ظالم غلب إنسانا على رحله أو متاعه ، فالواجب على المغلوب أن يمانعه ويدافعه ليخلص ماله من يده ، ولا يقصد إلى إتلافه ولا قتله ، فإن أفضى الامر إلى ذلك بلا قصد كان معذورا ، وإنما خاف القوم - في التأني به ، والصبر عليه ، إلى أن يخلع نفسه - من كتبه التى طارت في الافاق ، يستنصر عليهم ويستقدم الجيوش إليهم ، ولم يأمنوا أن يرد بعض من يدفع عنه فيؤدى ذلك إلى الفتنة الكبرى والبلية العظمى .
وأما منع الماء والطعام فما فعل ذلك إلا تضييقا عليه ، ليخرج ويحوج إلى الخلع الواجب عليه .
وقد يستعمل في الشريعة مثل ذلك فيمن لجأ إلى الحرم من ذوى الجنايات ، وتعذر إقامة الحد عليه لمكان الحرم .
على أن أمير المؤمنين عليه السلام قد أنكر منع الماء والطعام ، وأنفذ من مكن من حمل ذلك ، لانه قد كان في الدار من الحرم والنسوان والصبيان من لا يحل منعه من الطعام والشراب .
ولو كان حكم المطالبة بالخلع والتجمع عليه والتضافر فيه حكم منع الطعام والشراب في القبح والمنكر ، لا نكره أمير المؤمنين عليه السلام ، ومنع منه كما منع من غيره ، فقد روى عنه عليه السلام أنه لما بلغه أن القوم قد منعوا الدار من الماء ، قال : لا أرى ذلك ، إن في الدار صبيانا وعيالا ، لا أرى أن يقتل هؤلاء عطشا بجرم عثمان .
فصرح بالمعنى الذى ذكرناه ، ومعلوم أن أمير المؤمنين عليه السلام ما أنكر المطالبة بالخلع ، بل كان مساعدا على ذلك و مشاورا فيه .
فأما قوله : إن قتل الظالم إنما يحل على سبيل الدفع ، فقد بينا أنه لا ينكر أن يكون قتله وقع على ذلك (1) الوجه ، لانه في تمسكه بالولاية عليهم وهو لا يستحقها ، في حكم الظالم لهم ، فمدافعته واجبة .
__________
(1) ا : (هذا) .
(*)(3/25)
وأما قصة الكتاب الموجود ، فلم يحكها على الوجه ، وقد شرحنا نحن الرواية الواردة بها .
وأما قوله : إنه قال : إن كنت أخطات أو تعمدت ، فإنى تائب مستغفر ، فقد أجابه القوم عن هذا ، وقالوا : هكذا قلت في المرة الاولى ، وخطبت على المنبر بالتوبة والاستغفار ، ثم وجدنا كتابك بما يقتضى الاصرار على أقبح ما عتبنا منه (1) ، فكيف نثق بتوبتك و استغفارك ! فأما قوله : إن القتل على وجه الغيلة لا يحل فيمن يستحق القتل ، فكيف فيمن لا يستحقه ! فقد بينا أنه لم يكن على سبيل الغيلة ، وأنه لا يمتنع أن يكون إنما وقع على سبيل المدافعة .
فأما ادعاؤه أنه منع من نصرته ، وأقسم على عبيده بترك القتال ، فقد كان ذلك لعمري في ابتداء الامر ظنا منه أن الامر ينصلح ، والقوم يرجعون عما هموا به ، فلما اشتد الامر ، ووقع اليأس من الرجوع والنزوع ، لم يمنع أحدا من نصرته والمحاربة عنه ، وكيف يمنع من ذلك ، وقد بعث إلى أمير المؤمنين عليه السلام يستنصره ويستصرخه ! والذى يدل على أنه لم يمنع في الابتداء من محاربتهم إلا للوجه الذى ذكرناه دون غيره ، أنه لا خلاف بين أهل الرواية في أن كتبه تفرقت في الافاق يستنصر ويستدعى الجيوش ، فكيف يرغب عن نصرة الحاضر من يستدعى نصرة الغائب ! فأما قوله : إن أمير المؤمنين عليه السلام أراد أن يأتيه ، حتى منعه ابنه محمد ، فقول بعيد مما جاءت به الرواية جدا ، لانه لا إشكال في أن أمير المؤمنين عليه السلام لما واجهه عثمان بأنه يتهمه ويستغشه ، انصرف مغضبا عامدا ، على أنه لا يأتيه أبدا ، قائلا فيه ما يستحقه من الاقوال .
__________
(1) ب (فيه) .
(*)(3/26)
فأما قوله في جواب سؤال من قال إنهم اعتقدوا فيه أنه من المفسدين في الارض ، وأن آية المحاربة تتناوله ، وأنه قد كان يجب أن يتولى الامام ذلك الفعل بنفسه ، لان ذلك يجرى مجرى الحد ، فطريف ، لان الامام يتولى ما يجرى هذا المجرى إذا كان منصوبا ثابتا ، ولم يكن على مذهب القوم هناك إمام يجوز أن يتولى ما يجرى مجرى الحدود ، ومتى لم يكن إمام يقوم بالدفع عن الدين والذب عن الامة ، جاز أن تتولى الامة ذلك بنفوسها .
قال : وما رأيت أعجب من ادعاء مخالفينا أن أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله كانوا كارهين لما جرى على عثمان ، وأنهم كانوا يعتقدونه منكرا وظلما ، وهذا يجرى عند من تأمله مجر دفع الضرورات قبل النظر في الاخبار ، وسماع ما ورد من شرح هذه القصة ، لانه معلوم أن ما يكرهه جميع الصحابة أو أكثرهم في دار عزهم ، وبحيث ينفذ أمرهم ونهيهم لا يجوز أن يتم .
ومعلوم أن نفرا من أهل مصر لا يجوز أن يقدموا المدينة فيغلبوا جميع المسلمين على آرائهم ، ويفعلوا بإمامهم ما يكرهونه بمرأى منهم ومسمع ، وهذا معلوم بطلانه بالبداهة والضرورات قبل تصفح الاخبار وتأملها .
وقد روى الواقدي عن ابن أبى الزناد ، عن أبى جعفر القارى مولى بنى مخزوم ، قال : كان المصريون الذين حصروا عثمان ستمائة ، عليهم عبد الرحمن بن عديس البلوى ، وكنانة بن بشر الكندى ، وعمرو بن الحمق الخزاعى .
والذين قدموا المدينة من الكوفة مائتين ، عليهم مالك الاشتر النخعي .
والذين قدموا من البصرة مائة رجل ، رئيسهم حكيم بن جبلة العبدى ، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وآله الذين خذلوه لا يرون أن الامر يبلغ به القتل ، ولعمري لو قام بعضهم فحثا التراب في وجوه أولئك لانصرفوا ، وهذه الرواية تضمنت من عدد القوم الوافدين في هذا الباب أكثر مما تضمنه غيرها .
وروى شعبة بن الحجاج عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، قال : قلت له :(3/27)
كيف لم يمنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عثمان ؟ فقال : إنما قتله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله .
وروى عن أبى سعيد الخدرى ، أنه سئل عن مقتل عثمان : هل شهده أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه ؟ فقال : نعم ، شهده ثمانمائة .
وكيف يقال : إن القوم كانوا كارهين ، وهؤلاء المصريون كانوا يغدون إلى كل واحد منهم ، ويروحون ويشاورونه فيما يصنعونه ! هذا عبد الرحمن بن عوف وهو عاقد الامر لعثمان ، وجالبه إليه ، ومصيره في يده ، يقول - على ما رواه الواقدي ، وقد ذكر له عثمان في مرضه الذى مات فيه - : عاجلوه قبل أن يتمادى في ملكه ، فبلغ ذلك عثمان فبعث إلى بئر كان عبد الرحمن يسقى منها نعمه ، فمنع منها ، ووصى عبد الرحمن ألا يصلى عليه عثمان ، فصلى عليه الزبير - أو سعد بن أبى وقاص - وقد كان حلف لما تتابعت أحداث عثمان ألا يكلمه أبدا .
وروى الواقدي ، قال : لما توفى أبو ذر بالربذة (1) تذاكر أمير المؤمنين عليه السلام وعبد الرحمن فعل عثمان ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام له : هذا عملك ! فقال عبد الرحمن : فإذا شئت فخذ سيفك وآخذ سيفى ، إنه خالف ما أعطاني .
فأما محمد بن مسلمة ، فإنه أرسل إليه عثمان يقول له عند قدوم المصريين في الدفعة الثانية : اردد عنى ، فقال : لا والله لا أكذب الله في سنة مرتين ، وإنما عنى بذلك أنه كان أحد من كلم المصريين في الدفعة الاولى ، وضمن لهم عن عثمان الرضا .
وفي رواية الواقدي أن محمد بن مسلمة ، كان يموت وعثمان محصور ، فيقال له : عثمان مقتول ، فيقول : هو قتل نفسه .
__________
(1) الربذة : من قرى المدينة على ثلاثة أميال ، قريبة من ذات عرق ، على طريق الحجاز ، بها قبر أبى ذر الغفاري - واسمه جندب بن جنادة ، وقد كان خرج إليها مغاضبا لعثمان بن عفان رضى الله عنه ، فأقام بها إلى أن مات سنة 32 .
ياقوت .
(*)(3/28)
فأما كلام أمير المؤمنين عليه السلام ، وطلحة والزبير وعائشة ، وجميع الصحابة واحدا واحدا ، فلو تعاطينا ذكره لطال به الشرح ، ومن أراد أن يقف على أقوالهم مفصلة ، وما صرحوا به من خلعه والاجلاب عليه ، فعليه بكتاب الواقدي (1) ، فقد ذكر هو وغيره من ذلك ما لا زيادة عليه .
* * * الطعن الثاني : كونه رد الحكم بن أبى العاص (2) إلى المدينة ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله طرده ، وامتنع أبو بكر من رده ، فصار بذلك مخالفا للسنة ولسيرة من تقدمه ، مدعيا على رسول الله صلى الله عليه وآله ، عاملا بدعواه من غير بينة .
قال قاضى القضاة رحمه الله : وجوابنا عن ذلك أن المروى في الاخبار أنه لما عوتب في ذلك ذكر أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ، وإنما لم يقبل أبو بكر وعمر قوله لانه شاهد واحد ، وكذلك روى عنهما ، فكأنهما جعلا ذلك بمنزلة الحقوق التى تختص ، فلم يقبلا فيه خبر الواحد ، وأجرياه مجرى الشهادة ، فلما صار الامر إليه حكم بعلمه ، لان للحاكم أن يحكم بعلمه في هذا الباب وفي غيره عند شيخينا ، ولا يفصلان بين حد وحق ، ولا بين أن يكون العلم قبل الولاية أو حال الولاية ، ويقولان : إنه أقوى من البينة والاقرار .
وقال شيخنا أبو على رحمه الله تعالى : إنه لا وجه يقطع به على كذب روايته في إذن
__________
(1) هو أبو عبد الله محمد بن عمر الواقدي ، نقل ابن النديم أنه خلف بعد وفاته ستمائة قمطر كتبا ، كل قمطر منها حمل رحلين ، وكان له غلامان مملو كان يكتبان الليل والنهار ، وقبل ذلك بيع له كتب بألفى دينار .
ثم أورد أسماء كتبه ، منها كتاب التاريخ الكبير .
توفى سنة 207 .
الفهرست 98 ، 99 .
(2) هو الحكم بن أبى العاص بن عبد شمس الاموى ، عم عثمان بن عفان ، والنظر ترجمته وأخباره في أسد الغابة 3 : 34 .
(*)(3/29)
النبي صلى الله عليه وسلم في رده ، ولا بد من تجويز كونه صادقا ، وفي تجويز ذلك كونه معذورا .
فإن قيل : الحاكم إنما يحكم بعلمه مع زوال التهمة ، وقد كانت التهمة في رد الحكم قوية لقرابته ! قيل : الواجب على غيره ألا يتهمه ، إذا كان لفعله وجه يصح عليه ، لانه قد نصب منصبا يقتضى زوال التهمة عنه ، وحمل أفعاله على الصحة ، ومتى طرقنا عليه التهمة أدى إلى بطلان كثير من الاحكام .
وقد قال الشيخ أبو الحسين الخياط رحمه الله تعالى : إنه لو لم يكن في رده إذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم لجاز أن يكون طريقه الاجتهاد ، لان النفى إذا كان صلاحا في الحال لا يمتنع (1) أن يتغير حكمه باختلاف الاوقات وتغير حال المنفى ، وإذا كان لابي بكر أن يسترد عمر من جيش أسامة للحاجة إليه - وإن كان قد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفوذه - من حيث تغيرت الحال ، فغير ممتنع مثله في الحكم .
اعترض المرتضى رحمه الله تعالى على هذا ، فقال : أما دعواه أن عثمان ادعى أن رسول الله صلى الله عليه وآله أذن في رد الحكم فشئ لم يسمع إلا من قاضى القضاة ، ولا يدرى من أين نقله ، ولا في أي كتاب وجده ! والذى رواه الناس كلهم خلاف ذلك ، روى الواقدي من طرق مختلفة وغيره أن الحكم بن أبى العاص لما قدم المدينة بعد الفتح ، أخرجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ، وقال : لا تساكنى في بلد أبدا ، فجاءه عثمان فكلمه فأبى ، ثم كان من أبى بكر مثل ذلك ، ثم كان من عمر مثل ذلك ، فلما قام عثمان أدخله ووصله وأكرمه ، فمشى في ذلك على والزبير وطلحة وسعد وعبد الرحمن بن عوف
__________
(1) ب : (فلا يمتنع) .
(*)(3/30)
وعمار بن ياسر ، حتى دخلوا على عثمان فقالوا له : إنك قد أدخلت هؤلاء القوم - يعنون الحكم ومن معه - وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أخرجهم ، وإنا نذكرك الله والاسلام ومعادك ، فإن لك معادا ومنقلبا ، وقد أبت ذلك الولاة قبلك ، ولم يطمع أحد أن يكلمها فيهم ، وهذا شئ نخاف الله فيه عليك .
فقال عثمان : إن قرابتهم منى ما تعلمون ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كلمته أطعمني في أن يأذن لهم ، وإنما أخرجهم لكلمة بلغته عن الحكم ، ولم يضركم مكانهم شيئا ، وفي الناس من هو شر منهم .
فقال على عليه السلام : لا أجد شرا منه ولا منهم ، ثم قال : هل تعلم عمر يقول : والله ليحملن بنى أبى معيط على رقاب الناس ! والله إن فعل ليقتلنه ، فقال عثمان : ما كان منكم أحد ليكون بينه وبينه من القرابة ما بينى وبينه ، وينال من المقدرة ما نلت إلا قد كان سيدخله ، وفي الناس من هو شر منه .
قال : فغضب على عليه السلام ، وقال : والله لتأتينا بشر من هذا إن سلمت ، وستري يا عثمان غب ما تفعل ! ثم خرجوا من عنده .
وهذا كما ترى خلاف ما ادعاه صاحب ، ، المغنى ، ، لان الرجل لما احتفل ادعى أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان أطمعه في رده ، ثم صرح بأن رعايته فيه القرابة هي الموجبة لرده ومخالفة الرسول عليه السلام .
وقد روى من طرق مختلفة أن عثمان لما كلم أبا بكر وعمر في رد الحكم أغلظا له وزبراه ، وقال له عمر : يخرجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أدخله ! والله لو أدخلته لم آمن أن يقول قائل : غير عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله لان أشق باثنتين كما تشق الابلمة (1) أحب إلى من أن أخالف لرسول الله أمرا ، وإياك يا ابن عفان أن تعاودني فيه بعد اليوم ، وما رأينا
__________
(1) الابلم : خوص المقل ، والمثل : (المال بينى وبينك شق الابلمة) مثل يضرب في المساواة والمشاركة في الامر .
(*)(3/31)
عثمان قال في جواب هذا التعنيف والتوبيخ من أبى بكر وعمر : إن عندي عهدا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ، لا أستحق معه عتابا ولا تهجينا ، وكيف تطيب نفس مسلم موقر لرسول الله صلى الله عليه وسلم معظم له ، أن يأتي إلى عدو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مصرح بعداوته والوقيعة فيه ، حتى بلغ به الامر إلى أن كان يحكى مشيته ، طرده رسول الله ، وأبعده ولعنه ، حتى صار مشهورا بأنه طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيكرمه ويرده إلى حيث أخرج منه ، ويصله بالمال العظيم : إما من مال المسلمين أو من ماله ! إن هذا لعظيم كبير قبل التصفح والتأمل و التعلل بالتأويل الباطل ! فأما قول صاحب ، ، المغنى ، ، إن أبا بكر وعمر لم يقبلا قوله لانه شاهد واحد ، وجعلا ذلك بمنزلة الحقوق التى تخص ، فأول ما فيه أنه لم يشهد عندهما بشئ واحد في باب الحكم على ما رواه جميع الناس ، ثم ليس هذا من باب الذى يحتاج فيه إلى الشاهدين ، بل هو بمنزلة كل ما يقبل فيه أخبار الاحاد .
وكيف يجوز أن يجرى أبو بكر وعمر مجرى الحقوق ما ليس منها ! وقوله : لا بد من تجويز كونه صادقا في روايته ، لان القطع على كذب روايته لا سبيل إليه ليس بشئ ، لانا قد بينا أنه لم يرو عن الرسول صلى الله عليه وسلم إذنا ، إنما ادعى أنه أطمعه في ذلك .
وإذا جوزنا كونه صادقا في هذه الرواية ، بل قطعنا على صدقه لم يكن معذورا .
فأما قوله : الواجب على غيره ألا يتهمه إذا كان لفعله وجه يصح عليه ، لانتصابه منصبا يزيل التهمة ، فأول ما فيه أن الحاكم لا يجوز أن يحكم بعلمه مع التهمة ، والتهمة قد تكون لها أمارات وعلامات ، فما وقع منها عن أمارات وأسباب تتهم في العادة كان مؤثرا ، وما لم يكن كذلك فلا تأثير له ، والحكم هو عم عثمان ، وقريبه ونسيبه ، ومن(3/32)
قد تكلم في رده مرة بعد أخرى ، ولوال بعد وال ، وهذه كلها أسباب التهمة ، فقد كان يجب أن يتجنب الحكم بعلمه في هذا الباب خاصة ، لتطرق التهمة إليه .
فأما ما حكاه عن أبى الحسين الخياط من أن الرسول صلى الله عليه وآله لو لم يأذن في رده لجاز أن يرده إذا أداه اجتهاده إلى ذلك ، لان الاحوال قد تتغير - فظاهر البطلان ، لان الرسول عليه السلام إذا حظر شيئا أو أباحه لم يكن لاحد أن يجتهد في إباحة المحظور أو حظر المباح ، ومن يجوز الاجتهاد في الشريعة يقدم على مثل هذا ، لانه إنما يجوز عندهم فيما لا نص فيه .
ولو سوغنا الاجتهاد في مخالفة ما تناوله النص لم يؤمن أن يؤدى اجتهاد مجتهد إلى تحليل الخمر وإسقاط الصلاة ، بأن تتغير الحال ، وهذا هدم للشريعة .
فأما الاستشهاد باسترداد عمر من جيش أسامة فالكلام في الامرين واحد (1) .
* * * الطعن الثالث : أنه كان يؤثر أهل بيته بالاموال العظيمة التى هي عدة المسلمين ، نحو ما روى أنه دفع إلى أربعة أنفس من قريش زوجهم بناته أربعمائة ألف دينار ، وأعطى مروان مائة ألف عند فتح إفريقية ، ويروى خمس إفريقية ، وغير ذلك ، وهذا بخلاف سيرة من تقدمه في القسمة على الناس بقدر الاستحقاق ، وإيثار الاباعد على الاقارب .
قال قاضى القضاة : وجوابنا عن ذلك أن من الظاهر المشهور أن عثمان كان عظيم اليسار ، كثير المال ، فلا يمتنع أن يكون إنما أعطى أهل بيته من ماله ، وإذا احتمل ذلك وجب حمله على الصحة .
وقد قال شيخنا أبو على رحمه الله تعالى : إن الذى روى من دفعه إلى ثلاثة نفر من قريش زوجهم بناته ، إلى كل واحد منهم مائة ألف دينار ، إنما هو من ماله ، ولا رواية
__________
(1) بعدها في الشافي 176 : (وقد مضى ما فيه) .
(3 - نهج - 3) (*)(3/33)
تصح أنه أعطاهم ذلك من بيت المال ، ولو صح ذلك لكان لا يمتنع أن يكون أعطاهم من بيت المال ليرد عوضه من ماله ، لان للامام عند الحاجة أن يفعل ذلك ، كما له أن يقرض غيره .
وقال شيخنا أبو على أيضا : إن ما روى من دفعه خمس إفريقية لما فتحت إلى مروان ، ليس بمحفوظ ولا منقول على وجه يجب قبوله ، وإنما يرويه من يقصد التشنيع .
وقد قال الشيخ أبو الحسين الخياط : إن ابن أبى سرح لما غزا البحر ، ومعه مروان في الجيش ، ففتح الله عليهم ، وغنموا غنيمة عظيمة ، اشترى مروان من ابن أبى سرح الخمس بمائة ألف ، وأعطاه أكثرها ، ثم قدم على عثمان بشيرا بالفتح ، وقد كانت قلوب المسلمين تعلقت بأمر ذلك الجيش ، فرأى عثمان أن يهب له ما بقى عليه من المال ، وللامام فعل مثل ذلك ، ترغيبا في مثل هذه الامور .
قال : وهذا الصنع كان منه في السنة الاولى من إمامته ، ولم يبرأ أحد منه فيها ، فلا وجه للتعلق بذلك .
وذكر أبو الحسين الخياط أيضا فيما أعطاه أقاربه أنه وصلهم لحاجتهم ، فلا يمتنع مثله في الامام إذا رآه صلاحا .
وذكر في إقطاعه القطائع لبنى أمية ، أن الائمة قد تحصل في أيديهم الضياع لا مالك لها ، ويعلمون أنها لا بد فيها ممن يقوم بإصلاحها وعمارتها ، ويؤدى عنها ما يجب من الحق ، فله أن يصرف من ذلك إلى من يقوم به ، وله أيضا أن يهد بعضها على بعض بحسب ما يعلم من الصلاح والتألف ، وطريق ذلك الاجتهاد .
* * * اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام ، فقال : أما قوله : يجوز أن يكون إنما أعطاهم من ماله ، فالرواية بخلاف ذلك ، وقد صرح الرجل بأنه كان يعطى من بيت المال(3/34)
صلة لرحمه ، ولما عوتب على ذلك لم يعتذر عنه بهذا الضرب من العذر ، ولا قال : إن هذه العطايا من مالى ، فلا اعتراض لاحد فيها .
روى الواقدي بإسناده عن المسور بن عتبة ، قال : سمعت عثمان يقول : إن أبا بكر وعمر كانا يتأولان في هذا المال ظلف (1) أنفسهما وذوى أرحامهما ، وإنى تأولت فيه صلة رحمى .
وروى عنه أيضا أنه كان بحضرته زياد بن عبيد ، مولى الحارث بن كلدة الثقفى ، وقد بعث إليه أبو موسى بمال عظيم من البصرة ، فجعل عثمان يقسمه بين ولده وأهله بالصحاف ، فبكى زياد ، فقال : لا تبك ، فإن عمر كان يمنع أهله وذوى قرابته ابتغاء وجه الله ، وأنا أعطى أهلى وولدى وقرابتي ابتغاء وجه الله .
وقد روى هذا المعنى عنه من عدة طرق بألفاظ مختلفة .
وروى الواقدي أيضا بإسناده ، قال : قدمت إبل من إبل الصدقة على عثمان ، فوهبها للحارث بن الحكم بن أبى العاص .
وروى أيضا أنه ولى الحكم بن أبى العاص صدقات قضاعة ، فبلغت ثلاثمائة ألف فوهبها له حين أتاه بها .
وروى أبو مخنف والواقدى أن الناس أنكروا على عثمان إعطاء سعيد بن العاص مائة ألف ، وكلمه على والزبير وطلحة وسعد وعبد الرحمن في ذلك ، فقال : إن له قرابة ورحما ، قالوا : فما كان لابي بكر وعمر قرابة وذوو رحم ؟ فقال : إن أبا بكر وعمر كان يحتسبان في منع قرابتهما ، وأنا أحتسب في إعطاء قرابتي ، قالوا : فهديهما - والله - أحب إلينا من هديك .
وروى أبو مخنف أن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبى العيص بن أمية ، قدم على عثمان من مكة ، ومعه ناس ، فأمر لعبد الله بثلاثمائة ألف ، ولكل واحد من القوم بمائة ألف
__________
(1) ظلف نفسه عن الشئ : منعها ، وفي الاصول : (طلاق) ، والصواب ما أثبته من كتاب الشافي .
(*)(3/35)
وصك (1) بذلك على عبد الله بن الارقم - وكان خازن بيت المال - فاستكثره ورد الصك به .
ويقال : إنه سأل عثمان أن يكتب عليه بذلك كتابا ، فأبى وامتنع ابن الارقم أن يدفع المال إلى القوم ، فقال له عثمان : إنما أنت خازن لنا ، فما حملك على ما فعلت ؟ فقال ابن الارقم : كنت أرانى خازن المسلمين ، وإنما خازنك غلامك ، والله لا ألى لك بيت المال أبدا ، وجاء بالمفاتيح فعلقها على المنبر ، ويقال : بل ألقاها إلى عثمان ، فرفعها إلى نائل مولاه .
وروى الواقدي ان عثمان أمر زيد بن ثابت أن يحمل من بيت مال المسلمين إلى عبد الله بن الارقم في عقيب هذا الفعل ثلاثمائة ألف درهم ، فلما دخل بها عليه ، قال له : يا أبا محمد ، إن أمير المؤمنين أرسل إليك يقول : إنا قد شغلناك عن التجارة ، ولك ذوو رحم أهل حاجة ، ففرق هذا المال فيهم ، واستعن به على عيالك ، فقال عبد الله بن الارقم : ما لى إليه حاجة ، وما عملت لان يثيبني عثمان ، والله إن كان هذا من بيت مال المسلمين ما بلغ قدر عملي أن أعطى ثلاثمائة ألف ، ولئن كان من مال عثمان ما أحب أن أرزأه (2) من ماله شيئا .
وما في هذه الامور أوضح من أن يشار إليه وينبه عليه .
فأما قوله : ولو صح أنه أعطاهم من بيت المال لجاز أن يكون ذلك على طريق القرض ، فليس بشئ ، لان الروايات أولا تخالف ما ذكره ، وقد كان يجب لما نقم عليه وجوه الصحابة إعطاء أقاربه من بيت المال ، أن يقول لهم : هذا على سبيل القرض ، وأنا أرد عوضه ، ولا يقول ما تقدم ذكره ، من أننى أصل به رحمى ، على أنه ليس للامام أن يقترض (3) من بيت مال المسلمين إلا ما ينصرف في مصلحة لهم مهمة ، يعود عليهم نفعها ، أو في سد خلة وفاقة لا يتمكنون من القيام بالامر معها ، فأما أن يقرض المال ليتسع به ،
__________
(1) صك : كتب ، والصك : الكتاب .
(2) ما أحب أن أرزأه ، أي ما أحب أن أصيب منه شيئا .
(3) أي يقترض هو ليعطى ، وأن يدفع عوضه له من ماله ، وانظر س 1 - 3 من ص 34 من هذا الجزء (*)(3/36)
ويمرح فيه مترفى بنى أمية وفساقهم فلا أحد يجيز ذلك .
فأما قوله حاكيا عن أبى على : إن دفعه خمس إفريقية إلى مروان ليس بمحفوظ ولا منقول - فباطل ، لان العلم بذلك يجرى مجرى العلم بسائر ما تقدم ، ومن قرأ الاخبار علم ذلك على وجه لا يعترض فيه شك ، كما يعلم نظائره .
روى الواقدي عن أسامة بن زيد ، عن نافع مولى الزبير ، عن عبد الله بن الزبير ، قال : أغزانا عثمان سنة سبع وعشرين إفريقية ، فأصاب عبد الله بن سعد بن أبى سرح غنائم جليلة ، فأعطى عثمان مروان بن الحكم تلك الغنائم .
وهذا كما ترى يتضمن الزيادة على إعطاء الخمس ، ويتجاوزه إلى إعطاء الاصل .
وروى الواقدي ، عن عبد الله بن جعفر ، عن أم بكر بنت المسور ، قالت : لما بنى مروان داره بالمدينة ، دعا الناس إلى طعامه ، وكان المسور ممن دعاه ، فقال مروان وهو يحدثهم : والله ما أنفقت في دارى هذه من مال المسلمين درهما فما فوقه ، فقال المسور : لو أكلت طعامك وسكت كان خيرا لك .
لقد غزوت معنا إفريقية ، وإنك لاقلنا مالا ورقيقا وأعوانا ، وأخفنا ثقلا ، فأعطاك ابن عمك خمس إفريقية ، وعملت على الصدقات ، فأخذت أموال المسلمين .
وروى الكلبى عن أبيه ، عن أبى مخنف أن مروان ابتاع خمس إفريقية بمائتي ألف درهم ومائتي ألف دينار ، وكلم عثمان ، فوهبها له ، فأنكر الناس ذلك على عثمان .
وهذا بعينه هو الذى اعترف به أبو الحسين الخياط واعتذر عنه بأن قلوب المسلمين تعلقت بأمر ذلك الجيش ، فرأى عثمان أن يهب لمروان ثمن ما ابتاعه من الخمس لما جاءه بشيرا بالفتح على سبيل الترغيب .
وهذا الاعتذار ليس بشئ ، لان الذى رويناه من الاخبار في هذا الباب خال من البشارة ، وإنما يقتضى أنه سأله ترك ذلك عليه ، فتركه وابتدأ هو بصلته ، ولو أتى بشيرا بالفتح كما ادعوا لما جاز أن يترك عليه خمس الغنيمة العائد نفعه على المسلمين ،(3/37)
لان تلك البشارة لا تبلغ إلى أن يستحق البشير بها مائتي ألف درهم ، ولا اجتهاد في مثل هذا ، ولا فرق بين من جوز أن يؤدى الاجتهاد إلى مثله ومن جوز أن يؤدى الاجتهاد إلى دفع أصل الغنيمة إلى البشير بها ، ومن ارتكب ذلك ألزم جواز أن يؤدى الاجتهاد إلى إعطاء هذا البشير جميع أموال المسلمين في الشرق والغرب .
فأما قوله : إنه وصل بنى عمه لحاجتهم ، ورأى في ذلك صلاحا ، فقد بينا أن صلاته لهم كانت أكثر مما تقتضيه الخلة والحاجة ، وأنه كان يصل فيهم المياسير .
ثم الصلاح الذى زعم أنه رآه : لا يخلو إما أن يكون عائدا على المسلمين ، أو على أقاربه ، فإن كان على المسلمين فمعلوم ضرورة أنه لا صلاح لاحد من المسلمين في إعطاء مروان مائتي ألف دينار ، والحكم بن أبى العاص ثلثمائة ألف درهم ، وابن أسيد ثلثمائة ألف درهم ، إلى غير ما ذكرنا ، بل على المسلمين في ذلك غاية الضرر .
وإن أراد الصلاح الراجع إلى الاقارب فليس له أن يصلح أمر أقاربه بفساد أمر المسلمين ، وينفعهم بما يضر به المسلمين .
وأما قوله : إن القطائع التى أقطعها بنى أمية ، إنما أقطعهم إياها لمصلحة تعود على المسلمين ، لان تلك الضياع كانت خرابا لا عامر لها ، فسلمها إلى من يعمرها ويؤدى الحق عنه ، فأول ما فيه أنه لو كان الامر على ما ذكره ، ولم تكن هذه القطائع على سبيل الصلة والمعونة لاقاربه لما خفى ذلك على الحاضرين ، ولكانوا لا يعدون ذلك من مثالبه ، ولا يواقفونه عليه في جملة ما واقفوه عليه من إحداثه .
ثم كان يجب لو فعلوا ذلك أن يكون جوابه ، بخلاف ما روى من جوابه لانه كان يجب أن يقول لهم : وأى منفعة في هذه القطائع عائدة على قرابتي حتى تعدوا ذلك من جملة صلاتي لهم ، وإيصالي المنافع إليهم ! وإنما جعلتهم فيها بمنزلة الاكرة الذين ينتفع بهم أكثر من انتفاعهم أنفسهم ، وما كان(3/38)
يجب أن يقول ما تقدمت روايته ، من أنى محتسب في إعطاء قرابتي ، وأن ذلك على سبيل الصلة لرحمي ، إلى غير ذلك مما هو خال من المعنى الذى ذكره .
* * * الطعن الرابع : أنه حمى الحمى عن المسلمين ، مع أن رسول الله صلى الله عليه وآله جعلهم سواء في الماء والكلا .
قال قاضى القضاة : وجوابنا عن ذلك أنه لم يحم الكلا لنفسه ، ولا استأثر به ، لكنه حماه لابل الصدقة التى منفعتها تعود على المسلمين .
وقد روى عنه هذا الكلام بعينه ، وأنه قال : إنما فعلت ذلك لابل الصدقة ، وقد أطلقته الان ، وأنا أستغفر الله ، وليس في الاعتذار ما يزيد عن ذلك .
* * * اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام ، فقال : اما أولا فالمروى بخلاف ما ذكر ، لان الواقدي روى بإسناده ، قال : كان عثمان يحمى الربذة والشرف (1) والبقيع ، فكان لا يدخل الحمى بعير له ولا فرس ، ولا لبنى أمية حتى كان آخر الزمان ، فكان يحمى الشرف لابله وكانت ألف بعير ، ولابل الحكم بن أبى العاص ، ويحمى الربذة لابل الصدقة ، ويحمى البقيع لخيل المسلمين وخيله وخيل بنى أمية .
قال : على أنه لو كان إنما حماه لابل الصدقة لم يكن بذلك مصيبا ، لان الله تعالى ورسوله أباحا الكلا ، وجعلاه مشتركا ، فليس لاحد أن يغير هذه الاباحة .
ولو كان
__________
(1) في معجم البلدان : قال الاصمعي : (الشرف : كبد نجد ، وكانت من منازل بنى آكل المرار من كندة الملوك وفيها اليوم حمى ضرية ، وفيه الربذة ، وهى الحمى الايمن) .
(*)(3/39)
في هذا الفعل مصيبا ، وأنه إنما حماه لمصلحة تعود على المسلمين لما جاز أن يستغفر الله منه ويعتذر ، لان الاعتذار إنما يكون من الخطأ دون الصواب .
* * * الطعن الخامس : أنه أعطى من بيت مال الصدقة المقاتلة وغيرها ، وذلك مما لا يحل في الدين .
قال قاضى القضاة : وجوابنا عن ذلك أنه إنما جاز له ذلك لعلمه بحاجة المقاتلة ، واستغناء أهل الصدقة ، ففعل ذلك على سبيل الافراض ، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وآله ، مثله ، وللامام في مثل هذه الامور أن يفعل ما جرى هذا المجرى ، لان عند الحاجة ربما يجوز له أن يقترض (1) من الناس ، فأن يجوز له أن يتناول من مال في يده ، ليرد عوضه من المال الاخر أولى .
* * * اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام ، فقال : إن المال الذى جعل الله تعالى له جهة مخصوصة ، لا يجوز أن يعدل به عن جهته بالاجتهاد ، ولو كانت المصلحة في ذلك موقوفة على الحاجة لشرطها الله تعالى في هذا الحكم ، لانه سبحانه أعلم بالمصالح واختلافها منا ، ولكان لا يجعل لاهل الصدقة منها القسط مطلقا .
وأما قوله : إن الرسول صلى الله عليه وسلم فعل مثله ، فهى دعوى مجردة من برهان ، وقد كان يجب أن يروى ما ذكر في ذلك .
وأما ما ذكره من الاقتراض ، فأين كان عثمان عن هذا العذر لما ووقف عليه ! * * * الطعن السادس : أنه ضرب عبد الله بن مسعود حتى كسر بعض أضلاعه .
__________
(1) كذا في ج ، وهو الصواب ، وفى ب : (يقرض) ، تحريف .
(*)(3/40)
قال قاضى القضاة : قال شيخنا أبو على رحمه الله تعالى : لم يثبت عندنا ولا صح عندنا ما يقال من طعن عبد الله عليه ، وإكفاره له ، والذى يصح من ذلك أن عبد الله كره منه جمعه الناس على قراءة زيد بن ثابت وإحراقه المصاحف ، وثقل ذلك عليه كما يثقل على الواحد منا تقديم غيره عليه .
وقد قيل : إن بعض موالى عثمان ضربه لما سمع منه الوقيعة في عثمان ، ولو صح أنه أمر بضربه لم يكن بأن يكون طعنا في عثمان بأولى من أن يكون طعنا في ابن مسعود ، لان للامام تأديب غيره ، وليس لغيره الوقيعة فيه إلا بعد البيان .
وقد ذكر الشيخ أبو الحسين الخياط أن ابن مسعود إنما عابه لعزله إياه ، وقد روى أن عثمان اعتذر إليه فلم يقبل عذره ، ولما أحضر إليه عطاءه في مرضه ، قال ابن مسعود : منعتني إياه إذ كان ينفعني ، وجئتني به عند الموت ! لا أقبله .
وأنه وسط أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ليزيل ما في نفسه فلم يجب ، وهذا يوجب ذم ابن مسعود إذ لم يقبل الندم ، ويوجب براءة عثمان من هذا العيب ، لو صح ما صح ما رووه من ضربه .
اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام ، فقال : المعلوم المروى خلاف ما ذكره أبو على ، ولا يختلف أهل النقل في طعن ابن مسعود على عثمان ، وقوله فيه أشد الاقوال وأعظمها ، والعلم بذلك كالعلم بكل ما يدعى فيه الضرورة ، وقد روى كل من روى السيرة من أصحاب الحديث على اختلاف طرقهم أن ابن مسعود كان يقول : ليتنى وعثمان برمل عالج (1) يحثو على وأحثو عليه حتى يموت الاعجز منى ومنه ! ورووا أنه كان يطعن عليه ، فيقال له : ألا خرجت عليه ، ليخرج معك ! فيقول : لان أزاول جبلا راسيا أحب إلى من أن أزاول ملكا مؤجلا .
__________
(1) عالج : رمال بين فيد والقريات ، ينزلها بعض طي ، متصلة بالثعلبية .
مراصد الاطلاع 2 : 911 .
(*)(3/41)
وكان يقوم كل يوم جمعة بالكوفة جاهرا معلنا : (إن أصدق القول كتاب الله ، وأحسن الهدى هدى محمد ، وشر الامور محدثاتها ، وكل محدث بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار) .
وإنما كان يقول ذلك معرضا بعثمان ، حتى غضب الوليد بن عقبة من استمرار تعريضه ، ونهاه عن خطبته هذه ، فأبى أن ينتهى ، فكتب إلى عثمان فيه ، فكتب عثمان يستقدمه عليه .
وروى أنه لما خرج عبد الله بن مسعود إلى المدينة مزعجا عن الكوفة خرج الناس معه يشيعونه ، وقالوا له : يا أبا عبد الرحمن ، ارجع ، فو الله لا نوصله إليك أبدا ، فإنا لا نأمنه عليك ، فقال : أمر سيكون ، ولا أحب أن أكون أول من فتحه .
وقد روى عنه أيضا من طرق لا تحصى كثرة أنه كان يقول : ما يزن عثمان عند الله جناح ذباب ، وتعاطى ما روى عنه في هذا الباب يطول ، وهو أظهر من أن يحتاج إلى الاستشهاد عليه ، وإنه بلغ من إصرار عبد الله على مظاهرته بالعداوة أن قال لما حضره الموت : من يتقبل منى وصية أوصيه بها على ما فيها ! فسكت القوم ، وعرفوا الذى يريد ، فأعادها ، فقال عمار بن ياسر رحمه الله تعالى : أنا أقبلها ، فقال ابن مسعود : ألا يصلى على عثمان ، قال : ذلك لك ، فيقال : إنه لما دفن جاء عثمان منكرا لذلك ، فقال له قائل : إن عمارا ولى الامر ، فقال لعمار : ما حملك على أن تؤذنى ؟ فقال : عهد إلى ألا أوذنك ، فوقف على قبره وأثنى عليه ، ثم انصرف وهو يقول : رفعتم والله أيديكم عن خير من بقى ، فتمثل الزبير بقول الشاعر : لا ألفينك بعد الموت تندبنى وفي حياتي ما زودتني زادي (1) ولما مرض ابن مسعود مرضه الذى مات فيه ، أتاه عثمان عائدا ، فقال : ما تشتكى ؟ فقال : ذنوبي ، قال : فما تشتهى ؟ قال : رحمه بى ، قال : ألا أدعو لك طبيبا ؟ قال :
__________
(1) البيت لعبيد بن الابرص ، ديوانه 48 .
(*)(3/42)
الطبيب أمرضني ، قال : أفلا آمر لك بعطائك ؟ قال : منعتنيه وأنا محتاج إليه ، وتعطينيه وأنا مستغن عنه ! قال : يكون لولدك ، قال : رزقهم على الله تعالى ، قال : استغفر لى يا أبا عبد الرحمن ، قال : أسأل الله أن يأخذ لى منك حقى .
قال : وصاحب ، ، المغنى ، ، قد حكى بعض هذا الخبر في آخر الفصل الذى حكاه من كلامه ، وقال : هذا يوجب ذم ابن مسعود من حيث لم يقبل العذر ، وهذا منه طريف ، لان مذهبه لا يقتضى قبول كل عذر ظاهر ، وإنما يجب قبول العذر الصادق ، الذى يغلب في الظن أن الباطن فيه كالظاهر ، فمن أين لصاحب ، ، المغنى ، ، أن اعتذار عثمان إلى ابن مسعود كان مستوفيا للشرائط التى يجب معها القبول ! وإذا جاز ما ذكرناه لم يكن على ابن مسعود لوم في الامتناع من قبول عذره .
فأما قوله : إن عثمان لم يضربه ، وإنما ضربه بعض مواليه لما سمع وقيعته فيه ، فالامر بخلاف ذلك ، وكل من قرأ الاخبار علم أن عثمان أمر بإخراجه عن المسجد على أعنف الوجوه ، وبأمره جرى ما جرى عليه ، ولو لم يكن بأمره ورضاه لوجب أن ينكر على مولاه كسر ضلعه ، ويعتذر إلى من عاتبه على فعله بابن مسعود بأن يقول : إنى لم آمر بذلك ، ولا رضيته من فاعله ، وقد أنكرت عليه فعله .
وفي علمنا بأن ذلك لم يكن دليل على ما قلنا ، وقد روى الواقدي بإسناده وغيره أن ابن مسعود لما استقدم المدينة ، دخلها ليلة جمعة ، فلما علم عثمان بدخوله ، قال : أيها الناس ، إنه قد طرقكم الليلة دويبة ، من تمشى على طعامه يقئ ويسلح .
فقال ابن مسعود : لست كذلك ، ولكننى صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، وصاحبه يوم أحد ، وصاحبه يوم بيعة الرضوان ، وصاحبه يوم الخندق ، وصاحبه يوم حنين .
قال : وصاحت عائشة : يا عثمان ! أتقول هذا لصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فقال عثمان : اسكتي ، ثم قال لعبد الله بن زمعة بن الاسود بن المطلب بن عبد العزى بن قصى : إخرجه اخراجا عنيفا ، فأخذه(3/43)
ابن زمعة ، فاحتمله حتى جاء به باب مسجد ، فضرب به الارض ، فكسر ضلعا من أضلاعه ، فقال ابن مسعود : قتلني ابن زمعة الكافر بأمر عثمان وفي رواية أخرى إن ابن زمعة الذى فعل به ما فعل كان مولى لعثمان أسود مسدما (1) طوالا .
وفي رواية أخرى : إن فاعل ذلك يحموم مولى عثمان .
وفي رواية ، إنه لما احتمله ليخرجه من المسجد ناداه عبد الله : أنشدك الله ، ألا تخرجني من مسجد خليلي صلى الله عليه وسلم .
قال الراوى : فكأني أنظر إلى حموشة (2) ساقى عبد الله بن مسعود ورجلاه تختلفان على عنق مولى عثمان حتى أخرج من المسجد ، وهو الذى يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لساقا ابن أم عبد أثقل في الميزان يوم القيامة من جبل أحد) .
وقد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظى أن عثمان ضرب ابن مسعود أربعين سوطا في دفنه أبا ذر .
وهذه قصة أخرى ، وذلك أن أبا ذر رحمه الله تعالى لما حضرته الوفاة بالربذة ، وليس معه إلا امرأته وغلامه عهد إليهما أن غسلاني ثم كفناني ، ثم ضعاني على قارعة الطريق ، فأول ركب يمرون بكم قولوا لهم : هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه ، فأعينونا على دفنه ، فلما مات فعلوا ذلك ، وأقبل ابن مسعود في ركب من العراق معتمرين ، فلم يرعهم إلا الجنازة على قارعة الطريق ، قد كادت الابل تطؤها ، فقام إليهم العبد ، فقال : هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأعينونا على دفنه ، فانهل ابن مسعود باكيا ، وقال : صدق رسول الله صلى الله عليه ، قال له : (تمشى وحدك ، وتموت وحدك ، وتبعث وحدك) ، ثم نزل هو وأصحابه ، فواروه .
قال : فأما قوله إن ذلك ليس بأن يكون طعنا في عثمان بأولى من أن يكون طعنا في ابن مسعود ، فواضح البطلان ، وإنما كان طعنا في عثمان دون ابن مسعود ، لانه لا خلاف
__________
(1) المسدم : الاهوج .
(2) الحموشة : دقة الساقين .
(*)(3/44)
بين الامة في طهارة ابن مسعود وفضله وإيمانه ، ومدح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وثنائه عليه ، وأنه مات على الجملة المحمودة منه ، وفي جميع هذا خلاف بين المسلمين في عثمان .
فأما قوله : إن ابن مسعود كره جمع عثمان الناس على قراءة زيد ، وإحراقه المصاحف ، فلا شك أن عبد الله كره ذلك ، كما كرهه جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتكلموا فيه ، وقد ذكر الرواة كلام كل واحد منهم في ذلك مفصلا ، وما كره عبد الله من ذلك إلا مكروها ، وهو الذى يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقه : (من سره أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل ، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد) .
وروى عن ابن عباس رحمه الله تعالى أنه قال : (قراءة ابن أم عبد هي القراءة الاخيرة) ، إن رسول الله صلى الله عليه كان يعرض عليه القرآن في كل سنة من شهر رمضان ، فلما كان العام الذى توفى فيه عرض عليه دفعتين ، فشهد عبد الله ما نسخ منه ، وما صح فهى القراءة الاخيرة .
وروى عن الاعمش ، قال : قال ابن مسعود : لقد أخذت القرآن من في رسول الله صلى الله عليه ، سبعين سورة ، وإن زيد بن ثابت لغلام في الكتاب ، له ذؤابة .
فأما حكايته عن أبى الحسين الخياط أن ابن مسعود إنما عاب عثمان لعزله إياه ، فعبد الله عند كل من عرفه بخلاف هذه الصورة ، وأنه لم يكن ممن يخرج على عثمان ويطعن في إمامته بأمر يعود إلى منفعة الدنيا ، وإن كان عزله بما لا شبهة فيه في دين ولا أمانة عيبا لا شك فيه .
* * *(3/45)
الطعن السابع : أنه جمع الناس على قراءة زيد بن ثابت خاصة ، وأحرق المصاحف ، وأبطل ما لا شك أنه نزل من القرآن ، وأنه مأخوذ عن الرسول صلى الله عليه ، ولو كان ذلك مما يسوغ لسبق إليه رسول الله صلى الله عليه ، ولفعله أبو بكر وعمر .
قال قاضى القضاة : وجوابنا عن ذلك أن الوجه في جمع القرآن على قراءة واحدة تحصين القرآن وضبطه ، وقطع المنازعة والاختلاف فيه .
قولهم : لو كان ذلك واجبا لفعله الرسول صلى الله عليه غير لازم ، لان الامام إذا فعله صار كأن الرسول صلى الله عليه وسلم فعله ، ولان الاحوال في ذلك تختلف ، وقد روى أن عمر كان عزم على ذلك فمات دونه .
وليس لاحد أن يقول : إن إحراقه المصاحف استخفاف بالدين ، وذلك لانه إذا جاز من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرب المسجد الذى بنى ضرارا وكفرا ، فغير ممتنع إحراق المصاحف .
* * * اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام ، فقال : إن اختلاف الناس في القراءة ليس بموجب لما صنعه ، لانهم يروون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (نزل القرآن على سبعة أحرف ، كلها شاف كاف) ، فهذا الاختلاف عندهم في القرآن مباح مسند عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، فكيف يحظر عليهم عثمان من التوسع في الحروف ما هو مباح ! فلو كان في القراءة الواحدة تحصين القرآن كما ادعى ، لما أباح النبي صلى الله عليه وسلم في الاصل إلا القراءة الواحدة ، لانه أعلم بوجوه المصالح من جميع أمته ، من حيث كان مؤيدا بالوحى ، موفقا في كل ما يأتي ويذر .
وليس له أن يقول : حدث من الاختلاف في أيام عثمان ما لم يكن في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا ما أباحه ، وذلك لان الامر(3/46)
لو كان على هذا لوجب أن ينهى عن القراءة الحادثة ، والامر المبتدع ، ولا يحمله ما أحدث من القراءة على تحريم المتقدم بلا شبهة .
وقوله : إن الامام إذا فعل ذلك ، فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم فعله تعلل بالباطل ، وكيف يكون كما ادعى ، وهذا الاختلاف بعينه قد كان موجودا في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلو كان سبب الانتشار الزيادة في القرآن ، وفي قطعه تحصين له ، لكان عليه السلام بالنهي عن هذا الاختلاف أولى من غيره ، اللهم إلا أن يقال : حدث اختلاف لم يكن ، فقد قلنا فيه ما كفى .
وأما قوله : إن عمر قد كان عزم على ذلك فمات دونه ، فما سمعناه إلا منه ، ولو فعل ذلك أي فاعل كان لكان منكرا .
فأما الاعتذار عن كون إحراق المصاحف لا يكون استخفافا بالدين ، بحمله إياه على تخريب مسجد الضرار ، فبين الامرين بون بعيد ، لان البنيان إنما يكون مسجدا وبيتا لله تعالى بنية البانى وقصده ، ولو لا ذلك لم يكن بعض البنيان بأن يكون مسجدا أولى من بعض ، ولما كان قصد البانى لذلك الموضع غير القربة والعبادة ، بل خلافها وضدها من الفساد والمكيدة .
لم يكن في الحقيقة مسجدا ، وإن سمى بذلك مجازا على ظاهر الامر ، فهدمه لا حرج فيه ، وليس كذلك ما بين الدفتين ، لانه كلام الله تعالى الموقر المعظم ، الذى يجب صيانته عن البذلة والاستخفاف ، فأى نسبة بين الامرين ! * * * الطعن الثامن : أنه أقدم عمار بن ياسر بالضرب ، حتى حدث به فتق ، ولهذا صار أحد من ظاهر المتظلمين من أهل الامصار على قتله ، وكان يقول : قتلناه كافرا .(3/47)
قال قاصى القضاة : وقد أجاب شيخنا أبو على رحمه الله تعالى عن ذلك ، فقال : إن ضرب عمار غير ثابت ، ولو ثبت أنه ضربه للقول العظيم الذى كان يقوله لم يجب أن يكون طعنا عليه ، لان للامام تأديب من يستحق التأديب .
ومما يبعد صحة ذلك أن عمارا لا يجوز أن يكفره ، ولما يقع منه ما يستوجب به الكفر ، لان الذى يكفر به الكافر معلوم ، ولانه لو كان قد وقع ذلك لكان غيره من الصحابة أولى بذلك ، ولوجب أن يجتمعوا على خلعه ، ولوجب أن يكون قتله مباحا لهم ، بل كان يجب أن يقيموا إماما ليقتله على ما قدمناه .
وليس لاحد أن يقول : إنما كفره عمار من حيث وثب على الخلافة ، ولم يكن لها أهلا ، لانا قد بينا القول في ذلك ، ولانه كان منصوبا لابي بكر وعمر ما تقدم ، وقد بينا أن صحة إمامتهما تقتضي صحة إمامة عثمان .
وقد روى أن عمارا نازع الحسن بن على عليهما السلام في أمر عثمان فقال عمار : قتل عثمان كافرا ، وقال الحسن عليه السلام : قتل مؤمنا ، وتعلق بعضهما ببعض ، فصارا إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، فقال : ماذا تريد من ابن أخيك ؟ فقال : إنى قلت كذا ، وقال كذا ، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : أتكفر برب كان يؤمن به عثمان ! فسكت عمار ، وقد ذكر الشيخ أبو الحسين الخياط أن عثمان لما نقم عليه ضربه عمارا احتج لنفسه ، فقال : جاءني (1) سعد وعمار ، فأرسلا إلى أن ائتنا ، فإنا نريد أن نذاكرك أشياء فعلتها ، فأرسلت إليهما : إنى مشغول ، فانصرفا ، فموعدكما يوم كذا ، فانصرف سعد وأبى عمار أن ينصرف ، فأعدت الرسول إليه فأبى أن ينصرف ، فتناوله بغير أمرى ، ووالله ما أمرت به ولا رضيت ، وها أنا ، فليقتص منى .
قال : وهذا من أنصف قول وأعدله .
* * * اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام ، فقال : أما الدفع لضرب عمار ، فهو
__________
(1) كذا في الاصول وكتاب الشافي 277 ، ولعل الصواب : (جاء سعد) .
(*)(3/48)
كالانكار لطلوع الشمس ظهورا وانتشارا ، وكل من قرأ الاخبار ، وتصفح السير يعلم من هذا الامر ما لا تثنيه عنه مكابرة ولا مدافعة ، وهذا الفعل - أعنى ضرب عمار - لم تختلف الرواة فيه ، وإنما اختلفوا في سببه ، فروى عباس بن هشام الكلبى عن أبى مخنف ، في إسناده أنه كان في بيت المال بالمدينة سفط فيه حلى وجوهر ، فأخذ منه عثمان ما حلى به بعض أهله ، فأظهر الناس الطعن عليه في ذلك ، وكلموه فيه بكل كلام شديد ، حتى أغضبوه ، فخطب فقال : لنأخذن حاجتنا من هذا الفئ ، وإن رغمت به أنوف أقوام ! فقال له على عليه السلام : إذن تمنع من ذلك ، ويحال بينك وبينه ، فقال عمار : أشهد الله أن أنفى أول راغم من ذلك ، فقال عثمان : أعلى يا بن ياسر تجترئ ! خذوه ، فأخذ ، ودخل عثمان ، فدعا به فضربه حتى غشى عليه ، ثم أخرج فحمل حتى أتى به منزل أم سلمة رضى الله تعالى عنها ، فلم يصل الظهر والعصر والمغرب ، فلما أفاق توضأ وصلى ، وقال : الحمد لله ، ليس هذا أول يوم أوذينا في الله تعالى ! فقال هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومى - وكان عمار حليفا لبنى مخزوم - : يا عثمان ، أما على فاتقيته ، وأما نحن فاجترأت علينا ، وضربت أخانا حتى أشفيت به (1) على التلف ، أما والله لئن مات لاقتلن به رجلا من بنى أمية عظيم الشان ! فقال عثمان : وإنك لها هنا يا بن القسرية ، قال : فإنهما قسريتان - وكانت أم هشام وجدته قسريتين (2) من بجيلة - فشتمه عثمان ، وأمر به فأخرج ، فإتى به أم سلمة رضى الله تعالى عنها ، فإذا هي قد غضبت لعمار ، وبلغ عائشة رضى الله تعالى عنها ما صنع بعمار ، فغضبت أيضا ، وأخرجت شعرا من شعر رسول الله صلى الله عليه وآله ، ونعلا من نعاله ، وثوبا من ثيابه ، وقالت : ما أسرع ما تركتم سنة نبيكم ، وهذا شعره وثوبه ونعله لم يبل بعد !
__________
(1) أشفيت به ، أي جعلته مشرفا على الهلاك .
(2) قسر : بطن في بجيلة .
(4 - نهج - 3) (*)(3/49)
وروى آخرون أن السبب في ذلك أن عثمان مر بقبر جديد ، فسأل عنه ، فقيل : عبد الله بن مسعود ، فغضب على عمار لكتمانه إياه موته ، إذ كان المتولي للصلاة عليه ، والقيام بشأنه ، فعندها وطئ عثمان عمارا حتى أصابه الفتق .
وروى آخرون أن المقداد وعمارا وطلحة والزبير وعدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله كتبوا كتابا عددوا فيه أحداث عثمان ، وخوفوه به ، وأعلموه أنهم مواثبوه إن لم يقلع ، فأخذ عمار الكتاب ، فأتاه به .
فقرأ منه صدرا ، ثم قال له : أعلى تقدم من بينهم ! فقال : لانى أنصحهم لك ، قال : كذبت يا بن سمية ! فقال : أنا والله ابن سمية ، وابن ياسر ! فأمر عثمان غلمانا له ، فمدوا بيديه ورجليه ، ثم ضربه عثمان برجليه - وهى في الخفين - على مذاكيره ، فأصابه الفتق ، وكان ضعيفا كبيرا فغشى عليه .
قال : فضرب عمار على ما ترى غير مختلف فيه بين الرواة ، وإنما اختلفوا في سببه ، والخبر الذى رواه صاحب ، ، المغنى ، ، ، وحكاه عن أبى الحسين الخياط ما نعرفه ، وكتب السيرة المعلومة خالية منه ومن نظيره ، وقد كان يجب أن يضيفه إلى الموضع الذى أخذ منه ، فإن قوله وقول من أسند إليه ليس بحجة ، ولو كان صحيحا لكان يجب أن يقول بدل قوله : (ها أنا فليقتص منى) - إذا كان ما أمر بذلك ، ولا رضى عنه ، وإنما ضربه الغلام الجاني - (فليقتص منه) فإنه أولى وأعدل .
وبعد ، فلا تنافى بين الروايتين لو كان مرواه معروفا ، لانه يجوز أن يكون غلامه ضربه في حال ، وضربه هو في حال أخرى الروايات إذا لم تتعارض لم يجز إسقاط شئ منها .
فأما قوله : إن عمارا لا يجوز أن يكفره ، ولم يقع منه ما يوجب الكفر ، فإن تكفير عمار وغير عمار له معروف ، وقد (1) جاءت به الروايات ، وقد روى من طرق مختلفه وبأسانيد كثيرة أن عمارا كان يقول : ثلاثة يشهدون على عثمان بالكفر وأنا الرابع ، وأنا شر
__________
(1) ا : (قد) .
(*)(3/50)
الاربعة ، (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (1) ، وأنا أشهد أنه قد حكم بغير ما أنزل الله .
وروى عن زيد بن أرقم من طرق مختلفة أنه قيل له : بأى شئ كفرتم (2) عثمان ؟ فقال : بثلاث : جعل المال دولة بين الاغنياء ، وجعل المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة من حارب الله ورسوله ، وعمل بغير كتاب الله .
وروى عن حذيفة أنه كان يقول : ما في عثمان بحمد الله أشك ، لكنى أشك في قاتله ، لا أدرى أ كافر قتل كافرا ، أم مؤمن خاض إليه الفتنة حتى قتله ، وهو أفضل المؤمنين إيمانا ! فأما ما رواه من منازعة الحسن عليه السلام عمارا في ذلك ، وترافعهما إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، فهو أولا غير دافع لكون عمار مكفرا له ، بل شاهد بذلك من قوله عليه السلام ، ثم إن كان الخبر صحيحا فالوجه فيه أن عمارا كان يعلم من لحن كلام أمير المؤمنين عليه السلام ، وعدوله عن أن يقضى بينهما بصريح من القول أنه متمسك بالتقية ، فأمسك عمار متابعة لغرضه (3) .
فأما قوله : لا يجوز أن يكفره من حيث وثب على الخلافة ، لانه كان مصوبا لابي بكر وعمر لما تقدم من كلامه في ذلك ، فإنا لا نسلم له أن عمارا كان مصوبا لهما ، وما تقدم من كلامه قد تقدم كلامنا عليه .
فأما قوله عن أبى على : إنه لو ثبت أنه ضربه للقول العظيم الذى كان يقوله فيه لم يكن طعنا ، لان للامام تأديب من يستحق ذلك ، فقد كان يجب أن يستوحش صاحب كتاب ، ، المغنى ، ، أو من حكى كلامه من أبى على وغيره من أن يعتذر - من ضرب عمار ووقذه حتى لحقه من الغشى ما ترك له الصلاة ، ووطئه بالاقدام امتهانا واستخفافا - بشئ من العذر ،
__________
(1) سورة المائدة 44 .
(2) ا : (أ كفرتم) .
(3) الشافي : (لما فهم من غرضه) .
(*)(3/51)
فلا عذر يسمع من إيقاع نهاية المكروه بمن روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه : (عمار جلدة ما بين العين والانف ومتى تنكا الجلدة يدم الانف) .
وروى أنه قال عليه السلام (ما لهم ولعمار ! يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار) .
روى العوام بن حوشب عن سلمة بن كهيل عن علقمة عن خالد بن الوليد أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : (من عادى عمارا عاداه الله ، ومن أبغض عمارا أبغضه الله) ، وأى كلام غليظ سمعه عثمان من عمار يستحق به ذلك المكروه العظيم الذى يجاوز مقدار ما فرضه الله تعالى في الحدود ! وإنما كان عمار وغيره أثبتوا عليه أحداثه ومعايبه أحيانا على ما يظهر من سيئ أفعاله .
وقد كان يجب عليه أحد أمرين : إما أن ينزع عما يواقف عليه من تلك الافعال ، أو يبين من عذره عنها وبراءته منها ما يظهر ويشتهر ، فإن أقام مقيم بعد ذلك على توبيخه وتفسيقه زجره عن ذلك بوعظ أو غيره ، ولا يقدم على ما يفعله الجبابرة والاكاسرة من شفاء الغيظ بغير ما أنزل الله تعالى وحكم به .
* * * الطعن التاسع : إقدامه على أبى ذر مع تقدمه في الاسلام ، حتى سيره إلى الربذة ونفاه ، وقيل : إنه ضربه .
قال قاضى القضاة في الجواب عن ذلك : إن شيخنا أبا على رحمه الله تعالى قال : إن الناس اختلفوا في أمر أبى ذر رحمه الله تعالى .
وروى أنه قيل لابي ذر : عثمان أنزلك الربذة ؟ فقال : لا ، بل اخترت لنفسي ذلك .
وروى أن معاوية كتب يشكوه وهو بالشام ، فكتب عثمان إليه أن صر إلى المدينة ، فلما صار إليها قال : ما أخرجك إلى الشام ؟ قال : لانى سمعت رسول الله صلى الله عليه(3/52)
وسلم يقول : (إذا بلغت عمارة المدينة موضع كذا فاخرج عنها) ، فلذلك خرجت ، فقال : فأى البلاد أحب إليك بعد الشام ؟ قال : الربذة ، فقال : صر إليها .
قال : وإذا تكافأت الاخبار لم يكن لهم في ذلك حجة ، ولو ثبت ذلك لكان لا يمتنع أن يخرجه إلى الربذة لصلاح يرجع إلى الدين ، فلا يكون ظلما لابي ذر ، بل يكون إشفاقا عليه ، وخوفا من أن يناله من بعض أهل المدينة مكروه ، فقد روى أنه كان يغلظ في القول ويخشن الكلام ، فيقول : لم يبق أصحاب محمد على ما عهد ، وينغر (1) بهذا القول ، فرأى إخراجه أصلح لما يرجع إليه وإليهم وإلى الدين ، وقد روى أن عمر أخرج عن المدينة نصر بن الحجاج لما خاف ناحيته ، وقد ندب الله سبحانه إلى خفض الجناح للمؤمنين ، وإلى القول اللين للكافرين ، وبين للرسول صلى الله عليه وسلم أنه لو استعمل الفظاظة لانفضوا من حوله ، فلما رأى عثمان من خشونة كلام أبى ذر ، وما كان يورده مما يخشى منه التنغير فعل ما فعل .
قال : وقد روى عن زيد بن وهب ، قال : قلت لابي ذر رحمه الله تعالى ، وهو بالربذة : ما أنزلك هذا المنزل ؟ قال : أخبرك ، إنى كنت بالشام في أيام معاوية ، وقد ذكرت هذه الاية : (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) (2) ، فقال معاوية : هذه في أهل الكتاب ، فقلت : هي فيهم وفينا ، فكتب معاوية إلى عثمان في ذلك ، فكتب إلى أن اقدم على ، فقدمت عليه ، فانثال الناس إلى كأنهم لم يعرفونى ، فشكوت ذلك إلى عثمان ، فخيرني وقال : انزل حيث شئت ، فنزلت الربذة .
__________
(1) ينغر : يصيح .
(2) سورة التوبة آية 34 .
(*)(3/53)
وقد ذكر الشيخ أبو الحسين الخياط قريبا مما تقدم ، من أن إخراج أبى ذر إلى الربذة كان باختياره ، وروى في ذلك خبرا ، قال : وأقل ما في ذلك أن تختلف الاخبار فتطرح ، ويرجع إلى الامر الاول في صحة إمامة عثمان وسلامة أحواله .
اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام ، فقال : أما قول أبى على إن الاخبار في سبب خروج أبى ذر إلى الربذة متكافئة ، فمعاذ الله أن تتكافأ في ذلك ! بل المعروف والظاهر أنه نفاه أولا إلى الشام ، ثم استقدمه إلى المدينة لما شكا منه معاوية ، ثم نفاه من المدينة إلى الربذة .
وقد روى جميع أهل السير على اختلاف طرقهم وأسانيدهم أن عثمان لما أعطى مروان بن الحكم ما أعطاه وأعطى الحارث بن الحكم بن أبى العاص ثلثمائة ألف درهم ، وأعطى زيد بن ثابت مائة ألف درهم ، جعل أبو ذر يقول : بشر الكانزين بعذاب أليم ، ويتلو قول الله تعالى : (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) فرفع ذلك مروان إلى عثمان ، فأرسل إلى أبى ذر نائلا مولاه : أن انته عما يبلغني عنك ، فقال : أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله ، وعيب من ترك أمر الله ! فو الله لان أرضى الله بسخط عثمان أحب إلى وخير لى من أن أسخط الله برضاه .
فأغضب عثمان ذلك ، وأحفظه فتصابر .
وقال يوما : أيجوز للامام أن يأخذ من المال ، فإذا أيسر قضى ؟ فقال كعب الاحبار : لا بأس بذلك ، فقال له أبو ذر : يا بن اليهوديين ، أتعلمنا ديننا ! فقال عثمان : قد كثر أذاك لى وتولعك بأصحابى ، الحق بالشام .
فأخرجه إليها ، فكان أبو ذر ينكر على معاوية أشياء يفعلها ، فبعث إليه معاوية ثلثمائة دينار ، فقال أبو ذر : إن كانت هذه(3/54)
من عطائي الذى حرمتمونيه عامى هذا قبلتها ، وإن كانت صلة فلا حاجة لى فيها ، وردها عليه .
وبنى معاوية الخضراء بدمشق ، فقال أبو ذر : يا معاوية ، إن كانت هذه من مال الله فهى الخيانة وإن كانت من مالك فهو الاسراف .
وكان أبو ذر رحمه الله تعالى يقول : والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها ، والله ما هي في كتاب الله ولا سنة نبيه ، والله إنى لارى حقا يطفا وباطلا يحيا ، وصادقا مكذبا ، وأثرة بغير تقى ، وصالحا مستأثرا عليه ، فقال حبيب بن مسلمة الفهرى لمعاوية إن أبا ذر لمفسد عليكم الشام ، فتدارك أهله إن كانت لكم حاجة فيه .
فكتب معاوية إلى عثمان فيه ، فكتب عثمان إلى معاوية : أما بعد ، فاحمل جندبا (1) إلى على أغلظ مركب وأوعره ، فوجه به مع من سار به الليل والنهار ، وحمله على شارف (2) ليس عليها إلا قتب (3) ، حتى قدم به المدينة ، وقد سقط لحم فخذيه من الجهد ، فلما قدم أبو ذر المدينة ، بعث إليه عثمان أن الحق بأى أرض شئت ، فقال : بمكة ؟ قال : لا ، قال : فبيت المقدس ؟ قال : لا ، قال : فأحد المصرين (4) ؟ قال : لا ، ولكني مسيرك إلى الربذة ، فسيره إليها ، فلم يزل بها حتى مات .
وفي رواية الواقدي أن أبا ذر لما دخل على عثمان ، قال له : لا أنعم الله بك عينا يا جنيدب ! فقال أبو ذر : أنا جنيدب وسماني رسول الله صلى الله عليه عبد الله ، فاخترت اسم ، رسول الله الذى سمانى به على اسمى فقال عثمان : أنت الذى تزعم أنا نقول إن يد الله مغلولة ، وإن الله فقير ونحن أغنياء ! فقال أبو ذر : لو كنتم لا تزعمون لانفقتم
__________
(1) جندب : اسم أبى ذر الغفاري .
(2) الشارف : الناقة المسنة الهرمة .
(3) القتب : الاكاف الصغير على قدر سنام البعير .
(4) المصران : هما الكوفة والبصرة .
(*)(3/55)
مال الله على عباده ، ولكني أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه يقول : (إذا بلغ بنو أبى العاص ثلاثين رجلا جعلوا مال الله دولا ، وعباد الله خولا ، ودين الله دخلا) ، فقال عثمان لمن حضره : أسمعتموها من نبى الله ؟ فقالوا : ما سمعناه ، فقال عثمان : ويلك يا أبا ذر ! أتكذب على رسول الله ! فقال أبو ذر لمن حضر : أما تظنون أنى صدقت ! قالوا : لا والله ما ندرى ، فقال عثمان : ادعوا لى عليا ، فدعى ، فلما جاء قال عثمان لابي ذر : اقصص عليه حديثك في بنى أبى العاص ، فحدثه ، فقال عثمان لعلى : هل سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه ؟ فقال على عليه السلام : لا ، وقد صدق أبو ذر ، قال عثمان : بم (1) عرفت صدقه ؟ قال : لانى سمعت رسول الله صلى الله عليه يقول : (ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذى لهجة اصدق من أبى ذر) ، فقال جميع من حضر من أصحاب النبي صلى الله عليه : لقد صدق أبو ذر ، فقال أبو ذر : أحدثكم أنى سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه ثم تتهموننى ! ما كنت أظن أنى أعيش حتى أسمع هذا من أصحاب محمد صلى الله عليه ! وروى الواقدي في خبر آخر بإسناده عن صهبان مولى الاسلميين ، قال : رأيت أبا ذر يوم دخل به على عثمان ، فقال له : أنت الذى فعلت وفعلت ! فقال له أبو ذر : نصحتك فاستغششتنى ، ونصحت صاحبك فاستغشني ، فقال عثمان : كذبت ، ولكنك تريد الفتنة وتحبها ، قد أنغلت (2) الشام علينا ، فقال له أبو ذر : اتبع سنة صاحبيك ، لا يكن لاحد عليك كلام ، قال عثمان : ما لك وذلك لا أم لك ! قال أبو ذر : والله ما وجدت لى عذرا إلا الامر بالمعروف والنهى عن المنكر ، فغضب عثمان وقال : أشيروا على في هذا الشيخ الكذاب ، إما أن أضربه أو أحبسه أو أقتله ، فإنه قد فرق جماعة المسلمين ، أو أنفيه من أرض الاسلام .
فتكلم على عليه السلام - وكان حاضرا - وقال : أشير عليك
__________
(1) الشافي : (كيف) .
(2) أنغلت الشام : أي أفسدت أهله ، وأصله في الاديم ، يقال : أنغل الاديم ، إذا أفسده في الدباغ .
وفى الشافي : (قلبت) .
(*)(3/56)
بما قاله مؤمن آل فرعون : (وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذى يعدكم إن الله لا يهدى من هو مسرف كذاب) (1) ، قال : فأجابه عثمان بجواب غليظ ، لاأحب ذكره ، وأجابه عليه السلام بمثله ، قال : ثم إن عثمان حظر على الناس أن يقاعدوا أبا ذر ، أو يكلموه ، فمكث كذلك أياما ثم أمر أن يؤتى به ، فلما أتى به وقف بين يديه ، قال : ويحك يا عثمان ! أما رأيت رسول الله صلى الله عليه ورأيت أبا بكر وعمر ! هل رأيت هذا هديهم ! إنك لتبطش بى بطش جبار ، فقال : اخرج عنا من بلادنا ، فقال أبو ذر : ما إبغض إلى جوارك ! فإلى أين أخرج ؟ قال : حيث شئت ، قال : فأخرج إلى الشام أرض الجهاد ؟ قال : إنما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها أفاردك إليها ! قال : أفأخرج إلى العراق ؟ قال : لا ، قال : ولم ؟ قال : تقدم على قوم أهل شبه وطعن في الائمة قال : أفأخرج إلى مصر ؟ قال : لا ، قال : فإلى أين أخرج ؟ قال : حيث شئت ، قال أبو ذر : فهو إذن التعرب (2) بعد الهجرة ، أأخرج إلى نجد ؟ فقال عثمان : الشرف الابعد أقصى فأقصى ، امض على وجهك هذا ، ولا تعدون الربذة .
فخرج إليها .
وروى الواقدي عن مالك بن أبى الرجال ، عن موسى بن ميسرة أن أبا الاسود الدؤلى ، قال : كنت أحب لقاء أبى ذر لاسأله عن سبب خروجه ، فنزلت الربذة ، فقلت له : ألا تخبرني ؟ أخرجت من المدينة طائعا أم أخرجت مكرها ؟ فقال : كنت في ثغر من ثغور المسلمين ، أغنى عنهم ، فأخرجت إلى مدينة الرسول عليه السلام ، فقلت : أصحابي ودار هجرتى ، فأخرجت منها إلى ما ترى ، ثم قال : بينا أنا ذات ليلة نائم في المسجد إذ مر بى رسول الله صلى الله عليه ، فضربني برجله وقال : لا أراك نائما في المسجد ، فقلت : بأبى أنت
__________
(1) سورة غافر 28 .
(2) التعرب : الاقامة بالبادية .
(*)(3/57)
وأمى ! غلبتني عينى ، فنمت فيه ، فقال : كيف تصنع إذا أخرجوك منه ؟ فقلت : إذن ألحق بالشام ، فإنها أرض مقدسة ، وأرض بقية الاسلام ، وأرض الجهاد ، فقال : فكيف تصنع إذا أخرجت منها ؟ فقلت : أرجع إلى المسجد ، قال : فكيف تصنع إذا أخرجوك منه ؟ قلت : آخذ سيفى فأضرب به ، فقال صلى الله عليه وآله : (ألا أدلك على خير من ذلك ، أنسق معهم حيث ساقوك ، وتسمع وتطيع) ، فسمعت وأطعت وأنا أسمع وأطيع ، والله ليلقين الله عثمان وهو آثم في جنبى .
وكان يقول بالربذة : ما ترك الحق لى صديقا .
وكان يقول : فيها ردنى عثمان بعد الهجرة أعرابيا .
والاخبار في هذا الباب أكثر من أن تحصر وأوسع من أن نذكرها .
وما يحمل نفسه على ادعاء أن أبا ذر خرج مختارا إلى الربذة إلا مكابر .
ولسنا ننكر أن يكون ما أورده صاحب كتاب ، ، المغنى ، ، من أنه خرج مختارا قد روى ، إلا أنه من الشاذ الناذر .
وبإزاء هذه الرواية الفذة كل الروايات التى تتضمن خلافها ، ومن تصفح الاخبار علم أنها غير متكافئة على ما ظن صاحب ، ، المغنى ، ، وكيف يجوز خروجه عن اختيار ! وإنما أشخص من الشام على الوجه الذى أشخص عليه : من خشونة المركب ، وقبح السير به للموجدة عليه .
ثم لما قدم منع الناس من كلامه ، وأغلظ له في القول ، وكل هذا لا يشبه أن يكون خروجه إلى الربذة باختياره .
وكيف يظن عاقل أن أبا ذر يختار الربذة منزلا مع جدبها وقحطها وبعدها عن الخيرات ، ولم تكن بمنزل مثله ! فأما قوله : إنه أشفق عليه من أن يناله بعض أهل المدينة بمكروه من حيث كان يغلظ لهم القول ، فليس بشئ ، لانه لم يكن في أهل المدينة إلا من كان راضيا بقوله ، عاتبا بمثل عتبه ، إلا أنهم كانوا بين مجاهر بما في نفسه ، ومخف ما عنده ، وما في أهل المدينة إلا(3/58)
من رثى لابي ذر مما حدث عليه ، ومن استفظعه ، ومن رجع إلى كتب السيرة عرف ما ذكرناه .
فأما قوله : إن عمر أخرج من المدينة نصر بن حجاج ، فيا بعد ما بين الامرين ! وما كنا نظن أن أحدا يسوى بين أبى ذر وهو وجه الصحابة وعينهم ، ومن أجمع المسلمون على توقيره وتعظيمه ، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله مدحه من صدق اللهجة بما لم يمدح به أحدا ، وبين نصر بن الحجاج الحدث الذى كان خاف عمر من افتتان النساء بشبابه ، ولا حظ له في فضل ولا دين ! على أن عمر قد ذم بإخراجه نصر بن الحجاج من غير ذنب كان منه ، فإذا كان من أخرج نصر بن حجاج مذموما ، فكيف من أخرج أبا ذر ! فأما قوله : إن الله تعالى والرسول قد ندبا إلى خفض الجناح ، ولين القول للمؤمن والكافر ، فهو كما قال ، إلا أن هذا أدب كان ينبغى أن يتأدب به عثمان في أبى ذر ، ولا يقابله بالتكذيب ، وقد قطع رسول الله صلى الله عليه وآله على صدقه ، ولا يسمعه مكروه الكلام ، فإنما نصح له ، وأهدى إليه عيوبه ، وعاتبه على ما لو نزع عنه لكان خيرا له في الدنيا والاخرة .
* * * الطعن العاشر : تعطيله الحد الواجب على عبيد الله بن عمر بن الخطاب ، فإنه قتل الهرمزان مسلما فلم يقده به ، وقد كان أمير المؤمنين عليه السلام يطلبه لذلك .
قال قاضى القضاة في الجواب عن ذلك : إن شيخنا أبا على رحمه الله تعالى قال : إنه لم يكن للهرمزان ولى يطلب بدمه ، والامام ولى من لا ولى له ، وللولي أن يعفو كما له أن يقتل ، وقد روى أنه سأل المسلمين أن يعفوا عنه ، فأجابوا عنه إلى ذلك .(3/59)
قال : وإنما أراد عثمان بالعفو عنه ما يعود إلى عز الدين ، لانه خاف أن يبلغ العدو قتله ، فيقال : قتلوا إمامهم وقتلوا ولده ولا يعرفون الحال في ذلك فيكون فيه شماتة ، وقد قال الشيخ أبو الحسين الخياط : إن عامة المهاجرين أجمعوا على أنه لا يقاد بالهرمزان ، وقالوا لعثمان : هذا دم سفك في غير ولايتك ، وليس له ، ولى يطلب به وأمره إلى الامام ، فاقبل منه الدية فذلك صلاح للمسلمين .
قال : ولم يثبت أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يطلبه ليقتله بالهرمزان ، لانه لا يجوز قتل من عفا عنه ولى المقتول ، وإنما كان يطلبه ليضع من قدره ، ويصغر من شأنه .
قال : ويجوز أن يكون ما روى عن على عليه السلام من أنه قال : لو كنت بدل عثمان لقتلته ، يعنى أنه كان يرى ذلك أقوى في الاجتهاد ، وأقرب إلى التشدد في دين الله سبحانه .
* * * اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام ، قال : أما قوله : لم يكن للهرمزان ولى يطلب بدمه ، فالامام يكون وليه ، وله أن يعفو عنه ، كما له أن يقتص ، فليس بمعتمد ، لان الهرمزان رجل من أهل فارس ، ولم يكن له ولى حاضر يطالب بدمه ، وقد كان الواجب أن يبذل الانصاف لاوليائه ويؤمنوا متى حضروا ، حتى إنه لو كان له ولى يريد المطالبة حضر وطالب .
ثم لو لم يكن له ولى لم يكن عثمان ولى دمه ، لانه قتل في أيام عمر ، فصار عمر ولى دمه ، وقد أوصى عمر على ما جاءت به الروايات الظاهرة بقتل ابنه عبيد الله إن لم تقم البينة العادلة على الهرمزان وجفينة ، (1) أنهما أمرا أبا لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة بقتله ، وكانت وصيته بذلك إلى أهل الشورى ، فقال : أيكم ولى هذا الامر فليفعل كذا وكذا مما ذكرناه ، فلما مات عمر ، طلب المسلمون إلى عثمان إمضاء
__________
(1) جفينة ، كان نصرانيا من أهل الحيرة وكان ظئرا لسعد بن أبى وقاص ، أقدمه إلى المدينة للصلح الذى بينه وبينهم ، وليعلم بالمدينة الكتاب .
تاريخ الطبري 5 : 42 .
(*)(3/60)
الوصية في عبيد الله بن عمر ، فدافع عن ذلك وعللهم ، ولو كان هو ولى الدم على ما ذكروا لم يكن له أن يعفو وأن يبطل حدا من حدود الله تعالى ، وأى شماتة للعدو في إقامة حد من حدود الله تعالى ! وإنما الشماتة كلها من أعداء الاسلام في تعطيل الحدود .
وأى حرج في الجمع بين قتل الامام وابنه ، حتى يقال كره أن ينتشر الخبر بأن الامام وابنه قتلا ، وإنما قتل أحدهما ظلما ، والاخر عدلا ، أو أحدهما بغير أمر الله ، والاخر بأمره سبحانه ! وقد روى زياد بن عبد الله البكائى عن محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح أن أمير المؤمنين عليه السلام أتى عثمان ، بعد ما استخلف ، فكلمه في عبيد الله ولم يكلمه أحد غيره ، فقال : اقتل هذا الفاسق الخبيث الذى قتل أميرا مسلما ، فقال عثمان : قتلوا أباه بالامس ، وأقتله اليوم ! وإنما هو رجل من أهل الارض ، فلما أبى عليه مر عبيد الله على على عليه السلام ، فقال : له إيه يا فاسق ! أما والله لئن ظفرت بك يوما من الدهر لاضربن عنقك ، فلذلك خرج مع معاوية عليه .
روى القناد ، عن الحسن بن عيسى بن زيد ، عن أبيه ، أن المسلمين لما قال عثمان : إنى قد عفوت عن عبيد الله بن عمر ، قالوا : ليس لك أن تعفو عنه ، قال : بلى إنه ليس لجفينة والهرمزان قرابة من أهل الاسلام ، وأنا ولى أمر المسلمين ، وأنا أولى بهما ، وقد عفوت ، فقال على عليه السلام : إنه ليس كما تقول ، إنما أنت في أمرهما بمنزلة أقصى المسلمين ، إنه قتلهما في إمرة غيرك ، وقد حكم الوالى الذى قتلا في إمارته بقتله ، ولو كان قتلهما في إمارتك لم يكن لك العفو عنه ، فاتق الله ، فإن الله سائلك عن هذا ! فلما رأى عثمان أن المسلمين قد أبوا إلا قتل عبيد الله ، أمره فارتحل إلى الكوفة ، وأقطعه بها دارا وأرضا ، وهى التى يقال لها : كويفة (1) بن عمر ، فعظم ذلك عند المسلمين وأكبروه ، وكثر كلامهم فيه .
__________
(1) الكويفة ، ذكرها ياقوت ، فقال : (كويفة ابن عمر منسوبة إلى عبيد الله بن عمر بن الخطاب ، نزلها حين قتل بنت أبى لؤلؤة والهرمزان وجفينة العبادي) .
معجم البلدان 7 : 304 .
(*)(3/61)
وروى عن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب عليه السلام أنه قال : ما أمسى عثمان يوم ولحتى نقموا عليه في أمر عبيد الله بن عمر ، حيث لم يقتله بالهرمزان .
فأما قوله : إن أمير المؤمنين عليه السلام لم يطلبه ليقتله ، بل ليضع من قدره ، فهو بخلاف ما صرح به عليه السلام من أنه إن تمكن ليضربن عنقه .
وبعد ، فإن ولى الدم إذا عفا عنه على ما ادعوا لم يكن لاحد ان يستخف به ، ولا يضع من قدره كما ليس له أن يقتله .
وأما قوله : إن أمير المؤمنين عليه السلام لا يجوز أن يتوعده مع عفو الامام عنه ، فإنما يكون صحيحا لو كان ذلك العفو مؤثرا ، وقد بينا أنه غير مؤثر .
وأما قوله : يجوز أن يكون عليه السلام رأى أن قتله أقوى في الاجتهاد ، وأقرب إلى التشدد في دين الله ، فلا شك أنه كذلك ، وهذا بناء منه على أن كل مجتهد مصيب ، وقد بينا أن الامر بخلاف ذلك ، وإذا كان اجتهاد أمير المؤمنين عليه السلام يقتضى قتله ، فهو الذى لا يسوغ خلافه .
* * * الطعن الحادى عشر وهو إجمالي ، قالوا : وجدنا أحوال الصحابة دالة على تصديقهم المطاعن فيه ، وبراءتهم منه ، والدليل على ذلك أنهم تركوه بعد قتله ثلاثة أيام لم يدفنوه ، ولا أنكروا على من أجلب عليه من أهل الامصار ، بل أسلموه ولم يدفعوا عنه ، ولكنهم أعانوا عليه ، ولم يمنعوا من حصره ولا من منع الماء عنه ، ولا من قتله ، مع تمكنهم من خلاف ذلك ، وهذا من أقوى الدلائل على ما قلناه ، ولو لم يدل على أمره عندهم إلا ما روى عن على عليه السلام أنه قال : الله قتله وأنا معه ، وأنه كان في أصحابه عليه السلام من يصرح بأنه قتل(3/62)
عثمان ، ومع ذلك لا يقيدهم بل ولا ينكر عليهم ، وكان أهل الشام يصرحون بأن مع أمير المؤمنين قتله عثمان ، ويجعلون ذلك من أو كد الشبه ، ولا ينكر ذلك عليهم ، مع أنا نعلم أن أمير المؤمنين عليه السلام لو أراد أن يتعاضد هو وأصحابه على المنع عنه لما وقع في حقه ما وقع ، فصار كفه وكف غيره عن ذلك من أدل الدلائل على أنهم صدقوا عليه ما نسب إليه من الاحداث ، وأنهم لم يقبلوا منه ما جعله عذرا .
وإجاب قاضى القضاة عن هذا ، فقال : أما تركه بعد القتل ثلاثة أيام لم يدفن فليس بثابت ، ولو صح لكان طعنا على من لزمه القيام به ، وقد قال شيخنا أبو على رحمه الله تعالى : إنه لا يمتنع أن يشتغلوا بإبرام البيعة لامير المؤمنين عليه السلام خوفا على الاسلام من الفتنة ، فيؤخروا دفنه .
قال : وبعيد مع حضور قريش وقبائل العرب وسائر بنى أمية ومواليهم أن يترك عثمان ولا يدفن هذه المدة ، وبعيد أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام لا يتقدم بدفنه ، ولو مات في جواره يهودى أو نصراني ولم يكن له من يواريه ما تركه أمير المؤمنين ألا يدفن ، فكيف يجوز مثل ذلك في عثمان ، وقد روى أنه دفن في تلك الليلة ، وهذا هو الاولى .
فأما التعلق بأن الصحابة لم تنكر على القوم ، ولا دفعت عنه ، فقد سبق القول في ذلك ، والصحيح عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه تبرأ من قتل عثمان ، ولعن قتلته في البر والبحر والسهل والجبل ، وإنما كان يجرى من جيشه هذا القول منه على جهة المجاز ، لانا نعلم أن جميع من كان يقول : نحن قتلناه لم يقتله ، لان في الخبر أن العدد الكثير كانوا يصرحون بذلك ، والذين دخلوا عليه وقتلوه اثنان أو ثلاثة ، وإنما كانوا يقصدون بهذا القول ، أي احسبوا أنا قتلناه فما لكم ! وذلك أن الامام هو الذى يقوم بأمر القود ، وليس للخارج عليه أن يطالب بذلك ، ولم يكن لامير المؤمنين عليه السلام أن يقتل قتلته لو عرفهم ببينة أو إقرار ، وميزهم من غيرهم إلا عند مطالبة ولى الدم ، والذين كانوا أولياء(3/63)
الدم لم يكونوا يطالبونه ، ولا كانت صفتهم صفة من يطالب ، لانهم كانوا كلهم أو بعضهم يدعون أن عليا عليه السلام ليس بإمام ، ولا يحل لولى الدم مع هذا الاعتقاد أن يطالب بالقود ، فلذلك لم يقتلهم عليه السلام ، هذا لو صح أنه كان يميزهم ، فكيف وذلك غير صحيح .
فأما ما روى عنه من قوله عليه السلام : (قتله الله وأنا معه) ! فإن صح فمعناه مستقيم ، يريد أن الله أماته وسيميتنى وسائر العباد .
ثم قال سائلا نفسه : كيف يقول ذلك وعثمان مات مقتولا من جهة المكلفين ! وأجاب بأنه وإن قتل ، فالاماتة من قبل الله تعالى .
ويجوز أن يكون ما ناله من الجراح لا يوجب انتفاء الحياة لا محالة فإذا مات صحت الاماتة على طريق الحقيقة .
* * * اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال .
أما تضعيفه أن يكون عثمان ترك بعد القتل ثلاثة أيام لم يدفن ، فليس بحجة ، لان ذلك قد رواه جماعة الرواة ، وليس يخالف في مثله أحد يعرف بالرواية ، وقد ذكر ذلك الواقدي وغيره ، وروى أن أهل المدينة منعوا الصلاة عليه ، حتى حمل بين المغرب والعتمة ، ولم يشهد جنازته غير مروان وثلاثة من مواليه ، ولما أحسوا بذلك رموه بالحجارة وذكروه بأسوا الذكر ، ولم يقع التمكن من دفنه إلا بعد أن أنكر أمير المؤمنين عليه السلام المنع من دفنه ، وأمر أهله بتولى ذلك منه .
فأما قوله : إن ذلك إن صح كان طعنا على من لزمه القيام بأمره ، فليس الامر على ما ظنه ، بل يكون طعنا على عثمان من حيث لا يجوز أن يمنع أهل المدينة - وفيها وجوه الصحابة - من دفنه والصلاة عليه إلا لاعتقاد قبيح ، أو لان أكثرهم وجمهورهم يعتقد ذلك ، وهذا طعن لا شبهة فيه ، واستبعاد صاحب ، ، المغنى ، ، لذلك ، مع ظهور الرواية به(3/64)
لا يلتفت إليه ، فأما أمير المؤمنين عليه السلام واستبعاد صاحب ، ، المغنى ، ، منه ألا يتقدم بدفنه ، فقد بينا أنه تقدم بذلك بعد مماكسة ومراوضة .
وأعجب من كل شئ قول صاحب ، ، المغنى ، ، إنهم أخروا دفنه تشاغلا بالبيعة لامير المؤمنين عليه السلام ، وأى شغل في البيعة لامير المؤمنين يمنع من دفنه ، والدفن فرض على الكفاية ، لو قام به البعض وتشاغل الباقون بالبيعة لجاز ! وليس الدفن ولا البيعة أيضا مفتقرة إلى تشاغل جميع أهل المدينة بها .
فأما قوله : إنه قد روى أن عثمان دفن تلك الليلة ، فما تعرف هذه الرواية وقد كان يجب أن يسندها ويعزوها إلى راويها ، أو الكتاب الذى أخذها منه ، فالذي ظهر في الرواية هو ما ذكرناه .
فأما إحالته على ما تقدم في معنى الانكار من الصحابة على القوم المجلبين على عثمان ، فقد سبق القول في ذلك .
فأما روايته عن أمير المؤمنين عليه السلام تبرؤه من قتل عثمان ، ولعنه قتلته في البر والبحر ، والسهل والجبل ، فلا شك في أنه عليه السلام كان بريئا من قتله ، وقد روى عنه عليه السلام أنه قال : والله ما قتلت عثمان ، ولا مالات في قتله ، والممالاة هي المعاونة والموازرة ، وقد صدق عليه السلام في أنه ما قتل ولا وازر على القتل .
فأما لعنه قتلته (1) فضعيف في الرواية ، وإن كان قد روى ، فأظهر منه ما رواه الواقدي ، عن الحكم بن الصلت ، عن محمد بن عمار بن ياسر ، عن أبيه ، قال : رأيت عليا عليه السلام على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله حين قتل ، وهو يقول : ما أحببت قتله ولا كرهته ، ولا أمرت به ، ولا نهيت عنه .
وقد روى محمد بن سعد ، عن عفان بن جرير بن بشير ، عن أبى جلدة ، أنه سمع عليا
__________
(1) ا ، ج : (قتلة عثمان) (5 - نهج - 3) (*)(3/65)
عليه السلام ، يقول وهو يخطب ، فذكر عثمان ، وقال : والله الذى لا إله إلا هو ، ما قتلته ولا مالات على قتله ولا ساءنى (1) .
وروى ابن بشير ، عن عبيدة السلمانى ، قال : سمعت عليا عليه السلام يقول : من كان سائلي عن دم عثمان ، فإن الله قتله وأنا معه .
وقد روى هذا اللفظ من طرق كثيرة .
وقد روى شعبة عن أبى حمزة الضبعى ، قال : قلت لابن عباس : إن أبى أخبرني أنه سمع عليا ، يقول : ألا من كان سائلي على دم عثمان ، فإن الله قتله وأنا معه - فقال : صدق أبوك ، هل تدرى ما معنى قوله ! إنما عنى : الله قتله وأنا مع الله .
قال : فإن قيل : كيف يصح الجمع بين معاني هذه الاخبار ؟ قلنا : لا تنافى بينها ، لانه عليه السلام تبرأ من مباشرة قتله والمؤازرة عليه ، ثم قال : ما أمرت بذلك ولا نهيت عنه ، يريد أن قاتليه لم يرجعوا إلى ، ولم يكن منى قول في ذلك بأمر ولا نهى .
فأما قوله : (الله قتله وأنا معه) ، فيجوز أن يكون المراد به : الله حكم بقتله وأوجبه وأنا كذلك ، لان من المعلوم أن الله تعالى لم يقتله على الحقيقة ، فإضافة القتل إليه لا تكون إلا بمعنى الحكم والرضا ، وليس يمتنع أن يكون مما حكم الله تعالى به ، ما لم يتوله بنفسه ، ولا آزر عليه ، ولا شايع فيه .
فإن قال قائل : هذا ينافى ما روى عنه من قوله : (ما أحببت قتله ، ولا كرهته) ، وكيف يكون من حكم الله وحكمه أن يقتل وهو لا يحب قتله ! قلنا : يجوز إن يريد بقوله : (ما أحببت قتله ولا كرهته) أن ذلك لم يكن منى على سبيل التفصيل ، ولا خطر لى ببال ، وإن كان على سبيل الجملة يحب قتل من غلب المسلمين
__________
(1) كذا في ا ، ج ، والشافي ، وفي ب : (ولا سأل) .
(*)(3/66)
على أمورهم ، وطالبوه بأن يعتزل ، لانه (1) مستول عليهم بغير حق فامتنع من ذلك ، ويكون فائدة هذا الكلام التبرؤ من مباشرة قتله ، والامر به على سبيل التفصيل أو النهى عنه .
ويجوز أن يريد أننى ما أحببت قتله ، إن كانوا تعمدوا القتل ، ولم يقع على سبيل الممانعة وهو غير مقصود .
ويريد بقوله : (ما كرهته) أنى لم أكرهه على كل حال ، ومن كل وجه .
فأما لعنه قتلته فقد بينا أنه ليس بظاهر ظهور ما ذكرناه ، وإن صح فهو مشروط بوقوع القتل على الوجه المحظور من تعمد له ، وقصد إليه وغير ذلك ، على أن المتولي للقتل على ما صحت به الرواية كنانة بن بشير التجيبى ، وسودان بن حمران المرادى ، وما منهما من كان غرضه صحيحا في القتل ، ولا له أن يقدم عليه ، فهو ملعون به .
فأما محمد بن أبى بكر ، فما تولى قتله ، وإنما روى أنه لما جثا بين يديه قابضا على لحيته ، قال له : يا ابن أخى ، دع لحيتى ، فإن أباك لو كان حيا لم يقعد منى هذا المقعد ، فقال محمد : إن أبى لو كان حيا ثم يراك تفعل ما تفعل لا نكره عليك ، ثم وجاه (2) بجماعة قداح كانت في يده فحزت في جلده ولم تقطع ، وبادره من ذكرناه في قتله بما كان فيه قتله .
فأما تأويله قول أمير المؤمنين عليه السلام : (قتله الله وأنا معه) ، على أن المراد به ، الله أماته وسيميتنى ، فبعيد من الصواب ، لان لفظة (أنا) لا تكون كناية عن المفعول ، وإنما تكون كناية عن الفاعل ، ولو أراد ما ذكره لكان يقول : (وإياى معه) ، وليس له أن يقول : إننا نجعل قوله : (وأنا معه) مبتدأ محذوف الخبر ، ويكون تقدير الكلام : (وأنا معه مقتول) ، وذلك لان هذا ترك للظاهر وإحالة على ما ليس فيه ، والكلام إذا أمكن حمله على معنى يستقل ظاهره به من غير تقدير وحذف كان أولى مما يتعلق بمحذوف ، على أنهم إذا جعلوه مبتدأ وقدروا خبرا لم يكونوا بأن يقدروا ما يوافق مذهبهم بأولى من تقدير خلافه ، ويجعل بدلا من لفظة (المقتول) المحذوفة لفظة (معين) أو (ظهير) .
__________
(1 - 1) ب : (لانه مسئول عليه بحق) وما أثبته من ا ، ج وكتاب الشافي .
(2) وجأه : ضربه .
(*)(3/67)
وإذا تكافأ القولان في التقدير وتعارضا سقطا ، ووجب الرجوع إلى ظاهر الخبر ، على أن عثمان مضى مقتولا ، فكيف يقال : إن الله تعالى أماته ، والقتل كاف في انتفاء الحياة ، ليس يحتاج معه إلى ناف للحياة يسمى موتا .
وقول صاحب ، ، المغنى ، ، يجوز أن يكون ما ناله من الجراح لا يوجب انتفاء الحياة ، ليس بشئ ، لان المروى أنه ضرب على رأسه بعمود عظيم من حديد ، وأن أحد قتلته قال : جلست على صدره فوجأته تسع طعنات ، علمت أنه مات في ثلاث ، ووجأته الست الاخر لما كان في نفسي عليه من الحنق .
وبعد : فإذا كان جائزا ، فمن أين علمه أمير المؤمنين عليه السلام حتى يقول : إن الله أماته ؟ وإن الحياة لم تنتف بما فعله القاتلون (1) ، وإنما انتفت بشئ زاد على فعلهم من قبل الله تعالى مما (2) لا يعلمه على سبيل التفصيل إلا علام الغيوب سبحانه .
* * * والجواب عن هذه المطاعن على وجهين ، إجمالا وتفصيلا : أما الوجه الاجمالي ، فهو أننا لا ننكر أن عثمان أحدث أحداثا أنكرها كثير من المسلمين ، ولكنا ندعى مع ذلك أنها لم تبلغ درجة الفسق ، ولا أخبطت ثوابه ، وأنها من الصغائر التى وقعت مكفرة (3) ، وذلك لانا قد علمنا أنه مغفور له ، وأنه من أهل الجنة لثلاثة أوجه .
أحدها : أنه من أهل بدر ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله : (إن الله اطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم) ، ولا يقال : إن عثمان لم يشهد بدرا ، لانا نقول : صدقتم ، إنه لم يشهدها ، ولكنه تخلف على رقية ابنة رسول الله
__________
(1) الشافي : (القتلة) ، وفي ب : (القائلون) تحريف .
(2) كذا في ا ، ج والشافي ، وفي ب : (فيما) .
(3) الصغائر المكفرة : التى يمحى إثمها .
(*)(3/68)
صلى الله عليه وآله بالمدينة لمرضها ، وضرب له رسول الله صلى الله عليه وآله بسهمه وأجره باتفاق سائر الناس .
وثانيها : أنه من أهل بيعة الرضوان الذين قال الله تعالى فيهم : (لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) (1) ولا يقال : إنه لم يشهد البيعة تحت الشجرة ، لانا نقول : صدقتم ، إنه لم يشهدها ، ولكنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله إلى أهل مكة ، ولاجله كانت بيعة الرضوان ، حيث أرجف (2) بأن قريشا قتلت عثمان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن كانوا قتلوه ، لاضرمنها عليهم نارا) ، ثم جلس تحت الشجرة ، وبايع الناس على الموت ، ثم قال : (إن كان عثمان حيا فأنا أبايع عنه) ، فصفح بشماله على يمينه ، وقال : (شمالى خير من يمين عثمان) روى ذلك جميع أرباب أهل السيرة متفقا عليه .
وثالثها : أنه من جملة العشرة الذين تظاهرت الاخبار بأنهم من أهل الجنة .
وإذا كانت الوجوه الثلاثة دالة على أنه مغفور له ، وأن الله تعالى قد رضى عنه ، وهو من أهل الجنة ، بطل أن يكون فاسقا ، لان الفاسق يخرج عندنا من الايمان ، ويحبط (3) ثوابه ، ويحكم له بالنار ولا يغفر له ، ولا يرضى عنه ، ولا يرى الجنة ولا يدخلها ، فاقتضت هذه الوجوه الصحيحة الثابتة أن يحكم بأن كل ما وقع منه فهو من باب الصغائر المكفرة ، توفيقا بين هذه الوجوه ، وبين روايات الاحداث المذكورة .
وإما الوجه التفصيلي فهو مذكور في كتب أصحابنا المطولة في الامامة ، فليطلب من مظانه ، فإنهم قد استقصوا في الجواب عن هذه المطاعن استقصاء لا مزيد عليه .
__________
(1) سورة الفتح 18 (2) يقال : أرجف القوم ، إذا خاضوا في الاخبار السيئة وذكر الفتن على أن يوقعوا الناس في الاضطراب .
(3) ب ، ج : (ينحبط) وما أثبته عن ا .
(*)(3/69)
[ بيعة جرير بن عبد الله البجلى لعلى ] فأما خبر جرير بن عبد الله البجلى ، وبعث أمير المؤمنين عليه السلام إياه إلى معاوية ، فنحن نذكره نقلا من ، ، كتاب صفين ، ، لنصر بن مزاحم بن بشار المنقرى ، ونذكر حال أمير المؤمنين عليه السلام ، منذ قدم الكوفه بعد وقعة الجمل ، ومراسلته معاوية وغيره ، ومراسلة معاوية له ولغيره ، وما كان من ذلك في مبدأ حالتهما إلى أن سار على عليه السلام إلى صفين .
قال نصر (1) : حدثنى محمد بن عبيد الله عن الجرجاني ، قال : لما قدم على عليه السلام الكوفة بعد انقضاء أمر الجمل ، كاتب العمال ، فكتب إلى جرير بن عبد الله البجلى مع زحر بن قيس الجعفي - وكان جرير عاملا لعثمان على ثغر همذان - (2) : أما بعد ، ف (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال) (3) .
وإنى أخبرك عن نباء (4) من سرنا إليه من جموع طلحة والزبير ، عند نكثهم بيعتى (5) ، وما صنعوا بعاملى عثمان بن حنيف .
إنى نهضت من المدينة بالمهاجرين والانصار ، حتى إذا كنت بالعذيب (6) ، بعثت إلى إهل الكوفة الحسن بن على ، وعبد الله بن عباس ، وعمار بن ياسر ، وقيس بن عبادة ، فاستنفرتهم فأجابوا فسرت بهم حتى نزلت بظهر البصرة ، فأعذرت في
__________
(1) وقعة صفين للمنقرى ص 19 وما بعدها .
(2) همذان ، بالاعجام : مدينة ببلاد الجبال من فارس .
(3) سورة الرعد 11 .
(4) ب : (أنباء) .
(5) كتاب صفين : (بيعتهم) .
(6) العذيب : ماء عن يمين القادسية لبنى تميم ، بينه وبين القادسية أربعة أميال (مراصد الاطلاع) .
(*)(3/70)
الدعاء ، وأقلت العثرة ، وناشدتهم عهد (1) بيعتهم ، فأبوا إلا قتالي ، فاستعنت الله عليهم ، فقتل من قتل ، وولوا مدبرين إلى مصرهم ، و سألوني ماكنت دعوتهم إليه قبل اللقاء ، فقبلت العافية ، ورفعت السيف ، و استعملت عليهم عبد الله بن العباس ، وسرت إلى الكوفة ، وقد بعثت إليك زحر بن قيس ، فاسأله عما بدالك .
والسلام .
قال : فلما قرأ جرير الكتاب ، قام فقال : أيها الناس ، هذا كتاب أمير المؤمنين على بن أبى طالب عليه السلام ، وهو المأمون على الدين والدنيا ، وقد كان من أمره وأمر عدوه ما نحمد الله عليه ، وقد بايعه الناس الاولون من المهاجرين والانصار والتابعين بإحسان ، ولو جعل هذا الامر شورى بين المسلمين كان أحقهم بها .
ألا وإن البقاء في الجماعة ، والفناء في الفرقة وإن عليا حاملكم على الحق ما استقمتم ، فإن ملتم أقام ميلكم .
فقال الناس : سمعا وطاعة ، رضينا رضينا .
فكتب جرير إلى على عليه السلام جواب كتابه بالطاعة .
* * * قال نصر : وكان (2) مع على رجل من طيئ ، ابن أخت لجرير ، فحمل زحر بن قيس شعرا له إلى خاله جرير ، وهو : جرير بن عبد الله لا تردد الهدى وبايع عليا إننى لك ناصح فإن عليا خير من وطئ الحصا سوى أحمد ، والموت غاد ورائح ودع عنك قول الناكثين فإنما أولاك - أبا عمرو - كلاب نوابح (3) وبايع إذا بايعته بنصيحة ولا يك منها من ضميرك قادح فإنك إن تطلب بها الدين تعطه وإن تطلب الدنيا فإنك رابح (4)
__________
(1) صفين (عقد) .
(2) صفين : 20 ، 21 .
(3) أبو عمرو ، كنية جرير بن عبد الله البجلى .
(4) وقعة صفين : (فبيعك رابح) .
(*)(3/71)
وإن قلت عثمان بن عفان حقه على عظيم والشكور مناصح فحق على إذ وليك كحقه وشكرك ما أوليت في الناس صالح وإن قلت لا أرضى عليا إمامنا فدع عنك بحرا ضل فيه السوابح أبى الله إلا أنه خير دهره وأفضل من ضمت عليه الاباطح (1) * * * قال نصر : ثم إن جريرا قام في أهل همذان خطيبا ، فقال : الحمد لله الذى اختار لنفسه الحمد ، وتولاه دون خلقه ، لا شريك له في الحمد ، ولا نظير له في المجد ، ولا إله إلا الله وحده ، الدائم القائم ، إله السماء والارض ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالنور الواضح ، والحق الناطق ، داعيا إلى الخير ، وقائدا إلى الهدى ، ثم قال : أيها الناس ، إن عليا قد كتب إليكم كتابا لا يقال بعده إلا رجيع من القول ، ولكن لا بدمن رد الكلام .
إن الناس بايعوا عليا بالمدينة عن غير محاباة له ببيعتهم ، لعلمه بكتاب الله وسنن الحق ، وإن طلحة والزبير نقضا بيعته على غير محاباة حدثت (2) ، وألبا عليه الناس ، ثم لم يرضيا حتى نصبا له الحرب ، وأخرجا أم المؤمنين ، فلقيهما فأعذر في الدعاء ، وأحسن في البقية ، وحمل الناس على ما يعرفون ، فهذا عيان ما غاب عنكم ، وإن سألتم الزيادة زدناكم ، ولا قوة إلا بالله ، ثم قال : أتانا كتاب على فلم ترد الكتاب بأرض العجم ولم نعص ما فيه لما أتى ولما نذم ولما نلم ونحن ولاة على ثغرنا نضيم العزيز ونحمى الذمم نساقيهم الموت عند اللقاء بكأس المنايا ونشفى القرم
__________
(1) يريد بهم قريش البطاح ، وهم الذين ينزلون بين أخشى مكة ، والاخشبان جبلان بها .
(2) ب : (على غير حدث) .
(*)(3/72)
فصلى الاله على أحمد رسول المليك تمام النعم (1) رسول المليك ومن بعده خليفتنا القائم المدعم عليا عنيت وصى النبي نجالد عنه غواة الامم له الفضل والسبق والمكرمات وبيت النبوة لا يهتضم قال نصر : فسر الناس بخطبة جرير وشعره .
وقال ابن الازور القسرى في جرير يمدحه بذلك : لعمر أبيك والانباء تنمى لقد جلى بخطبته جرير وقال مقالة جدعت رجالا من الحيين خطبهم كبير بدا بك قبل أمته على ومخك إن رددت الحق رير (2) أتاك بأمره زحر بن قيس وزحر بالتى حدثت خبير فكنت لما أتاك به سميعا وكدت إليه من فرح تطير فأنت بما سعدت به ولى وأنت لما تعد له نصير وأحرزت الثواب ورب حاد حدا بالركب ليس له بعير (3) [ بيعة الاشعث لعلى ] قال نصر : (4) وكتب على عليه السلام إلى الاشعث - وكان عامل عثمان على أذربيجان -
__________
(1) لم يذكر هذا البيت في كتاب صفين ، وذكر موضعه : طحناهم طحنة بالقنا وضرب سيوف تطيراللمم مضينا يقينا على ديننا ودين النبي مجلى الظلم أمين الاله وبرهانه خليفتنا القائم المدعم (2) يقال : مح رير ، إذا كان فاسدا .
(3) بعده في كتاب صفين : ليهنك ما سبقت به رجالا من العلياء والفضل الكبير (4) وقعة صفين 24 .
(*)(3/73)
يدعوه إلى البيعة والطاعة ، وكتب جرير بن عبد الله البجلى إلى الاشعث ، يحضه على طاعة أمير المؤمنين عليه السلام ، وقبول كتابه : أما بعد ، فإنى أتتنى بيعة على ، فقبلتها ولم أجد إلى دفعها سبيلا ، لانى نظرت فيما غاب عنى من أمر عثمان ، فلم أجده يلزمنى ، وقد شهد المهاجرون والانصار ، فكان أوفق أمرهم فيه الوقوف ، فاقبل بيعته ، فإنك لا تنقلب إلى خير منه ، و اعلم أن بيعة على خير من مصارع أهل البصرة .
والسلام .
قال نصر : فقبل الاشعث البيعة ، وسمع وأطاع ، وأقبل جرير سائرا من ثغر همذان حتى ورد على عليه السلام الكوفة فبايعه ، ودخل فيما دخل فيه الناس من (1) طاعته ولزوم أمره .
[ دعوة على معاوية إلى البيعة والطاعة ، ورد معاوية عليه ] قال نصر : (2) فلما أراد على عليه السلام أن يبعث إلى معاوية رسولا ، قال له جرير : ابعثنى يا أمير المؤمنين إليه ، فإنه لم يزل لى مستخصا (3) وودا (4) ، آتيه (5) فأدعوه ، على أن يسلم لك هذا الامر ، ويجامعك على الحق ، على أن يكون أميرا من أمرائك ، وعاملا من عمالك ، ما عمل بطاعة الله ، واتبع ما في كتاب الله ، و أدعو أهل الشام إلى طاعتك وولايتك ، فجلهم قومي وأهل بلادي ، وقد رجوت ألا يعصونى .
فقال له الاشتر : لا تبعثه ولا تصدقة ، فو الله إنى لاظن هواه هواهم ، و نيته نيتهم .
فقال له على عليه السلام : دعه حتى ننظر ما يرجع به إلينا .
فبعثه على عليه السلام ، وقال له عليه السلام حين أراد أن يبعثه : إن حولي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الرأى والدين من قد رأيت ، وقد اخترتك عليهم لقول رسول الله فيك :
__________
(1) ب : (في) .
(2) وقعة صفين للمنقرى 32 وما بعدها .
(3) كذا في الاصول ، وفي صفين .
(مستنصحا) .
(4) ودا ، بضم الواو ، أي ذا ود ، على حدف المضاف .
(5) كتاب صفين .
(نأتيه) .
(*)(3/74)
(إنك من خير ذى يمن) (1) ، ائت معاوية بكتابي ، فإن دخل فيما دخل فيه المسلمون ، وإلا فانبذ (2) إليه وأعلمه أنى لا أرضى به أميرا ، وأن العامة لا ترضى به خليفة .
فانطلق جرير حتى أتى الشام ، ونزل بمعاوية ، فلما دخل عليه حمد الله وأثنى عليه ، وقال : أما بعد يا معاوية ، فإنه قد اجتمع لابن عمك أهل الحرمين ، وأهل المصرين ، وأهل الحجاز ، وأهل اليمن ، وأهل مصر ، وأهل العروض - والعروض عمان - وأهل البحرين واليمامة ، فلم يبق إلا هذه الحصون التى أنت فيها ، لو سال عليها سيل من أوديته غرقها ، وقد أتيتك أدعوك إلى ما يرشدك ويهديك إلى مبايعة هذا الرجل .
ودفع إليه كتاب على عليه السلام ، وفيه : أما بعد ، فإن بيعتى بالمدينة لزمتك وأنت بالشام ، لانه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان ، على ما بويعوا عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ، ولا للغائب أن يرد ، وإنما الشورى للمهاجرين والانصار ، إذا اجتمعوا على رجل فسموه (3) إماما ، كان ذلك لله رضا ، فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو رغبة ردوه إلى ما خرج منه ، فإن أبى قاتلوه على اتباع سبيل المؤمنين ، وولاه الله ما تولى ، ويصليه جهنم وساءت مصيرا .
وإن طلحة والزبير بايعانى ثم نقضا بيعتى ، فكان نقضهما كردتهما ، فجاهدتهما على ذلك ، حتى جاء الحق ، وظهر أمر الله وهم كارهون .
فادخل فيما دخل فيه المسلمون ، فإن أحب الامور إلى فيك العافية ، إلا أن تتعرض للبلاء ، فإن تعرضت له قاتلتك ، واستعنت بالله عليك .
وقد أكثرت في قتله عثمان ، فادخل فيما دخل فيه الناس ، ثم حاكم القوم إلى أحملك
__________
(1) أي من خير أهل اليمن .
(2) فانبذ إليه ، في اللسان : (المنابذة : أن يكون بين فريقين مختلفين عهد وهدنة بعد القتال ، ثم أرادا نقض ذلك العهد ، فينبذ كل فريق منهما إلى صاحبه العهد الذى تهادنا عليه ، ومنه قوله تعالى : (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء) .
(3) ب : (وسموه) .
(*)(3/75)
وإياهم على كتاب الله ، فأما تلك التى تريدها فخدعه الصبى عن اللبن ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك ، لتجدني أبرأ قريش من دم عثمان .
واعلم أنك من الطلقاء (1) الذين لا يحل لهم الخلافة ، ولا تعرض فيهم الشورى .
وقد أرسلت إليك [ وإلى من قبلك ] (2) جرير بن عبد الله البجلى ، وهو من أهل الايمان والهجرة ، فبايع ، ولا قوة إلا بالله .
* * * فلما قرأ الكتاب ، قام جرير فخطب ، فقال : الحمد لله المحمود بالعوائد ، والمأمول منه الزوائد ، المرتجى منه الثواب ، المستعان على النوائب ، أحمده وأستعينه في الامور التى تحير دونها الالباب ، [ وتضمحل عندها الاسباب ] (2) ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، كل شئ هالك إلا وجهه ، له الحكم وإليه ترجعون .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بعد فترة من الرسل الماضية والقرون الخالية ، [ والابدان البالية ، والجبلة الطاغية ] (2) ، فبلغ الرسالة ، ونصح للامة ، وأدى الحق الذى استودعه الله ، وأمره بأدائه إلى أمته صلى الله عليه وسلم ، من رسول ومبتعث ومنتجب (3) .
أيها الناس ، إن أمر عثمان قد أعيا من شهده ، فكيف بمن غاب عنه ! وإن الناس بايعوا عليا غير واتر ولا موتور ، وكان طلحة والزبير ممن بايعاه ثم نكثا بيعته على غير حدث ، ألا وإن هذا الدين لا يحتمل الفتن ، [ ألا وإن العرب لا تحتمل الفتن ] (2) ، وقد كانت بالبصرة أمس روعة ملحمة إن يشفع البلاء بمثلها فلا بقاء للناس .
__________
(1) الطلقاء : جمع طليق ، وهم الاسارى الذين أطلقهم الرسول عليه السلام يوم فتح مكه ولم يسترقهم .
(2) تكملة من كتاب صفين .
(3) المنتجب : المصطفى المختار .
(*)(3/76)
وقد بايعت الامة (1) عليا ، ولو ملكنا والله الامور (2) ، لم نختر لها غيره [ ومن خالف هذا استعتب ] (3) فادخل يا معاوية فيما دخل فيه الناس .
فإن قلت : استعملني عثمان ثم لم يعزلني ، فإن هذا قول لو جاز لم يقم لله دين ، وكان لكل امرئ ما في يديه ، ولكن الله جعل للاخر من الولاة حق الاول ، وجعل الامور موطأة ينسخ بعضها بعضا ثم قعد .
قال نصر : فقال معاوية : أنظر وتنظر ، وأستطلع رأى أهل الشام .
فمضت أيام ، وأمر معاوية مناديا ينادى : الصلاة جامعة ! فلما اجتمع الناس صعد المنبر ، ثم قال : الحمد لله الذى جعل الدعائم للاسلام أركانا ، والشرائع للايمان برهانا ، يتوقد قبسه في الارض المقدسة ، جعلها الله محل الانبياء والصالحين من عباده ، فأحلهم أرض الشام (4) ، ورضيهم لها ، ورضيها لهم ، لما سبق في مكنون علمه من طاعتهم ومناصحتهم خلفاءه ، والقوام بأمره ، والذابين عن دينه وحرماته ، ثم جعلهم لهذه الامة نظاما ، وفي سبيل الخيرات أعلاما ، يردع الله بهم الناكثين ، ويجمع بهم ألفة المؤمنين ، والله نستعين على ما تشعب من أمر المسلمين بعد الالتئام ، وتباعد بعد القرب اللهم انصرنا على أقوام يوقظون نائمنا ، ويخيفون آمننا ، ويريدون إراقة (5) دمائنا ، وإخافة سبلنا .
وقد علم الله أنا لا نريد لهم (6) عقابا ، ولا نهتك لهم حجابا ، ولا نوطئهم زلقا ، غير أن الله الحميد كسانا
__________
(1) صفين : (العامة) .
(2) صفين : (أمورنا) .
(3) من صفين .
(4) صفين : (فأحلها أهل الشام) .
(5) صفين : (هراقة دمائنا) ، وهما بمعنى .
(6) صفين : (لم نرد بهم عقابا) .
(*)(3/77)
من الكرامة ثوبا لن ننزعه طوعا ، ما جاوب الصدى ، وسقط الندى ، وعرف الهدى ، حملهم على ذلك البغى والحسد ، فنستعين الله عليهم .
أيها الناس ، قد علمتم أنى خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وخليفة أمير المؤمنين عثمان بن عفان عليكم ، وأنى لم أقم رجلا منكم على خزاية (1) قط ، وأنى ولى عثمان ، وقد قتل مظلوما ، والله تعالى يقول : (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا) (2) ، وأنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان .
فقام أهل الشام بأجمعهم ، فأجابوا إلى الطلب بدم عثمان ، وبايعوه على ذلك ، وأوثقوا له على أن يبذلوا بين يديه أموالهم وأنفسهم ، حتى يدركوا بثأره أو تلتحق أرواحهم بالله .
قال نصر : فلما أمسى معاوية اغتم بما هو فيه ، وجنه الليل وعنده أهل بيته ، فقال : تطاول ليلى واعترتنى وساوسى لات أتى بالترهات البسابس (3) أتانى والحوادث جمة بتلك التى فيها اجتداع المعاطس أكايده والسيف بينى وبينه ولست لاثواب الدنئ بلابس إن الشام أعطت طاعة يمنية تواصفها أشياخها في المجالس فإن يفعلوا أصدم عليا بجبهة تفت عليه كل رطب ويابس وإنى لارجو خير ما نال نائل وما أنا من ملك العراق بايس (4) قلت : الجبهة هاهنا : الخيل ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وآله : (ليس في الجبهة صدقة) ، أي زكاة .
* * *
__________
(1) أقامهم على الخزاية ، أي حملهم على أمريستحيا منه .
(2) سورة الاسراء 33 .
(3) البسابس : الامور الباطلة .
والابيات والخبر في الكامل 1 : 326 .
(4) الكامل : (بيائس) .
(*)(3/78)
قال نصر : فاستحثه (1) جرير بالبيعة ، فقال : يا جرير ، إنها ليست بخلسة ، وإنه أمر له ما بعده ، فأبلعنى ريقي [ حتى أنظر ] (2) ، ودعا ثقاته (3) ، فأشار عليه أخوه بعمرو بن العاص ، وقال له : إنه من قد عرفت ، وقد اعتزل عثمان في حياته ، وهو لامرك أشد اعتزالا إلا أن يثمن له دينه .
وقد ذكرنا فيما تقدم خبر استدعائه عمرا ، وما شرط له من ولاية مصر ، و استقدامه شرحبيل بن السمط رئيس اليمنية وشيخها والمقدم عليها ، وتدسيس الرجال إليه يغرونه بعلى عليه السلام ، ويشهدون عنده أنه قتل عثمان ، حتى ملئوا صدره وقلبه حقدا وترة وإحنة على على عليه السلام وأصحابه بما لا حاجة إلى إعادته (4) .
* * * قال نصر : فحدثني محمد بن عبيد الله عن الجرجاني ، قال : (5) جاء شرحبيل إلى حصين بن نمير ، فقال : ابعث إلى جرير فليأتنا ، فبعث حصين بن نمير إلى جرير : أن زرنا فعندنا شرحبيل ، فاجتمعا عند حصين ، فتكلم شرحبيل ،
__________
(1) وقعة صفين 249 (2) من كتاب وقعة صفين (3 - 3) وقعة صفين : (فقال له عتبة بن أبى سفيان - وكان نظيره - : اجتمعن على هذا الامر بعمرو ابن العاس ، وأثمن له بدينه ، فإنه من قد عرفت ، وقد اعتزل أمر عثمان في حياته ، وهو لامرك أشد اعتزالا إلا أن يرى فرصة) .
(4) الجزء الثاني في ص 61 وما بعدها .
(5) صدر هذا الخبر كما ورد في كتاب وقعة صفين 52 : (لما قدم شرحبيل على معاوية تلقاه الناس فأعظموه ، ودخل على معاوية ، فتكلم معاوية فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يا شرحبيل ، إن جرير بن عبد الله يدعونا إلى بيعة على ، وعلى خير الناس لولا أنه قتل عثمان بن عفان ، وقد حبست نفسي عليك ، وإنما أنا رجل من أهل الشام ، أرضى ما رضوا ، وأكره ما كرهوا ، فقال شرحبيل : أخرج فأنظر ، فخرج فلقيه هؤلاء النفر الموطئون له ، فكلهم يخبره بأن عليا قتل عثمان بن عفان .
فخرج مغضبا إلى معاوية فقال : يا معاوية ، أبى الناس إلا أن عليا قتل عثمان ، ووالله لئن بايعت لنخرجنك من الشام أو لنقتلنك .
قال معاوية : ما كنت لاخالف عليكم ، وما أنا إلا رجل أهل الشام .
قال : فرد هذا الرجل إلى صاحبه إذا قال ، فعرف معاوية أن شرحبيل قد نفذت بصيرته في حرب أهل العراق ، وأن الشام كله مع شرحبيل ، فخرج شرحبيل فأتى حصين بن نمير ...
) ، وقد نقله المؤلف مختصرا فيما سبق في الجزء الثاني ص 52 - 53 .
(*)(3/79)
فقال : يا جرير أتيتنا بأمر ملفف (1) لتلقينا في لهوات الاسد ، وأردت أن تخلط الشام بالعراق ، وأطريت (2) عليا ، وهو قاتل عثمان ، والله سائلك عما قلت يوم القيامة .
فأقبل عليه جرير وقال : يا شرحبيل ، أما قولك : إنى جئت بأمر ملفف ، فكيف يكون ملففا وقد اجتمع عليه المهاجرون والانصار ، وقوتل على رده طلحة والزبير ! وأما قولك : إنى ألقيك في لهوات الاسد ، ففى لهواتها ألقيت نفسك .
وأما خلط أهل الشام بأهل العراق ، فخلطهما على حق خير من فرقتهما على باطل .
وأما قولك : إن عليا قتل عثمان ، فو الله ما في يديك من ذلك إلا القذف بالغيب من مكان بعيد ، ولكنك ملت إلى الدنيا ، وشئ كان في نفسك على زمن سعد بن أبى وقاص .
فبلغ ما قالاه إلى معاوية ، فبعث إلى جرير فزجره .
قال نصر : وكتب إلى شرحبيل كتاب لا يعرف كاتبه (3) فيه : شرحبيل يا بن السمط : لا تتبع الهوى فما لك في الدنيا من الدين من بدل ولا تك كالمجرى إلى شر غاية فقد خرق السربال واستنوق الجمل وقل لابن حرب : ما لك اليوم خلة تروم بها ما رمت واقطع له الامل (4) شرحبيل : إن الحق قد جد جده فكن فيه مأمون الاديم من النغل وأرود ولا تفرط بشئ نخافه عليك ، ولا تعجل ، فلا خير في العجل (5)
__________
(1) أي جلب من هنا وهاهنا .
(2) صفين : (أطرأت) ، وهما بمعنى : (مدحت) .
