارب به في الماء وشرع في بناء مدينة مماثله لمدينة الناجم ، وأمر بإنفاذ الرسل في حمل الالات والصناع من البر والبحر ، وإنفاذ المير والازواد والاقوات وإيرادها إلى عسكره بالمدينة التى شرع فيها ، وسماها الموفقية وكتب إلى عماله بالنواحي في حمل الاموال إلى بيت ماله في هذه المدينة ، وألا يحمل إلى بيت المال بالحضرة درهم واحد ، وأنفذ رسلا إلى سيراف وجنابة في بناء الشذا
__________
(1) أوطن : أقام .
(2) الطبري : " في جيشهما على النهر المعروف بهالة " .
(3) الطبري : " مرسى دالجوبة " .
(4) الطبري : " وجنابا " (*) .(8/185)
والاستكثار منها لحاجته إلى أن يبثها ويفرقها في المواضع التى يقطع بها الميرة الناجم وأصحابه ، وأمر بالكتاب إلى عماله في إنفاذ كل من يصلح للاثبات والعرض في الدواوين من الجند والمقاتلة ، وأقام ينتظر ذلك شهرا أو نحوه ، فوردت المير متتابعة ، يتلو بعضها ، بعضا ، ووردت الالات والصناع وبنيت المدينة ، وجهز التجار صنوف التجارات في الامتعة ، وحملوها إليها ، واتخذت بها الاسواق ، وكثر بها التجار والمجهزون من كل بلد ، ووردت إليها مراكب من البحر ، وقد كانت انقطعت لقطع الناجم وأصحابه سبلها قبل ذلك بأكثر من عشر سنين ، وبنى أبو أحمد في هذه المدينة المسجد الجامع ، وصلى بالناس فيه وأتخذ دور الضرب ، فضرب بها الدنانير والدراهم ، فجمعت هذه المدينة جميع المرافق وسيق إليها صنوف المنافع ، حتى كان ساكنوها لا يفقدون فيها شيئا مما يوجد في الامصار العظيمة القديمة .
وحملت الاموال وأدر العطاء على الناس في أوقاته ، فاتسعوا وحسنت أحوالهم ورغب الناس جميعا في المصير إلى هذه والمقام بها .
* * * قال أبو جعفر : وأمر الناجم بهبوذ بن عبد الوهاب ، فعبر والناس غارون في سميريات إلى طرف عسكر أبى حمزة صاحب الماء ، فاوقع به وقتل جماعة من أصحابه ، وأسر جماعة وأحرق أكواخا كانت لهم ، وأرسل إبراهيم بن جعفر الهمداني - وهو من جملة قواد الناجم - في أربعة آلاف زنجى ، ومحمد بن أبان المكنى أبا الحسين - أخا على بن أبان المهلبى في ثلاثه آلاف والقائد المعروف بالدور في ألف وخمسمائة ، ليغيروا على أطراف عسكر أبى أحمد ويوقعوا بهم ، فنذر بهم (1) أبو العباس ، فنهد إليهم في جمع كثيف من أصحابه ، وكانت بينه وبينهم حروب كان الاستظهار فيها كلها له وأستامن إليه جماعة منهم فخلع عليهم ، وأمر أن يوقفوا بإزاء مدينة الناجم ليعاينهم أصحابه ، وأقام أبو أحمد يكايد الناجم ويبذل
__________
(1) نذر : علم (*) .(8/186)
الاموال لاصحابه تارة ، ويواقعهم ويحاربهم تارة ويقطع الميرة عنهم ، فسرى بهبود الزنجي في الا جلاد المنتخبين من رجالة ليلة من الليالى ، وقد تأدى إليه خبر قيروان (1) ورد للتجار ، فيه صنوف التجارات والامتعة والمير ، فكمن في النخل ، فلما ورد القيروان ، خرج إلى أهله وهم غارون ، فقتل منهم وأسر وأخذ ما شاء أن يأخذ من الاموال .
وقد كان أبو أحمد علم بورود ذلك القيروان ، وأنفذ قائدا من قواده لبذرقته (2) في جمع خفيف فلم يكن لذلك القائد ببهبوذ طاقة ، فانصرف عنه منهزما .
فلما انتهى إلى أبى أحمد ذلك ، غلظ عليه ما نال الناس في أموالهم وتجاراتهم فأمر بتعويضهم وأخلف عليهم مثل الذى ذهب منهم ، ورتب على فوهة النهر المعروف بنهر بيان ، وهو الذى دخل القيروان فيه جيشا قويا لحراسته .
* * * قال أبو جعفر : ثم أنفذ الناجم جيشا عليه القائد المعروف بصندل الزنجي ، وكان صندل هذا - فيما ذكر - يكشف وجوه الحرائر المسلمات ورؤوسهن ويقلبهن تقليب الاماء ، فإن امتنعت منهن أمرأة لطم وجهها ، ودفعها إلى بعض علوج الزنج يواقعها ، ثم يخرجها بعد ذلك إلى سوق الرقيق فيبيعها بأوكس الثمن ، فيسر الله تعالى قتله في وقعة جرت بينه وبين أبى العباس ، أسر وأحضر بين يدى أبى أحمد ، فشده كتافا ، ورماه بالسهام حتى هلك .
* * * قال أبو جعفر : ثم ندب الناجم جيشا آخر وأمره أن يغير على طرف من أطراف عسكر أبى أحمد وهم غارون ، فاستأمن من ذلك الجيش زنجى مذكور يقال له مهذب .
كان
__________
(1) القيروان : القافلة .
(2) البذرقة : الحراسة والخفارة ؟ (*)(8/187)
من فرسان الزنج وشجعانهم ، فأتى به إلى أبى أحمد وقت إفطاره فأعلمه أنه جاء راغبا في الطاعة والامان ، وأن الزنج على العبور في ساعتهم تلك إلى عسكره للبيات ، وأن المندوبين لذلك أنجادهم وأبطالهم ، فأمر أبو أحمد أبا العباس ابنه أن ينهض إليهم في قواد عينهم له ، فنهضوا فلما أحس ذلك الجيش بأنهم قد نذروا بهم ، وعرفوا استئمان صاحبهم ، رجعوا إلى مدينتهم .
* * * قال أبو جعفر : ثم إن الناجم ندب أجل قواده وأكبرهم قدرا عنده ، وهو على ابن أبان المهلبى وانتخب له أهل البأس والجلد ، وأمره أن يبيت عسكر أبى أحمد ، فعبر في زهاء خمسة آلاف رجل ، أكثرهم الزنج وفيهم نحو مائتي قائد من مذكور يهم وعظمائهم ، فعبر ليلا إلى شرقي دجلة ، وعزموا على أن يفترقوا قسمين : أحدهما خلف عسكر أبى أحمد والثانى أمامه ، ويغير الذين أمامه على أصحاب أبى أحمد ، فإذا ثاروا إليهم ، واستعرت الحرب أكب أولئك الذين من وراء العسكر على من يليهم ، وهم مشاغيل بحرب من بإزائهم ، وقدر الناجم وعلى بن أبان أن يتهيأ لهما من ذلك ما أحبا ، فاستأمن منهم إلى أبى أحمد غلام كان معهم من الملاحين ليلا ، فأخبره خبرهم ، وما اجتمعت عليه آراؤهم ، فأمر ابنه أبا العباس والغلمان والقواد بالحذر والاحتياط والجد ، وفرقهم في الجهتين المذكورتين .
فلما رأى الزنج أن تدبيرهم قد انتقض ، وأنه قد فطن لهم ونذر بهم ، كروا راجعين في الطريق الذى أقبلوا فيه ، طالبين التخلص .
فسبقهم أبو العباس ولزيرك إلى فوهة النهر ليمنعوهم من عبوره ، وأرسل أبو أحمد غلامه الاسود الزنجي الذى يقال له ثابت - وكان له قيادة على السودان الذين بعسكر الموفق - فأمره أن يعترضهم ، ويقف لهم في طريقهم(8/188)
بأصحابه ، فأدركهم وهو في خمسمائة رجل فواقعهم ، وشد عضده أبو العباس ولزيرك بمن معهما ، فقتل من الزنج أصحاب الناجم خلق كثير ، وأسر منهم كثير وأفلت الباقون فلحقوا بمدينتهم ، وانصرف أبو العباس بالفتح وقد علق رءوس الزنج في الشذا وصلب الاسارى أحياء فيها ، فاعترضوا بهم مدينتهم ليرهبوا بهم أصحابهم ، فلما رأوهم رعبوا وانكسروا .
واتصل بأبى أحمد أن الناجم موه على أصحابه ، وأوهم أن الرؤوس المرفوعة مثل مثلها لهم أبو أحمد ليراعوا ، وأن الاسارى المصلبين من المستأمنة ، فأمر أبو أحمد عند ذلك بجميع الرؤوس والمسير بها إلى إزاء قصر الناجم ، والقذف بها في منجنيق منصوب في سفينة إلى عسكره ، ففعل ذلك ، فلما سقطت الرؤوس في مدينتهم ، عرف أولياء القتلى رؤوس أصحابهم ، فظهر بكاؤهم وصراخهم .
* * * قال أبو جعفر : وكانت لهم وقعات كثيرة بعد هذه ، في أكثرها ينهزم الزنج ويظفر بهم ، وطلب وجوههم الامان ، فكان ممن استأمن محمد بن الحارث القائد ، وإليه كان حفظ النهر المعروف بمنكى ، والسور الذى يلى عسكر أبى أحمد ، كان خروجه ليلا مع عدة من أصحابه ، فوصله أبو أحمد بصلات كثيرة ، وخلع عليه وحمله على عدة دواب بحليتها وآلاتها ، وأسنى له الرزق .
وكان محمد هذا حاول إخراج زوجته معه ، وهى إحدى بنات عمه فعجزت المرأة عن اللحاق به ، فأخذها الزنج فردوها إلى الناجم ، فحبسها مدة ، ثم أمر بإخراجها والنداء عليها في السوق فبيعت .
وممن استأمن ، القائد المعروف بأحمد البرذعى كان من أشجع رجالهم ، وكان يكون أبدا مع المهلبى .(8/189)
وكان ممن استأمن مربدا (1) القائد وبرنكوبه (2) وبيلويه (3) ، فخلعت عليهم الخلع ووصلوا بالصلات الكثيرة ، وحملوا على الخيول المحلاة ، وأحسن إلى كل من جاء معهم من أصحابهم .
* * * قال أبو جعفر : فضاقت المير على الناجم وأصحابه ، فندب شبلا القائد وأبا الندى ، وهما من رؤساء قواده ، وقدماء أصحابه الذين يعتمد عليهم ويثق بمناصحتهم وأمرهما بالخروج في عشرة آلاف من الزنج وغيرهم ، والقصد إلى نهر الدير ونهر المرأة ونهر أبى الاسد ، والخروج من هذه الانهار إلى البطيحة ، والغارة (4) على المسلمين وأهل القرى وقطع الطرقات ، وأخذ جميع ما يقدرون عليه من الطعام والميرة وحمله إلى مدينته .
وقطعه عن الوصول إلى عسكر أبى أحمد .
فندب أبو أحمد لقصدهم مولاه لزيرك في جيش كثيف ، بعضه في الماء ، وبعضه على الظهر ، فواقعهم في الموضع المعروف بنهر عمر ، فكانت بينه وبينهم حرب شديدة أسفرت عن انكسارهم وخذلان الله لهم فأخذ منهم أربعمائة سفينه ، وأسرى كثيرين وأقبل بها وبهم ، وبالرؤوس إلى عسكر أبى أحمد .
قال أبو جعفر : وندب أبو أحمد ابنه أبا العباس لقصد مدينة الناجم ؟ ؟ ، والعلو عليها ، فقصدها من النهر المعروف بالغربي ، وقد أعد الناجم به على بن أبان المهلبى ، فاستعرت الحرب بين الفريقين ، فأمد الناجم عليا بسليمان بن جامع في جمع كثير من قواد الزنج ، واتصلت الحرب ، وأستأمن كثير من قواد الزنج إلى أبى العباس ، وامتدت الحرب إلى بعد العصر ، ثم انصرف أبو العباس ، فاجتاز في منصرفه بمدينة الناجم ، وقد انتهى إلى الموضع المعروف
__________
(1) الطبري : " مديد " .
(2) الطبري : " وابن أنكلويه " .
(3) الطبري : " وخيلفة " .
(4) الطبري : " للغارة " (*) .(8/190)
بنهر الاتراك ، فرأى في ذلك النهر قلة من الزنج الذين يحرسونه ، فطمع فيهم ، فقصد نحوهم ، وصعد جماعة من أصحابه سور المدينة ، وعليه فريق من الزنج ، فقتلوا من أصابوا هناك ، ونذر الناجم بهم ، فأنجدهم بقواد من قواده ، فارسل أبو العباس إلى أبيه يستمده ، فوافى من عسكر أبى أحمد من خف من الغلمان ، فقوى بهم عسكر أبى العباس .
وقد كان سليمان بن جامع لما رأى أن أبا العباس قد أوغل في نهر الاتراك ، صعد في جمع كثير من الزنج ، ثم استدبر أصحاب أبى العباس وهم متشاغلون بحرب من بإزائهم على سور المدينة ، فخرج عليهم من ورائهم وخفقت طبولهم ، فانكشف أصحاب أبى العباس وحملت الزنج عليهم من أمامهم ، فأصيب في هذه الوقعة جماعة من غلمان أبى أحمد وقواده ، وصار في أيدى الزنج عدة أعلام ومطارد ، وحامى أبو العباس عن نفسه حتى انصرف سالما ، فأطمعت هذه الوقعة الزنج وأتباعهم (1) ، وشدت قلوبهم ، فأجمع أبو أحمد على العبور بجيشه أجمع ، وأمر بالاستعداد والتأهب ، فلما تهيأ له ذلك عبر في آخر ذى الحجة من سنة سبع وستين ، في أكثف جمع ، وأكمل عدة ، وفرق قواده على أقطار مدينة الناجم ، وقصد هو بنفسه ركنا من أركانها ، وقد كان الناجم حصنه بابنه الذى يقال له أنكلاى ، وكنفه بعلى بن أبان وسليمان بن جامع ، وإبراهيم بن جعفر الهمداني وحفه بالمجانيق والعرادات (2) والقسى الناوكية ، وأعد فيه الناشبة (3) جمع فيه أكثر جيشه ، فلما التقى الجمعان أمر أبو أحمد غلمانه الناشبة والرامحة (4) والسودان بالدنو من هذا
__________
(1) الطبري : " وتباعهم " .
(2) العرادة بالتشديد : من آلات الحرب ، أصغر من المنجنيق .
(3) الناشبة : الرماة بالنشاب ، والنشاب : السهام ، مأخوذة من النشوب .
(4) الرامحة : الرماة بالرمح (*) .(8/191)
الركن ، وبينه وبينهم النهر المعروف بنهر الاتراك وهو نهر عريض غزير الماء ، فلما انتهوا إليه أحجموا عنه ، فصيح بهم ، وحرضوا على العبور ، فعبروه سباحة ، والزنج ترميهم بالمجانيق والعرادات والمقاليع والحجارة عن الايدى ، والسهام عن قسى اليد ، وقسى الرجل ، وصنوف الالات التى يرمى عنها ، فصبروا على جميع ذلك حتى جاوزوا النهر وانتهوا إلى السور ، ولم يكن لحقهم من الفعلة من كان أعده لهدمه فتولى الغلمان تشعيث السور بما كان معهم من السلاح ، ويسر الله تعالى ذلك وسهلوا لانفسهم السبيل إلى علوه ، وحضرهم بعض السلاليم التى كانت اتخذت لذلك ، فعلوا الركن ونصبوا عليه علما عليه مكتوب " الموفق بالله " ، وأكبت عليهم الزنج فحاربوا أشد حرب ، وقتل من قواد أبى أحمد القائد المعروف بثابت الاسود ، رمى بسهم في بطنه فمات ، وكان من جلة القواد ، وأحرق أصحاب الموفق ما على ذلك الركن من المنجنيقات والعرادات .
وقصد أبو العباس بأصحابه جهة أخرى من جهات المدينة ليدخلها من النهر المعروف بمنكى ، فعارضه على بن أبان في جمع من الزنج فظهر أبو العباس عليه ، وهزمه وقتل قوما من أصحابه ، وأفلت على بن أبان المهلبى راجعا ، وانتهى أبو العباس إلى نهر منكى وهو يرى أن المدخل من ذلك الموضع سهل ، فوصل إلى الخندق ، فوجده عريضا منيعا ، فحمل أصحابه أن يعبروه فعبروه ، وعبرته الرجالة سباحه ووافوا السور فثلموا منه ثلمة واتسع لهم دخولها فدخلوا فلقى أولهم سليمان بن جامع وقد أقبل للمدافعة عن تلك الناحية ، فحاربوه وكشفوه ، وانتهوا إلى النهر المعروف بابن سمعان ، وهو نهر سيق بالمدينة ، وصارت الدار المعروفة يدار ابن سمعان في أيديهم ، فأحرقوا ما كان فيها وهدموها .
فوقفت الزنج على نهر ابن سمعان ، وقوفا طويلا ودافعوا مدافعة شديدة ، وشد بعض موالى الموفق على على بن أبان فأدبر عنه هاربا فقبض على مئزره ، فحل على المئزر ونبذه إلى الغلام ، ونجا بعد أن أشرف على الهلكة ، وحمل أصحاب أبى أحمد على الزنج فكشفوهم(8/192)
عن نهر ابن سمعان حتى وافوا بهم طرف المدينة وركب الناجم بنفسه في جمع من خواصه ، فتلقاه أصحاب الموفق ، فعرفوه وحملوا عليه ، وكشفوا من كان معه حتى أفرد ، وقرب منه بعض الرجالة حتى ضرب وجه فرسه بترسه ، وكان ذلك وقت غروب الشمس ، وحجز الليل بينهم وبينه وأظلم ، وهبت ريح شمال عاصف ، وقوى الجزر : فلصق أكثر سفن الموفق بالطين ، وحرض الناجم أصحابه ، فثاب منهم جمع كثير ، فشدوا على سفن الموفق ، فنالوا منها نيلا ، وقتلوا نفرا ، وصمد بهبوذ الزنجي لمسرور البلخى بنهر الغربي فاوقع به ، وقتل جماعة من أصحابه ، وأسر أسرى ، وصار في يده دواب من دوابهم ، فكسر ذلك من نشاط أصحاب الموفق ، وقد كان هرب في هذا اليوم من قواد صاحب الزنج ، وتفرفوا ؟ على وجوههم نحو نهر الامير وعبادان وغيرهما ، وكان ممن هرب ذلك اليوم منهم أخو سليمان ابن موسى الشعرانى ، ومحمد وعيسى ، فمضيا يؤمان البادية حتى انتهى إليهما رجوع أصحاب الموفق ، وما نيل منهم ، فرجعا وهرب جماعة من العرب الذين كانوا في عسكر الناجم ، وصاروا إلى البصرة ، وبعثوا يطلبون الامان من أبى أحمد ، فأمنهم ووجه إليهم السفن ، وحملهم إلى الموفقية ، وخلع عليهم وأجرى لهم الارزاق والانزال .
وكان ممن رغب في الامان من قواد الناجم القائد المعروف بريحان بن صالح المغربي ، وكانت له رياسة وقيادة ، وكان يتولى حجبة أنكلانى بن الناجم .
فكتب ريحان يطلب الامان لنفسه ولجماعة من أصحابه ، فأجيب إلى ذلك ، وأنفذ إليه عدد كثير من الشذا والسميريات والمعابر مع لزيرك القائد ، صاحب مقدمة أبى العباس ، فسلك نهر اليهودي إلى آخره فألفى به ريحان القائد ومن كان معه من أصحابه ، وقد كان الموعد تقدم منه في موافاة ذلك الموضع ، فسار لزيرك به وبهم إلى دار الموفق ، فأمر لريحان بخلع جليلة ،(8/193)
وحمل على عدة أفراس بآلتها وحليتها ، وأجيز بجائزة سنية ، وخلع على أصحابه ، وأجيزوا على أقدارهم ومراتبهم ، وضم ريحان إلى أبى العباس ، وأمر بحمله وحمل أصحابه والمصير بهم إلى إزاء دار الناجم ، فوقفوا هنالك في الشذا ، عليهم الخلع الملونة بصنوف الالوان والذهب حتى عاينوهم مشاهدة فاستأمن في هذا اليوم من أصحاب ريحان الذين كانوا تخلفوا عنه ومن غيرهم جماعة فألحقوا في البر والاحسان بأصحابهم (1) .
ثم استأمن جعفر بن إبراهيم المعروف بالسجان في أول يوم من سنة ثمان وستين ومائتين ، وكان أحد ثقات الناجم ، ففعل به من الخلع والاحسان ما فعل بريحان ، وحمل في سميرية حتى وقف بإزاء قصر الناجم ، حتى يراه أصحابه وكلمهم وأخبرهم أنهم في غرور من صاحبهم ، وأعلمهم ما وقف عليه من كذبه وفجوره ، فأستأمن في هذا اليوم خلق كثير من قواد الزنج وغيرهم ، وتتابع الناس في طلب الامان ، وأقام أبو أحمد يجم أصحابه ، ويداوى جراحهم ، ولا يحارب ولا يعبر إلى الزنج إلى شهر ربيع الاخر .
ثم عبر جيشه في هذا الشهر المذكور مرتبا على ما استصلحه من تفريقه في جهات مختلفة ، وأمرهم بهدم سور المدينة ، وتقدم إليهم أن يقتصروا على الهدم ، ولا يدخلوا المدينة ، ووكل بكل ناحية من النواحى التى وجه إليها قواده سفنا فيها الرماة ، وأمرهم أن يحموا بالسهام من يهدم السور من الفعلة ، فثلمت في هذا اليوم من السور ثلم كثيرة ، واقتحم أصحاب أبى أحمد المدينة من جميع تلك الثلم وهزموا من كان عليها من الزنج ، وأوغلوا في طلبهم ، واختلف بهم طرق المدينة ، وتفرقت بهم السكك والفجاج
__________
(1) في الطبري بعدها : " وكان خروج ريحان بعد الوقعة التى كانت يوم الاربعاء في يوم الاحد لليلة بقيت من ذى الحجة سنة سبع وستين ومائتين " (*) .(8/194)
وانتهوا إلى أبعد من المواضع التى كانوا وصلوا إليها في المرة التى قبلها ، فتراجعت إليهم الزنج ، وخرج عليهم كمناؤهم من نواح يهتدون إليها ، ولا يعرفها جيش أبى أحمد فتحير جيش أبى أحمد ، فقتل منهم خلق كثير ، وأصاب الزنج منهم أسلحه وأسلابا ، وأقام ثلاثون ديلميا من أصحاب أبى أحمد يدافعون عن الناس ويحمونهم ، حتى خلص إلى السفن من خلص ، وقتلت الديالمة عن آخرها ، وعظم على الناس ما أصابهم في هذا اليوم ، وانصرف أبو أحمد إلى مدينته الموفقية فجمع قواده ، وعذلهم على ما كان منهم من مخالفة أمره ، والافساد عليه في رأيه وتدبيره ، وتوعدهم بأغلظ العقوبة إن عادوا لمثل ذلك ، وأمر بإحصاء المقتولين من أصحابه ، فأتى بأسمائهم ، فأقر ما كان جاريا لهم على أولادهم وأهاليهم ، فحسن موقع ذلك ، وزاد في صحة نيات أصحابه ، لما رأوا من حياطته خلف من أصيب في طاعته .
قال أبو جعفر : وشرع أبو أحمد في قطع الميرة عن مدينة الناجم من جميع الجهات ، وقد كان يجلب إليهم من السمك الشئ العظيم من مواضع كثيرة ، فمنع ذلك عنهم ، وقتل القوم الذين كانوا يجلبونه ، وأخذت عليهم الطرق ، وانسد عليهم كل مسلك كان لهم ، وأضر بهم الحصار ، وأضعف أبدانهم وطالت المدة فكان الاسير منهم يؤسر ، والمستأمن يستأمن ، فيسأل عن عهده بالخبز (1) ، فيقول : مذ سنة أو سنتين ، واحتاج من كان منهم مقيما في ؟ مدينة الناجم إلى الحيلة لقوته ، فتفرقوا في الانهار النائية عن عسكرهم طلبا للقوت ، وكثرت الاسارى منهم في عسكر أبى أحمد ، لانه كان يلتقطهم بأصحابه يوما فيوما ، فأمر باعتراضهم (2) لما رأى كثرتهم ، فمن كان منهم ذا قوة وجلد ونهوض بالسلاح من عليه وأحسن إليه ، وخلطه بغلمانه السودان ، وعرفهم مالهم عنده من البر والاحسان ومن كان منهم ضعيفا لا حراك به ، أو شيخا فانيا لا يطيق حمل السلاح ، أو مجروحا جراحة قد أزمنته ، أمر بأن يكسى ثوبين ، ويوصل بدارهم ، ويزود ويحمل إلى عسكر
__________
(1) في الاصول : " بالخير " ، والصواب ما أثبته من الطبري .
(2) د : " بعرضهم " (*) .(8/195)
الناجم ، فيلقى هناك بعد أن يوصى (1) بوصف ما عاين من إحسان أبى أحمد إلى كل من يصير إليه ، وأن ذلك رأيه في جميع من يأتيه مستأمنا ، أو يأسره ، فتهيأ له بذلك ما أراد من استمالة الزنج ، حتى استشعروا الميل إلى ناحيته ، والدخول في سلمه وطاعته .
* * * قال أبو جعفر : ثم كانت الوقعة التى قتل فيها بهبوذ (2) الزنجي القائد وجرح أبو العباس ، وذلك أن بهبوذ كان أكثر أصحاب الناجم غارات ، وأشدهم تعرضا لقطع السبل ، وأخذ الاموال ، وكان قد جمع من ذلك لنفسه مالا جليلا ، وكان كثير الخروج في السميريات الخفاف فيخترق بها الانهار المؤدية إلى دجلة ، فإذا صادف سفينة لاصحاب أبى أحمد أخذها واستولى على أهلها ، وأدخلها النهر الذى خرج منه ، فإن تبعه تابع حتى توغل في طلبه ، خرج عليه من ذلك النهر قوم من أصحابه ، قد أعدهم لذلك ، فأقطعوه وأوقعوا به .
فوقع التحرز حينئذ منه ، والاستعداد لغاراته ، فركب شذاة ، وشبهها بشذوات أبى أحمد ، ونصب عليها علما مثل أعلامه ، وسار بها ومعه كثير من الزنج ، فأوقع بكثير من أصحاب أبى أحمد ، وقتل وأسر .
فندب له أبو أحمد ابنه أبا العباس في جمع كثيف ، فكانت بينهما وقعة شديدة ، ورمى فيها أبو العباس بسهم فأصابه ، وأصابت بهبوذ طعنة في بطنه من يد غلام من بعض سميريات أبى العباس ، فهوى إلى الماء ، فابتدره أصحابه فحملوه ورجعوا به إلى عسكر الناجم ، فلم يصلوا به إلا وهو ميت ، فعظمت الفجيعة به على الناجم وأوليائه ، واشتد عليه جزعهم ، وخفى موته على أبى أحمد حتى استأمن إليه رجل من الملاحين ، فأخبره بذلك فسر ، وأمر بإحضار الغلام الذى طعنه ، فوصله وكساه وطوقه ، وزاد في رزقه .
وأمر لجميع من كان في تلك السميرية بصلات وخلع ، وعولج أبو العباس من جرحه مدة حتى برأ ، وأقام أبو أحمد في مدينته الموفقية ممسكا عن حرب الزنج ، محاصرا لهم
__________
(1) الطبري : " يؤمر " .
(2) الطبري : " بهبوذ بن عبد الوهاب " .
(*)(8/196)
بسد الانهار وسكرها ، واعترض من يخرج منهم لجلب الميرة ، ومنتظرا برء ولده ، حتى كمل بعد شهور كثيرة وانقضت سنة ثمان وستين .
ونقل إسحاق بن كنداجيق عن البصرة وأعمالها ، فولى الموصل والجزيرة وديار ربيعة وديار مضر .
ودخلت سنة تسع وستين وأبو أحمد مقيم على الحصار ، فلما أمن على أبى العباس ، وركب على عادته عاود النهوض إلى حرب الناجم .
* * * قال أبو جعفر : وقد كان بهبوذ لما هلك طمع الناجم في أمواله لكثرتها ووفورها ، وصح عنده أنه ترك مائتي ألف دينار عينا ، ومن الجواهر وغيرها بمثل ذلك فطلب المال المذكور بكل حيلة وحبس أولياء بهبوذ وقرابته وأصحابه ، وضربهم بالسياط ، وأثار دورا من دوره ، وهدم أبنية من أبنيته ، طمعا في أن يجد في شئ منها دفينا ، فلم يجد من ذلك شيئا ، فكان فعله هذا أحد ما أفسد قلوب أصحابه عليه ، ودعاهم إلى الهرب منه ، والزهد في صحبته ، فاستأمن منهم إلى أبى أحمد خلق كثير ، فوصلهم وخلع عليهم ورأى أن يعبر دجلة من الجانب الشرقي إلى الجانب الغربي ، فيجعل لنفسه هناك معسكرا ، ويبنى به مدينة أخرى ، ويضيق خناق الناجم ، ويتمكن من مغاداته ومراوحته بالحرب ، فقد كانت الريح العاصف تحول بينه وبين عبور دجلة في كثير من الايام بالجيش ، فأمر بقطع النخل المقارب لمدينة الناجم لذلك ، وإصلاح موضع يتخذه معسكرا ، وأن يحف بالخنادق ، ويحصر بالسور ليأمن بيات الزنج ، وجعل على قواده نوانب لذلك ، ومعهم الفعلة والرجال ، فقابل الناجم ذلك ، بأن جعل على بن ابان المهلبى وسليمان بن جامع وإبراهيم بن جعفر الهمداني نوبا للحرب والمدافعة عن ذلك ، وكان أنكلانى بن الناجم ربما حضر في نوبة أيضا ، وضم(8/197)
إليه سليمان بن موسى بن الشعرانى ، وقد كان صار إليه من المذار بعد الوقعة التى انهزم فيها ، وعلم الناجم أن أبا أحمد إذا جاوره صعب أمره ، وقرب على من يريد اللحاق به من الزنج المسافة مع ما يدخل قلوب أصحابه بمجاورته من الرعب والرهبة ، وفي ذلك انتقاض تدبيره ، وفساد جميع أموره ، فكانت الحرب بين قواد أبى أحمد وقواد الناجم متصلة ، على إصلاح هذا الموضع ، ومدافعة الزنج عنه .
واتفق أن عصفت الرياح يوما وجماعة من قواد أبى أحمد بالجانب الغربي للعمل الذى يريدونه ، فانتهز الناجم الفرصة في امتناع العبور بدجلة لعصف الريح فرماهم بجميع جيشه ، وكاثرهم برجله ، فلم تجد الشذوات التى مع قواد أبى أحمد سبيلا إلى الوقوف بحيث كانت واقفة به ، لحمل الرياح إياها على الحجارة ، وخوف (1) أصحابها عليها من التكسر ، ولم يجدوا سبيلا إلى العبور في دجلة لشدة الريح واضطراب الامواج ، فأوقعت الزنج بهم ، فقتلوهم عن آخرهم ، وأفلت منهم نفر ، فعبروا إلى الموفقية ، فاشتد جزع أبى أحمد وأصحابه لما نالهم .
ولما تهيأ للزنج عليهم ، وعظم بذلك اهتمامهم .
وتعقب أبو أحمد الرأى ، فرأى أن نزوله ومقامه بالجانب الغربي ، مجاور مدينة الناجم خطأ ، وأنه لا يؤمن منه حيلة وانتهاز فرصة فيوقع بالعسكر بياتا أو يجد مساغا إلى (2) ما يكون له قوة ، لكثرة الادغال في ذلك الموضع ، وصعوبة المسالك ، وإن الزنج على التوغل في تلك المواضع الوعرة الموحشة أقدر وهو عليهم أسهل من أصحابه ، فانصرف عن رأيه في نزول الجانب الغربي وصرف همه وقصده
__________
(1) الطبري : " وما خاف " .
(2) الطبري : " إلى شئ مما يكون " .
(*)(8/198)
إلى هدم سور مدينة الناجم ، وتوسعة الطريق والمسالك لاصحابه في دخولها ، فندب القواد لذلك ، وندب الناجم قواده للمدافعة عنها ، وطال الامد ، وتمادت الايام .
فلما رأى أبو أحمد تحاشد الزنج وتعاونهم على المنع من هدم السور ، أزمع على مباشرة ذلك بنفسه ، وحضوره إياه ، ليستدعى بذلك جد أصحابه واجتهادهم ، ويزيد في عنايتهم وهممهم ، فحضر بنفسه ، واتصلت الحرب ، وغلظت على الفريقين ، وكثر القتل والجراح في الحزبين ، وأقام أبو أحمد أياما كثيرة يغاديهم الحرب ويراوحهم ، فكانوا لا يفترون يوما من الايام وصعب على أصحاب أبى أحمد ما كانوا يرومونه ، واشتدت حماية الزنج عن مدينتهم ، وباشر الناجم الحرب بنفسه ، ومعه نخبة أصحابه وأبطالهم ، والمؤمنون أنفسهم على الصبر معه فحاموا جهدهم حتى ، لقد كانوا يقفون الموقف فيصيب أحدا منهم السهم أو الطعنة أو الضربة فيسقط فيجذبه الذي إلى جانبه ، فينحيه ويقف موقفه إشفاقا من أن يخلو موقف رجل منهم ، فيدخل الخلل عليهم .
واتفق في بعض الايام شدة ضباب ستر بعض الناس عن بعض ، فما يكاد الرجل يبصر صاحبه ، وظهر أصحاب أبى أحمد ، ولاحت تباشير الفتح ، ودخل الجند إلى المدينة وولجوها ، وملكوا مواضع منها ، وإنهم لعلى ذلك ، حتى وصل سهم من سهام الزنج إلى أبى أحمد ، رماه به رومى كان مع الناجم ، يقال له قرطاس ، فأصابه في صدره وذلك لخمس بقين من جمادى الاولى سنة تسع وستين ومائتين .
فستر أبو أحمد وخواصه ما ناله من ذلك عن الناس ، وانصرف إلى الموفقية آخر نهار يومه هذا ، فعولج في ليلته تلك وشدت الجراحة ، وغدا على الحرب على ما ناله من ألمها ليشد بذلك قلوب أصحابه من أن يدخلها وهن أو ضعف ، فزاد في قوة علته ، بما حمل على نفسه من الحركة ، فغلظت وعظم أمرها ، حتى خيف عليه العطب ، واحتاج إلى علاج نفسه بأعظم ما يعالج به الجراح ، واضطرب لذلك(8/199)
العسكر والجند والرعية ، وخافوا قوة الزنج عليهم ، حتى خرج عن الموفقية جماعة من التجار كانوا مقيمين بها لما وصل إلى قلوبهم من الرهبة .
* * * قال أبو جعفر : وحدثت على أبى أحمد في حال صعوبة علته ، حادثة في سلطانه وأمور متعلقة بما بينه وبين أخيه المعتمد ، فأشار عليه مشيرون من أصحابه وثقاته بالرحلة عن معسكره إلى بغداد ، وأن يخلف من يقوم مقامه ، فأبى ذلك وحاذر أن يكون فيه تلافى ما قد فرق من شمل صاحب الزنج ، فأقام على صعوبة علته ، وغلظ الامر الحادث في سلطانه وصبر إلى أن عوفي فظهر لقواده وخاصته ، وقد كان أطال الاحتجاب عنهم ، فقويت برؤيته منتهم ، وأقام متماثلا مودعا نفسه إلى شعبان من هذه السنة ، فلما أبل وقوى على الركوب والنهوض ، نهض وعاود ما كان مواظبا عليه من الحرب ، وجعل الناجم لما صح عنده الخبر بما أصاب أبا أحمد يعد اصحابه العدات ، ويمنيهم الامانى ، واشتدت شوكتهم ، وقويت آمالهم ، فلما اتصل به ظهور أبى أحمد جعل يحلف للزنج على منبره ، أن ذلك باطل لا أصل له ، وأن الذى رأوه في الشذا مثال موه وشبه عليهم .
* * * قلت : الحادث الذى حدث على أبى أحمد من جهة سلطانه ، أن أخاه المعتمد ، وهو الخليفه يومئذ ، فارق دار ملكه ، ومستقر خلافته مغاضبا له متجنيا عليه ، زاعما أنه مستبد بأموال المملكة وجبايتها ، مضطهدا له مستأثرا عليه ، فكاتب ابن طولون صاحب مصر ، وسأله أن ياذن له في اللحاق به فأجابه ابن طولون إلى ذلك ، فخرج من سامراء في جماعة من قواده ومواليه ، قاصدا مصر .
وكان أبو أحمد هو الخليفة في المعنى ، وإنما المعتمد صورة(8/200)
خالية من معاني الخلافة ، لا أمر له ولا نهى ، ولا حل ولا عقد ، وأبو أحمد هو الذى يرتب الوزراء والكتاب ، ويقود القواد ، ويقطع الاقطاع ، ولا يراجع المعتمد في شئ من الامور أصلا ، فاتصل به خبر المعتمد في شخوصه عن سامراء ، وقصده ابن طولون ، فكاتب إسحاق بن كنداحيق وهو يومئذ على الموصل والجزيرة ، فأمره أن يعترض المعتمد ، ويقبض عليه وعلى القواد والموالي الذين معه ويعيدهم إلى سامراء ، وكتب لاسحاق بإقطاعه ضياع أولئك القواد والموالي بأجمعهم ، فاعترضهم إسحاق ، وقد قربوا من الرقة ، فأخذهم وقبض عليهم ، وقيدهم بالقيود الثقيلة ودخل على المعتمد فعنفه ، وهجنه وعذله في شخوصه عن دار ملكه وملك آبائه ، ومفارقة أخيه على الحال التى هو بها ، وحرب من يحاول قتله ، وقتل أهل بيته وزوال ملكهم .
ثم حملهم في قيودهم حتى وافى بهم سامراء ، فأقر المعتمد على خلافته ، ومنعه عن الخروج ، وأرسل أبو أحمد ابنه هارون ، وكاتبه صاعد بن مخلد من الموفقية إلى سامراء فخلعا على ابن كنداحيق ، خلعا جليلة ، وقلد بسيفين من ذهب ، ولقب ذا السيفين ، وهو أول من قلد بسيفين ، ثم خلع عليه بعد ذلك بيوم قباء ديباج أسود ، ووشاحين مرصعين بالجوهر الثمين ، وتوج بتاج من ذهب مرصع بنفيس الجوهر ، وقلد سيفا من ذهب مرصع بالجواهر العظيمة ، وشيعه إلى منزله هارون وصاعد ، وقعدا على طعامه ، كل ذلك مكافأة له عن صنيعه في أمر المعتمد .
فليعجب المتعجب من همة الموفق أبى أحمد ، وقوة نفسه ، وشدة شكيمته ! أن يكون بإزاء ذلك العدو ، ويقتل من أصحابه كل وقت من يقتل ، ثم يصاب ولده بسهم ، ويصاب هو بسهم آخر في صدره يشارف منه على الموت ، ويحدث من أخيه وهو الخليفة ما يحدث ، ولا تنكسر نفسه ولا يهى عزمه ، ولا تضعف قوته .
وبحق(8/201)
ما سمى المنصور الثاني ! ولولا قيامه في حرب الزنج ، لا نقرض ملك أهل بيته ، ولكن الله تعالى ثبته لما يريده من بقاء هذه الدولة .
* * * قال أبو جعفر : ثم جد الموفق في تخريب السور ، وإحراق المدينة ، وجد الناجم في إعداد المقاتلة والمحاطة عن سوره ومدينته ، فكانت بين الفريقين حروب عظيمة تجل عن الوصف ، ورمى الناجم سفن الموفق المقاربة لسور مدينته بالرصاص المذاب ، والمجانيق والعرادات ، وأمر أبو أحمد بإعداد ظلة (1) من خشب [ للشذا (2) ] وإلباسها جلود الجواميس ، وتغطية ذلك بالخيوش المطلية بصنوف العقاقير والادوية التى تمنع النار من الاحراق ، ففعل ذلك ، وحورب صاحب الزنج من تحتها ، فلم تعمل ناره ورصاصه المذاب فيها شيئا ، واستأمن إلى أبى أحمد محمد بن سمعان ، كاتب الناجم ووزيره في شعبان من هذه السنة ، فهد باستئمانه أركان الناجم ، وأضعف قوته ، وانتدب أبو العباس لقصد دار محمد بن يحيى الكرنبائى ، وكانت بإزاء دار الناجم ، وشرع في الحيلة في إحراقها ، وأحرق الموفق كثيرا من الرواشين (3) المظلة على سور المدينة وشعثها ، وعلا غلمان أبى أحمد على دار الناجم وولجوها وانتهبوها ، وأضرموا النار فيها ، وفعل أبو العباس بدار الكرنبائى مثل ذلك ، وجرح أنكلانى بن الناجم في بطنه جراحة شديدة ، أشفى منها على التلف ، واتفق مع هذا الظفر العظيم أن غرق أبو حمزة نصير صاحب جيش الماء عند ازدحام الشذوات وإكباب الزنج على الحرب ، فصعب ذلك على أبى أحمد ، وقوى بغرقه أمر الزنج ، وانصرف أبو أحمد
__________
(1) الطبري " ظلال " ، وهما اسم جمع ، واحدهما ظلة ، بالضم .
(2) من الطبري .
(3) الرواشين : جمع روشن ، وهو الكوة (*) .(8/202)
آخر نهار هذا اليوم ، وعرضت له علة أقام فيها بقية شعبان وشهر رمضان ، وأياما من شوال ممسكا عن حرب الزنج ، إلى أن استبل من علته .
قال أبو جعفر : فلما أحرقت دار الناجم ودور أصحابه وشارف أن يؤخذ وعرضت لابي أحمد هذه العلة ، فأمسك فيها عن الحرب ، انتقل الناجم من مدينته التى بناها بغربي نهر أبى الخصيب إلى شرقيه إلى منزل وعر لا يخلص إليه أحد لاشتباك القصب والادغال والاحطاب فيه ، وعليه خنادق من أنهار قاطعة معترضة فقطن هناك في خواصه ، ومن تخلف معه من جلة أصحابه وثقاته ، ومن بقى في نصرته من الزنج ، وهم حدود عشرين ألف مقاتل ، وانقطعت الميرة عنهم ، وبان للناس ضعف أمرهم ، فتأخر الجلب الذى كان يصل إليهم ، فبلغ الرطل من خبز البر عندهم عشرة دراهم ، فأكلوا الشعير ، ثم أكلوا أصناف الحبوب ، ثم لم يزل الامر كذلك إلى أن كانوا يتتبعون الناس ، فإذا خلا أحد منهم بصبى أو امرأة أو رجل ذبحوه وأكلوه ، ثم صار قوى الزنج يعدو على ضعيفهم ، فإذا خلا به ذبحه وأكل لحمه ، ثم ذبحوا أولادهم ، فأكلوا لحومهم ، وكان الناجم لا يعاقب أحدا ممن فعل شيئا من ذلك إلا بالحبس ، وإذا تطاول حبسه أطلقه .
ولما أبل الموفق من علته ، وعلم انتقال الناجم إلى شرقي نهر أبى الخصيب واعتصامه به ، أعمل فكره في تخريب الجانب الشرقي عليه ، كما فعل بالجانب الغربي ، ليتمكن من قتله أو أسره ، فكانت له آثار عظيمة من قطع الادغال والدحال (1) وسد الانهار ، وطم الخنادق ، وتوسيع المسالك وإحراق الاسوار المبنية ، وإدخال الشذا وفيها المقاتلة إلى حريم الناجم ، وفي كل ذلك يدافع الزنج عن أنفسهم بحرب شديدة ، وقتال عظيم تذهب فيها النفوس ، وتراق فيها الدماء ، وكان الظفر في ذلك كله لابي أحمد وأمر الزنج يزداد ضعفا
__________
(1) الدحان : جمع دحل ، وهو النقب الضيق الاعلى الواسع الاسفل ، يمكن أن يمشى فيه (*) .(8/203)
وطالت الايام على ذلك إلى أن استأمن سليمان بن موسى الشعرانى ، وهو من عظمائهم ، وقد تقدم ذكره ، فوجه يطلب الامان من أبى أحمد ، فمنعه ذلك لما كان سلف منه من العيث وسفك الدماء بنواحي واسط .
ثم اتصل بأبى احمد أن جماعة من رؤساء الزنج قد استوحشوا لمنعه الشعرانى من الامان ، فأجاب إلى إعطائه الامان استصلاحا بذلك غيره من رؤساء الزنج ، وأمر بتوجيه الشذا إلى موضع وقع الميعاد عليه ، فخرج سليمان الشعرانى وأخوه ، وجماعة من قواده ، فنزلوا ، الشذا فصاروا إلى أبى العباس ، فحملهم إلى أبى أحمد ، فخلع على سليمان ومن معه ، وحمله على عدة أفراس بسروجها وآلتها ، وأنزل له ولاصحابه أنزالا سنية ، ووصله بمال جليل ، ووصل أصحابه وضمه وضمهم إلى أبى العباس ، وأمر بإظهاره وإظهارهم في الشذا لاصحاب الناجم ، ليزدادوا ثقة بأمانته ، فلم تبرح الشذا ذلك اليوم من موضعها ، حتى استأمن جمع كثير من قواد الزنج ، فوصلوا وألحقوا بإخوانهم في الحباء والبر والخلع ، والجوائز : فلما استأمن الشعرانى اختل ما كان الناجم قد ضبطه به من مؤخر عسكره ، وقد كان جعله على مؤخر نهر ابى الخصيب ، فوهى أمره وضعف ، وقلد ما كان سليمان يتولاه القائد المعروف بشبل بن سالم ، وهو من قوادهم المشهورين ، فلم يمس أبو أحمد حتى وافاه رسول شبل ابن سالم يطلب الامان ، ويسأل أن يوقف له شذوات عند دار ابن سمعان ، ليكون قصده في الليل إليها ، ومعه من يثق به من أصحابه ، فأجيب إلى سؤاله ، ووافى آخر الليل ومعه عياله وولده ، وجماعة من قواده ، فصاروا إلى أبى أحمد فوصله بصلة جليلة ، وخلع عليه خلعا كثيرة وحمله على عدة أفراس بسروجها وآلتها ، ووصل أصحابه ، وخلع عليهم ، وأحسن إليهم ، وأرسله في الشذوات ، فوقفوا بحيث يراهم الناجم وأصحابه نهارا ، فعظم ذلك عليه وعلى أوليائه ، وأخلص شبل في مناصحة أبى أحمد ، فسأل أن يضم إليه عسكرا يبيت به عسكر الناجم ، ويسلك إليه من مسالك يعرفها هو ولا يعرفها أصحاب أبى أحمد ، ففعل(8/204)
وكبس عسكر الناجم سحرا ، فأوقع بهم وهم غارون ، فقتل منهم مقتلة عظيمة واسر جمعا من قواد الزنج وانصرف بهم إلى الموفق وذعر الزنج من شبل وما فعله ، فامتنعوا من النوم وخافوا خوفا شديدا ، فكانوا يتحارسون بعد ذلك في كل ليلة ، ولا تزال النفرة تقع في عسكرهم ، لما استشعروا من الخوف ، ووصل إلى قلوبهم من الوحشة حتى لقد كان ضجيجهم وتحارسهم يسمع بالموفقية .
وصح عزم الموفق على العبور لمحاربة الناجم في الجانب الشرقي من نهر أبى الخصيب ، فجلس مجلسا عاما ، وأمر بإحضار قواد المستأمنة ووجوه فرسانهم ورجالتهم من الزنج والبيضان فأدخلوا إليه فخطبهم وعرفهم ما كانوا عليه من الضلالة والجهل ، وانتهاك المحارم ، وما كان صاحبهم زينة لهم من معاصي الله سبحانه ، وأن ذلك قد كان أحل له دماءهم وأنه قد غفر الزلة وعفا عن العقوبة ، وبذل الامان ، وعاد على من لجأ إليه بالفضل والاحسان .
فأجزل الصلات ، وأسنى الارزاق ، وألحقهم بالاولياء وأهل الطاعة ، وأن ما كان منه من ذلك يوجب عليهم حقه وطاعته ، وأنهم لن يأتوا بشئ يتعرضون به لطاعة ربهم ، والاستدعاء لرضا سلطانهم أولى بهم من الجد في مجاهدة الناجم وأصحابه ، وأنهم من الخبرة بمسالك عسكر الناجم ومضايق طرق مدينته ، والمعاقل التى أعدها للحرب على ما ليس عليه غيرهم ، فهم أحرى أن يمحضوه نصحهم ، ويجهدوا على الولوج إلى الناجم ، والتوغل إليه في حصونه ، حتى يمكنهم الله منه ومن أشياعه ، فإذا فعلوا ذلك فلهم الاحسان والمزيد ، ومن قصر منهم استدعى من سلطانه إسقاط حاله ، وتصغير منزلته ووضع مرتبته .
فارتفعت أصواتهم جميعا بالدعاء للموفق والاقرار بإحسانه ، وبما هم عليه من صحة الضمائر من السمع والطاعة والجد في مجاهدة عدوه ، وبذل دمائهم ومهجهم في كل ما يقربهم منه ، وأن ما دعاهم إليه قد قوى مننهم ، ودلهم على ثقته بهم ، وإحلاله إياهم(8/205)
محل أوليائه ، وسألوه أن يفردهم ناحية ، ولا يخلطهم بعسكره ، ليظهر من حسن جهادهم بين يديه ، وخلوص نياتهم في الحرب ، ونكايتهم في العدو وما يعرف به طاعتهم ، وإقلاعهم عما كانوا عليه من جهلهم .
فأجابهم إلى ذلك ، وعرفهم حسن ما ظهر له من طاعتهم فخرجوا من عنده مبتهجين بما أجيبوا به من حسن القول وجميل الوعد .
* * * قال أبو جعفر : ثم استعد أبو أحمد ورتب جيشه ، ودخل إلى عسكر الناجم بشرقي نهر أبى الخصيب في خمسين ألف مقاتل ، من البر والبحر ، فرسانا ورجالة ، يكبرون ويهللون ويقرءون القرآن ، ولهم ضجيج وأصوات هائلة .
فرأى الناجم منهم ما هاله ، وتلقاهم بنفسه وجيشه ، وذلك في ذى القعدة سنة تسع وستين ومائتين .
واشتبكت الحرب ، وكثر القتل والجراح ، وحامى الزنج عن صاحبهم وأنفسهم أشد محاماة ، واستماتوا ، وصبر أصحاب أبى أحمد ، وصدقوا القتال ، فمن الله عليهم بالنصر ، وانهزم الزنج ، وقتل منهم خلق عظيم ، وأسر منهم أسرى كثيرة ، فضرب أبو أحمد أعناق الاسارى في المعركة ، وقصد بنفسه دار الناجم ، فوافاها وقد لجأ الناجم إليها ، ومعه أنجاد أصحابه للمدافعة عنه .
فلما لم يغنوا شيئا أسلموها ، وتفرقوا عنها ، ودخلها غلمان الموفق ، وبها بقايا ما كان سلم له من مال وأثاث ، فأخذوه وانتهبوه ، وأخذوا حرمه وولده الذكور والاناث ، وتخلص الناجم بنفسه ، ومضى هاربا نحو دار على بن أبان المهلبى ، لا يلوى على أهل ولا ولد ولا مال ، وأحرقت داره ، وحمل أولاده ونساؤه إلى الموفقية في التوكيل ، وقصد أصاب أبى أحمد دار المهلبى ، وقد لجأ إليها الناجم وأكثر الزنج ، وتشاغل أصحاب أبى أحمد بنهب(8/206)
الاموال من دور الزنج ، فاغتنم الناجم تشاغلهم بالنهب ، فأمر قواده بانتهاز الفرصة ، والاكباب عليهم ، فخرجوا عليهم من عدة مواضع ، وخرج عليهم كمناء أيضا قد كانوا كمنوهم لهم ، فكشفوهم واتبعوهم حتى وافوا بهم نهر أبى الخصيب ، فقتلوا من فرسانهم ورجالتهم جماعة ، وارتجعوا بعض ما كانوا أخذوه من المال والمتاع .
ثم تراجع الناس ، ودامت الحرب إلى وقت العصر ، فرأى أبو أحمد عند ذلك أن يصرف أصحابه ، فأمرهم بالرجوع فرجعوا على هدوء وسكون ، كى لا تكون هزيمة ، حتى دخلوا سفنهم ، وأحجم الزنج عن اتباعهم ، وعاد أبو أحمد بالجيش إلى مراكزهم .
قال أبو جعفر : ووافى إلى أبى أحمد في هذا الشهر كاتبه صاعد بن مخلد من سامراء في عشرة آلاف ، ووافى إليه لؤلؤ صاحب ابن طولون - وكان إليه أمر الرقة وديار مضر - في عشرة آلاف من نخبة الفرسان وأنجادهم ، فأمر أبو أحمد لؤلؤا أن يخرج في عسكره فيحارب الزنج ، فخرج بهم ومعه من أصحاب أبى أحمد من يدله على الطرق والمضايق ، فكانت بين لؤلؤ وبين الزنج حرب شديدة في ذى الحجة من هذه السنة ، استظهر فيها لؤلؤ عليهم ، وبأن من نجدته وشجاعته وإقدام أصحابه ، وصبرهم على ألم الجراح وثبات قلوبهم ماسر أبا أحمد وملا قلبه .
* * * قال أبو جعفر : فلما دخلت سنة سبعين ومائتين ، تتابعت الامداد إلى أبى أحمد من سائر الجهات ، فوصل إليه أحمد بن دينار في جمع عظيم من المطوعة ، من كور الاهواز ونواحيها ، وقدم بعده من أهل البحرين جمع كثير من المطوعة زهاء ألفى رجل ، يقودهم رجل من عبد القيس ، وورد بعد ذلك زهاء ألف رجل من فارس ، ورئيسهم شيخ من المطوعة يكنى أبا سلمة ، وكان أبو أحمد يجلس لكل من يرد ويخلع عليه ويقيم لاصحابه الانزال الكثيرة ، ويصلهم بالصلات ، فعظم جيشه جدا ، وامتلات بهم الارض ، وصح(8/207)
عزمه على لقاء الناجم بجميع عسكره ، فرتب جيوشه ، وقسمهم على القواد ، وأمر كل واحد من القواد أن يقصد جهة من جهات معسكر الناجم عينها له ، وركب بنفسه ، وركب جيشه ، وتوغلوا في مسالك شرقي نهر أبى الخصيب ، ولقيهم الزنج ، وقد حشدوا واستقبلوا فكانت بينهم وقعة شديدة ، منحهم الله تعالى فيها أكتاف الزنج ، فولوا منهزمين ، فاتبعهم أصحاب أبى أحمد يقتلون ويأسرون ، فقتل منهم كثير ، وغرق كثير ، وحوى أصحاب أبى أحمد معسكر الناجم ومدينته ، وظفروا بعيال على بن أبان المهلبى وداره وأمواله ، فاحتووا عليها ، وعبر أهله أو ولاده إلى الموفقية مع كلابهم ، ومضى الناجم ومعه المهلبى وابنه أنكلانى ، وسليمان بن جامع ، والهمداني وجماعة من أكابر القواد ، عامدين إلى موضع كان الناجم قد أعده لنفسه ملجأ إذا غلب على مدينته وداره في النهر المعروف بالسفياني ، فتقدم أبو أحمد ومعه لؤلؤ قاصدين هذا النهر ، لان أبا أحمد دل عليه فأوغل في الدخول ، وفقده أصحابه ، فظنوا أنه رجع ، فرجعوا كلهم وعبروا دجلة في الشذا ظانين أنه عبر راجعا ، وانتهى أبو أحمد ومعه لؤلؤ ، قاصدين هذا النهر ، فاقتحمه لؤلؤ بفرسه ، وعبر أصحاب لؤلؤ خلفه .
ووقف أبو أحمد في جماعة من أصحابه عند النهر ، ومضى الناجم هاربا ، ولؤلؤ يتبعه في أصحابه ، حتى انتهى إلى النهر المعروف بالقربرى ، فوصل إليه لؤلؤ وأصحابه ، فأوقعوا به وبمن معه فكشفوهم فولوا هاربين حتى عبروا النهر المذكور ، ولؤلؤ وأصحابه يطردونهم من ورائهم ، حتى ألجئوهم إلى نهر آخر ، فعبروه واعتصموا بدحال وراءه ، فولجوها ، وأشرف لؤلؤ وأصحابه عليها فأرسل إليه الموفق ينهاه عن اقتحامها ، ويشكر سعيه ، ويأمره بالانصراف ، فانفرد لؤلؤ هذا اليوم وأصحابه بهذا الفعل ، دون أصحاب الموفق ، فانصرف لؤلؤ محمود الفعل ، فحمله الموفق معه في شذاته وجدد له من البر والكرامة ورفع المنزلة لما كان منه في أمر الناجم ، حسبما كان مستحقا له ، ولهذا نادى(8/208)
أهل بغداد لما أدخل إليهم رأس الناجم بين يدى أبى العباس : ما شئتم قولوا ، كان الفتح للؤلؤ .
* * * قال أبو جعفر فجمع الموفق في غد هذا اليوم قواده وهو حنق عليهم لانصرافهم عنه ، وإفرادهم إياه ، وكان لؤلؤ وأصحابه تولوا طلب الناجم دونهم ، فعنقهم وعذلهم ووبخهم على ما كان منهم ، وعجزهم وأغلظ لهم ، فاعتذروا إليه بما توهموه من انصرافه ، وأنهم لم يعلموا أنه قد لجج وأوغل في طلب الناجم ، وأنهم لو علموا ذلك لاسرعوا نحوه .
ثم تحالفوا بين يديه ، وتعاقدوا ألا يبرحوا في غد موضعهم إذا توجهوا نحو الزنج ، حتى يظفرهم الله تعالى به ، فإن أعياهم ذلك أقاموا حيث انتهى بهم النهار في أي موضع كان حتى يحكم الله بينهم وبينه .
وسألوا الموفق أن يرد السفن إلى الموفقية ، بحيث لا يطمع طامع من العسكر في الالتجاء إليها والعبور فيها .
فقبل أبو أحمد عذرهم ، وجزاهم الخير عن تنصلهم ، ووعدهم بالاحسان ، وأمرهم بالتأهب للعبور ، ثم عبر بهم على ترتيب ونظام قد أحكمه وقرره ، وذلك في يوم السبت لليلتين خلتا من صفر من سنة سبعين ومائتين ، وقد كان الناجم عاد من تلك الانهار إلى معسكره بعد انصراف الجيش عنه فأقام به ، وأمل أن تتطاول به وبهم الايام (1) ، وتندفع عنه المناجزة فلقيه في هذا اليوم سرعان (2) العسكر ، وهم مغيظون محنقون من التقريع والتوبيخ اللاحقين بهم بالامس ، فأوقعوا به وبأصحابه وقعة شديدة ، أزالوهم عن مواقفهم ، فتفرقوا لا يلوى بعضهم على بعض ، واتبعهم الجيش يقتلون ويأسرون من لحقوا منهم ، وانقطع
__________
(1) الطبري : " تتطاول بهم الايام " .
(2) سرعان الناس : أوائلهم .
وفى الطبري : " فوجد الموفق المتسرعين من فرسان غلمانه ورجالتهم " (*) .(8/209)
الناجم في جماعة من كماته من قواد الزنج : منهم المهلبى ، وفارقه ابنه انكلانى وسليمان ابن جامع ، فكانا في أول الامر مجتمعين ، ثم افترقا في الهزيمة ، فصادف سليمان بن جامع قوم من قواد الموفق ، فحاربوه وهو في جمع كثيف من الزنج ، فقتل جماعة من كماته ، وظفر به فأسر ، وحمل إلى الموفق بغير عهد ولا عقد ، فاستبشر الناس بأسر سليمان ، وكثر التكبير والضجيج ، وأيقنوا بالفتح إذ كان أكثر أصحابه غناء ، وأسر بعده إبراهيم ابن جعفر الهمداني وكان من عظماء قواده وأكابر أمراء جيوشه ، وأسر نادر الاسود المعروف بالحفار ، وهو من قدماء قواد الناجم ، فأمر الموفق بتقييدهم بالحديد ، وتصييرهم في شذاة لابي العباس ، ومعهم الرجال بالسلاح ، وجد الموفق في طلب الناجم ، وأمعن في نهر أبى الخصيب ، حتى انتهى إلى آخره .
فبينا هو كذلك ، أتاه البشير بقتل الناجم فلم يصدق ، فوافاه بشير آخر ، ومعه كف زعم أنها كفه ، فقوى الخبر عنده بعض القوة ، فلم يلبث أن أتاه غلام من غلمان لؤلؤ يركض ومعه رأس الناجم ، فوضعه بين يديه ، فعرضه الموفق على من كان حاضرا تلك الحال معه من قواد المستأمنة ، فعرفوه ، وشهدوا أنه رأس صاحبه ، فخر ساجدا (1) ، وسجد ابنه أبو العباس ، وسجد القواد كلهم شكرا لله تعالى ، ورفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير ، وأمر برفع الرأس على قناة ، ونصبه بين يديه ، فرآه الناس ، وارتفعت الاصوات والضجيج .
قال أبو جعفر : وقد قيل : إنه لما أحيط بالناجم لم يبق معه من رؤساء أصحابه إلا المهلبى ، فلما علما أنهما مقتولان أفترقا ، فوقف الناجم حتى وصل إليه هذا الغلام ومعه جماعة من غلمان لؤلؤ ، فمانع عن نفسه بسيفه حتى عجز عن الممانعة ، فأحاطوا به وضربوه بسيوفهم ، حتى سقط ، ونزل هذا الغلام فاحتز رأسه ، وأما المهلبى فإنه قصد النهر المعروف
__________
(1) بعدها في الطبري : " على ما أولاه وأبلاه " (*) .(8/210)
بنهر الامير ، فقذف بنفسه يروم النجاة ، وقبل ذلك كان ابن الناجم وهو المعروف بأنكلانى فارق أباه ، ومضى يؤم النهر المعروف بالدينارى ، متحصنا فيه بالادغال والاجام ، فلم يظفر بهما ذلك اليوم ، ودل الموفق عليهما بعد ذلك .
وقيل له إن معهما جمعا من الزنج وجماعة من جلة قوادهم ، فأرسل غلمانه في طلبهما ، وأمرهم بالتضييق عليهما ، فلما أحاطت الغلمان بهم أيقنوا أن لا ملجأ لهم ، وأعطوا بأيديهم فظفر بهم الغلمان ، وحملوهم إلى الموفق ، فقتل منهم جماعة وأمر بالاستيثاق من المهلبى وأنكلانى بالحديد والرجال الموكلين بهما .
* * * قال أبو جعفر : وانصرف في هذا اليوم وهو يوم السبت ، لليلتين خلتا من صفر أبو أحمد من نهر أبى الخصيب ورأس الناجم منصوب بين يديه ، على قناة في شذاة يخترق به في النهر ، والناس من جانبى النهر ينظرون إليه ، حتى وافى دجلة ، ، فخرج إليها ، والرأس بين يديه ، وسليمان بن جامع والهمداني مصلوبان أحياء في شذاتين عن جانبيه ، حتى وافى قصره بالموفقية .
هذه رواية أبى جعفر وأكثر الناس عليهما .
* * * وذكر المسعودي في كتاب " مروج الذهب " (1) أن الناجم أرتث ، وحمل إلى أبى أحمد وهو حى ، فسلمه إلى أبنه أبى العباس ، وأمر بتعذيبه ، فجعله كردناجا (2) على النار وجلده ينتفخ ، ويتفرقع حتى هلك .
والرواية الاولى هي الصحيحة ، والذى جعل كردناجا هو قرطاس ، الذى رمى أبا أحمد
__________
(1) مروج الذهب 4 : 195 .
(2) الكردناج ، معناه الكباب ، أو ما يشبهه (وانظر ديمزون) (*) .(8/211)
بالسهم ذكر ذلك التنوخى في " نشوار المحاضرة " قال : كان الزنج يصيحون ، لما رمى أبو أحمد بالسهم ، وتأخر لعلاج جراحته عن الحرب : ملحوه ملحوه ، أي قد مات وأنتم تكتمون موته فاجعلوه كاللحم المكسود .
قال : وكان قرطاس الرامى لابي أحمد يصيح بأبى العباس في الحرب إذا أخذتنى فاجعلني كردناجا ، يهزأ به .
قال : فلما ظفر به أدخل في دبره سيخا من حديد ، فأخرجه من فيه ، وجعله على النار كردناجا .
* * * قال أبو جعفر : ثم تتابع مجئ الزنج إلى أبى أحمد في الامان ، فحضر منهم في ثلاثة أيام نحو سبعة آلاف زنجى لما عرفوا قتل صاحبهم ، ورأى أبو أحمد بذل الامان لهم ، كى لا يبقى منهم بقية يخاف معرتها في الاسلام وأهله ، وانقطعت منهم قطعة نحو ألف زنجى مالت نحو البر ، فمات أكثرها عطشا ، وظفر الاعراب بمن سلم منهم ، فاسترقوهم ، وأقام الموفق بالموفقية ، بعد قتل الناجم مدة ، ليزداد الناس بمقامه أنسا وأمانا ، ويتراجع أهل البلاد إليها ، فقد كان الناجم أجلاهم عنها ، وقدم ابنه أبو العباس إلى بغداد ، ومعه رأس الناجم ، فدخلها يوم السبت لاثنتى عشرة ليلة بقين من جمادى الاولى من هذه السنة ، ورأس الناجم بين يديه على قناة ، والناس مجتمعون يشاهدونه .
* * * وقد روى غير أبى جعفر ، وذكره الابى (1) في مجموعه المسمى " نثر الدرر " عن العلاء بن صاعد بن مخلد ، قال : لما حمل رأس صاحب الزنج ودخل به المعتضد إلى بغداد دخل في جيش
__________
(1) هو الوزير زين الكفأة أبو سعد منصور بن الحسين الابى ، وزير مجد الدولة رستم بن فخر الدولة ابن بويه .
وكتابه نثر الدرر في المحاضرات ، منه نسخ خطية ، وأجزاء متفرقة في دار الكتب المصرية .
(*)(8/212)
لم ير مثله ، واشتق أسواق بغداد والرأس بين يديه ، فلما صرنا بباب الطاق ، صاح قوم من درب من تلك الدروب : رحم الله معاوية وزاد ! حتى علت أصوات العامه بذلك فتغير وجه المعتضد ، وقال : ألا تسمع يا أبا عيسى ! ما أعجب هذا ! وما الذى اقتضى ذكر معاوية في هذا الوقت ! والله لقد بلغ ابى إلى الموت وما أفلت أنا إلا بعد مشارفته ، ولقينا كل جهد وبلاء ، حتى أنجينا هؤلاء الكلاب من عدوهم ، وحصنا حرمهم وأولادهم فتركوا أن يترحموا على العباس وعبد الله ابنه ومن ولد من الخلفاء ، وتركوا الترحم على على بن أبى طالب ، وحمزة ، وجعفر ، والحسن والحسين ، والله لا برحت أو أؤثر في تأديب هؤلاء أثرا لا يعاودون بعد هذا الفعل مثله ! ثم أمر بجمع النفاطين ليحرق الناحية فقلت له : أيها الامير ، أطال الله بقاءك ! إن هذا اليوم من أشرف أيام الاسلام ، فلا تفسده بجهل عامة لا خلاق لهم .
ولم أزل أداريه وأرفق به حتى سار .
فأما الذى يرويه الناس من أن صاحب الزنج ملك سواد بغداد ، ونزل بالمدائن ، وأن الموفق أرسل إليه من بغداد عسكرا ، وأصحبهم دنان النبيذ ، وأمرهم أن ينهزموا من بين يدى الزنج عند اللقاء ، ويتركوا خيامهم وأثقالهم لينتهبها الزنج ، وأنهم فعلوا ذلك ، فظفر الزنج فيما ظفروا به من أمتعتهم بتلك الدنان ، وكانت كثيرة جدا ، فشربوا تلك الليلة وسكروا ، وباتوا على غرة ، فكبسهم الموفق وبيتهم ليلا وهم سكارى ، فأصاب منهم ما أراد ، فباطل موضوع لا أصل له ، والذى بيتهم وهم سكارى فنال منهم نيلا تكين البخاري ، وكان على الاهواز بيت أصحاب على بن أبان في سنة خمس وستين ومائتين ، وقد أتاه الخبر بأنهم تلك الليلة قد عمل النبيذ فيهم ، والصحيح أنه لم يتجاوز نهبهم ودخولهم البلاد النعمانية .
هكذا رواه الناس كلهم .
* * * قال أبو جعفر : فأما على بن أبان وأنكلانى بن الناجم ومن أسر معهما ، فإنهم(8/213)
حملوا إلى بغداد في الحديد والقد ، فجعلوا بيد محمد بن عبد الله بن طاهر ، ومعهم غلام للموفق يقال له فتح السعيدى ، فكانوا كذلك إلى شوال من سنة اثنتين وسبعين ومائتين ، فكانت للزنج حركة بواسط ، وصاحوا : أنكلانى ، يا منصور ! وكان الموفق يومئذ بواسط ، فكتب إلى محمد بن عبد الله ، والى فتح السعيدى يأمرهما بتوجيه رءوس الزنج الذين في الاسر إليه ، فدخل فتح السعيدى إليهم ، فجعل يخرج الاول فالاول فيذبحه على البالوعة كما تذبح الشاة ، وكانوا خمسة : أنكلانى بن الناجم ، وعلى بن أبان المهلبى ، وسليمان بن جامع ، وإبراهيم بن جعفر الهمذانى ، ونادر الاسود ، وقلع رأس البالوعة وطرحت فيها أبدانهم ، وسد رأسها ، ووجه برؤوسهم إلى الموفق فنصبها بواسط ، وانقطعت حركة الزنج ، ويئس منهم .
ثم كتب الموفق إلى محمد بن عبد الله بن طاهر في جثث هؤلاء الخمسة ، فأمر بصلبهم بحضرة الجسر ، فأخرجوا من البالوعة ، وقد انتفخوا وتغيرت روائحهم ، وتقشرت جلودهم ، فصلب اثنان منهم على جانب الجسر الشرقي وثلاثة على الجانب الغربي ، وذاك لسبع بقين من شوال من هذه السنة وركب محمد بن عبد الله بن طاهر ، وهو أمير بغداد يومئذ بنفسه حتى صلبوا بحضرته ، وقد قال الشعراء في وقائع الزنج فأكثروا كالبحتري وابن الرومي وغيرهما ، فمن أراد ذلك فليأخذه من مظانه .
* * *(8/214)
الاصل : منها في وصف الانراك : منها في وصف الاتراك : كأنى أراهم قوما كأن وجوههم المجان المطرقة ، يلبسون السرق والديباج ، ويعتقبون الخيل العتاق ، ويكون هناك استحرار قتل حتى يمشى المجروح على المقتول ، ويكون المفلت أقل من المأسور .
فقال له بعض أصحابه : لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب ! فضحك عليه السلام .
وقال للرجل - وكان ؟ ؟ كلبيا : يا أخا كلب ، ليس هو بعلم غيب ، وإنما هو تعلم من ذى علم ، وإنما علم الغيب علم الساعة وما عدده الله سبحانه بقوله : (إن الله عنده علم الساعة وينزل العيث ويعلم ما في الارحام ، وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس بأى أرض تموت ...
) الاية ، فيعلم الله سبحانه ما في الارحام ، من ذكر أو أنثى ، وقبيح أو جميل ، وسخى أو بخيل ، وشقي أو سعيد ، ومن يكون النار حطبا أو في الجنان للنبيين مرافقا ، فهذا علم الغيب الذى لا يعلمه أحد إلا الله ، وما سوى ذلك فعلم علمه الله نبيه صلى الله عليه فعلمنيه ، ودعا لى بأن يعيه صدري ، وتضطم عليه جوانحي * * *(8/215)
الشرح : المجان : جمع مجن بكسر الميم ، وهو الترس ، وإنما سمى مجنا ، لانه يستتر به ، والجنة : السترة والجمع جنن ، يقال استجن بجنة ، أي استتر بسترة .
والمطرقة ، بسكون الطاء : التى قد أطرق بعضها إلى بعض ، أي ضمت طبقاتها ، فجعل بعضها يتلو بعضا ، يقال : جاءت الابل مطاريق ، أي يتلو بعضها بعضا .
والنعل المطرقة المخصوفة ، وأطرقت بالجلد والعصب ، أي ألبست ، وترس مطرق ، وطراق النعل : ما أطرقت وخرزت به .
وريش طراق ، إذا كان بعضه فوق بعض ، وطارق الرجل بين الثوبين ، إذا لبس أحدهما على الاخر ، وكل هذا يرجع إلى مفهوم واحد وهو مظاهرة الشئ بعضه بعضا .
ويروى : " المجان المطرقة " ، بتشديد الراء ، أي كالترسة المتخذة من حديد مطرق بالمطرقة .
والسرق : شقق الحرير ، وقيل : لا تسمى سرقا إلا إذا كانت بيضا ، الواحدة سرقة .
ويعتقبون الخيل ، أي يجنبونها لينتقلوا من غيرها إليها .
واستحرار القتل : شدته ، استحر وحر بمعنى ، قال ابن الزبعرى : حيث ألقت بقباء بركها * * واستحر القتل في عبد الاشل (1) والمفلت : الهارب .
يقول عليه السلام : إن الامور المستقبلة على قسمين : أحدهما ما تفرد الله تعالى بعلمه ، لم يطلع عليه أحدا من خلقه ، وهى الامور الخمسة المعدودة في الاية المذكورة : (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الارحام وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس بأى أرض تموت) .
__________
(1) طبقات الشعراء لابن سلام 199 (*) .(8/216)
والقسم الثاني ما يعلمه بعض البشر بإعلام الله تعالى إياه ، وهو ما عدا هذه الخمسة ، والاخبار بملحمة الاتراك من جملة ذلك .
وتضطم عليه جوانحي تفتعل ، من الضم ، وهو الجمع أي يجتمع عليه جوانح صدري ، ويروى : " جوارحي " ، وقد روى أن إنسانا قال لموسى بن جعفر عليه السلام : إنى رأيت الليله في منامي أنى سألتك : كم بقى من عمرى ؟ فرفعت يدك اليمنى ، وفتحت أصابعها في وجهى مشيرا إلى ، فلم أعلم خمس سنين ، أم خمسة أشهر ، أم خمسة أيام ! فقال : ولا واحدة منهن ، بل ذاك إشارة إلى الغيوب الخمسة التى استأثر الله تعالى بها في قوله : (إن الله عنده علم الساعة ...
) الاية .
فإن قلت : لم ضحك عليه السلام لما قال له الرجل : " لقد أوتيت علم الغيب " ؟ وهل هذا إلا زهو في النفس ، وعجب بالحال ! قلت : قد روى أن رسول الله صلى الله عليه وآله ضحك في مناسب هذه الحال لما استسقى فسقى وأشرف درور المطر ، فقام إليه الناس فسألوه أن يسأل الله تعالى أن يحبسه عنهم ، فدعا ، وأشار بيده إلى السحاب ، فانجاب حول المدينة كالاكليل ، وهو عليه السلام يخطب على المنبر ، فضحك حتى بدت نواجذه ، وقال : أشهد أنى رسول الله ، وسر هذا الامر أن النبي أو الولى إذا تحدث عنده نعمة الله سبحانه ، أو عرف الناس وجاهته عند الله ، فلا بد أن يسر بذلك وقد يحدث الضحك من السرور ، وليس ذلك بمذموم إذا خلا من التيه والعجب ، وكان محض السرور والابتهاج ، وقد قال تعالى في صفة أوليائه : (فرحين بما آتاهم الله من فضله) (1) .
فإن قلت فإن من جملة الخمسة : (وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا) ، وقد أعلم
__________
(1) سورة آل عمران 170 (*) .(8/217)
الله تعالى نبيه بأمور يكسبها في غده ، نحو قوله : " ستفتح مكة " ، وأعلم نبيه وصيه عليه السلام بما يكسبه في غده ، نحو قوله له : ستقاتل بعدى الناكثين ...
" ، الخبر .
قلت المراد بالاية أنه لا تدرى نفس جميع ما تكسبه في مستقبل زمانها ، وذلك لا ينفى جواز أن يعلم الانسان بعض ما يكسبه في مستقبل زمانه .
[ فصل في ذكر جنكز خان وفتنه التتر ] وأعلم أن هذا الغيب الذى أخبر عليه السلام عنه قد رأيناه نحن عيانا ، ووقع في زماننا ، وكان الناس ينتظرونه من أول الاسلام ، حتى ساقه القضاء والقدر إلى عصرنا ، وهم التتار الذين خرجوا من أقاصى المشرق حتى وردت خيلهم العراق والشام ، وفعلوا بملوك الخطا وقفجاق ، وببلاد ما وراء النهر ، وبخراسان وما والاها من بلاد العجم ، ما لم تحتو التواريخ منذ خلق الله تعالى آدم إلى عصرنا هذا على مثله ، فإن بابك الخرمى لم تكن نكايته وأن طالت مدته نحو عشرين سنة إلا في إقليم واحد وهو أذربيجان ، وهؤلاء دوخوا المشرق كله ، وتعدت نكايتهم إلى بلاد إرمينية وإلى الشام ، ووردت خيلهم إلى العراق ، وبخت نصر الذى قتل اليهود إنما أخرب بيت المقدس ، وقتل من كان بالشام من بنى إسرائيل ، وأى نسبة بين من كان بالبيت المقدس من بنى إسرائيل إلى البلاد والامصار التى أخربها هؤلاء وإلى الناس الذين قتلوهم من المسلمين وغيرهم (1) * * *
__________
(1) ذكر ابن الاثير هذه الحادثة في تاريخه (حوادث سنة 617 وما بعدها) ، وقال في أولها : " لقد بقيت عدة سنين معرضا عن ذكر هذه الحادثة استعظاما لها ، كارها لذكرها ، فأنا أقدم إليه رجلا وأؤخر أخرى فمن الذى يسهل عليه أن يكتب نعى الاسلام والمسلمين ! ومن ذا الذى يهون عليه ذكر ذلك ! فياليت أمي لم تلدني ، وبالبتنى مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ! إلا أنى حثني جماعة من الاصدقاء على تسطيرها ، وأنا متوقف ، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدى نفعا " (*) .(8/218)
ونحن نذكر طرفا من أخبارهم وابتداء ظهورهم على سبيل الاختصار ، فنقول : إنا على كثرة إشتغالنا بالتواريخ وبالكتب المتضمنة أصناف الامم ، لم نجد ذكر هذه الامة أصلا ، ولكنا وجدنا ذكر أصناف الترك من ، القفجاق ، واليمك ، والبرلو ، والتفريه ، واليتبه ، والروس ، والخطا ، والقرغز ، والتركمان ، ولم يمر بنا في كتاب ذكر هذه الامة سوى كتاب واحد ، وهو كتاب " مروج الذهب " للمسعودي فإنه ذكرهم هكذا بهذا اللفظ " التتر " ، والناس اليوم يقولون : " التتار " بألف ، وهذه الامة كانت في أقاصى بلاد المشرق في جبال " طمغاج " من حدود الصين ، وبينهم وبين بلاد الاسلام التى ما وراء النهر ما يزيد على مسير ستة أشهر ، وقد كان خوارزمشاه ، وهو محمد بن تكش استولى على بلاد ما وراء النهر ، وقتل ملوكها من الخطا الذين كانوا ببخارى وسمرقند وبلاد تركستان ، نحو كاشغر ، وبلاساغون وأفناهم ، وكانوا حجابا بينه وبين هذه الامة ، وشحن هذه البلاد بقواده وجنوده ، وكان في ذلك غالطا ، لان ملوك الخطا كانوا وقاية له ومجنا من هؤلاء ، فلما أفناهم ، صار هو المتولي لحرب هؤلاء أو سلمهم ، فأساء قواده وأمراؤه الذين بتركستان السيرة معهم ، وسدوا طرق التجارة عنهم ، فانتدبت منهم طائفه نحو عشرين ألفا مجتمعة ، كل بيت منها له رئيس مفرد ، فهم متساندون ، وخرجوا إلى بلاد تركستان ، فأوقعوا بقواد خوارزمشاه وعماله هناك ، وملكوا البلاد ، وتراجع من بقى من عسكر خوارزمشاه ، وسلم من سيف التتار إلى خوارزمشاه ، فأغضي على ذلك ، ورأى أن سعه ملكه تمنعه عن مباشرة حربهم بنفسه وأن غيره من قواده لا يقوم مقامه في ذلك وترك بلاد تركستان لهم ، واستقر الامر على أن تركستان لهم ، وما عداها من بلاد ما وراء النهر كسمرقند وبخاري وغيرهما لخوارزمشاه ، فمكثوا كذلك نحو أربع سنين .(8/219)
ثم إن المعروف بجنكز خان - والناس يلفظونه بالراء وذكر لى جماعة من أهل المعرفة بأحوال التتر أنه " جنكز " بالزاى المعجمة - عن له رأى في النهوض إلى بلاد تركستان ، وذلك أن جنكز خان هذا هو رئيس التتار الاقصين في المشرق ، وابن رئيسهم ، وما زال سلفه رؤساء تلك الجهة ، وكان شجاعا عاقلا موفقا منصورا في الحرب ، وإنما عن له هذا الرأى ، لانه رأى أن طائفة من التتار - لا ملك لهم - وإنما يقوم بكل فرقة منهم مدبر لها من أنفسها - قد نهضت فملكت بلاد تركستان على جلالتها غار من ذلك ، وأراد الرياسة العامة لنفسه ، وأحب الملك ، وطمع في البلاد ، فنهض بمن معه من أقاصى الصين ، حتى صار إلى حدود أعمال تركستان ، فحاربه التتار الذين هناك ، ومنعوه عن تطرق البلاد ، فلم يكن لهم به طاقة ، وهزمهم وقتل كثيرا منهم ، وملك بلاد تركستان بأجمعها ، وصار كالمجاور لبلاد خوارزمشاه ، وإن كان بينهما مسافة بعيدة ، وصار بينه وبين خوارزمشاه سلم ومهادنه ، إلا أنها هدنة على دخن .
فمكثت الحال على ذلك يسيرا ، ثم فسدت بما كان يصل إلى خوارزمشاه على ألسنة التجار من الاخبار ، وأن جنكز خان على عزم النهوض إلى سمرقند وما يليها ، وأنه في التأهب والاستعداد ، فلو داراه لكان أولى له ، لكنه شرع فسد طرق التجار القاصدين إليهم ، فتعذرت عليهم الكسوات ، ومنع عنهم الميرة والاقوات التى تجلب وتحمل من أعمال ما وراء النهر إلى تركستان ، فلوا قتنع بذلك لكان قريبا ، لكنه أنهى إليه نائبه بالمدينة المعروفة بأوتران ، وهى آخر ولايته بما وراء النهر ، أن جنكز خان قد سير جماعة من تجار التتار ، ومعهم شئ عظيم من الفضة إلى سمرقند ، ليشتروا له ولاهله وبنى عمه كسوة وثيابا وغير ذلك .(8/220)
فبعث إليه خوارزمشاه يأمره بقتل أولئك التجار ، وأخذ ما معهم من الفضة وإنفاذها إليه ، فقتلهم وسير إليه الفضة .
وكان ذلك شيئا كثيرا جدا ، ففرقه خوارزمشاه على تجار سمرقند وبخاري ، وأخذ ثمنه منهم لنفسه .
ثم علم أنه قد أخطأ ، فأرسل إلى نائبه بأوتران ، يأمره أن ينفذ جواسيس من عنده إليهم ، ليخبروه بعدتهم ، فمضت الجواسيس ، وسلكت مفاوز وجبالا كثيرة ، وعادوا إليه بعد مدة ، فأخبروه بكثرة عددهم ، وأنهم لا يبلغهم الاحصاء ولا يدركهم ، وأنهم من أصبر الناس على القتال : لا يعرفون الفرار ، ويعملون ما يحتاجون إليه من السلاح بأيديهم ، وأن خيلهم لا تحتاج إلى الشعير ، بل تأكل نبات الارض وعروق المراعى ، وأن عندهم من الخيل والبقر مالا يحصى ، وأنهم يأكلون الميتة والكلاب والخنازير وهم أصبر خلق الله على الجوع والعطش والشقاء ، وثيابهم من أخشن الثياب مسا ، ومنهم من يلبس جلود الكلاب والدواب الميتة ، وأنهم أشبه شئ بالوحش والسباع .
فأنهى ذلك كله إلى خوارزمشاه ، فندم على قتل أصحابهم ، وعلى خرق الحجاب بينه وبينهم ، وأخذ أموالهم ، وغلب عليه الفكر والوجل ، فأحضر الشهاب لخيوفى ، وهو فقيه فاضل كبير المحل عنده ، لا يخالف ما يشير به ، فقال له : قد حدث أمر عظيم لابد من الفكر فيه ، وإجالة الرأى فيما نفعل وذلك أنه قد تحرك إلينا خصم من الترك في عدد لا يحصى ، فقال له : عساكرك كثيرة ، وتكاتب الاطراف ، وتجمع الجنود ، ويكون من ذلك نفير عام ، فإنه يجب على المسلمين كافة مساعدتك بالاموال والرجال ، ثم تذهب بجميع العساكر إلى جانب سيحون ، وهو نهر كبير يفصل بين بلاد الترك وبين بلاد خوارزمشاه ، فتكون هناك ، فإذا جاء العدو وقد سار مسافة بعيدة ، لقيناه ونحن جامون مستريحون ، وقد مسه وعساكره النصب واللغوب .(8/221)
فجمع خوارزمشاه أمراءه ، ومن عنده من أرباب المشورة ، فاستشارهم فقالوا : لا بل الرأى أن نتركهم ليعبروا سيحون إلينا ، ويسلكوا هذه الجبال والمضايق ، ، فإنهم جاهلون بطرقها ، ونحن عارفون بها ، فنظهر عليهم ، ونهلكهم عن آخرهم .
فكانوا على ذلك حتى وصل رسول من جنكز خان ومعه جماعة ، يتهدد خوارزمشاه ، ويقول : تقتل أصحابي وتجارى ، وتأخذ مالى منهم ! استعد للحرب ، فإنى واصل إليك بجمع لا قبل لك به .
* * * فلما أدى هذه الرسالة إلى خوارزمشاه أمر بقتل الرسول فقتل ، وحلق لحى الجماعة الذين كانوا معه ، وأعادهم إلى صاحبهم جنكز خان ليخبروه بما فعل بالرسول ، ويقولوا له : إن خوارزمشاه يقول لك : إنى سائر إليك ، فلا حاجة لك أن تسير إلى ، فلو كنت في آخر الدنيا لطلبتك حتى أقتلك ، وأفعل بك وبأصحابك ما فعلت برسلك .
وتجهز خوارزمشاه ، وسار بعد نفوذ الرسول ، مبادرا لسبق خبره ، ويكبس (1) التتار على غرة ، فقطع مسيرة أربعه أشهر في شهر واحد ، ووصل إلى بيوتهم وخر كاواتهم (2) ، فلم ير فيها إلا النساء والصبيان والاثقال ، فأوقع بهم ، وغنم الجميع ، وسبى النساء والذرية .
وكان سبب غيبوبة التتار عن بيوتهم أنهم ساروا إلى محاربة ملك من ملوك الترك ، يقال له " كشلوخان " ، فقاتلوه فهزموه ، وغنموا أمواله ، وعادوا ، فلقيهم الخبر في طريقهم بما فعل خوارزمشاه بمخلفيهم ، فأغذوا السير فأدركوه ، وهو على الخروج من بيوتهم .
__________
(1) يقال : كبس القوم دار فلان ، إذا هحموا عليها فجأة واحتاطوها .
(2) الخركاة : الخيمة الكبيرة ، المدورة الشكل (أنظر ديميزون) (*) .(8/222)
بعد فراغه من الغنيمة فواقعوه وتصافوا للحرب ثلاثة أيام بلياليها ، لا يفترون نهارا ولا ليلا ، فقتل من الفريقين ما لا يعد ، ولم ينهزم منهم أحد .
أما المسلمون فصبروا حمية للدين ، وعلموا أنهم إن أنهزموا لم يبق للاسلام باقية ، ثم إنهم لا ينجون ، بل يؤخذون ويؤسرون لبعدهم عن بلاد يمتنعون بها ، وأما التتار فصبروا لاستنقاذ أموالهم وأهلهم ، واشتد الخطب بين الطائفتين ، حتى إن أحدهم كان ينزل عن فرسه ، ويقاتل قرنه راجلا ، مضاربة بالسكاكين ، وجرى الدم على الارض ، حتى كانت الخيل تزلق فيه لكثرته ، ولم يحضر جنكز خان بنفسه هذه الوقعة ، وإنما كان فيها قاآن ولده ، فأحصى من قتل من المسلمين فكانوا عشرين ألفا ، ولم يحص عدة من قتل من التتار .
فلما جاءت الليله الرابعة افترقوا فنزل بعضهم مقابل بعض ، فلما أظلم الليل ، أوقد التتار نيرانهم ، وتركوها بحالها ، وساروا راجعين إلى جنكزخان ملكهم ، و أما المسلمون فرجعوا ومعهم محمد خوارزمشاه ، فلم يزالوا سائرين حتى وافوا بخارى ، وعلم خوارزمشاه انه لا طاقة له بجنكز خان لان طائفه من عسكره لم يلقوا خوارزمشاه بجميع عساكره بهم ، فكيف إذا حشدوا وجاءوا على (1) بكرة أبيهم ، وملكهم جنكزخان بينهم .
فاستعد للحصار ، وأرسل إلى سمرقند يأمر قواده المقيمين بها بالاستعداد للحصار ، وجمع الذخائر للامتناع والمقام من وراء الاسوار ، وجعل في بخارى عشرين ألف فارس ، يحمونها وفي سمرقند خمسين ألفا ، وتقدم إليهم بحفظ البلاد حتى يعبر هو إلى خوارزم وخراسان ، فيجمع العساكر ، ويستنجد بالمسلمين والغزاة المطوعة ويعود إليهم .
__________
(1) في الاصول " عن " وصواب المثل ما ذكرته .
وانظر مجمع الامثال 1 : 176 (*) .(8/223)
ثم رحل إلى خراسان ، فعبر جيحون ، وكانت هذه الوقعة في سنه ست عشرة وستمائة فنزل بالقرب من بلخ ، فعسكر هناك ، واستنفر الناس .
وأما التتار فإنهم رحلوا بعد أن استعدوا يطلبون بلاد ما وراء النهر فوصلوا إلى بخارى بعد خمسة أشهر من رحيل خوارزمشاه عنها وحصروها ، فقاتلوا العسكر المرابط بها ثلاثة أيام قتالا متتابعا ، فلم يكن للعسكر الخوارزمي بهم قوة ، ففتحوا أبواب المدينة ليلا ، وخرجوا بأجمعهم عائدين إلى خراسان فاصبح أهل بخارى وليس عندهم من العسكر أحد أصلا ، فضعفت نفوسهم ، فأرسلوا قاضى بخارى (1) ليطلب الامان للرعية فأعطاه التتار الامان ، وقد كان بقى في قلعة بخارى خاصة طائفة من عسكر خوارزمشاه معتصمون بها .
فلما رأى أهل بخارى بذلهم للامان فتحوا أبواب المدينة ، وذلك في رابع ذى الحجة من سنة ست عشرة وستمائة فدخل التتار (2) بخارى ، ولم يتعرضوا لاحد من الرعية بل قالوا لهم : كل ما لخوارزمشاه عندكم من وديعة أو ذخيرة أخرجوه إلينا وساعدونا على قتال من بالقلعة ولا بأس عليكم .
وأظهروا فيهم العدل وحسن السيرة ودخل جنكزخان بنفسه إلى البلد ، وأحاط بالقلعة ، ونادى مناديه في البلدان : لا يتخلف أحد ، ومن تخلف قتل .
فحضر الناس بأسرهم ، فأمرهم بطم الخندق فطموه بالاخشاب والاحطاب والتراب ، ثم زحفوا نحو القلعة وكان عدة من بها من الجند الخوارزمية أربعمائة إنسان ، فبذلوا جهدهم ، ومنعوا القلعة عشرة أيام إلى أن وصل النقابون إلى سور القلعة ، فنقبوه ودخلوا القلعة ، فقتلوا كل من بها من الجند وغيرهم .
__________
(1) في ابن الاثير : " وهو بدر الدين قاضيحان " .
(2) ابن الاثير : " فدخل الكفار " (*) .(8/224)
فلما فرغوا منها أمر جنكز خان أن يكتب له وجوه البلد ورؤساؤهم ففعل ذلك ، فلما عرضوا عليه أمر بإحضارهم ، فأحضروا ، فقال لهم : أريد منكم الفضة النقرة (1) التى باعها إياكم خوارزمشاه ، فإنها لى ومن أصحابي أخذت فكان كل من عنده شئ منها يحضره ، فلما فرغ من ذلك أمرهم بالخروج عن البلد بأنفسهم خاصة ، فخرجوا مجردين عن أموالهم ، ليس مع كل واحد منهم إلا ثيابه التى على جسده فامر بقتلهم ، فقتلوا عن آخرهم ، وأمر حينئذ بنهب البلد فنهب كل ما فيه ، وسبيت النساء والاطفال ، وعذبوا الناس بأنواع العذاب في طلب المال ، ثم رحلوا عنه نحو سمرقند ، وقد تحققوا عجز خوارزمشاه عنهم ، واستصحبوا معهم من سلم من أهل بخارى أسارى مشاة على أقبح صورة ، وكل من أعيا وعجز عن المشى قتلوه .
فلما قاربوا سمرقند ، قدموا الخيالة ، وتركوا الرجالة والاسارى والاثقال وراءهم ، حتى يلتحقوا بهم شيئا فشيئا ، ليرعبوا قلوب أهل البلد ، فلما رأى أهل سمرقند سوادهم ، استعظموهم ، فلما كان اليوم الثاني وصل الاسارى والرجالة والاثقال ، ومع كل عشرة من الاسارى علم ، فظن أهل البلد أن الجميع عسكر مقاتلة ، فأحاطوا بسمرقند ، وفيها خمسون ألفا من الخوارزمية ، وما لا يحصى كثرة من عوام البلد ، فأحجم العسكر الخوارزمي عن الخروج إليهم ، وخرجت العامة بالسلاح ، فاطمعهم التتار في أنفسهم ، وقهقروا عنهم وقد كمنوا لهم كمناء ، فلما جاوزوا الكمين خرج عليهم من ورائهم وشد عليهم من ورائهم جمهور التتار فقتلوهم عن آخرهم .
فلما رأى من تخلف بالبلد ذلك ضعفت قلوبهم ، وخيلت للجند الخوارزمي أنفسهم
__________
(1) النقرة : القطعة المذابة من الفضة أو الذهب (*) .(8/225)
أنهم أن استأمنوا إلى التتار أبقوا عليهم للمشاركة في جنسية التركية ، فخرجوا بأموالهم وأهليهم إليهم مستأمنين ، فأخذوا سلاحهم وخيلهم ، ثم وضعوا السيف فيهم ، فقتلوهم كلهم ، ثم نادوا في البلد : برئت الذمة ممن لم يخرج ، ومن خرج فهو آمن .
فخرج الناس إليهم بأجمعهم ، فاختلطوا عليهم ، ووضعوا فيهم السيف ، وعذبوا الاغنياء منهم ، واستصفوا أموالهم ، ودخلوا سمرقند ، فأخربوها ، ونقضوا دورها ، وكانت هذه الوقعة في المحرم سنة سبع عشرة وستمائة .
* * * وكان خوارزم شاه مقيما بمنزله الاول ، كلما اجتمع له جيش سيره إلى سمرقند فيرجع ولا يقدم على الوصول إليها ، فلما قضوا وطرا من سمرقند ، سير جنكزخان عشرين ألف فارس ، وقال لهم : اطلبوا خوارزمشاه أين كان ، ولو تعلق بالسماء ، حتى تدركوه وتأخذوه ! وهذه الطائفة تسميها التتار المغربة لانها سارت نحو غرب خراسان ، وهم الذين أو غلوا في البلاد ومقدمهم جرماغون ، نسيب جنكز خان .
وحكى أن جنكز خان كان قد أمر على هذا الجيش ابن عم له شديد الاختصاص به ، يقال له متكلى نويرة وأمره بالجد وسرعه المسير ، فلما ودعه ، عطف متكلى نويرة هذا فدخل إلى خركاة فيها امرأة له كان يهواها ليودعها ، فاتصل ذلك بجنكز خان ، فصرفه في تلك الساعة عن إمارة الجيش ، وقال : من يثنى عزمه امرأة ، لا يصلح لقيادة الجيوش ، ورتب مكانه جرماغون ، فساروا وقصدوا من جيحون موضعا يسمى " بنج آب " أي خمس مياه ، وهو يمنع العبور ، فلم يجدوا به سفنا ، فعملوا من الخشب مثل الاحواض الكبار ، ولبسوه جلود البقر ، ووضعوا فيه أسلحتهم ، وأقحموا خيولهم الماء ، وأمسكوا بأذنابها(8/226)
وتلك الاحواض مشدودة إليها ، فكان الفرس يجذب الرجل ، والرجل يجذب الحوض ، فعبروا كلهم ذلك الماء دفعة واحدة ، فلم يشعر خوارزمشاه بهم إلا وهم معه على أرض واحدة ، وكان جيشه قد ملئ رعبا منهم ، فلم يقدروا على الثبات ، فتفرقوا أيدى سبأ ، وطلب كل فريق منهم جهة ، ورحل خوارزمشاه في نفر من خواصه ، لا يلوى على شئ ، وقصد نيسابور ، فلما دخلها اجتمع عليه بعض عسكره فلم يستقر ، حتى وصل جرماغون إليه ، وكان لا يتعرض في مسيره بنهب ولا قتل ، بل يطوى المنازل طيا ، يطلب خوارزمشاه ولا يمهله ليجمع عسكرا ، فلما عرف قرب التتار منه ، هرب من نيسابور إلى مازندران ، فدخلها ورحل جرماغون خلفه ، ولم يعرج على نيسابور ، بل قصد مازندران (1) ، فخرج خوارزم شاه عنها ، فكان كلما رحل عن منزل نزله التتار ، حتى وصل إلى بحر طبرستان ، فنزل هو وأصحابه في سفن ، ووصل التتار ، فلما عرفوا نزوله البحر ، رجعوا وأيسوا منه .
وهؤلاء الذين ملكوا عراق العجم وأذربيجان فاقاموا بناحية تبريز إلى يومنا هذا .
* * * ثم اختلف في أمر خوارزم شاه ، فقوم يحكون أنه أقام بقلعة له في بحر طبرستان منيعة ، فتوفى بها ، وقوم يحكون أنه غرق في البحر ، وقوم يحكون أنه غرق ونجا عريانا ، فصعد إلى قرية من قرى طبرستان ، فعرفه أهلها فجاءوا وقبلوا الارض بين يديه ، وأعلموا عاملهم به ، فجاء إليه وخدمه ، فقال له خوارزمشاه : أحملني في مركب إلى الهند ، فحمله إلى شمس الدين أنليمش ملك الهند ، وهو نسيبه من جهة زوجته والدة منكبونى بن خوارزمشاه الملك جلال الدين ، فإنها هندية من أهل بيت الملك ، فيقال إنه وصل إلى أنليمش ، وقد تغير
__________
(1) مازندران : اسم ولاية بطبرستان (*) .(8/227)
عقله مما اعتراه من خوف التتار ، أو لامر سلطه الله تعالى عليه فكان يهذى بالتتار بكرة وعشيه ، وكل وقت وكل ساعة ويقول هو ذا هم قد خرجوا من هذا الباب ، قد هجموا من هذه الدرجة ، ويرعد ويحول لونه ، ويختل كلامه وحركاته .
وحكى لى فقيه خراساني وصل إلى بغداد يعرف بالبرهان ، قال كان أخى معه ، وكان ممن يثق خوارزم شاه به ، ويختصه ، قال لهج خوارزم شاه لما تغير عقله بكلمة كان يقولها : " قراتتر كلدى " يكررها ، وتفسيرها : " التتر السود قد جاؤوا " ، وفي التتر صنف سود يشبهون الزنج ، لهم سيوف عريضة جدا على غير صورة هذه السيوف ، يأكلون لحوم الناس فكان خوارزم شاه قد أهتر وأغرى بذكرهم .
وحدثني البرهان ، قال : رقى به شمس الدين أنليمش إلى قلعة من قلاع الهند ، حصينة عالية شاهقة لا يعلوها الغيم أبدا ، وإنما تمطر السحب من تحتها .
وقال له : هذه القلعة لك وذخائرها أموالك ، فكن فيها وادعا آمنا إلى أن يستقيم طالعك ، فالملوك ما زالوا هكذا ، يدبر طالعهم ثم يقبل فقال له : لا أقدر على الثبات فيها ، والمقام بها ، لان التتر سوف يطلبونني ، ويقدمون إلى هاهنا ، ولو شاءوا لوضعوا سروج خيلهم واحدا على واحد تحت القلعة ، فبلغت إلى ذروتها ، وصعدوا عليها ، فأخذوني قبضا باليد ، فعلم أنليمش أن عقله قد تغير ، وأن الله تعالى قد بدل ما به من نعمة فقال : فما الذى تريد ؟ قال : أريد أن تحملني في البحر المعروف ببحر المعبر إلى كرمان ، فحمله في نفر يسير من مماليكه إلى كرمان ، ثم خرج منها إلى أطراف بلاد فارس ، فمات هناك في قرية من قرى فارس ، وأخفى موته ، لئلا يقصده التتر ، وتطلب جثته (1) .
__________
(1) في ابن الاثير 9 : 334 فصل واف عن خوارزم شاه وسيرته (*) .(8/228)
وجملة الامر أن حاله مشتبهة ملتبسة لم يتحقق على يقين وبقى الناس بعد هلاكه نحو سبع سنين ينتظرونه .
ويذهب كثير منهم إلى أنه حى مستتر ، إلى أن ثبت عند الناس كافة أنه هلك .
* * * فأما ، جرماغون فانه لما يئس من الظفر بخوارزم شاه ، عاد من ساحل البحر إلى مازندران ، فملكها في أسرع وقت ، مع حصانتها وصعوبة الدخول إليها وامتناع قلاعها ، فإنها لم تزل ممتنعه على قديم الوقت ، حتى إن المسلمين لما ملكوا بلاد الاكاسرة من العراق إلى أقصى خراسان ، بقيت أعمال مازندران بحالها تؤدى الخراج ، ولا يقدر المسلمون على دخولها إلى أيام سليمان بن عبد الملك .
ولما ملكت التتار مازندران ، قتلوا فيها ونهبوا وسلبوا ، ثم سلكوا نحو الرى فصادفوا في الطريق والدة خوارزم شاه ونساءه ، ومعهن أموال بيت خوارزم شاه وذخائرهم ، التى ما لا يسمع بمثلها من الاعلاق النفيسة ، وهن قاصدات نحو الرى ، ليعتصمن ببعض القلاع المنيعة ، فاستولى التتار عليهن وعلى ما معهن بأسره ، وسيروه كله إلى جنكزخان بسمرقند وصمدوا صمد الرى ، وقد كان أتصل بهم أن محمدا خوارزم شاه قصدها كما يتسامع الناس بالاراجيف الصحيحة والباطلة ، فوصلوها على حين غفلة من أهلها ، فلم يشعر بهم عسكر الرى إلا وقد ملكوها ونهبوها ، وسبوا الحرم ، واسترقوا الغلمان ، وفعلوا كل قبيح منكر فيها ، ولم يقيموا بها ، ومضوا مسرعين في طلب خوارزم شاه ، فنهبوا في طريقهم ما مروا به من المدن والقرى ، وأحرقوا وخربوا ، وقتلوا الذكران والاناث ، ولم يبقوا على شئ ، وقصدوا نحو همذان ، فخرج إليهم رئيسها ، ومعه أموال جليلة قد جمعها من أهل همذان ، عينا وعروضا وخيلا ، وطلب منهم الامان لاهل البلد ، فأمنوهم ، ولم يعرضوا لهم(8/229)
وساروا إلى زنجان ، واستباحوها ، وإلى قزوين فاعتصم أهلها منهم بقصبه مدينتهم ، فدخلوها بالسيف عنوة ، وقاتلهم أهلها قتالا شديدا بالسكاكين ، وهم معتادون بقتال السكين من حروبهم مع الاسماعيلية ، فقتل من الفريقين مالا يحصى .
ويقال .
إن القتلى بلغت أربعين ألفا من أهل قزوين خاصة .
ثم هجم على التتار البرد الشديد ، والثلج المتراكم ، فساروا إلى أذربيجان ، فنهبوا القرى ، وقتلوا من وقف بين أيديهم ، وأخربوا وأحرقوا ، حتى وصلوا إلى تبريز ، وبها صاحب أذربيجان أزبك بن البهلوان بن أيلدكر ، فلم يخرج إليهم ، ولا حدث نفسه بقتالهم ، لاشتغاله بما كان عليه من اللهو وإدمان الشرب ليلا ونهارا .
فأرسل إليهم ، وصالح لهم على مال وثياب ودواب ، وحمل الجميع إليهم ، فساروا من عنده يطلبون ساحل البحر ، لانه مشتى صالح لهم والمراعى به كثيرة ، فوصلوا إلى موقان ، وهى المنزل الذى نزلته الخرمية في أيام المعتصم ، وقد ذكره الطائيان في أشعارهما في غير موضع ، والناس اليوم يقولون بالغين المعجمة عوض القاف ، وقد كانوا تطرقوا في طريقهم بعض أعمال الكرج ، فخرج إليهم منهم عشرة آلاف مقاتل ، فحاربوهم وهزموهم ، وقتلوا أكثرهم .
فلما استقروا بموقان ، راسلت الكرج أزبك بن البهلوان في الاتفاق على حربهم ، وراسلوا موسى بن أيوب المعروف بالاشرف ، وكان صاحب خلاط وأرمينية بمثل ذلك ، وظنوا أنهم يصبرون إلى أيام الربيع وانحسار الثلوج ، فلم يصبروا وصاروا من موقان في صميم الشتاء نحو بلاد الكرج ، فخرجت إليهم الكرج ، واقتتلوا قتالا شديدا ، فلم يثبتوا للتتار ، وانهزموا أقبح هزيمة وقتل منهم من لا يحصى ، فكانت هذه الوقعة في ذي الحجة من سنة سبع عشرة وستمائة .
* * *(8/230)
ثم توجهوا إلى المراغة في أول سنة ثمانى عشرة فملكوها في صفر ، وكانت لامرأة من بقايا ملوك المراغة تدبرها هي ووزراؤها فنصبوا عليها المجانيق ، وقدموا أسارى المسلمين بين أيديهم وهذه عادتهم يتترسون بهم في الحروب ، فيصيبهم حدها ، ويسلمون هم من مضرتها ، فملكوها عنوة ، ووضعوا السيف في أهلها ونهبوا ما يصلح لهم ، وأحرقوا ما لا يصلح لهم ، وخذل الناس عنهم ، حتى كان الواحد منهم يقتل بيده مائة إنسان ، والسيوف في أيديهم لا يقدر أحد منهم أن يحرك يده بسيفه نحو ذلك التترى ، خذلان صب على الناس ، وأمر سمائي اقتضاه .
ثم عادوا إلى همذان ، فطالبوا أهلها بمثل المال الذى بذلوه لهم في الدفعة الاولى ، فلم يكن في الناس فضل لذلك ، لانه كان عظيما جدا ، فقام إلى رئيس همذان جماعة من أهلها ، وأسمعوه كلاما غليظا فقالوا : أفقرتنا أولا ، وتريد أن تستصفينا دفعة ثانية ! ثم لابد للتتار أن يقتلونا فدعنا نجاهدهم بالسيف ، ونموت كراما .
ثم وثبوا على شحنة كان للتتار بهمذان فقتلوه ، واعتصموا بالبلد فحصرهم التتار فيه ، فقلت عليهم الميرة ، وعدمت الاقوات .
وأضر ذلك بأهل همذان ، ولم ينل التتار مضرة من عدم القوت ، لانهم لا يأكلون إلا اللحم ، والخيل معهم كثيرة ومعهم غنم عظيمه يسوقونها حيث شاءوا وخيلهم لا تأكل الشعير ، ولا تأكل إلا نبات الارض ، تحفر بحوافرها الارض عن العروق ، فتأكلها .
فاضطر رئيس همذان وأهلها إلى الخروج إليهم فخرجوا ، والتحمت الحرب بينهم أياما وفقد رئيس همذان ، هرب في سرب قد كان أعده إلى موضع اعتصم به ظاهر البلد ، ولم يعلم حقيقة حاله ، فتحير أهل همذان بعد فقده ودخلوا لمدينة ، واجتمعت كلمتهم على القتال في قصبه البلد إلى أن يموتوا .
وكان التتار قد عزموا على الرحيل عنهم ، لكثرة من قتل منهم فلما لم يروا أحدا يخرج إليهم من البلد ، طمعوا واستدلوا على ضعف أهله فقصدوهم وقاتلوهم(8/231)
وذلك في شهر رجب من سنة ثمان عشرة وستمائة ، ودخلوا المدينة بالسيف ، وقاتلهم الناس في الدروب ، وبطل السلاح للازدحام ، واقتتلوا بالسكاكين ، فقتل من الفريقين ما لا يحصى ، وظهر التتار على المسلمين فأفنوهم قتلا ، ولم يسلم منهم إلا من كان له نفق في الارض يستخفى فيه .
ثم ألقوا النار في البلد فأحرقوها ، ورحلوا إلى مدينة أردبيل وأعمال أذربيجان فملكوا أردبيل ، وقتلوا فيها ، فأكثروا .
ثم ساروا إلى تبريز ، وكان بها شمس الدين عثمان الطغرائي ، قد جمع كلمة أهلها بعد مفارقة صاحب أذربيجان أزبك بن البهلوان للبلاد خوفا من التتار ومقامه بنقجوان فقوى الطغرائي نفوس الناس على الامتناع ، وحذرهم عاقبة التخاذل ، وحصن البلد .