(3) وقعة صفين : (وكتب جرير إلى شرحبيل) .
(4) وقعة صفين : (مالك اليوم حرمة ...
واقطع) .
(5) الارواد : الامهال ، والفرط : السبق .
(*)(3/80)
مقال ابن هند في على عضيهة ولله في صدر بن أبى طالب أجل (1) على في ابن عفان سقطة بقول ، ولا ما لا عليه ولا قتل (2) وما كان إلا لازما قعر بيته إلى أن أتى عثمان في داره الاجل فمن قال قولا غير هذا فحسبه من الزور والبهتان بعض الذى احتمل (3) وصى رسول الله من دون أهله ومن باسمه في فضله يضرب المثل .
قال نصر : فلما قرأ شرحبيل الكتاب ذعر وفكر ، وقال : هذه نصيحة لى في دينى ، ولا والله لا أعجل في هذا الامر بشئ [ وفي نفسي منه حاجة ] (4) ، وكاد (5) يحول عن نصر معاوية ويتوقف ، فلفق (6) له معاوية الرجال يدخلون إليه ويخرجون ، ويعظمون عنده قتل عثمان ، ويرمون به عليا ، ويقيمون الشهادة الباطلة ، والكتب المختلقة ، حتى أعادوا رأيه ، وشحذوا عزمه (7) .
* * *
__________
(1) العضيهة : الافك والبهتان .
وفى ب : (وقال ابن هند) ، والرجه ما أثبته من ج .
(2) مالا عليه ، أصله : (مالا) بالهمز ، والممالاة : المعاونة .
وفى صفيه : (ولا جلب عليه) .
(3) في صفين : * من الزور والبهتان قول الذى احتمل * (4) من كتاب وقعة صفين .
(5 - 5) في وقعة صفين : (واستترله القوم) .
(6) كذا في ج ، وفى ا ، ب ، (فلقوله) تصحيف ، وفى صفين : (فلفف) .
(7) بقية الخبر في كتاب كتاب وقعة صفين : (وبلغ ذلك قومه ، فبعث ابن أخت له من بارق - وكان يرى رأى على بن أبى طالب - فبايعه بعد ، وكان ممن لحق من أهل الشام ، وكان ناسكا ، فقال : لعمر أبى الاشقى ابن هند لقدرمى شرحبيل بالسهم الذى هو قاتله ولفف قوما يسحبون ذيولهم جميعا وأولى الناس بالذنب فاعله فألفى يمغنيا ضعيفا نخاعه إلى كل ما يهوون تحدى رواحله فطاطا لها لما رموه بثقلها ولا يرزق التقوى من الله خاذله (6 - نهج - 3) (*)(3/81)
قال نصر : وحدثنا (1) عمر بن سعد بإسناده قال : (2) بعث معاوية إلى شرحبيل ابن السمط : إنه قد كان من إجابتك إلى الحق ، وما وقع فيه أجرك على الله ، وقبله عنك صلحاء الناس ما علمت ، وإن هذا الامر الذى نحن فيه لا يتم إلا برضا العامة ، فسر في مدائن الشام ، وناد فيهم بأن عليا قتل عثمان ، وأنه يجب على المسلمين أن يطلبوا بدمه .
فسار شرحبيل ، فبدأ بأهل حمص ، فقام فيهم خطيبا - وكان مأمونا في أهل الشام ناسكا متألها ، فقال : أيها الناس ، إن عليا قتل عثمان ، فغضب له قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه ، فلقيهم فهزم الجمع ، وقتل صلحاءهم وغلب على الارض ، فلم يبق إلا الشام ، وهو واضع سيفه على عاتقه ، ثم خائض غمرات (3) الموت ، حتى يأتيكم أو يحدث الله أمرا ، ولا نجد أحدا أقوى على قتاله من معاوية ، فجدوا وانهضوا .
فأجابه الناس كلهم إلا نساكا من أهل حمص ، فإنهم قالوا له : بيوتنا قبورنا ومساجدنا ، وأنت أعلم بما ترى .
قال : وجعل شرحبيل يستنهض مدائن الشام حتى استفرغها ، لا يأتي على قوم إلا قبلوا
__________
ليأكل دنيا لابن هند بدينه ألا وابن هند قبل ذلك آكله وقالوا على في ابن عفان خدعة ودبت إليه بالشنان غوائله ولا والذى أرسى ثبيرا مكانه لقد كف عنه كفه ووسائله وما كان إلا من صحاب محمد وكلهم تغلى عليه مراجله فلما بلغ شرحبيل هذا القول قال : هذا بعيث الشيطان ، الان امتحن الله قلبى ، والله لاسيرن صاحب هذا الشعر أو ليفوتنتى ، فهرب الفتى إلى الكوفه - وكان أصله منها - وكاد أهل الشام أن يرتابوا .
(1) صفين 56 ، .
(2) في صفين : (محمد بن عبيدالله وعمر بن سعد بإسناده ، قال) .
(3) صفين : (غمار الموت) .
(*)(3/82)
ما أتاهم به ، فبعث إليه النجاشي بن الحارث (1) - وكان له صديقا : شرحبيل ما للدين فارقت ديننا (2) ولكن لبغض المالكى جرير وشحناء دبت بين سعد وبينه فأصبحت كالحادي بغير بعير [ وما أنت إذ كانت بجيلة عاتبت قريشا فيا لله بعد نصير ] (3) أ تفصل أمرا غبت عنه بشبهة وقد حار فيه عقل كل بصير بقول رجال لم يكونوا أئمة ولا للتى لقوكها بحضور [ وما قول قوم غائبين تقاذفوا من الغيب ما دلاهم بغرور ] (3) وتترك أن الناس أعطوا عهودهم عليا على أنس به وسرور إذا قيل هاتوا واحدا يقتدى به (4) نظيرا له لم يفصحوا بنظير لعلك أن تشقى الغداة بحربه فليس الذى قد جئته بصغير .
* * * قال نصر : وحدثنا (5) عمر بن سعد عن نمير بن وعلة ، عن الشعبى ، أن شرحبيل بن السمط بن الاسود بن جبلة [ الكندى ] (3) دخل على معاوية ، فقال له : أنت عامل أمير المؤمنين وابن عمه ، ونحن المؤمنون ، فإن كنت رجلا تجاهد عليا وقتلة عثمان حتى ندرك ثارنا أو تذهب أرواحنا استعملناك علينا ، وإلا عزلناك واستعملنا غيرك ممن نريد ، ثم جاهدنا معه حتى ندرك بدم عثمان أو نهلك .
فقال جرير بن عبد الله - وكان حاضرا : مهلا يا شرحبيل ، فإن الله قد حقن الدماء ، ولم الشعث ، وجمع أمر الامة ، ودنا من هذه الامة سكون ، فإياك أن تفسد بين الناس ،
__________
(1) في حواشى صفين : (والمعروف في شعرائهم النجاشي الحارثى ، واسمه قيس بن عمرو بن مالك : من بنى الحارث بن كعب ، وهو ممن حده أمير المؤمنين على بن أبى طالب لشربه الخمر) .
(2) وقعة صفين : (أمرنا) .
(3) من كتاب وفعة صفين .
(4) وقعة صفين : (تقتدونه) .
(5) وقعة صفين 57 ، 58 .
(*)(3/83)
وأمسك عن هذا القول قبل أن يشيع ويظهر عنك قول لا تستطيع رده ، فقال : لا والله لا أسره أبدا .
ثم قام فتكلم به ، فقال الناس : صدق صدق ! القول ما قال ، والرأى ما رأى .
فأيس جرير عند ذلك من معاوية ومن عوام أهل الشام .
* * * قال نصر : (1) وحدثني محمد بن عبيد الله ، عن الجرجاني ، قال : كان معاوية قد أتى جريرا قبل ذلك في منزله ، فقال له : يا جرير ، إنى قد رأيت رأيا ، قال : هاته ، قال : اكتب إلى صاحبك يجعل لى الشام ومصر جباية ، فإذا حضرته الوفاة لم يجعل لاحد بعده في عنقي بيعة ، وأسلم له هذا الامر ، وأكتب إليه بالخلافة .
فقال جرير : اكتب ما أردت أكتب معك (2) .
فكتب معاوية بذلك إلى على ، فكتب على عليه السلام إلى جرير : أما بعد ، فإنما أراد معاوية ألا يكون لى في عنقه بيعة ، وأن يختار من أمره ما أحب ، وأراد أن يريثك ويبطئك حتى يذوق أهل الشام ، وإن المغيرة بن شعبة قد كان أشار على أن أستعمل معاوية على الشام ، وأنا حينئذ بالمدينة ، فأبيت ذلك عليه ، ولم يكن الله ليراني أتخذ المضلين عضدا ، فإن بايعك الرجل ، وإلا فأقبل والسلام .
* * * قال نصر : وفشا (3) كتاب معاوية في العرب ، فبعث إليه الوليد بن عقبة : معاوى إن الشام شامك فاعتصم بشامك لا تدخل عليك الافاعيا وحام عليها بالصوارم والقنا ولا تك موهون الذراعين وانيا (4) وإن عليا ناظر ما تجيبه فأهد له حربا تشيب النواصيا
__________
(1) وقعة صفين 58 .
(2) صفين : (اكتب بما أردت وأكتب معك) .
(3) صفين 59 ، 60 .
(4) صفين : (بالقنابل ...
خشوش الذراعين) .
(*)(3/84)
وإلا فسلم إن في السلم راحة لمن لا يريد الحرب فاختر معاويا وإن كتابا يا بن حرب كتبته على طمع ، يزجى إليك الدواهيا سألت عليا فيه ما لن تناله ولو نلته لم يبق إلا لياليا وسوف ترى منه التى ليس بعدها بقاء ، فلا تكثر عليك الامانيا أمثل على تعتريه بخدعة وقد كان ما جربت من قبل كافيا ! قال : وكتب الوليد بن عقبة إلى معاوية أيضا يوقظة ويشير عليه بالحرب ، وألا يكتب جواب جرير : معاوى إن الملك قد جب غاربه وأنت بما في كفك اليوم صاحبه أتاك كتاب من على بخطة هي الفصل فاختر سلمه أو تحاربه فلا ترج عند الواترين مودة ولا تأمن اليوم الذى أنت راهبه وحاربه إن حاربت حرب ابن حرة وإلا فسلم لا تدب عقاربه (1) فإن عليا غير ساحب ذيله على خدعة ما سوغ الماء شاربه [ ولا قابل ما لا يريد وهذه يقوم بها يوما عليه نوادبه ] (2) فلا تدعن الملك والامر مقبل وتطلب ما أعيت عليك مذاهبه (3) فإن كنت تنوى أن تجيب كتابه فقبح ممليه وقبح كاتبه وإن كنت تنوى أن ترد كتابه وأنت بأمر لا محالة راكبه فألق إلى الحى اليمانين كلمة تنال بها الامر الذى أنت طالبه تقول : أمير المؤمنين أصابه عدو ومالاهم عليه أقاربه أفانين منهم قائل ومحرض بلا تره كانت ، وآخر سالبه
__________
(1) ب : (حرا بن حرة) ، والصواب ما أثبته من ا ، ج وكتاب صفين .
(2) من كتاب صفين .
(3) ب : (عليه) ، والصواب ما أثبته من ج وصفين .
(*)(3/85)
وكنت أميرا قبل بالشام فيكم فحسبي وإياكم من الحق واجبه فجيئوا ، ومن أرسى ثبيرا مكانه ندافع بحرا لا ترد غواربه (1) فأقلل وأكثر ما لها اليوم صاحب سواك ، فصرح لست ممن تواربه قال نصر : وخرج (2) جرير يوما يتجسس الاخبار ، فإذا هو بغلام يتغنى على قعود له ، هو يقول : حكيم وعمار الشجا ومحمد وأشتر والمكشوح جروا الدواهيا (3) وقد كان فيها للزبير عجاجة وصاحبه الادنى أثاروا الدواهيا (4) فأما على فاستجار ببيته فلا آمر فيها ولم يك ناهيا فقل في جميع الناس ما شئت بعده فلو قلت : أخطا الناس لم تك خاطيا وإن قلت : عم القوم فيه بفتنة فحسبك من ذاك الذى كان كافيا فقولا لاصحاب النبي محمد وخصا الرجال الاقربين الا دانيا : أيقتل عثمان بن عفان بينكم على غير شئ ليس إلا تعاميا فلا نوم حتى نستبيح حريمكم ونخضب من أهل الشنان العواليا فقال جرير : يا بن أخى ، من أنت ؟ فقال : غلام من قريش ، وأصلى من ثقيف ، أنا ابن المغيرة بن الاخنس بن شريق ، قتل أبى مع عثمان يوم الدار .
فعجب جرير
__________
(1) كذا في ج ، وصفين وفى ا ، ب : (تجيبوا) ، والغوارب : أعالي الموج .
(2) وقعة صفين 60 .
(3) حكيم بن جبلة بن حصن العبدى ، كان عثمان بعثه إلى السند ، ثم نزل البصرة ، وقتل بها يوم الجمل .
وعمار بن ياسر ، ومحمد بن أبى بكر الصديق ، والاشتر : مالك بن الحارث .
والمكشوح المرادى ، واسمه هبيرة بن هلال ، ونسبه في بجيلة .
(4) صفين : (أشاب النواصيا) .
(*)(3/86)
من شعره وقوله ، و كتب بذلك إلى على عليه السلام ، فقال على : والله ما أخطأ الغلام شيئا .
* * * قال نصر : (1) وفي حديث صالح بن صدقة ، قال : أبطأ جرير عند معاوية حتى اتهمه الناس ، وقال على عليه السلام : قد وقت لجرير وقتا لا يقيم بعده إلا مخدوعا أو عاصيا ، وأبطأ على على حتى أيس منه .
قال : وفي حديث محمد وصالح بن صدقة ، قالا : فكتب على عليه السلام إلى جرير بعد ذلك : إذا أتاك كتابي هذا فاحمل معاوية على الفصل ، ثم خيره وخذه بالجواب بين حرب مخزيه (2) أو سلم محظية ، فإن اختار الحرب فانبذ إليه ، وإن اختار السلم فخذه ببيعته .
والسلام .
قال : فلما انتهى الكتاب إلى جرير أتى معاوية ، فاقرأه الكتاب ، و قال له : يا معاوية ، إنه لا يطبع على قلب إلا بذنب ، ولا يشرح صدر إلا بتوبة ، ولا أظن قلبك إلا مطبوعا عليه ، أراك قد وقفت بين الحق والباطل ، كأنك تنتظر شيئا في يد غيرك .
فقال معاوية : ألقاك بالفصل (3) في أول مجلس إن شاء الله .
فلما بايع معاوية أهل الشام بعد أن ذاقهم ، قال : يا جرير الحق بصاحبك ، وكتب إليه بالحرب ، وكتب في أسفل الكتاب شعر كعب بن جعيل : أرى الشام تكره أهل العراق وأهل العراق لهم كارهونا
__________
(1) وقعة صفين 61 .
(2) صفين : (مجلبة) .
(3) صفين : (بالفيصل) .
(*)(3/87)
وقد ذكرنا هذا الشعر فيما تقدم .
* * * وقال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتاب ، ، الكامل ، ، (1) : إن عليا عليه السلام لما أراد أن يبعث جريرا إلى معاوية ، قال : والله يا أمير المؤمنين ما أدخرك من نصرتي شيئا ، وما أطمع لك في معاوية .
فقال على عليه السلام : إنما قصدي حجة أقيمها [ عليه ] .
(2) فلما أتى جرير معاوية دافعه بالبيعة ، فقال له جرير : إن المنافق لا يصلى حتى لا يجد من الصلاة بدا .
فقال معاوية : إنها ليست بخدعة الصبى عن اللبن ، فأبلغني ريقي (3) ، إنه أمر له ما بعده .
قال : وكتب مع جرير إلى على عليه السلام جوابا عن كتابه إليه : من معاوية بن صخر إلى على بن أبى طالب ، أما بعد فلعمري لو بايعك القوم الذين بايعوك وأنت برئ من دم عثمان كنت كأبى بكر وعمر وعثمان ، ولكنك أغريت بعثمان المهاجرين ، وخذلت عنه الانصار ، فأطاعك الجاهل ، وقوى بك الضعيف ، وقد أبى أهل الشام إلا قتالك ، حتى تدفع إليهم قتله عثمان ، فإن فعلت كانت شورى بين المسلمين ، ولعمري (4) ليس حججك على كحججك على طلحة والزبير ، لانهما بايعاك ولم أبايعك ، وما حجتك على أهل الشام كحجتك على أهل البصرة ، لان أهل البصرة أطاعوك ولم يطعك أهل الشام .
فأما شرفك في الاسلام ، وقرابتك من النبي صلى الله عليه وموضعك من قريش ، فلست أدفعه .
__________
(1) الكامل 3 : 209 وما بعدها - بشرح المرصفى ، مع تصرف في الخبر .
(2) من كتاب الكامل .
(3) أي أنظرني بمقدار ما أبلع ريقي .
(4 - 4) الكامل : (ما حجتك على كحجتك عل طلحة ...
) .
(*)(3/88)
ثم كتب في آخر الكتاب شعر كعب بن جعيل الذى أوله : أرى الشام تكره أهل العراق وأهل العراق لهم كارهونا * * * قال أبو العباس المبرد (1) رحمه الله تعالى : (2) فكتب إليه على عليه السلام جوابا عن كتابه هذا : من أمير المؤمنين على بن أبى طالب إلى معاوية بن صخر بن حرب : أما بعد ، فإنه أتانى منك كتاب امرئ ليس له بصر يهديه ، ولا قائد يرشده ، دعاه الهوى فأجابه ، وقاده الضلال فاتبعه ، زعمت أنك إنما أفسد عليك بيعتى خطيئتي في عثمان ، ولعمري ما كنت إلا رجلا من المهاجرين ، أوردت كما أوردوا ، وأصدرت كما أصدروا ، وما كان الله ليجمعهم على الضلال ، ولا ليضربهم بالعمى .
وبعد فما أنت وعثمان ! إنما أنت رجل من بنى أمية ، وبنو عثمان أولى بمطالبة دمه ، فإن زعمت أنك أقوى على ذلك ، فادخل فيما دخل فيه المسلمون ، ثم حاكم القوم إلى .
وأما تمييزك بينك وبين طلحة والزبير ، وبين أهل الشام وأهل البصرة ، فلعمري ما الامر فيما هناك إلا سواء ، لانها بيعة شاملة لا يستثنى فيها الخيار ، ولا يستأنف فيها النظر .
وأما شرفي في الاسلام وقرابتي من رسول الله صلى الله عليه ، وموضعى من قريش ، فلعمري لو استطعت دفعه لدفعته .
قال : ثم دعا النجاشي ، أحد بنى الحارث بن كعب ، فقال له : إن ابن جعيل شاعر أهل الشام ، وأنت شاعر أهل العراق ، فأجب الرجل .
فقال : يا أمير المؤمنين ، أسمعني قوله ، قال : إذن أسمعك شعر شاعر ، ثم أسمعه ، فقال النجاشي يجيبه :
__________
(1) في الكامل 3 : 224 - بشرح المرصفى ، وذكره المنقرى في كتاب صفين 64 ، 65 .
(2 - 2) في الكامل : فكتب إليه أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضى الله عنه جواب هذه الرسالة : بسم الله الرحمن الرحيم من على بن أبى طالب إلى معاوية بن صخر) .
(*)(3/89)
دعا يا معاوى ما لن يكونا فقد حقق الله ما تحذرونا أتاكم على بأهل العراق وأهل الحجاز فما تصنعونا ! (1) على كل جرداء خيفانة وأشعث نهد يسر العيونا (2) عليها فوارس مخشية كأسد العرين حمين العرينا يرون الطعان خلال العجاج وضرب الفوارس في النقع دينا (3) هم هزموا الجمع جمع الزبير وطلحة والمعشر النا كثينا وآلوا يمينا على حلفة لنهدي إلى الشام حربا زبونا (4) تشيب النواهد قبل المشيب وتلقى الحوامل منها الجنينا (5) فإن تكرهوا الملك ملك العراق فقد رضى القوم ما تكرهونا فقل للمضلل من وائل ومن جعل الغث يوما سمينا جعلتم عليا وأشياعه نظير ابن هند ، أما تستحونا ! إلى أفضل الناس بعد الرسول وصنو الرسول من العالمينا وصهر الرسول ومن مثله إذا كان يوم يشيب القرونا ! قلت : أبيات كعب بن جعيل خير من هذه الابيات ، وأخبث مقصدا وأدهى وأحسن .
وزاد نصر بن مزاحم في هذه الرسالة بعد قوله : (ولا ليضربهم بالعمى) : (وما ألبت (6) فتلزمني خطيئة الامر ، ولا قتلت فيجب على القصاص .
وأما قولك إن
__________
(1) لم يذكر المبرد في الكامل سوى البيتين الاولين ، وقال : (وبعد هذا ما نمسك عنه) .
(2) الجرداء : الفرس القصيرة الشعر .
والخيفانة : الخفيفة الوثابة .
والنهد من الخيل : الجسيم المشرف (3) النقع : التراب .
(4) صفين : (وقالوا) .
والايلاء : الجلف .
(5) صفين : (تشيب النواهد) .
(6) ما ألبت ، أي ما حرضت .
وفي صفين : (وما أمرت) .
(*)(3/90)
أهل الشام هم الحكام على أهل الحجاز ، فهات رجلا من أهل الشام يقبل في الشورى ، أو تحل له الخلافة ، فإن زعمت ذلك كذبك المهاجرون والانصار ، وإلا أتيتك به من قريش الحجاز .
وأما ولوعك بى في أمر عثمان ، فما قلت ذلك عن حق العيان ، ولا يقين الخبر (1) .
وهذه الزيادة التى ذكرها نصر بن مزاحم تقتضي أنه كان في كتاب معاوية إليه عليه السلام أن أهل الشام هم الحكام على أهل الحجاز ، وما وجدنا هذا الكلام في كتابه .
* * * [ أخبار متفرقه ] وروى نصر بن مزاحم ، قال : لما (2) قتل عثمان ضربت الركبان إلى الشام بقتله ، فبينا معاوية يوما إذا أقبل رجل متلفف ، فكشف عن وجهه ، وقال لمعاوية : يا أمير المؤمنين ، أتعرفني ؟ قال : نعم ، أنت الحجاج بن خزيمة بن الصمة ، فأين تريد ؟ قال إليك القربان ، أنعى ابن عفان ، ثم قال : إن بنى عمك عبد المطلب هم قتلوا شيخكم غير كذب وأنت أولى الناس بالوثب فثب واغضب معاوى للاله واحتسب وسر بنا سير الجرير المتلئب وانهض بأهل الشام ترشد وتصب * ثم اهزز الصعدة للشأس الشغب (3) * قال : يعنى عليا عليه السلام .
قلت : المتلئب المستقيم المطرد ، يقال : هذا قياس متلئب ، أي مستمر مطرد .
__________
(1) الخبر : العلم .
(2) وقعة صفين 86 ، 87 .
(3) الصعدة ، بالفتح : القناة المستوية .
(*)(3/91)
ويقال : مكان شأس ، أي غليظ صلب والشغب : الهائج للشر ، ومن رواه : (للشاسى) بالياء فأصله (الشاصى) بالصاد ، وهو المرتفع ، يقال : شصا السحاب إذا ارتفع ، فأبدل الصاد سينا ، ومراده هنا نسبة على عليه السلام إلى التيه والترفع عن الناس .
قال نصر : فقال له معاوية : أفيك مهز ؟ فقال : نعم ، فقال أخبر الناس ، فقال الحجاج : يا أمير المؤمنين - ولم يخاطب معاوية ب (أمير المؤمنين) قبلها - إنى كنت فيمن خرج مع يزيد بن أسد القسرى ، مغيثا لعثمان ، فقدمت أنا وزفر بن الحارث ، فلقينا رجلا زعم أنه ممن قتل عثمان ، فقتلناه ، وإنى أخبرك يا أمير المؤمنين أنك لتقوى على على بدون ما يقوى به عليك ، لان معك قوما لا يقولون إذا قلت ، ولا يسألون إذا أمرت ، وإن مع على قوما يقولون إذا قال ، ويسألون إذا أمر ، فقليل ممن معك خير من كثير ممن معه .
واعلم أنه لا يرضى على إلا بالرضا ، وأن رضاه سخطك ، ولست وعلى سواء ، على لا يرضى بالعراق دون الشام ، وأنت ترضى بالشام دون العراق .
قال نصر : فضاق معاوية صدرا بما أتاه ، وندم على خذلان عثمان (1) وقال : أتانى أمر فيه للنفس غمة وفيه بكاء للعيون طويل وفيه فناء شامل وخزاية وفيه اجتداع للانوف أصيل مصاب أمير المؤمنين وهدة (2) تكاد لها صم الجبال تزول فلله عينا من رأى مثل هالك أصيب بلا ذنب وذاك جليل ! تداعت عليه بالمدينة عصبة فريقان منهم قاتل وخذول دعاهم فصموا عنه عند دعائه وذاك على ما في النفوس دليل ندمت على ما كان من تبعى الهوى وقصرى فيه حسرة وعويل (3)
__________
(1) وقعة صفين 88 ، وفيه : (وقال معاوية حين أتاه قتل هثمان) .
(2) ج : (وهذه) .
(3) قصرى فيه ، أي حسى .
(*)(3/92)
سأبغى أبا عمرو بكل مثقف وبيض لها في الدار عين صليل (1) تركتك للقوم الذين هم هم شجاك فما ذا بعد ذاك أقول ! فلست مقيما ما حييت ببلدة أجر بها ذيى وأنت قتيل فلا نوم حتى تشجر الخيل بالقنا ويشفى من القوم الغواة غليل (2) ونطحنهم طحن الرحا بثفالها وذاك بما أسدوا إليك قليل (3) فأما التى فيها مودة بيننا فليس إليها ما حييت سبيل سألقحها حربا عوانا ملحة وإنى بها من عامنا لكفيل قال نصر : وافتخر الحجاج على أهل الشام بما كان من تسليمه على معاوية بإمرة المؤمنين .
* * * قال نصر : (4) وحدثنا صالح بن صدقة ، عن ابن إسحاق ، عن خالد الخزاعى وغيره ممن لا يتهم ، أن عثمان لما قتل وأتى معاوية بكتاب على عليه السلام بعزله عن الشام ، صعد المنبر ونادى في الناس أن يحضروا ، فحضروا : فخطبهم .
فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على رسوله ، ثم قال : يا أهل الشام ، قد علمتم أنى خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وخليفة عثمان ، وقد قتل وأنا ابن عمه ووليه ، والله تعالى يقول : (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) (5) وأنا أحب أن تعلموني ما في نفوسكم من قتل خليفتكم .
__________
(1) وقعة صفين : (سأنعى) ، وسأبغى .
أي سأطلب ثأره ، وأبو عمرو كنية عثمان .
(2) تشجر الخيل : تطعن .
(3) الثفال : جلد يبسط فتوضع فوقه الرحا ليسقط عليه الدقيق .
وفي اللسان : (وفي حديث على : وتدقهم الفتن دق الرحا بثفالها ، هو من ذلك : والمعنى أنها تدقهم دق الرحا للحب ، إذا كانت مثفلة ، ولا تثفل إلا عند الطحن) .
(4) وقعة صفين 91 .
(5) سورة الاسراء 33 (*)(3/93)
فقام مرة بن كعب (1) ، وفي المسجد يومئذ أربعمائة رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله أو نحوها ، فقال : والله لقد قمت مقامي هذا ، وإنى لاعلم أن فيكم من هو أقدم صحبة لرسول الله صلى الله عليه منى ، ولكني شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم نصف النهار في يوم شديد الحر ، وهو يقول : (لتكونن فتنة حاضرة) ، فمر رجل مقنع ، فقال رسول الله : وهذا [ المقنع ] (2) يومئذ على الهدى ، فقمت فأخذت بمنكبه ، وحسرت عن رأسه ، فإذا عثمان ، فأقبلت بوجهه على رسول الله صلى الله عليه ، وقلت : هذا يا رسول الله ؟ فقال : نعم : فأصفق أهل الشام مع معاوية حينئذ ، وبايعوه على الطلب بدم عثمان أميرا لا يطمع في الخلافة ثم الامر شورى .
* * * وروى إبراهيم بن الحسن بن ديزيل في ، ، كتاب صفين ، ، عن أبى بكر بن عبد الله الهذلى أن الوليد بن عقبة كتب إلى معاوية يستبطئه في الطلب بدم عثمان ، ويحرضه وينهاه عن قطع الوقت بالمكاتبة : ألا أبلغ معاوية بن حرب فإنك من أخى ثقة مليم (3) قطعت الدهر كالسدم المعنى تهدر في دمشق ولا تريم (4)
__________
(1) وقعة صفين : (كعب بن مرة السلمى) .
(2) من صفين .
(3) من أبيات ، في اللسان 15 : 36 ، 37 .
ومليم ، من قولهم : ألام الرجل ، إذا أتى ما يلام عليه .
(4) السدم : الفحل غير الكريم يكره أهله أن يضرب في إبلهم ، فيقيد ولا يسرح في الابل رغبة عنه ، فهو يصول ويهدر ، أي يصيح .
والمعنى أصله : (المعنن) من العنة ، فأبدلت إحدى النونين ياء ، كما قالوا : تظنى ، وأصله : (تظنن) ، وفى المثل : (كالمهدر في العنة) .
وانظر مجمع الامثال للميداني 2 : 141 .
(*)(3/94)
فإنك والكتاب إلى على كدابغة وقد حلم الاديم (1) لك الويلات أفحمها عليهم فخير الطالبى الترة الغشوم (2) قال : فكتب معاوية إليه الجواب بيتا من شعر أوس بن حجر : ومستعجب مما يرى من أناتنا ولو زبنته الحرب لم يترمرم (3) * * * وروى ابن ديزيل قال : لما عزم على عليه السلام على المسير إلى الشام ، دعا رجلا ، فأمره أن يتجهز ويسير إلى دمشق ، فإذا دخل أناخ راحلته بباب المسجد ، ولا يلقى من ثياب سفره شيئا ، فإن الناس إذا رأوه عليه آثار الغربة سألوه ، فليقل لهم : تركت عليا قد نهد (4) إليكم بأهل العراق .
فانظر ما يكون من أمرهم .
ففعل الرجل ذلك ، فاجتمع الناس وسألوه ، فقال لهم ، فكثروا عليه يسألونه فأرسل
__________
(1) الحلم ، بالتحريك : أن يفسد الجلد في العمل ويقع فيه دود فيتثقب ، تقول منه حلم ، بالكسر ، والحلمة : دودة تقع في الجلد فتأكله ، فإذا دبغ وهى موضع الاكل ، فبقى رقيقا ، تقول منه : حلم الاديم ، ومعنى البيت : أنت تسعى في إصلاح أمر قد تم فساده كهذه المرأة التى تدبغ الاديم الحلم الذى وقعت فيه الحلمة فنقبته وأفسدته فلا ينتفع به .
كذا فسره صاحب اللسان واستشهد بالبيت .
(2) في اللسان بعد هذا البيت : فقومك بالمدينة قد تردوا فهم صرعى كأنهم الهشيم فلو كنت المصاب وكان حيا تجرد لا ألف ولا سئم يهنيك الامارة كل ركب من الافاق سيرهم الرسيم وزاد الطبري بعد البيت الثاني من زيادات اللسان : وذكر الضبى في الفاخر 30 بعض هذه الابيات ونسبها إلى مروان بن الحكم .
(3) ديوانه 27 ، ومقاييس اللغة 2 : 380 ، 4 : 244 ، ولم يترمزم ، أي ما حرك فاه بالكلام ، كرا فسره ابن فاارس واستشهد بالبيت .
وانظر اللسان 15 : 147 .
(4) يقال : نهد لعدوه ، إذا أسرع لقتاله .
(*)(3/95)
إليه معاوية بالاعور السلمى يسأله ، فأتاه فسأله ، فقال له ، فأتى معاوية فأخبره ، فنادى : الصلاة جامعة ، ثم قام فخطب الناس ، وقال لهم إن عليا قد نهد إليكم في أهل العراق ، فما ترون ؟ فضرب الناس بأذقانهم على صدورهم ، لا يتكلمون ، فقام ذو الكلاع الحميرى فقال : عليك أم رأى وعلينا أم فعال ، وهى لغة حمير (1) .
فنزل ، ونادى في الناس بالخروج إلى معسكرهم ، وعاد إلى على عليه السلام ، فأخبره فنادى : الصلاة جامعة ، ثم قام فخطب الناس ، فأخبرهم أنه قدم عليه رسول كان بعثه إلى الشام ، وأخبره أن معاوية قد نهد إلى العراق في أهل الشام ، فما الرأى ؟ قال : فاضطرب أهل المسجد ، هذا يقول : الرأى كذا ، وهذا يقول : الرأى كذا ، وكثر الغط واللجب ، فلم يفهم على عليه السلام من كلامهم شيئا ، ولم يدر المصيب من المخطئ ، فنزل عن المنبر ، وهو يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ! ذهب بها ابن أكالة الاكباد (2) - يعنى معاوية .
* * * وروى ابن ديزيل عن عقبة بن مكرم ، عن يونس بن بكير ، عن الاعمش ، قال : كان أبو مريم صديقا لعلى عليه السلام ، فسمع بما كان فيه على عليه السلام من اختلاف أصحابه عليه ، فجاءه ، فلم يرع عليا عليه السلام إلا وهو قائم على رأسه بالعراق ، فقال له : أبا مريم ، ما جاء بك نحرى ؟ قال : ما جاء بى غيرك ، عهدي بك لو وليت أمر الامة كفيتهم ، ثم سمعت بما أنت فيه من الاختلاف ! فقال : يا أبا مريم ، إنى منيت بشرار خلق الله ، أريدهم على الامر الذى هو الرأى ، فلا يتبعونني .
* * *
__________
(1) وهى لغة نقلت عن طئ أيضا ، وعليه ورد الحديث : (ليس من امير امصيام في امسفر) .
مغنى اللبيب لابن هشام 1 : 48 .
(2) آكلة الاكباد ، هي هنذ بنت عتبة بن ربيعة ، زوج أبى سفيان وأم معاوية .
(*)(3/96)
وروى ابن ديزيل عن عبد الله بن عمر ، عن زيد بن الحباب ، عن علاء بن جرير العنبري ، عن الحكم بن عمير الثمالى - وكانت أمه بنت أبى سفيان بن حرب - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاصحابه ذات يوم : كيف بك يا أبا بكر إذا رليت ؟ قال : لا يكون ذلك أبدا ، قال : فكيف بك يا عمر إذا وليت ؟ (1 فقال : آكل حجرا 1) ، لقد لقيت إذن شرا ، قال : فكيف بك يا عثمان إذا وليت ؟ قال : آكل وأطعم وأقسم ولا أظلم ، قال : فكيف بك يا على إذا وليت ؟ قال : آكل الفوت وأحمى الجمرة ، وأقسم التمرة ، وأخفى الصور - قال : أي العورة - فقال صلى الله عليه وسلم : (أما إنكم كلكم سيلى ، وسيرى الله أعمالكم) ، ثم قال : يا معاوية ، كيف بك إذا وليت ؟ قال : الله ورسوله أعلم فقال : (أنت رأس الحطم ، ومفتاح الظلم ، حصبا وحقبا ، تتخذ الحسن قبيحا ، والسيئة حسنة ، يربو فيها الصغير ، ويهرم فيها الكبير ، أجلك يسير ، وظلمك عظيم) .
* * * وروى ابن ديزيل أيضا عن عمر بن عون ، عن هشيم ، عن أبى فلج ، عن عمرو بن ميمون ، قال : قال عبد الله بن مسعود : كيف أنتم إذا لقيتكم فتنة يهرم فيها الكبير ، و يوبو فيها الصغير ، تجرى بين الناس ، ويتخذونها سنة ، فإذا غيرت قيل : هذا منكر ! * * * وروى ابن ديزيل ، قال : حدثنا الحسن بن الربيع البجلى ، عن أبى إسحاق الفزارى عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك ، في قوله تعالى : (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون * أو نرينك الذى وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون) (2) .
قال : أكرم الله تعالى نبيه عليه السلام أن يريه في أمته ما يكره رفعه إليه ، وبقيت النقمة .
__________
(1) (1 - 1) في ا ، ج : (فقال حجرا) ، وفى حاشية ج : (يحتمل أن يكون بسكون الجيم ، بمعنى المنع) .
(2) سورة الزحرف 41 ، 42 .
(7 - نهج - 3) (*)(3/97)
قال ابن ديزيل : وحدثنا عبد الله بن عمر ، قال : حدثنا عمرو (1) بن محمد ، قال : أخبرنا أسباط ، عن السدى ، عن أبى المنهال ، عن أبى هريرة ، قال : قال صلى الله عليه وآله : (سألت ربى لامتي ثلاث خلال ، فأعطاني اثنتين ، ومنعنى واحدة : سألته ألا تكفر أمتى صفقة واحدة فأعطانيها ، وسألته ألا يعذبهم بما عذب به الامم قبلهم فأعطانيها ، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها) .
* * * قال ابن ديزيل : وحدثنا يحيى بن عبد الله الكرابيسى ، قال : حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن عمار بن زريق ، عن عمار الدهنى ، عن سالم بن أبى الجعد قال : جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود ، فقال : إن الله تعالى قد آمننا أن يظلمنا ، ولم يؤمنا أن يفتننا ، أرأيت إذا أنزلت فتنة ، كيف أصنع ؟ فقال : عليك كتاب الله تعالى ، قال : أفرأيت إن جاء قوم كلهم يدعو إلى كتاب الله تعالى ؟ فقال ابن مسعود : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق) ، يعنى عمارا .
* * * وروى ابن ديزيل ، قال : حدثنا يحيى بن زكريا (2) ، قال : حدثنا على بن القاسم ، عن سعيد بن طارق ، عن عثمان بن القاسم ، عن زيد بن أرقم ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ألا أدلكم على ما إن تساءلتم عليه لم تهلكوا ؟ إن وليكم الله ، وإن إمامكم على بن أبى طالب ، فناصحوه وصدقوه ، فإن جبريل أخبرني بذلك) .
فإن قلت : هذا نص صريح في الامامة ، فما الذى تصنع المعتزلة بذلك ؟ قلت : يجوز أن يريد أنه إمامهم في الفتاوى والاحكام الشرعية ، لا في الخلافة .
وأيضا فإنا قد شرحنا من قول شيوخنا البغداديين ما محصله : إن الامامة كانت لعلى
__________
(1) ب : (عمر) .
(2) ب : (زكريا بن يحيى) .
(*)(3/98)
عليه السلام إن رغب فيها ونازع عليها ، وإن أقرها في غيره وسكت عنها تولينا ذلك الغير ، وقلنا بصحة خلافته ، وأمير المؤمنين عليه السلام لم ينازع الائمة الثلاثة ، ولا جرد السيف ، ولا استنجد بالناس عليهم ، فدل ذلك على إقراره لهم على ما كانوا فيه ، فلذلك توليناهم ، وقلنا فيهم بالطهارة والخير والصلاح ، ولو حاربهم وجرد السيف عليهم ، واستصرخ العرب على حربهم لقلنا فيهم ما قلناه فيمن عامله هذه المعاملة ، من التفسيق والتضليل .
* * * قال ابن ديزيل : وحدثنا عمرو بن الربيع ، قال : حدثنا السرى بن شيبان ، عن عبد الكريم ، أن عمر بن الخطاب قال لما طعن : يا أصحاب محمد تناصحوا ، فإنكم إن لم تفعلوا غلبكم عليها عمرو بن العاص ومعاوية بن أبى سفيان .
قلت : إن محمد بن النعمان المعروف بالمفيد أحد الامامية قال في بعض كتبه : إنما أراد عمر بهذا القول إغراء معاوية وعمرو بن العاص بطلب الخلافة وإطماعهما فيها ، لان معاوية كان عامله وأميره على الشام ، وعمرو بن العاص عامله وأميره على مصر ، وخاف أن يضعف عثمان عنها ، وأن تصير إلى على عليه السلام ، فألقى هذه الكلمة إلى الناس لتنقل إليهما - وهما بمصر والشام - فيتغلبا على هذين الاقليمين إن أفضت إلى على عليه السلام .
وهذا عندي من باب الاستنباطات التى يوجبها الشنان والحنق ، وعمر كان أتقى لله من أن يخطر له هذا ، ولكنه من فراسته الصادقة التى كان يعلم بها كثيرا من الامور المستقبلة ، كما قال عبد الله بن عباس في وصفه : والله ما كان أوس بن حجر عنى أحدا سواه بقوله : الالمعى الذى يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا (1) * * *
__________
(1) ديوانه 13 .
(*)(3/99)
وروى ابن ديزيل ، عن عفان بن مسلم ، عن وهب بن خالد ، عن أيوب ، عن أبى قلابة ، عن أبى الاشعث ، عن مرة بن كعب ، قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله فتنة فقربها ، فمر رجل قد تقنع بثوبه ، فقال عليه السلام : (هذا وأصحابه يومئذ على الحق) ، فقمت إليه فأخذت بمنكبه ، فقلت : هو هذا ؟ فقال : نعم ، فإذا هو عثمان بن عفان .
قلت : هذا الحديث قد رواه كثير من محققى أصحاب الحديث ، ورواه محمد بن إسماعيل البخاري في ، ، تاريخه الكبير ، ، بعدة روايات .
وليس لقائل أن يقول : فهذا الحديث إذا صححتموه كان حجة للسفيانية ، لانا نقول : الخبر يتضمن أن عثمان وأصحابه على الحق ، وهذا مذهبنا ، لانا نذهب إلى أن عثمان قتل مظلوما ، وأنه وناصرية يوم الدار على الحق ، وأن القوم الذين قتلوه لم يكونوا على الحق ، فأما معاوية وأهل الشام الذين حاربوا عليا عليه السلام بصفين فليسوا بداخلين في الخبر ، ولا في ألفاظ الخبر لفظ عموم يتعلق به ، ألا ترى أنه ليس فيه كل من أظهر الانتصار لعثمان في حياته وبعد وفاته فهو على الحق ، وإنما خلاصته أنه ستقوم فتنة ، يكون عثمان فيها وأصحابه على الحق ، ونحن لا نأبى ذلك ، بل هو مذهبنا .
* * * وروى نصر بن مزاحم في كتاب ، ، صفين ، ، قال : (1) لما قدم عبيد الله بن عمر بن الخطاب على معاوية بالشام ، أرسل معاوية إلى عمرو بن العاص : إن الله قد أحيا لك عمر بن الخطاب بالشام بقدوم عبيد الله بن عمر ، وقد رأيت أن أقيمه خطيبا يشهد على على بقتل عثمان ، وينال منه ، فقال : الرأى ما رأيت ، فبعث إليه ، فأتاه ، فقال له معاوية : يا بن أخى ، إن لك
__________
(1) وقعة صفين 92 - 94 (*)(3/100)
اسم أبيك فانظر بملء عينيك ، وانطق بملء فيك ، فأنت المأمون المصدق ، فاصعد المنبر واشتم عليا ، واشهد عليه أنه قتل عثمان .
فقال : أيها الامير ، أما شتمه ، فإن أباه أبو طالب ، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم ، فما عسى أن أقول في حسبه ! وأما بأسه فهو الشجاع المطرق ، وأما أيامه فما قد عرفت ، ولكني ملزمه دم عثمان ، فقال عمرو بن العاص : قد وأبيك إذن نكأت القرحة .
فلما خرج عبيد الله بن عمر ، قال معاوية : أما والله لو لا قتله الهرمزان ، ومخافته عليا على نفسه ما أتانا أبدا ، ألا ترى إلى تقريظه عليا ! فقال عمرو : يا معاوية ، إن لم تغلب فاخلب ، قال : وخرج حديثهما إلى عبيد الله ، فلما قام خطيبا تكلم بحاجته ، فلما انتهى إلى أمر على أمسك ولم يقل شيئا ، فلما نزل بعث إليه معاوية : يا بن أخى ، إنك بين عى وخيانة ، فبعث إليه : إنى كرهت أن أقطع الشهادة على رجل لم يقتل عثمان ، وعرفت أن الناس محتملوها عنى فتركتها .
قال : فهجره معاوية واستخف به وفسقه ، فقال عبيد الله : معاوى لم أحرض بخطبة خاطب ولم أك عيا في لؤى بن غالب (1) ولكننى زاولت نفسا أبية على قذف شيخ بالعراقين غائب وقذفي عليا بابن عفان جهرة كذاب ، وما طبى سجايا المكاذب (2) ولكنه قد قرب القوم جهده ودبوا حواليه دبيب العقارب فما قال : أحسنتم ولا قد أسأتم وأطرق إطراق الشجاع المواثب
__________
(1) لم أحرض : لم أكل ولم أعى .
وفى صفين : (لم أخرص) ، أي لم أكذب .
(2) رواية كتاب صفين : * يجدع بالشحنا أنوف الاقارب * (*)(3/101)
فأما ابن عفان فأشهد أنه أصيب بريئا لابسا ثوب تائب (1) وقد كان فيها للزبير عجاجة وطلحة فيها جاهد غير لاعب وقد أظهرا من بعد ذلك توبة فياليت شعرى ما هما في العواقب ! قال : فلما بلغ معاوية شعره بعث إليه فأرضاه ، وقال : حسبى هذا منك .
* * * وروى نصر ، عن عبيد الله بن موسى ، قال : سمعت سفيان بن سعيد المعروف بسفيان الثوري ، يقول : ما أشك أن طلحة والزبير بايعا عليا ، وما نقما عليه جورا في حكم ولا استئثارا بفئ ، وما قاتل عليا أحد إلا وعلى أولى بالحق منه .
وروى نصر بن مزاحم أن عليا عليه السلام قدم من البصرة في غرة شهر رجب من سنة ست وثلاثين إلى الكوفة ، وأقام بها سبعة عشر شهرا ، تجرى الكتب بينه وبين معاوية وعمرو بن العاص ، حتى سار إلى الشام .
قال نصر : (2) وقد روى من طريق أبى الكنود وغيره أنه قدم الكوفة بعد وقعة الجمل ، لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر رجب سنة ست وثلاثين .
قال نصر : فدخل الكوفة ومعه أشراف الناس من أهل البصرة وغيرهم ، فاستقبله أهل الكوفة ، وفيهم قراؤهم وأشرافهم ، فدعوا له بالبركة وقالوا : يا أمير المؤمنين أين تنزل ؟ أتنزل القصر ؟ قال : لا ، ولكني أنزل الرحبة ، فنزلها وأقبل حتى دخل المسجد الاعظم ، فصلى فيه ركعتين ، ثم صعد المنبر فحمد الله ، وأثنى عليه وصلى على رسوله ، ثم قال :
__________
(1) بعده في كتاب صفين : حرام على آهاله نتف شعره فكيف وقد جازوه ضربة لازب (2) وقعة صفين 5 - 8 .
(*)(3/102)
أما بعد يا أهل الكوفة ، فإن لكم في الاسلام فضلا ما لم تبدلوا وتغيروا ، دعوتكم إلى الحق فأجبتم ، وبدأتم بالمنكر فغيرتم ، ألا إن فضلكم فيما بينكم وبين الله ، فأما في الاحكام والقسم فأنتم أسوة غيركم ممن أجابكم ، ودخل فيما دخلتم فيه .
ألا إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى ، وطول الامل ، أما اتباع الهوى فيصد عن الحق ، وأما طول الامل فينسى الاخرة ، ألا إن الدنيا قد ترحلت مدبرة ، وإن الاخرة قد ترحلت مقبلة ، ولكل واحدة منهما بنون ، فكونوا من أبناء الاخرة .
اليوم عمل ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل ، الحمد لله الذى نصر وليه ، وخذل عدوه ، وأعز الصادق المحق ، وأذل الناكث المبطل .
عليكم بتقوى الله وطاعة من أطاع الله من أهل بيت نبيكم ، الذين هم أولى بطاعتكم فيما أطاعوا الله فيه من المستحلين المدعين المقابلين (1) إلينا ، يتفضلون بفضلنا ، ويجاحدوننا أمرنا ، وينازعوننا حقنا ، ويباعدوننا عنه ، فقد ذاقوا وبال ما اجترحوا فسوف يلقون غيا .
ألا إنه قد قعد عن نصرتي رجال منكم ، وأنا عليهم عاتب زار ، فاهجروهم وأسمعوهم ما يكرهون ، حتى يعتبوا (2) ليعرف بذلك حزب الله عند الفرقة .
فقام إليه مالك بن حبيب اليربوعي - وكان صاحب شرطته - فقال : والله إنى لارى الهجر وسماع المكروه لهم قليلا ، والله لو أمرتنا لنقتلنهم .
فقال على عليه السلام : سبحان الله يا مال ! جزت المدى ، وعدوت الحد ، فأغرقت (3) في النزع .
فقال : يا أمير المؤمنين ، لبعض الغشم أبلغ في أمر ينوبك من مهادنة الاعادي ، فقال على عليه السلام : ليس هكذا قضى الله ، يا مال ، قال سبحانه : (النفس بالنفس) (4) فما بال ذكر الغشم !
__________
(1) كذا في ج وصفين ، وفى ا ، ب : (القائلين إلينا) .
(2) الاعتاب : إعطاء العتبى ، وهى الرضا (3) ا ، ج : (وأغرقت) .
(4) سورة المائدة 45 .
(*)(3/103)
وقال تعالى : (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا يسرف في القتل) (1) ، والاسراف في القتل أن تقتل غير قاتلك ، فقد نهى الله عنه ، وذاك هو الغشم .
فقام إليه أبو بردة بن عوف الازدي - وكان ممن تخلف عنه - فقال : يا أمير المؤمنين ، أرأيت القتلى حول عائشة وطلحة والزبير ، علا م قتلوا ؟ - أو قال : بم قتلوا ؟ - فقال على عليه السلام : قتلوا بما قتلوا شيعتي وعمالي ، وقتلوا أخا ربيعة العبدى في عصابة من المسلمين ، قالوا : إنا لا ننكث كما نكثتم ، ولا نغدر كما غدرتم ، فوثبوا عليهم فقتلوهم ، فسألتهم أن يدفعوا إلى قتلة إخوانى أقتلهم بهم ، ثم كتاب الله حكم بينى وبينهم ، فأبوا على ، وقاتلوني - وفي أعناقهم بيعتى ، ودماء قريب من ألف رجل من شيعتي - فقتلتهم ، أفى شك أنت من ذلك ! فقال : قد كنت في شك ، فأما الان فقد عرفت ، واستبان لى خطأ القوم ، وإنك المهتدى المصيب .
قال نصر : وكان أشياخ الحى يذكرون أنه كان عثمانيا ، وقد شهد على ذلك صفين مع على عليه السلام ، ولكنه بعد ما رجع كان يكاتب معاوية ، فلما ظهر معاوية أقطعه قطيعة بالفلوجة (2) ، وكان عليه كريما .
قال : ثم إن عليا عليه السلام تهيأ لينزل ، وقام رجال ليتكلموا ، فلما رأوه نزل جلسوا وسكتوا .
قال : ونزل على عليه السلام بالكوفة على جعدة بن هبيرة المخزومى .
قلت : جعدة ابن أخته أم هاني بنت أبى طالب ، كانت تحت هبيرة بن أبى وهب المخزومى ، فأولدها جعدة ، وكان شريفا .
* * * (1) سورة الاسراء 33 .
(2) في مراصد الاطلاع : الفلوجة الكبرى والفلوجة الصغرى : قريتان كبيرتان من سواد بغداد والكوفة قرب عين التمر .
قلت : والمشهور هي هذه التى على شاطئ الفرات ، عندها فم نهر الملك من الجانب الشرقي .
(*)(3/104)
قال نصر : ولما (1) قدم على عليه السلام إلى الكوفة نزل على باب المسجد ، فدخل فصلى ، ثم تحول فجلس إليه الناس ، فسأل عن رجل من الصحابة كان نزل الكوفة ، فقال قائل : استأثر الله به ، فقال على عليه السلام : إن الله تبارك وتعالى لا يستأثر بأحد من خلقه ، إنما أراد الله جل ذكره بالموت إعزاز نفسه ، وإذلال خلقه ، وقرأ : (كنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم) (2) ، قال نصر : فلما لحقه عليه السلام ثقله قالوا : أننزل القصر ؟ فقال : قصر الخبال ، لا تنزلوا فيه (3) .
* * * قال نصر : ودخل (4) سليمان بن صرد الخزاعى على على عليه السلام ، مرجعه (5) من البصرة ، فعاتبه وعذله ، وقال له : ارتبت وتربصت وراوغت ، وقد كنت من أوثق الناس في نفسي ، وأسرعهم فيما أظن إلى نصرتي ، فما قعد بك عن أهل بيت نبيك ؟ وما زهدك في نصرتهم ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، لا تردن الامور على أعقابها ، ولا تؤنبنى بما مضى منها ، واستبق مودتي تخلص لك نصيحتي ، فقد بقيت أمور تعرف فيها عدوك من وليك .
فسكت عنه ، وجلس سليمان قليلا ، ثم نهض ، فخرج إلى الحسن بن على عليه السلام ، وهو قاعد في باب المسجد ، فقال : ألا أعجبك من أمير المؤمنين ، وما لقيت منه من التوبيخ والتبكيت ؟ فقال الحسن : إنما يعاتب من ترجى مودته ونصيحته ، فقال : لقد وثبت أمور ستشرع فيها القنا ، وتنتضى فيها السيوف ، ويحتاج فيها إلى اشباهي ، فلا
__________
(1) كتاب صفين 8 .
(2) سورة البقرة 28 .
(3) صفين : (لا تنزلونية) .
(4) وقعة صفين 9 (5) وقعة صفين : (بعد رجعته) .
(*)(3/105)
تستغشوا عتبى (1) ، ولا تتهموا نصحي .
فقال الحسن : رحمك الله ، ما أنت عندنا بظنين (2) .
قال نصر : ودخل عليه سعيد بن قيس الازدي ، فسلم عليه ، فقال : وعليك السلام وإن كنت من المتربصين ! قال : حاش لله يا أمير المؤمنين ! فإنى لست من أولئك .
فقال : لعل الله فعل ذلك .
* * * قال نصر : وحدثنا (3) عمر بن سعد ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن محمد بن مخنف ، قال : دخلت مع أبى على على عليه السلام ، مقدمه (4) من البصرة ، وهو عام بلغت الحلم ، فإذا بين يديه رجال يؤنبهم ، ويقول لهم : ما أبطأ بكم عنى ، وأنتم أشراف قومكم ! والله إن كان من ضعف النية وتقصير البصيرة ، إنكم لبور (5) ، وإن كان من شك في فضلى ومظاهرة على ، إنكم لعدو .
فقالوا : حاش لله يا أمير المؤمنين ! نحن سلمك وحرب عدوك .
ثم اعتذر القوم فمنهم من ذكر عذرا ، ومنهم من اعتل بمرض ، ومنهم من ذكر غيبة ، فنظرت إليهم فعرفتهم ، فإذا عبد (6) الله المعتم العبسى ، وحنظلة بن الربيع التميمي ، وكلاهما كانت له صحبة ، وإذا أبو بردة بن عوف الازدي ، وإذا غريب بن شرحبيل الهمداني .
قال : ونظر على عليه السلام إلى أبى ، فقال : ولكن مخنف بن مسلم وقومه لم يتخلفوا ، ولم يكن مثلهم كمثل القوم الذين قال الله تعالى فيهم : (وإن منكم لمن ليبطئن فإن
__________
(1) لا تستغشوا عتبى ، أي لا تظنوا عتابي لكم غشا .
(2) الظنين : المتهم ، وأصله : (مظنون) .
(3) وقعة صفين 10 (4) وقعة صفين : (حين قدم) .
(5) لبور ، أي هالكون ، جمع بلفظ المفرد .
(6) في الاصول : (عبيد الله) صوابه من صفين .
(*)(3/106)
أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله على إذ لم أكن معهم شهيدا * ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتنى كنت معهم فأفوز فوزا عظيما) (1) .
قال نصر : ثم (2) إن عليا عليه السلام مكث بالكوفة ، فقال الشنى في ذلك ، [ شن بن عبد القيس ] (3) : قل لهذا الامام قد خبت الحرب وتمت بذلك النعماء وفرغنا من حرب من نقض العهد وبالشام حية صماء تنفث السم ما لمن نهشته - فارمها قبل أن تعض - شفاء (4) إنه والذى يحج له الناس ومن دون بيته البيداء لضعيف النخاع إن رمى اليوم بخيل كأنها أشلاء (5) تتبارى بكل أصيد كالفحل بكفيه صعدة سمراء (6) إن تذره فما معاوية الدهر بمعطيك ما أراك تشاء ولنيل السماء أقرب من ذاك ونجم العيوق والعواء (7) فاعد بالحد والحديد إليهم ليس والله غير ذاك دواء
__________
(1) سورة النساء 72 ، 73 .
(2) كتاب صفين 11 ، 12 .
(3) تكملة من كتاب وقعة صفين ، وهو الاعور الشنى ، واسمه بشر بن منقذ ، أحد بنى شن بن أقصى بن عبد القيس .
وانظر المؤتلف والمختلف للامدي 38 (4) في اللسان : (قيل للحية التى لا تجيب الرافى صماء ، لان الرقى لا تنفعها) .
(59 أشلاء الانسان : أعضاؤه ، وبعده في كتاب صفين : جانحات تحت العجاج سخالا مجهضات تخالها الاسلاء (6) الصعدة : القناة المستوية التى لا تحتاج إلى التثقيف .
(7) العيوق : نجم أحمر مضئ في طرف المجرة الايمن ، يتلو الثريا لا يتقدمها .
والعواء : منزل للقمر .
(*)(3/107)
قال نصر : وأتم على عليه السلام صلاته يوم دخل الكوفة ، فلما كانت الجمعة خطب الناس ، فقال : الحمد لله الذى أحمده (1) وأستعينه وأستهديه ، وأعوذ بالله من الضلالة ، من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادى له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، انتجبه لامره ، واختصه بنبوته .
أكرم خلقه عليه ، وأحبهم إليه ، فبلغ رسالة ربه ، ونصح لامته ، وأدى الذى عليه .
أوصيكم بتقوى الله ، فإن تقوى الله خير ما تواصى به عباد الله ، وأقربه إلى رضوان الله ، وخيره في عواقب الامور عند الله ، وبتقوى الله أمرتم ، وللاحسان والطاعة خلقتم ، فاحذروا من الله ما حذركم من نفسه ، فإنه حذر بإسا شديدا ، واخشوا خشية ليست بتعذير (2) واعملوا في غير رياء ولا سمعة فإنه من عمل لغير الله وكله الله إلى ما عمل له ، ومن عمل لله مخلصا تولى الله أجره .
أشفقوا من عذاب الله ، فإنه لم يخلقكم عبثا ، ولم يترك شيئا من أمركم سدى ، قد سمى آثاركم ، وعلم أعمالكم ، وكتب آجالكم ، فلا تغتروا بالدنيا فإنها غرارة لاهلها ، مغرور من اغتر بها ، وإلى فناء ماهى ، وإن الاخرة هي دار الحيوان لو كانوا يعلمون .
أسأل الله منازل الشهداء ، ومرافقة الانبياء ، ومعيشة السعداء ، فإنما نحن به وله (3) .
قال نصر : ثم (4) استعمل على عليه السلام العمال وفرقهم في البلاد ، وكتب إلى معاوية مع جرير بن عبد الله البحلى ما تقدم ذكره .
__________
(1) صفين : (إن الحمدلله أحمده) .
(2) التعذير هنا : الاهمال والتقصير .
(3) صفين 13 .
(4) كتاب صفين 14 ، وفيه : (ثم إن عليا أقام بالكوفة واستعمل العمال) .
(*)(3/108)
قال نصر : (1) وقال معاوية لعمرو بن العاص ، أيام كان جرير عنده ينتظر جوابه : إننى قد رأيت أن نلقى إلى أهل مكة وأهل المدينة كتابا ، نذكر فيه أمر عثمان ، فإماأن ندرك به حاجتنا ، أو نكف القوم عنا ، فقال له عمرو : إنما تكتب إلى ثلاثة نفر : رجل راض بعلى فلا يزيده كتابك إلا بصيرة فيه ، أو رجل يهوى عثمان ، فلن يزيده كتابك على ما هو عليه ، أو رجل معتزل ، فلست في نفسه بأوثق من على .
قال : على ذاك ، فكتبا : أما بعد ، فإنه مهما غاب عنا من الامور فلم يغب عنا أن عليا قتل عثمان ، والدليل على ذلك مكان قتلته منه ، وإنما نطلب قتلته ، حتى يدفعوا إلينا ، فنقتلهم بكتاب الله عزوجل ، فإن دفعهم على إلينا كففنا عنه ، وجعلناها شورى بين المسلمين على ما جعلها عليه عمر بن الخطاب .
فأما الخلافة فلسنا نطلبها ، فأعينونا على أمرنا هذا ، وانهضوا من ناحيتكم ، فإن أيدينا وأيديكم إذا اجتمعت على أمر واحد هاب على ما هو فيه ، والسلام .
فكتب إليهما عبد الله بن عمر : أما بعد ، فلعمري لقد أخطأتما موضع النصرة وتناولتماها من مكان بعيد ، وما زاد الله من شك في هذا الامر بكتابكما إلا شكا ، وما أنتما والمشورة ، وما أنتما والخلافة ! أما أنت يا معاوية فطليق ، وأما أنت يا عمرو فظنين (2) ، ألا فكفا أنفسكما ، فليس لكم فينا ولى ولا نصير .
والسلام .
قال نصر : وكتب (3) رجل من الانصار إليهما مع كتاب عبد الله بن عمر :
__________
(1) كتاب صفين 70 ، 71 .
(2) كتاب صفين : (فظنون) ، والظنين والظنون بمعنى المتهم .
(3) صفين 71 .
(*)(3/109)
معاوى إن الحق أبلج واضح وليس بماربصت أنت ولا عمرو نصبت ابن عفان لنا اليوم خدعة كما نصب الشيخان إذ قضى الامر (1) - يعنى طلحة والزبير رحمهما الله - فهذا كهذاك البلا حذو نعله سواء كرقراق يغر به السفر (2) رميتم عليا بالذى لا يصيره وإن عظمت فيه المكيدة والمكر (3) وما ذنبه إن عثمان معشر أتوه من الاحياء تجمعهم مصر فثار إليه المسلمون ببيعة علانية ما كان فيها لهم قسر وبايعه الشيخان ثم تحملا إلى العمرة العظمى وباطنها الغدر فكان الذى قد كان مما اقتصاصه يطول ، فيا لله ما أحدث الدهر (4) وما أنتما والنصر منا وأنتما بعيثا حروب ما يبوخ لها جمر (5) وما أنتما لله در أبيكما وذكركما الشورى وقد وضح الفجر (6) * * * قال نصر (7) : وقام عدى بن حاتم الطائى إلى على عليه السلام ، فقال : يا أمير المؤمنين إن عندي رجلا لا يوازى (8) به رجل ، وهو يريد أن يزور ابن عمة حابس بن سعد الطائى بالشام ، فلو أمرناه أن يلقى معاوية لعله أن يكسره ويكسر أهل الشام ، فقال على
__________
(1) كتاب صفين : (إذ زخرف الامر) .
(2) الرقراق : ما يتراءى للمسافر من رمال الصحراء كأنها الماء .
(3) كتاب صفين : (لا يضره) .
(4) اقتصاصه : قصه وحكايته ، وفى صفين : (رجيع فيالله ما أحدث الدهر) .
(5) يبوخ الجمر : ينطفئ .
(6) صفين : (وقد فلج الفجر) .
(7) صفين 71 - 74 .
(8) صفين : (لايجارى به) .
(*)(3/110)
عليه السلام : نعم ، فأمره عدى بذلك (1) - وكان اسم الرجل خفاف بن عبد الله .
فقدم على ابن عمه حابس بن سعد بالشام - وحابس سيد طئ بها - فحدث خفاف حابسا أنه شهد عثمان بالمدينة ، وسار مع على إلى الكوفة ، وكان لخفاف لسان وهيئة وشعر ، فغدا حابس بخفاف إلى معاوية ، فقال : إن هذا ابن عم لى ، قدم الكوفة مع على ، وشهد عثمان بالمدينة ، وهو ثقة .
فقال له معاوية : هات ، حدثنا عن عثمان ، فقال : نعم حصره المكشوح [ وحكم فيه حكيم ، ووليه عمار ، وتجرد في أمره ثلاثة نفر : عدى بن حاتم ] (2) والاشتر النخعي ، وعمرو بن الحمق ، وجد في أمره رجلان وطلحة والزبير ، وأبرأ الناس منه على .
قال : ثم مه ، قال : ثم تهافت الناس على على بالبيعة تهافت الفراش ، حتى ضاعت النعل و (3) وسقط الرداء ، ووطئ الشيخ .
ولم يذكر عثمان ولم يذكر له ، ثم تهيا للمسير ، وخف معه المهاجرون والانصار ، وكره القتال معه ثلاثة نفر : سعد بن مالك ، وعبد الله بن عمر ، ومحمد بن مسلمة ، فلم يستكره أحدا ، واستغنى بمن خف معه عمن ثقل .
ثم سار حتى أتى جبل طئ ، فأتته منا جماعة كان ضاربا بهم الناس ، حتى إذا كان ببعض الطريق أتاه مسير طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة ، فسرح رجالا إلى الكوفة يدعونهم ، فأجابوا دعوته ، فسار إلى البصرة ، فإذا هي في كفه ، ثم قدم الكوفة فحمل إليه الصبى ، ودبت إليه العجوز ، وخرجت إليه العروس فرحا به وشوقا إليه ، وتركته وليس له همة إلا الشام .
فذعر معاوية من قوله ، وقال حابس : أيها الامير ، لقد أسمعني شعرا غير به حالى في عثمان ، وعظم به عليا عندي .
__________
(1) صفين : (فمره بذلك) .
(2) ما بين العلامتين تكملة من كتاب صفين .
(3) صفين : (حتى ضلت النعل) .
(*)(3/111)
فقال معاوية : أسمعنيه يا خفاف ، فأنشده شعرا أوله : قلت والليل ساقط الاكناف ولجنبي عن الفراش تجاف - يذكر فيه حال عثمان وقتله ، وفيه إطالة عدلنا عن ذكره (1) ...
ومن جملته : قد مضى ما مضى ومر به الدهر كما مر ذاهب الاسلاف (2) إننى والذى يحج له الناس على لحق البطون عجاف (3) تتبارى مثل القسى من النبع بشعث مثل السهام نحاف (4) ارهب اليوم إن أتاكم على صيحة مثل صيحة الاحقاف إنه الليث غاديا وشجاع مطرق نافث بسم زعاف (5) واضع السيف فوق عاتقه الايمن يفرى به شئون القحاف (6) سوم الخيل ثم قال لقوم بايعوه إلى الطعان خفاف (7) استعدوا لحرب طاغية الشام فلبوه كاليدين اللطاف ثم قالوا أنت الجناح لك الريش القدامى ونحن منه الخوافى (8) فانظر اليوم قبل بادرة القوم بسلم تهم أم بخلاف (9) قال : فانكسر معاوية ، وقال : يا حابس إنى لاظن هذا عينا لعلى ، أخرجه عنك لئلا يفسد علينا أهل الشام .
__________
(1) كلمة غير واضحة في جميع الاصول .
(2) القصيدة كاملة في كتاب صفين 73 - 75 .
(3) اللحق : جمع لاحق ، وهو الضامر من الخيل .
(4) صفين : (مثل الرصاف) .
(5) الشجاع هنا : الحية .
(6) القحاف : عظام الجماجم .
والشئون : مجتمع قبائل الرأس .
وفي صفين : (يذرى) .
(7) سوم الخيل : أعلمها بعلامة .
(8) القدامى : الريشات التى تكون في مقدمة الجناح ، الواحدة قادمة .
الخوافى : ريشات إذا ضم الطائر جناحيه خفيت .
وفي المثل : (ليس القوادم كالخوافى) .
(9) صفين : (نادية القوم) .
(*)(3/112)
قال نصر : وحدثنا عطية بن غنى (1) ، عن زياد بن رستم ، قال : (2) كتب معاوية إلى عبد الله بن عمر خاصة ، وإلى سعد بن أبى وقاص ، وإلى محمد بن مسلمة ، دون كتابه إلى أهل المدينة ، فكان كتابه إلى عبد الله بن عمر : أما بعد ، فإنه لم يكن أحد من قريش أحب إلى أن يجتمع عليه الناس (3) بعد قتل عثمان منك ، ثم ذكرت خذلك إياه ، وطعنك على أنصاره ، فتغيرت لك ، وقد هون ذلك على خلافك على على ، ومحا عنك بعض ما كان منك ، فأعنا - رحمك الله - على حق هذا الخليفه المظلوم ، فإنى لست أريد الامارة عليك ، ولكني أريدها لك ، فإن أبيت كانت شورى بين المسلمين (4) .
فأجابه عبد الله بن عمر : أما بعد ، فإن الرأى الذى أطمعك في ، هو الذى صيرك إلى ما صيرك إليه .
أترك عليا في المهاجرين والانصار ، وطلحة والزبير وعائشة أم االمؤمنين ، وأتبعك ! وأما زعمك أنى طعنت على على ، فلعمري ما أنا كعلى في الايمان والهجرة ، ومكانه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونكايته في المشركين ، ولكني عهد (5) إلى في هذا الامر عهد ، ففزعت فيه إلى الوقوف وقلت : إن كان هذا هدى ففضل تركته ، وإن كان ضلالا فشر نجوت منه ، فأغن عنانفسك ، والسلام (6) .
__________
(1) كذا في ا ، وصفين ، وفي ب : (غناء) ، وفي ج : (مغنى) .
(2) كتاب صفين 79 ، 80 .
(3) صفين : (الامة) .
(4) ذكر في كتاب صفين أبياتا مصلعها : الأقل لعبد الله واخصص محمدا وفارسنا المأمون سعد بن مالك (5) صفين : (ولكن حدث أمر لم يكن من رسول الله إلى فيه عهد) .
(6) في كتاب صفين : (ثم قال لابن أبى غزية : أجب الرجل - وكان أبوه ناسكا ، وكان من أشعر قريش فقال) ...
وذكر أبياتا مطلعها : معاوى لا ترجو الذى لست نائلا وحاول نصيرا غير سعد بن مالك (8 - نهج - 3) (*)(3/113)
قال : وكان كتاب معاوية إلى سعد : أما بعد ، فإن أحق الناس بنصر عثمان أهل الشورى من قريش ، الذين أثبتوا حقه واختاروه على غيره ، وقد نصره طلحة والزبير ، وهما شريكان في الامر ، ونظيراك في الاسلام ، وخفت لذلك أم المؤمنين ، فلا تكرهن ما رضوا ، ولا تردن ما قبلوا ، فإنا نردها شورى بين المسلمين (1) .
فأجابه سعد .
أما بعد فإن عمر لم يدخل في الشورى إلا من تحل له الخلافة من قريش ، فلم يكن أحد منا أحق بها من صاحبه إلا بإجماعنا (2) عليه ، ألا إن عليا كان فيه ما فينا ، ولم يكن فينا ما فيه ، وهذا أمر قد كرهت أوله ، وكرهت آخره ، فأما طلحة والزبير فلو لزما بيوتهما لكان خيرا لهما ، والله يغفر لام المؤمنين ما أتت والسلام (3) .
قال : وكان كتاب معاوية إلى محمد بن مسلمة : أما بعد ، فإنى لم أكتب إليك وأنا أرجو مبايعتك (4) ، ولكني أردت أن أذكرك النعمة التى خرجت منها ، والشك الذى صرت إليه ، إنك فارس الانصار ، وعدة المهاجرين ، وقد ادعيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرا لم تستطع إلا أن تمضى عليه ، وهو أنه نهاك عن قتال أهل القبلة (5) ، أفلا نهيت أهل القبلة (5) عن قتال بعضهم بعضا !
__________
(1) في كتاب صفين : 83 (وقال شعرا) ، وذكر أبياتا أولها .
ألا يا سعد قد أظهرت شكا وشك المرء في الاحداث الداء (2) كتاب صفين : (باجتماعنا) .
(3) في كتاب صفين 84 : (ثم أجابه في الشعر) ، وذكر أبياتا أولها : معاوى داؤك الداء العياء فليس لما تجئ به دواء (4) كتاب صفين : (متابعتك) .
(5) كتاب صفين : (الصلاة) .
(*)(3/114)
فقد كان عليك أن تكره لهم ما كره رسول الله صلى الله عليه ، ألم تر عثمان وأهل الدار من أهل القبلة (1) ! فأما قومك فقد عصوا الله ، وخذلوا عثمان ، والله سائلهم وسائلك عما كان يوم القيامة .
والسلام .
قال : فكتب إليه محمد بن مسلمة : أما بعد ، فقد اعتزل هذا الامر من ليس في يده من رسول الله صلى الله عليه مثل الذى في يده ، قد أخبرني رسول الله صلى الله على بالذى هو كائن قبل أن يكون ، فلما كان كسرت سيفى ، وجلست في بيتى ، واتهمت الرأى على الدين ، إذ لم يصح لى معروف آمر به ، ولا منكر أنهى عنه .
وأما أنت فلعمري ما طلبت إلا الدنيا ، ولا اتبعت إلا الهوى وإن تنصر عثمان ميتا فقد خذلته حيا ، والسلام (2) .
* * * [ مفارقة جرير بن عبد الله البجلى لعلى ] قد أتينا على ما أردنا ذكره من حال أمير المؤمنين عليه السلام ، مذ قدم من حرب البصرة إلى الكوفة ، وما جرى بينه وبين معاوية من المراسلات ، وما جرى بين معاوية وبين غيره من الصحابة من الاستنجاد والاستصراخ ، وما أجابوه به ، ونحن نذكر الان ما جرى لجرير بن عبد الله عند عوده إلى أمير المؤمنين من تهمة الشيعة له بممالاة معاوية عليهم ، ومفارقته جنبة أمير المؤمنين .
قال نصر بن مزاحم : (3) حدثنا صالح بن صدقة بإسناده ، قال : قال لما رجع جرير
__________
(1) كتاب صفين : (الصلاة) .
(2) تتمة الرسالة كما في كتاب صفين 86 : (فما أخرجنى الله من نعمة ، ولاصيرنى إلى شك ، إن كنت أبصرت خلاف ما تحبني به ومن قبلنا من المهاجرين والانصار ، فنحن أولى بالصواب منك) .
(3) كتاب صفين 66 - 68 .
(*)(3/115)
إلى على عليه السلام ، كثر قول الناس في التهمة لجرير في أمر معاوية فاجتمع جرير والاشتر عند على عليه السلام ، فقال الاشتر : أما والله يا أمير المؤمنين ، أن لو كنت أرسلتني إلى معاوية ، لكنت خيرا لك من هذا الذى أرخى خناقة (1) ، وأقام عنده ، حتى لم يدع بابا يرجو فتحه إلا فتحه ، ولا بابا يخاف أمره إلا سده .
فقال جرير : لو كنت والله أتيتهم لقتلوك - وخوفه بعمرو ، وذى الكلاع ، وحوشب - (2) وقال : إنهم يزعمون أنك من قتله عثمان .
فقال الاشتر : والله لو أتيتهم يا جرير لم يعينى جوابها ، ولم يثقل على محملها ، ولحملت معاوية على خطة أعجله فيها عن الفكر .
قال : فائتهم إذا .
قال : الان وقد أفسدتهم ووقع بينهم الشر ! وروى نصر ، عن نمير بن وعلة ، عن الشعبى قال : (3) اجتمع جرير والاشتر عند على عليه السلام ، فقال الاشتر : أليس قدنهيتك يا أمير المؤمنين أن تبعث جريرا ، وأخبرتك بعداوته وغشه ! وأقبل الاشتر يشتمه ، ويقول : يا أخا بجيلة ، إن عثمان اشترى منك دينك بهمدان (4) ، والله ما أنت بأهل أن تترك تمشى فوق الارض ، إنما أتيتهم لتتخذ عندهم يدا بمسيرك إليهم ، ثم رجعت إلينا من عندهم تهددنا بهم ، وأنت والله منهم ، ولا أرى سعيك إلا لهم ، لئن أطاعنى فيك أمير المؤمنين ليحبسنك وأشباهك في حبس لا تخرجون منه حتى تستتم هذه الامور ، ويهلك الله الظالمين .
قال جرير : وددت والله أن لو كنت مكاني بعثت ، إذن والله لم ترجع .
__________
(1) صفين : (من خناقه) .
(2) صفين : (وحوشب بن ظليم) .
(3) كتاب صفين 67 ، 68 .
(4) كذا في ب وصفين ، وفي ج : (بهمذان) .
(*)(3/116)
قال : فلما سمع جرير مثل ذلك من قوله ، فارق عليا عليه السلام ، فلحق بقرقيسياء (1) ولحق به ناس من قسر (2) من قومه ، فلم يشهد صفين من قسر غير تسعة عشر رجلا ، ولكن شهدها من أحمس (3) سبعمائة رجل .
قال نصر : وقال الاشتر فيما كان من تخويف من جرير إياه بعمرو وحوشب [ وذى الكلاع ] (4) : لعمرك يا جرير لقول عمرو وصاحبه معاوى بالشام وذى كلع وحوشب ذى ظليم أخف على من ريش النعام (5) إذا اجتمعوا على فخل عنهم وعن باز مخالبه دوامى ولست بخائف ما خوفوني وكيف أخاف أحلام النيام ! وهمهم الذى حاموا عليه من الدنيا ، وهمى ما أمامى (6) فإن أسلم أعمهم بحرب يشيب لهولها رأس الغلام وإن أهلك فقد قدمت أمرا أفوز بفلجه يوم الخصام (7) وقد زادوا على وأوعدوني ومن ذا مات من خوف الكلام ! * * * [ نسب جرير بن عبد الله البجلى وبعض أخباره ] وذكر ابن قتيبة في ، ، المعارف ، ، أن جريرا قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) قرقيسياء : بلد بالحابور عند مصبه .
(2) قسر : رهط جرير لن عبد الله البجلى .
(3) أحمس : بطن في بجيلة .
(4) من كتاب صفين .
(5) صفين : (من زف النعام) .
والزف : صغار ريش النعام .
() ب : (وهمهما) .
(7) الفلج : الفوز والانتصار .
(*)(3/117)
سنة عشر من الهجرة في شهر رمضان ، فبايعه وأسلم ، وكان جرير صبيح الوجه جميلا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (كأن على وجهه مسحة ملك .
وكان عمر يقول : جرير يوسف هذه الامة .
وكان طوالا يفتل في ذروة البعير من طوله ، وكانت نعله ذراعا ، وكان يخضب لحيته بالزعفران من الليل ويغسلها إذا أصبح ، فتخرج مثل لون التبر .
واعتزل عليا عليه السلام ومعاوية ، وأقام بالجزيرة ونواحيها حتى توفى بالشراة سنة أربع وخمسين في ولاية الضحاك بن قيس على الكوفه (1) .
* * * فأما نسبه فقد ذكره ابن الكلبى في ، ، جمهرة الانساب ، ، فقال : هو جرير بن عبد الله بن جابر بن مالك بن نضر بن ثعلب بن جشم بن عويف بن حرب بن على بن مالك بن سعد بن بدير بن قسر - واسمه ملك - بن عبقر بن أنمار بن أراش بن عمرو بن الغوث بن نبت بن زيد بن كهلان .
ويذكر أهل السير أن عليا عليه السلام هدم دار جرير ودور قوم ممن خرج معه ، حيث فارق عليا عليه السلام ، منهم أبو أراكة بن مالك بن عامر القسرى ، كان ختنه على ابنته ، وموضع داره بالكوفة كان يعرف بدار أبى أراكة قديما ، ولعله اليوم نسى ذلك الاسم .
__________
(1) المعارف 292 ، وانظر طبقات فقهاء اليمن للجعدى 45 ، 46 .
(*)(3/118)
(44) ومن كلام له عليه السلام لما هرب مصقلة بن هبيرة الشيباني إلى معاوية ، وكان قد ابتاع سبى بنى ناجية من عامل أمير المؤمنين عليه السلام وأعتقه ، فلما طالبه بالمال خاس به وهرب إلى الشام ، فقال : الاصل : قبح الله مصقلة ! فعل فعل السادة ، وفر فرار العبيد ، فما أنطق مادحه حتى أسكته ، ولا صدق واصفه حتى بكته ، ولو أقام لاخذنا ميسوره ، وانتظرنا بماله وفوره .
الشرح : خاس به يخيس ويخوس : أي غدر به ، وخاس فلان بالعهد : أي نكث .
وقبح الله فلانا : أي نحاه عن الخير ، فهو مقبوح .
والتبكيت ، كالتقريع والتعنيف .
والوفور .
مصدر وفر المال : أي تم ، ويجئ متعديا .
ويروى (موفوره) ، والموفور : التام ، وقد أخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال : يا من مدحناه فأكذبنا بفعاله وأثابنا خجلا بردا قشيبا من مدائحنا سربلت فاردده لنا سملا (1) إن التجارب تهتك المستور من أبنائها وتبهرج الرجلا
__________
(1) السمل : الثوب النالى .
(*)(3/119)
[ نسب بنى ناجية ] فأما القول في نسب بنى ناجية ، فإنهم ينسبون أنفسهم إلى سامة بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان .
وقريش تدفعهم عن هذا النسب ، ويسمونهم بنى ناجية - وهى أمهم وهى امرأة سامة بن لؤى بن غالب ، ويقولون : إن سامة خرج إلى ناحية البحرين مغاضبا لاخيه كعب بن لؤى في مماظة (1) كانت بينهما ، فطأطأت ناقته رأسها لتأخذ العشب ، فعلق بمشفرها أفعى ، ثم عطفت على قتبها فحكته به ، فدب الافعى على القتب حتى نهش ساق سامة فقتله فقال أخوه كعب بن لؤى يرثيه (2) : عين جودى لسامة بن لؤى علقت ساق سامه العلاقه (3) رب كأس هرقتها ابن لؤى حذر الموت لم تكن مهراقه قالوا : وكانت معه امرأته ناجية ، فلما مات تزوجت رجلا في البحرين ، فولدت منه الحارث ، ومات أبوه وهو صغير ، فلما ترعرع طمعت أمه أن تلحقه بقريش ، فأخبرته أنه ابن سامة بن لؤى بن غالب ، فرحل من البحرين إلى مكة ومعه أمه ، فأخبر كعب بن لؤى أنه ابن أخيه سامة ، فعرف كعب أمه ناجية ، فظن أنه صادق في دعواه ، فقبله ومكث عنده مدة ، حتى قدم مكة ركب من البحرين ، فرأوا الحارث ، فسلموا عليه ، وحادثوه ، فسألهم كعب بن لؤى : من أين يعرفونه ؟ فقالوا : هذا ابن رجل من بلدنا يعرف بفلان ، وشرحوا له خبره ، فنفاه كعب عن مكة ونفى أمه ، فرجعا إلى البحرين ، فكانا هناك ، وتزوج الحارث ، فأعقب هذا العقب .
__________
(1) المماظة : المخاصمة والمنازعة .
(2) ويروى أن قائلة هذا الشعرا مرأة أزدية كان سامه نزل بزوجها ، في خبر وأبيات أخرى ذكره صاحب اللسان في 12 : 195 (3) العلاقة : المنية .
(*)(3/120)
وقال هؤلاء : إنه روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (عمى سامة لم يعقب) (1) .
وزعم ابن الكلبى أن سامة بن لؤى ولد غالب بن سامة ، والحارث بن سامة - وأم غالب بن سامة ناجية - ثم هلك سامة ، فخلف عليها ابنه الحارث بن سامة ، نكاح مقت (2) ، ثم هلك ابناسامة ولم يعقبا ، وإن قوما من بنى ناجية بن جرم بن ربان بن علاف ، ادعوا أنهم بنو سامة بن لؤى ، وأن أمهم ناجية هذه ، ونسبوها هذا النسب ، وانتموا إلى الحارث بن سامة ، وهم الذين باعهم على عليه السلام على مصقلة بن هبيرة وهذا هو قول الهيثم بن عدى .
كل هذا ذكره أبو الفرج الاصفهانى في ، ، كتاب الاغانى الكبير ، ، (3) .
ووجدت أنا في ، ، جمهرة النسب ، ، لابن الكلبى كلاما قد صرح فيه بأن سامة بن لؤى أعقب ، فقال : ولد سامة بن لؤى الحارث - وأمه هند بنت تيم - وغالب بن سامة - وأمه ناجية بنت جرم بن بابان ، من قضاعة ، فهلك غالب بعد أبيه ، وهو ابن اثنتى عشرة سنة ، فولد الحارث بن سامة لؤيا وعبيدة وربيعة وسعدا ، وأمهم سلمى بنت ثيم بن شيبان بن محارب بن فهر وعبد البيت ، وأمه ناجية بنت جرم ، خلف عليها الحارث بعد أبيه بنكاح مقت ، فهم الذين قتلهم على عليه السلام .
قال أبو الفرج الاصفهانى : أما الزبير بن بكار ، فإنه أدخلهم في قريش ، وهم قريش العازبة ، قال : وإنما سموا العازبة ، لانهم عزبوا عن قومهم فنسبوا إلى أمهم ناجية بنت جرم بن ربان بن علاف ، وهو أول من اتخذ الرحال العلافية فنسبت إليه
__________
(1) بقية الخبر كما في الاغانى : (وكان بنو ناجية ارتدوا عن الاسلام ، ولما ولى على بن أبى طالب رضى عنه الخلاقة دعاهم إلى الاسلام ، فأسلم بعضهم وأقام الباقون على الردة ، فسباهم واسترقهم ، فاشتراهم مصقلة ابن هبيرة منه ، وأدى ثلث ثمنهم وأشهد بالباقي على نفسه ، ثم أعتقهم وهرب من تحت ليله إلى معاوية ، فصاروا أحرارا ، ولزمه الثمن ، فشعت على بن أبى طالب شيئا من داره ، وقيل بل هدمها .
فلم يدخل مصقلة الكوفة حتى قتل على بن أبى طالب رضى الله عنه) .
(2) نكاح المقت : أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا طلقها أو مات عنها ، وكان يفعل في الجاهلية وحرمه الاسلام .
(3) الاغانى 10 : 205 - 207 (طبعة الدار) .
(*)(3/121)
واسم ناجية ليلى ، وإنما سميت ناجية ، لانها سارت مع سامة في مفازة ، فعطشت ، فاستسقته ، فقال لها : الماء بين يديك ، وهو يريها السراب ، حتى أتت إلى الماء فشربت ، فسميت ناجية .
قال أبو الفرج : وللزبير بن بكار في إدخالهم في قريش مذهب ، وهو مخالفة أمير المؤمنين على عليه السلام ، وميله إليهم ، لاجماعهم على بغضه عليه السلام ، حسب المشهور المأثور من مذهب الزبير في ذلك .
* * * [ نسب على بن الجهم وذكر طائفة من أخباره وشعره ] ومن المنتسبين إلى سامة بن لؤى على بن الجهم الشاعر ، وهو على بن الجهم بن بدر بن جهم بن مسعود بن أسيد بن أذينة بن كراز بن كعب بن جابر بن مالك بن عتبة (1) بن الحارث بن عبد البيت بن سامة بن لؤى بن غالب .
هكذا ينسب نفسه ، وكان مبغضا لعلى عليه السلام ، ينحو نحو مروان بن أبى حفصة في هجاء الطالبيين وذم الشيعة ، وهو القائل : ورافضة تقول بشعب رضوى : إمام ، خاب ذلك من إمام ! (2) إمام من له عشرون ألفا من الاتراك مشرعة السهام ! وقد هجاه أبو عبادة البحترى ، فقال فيه .
إذا ما حصلت عليا قريش فلا في العير أنت ولا النفير (3) ولو أعطاك ربك ما تمنى لزاد الخلق في عظم الايور
__________
(1) في الاغانى : (عينية) .
(2) الاعانى 10 : 205 .
(3) ديوانه 2 : 1038 (دار المعارف) ، والاغانى 10 : 206 (*)(3/122)
وما الجهم بن بدر حين يعزى من الاقمار ثم ولا البدور (1) علام هجوت مجتهدا عليا بما لفقت من كذب وزور ! أمالك في استك الوجعاء شغل يكفك عن أذى أهل القبور ! * * * وسمع إبو العيناء على بن الجهم يوما يطعن على أمير المؤمنين ، فقال له : أنا أدرى لم تطعن على أمير المؤمنين ! فقال : أتعنى قصة بيعه أهلى من مصقلة بن هبيرة ؟ قال : لا ، أنت أوضع من ذلك ، ولكنه عليه السلام قتل الفاعل من قوم لوط ، والمفعول به ، وأنت أسفلهما .
ومن شعر على بن الجهم لما حبسه المتوكل (2) : ألم تر مظهرين على عتبا (3) وهم بالامس إخوان الصفاء فلما أن بليت غدوا وراحوا (4) على أشد أسباب البلاء أبت أخطارهم أن ينصروني بمال أو بجاه أو ثراء (5) وخافوا أن يقال لهم : خذلتم صديقا ، فادعوا قدم الجفاء تظافرت الروافض والنصارى وأهل الاعتزال على هجائي
__________
(1) الديوان والاغانى : (ومار غثاؤك) في حواشى الاغانى : (الرغثاء أصلها عصب أو عرق في الثدى يدر اللبن ، واستعملها البحترى هنا في الاب) .
(2) من قصيدة طويلة في ديوانه 81 - 85 ، وفي الاغانى 10 : 206 - 208 : (كان على بن الجهم قد هجا بختيشوع ، فسبه عند المتوكل ، فحبسبه المتوكل ، فقال على بن الجهم في حبسه عدة قصائد كتب بها إلى المتوكل ، فأطلقه بعد سنة ثم نفاه بعد ذلك إلى خراسان .
فقال أول ما حبس قصيدة كتب بها إلى أخيه ، أولها قوله : توكلها على رب السماء وسلمنا لاسباب القضاء ثم أورد القصيدة .
(3) الاغانى : (عيبا) ، والديوان : (غشا) .
(4) الديوان : (بليت بنكبة فعدوا وراحوا) .
(5) الديوان : (براء) ، وقال في شرحه : الراء : الرأى .
(*)(3/123)
وعابوني وما ذنبي إليهم سوى علمي بأولاد الزناء يعنى بالروافض : نجاح بن مسلمة (1) ، والنصارى بختيشوع (2) ، وأهل الاعتزال على (3) بن يحيى بن المنجم (4) .
قال أبو الفرج : (5) وكان على بن الجهم من الحشوية (6) شديد النصب (7) عدوا للتوحيد والعدل ، فلما سخط المتوكل على أحمد بن أبى دواد وكفأه (8) ، شمت به على بن الجهم ، فهجاه وقال فيه (9) : يا أحمد بن أبى دواد دعوة بعثت عليك جنادلا وحديدا (10) ما هذه البدع التى سميتها - بالجهل منك - العدل والتوحيدا أفسدت أمر الدين حين وليته ورميته بأبى الوليد وليدا
__________
(1) نجاح بن مسلمة ، كان على ديوان الوقيع والتتبع على العمال في عهد المتوكل ، فكان جميع العمال يتقونه ، وكان المتوكل ربما نادمه ، وتوفى منكوبا سنة 245 .
تاريخ الطبري (وفيات سنة 245) .
(2) هو بختيشوع بن جبريل بن بختيشوع الاكبر المتطبب .
(3) على بن يحيى بن أبى متصدر المنجم ، نديم المتوكل وأحد خواصه المتقدمين عنده ، توفى سنة 275 .
ابن خلكان 1 : 356 .
(4) في طبقات الشعراء لابن المعتز 320 : (وإنما عنى بالروافض الطاهريين ، وبأهل الاعتزال بنى دواد ، وبالنصارى بختيشوع بن جبريل ، فإنه كان يعاديه) .
(5) الاغانى 10 : 217 .
(6) الحشوية : فرقة من المرجئة يقولون : حكم الاحاديث كلها واحد ، وعندهم أن تارك النفل كتارك الفرض ، تفسير القرطبى 4 : 162 .
(7) النواصب : قوم يتدينون ببغضة على (8) كفأه ، أي طرده وأبعده .
(9) ذكر صاحب الاغانى في هذا الخبر أنه لما حبس المتوكل على بن الجهم مدح أحمد بن أبى دواد عدة مدائح ، وسأله أن يقوم بأمره ، منها قوله : يا أحمد بن أبى دواد إنما تدعى لكل عظيمة يا أحمد أبلغ أمير المؤمنين ودونه خوض الردى ومخاوف لا تنفد أنتم بنو عم النبي محمد أولى بما شرع النبي محمد فلم يفعل وقعد عنه ، فلما نفى المتوكل أحمد بن أبى دواد شمت به على بن الجهم ، وهجاه بهذه الابيات (10) ديوانه 125 ، 126 .
(*)(3/124)
- أبو الوليد بن أحمد بن أبى دواد ، وكان رتبه قاضيا (1) - لا محكما جلدا ولا مستطرفا كهلا ولا مستحدثا محمودا (2) شرها إذا ذكر المكارم والعلا ذكر القلايا مبدئا ومعيدا (3) ويود لو مسخت ربيعة كلها وبنو إياد صحفة وثريدا وإذا تربع في المجالس خلته ضبعا وخلت بنى أبيه قرودا وإذا تبسم ضاحكا شبهته شرقا تعجل شربه مردودا لا أصبحت بالخير عين أبصرت تلك المناخر والثنايا السودا .
وقال يهجوه لما فلج (4) : لم يبق منك سوى خيالك لا معا فوق الفراش ممهدا بوساد فرحت بمصرعك البرية كلها من كان منهم موقنا بمعاد كم مجلس لله قد عطلته كى لا يحدث فيه بالاسناد ولكم مصابيح لنا أطفأتها حتى تحيد عن الطريق الهادى (5) ولكم كريمة معشر أرملتها ومحدث أوثقت في الاقياد إن الاسارى في السجون تفرجوا لما أتتك مواكب العواد وغدا لمصرعك الطبيب فلم يجد لدواء دائك حيلة المرتاد فذق الهوان معجلا ومؤجلا والله رب العرش بالمرصاد لا زال فالجك الذى بك دائما وفجعت قبل الموت بالاولاد
__________
(1) وكان يتولى المظالم سرا بسا مراء ، وعزله المتوكل سنة 237 .
(2) الديوان والاغانى : (لا محكما جزلا) والجزل هنا : الجيد الرأى .
(3) القلايا : المقليات ، مفرده قلية .
(4) ديوانه 128 ، 129 ، والاغانى 10 : 229 .
(5) الاغانى : (حتى يزول عن الطريق الهادى) .
(*)(3/125)
وروى أبو الفرج الاصفهانى في كتاب ، ، الاغانى ، ، في ترجمة مروان بن أبى حفصة (1) الاصغر أن على بن الجهم خطب امرأة من قريش ، فلم يزوجوه ، وبلغ المتوكل ذلك ، فسأل عن السبب ، فحدث بقصة بنى سامة بن لؤى ، وأن أبا بكر وعمر لم يدخلاهم في قريش ، وأن عثمان أدخلهم فيها ، وأن عليا عليه السلام أخرجهم منها ، فارتدوا ، وأنه قتل من ارتد منهم ، وسبى بقيتهم ، فباعهم من مصقلة بن هبيرة ، فضحك المتوكل ، وبعث إلى على بن الجهم فأحضره ، وأخبره بما قال القوم ، وكان فيهم مروان بن أبى حفصة المكنى أبا السمط وهو مروان الاصغر ، وكان المتوكل يغريه بعلى بن الجهم ، ويضعه على هجائه وثلبه ، فيضحك منهما ، فقال مروان : إن جهما حين تنسبه ليس من عجم ولا عرب لج في شتمى بلا سبب سارق للشعر والنسب من أناس يدعون أبا ماله في الناس من عقب فغضب على بن الجهم ، ولم يجبه ، لانه كان يستحقره فأومأ إليه المتوكل أن يزيده فقال : أ أنتم يا بن جهم من قريش وقد باعوكم ممن تريد أ ترجو أن تكاثرنا جهارا بأصلكم وقد بيع الجدود فلم يجبه ابن الجهم ، فقال فيه أيضا : على تعرضت لى ضلة لجهلك بالشعر يا مائق (2) تروم قريشا وأنسابها وأنت لانسابها سارق فإن كان سامة جدا لكم فأمك منى إذا طالق
__________
(1) لم أجد هذا الخبر وهذا الشعر فيما طبع من كتاب الاغانى .
(2) المائق : الاحمق .
(*)(3/126)
[ نسب مصقلة بن هبيرة ] فأما نسب مصقلة بن هبيرة ، فإن ابن الكلبى ، قد ذكره في ، ، جمهرة النسب ، ، فقال : هو مصقلة بن هبيرة بن شبل بن يثربى امرئ القيس بن ربيعة بن مالك بن ثعلبة بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن على بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمى ، بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان .
[ خبر بنى ناجية مع على ] وأما خبر بنى ناجية مع أمير المؤمنين عليه السلام ، فقد ذكره إبراهيم بن هلال الثقفى في كتاب ، ، الغارات ، ، قال : حدثنى محمد بن عبد الله بن عثمان ، عن نصر بن مزاحم ، قال : حدثنى عمر بن سعد ، عمن حدثه ممن أدرك أمر بنى ناجية ، قال : لما بايع أهل البصرة عليا بعد الهزيمة ، دخلوا في الطاعة غير بنى ناجية ، فإنهم عسكروا ، فبعث إليهم على عليه السلام رجلا من أصحابه في خيل ليقاتلهم ، فأتاهم ، فقال : ما بالكم عسكرتم ، وقد دخل الناس في الطاعة غيركم ! فافترقوا ثلاث فرق : فرقة قالوا : كنا نصارى فأسلمنا ، ودخلنا فيما دخل الناس فيه من الفتنة ، ونحن نبايع كما بايع الناس ، فأمرهم فاعتزلوا .
وفرقة قالوا : كنا نصارى فلم نسلم ، وخرجنا مع القوم الذين كانوا خرجوا ، قهرونا فأخرجونا كرها ، فخرجنا معهم فهزموا ، فنحن ندخل فيما دخل الناس فيه ، ونعطيكم الجزية كما أعطيناهم ، فقال : اعتزلوا فاعتزلوا .
وفرقة قالوا : كنا نصارى فأسلمنا فلم يعجبنا الاسلام ، فرجعنا إلى النصرانية ، فنحن نعطيكم الجزية كما أعطاكم النصارى .
فقال لهم : توبوا وارجعوا إلى الاسلام ، فأبوا ، فقتل مقاتلهم وسبى ذراريهم ، وقدم بهم على على عليه السلام .(3/127)
[ قصة الخريت بن راشد الناجى وخروجه على على ] قال ابن هلال الثقفى : وروى محمد بن عبد الله بن عثمان ، عن أبى سيف ، عن الحارث بن كعب الازدي ، عن عمه عبد الله بن قعين الازدي ، قال : كان (1) الخريت بن راشد الناجى ، أحد بنى ناجية ، قد شهد مع على عليه السلام صفين ، فجاء إلى على عليه السلام بعد انقضاء صفين ، وبعد تحكيم الحكمين في ثلاثين من أصحابه ، يمشى بينهم حتى قام بين يديه ، فقال : لا والله لا أطيع أمرك ، ولا أصلى خلفك ، وإنى غدا لمفارق لك ، فقال له : ثكلتك أمك ! إذا تنقض عهدك ، وتعصى ربك ، ولا تضر إلا نفسك ، أخبرني لم تفعل ذلك ! قال : لانك حكمت في الكتاب ، وضعفت عن الحق إذ جد الجد ، وركنت إلى القوم الذين ظلموا أنفسهم ، فأنا عليك راد ، وعليهم ناقم ، ولكم جميعا مباين .
فقال له على عليه السلام : ويحك ! هلم إلى أدارسك وأناظرك في السنن ، وأفاتحك أمورا من الحق أنا أعلم بها منك ، فلعلك تعرف ما أنت الان له منكر ، وتبصر ما أنت الان عنه عم وبه جاهل ، فقال الخريت : فإنى غاد عليك غدا .
فقال على عليه السلام : اغد ولا يستهوينك الشيطان ، ولا يتقحمن بك رأى السوء ، ولا يستخفنك الجهلاء الذين لا يعلمون ، فو الله إن استرشدتني واستنصحتني وقبلت منى لاهدينك سبيل الرشاد .
فخرج الخريت من عنده منصرفا إلى أهله .
قال عبد الله بن قعين : فعجلت في أثره مسرعا ، وكان لى من بنى عمه صديق ، فأردت أن ألقى ابن عمه في ذلك ، فأعلمه بما كان من قوله لامير المؤمنين ، وآمر ابن عمه أن يشتد بلسانه عليه ، وأن يأمره بطاعة أمير المؤمنين ومناصحته ، ويخبره أن ذلك خير له في عاجل الدنيا وآجل الاخرة .
قال : فخرجت حتى انتهيت إلى منزله - وقد سبقني - فقمت عند باب دار فيها رجال من أصحابه ، لم يكونوا شهدوا معه دخوله على أمير المؤمنين عليه السلام ، فو الله ما رجع
__________
(1) وانظر الخبر أيضا في تاريخ الطبري 5 : 113 وما بعدها .
(*)(3/128)
ولا ندم على ما قال لامير المؤمنين وما رد عليه ، ولكنه قال لهم : يا هؤلاء ، إنى قد رأيت أن أفارق هذا الرجل ، وقد فارقته على أن أرجع إليه من غد ، ولا أرى إلا المفارقة ، فقال له أكثر أصحابه : لا تفعل حتى تأتيه ، فإن أتاك بأمر تعرفه قبلت منه ، وإن كانت الاخرى فما أقدرك على فراقه ! قال لهم : نعم ما رأيتم ، قال : فاستأذنت عليهم فأذنوا لى ، فأقبلت على ابن عمه - وهو مدرك بن الريان الناجى ، وكان من كبراء العرب - فقلت له : إن لك على حقا لاحسانك وودك وحق المسلم على المسلم (1) .
إن ابن عمك كان منه ما قد ذكر لك ، فاخل به فاردد عليه رأيه وعظم عليه ما أتى ، واعلم أنى خائف إن فارق أمير المؤمنين أن يقتلك ونفسه وعشيرته فقال : جزاك الله خيرا من أخ ! إن أراد فراق أمير المؤمنين عليه السلام ففى ذلك هلاكه ، وإن اختار مناصحته والاقامة معه ففى ذلك حظه ورشده .
قال : فأردت الرجوع إلى على عليه السلام ، لاعلمه الذى كان ، ثم اطمأننت إلى قول صاحبي ، فرجعت إلى منزلي ، فبت ثم أصبحت ، فلما ارتفع النهار أتيت أمير المؤمنين عليه السلام ، فجلست عنده ساعة ، وأنا أريد أن أحدثه بالذى كان على خلوة ، فأطلت الجلوس ، ولا يزداد الناس إلا كثرة ، فدنوت منه ، فجلست وراءه ، فأصغى إلى برأسه ، فأخبرته بما سمعته من الخريت ، وما قلت لابن عمه وما رد على ، فقال عليه السلام : دعه ، فإن قبل الحق ورجع عرفنا له ذلك وقبلناه منه ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، فلم لا تأخذه الان فتستوثق منه ؟ فقال : إنا لو فعلنا هذا بكل من يتهم من الناس ملانا السجون منهم ، ولا أرانى يسعنى الوثوب بالناس والحبس لهم وعقوبتهم حتى يظهروا لى الخلاف .
قال : فسكت عنه وتنحيت ، فجلست مع أصحابي هنيهة ، فقال لى عليه السلام :
__________
(1) في الطبري : (بعد حق المسلم على المسلم) .
(9 - نهج - 3) (*)(3/129)
ادن منى ، فدنوت ، فقال لى مسرا : اذهب إلى منزل الرجل فاعلم ما فعل ، فإنه قل يوم لم يكن يأتيني فيه قبل هذه الساعة ، فأتيت إلى منزله ، فإذا ليس في منزله منهم ديار ، فدرت على أبواب دور أخرى ، كان فيها طائفة من أصحابه ، فإذا ليس فيها داع ولا مجيب فأقبلت إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، فقال لى حين رأني : أوطنوا (1) فأقاموا أم جبنوا فظعنوا ؟ قلت : لابل ظعنوا ، فقال : أبعدهم الله كما بعدت ثمود ! أما والله لو قد أشرعت لهم الاسنة ، وصبت على هامهم السيوف ، لقد ندموا ، إن الشيطان قد استواهم وأضلهم ، وهو غدا متبرئ منهم ، ومخل عنهم ، فقام إليه زياد بن خصفة ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنه لو لم يكن من مضرة هؤلاء إلا فراقهم إيانا لم يعظم فقدهم علينا ، فإنهم قلما يزيدون في عددنا لو أقاموا معنا ، وقلما ينقصون من عددنا بخروجهم منا ، ولكنا نخاف أن يفسدوا علينا جماعة كثيرة ممن يقدمون عليهم من أهل طاعتك ، فائذن لى في اتباعهم حتى أردهم عليك إن شاء الله .
فقال له عليه السلام : فاخرج في آثارهم راشدا ، فلما ذهب ليخرج قال له : وهل تدرى أين توجه القوم ؟ قال : لا والله ، ولكني أخرج فأسأل وأتبع الاثر ، فقال : اخرج رحمك الله حتى تنزل دير أبى موسى ثم لا تبرحه حتى يأتيك أمرى ، فإنهم إن كانوا خرجوا ظاهرين بارزين للناس في جماعة ، فإن عمالى ستكتب إلى بذلك ، وإن كانوا متفرقين مستخفين ، فذلك أخفى لهم ، وسأكتب إلى من حولي من عمالى فيهم .
فكتب نسخة واحدة وأخرجها إلى العمال : من عبد الله على أمير المؤمنين إلى من قرئ عليه كتابي هذا من العمال ، أما بعد ، فإن رجالا لنا عندهم تبعة ، خرجوا هرابا نظنهم خرجوا نحو بلاد البصرة ، فاسأل عنهم أهل بلادك ، واجعل عليهم العيون في كل ناحية من أرضك ، ثم اكتب إلى بما ينتهى إليك عنهم .
والسلام .
__________
(1) وطن بالمكان ، أي أقام ، وانظر تاريخ الطبري 5 : 115 .
(*)(3/130)
فخرج زياد بن خصفة حتى أتى داره ، وجمع أصحابه فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : يا معشر بكر بن وائل ، إن أمير المؤمنين ندبنى لامر من أموره مهم له ، وأمرني بالانكماش فيه بالعشيرة ، حتى آتى أمره ، وأنتم شيعته وأنصاره ، وأوثق حى من أحياء العرب في نفسه ، فانتدبوا معى الساعة ، وعجلوا .
فو الله ما كان إلا ساعة حتى اجتمع إليه مائة وثلاثون رجلا ، فقال : اكتفينا لا نريد أكثر من هؤلاء ، فخرج حتى قطع الجسر ، ثم أتى دير أبى موسى فنزله ، فأقام به بقيه يومه ذلك ، ينتظر أمر أمير المؤمنين عيله السلام .
قال إبراهيم بن هلال : فحدثني محمد بن عبد الله ، عن ابن أبى سيف ، عن أبى الصلت التيمى ، عن أبى سعيد ، عن عبد الله بن وأل التيمى ، قال : إنى لعند أمير المؤمنين ، إذا فيج (1) قد جاءه يسعى بكتاب من قرظة بن كعب بن عمرو الانصاري - وكان أحد عماله - فيه : ذ لعبد الله على أمير المؤمنين من قرظة بن كعب ، سلام عليك ، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو ، أما بعد : فإنى أخبر أمير المؤمنين ، أن خيلا مرت من قبل الكوفة متوجهة [ نحو نفر ] (2) وأن رجلا من دهاقين أسفل الفرات قد أسلم وصلى ، يقال له : زاذان فروخ ، أقبل من عند أخوال له فلقوه ، فقالوا له : أمسلم أنت أم كافر ؟ قال : بل مسلم ، قالوا : فما تقول في على ؟ قال : أقول فيه خيرا ، أقول : إنه أمير المؤمنين عليه السلام وسيد البشر ووصى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقالوا : كفرت يا عدو الله ! ثم حملت عليه عصابة منهم ، فقطعوه بأسيافهم ، وأخذوا معه رجلا من أهل الذمة يهوديا ، فقالوا له : ما دينك ؟ قال : يهودى ، فقالوا :
__________
(1) الفيج : رسول السلطان على رجله ، فارسي معرب (پيك) .
تاج العروس 2 : 89 .
(2) تكملة من تاريخ الطبري .
ونفر : بلدة على نهر النرس .
(*)(3/131)
خلوا سبيل هذا ، لا سبيل لكم عليه ، فأقبل إلينا ذلك الذمي ، فأخبرنا الخبر ، وقد سألت عنهم ، فلم يخبرني أحد عنهم بشئ ، فليكتب إلى أمير المؤمنين فيهم برأى أنته إليه ، إن شاء الله .
فكتب إليه أمير المؤمنين عليه السلام : أما بعد ، فقد فهمت ما ذكرت من أمر العصابة التى مرت بعملك ، فقتلت البر المسلم ، وأمن عندهم المخالف المشرك (1) ، وإن أولئك قوم استهواهم الشيطان فضلوا ، كالذين حسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ، فأسمع بهم وأبصر يوم تخبر (2) أعمالهم ! فالزم عملك وأقبل على خراجك ، فإنك كما ذكرت في طاعتك ونصيحتك ، والسلام .
قال : فكتب على عليه السلام إلى زياد بن خصفة ، مع عبد الله بن وأل التيمى ، كتابا نسخته : أما بعد ، فقد كنت أمرتك أن تنزل دير أبى موسى حتى يأتيك أمرى ، وذلك أنى لم أكن علمت أين توجه القوم ، وقد بلغني أنهم أخذوا نحو قرية من قرى السواد ، فاتبع آثارهم وسل عنهم ، فإنهم قد قتلوا رجلا من أهل السواد مسلما مصليا ، فإذا أنت لحقت بهم فارددهم إلى ، فإن أبوا فناجزهم ، واستعن بالله عليهم ، فإنهم قد فارقوا الحق ، وسفكوا الدم الحرام ، وأخافوا السبيل .
والسلام .
قال عبد الله بن وأل : فأخذت الكتاب منه عليه السلام - وأنا يومئذ شاب - فمضيت به غير بعيد ثم رجعت إليه ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، ألا أمضى مع زياد بن خصفة إلى عدوك ، إذا دفعت إليه كتابك ؟ فقال : يا بن أخى ، افعل ، فو الله إنى لارجو أن تكون من أعواني على الحق وأنصاري على القوم الظالمين .
قال : فو الله ما أحب أن لى بمقالته
__________
(1) الطبري : (الكافر) .
(2) كذا في ج والطبري ، وفي ا ، ب : (تحشر) .
(*)(3/132)
تلك حمر النعم ، فقلت له : يا أمير المؤمنين ، أنا والله كذلك من أولئك ، أناو الله حيث تحب .
ثم مضيت إلى زياد بالكتاب ، وأنا على فرس رائع كريم ، وعلى السلاح ، فقال لى زياد : يا بن أخى ، والله ما لى عنك من غنى (1) ، وإنى أحب أن تكون معى في وجهى هذا ، فقلت : إنى قد استأذنت أمير المؤمنين في ذلك فأذن لى ، فسر بذلك ، ثم خرجنا حتى أتينا الموضع الذى كانوا فيه ، فسألنا عنهم ، فقيل : أخذوا نحو المدائن فلحقناهم ، وهم نزول بالمدائن ، وقد أقاموا بها يوما وليلة ، وقد استراحوا وعلفوا خيولهم ، فهم جامون مريحون ، وأتيناهم وقد تقطعنا ولغبنا ونصنا ، فلما رأونا وثبوا على خيولهم ، فاستووا عليها ، فجئنا حتى انتهينا إليهم ، فنادى الخريت بن راشد : يا عميان القلوب والابصار ، أمع الله وكتابه أنتم أم مع القوم الظالمين ؟ فقال له زياد بن خصفة : بل مع الله وكتابه وسنة رسوله ، ومع من الله ورسوله وكتابه آثر عنده من الدنيا ثوابا ولو أنها منذ يوم خلقت إلى يوم تفنى لاثر الله عليها .
أيها العمى الابصار ، الصم الاسماع ! فقال الخريت : فأخبرونا ما تريدون ؟ فقال له زياد - وكان مجربا رفيقا : قد ترى ما بنا من النصب واللغوب (2) ، والذى جئنا له لا يصلح فيه الكلام علانيه على رؤوس أصحابك ، ولكن تنزلون وننزل ، ثم نخلو جميعا ، فنتذاكر أمرنا وننظر فيه ، فإن رأيت فيما جئنا له حظا لنفسك قبلته ، وإن رأيت فيما أسمع منك أمرا أرجو فيه العافية لنا ولك لم أرده عليك .
فقال الخريت : انزل ، فنزل فأقبل إلينا زياد ، فقال : انزلوا على هذا الماء ، فأقبلنا حتى انتهينا إلى الماء ، فنزلنا به ، فما هو إلا أن نزلنا فتفرقنا ، فتحلقنا عشرة وتسعة وثمانية وسبعة ، تضع كل حلقة طعامها بين أيديها ، لتأكل ثم تقوم إلى الماء فتشرب .
__________
(1) الطبري : (غناء) .
(2) الطبري : (من السغوب واللغوب) .
(*)(3/133)
وقال لنا زياد : علقوا على خيولكم ، فعلقنا عليها مخاليها ، ووقف زياد في خمسة فوارس ، أحدهم عبد الله بن وأل بيننا وبين القوم ، وانطلق القوم فتنحوا ، فنزلوا وأقبل إلينا زياد ، فلما رأى تفرقنا وتحلقنا ، قال : سبحان الله ! أنتم أصحاب حرب ! والله لو أن هؤلاء جاءوكم الساعة على هذه الحالة ما أرادوا من غرتكم أفضل من أعمالكم التى أنتم عليها ، عجلوا ، قوموا إلى خيولكم .
فأسرعنا فمنا من يتوضا ، ومنا من يشرب ، ومنا من يسقى فرسه ، حتى إذا فرغنا من ذلك أتينا زيادا ، وإن في يده لعرقا (1) ينهسه ، فنهس منه نهستين أو ثلاثة ، ثم أتى بإداوة فيها ماء ، فشرب ثم ألقى العرق من يده ، وقال : يا هؤلاء ، إنا قد لقينا العدو ، وإن القوم لفى عدتكم ، ولقد حزرتهم فما أظن أحد الفريقين يزيد على الاخر خمسة نفر ، فإنى أرى أمركم وأمرهم سيصير إلى القتال ، فإن كان ذلك فلا تكونوا أعجز الفريقين .
ثم قال : ليأخذ كل رجل منكم بعنان فرسه ، فإذا دنوت منهم وكلمت صاحبهم ، فإن تابعني على ما أريد ، وإلا فإذا دعوتكم فاستووا على متون خيلكم ، ثم أقبلوا معا غير متفرقين .
ثم استقدم أمامنا وأنا معه ، فسمعت رجلا من القوم يقول : جاءكم القوم وهم كالون معيون ، وأنتم جامون (2) مريحون (3) ، فتركتموهم حتى نزلوا فأكلوا وشربوا ، وأراحوا دوابهم ، هذا والله سوء الراى .
قال : ودعا زياد صاحبهم الخريت ، فقال له : اعتزل ننظر في أمرنا ، فأقبل إليه في خمسة نفر ، فقلت لزياد : أدعو لك ثلاثة نفر من أصحابنا ، حتى نلقاهم في عددهم ؟ فقال : ادع من أحببت .
فدعوت له ثلاثة ، فكنا خمسة وهم خمسة .
فقال له زياد : ما الذى نقمت على أمير المؤمنين وعلينا حتى فارقتنا ؟ فقال : لم أرض
__________
(1) العرق بالفتح : العظم بلحمه ، ويقال : نهش اللحم ، أي أخذه بمقدم أسنانه .
(2) جم ، من الجمام ، وهو الراحة .
(3) مريحون ، من قولهم : أراح فلان إذا رجعت إليه نفسه بعد الاعياء .
(*)(3/134)
صاحبكم إماما ، ولم أرض بسيرتكم سيرة ، فرأيت أن أعتزل ، وأكون مع من يدعو إلى الشورى بين الناس ، فإذا اجتمع الناس على رجل هو لجميع الامة رضا كنت مع الناس .
فقال زياد : ويحك ! وهل يجتمع الناس على رجل يدانى عليا عالما بالله وبكتابه وسنة رسوله ، مع قرابته وسابقته في الاسلام ! فقال الخريت : هو ما أقول لك ، فقال : ففيم قتلتم الرجل المسلم ؟ فقال الخريت : ما أنا قتلته ، قتلته طائفة من أصحابي ، قال : فادفعهم إلينا قال : ما إلى ذلك من سبيل ، قال : أو هكذا أنت فاعل ! قال : هو ما تسمع .
قال : فدعونا أصحابنا ، ودعا الخريت أصحابه ، ثم اقتتلنا ، فو الله ما رأيت قتالا مثله منذ خلقني الله ، لقد تطاعنا (1) بالرماح حتى لم يبق في أيدينا رمح ، ثم اضطر بنا بالسيوف حتى انحنت ، وعقرت (2) عامة خلنا و خيلهم ، وكثرت الجراح فيما بيننا وبينهم ، وقتل منا رجلان : مولى لزياد كانت معه رايته يدعى سويدا ، ورجل من الابناء يدعى واقد بن بكر ، وصرع منهم خمسة نفر ، وحال الليل بيننا وبينهم ، وقد والله كرهونا وكرهناهم ، وهرونا وهررناهم (3) ، وقد جرح زياد وجرحت .
ثم إنا بتنا في جانب وتنحوا ، فمكثوا ساعة من الليل ثم مضوا ، فذهبوا وأصبحنا ، فوجدناهم قد ذهبوا ، فو الله ما كرهنا ذلك ، فمضينا حتى أتينا البصرة ، وبلغنا أنهم أتوا الاهواز (4) ، فنزلوا في جانب منها ، وتلاحق بهم ناس من أصحابهم نحو مائتين كانوا معهم بالكوفة ، لم يكن لهم من القوة ما ينهضون به (5) معهم حين نهضوا ، فاتبعوهم من بعد لحوقهم بالاهواز ، فأقاموا معهم .
قال : وكتب زياد بن خصفة إلى على عليه السلام : أما بعد : فإنا لقينا عدو الله الناجى وأصحابه بالمدائن ، فدعوناهم إلى الهدى والحق وكلمة
__________
(1) الطبري : (اطعنا) .
(2) عقرت الدابة ، إذا قطعت قوائمها بالسيف .
(3) هزونا وهززناهم ، أي كرهونا وكرهناهم .
(4) الاهواز : سبع كور بين البصرة وفارس .
(5) الطبري : (ما ينهضهم) .
(*)(3/135)
السواء ، فتولوا عن الحق وأخذتهم العزة بالاثم ، وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل ، فقصدونا وصمدنا صمدهم ، فاقتتلنا قتالا شديدا ما بين قائم الظهر إلى أن دلكت (1) الشمس ، واستشهد منا رجلان صالحان ، وأصيب منهم خمسة نفر ، وخلوا لنا المعركة ، وقد فشت فينا وفيهم الجراح - .
ثم إن القوم لما أدركوا الليل خرجوا من تحته متنكرين إلى أرض الاهواز ، وقد بلغني أنهم نزلوا من الاهواز جانبا .
ونحن بالبصرة نداوى جراحنا ، وننتظر أمرك رحمك الله ، والسلام .
فلما أتاه الكتاب ، قرأه على الناس ، فقام إليه معقل بن قيس الرياحي ، فقال : أصلحك الله يا أمير المؤمنين إنما كان ينبغى أن يكون مكان كل رجل من هؤلاء الذين بعثتهم في طلبهم عشرة من المسلمين ، فإذا لحقوهم استأصلوا شأفتهم (2) ، وقطعوا دابرهم ، فأما أن تلقاهم بأعدادهم ، فلعمري ليصبرن لهم ، فإنهم قوم عرب ، والعدة تصبر للعدة ، فيقاتلون كل القتال .
قال : فقال عليه السلام له : تجهز يا معقل إليهم ، وندب معه ألفين من أهل الكوفة ، فيهم يزيد بن معقل ، وكتب إلى عبد الله بن العباس بالبصرة رحمه الله تعالى : أما بعد ، فابعث رجلا من قبلك صليبا شجاعا ، معروفا بالصلاح في ألفى رجل من أهل البصرة ، فليتبع معقل بن قيس ، فإذا خرج من أرض البصرة ، فهو أمير أصحابه حتى يلقى معقلا ، فإذا لقيه فمعقل أمير الفريقين ، فليسمع (3) منه وليطعه ولا يخالفه ، ومر زياد بن خصفة فليقبل إلينا ، فنعم المرء زياد ، ونعم القبيل قبيله ! والسلام .
__________
(1) دلكت الشمس : اصفرت وجنحت للمعبب .
(2) الشأفة في الاصل : قرحة تخرج في أسفل القدم فتكوى فتذهب ، وإذا قطعت مات صاحبها ، وقولهم : استأصل الله شأفته ، أي أذهبه كما تذهب القرحة ، ومعناه أزاله من أصله .
(3) الطبري : (فليسمع من معقل) .
(*)(3/136)
قال : وكتب عليه السلام إلى زياد بن خصفة : أما بعد ، فقد بلغني كتابك ، وفهمت ما ذكرت به الناجى وأصحابه ، الذين طبع الله على قلوبهم ، وزين لهم الشيطان أعمالهم ، فهم حيارى عمون ، يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، ووصفت ما بلغ بك وبهم الامر ، فأما أنت وأصحابك فلله سعيكم وعليه جزاؤكم ! وأيسر ثواب الله للمؤمن خير له من الدنيا التى يقبل الجاهلون بأنفسهم عليها ، ف (ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) (1) : وأما عدوكم الذين لقيتم فحسبهم خروجهم من الهدى ، وارتكاسهم في الضلالة ، وردهم الحق ، وجماحهم في التيه ، فذرهم وما يفترون ، ودعهم في طغيانهم يعمهون ، فأسمع بهم وأبصر ، فكأنك بهم عن قليل بين أسير وقتيل ، فأقبل إلينا أنت وأصحابك مأجورين ، فقد أطعتم وسمعتم ، وأحسنتم البلاء .
والسلام .
قال : ونزل الناجى جانبا من الاهواز ، واجتمع إليه علوج كثير من أهلها ، ممن أراد كسر الخراج ومن اللصوص ، وطائفة أخرى من الاعراب ترى رأيه .
قال إبراهيم بن هلال : فحدثنا محمد بن عبد الله ، قال : حدثنى ابن أبى سيف ، عن الحارث بن كعب ، عن عبد الله بن قعين ، قال : كنت أنا وأخى كعب بن قعين في ذلك الجيش مع معقل بن قيس ، فلما أراد الخروج أتى أمير المؤمنين (2) عليه السلام يودعه ، فقال : يا معقل بن قيس ، اتق الله ما استطعت ، فإنه وصية الله للمؤمنين ، لا تبغ على أهل القبلة ، ولا تظلم أهل الذمة ولا تتكبر ، فإن الله لا يحب المتكبرين .
فقال معقل : الله المستعان ، فقال : خير مستعان .
__________
(1) سورة النحل 96 .
(2) الطبري : (أقبل إلى على) .
(*)(3/137)
ثم قام فخرج ، وخرجنا معه ، حتى نزل الاهواز ، فأقمنا ننتظر بعث البصرة ، فأبطأ علينا ، فقام معقل فقال : أيها الناس ، إنا قد انتظرنا أهل البصرة ، و قد أبطئوا علينا ، وليس بنا بحمد الله قلة ولا وحشة إلى الناس ، فسيروا بنا إلى هذا العدو القليل الذليل ، فإنى أرجو أن ينصركم الله ويهلكهم .
فقام إليه أخى كعب بن قعين فقال : أصبت إن شاء الله رأينا رأيك ، وإنى لارجو أن ينصرنا الله عليهم ، وإن كانت الاخرى ، فإن في الموت على الحق لتعزية عن الدنيا .
فقال : سيروا على بركة الله .
فسرنا ، فو الله ما زال معقل بن قيس لى ولاخى مكرما وادا ، ما يعدل بنا أحدا من الجند ، ولا يزال يقول لاخى : كيف قلت : إن في الموت على الحق لتعزية عن الدنيا ! صدقت والله وأحسنت ، ووفقت وفقك الله ! قال : فو الله ما سرنا يوما ، وإذا بفيج (1) يشتد بصحيفة في يده .
من عبد الله بن عباس إلى معقل بن قيس ، أما بعد ، فإن أدركك رسولي بالمكان الذى كنت مقيما به ، أو أدركك وقد شخصت منه ، فلا تبرحن من المكان الذى ينتهى إليك رسولي وأنت فيه ، حتى يقدم عليك بعثنا الذى وجهناه إليك ، فقد وجهت إليك خالد بن معدان الطائى ، وهو من أهل الدين والصلاح والنجدة ، فاسمع منه واعرف ذلك له إن شاء الله .
والسلام .
قال : فقرأه معقل بن قيس على أصحابه .
فسروا به ، وحمدوا الله ، وقد كان ذلك الوجه هالهم .
وأقمنا حتى قدم علينا خالد بن معدان الطائى ، وجاءنا حتى دخل على صاحبنا ، فسلم عليه بالامرة ، واجتمعنا جميعا في عسكر واحد ، ثم خرجنا إلى الناجى وأصحابه ، فأخذوا يرتفعون نحو جبال رامهرمز ، يريدون قلعة حصينة ، وجاءنا أهل البلد فأخبرونا بذلك ، فخرجنا في آثارهم فلحقناهم ، وقد دنوا من الجبل ، فصففنا لهم ، ثم أقبلنا نحوهم ، فجعل معقل على ميمنته يزيد بن المعقل الازدي ، وعلى ميسرته منجاب بن راشد الضبى ، ووقف
__________
(1) انظر الحاشية 1 ص 131 من هذا الجزء .
(*)(3/138)
الخريت بن راشد الناجى بمن معه من العرب ، فكانوا ميمنة ، وجعل أهل البلد والعلوج (1) ومن أراد كسر الخراج وجماعة من الا كراد ميسرة .
قال : وسار فينا معقل يحرضنا ، ويقول : يا عباد الله ، لا تبدءوا القوم ، وغضوا الابصار ، وأقلوا الكلام ، ووطنوا أنفسكم على الطعن والضرب ، وأبشروا في قتالهم بالاجر العظيم ، إنما تقاتلون مارقة مرقت وعلوجا (1) منعوا الخراج ، ولصوصا وأكرادا ، فما تنتظرون ! فإذا حملت فشدوا شدة رجل واحد .
قال : فمر في الصف يكلمهم ، يقول هذه المقالة ، حتى إذا مر بالناس كلهم أقبل فوقف وسط الصف في القلب ، ونظرنا إليه ما يصنع ، فحرك رأسه تحريكتين ، ثم حمل في الثالثة ، وحملنا معه جميعا ، فو الله ما صبروا لنا ساعة حتى ولوا وانهزموا ، وقتلنا سبعين عربيا من بنى ناجية ، ومن بعض من اتبعه من العرب ، ونحو ثلثمائة من العلوج والاكراد .
قال كعب : ونظرت ، فإذا صديقى مدرك بن الريان قتيلا ، وخرج الخريت منهزما ، حتى لحق بسيف (2) من أسياف البحر ، وبها جماعة من قومه كثير ، فما زال يسير فيهم ويدعوهم إلى خلاف على عليه السلام ، ويزين لهم فراقه ، ويخبرهم أن الهدى في حربه ومخالفته ، حتى اتبعه منهم ناس كثير .
وأقام معقل بن قيس بأرض الاهواز ، وكتب إلى أمير المؤمنين عليه السلام بالفتح ، وكنت أنا الذى قدم بالكتاب عليه ، وكان في الكتاب : لعبد الله على أمير المؤمنين ، من معقل بن قيس .
سلام عليك ، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو .
أما بعد فإنا لقينا المارقين ، وقد استظهروا علينا بالمشركين ،
__________
(1) العلوج : كفار العجم ، واحده علج .
(2) السيف ، بالكسر : ساحل البحر .
(*)(3/139)
فقتلنا منهم ناسا كثيرا ولم نعد فيهم سيرتك فلم نقتل منهم مدبرا ولا أسيرا ، ولم نذفف (1) منهم على جريح ، وقد نصرك الله والمسلمين ، والحمد لله رب العالمين .
قال : فلما قدمت بالكتاب على على عليه السلام ، قرأه على أصحابه ، واستشارهم في الرأى ، فاجتمع رأى عامتهم على قول واحد .
قالوا : نرى أن تكتب إلى معقل بن قيس ، يتبع آثارهم ، ولا يزال في طلبهم حتى يقتلهم أو ينفيهم من أرض الاسلام ، فإنا لا نأمن أن يفسدوا عليك الناس .
قال : فردني إليه ، وكتب معى : أما بعد ، فالحمد لله على تأييده أولياءه ، وخذله أعداءه ، جزاك الله والمسلمين خيرا ، فقد أحسنتم البلاء ، وقضيتم ما عليكم ، فاسأل عن أخى بنى ناجية ، فإن بلغك أنه استقر في بلد من البلدان ، فسر إليه حتى تقتله أو تنفيه ، فإنه لم يزل للمسلمين عدوا ، وللفاسقين وليا ، والسلام .
قال : فسأل معقل عن مسيره والمكان الذى انتهى إليه ، فنبئ بمكانه بسيف البحر بفارس ، وأنه قد رد قومه عن طاعة على عليه السلام ، وأفسد من قبله من عبد القيس ، ومن والاهم من سائر العرب ، وكان قومه قد منعوا الصدقة عام صفين ، ومنعوها في ذلك العام أيضا ، فسار إليهم إعقل بن قيس في ذلك الجيش من أهل الكوفة والبصرة ، فأخذوا على أرض فارس ، حتى انتهوا إلى أسياف البحر ، فلما سمع الخريت بن راشد بمسيره ، أقبل على من كان معه من أصحابه ، ممن يرى رأى الخوارج ، فأسر إليهم ، إنى أرى رأيكم ، وإن عليا ما كان ينبغى له أن يحكم الرجال في دين الله ، وقال لمن يرى رأى عثمان وأصحابه : إنا على رأيكم ، وإن عثمان قتل مظلوما معقولا ، وقال لمن منع الصدقة :
__________
(1) ذفف على الجريح : أجهز عليه .
(*)(3/140)
شدوا أيديكم على صدقاتكم ، ثم صلوا بها أرحامكم ، وعودوا إن شئتم على فقرائكم ، فأرضي كل طائفة بضرب من القول ، وكان فيهم نصارى كثير ، وقد كانوا أسلموا ، فلما رأوا ذلك الاختلاف ، قالوا : والله لديننا الذى خرجنا منه خير وأهدى من دين هؤلاء الذين لا ينهاهم دينهم عن سفك الدماء ، وإخافة السبل ، فرجعوا إلى دينهم .
فلقى الخريت أولئك ، فقال : ويحكم ! إنه لا ينجيكم من القتل إلا الصبر لهؤلاء القوم ولقتالهم ، أتدرون ما حكم على فيمن أسلم من النصارى ثم رجع إلى النصرانية ؟ لا والله لا يسمع له قولا ، ولا يرى له عذرا ، ولا يقبل منه توبة ، ولا يدعوه إليها ، وإن حكمه فيه أن يضرب عنقه ساعة يستمكن منه ، فما زال حتى خدعهم وجاءهم من كان من بنى ناجية في تلك الناحية ومن غيرهم ، فاجتمع إليه ناس كثير ، وكان منكرا داهيا .
قال : فلما رجع معقل ، قرأ على أصحابه كتابا من على عليه السلام فيه : من عبد الله على أمير المؤمنين إلى من قرئ عليه كتابي هذا ، من المسلمين والمؤمنين والمارقين والنصارى والمرتدين .
سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله وكتابه ، والبعث بعد الموت وافيا بعهد الله ، ولم يكن من الخائنين ، أما بعد فإنى أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه ، وأن أعمل فيكم بالحق وبما أمر الله تعالى في كتابه ، فمن رجع منكم إلى رحله وكف يده ، واعتزل هذا المارق (1) الهالك المحارب (2) ، الذى حارب الله ورسوله والمسلمين ، وسعى في الارض فسادا ، فله الامان على ماله ودمه .
ومن تابعه على حربنا والخروج من طاعتنا ، استعنا بالله عليه ، وجعلناه بيننا وبينه ، وكفى بالله وليا .
والسلام .
قال : فأخرج معقل راية أمان فنصبها ، وقال : من أتاها من الناس فهو آمن إلا الخريت وأصحابه الذين نابذوا أول مرة ، فتفرق عن الخريت كل من كان معه من غير قومه ، وعبأ معقل بن قيس أصحابه ، ثم زحف بهم نحوه ، وقد حضر مع الخريت جميع
__________
(1) ا : (الفاسق) .
(2) ساقطة من ج .
(*)(3/141)
قومه ! مسلمهم ونصرانيهم ، ومانعي الصدقة منهم ، فجعل مسلميهم يمنه ، والنصارى ومانعي الصدقة يسرة ، وجعل يقول لقومه : امنعوا اليوم حريمكم ، وقاتلوا عن نسائكم وأولادكم ، والله لئن ظهروا عليكم ليقتلنكم وليسلبنكم .
فقال له رجل من قومه : هذا والله ما جرته علينا يدك ولسانك ، فقال لهم : قاتلوا فقد سبق السيف العذل .
قال : وسار معقل بن قيس يحرض أصحابه فيما بين الميمنة والميسرة ، ويقول : أيها الناس ، ما تدرون ما سيق إليكم في هذا الموقف من الاجر العظيم ! إن الله ساقكم إلى قوم منعوا الصدقة ، وارتدوا عن الاسلام ، ونكثوا البيعة ظلما وعدوانا ، إنى شهيد لمن قتل منكم بالجنة ، ومن عاش بأن الله يقر عينه بالفتح والغنيمة ، ففعل ذلك حتى مر بالناس أجمعين ، ثم وقف في القلب برايته ، وبعث إلى يزيد بن المعقل الازدي ، وهو في الميمنة ، أن أحمل عليهم ، فحمل ، فثبتوا له ، فقاتل طويلا وقاتلوه ، ثم رجع حتى وقف موقفه الذى كان فيه من الميمنة ، ثم بعث إلى المنجاب بن راشد الضبى ، وهو في الميسرة : أن أحمل عليهم ، فحمل فثبتوا له ، فقاتل طويلا وقاتلوه ، ثم رجع حتى وقف موقفه الذى كان في الميسرة ، ثم بعث معقل إلى ميمنته وميسرته : إذا حملت فاحملوا جميعا .
ثم أجرى فرسه وضربها ، وحمل أصحابه ، فصبروا لهم ساعة .
ثم إن النعمان بن صهبان الراسبى بصر بالخريت ، فحمل عليه ، فصرعه عن فرسه ، ثم نزل إليه وقد جرحه ، فاختلفا بينهما ضربتين ، فقتله النعمان وقتل معه في المعركة سبعون ومائة ، وذهب الباقون في الارض يمينا وشمالا ، وبعث معقل الخيل إلى رحالهم ، فسبى (1) من أدرك فيها رجالا ونساء وصبيانا ، ثم نظر فيهم ، فمن كان مسلما خلاه وأخذ
__________
(1) السبى : الاسر .
(*)(3/142)
بيعته ، وخلى سبيل عياله ، ومن كان ارتد عن الاسلام عرض عليه الرجوع إلى الاسلام وإلا القتل ، فأسلموا .
فخلى سبيلهم ، وسبيل عيالاتهم ، إلا شيخا منهم نصرانيا يقال له : الرماحس (1) بن منصور ، فإنه قال : والله ما زلت (2) مصيبا مذ عقلت ، إلا في خروجي من دينى ، دين الصدق ، إلى دينكم ، دين السوء ، لا والله لا أدع دينى ولا أقرب دينكم ماحييت .
فقدمه معقل فضرب عنقه ، وجمع الناس ، فقال : أدوا ما عليكم في هذه السنين من الصدقة ، فأخذ من المسلمين عقالين ، وعمد إلى النصارى وعيالاتهم فاحتملهم معه ، وأقبل المسلمون الذين كانوا معهم ، يشيعونهم ، فأمر معقل بردهم ، فلما ذهبوا لينصرفوا ، تصايحوا ودعا الرجال والنساء بعضهم إلى بعض .
قال : فلقد رحمتهم رحمة ما رحمتها أحدا قبلهم ولا بعدهم .
وكتب معقل إلى على عليه السلام : أما بعد ، فإنى أخبر أمير المؤمنين عن جنده وعن عدوه أنا دفعنا إلى عدونا بأسياف البحر ، فوجدنا بها قبائل ذات حد وعدد ، وقد جمعوا لنا ، فدعوناهم إلى الجماعة والطاعة ، وإلى حكم الكتاب والسنة ، وقرأنا عليهم كتاب أمير المؤمنين عليه السلام ، ورفعنا لهم راية أمان ، فمالت إلينا طائفة منهم ، وثبتت طائفة أخرى ، فقبلنا أمر التى أقبلت ، وصمدنا إلى التى أدبرت ، فضرب الله وجوههم ، ونصرنا عليهم ، فأما من كان مسلما ، فإنا مننا عليه ، وأخذنا بيعته لامير المؤمنين ، وأخذنا منهم الصدقة التى كانت عليهم ، وأما من ارتد فعرضنا عليهم الرجوع إلى الاسلام ، وإلا قتلناهم ، فرجعوا إلى الاسلام ، غير رجل واحد فقتلناه ، وأما النصارى ، فإنا سبيناهم وأقبلنا بهم ، ليكونوا نكالا لمن بعدهم من أهل الذمة ، كى لا يمنعوا الجزية ، ولا يجترئوا على قتال أهل القبلة ، وهم
__________
(1) كذا في تاريخ الطبري 5 : 128 ، وفي الاصول : (الرملحس) ، تحريف .
(2) وفى الاصول : (ما ظلت) ، والصواب ما أثبته من الطبري .
(*)(3/143)
أهل .
رحمك الله يا أمير المؤمنين ، وعليك الصلاة والسلام ، وأوجب لك جنات النعيم .
والسلام .
قال : ثم أقبل بالاسار حتى مر على مصقلة بن هبيرة الشيباني ، وهو عامل لعلى عليه السلام على أردشير خرة (1) وهم خمسمائة إنسان ، فبكى إليه النساء والصبيان ، وتصايح الرجال : يا أبا الفضل ، يا حامل الثقل (2) ، يا مؤوى الضعيف ، وفكاك العصاة ، امنن علينا فاشترنا وأعتقنا .
فقال مصقلة : أقسم بالله لاتصدقن عليهم ، إن الله يجزى المتصدقين .
فبلغ قوله معقل بن قيس ، فقال : والله لو أعلمه قالها توجعا لهم وإزراء على لضربت عنقه ، وإن كان في ذلك فناء بنى تميم وبكر بن وائل .
ثم إن مصقلة بعث ذهل بن الحارث الذهلى إلى معقل ، فقال : بعنى نصارى ناجية ، فقال : أبيعكهم بألف ألف درهم ، فأبى عليه ، فلم يزل يراوده حتى باعه إياهم بخمسمائة ألف درهم ، ودفعهم إليه ، وقال : عجل بالمال إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، فقال مصقلة : أنا باعث الان بصدر منه ، ثم أتبعك بصدر آخر ، ثم كذلك حتى لا يبقى منه شئ .
وأقبل معقل إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، فأخبره بما كان من الامر ، فقال له : أحسنت وأصبت ووفقت .
وانتظر على عليه السلام مصقلة أن يبعث بالمال ، فأبطأ به .
وبلغ عليا عليه السلام أن مصقلة خلى الاسارى ولم يسألهم أن يعينوه في فكاك أنفسهم بشئ ، فقال : ما أرى مصقلة إلا قد حمل حمالة ، ولا أراكم إلا سترونه عن قريب مبلدحا (3) ، ثم كتب إليه :
__________
(1) أردشير خرة ، بالفتح ثم السكون وفتح الدال المهملة وكسر الشين المعجمة وياء ساكنة وراء ، وخاء معجمة مضمومة ، وراء مفتوحة مشددة وهاء : من كور فارس (مراصد الاطلاع) .
(2) الثقل .
متاع الانسان وحشمه .
(3) المبلدح : الملقى على الارض من الضرب .
(*)(3/144)
أما بعد ، فإن من أعظم الخيانة خيانة (1) الامة ، وأعظم الغش على أهل المصر غش الامام ، وعندك من حق المسلمين خمسمائة ألف درهم ، فابعث بها إلى حين يأتيك رسولي ، وإلا فأقبل إلى حين تنظر في كتابي ، فإنى قد تقدمت إلى رسولي ألا يدعك ساعة واحدة تقيم بعد قدومه عليك ، إلا أن تبعث بالمال ، والسلام .
وكان الرسول أبو جرة الحنفي ، فقال له أبو جرة : إن تبعث بهذا المال وإلا فاشخص معى إلى أمير المؤمنين .
فلما قرأ كتابه أقبل حتى نزل البصرة ، وكان العمال يحملون المال من كور البصرة إلى ابن عباس ، فيكون ابن عباس هو الذى يبعث به إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، ثم أقبل من البصرة حتى أتى عليا عليه السلام بالكوفة ، فأقره أياما لم يذكر له شيئا ، ثم سأله المال ، فأدى إليه مائتي ألف درهم ، وعجز عن الباقي .
قال : فروى ابن أبى سيف ، عن أبى الصلت ، عن ذهل بن الحارث ، قال : دعاني مصقلة إلى رحله ، فقدم عشاء فطعمنا منه ، ثم قال : و الله إن أمير المؤمنين عليه السلام يسألنى هذا المال ، ووالله ما أقدر عليه ، فقلت له : لو شئت لم يمض عليك جمعة حتى تجمع هذا المال ، فقال : ما كنت لاحملها قومي ، ولا أطلب فيها إلى أحد .
ثم قال : والله لو أن ابن هند مطالبي بها ، أو ابن عفان ، لتركها لى ، ألم تر إلى عثمان كيف أعطى الاشعث مائة ألف درهم من خراج أذربيجان في كل سنة ! فقلت : إن هذا لا يرى ذلك الرأى ، وما هو بتارك لك شيئا .
فسكت ساعة ، وسكت عنه ، فما مكث ليلة واحدة (2) بعد هذا الكلام حتى لحق بمعاوية .
فبلغ ذلك عليا عليه السلام فقال : ما له ترحه الله ! فعل فعل السيد وفر فرار العبد ، وخان خيانة الفاجر ، أما إنه لو أقام فعجز ما زدنا على حبسه ، فإن وجدنا له شيئا أخذناه ،
__________
(1) كلمة (خيانة) ساقطة من ا ، ب ، ثابتة في ج والطبري .
(2) الطبري : (فلا والله ما مكث إلا ليلة واحدة) .
(10 - نهج - 3) (*)(3/145)
وإن لم نجد له مالا تركناه .
ثم سار على عليه السلام إلى داره فهدمها .
وكان أخوه نعيم بن هبيرة الشيباني شيعة لعلى عليه السلام ، مناصحا ، فكتب إليه مصقلة من الشام مع رجل من نصارى تغلب ، يقال له حلوان : أما بعد ، فإنى كلمت معاوية فيك ، فوعدك الكرامة ، ومناك الامارة ، فأقبل ساعة تلقى رسولي .
والسلام .
فأخذه مالك بن كعب الارحبي فسرح به إلى على عليه السلام ، فأخذ كتابه فقرأه ثم قدمه فقطع يده ، فمات .
وكتب نعيم إلى [ أخيه ] مصقلة شعرا لم يرده عليه (1) : لا ترمين هداك الله معترضا بالظن منك فما بالى وحلوانا ذاك الحريص على ما نال من طمع وهو البعيد فلا يورثك أحزانا (2) ماذا أردت إلى إرساله سفها ترجو سقاط امرئ لم يلف وسنانا عرضته لعلى إنه أسد يمشى العرضنة من آساد خفانا (3) قد كنت في خير مصطاف ومرتبع تحمى العراق وتدعى خير شيبانا (4) حتى تقحمت أمرا كنت تكرهه للراكبين له سرا وإعلانا لو كنت أديت مال الله مصطبرا للحق زكيت أحيانا وموتانا (5) لكن لحقت بأهل الشام ملتمسا فضل ابن هند فذاك الرأى أشجانا فاليوم تقرع سن العجز من ندم (6) ماذا تقول وقد كان الذى كانا ! أصبحت تبغضك الاحياء قاطبة لم يرفع الله بالعصيان إنسانا (7)
__________
(1) الابيات في تاريخ الطبري 5 : 130 وما بعدها .
(2) الطبري : (فلا يحزنك إذ خانا) .
(3) العرضنة : (البغى في المشى من النشاط .
وخفان : مأسدة قرب الكوفة .
(4) الطبري : (قد كنت في منظر عن ذا ومستمع) .
(5) رواية الطبري : لو كنت أديت ما للقوم مصطبرا للحق أحييت أحيانا وموتانا (6) الطبري : (سن الغرم) .
(7) الطبري : (بالبغضاء إنسانا) .
(*)(3/146)
فلما بلغ الكتاب إليه علم أن النصراني قد هلك (1) ، ولم يلبث التغلبيون إلا قليلا حتى بلغهم هلاك صاحبهم ، فأتوا مصقلة ، فقالوا : أنت أهلكت صاحبنا ، فإما أن تجيئنا (2) به ، وإما أن تديه ، فقال : أما أن أجئ (3) به ، فلست أستطيع ذلك ، وأما أن أديه فنعم ، فوداه .
قال إبراهيم : وحدثني ابن أبى سيف ، عن عبد الرحمن بن جندب ، عن أبيه ، قال : قيل لعلى عليه السلام حين هرب مصقلة : اردد الذين سبوا ولم تستوف أثمانهم في الرق ، فقال : ليس ذلك في القضاء بحق ، قد عتقوا إذ أعتقهم الذى اشتراهم ، وصار مالى دينا على الذى اشتراهم .
وروى إبراهيم أيضا ، عن إبراهيم بن ميمون ، عن عمرو بن القاسم بن حبيب التمار ، عن عمار الدهنى ، قال : لما هرب مصقلة قال أصحاب على عليه السلام له : يا أمير المؤمنين ، فيئنا ! قال : إنه قد صار على غريم من الغرماء ، فاطلبوه .
وقال ظبيان بن عمارة ، أحد بنى سعد بن زيد مناة في بنى ناجية : هلا صبرت للقراع ناجيا والمرهفات تختلى الهواديا (4) والطعن في نحوركم تواليا وصائبات الاسهم القواضيا وقال ظبيان أيضا : ألا فاصبروا للطعن والضرب ناجيا وللمرهفات يختلين الهواديا فقد صب رب الناس خزيا عليكم وصيركم من بعد عز مواليا
__________
(1) الطبري : (فلما وقع الكتاب إليه علم أن رسوله قد هلك) .
(2) الطبري : (تحييه) .
(3) الطبري : (أحييه) .
(4) تختلى : تجز ، والهوادى هنا : الاعناق .
(*)(3/147)
سما لكم بالخيل جردا عواديا أخو ثقة لا يبرح الدهر غازيا فصبحكم في رحلكم وخيولكم بضرب يرى منه المدجج هاويا فأصبحتم من بعد عز وكثرة عبيد العصا لا تمنعون الذراريا قال إبراهيم بن هلال : وروى عبد الرحمن بن حبيب ، عن أبيه ، أنه لما بلغ عليا عليه السلام مصاب بنى ناجية ، وقتل صاحبهم ، قال : هوت أمه ! ما كان أنقص عقله وأجرأه ! إنه جاءني مرة فقال : إن في أصحابك رجالا قد خشيت أن يفارقوك ، فما ترى فيهم ؟ فقلت : إنى لا آخذ على التهمة ، ولا أعاقب على الظن ، ولا أقاتل إلا من خالفني وناصبني ، وأظهر العداوة لى ، ثم لست مقاتله حتى أدعوه وأعذر إليه (1) ، فإن تاب ورجع قبلنا منه ، وإن أبى إلا الاعتزام على حربنا استعنا بالله عليه ، وناجزناه .
فكف عنى ما شاء الله ، ثم جاءني مرة أخرى ، فقال لى : إنى قد خشيت أن يفسد عليك عبد الله بن وهب وزيد بن حصين الطائى ، إنى سمعتهما يذكر انك بأشياء لو سمعتهما لم تفارقهما حتى تقتلهما أو توثقهما ، فلا يزالان بمحبسك أبدا .
فقلت له : إنى مستشيرك فيهما ، فما ذا تأمرني به ؟ قال : إنى آمرك أن تدعو بهما فتضرب رقابهما ، فعلمت أنه لا ورع له ولا عقل .
فقلت له : والله ما أظن لك ورعا ولا عقلا ، لقد كان ينبغى لك أن تعلم أنى لا أقتل من لم يقاتلني ، ولم يظهر لى عداوته للذى كنت أعلمتكه من رأيى ، حيث جئتني في المرة الاولى ، ولقد كان ينبغى لك - لو أردت قتلهم - أن تقول لى : اتق الله ! بم تستحل قتلهم ولم يقتلوا أحدا ، ولم ينابذوك ولم يخرجوا من طاعتك ! * * * فأما ما يقوله الفقهاء في مثل هذا السبى ، فقبل أن نذكر ذلك نقول : إن الرواية قد
__________
(1) أي يكون لى عنده عذر .
(*)(3/148)
اختلفت في المرتدين من بنى ناجية ، فالرواية الاولى التى رواها محمد بن عبد الله عثمان ، عن نصر بن مزاحم ، تتضمن أن الامير الذى من قبل على عليه السلام قتل مقاتله المرتدين منهم بعد امتناعهم من العود إلى الاسلام ، وسبى ذراريهم ، فقدم بها على على عليه السلام ، فعلى هذه الرواية يكون الذين اشتراهم مصقلة ذرارى أهل الردة .
والرواية الثانية التى رواها محمد بن عبد الله ، عن ابن أبى سيف ، تتضمن أن معقل بن قيس ، الامير من قبل على عليه السلام لم يقتل من المرتدين من بنى ناجية إلا رجلا واحدا ، وأما الباقون فرجعوا إلى الاسلام ، والاسترقاق إنما كان للنصارى الذين ساعدوا في الحرب وشهروا السيف على جيش الامام ، وليسوا مرتدين ، بل نصارى في الاصل ، وهم الذين اشتراهم مصقلة .
فإن كانت الرواية الاولى هي الصحيحة ففيها إشكال ، لان المرتدين لا يجوز عند الفقهاء استرقاقهم ، ولا أعرف خلافا في هذه المسألة ، ولا أظن الامامية أيضا (1) تخالف فيها ، وإنما ذهب أبو حنيفة إلى أن المرأة المرتدة إذا لحقت بدار الحرب جاز استرقاقها ، وسائر الفقهاء على خلافة ، ولم يختلفوا في أن الذكور البالغين من المرتدين لا يجوز استرقاقهم ، فلا أعلم كيف وقع استرقاق المرتدين من بنى ناجية على هذه الرواية ! على أنى أرى أن الرواية المذكورة لم يصرح فيها باسترقاقهم ، ولا بأنهم بيعوا على مصقلة ، لان لفظ الراوى : (فأبوا ، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم فقدم بهم على على عليه السلام) ، وليس في الرواية ذكر استرقاقهم ولا بيعهم على مصقلة ، بل فيها ما ينافى بيعهم على مصقلة ، وهو قوله : (فقدم بهم على على عليه السلام) ، فإن مصقلة ابتاع السبى من الطريق في أردشير خرة قبل قدومه على على عليه السلام ، ولفظ الخبر : (فقدم بهم على على عليه السلام) .
وإنما يبقى الاشكال على هذه الرواية أن يقال : إذا كان قد قدم بهم على على عليه
__________
(1) ساقطة من ج .
(*)(3/149)
السلام ، فمصقلة من اشترى ! ولا يمكن دفع كون مصقلة اشترى قوما في الجملة ، فإن الخبر بذلك مشهور جدا يكاد يكون متواترا .
فإن قيل : فما قولكم فيما إذا ارتد البالغون من الرجال والنساء ، ثم أولدوا ذرية صغارا بعد الردة ، هل يجوز استرقاق الاولاد ؟ فإن كان يجوز ، فهلا حملتم الخبر عليه ! قيل : إذا ارتد الزوجان فحملت منه في حال الردة وأتت بولد كان محكوما بكفره ، لانه ولد بين كافرين .
وهل يجوز استرقاقه ؟ فيه للشافعي قولان ، وأما أبو حنيفة فقال : ان إلد في دار الاسلام لم يجز استرقاقه ، وإن ولد في دار الحرب جاز استرقاقه ، فإن كان استرقاق هؤلاء الذرية موافقا لاحد قولى الشافعي ، فلعله ذاك .
وأما الرواية الثانية ، فإن كانت هي الصحيحة - وهو الاولى - فالفقه في المسألة أن الذمي إذا حارب المسلمين فقد نقض عهده ، فصار كالمشركين الذين في دار الحرب ، فإذا ظفر به الامام جاز استرقاقه وبيعه ، وكذلك إذا امتنع من أداء الجزية أو امتنع من التزام أحكام الاسلام .
واختلف الفقهاء في أمور سبعة : هل ينتقض بها عهدهم ، ويجوز استرقاقهم أم لا ، وهى أن يزنى الذمي بمسلمة ، أو يصيبها باسم نكاح ، أو يفتن مسلما عن دينه ، أو يقطع الطريق على المسلمين ، أو يؤوى (1) للكفار عينا ، أو يدل على عورات المسلمين ، أو يقتل مسلما .
فأصحاب الشافعي يقولون : إن شرط عليهم في عقد الذمة الكف عن ذلك ، فهل ينقض عهدهم بفعله ؟ فيه وجهان .
وإن لم يشترط ذلك في عقد الذمة ، لم ينتقض عهدهم بذلك .
وقال الطحاوي من أصحاب أبى حنيفة : ينتقض عهدهم بذلك ، سواء شورطوا عن
__________
(1) ب : (يؤدى) ، تحريف .
(*)(3/150)
الكف عنه في عقد الذمة ، أو لم يشارطوا عليه .
فنصارى بنى ناجية على هذه الرواية قد انتقض عهدهم بحرب المسلمين ، فابيحت دماؤهم ، وجاز للامام قتلهم وجاز له استرقاقهم كالمشركين الاصليين في دار الحرب ، وأما استرقاق أبى بكر بن أبى قحافة لاهل الردة وسبيه ذراريهم ، فإن صح كان مخالفا لما يقول الفقهاء من تحريم استرقاق المرتدين ، إلا أن يقولوا إنه لم يسب المرتدين ، وإنما سبى من ساعدهم وأعانهم في الحرب من المشركين الاصليين .
وفي هذا الموضع نظر .(3/151)
(45) ومن خطبه له عليه السلام : الاصل : الحمد لله غير مقنوط من رحمته ، ولا مخلو من نعمته ، ولا مأيوس من مغفرته ، ولا مستنكف عن عبادته ، الذى لا تبرح منه رحمة ، ولا تفقد له نعمة .
والدنيا دار منى لها الفناء ، ولاهلها منها الجلاء ، وهى حلوة خضرة ، وقد عجلت للطالب ، والتبست بقلب الناظر ، فارتحلوا منها بأحسن ما بحضرتكم من الزاد ، ولا تسألوا فيها فوق الكفاف ، ولا تطلبوا منها أكثر من البلاغ .
* * * الشرح : منى لها الفناء ، أي قدر .
والجلاء ، بفتح الجيم : الخروج عن الوطن ، قال سبحانه : (ولو لا أن كتب الله عليهم الجلاء) (1) .
وحلوة خضرة ، مأخوذ من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن الدنيا حلوة خضرة ، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون) .
والكفاف من الرزق : قدر القوت ، وهو ما كف عن الناس ، أي أغنى .
والبلاغ والبلغة من العيش : ما يتبلغ به .
* * *
__________
(1) سورة الحشر 3 .
(*)(3/152)
واعلم أن هذا الفصل يشتمل على فصلين من كلام أمير المؤمنين عليه السلام : أحدهما حمد الله والثناء عليه إلى قوله : (ولا تفقد له نعمة) ، والفصل الثاني ذكر الدنيا إلى آخر الكلام .
وأحدهما غير مختلط بالاخر ولا منسوق عليه ، ولكن الرضى رحمه الله تعالى يلتقط كلام أمير المؤمنين عليه السلام التقاطا ، ولا يقف مع الكلام المتوالى ، لان غرضه ذكر فصاحته عليه السلام لا غير ، ولو أتى بخطبه كلها على وجهها لكانت أضعاف كتابه الذى جمعه .
* * * [ فصل بلاغى في الموازنة والسجع ] فأما الفصل الاول ، فمشتمل من علم البيان على باب كبير يعرف بالموازنة ، وذلك (غير مقنوط) فإنه وازنه في الفقرة الثانية بقوله : (ولا مخلو) .
ألا ترى أن كل واحدة منهما على وزن (مفعول) ، ثم قال في الفقرة الثالثة : (ولا مأيوس) ، فجاء بها على وزن (مفعول) أيضا ، ولم يمكنه في الفقرة الرابعة ما أمكنه في الاولى ، فقال : (ولا مستنكف) فجاء به على وزن (مستفعل) وهو وإن كان خارجا عن الوزن ، فإنه غير خارج عن المفعولية ، لان (مستفعل) (مفعول) في الحقيقة ، كقولك : زيد مستحسن ، ألا ترى أن (مستحسنا) من استحسنه ، فهو أيضا غير خارج عن المفعولية .
ثم وازن عليه السلام بين قوله : (لا تبرح) وقوله : (لا تفقد) ، وبين (رحمة) و (نعمة) ، فأعطت هذه الموازنات الكلام من الطلاوة والصنعة ما لا تجده عليه لو قال : (الحمد لله غير مخلو من نعمته ، ولا مبعد من رحمته) لان (مبعد) بوزن (مفعل) ، وهو غير مطابق ولا مماثل لمفعول ، بل هو بناء آخر .
وكذلك لو قال : (لا تزول منه رحمة) ، فإن (تزول) ليست في المماثلة والموازنة(3/153)
لم (تفقد) ك (تبرح) ألا ترى أنها معتلة ، وتلك صحيحة ! وكذلك لو قال : (لا تبرح منه رحمة ولا يفقد له إنعام) فإن (إنعاما) ليس في وزن (رحمة) ، والموازنة مطلوبة في الكلام الذى يقصد فيه الفصاحة ، لاجل الاعتدال الذى هو مطلوب الطبع في جميع الاشياء .
والموازنة أعم من السجع ، لان السجع تماثل أجزاء الفواصل لو أوردها على حرف واحد ، نحو القريب ، والغريب ، والنسيب ، وما أشبه ذلك .
وأما الموازنة فنحو القريب والشديد ، والجليل ، وما كان على هذا الوزن وإن لم يكن الحرف الاخر بعينه واحدا ، وكل سجع موازنة ، وليس كل موازنة سجعا ، ومثال الموازنة في الكتاب العزيز : (وآتيناهما الكتاب المستبين * وهديناهما الصراط المستقيم) (1) ، وقوله تعالى : (ليكونوا لهم عزا) ، ثم قال : (ويكونون عليهم ضدا) ، ثم قال : (تؤزهم أزا) ثم قال : (نعد لهم عدا) (2) فهذه الموازنة .
ومما جاء من المثال في الشعر قوله : بأشدهم بأسا على أعدائهم وأعزهم فقدا على الاصحاب فقوله : (وأعزهم) بإزاء (أشدهم) ، وقوله : (فقدا) بإزاء (بأسا) .
والموازنة كثيرة في الكلام وهى في كتاب الله تعالى أكثر .
* * * [ نبذ من كلام الحكماء في مدح القناعة وذم الطمع ] فأما الفصل الثاني فيشتمل على التحذير من الدنيا ، وعلى الامر بالقناعة ، والرضا بالكفاف ، فأما التحذير من الدنيا فقد ذكرنا ونذكر منه ما يحضرنا ، وأما القناعة فقد ورد فيها شئ كثير .
__________
(1) سورة الصافات 117 ، 118 .
(2) سورة مريم 81 ، 82 ، 83 ، 84 .
(*)(3/154)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاخوين من الانصار : (لا تيئسا من روح الله ما تهزهزت رؤسكما ، فإن أحدكم يولد لا قشر عليه ، ثم يكسوه الله ويرزقه) .
وعنه صلى الله عليه وسلم - ويعزى إلى أمير المؤمنين عليه السلام - : (القناعة كنزلا ينفد) .
وما يقال إنه من كلام لقمان الحكيم : (كفى بالقناعة عزا ، وبطيب النفس نعيما) .
ومن كلام عيسى عليه السلام : اتخذوا البيوت منازل ، والمساجد مساكن ، وكلوا من بقل البرية ، واشربوا من الماء القراح ، واخرجوا من الدنيا بسلام .
لعمري لقد انقطعتم إلى غير الله فما ضيعكم ، أفتحافون الضيعة إذا انقطعتم إليه ! وفي بعض الكتب الالهية القديمة : يقول الله تعالى : يا بن آدم ، أتخاف أن أقتلك بطاعتي هزلا ، د وأنت تتفتق بمعصيتي سمنا ! قال أبو وائل : ذهبت أنا وصاحب لى إلى سلمان الفارسى ، فجلسنا عنده ، فقال : لولا أن رسول الله صلى الله عليه نهى عن التكلف لتكلفت لكم ، ثم جاء بخبز وملح ساذج لا أبزار عليه ، فقال صاحبي : لو كان لنا في ملحنا هذا سعتر (1) ! فبعث سلمان بمطهرته ، فرهنها على سعتر ، فلما أكلنا قال صاحبي : الحمد لله الذى قنعنا بما رزقنا ، فقال سلمان : لو قنعت بما رزقك لم تكن مطهرتى مرهونة ! عباد بن منصور : لقد كان بالبصرة من هو أفقه من عمرو بن عبيد وأفصح ، ولكنه كان أصبرهم عن الدينار والدرهم ، فساد أهل البصرة .
قال خالد بن صفوان لعمرو بن عبيد : لم لا تأخذ منى ؟ فقال : لا يأخذ أحد من أحد إلا ذل له ، وأنا أكره أن أذل لغير الله .
__________
(1) السعتر : نبات طيب الرائحة حريف زهره أبيض إلى الغير .
(*)(3/155)
كان معاش عمرو بن عبيد من دار ورثها ، كان يأخذ أجرتهفى كل شهر دينارا واحدا فيتبلغ به .
الخليل بن أحمد : كان الناس يكتسبون الرغائب بعلمه ، وهو بين أخصاص البصرة ، لا يلتفت إلى الدنيا ولا يطلبها .
وهب بن منبه : أرملت مرة حتى كدت أقنط ، فأتاني آت في المنام ومعه شبه لوزة ، فقال : افضض ، ففضضتها ، فإذا حريرة فيها ثلاثة أسطر : لا ينبغى لمن عقل عن الله أمره ، وعرف لله عدله ، أن يستبطئ الله في رزقه ، فقنعت وصبرت ، ثم أعطاني الله فأكثر .
قيل للحسن عليه السلام : إن أبا ذر كان يقول : الفقر أحب إلى من الغنى ، والسقم أحب إلى من الصحة ، فقال : رحم الله أبا ذر ، أما أنا فأقول : من اتكل إلى حسن الاختيار من الله لم يتمن أنه في غير الحال التى اختارها الله له ، لعمري يا بن آدم ، الطير لا تأكل رغدا ، ولا تخبأ لغد ، وأنت تأكل رغدا ، وتخبأ لغد ، فالطير أحسن ظنا منك بالله عزوجل .
حبس عمر بن عبد العزيز الغذاء عن مسلمة ، حتى برح به الجوع ، ثم دعا بسويق فسقاه ، فلما فرغ منه لم يقدر على الاكل ، فقال : يا مسلمة ، إذا كفاك من الدنيا ما رأيت ، فعلا م التهافت في النار ! عبد الواحد بن زيد : ما أحسب شيئا من الاعمال يتقدم الصبر إلا الرضا والقناعة ، ولا أعلم درجة أرفع من الرضا ، وهو رأس المحبة .
قال ابن شبرمة في محمد بن واسع : لو أن إنسانا اكتفى بالتراب لاكتفى به .
يقال من جملة ما أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام : قل لعبادي المتسخطين لرزقي ، إياكم أن أغضب فأبسط عليكم الدنيا .(3/156)
كان لبعض الملوك نديم ، فسكر ، ففاتته الصلاة ، فجاءت جارية له بجمرة نار ، فوضعتها على رجله ، فانتبه مذعورا ، فقالت : إنك لم تصبر على نار الدنيا ، فكيف تصبر على نار الاخرة ! فترك الدنيا وانقطع إلى العبادة ، وقعد يبيع البقل ، فدخل عليه الفضيل وابن عيينة ، فإذا تحت رأسه لبنة ، وليس تحت جنبه حصير ، فقالا له : إنا روينا أنه لم يدع أحد شيئا لله إلا عوضه خيرا منه ، فما عوضك ؟ قال : القناعة والرضا بما أنا فيه .
أصابت داود الطائى ضائقة شديدة ، فجاء حماد بن أبى حنيفة بأربعمائة درهم من تركة أبيه ، فقال داود : هي لعمري من مال رجل ما أقدم عليه أحدا في زهده وورعه وطيب كسبه ، ولو كنت قابلا من أحد شيئا لقبلتها إعظاما للميت ، وايجابا للحى ، ولكني أحب أن أعيش في عز القناعة .
سفيان الثوري : ما أكلت طعام أحد قط إلا هنت عليه .
مسعر بن كدام : من صبر على الخل والبقل لم يستعبد .
فضيل : أصل الزهد الرضا بما رزقك الله ، ألا تراه كيف يصنع بعبده ما تصنع الوالدة الشفيقة بولدها ! تطعمه مرة خبيصا (1) ، ومرة صبرا ، تريد بذلك ما هو أصلح له .
المسيح عليه السلام : أنا الذى كببت الدنيا على وجهها ، وقدرتها بقدرها ، ليس لى ولد يموت ، ولا بيت يخرب ، وسادى الحجر ، وفراشى المدر ، وسراجى القمر .
أمير المؤمنين عليه السلام : أكل تمر دقل (2) ، ثم شرب عليه ماء ، ومسح بطنه ، وقال : من أدخلته بطنه النار ، فأبعده الله ، ثم أنشد : فإنك إن أعطيت بطنك سؤله وفرجك نالا منتهى الذم أحمعا (3)
__________
(1) الخبيص : التمر المعمول من السمن والعسل .
(2) الدقل : أردأ التمر .
(3) البيت لحاتم الطائى ، ديوانه 17 (طبع بيروت) .
(*)(3/157)
في الحديث الصحيح المرفوع : (إن روح القدس نفث في روعى أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها ، فأجملوا في الطلب) .
من كلام الحكماء : من ظفر بالقناعة فقد ظفر بالكيمياء الاعظم .
الحسن : الحريص الراغب ، والقانع الزاهد كلاهما مستوف أجله ، مستكمل أكله ، غير مزداد ولا منتقص مما قدر له ، فعلا م التقحم في النار ! ابن مسعود ، رفعه : (إنه ليس أحد بأكيس من أحد ، قد كتب النصيب والاجل ، وقسمت المعيشة والعمل ، والناس يجرون منهما إلى منتهى معلوم) .
المسيح عليه السلام : انظروا إلى طير السماء تغدو وتروح ، ليس معها شئ ، من أرزاقها ، لا تحرث ولا تحصد ، والله يرزقها ، فإن زعمتم أنكم أوسع بطونا من الطير ، فهذه الوحوش من البقر والحمر ، لا تحرث ولا تحصد ، والله يرزقها .
سويد بن غفلة : كان إذا قيل له : قد ولى فلان ، يقول : حسبى كسرتي وملحى .
وفد عروة (1) بن أذينة على هشام بن عبد الملك فشكا إليه خلته ، فقال له : ألست القائل : لقد علمت وما الاشراف من خلقي أن الذى هو رزقي سوف يأتيني (2) أسعى له فيعنينى تطلبه ولو قعدت أتانى لا يعنينى فكيف خرجت من الحجاز إلى الشام تطلب الرزق ! ثم اشتغل عنه ، فخرج وقعد على ناقته ونصها راجعا إلى الحجاز ، فذكره هشام في الليل ، فسأل عنه فقيل : إنه رجع إلى الحجاز ، فتذمر وندم ، وقال : رجل قال حكمة ، ووفد على مستجديا ، فجبهته ،
__________
(1) الخبر في الشعر والشعراء 56 .
(2) الاشراف .
الحرص ، كذا فسره صاحب اللسان واستشهد بالبيت .
(*)(3/158)
ورددته ! ثم وجه إليه بألفى درهم ، فجاء الرسول وهو بالمدينة ، فدفعها إليه فقال له : قل لامير المؤمنين ، كيف رأيت ! سعيت فأكديت ، وقعدت في منزلي فأتاني رزقي .
عمر بن الخطاب : تعلم أن الطمع فقر ، وأن اليأس غنى ، ومن يئس من شئ استغنى عنه .
أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم طائران ، فأكل أحدهما عشية ، فلما أصبح طلب غداء ، فأتته بعض أزواجه بالطائر الاخر ، فقال : (ألم أنهك أن ترفعى شيئا لغد ، فإن من خلق الغد خلق رزقه) .
وفي الحديث المرفوع : (قد أفلح من رزق كفافا وقنعه الله بما آتاه) .
من حكمة سليمان عليه السلام : قد جربنا لين العيش وشدته ، فوجدنا أهنأه أدناه .
وهب ، في قوله تعالى : (فلنحيينه حياة طيبة) (1) ، قال : القناعة .
بعض حكماء الشعراء : فلا تجزع إذا أعسرت يوما فقد أيسرت في الدهر الطويل ولا تظنن بربك ظن سوء فإن الله أولى بالجميل وإن العسر يتبعه يسار وقيل الله أصدق كل قيل ولو أن العقول تجر رزقا لكان المال عند ذوى العقول عائشة : قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن أردت اللحوق بى فيكفيك من الدنيا زاد الراكب ، ولا تخلقي ثوبا حتى ترقعية ، وإياك ومجالسة الاغنياء) .
__________
(1) سورة النحل 97 .
(*)(3/159)
يقال : إن جبرائيل عليه السلام جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمفاتيح خزائن الدنيا ، فقال : (لا حاجة لى فيها ، بل جوعتان وشبعة) .
وجد مكتوبا على صخرة عادية (1) : يا بن آدم ، لست ببالغ أملك ، ولا سابق أجلك ، ولا مغلوب على رزقك ، ولا مرزوق ما ليس لك ، فعلا م تقتل نفسك ! الحسين بن الضحاك : يا روح من عظمت قناعته حسم المطامع من غد وغد (2) من لم يكن لله متهما لم يمس محتاجا إلى أحد أوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه : أتدرى لم رزقت الاحمق ؟ قال : لا ، قال : ليعلم العاقل أن طلب الرزق ليس بالاحتمال .
قنط (3) يوسف بن يعقوب عليه السلام في الجب لجوع اعتراه ، فأوحى إليه : انظر إلى حائط البئر ، فنظر فانفرج الحائط عن ذرة على صخرة ، معها طعامها ، فقيل له : أتراني لا أغفل عن هذه الذرة ، وأغفل عنك ، وأنت نبى ابن نبى ! دخل على عليه السلام المسجد ، وقال لرجل : أمسك على بغلتي ، فخلع لجامها ، وذهب به ، فخرج على عليه السلام بعد ما قضى صلاته ، وبيده درهمان ليدفعهما إليه مكافأة له ، فوجد البغلة عطلا ، فدفع إلى أحد غلمانه الدرهمين ، ليشترى بهما لجاما ، فصادف الغلام اللجام المسروق في السوق ، قد باعه الرجل بدرهمين ، فأخذه بالدرهمين وعاد إلى مولاه ، فقال على عليه السلام : (إن العبد ليحرم نفسه الرزق الحلال بترك الصبر ،
__________
(1) عادية ، أي قديمة نسبة إلى قبيلة عاد البائدة .
(2) من أبيات في الحيوان 5 : 480 ، قال الجاحظ : (وهذا شعر رويته له على وجه الدهر ، وزعم حسين بن الصحاك أنه له ، وكان يدعى ما ليس له) .
(3) قنط قنوطا ، أي يئس .
(*)(3/160)
ولا يزاد على ما قدر له .
سليمان بن المهاجر البجلى : كسوت جميل الصبر وجهى فصانه به الله عن غشيان كل بخيل فلم يتبذلني البخيل ولم أقم على بابه يوما مقام ذليل وإن قليلا يستر الوجه أن يرى إلى الناس مبذولا لغير قليل وقف بعض الملوك على سقراط وهو في المشرقة (1) ، فقال له : سل حاجتك ، قال : حاجتى أن تزيل عنى ظلك ، فقد منعتني الرفق (2) بالشمس ، فأحضر له ذهبا وكسوة دياج ، فقال : إنه لا حاجة بسقراط إلى حجارة الارض ولعاب الدود ، إنما حاجته إلى أمر يصحبه حيثما توجه .
صلى معروف الكرخي خلف إمام ، فلما انفتل سأل ذلك الامام معروفا : من أين تأكل ؟ قال : اصبر على حتى أعيد ما صليته خلفك ، قال : لماذا ؟ قال : لان من شك في الرزق شك في الرازق ، قال الشاعر : ولا تهلكن النفس وجدا وحسرة على الشئ أسداه لغيرك قادره (3) ولا تيأسن من صالح أن تناله وإن كان نهبا بين أيد تبادره فإنك لا تعطى امرأ حظ نفسه ولا تمنع الشق الذى الغيث ناصره قال عمر بن الخطاب لعلى بن أبى طالب عليه السلام : قد مللت الناس ، وأحببت أن ألحق بصاحبي ، فقال : إن سرك اللحوق بهما فقصر أملك ، وكل دون الشبع ، واخصف النعل (4) وكن كميش (5) الازار ، مرقوع القميص ، تلحق بهما .
__________
(1) المشرقة : موضع مقعود في الشمس في الشتاء .
(2) الرفق بالشئ : الانتفاع به .
(3) ا : (سداه لغيرك) ، أي أعطاه .
(4) خصف النعل : خرزها بالمخصف .
(5) يقال : كمش إزاره ، إذ قصره وشمره .
(11 - نهج - 3)(3/161)
وقال بعض شعراء العجم : غلا السعر في بغداد من بعد رخصه وإنى في الحالين بالله واثق فلست أخاف الضيق والله واسع غناه ، ولا الحرمان والله رازق قيل لعلى عليه السلام : لو سد على رجل باب بيت وترك فيه ، من أين كان يأتيه رزقه ؟ قال : من حيث كان يأتيه أجله .
قال بعض الشعراء : صبرت النفس لا أجز ع من حادثة الدهر رأيت الرزق لا يكسب بالعرف ولا النكر ولا بالسلف الا مثل أهل الفضل والذكر ولا بالسمر اللدن ولا بالخذم البستر (1) ولا بالعقل والدين ولا الجاه ولا القدر ولا يدرك بالطيش ولا الجهل ولا الهذر ولكن قسم تجرى بما ندرى ولا ندرى جاء فتح بن شخرف إلى منزله بعد العشاء ، فلم يجد عندهم ما يتعشى به ، ولا وجد دهنا للسراج وهم في الظلمة ، فجلس ليلة يبكى من الفرح ، ويقول : بأى يد قد كانت منى ، بأى طاعة تنعم على بأن أترك على مثل هذه الحال ! لقى هرم بن حيان أويسا القرنى ، فقال : السلام عليك يا أويس بن عامر ! فقال : وعليك السلام يا هرم بن حيان ، فقال هرم : أما إنى عرفتك بالصفة ، فكيف عرفتني ؟ قال : إن أرواح المؤمنين لتشام كما تشام الخيل ، فيعرف بعضها بعضا .
قال أوصني ،
__________
(1) السمر : جمع أسمر ، وهو الرمح اللدن اللين .
والخذم : جمع خاذم ، أي قاطع .
(*)(3/162)
قال : عليك بسيف البحر ، قال : فمن أين المعاش ؟ قال : أف لك ! خالطت الشك الموعظة ، أتفر إلى الله بدينك وتتهمه في رزقك ! منصور الفقية : الموت أسهل عندي بين القنا والاسنه والخيل تجرى سراعا مقطعات الاعنه من أن يكون لنذل على فضل ومنه أعرابي : أتيئس أن يقارنك النجاح فأين الله والقدر المتاح (1) قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أوصني ، قال : (إياك والطمع ، فإنه فقر حاضر ، وعليك باليأس مما في أيدى الناس) .
حكيم : أحسن الاحوال حال يغبطك بها من دونك ، ولا يحقرك لها من فوقك .
أبو العلاء المعرى : فإن كنت تهوى العيش فابغ توسطا فعند التناهى يقصر المتطاول (2) توقى البدور النقص وهى أهلة ويدركها النقصان ، وهى كوامل خالد بن صفوان : كن أحسن ما تكون في الظاهر حالا ، أقل ما تكون في الباطن مالا ، فإن الكريم من كرمت عند الحاجه خلته (3) ، واللئيم من لؤمت عند الفاقة طعمته .
__________
(1) المتاح : المهيأ .
(2) شروح سقط الزند 552 .
(3) الخلة : الحاجة .
(*)(3/163)
شعر : وكم ملك جانبته من كراهة لاغلاق باب أو لتشديد حاجب ولى في غنى نفسي مراد ومذهب إذا أبهمت دوني وجوه المذاهب (1) .
بعض الحكماء : ينبغى للعاقل أن يكون في دنياه كالمدعو إلى الوليمة ، إن أتته صحفة تناولها ، وإن جازته لم يرصدها ولم يطلبها .
__________
(1) أبهم الامر ، إذا اشتبه .
(*)(3/164)
(46) ومن كلام له عليه السلام عند عزمه على المسير إلى الشام : الاصل : اللهم إنى أعوذ بك من وعثاء السفر ، وكابة المنقلب ، وسوء المنظر ، في الاهل والمال والولد .
اللهم أنت الصاحب في السفر ، وأنت الخليفة في الاهل ، ولا يجمعهما غيرك ، لان المستخلف لا يكون مستصحبا ، والمستصحب لا يكون مستخلفا .
* * * قال الرضى رحمه الله : وابتداء هذا الكلام مروى عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقد قفاه أمير المؤمنين عليه السلام بابلغ كلام ، وتممه بأحسن تمام ، من قوله : (ولا يجمعهما غيرك) ، إلى آخر الفصل .
* * * الشرح : وعثاء السفر : مشقته ، وأصل الوعث المكان السهل الكثير الدهس ، تغيب فيه الاقدام ، ويشق على من يمشى فيه ، أوعث القوم ، أي وقعوا في الوعث .
والكابة : الحزن .
والمنقلب ، مصدر من انقلب منقلبا ، أي رجع ، وسوء المنظر : قبح المرأى .(3/165)
وصدر الكلام مروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسانيد الصحيحة ، وختمه أمير المؤمنين عليه السلام وتممه بقوله : (ولا يجمعهما غيرك) ، وهو الصحيح ، لان من يستصحب لا يكون مستخلفا ، فإنه مستحيل أن يكون الشئ الواحد في المكانين مقيما وسائرا ، وإنما تصح هذه القضية في الاجسام ، لان الجسم الواحد لا يكون في جهتين في وقت واحد ، فأما ما ليس بجسم وهو البارئ سبحانه ، فإنه في كل مكان ، لا على معنى أن ذاته ليست مكانية ، وإنما المراد علمه وإحاطته ونفوذ حكمه وقضائه وقدره ، فقد صدق عليه السلام أنه المستخلف وأنه المستصحب ، وأن الامرين مجتمعان له جل اسمه .
وهذا الدعاء دعا به أمير المؤمنين عليه السلام بعد وضع رجله في الركاب ، من منزله بالكوفة متوجها إلى الشام لحرب معاوية وأصحابه ، ذكره نصر بن مزاحم في كتاب ، ، صفين (1) ، ، وذكره غيره أيضا من رواة السيرة .
* * * [ أدعية على عند خروجه من الكوفة لحرب معاوية ] قال نصر : لما وضع على عليه السلام رجله في ركاب دابته يوم خرج من الكوفة إلى صفين ، قال : بسم الله ، فلما جلس على ظهرها ، قال : (سبحان الذى سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين * وإنا إلى ربنا لمنقلبون) ، (2) اللهم إنى أعوذ بك من وعثاء السفر ...
إلى آخر الفصل .
وزاد فيه نصر : (ومن الحيرة بعد اليقين) .
قال : ثم خرج أمامه الحر بن سهم بن طريف ، وهو يرتجز ويقول : يا فرسى سيرى وأمى الشاما وقطعي الحزون والاعلاما (3) ونابذى من خالف الاماما إنى لارجو إن لقينا العاما
__________
(1) كتاب صفين 149 .
(2) سورة الزخرف 13 ، 14 .
(3) صفين : (وأقطعي) ، والحزون : جمع حزن ، وهو ضد السهل من الارض .
(*)(3/166)
جمع بنى أمية الطغاما (1) أن نقتل العاصى والهماما * وأن نزيل من رجال هاما * قال : وقال حبيببن مالك ، وهو على شرطه على عليه السلام ، وهو آخذ بعنان دابته : يا أمير المؤمنين ، أتخر بالمسلمين فيصيبوا أجر الجهاد بالقتال ، وتخلفني بالكوفة لحشر الرجال ! فقال عليه السلام : إنهم لن يصيبوا من الاجر شيئا إلا كنت شريكهم فيه ، وأنت هاهنا أعظم غناء عنهم منك لو كنت معهم .
فخرج على عليه السلام ، حتى إذا حاذى الكوفة صلى ركعتين (2) .
قال : وحدثنا عمرو بن خالد ، عن أبى الحسين زيد بن على عليه السلام ، عن آبائه : أن (3) عليا عليه السلام خرج وهو يريد صفين ، حتى إذا قطع النهر ، أمر مناديه ، فنادى بالصلاة ، فتقدم فصلى ركعتين ، حتى إذا قضى الصلاة ، أقبل على الناس بوجهه ، فقال : أيها الناس ، ألا من كان مشيعا أو مقيما فليتم الصلاة ، فإنا قوم سفر ، ألا ومن صحبنا فلا يصومن المفروض .
والصلاة المفروضة ركعتان .
قال نصر : ثم خرج حتى نزل دير أبى موسى - وهو من الكوفة على فرسخين - فصلى به العصر ، فلما انصرف من الصلاة ، قال : سبحان الله ذى الطول والنعم ! سبحان الله ذى القدرة والافضال ، أسأل الله الرضا بقضائه ، والعمل بطاعته ، والانابة إلى أمره ، إنه سميع الدعاء (3) .
قال نصر : ثم (4) خرج عليه السلام حتى نزل على شاطئ نرس (5) بين موضع حمام أبى بردة وحمام عمر ، فصلى بالناس المغرب ، فلما انصرف ، قال : الحمد لله الذى يولج
__________
(1) الطغام : أوغاد الناس .
(2) كتاب صفين 150 : (حتى إذا جاز حد الكوفة) .
(3) كتاب صفين 150 (4) كتاب صفين 151 .
(5) نرس ، بالفتح ثم السكون وآخره سين مهملة : نهر حفره نرسى بن بهرام بنواحي الكوفة ، مأخذه من الفرات ، وعليه عدة قرى .
(مراصد الاطلاع) .
(*)(3/167)
الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل ، والحمد لله كلما وقب ليل وغسق ، والحمد لله كلما لاح نجم وخفق .
ثم أقام حتى صلى الغداة ، ثم شخص حتى بلغ إلى قبه قبين (1) ، وفيها نخل طوال إلى جانب البيعة من وراء النهر ، فلما رآها ، قال : (والنخل باسقات لها طلع نضيد) .
ثم أقحم دابته النهر ، فعبر إلى تلك البيعة فنزلها ، ومكث قدر الغداء .
قال نصر : وحدثنا عمر بن سعد ، عن محمد بن مخنف بن سليم (2) قال : إنى لانظر إلى أبى وهو يساير عليا عليه السلام ، وعلى يقول له : إن بابل أرض قد خسف بها ، فحرك دابتك لعلنا نصلى العصر خارجا منها .
فحرك دابته ، وحرك الناس دوابهم في أثره ، فلما جاز جسر الفرات (3) ، نزل فصلى بالناس العصر .
قال : حدثنى عمر بن عبد الله بن يعلى بن مره الثقفى ، عن أبيه ، عن عبد خير ، قال : كنت مع على أسير في أرض بابل ، قال : وحضرت الصلاة صلاة العصر ، قال : فجعلنا نأتى مكانا إلا رأيناه أفيح (4) من الاخر ، قال : حتى أتينا على مكان أحسن ما رأينا ، وقد كادت الشمس أن تغيب .
قال : فنزل على عليه السلام ، فنزلت معه ، قال : فدعا الله ، فرجعت الشمس كمقدارها من صلاة العصر .
قال : فصليت العصر ، ثم غابت الشمس ، ثم خرج حتى اتى دير كعب ثم خرج منه فبات بساباط ، فأتاه دهاقينها يعرضون عليه النزل (5) والطعام ، فقال : لا ، ليس ذلك لنا عليكم .
فلما أصبح وهو بمظلم ساباط (6) ،
__________
(1) قبين ، بالضم ثم الكسر والتشديد ، قال صاحب مراصد الاطلاع : (ولاية بالعراق) .
(2) صفين 151 ، والسند هناك : نصر : عمر ، عن رجل - يعنى أبا مخنف ، عن عمه ابن مخنف) .
(3) صفين : (جسر الصراة) ، والصراة من أنهار الفرات .
(4) أفيح من الفيح وهو السعة .
(5) النزل : طعام الضيف .
(6) مظلم ساباط ، موضع مضاف إلى ساباط التى بقرب المدائن ، قليل الضوء : مراصد الاطلاع 1286 (*)(3/168)
قرأ : (أتبنون بكل ريع آية تعبثون) (1) .
قال نصر : وبلغ عمرو بن العاص مسيره فقال : لا تحسبني يا على غافلا لاوردن الكوفة القنابلا (3) * بجمعى العام وجمعى قابلا * قال : فبلغ ذلك عليا عليه السلام ، فقال : لاوردن العاصى ابن العاصى سبعين ألفا عاقدي النواصي مستحقبين حلق الدلاص (4) قد جنبوا الخيل مع القلاص (5) * أسود غيل حين لا مناص * * * * [ نزول على بكربلاء ] قال نصر : وحدثنا منصور بن سلام التميمي ، قال : حدثنا حيان التيمى ، عن أبى عبيدة ، عن هرثمة بن سليم ، قال (6) : غزونا مع على عليه السلام صفين ، فلما نزل بكربلاء صلى بنا ، فلما سلم رفع إليه من تربتها فشمها ، ثم قال : واها لك يا تربة (7) ! ليحشرن منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب .
قال : فلما رجع هرثمة من غزاته (8) إلى امرأته جرداء بنت سمير - وكانت من شيعة على عليه السلام - حدثها هرثمة فيما حدث ، فقال لها : ألا أعجبك من صديقك أبى حسن !
__________
(1) سورة الشعراء 128 (2) صفين 153 (3) المقنابل : جماعات الخيل والناس .
(4) مستحقبين : حاملين ، والدلاص : الدروع اللينة .
(5) يقال : جنب الرجل الفرس إذا قاده إلى جنبه .
والقلاص : جمع قلوص ، وهى الشابة من الابل ، بمنزلة الجارية من النساء .
(6) كتاب صفين 157 .
(7) صفين : (واهالك أيتها التربة) .
(8) صفين : (من غزوته) .
(*)(3/169)
قال : لما نزلنا كربلاء ، وقد أخذ حفنة من تربتها فشمها ، وقال : (واها لك أيتها التربة ! ليحشرن منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب) : وما علمه بالغيب ؟ فقالت المرأة له : دعنا منك أيها الرجل ، فإن أمير المؤمنين عليه السلام لم يقل إلا حقا .
قال : فلما بعث عبيد الله بن زياد البعث الذى بعثه إلى الحسين عليه السلام ، كنت في الخيل التى بعث إليهم ، فلما انتهيت إلى الحسين عليه السلام وأصحابه ، عرفت المنزل الذى نزلنا فيه مع على عليه السلام ، والبقعة التى رفع إليه من تربتها والقول الذى قاله ، فكرهت مسيرى ، فأقبلت على فرسى حتى وقفت على الحسين عليه السلام فسلمت عليه ، وحدثته بالذى سمعت من أبيه في هذا المنزل ، فقال الحسين : أ معنا أم علينا ؟ فقلت : يا بن رسول الله ، لا معك ولا عليك ، تركت ولدى وعيالي (1) أخاف عليهم من ابن زياد ، فقال الحسين عليه السلام : فول هربا حتى لا ترى مقتلنا (2) ، فو الذى نفس حسين (3) بيده لا يرى اليوم مقتلنا أحد ثم لا يعيننا (4) إلا دخل النار .
قال : فأقبلت في الارض أشتد هربا ، حتى خفى على مقتلهم .
* * * قال نصر : وحدثنا مصعب ، قال : حدثنا الاجلح بن عبد الله الكندى عن أبى جحيفة ، قال : جاء (5) عروة البارقى إلى سعد بن وهب ، فسأله فقال : حديث حدثتناه (6) عن على بن أبى طالب ، قال : نعم بعثنى مخنف بن سليم إلى على عند توجهه إلى صفين ، فأتيته بكربلاء ، فوجدته يشير بيده ، ويقول : هاهنا ، هاهنا ! فقال له
__________
(1) صفين : (تركت أهلى وولدى) .
(2) صفين : (حتى لا ترى لنا مقتلا) .
(3) صفين : (فو الذى نفس محمد) .
(4) صفين : (لا يغيثنا) (5) صفين 158 .
(6) صفين : (حدثتنيه) .
(*)(3/170)
رجل : وما ذاك يا أمير المؤمنين ؟ فقال : ثقل لال محمد ينز هاهنا ، فويل لهم منكم ، وويل لكم منهم ! فقال له الرجل : ما معنى هذا الكلام يا أمير المؤمنين ؟ قال : ويل لهم منكم تقتلونهم ، وويل لكم منهم يدخلكم الله بقتلهم النار قال نصر : وقد روى هذا الكلام على وجه آخر ، أنه عليه السلام قال : (فويل لكم منهم ، وويل لكم عليهم) ، فقال الرجل أما (ويل لنا منهم) ، فقد عرفناه ، فويل لنا عليهم ، ما معناه ! فقال : ترونهم يقتلون لا تستطيعون نصرتهم .
قال نصر : وحدثنا سعيد بن حكيم العبسى ، عن الحسن بن كثير ، عن أبيه ، أن عليا عليه السلام أتى كربلاء ، فوقف بها ، فقيل له : يا أمير المؤمنين ، هذه كربلاء ، فقال : (ذات كرب وبلاء) ، ثم أومأ بيده إلى مكان ، فقال : هاهنا موضع رحالهم ، ومناخ ركابهم ، ثم أومأ بيده إلى مكان آخر ، فقال : هاهنا مراق دمائهم ، ثم مضى إلى ساباط (1) .
* * * [ خروج على لحرب معاوية وما دار بينه وبين أصحابه ] وينبغى أن نذكر هاهنا ابتداء عزمه على مفارقة الكوفة ، والمسير إلى الشام وما خاطب به أصحابه ، وما خاطبوه به ، وما كاتب به العمال وكاتبوه جوابا عن كتبه ، وجميع ذلك منقول من كتاب نصر بن مزاحم .
قال نصر : حدثنا عمر بن سعد ، عن إسماعيل بن أبى خالد ، عن عبد الرحمن بن عبيد أبى الكنود ، قال : لما أراد على عليه السلام المسير إلى الشام ، دعا من كان معه من المهاجرين والانصار ، فجمعهم ، ثم حمد الله وأثنى عليه ، وقال : أما بعد ، فإنكم ميامين
__________
(1) صفين 158 (*)(3/171)
الرأى ، مراجيح الحلم ، مباركو الامر ، ومقاويل بالحق ، وقد عزمنا على المسير إلى عدونا وعدوكم ، فأشيروا علينا برأيكم .
فقام هاشم بن عتبة بن أبى وقاص ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : أما بعد يا أمير المؤمنين ، فأنا بالقوم جد خبير ، هم لك ولاشياعك أعداء ، وهم لمن يطلب حرث الدنيا أولياء ، وهم مقاتلوك ومجادلوك (1) لا يبقون جهدا ، مشاحة على الدنيا ، وضنا بما في أيديهم منها ، ليس لهم إربة غيرها ، إلا ما يخدعون به الجهال من طلب دم ابن عفان ، كذبوا ليس لدمه ينفرون ، ولكن الدنيا يطلبون ، انهض بنا إليهم فإن أجابوا إلى الحق فليس بعد الحق إلا الضلال ، وإن أبوا إلا الشقاق ، فذاك ظنى بهم (2) ، والله ما أراهم يبايعون وقد بقى فيهم أحد ممن يطاع إذا نهى ، ويسمع إذا أمر (3) .
قال نصر : وحدثنا عمر بن سعد ، عن الحارث بن حصيرة ، عن عبد الرحمن بن عبيد أبى الكنود أن عمار بن ياسر قام فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : يا أمير المؤمنين ، إن استطعت ألا تقيم يوما واحدا فافعل ، اشخص بنا قبل استعار نار الفجرة ، واجتماع رأيهم على الصدود والفرقة ، وادعهم إلى حظهم ورشدهم ، فإن قبلوا سعدوا ، وإن أبوا إلا حربنا ، فو الله إن سفك دمائهم ، والجد في جهادهم ، لقربة عند الله ، وكرامة منه (4) .
ثم قام قيس بن سعد بن عبادة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يا أمير المؤمنين ، انكمش (5) بنا إلى عدونا ولا تعرج (6) ، فو الله لجهادهم أحب إلى من جهاد الترك
__________
(1) صفين : (مجاهدوك) .
(2) صفين : (فذلك الظن بهم) .
(3) كتاب صفين 103 (4) صفين : (وهو كرامة منه) .
(5) الانكماش : الجد في السير .
(6) صفين : (لا تعرد) والتعريد : الفرار .
(*)(3/172)
والروم ، لادهانهم (1) في دين الله ، واستذلالهم أولياء الله من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله ، من المهاجرين والانصارو التابعين بإحسان ، إذا غضبوا على رجل حبسوه وضربوه وحرموه وسيروه ، وفيئنا لهم في أنفسهم حلال ، ونحن لهم فيما يزعمون قطين (2) - قال : يعنى رقيق .
فقال أشياخ الانصار ، منهم خزيمة بن ثابت وأبو أيوب ، وغيرهما : لم تقدمت أشياخ قومك وبدأتهم بالكلام يا قيس ؟ فقال : أما إنى عارف ، بفضلكم معظم لشأنكم ، ولكني وجدت في نفسي الضغن الذى في صدوركم جاش حين ذكرت الاحزاب .
فقال بعضهم لبعض : ليقم رجل منكم فليجب أمير المؤمنين عن جماعتكم ، فقام ، سهل بن حنيف ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يا أمير المؤمنين ، نحن سلم لمن سالمت ، وحرب لمن حاربت ، ورأينا رأيك ، ونحن (3) يمينك ، وقد رأينا أن تقوم [ بهذا الامر ] (4) في أهل الكوفة فتأمرهم بالشخوص ، وتخبرهم بما صنع لهم في ذلك من الفضل ، فإنهم أهل البلد وهم الناس ، فإن استقاموا لك استقام لك الذى تريد وتطلب ، فأما نحن فليس عليك خلاف منا ، متى دعوتنا أجبناك ، ومتى أمرتنا أطعناك (5) .
قال نصر : فحدثنا عمر بن سعد ، عن أبى مخنف ، عن زكريا بن الحارث ، عن أبى خشيش ، عن معبد ، قال : قام على عليه السلام خطيبا على منبره ، فكنت تحت المنبر ، أسمع تحريضه (6) الناس وأمره لهم بالمسير إلى صفين لقتال أهل الشام ، فسمعته يقول :
__________
(1) الادهان : الغش والخديعة .
(2) القطين : الخدم والاتباع .
(3) صفين : (ونحن كف يمينك) .
(4) من صفين (5) صفين 105 (6) صفين : (حين حرض الناس) .
(*)(3/173)
سيروا إلى أعداء الله ، سيروا إلى أعداء القرآن والسنن ، سيروا إلى بقية الاحزاب وقتلة المهاجرين والانصار .
فقام رجل من بنى فزارة ، فقال له : أتريد أن تسير بنا إلى إخواننا من أهل الشام فنقتلهم لك ، كما سرت بنا إلى إخواننا من أهل البصرة فقتلتهم ! كلا ، ها الله (1) إذا لا نفعل ذلك .
فقام الاشتر ، فقال : من هذا المارق ! (2) فهرب الفزارى ، واشتد الناس على إثره ، فلحق في مكان من السوق تباع فيه البراذين ، فوطئوه بأرجلهم ، وضربوه بأيديهم ونعال سيوفهم حتى قتل ، فأتى على عليه السلام ، فقيل له : يا أمير المؤمنين ، قتل الرجل ، قال : ومن قتله ؟ قالوا : قتلته همدان ومعهم شوب من الناس ، فقال : قتيل عمية (3) ، لا يدرى من قتله ! ديته من بيت مال المسلمين ، فقال بعض بنى تيم اللات بن ثعلبة (4) : أعوذ بربي أن تكون منيتى كما مات في سوق البراذين أربد تعاوره همدان خفق نعالهم إذا رفعت عنه يد وضعت يد .
فقام الاشتر ، فقال : يا أمير المؤمنين ، لا يهدنك ما رأيت ، ولا يؤيسنك من نصرنا ما سمعت من مقالة هذا الشقى الخائن ، إن جميع من ترى من الناس شيعتك ، لا يرغبون بأنفسهم عن نفسك ، ولا يحبون البقاء بعدك ، فإن شئت فسر بنا إلى عدوك ، فو الله ما ينجو من الموت من خافه ، ولا يعطى البقاء من أحبه ، وإنا لعلى بينة من ربنا ، وإن أنفسنا لن تموت حتى يأتي أجلها .
وكيف لا نقاتل قوما هم كما وصف أمير المؤمنين ، وقد وثبت عصابة منهم على طائفة من المسلمين بالامس ، وباعوا خلاقهم بعرض من الدنيا يسير !
__________
(1) الهاء هنا للتنبيه يقسم بها .
(2) صفين : (من لهذا أيها الناس) .
(3) قتيل عمية ، أي ميتة فتنة وجهالة .
(4) صفين : (فقال علاقة التيمى) .
(*)(3/174)
فقال على عليه السلام : الطريق مشترك ، والناس في الحق سواء ، ومن اجتهد رأيه في نصيحة العامة ، فقد قضى ما عليه .
ثم نزل فدخل منزله (1) .
* * * قال نصر : وحدثنا عمر بن سعد ، قال : حدثنى أبو زهير العبسى ، عن النضر بن صالح أن عبد الله بن المعتم العبسى وحنظله بن الربيع التميمي ، لما أمر على عليه السلام الناس بالمسير إلى الشام دخلا عليه في رجال كثير من غطفان وبنى تميم ، فقال له حنظلة : يا أمير المؤمنين ، إنا قد مشينا إليك في نصيحة فاقبلها ، ورأينا لك رأيا فلا تردنه علينا ، فإنا نظرنا لك ولمن معك ، أقم وكاتب هذا الرجل ، ولا تعجل إلى قتال أهل الشام ، فإنا والله ما ندرى ولا تدرى لمن تكون الغلبة إذا التقيتم ، ولا على من تكون الدبرة ! وقال ابن المعتم مثل (2) قوله ، وتكلم القوم الذين دخلوا معهما بمثل كلامهما ، فحمد على عليه السلام الله وأثنى ، ثم قال : أما بعد فإن الله وارث العباد والبلاد ، ورب السموات السبع ، والارضين السبع ، وإليه ترجعون ، يؤتى الملك من يشاء ، وينزع الملك ممن يشاء ، ويعز من يشاء ، ويذل من يشاء .
أما الدبرة ، فإنها على الضالين العاصين ظفروا أو ظفر بهم ، وايم الله إنى لاسمع كلام قوم ما أراهم يعرفون معروفا ، ولا ينكرون منكرا .
فقام إليه معقل بن قيس الرياحي ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن هؤلاء والله ما آثروك بنصح ، ولا دخلوا عليك إلا بغش ، فأحذرهم فإنهم أدنى العدو .
وقال له مالك بن حبيب : إنه بلغني يا أمير المؤمنين أن حنظلة هذا يكاتب معاوية ، فادفعه إلينا نحبسه حتى تنقضي غزاتك ، وتنصرف .
__________
(1) صفين 107 (2) صفين : (وقام المعتم فتكلم) .
(*)(3/175)
وقام من بنى عبس قائد بن بكير وعياش بن ربيعة العبسيان ، فقالا : يا أمير المؤمنين إن صاحبنا عبد الله بن المعتم قد بلغنا أنه يكاتب معاوية ، فاحبسه أو مكنا من حبسه ، حتى تنقضي غزاتك ثم تنصرف .
فقالا : هذا جزاء لمن نظر لكم ، وأشار عليكم بالرأى فيما بينكم وبين عدوكم .
فقال لهما على عليه السلام : الله بينى وبينكم ، وإليه أكلكم ، وبه أستظهر عليكم أذهبوا حيث شئتم (1) .
قال نصر : وبعث على عليه السلام إلى حنظلة بن الربيع المعروف بحنظلة الكاتب ، - وهو من الصحابة - فقال له : يا حنظلة ، أنت على أم لى ؟ فقال : لا لك ولا عليك ، قال : فما تريد ؟ قال : أشخص إلى الرها (2) ، فإنه فرج من الفروج ، اصمد له حتى ينقضى هذا الامر .
فغضب من قوله ، خيار بنى عمرو بن تميم وهم رهطه فقال : إنكم والله لا تغروني من دينى ، دعوني فأنا أعلم منكم ، فقالوا : والله إن لم تخرج مع هذا الرجل لا ندع فلانة تخرج معك - لام ولده - ولا ولدها ، ولئن أردت ذلك لنقتلنك .
فأعانه ناس من قومه واخترطوا سيوفهم ، فقال : أجلوني حتى أنظر .
ودخل منزله وأغلق بابه ، حتى إذا أمسى هرب إلى معاوية ، وخرج من بعده إليه من قومه رجال كثير ، وهرب ابن المعتم أيضا حتى أتى معاوية في أحد عشر رجلا من قومه .
وأما حنظلة فخرج إلى معاوية في ثلاثة وعشرين رجلا من قومه ، لكنهما لم يقاتلا مع معاوية ، واعتزلا الفريقين جميعا (3) .
__________
(1) صفين : 107 ، 108 (2) الرها : مدنية بالجزيرة بين الموصل والشام .
(3) صفين 109 (*)(3/176)
وقال : وأمر على عليه السلام بهدم دار حنظلة ، فهدمت ، هدمها عريفهم شبث بن ربعى وبكر بن تميم ، فقال حنظلة بهجوهما : أيا راكبا إما عرضت فبلغن مغلغلة عنى سراة بنى عمرو فأوصيكم بالله والبر والتقى ولا تنظروا في النائبات إلى بكر ولا شبث ذى المنخرين كأنه أزب جمال قد رغا ليلة النفر (1) وقال أيضا يحرض معاوية بن أبى سفيان : أبلغ معاويه بن حرب خطة ولكل سائلة تسيل قرار لا تقبلن دنية ترضونها (2) في الامر حتى تقتل الانصار وكما تبوء دماؤهم بدمائكم وكما تهدم بالديار ديار وترى نساؤهم يجلن حواسرا ولهن من ثكل الرجال جؤار (3) قال نصر : حدثنا عمر بن سعد ، عن سعد بن طريف ، عن أبى المجاهد ، عن المحل بن خليفة ، قال : قام عدى بن حاتم الطائى بين يدى على عليه السلام ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : (4) يا أمير المؤمنين ، ما قلت إلا بعلم ، ولا دعوت إلا إلى حق ، ولا أمرت إلا برشد ، ولكن إذا رأيت (5) أن تستأنى هؤلاء القوم وتستديمهم - حتى تأتيهم كتبك ، ويقدم عليهم رسلك - فعلت .
فإن يقبلوا يصيبوا رشدهم (6) ، والعافية أوسع لنا ولهم ،
__________
(1) الازب : الكثير شعر الوجه والعثنون ، وفي صفين : * أزب جمال في ملا حية صفر * (2) صفين : (تعطونها) .
(3) صفين : (ولهن من ثكل الرجال خوار) .
(4) صفين 110 (5) صفين : (فإن رأيت) .
(6) صفين : (فإن يقبلوا يصيبوا ويرشدوا) .
(12 - نهج - 3) (*)(3/177)
وإن يتمادوا في الشقاق ولا ينزعوا عن الغى فسر إليهم .
وقد قدمنا إليهم بالعذر (1) ، و دعوناهم إلى ما في أيدينا من الحق ، فو الله لهم من الحق أبعد ، وعلى الله أهون ، من قوم قاتلناهم أمس بناحية البصرة لما دعوناهم إلى الحق فتركوه ، ناوجناهم براكاء القتال (2) ، حتى بلغنا منهم ما نحب ، وبلغ الله منهم رضاه .
فقام زيد بن حصين الطائى - وكان من أصحاب البرانس (3) المجتهدين - فقال : الحمد لله حتى يرضى ، ولا إله إلا الله ربنا ، أما بعد : فو الله إن كنا في شك من قتال من خالفنا ، ولا تصلح لنا النية في قتالهم حتى نستديمهم ونستأنيهم - ما الاعمال إلا في تباب ، ولا السعي إلا في ضلال ، والله تعالى يقول : (وأما بنعمة ربك فحدث) (4) إننا ، والله ما ارتبنا طرفة عين فيمن يتبعونه (5) ، فكيف بأتباعه القاسية قلوبهم ، القليل من الاسلام حظهم ، أعوان الظلمة وأصحاب الجور والعدوان (6) ليسوا من المهاجرين ولا الانصار ، ولا التابعين بإحسان .
فقام رجل من طيئ فقال : يا زيد بن حصين ، أكلام سيدنا عدى بن حاتم تهجن (7) ! فقال : زيد ما أنتم بأعرف بحق عدى منى ، ولكني لا أدع القول بالحق وإن سخط الناس .
قال نصر : وحدثنا عمر بن سعد ، عن الحارث بن حصين قال (8) : دخل أبو زينب
__________
(1) صفين : (العذر) .
(2) البراكاء : الابتراك في الحرب ، وهو أن يحبثو القوم على ركبهم .
، ويقال : وجن به ، أي ضرب به الارض ، وفى صفين : (ناوخناهم) .
(3) جمع برنس ، وهو قلنسوة طويلة كان يلبسها في صدر الاسلام النساك والزهاد .
(4) سورة الضحى 11 .
(5) صفين : (يبتغون دمه) .
(6) صفين : (ومسددى أساس الجور والعدوان) .
(7) في صفين بعد هذه الكلمة : (قال : فقال عدى بن حاتم : الطريق مشترك ، والناس في الحق سواء ، فمن اجتهد رأيه في نصيحة العامة فقد قضى الذى عليه) .
(8) صفين 112 : (الحارث بن حصيرة) .
(*)(3/178)
ابن عوف ، على على عليه السلام ، فقال : يا أمير المؤمنين ، لئن كنا على الحق لانت أهدانا سبيلا ، وأعظمنا في الخير نصيبا ، ولئن كنا على ضلال ، إنك لاثقلنا ظهرا وأعظمنا وزرا ، قد أمرتنا بالمسير إلى هذا العدو ، وقد قطعنا ما بيننا وبينهم من الولاية وأظهرنا لهم العداوة ، نريد بذلك ما يعلمه الله تعالى من طاعتك ، أليس الذى نحن عليه هو الحق المبين ، والذى عليه عدونا هو الحوب الكبير ! فقال عليه السلام : بلى ، شهدت أنك إن مضيت معنا ناصرا لدعوتنا ، صحيح النية في نصرنا ، قد قطعت منهم الولاية ، وأظهرت لهم العداوة كما زعمت ، فإنك ولى الله ، تسبح (1) في رضوانه ، وتركض في طاعته ، فأبشر أبا زينب .
وقال له عمار بن ياسر : اثبت أبا زينب ، ولا تشك في الاحزاب ، أعداء (2) الله ورسوله .
فقال أبو زينب : ما أحب أن لى شاهدين من هذه الامة شهدا لى عما سألت من هذا الامر الذى أهمنى - مكانكما .
قال : وخرج عمار بن ياسر ، وهو يقول : سيروا إلى الاحزاب أعداء النبي سيروا فخير الناس أتباع على هذا أوان طاب سل المشرفى وقودنا الخيل وهز السمهرى (3) .
قال نصر : وحدثنا عمر بن سعد ، عن أبى روق ، قال : (4) دخل يزيد بن قيس الارحبي على على عليه السلام ، فقال : يا أمير المؤمنين ، نحن أولو جهاز وعدة ، و أكثر
__________
(1) صفين : (تسيح) .
(2) سفين : (عدو الله ورسوله) .
(3) السيوف المشرفية : منسوبة إلى مشارف الشام ، قرى من أرض العرب .
والسمهري : الرمح الصلب ، منسوب إلى سمهر زوج ردينة ، وكانا مثقفين للرماح .
(4) صفين 113 .
(*)(3/179)
الناس أهل قوة ، ومن ليس به ضعف (1) ولا علة ، فمر مناديك ، فليناد الناس يخرجوا إلى معسكرهم بالنخيلة ، فإن أخا الحرب ليس بالسئوم ولا النئوم ، ولا من إذا أمكنته الفرص أجلها ، واستشار فيها ، ولا من يؤخر عمل الحرب في اليوم لغد وبعد غد .
فقال زياد بن النضر : لقد نصح لك يزيد بن قيس يا أمير المؤمنين ، وقال ما يعرف ، فتوكل على الله ، وثق به ، وأشخص بنا إلى هذا العدو راشدا معانا ، فإن يرد الله بهم خيرا لا يتركوك رغبة عنك إلى من ليس له مثل سابقتك وقدمك (2) وإلا ينيبوا ويقبلوا ويأبوا إلا حربنا نجد حربهم علينا هينا ، ونرجو أن يصرعهم الله مصارع إخوانهم بالامس .
ثم قام عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعى ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن القوم لو كانوا الله يريدون ، ولله يعملون ، ما خالفونا ، ولكن القوم إنما يقاتلوننا فرارا من الاسوة وحبا للاثرة ، وضنا بسلطانهم ، وكرها لفراق دنياهم التى في أيديهم ، وعلى إحن في نفوسهم ، وعداوة يجدونها في صدورهم ، لوقائع أوقعتها يا أمير المؤمنين ، بهم قديمة ، قتلت فيها آباء هم وأعوانهم (3) .
ثم التفت إلى الناس ، فقال : كيف يبايع معاوية عليا ، وقد قتل أخاه حنظلة ، وخاله الوليد ، وجده عتبة في موقف واحد ، والله ما أظنهم يفعلون (4) ، ولن يستقيموا لكم دون أن تقصف فيهم قنا المران (5) ، وتقطع على هامهم السيوف ، وتنثر حواجبهم بعمد الحديد ، وتكون أمور جمة بين الفريقين .
__________
(1) صفين : (ومن ليس بمضعف) .
(2 - 2) صفين : (إلى من ليس مثلك في السابقة مع النبي صلى الله عليه وآله والقدم في الاسلام) .
(3) صفين : (وإخوانهم) .
(4) صفين : (ما أظن أن يفعلوا) .
(5) صفين : (نقصد) ، وهى بمعنى (تقصف) والمران : الرماح اللدنة .
(*)(3/180)
قال نصر : وحدثنا عمر بن سعد عن الحارث بن حصين عن عبد الله بن شريك ، قال (1) : خرج حجر بن عدى وعمرو بن الحمق ، يظهران البراءة من أهل الشام ، فأرسل على عليه السلام إليهما أن كفا عما يبلغني عنكما ، فأتياه ، فقالا : يا أمير المؤمنين ، ألسنا محقين ؟ قال : بلى ، قالا : أو ليسوا مبطلين ؟ قال : بلى ، قالا : فلم منعتنا من شتمهم ؟ قال : كرهت لكم أن تكونوا لعانين شتامين تشتمون وتتبرءون ، ولكن لو وصفتم مساوئ أعمالهم فقلتم : من سيرتهم كذا وكذا ، ومن أعمالهم كذا وكذا ، كان أصوب في القول ، وأبلغ في العذر ، وقلتم مكان لعنكم إياهم ، وبراءتكم منهم : اللهم احقن دماءهم ودماءنا ، وأصلح ذات بينهم وبيننا ، واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق منهم من جهله ، ويرعوى عن الغى والعدوان منهم من لهج به - لكان أحب إلى وخيرا لكم فقالا : يا أمير المؤمنين ، نقبل عظتك ، ونتأدب بأدبك .
قال نصر : وقال له عمرو بن الحمق يومئذ : والله يا أمير المؤمنين ، إنى ما أحببتك ولا بايعتك على قرابة بينى وبينك ، ولا إرادة مال تؤتينيه ، ولا التماس سلطان ترفع ذكرى به ، ولكننى أحببتك بخصال خمس : أك ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله ، ووصيه ، وأبو الذرية التى بقيت فينا من رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأسبق الناس إلى الاسلام ، وأعظم المهاجرين سهما في الجهاد ، فلو أنى كلفت نقل الجبال الرواسى ، ونزح البحور الطوامى ، حتى يأتي على يومى في أمر أقوى به وليك ، وأهين عدوك ، ما رأيت أنى قد أديت فيه كل الذى يحق على من حقك .
فقال على عليه السلام اللهم نور قلبه بالتقى ، واهده إلى صراطك المستقيم (2) ،
__________
(1) صفين 115 ، 116 .
(2) صفين : (إلى صراط مستقيم) .
(*)(3/181)
ليت أن في جندي مائة مثلك ، فقال حجر : إذا والله يا أمير المؤمنين ، صح جندك ، وقل فيهم من يغشك .
قال نصر : وقام حجر بن عدى ، فقال : يا أمير المؤمنين ، نحن بنو الحرب وأهلها الذين نلقحها وننتجها ، قد ضارستنا وضارسناها (1) ، ولنا أعوان وعشيرة ذات عدد ورأى مجرب ، وبأس محمود ، وأزمتنا منقادة لك بالسمع والطاعة ، فإن شرقت شرقنا ، وإن غربت غربنا ، وما أمرتنا به من أمر فعلنا .
فقال على عليه السلام : أ كل قومك يرى مثل رأيك ؟ قال : ما رأيت منهم إلا حسنا ، وهذه يدى عنهم بالسمع والطاعة وحسن الاجابة .
فقال له على عليه السلام خيرا .
* * * قال نصر : حدثنا عمر بن سعد ، قال : كتب عليه السلام إلى عماله حينئذ يستفزهم ، فكتب إلى مخنف بن سليم : سلام (2) عليك ، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو ، أما بعد ، فإن جهاد من صدف عن الحق رغبة عنه ، وعب في نعاس العمى والضلال ، اختيارا له - فريضة على العارفين .
إن الله يرضى عمن أرضاه ، ويسخط على من عصاه ، وإنا قد هممنا بالسير إلى هؤلاء القوم الذين عملوا في عباد الله بغير ما أنزل الله ، واستأثروا بالفئ ، وعطلوا الحدود ، وأماتوا الحق ، وأظهروا في الارض الفساد ، واتخذوا الفاسقين وليجة من دون المؤمنين ، فإذا ولى لله أعظم أحداثهم أبغضوه وأقصوه وحرموه ، وإذا ظالم ساعدهم على ظلمهم أحبوه ، وأدنوو بروه ، فقد أصروا على الظلم ، وأجمعوا على الخلاف ، وقديما ما صدوا عن الحق ، تعاونوا على الاثم ، وكانوا ظالمين .
فإذا أتيت بكتابي هذا ، فاستخلف على عملك أوثق أصحابك في نفسك ، وأقبل إلينا ، لعلك تلقى معنا هذا العدو
__________
(1) ضارست الامور : جريتها .
(2) كتاب صفين : 116 ، 117 .
(*)(3/182)
المحل ، فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وتجامع الحق ، وتباين الباطل فإنه لا غناء بنا ولا بك عن أجر الجهاد ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
وكتبه عبيد الله (1) بن أبى رافع في سنة سبع وثلاثين .
قال : فاستعمل مخنف على أصبهان الحارث بن أبى الحارث بن الربيع ، واستعمل على همذان سعيد بن وهب ، وكلاهما من قومه ، وأقبل حتى شهد مع على عليه السلام صفين .
قال نصر : وكتب عبد الله بن العباس من البصرة إلى على عليه السلام يذكر له اختلاف أهل البصرة ، فكتب إليه على عليه السلام : [ من عبد الله على أمير المؤمنين إلى عبد الله بن عباس ] (2) : أما بعد ، فقد قدم على رسولك ، وقرأت كتابك ، تذكر فيه حال أهل البصرة واختلافهم بعد انصرافي عنهم ، وسأخبرك عن القوم ، وهم بين مقيم لرغبة يرجوها ، أو خائف من عقوبة يخشاها ، فأرغب راغبهم بالعدل عليه ، والانصاف له والاحسان إليه ، واحلل عقدة الخوف عن قلوبهم ، وانته إلى أمرى ولا تعده ، وأحسن إلى هذا الحى من ربيعة وكل من قبلك فأحسن إليه ما استطعت إن شاء الله .
قال نصر : وكتب إلى أمراء أعماله كلهم بنحو ما كتب به إلى مخنف بن سليم ، وأقام ينتظرهم .
قال : فحدثنا عمر بن سعد ، عن أبى روق ، قال (3) : قال زياد بن النضر الحارثى لعبدالله بن بديل : إن يومنا اليوم عصبصب (4) ما يصبر عليه إلا كل مشيع (5) القلب ، الصادق
__________
(1) صفين : (عبد الله) .
(2) من صفين .
(3) صفين 124 - 128 .
(4) العصبصب : الشديد ، وفى صفين : (عصيب) .
(5) المشيع القلب : القوى الجاد الشجاع .
(*)(3/183)
النية ، رابط الجأش (1) ، وايم الله ما أظن ذلك اليوم يبقى منهم ، ولا منا إلا الرذال (2) فقال عبد الله بن بديل : أنا والله أظن ذلك .
فبلغ كلامهما عليا عليه السلام ، فقال لهما : ليكن هذا الكلام مخزونا في صدوركما لا تظهراه ولا يسمعه منكما سامع ، إن الله كتب القتل على قوم والموت على آخرين ، وكل آتيه منيته كما كتب الله له ، فطوبى للمجاهدين في سبيله ، والمقتولين في طاعته ! قال نصر : فلما سمع هاشم بن عتبة ما قالاه أتى عليا عليه السلام ، فقال : سر بنا يا أمير المؤمنين إلى هؤلاء القوم ، القاسية قلوبهم ، الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، وعملوا في عباد الله ، بغير رضا الله فأحلوا حرامه ، وحرموا حلاله ، واستوى بهم (3) الشيطان ، ووعدهم الاباطيل ، ومناهم الامانى ، حتى أزاغهم عن الهدى ، وقصد بهم قصد الردى ، وحبب إليهم الدنيا فهم يقاتلون على دنياهم رغبه فيها ، كرغبتنا في الاخرة وانتجاز موعد ربنا .
وأنت يا أمير المؤمنين أقرب الناس من رسول الله صلى الله عليه رحما ، وأفضل الناس سابقة وقدما ، وهم يا أمير المؤمنين يعلمون منك مثل الذى نعلم ، ولكن كتب عليهم الشقاء ، ومالت بهم الاهواء ، وكانوا ظالمين ، فأيدينا مبسوطة لك بالسمع والطاعة ، وقلوبنا منشرحة لك ببذل النصيحة ، وأنفسنا تنصرك على من خالفك ، وتولى الامر دونك جذلة ، والله ما أحب أن لى ما على الارض مما أقلت ، ولا ما تحت السماء مما أظلت ، وأنى واليت عدوا لك ، أو عاديت وليا لك ! فقال عليه السلام : اللهم ارزقه الشهادة في سبيلك ، والمرافقة لنبيك (4) .
قال نصر : ثم إن عليا عليه السلام صعد المنبر فخطب الناس ، ودعاهم إلى الجهاد ، فبدأ بحمد الله والثناء عليه ، ثم قال :
__________
(1) الجأش : القلب ، وفلان رابط الجأش ، أي شجاع لا يضطرب قلبه خوفا .
(2) الرذال ، والرذيل : ما انتقى جيده وبقى أخسه وأدونه (3) صفين : (واستولاهم) .
(4) كذا في صفين ، وفى الاصول : (الموافقة) (*)(3/184)
إن الله قد أكرمكم بدينه ، وخلقكم لعبادته ، فأنصبوا أنفسكم في أداء حقه ، وتنجزوا موعوده ، واعلموا أن الله جعل أمراس الاسلام متينة ، وعراه وثيقة ، ثم جعل الطاعة حظ الانفس ورضا الرب ، وغنيمة الاكياس عند تفريط العجزة (1) ، وقد حملت أمر أسودها وأحمرها ، ولا قوة إلا بالله ! ونحن سائرون إن شاء الله إلى من سفه نفسه ، وتناول ما ليس له وما لا يدركه معاوية وجنده ، الفئة الطاغية الباغية ، يقودهم إبليس ، ويبرق لهم ببارق تسويفه ، ويدليهم بغروره ، وأنتم أعلم الناس بالحلال والحرام ، فاستغنوا بما علمتم ، واحذروا ما حذركم الله من الشيطان ، وارغبوا فيما عنده من الاجر والكرامة ، واعلموا أن المسلوب من سلب دينه وأمانته ، والمغرور من آثر الضلالة على الهدى ، فلا أعرفن أحدا منكم تقاعس عنى ، وقال : في غيرى كفاية ، فإن الذود إلى الذود إبل ، ومن لا يذد عن حوضه يتهدم .
ثم إنى آمركم بالشدة في الامر ، والجهاد في سبيل الله ، وألا تغتابوا مسلما ، وانتظروا للنصر العاجل من الله إن شاء الله .
قال نصر : ثم قام ابنه الحسن بن على عليهما السلام ، فقال : الحمد لله لا إله غيره ولا شريك له .
ثم قال : إن مما عظم الله عليكم من حقه ، وأسبغ عليكم من نعمه ما لا يحصى ذكره ، ولا يؤدى شكره ، ولا يبلغه قول ولا صفة ، ونحن إنما غضبنا لله ولكم ، إنه لم يجتمع قوم قط على أمر واحد إلا اشتد أمرهم ، واستحكمت عقدتهم .
فاحتشدوا في قتال عدوكم معاوية وجنوده ، ولا تخاذلوا ، فإن الخذلان يقطع نياط القلوب ، وإن الافدام على الا سنة نخوة وعصمة ، لم يتمتع (2) قوم قط إلا رفع الله عنهم العلة ، وكفاهم جوائح الذلة ، هداهم إلى معالم الملة ، ثم أنشد :
__________
(1) صفين : (الفجرة) .
(2) صفين : (لم يمتنع) ، والتمنع والامتناع : العز والقوة .
(*)(3/185)
والصلح تأخذ منه ما رضيت به والحرب يكفيك من أنفاسها جرع (1) ثم قام الحسين بن على عليه السلام ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : يأهل الكوفة ، أنتم الاحبة الكرماء ، والشعار دون الدثار ، جدوا في إطفاء ما دثر بينكم ، وتسهيل (2) ما توعر عليكم .
ألا إن الحرب شرها ذريع وطعمها فظيع ، فمن أخذ لها أهبتها ، واستعد لها عدتها ، ولم يألم كلومها قبل حلولها ، فذاك صاحبها ، ومن عاجلها قبل أوان فرصتها ، واستبصار سعيه فيها ، فذاك قمن ألا ينفع قومه ، وأن يهلك نفسه ، نسأل الله بقوته أن يدعمكم بالفيئة (3) ثم نزل .
قال نصر : فأجاب عليا عليه السلام إلى السير جل الناس ، إلا أن أصحاب عبد الله بن مسعود أتوه ، فيهم عبيدة السلمانى وأصحابه ، فقالوا له : إنا نخرج معكم ، ولا نترك عسكركم ونعسكر على حدة ، حتى ننظر في أمركم وأمر أهل الشام ، فمن رأيناه أراد ما لا يحل له أو بدا لنا منه بغى كنا عليه .
فقال لهم على عليه السلام : مرحبا وأهلا ، هذا هو الفقه في الدين ، والعلم بالسنة ، من لم يرض بهذا فهو خائن جبار (4) .
وأتاه آخرون من أصحاب عبد الله بن مسعود ، منهم الربيع بن خثيم ، وهم يومئذ أربعمائة رجل ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، إنا قد شككنا في هذا القتال ، على معرفتنا بفضلك ، ولا غناء بنا ولا بك ولا بالمسلمين عمن يقاتل العدو ، فولنا بعض هذه الثغور نكمن (5) ثم نقاتل عن أهله ، فوجه على عليه السلام بالربيع بن خثيم على ثغر الرى ، فكان أول لواء عقده عليه السلام بالكوفة لواء الربيع بن خثيم .
* * *
__________
(1) البيت للعباس بن مرداس السلمى ، الخزانه 2 : 82 (2) صفين : (إسهال) .
(3) صفين : (بألفته) .
(4) صفين : (جائر) .
(5) صفين : (تكون به) .
(*)(3/186)
قال نصر : وحدثني عمر بن سعد ، عن يوسف يزيد ، عن عبد الله بن عوف ابن الاحمر ، أن عليا عليه السلام لم يبرح النخيلة ، حتى قدم عليه ابن عباس بأهل البصرة قال : وكان كتاب على عليه السلام إلى ابن عباس : أما بعد ، فاشخص إلى بمن قبلك من المسلمين والمؤمنين ، وذكرهم بلائى عندهم ، وعفوي عنهم في الحرب ، وأعلمهم الذى لهم في ذلك من الفضل .
والسلام .
قال : فلما وصل كتابه إلى ابن عباس بالبصرة ، قام في الناس ، فقرأ عليهم الكتاب ، وحمد الله وأثنى عليه ، وقال : أيها الناس ، استعدوا للشخوص إلى أمامكم ، وانفروا خفافا وثقالا ، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم ، فإنكم تقاتلون المحلين القاسطين ، الذين لا يقرءون القرآن ، ولا يعرفون حكم الكتاب ، ولا يدينون دين الحق ، مع أمير المؤمنين ، وابن عم رسول الله ، الامر بالمعروف ، والناهي عن المنكر ، والصادع بالحق ، والقيم بالهدى ، والحاكم بحكم الكتاب ، الذى لا يرتشى في الحكم ، ولا يداهن الفجار ، ولا تأخذه في الله لومة لائم .
فقام إليه الاحنف بن قيس ، فقال : نعم والله لنجيبنك ، ولنخرجن معك على العسر واليسر ، والرضا والكره ، نحتسب في ذلك الاجر ، ونأمل به من الله العظيم حسن الثواب .
وقام خالد بن المعمر السدوسى فقال : سمعنا وأطعنا ، فمتى استنفرتنا نفرتا ، ومتى دعوتنا أجبنا .
وقام عمرو بن مرجوم العبدى ، فقال : وفق الله أمير المؤمنين ، وجمع له أمر المسلمين ،
__________
(1) كتاب صفين 130 .
(*)(3/187)
ولعن المحلين القاسطين لا يقرءون القرآن ، نحن والله عليهم حنقون ، ولهم في الله مفارقون ، فمتى أردتنا صحبك خيلنا (1) ورجالنا إن شاء الله .
قال : وأجاب الناس إلى المسير ، ونشطوا وخفوا ، فاستعمل ابن عباس على البصرة أبا الاسود الدؤلى وخرج حتى قدم على على عليه السلام بالنخيلة .
[ كتاب محمد بن أبى بكر إلى معاوية وجوابه عليه ] قال نصر : وكتب (2) محمد بن أبى بكر إلى معاوية : من محمد (3) بن أبى بكر إلى الغاوى معاوية بن صخر ، سلام على أهل طاعة الله ممن هو سلم (4) لاهل ولاية الله .
أما بعد فإن الله بجلاله وعظمته وسلطانه وقدرته ، خلق خلقا بلا عبث ولا ضعف في قوته ، لا حاجة به إلى خلقهم ، ولكنه خلقهم عبيدا ، وجعل منهم شقيا وسعيدا ، وغويا ورشيدا ، ثم اختارهم على علمه ، فاصطفى وانتخب منهم محمدا صلى الله عليه وآله ، فاختصه برسالته ، واختاره لوحيه ، وائتمنه على أمره ، وبعثه رسولا مصدقا لما بين يديه من الكتب ، ودليلا على الشرائع ، فدعا إلى سبيل أمره بالحكمة والموعظة الحسنة ، فكان أول من أجاب وأناب ، وصدق [ ووافق ] (5) فأسلم وسلم أخوه وابن عمه - على بن أبى طالب عليه السلام ، فصدقه بالغيب المكتوم ، وآثره على كل حميم ، ووقاه كل هول ، وواساه بنفسه في كل خوف ، فحارب حربه ، وسالم سلمه ، فلم يبرح مبتذلا لنفسه في ساعات الازل (6) ، ومقامات الروع ، حتى برز سابقا
__________
(1) صفين : (ورجلنا) (2) صفين 132 - 135 (3) في صفين : (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن أبى بكر .
(4) صفين : (مسلم) .
(5) من صفين (6) الازل : الشدة والضيق .
(*)(3/188)
لا نظير له في جهاده ، ولا مقارب له في فعله ، وقد رأيتك تساميه وأنت أنت ، وهو هو السابق المبرز في كل خير ، أول الناس إسلاما ، وأصدق الناس نية ، وأطيب الناس ذرية ، وأفضل الناس زوجة ، وخير الناس ابن عم .
وأنت اللعين ابن اللعين ، لم تزل أنت وأبوك تبغيان لدين الله الغوائل ، وتجتهدان على إطفاء نور الله ، وتجمعان على ذلك الجموع ، وتبذلان فيه المال ، وتحالفان في ذلك القبائل ، على هذا مات أبوك ، وعلى ذلك خلفته ، والشاهد عليك بذلك من يأوى ويلجأ إليك ، من بقيه الاحزاب ورؤوس النفاق والشقاق لرسول الله صلى الله عليه وآله ، والشاهد لعلى مع فضله وسابقته القديمة أنصاره الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن ، ففضلهم وأثنى عليهم من المهاجرين والانصار ، فهم معه كتائب وعصائب ، يجالدون حوله بأسيافهم ، ويهريقون دماءهم دونه ، يرون الفضل في اتباعه ، والشقاق والعصيان في خلافه ، فكيف - يا لك الويل - تعدل نفسك بعلى ، وهو وارث رسول الله صلى الله عليه وآله ووصيه وأبو ولده ، وأول الناس له اتباعا ، وآخرهم به عهدا ، يخبره بسره ، ويشركه في أمره ، وأنت عدوه وابن عدوه ، فتمتع ما استطعت بباطلك ، وليمددك لك ابن العاص في غوايتك ، فكأن أجلك قد انقضى ، وكيدك قد وهى ، وسوف تستبين لمن تكون العاقبة العليا .
واعلم أنك إنما تكايد ربك الذى قد أمنت كيده ، وأيست من روحه ، وهو لك بالمرصاد ، وأنت منه في غرور .
وبالله وبأهل بيت رسوله عنك الغناء ! والسلام على من اتبع الهدى .
فكتب إليه معاوية (1) : من معاوية بن أبى سفيان ، إلى الزارى على أبيه محمد بن أبى بكر .
سلام على أهل طاعة الله ، أما بعد ، فقد أتانى كتابك تذكر فيه ما الله أهله في قدرته وسلطانه ، وما أصفى به نبيه ، مع كلام ألفته ووضعته ، لرأيك فيه تضعيف ، ولابيك فيه تعنيف ، ذكرت حق
__________
(1) بعدها في صفين : (بسم الله الرحمن الرحيم) .
(*)(3/189)
ابن أبى طالب وقديم سابقته ، وقرابته من نبى الله ونصرته له ، ومواساته إياه ، في كل خوف وهول ، واحتجاجك على ، وفخرك بفضل غيرك لا بفضلك .
فاحمد إلها صرف ذلك الفضل عنك ، وجعله لغيرك ، فقد كنا وأبوك معنا في حياة نبينا ، نرى حق ابن أبى طالب لازما لنا ، وفضله مبرزا علينا ، فلما اختار الله لنبيه ما عنده ، وأتم له ما وعده ، وأظهر دعوته ، وأفلج حجته ، قبضه الله إليه ، فكان أبوك وفاروقه ، أول من ابتزه وخالفه ، على ذلك اتفقا واتسقا (1) ، ثم دعواه إلى أنفسهما فأبطأ عنهما ، وتلكأ عليهما ، فهما به الهموم : وأرادا به العظيم ، فبايعهما وسلم لهما ، لا يشركانه في أمرهما ، ولا يطلعانه على سرهما ، حتى قبضا وانقضى أمرهما .
ثم أقاما بعدهما ثالثهما عثمان بن عفان ، يهتدى بهديهما ، ويسير بسيرتهما ، فعبته أنت وصاحبك ، حتى طمع فيه الاقاصى من أهل المعاصي ، وبطنتما وظهرتما (2) ، وكشفتما له عداوتكما وغلكما ، حتى بلغتما منه مناكما ، فخذ حذرك يا بن أبى بكر ، فسترى وبال أمرك ، وقس شبرك بفترك ، تقصر عن أن تساوى أو توازى من يزن الجبال حلمه ، ولا تلين على قسر قناته ولا يدرك ذو مدى أناتة ، أبوك مهد له مهاده ، وبنى ملكه وشاده ، فإن يكن ما نحن فيه صوابا فأبوك أوله ، وإن يكن جورا فأبوك أسه (3) ونحن شركاؤه ، فبهديه أخذنا ، وبفعله اقتدينا ، رأينا أباك فعل ما فعل ، فاحتذينا مثاله ، واقتدينا بفعاله ، فعب أباك بما بدا لك ، أو دع .
والسلام على من أناب ، ورجع من غوايته وناب .
* * * قال : وأمر على عليه السلام الحارث الاعور أن ينادى في الناس : اخرجوا إلى معسكركم
__________
(1) صفين : (وانشقا) .
(2) صفين : (أظهر تما) .
(3) صفين : (أسسه) .
(*)(3/190)
بالنخيلة ، فنادى الحارث في الناس بذلك ، وبعث إلى مالك بن حبيب اليربوعي صاحب شرطته ، يأمره أن يحشر الناس إلى المعسكر ، ودعا عقبة بن عمرو الانصاري ، فاستخلفه على الكوفة - وكان أصغر أصحاب العقبة السبعين ، ثم خرج عليه السلام ، وخرج الناس معه .
قال نصر : ودعا على عليه السلام زياد بن النضر وشريح بن هانئ - وكانا على مذحج والاشعريين - فقال : يا زياد ، اتق الله في كل ممسى ومصبح ، وخف على نفسك الدنيا الغرور ، لا تأمنها على حال واعلم أنك إن لم تزعها عن كثير مما تحب مخافة مكروهه ، سمت بك الاهواء إلى كثير من الضرر ، فكن لنفسك مانعا وازعا من البغى و الظلم والعدوان ، فإنى قد وليتك هذا الجند ، فلا تستطيلن عليهم ، إن خيركم عند الله أتقاكم ، تعلم من عالمهم ، وعلم جاهلهم ، واحلم عن سفيههم ، فإنك إنما تدرك الخير بالحلم وكف الاذى والجهل (1) .
فقال زياد : أوصيت يا أمير المؤمنين حافظا لوصيتك ، مؤديا لاربك ، يرى الرشد في نفاذ أمرك ، والغى في تضييع عهدك .
فأمرهما أن يأخذا في طريق واحد ولا يختلفا ، وبعثهما في اثنى عشر ألفا على مقدمته ، وكل واحد منهما على جماعة من ذلك الجيش ، فأخذ شريح يعتزل بمن معه من أصحابه على حدة ، ولا يقرب زيادا ، فكتب زياد إلى على عليه السلام مع مولى له يقال له شوذب : لعبد الله على أمير المؤمنين ، من زياد بن النضر : سلام عليك ، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو ، أما بعد ، فإنك وليتني أمر
__________
(1) الجهل هنا : السفاهة والغضب .
(*)(3/191)
الناس ، وإن شريحا لا يرى بى عليه طاعة ولا حقا ، وذلك من فعله بى استخفاف بأمرك ، وترك لعهدك ، والسلام .
وكتب شريح بن هاني إلى على عليه السلام : لعبد الله على أمير المؤمنين من شريح بن هاني ، سلام عليك ، فإنى أحمد الله إليك الذى لا إله إلا هو ، أما بعد ، فإن زياد بن النضر حين أشركته في أمرك ، ووليته جندا من جنودك ، طغى واستكبر ، ومال به العجب والخيلاء والزهو إلى ما لا يرضى الله تعالى به من القول والفعل ، فإن رأى أمير المؤمنين عليه السلام أن يعزله عنا ويبعث مكانه من يحب فليفعل ، فإنا له كارهون ، والسلام .
فكتب على عليه السلام إليهما : من عبد الله على (1) أمير المؤمنين إلى زياد بن النضر وشريح بن هانئ .
سلام عليكما ، فإنى أحمد إليكما الله الذى لا إله إلا هو .
أما بعد ، فإنى قد وليت مقدمتي زياد ابن النضر ، وأمرته عليها ، وشريح بن هاني على طائفة منها أمير ، فإن انتهى جمعكما إلى بأس ، فزياد بن النضر على الناس كلهم ، وإن افترقتما فكل واحد منكما أمير الطائفة التى وليناه أمرها .
واعلما أن مقدمة القوم عيونهم ، وعيون المقدمة طلائعهم ، فإذا أنتما خرجتما من بلادكما فلا تسأما من توجيه الطلائع ، ومن نفض الشعاب (2) والشجر والخمر (3) في كل جانب ، كى لا يغتركما عدو ، أو يكون لهم كمين .
ولا تسيرن الكتائب والقبائل من لدن الصباح إلى المساء إلا على تعبئة ، فإن دهمكم عدو أو غشيكم مكروه ، كنتم قد تقدمتم في التعبئة ، فإذا نزلتم بعدو أو نزل بكم فليكن معسكركم في قبل الاشراف أو سفاح (4)
__________
(1) صفين : (بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله ...
) .
(2) يقال : نفض المكان ينفضه ، إذا نظر جميع ما فيه حتى يعلم منه ، ومنه قول زهير : وتنفض عنها غيب كل خميلة وتخشى رماة الغوث من كل مرصد والشعاب : جمع شعبة ، وهى ما انشعب وتفرع من الوادي .
(3) الخمر : ما وارى الانسان من شجر ونحوه .
(4) الاشراف : جمع شرف ، وهى الاماكن العالية .
وسفاح الجبال : أسافلها .
(*)(3/192)
الجبال وأثناء الانهار ، كيما يكون ذلك لكم ردءا ، وتكون مقاتلتكم من وجه واحد أو اثنين ، واجعلوا رقباءكما (1) في صياصى الجبال ، وبأعالى الاشراف ، ومناكب الانهار يرون لكم ، كى لا (2) يأتيكم عدو من مكان مخافة أو أمن .
وإياكم والتفرق ، فإذا نزلتم فانزلوا جميعا ، وإذا رحلتم فارحلوا جميعا ، فإذا غشيكم الليل فنزلتم فحفوا عسكركم بالرماح والترسة (3) ، ولتكن رماتكم من وراء ترسكم ورماحكم يلونهم .
وما أقمتم فكذلك فافعلوا كى لا تصاب لكم غفلة ، ولا تلفى لكم غرة ، فما قوم يحفون عسكرهم برماحهم وترستهم من ليل أو نهار إلا كانوا كأنهم في حصون .
واحرسا عسكركما بأنفسكما ، وإياكما أن تذوقا نوما حتى تصبحا إلا غرارا أو مضمضة (4) .
ثم ليكن ذلك شأنكما ودأبكما حتى تنتهيا إلى عدوكما ، وليكن كل يوم عندي خبركما ورسول من قبلكما .
فإنى - ولا شئ إلا ما شاء الله - حثيث السير في أثركما .
عليكما في جريكما (5) بالتؤدة ، وإياكما والعجلة ، إلا أن تمكنكما فرصة بعد الاعذار والحجة ، وإياكما أن تقاتلا حتى أقدم عليكما ، إلا أن تبدءا ، أو يأتيكما أمرى ، إن شاء الله (6) .
قال نصر : (7) وكتب على عليه السلام إلى أمراء الاجناد - وكان قد قسم عسكره أسباعا ، فجعل على كل سبع أميرا ، فجعل سعد بن مسعود الثقفى على قيس وعبد القيس ، ومعقل بن قيس اليربوعي على تميم وضبة والرباب وقريش
__________
(1) صفين : (رقباءكم) .
(2) كذا في ا ، وفى ب ، ج بحذف (كى) .
(3) الترسة : جمع ترس ، وهو صفحة من الفولاذ مستديرة ، ويجمع على تراس أيضا .
(4) الغرار : القليل من النوم .
وقوله : (مضمضة) ، لما جعل للنوم ذوقا ، أسرهم ألا ينالوا منه إلاا بألسنتهم ولا يسيغوه ، فشبهه بالمضمضة بالماء وإلقائه من الفم من غير ابتلاع ، كذا فسره صاحب اللسان (9 : 10) ، وأورد كلام الامام .
(5) صفين : (حربكما) .
(6) صفين 138 - 140 .
(7) صفين 132 ، 140 - 141 .
(13 - نهج - 3)(3/193)
وكنانة وأسد ، ومخفف بن سليم على الازد وبجيلة وخثعم الانصار وخزاعة ، وحجر ابن عدى الكندى على كندة وحضرموت وقضاعة ، وزياد بن النضر على مذحج والاشعريين ، وسعيد بن مرة الهمداني على همدان ومن معهم من حمير ، وعدى بن حاتم الطائى على طيئ ، تجمعهم الدعوة مع مذحج ، وتختلف الرايتان : راية مذحج مع زياد بن النضر ، وراية طيئ مع عدى بن حاتم ، هذه عساكر الكوفة .
وأما عساكر البصرة فخالد بن معمر السدوسى على بكر بن وائل ، وعمرو بن مرجوم العبدى على عبد القيس ، وابن شيمان الازدي (1) على الازد ، والاحنف على تميم وضبة والرباب ، وشريك ابن الاعور الحارثى على أهل العالية : أما بعد ، فإنى أبرأ إليكم من معرة الجنود (2) [ إلا من جوعة إلى شبعة ، ومن فقر إالى غنى ، أو عمى إلى هدى ، فإن ذلك عليهم ] (3) .
فأغربوا (4) الناس عن الظلم والعدوان ، وخذوا على أيدى سفهائكم ، واحترسوا أن تعملوا أعمالا لا يرضى الله بها عنا فيرد بها علينا وعليكم دعاءنا ، فإنه تعالى يقول : (ما يعبأ بكم ربى لو لا دعاؤكم) (5) .
وإن الله إذا مقت قوما من السماء هلكوا في الارض ، فلا تألوا أنفسكم خيرا ، ولا الجند حسن سيرة ، ولا الرعية معونة ولا دين الله قوة ، وأبلوا في سبيله ما استوجب عليكم ، فإن الله قد اصطنع عندنا وعندكم ما يجب علينا أن نشكره بجهدنا ، وأن ننصره ما بلغت قوتنا ولا قوة إلا بالله .
__________
(1) في صفين : (صبرة بن شيمان) .
(2) قوله : (أبرأ إليكم من معرة الجيش) ، نسبه صاحب اللسان هذا القول إلى عمر بن الخطاب ، وقال : (وأما معرة الجيش التى تبرأ منها عمر رضى الله عنه ، فهى وطأتهم من مروا به من نمسلم أو معاهد ، وإصابتهم إياهم في حريمهم وأموالهم وزروعهم بما لم يؤذن لهم فيه) ، وفى صفين : (معرة الجيش) .
(3) تكملة من كتاب صفين .
(4) أغربوا الناس ، أي نحوهم ، وفى صفين) فاعزلوا الناس) .
(5) سورة الفرقان 77 (*)(3/194)
قال : وكتب عليه السلام إلى جنوده يخبرهم بالذى لهم وعليهم : أما بعد ، فإن الله جعلكم في الحق جميعا سواء ، أسودكم وأحمركم ، وجعلكم من الوالى وجعل الوالى منكم بمنزلة الوالد من الولد ، و [ بمنزلة ] (1) الولد من الوالد ، [ الذى لا يكفيه منعه إياهم طلب عدوه والتهمة به ، ما سمعتم وأطعتم وقضيتم الذى عليكم ] (1) .
فحقكم عليه إنصافكم والتعديل بينكم ، والكف عن فيئكم ، فإذا فعل معكم ذلك ، وجبت عليكم طاعته فيما وافق الحق ، ونصرته والدفع عن سلطان الله ، فإنكم وزعه الله في الارض ، فكونوا له أعوانا ، ولدينه أنصارا ، ولا تفسدوا في الارض بعد إصلاحها ، إن الله لا يحب المفسدين (2) .
* * * قال نصر : وحدثنا عمر بن سعد ، قال : حدثنا سعد بن طريف ، عن الاصبغ ابن نباتة ، قال : قال على عليه السلام : ما يقول الناس في هذا القبر ؟ - وفي النخيلة ، وبالنخيلة قبر عظيم يدفن اليهود موتاهم حوله - فقال الحسن بن على عليهما السلام : يقولون هذا قبر هود لما عصاه قومه ، جاء فمات هاهنا ، فقال : كذبوا ، لانا أعلم به منهم ، هذا قبر يهودا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، بكر يعقوب ، ثم قال : أهاهنا أحد من مهرة (3) ؟ فأتى بشيخ [ كبير ] (1) ، فقال : أين منزلك ؟ قال : على شاطئ البحر ، قال : أين أنت من الجبل (4) ؟ قال : أنا قريب منه ، قال : فما يقول قومك فيه ؟ قال : يقولون : إن فيه قبر ساحر ، قال : كذبوا ، ذاك قبر هود النبي عليه السلام ، وهذا قبر يهودا بن يعقوب .
ثم قال
__________
(1) تكملة من كتاب صفين .
(2) صفين 141 ، 142 .
(3) مهرة : حى من اليمن (4) صفين : (أين من الجبل الاحمر) .
(*)(3/195)
عليه السلام : يحشر من ظهر الكوفة سبعون ألفا على غرة (1) الشمس ، يدخلون الجنة بغير حساب .
قال نصر : فلما نزل على عليه السلام النخيلة متوجها إلى الشام ، وبلغ معاوية خبره ، وهو يومئذ بدمشق ، قد ألبس منبر دمشق قميص عثمان مختضبا بالدم ، وحول المنبر سبعون ألف (2) شيخ يبكون حوله ، لا تجف دموعهم على عثمان ، خطبهم ، وقال : يا أهل الشام ، قد كنتم تكذبونني في على ، وقد استبان لكم أمره ، والله ما قتل خليفتكم غيره .
وهو أمر بقتله ، وألب الناس عليه ، وآوى قتلته ، وهم جنده وأنصاره وأعوانه ، وقد خرج بهم قاصدا بلادكم ودياركم لابادتكم .
يا أهل الشام ، الله الله في دم عثمان ! فأنا وليه وأحق من طلب بدمه ، وقد جعل الله لولى المقتول ظلما سلطانا ، فانصروا خليفتكم المظلوم ، فقد صنع القوم به ما تعلمون ، قتلوه ظلما وبغيا ، وقد أمر الله تعالى بقتال الفئة الباغية حتى تفئ إلى أمر الله .
ثم نزل .
قال نصر : فأعطوه الطاعة وانقادوا له ، وجمع إليه أطرافه ، واستعد للقاء على عليه السلام (3) .
__________
(1) غرة الشمس : مطلها .
(2) كذا في الاصول وفي كتاب صفين .
(3) كتاب صفين 142 ، 143 (*)(3/196)
ومن كلام له عليه السلام في ذكر الكوفة : الاصل كأنى بك يا كوفة تمدين مد الاديم العكاظي ، تعركين بالنوازل ، وتركبين بالزلازل ، وإنى لاعلم أنه ما أراد بك جبار سوءا إلا ابتلاه الله بشاغل أو رماه (1) بقاتل .
* * * عكاظ : اسم سوق للعرب بناحية مكة ، كانوا يجتمعون بها في كل سنة ، يقيمون شهرا ويتبايعون ويتناشدون شعرا ويتفاخرون ، قال أبو ذؤيب : إذا بنى القباب على عكاظ وقام البيع واجتمع الالوف (2) فلما جاء الاسلام هدم ذلك ، وأكثر ما كان يباع الاديم بها ، فنسب إليها .
والاديم واحد والجمع أدم ، كما قالوا : أفيق للجلد الذى لم تتم دباغته ، وجمعه أفق .
وقد يجمع أديم على آدمة ، كما قالوا : رغيف وأرغفة .
والزلازل هاهنا : الامور المزعجة ، والخطوب المحركة .
__________
(1) مخطوطة النهج : (ورماه) .
(2) ديوان الهذليين 1 : 98 ، وفي شرحه (على عكاظ ، يريد بعكاظ ، ويقال : فلان نازل على فلان ، وعلى ضرية ، أي بها .
قام البيع ، يريد : قامت السوق) .
(*)(3/197)
وقوله عليه السلام : (تمدين مد الاديم) ، استعارة لما ينالها من العسف والخبط .
وقوله تعركين) ، من عركت القوم الحرب إذا مارستهم حتى أتعبتهم .
* * * [ فصل في ذكر فضل الكوفة ] وقد جاء في فضل الكوفة عن أهل البيت عليهم السلام شئ كثير ، نحو قول أمير المؤمنين عليه السلام : نعمت المدرة .
وقوله عليه السلام : إنه يحشر من ظهرها يوم القيامة سبعون ألفا ، وجوههم على صورة القمر .
وقوله عليه السلام : هذه مدينتنا ومحلتنا ، ومقر شيعتنا وقول جعفر بن محمد عليه السلام : اللهم ارم من رماها ، وعاد من عاداها .
وقوله عليه السلام : تربة تحبنا ونحبها .
فأما ما هم به الملوك وأرباب السلطان فيها من السوء ، ودفاع الله تعالى عنها ، فكثير .
قال المنصور لجعفر بن محمد عليهما السلام : إنى قد هممت أن أبعث إلى الكوفة من ينقض منازلها ، ويجمر (1) نخلها ، ويستصفى أموالها ، ويقتل أهل الريبة منها ، فأشر على .
فقال : يا أمير المؤمنين ، إن المرء ليقتدى بسلفه ، ولك أسلاف ثلاثة : سليمان أعطى فشكر ، وأيوب ابتلى فصبر ، ويوسف قدر فغفر ، فاقتد بأيهم شئت .
فصمت قليلا ، ثم قال : قد غفرت .
__________
(1) جمر النخلة ، أي قطع جمارها .
(*)(3/198)
وروى أبو الفرج عبد الرحمن بن على بن الجوزى في كتاب ، ، المنتظم ، ، أن زيادا لما حصبه أهل الكوفة ، وهو يخطب على المنبر ، قطع أيدى ثمانين منهم ، وهم أن يخرب دورهم ، ويجمر نخلهم ، فجمعهم حتى ملا بهم المسجد والرحبة ، يعرضهم على البراءة من على عليه السلام ، وعلم أنهم سيمتنعون ، فيحتج بذلك على استئصالهم ، وإخراب بلدهم .