فلما وصل التتار ، ورأوا إجتماع كلمة المسلمين وحصانة البلد ، طلبوا منهم مالا وثيابا ، فاستقر الامر بينهم على شئ معلوم ، فسيروه إليهم ، فلما أخذوه رحلوا إلى بيلقان ، فقاتلهم أهلها .
فملكها التتار في شهر رمضان من هذه السنة ، ووضعوا فيهم السيف حتى أفنوهم أجمعين .
ثم ساروا إلى مدينة كنجة ، وهى أم بلاد أران ، وأهلها ذوو شجاعة وبأس وجلد ، لمقاومتهم الكرج ، وتدربهم بالحرب ، فلم يقدر التتار عليهم ، وأرسلوا إليهم يطلبون مالا وثيابا ، فأرسلوه إليهم ، فساروا عنهم ، فقصدوا الكرج ، وقد أعدوا لهم فلما صافوهم هرب الكرج ، وأخذهم السيف فلم يسلم إلا الشريد ، ونهبت بلادهم وأخربت ولم يوغل التتار في بلاد الكرج ، لكثرة مضايقها ودربنداتها (1) ، فقصدوا دربند شروان فحصروا مدينة شماخى ، وصعدوا سورها في السلاليم ، وملكوا البلد بعد حرب شديد ، وقتلوا فيه فأكثروا (2)
__________
(1) الدربند : الباب وانظر معجم البلدان .
(2) ابن الاثير 9 : 340 (*) .(8/232)
فلما فرغوا ، أرادوا عبور الدربند ، فلم يقدموا عليه ، فأرسلوا إلى شروان شاه ملك الدربند ، فطالبوه بإنفاذ رسول يسعى بينه وبينهم في الصلح ، فأرسل إليهم عشرة من ثقاته فلما وصلوا إليهم جمعوهم ، ثم قتلوا واحدا منهم بحضور الباقين وقالوا للتسعة : إن أنتم عرفتمونا طريقا نعبر فيه فلكم الامان ، وإلا قتلناكم كما قتلنا صاحبكم فقالوا .
لهم : لا طريق في هذا الدربند ، ولكن نعرفكم موضعا هو أسهل المواضع لعبور الخيل .
وساروا بين أيديهم إليه ، فعبروا الدربند ، وتركوه وراء ظهورهم ، وساروا في تلك البلاد ، وهى مملوءة من طرائق مختلفه منهم اللان واللكر وأصناف من الترك ، فنهبوها وقتلوا الكثير من ساكنيها ، ورحلوا إلى اللان ، وهم أمم كثيرة وقد وصلهم خبرهم ، وجمعوا وحذروا ، وانضاف إليهم جموع من قفجاق ، فقاتلوهم فلم يظفر أحد العسكرين بالاخر ، فأرسل التتار إلى قفجاق : أنتم إخواننا ، وجنسنا واحد ، واللان ليسوا من جنسكم لتنصروهم ولا دينهم دينكم ، ونحن نعاهدكم ألا نعرض لكم ، ونحمل إليكم من المال والثياب ما يستقر بيننا وبينكم ، على أن تنصرفوا إلى بلادكم .
فاستقر الامر بينهم على مال وثياب حملها التتار إليهم ، وفارقت قفجاق اللان ، قأوقع التتار باللان ، فقتلوهم ونهبوا أموالهم ، وسبوا نساءهم .
فلما فرغوا منهم ساروا إلى بلاد قفجاق وهم آمنون متفرقون ، لما استقر بينهم وبين التتار من الصلح ، فلم يشعروا بهم إلا وقد طرقوهم ، ودخلوا بلادهم ، فأوقعوا بهم الاول فالاول ، وأخذوا منهم أضعاف ما حملوا إليهم ، وسمع ما كان بعيد الدار من قفجاق بما جرى .
ففروا عن غير قتال فابعدوا ، فبعضهم بالغياض وبعضهم بالجبال ، وبعضهم لحقوا ببلاد الروس .
وأقام التتار في بلاد قفجاق ، وهى أرض كثيرة المراعى في الشتاء ، وفيها أيضا أماكن باردة في الصيف ، كثيرة المراعى ، وهى غياض على ساحل البحر .
* * *(8/233)
ثم سارت طائفة منهم إلى بلاد الروس ، وهى بلاد كثيرة عظيمه ، وأهلها نصارى ، وذلك في سنة عشرين وستمائة فاجتمع الروس وقفجاق عن منعهم عن البلاد ، فلما قاربهم التتار ، وعرفوا اجتماعهم ، رجعوا القهقرى إيهاما للروس ، أن ذلك عن خوف وحذر ، فجدوا في اتباعهم ، ولم يزل التتار راجعين ، وأولئك يقفون آثارهم اثنى عشر يوما .
ثم رجعت التتار على الروس وقفجاق ، فأثخنوا فيهم قتلا وأسرا ، ولم يسلم منهم إلا القليل ، ومن سلم نزل في المراكب ، وخرج في البحر إلى الساحل الشامي ، وغرق بعض المراكب .
وهذه الوقائع كلها تولاها التتر المغربة ، الذين قائدهم جرماغون ، فأما ملكهم الاكبر جنكز خان ، فإنه كان في هذه المدة بسمرقند ما وراء النهر ، فقسم أصحابه أقساما ، فبعث قسما منهم إلى فرغانة وأعمالها ، فملكوها ، وبعث قسما آخر إلى ترمذ وما يليها فملكوها ، وبعث قسما آخر إلى بلخ وما يليها من أعمال خراسان .
فأما بلخ فإنهم أمنوا أهلها ، ولم يتعرضوا لها بنهب ولا قتل وجعلوا فيها شحنة (1) وكذلك فاريات وكثير من المدن ، إلا أنهم أخذوا أهلها ، يقاتلون بهم من يمتنع عليهم ، حتى وصلوا إلى الطالقان ، وهى عدة بلاد ، وفيها قلعة حصينة ، وبها رجال إنجاد ، فأقاموا على حصارها شهورا فلم يفتحوها ، فأرسلوا إلى جنكزخان يعرفونه عجزهم عنها فسار بنفسه ، وعبر جيحون ، ومعه من الخلائق مالا يحصى ، فنزل على هذه القلعة ، وبنى حولها شبه قلعة أخرى من طين وتراب وخشب وحطب ونصب عليها المنجنيقات ، ورمى القلعة بها ، فلما رأى أهلها ذلك فتحوها ، وخرجوا وحملوا حملة واحدة ، فقتل منهم من قتل ، وسلم من سلم ، وخرج السالمون فسلكوا تلك الجبال والشعاب ، ناجين بأنفسهم ، ودخل التتار القلعة فنهبوا الاموال والامتعة ، وسبوا النساء والاطفال .
__________
(1) الشحنة في البلد : من فيه من الكفاية لضبطها من جهة السلطان (*) .(8/234)
ثم سير جنكز خان جيشا عظيما مع أحد أولاده إلى مدينة مرو ، وبها مائتا الف من المسلمين ، فكانت بين التتار وبينهم حروب عظيمة شديدة ، صبر فيها المسلمون ثم انهزموا ، ودخلوا البلد ، وأغلقوا أبوابه فحاصره التتار حصارا طويلا ، ثم أمنوا متقدم البلد فلما خرج إليهم في الامان ، خلع عليه ابن جنكزخان وأكرمه ، وعاهده ألا يتعرض لاحد من أهل مرو ، ففتح الناس الابواب ، فلما تمكنوا منهم استعرضوهم بالسيف عن آخرهم فلم يبقوا منهم باقية ، بعد أن استصفوا أرباب الاموال عقيب عذاب شديد عذبوهم به .
ثم ساروا إلى نيسابور ، ففعلوا به ما فعلوا بمرو من القتل والاستئصال ، ثم عمدوا إلى طوس ، فنهبوها وقتلوا أهلها ، وأخرجوا المشهد الذى به على بن موسى الرضا عليه السلام والرشيد هارون بن المهدى ، وساروا إلى هراة فحصروها ، ثم أمنوا أهلها ، فلما فتحوها قتلوا بعضهم وجعلوا على الباقين شحنة فلما بعدوا وثب أهل هراة على الشحنة فقتلوه فعاد عليهم عسكر من التتار ، فاستعرضوهم بالسيف ، فقتلوهم عن آخرهم .
ثم عادوا إلى طالقان ، وبها ملكهم الاكبر جنكز خان ، فسير طائفة منهم إلى خوارزم ، وجعل فيها مقدم أصحابه وكبراءهم ، لان خوارزم حينئذ كانت مدينة الملك ، وبها عسكر كثير من الخوارزمية ، وعوام البلد معروفون بالبأس والشجاعة ، فساروا ووصلوا إليها ، فالتقى الفئتان ، واقتتلوا أشد قتال سمع به ، ودخل المسلمون البلد ، وحصرتهم التتار خمسة أشهر ، وأرسل التتار إلى جنكزخان يطلبون المدد ، فأمدهم بجيش من جيوشه ، فلما وصل قويت منتهم به ، وزحفوا إلى البلد زحفا متتابعا ، فملكوا طرفا منه ، وولجوا المدينة ، فقاتلهم المسلمون داخل البلد ، فلم يكن لهم به طاقة فملكوه وقتلوا كل من فيه ، فلما فرغوا منه وقضوا وطرهم من القتل والنهب فتحوا السكر (1) الذى يمنع
__________
(1) السكر ، بالكسر : ما سد به النهر (*) .(8/235)
ماء جيحون عن خوازرم ، فدخل الماء البلد ، فغرق كله ، وانهدمت الابنية ، فبقى بحرا ، ولم يسلم من أهل خوارزم أحد البتة ، فإن غيره من البلاد كان يسلم نفر يسير من أهلها وأما خوارزم فمن وقف للسيف قتل ، ومن استخفى غرقة الماء أو أهلكه الهدم ، فأصبحت خوارزم يبابا .
* * * فلما فرغ التتر من هذه البلاد ، سيروا جيشا إلى غزنة ، وبها حينئذ جلال الدين منكبرى بن محمد خوارزم شاه مالكها ، وقد اجتمع إليه من سلم من عسكر أبيه وغيرهم ، فكانوا نحو ستين ألفا ، وكان الجيش الذى سار إليهم التتار اثنى عشر ألفا ، فالتقوا في حدود غزنة ، واقتتلوا قتالا شديدا ثلاثة أيام ، ثم أنزل الله النصر على المسلمين ، فأنهزم التتر ، وقتلهم المسلمون كيف شاءوا ، وتحيز الناجون منهم إلى الطالقان ، وبها جنكز خان ، وأرسل جلال الدين إليه رسولا يطلب منه أن يعين موضعا للحرب ، فاتفقوا على أن يكون الحرب بكابل ، فأرسل جنكز خان إليها جيشا ، وسار جلال الدين إليها بنفسه ، وتصافوا هناك ، فكان الظفر للمسلمين ، وهرب التتار فالتجئوا إلى الطالقان ، وجنكزخان مقيم بها أيضا ، وغنم المسلمون منهم غنائم عظيمة ، فجرت بينهم فتنه عظيمة في الغنائم ، وذلك لان أميرا من أمرائهم اسمه بغراق ، كان قد أبلى في حرب التتر هذه جرت بينه وبين أمير يعرف بملك خان ، نسيب خوارزم شاه ، مقاولة أفضت إلى أن قتل أخ لبغراق ، فغضب وفارق جلال الدين في ثلاثين ألفا ، فتبعه جلال الدين واسترضاه واستعطفه ، فلم يرجع ، فضعف جانب جلال الدين بذلك ، فبينا هو كذلك وصله الخبر أن جنكز خان قد سار إليه من الطالقان بنفسه وجيوشه ، فعجز عن مقاومته ، وعلم أنه لا طاقة له به ، فسار نحو بلاد الهند وعبر نهر السند ، وترك غزنة شاغرة كالفريسة للاسد ، فوصل إليها(8/236)
جنكز خان فملكها ، وقتل أهلها وسبى نساءها ، وأخرب القصور ، وتركها كأمس الغابر .
ثم كانت لهم بعد ملك غزنة واستباحتها وقائع كثيرة مع ملوك الروم بنى قلج أرسلان ، لم يوغلوا فيها في البلاد ، وإنما كانوا يتطرقونها وينهبون ما تاخمهم منها ، وأذعن لهم ملوك فارس ، وكرمان ، والتيز ، ومكران بالطاعة وحملوا إليهم الاتاوة ، ولم يبق في البلاد الناطقة باللسان الاعجمي بلد إلا حكم فيه سيفهم أو كتابهم ، فأكثر البلاد قتلوا أهلها ، وسبق السيف فيهم العذل والباقى أدى الاتاوة إليهم رغما ، وأعطى الطاعة صاغرا ، ورجع جنكزخان إلى ما وراء النهر وتوفى هناك .
وقام بعده ابنه قاآن مقامه ، وثبت جرماغون في مكانه بأذربيجان ولم يبق لهم إلا أصبهان فإنهم نزلوا عليها مرارا في سنة سبع وعشرين وستمائة ، وحاربهم أهلها ، وقتل من الفريقين مقتلة عظيمة ، ولم يبلغوا منها غرضا ، حتى اختلف أهل اصبهان في سنه ثلاث وثلاثين وستمائه وهم طائفتان : حنفية وشافعية ، وبينهم حروب متصلة وعصبية ظاهرة فخرج قوم من أصحاب الشافعي إلى من يجاورهم ويتأخمهم من ممالك التتار ، فقالوا لهم : اقصدوا البلد حتى نسلمه إليكم ، فنقل ذلك إلى قاآن بن جنكز خان بعد وفاة أبيه ، والملك يومئذ منوط بتدبيره ، فأرسل جيوشا من المدينة المستجدة التى بنوها ، وسموها قرا حرم فعبرت جيحون مغربة ، وانضم إليها قوم ممن أرسله جرماغون على هيئة المدد لهم فنزلوا على أصفهان في سنة ثلاث وثلاثين المذكورة ، وحصروها فاختلف سيفا الشافعية والحنفية في المدينة ، حتى قتل كثير منهم ، وفتحت أبواب المدينة ، فتحها الشافعية على عهد بينهم وبين التتار أن يقتلوا الحنفية ويعفوا عن الشافعية ، فلما دخلوا البلد بدءوا بالشافعية ، فقتلوهم قتلا ذريعا ، ولم يقفوا مع العهد الذى عهدوه لهم ، ثم قتلوا الحنفيه ، ثم قتلوا سائر الناس .(8/237)
وسبوا النساء ، وشقوا بطون الحبالى ، ونهبوا الاموال ، وصادروا الاغنياء ، ثم أضرموا النار ، فأحرقوا أصبهان ، حتى صارت تلولا من الرماد .
فلما لم يبق لهم بلد من بلاد العجم إلا وقد دوخوه ، صمدوا نحو إربل في سنة أربع وثلاثين وستمائة ، وقد كانوا طرقوها مرارا وتحيفوا بعض نواحيها فلم يوغلوا فيها ، والامير المرتب بها يومئذ باتكين الرومي ، فنزل عليها في ذى القعدة من هذه السنة منهم نحو ثلاثين ألف فارس ، أرسلهم جرماغون ، وعليهم مقدم كبير من رؤسائهم يعرف بجكتاى ، فغاداها القتال ورواحها ، وبها عسكر جم من عساكر الاسلام ، فقتل من الفريقين خلق كثير ، واستظهر التتار ، ودخلوا المدينة وهرب الناس إلى القلعة ، فاعتصموا بها ، وحصرهم التتار ، وطال الحصار حتى هلك الناس في القلعة عطشا ، وطلب باتكين منهم أن يصالحوه عن المسلمين بمال يؤديه إليهم ، فأظهروا الاجابة ، فلما أرسل إليهم ما تقرر بينهم وبينه ، أخذوا المال وغدروا به ، وحملوا على القلعة بعد ذلك حملات عظيمة ، وزحفوا إليها زحفا متتابعا ، وعلقوا عليها المنجنيقات الكثيرة ، وسير المستنصر بالله الخليفة جيوشه مع مملوكه وخادم حضرته ، وأخص مماليكه به شرف الدين إقبال الشرامى ، فساروا إلى تكريت ، فلما عرف التتر شخوصهم رحلوا عن إربل ، بعد أن قتلوا منها مالا يحصى ، وأخربوها وتركوها كجوف حمار ، وعادوا إلى تبريز ، وبها مقام جرماغون ، وقد جعلها دار ملكه .
فلما رحلوا عن إربل ، عاد العسكر البغدادي إلى بغداد ، وكانت للتتار بعد ذلك نهضات وسرايا كثيرة إلى بلاد الشام ، قتلوا ونهبوا وسبوا فيها حتى انتهت خيولهم إلى حلب ، فأوقعوا بها ، وصانعهم عنها أهلها وسلطانها ، ثم عمدوا إلى بلاد كى خسرو صاحب الروم ، وذلك بعد أن هلك جرماغون وقام عوضه المعروف ببابا يسيجو ، وكان(8/238)
قد جمع لهم ملك الروم قضه وقضيضه ، وجيشه ولفيفه واستكثر من الاكراد العتمرية ، ومن عساكر الشام وجند حلب ، فيقال : إنه جمع مائة ألف فارس وراجل ، فلقيه التتار في عشرين ألفا ، فجرت بينه وبينهم حروب شديدة قتلوا فيها مقدمته ، وكانت المقدمة كلها أو أكثرها من رجال حلب ، وهم أنجاد أبطال فقتلوا عن آخرهم ، وأنكسر العسكر الرومي وهرب صاحب الروم حتى انتهى إلى قلعه له على البحر تعرف بأنطاكية ، فاعتصم بها وتمزقت جموعه ، وقتل منهم عدد لا يحصى ، ودخلت التتار إلى المدينة المعروفة بقيسارية ففعلوا فيها أفاعيل منكرة من القتل والنهب والتحريق ، وكذلك بالمدينة المعروفة بسيواس وغيرها من كبار المدن الرومية ، وبخع لهم صاحب الروم بالطاعة ، وأرسل إليهم يسألهم قبول المال والمصانعة ، فضربوا عليه ضريبة يؤديها إليهم كل سنة ، ورجعوا عن بلاده .
وأقاموا على جملة السكون والموادعة للبلاد الاسلامية كلها ، إلى أن دخلت سنة ثلاث وأربعين وستمائة .
فاتفق أن بعض أمراء بغداد وهو سليمان بن برجم ، وهو مقدم الطائفة المعروفة بالايواء ، وهى من التركمان ، قتل شحنة من شحنهم في بعض قلاع الجبل يعرف بخليل بن بدر ، فأثار قتله أن سار من تبريز عشرة آلاف غلام منهم ، يطوون المنازل ، ويسبقون خبرهم ، ومقدمهم المعروف بجكتاى الصغير ، فلم يشعر الناس ببغداد إلا وهم على البلد ، وذلك في شهر ربيع الاخر من هذه السنة في فصل الخريف ، وقد كان الخليفة المستعصم بالله ، أخرج عسكره إلى ظاهر سور بغداد على سبيل الاحتياط ، وكان التتر قد بلغهم ذلك إلا أن جواسيسهم غرتهم ، وأوقعت في أذهانهم أنه ليس خارج السور إلا خيام مضروبة وفساطيط مضروبة ، لا رجال تحتها ، وأنكم متى أشرفتم عليهم ملكتم سوادهم وثقلهم ويكون قصارى أمر قوم قليلين تحتها أن ينهزموا إلى البلد ، ويعتصموا بجدرانه ، فأقبلت(8/239)
التتر على هذا الظن ، وسارت على هذا الوهم فلما قربوا من بغداد ، وشارفوا الوصول إلى المعسكر ، أخرج المستعصم بالله الخليفة مملوكه وقائد جيوشه شرف الدين إقبالا الشرابى إلى ظاهر السور ، وكان خروجه في ذلك اليوم من لطف الله تعالى بالمسلمين ، فإن التتار لو وصلوا وهو بعد لم يخرج ، لاضطرب العسكر ، لانهم كانوا يكونون بغير قائد ولا زعيم ، بل كل واحد منهم أمير نفسه ، وآراؤهم مختلفة لا يجمعهم رأى واحد ، ولا يحكم عليها حاكم واحد ، فكانوا في مظنة الاختلاف والتفرق ، والاضطراب والتشتت ، فكان خروج شرف الدين إقبال الشرابى في اليوم السادس عشر من هذا الشهر المذكور ، ووصلت التتر إلى سور البلد في اليوم السابع عشر ، فوقفوا بإزاء عساكر بغداد صفا واحدا ، وترتب العسكر البغدادي ترتيبا منتظما ، ورأى التتر من كثرتهم وجودة سلاحهم وعددهم وخيولهم ، ما لم يكونوا يظنونه ولا يحسبونه ، وانكشف ذلك الوهم الذى أوهمهم جواسيسهم عن الفساد والبطلان .
وكان مدبر أمر الدولة والوزارة في هذا الوقت هو الوزير مؤيد الدين محمد بن أحمد بن العلقمي ، ولم يحضر الحرب ، بل كان ملازما ديوان الخلافة بالحضرة ، لكنه كان يمد العسكر الاسلامي من آرائه وتدبيراته بما ينتهون إليه ويقفون عنده ، فحملت التتار على عسكر بغداد حملات متتابعة ، ظنوا أن واحدة منها تهزمهم ، لانهم قد اعتادوا أنه لا يقف عسكر من العساكر بين أيديهم ، وأن الرعب والخوف منهم يكفى ويغنى عن مباشرتهم الحرب بأنفسهم ، فثبت لهم عسكر بغداد أحسن ثبوت ، ورشقوهم بالسهام ، ورشقت التتار أيضا بسهامها ، وأنزل الله سكينته على عسكر بغداد ، وأنزل بعد السكينة نصره ، فما زال العسكر البغدادي تظهر عليه أمارات القوة ، وتظهر على التتار أمارات الضعف والخذلان ، إلى أن حجز الليل بين الفريقين ، ولم يصطدم الفيلقان ، وإنما(8/240)
كانت مناوشات وحملات خفيفة لا تقتضي الاتصال والممازجة ورشق بالنشاب شديد .
فلما أظلم الليل ، أوقد التتار نيرانا عظيمة ، وأوهموا أنهم مقيمون عندها ، وارتحلوا في الليل راجعين إلى جهة بلادهم ، فاصبح العسكر البغدادي ، فلم ير منهم عينا ولا أثرا ، وما زالوا يطوون المنازل ، ويقطعون القرى عائدين حتى دخلوا الدربند ، ولحقوا ببلادهم .
* * * وكان ما جرى من دلائل النبوة لان الرسول صلى الله عليه وآله وعد هذه الملة بالظهور والبقاء إلى يوم القيامة ، ولو حدث على بغداد منهم حادثة ، كما جرى على غيرها من البلاد ، لانقرضت ملة الاسلام ، ولم يبق لها باقية .
وإلى أن بلغنا من هذا الشرح إلى هذا الموضع ، لم يذعر العراق منهم ذاعر بعد تلك النوبه التى قدمنا ذكرها .
* * * قلت : وقد لاح لى من فحوى كلام أمير المؤمنين عليه السلام أنه لا بأس على بغداد والعراق منهم ، وأن الله تعالى يكفى هذه المملكة شرهم ، ويرد عنها كيدهم ، وذلك من قوله عليه السلام ويكون هناك استحرار قتل " فأتى بالكاف ، وهى إذا وقعت عقيب الاشارة أفادت البعد ، تقول للقريب : هنا ، وللبعيد هناك ، وهذا منصوص عليه في العربية ، ولو كان لهم استحرار قتل في العراق لما قال : " هناك " ، بل كان يقول : " هنا " .
لانه عليه السلام خطب بهذه الخطبة في البصرة ، ومعلوم أن البصرة وبغداد شئ واحد وبلد واحد ، لانهما جميعا من إقليم العراق ، وملكهما ملك واحد ، فيلمح هذا الموضع ، فإنه لطيف .
* * *(8/241)
وكتبت إلى مؤيد الدين الوزير عقيب هذه الوقعة التى نصر فيها الاسلام - ورجع التتر مخذولين ناكصين على أعقابهم أبياتا أنسب إليه الفتح ، وأشير إلى أنه هو الذى قام بذلك وإن لم يكن حاضرا له بنفسه ، وأعتذر إليه عن الاغباب بمديحه ، فقد كانت الشواغل والقواطع تصد عن الانتصاب لذلك - شعرا : أبقى لنا الله الوزير وحاطه * * بكتائب من نصره ومقانب (1) وامتد وارف ظله لنزيله * * وصفت متون غديره للشارب يا كالئ الاسلام إذ نزلت به * * فرغاء تشهق بالنجيع السالب (2) في خطة بهماء ديمومية * * لا يهدى فيها السليك للاحب (3) لا يمتطى سلساتها مرهوبة الابساس جلس لا تدر لعاصب فرجت غمرتها بقلب ثابت * * في حملة ذعري ورأى ثاقب ما غبت ذاك اليوم عن تدبيرها * * كم حاضر يعصى بسيف الغائب ! عمر الذى فتح العراق وإنما * * سعد حسام في يمين الضارب (4) أثنى عليك ثناء غير موارب * * وأجيد فيك المدح غير مراقب وأنا الذى يهواك حبا صادقا * * متقادما ، ولرب حب كاذب حبا ملات به شعاب جوانحي * * يفعا ، وها أنا ذو عذار شائب
__________
(1) المقانب : جمع مقنب : الجماعة من الخيل ما بين الثلاثين إلى الاربعين .
(2) الفرغاء : الطعنة الواسعة .
(3) البهماء : التى لا يهتدى فيها ، والديمومية : منسوب إلى الديوم وهو الفلاة أيضا .
والسليك أحد لصوص العرب وفتاكهم .
(4) هو عمر بن الخطاب ، فتحت العراق في عهده ، وسعد بن أبى وقاص قائد المسلمين يوم القادسية (*) .(8/242)
إن القريض وإن أغب متيم * * بكم ، ورب مجانب كمواظب ولقد يخالصك القصى وربما * * يمنى بود مماذق متقارب سدت مسالكه هموم جعجعت * * بالفكر حتى لا يبض لحالب ومن العناء مغلب في حظه * * يبغى مغالبة القضاء الغالب وهى طويلة ، وإنما ذكرنا منها ما اقتضته الحال(8/243)
(129) الاصل : عباد الله ، إنكم وما تأملون من هذه الدنيا أثوياء مؤجلون ، ومدينون مقتضون ، أجل منقوص ، وعمل محفوظ فرب دائب مضيع ، ورب كادح خاسر ، وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدبارا ، والشر فيه إلا إقبالا ، والشيطان في هلاك الناس إلا طمعا ، فهذا أوان قويت عدته ، وعمت مكيدته ، وأمكنت فريسته .
أضرب بطرفك حيث شئت من الناس ، فهل تبصر إلا فقيرا يكابد فقرا ، أو غنيا بدل نعمة الله كفرا ، أو بخيلا اتخذ البخل بحق الله وفرا ، أو متمردا كأن بأذنه عن سمع المواعظ وقرا ! أين أخياركم وصلحاؤكم ، وأحراركم وسمحاؤكم ، وأين المتورعون في مكاسبهم ، والمتنزهون في مذاهبهم ! أليس قد ظعنوا جميعا عن هذه الدنيا الدنية ، والعاجلة المنغصة ! وهل خلفتم إلا في حثالة لا تلتقي بذمهم الشفتان ، استصغارا لقدرهم ، وذهابا عن ذكرهم ! فإنا لله وإنا إليه راجعون ! ظهر الفساد فلا منكر مغير ، ولا زاجر مزدجر .
أفبهذا تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه ، وتكونوا أعز أوليائه عنده ! هيهات لا يخدع الله عن جنته ، ولا تنال مرضاته إلا بطاعته .(8/244)
لعن الله الامرين بالمعروف التاركين له ، والناهين عن المنكر العاملين به ! * * * الشرح : أثوياء : جمع ثوى ، وهو الضيف .
كقوى وأقوياء .
ومؤجلون : مؤخرون إلى أجل ، أي وقت معلوم .
ومدينون مقرضون ، دنت الرجل أقرضته ، فهو مدين ومديون ، ودنت أيضا ، إذا استقرضت ، وصار على دين ، فأنا دائن ، وأنشد : ندين ويقضى الله عنا ، وقد نرى * * مصارع قوم لا يدينون ضيعا (1) .
ومقتضون جمع مقتضى ، أي مطالب بأداء الدين ، كمرتضون جمع مرتضى ، ومصطفون جمع مصطفى .
وقوله : " أجل منقوص " ، أي عمر ، وقد جاء عنهم : أطال الله أجلك ، أي عمرك وبقاءك .
والدائب : المجتهد ذو الجد والتعب والكادح الساعي .
ومثل قوله : " فرب دائب مضيع ، ورب كادح خاسر " ، قول الشاعر : إذا لم يكن عون من الله للفتى * * فأكثر ما يجنى عليه اجتهاده ومثله * إذا لم يكن عون من الله للفتى * * أتته الرزايا من وجوه الفوائد .
وهو كثير : والاصل فيه قوله تعالى : (وجوه يومئذ خاشعة * عاملة ناصبة * تصلى نارا حامية) (2) ويروى : " فرب دائب مضيع " بغير تشديد .
__________
(1) اللسان 17 : 36 ، ونسبه للعجير السلولى .
(2) سورة الغاشية 2 - 4 (*) .(8/245)
وقوله : " وأمكنت فريسته " ، أي وأمكنته ، فحذف المفعول .
وقوله : " فاضرب بطرفك " لفظة فصيحة ، وقد أخذها الشاعر فقال : فاضرب بطرفك حيث شئت فلن ترى * * إلا بخيلا .............
والوفر : المال الكثير ، أي بخل ولم يؤد حق الله سبحانه ، فكثر ماله .
والوقر ، بفتح الواو : الثقل في الاذن .
وروى " المنغصة " ، بفتح الغين .
والحثالة : الساقط الردئ من كل شئ .
وقوله : لا تلتقي بذمهم الشفتان ، أي يأنف الانسان أن يذمهم : لانه لابد في الذم من إطباق أحد الشفتين على الاخرى ، وكذلك في كل الكلام .
وذهابا عن ذكرهم ، أي ترفعا ، يقال : فلان يذهب بنفسه عن كذا ، أي يرفعها .
ولا زاجر مزدجر ، أي ليس في الناس من يزجر عن القبيح وينزجر هو عنه .
ودار القدس : هي الجنة ولا يخدع الله عنها ، لانه لا تخفى عليه خافية ، ولا يجوز عليه النفاق والتمويه .
ثم لعن الامر بالمعروف ولا يفعله ، والناهي عن المنكر ويرتكبه ، وهذا من قوله تعالى : (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) .
ولست أرى في هذه الخطبه ذكرا للموازين والمكاييل ، التى أشار إليها الرضى رحمه الله ، اللهم إلا أن يكون قوله عليه السلام : " وأين المتورعون في مكاسبهم " ، أو قوله : " ظهر الفساد " ، ودلالتهما على الموازين والمكاييل بعيدة .
* * * [ نبذ من أقوال الحكماء والصالحين ] وأعلم أن هذه الخطبة قد اشتملت على كلام فصيح ، وموعظة بالغة من ذكر الدنيا(8/246)
وذكر أهلها ، ونحن نذكر كلمات وردت عن الحكماء والصالحين تناسبها ، على عادتنا في إيراد الاشباه والنظائر .
قال بعض الصالحين : ما أدرى كيف أعجب من الدنيا ! أمن حسن منظرها وقبح مخبرها ، أم من ذم الناس لها ، وتناحرهم عليها ! قيل لبعضهم : كيف أصبحت ؟ قال : آسفا على أمسى ، كارها ليومى ، متهما لغدي .
قيل لاعرابي : كيف ترى الدهر ؟ قال : خدوعا خلوبا ، وثوبا غلوبا .
قيل لصوفي : لم تركت الدنيا ؟ قال : لانى منعت صفوها ، وامتنعت من كدرها .
وقيل لاخر : لم تركت الدنيا ؟ قال : لانى عدمت الوسيلة إليها إلا بعشقها ، وأعشق ما أكون لها أغدر ما تكون بى .
وأنشد لبشر الحافى : قرير العين لا ولد يموت * * ولا حذر يبادر ما يفوت رخى البال ليس له عيال * * خلى من حربت ومن دهيت قضى وطر الصبا وأفاد علما * * فعاتبه التفرد والسكوت وأكبر همه مما عليه * * تذابح من ترى خلق وقوت .
قال أبو حيان : سمعت ابن القصاب الصوفى ، يقول : اسمع واسكت ، وانظر واعجب ، قال ابن المعتز : مل سقامي عوده * * وخان دمعى مسعده وضاع من ليلى غده * * طوبى لعين تجده قلت من الدهر يده * * يفنى ويبقى أبده والموت ضار أسده * * وقاتل من يلده .(8/247)
ومن الشعر القديم المختلف في قائله : قصر الجديد إلى بلى * * والوصل في الدنيا انقطاعه أي اجتماع لم يعد * * بتفرق منها اجتماعه أم أي شعب ذى التئام لم يبدده انصداعه أم أي منتفع بشى * * ء ثم تم له انتفاعه يا بؤس للدهر الذى * * ما زال مختلفا طباعه قد قيل في مثل خلا : * * " يكفيك من شر سماعه " قيل لصوفي : كيف ترى الدنيا ؟ قال : وما الدنيا ؟ لا أعرف لها وجودا ، قيل له : فأين قلبك : قال عند ربى ، قيل : فأين ربك ؟ قال : وأين ليس هو ! قال ابن عائشة كان يقال : مجالسة أهل الديانة تجلو عن القلوب صدأ الذنوب ، ومجالسة ذوى المروءات تدل على مكارم الاخلاق ، ومجالسة العلماء تزكى النفوس .
ومن كلام بعض الحكماء الفصحاء : كن لنفسك نصيحا ، واستقبل توبه نصوحا ، وأزهد في دار سمها ناقع ، وطائرها واقع ، وارغب في دار طالبها منجح ، وصاحبها مفلح ، ومتى حققت وآثرت الصدق ، بان لك أنهما لا يجتمعان ، وأنهما كالضدين لا يصطلحان فجرد همك في تحصيل الباقية ، فإن الاخرى أنت فان عنها وهى فانية عنك : وقد عرفت آثارها في أصحابها ورفقائها ، وصنعها بطلابها وعشقائها معرفة عيان ، فأى حجة تبقى لك ، وأى حجة لا تثبت عليك ! ومن كلام هذا الحكيم : فإنا قد أصبحنا في دار رابحها خاسر ، ونائلها قاصر ، وعزيزها ذليل ، وصحيحها عليل ، والداخل إليها مخرج ، والمطمئن فيها مزعج ، والذائق من شرابها سكران ، والواثق بسرابها ظمآن ، ظاهرها غرور ، وباطنها شرور ، وطالبها(8/248)
مكدود وعاشقها مجهود ، وتاركها محمود .
العاقل من قلاها وسلا عنها .
والظريف من عافها وأنف منها ، والسعيد من غمض بصره عن زهرتها ، وصرفه عن نضرتها ، وليس لها فضيلة إلا دلالتها على نفسها ، وإشارتها إلى نقصها ، ولعمري إنها لفضيلة لو صادفت قلبا عقولا لالسانا قؤولا ، وعملا مقبولا لا لفظا منقولا .
فإلى الله الشكوى من هوى مطاع ، وعمر مضاع ، فبيده الداء والدواء ، والمرض والشفاء .
قال أبو حرة : أتينا بكر بن عبد الله المرى نعوده فدخلنا عليه وقد قام لحاجته فجلسنا ، ننتظره ، فأقبل إلينا يتهادى بين رجلين ، فلما نظر إلينا سلم علينا ، ثم قال : رحم الله عبدا أعطى قوة فعمل بها في طاعة الله ، أو قصر به ضعف فكف عن محارم الله .
وقال بكر بن عبد الله مثل الرجل في الدنيا مثل رجل له ثلاثة خلان ، قال له أحدهم : أنا خازنك خذمنى ما شئت ، فاعمل به ما شئت ، وقال الاخر : أنا معك أحملك وأضعك ، فإذا مت تركتك ، وقال الاخر : أنا أصحبك أبدا ، حياتك وموتك ، فأما الاول فماله ، وأما الثاني فعشيرته ، وأما الثالث فعمله .
قيل للزهري : من الزاهد في الدنيا ؟ قال من لم يمنع الحلال شكره ، ومن لم يمنع الحرام صبره .
وقال سفيان الثوري : ما عبد الله بمثل العقل ، ولا يكون الرجل عاقلا حتى تكون فيه عشر خصال : يكون الكبر منه مأمونا ، والخير منه مأمولا ، يقتدى بمن قبله ، ويكون إماما لمن بعده ، وحتى يكون الذل في طاعة الله أحب إليه من العز في معصية الله ، وحتى يكون الفقر في الحلال ، أحب إليه من الغنى في ، الحرام ، وحتى يكون عيشه القوت ، وحتى يستقل الكثير من عمله ، ويستكثر القليل من عمل غيره ، وحتى لا يتبرم بطلب الحوائج(8/249)
قبله ، والعاشرة وما العاشرة ! بها شاد مجده ، وعلا ذكره ، أن يخرج من بيته فلا يستقبله أحد من الناس ألا رأى أنه دونه .
قال يونس بن حبيب كان عندنا بالبصرة جندي عابد ، فأحب الغزو ، فلما خرج شيعته ، فقلت : أوصني ، فقال : أوصيك بتقوى الله ، وأوصيك بالقرآن ، فإنه نور الليل المظلم ، وهدى النهار المشرق ، فاعمل به على ما كان من جهد وفاقة ، فإن عرض بلاء فقدم مالك دون نفسك ، فإن تجاوز البلاء فقدم مالك ونفسك دون دينك .
واعلم أن المحروب من حرب دينه ، والمسلوب من سلب يقينه .
إنه لا غنى مع النار ، ولا فقر مع الجنة ، وإن جهنم لا يفك أسيرها ، ولا يستغنى فقيرها .
ابن المبارك ، كان فيما مضى جبار يقتل الناس على أكل لحوم الخنازير ، فلم يزل الامر يترقى حتى بلغ إلى عابد مشهور ، فأراده على أكلها ، وهدده بالقتل ، فشق ذلك على الناس .
فقال له صاحب شرطته : إنى ذابح لك غدا جديا ، فإذا دعاك هذا الجبار لتأكل ، فكل فإنما هو جدى فلما دعاه ليأكل أبى أن يأكل ، فقال : أخرجوه واضربوا عنقه .
فقال له الشرطي : ما منعك أن تأكل من لحم جدى ؟ قال : إنى رجل منظور إلى ، وإنى كرهت أن يتأسى بى الناس في معاصي الله .
فقدمه فقتله .
سفيان الثوري ، كان رجل يبكى كثيرا ، فقال .
له أهله : لو قتلت قتيلا ثم أتيت وليه فرآك تبكى هذا البكاء لعفا عنك ، فقال : قد قتلت نفسي ، فلعل وليها يعفو عنى .
وكان أيوب السختيانى كثير البكاء ، وكان يغالط الناس عن بكائه ، يبكى مره فيأخذ أنفه ، ويقول الزكمة ربما عرضت لى ، ويبكى مرة ، فإذا استبان من حوله بكاءه ، قال : إن الشيخ إذا كبر مج .
(1)
__________
(1) الماج : من يسيل لعابه كبرا وهرما (*) .(8/250)
ومن كلام أبى حيان التوحيدي في ' البصائر ' : ما أقول في عالم الساكن فيه وجل والصاحى بين أهله ثمل ، والمقيم على ذنوبه خجل ، والراحل عنه مع تماديه عجل .
وإن دارا هذه من آفاتها وصروفها ، لمحقوقة بهجرانها وتركها ، والصدوف منها خاصة ولا سبيل لساكنها إلى دار القرار إلا بالزهد فيها ، والرضا بالطفيف منها ، كبلغة الثاوى وزاد المنطلق .(8/251)
(130) الاصل : ومن كلام له عليه السلام لابي ذر رحمه الله لما أخرج إلى الربذة : يا أبا ذر ، أنك غضبت لله فارج من غضبت له .
إن القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك ، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه ، واهرب منهم بما خفتهم عليه ، فما أحوجهم إلى ما منعتهم وما أغناك عما منعوك ! وستعلم من الرابح غدا ، والاكثر حسدا .
ولو أن السموات والارضين كانتا على عبد رتقا : ثم اتقى الله ، لجعل الله له منهما مخرجا لا يؤنسنك إلا الحق ، ولا يوحشنك إلا الباطل ، فلو قبلت دنياهم لاحبوك ، ولو قرضت منها لامنوك .
* * * الشرح : [ أخبار أبى ذر الغفاري حين خروجه إلى الربذة ] واقعة أبى ذر رحمه الله وإخراجه إلى الربذة ، أحد الاحداث التى نقمت على عثمان : وقد روى هذا الكلام أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهرى في كتاب " السقيفة " عن عبد الرزاق ، عن أبيه ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لما أخرج أبو ذر إلى الربذة ، أمر عثمان ، فنودى في الناس ألا يكلم أحد أبا ذر ولا يشيعه .
وأمر مروان بن الحكم أن يخرج به .
فخرج به ، وتحاماه الناس إلا على(8/252)
ابن أبى طالب عليه السلام وعقيلا أخاه وحسنا وحسينا عليهما السلام ، وعمارا ، فإنهم خرجوا معه يشيعونه فجعل الحسن عليه السلام يكلم أبا ذر ، فقال له مروان : إيها يا حسن ! ألا تعلم أن أمير المؤمنين قد نهى عن كلام هذا الرجل ! فإن كنت لا تعلم فاعلم ذلك ، فحمل على عليه السلام على مروان فضرب بالسوط بين أذنى راحلته ، وقال : تنح لحاك الله إلى النار ! فرجع مروان مغضبا إلى عثمان : فأخبره الخبر ، فتلظى على على عليه السلام ، ووقف أبو ذر فودعه القوم ، ومعه ذكوان مولى أم هانئ بنت أبى طالب .
قال ذكوان : فحفظت كلام القوم - وكان حافظا - فقال على عليه السلام : يا أبا ذر ، إنك غضبت لله ! إن القوم خافوك على دنياهم ، وخفتهم على دينك .
فامتحنوك بالقلى ، ونفوك إلى الفلا ، والله لو كانت السموات والارض على عبد رتقا ، ثم اتقى الله لجعل له منها مخرجا .
يا أبا ذر لا يؤنسنك إلا الحق ، ولا يوحشنك إلا الباطل .
ثم قال لاصحابه : ودعوا عمكم وقال لعقيل ودع أخاك .
فتكلم عقيل ، فقال ما عسى أن نقول يا أبا ذر وأنت تعلم أنا نحبك ، وأنت تحبنا ! فاتق الله ، فإن التقوى نجاة ، واصبر فإن الصبر كرم ، وأعلم أن استثقالك الصبر من الجزع ، واستبطاءك العافية من اليأس ، فدع اليأس والجزع .
ثم تكلم الحسن فقال : يا عماه ، لولا أنه لا ينبغى للمودع أن يسكت ، وللمشيع أن ينصرف ، لقصر الكلام وإن طال الاسف ، وقد أتى القوم إليك ما ترى فضع عنك الدنيا بتذكر فراغها ، وشدة ما اشتد منها برجاء ما بعدها ، واصبر حتى تلقى نبيك صلى الله عليه وآله وهو عنك راض .
ثم تكلم الحسين عليه السلام فقال : يا عماه ، إن الله تعالى قادر أن يغير ما قد ترى ،(8/253)
والله كل يوم هو في شأن وقد منعك القوم دنياهم ومنعتهم دينك ، فما أغناك عما منعوك ، وأحوجهم إلى ما منعتهم ! فأسال الله الصبر والنصر ، واستعذبه من الجشع والجزع ، فإن الصبر من الدين والكرم وإن الجشع لا يقدم رزقا ، وجزع لا يؤخر أجلا .
ثم تكلم عمار رحمه الله مغضبا ، فقال : لا آنس الله من أوحشك ، ولا آمن من أخافك ، أما والله لو أردت دنياهم لامنوك ، ولو رضيت أعمالهم لاحبوك ، وما منع الناس أن يقولوا بقولك إلا الرضا بالدنيا ، والجزع من الموت ، مالوا إلى ما سلطان جماعتهم عليه ، والملك لمن غلب ، فوهبوا لهم دينهم ، ومنحهم القوم دنياهم ، فحسروا الدنيا والاخرة ، ألا ذلك هو الخسران المبين ! فبكى أبو ذر رحمه الله ، وكان شيخا كبيرا ، وقال : رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة ! إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله صلى الله عليه وآله ، مالى بالمدنية سكن ولا شجن غيركم ، إنى ثقلت على عثمان بالحجاز ، كما ثقلت على معاوية بالشام ، وكره أن أجاور أخاه وابن خاله بالمصرين ، فأفسد الناس عليهما ، فسيرني إلى بلد ليس لى به ناصر ولا دافع إلا الله ، والله ما أريد إلا الله صاحبا ، وما أخشى مع الله وحشة .
ورجع القوم إلى المدينة ، فجاء على عليه السلام إلى عثمان ، فقال له : ما حملك على رد رسولي ، وتصغير أمرى ! فقال على عليه السلام : أما رسولك ، فأراد أن يرد وجهى فرددته ، وأما أمرك فلم أصغره .
قال : أما بلغك نهيى عن كلام أبى ذر ! قال : أوكلما أمرت بأمر معصية أطعناك فيه ! قال عثمان : أقد مروان من نفسك ، قال : مم ذا ؟ قال : من شتمه وجذب راحلته ، قال أما راحلته فراحلتي بها ، وأما شتمه إياى ، فوالله لا يشتمني شتمة إلا شتمتك مثلها ، لا أكذب عليك .(8/254)
فغضب عثمان ، وقال : لم لا يشتمك ! كانك خير منه ! قال على : إى والله ومنك ! ثم قام فخرج .
فأرسل عثمان إلى وجوه المهاجرين والانصار وإلى بنى أمية ، يشكو إليهم عليا عليه السلام ، فقال القوم : أنت الوالى عليه ، وإصلاحه أجمل .
قال : وددت ذاك ، فاتوا عليا عليه السلام ، فقالوا : لو اعتذرت إلى مروان وأتيته ! فقال : كلا ، أما مروان فلا آتيه ولا أعتذر منه ، ولكن إن أحب عثمان أتيته .
فرجعوا لى عثمان ، فأخبروه ، فأرسل عثمان إليه ، فأتاه ومعه بنو هاشم ، فتكلم على عليه السلام ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما ما وجدت على فيه من كلام أبى ذر ووداعه ، فو الله ما أردت مساءتك ولا الخلاف عليك ، ولكن أردت به قضاء حقه .
وأما مروان فإنه اعترض ، يريد ردى عن قضاء حق الله عزوجل ، فرددته رد مثلى مثله ، وأما ما كان منى إليك ، فإنك أغضبتني ، فأخرج الغضب منى ما لم أرده .
فتكلم عثمان ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما ما كان منك إلى فقد وهبته لك ، وأما ما كان منك إلى مروان ، فقد عفا الله عنك ، وأما ما حلفت عليه فأنت البر الصادق ، فأدن يدك ، فأخذ يده فضمها إلى صدره .
فلما نهض قالت قريش وبنو أميه لمروان : أأنت رجل ! جبهك على ، وضرب راحلتك ، وقد تفانت وائل في ضرع ناقة ، وذبيان وعبس في لطمة فرس ، والاوس والخزرج في نسعة ! أفتحمل لعلى عليه السلام ما أتاه إليك ! فقال مروان : والله لو أردت ذلك لما قدرت عليه .
* * * وأعلم أن الذى عليه أكثر أرباب السيرة وعلماء الاخبار والنقل ، أن عثمان نفى(8/255)
أبا ذر أولا إلى الشام ، ثم استقدمه إلى المدينة لما شكا منه معاوية ، ثم نفاه من المدينة إلى الربذة لما عمل بالمدينة نظير ما كان يعمل بالشام .
أصل هذه الواقعة ، أن عثمان لما أعطى مروان بن الحكم وغيره بيوت الاموال ، واختص زيد بن ثابت بشئ منها ، جعل أبو ذر يقول بين الناس وفي الطرقات والشوارع : بشر الكافرين بعذاب أليم ، ويرفع بذلك صوته ويتلو قوله تعالى : (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) ، فرفع ذلك إلى عثمان مرارا وهو ساكت .
ثم إنه أرسل إليه مولى من مواليه : أن انته عما بلغني عنك ، فقال أبو ذر : أو ينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله تعالى ، وعيب من ترك أمر الله تعالى فو الله لان أرضى الله بسخط عثمان أحب إلى وخير لى من أن أسخط الله برضا عثمان .
فأغضب عثمان ذلك وأحفظه ، فتصابر وتماسك ، إلى أن قال عثمان يوما ، والناس حوله : أيجوز للامام أن يأخذ من المال شيئا قرضا ، فإذا أيسر قضى ؟ فقال كعب الاحبار : لا بأس بذلك فقال أبو ذر : يابن اليهوديين ، أتعلمنا ديننا ! فقال عثمان : قد كثر أذاك لى وتولعك بأصحابى ، الحق بالشام .
فأخرجه إليها .
فكان أبو ذر ينكر على معاوية أشياء يفعلها ، فبعث إليه معاوية يوما ثلثمائة دينار ، فقال أبو ذر لرسوله : إن كانت من عطائي الذى حرمتمونيه عامى هذا أقبلها ، وإن كانت صلة فلا حاجة لى فيها ، وردها عليه .
ثم بنى معاوية الخضراء بدمشق ، فقال أبو ذر : يا معاوية ، إن كانت هذه من مال الله فهى الخيانة ، وإن كانت من مالك فهى الاسراف .
وكان أبو ذر يقول بالشام والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها ، والله ماهى في كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ،(8/256)
والله إنى لارى حقا يطفأ وباطلا يحيا ، وصادقا مكذبا ، وأثره بغير تقى ، وصالحا مستأثرا عليه .
قال حبيب بن مسلمة الفهرى لمعاوية : إن أبا ذر لمفسد عليكم الشام ، فتدارك أهله إن كان لك فيه حاجة .
* * * وروى شيخنا أبو عثمان الجاحظ في كتاب " السفيانية " عن جلام بن جندل الغفاري ، قال : كنت غلاما لمعاوية على قنسرين والعواصم ، في خلافة عثمان ، فجئت إليه يوما اسأله عن حال عملي ، إذ سمعت صارخا على باب داره يقول : أتتكم القطار بحمل النار اللهم العن الامرين بالمعروف ، التاركين له .
اللهم العن الناهين عن المنكر المرتكبين له .
فازبأر معاوية وتغير لونه وقال : يا جلام أتعرف الصارخ ؟ فقلت : اللهم لا .
قال : من عذيري من جندب بن جنادة ! يأتينا كل يوم فيصرخ على باب قصرنا بما سمعت ! ثم قال : أدخلوه على ، فجئ بأبى ذر بين قوم يقودونه ، حتى وقف بين يديه ، فقال له معاوية : يا عدو الله وعدو رسوله ! تأتينا في كل يوم فتصنع ما تصنع ! أما إنى لو كنت قاتل رجل من أصحاب محمد من غير إذن أمير المؤمنين عثمان لقتلتك ، ولكني أستاذن فيك .
قال جلام : وكنت أحب أن أرى أبا ذر ، لانه رجل من قومي ، فالتفت إليه فإذا رجل أسمر ضرب (1) من الرجال ، خفيف العارضين ، في ظهره جنأ (2) ، فأقبل على معاوية وقال : ما أنا بعدو لله ولا لرسوله ، بل أنت وأبوك عدوان لله ولرسوله ، أظهرتما الاسلام وأبطنتما الكفر ، ولقد لعنك رسول الله صلى الله عليه ، ودعا عليك مرات ألا تشبع .
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله ، يقول : " إذا ولى الامة الاعين الواسع البلعوم ، الذى يأكل ولا يشبع ، فلتأخذ الامة حذرها منه " .
فقال معاوية : ما أنا ذاك
__________
(1) الضرب : الخفيف اللحم .
(2) يقال جنئ ، جنأ إذا أشرف كاهله على ظهره حدبا (*) .(8/257)
قال أبو ذر : بل أنت ذلك الرجل ، أخبرني بذلك رسول الله صلى الله عليه ، وسمعته يقول وقد مررت به " اللهم العنه ولا تشبعه إلا بالتراب " ، وسمعته صلى الله عليه يقول : " است معاوية في النار " .
فضحك معاوية وأمر بحبسه وكتب إلى عثمان فيه .
فكتب عثمان إلى معاوية : أن احمل جندبا إلى على أغلظ مركب وأوعره .
فوجه به مع من سار به الليل والنهار ، وحمله على شارف (1) ليس عليها إلا قتب ، حتى قدم به المدينة ، وقد سقط لحم فخذيه من الجهد .
فلما قدم بعث إليه عثمان : الحق بأى أرض شئت قال بمكة ؟ قال : لا ، قال : بيت المقدس ؟ قال : لا ، قال : بأحد المصرين ؟ قال : لا ، ولكني مسيرك إلى ربذة ، فسيرة إليها فلم يزل بها حتى مات .
وفى رواية الواقدي ، أن أبا ذر لما دخل على عثمان ، قال له : لا أنعم الله بقين عينا * * نعم ولا لقاه يوما زينا * تحية السخط إذا التقينا * فقال أبو ذر : ما عرفت اسمى " قينا " قط .
وفى رواية أخرى : لا أنعم الله بك عينا يا جنيدب ! فقال أبو ذر : أنا جندب ، وسماني رسول الله صلى الله عليه " عبد الله " ، فاخترت اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى سمانى به على اسمى .
فقال له عثمان : أنت الذى تزعم أنا نقول : يد الله مغلولة ، وإن الله فقير ونحن أغنياء ! فقال أبو ذر : لو كنتم لا تقولون هذا لانفقتم مال الله على عباده ، ولكني أشهد أنى سمعت رسول الله صلى الله عليه ، يقول : " إذا بلغ بنو أبى العاص ثلاثين رجلا ، جعلوا مال الله دولا ، وعباده خولا ، ودينه دخلا " .
فقال عثمان لمن حضر : أسمعتموها من رسول الله ؟ قالوا : لا ، قال عثمان : ويلك يا أبا ذر ! أتكذب على رسول الله ! فقال أبو ذر لمن حضر : أما تدرون أنى صدقت ! قالوا لا والله
__________
(1) الشارف : الناقة المسنة (*) .(8/258)
ما ندرى ، فقال عثمان : أدعوا لى عليا ، فلما جاء قال عثمان لابي ذر : أقصص عليه حديثك في بنى أبى العاص ، فأعاده ، فقال عثمان لعلى عليه السلام : أسمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه ! قال : لا ، وقد صدق أبو ذر .
فقال كيف عرفت صدقه ؟ قال : لانى سمعت رسول الله صلى الله عليه يقول : " ما أظلت الخضراء ، ولا أقلت الغبراء من ذى لهجة أصدق من أبى ذر " .
فقال من حضر : أما هذا فسمعناه كلنا من رسول الله فقال أبو ذر : أحدثكم أنى سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فتتهموننى ! ما كنت أظن أنى أعيش حتى أسمع هذا من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ! وروى الواقدي في خبر آخر بإسناده عن صهبان مولى ، الاسلميين ، قال : رأيت أبا ذر يوم دخل به على عثمان ، فقال له : أنت الذى فعلت وفعلت ! فقال أبو ذر : نصحتك فاستغششتنى ، ونصحت صاحبك فاستغشني ! قال عثمان : كذبت ، ولكنك تريد الفتنة وتحبها ، قد أنغلت (1) الشام علينا ، فقال له أبو ذر : اتبع سنة صاحبيك لا يكن لاحد عليك كلام .
فقال عثمان : مالك وذلك لا أم لك ! قال أبو ذر : والله ما وجدت لى عذرا إلا الامر بالمعروف والنهى عن المنكر .
فغضب عثمان ، وقال : أشيروا على في هذا الشيخ الكذاب ، أما أن أضربه ، أو أحبسه ، أو أقتله .
فإنه قد فرق جماعة المسلمين ، أو أنفيه من أرض الاسلام .
فتكلم على عليه السلام - وكان حاضرا - فقال : أشير عليك بما قال مؤمن آل فرعون : (فإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذى يعدكم إن الله لا يهدى من هو مسرف كذاب (2)) ، فأجابه عثمان بجواب غليظ ، وأجابه على عليه السلام بمثله ، ولم نذكر الجوابين تذمما منهما .
قال الواقدي : ثم إن عثمان حظر على الناس أن يقاعدوا أبا ذر ، أو ويكلموه .
فمكث
__________
(1) النغل : الافساد بين القوم .
(2) سورة غافر 28 (*)(8/259)
كذلك أياما ، ثم أتى به فوقف بين يديه ، فقال أبو ذر : ويحك يا عثمان ! أما رأيت رسول الله صلى الله عليه ، ورأيت أبا بكر وعمر ! هل هديك كهديهم ! أما إنك لتبطش بى بطش جبار .
فقال عثمان : أخرج عنا من بلادنا ، فقال أبو ذر ، ما أبغض إلى جوارك ! فإلى أين أخرج ؟ قال : حيث شئت قال : أخرج إلى الشام أرض الجهاد ؟ قال : إنما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها ، أفأردك إليها ! قال : أفأخرج إلى العراق ؟ قال : لا ، إنك إن تخرج إليها تقدم على قوم أولى شبه وطعن على الائمه والولاة ، قال : أفاخرج إلى مصر ؟ قال لا ، قال : فإلى أين أخرج ؟ قال : إلى البادية قال أبو ذر : أصير بعد الهجرة أعرابيا ! قال : نعم ، قال أبو ذر : فأخرج إلى بادية نجد ؟ قال عثمان : بل إلى الشرق الابعد ، أقصى فأقصى ، أمض على وجهك هذا فلا تعدون الربذة .
فخرج إليها .
* * * وروى الواقدي أيضا عن مالك بن أبى الرجال ، عن موسى بن ميسرة ، أن أبا الاسود الدؤلى ، قال : كنت أحب لقاء أبى ذر لاسأله عن سبب خروجه إلى الربذة ، فجئته فقلت له : ألا تخبرني ، أخرجت من المدينة طائعا ، أم أخرجت كرها ؟ فقال : كنت في ثغر من ثغور المسلمين أغنى عنهم ، فأخرجت إلى المدينة ، فقلت : دار هجرتى وأصحابي ، فأخرجت من المدينة إلى ما ترى .
ثم قال : بينا أنا ذات ليلة نائم في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه ، إذ مر بى عليه السلام فضربني برجله : وقال : لا أراك نائما في المسجد ، فقلت : بأبى أنت وأمى ! غلبتني عينى ، فنمت فيه .
قال : فكيف تصنع إذا أخرجوك منه ؟ قلت : إذا ألحق بالشام ، فإنها أرض مقدسة ، وأرض الجهاد .
قال : فكيف تصنع إذا أخرجت منها ؟ قلت : أرجع إلى المسجد ، قال : فكيف تصنع(8/260)
إذا أخرجوك منه ؟ قلت : آخذ سيفى فأضربهم به .
فقال : ألا أدلك على خير من ذلك ؟ انسق معهم حيث ساقوك ، وتسمع وتطيع .
فسمعت وأطعت وأنا أسمع وأطيع ، والله ليلقين الله عثمان وهو آثم في جنبى .
* * * واعلم أن أصحابنا رحمهم الله قد رووا أخبارا كثيرة معناها أنه أخرج إلى الربذة باختياره .
وحكى قاضى القضاة رحمه الله في " المغنى " عن شيخنا أبى على رحمه الله ، أن الناس اختلفوا في أمر أبى ذر ، وأن الرواية وردت بأنه قيل له : أعثمان أنزلك الربذة ؟ فقال : لا بل أنا اخترت لنفسي ذلك .
وروى أبو على أيضا أن معاوية كتب يشكوه وهو بالشام ، فكتب إليه عثمان : أن صر إلى المدينة .
فلما صار إليها ، قال له : ما أخرجك إلى الشام ؟ قال : إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : " إذا بلغت عمارة المدينة موضع كذا فاخرج منها " ، فلذلك خرجت .
فقال : أي البلاد أحب إليك بعد الشام ؟ قال الربذة ، فقال : صر إليها .
وروى الشيخ أبو على أيضا عن زيد بن وهب ، قال : قلت لابي ذر وهو بالربذة : ما أنزلك هذا المنزل ؟ قال : أخبرك أنى كنت بالشام ، فذكرت قوله تعالى : (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها) (1) .
فقال لى معاوية : هذه نزلت في أهل الكتاب ، فقلت : فيهم وفينا .
فكتب معاويه إلى عثمان في ذلك ، فكتب إلى : أن أقدم ، فقدمت عليه ، فانثال الناس إلى كأنهم لم يعرفونى ، فشكوت ذلك إلى عثمان ، فخيرني وقال : انزل حيث شئت ، فنزلت الربذة .
ونحن نقول : هذه الاخبار وإن كانت قد رويت ، لكنها ليست في الاشتهار
__________
(1) سورة التوبة 34 (*) .(8/261)
والكثرة كتلك الاخبار ، والوجه أن يقال في الاعتذار عن عثمان وحسن الظن بفعله : إنه خاف الفتنة واختلاف كلمة المسلمين ، فغلب على ظنه أن أخراج أبى ذر إلى الربذة أحسم للشغب ، وأقطع لاطماع من يشرئب إلى شق العصا ، فأخرجه مراعاة للمصلحة ، ومثل ذلك يجوز للامام .
هكذا يقول أصحابنا المعتزلة ، وهو الاليق بمكارم الاخلاق ، فقد قال الشاعر : إذا ما أتت من صاحب لك زلة * * فكن أنت محتالا لزلته عذرا وإنما يتأول أصابنا لمن يحتمل حاله التأويل كعثمان ، فأما من لم يحتمل حاله التأويل ، وإن كانت له صحبة سالفا كمعاوية وأضرابه ، فإنهم لا يتأولون لهم إذا كانت أفعالهم وأحوالهم لاوجه لتأويلها ، ولا تقبل العلاج والاصلاح .(8/262)
(131) الاصل : ومن كلام له عليه السلام : أيتها النفوس المختلفة ، والقلوب المتشتتة ، الشاهدة أبدانهم ، والغائبة عنهم عقولهم ، أظأر كم على الحق وأنتم تنفرون عنه نفور المعزى من وعوعة الاسد ! هيهات أن أطلع بكم سرار العدل ، أو أقيم اعوجاج الحق .
اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذى كان منا منافسة في سلطان ، ولا التماس شئ من فضول الحطام ، ولكن لنرد المعالم من دينك ، ونظهر الاصلاح في بلادك ، فيأمن المظلومون من عبادك ، وتقام المعطلة من حدودك .
اللهم إنى أول من أناب ، وسمع وأجاب ، لم يسبقنى إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة ، وقد علمتم أنه لا ينبغى أن يكون الوالى على الفروج والدماء والمغانم والاحكام وإمامة المسلمين البخيل ، فتكون في أموالهم نهمته .
ولا الجاهل فيضلهم بجهله ، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه ، ولا الحائف للدول فيتخذ قوما دون ، قوم ، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ، ويقف بها دون المقاطع ، ولا المعطل للسنة ، فيهلك الامة .
* * * الشرح : أظأركم : أعطفكم ، ظأرت الناقة ظأرا ، وهى ناقة مظؤورة إذا عطفتها على ولد غيرها ،(8/263)
وفى المثل : " الطعن يظأر " أي يعطف على الصلح (1) ، وظأرت الناقة أيضا إذا عطفت على البو ، يتعدى ولا يتعدى ، فهى ظؤور .
والوعوعة : الصوت ، والوعواع مثله .
وقوله : " هيهات أن أطلع بكم سرار العدل " ، يفسره الناس بمعنى هيهات أن أطلعكم مضيئين ومنورين لسرار العدل .
والسرار : آخر ليلة في الشهر ، وتكون مظلمة ويمكن عندي أن يفسر على وجه آخر ، وهو أن يكون السرار هاهنا بمعنى السرور ، وهى خطوط مضيئة في الجبهة ، وقد نص أهل اللغا على أنه يجوز سرر وسرار ، وقالوا : ويجمع سرار على أسرة ، مثل حمار وأحمرة ، قال عنترة : بزجاجة صفراء ذات أسرة * * قرنت بأزهر في الشمال مفدم (2) يصف الكأس ، ويقول : إن فيها خطوطا بيضا ، وهى زجاج أصفر .
ويقولون : برقت أسرة وجهه وأسارير وجهه ، فيكون معنى كلامه عليه السلام : هيهات أن تلمع بكم لوامع العدل ، وتنجلى أوضاحه ، ويبرق وجهه .
ويمكن فيه أيضا وجه آخر وهو أن ينصب " سرار " هاهنا على الظرفية ، ويكون التقدير : هيهات أن أطلع بكم الحق زمان استسرار العدل واستخفائه ، فيكون قد حذف المفعول ، وحذفه كثير .
ثم ذكر أن الحروب التى كانت منه لم تكن طلبا للملك ، ولا منافسة على الدنيا ، ولكن لتقام حدود الله على وجهها ، ويجرى أمر الشريعة والرعية على ما كان يجرى عليه أيام النبوة .
ثم ذكر أنه سبق المسلمين كلهم إلى التوحيد والمعرفة ، ولم يسبقه بالصلاة أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وآله ، وهكذا روى جمهور المحدثين ، وقد تقدم ذكر ذلك .
__________
(1) في اللسان : " الطعن يظأر ، أي يعطف على الصلح ، تقول : إذا خافك أن تطعنه فتتتله : عطفه ذلك عليك ، فجاد .
بماله للخوف " .
(2) من المعلقة - بشرح التبريزي 191 .
وذات أسرة ، ذات طرائق وخطوط (*) .(8/264)
فإن قلت : أي : وجه لادخال هذا الكلام في غضون مقصده في هذه الخطبة ، فإنها مبنية على ذم أصحابه ، وتقرير قاعدة الامامة ، وأنه لا يجوز أن يليها الفاسق ، وأنه لابد للامام من صفات مخصوصة ، عددها عليه السلام ، وكل هذا لا تعلق لسبقه إلى الاسلام ! قلت : بل الكلام متعلق بعضه ببعض من وجهين : أحدهما أنه لما قال : اللهم إنك تعلم أنى ما سللت السيف طلبا للملك ، أراد أن يؤكد هذا القول في نفوس السامعين ، فقال : أنا أول من أسلم ، ولم يكن الاسلام حينئذ معروفا أصلا ومن يكون إسلامه هكذا لا يكون قد قصد بإسلامه إلا وجه الله تعالى والقربة إليه ، فمن تكون هذه حاله في مبدأ أمره ، كيف يخطر ببال عاقل أنه يطلب الدنيا وحطامها ، ويجرد عليها السيف في آخر عمره ، ووقت انقضاء مده عمره ! والوجه الثاني أنه إذا كان أول السابقين ، وجب أن يكون أقرب المقربين ، لانه تعالى قال : (والسابقون السابقون أولئك المقربون) (1) ، ألا ترى أنه إذا قال الملك : " العالمون العاملون هم المختصون بنا " ، وجب أن يكون أعلمهم أشدهم به اختصاصا ، وإذا كان عليه السلام أقرب المقربين ، وجب أن تنتفى عنه الموانع الستة ، التى جعل كل واحد منها صادا عن الامامة ، وقاطعا عن استحقاقها ، وهى البخل والجهل والجفاء ، أي الغلظة والعصبية في دولته ، أي تقديم قوم على قوم ، والارتشاء في الحكم والتعطيل للسنة ، وإذا انتفت عنه هذه الموانع الستة تعين أن يكون هو الامام لان شروط الامامة موجودة فيه بالاتفاق ، فإذا كانت موانعها عنه منتفية ولم يحصل لغيره اجتماع الشروط ، وارتفاع الموانع ، وجب أن يكون هو الامام ، لانه لا يجوز خلو العصر من إمام سواء كانت هذه القضية عقلية أو سمعية .
__________
(1) سورة الواقعة 10 (*) .(8/265)
فإن قلت : أفتراه عنى بهذا قوما بأعيانهم ؟ قلت : الامامية تزعم أنه رمز في الجفاء والعصبية لقوم دون قوم إلى عمر ، ورمز بالجهل إلى من كان قبله ، ورمز بتعطيل السنة إلى عثمان ومعاوية ، وأما نحن فنقول : إنه عليه السلام لم يعن ذلك ، وإنما قال قولا كليا غير مخصوص ، وهذا هو اللائق بشرفه عليه السلام ، وقول الامامية دعوى لا دليل عليها ، ولا يعدم كل أحد أن يستنبط من كل كلام ما يوافق غرضه ، وإن غمض ، ولا يجوز أن تبنى العقائد على مثل هذه الاستنباطات الدقيقة .
والنهمة : الهمة الشديدة بالامر ، قد نهم بكذا بالضم ، فهو منهوم أي مولع به حريص عليه ، يقول : إذا كان الامام بخيلا كان حرصه وجشعه على أموال رعيته ، ومن رواها " نهمته " ، بالتحريك فهى إفراط الشهوة في الطعام ، والماضي نهم ، بالكسر .
قوله عليه السلام : " فيقطعهم بجفائه " أي يقطعهم عن حاجاتهم لغلظته عليهم ، لان الوالى إذا كان غليظا جافيا أتعب الرعية وقطعهم عن مراجعته في حاجاتهم خوفا من بادرته ، ومعرته .
قوله ، " ولا الحائف للدول " ، أي الظالم لها والجائر عليها .
والدول جمع دولة بالضم وهى اسم المال المتداول به ، يقال : هذا الفئ دولة بينهم ، أي يتداولونه ، والمعنى أنه يجب أن يكون الامام يقسم بالسوية ، ولا يخص قوما دون قوم على وجه العصبية لقبيلة دون قبيلة ، أو لانسان من المسلمين دون غيره ، فيتخذ بذلك بطانة .
قوله : " فيقف بها دون المقاطع " ، المقاطع : جمع مقطع ، وهو ما ينتهى الحق إليه ، أي لا تصل الحقوق إلى أربابها لاجل ما اخذ من الرشوة عليها .(8/266)
فإن قلت : فما باله قال في المانع السادس : " فيهلك الامة " وكل واحد من الموانع قبله يفضى إلى هلاك الامه ! ؟ قلت : كل واحد من الموانع الخمسة يفضى إلى هلاك بعض الامة ، وأما من يعطل السنة أصلا ، فإنه لا محالة مهلك للامة كلها ، لانه إذا عطل السنة مطلقا ، عادت الجاهلية الجهلاء كما كانت .
وقد روى : " ولا الخائف الدول " بالخاء المعجمة .
ونصب " الدول " أي من يخاف دول الايام وتقلبات الدهر فيتخذ قوما دون قوم ظهريا ، وهذا معنى لا بأس به .(8/267)
(132) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : نحمده على ما أخذ وأعطى ، وعلى ما أبلى وابتلى ، الباطن لكل خفية والحاضر لكل سريرة العالم بما تكن الصدور ، وما تخون العيون .
ونشهد أن لا إله غيره ، وأن محمدا صلى الله عليه نجيبه وبعيثه ، شهادة يوافق فيها السر الاعلان ، والقلب اللسان .
* * * الشرح : على ما أبلى ، أي ما أعطى ، يقال قد أبلاه الله بلاء حسنا ، أي أعطاه ، قال زهير : جزى الله بالاحسان ما فعلا بكم * * وأبلاهما خير البلاء الذى يبلو (1) وأما قوله : " وابتلى " فالابتلاء إنزال مضرة بالانسان على سييل الاختبار ، كالمرض والفقر والمصيبة وقد يكون الابتلاء بمعنى الاختبار في الخير : إلا أنه أكثر ما يستعمل في الشر .
والباطن : العالم يقال بطنت الامر ، أي خبرته .
وتكن الصدور : تستر ، وما تخون العيون : ما تسترق من اللحظات والرمزات على غير الوجه الشرعي .
والنجيب : المنتجب .
والبعيث : المبعوث .
* * *
__________
(1) ديوانه 109 ، وروايته : " رأى الله بالاحسان " (*) .(8/268)
الاصل : منها : فإنه والله الجد لا اللعب ، والحق لا الكذب ، وما هو إلا الموت أسمع داعيه ، وأعجل حاديه .
فلا يغرنك سواد الناس من نفسك ، وقد رأيت من كان قبلك ممن جمع المال وحذر الاقلال ، وأمن العواقب ، طول أمل واستبعاد أجل ، كيف نزل به الموت فأزعجه عن وطنه ، وأخذه من مأمنه ، محمولا على أعواد المنايا ، يتعاطى به الرجال الرجال ، حملا على المناكب ، وإمساكا بالانامل .
أما رأيتم الذين يأملون بعيدا ، ويبنون مشيدا ، ويجمعون كثيرا ! كيف أصبحت بيوتهم قبورا ، وما جمعوا بورا ، وصارت أموالهم للوارثين ، وأزواجهم لقوم آخرين ، لا في حسنة يزيدون ، ولا من سيئة يستعتبون .
فمن أشعر التقوى قلبه ، برز مهله وفاز عمله ، فاهتبلوا هبلها ، واعملوا للجنة عملها ، فإن الدنيا لم تخلق لكم دار مقام ، بل خلقت لكم مجازا ، لتزودوا منها الاعمال إلى دار القرار .
فكونوا منها على أوفاز ، وقربوا الظهور للزيال .
* * * الشرح : قوله عليه السلام : " فإنه والله الجد " ، الضمير للامر والشأن الذى خاض معهم في ذكره ووعظهم بنزوله .
ثم أوضحه بعد إجماله ، فقال : إنه الموت الذى دعا فأسمع ، وحدا فأعجل .(8/269)
وسواد الناس : عامتهم .
ومن هاهنا ، إما بمعنى الباء ، أي لا يغرنك الناس بنفسك وصحتك وشبابك ، فتستبعد الموت اغترارا بذلك ، فتكون متعلقة بالظاهر ، وإما أن تكون متعلقة بمحذوف ، تقديره : متمكنا من نفسك وراكنا إليها .
والاقلال : الفقر .
وطول الامل منصوب على أنه مفعول له .
فإن قلت : المفعول له ينبغى أن يكون الفعل علة في المصدر وهاهنا ليس الامن علة طول الامل ، بل طول الامل علة الامن ؟ قلت : كما يجوز أن يكون طول الامل علة الامن : يجوز أن يكون الامن علة طول الامل ، ألا ترى أن الانسان قد يأمن المصائب فيطول أمله في البقاء ووجوه المكاسب ، لاجل ما عنده من الامن .
ويجوز أن ينصب " طول الامل " على البدل من المفعول المنصوب ب " رايت " .
وهو " من " ، ويكون التقدير : قد رأيت طول أمل من كان .
وهذا بدل الاشتمال ، وقد حذف منه الضمير العائد كما حذف من قوله تعالى : (قتل أصحاب الاخدود النار) .
وأعواد المنايا : النعش .
ويتعاطى به الرجال الرجال : يتداولونه ، تارة على أكتاف هؤلاء وتارة على أكتاف هؤلاء ، وقد فسر ذلك بقوله : " حملا على المناكب ، وإمساكا بالانامل " .
والمشيد المبنى بالشيد ، وهو الجص .
والبور : الفاسد الهالك ، وقوم بور ، أي هلكى ، قال سبحانه : (وكنتم قوما بورا) (1) ، وهو جمع ، واحده بائر كحائل وحول .
__________
(1) سورة الفتح - 11 (*) .(8/270)
ويستعتبون هاهنا يفسر بتفسيرين ، على اختلاف الروايتين : فمن رواه بالضم على فعل ما لم يسم فاعله ، فمعناه لا يعاتبون على فعل سيئة صدرت منهم أيام حياتهم ، أي لا يعاتبهم الناس أو لا يستطيعون وهم موتى أن يسيئوا إلى أحد إساءة يعاتبون عليها ، ومن رواه " يستعتبون " بفتح حرف المضارعة ، فهو من استعتب فلان ، أي طلب أن يعتب ، أي يرضى تقول : استعتبته فأعتبنى ، أي استرضيته فأرضاني .
وأشعر فلان التقوى قلبه : جعله كالشعار له ، أي يلازمه ملازمة شعار الجسد .
وبرز مهله ، ويروى بالرفع وبالنصب ، فمن رواه بالرفع جعله فاعل " برز " ، أي من فاق شوطه ، برز الرجل على أقرانه أي فاقهم ، والمهل شوط الفرس ، ومن رواه بالنصب جعل " برز " بمعنى أبرز ، أي أظهر وأبان ، فنصب حينئذ على المفعولية .
واهتبلت غرة زيد ، أي اغتنمتها ، والهبال : الصياد الذى يهتبل الصيد أن يغره وذئب هبل أي محتال ، و " هبلها " منصوب على المصدر كأنه من هبل مثل غضب غضبا ، أي اغتنموا .
وانتهزوا الفرصة ، الانتهاز الذى يصلح لهذه الحال ، أي ليكن هذا الاهتبال بجد وهمة عظيمة ، فإن هذه الحال حال عظيمة لا يليق بها إلا الاجتهاد العظيم .
وكذا قوله : " واعملوا للجنة عملها " ، أي العمل الذى يصلح أن يكون ثمرته الجنة .
ودار مقام ، أي دار إقامة .
والمجاز الطريق يجاز عليه إلى المقصد .
والاوفاز : جمع وفز بسكون الفاء ، وهو العجلة ، والظهور الركاب جمع ظهر ، وبنو فلان مظهرون : أي لهم ظهور ينقلون عليها الاثقال ، كما يقال منجبون ، إذا كانوا أصحاب نجائب .
والزيال : المفارقة زايله مزايلة ، وزيالا ، أي فارقه .(8/271)
(133) الاصل : ومن كلام له عليه السلام : وانقادت له الدنيا والاخرة بأزمتها ، وقذفت إليه السموات والارضون مقاليدها ، وسجدت له بالغدو والاصال الاشجار الناضرة ، وقدحت له من قضبانها النيران المضيئة ، وآتت أكلها بكلماته الثمار اليانعة .
* * * الشرح : الضمير في " له " يرجع إلى الله تعالى ، وقد كان تقدم ذكر سبحانه في أول الخطبة ، وإن لم يذكره الرضى رحمه الله ، ومعنى انقياد الدنيا والاخرة له نفوذ حكمه فيهما ، وشياع قدرته وعمومها .
وأزمتها : لفظة مستعارة من انقياد الابل بأزمتها مع قائدها .
والمقاليد المفاتيح .
ومعنى سجود الاشجار الناضرة له تصرفها حسب إرادته ، وكونها مسخرة له محكوما عليها بنفوذ قدرته فيها : فجعل عليه السلام ذلك خضوعا منها لمشيئته ، واستعار لها ما هو أدل على خضوع الانسان من جمع أفعاله ، وهو السجود ومنه قوله تعالى : (ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الارض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس) (1) .
__________
(1) سورة الحج 18 (*) .(8/272)
قوله : وقدحت له من قضبانها " بالضم : جمع قضيب ، وهو الغصن ، والمعنى أنه بقدرته أخرج من الشجر الاخضر نارا ، والنار ضد هذا الجسم المخصوص ، وهذا هو قوله تعالى : (الذى جعل لكم من الشجر الاخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون) (1) بعينه .
وآتت أكلها : أعطت ما يؤكل منها ، وهو أيضا من الالفاظ القرآنية (2) .
واليانعة : الناضجة .
وبكلماته ، أي بقدرته ومشيئته ، وهذه اللفظة من الالفاظ المنقولة على أحد الاقسام الاربعة المذكورة في كتبنا في أصول الفقه ، وهو استعمال لفظة متعارفة في اللغة العربيه في معنى لم يستعملها أهل اللغه فيه ، كنقل لفظه " الصلاة " الذى هو في أصل اللغه للدعاء إلى هيئات وأوضاع مخصوصة ، ولم تستعمل العرب تلك اللفظة فيها .
ولا يصح قول من قال : المراد بذلك قوله : " كن " ، لانه تعالى لا يجوز أن يخاطب المعدوم وقوله تعالى : (إنما أمرنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) (3) من باب التوسع والاستعارة المملوء منهما القرآن ، والمراد سرعة المؤاتاة ، وعجلة الايجاد ، وأنه إذا أراد من أفعاله أمرا كان .
* * * الاصل منها : وكتاب الله بين أظهركم ناطق لايعيا لسانه ، وبيت لا تهدم أركانه ، وعز لا تهزم أعوانه .
__________
(1) سورة يس 80 .
(2) وهو قوله تعالى في سورة البقرة 265 : (كمثل جنة بربوة أصابها وابل فلت أكلها ضعفين) .
(3) سورة النحل 40 (*) .(8/273)
الشرح : يقال هو نازل بين أظهرهم وبين ظهريهم ، وبين ظهرانيهم ، بفتح النون ، أي نازل بينهم .
فإن قلت لماذا قالت العرب " بين أظهرهم " ، ولم تقل : " بين صدورهم " ؟ قلت : أرادت بذلك الاشعار بشدة المحاماة عنه ، والمراماة من دونه لان النزيل إذا حامى القوم عنه استقبلوا شبا الاسنة ، وأطراف السيوف عنه بصدورهم ، وكان هو محروسا مصونا عن مباشرة ذلك وراء ظهورهم .
ولا يعيا لسانه : لا يكل ، عييت بالمنطق ، فأنا عيى ، على " فعيل " ، ويجوز ، عى الرجل في منطقه ، بالتشديد ، فهو " عى " على " فعل " .
* * * الاصل : منها : أرسله على حين فترة من الرسل ، وتنازع من الالسن ، فقفي به الرسل ، وختم به الوحى ، فجاهد في الله المدبرين عنه ، والعادلين به .
* * * الشرح : الضمير في " أرسله " ، راجع إلى النبي صلى الله عليه وآله ، وهو مذكور في كلام لم يحكه جامع الكتاب .
والفترة زمان انقطاع الوحى ، والتنازع من الالسن ، أن قوما في الجاهلية كانوا يعبدون(8/274)
الصنم ، وقوما يعبدون الشمس وقوما يعبدون الشيطان ، وقوما يعبدون المسيح ، فكل طائفة تجادل مخالفيها بألسنتها لتقودها إلى معتقدها .
وقفى به الرسل ، أتبعها به ، قال سبحانه : (ثم قفينا على آثارهم برسلنا) (1) ، ومنه الكلام المقفى وسميت قوافى الشعر ، لان بعضها يتبع بعضا .
والعادلين به : الجاعلين له عديلا ، أي مثلا ، وهو من الالفاظ القرآنية أيضا ، قال الله تعالى : (بربهم يعدلون) (2) * * * الاصل : منها : وإنما الدنيا منتهى بصر الاعمى ، لا يبصر مما وراءها شيئا ، والبصير ينفذها بصرة ، ويعلم أن الدار وراءها ، فالبصير منها شاخص ، والاعمى إليها شاخص ، والبصير منها متزود ، والاعمى لها متزود .
* * * الشرح : شبه الدنيا وما بعدها بما يتصوره الاعمى ، من الظلمة التى يتخيلها ، وكأنها محسوسة له ، وليست بمحسوسة على الحقيقة ، وإنما هي عدم الضوء ، كمن يطلع في جب ضيق ، فيتخيل ظلاما ، فإنه لم ير شيئا ، ولكن لما عدم الضوء فلم ينفذ البصر تخيل أنه يرى الظلمة ، فإما من يرى المبصرات في الضياء ، فإن بصره ينفذ فيشاهد المحسوسات يقينا ، وهذه حال
__________
(1) المائدة 46 .
(2) سورة الانعام 1 (*) .(8/275)
الدنيا والاخرة ، أهل الدنيا منتهى بصرهم دنياهم ، ويظنون أنهم يبصرون شيئا وليسوا بمبصرين على الحقيقة ، ولا حواسهم نافذه في شئ وأهل الاخرة قد نفذت أبصارهم ، فرأوا الاخرة ، ولم يقف إحساسهم على الدنيا خاصة ، فأولئك هم أصحاب الابصار على الحقيقة ، وهذا معنى شريف من معاني أصحاب الطريقة والحقيقة ، وإليه الاشارة بقوله سبحانه : (أم لهم أعين يبصرون بها) (1) فأما قوله : " فالبصير منها شاخص ، والاعمى إليها شاخص " ، فمن مستحسن التجنيس ، وهذا هو الذى يسميه أرباب الصناعة الجناس التام ، فالشاخص الاول الراحل ، والشاخص الثاني ، من شخص بصره ، بالفتح ، إذا فتح عينه نحو الشئ مقابلا له ، وجعل لا يطرف .
[ فصل في الجناس وأنواعه ] واعلم أن الجناس على سبعة أضرب (2) : أولها : الجناس التام كهذا اللفظ ، وحده أن تتساوى حروف ألفاظ الكلمتين في تركيبها وفى وزنها ، قالوا : ولم يرد في القرآن العزيز منه إلا موضع واحد ، وهو قوله : (ويوم تقوم الساعه يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة) (3) .
وعندي أن هذا ليس بتجنيس أصلا ، وقد ذكرته في كتابي المسمى " بالفلك الدائر على المثل السائر " وقلت : إن الساعة في الموضعين بمعنى واحد ، والتجنيس أن يتفق اللفظ ويختلف المعنى ، ولا يكون أحدهما حقيقة والاخر مجازا ، بل يكونان حقيقتين ، وإن
__________
(1) سورة الاعراف 195 .
(2) هذا التقسيم ، مع معظم الشواهد أورده ابن الاثير في المثل السائر 1 : 246 وما بعدها .
(3) سورة الروم 55 (*) .(8/276)
زمان القيامة وإن طال ، لكنه عند الله في حكم الساعة الواحدة ، لان قدرته لا يعجزها أمر ، ولا يطول عندها زمان ، فيكون إطلاق لفظ " الساعة " على أحد الموضعين حقيقة وعلى الاخر مجازا ، وذلك يخرج الكلام عن حد التجنيس ، كما لو قلت : ركبت حمارا ، ولقيت حمارا ، وأردت بالثاني البليد .
وأيضا فلم لا يجوز أن يكون أراد بقوله : (ويوم تقوم الساعة) الاولى خاصة من زمان البعث ، فيكون لفظ " الساعة " مستعملا في الموضعين حقيقة بمعنى واحد ، فيخرج عن التجنيس ، وعن مشابهة التجنيس بالكلية .
قالوا : وورد في السنة من التجنيس التام خبر واحد ، وهو قوله صلى الله عليه وآله لقوم من الصحابة ، كانوا يتنازعون جرير بن عبد الله البجلى في زمام ناقته : " خلوا بين جرير والجرير " ، فالجرير الثاني الحبل .
وجاء من ذلك في الشعر لابي تمام قوله : فأصبحت غرر الاسلام مشرقة * * بالنصر تضحك عن أيامك الغرر (1) فالغرر الاولى مستعارة من غرة الوجه ، والغرر الثانية من غرة الشئ ، وهى أكرمه .
وكذلك قوله : من القوم جعد أبيض الوجه والندى * * وليس بنان يجتدى منه بالجعد (2) فالجعد الاول السيد ، والثانى ضد السبط وهو من صفات البخيل .
وكذلك قوله : بكل فتى ضرب يعرض للقنا * * محيا محلى حليه الطعن والضرب (3)
__________
(1) المثل السائر 1 : 247 ، وليس في ديوانه .
(2) ديوانه 2 : 121 .
(3) ديوانه 1 : 199 (*) .(8/277)
فالضرب الاول الرجل الخفيف ، والثانى مصدر " ضرب " .
وكذلك قوله : عداك حر الثغور المستضامه عن * * برد الثغور وعن سلسالها الحصب (1) فأحدهما جمع " ثغر " وهو ما يتأخم العدو من بلاد الحرب ، والثانى للاسنان .
ومن هذه القصيدة كم أحرزت قضب الهندي مصلته * * تهتز من قضب تهتز في كثب بيض إذا انتضيت من حجبها رجعت * * أحق بالبيض أبدانا من الحجب (2) .
وقد أكثر الناس في استحسان هذا التجنيس وأطنبوا ، وعندي أنه ليس بتجنيس أصلا ، لان تسمية السيوف " قضبا " وتسمية الاغصان " قضبا " كله بمعنى واحد ، وهو القطع ، فلا تجنيس إذا .
وكذلك البيض للسيوف ، والبيض للنساء ، كله بمعنى البياض ، فبطل معنى التجنيس ، وأظنني ذكرت هذا أيضا في كتاب " الفلك الدائر " (3) .
قالوا : ومن هذا القسم قوله أيضا : إذا الخيل جابت قسطل الخيل صدعوا * * صدور العوالي في صدور الكتائب (4) وهذا عندي أيضا ليس بتجنيس ، لان الصدور في الموضعين بمعنى واحد ، وهو جزء الشئ المتقدم البارز عن سائره ، فأما قوله أيضا : عامى وعام العيس بين وديقة * * مسجورة ، وتنوفة صيخود (5)
__________
(1) ديوانه 1 : 68 ، 77 ، 78 .
والحصب : الذى فيه صغار الحصى .
(2) أبدانا ، من صفات نساء الروم ، ورواية الديوان : " أحق بالبيض أترابا " .
(3) الفلك الدائر 91 .
(4) ديوانه 1 : 215 ، وقال في شرحه : يقول : إذا شقت الخيل غبار الحرب ، فإنهم يطعنون الابطلال بالرماح حتى يكسروها في صدورهم .
(5) ديوانه 2 : 393 ، والدبقة : شدة الحر .
ومسجورة : مملوءة بالسراب .
والتنوفة : القفر من الارض .
وصيخود : صلبة (*) .(8/278)
حتى أغادر كل يوم بالفلا * * للطير عيدا من بنات العيد (1) فإنه من التجنيس التام ، لا شبهة في ذلك لاختلاف المعنى ، فالعيد الاول هو اليوم المعروف من الاعياد ، والعيد الثاني فحل من فحول الابل .
ونحو هذا قول أبى نواس : عباس عباس إذا احتدم الوغى * * والفضل فضل والربيع ربيع (2) وقول البحترى : إذا العين راحت وهى عين على الهوى * * فليس بسر ما تسر الاضالع (3) فالعين الثانية الجاسوس ، والاولى العين المبصرة .
وللغزى المتأخر قصيده أكثر من التجنيس التام فيها ، أولها : لو زارنا طيف ذات الخال أحيانا * * ونحن في حفر الاجداث أحيانا وقال في أثنائها : تقول أنت امرؤ جاف مغالطة * * فقلت لا هومت أجفان اجفانا وقال في مديحها : لم يبق غيرك إنسان يلاذ به * * فلا برحت لعين الدهر إنسانا وقد ذكر الغانمى في كتابه من صناعة الشعر بابا سماه رد الاعجاز على الصدور ، ذكر أنه خارج عن باب التجنيس ، قال مثل قول الشاعر : ونشرى بجميل الصن * * - ع ذكرا طيب النشر ونفرى بسيوف الهن * * د من أسرف في النفر
__________
(1) العيد هنا : ما يعتاد .
(2) ديوانه 1 : 96 والمثل السائر 1 : 251 .
(3) ديوانه 20 : 76 (*) .(8/279)
وبحري في شرى الحمد على شاكلة البحر وهذا من التجنيس ، وليس بخارج عنه ولكنه تجنيس مخصوص ، وهو الاتيان به في طرفي البيت .
وعد ابن الاثير الموصلي في كتابه من التجنيس قول الشاعر في الشيب : يا بياضا أذرى دموعي حتى * * عاد منها سواد عينى بياضا وكذلك قول البحترى : وأغر في الزمن البهيم محجل * * قد رحت منه على أغر محجل (1) وهذا عندي ليس بتجنيس ، لاتفاق المعنى .
والعجب منه أنه بعد إيراده هذا أنكر على من قال : إن قول أبى تمام : أظن الدمع في خدى سيبقى * * رسوما من بكائى في الرسوم (2) من التجنيس ، وقال : أي تجنيس هاهنا والمعنى متفق ! ولو أمعن النظر لرأى هذا مثل البيتين السابقين .
قالوا : فأما الاجناس الستة الباقية ، فإنها خارجة عن التجنيس التام ، ومشبهة به .
فمنها أن تكون الحروف متساوية في تركيبها ، مختلفة في وزنها ، فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله : " اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي " ، وقول بعضهم : لن تنالوا غرر المعالى إلا بركوب الغرر ، واهتبال الغرر " ، وقول البحترى : وفر الحائن المغرور يرجو * * أمانا ، أي ساعة ما أمان (3)
__________
(1) المثل السائر 1 : 352 ، وذكر بعده : كالهيكل المبنى إلا أنه * * في الحسن جاء كصورة في هيكل ولم أجدها في ديوانه .
(2) ديوانه 3 : 160 .
(3) ديوانه 2 : 279 والحائن : الذي قرب حينه (*) .(8/280)
يهاب الالتفات وقد تصدى للحظة طرفه طرف السنان وقال آخر : قد ذبت بين حشاشه وذماء * * ما بين حر هوى وحر هواء ومنها : أن تكون الالفاظ متساوية في الوزن مختلفة في التركيب بحرف واحد ، لا غير فإن زاد على ذلك خرج من باب التجنيس ، وذلك نحو قوله تعالى : (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة) (1) وكذلك قوله سبحانه : (وهم ينهون عنه وينأون عنه) (2) وقوله تعالى : (ذلكم بما كنتم تفرحون في الارض بغير الحق وبما كنتم تمرحون) (3) ونحو هذا ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله من قوله : " الخيل معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة " ، وقال بعضهم : " لا تنال المكارم إلا بالمكاره .
وقال أبو تمام : يمدون من أيد عواص عواصم * * تصول بأسياف قواض قواضب (4) وقال البحترى : من كل ساجى الطرف أغيد أجيد * * ومهفهف الكشحين أحوى أحور (5) وقال أيضا : شواجر أرماح تقطع بينهم * * شواجن أرحام ملوم قطوعها .
__________
(1) سورة القيامة 22 ، 23 .
(2) سورة الانعام 26 .
(3) سورة غافر 75 .
(4) ديوانه 1 : 213 .
(5) ديوانه 2 : 319 .
(6) ديوانه 1 : 212 (*) .(8/281)
وهذا البيت حسن الصنعة لانه قد جمع بين التجنيس الناقص وبين المقلوب ، وهو أرماح ، وأرحام .
ومنها أن تكون الالفاظ مختلفه في الوزن والتركيب بحرف واحد ، كقوله تعالى : (والتفت الساق بالساق ، إلى ربك يومئذ المساق) (1) ، وكقوله تعالى : (وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) (2) ، وكقول النبي صلى الله عليه وآله : " المسلم من سلم الناس من لسانه ويده " .
وقول بعضهم : الصديق لا يحاسب ، والعدو لا يحتسب له ، هكذا ذكر ابن الاثير هذه الامثلة .
قال : ومن هذا القسم قول أبى تمام : أيام تدمى عينه تلك الدمى * * حسنا وتقمر لبه الاقمار (3) بيض فهن إذا رمقن سوافرا * * صور وهن إذا رمقن صوار (4) وكذلك قوله أيضا : بدر أطاعت فيك بادرة النوى * * ولعا وشمس أولعت بشماس (5) قوله أيضا : جهلوا فلم يستكثروا من طاعة * * معروفة بعمارة الاعمار (6) وقوله أيضا : إن الرماح إذا غرسن بمشهد * * فجنى العوالي في ذراه معال (7)
__________
(1) سورة القيامة 29 ، 30 .
(2) سورة الكهف 104 .
(3) ديوانه 2 : 166 ، وروايته : " فيها وتقمر " .
ويقمرن لبه : يذهبن به .
(4) وهن إذا رمقن صوار ، أي تشبه عيون بقر الوحش إذا نظرت .
(5) ديوانه 2 : 244 .
(6) ديوانه 2 : 208 ، والمثل السائر 1 : 258 ، وذكر قبله : كادوا النبوة والهدى فتقطعت * * أعناقهم في ذلك المضمار (7) ديوانه 3 : 143 (*) .(8/282)
وقوله أيضا : إذا أحسن الاقوام أن يتطاولوا * * بلا نعمة أحسنت أن تتطولا (1) وقوله أيضا : شد ما استنزلتك عن دمعك الاظعان حتى استهل صوب العزالى (2) أي ربع يكذب الدهر عنه * * وهو ملقى على طريق الليالى ! بين حال جنت عليه وحول * * فهو نضو الاوحال والاحوال أي حسن في الذاهبين تولى * * وجمال على ظهور الجمال ودلال مخيم في ذرى الخيم وحجل مقصر في الحجال .
فالبيت الثالث والخامس هما المقصودان بالتمثيل .
ومن ذلك قول على بن جبلة : وكم لك من يوم رفعت عماده * * بذات جفون أو بذات جفان (3) وكقول البحترى : نسيم الروض في ريح شمال * * وصوب المزن في راح شمول (4) وكقوله أيضا : جدير بأن تنشق عن ضوء وجهه * * ضبابة نقع تحتها الموت ناقع (5)
__________
(1) ديوانه 3 : 100 .
(2) لم أجدها في ديوانه .
(3) المثل السائر 1 : 259 ، وروايته : " رفعت عماده " .
(4) ديوانه 2 : 160 ، وقبله : وذكرنيك والذكرى عناء * * مشابه فيك بينة الشكول (5) ديوانه 2 : 77 (*) .(8/283)
واعلم أن هذه الامثلة لهذا القسم ، ذكرها ابن الاثير في كتابه ، وهو عندي مستدرك ، لانه حد هذا القسم بما يختلف تركيبه ، يعنى حروفه الاصلية ، ويختلف أيضا وزنه ويكون اختلاف تركيبه بحرف واحد .
هكذا قال في تحديده لهذا القسم ، وليس بقمر والاقمار مختلفين بحرف واحد ، وكذلك عمارة والاعمار ، وكذلك العوالي والمعالى .
وأما قوله تعالى : (وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) فخارج عن هذا بالكلية ، لان جميع أمثلة هذا القسم يختلف فيه الكلمات بالحروف الزائدة ، وهذه الاية اختلاف كلمتيها بحروف أصلية ، فليست من التجنيس الذى نحن بصدده ، بل هي من باب تجنيس التصحيف كقول البحترى : ولم يكن المعتز بالله إذ سرى * * ليعجز والمعتز بالله طالبه (1) ثم قال ابن الاثير في هذا القسم أيضا : ومن ذلك قول محمد بن وهيب الحميرى : قسمت صروف الدهر بأسا ونائلا * * فمالك موتور وسيفك واتر .
وهذا أيضا عندي مستدرك ، لان اللفظتين كلاهما من الوتر ، ويرجعان إلى أصل واحد ، إلا أن أحد اللفظين مفعول والاخر فاعل ، وليس أحد يقول : إن شاعرا لو قال في شعره ضارب ومضروب ، لكان قد جانس .
* * * ومنها القسم المكنى بالمعكوس ، وهو على ضربين : عكس لفظ وعكس حرف فالاول كقولهم : " عادات السادات ، سادات العادات " ، وكقولهم : شيم الاحرار أحرار الشيم .
ومن ذلك قول الاضبط بن قريع : قد يجمع المال غير آكله * * ويأكل المال غير من جمعه
__________
(1) ديوانه 1 : 118 .
(*)(8/284)
ويقطع الثوب غير لابسه * * ويلبس الثوب غير من قطعه ومثله قول المتنبي : فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله * * ولا مال في الدنيا لمن قل مجده (1) ومثله قول الرضى رحمه الله من أبيات يذم فيها الزمان : أسف بمن يطير إلى المعالى * * وطار بمن يسف إلى الدنايا (2) ومثله قول آخر : إن الليالى للانام مناهل * * تطوى وتنشر بينها الاعمار (3) فقصارهن مع الهموم طويلة وطوالهن مع السرور قصار ولبعض شعراء الاندلس يذكر غلامه (4) غيرتنا يد الزما * * ن فقد شبت والتحى فاستحال الضحى دجى * * واستحال الدجى ضحى ويسمى هذا الضرب التبديل ، وقد مثله قدامه بن جعفر الكاتب بقولهم : " اشكر لمن أنعم عليك ، وأنعم على من شكرك " .
ومثله قول النبي صلى الله عليه وآله : " جار الدار أحق بدار الجار " .
قالوا : ومنه قوله تعالى : (يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى) (5) ولا أراه منه ، بل هو من باب الموازنة .
ومثلوه أيضا بقول أمير المؤمنين عليه السلام : أما بعد فان الانسان يسره درك ما لم يكن ليفوته ، ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه .
وبقول أبى تمام لابي العميثل
__________
(1) ديوانه 2 : 23 .
(2) ديوانه ...
(3) ابن الاثير من غير نسبة .
(4) نسبه ابن الاثير إلى ابن الزقاق الاندلسي .
(5) سورة الروم 19 (*) .(8/285)
وأبى سعيد الضرير ، فإنهما قالا لما امتدح عبد الله بن طاهر بقصيدة ، وفى افتتاحها تكلف وتعجرف : لم لا تقول ما يفهم ؟ فقال لهما : لم لا تفهمان ما يقال ! والضرب الثاني من هذا القسم عكس الحروف ، وهو كقول بعضهم وقد أهدى لصديق له كرسيا : أهديت شيئا يقل لولا * * أحدوثة الفال والتبرك " كرسى " تفاءلت فيه لما * * رأيت مقلوبه " يسرك " وكقول الاخر : كيف السرور بإقبال وآخره * * إذا تأملته مقلوب إقبال أي لا بقاء (1) .
وكقول الاخر : جاذبتها والريح تجذب عقربا * * من فوق خد مثل قلب العقرب وطفقت ألثم ثغرها فتمنعت * * وتحجبت عنى بقلب العقرب يريد " برقعا " (2) .
ومنها النوع المسمى المجنب ، وهو أن يجمع بين كلمتين إحداهما كالجنيبة التابعة للاخرى ، مثل قول بعضهم : أبا الفياض لا تحسب بأنى * * لفقري من حلى الاشعار عارى (3) فلى طبع كسلسال معين * * زلال من ذري الاحجار جاري وهذا في التحقيق هو الباب المسمى لزوم مالا يلزم ، وليس من باب التجنيس .
ومنها المقلوب ، وهو ما يتساوى وزنه وتركيبه إلا أن حروفه تتقدم وتتأخر ، مثل قول أبى تمام :
__________
(1) وهو مقلوب " إقبال " .
(2) وهو مقلوب لفظ " العقرب " .
(3) في المثل السائر : " أبا العباس " (*) .(8/286)
بيض الصفائح لا سود الصحائف في * * متونهن جلاء الشك والريب (1) وقد ورد مثل ذلك في المنثور نحو ما روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه يقال يوم القيامة لصاحب القرآن : اقرأ وارق " .
وقد تكلمت في كتابي المسمى " بالعبقرى الحسان " على أقسام الصناعه البديعة نثرا ونظما ، وبينت أن كثيرا منها يتداخل ، ويقوم البعض من ذلك مقام بعض فليلمح من هناك .
* * * الاصل : منها : واعلموا أنه ليس من شئ إلا ويكاد صاحبه يشبع منه ويمله إلا الحياة فإنه لا يجد في الموت راحه وإنما ذلك بمنزلة الحكمه التى هي حياة للقلب الميت وبصر للعين العمياء ، وسمع للاذن الصماء ، ورى للظمان ، وفيها الغنى كله والسلامة .
كتاب الله تبصرون به ، وتنطقون به ، وتسمعون به ، وينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض ، ولا يختلف في الله ولا يخالف بصاحبه عن الله .
قد اصطلحتم على الغل فيما بينكم ، ونبت المرعى على دمنكم ، وتصافيتم على حب الامال وتعاديتم في كسب الاموال .
لقد استهام بكم الخبيث وتاه بكم الغرور ، والله المستعان على نفسي وأنفسكم * * *
__________
(1) ديوانه 1 : 46 (*) .(8/287)
الشرح : هذا الفصل ليس بمنتظم من أوله إلى آخره ، بل هو فصول متفرقة التقطها الرضى من خطبة طويلة على عادته ، في التقاط ما يستفصحه من كلامه عليه السلام ، وإن كان كل كلامه فصيحا ، ولكن كل واحد له هوى ومحبة لشئ مخصوص ، وضروب الناس عشاق ضروبا .
أما قوله كل شئ مملول إلا الحياة " ، فهو معنى قد طرقه الناس قديما وحديثا ، قال أبو الطيب : ولذيذ الحياة أنفس في النفس وأشهى من أن يمل وأحلى (1) وإذا الشيخ قال أف فمامل حياة ولكن الضعف ملا وقال أيضا : أرى كلنا يبغى الحياة لنفسه * * حريصا عليها مستهاما بها صبا (2) فحب الجبان النفس أورده البقا * * وحب الشجاع النفس أورده الحربا وقال أبو العلاء : فما رغبت في الموت كدر مسيرها * * إلى الورد خمسا ثم تشر بن من أجن (3) يصادفن صقرا كل يوم وليلة * * ويلقين شرا من مخالبه الحجن (4) ولا قلقات الليل باتت كأنها * * من الاين والادلاج بعض القنا اللدن
__________
(1) ديوانه 3 : 129 ، 130 .
(2) ديوانه 1 : 65 .
(3) سقط الزند 2 : 919 ، 920 الكدر من القطا : الغبر الالوان .
والخمس ورود الماء كل خمسة أيام .
والاجن : الماء المتغبر .
(4) الحجن : المنعطفة .
(5) عنى بالقلقات حمر الوحش ، لقلتها في السير إلى الماء (*) .(8/288)
ضربن مليعا بالسنابك أربعا * * إلى الماء لا يقدرن منه على معن (1) وخوف الردى آوى إلى الكهف أهله * * وكلف نوحا وابنه عمل السفن وما استعذبته روح موسى وآدم * * وقد وعدا من بعده جنتي عدن ولى من قصيدة ، أخاطب رجلين فرا في حرب : عذرتكما إن الحمام لمبغض * * وإن بقاء النفس للنفس محبوب ويكره طعم الموت والموت طالب * * فكيف يلذ الموت والموت مطلوب ! وقال أبو الطيب أيضا : طيب هذا النسيم أوقر في الانفس أن الحمام مر لمذاق (2) والاسى قبل فرقة الروح عجز والاسى لا يكون بعد الفراق البحترى : ما أطيب الايام إلا أنها * * يا صاحبي إذا مضت لم ترجع (3) وقال آخر : أوفى يصفق بالجناح مغلسا * * ويصيح من طرب إلى الندمان يا طيب لذة هذه الدنياكم * * لو أنها بقيت على الانسان .
وقال آخر : أرى الناس يهوون البقاء سفاهة * * وذلك شئ ما إليه سبيل ومن يأمن الايام ! أما بلاؤها * * فجم ، وأما خيرها فقليل .
__________
(1) المليع : الارض الخالية .
والمعن : الشئ القليل .
(2) ديوانه 2 : 369 ، 370 .
وروايته : " إلف هذا الهواء " .
(3) ديوانه 2 : 100 (*) .(8/289)
وقال محمد بن وهيب الحميرى : ونحن بنو الدنيا خلقنا لغيرها * * وما كنت منه فهو شئ محبب وهذا مأخوذ من قول أمير المؤمنين عليه السلام ، وقد قيل له : ما أكثر حب الناس للدنيا ! فقال : هم أبناؤها أيلام الانسان على حب أمه .
وقال آخر : يا موت ما أفجاك من نازل * * تنزل بالمرء على رغمه تستلب العذراء من خدرها * * وتأخذ الواحد من أمه أبو الطيب : وهى معشوقة على الغدر لا تحفظ عهدا ولا تتمم وصلا (1) كل دمع يسيل منها عليها * * وبفك اليدين عنها تخلى شيم الغانيات فيها فلا أدرى لذا أنث اسمها الناس أم لا .
فإن قلت كيف يقول : إنه لا يجد في الموت راحة ؟ واين هذا من قول رسول الله صلى الله عليه وآله : " الدنيا سجن المؤمن ، وجنة الكافر " ! ومن قوله عليه السلام : " والله ما أرجو الراحة إلا بعد الموت " ! وما ذا يعمل بالصالحين الذين آثروا فراق هذه العاجلة ، واختاروا الاخرة ، وهو عليه السلام سيدهم وأميرهم ! قلت : لا منافاة ، فإن الصالحين ، إنما طلبوا أيضا الحياة المستمرة بعد الموت ، ورسول الله صلى الله عليه وآله إنما قال : إن الدنيا سجن المؤمن ، لان الموت غير مطلوب للمؤمن لذاته ، إنما يطلبه للحياة المتعقبة له ، وكذلك قوله عليه السلام : " والله ما أرجو الراحة إلا بعد الموت " ، تصريح بأن الراحة في الحياة التى تتعقب الموت وهي حياة الابد ، فلا منافاة إذا بين هذه الوجوه وبين ما فاله عليه السلام ، لانه ما نفى إلا الراحة في الموت نفسه ، لا في الحياة الحاصلة بعده .
__________
(1) ديوانه 3 : 131 .
132 (*) .(8/290)
فإن قلت : فقد تطرأ على الانسان حالة يستصعبها قيود الموت لنفسه ، ولا يفكر فيما يتعقبه من الحياة التى تشير إليها ، ولا يخطر بباله ؟ قلت : ذاك شاذ نادر فلا يلتفت إليه ، وإنما الحكم للاعم الاغلب ، وأيضا فإن ذاك لا يلتذ بالموت ، وإنما يتخلص به من الالم ، وأمير المؤمنين قال : ما من شئ من الملذات إلا وهو مملول إلا الحياة وبين الملذ ، والمخلص من الالم فرق واضح فلا يكون نقضا على كلامه .
فإن قلت : قد ذكرت ما قيل في حب الحياة وكراهية الموت ، فهل قيل في عكس ذلك ونقيضه شئ قلت : نعم ، فمن ذلك قول أبى الطيب : كفى بك داء أن ترى الموت شافيا * * وحسب المنايا أن يكن أمانيا (1) تمنيتها لما تمنيت أن ترى * * صديقا فأعيا ، أو عدوا مداجيا وقال آخر : قد قلت إذ مدحوا الحياة فأسرفوا : * * في الموت ألف فضيلة لا تعرف منها أمان لقائه بلقائه * * وفراق كل معاشر لا ينصف وقيل لاعرابي وقد احتضر : إنك ميت ، قال : إلى أين يذهب بى ؟ قيل : إلى الله ، قال : ما أكره أن أذهب إلى من لم أر الخير إلا منه .