قال عبد الرحمن بن السائب الانصاري : فإنى لمع نفر من قومي ، والناس يومئذ في أمر عظيم ، إذ هومت تهويمة (1) ، فرأيت شيئا أقبل ، طويل العنق ، مثل عنق البعير أهدر أهدل (2) ، فقلت : ما أنت ؟ فقال : أنا النقاد ذو الرقبة ، بعثت إلى صاحب هذا القصر ، فاستيقظت فزعا ، فقلت لاصحابي : هل رأيتم ما رأيت ؟ قالوا : لا ، فأخبرتهم ، وخرج علينا خارج من القصر ، فقال : انصرفوا ، فإن الامير يقول لكم : إنى عنكم اليوم مشغول ، وإذا بالطاعون قد ضربه ، فكان يقول : إنى لاجد في النصف من جسدي حر النار حتى مات ، فقال عبد الرحمن بن السائب : ما كان منتهياعما أراد بنا حتى تناوله النقاد ذو الرقبه فأثبت الشق منه ضربة عظمت كمتناول ظلما صاحب الرحبة (2) قلت : قد يظن ظان أن : (قوله صاحب الرحبة) يمكن أن يحتج به من قال : إن قبر أمير المؤمنين عليه السلام في رحبة المسجد بالكوفة ، ولا حجة في ذلك ، لان أمير المؤمنين كان يجلس معظم زمانه في رحبة المسجد ، يحكم بين الناس ، فجاز أن ينسب إليه بهذا الاعتبار .
__________
(1) التهويم : هن الرأس من النعاس .
(2) يقال : هدر البعير ، صوت في غير شقشقة ، والجمل الاهدل : المسترخى المشفر .
(*)(3/199)
ومن خطبة له عليه السلام عند المسير إلى الشام : الاصل : الحمد لله كلما وقب ليل وغسق ، والحمد لله كلما لاح نجم وخفق ، والحمد لله غير مفقود الانعام ، ولا مكافإ الافضال .
أما بعد ، فقد بعثت مقدمتي ، وأمرتهم بلزوم هذا الملطاط حتى يأتيهم أمرى ، وقد رأيت أن أقطع هذه النطفة إلى شرذمة منكم ، موطنين أكناف دجلة ، فأنهضهم معكم إلى عدوكم ، وأجعلهم من أمداد القوة لكم .
* * * قال الرضى رحمه الله : يعنى عليه السلام بالملطاط هاهنا السمت الذى أمرهم بلزومه ، وهو شاطئ الفرات ، ويقال ذلك أيضا لشاطئ البحر ، وأصله ما استوى من الارض ، ويعنى بالنطفة ماء الفرات ، وهو من غريب العبارات وعجيبها .
* * * الشرح : وقب الليل ، أي دخل ، قال الله تعالى : (ومن شر غاسق إذا وقب) (1) .
وغسق ، أي أظلم .
وخفق النجم ، أي غاب .
__________
(1) سورة الفلق 3 (*)(3/200)
ومقدمة الجيش ، بكسر الدال : أوله ، وما يتقدم منه على جمهور العسكر ، ومقدمة لانسان ، بفتح الدال : صدره .
والملطاط : حافة الوادي وشفيره ، وساحل البحر ، قال رؤبة : * نحن جمعنا الناس بالملطاط * قال الاصمعي : يعنى به ساحل البحر ، وقول ابن مسعود : هذا الملطاط طريق بقية المؤمنين ، هرابا من الدجال - يعنى به شاطئ الفرات .
فأما قول الرضى رحمه الله تعالى : (الملطاط : السمت الذى أمرهم بلزومه وهو شاطئ الفرات ، ويقال ذلك لشاطئ البحر) ، فلا معنى له ، لانه لا فرق بين شاطئ الفرات وشاطئ البحر ، وكلاهما أمر واحد ، وكان الواجب أن يقول : الملطاط : السمت في الارض ، ويقال أيضا لشاطئ البحر .
والشرذمة : نفر قليلون .
وموطنين أكناف دجلة ، أي قد جعلوا أكنافها وطنا ، أوطنت البقعة .
والاكناف : الجوانب ، واحدها كنف .
والامداد : جمع مدد ، وهو ما يمد به الجيش تقوية له .
وهذه الخطبة خطب بها أمير المؤمنين عليه السلام وهو بالنخيلة خارجا من الكوفة ومتوجها إلى صفين لخمس بقين من شوال سنة سبع وثلاثين ، ذكرها جماعة من أصحاب السير ، وزادوا فيها : (وقد أمرت على المصر عقبة بن عمرو الانصاري ، ولم الكم ولا نفسي (1) ، فإياكم والتخلف والتربص ، فإنى قد خلفت مالك بن حبيب اليربوعي ، وأمرته ألا يترك متخلفا إلا ألحقه بكم عاجلا ، ان شاء الله) (2) .
__________
(1) يقال : ما يألو الشئ ، أي ما يتركه .
(2) صفين 148 (*)(3/201)
وروى نصر بن مزاحم عوض قوله : (فأنهضهم معكم إلى عدوكم) (فأنهضهم معكم إلى عدو الله) (1) .
قال نصر : فقام إليه معقل بن قيس الرياحي ، فقال : يا أمير المؤمنين ، والله ما يتخلف عنك إلا ظنين ، ولا يتربص بك إلا منافق ، فمر مالك بن حبيب فليضرب أعناق المتخلفين .
فقال : قد أمرته بأمرى ، وليس بمقصر إن شاء الله (2) .
* * * [ أخبار على في جيشه وهو في طريقه إلى صفين ] قال نصر بن مزاحم : ثم سار عليه السلام حتى انتهى إلى مدينة بهرسير (3) ، وإذا رجل من أصحابه يقال له حر بن سهم بن طريف ، من بنى ربيعة بن مالك ، ينظر إلى آثار كسرى ، ويتمثل بقول الاسود بن يعفر : جرت الرياح على محل ديارهم فكأنما كانوا على ميعاد (4) فقال له عليه السلام : ألا قلت : (كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين * كذلك وأورثناها قوما آخرين * فما بكت عليهم السماء والارض وما كانوا منظرين) (5) ، إن هؤلاء كانوا وارثين فأصبحوا مورثين ، ولم يشكروا النعمة ، فسلبوا دنياهم بالمعصية .
إياكم وكفر النعم ، لا تحل بكم النقم ، انزلوا بهذه الفجوة (6) .
__________
(1) صفين : (إلى أعداء الله) .
(2) صفين 148 (3) بهر سير : بلد قرب المدائن .
(4) من قصيدة له في المفضليات 216 - 220 (5) سورة الدخان 25 - 29 (6) الفجوة : المكان المتسع في الارض ، وفي صفين 159 (النجوة) ، وهو المكان المرتفع .
(*)(3/202)
قال نصر : وحدثنا (1) عمر بن سعد ، عن مسلم الاعور عن حبة العرنى ، قال : أمر على عليه السلام الحارث الاعور ، فصاح في أهل المدائن : من كان من المقاتلة فليواف أمير المؤمنين عليه السلام صلاة العصر .
فوافوه في تلك الساعة ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، فإنى قد تعجبت من تخلفكم عن دعوتكم ، وانقطاعكم عن أهل مصركم في هذه المساكن الظالم أهلها ، الهالك أكثر ساكنيها ، لا معروف يأمرون به ، ولا منكر ينهون عنه .
قالوا : يا أمير المؤمنين ، إنا ننتظر أمرك ، مرنا بما أحببت .
فسار وخلف عليهم عدى بن حاتم ، فأقام عليهم ثلاثا ثم خرج في ثمانمائة رجل منهم ، وخلف ابنه زيدا بعده ، فلحقه في أربعمائة رجل منهم .
وجاء على عليه السلام حتى مر بالانبار ، فاستقبله بنو خشنوسك (2) ، دهاقينها .
- قال نصر : الكلمة فارسية ، أصلها (خش) أي الطيب (3) - قال : فلما استقبلوه ، نزلوا عن خيولهم ، ثم جاءوا يشتدون معه ، وبين يديه ومعهم براذين قد أوقفوها في طريقه ، فقال : ما هذه الدواب التى معكم ؟ وما أردتم بهذا الذى صنعتم ؟ قالوا : أما هذا الذى صنعنا فهو خلق منا نعظم به الامراء ، وأما هذه البراذين فهدية لك ، وقد صنعنا للمسلمين طعاما ، وهيأنا لدوابكم علفا كثيرا .
فقال عليه السلام : أما هذا الذى زعمتم أنه فيكم خلق تعظمون به الامراء فو الله ما ينفع ذلك الامراء ، وإنكم لتشقون به على أنفسكم وأبدانكم : فلا تعودوا
__________
(1) صفين 160 ، 161 (2) في الاصول (خشوش) ، وما أثبته من كتاب صفين .
(3) العبارة كما في كتاب صفين : (قال سليمان : خش : طيب .
نوشك : راض ، يعنى بنى الطيب الراضي ، بالفارسية) .
(*)(3/203)
له .
وأما دوابكم هذه ، فإن أحببتم أن آخذها منكم ، وأحسبها لكم من خراجكم أخذناها منكم .
وأما طعامكم الذى صنعتم لنا ، فإنا نكره أن نأكل من أموالكم إلا بثمن .
قالوا : يا أمير المؤمنين ، نحن نقومه ثم نقبل ثمنه ، قال : إذا لا تقومونه قيمته ، نحن نكتفي بما هو دونه .
قالوا : يا أمير المؤمنين ، فإن لنا من العرب موالى ومعارف ، أتمنعنا أن نهدى لهم أو تمنعهم أن يقبلوا منا ؟ فقال : كل العرب لكم موال ، وليس ينبغى لاحد من المسلمين أن يقبل هديتكم ، وإن غصبكم أحد فأعلمونا .
قالوا : يا أمير المؤمنين ، إنا نحب أن تقبل هديتنا وكرامتنا .
قال : ويحكم ! فنحن أغنى منكم .
وتركهم وسار .
قال نصر : وحدثنا (1) عبد العزيز بن سياه ، قال : حدثنا حبيب بن أبى ثابت ، قال : حدثنا [ أبو ] (2) سعيد التيمى المعروف بعقيصى ، قال : كنا مع على عليه السلام في مسيره إلى الشام ، حتى إذا كنا بظهر الكوفة من جانب هذا السواد ، عطش الناس واحتاجوا إلى الماء ، فانطلق بنا على عليه السلام حتى أتى [ بنا ] (2) إلى صخرة ضرس (3) في الارض ، كأنها ربضة عنز (4) ، فأمرنا فاقتلعناها ، فخرج لنا من تحتها ماء ، فشرب الناس منه ، وارتووا .
ثم أمرنا فأكفأناها عليه .
وسار الناس حتى إذا مضى قليلا ، قال عليه السلام : أمنكم أحد يعلم مكان هذا الماء الذى شربتم منه ؟ قالوا : نعم يا أمير المؤمنين ، قال : فانطلقوا إليه ، فانطلق منا رجال ركبانا ومشاة ، فاقتصصنا الطريق إليه ، حتى انتهينا إلى المكان الذى نرى أنه فيه ، فطلبناه ، فلم نقدر على شئ ، حتى إذا عيل علينا انطلقنا إلى دير قريب
__________
(1) صفين 161 ، 162 .
(2) من صفين والقاموس .
(3) الضرس : الاكمة الخشنة .
(4) الربضة ، بضم الراء ويقال بكسرها ، مقدار جثة العنز إذا ربضت ، وفي الاثر : (جاء بثريد كأنه ربضة أرنب) أي جثتها .
راجع اللسان .
(*)(3/204)
منا ، فسألناهم : أين هذا الماء الذى عندكم ؟ قالوا : ليس قربنا ماء ، فقلنا : بلى إنا شر بنا منه ، قالوا : أنتم شربتم منه ! قلنا : نعم ، فقال صاحب الدير : والله ما بنى هذا الدير إلا بذلك الماء ، وما استخرجه إلا نبى أو وصى نبى .
قال نصر : ثم مضى عليه السلام ، حتى نزل بأرض الجزيرة ، فاستقبله بنو تغلب والنمر بن قاسط بجزور (1) ، فقال عليه السلام ليزيد بن قيس الارحبي : يا يزيد ، قال : لبيك يا أمير المؤمنين ! قال : هؤلاء قومك ، من طعامهم فاطعم ، ومن شرابهم فاشرب .
قال : ثم سار حتى أتى الرقة - وجل أهلها عثمانية ، فروا من الكوفة إلى معاوية - فأغلقوا أبوابها دونه ، وتحصنوا ، وكان أميرهم سماك بن مخرقة الاسدي في طاعة معاوية ، وقد كان فارق عليا عليه السلام في نحو من مائة رجل من بنى إسد ، ثم كاتب معاوية ، وأقام بالرقة حتى لحق به سبعمائة رجل .
قال نصر : فروى حبة أن عليا عليه السلام لما نزل على الرقة ، نزل بموضع يقال له البليخ على جانب الفرات ، فنزل راهب هناك من صومعته ، فقال لعلى عليه السلام : إن عندنا كتابا توارثناه عن آبائنا ، كتبه أصحاب عيسى بن مريم ، أعرضه عليك ؟ قال : نعم ، فقرأ الراهب الكتاب : بسم الله الرحمن الرحيم .
الذى قضى فيما قضى ، وسطر فيما كتب (2) : أنه باعث في الاميين رسولا منهم ، يعلمهم الكتاب والحكمة ، ويدلهم على سبيل الله ، لا فظ ولا غليظ ، ولا صخاب في الاسواق ، ولا يجزى بالسيئة السيئة ، بل يعفو ويصفح ، أمته الحمادون الذين يحمدون الله على كل نشر (3) و ، في كل صعود وهبوط ، تذل ألسنتهم
__________
(1) الجزور : النافة اتى تنحر ، وفى صفين : (بالجزيرة) .
(2) صفين : (فيا سطر) .
(3) النشز : المكان المرتفع ، كالنشاز .
(*)(3/205)
بالتكبير والتهليل ، والتسبيح ، وينصره الله على من ناوأه ، فإذا توفاه الله ، اختلفت أمته من بعده ، ثم اجتمعت ، فلبثت ما شاء الله ، ثم اختلفت ، فيمر رجل من أمته بشاطئ هذا الفرات ، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويقضى بالحق ولا يركس (1) الحكم ، الدنيا أهون عليه من الرماد في يوم عصفت به الريح ، والموت أهون عليه من شرب الماء على الظمان (2) .
يخاف الله في السر ، وينصح له في العلانية ، لا يخاف في الله لومة لائم ، فمن أدرك ذلك النبي من أهل هذه البلاد فامن به كان ثوابه رضواني والجنة ، ومن أدرك ذلك العبد الصالح فلينصره ، فإن القتل معه شهادة .
ثم قال له : أنا مصاحبك ، فلا أفارقك حتى يصيبني ما أصابك .
فبكى عليه السلام ، ثم قال : الحمد لله الذى لم أكن عنده منسيا ، الحمد لله الذى ذكرني عنده في كتب الابرار .
فمضى الراهب معه ، فكان فيما ذكروا يتغدى مع أمير المؤمنين ويتعشى ، حتى أصيب يوم صفين ، فلما خرج الناس يدفنون قتلاهم قال عليه السلام : اطلبوه ، فلما وجدوه صلى عليه ودفنه .
وقال : هذا منا أهل البيت ، واستغفر له مرارا (3) .
روى هذا الخبر نصربن مزاحم في كتاب ، ، صفين ، ، عن عمر بن سعد ، عن مسلم الاعور ، عن حبة العرنى .
ورواه أيضا إبراهيم بن ديزيل الهمداني ، بهذا الاسناد عن حبة أيضا في كتاب صفين .
* * * وروى ابن ديزيل في هذا الكتاب ، قال : حدثنى يحيى بن سليمان .
حدثنى يحيى بن عبد الملك بن حميد بن عتيبة ، عن أبيه ، عن إسماعيل بن رجاء ، عن أبيه ومحمد
__________
(1) الركس : رد الشئ مقلوبا ، وفى صفين : (ولا يرتشى في الحكم) .
(2) صفين : (الظلماء) .
(3) كتاب صفين لنصر 164 ، 165 .
(*)(3/206)
بن فضيل ، عن الاعمش ، عن إسماعيل بن رجاء ، عن أبى سعيد الخدرى ، رحمه الله قال : كنا مع رسول الله صلى الله لعيه وآله ، فانقطع شسع (1) نعله ، فألقاها إلى على عليه السلام يصلحها ، ثم قال : (إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن ، كما قاتلت على تنزيله) ، فقال أبو بكر الصديق : أنا هو يا رسول الله ؟ فقال : لا ، فقال عمر بن الخطاب : أنا هو يا رسول الله ؟ قال : (لا ، ولكنه ذاكم خاصف النعل) - ويد على عليه السلام على نعل النبي صلى الله عليه وآله يصلحها .
قال أبو سعيد : فأتيت عليا عليه السلام فبشرته بذلك فلم يحفل به ، كإنه شئ قد كان علمه من قبل .
* * * وروى ابن ديزيل في هذا الكتاب أيضا ، عن يحيى بن سليمان ، عن ابن فضيل ، عن إبراهيم الهجرى ، عن أبى صادق ، قال : قدم علينا أبو أيوب الانصاري العراق ، فأهدت له الازد جزرا (2) ، فبعثوها معى ، فدخلت إليه فسلمت عليه ، وقلت له : يا أبا أيوب ، قد كرمك الله عزوجل بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ، ونزوله عليك ، فما لى أراك تستقبل الناس بسيفعك ، تقاتلهم هؤلاء مرة وهؤلاء مرة ! قال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله عهد إلينا أن نقاتل مع على الناكثين ، فقد قاتلناهم ، وعهد إلينا أن نقاتل معه القاسطين ، فهذا وجهنا إليهم - يعنى معاوية وأصحابه - وعهد إلينا أن نقاتل معه المارقين ، ولم أرهم بعد .
وروى ابن ديزيل أيضا في هذا الكتاب ، عن يحيى ، عن يعلى بن عبيد الحنفي ، عن إسمعيل السدى ، عن زيد بن أرقم ، قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وهو
__________
(1) الشسع : قبال النعل ، وهو زمام بين الاصبع الوسطى والتى تليها .
(2) الجزر : جمع الجزور ، وهو ما يذبح من الابل .
(*)(3/207)
في الحجرة يوحى إليه ونحن ننتظره حتى اشتد الحر ، فجاء على بن أبى طالب ومعه فاطمة وحسن وحسين عليهما السلام ، فقعدوا في ظل حائط ينتظرونه ، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله ، رآهم فأتاهم ووقفنا نحن مكاننا ، ثم جاء إلينا وهو يظلهم بثوبه ، ممسكا بطرف الثوب ، وعلى ممسك بطرفه الاخر ، وهو يقول : (اللهم إنى أحبهم ، فأحبهم ، اللهم إنى سلم لمن سالمهم ، وحرب لمن حاربهم) قال : فقال ذلك ثلاث مرات .
قال إبراهيم في الكتاب المذكور : وحدثنا يحيى بن سليمان ، قال : حدثنا ابن فضيل ، قال : حدثنا الحسن بن الحكم النخعي ، عن رباح بن الحارث النخعي ، قال : كنت جالسا عند على عليه السلام ، إذ قدم عليه قوم متلثمون ، فقالوا : السلام عليك يا مولانا ، فقال لهم : أو لستم قوما عربا ! قالوا : بلى ، ولكنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله يقول يوم غدير خم : (من كنت مولاه فعلى مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله) قال : فلقد رأيت عليا عليه السلام ضحك حتى بدت نواجذه ، ثم قال : اشهدوا .
ثم إن القوم مضوا إلى رحالهم فتبعتهم ، فقلت لرجل منهم : من القوم ؟ قالوا : نحن رهط من الانصار ، وذاك - يعنون رجلا منهم - أبو أيوب صاحب منزل رسول الله صلى الله عليه وآله ، قال : فأتيته فصافحته .
* * * قال نصر : وحدثني عمر بن سعد ، عن نمير بن وعلة ، عن أبى الوداك أن (1) عليا عليه السلام بعث من المدائن معقل بن قيس الرياحي ، في ثلاث آلاف ، وقال له : خذ على
__________
(1) كتاب صفين 165 - 166 (*)(3/208)
الموصل ، ثم نصيبين ، ثم القنى بالرقة ، فإنى موافيها .
وسكن الناس وأمنهم ، ولا تقاتل إلا من قاتلك ، وسر البردين (1) وغور بالناس (2) .
أقم الليل ، ورفه في السير ولا تسر أول الليل ، فإن الله جعله سكنا ، أرح فية بدنك وجندك وظهرك ، فإذا كان السحر ، أو حين يتبلج (3) الفجر ، فسر .
فسار حتى إتى الحديثة - وهى إذ ذاك منزل الناس ، وإنما بنى مدينة الموصل بعد ذلك محمد بن مروان - فإذا بكبشين ينتطحان ، ومع معقل بن قيس رجل من خثعم يقال له شداد بن أبى ربيعة (4) - قتل بعد ذلك مع الحرورية - فأخذ يقول : إيه ، إيه ! فقال معقل : ما تقول ؟ فجاء رجلان نحو الكبشين ، فأخذ كل واحد منهما كبشا وانصرفا ، فقال الخثعمي لمعقل : لا تغلبون ولا تغلبون ، فقال معقل : من أين علمت ؟ قال : أما أبصرت الكبشين ، أحدهما مشرق والاخر مغرب ، التقيا فاقتتلا وانتطحا ، فلم يزل كل واحد من مصاحبه منتصفا ، حتى أتى كل واحد منهما صاحبه فانطلق به ! فقال معقل : أو يكون خيرا مما تقول يا أخا خثعم ! ثم مضى حتى وافى عليا عليه السلام بالرقة .
قال نصر : وقالت طائفة من أصحاب على عليه السلام له : يا أمير المؤمنين ، اكتب إلى معاوية ومن قبله من قومك ، فإن الحجة لا تزداد عليهم بذلك إلا عظما .
فكتب إليهم عليه السلام : [ بسم الله الرحمن الرحيم ] (5) ، من عبد الله على أمير المؤمنين إلى معاوية ومن قبله من قريش :
__________
(1) البردان : الغداة والعشي .
(2) غور بالناس ، أي انزل بهم في الغائرة ، وهى القائلة ، أو نصف النهار .
(3) صفين : (ينبطح) ، وفي ب : (ينبلح) .
(4) كذا في صفين ، ا ، ج ، وفي ب : (شرار بن أبى ربيعة) .
(5) من صفين .
(14 - نهج - 3) (*)(3/209)
سلام عليكم ، فإنى أحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو ، أما بعد : فإن لله عبادا آمنوا بالتنزيل ، وعرفوا التأويل ، وفقهوا في الدين ، وبين الله فضلهم في القرآن الحكيم ، وأنتم في ذلك الزمان أعداء للرسول ، تكذبون (1) بالكتاب ، مجمعون على حرب المسلمين ، من ثقفتم منهم حبستموه أو عذبتموه أو قتلتموه ، حتى أراد الله تعالى إعزاز دينه ، وإظهار أمره ، فدخلت العرب في الدين أفواجا ، وأسلمت له هذه الامة طوعا وكرها ، فكنتم فيمن دخل في هذا الدين ، إما رغبة وإما رهبة ، على حين فاز أهل السبق بسبقهم ، وفاز المهاجرون الاولون بفضلهم .
ولا ينبغى لمن ليست له مثل سوابقهم في الدين ، ولا فضائلهم في الاسلام ، أن ينازعهم الامر الذى هم أهله وأولى به ، فيجور (2) ويظلم ، ولا ينبغى لمن كان له عقل أن يجهل قدره ، ويعدو طوره ، ويشقى نفسه بالتماس ما ليس بأهله ، فإن أولى الناس بأمر هذه الامة قديما وحديثا أقربها من الرسول ، وأعلمها بالكتاب ، وأفقهها في الدين ، أولها إسلاما ، وأفضلها جهادا ، وأشدها بما تحمله الائمة من أمر الامة اضطلاعا ، فاتقوا الله الذى إليه ترجعون ، ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون .
واعلموا أن خيار عباد الله الذين يعملون بما يعلمون ، وأن شرارهم الجهال الذين ينازعون بالجهل أهل العلم ، فإن للعالم بعلمه فضلا ، وإن الجاهل لا يزداد بمنازعته العالم إلا جهلا .
ألا وإنى أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه ، وحقن دماء هذه الامة ، فإن قبلتم أصبتم رشدكم ، واهتديتم لحظكم ، وإن أبيتم إلا الفرقة وشق عصا هذه الامة ، لم تزدادوا من الله إلا بعدا ، ولا يزداد الرب عليكم إلا سخطا والسلام .
فكتب إليه معاوية جواب هذا الكتاب ، سطرا واحدا : وهو أما بعد فإنه
__________
(1) ا : (مكذبون) (2) ب وصفين : (يحوب) .
(*)(3/210)
ليس بينى وبين قيس عتاب غير طعن الكلى وضرب الرقاب فقال على عليه السلام لما أتاه هذا الجواب : (إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء وهو أعلم بالمهتدين) (1) .
قال نصر : وقال على عليه السلام لاهل الرقة : جسروا لى جسرا أعبر عليه من هذا المكان إلى الشام ، فأبوا ، وقد كانوا ضموا السفن إليهم ، فنهض من عندهم ليعبر على جسر منبج ، وخلف عليهم الاشتر ، فقال : يا أهل هذا الحصن ، إنى أقسم بالله إن مضى أمير المؤمنين عليه السلام ولم تجسروا له عند مدينتكم حتى يعبر منها ، لاجردن فيكم السيف ، فلا قتلن مقاتلكم ، ولاخربن أرضكم ، ولاخذن أموالكم .
فلقى بعضهم بعضا ، فقالوا : إن الاشتر يفى بما حلف عليه ، وإنما خلفه على عندنا ليأتينا بشر ، فبعثوا إليه : إنا ناصبون لكم جسرا ، فأقبلوا .
فأرسل الاشتر إلى على عليه السلام ، فجاء ، ونصبوا له الجسر ، فعبر الاثقال والرجال ، وأمر الاشتر فوقف في ثلاثة آلاف فارس ، حتى لم يبق من الناس أحد الا عبر ، ثم عبر آخر الناس رجلا .
قال نصر : وازدحمت الخيل حين عبرت ، فسقطت قلنسوة عبد الله بن أبى الحصين ، فنزل فأخذها ، وركب ، ثم سقطت قلنسوه عبد الله بن الحجاج ، فنزل فأخذها ، ثم ركب فقال لصاحبه : فإن يك ظن الزاجرى الطير صادقا كما زعموا ، أقتل وشيكا وتقتل فقال عبد الله بن أبى الحصين : ما شئ أحب إلى مما ذكرت ، فقتلا معا يوم صفين (2) .
__________
(1) سورة القصص 56 .
(2) صفين 169 .
(*)(3/211)
قال نصر : فلما (1) قطع على عليه السلام الفرات ، دعا زياد بن النضر وشريح بن هانئ فسرحهما أمامه نحو معاوية ، على حالهما الذى كانا عليه حين خرجا من الكوفة ، في اثنى عشر ألفا ، وقد كانا حيث سرحهما من الكوفة مقدمة له أخذا على شاطئ الفرات من قبل البر ، مما يلى الكوفة حتى بلغا عانات (2) ، فبلغهم أخذ على عليه السلام طريق الجزيرة ، وعلما أن معاوية قد أقبل في جنود الشام من دمشق لاستقباله ، فقالا : والله ما هذا برأى ، أن نسير وبيننا وبين أمير المؤمنين هذا البحر ، وما لنا خير في أن نلقى جموع الشام في قلة من العدد ، منقطعين عن المدد .
فذهبوا ليعبروا من عانات ، فمنعهم أهلها ، وحبسوا عنهم السفن ، فأقبلوا راجعين حتى عبروا من هيت ، ولحقوا عليا عليه السلام بقرية دون قرقيسيا ، فلما لحقوا عليا عليه السلام عجب ، وقال : مقدمتي تأتى من ورائي ! فقام له زياد وشريح ، وأخبراه بالرأى الذى رأيا .
فقال : قد أصبتما رشدكما .
فلما عبرو الفرات قدمهما أمامه نحو معاوية ، فلما انتهيا إلى معاوية ، لقيهما أبو الأعور السلمى في جنود من أهل الشام ، وهو على مقدمة معاوية ، فدعواه إلى الدخول في طاعة أمير المؤمنين عليه السلام فأبى ، فبعثوا إلى على عليه السلام : إنا قد لقينا أبا الاعور السلمى بسور الروم في جند من أهل الشام ، فدعوناه وأصحابه إلى الدخول في طاعتك ، فأبى علينا ، فمرنا بأمرك .
فأرسل على عليه السلام إلى الاشتر ، فقال : يا مال ، إن زيادا وشريحا أرسلا إلى يعلماننى أنهما لقيا أبا الاعور السلمى في جند من أهل الشام بسور الروم ، ونبأني الرسول أنه تركهم متواقفين ، فالنجاء النجاء إلى أصحابك ، فإذا أتيتهم فأنت عليهم ، وإياك أن تبدأ القوم بقتال إن لم يبدءوك ، والقهم واسمع منهم ، ولا يجرمنك شنانهم على قتالهم قبل
__________
(1) صفين 170 وما بعدها .
(2) عانات : قرية من قرى الفرات .
(*)(3/212)
دعائهم والاعذار إليهم مرة بعد مرة ، واجعل على ميمنتك زيادا ، وعلى ميسرتك شريحا ، وقف من أصحابك وسطا ، ولا تدن منهم دنو من يريد أن ينشب الحرب ، ولا تتباعد عنهم تباعد من يهاب الناس ، حتى أقدم عليك ، فإنى حثيث السير إليك إن شاء الله .
قال : وكتب على عليه السلام إليهما - وكان الرسول الحارث بن جمهان الجعفي - : أما بعد فإنى قد أمرت عليكما مالكا ، فاسمعا له وأطيعا أمره ، وهو ممن لا يخاف رهقه ولا سقاطه (1) ، ولا بطؤه عما الاسراع إليه أحزم ، ولا إسراعه إلى ما البطء عنه أمثل ، وقد أمرته بمثل الذى أمرتكما ، ألا يبدأ القوم بقتال حتى يلقاهم ويدعوهم ، ويعذر إليهم إن شاء الله .
قال : فخرج الاشتر حتى قدم على القوم ، فاتبع ما أمره به على عليه السلام ، وكف عن القتال ، فلم يزالوا متواقفين (2) ، حتى إذا كان عند المساء ، حمل عليهم أبو الأعور فثبتوا له واضطربوا ساعة .
ثم إن أهل الشام انصرفوا ، ثم خرج هاشم بن عتبة في خيل ورجال حسن عدتها وعددها ، فخرج إليهم أبو الأعور السلمى ، فاقتتلوا يومهم ذلك ، تحمل الخيل على الخيل ، والرجال على الرجال ، وصبر بعضهم لبعض ، ثم انصرفوا .
وبكر عليهم الاشتر ، فقتل من أهل الشام عبد الله بن المنذر التنوخى ، قتله ظبيان بن عمارة التميمي ، وما هو يومئذ إلا فتى حديث السن .
وإن كان الشامي لفارس أهل الشام ، وأخذ الاشتر يقول : ويحكم أرونى أبا الاعور ! ثم إن أبا الاعور دعا الناس ، فرجعوا نحوه فوقف على تل من وراء المكان الذى كان فيه أول مرة ، وجاء الاشتر حتى صف أصحابه في المكان الذى كان فيه أبو الأعور أول مرة ، فقال الاشتر لسنان بن مالك النخعي .
انطلق إلى أبو الأعور ، فادعه إلى المبارزة ،
__________
(1) الرهق : الطيش والنزق .
والسقاط : الخطأ .
(2) متواقفين : وقف بعضهم أمام بعض في الحرب (*)(3/213)
فقال : إلى مبارزتي أم إلى مبارزتك ؟ فقال : أولو أمرتك بمبارزته فعلت ؟ قال : نعم ، والذى لا إله إلا هو ، لو أمرتنى أن أعترض صفهم بسيفي لفعلت حتى أضربه بالسيف .
فقال : يا بن أخى ، أطال الله بقاءك ! قد والله ازددت .
فيك رغبة ، لا ما أمرتك بمبارزته ، إنما أمرتك أن تدعوه لمبارزاتي ، فإنه لا يبارز - إن كان ذلك من شأنه - إلا ذوى الاسنان والكفاءة والشرف ، وأنت بحمد الله من أهل الكفاءة والشرف ، ولكنك حديث السن ، وليس يبارز الاحداث ، فاذهب فادعه إلى مبارزتي .
فأتاهم فقال : أنا رسول فأمنوني ، فجاء حتى انتهى إلى أبى الاعور .
قال نصر : فحدثني (1) عمر بن سعد ، عن أبى زهير العبسى ، عن صالح بن سنان ، عن أبيه ، قال : فقلت له : إن الاشتر يدعوك إلى المبارزة ، قال : فسكت عنى طويلا ، ثم قال : إن خفة الاشتر وسوء رأيه وهوانه : دعاه إلى إجلاء عمال عثمان ، وافترائه عليه ، يقبح محاسنه ، ويجهل حقه ، ويظهر عداوته .
ومن خفة الاشتر وسوء رأيه أنه سار إلى عثمان في داره وقراره ، فقتله فيمن قتله ، وأصبح متبعا (2) بدمه ، لا حاجة لى في مبارزته .
فقلت : إنك قد تكلمت فاسمع حتى أجيبك ، فقال : لا حاجة لى في جوابك ولا الاستماع منك ، اذهب عنى ، وصاح بى أصحابه فانصرفت عنه ، ولو سمع لاسمعته عذر صاحبي وحجته .
فرجعت إلى الاشتر ، فأخبرته أنه قد أبى المبارزة ، فقال : لنفسه نظر .
قال : فتواقفنا ، فإذا هم قد انصرفوا .
قال : وصبحنا على عليه السلام غدوة سائرا نحو معاوية ، فإذا أبو الأعور قد سبق إلى سهولة الارض وسعة المنزل ، وشريعة الماء ، مكان
__________
(1) كتاب صفين 173 (2) صفين : (مبتعى) .
(*)(3/214)
أفيح ، وكان أبو الأعور على مقدمة معاوية ، واسمه سفيان بن عمرو وقد جعل على ساقته بسر بن أرطاة العامري ، وعلى الخيل عبيد الله بن عمر بن الخطاب ، ودفع اللواء إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، وجعل على ميمنته حبيب بن مسلمة الفهرى ، وعلى رجالته من الميمنة يزيد بن زحر الضبى ، وعلى الميسرة عبد الله بن عمرو بن العاص ، وعلى الرجالة من الميسرة حابس بن سعيد الطائى ، وعلى خيل دمشق الضحاك بن قيس الفهرى ، وعلى رجالة أهل دمشق يزيد بن أسد بن كرز البجلى ، وعلى أهل حمص ذا الكلاع ، وعلى أهل فلسطين مسلمة بن مخلد ، وكان وصول على عليه السلام إلى صفين لثمان بقين من المحرم من سنة سبع وثلاثين(3/215)
ومن خطبه له عليه السلام : الاصل : الحمد لله الذى بطن خفيات الامور ، ودلت عليه أعلام الظهور ، وامتنع على عين البصير ، فلا عين من لم يره تنكره ، ولا قلب من أثبته يبصره .
سبق في العلو فلا شئ أعلى منه ، وقرب في الدنو فلا شئ أقرب منه ، فلا استعلاؤه باعده عن شئ من خلقه ، ولا قربه ساواهم في المكان به .
لم يطلع العقول على تحديد صفته ، ولم يحجبها عن واجب معرفته ، فهو الذى تشهد له أعلام الوجود ، على إقرار قلب ذى الجحود ، تعالى الله عما يقوله المشبهون به والجاحدون له علوا كبيرا ! * * * الشرح : بطنت سر فلان ، أي أخفيته .
والاعلام : جمع علم ، وهو المنار يهتدى به ، ثم جعل لكل ما دل على شئ ، فقيل لمعجزات الانبياء أعلام ، لدلالتها على نبوتهم .
وقوله عليه السلام : (أعلام الظهور) ، أي الادلة الظاهرة الواضحة .
وقوله فيما بعد : (أعلام الوجود) أي الادلة الموجودة ، والدلالة هي الوجود نفسه ، وسيأتى شرح ذلك .
وقوله : (وامتنع على عين البصير) ، يقول : إنه سبحانه ليس بمرئى بالعين ، ومع(3/216)
ذلك فلا يمكن من لم يره بعينه أن ينكره ، لدلالة كل شئ عليه ، بل لدلالته سبحانه على نفسه .
ثم قال : (ولا قلب من أثبته يبصره) ، أي لا سبيل لمن أثبت وجوده أن يحيط علما بجميع أحواله ومعلوماته ومصنوعاته ، أو أراد أنه لا تعلم حقيقة ذاته ، كما قاله قوم من المحققين .
وقد روى هذا الكلام على وجه آخر ، قالوا (1) في الخطبة : (فلا قلب من لم يره ينكره ، ولا عين من أثبته تبصره) ، وهذا غير محتاج إلى تفسير لوضوحه .
وقوله عليه السلام : (فلا استعلاؤه باعده) ، أي ليس علوة ولا قربه كما نعقله من العلو والقرب المكانيين ، بل هو علو وقرب خارج من ذلك ، فليس علوه يقتضى بعده بالمكان عن الاجسام ، ولا قربه يقتضى مساواته إياها في الحاجة إلى المكان والجهة .
والباء في (به) متعلقة ب (ساواهم) ، معناه : ولا قربه ساواهم به في الحاجة إلى المكان ، أي لم يقتض قربه مماثلته ومساواته إياهم في ذلك .
* * * [ فصول في العلم الالهى ] وهذا الفصل يشتمل على عدة مباحث من العلم الالهى : أولها : كونه تعالى عالما بالامور الخفية .
والثانى : كونه تعالى مدلولا عليه بالامور الظاهرة ، يعنى أفعاله .
والثالث : أن هويته تعالى غير معلومة للبشر .
والرابع : نفى تشبيهه بشئ من مخلوقاته .
__________
(1) كذا في جميع الاصول (*)(3/217)
والخامس : بيان أن الجاحد لاثباته مكابر بلسانه ، وعارف به بقلبه .
ونحن نذكر القول في جميع ذلك على سبيل اقتصاص المذاهب والاقوال ، ونحيل في البرهان على الحق من ذلك وبطلان شبه المخالفين فيه ، على ما هو مذكور في كتبنا الكلامية ، إذ ليس هذا الكتاب موضوعا لذلك ، وإن كنا قد لا نخلى بعض فصوله من إشارة إلى الدليل موجزة ، وتلويح إلى الشبهة لطيف ، فنقول : أما * * * الفصل الاول وهو الكلم في كونه تعالى عالما بالامور الخفية فاعلم أن أمير المؤمنين إنما قال : بطن خفيات الامور) وهذا القدر من الكلام يقتضى كونه تعالى عالما ، يعلم الامور الخفية الباطنة ، وهذا منقسم قسمين : أحدهما : أن يعلم الامور الخفية الحاضرة .
والثانى : أن يعلم الامور الخفية المستقبلة .
والكلام من حيث إطلاقه يحتمل الامرين ، فنحمله عليهما معا .
فقد خالف في كل واحدة من المسألتين قوم ، فمن الناس من نفى كونه عالما بالمستقبلات ، ومن الناس من نفى كونه عالما بالامور الحاضرة ، سواء كانت خفية أو ظاهرة ، وهذا يقتضينا (1) أن نشرح أقوال العقلاء في هذه المسائل ، فنقول : إن الناس فيها على أقوال : القول الاول : قول جمهور المتكلمين ، وهو أن البارئ سبحانه يعلم كل معلوم : الماضي والحاضر والمستقبل ، ظاهرها وباطنها ، ومحسوسها وغير محسوسها ، فهو تعالى العالم بما كان وما هو حاضر ، وما سيكون وما لم يكن ، أن لو كان كيف كان يكون ، كقوله
__________
(1) ب : (يقتضى) (*)(3/218)
تعالى : (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) (1) ، فهذا علم بأمر مقدر على تقدير وقوع أصله الذى قد علم أنه لا يكون .
القول الثاني : قول من زعم أنه تعالى لا يعلم الامور المستقبلة ، وشبهوه بكونه مدركا ، قالوا : كما أنه لا يدرك المستقبلات ، فكذلك لا يعلم المستقبلات .
وهو قول هشام بن الحكم (2) .
القول الثالث : قول من زعم أنه لا يعلم الامور الحاضرة ، وهذا القول نقيض القول الثاني ، وشبهوه بكونه قادرا ، قالوا : كما أنه لا يقدر على الموجود ، فكذلك لا يعلم الموجود ، ونسب ابن الراوندي هذا القول إلى معمر بن عباد (3) ، أحد شيوخنا ، وأصحابنا يكذبونه في ذلك ، ويدفعون الحكاية عنه .
القول الرابع : قول من زعم أنه تعالى لا يعلم نفسه خاصة ، ويعلم كل ما عداذاته ، ونسب ابن الراوندي هذه المقالة إلى معمر أيضا ، وقال : إنه يقول : إن العالم غير المعلوم والشئ لا يكون غير نفسه ، وأصحابنا يكذبون ابن الراوندي في هذه الحكاية ، وينزهون معمرا عنها .
القول الخامس : قول من قال إنه تعالى لم يكن فيما لم يزل عالما بشئ أصلا ، وإنما أحدث لنفسه علما علم به الاشياء ، وهو قول جهم بن صفوان (4) .
القول السادس : قول من قال إنه تعالى لا يعلم كل المعلومات على تفاصيلها ، وإنما يعلم ذلك إجمالا وهؤلاء يسمون المسترسلية ، لانهم يقولون : يسترسل علمه على المعلومات
__________
(1) سورة الانعام 28 (2) هو هشام بن الحكم ، من متكلمي الشيعة ، وصاحب المقالة في التشبيه ، وإليه تنسب الهشامية ، إحدى الفرق الغالية ، ذكره الشهرستاني وبسط آراءه في الملل والنحل 1 : 164 - 166 (3) معمر بن عباد السلمى القدري ، والنظر آراءه في الملل والنحل للشهرستاني 1 : 65 - 67 (4) جهم بن صفوان ، وإليه تنسب الفرقة الجهمية ، من الجبرية ، ظهرت بدعته بترمذ ، وقتله سالم بن أخوز المازنى بمرو ، في آخر ملك بنى أمية ، الشهرستاني 1 : 79 - 81 .
(*)(3/219)
إجمالا لا تفصيلا ، وهو مذهب الجوينى (1) من متكلمي الاشعرية .
القول السابع : قول من قال إنه تعالى يعلم المعلومات المفصلة ما لم يفض القول به إلى محال ، وزعموا أن القول بأنه يعلم كل شئ يفضى إلى محال ، وهو أن يعلم ويعلم أنه يعلم ، وهلم جرا إلى ما لا نهاية له ، وكذلك المحال لازم إذا قيل إنه يعلم الفروع ، وفروع الفروع ولوازمها ولوازم لوازمها إلى ما لا نهاية له .
قالوا : ومحال اجتماع كل هذه العلوم غير المتناهية في الوجود ، وهذا مذهب أبى البركات البغدادي صاحب المعتبر (2) .
القول الثامن : قول من زعم أنه تعالى لا يعلم الشخصيات الجزئية ، وإنما يعلم الكليات التى لا يجوز عليها التغيير ، كالعلم بأن كل إنسان حيوان ، ويعلم نفسه أيضا ، وهذا مذهب أرسطو وناصري قوله من الفلاسفة كابن سينا وغيره .
القول التاسع : قول من زعم أنه تعالى لا يعلم شيئا أصلا ، لا كليا ولا جزئيا ، وإنما وجد العالم عنه لخصوصية ذاته فقط من غير أن يعلمه ، كما أن المغناطيس يجذب الحديد لقوة فيه من غير أن يعلم بالجذب ، وهذا قول قوم من قدماء الفلاسفة .
فهذا تفصيل المذاهب في هذه المسألة .
واعلم أن حجه المتكلمين على كونه عالما بكل شئ ، إنما تتضح بعد إثبات حدوث العالم ، وأنه فعله بالاختيار ، فحينئذ لا بد من كونه عالما ، لانه لو لم يكن عالما بشئ أصلا لما صح أن يحدث العالم على طريق الاختيار ، لان الاحداث على طريق الاختيار ، إنما يكون بالغرض والداعى ، وذلك يقتضى كونه عالما ، فإذا ثبت أنه عالم بشئ أفسدوا حينئذ أن يكون عالما بمعنى اقتضى له العالمية ، أو بأمر خارج عن ذاته ، مختارا كان أو غير مختار ،
__________
(1) هو الامام أبو المعالى عبد الملك بن يوسف الجوينى ، إمام الحرمين ، المتوفى سنة 478 .
(ابن حلكان) .
(2) كتاب المعتبر في الحكمة ، طبع في حيدر آباد ، لابي البركات على بن ملكا البغدادي ، توفى سنة 560 والنظر أخبار العلماء للقفطى 343 .
(*)(3/220)
فحينئذ ثبت (1) لهم أنه إنما علم لانه هذه الذات المخصوصة لا لشئ ، أزيد منها ، فإذا كان لهم ذلك وجب أن يكون عالما بكل معلوم ، لان الامر الذى أوجب كونه عالما بأمر ما ، هو ذاته يوجب كونه عالما بغيره من الامور ، لان نسبة ذاته إلى الكل نسبة واحدة .
فأما الجواب عن شبه المخالفين فمذكور في المواضع المختصة بذلك ، فليطلب من كتبنا الكلامية .
* * * الفصل الثاني في تفسير قوله عليه السلام : (ودلت عليه أعلام الظهور) فنقول : إن الذى يستدل به على إثبات الصانع يمكن أن يكون من وجهين ، وكلاهما يصدق عليه أنه أعلام الظهور ، أحدهما الوجود والثانى الموجود .
أما الاستدلال عليه بالوجود نفسه فهى طريقة المدققين من الفلاسفة ، فإنهم استدلوا على أن مسمى الوجود مشترك ، وأنه زائد على ماهيات الممكنات ، وأن وجود البارئ لا يصح أن يكون زائدا على ماهيته ، فتكون ماهيته وجودا ، ولا يجوز أن تكون ماهيته عارية عن الوجود ، فلم يبق إلا أن تكون ماهيته هي الوجود نفسه ، وأثبتوا وجوب ذلك الوجود ، واستحالة تطرق العدم إليه بوجه ما ، فلم يفتقروا في إثبات البارئ إلى تأمل أمر غير نفس الوجود .
وأما الاستدلال عليه بالموجود لا بالوجود نفسه ، فهو الاستدلال عليه بأفعاله ، وهى طريقة المتكلمين .
قالوا : كل ما لم يعلم بالبديهة ولا بالحس ، فإنما يعلم بآثاره الصادرة عنه ، والبارئ تعالى كذلك ، فالطريق إليه ليس إلا إفعاله ، فاستدلوا عليه بالعالم ، وقالوا تارة : العالم محدث وكل محدث له محدث وقالوا تارة أخرى : العالم ممكن ، فله مؤثر .
__________
(1) ج : (يثبت) .
(*)(3/221)
وقال ابن سينا : إن الطريقة الاولى وهى الاستدلال عليه بالوجود نفسه أعلى وأشرف ، لانه لم يحتج فيها إلى الاحتجاج بأمر خارج عن ذاته ، واستنبط آية من الكتاب العزيز في هذا المعنى ، وهى قوله تعالى : (سنريهم آياتنا في الافاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) (1) .
قال ابن سينا : أقول : إن هذا حكم لقوم - يعنى المتكلمين وغيرهم ، ممن يستدل عليه تعالى بأفعاله ، وتمام الاية : (أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد) (1) .
قال : هذا حكم الصديقين الذين يستشهدون به لا عليه ، يعنى الذين استدلوا عليه بنفس الوجود ، ولم يفتقروا إلى التعلق بأفعاله في إثبات ربوبيته .
* * * الفصل الثالث في أن هويته تعالى غير هوية البشر وذلك معنى قوله عليه السلام : (وامتنع على عين البصير) ، وقوله : (ولا قلب من أثبته يبصره) ، وقوله : (ولم يطلع العقول على تحديد صفته) ، فنقول : إن جمهور المتكلمين زعموا أنا نعرف حقيقة ذات الاله ، ولم يتحاشوا من القول بأنه تعالى لا يعلم من ذاته إلا ما نعلمه نحن منها .
وذهب ضرار (2) بن عمرو : أن لله تعالى ماهية لا يعلمها إلا هو ، وهذا هو مذهب
__________
(1) سورة فصلت 53 (2) هو ضرار بن عمرو ، صاحب مذهب الضرارية من فرق الجبرية ، كان في بدء أمره تلميذ الواصل ابن عطاء المعتزلي ، ثم خالفه في خلق الاعمال وإنكار عذاب القبر .
الفرق بين الفرق 201 (*)(3/222)
الفلاسفة .
وقد حكى عن أبى حنيفة وأصحابه أيضا ، وهو الظاهر من كلام أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الفصل .
* * * الفصل الرابع في نفى التشبيه عنه تعالى وهو معنى قوله عليه السلام : (بعد وقرب) ، أي في حال واحدة ، وذلك يقتضى نفى كونه تعالى جسما ؟ وكذلك قوله عليه السلام : (فلا استعلاؤه باعده ، ولا قربه ساواهم في المكان به) فنقول : إن مذهب جمهور المتكلمين نفى التشبيه ، وهذا القول يتنوع أنواعا : النوع الاول : نفى كونه تعالى جسما مركبا ، أو جوهرا فردا غير مركب ، والمراد بالجوهر هاهنا الجرم والحجم .
وهو قول المعتزلة ، وأكثر محققى المتكلمين من سائر الفرق ، وإليه ذهبت الفلاسفة أيضا .
وقال قوم من مستضعفى المتكلمين خلاف ذلك ، فذهب هشام بن الحكم إلى أنه تعالى جسم مركب كهذه الاجسام ، واختلفت الحكاية عنه ، فروى عنه أنه قال : إنه يشبر نفسه سبعة أشبار .
وروى عنه أنه قال : إنه على هيئة السبيكة .
وروى عنه أنه قال : إنه على هيئة البلورة الصافية المستوية الاستدارة من حيث أتيتها رأيتها على هيئة واحدة ، وروى عنه أيضا قال : إنه ذو صورة .
وأصحابه من الشيعة يدفعون اليوم هذه الحكايات عنه ، ويزعمون أنه لم يزد على قوله : إه جسم لا كالاجسام ، وإنه إنما أراد بإطلاق هذا اللفظ عليه إثباته .(3/223)
وصدقوا عنه أنه كان يطلق عليه كونه نورا ، لقول الله سبحانه : (الله نور السموات والارض مثل نوره) (1) .
وحكى عن محمد بن النعمان الاحول ، المعروف بشيطان الطاق ، وهشام بن سالم المعروف بالجواليقى ، وأبى مالك بن الحضرمي ، أنه نور على صورة الانسان ، وأنكروا مع ذلك أن يكون جسما ، وهذه مناقضة ظاهرة .
وحكى عن على بن ميثم مثله .
وقد حكى عنه أنه كان يقول بالصورة والجسم .
وحكى عن مقاتل بن سليمان ، وداود الجواربى ، ونعيم بن حماد المصرى ، أنه في صورة الانسان ، وأنه لحم ودم ، وله جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعينين ، وهو مع ذلك لا يشبه غيره ، ولا يشبهه غيره ، وافقهم على ذلك جماعة من العامة ومن لا نظر له .
وحكى عن داود الجواربى أنه قال : اعفوني من الفرج واللحية وسلوني عما وراء ذلك .
وحكى عنه أنه قال : هو أجوف من فيه إلى صدره ، وما سوى ذلك مصمت .
وحكى أبو عيسى الوراق أن هشام بن سالم الجواليقى كان يقول : إن له وفرة سوداء .
وذهب جماعة من هؤلاء إلى القول بالمؤانسة والخلوة والمجالسة والمحادثة .
وسئل بعضهم عن معنى قوله تعالى : (في مقعد صدق عند مليك مقتدر) (2) ، فقال : يقعد معه على سريره ويغلفه بيده .
وقال بعضهم : سألت معاذا العنبري ، فقلت : أله وجه ؟ فقال : نعم ، حتى عددت
__________
(1) سورة النور 35 (2) سورة القمر 55 (*)(3/224)
جميع الاعضاء من أنف وفم وصدر وبطن ، واستحييت أن أذكر الفرج ، فأومأت بيدى إلى فرجى ، فقال : نعم ، فقلت أذكر أم أنثى ؟ فقال : ذكر .
ويقال : إن ابن خزيمة أشكل عليه القول في أنه : أذكر أم أنثى ، فقال له بعض أصحابه : إن هذا مذكور في القرآن ، وهو قوله تعالى : (وليس الذكر كالانثى) (1) ، فقال : أفدت وأجدت ، وأودعه كتابه .
ودخل إنسان على معاذ بن معاذ يوم عيد ، وبين يديه لحم في طبيخ سكباج ، فسأله عن البارئ تعالى في جملة ما سأله ، فقال : هو والله مثل هذا الذى بين يدى ، لحم دم .
وشهد بعض المعتزلة عند معاذ بن معاذ ، فقال له : لقد هممت أن أسقطك ، لو لا أنى سمعتك تلعن حماد بن سلمة ، فقال : أما حماد فلم ألعنه ، ولكني ألعن من يقول : إنه سبحانه ينزل ليلة عرفة من السماء إلى الارض على جمل أحمر في هودج من ذهب ، فإن كان حماد يروى هذا أو يقوله فعليه لعنة الله .
فقال : أخرجوه ، فأخرج .
وقال بعضهم : خرجنا يوم عيد إلى المصلى ، فإذا جماعة بين يدى أمير (2) ، والطبول تضرب والاعلام تخفق فقال واحد من خلفنا : اللهم لا طبل إلا طبلك ! فقل له : لا تقل هكذا ، فليس لله تعالى طبل ، فبكى ، وقال : أرأيتم هو يجئ وحده ولا يضرب بين يديه طبل ، ولا ينصب على رأسه علم ، فإذن هو دون الامير ! وروى بعضهم أنه تعالى أجرى خيلا ، فخلق نفسه من مثلها .
وروى قوم منهم أنه نظر في المرآة فرأى صورة نفسه ، فخلق آدم عليها .
ورووا أنه يضحك حتى تبدو نواجذه .
__________
(1) سورة آل عمران 36 (2) ب (أمير المؤمنين) ، والاجواد ما أثبته عن ا ، ج .
(15 - مهج - 3) (*)(3/225)
ورووا أنه أمرد جعد قطط (1) ، في رجليه نعلان من ذهب ، وأنه في روضة خضراء على كرسى تحمله الملائكة .
ورووا أنه يضع رجلا على رجل ، ويستلقى فإنها جلسة الرب .
ورووا أنه خلق الملائكة من زغب ذراعيه ، وأنه اشتكى عينه فعادته الملائكة ، وأنه يتصور بصورة آدم ، ويحاسب الناس في القيامة ، وله حجاب من الملائكة يحجبونه .
ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (رأيت ربى في أحسن صورة ، فسألته عما يختلف فيه الملاء الاعلى ، فوضع يده بين كتفي ، فوجدت بردها ، فعلمت ما اختلفوا فيه) .
ورووا أنه ينزل إلى السماء الدنيا في نصف شعبان ، وأنه جالس على العرش قد فضل منه أربع أصابع من كل جانب .
وأنه يأتي الناس يوم القيامة ، فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : نعوذ بالله منك ، فيقول لهم : أفتعرفونه إن رأيتموه ؟ فيقولون : بيننا وبينه علامة ، فيكشف لهم عن ساقه ، وقد تحول في الصورة التى يعرفونها ، فيخرون له سجدا .
ورووا أنه يأتي في غمام ، فوقه هواء ، وتحته هواء .
وكان بطبرستان قاص من المشبهة ، يقص على الناس ، فقال يوما في قصصه : إن يوم القيامة تجئ فاطمة بنت محمد ، معها قميص الحسين ابنها تلتمس القصاص من يزيد بن معاوية ، فإذا رآها الله تعالى من بعيد ، دعا يزيد وهو بين يديه ، فقال له : ادخل تحت قوائم العرش ، لا تظفر بك فاطمة ، فيدخل (2) ويختبئ ، وتحضر فاطمة ، فتتظلم وتبكى ، فيقول سبحانه : انظري يا فاطمة إلى قدمى ، ويخرجها إليها ، وبه جرح من سهم نمرود ،
__________
(1) قطط : قصير .
(2) ب : (فيدخل يزيد) ، وما أثبته عن ا ، ج (*)(3/226)
فيقول : هذا جرح نمرود في قدمى ، وقد عفوت عنه ، أفلا تعفين أنت عن يزيد ! فتقول .
هي : اشهد يا رب أنى قد عفوت عنه .
وذهب بعض متكلمي المجسمة إلى أن البارئ تعالى مركب من أعضاء على حروف المعجم .
وقال بعضهم : إنه ينزل على حمار في صورة غلام أمرد ، في رجليه نعلان من ذهب ، وعلى وجهه فراش من ذهب يتطاير .
وقال بعضهم : إنه في صورة غلام أمرد صبيح الوجه ، عليه كساء أسود ، ملتحف به .
وسمعت أنا في عصرى هذا من قال في قوله تعالى : (وترى الملائكة حافين من حول العرش) (1) : إنهم قيام على رأسه بسيوفهم وأسلحتهم ، فقال له آخر على سبيل التهكم به : يحرسونه من المعتزلة أن يفتكوا به ! فغضب وقال : هذا إلحاد .
ورووا أن النار تزفر وتتغيظ تغيظا شديدا ، فلا تسكن حتى يضع قدمه فيها ، فتقول : قط قط ، أي حسبى حسبى .
ويرفعون هذا الخبر مسندا .
وقد ذكر شبيه به في الصحاح .
وروى في الكتب الصحاح أيضا : (أن الله خلق آدم على صورته) ، وقيل : إن في التوراة نحو ذلك في السفر الاول .
واعلم أن أهل التوحيد يتأولون ما يحتمل التأويل من هذه الروايات على وجوه محتملة غير مستبعدة ، وما لا يحتمل التأويل منها يقطعون ببطلانه ، وبأنه موضوع ، وللاستقصاء في هذا المعنى موضع غير هذا الموضع .
وحكى أبو إسحاق النظام ومحمد بن عيسى برغوث أن قوما قالوا : إنه تعالى الفضاء نفسه ، وليس بجسم ، لان الجسم يحتاج إلى مكان ونفسه مكان الاشياء .
__________
(1) سورة الزمر 75 (*)(3/227)
وقال برغوث : وطائفة منهم يقولون : هو الفضاء نفسه ، وهو جسم تحل الاشياء فيه ، وليس بذى غاية ولا نهاية ، واحتجوا بقوله تعالى : (وجاهدوا في الله حق جهاده) (1) .
فأما من قال : إنه جسم لا كالاجسام ، على معنى أنه بخلاف العرض الذى يستحيل أن يتوهم منه فعل ، ونفوا عنه معنى الجسمية ، وإنما أطلقوا هذه اللفظة لمعنى أنه شئ لا كالاشياء ، وذات لا كالذوات ، فأمرهم سهل ، لان خلافهم في العبارة ، وهم : على ابن منصور ، والسكاك ، ويونس بن عبد الرحمن ، والفضل بن شاذان ، وكل هؤلاء من قدماء رجال الشيعة .
وقد قال بهذا القول ابن كرام وأصحابه ، قالوا : معنى قولنا فيه سبحانه إنه جسم ، أنه قائم بذاته لا بغيره .
والمتعصبون لهشام بن الحكم من الشيعة في وقتنا هذا يزعمون أنه لم يقل بالتجسيم المعنوي ، وإنما قال إنه جسم لا كالاجسام ، بالمعنى الذى ذكرناه عن يونس والسكاك وغيرهما ، وإن كان الحسن بن موسى النوبختى - وهو من فضلاء الشيعة - قد روى عنه التجسيم المحض في كتاب ، ، الاراء والديانات ، ، .
* * * النوع الثاني : نفى الاعضاء والجوارح عنه سبحانه ، فالذي يذهب إليه المعتزلة وسائر المحققين من المتكلمين نفى ذلك عنه ، وقد تأولوا ما ورد في القرآن العزيز من ذلك ، من نحو قوله تعالى : (لما خلقت بيدى) (2) ، وقوله سبحانه : (على ما فرطت في جنب الله) (3) وغير ذلك ، وحملوه على وجوه صحيحة جائزة في اللغة العربية .
وأطلقت الكرامية عليه سبحانه لفظ (اليدين والوجه) ، وقالوا : لا نتجاوز الاطلاق ،
__________
(1) سورة الحج 78 (2) سورة ص 75 .
(3) سورة الزمر 46(3/228)
ولا نفسر ذلك ولا نتأوله ، وإنما نقتصر على إطلاق ما ورد به النص .
وأثبت الاشعري اليدين صفة قائمة بالبارئ سبحانه ، وكذلك الوجه من غير تجسيم .
وقالت المجسمة : إن لله تعالى يدين ، هما عضوان له ، وكذلك الوجه والعين ، وأثبتوا له رجلين قد فضلتا عن عرشه ، وساقين يكشف عنهما يوم القيامة ، وقدما يضعها في جهنم فتمتلئ ، وأثبتوا له ذلك معنى لا لفظا ، وحقيقة لا مجازا .
فأما أحمد بن حنبل فلم يثبت عنه تشبيه ولا تجسيم أصلا ، وإنما كان يقول بترك التأويل فقط ، ويطلق ما أطلقه الكتاب والسنة ، ولا يخوض في تأويله ، ويقف على قوله تعالى : (وما يعلم تأويله إلا الله) (1) ، وأكثر المحصلين من أصحابه على هذا القول .
* * * النوع الثالث : نفى الجهة عنه سبحانه ، فالذي يذهب إليه المعتزلة وجمهور المحققين من المتكلمين أنه سبحانه ليس في جهة ولا مكان ، وأن ذلك من توابع الجسمية أو العرضية اللاحقة بالجسمية ، فإذا انتفى عنه كونه جسما وكونه عرضا لم يكن في جهة أصلا ، وإلى هذا القول يذهب الفلاسفة .
وذهبت الكرامية والحشوية (2) إلى أن الله تعالى في جهة فوق ، وإليه ذهب هشام ابن الحكم ، وعلى بن منصور ، ويونس بن عبد الرحمن ، وهشام بن سالم الجواليقى ، وكثير من أهل الحديث .
وذهب محمد بن الهيصم ، متكلم الكرامية إلى أنه تعالى ذات موجودة منفردة بنفسها عن سائر الموجودات ، لا تحل شيئا حلول الاعراض ، ولا تمازج شيئا ممازجة الاجسام
__________
(1) سورة آل عمران 7 (2) الكرامية : أصحاب محمد بن كرام ، والحشوية طائفة من المشبهة ، سموا بذلك لانهم لا يتحاشون من إظهار الحشو .
راجع شفاء العليل 105 (*)(3/229)
بل هو مباين للمخلوقين ، إلا أنه في جهة فوق ، وبينه وبين العرش بعد لا يتناهى .
هكذا يحكى المتكلمون عنه ، ولم أره في شئ من تصانيفه وأحالوا ذلك ، لان ما لا يتناهى لا يكون محصورا بين حاصرين ، وأنا أستبعد عنه هذه الحكاية ، لانه كان أذكى من أن يذهب عليه فساد هذا القول وحقيقة مذهب مثبتى المكان أنه سبحانه متمكن على العرش ، كما يتمكن الملك على سريره ، فقيل لبعض هؤلاء : أهو أكبر من العرش ، أم أصغر ، أم مساوله ؟ فقال : بل أكبر من العرش ، فقيل له : فكيف يحمله ؟ فقال : كما تحمل رجلا الكركي جسم الكركي وجسمه أكبر من رجليه .
ومنهم من يجعله مساويا للعرش في المقدار ، ولا يمتنع كثير منهم من إطلاق القول بأن أطرافه تفضل عن العرش ، وقد سمعت أنا من قال منهم : إنه مستو على عرشه كما أنا مستو على هذه الدكة (1) ورجلاه على الكرسي الذى وسع السموات والارض ، والكرسي تحت العرش ، كما يجعل اليوم الناس تحت أسرتهم كراسي يستريحون بوضع أرجلهم عليها .
وقال هؤلاء كلهم : إنه تعالى ينزل ويصعد حقيقة لا مجازا ، وإنه يتحرك وينزل ، فمن ذلك نزوله إلى السماء الدنيا ، كما ورد في الخبر ، ومن ذلك إتيانه و مجيئه ، كما نطق به الكتاب العزيز في قوله سبحانه : (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام) (2) ، وقوله : (وجاء ربك والملك صفا صفا) (3) .
وأطلق ابن الهيصم عليه هذه الالفاظ اتباعا لما ورد في الكتاب والسنة ، وقال : لا أقول بمعانيها ، ولا أعتقد حركته الحقيقية ، وإنما أرسلها إرسالا كما وردت .
وأما غيره فاعتقد معانيها حقيقة .
وقال ابن الهيصم في كتاب ، ، المقالات ، ، : إن اكثر الحشوية يجيز عليه تعالى العدو والهرولة .
__________
(1) الدكة : بناء يسطح أعلاه للجلوس عليه .
(2) سورة البقرة 210 (3) سورة الفجر 22 (*)(3/230)
وقال قوم منهم : إنه تعالى يجوز أن ينزل فيطوف البلدان ، ويدور في السكك .
وقال بعض الاشعريين : إن سائلا سأل السكاك فقال : إذا أجزت عليه الحركة ، فهلا أجزت عليه أن يطفر ! فقال : لا يجوز عليه الطفر ، لان الطفر إنما يكون فرارا من ضد ، أو اتصالا بشكل .
فقال له : فالحركة أيضا كذلك ! فلم يأت بفرق .
فأما القول بأنه تعالى في كل مكان ، فإن المعتزلة يقولون ذلك ، وتريد (1) به أنه وإن لم يكن في مكان أصلا ، فإنه عالم بما في كل مكان ، ومدبر لما في كل مكان ، وكأنه موجود في جميع الامكنة لاحاطته بالجميع .
وقال قوم من قدماء الفلاسفة : إن البارئ تعالى روح شديد في غاية اللطافة ، وفي غاية القوة ، ينفذ في كل العالم .
وهؤلاء يطلقون عليه أنه في كل مكان حقيقة لا تأويلا ، ومن هؤلاء من أوضح هذا القول ، وقال : إنه تعالى سار في هذا العالم سريان نفس الواحد منا في بدنه ، فكما أن كل بدن منا له نفس سارية فيه تدبره ، كذلك البارئ سبحانه هو نفس العالم ، وسار في كل جزء من العالم ، فهو إذا في كل مكان بهذا الاعتبار ، لان النفس في كل جزء من البدن .
وحكى الحسن بن موسى النوبختى عن أهل الرواق من الفلاسفة ، أن الجوهر الالهى سبحانه روح نارى عقلي ، ليس له صورة ، لكنه قادر على أن يتصور بأى صورة شاء ، ويتشبه بالكل ، وينفذ في الكل بذاته وقوته ، لا بعلمه وتدبيره .
* * * النوع الرابع : نفى كونه عرضا حالا في المحل ، فالذي تذهب إليه المعتزلة وأكثر المسلمين والفلاسفة نفى ذلك القول باستحالته عليه سبحانه لوجوب وجوده ، وكون كل حال في الاجسام ممكنا بل حادثا .
__________
(1) ب : (فإن المعتزلة يقولون ذللك ويريدون ..)) (*)(3/231)
وذهبت الحلولية من أهل الملة وغيرها ، إلى أنه تعالى يحل في بعض الاجسام دون بعض كما يشاء سبحانه ، وإلى هذا القول ذهب أكثر الغلاة في أمير المؤمنين .
ومنهم من قال بانتقاله من أمير المؤمنين عليه السلام إلى أولاده ، ومنهم من قال بانتقاله من أولاده إلى قوم من شيعته وأوليائه ، واتبعهم على هذه المقالة قوم من المتصوفة كالحلاجية والبسطامية وغيرهم .
وذهبت النسطوريه (1) من النصارى إلى حلول الكلمة في بدن عيسى عليه السلام ، كحلول السواد في الجسم .
فأما اليعقوبية (2) من النصارى ، فلا تثبت الحلول ، وإنما تثبت الاتحاد بين الجوهر الالهى والجوهر الجسماني ، وهو أشد بعدا من الحلول .
* * * النوع الخامس : في نفى كونه تعالى محلا لشئ ، ذهبت المعتزلة وأكثر أهل الملة والفلاسفة إلى نفى ذلك ، والقول باستحالته على ذاته سبحانه .
وذهبت الكرامية إلى أن الحوادث تحل في ذاته ، فإذا أحدث جسما أحدث معنى حالا في ذاته ، وهو الاحداث ، فحدث ذلك الجسم مقارنا لذلك المعنى أو عقيبه ، قالوا : وذلك المعنى هو قول (كن) وهو المسمى خلقا ، والخلق غير المخلوق ، قال الله تعالى : (ما أشهدتهم خلق السموات والارض ولا خلق أنفسهم) (3) ، قالوا : لكنه قد أشهدنا ذواتها ، فدل على أن خلقها غيرها .
__________
(1) النسطورية : أصحاب نسطور الحكيم ، ظهر في زمن المأمون ، وتصرف في الاناجيل برأيه وانظر الملل والنحل للشهرستاني 1 : 205 - 206 (2) اليعقوبية أصحاب يعقوب ، قالوا بالاقانيم الثلاثة ، إلا أنهم قالوا : انقلبت الكلمة لحما ودما ، فصار الاله هو المسيح ....الشهرستاني 1 : 206 - 208 (3) سورة الكهف 51 (*)(3/232)
وصرح ابن الهيصم في كتاب ، ، المقالات ، ، بقيام الحوادث بذات البارئ فقال : إنه تعالى إذا أمر أو نهى ، أو أراد شيئا كان أمره ونهيه وإراداته كائنة بعد أن لم تكن ، وهى قائمة به ، لان قوله منه يسمع ، وكذلك إرادته منه توجد .
قال : وليس قيام الحوادث بذاته دليلا على حدوثه ، وإنما يدل على الحدوث تعاقب الاضداد التى لا يصح أن يتعطل منها ، والبارى تعالى لا تتعاقب عليه الاضداد .
وذهب أبو البركات البغدادي صاحب ، ، المعتبر ، ، إلى أن الحوادث تقوم بذات البارئ سبحانه ، وأنه لا يصح إثبات الالهية إلا بذلك .
وقال : إن المتكلمين ينزهونه عن ذلك ، والتنزيه عن هذا التنزيه ، هو الواجب .
وذهب أصحابنا وأكثر المتكلمين إلى أن ذلك لا يصح في حق واجب الوجود ، و أنه دليل على إمكان ذاته ، بل على حدوثها .
وأجازوا مع ذلك عليه أن يتجدد له صفات - يعنون الاحوال لا المعاني - ، نحو كونه مدركا بعد أن لم يكن .
وكقول أبى الحسين : إنه يتجدد له عالمية بما وجد ، وكان من قبل عالما بأنه سيوجد ، وإحدى هاتين الصفتين غير الاخرى .
وقالوا : إن الصفات والاحوال قيل (1) مفرد عن المعاني ، والمحال إنما هو حلول المعاني في ذاته لا تجدد الصفات لذاته ، وللكلام في هذا الباب موضع هو أليق به .
* * * النوع السادس : في نفى اتحاده تعالى بغيره ، ذهب أكثر العقلاء إلى استحالة ذلك ، وذهبت اليعقوبية من النصارى إلى أن الكلمة اتحدت بعيسى ، فصارت جوهرا من جوهرين : أحدهما إلهى ، والاخر جسماني .
وقد أجاز الاتحاد في نفس الامر لا في ذات
__________
(1) قيل ، أي قول .
(*)(3/233)
البارئ قوم من قدماء الفلاسفة ، منهم فرفريوس وأجازه أيضا منهم من ذهب إلى أن النفس إنما تعقل المعقولات ، لاتحادها بالجوهر المفارق المفيض للنفوس على الابدان ، وهو المسمى بالعقل الفعال .
* * * النوع السابع : في نفى الاعراض الجسمانية عنه من التعب والاستراحة ، والالم واللذة ، الغم والسرور ، ونحو ذلك .
وذهبت المعتزلة و أكثر العقلاء من أهل الملة وغيرهم إلى نفى ذلك ، والقول باستحالته عليه سبحانه .
وذهبت الفلاسفة إلى جواز اللذة عليه ، وقالوا : إنه يلتذ بإدراك ذاته وكماله ، لان إدراك الكمال هو اللذة أو سبب اللذة ، وهو تعالى أكمل الموجودات ، وإدراكه أكمل الادراكات ، وإلى هذا القول ذهب محمد الغزالي (1) من الاشعرية .
وحكى ابن الراوندي عن الجاحظ أن أحد قدماء المعتزلة - ويعرف بأبى شعيب - كان يجوز عليه تعالى السرور والغم ، والغيرة والاسف ، ويذكر في ذلك ما روى عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال : (لا أحد أغير من الله ، وأنه تعالى يفرح بتوبة عبده ويسر بها) .
وقال تعالى : (فلما آسفونا انتقمنا منهم) (2) ، وقال مقال المتحسر (3) على الشئ : (يا حسرة على العباد) (4) ، وحكى عنه أيضا أنه يجوز عليه أن يتعب ويستريح ، ويحتج بقوله : (وما مسنا من لغوب) (5) .
__________
(1) هو الامام محمد بن محمد أبوحخامد الغزالي صاحب الاحياء .
(2) سورة الزخرف 55 (3) كذا في ا ، ج ، وفي ب ، ا (حكاية عن التحسر) .
(4) سورة يس 30 (5) سورة ق 38 (*)(3/234)
وهذه الالفاظ كلها عند أصحابنا متأولة محمولة على محامل صحيحة ، تشتمل على شرحها الكتب المبسوطة .
* * * النوع الثامن : في أنه تعالى ليس بمتلون .
لم يصرح أحد من العقلاء قاطبة بأن الله تعالى متلون ، وإنما ذهب قوم من أهل التشبيه التجسيم إلى أنه نور ، فإذا أبصرته العيون وأدركته أبصرت شخصا نورانيا مضيئا ، لم يزيدوا على ذلك ، ولم يصرحوا بإثبات اللون بهذه العبارة ، وإن كان كل مضئ ملونا .
* * * النوع التاسع : في أنه تعالى لا يشتهى ولا ينفر ، ذهب شيوخنا المتكلمون إلى أنه سبحانه لا يصح عليه الشهوة والنفرة ، لانهما إنما يصحان على ما يقبل الزيادة والنقصان بطريق الاغتذاء والنمو ، والبارئ سبحانه وتعالى يتعالى عن ذلك ، وما عرفت لاحد من الناس خلافا في ذلك ، اللهم إلا أن يطلق هاتان اللفظتان على مسمى الارادة والكراهية ، على سبيل المجاز .
* * * النوع العاشر : في أن البارئ تعالى غير متناهى الذات قالت المعتزلة : لما كان البارئ تعالى ليس بجسم وجسماني ، وكانت النهاية من لواحق الاشياء ذوات المقادير ، يقال : هذا الجسم متناه ، أي ذو طرف .
قلنا : إن ذات البارئ تعالى غير متناهية ، لا على معنى أن امتداد ذاته غير متناه ، فإنه سبحانه ليس بذى امتداد ، بل بمعنى أن الموضوع الذى يصدق عليه النهاية ليس بمتحقق في حقه سبحانه ، فقلنا : إن ذاته غير متناهية ، كما يقول المهندس : إن النقطة غير متناهية ، لا على معنى أن لها امتدادا غير متناه ، فإنها ليست بممتدة أصلا ، بل على معنى أن الامر(3/235)
الذى تصدق عليه النهاية - وهو الامتداد - لا يصدق عليها ، فإذن صدق عليها أنها غير متناهية .
وهذا قول الفلاسفة وأكثر المحققين .
وقالت الكرامية : البارئ تعالى ذات واحدة منفردة عن العالم قائمة بنفسها ، مباينة للموجودات ، متناهية في ذاتها ، وإن كنا لا نطلق عليها هذا اللفظ لما فيه من إيهام انقطاع وجودها ، وتصرم بقائها .
وأطلق هشام بن الحكم وأصحابه عليه تعالى القول بأنه متناهى الذات ، غير متناهى القدرة .
وقال الجاحظ : إن لى قوما زعموا أنه تعالى ذاهب في الجهات الست ، التى لا نهاية لها .
* * * النوع الحادى عشر : في أنه تعالى لا تصح رؤيته .
قالت المعتزلة : رؤيه البارئ تعالى مستحيلة في الدنيا والاخرة ، وإنما يصح أن يرى المقابل ذو الجهة .
وقالت الكرامية والحنابلة والاشعرية : تصح رؤيته ويرى في الاخرة ، يراه المؤمنون ، ثم اختلفوا ، فقالت الكرامية والحنابلة : يرى في جهة فوق ، وحكى عن مضر وكهمس وأحمد الجبى (1) أنهم أجازوا رؤيته في الدنيا ، وملامسته ومصافحته ، وزعموا أن المخلصين يعانقونه متى شاءوا ، ويسمون الحبية .
وحكى شيخنا أبو الحسين في ، ، التصفح ، ، عن أيوب السجستاني من المرجئة ، أن البارئ تعالى تصح رؤيته ولمسه .
وذهب قوم إلى أنهم لا يزالون يرون الله تعالى ، وأن الناس كلهم كافرهم ومؤمنهم يرونه ، ولكن لا يعرفونه .
__________
(1) كذا في ا ، وفى الحاشية نقلا عن القاموس : أحمد بن عبد الله الجبى ، ويقال : الجبابى ، لبيعا الجباب ، محدث ، وفى ب : (انجمى) (*)(3/236)
وقال من ترفع عن هذه الطبقة منهم : لا يجوز أن يرى بعين خلقت للفناء ، وإنما يرى الاخرة بعين خلقت للبقاء .
وقال كثير من هؤلاء : إن محمدا صلى الله عليه وآله رأى ربه بعينى رأسه ليلة المعراج .
ورووا عن كعب الاحبار أن الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين موسى ومحمد عليه السلام .
ورووا عن المبارك بن فضالة أن الحسن كان يحلف بالله : قد رأى محمد ربه .
وتعلق كثير منهم بقوله تعالى : (ولقد رآه نزلة أخرى (1)) ، وقالوا : كلمه موسى عليه السلام مرتين ، ورآه محمد صلى الله عليه وآله مرتين .
وأنكر ابن الهيصم مع اعتقاده أقوال الكرامية ذلك ، وقال : إن محمدا صلى الله عليه وآله لم يره ، ولكنه سوف يراه في الاخرة .
قال : وإلى هذا القول ذهبت عائشة وأبو ذر وقتادة ، وقد روى مثله عن ابن عباس وابن مسعود .
واختلف من قال : إنه يرى في الاخرة ، هل يجوز أن يراه الكافر ؟ فقال أكثرهم : إن الكفار لا يرونه ، لان رؤيتة كرامة ، والكافر لا كرامة له .
وقالت السالمية وبعض الحشوية : إن الكفار يرونه يوم القيامة ، وهو قول محمد بن إسحاق بن خزيمة ، ذكر ذلك عنه محمد بن الهيصم .
فأما الاشعري وأصحابه ، فإنهم لم يقولوا كما قال هؤلاء : إنه يرى كما يرى الواحد منا ، بل قالوا : يرى ، وليس فوقا ولا تحتا ولا يمينا ولا شمالا ولا أماما ولا وراء ، ولا يرى كله ولا بعضه ، ولا هو في مقابلة الرائى ولا منحرفا عنه ، ولا تصح الاشارة إليه إذا رئى ،
__________
(1) سورة النجم 13 (*)(3/237)
وهو (1) مع ذلك يرى ويبصر .
وأجازوا أيضا عليه أن تسمع ذاته ، وأن تشم وتذاق وتحس ، لا على طريق الاتصال ، بل تتعلق هذه الادراكات كلها بذاته تعلقا عاريا عن الاتصال .
وأنكرت الكرامية ذلك ولم يجيزوا عليه إلا إدراك البصر وحده ، وناقضهم شيخنا أبو الحسين في ، ، التصفح ، ، وألزمهم أحد أمرين ، إما نفى الجميع أو إثبات إدراكه من جميع الجهات ، كما يقوله الاشعرية .
وذهب ضرار بن عمرو ، إلى أن الله تعالى يرى يوم القيامة بحاسة سادسة لا بهذا البصر .
وقيل ذلك عن جماعة غيره .
وقال قوم : يجوز أن يحول الله تعالى قوة القلب إلى العين ، فيعلم الله تعالى بها ، فيكون ذلك الادراك علما باعتبار أنه بقوة القلب ، ورؤية باعتبار أنه قد وقع بالمعنى الحال في العين .
فهذه الانواع الاحد عشر هي الاقوال والمذاهب التى يشتمل قوله عليه السلام بنفى التشبيه عليها ، وسيأتى من كلامه عليه السلام في نفى التشبيه ما هو أشد تصريحا من الالفاظ التى نحن في شرحها .
الفصل الخامس في بيان أن الجاحد له مكابر بلسانه ومثبت له بقلبه وهو معنى قوله عليه السلام : (فهو الذى تشهد له أعلام الوجود ، على إقرار قلب ذى الجحود) .
لا شبهة في أن العلم بافتقار المتغير إلى المغير ضروري ، والعلم بأن المتغير ليس هو المغير
__________
(1) ب : (ومع ذلك) .
(*)(3/238)
إما أن يكون ضروريا أو قريبا من الضرورى ، فإذا قد شهدت أعلام الوجود على أن الجاحد لاثبات الصانع ، إنما هو جاحد بلسانه لا بقلبه ، لان العقلاء لا يجحدون الاوليات بقلوبهم ، وإن كابروا بألسنتهم ، ولم يذهب أحد من العقلاء إلى نفى الصانع سبحانه .
وأما القائلون بأن العالم وجد عن طبيعة ، وأن الطبيعة هي المدبرة له ، والقائلون بتصادم الاجزاء في الخلاء الذى لا نهاية له ، حتى حصل منها هذا العالم .
والقائلون بأن أصل العالم وأساس بنيته هو النور والظلمة ، والقائلون بأن مبادئ العالم هي الاعداد المجردة ، والقائلون بالهيولى القديمة ، التى منها حدث العالم ، والقائلون بعشق النفس للهيولى ، حتى تكونت منها هذه الاجسام ، فكل هؤلاء أثبتوا الصانع ، وإنما اختلفوا في ماهيته وكيفية فعله .
وقال قاضى القضاة : إن أحدا من العقلاء لم يذهب إلى نفى الصانع للعالم بالكلية ، ولكن قوما من الوراقين اجتمعوا ووضعوا بينهم مقالة ، لم يذهب أحد إليها ، وهى أن العالم قديم لم يزل على هيئته هذه ، ولا إله للعالم ولا صانع أصلا ، وإنما هو هكذا ما زال ، ولا يزال من غير صانع ولا مؤثر .
قال : وأخذ ابن الراوندي هذه المقالة فنصرها في كتابه المعروف بكتاب ، ، التاج ، ، قال : فأما الفلاسفة القدماء والمتأخرون ، فلم ينفوا الصانع ، وإنما نفوا كونه فاعلا بالاختيار ، وتلك مسألة أخرى .
قال : والقول بنفى الصانع قريب من القول بالسفسطة ، بل هو هو بعينه ، لان من شك في المحسوس أعذر ممن قال : إن المتحركات تتحرك من غير محرك حركها .
وقول قاضى القضاة هذا ، هو محض كلام أمير المؤمنين عليه السلام وعينه ، وليس قول الجاحظ هو هذا ، لان الجاحظ يذهب إلى أن جميع المعارف والعلوم الالهية ضرورية ، ونحن ما ادعينا في هذا المقام إلا أن العلم بإثبات الصانع فقط هو الضرورى ، فأين أحد القولين من الاخر !(3/239)
(50) ومن خطبة له عليه السلام : الاصل : إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع ، وأحكام تبتدع ، يخالف فيها كتاب الله ، ويتولى عليها رجال رجالا ، على غير دين الله ، فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف على المرتادين ، ولو أن الحق خلص من لبس الباطل ، انقطعت عنه ألسن المعاندين ، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث ، فيمزجان ، فهنالك يستولى الشيطان على أوليائه ، وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى .
الشرح : المرتاد : الطالب .
والضغث من الحشيش : القبضة منه ، قال الله تعالى : (وخذ بيدك ضغثا) (1) .
يقول عليه السلام : إن المذاهب الباطلة والاراء الفاسدة التى يفتتن الناس بها ، أصلها اتباع الاهواء ، وابتداع (2) الاحكام التى لم تعرف يخالف فيها الكتاب ، وتحمل العصبية والهوى على تولى أقوام قالوا بها ، على غير وثيقة من الدين .
ومستند وقوع هذه الشبهات امتزاج الحق بالباطل في النظر الذى هو الطريق إلى استعلام المجهولات ، فلو أن النظر تخلص مقدماته وترتب قضاياه من قضايا باطلة ، لكان الواقع عنه هو العلم المحض ، وانقطع عنه ألسن المخالفين ، وكذلك لو كان النظر تخلص مقدماته من قضايا صحيحة ، بأن كان كله مبنيا
__________
(1) سورة ص 44 (2) كذا في ج ، وفى ا ، ب : (اتباع) .
(*)(3/240)
على الفساد ، لظهر فساده لطلبة الحق ، وإنما يقع الاشتباه لامتزاج قضاياه الصادقة بالقضايا الكاذبة .
مثال ذلك احتجاج من أجاز الرؤية بأن البارئ تعالى ذات موجودة ، وكل موجود يصح أن يرى ، فإحدى المقدمتين حق ، والاخرى باطل ، فالتبس أمر النتيجة على كثير من الناس .
ومثال ما يكون المقدمتان جميعا باطلتين ، قول قوم من الباطنية : البارئ لا موجود ولا معدوم ، وكل ما لا يكون موجودا ولا معدوما يصح أن يكون حيا قادرا ، فالبارئ تعالى يصح أن يكون حيا قادرا ، فهاتان المقدمتان جميعا باطلتان .
لا جرم أن هذه المقالة مرغوب عنها عند العقلاء ! ومثال ما تكون مقدماته حقا كلها : العالم متغير ، وكل متغير ممكن ، فالعالم ممكن ، فهذا مما لا خلاف فيه بين العقلاء .
فإن قيل : فما معنى قوله عليه السلام : (فهنالك يستولى الشيطان على أوليائه ، وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى) ، أليس هذا إشعارا بقول المجبرة وتلويحا به ؟ قيل : لا إشعار في ذلك بالجبر ، ومراده عليه السلام أنه إذا امتزج في النظر الحق بالباطل ، وتركبت المقدمات من قضايا صحيحة وفاسدة ، تمكن الشيطان من الاضلال والاغواء ، ووسوس إلى المكلف ، وخيل له النتيجة الباطلة ، وأماله إليها ، وزينها عنده ، بخلاف ما إذا كانت المقدمات حقا كلها ، فإنه لا يقدر الشيطان على أن يخيل له ما يخالف العقل الصريح ، ولا يكون له مجال في تزيين الباطل عنده ، ألا ترى أن الاوليات لا سبيل للانسان إلى جحدها وإنكارها ، لا بتخييل الشيطان ولا بغير ذلك ! (16 - نهج - 3)(3/241)
ومعنى قوله : (على أوليائه) ، أي على من عنده استعداد للجهل ، وتمرن على اتباع الهوى ، وزهد في تحقيق الامور العقلية على وجهها ، تقليدا للاسلاف ، ومحبة لاتباع المذهب المألوف ، فذاك هو الذى يستولى عليه الشيطان ويضله ، وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى ، وهم الذين يتبعون محض العقل ، ولا يركنون إلى التقليد ، ويسلكون مسلك التحقيق ، وينظرون النظر الدقيق (1) ، يجتهدون في البحث عن مقدمات أنظارهم ، وليس في هذا الكلام تصريح بالجبر ، ولا إشعار به على وجه من الوجوه ، وهذا واضح .
وحمل الراوندي قوله عليه السلام : (فلو أن الباطل خلص ...
) إلى آخره ، على أن المراد به نفى القياس في الشرع ، قال : لان القائسين يحملون المسكوت عنه على المنطوق ، فيمتزج المجهول بالمعلوم ، فيلتبس ويظن لامتزاج بعضه ببعض حقا ، وهذا غير مستقيم ، لان لفظ الخطبة أن الحق يمتزج بالباطل ، وأصحاب القياس لا يسلمون أن استخراج العلة من الحكم المعلوم باطل ، بل يقولون إنه حق ، وإن الدليل الدال على ورود العبارة بالقياس ، قد أمنهم من كونه باطلا .
* * * واعلم أن هذا الكلام الذى قاله عليه السلام حق إذا تأملته ، وإن لم تفسره على ما قدمناه من التفسير ، فإن الذين ضلوا من مقلدة اليهود والنصارى وأرباب المقالات الفاسدة من أهل الملة الاسلامية وغيرها ، إنما ضل أكثرهم بتقليد الاسلاف ، ومن يحسن الظن فيه من الرؤساء وأرباب المذاهب ، وإنما قلدهم الاتباع ، لما شاهدوا من إصلاح ظواهرهم ، ورفضهم الدنيا وزهدهم فيها ، وإقبالهم على العبادة ، وتمسكهم بالدين ، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ، وشدتهم في ذات الله ، وجهادهم في سبيله ، وقوتهم في
__________
(1) ا ، ج : (النظر التام) .
(*)(3/242)
مذاهبهم ، وصلابتهم في عقائدهم ، فاعتقد الاتباع والخلف والقرون التى جاءت بعدهم أن هؤلاء يجب اتباعهم ، وتحرم مخالفتهم ، وأن الحق معهم ، وأن مخالفهم مبتدع ضال ، فقلدوهم في جميع ما نقل إليهم عنهم ، ووقع الضلال والغلط بذلك ، لان الباطل استتر وانغمر بما مازجه من الحق الغالب الظاهر المشاهد عيانا ، أو الحكم الظاهر ، ولو لاه لما تروج الباطل ، ولا كان له قبول أصلا(3/243)
(51) ومن كلام له عليه السلام لما غلب أصحاب معاوية أصحابه عليه السلام على شريعة الفرات بصفين ومنعوهم من الماء : الاصل : قد استطعموكم القتال ، فأقروا على مذلة ، وتأخير محلة ، أو رووا السيوف من الدماء ترووا من الماء ، فالموت في حياتكم مقهورين ، والحياة فموتكم قاهرين .
ألا وإن معاوية قاد لمة من الغواة ، وعمس عليهم الخبر ، حتى جعلوا نحورهم أغراض المنية .
* * * الشرح : استطعموكم القتال ، كلمة مجازية ، ومعناها : طلبوا القتال منكم ، كأنه جعل القتال شيئا يستطعم ، أي يطلب أكله ، وفي الحديث : (إذا استطعمكم الامام فأطعموه) ، يعنى إمام الصلاة ، أي إذا أرتج فاستفتحكم فافتحوا عليه .
وتقول : فلان يستطعمنى الحديث ، أي يستدعيه منى ويطلبه .
واللممة ، بالتخفيف : جماعة قليلة .
وعمس عليهم الخبر ، يجوز بالتشديد ، ويجوز بالتخفيف ، والتشديد يعطى الكثرة ويفيدها ، ومعناه أبهم عليهم الخبر ، وجعله مظلما .
ليل عماس ، أي مظلم ، وقد عمس الليل نفسه(3/244)
بالكسر ، إذا أظلم وعمسه غيره ، وعمست عليه عمسا ، إذا أريته أنك لا تعرف الامر وأنت به عارف .
والاغراض : جمع غرض وهو الهدف .
وقوله : (فأقروا على مذلة وتأخير محلة) ، أي اثبتوا على الذل وتأخر المرتبة والمنزلة ، أو فافعلوا كذا وكذا .
ونحو قوله عليه السلام : (فالموت في حياتكم مقهورين) قول أبى نصر بن نباتة : والحسين الذى رأى الموت في العز حياة والعيش في الذل قتلا .
وقال التهامى : ومن فاته نيل العلا بعلومه وأقلامه فليبغها بحسامه (1) فموت الفتى في العز مثل حياته وعيشته في الذل مثل حمامه * * * [ الاشعار الواردة في الاباء والانف من احتمال الضيم ] والاشعار في الاباء الانف من احتمال الضيم والذل والتحريض على الحرب كثيرة ، ونحن نذكر منها هاهنا طرفا ، فمن ذلك قول عمرو بن براقة الهمداني : وكيف ينام الليل من جل ماله حسام كلون الملح أبيض صارم (2) كذبتم وبيت الله لا تأخذونها مراغمة ما دام للسيف قائم ومن يطلب المال الممنع بالقنا يعش ماجدا أو تخترمه الخوارم (3) .
__________
(1) ديوانه 33 (2) من أبيات له في الاغانى 21 : 113 ، 114 (ساسى) .
(3) الاغانى : (المخارم) .
(*)(3/245)
ومثله : ومن يطلب المال الممنع بالقنا يعش ماجدا أو يؤذ فيما يمارس وقال حرب بن مسعر : عطفت عليه المهر عطفة باسل كمى ومن لا يظلم الناس يظلم فأوجرته لدن الكعوب مثقفا فخر صريعا لليدين وللفم وقال الحارث بن الارقم : وما ضاق صدري يا سليمى بسخطكم ولكننى في الحادثات صليب تروك لدار الخسف والضيم ، منكر بصير بفعل المكرمات أريب إذا سامنى السلطان ذلا أبيته ولم أعط خسفا ما أقام عسيب وقال العباس بن مرداس السلمى : بأبى فوارس لا يعرى صواهلها أن يقبلوا الخسف من ملك وإن عظما لا والسيوف بأيدينا مجردة لا كان منا غداة الروع منهزما وقال وهب بن الحارث : لا تحسبني كأقوام عبثت بهم لن يأنفوا الذل حتى تأنف الحمر لا تعلقني قذاة لست فاعلها واحذر شباتى فقدما ينفع الحذر فقد علمت بأنى غير مهتضم حتى يلوح ببطن الراحة الشعر وقال المسيب بن علس : أبلغ ضبيعة أن البلاد فيها لذى قوة مغضب (1)
__________
(1) ديوان الاعشين 349 ، مع اختلاف في الرواية (*)(3/246)
وقد يقعد القوم في دارهم إذا لم يضاموا وإن أجدبوا ويرتحل القوم عند الهوان عن دارهم بعد ما أخصبوا وقد كان سامة في قومه له مطعم وله مشرب فساموه خسفا فلم يرضه وفي الارض عن ضيمهم مهرب وقال آخر : إن الهوان حمار القوم يعرفه والحر ينكره والرسلة الاجد (1) ولا يقيم على خسف يراد به إلا الاذلان عير الحى والوتد (2) هذا على الخسف مشدود برمته وذا يشج فلا يأوى له أحد (3) فإن أقمتم على ضيم يراد بكم فإن رحلى له وال ومعتمد وفي البلاد إذا ما خفت بادرة مكروهة عن ولاة السوء مفتقد وقال بعض بنى أسد : إنى امرؤ من بنى خزيمة لا أطعم خسفا لناعب نعبا لست بمعط ظلامة أبدا عجما ولا أتقى بها عربا دخل مويلك السدوسى إلى البصرة يبيع إبلا ، فأخذ عامل الصدقة بعضها ، فخرج إلى البادية وقال : ناق إنى أرى المقام على الضيم عظيما في قبة الاسلام قد أرانى ولى من العامل النصف بحد السنان أو بالحسام
__________
(1) للمتلمس ، معاهد التنصيص 2 : 306 .
الرسلة : النساقة السهلة السير .
والاجد : الموثقة الخلق .
(2) العير ، بفتح العين : الحمار ، وغلب على الوحشى ، والمراد به هنا الاهلى .
(3) الرمة : القطعة من الحبل ، وأوى له ، أي رق .
(*)(3/247)
ووثقت بالدنيا وأنت ترى جماعتها شتاتا وعزمت ويك على الحياة وطولها عزما بتاتا يا من رأى أبويه - فيمن قد رأى - كانا فماتا هل فيهما لك عبرة أم خلت أن لك انفلاتا ! ومن الذى طلب التفللت من منيته ففاتا ! كل تصبحه المنية أو تبيته بياتا وله : أرى الدنيا لمن هي في يديه عذابا ، كلما كثرت لديه (1) تهين المكرمين لها بصغر وتكرم كل من هانت عليه إذا استغنيت عن شئ فدعه وخذ ما أنت محتاج إليه وله : ألم تر ريب الدهر في كل ساعة له عارض فيه المنية تلمع (2) أيا بانى الدنيا لغيرك تبتنى ويا جامع الدنيا لغيرك تجمع أرى المرء وثابا على كل فرصة وللمرء يوما لا محالة مصرع ينازل ما لا يملك الملك غيره متى تنقضي حاجات من ليس يشبع ! وأى امرئ في غاية ليس نفسه إلى غاية أخرى سواها تطلع ! وله : سل الايام عن أمم تقضت ستخبرك المعالم والرسوم (3)
__________
(1) ديوانه 288 (2) ديوانه 144 (3) ديوانه 246 (*)(3/248)
وإلا حساما يبهر العين لمحه كصاعقة في عارض قد تبسما * * * [ أباة الضيم وأخبارهم ] سيد أهل الاباء ، الذى علم الناس الحمية والموت تحت ظلال السيوف ، اختيارا له على الدنية ، أبو عبد الله الحسين بن على بن أبى طالب عليهما السلام ، عرض عليه الامان وأصحابه ، فأنف من الذل ، وخاف من ابن زياد أن يناله بنوع من الهوان ، إن لم يقتله ، فاختار الموت على ذلك .
وسمعت النقيب أبا زيد يحيى بن زيد العلوى البصري ، يقول : كان أبيات أبى تمام في محمد بن حميد الطائى (1) ما قيلت إلا في الحسين عليه السلام : وقد كان فوت الموت سهلا فرده إليه الحفاظ المر والخلق الوعر ونفس تعاف الضيم حتى كأنه هو الكفر يوم الروع أو دونه الكفر فأثبت في مستنقع الموت رجله وقال لها : من تحت أخمصك الحشر تردى ثياب الموت حمرا فما أتى لها الليل إلا وهى من سندس خضر لما فر أصحاب مصعب عنه ، وتخلف في نفر يسير من أصحابه ، كسر جفن سيفه ، وأنشد : فإن الالى بالطف من آل هاشم تأسوا فسنوا للكرام التاسيا (2) فعلم أصحابه أنه قد استقتل .
ومن كلام الحسين عليه السلام يوم الطف ، المنقول عنه ، نقله عنه زين العابدين على ابنه عليه السلام : (ألا وإن الدعى بن الدعى ، قد خيرنا بين اثنتين : السلة (3)
__________
(1) ديوانه 368 - طبع بيروت .
(2) لسليمان بن قتة الكامل 1 : 14 ، والطف : من ضاحية الكوفة ، كان فيها مقتل الحسين عليه السلام (3) السل : انتزاعك الشئ وإخراجك إياه في رفق ، وعند السلة ، أي عند استلال السيوف .
(*)(3/249)
أو الذلة ، وهيهات منا الذلة ! يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون ، وحجور طابت ، وحجز طهرت (1) ، وأنوف حمية ، ونفوس أبيه) .
وهذا نحو قول أبيه عليه السلام ، وقد ذكرناه فيما تقدم : (إن امرأ أمكن عدوامن نفسه ، يعرق لحمه ، ويفرى جلده ، ويهشم عظمه ، لعظيم عجزه ، ضعيف ما ضمت عليه جوانح صدره ، فكن أنت ذاك إن شئت ، فأما أنا فدون أن أعطى ذلك ضرب بالمشرفية تطير منه فراش الهام ، وتطيح السواعد والاقدام) .
* * * وقال العباس بن مرداس السلمى : مقال امرئ يهدى إليك نصيحة إذا معشر جادوا بعرضك فابخل (2) وإن بوءوك منزلا غير طائل (3) غليظا فلا تنزل به وتحول ولا تطعمن ما يعلفونك إنهم أتوك على قرباهم بالمثمل (4) أراك إذا قد صرت للقوم ناضحا يقال له بالغرب أدبر وأقبل (5) فخذها فليست للعزيز بخطة وفيها مقام لامرئ متذلل
__________
(1) الحجز : جمع حجزة ، حيث يثنى طرف الازرار ، كناية عن العفة .
(2) من أبيات في الحماسة 2 : 11 - بشرح التبريزي ، طلعها : ألا ابلغ أبا سلمى رسولا يروعه ولو حل ذا سدر وأهلي بعسجل (3) الحماسة : (مبركا غير طائل) .
(4) قال التبريزي : المثمل : هو السم الذى قد خلط به ما يقويه ويهيجه ليكون أنفذ ، أي سقوك السم وإن كانوا أقرباءك فلا تغتر بهم وكن ذا أنفة) .
وبعده في رواية التبريزي : أبعد الازار مجسدا لك شاهدا أتيت به في الدار لم يتزيل (5) الناضح : البعير الذى يستقى عليه الماء ، قال التبريزي : (يقول : أبعد الازار مخصوبا بالدم أتيت به في الدار شاهدا تصالحهم ! فإن قعلت ذلك صرت كالناضح للقوم انقيادا لهم) .
(*)(3/250)
وله أيضا : فحارب فإن مولاك حارد نصره ففى السيف مولى نصره لا يحارد (1) وقال مالك بن حريم الهمداني : وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم فهل أنا في ذا يال همدان ظالم ! (2) متى تجمع القلب الذكى وصارما وأنفا حميا تجتنبك المظالم وقال رشيد بن رميض العنزي : (3) باتوا نياما وابن هند لم ينم بات يقاسيها غلام كالزلم (4) خدلج الساقين خفاق القدم (5) قد لفها الليل بسواق حطم (6) ليس براعى إبل ولا غنم ولا بجزار على ظهر وضم (7) * من يلقنى يود كما أودت إرم * وقال آخر : ولست بمبتاع الحياة بسبة ولا مرتق من خشية الموت سلما (8) ولما رأيت الود ليس بنافعى عمدت إلى الامر الذى كان أحزما * * *
__________
(1) ديوان الحماسة 2 : 15 - بشرح التبريزي : وحارد نصره ، أي امتنع ، والمحاردة في الاصل قلة اللبن ، واستعير هنا .
(2) من قصيدة له في الاغانى 21 : 113 ، 114 وحريم ، ضبطه البكري في اللالى 748 (بالحاء والراء المهملتين ، لاحاء مفتوحة ، والراء مكسورة) ، وقال : (ومن روى حزيم ، بالزاى فقد صحف) .
(3) ديوان الحماسة 1 : 333 - بشرح التبريزي ، من وصف غارة .
(4) الزلم : القدح .
يقاسيها ، أي يعانى الغارة كيف يوقعها ويدبرها .
(5) خدلج الساقين : ممتلئهما .
خفاق القدم : سريع الخطو ، ضراب بها للارض .
(6) قد لفها ، أي الابل ، وجعل الفعل لليل على المجاز .
والحطم : الذى لا يبقى من السير شيئا ، والمعنى أنه جمعها برجل متناهى القوة ، عنيف السوق .
(7) الوضم : كل ما قطع عليه اللحم .
(8) للحصين بن حمام المرى ، المفضليات 65 مع اختلاف في الرواية .
(*)(3/251)
ومن أباة الضيم يزيد بن المهلب كان يزيد بن عبد الملك يشنؤه قبل خلافته ، لاسباب ليس هذا موضع ذكرها ، فلما أفضت إليه الخلافة ، خلعه يزيد بن المهلب ، ونزع يده من طاعته ، وعلم أنه إن ظفر به قتله وناله من الهوان ما القتل دونه ، فدخل البصرة وملكها عنوة ، وحبس عدى بن أرطاه عامل يزيد بن عبد الملك عليها ، فسرح إليه يزيد بن عبد الملك جيشا كثيفا ، ويشتمل على ثمانين ألفا من أهل الشام والجزيرة ، وبعث مع الجيش أخاه مسلمة بن عبد الملك ، وكان أعرف الناس بقيادة الجيوش وتدبيرها ، وأيمن الناس نقيبة في الحرب ، وضم إليه ابن أخيه العباس بن الوليد بن عبد الملك ، فسار يزيد بن المهلب من البصرة ، فقدم واسط ، فأقام بها أياما ، ثم سار عنها فنزل العقر (1) ، واشتملت جريدة جيشه على مائة وعشرين ألفا ، وقدم مسلمة بجيوش الشام ، فلما تراءى العسكران ، وشبت الحرب ، أمر مسلمة قائدا من قواده أن يحرق الجسور التى كان عقدها يزيد بن المهلب فأحرقها ، فلما رأى أهل العراق الدخان قد علا انهزموا ، فقيل ليزيد بن المهلب : قد انهزم الناس ، قال : ومم انهزموا ؟ هل كان قتال ينهزم الناس من مثله ؟ فقيل له : إن مسلمة أحرق الجسور فلم يثبتوا ، فقال : قبحهم الله ! بق دخن عليه فطار ! ثم وقف ومعه أصحابه ، فقال : اضربوا وجوه المنهزمين ، ففعلوا ذلك حتى كثروا عليه ، وأستقبله منهم أمثال الجبال ، فقال : دعوهم قبحهم الله ! غنم عدا في نواحيها الذئب .
وكان يزيد لا يحدث نفسه بالفرار ، وقد كان أتاه يزيد بن الحكم بن أبى العاص الثقفى بواسط ، فقال له : فعش ملكا أو مت كريما فإن تمت وسيفك مشهور بكفك تعذر فقال : ما شعرت ، فقال :
__________
(1) قال ابن خلكان : (هي عقر بابل ، وهى عند الكوفة بالقرب من كربلاء ، الموضع الذى قتل فيه الحسين رضى الله عنه) .
(*)(3/252)
إن بنى مروان قد باد ملكهم فإن كنت لم تشعر بذلك فاشعر .
فقال : أما هذا فعسى .
فلما رأى يزيد انهزام أصحابه ، نزل عن فرسه ، وكسر جفن سيفه واستقتل ، فأتاه آت فقال : إن أخاك حبيبا قد قتل ، فزاده ذلك بصيرة في توطينه نفسه على القتل ، وقال : لا خير في العيش بعد حبيب ! والله لقد كنت أبغض الحياة بعد الهزيمة ، وقد ازددت لها بغضا ، امضوا قدما .
فعلم أصحابه أنه مستميت ، فتسلل عنه من يكره القتال ، وبقى معه جماعة خشية ، فهو يتقدم كلما مر بخيل كشفها ، وهو يقصد مسلمة بن عبد الملك لا يريد غيره ، فلما دنا منه ، أدنى مسلمة فرسه ليركب ، وحالت خيول أهل الشام بينهما ، وعطفت على يزيد بن المهلب ، فجالدهم بالسيف مصلتا (1) ، حتى قتل وحمل رأسه إلى مسلمة ، وقتل معه أخوه محمد بن المهلب ، وكان أخوهما المفضل بن المهلب ، يقاتل أهل الشام في جهة أخرى ، ولا يعلم بقتل أخويه يزيد ومحمد ، فأتاه أخوه عبد الملك بن المهلب ، وقال له : ما تصنع وقد قتل يزيد ومحمد ، وقبلهما قتل حبيب ، وقد انهزم الناس ! وقد روى أنه لم يأته بالخبر على وجهه ، وخاف أن يخبره بذلك فيستقتل ويقتل ، فقال له : إن الامير قد انحدر إلى واسط ، فاقتص أثره ، فانحدر المفضل حينئذ ، فلما علم بقتل إخوته ، حلف ألا يكلم أخاه عبد الملك أبدا : وكانت عين المفضل قد أصيبت من قبل في حرب الخوارج ، فقال : فضحني عبد الملك فضحه الله ! ما عذرى إذا رأني الناس فقالوا : شيخ أعور مهزوم ، ألا صدقنى فقتلت ! ثم قال : ولا خير في طعن الصناديد بالقنا ولا في لقاء الناس بعد يزيد فلما اجتمع من بقى من آل المهلب بالبصرة بعد الكسرة ، أخرجوا عدى بن أرطاة أمير البصرة من الحبس ، فقتلوه وحملوا عيالهم في السفن البحرية ، ولجحوا في البحر ، فبعث إليهم مسلمة بن عبد الملك بعثا عليه قائد من قواده ، فأدركهم في قندابيل (2) ، فحاربهم
__________
(1) مصلتا ، أي مجردا من غمده .
(2) قندابيل : مدينة بالسند .
(*)(3/253)
وحاربوه ، وتقدم بنو المهلب بأسيافهم ، فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم ، وهم : المفضل بن المهلب ، وزياد بن المهلب ، ومروان بن المهلب ، وعبد الملك بن المهلب ، ومعاوية بن يزيد بن المهلب ، والمنهال بن أبى عيينة بن المهلب ، وعمرو والمغيرة ابنا قبيصة بن المهلب ، وحملت رؤوسهم إلى مسلمة بن عبد الملك ، وفي أذن كل واحد منهم رقعة فيها اسمه ، واستؤسر الباقون في الوقعة ، فحملوا إلى يزيد بن عبد الملك بالشام ، وهم أحد عشر رجلا ، فلما دخلوا عليه قام كثير بن أبى جمعة ، فأنشد : حليم إذا ما نال عاقب مجملا أشد العقاب أو عفا لم يثرب فعفوا أمير المؤمنين وحسبة فما تأته من صالح لك يكتب أساؤوا فإن تصفح فإنك قادر وأفضل حلم حسبة حلم مغضب .
فقال يزيد : أطت (1) بك الرحم يا أبا صخر ! لو لا أنهم قدحوا في الملك لعفوت عنهم ، ثم أمر بقتلهم فقتلوا ، وبقى منهم صبى صغير ، فقال : اقتلوني فلست بصغير ، فقال يزيد بن عبد الملك : أنظروا هل أنبت ! فقال : أنا أعلم بنفسى ، قد احتلمت ووطئت النساء فاقتلوني ، فلا خير في العيش بعد أهلى ! فأمر به فقتل .
قال أبو عبيدة معمر بن المثنى : وأسماء الاسارى الذين قتلوا صبرا - وهم أحد عشر مهلبيا : المعارك وعبد الله والمغيرة والمفضل والمنجاب ، بنو يزيد بن المهلب .
ودريد والحجاج وغسان وشبيب والفضل ، بنو المفضل بن المهلب لصلبه .
والفضل بن قبيصة بن المهلب .
قال : ولم يبق بعد هذه الوقعة الثانية لاهل المهلب باقية إلا أبو عيينة بن المهلب .
وعمر بن يزيد بن المهلب ، وعثمان بن المفضل بن المهلب فإنهم لحقوا برتبيل (2) ، ثم أومنوا بعد ذلك .
* * *
__________
(1) أطت بك الرحم : رقت وحنت .
(2) رتبيل : من ملوك الترك .
(*)(3/254)
وقال الرضى الموسوي رحمه الله تعالى : ألا لله بادرة الطلاب وعزم لا يروع بالعتاب (1) وكل مشمر البردين يهوى هوى المصلتات إلى الرقاب أعاتبه على بعد التنائى فيعذلنى على قرب الاياب رأيت العجز يخضع لليالي ويرضى عن نوائبها الغضاب وآمل أن تطاوعني الليالى وينشب في المنى ظفري ونابى ولو لا صولة الافدار دوني هجمت على العلا من كل باب وقال أيضا : لا يبذ الهموم إلا غلام يركب الهول والحسام درديف (2) ما يذل الزمان بالفقر حرا كيفما كان فالشريف شريف وقال أيضا رحمه الله تعالى : ولست أضل في طرق المعالى ونار العز عالية الشعاع (3) ودون المجد رأى مستطيل وباع غير مجبوب الذراع ويعجبنى البعاد كأن قلبى يحدث عن عدى بن الرقاع فرد نهى العلاء بلا رقيب وشمر في الامور بلا نزاع ولا تغررك قعقعة الاعادي فذاك الصخر خر من اليفاع ونحن أحق بالدنيا ولكن تخيرت القطوف على الوساع (4) * * *
__________
(1) ديوانه لوحة 77 ، من قصيدة يفتخر ويمدح فيها آل البيت ويذكر قبورهم ويتشوقها .
(2) ديوانه ، لوحة 189 .
(3) ديوانه ، لوحة 36 من قصيدة يمدح فيها أباه ويهنئه .
(4) القطوف : الدابة البطيئة السير .
والفرس الوساع : الجواد ذو السعة في خطوه .
(*)(3/255)
وقال حارثة بن بدر الغدانى : أهان وأقصى ثم ينتصحونني ومن ذا الذى يعطى نصيحته قسرا ! رأيت أكف المصلتين عليكم ملاء وكفى من عطائكم صفرا متى تسألونى ما على وتمنعوا الذى لى ، لا أستطيع في ذلكم صبرا وقال بعض الخوارج : تعيرني بالحرب عرسي وما درت بأنى لها في كل ما أمرت ضد لحا الله قوما يقعدون وعندهم سيوف ولم يعصب بأيديهم قد وقال الاعشى : أبالموت خشتنى عباد وإنما رأيت منايا القوم يسعى دليلها (1) وما موتة إن متها غير عاجز بعار إذا ما غالت النفس غولها وقال آخر : فلا أسمعن فيكم بأمر هضيمة وضيم ولا تسمع به هامتي بعدى فإن السنان يركب المرء حدة من الضيم ، أو يعدو على الاسد الورد ومثله : إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته على طرف الهجران إن كان يعقل (2) ويركب حد السيف من أن تضيمه إذا لم يكن عن شفرة السيف معدل
__________
(1) ديوانه 125 .
(2) لمعن بن أوس ، ديوانه 59 .
(*)(3/256)
وقال آخر : كرهوا الموت فاستبيح حماهم وأقاموا فعل اللئيم الذليل أمن الموت تهربون فإن الموت الذليل غير جميل وقال بشامة بن الغدير : وإن التى سامكم قومكم هم جعلوها عليكم عدولا (1) أخزى الحياة وكره الممات فكلا أراه طعاما وبيلا فإن لم يكن غير إحداهما فسيروا إلى الموت سيرا جميلا ولا تقعدوا وبكم منة كفى بالحوادث للمرء غولا * * * قال يزيد بن المهلب في حرب جرجان لاخيه أبى عيينة : ما أحسن منظر رأيت في هذه الحرب ؟ قال : سيف بن أبى سبرة وبيضته ، وكان عبد الله بن أبى سبرة حمل على غلام تركي قد أفرج الناس له ، وصدوا عنه لبأسه وشجاعته ، فتضاربا ضربتين ، فقتله ابن أبى سبرة بعد أن ضربه التركي في رأسه ، فنشب سيفه في بيضة ابن أبى سبرة ، فعاد إلى الصف وسيفه مصبوغ بدم التركي وسيف التركي ناشب في بيضته كجزء منها يلمع ، فقال الناس : هذا كوكب الذنب ، وعجبوا من منظره .
وقال هدبة بن خشرم : وإنى إذ ما الموت لم يك دونه قدى الشبر أحمى الانف أن أتأخرا (2) ولكننى أعطى الخفيظة حقها فأعرف معروفا وأنكر منكرا وقال آخر : إنى أنا المرء لا يغضى على تره ولا يقر على ضيم إذا غشما
__________
(1) مختارات ابن اشجرى 16 ، المفضليات 59 (2) قدى الشبر : قدره ، والبيت في اللسان (20 : 32) .
(17 - نهج 3)(3/257)
ألقى المنية خوفا أن يقال فتى أمسى - وقد ثبت الصفان - منهزما وقال آخر : قوض خيامك والتمس بلدا تنأى عن الغاشيك بالظلم أو شد شدة بيهس فعسى أن يتقوك بصفحة السلم (1) استنصر سبيع بن الخطيم التيمى من بنى تيم اللات بن ثعلبة زيد الفوارس الضبى فنصره ، فقال : نبهت زيدا فلم أفزع إلى وكل رث السلاح ولا في الحى مغمور سالت عليه شعاب الحى حين دعا أنصاره بوجوه كالدنانير وقال أبو طالب بن عبد المطلب : كذبتم وبيت الله نخلى محمدا ولما نطاعن دونه ونناضل (2) وننصره حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل * * * لما برز على وحمزة وعبيدة عليهم السلام يوم بدر إلى عتبة وشبية والوليد ، قتل على عليه السلام الوليد ، وقتل حمزة شيبة ، على اختلاف في رواية ذلك : هل كان شيبة قرنه أم عتبة ؟ وتجالد عبيدة وعتبة بسيفيهما ، فجرح عبيدة عتبة في رأسه ، وقطع عتبة ساق عبيدة ، فكر على وحمزة عليهما السلام على صاحبهما ، فاستنقذاه من عتبة ، وخبطاه بسيفيهما حتى قتلاه واحتملا صاحبهما ، فوضعاه بين يدى رسول الله صلى الله عليه وآله في العريش ، وهو يجود بنفسه ، وإن مخ ساقه ليسيل ، فقال : يا رسول الله ، لو كان أبو طالب حيا لعلم أنى أولى منه بقوله :
__________
(1) البيهس : الشجاع .
(2) ديوانه 110 ، 111 مع اختلاف في الرواية (*)(3/258)
كذبتم وبيت الله نخلى محمدا ولما نطاعن دونه ونناضل وننصره حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل فبكى رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقال : (اللهم أنجز لى ما وعدتني ؟ اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الارض) .
* * * لما قدجيش الحرة إلى المدينة ، وعلى الجيش مسلم بن عقبة المرى ، أباح المدينة ثلاثا ، واستعرض أهلها بالسيف جزرا كما يجزر القصاب الغنم ، حتى ساخت الاقدام في الدم ، وقتل أبناء المهاجرين والانصار وذرية أهل بدر ، وأخذ البيعة ليزيد بن معاوية على كل من استبقاه من الصحابة والتابعين ، على أنه عبد قن لامير المؤمنين يزيد بن معاوية ، هكذا كانت صورة المبايعة يوم الحرة ، إلا على بن الحسين بن على عليهم السلام ، فإنه أعظمه وأجلسه معه على سريره ، وأخذ بيعته على أنه أخو أمير المؤمنين يزيد بن معاوية وابن عمه ، دفعا له عما بايع عليه غيره ، وكان ذلك بوصاة من يزيد بن معاوية له ، فهرب على بن عبد الله بن العباس رحمه الله تعالى إلى أخواله من كندة ، فحموه من مسلم بن عقبة ، وقالوا : لا يبايع ابن اختنا إلا على ما بايع عليه ابن عمه على بن الحسين ، فأبى مسلم بن عقبة ذلك ، وقال : إنى لم أفعل ما فعلت إلا بوصاة أمير المؤمنين ، ولو لا ذلك لقتلته ، فإن أهل هذا البيت أجدر بالقتل ، أو لاخذت بيعته على ما أخذت عليه بيعة غيره .
وسفر السفراء بينه وبينهم ، حتى وقع الاتفاق على أن يبايع ويقول : أنا أبايع لامير المؤمنين يزيد بن معاوية ، وألتزم طاعته ، ولا يقول غير ذلك ، فقال على بن عبد الله بن العباس : أبى العباس رأس بنى قصى وأخوالى الملوك بنو وليعه هم منعوا ذمارى يوم جاءت كتائب مسرف وبنو اللكيعه(3/259)
أراد بى التى لاعز فيها فحالت دونه أيد منيعه مسرف كناية عن مسلم ، وأم على بن عبد الله بن العباس زرعة بنت مشرح بن معدى كرب بن وليعة بن شرحبيل بن معاوية بن كندة .
قال الحسين بن الحمام : ولست بمبتاع الحياة بسبة ولا مرتق من خشية الموت سلما (1) تأخرت أستبقى الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما فلسنا على الاعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدما نفلق هاما من رجال أعزة علينا ، وهم كانوا أعق وأظلما أبى لابن سلمى أنه غير خالد ملاقي المنايا أي صرف تيمما ابن سلمى يعنى نفسه ، وسلمى أمه .
وقال الطرماح بن حكيم : وما منعت دار ولا عز أهلها من الناس إلا بالقنا والقنابل (2) وقال آخر : وإن التى حدثتها في أنوفنا وأعناقنا من الاباء كما هيا وقال آخر : فإن تكن الايام فينا تبدلت ببؤسى ونعمى والحوادث تفعل (3) فما لينت منا قناة صليبة ولا ذللتنا للتى ليس تجمل ولكن رحلناها نفوسا كريمة تحمل ما لا يستطاع فتحمل
__________
(1) المفضليات 68 ، 69 (2) ديوانه 159 (3) لابراهيم بن كنيف النبهائى ، ديوان الحماسة 1 - 251 - بشرح التبريزي .
(*)(3/260)
وقال آخر : إذا جانب أعياك فاعمد لجانب فإنك لاق في البلاد معولا (1) وقال أبوالنشناش : إذا المرء لم يسرح سواما ولم يرح سواما ولم تعطف عليه أقاربه (2) فللموت خير للفتى من قعوده عديما ومن مولى تدب عقاربه ولم أر مثل الهم ضاجعه الفتى ولا كسواد الليل أخفق طالبه فعش معدما أومت كريما فإننى أرى الموت لا ينجو من الموت هاربه * * * وفد يحيى بن عروة بن الزبير على عبد الملك ، فجلس يوما على بابه ينتظر إذنه ، فجرى ذكر عبد الله بن الزبير ، فنال منه حاجب عبد الملك ، فلطم يحيى وجهه حتى أدمى أنفه ، فدخل على عبد الملك ودمه يجرى من أنفه ، فقال : من ضربك ؟ قال : يحيى بن عروة ، قال : أدخله - وكان عبد الملك متكئا فجلس - فلما دخل قال : ما حملك على ما صنعت بحاجبي ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، إن عمى عبد الله كان أحسن جوارا لعمتك منك ، لنا والله إن كان ليوصي أهل ناحيته ألا يسمعوها قذعا (3) ، ولا يذكروكم عندها إلا بخير ، وإن كان ليقول لها : من سب أهلك فقد سب أهله ، فأنا والله المعم المخول ، تفرقت العرب بين عمى وخالى ، فكنت كما قال الاول : يداه أصابت هذه حتف هذه فلم تجد الاخرى عليها مقدما فرجع عبد الملك إلى متكئه ، ولم يزل يعرف منه الزيادة في إكرام يحيى بعدها .
__________
(1) لجابر بن ثعلب الطائى ، ديوان الحماسة 1 : 293 - بشرح التبريزي .
(2) ديوان الحماسة 1 : 302 - بشرح التبريزي (3) القذع : الفحش .
(*)(3/261)
وأم يحيى هذه ابنة الحكم بن أبى العاص عمة عبد الملك بن مروان .
وقال سعيد بن عمر الحرشى أمير خراسان : فلست لعامر إن لم ترونى أمام الخيل أطعن بالعوالى (1) وأضرب هامة الجبار منهم بماضي الغرب حودث بالصقال (2) فما أنا في الحروب بمستكين ولا أخشى مصاولة الرجال أبى لى والدى من كل ذم وخالى حين يذكر خير خال * * * قال عبد الله بن الزبير لما خطب حين أتاه نعى مصعب : أما ، بعد فإنه أتانا من العراق خبر أفرحنا وأحزننا ، أتانا خبر قتل المصعب ، فأما الذى أحزننا فلوعة يجدها الحميم ، عند فراق حميمه ثم يرعوى بعدها ذو اللب إلى حسن الصبر وكرم العزاء .
وأما الذى أفرحنا ، فإن ذلك كان له شهادة ، وكان لنا وله خيرة إنا والله ما نموت حبجا (3) كما يموت آل أبى العاص ، ما نموت إلا قتلا قعصا (4) بالرماح ، وموتا تحت ظلال السيوف ، فإن يهلك المصعب ، فإن في آل الزبير لخلفا .
وخطب مرة أخرى فذكره فقال : لوددت والله أن الارض قاءتنى عنده حين لفظ غصته وقضى نحبه .
شعر : خذيه فجريه ضباع وأبشرى بلحم امرئ لم يشهد اليوم ناصره
__________
(1) العوالي : جمع عالية ، وهى أعلى القناة .
(2) غرب السيف : حده : ويقال : حادث السيف ، إذا جلاه ، وصقال السيف : جلاؤه .
(3) الحبج : أن يأكل البعير لحاء العرفج فيرم بطنه سمنا وربما قتله ذلك ، وفي اللسان (3 : 48) .
بعد أن ذكر كلام ابن الزبير : (يعرض ببنى مروان لكثرة أكلهم وإسرافهم في ملاذ الدنيا ، وأنهم يموتون بالتخمة) وفيج : (جنحا) .
(4) اقعص : الموت السريع ، ويقال : مات قعصا ، أي أصابته ضربة أورمية فمات مكانه .
(*)(3/262)
وقال الشداخ بن يعمر الكنانى : قاتلوا القوم يا خزاع ولا يدخلكم من قتالهم فشل (1) القوم أمثالكم لهم شعر في الرأس لا ينشرون إن قتلوا وقال يحيى بن منصور الحنفي : ولما نأت عنا العشيرة كلها أنخنا فحالفنا السيوف على الدهر (2) فما أسلمتنا عند يوم كريهة ولا نحن أغضينا الجفون على وتر قيل لرجل شهد يوم الطف مع عمر بن سعد : ويحك ! أقتلتم ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله ! فقال : عضضت بالجندل ، إنك لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا ، ثارت علينا عصابة ، أيديها في مقابض سيوفها كالاسود الضارية تحطم الفرسان يمينا وشمالا ، وتلقى أنفسها على الموت ، لا تقبل الامان ، ولا ترغب في المال ، ولا يحول حائل بينها و بين الورود على حياض المنية ، أو الاستيلاء على الملك ، فلو كففنا عنها رويدا لاتت على نفوس العسكر بحذافيرها ، فما كنا فاعلين لا أم لك ! * * * السخاء من باب الشجاعة ، والشجاعة من باب السخاء ، لان الشجاعة إنفاق العمر وبذله فكانت سخاء ، والسخاء إقدام على إتلاف ما هو عديل المهجة فكان شجاعة .