إبراهيم بن مهدى : وإنى وإن قدمت قبلى لعالم * * بأنى وإن أبطأت عنك قريب (2) وإن صباحا نلتقي في مسائه * * صباح إلى قلبى الغداة حبيب وقال بعض السلف : مامن مؤمن إلا والموت خير له من الحياة ، لانه إن كان محسنا
__________
(1) دوانه 4 : 281 ، 282 .
(2) الكامل 4 : 18 (طبعة نهضة مصر) (*) .(8/291)
فالله تعالى يقول : (وما عند الله خير وأبقى للذين اتقوا) (1) ، وإن كان مسيئا فالله تعالى يقول : (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لانفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما) (2) .
وقال ميمون بن مهران : بت ليلة عند عمر بن عبد العزيز ، فرأيته يبكى ويكثر من تمنى الموت ، فقلت له : إنك أحييت سننا ، وأمت بدعا ، وفي بقائك خير للمسلمين ، فما بالك تتمنى الموت ! فقال : ألا أكون كالعبد الصالح حين أقر الله له عينه ، وجمع له أمره ، قال : (رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والارض أنت وليى في الدنيا والاخرة توفنى مسلما وألحقني بالصالحين) (3) ! وقالت الفلاسفة : لا يستكمل الانسان حد الانسانية إلا بالموت ، لان الانسان هو الحى الناطق الميت .
وقال بعضهم الصالح إذا مات استراح ، والطالح إذا مات استريح منه .
وقال الشاعر : جزى الله عنا الموت خيرا فإنه * * أبر بنا من كل بر وأرأف يعجل تخليص النفوس من الاذى * * ويدنى من الدار التى هي أشرف .
وقال آخر : من كان يرجو أن يعيش فإننى * * أصبحت أرجوا أن أموت لاعتقا في الموت ألف فضيلة لو أنها * * عرفت لكان سبيله أن يعشقا وقال أبو العلاء : جسمي ونفسي لما استجمعا صنعا * * شرا إلى فجل الواحد الصمد !
__________
(1) سورة القصص 60 (2) سورة آل عمران 178 .
(3) سورة يوسف 101 (*) .(8/292)
فالجسم يعذل فيه النفس مجتهدا * * وتلك تزعم أن الظالم الجسد إذا هما بعد طول الصحبة أفترقا * * فإن ذاك لاحداث الزمان يد وقال أبو العتاهية : المرء يأمل أن يعيش وطول عمر قد يضره (1) تفنى بشاشته ويبقى بعد حلو العيش مره وتخونه الايام حتى لا يرى شيئا يسره كم شامت بى إن هلكت وقائل : لله دره ! وقال ابن المعتز : ألست ترى يا صاح ما أعجب الدهرا * * فذما له لكن للخالق الشكرا لقد حبب الموت البقاء الذى أرى * * فيا حسدا منى لمن يسكن القبرا * * * فأما قوله عليه السلام : " وإنما ذلك بمنزلة الحكمة : ، إلى قوله : وفيها الغنى كله والسلامة ، ففصل آخر غير ملتئم بما قبله ، وهو إشارة إلى كلام من كلام رسول الله صلى الله عليه وآله رواه لهم ، ثم حضهم على التمسك به ، والانتفاع بمواعظه ، وقال : إنه بمنزلة الحكمة التى هي حياة القلوب ، ونور الابصار ، وسمع الاذان الصم ، ورى الاكباد الحرى وفيها الغنى كله ، والسلامة ، والحكمة المشبه كلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بها هي المذكورة في قوله تعالى : (ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خير كثيرا) ، (2) وفى قوله : (ولقد آتينا
__________
(1) ديوانه 120 .
(2) سورة البقرة 269 (*) .(8/293)
لقمان الحكمة) (1) ، وفى قوله : (وآتيناه الحكم صبيا) (2) وهى عبارة عن المعرفة بالله تعالى ، وبما في مبدعاته من الاحكام الدالة على علمه ، كتركيب الافلاك ، ووضع العناصر مواضعها ، ولطائف صنعة الانسان وغيره من الحيوان ، وكيفية إنشاء النبات والمعادن ، وما في العالم من القوى المختلفة ، والتأثيرات المتنوعة ، الراجع ذلك كله إلى حكمة الصانع وقدرته وعلمه ، تبارك اسمه ! * * * فأما قوله : " وكتاب الله " ، إلى قوله : ولا يخالف بصاحبه عن الله " ، ففصل آخر مقطوع عما قبله ، ومتصل بما لم يذكره جامع " نهج البلاغه " .
فإن قلت : ما معنى قوله : " ولا يختلف في الله ، ولا يخالف بصاحبه عن الله " ؟ وهل بين هاتين الجملتين فرق ؟ قلت : نعم ، أما قوله : " ولا يختلف في الله " ، فهو أنه لا بختلف في الدلالة على الله وصفاته ، أي لا يتناقض ، أي ليس في القرآن آيات مختلفة يدل بعضها على أنه يعلم كل المعلومات مثلا ، وتدل الاخرى على أنه لا يعلم كل المعلومات ، أو يدل بعضها على أنه لا يرى ، وبعضها على أنه يرى ، وليس وجودنا للايات المشتبهة بقادح في هذا القول ، لان آيات الجبر والتشبيه لا تدل ، ، وإنما توهم ، ونحن إنما نفينا أن يكون فيه ما يدل على الشئ ونقيضه .
وأما قوله : " ولا يخالف بصاحبه عن الله " ، فهو أنه لا يأخذ بالانسان المعتمد عليه إلى غير الله ، أي لا يهديه إلا إلى جناب الحق سبحانه ، ولا يعرج به إلى جناب الشيطان ، يقال : خالفت بفلان عن فلان ، إذا أخذت به غير نحوه ، وسلكت به غير جهته .
__________
(1) سورة لقمان 12 .
(2) سورة مريم 12 (*) .(8/294)
فأما قوله : " قد اصطلحتم على الغل " إلى آخر الفصل ، فكلام مقطوع أيضا عما قبله ، والغل : الحقد .
والدمن : جمع دمنة ، وهى الحقد أيضا ، وقد دمنت قلوبهم بالكسر ، أي ضغنت ، ونبت المرعى عليها ، أي دامت وطال الزمان عليها ، حتى صارت بمنزلة الارض الجامدة الثابتة التى تنبت النبات .
ويجوز أن يريد بالدمن هاهنا جمع دمن وهو البعر المجتمع كالمزبلة أو جمع دمنة وهى آثار الناس وما سودوا من الارض ، يقال : قد دمن الشاء الماء ، وقد دمن القوم الارض ، فشبه ما في قلوبهم من الغل والحقد والضغائن بالمزبلة المجتمعة من البعر وغيره ، من سقاطة الديار التى قد طال مكثها حتى نبت عليها المرعى ، قال الشاعر : وقد ينبت المرعى على دمن الثرى * * وتبقى حزارات النفوس كما هيا (1) .
قوله عليه السلام : " لقد استهام بكم الخبيث " ، يعنى الشيطان ، واستهام بكم : جعلكم هائمين أي استهامكم ، فعداه بحرف الجر ، كما تقول في " استنفرت القوم إلى الحرب " استنفرت بهم ، أي جعلتهم نافرين .
ويمكن أن يكون بمعنى الطلب والاستدعاء ، كقولك : استعلمت منه حال كذا ، أي استدعيت منه أن يعلمنى ، واستمنحت فلانا أي طلبت واستدعيت أن يعطينى ، فيكون قوله : " واستهام بكم الخبيث " ، أي استدعى منكم أن تهيموا وتقعوا في التيه والضلال والحيرة .
قوله " وتاه بكم الغرور " هو الشيطان أيضا ، قال سبحانه : (وغركم بالله الغرور) (2) .
وتاه بكم : جعلكم تائهين حائرين .
ثم سأل الله أن يعينه على نفسه وعليهم .
ومن كلام بعض الصالحين : " اللهم انصرني على أقرب الاعداء إلى دارا ، وأدناهم منى جوارا ، وهى نفسي " .
__________
(1) البيت الزفر بن الحارث .
اللسان 17 ! 15 .
(2) سورة الحديد 14 (*) .(8/295)
(134) الاصل : ومن كلام له عليه السلام وقد شاوره عمر بن الخطاب في الخروج إلى غزو الروم : وقد توكل الله لاهل هذا الدين بإعزاز الحوزة ، وستر العورة ، والذى نصرهم - وهم قليل لا ينتصرون ، ومنعهم وهم قليل لا يمتنعون - حى لا يموت .
إنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك ، فتلقهم فتنكب لا يكن للمسلمين كهف دون أقصى بلادهم .
ليس بعدك مرجع يرجعون إليه .
فابعث إليهم رجلا محربا ، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة ، فإن أظهر الله فذاك ما تحب ، وإن تكن الاخرى ، كنت ردءا للناس ومثابة للمسلمين .
* * * الشرح : توكل لهم : صار وكيلا ، ويروى " وقد تكفل " ، أي صار كفيلا .
والحوزة الناحية ، وحوزة الملك بيضته ، يقول : إنما الذى نصرهم في الابتداء على ضعفهم هو الله تعالى ، وهو حى لا يموت ، فأجدر به أن ينصرهم ثانيا ، كما نصرهم أولا ! وقوله : " فتنكب " مجزوم لانه عطف على " تسر " .
وكهف ، أي وكهف يلجأ إليه .
ويروى " كانفة " أي جهة عاصمة ، من قولك : كنفت الابل ، جعلت لها كنيفا من الشجر تستتر به وتعتصم .(8/296)
ورجل محرب ، أي صاحب حروب .
وحفزت الرجل أحفزه : دفعته من خلفه وسقته سوقا شديدا .
وكنت ردءا أي عونا ، قال سبحانه : (فأرسله معى ردءا يصدقني) (1) .
ومثابة أي مرجعا ، ومنه قوله تعالى : (مثابة للناس وأمنا) (2) ، أشار عليه السلام ألا يشخص بنفسه ، حذرا أن يصاب ، فيذهب المسلمون كلهم ، لذهاب الرأس ، بل يبعث أميرا من جانبه على الناس ، ويقيم هو بالمدينة ، فإن هزموا كان مرجعهم إليه .
فإن قلت : فما بال رسول الله صلى الله عليه وآله كان يشاهد الحروب بنفسه ، ويباشرها بشخصه ؟ قلت : إن رسول الله صلى الله عليه وآله كان موعودا بالنصر ، وآمنا على نفسه بالوعد الالهى في قوله سبحانه : " والله يعصمك من الناس) (3) ، وليس عمر كذلك .
فإن قلت : فما بال أمير المؤمنين عليه السلام شهد حرب الجمل وصفين والنهروان بنفسه ، فهلا بعث أميرا محربا ، وأقام بالمدينة ردءا ومثابة ! قلت : عن هذا جوابان : أحدهما أنه كان عالما من جهة النبي صلى الله عليه وآله أنه لا يقتل في هذه الحروب ، ويشهد لذلك الخبر المتفق عليه بين الناس كافة : " يقاتل بعدى الناكثين والقاسطين والمارقين " .
وثانيهما يجوز أن يكون غلب على ظنه أن غيره لا يقوم مقامه في حرب هذه الفرق الخارجة عليه ، ولم يجد أميرا محربا من أهل البلاء والنصيحة ، لانه عليه السلام هكذا قال لعمر ، واعتبر هذه القيود والشروط ، فمن كان من
__________
(1) سورة القصص 34 .
(2) سورة البقرة 125 .
(3) سورة المائدة 67 (*) .(8/297)
أصحابه عليه السلام محربا لم يكن من أهل النصيحة له ، ومن كان من أهل النصيحة له لم يكن محربا ، فدعته الضرورة إلى مباشرة الحرب بنفسه .
[ غزوه فلسطين وفتح بيت المقدس ] وأعلم أن هذه الغزاة هي غزاه فلسطين ، التى فتح فيها بيت المقدس ، وقد ذكرها أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ (1) ، وقال : إن عليا عليه السلام هو كان المستخلف على المدينة لما شخص عمر إلى الشام ، وإن عليا عليه السلام قال له : لا تخرج بنفسك ، إنك تريد عدوا كلبا ، فقال عمر : إنى أبادر بجهاد العدو موت العباس بن عبد المطلب ، إنكم لو فقدتم العباس لانتقض بكم الشر كما ينتقض (2) الحبل .
فمات العباس لست سنين خلت من إمارة عثمان وانتقض بالناس الشر .
قال أبو جعفر : وقد كان الروم عرفوا من كتبهم أن صاحب فتح مدينة إيلياء - وهى بيت المقدس - رجل اسمه على ثلاثة أحرف ، فكان من حضر من أمراء المسلمين يسألون عن اسمه ، فيعلمون أنه ليس بصاحبهم ، فلما طال عليهم الامر في حرب الروم ، استمدوا عمر ، وقالوا : إن لم تحضر بنفسك لم يفتح علينا ، فكتب إليهم أن يلقوه برأس الجابية ، ليوم سماه لهم فلقوه وهو راكب حمارا ، وكان أول من لقيه يزيد بن أبى سفيان ، ثم أبو عبيدة بن الجراح ، ثم خالد بن الوليد ، على الخيول وعليهم الديباج والحرير ، فنزل عمر عن حماره ، وأخذ الحجارة ، ورماهم بها ، وقال : سرعان ما لفتم عن رأيكم .
إياى
__________
(1) تاريخ الطبري 1 : 2405 (طبع أوربا) وما بعدها .
(2) الطبري : " كما ينتقص أول الحبل " (*) .(8/298)
تستقبلون في هذا الزى ! وإنما شبعتم منذ سنتين ، سرع ما ترت بكم (1) البطنة وتالله لو فعلتموها على رأس المائتين ، لاستبدلت بكم غيركم ! فقالوا : يا أمير المؤمنين ، إنما هي يلامقة ، وتحتها السلاح (2) ، فقال : فنعم إذا ! قال أبو جعفر : فلما علم الروم مقدم عمر نفسه ، سألوه الصلح ، فصالحهم ، وكتب لهم كتابا على أن يؤدوا الجزية ثم سار إلى بيت المقدس ، فقصر فرسه عن المشى ، فأتى ببرذون فركبه ، فهزه وهملج تحته ، فنزل عنه ، وضرب وجهه بردائه ، وقال : قبح الله من علمك هذا ! ردوا على فرسى ، فركبه وسار حتى انتهى إلى بيت المقدس .
قال : ولم يركب برذونا قبله ولا بعده ، وقال : أعوذ بالله من الخيلاء ! قال أبو جعفر : ولقيه معاوية ، وعليه ثياب ديباج ، وحوله جماعة من الغلمان والخول ، فدنا منه فقبل يده ، فقال : ما هذا يابن هند ! وإنك لعلى هذه الحال : مترف صاحب لبوس وتنعم ، وقد بلغني أن ذوى الحاجات يقفون ببابك ! فقال : يا أمير المؤمنين ، أما اللباس فإنا ببلاد عدو ، ونحب أن يرى أثر نعمة الله علينا ، وأما الحجاب فإنا نخاف من البذلة جرأة الرعية .
فقال : ما سألتك عن شئ إلا تركتني منه في أضيق من الرواجب (3) ، إن كنت صادقا فإنه رأى لبيب ، وإن كنت كاذبا ، فإنها خدعة أريب .
* * * وقد روى الناس كلام معاوية لعمر على وجه آخر ، قيل لما قدم عمر الشام قدمها ، وهو راكب حمارا قريبا من الارض ، ومعه عبد الرحمن بن عوف راكب حمار قريب أيضا ، فتلقاهما معاوية في كوكبة خشناء (4) ، فثنى وركه ، ونزل وسلم بالخلافة فلم يرد عليه .
__________
(1) التار : المتلئ البدن ، وفى الطبري : " ندت " .
(2) اليلمق : القباء المحشو وفى الطبري : " وإن علينا السلاح " .
(3) الرواحب : ما بين عقد الاصابع .
(4) خشناء ، أي كثيرة السلاح (*) .(8/299)
فقال له عبد الرحمن : أحصرت الفتى يا أمير المؤمنين ، فلو كلمته ! قال : إنك لصاحب الجيش الذى أرى ! قال : نعم ، قال : مع شدة احتجابك ، ووقوف ذوى الحاجات ببابك ! قال : أجل ، قال : لم ويحك ! قال : لانا ببلاد عدو كثير فيها جواسيسهم ، فإن لم نتخذ العدة والعدد استخف بنا ، وهجم على عوراتنا ، وأنا بعد عاملك فإن استنقصتني نقصت ، وإن استزدتني زدت ، وإن استوقفتني وقفت .
فقال : إن كنت كاذبا إنه لرأى أريب ، وإن كنت صادقا إنه لتدبير لبيب ، ما سألتك عن شئ قط إلا تركتني منه في أضيق من رواجب الضرس ، لا آمرك ولا أنهاك .
فلما انصرف ، قال عبد الرحمن : لقد أحسن الفتى في إصدار ما أوردت عليه ، فقال : لحسن إيراده وإصداره جشمناه ما جشمناه .
* * * قال أبو جعفر : شخص عمر من المدينة إلى الشام أربع مرات ، ودخلها مرة راكب فرس ، ومرة راكب بعير ، ومرة راكب بغل .
ومرة راكب حمار ، وكان لا يعرف ، وربما استخبره الواحد : أين أمير المؤمنين ؟ فيسكت ، أو يقول : سل الناس ، وكان يدخل الشام وعليه سحق (1) فرو مقلوب ، وإذا حضر الناس طعامه رأوا أخشن الطعام .
قال أبو جعفر : وقدم الشام في إحدى هذه المرات الاربع ، فصادف الطاعون بها فاشيا ، فاستشار الناس ، فكل أشار عليه بالرجوع وألا يدخلها ، إلا أبا عبيدة بن الجراح ، فإنه قال : أتفر من قدر الله ؟ قال : نعم ، أفر من قدر الله بقدر الله إلى قدر الله ، لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ! فما لبث أن جاء عبد الرحمن بن عوف ، فروى لهم عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال : " إذا كنتم ببلاد الطاعون فلا تخرجوا منها ، وإذا قدمتم إلى بلاد الطاعون فلا تدخلوها " ، فحمد الله على موافقة الخبر لما كان في نفسه ، وما أشار به الناس ، وانصرف راجعا إلى المدينة ، ومات أبو عبيدة في ذلك الطاعون ، وهو الطاعون المعروف بطاعون عمواس وكان في سنه سبع عشرة من الهجرة (2) .
__________
(1) السحق : الثوب البالى .
(2) تاريخ الطبري 1 : 2401 (*)(8/300)
(135) الاصل : ومنه كلام له عليه السلام وقد وقعت بينه وبين عثمان مشاجرة ، فقال المغيرة ابن الاخنس لعثمان : أنا أكفيكه ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام للمغيرة : يا بن اللعين الابتر ، والشجرة التى لا أصل لها ولا فرع ، أنت تكفيني ! فو الله ما أعز الله من أنت ناصره ، ولا قام من أنت منهضه ، اخرج عنا ابعد الله نواك ، ثم ابلغ جهدك ، فلا أبقى الله عليك إن أبقيت ! * * * الشرح : هو المغيرة بن الاخنس بن شريق بن عمرو بن وهب بن علاج بن أبى سلمة الثقفى ، حليف بنى زهرة ، وإنما قال له أمير المؤمنين عليه السلام : " يابن اللعين " ، لان الاخنس ابن شريق كان من أكابر المنافقين ، ذكره أصحاب الحديث كلهم في المؤلفة قلوبهم الذين أسلموا يوم الفتح بألسنتهم دون قلوبهم ، وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله مائة من الابل من غنائم حنين يتألف بها قلبه ، وابنه أبو الحكم بن الاخنس ، قتله أمير المؤمنين عليه السلام يوم أحد كافرا في الحرب وهو أخو المغيرة هذا .
والحقد الذى في قلب المغيرة عليه من هذه الجهة .
وإنما قال له : " يابن الابتر " ، لان من كان عقبه ضالا خبيثا ، فهو كمن لا عقب له بل من لا عقب له خير منه .
ويروى : ولا أقام من أنت منهضه " بالهمزة .
ويروى " أبعد الله نوءك " من أنواء النجوم التى كانت العرب تنسب المطر إليها ، وكانوا إذا دعوا على إنسان قالوا : أبعد الله نوءك ! أي خيرك(8/301)
والجهد بالفتح : الغاية ، ويقال : قد جهد فلان جهده بالفتح ، لا يجوز غير ذلك ، أي انتهى إلى غايته .
وقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعن ثقيفا .
وروى أنه عليه السلام قال : " لولا عروة بن مسعود للعنت ثقيفا " .
وروى الحسن البصري أن رسول الله صلى الله عليه وآله لعن ثلاث بيوت : بيتان من مكة ، وهما بنو أمية وبنو المغيرة ، وبيت من الطائف وهم ثقيف .
وفى الخبر المشهور المرفوع وقد ذكر ثقيفا : " بئست القبيلة ، ! يخرج منها كذاب ومبير (1) " ، فكان كما قال صلى الله عليه وآله ، الكذاب المختار ، والمبير الحجاج .
واعلم أن هذا الكلام لم يكن بحضرة عثمان ، ولكن عوانة روى عن إسماعيل ابن أبى خالد ، عن الشعبى ، أن عثمان لما كثرت شكايته من على عليه السلام ، أقبل لا يدخل إليه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله أحد إلا شكي إليه عليا ، فقال له زيد بن ثابت الانصاري - وكان من شيعته وخاصته : أفلا أمشى إليه فأخبره بموجدتك فيما يأتي إليك ! قال : بلى ، فأتاه زيد ومعه المغيرة بن الاخنس بن شريق الثقفى - وعداده في بنى زهرة ، وأمه عمة عثمان بن عفان - في جماعة ، فدخلوا عليه ، فحمد زيد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد فإن الله قدم لك سلفا صالحا في الاسلام ، وجعلك من الرسول بالمكان الذى أنت به ، فأنت للخير كل الخير أهل ، وأمير المؤمنين عثمان ابن عمك ، ووالى هذه الامة فله عليك حقان : حق الولاية وحق القرابة ، وقد شكا إلينا أن عليا يعرض لى ، ويرد أمرى على ، وقد مشينا إليك نصيحة لك ، وكراهية أن يقع بينك وبين ابن عمك أمر نكرهه لكما .
قال : فحمد على عليه السلام الله ، وأثنى عليه وصلى على رسوله ، ثم قال : أما بعد ، فو الله ما أحب الاعتراض ، ولا الرد عليه ، إلا أن يأبى حقا لله لا يسعنى ان أقول فيه إلا بالحق ، ووالله لاكفن عنه ما وسعنى الكف .
__________
(1) المبير : المهلك .
(*)(8/302)
فقال المغيرة بن الاخنس ، وكان رجلا وقاحا (1) ، وكان من شيعة عثمان وخلصائه : إنك والله لتكفن عنه أو لتكفن ، فانه أقدر عليك منك عليه ! وإنما أرسل هؤلاء القوم من المسلمين إعزازا لتكون له الحجة عندهم عليك .
فقال له على عليه السلام : يا بن اللعين الابتر ، والشجرة التى لا أصل لها ولا فرع ، أنت تكفني ! فو الله ما أعز الله امرأ أنت ناصره ، اخرج أبعد الله نواك ، ثم اجهد جهدك ، فلا أبقى الله عليك ولا على أصحابك إن أبقيتم .
فقال له زيد : إنا والله ما جئناك لنكون عليك شهودا ، ولا ليكون ممشانا إليك حجة ، ولكن مشينا فيما بينكما التماس الاجر أن يصلح الله ذات بينكما ، ويجمع كلمتكما .
ثم دعا له ولعثمان ، وقام فقاموا معه .
وهذا الخبر يدل على أن اللفظة " أنت تكفني " ، وليست كما ذكره الرضى رحمه الله " أنت تكفيني " ، لكن الرضى طبق هذه اللفظة على ما قبلها ، وهو قوله : " أنا أكفيكه " ، ولا شبهة أنها رواية أخرى .
* * * [ فصل في نسب ثقيف ، وطرف من أخبارهم ] وإنما قال له : والشجرة التى لا أصل لها ولا فرع ، لان ثقيفا في نسبها طعن ، فقال قوم من النسابين : إنهم من هوازن ، وهو القول الذى تزعمه الثقفيون ، قالوا : هو ثقيف ، واسمه قسى بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان ابن مضر .
وعلى هذا القول جمهور الناس .
ويزعم آخرون أن ثقيفا من إياد بن نزار بن معد بن عدنان ، وأن النخع أخوه لابيه
__________
(1) الوقاح : ذو الوقاحة (*) .(8/303)
وأمه ، ثم افترقا ، فصار أحدهما في عداد هوازن ، والاخر في عداد مذحج بن مالك ابن زيد بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان .
وقد روى أبو العباس المبرد في " الكامل " لاخت الاشتر مالك بن الحارث النخعي تبكيه : أبعد الاشتر النخعي نرجو * * مكاثرة ونقطع بطن واد (1) ونصحب مذحجا بإخاء صدق * * وإن ننسب فنحن ذرا إياد ثقيف عمنا وأبو أبينا * * وإخوتنا نزار أولو السداد .
قال أبو العباس : وهجا (2) يحيى بن نوفل - وكان هجاء خبيث اللسان - العريان بن الهيثم بن الاسود النخعي ، وقد كان العريان تزوج امرأة اسمها زباد - مبنى على الكسر ، والزاى مفتوحة بعدها باء منقوطة بواحدة - وهى من ولد هانئ بن قبيصة الشيباني ، وكانت قبله تحت الوليد بن عبد الملك بن مروان ، فطلقها ، فأنكحها إياه أخ لها يقال له زياد ، فقال يحيى بن نوفل : أعريان ما يدرى امرؤ سيل عنكم * * أمن مذحج تدعون أم من إياد فإن قلتم من مذحج إن مذحجا * * لبيض الوجوه غير جد جعاد وأنتم صغار الهام حدل كأنما * * وجوهكم مطلية بمداد (3) وإن قلتم الحى اليمانون أصلنا * * وناصرنا في كل يوم جلاد فأطول بإير من معد ونزوة * * نزت باياد خلف دار مراد ضللتم كما ضلت ثقيف فمالكم * * ولالهم بين القبائل هادى لعمر بنى شيبان إذ ينكحونه * * زباد لقد ما قصروا بزباد (4)
__________
(1) الكامل 2 : 66 ، 67 (طبعة نهضة مصر) .
(2) الكامل 2 : 64 .
(3) حدل : جمع أحدل وهو المائل العنق ، وفى الاصول : " حول " وما أثبته من الكامل .
(4) لقد ما قصروا ، قال أبو العباس : ما زائدة ، مثل قوله تعالى : (مما خطيئاتهم أغرقوا) (*) .(8/304)
أبعد وليد أنكحوا عبد مذحج * * كمنزية عيرا خلاف جواد (1) وأنكحها لا في كفاء ولاغنى * * زياد أضل الله سعى زياد (2) * * * قال أبو العباس : وكان المغيرة بن شعبة ، وهو والى الكوفة صار إلى دير هند بنت النعمان بن المنذر ، وهى فيه عمياء مترهبة ، فاستأذن عليها ، فقيل لها : أمير هذه المدرة بالباب .
قالت : قولوا له : من ولد جبلة بن الايهم أنت ؟ قال : لا ، قالت : أفمن ولد المنذر بن ماء السماء أنت ؟ قال : لا ، قالت : فمن أنت ؟ قال : أنا المغيرة بن شعبة الثقفى ، قالت : فما حاجتك ؟ قال : جئت خاطبا ، قالت : لو كنت جئتني لجمال أو حال لاطلبنك ، ولكن أردت أن تتشرف بى في محافل العرب ، فتقول : نكحت ابنة النعمان بن المنذر ، وإلا فأى خير في اجتماع أعور وعمياء ! فبعث إليها : كيف كان أمركم ؟ قالت : سأختصر لك الجواب ، أمسينا وليس في الارض عربي إلا وهو يرهبنا أو يرغب إلينا ، وأصبحنا ليس في الارض عربي إلا ونحن نرهبه ونرغب إليه .
قال : فما كان أبوك يقول في ثقيف ؟ قالت : أذكر : وقد اختصم إليه رجلان منهم ، أحدهما ينتهى إلى إياد ، والاخر إلى هوازن ، فقضى للايادي وقال : إن ثقيفا لم تكن هوازنا * * ولم تناسب عامرا أو مازنا فقال المغيرة أما نحن فمن بكر بن هوازن فليقل أبوك ما شاء ، ثم انصرف .
(3) وقال قوم آخرون : إن ثقيفا من بقايا ثمود ، من العرب القديمة التى بادت وانقرضت .
* * * إن ثقيفا لم تكن هوازنا * * ولم تناسب عامرا أو مازنا فقال المغيرة أما نحن فمن بكر بن هوازن فليقل أبوك ما شاء ، ثم انصرف .
(3) وقال قوم آخرون : إن ثقيفا من بقايا ثمود ، من العرب القديمة التى بادت وانقرضت .
* * *
__________
(1) خلاف جواد ، أي بعد جواد .
(2) يقال : هو كفاؤك في الشرف ، إذا كان عديلك .
(3) الكامل 2 : 66 (طبعة نهضة مصر) (*) .(8/305)
قال أبو العباس : وقد قال الحجاج على المنبر يزعمون أنا من بقايا ثمود ، فقد كذبهم الله بقوله : (وثمود فما أبقى) (1) .
وقال مره أخرى .
ولئن كنا من بقايا ثمود ، لما نجا مع صالح إلا خيارهم .
وقال الحجاج يوما لابي العسوس الطائى : أي أقدم ، أنزول ثقيف الطائف ، أم نزول طيئ الجبلين ؟ فقال له أبوالعسوس : إن كانت ثقيف من بكر بن هوازن فنزول طيئ الجبلين قبلها ، وإن كانت من بقايا ثمود ، فهى أقدم فقال الحجاج : اتقنى فإنى سريع الخطفة للاحمق المتهور ، فقال أبوالعسوس - قال أبو العباس ، وكان أعرابيا قحا إلا أنه لطيف الطبع ، وكان الحجاج يمازحه - : يؤدبني الحجاج تأديب أهله * * فلو كنت من أولاد يوسف ما عدا وإنى لاخشى ضربة ثقفية * * يقد بها ممن عصاه المقلدا على أنى مما أحاذر آمن * * إذا قيل يوما قد عصى المرء واعتدى (2) وقتل المغيرة بن الاخنس مع عثمان يوم الدار ، وقد ذكرنا مقتله فيما تقدم .
تم الجزء الثامن من شرح نهج البلاغه ويليه الجزء التاسع
__________
(1) سورة النجم 51 .
(2) الكامل 2 : 65 (*) .(8/306)
شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد ج 9
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد ج 9(9/)
شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم الجزء التاسع (1960) دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه(9/1)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل [ ذكر أطراف مما شجر بين على وعثمان في أثناء خلافته ] واعلم أن هذا الكتاب يستدعى منا أن نذكر أطرافا مما شجر بين أمير المؤمنين عليه السلام وعثمان أيام خلافته ، إذ كان هذا (1) الكلام الذى شرحناه من ذلك النمط ، والشئ يذكر بنظيره ، وعادتنا في هذا الشرح أن نذكر الشئ مع ما يناسبه ويقتضى ذكره .
وقال أحمد بن عبد العزيز الجوهرى في كتاب " أخبار السقيفة " : حدثنى محمد بن منصور الرمادي ، عن عبد الرزاق عن معمر ، عن زياد بن جبل ، عن أبى كعب الحارثى (2) ، وهو ذو الاداوة (3) .
قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز : وإنما سمى ذا الادواة لانه قال : إنى خرجت في طلب إبل ضوال ، فتزودت لبنا في إداوة ثم قلت في نفسي : ما أنصفت ربى ! فأين الوضوء ؟ فأرقت اللبن وملاتها ماء ، فقلت : هذا وضوء وشراب ، وطفقت أبغى إبلى ، فلما أردت الوضوء اصطببت من الاداوة ماء فتوضأت ، ثم أردت الشرب ، فلما اصطببتها ، إذا لبن فشربت ، فمكثت بذلك ثلاثا .
فقالت
__________
(1) انظر الجزء الثامن ص 252 إلى 262 في أخبار أبى ذر الغفاري وإخراجه إلى الربذة وموقف عثمان وعلى منه .
(2) أبو كعب الحارثى ، أورده ابن حجر في الاصابة 4 : 165 ، ونقل خبره ، عن معمر في جامعه .
(3) الاداوة ، بالكسر : إناء صغير من جلد .
(*)(9/3)
له أسماء النحرانية ، يا أبا كعب ، أحقينا كان أم حليبا (1) قال ، إنك لبطالة ، كان يعصم من الجوع ويروى من الظمأ ، أما إنى حدثت بهذا نفرا من قومي ، منهم على بن الحارث سيد بنى قنان ، فلم يصدقني ، وقال ما أظن الذى تقول كما قلت ! فقلت : الله أعلم بذلك .
ورجعت إلى منزلي ، فبت ليلتى تلك ، فإذا به صلاة الصبح على بابى ، فخرجت إليه ، فقلت : رحمك الله ! لم تعنيت ؟ ألا أرسلت إلى فأتيك ! فإنى لاحق بذلك منك .
قال : ما نمت الليلة إلا إتانى آت فقال : أنت الذى تكذب من يحدث بما أنعم الله عليه ! قال أبو كعب : ثم خرجت حتى أتيت المدينة ، فأتيت عثمان بن عفان ، وهو الخليفة يومئذ ، فسألته عن شئ من أمر دينى ، وقلت : يا أمير المؤمنين ، إنى رجل من أهل اليمن من بنى الحارث بن كعب ، وإنى أريد أن أسألك فأمر حاجبك ألا يحجبني ، فقال : يا وثاب إذا جاءك هذا الحارثى ، فأذن له .
قال : فكنت إذا جئت ، فقرعت الباب ، قال : من ذا ؟ فقلت : الحارثى ، فيقول : ادخل ، فدخلت يوما فإذا عثمان جالس ، وحوله نفر سكوت لا يتكلمون ، كأن على رؤوسهم الطير ، فسلمت ثم جلست ، فلم أسأله عن شئ لما رأيت من حالهم وحاله ، فبينا أنا كذلك إذ جاء نفر ، فقالوا : إنه أبى أن يجئ ، قال : فغضب وقال : أبى أن يجئ ! اذهبوا فجيئوا به ، فإن أبى فجروه جرا .
قال : فمكثت قليلا فجاءوا ومعهم رجل آدم طوال أصلع ، في مقدم رأسه شعرات ، وفى قفاه شعرات ، فقلت : من هذا ؟ قالوا : عمار بن ياسر ، فقال له عثمان : أنت الذى تأتيك رسلنا فتأبى أن تجئ ! قال فكلمه بشئ لم أدر ما هو ، ثم خرج .
فما زالوا
__________
(1) الحقين : اللبن الذى قد حقن في السقاء لتخرج زبدته .
والحليب : اللبن المحلوب الذى لم يتغير طعمه .
(*)(9/4)
ينفضون من عنده حتى ما بقى غيرى فقام ، فقلت : والله لا أسأل عن هذا الامر أحدا أقول حدثنى فلان حتى أدرى مايصنع .
فتبعته حتى دخل المسجد ، فإذا عمار جالس إلى سارية ، وحوله نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكون ، فقال عثمان : ياوثاب على بالشرط ، فجاءوا فقال : فرقوا بين هؤلاء ، ففرقوا بينهم .
ثم أقيمت الصلاة ، فتقدم عثمان فصلى بهم ، فلما كبر قالت امرأة من حجرتها : يأيها الناس .
ثم تكلمت ، وذكرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما بعثه الله به .
ثم قالت : تركتم أمر الله ، وخالفتهم عهده ونحو هذا ، ثم صمتت ، وتكلمت امرأة أخرى بمثل ذلك ، فإذا هما عائشة وحفصة .
قال : فسلم عثمان ، ثم أقبل على الناس ، وقال : إن هاتين لفتانتان ، يحل لى سبهما ، وأنا بأصلهما عالم .
فقال له سعد بن أبى وقاص : أتقول هذا لحبائب رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فقال : وفيم أنت ! وما هاهنا ! ثم أقبل نحو سعد عامدا ليضربه ، فانسل سعد .
فخرج من المسجد ، فاتبعه عثمان ، فلقى عليا عليه السلام بباب المسجد ، فقال له عليه السلام : أين تريد ؟ قال : أريد هذا الذى كذا وكذا - يعنى سعدا يشتمه - فقال له على عليه السلام : أيها الرجل ، دع عنك هذا .
قال فلم يزل بينهما كلام ، حتى غضبا ، فقال عثمان : ألست الذى خلفك رسول الله صلى الله عليه وسلم له يوم تبوك ! فقال على : ألست الفار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد .
قال : ثم حجز الناس بينهما .
قال : ثم خرجت من المدينة حتى انتهيت إلى الكوفة ، فوجدت أهلها أيضا وقع بينهم شر ، ونشبوا في الفتنة ، أتيت بلاد قومي .
* * *(9/5)
وروى الزبير بن بكار في كتاب " الموفقيات " عن عمه ، عن عيسى بن داود ، عن رجاله ، قال : قال ابن عباس رحمه الله : لما بنى عثمان داره بالمدينة ، أكثر الناس عليه في ذلك ، فبلغه ، فخطبنا في يوم جمعة ، ثم صلى بنا ، ثم عاد إلى المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على رسوله ، ثم قال : أما بعد ، فإن النعمة إذا حدثت حدث لها حساد حسبها ، وأعداء قدرها ، وإن الله لم يحدث لنا نعما ليحدث لها حساد عليها ، ومنافسون فيها ، ولكنه قد كان من بناء منزلنا هذا ، ما كان إرادة جمع المال فيه ، وضم القاصية إليه ، فأتانا عن أناس منكم أنهم يقولون : أخذ فيئنا وأنفق شيئنا ، واستأثر بأموالنا ، يمشون خمرا (1) ، و ينطقون سرا ، كأنا غيب عنهم ، وكأنهم يهابون مواجهتنا ، معرفة منهم بدحوض حجتهم ، فإذ غابوا عنا يروح بعضهم إلى بعض يذكرنا .
وقد وجدوا على ذلك أعوانا من نظرائهم ، ومؤازرين من شبهائهم ، فبعدا بعدا ! ورغما رغما ! ثم أنشد بيتين كأنه يومئ فيهما إلى على عليه السلام : توقد بنار أينما كنت واشتعل * فلست ترى مما تعالج شافيا تشط فيقضى الامر دونك أهله * وشيكا ، ولا تدعى إذا كنت نائيا .
مالى ولفيئكم وأخذ مالكم ! ألست من أكثر قريش مالا ، وأظهرهم من الله نعمة ! ألم أ كن على ذلك قبل الاسلام وبعده ! وهبوني بنيت منزلا من بيت المال ، أليس هو لى ولكم ! ألم أقم أموركم ، وإنى من وراء حاجاتكم ! فما تفقدون من حقوقكم شيئا ، فلم لا أصنع في الفضل ما أحببت ، فلم كنت إماما إذا ! ألا وإن من أعجب العجب ، أنه بلغني عنكم أنكم تقولون : لنفعلن به ولنفعلن ! فبمن تفعلون ، لله آباؤكم ! أبنقد البقاع أم بفقع القاع ، ألست أحراكم إن دعا أن يجاب ، وأقمنكم إن أمر أن يطاع ! .
__________
(1) في المثل : (هو يدب له الضراء ، ويمشى له الخمر) ، يقال لمن ختل صاحبه .
(*)(9/6)
لهفى على بقائي فيكم بعد أصحابي ، وحياتي فيكم بعد أترابي يا ليتنى تقدمت قبل هذا ، لكنى لا أحب خلاف ما أحبه الله لى عزوجل ، إذا شئتم فإن الصادق المصدق محمدا صلى الله عليه وسلم قد حدثنى بما هو كائن من أمرى وأمركم ، وهذا بدء ذلك وأوله ، فكيف الهرب مما حتم وقدر ! أما إنه عليه السلام قد بشرني في آخر حديثه بالجنة دونكم ، إذا شئتم فلا أفلح من ندم ! قال : ثم هم بالنزول فبصر بعلى بن أبى طالب عليه السلام ومعه عمار بن ياسر رضى الله عنه ، وناس من أهل هواه يتناجون فقال : إيها إيها ! أسرارا لا جهارا ! أما والذى نفسي بيده ما أحنق على جرة ، ولا أوتى من ضعف مرة ، ولولا النظر لى ولكم ، والرفق بى وبكم لعاجلتكم ، فقد اغتررتم وأقلتم من أنفسكم .
ثم رفع يديه يدعو ويقول : اللهم قد تعلم حبى للعافية فألبسنيها ، وإيثارى للسلامة فاتنيها .
قال : فتفرق القوم عن على عليه السلام ، وقام عدى بن الخيار ، فقال : أتم الله عليك يا أمير المؤمنين النعمة ، وزادك في الكرامة ، والله لان تحسد أفضل من أن تحسد ، ولان تنافس أجل من أن تنافس ! أنت والله في حسبنا الصميم ، ومنصبنا الكريم ، إن دعوت أجبت ، وإن أمرت أطعت ، فقل نفعل ، وادع تجب ، جعلت الخيرة والشورى إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليختاروا لهم ولغيرهم ، وإنهم ليرون مكانك ، ويعرفون مكان غيرك ، فاختاروك منيبين طائعين ، غير مكرهين ولا مجبرين ، ما غيرت ولا فارقت ولا بدلت ولا خالفت ، فعلام يقدمون عليك ، وهذا رأيهم فيك ! أنت والله كما قال الاول : اذهب إليك فما للحسو * د إلا طلابك تحت العثار(9/7)
حكمت فما جرت في خلة * فحكمك بالحق بادى المنار فإن يسبعوك فسرا وقد * جهرت بسيفك كل الجهار (1) .
* * * قال : ونزل عثمان فأتى منزله ، وأتاه الناس وفيهم ابن عباس ، فلما أخذوا مجالسهم ، أقبل على ابن عباس ، فقال : مالى ولكم يابن عباس ! ما أغراكم بى ، وأولعكم بتعقب أمرى ! أتنقمون على أمر العامه ! أتيت من وراء حقوقهم ، أم أمركم ، فقد جعلتهم يتمنون منزلتكم ! لا والله لكن الحسد والبغى وتثوير الشر وإحياء الفتن ! والله لقد ألقى النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك ، وأخبرني به عن أهله واحدا واحدا ، والله ما كذبت ولا أنا بمكذوب .
فقال ابن عباس : على رسلك يا أمير المؤمنين ، فوالله ما عهدتك جهرا بسرك ولا مظهرا ما في نفسك ، فما الذى هيجك وثورك ! إنا لم يولعنا بك أمر ، ولم نتعقب أمرك بشئ ، أتيت بالكذب ، وتسوق عليك بالباطل .
والله ما نقمنا عليك لنا ولا للعامة قد أوتيت من وراء حقوقنا وحقوقهم ، وقضيت ما يلزمك لنا ولهم ، فأما الحسد والبغى وتثوير الفتن وإحياء الشر فمتى رضيت به عترة النبي وأهل بيته ! وكيف وهم منه وإليه ! على دين الله يثورون الشر ، أم على الله يحيون الفتن ، كلا ليس البغى ولا الحسد من طباعهم .
فاتئد يا أمير المؤمنين وأبصر أمرك ، وأمسك عليك فإن حالتك الاولى خير من حالتك الاخرى ! لعمري أن كنت لاثيرا عند رسول الله ، وأن كان ليفضى إليك بسره ما يطويه عن غيرك ، ولا كذبت ولا أنت بمكذوب ، إخس الشيطان عنك ، ولا ير كبك ، واغلب غضبك ولا يغلبك ، فما دعاك إلى هذا الامر الذى كان منك !
__________
(1) يسبعونك : يستمونك .
(*)(9/8)
قال : دعاني إليه ابن عمك على بن أبى طالب .
فقال ابن عباس : وعسى أن يكذب مبلغك ! قال عثمان : إنه ثقة ، قال ابن عباس : إنه ليس بثقة من بلغ وأغرى .
قال عثمان : يابن عباس ، آلله إنك ما تعلم من على ما شكوت منه ؟ قال : اللهم لاإلا أن يقول كما يقول الناس ، وينقم كما ينقمون ؟ فمن أغراك به وأولعك بذكره دونهم ! فقال عثمان : إنما آفتى من أعظم الداء الذى ينصب نفسه لرأس الامر ، وهو على ابن عمك ، وهذا والله كله من نكده وشؤمه .
قال ابن عباس : مهلا استثن يا أمير المؤمنين ، قل إن شاء الله ، فقال : إن شاء الله ، ثم قال : إنى أنشدك يابن عباس الاسلام والرحم فقد والله غلبت وابتليت بكم ، والله لوددت أن هذا الامر كان صار إليكم دوني فحملتموه عنى ، وكنت أحد أعوانكم عليه إذا والله لوجدتموني لكم خيرا مما وجدتكم لى ، ولقد علمت أن الامر لكم ، ولكن قومكم دفعوكم عنه واختزلوه دونكم ، فوالله ما أدرى أدفعوه عنكم أم دفعوكم عنه ! قال ابن عباس : مهلا يا أمير المؤمنين ، فإنا ننشدك الله والاسلام والرحم ، مثل ما نشدتنا أن تطمع فينا وفيك عدوا ، وتشمت بنا وبك حسودا ! إن أمرك إليك ما كان قولا ، فإذا صار فعلا فليس إليك ولا في يديك .
وإنا والله لنخالفن إن خولفنا ، ولننازعن إن نوزعنا ، وما تمنيك أن يكون الامر صار إلينا دونك إلا أن يقول قائل منا ما يقوله الناس ويعيب كما عابوا ! فأما صرف قومنا عنا الامر فعن حسد قد والله عرفته ، وبغى قد والله علمته ، فالله بيننا وبين قومنا ! وأما قولك : إنك لا تدري أدفعوه عنا أم دفعونا عنه ؟ فلعمري إنك لتعرف أنه لو صار إلينا هذا الامر ما زدنا به فضلا إلى فضلنا ولا قدرا إلى قدرنا وإنا لاهل الفضل وأهل القدر ، وما فضل فاضل إلا بفضلنا ولا سبق سابق إلا بسبقنا ، ولو لا هدينا ما اهتدى أحد ولا أبصروا من عمى ، ولا قصدوا من جور .
فقال عثمان : حتى متى يابن عباس يأتيني عنكم ما يأتيني ! هبوني كنت بعيدا ، أما كان لى من الحق عليكم أن أراقب وأن أناظر ! بلى ، ورب الكعبة ، ولكن الفرقة(9/9)
سهلت لكم القول في وتقدمت بكم إلى الاسراع إلى .
والله المستعان .
قال ابن عباس : مهلا ، حتى ألقى عليا ثم أحمل إليك على قدر ما رأى .
قال عثمان : افعل فقد فعلت ، وطالما طلبت فلا أطلب (1) ، ولا أجاب ولا أعتب .
قال ابن عباس : فخرجت فلقيت عليا وإذا به من الغضب والتلظى أضعاف ما بعثمان ، فأردت تسكينه فامتنع ، فأتيت منزلي وأغلقت بابى ، واعتزلتهما .
فبلغ ذلك عثمان فأرسل إلى ، فأتيته وقد هدأ غضبه ، فنظر إلى ثم ضحك وقال : يابن عباس ، ما أبطأ بك عنا ! إن تركك العود إلينا لدليل على ما رأيت عند صاحبك ، وعرفت من حاله ، فالله بيننا وبينه ، خذ بنا في غير ذلك .
قال ابن عباس : فكان عثمان بعد ذلك إذا أتاه عن على شئ فأردت التكذيب عنه يقول : ولا يوم الجمعة حين أبطأت عنا وتركت العود إلينا ! فلا أدرى كيف أرد عليه .
* * * وروى الزبير بن بكار أيضا في " الموفقيات " عن ابن عباس رحمه الله ، قال : خرجت من منزلي سحرا أسابق إلى المسجد وأطلب الفضيلة ، فسمعت خلفي حسا وكلاما ، فتسمعته ، فإذا حس عثمان وهو يدعو ولا يرى أن أحدا يسمعه ، ويقول : اللهم قد تعلم نيتى فأعنى عليهم ، وتعلم الذين ابتليت بهم من ذوى رحمى وقرابتي ، فأصلحني لهم ، وأصلحهم لى .
قال : فقصرت من خطوتي وأسرع في مشيته ، فالتقينا فسلم فرددت عليه ، فقال : إنى خرجت ليلتنا هذه أطلب الفضل والمسابقة إلى المسجد ، فقلت : إنه أخرجنى ما أخرجك ، فقال : والله لئن سابقت إلى الخير ، إنك لمن سابقين مباركين ، وإنى لاحبكم وأتقرب إلى الله بحبكم ، فقلت : يرحمك الله يا أمير المؤمنين ! إنا لنحبك ونعرف سابقتك وسنك وقرابتك وصهرك .
قال : يابن عباس ، فما لى ولابن عمك وابن خالي ! قلت : أي بنى عمومتي وبنى أخوالك ؟ قال : اللهم اغفر ! اتسأل مسألة الجاهل !
__________
(1) فلا أطلب ، أي فلا أجاب ألى طلبى .
(*)(9/10)
قلت : إن بنى عمومتي من بنى خؤولتك كثير ، فأيهم تعنى ؟ قال : أعنى عليا لا غيره .
فقلت : لا والله يا أمير المؤمنين ما أعلم منه إلا خيرا ولا أعرف له إلا حسنا .
قال : والله بالحرى أن يستر دونك ما يظهره لغيرك ، ويقبض عنك ما ينبسط به إلى سواك .
قال : ورمينا بعمار بن ياسر ، فسلم فرددت عليه سلامه ، ثم قال : من معك ؟ قلت : أمير المؤمنين عثمان ، قال : نعم ، وسلم بكنيته ، ولم يسلم عليه بالخلافة ، فرد عليه ، ثم قال عمار : ما الذى كنتم فيه ، فقد سمعت ذروا (1) منه ؟ قلت : هو ما سمعت ، فقال عمار : رب مظلوم غافل ، وظالم متجاهل ! قال عثمان : أما إنك من شنائنا وأتباعهم ، وايم الله ، إن اليد عليك لمنبسطة ، وإن السبيل إليك لسهلة ، ولولا إيثار العافية ، ولم الشعث لزجر تك زجرة تكفى ما مضى ، وتمنع ما بقى .
فقال عمار : والله ما أعتذر من حبى عليا ، وما اليد بمنبسطة ، ولا السبيل بسهلة ، إنى لازم حجة ، ومقيم على سنة ، وأما إيثارك العافية ولم الشعث ، فلازم ذلك وأما زجري فأمسك عنه ، فقد كفاك معلمي تعليمي .
فقال عثمان : أما والله إنك ما علمت من أعوان الشر الحاضين عليه ، الخذلة عند الخير ، والمثبطين عنه .
فقال عمار : مهلا يا عثمان ، فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يصفني بغير ذلك ، قال عثمان : ومتى ؟ قال : يوم دخلت عليه منصرفه عن الجمعة ، وليس عنده غيرك ، وقد ألقى ثيابه ، وقعد في فضله (2) فقبلت صدره ونحره وجبهته ، فقال : " يا عمار ، إنك لتحبنا وإنا لنحبك ، وإنك لمن الاعوان على الخير المثبطين عن الشر " .
فقال عثمان : أجل ولكنك غيرت وبدلت .
قال : فرفع عمار يده يدعو ، وقال : أمن يابن عباس ، اللهم من غير فغير به ! ثلاث مرات .
قال : ودخلنا المسجد ، فأهوى عمار إلى مصلاه ، ومضيت مع عثمان إلى القبلة ،
__________
(1) الذرو : الطرف من القول .
(2) الفضل : الثوب يلبسه الرجل في بيته .
(*)(9/11)
فدخل المحراب ، وقال : تلبث على إذا انصرفنا ، فلما رأني عمار وحدي أتانى ، فقال : أما رأيت ما بلغ بى آنفا ! قلت : أما والله لقد أصعبت به وأصعب بك ، وأإن له لسنه وفضله وقرابته ، قال : إن له لذلك ، ولكن لا حق لمن لا حق عليه .
وانصرف .
وصلى عثمان وانصرفت معه يتوكأ على ، فقال : هل سمعت ما قال عمار ؟ قلت : نعم ، فسرني ذلك وساءني ، أما مساءته إياى فما بلغ بك ، وأما مسرته لى فحلمك واحتمالك .
فقال : إن عليا فارقني منذ أيام على المقاربة وإن عمارا آتيه فقائل له وقائل ، فابدره إليه ، فإنك أوثق عنده منه وأصدق قولا ، فألق الامر إليه على وجهه ، فقلت : نعم .
وانصرفت أريد عليا عليه السلام في المسجد ، فإذا هو خارج منه ، فلما رأني تفجع لى من فوت الصلاة ، وقال : ما أدركتها ! قلت : بلى ولكني خرجت مع أمير المؤمنين ، ثم اقتصصت عليه القصة ، فقال : أما والله يابن عباس ، إنه ليقرف قرحة ، ليحورن عليه ألمها (1) .
فقلت : إن له سنه وسابقته ، وقرابته وصهره ، قال : إن ذلك له ، ولكن لا حق لمن لا حق عليه .
قال : ثم رهقنا (2) عمار فبش به على ، وتبسم في وجهه ، وسأله .
فقال عمار : يابن عباس هل ألقيت إليه ما كنا فيه ؟ قلت : نعم ، قال : أما والله إذا لقد قلت بلسان عثمان ، ونطقت بهواه ! قلت : ما عدوت الحق جهدي ، ولا ذلك من فعلى ، وإنك لتعلم أي الحظين أحب إلى ، وأى الحقين أوجب على ! قال : فظن على أن عند عمار غير ما ألقيت إليه ، فأخذ بيده وترك يدى ، فعلمت أنه يكره مكاني ، فتخلفت عنهما ، وانشعب بنا الطريق ، فسلكاه ولم يدعنى ، فانطلقت إلى منزلي ، فإذا رسول عثمان يدعوني ، فأتيته ، فأجد ببابه مروان وسعيد بن العاص .
__________
(1) يقال : قرف القرحة ، أي قشرها بعد يبسها ، وليحورن : ليرجعن .
(2) رهقنا : غشينا .
(*)(9/12)
في رجال من بنى أمية ، فأذن لى وألطفني ، وقربني وأدنى مجلسي ، ثم قال : ما صنعت ؟ فأخبرته بالخبر على وجهه وما قال الرجل ، وقلت له - وكتمته قوله : " إنه ليقرف قرحة ليحورن عليه ألمها " - إبقاء عليه ، وإجلالا له ، وذ كرت مجئ عمار ، وبش على له ، وظن على أن قبله غير ما ألقيت عليه ، وسلوكهما حيث سلكا .
قال : وفعلا ؟ قلت : نعم ، فاستقبل القبلة ، ثم قال : اللهم رب السموات والارض ، عالم الغيب والشهادة ، الرحمن الرحيم ، أصلح لى عليا ، وأصلحني له ! أمن يابن عباس ، فأمنت .
ثم تحدثنا طويلا ، وفارقته وأتيت منزلي .
* * * وروى الزبير بن بكار أيضا في الكتاب المذكور ، عن عبد الله بن عباس ، قال : ما سمعت من أبى شيئا قط في أمر عثمان يلومه فيه ولا يعذره ، ولا سألته عن شئ من ذلك مخافة أن أهجم منه على ما لا يوافقه .
فإنا عنده ليلة ونحن نتعشى ، إذ قيل : هذا أمير المؤمنين عثمان بالباب ، فقال : ائذنوا له ، فدخل فأوسع له على فراشه ، وأصاب من العشاء معه ، فلما رفع قام من كان هناك ، وثبت أنا .
فحمد عثمان الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد يا خال ، فإنى قد جئتك أستعذرك من ابن أخيك على ، سبنى ، وشهر أمرى ، وقطع رحمى ، وطعن في دينى ، وإنى أعوذ بالله منكم يا بنى عبد المطلب ، إن كان لكم حق تزعمون أنكم غلبتم عليه ، فقد تركتموه في يدى من فعل ذلك بكم ، وأنا أقرب إليكم رحما منه ؟ وما لمت منكم أحدا إلا عليا ، ولقد دعيت أن أبسط عليه ، فتركته لله والرحم ، وأنا أخاف ألا يتركني فلا أتركه .
قال ابن عباس : فحمد أبى الله وأنى عليه ، ثم قال : أما بعد يابن أختى ، فإن كنت لا تحمد عليا لنفسك فإنى لا أحمدك لعلى ، وما على وحده قال فيك ، بل غيره ، فلو أنك(9/13)
اتهمت نفسك للناس ، اتهم الناس أنفسهم لك ، ولو أنك نزلت مما رقيت وارتقوا مما نزلوا ، فأخذت منهم وأخذوا منك ، ما كان بذلك بأس .
قال عثمان : فذلك إليك يا خال ، وأنت بينى وبينهم .
قال : أفأذكر لهم ذلك عنك ؟ قال : نعم ، وانصرف ، فما لبثنا أن قيل : هذا أمير المؤمنين قد رجع بالباب ، قال أبى : ائذنوا له ، فدخل فقام قائما ، ولم يجلس ، وقال : لا تعجل يا خال حتى أوذنك ، فنظرنا فإذا مروان بن الحكم كان جالسا بالباب ينتظره حتى خرج فهو ، الذى ثناه عن رأيه الاول ، فأقبل على أبى ، وقال يا بنى ، ما إلى هذا من أمره شئ ، ثم قال : يا بنى ، أملك عليك لسانك حتى ترى ما لا بد منه ، ثم رفع يديه ، فقال : اللهم اسبق بى ما لا خير لى في إدراكه .
فما مرت جمعة حتى مات رحمه الله .
* * * وروى أبو العباس المبرد في " الكامل " عن قنبر مولى على عليه السلام قال ، دخلت مع على على عثمان ، فأحبا الخلوة ، فأومأ إلى على عليه السلام بالتنحي ، فتنحيت غير بعيد ، فجعل عثمان يعاتبه وعلى مطرق ، فأقبل عليه عثمان ، وقال : مالك لا تقول ! قال : إن قلت لم أقل إلا ما تكره ، وليس لك عندي إلا ما تحب .
قال أبو العباس : تأويل ذلك : إن قلت اعتددت عليك بمثل ما اعتددت به على ، فلذعك عتابي ، وعقدي ألا أفعل - وإن كنت عاتبا - إلا ما تحب (1) .
وعندي فيه تأويل آخر ، وهو : إنى إن قلت واعتذرت فأى شئ حسنته من الاعذار لم يكن ذلك عندك مصدقا ، ولم يكن إلا مكروها غير مقبول ، والله تعالى يعلم أنه ليس لك عندي في باطني وما أطوى عليه جوانحي إلا ما تحب ، وإن كنت لا تقبل المعاذير التى أذكرها ، بل تكرهها وتنبو نفسك عنها .
* * *
__________
(1) الكامل 1 : 13 .
(*)(9/14)
وروى الواقدي في كتاب " الشورى " عن ابن عباس رحمه الله ، قال : شهدت عتاب عثمان لعلى عليه السلام يوما ، فقال له في بعض ماقاله : نشدتك الله أن تفتح للفرقة بابا ! فلعهدي بك وأنت تطيع عتيقا وابن الخطاب طاعتك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولست بدون واحد منهما ، وأنا أمس بك رحما ، وأقرب إليك صهرا ، فإن كنت تزعم أن هذا الامر جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لك ، فقد رأيناك حين توفى نازعت ثم أقررت ، فإن كانا لم يركبا من الامر جددا ، فكيف أذعنت لهما بالبيعة ، وبخعت بالطاعة ، وإن كانا أحسنا فيما وليا ، ولم أقصر عنهما في دينى وحسبي وقرابتي ، فكن لى كما كنت لهما .
فقال على عليه السلام : أما الفرقة ، فمعاذ الله أن أفتح لها بابا ، وأسهل إليها سبيلا ، ولكني أنهاك عما ينهاك الله ورسوله عنه ، وأهديك إلى رشدك ، وأما عتيق وابن الخطاب فإن كانا أخذا ما جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لى ، فأنت أعلم بذلك والمسلمون ، ومالى ولهذا الامر وقد تركته منذ حين ! فأما الا يكون حقى بل المسلمون فيه شرع فقد أصاب السهم الثغرة (1) ، وأما أن يكون حقى دونهم فقد تركته لهم ، طبت به نفسا ، ونفضت يدى عنه استصلاحا .
وأما التسوية بينك وبينهما ، فلست كأحدهما ، إنهما وليا هذا الامر ، فظلفا (2) أنفسهما وأهلهما عنه ، وعمت فيه وقومك عوم السابح في اللجة ، فارجع إلى الله أبا عمرو ، وانظر هل بقى من عمرك إلا كظمء الحمار (3) .
فحتى متى وإلى متى ! ألا تنهى سفهاء بنى أمية عن أعراض المسلمين وأبشارهم وأموالهم ! والله لو ظلم عامل من عمالك حيث تغرب الشمس لكان إثمه مشتركا بينه وبينك .
قال ابن عباس : فقال عثمان : لك العتبى ، وافعل واعزل من عمالى كل من تكرهه
__________
(1) الثغرة : نقرة النحر بين النرقوتين .
(2) ظلفا أنفسهما ، أي كفا .
(3) يقال : ما بقى من ظمء الحمار ، أي لم يبق من عمره إلا اليسير ، لانه ليس شئ أقصر ظمأ من الحمار والكلام على المثل .
(*)(9/15)
ويكرهه المسلمون ، ثم افترقا ، فصده مروان بن الحكم عن ذلك ، وقال : يجترئ عليك الناس ، فلا تعزل أحدا منهم ! * * * وروى الزبير بن بكار أيضا في كتابه ، عن رجال أسند بعضهم عن بعض ، عن على بن أبى طالب عليه السلام ، قال : أرسل إلى عثمان في الهاجرة (1) ، فتقنعت بثوبي ، وأتيته ، فدخلت عليه وهو على سريره ، وفى يده قضيب ، وبين يديه مال دثر (2) : صبرتان من ورق وذهب ، فقال : دونك خذ من هذا حتى تملا بطنك فقد أحرقتني .
فقلت : وصلتك رحم ! إن كان هذا المال ورثته أو أعطا كه معط ، أو اكتسبته من تجارة ، كنت أحد رجلين : إما آخذ وأشكر أو أوفر وأجهد ، وإن كان من مال الله وفيه حق المسلمين واليتيم وابن السبيل ، فوالله مالك أن تعطينيه ولا لى أن آخذه .
فقال ، أبيت والله إلا ما أبيت .
ثم قام إلى بالقضيب فضربني ، والله ما أرد يده ، حتى قضى حاجته ، فتقنعت بثوبي ، ورجعت إلى منزلي ، وقلت : الله بينى وبينك إن كنت أمرتك بمعروف أو نهيت عن منكر ! * * * وروى الزبير بن بكار ، عن الزهري ، قال : لما أتى عمر بجوهر كسرى ، وضع في المسجد ، فطلعت عليه الشمس فصار كالجمر ، فقال لخازن بيت المال : ويحك ! أرحني من هذا ، واقسمه بين المسلمين ، فإن نفسي تحدثني أنه سيكون في هذا بلاء وفتنة بين الناس فقال : يا أمير المؤمنين ، إن قسمته بين المسلمين لم يسعهم ، وليس أحد يشتريه لان ثمنه عظيم ، ولكن ندعه إلى قابل فعسى الله أن يفتح على المسلمين بمال فيشتريه منهم من يشتريه .
قال : ارفعه فأدخله بيت المال ، وقتل عمر وهو بحاله ، فأخذه عثمان لما ولى الخلافة فحلى به بناته .
__________
(1) الهاجرة : نصف النهار في القيظ .
(2) الدثر : المال الكثير .
(*)(9/16)
قال الزبير : فقال الزهري : كل قد أحسن ، عمر حين حرم نفسه وأقاربه ، وعثمان حين وصل أقاربه .
* * * قال الزبير : وحدثنا محمد بن حرب ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن إسماعيل بن أبى خالد ، قال : جاء رجل إلى على عليه السلام يستشفع به إلى عثمان ، فقال : حمال الخطايا ! لا والله لا أعود إليه أبدا .
فآيسه منه .
* * * وروى الزبير أيضا ، عن سداد بن عثمان ، قال : سمعت عوف بن مالك في أيام عمر ، يقول : يا طاعون خذنى ، فقلنا له : لم تقول هذا ، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن المؤمن لا يزيده طول العمر إلا خيرا " ! قال : إنى أخاف ستا : خلافة بنى أمية ، وإمارة السفهاء من أحداثهم ، والرشوة في الحكم ، وسفك الدم الحرام ، وكثرة الشرط ، ونشئا ينشأ يتخذون القرآن مزامير .
* * * وروى الزبير عن أبى غسان ، عن عمر بن زياد عن الاسود بن قيس ، عن عبيد بن حارثة ، قال : سمعت عثمان وهو يخطب ، فأكب الناس حوله ، فقال : اجلسوا يا أعداء الله ! فصاح به طلحة : إنهم ليسوا بأعداء الله ، لكنهم عباده ، وقد قرءوا كتابه .
* * * وروى الزبير ، عن سفيان بن عيينة ، عن إسرائيل عن الحسن ، قال : شهدت المسجد يوم جمعة ، فخرج عثمان ، فقام رجل ، فقال : أنشد كتاب الله ! فقال عثمان : اجلس ، أما لكتاب الله ناشد غيرك ! فجلس ، ثم قام آخر فقال مثل مقالته ، فقال : اجلس ، فأبى (2 - نهج - 9)(9/17)
أن يجلس ، فبعث إلى الشرط ليجلسوه ، فقام الناس فحالوا بينهم وبينه ، قال : ثم تراموا بالبطحاء ، حتى يقول القائل : ما أكاد أرى أديم السماء من البطحاء .
فنزل عثمان ، فدخل داره ولم يصل الجمعة .
* * * [ فصل فيما شجر بين عثمان وابن عباس من الكلام بحضرة على ] وروى الزبير أيضا في " الموفقيات " عن ابن عباس رحمه الله ، قال : صليت العصر يوما ، ثم خرجت فإذا أنا بعثمان بن عفان في أيام خلافته في بعض أزقة المدينة وحده ، فأتيته إجلالا وتوقيرا لمكانه ، فقال لى : هل رأيت عليا ؟ قلت : خلفته في المسجد ، فإن لم يكن الان فيه فهو في منزله ، قال : أما منزله فليس فيه فابغه (1) لنا في المسجد .
فتوجهنا إلى المسجد ، وإذا على عليه السلام يخرج منه .
قال ابن عباس : وقد كنت أمس ذلك اليوم عند على فذكر عثمان وتجرمه عليه ، وقال : أما والله يابن عباس إن من دوائه لقطع كلامه ، وترك لقائه .
فقلت له : يرحمك الله ! كيف لك بهذا ! فإن تركته ثم أرسل إليك فما أنت صانع ؟ قال : أعتل ، وأعتل ، فمن يقسرنى (2) ! قال : لا أحد .
قال ابن عباس : فلما تراءينا له وهو خارج من المسجد ، ظهر منه من التفلت والطلب للانصراف ما استبان لعثمان ، فنظر إلى عثمان ، وقال : يابن عباس ، أما ترى ابن خالنا يكره لقاءنا فقلت : ولم وحقك ألزم ، وهو بالفضل أعلم .
فلما تقاربا رماه عثمان بالسلام ، فرد عليه ، فقال عثمان : إن تدخل فإياك أردنا ، وإن تمض فإياك طلبنا .
فقال على : أي ذلك أحببت ؟ قال : تدخل ، فدخلا وأخذ عثمان بيده ، فأهوى به ألى القبلة ، فقصر عنها ، وجلس قبالتها ، فجلس عثمان إلى جانبه ، فنكصت عنهما ، فدعواني جميعا ، فأتيتهما ، فحمد عثمان الله ، وأثنى عليه ، وصلى على رسوله ، ثم قال : أما بعد يا بنى خالي وابنى
__________
(1) ابغه : اطلبه .
(2) كذا في د ، وفى ب : " يضرنى " .
(*)(9/18)
عمى ، فإذ جمعتكما في النداء فأستجمعكما في الشكاية عن رضاى على أحدكما ، ووجدى على الاخر .
إنى أستعذركما من أنفسكما ، وأسألكما فيئتكما ، وأستوهبكما رجعتكما ، فوالله لو غالبني الناس ما انتصرت إلا بكما ، ولو تهضموني ما تعززت إلا بعزكما ، ولقد طال هذا الامر بيننا حتى تخوفت أن يجوز قدره ، ويعظم الخطر فيه ، ولقد هاجني العدو عليكما ، وأغراني بكما ، فمنعني الله والرحم مما أراد ، وقد خلونا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى جانب قبره ، وقد أحببت أن تظهر إلى رأيكما في ، وما تنطويان لى عليه وتصدقا ، فإن الصدق أنجى وأسلم ، واستغفر الله لى ولكما .
قال ابن عباس : فأطرق على عليه السلام ، وأطرقت معه طويلا ، أما أنا فأجللته أن أتكلم قبله ، وأما هو فأراد أن أجيب عنى وعنه .
ثم قلت له : أتتكلم أم أتكلم أنا عنك ؟ قال : بل تكلم عنى وعنك .
فحمدت الله ، وأثنيت عليه ، وصليت على رسوله ، ثم قلت : أما بعد يابن عمنا وعمتنا ، فقد سمعنا كلامك لنا ، وخلطك في الشكاية بيننا على رضاك - زعمت - عن أحدنا ووجدك على الاخر ، وسنفعل في ذلك ، فنذمك ونحمدك ، اقتداء منك بفعلك فينا ، فإنا نذم مثل تهمتك إيانا على ما اتهمتنا عليه بلا ثقة إلا ظنا ، ونحمد منك غير ذلك من مخالفتك عشيرتك ، ثم نستعذرك من نفسك استعذارك إيانا من أنفسنا ، ونستوهبك فيئتك استيهابك إيانا فيئتنا ، ونسألك رجعتك مسألتك إيانا رجعتنا ، فإنا معا أيما حمدت وذممت منا ، كمثلك في أمر نفسك ، ليس بيننا فرق ولا اختلاف ، بل كلانا شريك صاحبه في رأيه وقوله .
فوالله ما تعلمنا غير معذرين فيما بيننا وبينك ، ولا تعرفنا غير قانتين عليك ، ولا تجدنا غير راجعين إليك ، فنحن نسألك من نفسك مثل ما سألتنا من أنفسنا .
وأما قولك : لو غالبتني الناس ما انتصرت إلا بكما ، أو تهضموني ما تعززت إلا بعزكما ، فأين بنا وبك عن ذلك ، ونحن وأنت كما قال أخو كنانة :(9/19)
بدا بحتر مارام نال وإن يرم يخض دونه غمرا من الغر رائمه لنا ولهم منا ومنهم على العدى مراتب عز مصعدات سلالمه وأما قولك في هيج العدو إياك علينا ، وإغرائه لك بنا ، فوالله ما أتاك العدو من ذلك شيئا إلا وقد أتانا بأعظم منه ، فمنعنا مما أراد ما منعك من مراقبة الله والرحم ، وما أبقيت أنت ونحن إلا على أدياننا وأعراضنا ومروءاتنا ، ولقد لعمري طال بنا وبك هذا الامر حتى تخوفنا منه على أنفسنا ، وراقبنا منه ما راقبت .
وأما مساءلتك إيانا عن رأينا فيك ، وما ننطوي عليه لك ، فإنا نخبرك أن ذلك إلى ما تحب ، لا يعلم واحد منا من صاحبه إلا ذلك ، ولا يقبل منه غيره ، وكلانا ضامن على صاحبه ذلك وكفيل به ، وقد برأت أحدنا وزكيته ، وأنطقت الاخر وأسكته ، وليس السقيم منا مما كرهت بأنطق من البرئ فيما ذكرت ، ولا البرئ منا مما سخطت بأظهر من السقيم فيما وصفت ، فإما جمعتنا في الرضا ، وإما جمعتنا في السخط ، لنجازيك بمثل ما تفعل بنا في ذلك ، مكايلة الصاع بالصاع ، فقد أعلمناك رأينا ، وأظهرنا لك ذات أنفسنا ، وصدقناك ، والصدق كما ذكرت أنجى وأسلم ، فأجب إلى ما دعوت إليه ، وأجلل عن النقض والغدر مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضع قبره ، واصدق تنج وتسلم ، ونستغفر الله لنا ولك .
قال ابن عباس : فنظر إلى على عليه السلام نظر هيبة ، وقال : دعه حتى يبلغ رضاه فيما هو فيه ، فوالله لو ظهرت له قلوبنا ، وبدت له سرائرنا ، حتى رآها بعينه كما يسمع الخبر عنها بأذنه ، ما زال متجرما منتقما ، والله ما أنا ملقى على وضمة (1) ، وإنى لمانع ما وراء ظهرى ، وإن هذا الكلام لمخالفة منه وسوء عشرة .
فقال عثمان : مهلا أبا حسن ! فوالله إنك لتعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفني
__________
(1) الوضم في الاصل : خشبة الجزار يقطع عليها اللحم ، وفى المثل : " تركهم لحما على وضم " ، أي أوقع بهم فأوجعهم .
(*)(9/20)
بغير ذلك يوم يقول وأنت عنده : " - ن من أصحابي لقوما سالمين لهم ، وإن عثمان لمنهم ، إنه لاحسنهم بهم ظنا ، وأنصحهم لهم حبا " .
فقال على عليه السلام : فتصدق قوله صلى الله عليه وسلم بفعلك .
وخالف ما أنت الان عليه ، فقد قيل لك ما سمعت وهو كاف إن قبلت .
قال عثمان : تثق يا أبا الحسن ! قال : نعم أثق ولا أظنك فاعلا ، قال عثمان : قد وثقت وأنت ممن لا يخفر صاحبه ، ولا يكذب لقيله .
قال ابن عباس : فأخذت بأيديهما ، حتى تصافحا وتصالحا وتمازحا ، ونهضت عنهما ، فتشاورا وتآمرا وتذاكرا ، ثم افترقا ، فوالله ما مرت ثالثة حتى لقيني كل واحد منهما يذكر من صاحبه مالا تبرك عليه الابل .
فعلمت أن لاسبيل إلى صلحهما بعدها .
* * * وروى أحمد بن عبد العزيز الجوهرى في كتاب " أخبار السقيفة " عن محمد بن قيس الاسدي ، عن المعروف بن سويد ، قال : كنت بالمدينة أيام بويع عثمان ، فرأيت رجلا في المسجد جالسا ، وهو يصفن (1) بإحدى يديه على الاخرى ، والناس حوله ، ويقول : واعجبا من قريش واستئثارهم بهذا الامر على أهل هذا البيت ، معدن الفضل ، ونجوم الارض ، ونور البلاد ! والله إن فيهم لرجلا ما رأيت رجلا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى منه بالحق ، ولا أقضى بالعدل ، ولا آمر بالمعروف ، ولا أنهى عن المنكر ، فسألت عنه فقيل : هذا المقداد ، فتقدمت إليه ، وقلت : أصلحك الله ! من الرجل الذى تذكر ؟ فقال : ابن عم نبيك رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب ! قال : فلبثت ما شاء الله .
ثم إنى لقيت أبا ذر رحمه الله ، فحدثته ما قال المقداد ، فقال : صدق ، قلت : فما يمنعكم أن تجعلوا هذا الامر فيهم ! قال : أبى ذلك قومهم ، قلت : فما يمنعكم أن تعينوهم ! قال : مه لا تقل هذا ، إياكم والفرقة والاختلاف !
__________
(1) يصفن : يضرب .
(*)(9/21)
قال : فسكت عنه ، ثم كان من الامر بعد ما كان .
* * * وذكر شيخنا أبو عثمان الجاحظ في الكتاب الذى أورد فيه المعاذير عن أحداث عثمان أن عليا اشتكى ، فعاده عثمان من شكايته ، فقال على عليه السلام : وعائدة تعود لغير ود * تود لو أن ذا دنف يموت .
فقال عثمان : والله ما أدرى أحياتك أحب إلى أم موتك ! إن مت هاضنى فقدك ، وإن حييت فتنتنى حياتك ، لا أعدم ما بقيت طاعنا يتخذك رديئة يلجأ إليها .
فقال على عليه السلام : ما الذى جعلني رديئة للطاعنين العائبين ! إنما سوء ظنك بى أحلني من قلبك هذا المحل ، فإن كنت تخاف جانبى فلك على عهد الله وميثاقه أن لا بأس عليك منى ، ما بل بحر صوفه ، وإنى لك لراع ، وإنى منك لمحام ، ولكن لا ينفعني ذلك عندك .
وأما قولك : " إن فقدي يهيضك " ، فكلا أن تهاض لفقدى ما بقى لك الوليد ومروان .
فقام عثمان فخرج .
وقد روى أن عثمان هو الذى أنشد هذا البيت ، وقد كان اشتكى ، فعاده على عليه السلام فقال عثمان : وعائدة تعود بغير نصح * تود لو أن ذا دنف يموت .
* * * وروى أبو سعد (1) الابى في كتابه عن ابن عباس ، قال : وقع بين عثمان وعلى
__________
(1) هو أبو سعد زين الكفاة منصور بن الحسين الابى ، وزير مجد الدولة رستم بن فخر الدولة بن ركن الدولة بن بويه ، صاحب كتاب نثر الدرر في المحاضرات .
(*)(9/22)
عليه السلام كلام ، فقال عثمان : ما أصنع إن كانت قريش لاتحبكم ، وقد قتلتم منهم يوم بدر سبعين ، كأن وجوههم شنوف الذهب ، تصرع أنفهم قبل شفاههم ! وروى المذكور أيضا أن عثمان لما نقم الناس عليه ما نقموا ، قام متوكئا على مروان فخطب الناس ، فقال : إن لكل أمة آفة ، ولكل نعمة عاهة ، وإن آفة هذه الامة ، وعاهة هذه النعمة قوم عيابون طعانون ، يظهرون لكم ما تحبون ، ويسرون ما تكرهون ، طغام مثل النعام ، يتبعون أول ناعق ، ولقد نقموا على ما نقموا على عمر مثله ، فقمعهم ووقمهم (1) وإنى لاقرب ناصرا وأعز نفرا ، فمالى لا أفعل في فضول (3) الاموال ما أشاء ! وروى المذكور أيضا أن عليا عليه السلام اشتكى فعاده عثمان ، فقال : ما أراك أصبحت إلا ثقيلا ! قال : أجل ، قال : والله ما أدرى أموتك أحب إلى أم حياتك ! إنى لاحب موتك ، وأكره أن أعيش بعدك ، فلو شئت جعلت لنا من نفسك مخرجا ، إما صديقا مسالما وإما عدوا مغالبا ، وإنك لكما قال أخو إياد : (3) .
جرت لما بيننا حبل الشموس * فلا يأسا مبينا نرى منها ولا طمعا فقال على عليه السلام : ليس لك عندي ما تخافه ، وإن أجبتك لم أجبك إلا بما تكرهه .
وكتب عثمان إلى على عليه السلام حين أحيط به ، أما بعد : فقد جاوز الماء الزبى ، وبلغ الحزام الطبيين ، وتجاوز الامر في قدره ، فطمع في من لا يدفع عن نفسه .
__________
(1) وقمهم : أذلهم .
(2) فضول الاموال : الزائدة عن الحاجة .
(3) هو لقيط بن يعمر الايادي .
(4) من قصيدة ينذر بها قومه غزو كسرى .
إياهم ، وأولها : يادار عمرة من محتلها الجرعا * هاجت لى الهم والاحزان والوجعا في مختارات ابن الشجرى - 6 .
(*)(9/23)
فإن كنت مأ كولا فكن خير آكل * وإلا فأدركني ولما أمزق (1) .
* * * وروى الزبير خبر العيادة على وجه آخر قال : مرض على عليه السلام ، فعاده عثمان ومعه مروان بن الحكم ، فجعل عثمان يسأل عليا عن حاله ، وعلى ساكت لا يجيبه ، فقال عثمان : لقد أصبحت يا أبا الحسن منى بمنزلة الولد العاق لابيه ! إن عاش عقه ، وإن مات فجعه ، فلو جعلت لنا من أمرك فرجا ، إما عدوا أو صديقا ، ولم تجعلنا بين السماء والماء .
أما والله لانا خير لك من فلان وفلان ، وإن قتلت لا تجد مثلى ، فقال مروان : أما والله لا يرام ما وراءنا حتى تتواصل سيوفنا ، وتقطع أرحامنا .
فالتفت إليه عثمان ، وقال : اسكت لاسكت ! وما يدخلك فيما بيننا ! * * * وروى شيخنا أبو عثمان الجاحظ ، عن زيد بن أرقم ، قال : سمعت عثمان وهو يقول لعلى عليه السلام : أنكرت على استعمال معاوية ، وأنت تعلم أن عمرا استعمله " قال على عليه السلام : نشدتك الله " ألا تعلم أن معاوية كان أطوع لعمر من يرفا غلامه ! إن عمر كان إذا استعمل عاملا وطئ على صماخه ، وإن القوم ركبوك وغلبوك واستبدوا بالامر دونك .
فسكت عثمان .
* * * [ أسباب المنافسة بين على وعثمان ] قلت : حدثنى جعفر بن مكى الحاجب رحمه الله ، قال : سألت محمد بن سليمان حاجب الحجاب ، - وقد رأيت أنا محمدا هذا ، وكانت لى به معرفة غير مستحكمة ، وكان ظريفا
__________
(1) البيت للممزق العبدى ، والخبر في الكامل 1 : 17 .
(*)(9/24)
أديبا ، وقد اشتغل بالرياضيات من الفلسفة ، ولم يكن يتعصب لمذهب بعينه - قال جعفر : سألت عما عنده في أمر على وعثمان ، فقال : هذه عداوة قديمة النسب بين عبد شمس وبين بنى هاشم ، وقد كان حرب بن أمية نافر عبد المطلب بن هاشم ، وكان أبو سفيان يحسد محمدا صلى الله عليه وآله وحاربه ، ولم تزل الثنتان متباغضتين وإن جمعتهما المنافية .
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وآله زوج عليا بابنته ، وزوج عثمان بابنته الاخرى ، وكان اختصاص رسول الله صلى الله عليه وآله لفاطمة أكثر من اختصاصه للبنت الاخرى ، وللثانية التى تزوجها عثمان بعد وفاة الاولى ، واختصاصه أيضا لعلى وزيادة قربه منه وامتزاجه به واستخلاصه إياه لنفسه ، أكثر وأعظم من اختصاصه لعثمان .
فنفس عثمان ذلك عليه ، فتباعد ما بين قلبيهما وزاد في التباعد ما عساه يكون بين الاختين من مباغضة أو مشاجرة أو كلام ينقل من إحداهما إلى الاخرى ، فيتكدر قلبها على أختها ، ويكون ذلك التكدير سببا لتكدير ما بين البعلين أيضا ، كما نشاهده في عصرنا وفى غيره من الاعصار ، وقد قيل : ما قطع من الاخوين كالزوجين .
ثم اتفق أن عليا عليه السلام قتل جماعة كثيرة من بنى عبد شمس في حروب رسول الله صلى الله عليه وآله ، فتأكد الشنآن ، وإذا استوحش الانسان من صاحبه استوحش صاحبه منه .
ثم مات رسول الله صلى الله عليه وآله ، فصبا إلى على جماعة يسيرة لم يكن عثمان منهم ، ولا حضر في دار فاطمة مع من حضر من المخلفين عن البيعة ، وكانت في نفس على عليه السام أمور من الخلافة لم يمكنه إظهارها في أيام أبى بكر وعمر ، لقوة عمر وشدته ، وانبساط يده ولسانه ، فلما قتل عمر وجعل الامر شورى بين الستة ، وعدل عبد الرحمن بها عن على إلى عثمان ، لم يملك على نفسه ، فأظهر ما كان كامنا ، وأبدى ما كان مستورا ، ولم يزل الامر يتزايد بينهما ، حتى شرف وتفاقم ، ومع ذلك فلم يكن على عليه السلام لينكر من أره إلا منكرا ، ولا ينهاه إلا كما تقتضي الشريعة نهيه عنه ، وكان عثمان مستضعفا في نفسه ، رخوا قليل الحزم ، واهى العقدة ، وسلم عنانه إلى(9/25)
مروان يصرفه كيف شاء ، فالخلافة له في المعنى ، ولعثمان في الاسم ، فلما انتقض على عثمان أمره ، استصرخ عليا ولاذ به ، وألقى زمام أمره إليه ، فدافع عنه حيث لا ينفع الدفاع ، وذب عنه حين لا يغنى الذب ، فقد كان الامر فسد فسادا لا يرجى صلاحه .
قال جعفر : فقلت له : أتقول إن عليا وجد من خلافة عثمان أعظم مما وجده من خلافة أبى بكر وعمر ؟ فقال : كيف يكون ذلك ، وهو فرع لهما ، ولولا هما لم يصل إلى الخلافة ، ولا كان عثمان ممن يطمع فيها من قبل ، ولا يخطر له ببال ، ولكن هاهنا أمر يقتضى في عثمان زيادة المنافسة ، وهو اجتماعهما في النسب ، وكونهما من بنى عبد مناف ، والانسان ينافس ابن عمه الادنى أكثر من منافسة الابعد ، ويهون عليه من الابعد مالا يهون عليه من الاقرب .
قال جعفر : فقلت له : أفتقول : لو أن عثمان خلع ولم يقتل ، أ كان الامر يستقيم لعلى عليه السلام إذا بويع بعد خلعه ؟ فقال : لا ، وكيف يتوهم ذلك بل يكون انتقاض الامور عليه وعثمان حى مخلوع أكثر من انتفاضها عليه بعد قتله ، لانه موجود يرجى ويتوقع عوده ، فإن كان محبوسا عظم البلاء والخطب ، وهتف الناس باسمه في كل يوم ، بل في كل ساعة ، وإن كان مخلى سربه ، وممكنا من نفسه ، وغير محول بينه وبين اختياره ، لجأ إلى بعض الاطراف ، وذكر أنه مظلوم غصبت خلافته ، وقهر على خلع نفسه ، فكان اجتماع الناس عليه أعظم ، والفتنة به أشد وأغلظ .
قال جعفر : فقلت له : فما تقول في هذا الاختلاف الواقع في أمر الامامة من مبدأ الحال ، وما الذى تظنه أصله ومنبعه ؟ فقال : لا أعلم لهذا أصلا إلا أمرين : أحدهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله أهمل أمر الامامة فلم يصرح فيه بأحد بعينه ، وإنما كان هناك رمز وإيماء ، وكناية وتعريض ، لو أراد صاحبه أن يحتج به وقت الاختلاف وحال المنازعة(9/26)
لم يقم منه صورة حجة تغنى ، ولا دلالة تحسب وتكفى ، ولذلك لم يحتج على عليه السلام يوم السقيفة بما ورد فيه ، لانه لم يكن نصا جليا يقطع العذر ، ويوجب الحجة ، وعادة الملوك إذا تمهد ملكهم ، وأرادوا العقد لولد من أولادهم ، أو ثقة من ثقاتهم ، أن يصرحوا بذكره ، ويخطبوا باسمه على أعناق المنابر ، وبين فواصل الخطب ، ويكتبوا بذلك إلى الافاق البعيدة عنهم ، والاقطار النائية منهم ، ومن كان منهم ذا سرير وحصن ومدن كثيرة ، ضرب اسمه على صفحات الدنانير والدراهم مع اسم ذلك الملك ، بحيث تزول الشبهة في أمره ، ويسقط الارتياب بحاله ، فليس أمر الخلافة بهين ولا صغير ليترك حتى يصير في مظنة الاشتباه واللبس ، ولعله كان لرسول الله صلى الله عليه وآله في ذلك عذر لا نعلمه نحن ، إما خشية من فساد الامر أو إرجاف المنافقين ، وقولهم : إنها ليس بنبوة وإنما هي ملك به أوصى لذريته وسلالته ، ولما لم يكن أحد من تلك الذرية في تلك الحال صالحا للقيام بالامر لصغر السن ، جعله لابيهم ، ليكون في الحقيقة لزوجته التى هي ابنته ولاولاده منها من بعده .
وأما ما تقوله المعتزلة وغيرهم من أهل العدل : إن الله تعالى علم أن المكلفين يكونون على ترك الامر مهملا غير معين أقرب إلى فعل الواجب وتجنب القبيح .
قال : ولعل رسول الله صلى الله عليه وآله لم يكن يعلم في مرضه أنه يموت في ذلك المرض ، وكان يرجو البقاء فيمهد للامامة قاعدة واضحة ، ومما يدل على ذلك أنه لما نوزع في إحضار الدواة والكتف ليكتب لهم مالا يضلون بعده ، غضب وقال : اخرجوا عنى ، لم يجمعهم بعد الغضب ثانية و يعرفهم رشدهم ، ويهديهم إلى مصالحهم ، بل أرجأ الامر إرجاء من يرتقب الافاقة و ينتظر العافية .
قال : فبتلك الاقوال المحجمة ، والكنايات المحتملة ، والرموز المشتبهة مثل حديث(9/27)
خصف النعل ، ومنزلة هارون من موسى ، ومن كنت مولاه ، وهذا يعسوب الدين ، ولا فتى إلا على ، وأحب خلقك إليك ، وما جرى هذا المجرى ، مما لا يفصل الامر ، ويقطع العذر ويسكت الخصم ، ويفحم المنازع ، وثبت الانصار فادعتها ، ووثب بنو هاشم فادعوها ، وقال أبو بكر : بايعوا عمر أو أبا عبيدة ، وقال العباس لعلى : امدد يدك لابايعك ، وقال قوم ممن رعف به الدهر فيما بعد ، ولم يكن موجودا حينئذ : إن الامر كان للعباس لانه العم الوارث ، وإن أبا بكر وعمر غصباه حقه ، فهذا أحدهما .
وأما السبب الثاني للاختلاف ، فهو جعل عمر الامر شورى في الستة ، ولم ينص على واحد بعينه ، إمامنهم أو من غيرهم ، فبقى في نفس كل واحد منهم أنه قد رشح للخلافة وأهل للملك والسلطنة فلم يزل ذلك في نفوسهم وأذهانهم مصورا بين أعينهم ، مرتسما في خيالاتهم ، منازعة إليه نفوسهم ، طامحة نحوه عيونهم ، حتى كان من الشقاق بين على وعثمان ما كان ، وحتى أفضى الامر إلى قتل عثمان .
وكان أعظم الاسباب في قتله طلحة ، وكان لا يشك أن الامر له من بعده لوجوه : منها سابقته ، ومنها أنه ابن عم لابي بكر ، وكان لابي بكر في نفوس أهل ذلك العصر منزلة عظيمة ، أعظم منها الان .
ومنها أنه كان سمحا جوادا ، وقد كان نازع عمر في حياة أبى بكر ، وأحب أن يفوض أبو بكر الامر إليه من بعده ، فما زال يفتل في الذرورة والغارب في أمر عثمان ، وينكر له القلوب ، و يكدر عليه النفوس ، ويغرى أهل المدينة والاعراب وأهل الامصار به .
وساعده الزبير ، وكان أيضا يرجو الامر لنفسه ، ولم يكن رجاؤهما الامر بدون رجاء على ، بل رجاؤهما كان أقوى لان عليا دحضه الاولان ، وأسقطاه ، وكسر ناموسه بين الناس ، فصار نسيا منسيا ، ومات الاكثر ممن يعرف خصائصه التى كانت في أيام النبوة وفضله ، ونشأ قوم لا يعرفونه ولا يرونه إلا رجلا من عرض المسلمين ، ولم يبق له مما يمت به إلا أنه ابن عم الرسول ، وزوج ابنته ، وأبو سبطيه ، ونسى ما وراء ذلك كله ، واتفق له من بغض(9/28)
قريش وانحرافها ما لم يتفق لاحد ، وكانت قريش بمقدار ذلك البغض ، تحب طلحة والزبير ، لان الاسباب الموجبة لبغضهم له لم تكن موجودة فيهما ، وكانا يتألفان قريشا في أواخر أيام عثمان ، ويعدانهم بالعطاء والافضال ، وهما عند أنفسهما وعند الناس خليفتان بالقوة لا بالفعل ، لان عمر نص عليهما وارتضاهما للخلافة ، وعمر متبع القول ومرضى الفعال ، موفق مؤيد مطاع ، نافذ الحكم في حياته وبعد وفاته ، فلما قتل عثمان ، أرادها طلحة ، وحرص عليها ، فلولا الاشتر وقوم معه من شجعان العرب جعلوها في على لم تصل إليه أبدا ، فلما فاتت طلحة والزبير ، فتقا ذلك الفتق العظيم على على ، وأخرجا أم المؤمنين معهما ، وقصدا العراق ، وأثارا الفتنة ، وكان من حرب الجمل ما قد علم وعرف ، ثم كانت حرب الجمل مقدمة وتمهيدا لحرب صفين ، فإن معاوية لم يكن ليفعل ما فعل ، لولا طمعه بما جرى في البصرة ، ثم أوهم أهل الشام أن عليا قد فسق بمحاربة أم المؤمنين ، ومحاربة المسلمين ، وأنه قتل طلحة والزبير ، وهما من أهل الجنة ، ومن يقتل مؤمنا من أهل الجنة فهو من أهل النار ، فهل كان الفساد المتولد في صفين إلا فرعا للفساد الكائن يوم الجمل ! ثم نشأ من فساد صفين وضلال معاوية كل ما جرى من الفساد والقبيح في أيام بنى أمية ، ونشأت فتنة ابن الزبير فرعا من فروع يوم الدار ، لان عبد الله كان يقول : إن عثمان لما أيقن بالقتل نص على بالخلافة ، ولى بذلك شهود ، ومنهم مروان بن الحكم .
أفلا ترى كيف تسلسلت هذه الامور فرعا على أصل ، وغصنا من شجرة ، وجذوة من ضرام ! هكذا يدور بعضه على بعض ، وكله من الشورى في الستة .
قال : وأعجب من ذلك قول عمر وقد قيل له : إنك استعملت يزيد بن أبى سفيان وسعيد بن العاص ومعاوية وفلانا وفلانا من المؤلفة قلوبهم من الطلقاء وأبناء الطلقاء ، وتركت أن تستعمل عليا والعباس والزبير وطلحة ! فقال : أما على فأنبه من ذلك ، وأما هؤلاء النفر(9/29)
من قريش ، فإنى أخاف أن ينتشروا في البلاد ، فيكثروا فيها الفساد ، فمن يخاف من تأميرهم لئلا يطمعوا في الملك ، ويدعيه كل واحد منهم لنفسه ، كيف لم يخف من جعلهم ستة متساوين في الشورى ، مرشحين للخلافة ! وهل شئ أقرب إلى الفساد من هذا ! وقد روى أن الرشيد رأى يوما محمدا وعبد الله ابنيه يلعبان ويضحكان ، فسر بذلك ، فلما غابا عن عينه بكى ، فقال له الفضل بن الربيع : ما يبكيك يا أمير المؤمنين ، وهذا مقام جذل لا مقام حزن ؟ فقال : أما رأيت لعبهما ومودة بينهما ؟ أما والله ليتبدلن ذلك بغضا وشنفا (1) ، وليختلسن كل واحد منهما نفس صاحبه عن قريب ، فإن الملك عقيم ، وكان الرشيد قد عقد الامر لهما على ترتيب ، هذا بعد هذا ، فكيف من لم يرتبوا في الخلافة ، بل جعلوا فيها كأسنان المشط ! فقلت أنا لجعفر : هذا كله تحكيه عن محمد بن سليمان ، فما تقول أنت ؟ فقال : إذا قالت حذام فصدقوها * فإن القول ما قالت حذام (2)
__________
(1) الشنف : الكره .
(2) قبله : فلو لا المزعجات من الليالى * لما ترك القطا طيب المنام نسبهما صاحب اللسان (في رقش) للجيم بن صعب .
(*)(9/30)
(136) الاصل : ومن كلام له عليه السلام : لم تكن بيعتكم إياى فلتة ، وليس أمرى وأمركم واحدا ، إنى أريدكم لله وأنتم تريدوننى لانفسكم .
أيها الناس أعينوني على أنفسكم ، وايم الله لانصفن المظلوم من ظالمه ، ولاقودن الظالم بخزامته ، حتى أورده منهل الحق وإن كان كارها .
* * * الشرح : الفلتة : الامر يقع عن غير تدبر ولا روية ، وفى الكلام تعريض ببيعة أبى بكر ، وقد تقدم لنا في معنى قول عمر : " كانت بيعة أبى بكر فلتة وقى الله شرها " كلام .
والخزامة : حلقة من شعر تجعل في أنف البعير ، ويجعل الزمام فيها .
وأعينوني على أنفسكم : خذوها بالعدل ، واقمعوها عن اتباع الهوى ، واردعوها بعقولكم عن المسالك التى ترديها وتوبقها ، فإنكم إذا فعلتم ذلك أعنتموني عليها ، لانى أعظكم وآمركم بالمعروف ، وأنهاكم عن المنكر ، فإذا كبحتم أنفسكم بلجام العقل الداعي إلى ما أدعو إليه ، فقد أعنتموني عليها .
فإن قلت : ما معنى قوله : " أريدكم لله وتريدونني لانفسكم " ؟(9/31)
قلت : لانه لا يريد من طاعتهم له إلا نصرة دين الله والقيام بحدوده وحقوقه ، ولا يريدهم لحظ نفسه ، وأما هم فإنهم يريدونه لحظوظ أنفسهم من العطاء والتقريب ، والاسباب الموصلة إلى منافع الدنيا .
وهذا الخطاب منه عليه السلام لجمهور أصحابه ، فأما الخواص منهم فإنهم كانوا يريدونه لامر الذى يريدهم له من إقامة شرائع الدين وإحياء معالمه .(9/32)
(137) الاصل : ومن كلام له عليه السلام في شأن طلحة والزبير : والله ما أنكروا على منكرا ، ولا جعلوا بينى وبينهم نصفا ، وإنهم ليطلبون حقا هم تركوه ، ودما هم سفكوه ، فإن كنت شريكهم فيه ، فإن لهم نصيبهم منه ، وإن كانوا ولوه دوني فما الطلبة إلا قبلهم .
وإن أول عدلهم للحكم على أنفسهم ، وإن معى لبصيرتي ، ما لبست ولا لبس (1) على .
وإنها للفئة الباغية فيها الحما والحمة ، والشبهة المغدفة .
وإن الامر لواضح ، وقد زاح الباطل عن نصابه ، وانقطع لسانه عن شغبه ، وايم الله لافرطن لهم حوضا أنا ماتحه ، لا يصدرون عنه برى ، ولا يعبون بعده في حسى .
* * * الشرح : النصف : الانصاف ، قال الفرزدق : ولكن نصفا لو سببت وسبنى * بنو عبد شمس من قريش وهاشم (2) وهو على حذف المضاف ، أي ذا نصف ، أي حكما منصفا عادلا يحكم بينى وبينهم .
والطلبة : بكسر اللام : ما طلبته من شئ .
ولبست على فلان الامر ، ولبس عليه الامر ، كلاهما بالتخفيف .
__________
(1) مخطوطة النهج بتششديد الباء .
(2) اللسان 11 : 246 .
(3 - نهج 9) (*)(9/33)
والحمأ : الطين الاسود ، قال سبحانه : (من صلصال من حما مسنون) (1) .
وحمة العقرب : سمها ، أي في هذه الفئة الباغية الضلال والفساد والضرر ة وإذا أرادت العرب أن تعبر عن الضلال والفساد قالت : الحمأ ، مثله الحمأة بالتاء ، ومن أمثالهم : " ثأطة مدت بماء (2) ، يضرب للرجل يشتد موقه وجهله ، والثأطة : الحمأة ، وإذا أصابها الماء ازدادت فسادا ورطوبة .
ويروى فيها : " الحما " بألف مقصورة .
وهو كناية عن الزبير ، لان كل ما كان بسبب الرجل فهم الاحماء ، واحدهم " حما " مثل قفا وأقفاء ، وما كان بسبب المرأة فهم الا خاتن ، فأما الاصهار فيجمع الجهتين جمعا .
وكان الزبير ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله أعلم عليا بأن فئة من المسلمين تبغى عليه أيام خلافته ، فيها بعض زوجاته وبعض أحمائه ، فكنى على عليه السلام عن الزوجة بالحمة وهى سم العقرب ، ويروى : " والحمء " يضرب مثلا لغير الطيب ولغير الصافى ، وظهر أن الحمء الذى أخبر النبي صلى الله عليه وآله بخروجه مع هؤلاء البغاة هو الزبير ابن عمته .
وفى الحما أربع لغات : حما مثل قفا ، وحمء مثل كمء ، وحمو مثل " أبو " ، وحم مثل أب .
قوله عليه السلام : " والشبهة المغدفة " أي الخفية ، وأصله المرأة تغدف وجهها بقناعها أي تستره .
وروى : " المغدفة " (3) بكسر الدال ، من أغدف الليل ، أي أظلم .
وزاح الباطل ، أي بعد وذهب ، وأزاحه غيره .
وعن نصابه : عن مركزه ومقره ، ومنه قول بعض المحدثين : قد رجع الحق إلى نصابه * وأنت من دون الورى أولى به والشغب ، بالتسكين : تهييج الشر ، شغب الحقد بالفتح شغبا ، وقد جاء بالتحريك في لغة ضعيفة ، وماضيها شغب ، بالكسر .
__________
(1) سورة الحجر 26 .
(2) مجمع الامثال للميدنى 1 : 153 .
(3) هي رواية مخطوطة النهج .
(*)(9/34)
ولا فرطن لهم حوضا ، أي لاملان ، يقال : أفرطت المزادة أي ملاتها ، وغدير مفرط ، أي ملان .
والماتح ، بنقطتين من فوق : المستقى من فوق ، وبالياء : مالئ الدلاء من تحت .
والعب : الشرب بلا مص كما تشرب الدابة .
وفى الحديث : " الكباد من العب " (1) .
والحسى : ماء كامن في رمل يحفر عنه فيستخرج ، وجمعه أحساء .
* * * يقول عليه السلام : والله ما أنكروا على أمرا هو منكر في الحقيقة ، وإنما أنكروا ما الحجة عليهم فيه لالهم ، وحملهم على ذلك الحسد وحب الاستئثار بالدنيا والتفضيل في العطاء ، وغير ذلك مما لم يكن أمير المؤمنين عليه السلام يراه ولا يستجيزه في الدين .
قال : ولا جعلوا بينى وبينهم نصفا ، يعنى وسيطا يحكم وينصف ، بل خرجوا عن الطاعة بغتة ، وإنهم ليطلبون حقا تركوه ، أي يظهرون أنهم يطلبون حقا بخروجهم إلى البصرة وقد تركوا الحق بالمدينة .
قال : ودما هم سفكوه ، يعنى دم عثمان ، وكان طلحة من أشد الناس تحريضا عليه ، وكان الزبير دونه في ذلك .
روى أن عثمان قال : ويلى على ابن الحضرمية - يعنى طلحة - ، أعطيته كذا وكذا بهارا (2) ذهبا ، وهو يروم دمى يحرض على نفسي ، اللهم لا تمتعه به ولقه عواقب بغيه (3) .
وروى الناس الذين صنفوا في واقعة الدار أن طلحة كان يوم قتل عثمان مقنعا بثوب قد استتر به عن أعين الناس ، يرمى الدار بالسهام .
ورووا أيضا أنه لما امتنع على الذين
__________
(1) النهاية لابن الاثير 4 : 3 .
(2) البهار : الحمل ، قيل : هو ثلاثمائة رطل بالقبطية .
(3) انظر النهاية 1 : 1 .
1 .
(*)(9/35)
حصروه الدخول من باب الدار ، حملهم طلحة إلى دار لبعض الانصار ، فأصعدهم إلى سطحها ، وتسوروا منها على عثمان داره فقتلوه .
ورووا أيضا أن الزبير كان يقول : اقتلوه فقد بدل دينكم .
فقالوا : إن ابنك يحامى عنه بالباب ، فقال : ما أكره أن يقتل عثمان ولو بدئ بابنى ، أن عثمان لجيفة على الصراط غدا .
وقال مروان بن الحكم يوم الجمل : والله لا أترك ثأري وأنا أراه ، ولاقتلن طلحة بعثمان ، فإنه قتله .
ثم رماه بسهم فأصاب مأبضه (1) ، فنزف الدم حتى مات .
ثم قال عليه السلام : إن كنت شريكهم في دم عثمان ، فإن لهم نصيبهم منه ، فلا يجوز لهم أن يطلبوا بدمه وهم شركاء فيه ، وإن كانوا ولوه ، دوني فهم المطلوبون إذن به لا غيرهم .
وإنما لم يذكر القسم الثالث ، وهوأن يكون هو عليه السلام وليه دونهم ، لانه لم يقل به قائل ، فإن الناس كانوا على قولين في ذلك : أحدهما أن عليا وطلحة والزبير مسهم لطخ من عثمان ، لا بمعنى أنهم باشروا قتله ، بل بمعنى الاغراء والتحريض ، وثانيهما أن عليا عليه السلام برئ من ذلك ، وأن طلحة والزبير غير بريئين منه .
ثم قال : وإن أول عدلهم للحكم على أنفسهم ، يقول : إن هؤلاء خرجوا ونقضوا البيعة ، وقالوا : إنما خرجنا للامر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وإظهار العدل وإحياء الحق وإماتة الباطل ، وأول العدل أن يحكموا على أنفسهم ، فإنه يجب على الانسان أن يقضى على نفسه ، ثم على غيره ، وإذا كان دم عثمان قبلهم ، فالواجب أن ينكروا على أنفسهم قبل إنكارهم على غيرهم .
__________
(1) المأبض : ما يثبت عليه الفخذ .
(*)(9/36)
قال : وإن معى لبصيرتي ، أي عقلي ، ما لبست على الناس أمرهم ولبس الامر على ، أي لم يلبسه رسول الله صلى الله عليه وآله على بل أوضحه لى وعرفنيه .
ثم قال : وإنها للفئة الباغية : لام التعريف في " الفئة " تشعر بأن نصا قد كان عنده أنه ستخرج عليه فئة باغية ، ولم يعين له وقتها ولا كل صفاتها ، بل بعض علاماتها ، فلما خرج أصحاب الجمل ورأى تلك العلامات موجودة فيهم ، قال : وإنها للفئة الباغية ، أي وإن هذه الفئة ، أي الفئة التى وعدت بخروجها على ، ولولا هذا لقال : " وإنها لفئة باغية " ، على التنكير .
ثم ذكر بعض العلامات ، ثم قال : إن الامر لواضح ، كل هذا يؤكد به عند نفسه وعند غيره أن هذه الجماعة هي تلك الفئة الموعود بخروجها ، وقد ذهب الباطل وزاح ، وخرس لسانه بعد شغبه .
ثم أقسم ليملان لهم حوضا هو ماتحه ، وهذه كناية عن الحرب والهيجاء وما يتعقبهما من القتل والهلاك ، لا يصدرون عنه برى ، أي ليس كهذه الحياض الحقيقية التى إذا وردها الظمآن صدر عن رى ونقع غليله ، بل لا يصدرون عنه إلا وهم جزر السيوف ، ولا يعبون بعده في حسى لانهم هلكوا ، فلا يشربون بعده البارد العذب .
وكان عمرو بن الليث الصفار أمير خراسان أنفذ جيشا لمحاربة إسماعيل بن أحمد السامانى ، فانكسر ذلك الجيش وعادوا إلى عمرو بن الليث ، فغضب ولقى القواد بكلام غليظ ، فقال له بعضهم : أيها الامير ، إنه قد طبخ لك مرجل عظيم ، وإنما نلنا منه لهمة (1) يسيرة والباقى مذخور لك ، فعلام تتركه ! اذهب إليهم فكله .
فسكت عمرو ابن الليث عنه ولم يجب .
__________
(1) اللهمة : الجزء اليسير .
(*)(9/37)
ومرادنا من هذه ، المشابهة والمناسبة بين الكنايتين .
* * * الاصل : منها : فأقبلتم إلى إقبال العوذ المطافيل على أولادها ، تقولون : البيعة البيعة ! قبضت كفى فبسطتموها ، ونازعتكم يدى فجاذبتموها .
اللهم إنهما قطعاني وظلمانى ، ونكثا بيعتى ، وألبا الناس على / فاحلل ما عقدا ، ولا تحكم لهما ما أبرما ، وأرهما المساءة فيما أملا وعملا .
ولقد استثبتهما قبل القتال ، واستأنيت بهما أمام الوقاع ، فغمطا النعمة ، وردا العافية .
* * * الشرح : العوذ : النوق الحديثات النتاج ، الواحدة عائذ ، مثل حائل وحول ، وقد يقال ذلك للخيل والظباء ، ويجمع أيضا على " عوذان " مثل راع ورعيان وهذه عائذة بينة العؤو ذ ، وذلك إذا ولدت عن قريب ، وهى في عياذها ، أي بحدثان نتاجها (1) .
والمطافيل : جمع مطفل ، وهى التى زال عنها اسم العياذ ومعها طفلها ، وقد تسمى المطافيل عوذا إلى أن يبعد العهد بالنتاج مجازا ، وعلى هذا الوجه قال أمير المؤمنين : " إقبال العوذ المطافيل " ، وإلا فالاسمان معا لا يجتمعان حقيقة ، وإذا زال الاول ثبت الثاني .
قوله : " وألبا الناس على " أي حرضا ، يقال : حسود مؤلب .
__________
(1) في اللسان : " ويقال : هي عائدة بينة العؤوذ ، إذا ولدت عشرة أيام أو خمسة عشر ، ثم هي مطفل " .
(*)(9/38)
واستثبتهما ، بالثاء المعجمة بثلاث : طلبت منهما أن يثوبا أي يرجعا ، وسمى المنزل مثابة لان أهله ينصرفون في أمورهم ثم يثوبون إليه ، ويروى : " ولقد استتبتهما " ، أي طلبت منهما أن يتوبا إلى الله من ذنبهما في نقض البيعة .
واستأنيت بهما ، من الاناءة والانتظار .
والوقاع ، بكسر الواو : مصدر : واقعتهم في الحرب وقاعا ، مثل نازلتهم نزالا ، وقاتلتهم قتالا .