أبو تمام في تفضيل الشجاعة على السخاء : كم بين قوم إنما نفقاتهم مال وقوم ينفقون نفوسا (3) * * *
__________
(1) ديوان الحماسة لابي تمام 1 : 189 - بشرح التبريزي ، والفشل : الجبن والضعف .
(2) ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 1 : 310 (3) ديوانه 2 : 267 (*)(3/263)
قيل لشيخنا أبى عبد الله البصري رحمه الله تعالى : أتجد في النصوص ما يدل على تفضيل على عليه السلام ، بمعنى كثرة الثواب لا بمعنى كثرة مناقبه ، فإن ذاك أمر مفروغ منه ؟ فذكر حديث الطائر المشوى (1) ، وأن المحبة من الله تعالى إرادة الثواب .
فقيل له : قد سبقك الشيخ أبو على رحمه الله تعالى إلى هذا ، فهل تجد غير ذلك قال : نعم قول الله تعالى : (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) ، فإذا كان أصل المحبة لمن ثبت كثبوت البنيان المرصوص ، فكل من زاد ثباته ، زادت المحبة له ، ومعلوم أن عليا عليه السلام ما فرفى زحف قط ، وفر غيره في غير موطن .
* * * وقال أبو تمام : السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد (2) بين الجد واللعب بيض الصفائح لاسود الصحائف في متونهن جلاء الشك والريب (3) والعلم في شهب الا رماح لامعة بين الخميسين لا في السبعة الشهب (4) وقال أبو الطيب المتنبي : حتى رجعت وأقلامي قوائل لى : المجد للسيف ليس المجد للقلم (5)
__________
(1) يشير إلى ما رواه الترمذي في باب المناقب (13 : 170) ، بسنده عن أنس بن مالك ، ولفظه : (كان عند النبي صلى الله عليه وسلم طير فقال : اللهم ائتنى بأحب خلقك إليك ، يأكل معى هذا الطير .
فجاء على فأكل معه .
وانظر االجزء الاول من هذا الكتاب ص 7 (2) ديوانه 1 : 45 ، من قصيدة يمدح بها المعتصم بالله ، ويذكر فتح عمورية ، وكان المنجمون قد حكموا أن المعتصم لا يفتح عمورية ، وراسلته الروم بأنانجد في كتبنا أنه لا تفتح مدينتنا إلا وقت إدراك التين والعنب ، وبيننا وبين ذلك الوقت شهور يمنعك من المقام فيها الثلج والبرد ، فأبى أن ينصرف وأكب عليها ففتحها ، فأبطل ما قالوا .
(3) الصفائح : جمع صفيحة ، وهى الحديدة العريضة ، ويقال للسيف العريض كذلك .
(4) يرد على المنجمين ما حكموا به ، لان الظفر كان قبل حكمهم .
ويعنى بشهب الاوماح أسنتها ، ويعنى بالسبعة الشهب الطوالع التى أرفعها زحل وأدناها القمر .
(5) ديوانه 4 : 159 (*)(3/264)
اكتب بنا أبدا بعد الكتاب به فإنما نحن للاسياف كالخدم أسمعتني ودوائي ما أشرت به فإن غفلت فدائي قلة الفهم من اقتضى بسوى الهندي حاجته أجاب كل سؤال عن (هل) بلم * * * قال عطاف بن محمد الالوسى : أمكابد الزفرات مؤصدة تلتذ خوف القطع بالشلل صرف همومك تنتدب همما فالسكر يعقب نشوة الثمل ولليلة الميلاد مفرحة تنسى الحوامل أشهر الحبل سر في البلاد تخوضها لججا فالدر ليس يصاب في الوشل واجعل لصبوتك الظبا سكنا والدور أكوارا على الابل والعيش والوطن الممهد في غرب الحسام وغارب الجمل واشدد عليك وخذ إليك ودع ضعة الخمول وفترة الكسل وارم العداة بكل صائبة ما الرمى موقوفا على ثعل (2) لا تحسب النكبات منقصة قد يستجاد السيف بالفلل * * * وقال عروة بن الورد : لحا الله صعلوكا إذا جن ليله مصافي المشاش آلفا كل مجزر (3)
__________
(1) الوشل : الماء القليل .
(2) ثعل : أبوحى من طئ ، ااشتهروا بالرمي .
(3) ديوانه 93 (ضمن دواوين الشعراء الخمسة) .
الصعلوك : الفقير : والمصافي : من المصافاة ، وهى الاختيار والملازمة .
والمشاش : العظم الممكن مضغه ، والمجزر : موضع نحر الابل .
(*)(3/265)
يعد الغنى من نفسه كل ليلة أصاب قراها من صديق ميسر (1) ينام عشاء ثم يصبح ناعسا يحت الحصا من جنبه المتعفر (2) يعين نساء الحى ما يستعنه ويمسى طليحا كالبعير المحسر (3) ولكن صعلوكا صفيحة وجهه كضوء شهاب القابس المتنور مطلا على أعدائه يزجرونه بساحتهم زجر المنيح المشهر (4) وإن قعدوا لا يأمنون اقترابه تشوف أهل الغائب المتنظر (5) فذلك إن يلق المنية يلقها حميدا وإن يستغن يوما فأجدر * * * وقال آخر : ولست بمولى سوءة أدعى لها فإن لسوآت الامور مواليا (6) وسيان عندي أن أموت وأن أرى كبعض رجال يوطنون المخازيا ولن يجد الناس الصديق ولا العدا أديمي إذا عدوا أديمي واهيا وإن نجارى بابن غنم مخالف نجار لئام فابغنى من ورائيا (7) ولست بهياب لمن لا يهابني ولست أرى للمرء ما لا يرى ليا إذا المرء لم يحببك إلا تكرها عراض العلوق لم يكن ذاك باقيا (8) * * *
__________
(1) الميسر : الذى قد نتج إبله فكثر خيره ، يقول : من صفات ذلك الصعلوك أنه إذا أصاب القرى في كل ليلة من صديق غنى ، عد ذلك لنفسه غنى وخيرا .
(2) يحت الحصا : يفركه ، والناعس : الذى يأتي عليه الصباح وهو ناعس لخموله وانحطاط همته .
(3) البعير الطليح : المعني ، وكذلك المحسر .
(4) أطل على أعدائه : أوفى عليهم .
والمنيح والسفيح والرغد : قداح لا أنصباء لها ، وإنما يكثر بها القداح فهى تجال أبدا ، وتزجر حالا بعد حال ، فشبه الصعلوك به (من شرح التبريزي) .
(5) الديوان : (فإن بعدوا يأمنون اقترابه) .
(6) لطرفة الجذيمى ، ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 1 : 389 ، مع اختلاف في الرواية وترتيب الابيات (7) النجار : الاصل .
(8) العلوق : الناقة التى ترأم ولدها وتلمسه حتى يأنس بها ، فإرا أراد ارتضاع اللبن منها ضربته وطردته .
(*)(3/266)
نهار بن توسعة في يزيد بن المهلب : وما كنا نؤمل من أمير كما كنا نؤمل من يزيد فأخطأ ظننا فيه وقدما زهدنا في معاشرة الزهيد إذا لم يعطنا نصفا أمير مشينا نحوه مشى الاسود * * * كان هدبه اليشكرى - وهو ابن عم شوذب الخارجي اليشكرى - شجاعا مقداما ، وكان ابن عمه بسطام الملقب شوذبا الخارج في خلافة عمر بن عبد العزيز ويزيد بن عبد الملك ، فأرسل إليه يزيد بن عبد الملك جيشا كثيفا فحاربه ، فانكشفت الخوارج ، وثبت هدبة وأبى الفرار ، فقاتل حتى قتل ، فقال أيوب بن خولى يرثيه : فيا هدب للهيجا ويا هدب للندى ويا هدب للخصم الالد يحاربه (1) وياهدب كم من ملحم قد أجبته وقد أسلمته للرماح كتائبه (2) تزودت من دنياك درعا ومغفرا وعضبا حساما لم تخنك مضاربه (3) وأجرد محبوك السراة كأنه إذا انفض وافى الريش حجن مخالبه (4) * * * كانت وصايا إبراهيم الامام وكتبه ترد إلى أبى مسلم بخراسان : إن استطعت ألا تدع بخراسان أحدا يتكلم بالعربية إلا وقتلته فافعل ، وأيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه
__________
(1) الابيات مع ذكر الخبر مفصلا في تاريخ الطبري 2 : 1376 - 1378 (طبع أوربا) .
(2) الملحم : الذى أسر وظفر به أعداؤه ، وفي ج : (ملجم) تصحيف .
(3) الطبري : (تزود ...
لم تخنه) .
(4) أجرد ، من وصف الفرس ، والجرد قصر شعر الجلد فيه ، وهو من الاوصاف المحمودة .
السراة : الظهر ، ومحبوك السراة ، أي شديد الخلق .
حجن مخالبه ، يريد صقرا ، والحجن .
الاعوجاج .
(*)(3/267)
فاقتله ، وعليك بمضر ، فإنهم العدو القريب الدار ، فأبد خضراءهم (1) ، ولا تدع على الارض منهم ديارا .
* * * قال المتنبي : لا يسلم الشرف الرفيع من الاذى حتى يراق على جوانبه الدم (2) وله : ومن عرف الايام معرفتي بها وبالناس روى رمحه غير راحم (3) فليس بمرحوم إذا ظفروا به ولا في الردى الجارى عليهم باثم وقال المتنبي أيضا : ردى حياض الردى يا نفس واطرحى حياض خوف الردى للشاء والنعم (4) إن لم أذرك على الا رماح سائلة فلا دعيت ابن أم المجد والكرم * * * ومن أباه الضيم قتيبة بن مسلم الباهلى أمير خراسان وما وراء النهر ، لم يصنع أحد صنيعه في فتح بلاد الترك ، وكان (5) الوليد بن عبد الملك أراد أن ينزع أخاه سليمان بن عبد الملك من العهد بعده ، ويجعله في ابنه عبد العزيز بن الوليد ، فأجابه إلى ذلك قتيبة بن مسلم وجماعة من الامراء ، فلما مات الوليد قبل إتمام ذلك ، وقام سليمان بالامر بعده - وكان
__________
(1) في الاساس : أباد الله خصراءهم ، أي شجرتهم التى تفرعوا منها .
(2) ديوانه 4 : 125 (3) ديوانه 4 : 112 (4) ديوانه 4 : 43 (5) الطبري (حوادث سنة 91) .
(*)(3/268)
قتيبة أشد الناس في أمر سليمان وخلعه عن العهد - علم أنه سيعزله عن خراسان يوليها يزيد بن المهلب ، لود كان بينه وبين سليمان ، فكتب قتيبة إليه كتابا يهنئه بالخلافة ، ويذكر بلاءه وطاعته لعبد الملك وللوليد بعده ، وأنه على مثل ذلك إن لم يعزله عن خراسان ، وكتب إليه كتابا آخر يذكره فيه بفتوحه وآثاره ، ونكايته في الترك ، وعظم قدره عند ملوكهم ، وهيبة العجم والعرب له وعظم صيته فيهم ، ويذم آل المهلب ، ويحلف له بالله : لئن استعمل يزيد بن المهلب خراسان ليخلعنه ، وليملانها عليه خيلا ورجلا ، وكتب كتابا ثالثا فيه خلع سليمان ، وبعث بالكتب الثلاثة مع رجل من قومه من باهلة يثق به ، وقال له : ادفع الكتاب الاول إليه ، فإن كان يزيد بن المهلب حاضرا عنده ، فقرأ الكتاب ثم دفعه إلى يزيد فادفع إليه هذا الثاني ، فإن قرأه وألقاه إليه أيضا فادفع إليه الثالث ، وإن قرأ الكتاب الاول ولم يدفعه إلى يزيد ، فاحتبس الكتابين الاخرين معك .
فقدم الرسول على سليمان ، ودخل عليه وعنده يزيد بن المهلب ، فدفع إليه الكتاب الاول ، فقرأ وألقاه إلى يزيد ، فدفع إليه الكتاب الثاني ، فقرأه وألقاه إلى يزيد أيضا ، فدفع إليه الكتاب الثالث ، فقرأه وتغير لونه وطواه ، وأمسكه بيده ، وأمر بإنزال الرسول وإكرامه ، ثم أحضره ليلا ، ودفع إليه جائزته ، وأعطاه عهد قتيبة على خراسان ، وكان ذلك مكيدة من سليمان يسكنه ليطمئن ثم يعزله ، وبعث مع رسوله رسولا ، فلما كان بحلوان بلغه خلع قتيبة سليمان بن عبد الملك ، فرجع رسول سليمان إليه ، فلما اختلفت العرب على قتيبة حين أبدى صفحته لسليمان ، وخلع ربقة الطاعة ، بايعوا وكيع بن أبى سود التميمي على إمارة خراسان ، وكانت أمراء القبائل قد تنكرت لقتيبة لاذلاله إياهم ، واستهانته بهم واستطالته عليهم ، وكرهوا إمارته ، فكانت بيعة وكيع في أول الامر(3/269)
سرا ، ثم ظهر لقتيبة أمره ، فأرسل إليه يدعوه ، فوجده قد طلا رجله بمغرة (1) وعلق في عنقه خرزا ، وعنده رجلان يرقيان رجله ، فقال للرسول : قد ترى ما برجلي ! فرجع وأخبر قتيبة فأعاده إليه ، فقال : قل له ليأتيني محمولا ، قال : لا أستطيع .
فقال قتيبة لصاحب شرطته : انطلق إلى وكيع فأتني به ، فإن أبى فاضرب عنقه ، وأتنى برأسه ، ووجه معه خيلا .
فقال وكيع لصاحب الشرطة : البث قليلا تلحق الكتائب ، وقام فلبس سلاحه ، ونادى في الناس فأتوه ، فخرج فتلقاه رجل ، فقال : ممن أنت ؟ فقال : من بنى أسد ، فقال : ما اسمك ؟ فقال ضرغام ، فقال : ابن من ؟ قال : ابن ليث ، فتيمن به وأعطاه رايته ، وأتاه الناس أرسالا من كل وجه ، فتقدم بهم ، وهو يقول : قوم إذا حمل مكروهة شد الشراسيف لها والحزيم (2) واجتمع إلى قتيبة أهله وثقاته ، وأكثر العرب ألسنتهم له وقلوبهم عليه .
فأمر قتيبة رجلا فنادى : أين بنو عامر ؟ وقد كان قتيبة جفاهم في أيام سلطانه - فقال له مجفر (3) ابن جزء الكلابي : نادهم حيث وضعتهم ، فقال قتيبة : أنشدكم الله والرحم - وذاك لان باهلة وعامرا من قيس عيلان - فقال مجفر : أنت قطعتها ، قال : فلكم العتبى ، فقال مجفر : لا أقالنا الله إذا ، فقال قتيبة : يا نفس صبرا على ما كان من ألم إذ لم أجد لفضول العيش أقرانا ثم دعا (4) ببرذون له مدرب (5) ليركبه ، فجعل يمنعه الركوب حتى أعيا .
فلما رأى ذلك
__________
(1) المغرة : طين أحمر .
(2) البيت في اللسان 15 : 21 ، من غير نسبة .
القرم : السيد .
والشراسيف : أطراف أضلاع الصدر التى تشرف على البطن .
والحزيم : موضع الحزام من الصدرو الظهر كله .
(3) في الطبري : (محصن) .
(4) في الطبري : (ودعا بعمامة ، وكانت أمه بعثت بها إليه : فاعتم بها ، وكان يعتم بها في الشدائد ، ودعا ببرذون ...
) .
(5) المدرب : المؤدب الذى ألف الركوب وعود المشى .
(*)(3/270)
عاد إلى سريره فجلس ، وقال : دعوه ، فإن هذا أمر يراد .
وجاء حيان النبطي - وهو يومئذ أمير الموالى ، وعدتهم سبعة آلاف ، كان واجدا على قتيبة - فقال له عبد الله بن مسلم أخو قتيبة : احمل يا حيان ، فقال : لم يأن بعد ، فقال له : ناولنى قوسك ، فقال حيان : ليس هذا بيوم قوس .
ثم قال حيان لابنه : إذ رأيتنى قد حولت قلنسوتي ، ومضيت نحو عسكر وكيع فمل بمن معك من العجم إلى ، فلما حول حيان قلنسوته ومضى نحو عسكر وكيع ، مالت الموالى معه بأسرها ، فبعث قتيبة أخاه صالح بن مسلم إلى الناس ، فرماه رجل من بنى ضبة فأصاب رأسه ، فحمل إلى قتيبة ورأسه مائل ، فوضعه على مصلاه ، وجلس عند رأسه ساعة ، وتهايج الناس ، وأقبل عبد الرحمن بن مسلم أخو قتيبة نحوهم ، فرماه الغوغاء وأهل السوق فقتلوه ، وأشير على قتيبة بالانصراف ، فقال : الموت أهون من الفرار .
وأحرق وكيع موضعا كانت فيه إبل قتيبة ودوابه ، وزحف بمن معه حتى دنا منه ، فقاتل دونه رجل من أهله قتالا شديدا ، فقال له قتيبة : انج بنفسك ، فإن مثلك يضن به عن القتل ، قال : بئسما جزيتك به أيها الامير إذا ، وقد أطعمتني الجردق ، والبستني النمرق (1) .
وتقدم الناس حتى بلغوا فسطاط قتيبة ، فأشار عليه نصحاؤه بالهرب ، فقال : إذا لست لمسلم بن عمرو ! ثخرج إليهم بسيفه يجالدهم ، فجرح جراحات كثيرة ، حتى ارتث (2) وسقط ، فإكبوا عليه ، فاحتزوا رأسه ، وقتل معه من اخوته عبد الرحمن ، وعبد الله وصالح ، والحصين ، وعبد الكريم ، ومسلم ، وقتل معه جماعة من أهله وعدة من قتل معه من أهله وإخوته أحد عشر رجلا .
وصعد وكيع بن أبى سود المنبر وأنشد : * من ينك العير ينك نياكا * (3)
__________
(1) الجردق : الرغيف ، معرب فارسيته : (كرده) .
والنمرق : الميترة .
(2) ارتث ، بالبناء للمجهول : حمل من المعركة جريحا وبه رمق .
(3) مثل ، قاله خضربن شبل الخثعمي ، في خبر ذكره صاحب مجمع الامثال 2 : 305 (*)(3/271)
إن قتيبة أراد قتلى ، وأنا قتال الاقران ، ثم أنشد : قد جربوني ثم جربوني من غلوتين ومن المئين حتى إذا شبت وشيبونى خلوا عناني ثم سيبوني (1) حذار منى وتنكبوني فإننى رام لمن يرمينى ثم قال : أنا أبو مطرف ، يكررها مرارا ، ثم قال : أنا ابن خندف تنمينى قبائلها للصالحات وعمى قيس عيلانا ثم أخذ بلحيته ، وقال : إنى لاقتلن ثم لاقتلن ولاصلبن ثم لاصلبن ، إن مرزبانكم (2) هذا ابن الزانية ، قد أغلى أسعاركم ، والله لئن لم يصر القفيز (3) بأربعة دراهم لاصلبنه ، صلوا على نبيكم .
ثم نزل وطلب رأس قتيبة وخاتمه ، فقيل له : إن الازد أخذته ، فخرج مشهرا (4) ، وقال : والله الذى لا إله إلا هو لا أبرح حتى أوتى بالرأس ، أو يذهب رأسي معه ، فقال له الحصين بن المنذر : يا أبا مطرف فإنك تؤتى به .
ثم ذهب إلى الازد ، فأخذ الرأس وأتاه به ، فسيره إلى سليمان بن عبد الملك ، فأدخل عليه ومعه رءوس إخوته وأهله ، وعنده الهذيل بن زفر بن الحارث الكلابي ، فقال : أساءك هذا يا هذيل ؟ قال : لو ساءنى لساء ناسا كثيرا .
فقال سليمان : ما أردت هذا كله ، وإنما قال سليمان ذلك للهذيل ، لان قيس عيلان تجمع كلابا وباهلة ، قالوا : ما ولى خراسان أحد كقتيبة بن مسلم ، ولو كانت باهلة في الدناءة والضعة واللؤم إلى أقصى غاية ، لكان لها بقتيبة الفخر على قبائل العرب .
__________
(1) أصله في الدابة ، يقال : سيب الدابة ، إذا تركها تذهب حيث شاءت ، وفي تاريخ الطبري : حتى إذا شبت وشببونى خلوا عناني وتنكبوني وانظر أمالى القالى 1 : 286 (2) المرزبة : رياسة الفرس ، وهو مرزبانهم .
(3) الطبري : (والله ليصيرن القفين في السوق غدا بأربعة) .
(4) أي مشهرا سيفه .
(*)(3/272)
قال رؤساء خراسان من العجم لما قتل قتيبة : يا معشر العرب ، قتلتم قتيبة ، والله لو كان منا ثم مات لجعلناه في تابوت ، فكنا نستفتح به إذا غزونا .
وقال الاصبهبذ (1) : يا معشر العرب ، قتلتم قتيبة ويزيد بن المهلب ، لقد جئتم شيئا إدا ! فقيل له : أيهما كان أعظم عندكم وأهيب ؟ قال : لو كان قتيبة بأقصى حجرة (2) في المغرب ، مكبلا بالحديد و القيود ، ويزيد معنا في بلدنا وال علينا ، لكان قتيبة أهيب في صدورنا وأعظم .
وقال عبد الرحمن بن جمانة الباهلى يرثى قتيبة : كأن أبا حفص قتيبة لم يسر بجيش إلى جيش ولم يعل منبرا ولم تخفق الرايات والجيش حوله صفوفا ولم يشهد له الناس عسكرا دعته المنايا فاستجاب لربه وراح إلى الجنات عفا مطهرا فما رزئ الاسلام بعد محمد بمثل أبى حفص ، فبكيه عبهرا عبهر : أم ولد له .
* * * وفي الحديث الصحيح : (إن من خير الناس رجلا ممسكا بعنان فرسه في سبيل الله ، كلما سمع هيعة (3) طار إليها) .
كتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد : واعلم أن عليك عيونا من الله ترعاك وتراك ، فإذا لقيت العدو ، فاحرص على الموت توهب لك الحياة ، ولا تغسل الشهداء من دمائهم ، فإن دم الشهيد يكون له نورا يوم القيامة .
__________
(1) الاصبهبذ في الديلم : كالامير في العرب .
(2) الحجرة : الناحية .
(3) الهيعة : الصوت أو الصياح .
(18 - نهج - 3) (*)(3/273)
عمر : لا تزالون أصحاء ما نزعتم ونزوتم ، يزيد : ما نزعتم في (1) القوس ، ونزوتم على الخيل .
بعض الخوارج : ومن يخش أظفار المنايا فإننا لبسنا لهن السابغات من الصبر وإن كريه الموت عذب مذاقه إذا ما مزجناه بطيب من الذكر حفص منصور بن عمار في قصصه على الغزو والجهاد ، فطرحت في المجلس صرة فيها شئ ، ففتحت فإذا فيها ضفيرتا امرأة ، وقد كتبت : رأيتك يا بن عمار تحض على الجهاد ، ووالله إنى لا أملك لنفسي مالا ، ولا أملك سوى ضفيرتي هاتين ، وقد ألقيتهما إليك ، فتالله إلا جعلتهما قيد فرس غاز في سبيل الله ، فلعل الله أن يرحمنى بذلك .
فارتج المجلس بالبكاء والضجيج .
* * * لبعض شعراء العجم : وا سوءتا لامرئ شبيبته في عنفوان وماؤه خضل ! راض بنزر المعاش مضطهد على تراث الاباء يتكل لا حفظ الله ذاك من رجل ولا رعاه ما أطت الابل كلا وربى حتى تكون فتى قد نهكته الاسفار والرحل مشمرا يطلب الرياسة أو يضرب يوما بهلكه المثل حتى متى تتبع الرجال ولا تتبع يوما ، لامك الهبل ! * * *
__________
(1) يقال : نزع في القوس نزعا ، وإذا جذب الوتر بالسهم .
(*)(3/274)
عبد الله بن ثعلبة الازدي : فلئن عمرت لاشفين النفس من تلك المساعى ولاعلمن البطن أن الزاد ليس بمستطاع أما النهار فقد أرى قومي بمرقبة يفاع (1) في قرة هلك وشوك مثل أنياب الافاعى (2) ترد السباع معى فتحسبني السباع من السباع * * * مجير الجراد أبو حنبل حارثة بن مر الطائى ، أجار جرادا نزل به ومنع من صيده ، حتى طار من أرضه ، فسمى مجير الجراد .
وقال هلال بن معاوية الطائى : وبالجبلين لنا معقل صعدنا إليه بصم الصعاد ملكناه في أوليات الزمان من قبل نوح ومن قبل عاد ومنا ابن مر أبو حنبل أجار من الناس رجل الجراد وزيد لنا ولنا حاتم غياث الورى في السنين الشداد * * * وقال يحيى بن منصور الحنفي : ولما نأت عنا العشيرة كلها أنخنا فحالفنا السيوف على الدهر (3) فما أسلمتنا عند يوم كريهة ولا نحن أغضينا الجفون على وتر
__________
(1) اليفاع : التل .
(2) ما يصيب الانسان من البرد .
(3) ديوان الحماسة 326 - بشرح المرزقى .
(*)(3/275)
وقال آخر : أرق لارحام أرها قريبة لحار بن كعب لا لجرم وراسب (1) وإنا نرى أقدامنا في نعالهم وآنفنا بين اللحى والحواجب وإقدامنا يوم الوغى وإباءنا إذا ما أبينا لا ندر لعاصب * * * حاصرت الترك مدينة برذعة من أعمال أذربيجان في أيام هشام بن عبد الملك حصارا شديدا ، واستضعفتها وكادت تملكها ، وتوجه إليها لمعاونتها سعيد الحرشى من قبل هشام بن عبد الملك في جيوش كثيفة ، وعلم الترك بقربه منهم فخافوا ، وأرسل سعيد واحدا من أصحابه إلى أهل برذعة سرا يعرفهم وصوله ، ويأمرهم بالصبر خوفا ألا يدركهم ، فسار الرجل ، ولقيه قوم من الترك ، فأخذوه وسألوه عن حاله ، فكتمهم فعذبوه ، فأخبرهم وصدقهم فقالوا : إن فعلت ما نأمرك به أطلقناك ، وإلا قتلناك ، فقال : ما تريدون ؟ قالوا : أنت عارف بأصحابك ببرذعة وهم يعرفونك ، فإذا وصلت تحت السور فنادهم : إنه ليس خلفي مدد ، ولا من يكشف ما بكم ، وإنما بعثت جاسوسا .
فأجابهم إلى ذلك ، فلما صار تحت سورها ، وقف حيث يسمع أهلها كلامه ، وقال لهم : أتعرفونني ؟ قالوا : نعم ، أنت فلان ابن فلان ، قال : فإن سعيدا الحرشى قد وصل إلى مكان كذا في مائة ألف سيف ، وهو يأمركم بالصبر وحفظ البلد ، وهو مصبحكم أو ممسيكم ، فرفع أهل برذعة أصواتهم بالتكبير ، وقتلت الترك ذلك الرجل ، ورحلوا عنها ووصل سعيد فوجد أبوابها مفتوحة وأهلها سالمين .
وقال الراجز : من كان ينوى أهله فلا رجع فر من الموت وفي الموت وقع
__________
(1) ديوان الحماسة 1 : 328 بشرح المرزوقى ، ونسبها إلى بعض بنى عبس .
(*)(3/276)
أشرف معاوية يوما فرأى عسكر على عليه السلام بصفين فهاله ، فقال : من طلب عظيما خاطر بعظيمته .
وقال الكلحبة : إذا المرء لم يغش المكارة أوشكت حبال الهوينى بالفتى أن تقطعا (1) * * * ومن شعر الحماسة : أقول لها وقد طارت شعاعا من الابطال ويحك لا تراعى (2) فإنك لو سألت بقاء يوم على الاجل الذى لك لم تطاعى فصبرا في مجال الموت صبرا فما نيل الخلود بمستطاع ولا ثوب البقاء بثوب عز فيطوى عن أخى الخنع اليراع (3) سبيل الموت غاية كل حى فداعيه لاهل الارض داع ومن لا يعتبط يسأم ويهرم وتسلمه المنون إلى انقطاع وما للمرء خير في حياة إذا ما عد من سقط المتاع ومنه أيضا : وفي الشر نجاة حين لا ينجيك إحسان ومنه أيضا : ولم ندر إن جضنا عن الموت جيضة كم العمر باق والمدى متطاول (5)
__________
(1) المفضليات 32 (2) لقطرى بن الفجاءت ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 1 : 96 (3) أخو الخنع : الذليل .
واليراع : الرجل الجبان ، كأنه لا قلب له ، تشبيها له بالقصبة الجوفاء .
(4) للفند الزمانى ، ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 1 : 26 (5) لجعفر بن علبة الحارثى ، ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 1 : 48 .
جضنا : عدلنا وانحرفنا .
(*)(3/277)
ومنه أيضا : ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة يرى غمرات الموت ثم يزورها (1) ومنه أيضا : فلا تحسبى أنى تخشعت بعدكم لشئ ولا أنى من الموت أفرق (2) ولا أن نفسي يزدهيها وعيدكم (3) ولا أننى بالمشى في القيد أخرق ومنه أيضا : سأغسل عنى العار بالسيف جالبا على قضاء الله ما كان جالبا (4) وأذهل عن دارى وأجعل هدمها لعرصى من باقى المذمة حاجبا ويصغر في عينى تلادى إذا انثنت يمينى بإدراك الذى كنت طالبا فإن تهدموا بالغر دارى فإنها تراث كريم لا يبالى العواقبا أخى عزمات لا يطيع على الذى يهم به من مفظع الامر عاتبا إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ونكب عن ذكر العواقب جانبا فيا لرزام رشحوا بى مقدما إلى الموت خواضا إليه السباسبا إذا هم لم تردع عزيمة همه ولم يأت ما يأتي من الامر هائبا ولم يستشر في أمره غير نفسه ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا ومنه أيضا : هما خطتا إما إسار ومنة وإما دم ، والقتل بالحر أجدر (5)
__________
(1) لجعفر بن علبة أيضا ، ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 1 : 50 (2) له أيضا ، ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 1 : 54 .
(3) وفى الشرح : ويروى (وعيدهم) .
(4) لسعد بن ناشب ، ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 1 : 70 (5) لبأبط شرا ، ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 1 : 78 (*)(3/278)
ومنه أيضا : وإنا لقوم لا نرى القتل سبة إذا ما رأئه عامر وسلول (1) يقصر حب الموت آجالنا لنا وتكرهه آجالهم فتطول وما مات منا سيد حتف أنفه ولا طل منا حيث كان قتيل تسيل على حد الظباة نفوسنا وليست على غير السيوف تسيل ومنه أيضا : لا يركنن أحد إلى الاحجام يوم الوغى متخوفا لحمام (2) فلقد أرانى للرماح دريئة من عن يمينى تارة وأمامي حتى خضبت بما تحدر من دمى أكناف سرجى أو عنان لجامى ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب جذع البصيرة قارح الاقدام ومنه أيضا : وإنى لدى الحرب الضروس موكل بإقدام نفس لا أريد بقاءها (3) متى يأت هذا الموت لا تلف حاجة لنفسي إلا قد قضيت قضاءها * * * كتب عبد الحميد بن يحيى عن مروان بن محمد إلى أبى مسلم كتابا ، حمل على جمل لعظمه وكثرته .
وقيل : إنه لم يكن في الطول إلى هذه الغاية ، وقد حمل على جمل تعظيما لامره ، وقال لمروان بن محمد : إن قرأه خاليا نخب (4) قلبه ، وإن قرأه في ملا من
__________
(1) للسموءل ، ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 1 : 111 (2) لقطرى بن الفجاءة ، ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 1 : 130 (3) لقيس بن الخطيم ، ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 1 : 181 (4) نخب : جبن .
(*)(3/279)
أصحابه ثبطهم وخذلهم ، فلما وصل إلى أبى مسلم أحرقه بالنار ولم يقرأه ، وكتب على بياض كان على رأسه وأعاده إلى مروان : محا السيف أسطار البلاغة وانتحت إليك ليوث الغاب من كل جانب (1) فإن تقدموا نعمل سيوفا شحيذة يهون عليها العتب من كل عاتب (2) ويقال : إن أول الكتاب كان : لو أراد الله بالنملة صلاحا ، لما أنبت لها جناحا .
وكتب أبو مسلم إلى نصر بن سيار ، وهو أول كتاب صدر عن أبى مسلم إلى نصر ، وذلك حين لبس السواد ، وأعلن بالدعوة في شهر رمضان من سنة تسع وعشرين ومائة : أما بعد فإن الله جل ثناؤه ذكر أقواما فقال : (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الامم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا * استكبارا في الارض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ، فهل ينظرون إلا سنة الاولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا) فلما ورد الكتاب إلى نصر تعاظمه أمره ، وكسر له إحدى عينيه ، وقال : إن لهذا الكتاب لاخوات ، وكتب إلى مروان يستصرخه ، وإلى يزيد بن هبيرة يستنجده ، فقعدا عنه حتى أفضى ذلك إلى خروج الامر عن بنى عبد شمس .
* * * الرضى الموسوي رحمه الله تعالى : سأمضى للتى لا عيب فيها وإن لم أستفد إلا عناء (4)
__________
(1) انتحت : قصدت .
(2) شحيذة : مسنونة .
(3) سورة فاطر 42 ، 43 .
(4) ديوانه لوحة 75 - 76 (*)(3/280)
وأطلب غاية إن طوحت بى أصابت بى الحمام أو العلاء نماني من أباة الضيم آب (1) أفاض على تلك الكبرياء ومنا كل أغلب مستميت إذا أنت لددته بالذل قاء (2) إذا ما ضيم نمر صفحتيه وقام على براثنه إباء (3) ونأبى أن ينال النصف منا وأن نعطى مقارعنا السواء ولو كان العداء يسوغ فينا لما سمنا الورى إلا العداء وله : سيقطعك المهند ما تمنى ويعطيك المثقف ما تشاء (4) وما ينجى من الغمرات إلا طعان أو ضراب أو رماء * * * ومن أهل الاباء الذين كرهوا الدنية واختاروا عليها المنية ، عبد الله بن الزبير ، تفرق عنه - لما حاربه الحجاج بمكة ، وحصره في الحرم - عامة أصحابه ، وخرج كثير منهم إلى الحجاج في الامان ، حتى حمزة وخبيب ابناه ، فدخل عبد الله على أمه أسماء بنت أبى بكر الصديق ، وكانت قد كف بصرها ، وهى عجوز كبيرة ، فقال لها : خذلني الناس حتى ولدى وأهلي ، ولم يبق معى إلا من ليس عنده من الدفع أكثر من ساعة ، والقوم يعطوننى من الدنيا ما سألت ، فما رأيك ؟ فقالت : أنت يا بنى أعلم بنفسك ، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له ، فقد قتل أكثر أصحابك ، فلا تمكن من رقبتك يتلاعب بها غلمان بنى أمية ، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت ! أهلكت
__________
(1) الديوان : (تام) .
(2) الاغلب : الشجاع ، وأصله في الاسد .
(3) الصفحتان : جانبا العنق ، ونمرهما : جعلهما يشبهان صفحة النمر .
(4) ديوانه لوحة 176 (*)(3/281)
نفسك ، وأهلكت من قتل معك ، وإن كنت قاتلت على الحق ، فما وهن أصحابك إلا ضعفت ، فليس هذا فعل الاحرار ولا أهل الدين .
وكم خلودك في الدنيا ! القتل أحسن .
فدنا عبد الله منها فقبل رأسها ، وقال : هذا والله رأيى ، والله ما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها ، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله تعالى عزوجل أن تستحل محارمه ، ولكننى أحببت أن أعلم رأيك ، فقد زدتني بصيرة ، فانظري يا أماه ، إنى مقتول يومى هذا ، فلا يشتد جزعك ، وسلمى لامر الله ، فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر ، ولا عملا بفاحشة ، ولم يجر في حكم الله ، ولم يظلم مسلما ولا معاهدا ، ولا بلغني ظلم عن عامل من عمالى فرضيت به بل أنكرته ، ولم يكن شئ عندي آثر من رضا الله .
اللهم إنى لا أقول هذا تزكية لنفسي ، أنت أعلم بى ، ولكني أقوله تعزية لامى لتسلو عنى .
فقالت : إنى لارجو من الله أن يكون عزائى فيك حسنا إن تقدمتني ، فاخرج لانظر إلى ماذا يصير أمرك ! فقال : جزاك الله خيرا يا أمي ! فلا تدعى الدعاء لى حيا وميتا .
قالت : لا أدعه أبدا ، فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق ، ثم قالت : اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل ، وذلك النحيب في الظلماء ، وذلك الصوم في هواجر مكة والمدينة ، وبره بأبيه وبى ، اللهم إنى قد أسلمت لامرك ، ورضيت بما قضيت فيه ، فأثبني عليه ثواب الصابرين .
وقد روى في قصة عبد الله مع أمه أسماء رواية أخرى ، أنه لما دخل عليها وعليه الدرع والمغفر - وهى عمياء لا تبصر - وقف فسلم ، ثم دنا فتناول يدها فقبلها ، قالت : هذا وداع فلا تبعد ، فقال : نعم ، إنما جئت مودعا ، إنى لارى هذا اليوم آخر أيامى من الدنيا ، واعلمي يا أمي أنى إذا قتلت فإنما أنا لحم لا يضرنى ما صنع بى ، فقالت : صدقت يا بنى ! أقم على بصيرتك ، ولا تمكن ابن أبى عقيل منك ، ادن منى لاودعك ، فدنا منها فقبلته(3/282)
وعانقته ، فوجدت مس الدرع ، فقالت : ما هذا صنع من يريد ما تريد .
فقال : إنما لبسته لاشد منك ، قالت : إنه لا يشد منى ، ثم انصرف عنها ، وهو يقول : إنى إذا أعرف يومى أصبر إذ بعضهم يعرف ثم ينكر وأقام أهل الشام على كل باب من أبواب الحرم (1) رجالا وقائدا ، فكان لاهل حمص الباب الذى يواجه باب الكعبة ، ولاهل دمشق باب بنى شيبة ، ولاهل الاردن باب الصفا ، ولاهل فلسطين باب جمع ، ولاهل قنسرين باب بنى سهم .
وخرج ابن الزبير فمرة يحمل هاهنا ومرة يحمل هاهنا ، وكأنه أسد لا يقدم عليه الرجال ، وأرسلت إليه زوجته : أ أخرج فأقاتل معك ؟ فقال : لا ، وأنشد : كتب القتل والقتال علينا وعلى المحصنات جر الذيول (2) فلما كان الليل ، قام يصلى إلى قريب السحر ثم أغفى محتبيا بحمائل سيفه ، ثم قام فتوضأ وصلى ، وقرأ (ن والقلم وما يسطرون) ، ثم قال بعد انقضاء صلاته : من كان عنى سائلا فإنى في الرعيل الاول ، ثم أنشد : ولست بمبتاع الحياة بسبة ولا مرتق من خشية الموت سلما (3) ثم حمل حتى بلغ الحجون ، فرمى باجرة ، فأصابت وجهه فدمي ، فلما وجد سخونة الدم يسيل على وجهه ، أنشد : ولسنا على الاعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدما (3) ثم حمل على أهل الشام فغاص فيهم ، واعتوروه بأسيافهم حتى سقط ، وجاء الحجاج
__________
(1) كذا في ج ، وهو الصواب ، وفي ب : (مكة) (2) ينسب إلى عمر بن أبى ربيعة ، ملحق ديوانه 498 .
(3) للحصين بن الحمام المرى ، من مفضليته ص 64 - 69 (*)(3/283)
فوقف عليه وهو ميت ، ومعه طارق بن عمرو ، فقال : ما ولدت النساء أذكر من هذا ! وبعث برأسه إلى المدينة ، فنصب بها ، ثم حمل إلى عبد الملك .
* * * أبو الطيب المتنبي : أطاعن خيلا من فوارسها الدهر وحيدا وما قولى كذا ومعى الصبر ! (1) وأشجع منى كل يوم سلامتي وما ثبتت إلا وفي نفسها أمر تمرست بالافات حتى تركتها تقول : أمات الموت ؟ أم ذعر الذعر ؟ وأقدمت إقدام الابى كأن لى سوى مهجتي أو كان لى عندها وتر (2) ذر النفس تأخذ حظها قبل بينها فمفترق جاران دارهما العمر ! ولا تحسبن المجد زقا وقينة فما المجد إلا السيف والفتكة البكر (3) وتضريب هامات الملوك وأن ترى لك الهبوات السود والعسكر المجر (4) وتركك في الدنيا دويا كأنما تداول سمع المرء أنمله العشر * * * وقال ابن حيوس : ولست كمن أخنى عليه زمانه فظل على أحداثه يتعتب (5) تلذ له الشكوى وإن لم يفد بها صلاحا كما يلتذ بالحك أجرب ولكننى أحمى ذمارى بعزمة تنوب مناب السيف والسيف مقضب (6)
__________
(1) ديوانه 1 : 148 (2) في الديوان : (إقدام الاتى) ، والاتي : السيل الذى لا يرده شئ .
(3) القينة : المغنية والزق : ظرف الخمر .
والفتكة البكر : التى لم يسبق إلى مثلها .
(4) الهبوات : جمع هبوة ، وهى الغيرة العظيمة .
والمجر : الجيش العظيم .
(5) ديوانه 1 : 35 .
(6) المقضب : السيف القطاع .
(*)(3/284)
وليس الفتى من لم تسم جسمه الظبا ويحطم فيه من قنا الخط أكعب (1) وله أيضا : أخفق المترف الجنوح إلى الخفض وفاز المخاطر المقدام (2) وإذا ما السيوف لم تشهد الحرب فسيان صارم وكهام * * * وممن تقبل مذاهب الاسلاف في إباء الضيم وكراهية الذل ، واختار القتل على ذلك وأن يموت كريما ، أبو الحسين زيد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب عليه السلام ، أمه أم ولد ، وكان السبب في خروجه وخلعه طاعة بنى مروان ، أنه كان يخاصم عبد الله بن حسن بن حسن بن على بن أبى طالب عليه السلام في صدقات على عليه السلام ، هذا يخاصم عن بنى حسين ، وهذا عن بنى حسن ، فتنازعا يوما عند خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم أمير المدينة ، فأغلظ كل واحد منهما لصاحبه ، فسر خالد بن عبد الملك بذلك ، وأعجبه سبابهما ، وقال لهما حين سكنا : اغدوا على ، فلست بابن عبد الملك إن لم أفصل بينكما غدا ، فباتت المدينة تغلى كالمرجل ، فمن قائل يقول : قال زيد كذا ، وقائل يقول : قال عبد الله كذا ، فلما كان الغد جلس خالد في المسجد ، وجمع الناس ، فمن بين شامت ، ومغموم ، ودعا بهما وهو يحب أن يتشاتما ، فذهب عبد الله يتكلم ، فقال زيد : لا تعجل يا أبا محمد ، أعتق زيد ما يملك إن خاصمك إلى خالد أبدا ، ثم أقبل على خالد ، فقال له : أجمعت ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله لامر ما كان يجمعهم عليه أبو بكر ولا عمر ، فقال خالد : أما لهذا السفيه أحد يكلمه ! فتكلم رجل من الانصار من آل عمرو بن حزم ، فقال : يا بن أبى تراب ، ويا بن
__________
(1) الديوان : (تسم جسمه) .
(2) ديوانه 2 : 566 (*)(3/285)
حسين السفيه ! أما ترى عليك لوال حقا ولا طاعة ! فقال زيد : اسكت أيها القحطاني ، فإنا لا نجيب مثلك ، فقال الانصاري : ولم ترغب عنى ! فو الله إنى لخير منك ، وأبى خير من أبيك ، وأمى خير من أمك ! فتضاحك زيد ، وقال : يا معشر قريش ، هذا الدين قد ذهب ، أفذهبت الاحساب ! فتكلم عبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، فقال : كذبت أيها القحطاني ، والله لهو خير منك نفسا وأبا وأما ومحتدا ، وتناوله بكلام كثير ، وأخذ كفا من الحصا ، فضرب به الارض ، وقال : إنه والله ما لنا على هذا من صبر ، وقام .
فقام زيد أيضا ، وشخص من فوره إلى هشام بن عبد الملك ، فجعل هشام لا يأذن له وزيد يرفع إليه القصص ، وكلما رفع إليه قصة كتب هشام في أسفلها : ارجع إلى أرضك ، فيقول زيد : والله لا أرجع إلى ابن الحارث أبدا .
ثم أذن له بعد حبس طويل وهشام في علية له ، فرقى زيد إليها ، وقد أمر هشام خادما له أن يتبعه حيث لا يراه زيد ، ويسمع ما يقول .
فصعد زيد - وكان بادنا - فوقف في بعض الدرجة ، فسمعه الخادم ، وهو يقول : ما أحب الحياة إلا من ذل ! فأخبر الخادم هشاما بذلك ، فلما قعد زيد بين يدى هشام وحدثه حلف له على شئ ، فقال هشام : لا أصدقك ، فقال زيد : إن الله لا يرفع أحدا عن أن يرضى بالله ، ولم يضع أحدا عن أن يرضى بذلك منه .
قال له هشام : إنه بلغني أنك تذكر الخلافة وتتمناها ، ولست هناك ! لانك ابن أمة ، فقال زيد : إن لك جوابا ، قال : تكلم ، قال : إنه ليس أحد أولى بالله ، ولا أرفع درجة عنده من نبى ابتعثه ، وهو إسماعيل بن إبراهيم ، وهو ابن أمة ، قد اختاره الله لنبوته ، وأخرج منه خير البشر ، فقال هشام : فما يصنع أخوك البقرة ! فغضب زيد ، حتى كاد يخرج من إهابه ، ثم قال : سماه رسول الله صلى الله عليه وآله الباقر وتسميه أنت البقرة ! لشد ما اختلفتما ! لتخالفنه في الاخرة ، كما خالفته في الدنيا ، فيرد الجنة ، وترد النار .(3/286)
فقال هشام : خذوا بيد هذا الاحمق المائق ، فأخرجوه ، فأخذ الغلمان بيده فأقاموه ، فقال هشام : احملوا هذا الخائن الاهوج إلى عامله ، فقال زيد : والله لئن حملتني إليه لا أجتمع أنا وأنت حيين ، وليموتن الاعجل منا .
فأخرج زيد وأشخص إلى المدينة ، ومعه نفر يسيرونه حتى طردوه عن حدود الشام ، فلما فارقوه عدل إلى العراق ، ودخل الكوفة ، وبايع لنفسه ، فأعطاه البيعة أكثر أهلها ، والعامل عليها وعلى العراق يومئذ يوسف بن عمر الثقفى ، فكان بينهما من الحرب ما هو مذكور في كتب التواريخ .
وخذل أهل الكوفة زيدا ، وتخلف معه ممن تابعه نفر يسير ، وأبلى بنفسه بلاء حسنا وجهادا عظيما ، حتى أتاه سهم غرب (1) ، فأصاب جانب جبهته اليسرى ، فثبت في دماغه فحين نزع منه مات عليه السلام .
* * * عنف محمد بن عمر بن على بن أبى طالب عليه السلام زيدا لما خرج ، وحذره القتل ، وقال له : إن أهل العراق خذلوا أباك عليا وحسنا وحسينا عليهم السلام ، وإنك مقتول ، وإنهم خاذلوك ، فلم يثن ذلك عزمه وتمثل .
بكرت تخوفنى الحتوف كأننى أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل (2) فأجبتها إن المنية منهل لابد أن أسقى بذاك المنهل إن المنية لو تمثل مثلت مثلى ، إذا نزلوا بضيق المنزل (3) فاقنى حياءك لا أبالك واعلمي أنى امرؤ سأموت إن لم أقتل (4) * * *
__________
(1) سهم غرب ، على الاضافة : لا يدرى راميه .
(2) لعنترة ، ديوانه 42 ، (من مجموعة العقد الثمين) .
(3) في الديوان : (ضنك المنزل) .
(4) اقنى حياءك : الزميه .
(*)(3/287)
العلوى البصري صاحب الزنج يقول : وإذا تنازعني أقول لها قرى موت الملوك على صعود المنبر ما قد قضى سيكون فاصطبري له ولك الامان من الذى لم يقدر وقال أيضا : إنى وقومي في أنساب قومهم كمسجد الخيف في بحبوحة الخيف ما علق السيف منا بابن عاشرة إلا وعزمته أمضى من السيف بعض الطالبيين : وإنا لتصبح أسيافنا إذا ما انتضين ليوم سفوك منابرهن بطون الاكف وأغمادهن رءوس الملوك بعض الخوارج يصف أصحابه : وهم الاسود لدى العرين بسالة ومن الخشوع كأنهم أحبار يمضون قد كسروا الجفون إلى الدعا متبسمين وفيهم استبشار فكأنما أعداؤهم أحبابهم فرحا إذا خطر القنا الخطار يردون حومات الحمام وإنها تالله عند نفوسهم لصغار ولقد مضوا وأنا الحبيب إليهم وهم لدى أحبه أبرار قدر يخلفني ويمضيهم به يا لهف كيف يفوتنى المقدار ! وفي الحديث المرفوع (خلقان يحبهما الله : الشجاعة والسخاء) .
* * * كان بشر بن المعتمر من قدماء شيوخنا رحمه الله تعالى يقول بتفضيل على عليه السلام(3/288)
ويقول : كان أشجعهم وأسخاهم ، ومنه سرى القول بالتفضيل إلى أصحابنا البغداديين قاطبة ، وفي كثير من البصريين .
دخل النضر بن راشد العبدى على امرأته في حرب الترك بخراسان في ولاية الجنيد ابن عبد الرحمن المرى في خلافة هشام بن عبد الملك ، والناس يقتتلون ، فقال لها : كيف تكونين إذا أتيت بى في لبد قتيلا مضرجا بالدماء ؟ فشقت جيبها ، ودعت بالويل ، فقال : حسبك ! لو أعولت على كل أنثى لعصيتها شوقا إلى الجنة .
ثم خرج فقاتل حتى قتل ، وحمل إلى امرأته في لبد ودمه يقطر من خلاله .
* * * قال أبو الطيب المتنبي : إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم (1) فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم يرى الجبناء أن الجبن حزم وتلك خديعة الطبع اللئيم وكل شجاعة في المرء تغنى ولا مثل الشجاعة في الحكيم وقال : إذا لم تجد ما يبتر العمر قاعدا فقم واطلب الشئ الذى يبتر العمرا (2) وقال : أهم بشئ والليالي كأنها تطاردني عن كونه وأطارد (3) وحيدا من الخلان في كل بلدة إذا عظم المطلوب قل المساعد * * *
__________
(1) ديوانه 4 : 119 (2) ديوانه 2 : 114 (3) ديوانه 1 : 270 (19 - نهج - 3)(3/289)
قيل لابي مسلم في أيام صباه : نراك تنظر إلى السماء كثيرا كأنك تسترق السمع ، أو تنتظر نزول الوحى ! قال : لا ، ولكن لى همة عالية ، ونفس تتطلع إلى معالى الامور ، مع عيش كعيش الهمج والرعاع ، وحال متناهية في الاتضاع .
قيل : فما الذى يشفى علتك ، ويروى غلتك ؟ قال : الملك ، قيل : فاطلب الملك ، قال : إن الملك لا يطلب هكذا .
قيل : فما تصنع وأنت تذوب حسرا (1) ، وتموت كمدا ؟ قال : سأجعل بعض عقلي جهلا ، وأطلب به ما لا يطلب إلا بالجهل ، وأحرس بالباقي ما لا يحرس إلا بالعقل ، فأعيش بين تدبير ضدين ، فإن الخمول أخو العدم ، والشهرة أخت الكون .
* * * قال ابن حيوس : أمواتهم بالذكر كالاحياء ولحيهم فضل على الاحياء (2) نزلوا على حكم المروءة وامتطوا بالبأس ظهر العزة القعساء والعز لا يبقى لغير معود أن يكشف الغماء بالغماء لا تحسب الضراء ضراء إذا أفضت بصاحبها إلى السراء وقال : وهى الرياسة لا تبوح بسرها إلا لاروع لا يباح ذماره (3) يحمى حماه قلبه ولسانه وتذود عنه يمينه ويساره لا العذل ناهيه ، ولا الحرص الذى أمر النفوس بشحها أماره فليعلم الساعي ليبلغ ذا المدى أن الطريق كثيرة أخطاره * * *
__________
(1) يقال حصر عليه حسرا وحسرة ، أي تلهف .
(2) ديوانه 1 : 12 - 19 (3) ديوانه 1 : 298 - 299 (*)(3/290)
كان ثابت قطنة في خيل عبد الله بن بسطام في فتح شكند من بلاد الترك في أيام هشام بن عبد الملك ، فاشتدت شوكة الترك ، وانحاز كثير من المسلمين واستؤسر منهم خلق ، فقال ثابت : والله لا ينظر إلى بنو أمية غدا مشدودا في الحديد ، أطلب الفداء ، اللهم إنى كنت ضيف ابن بسطام البارحة ، فاجعلني ضيفك الليلة ، ثم حمل وحمل معه جماعة ، فكسرتهم الترك ، فرجع أصحابه وثبت هو ، فرمى برذونه فشب ، وضربه فأقدم ، فصرع ثابت وارتث ، فقال : اللهم إنك استجبت دعوتي وأنا الان ضيفك ، فاجعل قراى الجنة ، فنزل تركي فأجهز عليه .
* * * قال يزيد بن المهلب لابنه خالد ، وقد أمره على جيش في حرب جرجان : يا بنى ، إن غلبت على الحياة فلا تغلبن على الموت ، وإياك أن أراك غدا عندي مهزوما ! عن النبي صلى الله عليه وسلم : (الخير في السيف ، والخير مع السيف ، والخير بالسيف) ، كما يقال : المنية ولا الدنية ، والنار ولا العار ، والسيف ولا الحيف .
قال سيف بن ذى يزن لانوشروان حين أعانه بوهرز الديلمى ومن معه : أيها الملك ، أين تقع ثلاثة آلاف من خمسين ألفا ؟ فقال : يا أعرابي ، كثير الحطب يكفية قليل النار .
* * * لما حبس مروان بن محمد إبراهيم الامام خرج أبو العباس السفاح ، وأخوه أبو جعفر ، وعبد الوهاب ومحمد ابنا إبراهيم الامام ، وعيسى وصالح وإسماعيل وعبد الله وعبد الصمد أبناء على بن عبد الله بن العباس ، وعيسى بن موسى بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس ، ويحيى بن جعفر بن تمام بن العباس ، من الحميمة من أرض السراة ، يطلبون الكوفة ، وقد كان داود بن على بن عبد الله بن العباس وابنه موسى بن داود بالعراق ، فخرجا يطلبان الشام ، فتلقاهما أبو العباس وأهل بيته بدومة الجندل ، فسألهم داود عن(3/291)
خروجهم ، فأخبروه أنهم يريدون الكوفة ليظهروا بها ، ويدعوا إلى البيعة لابي العباس .
فقال : يا أبا العباس ، يظهر أمرك الان بالكوفة ، ومروان بن محمد شيخ بنى أمية بحران مطل على العراق في جيوش أهل الشام والجزيرة ، ويزيد بن عمر بن هبيرة شيخ العرب بالعراق في فرسان العرب ! فقال : يا عم من أحب الحياة ذل ، ثم تمثل بقول الاعشى : فما ميتة إن متها غير عاجز بعار إذا ما غالت النفس غولها (1) فقال داود لابنه موسى : صدق ابن عمك ، ارجع بنا معه ، فإما أن نهلك أو نموت كراما .
وكان عيسى بن موسى يقول بعد ذلك إذا ذكر خروجهم من الحميمة يريدون الكوفة : إن ثلاثة عشر رجلا خرجوا من ديارهم وأهليهم يطلبون ما طلبنا لعظيمة هممهم ، كبيرة نفوسهم ، شديدة قلوبهم .
* * * أبو الطيب المتنبي : وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الاجسام (2) وله : إلى أي حين أنت في زى محرم وحتى متى في شقوة وإلى كم ! (3) وإلا تمت تحت السيوف مكرما تمت وتقاسى الذل غير مكرم فثب واثقا بالله وثبة ماجد يرى الموت في الهيجا جنى النحل في الفم
__________
(1) ديوانه 125 .
(2) ديوانه 3 : 345 (3) ديوانه 4 : 33 (*)(3/292)
وقال آخر : إن تقتلوني فاجال الرجال كما حدثت قتل وما بالقتل من عار وإن سلمت لوقت بعده فعسى وكل شئ إلى حد ومقدار * * * خطب الحجاج فشكا سوء ضاعة أهل العراق ، فقام إليه جامع المحاربي ، فقال : أيها الامير ، دع ما يباعدهم منك إلى ما يقربهم إليك ، والتمس العافية ممن دونك تعطها ممن فوقك ، فلو أحبوك لاطاعوك ، إنهم ما شنئوك بنسبك ولا لبأوك ، ولكن لايقاعك بعد وعيدك ، ووعيدك بعد وعدك .
فقال الحجاج : ما أرانى أرد بنى اللكيعة (1) إلى طاعتي إلا بالسيف ، فقال جامع : أيها الامير ، إن السيف إذا لاقى السيف ذهب الخيار ، فقال الحجاج : الخيار يومئذ لله ، فقال : أجل ، ولكنك لا تدرى لمن يجعله الله ، فقال : يا هناه ، إيها فإنك من محارب ، فقال جامع : وللحرب سمينا فكنا محاربا إذا ما ألقنا أمسى من الطعن أحمرا * * * ومن الشعر الجيد في تحسين الاباء والحمية والتحريض على النهوض والحرب وطلب الملك والرياسة ، قصيدة عمارة اليمنى شاعر المصريين في فخر الدين توران شاه بن أيوب ، التى يغريه فيها بالنهوض إلى اليمن ، والاستيلاء على ملكها ، وصادفت هذه القصيدة محلا قابلا ، وملك توران شاه اليمن بمهزت هذه القصيدة من عطفه ، وحركت من عزمه ، وأولها :
__________
(1) الكيعة : الامة اللئيمة .
(*)(3/293)
العلم مذ كان محتاج إلى العلم وشفرة السيف تستغنى عن القلم (1) وخير خيلك إن غامرت في شرف عزم يفرق بين الساق والقدم إن المعالى عروس غير واصلة ما لم تخلق رادءيها بنضح دم ترى مسامع فخر الدين تسمع ما أملاه خاطر أفكارى على قلمى فإن أصبت فلى حظ المصيب وإن أخطأت قصدك فاعذرني ولا تلم كم تترك البيض في الاجفان ظامئة إلى الموارد في الاعناق والقمم ومقلة المجد نحو العزم شاخصة فاترك قعودك عن إدراكها وقم فعمك الملك المنصور سومها من الفرات إلى مصر بلا سأم واخلق لنفسك أمرا لا تضاف به إلى سواك ، وأور النار في العلم وانه المشيرين إن لجت نصيحتهم أولا ، فأنعم على العميان بالصمم واعزم وصمم فقد طالت وقد سمجت قضية لفظتها ألسن الامم فرب أمر يهاب الناس غايته والامر أهون فيه من يد لفم فكيف إن نهضت فيما هممت به أسد تسير من الخطى في أجم لا يدرك المجد إلا كل مقتحم في موج ملتطم أو فوج مضطرم لا ينقض الخطوة الاولى بثانية ولا يفكر في العقبى من الندم كأنما السيف أفتاه بقتلهم في فتح مكة حل القتل في الحرم ولم يراعوا لعثمان ولا عمر ولا الحسين ذمام الاشهر الحرم فما تروم سوى فتح صوارمه يضحكن في كل يوم عابس البهم حتى كأن لسان السيف في يده يروى الشريعة عن عاد وعن إرم
__________
(1) النكت العصرية 352 .
(*)(3/294)
هذا ابن تومرت قد كانت بدايته فيما يقول الورى لحما على وضم وقد ترقى إلى أن صار طالعه من الكواكب بالانفاس والكظم وكان أول هذا الدين من رجل سعى إلى أن دعوه سيد الامم - كذب ، لم يظهر الدين الحنيف المقدس على الاديان بسعي البشر ، بل بالتأييد الالهى ، والسر الربانى ، صلوات الله وسلامه على القائم به ، والمتحمل له - والبدر يبدو هلالا ثم يكشف بالانوار ما سترته شملة الظلم والغيث فهو كما قد قيل أوله قطر وبدء خراب السد بالعرم تنمو قوى الشئ بالتدريج إن رزقت لطفا ويقوى شرار النار بالضرم حاسب ضميرك عن رأى أتاك وقل نصيحة وردت من غير متهم أقسمت ما أنت ممن جل همته ما راق من نعم أورق من نعم وإنما أنت مرجو لواحدة بنى بها الدهر مجدا غير منهدم كأننى بالليالى وهى هاتفة قد صم سمع رجال دونها وعمى وبالعلا كلما لاقتك قائلة أهلا بمنشر آمالى من الرمم * * * ومن أباه الضيم الذين اختاروا القتل على الاسر ، والموت على الدنية ، مصعب بن الزبير ، كان أمير العراقين من قبل عبد الله بن الزبير ، وكان قد كسر جيوش عبد الملك مرارا ، وأعياه أمره ، فخرج إليه من الشام بنفسه ، فليم في ذلك ، وقيل له : إنك تغرر بنفسك وخلافتك ، فقال : إنه لا يقوم لحرب مصعب غيرى ، هذا أمر يحتاج إلى أن يقوم به شجاع ذو رأى ، وربما بعثت شجاعا ولا رأى له ، أو ذا رأى ولا شجاعة عنده ، وأنا بصير بالحرب ، شجاع بالسيف ، فلما أجمع على الخروج إلى حرب مصعب ، جاءته(3/295)
امرأته عاتكة بنت يزيد بن معاوية ، فالتزمته ، وبكت لفراقه ، وبكى جواريها حولها ، فقال عبد الملك : قاتل الله ابن أبى جمعة (1) كأنه شاهد هذه الصورة حيث يقول : إذا هم بالاعداء لم يثن عزمه حصان عليها نظم در يزينها نهته فلما لم تر النهى عاقه بكت فبكى مما عراها قطينها فسار عبد الملك حتى إذا كان بمسكن من إرض العراق ، وقد دنا منه عسكر مصعب ، تقاعد بمصعب أصحابه وقواده وخذلوه ، فقال لابنه عيسى : الحق بمكة فانج بنفسك ، وأخبر عمك عبد الله بما صنع أهل العراق بى ، ودعني فإنى مقتول ، فقال : لا تتحدث نساء قريش أنى فررت عنك ، ولكن أقاتل دونك حتى نقتل ، فالفرار عار ، ولا عار في القتل ، ثم قاتل دونه حتى قتل .
وخف من يحامى عن مصعب من أهل العراق ، وأيقن بالقتل ، فأنفذ عبد الملك إليه أخاه محمد بن مروان ، فأعطاه الامان وولاية العراقين أبدا ما دام حيا ، وألفى ألف درهم صلة ، فأبى وقال : إن مثلى لا ينصرف عن هذا المكان إلا غالبا أو مقتولا ، فشد عليه أهل الشام ورموه بالنبل فأثخنوه ، وطعنه زائدة بن قيس بن قدامة السعدى ، ونادى : يا لثارات المختار ! فوقع إلى الارض ، فنزل إليه عبد الملك بن زياد بن ظبيان ، فاحتز رأسه ، وحمله إلى عبد الملك .
لما حمل رأس مصعب إلى عبد الملك بكى وقال : لقد كان أحب الناس إلى وأشدهم مودة لى ، ولكن الملك عقيم .
كتب مصعب إلى سكينة بنت الحسين عليه السلام ، وكانت زوجته لما شخص إلى حرب عبد الملك وهى بالكوفة بعد ليال من فراقها : وكان عزيزا أن أبيت وبيننا حجاب فقد أصبحت منى على عشر
__________
(1) هو كثير بن عبد الرحمن بن أبى جمعة .
(*)(3/296)
وأبكاهما والله للعين فاعلمي إذا ازددت مثليها فصرت على شهر وأنكى لقلبي منهما اليوم أننى أخاف بألا نلتقي آخر الدهر ثم أرسل إليها وأشخصها ، فشهدت معه حرب عبد الملك ، فدخل عليها يوم قتل ، وقد نزع ثيابه ثم لبس غلالة ، وتوشح بثوب واحد ، وهو محتضن سيفه ، فعلمت أنه غير راجع ، فصاحت : واحزناه عليك يا مصعب ! فالتفت إليها ، وقال : إن كل هذا في قلبك ! قالت : وما أخفى أكثر .
قال : لو كنت أعلم هذا لكان لى ولك شأن ، ثم خرج فلم يرجع .
فقال عبد الملك يوما لجلسائه : من أشجع الناس ؟ فقالوا : قطرى ، شبيب ، فلان وفلان ، قال عبد الملك : بل رجل جمع بين سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة ، وأمة الحميد بنت عبد الله بن عامر بن كريز ، وقلابة ابنة زبان بن أنيف الكلبى سيد العرب ، وولى العراقين خمس سنين ، فأصاب كذا وكذا ألف درهم ، وأعطى الامان على ذلك كله وعلى ولايته وماله فأبى ، ومشى بسيفه إلى الموت حتى قتل ، ذاك مصعب بن الزبير ، لا من قطع الجسور مرة هاهنا ومرة هاهنا ! سئل سالم بن عبد الله بن ، عمر أي ابني الزبير أشجع ؟ فقال : كلاهما جاءه الموت ، وهو ينظر إليه لما وضع رأس مصعب بين يدى عبد الملك أنشد : لقد أردى الفوارس يوم حسى غلاما غير مناع المتاع (1) ولا فرح بخير إن أتاه ولا هلع من الحدثان لاع ولا وقافة و الخيل تردى ولا خال كأنبوب اليراع
__________
(1) من أبيات نسبها ابن الشجرى في أماليه 85 إلى طفيل الغنوى .
(*)(3/297)
كان ابن ظبيان ، يقول : ماندمت على شئ ندمى على ألا أكون لما حملت إلى عبد الملك رأس مصعب فسجد قتلته في سجدته ، فأكون قد قتلت ملكى العرب في يوم واحد .
قال رجل لعبد الله بن ظبيان : بماذا تحتج عند الله عزوجل غدا ، وقد قتلت مصعبا ؟ قال : إن تركت أحتج كنت أخطب من صعصعة بن صوحان ! كان مصعب لما خرج إلى حرب عبد الملك سأل عن الحسين بن على عليه السلام ، وكيف كان قتله ؟ فجعل عروة بن المغيرة يحدث عن ذلك ، فقال متمثلا بقول سليمان بن قتة : وإن الالى بالطف من آل هاشم تأسوا فسنوا للكرام التأسيا (1) قال عروة : فعلمت أن مصعبا لا يفر لما كان يوم السبخة ، وعسكر الحجاج بإزاء شبيب ، قال له الناس : أيها الامير ، لو تنحيت عن هذه السبخة ، فإنها منتنة الريح ! قال ما تنحوننى - والله - إليه أنتن ، وهل ترك مصعب لكريم مفرا ! ثم أنشد قول الكلحبة : إذا المرء لم يغش الكريهة أوشكت حبال الهوينى بالفتى أن تقطعا (2) * * * وروى أبو الفرج في كتاب ، ، الاغانى ، ، (3) : خطبة عبد الله بن الزبير في قتل مصعب برواية هي أتم مما ذكرناه نحن فيما تقدم ، قال .
لما أتى خبر المصعب إلى مكة ، أضرب عبد الله بن الزبير عن ذكره أياما ، حتى تحدث به جميع أهل مكة في الطريق ، ثم صعد المنبر فجلس عليه مليا لا يتكلم ، فنظر الناس إليه ، وإن الكابة على وجهه لبادية وإن
__________
(1) اللسان 18 : 37 (2) المفضليات 32 (3) الاغانى 17 : 166 (ساسى) ، عيون الاخبار 2 : 240 مع اختلاف في الروايات .
(*)(3/298)
جبينه ليرشح عرفا ، فقال واحد لاخر : ما له لا يتكلم ؟ أتراه يهاب النطق ! فو الله إنه لخطيب .
فما تراه يهاب ؟ قال : أراه يريد أن يذكر قتل المصعب سيد العرب ، فهو يقطع بذلك .
فأبتدا فقال : الحمد لله الذى له الخلق والامر ، ملك الدنيا والاخرة ، يعز من يشاء ، ويذل من يشاء ، ألا إنه لا يذل من كان الحق معه وإن كان مفردا ضعيفا ، ولا يعز من كان الباطل معه ، وإن كان ذا عدد وكثرة .
ثم قال : أتانا خبر من العراق ، بلد الغدر والشقاق ، فساءنا وسرنا ، أتانا أن مصعبا قتل رحمه الله ، فأما الذى أحزننا من ذلك فأن لفراق الحميم لذعة ولوعة ، يجدها حميمه عند المصيبة ، ثم يرعوى ذو الرأى والدين إلى جميل الصبر .
وأما الذى سرنا منه ، فأن قتله كان له شهادة ، وإن الله جاعل لنا وله في ذلك الخيرة .
ألا إن أهل العراق باعوه بأقل الاثمان وأخسرها ، وأسلموه إسلام النعم المخطمة (1) فقتل ، وإن قتل لقد قتل أبوه وعمه وأخوه (2) ، وكانوا الخيار الصالحين ، وإنا والله ما نموت حتف آنافنا ، ما نموت إلا قتلا قتلا ، وقعصا (3) قعصا ، بين قصد (4) الرماح ، وتحت ظلال السيوف ، ليس كما تموت بنو مروان (5) ، والله ما قتل منهم رجل في جاهلية ولا إسلام ، وإنما الدنيا عارية من الملك القهار الذى لا يزول سلطانه ، ولا يبيد ملكه ، فإن تقبل الدنيا على لا آخذها أخذ اللئيم البطر ، وإن تدبر عنى لا أبكى عليها بكاء الخرف (6) المهتر .
ثم نزل .
* * *
__________
(1) المخطمة ، من قولهم خطم البعير بالخطام إذا جعله على أنفه ، والخطام : ما وضع على أنف البعير ليقتادبه .
(2) قتل أبوه عبد الله بن الزبير يوم الجمل ، قتله عمرو بن جرموز في صلاته بوادي السباع .
وعمه عبد الرحمن بن العوام بن خويلد ، ويقال : مات قعصا ، أي أصابته ضربة أو رمية فمات في مكانه .
(4) القصدة : القطعة مما يكسر ، وجمعه قصد .
(5) كذا في جميع الاصول ، ويرى السيد جاسم أنها (بنو أبى العاص) .
(6) الخرف : من فسد عقله من الكبر ، وكذلك المهتر .
(*)(3/299)
وقال الطرماح بن حكيم ، وكان يرى رأى الخوارج : وإنى لمقتاد جوادي فقاذف به وبنفسى اليوم إحدى المتالف (1) لاكسب مالا أو أأوب إلى غنى من الله يكفيني عداة الخلائف (2) فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن على شرجع يعلى بخضر المطارف (3) ولكن قبري بطن نسر مقيله بجو السماء في نسور عواكف وأمسى شهيدا ثاويا في عصابة يصابون في فج من الارض خائف فوارس أشتات يؤلف بينهم هدى الله نزالون عند المواقف قال ابن شبرمة : مررت يوما في بعض شوارع الكوفة ، فإذا بنعش حوله رجال ، وعليه مطرف خز أخضر ، فسألت عنه فقيل : الطرماح ، فعلمت أن الله تعالى لم يستحب له .
* * * وقال محمد بن هانئ : ولم أجد الانسان إلا ابن سعيه فمن كان أسعى كان بالمجد أجدرا (4) وبالهمة العلياء ترقى إلى العلا فمن كان أعلى همة كان أظهرا ولم يتأخر من أراد تقدما ولم يتقدم من أراد تأخرا الرضى الموسوي رحمه الله تعالى : ومن أخرته نفسه مات عاجزا ومن قدمته نفسه مات سيدا (5)
__________
(1) ديوانه 155 والاغانى 12 : 44 ، والشعر والشعراء 570 والقود : نقيض السوق ، فهو من أمام (2) الخلائف : جمع خليفة ، وهو السلطان .
(3) الشرجع : النعش .
وفي الديوان : (أذا العرش إن حانت) .
(4) ديوانه 362 (5) ديوانه 127 (طبعة نخبة الاخبار) .
(*)(3/300)
وله رحمه الله : ما مقامي على الهوان وعندي مقول صارم وأنف حمى (1) وإباء محلق بى عن الضيم كما زاغ طائر وحشى أبو الطيب المتنبي : تقولين ما في الناس مثلك عاشق جدى مثل من أحببته تجدى مثلى (2) محب كنى بالبيض عن مرهفاته وبالحسن في أجسامهن عن الصقل (3) وبالسمر عن سمر القنا غير أننى جناها أحبائي وأطرافها رسلي عدمت فؤادا لم يبت فيه فضلة لغير ثنايا الغر والحدق النجل تريدين إدراك المعالى رخيصة ولا بد دون الشهد من إبر النحل ابن الهبارية : الهمم العلية ، والمهج الابية تقرب المنية ، منك أو الامنية .
* * * أبو تمام : فتى النكبات من يأوى إذا ما قطفن به إلى خلق وساع (4) يثير عجاجة في كل فج يهيم بها عدى بن الرقاع (5) يخوض مع السباع الماء حتى لتحسبه السباع (6)
__________
(1) ديوانه 546 (مطبعة نخبة الاخبار) .
(2) ديوانه 3 : 289 مع اختلاف في الرواية .
(3) البيض : النساء .
والمرهفات : السيوف .
(4) ديوانه 2 : 336 .
(5) يشير إلى ما ذكره عدى بن الرقاع في حمار وأتان : يتنازعان من الغبار ملاءة في الارض منشؤها ، هما نسجاها تطوى إذا فرعا بلادا حزنة وإذا أصابا سهلة نشراها (6) رواية الديوان : (أبن مع السباع الماء حتى) .
(*)(3/301)
من السباع فلب العزم إن حاولت يوما بأن تستطيع غير المستطاع فلم تركب كناجية المهارى ولم تركب همومك كالزماع وله أيضا : إن خيرا مما رأيت من الصفح عن النائبات والاغماض (1) غربة تقتدي بغربة قيس بن زهير والحارث بن مضاض (2) غرضي نكبتين ما فتلا رأيا فخافا عليه نكث انتقاض من أبن البيوت أصبح في ثوب من العيش ليس بالفضفاض (3) صلتان أعداؤه حيث حلوا في حديث من ذكره مستفاض (4) والفتى من تعرقته الليالى والفيافي ، كالحية النضناض (5) كل يوم له بصرف الليالى فتكة مثل فتكة البراض (6) وله أيضا : إن ترينى ترى حساما صقيلا مشرفيا من السيوف الحداد ثانى الليل ثالث البيد والسير نديم النجوم ترب السهاد أخذ هذا اللفظ أبو عبادة البحترى فقال : يا نديمى بالسواجير من شمس بن عمرو وبحتر بن عتود (7)
__________
(1) ديوانه 2 : 309 (2) قيس بن زهير العسى ، بعد حربه ذبيان تنقل في البلاد ، وفي آخر عمره لقيه رجل فسأله عن خبره فلما علم أنه قاتل حذيفة وحمل ابني بدر قتله .
والحارث بن مضاض الجرهمى ، كان رئيسا بمكة أيام كان بها قومه ، ويقال : إن خزاعة أجلتهم عنها ، وهو القاتل : كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر (3) يقال : أبن بالموضع إذا أقام به .
(4) الصلتان : الماضي في أمره .
(5) الحية : المضاض : التى لا تستقر في مكان .
تعدقته الليالى : أخذت ما عليه من اللحم .
(6) البراص بن قيس الكنانى ، قتل عروة الرحال في غير حرب ، فجر ذلك حرب الفجار بين قيس وكنانة .
(7) ديوانه 1 : 205 .
وفي الديوان : (ود بن معن) (*)(3/302)
اطلبا ثالثا سواى فإنى رابع العيس والدجى والبيد لست بالعاجز الضعيف ولا القائل يوما إن الغنى بالجدود وإذا استصعبت مقادة أمر سهلته أيدى المهارى القود * * * وقال الرضى رحمه الله تعالى : ولم أر كالرجاء اليوم شيئا تذل له الجماجم والرقاب (1) وبعض العدم مأثرة وفخر وبعض المال منقصة وعاب بنانى والعنان إذا نبت بى ربا أرض ، ورجلي والركاب وقد عرفت توقلى الليالى كما عرفت توقلى العقاب (2) لامنع جانبا وأفيد عزا وعز الموت ما عز الجناب إذا هول دعاك فلا تهبه فلم يبق الذين أبوا وهابوا كليب عافصته يد وأودى عتيبة يوم أقعصه ذؤاب (3) سواء من أقل الترب منا ومن وارى معالمه التراب وإن مزايل العيش اعتباطا مساو للذين بقوا وشابوا وأولنا العناء إذا طلعنا إلى الدنيا ، وآخرنا الذهاب إلى كم ذا التردد في الامانى وكم يلوى بناظري السراب ! ولا نقع يثار ولا قتام ولا طعن يشب ولا ضراب
__________
(1) ديوانه لوحة 79 (2) التوقل : الصعود .
والعقاب : جمع عقبة ، وهى المرتقى الصعب في الجبل ونحوه .
(3) عافصته : صرعته ، وكليب هو كليب وائل ، وأراد باليد جساس بن مرة الذى قتله .
وأودى : هلك .
وعتية هو ابن الحارث بن شهاب كان فارس بنى تميم قتله ذؤاب بن ربيعة الاسدي .
وأقعصه : قتله قتلا سريعا .
(*)(3/303)
ولا خيل معقدة النواصي يموج على شكائمها اللعاب عليها كل ملتهب الحواشى يصيب من العدو ولا يصاب سأخطبها بحد السيف فعلا إذا لم يغن قول أو خطاب وآخذها وإن رغمت أنوف مغالبة وإن ذلت رقاب * * * قعد سليمان بن عبد الملك يعرض ويفرض ، فأقبل فتى من بنى عبس وسيم ، فأعجبه ، فقال : ما اسمك ؟ قال : سليمان ، قال : ابن من ؟ قال : ابن عبد الملك ، فأعرض عنه ، وجعل يفرض لمن دونه ، فعلم الفتى أنه كره موافقة اسمه واسم أبيه ، فقال : يا أمير المؤمنين لا عدمت اسمك ، ولا شقى اسم يوافق اسمك ؟ فافرض ، فإنما أنا سيف بيدك ، إن ضربت به قطعت ، وإن أمرتنى أطعت ، وسهم في كنانتك ، أشتد إن أرسلت ، وأنفذ حيث وجهت .
فقال له سليمان ، وهو يروزه (1) ويختبره : ما قولك يافتى ، لو لقيت عدوا ؟ قال : أقول : حسبى الله ونعم الوكيل .
قال سليمان : أكنت مكتفيا بهذا لو لقيت عدوك دون ضرب شديد ! قال الفتى : إنما سألتنى يا أمير المؤمنين : ما أنت قائل فأخبرتك ، ولو سألتنى : ما أنت فاعل لانبأتك ، إنه لو كان ذلك لضربت بالسيف حتى يتعقف ، ولطعنت بالرمح حتى يتقصف ، ولعلمت إن ألمت فإنهم يألمون ، ولرجوت من الله ما لا يرجون .
فأعجب سليمان به وألحقه في العطاء بالاشراف ، وتمثل : إذا ما اتقى الله الفتى ثم لم يكن على أهله كلا فقد كمل الفتى
__________
(1) يروزه : يختره ويجربه .
(*)(3/304)
السر تحت قوله : (ثم لم يكن على أهله كلا) ، يقال في المثل : (لا تكن كلا على أهلك فتهلك) .
عدى بن زيد : فهل من خالد إما هلكنا وهل بالموت يا للناس عار (1) * * * الرضى الموسوي رحمه الله تعالى : إذا لم يكن إلا الحمام فإننى سأكرم نفسي عن مقال اللوائم (2) وألبسهما حمراء تضفو ذيولها من الدم بعدا عن لباس الملاوم فمن قبل ما اختار ابن الاشعث عيشه على شرف عال رفيع الدعائم فطار ذميما قد تقلد عارها بشر جناح يوم دير الجماجم (3) وجاءهم يجرى البريد برأسه ولم يغن إيغال به في الهزائم وقد حاص من خوف الردى كل حيصة فلم ينج والافدار ضربة لازم (4) وهذا يزيد بن المهلب نافرت به الذل أعراق الجدود الاكارم (5) فقال وقد عن الفرار أو الردى : لحا الله أخزى ذكرة في المواسم وما غمرات الموت إلا انغماسة ولا ذى المنايا غير تهويم نائم
__________
(1) شعراء النصرانية 456 (2) ديوانه لوحة 110 (3) وقعة دير الجماجم كانت بين الحجاج الثقفى وعبد الرحمن بن محمد بن الاشعث ، انتهت بمقتل ابن الاشعث سنة 83 (4) حاص ، أي حاد وذهب بعيدا .
(5) يزيد بن المهلب بن أبى صفرة ، من أمراء الدولة الاموية وقوادها ، قتله يزيد بن عبد الملك في خبر مشهور سنة 102 (20 - نهج - 3) (*)(3/305)
رأى أن هذا السيف أهون محملا من العار يبقى وسمه في المخاطم وما قلد البيض المباتير عنقه سوى الخوف من تقليدها بالاداهم فعاف الدنايا وامتطى الموت شامخا بمارن عز لايذل لخاطم وقد حلقت خوف الهوان بمصعب قوادم آباء كرام المقادم على حين أعطوه الامان فعافه وخير فاختار الردى غير نادم وفي خدره غراء من آل طلحة علاقة قلب للنديم المخالم (1) تحبب أيام الحياة وإنها لاعذب من طعم الخلود لطاعم ففارقها والملك لما رآهما يجران إذلال النفوس الكرائم ولما ألاح الحوفزان من الردى حذاه المخازى رمح قيس بن عاصم وغادرها شنعاء إن ذكرت له من العار طاطا رأس خزيان واجم كذاك منى بعد الفرار أمية بشقشقة لو ثاء من آل دارم وسل لها سل الحسام ابن معمر فكر على أعقاب ناب بصارم يردد ذكرى كل نجد وغائر وألجم خوفى كل باع وظالم وهددني الاعداء في المهد لم يحن نهوضى ولم تقطع عقود تمائمى وعندي يوم لو يزيد ومسلم بدا لهما لاستصغرا يوم واقم على العزمت لا ميتة مستكينة تزيل عن الدنيا بشم المراغم وخاطر على الجلى خطار ابن حرة وإن زاحم الامر العظيم فزاحم * * *(3/306)
__________
(1) هي عائشة ينت طلحة ، كانت زوجا لعبدالله بن عبد الرحمن بن أبى بكر ، ولما هلك تزوجها مصعب بن الزبير ، فقتل عنها ، والمخالمة : المصادقة والمغازلة .
(*) ومن أباة الضيم ومؤثرى الموت على الحياة الذليلة محمد وإبراهيم ، ابنا عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب عليه السلام .
لما أحاطت عساكر عيسى ابن موسى بمحمد وهو بالمدينة ، قيل له : انج بنفسك ، فإن لك خيلا مضمرة (1) ونجائب سابقة (2) ، فاقعد عليها ، والتحق بمكة أو باليمن .
قال : إنى إذا لعبد ! وخرج إلى الحرب يباشرها بنفسه وبمواليه ، فلما أمسى تلك الليلة وأيقن بالقتل ، أشير عليه بالاستتار ، فقال : إذن يستعرض عيسى أهل المدينة بالسيف ، فيكون لهم [ يوم ] كيوم الحرة ، لا والله لا أحفظ نفسي بهلاك أهل المدينة ، بل أجعل دمى دون دمائهم .
فبذل له عيسى الامان على نفسه وأهله وأمواله ، فأبى ونهد (3) إلى الناس بسيفه ، لا يقاربه أحد إلا قتله ، لا والله ما يبقى شيئا ، وإن أشبه خلق الله به فيما ذكر هو حمزة بن عبد المطلب .
ورمى بالسهام ، ودهمته الخيل ، فوقف إلى ناحية جدار ، وتحاماه الناس فوجد الموت ، فتحامل على سيفه فكسره ، فالزيدية تزعم أنه كان سيف رسول الله صلى الله عليه وآله ذا الفقار .
وروى أبو الفرج الاصفهانى في كتاب ، ، مقال الطالبيين ، ، أن محمدا عليه السلام ، قال لاخته ذلك اليوم : إنى في هذا اليوم على قتال هؤلاء ، فإن زالت الشمس ، وأمطرت السماء فإنى مقتول ، وإن زالت الشمس ولم تمطر السماء ، وهبت الريح ، فإنى أظفر بالقوم ، فأججي التنانير ، وهيئى هذه الكتب - يعنى كتب البيعة الواردة عليه من الافاق - فإن زالت الشمس ، ومطرت السماء فاطرحي هذه الكتب في التنانير ، فإن قدرتم على بدنى
__________
(1) ضمر الخيل ، إذا ربطها وأكهر ماءها وعلفها حتى تسمن ، ثم قلل ماءها وعلفها مدة ، ثم ركضها في الميدان حتى تهزل ، ومدة التضمير عند العرب أربعون يوما .
(2) الخيل السوابق : المجلية في الجرى .
(3) يقال نهد لعدوه ، أذ برز لقتاله وصمد له .
(*)(3/307)
فخذوه ، وإن لم تقدروا على رأسي فخذوا سائر بدنى ، فأتوا به ظلة بنى بلية (1) على مقدار أربعة أذرع أو خمسة منها ، فاحفروا لى حفيرة ، وادفنوني فيها .
فمطرت السماء وقت الزوال ، وقتل محمد عليه السلام ، وكان عندهم مشهورا أن آية قتل النفس الزكية أن يسيل دم بالمدينة حتى يدخل بيت عاتكة ، فكانوا يعجبون كيف يسيل الدم حتى يدخل ذلك البيت ! فأمطرت السماء ذلك اليوم ، وسال الدم بالمطر حتى دخل بيت عاتكة ، وأخذ جسده ، فحفر له حفيرة في الموضع الذى حده لهم ، فوقعوا على صخرة فأخرجوها ، فإذا فيها مكتوب : (هذا قبر الحسن بن على بن أبى طالب عليه السلام) ، فقالت زينب أخت محمد عليه السلام : رحم الله أخى ، كان أعلم حيث أوصى أن يدفن في هذا الموضع (2) .
* * * وروى أبو الفرج ، قال : قدم على المنصور قادم ، فقال : هرب محمد ! فقال له : كذبت ! إنا أهل البيت لا نفر .
* * * وأما إبراهيم عليه السلام ، فروى أبو الفرج عن المفضل بن محمد الضبى ، قال (3) : كان إبراهيم بن عبد الله بن الحسن متواريا عندي بالبصرة ، وكنت أخرج وأتركه ، فقال لى : إذا خرجت ضاق صدري ، فأخرج إلى شيئا من كتبك أتفرج به ، فأخرجت إليه كتبا من الشعر ، فاختار منها القصائد السبعين التى صدرت بها كتاب ، ، المفضليات ، ، ، ثم أتممت عليها باقى الكتاب .
فلما خرج خرجت ، معه فلما صار بالمربد ، مربد سليمان بن على ، وقف عليهم ، وأمنهم واستسقى ماء ، فأتى به فشرب ، فأخرج إليه صبيان من صبيانهم فضمهم إليه ،
__________
(1) مقاتل الطالبين : (بنى نبيه) .
(2) مقاتل الطالبين 271 ، 272 (3) ورد الخبر مختصرا في مقاتل الطالبين 338 ، 339 .
(*)(3/308)
وقال : هؤلاء والله منا ونحن منهم ، لحمنا ودمنا ، ولكن آباءهم انتزوا على أمرنا ، وابتزوا حقوقنا ، وسفكوا دماءنا ، ثم تمثل : مهلا بنى عمنا ظلامتنا إن بنا سورة من الغلق (1) لمثلكم نحمل السيوف ولا تغمز أحسابنا من الرقق إنى لانمى إذا انتميت إلى عز عزيز ومعشر صدق بيض سباط كأن أعينهم تكحل يوم الهياج بالعلق فقلت له : ما أجود هذه الابيات وأفحلها ! فلمن هي ؟ فقال : هذه يقولها ضرار ابن الخطاب الفهرى يوم عبر الخندق على رسول الله صلى الله عليه وآله ، وتمثل بها على بن أبى طالب يوم صفين ، والحسين يوم الطف ، وزيد بن على يوم السبخة ، ويحيى بن زيد يوم الجوزجان ، فتطيرت له من تمثله بأبيات لم يتمثل بها أحد إلا قتل .
ثم سرنا إلى باخمرى ، فلما قرب منها أتاه نعى أخيه محمد ، فتغير لونه وجرض بريقه ، ثم أجهش باكيا ، وقال : اللهم إن كنت تعلم أن محمدا خرج يطلب مرضاتك ، ويؤثر أن تكون كلمتك العليا ، وأمرك المتبع المطاع ، فاغفر له وارحمه ، وارض عنه ، واجعل ما نقلته إليه من الاخرة خيرا مما نقلته عنه من الدنيا ، ثم انفجر باكيا ثم تمثل : أبا المنازل يا خير الفوارس من يفجع بمثلك في الدنيا فقد فجعا (2) الله يعلم أنى لو خشيتهم أو آنس القلب من خوف لهم فزعا لم يقتلوك ولم أسلم أخى لهم حتى نعيش جميعا ، أو نموت معا قال المفضل : فجعلت أعزيه وأعاتبه على ما ظهر من جزعه ، فقال : إنى والله في هذا ، كما قال دريد بن الصمة :
__________
(1) من أبيات في حماسة ابن الشجرى 16 ، والاغانى 17 : 18 (ساسى) ، مع اختلاف في ترتيب الابيات وعددها وروايتها .
(2) الابيات لراسع بن خشرم يرثى هدبة ، الاغانى 21 : 177 .
(*)(3/309)
يقول ألا تبكى أخاك وقد أرى مكان البكا ، لكن بنيت على الصبر (1) لمقتل عبد الله والهالك الذى على الشرف الاعلى قتيل أبى بكر وعبد يغوث تحجل الطير حوله وجل مصابا جثو قبر على قبر فإما ترينا لا تزال دماؤنا لدى واتر يسعى بها آخر الدهر فإنا للحم السيف غير نكيرة ونلحمه طورا ، وليس بذى نكر يغار علينا واترين فيشتفى بنا إن أصبنا أو نغير على وتر بذاك قسمنا الدهر شطرين بيننا فما ينقضى إلا ونحن على شطر قال المفضل : ثم ظهرت لنا جيوش أبى جعفر مثل الجراد ، فتمثل إبراهيم عليه السلام قوله : إن يقتلوني لا تصب أرماحهم ثارى ويسعى القوم سعيا جاهدا نبئت أن بنى جذيمة أجمعت أمرا تدبره لتقتل خالدا أرمى الطريق وإن رصدت بضيقه وأنازل البطل الكمى الحاردا فقلت له : من يقول هذا الشعر يا بن رسول الله ؟ فقال : يقوله خالد بن جعفر ابن كلاب يوم شعب (2) جبلة ، وهذا اليوم الذى لقيت فيه قيس تميما .
قال : وأقبلت عساكر أبى جعفر ، فطعن رجلا وطعنه آخر ، فقلت له : أتباشر القتال بنفسك ! وإنما العسكر منوط بك ، فقال : إليك يا أخا بنى ضبة ، فإنى لكما قال عويف القوافى : ألمت سعاد وإلمامها أحاديث نفس وأحلامها محجبة من بنى مالك تطاول في المجد أعلامها
__________
(1) ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 2 : 309 مع اختلاف في الرواية وعدد الابيات .
(2) لعامر وحلفائهم من عبس ، على تميم وحلفائهم من ذبيان وأسد وغيرهما .
الاغانى 10 : 33 (ساسى) .
(*)(3/310)
وإن لنا أصل جرثومة ترد الحوادث أيامها ترد الكتيبة مفلولة بها أفنها وبها ذامها والتحمت الحرب واشتدت ، فقال : يا مفضل ، احكنى بشئ ، فذكرت أبياتا لعويف القوافى لما كان ذكره هو من شعره ، فأنشدته : ألا إيها الناهي فزارة بعد ما أجدت لسير ، إنما أنت ظالم أبى كل حر أن يبيت بوتره وتمنع منه النوم إذ أنت نائم أقول لفتيان كرام تروحوا على الجرد في أفواههن الشكائم قفوا وقفة من يحى لا يخز بعدها ومن يخترم لا تتبعه اللوائم وهل أنت إن باعدت نفسك عنهم لتسلم فيما بعد ذلك سالم فقال : أعد ، وتبينت من وجهه أنه يستقتل ، فانتهبت وقلت : أو غير ذلك ؟ فقال : لا ، بل أعد الابيات ، فأعدتها ، فتمطى في ركابيه فقطعهما ، وحمل فغاب عنى ، وأتاه سهم عائر فقتله ، وكان آخر عهدي به عليه السلام .
قلت : في هذا الخبر ما يحتاج إلى تفسير ، أما قوله (1) : * إن بنا سورة من الغلق * فالغلق : الضجر وضيق الصدر والحدة ، يقال : احتد فلان فنشب في حدته وغلق .
والسورة : الوثوب ، يقال : إن لغضبة لسورة ، وإنه لسوار ، أي وثاب معربد وسورة الشراب : وثوبه في الرأس ، وكذلك سورة السم ، وسورة السلطان : سطوته واعتداؤه .
وأما قوله : (لمثلكم نحمل السيوف) فمعناه أن غيركم ليس بكفء لنا لنحمل له السيوف وإنما نحملها لكم ، لانكم أكفاؤنا ، فنحن نحاربكم على الملك والرياسه ، وإن كانت أحسابنا واحدة ، وهى شريفة لا مغمز فيها .
__________
(1) ص 109 (*)(3/311)
والرقق ، بفتح الراء : الضعف ، ومنه قول الشاعر : * لم تلق في عظمها وهنا ولا رققا * وقوله : * تكحل يوم الهياج بالعلق * فالعلق الدم ، يريد أن عيونهم حمر لشدة الغيظ والغضب ، فكأنها كحلت بالدم .
وقوله : (لكن بنيت على الصبر) ، أي خلقت وبنيت بنية تقتضي الصبر .
والشرف لاعلى : العالي ، وبنو أبى بكر بن كلاب ، من قيس عيلان ، ثم أحد بنى عامر بن صعصعة .
وأما قوله (1) : * إن يقتلوني لا تصب أرماحهم * فمعناه أنهم إن قتلوني ثم حاولوا أن يصيبوا رجلا آخر مثلى يصلح أن يكون لى نظيرا ، وأن يجعل دمه بواء لدمي ، وسعوا في ذلك سعيا جاهدا ، فإنهم لم يجدوا ولم يقدروا عليه .
وقوله : (أرمى الطريق ...
) البيت ، يقول أسلك الطريق الضيق ، ولو جعل على فيه الرصد لقتلى .
والحارد المنفرد في شجاعته ، الذى لا مثل له .
* * * [ غلبة معاوية على الماء بصفين ثم غلبة على عليه بعد ذلك ] فأما حديث الماء وغلب أصحاب معاوية على شريعة الفرات بصفين ، فنحن نذكره من كتاب ، ، صفين ، ، لنصر بن مزاحم .
قال نصر : كان (2) أبو الأعور السلمى على مقدمة معاوية ، وكان قد ناوش مقدمة
__________
(1) ص 310 .
(2) ص 175 وما بعدها .
(*)(3/312)
على عليه السلام وعليها الاشتر النخعي مناوشة ليست بالعظيمة ، وقد ذكرنا ذلك فيما سبق من هذا الكتاب ، وانصرف أبو الأعور عن الحرب راجعا ، فسبق إلى الماء فغلب عليه في الموضع المعروف بقناصرين (1) إلى جانب صفين ، وساق الاشتر يتبعه ، فوجده غالبا على الماء ، وكان في أربعة آلاف من مستبصرى (2) أهل العراق ، فصدموا أبا الاعور وأزالوه عن الماء ، فأقبل معاوية في جميع الفيلق بقضه وقضيضه ، فلما رآهم الاشتر انحاز إلى على عليه السلام ، وغلب معاوية وأهل الشام على الماء ، وحالوا بين أهل العراق وبينه ، وأقبل على عليه السلام في جموعه ، فطلب موضعا لعسكره ، وأمر الناس أن يضعوا أثقالهم ، وهم أكثر من مائة ألف فارس ، فلما نزلوا تسرع فوارس من فوارس على عليه السلام على خيولهم إلى جهة معاويه يتطاعنون ويرمون بالسهام ، ومعاوية بعد لم ينزل فناوشهم أهل الشام القتال ، فاقتتلوا هويا .
قال نصر : فحدثني عمر بن سعد ، عن سعد بن طريف ، عن الاصبغ بن نباتة : فكتب معاوية إلى على عليه السلام : عافانا الله وإياك .
ما إحسن العدل والانصاف من عمل وأقبح الطيش ثم النفش في الرجل وكتب بعده : اربط حمارك لا تنزع سويته إذا يرد وقيد العير مكروب (3) ليست ترى السيد زيدا في نفوسهم كما يراه بنو كوز ومرهوب إن تسألوا الحق نعط الحق سائله والدرع محقبة والسيف مقروب أو تأنفون فإنا معشر أنف لا نطعم الضيم إن السم مشروب (4)
__________
(1) قناصرين : (موضع بالشام .
(القاموس) .
(2) صفين : (متبصرى أهل العراق) .
(3) الابيات لعبد الله بن عنمة الضى ، وهى في المفضليات 382 ، مع اختلاف في الرواية .
(4) المفضليات : (لا نطعم الذل) .
(*)(3/313)
فأمر على عليه السلام أن يوزع (1) الناس عن القتال ، حتى أخذ أهل الشام مصافهم ثم قال : أيها الناس ، إن هذا موقف ، من نطف (2) فيه نطف يوم القيامة ، ومن فلج فيه فلج يوم القيامة ، ثم قال لما رأى نزول معاوية بصفين : لقد أتانا كاشرا عن نابه يهمط الناس على اعتزا به (3) * فليأتينا الدهر بما أتى به * قال نصر : وكتب على عليه السلام إلى معاوية جواب كتابه ، أما بعد : فإن للحرب عراما شررا إن عليها قائدا عشنزرا (4) ينصف من أحجر أو تنمرا على نواحيها مزجا زمجرا * إذا ونين ساعة تغشمرا (5) * وكتب بعده .
ألم تر قومي إن دعاهم أخوهم أجابوا ، وإن يغضب على القوم يغضبوا هم حفظوا غيبي كما كنت حافظا لقومي أخرى مثلها إن يغيبوا بنو الحرب لم تقعد بهم إمهاتهم وآباؤهم آباء صدق فأنجبوا قال : قد تراجع الناس كل من الفريقين إلى معسكرهم ، وذهب شباب من الناس إلى أن يستقوا فمنعهم أهل الشام .
* * * قلت : في هذه الالفاظ ما ينبغى أن يشرح .
(1) يوزع الناس : يكفون .
وفى صفين : (فوزعوا عن القتال حتى تأخذ أهل المصلف مصافهم) .
(2) نطف : اتهم بريبة .
(3) يهمط الناس : يقهرهم .
(4) العشنزر : الشديد .
(5) تغشمر : تنمر ووثب .
(*)(3/314)
قوله : (فاقتتلوا هويا) ، بفتح الهاء ، أي قطعة من الزمان ، وذهب هوى من الليل ، أي فريق منه .
والنفش : كثرة الكلام والدعاوى ، وأصله من نفش الصوف .
والسوية : كساء محشو بثمام ونحوه ، كالبرذعة .
وكرب القيد ، إذا ضيقه على المقيد ، وقيد مكروب ، أي ضيق ، يقول : لا تنزع برذعة حمارك عنه واربطه وقيده ، وإلا أعيد إليك وقيده ضيق .
وهذا مثل ضربه لعلى عليه اسلام ، يأمره فيه بأن يردع جيشه عن التسرع والعجلة في الحرب .
وزيد المذكور في الشعر ، هو زيد بن حصين بن ضرار بن عمرو بن مالك بن زيد بن كعب بن بجالة بن ذهل بن مالك بن بكر بن سعد بن ضبة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ، وهو المعروف بزيد الخيل ، وكان فارسهم .
وبنو السيد من ضبة أيضا ، وهم بنو السيد بن مالك بن بكر بن سعد بن ضبة بن أد بن طابخة ...
إلى آخر النسب ، وبنو السيد بنو عم زيد الفوارس ، لانه من بنى ذهل بن مالك ، وهؤلاء بنو السيد بن مالك ، وبينهم عداوة النسب ، يقول : إن بنى السيد لا يرون زيدا في نفوسهم كما تراه أهله الادنون منه نسبا ، وهم بنو كوز وبنو مرهوب ، فأما بنو كوز فإنهم بنو كوز بن كعب بن بجالة بن ذهل بن مالك ، وأما بنو مرهوب ، فإنهم بنو مرهوب بن عبيد بن هاجر بن كعب بن بجالة بن ذهل بن مالك ، يقول : نحن لا نعظم زيدا ولا نعتقد فيه من الفضيلة ما يعتقده أهله وبنو عمه الادنون ، والمثل لعلى عليه السلام ، أي نحن لا نرى في على ما يراه أهل العراق من تعظيمه وتبجيله .
وقوله : * والدرع محقبة والسيف مقروب * أي والدرع بحالها في حقابها ، وهو ما يشد به في غلافها ، والسيف بحاله أي في قرابه ،(3/315)
وهو جفنه ، يقال : حقبت الدرع وقربت السيف ، كلاهما ثلاثيان ، يقول : إن سألتم الحق أعطينا كموه من غير حاجة إلى الحرب ، بل نجيبكم إليه والدروع بحالها لم تلبس ، والسيوف في أجفانها لم تشهر .
وأما إثبات النون في (تأنفون فإن الاصوب حذفها لعطف الكلمة على المجزوم قبلها ، ولكنه استأنف ولم يعطف ، كأنه قال : أو كنتم تأنفون ، يقول : وإن أنفتم وأبيتم إلا الحرب ، فإنا نأنف مثلكم أيضا ، لا نطعم الضيم ولا نقبله ، ثم قال : إن السم مشروب ، أي أن السم قد نشربه ولا نشرب الضيم ، أي نختار الموت على الضيم والذلة .
ويروى : وإن أنفتم فإنا معشر أنف لا نطعم الضيم إن الضيم مرهوب والشعر لعبد الله بن عنمة الضبى ، من بنى السيد ، ومن جملته : وقد أروح أمام الحى يقدمني صافى الاديم كميت اللون منسوب (1) محنب مثل شاة الربل محتفز بالقصريين على أولاه مصبوب (2) يبذ ملجمه هاد له تلع كأنه من جذوع العين مشذوب فذاك ذخري إذا ما خيلهم ركضت إلى المثوب أو مقاء سرحوب (3) فأما قوله عليه السلام : (هذا موقف من نطف فيه نطف يوم القيامة) ، أي من تلطخ
__________
(1) من هذه القطعة أبيات ، نسبها أبو عبيدة في كتاب الخيل إلى يزيد بن عمرو الخنفى .
(2) المحنب من الخيل : المعطف العظام ، وهو مدح في الخيل .
الربل : نبت .
ويحتفز : يجتهد في مد يديه .
والقصريان : ضلعان يليان الترقوتين .
وقوله : (على أولاده مصبوب) ، يقول : يجرى على جريه الاول لا يحول عنه ، كذا فسره صاحب اللسان (7 : 303) .
(3) الملقاء من الخيل : الواسعة الارفاغ .
والسرحوب : الطويلة على وجه الارض ، ورواية البيت في كتاب الخيل .
فذاك عندي إذا ما خيلهم ركبت إلى المثوب أو شقاء سرحوب (*)(3/316)
فيه بعيب من فرار أو نكول عن العدو .
يقال : نطف فلان بالكسر ، إذا تدنس بعيب .
نطف أيضا إذا فسد ، يقول : من فسدت حاله اليوم في هذا الجهاد فسدت حاله غدا عند الله .
قوله : (من فلج فيه) بفتح اللام ، أي من ظهر وفاز ، وكذلك يكون غدا عند الله ، يقال فلج زيد على خصمه ، بالفتح ، يفلج ، بضم اللام ، أي ظهرت حجته عليه ، وفي المثل : من يأت الحكم وحده يفلج .
قوله : (يهمط الناس) ، أي يقهرهم ويخبطهم ، وأصله الاخذ بغير تقدير .
وقوله : (على اعتزا به) أي على بعده عن الامارة والولاية على الناس .
والعرام ، بالضم : الشراسة والهوج .
والعشنزر : الشديد القوى .
وأحجر : لم الناس حتى ألجأهم إلى أن دخلوا حجرهم أو بيوتهم .
وتنمر ، أي تنكر حتى صار كالنمر ، يقول : هذا القائد الشديد القوى ينصف من يظلم الناس ويتنكر لهم ، أي ينصف منه ، فحذف حرف الجر كقوله : (واختار موسى قومه) ، أي من قومه .
والمزج ، بكسر الميم : السريع النفوذ ، وأصله الرمح القصير ، كالمزراق .
ورجل زمجر ، أي مانع حوزته ، والميم زائدة .
ومن رواها (زمخرا) بالخاء ، عنى به المرتفع العالي الشأن ، وجعل الميم زائدة أيضا ، من زخر الوادي ، أي علا وارتفع .
وغشمر السيل : أقبل ، والغشمرة : إثبات الامر بغير تثبيت ، يقول : إذا أبطان ساقهن سوقا عنيفا .
والابيات البائية لربيعة بن مقروم الطائى .
* * * قال نصر : حدثنا عمر بن سعد ، عن يوسف بن يزيد ، عن عبد الله بن عوف بن(3/317)
الاحمر ، قال : لما (1) قدمنا على معاوية وأهل الشام بصفين ، وجدناهم قد نزلوا منزلا اختاروه مستويا بساطا واسعا ، وأخذوا الشريعة فهى في أيديهم ، وقد صف عليها أبو الأعور الخيل والرجالة ، وقدم الرامية ومعهم أصحاب الرماح والدرق ، وعلى رؤوسهم البيض ، وقد أجمعوا أن يمنعونا الماء ، ففزعنا إلى أمير المؤمنين عليه السلام فأخبرناه بذلك ، فدعا صعصعة بن صوحان فقال : ائت معاوية وقل له : إنا سرنا إليك مسيرنا هذا وأنا كره لقتالكم (2) قبل الاعذار إليكم ، وإنك قدمت خيلك ، فقاتلتنا قبل أن نقاتلك ، وبدأتنا بالحرب ، ونحن ممن رأينا الكف حتى ندعوك ونحتج عليك ، وهذه أخرى قد فعلتموها ، قد حلتم بين الناس وبين الماء ، فخل بينهم وبينه حتى ننظر فيما بيننا وبينكم ، وفيما قدمنا له وقدمتم له ، وإن كان أحب إليك ، أن ندع ما جئنا له ، وندع الناس يقتتلون حتى يكون الغالب هو الشارب ، فعلنا .
فلما مضى صعصعة برسالته إلى معاوية ، قال معاوية لاصحابه : ما ترون ؟ فقال الوليد بن عقبة : امنعهم الماء كما منعوه ابن عفان ، حصروه أربعين يوما يمنعونه برد الماء ولين الطعام ، اقتلهم عطشا ، قتلهم الله ! وقال عمرو بن العاص : خل بين القوم وبين الماء ، فإنهم لن يعطشوا وأنت ريان ، ولكن لغير الماء فانظر فيما بينك وبينهم .
فأعاد الوليد مقالته .
وقال عبد الله بن سعيد بن أبى سرح - وكان أخا عثمان من الرضاعة - : امنعهم الماء إلى الليل ، فإنهم إن لم يقدروا عليه رجعوا ، وكان رجوعهم هزيمتهم ، امنعهم الماء منعهم
__________
(1) كتاب صفين المنقرى 179 ، 180 .
(2) صفين : (وأنا أكره قتالكم) .
(*)(3/318)
الله يوم القيامة ! فقال صعصعه بن صوحان : إنما يمنعه الله يوم القيامة الفجرة الكفرة ، شربة الخمر ، ضربك وضرب (1) هذا الفاسق - يعنى الوليد بن عقبة .
فتواثبوا إليه يشتمونه ويتهددونه ، فقال معاوية : كفوا عن الرجل ، فإنما هو رسول .
قال عبد الله بن عوف بن أحمر : إن صعصعة لما رجع إلينا حدثنا بما قال معاوية ، وما كان منه وما رده عليه ، قلنا : وما الذى رده عليك معاوية ؟ قال : لما أردت الانصراف من عنده ، قلت : ما ترد على ؟ قال : سيأتيكم رأيى ، قال : فو الله ما راعنا إلا تسوية الرجال والصفوف والخيل ، فأرسل إلى أبى الاعور : امنعهم الماء ، فازدلفنا والله إليهم ، فارتمينا واطعنا بالرماح ، واضطربنا بالسيوف ، فطال ذلك بيننا وبينهم حتى صار الماء في أيدينا ، فقلنا : لا والله لا نسقيهم .
فأرسل إلينا على عليه السلام أن خذوا من الماء حاجتكم ، وارجعوا إلى معسكركم ، وخلوا بينهم وبين الماء فإن الله قد نصركم عليهم بظلمهم وبغيهم .
* * * وروى نصر بن محمد بن عبد الله ، قال : قام (2) ذلك اليوم رجل من أهل الشام من السكون ، يعرف بالشليل (3) بن عمر إلى معاوية ، فقال : اسمع اليوم ما يقول الشليل إن قولى قول له تأويل امنع الماء من صحاب على أن يذوقوه ، فالذليل ذليل واقتل القوم مثل ما قتل الشيخ صدى فالقصاص أمر جميل (4) إننا والذى تساق له البدن هدايا كأنهن الفيول (5) [ لو على وصحبه وردوا الماء لما ذقتموه حتى تقولوا ] (6)
__________
(1) ضربك ، أي مثلك .
(2) صفين 181 (3) صفين : (السليل) .
(4) صفين : (ظما والقصاص أمر جمبل) .
(5) صفين : (هدايا لنحرها تأجبل) .
(6) تكملة من صفين .
(*)(3/319)
قد رضينا بأمركم وعلينا بعد ذاك الرضا جلاد ثقيل فامنع القوم ماءكم ، ليس للقوم بقاء وإن يكن فقليل فقال معاوية : أما أنت فندرى ما تقول - وهو الرأى - ولكن عمرا لا يدرى .
فقال عمرو : خل بينهم وبين الماء ، فإن عليا لم يكن ليظمأ وأنت ريان ، وفي يده أعنة الخيل ، وهو ينظر إلى الفرات حتى يشرب إو يموت ، وأنت تعلم أنه الشجاع المطرق [ ومعه أهل العراق وأهل الحجاز ] (1) ، وقد سمعته أنا مرارا وهو يقول : لو استمكنت من أربعين رجلا (2) يعنى في الامر الاول ! * * * وروى نصر ، قال : (3) لما غلب أهل الشام على الفرات ، فرحوا بالغلبة ، وقال معاوية : يا أهل الشام ، هذا والله أول الظفر ، لا سقاني الله ولا أبا سفيان إن شربوا منه أبدا حتى يقتلوا بأجمعهم عليه ، وتباشر أهل الشام ، فقام إلى معاوية رجل من أهل الشام همداني ، ناسك يتأله ويكثر العبادة ، يعرف بمعرى بن أقبل ، وكان صديقا لعمرو بن العاص وأخا له ، فقال : يا معاوية ، سبحان الله ! لان سبقتم القوم إلى الفرات فغلبتموهم عليه ، تمنعوهم الماء ! أما والله لو سبقوكم إليه لسقوكم منه .
أ ليس أعظم ما تنالون من القوم أن تمنعوهم الفرات فينزلوا على فرضة أخرى ويجازوكم بما صنعتم ! أما تعلمون أن فيهم العبد والامة والاجير والضعيف ، ومن لا ذنب له .
وهذا والله أول الجور ! لقد شجعت الجبان ، ونصرت المرتاب ، وحملت من لا يريد قتالك على كتفيك .
فأغلظ له معاوية ، وقال لعمرو : اكفني صديقك .
فأتاه عمرو فأغلظ له ، فقال الهمداني في ذلك شعرا : لعمر أبى معاوية بن حرب وعمرو ، ما لدائمها دواء
__________
(1) تكملة من صفين .
(2 - 2) في صفين : (فذكر أمرا ، يعنى لو أن معى اربعين رجلا يوم فتش البيت - يعنى بيت فاطمة) (3) صفين 182 .
(*)(3/320)
سوى طعن يحار العقل فيه وضرب حين تختلط الدماء ولست بتابع دين ابن هند طوال الدهر ما أرسى حراء لقد ذهب العتاب فلا عتاب وقد ذهب الولاء فلا ولاء وقولى في حوادث كل خطب (1) : على عمرو وصاحبه العفاء إلا لله درك يا بن هند لقد برح الخفاء فلا خفاء ! (2) أ تحمون الفرات على رجال وفي أيديهم الاسل الظماء وفي الاعناق أسياف حداد كأن القوم عندهم نساء أ ترجو أن يجاوركم على بلا ماء وللاحزاب ماء دعاهم دعوة فأجاب قوم كجرب الابل خالطها الهناء قال : ثم سار الهمداني في سواد الليل حتى لحق بعلى عليه السلام .
* * * قال : (3) ومكث أصحاب على عليه السلام بغير ماء ، واغتم على عليه السلام بما فيه أهل العراق : قال نصر : وحدثنا محمد بن عبد الله ، عن الجرجاني ، قال : لما اغتم على بما فيه أهل العراق من العطش ، خرج ليلا قبل رايات مذحج ، فإذا رجل ينشد شعرا : أيمنعنا القوم ماء الفرات وفينا الرماح وفينا الحجف (4) وفينا الشوازب مثل الوشيج وفينا السيوف وفينا الزغف (5)
__________
(1) صفين : (كل أمر) .
(2) برح الخفاء بكسر الراء وفتحها ، أي ظهر ما كان خافيا (3) صفين 183 ، 184 (4) الحجف : جمع حجفة ، وهى الترس من جلود الابل يطارق بعضها في بعض .
(5) الشوازب : الخيل الضامرة ، والوشيج في الاصل : شجر الرماح ، ويريد به هنا الرماح ، شبه بها الخيل في ضمرها .
والزغف : الدروع الواسعة .
(21 نهج - 3) (*)(3/321)
وفينا على له سورة إذا خوفوه الردى لم يخف ونحن الذين غداة الزبير وطلحة خضنا غمار التلف (1) فما بالنا أمس أسد العرين وما بالنا اليوم شاء النجف (2) فما للعراق وما للحجاز سوى الشام خصم فصكوا الهدف (3) وثوروا عليهم كبزل الجمال دوين الذميل وفوق القطف (4) فإما تفوزوا بماء الفرات ومنا ومنهم عليه جيف وإما تموتوا على طاعة تحل الجنان وتحبو الشرف وإلا فأنتم عبيد العصا وعبد العصا مستذل نطف (5) قال : فحرك ذلك عليا عليه السلام ، ثم مضى إلى رايات كندة ، فإذا إنسان ينشد إلى جانب منزل الاشعث ، وهو يقول : لئن لم يجل الاشعث اليوم كربة من الموت فيها للنفوس تعنت (6) فنشرب من ماء الفرات بسيفه فهبنا أناسا قبل ذاك فموتوا (7) فإن أنت لم تجمع لنا اليوم أمرنا وتنض التى فيها عليك المذلة (8)
__________
(1) يشير إلى وقعة الجمل ، والغمار : جمع غمرة ، وهى الشدة .
(2) العرين : مأوى الاسد ، والشاء : جمع شاة ، والنجف : الحلب الجيد حتى ينفض الضرع ، ويقال : انتجفت الغنم ، إذا استخرجت أقصى ما في اضرع من لبن ، والبيت من شواهد الكافية ، على أن (أسد العرين) و (شاء النجف) حالان ، إما على تقدير مثل ، وإما على تقدير هما بوصف .
وانظر خزانة الادب للبغدادي 1 : 528 ، والمسعودي 2 : 385 (3) صكوا : اضربوا ، وفي صفين : (سوى اليوم يوم) .
(4) الذميل والقطف : ضربان من السير .
والبازل : البعير الذى انشق نابه بدخوله في التاسعة ، وجمعه بزل .
وفي صفين : (فدبوا إليهم) .
(5) عبيد العصا ، أي أذلاء .
والنطف : المعيب .
(6) في المسعودي 2 : 385 (تفلت) .
(7) صفين والمسعودي : (كانوا فموتوا) .
(8) صفين : (وتلق التى فيها عليك التشتت) (*)(3/322)
فمن ذا الذى تثنى الخناصر باسمه سواك ، ومن هذا إليه التلفت ! وهل من بقاء بعد يوم وليلة نظل خفوتا والعدو يصوت ! (1) هلموا إلى ماء الفرات ودونه صدور العوالي والصفيح المشتت وأنت امرؤ من عصبة ينمية وكل امرئ من سنخه حين ينبت (2) قال : فلما سمع الاشعث قول الرجل ، قام فأتى عليا عليه السلام ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أيمنعنا القوم ماء الفرات ، وأنت فينا ، والسيوف في أيدينا ! خل عنا وعن القوم ، فو الله لا نرجع حتى نرده أو نموت ، ومر الاشتر فليعل بخيله ، ويقف حيث تأمره .
فقال على عليه السلام : ذلك إليكم .
فرجع الاشعث فنادى في الناس : من كان يريد الماء أو الموت فميعاده موضع كذا ، فإنى ناهض .
فأتاه اثنا عشر ألفا من كندة وأفناء قحطان ، واضعى سيوفهم على عواتقهم ، فشد عليه سلاحه (3) ونهض بهم ، حتى كاد يخالط أهل الشام ، وجعل يلقى رمحه ، ويقول لاصحابه : بأبى وأمى أنتم ! تقدموا إليهم قاب رمحي (4) هذا ، فلم يزل ذلك دأبه ، حتى خالط القوم ، وحسر عن رأسه ، ونادى : أنا الاشعث بن قيس ! خلوا عن الماء .
فنادى أبو الأعور : أما [ والله ] (5) حتى لا تأخذنا وإياكم السيوف ، فقال الاشعث :
__________
(1) صفين : (عطاشا والعدو يصوت) .
(2) السنخ : الاصل ، وفي صفين : (من غصنه) .
(3) صفين : وشد عليه سلاحه ، وهو يقول : ميعادنا اليوم بياض الصبح هل يصلح الزاد بغير ملح ! لالا ، ولا أمر بغير نصح دبوا إلى القوم بطعن سمح مثل العزالى بطعان نفح لاصلح للقوم ، وأين صلحي ! * حسبى من الافحام قاب رمح * (4) قاب رمحي : قدر رمحي .
(5) من صفين .
(*)(3/323)
قد والله أظنها دنت منا ومنكم .
وكان الاشتر قد تعالى بخيله حيث أمره على ، فبعث إليه الاشعث : أقحم الخيل ، فأقحمها حتى وضعت سنابكها في الفرات ، وإخذت أهل الشام السيوف ، فولوا مدبرين .
* * * قال نصر : (1) وحدثنا عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبى جعفر وزيد بن الحسن ، قال : فنادى الاشعث عمرو بن العاص ، فقال : ويحك يا بن العاص ! خل بيننا وبين الماء ، فو الله لئن لم تفعل لتأخذنا وإياكم السيوف ، فقال عمرو : والله لا نخلى عنه حتى تأخذنا السيوف وإياكم ، فيعلم ربنا : أينا أصبر اليوم .
فترجل الاشعث والاشتر ، وذوو البصائر من أصحاب على عليه السلام ، وترجل معهما اثنا عشر ألفا ، فحملوا على عمرو وأبى الاعور ومن معهما من أهل الشام ، فأزالوهم عن الماء ، حتى غمست خيل على عليه السلام سنابكها في الماء .
قال نصر : فروى عمر بن سعد أن عليا عليه السلام قال ذلك اليوم : هذا يوم نصرتم فيه بالحمية (2) .
* * * قال نصر : وحدثنا عمرو بن شمر ، عن جابر ، قال : (3) سمعت تميما الناجى يقول : سمعت الاشعث يقول : حال عمرو بن العاص بيننا وبين الفرات ، فقلت له : ويحك يا عمرو ! أما والله إن كنت لاظن لك رأيا ، فإذا أنت لا عقل لك .
أترانا نخليك والماء ! تربت يداك (4) ! أما علمت أنا معشر عرب ! ثكلتك أمك وهبلتك ! لقد رمت أمرا عظيما .
فقال لى عمرو : أما والله لتعلمن اليوم أنا سنفى بالعهد ، ونحكم العقد ، ونلقاكم
__________
(1) صفين 187 (2) صفين 187 (3) صفين 189 ، 190 .
(4) صفين : (يداك وفمك) (*)(3/324)
بصبر وجد .
فنادى به الاشتر : يا بن العاص ، أما والله لقد نزلنا هذه الفرضة ، وإنا لنريد القتال على البصائر والدين ، وما قتالنا سائر اليوم إلا حمية .
ثم كبر الاشتر وكبرنا معه وحملنا ، فما ثار الغبار حتى انهزم أهل الشام .
قالوا : فلقى عمرو بن العاص بعد انقضاء صفين الاشعث ، فقال له : يا أخا كندة ، أما والله لقد أبصرت صواب قولك يوم الماء ، ولكن كنت مقهورا على ذلك الرأى ، فكابرتك بالتهدد والوعيد ، والحرب خدعة .
قال نصر : ولقد كان من رأى عمرو التخلية بين أهل العراق والماء .
ورجع معاوية بأخرة إلى قوله بعد اختلاط القوم في الحرب ، فإن عمرا - فيما روينا - أرسل إلى معاوية أن خل بين القوم وبين الماء ، أترى القوم يموتون عطشا وهم ينظرون إلى الماء ! فأرسل معاوية إلى يزيد بن أسد القسرى : أن خل بين القوم وبين الماء يا أبا عبد الله ، فقال يزيد - وكان شديد العثمانية - : كلا والله لنقتلنهم عطشا كما قتلوا أمير المؤمنين .
* * * قال : فحدثنا عمرو بن شمر ، عن جابر ، قال : خطب على عليه السلام يوم الماء فقال : (أما بعد ، فإن القوم قد بدءوكم بالظلم ، وفاتحوكم بالبغى ، واستقبلوكم بالعدوان ، وقد استطعموكم القتال حيث منعوكم الماء ، فأقروا على مذلة وتأخير مهلة .....
) ، الفصل إلى آخره .
قال نصر : وكان (1) قد بلغ أهل الشام أن عليا عليه السلام جعل للناس إن فتح الشام أن يقسم بينهم التبر والذهب - وهما الاحمران - وأن يعطى كلا منهم خمسمائة كما أعطاهم بالبصرة ، فنادى ذلك اليوم منادى أهل الشام : يا أهل العراق ، لماذا نزلتم بعجاج
__________
(1) صفين 187 ، 188 .
(*)(3/325)
من الارض ! نحن أزد شنوءة لا أزد عمان ، يا أهل العراق : لا خمس إلا جندل الاحرين (1) والخمس قد تجشمك الامرين (2) * * * قال نصر : فحدثني عمرو بن شمر ، عن إسماعيل السدى ، عن بكر بن تغلب ، قال : حدثنى (3) من سمع الاشعث يوم الفرات - وقد كان له غناء عظيم من أهل العراق ، وقتل رجالا من أهل الشام بيده ، وهو يقول : والله إن كنت لكارها قتال أهل الصلاة ، ولكن معى من هو أقدم منى في الاسلام ، وأعلم بالكتاب والسنة ، فهو الذى يسخى بنفسه .
* * *
__________
(1) لا خمس ، أراد لا خمسمائة .
والجندل : الحجارة والاحرين : جمع حرة ، وهى الحجارة السوداء .
(2) الامرين : الشر والامر العظيم ، وفى اللسان (5 : 252) بعد شرح كلمة (الاخرين) أنشد ثعلب لزيد بن عناهية التيمى ، وكان زيد المذكور لما عظم البلاء بصفين قد انهزم ولحق بالكوفة ، وكان على رضى الله عنه قد أعطى أصحابه يوم الجمل خمسمائة من بيت مال البصرة ، فلما قدم زيد على أهله قالت له ابنته : أين خمس المائة ؟ فقال : إن أباك فر يوم صفين لما رأى عكا والاشعريين وقيس عيلان الهوازنيين وابن نمير في سراة الكنديين وذا الكلاع سيد اليمانين وحابسا يستن في الطائيين قال نفس السوء : هل نفرين ؟ لا خمس إلا جندل الاحرين والخمس قد جشمتك الامرين جمزا إلى الكوفة من قنسرين ويروى : (قد تجشمك) ، و (قد يجشمنك) .
وقال ابن سيده : معنى (لا خمس) ما ورد في حديث صفين أن معاوية زاد أصحابه يوم صفين خمسمائة ، فلما التقوا بعد ذلك قال أصحاب على رضى الله عنه : * لا خمس إلا جندل الاحرين * أرادوا : لا خمسمائة .
(3) صفين 191 - 192 (*)(3/326)
قال نصر : وحمل (1) ظبيان بن عمارة التميمي على أهل الشام ، وهو يقول : هل لك يا ظبيان من بقاء في ساكنى الارض بغير ماء ! لا وإله الارض والسماء فاضرب وجوه الغدر الاعداء بالسيف عند حمس الهيجاء (2) حتى يجيبوك إلى السواء قال : فضربهم والله حتى خلوا له الماء .
* * * قال نصر : ودعا (3) الاشتر بالحارث بن همام النخعي ، ثم الصهبانى ، فأعطاه لواءه ، وقال له : يا حارث ، لو لا أنى أعلم أنك تصبر عند الموت لاخذت لوائى منك ، ولم أحبك بكرامتي ، فقال : والله يا مالك لاسرنك أو لاموتن ، فاتبعني .