وغمط فلان النعمة ، إذا حقرها وأزرى بها غمطا ، ويجوز " غمط " النعمة بالكسر والمصدر غير محرك ويقال : إن الكسر أفصح من الفتح .
يقول عليه السلام : إنكم أقبلتم مزدحمين كما تقبل النوق إلى أولادها ، تسألونني البيعة فامتنعت عليكم حتى علمت اجتماعكم فبايعتكم .
ثم دعا على على طلحة والزبير بعد أن وصفهما بالقطيعة والنكث والتأليب عليه ، بأن يحل الله تعالى ما عقدا ، وألا يحكم لهما ما أبرما ، وأن يريهما المساءة فيما أملا وعملا .
فأما الوصف لهما بما وصفهما به ، فقد صدق عليه السلام فيه ، وأما دعاؤه فاستجيب له ، والمساءة التى دعابها هي مساءة الدنيا لا مساءة الاخرة ، فإن الله تعالى قد وعدهما على لسان رسوله بالجنة ، وإنما استوجباها بالتوبة التى ينقلها أصحابنا رحمهم الله في كتبهم عنهما ، ولولاها لكانا من الهالكين .(9/39)
(138) الاصل : ومع خطبة له عليه السلام يومئ فيها إلى ذكر الملاحم : يعطف الهوى على الهدى ، إذا عطفوا الهدى على الهوى ، ويعطف الرأى على القرآن ، إذا عطفوا القرآن على الرأى .
* * * الشرح : هذا إشارة إلى إمام يخلقه الله تعالى في آخر الزمان ، وهو الموعود به في الاخبار والاثار ، ومعنى " يعطف الهوى " يقهره ويثنيه عن جانب الايثار والارادة ، عاملا عمل الهدى ، فيجعل الهدى قاهرا له ، وظاهرا عليه .
وكذلك قوله : " ويعطف الرأى على القرآن " أي يقهر حكم الرأى والقياس والعمل بغلبة الظن عاملا عمل القرآن .
وقوله : " إذا عطفوا الهدى " و " إذا عطفوا القرآن " إشارة إلى الفرق المخالفين لهذا الامام ، المشاقين له ، الذين لا يعملون بالهدى بل بالهوى ، ولا يحكمون بالقرآن بل بالرأى * * *(9/40)
الاصل : منها : حتى تقوم الحرب بكم على ساق ، باديا نواجذها ، مملوءة أخلافها ، حلوا رضاعها ، علقما عاقبتها .
ألا وفى غد - وسيأتى غد بما لا تعرفون - يأخذ الوالى من غيرها عمالها على مساوئ أعمالها ، وتخرج له الارض أفاليذ كبدها ، وتلقى إليه سلما مقاليدها ، فيريكم كيف عدل السيرة ، ويحيى ميت الكتاب والسنة .
* * * الشرح : الساق : الشدة ، ومنه قوله تعالى : " يوم يكشف عن ساق " (1) .
والنواجذ : أقصى الاضراس ، والكلام كناية عن بلوغ الحرب غايتها ، كما أن غاية الضحك أن تبدو النواجذ .
وكذلك قوله : " مملوءة أخلافها " ، والاخلاف للناقة حلمات الضرع ، واحدها خلف وقوله : " حلوا رضاعها ، علقما عاقبتها " قد أخذه الشاعر ، فقال : الحرب أول ما تكون فتية * تسعى بزينتها لكل جهول (2) حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها (3) * عادت عجوزا غير ذات حليل شمطاء جزت رأسها وتنكرت * مكروهة للشم والتقبيل
__________
(1) سورة القلم 42 .
(2) تنسب إلى امرئ القيس ، وهى في ديوانه 353 ، من زيادات نسخة ابن النحاس .
(3) الديوان : " حتى إذا استعرت " .
(*)(9/41)
وهو الرضاع بالفتح ، والماضي رضع بالكسر ، مثل سمع سماعا ، وأهل نجد يقولون : " رضع " بالفتح " يرضع " بالكسر رضعا ، مثل ضرب يضرب ضربا ، وأنشدوا : وذموا لنا الدنيا وهم يرضعونها * أفاويق حتى ما يدر لها ثعل (1) بكسر الضاد .
[ فصل في الاعتراض وإيراد مثل منه ] وقوله : " ألا وفى غد " تمامه " يأخذ الوالى " وبين الكلام جملة اعتراضية ، وهى قوله : " وسيأتى غد بما لا تعرفون " والمراد تعظيم شأن الغد الموعود بمجيئه ، ومثل ذلك في القرآن كثير ، نحو قوله تعالى : " فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تعلمون عظيم * إنه لقرآن كريم) (2) ، فقوله تعالى : (إنه لقرآن كريم) هو الجواب المتلقى به قوله : (فلا أقسم) ، وقد اعترض بينهما قوله : (وإنه لقسم لو تعلمون عظيم) ، واعترض بين هذا الاعتراض قوله : (لو تعلمون) ، لانك لو حذفته لبقى الكلام على إفادته ، وهو قوله : " وإنه لقسم عظيم " ، والمراد تعظيم شأن ما أقسم به من مواقع النجوم وتأكيد إجلاله في النفوس ، ولا سيما بقوله : (لو تعلمون عظيم) .
ومن ذلك قوله تعالى : (ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون) (3) ، فقوله : (سبحانه) اعتراض ، والمراد التنزيه .
وكذلك قوله : (تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الارض) ، ف " لقد علمتم " اعتراض ، والمراد به تقرير إثبات البراءة من تهمة السرقة .
وكذلك قوله : (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت
__________
(1) اللسان 9 : 484 ، ونسبها إلى ابن همام السلولى .
(2) سورة الواقعة 75 - 77 .
(3) سورة النحل 57 .
(*)(9/42)
مفتر) (1) فاعترض بين " إذا " وجوابها بقوله : (والله أعلم بما ينزل) ، فكأنه أراد أن يجيبهم عن دعواهم ، فجعل الجواب اعتراضا .
ومن ذلك قوله : (ووصينا الانسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لى ولوالديك) (2) فاعترض بقوله : (حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين) بين (وصينا) وبين الموصى به ، وفائدة ذلك إذكار الولد بما كابدته أمه من المشقة في حمله وفصاله .
ومن ذلك قوله : (وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون * فقلنا اضربوه ببعضها) (3) فقوله : (والله مخرج ما كنتم تكتمون) اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه ، والمراد أن يقرر في أنفس السامعين أنه لا ينفع البشر كتمانهم وإخفاؤهم لما يريد الله إظهاره .
ومن الاعتراض في الشعر قول جرير : ولقد أرانى - والجديد إلى بلى - * في موكب بيض الوجوه كرام (4) فقوله : " والجديد إلى بلى " اعتراض ، والمراد تعزيته نفسه عما مضى من تلك اللذات .
وكذلك قول كثير : لو أن الباخلين - وأنت منهم - رأوك تعلموا منك المطالا (5) فقوله : " وأنت منهم " اعتراض ، وفائدته ألا تظن أنها ليست باخلة .
__________
(1) سورة النحل 1 .
1 .
(2) سورة لقمان 14 .
(3) سورة البقرة 73 ، 74 .
(4) ديوانه 551 ، والرواية فيه : " في فتية طرف الحديث كرام " .
(5) ديوانه 1 : 151 .
(*)(9/43)
ومن ذلك قول الشاعر (1) : فلو سألت سراة الحى سلمى * على أن قد تلون بى زماني (2) لخبرها ذوو أحساب قومي * وأعدائي فكل قد بلانى بذبى الذم عن حسبى ومالى * وزبونات أشوس تيحان (3) وإنى لا أزال أخا حروب * إذا لم أجن كنت مجن جانى فقوله : * على أن قد تلون بى زماني * اعتراض ، وفائدته الاخبار عن أن السن قد أخذت منه وتغيرت بطول العمر أوصافه .
ومن ذلك قول أبى تمام : رددت رونق وجهى في صحيفته * رد الصقال بهاء الصارم الخذم (4) وما أبالى - وخير القول أصدقه - * حقنت لى ماء وجهى أم حقنت دمى فقوله : " وخير القول أصدقه " اعتراض ، وفائدته إثبات صدقه في دعواه أنه لا يبالى أيهما حقن .
فأما قول أبى تمام أيضا : وإن الغنى لى إن لحظت مطالبي * من الشعر - إلا في مديحك - أطوع (5) .
فإن الاعتراض فيه هو قوله : " إلا في مديحك " وليس قوله : " إن لحظت مطالبي " اعتراضا كما زعم ابن الاثير الموصلي (6) لان فائدة البيت معلقة عليه ، لانه لا يريد أن الغنى
__________
(1) لسوار بن المضرب السعدى .
ديوان الحماسة بشرح المرزوقى 1 : 130 .
(2) سراة القوم : خيارهم .
(3) زبونات ، من الزبن ، وهو الدفع .
والتحيان .
العريض المقدام .
(4) ديوانه 2 : 218 .
والخذم : السريع القطع .
(5) ديوانه 2 : 333 .
(6) المثل السائر 2 : 188 .
(*)(9/44)
لى على كل حال أطوع من الشعر ، وكيف يريد هذا وهو كلام فاسد مختل ! بل مراده أن الغنى لى بشرط أن تلحظ مطالبي من الشعر أطوع لى ! إلا في مديحك ، فإن الشعر في مديحك أطوع لى منه ، وإذا كانت الفائدة معلقة بالشرط المذكور لم يكن اعتراضا .
وكذلك وهم ابن الاثير (1) أيضا في قول امرئ القيس : فلو أن ما أسعى لادنى معيشة * كفانى ولم أطلب قليل من المال (2) ولكنما أسعى لمجد مؤثل * وقد يدرك المجد المؤثل أمثالى فقال : إن قوله : " ولم أطلب " اعتراض ، وليس بصحيح ، لان فائدة البيت مرتبطة به ، وتقديره : لو سعيت لان آكل وأشرب لكفاني القليل ، ولم أطلب الملك ، فكيف يكون قوله : ولم أطلب الملك اعتراضا ، ومن شأن الاعتراض أن يكون فضلة ترد لتحسين وتكملة ، وليست فائدته أصلية ! وقد يأتي الاعتراض ولا فائدة فيه ، وهو غير مستحسن ، نحو قول النابغة : يقول رجال يجهلون خليقتى * لعل زيادا - لا أبالك - غافل (3) فقوله : " لا أبالك " ، اعتراض لا معنى تحته هاهنا ، ومثله قول زهير : سئمت تكاليف الحياة ومن يعش * ثمانين حولا - لا أبالك - يسأم (4) فإن جاءت " لا أبالك " تعطى معنى يليق بالموضع فهى اعتراض جيد ، نحو قول أبى تمام : * عتابك عنى - لا أبالك - واقصد * فإنه أراد زجرها وذمها لما أسرفت في عتابه .
__________
(1) المثل السائر 2 : 186 .
(2) ديوانه 39 .
(3) ديوانه 61 .
(4) ديوانه 29 .
(*)(9/45)
وقد يأتي الاعتراض على غاية من القبح والاستهجان ، وهو على سبيل التقديم والتأخير ، نحو قول الشاعر : فقد والشك بين لى عناء * بوشك فراقهم صرد فصيح (1) تقديره : فقد بين لى صرد يصيح بوشك فراقهم ، والشك عناء ، فلاجل قوله : " والشك عناء " بين " قد " والفعل الماضي ، وهو " بين " عد اعتراضا مستهجنا .
وأمثال هذا للعرب كثير .
قوله عليه السلام : " يأخذ الوالى من غيرها عمالها على مساوئ أعمالها " كلام منقطع عما قبله ، وقد كان تقدم ذكر طائفة من الناس ذات ملك وإمرة ، فذكر عليه السلام أن الوالى - يعنى الامام الذى يخلقه الله تعالى في آخر الزمان - يأخذ عمال هذه الطائفة على سوء أعمالهم .
وعلى هاهنا متعلقة ب " يأخذ " التى هي بمعنى " يؤاخذ " من قولك : أخذته بذنبه ، وآخذته ، والهمز أفصح .
والافاليذ : جمع أفلاذ ، وأفلاذ جمع فلذ ، وهى القطعة من الكبد ، وهذا كناية عن الكنوز التى تظهر للقائم بالامر ، وقد جاء ذكر ذلك في خبر مرفوع في لفظة : " وقاءت له الارض أفلاذ كبدها " ، وقد فسر قوله تعالى : (وأخرجت الارض أثقالها) (2) بذلك في بعض التفاسير .
والمقاليد : المفاتيح .
* * * الاصل : منها : كأنى به قد نعق بالشام ، وفحص براياته في ضواحي كوفان ، فعطف إليها عطف الضروس ، وفرش الارض بالرءوس .
قد فغرت فاغرته ، وثقلت في الارض وطأته ، بعيد الجولة عظيم الصولة .
__________
(1) المثل السائر 2 : 191 .
(2) سورة الزلزلة 2 .
(*)(9/46)
والله ليشردنكم في أطراف الارض حتى لا يبقى منكم الا قليل ، كالكحل في العين ، فلا تزالون كذلك حتى تؤوب إلى العرب عوازب أحلامها .
فالزموا السنن القائمة ، والاثار البينة ، والعهد القريب الذى عليه باقى النبوة واعلموا أن الشيطان إنما يسنى لكم طرقه لتتبعوا عقبه .
* * * الشرح : هذا إخبار عن عبد الملك بن مروان وظهوره بالشام وملكه بعد ذلك العراق ، وما قتل من العرب فيها أيام عبد الرحمن بن الاشعث ، وقتله أيام مصعب بن الزبير .
ونعق الرعى بغنمه ، بالعين المهملة ، ونغق الغراب بالغين المعجمة .
وفحص براياته هاهنا : مفعول محذوف تقديره ، وفحص الناس براياته ، أي نحاهم وقلبهم يمينا وشمالا .
وكوفان : اسم الكوفة .
وضواحيها : ما قرب منها من القرى .
والضروس : الناقة السيئة الخلق تعض حالبها ، قال بشر بن أبى خازم : عطفنا لهم عطف الضروس من الملا * بشهباء لا يمشى الضراء رقيبها (1) وقوله : " وفرش الارض بالرءوس " : غطاها بها كما يغطى المكان بالفراش .
وفغرت فاغرته ، كأنه يقول : فتح فاه ، والكلام استعارة ، وفغر " فعل " يتعدى ولا يتعدى .
وثقلت في الارض وطأته ، كناية عن الجور والظلم .
بعيد الجولة : استعارة أيضا ، والمعنى أن تطواف خيوله وجيوشه في البلاد ، أو جولان رجاله في الحرب على الاقران طويل جدا لا يتعقبه السكون إلا نادرا .
وبعيد منصوب على الحال ، وإضافته غير محضة .
__________
(1) اللسان 9 : 424 .
(2) 15 .
(*)(9/47)
وعوازب أحلامها : ما ذهب من عقولها ، عزب عنه الرأى ، أي بعد .
ويسنى لكم طرقه ، أي يسهل .
والعقب ، بكسر القاف : مؤخر القدم ، وهى مؤنثة .
فإن قلت : فإن قوله : " حتى تؤوب " يدل على أ غاية ملكه أن تؤوب إلى العرب عوازب أحلامها ، وعبد الملك مات في ملكه ولم يزل الملك عنه بأوبة أحلام العرب إليها فإن فائدة " حتى " إلى ، وهى موضوعة للغاية .
قلت : إن ملك أولاده ملكه أيضا ، وما زال الملك عن بنى مروان حتى آبت إلى العرب عوازب أحلامها ، والعرب هاهنا : بنو العباس ومن اتبعهم من العرب أيام ظهور الدولة كقحطبة بن شبيب الطائى وابنيه حميد والحسن ، وكبنى رزتنى ، بتقديم الراء المهملة ، الذين منهم طاهر بن الحسين وإسحاق بن إبراهيم المصعبى وعدادهم في خزاعة وغيرهم من العرب من شيعة بنى العباس .
وقد قيل : إن أبا مسلم أيضا عربي أصله ، وكل هؤلاء وآبائهم كانوا مستضعفين مقهورين مغمورين في دولة بنى أمية لم ينهض منهم ناهض ، ولاوثب إلى الملك واثب ، إلى أن أفاء الله تعالى إلى هؤلاء ما كان عزب عنهم من إبائهم وحميتهم ، فغاروا للدين والمسلمين من جور بنى مروان وظلمهم ، وقاموا بالامر ، وأزالوا تلك الدولة التى كرهها الله تعالى ، وأذن في انتقالها .
ثم أمرهم عليه السلام بأن يلزموا بعد زوال تلك الدولة الكتاب والسنة ، والعهد القريب الذى عليه باقى النبوة - يعنى عهده وأيامه عليه السلام - وكأنه خاف من أن يكون بإخباره لهم بأن دولة هذا الجبار ستنقضي إذا آبت إلى العرب عوازب أحلامها ، كالامر لهم باتباع ولاة الدولة الجديدة في كل ما تفعله ، فاستظهر عليهم بهذه الوصية ، وقال لهم : إذا ابتذلت الدولة ، فالزموا الكتاب والسنة ، والعهد الذى فارقتكم عليه .(9/48)
(139) الاصل : ومن كلام له عليه السلام في وقت الشورى : لن يسرع أحد قبلى إلى دعوة حق ، وصلة رحم ، وعائدة كرم ، فاسمعوا قولى وعوا منطقى .
عسى أن تروا هذا الامر من بعد هذا اليوم ، تنتضى فيه السيوف ، وتخان فيه العهود ، حتى يكون بعضكم أئمة لاهل الضلالة ، وشيعة لاهل الجهالة .
* * * الشرح : هذا من جملة كلام قاله عليه السلام لاهل الشورى بعد وفاة عمر .
[ من أخبار يوم الشورى وتولية عثمان ] وقد ذكرنا من حديث الشورى فيما تقدم ما فيه كفاية ، ونحن نذكر هاهنا ما لم نذكره هناك ، وهو من رواية عوانة ، عن إسماعيل بن أبى خالد ، عن الشعبى في كتاب " الشورى " و " مقتل عثمان " ، وقد رواه أيضا أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهرى في زيادات كتاب " السقيفة " قال : لما طعن عمر جعل الامر شورى بين ستة نفر : على بن أبى طالب ، وعثمان بن عفان ، وعبد الرحمن بن عوف ، والزبير بن العوام ، وطلحة بن عبيد الله ، وسعد بن مالك ، وكان (4 - نهج - 9)(9/49)
طلحة يومئذ بالشام ، وقال عمر : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض وهو عن هؤلاء راض ، فهم أحق بهذا الامر من غيرهم ، وأوصى صهيب بن سنان ، مولى عبد الله بن جدعان - ويقال : إن أصله من حى من ربيعة بن نزار ، يقال لهم عنزة - فأمره أن يصلى بالناس حتى يرضى هؤلاء القوم رجلا منهم ، وكان عمر لا يشك أن هذا الامر صائر إلى أحد الرجلين : على وعثمان ، وقال : إن قدم طلحة فهو معهم ، وإلا فلتختر الخمسة واحدا منها .
وروى أن عمر قبل موته أخرج سعد بن مالك من أهل الشورى ، وقال : الامر في هؤلاء الاربعة ، ودعوا سعدا على حاله أميرا بين يدى الامام .
ثم قال : ولو كان أبو عبيدة ابن الجراح حيا لما تخالجتنى فيه الشكوك ، فإن اجتمع ثلاثة على واحد ، فكونوا مع الثلاثة ، وإن اختلفوا فكونوا مع الجانب الذى فيه عبد الرحمن .
وقال لابي طلحة الانصاري : يا أبا طلحة ، فو الله لطالما أعز الله بكم الدين ، ونصر بكم الاسلام ، اختر من السلام خمسين رجلا ، فائت بهم هؤلاء القوم في كل يوم مرة ، فاستحثوهم حتى يختاروا لانفسهم وللامة رجلا منهم .
ثم جمع قوما من المهاجرين والانصار ، فأعلمهم ما أوصى به ، وكتب في وصيته أن يولى الامام سعد بن مالك الكوفة ، وأبا موسى الاشعري ، لانه كان عزل سعدا عن سخطة فأحب أن يطلب ذلك إلى من يقوم بالامر من بعده استرضاء لسعد .
قال الشعبى : فحدثني من لا أتهمه من الانصار ، وقال أحمد بن عبد العزيز الجوهرى : هو سهل بن سعد الانصاري ، قال : مشيت وراء على بن أبى طالب حيث انصرف من عند عمر ، والعباس بن عبد المطلب يمشى في جانبه ، فسمعته يقول للعباس : ذهبت منا والله ! فقال : كيف علمت ؟ قال : ألا تسمعه يقول : كونوا في الجانب الذى فيه عبد الرحمن ، لانه ابن عمه ، وعبد الرحمن نظير عثمان وهو صهره ، فإذا اجتمع هؤلاء ! فلو أن الرجلين(9/50)
الباقيين كانا معى لم يغنيا عنى شيئا ، مع أنى لست أرجو إلا أحدهما ، ومع ذلك فقد أحب عمر أن يعلمنا أن لعبد الرحمن عنده فضلا علينا .
لعمر الله ما جعل الله ذلك لهم علينا ، كما لم يجعله لاولادهم على أولادنا .
أما والله لئن عمر لم يمت لاذ كرته ما أتى إلينا قديما ، ولا علمته سوء رأيه فينا ، وما أتى إلينا حديثا ، ولئن مات - وليموتن - ليجتمعن هؤلاء القوم على أن يصرفوا هذا الامر عنا ، ولئن فعلوها - وليفعلن - ليرونني حيث يكرهون ، والله مابى رغبة في السلطان ، ولا حب الدنيا ، ولكن لاظهار العدل ، والقيام بالكتاب والسنة .
قال : ثم التفت فرأني وراءه فعرفت أنه قد ساءه ذلك ، فقلت : لا ترع أبا حسن ! لا والله لا يستمع أحد الذى سمعت منك في الدنيا ما اصطحبنا فيها ، فوالله ما سمعه منى مخلوق حتى قبض الله عليا إلى رحمته .
قال عوانة : فحدثنا إسماعيل ، قال : حدثنى الشعبى ، قال : فلما مات عمر ، وأدرج في أكفانه ، ثم وضع ليصلى عليه ، تقدم على بن أبى طالب ، فقام عند رأسه ، وتقدم عثمان فقام عند رجليه ، فقال على عليه السلام : هكذا ينبغى أن تكون الصلاة ، فقال عثمان : بل هكذا ، فقال عبد الرحمن : ما أسرع ما اختلفتم ! يا صهيب ، صل على عمر كما رضى أن تصلى بهم المكتوبة ، فتقدم صهيب فصلى على عمر .
قال الشعبى : وأدخل أهل الشورى دارا ، فأقبلوا يتجادلون عليها ، وكلهم بها ضنين ، وعليها حريص ، إما لدنيا وإما لاخرة ، فلما طال ذلك قال عبد الرحمن : من رجل منكم يخرج نفسه عن هذا الامر ، وختار لهذه الامة رجلا منكم ، فإنى طيبة نفسي أن أخرج منها ، وأختار لكم ؟ قالوا : قد رضينا ، إلا على بن أبى طالب فإنه اتهمه وقال : أنظر وأرى فأقبل أبو طلحة عليه ، وقال : يا أبا الحسن ، ارض برأى عبد الرحمن ، كان الامر لك أو لغيرك .
فقال على : أعطني يا عبد الرحمن موثقا من الله لتؤثرن الحق ولا تتبع الهوى ،(9/51)
ولا تمل إلى صهر ولا ذى قرابة ، ولا تعمل إلا لله ، ولا تألو هذه الامة أن تختار لها خيرها .
قال : فحلف له عبد الرحمن بالله الذى لا إله إلا هو ، لاجتهدن لنفسي ولكم وللامة ، ولا أميل إلى هوى ولا إلى صهر ولا ذى قرابة .
قال : فخرج عبد الرحمن ، فمكث ثلاثة أيام يشاور الناس ، ثم رجع واجتمع الناس ، وكثروا على الباب لا يشكون أنه يبايع على بن أبى طالب ، وكان هوى قريش كافة ما عدا بنى هاشم في عثمان ، وهوى طائفة من الانصار مع على ، وهوى طائفة أخرى مع عثمان ، وهى أقل الطائفتين ، وطائفة لا يبالون : أيهما بويع .
قال : فأقبل المقداد بن عمرو ، والناس مجتمعون ، فقال : أيها الناس ، اسمعوا ما أقول ، أنا المقداد بن عمرو ، إنكم إن بايعتم عليا سمعنا وأطعنا ، وإن بايعتم عثمان سمعنا وعصينا ، فقام عبد الله بن أبى ربيعة بن المغيرة المخزومى ، فنادى : أيها الناس ، إنكم إن بايعتم عثمان سمعنا وأطعنا ، وإن بايعتم عليا سمعنا وعصينا .
فقال له المقداد : يا عدوالله وعدو رسوله وعدو كتابه ، ومتى كان مثلك يسمع له الصالحون ! فقال له عبد الله : يابن الحليف العسيف (1) ، ومتى كان مثلك يجترئ على الدخول في أمر قريش ! فقال عبد الله بن سعد بن أبى سرح : أيها الملا ، إن أردتم ألا تختلف قريش فيما بينها ، فبايعوا عثمان ، فقال عمار بن ياسر : إن أردتم ألا يختلف المسلمون فيما بينهم فبايعوا عليا ، ثم أقبل على عبد الله بن سعد بن أبى سرح ، فقال : يا فاسق يابن الفاسق ، أأنت ممن يستنصحه المسلمون أو يستشيرونه في أمورهم ! وارتفعت الاصوات ، ونادى مناد لا يدرى من هو ! - فقريش تزعم أنه رجل من بنى مخزوم : والانصار تزعم أنه رجل طوال آدم مشرف على الناس - لا يعرفه أحد منهم : يا عبد الرحمن ، افرغ من أمرك ، وامض على مافى نفسك فإنه الصواب .
__________
(1) الصيف : المستهان به .
(*)(9/52)
قال الشعبى : فأقبل عبد الرحمن على على بن أبى طالب ، فقال : عليك عهد الله وميثاقه ، وأشد ما أخذ الله على النبيين من عهد وميثاق : إن بايعتك لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله ، وسيرة أبى بكر وعمر ! فقال على عليه السلام : طاقتي ومبلغ علمي وجهد رأيى ، والناس يسمعون .
فأقبل على عثمان ، فقال له مثل ذلك ، فقال : نعم لا أزول عنه ولا أدع شيئا منه .
ثم أقبل على على فقال له ذلك ثلاث مرات ، ولعثمان ثلاث مرات ، في كل ذلك يجيب على مثل ما كان أجاب به ، ويجيب عثمان بمثل ما كان أجاب به .
فقال : ابسط يدك يا عثمان ، فبسط يده فبايعه ، وقام القوم فخرجوا ، وقد بايعوا إلا على بن أبى طالب ، فإنه لم يبايع .
قال : فخرج عثمان على الناس ووجهه متهلل ، وخرج على وهو كاسف البال مظلم ، وهو يقول : يابن عوف ، ليس هذا بأول يوم تظاهرتم علينا من دفعنا عن حقنا والاستئثار علينا ! وإنها لسنة علينا ، وطريقة تركتموها .
فقال المغيرة بن شعبة لعثمان : أما والله لو بويع غيرك لما بايعناه ، فقال عبد الرحمن بن عوف : كذبت ، والله لو بويع غيره لبايعته ، وما أنت وذاك يابن الدباغة ، والله لو وليها غيره لقلت له مثل ما قلت الان ، تقربا إليه وطمعا في الدنيا ، فاذهب لا أبالك ! .
فقال المغيرة : لولا مكان أمير المؤمنين لاسمعتك ما تكره .
ومضيا .
قال الشعبى : فلما دخل عثمان رحله دخل إليه بنو أمية حتى امتلات بهم الدار ، ثم أغلقوها عليهم ، فقال أبو سفيان بن حرب : أعندكم أحد من غيركم ؟ قالوا : لا ، قال : يا بنى أمية ، تلقفوها تلقف الكرة ، فوالذي يحلف به أبو سفيان ، مامن عذاب ولا حساب ، ولا جنة ولا نار ، ولا بعث ولا قيامة !(9/53)
قال : فانتهره عثمان ، وساءه بما قال ، وأمر بإخراجه .
قال الشعبى : فدخل عبد الرحمن بن عوف على عثمان ، فقال له : ما صنعت ! فو الله ما وفقت حيث تدخل رحلك قبل أن تصعد المنبر ، فتحمد الله وتثنى عليه ، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وتعد الناس خيرا .
قال : فخرج عثمان ، فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : هذا مقام لم نكن نقومه ، ولم نعد له من الكلام الذى يقام به في مثله ، وسأهيئ ذلك إن شاء الله ، ولن آلو أمة محمد خيرا ، والله المستعان .
ثم نزل .
* * * قال عوانة : فحدثني يزيد بن جرير ، عن الشعبى ، عن شقيق بن مسلمة ، أن على بن أبى طالب ، لما انصرف إلى رحله ، قال لبنى أبيه : يا بنى عبد المطلب ة إن قومكم عادوكم بعد وفاة النبي كعداوتهم النبي في حياته ، وإن يطع قومكم لا تؤمروا أبدا ، ووالله لا ينيب هؤلاء إلى الحق إلا بالسيف .
قال : وعبد الله بن عمر بن الخطاب ، داخل إليهم ، قد سمع الكلام كله ، فدخل ، وقال : يا أبا الحسن ، أتريد أن تضرب بعضهم ببعض ! فقال : اسكت ويحك ! فوالله لولا أبوك وما ركب منى قديما وحديثا ، ما نازعنى ابن عفان ولا ابن عوف .
فقام عبد الله فخرج .
قال : وأكثر الناس في أمر الهرمزان وعبيدالله بن عمر ، وقتله إياه ، وبلغ ما قال فيه على بن أبى طالب .
فقام عثمان فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، إنه كان من قضاء الله أن عبيدالله بن عمر بن الخطاب أصاب الهرمزان ، وهو رجل من(9/54)
المسلمين ، وليس له وارث إلا الله والمسلمون ، وأنا إمامكم وقد عفوت ، أفتعفون عن عبيد الله ابن خليفتكم بالامس ؟ قالوا : نعم ، فعفا عنه ، فلما بلغ ذلك عليا تضاحك ، وقال : سبحان الله ! لقد بدأ بها عثمان ! أيعفو عن حق امرئ ليس بواليه ! تالله إن هذا لهو العجب ! قالوا : فكان ذلك أول ما بدا من عثمان مما نقم عليه .
قال الشعبى : وخرج المقداد من الغد ، فلقى عبد الرحمن بن عوف ، فأخذ بيده ، وقال : إن كنت أردت بما صنعت وجه الله ، فأثابك الله ثواب الدنيا والاخرة ، وإن كنت إنما أردت الدنيا فأكثر الله مالك .
فقال عبد الرحمن : اسمع ، رحمك الله ، اسمع ! قال : لا أسمع والله ، وجذب يده من يده ، ومضى حتى دخل على على عليه السلام ، فقال : قم فقاتل حتى نقاتل معك ، قال على : فبمن أقاتل رحمك الله ! وأقبل عمار بن ياسر ينادى : يا ناعى الاسلام قم فانعه * قد مات عرف وبدا نكر أما والله لو أن لى أعوانا لقاتلتهم ، والله لئن قاتلهم واحد لاكونن له ثانيا .
فقال على : يا أبا اليقظان ، والله لا أجد عليهم أعوانا ، ولا أحب أن أعرضكم لما لا تطيقون .
وبقى عليه السلام في داره ، وعنده نفر من أهل بيته ، وليس يدخل إليه أحد مخافة عثمان .
قال الشعبى : واجتمع أهل الشورى على أن تكون كلمتهم واحدة على من لم يبايع ، فقاموا إلى على ، فقالوا : قم فبايع عثمان ، قال : فإن لم أفعل ، قالوا : نجاهدك ، قال : فمشى إلى عثمان حتى بايعه ، وهو يقول : صدق الله ورسوله .
فلما بايع أتاه عبد الرحمن بن عوف ، فاعتذر إليه ، وقال : إن عثمان أعطانا يده ويمينه ، ولم تفعل أنت ، فأحببت أن أتوثق للمسلمين ، فجعلتها فيه ، فقال : أيها عنك ! إنما آثرته بها لتنالها بعده ، دق الله بينكما عطر منشم (1) .
__________
(1) منشم : امرأة عطارة من خزاعة ، فتحالف قوم فأدخلوا أيديهم في عطرها على أن يقاتلوا حتى تموتوا ، فضرب ذلك مثلا لشدة الامر .
(*)(9/55)
قال الشعبى : وقدم طلحة من الشام بعد ما بويع عثمان ، فقيل له : رد هذا الامر حتى ترى فيه رأيك ، فقال : والله لو بايعتم شركم لرضيت ، فكيف وقد بايعتم خيركم ! قال : ثم عدا عليه بعد ذلك وصاحبه حتى قتلاه ، ثم زعما أنهما يطلبان بدمه .
قال الشعبى : فأما ما يذكره الناس من المناشدة ، وقول على عليه السلام لاهل الشورى : أفيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا ، فإنه لم يكن يوم البيعة ، وإنما كان بعد ذلك بقليل ، دخل على عليه السلام على عثمان وعنده جماعة من الناس ، منهم أهل الشورى ، وقد كان بلغه عنهم هنات وقوارص ، فقال لهم : أفيكم أفيكم ! كل ذلك يقولون لا ، قال : لكنى أخبركم عن أنفسكم ، أما أنت يا عثمان ففررت يوم حنين ، وتوليت يوم التقى الجمعان ، وأما أنت يا طلحة فقلت : إن مات محمد لنركضن بين خلاخيل نسائه كما ركض بين خلاخيل نسائنا ، وأما أنت يا عبد الرحمن ، فصاحب قراريط ، وأما أنت يا سعد فتدق عن أن تذكر .
قال : ثم خرج فقال عثمان : أما كان فيكم أحد يرد عليه ! قالوا : وما منعك من ذلك وأنت أمير المؤمنين ! وتفرقوا .
* * * قال عوانة : قال إسماعيل : قال الشعبى : فحدثني عبد الرحمن بن جندب ، عن أبيه جندب بن عبد الله الازدي ، قال : كنت جالسا بالمدينة حيث بويع عثمان ، فجئت فجلست إلى المقداد بن عمرو ، فسمعته يقول : والله ما رأيت مثل ما أتى إلى أهل هذا البيت ! وكان عبد الرحمن بن عوف جالسا ، فقال : وما أنت وذاك يا مقداد ! قال المقداد : إنى والله أحبهم لحب رسول الله صلى الله عليه وآله ، وإنى لاعجب من قريش وتطاولهم على الناس بفضل رسول الله ، ثم انتزاعهم سلطانه من أهله .
قال عبد الرحمن : أما والله لقد أجهدت نفسي(9/56)
لكم .
قال المقداد : أما والله لقد تركت رجلا من الذين يأمرون بالحق وبه يعدلون ! أما والله لو أن لى على قريش أعوانا لقاتلتهم قتالي إياهم ببدر وأحد .
فقال عبد الرحمن : ثكلتك أمك ، لا يسمعن هذا الكلام الناس ، فإنى أخاف أن تكون صاحب فتنة وفرقة .
قال المقداد : إن من دعا إلى الحق وأهله وولاه الامر لا يكون صاحب فتنة ، ولكن من أقحم الناس في الباطل ، وآثر الهوى على الحق ، فذلك صاحب الفتنة والفرقة .
قال : فتربد وجه عبد الرحمن ، ثم قال : لو أعلم أنك إياى تعنى لكان لى ولك شأن .
قال المقداد : إياى تهدد يابن أم عبد الرحمن ! ثم قام عن عبد الرحمن ، فانصرف .
قال جندب بن عبد الله : فاتبعته ، وقلت له : يا عبد الله ، أنا من أعوانك ، فقال : رحمك الله ! إن هذا الامر لا يغنى فيه الرجلان ولا الثلاثة ، قال : فدخلت من فورى ذلك على على عليه السلام ، فلما جلست إليه ، قلت : يا أبا الحسن ، والله ما أصاب قومك بصرف هذا الامر عنك ، فقال : صبر جميل والله المستعان .
فقلت : والله إنك لصبور ! قال : فإن لم أصبر فما ذا أصنع ؟ قلت : إنى جلست إلى المقداد بن عمرو آنفا وعبد الرحمن بن عوف ، فقالا كذا وكذا ، ثم قام المقداد فاتبعته ، فقلت له كذا ، فقال لى كذا .
فقال على عليه السلام : لقد صدق المقداد ، فما أصنع ؟ فقلت : تقوم في الناس فتدعوهم إلى نفسك ، وتخبرهم أنك أولى بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وتسألهم النصر على هؤلاء المظاهرين عليك ، فإن أجابك عشرة من مائة شددت بهم على الباقين ، فإن دانوا لك فذاك ، وإلا قاتلتهم وكنت أولى بالعذر ، قتلت أو بقيت ، وكنت أعلى عند الله حجة .
فقال : أترجو يا جندب أن يبايعني من كل عشرة واحد ؟ قلت : أرجو ذلك ، قال : لكنى لا أرجو ذلك ، لا والله ولا من المائة واحد ، وسأخبرك ، إن الناس إنما ينظرون إلى(9/57)
قريش فيقولون : هم قوم محمد وقبيله .
وأما قريش بينها فتقول : إن آل محمد يرون لهم على الناس بنبوته فضلا ، ويرون أنهم أولياء هذا الامر دون قريش ، ودون غيرهم من الناس ، وهم إن ولوه لم يخرج السلطان منهم إلى أحد أبدا ، ومتى كان في غيرهم تداولته قريش بينها ، لا والله لا يدفع الناس إلينا هذا الامر طائعين أبدا ! فقلت : جعلت فداك يابن عم رسول الله ! لقد صدعت قلبى بهذا القول ، أفلا أرجع إلى المصر ، فأوذن الناس بمقالتك ، وأدعو الناس إليك ؟ فقال : يا جندب ليس هذا زمان ذاك .
قال : فانصرفت إلى العراق ، فكنت أذكر فضل على على الناس فلا أعدم رجلا يقول لى ما أكره ، وأحسن ما أسمعه قول من يقول : دع عنك هذا وخذ فيما ينفعك .
فأقول : إن هذا مما ينفعني وينفعك ، فيقوم عنى ويدعنى .
وزاد أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهرى : حتى رفع ذلك من قولى إلى الوليد ابن عقبة ، أيام ولينا ، فبعث إلى فحبسني حتى كلم في ، فخلى سبيلى .
وروى الجوهرى ، قال : نادى عمار بن ياسر ذلك اليوم : يا معشر المسلمين ، إنا قد كنا وما كنا نستطيع الكلام ، قلة وذلة ، فأعزنا الله بدينه ، وأكرمنا برسوله ، فالحمد لله رب العالمين .
يا معشر قريش ، إلى متى تصرفون هذا الامر عن أهل بيت نبيكم ، تحولونه هاهنا مرة ، وهاهنا مرة ! ما أنا آمن أن ينزعه الله منكم ويضعه في غيركم ، كما نزعتموه من أهله ووضعتموه في غير أهله ! فقال له هاشم بن الوليد بن المغيرة : يابن سمية ، لقد عدوت طورك وما عرفت قدرك ، ما أنت وما رأت قريش لانفسها ! إنك لست في شئ من أمرها وإماراتها ، فتنح عنها .
وتكلمت قريش بأجمعها ، فصاحوا بعمار وانتهروه ، فقال : الحمد لله رب العالمين ، ما زال أعوان الحق أذلاء ! ثم قام فانصرف .(9/58)
(140) الاصل : ومن كلام له عليه السلام في النهى عن غيبة الناس : وإنما ينبغى لاهل العصمة والمصنوع إليهم في السلامة أن يرحموا أهل الذنوب والمعصية ، ويكون الشكر هو الغالب عليهم ، والحاجز لهم عنهم ، فكيف بالغائب الذى عاب أخاه ، وعيره ببلواه .
أما ذكر موضع ستر الله عليه من ذنوبه مما هو أعظم من الذنب الذى عابه به ! وكيف يذمه بذنب قد ركب مثله ! فإن لم يكن ركب ذلك الذنب بعينه فقد عصى الله فيما سواه ، مما هو أعظم منه .
وايم الله لئن لم يكن عصاه في الكبير ، وعصاه في الصغير لجرأته على عيب الناس أكبر .
يا عبد الله ، لا تعجل في عيب أحد بذنبه ، فلعله مغفور له ، ولا تأمن على نفسك صغير معصية ، فلعلك معذب عليه .
فليكفف من علم منكم عيب غيره لما يعلم من عيب نفسه ، وليكن الشكر شاغلا له على معافاته مما ابتلى به غيره .
* * * الشرح : ليس في هذا الفصل من غريب اللغة ما نشرح .(9/59)
[ أقوال مأثورة في ذم الغيبة والاستماع إلى المغتابين ] ونحن نذكر مما ورد في الغيبة لمعا نافعة ، على عادتنا في ذكر الشئ عند مرورنا على ما يقتضيه ويستدعيه .
وقد ورد في الكتاب العزيز ذم الغيبة ، قال سبحانه : (ولا يغتب بعضكم بعضا) (1) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله : " لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا يغتب بعضكم بعضا ، وكونوا عباد الله إخوانا " .
وروى جابر وأبو سعيد عنه صلى الله عليه وآله : " إياكم والغيبة ، فإن الغيبة أشد من الزنا ، إن الرجل يزنى فيتوب الله عليه ، وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه " / وروى عن أنس عنه صلى الله عليه وآله : " مررت ليلة أسرى بى ، فرأيت قوما يخمشون وجوههم بأظافيرهم ، فسألت جبريل عنهم ، فقال : هؤلاء الذين يغتابون الناس " .
وفى حديث سلمان ، قلت : يا رسول الله ، علمني خيرا ينفعني الله به ، قال : " لا تحقرن من المعروف شيئا ، ولو أرفضت من دلوك في إناء المستقى ، والق أخاك ببشر حسن ، ولا تغتابنه إذا أدبر " .
وفى حديث البراء بن عازب : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسمع العواتق في بيوتهن ، فقال : " ألا لا تغتابوا المسلمين ، ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من يتتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ، ومن يتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته " .
__________
(1) سورة الحجرات 12 .
(*)(9/60)
وفى حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال في يوم صوم : " إن فلانه وفلانه كانتا تأكلان اليوم شحم امرأة مسلمة - يعنى الغيبة - فمرهما فليتقايآ فقاءت كل واحدة منهما علقة دم " (1) .
وفى الصحاح المجمع عليها أنه عليه السلام مر بقبرين جديدين ، فقال : إنهما ليعذبان وما يعذبان بكبير ، أما أحدهما ، فكان يغتاب الناس ، وأما الاخر فكان لا يتنزه من البول " .
ودعا بجريدة رطبة فكسرها اثنتين - أو قال : دعا بجريدتين - ثم غرسهما في القبرين - وقال : " أما إنه سيهون من عذابهما ما دامتا رطبتين " .
وفى حديث ابن عباس أن رجلين من أصحابه اغتابا بحضرته رجلا ، وهو يمشى عليه السلام ، وهما يمشيان معه ، فمر على جيفة ، فقال : " انهشامنها " ، فقالا : يا رسول الله ، أو ننهش الجيفة ! فقال : : " ما أصبتما من أخيكما أنتن من هذه " .
وفى حديث أبى هريرة : " من أكل لحم أخيه حيا قرب إليه لحمه في الاخرة ، فقيل له : كله ميتا كما أكلته حيا ، فيأكله ويضج ويكلح " .
وروى أن رجلين كانا عند باب المسجد ، فمر بهما رجل كان مخنثا ، فترك ذلك ، فقالا : لقد بقى عنده منه شئ ، فأقيمت الصلاة ، فصليا مع الناس ، وذلك يجول في أنفسهما فأتيا عطاء بن أبى رباح ، فسألاه ، فأمرهما أن يعيدا الوضوء والصلاة ، وإن كانا صائمين أن يقضيا صيام ذلك اليوم .
وعن مجاهد : (ويل لكل همزة لمزة) ، الهمزة : الطعان في الناس ، واللمزة : النمام .
وعن الحسن : والله للغيبة أسرع في دين المؤمن من الا كلة في الجسد .
__________
(1) العلقة : القطعة من الدم .
(*)(9/61)
بعضهم : أدركنا السلف وهم لا يرون العبادة في الصوم ولا في الصلاة ، ولكن في الكف عن أعراض الناس .
ابن عباس : إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك ، فإذ كر عيوبك .
وهذا مشتق من كلام أمير المؤمنين عليه السلام .
أبو هريرة : يبصر أحدهما القذى في عين أخيه ، ولا يبصر الجذع في عين نفسه ! وهذا كالاول .
الحسن : يابن آدم ، إنك إن قضيت حقيقة الايمان فلا تعب الناس بعيب هو فيك حتى تبدأ بإصلاح ذلك العيب من نفسك ، فإذا فعلت ذلك كان شغلك في خاصة نفسك .
وأحب العباد إلى الله من كان هكذا .
ويروى أن المسيح عليه السلام مر على جيفة كلب ، فقال بعض التلامذة : ما أشد نتنه ! فقال المسيح : ما أشد بياض أسنانه ! كأنه نهاهم عن غيبة الكلب ونبههم على أنه لا ينبغى أن يذكر من كل شئ إلا أحسنه .
وسمع على بن الحسين عليه السلام رجلا يغتاب آخر ، فقال : إن لكل شئ إداما ، وإدام كلاب الناس الغيبة .
وفى خطبه حجة الوداع : " أيها الناس ، إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ! في بلدكم هذا .
إن الله حرم الغيبة كما حرم المال والدم " .
عمر : ما يمنعكم إذا رأيتم من يخرق أعراض الناس أن تعربوا عليه ، أي تقبحوا ، قالوا : نخاف سفهه وشره ، قال : ذلك أدنى ألا تكونوا شهداء .
أنس يرفعه : " من مات على الغيبة حشر يوم القيامة مزرقة عيناه ، ينادى بالويل والندامة ، يعرف أهله ولا يعرفونه " .(9/62)
وقال : هشام بن عبد الملك في بعض ولد الوليد بن عقبة : أبلغ أبا وهب إذا ما لقيته * بأنك شر الناس غيبا لصاحب فتبدى له بشرا إذا ما لقيته * وتلسعه بالغيب لسع العقارب مر الشعبى بقوم يغتابونه في المسجد ، وفيهم بعض أصدقائه ، فأخذ بعضادتى الباب ، وقال : هنيئا مريئا غير داء مخامر * لعزة من أعراضنا ما استحلت (1) ومن كلام بعض الحكماء : أبصر الناس بالعوار المعوار ، هذا مثل قول الشاعر : وأجرأ من رأيت بظهر غيب * على عيب الرجال ذوو العيوب قيل لشبيب بن شبة بن عقال : ما بال عبد الله بن الاهتم يغتابك وينتقصك " قال : لانه شقيقي في النسب ، وجاري في البلد ، وشريكي في الصنعة .
دخل أبو العيناء على المتوكل ، وعنده جلساؤه ، فقال له : يا محمد كلهم كانوا في غيبتك منذ اليوم ، ولم يبق أحد لم يذممك غيرى ، فقال : إذا رضيت عنى كرام عشيرتي * فلا زال غضبانا على لئامها قال بعضهم : بت بالبصرة ليلة مع المسجديين ، فلما كان وقت السحر ، حركهم واحد ، فقال : إلى كم هذا النوم عن أعراض الناس ! وقيل لشاعر وصله بعض الرؤساء ، وأنعم عليه : ما صنع بك فلان ؟ قال : ما وفت نعمته بإساءته ، منعنى لذة الثلب ، وحلاوة الشكوى .
أعرابي : من عاب سفلة فقد رفعه ، ومن عاب شريفا فقد وضع نفسه .
__________
(1) لكثير ، أمالى القالى 2 : 108 .
(*)(9/63)
نظر بعض السلف إلى رجل يغتاب رجلا ، وقال : يا هذا ، إنك تملى على حافظيك كتابا ، فانظر ما ذا تقول ! ابن عباس : ما الاسد الضارى على فريسة بأسرع من الدنئ في عرض السرى .
بعضهم : ومطروفة عيناه عن عيب نفسه * فإن لاح عيب من أخيه تبصرا وقالت رابعة العدوية : إذا نصح الانسان لله أطلعه الله تعالى على مساوئ عمله ، فتشاغل بها عن ذكر مساوئ خلقه .
قال عبد الله بن عروة بن الزبير لابنه : يا بنى ، عليك بالدين ، فإن الدنيا ما بنت شيئا إلا هدمه الدين ، وإذا بنى الدين شيئا لم تستطع الدنيا هدمه ، ألا ترى على بن أبى طالب وما يقول فيه خطباء بنى أمية من ذمه وعيبه وغيبته ! والله لكأنما يأخذون بناصيته إلى السماء ! ألا تراهم كيف يندبون موتاهم ، ويرثيهم شعراؤهم ، والله لكأنما يندبون جيف الحمر ! ومن كلام بعض الصالحين : الورع في المنطق أشد منه في الذهب والفضة ، لانك إذا استودعك أخوك مالا لم تجد بك نفسك لخيانه فيه ، وقد استودعك عرضه وأنت تغتابه ، ولا تبالي .
كان محمد بن سيرين قد جعل على نفسه كلما اغتاب أحدا أن يتصدق بدينار ، وكان إذا مدح أحدا قال : هو كما يشاء الله ، وإذا ذمه قال : هو كما يعلم الله .
الاحنف : في خلتان : لا أغتاب جليسى إذا قام عنى ، ولا أدخل بين القوم فيما لم يدخلونى فيه .
قيل : لرجل من العرب : من السيد فيكم ؟ قال : الذى إذا أقبل هبناه ، وإذا أدبر اغتبناه .(9/64)
قيل للربيع بن خيثم : ما نراك تعيب أحدا ! فقال : لست راضيا على نفسي ، فأتفرغ لذكر عيوب الناس ! ثم قال : لنفسي أبكى لست أبكى لغيرها * لنفسي في نفسي عن الناس شاغل عبد الله بن المبارك ، قلت لسفيان : ما أبعد أبا حنيفة من الغيبة ! ما سمعته يغتاب عدوا ، قال : هو والله أعقل من أن يسلط على حسناته ما يذهب بها .
سئل فضيل عن غيبة الفاسق ، فقال : لا تشتغل بذكره ، ولا تعود لسانك الغيبة ، اشغل لسانك بذكر الله ، وإياك وذكر الناس ، فإن ذكر الناس داء ، وذكر الله دواء .
بعض الشعراء : ولست بذى نيرب في الصديق * خؤون العشيرة سبابها (1) ولا من إذا كان في مجلس * أضاع القبيلة واغتابها ولكن أبجل ساداتها * ولا أتعلم ألقابها وكان يقال : الغيبة فاكهة القراء .
وقيل لاسماعيل بن حماد بن أبى حنيفة : أي اللحمان أطيب ؟ قال : لحوم الناس ، هي والله أطيب من لحوم الدجاج والدراج (2) - يعنى الغيبة .
ابن المغيرة : لا تذكر الميت بسوء ، فتكون الارض أكتم عليه منك .
وكان عبد الملك بن صالح الهاشمي إذا ذكر عنده الميت بسوء ، يقول : كفوا عن أسارى الثرى .
وفى الاثر : سامع الغيبة أحد المغتابين .
__________
(1) النيرب : العداوة .
(2) الدراج : طائر على خلقة القطا .
(5 - نهج - 9) (*)(9/65)
أبو نواس : ما حطك الواشون من رتبة * عندي وما ضرك مغتاب كأنهم أثنوا ولم يعلموا * عليك عندي بالذى عابوا الحسن : ذم الرجل في السر ، مدح له في العلانية .
على عليه السلام : الغيبة جهد العاجز ، أخذه المتنبي فقال : وأكبر نفسي عن جزاء بغيبة * وكل اغتياب جهد من ما له جهد (1) بلغ الحسن أن رجلا اغتابه ، فأهدى إليه طبقا من رطب ، فجاءه الرجل معتذرا ، وقال : أصلحك الله ! اغتبتك فأهديت لى ! قال : إنك أهديت إلى حسناتك ، فأردت أن أكافئك .
أتى رجل عمرو بن عبيد الله ، فقال له : إن الاسوارى لم يزل أمس يذكرك ويقول : عمرو الضال ، فقال له : يا هذا ، والله ما رعيت حق مجالسة الرجل حين نقلت إلينا حديثه ، ولا رعيت حقى حين بلغت عن أخى ما أكرهه .
أعلمه أن الموت يعمنا ، والبعث يحشرنا والقيامة تجمعنا ، والله يحكم بيننا .
[ حكم الغيبة في الدين ] واعلم أن العلماء ذكروا في حد الغيبة : أن تذكر أخاك بما بكرهه لو بلغه ، سواء ذكرت نقصانا في بدنه ، مثل أن تقول : الافرع ، أو الاعور ، أو في نسبه نحو أن تقول : ابن النبطي ، وابن الاسكاف ، أو الزبال ، أو الحائك ، أو في خلقه ، نحو سيئ الخلق أو بخيل ،
__________
(1) 1 : 376 .
(*)(9/66)
أو متكبر ، أوفى أفعاله الدنيئة نحو قولك : كذاب وظالم ومتهاون بالصلاة ، أو الدنيوية نحو قولك : قليل الادب متهاون بالناس ، كثير الكلام ، كثير الاكل ، أوفى ثوبه كقولك : وسخ الثياب ، كبير العمامة ، طويل الاذيال .
وقد قال قوم : لا غيبة في أمور الدين ، لان المغتاب إنما ذم ما ذمه الله تعالى ، واحتجوا بما روى أنه ذكر لرسول الله صلى الله عليه وآله امرأة وكثرة صومها وصلاتها ، ولكنها تؤذى جارتها ، فقال : " هي في النار " ، ولم ينكر عليهم غيبتهم إياها .
وروى أن امرأة ذكرت عنده عليه السلام بأنها بخيلة : فقال : " فما خيرها إذن " ! وأكثر العلماء على أن الغيبة في أمور الدين محرمة أيضا ، وادعوا الاجماع على أن من ذكر غيره بما يكرهه فهو مغتاب ، سواءأ كان في الدين أو في غيره .
قالوا : والمخالف مسبوق بهذا الاجماع ، وقالوا : وقد روى عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال : " هل تدرون ما الغيبة " ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : " ذكرك أخاك بما يكرهه " ، فقائل قال : أرأيت يا رسول الله ، إن كان ذلك في أخى ؟ قال : " إن كان فيه فقد اغتبته ، وإن لم يكن فقد بهته " (1) .
قالوا : وروى معاذ بن جبل أن رجلا ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقال قوم : ما أعجزه ! فقال عليه السلام : " اغتبتم صاحبكم " ، فقالو : قلنا ما فيه ، فقال : " إن قلتم ما ليس فيه فقد بهتموه .
قالوا : وما احتج به الزاعمون أن لا غيبة في الدين ، ليس بحجة ، لان الصحابة إنما ذكرت ذلك في مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله لحاجتها إلى تعرف الاحكام بالسؤال ، ولم يكن غرضها التنقص .
واعلم أن الغيبة ليست مقصورة على اللسان فقط ، بل كل ما عرفت به صاحبك
__________
(1) بهته ، أي قذفته بالباطل .
(*)(9/67)
نقص أخيك فهو غيبة ، فقد يكون ذلك باللسان ، وقد يكون بالاشارة والايماء ، وبالمحا كاة ، نحو أن تمشى خلف الاعرج متعارجا ، وبالكتاب ، فإن القلم أحد اللسانين .
و - ذا ذكر المصنف شخصا في تصنيفه ، وهجن كلامه ، فهو غيبة ، فأما قوله : " قال قوم كذا " فليس بغيبة ، لانه لم يعين شخصا بعينه .
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : " ما بال أقوام يقولون كذا ! " ، فكان لا يعين ، ويكون مقصودة واحدا بعينه .
وأخبث أنواع الغيبة غيبة القراء المرائين ، وذلك نحو أن يذكر عندهم إنسان ، فيقول قائلهم : الحمد لله الذى لم يبلنا بدخول أبواب السلطان ، والتبذل في طلب الحطام ، وقصده أن يفهم الغير عيب ذلك الشخص ، فتخرج الغيبة في مخرج الحمد والشكر لله تعالى ، فيحصل من ذلك غيبة المسلم ، ويحصل منه الرياء ، وإظهار التعفف عن الغيبة وهو واقع فيها ، وكذلك يقول : لقد ساءنى ما يذكر به فلان ، نسأل الله أن يعصمه ، ويكون كاذبا في دعوى أنه ساءه ، وفى إظهار الدعاء له ، بل لو قصد الدعاء له لاخفاه في خلوة عقب صلواته ، ولو كان قد ساءه لساءه أيضا إظهار ما يكرهه ذلك الانسان .
* * * واعلم أن الاصغاء إلى الغيبة على سبيل التعجب كالغيبة ، بل أشد ، لانه إنما يظهر التعجب ليزيد نشاط المغتاب في الغيبة ، فيندفع فيها حكاية ، يستخرج الغيبة منه بذلك ، وإذا كان السامع الساكت شريك المغتاب ، فما ظنك بالمجتهد في حصول الغيبة ، والباعث على الاستزادة منها ! وقد روى أن أبا بكر وعمر ذكرا إنسانا عند رسول الله ، فقال أحدهما : إنه لنوؤم ، ثم أخرج رسول الله صلى الله عليه وآله خبزا قفارا ، فطلبا منه أدما (1) فقال : قد ائتدمتما ، قالا : ما نعلمه ، قال : " بلى بما أكلتما من لحم صاحبكما " ، فجمعهما في الاثم ، وقد
__________
(1) الخبز القفار : ماكان بغير أدم ، والادم : ما يؤتدم به .
(*)(9/68)
كان أحدهما قائلا والاخر مستمعا ، فالمستمع لا يخرج من إثم الغيبة إلا بأن ينكر بلسانه ، فإن خاف فبقلبه ، وإن قدر على القيام أو قطع الكلام بكلام آخر لزمه ذلك ، فإن قال بلسانه : اسكت وهو مريد للغيبة بقلبه ، فذلك نفاق ، ولا يخرجه عن الاثم إلا أن يكرهه بقلبه ، ولا يكفى أن يشير باليد ، أي اكفف ، أو بالحاجب والعين ، فإن ذلك استحقار للمذكور ، بل ينبغى أن يذب عنه صريحا ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله : " من أذل عنده مؤمن وهو يقدر على أن ينصره فلم ينصره ، أذله الله يوم القيامة على رءوس الخلائق " .
* * * [ فصل في الاسباب الباعثة على الغيبة ] واعلم أن الاسباب الباعثة على الغيبة أمور : منها شفاء الغيظ ، وذلك أن يجرى من الانسان سبب يغضب به عليه آخر ، فإذا هاج غضبه تشفى بذكر مساوئه ، وسبق إليها لسانه بالطبع إن لم يكن هناك دين وازع ، وقد يمنع تشفى الغيظ عند الغضب ، فيحتقن الغضب في الباطن ، فيصير حقدا ثابتا ، فيكون سببا دائما لذكر المساوئ .
ومنها موافقة الاقران ومساعدتهم على الكلام ، فإنهم إذا اجتمعوا ربما أخذوا يتفكهون بذكر الاعراض ، فيرى أنه لو أنكر أو قطع المجلس استثقلوه ، ونفروا عنه فيساعدهم ، ويرى ذلك من حسن المعاشرة ، ويظن أنه مجاملة في الصحبة ، وقد يغضب رفقاؤه من أمر فيحتاج إلى أن يغضب لغضبهم ، إظهارا للمساهمة في السراء والضراء ، فيخوض معهم في ذكر العيوب والمساوي .(9/69)
ومنها أن يستشعر من إنسان أنه سيذمه ويطول لسانه فيه ، ويقبح حاله عند بعض الرؤساء ، أو يشهد عليه بشهادة فيبادره قبل أن يقبح حاله ، فيطعن فيه ليسقط أثر شهادته عليه .
وقد يبتدئ بذكر بعض ما فيه صادقا ليكذب عليه بعد ذلك ، فيروج كذبه بالصدق الاول .
ومنها أن ينسب إلى أمر فيريد التبرؤ منه ، فيذكر الذى فعله ، وكان من حقه أن يبرئ نفسه ، ولا يذكر الذى فعله ، لكنه إنما يذكر غيره تأكيدا لبراءة نفسه ، وكيلا يكون تبرؤا مبتورا ، وربما يعتذر بأن يقول : فلان فعله ، وكنت شريكا في بعض الامر ليبرئ نفسه بعض البراءة .
ومنها المباهاة وحب الرياسة ، مثل أن يقول : كلام فلان ركيك ، ومعرفته بالفن الفلاني ناقصة ، وغرضه إظهار فضله عليه .
ومنها الحسد وإرادة إسقاط قدر من يمدحه الناس بذكر مساوئه ، لانه يشق عليه ثناء الناس عليه ، ولا يجد سبيلا إلى سد باب الثناء عليه إلا بذكر عيوبه .
ومنها اللعب والهزل والمطايبة وتزجية الوقت بالضحك والسخرية ، فيذكر غيره بما يضحك الحاضرين على سبيل الهزء والمحاكاة .
* * * واعلم أن الذى يقوى في نفسي أن الغيبة لا تكون محرمة إلا إذا كانت على سبيل القصد إلى تنقص الانسان فقط وغض قدره ة فأما إذا خرجت مخرجا آخر ، فليست بحرام ، كمن يظلمه القاضى ، ويأخذ الرشوة على إسقاط حقوقه ، فإن له أن يذكر حاله للسلطان متظلما من حيف الحاكم عليه إذ لا يمكنه استيفاء حقوقه إلا بذلك ، فقد قال صلى الله عليه وآله : " مطل الغنى ظلم " ، وقال : " لى (1) الواجد يحل عقوبته وعرضه " .
__________
(1) يقال : لى عن الامر ، إذا تثاقل .
(*)(9/70)
وكذلك النهى عن المنكر واجب ، وقد يحتاج الانسان إلى الاستعانة بالغير على تغييره ورد القاضى إلى منهج الصلاح ، فلا بد له أن يشرح للغير حال ذلك الانسان المرتكب المنكر ، ومن ذكر الانسان بلقب مشهور فعرف عن عبيه ، كالاعرج والاعمش المحدثين ، لم يكن مغتابا إذا لم يقصد الغض والنقض .
والصحيح أن المجاهر بالفسق لا غيبة له ، كصاحب الماخور والمخنث ، ومن يدعو الناس إلى نفسه أبنة ، وكالعشار والمستخرج بالضرب ، فإن هؤلاء غير كارهين لما يذكرون به ، وربما تفاخروا بذلك ، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله : " من ألقى جلباب الحياء عن وجهه ، فلا غيبة له " ، وقال عمر : ليس لفاجر حرمة ، وأراد المجاهر بالفسق ، دون المستتر .
وقال الصلت بن طريف : قلت للحسن رحمه الله : الرجل الفاجر المعلن بالفجور غير مراقب ، هل ذكرى له بما فيه غيبة ؟ فقال : لا ، ولا كرامة له ! * * * [ طريق التوبة من الغيبة ] واعلم أن التوبة من الغيبة تكفر عقابها ، والتوبة منه هي الندم عليها ، والعزم على ألا يعود ، فإن لم يكن الشخص المذكور قد بلغته الغيبة ، فلا حاجة إلى الاستحلال منه ، بل لا يجوز إعلامه بذلك ، هكذا قال شيخنا أبو الحسين رحمه الله ، لانه لم يؤلمه فيحتاج إلى أن يستوهب منه إثم ذلك الايلام وفى إعلامه تضييق صدره ، وإدخال مشقة عليه ، وإن كان الشخص المذكور قد بلغته الغيبة ، وجب عليه أن يستحله ويستوهبه ، فإن كان قد مات سقط بالتوبة عقاب ما يختص بالبارئ سبحانه من ذلك الوقت ، وبقى ما يختص بذلك الميت لا يسقط حتى يؤخذ العوض له من المذنب يوم القصاص .(9/71)
(141) الاصل : ومن كلام له عليه السلام : أيها الناس من عرف من أخيه وثيقة دين وسداد طريق ، فلا يسمعن فيه أقاويل الرجال .
أما إنه قد يرمى الرامى ، وتخطئ السهام ، ويحيل الكلام ، وباطل ذلك يبور ، والله سميع وشهيد .
أما إنه ليس بين الحق والباطل إلا أربع أصابع .
* * * فسئل عليه السلام عن معنى قوله هذا فجمع أصابعه ووضعها بين أذنه وعينه ثم قال : الباطل أن تقول : سمعت ، والحق أن تقول : رأيت * * * الشرح : هذا الكلام هو نهى عن التسرع إلى التصديق بما يقال من العيب والقدح في حق الانسان المستور ، الظاهر المشتهر بالصلاح والخير ، وهو خلاصة قوله سبحانه : (إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) (1) .
ثم ضرب عليه السلام لذلك مثلا ، فقال : قد يرمى الرامى فلا يصيب الغرض ، وكذلك قد يطعن الطاعن فلا يكون طعنه صحيحا ، وربما كان لغرض فاسد أو سمعة ممن له غرض
__________
(1) سورة الحجرات 6 .
(*)(9/72)
فاسدا ، كالعدو والحسود ، وقد يشتبه الامر فيظن المعروف منكرا ، فيعجل الانسان بقول لا يتحققه ، كمن يرى غلام زيد يحمل في إناء مستور مغطى خلا ، فيظنه خمرا .
قال عليه السلام : " ويحيل الكلام " أي يكون باطلا ، أحال الرجل في منطقه إذا تكلم الذى لا حقيقة له ، ومن الناس من يرويه : " ويحيك الكلام " بالكاف ، من قولك : ما حاك فيه السيف ، ويجوز " أحاك " بالهمزة ، أي ما أثر يعنى أن القول يؤثر في العرض وإن كان باطلا ، والرواية الاولى أشهر وأظهر .
ويبور : يفسد .
وقوله : " وباطل ذلك يبور " ، مثل قولهم : للباطل جولة ، وللحق دولة ، وهذا من قوله تعالى : (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) (1) والاصبع مؤنثة ولذلك ، قال : " أربع أصابع " فحذف الهاء .
فإن قلت : كيف يقول عليه السلام : الباطل ما يسمع والحق ما يرى ، وأكثر المعلومات إنما هي من طريق السماع ، كعلمنا الان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله بما بلغنا من معجزاته التى لم نرها ، وإنما سمعناها ! قلت : ليس كلامه في المتواتر من الاخبار ، وإنما كلامه في الاقوال الشاذة الواردة من طريق الاحاد ، التى تتضمن القدح فيمن قد غلبت نزاهته ، فلا يجوز العدول عن المعلوم بالمشكوك .
__________
(1) سورة الاسراء 81 .
(*)(9/73)
(142) الاصل : ومن كلام له عليه السلام : وليس لواضع المعروف في غير حقه ، وعند غير أهله من الحظ فيما أتى إلا محمدة اللئام ، وثناء الاشرار ، ومقالة الجهال ، مادام منعما عليهم : ما أجود يده ! وهو عن ذات الله بخيل ! .
فمن آتاه الله مالا فليصل به القرابة ، وليحسن منه الضيافة ، وليفك به الاسير والعانى ، وليعط منه الفقير والغارم ، وليصبر نفسه على الحقوق والنوائب ، ابتغاء الثواب ، فإن فوزا بهذه الخصال شرف مكارم الدنيا ، ودرك فضائل الاخرة ، إن شاء الله .
* * * الشرح : هذا الكلام يتضمن ذم من يخرج ماله إلى الفتيان والاقران والشعراء ونحوهم ، ويبتغى به المدح والسمعة ، ويعدل عن إخراجه في وجوه البر وابتغاء الثواب ، قال عليه السلام : ليس له من الحظ إلا محمدة اللئام وثناء الاشرار ، وقولهم : ما أجود يده ! أي ما أسمحه ! وهو بخيل بما يرجع إلى ذات الله - يعنى الصدقات وما يجرى مجراها من صلة الرحم والضيافة وفك الاسير والعانى ، وهو الاسير بعينه ، وإنما اختلف اللفظ .(9/74)
والغارم : من عليه الديون .
ويقال : صبر فلان نفسه على كذا مخففا ، أي حبسها ، قال تعالى : (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم) (1) .
وقال عنترة يذكر حربا : فصبرت عارفة لذلك حرة * ترسو إذا نفس الجبان تطلع (3) وفى الحديث النبوى في رجل أمسك رجلا ، وقتله آخر فقال عليه السلام : " اقتلوا القاتل واصبروا الصابر " ، أي احبسوا الذى حبسه للقتل إلى أن يموت .
وقوله : " فإن فوزا " : أفصح من أن يقول : " فإن الفوز " أو فإن في الفوز كما قال الشاعر : إن شواء ونشوة * وخبب البازل الامون (3) من لذة العيش ، والفتى * للدهر ، والدهر ذوشؤون (4) ولم يقل : " إن الشواء والنشوة " ، والسر في هذا أنه كأنه يجعل هذا الشواء شخصا من جملة أشخاص ، داخلة تحت نوع واحد ، ويقول : إن واحدا منها أيها كان فهو من لذة العيش ، وإن لم يحصل له كل أشخاص ذلك النوع ، ومراده تقرير فضيلة هذه الخصال في النفوس ، أي متى حصل للانسان فوز ما بها ، فقد حصل له الشرف ، وهذا المعنى وإن أعطاه لفظة " الفوز " بالالف واللام إذا قصد بها الجنسية إلا أنه قد يسبق إلى الذهن منها الاستغراق لا الجنسية ، فأتى بلفظة لا توهم الاستغراق ، وهى اللفظة المنكرة ، وهذا دقيق ، وهو من لباب علم البيان .
__________
(1) سورة الكهف 28 .
(2) اللسان 6 : 107 ، بقول : حبست نفسا صابرة .
(3) لسلم بن ربيعة ، ديوان الحماسة بشرح المرزوقى 3 : 1137 .
(4) الحماسة : " ذو فنون " .
(*)(9/75)
(143) الاصل : ومنه خطبة له عليه السلام في الاستسقاء : ألا وإن الارض التى تحملكم ، والسماء التى تظلكم ، مطيعتان لربكم ، وما أصبحتا تجودان لكم ببركتهما توجعا لكم ، ولا زلفة إليكم ، ولا لخير ترجوانه منكم ، ولكن أمرتا بمنافعكم فأطاعتا ، وأقيمتا على حدود مصالحكم فقامتا .
إن الله يبتلى عباده عند الاعمال السيئة بنقص الثمرات ، وحبس البركات ، وإغلاق خزائن الخيرات ، ليتوب تائب ، ويقلع مقلع ، ويتذكر متذكر ، ويزدجر مزدجر .
وقد جعل الله سبحانه الاستغفار سببا لدرور الرزق ورحمة الخلق ، فقال سبحانه : (استغفروا ربكم إنه كان غفارا .
يرسل السماء عليكم مدرارا .
ويمدد كم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا) (1) .
فرحم الله امرأ استقبل توبته ، واستقال خطيئته ، وبادر منيته ! اللهم إنا خرجنا إليك من تحت الاستار والاكنان ، وبعد عجيج البهائم والولدان ، راغبين في رحمتك ، وراجين فضل نعمتك .
وخائفين من عذابك ونقمتك .
__________
(1) سورة نوح 10 - 12 .
(*)(9/76)
اللهم فاسقنا غيثك ، ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا ، يا أرحم الراحمين .
اللهم إنا خرجنا إليك نشكو إليك مالا يخفى عليك ، حين ألجأتنا المضايق الوعرة ، وأجاءتنا المقاحط المجدبة ، وأعيتنا المطالب المتعسرة ، وتلاحمت علينا الفتن المستصعبة .
اللهم إنا نسألك ألا تردنا خائبين ، ولا تقلبنا واجمين ، ولا تخاطبنا بذنوبنا ، ولا تقايسنا بأعمالنا .
اللهم انشر علينا غيثك وبركتك ، ورزقك ورحمتك ، واسقنا سقيا ناقعة مروية معشبة ، تنبت بها ما قد فات ، وتحيى بها ما قد مات ، نافعة الحيا ، كثيرة المجتنى ، تروى بها القيعان ، وتسيل البطنان ، وتستورق الاشجار ، وترخص الاسعار ، إنك على ما تشاء قدير .
* * * الشرح : تظلكم : تعلو عليكم ، وقد أظلتني الشجرة واستظلت بها .
والزلفة : القربة ، يقول : إن السماء والارض إذا جاءتا بمنافعكم - أما السماء فبالمطر ، وأما الارض فبالنبات - فإنهما لم تأتيا بذلك تقربا إليكم ، ولا رحمة لكم ، ولكنهما أمرتا بنفعكم فامتثلتا الامر ، لانه أمر من تجب طاعته ، ولو أمر تا بغير ذلك لفعلتاه .
والكلام مجاز واستعارة ، لان الجماد لا يؤمر ، والمعنى أن الكل مسخر تحت القدرة الالهية ، ومراده تمهيد قاعدة الاستسقاء ، كأنه يقول : إذا كانت السماء والارض أيام الخصب والمطر والنبات لم يكن ما كان منهما محبة لكم ، ولا رجاء منفعة منكم ، بل طاعة الصانع الحكيم سبحانه فيما سخرهما له ،(9/77)
فكذلك السماء والارض أيام الجدب وانقطاع المطر وعدم الكلا ، ليس ما كان منهما بغضا لكم ، ولا استدفاع ضرر يخاف منكم ، بل طاعة الصانع الحكيم سبحانه فيما سخرهما له ، وإذا كان كذلك فبالحرى ألا نأمل السماء ولا الارض وأن نجعل آمالنا معلقة بالملك الحق المدبر لهما ، وأن نسترحمه وندعوه ونستغفره ، لا كما كانت العرب في الجاهلية يقولون : مطرنا بنوء كذا ، وقد سخط النوء الفلاني على بنى فلان فأمحلوا .
ثم ذكر عليه السلام أن الله تعالى يبتلى عباده عند الذنوب بتضييق الارزاق عليهم ، وحبس مطر السماء عنهم ، وهذا الكلام مطابق للقواعد الكلامية ، لان أصحابنا يذهبون إلى أن الغلاء قد يكون عقوبة على ذنب ، وقد يكون لطفا للمكلفين في الواجبات العقلية وهو معنى قوله : " ليتوب تائب ...
" إلى آخر الكلمات .
ويقلع : يكف ويمسك .
ثم ذكر أن الله سبحانه جعل الاستغفار سببا في درور الرزق ، واستدل عليه بالاية التى أمر نوح عليه السلام فيها قومه بالاستغفار ، يعنى التوبة عن الذنوب ، وقدم إليهم الموعد بما هو واقع في نفوسهم ، وأحب إليهم من الامور الاجلة ، فمناهم الفوائد العاجلة ، ترغيبا في الايمان وبركاته ، والطاعة ونتائجها ، كما قال سبحانه للمسلمين : (وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب) (1) فوعدهم بمحبوب الانفس الذى يرونه في العاجل عيانا ونقدا لا جزاء ونسيئة ، وقال تعالى في موضع آخر : (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض) (2) ، وقال سبحانه : (ولو أنهم أقاموا التوراة والانجيل وما أنزل إليهم من ربهم لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) (3)
__________
(1) سورة الصف 13 .
(2) سورة الاعراف 96 .
(3) سورة المائدة 66 .
(*)(9/78)
وقال تعالى : (وأن لو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماء غدقا) (1) .
* * * [ الثواب والعقاب عند المسلمين وأهل الكتاب ] وكل ما في التوراة من الوعد والوعيد فهو لمنافع الدنيا ومضارها ، أما منافعها فمثل أن يقول : إن أطعتم باركت فيكم ، وكثرت من أولادكم وأطلت أعماركم ، وأوسعت أرزاقكم ، واستبقيت اتصال نسلكم ، ونصرتكم على أعدائكم ، وإن عصيتم وخالفتم اخترمتكم ونقصت من آجالكم ، وشتت شملكم ، ورميتكم بالجوع والمحل ، وأذللت أولادكم وأشمت بكم أعداءكم ، ونصرت عليكم خصومكم ، وشردتكم في البلاد ، وابتليتكم بالمرض والذل ، ونحو ذلك .
ولم يأت في التوراة وعد ووعيد بأمر يتعلق بما بعد الموت .
وأما المسيح عليه السلام ، فإنه صرح بالقيامة وبعث الابدان ، ولكن جعل العقاب روحانيا ، وكذلك الثواب ، أما العقاب فالوحشة والفزع وتخيل الظلمة وخبث النفس وكدرها وخوف شديد ، وأما الثواب فما زاد على أن قال : إنهم يكونون كالملائكة ، وربما قال : يصعدون إلى ملكوت السماء ، وربما قال أصحابه وعلماء ملته : الضوء واللذة والسرور والامن من زوال اللذة الحاصلة لهم .
هذا هو قول المحققين منهم ، وقد أثبت بعضهم نارا حقيقية ، لان لفظة " النار " وردت في الانجيل ، فقال محققوهم : نار قلبية أي نفسية روحانية ، وقال الاقلون : نار كهذه النار .
ومنهم من أثبت عقابا غير النار وهو بدنى ، فقال : الرعدة وصرير الاسنان ، فأما الجنة بمعنى الاكل والشرب والجماع ، فإنه لم يقل منهم قائل به أصلا ، والانجيل صرح بانتفاء ذلك في القيامة تصريحا لا يبقى بعده ريب لمرتاب ، وجاء خاتم الانبياء محمد
__________
(1) سورة الجن 16 .
(*)(9/79)
صلى الله عليه وسلم فأثبت المعاد على وجه محقق كامل ، أكمل مما ذكره الاولان ، فقال : إن البدن والنفس معا مبعوثان ، ولكل منهما حظ في الثواب والعقاب .
وقد شرح الرئيس أبو على الحسين بن عبد الله بن سينا هذا الموضع في رسالة له في المعاد ، تعرف " بالرسالة الاصحوبة " شرحا جيدا ، فقال : إن الشريعة المحمدية أثبتت في القيامة رد النفس إلى البدن ، وجعلت للمثاب والمعاقب ثوابا وعقابا بحسب البدن والنفس جميعا ، فكان للمثاب لذات بدنية من حور عين وولدان مخلدين وفاكهة مما يشتهون ، وكأس لا يصدعون عنها ولا ينزفون ، وجنات تجرى من تحتها الانهار ، من لبن وعسل وخمر وماء زلال ، وسرر وأرائك وخيام وقباب ، فرشها من سندس وإستبرق ، وما جرى مجرى ذلك .
ولذات نفسانية من السرور ومشاهدة الملكوت والامن من العذاب والعلم اليقيني بدوام ماهم فيه ، وأنه لا يتعقبه عدم ولا زوال ، والخلو عن الاحزان والمخاوف .
وللمعاقب عقاب بدنى ، وهو المقامع من الحديد ، والسلاسل ، والحريق والحميم والغسلين والصراخ والجلود التى كلما نضجت بدلوا جلودا غيرها ، وعقاب نفساني من اللعن والخزى والخجل والندم والخوف الدائم واليأس من الفرج ، والعلم اليقيني بدوام الاحوال السيئة التى هم عليها .
قال : فوقت الشريعة الحكمة حقها من الوعد الكامل ، والوعيد الكامل ، وبهما ينتظم الامر ، وتقوم الملة ، فأما النصارى وما ذهبوا إليه من أمر بعث الابدان ، ثم خلوها في الدار الاخرة من المطعم والملبس والمشرب والمنكح ، فهو أرك ما ذهب إليه أرباب الشرائع وأسخفه ، وذلك أنه إن كان السبب في البعث هو أن الانسان هو البدن ، أو أن البدن شريك النفس في الاعمال الحسنة والسيئة ، فوجب أن يبعث ، فهذا القول بعينه إن أوجب ذلك ، فإنه يوجب أن يثاب البدن ، ويعاقب بالثواب والعقاب البدني المفهوم عند العالم ، وإن كان الثواب والعقاب روحانيا فما الغرض في بعث الجسد ؟ ثم ما ذلك(9/80)
الثواب والعقاب الروحانيان ! وكيف تصور العامة ذلك حتى يرغبوا ويرهبوا ! كلا بل لم تصور لهم الشريعة النصرانية من ذلك شيئا ، غير أنهم يكونون في الاخرة كالملائكة ، وهذا لا يفى بالترغيب التام ، ولا ماذ كروه من العقاب الروحانى - وهو الظلمة وخبث النفس - كاف في الترهيب .
والذى جاءت به شريعة الاسلام حسن لا زيادة عليه .
انقضى كلام هذا الحكيم .
* * * فأما كون الاستغفار سببا لنزول القطر ودرور الرزق ، فإن الاية بصريحها ناطقة به ، لانها أمر وجوابه ، قال : " استغفروا ربكم إنه كان غفارا .
يرسل السماء عليكم مدرار) ، كما تقول : قم أكرمك ، أي إن قمت أكرمتك ، وعن عمر أنه خرج يستسقى ، فما زاد على الاستغفار ، فقيل له : ما رأيناك استسقيت ! فقال : لقد استسقيت بمجاديح (1) السماء التى يستنزل بها المطر .
وعن الحسن أن رجلا شكا إليه الجدب ، فقال : استغفر الله ، فشكا آخر إليه الفقر ، وآخر قلة النسل ، وآخر قلة ريع أرضه ، فأمرهم كلهم بالاستغفار ، فقال له الربيع بن صبيح : رجال أتوك يشكون أبوابا ، ويشكون أنواعا ، فأمرتهم كلهم بالاستغفار ، فتلا له الاية .
قوله : " استقبل توبته " أي استأنفها وجددها .
واستقال خطيئته : طلب الاقالة منها والرحمة .
وبادر منيته : سابق الموت قبل أن يدهمه .
__________
(1) النهاية لابن الاثير 1 : 146 ، قال : " المجاديح ، واحدها مجدح ، والياء زائدة للاشباع ، والقياس أن يكون واحدها " مجداح " ، فأما " مجدح " فجمعه مجادح ، والمجدح : نجم من النجوم ، قيل : هو الدبران ، وقيل : هو ثلاثة كواكب كالاثافى تشبيها بالمجدح الذى له ثلاث شعب ، وهو عند العرب من الانواء الدالة على المطر ، فجعل الاستغفار مشيها بالانواء مخاطبة لهم بما يعرفون ، لاقولا بالانواء ، وجاء بلفظ الجمع ، لانه أراد الانواء جميعها التى يزعمون أن من شأنها المطر " .
(6 - نهج - 9) (*)(9/81)
قوله عليه السلام : " لا تهلكنا بالسنين " جمع : سنة ، وهى الجدب والمحل ، قال تعالى : (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين) (1) ، وقال النبي صلى الله عليه وآله يدعو على المشركين : " اللهم اجعلها عليهم سنين كسنى يوسف " ، والسنة لفظ محذوف منه حرف ، قيل إنه الهاء ، وقيل الواو ، فمن قال : المحذوف هاء ، قال : أصله " سنهة " مثل جبهة ، لانهم قالوا : نخلة سنهاء ، أي تحمل سنة ولا تحمل أخرى ، وقال بعض الانصار : فليست بسنهاء ولا رجبية * ولكن عرايا في السنين الجوائح (2) ومن قال أصلها الواو ، احتج بقولهم : أسنى القوم يسنون إسناء ، إذا لبثوا في المواضع سنة ، فأما التصغير فلا يدل على أحد المذهبين بعينه ، لانه يجوز سنية وسنيهة ، والاكثر في جمعها بالواو والنون " سنون " بكسر السين كما في هذه الخطبة ، وبعضهم يقول : " سنون " بالضم .
والمضايق الوعرة ، بالتسكين ، ولا يجوز التحريك ، وقد وعر هذا الشئ بالضم وعورة ، وكذلك توعر ، أي صار وعرا ، واستوعرت الشئ : استصعبته .
وأجاءتنا : ألجأتنا ، قال تعالى : (فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة) (3) .
والمقاحط المجدبة : السنون الممحلة ، جمع مقحطة .
وتلاحمت : اتصلت .
والواجم : الذى قد اشتد حزنه حتى أمسك عن الكلام ، والماضي " وجم " بالفتح يجم وجوما .
قوله : " ولا تخاطبنا بذنوبنا ، ولا تقايسنا بأعمالنا " ، أي لا تجعل جواب دعائنا لك ما تقتضيه ذنوبنا ، كأنه يجعله كالمخاطب لهم ، والمجيب عما سألوه إياه ، كما يفاوض الواحد
__________
(1) سورة الاعراف 130 .
(2) اللسان (سنه) ، .
نسبه إلى سويد بن الصامت الانصاري .
(3) سورة مريم 23 .
(*)(9/82)
منا صاحبه ويستعطفه ، فقد يجيبه ويخاطبه بما يقتضيه ذنبه إذا اشتدت موجدته عليه ونحوه ولا تقايسنا بأعمالنا ، قست الشئ بالشئ إذا حذوته ومثلته به ، أي لا نجعل ما تجيبنا به مقايسا ومماثلا لاعمالنا السيئة .
قوله : " سقيا ناقعة " هي " فعلى " مؤنثة غير مصروفة .
والحيا : المطر .
وناقعة مروية مسكنة للعطش ، نقع الماء العطش نقعا ونقوعا سكنه ، وفى المثل " الرشف أنقع " أي أن الشراب الذى يرشف قليلا قليلا أنجع وأقطع للعطش ، وإن كان فيه بطء .
وكثيرة المجتنى ، أي كثيرة الكلا ، والكلا : الذى يجتنى ويرعى .
والقيعان : جمع قاع ، وهو الفلاة .
والبطنان : جمع بطن ، وهو الغامض من الارض ، مثل ظهر وظهران وعبد وعبدان(9/83)
(144) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : بعث رسله بما خصهم به من وحيه ، وجعلهم حجة له على خلقه .
لئلا تجب الحجة لهم بترك الاعذار إليهم ، فدعاهم بلسان الصدق إلى سبيل الحق .
ألا إن الله تعالى قد كشف الخلق كشفة ، لا أنه جهل ما أخفوه من مصون أسرارهم ومكنون ضمائرهم ، ولكن ليبلوهم : أيهم أحسن عملا ، فيكون الثواب جزاء والعقاب بواء .
أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا ، كذبا وبغيا علينا ، أن رفعنا الله ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم ، بنا يستعطى الهدى ، ويستجلى العمى .
إن الائمة من قريش ، غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح على سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم .
* * * الشرح : أول الكلام مأخوذ من قوله سبحانه : (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) (1) ، وقوله تعالى : (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) (2) .
__________
(1) سورة النساء 165 .
(2) سورة الاسراء 15 .
(*)(9/84)
فإن قلت : فهذا يناقض مذهب المعتزلة في قولهم بالواجبات عقلا ، ولو لم تبعث الرسل ! قلت : صحة مذهبهم تقتضي أن تحمل عموم الالفاظ على أن المراد بها الخصوص ، فيكون التأويل : لئلا يكون للناس على الله حجة فيما لم يدل العقل على وجوبه ولا قبحه ، كالشرعيات ، وكذلك : " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " على ما لم يكن العقل دليلا عليه حتى نبعث رسولا .
الاعذار : تقديم العذر .
ثم قال : إن الله تعالى كشف الخلق بما تعبدهم به من الشرعيات على ألسنة الانبياء : ولم يكن أمرهم خافيا عنه ، فيحتاج إلى أن يكشفهم بذلك ، ولكنه أراد ابتلاءهم واختبارهم ، ليعلم أيهم أحسن عملا ، فيعاقب المسئ ويثيب المحسن .
فإن قلت : الاشكال قائم ، لانه إذا كان يعلم أهم يحسن ، وأيهم يسئ ، فما فائدة الابتلاء ؟ وهل هو إلا محض العبث ! قلت : فائدة الابتلاء إيصال نفع إلى زيد لم يكن ليصح إيصاله إليه إلا بواسطة هذا الابتلاء ، وهو ما يقوله أصحابنا ، إن الابتلاء بالثواب قبيح ، والله تعالى يستحيل أن يفعل القبيح .
قوله : " وللعقاب بواء " أي مكافأة ، قالت ليلى الاخيلية : فإن تكن القتلى بواء فإنكم * فتى ما قتلتم آل عوف بن عامر (1) وأبأت القاتل بالقتيل واستبأته أيضا ، إذا قتلته به ، وقد باء الرجل بصاحبه ، أي قتل به
__________
(1) في مقتل توبة بن الحمير ، اللسان 1 : 29 .
(*)(9/85)
وفى المثل : " باءت عرار بكحل " (1) وهما بقرتان ، قتلت إحداهما بالاخرى .
وقال مهلهل لبجير لما قتل : " بؤ بشسع نعل كليب " .
قوله عليه السلام " أين الذين زعموا " هذا الكلام كناية وإشارة إلى قوم من الصحابة كانوا ينازعونه الفضل فمنهم من كان يدعى له أنه أفرض ، ومنهم من كان يدعى له إنه أقرأ ، ومنهم كان يدعى له أنه أعلم بالحلال والحرام .
هذا مع تسليم هؤلاء له أنه عليه السلام أقضى الامة ، وأن القضاء يحتاج إلى كل هذه الفضائل ، وكل واحدة منها لا تحتاج إلى غيرها ، فهو إذا أجمع للفقه وأكثرهم احتواء عليه ، إلا أنه عليه السلام لم يرض بذلك ولم يصدق الخبر الذى قيل : " أفرضكم فلان " إلى آخره فقال : إنه كذب وافتراء حمل قوما على وضعه الحسد والبغى والمنافسة لهذا الحى من بنى هاشم ، أن رفعهم الله على غيرهم ، واختصهم دون من سواهم .
وأن هاهنا للتعليل ، أي " لان " فحذف اللام التى هي أداة التعليل على الحقيقة قال سبحانه : (بئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم) (2) : وقال بعض النحاة لبعض الفقهاء الزاعمين أن لا حاجة للفقه إلى النحو : ما تقول لرجل قال لزوجته : أنت طالق إن دخلت الدار ؟ فقال : لا يقع إلا بالدخول ، فقال : فإن فتح الهمزة قال : كذلك ، فعرفه أن العربية نافعة في الفقه ، وأن الطلاق منجز لا معلق ، إن كان مراده تعليل الطلاق بوقوع الدخول لاشتراطه به .
ثم قال : " بنا يستعطى الهدى ، أي يطلب أن يعطى ، وكذلك " يستجلى " أي يطلب جلاؤه .
ثم قال : إن الائمة من قريش ...
إلى آخر الفصل .
* * *
__________
(1) المثل في اللسان 14 : 103 ، قال : ومن أمثالهم : " باءت عرار بكحل " ، إذا قتل القاتل بمقتوله ، يقال : كانتا بقرتين في بنى إسرائيل ، قتلت إحداهما بالاخرى .
ونقل عن ابن برى : كحل بمنزله " دعد " يصرف ولا ينصرف .
(2) سورة المائدة 80 .
(*)(9/86)
[ اختلاف الفرق الاسلامية في كون الائمة من قريش ] وقد (1) اختلف الناس في اشتراط النسب في الامامة ، فقال قوم من قدماء أصحابنا : إن النسب ليس بشرط فيها أصلا ، وإنها تصلح في القرشى وغير القرشى إذا كان فاضلا مستجمعا للشرائط المعتبرة ، واجتمعت الكلمة عليه ، وهو قول الخوارج .
وقال أكثر أصحابنا : وأكثر الناس أن النسب شرط فيها ، وأنها لا تصلح إلا في العرب خاصة ، ومن العرب فقريش خاصة .
وقال أكثر أصحابنا : معنى قول النبي صلى الله عليه وآله : " الائمة من قريش " إن القرشية شرط إذا وجد في قريش من يصلح للامامة ، فإن لم يكن فيها من يصلح ، فليست القرشية شرطا فيها .
وقال بعض أصحابنا : معنى الخبر أنه لا تخلو قريش أبدا ممن يصلح للامامة ، فأوجبوا بهذا الخبر وجود من يصلح من قريش لها في كل عصر وزمان .
وقال معظم الزيدية : إنها في الفاطميين خاصة من الطالبيين ، لا تصلح في غير البطنين ، ولا تصح إلا بشرط أن يقوم بها ويدعو إليها فاضل زاهد عالم عادل شجاع سائس .
وبعض الزيدية يجيز الامامة في غير الفاطميين من ولد على عليه السلام ، وهو من أقوالهم الشاذة .
وأما الراوندية فإنهم خصصوها بالعباس رحمه الله وولده من بين بطون قريش كلها ، وهذا القول الذى ظهر في أيام المنصور والمهدى ، وأما الامامية فإنهم جعلوها سارية في ولد الحسين عليه السلام في أشخاص مخصوصين ، ولا تصلح عندهم لغيرهم .
وجعلها الكيسانية في محمد بن الحنفية وولده ، ومنهم من نقلها منه إلى ولد غيره .
فإن قلت : إنك شرحت هذا الكتاب على قواعد المعتزلة وأصولهم ، فما قولك في هذا
__________
(1) كذا في أ ، ب وفى د : " قد " .
(*)(9/87)
الكلام وهو تصريح بأن الامامة لا تصلح من قريش إلا في بنى هاشم خاصة ، وليس ذلك بمذهب للمعتزلة ، لا متقدميهم ولا متأخريهم ! قلت : هذا الموضع مشكل ، ولى فيه نظر ، وإن صح أن عليا عليه السلام ، قاله ، قلت كما قال ، لانه ثبت عندي أن النبي صلى الله عليه وآله قال : " إنه مع الحق وإن الحق يدور معه حيثما دار " ويمكن أن يتأول ويطبق على مذهب المعتزلة فيحمل على أن المراد به كمال الامامة كما حمل قوله صلى الله عليه وآله : " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " ، على نفى الكمال ، لا على نفى الصحة .
* * * الاصل : منها : آثروا عاجلا ، وأخروا آجلا ، وتركوا صافيا ، وشربوا آجنا ، كأنى أنظر إلى فاسقهم وقد صحب المنكر فألفه ، وبسئ به ووافقه ، حتى شابت عليه مفارقه ، وصبغت به خلائقه ، ثم أقبل مزبدا كالتيار لا يبالى ما غرق ، أو كوقع النار في الهشيم لايحفل ما حرق .
أين العقول المستصبحة بمصابيح الهدى ، والابصار اللامحة إلى منازل التقوى ! أين القلوب التى وهبت لله ، وعوقدت على طاعة الله ! ازدحموا على الحطام ، وتشاحوا على الحرام ، ورفع لهم علم الجنة والنار ، فصرفوا عن الجنة وجوههم ، وأقبلوا إلى النار بأعمالهم ، ودعاهم ربهم فنفروا ، وولوا ، ودعاهم الشيطان فاستجابوا وأقبلوا ! * * *(9/88)
آثروا : اختاروا .
وأخروا : تركوا .
الاجن : الماء المتغير .
أجن الماء يأجن وأاجن .
وبسئ به : ألفه ، وناقة بسوء : ألفت الحالب ولا (1) تمنعه .
وشابت عليه مفارقه : طال عهده به مذ زمن الصبا حتى صار شيخا .
وصبغت به خلائقه ما صارت طبعا لان العادة طبيعة ثانية .
مزبدا ، أي ذو زبد ، وهو ما يخرج من الفم كالرغوة ، يضرب مثلا للرجل الصائل المقتحم .
والتيار : معظم اللجة ، والمراد به هاهنا السيل .
والهشيم : دقاق الحطب .
ولا يحفل ، بفتح حرف المضارعة ، لان الماضي ثلاثى ، أي لا يبالى .
والابصار اللامحة : الناظرة .
وتشاحوا : تضايقوا ، كل منهم يريد ألا يفوته ذلك ، وأصله الشح وهو البخل .
فإن قلت : هذا الكلام يرجع إلى الصحابة الذين تقدم ذكرهم في أول الخطبة ؟ قلت : لا ، وإن زعم قوم أنه عناهم : بل هو إشارة إلى قوم ممن يأتي من الخلف بعد السلف ، ألا تراه قال : كأنى أنظر إلى فاسقهم قد صحب المنكر فألفه ، وهذا اللفظ إنما يقال في حق من لم يوجد بعد ، كما قال في حق الاتراك : " كأنى أنظر إليهم قوما كأن وجوههم المجان " ، وكما قال في حق صاحب الزنج : " كأنى به يا أحنف قد سار في الجيش " ، وكما قال في الخطبة التى ذكرناها آنفا : " كأنى به قد نعق بالشام " يعنى به عبد الملك .
وحوشى عليه السلام أن يعنى بهذا الكلام الصحابة ، لانهم ما آثروا العاجل ، ولا أخروا الاجل ولا صحبوا المنكر ، ولا أقبلوا كالتيار ، لا يبالي ما غرق ، ولا كالنار لا تبالي ما أحرقت ، ولا ازدحموا على الحطام ، ولا تشاحوا على الحرام ، ولا صرفوا عن الجنة وجوههم ، ولا أقبلوا
__________
(1) ج : " فلا تمنعه " .
(*)(9/89)
إلى النار بأعمالهم ، ولا دعاهم الرحمن فولوا ، ولا دعاهم الشيطان فاستجابوا .
وقد علم كل أحد حسن سيرتهم ، وسداد طريقتهم وإعراضهم عن الدنيا وقد ملكوها ، وزهدهم فيها وقد تمكنوا منها .
ولولا قوله : " كأنى أنظر إلى فاسقهم " لم أبعد أن يعنى بذلك قوما ممن عليه اسم الصحابة وهو ردئ الطريقة ، كالمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص ، ومروان بن الحكم ، ومعاوية ، وجماعة معدودة أحبوا الدنيا واستغواهم الشيطان ، وهم معدودون في كتب أصحابنا .
ومن اشتغل بعلوم السيرة والتواريخ عرفهم بأعيانهم .(9/90)
(145) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : أيها الناس ، إنما أنتم في هذه الدنيا غرض تنتضل فيه المنايا ، مع كل جرعة شرق ، وفى كل أكله غصص ، لا تنالون منها نعمة إلا بفراق أخرى ، ولا يعمر معمر منكم يوما من عمره إلا بهدم آخر من أجله ، ولتجدد له زيادة في أكله إلا بنفاد ما قبلها من رزقه ، ولا يحيا له أثر إلا مات له أثر ، ولا يتجدد له جديد إلا بعد أن يخلق له جديد ولا تقوم له نابته إلا وتسقط منه محصودة .
وقد مضت أصول نحن فروعها ، فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله ! * * * الشرح : الغرض : ما ينصب ليرمى ، وهو الهدف .
وتنتضل فيه المنايا : تترامى فيه للسبق ، ومنه الانتضال بالكلام وبالشعر (1) ، كأنه يجعل المنايا أشخاصا تتناضل بالسهام ، من الناس من يموت قتلا ، ومنهم من يموت غرقا ، أو يتردى في بئر ، أو تسقط عليه حائط ، أو يموت على فراشه .
ثم قال : " مع كل جرعة شرق ، وفى كل أكلة غصص " : بفتح الغين ، مصدر قولك : غصصت يا فلان بالطعام ، وروى : " غصص " جمع غصة ، وهى الشجا ، وهذا مثل قول بعضهم : المنحة فيها مقرونة بالمحنة ، والنعمة مشفوعة بالنقمة .
__________
(1) في أ ، ب : " الشعر " ، .
ما أثبته من د ، ج .
(*)(9/91)
وقد بالغ بعض الشعراء في الشكوى ، فأتى بهذه الالفاظ ، لكنه أسرف ، فقال : حظى من العيش أكل كله غصص * مر المذاق ، وشرب كله شرق ومراد أمير المؤمنين عليه السلام بكلامه ، أن نعيم الدنيا لا يدوم ، فإذا أحسنت أساءت ، وإذا أنعمت أنقمت .
ثم قال : " لا ينالون منها نعمة إلا بفراق أخرى " ، هذا معنى لطيف ، وذلك أن الانسان لا يتهيأ له أن يجمع بين الملاذ الجسمانية كلها في وقت ، فحال ما يكون آكلا لا يكون مجامعا ، وحال ما يشرب لا يأكل ، وحال ما يركب للقنص والرياضة ، لا يكون جالسا على فراش وثير ممهد ، وعلى هذا القياس لا يأخذ في ضرب من ضروب الملاذ إلا وهو تارك لغيره منها .
ثم قال : " ولا يعمر معمر منكم يوما من عمره إلا بهدم آخر من أجله " ، وهذا أيضا لطيف لان المسرور ببقائه إلى يوم الاحد لم يصل إليه إلا بعد أن قضى يوم السبت وقطعه ، ويوم السبت من أيام عمره ، فإذا قد هدم من عمره يوما ، فيكون قد قرب إلى الموت ، لانه قد قطع من المسافة جزأ .
ثم قال : " ولا تجدد له زيادة في أكله إلا بنفاد ما قبلها من رزقه " وهذا صحيح فإن فسرنا الرزق بما وصل إلى البطن على أحد تفسيرات المتكلمين ، فإن الانسان لا يأكل لقمة إلا وقد فرغ من اللقمة التى قبلها ، فهو إذا لا يتجدد له زيادة في أكله إلا بنفاد ما قبلها من رزقه .
ثم قال : " ولا يحيا له أثر ، إلا مات له أثر " ، وذلك أن الانسان في الاعم الاغلب لا ينتشر صيته ويشيع فضله إلا عند الشيخوخة ، وكذلك لا تعرف أولاده ويصير لهم اسم في الدنيا إلا بعد كبره وعلو سنه ، فإذا ماحيى له أثر إلا بعد أن مات له أثر ، وهو قوته ونشاطه وشبيبته ، ومثله قوله : " ولا يتجدد له جديد ، إلا بعد أن يخلق له جديد " .(9/92)
ثم قال : " ولا تقوم له نابتة إلا وتسقط منه محصودة " هذه إشارة إلى ذهاب الاباء عند حدوث أبنائهم في الاعم الاغلب ، ولهذا قال : " وقد مضت أصول نحن فروعها فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله " ، وقد نظر الشعراء إلى هذا المعنى ، فقالوا فيه وأكثروا ، نحو قول الشاعر : فإن أنت لم تصدقك نفسك فانتسب * لعلك تهديك القرون الاوائل (1) فإن لم تجد من دون عدنان والدا * ودون معد فلتزعك العواذل وقال الشاعر : فعددت آبائى إلى عرق الثرى * فد عوتهم فعلمت أن لم يسمعوا لابد من تلف مصيب فانتظر * أبأرض قومك أم بأخرى تصرع وقد صرح أبو العتاهية بالمعنى ، فقال : كل حياة إلى ممات * وكل ذى جدة يحول كيف بقاء الفروع يوما * وقد ذوت قبلها الاصول ! * * * الاصل : منها : وما أحدثت بدعة إلا ترك بها سنة ، فاتقوا البدع ، والزموا المهيع .
إن عوازم الامور أفضلها ، وإن محدثاتها شرارها .
__________
(1) للبيد ، ديوانه 2 : 27 ، 28 .
(*)(9/93)
الشرح : البدعة : كل ما أحدث مما لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ، فمنها الحسن كصلاة التراويح ، ومنها القبيح كالمنكرات التى ظهرت في أواخر الخلافة العثمانية ، وإن كانت قد (1) تكلفت الاعذار عنها .
ومعنى قوله عليه السلام : " ما أحدثت بدعة إلا ترك بها سنة " ، أن من السنة ألا تحدث البدعة ، فوجود البدعة عدم للسنة لا محالة .
والمهيع : الطريق الواضح ، من قولهم : أرض هيعة ، أي مبسوطة واسعة ، والميم مفتوحة وهى زائدة .
وعوازم الامور : ما تقادم منها ، من قولهم : عجوز عوزم أي مسنة ، قال الراجز : لقد غدوت خلق الثياب * أحمل عدلين من التراب (2) لعوزم وصبية سغاب * فآكل ولاحس وآبى ويجمع " فوعل " على فواعل ، كدورق ، وهو جل ، ويجوز أن يكون " عوازم " جمع عازمة ، ويكون فاعل بمعنى مفعول ، أي معزوم عليها ، أي مقطوع معلوم بيقين صحتها ، ومجئ " فاعلة " بمعنى " مفعولة " كثير ، كقولهم : عيشة راضية بمعنى مرضية ، والاول أظهر عندي ، لان في مقابلته قوله : " وإن محدثاتها شرارها " ، والمحدث في مقابلة القديم .
__________
(1) ساقطة من ا .
(2) اللسان 15 : 295 (عن الفراء) .
(*)(9/94)
(146) الاصل : ومن كلام له عليه السلام وقد استشاره عمر في الشخوص لقتال الفرس بنفسه : إن هذا الامر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلة وهو دين الله الذى أظهره ، وجنده الذى أعده وأمده ، حتى بلغ ما بلغ ، وطلع حيثما (1) طلع ، ونحن على موعود من الله ، والله منجز وعده ، وناصر جنده ، ومكان القيم بالامر مكان النظام من الخرز ، يجمعه ويضمه ، فإن انقطع النظام تفرق الخرز وذهب ، ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا .
والعرب اليوم وإن كانوا قليلا فهم كثيرون بالاسلام ، عزيزون بالاجتماع ، فكن قطبا واستدر الرحى بالعرب ، وأصلهم دونك نار الحرب ، فإنك إن شخصت من هذه الارض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها ، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك .
إن الاعاجم إن ينظروا إليك غدا يقولوا : هذا أصل العرب : فإذا اقتطعتموه استرحتم ، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك وطمعهم فيك .
فأما ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين ، فإن الله سبحانه هو أكره لمسيرهم منك ، وهو أقدر على تغيير ما يكره ، وأما ماذ كرت من عددهم فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة ، وإنما كنا نقاتل بالنصر والمعونة .
* * *
__________
(1) مخطوطة النهج : " حيث " .
(*)(9/95)
الشرح : نظام العقد : الخيط الجامع له ، وتقول : أخذته كله بحذافيره ، أي بأصله ، وأصل الحذافير أعالي الشئ ونواحيه ، الواحد حذفار .
وأاصلهم نار الحرب : اجعلهم صالين لها ، يقال : صليت اللحم وغيره أصليه صليا ، مثل رميته أرميه رميا ، إذا شويته ، وفى الحديث إنه صلى الله عليه وآله أتى بشاة مصلية (1) ، أي مشوية .
ويقال أيضا : صليت الرجل نارا إذا أدخلته النار وجعلته يصلاها ، فإن ألقيته فيها إلقاء كأنك تريد الاحراق قلت : أصليته بالالف ، وصليته تصلية ، وقرئ (ويصلى صعيرا) (2) ومن خفف فهو من قولهم : صلى فلان بالنار بالكسر يصلى صليا احترق ، قال الله تعالى : (هم أولى بها صليا) (3) ويقال أيضا : صلى فلان بالامر ، إذا قاسى حره وشدته ، قال الطهوى : ولا تبلى بسالتهم وإن هم * صلوا بالحرب حينا بعد حين (4) وعلى هذا الوجه يحمل كلام أمير المؤمنين عليه السلام وهو مجاز من الاحراق ، والشئ الموضوع لها هذا اللفظ حقيقة .
والعورات : الاحوال التى يخاف انتقاضها في ثغر أو حرب ، قال تعالى : (يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة) (5) .
والكلب : الشر والاذى .
* * * [ يوم القادسية ] واعلم أن هذا الكلام قد اختلف في الحال التى قاله فيها لعمر ، فقيل : قاله له في
__________
(1) النهاية لابن الاثير 2 : 273 .
(2) سورة الانشقاق 12 ، وهى قراءة الحرمين وابن عامر والكسائي .
تفسير القرطبى 19 : 270 .
(3) سورة مريم 70 .
(4) لابي الغول الطهوى ، الحماسة ، بشرح المرزوقى 1 : 41 .
(5) سورة الاحزاب 13 .
(*)(9/96)
غزاة القادسية ، وقيل في غزاة نهاوند .
وإلى هذا القول الاخير ذهب محمد بن جرير الطبري في " التاريخ الكبير " ، وإلى القول الاول ذهب المدائني في كتاب " الفتوح " ، ونحن نشير إلى ما جرى في هاتين الوقعتين إشارة خفيفة على مذهبنا في ذكر السير والايام .
فأما وقعة القادسية فكانت في سنة أربع عشرة للهجرة ، استشار عمر المسلمين في أمر القادسية ، فأشار عليه على بن أبى طالب في رواية أبى الحسن على بن محمد بن سيف المدائني ألا يخرج بنفسه ، وقال : إنك إن تخرج لا يكن للعجم همه إلا استئصالك ، لعلمهم أنك قطب رحا العرب ، فلا يكون للاسلام بعدها دولة .
وأشار عليه غيره من الناس أن يخرج بنفسه ، فأخذ برأى على عليه السلام .
وروى غير المدائني أن هذا الرأى أشار به عبد الرحمن بن عوف ، قال أبو جعفر محمد ابن جرير الطبري : لما بدا لعمر في المقام بعد أن كان عزم على الشخوص بنفسه ، أمر سعد بن أبى وقاص على المسلمين ، وبعث يزدجرد رستم الارمني أميرا على الفرس ، فأرسل سعد النعمان بن مقرن رسولا إلى يزدجرد ، فدخل عليه ، وكلمه بكلام غليظ ، فقال يزدجرد : لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتك ، ثم حمله وقرا من تراب على رأسه ، وساقه حتى أخرجه من باب من أبواب المدائن ، وقال : ارجع إلى صاحبك ، فقد كتبت إلى رستم أن يدفنه وجنده من العرب في خندق القادسية ، ثم لاشغلن العرب بعدها بأنفسهم ، ولاصيبنهم بأشد مما أصابهم به سابور ذو الاكتاف .
فرجع النعمان إلى سعد فأخبره ، فقال : لا تخف ، فإن الله قد ملكنا أرضهم تفاؤلا بالتراب .
قال أبو جعفر : وتثبط رستم عن القتال وكرهه ، وآثر المسالمة ، واستعجله يزدجرد مرارا ، واستحثه على الحرب ، وهو يدافع بها ، ويرى المطاولة .
وكان عسكره مائة وعشرين ألفا (7 - نهج - 9)(9/97)
وكان عسكر سعد بضعا وثلاثين ألفا ، وأقام رستم بريدا من الرجال ، الواحد منهم إلى جانب الاخر ، من القادسية إلى المدائن ، كلما تكلم رستم كلمة أداها بعضهم إلى بعض ، حتى تصل إلى سمع يزدجرد في وقتها ، وشهد وقعة القادسية مع المسلمين طليحة بن خويلد ، وعمرو بن معديكرب ، والشماخ بن ضرار ، وعبدة بن الطبيب الشاعر ، وأوس بن معن الشاعر وقاموا في الناس ينشدونهم الشعر ويحرضونهم ، وقرن أهل فارس أنفسهم بالسلاسل لئلا يهربوا ، فكان المقرنون منهم نحو ثلاثين ألفا ، والتحم الفريقان في اليوم الاول ، فحملت الفيلة التى مع رستم على الخيل فطحنتها ، وثيت لها جمع من الرجالة ، وكانت ثلاثة وثلاثين فيلا ، منها فيل الملك ، وكان أبيض عظيما ، فضربت الرجال خراطيم الفيلة بالسيوف فقطعتها ، وارتفع عواؤها وأصيب في هذا اليوم - وهو اليوم الاول - خمسمائة من المسلمين ، وألفان من الفرس .
ووصل في الثاني أبو عبيدة بن الجراح من الشام في عساكر من المسلمين ، فكان مددا لسعد ، وكان هذا اليوم على الفرس أشد من اليوم الاول قتل من المسلمين ألفان ، ومن المشركين عشرة آلاف .
وأصبحوا في اليوم الثالث على القتال ، وكان عظيما على العرب والعجم معا ، وصبر الفريقان ، وقامت الحرب ذلك اليوم ، وتلك الليلة جمعاء لا ينطقون ، كلامهم الهرير ، فسميت ليلة الهرير .
وانقطعت الاخبار والاصوات عن سعد ورستم ، وانقطع سعد إلى الصلاة والدعاء والبكاء ، وأصبح الناس حسرى لم يغمضوا ليلتهم كلها ، والحرب قائمة بعد إلى وقت الظهر ، فأرسل الله تعالى ريحا عاصفا في اليوم الرابع ، أمالت الغبار والنقع على العجم ، فانكسروا ، ووصلت العرب إلى سرير رستم ، وقد قام عنه ليركب جملا ، وعلى رأسه العلم فضرب هلال بن علقمة الحمل الذى رستم فوقه ، فقطع حباله ، ووقع على هلال أحد العدلين ، فأزال فقار ظهره ، ومضى رستم نحو العتيق ، فرمى نفسه فيه ، واقتحم هلال عليه ، فأخذ(9/98)
برجله ، وخرج به يجره حتى ألقاه تحت أرجل الخيل ، وقد قتله وصعد السرير ، فنادى : أنا هلال ، أنا قاتل رستم ، فانهزمت الفرس ، وتهافتوا (1) في العقيق ، فقتل منهم نحو ثلاثين ألفا ، ونهبت أموالهم وأسلابهم ، وكانت عظيمة جدا ، وأخذت العرب منهم كافورا كثيرا ، فلم يعبئوا به ، لانهم لم يعرفوه ، وباعوه من قوم بملح ، كيلا بكيل ، وسروا بذلك وقالوا : أخذنا منهم ملحا طيبا ، ودفعنا إليهم ملحا غير طيب ، وأصابوا من الجامات من الذهب والفضة مالا يقع عليه العد لكثرته ، فكان الرجل منهم يعرض جامين من ذهب على صاحبه ، ليأخذ منه جاما واحدا من فضة يعجبه بياضها ويقول : من يأخذ صفراوين ببيضاء ! وبعث سعد بالانفال والغنائم إلى عمر ، فكتب إلى سعد : لا تتبع الفرس وقف مكانك واتخذه منزلا .
فنزل موضع الكوفة اليوم واختط مسجدها ، وبنى فيها الخطط للعرب .
* * * [ يوم نهاوند ] فأما وقعة نهاوند ، فإن أبا جعفر محمد بن جرير الطبري ذكر في كتاب التاريخ (2) ، أن عمر لما أراد أن يغزو العجم وجيوش كسرى وهى مجتمعة بنهاوند ، استشار الصحابة ، فقام عثمان فتشهد ، فقال : أرى يا أمير المؤمنين أن تكتب إلى أهل الشام فيسيروا من شامهم ، وتكتب إلى أهل اليمن فيسيروا من يمنهم ، ثم تسير أنت بأهل هذين الحرمين إلى المصرين : البصرة والكوفة ، فتلقى جمع المشركين بجمع المسلمين ، فإنك إذا سرت
__________
(1) تهافت على الشئ : تساقط وتتابع ، وأكثر اسنعماله في الشعر .
(2) تاريخه 4 : 237 وما بعدها (المطبعة الحسينية) .
(*)(9/99)
بمن معك ومن عندك ، قل في نفسك ما تكاثر من عدد القوم ، وكنت أعز عزا وأكثر ، إنك لا تستبقي من نفسك بعد اليوم (1) باقية ، ولا تمتع من الدنيا بعزيز ، ولا تكون منها في حرز حريز .
إن هذا اليوم له ما بعده ، فاشهد بنفسك ورأيك وأعوانك ، ولا تغب عنه .
قال أبو جعفر : وقام طلحة ، فقال : أما بعد يا أمير المؤمنين ، فقد أحكمتك الامور ، وعجمتك البلايا ، وحنكتك (2) التجارب ، وأنت وشأنك ، وأنت ورأيك ، لاننبو في يديك ، ولا نكل أمرنا إلا إليك ، فأمرنا نجب ، وادعنا نطع ، واحملنا نركب ، وقدنا ننقد ، فإنك ولى هذا الامر ، وقد بلوت وجربت واختبرت ، فلم ينكشف شئ من عواقب الامور لك إلا عن خيار .
فقال على بن أبى طالب عليه السلام : أما بعد ، فإن هذا الامر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلة ، إنما هو دين الله الذى أظهره ، وجنده الذى أعزه وأمده بالملائكة ، حتى بلغ ما بلغ ، فنحن على موعود من الله ، والله منجز وعده ، وناصر جنده ، وإن مكانك منهم مكان النظام من الخرز ، يجمعه ويمسكه ، فأن انحل تفرق ما فيه وذهب ، ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا ، والعرب اليوم وإن كانوا قليلا ، فإنهم كثير عزيز بالاسلام ، أقم مكانك ، واكتب إلى أهل الكوفة ، فإنهم أعلام العرب ورؤساؤهم ، وليشخص منهم الثلثان ، وليقم الثلث ، واكتب إلى أهل البصرة أن يمدوهم ببعض من عندهم ، ولا تشخص الشام ولا اليمن ، إنك إن أشخصت أهل الشام من شامهم ، سارت الروم إلى ذراريهم ، وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة إلى ذراريهم ، ومتى شخصت من هذه الارض انتقضت عليك العرب من أقطارها وأطرافها ، حتى يكون ما تدع وراءك أهم إليك مما بين يديك من العورات والعيالات .
إن الاعاجم إن ينظروا
__________
(1) الطبري : " العرب " .
(2) الطبري : " واحتنكتك " .
(*)(9/100)
إليك غدا قالوا : هذا أمير العرب وأصلهم ، فكان ذلك أشد لكلبهم عليك .
وأما ما ذكرت من مسير القوم ، فإن الله هو أكره ليرهم منك ، وهو أقدر على تغيير ما يكره ، وأما ما ذكرت من عددهم فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة ، وإنما كنا نقاتل بالصبر والنصر .
فقال عمر : أجل ! هذا الرأى ، وقد كنت أحب أن أتابع عليه ، فأشيروا على برجل أوليه ذلك الثغر .
قالوا : أنت أفضل رأيا ، فقال : أشيروا على به ، واجعلوه عراقيا ، قالوا : أنت أعلم بأهل العراق ، وقد وفدوا عليك ، فرأيتهم وكلمتهم .
قال : أما والله لاولين أمرهم رجلا يكون عمدا لاول الاسنة ، قيل : ومن هو يا أمير المؤمنين ؟ قال : النعمان بن مقرن ، قالوا : هو لها .
وكان النعمان يومئذ بالبصرة ، فكتب إليه عمر ، فولاه أمر الجيش .
قال أبو جعفر : كتب إليه عمر : سر إلى نهاوند ، فقد وليتك حرب الفيروزان - وكان المقدم على جيوش كسرى - فإن حدث بك حدث فعلى الناس حذيفة بن اليمان ، فإن حدث به حدث ، فعلى الناس نعيم بن مقرن ، فإن فتح الله عليكم فاقسم على الناس ما أفاء الله عليهم ، ولا ترفع إلى منه شيئا ، وإن نكث القوم فلا تراني ولا أراك ، وقد جعلت معك طليحة بن خويلد ، وعمرو بن معد يكرب ، لعلمهما بالحرب ، فاستشرهما ولا تولهما شيئا .
قال أبو جعفر : فسار النعمان بالعرب حتى وافى نهاوند ، وذلك في السنة السابعة من خلافة عمر ، وتراءى الجمعان ، ونشب القتال ، وحجزهم المسلمون في خنادقهم ، واعتصموا بالحصون والمدن ، وشق على المسلمين ذلك ، فأشار طليحة عليه ، فقال : أرى أن تبعث خيلا ببعض القوم وتحمشهم (1) ، فإذا استحمشوا خرج بعضهم ، واختلطوا بكم
__________
(1) تحمشهم : تهيجهم .
(*)(9/101)
فاستطردوا لهم ، فإنهم يطمعون بذلك ، ثم تعطف عليهم حتى يقضى الله بيننا وبينهم بما يحب .
ففعل النعمان ذلك ، فكان كما ظن طليحة ، وانقطع العجم عن حصونهم بعض الانقطاع ، فلما أمعنوا في الانكشاف للمسلمين حمل النعمان بالناس ، فاقتتلوا قتالا شديدا لم يسمع السامعون مثله ، وزلق بالنعمان فرسه فصرع وأصيب ، وتناول الراية نعيم أخوه ، فأتى حذيفة لها فدفعها إليه ، وكتم المسلمون مصاب أميرهم ، واقتتلوا حتى أظلم الليل ، ورجعوا والمسلمون وراءهم ، فعمى عليهم قصدهم فتركوه ، وغشيهم المسلمون بالسيوف ، فقتلوا منهم مالا يحصى ، وأدرك المسلمون الفيروزان وهو هارب ، وقد انتهى إلى ثنية مشحونة (1) ببغال موقرة عسلا ، فحبسته على أجله ، فقتل ، فقال المسلمون : إن لله جنودا من عسل .
ودخل المسلمون نهاوند فاحتووا على ما فيها ، وكانت أنفال هذا اليوم عظيمة ، فحملت إلى عمر ، فلما رآها بكى ، فقال له المسلمون : إن هذا اليوم يوم سرور وجذل ، فما بكاؤك ؟ قال : ما أظن أن الله تعالى زوى (2) هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أبى بكر إلا لخير أراده بهما ، ولا أراه فتحه على إلا لشر أريد بى ، إن هذا المال لا يلبث أن يفتن الناس .
ثم رفع يده إلى السماء يدعو ويقول : اللهم اعصمني ولا تكلني إلى نفسي ، يقولها مرارا ، ثم قسمه بين المسلمين عن آخره .
__________
(1) يقال : شحن المدينة بالخيل أو البغال ، إذا ملاها .
(2) زوى : منع وصرف .
(*)(9/102)
(147) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : فبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق ، ليخرج عباده من عبادة الاوثان إلى عبادته ، ومن طاعة الشيطان إلى طاعته ، بقرآن قد بينه وأحكمه ، ليعلم العباد ربهم إذ جهلوه ، وليقروا به بعد إذ جحدوه ، وليثبتوه بعد إذ أنكروه ، فتجلى لهم سبحانه في كتابه من غير أن يكونوا رأوه بما أراهم من قدرته ، وخوفهم من سطوته .
وكيف محق من محق بالمثلات ، واحتصد من احتصد بالنقمات ! * * * الشرح : الاوثان : جمع وثن ، وهو الصنم ، ويجمع أيضا على وثن ، مثل أسد وآساد وأسد ، وسمى وثنا لانتصابه وبقائه على حال واحدة ، من قولك : وثن فلان بالمكان ، فهو واثن ، وهو الثابت الدائم .
قوله : " فتجلى سبحانه لهم " ، أي ظهر من غير أن يرى بالبصر ، بل بما نبههم عليه في القرآن من قصص الاولين ، وما حل بهم من النقمة عند مخالفة الرسل .
والمثلات ، بضم الثاء : العقوبات .
فإن قلت : ظاهر هذا الكلام أن الرسول عليه الصلاة والسلام بعث إلى الناس ليقروا بالصانع ويثبتوه ، وهذا خلاف قول المعتزلة ، لان فائدة الرسالة عندهم هي إلطاف(9/103)
المكلفين بالاحكام الشرعية المقربة إلى الواجبات العقلية ، والمبعدة من المقبحات العقلية ، ولا مدخل للرسول في معرفة البارئ سبحانه ، لان العقل يوجبها ، وإن لم يبعث الرسل ! قلت : إن كثيرا من شيوخنا أوجبوا بعثه الرسل ، إذا كان في حثهم المكلفين على مافى العقول فائدة ، وهو مذهب شيخنا أبى على رحمه الله ، فلا يمتنع أن يكون إرسال محمد صلى الله عليه وآله إلى العرب وغيرهم ، لان الله تعالى علم أنهم مع تنبيهه إياهم - على ما هو واجب في عقولهم من المعرفة - أقرب إلى حصول المعرفة ، فحينئذ يكون بعثه لطفا ، ويستقيم كلام أمير المؤمنين .
* * * الاصل : وإنه سيأتي عليكم من بعدى زمان ليس فيه شئ أخفى من الحق ، ولا أظهر من الباطل ، ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله ، وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلى حق تلاوته ، ولا أنفق منه إذا حرف عن مواضعه ، ولا في البلاد شئ أنكر من المعروف ، ولا أعرف من المنكر ، فقد نبذ الكتاب حملته ، وتناساه حفظته ، فالكتاب يومئذ وأهله طريدان منفيان ، وصاحبان مصطحبان ، في طريق واحد لا يؤويهما مؤو ، فالكتاب وأهله في ذلك الزمان في الناس وليسا فيهم ومعهم وليسا معهم لان الضلالة لا توافق الهدى وإن اجتمعا .
فاجتمع القوم على الفرقة ، وافترقوا عن الجماعة ، كأنهم أئمة الكتاب ، وليس الكتاب إمامهم ، فلم يبق عندهم منه إلا اسمه ، ولا يعرفون إلا خطه وزبره ، ومن قبل ما مثلوا بالصالحين كل مثلة ، وسموا صدقهم على الله فرية ، وجعلوا في الحسنة عقوبة السيئة ، وإنما هلك(9/104)
من كان قبلكم بطول آمالهم ، وتغيب آجالهم ، حتى نزل بهم الموعود الذى ترد عنه المعذرة ، وترفع عنه التوبة ، وتحل معه القارعة والنقمة .
* * * الشرح : أخبر عليه السلام أنه سيأتي على الناس زمان من صفته كذا وكذا ، وقد رأيناه ورآه من كان قبلنا أيضا ، قال شعبة إمام المحدثين : تسعة أعشار الحديث كذب .
وقال الدارقطني : ما الحديث الصحيح في الحديث إلا كالشعرة البيضاء في الثور الاسود .
وأما غلبة الباطل على الحق حتى يخفى الحق عنده فظاهرة .
وأبور : أفسد ، من بار الشئ ، أي هلك .
والسلعة : المتاع ، ونبذ الكتاب : ألقاه ولا يؤويهما : لا يضمهما إليه ، وينزلهما عنده .
والزبر : مصدر زبرت أزبر بالضم ، أي كتبت ، وجاء يزبر بالكسر ، والزبر بالكسر : الكتاب وجمعه زبور ، مثل قدر وقدور ، وقرأ بعضهم : (وآتينا داود زبورا) (1) ، أي كتبا .
والزبور ، بفتح الزاى : الكتاب المزبور ، فعول بمعنى مفعول ، وقال الاصمعي : سمعت أعرابيا يقول : أنا اعرف بزبرتى (2) أي خطى وكتابتي .
ومثلوا بالصالحين ، بالتخفيف : نكلوا بهم ، مثلت بفلان أمثل بالضم مثلا بالفتح وسكون الثاء ، والاسم المثلة بالضم ، ومن روى " مثلوا " بالتشديد ، أراد جدعوهم بعد قتلهم .
و " على " في قوله : " وسموا صدقهم على الله فرية " ، ليست متعلقة بصدقهم ، بل بفرية ،
__________
(1) سورة الاسراء 55 .
(2) الصحاح 2 : 667 .
*)(9/105)
أي وسموا صدقهم فرية على الله ، فإن امتنع ان يتعلق حرف الجر به لتقدمه عليه ، وهو مصدر ، فليكن متعلقا بفعل مقدر دل عليه هذا المصدر الظاهر .
وروى : وجعلوا في الحسنة العقوبة السيئة " والرواية الاولى بالاضافة أكثر وأحسن .
ولموعود هاهنا : الموت .
والقارعة : المصيبة تقرع ، أي تلقى بشدة وقوة .
* * * الاصل : أيها الناس ، إنه من استنصح الله وفق ، ومن اتخذ قوله دليلا هدى للتى هي أقوم ، فإن جار الله آمن ، وعدوه خائف .
وإنه لا ينبغى لمن عرف عظمة الله أن يتعظم ، فإن رفعة الذين يعلمون ما عظمته أن يتواضعوا له ، وسلامة الذين يعلمون ما قدرته أن يستسلموا له .
فلا تنفروا من الحق نفار الصحيح من الاجرب ، والبارئ من ذى السقم .
واعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذى تركه ، ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذى نقضه ، ولن تمسكوا به حتى تعرفوا الذى نبذه .
فالتمسوا ذلك من عند أهله ، فإنهم عيش العلم ، وموت الجهل ، هم الذين يخبركم حكمهم عن علمهم ، وصمتهم عن منطقهم ، وظاهرهم عن باطنهم ، لا يخالفون الدين ولا يختلفون فيه ، فهو بينهم شاهد صادق ، وصامت ناطق .
* * * الشرح : من استنصح الله : من أطاع أوامره وعلم أنه يهديه إلى مصالحه ، ويرده عن مفاسده ويرشده إلى ما فيه نجاته ، ويصرفه عما فيه عطبه .(9/106)
والتى هي أقوم : يعنى الحالة والخلة التى اتباعها أقوم ، وهذا من الالفاظ القرآنية ، قال سبحانه : (إن هذا القرآن يهدى للتى هي أقوم) (1) .
والمراد بتلك الحالة المعرفة بالله وتوحيده ووعد له .
ثم نهى عليه السلام عن التكبر والتعظم وقال : إن رفعة القوم الذين يعرفون عظمة الله أن يتواضعوا له .
وما هاهنا ، بمعنى أي شئ ومن روى بالنصب جعلها زائدة .
وقد ورد في ذم التعظم والتكبر ما يطول استقصاؤه ، وهو مذموم على العباد ، فكيف بمن يتعظم على الخالق سبحانه وإنه لمن الهالكين ! وقال رسول الله صلى الله عليه وآله لما افتخر : " أنا سيد ولد آدم " ، ثم قال : " ولا فخر " ، فجهر بلفظة الافتخار ، ثم أسقط استطالة الكبر ، وإنما جهر بما جهر به ، لانه أقامه مقام شكر النعمة والتحدث بها ، وفى الحديث المرفوع عنه صلى الله عليه وآله : " إن الله قد أذهب عنكم حمية الجاهلية وفخرها بالاباء ، الناس بنو آدم وآدم من تراب ، مؤمن تقى ، وفاجر شقى .
لينتهين أقوام يفخرون برجال ، إنما هم فحم من فحم جهنم ، أوليكونن أهون على الله من جعلان تدفع النتن بأفها " .
قوله : " واعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذى تركه " ، فيه تنبيه على أنه يجب البراءة من أهل الضلال ، وهو قول أصحابنا جميعهم ، فإنهم بين مكفر لمن خالف أصول التوحيد والعدل - وهم الاكثرون - أو مفسق ، وهم الاقلون ، وليس أحد منهم معذورا عند أصحابنا وان ضل بعد النظر ، كمالا تعذر اليهود والنصارى إذا ضلوا بعد النظر .
ثم قال عليه السلام : " فالتمسوا ذلك عند أهله " ، هذا كناية عنه عليه السلام ، وكثيرا ما يسلك هذا المسلك ، ويعرض هذا التعريض ، وهو الصادق الامين العارف بأسرار الالهية .
__________
(1) سورة الاسراء 9 .
(*)(9/107)
ثم ذكر أن هؤلاء الذين أمر باتباعهم ينبئ حكمهم عن علمهم ، وذلك لان الامتحان يظهر خبيئة الانسان .
ثم قال : " وصمتهم عن نطقهم " ، صمت العارف أبلغ من نطق غيره ، ولا يخفى فضل الفاضل وإن كان صامتا .
ثم ذكر أنهم لا يخالفون الدين لانهم قوامه وأربابه ، ولا يختلفون فيه ، لان الحق في التوحيد والعدل واحد ، فالدين بينهم شاهد صادق يأخذون بحكمه ، كما يؤخذ بحكم الشاهد الصادق .
وصامت ناطق ، لانه لا ينطق بنفسه بل لا بد له من مترجم ، فهو صامت في الصورة ، وهو في المعنى أنطق الناطقين ، لان الاوامر والنواهي والاداب كلها مبنية عليه ومتفرعة عليه .(9/108)
(148) ومن كلام له عليه السلام في ذكر أهل البصرة : كل واحد منهما يرجو الامر له ، ويعطفه عليه دون صاحبه ، لا يمتان إلى الله بحبل ، ولا يمدان إليه بسبب .
كل واحد منهما حامل ضب لصاحبه ، وعما قليل يكشف قناعه به .
والله لئن أصابوا الذى يريدون لينتزعن هذا نفس هذا ، وليأتين هذا على هذا .
قد قامت الفئة الباغية فأين المحتسبون ! قد سنت لهم السنن ، وقدم لهم الخبر ، ولكل ضلة علة ، ولكل ناكث شبهة .
والله لا أكون كمستمع اللدم ، يسمع الناعي ، ويحضر الباكى ، ثم لا يعتبر .
* * * الشرح : ضمير التثنية راجع إلى طلحة والزبير رضى الله عنهما .
ويمتان : يتوسلان ، الماضي ثلاثى ، مت يمت بالضم .
والضب : الحقد .
والمحتسبون : طالبو الحسبة ، وهى الاجر .
ومستمع اللدم كناية عن الضبع ، تسمع وقع الحجر بباب جحرها من يد الصائد فتنخذل وتكف(9/109)
جوارحها إليها حتى يدخل عليها فيربطها ، يقول : لا أكون مقرا بالضيم راغنا (1) ، أسمع الناعي المخبر عن قتل عسكر الجمل لحكيم بن جبلة وأتباعه ، فلا يكون عندي من التغيير والانكار لذلك ، إلا أن أسمعه وأحضر الباكين على قتلاهم .
وقوله : " لكل ضلة علة ، ولكل ناكث شبهة " ، هو جواب سؤال مقدر ، كأنه يقول : إن قيل : لاى سبب خرج هؤلاء ؟ فإنه لابد أن يكون لهم تأويل في خروجهم ، وقد قيل : إنهم يطلبون بدم عثمان ، فهو عليه السلام قال : كل ضلالة فلابد لها من علة اقتضتها ، وكل ناكث فلابد له من شبهة يستند إليها .
وقوله : " لينتزعن هذا نفس هذا " قول صحيح لا ريب فيه ، لان الرياسة لا يمكن أن يدبرها اثنان معا ، فلو صح لهما ما أراداه لوثب حدهما على الاخر فقتله ، فإن الملك عقيم ، وقد ذكر أرباب السيرة أن الرجلين اختلفا من قبل وقوع الحرب ، فإنهما اختلفا في الصلاة ، فأقامت عائشة محمد بن طلحة وعبد الله بن الزبير ، يصلى هذا يوما ، وهذا يوما ، إلى أن تنقضي الحرب .
ثم إن عبد الله بن الزبير ادعى أن عثمان نص عليه بالخلافة يوم الدار ، واحتج في ذلك بأنه استخلفه على الصلاة ، واحتج تارة أخرى بنص صريح زعمه وادعاه ، وطلب طلحة من عائشة أن يسلم الناس عليه بالامرة ، وأدلى إليها بالتيمية ، وأدلى الزبير إليها بأسماء أختها ، فأمرت الناس أن يسلموا عليهما معا بالامرة .
واختلفا في تولى القتال ، فطلبه كل منهما أولا ، ثم نكل كل منهما عنه وتفادى (2) منه .
وقد ذكرنا في الاجزاء المتقدمة قطعة صالحة من أخبار الجمل .
__________
(1) يقال : رغن إليه ، إذا أصغى .
(2) تفادى منه : تحاماه .
(*)(9/110)
[ من أخبار يوم الجمل ] وروى أبو مخنف ، قال : لما تزاحف الناس يوم الجمل والتقوا ، قال على عليه السلام لاصحابه : لا يرمين رجل منكم بسهم ، ولا يطعن أحدكم فيهم برمح ، حتى أحدث إليكم ، وحتى يبدءوكم بالقتال وبالقتل .
فرمى أصحاب الجمل عسكر على عليه السلام بالنبل رميا شديدا متتابعا ، فضج إليه أصحابه ، وقالوا : عقرتنا سهامهم يا أمير المؤمنين .
وجئ برجل إليه ، وإنه لفى فسطاط له صغير ، فقيل له : هذا فلان قد قتل .
فقال : اللهم اشهد ، ثم قال : أعذروا إلى القوم ، فأتى برجل آخر فقيل : وهذا قد قتل ، فقال : اللهم اشهد ، أعذروا إلى القوم ، ثم أقبل عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعى ، وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ، يحمل أخاه عبد الرحمن بن بديل ، قد أصابه سهم فقتله ، فوضعه بين يدى على عليه السلام ، وقال : يا أمير المؤمنين ، هذا أخى قد قتل ، فعند ذلك استرجع على عليه السلام ، ودعا بدرع رسول الله صلى الله عليه وآله ذات الفضول فلبسها ، فتدلت بطنه فرفعها بيده ، وقال لبعض أهله ، فحزم وسطه بعمامة ، وتقلد ذاالفقار ، ودفع إلى ابنه محمد راية رسول الله صلى الله عليه وآله السوداء ، وتعرف بالعقاب ، وقال لحسن وحسين عليهما السلام : إنما دفعت الراية إلى أخيكما .
وتركتكما لمكانكما من رسول الله صلى الله عليه وسلم * * * قال أبو مخنف : وطاف على عليه السلام على أصحابه ، وهو يقرأ : (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصرالله ألا إن نصر الله قريب) (1)
__________
(1) سورة البقرة 214 .
(*)(9/111)
ثم قال : أفرغ الله علينا وعليكم الصبر ، وأعز لنا ولكم النصر ، وكان لنا ولكم ظهيرا في كل أمر .
ثم رفع مصحفا بيده ، فقال : من يأخذ هذا المصحف ، فيدعوهم إلى ما فيه ، وله الجنة ؟ فقام غلام شاب اسمه مسلم ، عليه قباء أبيض ، فقال : أنا آخذه ، فنظر إليه على وقال : يافتى إن أخذته ، فإن يدك اليمنى تقطع ، فتأخذه بيدك اليسرى فتقطع ، ثم تضرب بالسيف حتى تقتل .
فقال الغلام : لا صبر لي على ذلك ، فنادى على ثانية ، فقام الغلام ، وأعاد عليه القول ، وأعاد الغلام القول مرارا ، حتى قال الغلام : أنا آخذه ، وهذا الذى ذكرت في الله قليل ، فأخذه وانطلق ، فلما خالطهم ناداهم : هذا كتاب الله بيننا وبينكم .
فضربه رجل فقطع يده اليمنى ، فتناوله باليسرى فضربه أخرى فقطع اليسرى ، فاحتضنه فضربوه بأسيافهم ، حتى قتل فقالت أم ذريح العبدية في ذلك (1) : يا رب إن مسلما أتاهم (2) * بمصحف أرسله مولاهم للعدل والايمان قد دعاهم * يتلو كتاب الله لا يخشاهم فخضبوا من دمه ظباهم (3) * وأمهم واقفة تراهم (4) * تأمرهم بالغى لا تنهاهم (5) * قال أبو مخنف : فعند ذلك أمر على عليه السلام ولده محمدا أن يحمل الراية ، فحمل وحمل معه الناس ، واستحر القتل في الفريقين وقامت الحرب على ساق .
* * *
__________
(1) الابيات والخبر في تاريخ الطبري (حوادث سنة 36) مع اختلاف في الرواية وترتيب الابيات .
(2) في الطبري : " لاهم إن مسلما دعاهم " .
(3) الطبري : " قد خضبت من علق لحاهم " .
(4) الطبري : " وأمهم قائمة " .
(5) الطبري : " يأتمرون الغى " .
(*)(9/112)
[ مقتل طلحة والزبير ] قال : فأما طلحة ، فإن أهل الجمل لما تضعضعوا قال مروان : لاأطلب ثار عثمان من طلحة بعد اليوم " فانتحى له بسهم فأصاب ساقه ، فقطع أكحله (1) ، فجعل الدم يبض (2) ، فاستدعى من مولى له بغلة ، فركبها وأدبر ، وقال لمولاه : ويحك ! أما من مكان أقدر فيه على النزول ، فقد قتلني الدم ! فيقول له مولاه : انحج ، وإلا لحقك القوم ، فقال : بالله (3) ما رأيت مصرع شيخ أضيع من مصرعي هذا ! حتى انتهى إلى دار من دور البصرة ، فنزلها ومات بها .
وقد روى أنه رمى قبل أن يرميه مروان ، وجرح في غير موضع من جسده .
وروى أبو الحسن المدائني أن عليا عليه السلام مربطلحة ، وهو يكيد (4) بنفسه ، فوقف عليه وقال : أما والله إن كنت لابغض أن أراكم مصرعين في البلاد ، ولكن ماحتم واقع ، ثم تمثل : وما تدرى إذا أزمعت أمرا * بأى الارض يدركك المقيل (5) وما يدرى الفقير متى غناه * ولا يدرى الغنى متى يعيل ! (6) الاكحل : عرق في الذراع .
(2) يبض : يسيل قليلا قليلا .
(3) ا ، ح د : " تالله " .
(4) يقال : هو يكيد بنفسه ، أي بجود بها ، وفى الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على سعد ابن معاذ ، وهو يكيد بنفسه ، فقال : جزاك الله من سيد قوم ، فقد صدقت الله ما وعدته ، وهو صادقك ما وعدك " .
(5) من أبيات في اللسان (عيل) ونسبها إلى أحيحة ، والبيت الاول في الاغانى 21 : 106 (من غير نسبة) .
(6) يعيل : يفتقر .
(8 - نهج 9 0) (*)(9/113)
وما تدرى إذا ألقحت شولا (1) * أتنتج بعد ذلك أم تحيل (2) * * * وأما الزبير فقتله ابن جرموز غيلة بوادي السباع ، وهو منصرف عن الحرب ، نادم على ما فرط منه ، وتقدم ذكر كيفية قتله فيما سبق .
وروى الكلبى ، قال : كان العرق الذى أصابه السهم إذا أمسكه طلحة بيده استمسك ، وإذا رفع يده عنه سال ، فقال طلحة : هذا سهم أرسله الله تعالى ، وكان أمر الله قدرا مقدورا ، ما رأيت كاليوم دم قرشي أضيع ! قال : وكان الحسن البصري إذا سمع هذا وحكى له ، يقول : ذق عقعق (3) ! وروى أبو مخنف ، عن عبد الله بن عون ، عن نافع ، قال : سمعت مروان بن الحكم يقول : أنا قتلت طلحة .
وقال أبو مخنف : وقد قال عبد الملك بن مروان : لو لا أن أبى أخبرني أنه رمى طلحة فقتله ، ما تركت تيميا إلا قتلته بعثمان .
قال : يعنى أن محمد بن أبى بكر وطلحة قتلاه ، وكانا تيميين .
قال أبو مخنف : وحدثنا عبد الرحمن بن جندب ، عن أبيه جندب بن عبد الله ، قال : مررت بطلحة ، وإن معه عصابة يقاتل بهم ، وقد فشت فيهم الجراح ، وكثرهم الناس ، فرأيته جريحا ، والسيف في يده ، وأصحابه يتصدعون (4) عنه رجلا فرجلا ، واثنين فاثنين ، وأنا أسمعه ، وهو يقول : عباد الله ، الصبر الصبر ، فإن بعد الصبر النصر والاجر ،
__________
(1) الشول من النوق : التى خف لبنها وارتفع ضرعها ، وأتى عليها سبعة أشهر من يوم نتاجها ، فلم يبق في ضروعها إلا شوال من اللبن أو بقية .
(2) تحيل : لم تلقح .
(3) العقعق ، كثعلب : طائر على قدر الحمامة ، على شكل الغراب ، وجناحاه أكبر من جناحى الحمامة ، والعرب تضرب ب المثل فيما لا يحمد .
(4) يتصدعون : يتفرقون ، وفى د " ينصدعون " .
(*)(9/114)
فقلت له : النجاء النجاء ! ثكلتك أمك ! فوالله ما أجرت ولا نصرت ، ولكنك وزرت وخسرت ، ثم صحت بأصحابه ، فانذعروا عنه ، ولو شئت أن أطعنه لطعنته ، فقلت له : أما والله لو شئت لجدلتك في هذا الصعيد (1) ، فقال : والله لهلكت هلاك الدنيا والاخرة إذن ! فقلت له : والله لقد أمسيت وإن دمك لحلال ، وإنك لمن النادمين .
فانصرف ومعه ثلاثة نفر ، وما أدرى كيف كان أمره إلا أنى أعلم أنه قد هلك .
وروى أن طلحة قال ذلك اليوم : ما كنت أظن أن هذه الاية نزلت فينا : (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) (2) .
وروى المدائني ، قال : لما أدبر طلحة وهو جريح يرتاد مكانا ينزله (3) ، جعل يقول لمن يمر به من أصحاب على عليه السلام : أنا طلحة ، من يجيرني ! يكررها .
قال : فكان الحسن البصري إذا ذكر ذلك يقول : لقد كان في جوار عريض .
__________
(1) الصعيد : التراب .
(2) سورة الانفال 25 .
(3) ب : " يرتاد منزله " .
(*)(9/115)
(149) الاصل : ومن كلام له عليه السلام قبل موته : أيها الناس ، كل امرئ لاق مايفر منه في فراره .
الاجل مساق النفس ، والهرب منه موافاته .
كم أطردت الايام أبحثها عن مكنون هذا الامر ، فأبى الله إلا إخفاءه .
هيهات ! علم مخزون .
أما وصيتى فالله لا تشركوا به شيئا ، ومحمدا صلى الله عليه وسلم فلا تضيعوا سنته ، أقيموا هذين العمودين ، وأوقدوا هذين المصباحين ، وخلاكم ذم ما لم تشردوا .
حمل كل امرئ منكم مجهوده ، وخفف عن الجهلة ، رب رحيم ، ودين قويم ، وإمام عليم .
أنا بالامس صاحبكم ، وأنا اليوم عبرة لكم ، وغدا مفارقكم ! غفر الله لى ولكم ! إن ثبتت الوطأة في هذه المزلة فذاك ، وإن تدحض القدم ، فإنا كنا في أفياء أغصان ، ومهب رياح ، وتحت ظل غمام .
اضمحل في الجو متلفقها ، وعفا في الارض مخطها ، وإنما كنت جارا جاوركم بدنى أياما ، وستعقبون منى جثة خلاء ، ساكنة بعد حراك ، وصامتة بعد نطق .
ليعظكم هدوى ، وخفوت إطراقى ، وسكون أطرافي ة فإنه أوعظ للمعتبرين من المنطق البليغ ، والقول المسموع .(9/116)
وداعي لكم وداع امرئ مرصد للتلاقي ! غدا ترون أيامى ، ويكشف لكم عن سرائري ، وتعرفونني بعد خلو مكاني ، وقيام غيرى مقامي .
* * * الشرح : أطردت الرجل ، إذا أمرت بإخراجه وطرده ، وطردته إذا نفيته وأخرجته ، فالاطراد أدل على العز والقهر من الطرد ، وكأنه عليه السلام جعل الايام أشخاصا يأمر بإخراجهم وإبعادهم عنه ، أي ما زلت أبحث عن كيفية قتلى ، وأى وقت يكون بعينه ، وفى أي أرض يكون ، يوما يوما ، فإذا لم أجده في اليوم أطردته واستقبلت غده ، فأبحث فيه أيضا فلا أعلم ، فأبعده وأطرده ، وأستأنف يوما آخر ، هكذا حتى وقع المقدور .
وهذا الكلام يدل على أنه لم يكن يعرف حال قتله معرفة مفصلة من جميع الوجوه ، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله أعلمه بذلك علما مجملا ، لانه قد ثبت أنه صلى الله عليه وآله قال له : " ستضرب على هذه - وأشار إلى هامته - فتخضب منها هذه - وأشار إلى لحيته " ، وثبت أنه صلى الله عليه وآله قال له : " أتعلم من أشقى الاولين " ؟ قال : نعم ، عاقر الناقة ، فقال له : " أتعلم من أشقى الاخرين " ؟ قال : لا ، قال : " من يضربك هاهنا ، فيخضب هذه " .
وكلام أمير المؤمنين عليه السلام يدل على أنه بعد ضرب ابن ملجم له لا يقطع على أنه يموت من ضربته ، ألا تراه يقول : إن ثبتت الوطأة في هذه المزلة فذاك ، وإن تدحض فإنما كنا في أفياء أغصان ، ومهاب رياح ، أي إن سلمت فذاك الذى تطلبونه ، يخاطب أهله وأولاده ، ولا ينبغى أن يقال : " فذاك ما طلبه " ، لانه عليه السلام كان يطلب الاخرة .(9/117)
أكثر من الدنيا .
وفى كلامه المنقول عنه ما يؤكد ما قلناه ، وهو قوله : " إن عشت فأناولي دمى ، وإن مت فضربة بضربة " .
وليس قوله عليه السلام : " وأنا اليوم عبرة لكم ، وغدا مفارقكم " ، وما يجرى مجراه من ألفاظ الفصل بناقض (1) لما قلناه ، وذلك لانه لا يعنى غدا بعينه ، بل ما يستقبل من الزمان ، كما يقول الانسان الصحيح : أنا غدا ميت ، فمالى أحرص على الدنيا ! ولان الانسان قد يقول في مرضه الشديد لاهله وولده : ودعتكم وأنا مفارقكم ، وسوف يخلو منزلي منى ، وتتأسفون على فراقي ، وتعرفون موضعي بعدى ، كله على غلبة الظن ، وقد يقصد الصالحون به العظة والاعتبار وجذب السامعين إلى جانب التقوى ، وردعهم عن الهوى وحب الدنيا .
فإن قلت : فما تصنع بقوله عليه السلام لابن ملجم : أريد حباءه ويريد قتلى * عذيرك من خليلك من مراد (2) وقول الخلص من شيعته : فهلا تقتله ! فقال : فكيف أقتل قاتلي ! وتارة قال : إنه لم يقتلنى ، فكيف (3) أقتل من لم يقتل ! وكيف قال في البط الصائح خلفه في المسجد ، ليلة ضربه ابن ملجم : دعوهن ، فإنهن نوائح ، وكيف قال تلك الليلة : إنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فشكوت إليه ، وقلت : ما لقيت من أمتك من الاود واللدد ! فقال : ادع الله عليهم ، فقلت : اللهم أبدلني بهم خيرا منهم ، وأبدلهم بى شرا منى ! وكيف قال : إنى لا أقتل محاربا ، وإنما أقتل فتكا وغيلة ، يقتلنى رجل خامل الذكر .
وقد جاء عنه عليه السلام من هذا الباب آثار كثيرة .
قلت : كل هذا لا يدل على أنه كان يعلم الامر مفصلا من جميع الوجوه ، ألا ترى أنه
__________
(1) د : " بمناقض " .
(2) من أبيات فس اللالى 63 ، نسبها إلى عمرو بن معديكرب ، وروايته فيها : " أريد حياته " .
(3) ساقطة من ب .
(*)(9/118)
ليس في الاخبار والاثار ما يدل على الوقت الذى يقتل فيه بعينه ، ولا على المكان الذى يقتل فيه بعينه ! وأما ابن ملجم ، فمن الجائز أن يكون علم أنه هو الذى يقتله ، ولم يعلم علما محققا أن هذه الضربة تزهق نفسه الشريفة منها ، بل قد كان يجوز أن يبل ويفيق منها ، ثم يكون قتله فيما بعد على يد ابن ملجم ، وإن طال الامد .
وليس هذا بمستحيل ، وقد وقع مثله ، فإن عبد الملك جرح عمرو بن سعيد الاشدق في أيام معاوية على منافرة كانت بينهما فعفا عمرو عنه ، ثم كان من القضاء والقدر أن عبد الملك قتل عمرا أيضا بيده ذبحا ، كما تذبح الشاة .
وأما قوله في البط : " دعوهن فإنهن نوائح " فلعله علم أنه تلك الليلة يصاب ويجرح ، وإن لم يعلم أنه يموت منه ، والنوائح قد ينحن على المقتول وقد ينحن على المجروح ، والمنام والدعاء لا يدل على العلم بالوقت بعينه ، ولا يدل على أن إجابة دعائه تكون على الفور لا محالة .
* * * ثم نعود إلى الشرح .
أما قوله : " كل امرئ لاق مايفر منه في فراره " ، أي إذا كان مقدورا ، وإلا فقد رأينا من يفر من الشئ ويسلم ، لانه لم يقدر ، وهذا من قوله تعالى : " ولو كنتم في بروج مشيدة) (1) ، (لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم) (2) ومن قوله تعالى : (قل إن الموت الذى تفرون منه فإنه ملاقيكم) (3) ، وفى القرآن العزيز مثل هذا كثير .
قوله : " والاجل مساق النفس " أي الامر الذى تساق إليه ، وتنتهى عنده ، وتقف إذا بلغته فلا يبقى له حينئذ أكله في الدنيا .
__________
(1) سورة النساء 78 .
(2) سورة ال عمران 154 .
(3) سورة الجمعة 8 .
(*)(9/119)
قوله : " والهرب منه موافاته " ، هذا كلام خارج مخرج المبالغة في عدم النجاة ، وكون الفرار غير مغن ولا عاصم من الموت ، يقول : الهرب بعينه من الموت موافاة للموت ، أي إتيان إليه ، كأنه لم يرتض بأن يقول : الهارب لابد أن ينتهى إلى الموت ، بل جعل نفس الهرب هو ملاقاة الموت .
قوله : " أبحثها " أي أكشفها ، وأكثر ما يستعمل " بحث " معدى بحرف الجر ، وقد عداه هاهنا إلى " الايام " بنفسه وإلى " مكنون الامر " بحرف الجر ، وقد جاء : بحثت الدجاجة التراب ، أي نبشته .
قوله : " فأبى الله إلا إخفاءه ، هيهات علم مخزون " ! تقديره : هيهات ذلك ! مبتدأ وخبره ، هيهات اسم للفعل ، معناها بعد ، أي علم هذا الغيب علم مخزون مصون ، لم أطلع عليه .
فإن قلت : ما معنى قوله : " كم أطردت الايام أبحثها ؟ وهل علم الانسان بموته كيف يكون ، وفى أي وقت يكون ، وفى أي أرض يكون ، مما يمكن استدرا كه بالنظر والفكر والبحث ؟ قلت : مراده عليه السلام أنى كنت في أيام رسول الله صلى الله عليه وآله أسأله كثيرا عن هذا الغيب ، فما أنبأني منه إلا بأمور إجمالية غير مفصلة ، ولم يأذن الله تعالى في إطلاعي على تفاصيل ذلك .
قوله : " فالله لا تشركوا به شيئا " الرواية المشهورة " فالله " بالنصب ، وكذلك " محمدا " بتقدير فعل ، لان الوصية تستدعى الفعل بعدها ، أي وحدوا الله ، وقد روى بالرفع ، وهو جائز على المبتدأ والخبر .
قوله : " أقيموا هذين العمودين ، وأوقدوا هذين المصباحين ، وخلاكم ذم ما لم تشردوا " ، كلام داخل في باب الاستعارة ، شبه الكتاب والسنة بعمودي الخيمة ، وبمصباحين(9/120)
يستضاء بهما .
وخلاكم ذم : كلمة جارية مجرى المثل ، معناها : ولا ذم عليكم ، فقد أعذرتم .
وذم ، مرفوع بالفاعلية ، معناه : عداكم وسقط عنكم .
فإن قلت : إذا لم يشركوا بالله ولم يضيعوا سنة محمد صلى الله عليه وآله فقد قاموا بكل ما يجب ، وانتهوا عن كل ما يقبح ، فأى حاجة له إلى أن يستثنى ويقول : " ما لم تشردوا " ، وإنما كان يحتاج إلى هذه اللفظة لو قال : وصيتى إليكم أن توحدوا الله ، وتؤمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله ، كان حينئذ يحتاج إلى قوله : " ما لم تشردوا " ويكون مراده بها فعل الواجبات ، وتجنب المقبحات ، لانه ليس في الاقرار بالوحدانية والرسالة العمل ، بل العمل خارج عن ذلك ، فوجب إذا أوصى أن يوصى بالاعتقاد والعمل ، كما قال عمر لابي بكر في واقعة أهل الردة : كيف تقاتلهم وهم مقرون بالشهادتين ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله : " أمرت بأن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله " ، فقال أبو بكر : إنه قال تتمة " هذا فإذا هم قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها " وأداء الزكاة من حقها ! قلت : مراده بقوله : " ما لم تشردوا " ما لم ترجعوا عن ذلك فكأنه قال : خلاكم ذم إن وحدتم الله واتبعتم سنة رسوله ، ودمتم على ذلك ولا شبهة أن هذا الكلام منتظم ، وأن اللفظتين الاوليين ليستا بمغنيتين عن اللفظة الثالثة (1) وبتقدير أن يغيناعنه ، فإن في ذكره مزيد تأكيد وإيضاح غير موجودين لو لم يذكر ، وهذا كقوله تعالى : (ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون) (2) ، وليس لقائل أن يقول : من لا يخشى الله لا يكون مطيعا لله والرسول ، وأى حاجة به إلى ذكر ما قد أغنى اللفظ الاول عنه ! قوله : " حمل كل امرئ مجهوده ، وخفف عن الجهلة " ، هذا كلام متصل بما قبله ،
__________
(1) ب : " اللفظ الثالث " .
(2) سورة النور 52 .
(*)(9/121)
لانه لما قال : " ما لم تشردوا " أنبأ عن تكليفهم كل ما وردت به السنة النبوية وأن يدوموا عليه ، وهذا في الظاهر تكليف أمور شاقة ، فاستدرك بكلام يدل على التخفيف ، فقال إن التكاليف على قدر المكلفين ، فالعلماء تكليفهم غير تكليف العامة ، وأرباب الجهل والمبادئ كالنساء وأهل البادية وطوائف من الناس ، الغالب عليهم البلادة وقلة الفهم ، كأقاصي الحبشة والترك ونحوهم ، وهؤلاء عند المكلفين غير مكلفين ، إلا بحمل التوحيد والعدل ، بخلاف العلماء الذين تكليفهم الامور المفصلة وحل المشكلات الغامضة ، وقد روى " حمل " على صيغة الماضي ، و " مجهوده " بالنصب ، " وخفف " على صيغة الماضي أيضا ، ويكون الفاعل هو الله تعالى المقدم ذكره ، والرواية الاولى أكثر وأليق .
ثم قال : " رب رحيم " أي ربكم رب رحيم .
ودين قويم ، أي مستقيم .
وإمام عليم ، يعنى رسول الله صلى الله عليه وآله ، ومن الناس من يجعل " رب رحيم " فاعل " خفف " على رواية من رواها فعلا ماضيا وليس بمستحسن لان عطف " الدين " عليه يقتضى أن يكون الدين أيضا مخففا ، وهذا لا يصح .
ثم دعا لنفسه ولهم بالغفران .
ثم قسم الايام الماضية والحاضرة والمستقبلة قسمة حسنة ، فقال : أنا بالامس صاحبكم وأنا اليوم عبرة لكم ، وغدا مفارقكم ، إنما كان عبرة لهم لانهم يرونه بين أيديهم ملقى صريعا بعد أن صرع الابطال ، وقتل الاقران ، فهو كما قال الشاعر : أكال أشلاء الفوارس بالقنا * أضحى بهن وشلوه مأكول ويقال : دحضت قدم فلان ، أي زلت وزلقت .
ثم شبه وجوده في الدنيا بأفياء الاغصان ومهاب الرياح وظلال الغمام ، لان ذلك كله سريع الانقضاء لاثبات له .(9/122)
قوله : " اضمحل في الجو متلفقها ، وعفا في الارض مخطها " ، اضمحل ذهب ، والميم زائدة ، ومنه الضحل وهو الماء القليل ، واضمحل السحاب : تقشع وذهب ، وفى لغة الكلابيين امضحل الشئ بتقديم الميم ، ومتلفقها : مجتمعها ، أي ما اجتمع من الغيوم في الجو ، والتلفيق : الجمع : وعفا : درس ، ومخطها : أثرها ، كالخطة .
قوله : " وإنما كنت جارا جاوركم بدنى أياما " ، في هذا الكلام إشعار بما يذهب إليه أكثر العقلاء من أمر النفس ، وأن هوية الانسان شئ غير هذا البدن .
وقوله : " ستعقبون منى " أي إنما تجدون عقيب فقدي جثة ، يعنى بدنا خلاء ، أي لا روح فيه ، بل قد أقفر من تلك المعاني التى كنتم تعرفونها وهى العقل والنطق والقوة وغير ذلك .
ثم وصف تلك الجثة فقال : " ساكنة بعد حراك " بالفتح ، أي بعد حركة وصامتة بعد نطق " .
وهذا الكلام أيضا (1) يشعر بما قلناه من أمر النفس ، بل يصرح بذلك ، " ألا تراه قال : " ستعقبون منى جثة " أي تستبدلون بى جثة صفتها كذا ! وتلك الجثة جثته عليه السلام ، ومحال أن يكون العوض والمعوض عنه واحدا ، فدل على أن هويته عليه السلام التى أعقبنا منها الجثة غير الجثة .
قوله : " ليعظكم هدوى " ، أي سكوني ، وخفوت إطراقى ، مثله خفت خفوتا سكن ، وخفت خفاتا مات فجأة .
وإطراقه : إرخاؤه عينيه ينظر إلى الارض ، لضعفه عن رفع جفنه ، وسكون أطرافه : يداه ورجلاه ورأسه عليه السلام .
قال : " فإنه أوعظ للمعتبرين من المنطق البليغ ، والقول المسموع " ، وصدق عليه السلام ! فإن خطبا أخرس ذلك اللسان ، وهد تلك القوى لخطب جليل ، ويجب أن يتعظ العقلاء به .
وما عسى يبلغ قول الواعظين بالاضافة إلى من شاهد تلك الحال ، بل بالاضافة إلى من سمعها ، وأفكر فيها ، فضلا عن مشاهدتها عيانا ! وفى هذا الكلام شبه من كلام الحكماء الذين تكلموا عند تابوت الاسكندر فقال أحدهم : حركنا بسكونه .
__________
(1) ب : " مشعر " .
(*)(9/123)
وقال الاخر : قد كان سيفك لا يجف ، وكانت مراقيك لا ترام ، وكانت نقماتك لا تؤمن ، وكانت عطاياك يفرح بها ، وكان ضياؤك لا ينكشف ، فأصبح ضوءك قد خمد ، وأصبحت نقماتك لا تخشى ، وعطاياك لا ترجى ، ومراقبك لا يمنع ، وسيفك لا يقطع .
وقال الاخر : انظروا إلى حلم المنام كيف انجلى ، وإلى ظل الغمام كيف انسرى .
وقال آخر : ما كان أحوجه إلى هذا الحلم ، وإلى هذا الصبر والسكون أيام حياته ! وقال آخر : القدرة العظيمة التى ملات الدنيا العريضة الطويلة ، طويت في ذراعين .
وقال الاخر : أصبح آسر الاسراء أسيرا ، وقاهر الملوك مقهورا .
كان بالامس مالكا ، فصار اليوم هالكا .
ثم قال عليه السلام : " ودعتكم وداع امرئ مرصدا للتلاقي " ، أرصدته لكذا أي أعددته له ، وفى الحديث " إلا أن أرصده لدين على " .
والتلاقى هاهنا .
لقاء الله ، ويروى " وداعيكم " أي وداعي إياكم ، والوداع مفتوح الواو .
ثم قال : " غدا ترون أيامى ، ويكشف لكم عن سرائري ، وتعرفونني بعد خلو مكاني وقيام غيرى مقامي " ، هذا معنى قد تداوله الناس قديما وحديثا ، قال أبو تمام : راحت وفود الارض عن قبره * فارغة الايدى ملاء القلوب قد علمت ما رزئت إنما * يعرف قدر الشمس بعد الغروب وقال أبو الطيب : ونذمهم وبهم عرفنا فضله * وبضدها تتبين الاشياء (1)
__________
(1) ديوانه 1 : 21 ، ورواية : " ونذيمهم " .
(*)(9/124)
ومن أمثالهم : * الضد يظهر حسنه الضد * ومنها أيضا : لولا مرارة المرض لم تعرف حلاوة العافية .
وإنما قال عليه السلام : " ويكشف لكم عن سرائري " ، لانهم بعد فقده وموته يظهر لهم ويثبت عندهم إذا رأوا وشاهدوا إمرة من بعده ، أنه إنما كان يريد بتلك الحروب العظيمة وجه الله تعالى ، وألا يظهر المنكر في الارض ، وإن ظن قوم في حياته أنه كان يريد الملك والدنيا .(9/125)
(150) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام ويومئ فيها إلى الملاحم : وأخذوا يمينا وشمالا ظعنا في مسالك الغى ، وتر كا لمذاهب الرشد ، فلا تستعجلوا ما هو كائن مرصد ، ولا تستبطئوا ما يجئ ، به الغد ، فكم من مستعجل بما إن أدركه ود أنه لم يدركه .
وما أقرب اليوم من تباشير غد ! يا قوم هذا إبان ورود كل موعود ، ودنو من طلعة مالا تعرفون .
ألا وإن من أدركها منا يسرى فيها بسراج منير ، ويحذو فيها على مثال الصالحين ، ليحل فيها ربقا ، ويعتق فيها رقا ، ويصدع شعبا ، ويشعب صدعا ، في سترة عن الناس ، لا يبصر القائف أثره ، ولو تابع نظره ، ثم ليشحذن فيها قوم شحذ القين النصل ، تجلى بالتنزيل أبصارهم ، ويرمى بالتفسير في مسامعهم ، ويغبقون كأس الحكمة بعد الصبوح .
* * * الشرح : يذكر عليه السلام قوما من فرق الضلال أخذوا يمينا وشمالا ، أي ضلوا عن الطريق الوسطى التى هي منهاج الكتاب والسنة ، وذلك لان كل فضيلة وحق فهو محبوس بطرفين خارجين عن العدالة ، وهما جانبا الافراط والتفريط ، كالفطانة التى هي محبوسة(9/126)
بالجربزة والغباوة ، والشجاعة التى هي محبوسة بالتهور والجبن ، والجود المحبوس بالتبذير والشح ، فمن لم يقع على الطريق الوسطى وأخذ يمينا وشمالا فقد ضل .
ثم فسر قوله : " أخذ يمينا وشمالا " ، فقال : " ظعنوا ظعنا في مسالك الغى ، وتركوا مذاهب الرشد تركا " ، وينصب " تركا " و " ظعنا " على المصدرية ، والعامل فيهما من غير لفظهما (1) ، وهو قوله : " أخذوا " .
ثم نهاهم عن استعجال ما هو معد ، ولا بد من كونه ووجوده ، وإنما سماه كائنا لقرب كونه ، كما قال تعالى : (إنك ميت وإنهم ميتون) (2) ونهاهم أن يستبطئوا ما يجئ في الغد لقرب وقوعه ، كما قال : * وإن غدا للناظرين قريب * وقال الاخر : * غد ماغد ما أقرب اليوم من غد * وقال تعالى : (إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب) (3) .
ثم قال : كم من مستعجل أمرا ويحرص عليه ، فإذا حصل ود أنه لم يحصل قال أبو العتاهية : من عاش لاقى مايسو * ء من الامور وما يسر (4) ولرب حتف فوقه * ذهب وياقوت ودر وقال آخر : فلا تتمنين الدهر شيئا * فكم أمنية جلبت منيه
__________
(1) ب : " لفظها " .
(2) سورة الزمر 30 .
(3) سورة هود 81 .
(4) ديوانه 99 .
(*)(9/127)
وقال تعالى : (وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) (1) .
وتباشير الصبح أوائله .
ثم قال : " يا قوم قد دنا وقت القيامة ، وظهور الفتن التى تظهر أمامها .
وإبان الشئ ، بالكسر والتشديد : وقته وزمانه ، وكنى عن تلك الاهوال بقوله : " ودنو من طلعة مالا تعرفون ، لان تلك الملاحم والاشراط الهائلة غير معهود مثلها ، نحو دابة الارض ، والدجال وفتنته ، وما يظهر على يده من المخاريق والامور الموهمة ، وواقعة السفياني (2) وما يقتل فيها من الخلائق الذين لا يحصى عددهم .
ثم ذكر أن مهدى آل محمد صلى الله عليه وآله ، وهو الذى عنى بقوله : " وإن من أدركها منا يسرى في ظلمات هذه الفتن بسراج منير " ، وهو المهدى ، واتباع الكتاب والسنة .
ويحذو فيها : يقتفى ويتبع مثال الصالحين ، ليحل في هذه الفتن .
وربقا ، أي حبلا معقودا .
ويعتق رقا ، أي يستفك أسرى ، وينقذ مظلومين من أيدى ظالمين .
ويصدع شعبا ، أي يفرق جماعة من جماعات الضلال .
ويشعب صدعا : يجمع ما تفرق من كلمة أهل الهدى والايمان .
قوله عليه السلام : " في سترة عن الناس " ، هذا الكلام يدل على استتار هذا الانسان المشار إليه ، وليس ذلك بنافع للامامية في مذهبهم ، وإن ظنوا أنه تصريح بقولهم ، وذلك لانه من الجائز أن يكون هذا الامام يخلقه الله تعالى في آخر الزمان ، ويكون مستترا مدة ، وله دعاة يدعون إليه ، ويقررون أمره ، ثم يظهر يعد ذلك الاستتار ، ويملك الممالك ،
__________
(1) سورة البقرة 216 .
(*)(9/128)
ويقهر الدول ، ويمهد الارض ، كما ورد في قوله : " لا يبصر القائف " أي هو في استتار شديد لا يدركه القائف ، وهو الذى يعرف الاثار ، والجمع " قافة " ، ولا يعرف أثره ولو استقصى في الطلب ، وتابع النظر والتأمل .
ويقال : شحذت السكين أشحذه شحذا ، أي حددته ، يريد ليحرضن في هذه الملاحم قوم على الحرب وقتل أهل الضلال ، ولتشحذن عزائمهم كما يشحذ الصيقل السيف ، ويرقق حده .
ثم وصف هؤلاء القوم المشحوذى العزائم ، فقال : تجلى بصائرهم بالتنزيل ، أي يكشف الرين والغطاء عن قلوبهم بتلاوة القرآن وألهامهم تأويله ومعرفة أسراره .
ثم صرح بذلك فقال : " ويرمى بالتفسير في مسامعهم " ، أي يكشف لهم الغطاء ، وتخلق المعارف في قلوبهم ، ويلهمون فهم الغوامض والاسرار الباطنة ، ويغبقون كأس الحكم بعد الصبوح ، أي لا تزال المعارف الربانية والاسرار الالهية تفيض عليهم صباحا ومساء ، فالغبوق كناية عن الفيض الحاصل لهم في الاصال ، والصبوح كناية عما يحصل لهم منه في الغدوات ، وهؤلاء هم العارفون الذين جمعوا بين الزهد والحكمة والشجاعة ، وحقيق بمثلهم أن يكونوا أنصارا لولى الله الذى يجتبيه ، ويخلقه في آخر أوقات الدنيا ، فيكون خاتمة أوليائه ، والذى يلقى عصا التكليف عنده .
* * * الاصل : ومنها : وطال الامد بهم ليستكملوا الخزى ، ويستوجبوا الغير ، حتى إذا اخلولق (9 - نهج - 9)(9/129)
الاجل ، واستراح قوم إلى الفتن ، واشتالوا عن لقاح حربهم ، لم يمنوا على الله بالصبر ، ولم يستعظموا بذل أنفسهم في الحق ، حتى إذا وافق وارد القضاء انقطاع مدة البلاء ، حملوا بصائرهم على أسيافهم ، ودانوا لربهم بأمر واعظهم * * * االشرح : هذا الكلام يتصل بكلام قبله ، لم يذكره الرضى رحمه الله ، وهو وصف فئة ضالة قد استولت وملكت ، وأملى لها الله سبحانه .
قال عليه السلام : وطال الامد بهم ليستكملوا الخزى ، ويستوجبوا الغير ، أي (1) النعم التى يغيرها بهم من نعم الله سبحانه ، كما قال : (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) (2) وكما قال تعالى : " سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) .
(3) .
حتى إذا اخلولق الاجل ، أي قارب أمرهم الانقضاء ، من قولك : اخلولق السحاب ، أي استوى ، وصار خليقا بأن يمطر ، واخلولق الرسم : استوى مع الارض .
واستراح قوم إلى الفتن ، أي صبا قوم من شيعتنا وأوليائنا إلى هذه الفئة ، واستراحوا إلى ضلالها وفتنتها ، واتبعوها .
واشتالوا عن لقاح حربهم ، أي رفعوا أيديهم وسيوفهم عن أن يشبوا الحرب بينهم وبين هذه الفئة ، مهادنة لها وسلما وكراهية للقتال ، يقال : شال فلان كذا ، أي رفعه ، واشتال " افتعل " هو في نفسه ، كقولك : حجم زيد عمرا ، واحتجم هو نفسه .
ولقاح حربهم ، هو بفتح اللام ، مصدر من لقحت الناقة .
قوله : " لم يمنوا " هذا جواب قوله : " حتى إذا " ، والضمير في " يمنوا " راجع إلى
__________
(1) كذا في د ، وفى ا ، ب : " والنعم " .
(2) سورة الاسراء 16 .
(3) سورة الاعراف 182 .
(*)(9/130)
العارفين الذين تقدم ذكرهم في الفصل السابق ذكره ، يقول : حتى إذا ألقى هؤلاء السلام إلى هذه الفئة عجزا عن القتال ، واستراحوا من منابذتهم بدخولهم في ضلالتهم وفتنتهم ، أما تقية (1) منهم ، أو لشبهة دخلت عليهم ، أنهض الله تعالى هؤلاء العارفين الشجعان الذين خصهم بحكمته ، وأطلعهم على أسرار ملكوته فنهضوا ، ولم يمنوا على الله تعالى بصبرهم ، ولم يستعظموا أن يبذلوا في الحق نفوسهم ، قال : حتى إذا وافق قضاء الله تعالى وقدره كى ينهض هؤلاء قضاء الله وقدره في انقضاء مدة تلك الفئة ، وارتفاع ما كان شمل الخلق من البلاء بملكها وإمرتها ، حمل هؤلاء العارفون بصائرهم على أيافهم ، وهذا معنى لطيف ، يعنى أنهم أظهروا بصائرهم وعقائدهم وقلوبهم للناس ، وكشفوها وجردوها من أجفانها ، مع تجريد السيوف من أجفانها ، فكأنها شئ محمول على السيوف يبصره من يبصر السيوف ، ولا ريب أن السيوف المجردة من أجلى الاجسام للابصار ، فكذلك ما يكون محمولا عليها ، ومن الناس من فسر هذا الكلام ، فقال : أراد بالبصائر جمع بصيرة ، وهو الدم ، فكأنه أراد طلبوا ثأرهم والدماء التى سفكتها هذه الفئة ، وكأن تلك الدماء المطلوب ثأرها محمولة على أسيافهم التى جرودها للحرب ، وهذا اللفظ قد قاله بعض الشعراء المتقدمين بعينه : راحوا بصائرهم على أكتافهم * وبصيرتي يعدو بها عتد وأى (2) وفسره أبو عمرو بن العلاء ، فقال : يريد أنهم تركوا دم أبيهم وجعلوه خلفهم ، أي لم يثأروا به ، وانا طلبت ثأري .
وكان أبو عبيدة معمر بن المثنى يقول في هذا البيت : البصيرة : الترس أو الدرع ، ويرويه : " حملوا بصائرهم " .
* * *
__________
(1) كذا في ج ، وفى ا ، ب : " بقية " ، وفى د : " بفئة " .
(2) البيت في الصحاح 2 : 592 ، ونسبه إلى الاسعر الجعفي ، وهو أيضا في اللسان 5 : 133 .
(*)(9/131)
الاصل : منها : حتى إذا قبض الله رسوله رجع قوم على الاعقاب ، وغالتهم السبل ، واتكلوا على الولائج ، ووصلوا غير الرحم ، وهجروا السبب الذى أمروا بمودته ، ونقلوا البناء عن رص أساسه ، فبنوه في غير موضعه .
معادن كل خطيئة ، وأبواب كل ضارب في غمرة ، قد ماروا في الحيرة ، وذهلوا في السكرة ، على سنة من آل فرعون ، من منقطع إلى الدنيا راكن ، أو مفارق للدين مباين .
* * * الشرح : رجعوا على الاعقاب : تركوا ما كانوا عليه ، قال سبحانه : " ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا) (1) وغالتهم السبل : أهلكهم اختلاف الاراء والاهواء ، غاله كذا ، أي أهلكه ، والسبل : الطرق .
والولائج : جمع وليجة ، وهى البطانة يتخذها الانسان لنفسه ، قال سبحانه : " ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة) (2) ووصلوا غير الرحم ، أي غير رحم الرسول صلى الله عليه وآله ، فذكرها عليه السلام
__________
(1) سورة آل عمران 144 .
(2) سورة التوبة 16 .
(*)(9/132)
ذكرا مطلقا غير مضاف للعلم بها ، كما يقول القائل : " أهل البيت " فيعلم السامع أنه أراد أهل بيت الرسول .
وهجروا السبب ، يعنى أهل البيت أيضا : وهذه إشارة إلى قول النبي صلى الله عليه وآله : " خلفت فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتى ، حبلان ممدودان من السماء إلى الارض ، لا يفترقان حتى يردا على الحوض " ، فعبر أمير المؤمنين عن أهل البيت بلفظ " السبب " لما كان النبي صلى الله عليه وآله قال : " حبلان " ، والسبب في اللغة : الحبل .
عنى بقوله : " أمروا بمودته " ، قول الله تعالى : " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) (1) .
قوله : " ونقلوا البناء عن رص أساسه ، " ، الرص مصدر رصصت الشى أرصه ، أي ألصقت بعضه ببعض ، ومنه قوله تعالى : " كأنهم بنيان مرصوص " (2) ، وتراص القوم في الصف ، أي تلاصقوا .
فبنوه في غير موضعه ! ونقلوا (3) الامر عن أهله إلى غير أهله .
ثم ذمهم عليه السلام ، وقال : " إنهم معادن كل خطيئة ، وأبواب كل ضارب في غمرة " ، الغمرة : الضلال والجهل .
والضارب فيها : الداخل المعتقد لها .
قد ماروا في الحيرة ، مار يمور إذا ذهب وجاء ، فكأنهم يسبحون في الحيرة كما يسبح الانسان في الماء .
وذهل فلان ، بالفتح ، يذهل .
على سنة من آل فرعون ، أي على طريقة ، وآل فرعون : أتباعه ، قال تعالى : (أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) (4) .
__________
(1) سورة الشورى 23 .
(2) سورة الصف 5 .
(3) ب : " ونقلوا " ، وما أثبته من د .
(4) سورة غافر 46 .
(*)(9/133)
من منقطع إلى الدنيا : لا هم له غيرها .
راكن : مخلد إليها ، قال الله تعالى : (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) (1) أو مفارق للدين مباين (2) : مزايل .
فإن قلت : أي فرق بين الرجلين ؟ وهل يكون المنقطع إلى الدنيا إلا مفارقا للدين ؟ قلت : قد يكون في أهل الضلال من هو مفارق للدين مباين ، وليس براكن إلى الدنيا ولا منقطع إليها ، كما نرى كثيرا من أحبار النصارى ورهبانهم .
فإن قلت : أليس هذا (3) الفصل صريحا في تحقيق مذهب الامامية ؟ قلت : لا ، بل نحمله على أنه عنى عليه السلام أعداءه الذين حاربوه من قريش وغيرهم من أفناء العرب ، في أيام صفين ، وهم الذين نقلوا البناء ، وهجروا السبب ، ووصلوا غير الرحم ، واتكلوا على الولائج ، وغالتهم السبل ، ورجعوا على الاعقاب ، كعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومروان بن الحكم ، والوليد بن عقبة ، وحبيب بن مسلمة ، وبسر بن أرطاة ، وعبد الله بن الزبير ، وسعيد بن العاص ، وحوشب ، وذى الكلاع ، وشرحبيل ابن السمط (4) ، وأبى الاعور السلمى ، وغيرهم ممن تقدم ذكر نا له في الفصول المتعلقة بصفين وأخبارها ، فإن هؤلاء نقلوا الامامة عنه عليه السلام إلى معاوية ، فنقلوا البناء عن رص أصله إلى غير موضعه .
فإن قلت : لفظ الفصل يشهد بخلاف ما تأولته ، لانه قال عليه السلام : حتى إذا قبض الله رسوله رجع قوم على الاعقاب ، فجعل رجوعهم على الاعقاب عقيب قبض الرسول صلى الله عليه وآله ، وما ذكرته أنت كان بعد قبض الرسول بنيف وعشرين سنة ! قلت : ليس يمتنع أن يكون هؤلاء المذكورون رجعوا على الاعقاب ، لما مات رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأضمروا في أنفسهم مشاقة أمير المؤمنين وأذاه ، وقد كان فيهم من
__________
(1) سورة هود 113 .
(2) كذا في د ، وفى ا ، ب : " ومباين " .
(3) ساقطة من د .
(4) ب : " الصمت " .
(*)(9/134)
يتحكك به في أيام أبى بكر وعمر وعثمان ، ويتعرض له ، ولم يكن أحد منهم ولا من غيرهم يقدم على ذلك في حياة رسول الله .
ولا يمتنع أيضا أن يريد برجوعهم على الاعقاب ارتدادهم عن الاسلام بالكلية ، فإن كثيرا من أصحابنا يطعنون في إيمان بعض من ذكرناه ويعدونهم من المنافقين ، وقد كان سيف رسول الله صلى الله عليه وآله يقمعهم ويردعهم عن إظهار ما في أنفسهم من النفاق ، فأظهر قوم منهم بعده ما كانوا يضمرونه من ذلك ، خصوصا فيما يتعلق بأمير المؤمنين ، الذى ورد في حقه : " ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله إلا ببغض على بن أبى طالب " ، وهو خبر محقق مذكور في الصحاح .
فإن قلت : يمنعك من هذا التأويل قوله : " ونقلوا البناء عن رص أساسه ، فجعلوه في غير موضعه " ، وذلك لان " إذا " ظرف ، والعامل فيها قوله : " رجع قوم على الاعقاب " وقد عطف عليه قوله : " ونقلوا البناء " ، فإذا كان الرجوع على الاعقاب واقعا في الظرف المذكور ، وهو وقت قبض الرسول ، وجب أن يكون نقل البناء إلى غير موضعه واقعا في ذلك الوقت أيضا ، لان أحد الفعلين معطوف على الاخر ، ولم ينقل أحد وقت قبض الرسول صلى الله عليه وآله البناء إلى معاوية عن أمير المؤمنين عليه السلام ، وإنما نقل عنه إلى شخص آخر ، وفى إعطاء العطف حقه إثبات مذهب الامامية صريحا ! قلت : إذا كان الرجوع على الاعقاب واقعا وقت قبض النبي صلى الله عليه وآله فقد قمنا بما يجب من وجود عامل في الظرف ، ولا يجب أن يكون نقل البناء إلى غير موضعه واقعا في تلك الحال أيضا ، بل يجوز أن يكون واقعا في زمان آخر ، إما بأن تكون الواو للاستئناف لا للعطف ، أو بأن تكون للعطف في مطلق الحدث لا في وقوع الحدث في عين ذلك الزمان المخصوص ، كقوله تعالى : (حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن(9/135)
يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه) ، فالعامل في الظرف " استطعما " ، ويجب أن يكون استطعامهما وقت إتيانهما أهلها لا محالة .
ولا يجب أن تكون جميع الافعال المذكورة المعطوفة واقعة حال الاتيان أيضا ، ألا ترى أن من جملتها " فأقامه " ولم يكن إقامة الجدار حال إتيانهما القرية بل متراخيا عنه بزمان ما ، اللهم إلا أن يقول قائل : أشار بيده إلى الجدار فقام ، أو قال له : قم ، فقام لانه لا يمكن أن يجعل إقامة الجدار مقارنا للاتيان إلا على هذا الوجه ، وهذا لم يكن ، ولا قاله مفسر .
ولو كان قد وقع على هذا الوجه لما قال له : (لو شئت لاتخذت عليه أجرا) ، لان الاجر إنما يكون على اعتمال عمل فيه مشقة ، وإنما يكون فيه مشقة إذا بناه بيده ، وباشره بجوارحه وأعضائه .
واعلم أنا نحمل كلام أمير المؤمنين عليه السلام على ما يقتضيه سؤدده الجليل ، ومنصبه العظيم ، ودينه القويم ، من الاغضاء عما سلف ممن سلف ، فقد كان صاحبهم بالمعروف برهة من الدهر ، فأما أن يكون ما كانوا فيه حقهم أو حقه ، فتركه لهم رفعا لنفسه عن المنازعة ، أو لما رآه من المصلحة ، وعلى كلا التقديرين فالواجب علينا أن نطبق بين آخر أفعاله وأقواله بالنسبة إليهم وبين أولها ، فإن بعد تأويل ما يتأوله من كلامه ، ليس بأبعد من تأويل أهل التوحيد والعدل الايات المتشابهة في القرآن ، ولم يمنع بعدها من الخوض في تأويلها محافظة على الاصول المقررة ، فكذلك هاهنا .
__________
(1) سورة الكهف 77 .
(*)(9/136)
(151) الاصل : ومنه خطبة له عليه السلام : وأستعينه على مداحر الشيطان ومزاجره ، والاعتصام من حبائله ومخاتله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، ونجيبه وصفوته ، لا يؤازى فضله ، ولا يجبر فقده ، أضاءت به البلاد بعد الضلالة المظلمة ، والجهالة الغالبة ، والجفوة الجافية ، والناس يستحلون الحريم ، ويستذلون الحكيم ، يحيون على فترة ، ويموتون على كفرة .
ثم إنكم معشر العرب أغراض بلايا قد اقتربت ، فاتقوا سكرات النعمة ، واحذروا بوائق النقمة ، وتثبتوافى قتام العشوة ، واعوجاج الفتنة ، عند طلوع جنينها ، وظهور كمينها ، وانتصاب قطبها ، ومدار رحاها ، تبدأ في مدارج خفية ، وتؤول إلى فظاعة جلية شبابها كشباب الغلام ، وآثارها كآثار السلام ، يتوارثها الظلمة بالعهود ، أولهم قائد لاخرهم ، وآخرهم مقتد بأولهم ، يتنافسون في دنيا دنية ، ويتكالبون على جيفة مريحة ، وعن قليل يتبرأ التابع من المتبوع ، والقائد من المقود ، فيتزايلون بالبغضاء ، ويتلاعنون عند اللقاء .
ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرجوف ، والقاصمة الزحوف ، فتزيغ قلوب بعد استقامة ، وتضل رجال بعد سلامة ، وتختلف الاهواء عند هجومها ، وتلتبس الاراء عند نجومها .(9/137)
من أشرف لها قصمته ، ومن سعى فيها حطمته ، يتكادمون فيها تكادم الحمر في العانة .
قد اضطرب معقود الحبل ، وعمى وجه الامر ، تغيض فيها الحكمة ، وتنطق فيها الظلمة ، وتدق أهل البدو بمسحلها ، وترضهم بكلكلها ، يضيع في غبارها الوحدان ، ويهلك في طريقها الركبان ، ترد بمر القضاء ، وتحلب عبيط الدماء ، وتثلم منار الدين ، وتنقض عقد اليقين .
يهرب منها الاكياس ، ويدبرها الارجاس .
مرعاد مبراق ، كاشفة عن ساق ، تقطع فيها الارحام ، ويفارق عليها الاسلام ، بريها سقيم ، وظاعنها مقيم .
* * * الشرح : مداحر الشيطان : الامور التى يدحر بها ، أي يطرد ويبعد ، دحرته أدحره دحورا ، قال تعالى : (دحورا ولهم عذاب واصب) (1) ، وقال سبحانه : (اخرج منها مذءوما مدحورا) (2) ، أي مقصى .
ومزاجره : (الامور يزجر بها ، جمع مزجر : ومزجرة ، وكثيرا ما يبنى عليه السلام من الافعال " مفعلا " و " مفعلة " ويجمعه ، وإذا تأملت كلامه عرفت ذلك .
وحبائل الشيطان : مكائده وأشرا كه التى يضل بها البشر .
ومخاتله : الامور التى يختل بها ، بالكسر ، أي يخدع .
لا يؤازى فضله : لا يساوى ، واللفظة مهموزة ، آزيت فلانا : حاذيته ، ولا يجوز " وازيته " .
__________
(1) سورة الصافات 9 .
(2) سورة الاعراف 18 .
(*)(9/138)
ولا يجبر فقده : لا يسد أحد مسده بعده .
والجفوة الجافية : غلظ الطبع وبلادة الفهم .
ويستذلون الحكيم : يستضيمون العقلاء ، واللام هاهنا للجنس ، كقوله : (وجاء ربك والملك صفا صفا) (1) .
يحيون على فترة : على انقطاع الوحى ما بين نبوتين .
ويموتون على كفرة ، بالفتح ، واحد الكفرات ، كالضربة واحدة الضربات .
ويروى : " ثم إنكم معشر الناس " .
والاغراض : الاهداف .
وسكرات النعمة : ما تحدثه النعم عند أربابها من الغفلة المشابهة للسكر ، قال الشاعر : خمس سكرات إذا منى المر * بها صار عرضة للزمان سكرة المال والحداثة والعشق * وسكر الشراب والسلطان ومن كلام الحكماء : للوالى سكرة لا يفيق منها إلا بالعزل .
والبوائق : الدواهي ، جمع بائقة ، يقال : باقتهم الداهية بوقا ، أي أصابتهم ، وكذلك : باقتهم بؤوق على " فعول " ، وابتاقت عليهم بائقة شر ، مثل انباحت ، أي انفتقت ، وانباق عليهم الدهر : هجم بالداهية ، كما يخرج الصوت من البوق ، وفى الحديث : " لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه " ، أي غوائله وشره .
والقتام ، بفتح القاف : الغبار .
والاقتم : الذى يعلوه قتمة ، وهو لون فيه غبرة وحمرة .
والعشوة بكسر العين : ركوب الامر على غير بيان ووضوح .
ويروى : " وتبينوا في قتام العشوة " كما قرئ : (إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا) (2) و (فتثبتوا) .
__________
(1) سورة الفجر 22 .
(2) سورة الحجرات 6 .
(*)(9/139)
واعوجاج الفتنة : أخذها في غير القصد ، وعدولها عن المنهج .
ثم كنى عن ظهور المستور المخفي منها بقوله : " عند طلوع جنينها ، وظهور كمينها " ، والجنين : الولد مادام في البطن ، والجمع أجنة ، ويجوز ألا يكون الكلام كناية بل صريحا ، أي عند طلوع ما استحن منها ، أي استتر .
وظهور ما كمن ، أي ما بطن .
وكنى عن استحكام أمر الفتنة بقوله : " وانتصاب قطبها ، ومدار رحاها " .
ثم قال : إنها تبدو يسيرة ، ثم تصير كثيرة .
والفظاعة .
مصدر فظع بالضم ، فهو فظيع أي شديد شنيع تجاوز المقدار ، وكذلك أفظع الرجل فهو مفظع ، وأفظع الرجل على ما لم يسم فاعله : نزل به أمر عظيم ، وأفظعت الشئ : وجدته فظيعا ، ومثله استفظعته ، وهذا المعنى كما قال الشاعر : ولربما هاج الكبير من الامور لك الصغير وفى المثل : " والشر تبدؤه صغاره " ، وقال الشاعر : فإن النار بالعودين تذكى * وإن الحرب أولها كلام (1) وقال أبو تمام : رب قليل جدا كثيرا * كم مطر بدؤه مطير وقال أيضا : لا تذيلن صغير همك وانظر * كم بذى الاسل دوحة من قضيب (2) قوله : " شبابها كشباب الغلام " بالكسر ، مصدر شب الفرس والغلام يشب ويشب شبابا وشسبيبا ، إذا قمص ولعب ، وأشببته أنا ، أي هيجته .
__________
(1) لنصر بن سيار ، العقد لابن عبد ربه 4 : 110 .
(2) ديوانه 1 : 127 .
والاثل : شجر معروف بعظمه ، والدوحة : الشجرة العظيمة .
(*)(9/140)
والسلام : الحجارة جمع ، واحده سلمة بكسر اللام ، يذكر الفتنة ، ويقول : إنها تبدو في أول الامر وأربابها يمرحون ويشبون كما يشب الغلام ويمرح ، ثم تئول إلى أن تعقب فيهم آثارا ، كآثار الحجارة في الابدان ، قال الشاعر : والحب مثل الحرب أولها التخيل والنشاط وختامها أم الربيق النكر والضرب القطاط (1) ثم ذكر أن هذه الفتنة يتوارثها قوم من قوم ، وكلهم ظالم ، أولهم يقود آخرهم ، كما يقود الانسان القطار من الابل وهو أمامها وهى تتبعه .
وآخرهم يقتدى بأولهم ، أي يفعل فعله ، ويحذو حذوه .
وجيفة مريحة : منتنة ، أراحت ظهر ريحها ، ويجوز أن تكون من أراح البعير ، أي مات ، وقد جاء في " أراح " بمعنى أنتن " راح " بلا همز .
ثم ذكر تبرؤ التابع من المتبوع ، يعنى يوم القيامة .
فإن قلت : إن الكتاب العزيز إنما ذكر تبرؤ المتبوع من التابع في قوله : (إذ تبرأ ، الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الاسباب) (2) ، وهاهنا قد عكس ذلك ، فقال : إن التابع يتبرأ من المتبوع ! قلت : إنه قد ورد في الكتاب العزيز مثل ذلك ، في قوله : (أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون (3)) .
(قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعو من قبل شيئا) (4) ، فقولهم : (لم نكن ندعو من من قبل شيئا) هو التبرؤ ، وهو قوله حكاية عنهم : (والله ربنا ما كنا مشركين (3) ، وهذا هو التبرؤ .
__________
(1) أم الربيق كناية عن الحرب .
(2) سورة البقرة 166 .
(3) سورة الانعام 22 ، 23 .
(4) سورة غافر 74 .
(*)(9/141)
ثم ذكر عليه السلام أن القائد يتبرأ من المقود ، أي يتبرأ المتبوع من التابع فيكون كل من الفريقين تبرأ من صاحبه ، كما قال سبحانه : (ويوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا) (1) .
ويتزايلون : يتفرقون .
قوله : " ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرجوف " ، طالعها : مقدماتها وأوائلها ، وسماها " رجوفا " ، لشدة الاضطراب فيها .
فإن قلت : ألم تكن قلت : إن قوله : " عن قليل يتبرأ التابع من المتبوع " يعنى به يوم القيامة فكيف يقول : " ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة " وهذا إنما يكون قبل القيامة ! قلت : إنه لما ذكر تنافس الناس على الجيفة المنتنة وهى الدنيا ، أراد أن يقول بعده بلا فصل : " ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرجوف " ، لكنه لما تعجب من تزاحم الناس وتكالبهم على تلك الجيفة ، أراد أن يؤكد ذلك التعجب ، فأتى بجملة معترضة بين الكلامين ، تؤكد معنى تعجبه منهم ، فقال : إنهم على ما قد ذكرنا من تكالبهم عليها ، عن قليل يتبرأ بعضهم من بعض ، ويلعن بعضهم بعضا ، وذلك أدعى لهم - لو كانوا يعقلون - إلى أن يتركوا التكالب والتهارش على هذه الجيفة الخسيسة .
ثم عاد إلى نظام الكلام ، فقال : " ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرجوف " ، ومثل هذا الاعتراض في الكلام كثير ، وخصوصا في القرآن ، وقد ذكرنا منه فيما تقدم طرفا .
قوله : " والقاصمة الزحوف " القاصمة : الكاسرة ، وسماها زحوفا تشبيها لمشيها قدما بمشى الدبى الذى يهلك الزروع ويبيدها ، والزحف : السير على تؤدة كسير الجيوش بعضها إلى بعض .
__________
(1) سورة العنكبوت 25 .
(*)(9/142)
قوله : " وتزيغ قلوب " أي تميل ، وهذه اللفظة والتى بعدها دالتان على خلاف ما تذهب إليه الامامية من أن المؤمن لا يكفر ، وناصرتان لمذهب أصحابنا .
ونجومها : مصدر نجم الشر إذا ظهر .
من أشرف لها : من صادمها وقابلها .
ومن سعى فيها ، أي في تسكينها وإطفائها ، وهذا كله إشارة إلى الملحمة الكائنة في آخر الزمان .
والتكادم : التعاض بأدنى الفم ، كما يكدم الحمار ، ويقال : كدم يكدم ، والمكدم : المعض .
والعانة : القطيع من حمر الوحش ، والجمع عون .
تغيض فيها الحكمة : تنقض .
فإن قلت : ليس قوله : " وتنطق فيها الظلمة " واقعا في نقيض قوله : " تغيض فيها الحكمة " ، فأين هذا من الخطابة التى هو فيها نسيج وحده ! قلت : بل المناقضة ظاهرة ، لان الحكمة إذا غاضت فيها لم ينطق بها أحد ولابد من نطق ما ، فإذا لم تنطق ! الحكماء وجب أن يكون النطق لمن ليس من الحكماء ، فهو من الظلمة ، فقد ثبت التناقض .
والمسحل : المبرد .
يقول : تنحت أهل البدو وتسحتهم كما يسحت الحديد أو الخشب بالمبرد .
وأهل البدو : أهل البادية ويجوز أن يريد بالمسحل الحلقة التى في طرف شكيم اللجام المعترضة بإزاء حلقة أخرى في الطرف الاخر ، وتدخل إحداهما في الاخرى ، بمعنى أن هذه الفتنة تصدم أهل البدو بمقدمة جيشها كما يصدم الفارس الراجل أمامه بمسحل لجام فرسه .
والكلكل : الصدر .
وترضهم : تدقهم دقا جريشا .(9/143)
قوله : " تضيع في غبارها الوحدان " ، جمع واحد ، مثل شاب وشبان ، وراع ورعيان ، ويجوز " الاحدان " بالهمز ، أي من كان يسير وحده فإنه يهلك بالكلية في غبارها ، وأما إذا كانوا جماعة ركبانا فإنهم يضلون ، وهو أقرب من الهلاك ، ويجوز أن يكون الوحدان جمع أوحد ، يقال : فلان أوحد الدهر ، وهؤلاء الوحدان أو الاحدان ، مثل أسود وسودان ، أي يضل في هذه الفتنة ، وضلالها الذى كنى عنه بالغبار فضلاء ، عصرها وعلماء عهدها ، لغموض الشبهة واستيلاء الباطل على أهل وقتها .
ويكون معنى الفقرة الثانية على هذا التفسير أن الراكب الذى هو بمظنة النجاة لاينجو .
والركبان : جمع راكب ، ولايكون إلا ذا بعير .
قوله : ترد بمر القضاء ، أي بالبوار والهلاك والاستئصال .
فإن قلت : أيجوز أن يقال للفتنة القبيحة : إنها من القضاء ؟ قلت : نعم ، لا بمعنى الخلق بل بمعنى الاعلام ، كما قال سبحانه : (وقضينا إلى بنى إسرائيل في الكتاب لتفسدن) (1) أي أعلمناهم ، أي ترد هذه الفتنة بإعلام الله تعالى لمن يشاء إعلامه من المكلفين أنها أم اللهيم (2) التى لا تبقى ولا تذر ، فذلك الاعلام هو المر الذى لا يبلغ الوصف مرارته ، لان الاخبار عن حلول المكروه الذى لامدفع عنه ولا محيص منه ، مر جدا .
قوله : " وتحلب عبيط الدماء " ، أي هذه الفتنة يحلبها الحالب دما عبيطا ، وهذه كناية عن الحرب ، وقد قال عليه السلام في موضع آخر : " أما والله ليحلبنها دما ، وليتبعنها ندما " والعبيط : الدم الطرى الخالص .
وثلمت الاناء ، أثلمه بالكسر .
والاكياس : العقلاء .
__________
(1) سورة الاسراء 4 .
(2) أم اللهيم : الداهية .
(*)(9/144)
والارجاس : جمع رجس ، وهو القذر والنجس ، والمراد هاهنا الفاسقون ، فإما أن يكون على حذف المضاف ، أي ويدبرها ذوو الارجاس ، أو أن يكون جعلهم الارجاس أنفسها ، (1 لما كانوا قد أسرفوا في الفسق ، فصاروا كأنهم الفسق والنجاسة نفسها 1) ، كما يقال : رجل عدل ، ورجل رضا .
قوله : " مرعاد مبراق " أي ذات وعيد وتهدد ، ويجوز أن يعنى بالرعد صوت السلاح وقعقعته ، وبالبرق لونه وضوءه .
وكاشفة عن ساق : عن شدة ومشقة .
قوله : بريئها سقيم " ، يمكن أن يعنى بها أنها لشدتها لا يكاد الذى يبرأ منها وينفض يده عنها يبرأ بالحقيقة ، بل لا بد أن يستثنى شيئا من الفسق والضلال ، أي لشدة التباس الامر واشتباه الحال على المكلفين حينئذ .
ويمكن أن يعنى به أن الهارب منها غير ناج ، بل لابد أن يصيبه بعض معرتها ومضرتها .
وظاعنها مقيم : أي ما يفارق الانسان من أذاها وشرها ، فكأنه غير مفارق له ، لانه قد أبقى عنده ندوبا وعقابيل من شرورها وغوائلها .
* * * الاصل : منها : بين قتيل مطلول ، وخائف مستجير ، يختلون بعقد الايمان ، وبغرور الايمان ، فلا تكونوا أنصاب الفتن ، وأعلام البدع .
__________
(1 - 1) ساقط من ب .
(10 - نهج - 9)(9/145)
والزموا ما عقد عليه حبل الجماعه وبنيت عليه أركان الطاعة .
واقدموا على الله مظلومين ، ولا تقدموا عليه ظالمين .
واتقوا مدارج الشيطان ، ومهابط العدوان ، ولا تدخلوا بطونكم لعق الحرام ، فإنكم بعين من حرم عليكم المعصية ، وسهل لكم سبل الطاعة * * * الشرح : يقال : طل دم فلان فهو مطلول ، أي مهدر لا يطلب به ، ويجوز أطل دمه ، وطله الله وأطله : أهدره ، ولا يقال : طل دم فلان بالفتح ، وأبو عبيدة والكسائي يقولانه .
ويختلون : يخدعون بالايمان التى يعقدونها ويقسمون بها ، وبالايمان الذى يظهرونه ويقرون به .
ثم قال : " فلا تكونوا أنصار الفتن ، وأعلام البدع " أي لا تكونوا ممن يشار إليكم في البدع كما يشار إلى الاعلام المبنية القائمة ، وجاء في الخبر المرفوع : " كن في الفتنة كابن اللبون ، لا ظهر فيركب ، ولا ضرع فيحلب " ، وهذه اللفظة يرويها كثير من الناس لامير المؤمنين عليه السلام .
قوله : " واقدموا على الله مظلومين " ، جاء في الخبر : " كن عبد الله المقتول " .
ومدارج الشيطان : جمع مدرجة ، وهى السبيل التى يدرج فيها .
ومهابط العدوان : محاله التى يهبط فيها .
ولعق الحرام : جمع لعقة بالضم ، وهى اسم لما تأخذه الملعقة ، واللعقة ، بالفتح : المراة الواحدة .
قوله : " فإنكم بعين من حرم " يقال : أنت بعين فلان ، أي أنت بمرأى منه ، وقد قال عليه السلام في موضع آخر بصفين : " فإنكم بعين الله ، ومع ابن عم رسول الله " وهذا من باب الاستعارة ، قال سبحانه : (ولتصنع على عينى (1)) ، وقال : (تجرى بأعيننا (2)) .
__________
(1) سورة طه 39 .
(2) سورة القمر 14 .
(*)(9/146)
(152) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : الحمد لله الدال على وجوده بخلقه ، وبمحدث خلقه على أزليته ، وباشتباههم على أن لا شبه له ، لا تستلمه المشاعر ، ولا تحجبه السواتر ، لافتراق الصانع والمصنوع ، والحاد والمحدود ، والرب والمربوب ، الاحد بلا تأويل عدد ، والخالق لا بمعنى حركة ونصب ، والسميع لا بأداة ، والبصير لا بتفريق آلة ، والشاهد لا بمماسة ، والبائن لا بتراخى مسافة ، والظاهر لا برؤية ، والباطن لا بلطافة .
بأن من الاشياء بالقهر لها ، والقدرة عليها ، وبأنت الاشياء منه بالخضوع له ، والرجوع إليه .
من وصفه فقد حده ، ومن حده فقد عده ، ومن عده فقد أبطل أزله ، ومن قال : " كيف " فقد استوصفه ، ومن قال : " أين " ، فقد حيزه ، عالم إذ لا معلوم ، ورب إذ لا مربوب ، وقادر إذ لا مقدور .
* * * الشرح : [ أبحاث كلامية ] في هذا الفصل أبحاث : أولها في وجوده تعالى ، وإثبات أن للعالم صانعا ، وهاتان طريقتان في الدلالة على وجوده الاول سبحانه :(9/147)
إحداهما : الطريقة المذكورة في هذا الفصل ، وهى طريقة المتكلمين ، وهى إثبات أن الاجسام محدثة ، ولابد للمحدث من محدث .
والثانية : إثبات وجوده تعالى من النظر في نفس الوجود .
وذلك لان الوجود ينقسم بالاعتبار الاول إلى قسمين : واجب وممكن ، وكل ممكن لابد أن ينتهى إلى الواجب ، لان طبيعة ، الممكن يمتنع من أن يستقل بنفسه في قوامه ، فلابد من واجب يستند إليه ، وذلك الواجب الوجود الضرورى الذى لابد منه ، هو الله تعالى .
وثانيها : إثبات أزليته ، وبيانه ما ذكره في هذا الفصل ، وهو أن العالم مخلوق له سبحانه ، حادث من جهته ، والمحدث لا بد له من محدث ، فإن كان ذلك المحدث محدثا ، عاد القول فيه كالقول في الاول ، ويتسلسل ، فلا بد من محدث قديم ، وذلك هو الله تعالى .
وثالثها : أنه لا شبيه له ، أي ليس بجسم كهذه الاجسام ، وبيانه ما ذكر أيضا أن مخلوقاته متشابهة ، يعنى بذلك ما يريده المتكلمون من قولهم : الاجسام متماثلة في الجسمية ، وأن نوع الجسمية واحد ، أي لا يخالف جسم جسما بذاته ، وإذا كانت متماثلة صح على كل واحد منها ما صح على الاخر ، فلو كان [ له ] سبحانه شبيه منها - أي لو كان جسما مثلها - لوجب أن يكون محدثا كمثلها ، أو تكون قديمة مثله ، وكلا الامرين محال .
ورابعها : أن المشاعر لا تستلمه ، وروى " لا تلمسه " ، والمشاعر الحواس ، وبيانه أنه تعالى ليس بجسم لما سبق ، وما ليس بجسم استحال أن تكون المشاعر لامسة له ، لان إدراك المشاعر مدركاته مقصور على الاجسام وهيئاتها .
والاستلام في اللغة : لمس الحجر باليد وتقبيله ، ولا يهمز ، لان أصله من السلام وهى (1) الحجارة ، كما يقال : استنوق الجمل وبعضهم يهمزه .
__________
(1) ساقطة من د .
(*)(9/148)
وخامسها : أن السواتر لا تحجبه ، و بيانه أن السواتر والحجب ، إنما تحجب ما كان في جهة ، وذلك لانها ذوات أين ووضع فلا نسبة لها ، إلى ما ليس من ذوات الاين والوضع .
ثم قال عليه السلام : " لافتراق الصانع والمصنوع " ، أشارة إلى أن المصنوع من ذوات الجهة والصانع منزه عن ذلك ، برئ عن المواد ، فلا يلزم فيه ما يلزم في ذوات المادة والجهة .
وسادسها : معنى قولنا : إنه أحد ، " أنه ليس بمعنى العدد ، كما يقوله الناس : أول العدد أحد وواحد ، بل المراد بأحديته كونه لا يقبل التجزى ، وباعتبار آخر كونه لا ثانى له في الربوبية .
وسابعها : أنه خالق ، لا بمعنى الحركة والنصب ، وهو التعب ، وذلك لان الخالقين منا يحتاجون إلى الحركة من حيث كانوا أجساما تفعل بالالات ، والبارئ سبحانه ليس بجسم ، ولا يفعل بالالة ، بل كونه قادرا إنما هو لذاته المقدسة ، لا لامر زائد عليها ، فلم يكن فاعلا بالحركة .
وثامنها : أنه سميع ، لا بأداة ، وذلك لان حاجتنا إلى الحواس ، إنما كانت لامر يخصنا ، وهو كوننا أحياء بحياة حالة في أبعاضنا ، والبارئ تعالى حى لذاته ، فلم يحتج في كونه مدركا إلى الاداة والجارحة .
وتاسعها : أنه بصير لا بتفريق آلة ، والمراد بتفريق الالة هاهنا الشعاع الذى باعتباره يكون الواحد منا مبصرا ، فإن القائلين بالشعاع يقولون : إنه يخرج من العين أجسام لطيفة هي الاشعة ، وتكون آلة للحى في إبصار المبصرات ، فيتفرق عليها ، فكل جسم يقع عليه ذلك الشعاع يكون مبصرا ، والبارئ تعالى بصير لا بشعاع يجعله آلة في الادراك ، ويتفرق على المرئيات(9/149)
فيدركها به ، وذلك لما قدمناه من أنه حى لذاته ، لا بمعنى ، فلا يحتاج إلى آلة وأداة ووصلة تكون كالواسطة بينه وبين المدركات .
وعاشرها : أنه الشاهد لا بمماسة ، وذلك لان الشاهد منا هو الحاضر بجسمه عند المشهود ، ألا ترى أن من في الصين لا يكون شاهدا من في المغرب ، لان الحضور الجسماني يفتقر إلى القرب ، والقرب من لوازم الجسمية ، فما ليس بجسم - وهو عالم بكل شئ - يكون شاهدا من غير قرب ولا مماسة ، ولا أين مطلوب .
وحادي عشرها : أنه البائن لا بتراخى مسافة بينونة المفارق عن المادة ، بينونة ليست أينية لانه لا نسبة لاحدهما إلى الاخر بالجهة ، فلا جرم كان الباري تعالى مباينا عن العالم ، لا بمسافة بين الذاتين .
وثاني عشرها : أنه الظاهر لا برؤية ، والباطن لا بلطافة ، وذلك لان الظاهر من الاجسام ما كان مرئيا بالبصر ، والباطن منها ما كان لطيفا جدا ، إما لصغره أو لشفافيته ، والبارى تعالى ظاهر للبصائر لا للابصار ، باطن ، أي غير مدرك بالحواس ، لان ذاته لا تقبل المدركية لا من حيث كان لطيف الحجم أو شفاف الجرم .
وثالث عشرها : أنه قال : بان من الاشياء بالقهر لها ، والقدرة عليها ، وبانت الاشياء منه (1) بالخضوع له ، والرجوع إليه ، هذا هو معنى قول المتكلمين والحكماء ، والفرق بينه وبين الموجودات كلها أنه واجب الوجود لذاته ، والاشياء كلها ممكنة الوجود (2) بذواتها ، فكلها محتاجة إليه ، لانها لا وجود لها إلا به ، وهذا هو معنى خضوعها له ، ورجوعها إليه .
وهو سبحانه غنى عن كل شئ ، ومؤثر في كل شئ ، إما بنفسه ، أو بأن يكون مؤثرا فيما هو مؤثر في ذلك الشئ ، كأفعالنا ، فإنه يؤثر فينا ، ونحن نؤثر فيها ، فإذا هو قاهر لكل شئ ، وقادر على كل شئ .
فهذه هي البينونة بينه وبين الاشياء كلها .
__________
(1) ج : " عنه " .
(2) ساقطة من د .
(*)(9/150)
ورابع عشرها : أنه لاصفة له زائدة على ذاته ، ونعنى بالصفة ذاتا موجودة قائمة بذاته ، وذلك لان من أثبت هذه الصفة له فقد حده ، ومن حده فقد عده ، ومن عده فقد أبطل أزله ، وهذا كلام غامض ، وتفسيره أن من أثبت له علما قديما أو قدرة قديمة ، فقد أوجب أن يعلم بذلك العلم معلومات محدودة ، أي محصورة ، وكذلك قد أوجب أن يقدر بتلك القدرة على مقدورات محدودة ، وهذه المقدمة ثابتة في كتب أصحابنا المتكلمين مما يذكرونه في تقرير أن العلم الواحد لا يتعلق بمعلومين ، وأن القدرة الواحدة لا يمكن أن تتعلق في الوقت الواحد من الجنس الواحد في المحل الواحد إلا بجزء واحد ، وسواء فرض هذان المعنيان قديمين أو محدثين ، فإن هذا الحكم لازم لهما ، فقد ثبت أن من أثبت المعاني القديمة فقد أثبت البارئ تعالى محدود العالمية والقادرية ، ومن قال بذلك فقد عده ، أي جعله من جملة الجثة المعدودة فيما بيننا كسائر البشر والحيوانات ، ومن قال بذلك ، فقد أبطل أزله ، لان كل ذات مماثلة لهذه الذوات المحدثة ، فإنها محدثة مثلها ، والمحدث لا يكون أزليا .
وخامس عشرها : أن من قال : " كيف " ، فقد استوصفه ، أي من قال لزيد : كيف الله ؟ فقد استدعى أن يوصف الله بكيفية من الكيفيات ، والبارئ تعالى لا تجوز الكيفيات عليه ، والكيفيات هي الالوان والطعوم ونحوها ، والاشكال والمعاني وما يجرى مجرى ذلك ، وكل هذا لا يجوز إلا على الاجسام .
فإن قلت : ينبغى أن يقول : " فقد وصفه " ، ولا يقال : " فقد استوصفه " ، لان السائل لم يستوصف الله ، وإنما استوصف صاحبه الذى سأله عن كيفية الله .
قلت : " استوصف " هاهنا بمعنى " وصف ، " كقولك : استغنى زيد عن عمرو ، أي غنى عنه ، واستعلى عليه أي علا ، ومثله كثير .
وسادس عشرها : أن من قال : " أين " فقد حيزه ، لان " أين " سؤال عن المكان ، وليس الله تعالى في مكان ، ويأتى أنه في كل مكان بمعنى العلم والاحاطة .(9/151)
وسابع عشرها : أنه عالم إذ لا معلوم ، ورب إذ لا مربوب ، وقادر إذ لا مقدور ، وكل هذا صحيح ومدلول عليه ، لانه عالم فيما لم يزل وليس شئ من الاشياء بموجود ، وهو رب كل شئ قبل أن يخلقه ، كما تقول إنه سميع بصير قبل أن يدرك المسموعات والمبصرات ، أي قبل أن يخلقها ، وقادر على الاشياء قبل كونها ، لانه يستحيل حال كونها أن تكون مقدورة ، لاستحالة إيجاد الموجود .
وقد شرحنا كل هذه المسائل التوحيدية في كتبنا المصنفة في علم الكلام .
* * * الاصل : منها : قد طلع طالع ، ولمع لامع ، ولاح لائح ، واعتدل مائل ، واستبدل الله بقوم قوما ، وبيوم يوما ، وانتظرنا الغير انتظار المجدب المطر .
وإنما الائمة قوام الله على خلقه ، وعرفاؤه على عباده ، ولا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه ، ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه .
إن الله تعالى خصكم بالاسلام ، واستخلصكم له ، وذلك لانه اسم سلامة وجماع كرامة ، اصطفى الله تعالى منهجه وبين حججه ، من ظاهر علم ، وباطن حكم ، لا تفنى غرائبه ، ولا تنقضي عجائبه .
فيه مرابيع النعم ، ومصابيح الظلم ، لا تفتح الخيرات إلا بمفاتيحه ، ولا تكشف الظلمات إلا بمصابيحه ، قد أحمى حماه ، وأرعى مرعاه ، فيه شفاء المشتفى ، وكفاية المكتفى .
* * *(9/152)
الشرح : هذه خطبة خطب بها بعد قتل عثمان حين أفضت الخلافة إليه .
قد طلع طالع ، يعنى عود الخلافة إليه ، وكذلك قوله : " ولمع لامع ، ولاح لائح " ، كل هذا يراد به معنى واحد .
واعتدل مائل ، إشارة إلى ما كانت الامور عليه من الاعوجاج في أواخر أيام عثمان ، واستبدل الله بعثمان وشيعته عليا وشيعته ، وبأيام ذاك أيام هذا .
ثم قال : " وانتظرنا الغير انتظار المجدب المطر " ، وهذا الكلام يدل على أنه قد كان يتربص بعثمان الدوائر ، ويرتقب حلول الخطوب بساحته ، ليلى الخلافة .
فإن قلت : أليس هو الذى طلق الدنيا ، فأين هذا القول من طلاقها ؟ قلت : إنه طلق الدنيا أن يقبل (1) منها حظا دنيويا ، ولم يطلقها ، أن ينهى فيها عن المنكرات التى أمره الله تعالى بالنهي عنها ، ويقيم فيها الدين الذى أمره الله بإقامته ولا سبيل له إلى النهى عن المنكر والامر بالمعروف إلا بولاية الخلافة .
[ عقيدة على في عثمان ورأى المعتزلة في ذلك ] فإن قلت : أيجوز على مذهب المعتزلة أن يقال : إنه عليه السلام كان ينتظر قتل عثمان ، انتظار المجدب المطر ، وهل هذا إلا محض مذهب الشيعة ! قلت : إنه عليه السلام لم يقل : " وانتظرنا قتله " وإنما انتظر الغير ، فيجوز أن يكون أراد انتظار خلعه وعزله عن الخلافة ، فإن عليا عليه السلام عند أصحابنا كان يذهب إلى أن عثمان استحق الخلع بإحداثه ، ولم يستحق القتل ، وهذا الكلام إذا حمل على انتظار الخلع كان موافقا لمذهب أصحابنا .
__________
(1) د : " ينال " .
(*)(9/153)
فإن قلت : أتقول المتعزلة أن عليا كان يذهب إلى فسق عثمان المستوجب لاجله الخلع ؟ قلت : كلا ! حاش لله أن تقول المعتزلة ذلك ! وإنما تقول إن عليا كان يرى أن عثمان يضعف عن تدبير الخلافة ، وأن أهله غلبوا عليه ، واستبدوا بالامر دونه ، واستعجزه المسلمون ، واستسقطوا رأيه ، فصار حكمه حكم الامام إذا عمى ، أو أسره العدو ، فإنه ينخلع من الامامة .
* * * ثم قال عليه السلام : " الائمة قوام الله على خلقه " ، أي يقومون بمصالحهم ، وقيم المنزل : هو المدبر له .
قال : " وعرفاؤه على عباده " ، جمع عريف ، وهو النقيب والرئيس ، يقال : عرف فلان بالضم عرافة بالفتح ، مثل خطب خطابة أي صار عريفا ، وإذا أردت أنه عمل ذلك قلت : عرف فلان علينا سنين ، يعرف عرافة بالكسر ، مثل كتب يكتب كتابة .
قال : " ولا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه ، ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه " ، هذا إشارة إلى قوله تعالى : (يوم ندعو كل أناس بإمامهم) (1) قال المفسرون : ينادى في الموقف : يا أتباع فلان ، ويا أصحاب فلان ، فينادى كل قوم باسم إمامهم ، يقول أمير المؤمنين عليه السلام : لا يدخل الجنة يومئذ إلا من كان في الدنيا عارفا بإمامه ، ومن يعرفه إمامه في الاخرة ، فإن الائمة تعرف أتباعها يوم القيامة ، وإن لم يكونوا رأوهم في الدنيا ، كما أن النبي صلى الله عليه وآله يشهد (2) للمسلمين وعليهم ، وإن لم يكن رأى أكثرهم ، قال سبحانه : (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) ، (3) وجاء في الخبر
__________
(1) سورة الاسراء 71 .
(2) ب : " شهد " .
(3) سورة النساء 41 .
(*)(9/154)
المرفوع : " من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية " ، وأصحابنا كافة قائلون بصحة هذه القضية ، وهى أنه لا يدخل الجنة إلا من عرف الائمة ، ألا ترى أنهم يقولون : الائمة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله فلان وفلان ، ويعدونهم واحدا واحدا ، فلو أن إنسانا لا يقول بذلك ، لكان عندهم فاسقا ، والفاسق لا يدخل الجنة عندهم أبدا ، أعنى من مات على فسقه .
فقد ثبت أن هذه القضية ، وهى قوله : عليه السلام : " لا يدخل الجنة إلا من عرفهم " قضية صحيحة على مذهب المعتزلة ، وليس قوله : " وعرفوه " بمنكر عند أصحابنا ، إذا فسرنا قوله تعالى : (يوم ندعو كل أناس بإمامهم) على ما هو الاظهر والاشهر من التفسيرات ، وهو ماذ كرناه .