ثم تقدم باللواء وارتجز ، فقال : يا أخا الخيرات يا خير النخع وصاحب النصر إذا عم الفزع كاشف الخطب إذا الامر وقع ما أنت في الحرب العوان بالجذع (4) قد جزع القوم وعموا بالجزع وجرعوا الغيظ وغصوا بالجرع إن تسقنا الماء فليست بالبدع أو نعطش اليوم فجند مقتطع * ما شئت خذ منها وما شئت فدع * فقال الاشتر : ادن منى يا حارث ، فدنا منه فقبل رأسه ، فقال : لا يتبع رأسه اليوم إلا خير ، ثم صاح الاشتر في أصحابه : فدتكم نفسي ! شدوا شدة المحرج الراجى للفرج ، فإذا نالتكم الرماح فالتووا فيها ، فإذا عضتكم السيوف فليعض الرجل على نواجذه ، فإنه أشد لشئون (5) الرأس ، ثم استقبلوا القوم بهامكم .
__________
(1) صفين 192 .
(2) الحمس : الشدة في القتال ، وفى صفين : حمس الوغاء) .
(3) صفين 293 ، والمسعودي 2 : 386 (4) الحرب العوان : التى قوتل فيها مرة بعد مرة ، كأنهم جعلوا الاولى بكرا .
والجذع : الصغير السن .
(5) الشئون هنا : جمع شأن ، وهو موصل قبائل الرأس .
(*)(3/327)
قال : وكان الاشتر يومئذ على فرس له محذوف (1) أدهم ، كأنه حلك الغراب ، وقتل بيده من أهل الشام من فرسانهم وصناديدهم سبعة : صالح بن فيروز العكى ، ومالك بن أدهم السلمانى ، ورياح بن عتيك الغساني ، والاجلح بن منصور الكندى - وكان فارس أهل الشام - وإبراهيم بن وضاح الجمحى ، وزامل بن عبيد الحزامى ، ومحمد بن روضة الجمحى .
قال نصر : فأول قتيل قتله الاشتر بيده ذلك اليوم صالح بن فيروز ، ارتجز على الاشتر وقال له : يا صاحب الطرف الحصان الادهم أقدم إذا شئت علينا أقدم أنا ابن ذى العز وذى التكرم سيد عك كل عك فاعلم قال : وكان صالح مشهورا بالشدة والبأس ، فارتجز عليه الاشتر ، فقال له : أنا ابن خير مذحج مركبا وخيرها نفسا وأما وأبا آليت لا أرجع حتى أضربا بسيفي المصقول ضربا معجبا ثم شد عليه فقتله ، فخرج إليه مالك بن أدهم السلمانى - وهو من مشهوريهم أيضا ، فحمل على الاشتر بالرمح ، فلما رهقه (2) التوى الاشتر على فرسه ومار السنان (3) فأخطأه ، ثم استوى على فرسه ، وشد على الشامي فقتله طعنا بالرمح ، ثم قتل بعده رياح بن عقيل (4) وإبراهيم بن وضاح ، ثم برز إليه زامل بن عقيل - وكان فارسا - فطعن الاشتر في موضع الجوشن (5) فصرعه عن فرسه ، ولم يصب مقتلا ، وشد عليه الاشتر بالسيف راجلا فكشف قوائم فرسه ، وارتجز عليه فقال
__________
(1) المحذوف : المقطوع الذنب .
(2) وهقه : غشيه .
(3) مار السنان : اضطرب .
(4) صفين : (رياح بن غتيك) (5) الجوشن : الصدر .
(*)(3/328)
لا بد من قتلى أو من قتلكا قتلت منكم أربعا من قبلكا (1) * كلهم كانوا حماة مثلكا * ثم ضربه بالسيف وهما راجلان فقتله ، ثم خرج إليه محمد بن روضة ، فقال ، وهو يضرب في أهل العراق ضربا منكرا : يا ساكنى الكوفة يا أهل الفتن يا قاتلي عثمان ذاك المؤتمن أورث قلبى قتله طول الحزن أضربكم ولا أرى أبا حسن ! فشد عليه الاشتر فقتله ، وقال : لا يبعد الله سوى عثمانا وأنزل الله بكم هوانا * ولا يسلى عنكم الاحزانا (2) * ثم برز إليه الاجلح بن منصور الكندى - وكان من شجعان العرب وفرسانها - وهو على فرس له اسمه لاحق ، فلما استقبله الاشتر ، كره لقاءه واستحيا أن يرجع عنه ، فتضاربا بسيفيهما ، فسبقه الاشتر بالضربة فقتله ، فقالت أخته ترثيه : ألا فابكى أخا ثقة فقد والله أبكينا لقتل الماجد القمقام لا مثل له فينا (3) أتانا اليوم مقتله فقد جزت نواصينا كريم ماجد الجدين يشفى من أعادينا شفانا الله من أهل العراق فقد أبادونا أما يخشون ربهم ولم يرعوا له دينا !
__________
(1) صفين : (قتلت خمسة) (2) بقية الرجز كما في صفين : مخالف قد خالف الرحمانا نصرتموه عابدا شيطانا (3) القمقام : السيد الكثير العطاء .
(*)(3/329)
قال : وبلغ شعرها عليا عليه السلام ، فقال : أما إنهن ليس بملكهن ما رأيتم من الجزع ، أما إنهم قد أضروا بنسائهم ، فتركوهن أيامى حزانى (1) بائسات .
قاتل الله معاوية ! اللهم حمله آثامهم وأوزارا وأثقالا مع أثقاله ! اللهم لا تعف عنه ! * * * قال نصر : وحدثنا (2) عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن الشعبى ، عن الحارث بن أدهم ، وعن صعصعة ، قال : أقبل الاشتر يوم الماء ، فضرب بسيفه جمهور أهل الشام حتى كشفهم عن الماء ، وهو يقول : لا تذكروا ما قد مضى وفاتا والله ربى الباعث الامواتا من بعد ما صاروا كذا رفاتا (3) لاوردن خيلى الفراتا * شعث النواصي أو يقال ماتا * قال : وكان لواء الاشعث بن قيس مع معاوية بن الحارث ، فقال له الاشعث : لله أبوك ! ليست النخع بخير من كندة ، قدم لواءك فإن الحظ لمن سبق .
فتقدم لواء الاشعث ، وحملت الرجال بعضها على بعض ، وحمل في ذلك اليوم أبو الأعور السلمى ، وحمل الاشتر عليه ، فلم ينتصف أحدهما من صاحبه ، وحمل شرحبيل بن السمط على الاشعث ، فكانا كذلك ، وحمل حوشب ذو ظليم على الاشعث أيضا ، وانفصلا ولم ينل أحدهما من صاحبه أمرا ، فما زالوا كذلك حتى انكشف أهل الشام عن الماء ، وملك أهل العراق المشرعة .
* * * قال نصر : فحدثنا محمد بن عبد الله ، عن الجرجاني ، قال : قال (4) عمرو بن العاص لمعاوية لما ملك أهل العراق الماء ، ما ظنك يا معاوية بالقوم إن منعوك اليوم الماء كما منعتهم
__________
(1) صفين : (خزايا) .
(2) صفين 201 (3) صفين : (صدى فراتا) .
(4) صفين 208(3/330)
أمس ! إتراك تضاربهم عليه كما ضاربوك عليه ! ما أغنى عنك أن تكشف لهم السوءة .
فقال معاوية : دع عنك ما مضى ، فما ظنك بعلى ؟ قال : ظنى أنه لا يستحل منك ما استحللت منه ، وأن الذى جاء له غير الماء .
قال : فقال له معاوية قولا أغضبه ، فقال عمرو : أمرتك أمرا فسخفته وخالفني ابن أبى سرحه (1) وأغمضت في الرأى إغماضة ولم تر في الحرب كالفسحه فكيف رأيت كباش العراق ألم ينطحوا جمعنا نطحه ! فإن ينطحونا غدا مثلها نكن كالزبيري أو طلحه أظن لها اليوم ما بعدها وميعاد ما بيننا صبحه وإن أخروها لما بعدها فقد قدموا الخبط والنفحة وقد شرب القوم ماء الفرات وقلدك الاشتر الفضحه قال نصر : فقال أصحاب على عليه السلام له : امنعهم الماء يا أمير المؤمنين كما منعوك ، فقال : لا ، خلوا بينهم وبينه ، لا أفعل ما فعله الجاهلون ، سنعرض عليهم كتاب الله ، وندعوهم إلى الهدى ، فإن أجابوا ، وإلا ففى حد السيف ما يغنى إن شاء الله .
قال : فو الله ما أمسى الناس حتى رأوا سقاتهم وسقاة أهل الشام ورواياهم وروايا أهل الشام يزدحمون على الماء ، ما يؤذى إنسان إنسانا .
__________
(1) يريد بابن أبى سرحة عبد الله بن سعد بن أبى سرح .
(*)(3/331)
(52) (*) ومن خطبة له عليه السلام ، وقد تقدم مختارها برواية ، ونذكر ما نذكره هنا برواية أخرى ، لتغاير الروايتين : الاصل : ألا وإن الدنيا قد تصرمت وآذنت بانقضاء ، وتنكر معروفها وأدبرت حذاء ، فهى تحفز بالفناء سكانها ، وتحدو بالموت جيرانها ، وقد أمر فيها ما كان حلوا ، وكدر منها ما كان صفوا ، فلم يبق منها إلا سملة كسملة الاداوة ، أو جرعة (1) كجرعة المقلة ، لو تمززها الصديان لم ينقع .
فأزمعوا عباد الله الرحيل عن هذه الدار المقدور على أهلها الزوال ، ولا يغلبنكم فيها الامل ، ولا يطولن عليكم فيها (2) الامد .
فو الله لو حننتم حنين الوله العجال ، ودعوتم بهديل الحمام ، وجأرتم جؤار متبتلى الرهبان ، وخرجتم إلى الله من الاموال والاولاد ، التماس القربة إليه في ارتفاع درجة عنده ، أو غفران سيئة أحصتها كتبه ، وحفظتها رسله لكان قليلا فيما أرجو لكم من ثوابه ، وأخاف عليكم من عقابه .
وبالله لو انماثت قلوبكم انمياثا ، وسالت عيونكم - من رغبة إليه أو رهبة منه - دما ، ثم عمرتم في الدنيا - ما الدنيا باقية - ما جزت أعمالكم - ولو لم تبقوا شيئا من جهدكم - أنعمه عليكم العظام ، وهداه إياكم للايمان .
__________
(*) انظر الخطبة رقم 28 الجزء الثاني ص 91 (1) مخطوطة النهج : (وجرعة) .
(2) كلمة (فيها) ساقطة في مخطوطة النهج .
(*)(3/332)
الشرح تصرمت : انقطعت وفنيت .
وآذنت بانقضاء : أعلمت بذلك ، آذنته بكذا ، أي أعلمته .
وتنكر معروفها : جهل منها ما كان معروفا .
والحذاء : السريعة الذهاب ، ورحم حذاء : مقطوعة غير موصولة .
ومن رواه (جذاء) بالجيم ، أراد منقطعة الدر والخير .
وتحفر بالفناء سكانها : تعجلهم وتسوقهم .
وأمر الشئ : صار مرا .
وكدر الماء ، بكسر الدال ، ويجوز كدر بضمها .
والمصدر من الاول كدرا ، ومن الثاني كدورة .
والسملة ، بفتح الميم : البقية من الماء تبقى في الاناء .
والمقلة ، بفتح الميم وتسكين القاف : حصاة القسم التى تلقى في الماء ليعرف قدر ما يسقى كل واحد منهم ، وذلك عند قلة الماء في المفاوز ، قال : قذفوا سيدهم في ورطة قذفك المقلة وسط المعترك (1) والتمزز : تمصص الشراب قليلا قليلا .
والصديان : العطشان .
ولم ينقع : لم يرو ، وهذا يمكن أن يكون لازما ، ويمكن أن يكون متعديا ، تقول : نقع الرجل بالماء ، أي روى وشفى غليله ، ينقع .
ونقع الماء الصدى ينقع ، أي سكنه .
فأزمعوا الرحيل ، أي اعزموا عليه ، يقال : أزمعت الامر ، ولا يجوز أزمعت على الامر ، وأجازه الفراء .
قوله : (المقدور على أهلها الزوال) ، أي المكتوب ، قال : واعلم بأن ذا الجلال قد قدر في الصحف الاولى الذى كان سطر .
__________
(1) اللسان 14 : 150 ، ونسبه إلى يزيد بن طعمة الخطمى .
(*)(3/333)
أي كتب والوله العجال : النوق الوالهة الفاقدة أولادها ، الواحدة عجول ، والوله : ذهاب العقل وفقد التمييز .
وهديل الحمام : صوت نوحه .
والجؤار : صوت مرتفع .
والمتبتل : المنقطع عن الدنيا .
وانماث القلب ، أي ذاب .
وقوله : (ولو لم تبقوا شيئا من جهدكم) اعتراض في الكلام .
وأنعمه ، منصوب لانه مفعول (جزت) .
* * * وفي هذا الكلام تلويح وإشارة إلى مذهب البغداديين من أصحابنا في أن الثواب على فعل الطاعة غير واجب ، لانه شكر النعمة ، فلا يقتضى وجوب ثواب آخر ، وهو قوله عليه السلام : (لو انماثت قلوبكم انمياثا ....، إلى آخر الفصل .
وأصحابنا البصريون لا يذهبون إلى ذلك ، بل يقولون : إن الثواب واجب على الحكيم سبحانه ، لانه قد كلفنا ما يشق علينا ، وتكليف المشاق كانزال المشاق ، فكما اقتضت الالام والمشاق النازلة بنامن جهته سبحانه أعواضا مستحقة عليه تعالى عن إنزالها بنا ، كذلك تقتضي التكليفات الشاقة ثوابا مستحقا عليه تعالى عن إلزامه إيانا بها ، قالوا : فأما ما سلف من نعمه علينا فهو تفضل منه تعالى ، ولا يجوز في الحكمة أن يتفضل الحكيم على غيره بأمر من الامور ، ثم يلزمه أفعالا شاقة ويجعلها بإزاء ذلك التفضل ، إلا إذا كان في تلك الامور منافع عائدة على ذلك الحكيم ، فكان ما سلف من المنافع جاريا مجرى الاجرة ، كمن يدفع درهما إلى إنسان ليخيط له ثوبا ، والبارئ تعالى منزه عن المنافع ، ونعمه علينا منزهة أن تجرى مجرى الاجرة على تكليفنا المشاق .
وأيضا فقد يتساوى اثنان من الناس في النعم المنعم بها عليهما ، ويختلفان في التكاليف ،(3/334)
فلو كان التكليف لاجل ما مضى من النعم لوجب أن يقدر بحسبها .
فإن قيل : فعلى ماذا يحمل كلام أمير المؤمنين عليه السلام ، وفيه إشارة إلى مذهب البغداديين ؟ قيل : إنه عليه السلام لم يصرح بمذهب البغداديين ، ولكنه قال : لو عبدتموه بأقصى ما ينتهى الجهد إليه وما وفيتم بشكر أنعمه ، وهذا حق غير مختلف فيه ، لان نعم البارئ تعالى لا تقوم العباد بشكرها ، وإن بالغوا في عبادته والخضوع له والاخلاص في طاعته ، ولا يقتضى صدق هذه القضية وصحتها صحة مذهب البغداديين في أن الثواب على الله تعالى غير واجب ، لان التكليف إنما كان باعتبار أنه شكر النعمة السالفة .
* * * [ ما قيل من الاشعار في ذم الدنيا ] فأما ما قاله الناس في ذم الدنيا و غرورها وحوادثها وخطوبها وتنكرها لاهلها ، والشكوى منها ، والعتاب لها والموعظة بها ، وتصرمها وتقلبها ، فكثير ، من ذلك قول بعضهم : هي الدنيا تقول بملء فيها حذار حذار من بطشي وفتكي (1) فلا يغرركم حسن ابتسامى فقولي مضحك والفعل مبك .
وقال آخر : تنح عن الدنيا ولا تطلبنها ولا تخطبن قتالة من تناكح فليس يفى مرجوها بمخوفها ، ومكروهها إما تأملت راجح لقد قال فيها القائلون فأكثروا وعندي لها وصف لعمرك صالح سلاف ، قصاراها ذعاف ، ومركب شهى إذا استلذذته فهو جامح وشخص جميل يعجب الناس حسنه ولكن له أفعال سوء قبائح .
__________
(1) لابي الفرج الساوى ، معاهد الننصيص 4 : 241 .
(*)(3/335)
وقال أبو الطيب : أبدا تسترد ما تهب الدنيا فيا ليت جودها كان بخلا (1) وهى معشوقة على الغدر لا تحفظ عهدا ولا تتم وصلا كل دمع يسيل منها عليها وبفك اليدين عنها تخلى شيم الغانيات فيها ولا أدرى لذا أنث اسمها الناس أم لا ! وقال آخر : إنما الدنيا عوار والعوارى مسترده (2) شدة بعد رخاء ورخاء بعد شده وقال محمد بن هانئ المغربي : وما الناس إلا ظاعن فمودع وثاو قريح الجفن يبكى لراحل (3) فما الدهر إلا كالزمان الذى مضى ولا نحن إلا كالقرون الاوائل نساق من الدنيا إلى غير دائم ونبكي من الدنيا على غير طائل فما عاجل نرجوه إلا كاجل ولا آجل نخشاه إلا كعاجل وقال ابن المظفر المغربي : دنياك دار غرور ونعمة مستعاره ودار أكل وشرب ومكسب وتجاره ورأس مالك نفس فخف عليها الخساره
__________
(1) ديوانه 3 : 131 (2) محاضرات الادباء 2 : 126 من غير نسبة .
(3) ديوانه 587 (طبعة المعارف) (*)(3/336)
ولا تبعها بأكل وطيب عرف وشاره فإن ملك سليمان لا يفى بشراره * * * وقال أبو العتاهية : ألا إنما التقوى هي البر والكرم وحبك للدنيا هو الفقر والعدم (1) وليس على عبد تقى غضاضة إذا صحح التقوى وإن حاك أو حجم (2) وقال أيضا : تعلقت بامال طوال أي آمال وأقبلت على الدنيا ملحا أي إقبال أيا هذا تجهز لفراق الاهل والمال فلا بد من الموت على حال من الحال وقال أيضا : سكن يبقى له سكن ما بهذا يؤذن الزمن ! (3) نحن في دار يخبرنا ببلاها ناطق لسن دار سوء لم يدم فرح لامرئ فيها ولا حزن في سبيل الله أنفسنا كلنا بالموت مرتهن كل نفس عند موتتها حظها من مالها الكفن إن مال المرء ليس له منه إلا ذكره الحسن
__________
(1) ديوانه 243 (2) ديوانه 213 (3) ديوانه 252 (22 - نهج - 3) (*)(3/337)
وقال أيضا : ألا إننا كلنا بائد وأى بنى آدم خالد ! (1) وبدؤهم كان من ربهم وكل إلى ربه عائد فوا عجبا كيف يعصى الاله أم كيف يجحده الجاحد وفي كل شئ له آية تدل على أنه الواحد وقال الرضى الموسوي : يا آمن الايام بادر صرفها واعلم بأن الطالبين حثاث (2) خذ من ثرائك ما استطعت فإنما شركاؤك الايام والوراث لم يقض حق المال إلا معشر نظروا الزمان يعيث فيه فعاثوا تحثو على عيب الغنى يد الغنى والفقر عن عيب الفتى بحاث المال مال المرء ما بلغت به الشهوات أو دفعت به الاحداث ما كان منه فاضلا عن قوته فليعلمن بأنه ميراث ما لى إلى الدنيا الدنية حاجة فليجن ساحر كيدها النفاث طلقتها ألفا لاحسم داءها وطلاق من عزم الطلاق ثلاث وثباتها مرهوبة ، وعداتها مكذوبة ، وحبالها أنكاث أم المصائب لا تزال تروعنا منها ذكور حوادث وإناث إنى لاعجب للذين تمسكوا بحبائل الدنيا وهن رثاث كنزوا الكنوز وأعقلوا شهواتهم فالارض تشبع والبطون غراث أتراهم لم يعلموا أن التقى أزوادنا ، وديارنا الاجداث !
__________
(1) ديوانه 69 (2) ديوانه لوحة 123 ، وفيه : (يا آمن الاقدار) (*)(3/338)
وقال آخر : هذه الدنيا إذا صرفت وجهها لم تنفع الحيل وإذا ما أقبلت لعم بصرته كيف يفتعل وإذا ما أدبرت لذكى غاب عنه السهل والجبل فهى كالدولاب دائرة ترتقى طورا وتستفل في زمان صار ثعلبه أسدا واستذأب الحمل فالذنابى فيه ناصية والنواصى خشع ذلل فاصبري يا نفس واحتملى إن نفس الحر تحتمل وقال أبو الطيب : نعد المشرفية والعوالى وتقتلنا المنون بلا قتال (1) ونرتبط السوابق مقربات وما ينجين من خبب الليالى (2) ومن لم يعشق الدنيا قديما ولكن لا سبيل إلى الوصال ! نصيبك في حياتك من حبيب نصيبك في منامك من خيال رماني الدهر بالارزاء حتى فؤادى في غشاء من نبال فصرت إذا أصابتني سهام تكسرت النصال على النصال وهان فما أبالى بالرزايا لانى ما انتفعت بأن أبالى يدفن بعضنا بعضا ويمشى أواخرنا على هام الاوالى وكم عين مقبلة النواحى كحيل في الجنادل والرمال
__________
(1) ديوانه 3 : 8 ، المشرفية : السيوف ، والعوالى : الرماح .
(2) المقربات من الخيل : الكرام التى تربط لكرامتها على أصحابها .
(*)(3/339)
ومغض كان لا يغضى لخطب وبال كان يفكر في الهزال * * * وقال أبو العتاهية في أرجوزته المشهورة في ذم الدنيا وفيها أنواع مختلفة من الحكمة : ما زالت الدنيا لنا دار أذى ممزوجة الصفو بألوان القذى (1) الخير والشر بها أزواج لذا نتاج ، ولذا نتاج من لك بالمحض وليس محض يخبث بعض ويطيب بعض لكل إنسان طبيعتان خير وشر وهما ضدان والخير والشرإذا ما عدا بينهما بون بعيد جدا إنك لو تستنشق الشحيحا وجدته أنتن شئ ريحا حسبك مما تبتغيه القوت ما أكثر القوت لمن يموت ! الفقر فيما جاوز الكفافا من اتقى الله رجا وخافا هي المقادير فلمنى أو فذر إن كنت أخطأت فما أخطا القدر لكل ما يؤذى وإن قل ألم ما أطول الليل على من لم ينم ! ما انتفع المرء بمثل عقله وخير ذخر المرء حسن فعله إن الفساد ضده الصلاح ورب جد جره المزاح من جعل النمام عينا هلكا مبلغك الشر كباغيه لكا إن الشباب والفراغ والجده مفسدة للمرء أي مفسده يغنيك عن كل قبيح تركه قد يوهن الرأى الاصيل شكه ما عيش من آفته بقاه نغص عيشا ناعما فناه (2)
__________
(1) ديوانه 346 مع اختلاف في ترتيب الابيات .
(2) الديوان : (تقاؤه) ، (فناؤه) .
(*)(3/340)
يا رب من أسخطنا بجهده قد سرنا الله بغير حمده ما تطلع الشمس ولا تغيب إلا لامر شأنه عجيب لكل شئ قدر وجوهر وأوسط وأصغر وأكبر وكل شئ لاحق بجوهره أصغره متصل بأكبره من لك بالمحض وكل ممتزج وساوس في الصدر منك تعتلج عجبت واستغرقني السكوت حتى كأنى حائر مبهوت إذا قضى الله فكيف أصنع والصمت إن ضاق الكلام أوسع وقال أيضا : كل على الدنيا له حرص والحادثات لنا بها قرص (1) وكأن من واروه في جدث لم يبد منه لناظر شخص يهوى من الدنيا زيادتها وزيادة الدنيا هي النقص ليد المنية في تلطفها عن ذخر كل نفيسة فحص وقال أيضا : أبلغ الدهر في مواعظه بل زاد فيهن لى من الابلاغ (2) أي عيش يكون أطيب من عيش كفاف قوت بقدر البلاغ غصبتني الايام أهلى ومالى وشبابي وصحتى وفراغي صاحب البغى ليس يسلم منه وعلى نفسه بغى كل باغ رب ذى نعمه تعرض منها حائل بينه وبين المساغ * * *
__________
(1) ديوانه 136 .
(2) ديوانه 164 .
(*)(3/341)
وقال ابن المعتز : حمدا لربى وذما للزمان فما أقل في هذه الدنيا مسراتي ! كفت يدى أملى عن كل مطلب و أغلقت بابها من دون حاجاتي وله أيضا : ألست ترى يا صاح ما أعجب الدهرا فذما له ، لكن للخالق الشكرا لقد حبب الموت البقاء الذى أرى فيا حبذا منى لمن سكن القبرا وسبحان ربى راضيا بقضائه وكان اتقائى الشر يغرى بى الشرا وله : قل لدنياك : قد تمكنت منى فافعلي ما أردت أن تفعلي بى واخرقي كيف شئت خرق جهول إن عندي لك اصطبار لبيب وقال أبو العلاء المعرى : والدهر إبرام ونقض وتفريق وجمع ونهار وليل (1) لو قال لى صاحبه سمه ما جزت عن ناجيه إو بديل وقال آخر : والدهر لا يبقى على حالة لا بد أن يدبر أو يقبلا وقال أبو الطيب : ما لى وللدنيا طلابي نجومها ومسعاي منها في شدوق الاراقم (2)
__________
(1) سقط الزند 161 .
(2) ديوانه 4 : 111 .
الاراقم : الحيات .
(*)(3/342)
وقال آخر : لعمرك ما الايام إلا معارة فما اسطعت من معروفها فتزود وقال آخر : لعمرك ما الايام إلا كما ترى رزية مال ، أو فراق حبيب الوزير المهلبى : ألا موت يباع فأشتريه فهذا العيش ما لا خير فيه (1) ألا رحم المهيمن نفس حر تصدق بالممات على أخيه وله : أشكو إلى الله أحداثا من الزمن يبريننى مثل برى القدح بالسفن لم يبق بالعيش لى إلا مرارته إذا تذوقته ، والحلو منه فنى لا تحسبن نعما سرتك صحبتها إلا مفاتيح أبواب من الحزن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر : ألا أيها الدهر الذى قد مللته سألتك إلا ما سللت حياتي فقد وجلال الله حببت جاهدا إلى - على كره الممات - مماتي وله : ألم تر أن الدهر يهدم ما بنى ويسلب ما أعطى ويفسد ما أسدى فمن سره ألا يرى ما يسوءه فلا يتخذ شيئا يخاف له فقدا البحترى .
كأن الليالى أغريت حادثاتها بحب الذى نأبى ، وبغض الذى نهوى (2)
__________
(1) ابن خلكان 1 : 142 (2) ديوانه 1 : 10 .
(*)(3/343)
ومن عرف الايام لم ير خفضها نعيما ولم يعدد مضرتها بلوى أبو بكر الخوارزمي : ما أثقل الدهر على من ركبه حدثنى عنه لسان التجربه لا تشكر الدهر لخير سببه فإنه لم يتعمد بالهبه وإنما أخطأ فيك مذهبه كالسيل قد يسقى مكانا أخربه والسم يستشفى به من شربه وقال آخر : يسعى الفتى في صلاح العيش مجتهدا والدهر ما عاش في إفساده ساعى آخر : يغر الفتى مر الليالى سليمة وهن به عما قليل عواثر آخر : إذا ما الدهر جر على أناس كلاكله أناخ باخرينا فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا آخر : قل لمن أنكر حالا منكره ورأى من دهره ما حيره ليس بالمنكر ما أنكرته كل من عاش رأى ما لم يره ابن الرومي : سكن الزمان وتحت سكنته دفع من الحركات والبطش(3/344)
كالافعوان تراه منبطحا بالارض ثم يثور للنهش إبو الطيب : إنا لفى زمن ترك القبيح به من أكثر الناس إحسان وإجمال (1) ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته ما قاته ، وفضول العيش أشغال وقال آخر : جار الزمان علينا في تصرفه وأى حر عليه الدهر لم يجر ! عندي من الدهر ما لو أن أيسره يلقى على الفلك الدوار لم يدر آخر : هذا الزمان الذى كنا نحاذره فيما يحدث كعب وابن مسعود إن دام هذا ولم تعقب له غير لم يبك ميت ، ولم يفرح بمولود آخر : يا زمانا ألبس الاحرار ذلا ومهانه لست عندي بزمان إنما أنت زمانه أجنون ما نراه منك يبدو أم مجانه ! الرضى الموسوي : تأبى الليالى أن تديما يؤسا لخلق أو نعيما (2) والمرء بالاقبال يبلغ وادعا خطرا جسيما فإذا انقضى إقباله رجع الشفيع له خصيما
__________
(1) ديوانه 3 : 287 .
(2) ديوانه لوحة 64 .
(*)(3/345)
وهو الزمان إذا نبا سلب الذى أعطى قديما كالريح ترجع عاصفا من بعد ما بدأت نسيما أبو عثمان الخالدي : ألفت من حادثات الدهر أكبرها فما أعادي على أحداثها الصغر تزيدني قسوة الايام طيب نثا كأننى المسك بين الفهر والحجر السرى الرفاء : تنكد هذا الدهر فيما يرومه على أنه فيما نحاذره ندب (1) فسير الذى نرجوه سير مقيد وسير الذى نخشى غوائله وثب ابن الرومي : ألا إن في الدنيا عجائب جمة وأعجبها ألا يشيب وليدها إذا ذل في الدنيا الاعزاء واكتست أذلتها عزا وساد مسودها هناك فلا جادت سماء بصوبها ولا أمرعت أرض ، ولا اخضر عودها أرى الناس مخسوفا بهم غير أنهم على الارض لم يقلب عليهم صعيدها وما الخسف أن يلفى أسافل بلدة أعاليها ، بل أن يسود عبيدها السرى الرفاء : لنا من الدهر خصم لا نطالبه فما على الدهر لو كفت نوائبه (2) ! يرتد عنه جريحا من يسالمه فكيف يسلم منه من يحاربه ! ولو أمنت الذى تجنى أراقمه على هان الذى تجنى عقاربه
__________
(1) ديوانه 36 .
(2) ديوانه 54 ، وفيه : (خصم لانغالبه) .
(*)(3/346)
أبو فراس بن حمدان : تصفحت أحوال الزمان ولم يكن إلى غير شاك للزمان وصول (1) أكل خليل هكذا غير منصف وكل زمان بالكرام بخيل ! ابن الرومي : رأيت الدهر يرفع كل وغد ويخفض كل ذى شيم شريفه كمثل البحر يغرق فيه حى ولا ينفك تطفو فيه جيفه أو الميزان يخفض كل واف ويرفع كل ذى زنة خفيفه ابن نباتة : وأصغر عيب في زمانك أنه به العلم جهل ، والعفاف فسوق وكيف يسر الحر فيه بمطلب وما فيه شئ بالسرور حقيق ! * * * أبو العتاهية : لتجذبني يد الدنيا بقوتها إلى المنايا ، وإن نازعتها رسنى (2) لله دنيا أناس دائبين لها قد ارتعوا في غياض الغى والفتن كسائمات رواع تبتغى سمنا وحتفها لو درت في ذلك السمن وله أيضا : أنساك محياك المماتا فطلبت في الدنيا الثباتا (3)
__________
(1) ديوانه 315 (نشرة سامى الدهان) .
(2) ديوانه 288 .
(3) ديوانه 53 .
(*)(3/347)
وقال يزيد بن مفرغ الحميرى : لا ذعرت السوام في فلق الصبح مغيرا ولا دعيت يزيدا (1) يوم أعطى من المخافة ضيما والمنايا يرصدننى أن أحيدا (2) وقال آخر : لا تحسبيني يا أمامة عاجزا دنسا ثيابه إنى إذا خفت الهوان مشيع ذلل ركابه (3) مثله قول عنترة : ذلل ركابي حيث شئت مشايعى لبى وأحفزه برأى مبرم (4) وقال آخر : أخشية الموت در دركم أعطيتم القوم فوق ما سألوا إنا لعمر الاله نأبى الذى قالوا ولما تقصف الاسل نقبل ضيما ونحن نعرفه ما دام منا بظهرها رجل وقال آخر : ورب يوم حبست النفس مكرهة فيه لاكبت أعداء أحاشيها آبى وآنف من أشياء آخذها رث القوى ، وضعيف القوم يعطيها مثله للشداخ : أبينا فلا نعطى مليكا ظلامة ولا سوقة إلا الوشيج المقوما (5)
__________
(1) السوام : الابل الراعية .
(2) يرصدننى : يراقبنني .
نقبل ضيما ونحن نعرفه ما دام منا بظهرها رجل وقال آخر : ورب يوم حبست النفس مكرهة فيه لاكبت أعداء أحاشيها آبى وآنف من أشياء آخذها رث القوى ، وضعيف القوم يعطيها مثله للشداخ : أبينا فلا نعطى مليكا ظلامة ولا سوقة إلا الوشيج المقوما (5)
__________
(1) السوام : الابل الراعية .
(2) يرصدننى : يراقبنني .
(3) المشيع : الشجاع .
(4) من المعلقة 205 - بشرح التبريزي .
ذلل : جمع ذلول ، وهو من الابل وغيرها ضد الصعب ، والمشايع : الشجاع ، مثل المشيع ، كأن قلبه لا يخذله فهو يشيعه .
وأحفزه : أدفعه .
والمبرم : المحكم .
(5) يعنى بالوشيج الرمح .
(*)(3/348)
تروم الخلد في دار التفاني وكم قد رام قبلك ما تروم ! لامر ما تصرمت الليالى وأمر ما تقلبت النجوم تنام ولم تنم عنك المنايا تنبة للمنية يا نئوم إلى ديان يوم الدين نمضى وعند الله تجتمع الخصوم * * * حسبنا الله وحده ، وصلواته على خيرته من خلقه سيدنا محمد وآله الطاهرين .
* * * تم الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع وأوله في ذكر يوم النحر وصفة الاضحية(3/349)
شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد ج 4
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد ج 4(4/)
شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد بتحقيق محمد ابو الفضل إبراهيم الجزء الرابع دار اخياء الكتب العربية عيسى البابى الحلبي وشركاه(4/1)
منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي قم - ايران 1404 ه ق(4/2)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل الحكيم ، وصلى الله على رسوله الكريم .
* * * ومنها (1) في ذكر يوم النحر وصفة الاضحية : ومن تمام الاضحية استشراف أذنها ، وسلامة عينها ، فإذا سلمت الاذن والعين سلمت الاضحية و تمت ، ولو كانت عضباء القرن تجر رجلها إلى المنسك .
* * * قال الرضى رحمه الله : والمنسك هاهنا : المذبح .
الشرح : الاضحية : ما يذبح يوم النحر ، وما يجرى مجراه أيام التشريق من النعم .
واستشراف أذبها : انتصابها وارتفاعها ، أذن شرفاء أي منتصبة .
والعضباء : المكسورة القرن .
والتى تجر رجلها إلى المنسك ، كناية عن العرجاء ، ويجوز المنسك ، بفتح السين وكسرها .
* * * [ اختلاف الفقهاء في حكم الاضحية ] واختلف الفقهاء في وجوب الاضحية ، فقال أبو حنيفة : هي واجبة على المقيمين من أهل
__________
(1) تتمة الخطبة الثانية والخمسين ، الجزء السابق ص 333 .
(*)(4/3)
الامصار ، ويعتبر في وجوبها النصاب ، وبه قال مالك والثوري ، إلا أن مالكا لم يعتبر الاقامة .
وقال الشافعي : الاضحية سنة مؤكدة ، وبه قال أبو يوسف ومحمد وأحمد .
واختلفوا في العمياء ، هل تجزئ أم لا ؟ فأكثر الفقهاء على أنها لا تجزئ ، وكلام أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الفصل يقتضى ذلك ، لانه قال : إذا سلمت العين سلمت الاضحية ، فيقتضى أنه إذا لم تسلم العين لم تسلم الاضحية .
ومعنى انتفاء سلامة الاضحية انتفاء أجزائها .
وحكى عن بعض أهل الظاهر أنه قال : تجزئ العمياء .
وقال محمد بن النعمان المعروف بالمفيد رضى الله تعالى عنه ، أحد فقهاء الشيعة في كتابه المعروف ، ، بالمقنعة ، ، : إن الصادق عليه السلام سئل عن الرجل يهدى الهدى أو الاضحية وهى سمينة ، فيصيبها مرض ، أو تفقا عينها أو تنكسر ، فتبلغ يوم النحر وهى حية ، أتجزئ عنه ؟ فقال : نعم .
فأما الاذن ، فقال أحمد : لا يجوز التضحية بمقطوعة الاذن ، وكلام أمير المؤمنين عليه السلام يقتضى ذلك .
وقال سائر الفقهاء : تجزئ إلا أنه مكروه .
وأما العضباء ، فأكثر الفقهاء على أنها تجزئ ، إلا أنه مكروه ، وكلام أمير المؤمنين عليه السلام يقتضى ذلك ، وكذلك الحكم في الجلحاء ، وهى التى لم يخلق لها قرن ، والقصماء : وهى التى انكسر غلاف قرنها ، والشرفاء : وهى التى انثقبت أذنها من الكى ، والخرقاء : وهى التى شقت أذنها طولا .
وقال مالك : إن كانت العضباء يخرج من قرنها دم لم تجزئ .
وقال أحمد والنخعي : لا تجوز التضحية بالعضباء .(4/4)
فأما العرجاء التى كنى عنها بقوله : (تجر رجلها إلى المنسك) ، فأكثر الفقهاء على أنها لا تجزئ ، وكلام أمير المؤمنين عليه السلام يقتضى أنها تجزئ .
وقد نقل أصحاب الشافعي عنه في أحد قوليه أن الاضحية إذا كانت مريضة مرضا يسيرا أجزأت .
وقال الماوردى من الشافعية في كتابه المعروف ب (الحاوى) : إن عجزت عن أن تجر رجلها خلقة أجزأت ، وإن كان ذلك عن مرض لم تجزئ .(4/5)
(53) ومن كلام له عليه السلام في ذكر البيعة : الاصل : فتداكوا على تداك الابل الهيم يوم وردها ، وقد أرسلها راعيها ، وخلعت مثانيها ، حتى ظننت أنهم قاتلي ، أو بعضهم قاتل بعض لدى .
وقد قلبت هذا الامر بطنه وظهره حتى منعنى النوم ، فما وجدتني يسعنى إلا قتالهم أو الجحود بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، فكانت معالجة القتال أهون على من معالجة العقاب ، وموتات الدنيا أهون على موتات الاخرة .
الشرح : تداكوا : ازدحموا .
واليهم : العطاش .
ويوم وردها : يوم شربها الماء .
والمثاني : الحبال ، جمع مثناة ومثناة بالفتح والكسر ، وهو الحبل .
وجهاد البغاة واجب على الامام ، إذا وجد أنصارا ، فإذا أخل بذلك أخل بواجب ، واستحق العقاب .
فإن قيل : إنه عليه السلام قال : (لم يسعنى إلا قتالهم أو الجحود بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم) ، فكيف يكون تارك الواجب جاحدا لما جاء به النبي صلى الله عليه وآله ! قيل : إنه في حكم الجاحد ، لانه مخالف وعاص ، لا سيما على مذهبنا في أن تارك الواجب يخلد في النار وإن لم يجحد النبوة(4/6)
[ بيعة على وأمر المتخلفين عنها ] اختلف الناس في بيعة أمير المؤمنين عليه السلام ، فالذي عليه أكثر الناس وجمهور أرباب السير أن طلحة والزبير بايعاه طائعين غير مكرهين ، ثم تغيرت عزائمهما ، وفسدت نياتهما ، وغدرا به .
وقال الزبيريون ، منهم عبد الله بن مصعب ، والزبير بن بكار وشيعتهم ومن وافق قولهم من بنى تيم بن مرة ، أرباب العصبية لطلحة : إنهما بايعا مكرهين ، وإن الزبير كان يقول : بايعت واللج على قفى ، واللج سيف الاشتر ، وقفى لغة هذلية ، إذا أضافوا المقصور إلى أنفسهم قلبوا الالف ياء ، وأدغموا إحدى الياءين في الاخرى ، فيقولون : قد وافق ذلك هوى ، أي هواى ، وهذه عصى ، أي عصاي .
* * * وذكر صاحب (1) كتاب ، ، الاوائل ، ، أن الاشتر جاء إلى على عليه السلام حين قتل عثمان ، فقال : قم فبايع الناس ، فقد اجتمعوا لك ، ورغبوا فيك ، والله لئن نكلت عنها لتعصرن عليها عينيك مرة رابعة ، فجاء حتى دخل بئر سكن ، واجتمع الناس ، وحضر طلحة والزبير ، لا يشكان أن الامر شورى ، فقال الاشتر : أتنتظرون أحدا ! قم يا طلحة فبايع ، فتقاعس ، فقال : قم يا بن الصعبة - وسل سيفه - فقام طلحة يجر رجله ، حتى بايع ، فقال قائل : أول من بايعه أشل ! لا يتم أمره ، ثم لا يتم ، قال : قم يا زبير ، والله لا ينازع أحد إلا وضربت قرطه بهذا السيف ، فقام الزبير فبايع ، ثم انثال الناس عليه العسكري .
(*)(4/7)
وأولهم عبد الرحمن بن عديس البلوى ، فبايعوا .
وقال له عبد الرحمن : خذها إليك واعلمن أبا حسن * أنا نمر الامر إمرار الرسن وقد ذكرنا نحن في شرح الفصل (1) الذى فيه أن الزبير أقر بالبيعة ، وادعى الوليجة أن بيعة أمير المؤمنين لم تقع إلا عن رضا جميع أهل المدينة ، أولهم طلحة والزبير ، وذكرنا في ذلك ما يبطل رواية الزبير .
وذكر أبو مخنف في كتاب ، ، الجمل ، ، أن الانصار والمهاجرين اجتمعوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله ، لينظروا من يولونه أمرهم ، حتى غص المسجد بأهله ، فاتفق رأى عمار وأبى الهيثم بن التيهان ورفاعة بن رافع ومالك بن عجلان وأبى أيوب خالد بن يزيد على إقعاد أمير المؤمنين عليه السلام في الخلافة ، وكان أشدهم تهالكا عليه عمار ، فقال لهم : أيها الانصار ، قد سار فيكم عثمان بالامس بما رأيتموه ، وأنتم على شرف من الوقوع في مثله إن لم تنظروا لانفسكم ، وإن عليا أولى الناس بهذا الامر ، لفضله وسابقته ، فقالوا : رضينا به حينئذ ، وقالوا بأجمعهم لبقية الناس من الانصار والمهاجرين : أيها الناس ، إنا لن نألوكم خيرا وأنفسنا إن شاء الله ، وإن عليا من قد علمتم ، وما نعرف مكان أحد أحمل لهذا الامر منه ، ولا أولى به .
فقال الناس بأجمعهم : قد رضينا ، وهو عندنا ما ذكرتم وأفضل .
وقاموا كلهم ، فأتوا عليا عليه السلام ، فاستخرجوه من داره ، وسألوه بسط يده ، فقبضها فتداكوا عليه تداك الابل الهيم على وردها ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا ، فلما رأى منهم ما رأى ، سألهم أن تكون بيعته في المسجد ظاهرة للناس .
وقال : إن كرهني رجل واحد من الناس لم أدخل في هذا الامر .
فنهض الناس معه حتى دخل المسجد ، فكان أول من بايعه طلحة .
فقال قبيصة بن ذؤيب الاسدي : تخوفت ألا يتم له أمره ، لان أول يد بايعته شلاء ، ثم بايعه الزبير ،
__________
(1) الجزء الاول ص 230 ، الوليجة : الامر يسر ويكتم .
(*)(4/8)
وبايعه المسلمون بالمدينة إلا محمد بن مسلمة ، وعبد الله بن عمر ، وأسامة بن زيد ، وسعد ابن أبى وقاص ، وكعب بن مالك وحسان بن ثابت ، وعبد الله بن سلام .
فأمر بإحضار عبد الله بن عمر ، فقال له : بايع ، قال : لا أبايع حتى يبايع جميع الناس ، فقال له عليه السلام : فأعطني حميلا ألا تبرح ، قال : ولا أعطيك حميلا ، فقال الاشتر : يا أمير المؤمنين ؟ إن هذا قد أمن سوطك وسيفك ، فدعني أضرب عنقه ، فقال : لست أريد ذلك منه على كره ، خلوا سبيله ، فلما انصرف قال أمير المؤمنين : لقد كان صغيرا وهو سيئ الخلق ، وهو في كبره أسوأ خلقا .
ثم أتى بسعد بن أبى وقاص ، فقال له بايع ، فقال : يا أبا الحسن خلنى ، فإذا لم يبق غيرى بايعتك ، فو الله لا يأتيك من قبلى أمر تكرهه أبدا ، فقال : صدق ، خلوا سبيله .
ثم بعث إلى محمد بن مسلمة ، فلما أتاه قال له : بايع ، قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنى إذا اختلف الناس وصاروا هكذا - وشبك بين أصابعه - أن أخرج بسيفي فأضرب به عرض أحد فإذا تقطع أتيت منزلي ، فكنت فيه لا أبرحه حتى تأتيني يد خاطية ، أو منية قاضية .
فقال له عليه السلام : فانطلق إذا ، فكن كما أمرت به .
ثم بعث إلى أسامة بن زيد ، فلما جاء قال له : بايع ، فقال : إنى مولاك ولا خلاف منى عليك ، وستأتيك بيعتى إذا سكن الناس .
فأمره بالانصراف ، ولم يبعث إلى أحد غيره .
وقيل له : ألا تبعث إلى حسان بن ثابت ، وكعب بن مالك ، وعبد الله بن سلام ! فقال : لا حاجة لنا فيمن لا حاجة له فينا .
فأما أصحابنا فإنهم يذكرون في كتبهم أن هؤلاء الرهط إنما اعتذروا بما اعتذروا به .(4/9)
لما ندبهم إلى الشخوص معه لحرب أصحاب الجمل ، وأنهم لم يتخلفوا عن البيعة ، وإنما تخلفوا عن الحرب .
وروى شيخنا أبو الحسين رحمه الله تعالى في كتاب ، ، الغرر ، ، أنهم لما اعتذروا إليه بهذه الاعذار ، قال لهم : ما كل مفتون يعاتب ، أعندكم شك في بيعتى ؟ قالوا : لا ، قال : فإذا بايعتم فقد قاتلتم .
وأعفاهم من حضور الحرب .
فإن قيل : رويتم أنه قال : إن كرهني رجل واحد من الناس لم أدخل في هذا الامر ، ثم رويتم أن جماعة من أعيان المسلمين كرهوا ولم يقف مع كراهتهم .
قيل : إنما مراده عليه السلام أنه متى وقع الاختلاف قبل البيعة نفضت يدى عن الامر ولم أدخل فيه ، فأما إذا بويع ثم خالف ناس بعد البيعة ، فلا يجوز له أن يرجع عن الامر ويتركه ، لان الامامة تثبت بالبيعة ، وإذا ثبتت لم يجز له تركها .
وروى أبو مخنف عن ابن عباس ، قال : لما دخل على عليه السلام المسجد ، وجاء الناس ليبايعوه خفت أن يتكلم بعض أهل الشنان لعلى عليه السلام ممن قتل أباه أو أخاه ، أو ذا قرابته في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيزهد على في الامر ويتركه ، فكنت أرصد ذلك وأتخوفه ، فلم يتكلم أحد حتى بايعه الناس كلهم راضين مسلمين غير مكرهين .
* * * لما بايع الناس عليا عليه السلام ، وتخلف عبد الله بن عمر ، وكلمه على عليه السلام في البيعة فامتنع عليه ، أتاه في اليوم الثاني ، فقال : إنى لك ناصح ، إن بيعتك لم يرض بها كلهم ، فلو نظرت لدينك ورددت الامر شورى بين المسلمين ! فقال على عليه السلام : ويحك ! وهل ما كان عن طلب منى له ! ألم يبلغك صنيعهم ؟ قم عنى يا أحمق ما أنت وهذا الكلام !(4/10)
فلما خرج أتى عليا في اليوم الثالث آت ، فقال : إن ابن عمر قد خرج إلى مكة يفسد الناس عليك ، فأمر بالبعث في أثره ، فجاءت أم كلثوم ابنته ، فسألته وضرعت إليه فيه ، وقالت : يا أمير المؤمنين ، إنما خرج إلى مكة ليقيم بها ، وإنه ليس بصاحب سلطان ولا هو من رجال هذا الشأن ، وطلبت إليه أن يقبل شفاعتها في أمره ، لانه ابن بعلها .
فأجابها وكف عن البعثة إليه ، وقال : دعوه وما أراده .(4/11)
(54) ومن كلام له عليه السلام وقد استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفين .
الاصل : أما قولكم : أكل ذلك كراهية الموت ! فو الله ما أبالى ، دخلت إلى الموت أو خرج الموت إلى .
وأما قولكم شكا في أهل الشام ! فو الله ما دفعت الحرب يوما إلا وأنا أطمع أن تلحق بى طائفة فتهتدي بى ، وتعشو إلى ضوئي ، فهو أحب إلى من أن أقتلها على ضلالها ، وإن كانت تبوء باثامها .
* * * الشرح : من رواه : (أكل ذلك) بالنصب فمفعول فعل مقدر ، أي تفعل كل ذلك ، وكراهية منصوب لانه مفعول له ومن رواه (أكل ذلك) بالرفع أجاز في (كراهية) الرفع والنصب ، أما الرفع فإنه يجعل (كل) مبتدأ ، وكراهية خبره ، وأما النصب فيجعلها مفعولا له كما قلنا في الرواية الاولى ، ويجعل خبر المبتدأ محذوفا ، وتقديره : أكل هذا مفعول ! أو تفعله كراهية للموت ! ثم أقسم أنه لا يبالى أتعرض هو للموت حتى يموت ، أم جاءه الموت ابتداء من غير أن يتعرض له .
وعشا إلى النار يعشو : استدل عليها ببصر ضعيف ، قال : متى تأته تعشو إلى ضوء ناره * تجد خير نار عندها خير موقد (1)
__________
(1) للحطيئة ، ديوانه 25 (*)(4/12)
وهذا الكلام استعارة شبه من عساه يلحق به من أهل الشام بمن يعشو ليلا إلى النار ، وذلك لان بصائر أهل الشام ضعيفة ، فهم من الاهتداء بهداه عليه السلام كمن يعشو ببصر ضعيف إلى النار في الليل ، قال : ذاك أحب إلى من أن أقتلهم على ضلالهم ، وإن كنت لو قتلتهم على هذه الحالة لباءوا بآثامهم ، أي رجعوا ، قال سبحانه : (إنى أريد أن تبوء بإثمى وإثمك) (1) أي ترجع .
* * * [ من أخبار يوم صفين ] لما ملك أمير المؤمنين عليه السلام الماء بصفين ثم سمح لاهل الشام بالمشاركة فيه والمساهمة ، رجاء أن يعطفوا إليه ، واستمالة لقلوبهم وإظهارا للمعدلة وحسن السيرة فيهم ، مكث أياما لا يرسل إلى معاوية ، ولا يأتيه من عند معاوية أحد ، واستبطأ أهل العراق إذنه لهم في القتال ، وقالوا : يا أمير المؤمنين ، خلفنا ذرارينا ونساءنا بالكوفة ، وجئنا إلى أطراف الشام لنتخذها وطنا ، ائذن لنا في القتال ، فإن الناس قد قالوا .
قال لهم عليه السلام : ما قالوا ؟ فقال منهم قائل : إن الناس يظنون أنك تكره الحرب كراهية للموت ، وإن من الناس من يظن أنك في شك من قتال أهل الشام .
فقال عليه السلام : ومتى كنت كارها للحرب قط ! إن من العجب حبى لها غلاما ويفعا ، وكراهيتي لها شيخا بعد نفاد العمر وقرب الوقت ! وأما شكى في القوم فلو شككت فيهم لشككت في أهل البصرة ، والله لقد ضربت هذا الامر ظهرا وبطنا ، فما وجدت يسعنى إلا القتال أو أن أعصى الله ورسوله ، ولكني أستاني بالقوم ، عسى أن يهتدوا أو تهتدى منهم طائفة ، فإن
__________
(1) سور ، المائدة 29 (*)(4/13)
رسول الله صلى الله عليه وآله قال لى يوم خيبر : لان يهدى الله بك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس .
* * * قال نصر بن مزاحم : حدثنا (1) محمد بن عبيد الله عن الجرجاني ، قال : فبعث على عليه السلام إلى معاوية بشير بن عمرو بن محصن الانصاري ، وسعيد بن قيس الهمداني وشبث بن الربعي التميمي ، فقال : ائتوا هذا الرجل ، فادعوه [ إلى الله عزوجل ، و ] (2) إلى الطاعة والجماعة ، وإلى اتباع أمر الله سبحانه .
فقال له شبث : يا أمير المؤمنين ، ألا تطمعه في سلطان توليه إياه ، ومنزلة يكون له بها أثرة عندك إن هو بايعك ؟ فقال : ائتوه الان والقوه واجتجوا عليه ، وانظروا ما رأيه في هذا (3) .
فأتوه فدخلوا عليه ، فحمد أبو عمرو بن محصن الله وأثنى عليه ، وقال : أما بعد يا معاوية فإن الدنيا عنك زائلة ، وإنك راجع إلى الاخرة ، وإن الله مجازيك بعملك ومحاسبك بما قدمت يداك ، وإنني أنشدك الله ألا تفرق جماعة هذه الامة ، وألا تسفك دماءها بينها .
فقطع معاوية عليه الكلام وقال : فهلا أوصيت صاحبك ! فقال : سبحان الله ! إن صاحبي لا يوصى ، إن صاحبي ليس مثلك ، صاحبي أحق الناس بهذا الامر في الفضل والدين والسابقة في الاسلام والقرابة من الرسول .
قال معاوية : فتقول ما ذا ؟ قال : أدعوك إلى تقوى ربك ، وإجابة ابن عمك إلى ما يدعوك إليه من الحق ، فإنه أسلم لك في دينك ، وخير لك في عاقبة أمرك .
قال : ويطل دم عثمان ! لا والرحمن لا أفعل ذلك أبدا .
__________
(1) صفين 209 وما بعدها (2) تكملة من صفين .
(3) صفين : (وانظروا ما رأيه - وهذا في شهر ربيع الاخر - فأتوه) .
(*)(4/14)
فذهب سعيد بن قيس يتكلم ، فبدره شبث بن الربعي ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يا معاوية ، قد فهمت ما رددت على ابن محصن ، إنه لا يخفى علينا ما تقر وما تطلب ، إنك لا تجد شيئا تستغوى به الناس ، ولا شيئا تستميل به أهواءهم ، وتستخلص به طاعتهم إلا أن قلت لهم : قتل إمامكم مظلوما ، فهلموا نطلب بدمه ، فاستجاب لك سفهاء طغام رذال ، وقد علمنا أنك أبطأت عنه بالنصر ، وأحببت له القتل ، لهذه المنزلة التى تطلب ، ورب مبتغ أمرا ، وطالب (1) له يحول الله دونه ، وربما أوتى المتمنى أمنيته ، وربما لم يؤتها ، ووالله مالك في واحدة منهما خير ، والله لئن أخطأك ما ترجو إنك لشر العرب حالا ، ولئن أصبت ما تتمناه لا تصيبه حتى تستحق صلى النار ، فاتق الله يا معاوية ، ودع ما أنت عليه ، ولا تنازع الامر أهله .
فحمد معاوية الله وأثنى عليه ، وقال : أما بعد فإن أول ما عرفت به سفهك وخفه حلمك قطعك على هذا الحسيب الشريف سيد قومه منطقه .
ثم عتبت بعد فيما لا علم لك به ، ولقد كذبت ولؤمت (2) أيها الاعرابي الجلف الجافي في كل ما وصفت [ وذكرت ] (3) .
انصرفوا من عندي فإنه ليس بينى وبينكم إلا السيف .
وغضب فخرج القوم وشبث يقول : أعلينا تهول بالسيف ! أما والله لنجعلنه إليك ، [ فأتوا عليا عليه السلام ، فأخبروه بالذى كان من قوله ، وذلك في شهر ربيع الاخر ] (3) .
قال نصر : وخرج قراء أهل العراق ، وقراء أهل الشام فعسكروا ناحية صفين ثلاثين ألفا .
__________
(1) صفين : (وطالبه) .
(2) صفين : (ولويت) .
(3) تكملة من صفين .
(*)(4/15)
قال : وعسكر على عليه السلام على الماء ، وعسكر معاوية فوقه على الماء أيضا ، ومشت القراء فيما بين على عليه السلام ومعاوية ، منهم عبيدة السلمانى ، وعلقمة بن قيس النخعي ، وعبد الله بن عتبة ، وعامر بن عبد القيس - وقد كان في بعض تلك السواحل - فانصرف إلى عسكر على عليه السلام ، فدخلوا على معاوية فقالوا : يا معاوية ، ما الذى تطلب ؟ قال : أطلب بدم عثمان ، قالوا : ممن تطلب بدم عثمان ؟ قال : أطلبه من على ، قالوا : وعلى قتله ؟ قال : نعم هو قتله ، وآوى قتلته ، فانصرفوا من عنده فدخلوا على على عليه السلام ، فقالوا : إن معاوية يزعم أنك قتلت عثمان ، قال : اللهم لكذب فيما قال ، لم أقتله .
فرجعوا إلى معاوية فأخبروه ، فقال لهم : إنه إن لم يكن قتله بيده فقد أمر ومالا ، فرجعوا إلى على فقالوا : إن معاوية يزعم أنك إن لم تكن قلت بيدك ، فقد أمرت ومالات على قتل عثمان ، فقال : اللهم لكذب فيما قال ، فرجعوا إلى معاوية ، فقالوا : إن عليا يزعم أنه لم يفعل ، فقال معاوية : إن كان صادقا فليقدنا (1) من قتلة عثمان ، فإنهم في عسكره وجنده وأصحابه وعضده .
فرجعوا إلى على عليه السلام ، فقالوا : إن معاوية يقول لك : إن كنت صادقا فادفع إلينا قتلة عثمان أو مكنا منهم ، فقال لهم : إن القوم تأولوا عليه القرآن ، ووقعت الفرقة ، فقتلوه في سلطانه ، وليس على ضربهم قود ، فخصم (2) على معاوية .
* * * - قلت : على ضربهم هاهنا ، على مثلهم ، يقال : زيد ضرب عمرو ومن ضربه ، أي مثله ومن صنفه ، ولا أدرى لم عدل عليه السلام عن الحجة بما هو أوضح من هذا الكلام ، وهو أن يقول : إن الذين باشروا قتله بأيديهم كانوا اثنين وهما قتيرة بن وهب وسودان بن حمران ، وكلاهما قتل يوم الدار ، قتلهما عبيد عثمان ، والباقون الذين هم جندي وعضدى
__________
(1) صفين : (فليمكنا) (2) خصمه ، أي غلبه بالحجة .
(*)(4/16)
كما تزعمون ، لم يقتلوا بأيديهم ، وإنما أغروا به ، وحصروه وأجلبوا عليه ، وهجموا على داره ، كمحمد بن أبى بكر والاشتر وعمرو بن الحمق وغيرهم ، وليس على مثل هؤلاء قود - قال نصر : فقال لهم معاوية : إن كان الامر كما تزعمون ، فلم ابتز الامر (1) دوننا على غير مشورة منا ولا ممن هاهنا معنا ؟ فقال على عليه السلام : إن الناس تبع المهاجرين والانصار ، وهم شهود للمسلمين في البلاد على ولاتهم وأمراء دينهم ، فرضوا بى وبايعوني ، ولست أستحل أن أدع ضرب (2) معاوية يحكم بيده على الامة ويركبهم ويشق عصاهم .
فرجعوا إلى معاوية فأخبروه بذلك ، فقال : ليس كما يقول ، فما بال من هاهنا من المهاجرين والانصار لم يدخلوا في هذا الامر ويؤامروا فيه (3) ! فانصرفوا إلى على عليه السلام ، فأخبروه بقوله ، فقال : ويحكم ! هذا للبدريين دون الصحابة ، ليس في الارض بدرى إلا وقد بايعني وهو معى ، أو قد قام ورضى ، فلا يغرنكم معاوية من أنفسكم ودينكم .
قال نصر : فتراسلوا بذلك ثلاثة أشهر : ربيع الاخر ، وجماديين ، وهم مع ذلك يفزعون الفزعة فيما بينهما ، فيزحف بعضهم إلى بعض ، وتحجز القراء بينهم .
قال : فزعوا في ثلاثة أشهر خمسا وثمانين فزعة ، كل فزعة يزحف بعضهم إلى بعض ، وتحجز القراء بينهم لا يكون بينهم قتال .
قال نصر : وخرج أبو أمامة الباهلى وأبو الدرداء ، فدخلا على معاوية - وكانا معه - فقالا : يا معاوية ، علام تقاتل هذا الرجل ؟ فو الله لهو أقدم منك إسلاما (4) ، وأحق بهذا
__________
(1) صفين : (فماله ابتز الامر دوننا) ؟ (2) ضرب معاوية : شبيهه .
(3) المؤامرة : المشاورة ، وفي صفين : (فيؤامروه) .
(4) صفين : (سلما) ، وهما بمعنى .
(2 - نهج - رابع) (*)(4/17)
الامر ، وأقرب من رسول الله صلى الله عليه وآله ، فعلام تقاتله ؟ فقال : أقاتله على دم عثمان ، وأنه آوى قتلته ، فقولوا له : فليقدنا من قتلته وأنا أول من بايعه من أهل الشام .
فانطلقوا إلى على عليه السلام فأخبروه بقول معاوية ، فقال : إنما يطلب الذين ترون ، فخرج عشرون ألفا أو أكثر متسربلين الحديد ، لا يرى منهم إلا الحدق ، فقالوا : كلنا قتله ، فإن شاءوا فليروموا ذلك منا .
فرجع أبو أمامة وأبو الدرداء فلم يشهدا شيئا من القتال .
قال نصر : حتى إذا كان رجب ، وخشى معاوية أن يتابع القراء عليا عليه السلام ، أخذ في المكر ، وأخذ يحتال للقراء لكيما يحجموا ويكفوا حتى ينظروا .
قال : فكتب في سهم : من عبد الله الناصح ، إنى أخبركم أن معاوية يريد أن يفجر عليكم الفرات فيغرقكم ، فخذوا حذركم .
ثم رمى بالسهم في عسكر على عليه السلام ، فوقع السهم في يد رجل فقرأه ثم أقرأه صاحبه ، فلما قرأه وقرأته الناس وأقرأه من أقبل وأدبر ، قالوا : هذا أخ لنا ناصح ، كتب إليكم يخبركم بما أراد معاوية ، فلم يزل السهم يقرأ ويرتفع حتى رفع إلى على عليه السلام ، وقد بعث معاوية مائتي رجل من العملة إلى عاقول (1) من النهر ، بأيديهم المرور والزبل (2) يحفرون فيها بحيال عسكر على عليه السلام .
فقال على عليه السلام : ويحكم ! إن الذى يعالج معاوية لا يستقيم له ، ولا يقوى عليه ، إنما يريد أن يزيلكم عن مكانكم ، فانتهوا عن ذلك فقالوا له : لا ندعهم والله يحفرون ، فقال على عليه السلام : لا تكونوا ضعفى ، ويحكم ! لا تغلبوني على رأيى .
فقالوا : والله لنرتحلن ، فإن شئت فارتحل ، وإن شئت فأقم ، فارتحلوا وصعدوا بعسكرهم مليا ، وارتحل على عليه السلام في أخريات الناس ، وهو يقول :
__________
(1) عاقول النهر : ما اعوج منه (2) المرور : جمع مر ، وهو المسحاة .
والزبل : جمع زبيل وهو القفة .
(*)(4/18)
فلو أنى أطعت عصمت قومي * إلى ركن اليمامة أو شمام (1) ولكني متى أبرمت أمرا * منيت بخلف آراء الطغام قال : وارتحل معاوية حتى نزل معسكر على عليه السلام الذى كان فيه ، فدعا على عليه السلام الاشتر ، فقال : ألم تغلبني على رأيى (2) أنت والاشعث ! فدونكما .
فقال الاشعث : أنا أكفيك يا أمير المؤمنين ، سأداوى ما أفسدت اليوم من ذلك ، فجمع كندة فقال لهم : يا معشر كندة ، لا تفضحوني اليوم ولا تخزوني ، فإنى إنما أقارع بكم أهل الشام ، فخرجوا معه رجالة يمشون ، وبيده رمح له يلقيه على الارض ، ويقول : امشوا قيد رمحي هذا ، فيمشون ، فلم يزل يقيس لهم الارض برمحه ، ويمشون معه رجالة حتى لقى معاوية وسط بنى سليم واقفا على الماء ، وقد جاء أداني عسكره ، فاقتتلوا قتالا شديدا على الماء ساعة ، وانتهى أوائل أهل العراق فنزلوا ، وأقبل الاشتر في خيل من أهل العراق ، فحمل على معاوية ، والاشعث يحارب في ناحية أخرى ، فانحاز معاوية في بنى سليم ، فرد وجوه إبله قدر ثلاثة فراسخ ، ثم نزل ووضع أهل الشام أثقالهم ، والاشعث يهدر ويقول : أرضيتك يا أمير المؤمنين ! ثم تمثل بقول طرفة بن العبد : ففداء لبنى سعد على * ما أصاب الناس من خير وشر (3) ما أقلت قدماى إنهم * نعم الساعون في الحى الشطر (4) ولقد كنت عليكم عاتبا * فعقبتم بذنوب غير مر (5)
__________
(1) صفين : (عصبت قومي) .
وشمام : جبل لباهلة .
(2) صفين : (على رائى) ، والرائى والرأى بمعنى .
(3) ديوانه 72 وروايته : (لبنى قيس ...
من سر وضر) (4) الشطر : جمع شطير ، وهو الغريب البعيد (5) عاتبا : واجدا ، وعقبتم ، أي جدتم عقب ذلك .
ومر : نقيض حلو ، قال شارح الديوان : (أي عقبتم عتبى عليكم بعطاء حلو) .
(*)(4/19)
كنت فيكم كالمغطى رأسه * فانجلى اليوم قناعي وخمر (1) سادرا أحسب غيى رشدا * فتناهيت وقد صابت بقر (2) وقال الاشتر : يا أمير المؤمنين ، قد غلب الله لك على الماء ، فقال على عليه السلام : أنتما كما قال الشاعر : تلاقين قيسا وأشياعه * فيوقد للحرب نارا فنارا أخو الحرب إن لقحت بازلا * سما للعلا وأجل الخطارا (3) قال نصر : فكان كل واحد من على ومعاوية يخرج الرجل الشريف في جماعة ، فيقاتل مثله ، وكانوا يكرهون أن يتزاحفوا بجميع الفيلق مخافة الاستئصال والهلاك ، فاقتتل الناس ذا الحجة كله ، فلما انقضى تداعوا إلى أن يكف بعضهم عن بعض إلى أن ينقضى المحرم ، لعل الله أن يجرى صلحا أو إجماعا ، فكف الناس في المحرم بعضهم عن بعض .
* * * قال نصر : حدثنا عمر بن سعد ، عن أبى المجاهد عن المحل بن خليفة قال (4) : لما توادعوا في المحرم ، اختلفت الرسل فيما بين الرجلين رجاء الصلح ، فأرسل على عليه السلام إلى معاوية عدى بن حاتم الطائى وشبث بن ربعى التميمي ويزيد بن قيس وزياد ابن خصفة ، فلما دخلوا عليه ، حمد الله تعالى عدى بن حاتم الطائى وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، فإنا أتيناك لندعوك إلى أمر يجمع الله فيه كلمتنا وأمتنا ، ويحقن به دماء
__________
(1) المغطى : اسم فاعل من التغطية .
وانجلى : انكشف .
وخمر : جمع خمار .
(2) السادر الذى لا يهتم ولا يبالى ما صنع .
وتناهيت ، أي انتهيت من سفهى .
(3) البعير البازل : الذى طعن في التاسعة ، والخطار : المخاطرة .
(4) صفين 221 ، تاريخ الطبري 5 : 5 (*)(4/20)
المسلمين ندعوك إلى أفضل الناس سابقة ، وأحسنهم في الاسلام آثارا ، وقد اجتمع إليه (1) الناس ، وقد أرشدهم الله بالذى رأوا وأتوا ، فلم يبق أحد غيرك وغير من معك ، فانته يا معاوية من قبل أن يصيبك الله وأصحابك بمثل يوم الجمل .
فقال له معاوية : كأنك إنما جئت مهددا ، ولم تأت مصلحا ! هيهات يا عدى ! إنى لابن حرب ! ما يقعقع لى بالشنان (2) .
أما والله إنك من المجلبين على عثمان ، وإنك لمن قتلته ، وإنى لارجو أن تكون ممن يقتله الله .
فقال له شبث بن ربعى وزياد بن خصفة ، وتنازعا كلاما واحدا : أتيناك فيما يصلحنا وإياك ، فأقبلت تضرب لنا الامثال ، دع ما لا ينفع من القول والفعل ، وأجبنا فيما يعمنا وإياك نفعه .
وتكلم يزيد بن قيس الارحبي ، فقال : إنا لم نأتك إلا لنبلغك ما بعثنا به إليك ، ولنؤدي عنك ما سمعنا منك ، ولم ندع أن ننصح لك ، وأن نذكر ما ظننا أن لنا عليك به حجة ، أو أنه راجع بك إلى الالفة والجماعة إن صاحبنا من قد عرفت وعرف المسلمون فضله ، ولا أظنه يخفى عليك ، إن أهل الدين والفضل لا يعدلونك بعلى ، ولا يميلون (3) بينك وبينه ، فاتق الله يا معاوية ولا تخالف عليا ، فإنا والله ما رأينا رجلا قط أعمل بالتقوى ، ولا أزهد في الدنيا ، ولا أجمع لخصال الخير كلها منه .
فحمد الله معاوية وأثنى عليه ، وقال : أما بعد ، فإنكم دعوتم إلى الجماعة والطاعة ، فأما الجماعة التى دعوتم إليها فنعما هي ! وأما الطاعة لصاحبكم فإنا لا نراها ، إن صاحبكم قتل خليفتنا ، وفرق جماعتنا ، وآوى ثأرنا وقتلتنا ، وصاحبكم يزعم أنه لم يقتله ، فنحن
__________
(1) صفين : (اجتمع له الناس) .
الطبري : (استجمع له الناس) .
(2) الشنان : جمع شن ، وهو القربة الخلق ، كانوا يحر كونها للابل إذا أرادوا حثها على السير ، والكلام على التمييل .
(3) التمثبل : الترجيح بين الشيئين .
(*)(4/21)
لا نرد ذلك عليه أرأيتم قتله صاحبنا ! ألستم تعلمون أنهم أصحاب صاحبكم ، فليدفعهم إلينا فلنقتلهم به ، ونحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة .
فقال له شبث بن ربعى : أيسرك بالله يا معاوية أن أمكنت من عمار بن ياسر فقتلته ! قال : وما يمنعنى من ذلك ! والله لو أمكننى صاحبكم من ابن سمية ما قتلته بعثمان ، ولكني كنت أقتله بنائل مولى عثمان ! فقال شبث : وإله السماء ما عدلت معدلا ، ولا والذى لا إله إلا هو ، لا تصل إلى قتل ابن ياسر حتى تندر الهام عن كواهل الرجال ، وتضيق الارض الفضاء عليك برحبها .
فقال معاوية : إنه إذا كان ذلك كانت عليك أضيق .
ثم رجع القوم عن معاوية ، فبعث إلى زياد بن خصفة من بينهم ، فأدخل عليه ، فحمد معاوية الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد يا أخا ربيعة ، فإن عليا قطع أرحامنا ، وقتل إمامنا ، وآوى قتله صاحبنا ، وإنى أسألك النصرة بأسرتك وعشيرتك ، ولك على عهد الله وميثاقه إذا ظهرت أن أوليك أي المصرين أحببت .
قال أبو المجاهد : فسمعت زياد بن خصفة يحدث بهذا الحديث .
قال : فلما قضى معاوية كلامه ، حمدت الله وأثنيت عليه ، ثم قلت : أما بعد ، فإنى لعلى بينة من ربى وبما أنعم على ، فلن أكون ظهير اللمجرمين ، ثم قمت .
فقال معاوية لعمرو بن العاص - وكان إلى جانبه - : ما لهم عضبهم (1) الله ! ما قلبهم إلا قلب رجل واحد ! * * * قال نصر : وحدثنا سليمان بن أبى راشد ، عن عبد الرحمن بن عبيد أبى الكنود ،
__________
(1) العضب : القطع ، وهو دعاء عند العرب .
(*)(4/22)
قال (1) بعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهرى إلى على بن أبى طالب عليه السلام ، وبعث معه شرحبيل بن السمط ومعن بن يزيد بن الاخنس السلمى ، فدخلوا على على عليه السلام فتكلم حبيب بن مسلمة ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : أما بعد فإن عثمان بن عفان كان خليفة مهديا ، يعمل بكتاب الله ويثيب إلى أمر الله ، فاستسقلتم حياته ، واستبطاتم وفاته .
فعدوتم عليه فقتلتموه ، فادفع إلينا قتلة عثمان نقتلهم به ، فإن قلت : إنك لم تقتله ، فاعتزل أمر الناس ، فيكون أمرهم هذا شورى بينهم ، يولى الناس أمرهم من أجمع عليه رأيهم .
فقال له على : وما أنت لا أم لك والولاية والعزل والدخول في هذا الامر ! اسكت فإنك لست هناك ، ولا بأهل لذاك ! فقام حبيب بن مسلمة وقال : أما والله لتريني حيث تكره فقال له عليه السلام : وما أنت ! ولو أجلبت بخيلك ورجلك .
اذهب فصوب وصعد ما بدا لك ، فلا أبقى الله عليك إن أبقيت ! فقال شرحبيل بن السمط : إن كلمتك ، فلعمري ما كلامي لك إلا نحو كلام صاحبي ، فهل لى عندك جواب غير الجواب الذى أجبته به ؟ (2 فقال : نعم ، قال : فقله 2) ، فحمد الله على عليه السلام ، وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، فإن الله سبحانه بعث محمدا صلى الله عليه فأنقذ به من الضلالة ، ونعش (3) به من الهلكة ، وجمع به بعد الفرقة ، ثم قبضه الله إليه ، وقد أدى ما عليه ، فاستخلف الناس أبا بكر ، ثم استخلف أبو بكر عمر ، فأحسنا السيرة ، وعدلا في الامة ، ووجدنا
__________
(1) وقعة صفين 225 ، وتاريخ الطبري 5 : 7 (2 - 2) وقعة صفين : (فقال على عليه السلام : عندي جواب غير الذى أجبته به ، لك ولصاحبك) .
وفي الطبري : (نعم لك ولصاحبك جواب غير الذى أجبته به) .
(3) الطبري : ، وانناش به من الهلكة) .
(*)(4/23)
عليهما أن توليا الامر دوننا ، ونحن آل الرسول ، وأحق بالامر ، فغفرنا ذلك لهما ، ثم ولى أمر الناس عثمان ، فعمل بأشياء عابها الناس عليه ، فسار إليه ناس فقتلوه ، ثم أتانى الناس وأنا معتزل أمرهم ، فقالوا لى : بايع ، فأبيت عليهم ، فقالوا لى : بايع ، فإن الامة لا ترضى إلا بك ، وإنا نخاف إن لم تفعل أن يفترق الناس ، فبايعتهم فلم يرعنى إلا شقاق رجلين قد بايعا (1) ، وخلاف معاوية إياى الذى لم يجعل الله له سابقة في الدين ، ولا سلف صدق في الاسلام ، طليق ابن طليق ، وحزب من الاحزاب ، لم يزل لله ولرسوله وللمسلمين عدوا هو وأبوه حتى دخلا في الاسلام كارهين مكرهين ، فيا عجبا (2) لكم ، ولاجلابكم معه ، وانقيادكم له ، وتدعون آل بيت نبيكم الذين لا ينبغى لكم شقاقهم ولا خلافهم ، ولا تعدلوا بهم أحدا من الناس ، إنى أدعوكم إلى كتاب ربكم وسنة نبيكم ، وإماتة الباطل ، وإحياء معالم الدين ، أقول قولى هذا وأستغفر الله لنا ولكل مؤمن ومؤمنة ، ومسلم ومسلمة .
فقال له شرحبيل ومعن بن يزيد : أتشهد أن عثمان قتل مظلوما ؟ فقال لهما : إنى لا أقول ذلك ، قالا : فمن لم يشهد أن عثمان قتل مظلوما ، فنحن برآء منه ! ثم قاما فانصرفا .
فقال على عليه السلام : (إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين * وما أنت بهادي العمى عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن باياتنا فهم مسلمون) (3) .
ثم أقبل على أصحابه فقال : لا يكن هؤلاء في ضلالتهم بأولى بالجد منكم في حقكم وطاعة إمامكم .
ثم مكث الناس متوادعين إلى انسلاخ المحرم ، فلما انسلخ المحرم واستقبل الناس صفرا من سنة سبع وثلاثين ، بعث على عليه السلام نفرا من أصحابه ، حتى إذا كانوا
__________
(1) صفين : (قد بايعانى) (2) صفين : (فعجبنا لكم) .
وفي الطبري : (فلا غرو إلا خلافكم معه) .
(3) سورة النمل 80 ، 81 .
(*)(4/24)
من معسكر معاوية بحيث يسمعونهم الصوت ، قام مرثد بن الحارث الجشمى ، فنادى عند غروب الشمس : يا أهل الشام إن أمير المؤمنين عليا وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله يقولون لكم : إنا لم نكف عنكم شكا في أمركم ، ولا إبقاء عليكم ، وإنما كففنا عنكم لخروج المحرم ، وقد انسلخ وإنا قد نبذنا إليكم على سواء ، إن الله لا يحب الخائنين .
قال : فتحاجز الناس وثاروا إلى أمرائهم .
* * * قال نصر : فأما (1) رواية عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبى الزبير أن نداء مرثد بن الحارث الجشمى ، كانت صورته : يا أهل الشام ، ألا إن أمير المؤمنين يقول لكم : إنى قد استدمتكم واستأنيت بكم ، لتراجعوا الحق ، وتثوبوا إليه ، واحتججت عليكم بكتاب الله ، ودعوتكم إليه ، فلم تتناهوا عن طغيان ، ولم تجيبوا إلى حق ، وإنى قد نبذت إليكم على سواء ، إن الله لا يحب الخائنين .
قال : فثار الناس إلى أمرائهم ورؤسائهم .
قال نصر : وخرج معاوية وعمرو بن العاص يكتبان الكتائب ، ويعبيان العساكر ، وأوقدوا النيران ، وجاءوا بالشموع ، وبات على عليه السلام تلك الليلة كلها ، يعبى الناس ، ويكتب الكتائب ، ويدور في الناس ويحرضهم .
* * * قال نصر : حدثنا عمر بن سعد ، بإسناده عن عبد الله بن جندب ، عن أبيه أن (2) عليا عليه السلام كان يأمرنا في كل موطن لقينا معه عدوه ، فيقول :
__________
(1) صفين 228 (2) وقعة صفين 229 وتاريخ الطبري 5 : 10 ، 11 (*)(4/25)
لا تقاتلوا القوم حتى يبدءوكم ، فهى حجة أخرى لكم عليهم ، فإذا قاتلتموهم فهزمتموهم فلا تقتلوا مدبرا ، ولا تجهزوا على جريح ، ولا تكشفوا عورة ، ولا تمثلوا بقتيل ، فإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا سترا ، ولا تدخلوا دارا إلا بإذن ، ولا تأخذوا شيئا من أموالهم إلا ما وجدتم في عسكرهم ، ولا تهيجوا امرأة ، وإن شتمن أعراضكم ، وتناولن أمراءكم وصلحاءكم ، فإنهن ضعاف القوى والانفس والعقول ، ولقد كنا وإنا لنؤمر بالكف عنهن وهن مشركات ، وإن كان الرجل ليتناول المرأة في الجاهلية بالهراوة أو الحديد فيعير بها عقبه من بعده .
* * * قال نصر : وحدثنا عمر بن سعد ، عن إسماعيل بن يزيد - يعنى ابن أبى خالد - عن أبى صادق ، أن عليا (1) عليه السلام حرض الناس في حروبه ، فقال : عباد الله ، اتقوا الله وغضوا أبصاركم ، واخفضوا الاصوات ، وأقلوا الكلام ، ووطنوا أنفسكم على المنازلة والمجاولة والمبارزة والمعانقة ، واثبتوا : (واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) (2) ، (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين) (3) .
اللهم ألهمهم الصبر ، وأنزل عليهم النصر ، وأعظم لهم الاجر .
* * * قال نصر : وكان (4) ترتيب عسكر على عليه السلام ، بموجب ما رواه لنا عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن محمد بن على ، وزيد بن حسن ، ومحمد بن عبد المطلب : أنه جعل على الخيل عمار بن ياسر ، وعلى الرجالة عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعى ، ودفع اللواء
__________
(1) وقعة صفين 230 .
(2) سورة الانفال آية 45 (3) سورة الانفال آية 46 (4) وقعة صفين 231 (*)(4/26)
إلى هاشم بن عتبة بن أبى وقاص الزهري ، وجعل على الميمنة الاشعث بن قيس ، وعلى الميسرة عبد الله بن العباس ، وجعل على رجالة الميمنة سليمان بن صرد الخزاعى ، وعلى رجالة الميسرة الحارث بن مرة العبدى ، وجعل القلب مضر الكوفة والبصرة ، وجعل على ميمنة القلب اليمن وعلى ميسرته ربيعة ، وعقد ألوية القبائل ، فأعطاها قوما منهم بأعيانهم ، وجعلهم رؤساءهم وأمراءهم ، وجعل على قريش وأسد وكنانة عبد الله بن عباس ، وعلى كندة حجر بن عدى الكندى ، وعلى بكر البصرة الحصين بن المنذر الرقاشى ، وعلى تميم البصرة الاحنف بن قيس ، وعلى خزاعة عمرو بن الحمق ، وعلى بكر الكوفة نعيم بن هبيرة ، وعلى سعد البصرة وربابها جارية بن قدامة السعدى ، وعلى بجيلة رفاعة بن شداد ، وعلى ذهل الكوفة رويما الشيباني - أو يزيد بن رويم - وعلى عمرو البصرة وحنظلتها أعين بن ضبيعة ، وعلى قضاعة وطيئ عدى بن حاتم الطائى ، وعلى لهازم الكوفة عبد الله بن حجل العجلى ، وعلى تميم الكوفه عمير بن عطارد ، وعلى الازد واليمن جندب بن زهير ، وعلى ذهل البصرة خالد بن المعمر السدوسى ، وعلى عمرو الكوفة وحنظلتها شبث بن ربعى ، وعلى همدان سعيد بن قيس ، وعلى لهازم البصرة حريث ابن جابر الجعفي (1) ، وعلى سعد الكوفة وربابها الطفيل أبا صريمة ، وعلى مذحج الاشتر بن الحارث النخعي ، وعلى عبد القيس الكوفة صعصعة بن صوحان ، وعلى عبد القيس البصرة عمرو بن حنظلة ، وعلى قيس الكوفة عبد الله بن الطفيل البكائى ، [ وعلى قريش البصرة الحارث بن نوفل الهاشمي ] (2) وعلى قيس البصرة قبيصة بن شداد الهلالي ، وعلى اللفيف من القواصى القاسم بن حنظلة الجهنى .
وأما معاوية فاستعمل على الخيل عبيد الله بن عمر بن الخطاب ، وعلى الرجالة مسلم بن عقبة المرى ، وجعل على الميمنة عبد الله بن عمرو بن العاص ، وعلى الميسرة حبيب
__________
(1) صفين : (الحنفي) .
(*)(4/27)
ابن مسلمة الفهرى ، وأعطى اللواء عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، وجعل على أهل دمشق - وهم القلب - الضحاك بن قيس الفهرى ، وعلى أهل حمص - وهم الميمنة - ذا الكلاع الحميرى ، وعلى أهل قنسرين - وهم في الميمنة أيضا - زفر بن الحارث الكلابي ، وعلى أهل الاردن - وهم الميسرة - سفيان بن عمرو أبا الاعور السلمى ، وعلى أهل فلسطين - وهم في الميسرة أيضا - مسلمة بن مخلد ، وعلى رجالة أهل دمشق بسر بن أبى أرطاة العامري بن لؤى بن غالب ، وعلى رجالة أهل حمص حوشبا ذا ظليم ، وعلى رجالة قيس طريف بن حابس الالهانى ، وعلى رجالة الاردن عبد الرحمن بن قيس القينى ، وعلى رجالة أهل فلسطين الحارث بن خالد الازدي ، وعلى رجالة قيس دمشق همام بن قبيصة ، وعلى قضاعة حمص وإيادها بلال بن أبى هبيرة الازدي ، [ وحاتم بن المعتمر الباهلى ] (1) ، وعلى رجالة الميمنة حابس بن سعيد الطائى ، وعلى قضاعة دمشق حسان بن بحدل الكلبى ، وعلى قضاعة عباد بن يزيد الكلبى ، وعلى كندة دمشق حسان بن حوى السكسكى ، وعلى كندة حمص يزيد بن هبيرة السكوني ، وعلى سائر اليمن يزيد بن أسد البجلى ، وعلى حمير وحضر موت اليمان بن غفير ، وعلى قضاعة الاردن حبيش بن دلجة القينى ، وعلى كنانة فلسطين شريكا الكنانى ، وعلى مذحج الاردن المخارق بن الحارث الزبيدى ، وعلى جذام فلسطين ولخمها ناتل بن قيس الجذامي ، وعلى همدان الاردن حمزة بن مالك الهمداني ، وعلى الخثعم حمل بن عبد الله الخثعمي ، وعلى غسان الاردن يزيد بن الحارث وعلى جميع القواصى القعقاع بن أبرهة الكلاعى ، أصيب في المبارزة أول يوم تراءت فيه الفئتان .
* * * قال نصر : فأما رواية الشعبى التى رواها عنه إسماعيل بن أبى عميرة (2) ، فإن عليا
__________
(1) من صفين .
(2) صفين 234 .
(*)(4/28)
عليه السلام بعث على ميمنته عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعى ، وعلى ميسرته عبد الله بن بعث على ميمنته عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعى ، وعلى ميسرته عبد الله بن العباس ، وعلى خيل الكوفة الاشتر ، وعلى البصرة سهل بن حنيف ، وعلى رجالة الكوفة عمار بن ياسر ، وعلى رجالة أهل البصرة قيس بن سعد - كان قد أقبل من مصر إلى صفين - وجعل معه هاشم بن عتبة ، وجعل مسعود بن فدكى التميمي على قراء أهل البصرة ، وأما قراء أهل الكوفة فصاروا إلى عبد الله بن بديل ، وعمار بن ياسر .
* * * قال نصر : وأما ترتيب عسكر الشام - فيما رواه لنا عمر بن سعد ، عن عبد الرحمن ابن يزيد بن جابر ، عن القاسم مولى يزيد بن معاوية - فإن معاوية بعث على ميمنته ذا الكلاع ، وعلى ميسرته حبيب بن مسلمة الفهرى ، وعلى مقدمته من يوم أقبل من دمشق أبا الاعور السلمى ، وكان على خيل دمشق كلها عمرو بن العاص ، ومعه خيول أهل الشام بأسرها ، وجعل مسلم بن عقبة المرى على رجالة دمشق ، والضحاك بن قيس على سائر الرجالة بعد .
* * * قال نصر : (2) وتبايع رجال من أهل الشام على الموت وتحالفوا عليه وعقلوا أنفسهم بالعمائم ، وكانوا صفوفا خمسة [ معقلين ] (3) ، كانوا يخرجون فيصطفون أحد عشر صفا ، ويخرج أهل العراق فيصطفون أحد عشر صفا أيضا .
قال نصر : فخرجوا أول يوم من صفر من سنة سبع وثلاثين ، وهو يوم الاربعاء ، فاقتتلوا ، وعلى من خرج يومئذ من أهل الكوفة الاشتر ، وعلى أهل الشام حبيب بن مسلمة
__________
(1) صفين 239 .
(2) صفين 239 .
(3) من صفين .
(*)(4/29)
فاقتتلوا قتالا شديدا جل النهار ، ثم تراجعوا وقد انتصف بعضهم من بعض .
ثم خرج في اليوم الثاني هاشم بن عتبة في خيل ورجال حسن عددها وعدتها ، فخرج إليه من أهل الشام أبو الأعور السلمى ، فاقتتلوا يومهم ذلك ، تحمل الخيل على الخيل والرجال على الرجال .
ثم انصرفوا وقد صبر القوم بعضهم لبعض ، وخرج في اليوم الثالث عمار بن ياسر ، وخرج إليه عمرو بن العاص ، فاقتتل الناس كأشد قتال كان ، وجعل عمار يقول : يا أهل الشام ، أتريدون أن تنظروا إلى من عادى الله ورسوله وجاهدهما ، وبغى على المسلمين ، وظاهر المشركين .
فلما أراد الله أن يظهر دينه ، وينصر رسوله أتى إلى النبي صلى الله عليه وآله فأسلم ، وهو والله فيما يرى راهب غير راغب .
ثم قبض الله رسوله ، وإنا والله لنعرفه بعداوة المسلم ، ومودة المجرم ! ألا وإنه معاوية ، فقاتلوه والعنوه ، فإنه ممن يطفئ نور الله ، ويظاهر أعداء الله .
قال : وكان مع عمار زياد بن النضر على الخيل ، فأمره أن يحمل في الخيل ، فحمل فصبروا (1) له ، وشد عمار في الرجالة ، فأزال عمرو بن العاص عن موقفه ، وبارز يومئذ زياد بن النضر أخا له (2) من بنى عامر يعرف بمعاوية بن عمرو العقيلى ، وأمهما هند الزبيدية ، فانصرف كل واحد منهما عن صاحبه بعد المبارزة سالما ، ورجع الناس يومهم ذلك ، * * * قال نصر : وحدثني (3) أبو عبد الرحمن المسعودي قال : حدثنى يونس بن الارقم ، عمن حدثه من شيوخ بكر بن وائل ، قال : كنا مع على عليه السلام بصفين ، فرفع عمرو بن العاص شقة خميصة سوداء في رأس رمح ، فقال ناس : هذا لواء عقده له رسول الله صلى الله عليه وآله ، فلم يزالوا يتحدثون حتى وصل ذلك إلى على عليه السلام ، فقال :
__________
(1) في الاصول : (فصبر) ، والصواب ما أثبته من صفين .
(2) في الطبري : (لامه) .
(3) صفين 241 .
(*)(4/30)
أتدرون ما أمر هذا اللواء ! إن عدو الله عمرا أخرج له رسول الله صلى الله عليه وآله هذه الشقة ، فقال : من يأخذها بما فيها ؟ فقال عمرو : وما فيها يا رسول الله ؟ قال : فيها ألا تقاتل بها مسلما ، ولا تقربها من كافر ، فأخذها ، فقد والله قربها من المشركين ، وقاتل بها اليوم المسلمين ، والذى فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، ما أسلموا ولكنهم استسلموا وأسروا الكفر ، فلما وجدوا عليه أعوانا أظهروه .
* * * وروى نصر ، عن أبى عبد الرحمن المسعودي ، عن يونس بن الارقم ، عن عوف ابن عبد الله ، عن عمرو بن هند البجلى ، عن أبيه ، قال (1) : لما نظر على عليه السلام إلى رايات معاوية وأهل الشام ، قال : والذى فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، ما أسلموا ولكن استسلموا ، وأسروا الكفر ، فلما وجدوا عليه أعوانا ، رجعوا إلى عداوتهم لنا ، إلا أنهم لم يتركوا الصلاة .
* * * وروى نصر ، عن عبد العزيز بن سياه ، عن حبيب بن أبى ثابت ، قال : (1) لما كان قتال صفين ، قال رجل لعمار : يا أبا اليقظان ، ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم : (قاتلوا الناس حتى يسلموا ، فإذا أسلموا عصموا منى دماءهم وأموالهم) ؟ قال : بلى ، ولكن والله ما أسلموا ، ولكن استسلموا ، وأسروا الكفر حتى وجدوا عليه أعوانا .
* * * وروى نصر ، عن عبد العزيز عن حبيب بن أبى ثابت ، عن منذر الثوري ، قال : قال محمد بن الحنفية : لما (1) أتاهم رسول الله صلى الله عليه وآله من أعلى الوادي ومن أسفله ،
__________
(1) صفين 241 ، 242 (*)(4/31)
وملا الاودية كتائب - يعنى يوم فتح مكة - استسلموا حتى وجدوا أعوانا .
وروى نصر ، عن الحكم بن ظهير عن إسماعيل ، عن الحسن ، قال : وحدثنا الحكم أيضا عن عاصم بن أبى النجود ، عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : (إذا رأيتم معاوية بن أبى سفيان يخطب على منبرى فاضربوا عنقه) ، فقال الحسن : فو الله ما فعلوا ولا أفلحوا (1) .
__________
(1) صفين 243 (*)(4/32)
(55) ومن كلام له عليه السلام : الاصل : ولقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا ، ما يزيدنا ذلك إلا إيمانا وتسليما ، ومضيا على اللقم ، وصبرا على مضض الالم ، وجدا (1) في جهاد العدو .
ولقد كان الرجل منا والاخر من عدونا يتصاولان تصاول الفحلين ، يتخالسان أنفسهما ، أيهما يسقى صاحبه كأس المنون ، فمرة لنا من عدونا ، ومرة لعدونا منا ، فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت ، وأنزل علينا النصر ، حتى استقر الاسلام ملقيا جرانه ، ومتبوئا أوطانه .
ولعمري لو كنا نأتى ما أتيتم ، ما قام للدين عمود ، ولا اخضر للايمان عود .
وايم الله لتحتلبنها دما ، ولتتبعنها ندما ! * * * الشرح : لقم الطريق : الجادة الواضحة منها .
والمضض : لذع الالم وبرحاؤه .
والتصاول : أن يحمل كل واحد من القرنين على صاحبه .
والتخالس : التسالب والانتهاب .
والكبت : الاذلال .
وجران البعير : مقدم عنقه .
وتبوأت المنزل : نزلته .
ويقال لمن أسرف في الامر : لتحتلبن دما ، وأصله الناقة يفرط في حلبها فيحلب الحالب الدم .
__________
(1) ساقطة من مخطوطة النهج .
(3 - نهج - 4) (*)(4/33)
وهذه ألفاظ مجازية من باب الاستعارة ، وهى : قوله : (استقر الاسلام ملقيا جرانه) ، أي ثابتا متمكنا ، كالبعير يلقى جرانه على الارض .
وقوله : (متبوئا أوطانه) ، جعله كالجسم المستقر في وطنه ومكانه .
وقوله : (ما قام للدين عمود) ، جعله كالبيت القائم على العمد .
وقوله : (ولا اخضر للايمان عود) ، جعله كالشجرة ذات الفروع والاغصان .
فأما قتلهم الاقارب في ذات الله فكثير ، قتل على عليه السلام الجم الغفير من بنى عبد مناف وبنى عبد الدار في يوم بدر وأحد ، وهم عشيرته وبنو عمه ، وقتل عمر ابن الخطاب يوم بدر خاله العاص بن هشام بن المغيرة ، وقتل حمزة بن عبد المطلب شيبة ابن ربيعة يوم بدر ، وهو ابن عمه ، لانهما ابنا عبد مناف ، ومثل ذلك كثير مذكور في كتب السيرة .
وأما كون الرجل منهم وقرنه يتصاولان ويتخالسان ، فإن الحال كذلك كانت ، بارز على عليه السلام الوليد بن عتبة ، وبارز طلحة بن أبى طلحة ، وبارز عمرو بن عبدود ، وقتل هؤلاء الاقران مبارزة ، وبارز كثيرا من الابطال غيرهم وقتلهم ، وبارز جماعة من شجعان الصحابة جماعة من المشركين ، فمنهم من قتل ، ومنهم من قتل ، وكتب المغازى تتضمن تفصيل ذلك .
* * * [ فتنة عبد الله بن الحضرمي بالبصرة ] وهذا الكلام قاله أمير المؤمنين عليه السلام في قصة ابن الحضرمي حيث قدم البصرة من قبل معاوية ، واستنهض أمير المؤمنين عليه السلام أصحابه إلى البصرة ، فتقاعدوا .
قال أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال الثقفى في كتاب ، ، الغارات ، ، :(4/34)
حدثنا محمد بن يوسف ، قال : حدثنا الحسن بن على الزعفراني ، عن محمد بن عبد الله ابن عثمان ، عن ابن أبى سيف ، عن يزيد بن حارثة الازدي ، عن عمرو بن محصن ، أن معاوية لما أصاب محمد بن أبى بكر بمصر وظهر عليها ، دعا عبد الله بن عامر الحضرمي ، فقال له : سر إلى البصرة ، فإن جل أهلها يرون رأينا في عثمان ، ويعظمون قتله ، وقد قتلوا في الطلب بدمه ، فهم موتورون حنقون لما أصابهم ، ودوا لو يجدون من يدعوهم ويجمعهم وينهض بهم في الطلب بدم عثمان ، واحذر ربيعة ، وانزل في مضر ، وتودد الازد ، فإن الازد كلها معك إلا قليلا منهم ، وإنهم إن شاء الله غير مخالفيك .
فقال عبد الله بن الحضرمي له : أنا سهم في كنانتك ، وأنا من قد جربت ، وعدو أهل حربك ، وظهيرك على قتله عثمان ، فوجهني إليهم متى شئت .
فقال : اخرج غدا إن شاء الله .
فودعه وخرج من عنده .
فلما كان الليل جلس معاوية وأصحابه يتحدثون ، فقال لهم معاوية : في أي منزل ينزل القمر الليلة ؟ فقالوا : بسعد الذابح ، فكره معاوية ذلك ، وأرسل إليه ألا تبرح حتى يأتيك أمرى .
فأقام .
* * * ورأى معاوية أن يكتب إلى عمرو بن العاص وهو يومئذ بمصر ، عامله عليها ، يستطلع رأيه في ذلك ، فكتب إليه ، وقد كان تسمى بإمرة المؤمنين بعد يوم صفين ، وبعد تحكيم الحكمين : من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص : سلام عليك ، أما بعد ، فإنى قد رأيت رايا هممت بإمضائه ، ولم يخذلني عنه(4/35)
إلا استطلاع رأيك ، فإن توافقني أحمد الله وأمضه ، وإن تخالفني فإنى أستخير الله وأستهديه .
إنى نظرت في أمر أهل البصرة فوجدت معظم أهلها لنا وليا ولعلى وشيعته عدوا ، وقد أوقع بهم على الوقعة التى علمت ، فأحقاد تلك الدماء ثابتة في صدورهم لا تبرح ولا تريم ، وقد علمت أان قتلنا ابن أبى بكر ، ووقعتنا بأهل مصر قد أطفات نيران أصحاب على في الافاق ، ورفعت رءوس أشياعنا أينما كانوا من البلاد ، وقد بلغ من كان بالبصرة على مثل رأينا من ذلك ما بلغ الناس ، وليس أحد ممن يرى رأينا أكثر عددا ، ولا أضر خلافا على على من أولئك ، فقد رأيت أن أبعث إليهم عبد الله بن عامر الحضرمي ، فينزل في مضر ويتودد الازد ، ويحذر ربيعة ، ويبتغى دم ابن عفان ، ويذكرهم وقعة على بهم ، التى أهلكت صالحي إخوانهم وآبائهم وأبنائهم .
فقد رجوت عند ذلك أن يفسد على على وشيعته ذلك الفرج من الارض ، ومتى يؤتوا من خلفهم وأمامهم يضل سعيهم ، ويبطل كيدهم ، فهذا رأيى .
فما رأيك ؟ فلا تحبس رسولي إلا قدر مضى الساعة التى ينتظر فيها جواب كتابي هذا .
أرشدنا الله وإياك ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته .
فكتب عمرو بن العاص إلى معاوية : أما بعد ، فقد بلغني رسولك وكتابك ، فقرأته وفهمت رأيك الذى رأيته ، فعجبت له ، وقلت : إن الذى ألقاه في روعك ، وجعله في نفسك هو الثائر بابن عفان ، والطالب بدمه ، وإنه لم يك منك ولا منا منذ نهضنا في هذه الحروب وبادينا أهلها (1) ، ولا رأى الناس رأيا أضر على عدوك ، ولا أسر لوليك من هذا الامر الذى ألهمته ، فامض رأيك مسددا ، فقد وجهت الصليب الاريب الناصح غير الظنين والسلام .
* * *
__________
(1) كذا في ج ، وفي ا ، ب : (ونادينا) (*)(4/36)
فلما جاءه كتاب عمرو دعا ابن الحضرمي - وقد كان ظن حين تركه معاوية أياما لا يأمره بالشخوص ، أن معاوية قد رجع عن إشخاصه إلى ذلك الوجه - فقال : يا بن الحضرمي ، سر على بركة الله إلى أهل البصرة فانزل في مضر ، واحذر ربيعة ، وتودد الازد ، وانع ابن عفان ، وذكرهم الوقعة التى أهلكتهم ، ومن لمن سمع وأطاع دنيا لا تفنى ، وأثرة (1) لا يفقدها حتى يفقدنا أو نفقده .
فودعه ثم خرج من عنده ، وقد دفع إليه كتابا ، وأمره إذا قدم أن يقرأه على الناس .
قال عمرو بن محصن : فكنت معه حين خرج ، فلما خرجنا سرنا ما شاء الله أن نسير ، فسنح لنا ظبى أعضب (2) عن شمائلنا ، فنظرت إليه ، فو الله لرأيت الكراهية في وجهه ، ثم مضينا حتى نزلنا البصرة في بنى تميم ، فسمع بقدومنا أهل البصرة ، فجاءنا كل من يرى رأى عثمان ، فاجتمع إلينا رءوس أهلها ، فحمد ال له ابن الحضرمي وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، أيها الناس ، فإن إمامكم إمام الهدى عثمان بن عفان ، قتله على بن أبى طالب ظلما ، فطلبتم بدمه ، وقاتلتم من قتله ، فجزاكم الله من أهل مصر خيرا ، وقد أصيب منكم الملاء الاخيار ، وقد جاءكم الله بإخوان لكم ، لهم بأس يتقى ، وعدد لا يحصى ، فلقوا عدوكم الذين قتلوكم ، فبلغوا الغاية التى أرادوا صابرين ، ورجعوا وقد نالوا ما طلبوا ، فمالئوهم وساعدوهم ، وتذكروا ثاركم لتشفوا صدوركم من عدوكم .
فقام إليه الضحاك بن عبد الله الهلالي ، فقال : قبح الله ما جئتنا به ، وما دعوتنا إليه ! جئتنا والله بمثل ما جاء به صاحباك طلحة والزبير ، أتيانا وقد بايعنا عليا ، واجتمعنا له ، فكلمتنا واحدة ونحن على سبيل مستقيم ، فدعوانا إلى الفرقة ، وقاما فينا بزخرف القول ، حتى ضربنا بعضنا ببعض عدوانا وظلما ، فاقتتلنا على ذلك ، وايم الله ، ما سلمنا من عظيم وبال
__________
(1) في اللسان : (فلان أثير عند فلان ، ذو أثرة ، إذا كان خاصا) .
(2) الاعضب : مكسور أحد القرنين ، وكانوا يتشاءمون منه (*)(4/37)
ذلك ، ونحن الان مجمعون على بيعة هذا العبد الصالح الذى أقال العثرة ، وعفا عن المسئ وأخذ بيعة غائبنا وشاهدنا .
أفتأمرنا الان أن نختلع أسيافنا من أغمادها ، ثم يضرب بعضنا بعضا ، ليكون معاوية اميرا ، وتكون له وزيرا ، ونعدل بهذا الامر عن على ! والله ليوم من أيام على مع رسول الله صلى الله عليه وآله خير من بلاء معاوية وآل معاوية لو بقوا في الدنيا ، ما الدنيا باقية .
فقام عبد الله بن خازم السلمى ، فقال للضحاك : اسكت ، فلست بأهل أن تتكلم في أمر العامة .
ثم أقبل على ابن الحضرمي ، فقال : نحن يدك وأنصارك ، والقول ما قلت ، وقد فهمنا عنك ، فادعنا أنى شئت ! فقال الضحاك لابن خازم : يا بن السوداء ، والله لا يعز من نصرت ، ولا يذل بخذلانك من خذلت ، فتشاتما .
* * * قال صاحب كتاب الغارات : والضحاك هذا هو الذى يقول : يأيهذا السائلى عن نسبي * بين ثقيف وهلال منصبى * أمي أسماء وضحاك أبى * قال : وهو القائل في بنى العباس : ما ولدت من ناقة لفحل * في جبل نعلمه وسهل كستة من بطن أم الفضل * أكرم بها من كهلة وكهل عم النبي المصطفى ذى الفضل * وخاتم الانبياء بعد الرسل قال : فقام عبد الرحمن بن عمير بن عثمان القرشى ثم التيمى ، فقال : عباد الله ، إنا لم ندعكم إلى الاختلاف والفرقة ، ولا نريد أن تقتتلوا ولا تتنابزوا ، ولكنا إنما ندعوكم إلى أن تجمعوا كلمتكم ، وتوازروا إخوانكم الذين هم على رأيكم ، وأن تلموا شعثكم(4/38)
وتصلحوا ذات بينكم ، فمهلا مهلا ! رحمكم الله ، استمعوا لهذا الكتاب ، وأطيعوا الذى يقرأ عليكم .
ففضوا كتاب معاوية وإذا فيه : من عبد الله معاوية أمير المؤمنين ، إلى من قرئ كتاب هذا عليه من المؤمنين والمسلمين من أهل البصرة .
سلام عليكم .
أما بعد ، فإن سفك الدماء بغير حلها ، وقتل النفوس التى حرم الله قتلها هلاك موبق ، وخسران مبين ، لا يقبل الله ممن سفكها صرفا ولا عدلا ، وقد رأيتم رحمكم الله آثار ابن عفان وسيرته ، وحبه للعافية ، ومعدلته ، وسده للثغور ، وإعطاءه في الحقوق ، وإنصافه للمظلوم ، وحبه الضعيف ، حتى توثب عليه المتوثبون ، وتظاهر عليه الظالمون ، فقتلوه مسلما محرما ، ظمان صائما ، لم يسفك فيهم دما ، ولم يقتل منهم أحدا ولا يطلبونه بضربة سيف ولا سوط ، وإنما ندعوكم أيها المسلمون إلى الطلب بدمه ، وإلى قتال من قتله ، فإنا وإياكم على أمر هدى واضح ، وسبيل مستقيم .
إنكم إن جامعتمونا طفئت النائرة ، واجتمعت الكلمة ، واستقام أمر هذه الامة ، وأقر الظالمون المتوثبون الذين قتلوا إمامهم بغير حق ، فأخذوا بجرائرهم وما قدمت أيديهم .
إن لكم أن أعمل فيكم بالكتاب ، وأن أعطيكم في السنة عطاءين ، ولا أحتمل فضلا من فيئكم عنكم أبدا .
فسارعوا إلى ما تدعون إليه رحمكم الله ! وقد بعثت إليكم رجلا من الصالحين ، كان من أمناء خليفتكم المظلوم ابن عفان وعماله وأعوانه على الهدى والحق ، جعلنا الله وإياكم ممن يجيب إلى الحق ويعرفه ، وينكر الباطل ويجحده ، والسلام عليكم ورحمة الله .
قال : فلما قرئ عليهم الكتاب ، قال معظمهم : سمعنا وأطعنا .
قال : وروى محمد بن عبد الله بن عثمان ، عن على ، عن أبى زهير ، عن أبى منقر الشيباني ، قال : قال الاحنف لما قرئ عليهم كتاب معاوية : أما أنا فلا ناقة لى في هذا ولا جمل .
واعتزل أمرهم ذلك .(4/39)
وقال عمرو بن مرجوم ، من عبد القيس : أيها الناس ، الزموا طاعتكم ، ولا تنكثوا بيعتكم ، فتقع بكم واقعة وتصيبكم قارعة ، ولا يكن بعدها لكم بقية ، ألا إنى قد نصحت لكم ، ولكن لا تحبون الناصحين .
* * * قال إبراهيم بن هلال : وروى محمد بن عبد الله ، عن ابن أبى سيف ، عن الاسود بن قيس ، عن ثعلبة بن عباد ، أن الذى كان سدد لمعاوية رأيه في تسريح ابن الحضرمي كتاب كتبه إليه عباس بن ضحاك العبدى ، وهو ممن كان يرى رأى عثمان ، ويخالف قومه في حبهم عليا عليه السلام ونصرتهم إياه ، وكان الكتاب : أما بعد ، فقد بلغنا وقعتك بأهل مصر ، الذين بغوا على إمامهم ، وقتلوا خليفتهم طمعا وبغيا ، فقرت بذلك العيون ، وشفيت بذلك النفوس ، وبردت أفئدة أقوام كانوا لقتل عثمان كارهين ، ولعدوه مفارقين ، ولكم موالين ، وبك راضين ، فإن رأيت أن تبعث إلينا أميرا طيبا ذكيا ذا عفاف ودين ، إلى الطلب بدم عثمان فعلت ، فإنى لا أخال الناس إلا مجمعين عليك ، وإن ابن عباس غائب عن المصر .
والسلام .
قال : فلما قرأ معاوية كتابه قال : لا عزمت رأيا سوى ما كتب به إلى هذا ، وكتب إليه جوابه : أما بعد ، فقد قرأت كتابك ، فعرفت نصيحتك ، وقبلت مشورتك ، رحمك الله وسددك ، اثبت هداك الله على رأيك الرشيد ، فكأنك بالرجل الذى سألت قد أتاك ، وكأنك بالجيش قد أطل عليك فسررت وحبيت ، والسلام .
* * * قال إبراهيم : وحدثنا محمد بن عبد الله ، قال : حدثنى على بن أبى سيف عن أبى زهير(4/40)
قال : لما نزل ابن الحضرمي في بنى تميم أرسل إلى الرؤوس فأتوه ، فقال لهم : أجيبوني إلى الحق ، وانصروني على هذا الامر .
قال : وإن الامير بالبصرة يومئذ زياد بن عبيد قد استخلفه عبد الله بن عباس ، وقدم على على عليه السلام إلى الكوفة يعزيه عن محمد بن أبى بكر ، قال : فقام إليه ابن ضحاك ، فقال : إى والذى له أسعى ، وإياه أخشى ، لننصرنك بأسيافنا وأيدينا .
وقام المثنى بن مخرمة العبدى فقال : لا والذى لا إله إلا هو ، لئن لم ترجع إلى مكانك الذى أقبلت منه لنجاهدنك بأسيافنا وأيدينا ، ونبالنا وأسنة رماحنا .
نحن ندع ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله ، وسيد المسلمين ، وندخل في طاعة حزب من الاحزاب طاغ ! والله لا يكون ذلك أبدا حتى نسير كتيبة ، ونفلق السيوف بالهام .
فأقبل ابن الحضرمي على صبرة بن شيمان (1) الازدي فقال : يا صبرة ، أنت رأس قومك ، وعظيم من عظماء العرب ، وأحد الطلبة بدم عثمان ، رأينا رأيك ، ورأيك رأاينا ، وبلاء القوم عندك في نفسك وعشيرتك ما قد ذقت ورأيت ، فانصرني وكن من دوني .
فقال له : إن أنت أتيتني فنزلت في دارى نصرتك ومنعتك .
فقال : إن أمير المؤمنين معاوية أمرنى أن أنزل في قومه من مضر ، فقال : اتبع ما أمرك به .
وانصرف من عنده ، وأقبل الناس إلى ابن الحضرمي ، وكثر تبعه ، ففزع لذلك زياد وهاله وهو في دار الامارة ، فبعث إلى الحضين بن المنذر ومالك بن مسمع ، فدعاهما ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد فإنكم أنصار أمير المؤمنين وشيعته وثقته ، وقد جاءكم هذا الرجل بما قد بلغكم ، فأجيروني حتى يأتيني أمر أمير المؤمنين ورأيه .
فأما مالك بن مسمع ، فقال : هذا أمر فيه نظر ، أرجع إلى من ورائي ، وأنظر وأستشير في ذلك .
وأما الحضين بن المنذر فقال ، نعم ، نحن فاعلون ولن نخذلك ولن نسلمك .
__________
(1) ب : (سليمان) ، تحريف .
(*)(4/41)
فلم يرزياد من القوم ما يطمئن إليه ، فبعث إلى صبرة بن شيمان الازدي ، فقال : يا بن شيمان ، أنت سيد قومك ، وأحد عظماء هذا المصر ، فإن يكن فيه أحد هو أعظم اهله فأنت ذاك ، أفلا تجيرني و تمنعني ، وتمنع بيت مال المسلمين ! فإنما أنا أمين عليه .
فقال : بلى ، إن تحملت حتى تنزل في دارى منعتك ، فقال : إنى فاعل .
فارتحل ليلا حتى نزل دار صبرة بن شيمان ، وكتب إلى عبد الله بن عباس - ولم يكن معاوية ادعى زيادا بعد ، لانه إانما ادعاه بعد وفاة على عليه السلام : للامير (1) عبد الله بن عباس من زياد بن عبيد .
سلام عليك ، أما بعد فإن عبد الله بن عامر بن الحضرمي أقبل من قبل معاوية حتى نزل في بنى تميم ، ونعى ابن عفان ، ودعا إلى حرب ، فبايعه جل أهل البصرة ، فلما رأيت ذلك استجرت بالازد ، بصبرة بن شيمان وقومه لنفسي ولبيت مال المسلمين ، ورحلت من قصر الامارة فنزلت فيهم ، وإن الازد معى ، وشيعة أمير المؤمنين من فرسان القبائل تختلف إلى وشيعة عثمان تختلف إلى ابن الحضرمي ، والقصر خال منا ومنهم ، فارفع ذلك إلى أمير المؤمنين ، ليرى فيه رأيه ، وأعجل إلى بالذى ترى أن يكون منه فيه .
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته .
قال : فرفع ذلك ابن عباس إلى على عليه السلام ، وشاع في الناس بالكوفة ما كان من ذلك ، وكانت بنو تميم وقيس ، ومن يرى رأى عثمان قد أمروا ابن الحضرمي أن يسير إلى قصر الامارة حين خلاه زياد ، فلما تهيأ لذلك ودعا أصحابه ، ركبت الازد ، وبعثت إليه وإليهم : إنا والله لا ندعكم تأتون القصر فتنزلون فيه من لا نرضى ، ومن نحن له كارهون ، حتى يأتي رجل لنا ولكم رضا ، فأبى أصحاب ابن الحضرمي إلا أن يسيروا إلى القصر ، وأبت الازد إلا أن يمنعوهم .
فركب الاحنف ، فقال لاصحاب ابن الحضرمي : إنكم والله
__________
(1) ب : (للامين) (*)(4/42)
ما أنتم أحق بقصر الامارة من القوم ، وما لكم أن تؤمروا عليهم من يكرهونه ، فانصرفوا عنهم : ففعلوا ، ثم جاء إلى الازد ، فقال : إنه لم يكن ما تكرهون ، ولا يؤتى إلا ما تحبون ، فانصرفوا رحمكم الله ، ففعلوا .
* * * قال إبراهيم : وحدثنا محمد بن عبد الله بن أبى سيف ، عن الكلبى ، أن ابن الحضرمي لما أتى البصرة ، ودخلها نزل في بنى تميم في دار سنبيل (1) ، ودعا بنى تميم وأخلاط مضر ، فقال زياد لابي الاسود الدؤلى : أما ترى ما صغى (2) أهل البصرة إلى معاوية ، وما في الازد لى مطمع ، فقال : إن كنت تركتهم لم ينصروك ، وإن أصبحت فيهم منعوك .
فخرج زياد من ليلته ، فأتى صبرة بن شيمان الحدانى الازدي ، فأجاره ، وقال له حين أصبح : يا زياد ، إنه ليس حسنا بنا أن تقيم فينا مختفيا أكثر من يومك هذا ، فأعد له منبرا وسريرا في مسجد الحدان ، وجعل له شرطا ، وصلى بهم الجمعة في مسجد الحدان .
وغلب ابن الحضرمي على ما يليه من البصرة وجباها ، وأجمعت الازد على زياد ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يا معشر الازد ، إنكم كنتم أعدائي فأصبحتم أوليائي ، وأولى الناس بى .
وإنى لو كنت في بنى تميم وابن الحضرمي فيكم لم أطمع فيه أبدا وأنتم دونه ، فلا يطمع ابن الحضرمي في وأنتم دوني ، وليس ابن آكلة الا كباد في بقية الاحزاب وأولياء الشيطان بأدنى إلى الغلبة من أمير المؤمنين في المهاجرين والانصار ، وقد أصبحت فيكم مضمونا ، وأمانة مؤادة ، وقد رأينا وقعتكم يوم الجمل ، فاصبروا مع الحق صبركم مع الباطل ، فإنكم لا تحمدون إلا على النجدة ، ولا تعذرون على الجبن .
فقام شيمان أبو صبرة - ولم يكن شهد يوم الجمل ، وكان غائبا - فقال : يا معشر الازد ،
__________
(1) في الاصول : (سبيل) ، والصواب ما أثبته من تاريخ الطبري 5 : 112 .
(2) ب : (صغو أهل البصرة) .
(*)(4/43)
ما أبقت عواقب الجمل عليكم إلا سوء الذكر ، وقد كنتم أمس على على عليه السلام ، فكونوا اليوم له ، واعلموا أن إسلامكم له ذل ، وخذلانكم إياه عار ، وأنتم حى مضماركم الصبر ، وعاقبتكم الوفاء ، فإن سار القوم بصاحبهم فسيروا بصاحبكم ، وإن استمدوا معاوية ، فاستمدوا عليا عليه السلام ، وإن وادعوكم فوادعوهم .
ثم قام صبرة ابنه ، فقال : يا معشر الازد ، إنا قلنا يوم الجمل : نمنع مصرنا ، ونطيع أمنا ، نطلب دم خليفتنا المظلوم ، فجددنا في القتال ، وأقمنا بعد انهزام الناس ، حتى قتل منا من لا خير فينا بعده ، وهذا زياد جاركم اليوم ، والجار مضمون ، ولسنا نخاف من على ما نخاف من معاوية ، فهبوا لنا أنفسكم ، وامنعوا جاركم أو فأبلغوه مأمنه .
فقالت الازد : إنما نحن لكم تبع فأجيروه .
فضحك زياد ، وقال : يا صبرة ، أتخشون ألا تقوموا لبنى تميم ! فقال صبرة : إن جاءونا بالاحنف جئناهم بأبى صبرة ، (1 وإن جاءونا بالحباب جئت أنا ، وإن كان فيهم شباب كثير 1) فقال زياد : إنما كنت مازحا .
فلما رأت بنو تميم أن الازد قد قامت دون زياد بعثت إليهم : أخرجوا صاحبكم ونحن نخرج صاحبنا ، فأى الاميرين غلب - على أو معاوية - دخلنا في طاعته ، ولا نهلك عامتنا .
فبعث إليهم أبو صبرة إنما كان هذا يرجى عندنا قبل أن نجيره ، ولعمري ما قتل زياد وإخراجه إلا سواء ، وإنكم لتعلمون أنا لم نجره إلا كرما ، فالهوا عن هذا .
* * * قال : وروى أبوالكنود أن شبث بن ربعى قال لعلى عليه السلام : يا أمير المؤمنين ، ابعث إلى هذا الحى من تميم ، فادعهم إلى طاعتك ، ولزوم بيعتك ، ولا تسلط عليهم ، أزد عمان البعداء البغضاء ، فإن واحدا من قومك خير لك من عشرة من غيرهم .
__________
(1 - 1) كذا في الاصول ، وفي العبارة غموض .
(*)(4/44)
فقال له مخنف بن سليم الازدي : إن البعيد البغيض ، من عصى الله وخالف أمير المؤمنين ، وهم قومك ، وإن الحبيب القريب من أطاع الله ونصر أمير المؤمنين ، وهم قومي ، واحدهم خير لامير المؤمنين من عشرة من قومك .
فقال أمير المؤمنين عليه السلام : مه ! تناهوا أيها الناس ، وليردعكم الاسلام ووقاره عن التباغى والتهاذى ، ولتجتمع كلمتكم ، والزموا دين الله الذى لا يقبل من أحد غيره ، وكلمة الاخلاص التى هي قوام الدين ، وحجة الله على الكافرين ، واذكروا إذ كنتم قليلا مشركين متباغضين متفرقين ، فألف بينكم بالاسلام فكثرتم ، واجتمعتم وتحاببتم .
فلا تفرقوا بعد إذ اجتمعتم ، ولا تتباغضوا بعد إذ تحاببتم ، وإذا رأيتم الناس بينهم النائرة (1) وقد تداعوا إلى العشائر والقبائل ، فاقصدوا لهامهم ووجوههم بالسيف حتى يفزعوا إلى الله ، وإلى كتابه وسنة نبيه ، فأما تلك الحمية من خطرات الشياطين فانتهوا عنها ، لا أبا لكم تفلحوا وتنجحوا ! ثم إنه عليه السلام دعا أعين بن ضبيعة المجاشعى ، وقال : يا أعين ، ألم يبلغك أن قومك وثبوا على عاملي مع ابن الحضرمي بالبصرة ، يدعون إلى فراقي وشقاقي ويساعدون الضلال القاسطين على ! فقال : لا تسأ يا أمير المؤمنين ، ولا يكن ما تكره .
ابعثنى إليهم ، فأنا لك زعيم بطاعتهم وتفريق جماعتهم ، ونفى ابن الحضرمي من البصرة أو قتله .
قال : فاخرج الساعة .
فخرج من عنده ومضى حتى قدم البصرة .
__________
(1) النائرة : الفتنة .
(*)(4/45)
هذه رواية ابن هلال صاحب كتاب الغارات .
* * * وروى الواقدي أن عليا عليه السلام ، استنفر بنتميم أياما لينهض منهم إلى البصرة من يكفيه أمر ابن الحضرمي ، ويرد عادية بنى تميم الذين أجاروه ، بها فلم يجبه أحد ، فخطبهم ، وقال : أليس من العجب أن ينصرني الازد ، وتخذلنى مضر ! وأعجب من ذلك تقاعد تميم الكوفة بى ، وخلاف تميم البصرة على ، وأن أستنجد بطائفة منها ، تشخص إلى إخوانها فتدعوهم إلى الرشاد ، فإن أجابت وإلا فالمنابذة والحرب .
فكأني أخاطب صما بكما لا يفقهون حوارا ، ولا يجيبون نداء ، كل هذا جبنا عن الباس ، وحبا للحياة ، لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله نقتل آباءنا وأبناءنا .......
الفصل إلى آخره .
قال : فقام إليه أعين بضبيعة المجاشعى ، فقال : أنا - إن شاء الله - أكفيك يا أمير المؤمنين هذا الخطب ، وأتكفل لك بقتل ابن الحضرمي ، أو إخراجه عن البصرة .
فأمره بالتهيؤ للشخوص ، فشخص حتى قدم البصرة .
* * * قال إبراهيم بن هلال : فلما قدمها دخل على زياد وهو بالازد مقيم ، فرحب به وأجلسه إلى جانبه ، فأخبره بما قال له على عليه السلام ، وما رد عليه ، وما الذى عليه رأيه ، فإنه إذ يكلمه جاءه كتاب من على عليه السلام فيه : من عبد الله على أمير المؤمنين إلى زياد بن عبيد : سلام عليك ، أما بعد ، فإنى قد بعثت أعين بن ضبيعة ، ليفرق قومه عن ابن الحضرمي ، فارقب ما يكون منه ، فإن فعل وبلغ من ذلك ما يظن به ، وكان في ذلك تفريق تلك الاوباش فهو ما نحب ، وإن ترامت الامور بالقوم إلى الشقاق والعصيان ،(4/46)
فانبذ بمن (1) أطاعك إلى من عصاك ، فجاهدهم فإن ظهرت فهو ما ظننت ، وإلا فطاولهم وماطلهم ، فكأن كتائب المسلمين قد أطلت عليك ، فقتل الله المفسدين الظالمين ، ونصر المؤمنين المحقين ، والسلام .
فلما قرأه زياد أقرأه أعين بن ضبيعة ، فقال له : إنى لارجو أن يكفى هذا الامر إن شاء الله .
ثم خرج من عنده ، فأتى رحله ، فجمع إليه رجالا من قومه ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا قوم ، على ماذا تقتلون أنفسكم ، وتهريقون دماءكم على الباطل مع السفهاء الاشرار ! وإنى والله ما جئتكم حتى عبيت إليكم الجنود ، فإن تنيبوا إلى الحق يقبل منكم ، ويكف عنكم ، وإن أبيتم فهو والله استئصالكم وبواركم .
فقالوا : بل نسمع ونطيع .
فقال : انهضوا الان على بركة الله عزوجل فنهض بهم إلى جماعة ابن الحضرمي ، فخرجوا إليه مع ابن الحضرمي فصافوه وواقفهم (2) عامة يومه يناشدهم الله ، ويقول : يا قوم لا تنكثوا بيعتكم ، ولا تخالفوا إمامكم ، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا ، فقد رأيتم وجربتم كيف صنع الله بكم عند نكثكم بيعتكم وخلافكم ..فكفوا عنه ، ولم يكن بينه وبينهم قتال ، وهم في ذلك يشتمونه وينالون منه ، فانصرف عنهم وهو منهم منتصف .