وبقيت القضية الثانية ففيها الاشكال ، وهى قوله عليه السلام : " ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه " ، وذلك أن لقائل أن يقول : قد يدخل النار من لم ينكرهم ، مثل أن يكون إنسان يعتقد صحة إمامة القوم الذين يذهب أنهم أئمة عند المتعزلة ، ثم يزنى أو يشرب الخمر من غير توبة ، فإنه يدخل النار ، وليس بمنكر للائمة ، فكيف يمكن الجمع بين هذه القضية وبين الاعتزال ! فالجواب أن الواو في قوله : " وأنكروه " بمعنى " أو " كما في قوله تعالى : (فأنكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) (1) فالانسان المفروض في السؤال وإن كان لا ينكر الائمة إلا أنهم ينكرونه ، أي يسخطون يوم القيامة أفعاله ، يقال : أنكرت فعل فلان أي كرهته ، فهذا هو تأويل الكلام على مذهبنا ، فأما الامامية فإنهم يحملون ذلك على تأويل آخر ، ويفسرون قوله : " ولا يدخل النار " ، فيقولون : أراد ولا يدخل النار دخولا مؤبدا إلا من ينكرهم وينكرونه .
__________
(1) سورة النساء 3 .
(*)(9/155)
ثم ذكر عليه السلام شرف الاسلام ، وقال : إنه مشتق من السلامة ، وإنه جامع للكرامة ، وإن الله قد بين حججه ، أي الادلة على صحته .
ثم بين ما هذه الادلة ، فقال : " من ظاهر علم ، وباطن حكم " ، أي حكمة ، ف " مين " هاهنا للتبيين والتفسير ، كما تقول : دفعت إليه سلاحا من سيف ورمح وسهم ، ويعنى بظاهر علم وباطن حكم ، والقرآن ، ألا تراه كيف أتى بعده بصفات ونعوت لا تكون إلا للقرآن ، من قوله : " لا تفنى عزائمه " أي آياته المحكمة ، و " براهينه العازمة " أي القاطعة ولا تنقضي عجائبه ، لانه مهما تأمله الانسان استخرج منه بكفر غرائب وعجائب لم تكن عنده من قبل .
" فيه مرابيع النعم " ، المرابيع الامطار التى تجئ في أول الربيع فتكون سببا لظهور الكلا ، وكذلك تدبر القرآن سبب للنعم الدينية وحصولها .
قوله : " قد أحمى حماه ، وأرعى مرعاه " ، الضمير في " أحمى " يرجع إلى الله تعالى ، أي قد أحمى الله حماه ، أي عرضه لان يحمى ، كما تقول : أقتلت الرجل ، أي عرضته لان يقتل .
وأضربته ، أي عرضته لان يضرب ، أي قد عرض الله تعالى حمى القرآن ومحارمه لان يجتنب ومكن منها ، وعرض مراعاه لان يرعى ، أي مكن من الانتفاع بما فيه من الزواجر والمواعظ لانه خاطبنا بلسان عربي مبين ، ولم يقنع ببيان مالا نعلم إلا بالشرع ، حتى نبه في أكثره على أدلة العقل .(9/156)
(153) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : وهو في مهلة من الله يهوى مع الغافلين ، ويغدو مع المذنبين ، بلا سبيل قاصد ، ولا إمام قائد .
* * * الشرح : يصف إنسانا من أهل الضلال غير معين ، بل كما تقول : رحم الله أمرأ اتقى ربه وخاف ذنبه ، وبئس الرجل رجل قل حياؤه وعدم وفاؤه ، ولست تعنى رجلا بعينه .
ويهوى : يسقط .
والسبيل القاصد : الطريق المؤدية إلى المطلوب .
والامام إما الخليفة ، وإما الاستاذ ، أو الدين ، أو الكتاب ، على كل من هؤلاء تطلق هذه اللفظة .
* * * الاصل : منها : حتى إذا كشف لهم عن جزاء معصيتهم ، واستخرجهم من جلابيب غفلتهم استقبلوا مدبرا ، واستدبروا مقبلا ، فلم ينتفعوا بما أدركوا من طلبتهم ، ولا بما قضوا من وطرهم .(9/157)
وإنى أحذركم ونفسي هذه المنزلة ، فلينتفع امرؤ بنفسه ، فإنما البصير من سمع فتفكر ، ونظر فأبصر ، وانتفع بالعبر ، ثم سلك جددا واضحا يتجنب فيه الصرعة في المهاوى ، والضلال في المغاوى ، ولا يعين على نفسه الغواة بتعسف في حق ، أو تحريف في نطق ، أو تخوف من صدق .
فأفق أيها السامع من سكرتك ، واستيقظ من غفلتك ، واختصر من عجلتك ، وأنعم الفكر فيما جاءك على لسان النبي الامي صلى الله عليه وسلم مما لا بد منه ، ولا محيص عنه .
وخالف من خالف ذلك إلى غيره ، ودعه وما رضى لنفسه ، وضع فخرك ، واحطط كبرك ، واذكر قبرك ، فإن عليه ممرك ، وكما تدين تدان ، وكما تزرع تحصد ، وما قدمت اليوم تقدم عليه غدا ، فامهد لقدمك ، وقدم ليومك .
فالحذر الحذر أيها المستمع ! والجد الجد ، أيها الغافل ، (ولا ينبئك مثل خبير (1)) .
* * * الشرح : فاعل " كشف " هو الله تعالى ، وقد كان سبق ذكره في الكلام ، وإنما كشف لهم عن جزاء معصيتهم بما أراهم حال الموت من دلائل الشقوة والعذاب ، فقد ورد في الخبر الصحيح أنه " لا يموت ميت حتى يرى مقره من جنة أو نار " .
ولما انفتحت أعين أبصارهم عند مفارقة الدنيا ، سمى ذلك عليه السلام استخراجا لهم من جلابيب غفلتهم ، كأنهم كانوا من الغفلة والذهول في لباس نزع عنهم .
قال : " استقبلوا مدبرا " ، أي استقبلوا أمرا كان في ظنهم واعتقادهم مدبرا عنهم ، وهو الشقاء والعذاب .
" واستدبروا مقبلا " تركوا وراء ظهورهم ما كانوا خولوه من الاولاد والاموال والنعم وفى قوة هذا الكلام أن يقول : عرفوا ما أنكروه وأنكروا ما عرفوه :
__________
(1) سورة فاطر 14 .
(*)(9/158)
وروى : " أحذركم ونفسي هذه المزلة " مفعلة ، من الزلل ، وفى قوله : " ونفسي " لطافة رشيقة ، وذلك لانه طيب قلوبهم بأن جعل نفسه شريكة لهم في هذا التحذير ليكونوا إلى الانقياد أقرب وعن الاباء والنفرة أبعد ، بطريق جدد لاحب .
والمهاوى : جمع مهواة ، وهى الهوة يتردى فيها .
والمغاوى : جمع مغواة ، وهى الشبهة التى يغوى بها الناس ، أي يضلون .
ثم يصف الامور التى يعين بها الانسان أرباب الضلال على نفسه ، وهى أن يتعسف في حق يقوله ، أو يأمر به فإن الرفق أنحج ، وأن يحرف المنطق فإن الكذب لا يثمر خيرا ، وأن يتخوف من الصدق في ذات الله ، قال سبحانه : (إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله) (1) فذم من لا يصدق ويجاهد في الحق .
قوله : " واختصر من عجلتك " أي لا تكن عجلتك كثيرة بل إذا كانت لك عجلة فلتكن شيئا يسيرا .
وتقول : أنعمت النظر في كذا ، أي دققته ، من قولك : أنعمت سحق الحجر وقيل : إنه مقلوب " أمعن " .
والنبى الامي ، إما الذى لا يحسن الكتابة ، أو المنسوب إلى أم القرى ، وهى مكة .
ولا محيص عنه : لا مفر ولا مهرب حاص ، أي تخلص من أمر كان نشب فيه .
قوله : " فإن عليه ممرك " أي ليس القبر بدار مقام ، وإنما هو ممر وطريق إلى الاخرة .
__________
(1) سورة النساء 77 .
(*)(9/159)
وكما تدين تدان ، أي كما تجازى غيرك تجازى بفعلك وبحسب ما عملت ، ومنه قوله سبحانه : " إنا لمدينون " (1) ، أي مجزيون ، ومنه الديان في صفة الله تعالى .
قوله : " وكما تزرع تحصد " معنى قد قاله الناس بعده كثيرا ، قال الشاعر : إذا أنت لم تزرع وأدركت حاصدا * ندمت على التقصير في زمن البذر ومن أمثالهم : " من زرع شرا حصد ندما " .
فامهد لنفسك : أي سو ووطئ : " ولا ينبئك مثل خبير) (2) من القرآن العزيز ، أي ولا يخبرك بالامور أحد على حقائقها كالعارف بها العالم بكنهها .
* * * الاصل : إن من عزائم الله في الذكر الحكيم ، التى عليها يثيب ويعاقب ولها يرضى ويسخط ، أنه لا ينفع عبدا - وإن أجهد نفسه ، وأخلص فعله - أن يخرج من الدنيا لاقيا ربه بخصلة من هذه الخصال لم يتب منها : أن يشرك بالله فيما افترض عليه من عبادته ، أو يشفى غيظه بهلاك نفس ، أو يعر بأمر فعله غيره ، أو يستنجح حاجة إلى الناس بإظهار بدعة في دينه ، أو يلقى الناس بوجهين ، أو يمشى فيهم بلسانين .
اعقل ذلك ، فإن المثل دليل على شبهة .
إن البهائم همها بطونها ، وأن السباع همها العدوان على غيرها ، وإن النساء همهن زينة الحياة الدنيا والفساد فيها .
إن المؤمنين مستكينون ، إن المؤمنين مشفقون ، إن المؤمنين خائفون .
__________
(1) سورة الصافات 53 .
(2) سورة الفاطر 14 .
(*)(9/160)
الشرح : عزائم الله ، هي موجباته والامر المقطوع عليه ، الذى لا ريب فيه ولا شبهة ، قال عليه السلام : إن من الامور التى نص الله تعالى عليها نصا لا يحتمل التأويل ، وهى من العزائم التى يقطع بها ، ولا رجوع فيها ولا نسخ لها ، أن من تاب وهو على ذنب من هذه الذنوب (1) المذكورة - ولو اكتفى بذلك عليه السلام لاغناده عن قوله : " لم يتب " إلا أنه ذكر ذلك تأكيدا وزيادة في الايضاح (2) - فإنه لا ينفعه فعل شئ من الافعال الحسنة ولا الواجبة ، ولا تفيده العبادة ولو أجهد إلها آخر فيشركه في العبادة ، أو يقتل إنسانا بغير حق ، بل ليشفى غيظه ، أو يقذف غيره بأمر قد فعله هو .
عره بكذا يعره عرا ، أي عابه ولطخه أو يروم بلوغ حاجة من أحد بإظهار بدعة في الدين ، كما يفعل أكثر الناس في زماننا ، أو يكون ذاوجهين ، وهو أيضا قوله : " أو يمشى فيهم بلسانين " ، وإنما أعاده تأكيدا .
* * * لما نصب معاوية ابنه يزيد لولاية العهد ، أقعده في قبة حمراء ، وأدخل الناس يسلمون على معاوية ، ثم يميلون إلى قبة يزيد ، فيسلمون عليه بولاية العهد ، حتى جاء رجل ففعل ذلك ، ثم رجع إلى معاوية فقال : يا أمير المؤمنين ، أما إنك لو لم تول هذا أمور المسلمين لاضعتها ، وكان الاحنف جالسا ، فلما خف الناس ، قال معاوية : ما بالك لا تقول يا أبا بحر ! قال : أخاف الله إن كذبتك ، وأخافك إن صدقتك ، فماذا أقول ! فقال : جزاك الله عن الطاعة خيرا ، وأمر له بصلة جزيلة فلما خرج لقيه ذلك الرجل بالباب ، فقال : يا أبا بحر ، إنى لاعلم أن شر من خلق الله هذا الرجل ، ولكن هؤلاء قد استوثقوا من هذه
__________
(1) ساقطة من ب .
(2) ا ، ج : " زيادة الايضاح " .
(11 - نهج - 9) (*)(9/161)
الاموال بالابواب والاقفال ، فلسنا نطمع في استخراجها إلا بما سمعت .
فقال : يا هذا أمسك عليك ، فإن ذا الوجهين خليق ألا يكون وجيها عند الله غدا .
* * * ثم أمر عليه السلام بأن يعقل ما قاله ، ويعلم باطن خطابه ، وإنما رمز بباطن هذا الكلام إلى الرؤساء يوم الجمل ، لانهم حاولوا أن يشفوا غيظهم بإهلاكه وإهلاك غيره من المسلمين عروه (1) عليه السلام بأمر هم فعلوه ، وهو التأليب على عثمان وحصره ، واستنجحوا حاجتهم إلى أهل البصرة بإظهار البدعة والفتنة ، ولقوا الناس بوجهين ولسانين ، لانهم بايعوه وأظهروا الرضا به ، ثم دبوا له الخمر (2) فجعل ذنوبهم هذه مماثلة للشرك بالله سبحانه ، في أنها لا تغفر إلا بالتوبة ، وهذا هو معنى قوله : " اعقل ذلك " ، فإن المثل دليل على شبهه ، وروى " فإن المثل " واحد الامثال ، أي هذا الحكم بعدم المغفرة لمن أتى شيئا من هذه الاشياء عام ، والواحد منها دليل على ما يماثله ويشابهه .
فإن قلت : فهذا تصريح بمذهب الامامية في طلحة والزبير وعائشة .
قلت : كلا فإن هذه الخطبة خطب بها وهو سائر إلى البصرة ، ولم تقع الحرب إلا بعد تعدد الكبائر ، ورمز فيها إلى المذكورين ، وقال : " إن لم يتوبوا " ، وقد ثبت أنهم تابوا ، والاخبار عنهم بالتوبة كثيرة مستفيضة .
ثم أراد عليه السلام أن يومئ إلى ذكر النساء للحال التى كان وقع إليها من استنجاد أعدائه بامرأة ، فذكر قبل ذكر النساء أنواعا من الحيوان ، تمهيدا القاعدة ذكر النساء ، فقال : إن البهائم همها بطونها ، كالحمر والبقر والابل والغنم ، وإن السباع همها العدوان
__________
(1) عروه : سبوه .
(2) أخمر القوم ، إذا تواروا بالخمر ، ويقال للرجل إذا ختل صاحبه : هو يدب له الضراء ويمشى له الخمر .
(*)(9/162)
على غيرها ، كالاسود الضارية والنمور والفهود والبزاة والصقور .
ثم قال : وإن النساء همهن زينة الحياة الدنيا والفساد فيها .
نظر حكيم إلى امرأة مصلوبة على شجرة ، فقال : ليت كل شجرة تحمل مثل هذه الثمرة .
ومرت امرأة بسقراط وهو يتشرق في الشمس ، فقالت : ما أقبحك أيها الشيخ ! فقال : لو أنكن من المرائى الصدئة لغمني ما بان من قبح صورتي فيكن .
ورأى حكيم امرأة تعلم الكتابة ، فقال : سهم يسقى سما ليرمى به يوما ما .
ورأى بعضهم جارية تحمل نارا ، فقال : نار على نار ، والحامل شر من المحمول .
وقيل لسقراط : أي السباع أحسن ؟ قال : المرأة .
وتزوج بعضهم امرأة نحيفة ، فقيل له في ذلك ، فقال : اخترت من الشر أقله .
ورأى بعض الحكماء المرأة غريقة قد احتملها السيل ، فقال : زادت الكدر كدرا ، والشر بالشر يهلك .
* * * ثم ذكر عليه السلام خصائص المؤمن ، فقال : إن المؤمنين مستكينون ، استكان الرجل ، أي خضع وذل .
إن المؤمنين مشفقون ، التقوى رأس الايمان كما ورد في الخبر .
ثم قال : " إن المؤمنين خائفون " هو الاول وإنما أكده ، والتأكيد مطلوب في باب الخطابة .(9/163)
(154) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : وناظر قلب اللبيب به يبصر أمده ، ويعرف غوره ونجده .
داع دعا ، وراع رعى ، فاستجيبوا للداعى ، واتبعوا الراعى .
* * * الشرح : يقول : إن قلب اللبيب له عين يبصر بها غايته التى يجرى إليها ، ويعرف من أحواله المستقبلة ما كان مرتفعا أو منخفضا ساقطا ، والنجد : المرتفع من الارض ، ومنه قولهم للعالم بالامور : " طلاع أنجد " .
ثم قال : " داع دعا " ، موضع " داع " رفع ، لانه مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : " في الوجود داع دعا ، وراع رعى " ، ويغنى بالداعى رسول الله صلى الله عليه وآله ، وبالراعي نفسه عليه السلام .
* * * الاصل : قد خاضوا بحار الفتن ، وأخذوا بالبدع دون السنن ، وأرز المؤمنون ، ونطق الضالون المكذبون .
نحن الشعار والاصحاب ، والخزنة والابواب ، ولا تؤتى البيوت إلا من أبوابها ، فمن أتاها من غير أبوابها سمى سارقا .(9/164)
الشرح : هذا كلام متصل بكلام لم يحكه الرضى رحمه الله ، وهو ذكر قوم من أهل الضلال قد كان أخذ في ذمهم ، ونعى عليهم عيوبهم .
وأرز المؤمنون ، أي انقبضوا ، والمضارع " يأرز " بالكسر أرزا وأروزا ، ورجل أروز أي منقبض ، وفى الحديث : " إن الاسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها (1) " ، أي ينضم إليها ويجتمع .
ثم قال : " نحن الشعار والاصحاب " ، يشير إلى نفسه ، وهو أبدا يأتي بلفظ الجمع ومراده الواحد .
والشعار : ما يلي الجسد من الثياب ، فهو أقرب من سائرها إليه ، ومراده الاختصاص برسول الله صلى الله عليه وآله .
والخزنة والابواب ، يمكن أن يعنى به خزنة العلم وأبواب العلم ، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله : " أنا مدينة العلم وعلى بابها ، فمن أراد الحكمة فليأت الباب " .
وقوله فيه : " خازن علمي " : وقال تارة أخرى : " عيبة علمي " .
ويمكن أن يريد خزنة الجنة وأبواب الجنة ، أي لا يدخل الجنة إلا من وافى بولايتنا ، فقد جاء في حقه الخبر الشائع المستفيض : إنه قسيم النار والجنة ، وذكر أبو عبيد الهروي في " الجمع بين الغريبين " ، أن قوما من أئمة العربية فسروه ، فقالوا : لانه لما كان محبه من أهل الجنة ، ومبغضه من أهل النار ، كأنه بهذا الاعتبار قسيم النار والجنة .
قال أبو عبيد : وقال غير هؤلاء : بل هو قسيمها بنفسه في الحقيقة ، يدخل قوما إلى الجنة ، وقوما إلى النار ، وهذا الذى ذكره أبو عبيد أخيرا هو ما يطابق الاخبار الواردة فيه ، يقول للنار : هذا لى فدعيه ، وهذا لك فخذيه .
ثم ذكر أن البيوت لا تؤتى إلا من أبوابها ، قال الله تعالى : " وليس البر بأن تأتوا
__________
(1) النهاية لابن الاثير 1 : 24 .
(*)(9/165)
البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها) (1) .
ثم قال : من أتاها من غير أبوابها سمى سارقا ، وهذا حق ظاهرا وباطنا ، أما الظاهر فلان من يتسور البيوت من غير أبوابها هو السارق ، وأما الباطن فلان من طلب العلم من غير أستاذ محقق فلم يأته من بابه ، فهو أشبه شئ بالسارق .
* * * [ ذكر الاحاديث والاخبار الواردة في فضائل على ] واعلم أن أمير المؤمنين عليه السلام لو فخر بنفسه ، وبالغ في تعديد مناقبه وفضائله بفصاحته ، التى آتاه الله تعالى إياها ، واختصه بها ، وساعده على ذلك فصحاء العرب كافة ، لم يبلغوا إلى معشار ما نطق به الرسول الصادق صلوات الله عليه في أمره ، ولست أعنى بذلك الاخبار العامة الشائعة التى يحتج بها الامامية على إمامته ، كخبر الغدير ، والمنزلة ، وقصة براءة ، وخبر المناجاة ، وقصة خيبر ، وخبر الدار بمكة في ابتداء الدعوة ، ونحو ذلك ، بل الاخبار الخاصة التى رواها فيه أئمة الحديث ، التى لم يحصل أقل القليل منها لغيره ، وأنا أذكر من ذلك شيئا يسيرا مما رواه علماء الحديث الذين لا يتهمون فيه ، وجلهم قائلون بتفضيل غيره عليه ، فروايتهم فضائله توجب سكون النفس مالا يوجبه رواية غيرهم .
* * * الخبر الاول : " يا على ، إن الله قد زينك بزينة لم يزين العباد بزينة أحب إليه منها ، هي زينة الابرار عند الله تعالى ، الزهد في الدنيا ، جعلك لا ترزأ من الدنيا شيئا (2) ، ولا ترزأ الدنيا منك شيئا ، ووهب لك حب المساكين ، فجعلك ترضى بهم أتباعا ، ويرضون بك إماما " .
__________
(1) سورة البقرة 177 .
(2) ترزأ : تأخذ .
(*)(9/166)
رواه أبو نعيم الحافظ في كتابه المعروف ب " حلية الاولياء " وزاد فيه أبو عبد الله أحمد بن حنبل في " المسند " : " فطوبى لمن أحبك وصدق فيك ، وويل لمن أبغضك وكذب فيك ! " .
* * * الخبر الثاني : قال لوفد ثقيف : لتسلمن ، أو لابعثن إليكم رجلا منى - أو قال : عديل نفسي - فليضربن أعناقكم ، وليسبين ذراريكم ، وليأخذن أموالكم " .
قال عمر : فما تمنيت الامارة إلا يومئذ ، وجعلت أنصب له صدري رجاء أن يقول : هو هذا .
فالتفت فأخذ بيد على وقال : " هو هذا ! " مرتين .
رواه أحمد في " المسند " ، ورواه في كتاب فضائل على عليه السلام ، أنه قال : " لتنتهن يا بنى وليعة (1) ، أو لابعثن إليكم رجلا كنفسي ، يمضى فيكم أمرى .
يقتل المقاتلة ، ويسبي الذرية ، قال أبو ذر : فما راعني إلا برد كف عمر في حجزتى (2) من خلفي ، يقول : من تراه يعنى ؟ فقلت : إنه لا يعنيك ، وإنما يعنى خاصف النعل ، وإنه قال : " هو هذا " .
* * * الخبر الثالث : " إن الله عهد إلى في على عهدا ، فقلت : يا رب بينه لى ، قال : اسمع ، إن عليا راية الهدى ، وإمام أوليائي ، ونور من أطاعنى ، وهو الكلمة التى ألزمتها المتقين ، من أحبه فقد أحبنى ، ومن أطاعه فقد أطاعنى ، فبشره بذلك .
فقلت : قد بشرته يا رب فقال : أنا عبد الله وفى قبضته ، فإن يعذبنى فبذنوبي لم يظلم شيئا ، وإن يتم لى ما وعدني فهو أولى ، وقد دعوت له فقلت : اللهم اجل قلبه ، واجعل ربيعه الايمان بك .
قال : قد فعلت ذلك ، غير أنى مختصه بشئ من البلاء لم أختص به أحدا من أوليائي ، فقلت : رب ، أخى وصاحبى ! قال : إنه سبق في علمي أنه لمبتل ومبتلى " .
__________
(1) بنو وليعة : حى في كندة .
(2) الحجزة : موضع الازار .
(*)(9/167)
ذكره أبو نعيم الحافظ في " حلية الاولياء " عن أبى برزة الاسلمي ، ثم رواه بإسناد آخر بلفظ آخر ، عن أنس بن مالك : " إن رب العالمين عهد ، في على إلى عهدا أنه راية الهدى ، ومنار الايمان ، وإمام أوليائي ، ونور جميع من أطاعنى ، إن عليا أمينى غدا في القيامة ، وصاحب رايتى ، بيد على مفاتيح خزائن رحمة ربى " .
* * * الخبر الرابع " من أراد أن ينظر إلى نوح في عزمه ، وإلى آدم في علمه ، وإلى إبراهيم في حلمه ، وإلى موسى في فطنته ، وإلى عيسى في زهده ، فلينظر إلى على بن أبى طالب " .
رواه أحمد بن حنبل في " المسند " ورواه أحمد البيهقى في صحيحه .
* * * الخبر الخامس : " من سره أن يحيا حياتي ، ويموت ميتتى ، ويتمسك بالقضيب من الياقوتة التى خلقها الله تعالى بيده ، ثم قال لها : كونى فكانت ، فليتمسك بولاء على بن أبى طالب " .
ذكره أبو نعيم الحافظ في كتاب " حلية الاولياء " ، ورواه أبو عبد الله بن حنبل في " المسند " ، وفى كتاب فضائل على بن أبى طالب ، وحكاية لفظ أحمد رضى الله عنه : " من أحب أن يتمسك بالقضيب الاحمر الذى غرسه الله في جنة عدن بيمينه ، فليتمسك بحب على بن أبى طالب " .
* * * الخبر السادس : " والذى نفسي بيده ، لولا أن تقول طوائف من أمتى فيك ما قالت النصارى في ابن مريم ، لقلت اليوم فيك مقالا : لاتمر بملا من المسلمين إلا أخذوا التراب من تحت قدميك للبركة .
ذكره أبو عبد الله أحمد بن حنبل في " المسند " .
* * * الخبر السابع : خرج صلى الله عليه وآله على الحجيج عشية عرفة ، فقال لهم : إن الله قد(9/168)
باهى بكم الملائكة عامة ، وغفر لكم عامة ، وباهى بعلى خاصة ، وغفر له خاصة .
إنى قائل لكم قولا غير محاب فيه لقرابتي ، إن السعيد كل السعيد حق السعيد من أحب عليا في حياته وبعد موته " .
رواه أبو عبد الله أحمد بن حنبل في كتاب فضائل على عليه السلام ، وفى " المسند " أيضا .
* * * الخبر الثامن : رواه أبو عبد الله أحمد بن حنبل في الكتابين المذكورين : " أنا أول من يدعى به يوم القيامة ، فأقوم عن يمين العرش في ظله ، ثم أكسى حلة ثم يدعى بالنبيين بعضهم على أثر بعض ، فيقومون عن يمين العرش ويكسون حللا ، ثم يدعى بعلى ابن أبى طالب لقرابته منى ومنزلته عندي ، ويدفع إليه لوائى لواء الحمد ، آدم ومن دونه تحت ذلك اللواء " .
ثم قال لعلى : " فتسير به حتى تقف بينى وبين إبراهيم الخليل ، ثم تكسى حلة ، وينادى مناد من العرش : نعم العبد أبوك إبراهيم ! ونعم الاخ أخوك على ! أبشر فإنك تدعى إذا دعيت ، وتكسى إذا كسيت ، وتحيا إذا حييت " .
* * * الخبر التاسع : " يا أنس ، اسكب لى وضوءا " ، ثم قام فصلى ركعتين ، ثم قال : " أول من يدخل عليك من هذا الباب إمام المتقين ، وسيد المسلمين ، ويعسوب الدين ، وخاتم الوصيين وقائد الغر المحجلين " .
قال أنس : فقلت : اللهم اجعله رجلا من الانصار ، وكتبت دعوتي ، فجاء على ، فقال : صلى الله عليه وسلم : " من جاء يا أنس " ؟ فقلت : على ، فقام إليه مستبشرا ، فاعتنقه ، ثم جعل يمسح عرق وجهه .
فقال على يا رسول الله ، صلى الله عليك وآلك ، لقد رأيت منك اليوم تصنع بى شيئا ما صنعته بى قبل ! قال : " وما يمنعنى وأنت تؤدى عنى ، وتسمعهم صوتي ، وتبين لهم ما اختلفوا فيه بعدى ! " رواه أبو نعيم الحافظ في " حلية الاولياء " .
* * *(9/169)
الخبر العاشر : " ادعوا لى سيد العرب عليا " فقالت : عائشة : ألست سيد العرب ؟ فقال : " أنا سيد ولد آدم ، وعلى سيد العرب " فلما جاء أرسل إلى الانصار ، فأتوه ، فقال لهم : " يا معشر الانصار ألا أدلكم على ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدا " قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : " هذا على ، فأحبوه بحبي ، وأكرموه بكرامتي ، فإن جبرائيل أمرنى بالذى قلت لكم عن الله عزوجل " .
رواه الحافظ أبو نعيم في " حلية الاولياء " .
الخبر الحادى عشر : " مرحبا بسيد المؤمنين ، وإمام المتقين " ! فقيل لعلى عليه السلام : كيف شكرك ؟ فقال : أحمد الله على ما آتانى ، وأسأله الشكر على ما أو لانى وأن يزيدنى مما أعطاني .
ذكره صاحب " الحيلة " أيضا .
* * * الخبر الثاني عشر : " من سره أن يحيا حياتي ، ويموت مماتي ، ويسكن جنة عدن التى غرسها ربى ، فليوال عليا من بعدى ، وليوال وليه ، وليقتد بالائمة من بعدى ، فإنهم عترتي ، خلقوا من طينتي ورزقوا فهما وعلما .
فويل للمكذبين من أمتى ! القاطعين فيهم صلتي ، لا أنالهم الله شفاعتي " .
ذكره صاحب " الحلية " أيضا .
* * * الخبر الثالث عشر : بعث رسول الله صلى الله عليه وآله خالد بن الوليد في سرية ، وبعث عليا عليه السلام في سرية أخرى ، وكلاهما إلى اليمن ، وقال : " إن اجتمعتما فعلى على الناس ، وإن افترقتما فكل واحد منكما على جنده " فاجتمعا وأغارا وسبيا نساء ، وأخذا أموالا ، وقتلا ناسا ، وأخذ على جارية فاختصها لنفسه ، فقال خالد لاربعة من المسلمين ، منهم بريدة الاسلمي : اسبقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاذكروا له كذا ، واذكروا(9/170)
له كذا ، لامور عددها على على ، فسبقوا إليه فجاء واحد من جانبه ، فقال : إن عليا فعل كذا ، فأعرض عنه ، فجاء الاخر من الجانب الاخر ، فقال : إن عليا فعل كذا ، فأعرض عنه فجاء بريدة الاسلمي فقال : يارسول الله ، إن عليا فعل ذلك ، فأخذ جارية لنفسه ، فغضب صلى الله عليه وآله ، حتى احمر وجهه ، وقال : " دعوا لى عليا " ! يكررها ، " إن عليا منى وأنا من على ، وإن حظه في الخمس أكثر مما أخذ ، وهو ولى كل مؤمن من بعدى " .
رواه أبو عبد الله أحمد في " المسند " غير مرة ، ورواه في كتاب فضائل على ، ورواه أكثر المحدثين .
* * * الخبر الرابع عشر : " كنت أنا وعلى نورا بين يدى الله عزوجل قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام ، فلما خلق آدم قسم ذلك فيه وجعله جزأين ، فجزء أنا وجزء على " .
رواه أحمد في " المسند " وفى كتاب فضائل على عليه السلام ، وذكره صاحب كتاب الفردوس وزاد فيه : " ثم انتقلنا حتى صرنا في عبد المطلب ، فكان لى النبوة ولعلى الوصية " .
* * * الخبر الخامس عشر : " النظر إلى وجهك يا على عبادة أنت سيد في الدنيا وسيد في الاخرة من أحبك أحبنى وحبيبي حبيب الله ، وعدوك عدوى وعدوى عدو الله ، الويل لمن أبغضك ! " .
رواه أحمد في " المسند " ، قال : وكان ابن عباس يفسره ، ويقول : إن من ينظر إليه يقول : سبحان الله ! ما أعلم هذا الفتى ! سبحان الله ما أشجع هذا الفتى ! سبحان الله ، ما أفصح هذا الفتى ! * * *
__________
(1) السرية : قطعة من الجيش .
(*)(9/171)
الحديث السادس عشر : لما كانت ليلة بدر ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله : " من يستقى لنا ماء ؟ " ، فأحجم الناس ، فقام على فاحتضن قربة ، ثم أتى بئرا بعيدة القعر مظلمة فانحدر فيها ، فأوحى الله إلى جبريل وميكائيل وإسرافيل : أن تأهبوا لنصر محمد وأخيه وحزبه ، فهبطوا من السماء ، لهم لغط يذعر من يسمعه ، فلما حاذوا البئر ، سلموا عليه من عند آخرهم إكراما له وإجلالا .
رواه أحمد في كتاب فضائل على عليه السلام ، وزاد فيه في طريق أخرى عن أنس بن مالك : " لتؤتين يا على يوم القيامة بناقة من نوق الجنة فتركبها ، وركبتك مع ركبتي ، وفخذك مع فخذي ، حتى تدخل الجنة " .
* * * الحديث السابع عشر : خطب صلى الله عليه وآله الناس يوم جمعة ، فقال : " أيها الناس ، قدموا قريشا ولا تقدموها ، وتعلموا منها ولا تعلموها ، قوة رجل من قريش تعدل قوة رجلين من غيرهم ، وأمانة رجل من قريش تعدل أمانة رجلين من غيرهم .
أيها الناس أوصيكم بحب ذى قرباها ، أخى وابن عمى على بن أبى طالب ، لا يحبه إلا مؤمن ، ولا يبغضه إلا منافق ، من أحبه فقد أحبنى ، ومن أبغضه فقد أبغضني ، ومن أبغضني عذبه الله بالنار " .
رواه أحمد رضى الله عنه في كتاب فضائل على عليه السلام .
* * * الحديث الثامن عشر : الصديقون ثلاثة : " حبيب النجار ، الذى جاء من أقصى المدينة يسعى ، ومؤمن آل فرعون الذى كان يكتم إيمانه ، وعلى بن أبى طالب ، وهو أفضلهم " .
رواه أحمد في كتاب فضائل على عليه السلام .
* * * الحديث التاسع عشر : أعطيت في على خمسا ، هن أحب إلى من الدنيا وما فيها ، أما واحدة فهو كاب (1) بين يدى الله عزوجل ، حتى يفرغ من حساب الخلائق ، وأما الثانية(9/172)
فلواء الحمد بيده آدم ومن ولد تحته ، وأما الثالثة فواقف على عقر (1) حوضى ، يسقى من عرف من أمتى ، وأما الرابعة فساتر عورتى ومسلمي إلى ربى ، وأما الخامسة فإنى لست أخشى عليه أن يعود كافرا بعد إيمان ، ولا زانيا بعد إحصان " .
رواه أحمد في كتاب الفضائل .
* * * الحديث العشرون : كانت لجماعة من الصحابة أبواب شارعة في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله ، فقال عليه الصلاة والسلام يوما : " سدوا كل باب في المسجد إلا باب على " ، فسدت ، فقال في ذلك قوم ، حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله فقام فيهم ، فقال : " إن قوما قالوا في سد الابواب وتركي باب على ، إنى ما سددت ولا فتحت ، ولكني أمرت بأمر فاتبعته " .
رواه أحمد في " المسند " مرارا ، وفى كتاب الفضائل .
* * * الحديث الحادى والعشرون : دعا صلى الله عليه وآله عليا في غزاة الطائف ، فانتجاه ، وأطال نجواه حتى كره قوم من الصحابة ، ذلك ، فقال قائل منهم : لقد أطال اليوم نجوى ابن عمه ، فبلغه عليه الصلاة والسلام ذلك فجمع منهم قوما ، ثم قال : " إن قائلا قال : لقد أطال اليوم نجوى ابن عمه .
أما إنى ما انتجيته ، ولكن الله انتجاه " .
رواه أحمد رحمه الله في " المسند " .
* * * الحديث الثاني والعشرون : " اخصمك (2) يا على بالنبوة فلا نبوة بعدى ، وتخصم الناس بسبع ، لا يجاحد فيها أحد من قريش ، أنت أولهم إيمانا بالله ، وأوفاهم بعهد الله ، وأقومهم بأمر الله ، وأقسمهم بالسوية ، وأعدلهم في الرعية .
وأبصرهم بالقضية ، وأعظمهم عند الله مزية " .
__________
(1) العقر : مؤخر الخوض حيث تقف الابل .
(2) أخصمك : أغلبك .
(*)(9/173)
رواه أبو نعيم الحافظ في " حلية الاولياء " .
* * * الخبر الثالث والعشرون ، قالت فاطمة : إنك زوجتني فقيرا لا مال له ، فقال : " زوجتك أقدمهم سلما ، وأعظمهم حلما ، وأكثرهم علما ! ألا تعلمين أن الله اطلع إلى الارض اطلاعة ، فاختار منها أباك ، ثم اطلع إليها ثانية فاختار منها بعلك " .
رواه أحمد في المسند .
* * * الحديث الرابع والعشرون ، لما أنزل : " إذا جاء نصرالله والفتح) بعد انصرافه عليه السلام من غزاة حنين ، جعل يكثر من " سبحان الله ! أستغفر الله " ، ثم قال : " يا على إنه قد جاء ما وعدت به ، جاء الفتح ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ، وإنه ليس أحد أحق منك بمقامي ، لقدمك في الاسلام ، وقربك منى ، وصهرك ، وعندك سيدة نساء العالمين ، وقبل ذلك ما كان من بلاء أبى طالب عندي حين نزل القرآن ، فأنا حريص على أن أراعى ذلك لولده " .
رواه أبو إسحاق الثعلبي في " تفسير القرآن " .
* * * واعلم أنا إنما ذكرنا هذه الاخبار هاهنا ، لان كثيرا من المنحرفين عنه عليه السلام إذا مروا على كلامه في " نهج البلاغة " وغيره المتضمن التحدث بنعمة الله عليه من اختصاص الرسول له صلى الله عليه وآله ، وتميزه إياه عن غيره ، ينسبونه إلى التيه والزهو والفخر ، ولقد سبقهم بذلك قوم من الصحابة ، قيل لعمر : ول عليا أمر الجيش والحرب ، فقال : هو أتيه من ذلك ! وقال زيد بن ثابت : ما رأينا أزهى من على وأسامة ! فأردنا بإيراد هذه الاخبار هاهنا عند تفسير قوله : " نحن الشعار والاصحاب ، ونحن الخزنة والابواب " أن ننبه على عظم منزلته عند الرسول صلى الله عليه وآله ، وأن من قيل(9/174)
في حقه ما قيل لو رقى إلى السماء ، وعرج في الهواء ، وفخر على الملائكة والانبياء ، تعظما وتبجحا ، لم يكن ملوما ، بل كان بذلك جديرا ، فكيف وهو عليه السلام لم يسلك قط مسلم التعظم والتكبر في شئ من أقواله ولا من أفعاله ، وكان ألطف البشر خلقا ، وأكرمهم طبعا ، وأشدهم تواضعا ، وأكثرهم احتمالا ، وأحسنهم بشرا ، وأطلقهم وجها ، حتى نسبه من نسبه إلى الدعابة والمزاح ، وهما خلقان ينافيان التكبر والاستطالة ، وإنما كان يذكر أحيانا ما يذكره من هذا النوع ، نفثة مصدور ، وشكوى مكروب ، وتنفس مهموم ، ولا يقصد به إذا ذكره إلا شكر النعمة ، وتنبيه الغافل على ما خصه الله به من الفضيلة ، فإن ذلك من باب الامر بالمعروف ، والحض على اعتقاد الحق والصواب في أمره والنهى عن المنكر الذى هو تقديم غيره عليه في الفضل ، فقد نهى الله سبحانه عن ذلك فقال : (أفمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدى إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون) .
* * * الاصل : منها : فيهم كرائم القرآن ، وهم كنوز الرحمن ، إن نطقوا صدقوا ، وإن صمتوا لم يسبقوا .
فليصدق رائد أهله ، وليحضر عقله ، وليكن من أبناء الاخرة ، فإنه منها قدم ، وإليها ينقلب ، فالناظر بالقلب ، العامل بالبصر ، يكون مبتدأ عمله أن يعلم أعمله عليه أم له ! فإن كان له مضى فيه ، وإن كان عليه وقف عنه ، فإن العامل بغير علم ، كالسائر على غير طريق ، فلا يزيده بعده عن الطريق الواضح(9/175)
إلا بعدا من حاجته ، والعامل بالعلم كالسائر على الطريق الواضح ، فلينظر ناظر أسائر هو أم راجع ! .
* * * الشرح : قوله : " فيهم " يرجع إلى آل محمد صلى الله عليه وآله الذين عناهم بقوله : " نحن الشعار والاصحاب " ، وهو يطلق دائما هذه الصيغ الجمعية ، ويعنى نفسه ، وفى القرآن كثير من ذلك ، نحو قوله تعالى : (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) (1) .
وكرائم الايمان : جمع كريمة وهى المنفسات منه قال الشاعر : ماض من العيش لو يفدى بذلت له * كرائم المال من خيل ومن نعم فإن قلت : أيكون في الايمان كرائم وغير كرائم ؟ قلت : نعم لان الايمان عند أكثر أصحابنا اسم للطاعات كلها واجبها ونفلها ، فمن كانت نوافله أكثر كانت كرائم الايمان عنده أكثر ، ومن قام بالواجبات فقط من غير نوافل ، كان عنده الايمان ، ولم يكن عنده كرائم الايمان .
فإن قلت : فعلى هذا تكون النوافل أكرم من الواجبات ؟ قلت : هي أكرم منها باعتبار ، والواجبات أكرم منها باعتبار آخر ، أما الاول فلان صاحبها إذا كان قد قام بالواجبات كان أعلى مرتبة في الجنة ممن اقتصر على الواجبات فقط ، وأما الثاني فلان المخل بها لا يعاقب ، والمخل بالواجبات يعاقب .
قوله : " وهم كنوز الرحمن " لان الكنز مال يدخر لشديدة أو ملمة تلم بالانسان ، وكذلك هؤلاء قد ذخروا لايضاح المشكلات الدينية على المكلفين .
__________
(1) سورة آل عمران 173 .
(*)(9/176)
ثم قال : إن نطقوا صدقوا ، وإن سكتوا لم يكن سكوتهم عن عى يوجب كونهم مسبوقين ، لكنهم ينطقون حكما ، ويصمتون حلما .
ثم أمر عليه السلا بالتقوى والعمل الصالح ، وقال : " ليصدق رائد أهله " ، الرائد : الذاهب من الحى يرتاد لهم المرعى ، وفى أمثالهم : " الرائد لا يكذب أهله " ، والمعنى أنه عليه السلام أمر الانسان بأن يصدق نفسه ولا يكذبها بالتسويف والتعليل ، قال الشاعر : أخى إذا خاصمت نفسك فاحتشد * لها وإذا حدثت نفسك فاصدق وفى المثل : " المتشبع بما لا يملك كلابس ثوبي زور " .
فإنه منها قدم ، قد قيل : إن الله تعالى خلق أرواح البشر قبل أجسادهم ، والخبر في ذلك مشهور والاية ، أيضا ، وهى قوله : (وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم) (1) ويمكن أن يفسر على وجه آخر ، وذلك أن الاخرة اليوم عدم محض ، والانسان قدم من العدم ، وإلى العدم ينقلب ، فقد صح أنه قدم من الاخرة ويرجع إلى الاخرة .
وروى : " أن العالم بالبصر " أي بالبصيرة ، فيكون هو وقوله : " فالناظر بالقلب " ، سواء ، وإنما قاله تأكيدا ، وعلى هذا الوجه لا يحتاج إلى تفسير وتأويل ، فأما الرواية المشهورة فالوجه في تفسيرها أن يكون قوله : " فالناظر " مبتدأ و " العامل " صفة له ، وقوله : " بالبصر يكون مبتدأ عمله " جملة مركبة من مبتدأ وخبر ، موضعها رفع لانها خبر المبتدأ الذى هو " فالناظر " وهذه الجملة المذكورة قد دخلت عليها " كان " فالجار والمجرور وهو الكلمة الاولى منها منصوبة الموضع ، لانها خبر " كان " ، ويكون قوله فيما بعد : " أن يعلم " منصوب
__________
(1) سورة الاعراف 172 .
(12 - نهج - 9)(9/177)
الموضع ، لانه بدل من " البصر " الذى هو خبر " يكون " .
والمراد بالبصر هاهنا البصيرة ، فيصير تقدير الكلام : فالناظر بقلبه ، العامل بجوارحه يكون مبتدأ عمله بالفكر والبصيرة ، بأن يعلم أعمله له أم عليه ! ويروى : " كالسابل على غير طريق " والسابل : طالب السبيل ، وقد جاء في الخبر المرفوع : " من عمل بغير هدى ، لم يزدد من الله إلا بعدا " وفى كلام الحكماء : " العامل بغير علم كالرامى من غير وتر " .
* * * الاصل : واعلم أن لكل ظاهر باطنا على مثاله ، فما طاب ظاهره ، طاب باطنه ، وما خبث ظاهره خبث باطنه ، وقد قال الرسول الصادق صلى الله عليه وسلم : " إن الله يحب العبد ويبغض عمله ، ويحب العمل ويبغض بدنه " .
* * * الشرح : هذا الكلام مشتق من قوله تعالى : (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذى خبث لا يخرج إلا نكدا) ، وهو تمثيل ضربه الله تعالى لمن ينجع فيه الوعظ والتذكير من البشر ، ولمن لا يؤثر ذلك فيه مثله بالارض العذبة الطيبة تخرج النبت ، والارض السبخة الخبيثة لا تنبت ، وكلام أمير المؤمنين عليه السلام إلى هذا المعنى يومئ .
يقول : إن لكلتا حالتى الانسان الظاهرة أمرا باطنا يناسبها من أحواله ، والحالتان الظاهرتان : ميله إلى العقل وميله إلى الهوى ، فالمتبع لمقتضى عقله يرزق السعادة والفوز ، فهذا هو الذى طاب(9/178)
ظاهره ، وطاب باطنه ، والمتبع لمقتضى هواه وعادته ودين أسلافه يرزق الشقاوة والعطب ، وهذا هو الذى خبث ظاهره وخبث باطنه .
فإن قلت : فلم قال : " فما طاب " ؟ وهلا قال : " فمن طاب " ! وكذلك في " خبث " .
قلت : كلامه في الاخلاق والعقائد وما تنطوى عليه الضمائر ، يقول : ما طاب من هذه الاخلاق والملكات ، وهى خلق النفس الربانية المريدة للحق ، من حيث هو حق ، سواء كان ذلك مذهب الاباء والاجداد أولم يكن ، وسواء كان ذلك مستقبحا مستهجنا عند العامة أولم يكن ، وسواء نال به من الدنيا حظا أو لم ينل .
يستطيب باطنه يعنى ثمرته ، وهى السعادة ، وهذا المعنى من مواضع " ما " لا من مواضع " من " .
فأما الخبر المروى (1) فإنه مذكور في كتب المحدثين ، وقد فسره أصحابنا المتكلمون فقالوا : إن الله تعالى قد يحب المؤمن ومحبته له إرادة إثابته ، ويبغض عملا من أعماله وهو ارتكاب صغيرة من الصغائر ، فإنها مكروهة عند الله ، وليست قادحة في إيمان المؤمن ، لانها تقع مكفرة ، وكذلك قد يبغض العبد بأن يريد عقابه ، نحو أن يكون فاسقا لم يتب ، ويحب عملا من أعماله ، نحو أن يطيع ببعض الطاعات ، وحبه لتلك الطاعة ، هي إرادته تعالى أن يسقط عنه بها بعض ما يستحقه من العقاب المتقدم .
* * * الاصل : واعلم أن لكل عمل نباتا ، وكل نبات لا غنى به عن الماء ، والمياه مختلفة فما طاب سقيه ، طاب غرسه وحلت ثمرته ، وما خبث سقيه ، خبث غرسه وأمرت ثمرته .
__________
(1) ساقطة من ب .
(*)(9/179)
الشرح : السقى : مصدر سقيت ، والسقى ، بالكسر : النصيب من الماء .
وأمر الشئ .
أي صار مرا .
وهذا الكلام مثل في الاخلاص وضده وهو ، الرياء وحب السمعة ، فكل عمل يكون مدده الاخلاص لوجهه تعالى لا غير ، فإنه زاك حلو الجنى ، وكل عمل يكون الرياء وحب الشهرة مدده ، فليس بزاك ، وتكون ثمرته مرة المذاق .(9/180)
(155) الاصل : ومنه خطبة له عليه السلام يذكر فيها بديع خلقة الخفاسهه : الحمد لله الذى انحسرت الاوصاف عن كنه معرفته ، وردعت عظمته العقول فلم تجد مساغا إلى بلوغ غاية ملكوته .
هو الله الملك الحق المبين ، أحق وأبين مما ترى العيون .
لم تبلغه العقول بتحديد فيكون مشبها ، ولم تقع عليه الاوهام بتقدير فيكون ممثلا .
خلق الخلق على غير تمثيل ، ولا مشورة مشير ، ولا معونة معين ، فتم خلقه بأمره ، وأذعن لطاعته ، فأجاب ولم يدافع ، وانقاد ولم ينازع .
ومن لطائف صنعته ، وعجائب حكمته ، ما أرانا من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش التى يقبضها الضياء الباسط لكل شئ ، ويبسطها الظلام القابض لكل حى .
وكيف عشيت أعينها عن أن تستمد من الشمس المضيئة نورا تهتدى به في مذاهبها ، وتتصل بعلانية برهان الشمس ، إلى معارفها ، وردعها بتلالؤ ضيائها عن المضى في سبحات إشراقها ، وأكنها في مكامنها عن الذهاب في بلج ائتلافها .
فهى مسدلة الجفون بالنهار على حداقها ، وجاعلة الليل سراجا تستدل به في التماس أرزاقها ، فلا يرد أبصارها إسداف ظلمته ، ولا تمتنع من المضى فيه لغسق دجنته ، فإذا ألقت الشمس قناعها ، وبدت أوضاح نهارها ، ودخل من إشراق نورها على الضباب في وجارها ، أطبقت الاجفان على ماقيها ، وتبلغت بما اكتسبته من المعاش في ظلم لياليها .(9/181)
فسبحان من جعل الليل لها نهارا ومعاشا ، والنهار سكنا وقرارا ! وجعل لها أجنحة من لحمها تعرج بها عند الحاجة إلى الطيران ، كأنها شظايا الاذان ، غير ذوات ريش ولا قصب إلا أنك ترى مواضع العروق بينة أعلاما .
لها جناحان لما يرقا فينشقا ، ولم (1) يغلظا فيثقلا .
تطير وولدها لاصق بها ، لاجئ إليها ، يقع إذا وقعت ، ويرتفع إذا ارتفعت ، لا يفارقها حتى تشتد أركانه ، ويحمله للنهوض جناحه ، ويعرف مذاهب عيشه ، ومصالح نفسه .
فسبحان البارئ لكل شئ ، على غير مثال خلا من غيره ! * * * الشرح : الخفاش ، واحد جمعه خفافيش ، وهو هذا الطائر الذى يطير ليلا ولا يطير نهارا ، وهو مأخوذ من الخفش ، وهو ضعف في البصر خلقة ، والرجل أخفش ، وقد يكون علة ، وهو الذى يبصر بالليل لا بالنهار ، أوفى يوم غيم لا في يوم صحو .
وانحسرت الاوصاف : كلت وأعيت .
وردعت : كفت .
والمساغ : المسلك .
قال : " أحق وأبين مما ترى العيون " ، وذلك لان العلوم العقلية إذا كانت ضرورية أو قريبة من الضرورية ، كانت أوثق من المحسوسات ، لان الحس يغلط دائما ، فيرى الكبير صغيرا كالبعيد ، والصغير كبيرا ، كالعنبة في الماء ترى كالاجاصة ، ويرى الساكن متحركا ، كحرف الشط إذا رآه راكب السفينة متصاعدا ، ويرى المتحرك ساكنا كالظل ، إلى غير ذلك من الاغاليط والقضايا العقلية الموثوق بها ، لانها بديهية أو تكاد ، فالغلط غير داخل عليها .
قوله : " يقبضها الضياء " أي يقبض أعينها .
قوله : " وتتصل بعلانية برهان الشمس " كلام جيد في مذاهب الاستعارة .
__________
(1) د : " ولما " .
(*)(9/182)
وسبحات إشراقها : جلاله وبهاؤه .
وأكنها : سترها ، وبلج ائتلافها : جمع بلجة ، وهى أول الصبح ، وجاء بلجة أيضا بالفتح .
والحداق : جمع حدقة العين .
والاسداف : مصدر أسدف الليل ، أظلم .
وغسق الدجنة : ظلام الليل .
فإذا ألقت الشمس قناعها ، أي سفرت عن وجهها وأشرقت .
والاوضاح : جمع وضح ، وقد يراد به حلى يعمل من الدراهم الصحاح ، وقد يراد به الدراهم الصحاح نفسها وإن لم يكن حليا .
والضباب ، جمع ضب .
ووجارها : بيتها .
وشظايا الاذان : أقطاع منها .
والقصب هاهنا : الغضروف .
وخلاصة الخطبة ، التعجب من أعين الخفافيش التى تبصر ليلا ولا تبصر نهارا ، وكل الحيوانات بخلاف ذلك فقد صار الليل لها معاشا ، والنهار لها سكنا ، بعكس الحال فيما عداها .
ثم من أجنحتها التى تطير بها وهى لحم لا ريش عليه ولا غضروف ، وليست رقيقة فتنشق ، ولا كثيفة فتثقلها عن الطيران .
ثم من ولدها إذا طارت احتملته وهو لاصق بها ، فإذا وقعت وقع ملتصقابها هكذا ، إلى أن يشتد ويقوى على النهوض فيفارقها : * * * [ فصل في ذكر بعض غرائب الطيور وما فيها من عجائب ] واعلم أنه عليه السلام قد أتى بالعلة الطبيعية في عدم إبصارها نهارا ، وهو انفعال حاسة بصرها عن الضوء الشديد ، وقد يعرض مثل ذلك لبعض الناس ، وهو المرض المسمى " روزكور " أي أعمى النهار ، ويكون ذلك عن إفراط التحلل في الروح النوري ، فإذا لقى حر النهار أصابة قمر ، ثم يستدرك ذلك برد الليل فيزول ، فيعود الابصار .(9/183)
وأما طيرانها من غير ريش ، فإنه ليس بذلك الطيران الشديد ، وإنما هو نهوض وخفة ، أفادها الله تعالى إياه بواسطة الطبيعة ، والتصاق الولد بها ، لانها تضمه إليها بالطبع ، وينضم إليها كذلك ، وتستعين على ضمه برجليها ، وبقصر المسافة .
وجملة الامر أنه تعجب من عجيب .
وفى الاحاديث العامية : قيل للخفاش : لماذا لا جناح لك ؟ قال : لانى تصوير مخلوق ، قيل : فلماذا لا تخرج نهارا ؟ قال : حياء من الطيور ، يعنون أن المسيح عليه السلام صوره ، وأن إليه الاشارة بقوله تعالى : (وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذنى فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذنى) (1) .
وفى الطير عجائب وغرائب لا تهتدى العقول إليها .
ويقال : إن ضربين من الحيوان أصمان لا يسمعان ، وهما النعام والافاعي .
وتقول العرب : إن الظليم يسمع بعينه وأنفه ، لا يحتاج معهما إلى حاسة أخرى .
والكراكي يجمعها أمير لها كيعسوب النحل ، ولا يجمعها إلا أزواجا .
والعصافير آلفة للناس آنسة بهم ، لا تسكن دارا حتى يسكنها إنسان ، ومتى سكنتها لم تقم فيها إذا خرج الانسان منها ، فبفراقه تفارق ، وبسكناه تسكن .
ويذكر أهل البصرة أنه إذا كان زمن الخروج إلى البساتين لم يبق في البصرة عصفور إلا خرج إليها ، إلا ما أقام على بيضه وفراخه ، وقد يدرب العصفور فيستجيب من المكان البعيد ويرجع .
وقال شيخنا أبو عثمان : بلغني أنه درب فيرجع من ميل .
وليس في الارض رأس أشبه برأس الحية من رأس العصفور ، وليس في الحيوان الذى يعايش الناس أقصر عمرا منه ، قيل لاجل السفاد الذى يستكثر منه .
ويتميز الذكر من الانثى في العصافير تميز الديك
__________
(1) سورة المائدة 110 .
(*)(9/184)
من الدجاجة ، لان له لحية ، ولا شئ أحنى على ولده منه ، وإذا عرض له شئ صاح ، فأقبلت إليه العصافير يساعدنه ، وليس [ لشئ (1) ] في مثل جسم العصفور [ من (1) ] شدة وطئه [ إذا مشى أو على السطح ما للعصفور ، فإنك ] (1) إذا كنت تحت السطح ووقع ، حسبت وقعته وقعة حجر ، وذكور (2) العصافير لا تعيش إلا سنة ، وكثيرا ما تجلب الحيات إلى المنازل لان الحيات تتبعها حرصا على ابتلاع بيضها وفراخها .
ويقال : إن الدجاجة إذا باضت بيضتين في يوام واحد ، وتكرر ذلك ماتت ، وإذا هرمت الدجاجة لم يكن لاواخر ما تبيضه صفرة ، وإذا لم يكن للبيضة مح لم يخلق فيها فروج لان غذاءه المح مادام في البيضة ، وقد يكون للبيضة محان فتنفقص (3) عن فروجين يخلقان من البياض ، ويغتذيان بالمحين ، لان الفراريج تخلق من البياض وتغتذي بالصفرة ، وكل ديك فإنه يلتقط الحبة فيحذف بها إلى الدجاجة سماحا وإيثارا ، ولهذا قالوا : " أسمح من لاقطة " ، يعنون الديكة ، إلا ديكة مرو بخراسان ، فإنها تطرد دجاجها عن الحب وتنزعه من أفواهها فتبتلعه .
والحمامة بلهاء ، وفى أمثالهم : " أحمق من حمامة " ، وهى مع حمقها مهتدية إلى مصالح نفسها وفراخها .
قال ابن الاعرابي : قلت لشيخ من العرب : من علمك هذا ؟ قال : علمني الذى علم الحمامة على بلهها تقليب بيضها ، كى تعطى الوجهين جميعا نصيبهما من الحضن .
والهداية في الحمام لا تكون إلا في الخضر والسمر ، فأما الاسود الشديد السواد فهو كالزنجي القليل المعرفة ، والابيض ضعيف القوة ، وإذا خرج الجوزل (4) عن بيضته علم أبواه أن حلقه لا يتسع للغذاء ، فلا يكون لهما هم إلا أن ينفخا في حلقه الريح لتتسع حوصلته بعد التحامها ، ثم يعلمان أنه لا يحتمل في أول اغتذائه أن يزق بالطعم ، فيزقانه باللعاب المختلط
__________
(1) تكملة من كتاب الحيوان 5 : 217 .
(2) د : " ذكورة " .
(3) انققصت البيضة غن الفرخ : انفلقت عنه .
(4) الجوزل : فرخ الحمام .
(*)(9/185)
بقواهما وقوى الطعم .
ثم يعلمان أن حوصلته تحتاج إلى دباغ فيأكلان من شورج (1) أصول الحيطان ، وهو شئ من الملح الخالص والتراب فيزقانه به .
فإذا علما أنه قد اندبغ زقاه بالحب الذى قد غب في حواصلهما ، ثم بالذى هو أطرى فأطرى ، حتى يتعود ، فإذا علما أنه قد أطاق اللقط منعاه بعض المنع ، ليحتاج ويتشوف ، فتطلبه نفسه ، ويحرص عليه ، فإذا فطماه وبلغا منتهى حاجته إليهما ، نزع الله تلك الرحمة منهما ، وأقبل بهما على طلب نسل آخر .
ويقال : إن حية أكلت بيض مكاء فجعل المكاء يشرشر على رأسها ، ويدنو منها حتى دلعت (2) الحية لسانها ، وفتحت فاها تريده وتهم به ، فألقى فيها حسكة (3) فأخذت بحلقها حتى ماتت ! ومن دعاء الصالحين : يا رزاق النعاب (4) في عشه ! وذلك أن الغراب إذا فقص عن فراخه ، فقص عنها بيض الالوان ، فينفر عنها ولا يزقها ، فتفتح أفواهها ، فيأتيها ذباب يتساقط في أفواهها ، فيكون غذاءها إلى أن تسود ، فينقطع الذباب عنها ، ويعود الغراب إليها فيأنس بها ويغذيها .
والحبارى تدبق (5) جناح الصقر بذرقها ، ثم يجتمع عليه الحباريات ، فينتفن ريشه طاقة طاقة ، حتى يموت ، ولذلك يحاول الحبارى العلو عليه ، ويحاول هو العلو عليها ، ولا يتجاسر أن يدنو منها متسفلا عنها .
ويقال : إن الحبارى تموت كمدا إذا انحسر عنها ريشها ، ورأت صويحباتها تطير .
__________
(1) الشورج : نوع من الملح ، وربما كان للدباغة خاصة .
(2) دلعت لسانها : أخرجته .
(3) حسكة : شوكة .
(4) أي الغراب .
(5) تدبق : تصطاد .
(*)(9/186)
وكل الطير يتسافد بالاستاه إلا الحجل ، فإن الحجلة تكون في سفاله الريح ، واليعقوب (1) في علاوتها ، فتلقح منه كما تلقح النخلة من الفحال (2) بالريح .
والحبارى شديد الحمق ، يقال إنها أحمق الطير ، وهى أشده حياطة لبيضها وفراخها .
والعقعق مع كونه أخبث الطير وأصدقها خبثا ، وأشدها حذرا ، ليس في الارض طائر أشد تضييعا لبيضه وفراخه منه .
ومن الطير ما يؤثر التفرد كالعقاب ومنه ما يتعايش زوجا كالقطا .
والظليم يبتلع الحديد المحمى ، ثم يميعه في قانصته حتى يحيله كالماء الجارى ، وفى ذلك أعجوبتان : التغذى بما لا يغذى به ، واستمراؤه وهضمه شيئا لو طبخ بالنار أبدا لما انحل .
وكما سخر الحديد لجوف الظليم فأحاله ، سخر الصخر الاصم لاذناب الجراد ، إذا أراد أن يلقى بيضه غرس ذنبه في أشد الارض صلابة ، فانصدع له ، وذلك من فعل الطبيعة بتسخير الصانع القديم سبحانه ، كما إن عود الحلفاء الرخو الدقيق (3) المنبت ، يلقى في نباته الاجر والخزف الغليظ ، فيثقبه .
وقد رأيت في مسناة سور بغداد ، في حجر صلد نبعة نبات قد شقت وخرجت من موضع ، لو حاول جماعة أن يضربوه بالبيارم الشديدة مدة طويلة لم يؤثر فيه أثرا .
وقد قيل : إن إبرة العقرب أنفذ في الطنجير (4) والطست .
وفى الظليم شبه من البعير من جهة المنسم والوظيف والعنق والخزامة التى في أنفه ،
__________
(1) اليعقوب .
ذكر الحجل .
(2) الفحال : ذكر النخل .
(3) ساقطة من ب .
(4) الطنجير : وعاء يعمل فيه الخبيص (معرب) .
(*)(9/187)
وشبه من الطائر من جهة الريش والجناحين والذنب والمنقار .
ثم إن ما فيه من شبه الطير جذبه إلى البيض ، وما فيه من شبه البعير لم يجذبه إلى الولادة .
ويقال : إن النعامة مع عظم عظامها وشدة عدوها لامخ فيها ، وأشد ما يكون عدوها أن تستقبل الريخ .
فكلما كان أشد لعصوفها كان أشد لحضرها (1) ، تضع عنقها على ظهرها ثم تخرق الريح .
ومن أعاجيبها أن الصيف إذا دخل وابتدأ البسر في الحمرة ابتدأ لون وظيفها في الحمرة ، فلا يزالان يزدادان حمرة إلى أن تنتهى حمرة البسر ، ولذلك قيل للظليم : خاضب .
ومن العجب أنها لا تأنس بالطير ولا بالابل مع مشاكلتها للنوعين ، ولا يكاد يرى بيضها مبددا البتة ، بل تصفه طولا صفا مستويا على غاية الاستواء ، حتى لو مددت عليه خيط المسطر لما وجدت لبعضه خروجا عن البعض ، ثم تعطى لكل واحدة نصيبها من الحضن .
والذئب لا يعرض لبيض النعام مادام الابوان حاضرين ، فإنهما متى نقفاه (2) ركبه الذكر فطحره (3) وأدركته الانثى فركضته ، ثم أسلمته إلى الذكر وركبته عوضه ، فلا يزالان يفعلان به ذلك حتى يقتلاه أو يعجزهما هربا .
والنعام قد يتخذ في الدور ، وضرره شديد ، لان النعامة ربما رأت في أذن الجارية قرطا فيه حجر أو حبة لؤلؤ ، فخطفته وأكلته ، وخرمت الاذن ، أو رأت ذلك في لبتها فضربت بمنقارها اللبة فخرقتها .
__________
(1) الحضر : نوع من السير .
(2) نقفاه : ثقباه .
(3) طحره : كسر بيضتة .
(*)(9/188)
(156) الاصل : ومن كلام له عليه السلام خاطب به أهل البصرة على جهة الاقتصاص الملاحم : فمن استطاع عند ذلك أن يعتقل نفسه على الله فليفعل ، فإن أطعتموني ، فإنى حاملكم إن شاء الله على سبيل الجنة وإن كان ذا مشقة شديدة ومذاقة مريرة .
وأما فلانة فأدركها رأى النساء ، وضغن غلا في صدرها كمرجل القين ، ولو دعيت لتنال من غيرى ما أتت إلى ، لم تفعل .
ولها بعد حرمتها الاولى ، والحساب على الله ! * * * الشرح : يعتقل نفسه على الله : يحبسها على طاعته .
ثم ذكر أن السبيل التى حملهم عليها وهى سبيل الرشاد ، ذات مشقة شديدة ومذاقة مريرة ، لان الباطل محبوب النفوس ، فإنه اللهو واللذة ، وسقوط التكليف ، وأما الحق فمكروه النفس ، لان التكليف صعب وترك الملاذ العاجلة ، شاق شديد المشقة .
والضغن : الحقد .
والمرجل : قدر كبيرة .
والقين : الحداد ، أي كغليان قدر من حديد .
* * *(9/189)
[ فصل في ترجمة عائشة وذكر طرف من أخبارها ] وفلانه كناية عن أم المؤمنين عائشة ! أبوها أبو بكر ، وقد تقدم ذكر نسبه ، وأمها أم رومان ابنة عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتاب بن أذينة بن سبيع بن دهمان ابن الحارث بن الغنم بن مالك بن كنانة .
تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله قبل الهجرة بسنتين ، بعد وفاة خديجة ، وهى بنت سبع سنين ، وبنى عليها بالمدينة وهى بنت تسع سنين وعشرة أشهر ، وكانت قبله تذكر لجبير بن مطعم وتسمى له ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله رأى في المنام عائشة في سرقة (1) من حرير عند متوفى خديجة ، فقال : " إن يكن هذا من عند الله يمضه " (1) ، روى هذا الخبر في المسانيد الصحيحة ، وكان نكاحه إياها في شوال وبناؤه عليها في شوال أيضا ، فكانت تحب أن تدخل النساء من أهلها وأحبتها على أزواجهن في شوال ، وتقول : هل كان في نسائه أحظى منى ! وقد نكحنى ، وبنى على في شوال ، رد بذلك على من يزعم من السناء أن دخول الرجل بالمرأة بين العيدين مكروه .
وتوفى رسول الله صلى الله عليه وآله عنها وهى بنت عشرين سنة .
واستأذنت رسول الله صلى الله عليه وآله في الكنية ، فقال لها : " اكتنى بابنك عبد الله بن الزبير " يعنى ابن أختها ، فكانت تكنى أم عبد الله .
وكانت فقيهة راوية للشعر ، ذات حظ من رسول الله صلى الله عليه وآله ، وميل ظاهر إليها وكانت لها عليه جرأة وإدلال لم يزل ينمى ويستشرى (2) ، حتى كان منها في أمره في قصة مارية ، ما كان من الحديث (3)
__________
(1) السرقة ، واحدة السرق ، وهو شقق من الحرير الابيض .
(2) الاستيعاب لابن عبد البر 744 .
(3) انظر تفسير الكشاف 4 : 453 ، 454 .
(*)(9/190)
الذى أسره إلى الزوجة الاخرى ، وأدى إلى تظاهرهما عليه ، وأنزل فيهما قرآنا يتلى في المحاريب ، يتضمن وعيدا غليظا عقيب تصريح بوقوع الذنب ، وصغو القلب ، وأعقبتها تلك الجرأة وذلك الانبساط أن حدث منها في أيام الخلافة العلوية ما حدث ، ولقد عفا الله تعالى عنها ، وهى من أهل الجنة عندنا بسابق الوعد ، وما صح من أمر التوبة .
وروى أبو عمر بن عبد البر في كتاب " الاستيعاب " في باب عائشة عن سعيد ابن نصر ، عن قاسم بن أصبغ ، عن محمد بن وضاح ، عن أبى بكر بن أبى شيبة ، عن وكيع عن عصام بن قدامة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله لنسائه : " أيتكن صاحبه الجمل الادبب ، يقتل حولها قتلى كثير ، وتنجو بعد ما كادت ؟ (1) قال أبو عمر بن عبد البر : وهذا الحديث من أعلام نبوته صلى الله عليه وآله ، قال : وعصام بن قدامة ثقة وسائر الاسناد ، فثقة رجاله أشهر من أن تذكر (2) .
ولم تحمل عائشة من رسول الله صلى الله عليه وآله ، ولا ولد له ولد من مهيرة (3) إلا من خديجة ، ومن السرارى من مارية .
وقذفت عائشة في أيام رسول الله صلى الله عليه وآله بصفوان بن المعطل السلمى ، والقصة مشهورة ، فأنزل الله تعالى براءتها في قرآن يتلى وينقل ، وجلد قاذفوها الحد ، وتوفيت في سنة سبع وخمسين للهجرة ، وعمرها أربع وستون سنة ، ودفنت بالبقيع ،
__________
(1) النهاية لابن الاثير 2 : 10 ، والرواية هناك : " ليت شعرى أيتكن صاحبة الجمل الاديب ، تنبعها كلاب الحوأب " وقال في شرحه : أراد : " الادب " فأظهر الادغام لاجل الحوأب ، والادب الكثير وبر الوجه .
(2) الاستيعاب 744 ، وفيه : " وسائر الاسناد أشهر من أن يحتاج إلى ذكر " .
(3) المهيرة : الحرة من النساء ، وهى ضد السرية .
(*)(9/191)
في ملك معاوية ، وصلى عليها المسلمون ليلا ، وأمهم أبو هريرة ، ونزل في قبرها خمسة من أهلها : عبد الله وعروة ابنا الزبير والقاسم وعبد الله ابنا محمد بن أبى بكر وعبد الرحمن بن أبى بكر ، وذلك لسبع عشرة خلت من شهر رمضان من السنة المذكورة .
* * * فأما قوله : " فأدركها رأى النساء " أي ضعف آرائهن .
وقد جاء في الخبر " لا يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة " .
وجاء : " إنهن قليلات عقل ودين " أو قال : " ضعيفات " .
ولذلك جعل شهادة المرأتين بشهادة الرجل الواحد ، والمرأة في أصل الخلقة سريعة الانخداع سريعة الغضب سيئة الظن فاسدة التدبير ، والشجاعة فيهن مفقودة ، أو قليلة ، وكذلك السخاء .
وأما الضغن ، فاعلم أن هذا الكلام يحتاج إلى شرح ، وقد كنت قرأته على الشيخ أبى يعقوب يوسف بن إسماعيل اللمعانى رحمه الله أيام اشتغالي عليه بعلم الكلام ، وسألته عما عنده فيه ، فأجابني بجواب طويل ، أنا أذكر محصوله ، بعضه بلفظه رحمه الله وبعضه بلفظي ، فقد شذ عنى الان لفظه كله بعينه ، قال : أول بدء الضغن كان بينها وبين فاطمة عليهما السلام ، وذلك لان رسول الله صلى الله عليه وآله تزوجها عقيب موت خديجة ، فأقامها مقامها ، وفاطمة هي ابنة خديجة ، ومن المعلوم أن ابنة الرجل إذا ماتت أمها ، وتزوج أبوها أخرى ، كان بين الابنة وبين المرأة كدروشنآن وهذا لا بد منه ، لان الزوجة تنفس عليها ميل الاب ، والبنت تكره ميل أبيها إلى امرأة غريبة .
كالضرة لامها ، بل هي ضرة على الحقيقة ، وإن كانت الام ميتة .
ولانا لو قدرنا الام حية لكانت العداوة مضطرمة متسعرة ، فإذا كانت قد ماتت ورثت ابنتها تلك العداوة ، وفى المثل : " عداوة الحماة والكنة " .
وقال الراجز :(9/192)
إن الحماة أولعت بالكنه * وأولعت كنتها بالظنه (1) ثم اتفق أن رسول الله صلى الله عليه وآله مال إليها وأحبها فازداد ما عند فاطمة بحسب زيادة ميله ، وأكرم رسول الله صلى الله عليه وآله فاطمة إكراما عظيما أكثر مما كان الناس يظنونه وأكثر من إكرام الرجال لبناتهم ، حتى خرج بها عن حد حب الاباء للاولاد ، فقال بمحضر الخاص والعام مرارا لا مرة واحدة ، وفى مقامات (2) مختلفة لافى مقام واحد : إنها سيدة نساء العالمين ، وإنها عديلة مريم بنت عمران ، وإنها إذا مرت في الموقف نادى مناد من جهة العرش : يا أهل الموقف ، غضوا أبصاركم لتعبر فاطمة بنت محمد .
وهذا من الاحاديث الصحيحة وليس من الاخبار المستضعفة ، وإن إنكاحه عليا إياها ما كان إلا بعد أن أنكحه الله تعالى إياها في السماء بشهادة الملائكة .
وكم قال لا مرة (3) " يؤذيني ما يؤذيها ، ويغضبني ما يغضبها " ، و " إنها بضعة منى ، يريبنى ما رابها " فكان هذا وأمثاله يوجب زيادة الضغن عند الزوجة حسب زيادة هذا التعظيم والتبجيل ، والنفوس البشرية تغيظ على ما هو دون هذا ، فكيف هذا ! ثم حصل عند بعلها ما هو حاصل عندها - أعنى عليا عليه السلام - فإن النساء كثيرا ما يجعلن الاحقاد في قلوب الرجال ، لاسيما وهن محدثات الليل ، كما قيل في المثل ، وكانت تكثر الشكوى من عائشة ، ويغشاها نساء المدينة وجيران بيتها فينقلن إليها كلمات عن عائشة ، ثم يذهبن إلى بيت عائشة فينقلن إليها كلمات عن فاطمة ، وكما كانت فاطمة تشكو إلى بعلها ، كانت عائشة تشكو إلى أبيها ، لعلمها أن بعلها لا يشكيها (4) على ابنته ، فحصل في نفس أبى بكر من ذلك أثر ما ، ثم تزايد تقريظ رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) الكنة : امرأة الابن .
(2) ب : " في " .
(3) د : " مرة " .
(4) يقال : أشكى فلانا ، إذا قبل شكواه .
(13 - نهج - 9) (*)(9/193)
وآله لعلى عليه السلام ، وتقريبه واختصاصه ، فأحدث ذلك حسدا له وغبطة في نفس أبى بكر عنه ، وهو أبوها ، وفى نفس طلحة وهو ابن عمها ، وهى تجلس إليهما ، وتسمع كلامهما ، وهما يجلسان إليها ويحادثانها ، فأعدي إليها منهما كما أعدتهما .
قال : ولست أبرئ عليا عليه السلام من مثل ذلك ، فإنه كان ينفس على أبى بكر سكون النبي صلى الله عليه وآله إليه وثناءه عليه ، ويحب أن ينفرد هو بهذه المزايا والخصائص دونه ودون الناس أجمعين ، ومن انحرف عن إنسان انحرف عن أهله وأولاده ، فتأكدت البغضة بين هذين الفريقين .
ثم كان من أمر القذف ما كان ، ولم يكن على عليه السلام من القاذفين ، ولكنه كان من المشيرين على رسول الله صلى الله عليه وآله بطلاقها ، تنزيها لعرضه عن أقوال الشنأة والمنافقين .
قال له لما استشاره : إن هي إلا شسع نعلك ، وقال له : سل الخادم وخوفها وإن أقامت على الجحود فاضربها .
وبلغ عائشة هذا الكلام كله ، وسمعت أضعافه مما جرت عادة الناس أن يتداولوه في مثل هذه الواقعة ، ونقل النساء إليها كلاما كثيرا عن على وفاطمة ، وأنهما قد أظهرا الشماتة جهارا وسرا بوقوع هذه الحادثة لها ، فتفاقم الامر وغلظ .
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وآله صالحها ورجع إليها ، ونزل القرآن ببراءتها ، فكان منها ما يكون من الانسان ينتصر بعد أن قهر ، ويستظهر بعد أن غلب ، ويبرأ بعد أن أتهم ، من بسط اللسان ، وفلتات القول ، وبلغ ذلك كله عليا عليه السلام وفاطمة عليها السلام ، فاشتدت الحال ، وغلظت ، وطوى كل من الفريقين قلبه على الشنآن لصاحبه ، ثم كان بينها وبين على عليه السلام في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله أحوال وأقوال ، كلها تقتضي تهييج مافى النفوس ، نحو قولها له وقد استدناه رسول الله ، فجاء حتى قعد بينه(9/194)
وبينها وهما متلاصقان : أما وجدت مقعدا لكذا - لا تكنى عنه - إلا فخذي ! ونحو ماروى أنه سايره يوما وأطال مناجاته ، فجاءت وهى سائرة خلفهما حتى دخلت بينهما ، وقالت : فيم أنتما فقد أطلتما ! فيقال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله غضب ذلك اليوم .
وما روى من حديث الجفنة من الثريد التى أمرت الخادم فوقفت لها فأكفأتها ، ونحو ذلك مما يكون بين الاهل وبين المرأة وأحمائها .
ثم اتفق أن فاطمة ولدت أولادا كثيرة بنين وبنات ، ولم تلد هي ولدا ، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يقيم بنى فاطمة مقام بنيه ، ويسمى الواحد منهما " ابني " ويقول : دعوا لى ابني ولا تزرموا (1) على ابني " و " ما فعل ابني " فما ظنك بالزوجة إذا حرمت الولد من البعل ، ثم رأت البعل يتبنى بنى ابنته من غيرها ، ويحنو عليهم حنو الوالد المشفق ! هل تكون محبة لاولئك البنين ولامهم ولابيهم ، أم مبغضة ! وهل تود دوام ذلك واستمراره ، أم زواله وانقضاءه ! ثم اتفق أن رسول الله صلى الله عليه وآله سد باب أبيها إلى المسجد ، وفتح باب صهرة ، ثم بعث أباها ببراءة إلى مكة ، ثم عزله عنها بصهره ، فقدح ذلك أيضا في نفسها ، وولد لرسول الله صلى الله عليه وآله إبراهيم من مارية ، فأظهر على عليه السلام بذلك سرورا كثيرا ، وكان يتعصب لمارية ، ويقوم بأمرها عند رسول الله صلى الله عليه وآله ميلا على غيرها ، وجرت لمارية نكبة مناسبة لنكبة عائشة ، فبرأها على عليه السلام منها ، وكشف بطلانها أو كشفه الله تعالى على يده ، وكان ذلك كشفا محسا بالبصر ، لا يتهيأ للمنافقين أن يقولوا فيه ما قالوه في القرآن المنزل ببراءة عائشة ، وكل ذلك مما كان يوغر صدر عائشة عليه ، ويؤكد مافى نفسها منه ، ثم مات إبراهيم فأبطنت شماته ، وإن أظهرت كآبة ،
__________
(1) النهاية لابن الاثير 2 : 124 ، قال : " أي لا تقطعوا عليه بوله ، يقال : زرم الدمع والبول ، إذا انقطع .
" (*)(9/195)
ووجم على عليه السلام من ذلك وكذلك فاطمة ، وكانا يؤثران ، ويريدان أن تتميز مارية عليها بالولد ، فلم يقدر لهما ولا لمارية ذلك ، وبقيت الامور على ماهى عليه ، وفى النفوس ما فيها ، حتى مرض رسول الله صلى الله عليه وآله المرض الذى توفى فيه ، وكانت فاطمة عليها السلام وعلى عليه السلام يريدان أن يمرضاه في بيتهما ، وكذلك كان أزواجه كلهن فمال إلى بيت عائشة بمقتضى المحبة القلبية التى كانت لهادون نسائه ، وكره أن يزاحم فاطمة وبعلها في بيتهما ، فلا يكون عنده من الانبساط لوجودهما ما يكون إذا خلا بنفسه في بيت من يميل إليه بطبعه ، وعلم أن المريض يحتاج إلى فضل مداراة ونوم ويقظة وانكشاف وخروج حدث ، فكانت نفسه إلى بيته أسكن منها إلى بيت صهره وبنته ، فإنه إذا تصور حياءهما منه استحيا هو أيضا منهما ، وكل أحد يحب أن يخلو بنفسه ، ويجتشم الصهر والبنت ، ولم يكن له إلى غيرها من الزوجات مثل ذلك الميل إليها ، فتمرض في بيتها فغبطت على ذلك ، ولم يمرض رسول الله صلى الله عليه وآله منذ قدم المدينة مثل هذا المرض ، وإنما كان مرضه الشقيقة (1) يوما أو بعض يوم ثم يبرأ ، فتطاول هذا المرض ، وكان على عليه السلام لا يشك أن الامر له ، وأنه لا ينازعه فيه أحد من الناس ، ولهذا قال له عمه وقد مات رسول الله صلى الله عليه وآله : امدد يدك أبايعك ، فيقول الناس : عم رسول الله صلى الله عليه وآله : بايع ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا يختلف عليك اثنان .
قال : يا عم ، وهل يطمع فيها طامع غيرى ! قال : ستعلم ، قال : فإنى لا أحب هذا الامر من وراء رتاج وأحب أن أصحر به (2) .
فسكت عنه ، فلما ثقل (3) رسول الله صلى الله عليه وآله في مرضه ، أنفذ جيش أسامة ، وجعل فيه أبا بكر وغيره من أعلام
__________
(1) الشقيقة : مرض يأخذ في نصف الرأس والوجه .
(2) يقال : أصهر فلان بما في قلبه ، أي أظهره .
(3) يقال : أصبح ثاقلا ، أي مريضا .
(*)(9/196)
المهاجرين والانصار ، فكان على عليه السلام حينئذ بوصوله إلى الامران - إن حدث برسول الله صلى الله عليه وآله حدث - أوثق وتغلب على ظنه أن المدينة لو مات لخلت من منازع ينازعه الامر بالكلية ، فيأخذه صفوا عفوا وتتم له البيعة ، فلا يتهيأ فسخها لو رام ضد منازعته عليها ، فكان - من عود أبى بكر من جيش أسامة بإرسالها إليه وإعلامه بأن رسول الله صلى الله عليه وآله يموت - ما كان ومن حديث الصلاة بالناس ما عرف فنسب على عليه السلام عائشة أنها أمرت بلالا مولى أبيها أن يأمره فليصل بالناس ، لان رسول الله كما روى ، قال : " ليصل بهم أحدهم " ولم يعين ، وكانت صلاة الصبح فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وهو في آخر رمق يتهادى بين على والفضل بن العباس ، حتى قام في المحراب كما ورد في الخبر ، ثم دخل فمات ارتفاع الضحى فجعل يوم صلاته حجة في صرف الامر إليه .
وقال : أيكم يطيب نفسا أن يتقدم قدمين قدمهما رسول الله في الصلاة ! ولم يحملوا خروج رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الصلاة لصرفه عنها ، بل لمحافظته على الصلاة مهما أمكن ، فبويع على هذه النكتة التى اتهمها على عليه السلام على أنها ابتدأت منها .
وكان على عليه السلام يذكر هذا لاصحابه في خلواته كثيرا ، ويقول : إنه لم يقل صلى الله عليه وآله : " إنكن لصويحبات يوسف " إلا إنكارا لهذه الحال ، وغضبا منها لانها وحفصة تبادرتا إلى تعيين أبويهما ، وأنه استدركها بخروجه وصرفه عن المحراب فلم يجد ذلك ، ولا أثر مع قوة الداعي الذى كان يدعو إلى أبى بكر ويمهد له قاعدة الامر وتقرر حاله في نفوس الناس ومن اتبعه على ذلك من أعيان المهاجرين والانصار ولما ساعد على ذلك من الحظ الفلكي والامر السمائى ، الذى جمع عليه القلوب والاهواء ، فكانت هذه الحال عند على أعظم من كل عظيم ، وهى الطامة الكبرى(9/197)
والمصيبة العظمى ، ولم ينسبها إلا إلى عائشة وحدها ولا علق الامر الواقع إلا بها ، فدعا عليها في خلواته وبين خواصه ، وتظلم إلى الله منها ، وجرى له في تخلفه عن البيعة ما هو مشهور ، حتى بايع ، وكان يبلغه وفاطمة عنها كل ما يكرهانه منذ مات رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أن توفيت فاطمة ، وهما صابران على مضض ورمض (1) واستظهرت بولاية أبيها ، واستطالت وعظم شأنها ، وانخذل على وفاطمة وقهرا ، وأخذت فدك وخرجت فاطمة تجادل في ذلك مرارا فلم تظفر بشئ ، وفى ذلك تبلغها النساء والداخلات والخارجات عن عائشة كل كلام يسوؤها ويبلغن عائشة عنها وعن بعلها مثل ذلك إلا أنه شتان مابين الحالين ، وبعد مابين الفريقين هذه غالبة وهذه مغلوبة وهذه آمرة وهذه مأمورة ، وظهر التشفي والشماتة ، ولا شئ أعظم مرارة ومشقة من شماتة العدو .
فقلت له ، رحمه الله : أفتقول أنت : إن عائشة عينت أباها للصلاة ورسول الله صلى الله عليه وآله لم يعينه ! فقال : أما أنا فلا أقول ذلك ، ولكن عليا كان يقوله ، وتكليفي غير تكليفه ، كان حاضرا ولم أكن حاضرا ! فأنا محجوج بالاخبار التى اتصلت بى وهى تتضمن تعيين النبي صلى الله عليه وآله لابي بكر في الصلاة ، وهو محجوج بما كان قد علمه أو يغلب على ظنه من الحال التى كان حضرها .
قال : ثم ماتت فاطمة ، فجاء نساء رسول الله صلى الله عليه وآله كلهن إلى بنى هاشم في العزاء إلا عائشة ، فإنها لم تأت ، وأظهرت مرضا ونقل إلى على عليه السلام عنها كلام يدل على السرور .
ثم بايع على أباها فسرت بذلك ، وأظهرت من الاستبشار بتمام البيعة واستقرار
__________
(1) الرمض : الغيط الشديد (*)(9/198)
الخلافة وبطلان منازعة الخصم ما قد نقله الناقلون فأكثروا ، واستمرت الامور على هذا مدة خلافة أبيها وخلافة عمر وعثمان ، والقلوب تغلى ، والاحقاد تذيب الحجارة ، وكلما طال الزمان على على تضاعفت همومه وغمومه ، وباح بما في نفسه ، إلى أن قتل عثمان ، وقد كانت عائشة فيها أشد الناس عليه تأليبا وتحريضا ، فقالت : أبعده الله ! لما سمعت قتله وأملت أن تكون الخلافة في طلحة فتعود الامرة تيمية ، كما كانت أولا ، فعدل الناس عنه إلى على بن أبى طالب ، فلما سمعت ذلك صرخت : واعثماناه " قتل عثمان مظلوما وثار مافى الانفس ، حتى تولد من ذلك يوم الجمل وما بعده .
هذه خلاصة كلام الشيخ أبى يعقوب رحمه الله ، ولم يكن يتشيع ، وكان شديدا في الاعتزال إلا أنه في التفضيل كان بغداديا .
* * * فأما قوله عليه السلام : " ولو دعيت لتنال من غيرى مثل ما أتت إلى ، لم تفعل " فإنما يعنى به عمر ، يقول : لو أن عمر ولى الخلافة بعد قتل عثمان على الوجه الذى قتل عليه والوجه الذى أنا وليت الخلافة عليه ونسب إلى عمر أنه كان يؤثر قتله أو يحرض عليه ودعيت عائشة إلى أن تخرج عليه في عصابة من المسلمين إلى بعض بلاد الاسلام ، تثير فتنة وتنقض البيعة - لم تفعل ، وهذا حق لانها لم تكن تجد على عمر ما تجده على على عليه السلام ، ولا الحال الحال .
فأما قوله : " ولها بعد حرمتها الاولى ، والحساب على الله " فإنه يعنى بذلك حرمتها بنكاح رسول الله صلى الله عليه وآله لها ، وحبه إياها .
وحسابها على الله ، لانه غفور رحيم لا يتعاظم عفوه زلة ، ولا يضيق عن رحمته ذنب .(9/199)
فإن قلت : هذا الكلام يدل على توقفه عليه السلام في أمرها ، وأنتم تقولون : إنها من أهل الجنة ، فكيف تجمعون بين مذهبكم وهذا الكلام ؟ .
قلت : يجوز أن يكون قال هذا الكلام قبل أن يتواتر الخبر عنده بتوبتها ، فإن أصحابنا يقولون : إنها ثابت بعد قتل أمير المؤمنين وندمت ، وقالت : لوددت أن لى من رسول الله صلى الله عليه وآله عشرة بنين ، كلهم ماتوا ولم يكن يوم الجمل .
وأنها كانت بعد قتله تثنى عليه وتنشر مناقبه ، مع أنهم رووا أيضا أنها عقيب الجمل كانت تبكى حتى تبل خمارها ، وأنها استغفرت الله وندمت ، ولكن لم يبلغ أمير المؤمنين عليه السلام حديث توبتها عقيب الجمل بلاغا يقطع العذر ويثبت الحجة ، والذى شاع عنها من أمر الندم والتوبة شياعا مستفيضا إنما كان بعد قتله عليه السلام إلى أن ماتت وهى على ذلك ، والتائب مغفور له ، ويجب قبول التوبة عندنا في العدل ، وقد أكدوا وقوع التوبة ، منها ماروى في الاخبار المشهورة أنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله في الاخرة كما كانت زوجته في الدنيا ، ومثل هذا الخبر إذا شاع أوجب علينا أن نتكلف إثبات توبتها ولو لم ينقل ، فكيف والنقل لها يكاد أن يبلغ حد التواتر ! * * * الاصل : منها : سبيل أبلج المنهاج ، أنور السراج ، فبالايمان يستدل على الصالحات وبالصالحات يستدل على الايمان ، وبالايمان يعمر العلم ، وبالعلم يرهب الموت وبالموت تختم الدنيا ، وبالدنيا تحرز الاخرة ، وبالقيامة تزلف الجنة ، وتبرز الجحيم(9/200)
للغاوين ، وإن الخلق لا مقصر لهم عن القيامة ، مرقلين في مضمارها إلى الغاية القصوى .
* * * الشرح : هو الان في ذكر الايمان ، وعنه قال : " سبيل أبلج المنهاج " أي واضح الطريق .
ثم قال : " فبالايمان يستدل على الصالحات " ، يريد بالايمان هاهنا مسماه للغوى لا الشرعي لان الايمان في اللغة هو التصديق ، قال سبحانه : " وما أنت بمؤمن لنا) (1) أي بمصدق والمعنى أن من حصل عنده التصديق ، بالوحدانية والرسالة ، وهما كلمتا الشهادة استدل بهما على وجوب الاعمال الصالحة عليه أو ندبه إليها ، لان المسلم يعلم من دين نبيه صلى الله عليه وآله أنه أوجب عليه أعمالا صالحة وندبه إلى أعمال صالحة ، فقد ثبت أن بالايمان يستدل على الصالحات .
ثم قال : " و بالصالحات يستدل على الايمان " فالايمان هاهنا مستعمل في مسماة الشرعي لافى مسماه اللغوى ، ومسماه الشرعي هو العقد بالقلب ، والقول باللسان ، والعمل بالجوارح فلا يكون المؤمن مؤمنا حتى يستكمل فعل كل واجب ، ويجتنب كل قبيح ، ولا شبهة أنا متى علمنا أو ظننا من مكلف أنه يفعل الافعال الصالحة ، ويجتنب الافعال القبيحة استدللنا بذلك على حسن إطلاق لفظ المؤمن عليه ، وبهذا التفسير الذى فسرناه نسلم من إشكال الدور ، لان لقائل أن يقول : من شرط الدليل أن يعلم قبل العلم بالمدلول ، فلو كان كل واحد من الايمان والصالحات يستدل به على الاخر ، لزم تقدم العلم بكل واحد منهما على العلم بكل واحد منهما ، فيؤدى إلى الدور ، ولا شبهة أن هذا الدور غير لازم على التفسير الذى فسرناه نحن .
__________
(1) سورة يوسف 17 .
(*)(9/201)
ثم قال عليه السلام : " وبالايمان يعمر العلم " وذلك لان العالم وهو غير عامل بعلمه ، وغير منتفع بما علم بل مستضربه غاية الضرر ، فكان علمه خراب غير معمور ، وإنما يعمر بالايمان وهو فعل الواجب وتجنب القبيح على مذهبنا ، أو الاعتقاد والمعرفة على مذهب غيرنا أو القول اللسانى على قول آخرين ، ومذهبنا أرجح ، لان عمارة العلم إنما تكون بالعمل من الاعضاء والجوارح وبدون ذلك يبقى العلم على خرابه كما كان .
ثم قال : " وبالعلم يرهب الموت " هذا من قول الله تعالى : (إنما يخشى الله من عباده العلماء) (1) .
ثم قال : (وبالموت تختم الدنيا ، وهذا حق لانه انقطاع التكليف .
ثم قال : " وبالدنيا تحرز الاخرة " هذا كقول بعض الحكماء : الدنيا متجر ، والاخرة ربح ، ونفسك رأس المال .
ثم قال : " وبالقيامة تزلف الجنة للمتقين تبرز الجحيم للغاوين " هذا من القرآن العزيز (2) .
وتزلف لهم : تقدم لهم وتقرب إليهم .
ولا مقصر لى عن كذا : لا محبس ولا غاية لى دونه وأقل : أسرع .
والمضمار : حيث تستبق الخيل .
* * * الاصل : منها : قد شخصوا من مستقر الاجداث ، وصاروا إلى مصائر الغايات ، لكل دار أهلها ،
__________
(1) سورة فاطر 28 (2) من قوله تعالى : (وأزلفت الجنة للمتقين .
وبرزت الجحيم للغاوين) .
(*)(9/202)
لا يستبدلون بها ولا ينقلون عنها ، وإن الامر بالمعروف ، والنهى عن المنكر لخلقان من خلق الله سبحانه ، وإنهما لا يقربان من أجل ، ولا ينقصان من رزق .
وعليكم بكتاب الله ، فإنه الحبل المتين ، والنور المبين ، والشفاء النافع والرى الناقع ، والعصمة للمتمسك ، والنجاة للمتعلق ، لا يعوج فيقام ، ولا يزيغ فيستعتب ، ولا تخلقه كثرة الرد ، وولوج السمع ، من قال به صدق ، ومن عمل به سبق .
* * * الشرح : شخصوا من بلد كذا : خرجوا .
ومستقر الاجداث : مكان استقرارهم بالقبور ، وهى جمع جدث .
ومصائر الغايات : جمع مصير ، والغايات : جمع غاية وهى ما ينتهى إليه قال لكلميت : فالان صرت إلى أمية والامور إلى مصاير ثم ذكر أن أهل الثواب والعقاب كل من الفريقين يقيم بدار لا يتحول منها ، وهذا كما ورد في الخبر : إنه ينادى مناد : يا أهل الجنة سعادة لا فناء لها ، ويا أهل النار شقاوة لا فناء لها .
ثم ذكر أن الامر بالمعروف والنهى عن المنكر خلقان من خلق الله سبحانه وذلك لانه تعالى ما أمر إلا بمعروف ، وما نهى إلا عن منكر ويبقى الفرق بيننا وبينه أنا يجب علينا النهى عن المنكر بالمنع منه ، وهو سبحانه ، لا يجب عليه ذلك لانه لو منع من إتيان المنكر لبطل التكليف .
ثم قال : " إنهما لا يقربان من أجل ، ولا ينقصان من رزق " وإنما قال عليه السلام(9/203)
ذلك ، لان كثيرا من الناس يكف عن نهى الظلمة عن المناكير ، توهما منه أنهم إما أن يبطشوا به فيقتلوه أو يقطعوا رزقه ويحرموه ، فقال عليه السلام : إن ذلك ليس مما يقرب من الاجل ولا يقطع الرزق .
وينبغى أن يحمل كلامه عليه السلام على حال السلامة وغلبة الظن بعدم تطرق الضرر الموفى على مصلحة النهى عن المنكر .
ثم أمر باتباع الكتاب العزيز ، ووصفه بما وصفه به .
وجاء ناقع ينقع الغلة ، أي يقطعها ويروى منها " ولا يزيغ يميل فيستعتب " ، يطلب منه العتبى هي الرضا ، كما يطلب من الظالم يميل فيسترضى .
قال : ولا يخلقه كثرة الرد وولوج السمع ، هذا من خصائص القرآن المجيد شرفه الله تعالى ، وذلك أن كل كلام منثور أو منظوم إذا تكررت تلاوته وتردد ولوجه الاسماع مل وسمج واستهجن ، إلا القرآن فإنه لا يزال غضا طريا محبوبا غير مملول .(9/204)
(157) الاصل : وقام إليه عليه السلام رجل فقال : أخبرنا عن الفتنة وهل سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ فقال عليه السلام : إنه لما أنزل الله سبحانه قوله : (ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) علمت أن الفتنة لا تنزل بنا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ، فقلت : يا رسول الله ، ما هذه الفتنة التى أخبرك الله بها ؟ فقال : يا على إن أمتى سيفتنون بعدى .
فقلت : يا رسول الله ، أو ليس قد قلت لى يوم أحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين ، وحيزت عنى الشهادة ، فشق ذلك على فقلت لى : " أبشر فإن الشهادة من ورائك ؟ " فقال لى : " إن ذلك لكذلك فكيف صبرك إذا " فقلت : يارسول الله ، ليس هذا من مواطن الصبر ، ولكن من مواطن البشرى والشكر ، وقال : يا على إن القوم سيفتنون بعدى بأموالهم ، ويمنون بدينهم على ربهم ، ويتمنون رحمته ، ويأمنون سطوته ، ويستحلون حرامه بالشبهات الكاذبة ، والاهواء الساهية ، فيستحلون الخمر بالنبيذ والسحت بالهدية ، والربا بالبيع .
فقلت : يا رسول الله ، فبأى المنازل أنزلهم عند ذلك أ بمنزلة ردة ، أم بمنزلة فتنة ؟ فقال : بمنزلة فتنة .
* * *(9/205)
الشرح : قد كان عليه السلام يتكلم في الفتنة ولذلك ذكر الامر بالمعروف والنهى عن المنكر ولذلك قال : " فعليكم بكتاب الله " أي إذا وقع الامر واختلط الناس ، فعليكم بكتاب الله فلذلك ، قام إليه من سأله عن الفتنة ، وهذا الخبر مروى عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، قد رواه كثير من المحدثين عن على عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال له : " إن الله قد كتب عليك جهاد المفتونين ، كما كتب على جهاد المشركين " ، قال : فقلت : يا رسول الله ، ما هذه الفتنة التى كتب على فيها الجهاد ؟ قال : قوم يشهدون أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله ، وهم مخالفون للسنة .
فقلت : يا رسول الله فعلام أقاتلهم وهم يشهدون كما أشهد ؟ قال : على الاحداث في الدين ، ومخالفة الامر ، فقلت : يا رسول الله ، إنك كنت وعدتني الشهادة فاسأل الله أن يعجلها لى بين يديك ، قال : فمن قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ! أما إنى وعدتك الشهادة وستستشهد ، تضرب على هذه فتخضب هذه ، فكيف صبرك إذا ! قلت : يا رسول الله ، ليس ذا بموطن صبر ، هذا موطن شكر قال : أجل أصبت فأعد للخصومة فإنك مخاصم فقلت : يا رسول الله ، لو بينت لى قليلا ! فقال : إن أمتى ستفتن من بعدى ، فتتأول القرآن وتعمل بالرأى .
وتستحل الخمر بالنبيذ والسحت بالهدية ، والربا بالبيع ، وتحرف الكتاب عن مواضعه وتغلب كلمة الضلال ، فكن جليس بيتك حتى تقلدها فإذا قلدتها جاشت عليك الصدور ، وقلبت لك الامور ، تقاتل حينئذ على تأويل القرآن ، كما قاتلت على تنزيله ، فليست حالهم الثانية بدون حالهم الاولى .
فقلت : يا رسول الله ، فبأى المنازل أنزل هؤلاء المفتونين من بعدك ؟ أبمنزلة فتنة أم بمنزلة ردة ؟ فقال : بمنزلة فتنة يعمهون فيها إلى أن يدركهم العدل .
فقلت : يارسول الله ، أيدركهم العدل منا أم من غيرنا ؟ قال : بل منا ، بنا فتح وبنا يختم ، وبنا ألف الله بين القلوب(9/206)
بعد الشرك .
وبنا يؤلف بين القلوب بعد الفتنة .
فقلت : الحمد لله على ما وهب لنا من فضله .
* * * واعلم أن لفظه عليه السلام المروى في " نهج البلاغة " يدل على أن الاية المذكورة وهى قوله عليه السلام : (ألم أحسب الناس) أنزلت بعد أحد ، وهذا خلاف قول أرباب التفسير ، لان هذه الاية هي أول سورة العنكبوت وهى عندهم بالاتفاق مكية ويوم أحد كان بالمدينة ، وينبغى أن يقال في هذا : إن هذه الاية خاصة أنزلت بالمدينة وأضيفت إلى السورة المكية فصارتا واحدة ، وغلب عليها نسب المكى ، لان الاكثر كان بمكة ، وفى القرآن مثل هذا كثير ، كسورة النحل ، فإنها مكية بالاجماع ، وآخرها ثلاث آيات أنزلت بالمدينة بعد يوم أحد ، وهى قوله تعالى : (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين * واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون * إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) (1) .
فإن قلت : فلم قال : (علمت أن الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله بين أظهرنا " ؟ قلت : لقوله تعالى : (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) (2) .
وقوله : " حيزت عنى الشهادة " أي منعت .
قوله : " ليس هذا من مواطن الصبر " كلام عال جدا يدل على يقين عظيم وعرفان تام ، ونحوه قوله - وقد ضربه ابن ملجم : فزت ورب الكعبة .
__________
(1) سورة النحل 126 - 128 (2) سورة الانفال 33 .
(*)(9/207)
قوله : " سيفتنون بعدى بأموالهم " من قوله تعالى : (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) (1) .
قوله : " ويمنون بدينهم على ربهم " من قوله تعالى : (يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للايمان) (2) .
قوله : " ويتمنون رحمته " من قوله : " أحمق الحمقى من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله " .
قوله : " ويأمنون سطوته " من قوله تعالى : (أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) (3) .
والاهواء الساهية : الغافلة والسحت : الحرام ويجوز ضم الحاء ، وقد أسحت الرجل في تجارته ، إذا اكتسب السحت .
وفى قوله : " بل بمنزلة فتنة " تصديق لمذهبنا في أهل البغى وأنهم لم يدخلوا في الفكر بالكلية ، بل هم فساق ، والفاسق عندنا في منزلة بين المنزلتين ، خرج من الايمان ، ولم يدخل في الكفر .
__________
(1) سورة الانفال 28 .
(2) سورة الحجرات 17 .
(3) سورة الاعراف 99 .
(*)(9/208)
(158) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : الحمد لله الذى جعل الحمد مفتاحا لذكره ، وسببا للمزيد من فضله ، ودليلا على آلائه وعظمته .
عباد الله ، إن الدهر يجرى بالباقين كجريه بالماضين ، لا يعود ما قد ولى منه ولا يبقى سرمدا ما فيه .
آخر فعاله (1) كأوله ، متشابهة أموره ، متظاهرة أعلامه .
فكأنكم بالساعة تحدوكم حدو الزاجر بشوله ، فمن شغل نفسه بغير نفسه تحير في الظلمات ، وارتبك في الهلكات ، ومدت به شياطينه في طغيانه ، وزينت له سيئ أعماله .
فالجنة غاية السابقين ، والنار غاية المفرطين .
اعلموا عباد الله ، أن التقوى دار حصن عزيز ، والفجور دار حصن ذليل لا يمنع أهله ، ولا يحرز من لجأ إليه .
ألا وبالتقوى تقطع حمة الخطايا ، وباليقين تدرك الغاية القصوى .
عباد الله ، الله الله في أعز الانفس عليكم ، وأحبها إليكم ، فإن الله قد أوضح لكم سبيل الحق وأنار طرقه ، فشقوة لازمة أو سعادة دائمة .
فتزودوا في أيام الفناء ، لايام البقاء .
قد دللتم على الزاد ، وأمرتم بالظعن ، وحثثتم على المسير فإنما أنتم كركب وقوف لا يدرون متى يؤمرون بالسير .
ألا فما يصنع بالدنيا من
__________
(1) د : " أفعاله " .
(14 - نهج - 9) (*)(9/209)
خلق للاخرة ! وما يصنع بالمال من عما قليل يسلبه ، وتبقى عليه تبعته وحسابه ! عباد الله ، إنه ليس لما وعد الله من الخير مترك ، ولا فيما نهى عنه من الشر مرغب .
عباد الله ، احذروا يوما تفحص فيه الاعمال ، ويكثر فيه الزلزال ، وتشيب فيه الاطفال .
اعلموا عباد الله أن عليكم رصدا من نفسكم ، وعيونا من جوارحكم وحفاظ صدق يحفظون أعمالكم وعدد أنفاسكم ، لا تستركم منهم ظلمة ليل داج ولا يكنكم منهم باب ذو رتاج ، وإن غدا من اليوم قريب ، يذهب اليوم بما فيه ويجئ الغد لاحقا به ، فكأن كل امرئ منكم قد بلغ من الارض منزل وحدته ، ومخط حفرته .
فياله من بيت وحدة ، ومنزل وحشة ، ومفرد غربة ! وكان الصيحة قد أتتكم ، والساعة قد غشيتكم ، وبرزتم لفصل القضاء قد زاحت عنكم الاباطيل ، وأضمحلت عنكم العلل ، واستحقت بكم الحقائق وصدرت بكم الامور مصادرها ، فاتعظوا بالعبر ، واعتبروا بالغير ، وانتفعوا بالنذر .
* * * الشرح : جعل الحمد مفتاحا لذكره ، لان أول الكتاب العزيز : (الحمد لله رب العالمين) والقرآن هو الذكر ، قال سبحانه : (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (1)
__________
(1) سورة الحجر 9 (*)(9/210)
وسببا للمزيد ، لانه تعالى قال : (لئن شكرتم لازيدنكم) (1) والحمد هاهنا هو الشكر ، ومعنى جعله الحمد دليلا على عظمته وآلائه أنه إذا كان سببا للمزيد ، فقد دل ذلك على عظمة الصانع وآلائه ، أما دلالته على عظمنه .
فلانه دال على أن قدرته لا تتناهى أبدا بل كلما ازداد الشكر ازدادت النعمة .
وأما دلالته على آلائه ، فلانه لا جود أعظم من جود من يعطى من يحمده ، لا حمدا متطوعا ، بل حمدا واجبا عليه .
قوله : " يجرى بالباقين كجريه بالماضين " من هذا أخذ الشعراء وغيرهم ما نظموه في هذا المعنى ، قال بعضهم : مات من مات والثريا الثريا * والسماك السماك والنسر نسر ونجوم السماء تضحك منا * كيف تبقى من بعدنا ونمر ! وقال آخر : فما الدهر إلا كالزمان الذى مضى * ولا نحن إلا كالقرون الاوائل قوله : " لا يعود ما قد ولى منه " كقول الشاعر : ما أحسن الايام إلا أنها * يا صاحبي إذا مضت لم ترجع (2) قوله : " ولا يبقى سرمدا ما فيه " كلام مطروق المعنى ، قال عدى : ليس شئ على المنون بباق * غير وجه المهيمن الخلاق قوله : " آخر أفعاله كأوله " يروى : " كأولها " ومن رواه : " كأوله " أعاد الضمير إلى الدهر ، أي آخر أفعال الدهر كأول الدهر ، فحذف المضاف .
متشابهة أموره ، لانه كما كان من قبل يرفع ويضع ، ويغنى ويفقر ، ويوجد ويعدم
__________
(1) سورة إبراهيم 7 .
(2) للبحتري ، ديوانه 2 : 100 .
(*)(9/211)
فكذلك هو الان أفعاله متشابهة .
وروى : " متسابقة " أي شئ منها قبل شئ ، كأنها خيل تتسابق في مضمار .
متظاهرة أعلامه ، أي دلالاته على سجيته التى عامل الناس بها قديما وحديثا .
متظاهرة : يقوى بعضها بعضا .
وهذا الكلام جار منه عليه السلام على عادة العرب في ذكر الدهر ، وإنما الفاعل على الحقيقة رب الدهر .
والشول : النوق التى خف لبنها وارتفع ضرعها ، وأتى عليها من نتاجها سبعة أشهر أو ثمانية ، الواحدة شائلة ، وهى جمع على غير القياس .
وشولت الناقة ، أي صارت شائلة فأما الشائل بغيرها فهى الناقة تشول بذنبها للقاح ولا لبن لها أصلا ، والجمع شول مثل راكع وركع قال أبو النجم .
* كأن في أذنابهن الشول (1) * والزاجر : الذى يزجر الابل بسوقها ، ويقال : حدوت إبلى وحدوت بإبلى ، والحدو سوقها ، والغناء لها ، وكذلك الحداء ويقال للشمال : حدواء ، لانها تحدو السحاب أي تسوقه ، قال العجاج : * حدواء جاءت من بلاد الطور (2) ولا يقال للمذكر : " أحدى " وربما قيل للحمار إذا قدم أتنه : حاد قال ذو الرمة : * حادى ثلاث من الحقب السماحيج (3) * والمعنى أن سائق الشول يعسف بها ، ولا يتقى سوقها ولا يدارك كما يسوق العشار (4) .
__________
(1) اللسان 18 : 183 .
(2) ديوانه 38 .
(3) ديوانه 78 ، وصدره : * كأنه حين يرمى خلففهن به * (4) العشار نت الابل : التى قد أتى عليها عشرة أشهر .
(*)(9/212)
ثم قال عليه السلام : " من شغل نفسه بغير نفسه هلك " وذلك أن من لا يوفى النظر حقه ، ويميل إلى الاهواء ونصرة الاسلاف .
والحجاج عما ربى عليه بين الاهل والاستاذين الذين زرعوا في قلبه العقائد ، يكون قد شغل نفسه بغير نفسه ، لانه لم ينظر لها ولا قصد الحق من حيث هو حق ، وإنما قصد نصرة مذهب معين يشق عليه فراقه ويصعب عنده الانتقال منه ، ويسوءه أن يرد عليه حجة تبطله ، فيسهر عينه ، ويتعب قلبه في تهويس (1) تلك الحجة والقدح فيها بالغث والسمين ، لا لانه يقصد الحق ، بل يقصد نصرة المذهب المعين وتشييد دليله ، لا جرم أنه متحير في ظلمات لا نهاية لها ! والارتباك : الاختلاط ، ربكت الشئ أربكه ربكا ، خلطته فارتبك ، أي اختلط ، وارتبك الرجل في الامر ، أي نشب فيه ولم يكد يتخلص منه .
قوله : " ومدت به شياطينه في طغيانه " مأخوذ من قوله تعالى : (وإخوانهم يمدونهم في الغى ثم لا يقصرون) (2) .
وروى : " ومدت له شياطينه " باللام ، ومعناه الامهال ، مد له في الغى ، أي طول له وقال تعالى : (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا) (3) .
قوله : " وزينت له سيئ أعماله " مأخوذ من قوله تعالى : (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا) (4) .
قوله : " التقوى دار حصن عزيز " معناه دار حصانة عزيزة ، فأقام الاسم مقام المصدر ، وكذلك في الفجور .
ويحرز من لجأ إليه ، يحفظ من اعتصم به .
__________
(1) تهويس الحجة : إفسادها .
(2) سورة الاعراف 202 .
(3) سورة مريم 75 .
(4) سورة فاطر 8 .
(*)(9/213)
وحمة الخطايا : سمها وتقطع الحمة ، كما تقول : قطعت سريان السم في بدن الملسوع بالباد زهرات والترياقات ، فكأنه جعل سم الخطايا ساريا في الابدان ، والتقوى تقطع سريانه .
قوله : " وباليقين تدرك الغاية القصوى " وذلك لان أقصى درجات العرفان الكشف ، وهو المراد هاهنا بلفظ اليقين .
وانتصب " الله ، الله " على الاغراء .
و " في " متعلقة بالفعل المقدر ، وتقديره : راقبوا .
وأعز الانفس عليهم ، أنفسهم .
قوله : " فشقوة لازمة " مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : فغايتكم أو فجزاؤكم ، أو فشأنكم وهذا يدل على مذهبنا في الوعيد ، لانه قسم الجزاء إلى قسمين إما العذاب أبدا ، أو النعيم أبدا ، وفى هذا بطلان قول المرجئة : إن ناسا يخرجون من النار فيدخلون الجنة ، لان هذا لو صح لكان قسما ثالثا .
قوله : " فقد دللتم على الزاد " أي الطاعة .
وأمرتم بالظعن ، أي أمرتم بهجر الدنيا ، وأن تظعنوا عنها بقلوبكم .
ويجوز : " الظعن " بالتسكين .
وحثثتم على المسير ، لان الليل والنهار سائقان عنيفان .
قوله : " وإنما أنتم كركب وقوف لا يدرون متى يؤمرون بالسير " السير هاهنا ، هو الخروج من الدنيا إلى الاخرة ، بالموت ، جعل الناس ومقامهم في الدنيا كركب وقوف لا يدرون متى يقال لهم : سيروا فيسيرون ، لان الناس لا يعلمون الوقت الذى يموتون فيه .
فإن قلت : كيف سمى الموت والمفارقة سيرا ؟ قلت : لان الارواح يعرج بها إما إلى عالمها وهم السعداء ، أو تهوى إلى أسفل(9/214)
السافلين وهم الاشقياء ، وهذا هو السير الحقيقي ، لا حركة الرجل بالمشى ، ومن أثبت الانفس المجردة ، قال : سيرها خلوصها من عالم الحس ، واتصالها المعنوي لا الابدي ببارئها ، فهو سير في المعنى لا في الصورة ، ومن لم يقل بهذا ولا بهذا قال : إن الابدان منذ الموت تأخذ في التحلل والتزايل ، فيعود كل شئ منها إلى عنصره ، فذاك هو السير .
و " ما " في " عما قليل " زائدة .
وتبعته : إثمه وعقوبته .
قوله : " إنه ليس لما وعد الله من الخير مترك " أي ليس الثواب فيما ينبغى للمرء أن يتركه ، ولا الشر فيما ينبغى أن يرغب المرء فيه .
وتفحص فيه الاعمال : تكشف .
والزلزال ، بالفتح : اسم للحركة الشديدة والاضطراب ، والزلزال ، بالكسر المصدر ، قال تعالى : (وزلزلوا زلزالا شديدا) (1) قوله : " ويشيب فيه الاطفال " كلام جار مجرى المثل ، يقال في اليوم الشديد : إنه ليشيب نواصى الاطفال ، وقال تعالى : (فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا) (2) ، وليس ذلك على حقيقته ، لان الامة مجمعة على أن الاطفال لا تتغير حالهم في الاخرة إلى الشيب ، والاصل في هذا أن الهموم والاحزان إذا توالت على الانسان شاب سريعا ، قال أبو الطيب : والهم يخترم الجسيم نحافة * ويشيب ناصية الصبى ويهرم (3) قوله : " إن عليكم رصدا من أنفسكم ، وعيونا من جوارحكم " لان الاعضاء تنطق في القيامة بأعمال المكلفين ، وتشهد عليهم .
__________
(1) سورة الاحزاب 11 .
(2) سورة المزمل 17 .
(3) ديوانه 4 : 124 .
(*)(9/215)
والرصد : جمع راصد ، كالحرس جمع حارس .
قوله " : " وحفاظ صدق " يعنى الملائكة الكاتبين لا يعتصم منهم بسترة ولا ظلام ليل ، ومن هذا المعنى قول الشاعر : إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل * خلوت ولكن قل على رقيب قوله : " وإن غدا من اليوم قريب " ، ومنه قول القائل : * فإن غدا لناظره قريب (1) * ومنه قوله : * غد ماغد ما أقرب اليوم من غد * ومنه قول الله تعالى : " إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب) (2) والصيحة : نفخة الصور .
وزاحت الاباطيل : بعدت .
واضمحلت : تلاشت وذهبت .
قوله : " واستحقت " أي حقت ووقعت ، استفعل بمعنى " فعل " ، كقولك : استمر على باطله أي مر عليه .
وصدرت بكم الامور مصاردها ، كل وارد فله صدر عن مورده ، وصدر الانسان عن موارد الدنيا : الموت ثم البعث .
__________
(1) صدره : * فإن يك صدر هذا اليوم ولى * (2) سورة هود 81 .
(*)(9/216)
(159) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : أرسله على حين فترة من الرسل ، وطول هجعة من الامم ، وانتقاض من المبرم فجاءهم بتصديق الذى بين يديه ، والنور المقتدى به ، ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق ، ولكن أخبركم عنه ...
ألا إن فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي ، ودواء دائكم ، ونظم ما بينكم .
* * * الشرح : الهجعة : النومة الخفيفة ، وقد تستعمل في النوم المستغرق أيضا .
والمبرم : الحبل المفتول .
والذى بين يديه : التوراة والانجيل .
فإن قلت : التوراة والانجيل قبله ، فكيف جعلهما بين يديه ؟ قلت : أحد جزأى الصلة محذوف وهو المبتدأ ، والتقدير : بتصديق الذى هو بين يديه وهو ضمير القرآن ، أي بتصديق الذى القرآن بين يديه ، وحذف أحد جزأى الصلة هاهنا ثم حذفه في قوله تعالى : (تماما على الذى أحسن وتفصيلا) (1) في قراءة من جعله اسما
__________
(1) سورة الانعام 145 .
(*)(9/217)
مرفوعا ، وأيضا فإن العرب تستعمل " بين يديه " بمعنى " قبل " ، قال تعالى : " بين يدى عذاب شديد) (1) ، أي قبله .
* * * الاصل : منها : فعند ذلك لا يبقى بيت مدر ولا ولاوبر إلا وأدخله الظلمة ترحه ، وأولجوا فيه نقمة ، فيومئذ لا يبقى لهم في السماء عاذر ، ولا في الارض ناصر .
أصفيتم بالامر غير أهله ، وأوردتموه غير مورده ، وسينتقم الله ممن ظلم مأكلا بمأكل ، ومشربا بمشرب ، من مطاعم العلقم ومشارب الصبر والمقر ، ولباس شعار الخوف ، ودثار السيف ، وإنما هم مطايا الخطيئات ، وزوامل الاثام .
فأقسم ثم أقسم ، لتنخمنها أمية من بعدى كما تلفظ النخامة ، ثم لا تذوقها ولا تطعم بطعمها أبدا ، ما كر الجديدان ! * * * الشرح : الترحة : الحزن ، قال : فحينئذ لا يبقى لهم ، أي يحيق بهم العذاب ، ويبعث الله عليهم من ينتقم ، وهذا إخبار عن ملك بنى أمية بعده وزوال أمرهم عند تفاقم فسادهم في الارض .
ثم خاطب أولياء هؤلاء الظلمة ، ومن كان يؤثر ملكهم ، فقال : " أصفيتم بالامر
__________
(1) سورة سبأ 46 .
(*)(9/218)
غير أهله ، أصفيت فلانا بكذا : خصصته به ، وصفية المغنم : شئ كان يصطفيه الرئيس لنفسه من الغنيمة .
وأوردتموه غير ورده : أنزلتموه عند غير مستحقه .
ثم قال : سيبدل الله مآكلهم اللذيذة الشهية بمأكل مريرة علقمية .
والمقر المر .
ومأكلا منصوب بفعل مقدر أي يأكلون مأكلا ، والباء هاهنا للمجازاة الدالة على الصلة ، كقوله تعالى : (فبما نقضهم ميثاقهم) (1) وكقول أبى تمام : فبما قد أراه ريان مكسو المعاني من كل حسن وطيب (2) وقال سبحانه : (قال رب بما أنعمت على فلن أكون ظهيرا للمجرمين) (3) وجعل شعارهم الخوف ، لانه باطن في القلوب ، ودثارهم السيف لانه ظاهر في البدن ، كما أن الشعار ما كان إلى الجسد والدثار ما كان فوقه .
ومطايا الحطيات : حوامل الذنوب .
وزوامل الاثام : جمع زاملة ، وهى بعير يستظهر به الانسان يحمل متاعه عليه ، قال الشاعر : زوامل أشعار ولا علم عندهم * بجيدها إلا كعلم الاباعر (4) وتنخمت النخامة : إذا تنخعتها ، والنخامة : النخاعة .
والجديدان : الليل والنهار ، وقد جاء في الاخبار الشائعة المستفيضة في كتب المحدثين أن رسول الله صلى الله عليه وآله أخبر أن بنى أمية تملك الخلافة بعده ، مع ذم منه عليه
__________
(1) سورة النساء 155 .
(2) ديوانه 1 : 124 .
(3) سورة القصص 17 .
(4) بعده : لعنرك ما يدرى البعير إذا غدا * بأوساقه أو راح ما في الغرائز والبيتان لمروان بن سليمان بن أبى حفصة ، يهجو قومان من رواة الشعر (اللسان - زمل) .
(*)(9/219)
والسلام لهم ، نحو ما روى عنه في تفسير ، قوله تعالى : (وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن) (1) فإن المفسرين قالوا : إنه رأى بنى أمية ينزون على منبره نزو القردة ، هذا لفظ رسول الله صلى الله عليه وآله الذى فسر لهم الاية به ، فساءه ذلك ثم قال : الشجرة الملعونة بنو أمية وبنو المغيرة ونحو قوله صلى الله عليه وآله : " إذا بلغ بنو أبى العاص ثلاثين رجلا اتخذوا مال الله دولا وعباده خولا " ونحو قوله صلى الله عليه وآله في تفسير قوله تعالى : (ليلة القدر خير من ألف شهر) (2) قال : ألف شهر يملك فيها بنو أمية .
وورد عنه صلى الله عليه وآله من ذمهم الكثير المشهور نحو قوله : " أبغض الاسماء إلى الله الحكم وهشام والوليد " وفى خبر آخر : " اسمان يبغضهما الله : مروان والمغيرة " ، ونحو قوله : " إن ربكم يحب ويبغض ، كما يحب أحدكم ويبغض وإنه يبغض بنى أمية ويحب بنى عبد المطلب " .
فإن قلت : كيف قال : " ثم لا تذوقها أبدا " وقد ملكوا بعد قيام الدولة الهاشمية بالمغرب مدة طويلة ؟ قلت : الاعتبار بملك العراق والحجاز ، وما عداهما من الاقاليم النائية لااعتداد به .
__________
(1) سورة الاسراء 60 .
(2) سورة القدر 3 .
(*)(9/220)
(160) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : ولقد أحسنت جواركم ، وأحطت بجهدي من ورائكم ، وأعتقتكم من ربق الذل وحلق الضيم ، شكرا منى للبر القليل ، وإطراقا عما أدركه البصر ، وشهده البدن من المنكر الكثير .
* * * الشرح : أحطت بجهدي من ورائكم : حميتكم وحضنتكم .
والجهد ، بالضم الطاقة .
الربق جمع ربقة ، وهى الحبل يربق به إليهم .
وحلق الضيم : جمع حلقة ، بالتسكين ، ويجوز : " حلق " بكسر الحاء وحلاق فإن قلت : كيف يجوز له أن يطرق ويغضى عن المنكر ؟ قلت : يجوز له ذلك إذا علم أو غلب على ظنه أنه إن نهاهم عنه لم يرتدعوا ، وأضافوا إليه منكرا آخر ، فحينئذ يخرج الاطراق والاغضاء عن حد الجواز إلى حد الوجوب لان النهى عن المنكر يكون والحالة هذه مفسدة .(9/221)
(161) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : أمره قضاء وحكمة ، ورضاه أمان ورحمة يقضى بعلم ، ويعفو بحلم .
اللهم لك الحمد على ما تأخذ وتعطى ، وعلى ما تعافى وتبتلي ، حمدا يكون أرضى الحمد لك ، وأحب الحمد إليك ، وأفضل الحمد عندك ، حمدا يملا ماخلقت ، ويبلغ ما أردت ، حمدا لا يحجب عنك ، ولا يقصر دونك ، حمدا لا ينقطع عدده ولا يفنى مدده ، فلسنا نعلم كنه عظمتك ، إلا أنا نعلم أنك حى قيوم ، لا تأخذك سنة ولا نوم ، لم ينته إليك نظر ، ولم يدركك بصر أدركت الابصار ، وأحصيت الاعمال ، وأخذت بالنواصى والاقدام .
وما الذى نرى من خلقك ، ونعجب له من قدرتك ، ونصفه من عظيم سلطانك ، وما تغيب عنا منه ، وقصرت أبصارنا عنه ، وانتهت عقولنا دونه ، وحالت ستور الغيوب بيننا وبينه ، أعظم .
فمن فرغ قلبه ، وأعمل فكره ، ليعلم كيف أقمت عرشك ، وكيف ذرأت خلقك ، وكيف علقت في الهواء سمواتك ، وكيف مددت على مور الماء أرضك ، رجع طرفه حسيرا ، وعقله مبهورا ، وسمعه والها ، وفكره حائرا .
* * *(9/222)
الشرح : يجوز أن يكون أمره هاهنا هو الامر الفعلى ، لا الامر القولى ، كما يقال : أمر فلان مستقيم ، وما أمر كذا ، وقال تعالى : (وما أمرنا إلا واحدة كملح بالبصر) (1) ، (وما أمر الساعة إلا كملح البصر أو هو أقرب) فيكون المعنى أن شأنه تعالى ليس إلا أحد شيئين وهما " أن يقول " و " أن يفعل " فعبر عن " أن يقول " بقوله : " قضاء " لان القضاء الحكم ، وعبر عن " أن يفعل " بقوله : " وحكمة " لان أفعاله كلها تتبع دواعى الحكمة .
ويجوز أن يكون " أمره " هو الامر القولى ، وهو المصدر من " أمر له بكذا أمرا " فيكون المعنى أن أوامره إيجاب وإلزام بما فيه حكمة ومصلحة ، وقد جاء القضاء بمعنى الالزام والايجاب في القرآن العزيز في (2) قوله : (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) (3) أي أوجب وألزم .
قوله : " ورضاه أمان ورحمة " لان من فاز بدرجة الرضا فقد أمن وحصلت له الرحمة ، لان الرضا رحمة وزيادة .
قوله : " يقضى بعلم " أي يحكم وبما يحكم به لانه عالم بحسن ذلك القضاء ، أو وجوبه في العدل .
قوله : " ويعفو بحلم " أي لا يعفو عن عجز وذل ، كما يعفو الضعيف عن القوى بل هو قادر على الانتقام ولكنه يحلم .
ثم حمد الله تعالى على الاعطاء والاخذ ، والعافية والبلاء ، لان ذلك كله من عند الله لمصالح للمكلف ، يعلمها وما (4) يعلمها المكلف ، والحمد على المصالح واجب .
__________
(1) سورة القمر 50 .
(2) ساقطة من ب .
(3) سورة النحل إ 77 (4) د : " ولا " .
(*)(9/223)
ثم أخذ في تفخيم شأن ذلك الحمد وتعظيمه والمبالغة في وصفه ، احتذاء بقول رسول الله صلى الله عليه وآله : " الحمد لله زنة عرشه ، الحمد لله عدد خلقه ، الحمد لله ملء سمائه وأرضه " فقال عليه السلام : " حمدا يكون أرضى الحمد لك " أي يكون رضاك له أوفى وأعظم من رضاك بغيره ، وكذلك القول في : " أحب " و " أفضل " .
قوله : " ويبلغ ما أردت " أي هو غاية ما تنتهى إليه الارادة ، وهذا كقول الاعرابية في صفة المطر : غشينا ما شئنا ، وهو من فصيح الكلام .
قوله : " لا يحجب عنك " لان الاخلاص يقارنه ، والرياء متنف عنه .
قوله : " ولا يقصر دونك " أي لا يحبس ، أي لا مانع عن وصوله إليك ، وهذا من باب التوسع ، ومعناه أنه برئ من الموانع عن إثماره الثواب واقتضائه إياه ، وروى " ولا يقصر " من القصور ، وروى " ولا يقصر " من التقصير .
ثم أخذ في بيان أن العقول قاصرة عن إدراك الباري سبحانه والعلم به ، وأنا إنما نعلم منه صفات إضافية أو سلبية ، كالعلم بأنه حى ، ومعنى ذلك أنه لا يستحيل على ذاته أن يعلم ويقدر ، وأنه قيوم بمعنى أن ذاته لا يجوز عليها العدم ، أي يقيم الاشياء ويمسكها وكل شئ يقيم الاشياء كلها ويمسكها ، فليس بمحتاج إلى من يقيمه ويمسكه ، وإلا لم يكن مقيما وممسكا لكل شئ ، وكل من ليس بمحتاج إلى من يقيمه ويمسكه ، فذاته لا يجوز عليها العدم ، وأنه تعالى لا تأخذه سنة ولا نوم ، لان هذا من صفات الاجسام ، وما لا يجوز عليه االعدم لا يكون جسما ، ولا يوصف بخواص الاجسام ولوازمها ، فإنه لا ينتهى إليه نظر لان انتهاء النظر إليه ، يستلزم مقابلته وهو تعالى منزه عن الجهة ، وإلا لم يكن ذاته مستحيلا عليها العدم ، وأنه لا يدركه بصر ، لان إبصار الاشياء بانطباع أمثلتها في الرطوبة الجليدية كانطباع أشباح المرئيات في المرآة ، والبارى تعالى لا يتمثل ، ولا يتشبح ، وإلالم يكن(9/224)
قيوما ، وأنه يدرك الابصار ، لانه إما عالم لذاته ، أو لانه حى لا آفة به ، وأنه يحصى الاعمال لانه عالم لذاته ، فيعلم كل شئ حاضرا وماضيا ومستقبلا ، وأنه يأخذ بالنواصى والاقدام ، لانه قادر لذاته ، فهو متمكن من كل مقدور .
ثم خرج إلى فن آخر ، فقال : وما الذى نعجب لاجله من قدرتك وعظيم ملكك والغائب عنا من عظمتك ، أعظم من الحاضر ! مثال ذلك أن جرم الشمس أعظم من جرم الارض مائة وستين مرة ، ولا نسبة لجرم الشمس إلى فلكها المائل ، ولا نسبة لفلكها المائل إلى فلكها المميل ، وفلك تدوير المريخ الذى فوقها أعظم من مميل الشمس ولا نسبة لفلك تدوير المريخ إلى فلكه المميل ، وفلك تدوير المشترى أعظم من مميل المريخ ولا نسبة لفلك تدوير المشترى إلى فلكه المميل ، وفلك تدوير زحل أعظم من مميل المشترى ولا نسبة لفلك تدوير زحل إلى مميل زحل ، ولا نسبة لمميل زحل إلى كرة الثوابت ولا نسبة لكرة الثوابت إلى الفلك الاطلس الاقصى فانظر أي نسبة تكون الارض بكليتها على هذا الترتيب إلى الفلك الاطلس ، وهذا مما تقصر العقول عن فهمه ، وتنتهى دونه ، وتحول سواتر الغيوب بينها وبينه ، كما قال عليه السلام .
ثم ذكر أن من أعمل فكره ليعلم كيف أفام سبحانه العرش ، وكيف ذرأ الخلق وكيف علق السموات بغير علاقة ولا عمد ، وكيف مد الارض على الماء ، رجع طرفه حسيرا ، وعقله مبهورا .
وهذا كله حق ، ومن تأمل كتبنا العقلية واعتراضنا على الفلاسفة الذين عللوا هذه الامور ، وزعموا أنهم استنبطوا لها أسبابا عقلية ، وادعوا وقوفهم على كنهها وحقائقها ، علم صحة ما ذكره عليه السلام ، من أن من حاول تقدير ملك الله تعالى وعظيم مخلوقاته بمكيال عقله ، فقد ضل ضلالا مبينا .
(15 - نهج - 9)(9/225)
وروى " وفكره جائرا " بالجيم أي عادلا عن الصواب .
والحسير : المتعب .
والمبهور : المغلوب .
والواله : المتحير .
* * * منها : يدعى بزعمه أنه يرجو الله ، كذب والعظيم ! ما باله لا يتبين رجاؤه في عمله فكل من رجا عرف رجاؤه في عمله - إلا رجاء الله - فإنه مدخول ، وكل خوف محقق - إلا خوف الله - فإنه معلول .
يرجو الله في الكبير ويرجو العباد في الصغير ، فيعطى العبد مالا يعطى الرب ! فما بال الله جل ثناؤه يقصر به عما يصنع به لعباده ! أتخاف أن تكون في رجائك له كاذبا ، أو تكون لا تراه للرجاء موضعا وكذلك إن هو خاف عبدا من عبيده ، أعطاه من خوفه مالا يعطى ربه ، فجعل خوفه من العباد نقدا ، وخوفه من خالقه ضمارا ووعدا .
وكذلك من عظمت الدنيا في عينه ، وكبر موقعها من قبله ، آثرها على الله فانقطع إليها ، وصار عبدا لها .
* * * الشرح : يجوز " بزعمه " بالضم و " بزعمه " بالفتح و " بزعمه " بالكسر ، ثلاث لغات ، أي بقوله .
فأما من " زعمت " أي كفلت ، فالمصدر " الزعم " بالفتح والزعامة .(9/226)
ثم أقسم على كذب هذا الزاعم ، فقال : " والعظيم " ولم يقل : والله العظيم ، تأكيدا لعظمة البارئ سبحانه ، لان الموصوف إذا ألقى وترك واعتمد على الصفة حتى صارت كالاسم ، كان أدل على تحقق مفهوم الصفة ، كالحارث والعباس .
ثم بين مستند هذا التكذيب فقال : ما بال هذا الزاعم ! إنه يرجو ربه ، ولا يظهر رجاؤه في عمله ، فإنا نرى من يرجو واحدا من البشر يلازم بابه ، ويواظب على خدمته ويتحبب إليه ، ويتقرب إلى قلبه بأنواع الوسائل والقرب ، ليظفر بمراده منه ، ويتحقق رجاؤه فيه ، وهذا الانسان الذى يزعم أنه يرجو الله تعالى ، لا يظهر من أعماله الدينية ما يدل على صدق دعواه ، ومراده عليه السلام هاهنا ليس شخصا بعينه ، بل كل نسان هذه صفته ، فالخطاب له والحديث معه .
ثم قال : " كل رجاء إلا رجاء الله فهو مدخول " أي معيب ، والدخل بالتسكين : العيب والريبة .
ومن كلامهم : " ترى الفتيان كالنخل ، وما يدريك ما الدخل " (1) ، وجاء " الدخل " بالتحريك أيضا ، يقال : هذا الامر فيه دخل ودغل ، بمعنى قوله تعالى : (ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم) (2) أي مكرا وخديعة ، وهو من هذا الباب أيضا .
ثم قال : " وكل خوف محقق إلا خوف الله فإنه معلول " محقق ، أي ثابت ، أي كل خوف حاصل حقيقة فإنه مع هذا الحصول والتحقق معلول ليس بالخوف الصريح ، إلا خوف الله وحده وتقواه ، وهيبته وسطوته وسخطه ، ذلك لان الامر الذى يخاف من العبد سريع الانقضاء والزوال ، والامر الذى يخاف من الباري تعالى لا غاية له ولا انقضاء لمحذورة كما قيل في الحديث المرفوع : " فضوح الدنيا أهون من فضوح الاخرة " .
__________
(1) مثل ، وأول من قالته عثمة بنت مطرود البجلية .
وانظر الفاخر 156 .
(2) سورة النحل 94 .
(*)(9/227)
ثم عاد إلى الرجاء ، فقال : يرجو هذا الانسان الله في الكثير أي يرجو رحمته في الاخرة ، ولا يتعلق رجاؤه بالله تعالى إلا في هذا الموضع ، فأما ما عدا ذلك من أمور الدنيا كالمكاسب والاموال والجاه والسلطان واندفاع المضار والتوصل إلى الاغراض بالشفاعات والتوسلات ، فإنه لا يخطر له الله تعالى ببال ، بل يعتمد في ذلك على السفراء والوسطاء ويرجو حصول هذه المنافع ، ودفع هذه المضار من أبناء نوعه من البشر ، فقد أعطى العباد من رجائه ما لم يعطه الخالق سبحانه ، فهو مخطئ ، لانه إما أن يكون هو في نفسه صالحا لان يرجوه سبحانه ، وإما ألا يكون الباري تعالى في نفسه صالحا لان يرجى ، فإن كان الثاني فهو كفر صراح ، وإن كان الاول فالعبد مخطئ حيث لم يجعل نفسه مستعدا لفعل الصالحات ، لان يصلح لرجاء الباري سبحانه .
ثم انتقل عليه السلام إلى الخوف ، فقال : وكذلك إن خاف هذا الانسان عبدا مثله ، خافه أكثر من خوفه الباري سبحانه ، لان كثيرا من الناس يخافون السلطان وسطوته أكثر من خوفهم مؤاخذة الباري سبحانه ، وهذا مشاهد ومعلوم من الناس ، فخوفهم بعضهم من بعض كالنقد المعجل ، وخوفهم من خالقهم ضمار ووعد .
والضمار : مالا يرجى من الوعود والديون .
قال الراعى : حمدن مزاره وأصبن منه * عطاء لم يكن عدة ضمارا (1) ثم قال : " وكذلك من عظمت الدنيا في عينه " يختارها على الله ، ويستعبده حبها .
ويقال : كبر بالضم ، يكبر أي عظم ، فهو كبير وكبار بالتخفيف ، فإذا أفرط قيل :
__________
(1) اللسان 6 : 164 ، وقيله : وأنضاء أنحن إلى سعيد * طروقا ثم عجلن ابتكارا(9/228)
" كبار " بالتشديد ، فأما كبر بالكسر ، فمعناه أسن ، والمصدر منهما كبرا بفتح الباء .
* * * الاصل : ولقد كان في رسول الله صلى الله عليه وسلم كاف لك في الاسوة ، ودليل لك على ذم الدنيا وعيبها ، وكثرة مخازيها ومساويها ، إذ قبضت عنه أطرافها ووطئت لغيره أكنافها ، وفطم عن رضاعها ، وزوى عن زخارفها .
وإن شئت ثنيت بموسى كليم الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول : (رب إنى لما أنزلت إلى من خير فقير) ، والله ما سأله إلا خبزا يأكله ، لانه كان يأكل بقلة الارض ، ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه ، لهزاله وتشذب لحمه .
وإن شئت ثلثت بداود صلى الله عليه وسلم صاحب المزامير ، وقارئ أهل الجنة فلقد كان يعمل سفائف الخوص بيده ، ويقول لجلسائه : أيكم يكفيني بيعها ! ويأكل قرص الشعير من ثمنها .
وإن شئت قلت في عيسى بن مريم عليه السلام ، فلقد كان يتوسد الحجر ، ويلبس الخش ، ويأكل الجشب ، وكان إدامه الجوع ، وسراجه بالليل القمر وظلالة في الشتاء مشارق الارض ومغاربها ، وفاكهته وريحانه ما تنبت الارض للبهائم ، ولم تكن له زوجة تفتنه ، ولا ولد يحزنه ، ولا مال يلفته ، ولا طمع يذله ، دابته رجلاه ، وخادمه يداه .
* * *(9/229)
الشرح : يجوز أسوة وإسوة ، وقرئ التنزيل بهما ، والمساوئ : العيوب ، ساءه كذا يسوءه سوءا بالفتح ومساءة ومسائية .
وسوته سواية ومساية ، بالتخفيف ، أي ساءه ما رآه منى وسأل سيبويه الخليل عن " سوائية " فقال : هي " فعالية " بمنزلة علانية والذين قالوا " سواية " حذفوا الهمزة تخفيفا ، وهى في الاصل .
قال : وسألته عن " مسائية " فقال : هي مقلوبة وأصلها " مساوئة " فكرهوا الواو مع الهمزة ، والذين قالوا : " مساية " حذفوا الهمزة أيضا تخفيفا ، ومن أمثالهم : " الخيل تجرى في مساويها " أي أنها وإن كانت بها عيوب وأوصاب ، فإن كرمها يحملها على الجرى .
والمخازي : جمع مخزاة ، وهى الامر يستحى من ذكره لقبحه .
وأكنافها : جوانبها .
وزوى : قبض .
وخارف : جمع زخرف وهو الذهب روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال : " عرضت على كنوز الارض ودفعت إلى مفاتيح خزائنها ، فكرهتها واخترت الدار الاخرة " وجاء في الاخبار الصحيحة أنه كان يجوع ويشد حجرا على بطنه .
وأنه ما شبع آل محمد من لحم قط ، وأن فاطمة وبعلها وبنيها كانوا يأكلون خبز الشعير ، وأنهم آثروا سائلا بأربعة أقراس منه كانوا أعدوها لفطورهم ، وباتوا جياعا .
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله ملك قطعة واسعة من الدنيا ، فلم يتدنس منها بقليل ولا كثير ، ولقد كانت الابل التى غنمها يوم حنين أكثر من عشرة آلاف بعير ، فلم يأخذ منها وبرة لنفسه ، وفرقها كلها على الناس ، وهكذا كانت شيمته وسيرته في جميع أحواله إلى أن توفى .
والصفاق : الجلد الباطن الذى فوقه الجلد الظاهر من البطن .
وشفيفه : رقيقه الذى يستشف ما وراءه ، وبالتفسير الذى فسر عليه السلام الاية فسرها المفسرون ، وقالوا : إن(9/230)
خضرة البقل كانت ترى في بطنه من الهزال ، وإنه ما سأل الله إلا أكله من الخبز .
وما في (لما أنزلت) بمعنى أي ، أي إنى لاى شئ أنزلت إلى ، قليل أو كثير ، غث أو سمين ، فقير .
فإن قلت : لم عدى " فقيرا " باللام ، وإنما يقال : " فقير إلى كذا " ؟ قلت : لانه ضمن معنى " سائل " و " مطالب " ومن فسر الاية بغير ما ذكره عليه السلام لم يحتج إلى الجواب عن هذا السؤال ، فإن قوما قالوا : أراد : إنى فقير من الدنيا لاجل ما أنزلت إلى من خير ، أي من خير الدين وهو النجاة من الظالمين ، فإن ذلك رضا بالبدل السنى ، وفرحا به وشكرا له .
وتشذب اللحم : تفرقه .
والمزامير : جمع مزمار ، وهو الالة التى يزمر فيها ، ويقال زمر يزمر ويزمر ، بالضم والكسر ، فهو زمار ، ولا يكاد يقال : زامر ويقال للمرأة زامرة ، ولا يقال زمارة ، فأما الحديث أنه نهى عن كسب الزمارة ، فقالوا : إنها الزانية هاهنا .
ويقال : إن داود أعطى من طيب النغم ولذة ترجيح القراءة ما كانت الطيور لاجله تقع عليه وهو في محرابه ، والوحش تسمعه فتدخل بين الناس ولا تنفر منهم لما قد استغرقها من طيب صوته .
وقال النبي صلى الله عليه وآله لابي موسى ، وقد سمعه يقرأ : " لقد أوتيت مزمارا من مزامير داود " وكان أبو موسى شجى الصوت إذا قرأ .
وورد في الخبر : " داود قارئ أهل الجنة " .
وسفائف الخوص : جمع سفيفة ، وهى النسيجة منه ، سففت الخوص وأسففته بمعنى وهذا الذى ذكره عليه السلام عن داود يجب أن يحمل على أنه شرح حاله قبل أن يملك فإنه كان فقيرا ، فأما حيث ملك فإن المعلوم من سيرته غير ذلك .
فأما عيسى فحاله كما ذكرها عليه السلام ، لاريب في ذلك ، على أنه أكل اللحم وشرب(9/231)
الخمر ، وركب الحمار وخدمه التلامذة ، ولكن الاغلب من حاله هي الامور التى عددها أمير المؤمنين عليه السلام .
ويقال : حزننى الشئ يحزننى بالضم ، ويجوز : " أحزنني " بالهمز يحزننى ، وقرئ بهما وهو في كلامه عليه السلام في هذا الفصل بهما .
ويقال : لفته عن كذا ، يلفته بالكسر ، أي صرفه ولواه .
* * * الاصل : فتأس بنبيك الاطيب الاطهر ، صلى الله عليه وسلم ، فإن فيه أسوة لمن تأسى وعزاء لمن تعزى .
وأحب العباد إلى الله المتأسى بنبيه ، والمقتص لاثره .
قضم الدنيا قضما ، ولم يعرها طرفا .
أهضم أهل الدنيا كشحا ، وأخمصهم من الدنيا بطنا ، عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها ، وعلم أن الله تعالى أبغض شيئا فأبغضه ، وحقر شيئا فحقره ، وصغر شيئا فصغره .
ولو لم يكن فينا إلا حبنا ما أبغض الله ورسوله ، وتعظيمنا ما صغر الله ورسوله لكفى به شقاقا لله تعالى ومحادة عن أمر الله تعالى ! ولقد كان صلى الله عليه وسلم يأكل على الارض ، ويجلس جلسة العبد ويخصف بيده نعله ، ويرفع بيده ثوبه ويركب الحمار العارى ، ويردف خلفه ، ويكون الستر على باب بيته فتكون فيه التصاوير فيقول : يا فلانه - لاحدى أزواجه - غيبيه عنى ، فإنى إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها .
فأعرض عن الدنيا بقلبه وأمات ذكرها من نفسه ، وأحب أن تغيب زينتها عن عينه ، لكيلا يتخذ منها رياشا ، ولا يعتقدها قرارا ، ولا يرجو فيها مقاما ، فأخرجها من النفس ، وأشخصها عن القلب ، وغيبها عن البصر .(9/232)
وكذلك من أبغض شيئا أبغض أن ينظر إليه وأن يذكر عنده ، ولقد كان في رسول الله صلى الله عليه وآله ما يدلك على مساوئ الدنيا وعيوبها ، إذ جاع فيها مع خاصته ، وزويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته ، فلينظر ناظر بعقله : أكرم الله محمدا صلى الله عليه وسلم بذلك أم أهانه ! فإن قال : " أهانه " فقد كذب والله العظيم بالافك العظيم ، وإن قال : " أكرمه " فليعلم أن الله قد أهان غيره حيث بسط الدنيا له ، وزواها عن أقرب الناس منه ، فتأسى متأس بنبيه ، واقتص أثره وولج مولجه ، وإلا فلا يأمن الهلكة ، فإن الله جعل محمدا صلى الله عليه وسلم علما للساعة ، ومبشرا بالجنة ، ومنذرا بالعقوبة ، خرج من الدنيا خميصا ، وورد الاخرة سليما ، لم يضع حجرا على حجر ، حتى مضى لسبيله ، وأجاب داعى ربه فما أعظم منة الله عندنا حين أنعم علينا به سلفا نتبعه ، وقائدا نطأ عقبه ! والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها ، ولقد قال لى قائل : ألا تنبذها عنك ! فقلت : اعزب عنى ، فعند الصباح يحمد القوم السرى .
* * * الشرح : المقتص لاثره : المتبع له ، ومنه قوله تعالى : (وقالت لاخته قصيه) (1) .
وقضم الدنيا : تناول منها قدر الكفاف ، وما تدعو إليه الضرورة من خشن العيشة وقال أبو ذر رحمه الله : " يخضمون ونقضم ، والموعد الله ! " وأصل القضم ، أكل الشئ اليابس بأطراف الاسنان ، والخضم : أكل بكل الفم للاشياء الرطبة ، وروى : " قصم " بالصاد ، أي كسر .
__________
(1) سورة القصص 11 .
(*)(9/233)
قوله : " أهضم أهل الدنيا كشحا " الكشح : الخاصرة ، ورجل أهضم بين الهضم إذا كان خميصا لقلة الاكل .
وروى : " وحقر شيئا فحقره " بالتخفيف .
والشقاق : الخلاف .
والمحادة : المعاداة : وخصف النعل : خرزها .
والرياش : الزينة ، والمدرعة الدراعة .
وقوله : " عند الصباح يحمد القوم السرى " مثل يضرب لمحتمل المشقة العاجلة (1) رجاء الراحة الاجلة .
* * * [ نبذ من الاخبار والاثار الواردة في البعد عن زينة الدنيا ] جاء في الاخبار الصحيحة أنه عليه الصلاة والسلام ، قال : " إنما أنا عبد آكل أكل العبيد ، وأجلس جلسة العبيد " وكان يأكل على الارض ، ويجلس جلوس العبيد يضع قصبتي ساقيه على الارض ، ويعتمد عليهما بباطني فخذيه ، وركوبه الحمار العارى آية التواضع وهضم النفس .
وإردف غيره خلفه آكد في الدلالة على ذلك .
وجاء في الاخبار الصحيحة النهى عن التصاوير وعن نصب الستور التى فيها التصاوير وكان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا رأى سترا فيه تصاوير أمر أن تقطع رأس تلك الصورة .
وجاء في الخبر " من صور صورة كلف في القيامة أن ينفخ فيها الروح ، فإذا قال : لا أستطيع ، عذب " .
__________
(1) وأول من قاله خالد بن الوليد ، وانظر مضربه ومورده في الفاخر 193 .
(*)(9/234)
قوله : " لم يضع حجرا على حجر " هو عين ما جاء في الاخبار الصحيحة .
خرج رسول الله صلى الله عليه وآله من الدنيا ولم يضع حجرا على حجر .
وجاء في أخبار على عليه السلام التى ذكرها أبو عبد الله أحمد بن حنبل في كتاب فضائله وهو روايتي عن قريش بن السبيع بن المهنا العلوى ، عن نقيب الطالبيين أبى عبد الله أحمد بن على بن المعمر ، عن المبارك بن عبد الجبار أحمد بن القاسم الصيرفى المعروف بابن الطيورى عن محمد بن على بن محمد بن يوسف العلاف المزني ، عن أبى بكر أحمد بن جعفر بن حمدان ابن مالك القطيعى ، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل ، عن أبيه أبى عبد الله أحمد رحمه الله قال : قيل لعلى عليه السلام : يا أمير المؤمنين ، لم ترقع قميصك ؟ قال : ليخشع القلب ويقتدى بى المؤمنون .
وروى أحمد رحمه الله أن عليا كان يطوف الاسواق مؤتزرا بإزار ، مرتديا برداء ، ومعه الدرة كأنه أعرابي بدوى ، فطاف مرة حتى بلغ سوق الكرابيس ، فقال لواحد : يا شيخ بعنى قميصا تكون قيمته ثلاثة دراهم ، فلما عرفه الشيخ لم يشتر منه شيئا ، ثم أتى آخر فلما عرفه لم يشتر منه شيئا ، فأتى غلاما حدثا ، فاشترى منه قميصا بثلاثة دراهم ، فلما جاء أبو الغلام ، أخبره ، فأخذ درهما .
ثم جاء إلى على عليه السلام ليدفعه إليه ، فقال له : ما هذا ؟ أو قال ما شابه هذا ، فقال : يا مولاى ، إن القميص الذى باعك ابني كان يساوى درهمين ، فلم يأخذ الدرهم ، وقال : باعنى رضاى وأخذ رضاه .
وروى أحمد رحمه الله عن أبى النوار بائع الخام بالكوفة .
قال : جاءني على بن أبى طالب إلى السوق ، ومعه غلام له وهو خليفة ، فاشترى منى قميصين ، وقال لغلامه : اختر أيهما شئت ، فأخذ أحدهما ، وأخذ على الاخر ، ثم لبسه ومد يده ، فوجد كمه فاضلة ، فقال : اقطع الفاضل .
فقطعته ، ثم كفه وذهب .(9/235)
وروى أحمد رحمه الله عن الصمال بن عمير ، قال : رأيت قميص على عليه السلام الذى أصيب فيه ، وهو كرابيس سبيلانى (1) ورأيت دمه قد سال عليه كالدردى (2) .
وروى أحمد رحمه الله قال : لما أرسل عثمان ألى على عليه السلام ، وجده مؤتزرا بعباءة ، محتجزا بعقال ، وهو يهنأ بعيرا له .
والاخبار في هذا المعنى كثيرة ، وفيما ذكرناه كفاية .
__________
(1) الكرابيس : ثياب فارسية من القطن ، وسبيلانى : لعلها منسوبة إلى سبيلة ، موضع .
(2) الدردى : مارسب من الزيت في أسفل الاناء .
(*)(9/236)
(162) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : ابتعثه بالنور المضئ ، والبرهان الجلى ، والمنهاج البادى ، والكتاب الهادى .
أسرته خير أسرة ، وشجرته خير شجرة ، أغصانها معتدلة وثمارها متهدلة مولده بمكة ، وهجرته بطيبة ، علا بها ذكره ، وامتد منها صوته ، أرسله بحجة كافية ، وموعظة شافية ، ودعوة متلافية ، أظهر به الشرائع المجهولة ، وقمع به البدع المدخولة ، وبين به الاحكام المفصولة .
فمن يبتغ غير الاسلام دينا تتحقق شقوته ، وتنفصم عروته ، وتعظم كبوته ، ويكون مآبه إلى الحزن الطويل والعذاب الوبيل ، وأتوكل على الله توكل الانابة إليه ، وأسترشده السبيل المؤدية إلى جنته ، القاصدة إلى محل رغبته .
* * * الشرح : بالنور المضى ، أي بالدين ، أو بالقرآن .
وأسرته : أهله .
أغصانها معتدلة ، كناية عن عدم الاختلاف بينهم في الامور الدينية .
وثمارها متهدلة ، أي متدلية ، كناية عن سهولة اجتناء العلم منها .
وطيبة اسم المدينة ، كان اسمها يثرب ، فسماها رسول الله صلى الله عليه وآله طيبة(9/237)
ومما أكفر الناس به يزيد بن معاوية أنه سماها " خبيثة " مراغمة لرسول الله صلى الله عليه وآله .
علا بها ذكره .
لانه صلى الله عليه وآله إنما انتصر وقهر الاعداء بعد الهجرة .
" ودعوة متلافية " أي تتلافى ما فسد في الجاهلية من أديان البشر .
قوله : " وبين به الاحكام المفصولة " ليس يعنى أنها كانت مفصولة قبل أن بينها ، بل المراد : بين به الاحكام التى هي الان مفصولة عندنا وواضحة لنا لاجل بيانه لها .
والكبوة : مصدر كبا الجواد ، إذا عثر فوقع إلى الارض .
والمآب : المرجع .
والعذاب الوبيل : ذو الوبال وهو الهلاك : والانابة : الرجوع .
والسبيل : الطريق ، يذكر ويؤنث .
والقاصدة ، ضد الجائرة فإن قلت لم عدى القاصدة ب " إلى " ؟ قلت : لانها لما كانت قاصدة ، تضمنت معنى الافضاء إلى المقصد ، فعداها ب " إلى " باعتبار المعنى .
* * * الاصل : أوصيكم عباد الله بتقوى الله وطاعته فإنها النجاة غدا ، والمنجاة أبدا ، رهب فأبلغ ، ورغب فأسبغ ، ووصف لكم الدنيا وانقطاعها ، وزوالها وانتقالها ، فأعرضوا عما يعجبكم فيها لقلة ما يصحبكم منها .
أقرب دار من سخط الله ، وأبعدها من رضوان الله .(9/238)
فغضوا عنكم عباد الله غمومها وأشغالها ، لما أيقنتم به من فراقها ، وتصرف حالاتها ، فاحذروها حذر الشفيق الناصح ، والمجد الكادح .
واعتبروا بما قد رأيتم من مصارع القرون قبلكم ، قد تزايلت أوصالهم وزالت أبصارهم وأسماعهم ، وذهب شرفهم وعزهم ، وانقطع سرورهم ونعيمهم فبدلوا بقرب الاولاد فقدها ، وبصحبة الازواج مفارقتها ، لا يتفاخرون ولا يتناسلون ، ولا يتزاورون ولا يتحاورون .
فاحذروا عباد الله حذر الغالب لنفسه ، المانع لشهوته ، الناظر بعقله ، فإن الامر واضح ، والعلم قائم ، والطريق جدد ، والسبيل قصد .
* * * الشرح : المنجاة : مصدر نجا ينجو نجاة ومنجاة .
والنجاة : الناقة ينجى عليها فاستعارها هاهنا للطاعة والتقوى ، كأنها كالمطية المركوبة يخلص بها الانسان من الهلكة .
قوله : " رهب فأبلغ " الضمير يرجع إلى الله سبحانه ، أي خوف المكلفين فأبلغ في التخويف ، ورغبهم فأتم الترغيب وأسبغه .
ثم أمر بالاعراض عما يسر ويروق من أمر الدنيا ، لقلة ، ما يصحب الناس من ذلك .
ثم قال : إنها أقرب دار من سخط الله ، وهذا نحو قول النبي صلى الله عليه وآله : " حب الدنيا رأس كل خطيئة .(9/239)
قوله : " فغضوا عنكم عباد الله غمومها " أي كفواعن أنفسكم الغم لاجلها والاشتغال بها ، يقال : غضضت فلانا عن كذا أي كففته ، قال تعالى : (واغضض من صوتك) .
(1) قوله : " فاحذروها حذر الشفيق الناصح " أي فاحذروها على أنفسكم لانفسكم كما يحذر الشفيق الناصح على صاحبه ، وكما يحذر المجد الكادح ، أي الساعي من خيبة سعيه .
والاوصال : الاعضاء .
والمحاورة : المخاطبة والمناجاة ، وروى : " ولا يتجاورون " بالجيم .
والعلم : ما يستدل به في المفازة .
وطريق جدد ، أي سهل واضح .
والسبيل قصد ، أي مستقيم .
__________
(1) سورة لقمان 190 .
(*)(9/240)
(163) الاصل : ومنه كلام له عليه السلام لبعض أصحابه ، وقد سأله : كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به ؟ فقال ععليه السلام : يا أخا بنى أسد ، إنك لقلق الوضين ، ترسل في غير سدد ، ولك بعد ذمامة الصهر وحق المسألة ، وقد استعلمت فاعلم .
أما الاستبداد علينا بهذا المقام ونحن الاعلون نسبا ، والاشدون بالرسول صلى الله عليه وسلم نوطا ، فإنها كانت أثرة شحت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس آخرين ، والحكم الله ، والمعود (1) إليه يوم القيامة .
ودع عنك نهبا صيح في حجراته * ولكن حديثا ما حديث الرواحل وهلم الخطب في ابن أبى سفيان ، فلقد أضحكني الدهر بعد إبكائه ، ولا غرو والله ، فياله خطبا يستفرغ العجب ، ويكثر الاود ! حاول القوم إطفاء نور الله من مصباحه ، وسد فواره من ينبوعه ، وجدحوا بينى وبينهم شربا وبيئا ، فإن ترتفع عنا وعنهم محن البلوى ، أحملهم من الحق على محضه ، وإن تكن الاخرى (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون) (2) .
__________
(1) المعود ، بسكون العين وفتح الواو ، كذا ضبطت في اللسان .
وفى النهاية لابن الاثير : هكذا جاء " المعود " على الاصل ، وهو " مفعل " من عاد يعود ، ومن حق أمثاله أن تقلب واوه ألفا ، كالمقام والمراج ، ولكنه استعمله على الاصل .
(2) سورة فاطر 8 .
(16 - نهج - 9) (*)(9/241)
الشرح : الوضين : بطان القتب (1) وحزام السرج ، ويقال للرجل المضطرب في أموره : إنه لقلق الوضين ، وذلك أن الوضين إذا قلق ، اضطرب القتب أو الهودج أو السرج ومن عليه .
ويرسل في غير سدد ، أي يتكلم في غير قصد وفى غير صواب ، والسدد والاستداد : الاستقامة والصواب ، والسديد : الذى يصيب السدد ، وكذلك المسد .
واستد الشئ أي استقام .
وذمامة الصهر ، بالكسر ، أي حرمته ، هو الذمام ، قال ذو الرمة تكن عوجة يجزيكها الله عنده * بها الاجر أو تقضى ذمامة صاحب (2) ويروى : " ماتة الصهر " أي حرمته ووسيلته ، مت إليه بكذا ، وإنما قال عليه السلام له : " ولك بعد ذمامة الصهر " لان زينب بنت جحش زوج رسول الله صلى الله عليه وآله كانت أسدية ، وهى زينب بنت جحش بن رباب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كثير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة .
وأمها أمية بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف فهى بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وآله ، والمصاهرة المشار إليها ، هي هذه .
ولم يفهم القطب الراوندي ذلك ، فقال في الشرح : " كان أمير المؤمنين عليه السلام قد تزوج في بنى أسد " ولم يصب ، فإن عليا عليه السلام لم يتزوج في بنى أسد البتة ونحن نذكر أولاده : أما الحسن والحسين وزينب الكبرى وأم كلثوم الكبرى ، فأمهم فاطمة بنت سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله (3) .
وأما محمد فأمه خولة بنت إياس (4) بن جعفر ، من بنى حنيفة ، وأما أبو بكر وعبد الله ، فأمهما ليلى بنت مسعود النهشلية ، من تميم .
وأما عمر ورقية
__________
(1) البطان : حزام القتب ، وهو الذى يجعل تحت بطن الدابة ، والقتب : رحل صغير على قدر السنام .
(2) ديوانه 54 .
(3) في تاريخ الطبري : " ويذكر أنه كان لها منه ابن آخر يسمى محسنا ، توفى صغيرا " .
(4) في نسب قريش : " خولة بنت جعفر بن قيس " .
(*)(9/242)
فأمهما سبية من بنى تغلب ، يقال لها : الصهباء ، سبيت في خلافة أبى بكر وإمارة خالد بن الوليد بعين التمر .
وأما يحيى وعون فأمهما أسماء بنت عميس الخثعمية (1) وأما جعفر والعباس وعبد الله وعبد الرحمن (2) فأمهم أم البنين بنت حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد من بنى كلاب .
وأما رملة وأم الحسن فأمهما أم سعيد بنت عروة بن مسعود الثقفى وأما أم كلثوم الصغرى وزينب الصغرى وجمانة وميمونة وخديجة وفاطمة وأم الكرام ونفيسة وأم سلمة وأم أبيها (3) وأمامة بنت على عليه السلام فهن لامهات أولاد شتى ، فهؤلاء أولاده ، وليس فيهم أحد من أسدية ، ولا بلغنا أنه تزوج في بنى أسد ، ولم يولد له ، ولكن الراوندي يقول ما يخطر له ولا يحقق .
وأما حق المسألة ، فلان للسائل على المسئول حقا حيث أهله لان يستفيد منه .
والاستبداد بالشئ : التفرد به .
والنوط : الالتصاق .
وكانت أثرة ، أي استئثارا بالامر واستبدادا به ، قال النبي صلى الله عليه وآله للانصار : " ستلقون بعدى أثرة " .
وشحت : بخلت .
وسخت : جادت ، ويعنى بالنفوس التى سخت نفسه وبالنفوس التى شحت ، أما على قولنا فإنه يعنى نفوس أهل الشورى بعد مقتل عمر ، وأما على قول الامامية ، فنفوس أهل السقيفة .
وليس في الخبر ما يقتضى صرف ذلك إليهم ، فالاولى أن يحمل على ما ظهر عنه من تألمه من عبد الرحمن بن عوف وميله إلى عثمان .
ثم قال : إن الحكم هو الله ، وإن الوقت الذى يعود الناس كلهم إليه هو يوم القيامة وروى : " يوم " بالنصب على أنه ظرف والعامل فيه " المعود " على أن يكون مصدرا .
وأما البيت فهو لامرئ القيس بن حجر الكندى ، وروى أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يستشهد إلا بصدره فقط وأتمه الرواة .
__________
(1) في إحدى روايات الطبري أنه أعقب منها يحيى ومحمدا الاصغر .
(2) في الطبري ونسب قريش : " وعثمان " .
(3) كذا في الاصول ، ولم تذكر في الطبري ، وزاد : " أم هانئ ورملة الصغرى " .
(*)(9/243)
[ حديث عن امرئ القيس ] وكان من قصة هذا الشعر أن امرأ القيس ، لما تنقل في أحياء العرب بعد قتل أبيه نزل على رجل من جديلة طيئ ، يقال له طريف (1) بن ملء ، فأجاره وأكرمه ، وأحسن إليه ، فمدحه وأقام عنده .
ثم إنه لم يوله نصيبا في الجبلين : أجأ وسلمى ، فخاف ألا يكون له منعة ، فتحول ونزل على خالد بن سدوس بن أصمع النبهاني ، فأغارت بنو جديلة على امرئ القيس وهو في جوار خالد بن سدوس ، فذهبوا بإبله ، وكان الذى أغار عليه منهم باعث بن حويص ، فلما أتى امرئ القيس الخبر ، ذكر ذلك لجاره ، فقال له : أعطني رواحلك ألحق عليها القوم ، فأرد عليك إبلك ، ففعل فركب خالد في إثر القوم حتى أدركهم ، فقال : يا بنى جديلة ، أغرتم على إبل جارى ! فقالوا : ما هو لك بحار ، قال : بلى والله وهذه رواحله ، قالوا : كذلك ! قال نعم : فرجعوا إليه فأنزلوه عنهن ، وذهبوا بهن وبالابل .
وقيل : بل انطوى خالد على الابل فذهب بها ، فقال امرؤ القيس : دع عنك نهبا صيح في حجراته * ولكن حديثا ما حديث الرواحل (2) كأن دثارا حلقت بلبونه * عقاب تنوفى لا عقاب القواعل (3) تلعب باعث بجيران خالد * وأودى دثار في الخطوب الاوائل (4) وأعجبني مشى الحزقة خالد * كمشى أتان حلئت بالمناهل أبت أجأ أن تسلم العام جارها * فمن شاء فلينهض لها من مقاتل تبيت لبونى بالقرية أمنا * وأسرحها غبا بأكناف حائل
__________
(1) في الديوان 142 : " طريف بن مالك " .
(2) الشعر والخبر في الديوان 94 - 96 .
والحجرات : النواحى .
(3) اللبون : التى لها ألبان .
(4) باعث : رجل من طئ ، وهو ممن أغار عليه .
(*)(9/244)
بنو ثعل جيرانها وحماتها * وتمنع من رجال سعد ونائل تلاعب أولاد الوعول رباعها * دوين السماء في رءوس المجادل مكللة حمراء ذات أسرة * لها حبك كأنها من وصائل دثار : اسم راع كان لامرئ القيس .
وتنوفى والقواعل جبال .
والحزقة : القصير الضخم البطن ، واللبون : لابل ذوات الالبان .
والقرية : موضع معروف بين الجبلين .
وحائل اسم موضع أيضا وسعد ونائل حيان من طيئ .
والرباع : جمع ربع ، وهو ما نتج في الربيع والمجادل : القصور .
ومكللة ، يرجع إلى المجادل مكللة بالصخر .
والاسرة : الطريق وكذلك الحبك .
والوصائل : جمع وصيلة ، وهو ثوب أمغر (1) الغزل ، فيه خطوط .
والنهب : الغنيمة والجمع النهاب ، والانتهاب مصدر انتهبت المال ، إذا أبحته يأخذه من شاء ، والنهبى : اسم ما أنهب .
وحجراته : نواحيه ، الواحدة حجرة ، مثل جمرات وجمرة ، وصيح في حجراته صياح الغارة .
والرواحل : جمع راحلة ، وهى الناقة التى تصلح أن ترحل ، أي يشد الرحل على ظهرها ، ويقال للبعير : راحلة .
وانتصب " حديثا " بإضمار فعل ، أي هات حديثا أو حدثنى حديثا .
ويروى : " ولكن حديث " أي ولكن مرادى أو غرضي حديث فحذف المبتدأ ، وما هاهنا ، يحتمل أن تكون إبهامية ، وهى التى إذا اقترنت باسم نكرة زادته إبهاما وشياعا ، كقولك : أعطني كتابا ما ، تريد أي كتاب كان ، ويحتمل أن تكون صلة مؤكدة كالتى في قوله تعالى : (فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله) (2) فأما " حديث " الثاني فقد ينصب وقد يرفع ، فمن نصب أبدله من " حديث " الاول ومن رفع جاز أن يجعل " ما " موصولة بمعنى " الذى " وصلتها الجملة ، أي الذى هو حديث الرواحل ، ثم حذف صدر الجملة كما حذف في (تماما على الذى أحسن) (3) ويجوز أن تجعل " ما " استفهامية بمعنى " أي " .
__________
(1) المغره : لون يضرب إلى الحمرة .
(2) سورة النساء 155 .
(3) سورة الانعام 154 .
(*)(9/245)
ثم قال : " وهلم الخطب " هذا يقوى رواية من روى عنه أنه عليه السلام لم يستشهد إلا بصدر البيت ، كأنه قال : دع عنك ما مضى وهلم ما نحن الان فيه من أمر معاوية فجعل " هلم ما نحن فيه من أمر معاوية " قائما مقام قول امرئ القيس * ولكن حديثا ما حديث الرواحل * وهلم ، لفظ يستعمل لازما ومتعديا ، فاللازم بمعنى " تعال " قال الخليل : أصله " لم " من قولهم : " لم الله شعثه " أي جمعه كأنه أراد " لم نفسك إلينا " أي اجمعها واقرب منا ، وجاءت " ها " للتنبيه قبلها ، وحذفت الالف لكثرة الاستعمال ، وجعلت الكلمتان كلمة واحدة ، يستوى فيها الواحد والاثنان والجمع والمؤنث والمذكر في لغة أهل الحجاز قال سبحانه : (والقائلين لاخوانهم هلم إلينا) (1) وأهل نجد يصرفونها فيقولون للاثنين : " هلما " وللجمع : " هلموا " وعلى ذلك .
وقد يوصل إذا كان لازما باللام ، فيقال : هلم لك ، وهلم لكما ، كما قالوا : هيت لك ، وإذا قيل لك : هلم إلى كذا أي تعال إليه قلت : لا أهلم مفتوحة الالف والهاء مضمومة الميم ، فأما المتعدية فهى بمعنى " هات " تقول : هلم كذا وكذا ، قال الله تعالى : (هلم شهداءكم) (2) وتقول لمن قال لك ذلك : لا أهلمه ، أي لا أعطيكه ، يأتي بالهاء ضمير المفعول ليتميز من الاولى .
يقول عليه السلام : ولكن هات ذكر الخطب ، فحذف المضاف ، والخطب : الحادث الجليل ، يعنى الاحوال التى أدت إلى أن صار معاوية منازعا في الرياسة ، قائما عند كثير من الناس مقامه ، صالحا لان يقع في مقابلته ، وأن يكون ندا له .
ثم قال : " فلقد أضحكى الدهر بعد إبكائه " يشير إلى ما كان عنده من الكآبة لتقدم من سلف عليه ، فلم يقنع الدهر له بذلك ، حتى جعل معاوية نظيرا له ، فضحك عليه
__________
(1) سورة الاحزاب 18 .
(2) سورة الانعام 150 .
(*)(9/246)
السلام مما تحكم به الاوقات ، ويقتضيه تصرف الدهر وتقلبه ، وذلك ضحك تعجب واعتبار .
ثم قال : " ولا غرو والله " أي ولا عجب والله .
ثم فسر ذلك فقال : ياله خطبا يستفرغ العجب ! أي يستنفده ويفنيه ، يقول : قد صار العجب لا عجب ، لان هذا الخطب استغرق التعجب ، فلم يبق منه ما يطلق عليه لفظ التعجب ، وهذا من باب الاغراق والمبالغة في المبالغة ، كما قال أبو الطيب : أسفى على أسفى الذى دلهتنى * عن علمه فبه على خفاء (1) وشكيتي فقد السقام لانه * قد كان لما كان لى أعضاء وقال ابن هانئ المغربي : قد سرت في الميدان يوم طرادهم * فعجبت حتى كدت ألا أعجبا (2) والاود : العوج .
ثم ذكر تمالؤ قريش عليه ، فقال : حاول القوم إطفاء نور الله من مصباحه ، يعنى ما تقدم من منابذة طلحة والزبير وأصحابهما له ، وما شفع ذلك من معاوية وعمرو وشيعتهما .
وفوار الينبوع : ثقب البئر .
قوله : " وجدحوا بينى وبينهم شربا (3) " أي خلطوه ومزجوه وأفسدوه .
والوبئ : ذو الوباء والمرض ، وهذا استعارة كأنه جعل الحال التى كانت بينه وبينهم قد أفسدها القوم وجعلوها مظنة الوباء والسقم كالشرب الذى يخلط بالسم أو بالصبر فيفسد ويوبئ .
__________
(1) ديوانه 1 : 14 .
(2) ديوانه 81 (طبعة المعارف) .
(3) الشرب : النصيب من الماء .
(*)(9/247)
ثم قال : فإن كشف الله تعالى هذه المحن التى يحصل منها ابتلاء الصابرين والمجاهدين وحصل لى التمكن من الامر ، حملتهم على الحق المحض الذى لا يمازجه باطل ، كاللبن المحض الذى لا يخالطه شئ من الماء ، وإن تكن الاخرى ، أي وإن لم يكشف الله تعالى هذه الغمة ومت أو قتلت - والامور على ماهى عليه من الفتنة ودولة الضلال - فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ، والاية من القرآن العزيز (1) .
وسألت أبا جعفر يحيى بن محمد العلوى نقيب البصرة وقت قراءتى عليه ، عن هذا الكلام ، وكان رحمه الله على ما يذهب إليه من مذهب العلوية منصفا وافر العقل فقلت له : من يعنى عليه السلام بقوله : " كانت أثرة شحت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس آخرين ؟ " ومن القوم الذين عناهم الاسدي بقوله : " كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به " ؟ هل المراد يوم السقيفة أو يوم الشورى ؟ فقال : يوم السقيفة ، فقلت : إن نفسي لا تسامحني أن أنسب إلى الصحابة عصيان رسول الله صلى الله عليه وآله ودفع النص .
فقال : وأنا فلا تسامحني أيضا نفسي أن أنسب الرسول صلى الله عليه وآله إلى أهمال أمر الامامة ، وإن يترك الناس فوضى سدى مهملين ، وقد كان لا يغيب عن المدينة إلا ويؤمر عليها أميرا وهو حى ليس بالبعيد عنها ، فكيف لا يؤمر وهو ميت لا يقدر على استدراك ما يحدث ! ثم قال : ليس يشك أحد من الناس أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان عاقلا كامل العقل ، أما المسلمون فاعتقادهم فيه معلوم ، وأما اليهود والنصارى والفلاسفة فيزعمون أنه حكيم تام الحكمة ، سديد الرأى ، أقام ملة ، وشرع شريعة ، فاستجد ملكا عظيما بعقله وتدبيره ، وهذا الرجل العاقل الكامل يعرف طباع العرب وغرائزهم وطلبهم بالثارات والذحول ، ولو بعد الازمان المتطاولة .
ويقتل الرجل من القبيلة رجلا من بيت آخر ،
__________
(1) سورة فاطر 8 .
(*)(9/248)
فلا يزال أهل ذلك المقتول وأقاربه يتطلبون القاتل ليقتلوه ، حتى يدركوا ثأرهم منه ، فإن لم يظفروا به قتلوا بعض أقاربه وأهله ، فإن لم يظفروا بأحدهم قتلوا واحدا أو جماعة من تلك القبيلة به وإن لم يكونوا رهطه الادنين .
والاسلام لم يحل طبائعهم ، ولا غير هذه السجية المركوزة في أخلاقهم ، والغرائز بحالها ، فكيف يتوهم لبيب أن هذا العاقل الكامل وتر العرب ، وعلى الخصوص قريشا ، وساعده على سفك الدماء وإزهاق الانفس وتقلد الضغائن ابن عمه الادنى وصهره ، وهو يعلم أنه سيموت كما يموت الناس ، ويتركه بعده وعنده ابنته ، وله منها ابنان يجريان عنده مجرى ابنين من ظهره حنوا عليهما ، ومحبة لهما ، ويعدل عنه في الامر بعده ، ولا ينص عليه ولا يستخلفه ، فيحقن دمه ودم بنيه وأهله باستخلافه ! ألا يعلم هذا العاقل الكامل ، إنه إذا تركه وترك بنيه وأهله سوقة ورعية ، فقد عرض دماءهم للاراقة بعده ، بل يكون هو عليه السلام هو الذى قتله ، وأشاط (1) بدمائهم ، لانهم لا يعتصمون بعده بأمر يحميهم ، وإنما يكونون مضغة للا كل وفريسة للمفترس ، يتخطفهم الناس ، وتبلغ فيهم الاغراض ! فأما إذا جعل السلطان فيهم والامر إليهم ، فإنه يكون قد عصمهم وحقن دماءهم بالرياسة التى يصولون بها ، ويرتدع الناس عنهم لاجلها .
ومثل هذا معلوم بالتجربة .
ألا ترى أن ملك بغداد أو غيرها من البلاد لو قتل الناس ووترهم ، وأبقى في نفوسهم الاحقاد العظيمة عليه ، ثم أهمل أمر ولده وذريته من بعده ، وفسح للناس أن يقيموا ملكا من عرضهم ، وواحدا منهم ، وجعل بنيه سوقة كبعض العامة ، لكان بنوه بعده قليلا بقاؤهم ، سريعا هلاكهم ، ولوثب عليهم الناس ذوو الاحقاد والترات من كل جهة ، يقتلونهم ويشردونهم كل مشرد .
ولو أنه عين ولدا من أولاده للملك ، وقام خواصه وخدمه وخوله بأمره بعده ، لحقنت دماء أهل
__________
(1) أشاط بدمائهم : أهدرها أو عمل على هلاكها .
(*)(9/249)
بيته ، ولم تطل يد أحد من الناس إليهم لناموس الملك ، وأبهة السلطنة ، وقوة الرياسة وحرمة الامارة .
أفترى ذهب عن رسول الله صلى الله عليه وآله هذا المعنى ، أم أحب أن يستأصل أهله وذريته من بعده وأين موضع الشفقة على فاطمة العزيزة عنده ، الحبيبة إلى قلبه ! أتقول : إنه أحب أن يجعلها كواحدة من فقراء المدينة تتكفف الناس ، وأن يجعل عليا ، المكرم المعظم عنده ، الذى كانت حاله معه معلومة ، كأبى هريرة الدوسى وأنس ابن مالك الانصاري ، يحكم الامراء في دمه وعرضه ونفسه وولده ، فلا يستطيع الامتناع وعلى رأسه مائة ألف سيف مسلول ، تتلظى أكباد أصحابها عليه ، ويودون أن يشربوا دمه بأفواههم ، ويأكلوا لحمه بأسنانهم ، قد قتل أبناءهم وإخوانهم وآباءهم وأعمامهم ، والعهد لم يطل ، والقروح لم تتقرف (1) والجروح لم تندمل ! فقلت له : لقد أحسنت فيما قلت ة إلا أن لفظه عليه السلام يدل على أنه لم يكن نص عليه ، ألا تراه يقول : " ونحن الاعلون نسبا ، والاشدون بالرسول نوطا " فجعل الاحتجاج بالنسب وشدة القرب ، فلو كان عليه نص ، لقال عوض ذلك : " وأنا المنصوص على ، المخطوب باسمى " .
فقال رحمه الله : إنما أتاه من حيث يعلم ، لا من حيث يجهل ، ألا ترى أنه سأله ، فقال : كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام ، وأنتم أحق به ؟ فهو إنما سأل عن دفعهم عنه ، وهم أحق به من جهة اللحمة والعترة ، ولم يكن الاسدي يتصور النص ولا يعتقده ، ولا يخطر بباله ، لانه لو كان هذا في نفسه ، لقال له : لم دفعك الناس عن هذا المقام ، وقد نص عليك رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ ولم يقل له هذا ، وإنما قال كلاما عاما لبنى هاشم كافة :
__________
(1) تقرف الجرح : طلعت فوقه قشرة ، أي شارف البرء .
(*)(9/250)
كيف دفعكم قومكم عن هذا وأنتم أحق به ! أي باعتبار الهاشمية والقربى .
فأجابه بجواب أعاد قبله المعنى الذى تعلق به الاسدي بعينه ، تمهيدا للجواب ، فقال : إنما فعلوا ذلك مع أنا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله من غيرنا لانهم استأثروا علينا ، ولو قال له : أنا المنصوص على ، والمخطوب باسمى في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله ، لما كان قد أجابه ، لانه ما سأله : هل أنت منصوص عليك أم لا ؟ ولا هل نص رسول الله صلى الله عليه وآله بالخلافة على أحد أم لا ؟ وإنما قال : لم دفعكم قومكم عن الامر وأنتم أقرب إلى ينبوعه ومعدنه منهم ؟ فأجابه جوابا ينطبق على السؤال ويلائمه أيضا ، فلو أخذ يصرح له بالنص ، ويعرفه تفاصيل باطن الامر لنفر عنه ، واتهمه ولم يقبل قوله ، ولم ينجذب إلى تصديقه ، فكان أولى الامور في حكم السياسة وتدبير الناس ، أن يجيب بما لا نفرة منه ولا مطعن عليه فيه .(9/251)
(164) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : الحمد لله خالق العباد ، وساطح المهاد ، ومسيل الوهاد ، مخصب النجاد ليس لاوليته ابتداء ، ولا لازليته انقضاء ، هو الاول ولم يزل ، والباقى بلا أجل خرت له الجباه ، ووحدته الشفاه .
حد الاشياء عند خلقه لها إبانة له من شبهها لا تقدره الاوهام بالحدود والحركات ، ولا بالجوارح والادوات ، لا يقال له : " متى " ؟ ولا يضرب له أمد ب " حتى " الظاهر لا يقال : " مم " ؟ والباطن لا يقال : " فيم " ؟ لا شبح فيتقصى ، ولا محجوب فيحوى .
لم يقرب من الاشياء بالتصاق ، ولم يبعد عنها بافتراق ، ولا يخفى عليه من عباده شخوص لحظة ، ولا كرور لفظة ولا ازدلاف ربوة ، ولا انبساط خطوة .
في ليل داج ، ولا غسق ساج ، يتفيأ عليه القمر المنير ، وتعقبه الشمس ذات النور في الافول والكرور ، وتقليب الازمنة والدهور ، من إقبال ليل مقبل ، وإدبار نهار مدبر .
قبل كل غاية ومدة ، وكل إحصاء وعدة ، تعالى عما ينحله المحددون من صفات الاقدار ، ونهايات الاقطار ، وتأثل المساكن ، وتمكن الاماكن .
فالحد لخلقه مضروب ، وإلى غيره منسوب .
لم يخلق الاشياء من أصول أزلية ، ولا من أوائل أبدية ، بل خلق ما خلق فأقام(9/252)
حده ، وصور ما صور فأحسن صورته .
ليس لشئ منه امتناع ، ولا له بطاعة شئ انتفاع .
علمه بالاموات الماضين كعلمه بالاحياء الباقين ، وعلمه بما في السموات العلا كعلمه بما في الارضين السفلى .
* * * الشرح : المهاد هنا : هو الارض ، وأصله الفراش : وساطحه : باسطه ، ومنه تسطيح القبور خلاف تسنيمها ، ومنه أيضا المسطح ، للموضع الذى يبسط فيه التمر ليجفف .
والوهاد : جمع وهدة ، وهى المكان المطمئن .
ومسيلها : مجرى السيل فيها .
والنجاد : جمع نجد ، وهو ما ارتفع من الارض .
ومخصبها : مروضها وجاعلها ذوات خصب .
* * * [ مباحث كلامية ] واعلم أنه عليه السلام أورد في هذه الخطبة ضروبا من علم التوحيد ، وكلها مبنية على ثلاثة أصول : الاصل الاول : أنه تعالى واجب الوجود لذاته ، ويتفرع على هذا الاصل فروع : أولها : أنه ليس لاوليته ابتداء ، لانه لو كان لاوليته ابتداء ، لكان محدثا ، ولا شئ من المحدث بواجب الوجود ، لان معنى واجب الوجود ، أن ذاته لا تقبل العدم ، ويستحيل الجمع بين قولنا : هذه الذات محدثة ، أي كانت معدومة من قبل ، وهى في حقيقتها لا تقبل العدم .(9/253)
وثانيها : أنه ليس لازليته انقضاء ، لانه لو صح عليه العدم لكان لعدمه سبب ، فكان وجوده موقوفا على انتفاء سبب عدمه ، والمتوقف على غيره ، يكون ممكن الذات ، فلا يكون واجب الوجود .
وقوله عليه السلام : " هو الاول لم يزل ، والباقى بلا أجل " تكرار لهذين المعنيين السابقين على سبيل التأكيد ، ويدخل فيه أيضا قوله : " لا يقال له متى ، ولا يضرب له أمد بحتى " ، لان " متى " للزمان وواجب الوجود يرتفع عن الزمان ، و " حتى " للغاية وواجب الوجود لا غاية له : ويدخل أيضا فيه قوله : " قبل كل غاية ومدة وكل احصاء وعدة " .
وثالثها : أنه لا يشبه الاشياء البتة ، لان ما عداه إما جسم أو عرض أو مجرد ، فوأشبه الجسم أو العرض لكان إما جسما أو عرضا ، ضرورة تساوى المتشابهين المتماثلين في حقائقهما .
ولو شابه غيره من المجردات - مع أن كل مجرد غيره ممكن - لكان ممكنا ، وليس واجب الوجود بممكن ، فيدخل في هذا المعنى قوله عليه السلام : " حد الاشياء عند خلقه لها ، إبانة له من شبهها " أي جعل المخلوقات ذوات حدود ليتميز هو سبحانه عنها ، إذ لاحد له ، فبطل أن يشبهه شئ منها .
ودخل فيه قوله عليه السلام : " لا تقدره الاوهام بالحدود والحركات ، ولا بالجوارح " .
والادوات : جمع أداة وهى ما يعتمد به ودخل فيه قوله : " الظاهر فلا يقال : مم " ؟ أي لا يقال : من أي شئ ظهر ، و " الباطن فلا يقال : " فيم " أي لا يقال فيما ذا بطن ؟ ويدخل فيه قوله : " لا شبح فيقتضى " والشبح : الشخص ويتقصى يطلب أقصاه .
ويدخل فيه قوله : " ولا محجوب فيحوى " ، وقوله : " لم يقرب من الاشياء بالتصاق ، ولم يبعد عنها بافتراق " لان هذه الامور كلها من خصائص الاجسام وواجب الوجود لا يشبه الاجسام ولا يماثلها .
ويدخل فيه قوله عليه السلام : " تعالى عما ينحله المحددون من صفات الاقدار " أي ما ينسبه إليه المشبهة والمجسمة من صفات المقادير وذوات المقادير .(9/254)
ونهايات الاقطار ، أي الجوانب .
وتأثل المساكن ، مجد مؤثل ، أي أصيل وبيت مؤثل ، أي معمور ، وكان أصل الكلمة أن تبنى الدار بالاثل ، وهو شجر معروف وتمكن الاماكن : ثبوتها واستقرارها .
وقوله : " فالحمد لخلقه مضروب ، وإلى غيره منسوب " وقوله : " ولا بطاعة شئ انتفاع " لانه إنما ينتفع الجسم الذى يصح عليه الشهوة والنفرة ، كل هذا داخل تحت هذا الوجه .
* * * الاصل الثاني : أنه تعالى عالم لذاته ، فيعلم كل معلوم ، ويدخل تحت هذا الاصل قوله عليه السلام : " لا تخفى عليه من عباده شخوص لحظة " أن تسكن العين فلا تتحرك .
ولا كرور لفظة ، أي رجوعها .
ولا ازدلاف ربوة ، صعود إنسان أو حيوان ربوة من الارض ، وهى الموضع المرتفع .
ولا انبساط خطوة .
في ليل داج .
أي مظلم .
ولا غسق ساج ، أي ساكن .
ثم قال : " يتفيأ عليه القمر المنير " هذا من صفات الغسق ومن تتمة نعته ، ومعنى : " يتفيأ عليه " يتقلب ذاهبا وجائيا في حالتى أخذه في الضوء إلى التبدر ، وأخذه في النقص إلى المحاق .
وقوله : " وتعقبه " أي وتتعقبه ، فحذف إحدى التاءين ، كما قال سبحانه : (الذين توفاهم الملائكة) (1) أي " تتوفاهم " والهاء في " وتعقبه " ترجع إلى القمر ، أي وتسير الشمس عقبه في كروره .
وأفوله ، أي غيبوبته ، وفى تقليب الازمنة والدهور ، من إقبال لليل وإدبار نهار .
__________
(1) سورة النساء 97 .
(*)(9/255)
فإن قلت : إذا كان قوله : " يتفيأ عليه القمر المنير " في موضع جر ، لانه صفة " غسق " ، فكيف تتعقب الشمس والقمر مع وجود الغسق ؟ وهل يمكن اجتماع الشمس والغسق .
قلت : لا يلزم من تعقب الشمس للقمر ثبوت الغسق .
بل قد يصدق تعقبها له ويكون الغسق معدوما ، كأنه عليه السلام قال : " لا يخفى على الله حركة في نهار ولا ليل ، يتفيأ عليه القمر ، وتعقبه الشمس " أي تظهر عقيبه ، فيزول الغسق بظهورها .
وهذا التفسير الذى فسرناه يقتضى أن يكون حرف الجر وهو " في " التى في قوله : " في الكرور " متعلقا بمحذوف ، ويكون موضعه نصبا على الحال ، أي وتعقبه كارا وآفلا .
ويدخل تحته أيضا قوله عليه السلام : " علمه بالاموات الماضين ، كعلمه بالاحياء الباقين ، وعلمه بما في السموات العلا ، كعلمه بما في الارضين السفلى " .
* * * الاصل الثالث : أنه تعالى قادر لذاته ، فكان قادرا على كل الممكنات ، ويدخل تحته قوله : " لم يخلق الاشياء من أصول أزلية ، ولا من أوائل أبدية ، بل خلق ما خلق فأقام حده ، وصور ما صور فأحسن صورته " والرد في هذا على أصحاب الهيولى والطينة التى يزعمون قدمها .
ويدخل تحته قوله : " ليس لشئ امتناع " لانه متى أراد إيجاد شئ أوجده ، ويدخل تحته قوله : " خرت له نحباه " أي سجدت .
و " وحدته الشفاه " يعنى الافواه ، فعبر بالجزء عن الكل مجازا ، وذلك لان القادر لذاته هو المستحق للعبادة لخلقه أصول النعم .
كالحياة والقدرة والشهوة .
* * * واعلم أن هذا الفن هو الذى بان به أمير المؤمنين عليه السلام عن العرب في زمانه قاطبة(9/256)
واستحق به التقدم والفضل عليهم أجمعين ، وذلك لان الخاصة التى يتميز بها الانسان عن البهائم هي العقل والعلم ، ألا ترى أنه يشاركه غيره من الحيوانات في اللحمية والدموية والقوة والقدرة ، والحركة الكائنة على سبيل الارادة والاختيار ، فليس الامتياز إلا بالقوة الناطقة ، أي العاقلة العالمة ، فكلما كان الانسان أكثر حظا منها ، كانت إنسانيته أتم ومعلوم أن هذا الرجل انفرد بهذا الفن ، وهو أشرف العلوم ، لان معلومه أشرف المعلومات ، ولم ينقل عن أحد من العرب غيره في هذا الفن حرف واحد ، ولا كانت أذهانهم تصل إلى هذا ، ولا يفهمونه بهذا الفن فهو (1) منفرد فيه ، وبغيره من الفنون - وهى العلوم الشرعية - مشارك لهم ، وراجح (2) عليهم ، فكان أكمل منهم ، لانا قد بينا أن الاعلم أدخل في صورة الانسانية ، وهذا هو معنى الافضلية .
* * * الاصل : منها : أيها المخلوق السوى ، والمنشأ المرعى في ظلمات الارحام ومضاعفات الاستار .
بدئت من سلالة من طين ، ووضعت في قرار مكين ، إلى قدر معلوم ، وأجل مقسوم ، تمور في بطن أمك جنينا لا تحير دعاء ، ولا تسمع نداء .
ثم أخرجت من مقرك إلى دار لم تشهدها ، ولم تعرف سبل منافعها ، فمن هداك لاجترار الغذاء من ثدى أمك ، وحرك عند الحاجة مواضع طلبك وإرادتك ! هيهات ! إن من يعجز عن صفات ذى الهيئة والادوات ، فهو عن صفات خالقه أعجز ، ومن تناوله بحدود المخلوقين أبعد .
* * *
__________
(1) ساقطة من ب .
(2) ا ، ب : " وأرجح " وما أثبته من ج ، د (17 - نهج - 9) (*)(9/257)
الشرح : السوى : المستوى الخلقة غير ناقص ، قال سبحانه : (فتمثل لها بشرا سويا) (1) والمنشأ ، مفعول من " أنشأ " أي خلق ووجد .
والمرعى : المحوط المحفوظ .
وظلمات الارحام ، ومضاعفات الاستار : مستقر النطف ، والرحم موضوعة فيما بين المثانة والمعى المستقيم ، وهى مربوطة برباطات على هيئة السلسة ، وجسمها عصبي ، ليمكن امتدادها واتساعها وقت الحاجة إلى ذلك عند الولادة ، وتنضم وتتقلص إذا استغنى عن ذلك ، ولها بطنان ينتهيان إلى فم واحد ، وزائدتان يسميان قريني الرحم ، وخلف هاتين الزائدتين بيضتا المرأة ، وهما أصغر من بيضتي الرجل ، وأشد تفرطحا ، ومنهما ينصب منى المرأة إلى تجويف الرحم ، وللرحم رقبة منتهية إلى فرج المرأة ، وتلك الرقبة من المرأة بمنزلة الذكر من الرجل ، فإذا امتزج منى الرجل بمنى المرأة في تجويف الرحم كان العلوق ثم ينمى ويزيد من دم الطمث ، ويتصل بالجنين عروق تأتى إلى الرحم فتغذوه ، حتى يتم ويكمل ، فإذا تم لم يكتف بما تحته من تلك العروق فيتحرك حركات قوية ، طلبا للغذاء فتنهتك أربطة الرحم التى قلنا إنها على هيئة السلسلة ، وتكون منها الولادة .
قوله : " بدئت من سلالة من طين " أي كان ابتداء خلقك من سلالة ، وهى خلاصة الطين ، لاتها سلت من بين الكدر ، و " فعالة " بناء للقلة ، كالقلامة والقمامة .
وقال الحسن : هي مابين ظهرانى الطين .
ثم قال : " ووضعت في قرار مكين " الكلام الاول لادم الذى هو أصل البشر والثانى لذريته ، والقرار المكين : الرحم متمكنة في موضعها برباطاتها ، لانها لو كانت متحركة لتعذر العلوق .
__________
(1) سورة مريم 19 .
(*)(9/258)
ثم قال : " إلى قدر معلوم ، وأجل مقسوم " إلى متعلقة بمحذوف ، كأنه قال : " منتهيا إلى قدر معلوم " أي مقدارا طوله وشكله إلى أجل مقسوم مدة حياته .
ثم قال : " تمور في بطن أمك " أي تتحرك .
لا تحير ، أي لا ترجع جوابا أحار يحير .
إلى دار لم تشهدها ، يعنى الدنيا ، ويقال : أشبه شئ بحال الانتقال من الدنيا إلى الاحوال التى بعد الموت ، انتقال الجنين من ظلمة الرحم إلى فضاء الدنيا ، فلو كان الجنين يعقل ويتصور كان يظن أنه لا دار له إلا الدار التى هو فيها ، ولا يشعر بما وراءها ولا يحس بنفسه إلا وقد حصل في دار لم يعرفها ، ولا تخطر بباله ، فبقى هو كالحائر المبهوت وهكذا حالنا في الدنيا إذا شاهدنا ما بعد الموت .
ولقد أحسن ابن الرومي في صفة خطوب الدنيا وصروفها بقوله : لما تؤذن الدنيا به من صروفها * يكون بكاء الطفل ساعة يولد (1) وإلا فما يبكيه منها وإنها * لاوسع مما كان فيه وأرغد ! إذا أبصر الدنيا استهل كأنه * بما سوف يلقى من أذاها يهدد قال : " فمن هداك إلى اجترار الغذاء من ثدى أمك ؟ " ، اجترار : امتصاص اللبن من الثدى ، وذلك بالالهام الالهى .
قال : " وعرفك عند الحاجة " ، أي أعلمك بموضع الحلمة عند طلبك الرضاع فالتقمتها بفمك .
__________
(1) ديوانه الورقة 65 (محفوطة دار الكتب المصرية - 139 أدب .
(*)(9/259)
ثم قال : " هيهات " أي بعد أن يحيط علما بالخالق من عجز عن معرفة المخلوق ! قال الشاعر : رأيت الورى يدعون الهدى * وكم يدعى الحق خلق كثير وما في البرايا امرؤ عنده * من العلم بالحق إلا اليسير خفى فما ناله ناظر * وما إن أشار إليه مشير ولا شئ أظهر من ذاته * وكيف يرى الشمس أعمى ضرير !(9/260)
(165) الاصل : ومن كلام له عليه السلام لعثمان بن عفان قالوا : لما اجتمع الناس إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، وشكوا إليه ما نقموه على عثمان ، وسألوه مخاطبته عنهم واستعتابه لهم ، فدخل عليه السلام على عثمان فقال : إن الناس ورائي وقد استسفروني بينك وبينهم ، ووالله ما أدرى ما أقول لك ! ما أعرف شيئا تجهله ، ولا أدلك على أمر لا تعرفه ! إنك لتعلم ما نعلم ، ما سبقناك ألى شئ فنخبرك عنه ، ولا خلونا بشئ فنبلغكه ، وقد رأيت كما رأينا ، وسمعت كما سمعنا ، وصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صحبنا .
وما ابن أبى قحافة ولا ابن الخطاب بأولى بعمل الخير (1) منك وأنت أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشيجة رحم منهما ، وقد نلت من صهره ما لم ينالا ، فالله الله في نفسك فإنك والله ما تبصر من عمى ، ولا تعلم من جهل ، وإن الطرق لواضحة ، وإن أعلام الدين لقائمة .
فاعلم أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل ، هدى وهدى ، فأقام سنة معلومة وأمات بدعة مجهولة ، وإن السنن لنيرة لها أعلام ، وإن البدع لظاهرة لها أعلام وإن شر الناس عند الله إمام جائر ضل وضل به ، فأمات سنة مأخوذة ، وأحيا بدعة متروكة ، وإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يؤتى يوم القيامة بالامام الجائر ، وليس معه نصير ولا عاذر ، فيلقى في نار جهنم ، فيدور فيها كما تدور الرحى ، ثم يرتبط في قعرها .
__________
(1) د : " الحق " (*)(9/261)
وإنى أنشدك الله أن تكون إمام هذه الامة المقتول ! فإنه كان يقال : يقتل في هذه الامة إمام يفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة ، ويلبس أمورها عليها ويبث الفتن فيها ، فلا يبصرون الحق من الباطل ، يموجون فيها موجا ، ويمرجون فيها مرجا .
فلا تكونن لمروان سيقة يسوقك حيث شاء بعد جلال السنن ، وتقضى العمر .
فقال له عثمان رضى الله عنه : كلم الناس في أن يؤجلوني ، حتى أخرج إليهم من مظالمهم .
فقال عليه السلام : ما كان بالمدينة فلا أجل فيه ، وما غاب فأجله وصول أمرك إليه .
* * * الشرح : نقمت على زيد بالفتح ، أنقم فأنا ناقم ، إذا عتبت عليه .
وقال الكسائي : نقمت بالكسر أيضا ، أنقم لغة ، وهذه اللفظة تجئ لازمة ومتعدية ، قالوا : نقمت الامر أي كرهته .
واستعتبت فلانا ، طلبت منه العتبى وهى الرضا ، واستعتابهم عثمان طلبهم منه ما يرضيهم عنه .
واستسفروني : جعلوني سفيرا ووسيطا بينك وبينهم .
ثم قال له وأقسم على ذلك : إنه لا يعلم ماذا يقول له ! لانه لا يعرف أمرا يجهله أي من هذه الاحداث خاصة .
وهذا حق ، لان عليا عليه السلام لم يكن يعلم منها ما يجهله(9/262)
عثمان ، بل كان أحداث الصبيان ، فضلا عن العقلاء المميزين ، يعلمون وجهى الصواب والخطأ فيها .
ثم شرع معه في مسلك الملاطفة والقول اللين ، فقال : ما سبقنا إلى الصحبة ولا انفردنا بالرسول دونك ، وأنت مثلنا ونحن مثلك .
ثم خرج إلى ذكر الشيخين ، فقال قولا معناه أنهما ليسا خيرا منك ، فإنك مخصوص دونهما بقرب النسب ، يعنى المنافية وبالصهر ، وهذا كلام هو موضع المثل : " يسرحسوا في ارتغاء " ومراده تفضيل نفسه عليه السلام ، لان العلة التى باعتبارها فضل عثمان عليهما محققة فيه وزيادة ، لان له مع المنافية الهاشمية ، فهو أقرب .
والوشيجة : عروق الشجرة .
ثم حذره جانب الله تعالى ونبهه على أن الطريق واضحة وأعلام الهدى قائمة ، وأن الامام العادل أفضل الناس عند الله ، وأن الامام الجائر شر الناس عند الله .
ثم روى له الخبر المذكور ، وروى : " ثم يرتبك في قعرها " أي ينشب .
وخوفه أن يكون الامام المقتول الذى يفتح الفتن بقتله ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله قال كلاما هو هذا ، أو يشبه هذا .
ومرج الدين ، أي فسد .
والسيقة : ما استاقه العدو من الدواب ، مثل الوسيقة قال الشاعر : فما أنا إلا مثل سيقة العدا * إن استقدمت بحر وإن جبأت عقر (1) والجلال ، بالضم : الجليل كالطوال والطويل ، أي بعد السن الجليل ، أي العمر الطويل .
__________
(1) اللسان 12 : 33 من غير نسبة .
(*)(9/263)
وقوله : " ما كان بالمدينة فلا أجل فيه ، وما غاب فأجله وصول أمرك إليه " كلام شريف فصيح ، لان الحاضر أي معنى لتأجيله ! والغائب فلا عذر بعد وصول الامر في تأخيره ، لان السلطان لا يؤخر أمره .
وقد ذكرنا من الاحداث التى نقمت على عثمان فيما تقدم ما فيه كفاية ، وقد ذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله في التاريخ الكبير (1) هذا الكلام ، فقال : أن نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله تكاتبوا ، فكتب بعضهم إلى بعض : أن اقدموا ، فإن الجهاد بالمدينة لا بالروم ، واستطال الناس على عثمان ، ونالوا منه ، وذلك في سنة أربع وثلاثين ، ولم يكن أحد من الصحابة يذب عنه ولا ينهى ، إلا نفر ، منهم زيد بن ثابت ، وأبو أسيد الساعدي ، وكعب بن مالك ، وحسان بن ثابت ، فاجتمع الناس ، فكلموا على بن أبى طالب عليه السلام وسألوه أن يكلم عثمان ، فدخل عليه وقال له : إن الناس ...
وروى الكلام إلى آخره بألفاظه ، فقال عثمان : وقد (2 علمت أنك لتقولن 2) ما قلت ! أما والله لو كنت مكاني ما عنفتك ، ولاعتبت عليك (3) ولم آت منكرا ، إنما وصلت رحما ، وسددت خلة ، وآويت ضائعا ، ووليت شبيها بمن كان عمر يوليه ، أنشدك الله يا على ، ألا تعلم (4) أن المغيرة بن شعبة ليس هناك ! قال : بلى قال : أفلا تعلم أن عمر ولاه ! قال : بلى ، قال فلم تلومني أن وليت ابن عامر في رحمه وقرابته ! فقال على عليه السلام : إن عمر كان يطأ على صماخ من يوليه ، ثم يبلغ منه إن أنكر منه أمرا أقصى العقوبة وأنت فلا تفعل ، ضعفت ورققت على أقربائك .
__________
(1) تاريخ الطبري 5 : 96 ، 97 (الحسينية) .
(2 - 2) الطبري : " قدو الله علمت ليقولن الذى قلت " .
(3) الطبري : " ما عنفتك .
لا أسلمتك " .
(4) الطبري : " هل تعلم " .
(*)(9/264)
[ قال عثمان : هم أقرباؤك أيضا ، فقال على : لعمري إن رحمهم منى لقريبة ولكن الفضل في غيرهم ] (1) .
فقال عثمان : أفلا تعلم أن عمر ولى معاوية ! فقد وليته .
قال على : أنشدك الله ألا تعلم أن معاوية كان أخوف لعمر من يرفأ غلامه له ؟ قال : بلى ، قال : فأن معاوية يقطع الامور دونك ويقول للناس : هذا بأمر عثمان وأنت تعلم ذلك فلا تغير عليه ! ثم قام على ، فخرج عثمان على أثره ، فجلس على المنبر ، فخطب الناس ، وقال : أما بعد فأن لكل شئ آفة ، ولكل أمر عاهة ، وإن آفة هذه الامة ، وعاهة هذه النعمة عيابون طعانون يرونكم ما تحبون ، ويسرون عنكم ما تكرهون ، يقولون لكم وتقولون ، أمثال النعام يتبع أول ناعق أحب مواردها إليها البعيد ، لا يشربون إلا نغصا ولا يردون إلا عكرا .
أما والله لقد عبتم على ما أقررتم لابن الخطاب بمثله ، ولكنه وطئكم برجله ، وضربكم بيده ، وقمعكم بلسانه ، فدنتم له على ما أحببتم وكرهتم ، ولنت لكم ، وأوطأتكم كتفي وكففت يدى ولساني عنكم ، فاجترأتم على .
أما والله لانا أقرب ناصرا وأعز نفرا وأكثر عددا ، وأحرى إن قلت : هلم أن يجاب صوتي .
ولقد أعددت لكم أقرانا وكشرت لكم عن نابى ، وأخرجتم منى خلقا لم أكن أحسنه ، ومنطقا لم أكن أنطق به .
فكفوا عنى ألسنتكم وطعنكم وعيبكم على ولاتكم ، فما الذى تفقدون من حقكم ! والله ما قصرت عن بلوغ من كان قبلى [ يبلغ (1) ] وما وجدتكم تختلفون عليه ، فما بالكم ! فقام مروان بن الحكم فقال : وإن شئتم حكمنا بيننا وبينكم السيف .
فقال عثمان : اسكت لاسكت ! دعني وأصحابي ، ما منطقك في هذا ! ألم أتقدم (2) إليك ألا تنطق ! فسكت مروان ، ونزل عثمان .
__________
(1) من الطبري .
(2) تقدم إليه : أمره .
(*)(9/265)
(166) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها عجيب خلقة الطاوس : ابتدعهم خلقا عجيبا من حيوان وموات ، وساكن وذى حركات .
وأقام من شواهد البينات على لطيف صنعته ، وعظيم قدرته ، ما انقادت له العقول معترفة به ومسلمة له ، ونعقت في أسماعنا دلائله على وحدانيته ، وما ذرأ من مختلف صور .
الاطيار التى أسكنها أخاديد الارض ، وخروق فجاجها .
ورواسي أعلامها ، من ذات أجنحة مختلفة ، وهيئات متباينة ، مصرفة في زمام التسخير ، ومر فرفة بأجنحتها في مخارق الجو المنفسح ، والقضاء المنفرج .
كونها بعد أذلم تكن ، في عجائب صور ظاهرة وركبها في حقاق مفاصل محتجبة ، ومنع بعضها بعبالة خلقه أن يسمو في الهواء خفوفا ، وجعله يدف دفيفا ونسقها على اختلافها في الاصابيغ بلطيف قدرته ، ودقيق صنعته ، فمنها مغموس في قالب لون لا يشوبه غير لون ما غمس فيه ، ومنها مغموس في لون صبغ قد طوق بخلاف ما صبغ به .
* * * الشرح : الموات ، بالفتح : مالا حياة فيه .
وأرض موات ، أي قفر ، والساكن هاهنا ، كالارض والجبال .
وذو الحركات : كالنار والماء الجارى والحيوان .(9/266)
ونعقت في أسماعنا دلائله ، أي صاحت دلائله ، لظهورها كالاصوات المسموعة التى تعلم يقينا .
وأخاديد الارض : شقوقها ، جمع أخدود .
وفجاجها : جمع فج ، وهو الطريق بين الجبلين .
ورواسي أعلامها : أثقال جبالها .
مصرفة في زمام التسخير ، أي هي مسخرة تحت القدرة الالهية .
وحقاق المفاصل : جمع حق ، وهو مجمع المفصلين من الاعضاء كالركبة ، وجعلها محتجبة لانها مستورة بالجلد واللحم .
وعبالة الحيوان : كثافة جسده .
والخفوف : سرعة الحركة .
والدفيف للطائر : طيرانه فويق الارض ، يقال : عقاب دفوف .
قال امرؤ القيس يصف فرسه ويشبهها بالعقاب كأنى بفتخاء الجناحين لقوة * دفوف من العقبان طأطأت شملالى (1) ونسقها : رتبها .
والاصابيغ : جمع أصباغ ، وأصباغ جمع صبغ .
والمغموس الاول : هو ذو اللون الواحد كالاسود والاحمر .
والمغموس الثاني : ذو اللونين نحو أن يكون أحمر وعنقه خضراء .
وروى : " قد طورق لون " أي لون على لون ، كما تقول : طارقت بين الثوبين .
فإن قلت : ما هذه الطيور التى يسكن بعضها الاخاديد وبعضها الفجاج ، وبعضها رءوس الجبال ؟ قلت : أما الاول فكالقطا والصدا (2) والثانى كالقبج (3) والطيهوج (4) والثالث كالصقر والعقاب .
* * *
__________
(1) ديوانه 38 .
الفتخاء : اللينة الجناحين .
واللقوة : السريعة من العقيان .
وطأطأت : دانيت .
وخفضت .
والشملال : الخفيفة السريعة .
(2) الصدا : ذكر البوم .
(3) القبج ، واحده القيجة ، وهى أنثى الحجل .
(4) الطيهوج : طائر شبيه بالحجل الصغير ، غير أن عنقه أحمر ومنقاره ورجلاه حمر .
(*)(9/267)
الاصل : ومن أعجبها خلقا الطاوس ، الذى أقامه في أحسن تعديل ، ونضد ألوانه في أحسن تنضيد ، بجناح أشرج قصبه ، وذنب أطال مسحبه ، إذا درج إلى الانثى نشره من طيه ، وسما به مطلا على رأسه ، كأنه قلع دارى عنجه نوتيه .
يختال بألوانه ، ويميس بزيفانه .
يفضى كإفضاء الديكة ويؤر بملاقحه أر الفحول المغتلمة للضراب .
أحيلك من ذلك على معاينة ، لا كمن يحيل على ضعيف إسناده .
ولو كان كزعم من يزعم أنه يلقح بدمعة تسفحها مدامعه ، فتقف في ضفتى جفونه وأن أنثاه تطعم ذلك ، ثم تبيض لا من لقاح فحل سوى الدمع المنبجس ، لما كان ذلك بأعجب من مطاعمة الغراب ! * * * الشرح : الطاوس : فاعول ، كالهاضوم والكابوس ، وترخيمه " طويس " : ونضد : رتب .
قوله : " أشرج قصبه " القصب هاهنا : عروق الجناح .
وغضاريفه : عظامه الصغار وأشرجها : ركب بعضها في بعض كما تشرج العيبة ، أي يداخل بين أشراجها وهى عراها واحدها ، شرج بالتحريك .
ثم ذكر ذنب الطاوس ، وأنه طويل المسحب ، وأن الطاوس إذا درج إلى الانثى للسفاد نشر ذنبه من طيه ، وعلا به مرتفعا على رأسه .
والقلع : شراع السفينة ، وجمعه قلاع .
والدارى : جالب العطر في البحر من دارين ، وهى فرضة بالبحرين ، فيها سوق يحمل إليها المسك من الهند ، وفى الحديث : " الجليس الصالح كالدارى ، إن لم يحذك من عطره علقك من ريحه " (1) .
قال الشاعر :
__________
(1) نهاية ابن الاثير 1 : 211 .
لم يحذك : لم يعطك .
(*)(9/268)
إذا التاجر الدارى جاء بفأرة من المسك راحت في مفارقهم تجرى والنوتى : الملاح ، وجمعه نواتي .
وعنجه : عطفه ، وعنجت خطام البعير ، رددته على رجليه ، أعنجه بالضم ، والاسم العنج ، بالتحريك ، وفى المثل " عود يعلم العنج (1) " يضرب مثلا لتعليم الحاذق .
ويختال ، من الخيلاء وهى العجب .
ويميس : يتبختر .
وزيفانة : تبختره ، زاف يزيف ، ومنه ناقة زيافة ، أي مختالة ، قال عنترة : * زيافة مثل الفنيق المكدم (2) وكذلك ذكر الحمام عند الحمامة إذا جر الذنابى ، ودفع مقدمه بمؤخره واستدار عليها .
ويفضى : يسفد ، والديكة جمع ديك ، كالقرطة والجحرة جمع قرط وجحر .
ويؤر : يسفد ، والار الجماع ، ورجل آر كثير الجماع ، وملاقحه : أدوات اللقاح وأعضاؤه ، وهى آلات التناسل .
قوله : " أر الفحول " أي أزا مثل أر الفحول ذات الغلمة والشبق .
ثم ذكر أنه لم يقل ذلك عن إسناد قد يضعف ويتداخله الطعن ، بل قال ذلك عن عيان ومشاهدة .
__________
(1) العود : البعير المسن ، وانظر مجمع الامثال 1 : 12 .
(2) من المعلقة - بشرح التبريزي ، وصدره : * ينباع من ذفرى غضوب جسرة * ينباع : ينفعل من باع يبوع ، إذا مرمرا لينا .
والذفربان : الحيدان الناتئان بين الاذن ومنتهى الشعر .
والجسرة : الضخمة .
والزيافة : المسرعة .
والفنيق : الفحل ، والمكدم ، من الكدم وهو العض .
(من شرح التبريزي) .
(*)(9/269)
فإن قلت : من أين للمدينة طواويس ؟ وأين العرب وهذا الطائر حتى يقول أمير المؤمنين عليه السلام : " أحيلك من ذلك على معاينة " لاسيما وهو يعنى السفاد ، ورؤية ذلك لمن تكثر الطواويس في داره ويطول مكثها عنده نادرة ! قلت : لم يشاهد أمير المؤمنين عليه السلام الطواويس بالمدينة بل بالكوفة ، وكانت يومئذ تجبى إليها ثمرات كل شئ ، وتأتى إليها هدايا الملوك من الافاق ، ورؤية المسافدة مع وجود الذكر والانثى غير مستبعدة .
* * * واعلم أن قوما زعموا أن الذكر تدمع عينه ، فتقف الدمعة بين أجفانه ، فتأتى الانثى فتطعمها فتلقح من تلك الدمعة ، وأمير المؤمنين عليه السلام لم يحل ذلك ، ولكنه قال : ليس بأعجب من مطاعمة الغراب ، والعرب تزعم أن الغراب لايسفد ومن أمثالهم : " أخفى من سفاد الغراب " فيزعمون أن اللقاح من مطاعمة الذكر والانثى منهما ، وانتقال جزء من الماء الذى في قانصته إليها من منقاره .
وأما الحكماء فقل أن يصدقوا بذلك ، على أنهم قد قالوا في كتبهم ما يقرب من هذا ، قالوا في السمك البياض : إن سفاده خفى جدا ، وإنه لم يظهر ظهورا يعتد به ويحكم بسببه .
هذا لفظ ابن سينا في كتاب " الشفاء " ثم قال : والناس يقولون : إن الاناث تأخذ زرع الذكور في أفواهها إلى بطونها ، ثم قال : وقد شوهدت الاناث منها تتبع الذكور مبتلعة للزرع ، وأما عند الولادة فإن الذكور تتبع الاناث مبتلعة بيضها .
قال ابن سينا : والقبجة تحبلها ريح تهب من ناحية الحجل الذكر ، ومن سماع صوته .
قال : والنوع المسمى مالاقيا ، تتلاصق بأفواهها ، ثم تتشابك ، فذاك سفادها ، وسمعت(9/270)
أنا أن الغراب يسفد وأنه قد شوهد سفاده ، ويقول الناس : إن من شاهد سفاد الغراب يثرى ولا يموت إلا وهو كثير المال موسر .
والضفتان ، بفتح الضاد : الجنابان ، وهما ضفتا النهر ، وقد جاء ذلك بالكسر أيضا والفتح أفصح .
والمنبجس : المنفجر : ويسفحها : يصبها ، وروى : " تنشجها مدامعه " من النشيج ، وهو صوت الماء وغليانه من زق أو حب أو قدر .
الاصل : تخال قصبه مدارى من فضة ، وما أنبت عليها من عجيب داراته وشموسه خالص العقيان وفلذ الزبرجد .
فإن شبهته بما أنبتت الارض قلت : جنى جنى من زهرة كل ربيع ، وإن ضاهيته بالملابس فهو كموشى الحلل ، أو كمونق عصب اليمن .
وإن شاكلته بالحلى فهو كفصوص ذات ألوان قد نطقت باللجين المكلل .
يمشى مشى المرح المختال ، ويتصفح ذنبه وجناحه ، فيقهقه ضاحكا لجمال سرباله وأصابيغ وشاحه ، فإذا رمى ببصره إلى قوائمه زقا معولا بصوت يكاد يبين عن استغاثته ، ويشهد بصادق توجعه ، لان قوائمه حمش كقوائم الديكة الخلاسية .
* * * الشرح : قصبه : عظام أجنحته ، والمداري جمع مدرى ، وهو في الاصل القرن ، قال النابغة يصف الثور والكلاب : شك الفريصة بالمدرى فأنفذها * شك المبيطر إذ يشفى من العضد (1)
__________
(1) ديوانه 20 .
شك : أنفذ .
الفريصة : بضعة في مرجع الكتف إلى الخاصرة .
والمبيطر : البيطار والعضد : داء يأخذ في العضد .
(*)(9/271)
وكذلك المدراة ، ويقال المدرى لشئ كالمسلة تصلح بها الماشطة شعور النساء قال الشاعر : تهلك المدراة في أكنافه * وإذا ما أرسلته يعتفر (1) وتمدرت المرأة أي سرحت شعرها .
شبه عظام أجنحة الطاوس بمدارى من فضة لبياضها ، وشبه ما أنبت الله عليها من تلك الدارات والشموس التى في الريش بخالص العقيان ، وهو الذهب .
وفلذ الزبرجد : جمع فلذة ، وهى القطعة .
والزبرجد : هذا الجوهر الذى تسميه الناس البلخش .
ثم قال : إن شبهته بنبات الارض قلت : إنه قد جنى من زهرة كل ربيع في الارض ، لاختلاف ألوانه وأصباغه .
وإن ضاهيته بالملابس ، المضاهاة : المشاكلة ، يهمز ولا يهمز ، وقرئ : (يضاهون قول الذين كفروا) (2) (ويضاهئون) وهذا ضهى هذا على " فعيل " أي شبيهه .
وموشى الحلل : ما دبج بالوشى ، وهو الارقم الملون .
والعصب : برود اليمن .
والحلى : جمع حلى ، وهو ما تلبسه المرأة من الذهب والفضة ، مثل ثدى وثدى ، ووزنه " فعول " وقد تكسر الحاء لمكان الياء ، مثل " عصى " .
وقرئ : (من حليهم) (3) بالضم والكسر .
ونطقت باللجين ، جعلت الفضة كالنطاق لها .
والمكلل : ذو الاكليل .
__________
(1) اللسان 18 : 280 (من غير نسبة) .
(2) سورة التوبة 30 .
(3) سورة الاعراف 148 .
(*)(9/272)
وزقا : صوت ، يزقو زقوا وزقيا وزقاء ، وكل صائح زاق .
والزقية : الصيحة وهو أثقل من الزواقى ، أي الديكة ، لانهم كانوا يسمرون ، فإذا صاحت الديكة تفرقوا .
ومعولا : صارخا ، أعولت الفرس صوتت ، ومنه العويل والعولة .
وقوائمه حمش : دقاق ، وهو أحمش الساقين ، وحمش الساقين بالتسكين ، وقد حمشت قوائمه ، أي دقت .
وتقول العرب للغلام إذا كانت أمه بيضاء وأبوه عربيا : آدم فجاء لونه بين لونيهما .