فلما أوى إلى رحله تبعه عشرة نفر يظن الناس أنهم خوارج ، فضربوه بأسيافهم وهو على فراشه ، ولا يظن أن الذى كان يكون ، فخرج يشتد عريانا ، فلحقوه في الطريق فقتلوه ، فأراد زياد أن يناهض ابن الحضرمي حين قتل أعين بجماعة من معه من الازد وغيرهم من شيعة على عليه السلام ، فأرسل بنو تميم إلى الازد : والله ما عرضنا لجاركم إذ أجرتموه ، ولا لمال هو له ، ولا لاحد ليس على رأينا ، فما تريدون
__________
(1) كذا في ا ، ج ، وفي ب : (من) .
(2) صافوه ، أي وقفوا صفوفا ويقال : واقفه في الحرب ، أي وقف كل منهما مع الاخر .
(*)(4/47)
إلى حربنا وإلى جارنا ! فكأن الازد عند ذلك كرهت قتالهم .
فكتب زياد إلى على عليه السلام : أما بعد يا أمير المؤمنين ، فإن أعين بن ضبيعة قدم علينا من قبلك بجد ومناصحة وصدق ويقين ، فجمع إليه من أطاعه من عشيرته ، فحثهم على الطاعة والجماعة ، وحذرهم الخلاف والفرقة ، ثم نهض بمن أقبل معه إلى من أدبر عنه ، فواقفهم عامة النهار ، فهال أهل الخلاف تقدمه ، وتصدع عن ابن الحضرمي كثير ممن كان يريد نصرته ، فكان كذلك حتى أمسى ، فأتى في رحله فبيته نفر من هذه الخارجة المارقة ، فأصيب رحمه الله تعالى ، فأردت أن أناهض ابن الحضرمي عند ذلك ، فحدث أمر قد أمرت صاحب كتابي هذا أن يذكره لامير المؤمنين ، وقد رأيت إن رأى أمير المؤمنين ما رأيت ، أن يبعث إليهم جارية بن قدامة ، فإنه نافذ البصيرة ، ومطاع في العشيرة ، شديد على عدو أمير المؤمنين ، فإن يقدم يفرق بينهم بإذن الله .
والسلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته .
فلما جاء الكتاب ، دعا جارية بن قدامة ، فقال له : يا بن قدامة ، تمنع الازد عاملي وبيت مالى ، وتشاقني مضر وتنابذنى ! وبنا ابتدأها الله تعالى بالكرامة ، وعرفها الهدى ، وتداعوا إلى المعشر الذين حادوا الله ورسوله ، وأرادوا إطفاء نور الله سبحانه ، حتى علت كلمة الله ، وهلك الكافرون .
فقال : يا أمير المؤمنين ، ابعثنى إليهم ، واستعن بالله عليهم .
قال : قد بعثتك إليهم ، واستعنت بالله عليهم .
* * * قال إبراهيم : فحدثنا محمد بن عبد الله ، قال : حدثنى ابن أبى السيف ، عن سليمان بن أبى راشد ، عن كعب بن قعين ، قال : خرجت مع جارية من الكوفة إلى البصرة(4/48)
في خمسين رجلا من بنى تميم ، ما كان فيهم يمانى غيرى ، وكنت شديد التشيع ، فقلت لجارية : إن شئت كنت معك ، وإن شئت ملت إلى قومي ! فقال : بل معى ، فو الله لوددت أن الطير والبهائم تنصرنى عليهم ، فضلا عن الانس * * * قال : وروى كعب بن قعين أن عليا عليه السلام كتب مع جارية كتابا ، وقال : اقرأه على أصحابك ، قال : فمضينا معه ، فلما دخلنا البصرة ، بدأ بزياد ، فرحب به وأجلسه إلى جانبه ، وناجاه ساعة وساءله ، ثم خرج فكان أفضل ما أوصاه به أن قال : احذر على نفسك ، واتق أن تلقى ما لقى صاحبك القادم قبلك .
وخرج جارية من عنده ، فقام في الازد ، فقال : جزاكم الله من حى خيرا ! ما أعظم غناءكم ، وأحسن بلاءكم ، وأطوعكم لاميركم ! لقد عرفتم الحق إذ ضيعه من أنكره ، ودعوتم إلى الهدى إذ تركه من لم يعرفه .
ثم قرأ عليهم وعلى من كان معه من شيعة على عليه السلام وغيرهم - كتاب على عليه السلام ، فإذا فيه : من عبد الله على أمير المؤمنين إلى من قرئ عليه كتابي هذا من ساكنى البصرة من المؤمنين والمسلمين : سلام عليكم ، أما بعد فإن الله حليم ذو أناة ، لا يعجل بالعقوبة قبل البينة ، ولا يأخذ المذنب عند أول وهلة ، ولكنه يقبل التوبة ، ويستديم الاناة ، ويرضى بالانابة ، ليكون أعظم للحجة ، وأبلغ في المعذرة ، وقد كان من شقاق جلكم أيها الناس ما استحققتم أن تعاقبوا عليه ، فعفوت عن مجرمكم ، ورفعت السيف عن مدبركم ، وقبلت من مقبلكم ، وأخذت بيعتكم ، فإن تفوا ببيعتى ، وتقبلوا نصيحتي ، وتستقيموا على طاعتي ، أعمل (4 - نهج - 4)(4/49)
فيكم بالكتاب والسنة وقصد الحق ، وأقم فيكم سبيل الهدى ، فو الله ما أعلم أن واليا بعد محمد صلى الله عليه وآله أعلم بذلك منى ، ولا أعمل بقولى .
أقول قولى هذا صادقا ، غير ذام لمن مضى ، ولا منتقصا لاعمالهم ، وإن خبطت (1) بكم الاهواء المردية ، وسفه الرأى الجائر إلى منابذتي ، تريدون خلافى ! فها أنا ذا قربت جيادي ، ورحلت ركابي ، وايم الله لئن ألجأتموني إلى المسير إليكم لاوقعن بكم وقعة ، لا يكون يوم الجمل عندها إلا كلعقة لاعق ، وإنى لظان ألا تجعلوا - إن شاء الله - على أنفسكم سبيلا .
وقد قدمت هذا الكتاب إليكم حجة عليكم ، ولن أكتب إليكم من بعده كتابا ، إن أنتم استغششتم نصيحتي ، ونابذتم رسولي ، حتى أكون أنا الشاخص نحوكم ، إن شاء الله تعالى .
والسلام .
قال : فلما قرئ الكتاب على الناس قام صبرة بن شيمان ، فقال : سمعنا وأطعنا ، ونحن لمن حارب أمير المؤمنين حرب ، ولمن سالم سلم ، إن كفيت يا جارية قومك بقومك فذاك ، وإن أحببت أن ننصرك نصرناك .
وقام وجوه الناس فتكلموا بمثل ذلك ونحوه ، فلم يأذن لاحد منهم أن يسير معه ، ومضى نحو بنى تميم .
فقام زياد في الازد ، فقال : يا معشر الازد ، إن هؤلاء كانوا أمس سلما ، فأصبحوا اليوم حربا ، وإنكم كنتم حربا فأصبحتم سلما ، وإنى والله ما اخترتكم إلا على التجربة ، ولا أقمت فيكم إلا على الامل ، فما رضيتم أن أجرتموني ، حتى نصبتم لى منبرا وسريرا ، وجعلتم لى شرطا وأعوانا ، ومناديا وجمعة ، فما فقدت بحضرتكم شيئا إلا هذا الدرهم ، لا أجبيه اليوم ، فإن لم أجبه اليوم أجبه غدا إن شاء الله .
واعلموا أن حربكم اليوم معاوية أيسر عليكم في الدنيا والدين من حربكم أمس عليا ، وقد قدم عليكم جارية بن قدامة ، وإنما أرسله على
__________
(1) كذا في ا ، ج ، وفي ب : (خطت) .
(*)(4/50)
ليصدع أمر قومه ، والله ما هو بالامير المطاع ، ولو أدرك أمله في قومه لرجع إلى أمير المؤمنين أو لكان لى تبعا ، وأنتم الهامة العظمى ، والجمرة (1) الحامية ، فقدموه إلى قومه ، فإن اضطر إلى نصركم فسيروا إليه ، إن رأيتم ذلك .
فقام أبو صبرة شيمان فقال : يا زياد ، إنى والله لو شهدت قومي يوم الجمل ، رجوت ألا يقاتلوا عليا ، وقد مضى الامر بما فيه .
وهو يوم بيوم ، وأمر بامر ، والله إلى الجزاء بالاحسان أسرع منه إلى الجزاء بالسيئ ، والتوبة مع الحق ، والعفو مع الندم ، ولو كانت هذه فتنة لدعونا القوم إلى إبطال الدماء ، واستئناف الامور ، ولكنها جماعة دماؤها حرام ، وجروحها قصاص ، ونحن معك نحب ما أحببت .
فعجب زياد من كلامه ، وقال : ما أظن في الناس مثل هذا .
ثم قام صبرة ابنه ، فقال : إنا والله ما أصبنا بمصيبة في دين ولا دنيا كما أصبنا أمس يوم الجمل ، وإنا لنرجو اليوم أن نمحص ذلك بطاعة الله وطاعة أمير المؤمنين ، وأما أنت يا زياد ، فو الله ما أدركت أملك فينا ، ولا أدركنا أملنا فيك دون ردك إلى دارك ، ونحن رادوك إليها غدا إن شاء الله تعالى ، فإذا فعلنا فلا يكن أحد أولى بك منا ، فإنك إلا تفعل لم تأت ما يشبهك (2) ، وإنا والله نخاف من حرب على في الاخرة ، ما لا نخاف من حرب معاوية في الدنيا ، فقدم هواك وأخر هوانا ، فنحن معك وطوعك .
ثم قام خنقر (3) الحمانى ، فقال : أيها الامير ، إنك لو رضيت منا بما ترضى به من غيرنا ، لم نرض ذلك لانفسنا ، سر بنا إلى القوم إن شئت ، وايم الله ما لقينا قوما (4) قط إلا اكتفينا بعفونا دون جهدنا ، إلا ما كان أمس .
__________
(1) الجمرة : كل جماعة انضموا فصاروا يدا واحدة ولم يحالفوا غيرهم .
(2) ج : (تشبهه) .
(3) كذا في ب ، وفي ج : (حيقن) .
(4) ب : (يوما) .
(*)(4/51)
قال إبراهيم : فأما جارية فإنه كلم قومه فلم يجيبوه ، وخرج إليه منهم أوباش (1) فناوشوه بعد أن شتموه وأسمعوه ، فأرسل إلى زياد والازد ، يستصرخهم ويأمرهم أن يسيروا إليه فسارت الازد بزياد ، وخرج إليهم ابن الحضرمي ، وعلى خيله عبد الله بن خازم السلمى ، فاقتتلوا ساعة ، وأقبل شريك بن الاعور الحارثى - وكان من شيعة على عليه السلام ، وصديقا لجارية بن قدامة - فقال : ألا أقاتل معك عدوك ؟ فقال : بلى ، فما لبثت بنو تميم أن هزموهم واضطروهم إلى دار سنبيل السعدى ، فحصروا ابن الحضرمي وحدوه ، فأتى رجل من بنى تميم ، ومعه عبد الله بن خازم السلمى ، فجاءت أمه وهى سوداء حبشية اسمها عجلى ، فنادته ، فأشرف عليها ، فقالت : يا بنى ، انزل إلى ، فأبى فكشفت رأسها وأبدت قناعها ، وسألته النزول فأبى ، فقالت : والله لتنزلن أو لا تعرين ، وأهوت بيدها إلى ثيابها (2) ، فلما رأى ذلك نزل ، فذهبت به ، وأحاط جارية وزياد بالدار ، وقال جارية : على بالنار ، فقالت الازد : لسنا من الحريق بالنار في شئ ، وهم قومك وأنت أعلم ، فحرق جارية الدار عليهم ، فهلك ابن الحضرمي في سبعين رجلا ، أحدهم عبد الرحمن بن عمير بن عثمان القرشى التيمى ، وسمى جارية منذ ذلك اليوم محرقا ، وسارت الازد بزياد حتى أوطنوه قصر الامارة ، ومعه بيت المال ، وقالت له : هل بقى علينا من جوارك شئ ؟ قال : لا ، قالوا : فبرئنا منه ؟ فقال : نعم ، فانصرفوا عنه .
وكتب زياد إلى أمير المؤمنين عليه السلام : أما بعد ، فإن جارية بن قدامة العبد الصالح قدم من عندك ، فناهض جمع ابن الحضرمي بمن نصره وأعانه من الازد ، ففضه واضطره إلى دار من دور البصرة في عدد كثير من أصحابه ، فلم يخرج حتى حكم الله تعالى بينهما ، فقتل ابن الحضرمي وأصحابه ، منهم من أحرق بالنار ، ومنهم من ألقى عليه جدار ، ومنهم من هدم عليه البيت من أعلاه ، ومنهم من قتل بالسيف ، وسلم
__________
(1) الاوباش : الاخلاط والسفلة من الناس .
(2) ا ، ب : (ساقها) .
(*)(4/52)
منهم نفر أنابوا وتابوا ، فصفح عنهم ، وبعدا لمن عصى وغوى ! والسلام على أمير المؤمنين ورحمه الله و بركاته .
فلما وصل كتاب زياد قرأه على عليه السلام على الناس ، وكان زياد قد أنفذه مع ظبيان بن عمارة ، فسر على عليه السلام بذلك وسر أصحابه ، وأثنى على جارية وعلى الازد ، وذم البصرة فقال : إنها أول القرى خرابا ، إما غرقا وإما حرقا ، حتى يبقى مسجدها كجؤجؤ سفينة .
ثم قال لظبيان : أين منزلك منها ؟ فقال : مكان كذا ، فقال : عليك بضواحيها .
وقال ابن العرندس الازدي يذكر تحريق ابن الحضرمي ، ويعير تميما بذلك : رددنا زيادا إلى داره * وجار تميم ينادى الشجب (1) لحا الله قوما شووا جارهم * لعمري لبئس الشواء الشصب (2) ينادى الخناق وأبناءها * وقد شيطوا رأسها باللهب والخناق لقب قوم بنى تميم .
__________
(1) الشجب : الهلاك (2) الشصب : الشاة المسلوخة .
(*)(4/53)
(56) ومن كلام له عليه السلام لاصحابه : الاصل : أما إنه سيظهر عليكم بعدى رجل رحب البلعوم ، مندحق البطن ، يأكل ما يجد ، ويطلب ما لا يجد ، فاقتلوه - ولن تقتلوه .
ألا وإنه سيأمركم بسبي والبراءة منى ، فأما السب فسبوني ، فإنه لى زكاة ولكم نجاة ، وأما البراءة فلا تتبرءوا منى ، فإنى ولدت على الفطرة ، وسبقت إلى الايمان والهجرة .
الشرح : مندحق البطن : بارزها ، والدحوق من النوق : التى يخرج رحمها عند (1) الولادة .
وسيظهر : سيغلب .
ورحب البلعوم : واسعه .
وكثير من الناس يذهب إلى أنه عليه السلام عنى زيادا ، وكثير منهم يقول : إنه عنى الحجاج .
وقال قوم : إنه عنى المغيرة بن شعبة ، والاشبه عندي أنه عنى معاوية ، لانه كان موصوفا بالنهم وكثرة الاكل ، وكان بطينا ، يقعد بطنه إذا جلس على فخذيه ، وكان معاوية جوادا بالمال والصلات ، وبخيلا على الطعام ، يقال : إنه مازح أعرابيا على طعامه ، وقد قدم بين يديه خروف ، فأمعن الاعرابي في أكله ، فقال له : ما ذنبه إليك ، أنطحك أبوه ؟ فقال الاعرابي : وما حنوك عليه ؟ أ أرضعتك أمه ! وقال لاعرابي يأكل بين يديه ، وقد استعظم أكله : ألا أبغيك سكينا ؟ فقال :
__________
(1) ج : (بعد) .
(*)(4/54)
كل امرئ سكينه في رأسه ، فقال : ما اسمك ؟ قال : لقيم ، قال : منها أتيت .
كان معاوية يأكل فيكثر ، ثم يقول : ارفعوا ، فو الله ما شبعت ولكن مللت وتعبت .
تظاهرت الاخبار أن رسول الله صلى الله عليه وآله دعا على معاوية لما بعث إليه يستدعيه ، فوجده يأكل ، ثم بعث فوجده يأكل ، فقال : (اللهم لا تشبع بطنه) ، قال الشاعر : وصاحب لى بطنه كالهاويه * كأن في أحشائه معاويه * * * وفي هذا الفصل مسائل : الاولى : في تفسير قوله عليه السلام : (فاقتلوه ولن تقتلوه) فنقول : إنه لا تنافى بين الامر بالشئ والاخبار عن أنه لا يقع ، كما أخبر الحكيم سبحانه عن أن أبا لهب لا يؤمن وأمره بالايمان ، وكما قال تعالى : (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) (1) ، ثم قال : (ولا يتمنونه أبدا) (2) ، وأكثر التكليفات على هذا المنهاج .
* * * [ مسألة كلامية في الامر بالشئ مع العلم بأنه لا يقع ] واعلم ن أهل العدل والمجبرة لم يختلفوا في أنه تعالى قد يأمر بما يعلم أنه لا يقع ، أو يخبر عن أنه لا يقع ، وإنما اختلفوا : هل يصح أن يريد ما يعلم أنه لا يقع ، أو يخبر عنه أنه لا يقع ؟ فقال أصحابنا : يصح ذلك ، وقال المجبرة : لا يصح ، لان إرادة ما يعلم المريد أنه لا يقع قضية متناقضة ، لان تحت قولنا : (أراد) مفهوم أن ذلك المراد مما يمكن حصوله ، لان إرادة المحال ممتنعة .
وتحت قولنا : (إنه يعلم أنه لا يقع) مفهوم أن ذلك المراد مما لا يمكن حصوله ، لانا قد
__________
(1) سورة البقرة 95 .
(2) سورة الجمعة 7 .
(*)(4/55)
فرضنا أنه لا يقع وما لا يقع لا يمكن حصوله مع فرض كونه لا يقع ، فقال لهم أصحابنا : هذا يلزمكم في الامر ، لانكم قد أجزتم أن يأمر بما يعلم أنه لا يقع ، فقالوا في الجواب : نحن عندنا أنه يأمر بما لا يريد ، فإذا أمر بما يعلم أنه لا يقع ، أو يخبر عن أنه لا يقع ، كان ذلك الامر أمرا عاريا عن الارادة ، والمحال إنما نشأ من إرادة ما علم المريد أنه لا يقع ، وهاهنا لا إرادة .
فقيل لهم : هب أنكم ذهبتم إلى أن الامر قد يعرى من الارادة مع كونه أمرا ، ألستم تقولون : إن الامر يدل على الطلب ، والطلب شئ آخر غير الارادة ! وتقولون : إن ذلك الطلب قائم بذات البارئ ، فنحن نلزمكم في الطلب القائم بذات البارئ ، الذى لا يجوز أن يعرى (1) الامر منه ما ألزمتمونا في الارادة .
ونقول لكم : كيف يجوز أن يطلب الطالب ما يعلم أنه لا يقع ! أليس تحت قولنا : طلب مفهوم ، أن ذلك المطلوب مما يمكن وقوعه ! فالحال في الطلب كالحال في الارادة ، حذ والنعل بالنعل .
ولنا في هذا الموضع أبحاث دقيقة ذكرناها في كتبنا الكلامية .
* * * [ فصل فيما روى من سب معاوية وحزبه لعلى ] المسألة الثانية : في قوله عليه السلام : (يأمركم بسبي والبراءة منى) ، فنقول : إن معاوية أمر الناس بالعراق والشام وغيرهما بسب على عليه السلام والبراءة منه .
وخطب بذلك على منابر الاسلام ، وصار ذلك سنة في أيام بنى أميد إلى أن قام عمر بن عبد العزيز رضى الله تعالى عنه فأزاله .
وذكر شيخنا أبو عثمان الجاحظ أن معاوية كان يقول في آخر خطبة الجمعة : اللهم إن أبا تراب الحد في دينك ، وصد عن سبيلك
__________
(1) ا : (يتعرى) .
(*)(4/56)
فالعنه لعنا وبيلا ، وعذبه عذابا أليما وكتب بذلك إلى الافاق ، فكانت هذه الكلمات يشاربها على المنابر ، إلى خلافة عمر بن عبد العزيز .
وذكر أبو عثمان أيضا أن هشام بن عبد الملك لما حج خطب بالموسم ، فقام إليه إنسان ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن هذا يوم كانت الخلفاء تستحب فيه لعن أبى تراب ، فقال : اكفف ، فما لهذا جئنا .
وذكر المبرد في ، ، الكامل ، ، أن خالد بن عبد الله القسرى لما كان أمير العراق في خلافة هشام ، كان يلعن عليا عليه السلام على المنبر ، فيقول : اللهم العن على بن أبى طالب بن عبد المطلب بن هاشم ، صهر رسول الله صلى الله عليه وآله على ابنته ، وأبا الحسن والحسين ! ثم يقبل على الناس ، فيقول هل كنيت (1) ! وروى أبو عثمان أيضا أن قوما من بنى أمية قالوا لمعاوية : يا أمير المؤمنين ، إنك قد بلغت ما أملت ، فلو كففت عن لعن هذا الرجل ! فقال : لا والله حتى يربو عليه الصغير ، ويهرم عليه الكبير ، ولا يذكر له ذاكر فضلا ! وقال أبو عثمان أيضا : وما كان عبد الملك - مع فضله وأناته وسداده ورجحانه - ممن يخفى عليه فضل على عليه السلام ، وأن لعنه على رءوس الاشهاد ، وفي أعطاف الخطب ، وعلى صهوات المنابر مما يعود عليه نقصه ، ويرجع إليه وهنه ، لانهما جميعا من بنى عبد مناف ، والاصل واحد ، والجرثومة منبت لهما ، وشرف على عليه السلام وفضله عائد عليه ، ومحسوب له ، ولكنه أراد تشييد الملك وتأكيد ما فعله الاسلاف ، وأن يقرر في أنفس الناس أن بنى هاشم لا حظ لهم في هذا الامر ، وأن سيدهم الذى به يصولون ، وبفخره يفخرون ،
__________
(1) الكامل 414 (طبع أوربا) .
(*)(4/57)
هذا حاله وهذا مقداره ، فيكون من ينتمى إليه ويدلى به عن الامر أبعد ، وعن الوصول إليه أشحط وأنزح .
وروى أهل السيرة أن الوليد بن عبد الملك في خلافته ذكر عليا عليه السلام ، فقال : لعنه (الله - بالجر - كان لص ابن لص) .
فعجب الناس من لحنه فيما لا يلحن فيه أحد ، ومن نسبته عليا عليه السلام إلى اللصوصية وقالوا : ما ندرى أيهما أعجب ! وكان الوليد لحانا .
وأمر المغيرة بن شعبة - وهو يومئذ أمير الكوفة من قبل معاوية - حجر بن عدى أن يقوم في الناس ، فليلعن عليا عليه السلام ، فأبى ذلك ، فتوعده ، فقام فقال : أيها الناس ، إن أميركم أمرنى أن ألعن عليا فالعنوه فقال أهل الكوفة : لعنه الله ، وأعاد الضمير إلى المغيرة بالنية والقصد .
وأراد زياد أن يعرض أهل الكوفة أجمعين على البراءة من على عليه السلام ولعنه وأن يقتل كل من امتنع من ذلك ، ويخرب منزله ، فضربه الله ذلك اليوم بالطاعون ، فمات - لا رحمه الله - بعد ثلاثة أيام ، وذلك في خلافة معاوية .
وكان الحجاج - لعنه الله - يلعن عليا عليه السلام ، ويأمر بلعنه وقال له متعرض به يوما وهو راكب : أيها الامير ، إن أهلى عقونى فسموني عليا ، فغير اسمى ، وصلنى بما أتبلغ به فإنى فقير .
فقال : للطف ما توصلت به قد سميتك كذا ، ووليتك العمل الفلاني فاشخص إليه .
* * * فأما عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه فإنه قال : كنت غلاما أقرأ القرآن على بعض ولد عتبة بن مسعود فمر بى يوما وأنا ألعب مع الصبيان ، ونحن نلعن عليا ،(4/58)
فكره ذلك ودخل المسجد ، فتركت الصبيان وجئت إليه لادرس عليه وردى ، فلما رأني قام فصلى وأطال في الصلاة - شبه المعرض عنى - حتى أحسست منه بذلك ، فلما انفتل من صلاته كلح في وجهى ، فقلت له : ما بال الشيخ ؟ فقال لى : يا بنى ، أنت اللاعن عليا منذ اليوم ؟ قلت : نعم ، قال : فمتى علمت أن الله سخط على أهل بدر بعد أن رضى عنهم ! فقلت : يا أبت ، وهل كان على من أهل بدر ! فقال : ويحك ! وهل كانت بدر كلها إلا له ! فقلت : لا أعود ، فقال : الله أنك لا تعود ! قلت : نعم فلم ألعنه بعدها ثم كنت أحضر تحت منبر المدينة ، وأبى يخطب يوم الجمعة - وهو حينئذ أمير المدينة - فكنت أسمع أبى يمر في خطبه تهدر شقاشقه ، حتى يأتي إلى لعن على عليه السلام فيجمجم ، ويعرض له من الفهاهة والحصر ما الله عالم به ، فكنت أعجب من ذلك ، فقلت له يوما : يا أبت ، أنت أفصح الناس وأخطبهم ، فما بالى أراك أفصح خطيب يوم حفلك ، حتى إذا مررت بلعن هذا الرجل ، صرت ألكن عليا ! فقال : يا بنى ، إن من ترى تحت منبرنا من أهل الشام وغيرهم ، لو علموا من فضل هذا الرجل ما يعلمه أبوك لم يتبعنا منهم أحد فوقرت كلمته في صدري ، مع ما كان قاله لى معلمي أيام صغرى ، فأعطيت الله عهدا ، لئن كان لى في هذا الامر نصيب لاغيرنه ، فلما من الله على بالخلافة أسقطت ذلك ، وجعلت مكانه : (إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى يعظكم لعلكم تذكرون) (1) ، وكتب به إلى الافاق فصار سنة .
وقال كثير بن عبد الرحمن يمدح عمر ويذكر قطعه السب : وليت فلم تشتم عليا ولم تخف * بريا ولم تقبل إساءة مجرم (2) وكفرت بالعفو الذنوب مع الذى * أتيت فأضحى راضيا كل مسلم
__________
(1) سورة النحل 90 (2) الاغانى 9 : 258 (طبعة الدار) مع اختلاف في الرواية .
(*)(4/59)
ألا إنما يكفى الفتى بعد زيغه * من الاود البادى ثقاف المقوم وما زلت تواقا إلى كل غاية * بلغت بها أعلى العلاء المقدم فلما أتاك الامر عفوا ولم يكن * لطالب دنيا بعده من تكلم تركت الذى يفنى لان كان بائدا * وآثرت ما يبقى برأى مصمم وقال الرضى أبو الحسن رحمه الله تعالى : يا بن عبد العزيز لو بكت العين فتى من أمية لبكيتك (1) غير أنى أقول إنك قد طبت وإن لم يطب ولم يزك بيتك أنت نزهتنا عن السب والقذ * ف فلو أمكن الجزاء جزيتك ولو انى رأيت قبرك لاستحييت من أن أرى وما حييتك وقليل أن لو بذلت دماء البدن صرفا على الذرا وسقيتك دير سمعان : فيك مأوى أبى حف * ص بودى لو أننى آويتك دير سمعان ، لا أغبك غيث * خير ميت من آل مروان ميتك (2) أنت بالذكر بين عينى وقلبي * إن تدانيت منك أو إن نأيتك وإذا حرك الحشا خاطر منك توهمت أننى قد رأيتك وعجيب أنى قليت بنى مر * وان طرا واننى ما قليتك قرب العدل منك لما نأى الجو * ر بهم فاجتويتهم واجتبيتك فلو أنى ملكت دفعا لما نا * بك من طارق الردى لفديتك * * *
__________
(1) ديوانه لوحة 124 (2) دير سمعان ، بكسر السين وفتحها ، دير بنواحي دمشق عنده قبر عمر بن عبد العزيز (ياقوت) (*)(4/60)
وروى ابن الكلبى عن أبيه ، عن عبد الرحمن بن السائب ، قال : قال الحجاج يوما لعبد الله بن هانئ ، وهو رجل من بنى أود - حى من قحطان - وكان شريفا في قومه ، قد شهد مع الحجاج مشاهده كلها ، وكان من أنصاره وشيعته : والله ما كافأتك بعد ! ثم أرسل إلى أسماء بن خارجة سيد بنى فزارة : أن زوج عبد الله بن هانئ بابنتك فقال : لا والله ولا كرامة ! فدعا بالسياط ، فلما رأى الشر قال : نعم أزوجه ، ثم بعث إلى سعيد بن قيس الهمداني رئيس اليمانية : زوج ابنتك من عبد الله بن أود ، فقال : ومن أود ! لا والله لا أزوجه ولا كرامة ! فقال : على بالسيف ، فقال : دعني حتى أشاور أهلى ، فشاورهم ، فقالوا : زوجه ولا تعرض نفسك لهذا الفاسق ، فزوجه .
فقال : الحجاج لعبد الله : قد زوجتك بنت سيد فزارة وبنت سيد همدان ، وعظيم كهلان وما أود هناك ! فقال : لا تقل أصلح الله الامير ذاك ! فإن لنا مناقب ليست لاحد من العرب ، قال : وما هي ؟ قال : ما سب أمير المؤمنين عبد الملك في ناد لنا قط ، قال : منقبة والله ، قال : وشهد منا صفين مع أمير المؤمنين معاوية سبعون رجلا ، ما شهد منا مع أبى تراب إلا رجل واحد ، وكان والله ما علمته امرأ سوء ، قال : منقبة والله ، قال : ومنا نسوة نذرن : إن قتل الحسين بن على أن تنحر كل واحدة عشر قلائص ، ففعلن ، قال : منقبة والله ، قال : وما منا رجل عرض عليه شتم أبى تراب ولعنه إلا فعل وزاد ابنيه حسنا وحسينا وأمهما فاطمة ، قال : منقبة والله ، قال : وما أحد من العرب له من الصباحة والملاحة ما لنا ، فضحك الحجاج ، وقال : أما هذه يا أبا هانئ فدعها وكان عبد الله دميما شديد الادمة (1) مجدورا ، في رأسه عجر ، مائل الشدق ، أحول ، قبيح الوجه ، شديد الحول .
* * * وكان عبد الله بن الزبير يبغض عليا عليه السلام ، وينتقصه وينال من عرضه .
__________
(1) الادمة : السمرة .
(2) عجر ، أي نتوء .
(*)(4/61)
وروى عمر بن شبه وابن الكلبى والواقدى وغيرهم من رواة السير ، أنه مكث أيام ادعائه الخلافة أربعين جمعة لا يصلى فيها على النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : لا يمنعنى من ذكره إلا أن تشمخ رجال بانافها .
وفي رواية محمد بن حبيب وأبى عبيدة معمر بن المثنى : أن له أهيل سوء ينغضون رؤوسهم عند ذكره .
وروى سعيد بن جبير أن عبد الله بن الزبير قال لعبد الله بن عباس : ما حديث أسمعه عنك ؟ قال : وما هو ؟ قال : تأنيبي وذمى ! فقال : إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (بئس المرء المسلم يشبع ويجوع جاره) ، فقال ابن الزبير : إنى لاكتم بغضكم أهل هذا البيت منذ أربعين سنة .
وذكر تمام الحديث .
وروى عمر بن شبة أيضا عن سعيد بن جبير ، قال : خطب عبد الله بن الزبير ، فنال من على عليه السلام ، فبلغ ذلك محمد بن الحنفية ، فجاء إليه وهو يخطب ، فوضع له كرسى ، فقطع عليه خطبته ، وقال : يا معشر العرب ، شاهت الوجوه ! أينتقص على وأنتم حضور ! إن عليا كان يد الله على أعداء الله ، وصاعقة من أمره أرسله على الكافرين والجاحدين لحقه ، فقتلهم بكفرهم فشنئوه وأبغضوه ، وأضمروا له الشنف (1) والحسد ، وابن عمه صلى الله عليه وسلم حى بعد لم يمت ، فلما نقله الله إلى جواره ، وأحب له ما عنده ، أظهرت له رجال أحقادها ، وشفت أضغانها ، فمنهم من ابتز حقه ، ومنهم من ائتمر به ليقتله ، ومنهم من شتمه وقذفه بالاباطيل ، فإن يكن لذريته وناصري دعوته دولة تنشر عظامهم ، وتحفر على أجسادهم ، والابدان منهم يومئذ بالية ، بعد أن تقتل الاحياء منهم ، وتذل رقابهم ، فيكون الله عز اسمه قد عذبهم بأيدينا وأخزاهم ، ونصرنا عليهم ، وشفا صدورنا منهم ، إنه والله ما يشتم عليا إلا كافر يسر شتم رسول الله صلى الله عليه وآله ويخاف أن يبوح به ،
__________
(1) الشنف : البغض ، وفي ب : (السيف) .
(*)(4/62)
فيكنى بشتم على عليه السلام عنه .
أما إنه قد تخطت المنية منكم من امتد عمره ، وسمع قول رسول الله صلى الله عليه وآله فيه : (لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) ، فعاد ابن الزبير إلى خطبته ، وقال : عذرت بنى الفواطم يتكلمون ، فما بال ابن أم حنيفه ! فقال محمد : يا بن أم رومان (1) ، وما لى لا أتكلم ! وهل فاتني من الفواطم إلا واحدة ! ولم يفتنى فخرها ، لانها أم أخوى أنا ابن فاطمة بنت عمران بن عائذ بن مخزوم ، جدة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنا ابن فاطمة بنت أسد بن هاشم ، كافلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والقائمة مقام أمه ، أما والله لو لا خديجة بنت خويلد ما تركت في بنى أسد بن عبد العزى عظما إلا هشمته ! ثم قام فانصرف .
* * * [ فصل في ذكر الاحاديث الموضوعة في ذم على ] وذكر شيخنا أبو جعفر (2) الاسكافي رحمه الله تعالى - وكان من المتحققين بموالاة على عليه السلام ، والمبالغين في تفضيله ، وإن كان القول بالتفضيل عاما شائعا في البغداديين من أصحابنا كافة ، إلا أن أبا جعفر أشدهم في ذلك قولا ، وأخلصهم فيه اعتقادا - أن معاوية وضع قوما من الصحابة وقوما من التابعين على رواية أخبار قبيحة في على عليه السلام ، تقتضي الطعن فيه والبراءة منه ، وجعل لهم على ذلك جعلا يرغب في مثله ، فاختلقوا ما أرضاه ، منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين عروة بن الزبير .
روى الزهري أن عروة بن الزبير حدثه ، قال : حدثتني عائشة قالت : كنت عند
__________
(1) كذا في ا ، ب وفي ج : (قتيلة) .
(2) هو أبو جعفر محمد بن عبد الله الاسكافي ، من متكلمي المعتزلة وأحد أئمتهم ، وإليه تنسب الطائفة الاسكافية منهم ، وهو بغدادي أصله من سمرقند ، قال ابن النديم : كان عجيب الشأن في العلم والذكاء والصيانة ونبل الهمة والنزاهة ، بلغ في مقدار عمرد ما لم يبلغه أحد ، وكان المعتصم يعظمه .
وله مناظرت مع الكرابيسى وغيره .
توفى سنة 240 ، لسان الميزان 5 : 221 (*)(4/63)
رسول الله إذ أقبل العباس وعلى ، فقال : يا عائشة ، إن هذين يموتان على غير ملتى - أو قال دينى .
وروى عبد الرزاق عن معمر ، قال : كان عند الزهري حديثان عن عروة عن عائشة في على عليه السلام ، فسألته عنهما يوما ، فقال : ما تصنع بهما وبحديثهما ! الله أعلم بهما ، إنى لاتهمهما في بنى هاشم .
قال : فأما الحديث الاول ، فقد ذكرناه ، وأما الحديث الثاني فهو أن عروة زعم أن عائشة حدثته ، قالت : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل العباس وعلى ، فقال : (يا عائشة ، إن سرك أن تنظري إلى رجلين من أهل النار فانظري إلى هذين قد طلعا) ، فنظرت ، فإذا العباس وعلى بن أبى طالب .
وأما عمرو بن العاص ، فروى عنه الحديث الذى أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما مسندا متصلا بعمرو بن العاص ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (إن آل أبى طالب ليسوا لى بأولياء إنما وليى الله وصالح المؤمنين) .
وأما أبو هريرة ، فروى عنه الحديث الذى معناه أن عليا عليه السلام خطب ابنة أبى جهل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأسخطه ، فخطب على المنبر ، وقال : لاها الله ! لا تجتمع ابنة ولى الله وابنة عدو الله أبى جهل ! إن فاطمة بضعة (1) منى يؤذيني ما يؤذيها ، فإن كان على يريد ابنة أبى جهل فليفارق ابنتى ، وليفعل ما يريد) ، أو كلاما هذا معناه ، والحديث مشهور من رواية الكرابيسى .
قلت : هذا الحديث أيضا مخرج في صحيحي مسلم والبخاري عن المسور بن مخرمة الزهري ، وقد ذكره المرتضى في كتابه (المسمى تنزيه الانبياء والائمة) ، وذكر أنه رواية
__________
(1) بضعة ، أي قطعة .
(*)(4/64)
حسين الكرابيسى (1) ، وأنه مشهور بالانحراف عن أهل البيت عليهم السلام ، وعداوتهم والمناصبة لهم ، فلا تقبل روايته .
ولشياع هذا الخبر وانتشاره ذكره مروان بن أبى حفصة في قصيدة يمدح بها الرشيد ، ويذكر فيها ولد فاطمة عليهم السلام وينحى عليهم ، ويذمهم ، وقد بالغ حين ذم عليا عليه السلام ونال منه ، وأولها : سلام على جمل ، وهيهات من جمل * ويا حبذا جمل وإن صرمت حبلى يقول فيها : على أبوكم كان أفضل منكم * أبا ذوو الشورى وكانوا ذوى الفضل وساء رسول الله إذ ساء بنته * بخطبته بنت اللعين أبى جهل فذم رسول الله صهر أبيكم * على منبر بالمنطق الصادع الفضل وحكم فيها حاكمين أبوكم * هما خلعاه خلع ذى النعل للنعل وقد باعها من بعده الحسن ابنه * فقد أبطلت دعواكم الرثة الحبل وخليتموها وهى في غير أهلها * وطالبتموها حين صارت إلى أهل وقد روى هذا الخبر على وجوه مختلفة ، وفيه زيادات متفاوتة ، فمن الناس من يروى فيه : (مهما ذممنا من صهر فإنا لم نذم صهر أبى العاص بن الربيع) ، ومن الناس من يروى فيه : (ألا إن بنى المغيرة أرسلوا إلى على ليزوجوه كريمتهم ...
) وغير ذلك .
وعندي أن هذا الخبر لو صح لم يكن على أمير المؤمنين فيه غضاضة ولا قدح ، لان
__________
(1) هو أبو على الحسين بن على بن زيد الكرابيسى البغدادي ، صاحب الامام الشافعي ، وأشهرهم بارتياد مجلسه وأحفظهم لمذهبه ، وله تصانيف كثيرة في أصول الفقه وفروعه .
توفى سنة 248 .
ابن خلكان 1 : 145 (5 - نهج - 4) (*)(4/65)
الامة مجمعة على أنه لو نكح ابنة أبى جهل ، مضافا إلى نكاح فاطمة عليها السلام لجاز .
لانه داخل تحت عموم الاية المبيحة للنساء الاربع ، فابنة أبى جهل المشار إليها كانت مسلمة ، لان هذه القصة كانت بعد فتح مكة ، وإسلام أهلها طوعا وكرها ، ورواة الخبر موافقون على ذلك ، فلم يبق إلا أنه إن كان هذا الخبر صحيحا فإن رسول الله صلى الله عليه وآله لما رأى فاطمة عليها السلام قد غارت ، وأدركها ما يدرك النساء ، عاتب عليا عليه السلام عتاب الاهل ، وكما يستثبت الوالد رأى الولد ، ويستعطفه إلى رضا أهله وصلح زوجته .
ولعل الواقع كان بعض هذا الكلام فحرف وزيد فيه .
ولو تأملت أحوال النبي صلى الله عليه وآله مع زوجاته ، وما كان يجرى بينه وبينهن من الغضب تارة ، والصلح أخرى ، والسخط تارة والرضا أخرى ، حتى بلغ الامر إلى الطلاق مرة ، وإلى الايلاء مرة ، وإلى الهجر والقطيعة مرة ، وتدبرت ما ورد في الروايات الصحيحة مما كن يلقينه عليه السلام به ، ويسمعنه إياه ، لعلمت أن الذى عاب الحسدة والشائنون عليا عليه السلام به بالنسبة إلى تلك الاحوال قطرة من البحر المحيط ، ولو لم يكن إلا قصة مارية وما جرى بين رسول الله صلى الله عليه وآله وبين تينك الامرأتين من الاحوال والاقوال ، حتى أنزل فيهما قرآن يتلى في المحاريب ، ويكتب في المصاحف ، وقيل لهما ما لا يقال للاسكندر ملك الدنيا لو كان حيا ، منابذا الرسول الله صلى الله عليه وآله : (وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير) (1) ، ثم أردف بعد ذلك بالوعيد والتخويف : (عسى ربه إن طلقكن ...
) (1) الايات بتمامها .
ثم ضرب لهما مثلا امرأة نوح وامرأة لوط اللتين خانتا بعليهما ، فلم يغنيا عنهما من الله شيئا ، وتمام الاية معلوم .
فهل ما روى في الخبر من تعصب فاطمة على على عليه السلام
__________
(1) سورة التحريم 4 ، 5 (*)(4/66)
وغيرتها من تعريض بنى المغيرة له بنكاح عقيلتهم ، إذا قويس إلى هذه الاحوال وغيرها مما كان يجرى إلا كنسبة التأفيف (1) إلى حرب البسوس ! ولكن صاحب الهوى والعصبية لا علاج له .
* * * ثم نعود إلى حكاية كلام شيخنا أبى جعفر الاسكافي رحمه الله تعالى .
قال أبو جعفر : وروى الاعمش ، قال : لما قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة ، جاء إلى مسجد الكوفة ، فلما رأى كثرة من استقبله من الناس جثا على ركبتيه ، ثم ضرب صلعته مرارا ، وقال : يا أهل العراق ، أتزعمون أنى أكذب على الله وعلى رسوله ، وأحرق نفسي بالنار ! والله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : (إن لكل نبى حرما ، وإن حرمى بالمدينة ، ما بين عير إلى ثور ، فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) ، وأشهد بالله أن عليا أحدث فيها : فلما بلغ معاوية قوله أجازه وأكرمه وولاه إمارة المدينة .
قلت : أما قوله : (ما بين عير إلى ثور (2)) ، فالظاهر أنه غلط من الراوى ، لان ثورا بمكة وهو جبل يقال له : ثور أطحل ، وفيه الغار الذى دخله النبي صلى الله عليه وآله وأبو بكر ، وإنما قيل : (أطحل) لان أطحل بن عبد مناف بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار ابن عدنان كان يسكنه .
وقيل : اسم الجبل أطحل ، فأضيف (ثور) إليه ، وهو ثور بن عبد مناف ، والصواب : (ما بين عير إلى أحد) (3) .
فأما قول أبى هريرة : (إن عليا عليه السلام أحدث في المدينة) ، فحاش لله ! كان على عليه السلام أتقى لله من ذلك ، والله لقد نصر عثمان نصرا لو كان المحصور جعفر بن أبى طالب لم يبذل له إلا مثله .
قال أبو جعفر : وأبو هريرة مدخول عند شيوخنا غير مرضى الرواية ، ضربه عمر
__________
(1) ج : (التأفف) .
(2) عير : جبل بالحجاز .
(3) معجم البلدان 6 : 246 : (وهما بالمدينة) .
(*)(4/67)
بالدرة ، وقال : قد أكثرت من الرواية وأحر بك أن تكون كاذبا على رسول الله صلى الله عليه ! وروى سفيان الثوري عن منصور ، عن إبراهيم التيمى ، قال : كانوا لا يأخذون عن أبى هريرة إلا ما كان من ذكر جنة أو نار .
وروى أبو أسامة عن الاعمش ، قال : كان إبراهيم صحيح الحديث ، فكنت إذا سمعت الحديث أتيته فعرضته عليه ، فأتيته يوما بأحاديث من حديث أبى صالح عن أبى هريرة ، فقال : دعني من أبى هريرة إنهم كانوا يتركون كثيرا من حديثه .
وقد روى عن على عليه السلام أنه قال : ألا إن أكذب الناس - أو قال : أكذب الاحياء - على رسول الله صلى الله عليه وآله أبو هريرة الدوسى .
وروى أبو يوسف ، قال : قلت لابي حنيفة : الخبر يجئ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالف قياسنا ما تصنع به ؟ قال : إذا جاءت به الرواة الثقات عملنا به وتركنا الرأى ، فقلت : ما تقول في رواية أبى بكر وعمر ؟ فقال : ناهيك بهما ! فقلت : على و عثمان ، قال : كذلك ، فلما رأني أعد الصحابة قال : والصحابة كلهم عدول ما عدا رجالا ، ثم عد منهم أبا هريرة وأنس بن مالك .
وروى سفيان الثوري ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن عمر بن عبد الغفار ، أن أبا هريرة لما قدم الكوفة مع معاوية ، كان يجلس بالعشيات بباب كندة ، ويجلس الناس إليه ، فجاء شاب من الكوفة ، فجلس إليه ، فقال : يا أبا هريرة ، أنشدك الله ، أسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول لعلى بن أبى طالب : (اللهم وال من والاه وعاد من عاداه) ! فقال : اللهم نعم ، قال : فأشهد بالله ، لقد واليت عدوه ، وعاديت وليه ! ثم قام عنه .(4/68)
وروت الرواة أن أبا هريرة كان يؤاكل الصبيان في الطريق ، ويلعب معهم ، وكان يخطب وهو أمير المدينة ، فيقول : الحمد لله الذى جعل الدين قياما ، وأبا هريرة إماما ، يضحك الناس بذلك .
وكان يمشى وهو أمير المدينة في السوق ، فإذا انتهى إلى رجل يمشى أمامه ، ضرب برجليه الارض ، ويقول : الطريق الطريق ! قد جاء الامير ! يعنى نفسه .
قلت قد ذكر ابن قتيبة هذا كله في كتاب ، ، المعارف ، ، (1) في ترجمة أبى هريرة ، وقوله فيه حجة لانه غير متهم عليه .
* * * قال أبو جعفر : وكان المغيرة بن شعبة يلعن عليا عليه السلام لعنا صريحا على منبر الكوفة ، وكان بلغه عن على عليه السلام في أيام عمر أنه قال : لئن رأيت المغيرة لارجمنه بأحجاره - يعنى واقعة الزنا بالمرأة التى شهد عليه فيها أبو بكرة ، ونكل زياد عن الشهادة - فكان يبغضه لذاك ولغيره من أحوال اجتمعت في نفسه .
قال : وقد تظاهرت الرواية عن عروة بن الزبير أنه كان يأخذه الزمع (2) عند ذكر على عليه السلام فيسبه ويضرب بإحدى يديه على الاخرى ، ويقول : وما يغنى أنه لم يخالف إلى ما نهى عنه ، وقد أراق من دماء المسلمين ما أراق ! * * * قال : وقد كان في المحدثين من يبغضه عليه السلام ، ويروى فيه الاحاديث المنكرة ، منهم حريز بن عثمان ، كان يبغضه وينتقصه ، ويروى فيه أخبارا مكذوبة .
وقد روى
__________
(1) المعارف ص 121 (2) الزمع : الرعدة .
(*)(4/69)
المحدثون أن حريزا رئى في المنام بعد موته ، فقيل له : ما فعل الله بك ؟ قال : كاد يغفر لى لو لا بغض على .
قلت : قد روى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهرى في كتاب ، ، السقيفة ، ، قال : حدثنى أبو جعفر بن الجنيد ، قال : حدثنى إبراهيم بن الجنيد ، قال حدثنى محفوظ ابن المفضل بن عمر ، قال : حدثنى أبو البهلول يوسف بن يعقوب ، قال حدثنا حمزة ابن حسان - وكان مولى لبنى أمية ، وكان مؤذنا عشرين سنة ، وحج غير حجة ، وأثنى أبو البهلول عليه خيرا - قال : حضرت حريز بن عثمان ، وذكر على بن أبى طالب ، فقال : ذاك الذى أحل حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى كاد يقع .
قال محفوظ : قلت ليحيى بن صالح الوحاظى : قد رويت عن مشايخ من نظراء حريز ، فما بالك لم تحمل عن حريز ! قال : إنى أتيته فناولني كتابا ، فإذا فيه : حدثنى فلان عن فلان أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوفاة أوصى أن تقطع يد على بن أبى طالب عليه السلام ، فرددت الكتاب ، ولم أستحل أن أكتب عنه شيئا .
قال أبو بكر : وحدثني أبو جعفر ، قال : حدثنى إبراهيم ، قال : حدثنى محمد ابن عاصم ، صاحب الخانات ، قال : قال لنا حريز بن عثمان : أنتم يا أهل العراق تحبون على بن أبى طالب عليه السلام ونحن نبغضه ، قالوا : لم ؟ قال : لانه قتل أجدادي .
قال محمد بن عاصم : وكان حريز بن عثمان نازلا علينا .
* * * قال أبو جعفر رحمه الله تعالى : وكان المغيرة بن شعبة صاحب دنيا ، يبيع دينه بالقليل النزر منها ويرضى معاوية بذكر على بن أبى طالب عليه السلام ، قال يوما في مجلس معاوية : إن عليا لم ينكحه رسول الله ابنته حبا ، ولكنه أراد أن يكافئ ، بذلك إحسان أبى طالب إليه .(4/70)
قال : وقد صح عندنا أن المغيرة لعنه على منبر العراق مرات لا تحصى ، ويروى أنه لما مات ودفنوه ، أقبل رجل راكب ظليما ، فوقف قريبا منه ثم قال : أمن رسم دار من مغيرة تعرف * عليها زوانى الانس والجن تعزف فإن كنت قد لاقيت فرعون بعدنا * وهامان فاعلم أن ذا العرش منصف قال : فطلبوه فغاب عنهم ولم يروا أحدا ، فعلموا أنه من الجن .
* * * قال : فأما مروان بن الحكم فأحقر وأقل من أن يذكر في الصحابة الذين قد غمصناهم وأوضحنا سوء رأينا فيهم ، لانه كان مجاهرا بالالحاد هو وأبوه الحكم بن أبى العاص ، وهما الطريدان اللعينان ، كان أبوه عدو رسول الله صلى الله عليه وآله يحكيه في مشيه ، ويغمز عليه عينه ، ويدلع (1) له لسانه ويتهكم به ، ويتهانف (2) عليه ، هذا وهو في قبضته وتحت يده ، وفي دار دعوته بالمدينة ، وهو يعلم أنه قادر على قتله أي وقت شاء من ليل أو نهار ، فهل يكون هذا إلا من شأني شديد البغضة ، ومستحكم العداوة ، حتى أفضى أمره إلى أن طرده رسول الله صلى الله عليه وآله عن المدينة ، وسيره إلى الطائف ! وأما مروان ابنه فأخبث عقيدة ، وأعظم إلحادا وكفرا ، وهو الذى خطب يوم وصل إليه رأس الحسين عليه السلام إلى المدينة ، وهو يومئذ أميرها وقد حمل الرأس على يديه فقال : يا حبذا بردك في اليدين * وحمرة تجرى على الخدين * كأنما بت بمسجدين *
__________
(1) يدلع لسانه : يخرجه .
(2) التهانف : الضحك مع الاستهزاء .
(*)(4/71)
ثم رمى بالرأس نحو قبر النبي ، وقال : يا محمد ، يوم بيوم بدر وهذا القول مشتق من الشعر الذى تمثل به يزيد بن معاويد وهو شعر ابن الزبعرى يوم وصل الرأس إليه .
والخبر مشهور (1) .
قلت : هكذا قال شيخنا أبو جعفر ، والصحيح أن مروان لم يكن أمير المدينة يومئذ بل كان أميرها عمرو بن سعيد بن العاص ، ولم يحمل إليه الرأس ، وإنما كتب إليه عبيد الله بن زياد يبشره بقتل الحسين عليه السلام ، فقرأ كتابه على المنبر ، وأنشد الرجز المذكور ، وأومأ إلى القبر قائلا : يوم بيوم بدر ، فأنكر عليه قوله قوم من الانصار .
ذكر ذلك أبو عبيدة في كتاب ، ، المثالب ، ، .
قال : وروى الواقدي أن معاوية لما عاد من العراق إلى الشام بعد بيعد الحسن عليه السلام واجتماع الناس إليه خطب فقال : أيها الناس ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لى : (إنك ستلى الخلافة من بعدى ، فاختر الارض المقدسة ، فإن فيها الابدال ، وقد اخترتكم ، فالعنوا أبا تراب .
فلعنوه ، فلما كان من الغد كتب كتابا ، ثم جمعهم فقرأه عليهم ، وفيه : هذا كتاب كتبه أمير المؤمنين معاوية ، صاحب وحى الله الذى بعث محمدا نبيا ، وكان أميا لا يقرأ ولا يكتب ، فاصطفى له من أهله وزيرا كاتبا أمينا ، فكان الوحى ينزل على محمد وأنا أكتبه ، وهو لا يعلم ما أكتب ، فلم يكن بينى وبين الله أحد من خلقه .
فقال له الحاضرون كلهم : صدقت يا أمير المؤمنين .
__________
(1) ذكر أبو الفرج الاصفهانى في مقائل الطالبين 119 : (وقيل : إنه تمثل أيضا والرأس بين يديه بقول عبد الله بن الزبعرى : ليت أشياخى ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الاسل قد قتلنا القرم من أشياخهم * وعد لناه ببدر فاعتدل والبيتان من قصيدة أنشدها يوم أحد ، في الحيوان 5 : 564 ، وسيرة ابن هشام 3 : 144 ، وطبقات الشعراء لابن سلام 199 ، 200 (*)(4/72)
قال أبو جعفر : وقد روى أن معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتى يروى أن هذه الاية نزلت في على بن أبى طالب : (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام * وإذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد) (1) ، وأن الاية الثانية نزلت في ابن ملجم ، وهى قوله تعالى : (ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله) (2) ، فلم يقبل ، فبذل له مائتي ألف درهم فلم يقبل ، فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل ، فبذل له أربعمائة ألف فقبل ، وروى ذلك .
قال : وقد صح أن بنى أمية منعوا من إظهار فضائل على عليه السلام ، وعاقبوا [ على ] ذلك الراوى له ، حتى إن الرجل إذا روى عنه حديثا لا يتعلق بفضله بل بشرائع الدين لا يتجاسر على ذكر اسمه ، فيقول : عن أبى زينب .
وروى عطاء ، عن عبد الله بن شداد بن الهاد ، قال : وددت أن أترك فأحدث بفضائل على بن أبى طالب عليه السلام يوما إلى الليل ، وأن عنقي هذه ضربت بالسيف .
قال : فالاحاديث الواردة في فضله لو لم تكن في الشهرة والاستفاضة وكثرة النقل إلى غاية بعيدة ، لا نقطع نقلها للخوف والتقية من بنى مروان مع طول المدة ، وشدة العداوة ، ولو لا أن لله تعالى في هذا الرجل سرا يعلمه من يعلمه لم يرو في فضله حديث ، ولا عرفت له منقبه ، ألا ترى أن رئيس قرية لو سخط على واحد من أهلها ، ومنع الناس أن يذكروه بخير وصلاح لخمل ذكره ، ونسى اسمه ، وصار وهو موجود معدوما ، وهو حى ميتا ! هذه خلاصة ما ذكره شيخنا أبو جعفر رحمه الله تعالى في هذا المعنى في كتاب التفضيل .
* * *
__________
(1) سورة البقرة 204 ، 205 (2) سورة البقرة 207 (*)(4/73)
[ فصل في ذكر المنحرفين عن على ] وذكر جماعة من شيوخنا البغداديين أن عدة من الصحابة والتابعين والمحدثين كانوا منحرفين عن على عليه السلام ، قائلين فيه السوء ، ومنهم من كتم مناقبه وأعان أعداءه ميلا مع الدنيا ، وإيثارا للعاجلة ، فمنهم أنس بن مالك ، ناشد على عليه السلام الناس في رحبة القصر - أو قال رحبة الجامع بالكوفة - : أيكم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (من كنت مولاه فعلى مولاه) ؟ فقام اثنا عشر رجلا فشهدوا بها ، وأنس بن مالك في القوم لم يقم ، فقال له : يا أنس ، ما يمنعك أن تقوم فتشهد ، ولقد حضرتها ! فقال : يا أمير المؤمنين ، كبرت ونسيت ، فقال : اللهم إن كان كاذبا فارمه بها بيضاء لا تواريها العمامة قال طلحه بن عمير : فو الله لقد رأيت الوضح به بعد ذلك أبيض بين عينيه .
وروى عثمان بن مطرف أن رجلا سأل أنس بن مالك في آخر عمره عن على بن أبى طالب ، فقال : إنى آليت ألا أكتم حديثا سئلت عنه في على بعد يوم الرحبة ، ذاك رأس المتقين يوم القيامة ، سمعته والله من نبيكم .
* * * وروى أبو إسرائيل عن الحكم عن أبى سليمان المؤذن ، أن عليا عليه السلام نشد الناس من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول : (من كنت مولاه فعلى مولاه) ، فشهد له قوم وأمسك زيد بن أرقم ، فلم يشهد - وكان يعلمها - فدعا على عليه السلام عليه بذهاب البصر فعمى ، فكان يحدث الناس بالحديث بعد ماكف بصره .
* * * قالوا : وكان الاشعث بن قيس الكندى وجرير بن عبد الله البجلى يبغضانه ، وهدم على عليه السلام دار جرير بن عبد الله .
قال إسمعيل بن جرير : هدم على دارنا مرتين .(4/74)
وروى الحارث بن حصين ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله دفع إلى جرير بن عبد الله نعلين نعاله ، وقال : احتفظ بهما ، فإن ذهابهما ذهاب دينك ، فلما كان يوم الجمل ذهبت إحداهما ، فلما أرسله على عليه السلام إلى معاوية ذهبت الاخرى ، ثم فارق عليا واعتزل الحرب .
* * * وروى أهل السيرة أن الاشعث خطب إلى على عليه السلام ابنته ، فزبره ، وقال : يا بن الحائك ، أغرك ابن أبى قحافه ! وروى أبو بكر الهذلى عن الزهري ، عن عبيد الله بن عدى بن الخيار بن نوفل بن عبد مناف ، قال : قام الاشعث إلى على عليه السلام ، فقال : إن الناس يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله عهد إليك عهدا لم يعهده إلى غيرك ، فقال : إنه عهد إلى ما في قراب سيفى ، لم يعهد إلى غير ذلك .
فقال الاشعث : هذه إن قلتها فهى عليك لا لك ، دعها ترحل عنك ، فقال له : وما علمك بما على مما لى ! منافق ابن كافر ، حائك ابن حائك ! إنى لاجد منك بنه (1) الغزل .
ثم التفت إلى عبيد الله بن عدى بن الخيار ، فقال : يا عبيد الله ، إنك لتسمع خلافا وترى عجبا ، ثم أنشد (2) : أصبحت هزءا لراعي الضأن أتبعه (3) * ما ذا يريبك منى راعى الضان ! وقد ذكرنا في بعض الروايات المتقدمات أن سبب قوله : (هذه عليك لالك) ، أمر آخر ، والروايات تختلف .
وروى يحيى بن عيسى الرملي ، عن الاعمش : أن جريرا والاشعث خرجا إلى جبان (4) الكوفة ، فمر بهما ضب يعدو ، وهما في ذم على عليه السلام ، فنادياه : يا أبا حسل ، هلم
__________
(1) البنة : الرائحة ، وأهل اليمن معروفون بالغزل والحياكة .
(2) البيت لكلاب بن أمية بن الاسكر ، من أبيات له في ذيل الامالى 180 (3) ج : (أصبحت فردا) .
(4) الجبان في الاصل : الصحراء ، وأهل الكوفة يسمعون المقبرة جبانة ، وفي ، ا : (إلى الجبال) .
انظر مراصد الاطلاع .
(*)(4/75)
يدك نبايعك بالخلافة ، فبلغ عليا عليه السلام قولهما ، فقال : أما إنهما يحشران يوم القيامة وإمامهما ضب .
* * * وكان أبو مسعود الانصاري منحرفا عنه عليه السلام ، روى شريك ، عن عثمان ابن أبى زرعة ، عن زيد بن وهب ، قال : تذاكرنا القيام إذا مرت الجنازة عند على عليه السلام ، فقال أبو مسعود الانصاري : قد كنا نقوم ، فقال على عليه السلام : ذاك وأنتم يومئذ يهود .
وروى شعبة ، عن عبيد بن الحسن ، عن عبد الرحمن بن معقل ، قال : حضرت عليا عليه السلام ، وقد سأله رجل عن امرأة توفى عنها زوجها وهى حامل ، فقال : تتربص أبعد الاجلين ، فقال رجل : فإن أبا مسعود يقول : وضعها انقضاء عدتها ، فقال على عليه السلام : إن فروجا لا يعلم ، فبلغ قوله أبا مسعود ، فقال : بلى ، والله إنى لاعلم أن الاخر شر .
* * * وروى المنهال ، عن نعيم بن دجاجة ، قال : كنت جالسا عند على عليه السلام ، إذ جاء أبو مسعود ، فقال على عليه السلام : جاءكم فروج ، فجاء فجلس ، فقال له على عليه السلام : بلغني أنك تفتى الناس ، قال : نعم ، وأخبرهم أن الاخر شر ، قال : فهل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ؟ قال : نعم ، سمعته يقول : (لا يأتي على الناس سنة مائة وعلى الارض عين تطرف) ، قال : أخطأت استك الحفرة ، وغلطت في أول ظنك ، إنما عنى من حضره يومئذ ، وهل الرخاء إلا بعد المائة ! * * *(4/76)
وروى جماعة من أهل السير أن عليا عليه السلام كان يقول عن كعب الاحبار : إنه لكذاب ، وكان كعب منحرفا عن على عليه السلام .
وكان النعمان بن بشير الانصاري منحرفا عنه ، وعدوا له ، وخاض الدماء مع معاوية خوضا ، وكان من أمراء يزيد ابنه حتى قتل وهو على حاله .
وقد روى أن عمران بن الحصين كان من المنحرفين عنه عليه السلام ، وأن عليا سيره إلى المدائن ، وذلك أنه كان يقول : إن مات على فلا أدرى ما موته ، وإن قتل فعسى أنى إن قتل رجوت له .
ومن الناس من يجعل عمران في الشيعة .
* * * وكان سمرة بن جندب من شرطة زياد ، روى عبد الملك بن حكيم عن الحسن ، قال : جاء رجل من أهل خراسان إلى البصرة ، فترك مالا كان معه في بيت المال ، وأخذ براءة ، ثم دخل المسجد فصلى ركعتين ، فأخذه سمرة بن جندب ، واتهمه برأى الخوارج ، فقدمه فضرب عنقه ، وهو يومئذ على شرطة زياد ، فنظروا فيما معه فإذا البراءة بخط بيت المال ، فقال أبو بكرة (1) : يا سمرة ، أما سمعت الله تعالى يقول : (قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى) (2) ! فقال : أخوك (3) أمرنى بذلك .
وروى الاعمش ، عن أبى صالح ، قال : قيل لنا : قد قدم رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتيناه فإذا هو سمرة بن جندب ، وإذا عند إحدى رجليه خمر ، وعند الاخرى ثلج ، فقلنا : ما هذا ؟ قالوا : به النقرس ، وإذا قوم قد أتوه ، فقالوا يا سمرة ،
__________
(1) هو أبو بكرة الثقفى ، واسمه نفيع بن مسروح (2) سورة الاعلى 14 ، 15 .
(3) يريد زياد بن أبيه ، وكان أخا أبى بكر لامه سمية .
(*)(4/77)
ما تقول لربك غدا ؟ تؤتى بالرجل فيقال لك : هو من الخوارج فتأمر بقتله ، ثم تؤتى باخر فيقال لك : ليس الذى قتلته بخارجى ، ذاك فتى وجدناه ماضيا في حاجته ، فشبه علينا ، وإنما الخارجي هذا ، فتأمر بقتل الثاني ! فقال سمرة : وأى بأس في ذلك ! إن كان من أهل الجنة مضى إلى الجنة ، وإن كان من أهل النار مضى إلى النار ! * * * وروى واصل مولى أبى عيينة ، عن جعفر بن محمد بن على عليه السلام عن آبائه ، قال : كان لسمرة بن جندب نخل في بستان رجل من الانصار ، فكان يؤذيه ، فشكا الانصاري ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ، فبعث إلى سمرة ، فدعاه فقال له : بع نخلك من هذا ، وخذ ثمنه ، قال : لا أفعل ، قال : فخذ نخلا مكان نخلك ، قال : لا أفعل ، قال : فاشتر منه بستانه ، قال : لا أفعل ، قال : فاترك لى هذا النخل ولك الجنة ، قال : لا أفعل ، فقال صلى الله لعيه وسلم للانصاري : (اذهب فاقطع نخله ، فإنه لا حق له فيه) .
* * * وروى شريك قال : أخبرنا عبد الله بن سعد عن حجر بن عدى ، قال : قدمت المدينة فجلست إلى أبى هريرة ، فقال : ممن أنت ؟ قلت : من أهل البصرة ، قال : ما فعل سمرة ابن جندب ؟ قلت : هو حى ، قال : ما أحد أحب إلى طول حياة منه .
قلت : ولم ذاك ؟ قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لى وله ولحذيفة بن اليمان : (آخركم موتا في النار) ، فسبقنا حذيفة ، وأنا الان أتمنى أن أسبقه ، قال : فبقى سمرة بن جندب حتى شهد مقتل الحسين .
وروى أحمد بن بشير عن مسعر بن كدام ، قال : كان سمرة بن جندب أيام مسير(4/78)
الحسين عليه السلام إلى الكوفة على شرطة عبيد الله بن زياد ، وكان يحرض الناس على الخروج إلى الحسين عليه السلام وقتاله .
* * * ومن المنحرفين عنه ، المبغضين له عبد الله بن الزبير ، وقد ذكرناه آنفا ، كان على عليه السلام يقول : ما زال الزبير منا أهل البيت حتى نشأ ابنه عبد الله ، فأفسده .
وعبد الله هو الذى حمل الزبير على الحرب ، وهو الذي زين لعائشة مسيرها إلى البصرة ، وكان سبابا فاحشا ، يبغض بنى هاشم ، ويلعن يسب على بن أبى طالب عليه السلام .
وكان على عليه السلام يقنت في صلاة الفجر وفي صلاة المغرب ، ويلعن معاوية ، وعمرا ، والمغيرة ، والوليد بن عقبة ، وأبا الاعور ، والضحاك بن قيس ، وبسر بن أرطاة ، وحبيب بن مسلمة ، وأبا موسى الاشعري ، ومروان بن الحكم ، وكان هؤلاء يقنتون (1) عليه ويلعنونه .
* * * وروى شيخنا أبو عبد الله البصري المتكلم رحمه الله تعالى ، عن نصر بن عاصم الليثى ، عن أبيه ، قال : أتيت مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله ، والناس يقولون : نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله ! فقلت : ما هذا ؟ قالوا : معاوية قام الساعة ، فأخذ بيد أبى سفيان ، فخرجا من المسجد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : (لعن الله التابع والمتبوع ، رب يوم لامتي من معاوية ذى الاستاه) ، قالوا : يعنى الكبير العجز .
وقال : روى العلاء بن حريز القشيرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاوية : (لتتخذن يا معاوية البدعة سنة ، والقبح حسنا ، أكلك كثير ، وظلمك عظيم) .
قال : وروى الحارث بن حصيرة ، عن أبى صادق ، عن ربيعة بن ناجذ ، قال : قال
__________
(1) يقنتون عليه ، يدعون عليه .
(*)(4/79)
على عليه السلام : نحن وآل أبى سفيان قوم تعادوا في الامر ، والامر يعود كما بدا .
قلت : وقد ذكرنا نحن في تلخيص نقض ، ، السفيانية ، ، ما فيه كفاية في هذا الباب .
* * * وروى صاحب كتاب الغارات عن أبى صادق ، عن جندب بن عبد الله ، قال : ذكر المغيرة بن شعبة عند على عليه السلام وجده مع معاوية ، قال : وما المغيرة ! إنما كان إسلامه لفجرة وغدرة غدرها بنفر من قومه فتك بهم ، وركبها منهم ، فهرب منهم ، فأتى النبي صلى الله عليه وآله كالعائذ بالاسلام ، والله ما رأى أحد عليه منذ ادعى الاسلام خضوعا ولا خشوعا ، ألا وإنه يكون (1) من ثقيف فراعنة قبل يوم القيامة يجانبون الحق ، ويسعرون نيران الحرب ويوازرون الظالمين ، ألا إن ثقيفا قوم غدر ، لا يوفون بعهد ، يبغضون العرب كأنهم ليسوا منهم ، ولرب صالح قد كان منهم .
فمنهم عروة بن مسعود وأبو عبيد بن مسعود المستشهد يوم قس الناطف .
وإن الصالح في ثقيف لغريب .
* * * قال شيخنا أبو القاسم البلخى : من المعلوم الذى لا ريب فيه لاشتهار الخبر به ، وإطباق الناس عليه ، أن الوليد بن عقبة بن أبى معيط كان يبغض عليا ويشتمه ، وأنه هو الذى لاحاه في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله ونابذه ، وقال له : أنا أثبت منك جنانا ، وأحد سنانا ، فقال له على عليه السلام : اسكت يا فاسق ، فأنزل الله تعالى فيهما : (أ فمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون ...
) (2) الايات المتلوة ، وسمى الوليد بحسب ذلك في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله الفاسق ، فكان لا يعرف إلا بالوليد الفاسق .
__________
(1) ب : (كائن من ثقيف) .
(2) سورة السجدة 18 .
(*)(4/80)
وهذه الاية من الايات التى نزل فيها القرآن بموافقد على عليه السلام ، كما نزل في مواضع بموافقة عمر ، وسماه الله تعالى فاسقا في آية أخرى ، وهو قوله تعالى : (إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا) (1) ، وسبب نزولها مشهور ، وهو كذبه على بنى المصطلق ، وادعاؤه أنهم منعوا الزكاة وشهروا السيف ، حتى أمر النبي صلى الله عليه وآله بالتجهز (2) للمسير إليهم ، فأنزل الله تعالى في تكذيبه وبراءة ساحة القوم هذه الاية (3) .
وكان الوليد مذموما معيبا عند رسول الله صلى الله عليه وآله يشنؤه ويعرض عنه ، وكان الوليد يبغض رسول الله صلى الله عليه وآله أيضا ويشنؤه ، وأبوه عقبة بن أبى معيط هو العدو الازرق بمكة ، والذى كان يؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه وأهله ، وأخباره في ذلك مشهورة ، فلما ظفر به يوم بدر ضرب عنقه .
وورث ابنه الوليد الشنآن والبغضة (4) لمحمد وأهله فلم يزل عليهما إلى أن مات .
قال الشيخ أبو القاسم : وهو أحد الصبية الذين قال أبو عقبة فيهم ، وقد قدم ليضرب عنقه : من للصبية يا محمد ؟ فقال : (النار ، اضربوا عنقه) .
قال : وللوليد شعر يقصد فيه الرد على رسول الله صلى الله عليه وآله حيث قال : (إن تولوها عليا ، تجدوه هاديا مهديا) .
قال : وذلك أن عليا عليه السلام لما قتل قصد بنوه أن يخفوا قبره خوفا من بنى أمية أن يحدثوا في قبره حدثا ، فأوهموا الناس في موضع قبره تلك الليلة - وهى ليلة دفنه - إيهامات مختلفة ، فشدوا على جمل تابوتا موثقا بالحبال ، يفوح منه روائح الكافور ، وأخرجوه من الكوفة في سواد الليل صحبة ثقاتهم ، يوهمون أنهم يحملونه إلى المدينة فيدفنونه عند فاطمة عليها السلام ، وأخرجوا بغلا وعليه جنازة (5) مغطاة ،
__________
(1) سورة الحجرات 6 (2) ج : (التجهيز) .
(3) أسباب النزول 291 ، 292 .
(4) البغضة : شدة البغض .
(5) الجنازة ، بالكسر وبفتح : الميت .
(6 - نهج - 4) (*)(4/81)
يوهمون أنهم يدفنونه بالحيرة ، وحفروا حفائر عدة ، منها بالمسجد ، ومنها برحبة القصر ، قصر الامارة ، ومنها في حجرة من دور آل جعدة بن هبيرة المخزومى ، ومنها في أصل دار عبد الله ابن يزيد القسرى بحذاء باب الوراقين مما يلى قبلة المسجد ، ومنها في الكناسة ، ومنها في الثوية ، فعمى على الناس موضع قبره ، ولم يعلم دفنه على الحقيقة إلا بنوه والخواص المخلصون من أصحابه ، فإنهم خرجوا به عليه السلام وقت السحر في (1) الليلة الحادية والعشرين من شهر رمضان ، فدفنوه على النجف ، بالموضع المعروف بالغرى ، بوصاة منه عليه السلام إليهم في ذلك ، وعهد كان عهد به إليهم ، وعمى موضع قبره على الناس ، واختلفت الاراجيف في صبيحة ذلك اليوم اختلافا شديدا ، وافترقت الاقوال في موضع قبره الشريف وتشعبت ، وادعى قوم أن جماعة من طيئ وقعوا على جمل في تلك الليلة ، وقد أضله أصحابه ببلادهم ، وعليه صندوق ، فظنوا فيه مالا ، فلما رأوا ما فيه خافوا أن يطلبوا به ، فدفنوا الصندوق بما فيه ، ونحروا البعير وأكلوه ، وشاع ذلك في بنى أمية وشيعتهم ، واعتقدوه حقا ، فقال الوليد بن عقبة من أبيات يذكره عليه السلام فيها : فإن يك قد ضل البعير بحمله * فما كان مهديا ولا كان هاديا وروى الشيخ أبو القاسم البلخى أيضا ، عن جرير بن عبد الحميد ، عن مغيرة الضبى ، قال : مر ناس بالحسن بن على عليه السلام ، وهم يريدون عيادة الوليد بن عقبة ، وهو في علة له شديدة ، فأتاه الحسن عليه السلام معهم عائدا ، فقال للحسن : أتوب إلى الله تعالى مما كان بينى وبين جميع الناس ، إلا ما كان بينى وبين أبيك ، فإنى لا أتوب منه .
قال شيخنا أبو القاسم البلخى : وأكد بغضه له ضربه إياه الحد في ولاية عثمان ، وعزله عن الكوفة .
__________
(1) ج : (من الليلة) .
(*)(4/82)
وقد اتفقت الاخبار الصحيحة التى لا ريب فيها عند المحدثين ، على أن النبي صلى الله عليه وآله قال : (لا يبغضك إلا منافق ، ولا يحبك إلا مؤمن) .
قال : وروى حبة العرنى ، عن على عليه السلام أنه قال : إن الله عزوجل أخذ ميثاق كل مؤمن على حبى وميثاق كل منافق على بغضى ، فلو ضربت وجه المؤمن بالسيف ما أبغضني ، ولو صببت الدنيا على المنافق ما أحبنى .
وروى عبد الكريم بن هلال ، عن أسلم المكى ، عن أبى الطفيل ، قال : سمعت عليا عليه السلام ، وهو يقول ل : وضربت خياشيم المؤمن بالسيف ما أبغضني ولو نثرت (1) على المنافق ذهبا وفضة ما أحبنى ، إن الله أخذ ميثاق المؤمنين بحبي ، وميثاق المنافقين ببغضى ، فلا يبغضني مؤمن ، ولا يحبنى منافق أبدا .
قال الشيخ أبو القاسم البلخى : وقد روى كثير من أرباب الحديث عن جماعة من الصحابة ، قالوا : ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله إلا ببغض على بن أبى طالب .
* * * ذكر إبراهيم بن هلال صاحب كتاب ، ، الغارات ، ، فيمن فارق عليا عليه السلام والتحق بمعاويد يزيد بن حجية التيمى ، من بنى تيم بن ثعلبة بن بكر بن وائل ، وكان عليه السلام قد استعمله على الرى ودستبنى (2) ، فكسر الخوارج ، واحتجن المال لنفسه ، فحبسه على عليه السلام ، وجعل معه سعدا مولاه ، فقرب يزيد ركائبه ، وسعد نائم ، فالتحق بمعاوية وقال :
__________
(1) ج : (صببت) .
(2) دستبنى ، بالفتح ، ثم السكون وفتح التاء : كورة كانت مشتركة بين الرى وهمذان .
(*)(4/83)
خادعت سعدا وارتمت بى ركائبى * إلى الشام واخترت الذى هو أفضل وغادرت سعدا نائما في عباءة (1) * وسعد غلام مستهام مضلل ثم خرج حتى أتى الرقة ، وكذلك كان يصنع من يفارق عليا عليه السلام ، يبدأ بالرقة حتى يستأذن معاوية في القدوم عليه ، وكانت الرقة والرها وقرقيسيا (2) وحران من حيز معاوية ، وعليها (3) الضحاك بن قيس ، وكانت هيت وعانات ونصيبين ودارا وآمد وسنجار من حيز على عليه السلام ، وعليها الاشتر ، وكانا يقتتلان في كل شهر .
وقال يزيد بن حجية وهو بالرقة يهجو عليا عليه السلام : يا طول ليلى بالرقات لم أنم * من غير عشق صبت نفسي ولا سقم لكن لذكر أمور جمة طرقت * أخشى على الاصل منها زلة القدم أخشى عليا عليهم أن يكون لهم * مثل العقور الذى عفى على إرم وبعد ذلك ما لا نذكره .
قال إبراهيم بن هلال : وقد كان زياد بن خصفة التيمى ، قال لعلى عليه السلام يوم هرب يزيد بن حجية : ابعثنى يا أمير المؤمنين في أثره أرده إليك ، فبلغ قوله يزيد بن حجية ، فقال في ذلك : أبلغ زيادا أننى قد كفيته * أمورى وخليت الذى هو عاتبه وباب شديد موثق قد فتحته * عليك ، وقد أعيت عليك مذاهبه هبلت أما ترجو غنائي ومشهدي * إذ الخصم لم يوجد له من يجاذبه ! (3)
__________
(1) كذا في ج ، وفي ا ، ب (غيابة) .
(2) قرقيسياء : بلد على الحابور عند مصبه .
(3) في الاصول : (عليهم) .
(3) يجاذبه ، أي يحوله عن طريقه .
(*)(4/84)
فأقسم لو لا أن أمك أمنا * وأنك مولى ما طفقت أعاتبه وأقسم لو أدركتني ما رددتني * كلانا قد اصطفت إليه جلائبه قال ابن هلال : وكتب إلى العراق شعرا يذم فيه عليا عليه السلام ، ويخبره أنه من أعدائه ، فدعا عليه وقال لاصحابه عقيب الصلاة : ارفعوا أيديكم فادعوا عليه ، فدعا عليه وأمن أصحابه .
قال أبو الصلت التيمى : كان دعاؤه عليه : اللهم إن يزيد بن حجية هرب بمال المسلمين ولحق بالقوم الفاسقين ، فاكفنا مكره وكيده واجزه جزاء الظالمين .
قال : ورفع القوم أيديهم يؤمنون ، وكان في المسجد عفاق بن شرحبيل بن أبى رهم التيمى شيخا كبيرا ، وكان يعد ممن شهد على حجر بن عدى حتى قتله معاوية ، فقال عفاق : على من يدعو القوم ؟ قالوا : على يزيد بن حجية ، فقال : تربت أيديكم ! أعلى أشرافنا تدعون ! فقاموا إليه فضربوه حتى كاد يهلك .
وقام زياد بن خصفة - وكان من شيعة على عليه السلام - فقال : دعوا لى ابن عمى ، فقال على عليه السلام : دعوا للرجل ابن عمه ، فتركه الناس ، فأخذ زياد بيده فأخرجه من المسجد ، وجعل يمشى معه يمسح التراب عن وجهه ، وعفاق يقول : والله لا أحبكم ما سعيت ومشيت ، والله لا أحبكم ما اختلفت الدرة والجرة ، وزياد يقول : ذلك أضر لك ، ذلك شر لك .
وقال زياد بن خصفة يذكر ضرب الناس عفاقا : دعوت عفاقا للهدى فاستغشني * وولى فريا قوله وهو مغضب ولو لا دفاعي عن عفاق ومشهدي * هوت بعفاق - عوض - عنقاء مغرب (1)
__________
(1) عوض ، معناه أبدا .
وعنقاء مغرب ، قال في اللسان : (العنقاء المغرب : كلمة لا أصل لها ، ويقال إنها طائر عظيم لا ترى إلا في الدهور ، ثم كثر ذلك حتى سموا الداهية عنقاء مغربا ومغربة) .
(*)(4/85)
أنبئه أن الهدى في اتباعنا * فيأبى ، ويضريه المراء فيشغب (1) فإن لا يشايعنا عفاق فإننا (2) * على الحق ما غنى الحمام المطرب سيغنى الاله عن عفاق وسعيه * إذا بعثت للناس جاواء تحرب (3) قبائل من حيى معد ومثلها * يمانية لا تنثني حين تندب (4) لهم عدد مثل التراب وطاعة * تود ، وبأس في الوغى لا يؤنب فقال له عفاق : لو كنت شاعرا لاجبتك ، ولكني أخبركم عن ثلاث خصال كن منكم ، والله ما أرى أن تصيبوا بعدهن شيئا مما يسركم .
أما واحدة فإنكم سرتم إلى أهل الشام حتى إذا دخلتم عليهم بلادهم قاتلتموهم ، فلما ظن القوم أنكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف ، فسخروا بكم فردوكم عنهم ، فلا والله لا تدخلونها بمثل ذلك الجد والحد والعدد الذى دخلتم به أبدا .
وأما الثانية ، فإنكم بعثتم حكما وبعث القوم حكما ، فأما حكمكم فخلعكم ، وأما حكمهم فأثبتهم ، فرجع صاحبهم يدعى أمير المؤمنين ، ورجعتم متلاعنين متباغضين ، فو الله لا يزال القوم في علاء ، ولا تزالون في سفال .
وأما الثالثة ، فإنه (5) خالفكم قراؤكم وفرسانكم فعدوتم عليهم فذبحتموهم بأيديكم ، فو الله لا تزالون بعدها متضعضعين (6) .
قال : وكان يمر عليهم بعد ، فيقول : اللهم إنى منهم برئ ، ولابن عفان ولى ! فيقولون : اللهم إنا لعلى أولياء ، ومن ابن عفان برآء ، ومنك يا عفاق !
__________
(1) الشغب : الشر .
(2) ج : (يتابعنا) .
(3) كتيبة جأواء : هي التى يعلوها لون السواد لكثرة الدروع .
(4) تندب : تدعى فتخف للدعوى .
(5) ج : (فإنكم) .
(6) تضعضع : خضع وذل .
(*)(4/86)
قال : فأخذ لا يقلع ، فدعوا رجلا منهم له سجاعة كسجاعة الكهان ، فقالوا : ويحك ! أما تكفينا بسجعك وخطبك هذا ! فقال : كفيتكم ، فمر عفاق عليهم ، فقال كما كان يقول ، فلم يمهله أن قال : له اللهم اقتل عفاقا ، فأنه أسر نفاقا ، وأظهر شقاقا ، وبين فراقا ، وتلون أخلاقا .
فقال عفاق : ويحكم ! من سلط على هذا ؟ قال : الله بعثنى إليك ، وسلطني عليك لاقطع لسانك ، وأنصل سنامك (1) ، وأطرد شيطانك .
قال : فلم يك يمر عليهم بعد ، إنما يمر على مزينة .
* * * وممن فارقه عليه السلام عبد الله بن عبد الرحمن بن مسعود بن أوس بن إدريس بن معتب الثقفى ، شهد مع على عليه السلام صفين ، وكان في أول أمره مع معاوية ، ثم صار إلى على عليه السلام ، ثم رجع بعد إلى معاوية ، وكان على عليه السلام يسميه الهجنع ، والهجنع : الطويل .
* * * ومنهم القعقاع بن شور ، استعمله على عليه السلام على كسكر ، فنقم منه أمورا ، منها أنه تزوج امرأة فأصدقها مائة ألف درهم ، فهرب إلى معاوية .
* * * ومنهم النجاشي الشاعر من بنى الحارث بن كعب ، كان شاعر أهل العراق بصفين ، وكان على عليه السلام يأمره بمحاربة شعراء أهل الشام ، مثل كعب بن جعيل وغيره ، فشرب الخمر بالكوفة ، فحده على عليه السلام ، فغضب ولحق بمعاوية ، وهجا عليا عليه السلام .
__________
(1) أنصل السنان : جعل له سنا : ونزعه عنه : من الاضداد .
(*)(4/87)
حدث ابن الكلبى عن عوانة ، قال : (1) خرج النجاشي في أول يوم من شهر رمضان ، فمر بأبى سمال الاسدي ، وهو قاعد بفناء داره ، فقال له : أين تريد ؟ قال : أردت الكناسة ، فقال : هل لك في رءوس وأليات قد وضعت في التنور من أول الليل ، فأصبحت قد أينعت وقد تهرأت ؟ قال : ويحك ! في أول يوم من رمضان ! قال : دعنا مما لا نعرف ، قال : ثم مه ، قال : أسقيك من شراب كالورس ، يطيب النفس ، ويجرى في العرق ، ويزيد في الطرق ، يهضم الطعام ، ويسهل للفدم (2) الكلام ، فنزل ، فتغديا ، ثم أتاه بنبيذ فشرباه ، فلما كان آخر النهار علت أصواتهما ، ولهما جار من شيعة على عليه السلام ، فأتاه فأخبره بقصتهما ، فأرسل إليهما قوما فأحاطوا بالدار ، فأما أبو سمال فوثب إلى دور بنى أسد فأفلت ، وأخذ النجاشي فأتى عليه السلام به ، فلما أصبح أقامه في سراويل ، فضربه ثمانين ، ثم زاده عشرين سوطا ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أما الحد فقد عرفته ، فما هذه العلاوة (3) ؟ قال : لجراءتك على الله ، وإفطارك في شهر رمضان .
ثم أقامه في سراويله للناس ، فجعل الصبيان يصيحون به : خرى النجاشي ، خرى النجاشي ! وجعل يقول : كلا إنها يمانية وكاؤها شعر .
قال : ومر به هند بن عاصم السلولى ، فطرح عليه مطرفا ، فجعل الناس يمرون به ويطرحون عليه المطارف ، حتى اجتمعت عليه مطارف كثيرة ، فمدح بنى سلول فقال : إذا الله حيا صالحا من عباده * تقيا فحيا الله هند بن عاصم وكل سلولى إذا ما دعوته * سريع إلى داعى العلا والمكارم هم البيض أقداما وديباج أوجه * جلوها إذا اسودت وجوه الملائم ولا يأكل الكلب السروق نعالهم * ولا يبتغى المخ الذى في الجماجم
__________
(1) الخبر في الشعر والشعراء 289 والخزانة 4 : 368 (2) الفدم : الغبى .
(3) العلاوة ، بالكسر : كل ما زاد عن الشئ (*)(4/88)
ثم لحق معاوية ، وهجا عليا عليه السلام ، فقال : ألا من مبلغ عنى عليا * بأنى قد أمنت فلا أخاف عمدت لمستقر الحق لما * رأيت أموركم فيها اختلاف وروى عبد الملك بن قريب الاصمعي ، عن ابن أبى الزناد ، قال : دخل النجاشي على معاوية ، وقد أذن للناس عامة ، فقال لحاجبه : ادع النجاشي ، والنجاشى ، بين يديه ، ولكن اقتحمته عينه ، فقال : هأنذا النجاشي بين يديك يا أمير المؤمنين ، إن الرجال ليست بأجسامها ، إنما لك من الرجل أصغراه : قلبه ولسانه ، قال : ويحك ! أنت القائل (1) : ونجى ابن حرب سابح ذو علالة * أجش هزيم والرماح دوانى (2) إذا قلت أطراف الرماح تنوشه * مرته به الساقان والقدمان (3) ثم ضرب بيده إلى ثديه (4) ، فقال : ويحك ! إن مثلى لا تعدو به الخيل ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنى لم أعنك ، إنما عنيت عتبة .
وروى صاحب كتاب ، ، الغارات ، ، أن عليا عليه السلام لما حد النجاشي غضبت اليمانية لذلك ، وكان أخصهم به طارق بن عبد الله بن كعب النهدي ، فدخل عليه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، ما كنا نرى أن أهل المعصية والطاعة ، وأهل الفرقة والجماعد عند ولاة العدل ومعادن الفضل سيان في الجزاء ، حتى رأينا ما كان من صنيعك بأخى الحارث ،
__________
(1) البيتان في الاغانى 13 : 260 (طبعة الدار) ، والاول مع الخبر في الشعر والشعراء 219 (2) السايح : الفرس السريع كأنه يسبح بيديه والعلالة هنا بقية جرى الفرس .
والاجش الغليظ الصوت في صهيله ، وهو مما يحمد في الخيل .
والهزيم : الفرس الشديد الصوت .
(3) مرته : استدرت جريه .
(4) في الشعر والشعراء : (ثندوءتيه) ، والثندوءة : اللحم الذى حول الثدى .
(*)(4/89)
فأوغرت صدورنا ، وشتت أمورنا ، وحملتنا على الجادة (1) التى كنا نرى أن سبيل مركبها النار .
فقال على عليه السلام : (وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) (2) ، يا أخا نهد ، وهل هو إلا رجل من المسلمين انتهك حرمة من حرم الله ، فأقمنا عليه حدا كان كفارته ! إن الله تعالى يقول : (ولا يجرمنكم شنان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) (3) قال : فخرج طارق من عنده ، فلقيه الاشتر ، فقال : يا طارق ، أنت القائل لامير المؤمنين : (أوغرت صدورنا ، وشتت أمورنا) ؟ قال طارق : نعم ، أنا قائلها قال : والله ما ذاك كما قلت ، إن صدورنا له لسامعة ، وإن أمورنا له لجامعة .
فغضب طارق وقال : ستعلم يا أشتر أنه غير ما قلت ، فلما جنه الليل همس (4) هو والنجاشى إلى معاوية ، فلما قدما عليه ، دخل آذنه فأخبره بقدومهما ، وعنده وجوه أهل الشام ، منهم عمرو بن مرة الجهنى وعمرو بن صيفي وغيرهما ، فلما دخلا نظر إلى طارق ، وقال : مرحبا بالمورق غصنه ، والمعرق أصله ، المسود غير المسود ، من رجل كانت منه هفوة ونبوة ، باتباعه صاحب الفتنة ، ورأس الضلالة والشبهة ، الذى اغترز في ركاب الفتنة حتى استوى على رجلها ، ثم أوجف في عشوة ظلمتها وتيه ضلالتها ، واتبعه رجرجة (5) من الناس ، وأشبابة (6) من الحثالة لا أفئدة لهم : (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) (7) .
فقام طارق ، فقال : يا معاوية إنى متكلم فلا يسخطك ، ثم قال : وهو متكئ على سيفه : إن المحمود على كل حال رب علا فوق عباده ، فهم منه بمنظر ومسمع ، بعث فيهم
__________
(1) الجادة : معظم الطريق ، وأوسطه .
(2) سورة البقرة 45 .
(3) سورة المائدة 8 .
(4) الهمس : السير بالليل (5) الرجرجة : الجماعة الكثيرة من الناس (6) الاشابة : أخلاط الناس (7) سورة محمد 24 (*)(4/90)
رسولا منهم ، يتلو كتابا لم يكن من قبله ولا يخطه بيمينه ، إذا لارتاب المبطلون ، فعليه السلام من رسول كان بالمؤمنين برا رحيما ! أما بعد ، فإن ما كنا نوضع فيما أوضعنا فيه بين يدى إمام تقى عادل ، مع رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ، أتقياء مرشدين ، ما زالوا منارا للهدى ، ومعالم للدين ، خلفا عن سلف مهتدين ، أهل دين لا دنيا ، كل الخير فيهم ، واتبعهم من الناس ملوك وأقيال ، وأهل بيوتات وشرف ، ليسوا بناكثين ولا قاسطين ، فلم يكن رغبة من رغب عنهم وعن صحبتهم إلا لمرارة الحق حيث جرعوها ، ولو عورته حيث سلكوها ، وغلبت عليهم دنيا مؤثرة ، وهو متبع ، وكان أمر الله قدرا مقدورا ، وقد فارق الاسلام قبلنا جبلة بن الايهم فرارا من الضيم ، وأنفا (1) من الذلة ، فلا تفخرن يا معاوية ، إن شددنا نحوك الرحال ، وأوضعنا إليك الركاب .
أقول قولى هذا وأستغفر الله العظيم لى ولجميع المسلمين .
فعظم على معاوية ما سمعه وغضب ، لكنه أمسك (2) ، وقال : يا عبد الله ، إنا لم نرد بما قلناه أن نوردك مشرع ظمأ ، ولا أن نصدرك عن مكرع رى ، ولكن القول قد يجرى بصاحبه إلى غير ما ينطوى عليه من الفعل ، ثم أجلسه معه على سريره ، ودعا له بمقطعات وبرود فصبها عليه ، وأقبل نحوه بوجهه يحدثه حتى قام .
وقام معه عمرو بن مرة وعمرو بن صيفي الجهنيان ، فأقبلا عليه بأشد العتاب وأمضه ، يلومانه في خطبته ، وما واجه به معاوية .
فقال طارق : والله ما قمت بما سمعتماه حتى خيل لى أن بطن الارض خير لى من ظهرها عند سماعي ما أظهر من العيب والنقص لمن هو خير منه في الدنيا والاخرة ، وما زهت به نفسه ، وملكه عجبه ، وعاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله واستنقصهم ، فقمت مقاما أوجب الله على فيه ألا أقول إلا حقا ، وأى خير فيمن لا ينظر ما يصير إليه غدا !
__________
(1) ج : (وأنفة من المذلة) .
(2) ج : (تماسك) .
(*)(4/91)
فبلغ عليا عليه السلام قوله ، فقال : لو قتل النهدي يومئذ لقتل شهيدا .
وقال معاوية للهيثم بن الاسود أبى العريان - وكان عثمانيا ، وكانت امرأته علوية الرأى ، تكتب بأخبار معاوية في أعنة الخيل وتدفعها إلى عسكر على عليه السلام بصفين فيدفعونها إليه - فقال معاوية بعد التحكيم : يا هيثم ، أهل العراق كانوا أنصح لعلى في صفين أم أهل الشام لى ؟ فقال : أهل العراق قبل أن يضربوا بالبلاء كانوا أنصح لصاحبهم ، قال : كيف قلت ذلك ؟ قال : لان القوم ناصحوه على الدين ، وناصحك أهل الشام على الدنيا ، وأهل الدين أصبر ، وهم أهل بصيرة ، وإنما أهل الدنيا أهل طمع ، ثم والله ما لبث أهل العراق أن نبذوا الدين وراء ظهورهم ، ونظروا إلى الدنيا ، فالتحقوا بك .
فقال معاوية : فما الذى يمنع الاشعث أن يقدم علينا ، فيطلب ما قبلنا ؟ قال : إن الاشعث يكرم نفسه أن يكون رأسا في الحرب ، وذنبا في الطمع .
* * * ومن المفارقين لعلى عليه السلام أخوه عقيل بن أبى طالب ، قدم على أمير المؤمنين بالكوفة يسترفده (1) ، فعرض عليه عطاءه ، فقال : إنما أريد من بيت المال ، فقال : تقيم إلى يوم الجمعة ، فلما صلى عليه السلام الجمعة ، قال له : ما تقول فيمن خان هؤلاء أجمعين ؟ قال بئس الرجل ! قال : فإنك أمرتنى أن أخونهم وأعطيك ، فلما خرج من عنده شخص إلى معاوية ، فأمر له يوم قدومه بمائة ألف درهم ، وقال له : يا أبا يزيد ، أنا خير لك أم على ؟ قال : وجدت عليا أنظر لنفسه منه لى ، ووجدتك أنظر لى منك لنفسك .
وقال معاوية لعقيل : إن فيكم يا بنى هاشم لينا ، قال : أجل إن فينا لينا من غير
__________
(1) يسترفده : يطلب عطاءه .
(*)(4/92)
ضعف ، وعزا من غير عنف ، وإن لينكم يا معاوية غدر ، وسلمكم كفر .
فقال معاوية : ولا كل هذا يا أبا يزيد .
وقال الوليد بن عقبة لعقيل في مجلس معاوية : غلبك أخوك يا أبا يزيد على الثروة ! قال : نعم ، وسبقني وإياك إلى الجنة ، قال : أما والله إن شدقيه لمضمومان من دم عثمان ، فقال : وما أنت وقريش ! والله ما أنت فينا إلا كنطيح التيس .
فغضب الوليد وقال : والله لو أن أهل الارض اشتركوا في قتله لارهقوا صعودا (1) ، وإن أخاك لاشد هذه الامة عذابا ، فقال : صه ! والله إنا لنرغب بعبد من عبيده عن صحبة أبيك عقبة ابن أبى معيط .
وقال معاوية يوما - وعنده عمرو بن العاص ، وقد أقبل عقيل : لاضحكنك من عقيل ، فلما سلم قال معاوية : مرحبا برجل عمه أبو لهب ، فقال عقيل : وأهلا برجل عمته : (حمالة الحطب * في جيدها حبل من مسد) (2) ، لان امرأة أبى لهب أم جميل بنت حرب ابن أمية .
قال معاوية : يا أبا يزيد ما ظنك بعمك أبى لهب ! قال : إذا دخلت النار فخذ على يسارك تجده مفترشا عمتك حمالة الحطب ، أفناكح في النار خير أم منكوح ! قال : كلاهما شر ، والله .
* * * وممن فارقه عليه السلام حنظلة الكاتب ، خرج هو وجرير بن عبد الله البجلى من الكوفة إلى قرقيسيا ، وقالا : لا نقيم ببلدة يعاب فيها عثمان .
* * *
__________
(1) الصعود : العقبة الشاقة .
(2) المسد : حبل من ليف المقل .
(*)(4/93)
وممن فارقه وائل بن حجر الحضرمي ، وخبره مذكور في قصة بسر بن أرطاة .
* * * وروى صاحب كتاب ، ، الغارات ، ، عن إسماعيل بن حكيم ، عن أبى مسعود الجريرى .
قال : كان ثلاثة من أهل البصرة يتواصلون على بغض على عليه السلام : مطرف بن عبد الله ابن الشخير ، والعلاء بن زياد ، وعبد الله بن شفيق .
قال صاحب كتاب ، ، الغارات ، ، : وكان مطرف عابدا ناسكا ، وقد روى هشام بن حسان عن ابن سيرين : أن عمار بن ياسر دخل على أبى مسعود وعنده ابن الشخير ، فذكر عليا بما لا يجوز أن يذكر به ، فقال عمار : يا فاسق وإنك لهاهنا ! فقال أبو مسعود : أذكرك الله يا أبا اليقظان في ضيفي ! قال : وأكثر مبغضيه عليه السلام أهل البصرة كانوا عثمانية ، وكانت في أنفسهم أحقاد يوم الجمل ، وكان هو عليه السلام قليل التألف للناس ، شديدا في دين الله ، لا يبالى مع علمه بالدين ، واتباعه الحق من سخط ومن رضى .
قال : وقد روى يونس بن أرقم ، عن يزيد بن أرقم ، عن أبى ناجية مولى أم هانئ ، قال : كنت عند على عليه السلام ، فأتاه رجل عليه زى السفر .
فقال : يا أمير المؤمنين ، إنى أتيتك من بلدة ما رأيت لك بها محبا ، قال : من أين أتيت ؟ قال : من البصرة ، قال : أما إنهم لو يستطيعون أن يحبوني لاحبونى ، إنى وشيعتي في ميثاق الله لا يزاد فينا رجل لا ينقص إلى يوم القيامة .
* * * وروى أبو غسان البصري ، قال : بنى عبيد الله بن زياد أربعة مساجد بالبصرة تقوم على بغض على بن أبى طالب والوقيعة فيه : مسجد بنى عدى ، ومسجد بنى مجاشع ،(4/94)
ومسجد كان في العلافين على فرضة البصرة ، ومسجد في الازد .
* * * ومما قيل عنه إنه يبغض عليا عليه السلام ويذمه ، الحسن بن أبى الحسن البصري أبو سعيد ، وروى عنه حماد بن سلمة أنه قال : لو كان على يأكل الحشف (1) بالمدينة لكان خيرا له مما دخل فيه .
ورواه عنه أنه كان من المخذلين عن نصرته .
وروى عنه أن عليا عليه السلام رآه وهو يتوضا للصلاة - وكان ذا وسوسة - فصب على أعضائه ماء كثيرا ، فقال له : أرقت ماء كثيرا يا حسن ، فقال : ما أراق أمير المؤمنين من دماء المسلمين أكثر ! قال : أو ساءك ذلك ؟ قال : نعم ، قال : فلا زلت مسوأ .
قالوا : فما زال الحسين عابسا قاطبا مهموما إلى أن مات .
فأما أصحابنا فإنهم يدفعون ذلك عنه وينكرونه ويقولون : إنه كان من محبى على بن أبى طالب عليه السلام والمعظمين له .
وروى أبو عمر بن عبد البر المحدث في كتابه المعروف ب ، ، الاستيعاب في معرفة الصحاب ، ، أن إنسانا سأل الحسن عن على عليه السلام ، فقال : كان والله سهما صائبا من مرامي الله على عدوه ، ورباني هذه الامة وذا فضلها ، وذا سابقتها ، وذا قرابتها من رسول الله صلى الله عليه وآله ، لم يكن بالنؤمة عن أمر الله ، ولا بالملومة في دين الله ، ولا بالسروقة لمال الله ، أعطى القرآن عزائمه ففاز منه برياض مونقة ، ذلك على بن أبى طالب يا لكع ! وروى الواقدي ، قال : سئل الحسن عن على عليه السلام - وكان يظن به الانحراف عنه ، ولم يكن كما يظن - فقال : ما أقول فيمن جمع الخصال الاربع : ائتمانه على براءة ،
__________
(1) الحشف : أردأ التمر .
(*)(4/95)
وما قال له الرسول في غزاة تبوك ، فلو كان غير النبوة شئ يفوته لاستثناه ، وقول النبي صلى الله عليه وآله : (الثقلان كتاب الله وعترتي) ، وإنه لم يؤمر عليه أمير قط وقد أمرت الامراء على غيره .
وروى أبان بن عياش ، قال : سألت الحسن البصري عن على عليه السلام ، فقال : ما أقول فيه ! كانت له السابقة ، والفضل والعلم والحكمة والفقه والرأى والصحبة والنجدة والبلاء والزهد والقضاء والقرابة ، إن عليا كان في أمره عليا ، رحم الله عليا ، وصلى عليه ! فقلت : يا أبا سعيد ، أتقول : (صلى عليه) لغير النبي ! فقال : ترحم على المسلمين إذا ذكروا ، وصل على النبي وآله وعلى خير آله .
فقلت : أ هو خير من حمزة وجعفر ؟ قال : نعم ، قلت : وخير من فاطمة وابنيها ؟ قال : نعم ، والله إنه خير آل محمد كلهم ، ومن يشك أنه خير منهم ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله : (وأبوهما خير منهما) ! ولم يجر عليه اسم شرك ، ولا شرب خمر ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله لفاطمة عليها السلام : (زوجتك خير أمتى) ، فلو كان في أمته خير منه لاستثناه ، ولقد آخى رسول الله صلى الله عليه وآله بين أصحابه ، فآخى بين على ونفسه ، فرسول الله صلى الله عليه وآله خير الناس نفسا ، وخيرهم أخا .
فقلت : يا أبا سعيد ، فما هذا الذى يقال عنك ! إنك قلته في على ؟ فقال : يا بن أخى ، أحقن دمى من هؤلاء الجبابرة ، ولو لا ذلك لشالت (1) بى الخشب .
* * * قال شيخنا أبو جعفر الاسكافي رحمه الله تعالى ، ووجدته أيضا في كتاب ، ، الغارات ، ، لابراهيم بن هلال الثقفى : وقد كان بالكوفة من فقهائها من يعادى عليا ويبغضه ، مع غلبة التشيع على الكوفة ، فمنهم مرة الهمداني .
__________
(1) ب : (لسالت) .
(*)(4/96)
وروى أبو نعيم الفضل بن دكين عن فطر بن خليفة ، قال : سمعت مرد يقول : لان يكون على جملا يستقى عليه أهله خير له مما كان عليه .
وروى إسماعيل بن بهرام ، عن إسماعيل بن محمد ، عن عمرو بن مرة ، قال : قيل لمرة الهمداني : كيف تخلفت عن على ؟ قال (1) : سبقنا بحسناته ، وابتلينا بسيئاته .
قال إسماعيل بن بهرام : وقد روينا عنه أنه قال أشد فحشا من هذا ، ولكنا نتورع عن ذكره .
وروى الفضل بن دكين عن الحسن بن صالح ، قال : لم يصل أبو صادق على مرة الهمداني .
قال الفضل بن دكين : وسمعت أن أبا صادق قال في أيام حياة مرة : والله لا يظلنى وإياه سقف بيت أبدا .
قال : ولما مات لم يحضره عمرو بن شرحبيل ، قال : لا أحضره لشئ كان في قلبه على على بن أبى طالب .
قال إبراهيم بن هلال : فحدثنا المسعودي ، عن عبد الله بن نمير بهذا الحديث .
قال : ثم كان عبد الله بن نمير يقول - وكذلك أنا ، والله لو مات رجل في نفسه (2) شئ على على عليه السلام لم أحضره ، ولم أصل عليه .
* * * ومنهم الاسود بن يزيد ومسروق بن الاجدع ، روى سلمة بن كهيل : أنهما كانا يمشيان إلى بعض أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله ، فيقعان في على عليه السلام ، فأما الاسود فمات على ذلك ، وأما مسروق فلم يمت حتى كان لا يصلى لله تعالى صلاة
__________
(1) : ب (فقال) .
(2) ب (في قلبه) .
(7 - نهج - 4) (*)(4/97)
إلا صلى بعدها على على بن أبى طالب عليه السلام ، لحديث سمعه من عائشة في فضله .
وروى أبو نعيم الفضل بن دكين ، عن عبد السلام بن حرب ، عن ليث بن أبى سليم ، قال : كان مسروق يقول : كان على كحاطب ليل ، قال : فلم يمت مسروق حتى رجع عن رأيه هذا .
وروى سلمة بن كهيل ، قال : دخلت أنا وزبيد اليمامى على امرأة مسروق بعد موته ، فحدثتنا ، قالت : كان مسروق والاسود بن يزيد يفرطان في سب على ابن أبى طالب ، ثم ما مات مسروق حتى سمعته يصلى عليه ، وأما الاسود فمضى لشأنه .
قال : فسألناها : لم ذلك ؟ قالت : شئ سمعه من عائشة ترويه عن النبي صلى الله عليه وآله فيمن أصاب الخوارج .
وروى أبو نعيم ، عن عمرو بن ثابت ، عن أبى إسحاق ، قال : ثلاثة لا يؤمنون على على ابن أبى طالب : مسروق ، ومرة ، وشريح .
وروى أن الشعبى رابعهم .
وروى عن هيثم ، عن مجالد ، عن الشعبى ، أن مسروقا ندم على إبطائه عن على ابن أبى طالب عليه السلام .
وروى الاعمش ، عن إبراهيم التيمى ، قال : قال على عليه السلام لشريح ، وقد قضى قضية نقم عليه أمرها : والله لانفينك إلى بانقيا (1) شهرين تقضى بين اليهود ، قال : ثم قتل على عليه السلام ومضى دهر ، فلما قام المختار بن أبى عبيد قال لشريح : ما قال لك أمير المؤمنين عليه السلام يوم كذا ؟ قال : إنه قال لى كذا ، قال : فلا والله لا تقعد ، حتى تخرج إلى بانقيا تقضى بين اليهود .
فسيره إليها فقضى بين اليهود شهرين .
* * *
__________
(1) بانقيا ، بكسر النون : ناحية من نواحى الكوفة كانت على شواطى الفرات (مراصد الاطلاع) .
(*)(4/98)
ومنهم أبو وائل شقيق بن سلمة ، كان عثمانيا يقع في على عليه السلام ، ويقال : إنه كان يرى رأى الخوارج ، ولم يختلف في أنه خرج معهم ، وأنه عاد إلى على عليه السلام منيبا مقلعا .
روى خلف بن خليفة ، قال : قال أبو وائل : خرجنا أربعة آلاف ، فخرج إلينا على ، فما زال يكلمنا حتى رجع منا ألفان .
وروى صاحب كتاب ، ، الغارات ، ، عن عثمان بن أبى شيبة ، عن الفضل ابن دكين ، عن سفيان الثوري ، قال : سمعت أبا وائل يقول : شهدت صفين وبئس الصفوف كانت ! قال : وقد روى أبو بكر بن عياش ، عن عاصم بن أبى النجود ، قال : كان أبو وائل عثمانيا ، وكان زر بن حبيش علويا .
* * * ومن المبغضين القالين : أبو بردة بن أبى موسى الاشعري ، ورث البغضة له ، لا عن كلالة (1) .
وروى عبد الرحمن بن جندب ، قال : قال أبو بردة لزياد : أشهد أن حجر بن عدى قد كفر بالله كفرة أصلع ، قال عبد الرحمن : إنما عنى بذلك نسبة الكفر إلى على ابن أبى طالب عليه السلام ، لانه كان أصلع .
قال : وقد روى عبد الرحمن المسعودي ، عن ابن عياش المنتوف ، قال : رأيت أبا بردة قال لابي العادية الجهنى قاتل عمار بن ياسر : أ أنت قتلت عمار بن ياسر ؟ قال : نعم ، قال : ناولنى يدك ، فقبلها ، وقال : لا تمسك النار أبدا .
__________
(1) يقال : لم يرثه كلالة ، أي لم يرثه عن عرض بل قرب ، يريد أنه ورث البغض عن أبيه أبى موسى الاشعري .
(*)(4/99)
وروى أبو نعيم عن هشام بن المغيرة ، عن الغضبان بن يزيد ، قال : رأيت أبا بردة قال لابي العادية قاتل عمار بن ياسر : مرحبا بأخى هاهنا ! فأجلسه إلى جانبه .
* * * ومن المنحرفين عنه عليه السلام أبو عبد الرحمن السلمى القارئ ، روى صاحب كتاب ، ، الغارات ، ، عن عطاء بن السائب ، قال : قال رجل لابي عبد الرحمن السلمى : أنشدك بالله ، إن سألتك لتخبرنى ؟ قال : نعم ، فلما أكد عليه قال : بالله هل أبغضت عليا إلا يوم قسم المال في الكوفة فلم يصلك ولا أهل بيتك منه بشئ ! قال : أما إذ أنشدتني بالله ، فلقد كان كذلك .
قال : وروى أبو عمر الضرير ، عن أبى عوانة ، قال : كان بين عبد الرحمن بن عطية وبين أبى عبد الرحمن السلمى شئ في أمر على عليه السلام ، فأقبل أبو عبد الرحمن على حيان ، فقال : هل تدرى ما جرأ صاحبك على الدماء ؟ يعنى عليا ، قال وما جرأه لا أبا لغيرك ! قال : حدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لاهل بدر : (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ، أو كلاما هذا معناه .
* * * وكان عبد الله بن عكيم عثمانيا ، وكان عبد الرحمن بن أبى ليلى علويا ، فروى موسى الجهنى ، عن ابنة عبد الله بن عكيم ، قالت : تحدثا يوما فسمعت أبى يقول لعبد الرحمن : أما إن صاحبك لو صبر لاتاه الناس .
* * * وكان سهم بن طريف عثمانيا ، وكان على بن ربيعة علويا ، فضرب أمير الكوفة على الناس بعثا ، وضرب على سهم بن طريف معهم ، فقال سهم لعلى بن ربيعة : اذهب إلى الامير فكلمه في أمرى ليعفينى ، فأتى على بن ربيعة الامير ، فقال : أصلحك الله !(4/100)
إن سهما أعمى فأعفه ، قال : قد أعفيته ، فلما التقيا قال : قد أخبرت الامير أنك أعمى ، وإنما عنيت عمى القلب .
* * * وكان قيس بن أبى حازم يبغض عليا عليه السلام ، روى وكيع عن إسماعيل ابن أبى خالد ، عن قيس بن أبى حازم ، قال : أتيت عليا عليه السلام ليكلم لى عثمان في حاجة ، فأبى فأبغضته .
قلت : وشيوخنا المتكلمون - رحمهم الله - يسقطون روايته عن النبي صلى الله عليه وآله : (إنكم لترون ربكم ترون القمر ليلة البدر) ، و يقولون : إنه كان يبغض عليا عليه السلام ، فكان فاسقا ، ونقلوا عنه أنه قال : سمعت عليا عليه السلام يخطب على المنبر ، ويقول : (انفروا إلى بقية الاحزاب) ، فدخل بغضه في قلبى .
* * * وكان سعيد بن المسيب منحرفا عنه عليه السلام ، وجبهه عمر بن على عليه السلام في وجهه بكلام شديد .
روى عبد الرحمن بن الاسود ، عن أبى داود الهمداني ، قال : شهدت سعيد ابن المسيب - وأقبل عمر بن على بن أبى طالب عليه السلام ، فقال له سعيد : يا بن أخى ، ما أراك تكثر غشيان مسجد رسول الله صلى الله عليه كما يفعل إخوتك وبنو أعمامك ! فقال عمر : يا بن المسيب ، أ كلما دخلت المسجد أجئ فأشهدك ! فقال سعيد : ما أحب أن تغضب ، سمعت أباك يقول : إن لى من الله مقاما لهو خير لبنى عبد المطلب مما على الارض من شئ .
فقال عمر : وأنا سمعت أبى يقول : ما كلمة حكمة(4/101)
في قلب منافق فيخرج من الدنيا ، حتى (1) يتكلم بها .
فقال سعيد : يا بن أخى ، جعلتني منافقا ! قال : هو ما أقول لك .
ثم انصرف .
* * * وكان الزهري من المنحرفين عنه عليه السلام .
وروى جرير بن عبد الحميد ، عن محمد بن شيبة قال : شهدت مسجد المديند ، فإذا الزهري وعروة بن الزبير جالسان يذكران عليا عليه السلام ، فنالا منه ، فبلغ ذلك على ابن الحسين عليه السلام ، فجاء حتى وقف عليهما ، فقال : أما أنت يا عروة ، فإن أبى حاكم أباك إلى الله ، فحكم لابي على أبيك ، وأما أنت يا زهرى ، فلو كنت بمكة لاريتك كبر أبيك .
وقد روى من طرق كثيرة ، أن عروة بن الزبير كان يقول : لم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه يزهو إلا على بن أبى طالب وأسامة بن زيد .
وروى عاصم بن أبى عامر البجلى ، عن يحيى بن عروة ، قال : كان أبى إذا ذكر عليا نال منه .
وقال لى مرة : يا بنى ، والله ما أحجم الناس عنه إلا طلبا للدنيا ، لقد بعث إليه أسامة بن زيد أن ابعث إلى بعطائي ، فو الله إنك لتعلم أنك لو كنت في فم أسد لدخلت معك .
فكتب إليه : إن هذا المال لمن جاهد عليه ، ولكن لى مالا بالمدينة فأصب منه ما شئت .
قال يحيى : فكنت أعجب من وصفه إياه بما وصفه به ، ومن عيبه له وانحرافه عنه .
* * * وكان زيد بن ثابت عثمانيا شديدا في ذلك ، وكان عمرو بن ثابت عثمانيا ، من أعداء على عليه السلام ومبغضيه ، وعمرو بن ثابت هو الذى روى عن أبى إيوب الانصاري حديث : (ستة أيام من شوال) .
__________
(1) ب : (إلا) .
(*)(4/102)
روى عن عمرو أنه كان يركب ويدور القرى بالشام ويجمع أهلها ، ويقول : أيها الناس ، إن عليا كان رجلا منافقا ، أراد أن ينخس برسول الله صلى الله عليه وآله ليلة العقبة ، فالعنوه ، فيلعنه أهل تلك القرية ، ثم يسير إلى القرية الاخرى ، فيأمرهم بمثل ذلك ، وكان في أيام معاوية .
* * * وكان مكحول من المبغضين له عليه السلام ، روى زهير بن معاوية عن الحسن بن الحر ، قال : لقيت مكحولا ، فإذا هو مطبوع - يعنى مملوءا - بغضا لعلى عليه السلام - فلم أزل به حتى لان وسكن .
وروى المحدثون عن حماد بن زيد ، أنه قال : أرى أن أصحاب على أشد حبا له من أصحاب العجل لعجلهم .
وهذا كلام شنيع .
وروى عن شبابة بن سوار أنه ذكر عنده ولد على عليه السلام ، وطلبهم الخلافة فقال : والله لا يصلون إليها أبدا ، والله ما استقامت لعلى ، ولا فرح بها يوما ، فكيف تصير إلى ولده ! هيهات هيهات لا ! والله لا يذوق طعم الخلافة من رضى بقتل عثمان .
* * * وقال شيخنا أبو جعفر الاسكافي : كان أهل البصرة كلهم يبغضونه ، وكثير من أهل الكوفة وكثير من أهل المدينة ، وأما أهل مكد فكلهم كانوا يبغضونه قاطبة ، وكانت قريش كلها على خلافه ، وكان جمهور الخلق مع بنى أمية عليه .
وروى عبد الملك بن عمير ، عن عبد الرحمن بن أبى بكرة ، قال : سمعت عليا عليه السلام ، وهو يقول : ما لقى أحد من الناس ما لقيت ! ثم بكى عليه السلام .
وروى الشعبى ، عن شريح بن هانئ ، قال : قال على عليه السلام : اللهم إنى أستعديك(4/103)
على قريش ، فإنهم قطعوا رحمى ، وأصغوا (1) إنائى ، وصغروا عظيم منزلتي ، وأجمعوا على منازعتي .
وروى جابر عن أبى الطفيل ، قال : سمعت عليا عليه السلام ، يقول : اللهم إنى أستعديك على قريش ، فإنهم قطعوا رحمى ، وغصبوني حقى ، وأجمعوا على منازعتي أمرا كنت أولى به ، ثم قالوا : إن من الحق أن نأخذه ، ومن الحق أن تتركه .
وروى المسيب بن نجبة الفزارى ، قال : قال على عليه السلام : من وجدتموه من بنى أمية في ماء فغطوا على صماخه ، حتى يدخل الماء في فيه .
وروى عمرو بن دينار ، عن ابن أبى مليكة ، عن المسور بن مخرمة ، قال : لقى عبد الرحمن ابن عوف عمر بن الخطاب ، فقال : أ لم نكن نقرأ من جملة القرآن : قاتلوهم في آخر الامر كما قاتلتموهم في أوله ؟ قال : بلى ، ولكن ذاك إذا كان الامراء بنى أمية والوزراء بنى مخزوم ! وروى أبو عمر النهدي ، قال : سمعت على بن الحسين يقول : ما بمكة والمدينة عشرون رجلا يحبنا .
وروى سفيان الثوري ، عن عمرو بن مرة ، عن أبى البخترى ، قال : أثنى رجل على على بن أبى طالب في وجهه - وكان يبغضه - فقال على : أنا دون ما تقول ، وفوق ما في نفسك .
وروى أبو غسان النهدي ، قال : دخل قوم من الشيعة على على عليه السلام في الرحبة ، وهو على حصير خلق ، فقال : ما جاء بكم ؟ قالوا : حبك يا أمير المؤمنين ، قال : أما إنه من أحبنى رأني حيث يحب أن يرانى ، ومن أبغضني رأني حيث يكره أن يرانى ، ثم قال : ما عبد الله أحد قبلى إلا نبيه عليه السلام ، ولقد هجم أبو طالب علينا وأنا وهو ساجدان ، فقال : أو فعلتموها ! ثم قال لى وأنا غلام : ويحك ، انصر ابن عمك ! ويحك لا تخذله ،
__________
(1) يقال : أصغى فلان إناء فلان إذا أماله ونقصه حقه .
(اللسان) .
(*)(4/104)
وجعل يحثنى على مؤازرته ومكانفته ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : (أ فلا تصلى أنت معنا يا عم !) فقال : لا أفعل يا بن أخى ، لا تعلونى استى .
ثم انصرف .
وروى جعفر بن الاحمر ، عن مسلم الاعور ، عن حبة العرنى ، قال : قال على عليه السلام : من أحبنى كان معى ، أما إنك لو صمت الدهر كله ، وقمت الليل كله ، ثم قتلت بين الصفا والمروة - أو قال بين الركن والمقام - لما بعثك الله إلا مع هواك بالغا ما بلغ ، إن في جنة ففى جنة ، وإن في نار ففى نار .
وروى جابر الجعفي ، عن على عليه السلام أنه قال : من أحبنا أهل البيت فليستعد عدة للبلاء .
وروى أبو الأحوص ، عن أبى حيان عن على عليه السلام : يهلك في رجلان ، محب غال ، ومبغض قال .
وروى حماد بن صالح ، عن أيوب ، عن كهمس ، أن عليا عليه السلام قال : يهلك في ثلاثة : اللاعن والمستمع المقر ، وحامل الوزر ، وهو الملك المترف ، الذى يتقرب إليه بلعنتي ، ويبرأ عنده من دينى ، وينتقص عنده حسبى ، وإنما حسبى حسب رسول الله صلى الله عليه وآله ، وديني دينه .
وينجو في ثلاثة : من أحبنى ، ومن أحب محبى ، ومن عادى عدوى ، فمن أشرب قلبه بغضى أو ألب على بغضى ، أو انتقصني ، فليعلم أن الله عدوه وخصمه (1) ؟ والله عدو للكافرين .
وروى محمد بن الصلت ، عن محمد بن الحنفية ، قال : من أحبنا نفعه الله بحبنا ، ولو كان أسيرا بالديلم .
وروى أبو صادق ، عن ربيعة بن ناجد ، عن على عليه السلام ، قال : قال لى رسول الله صلى الله عليه وآله : (إن فيك لشبها من عيسى بن مريم ، أحبته النصارى حتى أنزلته بالمنزلد التى ليست له ، وأبغضته اليهود حتى بهتت أمه) .
__________
(1) ج : (و جبريل خصمه) .
(*)(4/105)
وروى صاحب كتاب ، ، الغارات ، ، حديث البراءة على غير الوجه المذكور في كتاب ، ، نهج البلاغة ، ، ، قال : أخبرنا يوسف بن كليب المسعودي ، عن يحيى بن سليمان العبدى ، عن أبى مريم الانصاري ، عن محمد بن على الباقر عليه السلام ، قال : خطب على عليه السلام على منبر الكوفة ، فقال : سيعرض عليكم سبى ، وستذبحون عليه ، فإن عرض عليكم سبى فسبوني ، وإن عرض عليكم البراءة منى ، فإنى على دين محمد صلى الله عليه وسلم ؟ ولم يقل : (فلا تبرءوا منى) .
وقال أيضا : حدثنى أحمد بن مفضل ، قال : حدثنى الحسن بن صالح ، عن جعفر بن محمد عليه السلام .
قال : قال على عليه السلام : والله لتذبحن على سبى - وأشار بيده إلى حلقه - ثم قال : فإن أمروكم بسبي فسبوني ، وإن أمروكم أن تبرءوا منى فإنى على دين محمد صلى الله عليه وآله .
ولم ينههم عن إظهار البراءة .
وروى شيخنا أبو القاسم البلخى رحمه الله تعالى ، عن سلمة بن كهيل ، عن المسيب بن نجبة ، قال : بينا على عليه السلام يخطب إذ قام أعرابي ، فصاح : وا مظلمتاه ! فاستدناه على عليه السلام ، فلما دنا قال له : إنما لك مظلمة واحدة ، وأنا قد ظلمت عدد المدر والوبر .
قال : وفي رواية عباد بن يعقوب ، أنه دعاه فقال له : ويحك ! وأنا والله مظلوم أيضا ، هات فلندع على من ظلمنا .
وروى سدير الصير في ، عن أبى جعفر محمد بن على ، قال : اشتكى على عليه السلام شكاة ، فعاده أبو بكر وعمر ، وخرجا من عنده ، فأتيا النبي صلى الله عليه وآله ، فسألهما : من أين جئتما ؟ قالا : عدنا عليا ، قال : كيف رأيتماه ؟ قال ، رأيناه يخاف عليه مما به ، فقال : (كلا إنه لن يموت حتى يوسع غدرا وبغيا ، وليكونن في هذه الامة عبرة يعتبر به الناس من بعده) .(4/106)
وروى عثمان بن سعيد ، عن عبد الله بن الغنوى ، أن عليا عليه السلام خطب بالرحبة ، فقال : أيها الناس ، إنكم قد أبيتم إلا أن أقولها ! ورب السماء والارض ، إن من عهد النبي الامي إلى : (إن الامة ستغدر بك بعدى) .
وروى هيثم بن بشير ، عن إسماعيل بن سالم مثله ، وقد روى أكثر أهل الحديث هذا الخبر بهذا اللفظ أو بقريب منه .
وروى أبو جعفر الاسكافي أيضا أن النبي صلى الله عليه وآله دخل على فاطمة عليها السلام ، فوجد عليا نائما ، فذهبت تنبهه ، فقال : (دعيه فرب سهر له بعدى طويل ، ورب جفوة لاهل بيتى من أجله شديدة) فبكت ، فقال : (لا تبكى فإنكما معى ، وفي موقف الكرامة عندي) .
وروى الناس كافة أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال له : (هذا وليى وأنا وليه عاديت من عاداه ، وسالمت من سالمه) ، أو نحو هذا اللفظ .
وروى أيضا محمد بن عبيد الله بن أبى رافع ، عن زيد بن على بن الحسين عليه السلام ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعلى عليه السلام : (عدوك عدوى وعدوى عدو الله عزوجل) .