خلاسى ، بالكسر والانثى خلاسية .
وقال الليث : الديكة الخلاسية ، هي المتولدة من الدجاج الهندي والفارسي .
يقول عليه السلام : إن الطاوس يزهى بنفسه ، ويتيه إذا نظر في أعطافه ، ورأى ألوانه المختلفة ، فإذا نظر إلى ساقيه وجم لذلك وانكسر نشاطه وزهوه ، فصاح صياح العويل لحزنه ، وذلك لدقة ساقيه ونتوء عرقوبيه .
* * * الاصل : وقد نجمت من ظنبوب ساقه صيصية خفية ، وله في موضع العرف قنزعة خضراء موشاة ، ومخرج عنقه كالابريق ، ومغرزها إلى حيث بطنه كصبغ الوسمة اليمانية ، أو كحريرة ملبسة مرآة ذات صقال ، وكأنه متلفع بمعجر أسحم إلا أنه يخيل لكثرة مائه ، وشدة بريقه ، أن الخضرة الناضرة ممتزجة به ، ومع فتق سمعه خط كمستدق القلم في لون الاقحوان ، أبيض يقق ، فهو ببياضه في سواد (18 - نهج - 9)(9/273)
ما هنالك يأتلق ، وقل صبغ إلا وقد أخذ منه بقسط ، وعلاه بكثرة صقاله وبريقه وبصيص ديباجه ورونقه ، فهو كالازاهير المبثوثة ، لم تربها أمطار ربيع ولا شموس قيظ .
* * * الشرح : نجمت : ظهرت .
والظنبوت : حرف الساق ، وهو هذا العظم اليابس .
والصيصية في الاصل : شوكة الحائك التى يسوى بها السداة واللحمة ومنه قوله (1) : * كوقع الصياصى في النسيج الممدد * ونقل إلى صيصية الديك لتلك الهيئة التى في رجله .
والعرف : الشعر المرتفع من عنقه على رأسه .
والقنزعة ، واحدة القنازع ، وهى الشعر حوالى الرأس ، وفى الحديث : " غطى عنا قنازعك يا أم أيمن " (2) .
وموشاة : ذات وشى .
والوسمة ، بكسر السين : العظلم الذى يخضب به ، ويجوز تسكين السين .
والاسحم : الاسود .
والمتلفع : الملتحف ، ويروى : " متقنع بمعجر " وهو ما تشده المرأة على رأسها كالرداء .
والاقحوان : البابونج الابيض ، وجمعه أقاح .
__________
(1) لدريد بن الصمة ، وصدره : * فجئت إليه والرماح تنوشه * من كلمة له في ديوان الحماسة 2 : 304 - 309 بشرح التبريزي .
(2) النهاية لابن الاثير 3 : 279 ، ولفظه هناك : " أنه قال لام سليم : خضلى قنازعك " .
(*)(9/274)
وأبيض يقق : خالص البياض ، وجاء : " يقق " بالكسر .
ويأتلق : يلمع .
والبصيص : البريق ، وبص الشئ : لمع .
وتربها الامطار : تربيها وتجمعها .
يقول عليه السلام : كأن هذا الطائر ملتحف بملحفة سوداء ، إلا أنها لكثرة رونقها يتوهم أنه قد امتزج بها خضرة ناضرة ، وقل أن يكون لون إلا وقد أخذ هذا الطائر منه بنصيب ، فهو كأزاهير الربيع ، إلا أن الازهار تربيها الامطار والشموس ، وهذا مستغن عن ذلك .
* * * الاصل : وقد ينحسر من ريشه ، ويعرى من لباسه ، فيسقط تترى ، وينبت تباعا فينحت من قصبه انحتات أوراق الاغصان ، ثم يتلاحق ناميا حتى يعود كهيئته قبل سقوطه .
لا يخالف سالف ألوانه ، ولا يقع لون في غير مكانه ، وإذا تصفحت شعرة من شعرات قصبه ، أرتك حمرة وردية ، وتارة خضرة زبرجدية ، وأحيانا صفرة عسجدية ، فكيف تصل إلى صفة هذا عمائق الفطن أو تبلغه قرائح العقول ، أو تستنظم وصفه أقوال الواصفين ، وأقل أجزائه قد أعجز الاوهام أن تدركه ، والالسنة أن تصفه ! فسبحان الذى بهر العقول عن وصف خلق جلاه للعيون ، فأدركته محدودا مكونا ، ومؤلفا ملونا ، وأعجز الالسن عن تلخيص صفته ، وقعد بها عن تأدية نعته ! وسبحان من أدمج قوائم الذرة والهمجة إلى ما فوقهما من خلق الحيتان والفيلة !(9/275)
ووأى على نفسه ألا يضطرب شبح مما أولج فيه الروح ، إلا وجعل الحمام موعده والفناء غايته .
* * * الشرح : ينحسر من ريشه : ينكشف فيسقط ، ويروى : " يتحسر " .
تترى ، أي شيئا بعد شئ وبينهما فترة ، قال الله تعالى : (ثم أرسلنا رسلنا تترى) (1) لانه لم يرسلهم على تراسل ، بل بعد فترات ، وهذا مما يغلط فيه قوم فيعتقدون أن " تترى " للمواصلة والالتصاق .
وأصلها الواو من " الوتر " وهو الفرد .
وفيها لغتان ، تنون ولا تنون ، فمن ترك صرفها للمعرفة جعل ألفها ألف تأنيث ، ومن نونها جعل ألفها للالحاق .
قال عليه السلام : " وينبت تباعا " أي لافترات بينهما ، وكذلك حال الريش الساقط ، يسقط شيئا بعد شئ ، وينبت جميعا .
وينحت : يتساقط ، وانحتات الورق : تناثرها .
وناميا : زائدا .
يقول عليه السلام : إذا عاد ريشه عاد مكان كل ريشة ريشة ملونة بلون الريشة الاولى ، فلا يتخالف الاوائل والاواخر .
والخضرة الزبرجدية : منسوبة إلى الزمرذ (2) ، ولفظة " الزبرجد " تارة تستعمل له ، وتارة لهذا الحجر الاحمر المسمى " بلخش " .
والعسجد : الذهب .
وعمائق الفطن :
__________
(1) سورة المؤمنين 44 .
(2) في اللسان : " الزبرجد والزبردج : الزمرذ " .
(*)(9/276)
البعيدة القعر .
والقريحة : الخاطر والذهن .
وبهر : غلب ، وجلاه : أظهره ، ويروى بالتخفيف .
وأدمج القوائم : أحكمها ، كالحبل المدمج الشديد الفتل .
والذرة : النملة الصغيرة .
والهمجة ، واحدة الهمج ، وهو ذباب صغير كالبعوض يسقط على وجوه الغنم والحمر وأعينها .
ووأى : وعد ، والوأى : الوعد .
* * * واعلم أن الحكماء ذكروا في الطاوس أمورا قالوا : إنه يعيش خمسا وعشرين سنة (1) وهى أقصى عمره ، ويبيض في السنة الثالثة من عمره عند ما ينتقش لونه ، ويتم ريشه .
ويبيض في السنة مرة واحدة اثنتى عشرة بيضة في ثلاثة أيام ، ويحضنها ثلاثين يوما فيفرخ ويلقى ريشه مع سقوط ورق الشجر ، وينبته مع ابتداء نبات الورق .
والدجاج قد يحضن بيض الطاوس ، وإنما يختار الدجاج لحضانته ، وإن وجدت الطاوسة ، لان الطاوس الذكر يعبث بالانثى ، ويشغلها عن الحضانة ، وربما انتقص البيض من تحتها ، ولهذه العلة يخبأ كثير من الاناث محاضنها عن ذكرانها ، ولا تقوى الدجاجة على أكثر من بيضتي طاوس .
وينبغى أن يتعهد الدجاجة حينئذ بتقريب العلف منها .
وقال شيخنا أبو عثمان الجاحظ رحمه الله في كتاب " الحيوان " : إن الطاوسة قد تبيض من الريح ، بأن يكون في سفالة الريح وفوقها طاوس ذكر ، فيحمل ريحه فتبيض منه ، وكذلك القبجة .
قال : وبيض الريح قل أن يفرخ .
* * *
__________
(1) ساقطة من ب .
(*)(9/277)
الاصل : منها في صفة الجنة : فلو رميت ببصر قلبك نحو ما يوصف لك منها ، لعزفت نفسك عن بدائع ما أخرج إلى الدنيا من شهواتها ولذاتها وزخارف مناظرها ، ولذهلت بالفكر في اصطفاف أشجار غيبت عروقها في كثبان المسك على سواحل أنهارها ، وفى تعليق كبائس اللؤلؤ الرطب في عساليجها وأفنانها ، وطلوع تلك الثمار مختلفة في غلف أكمامها ، تجنى من غير تكلف فتأتى على منية مجتنيها ، ويطاف على نزالها في أفنية قصورها بالاعسال المصفقة ، والخمور المروقة .
قوم لم تزل الكرامة تتمادى بهم حتى حلوا دار القرار ، وأمنوا نقلة الاسفار فلو شغلت قلبك أيها المستمع بالوصول إلى ما يهجم عليك من تلك المناظر المونقة لزهقت نفسك شوقا إليها ، ولتحملت من مجلسي هذا إلى مجاورة أهل القبور استعجالا بها ، جعلنا الله وإياكم ممن يسعى بقلبه إلى منازل الابرار برحمته ! قال الرضى رحمه الله تعالى : تفسير بعض ما في هذه الخطبة من الغريب قوله عليه السلام : " يؤر بملاقحه " الار : كناية عن النكاح ، يقال أر الرجل المرأة يؤرها ، إذا نكحها .
وقوله عليه السلام : " كأنه قلع دارى عنجه نوتيه " القلع : شراع السفينة ودارى : منسوب إلى دارين ، وهى بلدة على البحر يجلب منها الطيب .
وعنجه ، أي عطفه ، يقال : عنجت الناقة ، كنصرت ، أعنجها عنجا إذا عطفتها .
والنوتى : الملاح .(9/278)
وقوله عليه السلام : " ضفتى جفونه " أراد جانبى جفونه ، والضفتان : الجانبان .
وقوله : " وفلذ الزبرجد " الفلذ : جمع فلذة وهى القطعة .
وقوله عليه السلام : " كبائس اللؤلؤ الرطب " الكباسة : العذق .
والعساليج : الغصون ، واحدها عسلوج .
* * * الشرح : رميت ببصر قلبك ، أي أفكرت وتأملت .
وعزفت نفسك : كرهت وزهدت والزخارف : جمع زخرف ، وهو الذهب وكل مموه .
واصطفاف الاشجار : انتظامها صفا ، ويروى : " في اصطفاق أغصان " أي اضطرابها .
ويأتى على منية مجتنيها : لا يترك له منية أصلا ، لانه يكون قد بلغ نهاية الامانى .
والعسل المصفق : المصفى تحويلا من إناء إلى إناء .
والمونقة : المعجبة .
وزهقت نفسه مات .
* * * واعلم أنه لا مزيد في التشويق إلى الجنة على ما ذكره الله تعالى في كتابه ، فكل الصيد في جانب الفرا (1) .
__________
(1) الفرا : حمار الوحش ، وأصل المثل : " كل الصيد في جوف الفرا ، وفى القاموس بغير همز لانه مثل ، والامثال موضوعة على الوقف " (*)(9/279)
وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله في ذلك أخبار صحيحة ، فروى أسامة بن زيد ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه يذكر الجنة فقال : " ألا مشتر لها ! هي ورب الكعبة ريحانة تهتز ، ونور يتلالا ، ونهر يطرد ، وزوجة لا تموت ، مع حبور ونعيم ومقام الابد " .
وروى أبو سعيد الخدرى عنه صلى الله عليه وآله : " إن الله سبحانه لما حوط حائط الجنة ، لبنة من ذهب ولبنة من فضة ، وغرس غرسها ، قال لها : تكلمي ، فقالت : قد أفلح المؤمنون : فقال : طوبى لك منزل الملوك ! وروى جابر بن عبد الله عنه عليه الصلاة والسلام : " إذا دخل أهل الجنة الجنة ، قال لهم ربهم تعالى : أتحبون أن أزيدكم ؟ فيقولون : وهل خير مما أعطيتنا ؟ فيقول : نعم رضواني أكبر " .
وعنه عليه الصلاة والسلام : " إن أحدهم ليعطى قوة مائة رجل في الاكل والاشرب " ، فقيل له : فهل يكون منهم حدث - أو قيل خبث ؟ قال : " عرق يفيض من أعراضهم كريح المسك ، يضمر منه البطن " .
وروى الزمخشري في " ربيع الابرار " ومذهبه في الاعتزال ونصرة أصحابنا معلوم وكذلك في انحرافه عن الشيعة وتسخيفه لمقالاتهم - أن رسول الله محمدا صلى الله عليه وآله قال : " لما أسرى بى ، أخذني جبرئيل ، فأقعدني على درنوك من درانيك الجنة ، ثم ناولنى سفرجلة ، فبينا أنا أقلبها انفلقت ، فخرجت منها جارية لم أر أحسن منها ، فسلمت فقلت : من أنت ، قالت : أنا الراضية المرضية ، خلقني الجبار من ثلاثة أصناف : أعلاى من عنبر ،(9/280)
وأوسطى من كافور ، وأسفلى من مسك .
ثم عجننى بماء الحيوان ، وقال لى : كونى كذا فكنت .
خلقني لاخيك وابن عمك على بن أبى طالب " .
قلت : الدرنوك : ضرب من البسط ذوخمل ، ويشبه به فروة البعير ، قال الراجز : * جعد الدرانيك رفل الا جلاد (1) *
__________
(1) اللسان 12 : 306 ، ونسبه إلى رؤبة ، وبعده : * كأنه مختضب في أجساد *(9/281)
(167) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : ليتأس صغيركم بكبيركم ، وليرأف كبيركم بصغيركم ، ولا تكونوا كجفاة الجاهلية ، لافى الدين يتفقهون ، ولا عن الله يعقلون ، كقيض بيض في أداح ، يكون كسرها وزرا ، ويخرج حضانها شرا .
* * * الشرح : أمرهم عليه السلام أن يتأسى الصغير منهم بالكبير في أخلاقه وآدابه ، فإن الكبير لكثرة التجربة أحزم وأكيس ، وأن يرأف الكبير بالصغير .
والرأفة : الرحمة ، لان الصغير مظنة الضعف والرقة .
ثم نهاهم عن خلق الجاهلية في الجفاء والقسوة ، وقال : إنهم لا يتفقهون في دين ، ولا يعقلون عن الله ما يأمرهم به ، وهذا من قول الله سبحانه : (صم بكم عمى فهم لا يعقلون ((1) .
وروى : " تتفقهون " بتاء الخطاب .
ثم شبههم ببيض الافاعى في الاعشاش ، يظن بيض القطا ، فلا يحل لمن رآه أن يكسره لانه يظنه بيض القطا ، وحضانه يخرج شرا ، لانه يفقص عن أفعى .
__________
(1) سورة البقرة 171 .
(*)(9/282)
واستعار لفظة " الاداحى " للاعشاش مجازا ، لان الاداحى لا تكون إلا للنعام تدحوها بأرجلها وتبيض فيها ، ودحوها : توسيعها ، من دحوت الارض .
والقيض : الكسر والفلق ، قضت القارورة والبيضة ، وانقاضت هي ، وانقاض الجدار انقياضا أي تصدع من غير أن يسقط ، فإن سقط قيل : تقيض تقيضا ، وتقوض تقوضا وقوضته أنا .
وتقول للبيضة إذا تكسرت فلقا : تقيضت تفيضا فإن تصدعت ولم تنفلق قلت : انقاضت ، فهى مناقضة والقارورة مثله .
* * * الاصل : منها : افترقوا بعد ألفتهم ، وتشتتوا عن أصلهم ، فمنهم آخذ بغصن ، أينما مال مال معه .
على أن الله تعالى سيجمعهم لشر يوم لبنى أمية ، كما يجتمع قزع الخريف يؤلف الله بينهم ثم يجمعهم ركاما كركام السحاب ، ثم يفتح الله لهم أبوابا .
يسيلون من مستثارهم كسيل الجنتين ، حيث لم تسلم عليه قارة ، ولم تثبت عليه أكمة ، ولم يرد سننه رص طود ، ولا حداب أرض ، يذعذعهم الله في بطون أوديته ، ثم يسلكهم ينابيع في الارض ، يأخذ بهم من قوم ، حقوق قوم ، ويمكن لقوم في ديار قوم .
وايم الله ليذوبن ما في أيديهم بعد العلو والتمكين ، كما تذوب الالية على النار .
أيها الناس ، لو لم تتخاذلوا عن نصر الحق ، ولم تهنوا عن توهين الباطل ، لم(9/283)
يطمع فيكم من ليس مثلكم ولم يقومن قوى عليكم ، لكنكم تهتم متاه بنى إسرائيل .
ولعمري ليضعفن لكم التيه من بعدى أضعافا ، بما خلفتم الحق وراء ظهوركم وقطعتم الادنى ، ووصلتم الابعد .
واعلموا أنكم إن اتبعتم الداعي لكم ، سلك بكم منهاج الرسول ، وكفيتم مونة الاعتساف ، ونبذتم الثقل الفادح عن الاعناق .
* * * الشرح : هو عليه السلام : يذكر حال أصحابه وشيعته بعده ، فيقول : افترقوا بعد ألفتهم أي بعد اجتماعهم .
وتشتتوا عن أصلهم ، أي عنى بعد مفارقتي ، فمنهم آخذ بغصن ، أي يكون منهم من يتمسك بمن أخلفه بعدى من ذرية الرسول ، أينما سلكوا سلكوا معهم ، وتقدير الكلام : ومنهم من لا يكون هذه حاله .
لكنه لم يذكره عليه السلام ، اكتفاء بذكر القسم الاول لانه دال على القسم الثاني .
ثم قال : على أن هؤلاء القوم : من ثبت منهم على عقيدته فينا ومن لم يثبت ، لابد أن يجمعهم الله تعالى لشر يوم لبنى (1) أمية ، وكذا كان ، فإن الشيعة الهاشمية اجتمعت على إزالة ملك بنى مروان : من كان منهم ثابتا على ولاء على بن أبى طالب عليه السلام ، ومن حاد منهم عن ذلك ، وذلك في أواخر أيام مروان الحمار ، عند ظهور الدعوة الهاشمية .
وقزع الخريف : جمع قزعة ، وهى سحب صغار تجتمع فتصير ركاما ، وهو ما كثف
__________
(1) ج : " بنى " .
(*)(9/284)
من السحاب .
وركمت الشئ أركمه ، إذا جمعته وألقيت بعضه على بعض .
ومستثارهم : موضع ثورتهم .
والجنتان : هما اللتان قال الله تعالى فيهما : (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال) (1) .
وسلط الله عليهما السيل ، قال الله تعالى : (فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم) (2) فشبه عليه السلام سيلان الجيوش إلى بنى أمية بالسيل المسلط على تينك الجنتين .
فإنه لم تسلم عليه قارة ، وهى الجبيل الصغير .
ولم تثبت له أكمة ، وهى التلعة من الارض .
ولم يرد سننه أي طريقه .
طود مرصوص أي جبل شديد التصاق الاجزاء بعضها ببعض .
ولا حداب أرض .
جمع حدبة (3) وهى الروابي والنجاد .
ثم قال : (يذعذعهم الله) أي يفرقهم الله ، الذعذعة بالذال المعجمة مرتين : التفريق وذعذعة الشر : إذاعته .
ثم يسلكهم ينابيع في الارض ، من ألفاظ القرآن (4) والمراد أنه كما أن الله تعالى ينزل من السماء ماء فيستكن في أعماق الارض ، ثم يظهر منها ينابيع إلى ظاهرها ، كذلك هؤلاء القوم ، يفرقهم الله تعالى في بطون الاودية وغوامض الاغوار ، ثم
__________
(1) سورة سبأ 15 .
(2) سورة سبأ 16 .
(3) في اللسان : الحدبة ، بفتحتين : ما أشرف من الارض وغلط وارتفع .
ولا تكون الحدبة إلا في قف أو غلظ من الارض .
(4) وهو قوله تعالى في سورة الزمر 21 : (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الارض) .
(*)(9/285)
يظهرهم بعد الاختفاء فيأخذ بهم من قوم حقوق آخرين ، ويمكن منهم قوما من ملك قوم وديارهم .
ثم أقسم ليذوبن ما في أيدى بنى أمية بعد علوهم وتمكينهم ، كما تذوب الالية على النار ، وهمزة " الالية " مفتوحة ، وجمعها أليات ، بالتحريك ، والتثنية أليان بغير تاء ، قال الراجز : * ترتج ألياه ارتجاج الوطب (1) * وجمع الالية الاء على " فعال (1) " وكبش آلى على " أفعل " ونعجة " ألياء " والجمع ألى على " فعل " ويقال أيضا : كبش أليان بالتحريك ، وكباش أليانات ورجل أليا أي عظيم الالية ، وامرأة عجزاء ولا تقل : " ألياء " وقد قاله بعضهم .
وقد ألى الرجل ، بالكسر يألى : عظمت أليته .
ثم قال : لولا تخاذلكم لم يطمع فيكم من هو دونكم .
وتهنوا ، مضارع وهن ، أي ضعف ، وهو من ألفاظ القرآن (2) أيضا .
وتهتم متاه بنى إسرائيل : حرتم وضللتم الطريق ، وقد جاء في المسانيد الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وآله ، قال : " لتركبن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل ، والقذة بالقذة ، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " فقيل : يا رسول الله ، اليهود والنصارى ؟ قال : فمن إذا ومن الاخبار الصحيحة أيضا : " أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى ! " .
(3) وفى صحيحي البخاري ومسلم رحمهما الله أنه سيجاء يوم القيامة بأناس من أمتى ،
__________
الصحاح (ألى) من غير نسبة .
(2) وهو قوله تعالى في سورة آل عمران : (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون) (3) النهاية لابن الاثير 4 : 258 ، قال : " التهوك كالتهور ، وهو الوقع في الامر بغير روية .
أو الذى يقع كل أمر ، وقيل : هو التحير .
(*)(9/286)
فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فإذا رأيتهم اختلجوا دوني ، قلت : أي رب ، أصحابي ! فيقال لى : إنك لا تدرى ما عملوا بعدك ؟ فأقول ما قال العبد الصالح : (وكنت عليهم شهيدا مادمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد) .
الاسناد في هذا الحديث عن ابن عباس رضى الله عنه .
وفى الصحيحين أيضا ، عن زينب بنت جحش قالت : استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من نومه محمرا ، وجهه ، وهو يقول : " لا إله إلا الله .
ويل للعرب من شر قد اقترب ! " فقلت : يا رسول الله ، أنهلك ، وفينا الصالحون ؟ فقال : " نعم إذا كثر الخبث " .
وفى الصحيحين أيضا : " يهلك أمتى هذا الحى من قريش ، قالوا : يا رسول الله فما تأمرنا ؟ قال : " لو أن الناس اعتزلوهم " ، رواه أبو هريرة عنه صلى الله عليه وآله .
ثم قال عليه السلام : " ليضعفن لكم التيه من بعدى " .
يعنى الضلال ، يضعفه لكم الشيطان وأنفسكم بما خلفتم الحق وراء ظهوركم ، أي لاجل ترككم الحق .
وقطعكم الادنى ، يعنى نفسه .
ووصلكم الابعد ، يعنى معاوية .
ويروى : " إن اتبعتم الراعى لكم " بالراء .
والاعتساف : سلوك غير الطريق .
والفادح : الثقل ، فدحه الدين : أثقله .(9/287)
(168) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام في أول خلافته : إن الله تعالى سبحانه أنزل كتابا هاديا بين فيه الخير والشر ، فخذوا نهج الخير تهتدوا ، واصدفوا عن سمت الشر تقصدوا .
الفرائض الفرائض ! أدوها إلى الله تؤدكم إلى الجنة .
إن الله حرم حراما غير مجهول ، وأحل حلالا غير مدخول ، وفضل حرمة المسلم على الحرم كلها ، وشد بالاخلاص والتوحيد حقوق المسلمين في معاقدها .
فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحق ، ولا يحل أذى المسلم إلا بما يجب .
بادروا أمر العامة وخاصة أحدكم وهو الموت ، فإن الناس أمامكم ، وإن الساعة تحدوكم من خلفكم .
تخففوا تلحقوا فإنما ينتظر بأولكم آخركم .
اتقوا الله في عباده وبلاده ، فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم وأطيعوا الله ولا تعصوه ، وإذا رأيتم الخير فخذوا به ، وإذا رأيتم الشر فأعرضوا عنه .
* * *(9/288)
الشرح : واصدفوا عن سمت الشر ، أي أعرضوا عن طريقه .
تقصدوا أي تعدلوا والقصد : العدل .
ثم أمر بلزوم الفرائض من العبادات والمحافظة عليها ، كالصلاة والزكاة ، وانتصب ذلك على الاغراء .
ثم ذكر أن الحرام غير مجهول للمكلف بل معلوم ، والحلال غير مدخول ، أي لاعيب ولا نقص فيه ، وأن حرمة المسلم أفضل من جميع الحرمات .
وهذا لفظ الخبر النبوى : " حرمة المسلم فوق كل حرمة ، دمه وعرضه وماله " .
قال عليه السلام : " وشد بالاخلاص والتوحيد حقوق المسلمين في معاقدها " لان الاخلاص والتوحيد داعيان إلى المحافظة على حقوق المسلمين صارفان عن انتهاك محارمهم .
قال : " فالمسلم من سلم الناس " ، هذا لفظ الخبر النبوى بعينه .
قوله : " ولا يحل أذى المسلم إلا بما يجب " أي إلا بحق وهو الكلام الاول وإنما أعاده تأكيدا .
ثم أمر بمبادرة الموت ، وسماه الواقعة العامة ، لانه يعم الحيوان كله ، ثم سماه خاصة أحدكم لانه وإن كان عاما إلا أن له مع كل إنسان بعينه خصوصية زائدة على ذلك العموم .
قوله : " فإن الناس أمامكم " أي قد سبقوكم والساعة تسوقكم من خلفكم .
ثم أمر بالتخفف (1) وهو القناعة من الدنيا باليسير وترك الحرص عليها ، فإن المسافر الخفيف أحرى بالنجاة ولحاق أصحابه وبلوغ المنزل من الثقيل .
__________
(1) أ ، ب " بالتخفيف " وما أثبته من د .
(19 - نهج - 9) (*)(9/289)
وقوله : " فإنما ينتظر بأولكم آخركم " أي إنما ينتظر ببعث الموتى المتقدمين أن يموت الاواخر أيضا ، فيبعث الكل جميعا في وقت واحد .
ثم ذكر أنهم مسؤولون عن كل شئ حتى عن البقاع : لم استوطنتم هذه ، وزهدتم في هذه ؟ ولم أخربتم هذه الدار وعمرتم هذه الدار ؟ وحتى عن البهائم ، لم ضربتموها ؟ لم أجعتموها ؟ وروى : " فإن البأس (1) أمامكم " يعنى الفتنة ، والرواية الاولى أظهر .
وقد ورد في الاخبار النبوية " لينتصفن للجماء من القرناء " وجاء في الخبر الصحيح : " إن الله تعالى عذب إنسانا بهر ، حبسه في بيت وأجاعه حتى هلك " .
__________
(1) ب : " الناس " تحريف ، وما أثبته من باقى الاصول .
(*)(9/290)
(169) الاصل : ومن كلام له عليه السلام بعد ما بويع له بالخلافة وقد قال له قوم من الصحابة : لو عاقبت قوما ممن أجلب على عثمان ! فقال عليه السلام : يا إخوتاه إنى لست أجهل ما تعلمون ولكن كيف لى بقوة والقوم المجلبون على حد شوكتهم يملكوننا ولا نملكهم وهاهم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم ، والتفت إليهم أعرابكم ، وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا ، وهل ترون موضعا لقدرة على شئ تريدونه ! إن هذا الامر أمر جاهلية وإن لهؤلاء القوم مادة .
إن الناس من هذا الامر إذا حرك على أمور : فرقة ترى ما ترون ، وفرقة ترى مالا ترون ، وفرقة لا ترى هذا ولا هذا .
فاصبروا حتى يهدأ الناس وتقع القلوب مواقعها ، وتؤخذ الحقوق مسمحة .
فاهدءوا عنى وانظروا ما ذا يأتيكم به أمرى ، ولا تفعلوا فعلة تضعضع قوة وتسقط منة ، وتورث وهنا وذلة .
وسأمسك الامر ما استمسك ، وإذا لم أجد بدا ، فآخر الدواء الكى .
* * * الشرح : أجلب عليه : أعان عليه ، وأجلبه : أعانه .
والالف في " يا إخوتاه " بدل من ياء الاضافة والهاء للسكت .(9/291)
وعلى حد شوكتهم : شدتهم ، أي تنكسر سورتهم .
والعبدان جمع عبد ، بالكسر : مثل جحش وجحشان ، وجاء عبدان بالضم ، مثل تمر وتمران ، وجاء عبيد ، مثل كلب وكليب ، وهو جمع عزيز ، وجاء أعبد وعباد وعبدان مشددة الدال ، وعبداء بالمد ، وعبدي بالقصر ، ومعبوداء بالمد ، وعبد بالضم ، مثل سقف وسقف ، وأنشدوا .
انسب العبد إلى آبائه * أسود الجلدة من قوم عبد (1) ومنه قرأ بعضهم : (وعبد الطاغوت) (2) وأضافه .
قوله : " والتفت إليهم أعرابكم " .
انضمت واختلطت بهم .
وهم حلالكم ، أي بينكم يسومونكم ما شاءوا : يكلفونكم ، قال تعالى : (يسومونكم سوء العذاب) (3) .
وتؤخذ الحقوق مسمحة ، من أسمح ، أي ذل وانقاد .
فاهدءوا عنى ، أي فاسكنوا (4) هدأ الرجل هدءا وهدوءا : أي سكن ، وأهدأه غيره .
وتضعضع قوة : تضعف وتهد : ضعضعت البناء : هددته .
والمنة : القوة .
والوهن : الضعف .
وآخر الدواء الكى ، مثل مشهور ، ويقال : " آخر الطب " ويغلط فيه العامة فتقول : " آخر الداء " والكى ليس من الداء ليكون آخره .
* * *
__________
(1) اللسان 4 : 260 .
(2) سورة المائدة 60 ، وهى قرأة عن ابن عباس ، وانظر تفسير القرطبى 6 : 235 .
(3) سورة البقرة 49 .
(4) في الاصول : " فاسكتوا " .
(*)(9/292)
[ موقف على من قتله عثمان ] واعلم أن هذا الكلام يدل على أنه عليه السلام كان في نفسه عقاب الذين حصروا عثمان والاقتصاص ممن قتله ، إن كان بقى ممن باشر قتله أحد ، ولهذا قال : إنى لست أجهل ما تعلمون ، فاعترف بأنه عالم بوجوب ذلك ، واعتذر بعدم التمكن كما ينبغى ، وصدق عليه السلام ، فإن أكثر أهل المدينة أجلبوا عليه ، وكان من أهل مصر ومن الكوفة عالم عظيم حضروا من بلادهم ، وطووا المسالك البعيدة لذلك ، وانضم إليهم أعراب أجلاف من البادية ، وكان الامر أمر جاهلية ، كما قال عليه السلام ، ولو حرك ساكنا لاختلف الناس واضطربوا ، فقوم يقولون : أصاب ، وقوم يقولون : أخطأ ، وقوم لا يحكمون بصواب ولا خطأ .
بل يتوقفون ، ولا يأمن - لو شرع في عقوبة الناس والقبض عليهم - من تجدد فتنة أخرى كالاولى وأعظم ، فكان الاصواب في التدبير ، والذى يوجبه الشرع والعقل الامساك إلى حين سكون الفتنة ، وتفرق تلك الشعوب وعود كل قوم إلى بلادهم ، وكان عليه السلام يؤمل أن يطيعه معاوية وغيره ، وأن يحضر بنو عثمان عنده يطالبون بدم أبيهم ويعينون قوما بأعيانهم ، بعضهم للقتل ، وبعضهم للحصار ، وبعضهم للتسور ، كما جرت عادة المتظلمين إلى الامام والقاضى ، فحينئذ يتمكن من العمل بحكم الله تعالى .
فلم يقع الامر بموجب ذلك ، وعصى معاوية وأهل الشام ، والتجأ ورثة عثمان إليه ، وفارقوا حوزة أمير المؤمنين عليه السلام ، ولم يطلبوا القصاص طلبا شرعيا ، وإنما طلبوه مغالبة ، وجعلها معاوية عصبية الجاهلية ، ولم يأت أحد منهم الامر من بابه ، وقبل ذلك ما كان من أمر طلحة والزبير ، ونقضهما البيعة ، ونهبهما أموال المسلمين بالبصرة وقتلهما الصالحين من أهلها ، وجرت أمور كلها تمنع الامام عن التصدى للقصاص ، واعتماد ما يجب اعتماده لو كان الامر وقع على القاعدة الصحيحة من المطالبة بذلك على وجه السكون والحكومة ،(9/293)
وقد قال هو عليه السلام لمعاوية : " فأما طلبك قتلة عثمان ، فادخل في الطاعة ، وحاكم القوم إلى ، أحملك وإياهم على كتاب الله وسنة رسوله " .
قال أصحابنا المعتزلة رحمهم الله : وهذا عين الحق ، ومحض الصواب ، لانه يجب دخول الناس في طاعة الامام ، ثم تقع المحاكمة إليه ، فإن حكم بالحق استديمت إمامته ، وإن حكم بالجور انتقض أمره ، وتعين خلعه .
فإن قلت : فما معنى قوله : " وسأمسك الامر ما استمسك ، فإذا لم أجد بدا فآخر الدواء الكى " .
قلت : ليس معناه : وسأصبر عن معاقبة هؤلاء ما أمكن الصبر ، فإذا لم أجد بدا عاقبتهم ، ولكنه كلام قاله أول مسير طلحة والزبير إلى البصرة ، فإنه حينئذ أشار عليه قوم بمعاقبة المجلبين ، فاعتذر بما قد ذكر ، ثم قال : " وسأمسك الامر ما استمسك " أي أمسك نفسي عن محاربة هؤلاء الناكثين للبيعة ما أمكننى ، وأدفع الايام بمراسلتهم وتخويفهم وإنذارهم ، وأجتهد في ردهم إلى الطاعة بالترغيب والترهيب ، فإذا لم أجد بدا من الحرب ، فآخر الدواء الكى ، أي الحرب ، لانها الغاية التى ينتهى أمر العصاة إليها .(9/294)
(170) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام عند مسير أصحاب الجمل إلى البصرة : إن الله بعث رسولا هاديا بكتاب ناطق ، وأمر قائم ، لا يهلك عنه إلا هالك .
وإن المبتدعات المشبهات هن المهلكات ، إلا ما حفظ الله منها ، وإن في سلطان الله عصمة لامركم ، فأعطوه طاعتكم غير ملومة ولا مستكره بها .
والله لتفعلن أو لينقلن الله عنكم سلطان (1) الاسلام ، ثم لا ينقله إليكم أبدا .
حتى يأرز الامر إلى غيركم .
إن هؤلاء قد تمالا اعلى سخطة إمارتى ، وسأصبر ما لم أخف على جماعتكم ، فإنهم إن تمموا على فيالة هذا الرأى ، انقطع نظام المسلمين ، وإنما طلبوا هذه الدنيا حسدا لمن أفاءها الله عليه ، فأرادوا رد الامور على أدبارها ، ولكم علينا العمل بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، والقيام بحقه والنعش لسنته .
* * * الشرح : وأمر قائم ، أي مستقيم ليس بذى عوج .
لا يهلك عنه إلا هالك ، تقديره : لا يهلك عادلا عنه إلا هالك ، وهذا كما تقول : لا يعلم هذا الفن إلا عالم ، أي من قد بلغ الغاية
__________
(1) ساقطة من ب .
(*)(9/295)
في العلم واستحق أن يوصف بذلك ويشار إليه فيه ، كذلك لا يهلك بعدوله عنه إلا من هو أعظم الهالكين ، ومن يشار إليه بالهلاك ، وقد بلغ الغاية في الهلاك .
ثم قال : " إن المتبدعات المشبهات هن المهلكات " المبتدعات : ما أحدث ولم يكنى على عهد الرسول .
والمشبهات : التى تشبه السنن وليست منها ، أي المشبهات بالسنن .
وروى : " المشبهات " بالكسر ، أي المشبهات على الناس ، يقال : قد شبه عليه الامر ، أي ألبس عليه ، ويروى : " المشتبهات " أي الملتبسات ، لايعرف حقها من باطلها .
قال : " إلا من حفظ الله " أي من عصمه الله بألطاف يمتنع لاجلها عن الخطأ .
ثم أمرهم بلزوم الطاعة ، واتباع السلطان ، وقال : إن فيه عصمة لامركم .
فأعطوه طاعتكم غير ملومة ، أي مخلصين ذوى طاعة محضة لا يلام باذلها ، أي لا ينسب إلى النفاق .
ولا مستكره بها أي ليست عن استكراه ، بل يبذلونها اختيارا ومحبة ويروى : " غير ملوية " أي معوجة ، من لويت العود .
ثم أقسم إنهم إن لم يفعلوا وإلا نقل الله عنهم سلطان الاسلام - يعنى الخلافة - ثم لا يعيده إليهم أبدا ، حتى يأرز الامر إلى غيرهم ، أي حتى ينقبض وينضم ويجتمع ، وفى الحديث : " إن الاسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها " (1) .
فإن قلت : كيف قال : إنه لا يعيده إليهم أبدا ، وقد عاد إليهم بالخلافة العباسية ؟ قلت : لان الشرط لم يقع ، وهو عدم الطاعة ، فإن أكثرهم أطاعوه طاعة غير ملومة ولا مستكره بها ، وإذا لم يتحقق الشرط لم يتحقق المشروط .
__________
(1) النهاية لابن الاثير 1 : 14 .
(*)(9/296)
وقد أجاب قوم عن هذا ، فقالوا : خاطب الشيعة الطالبية ، فقال : إن لم تعطوني الطاعة المحضة نقل الله الخلافة عن هذا البيت حتى يأرز وينضم إلى بيت آخر ، وهكذا وقع ، فإنها انضمت إلى بيت آخر من بنى هاشم .
وأجاب قوم آخرون ، فقالوا : أراد بقوله : " أبدا " المبالغة ، كما تقول : احبس هذا الغريم أبدا ، والمراد بالقوم الذين يأرز الامر إليهم بنو أمية ، كأنه قال : إن لم تفعلوا نقل الله الخلافة عنكم حتى يجعلها في قوم آخرين وهم أعداؤكم من أهل الشام وبنى أمية ولا يعيده إليكم إلى مدة طويلة ، وهكذا وقع .
وقد تمالا وا : قد اجتمعوا .
وتساعدوا على سخطة إمارتى : على كراهيتها وبغضها .
ثم وعد بالصبر عليهم ما لم يخف من فرقة الجماعة ، وانتشار حبل الاسلام .
وفيالة الرأى : ضعفه ، وكذلك فيولته ، ورجل فيل الرأى : أي ضعيفه ، قال : بنى رب الجواد فلا تفيلوا * فما أنتم فنعذركم لفيل (1) أي لستم على رجل ضعيف الرأى .
والجمع أفيال ، ويقال أيضا : رجل فال ، قال : رأيتك يا أخيطل إذ جرينا * وجربت الفراسة كنت فالا (2) قال : إن تموا على هذا الرأى الضعيف قطعوا نظام المسلمين وفرقوا جماعتهم .
ثم ذكر أن الحسد دعاهم إلى ذلك .
وأفاءها عليه : ردها عليه ، فاء يفئ : رجع .
وفلان سريع الفئ من غضبه ، أي سريع الرجوع .
وإنه لحسن الفيئة بالكسر ، مثال " الفيعة " أي حسن الرجوع ، وهذا الكلام لا يشعر بأنه عليه السلام كان يعتقد أن الامر له ، وأنه غلب عليه ثم رجع إليه ، ولكنه محمول على أنه من رسول الله صلى الله عليه وآله بمنزلة الجزء من الكل ، وأنهما من جوهر واحد ، فلما كان الوالى قديما هو رسول الله صلى الله
__________
(1) اللسان 14 : 50 ونسبه إلى الكميت .
(2) اللسان 14 : 50 ، ونسبه إلى جرير .
(*)(9/297)
عليه وآله ، ثم تخلل بين ولايته صلى الله عليه وآله وولاية أمير المؤمنين عليه السلام ولايات غريبة ، سمى ولايته فيئا ورجوعا ، لانها رجعت إلى الدوحة الهاشمية ، وبهذا يجب أن يتأول قوله : " فأرادوا رد الامور على أدبارها " أي أرادوا انتزاع الخلافة من بنى هاشم ، كما انتزعت أولا ، وإقرارها في بيوت بعيدة عن هذا البيت ، أسوة بما وقع من قبل .
والنعش : مصدر نعش ، أي رفع ، ولا يجوز : " أنعش " .(9/298)
(171) الاصل : ومن كلام له عليه السلام : كلم به بعض العرب ، وقد أرسله قوم من أهل البصرة ، لما قرب عليه السلام منها ليعلم لهم منه حقيقة حاله مع أصحاب الجمل لتزول الشبهة من نفوسهم ، فبين له عليه السلام من أمره معهم ما علم به أنه على الحق ، ثم قال له : بايع ، فقال : إنى رسول قوم ، ولا أحدث حدثا حتى أرجع إليهم .
فقال عليه السلام : أرأيت لو أن الذين وراءك بعثوك رائدا ، تبتغى لهم مساقط الغيث ، فرجعت إليهم وأخبرتهم عن الكلا والماء ، فخالفوا إلى المعاطش والمجادب ماكنت صانعا ؟ قال : كنت تاركهم ومخالفهم إلى الكلا والماء .
فقال عليه السلام : فامدد إذا يدك .
فقال الرجل : فوالله ما استطعت أن أمتنع عند قيام الحجة على فبايعته عليه السلام .
والرجل يعرف بكليب الجرمى .
* * * الشرح : الجرمى : منسوب إلى بنى جرم بن ربان بن حلوان بن عمران بن الحاف ابن قضاعة ، من حمير .
وكان هذا الرجل بعثه قوم من أهل البصرة إليه عليه السلام(9/299)
يستعلم حاله : أهو على حجة (1) أم على شبهة ؟ فلما رآه عليه السلام ، وسمع لفظه ، علم صدقه وبرهانه ، فكان بينهما ما قد شرحه عليه السلام .
ولا شئ ألطف ولا أوقع ولا أوضح من المثال الذى ضربه عليه السلام ، وهو حجة لازمة لا مدفع لها .
قوله : " ولا أحدث حدثا " أي لا أفعل ما لم يأمروننى به ، إنما أمرت باستعلام حالك فقط ، فأما المبايعة لك فأن احدثتها كنت فاعلا ما لم أندب له .
ومساقط الغيث : المواضع التى يسقط الغيث فيها .
والكلا : النبت إذا طال وأمكن أن يرعى ، وأول ما يظهر يسمى الرطب ، فإذا طال قليلا فهو الخلا ، فإذا طال شيئا آخر فهو الكلا ، فإذا يبس فهو الحشيش .
والمعاطش والمجادب : مواضع العطش والجدب ، وهو المحل .
__________
(1) ب : " حجتهم " .
(*)(9/300)
(172) الاصل : ومن كلام له عليه السلام لما عزم على لقاء القوم بصفين : اللهم رب السقف المرفوع ، والجو المكفوف ، الذى جعلته مغيضا لليل والنهار ومجرى للشمس والقمر ، ومختلفا للنجوم السيارة ، وجعلت سكانه سبطا من ملائكتك ، لا يسأمون من عبادتك .
ورب هذه الارض التى جعلتها قرارا للانام ، ومدرجا للهوام والانعام وما لا يحصى مما يرى وما لا يرى .
ورب الجبال الرواسى التى جعلتها للارض أوتادا ، وللخلق اعتمادا إن أظهرتنا على عدونا ، فجنبنا البغى ، وسددنا للحق ، وإن أظهرتم علينا فارزقنا الشهادة واعصمنا من الفتنة .
أين المانع للذمار ، والغائر عند نزول الحقائق من أهل الحفاظ ! العار وراءكم ، والجنة أمامكم ! * * * الشرح : السقف المرفوع : السماء .
والجو المكفوف : السماء أيضا ، كفه ، أي جمعه وضم بعضه إلى بعض ، ويمر في كلامه نحو هذا ، وأن السماء هواء جامد أو ماء جامد .
وجعلته مغيضا لليل والنهار ، أي غيضة لهما ، وهى في الاصل الاجمة يجتمع إليها الماء(9/301)
فتسمى غيضة ومغيضا ، وينبت فيها الشجر ، كأنه جعل الفلك كالغيضة ، والليل والنهار كالشجر النابت فيها .
ووجه المشاركة أن المغيض أو الغيضة يتولد منهما الشجر ، وكذلك الليل والنهار يتولدان من جريان الفلك .
ثم عاد فقال : " ومجرى للشمس والقمر " أي موضعا لجريانهما .
ومختلفا للنجوم السيارة أي موضعا لاختلافها واللام مفتوحة .
ثم قال : " جعلت سكانه سبطا من ملائكتك " أي قبيلة ، قال تعالى : (اثنتى عشرة أسباطا أمما) (1) .
لا يسأمون : لا يملون .
وقرارا للانام أي موضع استقرارهم وسكونهم .
ومدرجا للهوام ، أي موضع دروجهم وسيرهم وحركاتهم ، والهوام : الحشرات والمخوف من الاحناش .
ومالا يحصى ، أي لا يضبط بالاحصاء والعد ، مما نراه ونعرفه ومالا نراه ولا نعرفه .
وقال بعض العلماء : إن أردت أن تعرف حقيقة قوله : " مما يرى وما لا يرى " فأوقد نارا صغيرة في فلاة في ليلة صيفية ، وانظر ما يجتمع عليها من الانواع الغريبة العجيبة الخلق ، التى لم تشاهدها أنت ولا غيرك قط .
قوله : " وللخلق اعتمادا " لانهم يجعلونها كالمساكن لهم ، فينتفعون بها ويبنون منازل إلى جانبها ، فيقوم مقام جدار قد استغنوا عن بنيانه ، ولانها أمهات العيون ومنابع المياه باعتماد الخلق على مرافقهم ومنافعهم ومصالحهم عليها .
__________
(1) سورة الاعراف 160 .
(*)(9/302)
قوله : " وسددنا للحق " أي صوبنا إليه ، من قولك : " سهم سديد " أي مصيب وسدد السنان إلى القرن ، أي صوبه نحوه .
والذمار : ما يحامى عنه .
والغائر : ذو الغيرة .
ونزول الحقائق : نزول الامور الشديدة كالحرب ونحوها .
ثم قال : " العار وراءكم " أي إن رجعتم القهقرى هاربين .
والجنة أمامكم ، أي إن أقدمتم على العدو مجاهدين .
وهذا الكلام شريف جدا .(9/303)
(173) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : الحمد لله الذى لا توارى عنه سماء سماء ، ولا أرض أرضا .
* * * الشرح : هذا الكلام يدل على إثبات أرضين بعضها فوق بعض .
كما أن السموات كذلك ولم يأت في الكتاب العزيز ما يدل على هذا إلا قوله تعالى : (الله الذى خلق سبع سموات ومن الارض مثلهن) (1) ، وهو قول كثير من المسلمين .
وقد تأول ذلك أرباب المذهب الاخر القائلون بأنها أرض واحدة ، فقالوا : إنها سبعة أقاليم ، فالمثلية هي من هذا الوجه ، لا من تعدد الارضين في ذاتها .
ويمكن أن يتأول مثل ذلك كلام أمير المؤمنين عليه السلام ، فيقال : إنها وإن كانت أرضا واحدة ، لكنها أقاليم وأقطار مختلفة ، وهى كرية الشكل ، فمن على حدبة الكرة لا يرى من تحته ، ومن تحته لا يراه ، ومن على أحد جانبيها لا يرى من على الجانب الاخر والله تعالى يدرك ذلك كله أجمع ، ولا يحجب عنه شئ منها بشئ منها .
فأما قوله عليه السلام : " لا توارى عنه سماء سماء " فلقائل أن يقول : ولا يتوارى شئ من السموات عن المدركين منا ، لانها شفافة ، فأى خصيصة للبارى تعالى في ذلك ؟ فينبغي أن يقال هذا الكلام على قاعدة غير القاعدة الفلسفية ، بل هو على قاعدة الشريعة (2)
__________
(1) سورة الطلاق 12 .
(2) ب : " على قاعدته الشريعة الاسلامية " .
(*)(9/304)
الاسلامية التى تقتضي أن السموات تحجب ما وراءها عن المدركين بالحاسة ، وإنها ليست طباقا متراصة ، بل بينها خلق من خلق الله تعالى لا يعلمهم غيره .
واتباع هذا القول واعتقاده أولى .
* * * الاصل : منها : وقد قال قائل : إنك على هذا الامر يابن أبى طالب لحريص ، فقلت : بل أنتم والله لاحرص وأبعد ، وأنا أخص وأقرب ، وإنما طلبت حقا لى وأنتم تحولون بينى وبينه ، وتضربون وجهى دونه ، فلما قرعته بالحجة في الملاء الحاضرين ، هب كأنه بهت لا يدرى ما يجيبنى به ! اللهم إنى أستعديك على قريش ومن أعانهم ! فإنهم قطعوا رحمى ، وصغروا عظيم منزلتي ، وأجمعوا على منازعتي أمرا هو لى ، ثم قالوا : ألا إن في الحق أن تأخذه وفى الحق أن تتركه .
الشرح : هذا من خطبة يذكر فيها عليه السلام ما جرى يوم الشورى بعد مقتل عمر .
والذى قال له : " إنك على هذا الامر لحريص " سعد بن أبى وقاص ، مع روايته فيه : " أنت منى بمنزلة هارون من موسى " وهذا عجب ، فقال لهم : بل أنتم والله أحرص وأبعد ...
الكلام المذكور .
وقد رواه الناس كافة .
وقالت الامامية : هذا الكلام يوم السقيفة ، والذى قال له : إنك على هذا الامر لحريص ، أبو عبيدة بن الجراح ، والرواية الاولى أظهر وأشهر .
(20 - نهج - 9)(9/305)
وروى : " فلما قرعته " بالتخفيف أي صدمته بها .
وروى : " هب لا يدرى ما يجيبنى " كما تقول استيقظ وانتبه ، كأنه كان غافلا ذاهلا عن الحجة فهب لما ذكرتها .
أستعديك : أطلب أن تعديني عليهم وأن تنتصف لى منهم .
قطعوا رحمى : لم يرعوا قربه من رسول الله صلى الله عليه وآله .
وصغروا عظيم منزلتي : لم يقفوا مع النصوص الواردة فيه .
وأجمعوا على منازعتي أمرا هو لى ، أي بالافضلية أنا أحق به منهم ، هكذا ينبغى أن يتأول كلامه .
وكذلك قوله : " إنما أطلب حقا لى وأنتم تحولون بينى وبينه ، وتضربون وجهى دونه .
قال : " ثم قالوا : ألا إن في الحق أن تأخذه وفى الحق أن تتركه " قال : لم يقتصروا على أخذ حقى ساكتين عن الدعوى ، ولكنهم أخذوه وادعوا أن الحق لهم .
وأنه يجب على أن أترك المنازعة فيه ، فليتهم أخذوه معترفين بأنه حقى ، فكانت المصيبة به أخف وأهون .
واعلم أنه قد تواترت الاخبار عنه عليه السلام بنحو من هذا القول ، نحو قوله : " مازلت مظلوما منذ قبض الله رسوله حتى يوم الناس هذا " .
وقوله : " اللهم أخز قريشا فإنها منعتني حقى ، وغصبتني أمرى " .
وقوله : " فجزى قريشا عنى الجوازى ، فإنهم ظلموني حقى ، واغتصبوني سلطان ابن أمي " .(9/306)
وقوله ، وقد سمع صارخا ينادى : أنا مظلوم فقال : " هلم فلنصرخ معا ، فإنى مازلت مظلوما " .
وقوله : " وإنه ليعلم أن محلى منها محل القطب من الرحى " .
وقوله : " أرى تراثي نهبا " .
وقوله : " أصغيا بإنائنا ، وحملا الناس على رقابنا " .
وقوله : " إن لنا حقا إن نعطه نأخذه ، وإن نمنعه نركب أعجاز الابل ، وإن طال السرى " .
وقوله : " مازلت مستأثرا على ، مدفوعا عما أستحقه وأستوجبه " .
وأصحابنا يحملون ذلك كله على ادعائه الامر بالافضلية والاحقية ، وهو الحق والصواب فإن حمله على الاستحقاق بالنص تكفير أو تفسيق لوجوه المهاجرين والانصار ، ولكن الامامية والزيدية حملوا هذه الاقوال على ظواهرها ، وارتكبوا بها مركبا صعبا .
ولعمري إن هذه الالفاظ موهمة مغلبة على الظن ما يقوله القوم ، ولكن تصفح الاحوال يبطل ذلك الظن ، ويدرأ ذلك الوهم ، فوجب أن يجرى مجرى الايات المتشابهات الموهمة مالا يجوز على الباري ، فإنه لا نعمل بها ، ولا نعول على ظواهرها ، لانا لما تصفحنا أدلة العقول اقتضت العدول عن ظاهر اللفظ ، وأن تحمل على التأويلات المذكورة في الكتب .
وحدثني يحيى بن سعيد بن على الحنبلى المعروف بابن عالية من ساكنى قطفتا (1) بالجانب الغربي من بغداد ، وأحد الشهود المعدلين بها ، قال : كنت حاضرا الفخر إسماعيل ابن على الحنبلى الفقيه المعروف بغلام بن ابن المنى ، وكان الفخر إسماعيل بن على هذا ، مقدم
__________
(1) قطفنا ، بالفتح ثم الضم والفاء ساكنة وتاء مثناة والقصر : محلة بالجانب الغربي من بغداد بينها وبين دجلة أقل من ميل (مراصد الاطلاع) .
(*)(9/307)
الحنابلة ببغداد في الفقه والخلاف ، ويشتغل بشئ في علم المنطق ، وكان حلو العبارة وقد رأيته أنا وحضرت عنده ، وسمعت كلامه ، وتوفى سنة عشر وستمائة .
قال ابن عالية : ونحن عنده نتحدث ، إذ دخل شخص من الحنابلة ، قد كان له دين على بعض أهل الكوفة ، فانحدر إليه يطالبه به ، واتفق أن حضرت زيارة يوم الغدير والحنبلي المذكور بالكوفة ، وهذه الزيارة هي اليوم الثامن عشر من ذى الحجة ، ويجتمع بمشهد أمير المؤمنين عليه السلام من الخلائق جموع عظيمة ، تتجاوز حد الاحصاء .
قال ابن عالية : فجعل الشيخ الفخر يسائل ذلك الشخص : ما فعلت ؟ ما رأيت ؟ هل وصل مالك إليك ؟ هل بقى لك منه بقية عند غريمك ؟ وذلك يجاوبه ، حتى قال له : يا سيدي لو شاهدت يوم الزيارة يوم الغدير ، وما يجرى عند قبر على بن أبى طالب من الفضائح والاقوال الشنيعة وسب الصحابة جهارا بأصوات مرتفعة من غير مراقبة ولا خيفة ! فقال إسماعيل : أي ذنب لهم ! والله ما جرأهم على ذلك ، ولا فتح لهم هذا الباب إلا صاحب ذلك القبر ! فقال ذلك الشخص : ومن صاحب القبر ؟ قال : على بن أبى طالب ! قال : يا سيدى ، هو الذى سن لهم ذلك ، وعلمهم إياه وطرقهم إليه ! قال : نعم والله ، قال : يا سيدى فإن كان محقا فمالنا أن نتولى فلانا وفلانا ! وإن كان مبطلا فمالنا نتولاه ! ينبغى أن نبرأ إما منه أو منهما .
قال ابن عالية : فقام إسماعيل مسرعا ، فلبس نعليه ، وقال : لعن الله إسماعيل الفاعل إن كان يعرف جواب هذه المسألة ، ودخل دار حرمه ، وقمنا نحن وانصرفنا .
* * * الاصل : منها في ذكر أصحاب الجمل : فخرجوا يجرون حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تجر الامة عند شرائها(9/308)
متوجهين بها إلى البصرة .
فحبسا نساءهما في بيوتهما ، وأبرز حبيس رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما ولغيرهما ، في جيش ما منهم رجل إلا وقد أعطاني الطاعة ، وسمح لى بالبيعة ، طائعا غير مكره فقدموا على عاملي بها ، وخزان بيت مال المسلمين وغيرهم من أهلها ، فقتلوا طائفة صبرا ، وطائفة غدرا .
فو الله إن لو لم يصيبوا من المسلمين إلا رجلا واحدا معتمدين لقتله ، بلا جرم جره ، لحل لى قتل ذلك الجيش كله ، إذ حضروه فلم ينكروا ، ولم يدفعوا عنه بلسان ولا بيد ، دع ما إنهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدة التى دخلوا بها عليهم ! * * * الشرح : حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله كناية عن الزوجة ، وأصله الاهل والحرم وكذلك حبيس رسول الله صلى الله عليه وآله كناية عنها .
وقتلوهم صبرا أي بعد الاسر .
وقوله : " فو الله إن لو لم يصيبوا " إن هاهنا زائدة ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة .
ويسأل عن قوله عليه السلام : " لو لم يصيبوا إلا رجلا واحدا لحل لى قتل ذلك الجيش بأسره ، لانهم حضروه فلم ينكروا " فيقال : أيجوز قتل من لم ينكر المنكر مع تمكنه من إنكاره ؟ والجواب أنه يجوز قتلهم ، لانهم اعتقدوا ذلك القتل مباحا ، فإنهم إذا اعتقدوا إباحته فقد اعتقدوا إباحة ما حرم الله إ فيكون حالهم حال من اعتقد أن الزنا مباح أو أن شرب الخمر مباح .(9/309)
وقال القطب الراوندي : يريد أنهم داخلون في عموم قوله تعالى : (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا (1) .
ولقائل أن يقول : الاشكال إنما وقع في قوله : " لو لم يصيبوا من المسلمين إلا رجلا واحدا لحل لى قتل ذلك الجيش بأسره " لانهم حضروا المنكر ولم يدفعوه بلسان ولايد ، فهو علل استحلاله قتلهم بأنهم لم ينكروا المنكر ، ولم يعلل ذلك بعموم الاية .
وأما معنى قوله : " دع ما إنهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدة التى دخلوا بها عليهم " فهو أنه لو كان المقتول واحدا لحل لى قتلهم كلهم ، فكيف وقد قتلوا من المسلمين عدة مثل عدتهم التى دخلوا بها البصرة ! وما هاهنا زائدة .
وصدق عليه السلام ، فإنهم قتلوا من أوليائه وخزان بيت المال بالبصرة خلقا كثيرا ، بعضهم غدرا ، وبعضهم صبرا ، كما خطب به عليه السلام .
* * * [ ذكر يوم الجمل ومسير عائشة إلى القتال ] (2) وروى أبو مخنف قال : حدثنا إسماعيل بن خالد ، عن قيس بن أبى حازم .
وروى الكبى عن أبى صالح ، عن ابن عباس .
وروى جرين بن يزيد ، عن عامر الشعبى ، وروى محمد بن إسحاق ، عن حبيب بن عمير ، قالوا جميعا : لما خرجت عائشة وطلحة والزبير من مكة إلى البصرة ، طرقت ماء الحوأب ، وهو ماء لبنى عامر بن صعصعة ، فنبحتهم الكلاب فنفرت صعاب إبلهم ، فقال قائل منهم : لعن الله الحوأب فما أكثر كلابها فلما سمعت عائشة ذكر الحوأب ، قالت : أهذا ماء الحوأب ؟ قالوا : نعم ، فقالت : ردوني ردوني .
فسألوها ما شأنها ؟ ما بدالها ؟ فقالت : إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : " كأنى بكلاب
__________
(1) سورة المائدة 33 .
(2) انظر ص 111 وما بعدها من هذا الجزء .
(*)(9/310)
ماء يدعى الحوأب ، قد نبحت بعض نسائى " ثم قال لى : " إياك يا حميراء أن تكونيها " فقال لها الزبير : مهلا يرحمك الله ، فإنا قد جزنا ماء الحوأب بفراسخ كثيرة ، فقالت : أعندك من يشهد بأن هذه الكلاب النابحة ليست على ماء الحوأب ؟ فلفق لها الزبير وطلحة خمسين أعرابيا جعلا لهم جعلا ، فحلفوا لها ، وشهدوا أن هذا الماء ليس بماء الحوأب ، فكانت هذه أول شهادة زور في الاسلام .
فسارت عائشة لوجهها .
* * * قال أبو مخنف : وحدثنا عصام بن قدامة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال يوما لنسائه ، وهن عنده جميعا : " ليت شعرى أيتكن صاحبة الجمل الادبب (1) ، تنبحها كلاب الحوأب يقتل عن يمينها وشمالها قتلى كثيرة ، كلهم في النار وتنجو بعد ما كادت ! قلت : وأصحابنا المعتزلة رحمهم الله ، يحملون قوله عليه السلام : " وتنجو " على نجاتها من النار ، والامامية يحملون ذلك على نجاتها من القتل ، ومحملنا أرجح ، لان لفظة " في النار " أقرب إليه من لفظة " القتلى " والقرب معتبر في هذا الباب ، ألا ترى أن نحاة البصريين أعملوا أقرب العاملين ، نظرا إلى القرب ! * * * قال أبو مخنف : وحدثني الكلبى ، عن أبى صالح ، عن ابن عباس ، أن الزبير وطلحة أغذا (2) السير بعائشة ، حتى انتهوا إلى حفر أبى موسى الاشعري ، وهو قريب من البصرة وكتبا إلى عثمان بن حنيف الانصاري ، وهو عامل على عليه السلام على البصرة : أن أخل لنا دار الامارة ، فلما وصل كتابهما إليه بعث الاحنف بن قيس ، فقال له : إن هؤلاء القوم قدموا علينا ومعهم زوجة رسول الله ، والناس إليها سراع كما ترى ، فقال الاحنف :
__________
(1) الاديب : الكثير الشعر .
(2) الاغذاذ : الاسراع .
(*)(9/311)
إنهم جاءوك بها للطلب بدم عثمان ، وهم الذين ألبوا على عثمان الناس ، وسفكوا دمه وأراهم والله لا يزايلون حتى يلقوا العداوة بيننا ، ويسفكوا دماءنا ، وأظنهم والله سيركبون منك خاصة مالا قبل لك به ، إن لم تتأهب لهم بالنهوض إليهم فيمن معك من أهل البصرة فإنك اليوم الوالى عليهم ، وأنت فيهم مطاع ، فسر إليهم بالناس ، وبادرهم قبل أن يكونوا معك في دار واحدة ، فيكون الناس لهم أطوع منهم لك ! فقال عثمان بن حنيف : الرأى ما رأيت ، لكننى أكره الشر ، وأن أبدأهم به وأرجو العافية والسلامة إلى أن يأتيني كتاب أمير المؤمنين ورأيه فأعمل به .
ثم أتاه بعد الاحنف حكيم بن جبلة العبدى من بنى عمرو بن وديعة ، فأقرأه كتاب طلحة والزبير فقال له مثل قول الاحنف ، وأجابه عثمان بمثل جوابه للاحنف ، فقال له حكيم : فأذن لى حتى أسير إليهم بالناس فإن دخلوا في طاعة أمير المؤمنين ، وإلا نابذتهم على سواء .
فقال عثمان : لو كان ذلك رأيى لسرت إليهم نفسي قال حكيم : أما والله إن دخلوا عليك هذا المصر لينتقلن قلوب كثير من الناس إليهم وليزيلنك عن مجلسك هذا وأنت أعلم .
فأبى عليه عثمان .
قال : وكتب على إلى عثمان لما بلغه مشارفة القوم البصرة .
من عبد الله على أمير المؤمنين إلى عثمان بن حنيف أما بعد : فإن البغاة عاهدوا الله ثم نكثوا ، وتوجهوا إلى مصرك ، وساقهم الشيطان لطلب ما لا يرضى الله به .
والله أشد بأسا ، وأشد تنكيلا فإذا قدموا عليك فادعهم إلى الطاعة والرجوع إلى الوفاء بالعهد والميثاق الذى فارقونا عليه ، فإن أجابوا فأحسن جوارهم ما دامو(9/312)
عندك ، وإن أبوإلا التمسك بحبل النكث والخلاف ، فناجزهم القتال حتى يحكم الله بينك ، وبينهم وهو خير الحاكمين ، وكتبت كتابي هذا إليك من الربذة ، وأنا معجل المسير إليك إن شاء الله .
وكتبه عبيد الله بن أبى رافع في سنة ست وثلاثين .
قال : فلما وصل كتاب على عليه السلام إلى عثمان ، أرسل إلى أبى الاسود الدؤلى وعمران بن الحصين الخزاعى ، فأمرهما أن يسيرا حتى يأتياه بعلم القوم ، وما الذى أقدمهم ! فانطلقا حتى إذا أتيا حفر أبى موسى ، وبه معسكر القوم ، فدخلا على عائشة ، فنالاها ووعظاها ، وأذكراها وناشداها الله ، فقالت لهما : القيا طلحة والزبير .
فقاما من عندها ولقيا الزبير فكلماه ، فقال لهما : إنا جئنا للطلب بدم عثمان ، وندعو الناس إلى أن يردوا أمر الخلافة شورى ، ليختار الناس لانفسهم .
فقالا له : إن عثمان لم يقتل بالبصرة ليطلب دمه فيها ، وأنت تعلم قتلة عثمان من هم ، وأين هم ! وإنك وصاحبك وعائشة كنتم أشد الناس عليه ، وأعظمهم إغراء بدمه ، فأقيدوا من أنفسكم .
وأما إعادة أمر الخلافة شورى فكيف وقد بايعتم عليا طائعين غير مكرهين ! وأنت يا أبا عبد الله لم يبعد العهد بقيامك دون هذا الرجل يوم مات رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأنت آخذ قائم سيفك ، تقول : ما أحد أحق بالخلافة منه ولا أولى بها منه ! وامتنعت من بيعة أبى بكر فأين ذلك الفعل من هذا القول ! فقال لهما : اذهبا فالقيا طلحة ، فقاما إلى طلحة فوجداه أخشن الملمس ، شديد العريكة قوى العزم في إثارة الفتنة وإضرام نار الحرب ، فانصرفا إلى عثمان بن حنيف ، فأخبراه وقال له أبو الأسود : يابن حنيف قد أتيت فانفر * وطاعن القوم وجالد واصبر (1)
__________
(1) تاريخ الطبري 6 : 174 .
(*)(9/313)
* وابرز لها مستلئما وشمر * فقال ابن حنيف : أي والحرمين لافعلن ، وأمر مناديه فنادى في الناس : السلاح السلاح ! فاجتمعوا إليه ، وقال أبو الأسود : أتينا الزبير فداني الكلام * وطلحة كالنجم أو أبعد وأحسن قوليهما فادح * يضيق به الخطب مستنكد وقد أو عدونا بجهد الوعيد * فأهون علينا بما أو عدوا فقلنا ركضتم ولم ترملوا * وأصدرتم قبل أن توردوا فإن تلقحوا الحرب بين الرجال * فملقحها حده الانكد وإن عليا لكم مصحر * ألا إنه الاسد الاسود أما إنه ثالث العابدين * بمكة والله لا يعبد فرخوا الخناق ولا تعجلوا * فإن غدا لكم موعد قال : وأقبل القوم ، فلما انتهوا إلى المربد ، قام رجل من بنى جشم ، فقال : أيها الناس أنا فلان الجشمى ، وقد أتاكم هؤلاء القوم ، فإن كانوا أتوكم من المكان الذى يأمن فيه الطير والوحش والسباع ، وإن كانوا إنما أتوكم بطلب دم عثمان ، فغيرنا ولى قتله .
فأطيعوني أيها الناس وردوهم من حيث أقبلوا ، فإنكم إن لم تفعلوا لم تسلموا من الحرب الضروس والفتنة الصماء التى لا تبقى ولا تذر .
قال : فحصبه ناس من أهل البصرة ، فأمسك .
قال : واجتمع أهل البصرة إلى المربد حتى ملئوه مشاة وركبانا ، فقام طلحة فأشار إلى الناس بالسكون ليخطب ، فسكتوا بعد جهد .
فقال : أما بعد ، فإن عثمان بن عفان كان من أهل السابقة والفضيلة ، ومن المهاجرين الاولين الذى رضى الله عنهم ورضوا عنه ،(9/314)
ونزل القرآن ناطقا بفضلهم ، وأحد أئمة المسلمين الوالين عليكم بعد أبى بكر وعمر صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان أحدث أحداثا نقمناها عليه ، فأتيناه فاستعتبناه فأعتبنا ، فعدا عليه امرؤ ابتز هذه الامة أمرها غصبا بغير رضا منها ولا مشورة ، فقتله وساعده على ذلك قوم غير أتقياء والا أبرا ، فقتل محرما بريئا تائبا .
وقد جئناكم أيها الناس نطلب بدم عثمان .
وندعوكم إلى الطب بدمه ، فإن نحن أمكننا الله من قتلته قتلناهم به ، وجعلنا هذا الامر شورى بين المسلمين ، وكانت خلافة رحمة للامة جميعا ، فإن كل من أخذ الامر من غير رضا من العامة ولا مشورة منها ابتزازا ، كان ملكه ملكا عضوضا ، وحدثا كثيرا .
ثم قام الزبير ، فتكلم بمثل كلام طلحة .
فقام إليهما ناس من أهل البصرة فقالوا لهما : ألم تبايعا عليا فيمن بايعه ؟ ففيم بايعتما ثم نكثتما ! فقالا : ما بايعنا ، وما لاحد في أعناقنا بيعة ، وإنما استكرهنا على بيعة .
فقال ناس : قد صدقا وأحسنا القول ، وقطعا بالثواب .
وقال ناس : ما صدقا ولا أصابا في القول ، حتى ارتفعت الاصوات .
قال : ثم أقبلت عائشة على جملها ، فنادت بصوت مرتفع : أيها الناس ، أقلوا الكلام واسكتوا ، فأسكت الناس لها ، فقالت : إن أمير المؤمنين عثمان قد كان غير وبدل ثم لم يزل يغسل ذلك بالتوبة ، حتى قتل مظلوما تائبا ، وإنما نقموا عليه ضربه بالسوط ، وتأميره الشبان ، وحمايته موضع الغمامة ، فقتلوه محرما في حرمة الشهر وحرمة البلد ، ذبحا كما يذبح الجمل .
ألا وإن قريشا رمت غرضها بنبالها ، وأدمت أفواهها بأيديها ، وما نالت بقتلها إياه شيئا ، ولا سلكت به سبيلا(9/315)
قاصدا ، أما والله ليرونها بلايا عقيمة تنتبه النائم ، وتقيم الجالس ، وليسلطن عليهم قوم لا يرحمونهم ، ويسومونهم سوء العذاب .
أيها الناس ، إنه ما بلغ من ذنب عثمان ما يستحل به دمه ! مصتموه (1) كما يماص الثوب الرحيض (2) ثم عدوتم عليه فقتلتموه بعده توبته وخروجه من ذنبه ، وبايعتم ابن أبى طالب بغير مشورة من الجماعة ابتزازا وغصبا .
تراني أغضب لكم من سوط عثمان ولسانه ، ولا أغضب لعثمان من سيوفكم ألا إن عثمان قتل مظلوما فاطلبوا قتلته ، فإذا ظفرتم بهم فاقتلوهم ، ثم اجعلوا الامر شورى بين الرهط الذين اختارهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، ولا يدخل فيهم من شرك في دم عثمان .
قال : فماج الناس واختلطوا ، فمن قائل : القول ما قالت ، ومن قائل يقول : وما هي وهذا الامر ، إنما هي امرأة مأمورة بلزوم بيتها ! وارتفعت الاصوات ، وكثر اللغط حتى تضاربوا بالنعال ، وتراموا بالحصى .
ثم إن الناس تمايزوا فصاروا فريقين : فريق مع عثمان بن حنيف ، وفريق مع عائشة وأصحابها .
* * * قال : وحدثنا الاشعث بن سوار ، عن محمد بن سيرين ، عن أبى الخليل ، قال : لما نزل طلحة والزبير المربد .
أتيتهما فوجدتهما مجتمعين ، فقلت لهما : ناشدتكما الله وصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ! ما الذي أقدمكما أرضنا هذه ؟ فلم يتكلما ، فأعدت عليهما فقالا : بلغنا أن بأرضكم هذه دنيا ، فجئنا نطلبها .
* * *
__________
(1) الموص : الغسل بالاصابع ، وفى النهاية لابن الاثير 4 : 114 " يقال : مصته أموصه موصا ، أرادت أنهم استتابوه عما نقموا منه ، فلما أعطاهم ما طلبوا قتلوه " .
(2) الرحيض : المغسول .
(*)(9/316)
قال : وقد روى محمد بن سيرين ، عن الاحنف بن قيس أنه لقيهما ، فقالا له مثل مقالتهما الاولى : إنما جئنا لطلب الدنيا .
وقد روى المدائني أيضا نحوا مما روى أبو مخنف ، قال : بعث على عليه السلام ابن عباس يوم الجمل إلى الزبير قبل الحرب ، فقال له : إن أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لكم : ألم تبايعني طائعا غير مكره ، فما الذى رابك منى ، فاستحللت به قتالي ! قال : فلم يكن له جواب إلا أنه قال لى : أنا مع الخوف الشديد لنطمع .
لم يقل غير ذلك .
قال أبو إسحاق : فسألت محمد بن على بن الحسين عليه السلام ما تراه يعنى بقوله هذا فقال : أما والله ما تركت ابن عباس حتى سألته ، عن هذا فقال : يقول : إنا مع الخوف الشديد مما نحن عليه ، نطمع أن نلى مثل الذى وليتم .
* * * وقال محمد بن إسحاق : حدثنى جعفر بن محمد عليه السلام ، عن أبيه عن ابن عباس قال : بعثنى على عليه السلام يوم الجمل إلى طلحة والزبير ، وبعث معى بمصحف منشور وإن الريح لتصفق ورقه ، فقال لى : قل لهما : هذا كتاب الله بيننا وبينكم ، فما تريدان ؟ فلم يكن لهما جواب إلا أن قالا : نريد ما أراد ، كأنهما يقولان : الملك .
فرجعت إلى على فأخبرته .
* * * وقد روى قاضى القضاة رحمه الله في كتاب " المغنى " عن وهب بن جرير ، قال : قال رجل من أهل البصرة لطلحة والزبير : إن لكما فضلا وصحبة ، فأخبرانى عن مسيركما(9/317)
هذا وقتالكما ، أشئ أمركما به رسول الله صلى الله عليه وآله ، أم رأى رأيتماه ؟ فأما طلحة فسكت وجعل ينكت في الارض ، وأما الزبير فقال : ويحك ! حدثنا أن هاهنا دراهم كثيرة فجئنا لنأخذ منها .
وجعل قاضى القضاة هذا الخبر حجة في أن طلحة تاب ، وأن الزبير لم يكن مصرا على الحرب ، والاحتجاج بهذا الخبر على هذا المعنى ضعيف ، وإن صح هو وما قبله ، إنه لدليل على حمق شديد ، وضعف عظيم ، ونقص ظاهر .
وليت شعرى ما الذى أحوجهما إلى هذا القول ! وإذا كان هذا في أنفسهما ، فهلا كتماه ! * * * ثم نعود إلى خبرهما : قال أبو مخنف : فلما أقبل طلحة والزبير من المربد ، يريدان عثمان بن حنيف ، فوجداه وأصحابه قد أخذوا بأفواه السكك ، فمضوا حتى انتهوا إلى موضع الدباغين ، فاستقبلهم أصحاب ابن حنيف ، فشجرهم (1) طلحة والزبير وأصحابهما بالرماح فحمل عليهم حكيم بن جبلة ، فلم يزل هو وأصحابه يقاتلونهم حتى أخرجوهم من جميع السكك ورماهم النساء من فوق البيوت بالحجارة ، فأخذوا إلى مقبرة بنى مازن ، فوقفوا بها مليا حتى ثابت إليهم خيلهم ثم أخذوا على مسناة البصرة ، حتى انتهوا إلى الرابوقة ثم أتوا سبخة دار الرزق ، فنزلوها .
قال : وأتاهما عبد الله بن حكيم التميمي لما نزلا السبخة بكتب كانا كتباها إليه ، فقال لطلحة : يا أبا محمد ، أما هذا كتبك إلينا ؟ قال : بلى ، قال : فكتبت أمس تدعونا إلى خلع عثمان وقتله ، حتى إذا قتلته ، أتيتنا ثائرا بدمه ! فلعمري ما هذا رأيك ، لا تريد إلا هذه الدنيا .
مهلا ! إذا كان هذا رأيك فلم قبلت من على ما عرض عليك من البيعة ،
__________
(1) شجره بالرمح : طعنه .
(*)(9/318)
فبايعته طائعا راضيا ، ثم نكثت بيعتك ثم جئت لتدخلنا في فتنتك ! فقال : إن عليا دعاني إلى بيعته بعد ما بايع الناس فعلمت لو لم أقبل ما عرضه على لم يتم لى ، ثم يغرى بى من معه .
قال : ثم أصحبنا من غد فصفا للحرب ، وخرج عثمان بن حنيف إليهما في أصحابه فناشدهما الله والاسلام ، وأذكرهما بيعتهما عليا عليه السلام فقالا : نطلب بدم عثمان فقال لهما : وما أنتما وذاك أين بنوه ؟ أين بنو عمه الذين هم أحق به منكم ! كلا والله ولكنكما حسدتماه ، حيث اجتمع الناس عليه ، وكنتما ترجوان هذا الامر ، وتعملان له ! وهل كان أحد أشد على عثمان قولا منكما فشتماه شتما قبيحا ، وذكر أمه ، فقال للزبير : أما والله لولا صفية ومكانها من رسول الله فإنها أدنتك إلى الظل ، وأن الامر بيني وبينك - يابن الصعبة - يعنى طلحة - أعظم من القول - لاعلمتكما من أمركما ما يسوء كما .
اللهم إنى قد أعذرت إلى هذين الرجلين ! ثم حمل عليهم ، واقتتل الناس قتالا شديدا ، ثم تحاجزوا واصطلحوا على أن يكتب بينهم كتاب صلح فكتب : هذا ما اصطلح عليه عثمان بن حنيف الانصاري ومن معه من المؤمنين من شيعة مير المؤمنين على بن أبى طالب وطلحة والزبير ومن معهما من المؤمنين والمسلمين من شيعتهما ، أن لعثمان بن حنيف دار الامارة والرحبة والمسجد وبيت المال والمنبر ، وأن لطلحة والزبير ومن معهما أن ينزلوا حيث شاءوا من البصرة ، ولا يضار بعضهم بعضا في طريق ولا فرضة ولا سوق ولا شرعة ولا مرفق ، حتى يقدم أمير المؤمنين على بن أبى طالب فإن أحبوا دخلوا فيما دخلت فيه الامة ، وإن أحبوا لحق كل قوم بهواهم وما أحبوا من(9/319)
قتال أو سلم أو خروج أو إقامة وعلى الفريقين بما كتبوا عهد الله وميثاقه ، وأشد ما أخذه على نبى من أنبيائه ، من عهد وذمة .
وختم الكتاب ، ورجع عثمان بن حنيف حتى دخل دار الامارة وقال لاصحابه : الحقوا رحمكم الله بأهلكم ، وضعوا سلاحكم ، وداووا جرحاكم ، فمكثوا كذلك أياما .
ثم إن طلحة والزبير قالا : إن قدم على ونحن على هذه الحال من القلة والضعف ليأخذن بأعناقنا فأجمعا على مراسلة القبائل واستمالة العرب ، فأرسلا إلى وجوه الناس وأهل الرياسة والشرف ، يدعوانهم إلى الطلب بدم عثمان ، وخلع على ، وإخراج ابن حنيف من البصرة .
فبايعهم على ذلك الازد وضبة وقيس بن عيلان كلها إلا الرجل والرجلين من القبيلة ، كرهوا أمرهم فتواروا عنهم ، وأرسلوا إلى هلال بن وكيع التميمي فلم يأتهم فجاءه طلحة والزبير إلى داره ، فتوارى عنهما ، فقالت له أمة : ما رأيت مثلك ! أتاك شيخا قريش فتواريت عنهما ! فلم تزل به حتى ظهر لهما ، وبايعهما ومعه بنو عمرو ابن تميم كلهم وبنو حنظلة إلا بنى يربوع ، فإن عامتهم كانوا شيعة على عليه السلام وبايعهم بنودارم كلهم إلا نفرا من بنى مجاشع ذوى دين وفضل .
فلما استوسق لطلحة والزبير أمرهما ، خرجا في ليلة مظلمة ذات ريح ومطر ، ومعهما أصحابهما ، قد ألبسوهم الدروع ، وظاهروا فوقها بالثياب ، فانتهوا إلى المسجد وقت صلاة الفجر ، وقد سبقهم عثمان بن حنيف إليه ، وأقيمت الصلاة ، فتقدم عثمان ليصلى بهم فأخره أصحاب طلحة والزبير ، وقدموا الزبير فجاءت السبابجة ، وهم الشرط حرس بيت المال .
فأخرجوا الزبير ، وقدموا عثمان ، فغلبهم أصحاب الزبير ، فقدموا الزبير وأخروا عثمان ، فلم يزالوا كذلك حتى كادت الشمس تطلع ، وصاح بهم أهل المسجد : ألا تتقون أصحاب محمد وقد طلعت الشمس ! فغلب الزبير فصلى بالناس ، فلما انصرف من(9/320)
صلاته ، صاح بأصحابه المستسلحين : أن خذوا عثمان بن حنيف ، فأخذوه بعد أن تضارب هو ومروان بن الحكم بسيفيهما ، فلما أسر ضرب ضرب الموت ، ونتف حاجباه وأشفار عينيه وكل شعرة في رأسه ووجهه ، وأخذوا السبابحة وهم سبعون رجلا ، فانطلقوا بهم وبعثمان ابن حنيف إلى عائشة فقالت لابان بن عثمان : اخرج إليه فاضرب عنقه ، فإن الانصار قتلت أباك وأعانت على قتله .
فنادى عثمان : يا عائشة ، ويا طلحة ويا زبير ، إن أخى سهل ابن حنيف خليفة على بن أبى طالب على المدينة ، وأقسم بالله إن قتلتموني ليضعن السيف في بنى أبيكم وأهليكم ورهطكم ، فلا يبقى أحدا منكم .
فكفوا عنه ، وخافوا أن يقع سهل بن حنيف بعيالاتهم وأهلهم بالمدينة ، فتركوه .
وأرسلت عائشة إلى الزبير أن أقتل السبابجة فإنه قد بلغني الذى صنعوا بك .
قال : فذبحهم والله الزبير كما يذبح الغنم ، ولى ذلك منهم عبد الله ابنه ، وهم سبعون رجلا وبقيت منهم طائفة مستمسكين ببيت المال .
قالوا : لا ندفعه إليكم حتى يقدم أمير المؤمنين ، فسار إليهم الزبير في جيش ليلا ، فأوقع بهم ، وأخذ منهم خمسين أسيرا فقتلهم صبرا .
* * * قال أبو مخنف : فحدثنا الصقعب بن زهير ، قال : كانت السبابجة القتلى يومئذ أربعمائة رجل قال : فكان غدر طلحة والزبير بعثمان بن حنيف أول غدر كان في الاسلام وكان السبابجة أول قوم ضربت أعناقهم من المسلمين صبرا .
قال : وخيروا عثمان ابن حنيف بين أن يقيم أو يلحق بعلى ، فاختار الرحيل ، فخلوا سبيله ، فلحق بعلى عليه السلام ، فلما رآه بكى ، وقال له : فارقتك شيخا ، وجئتك أمرد .
فقال على : إنا لله وإنا إليه راجعون ! قالها ثلاثا .
(21 - نهج - 9)(9/321)
قلت : السبابجة لفظة معربة قد ذكرها الجوهرى في كتاب " الصحاح " (1) قال : هم قوم من السند ، كانوا بالبصرة جلاوزة (2) وحراس السجن ، والهاء للعجمة والنسب قال يزيد بن مفرغ الحميرى : وطماطيم من سبابيج خزر * يلبسوني مع الصباح القيودا قال : فلما بلغ حكيم بن جبلة ما صنع القوم بعثمان بن حنيف ، خرج في ثلاثمائة من عبد القيس مخالفا لهم ومنابذا ، فخرجوا إليه ، وحملوا عائشة على جمل ، فسمى ذلك اليوم يوم الجمل الاصغر ، ويوم على يوم الجمل الاكبر .
وتجالد الفريقان بالسيوف ، فشد رجل من الازد من عسكر عائشة على حكيم بن جبلة فضرب رجله فقطعها ، ووقع الازدي عن فرسه ، فجثا حكيم ، فأخذ رجله فرمى بها الازدى فصرعه ، ثم دب إليه فقتله متكئا عليه ، خانقا له حتى زهقت نفسه فمر بحكيم إنسان وهو يجود بنفسه ، فقال : من فعل بك ؟ قال : وسادى ، فنظر فإذا الازدي تحته ، وكان حكيم شجاعا مذكورا .
قال : وقتل مع حكيم إخوة له ثلاثة ، وقتل أصحابه كلهم ، وهم ثلاثمائة من عبد القيس والقليل منهم من بكر بن وائل ، فلما صفت البصرة لطلحة والزبير بعد قتل حكيم وأصحابه وطرد ابن حنيف عنهما اختلفا في الصلاة ، وأراد كل منهما أن يؤم بالناس ، وخاف أن تكون صلاته خلف صاحبه تسليما له ورضا بتقدمه ، فأصلحت بينهما عائشة ، بأن جعلت عبد الله بن الزبير ومحمد بن طلحة يصليان بالناس ، هذا يوما وهذا يوما .
قال أبو مخنف : ثم دخلا بيت المال بالبصرة ، فلما رأوا ما فيه من الاموال ، قال الزبير : (وعد كم الله مغانم كثيرة تأخذونها ، فعجل لكم هذه) (1) ، فنحن أحق
__________
(1) الصحاح 1 : 321 .
(2) الجلواز : الشرطي .
(3) سورة الفتح 20 .
(*)(9/322)
بها من أهل البصرة فأخذا ذلك المال كله ، فلما غلب على عليه السلام رد تلك الاموال إلى بيت المال ، وقسمها في المسلمين .
وقد ذكرنا فيما تقدم كيفية الوقعة ، ومقتل الزبير فارا عن الحرب خوفا أو توبة - ونحن نقول : إنها توبة - وذكرنا مقتل طلحة والاستيلاء على أم المؤمنين وإحسان على عليه السلام إليها وإلى من أسر في الحرب ، أو ظفر به بعدها .
* * * [ منافرة بين ولدى على وطلحة ] كان القاسم بن محمد بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التيمى - يلقب أبا بعرة ، ولى شرطة الكوفة لعيسى بن موسى بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس - كلم إسماعيل بن جعفر ابن محمد الصادق عليه السلام بكلام خرجا فيه إلى المنافرة (1) فقال القاسم بن محمد : لم يزل فضلنا وإحساننا سابغا عليكم يا بنى هاشم وعلى بنى عبد مناف كافة ، فقال إسماعيل : أي فضل وإحسان أسديتموه إلى بنى عبد مناف ؟ أغضب أبوك جدى بقوله : ليموتن محمد ولنجولن بين خلاخيل نسائه كما جال بين خلاخيل نسائنا (2) .
فأنزل الله تعالى مراغمة لابيك : (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا) (3) ومنع ابن عمك أمي حقها من فدك وغيرها من ميراث أبيها ، وأجلب أبوك على عثمان وحصره حتى قتل ، ونكث بيعة على وشام (4) السيف في وجهه ، وأفسد قلوب المسلمين
__________
(1) المنافرة : المخافرة بالحسب والنسب .
(2) انظر تفسير ابن كثير 3 : 506 .
(3) سورة الاحزاب 53 .
(4) شام بالسيف : شهره .
(*)(9/323)
عليه ، فإن كان لبنى عبد مناف قوم غير هؤلاء أسديتم إليهم إحسانا ، فعرفني من هم جعلت فداك ! * * * [ منافرة عبد الله بن الزبير وعبد الله بن العباس ] وتزوج عبد الله بن الزبير أم عمرو ابنة منظور بن زبان الفزارية ، فلما دخل بها قال لها تلك الليلة : أتدرين من معك في حجلتك (1) قالت : نعم ، عبد الله بن الزبير بن العوام ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى .
قال : ليس غير هذا ! قالت : فما الذى تريد ؟ قال : معك من أصبح في قريش بمنزلة الرأس من الجسد ، لا بل بمنزلة العينين من الرأس قالت : أما والله لو أن بعض بنى عبد مناف حضرك لقال لك خلاف قولك .
فغضب ، وقال : الطعام والشراب على حرام حتى أحضرك الهاشميين وغيرهم من بنى عبد مناف ، فلا يستطيعون لذلك إنكارا .
قالت : إن أطعتني لم تفعل ، وأنت أعلم وشأنك .
فخرج إلى المسجد فرأى حلقة فيها قوم من قريش ، منهم عبد الله بن العباس وعبد الله بن الحصين بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف ، فقال لهم ابن الزبير : أحب أن تنطلقوا معى إلى منزلي ، فقام القوم بأجمعهم حتى وقفوا على باب بيته ، فقال ابن الزبير : يا هذه اطرحي عليك سترك ، فلما أخذوا مجالسهم دعا بالمائدة ، فتغدى القوم فلما فرغوا قال لهم : إنما جمعتكم لحديث ردته على صاحبة الستر ، وزعمت أنه لو كان بعض بنى عبد مناف حضرني لما أقر لي بما قلت ، وقد حضرتم جميعا .
وأنت يابن عباس ، ما تقول ؟ إنى أخبرتها أن معها في خدرها من أصبح في قريش بمنزلة
__________
(1) الحجلة ، بالتحريك : بيت للعروس يزين بالثياب والاسرة والسنور .
(*)(9/324)
الرأس من الجسد ، بل بمنزلة العينين من الرأس ! فردت على مقالتي فقال ابن عباس : أراك قصدت قصدي ، فإن شئت أن أقول قلت ، وإن شئت أن أكف كففت قال : بل قل ، وما عسى أن تقول ! ألست تعلم أنى ابن الزبير حوارى رسول صلى الله عليه وسلم وأن أمي أسماء بنت أبى بكر الصديق ذات النطاقين ، وأن عمتى خديجة سيدة نساء العالمين ، وأن صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم جدتى ، وأن عائشة أم المؤمنين خالتي ! فهل تستطيع لهذا إنكارا ! قال ابن عباس : لقد ذكرت شرفا شريفا ، وفخرا فاخرا ، غير أنك تفاخر من بفخره فخرت ، وبفضله سموت .
قال : وكيف ذلك ؟ قال لانك لم تذكر فخرا إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنا أولى بالفخر به منك .
قال ابن الزبير : لو شئت لفخرت عليك بما كان قبل النبوة قال ابن عباس : * قد أنصف القارة من راماها (1) * نشدتكم الله أيها الحاضرون ! أ عبد المطلب أشرف أم خويلد في قريش ؟ قالوا : عبد المطلب ، قال : أفهاشم كان أشرف فيها أم أسد ؟ قالوا : بل هاشم ، قال : أفعبد مناف أشرف أم عبد العزى ؟ قالوا : عبد مناف فقال ابن عباس : تنافرني يابن الزبير وقد قضى * عليك رسول الله لا قول هازل ولو غيرنا يابن الزبير فخرته * ولكنما ساميت شمس الاصائل
__________
(1) القارة : قوم من رماة العرب ، وهم عضل والديش ابنا الهون بن خزيمة من كنانة سموا قارة لاجتماعهم والتفافهم لما أراد ابن الشداخ أن يفرقهم في كنانة .
وأصل المثل كما ذكره صاحب اللسان : أن رجلين التقيا ، أحدهما قارى والاخر أسدى ، فقال القارى : إن شئت صارعتك ، وإن سئت سابقتك وإن شئت راميتك ، فقال : اخترت المراماة ، فقال القارى : قد أنصفنى ، وأنشد : قد أنصف القارة من راماها * إنا إذا ما فئة نلقاها * نرد أولاها على أخراها * ثم انتزع له سهما فثك فؤاده .
(*)(9/325)
قضى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفضل في قوله : " ما افترقت فرقتان إلا كنت في خيرهما " فقد فارقناك من بعد قصى بن كلاب ، أفنحن في فرقة الخير أم لا ؟ إن قلت : نعم خصمت (1) وإن قلت لا كفرت ! فضحك بعض القوم ، فقال ابن الزبير : أما والله لولا تحرمك بطعامنا يابن عباس لاعرقت جبينك قبل أن تقوم من مجلسك ، قال ابن عباس : ولم ؟ أبباطل ، فالباطل لا يغلب الحق ، أم بحق ؟ فالحق لا يخشى من الباطل .
فقالت المرأة من وراء الستر : إنى والله لقد نهيته عن هذا المجلس فأبى إلا ما ترون .
فقال ابن عباس : مه أيتها المرأة ! اقنعي ببعلك ، فما أعظم الخطر ، وما أكرم الخبر فأخذ القوم بيد ابن عباس - وكان قد عمى - فقالوا : انهض أيها الرجل فقد أفحمته غير مرة ، فنهض وقال : ألا يا قومنا ارتحلوا وسيروا * فلو ترك القطا لغفا وناما فقال ابن الزبير : يا صاحب القطا ، أقبل على ، فما كنت لتد عنى حتى أقول وايم الله لقد عرف الاقوام أنى سابق غير مسبوق ، وابن حوارى وصديق ، متبجح في الشرف الانيق ، خير من طليق .
فقال ابن عباس : دسعت بجرتك (2) فلم تبق شيئا ؟ هذا الكلام مردود ، من امرئ حسود ، فإن كنت سابقا فإلى من سبقت ؟ وإن كنت فاخرا فبمن فخرت ؟ فإن كنت أدركت هذا الفخر بأسرتك دون أسرتنا ، فالفخر لك علينا وإن كنت إنما أدركته بأسرتنا فالفخر لنا عليك ، والكثكث (3) في فمك ويديك .
وأما ما ذكرت
__________
(1) خصمت : أي غلبت .
(2) يقال : دسع البعير بجرته أي دفعها حتى أخرجها ، والكلام على التمثيل .
(3) الكثكث : التراب .
(*)(9/326)
من الطليق ، فوالله لقد ابتلى فصبر ، وأنعم عليه فشكر ، وإن كان والله لوفيا كريما غير ناقض بيعة بعد توكيدها ، ولا مسلم كتيبة بعد التأمر عليها .
فقال ابن الزبير : أتعير الزبير بالجبن ، والله إنك لتعلم منه خلاف ذلك .
قال ابن عباس : والله إنى لا أعلم إلا أنه فر وما كر ، وحارب فما صبر ، وبايع فما تمم وقطع الرحم ، وأنكر الفضل ، ورام ما ليس له بأهل .
وأدرك منها بعض ما كان يرتجى * وقصر عن جرى الكرام وبلدا وما كان إلا كالهجين أمامه * عناق فجاراه العناق فأجهدا فقال ابن الزبير : لم يبق يا بنى هاشم غير المشاتمة (1) والمضاربة .
فقال عبد الله بن الحصين بن الحارث : أقمناه عنك يابن الزبير ، وتأبى إلا منازعته ، والله لو نازعته من ساعتك إلى انقضاء عمرك ماكنت إلا كالسغب الظمآن ، يفتح فاه يستزيد من الريح ، فلا يشبع من سغب ، ولا يروى من عطش ، فقل إن شئت ، أو فدع .
وانصرف القوم .
__________
(1) ب : " المشابغة " .
(*)(9/327)
(174) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : أمين وحيه ، وخاتم رسله ، وبشير رحمته ، ونذير نقمته .
أيها الناس ، إن أحق الناس بهذا الامر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه ، فإن شغب شاغب استعتب فإن أبى قوتل .
ولعمري لئن كانت الامامة لا تنعقد حتى تحضرها عامة الناس ، ما إلى ذلك سبيل ، ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها ، ثم ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار .
ألا وإنى أقاتل رجلين : رجلا ادعى ما ليس له ، وآخر منع الذى عليه .
* * * الشرح : صدر الكلام في ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله ، ويتلوه فصول : أولها : أن أحق الناس بالامامة أقواهم عليها ، وأعلمهم بحكم الله فيها ، وهذا لا ينافي مذهب أصحابنا البغداديين في صحة إمامة المفضول ، لانه ما قال : إن إمامة غير الاقوى فاسدة ، ولكنه قال : إن الاقوى أحق ، وأصحابنا لا ينكرون أنه عليه السلام أحق ممن تقدمه بالامامة مع قولهم بصحة إمامة المتقدمين ، لانه لا منافاة بين كونه أحق ، وبين صحة إمامة غيره .(9/328)
فإن قلت : أي فرق بين أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه ؟ قلت : أقواهم أحسنهم سياسة ، وأعلمهم بأمر الله أكثرهم علما وإجراء للتدبير بمقتضى العلم ، وبين الامرين فرق واضح ، فقد يكون سائسا حاذقا ، ولا يكون عالما بالفقه ، وقد يكون سائسا فقيها ، ولا يجرى التدبير على مقتضى علمه وفقهه .
وثانيها : أن الامامة لا يشترط في صحة انعقادها أن يحضرها الناس كافة ، لانه لو كان ذلك مشترطا لادى إلى ألا تنعقد إمامة أبدا لتعذر اجتماع المسلمين من أطراف الارض ولكنها تنعقد بعقد العلماء وأهل الحل والعقد الحاضرين ، ثم لا يجوز بعد عقدها لحاضريها أن يرجعوا من غير سبب يقتضى رجوعهم ، ولا يجوز لمن غاب عنها أن يختار غير من عقد له ، بل يكون محجوجا بعقد الحاضرين ، مكلفا طاعة الامام المعقود له ، وعلى هذا جرت الحال في خلافة أبى بكر وعمر وعثمان ، وانعقد إجماع المسلمين عليه .
وهذا الكلام تصريح بصحة مذهب أصحابنا في أن الاختيار طريق إلى الامامة ، ومبطل لما تقوله الامامية من دعوى النص عليه ، ومن قولهم : لا طريق إلى الامامة سوى النص أو المعجز .
وثالثها : أن الخارج على الامام يستعتب أولا بالكلام والمراسلة ، فإن أبى قوتل ، وهذا هو نص الكتاب العزيز : (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفئ إلى أمر الله) (1) .
ورابعها : أنه يقاتل أحد رجلين : إما رجلا ادعى ما ليس له نحو أن يخرج على الامام من يدعى الخلافة لنفسه ، وإما رجلا منع ما عليه ، نحو أن يخرج على الامام رجل لا يدعى الخلافة ولكنه يمتنع من الطاعة فقط .
فإن قلت : الخارج على الامام مدع الخلافة لنفسه ، مانع ما عليه أيضا لانه قد امتنع من الطاعة ، فقد دخل أحد القسمين في الاخر !
__________
(1) سورة الحجرات 9 .
(*)(9/329)
قلت : لما كان مدعى الخلافة قد اجتمع له أمران : إيجابى وسلبي ، فالايجابي دعواه الخلافة ، والسلبى امتناعه من الطاعة ، كان متميزا ممن لم يحصل له إلا القسم السلبي فقط ، وهو مانع الطاعة لا غير ، فكان الاحسن في فن علم البيان أن يشتمل اللفظ على التقسيم الحاضر للايجاب والسلب ، فلذلك قال : " إما مدعيا ما ليس له ، أو مانعا ما هو عليه " .
* * * الاصل : أوصيكم عباد الله بتقوى الله فإنها خير ما تواصى العباد به ، وخير عواقب الامور عند الله ، وقد فتح باب الحرب بينكم وبين أهل القبلة ، ولا يحمل هذا العلم إلا أهل البصر والصبر والعلم بمواقع الحق ، فامضوا لما تؤمرون به ، وقفوا عند ما تنهون عنه ، ولا تعجلوا في أمر حتى تتبينوا ، فإن لنا مع كل أمر تنكرونه غيرا .
ألا وإن هذه الدنيا التى أصبحتم تتمنونها ، وترغبون فيها ، وأصبحت تغضبكم وترضيكم ، ليست بداركم ولا منزلكم الذى خلقتم له ، ولا الذى دعيتم إليه .
ألا وإنها ليست بباقية لكم ، ولا تبقون عليها ، وهى وإن غرتكم منها فقد حذرتكم شرها فدعوا غرورها لتحذيرها ، وأطماعها لتخويفها ، وسابقوا فيها إلى الدار التى دعيتم إليها ، وانصرفوا بقلوبكم عنها ، ولا يخنن أحدكم خنين الامة على ما زوى عنه منها ، واستتموا نعمة الله عليكم بالصبر على طاعة الله والمحافظة على ما استحفظكم من كتابه .
ألا وإنه لا يضركم تضييع شئ من دنياكم بعد حفظكم قائمة دينكم .(9/330)
ألا وإنه لا ينفعكم بعد تضييع دينكم شئ حافظتم عليه من أمر دنيا كم .
أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحق ، وألهمنا وإياكم الصبر ! * * * الشرح : لم يكن المسلمون قبل حرب الجمل يعرفون كيفية قتال أهل القبلة ، وإنما تعلموا فقه ذلك من أمير المؤمنين عليه السلام .
وقال الشافعي : لو لا على لما عرف شئ من أحكام أهل البغى .
قوله عليه السلام : " ولا يحمل هذا العلم إلا أهل البصر والصبر " وذلك لان المسلمين عظم عندهم حرب أهل القبلة ، وأكبروه ، ومن أقدم عندهم عليه أقدم على خوف وحذر ، فقال عليه السلام : إن هذا العلم ليس يدركه كل أحد ، وإنما له قوم مخصوصون .
ثم أمرهم بالمضي عند ما يأمرهم به ، وبالانتهاء عما ينهاهم عنه ، ونهاهم عن أن يعجلوا بالحكم على أمر ملتبس حتى يتبين ويتضح .
ثم قال : إن عندنا تغييرا لكل ما تنكرونه من الامور حتى يثبت أنه يجب إنكارها وتغييرها ، أي لست كعثمان أصر على ارتكاب ما أنهى عنه ، بل أغير كل ما ينكره المسلمون ، ويقتضى الحال والشرع تغييره .
ثم ذكر أن الدنيا التى تغضب الناس وترضيهم ، وهى منتهى أمانيهم ورغبتهم ، ليست دراهم ، وإنما هي طريق إلى الدار الاخرة ، ومدة اللبث في ذلك الطريق يسيرة جدا .
وقال : إنها وإن كانت غرارة فإنها منذرة ومحذرة لابنائها بما رأوه من آثارها في(9/331)
سلفهم وإخوتهم وأحبائهم ، ومناداتها على نفسها بأنها فاعلة بهم ما فعلت بأولئك من الفناء ، وفراق المألوف .
قال : فدعوا غرورها لتحذيرها ، وذلك لان جانب تحذيرها أولى بأن يعمل عليه من جانب غرورها ، لان غرورها إنما هو بأمر سريع مع التصرم والانقضاء ، وتحذيرها إنما هو لامر جليل عظيم ، فإن الفناء المعجل محسوس ، وقد دل العقل والشرائع كافة على أن بعد ذلك الفناء سعادة وشقاوة ، فينبغي للعاقل أن يحذر من تلك الشقاوة ، ويرغب في تلك السعادة ولا سبيل إلى ذلك إلا برفض غرور الدنيا ، على أنه لو لم يكن ذلك لكان الواجب على أهل اللب والبصيرة رفضها ، لان الموجود منها خيال ، فإنه أشبه شئ بأحلام المنام فالتمسك به والاخلاد إليه حمق .
والخنين : صوت يخرج من الانف عند البكاء ، وأضافة إلى الامة لان الاماء كثيرا ما يضربن فيبكين ، ويسمع الخنين منهن ، ولان الحرة تأنف من البكاء والخنين .
وزوى : قبض .
ثم ذكر أنه لا يضر المكلف فوات قسط من الدنيا إذا حفظ قائمة دينه ، يعنى القيام بالواجبات والانتهاء عن المحظورات ، ولا ينفعه حصول الدنيا كلها بعد تضييعه دينه ، لان ابتياع لذة متناهية بلذة غير متناهية يخرج اللذة المتناهية من باب كونها نفعا ، ويدخلها في باب المضار ، فكيف إذا انضاف إلى عدم اللذة غير المتناهية حصول مضار وعقوبات غير متناهية ، أعاذنا الله منها ! * * * دراهم ، وإنما هي طريق إلى الدار الاخرة ، ومدة اللبث في ذلك الطريق يسيرة جدا .
وقال : إنها وإن كانت غرارة فإنها منذرة ومحذرة لابنائها بما رأوه من آثارها في(9/332)
سلفهم وإخوتهم وأحبائهم ، ومناداتها على نفسها بأنها فاعلة بهم ما فعلت بأولئك من الفناء ، وفراق المألوف .
قال : فدعوا غرورها لتحذيرها ، وذلك لان جانب تحذيرها أولى بأن يعمل عليه من جانب غرورها ، لان غرورها إنما هو بأمر سريع مع التصرم والانقضاء ، وتحذيرها إنما هو لامر جليل عظيم ، فإن الفناء المعجل محسوس ، وقد دل العقل والشرائع كافة على أن بعد ذلك الفناء سعادة وشقاوة ، فينبغي للعاقل أن يحذر من تلك الشقاوة ، ويرغب في تلك السعادة ولا سبيل إلى ذلك إلا برفض غرور الدنيا ، على أنه لو لم يكن ذلك لكان الواجب على أهل اللب والبصيرة رفضها ، لان الموجود منها خيال ، فإنه أشبه شئ بأحلام المنام فالتمسك به والاخلاد إليه حمق .
والخنين : صوت يخرج من الانف عند البكاء ، وأضافة إلى الامة لان الاماء كثيرا ما يضربن فيبكين ، ويسمع الخنين منهن ، ولان الحرة تأنف من البكاء والخنين .
وزوى : قبض .
ثم ذكر أنه لا يضر المكلف فوات قسط من الدنيا إذا حفظ قائمة دينه ، يعنى القيام بالواجبات والانتهاء عن المحظورات ، ولا ينفعه حصول الدنيا كلها بعد تضييعه دينه ، لان ابتياع لذة متناهية بلذة غير متناهية يخرج اللذة المتناهية من باب كونها نفعا ، ويدخلها في باب المضار ، فكيف إذا انضاف إلى عدم اللذة غير المتناهية حصول مضار وعقوبات غير متناهية ، أعاذنا الله منها ! * * * (تم الجزء التاسع من شرح نهج البلاغة ويليه الجزء العاشر)(9/332)
شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد ج 10
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد ج 10(10/)
شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم الجزء العاشر - 1961 دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه(10/1)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل (1) (175) الاصل : ومن كلام له (ع) في معنى طلحة بن عبيد الله : قد كنت وما أهدد بالحرب ، ولا أرهب بالضرب ، وأنا على ما وعدني ربى من النصر ، والله ما استعجل متجردا للطلب بدم عثمان إلا خوفا من أن يطالب بدمه ، لانه مظنته ، ولم يكن في القوم أحرص عليه منه ، فأراد أن يغالط بما أجلب فيه ليلتبس (2) الامر ، ويقع الشك .
ووالله ما صنع في أمر عثمان واحدة من ثلاث : لئن كان ابن عفان ظالما - كما كان يزعم - لقد كان ينبغى له أن يوازر قاتليه ، وأن ينابذ ناصريه .
ولئن كان مظلوما ، لقد كان ينبغى له أن يكون من المنهنهين عنه ، المعذرين فيه .
ولئن كان في شك من الخصلتين ، لقد كان ينبغى له أن يعتزله ، ويركد جانبا ، ويدع الناس معه .
فما فعل واحدة من الثلاث ، وجاء بأمر لم يعرف بابه ، ولم تسلم معاذيره .
__________
(1) ساقط من ب (2) مخطوطة النهج : (ليلبس) .
(*)(10/3)
الشرح : كان هاهنا تامة ، والواو واو الحال ، أي خلقت ووجدت وأنا بهذه الصفة ، كما تقول : خلقني الله وأنا شجاع .
ويجوز أن تكون الواو زائدة ، وتكون (كان) ناقصة ، وخبرها (ما أهدد) ، كما في المثل : (لقد كنت وما أخشى (1) بالذئب) .
فإن قلت : إذا كانت ناقصة ، لزم أن تكون الان بخلاف ما مضى .
فيكون الان يهدد ويرهب .
قلت : لا يلزم ذلك ، لان (كان) الناقصة للماضي من حيث هو ماض ، وليس يشترط في ذلك أن يكون منقطعا ، بل قد يكون دائما ، كقوله تعالى : (وكان الله عليما حكيما) .
(2) .
ثم ذكر (ع) أنه على ما وعده ربه من النصر ، وأنه واثق بالظفر والغلبة الان ، كما كانت عادته فيما سبق .
ثم شرح حال طلحة ، وقال : إنه تجرد (3) للطلب بدم عثمان ، مغالطة للناس ، وإيهاما لهم أنه برئ من دمه ، فيلتبس الامر ، ويقع الشك .
وقد كان طلحة أجهد نفسه في أمر عثمان والاجلاب (4) عليه ، والحصر له ، والاغراء به ، ومنته نفسه الخلافة ، بل تلبس بها ، وتسلم بيوت الاموال وأخذ مفاتيحها ، وقاتل الناس ، وإحدقوا به ، ولم يبق إلا أن يصفق (5) بالخلافة على يده .
__________
(1) بقية المثل : (فاليوم قيل الذئب ذئب) ، وأول من قاله قباث بن إشيم الكنائى ، وانظر مجمع الامثال 2 : 180 (2) سورة النساء .
(3) يقال : تجرد للامر ، إذا جد فيه وتفرغ له .
(4) أجلب عليه ، أي حاول أن يجمع الناس من كل مكان .
(5) صفق على يديه بالبيعة صفقا وصفقة ، أي ضرب على يده بيده .
(*)(10/4)