وروى يونس بن حباب ، عن أنس بن مالك ، قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وعلى بن أبى طالب معنا ، فمررنا بحديقة ، فقال على : يا رسول الله ، أ لا ترى ما أحسن هذه الحديقة ! فقال : (إن حديقتك في الجنة أحسن منها) ، حتى مررنا بسبع حدائق ، يقول على ما قال ، ويجيبه رسول الله صلى الله عليه وآله بما أجابه .
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وآله وقف فوقفنا ، فوضع رأسه على رأس على وبكى ، فقال على : ما يبكيك يا رسول الله ؟ قال : (ضغائن في صدور قوم لا يبدونها لك حتى يفقدوني) ،(4/107)
فقال : يا رسول الله ، أفلا أضع سيفى على عاتقي فأبيد خضراءهم ! قال : بل قصير ، قال : فإن صبرت ! قال : تلاقى جهدا ، قال : أ في سلامة من دينى ؟ قال : نعم ، قال : فإذا لا أبالى .
وروى جابر الجعفي ، عن محمد بن على عليه السلام ، قال : قال على عليه السلام : ما رأيت منذ بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله رخاء ، لقد أخافتني قريش صغيرا ، وأنصبتني كبيرا ، حتى قبض الله رسوله ، فكانت الطامة الكبرى ، والله المستعان على ما تصفون ! وروى صاحب كتاب ، ، الغارات ، ، عن الاعمش ، عن أنس بن مالك ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : سيظهر على الناس رجل من أمتى ، عظيم السرم ، واسع البلعوم ، يأكل ولا يشبع ، يحمل وزر الثقلين ، يطلب الامارة يوما ، فإذا أدركتموه فابقروا بطنه ، قال : وكان في يد رسول الله صلى الله عليه وآله قضيب ، قد وضع طرفه في بطن معاوية .
قلت : هذا الخبر مرفوع مناسب لما قاله على عليه السلام في ، ، نهج البلاغة ، ، ومؤكد لاختيارنا أن المراد به معاوية ، دون ما قاله كثير من الناس أنه زياد والمغيرة .
وروى جعفر بن سليمان الضبعى ، عن أبى هارون العبدى ، عن أبى سعيد الخدرى قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله يوما لعلى ما يلقى بعده من العنت فأطال ، فقال له عليه السلام : أنشدك الله والرحم يا رسول الله لما دعوت الله أن يقبضنى إليه قبلك ! قال : كيف أسأله في أجل مؤجل ! قال : يا رسول الله ، فعلام أقاتل من أمرتنى بقتاله ؟ قال : على الحدث في الدين .
وروى الاعمش ، عن عمار الدهنى ، عن أبى صالح الحنفي ، عن على عليه السلام قال :(4/108)
قال لنا يوما : لقد رأيت الليلة رسول الله صلى الله عليه وآله في المنام ، فشكوت إليه ما لقيت حتى بكيت ، فقال لى : انظر ، فنظرت فإذا جلاميد ، وإذا رجلان مصفدان - قال الاعمش : هما معاوية وعمرو بن العاص - قال : فجعلت أرضخ رؤوسهما ثم تعود ، ثم أرضخ ثم تعود ، حتى انتبهت .
وروى نحو هذا الحديث عمرو بن مرة ، عن أبى عبد الله بن سلمة عن على عليه السلام ، قال : رأيت الليلة رسول الله صلى الله عليه وآله ، فشكوت إليه ، فقال : هذه جهنم ، فانظر من فيها ، فإذا معاوية وعمرو بن العاص معلقين بأرجلهما منكسين ، ترضخ رؤوسهما بالحجارة - أو قال : تشدخ .
وروى قيس بن الربيع ، عن يحيى بن هانئ المرادى ، عن رجل من قومه يقال له رياد ابن فلان ، قال : كنا في بيت مع على عليه السلام نحن شيعته (1) وخواصه ، فالتفت فلم ينكر منا أحدا ، فقال : إن هؤلاء القوم سيظهرون عليكم فيقطعون أيديكم ويسملون أعينكم ، فقال رجل منا : وأنت حى يا أمير المؤمنين ؟ قال : أعاذني الله من ذلك ، فالتفت فإذا واحد يبكى ، فقال له : يا بن الحمقاء ، أ تريد اللذات في الدنيا والدرجات في الاخرة ! إنما وعد الله الصابرين .
وروى زرارة بن أعين عن أبيه ، عن أبى جعفر محمد بن على عليه السلام ، قال : كان على عليه السلام إذا صلى الفجر لم يزل معقبا إلى أن تطلع الشمس ، فإذا طلعت اجتمع إليه الفقراء والمساكين وغيرهم من الناس ، فيعلمهم الفقه والقرآن ، وكان له وقت يقوم فيه من مجلسه ذلك ، فقام يوما فمر برجل ، فرماه بكلمة هجر - قال : لم يسمه محمد بن على عليه السلام - فرجع عوده على بدئه حتى صعد المنبر ، وأمر فنودى : الصلاة جامعة ! فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على نبيه ثم قال : أيها الناس ، إنه ليس شئ أحب إلى الله ولا أعم نفعا من
__________
(1) ب : (نحن وشيعته وخواصه) .
(*)(4/109)
حلم إمام وفقهه ، ولا شئ أبغض إلى الله ولا أعم ضررا من جهل إمام وخرقه ، ألا وإنه من لم يكن له من نفسه واعظ لم يكن له من الله حافظ ، ألا وإنه من أنصف من نفسه لم يزده الله إلا عزا ، ألا وإن الذل في طاعة الله أقرب إلى الله من التعزز في معصيته .
ثم قال : أين المتكلم آنفا ؟ فلم يستطع الانكار ، فقال : هأنذا يا أمير المؤمنين ، فقال : أما إنى لو أشاء لقلت ، فقال : إن تعف وتصفح ، فأنت أهل ذلك ، قال ، قد عفوت وصفحت ، فقيل لمحمد بن على عليه السلام : ما أراد أن يقول ؟ قال : أراد أن ينسبه .
وروى زرارة أيضا ، قال : قيل لجعفر بن محمد عليه السلام : إن قوما هاهنا ينتقصون عليا عليه السلام ، قال : بم ينتقصونه لا أبا لهم ! وهل فيه موضع نقيصة ! والله ما عرض لعلى أمران قط كلاهما لله طاعة إلا عمل بأشدهما وأشقهما عليه ، ولقد كان يعمل العمل كأنه قائم بين الجنة والنار ، ينظر إلى ثواب هؤلاء فيعمل له ، وينظر إلى عقاب هؤلاء فيعمل له ، وإن كان ليقوم إلى الصلاة فإذا قال : وجهت وجهى تغير لونه ، حتى يعرف ذلك في وجهه (1) ، ولقد أعتق ألف عبد من كد يده ، كل منهم (2) يعرق فيه جبينه ، وتحفى فيه كفه ، ولقد بشر بعين نبعت في ماله مثل عنق الجزور ، فقال : بشر الوارث بشر ، ثم جعلها صدقة على الفقراء والمساكين وابن السبيل إلى أن يرث الله الارض ومن عليها ، ليصرف الله النار عن وجهه ، ويصرف وجهه عن النار .
وروى القناد ، عن أبى مريم الانصاري ، عن على عليه السلام : لا يحبنى كافر ولا ولد زنا .
وروى جعفر بن زياد ، عن أبى هارون العبدى ، عن أبى سعيد الخدرى ، قال : كنا بنور إيماننا نحب على بن أبى طالب عليه السلام ، فمن أحبه عرفنا أنه منا .
* * *
__________
(1) ج : (لونه) .
(2) ب : (كلهم) .
(*)(4/110)
[ فصل في معنى قول على : (فسبوني فإنه لى زكاة) ] المسألة الثالثة : في معنى قوله عليه السلام : (فسبوني ، فإنه لى زكاة ، ولكم نجاة) ، فنقول : إنه أباح لهم سبه عند الاكراه ، لان الله تعالى قد أباح عند الاكراه التلفظ بكلمة الكفر ، فقال : (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان) ، والتلفظ بكلمة الكفر أعظم من التلفظ بسب الامام .
فأما قوله : (فإنه لى زكاة ولكم نجاة) ، فمعناه أنكم تنجون من القتل إذا أظهرتم ذلك ، ومعنى الزكاة يحتمل أمرين : أحدهما ما ورد في الاخبار النبوية أن سب المؤمن زكاة له وزيادة في حسناته .
والثانى : أن يريد به أن سبهم لى لا ينقص في الدنيا من قدري ، بل أزيد به شرفا وعلو قدر ، وشياع ذكر ، وهكذا كان ، فإن الله تعالى جعل الاسباب التى حاول أعداؤه بها الغض منه عللا لانتشار صيته في مشارق الارض ومغاربها .
وقد لمح هذا المعنى أبو نصر بن نباتة ، فقال للشريف الجليل محمد بن عمر العلوى : وأبوك الوصي أول من شا * د منار الهدى وصام وصلى نشرت حبله قريش فأعطته إلى صبحة القيامة فتلا واحتذيت أنا حذوه ، فقلت لابي المظفر هبة الله بن موسى الموسوي رحمه الله تعالى : في قصيدة أذكر فيها أباه : أمك الدرة التى أنجبت من * جوهر المجد راضيا مرضيا وأبوك الامام موسى كظيم الغيظ حتى يعيده منسيا(4/111)
وأبوه تاج الهدى جعفر الصا * دق وحيا عن الغيوب وحيا وأبوه محمد باقر العلم مضى لنا هاديا مهديا وأبوه السجاد أتقى عباد ال * له لله مخلصا ووفيا والحسين الذى تخير أن يقضى عزيزا ولا يعيش دنيا وأبوه الوصي أول من طا * ف ولبى سبعا وساق الهديا طامنت مجده قريش فأعطته إلى سدرة السماء رقيا أخملت صيته فطار إلى أن * ملا الافق ضجة ودويا وأبو طالب كفيل أبى القاسم كهلا ويافعا وفتيا ولشيخ البطحاء تاج معد * شيبة الحمد هل علمت سميا ! وأبو عمر العلا هاشم الجو * د ومن مثل هاشم بشريا ! وأبوه الهمام عبد مناف * قل تقل صادقا وتبدى بديا ثم زيد - أعنى قصى الذى لم * يك عن ذروة العلاء قصيا نسب إن تلفع النسب المحض لفاعا كان السليب العريا وإذا أظلمت مناسخة الا ن * ساب يوما كان المنير الجليا يا له مجدة على قدم الدهر وقد يفضل العتيق الطريا وذكرنا هاهنا ما قبل المعنى وما بعده ، لان الشعر حديث ، والحديث - كما قيل - يأخذ بعضه برقاب بعض ، ولان ما قبل المعنى وما بعده مكمل له ، وموضح مقصده .
فإن قلت : أي مناسبة بين لفظ (الزكاة) وانتشار الصيت والسمع ؟ قلت : لان الزكاة هي النماء والزيادة ، ومنه سميت الصدقة المخصوصة زكاة لانها تنمى المال المزكى ، وانتشار الصيت نماء وزيادة * * *(4/112)
[ فصل في اختلاف الرأى في معنى السب والبراءة ] المسألة الرابعة : أن يقال : كيف قال عليه السلام : (فأما السب فسبوني فإنه لى زكاة ولكم نجاة ، وأما البراءة فلا تبرءوا منى) ؟ وأى فرق بين السب والبراءة ؟ وكيف أجاز لهم السب ومنعهم عن التبرؤ ، والسب أفحش من التبرؤ ! والجواب ، أما الذى يقوله أصحابنا في ذلك فإنه لا فرق عندهم بين سبه (1) والتبرؤ منه ، في أنهما حرام وفسق وكبيرة ، وأن المكره عليهما يجوز له فعلهما عند خوفه على نفسه ، كما يجوز له إظهار كلمة الكفر عند الخوف .
ويجوز ألا يفعلهما وإن قتل ، إذا قصد بذلك إعزاز الدين ، كما يجوز له أن يسلم نفسه للقتل ولا يظهر كلمة الكفر إعزاز للدين ، وإنما استفحش عليه السلام البراءة لان هذه اللفظة ما وردت في القرآن العزيز إلا عن المشركين ، أ لا ترى إلى قوله تعالى : (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين (2)) ، وقال تعالى : (..أن الله برئ من المشركين ورسوله) (3) ، فقد صارت بحسب العرف الشرعي مطلقه على المشركين خاصة ، فإذن يحمل هذا النهى على ترجيح تحريم لفظ البراءة على لفظ السب ، وإن كان حكمهما واحدا ، أ لا ترى أن إلقاء المصحف في القذر أفحش من إلقاء المصحف في دن الشراب ، وإن كانا جميعا محرمين ، وكان حكمهما واحدا ! فأما الامامية فتروى عنه عليه السلام أنه قال : إذا عرضتم على البراءة منا فمدوا الاعناق .
ويقولون : إنه (4) لا يجوز التبرؤ منه ، وإن كان الحالف صادقا ، وإن عليه الكفارة .
__________
(1) ج : (السب) .
(2) سورة التوبة 1 .
(3) سورة التوبة 3 .
(4) ساقطة من ا .
(8 - نهج - 4) (*)(4/113)
ويقولون : إن حكم البراءة من الله تعالى ومن الرسول ومنه عليه السلام ومن أحد الائمة عليهم السلام ، حكم واحد .
ويقولون : إن الاكراه على السب يبيح إظهاره ، ولا يجوز الاستسلام للقتل معه ، وأما الاكراه على البراءة ، فإنه يجوز معه الاستسلام للقتل ويجوز أن يظهر التبرؤ ، والاولى أن يستسلم للقتل .
* * * [ فصل في معنى قول على : (إنى ولدت على الفطرة) ] المسألة الخامسة : أن يقال : كيف علل نهيه لهم على البراءة منه عليه السلام ، بقوله : (فإنى ولدت على الفطرة) ، فإن هذا التعليل لا يختص به عليه السلام ، لان كل أحد (1) يولد على الفطرة ، قال النبي صلى الله عليه وآله : (كل مولود يولد على الفطرة ، وإنما أبواه يهودانه وينصرانه) .
والجواب ، أنه عليه السلام علل نهيه لهم عن البراءة منه بمجموع أمور وعلل ، وهى كونه ولد على الفطرة ، وكونه سبق إلى الايمان والهجرة ، ولم يعلل بآحاد هذا المجموع ، ومراده هاهنا بالولادة على الفطرة أنه لم يولد في الجاهلية ، لانه ولد عليه السلام لثلاثين عاما مضت من عام الفيل ، والنبى صلى الله عليه وآله أرسل لاربعين سنة مضت من عام الفيل ، وقد جاء في الاخبار الصحيحة أنه صلى الله عليه وآله مكث قبل الرسالة سنين عشرا يسمع الصوت ويرى الضوء ، ولا يخاطبه أحد ، وكان ذلك إرهاصا لرسالته عليه السلام فحكم تلك السنين العشر حكم أيام رسالته صلى الله عليه وآله ، فالمولود فيها إذا كان في حجره وهو المتولي لتربيته مولود في أيام كأيام النبوة ، وليس بمولود في جاهلية محضة ، ففارقت حاله حال من يدعى له من الصحابة مماثلته في الفضل .
وقد روى أن السنة التى ولد فيها على
__________
(1) ج : (واحد) (*)(4/114)
عليه السلام هي السنة التى بدئ فيها برسالة رسول الله صلى الله عليه وآله ، فأسمع الهتاف من الاحجار والاشجار ، وكشف عن بصره ، فشاهد أنوارا وأشخاصا ، ولم يخاطب فيها (1) بشئ .
وهذه السنة هي السنة التى ابتدأ فيها بالتبتل والانقطاع والعزلة في جبل حراء ، فلم يزل به حتى كوشف بالرسالة ، وأنزل عليه الوحى ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يتيمن بتلك السنة وبولادة على عليه السلام فيها ، ويسميها سنة الخير وسنة البركة ، وقال لاهله ليلة ولادته ، وفيها شاهد ما شاهد من الكرامات والقدرة الالهية ، ولم يكن من قبلها شاهد من ذلك شيئا : (لقد ولد لنا الليلة مولود يفتح الله علينا به أبوابا كثيرة من النعمة والرحمة) ، وكان كما قال صلوات الله عليه ، فإنه عليه السلام كان ناصره والمحامي عنه وكاشف الغماء (2) عن وجهه ، وبسيفه ثبت دين الاسلام ، ورست دعائمه ، وتمهدت قواعده عليه السلام .
وفي المسألة تفسير آخر ، وهو أن يعنى بقوله عليه السلام : (فإنى ولدت على الفطرة) ، أي على الفطرة التى لم تتغير ولم تحل ، وذلك أن معنى قول النبي صلى الله عليه وآله : (كل مولود يولد على الفطرة) أن كل مولود فإن الله تعالى قد هيأه بالعقل الذى خلقه فيه وبصحة الحواس والمشاعر لان يعلم التوحيد والعدل ، ولم يجعل فيه مانعا يمنعه عن ذلك ، ولكن التربية والعقيدة في الوالدين والالف لاعتقادهما وحسن الظن فيهما يصده عما فطر عليه ، وأمير المؤمنين عليه السلام دون غيره ، ولد على الفطرة التى لم تحل ولم يصد عن مقتضاها مانع ، لا من جانب الابوين ولا من جهه غيرهما ، وغيره ولد على الفطرة ، ولكنه حال عن مقتضاها ، وزال عن موجبها .
ويمكن أن يفسر بأنه عليه السلام اراد بالفطرة العصمة ، وأنه منذ ولد لم يواقع قبيحا ،
__________
(1) ج : (منها) .
(2) ج : (الغم) .
(*)(4/115)
ولا كان كافرا طرفة عين قط ، ولا مخطئا ولا غالطا في شئ من الاشياء المتعلقة بالدين .
وهذا تفسير الامامية .
* * * [ فصل فيما قيل من سبق على إلى الاسلام ] المسألة السادسة : أن يقال : كيف قال : (وسبقت إلى الايمان) ، وقد قال قوم (1) من الناس : إن أبا بكر سبقه ، وقال قوم : إن زيد بن حارثه سبقه ؟ والجواب ، أن أكثر أهل الحديث وأكثر المحققين من أهل السيرة رووا أنه عليه السلام أول من أسلم ، ونحن نذكر كلام أبى عمر يوسف بن عبد البر ، المحدث في كتابه المعروف ، ، بالاستيعاب ، ، .
قال أبو عمر في ترجمة (2) على عليه السلام : المروى عن سلمان وأبى ذر والمقداد وخباب وأبى سعيد الخدرى وزيد بن أسلم أن عليا عليه السلام أول من أسلم ، وفضله هؤلاء على غيره .
قال أبو عمر : وقال ابن إسحاق : أول من آمن بالله وبمحمد رسول الله صلى الله عليه وآله على بن أبى طالب عليه السلام ، وهو قول ابن شهاب ، إلا أنه قال : (من الرجال بعد خديجة) .
قال أبو عمر : و حدثنا أحمد بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن الفضل ، قال : حدثنا محمد بن جرير ، قال : حدثنا على بن عبد الله الدهقان ، قال : حدثنا محمد بن صالح ، عن سماك بن حرب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لعلى عليه السلام أربع خصال ، ليست
__________
(1) ب : (كثير) ، وما أثبته من ج .
(2) الاستيعاب 1089 وما بعدها .
(*)(4/116)
لاحد غيره : هو أول عربي وعجمي صلى مع رسول الله صلى الله عليه وآله ، وهو الذى كان معه لواؤه في كل زحف ، وهو الذى صبر معه يوم فرعنه غيره ، وهو الذى غسله وأدخله قبره .
قال أبو عمر : وروى عن سلمان الفارسى أنه قال : أول هذه الامة ورودا على نبيها صلى الله عليه وآله الحوض ، أولها إسلاما : على بن أبى طالب .
وقد روى هذا الحديث مرفوعا عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وآله ، أنه قال : (أول هذه الامة ورودا على الحوض أولها إسلاما : على بن أبى طالب) .
قال أبو عمر : ورفعه أولى ، لان مثله لا يدرك بالرأى .
قال أبو عمر : فأما إسناد المرفوع ، فإن أحمد بن قاسم ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن الحارث بن أبى أسامة ، قال : حدثنى يحيى بن هاشم ، قال : حدثنا سفيان الثوري ، عن سلمة بن كهيل ، عن أبى صادق ، عن حنش بن المعتمر ، عن عليم (1) الكندى ، عن سلمان الفارسى ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : (أولكم واردا على الحوض أولكم إسلاما ، على بن أبى طالب) .
قال أبو عمر : وروى أبو داود الطيالسي ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن أبى بلج ، عن عمرو بن ميمون ، عن ابن عباس أنه قال : أول من صلى مع النبي صلى الله عليه وآله بعد خديجة على بن أبى طالب .
قال أبو عمر : وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير بن حرب ، قال : حدثنا الحسن بن حماد ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن أبى بلج عن عمروو بن ميمون ، عن ابن عباس ، قال : كان على أول من آمن من الناس بعد خديجد .
قال أبو عمر : هذا الاسناد لا مطعن فيه لاحد ، لصحته وثقة نقلته ، وقد عارض (2)
__________
(1) في الاصول : (عكيم) ، وما أثبته عن الاستيعاب .
(2) ج .
(عورض) ، والاستيعاب : (وهو يعارض) .
(*)(4/117)
ما ذكرنا في باب أبى بكر الصديق ، عن ابن عباس ، والصحيح في أمر أبى بكر أنه أول من أظهر إسلامه ، كذلك قاله مجاهد وغيره ، قالوا : ومنعه قومه .
قال أبو عمر : اتفق ابن شهاب ، وعبد الله بن محمد بن عقيل ، وقتادة ، وابن إسحاق على أن أول من أسلم (1) من الرجال على .
واتفقوا على أن خديجة أول من آمن بالله ورسوله وصدقه فيما جاء به ، ثم على بعد ها .
وروى عن أبى رافع مثل ذلك .
قال أبو عمر : وحدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا عبد السلام بن صالح ، قال : حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردى ، قال : حدثنا عمر مولى غفرة ، قال : سئل محمد بن كعب القرظى عن أول من أسلم : على أم أبى بكر ؟ فقال : سبحان الله ! على أولهما إسلاما ، وإنما شبه على الناس ، لان عليا أخفى إسلامه من أبى طالب ، وأسلم أبو بكر فأظهر إسلامه .
قال أبو عمر : ولا شك عندنا أن عليا أولهما إسلاما ، ذكر عبد الرزاق في جامعه ، عن معمر ، عن قتادة ، عن الحسن وغيره قالوا : أول من أسلم بعد خديجة على بن أبى طالب عليه السلام .
وروى معمر عن عثمان الجزرى ، عن مقسم (2) عن ابن عباس ، قال : أول من أسلم على بن أبى طالب .
قال أبو عمر : روى ابن فضيل عن الاجلح ، عن حبة بن جوين العرنى ، قال : سمعت عليا عليه السلام ، يقول : لقد عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الامة خمس سنين .
قال أبو عمر : وروى شعبة ، عن سلمة بن كهيل ، عن حبة العرنى ، قال : سمعت عليا يقول : أنا أول من صلى مع رسول الله صلى الله عليه .
__________
(1) ج : (آمن) .
(2) هو مقسم بن بجرة .
ويقال : نجدة .
(*)(4/118)
قال أبو عمر : وقد روى سالم بن أبى الجعد ، قال : قلت لابن الحنفية : أبو بكر كان أولهما إسلاما ؟ قال : لا .
قال أبو : عمر وروى مسلم الملائى ، عن أنس بن مالك ، قال : استنبئ النبي صلى الله عليه وآله يوم الاثنين ، وصلى على يوم الثلاثاء .
قال أبو عمر : وقال زيد بن أرقم أول من آمن بالله بعد رسول الله صلى الله عليه وآله على بن أبى طالب .
قال : وقد روى حديث زيد بن أرقم من وجوه ، ذكرها النسائي وأسلم بن موسى وغيرهما ، منها ما حدثنا به عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا على بن الجعد ، قال : حدثنا شعبة ، قال : أخبرني عمرو بن مرة ، قال : سمعت أبا حمزة الانصاري قال : سمعت زيد بن أرقم يقول : أول من صلى مع رسول الله صلى الله عليه وآله على بن أبى طالب .
قال أبو عمر : [ وحدثنا عبد الوارث ، حدثنا قاسم ، حدثنا أحمد بن زهير بن حرب ، (1) ] ، حدثنا أبى ، قال : حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، قال : حدثنا ابن إسحاق قال : حدثنا يحيى بن أبى الاشعث ، عن إسماعيل بن إياس بن عفيف الكندى ، عن أبيه ، عن جده ، قال : كنت امرأ تاجرا ، فقدمت الحج ، فأتيت العباس ابن عبد المطلب لابتاع منه بعض التجارة - وكان امرأ تاجرا - فو الله إنى لعنده بمنى إذ خرج رجل من خباء قريب منه ، فنظر إلى الشمس ، فلما رآها قد مالت قام يصلى ، ثم خرجت امرأة من ذلك الخباء الذى خرج منه ذلك الرجل ، فقامت خلفه تصلى ، ثم خرج غلام حين راهق الحلم من ذلك الخباء ، فقام معه يصلى ، فقلت للعباس : ما هذا يا عباس ؟ قال : هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، ابن أخى ، قلت : من هذه المرأة ؟
__________
(1) من الاستيعاب .
(*)(4/119)
قال امرأته خديجة بنت خويلد ، قلت : ما هذا الفتى ؟ قال : على بن أبى طالب ابن عمه ، قلت : ما هذا الذى يصنع ؟ قال : يصلى ، وهو يزعم أنه نبى ، ولم يتبعه على أمره إلا امرأته وابن عمه هذا الغلام ، وهو يزعم أنه سيفتح على أمته كنوز كسرى وقيصر ، قال : فكان عفيف الكندى يقول - وقد أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه : لو كان الله رزقني الاسلام يومئذ كنت أكون ثانيا مع على .
قال أبو عمر : وقد ذكرنا هذا الحديث من طرق في باب عفيف الكندى من هذا الكتاب .
قال أبو عمر : ولقد قال على عليه السلام : صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله كذا وكذا ، لا يصلى معه غيرى إلا خديجة .
فهذه الروايات والاخبار كلها ، ذكرها أبو عمر يوسف بن عبد البر في الكتاب المذكور ، وهى كما تراها تكاد تكون إجماعا .
قال أبو عمر : وإنما الاختلاف في كمية سنة عليه السلام يوم أسلم ، ذكر الحسن ابن على الحلواني في كتاب ، ، المعرفة ، ، له ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا الليث ابن سعد ، عن أبى الاسود محمد بن عبد الرحمن ، أنه بلغه أن عليا والزبير أسلما وهما ابنا ثمانى سنين .
كذا يقول أبو الأسود يتيم عروة ، وذكره أيضا ابن أبى خيثمة عن قتيبة بن سعيد ، عن الليث بن سعد ، عن أبى الاسود ، وذكره عمر بن شبة ، عن الحزامى ، عن أبى وهب ، عن الليث ، عن أبى الاسود ، قال الليث : وهاجرا وهما ابنا ثمان عشرة سنة .
قال أبو عمر : ولا أعلم أحدا قال بقول أبى الاسود هذا .
قال أبو عمر : وروى الحسن بن على الحلواني ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا معمر ، عن قتادة ، عن الحسن ، قال : أسلم على وهو ابن خمس عشرة سنة .(4/120)
قال أبو عمر : وأخبرنا أبو القاسم خلف بن قاسم بن سهل ، قال : حدثنا أبو الحسن على بن محمد بن إسماعيل الطوسى ، قال : أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق بن إبراهيم السراج ، قال : حدثنا محمد بن مسعود ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن الحسن ، قال : أسلم على - وهو أول من أسلم - وهو ابن خمس عشرة سنة ، أو ست عشرة سنة .
قال أبو عمر : قال ابن وضاح : وما رأيت أحدا قط أعلم بالحديث من محمد بن مسعود ، ولا بالرأى من سحنون .
قال أبو عمر : قال ابن إسحاق : أول ذكر آمن (1) بالله ورسوله على بن أبى طالب عليه السلام ، وهو يومئذ ابن عشر سنين .
قال أبو عمر : والروايات في مبلغ سنه عليه السلام مختلفة ، قيل : أسلم وهو ابن ثلاث عشرة سنة .
وقيل : ابن اثنتى عشرة سنة .
وقيل : ابن خمس عشرة سنة .
وقيل : ابن ست عشرة .
وقيل : ابن عشر .
وقيل : ابن ثمان .
قال أبو عمر : وذكر عمر بن شبة ، عن المدائني ، عن ابن جعدة ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : أسلم على وهو ابن ثلاث عشرة سنة .
قال : وأخبرنا إبراهيم بن المنذر الحرامى ، قال : حدثنا محمد بن طلحة ، قال : حدثنى جدى إسحاق بن يحيى ، عن طلحة ، قال : كان على بن أبى طالب عليه السلام والزبير ابن العوام وطلحة بن عبيد الله ، وسعد بن أبى وقاص أعمارا واحدة .
قال : وأخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن ، قال : حدثنا إسماعيل بن على الخطبى ، قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : حدثنى أبى ، قال : حدثنا حجين أبو عمر ، قال : حدثنا حبان ، عن معروف ، عن أبى معشر ، قال : كان على عليه السلام وطلحة والزبير في سن واحدة .
__________
(1) ج : (أسلم) .
(*)(4/121)
قال : وروى عبد الرزاق ، عن الحسن وغيره : أن أول من أسلم بعد خديجة على ابن أبى طالب عليه السلام ، وهو ابن خمس عشرة سنة ، أو ست عشرة .
قال أبو عمر : وروى أبو زيد عمر بن شبة ، قال : حدثنا شريح بن النعمان ، قال : حدثنا الفرات بن السائب ، عن ميمون بن مهران ، عن ابن عمر ، قال : أسلم على وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، وتوفى وهو ابن ثلاث وستين سنة .
قال أبو عمر : هذا أصح ما قيل في ذلك والله أعلم .
انتهى حكاية كلام أبى عمر في كتاب ، ، الاستيعاب ، ، .
* * * واعلم أن شيوخنا المتكلمين لا يكادون يختلفون في أن أول الناس إسلاما على ابن أبى طالب عليه السلام ، إلا من عساه خالف في ذلك من أوائل البصريين ، فأما الذى تقررت المقالة عليه الان فهو القول بأنه أسبق الناس إلى الايمان ، لا تكاد تجد اليوم في تصانيفهم وعند متكلميهم والمحققين منهم خلافا في ذلك .
واعلم أن أمير المؤمنين عليه السلام ما زال يدعى ذلك لنفسه ، ويفتخر به ، ويجعله في أفضليته على غيره ، ويصرح بذلك ، وقد قال غير مرة : أنا الصديق الاكبر ، والفاروق الاول ، أسلمت قبل إسلام أبى بكر ، وصليت قبل صلاته .
وروى عنه هذا الكلام بعينه أبو محمد بن قتيبة في كتاب ، ، المعارف ، ، (1) وهو غير متهم في أمره .
ومن الشعر المروى عنه عليه السلام في هذا المعنى الابيات التى أولها : محمد النبي أخى وصهري * وحمزة سيد الشهداء عمى ومن جملتها : سبقتكم إلى الاسلام طر * غلاما ما بلغت أوان حلمي
__________
(1) المعارف 167 (*)(4/122)
والاخبار الواردة في هذا الباب كثيرة جدا لا يتسع هذا الكتاب لذكرها ، فلتطلب من مظانها .
ومن تأمل كتب السير والتواريخ عرف من ذلك ما قلناه .
فأما الذاهبون إلى أن أبا بكر أقدمهما إسلاما فنفر قليلون ، ونحن نذكر ما أورده ابن عبد البر أيضا في كتاب ، ، الاستيعاب ، ، في ترجمة أبى بكر (1) .
قال أبو عمر : حدثنى خالد بن القاسم ، قال : حدثنا أحمد بن محبوب ، قال : حدثنا محمد ابن عبدوس ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة ، قال : حدثنا شيخ لنا ، قال : أخبرنا مجالد ، عن الشعبى ، قال : سألت ابن عباس - أو سئل : - أي الناس كان أول إسلاما ؟ فقال : أما سمعت قول حسان بن ثابت : إذا تذكرت شجوا من أخى ثقة * فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا (2) خير البرية أتقاها وأعدلها * بعد النبي وأوفاها بما حملا والثانى التالى المحمود مشهده * وأول الناس منهم صدق الرسلا ويروى أن النبي صلى الله عليه وآله ، قال لحسان : (هل قلت في أبى بكر شيئا ؟) ، قال : نعم ، وأنشده هذه الابيات ، وفيها بيت رابع : وثاني اثنين في الغار المنيف وقد * طاف العدو به إذ صعدوا الجبلا فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقال : (أحسنت يا حسان) ، وقد روى فيها بيت خامس : وكان حب رسول الله قد علموا * من البرية لم يعدل به رجلا
__________
(1) كتاب الاستيعاب ص 964 (2) ديوانه 299 ، 300 مع اختلاف في الرواية وترتيب الابيات .
(*)(4/123)
وقال أبو عمر : وروى شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن إبراهيم النخعي ، قال : أول من أسلم أبو بكر .
قال : وروى الجريرى ، عن أبى نصر ، قال : قال أبو بكر لعلى عليه السلام : أنا أسلمت قبلك ، في حديث ذكره فلم ينكره عليه .
قال أبو عمر : وقال فيه أبو محجن الثقفى : وسميت صديقا وكل مهاجر * سواك يسمى باسمه غير منكر سبقت إلى الاسلام والله شاهد * وكنت جليسا بالعريش المشهر وبالغار إذ سميت خلا وصاحبا * وكنت رفيقا للنبى المطهر قال أبو عمر : وروينا من وجوه ، عن أبى أمامة الباهلى ، قال : حدثنى عمرو ابن عبسة ، قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله ، وهو نازل بعكاظ ، فقلت : يا رسول الله ، من اتبعك على هذا الامر ؟ فقال : حر وعبد : أبو بكر وبلال .
قال : فأسلمت عند ذلك ، وذكر الحديث .
هذا مجموع ما ذكره أبو عمر بن عبد البر في هذا الباب في ترجمة أبى بكر ، ومعلوم أنه لا نسبة لهذه الروايات إلى الروايات التى ذكرها في ترجمة على عليه السلام الدالة على سبقه ، ولا ريب أن الصحيح ما ذكره أبو عمر أن عليا عليه السلام كان هو السابق ، وأن أبا بكر هو أاول من أظهر إسلامه ، فظن أن السبق له .
وأما زيد بن حارثة ، فإن أبا عمر بن عبد البر رضى الله تعالى عنه ذكر في كتاب ، ، الاستيعاب ، ، أيضا في ترجمة زيد بن حارثة ، قال : ذكر معمر بن شبة في جامعه عن الزهري أنه قال : ما علمنا أحدا أسلم قبل زيد بن حارثة (1) .
__________
(1) الاستيعاب 542 (*)(4/124)
قال عبد الرزاق : وما أعلم أحدا ذكره غير الزهري .
ولم يذكر صاحب ، ، الاستيعاب ، ، ما يدل على سبق زيد إلا هذه الرواية ، واستغربها ، فدل مجموع ما ذكرناه أن عليا عليه السلام أول الناس إسلاما ، وأن المخالف في ذلك شاذ ، الشاذ لا يعتد به .
* * * [ فصل فيما ذكر من سبق على إلى الهجرة ] المسألة السابعة : أن يقال : كيف قال : (إنه سبق إلى الهجرة) ومعلوم أن جماعة من المسلمين هاجروا قبله ، منهم عثمان بن مظعون وغيره ، وقد هاجر أبو بكر قبله ، لانه هاجر في صحبة النبي صلى الله عليه وآله ، وتخلف على عليه السلام عنهما (1) ، فبات على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله ، ومكث أياما يرد الودائع التى كانت عنده ، ثم هاجر بعد ذلك ؟ والجواب ، أنه عليه السلام لم يقل : (وسبقت كل الناس إلى الهجرة) ، وإنما قال : (وسبقت) فقط ، ولا يدل ذلك على سبقه للناس كافة ، ولا شبهة أنه سبق معظم المهاجرين إلى الهجرة ، ولم يهاجر قبله أحد إلا نفر يسير جدا .
وأيضا فقد قلنا إنه علل أفضليته وتحريم البراءة منه مع إلا كراه بمجموع أمور : منها ولادته على الفطرة ، ومنها سبقه إلى الايمان ، ومنها سبقه إلى الهجرة ، وهذه الامور الثلاثة لم تجتمع لاحد غيره ، فكان بمجموعها متميزا عن كل أحد من الناس .
وأيضا فإن اللام في (الهجرة) يجوز ألا تكون للمعهود السابق ، بل تكون للجنس ، وأمير المؤمنين عليه السلام سبق أبا بكر وغيره إلى الهجرة التى قبل هجرة المدينة ، فإن النبي صلى الله عليه وآله هاجر عن مكة مرارا يطوف على أحياء العرب ، وينتقل من
__________
(1) ج : (عنه) .
(*)(4/125)
أرض قوم إلى غيرها ، وكان على عليه السلام معه دون غيره .
أما هجرته إلى بنى شيبان ، فما اختلف أحد من أهل السيرة أن عليا عليه السلام كان معه هو وأبو بكر ، وأنهم غابوا عن مكة ثلاثة عشر يوما وعادوا إليها ، لما لم يجدوا عند بنى شيبان ما أرادوه من النصرة .
وروى المدائني في كتاب ، ، الامثال ، ، عن المفضل الضبى ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما خرج عن مكة يعرض نفسه على قبائل العرب ، خرج إلى ربيعة ، ومعه على عليه السلام وأبو بكر ، فدفعوا إلى مجلس من مجالس العرب ، فتقدم أبو بكر - وكان نسابة - فسلم فردوا عليه السلام ، فقال : ممن القوم ؟ قالوا : من ربيعة ، قال : أ من هامتها أم من لهازمها ؟ (2) قالوا : من هامتها العظمى ، فقال : من أي هامتها العظمى أنتم ؟ قالوا : من ذهل الاكبر ، قال : أ فمنكم عوف الذى يقال له : لا حر بوادي عوف ؟ قالوا : لا ، قال : أ فمنكم بسطام ذو اللواء ومنتهى الاحياء ؟ قالوا : لا ، قال : أ فمنكم جساس حامى الذمار ومانع الجار ؟ قالوا : لا ، قال : أ فمنكم الحوفزان ، قاتل الملوك وسالبها أنفسها ؟ قالوا : لا ، قال : أ فمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة ؟ قالوا : لا ، قال : أ فأنتم أخوال الملوك من كندة ؟ قالوا : لا ، قال : فلستم إذن ذهلا الا كبر ، أنتم ذهل الاصغر .
فقام إليه غلام قد بقل (3) وجهه ، اسمه دغفل ، فقال : إن على سائلنا أن نسأله * والعبء لا تعرفه أو تحمله
__________
(1) الخبر في مجمع الامثال 17 ، 18 (2) فسره صاحب اللسان فقال : (وفي حديث أبى بكر والنسابة : (أمن هامتها أو لهازمها) ، أي من أشرافها أنت أو من أوساطها ، واللهازم أصول الحنكين ، واحدتها لهزمة بالكسر ، فاستعارها لوسط النسب والقبيلة) .
(3) بقل وجهه ، أي خرج شعره .
(*)(4/126)
يا هذا ، إنك قد سألتنا فأجبناك ، ولم نكتمك شيئا ، فممن الرجل ؟ قال : من قريش ، قال : بخ بخ ! أهل الشرف والرياسة ، فمن أي قريش أنت ؟ قال : من تيم بن مرة ، قال : أمكنت والله الرامى من الثغرة (1) ، أ منكم قصى بن كلاب الذى جمع القبائل من فهر فكان يدعى مجمعا ؟ قال : لا ، قال : أ فمنكم هاشم الذى هشم لقومه الثريد ؟ (2) قال : لا ، قال : أ فمنكم شيبة الحمد ، مطعم طير السماء ؟ (3) قال : لا ، قال : أ فمن المفيضين بالناس أنت ؟ قال : لا ، قال : أ فمن أهل الندوة أنت ؟ قال : لا ، قال : أ فمن أهل الرفادة (4) أنت قال : لا ، قال : أ فمن أهل الحجابة أنت ؟ قال : لا ، قال : أ فمن أهل السقاية ؟ قال : لا ، قال : فاجتذب أبو بكر زمام ناقته ، ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله هاربا من الغلام ، فقال دغفل : * صادف درء السيل درء يصدعه (5) * أما والله لو ثبت لاخبرتك أنك من زمعات (6) قريش ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله .
وقال على عليه السلام لابي بكر : لقد وقعت يا أبا بكر من الاعرابي على باقعة ، قال : أجل ، إن لكل طامة طامة والبلاء موكل بالمنطق ، فذهبت مثلا .
* * * وأما هجرته صلى الله عليه وآله إلى الطائف ، فكان معه على عليه السلام وزيد بن
__________
(1) في مجمع الامثال : (من صفاء الثغرة) (2) بعده في مجمع الامثال : (ورجال مكة مسنتون عجاف) .
(3) بعده في مجمع الامثال : (الذى كان في وجهه قمر يضئ ليل الظلام الداجي) .
(4) في اللسان : (الرفادة شئ كانت قريش تترافد به في الجاهلية ، فيخرج كل إنسان مالا بقدر طاقته ، فيجمعون من ذلك مالا عظيما أيام الموسم ، فيشترون به للحاج الجزر والطعام والزبيب فلا يزالون يطعمون الناس حتى تنقضي أيام الموسم ، وكانت الرفادة والسقاية لبنى هاشم والسدانة واللواء لبنى عبدالدار ، وكان أول من قام بالرفادة هاشم بن عبد مناف) .
(5) درأ الوادي بالسيل ، دفعه ، وأورد المثل صاحب اللسان وفسره بقوله : (يقال للسيل إذا أتاك من حيث لا تحتسبه : سيل درء ، أي يدفع هذا ذاك وذاك هذا) .
(6) الزمعة في الاصل : التلعة الصغيرة ، أي لست من أشرافهم .
وانظر اللسان (زمع) .
(*)(4/127)
حارثة في رواية أبى الحسن المدائني ، ولم يكن معهم أبو بكر .
وأما رواية محمد بن إسحاق ، فإنه قال : كان معه زيد بن حارثة وحده ، وغاب رسول الله صلى الله عليه وآله عن مكة في هذه الهجرة أربعين يوما ، ودخل إليها في جوار مطعم بن عدى .
* * * وأما هجرته صلى الله عليه وآله إلى بنى عامر بن صعصعة وإخوانهم من قيس عيلان ، فإنه لم يكن معه إلا على عليه السلام وحده ، وذلك عقيب وفاة أبى طالب ، أوحى إليه صلى الله عليه وآله : اخرج منها ، فقد مات ناصرك ، فخرج إلى بنى عامر بن صعصعة ، ومعه على عليه السلام وحده ، فعرض نفسه عليهم وسألهم النصر ، وتلا عليهم القرآن فلم يجيبوه ، فعادا عليهما السلام إلى مكة ، وكانت مدة غيبته في هذه الهجرة عشرة أيام ، وهى أول هجرة هاجرها صلى الله عليه وآله بنفسه .
فأما أول هجرة هاجرها أصحابه ولم يهاجر بنفسه فهجرة الحبشة ، هاجر فيها كثير من أصحابه عليه السلام إلى بلاد الحبشة في البحر ، منهم جعفر بن أبى طالب عليه السلام ، فغابوا عنه سنين ، ثم قدم عليه منهم من سلم وطالت أيامه (1) وكان قدوم جعفر عليه عام فتح خيبر ، فقال صلى الله عليه وآله : (ما أدرى بأيهما أنا أسر ، أ بقدوم جعفر أم بفتح خيبر) !
__________
(1) ج : (مدته) .
(*)(4/128)
(57) ومن كلام له عليه السلام كلم به الخوارج : الاصل : أصابكم حاصب ، ولا بقى منكم آبر .
أ بعد إيمانى بالله ، وجهادي مع رسول الله صلى الله عليه ، أشهد على نفسي بالكفر ! لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين .
فأوبوا شر مآب ، وارجعوا على أثر الاعقاب .
أما إنكم ستلقون بعدى ذلا شاملا ، وسيفا قاطعا ، وأثرة يتخذها الظالمون فيكم سنة .
* * * قال الرضى رحمه الله : قوله عليه السلام : (ولا بقى منكم آبر) ، يروى على ثلاثة أوجه : أحدها أن يكون كما ذكرناه : (آبر) بالراء ، من قولهم : رجل آبر ، للذى يأبر النخل ، أي يصلحه .
ويروى : (آثر) بالثاء ، بثلاث نقط ، يراد به الذى يأثر الحديث ، أي يرويه ويحكيه ، وهو أصح الوجوه عندي ، كأنه عليه السلام قال : لا بقى منكم مخبر .
ويروى : (آبز) بالزاى المعجمة ، وهو الواثب ، والهالك أيضا يقال له : آبز .
* * *
__________
(9 - نهج - 4) (*)(4/129)
الشرح : الحاصب : الريح الشديدة التى تثير الحصباء ، وهو صغار الحصى ، ويقال لها أيضا حصبه ، قال لبيد : جرت عليها إذ خوت من أهلها * أذيالها كل عصوف حصبه (1) فأما التفسيرات التى فسر بها الرضى رحمه الله تعالى قوله عليه السلام : (آبر) فيمكن أن يزاد فيها ، فيقال : يجوز أن يريد بقوله : (ولا بقى منكم آبر) أي نمام يفسد ذات البين ، والمئبرة : النميمة ، وأبر فلان ، أي نم ، والابر أيضا : من يبغى القوم الغوائل خفية ، مأخوذ من أبرات الكلب إذا أطعمته الابرة في الخبز ، وفي الحديث : (المؤمن كالكلب المأبور) ، ويجوز أن يكون أصله (هابر) ، أي من يضرب بالسيف فيقطع ، وأبدلت الهاء همزة ، كما قالوا في : (آل) أهل ، وإن صحت الرواية الاخرى (آثر) بالثاء بثلاث نقط ، فيمكن أن يريد به ساجى باطن خف البعير ، وكانوا يسجون باطن الخف بحديدة ليقتص أثره ، رجل آثر وبعير مأثور .
وقوله عليه السلام : (فأوبوا شر مآب) ، أي ارجعوا شر مرجع .
والاعقاب : جمع عقب بكسر القاف ، وهو مؤخر القدم ، وهذا كله دعاء عليهم ، قال لهم أولا : أصابكم حاصب ، وهذا من دعاء العرب ، قال تميم بن أبى مقبل : فإذا خلت من أهلها وقطينها * فأصابها الحصباء والسفان ثم قال لهم ثانيا : (لا بقى منكم مخبر) .
ثم قال لهم ثالثا : (ارجعوا شر مرجع) ، ثم قال لهم رابعا : (عودوا على أثر الاعقاب) : وهو مأخوذ من قوله تعالى : (ونرد (2)
__________
(1) ديوانه 355 البيت أيضا في اللسان 1 : 310 (2) سورة الانعام 71 (*)(4/130)
على أعقابنا بعد إذ هدانا الله) ، والمراد انعكاس حالهم ، وعودهم من العز إلى الذل ، ومن الهداية إلى الضلال .
وقوله عليه السلام : (وأثرة يتخذها الظالمون فيكم سنة) فالاثرة هاهنا الاستبداد عليهم بالفئ والغنائم واطراح جانبهم ، وقال النبي صلى الله عليه وآله للانصار : (ستلقون بعدى أثرة فاصبروا حتى تلقوني) .(4/131)
[ أخبار الخوارج وذكر رجالهم وحروبهم ] واعلم أن الخوارج على أمير المؤمنين عليه السلام كانوا أصحابه وأنصاره في الجمل وصفين قبل التحكيم ، وهذه المخاطبة لهم ، وهذا الدعاء عليهم ، وهذا الاخبار عن مستقبل حالهم ، وقد وقع ذلك ، فإن الله تعالى سلط على الخوارج بعده الذل الشامل ، والسيف القاطع ، والاثرة من السلطان ، وما زالت حالهم تضمحل ، حتى أفناهم الله تعالى وأفنى جمهورهم ، ولقد كان لهم من سيف المهلب بن أبى صفرة وبنيه الحتف القاضى ، والموت الزؤام .
ونحن نذكر من أخبار الخوارج وحروبهم هاهنا طرفا .
* * * [ عروة بن حدير ] فمنهم عروة بن حدير أحد بنى ربيعة بن حنظلة من بنى تميم ، ويعرف بعروة ابن أدية وأدية جدة له جاهلية ، وكان له أصحاب وأتباع وشيعة ، فقتله زياد في خلافة معاوية صبرا .
* * * [ نجدة بن عويمر الحنفي ] ومنهم نجدة بن عويمر (1) الحنفي ، كان من رؤسائهم ، وله مقاله (2) مفردة من مقالة الخوارج
__________
(1) وهو نجدة بن عامر ، وانظر الكامل 3 : 184 .
(2) انظر الملل والنحل للشهرستاني 1 : 110 - 112 (*)(4/132)
وله أتباع وأصحاب ، وإليهم أشار الصلتان العبدى بقوله (1) : أرى أمة شهرت سيفها * وقد زيد في سوطها الاصبحي (2) بنجدية أو حررية * وأزرق يدعو إلى أزرقى فملتنا أننا مسلمون * على دين صديقنا والنبى أشاب الصغير وأفنى الكب * ير مر الغداة وكر العشى إذا ليلة أهرمت يومها * أنى بعد ذلك يوم فتى نروح ونغدو لحاجاتنا * وحاجة من عاش لا تنقضي تموت مع المرء حاجاته * وتبقى له حاجة ما بقى وكان نجدة يصلى بمكة بحذاء عبد الله بن الزبير في جمعه [ في كل جمعة ] (3) ، وعبد الله يطلب الخلافة ، فيمسكان عن القتال من أجل الحرم .
وقال الراعى يخاطب عبد الملك (4) : إنى حلفت على يمين برة * لا أكذب اليوم الخليفة قيلا ما إن أتيت أبا خبيب وافدا * يوما أريد لبيعتي تبديلا (5) ولما أتيت نجيدة بن عويمر * أبغى الهدى فيزيدني تضليلا من نعمة الرحمن لا من حيلتى * أنى أعد له على فضولا ! واستولى نجدة على اليمامة ، وعظم أمره ، حتى ملك اليمن والطائف وعمان والبحرين ووادى تميم وعامر ، ثم إن أصحابه نقموا عليه أحكاما أحدثها في مذهبهم ، منها قوله : إن
__________
(1) الابيات في ديوان الحماسة 3 : 191 - بشرح التبريزي ومعاهد التنصيص 1 : 73 ، 74 ، والكامل 6 : 101 - بشرح المرصفى مع اختلاف في الرواية وعدد الابيات وترتيبها .
(2) السوط الاصبحي : منسوب إلى ذى أصبح الحميرى ، وكان أول من اتخذ هذه السياط التى يعاقب عليها السلطان .
انظر الكامل 2 : 246 - بشرح المرصفى (3) من كتاب الكامل بشرح المرصفى 6 : 102 (4) من ملحمته في جمهرة أشعار العرب 174 (5) أبو خبيب : كنية ابن الزبير .
(*)(4/133)
المخطئ بعد الاجتهاد معذور ، وإن الدين أمران : معرفة الله ومعرفة رسوله ، وما سوى ذلك فالناس معذورون بجهله ، إلى أن تقوم عليهم الحجة ، فمن استحل محرما من طريق الاجتهاد فهو معذور ، حتى إن من تزوج أخته أو أمه مستحلا لذلك بجهالة فهو معذور ومؤمن ، فخلعوه وجعلوا اختيار الامام إليه ، فاختار لهم أبا فديك ، أحد بنى قيس بن ثعلبة ، فجعله رئيسهم .
ثم إن أبا فديك أنفذ إلى نجدة بعد من قتله ، ثم تولاه بعد قتله طوائف من أصحابه بعد أن تفرقوا عليه ، وقالوا : قتل مظلوما .
* * * [ المستورد بن سعد التميمي ] ومنهم المستورد بن سعد أحد بنى تميم ، كان ممن شهد يوم النخيلة ونجا بنفسه فيمن نجا من سيف على عليه السلام ، ثم خرج بعد ذلك بمدة على المغيرة بن شعبة ، وهو والى الكوفة لمعاوية بن أبى سفيان في جماعة من الخوارج ، فوجه المغيرة إليه معقل بن قيس الرياحي ، فلما تواقفا دعاه المستورد إلى المبارزة وقال له : علام تقتل الناس بينى وبينك ؟ فقال معقل : النصف سألت ، فأقسم عليه أصحابه ، فقال : ما كنت لابي عليه ، فخرج إليه فاختلفا ضربتين ، خر كل واحد منهما من ضربة صاحبه قتيلا .
وكان المستورد ناسكا كثير الصلاة ، وله آداب وحكم مأثارة (1) .
* * * [ حوثرة الاسدي ] ومنهم حوثرة الاسدي ، خرج على معاوية في عام الجماعة عصابة من الخوارج ، فبعث إليه معاوية جيشا من أهل الكوفة ، فلما نظر حوثرة إليهم ، قال لهم : يا أعداء الله ، أنتم بالامس تقاتلون معاوية لتهدوا سلطانه ، وأنتم اليوم تقاتلون معه لتشدوا سلطانه ! فلما
__________
(1) الكامل 577 (طبعة أوربا) ، وأورد من كلامه : إذا أفضيت بسرى إلى صديقى فأنشاه لم ألمه ، لانى كنت أولى مجفظه .
لا تفش إلى أحد سرا وإن كان مخلصا إلا على وجه المشاورة .
كن أحرص الناس على حفظ سر صاحبك منك على حقن دمك .
(*)(4/134)
التحمت الحرب قتل حوثرة ، قتله رجل من طيئ ، وفضت جموعه (1) .
* * * [ قريب بن مرة وزحاف الطائى ] ومنهم قريب بن مرة الازدي ، وزحاف الطائى ، كانا عابدين مجتهدين من أهل البصرة ، فخرجا في أيام معاوية في إمارة زياد ، واختلف الناس : أيهما كان الرئيس ؟ فاعترضا الناس ، فلقيا شيخا ناسكا من بنى ضبيعة من ربيعة بن نزار فقتلاه - وكان يقال له رؤبة الضبعى - وتنادى الناس ، فخرج رجل من بنى قطيعة ، من الازد ، وفي يده السيف ، فناداه الناس من ظهور البيوت الحرورية : انج بنفسك ، فنادوه : لسنا حرورية ، نحن الشرط [ فوقف ] (2) فقتلوه ، فبلغ أبا بلال مرداس بن أدية خبرهما ، فقال : قريب ، لا قربه الله ! وزحاف لا عفا الله عنه ! ركباها عشواء مظلمة - يريد اعتراضهما الناس - ثم جعلا لا يمران بقبيلة إلا قتلا من وجدا ، حتى مرا على بنى على بن سود ، من الازد ، وكانوا رماة ، كان فيهم مائة يجيدون الرمى ، فرموهم رميا شديدا فصاحوا : يا بنى على ، البقيا ، لا رماء بيننا .
فقال رجل من بنى على بن سود : لا شئ للقوم سوى السهام * مشحوذة في غلس الظلام فعرد عنهم الخوارج (3) ، وخافوا الطلب واشتقوا مقبرة بنى يشكر حتى نفذوا إلى مزينة ينتظرون من يلحق بهم من مضر وغيرها ، فجاءهم ثمانون ، وخرجت إليهم بنو طاحية ، من بنو سود ، وقبائل من مزينة ، وغيرها ، فاستقتلت الخوارج ، وحاربت حتى قتلت عن آخرها ، وقتل قريب وزحاف (4) .
__________
(1) الكامل 579 (طبع أوربا) .
(2) من كتاب الكامل (3) عردوا ، من التعريد وهو الفرار .
(4) الكامل 581 ، 582 (طبع أوربا) .
(*)(4/135)
ومنهم أبو بلال مرداس بن أدية ، وهو أخو عروة بن حدير الذى ذكرناه أولا ، خرج في أيام عبيد الله بن زياد ، وأنفذ إليه ابن زياد عباس بن أخضر المازنى ، فقتله وقتل أصحابه ، وحمل رأسه إلى ابن زياد ، وكان أبو بلال عابدا ناسكا شاعرا ، ومن قدماء أصحابنا من يدعيه ، لما كان يذهب إليه من العدل وإنكار المنكر ، ومن قدماء الشيعة من يدعيه أيضا .
* * * [ نافع بن الازرق الحنفي ] ومنهم نافع بن الازرق الحنفي ، وكان شجاعا مقدما في فقه الخوارج ، وإليه تنسب الازارقة ، وكان يفتى بأن الدار دار كفر ، وأنهم جميعا في النار ، وكل من فيها كافر ، إلا من أظهر إيمانه ، ولا يحل للمؤمنين أن يجيبوا داعيا منهم إلى الصلاة ، ولا أن يأكلوا من ذبائحهم ، ولا أن يناكحوهم ، ولا يتوارث الخارجي وغيره ، وهم مثل كفار العرب وعبدة الاوثان ، لا يقبل منهم إلا الاسلام أو السيف والقعد بمنزلتهم ، والتقية لا تحل ، لان الله تعالى يقول : (إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية) (1) ، وقال فيمن كان على خلافهم : (يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) (2) ، فتفرق عنه جماعة من الخوارج ، منهم نجدة بن عامر ، واحتج نجدة بقول الله تعالى : (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه) ، (3) فسار نجدة وأصحابه إلى اليمامة ، وأضاف نافع إلى مقالته التى (4) قدمناها ، استحلاله الغدر بأمانته لمن خالفه ، فكتب نجدة إليه :
__________
(1) سورة النساء 77 (2) سورة المائدة 54 (3) سورة غافر 28 (4) ب : (مقالة) .
(*)(4/136)
أما بعد ، فإن عهدي بك وأنت لليتيم كالاب الرحيم ، وللضعيف كالاخ البر ، تعاضد قوى المسلمين ، وتصنع للاخرق منهم ، لا تأخذك في الله لومة لائم ، ولا ترى معونة ظالم ، كذلك كنت أنت وأصحابك ، أولا (1) تتذكر قولك : لو لا أنى أعلم أن للامام العادل مثل أجر رعيته ما توليت أمر رجلين من المسلمين ! فلما شريت نفسك في طاعة ربك ابتغاء مرضاته ، وأصبت من الحق فصه (2) ، وصبرت على مره ، تجرد لك الشيطان ، ولم يكن أحد أثقل عليه وطأة منك ومن أصحابك ، فاستمالك واستهواك ، وأغواك فغويت ، وأكفرت الذين عذرهم الله تعالى في كتابه ، من قعدة المسلمين وضعفتهم ، قال الله عزوجل ، وقوله الحق ، ووعده الصدق : (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله) (3) : ثم سماهم تعالى أحسن الاسماء فقال : (ما على المحسنين من سبيل) (4) ثم استحللت قتل الاطفال ، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم عن قتلهم ، وقال الله جل ثناؤه : (ولا تزر وازرة وزر أخرى) (4) ، وقال سبحانه في القعدة خيرا ، فقال : (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما) (5) فتفضيله المجاهدين على القاعدين لا يدفع منزلة من هو دون المجاهدين ، أو ما سمعت قوله تعالى : (لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر) (6) فجعلهم من المؤمنين .
[ وفضل عليهم المجاهدين بأعمالهم ] (7) ثم إنك لا تؤدى أمانة إلى من خالفك ، والله تعالى قد أمر أن تؤدى الامانات إلى أهلها .
فاتق الله في نفسك ، واتق يوما لا يجزى فيه والد عن ولده ، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا ، فإن الله بالمرصاد ، وحكمه العدل ، وقوله الفصل .
والسلام (8) .
__________
(1) الكامل : (أما) (2) فصه : كنهه (3) سورة التوبة 91 (4) سورة الاسراء 15 (5) سورة النساء 95 (6) سورة النساء 95 (7) من كتاب الكامل (8) الكامل 612 (طبع أوربا) (*)(4/137)
فكتب إليه نافع : أما بعد ، أتانى كتابك تعظنى فيه ، وتذكرني وتنصح لى وتزجرني ، وتصف ما كنت عليه من الحق ، وما كنت أوثره من الصواب ، وأنا أسأل الله أن يجعلني من القوم الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه .
وعبت على ما دنت به ، من إكفار القعدة وقتل الاطفال ، واستحلال الامانة من المخالفين ، وسأفسر لك إن شاء الله ...
أما هؤلاء القعدة ، فليسوا كمن ذكرت ممن كان على عهد رسول الله صلى الله عليه ، ولانهم كانوا بمكة مقهورين محصورين لا يجدون إلى الهرب سبيلا ، ولا إلى الاتصال بالمسلمين طريقا ، وهؤلاء قد تفقهوا في الدين ، وقرءوا القرآن ، والطريق لهم نهج واضح .
وقد عرفت ما قال الله تعالى فيمن كان مثلهم ، إذ قالوا : (كنا مستضعفين في الارض) (1) فقال : (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) (1) ، وقال سبحانه : (فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) (2) ، وقال : (وجاء المعذرون من الاعراب ليؤذن لهم) (3) فخبر بتعذيرهم ، وأنهم كذبوا الله ورسوله ، ثم قال : (سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم) (3) فانظر إلى أسمائهم وسماتهم .
وأما الاطفال ، فإن نوحا نبى الله كان أعلم بالله منى ومنك ، وقد قال : (رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) (4) ، فسماهم بالكفر وهم أطفال ، وقبل أن يولدوا ، فكيف كان ذلك
__________
(1) سورة النساء 97 (2) سورة التوبة 81 (3) سورة التوبة 90 (4) سورة نوح 26 ، 27 (*)(4/138)
في قوم نوح ، ولا تقوله في قومنا (1) ، والله تعالى يقول : (أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر) (2) ، وهؤلاء كمشركي العرب ، لا يقبل منهم جزية ، وليس بيننا وبينهم إلا السيف أو الاسلام .
وأما استحلال أامانات من خالفنا فإن الله تعالى أحل لنا أموالهم ، كما أحل دماءهم لنا ، فدماؤهم حلال طلق (3) ، وأموالهم فئ للمسلمين ، فاتق الله وراجع نفسك ، فإنه لا عذر لك إلا بالتوبة ، ولن يسعك خذلاننا والقعود عنا وترك ما نهجناه لك من مقالتنا ، والسلام على من أقر بالحق وعمل به (4) .
وكتب إلى من بالبصرة من المحكمة : أما بعد فإن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون .
إنكم لتعلمون أن الشريعة واحدة ، والدين واحد ، ففيم المقام بين أظهر الكفار ترون الظلم ليلا ونهارا ، وقد ندبكم الله عزوجل إلى الجهاد ، فقال : (وقاتلوا المشركين كافة) (5) ، ولم يجعل لكم في التخلف عذرا في حال من الاحوال ، فقال : (انفروا خفافا وثقالا) (6) وإنما عذر الضعفاء والمرضى ، والذين لا يجدون ما ينفقون ، ومن كانت إقامته لعلة ، ثم فضل عليهم مع ذلك المجاهدين فقال : (لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله) (7) ، فلا تغتروا وتطمئنوا إلى الدنيا ، فإنها غرارة مكارة ، لذتها نافدة ، ونعيمها بائد ، حفت بالشهوات اغترارا ، وأظهرت حبرة (8) وأضمرت عبرة ، فليس آكل منها أكلة تسره ، ولا شارب منها شربة تؤنقه (9) إلا ودنابها درجة إلى أجله ، وتباعد بها مسافة من أمله ، وإنما جعلها الله دار المتزود منها ، إلى النعيم المقيم ، والعيش السليم ، فليس يرضى بها حازم دارا ولا حكيم قرارا ، فاتقوا الله وتزودوا
__________
(1) الكامل : ولا نكون نقوله في قومنا) .
(2) سورة 43 (3) يقال : حل طلق ، أي حلال طيب .
(4) الكامل للمبرد 613 (طبع أوربا) .
(5) سورة التوبة 36 (6) سورة التوبة 41 (7) سورة النساء .
(8) الحبرة : النعمة .
(9) تؤنقه : تعجبه .
(*)(4/139)
فإن خير الزاد التقوى ، والسلام على من اتبع الهدى (1) .
فلما أظهر نافع مقالته هذه ، وانفرد عن الخوارج بها ، أقام في أصحابه بالاهواز يستعرض الناس ، ويقتل الاطفال ، ويأخذ الاموال ، ويجبى الخراج ، وفشا عماله بالسواد ، فارتاع لذلك أهل البصرة ، واجتمع منهم عشرة آلاف إلى الاحنف ، وسألوه أن يؤمر عليهم أميرا يحميهم من الخوارج ، ويجاهد بهم ، فأتى عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وهو المسمى ببة ، فسأله أن يؤمر عليهم - وببة يومئذ أمير البصرة من قبل ابن الزبير - فأمر عليهم مسلم بن عبيس بن كريز ، وكان دينا شجاعا ، فلما خرج بهم من جسر البصرة ، أقبل عليهم ، وقال : أيها الناس ، إنى ما خرجت لامتيار (2) ذهب ولا فضة ، وإنى لاحارب قوما إن ظفرت بهم فما وراءهم إلا السيوف والرماح ، فمن كان شأنه الجهاد ، فلينهض ، ومن أحب الحياة فليرجع .
فرجع نفر يسير ، ومضى الباقون معه ، فلما صاروا بدولاب (3) خرج إليهم نافع وأصحابه ، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى تكسرت الرماح : وعقرت الخيل : وكثر الجراح والقتل ، وتضاربوا بالسيوف والعمد (4) ، فقتل ابن عبيس أمير أهل البصرة ، وقتل نافع بن الازرق أمير الخوارج : وادعى قتله سلامة الباهلى ، وكان نافع قد استخلف عبيد الله ابن بشير بن الماحوز السليطى اليربوعي ، واستخلف ابن عبيس الربيع بن عمرو الاجذم الغدانى اليربوعي ، فكان الرئيسان من بنى يربوع ، فاقتتلوا بعد قتل ابن عبيس ونافع قتالا شديدا نيفا وعشرين يوما ، حتى قال الربيع لاصحابه : إنى رأيت البارحة كأن يدى
__________
(1) الكامل 615 (طبع أوربا) .
(2) امتيار : مصدر امتار لاهله ، أي جلب لهم الميرة ، والميرة : الطعام .
(3) دولاب : قرية بينها وبين الاهواز أربعة فراسخ .
(4) العمد ، بفتحتين ، أو بضمتين جمعان للعمود .
(*)(4/140)
التى أصيبت بكابل انحطت من السماء ، فاستشلتنى (1) ، فلما كان الغد قاتلهم إلى الليل .
ثم عاودهم القتال ، فقتل ، فتدافع أهل البصرة الراية ، حتى خافوا العطب ، إذ لم يكن لهم رئيس .
ثم أجمعوا على الحجاج بن رباب الحميرى ، فأباها ، فقيل له : ألا ترى رؤساء العرب قد اختاروك من بينهم ! فقال : إنها مشئومة ، لا يأخذها أحد إلا قتل ، ثم أخذها فلم يزل يقاتل القوم بدولاب حتى التقى بعمران بن الحارث الراسبى ، وذلك بعد أن اقتتلوا زهاء شهر ، فاختلفا ضربتين ، فخرا ميتين (2) .
وقام حارثة بن بدر الغدانى بأمر أهل البصرة بعده ، وثبت بإزاء الخوارج يناوشهم القتال مناوشة خفيفة ، ويزجى الاوقات انتظارا لقدوم أمير من قبل ببة يلى حرب الخوارج : وهذه الحرب تسمى حرب دولاب : وهى من حروب الخوارج المشهورة ، انتصف فيها الخوارج من المسلمين ، وانتصف المسلمون منهم ، فلم يكن فيها غالب ولا مغلوب .
* * * [ عبيد الله بن بشير بن الماحوز اليربوعي ] ومنهم عبيد الله بن بشير بن الماحوز اليربوعي ، قام بأمر الخوارج يوم دولاب بعد قتل نافع بن الازرق : وقام بأمر أهل البصرة عمر بن عبيد الله بن معمر التيمى : ولاه عبد الله بن الزبير ذلك ، ولقيه كتابه بالامارة وهو يريد الحج ، وقد صار إلى بعض الطريق ، فرجع فأقام بالبصرة ، وولى أخاه عثمان بن عبيد الله بن معمر محاربة الازارقة ، فخرج إليهم في اثنى عشر ألفا ، فلقيه أهل البصرة الذين كانوا في وجه الازارقة ، ومعهم حارثة بن بدر الغدانى ، يقوم بأمرهم عن غير ولاية ، وكان ابن الماحوز حينئذ في سوق الاهواز ، فلما عبر
__________
(1) استشلتنى ، قال المبرد : استشلتنى ، أي أخذتنى إليها واستنقذتني ، يقال : استشلاه واشتلاه .
(2) الكامل 616 - 617 - (طبع أوربا) .
(*)(4/141)
عثمان إليهم دجيلا ، نهضت إليه الخوارج ، فقال عثمان لحارثة : ما الخوارج إلا ما أرى ، فقال حارثة : حسبك بهؤلاء ! قال : لا جرم ! لا أتغدى حتى أناجزهم ، فقال حارثة : إن هؤلاء القوم لا يقاتلون بالتعسف ، فأبق على نفسك وجندك ، فقال : أبيتم يا أهل العراق إلا جبنا ! وأنت يا حارثة ما علمك بالحرب ! أنت والله بغير هذا أعلم - يعرض له بالشراب ، وكان حارثة بن بدر صاحب شراب - فغضب حارثة ، فاعتزل ، وحاربهم عثمان يومه إلى أن غربت الشمس ، فأجلت الحرب عنه قتيلا ، وانهزم الناس ، وأخذ حارثة بن بدر الراية ، وصاح بالناس : أنا حارثة بن بدر ! فثاب إليه قوم فعبر بهم دجيلا ، وبلغ قتل عثمان البصرة ، فقال شاعر من بنى تميم : مضى ابن عبيس صابرا غير عاجز * وأعقبنا هذا الحجازى عثمان (1) فأرعد من قبل اللقاء ابن معمر * وأبرق ، والبرق اليماني خوان (2) فضحت قريشا غثها وسمينها * وقيل بنو تيم بن مرة عزلان (3) فلو لا ابن بدر للعراقين لم يقم * بما قام فيه للعراقين إنسان إذا قيل من حامى الحقيقة ؟ أومأت * إليه معد بالاكف وقحطان ووصل الخبر إلى عبد الله بن الزبير بمكة ، فكتب إلى عمر بن عبيد الله بن معمر بعزله ، وولى الحارث بن عبد الله بن أبى ربيعة المخزومى المعروف بالقباع (4) البصرة ، فقدمها ، فكتب إليه حارثة بن بدر يسأله الولاية والمدد ، فأراد توليته ، فقال له رجل من بكر بن
__________
(1) الابيات في الكامل 625 (طبعة أوربا) (2) قال المبرد : قوله : (فأرعد) زعم الاصمعي أنه خطأ ...
وأنه لا يقال إلا رعد وبرق ...
وروى غير الاصمعي : أرعد وأبرق على ضعف .
وقوله : والبرق اليماني خوان ، يريد : والبرق اليماني يخون (3) كذا في الكامل : وفي ا ، ج : (غيلان) ، وفي ب : (غرلان) .
وعزلان : جمع أعزل ، وهو من لا سلاح معه .
(4) قال المبرد : (وإنما سمى الحارث بن عبد الله القباع ، لانه ولى البصرة ، فعير على الناس مكاييلهم ، فنظر إلى مكيال صغير في مرأة العين ، وقد أحاط بدقيق استكثره ، فقال : إن مكيالكم هذا لقباع ، والقباع : الذى يخفى أو يخفى ما فيه .
الكامل 7 : 43 - بشرح المرصفى .
(*)(4/142)
وائل : إن حارثة ليس بذلك ، إنما هو صاحب شراب ، وكان حارثة مستهترا بالشراب ، معاقرا للخمر ، وفيه يقول رجل من قومه (1) : أ لم تر أن حارثة بن بدر * يصلى وهو أكفر من حمار أ لم تر أن للفتيان حظا * وحظك في البغايا والعقار (2) فكتب إليه القباع : تكفى حربهم إن شاء الله .
فأقام حارثة يدافعهم حتى تفرق أصحابه عنه وبقى في خف منهم ، فأقام بنهر تيرى ، فعبرت إليه الخوارج ، فهرب من تخلف معه من أصحابه ، وخرج يركض حتى أتى دجيلا ، فجلس في سفينة ، وأتبعه جماعة من أصحابه ، فكانوا معه فيها ، ووافاه رجل من بنى تميم ، عليه سلاحه والخوارج وراءه ، وقد توسط حارثة دجيلا ، فصاح به : يا حارثة ، ليس مثلى يضيع ! فقال للملاح : قرب ، فقرب إلى جرف (3) ، ولا فرضة هناك ، فطفر (4) بسلاحه في السفينة ، فساخت بالقوم جميعا ، وهلك حارثة (5) .
* * * وروى أبو الفرج الاصفهانى في كتاب ، ، الاغانى الكبير ، ، أن (6) حارثة لما عقدوا له الرئاسة وسلموا إليه الراية ، أمرهم بالثبات ، وقال لهم : إذا فتح الله عليكم فللعرب زيادة فريضتين ، وللموالي زيادة فريضة ، وندب الناس ، فالتقوا وليس بأحد منهم طرق (7) قد فشت فيهم الجراحات ، وما تطأ الخيل إلا على القتلى ، فبيناهم كذلك ، إذ أقبل جمع
__________
(1) نقل المرصفى في رغبة الامل أن البيتين نسبا إلى علقمة بن معبد المازنى .
(2) العقار : الخمر .
(3) الجرف : ما أكله السيل من أسفل سن الوادي والنهر .
(4) طفر : وثب .
(5) الكامل 626 وما بعدها (طبعة أوربا) (6) الاغانى 6 : 146 وما بعدها (طبعة الدار) .
مع اختلاف في الرواية .
(7) طرق ، أي قوة .
(*)(4/143)
من الشراة من جهة اليمامة ، - يقول المكثر : إنهم مائتان ، والمقلل : إنهم أربعون - فاجتمعوا وهم مريحون مع أصحابهم ، فصاروا كوكبة (1) واحدة ، فلما رآهم حارثة بن بدر ركض برايته منهزما ، وقال لاصحابه : كرنبوا ودولبوا * أو حيث شئتم فاذهبوا (2) وقال : أير الحمار فريضة لعبيدكم * والخصيتان فريضة الاعراب قال : كرنبوا ، أي اطلبوا كرنبى ، وهى قرية قريبة من الاهواز ، ودولبوا : اطلبوا دولاب ، وهى ضيعة بينها وبين الاهواز أربعة فراسخ .
قال : فتتابع الناس على أثره منهزمين ، وتبعتهم الخوارج ، فألقى الناس أنفسهم في الماء ، فغرق منهم بدجيل الاهواز خلق كثير .
* * * [ الزبير بن على السليطى وظهور أمر المهلب ] ومنهم الزبير بن على السليطى التميمي ، كان على (3) مقدمة ابن الماحوز ، وكان ابن الماحوز يخاطب بالخلافة ، ويخاطب الزبير بالامارة .
ووصل الزبير بعد هلاك حارثة ابن بدر ، وهرب أصحابه إلى البصرة ، فخافه الناس خوفا شديدا ، وضج أهل البصرة إلى الاحنف ، فأتى القباع ، فقال : أصلح الله الامير ! إن هذا العدو قد غلبنا على سوادنا وفيئنا ، فلم يبق إلا أن يحصرنا في بلدنا حتى نموت هزالا .
قال : فسموا إلى رجلا يلى الحرب ، فقال الاحنف : لا (3) أرى لها رجلا إلا المهلب بن أبى صفرة ، فقال : أو هذا رأى
__________
(1) الكوكبة : الجماعة ، وفي الاغانى (كبكبة) وهما بمعنى .
(2) الكامل للمبرد 8 : 10 وما بعدها - بشرح المرصفى .
(3) في الكامل قبل هذه الكلمة : (أن الرأى لا يخيل) ، أي لا يشكل ولا يشتبه .
(*)(4/144)
جميع أهل البصرة ؟ اجتمعوا إلى في غد لانظر .
وجاء الزبير حتى نزل على البصرة ، وعقد الجسر ليعبر إليها ، فخرج أكثر أهل البصرة إليه ، وانضم إلى الزبير جميع كور الاهواز وأهلها رغبة ورهبة ، فوافاه البصريون في السفن وعلى الدواب (1) ، فاسودت بهم الارض ، فقال الزبير لما رآهم : أبى قومنا إلا كفرا ، وقطع الجسر ، وأقام الخوارج بإزائهم ، واجتمع الناس عند القباع ، وخافوا الخوارج خوفا شديدا ، وكانوا ثلاث فرق : سمى قوم المهلب ، وسمى قوم مالك بن مسمع ، وسمى قوم زياد بن عمرو بن أشرف العتكى ، فاختبر القباع ما عند مالك وزياد ، فوجدهما متثاقلين عن الحرب ، وعاد إليه من أشار بهما ، وقالوا : قد رجعنا عن رأينا ، ما نرى لها إلا المهلب ، فوجه إليه القباع فأتاه ، فقال له : يا أبا سعيد ، قد ترى ما قد رهقنا من هذا العدو ، وقد أجمع أهل مصرك عليك ، وقال له الاحنف : يا أبا سعيد ، إنا والله ما آثرناك ، ولكنا لم نر من يقوم مقامك .
ثم قال القباع - وأومأ إلى الاحنف - : إن هذا الشيخ لم يسمك إلا ايثارا للدين والبقيا (2) وكل من في مصرك ماد عينه إليك ، راج أن يكشف الله عنه هذه الغمة بك ، فقال المهلب : لا حول ولا قوة إلا بالله ، إنى عند نفسي لدون ما وصفتم ، ولست آبى مدعوتم إليه ، لكن لى شروطا أشترطها ، قالوا : قل ، قال : على أن أنتخب من أحببت ! قال الاحنف : ذاك لك ، قال : ولى إمرة كل بلد أغلب عليه ! قالوا : لك ذلك ، قال : ولى فئ كل بلد أظفر به ! قال الاحنف : ليس ذاك لك ولا لنا ، إنما هو فئ للمسلمين فإن سلبتهم إياه كنت عليهم كعدوهم ، ولكن لك أن تعطى أصحابك من فئ كل بلد تغلب عليه ما أحببت ، وتنفق منه على محاربة عدوك ، فما فضل عنكم كان للمسلمين ، فقال المهلب : لا حول ولا قوة إلا بالله ! فمن لى بذلك ؟ قال الاحنف : نحن وأميرك وجماعة أهل مصرك ، قال : قد قبلت .
فكتبوا بينهم بذلك كتابا ، ووضع على يدى الصلت بن حريث بن جابر الجعفي ، وانتخب المهلب من جميع الاخماس ، فبلغت نخبته اثنى عشر ألفا ، ونظروا في بيت المال ،
__________
(1) في الكامل بعد هذه الكلمة : (ورجالة) .
(2) كذا في ج .
وفي ا ، ب : (التقى) ، وهى ساقطة من الكامل .
(10 - نهج - 4) (*)(4/145)
فلم يكن إلا مائتي ألف درهم ، فعجزت .
فبعث المهلب إلى التجار ، فقال : إن تجاراتكم منذ حول قد فسدت بانقطاع مواد الاهواز وفارس عنكم ، فهلموا فبايعوني واخرجوا معى أوفكم حقوقكم .
فبايعوه وتاجروه ، فأخذ منهم من المال ما أصلح به عسكره ، واتخذ لاصحابه الخفاتين (1) والرانات المحشوة بالصوف ، ثم نهض - وكان أكثر أصحابه رجالة - حتى إذا صار بحذاء القوم أمر بسفن فأصلحت وأحضرت ، فما ارتفع النهار حتى فرغ منها ، ثم أمر الناس بالعبور ، وأمر عليهم ابنه المغيرة ، فخرج الناس ، فلما قاربوا الشط خاضت إليهم الخوارج ، فحاربوهم وحاربهم المغيرة ، ونضحهم (2) بالسهام حتى تنحوا ، وصار هو وأصحابه على الشط ، فحاربوا الخوارج ، فكشفوهم وشغلوهم حتى عقد المهلب الجسر وعبر ، والخوارج منهزمون ، فنهى الناس عن اتباعهم ، ففى ذلك يقول شاعر من الازد : إن العراق وأهله لم يخبروا * مثل المهلب في الحروب فسلموا أمضى وأيمن في اللقاء نقيبة * وأقل تهليلا إذا ما أحجموا وأبلى مع المغيرة يومئذ عطية بن عمرو العنبري ، من فرسان تميم وشجعانهم .
ومن شعر عطية (3) : يدعى رجال للعطاء وإنما * يدعى عطية للطعان الاجرد وقال فيه شاعر من بنى تميم : وما فارس إلا عطية فوقه * إذا الحرب أبدت عن نواجذها الفما به هزم الله الازارق بعد ما * أباحوا من المصرين حلا ومحرما فأقام المهلب أربعين ليلة يجبى الخراج بكور دجلة ، والخوارج بنهر تيرى ، والزبير ابن على منفرد بعسكره عن عسكر ابن الماحوز ، فقضى المهلب التجار ، وأعطى أصحابه ،
__________
(1) الخفتان : ثوب من القطن يلبس فوق الدرع .
الالفاظ الفارسية 56 (2) نضحهم : رشقهم ورماهم .
(3) الكامل : (فقال عطية) .
(*)(4/146)
فأسرع الناس إليه رغبة في مجاهدة العدو وطمعا في الغنائم والتجارات ، فكان فيمن أتاه محمد بن واسع الازدي وعبد الله بن رباح ومعاوية بن قرة المزني ، وكان يقول : لو جاءت الديلم من هاهنا والحرورية من هاهنا لحاربت الحرورية ، وجاءه أبوعمران الجونى .
وكان يروى عن كعب أن قتيل (1) الحرورية يفضل قتيل (1) غيرهم بعشره أبواب .
ثم أتى المهلب إلى نهر تيرى ، فتنحوا عنه إلى الاهواز ، وأقام المهلب يجبى ما حواليه من الكور ، وقد دس الجواسيس إلى عسكر الخوارج يأتونه بأخبارهم ومن في عسكرهم ، وإذا حشوة (2) ، ما بين قصاب وحداد وداعر (3) .
فخطب المهلب الناس ، وذكر لهم ذلك ، وقال : أ مثل هؤلاء يغلبونكم على فيئكم ! ولم يزل مقيما حتى فهمهم ، وأحكم أمرهم وقوى أصحابه ، وكثرت الفرسان في عسكره ، وتتام (4) أصحابه عشرين ألفا .
ثم مضى يؤم كور الاهواز ، فاستخلف أخاه المعارك بن أبى صفرة على نهر تيرى ، وجعل المغيرة على مقدمته ، فسار حتى قاربهم ، فناوشهم وناوشوه ، فانكشف عن المغيرة بعض أصحابه ، وثبت المغيرة نفسه بقية يومه وليلته يوقد النيران ، ثم غاداهم فإذا القوم قد أوقدوا النيران في بقية متاعهم ، وارتحلوا عن سوق الاهواز ، فدخلها المغيرة ، وقد جاءت أوائل خيل المهلب ، فأقام بسوق الاهواز ، وكتب بذلك إلى الحارث القباع كتابا يقول فيه : أما بعد ، فإنا مذ خرجنا نؤم العدو ، في نعم من فضل الله متصلة علينا ، ونقم متتابعة عليهم ، نقدم ويحجمون ، ونحل ويرتحلون ، إلى أن حللنا سوق الاهواز ، والحمد لله رب العالمين ، الذى من عنده النصر ، وهو العزيز الحكيم .
__________
(1) ب (فتك) ، وما أثبته من ا ، ج والكامل .
(2) الحشوة : رذال الناس .
(3) الداعر : الخبيث المفسد .
وفي الكامل : (ما بين قصار وضباغ وداعر وحداد) (4) ج : (والتأم) (*)(4/147)
فكتب إليه الحارث : هنيئا لك أخا الازد الشرف في الدنيا والاجر في الاخرة ، إن شاء الله .
فقال المهلب لاصحابه : ما أجفى أهل الحجاز أما ترونه عرف (1) اسمى وكنيتي واسم أبى ! قالوا : وكان المهلب يبث الاحراس في الامن ، كما يبثهم في الخوف ، ويذكى (2) العيون في الامصار كما يذكيها في الصحارى ، ويأمر أصحابه بالتحرز ، ويخوفهم البيات (3) ، وإن بعد منه العدو ، ويقول (4) : احذروا أن تكادوا كما تكيدون ، ولا تقولوا : هزمناهم وغلبناهم ، والقوم خائفون وجلون ، فإن الضرورة تفتح باب الحيلة .
ثم قام فيهم خطيبا ، فقال : أيها الناس ، قد عرفتم مذهب هؤلاء الخوارج ، وأنهم إن قدروا عليكم فتنوكم في دينكم ، وسفكوا دماءكم ، فقاتلوهم على ما قاتلهم عليه أولكم على بن أبى طالب ، لقد لقيهم (5) الصابر المحتسب مسلم بن عبيس ، والعجل المفرط عثمان بن عبيد الله ، والمعصى المخالف حارثة بن بدر ، فقتلوا جميعا وقتلوا ، فالقوهم بحد وجد فإنما هم مهنتكم وعبيدكم ، وعار عليكم ونقص في أحسابكم وأديانكم أن يغلبكم هؤلاء على فيئكم ، ويطاوا حريمكم .
ثم سار يريدهم وهم بمناذر (6) الصغرى ، فوجه عبيد الله بن بشير بن الماحوز رئيس الخوارج رجلا يقال له واقد ، مولى لال أبى صفرة من سبى الجاهلية ، في خمسين رجلا ، فيهم صالح بن مخراق إلى نهر تيرى ، وبها المعارك بن أبى صفرة ، فقتلوه وصلبوه ، فنمى
__________
(1) الكامل : (يعرف) .
(2) العيون : الجواسيس ، وإذ كاؤها إرسالها .
(3) البيات : اسم من (بيت القوم واعدو تبييتا) ، أوقع بهم ليلا وهم غارون .
(4) ج : (فإن بعد منه العدو يقول) .
(5) الكامل : (لقيهم قبلكم) ، وفي ب (لقيتم) ، وما أثبته من ج (6) مناذر الصغرى ، وكذلك مناذر الكبرى : كورتان من كور الاهواز (*)(4/148)
الخبر إلى المهلب ، فوجه ابنه المغيرة ، فدخل نهر تيرى ، وقد خرج واقد منها ، فاستنزل عمه فدفنه ، وسكن الناس ، واستخلف بها ورجع إلى أبيه ، وقد نزل بسولاف (1) والخوارج بها ، فواقعهم ، وجعل على بنى تميم الحريش بن هلال ، فخرج رجل من أصحاب المهلب ، يقال له عبد الرحمن الاسكاف ، فجعل يحض الناس ويهون أمر الخوارج ، ويختال بين الصفين ، فقال رجل من الخوارج لاصحابه : يا معشر المهاجرين ، هل لكم في قتله فيها الجنة ! فحمل جماعة منهم على الاسكاف فقاتلهم وحده فارسا ، ثم كبابه فرسه ، فقاتلهم راجلا قائما وباركا ، ثم كثرت به الجراحات فذبب بسيفه ، ثم جعل يحثو في وجوههم التراب ، والمهلب غير حاضر ، فقتل ، ثم حضر المهلب فأعلم ، فقال للحريش ولعطية العنبري : أسلمتما سيد أهل العراق (2) ، لم تعيناه ولم تستنقذاه حسدا له ، لانه رجل من الموالى ، ووبخهما .
وحمل رجل من الخوارج على رجل من أصحاب المهلب فقلته ، فحمل عليه المهلب فطعنه فقتله ، ومال الخوارج بأجمعهم على العسكر ، فانهزم الناس ، وقتل منهم سبعون رجلا ، وثبت المهلب وابنه المغيرة يومئذ ، وعرف مكانه .
ويقال : حاص (3) المهلب يومئذ حيصة .
ويقول الازد : بل كان يرد المنهزمة ويحمى أدبارهم ، وبنو تميم تزعم أنه فر ، وقال شاعرهم : بسولاف أضعت دماء قومي * وطرت على مواشكه درور (4) وقال آخر من بنى تميم : تبعنا الاعور الكذاب طوعا * يزجى كل أربعة حمارا (5)
__________
(1) سولاف ، بضم السين : قرية في غرب دجيل ، قرب مناذر الكبرى .
(2) كذا في ا ، ج ، وفي ب والكامل : (سيد أهل العسكر) .
(3) حاص حيصة : جال جولة .
(4) قال المبرد : مواشكة ، يريد سريعة ، ودرور ، (فعول) ، من در الشئ إذا تتابع .
(5) يزجى : يسوق .
(*)(4/149)
فيا ندمى على تركي عطائي * معاينة وأطلبه ضمارا (1) إذا الرحمن يسر لى قفولا * فحرق في قرى سولاف نارا قوله : (الاعور الكذاب) ، يعنى به المهلب كانت عينه عارت بسهم أصابها ، وسموه الكذاب ، لانه كان فقيها ، وكان يتأول ما ورد في الاثر من أن كل كذب يكتب كذبا إلا ثلاثة : الكذب في الصلح بين رجلين ، وكذب الرجل لامراته بوعد ، وكذب الرجل في الحرب بتوعد وتهدد (2) .
قالوا : وجاء عنه صلى الله عليه وآله : (إنما أنت رجل فخذل عنا ما استطعت) .
وقال : (إنما الحرب خدعة) ، فكان المهلب ربما صنع الحديث ليشد به من أمر المسلمين ما ضعف ، ويضعف به من أمر الخوارج ما اشتد ، وكان حى من الازد يقال لهم الندب ، إذا رأو المهلب رائحا إليهم قالوا : راح ليكذب ، وفيه يقول رجل منهم : أنت الفتى كل الفتى * لو كنت تصدق ما تقول فبات المهلب في ألفين ، فلما أصبح رجع بعض المنهزمة ، فصاروا في أربعة آلاف ، فخطب أصحابه ، فقال : والله ما بكم من قلة ، وما ذهب عنكم إلا أهل الجبن والضعف والطبع (3) والطمع ، فإن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ، فسيروا إلى عدوكم على بركة الله .
فقام إليه الحريش بن هلال ، فقال : أنشدك الله أيها الامير أن تقاتلهم ، إلا أن يقاتلوك ، فإن في أصحابك جراحا ، وقد أثخنتهم هذه الجولة .
فقبل منه ، ومضى المهلب في عشرة فأشرف على عسكر الخوارج ، فلم ير منهم أحدا
__________
(1) الضمار : الغائب الذى لا يرتجى .
(2) الكامل : (يتوعد ويتهدد) .
(3) الطبع في الاصل : الصدأ يكثر على السيف وغيره ، ثم استعير فيما يشبه ذلك من الاوزار والانام (*)(4/150)
يتحرك ، فقال له الحريش : ارتحل عن هذا المنزل ، فارتحل ، فعبر دجيلا وصار إلى عاقول (1) لا يؤتى إلا من جهة واحدة ، فأقام به ، وأقام الناس ثلاثا مستريحين .
وفي يقوم سولاف يقول ابن قيس الرقيات : ألا طرقت من آل مية طارقه * على أنها معشوقة الدل عاشقه (2) تراءت وأرض السوس بينى وبينها * ورستاق سولاف حمته الازارقة إذا نحن شئنا صادفتنا عصابة * حرورية فيها من الموت بارقه أجازت عيلنا العسكرين كليهما (3) فباتت لنا دون اللحاف معانقه فأقام المهلب في ذلك العاقول ثلاثة أيام ثم ارتحل ، والخوارج بسلى وسلبرى فنزل قريبا منهم ، فقال ابن الماحوز لاصحابه : ما تنتظرون بعدوكم وقد هزمتموهم بالامس ، وكسرتم حدهم ! فقال له واقد مولى أبى صفرة : يا أمير المؤمنين ، إنما تفرق عنهم أهل الضعف والجبن ، وبقى أهل النجدة والقوة ، فإن أصبتهم لم يكن ظفرا (4) هينا ، لانى أراهم لا يصابون حتى يصيبوا ، وإن غلبوا ذهب الدين .
فقال أصحابه : نافق واقد ، فقال ابن الماحوز : لا تعجلوا على أخيكم ، فإنه إنما قال هذا نظرا لكم .
ثم وجه الزبير بن على إلى عسكر المهلب ، لينظر ما حالهم ، فأتاهم في مائتين فحزرهم ورجع .
وأمر المهلب أصحابه بالتحارس ، حتى إذا أصبح ركب إليهم في تعبئة ، فالتقوا بسلى وسلبرى ، فتصافوا ، فخرج من الخوارج مائة فارس ، فركزوا رماحهم بين الصفين ، واتكأوا عليها ، وأخرج إليهم المهلب أعدادهم ، ففعلوا مثل ما فعلوا ، لا يرعون إلا الصلاة ، حتى إذا أمسوا رجع كل قوم إلى معسكرهم ، ففعلوا هكذا ثلاثة أيام .
__________
(1) العاقول : منعطف الوادي .
(2) ديوانه 162 .
(3) في الكامل : (أجازت إلينا) ، وفي الديوان : (أجازت إلى) .
(4) (ظفرك) .
(*)(4/151)
ثم إن الخوارج تطاردوا لهم في اليوم الثالث ، فحمل عليهم هؤلاء الفرسان ، فجالوا ساعة ، ثم إن رجلا من الخوارج حمل على رجل فطعنه ، فحمل عليه المهلب فطعنه ، فحمل الخوارج بأجمعهم ، كما صنعوا يوم سولاف فضعضعوا الناس ، وفقد المهلب وثبت المغيرة في جمع أكثرهم أهل عمان .
ثم نجم (1) المهلب في مائة ، وقد انغمس كماه (2) في الدم ، وعلى رأسه قلنسوة مربعة فوق المغفر محشوة قزا وقد تمزقت ، وإن حشوها ليتطاير وهو يلهث ، وذلك في وقت الظهر ، فلم يزل يحاربهم حتى أتى الليل ، وكثر القتلى في الفريقين ، فلما كان الغد غاداهم ، وقد كان وجه بالامس رجلا من طاحية بن سود بن مالك بن فهم ، من الازد من ثقاته وأصحابه ، يرد المنهزمين ، فمر به عامر بن مسمع فرده ، فقال : إن الامير أذن لى في الانصراف ، فبعث إلى المهلب ، فأعلمه ، فقال : دعه فلا حاجة لى في مثله من أهل الجبن والضعف .
ثم غاداهم المهلب في ثلاثة آلاف ، وقد تفرق عنه أكثر الناس ، وقال لاصحابه : ما بكم من قلة ! أ يعجز أحدكم أن يلقى رمحه ثم يتقدم فيأخذه ! ففعل ذلك رجل من كندة ، و اتبعه قوم ، ثم قال المهلب لاصحابه : أعدوا مخالى فيها حجارة ، وارموا بها في وقت الغفلة ، فإنها تصد الفارس ، وتصرع الراجل ، ففعلوا .
ثم أمر مناديا ينادى في أصحابه ، يأمرهم بالجد والصبر ، ويطمعهم في العدو ، ففعل ذلك حتى مر ببنى العدوية ، من بنى مالك بن حنظلة ، فنادى فيهم فضربوه ، فدعا المهلب بسيدهم - وهو معاوية بن عمرو - فجعل يركله (3) برجله ، فقال : أصلح الله الامير ! اعفنى من أم كيسان - والازد تسمى الركبة أم كيسان - ثم حمل المهلب و حملوا ، واقتتلوا قتالا شديدا ، فجهد - الازد تسمى الركبة أم كيسان - ثم حمل المهلب وحملوا ، واقتتلوا قتالا شديدا ، فجهد الخوارج ، ونادى مناد منهم : ألا إن المهلب قد قتل .
__________
(1) نجم : ظهر .
(2) الكامل : (كفاه) .
(3) الركل : الضرب بالرجل خاصة .
(*)(4/152)
فركب المهلب برذونا وردا (1) ، وأقبل يركض بين الصفين ، وإن إحدى يديه لفى القباء ، وما يشعر لها ، وهو يصيح : أنا المهلب ! فسكن الناس بعد أن كانوا قد ارتاعوا وظنوا أن أميرهم قد قتل ، وكل الناس مع العصر ، فصاح المهلب بابنه المغيرة : تقدم ، ففعل وصاح بذكوان مولاه : قدم رايتك ، ففعل ، فقال له رجل من ولده : إنك تغرر بنفسك ، فزبره وزجره ، وصاح : يا بنى سلمة ، آمركم فتعصونني ! فتقدم وتقدم الناس فاجتلدوا أشد جلاد ، حتى إذا كان مع المساء قتل ابن الماحوز ، وانصرف الخوارج ولم يشعر المهلب بقتله ، فقال لاصحابه : ابغوا لى رجلا جلدا يطوف في القتلى ، فأشاروا عليه برجل من جرم ، وقالوا : إنا لم نر قط رجلا أشد منه ، فجعل يطوف ومعه النيران ، فجعل إذا مر بجريح من الخوارج ، قال : كافر ورب الكعبة ! فأجهز عليه ، وإذا مر بجريح من المسلمين أمر بسقيه وحمله ، وأقام المهلب يأمرهم بالاحتراس ، حتى إذا كان في نصف الليل ، وجه رجلا من اليحمد (2) في عشرة ، فصاروا إلى عسكر الخوارج ، فإذا هم قد تحملوا إلى أرجان ، فرجع إلى المهلب فأعلمه ، فقال لهم : أنا الساعة أشد خوفا ، احذروا البيات .
ويروى عن شعبة بن الحجاج أن المهلب قال لاصحابه يوما : إن هؤلاء الخوارج قد يئسوا من ناحيتكم إلا من جهة البيات ، فإن يكن ذلك فاجعلوا شعاركم : (حم لا ينصرون) فإن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يأمر بها .
ويروى أنه كان شعار أصحاب على بن أبى طالب عليه السلام .
فلما أصبح القوم غدوا على القتلى ، فأصابوا ابن الماحوز قتيلا ، ففى ذلك يقول رجل من الخوارج :
__________
(1) الكامل : (برذونا قصيرا أشهب) .
(2) اليحمد : بطن من الازد .
(*)(4/153)
بسلى وسلبرى مصارع فتية * كرام وعقرى من كميت ومن ورد (1) وقال آخر : بسلى وسلبرى جماجم فتية * كرام وصرعى لم توسد خدودها (2) وقال رجل من موالى المهلب : لقد صرعت يومئذ بحجر واحد ثلاثة ، رميت به رجلا فصرعته ، ثم رميت به رجلا فأصبت به أصل أذنه فصرعته ، ثم أخذت الحجر وصرعت به ثالثا ، وفي ذلك يقول رجل من الخوارج : أتانا بأحجار ليقتلنا بها * وهل يقتل الابطال ويحك بالحجر ! وقال رجل من أصحاب المهلب في يوم سلى وسلبرى وقتل ابن الماحوز : ويوم سلى وسلبرى أحاط بهم * منا صواعق لا تبقى ولا تذر (3) حتى تركنا عبيد الله منجدلا * كما تجدل جذع مال منقعر (4) ويروى أن رجلا من الخوارج يوم سلى حمل على رجل من أصحاب المهلب ، فطعنه ، فلما خالطه الرمح صاح : يا أمتاه ! فصاح به المهلب : لا كثر الله منك في المسلمين (5) ! فضحك الخارجي ، وقال : أمك خير لك منى صاحبا * تسقيك محضا وتعل رائبا وكان المغيرة بن المهلب إذا نظر إلى الرماح قد تشاجرت في وجهه ، نكس (6) على
__________
(1) نقل المرصفى عن ابن برى أنه لابي المقدام بيهس بن صهيب الحنفي .
وعقرى : جمع عقير ، بمعنى معقور ، من عقر الفرس والبعير ، إذا قطع قوائمه .
(2) سلى وسلبرى ، ضبطهما المبرد بكسر السين ، وقال الاخفش بفتحهما ، وقال : موضعان بالاهواز (3) قال المبرد : (تقول العرب : صاعقة وصواعق ، وهو مذهب أهل الحجاز ، وبه نزل القرآن ، وبنو تميم يقولون : صاقعة وصواقع) .
(4) المنقعر : المنقلع من أصله .
(5) كذا في ج ، وفي ب : (مثلك) ، وفي الكامل : (بمثلك المسلمين) .
(6) نكس : طأطأ .
(*)(4/154)
قربوس (1) السرج ، وحمل من تحتها ، فبراها بسيفه ، وأثر في أصحابها ، فتحوميت الميمنة من أجله ، وكان أشد ما تكون الحرب استعارا أشد ما يكون تبسما .
وكان المهلب يقول : ما شهد معى حربا قط إلا رأيت البشرى في وجهه ! وقال رجل من الخوارج في هذا اليوم : فإن تك قتلى يوم سلى تتابعت * فكم غادرت أسيافنا من قماقم ! (2) غداة نكر المشرقية فيهم * بسولاف يوم المأزق المتلاحم (3) فكتب المهلب إلى الحارث بن عبد الله بن أبى ربيعة القباع (4) : أما بعد ، فإنا لقينا الازارقة المارقة بحد وجد ، فكانت في الناس جولة ، ثم ثاب أهل الحفاظ والصبر بنيات صادقة ، وأبدان شداد ، وسيوف حداد ، فأعقب الله خير عاقبة ، وجاوز بالنعمة مقدار الامل ، فصاروا دريئة (5) رماحنا ، وضرائب (6) سيوفنا ، وقتل الله أميرهم ابن الماحوز ، وأرجو أن يكون آخر هذه النعمة كأولها .
والسلام .
فكتب إليه القباع : قد قرأت كتابك يا أخا الازد ، فرأيتك قد وهب (7) لك شرف الدنيا وعزها ، وذخر لك إن شاء الله ثواب الاخرة وأجرها ، ورأيتك أوثق حصون المسلمين ، وهاد
__________
(1) قربوس السرج : مقدمه ، ولكل سرج قربوسان مقدم ومؤخر .
(2) القماقم ، بضم أوله : السيد الكثير الواسع الفضل ، كالقمقام .
(3) المأزق : الموضع الضيق يقتتلون فيه ، والمتلاحم ، من قولهم : شجة متلاحمة ، وهى التى تشق اللحم دون العظم ثم تتلاحم فلا يجوز فيها المسبار .
والمشرفية : السيوف نسبت إلى المشارف من أرض الشام .
(4) في الكامل : (بسم الله الرحمن الرحيم ، أما بعد ...
) .
(5) الدريئة : حلقة يتعلم عليها الطعن .
(6) الضرائب : جمع ضريبة ، وهو كل ما ضربت بسيفك (7) الكامل : (وهب الله لك ...
وذخر لك ...
) .
(*)(4/155)
أركان المشركين ، وذا الرياسة وأخا السياسة ، فاستدم الله بشكره ، يتمم عليك نعمه .
والسلام .
وكتب إليه أهل البصرة يهنئونه ، ولم يكتب إليه الاحنف ، ولكن قال : اقرءوا عليه السلام وقولوا : أنا لك على ما فارقتك عليه .
فلم يزل يقرأ الكتب وينظر في تضاعيفها ، ويلتمس كتاب الاحنف فلا يراه ، فلما لم يره ، قال لاصحابه : أما كتب أبو بحر ؟ فقال له الرسول : إنه حملني إليك رسالة ، فأبلغه ، فقال : هذا أحب إلى من هذه الكتب .
واجتمعت الخوارج بأرجان ، فبايعوا الزبير بن على ، وهو من بنى سليط بن يربوع ، من رهط ابن الماحوز ، فرأى فيهم انكسارا شديدا ، وضعفا بينا ، فقال لهم : اجتمعوا ، فاجتمعوا ، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد رسوله صلى الله عليه وآله ، ثم أقبل عليهم فقال : إن البلاء للمؤمنين تمحيص وأجر ، وهو على الكافرين عقوبة وخزى ، وإن يصب منكم أمير المؤمنين ، فما صار إليه خير مما خلف ، وقد أصبتم منهم مسلم بن عبيس وربيعا الاجذم والحجاج بن رباب (1) وحارثة بن بدر ، وأشجيتم المهلب وقتلتم أخاه المعارك ، والله يقول لاخوانكم المؤمنين : (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الايام نداولها بين الناس) (2) ، فيوم سلى كان لكم بلاء وتمحيصا ، ويوم سولاف كان لهم عقوبة ونكالا ، فلا تغلبن على الشكر في حينه ، والصبر في وقته ، وثقوا بأنكم المستخلفون في الارض ، و العاقبة للمتقين .
ثم تحمل للمحاربة نحو المهلب ، فنفحهم المهلب نفحة فرجعوا وأكمنوا للمهلب - في غمض (3) من غموض الارض يقرب من عسكره - مائة فارس ليغتالوه ، فسار المهلب
__________
(1) الكامل : (باب) .
(2) سورة آل عمران 140 (3) الغمض : المطمئن من الارض (*)(4/156)
يوما يطيف بعسكره ، ويتفقد سواده ، فوقف على جبل ، فقال : إن من التدبير لهذه المارقة أن تكون قد أكمنت في سفح هذا الجبل كمينا ، فبعث المهلب عشرة فوارس ، فاطلعوا على المائة ، فلما علموا بهم قطعوا القنطرة ونجوا وانكشفت الشمس فصاحوا : يا أعداء الله ، لو قامت القيامة لجددنا ونحن في جهادكم (1) .
ثم يئس الزبير من ناحية المهلب ، فضرب إلى ناحية أصبهان ، ثم كر راجعا إلى أرجان ، وقد جمع جموعا ، وكان المهلب يقول : كأنى بالزبير وقد جمع لكم ، فلا ترهبوهم ، فتنخب (2) قلوبكم ، ولا تغفلوا الاحتراس فيطمعوا فيكم .
فجاءوه من أرجان ، فلقوه مستعدا آخذا بأفواه الطرق ، فحاربهم فظهر عليهم ظهورا بينا ، ففى ذلك يقول رجل من بنى يربوع : سقى الله المهلب كل غيث * من الوسمى ينتحر انتحارا (3) فما وهن المهلب يوم جاءت * عوابس خيلهم تبغى الغوارا (4) وقال المهلب يومئذ : ما وقفت في مضيق من الحرب إلا رأيت أمامى رجالا من بنى الهجيم بن عمرو بن تميم يجالدون ، وكأن لحاهم أذناب العقاعق (5) و [ كانوا ] (6) صبروا معه في غير مواطن .
وقال رجل من أصحاب المهلب من بنى تميم :
__________
(1) في الكامل : (لجددنا في جهادكم) .
(2) تنخب : تضعف ، وفي الكامل : (تخبث) .
(3) - - - : مطر الربيع الاول ، سمى به لانه يسم الارض بالنبات ، وانتحر الوسمى ، أي انبعق بماء كثير ، ومنه قول الراغى : فمر على منازلها ألقى * بها الاثقال وانتحر انتحارا (4) الغوار : مصدر غاور العدو مغاورة وغوارا ، أغار عليه .
(5) العقاعق : جمع عقعق ، وهو طائر ذو لونين : أبيض وأسود طويل الذنب .
(6) من الكامل .
(*)(4/157)
ألا يا من لصب مستهام (1) * قريح القلب قد مل المزونا (2) لهان على المهلب ما لقينا * إذا ما راح مسرورا بطينا (3) يجر السابرى ونحن شعث * كأن جلودنا كسيت طحينا (4) وحمل يومئذ الحارث بن هلال على قيس الاكاف ، وكان من أنجد فرسان الخوارج ، فطعنه فدق صلبه ، وقال : قيس الاكاف غداة الروع يعلمنى * ثبت المقام إذا لاقيت أقراني وقد كان بعض جيش المهلب يوم سلى وسلبرى صاروا إلى البصرة ، فذكروا أن المهلب قد أصيب ، فهم أهل البصرة بالنقلة إلى البادية ، حتى ورد كتابه بظفره ، فأقام الناس ، وتراجع من كان ذهب منهم ، فعند ذلك قال الاحنف : البصرة بصرة المهلب .
وقدم رجل من كندة يعرف بابن أرقم ، فنعى ابن عم له ، وقال : إنى رأيت رجلا من الخوارج ، وقد مكن رمحه من صلبه ، فلم ينشب أن قدم المنعى سالما ، فقيل له ذلك ، فقال : صدق ابن أرقم ، لما أحسست برمحه بين كتفي صحت به : البقية ، فرفعه ، وتلا : (بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين) (5) ووجه المهلب بعقب هذه الوقعة رجلا من الازد ، برأس عبيد الله بن بشير بن الماحوز إلى الحارث بن عبد الله ، فلما صار بكربج (6) دينار لقيته إخوة عبيد الله : حبيب وعبد الملك وعلى بنو بشير بن الماحوز
__________
(1) الكامل : (مستحن) ، من استحنه الشوق إلى وطنه ، أي استطربه .
(2) قال المبرد : المزون : عمان ، وهو اسم من أسمائها ، قال الكميت : فأما الازد أزد بنى سعيد * فأكره أن أسميها المزونا وقال جرير : وأطفأت نيران المزون وأهلها * وقد حاولوها فتنة أن تسعرا (3) البطين : عظيم البطن (4) السابرى من الثياب : ما كان رقيقا .
(5) سورة هود 86 (6) كربج : موضع قرب سوق الاهواز .
(*)(4/158)
فقالوا : ما الخبر ؟ وهو لا يعرفهم ، فقال : قتل الله ابن الماحوز المارق ، وهذا رأسه معى ، فوثبوا عليه فقتلوه وصلبوه ، ودفنوا رأس أخيهم عبيد الله ، فلما ولى الحجاج دخل عليه على ابن بشير ، وكان وسيما جسيما ، فقال : من هذا ؟ فخبره ، فقتله ووهب ابنه الازهر وابنته لاهل الازدي المقتول ، وكانت زينب بنت بشير لهم مواصلة ، فوهبوهما لها .
* * * قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتاب ، ، الكامل ، ، (1) : ولم يزل المهلب يقاتل الخوارج في ولاية الحارث القباع ، حتى عزل وولى مصعب بن الزبير ، فكتب إلى المهلب أن أقدم على ، واستخلف ابنك المغيرة ففعل بعد أن جمع الناس ، وقال لهم : إنى قد استخلفت المغيرة عليكم ، وهو أبو صغيركم رقة ورحمة ، وابن كبيركم طاعة وبرا وتبجيلا ، وأخو مثله مواساة ومناصحة ، فلتحسن له طاعتكم ، وليلن له جانبكم ، فو الله ما أردت صوابا قط إلا سبقني إليه .
ثم مضى إلى مصعب ، فكتب مصعب إلى المغيرة بولايته ، وكتب إليه : إنك إن لم تكن كأبيك ، فإنك كاف لما وليت (2) ، فشمر وائتزر (3) ، وجد واجتهد .
ثم شخص المصعب إلى المزار ، فقتل أحمر بن شميط ، ثم أتى الكوفة فقتل المختار ، وقال للمهلب : أشر على برجل أجعله بينى وبين عبد الملك ، فقال له : اذكر واحدا من ثلاثة : محمد بن عمير بن عطارد الدارمي ، أو زياد بن عمرو بن الاشرف العتكى ، أو داود ابن قحذم ، قال : أو تكفيني أنت ؟ قال : أكفيك إن شاء الله .
فشخص فولاه الموصل فخرج إليها ، وصار مصعب إلى البصرة لينفر إلى أخيه بمكة .
فشاور الناس فيمن يستكفيه
__________
(1) الكامل 643 وما بعدها (طبع أوربا) (2) الكامل : (وليتك) (3) الكامل : (واتزر) (*)(4/159)
أمر الخوارج ، فقال قوم : ول عبد الله بن أبى بكرة ، وقال قوم : ول عمر بن عبيد الله بن معمر ، وقال قوم : ليس لهم إلا المهلب فاردده إليهم ، وبلغت المشورة الخوارج فأداروا الامر بينهم ، فقال قطرى بن الفجاءة المازنى - ولم يكن أمروه عليهم بعد - : إن جاءكم عبد الله بن أبى بكرة أتاكم سيد سمح كريم جواد مضيع لعسكره ، وإن جاءكم عمر بن عبيد الله أتاكم فارس شجاع ، بطل جاد ، يقاتل لدينه ولملكه ، وبطبيعة لم أر مثلها لاحد ، فقد شهدته في وقائع ، فما نودى في القوم لحرب إلا كان أول فارس ، حتى يشد على قرنه ويضربه ، وإن رد المهلب فهو من قد عرفتموه ، إذا أخذتم بطرف ثوب أخذ بطرفه الاخر ، يمده إذا أرسلتموه ، ويرسله إذا مددتموه ، لا يبدؤكم إلا أن تبدءوه ، إلا أن يرى فرصة فينتهزها ، فهو الليث المبر (1) ، والثعلب الرواغ ، والبلاء المقيم .
فولى مصعب عليهم عمر بن عبيد الله بن معمر ، ولاه فارس ، والخوارج بأرجان يومئذ ، وعليهم الزبير بن على السليطى ، فشخص إليهم فقاتلهم ، وألح عليهم حتى أخرجهم منها ، فألحقهم بأصبهان ، فلما بلغ المهلب أن مصعبا ولى حرب الخوارج عمر بن عبيد الله ، قال : رماهم بفارس العرب وفتاها .
فجمع الخوارج له ، وأعدوا واستعدوا ، ثم أتوا سابور (2) .
فسار إليهم حتى نزل منهم على أربعة فراسخ ، فقال له مالك بن أبى حسان الازدي : إن المهلب كان يذكى العيون ، ويخاف البيات ، ويرتقب الغفلة ، وهو على أبعد من هذه المسافة منهم .
فقال عمر : اسكت ، خلع الله قلبك ! أتراك تموت قبل أجلك ! وأقام هناك ، فلما كان ذات ليلة بيته الخوارج ، فخرج إليهم فحاربهم حتى أصبح ، فلم يظفروا منه بشئ .
فأقبل على مالك بن أبى حسان ، فقال : كيف رأيت ؟ فقال : قد سلم الله ، ولم يكونوا
__________
(1) المبر : الغالب ، أبر عليه ، إذا غلبه .
(2) سابور : كورة مشهورة بأرض فارس ، بينها وبين شيراز خمسة وعشرون فرسخا .
(*)(4/160)
يطمعون في مثلها من المهلب ، فقال : أما إنكم لو ناصحتمونى مناصحتكم المهلب ، لرجوت أن أنفى هذا العدو ، ولكنكم تقولون : قرشي حجازى ، بعيد الدار خيره لغيرنا ، فتقاتلون معى تعذيرا (1) .
ثم زحف إلى الخوارج من غد ذلك اليوم ، فقاتلهم قتالا شديدا ، حتى ألجأهم إلى قنطرة ، فتكاثف الناس عليها حتى سقطت ، فأقام حتى أصلحها (2) ، ثم عبر ، وتقدم ابنه عبيد الله بن عمر - وأمه من بنى سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب - فقاتلهم حتى قتل ، فقال قطرى للخوارج : لا تقاتلوا عمر اليوم ، فإنه موتور ، قد قتلتم ابنه - ولم يعلم عمر بقتل ابنه حتى أفضى إلى القوم ، وكان مع ابنه النعمان بن عباد - فصاح به عمر : يا نعمان ، أين ابني ؟ قال : احتسبه فقد استشهد صابرا مقبلا غير مدبر ، فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ! ثم حمل على الخوارج حمله لم ير مثلها ، وحمل أصحابه بحملته ، فقتلوا في وجههم ذلك تسعين رجلا من الخوارج ، وحمل على قطرى فضربه على جبينه ففلقه ، وانهزمت الخوارج وانتهبها ، فلما استقروا ورأى ما نزل بهم ، قال : أ لم أشر عليكم بالانصراف ! فجعلوه حينئذ من (3) وجوههم ، حتى خرجوا من فارس ، وتلقاهم في ذلك الوقت الفزر بن مهزم العبدى ، فسألوه عن خبره ، وأرادوا قتله ، فأقبل على قطرى ، وقال : إنى مؤمن مهاجر ، فسأله عن أقاويلهم فأجاب إليها ، فخلوا عنه ، ففى ذلك يقول في كلمة له : فشدوا وثاقي ثم ألجوا خصومتي * إلى قطرى ذى الجبين المفلق وحاججتهم في دينهم فحججتهم * وما دينهم غير الهوى والتخلق ثم رجعوا وتكانفوا (4) ، وعادوا إلى ناحية أرجان ، فسار إليهم عمر بن عبيد الله ، وكتب إلى مصعب :
__________
(1) تعذيرا ، أي تقاتلون معى من غير تمام أو مبالغة .
(2) ج : (فأصلحها) .
(3) كذا في ب ، وفي ا ، ج والكامل بحذف كلمة (من) .
(4) في زيادات الاخفش على الكامل : (تكانفوا ، أعان بعضهم بعضا واجتمعوا وصار بعضهم في كنف بفض) .
(11 - نهج - 4) (*)(4/161)
أما بعد ، فإنى لقيت الازارقة ، فرزق الله عزوجل عبيد الله بن عمر الشهادة ، ووهب له السعادة ، ورزقنا بعد عليهم الظفر ، فتفرقوا شذر مذر (1) .
وبلغني عنهم عودة فيممتهم ، وبالله أستعين ، وعليه أتوكل .
فسار إليهم ومعه عطية بن عمرو ، ومجاعة بن سعر فالتقوا ، فألح عليهم عمر حتى أخرجهم ، وانفرد من أصحابه ، فعمد إلى أربعة عشر رجلا من مذكوريهم وشجعانهم ، وفي يده عمود ، فجعل لا يضرب رجلا منهم ضربة إلا صرعه ، فركض إليه قطرى على فرس طمر (2) ، وعمر على مهر ، فاستعلاه قطرى بقوة فرسه ، حتى كاد يصرعه ، فبصر به مجاعة ، فأسرع إليه ، فصاحت الخوارج : يا أبا نعامة ، إن عدو الله قد رهقك (3) .
فانحط قطرى على قربوسه وطعنه مجاعة ، وعلى قطرى درعان فهتكهما وأسرع السنان في رأس قطرى ، فكشط جلده ونجا ، وارتحل القوم إلى أصفهان ، فأقاموا برهة ، ثم رجعوا إلى الاهواز ، وقد ارتحل عمر بن عبيد الله إلى إصطخر (4) فأمر مجاعة فجبى الخراج أسبوعا ، فقال له : كم جبيت ؟ قال : تسعمائة ألف ، فقال : هي لك .
وقال يزيد بن الحكم لمجاعة : ودعاك دعوة مرهق فأجبته * عمر وقد نسى الحياة وضاعا (5) فرددت عادية الكتيبة عن فتى * قد كاد يترك لحمه أوزاعا (6) قال : ثم عزل مصعب بن الزبير ، وولى عبد الله بن الزبير العراق ابنه حمزة
__________
(1) شذر ، مذر ، بالتحريك فيهما : ذهبوا في كل وجه ، ومذر : إتباع .
(2) فرس طمر ، هو الطويل القوائم الخفيف ، أو هو المستفز للوثب والعدو ، والانثى طمرة .
(3) رهقك : غشاك .
(4) إصطخر : بلد من أعيان بلاد فارس .
(5) المرهق : هو الذى أدرك ليقتل ، من أرهق الرجل إذا قتله .
و (عمر) فاعل : (دعاك) .
(6) العادية : الخيل تعدو ، أو الرجال يعدون .
وأوزاعا : قطعا .
(*)(4/162)
ابن عبد الله بن الزبير ، فمكث قليلا ، ثم أعيد مصعب إلى العراق ، والخوارج بأطراف أصبهان ، والوالى عليها عتاب بن ورقاء الرياحي ، فأقام الخوارج هناك يجبون شيئا من القرى ، ثم أقبلوا إلى الاهواز من ناحية فارس ، فكتب مصعب إلى عمر بن عبيد الله : ما أنصفتنا ! أقمت بفارس تجبى الخراج ، ومثل هذا العدو يجتاز بك لا تحاربه ! والله لو قاتلت ثم هزمت لكان أعذر لك ! وخرج مصعب من البصرة يريدهم ، وأقبل عمر بن عبيد الله يريدهم ، فتنحى الخوارج إلى السوس ، ثم أتوا إلى المدائن ، وبسطوا في القتل ، فجعلوا يقتلون النساء والصبيان ! حتى أتوا المذار (1) ، فقتلوا أحمر طيئ ، وكان شجاعا وكان من فرسان عبيد الله بن الحر ، وفي ذلك يقول الشاعر : تركتم فتى الفتيان أحمر طيئ * بساباط لم يعطف عليه خليل (2) ثم خرجوا عامدين إلى الكوفة ، فلما خالطوا سوادها - وواليها الحارث القباع - تثاقل عن الخروج ، وكان جبانا ، فذمره (3) إبراهيم بن الاشتر ، ولامه الناس ، فخرج متحاملا حتى أتى النخيلة ، ففى ذلك يقول الشاعر : إن القباع سار سيرا نكرا * يسير يوما ويقيم عشرا وجعل يعد الناس بالخروج ولا يخرج ، والخوارج يعيثون ، حتى أخذوا امرأة ، فقتلوا أباها بين يديها ، وكانت جميلة ، ثم أرادوا قتلها ، فقالت : أ تقتلون من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين ! فقال قائل منهم : دعوها ، فقالوا : قد فتنتك ، ثم قدموها فقتلوها .
__________
(1) المذار : بلدة في ميسان بين واسط البصرة .
(2) ساباط : موضع بالمدائن ، يقال له : ساباط كسرى .
(3) ذمره ، أي حضه مع لوم ليجد .
(*)(4/163)
وقربوا امرأة أخرى وهم بإزاء القباع ، والجسر معقود بينهم ، فقطعه القباع وهو في ستة آلاف ، والمرأة تستغيث به وهى تقبل ، وتقول : علام تقتلونني ! فو الله ما فسقت ، ولا كفرت ، ولا زنيت (1) ، والناس يتفلتون إلى القتال ، والقباع يمنعهم .
فلما خاف أن يعصوه أمر عند ذاك بقطع الجسر ، فأقام بين دبيرى ودباها (2) خمسة أيام ، والخوارج بقربه ، وهو يقول للناس في كل يوم : إذا لقيتم العدو غدا ، فأثبتوا أقدامكم واصبروا ، فإن أول الحرب الترامي ، ثم إشراع الرماح ، ثم السلة (3) فثكلت رجلا أمه فر من الزحف ! فقال بعضهم لما أكثر عليهم : أما الصفة فقد سمعناها ، فمتى يقع الفعل ؟ وقال الراجز : إن القباع سار سيرا ملسا (4) * بين دباها ودبيرى خمسا وأخذ الخوارج حاجتهم ، وكان شأن القباع التحصن منهم ، ثم انصرفوا ورجع إلى الكوفة ، وساروا من فورهم إلى أصبهان ، فبعث عتاب بن ورقاء الرياحي إلى الزبير بن على : أنا ابن عمك ، ولست أراك تقصد في انصرافك من كل حرب غيرى .
فبعث إليه الزبير : إن أدنى الفاسقين وأبعدهم في الحق سواء .
فأقام الخوارج يغادون عتاب بن ورقاء القتال ويراوحونه ، حتى طال عليهم المقام ، ولم يظفروا بكبير شئ فلما كثر عليهم ذلك انصرفوا ، لا يمرون بقرية بين أصبهان والاهواز إلا استباحوها ، وقتلوا من فيها .
وشاور المصعب الناس فيهم ، فأجمع رأيهم على
__________
(1) الكامل : (ارتددت) .
(2) دبيرى ودباها ، بفتح الدال فيهما : قريتان من نواحى بغداد .
(3) السلة : استلال السيوف .
(4) الملس : السير الشديد .
(*)(4/164)
المهلب ، فبلغ الخوارج مشاورتهم ، فقال لهم قطرى : إن جاءكم عتاب بن ورقاء ، فهو فاتك يطلع في أول المقنب (1) ولا يظفر بكثير (2) وإن جاءكم عمر بن عبيد الله ففارس يقدم ، إما عليه وإما له ، وإن جاءكم المهلب فرجل لا يناجزكم حتى تناجزوه ، ويأخذ منكم ولا يعطيكم ، فهو البلاء الملازم ، والمكروه الدائم .
وعزم مصعب على توجيه المهلب ، وأن يشخص هو لحرب عبد الملك .
فلما أحس به الزبير خرج إلى الرى - وبها يزيد بن الحارث بن رويم - فحاربه ثم حصره ، فلما طال عليه الحصار خرج إليه ، فكان الظفر للخوارج ، فقتل يزيد بن الحارث بن رويم ، ونادى يزيد ابنه حوشبا ، ففر عنه وعن أمه لطيفة [ وكان على بن أبى طالب عليه السلام دخل على الحارث بن رويم يعود ابنه يزيد ، فقال : عندي جارية لطيفة الخدمة أبعث بها إليك ، فسماها يزيد لطيفة ] (3) ، فقتلت مع بعلها (4) يزيد يومئذ .
وقال الشاعر : مواقفنا في كل يوم كريهة * أسر وأشفى من مواقف حوشب دعاه أبوه والرماح شوارع (5) * فلم يستجب بل راغ ترواغ ثعلب ولو كان شهم النفس أوذا حفيظة * رأى ما رأى في الموت عيسى بن مصعب وقال آخر : نجى حليلته وأسلم شيخه * نصب الاسنة حوشب بن يزيد
__________
(1) المقنب : جماعة الخيل .
(2) كذا في ا ، ج .
وفي ب والكامل : (بكبير) .
(3) تكملة من كتاب الكامل .
(4) الكامل : (فقتلت معه) .
(5) كذا في ا ، ج والكامل ، وفي ب : (تنوشه) : (6) نصب الاسنة ، أي مخافتها .
(*)(4/165)
قال : ثم (1) انحط الزبير على أصفهان ، فحصر بها عتاب بن ورقاء سبعة أشهر ، وعتاب يحاربه في بعضهن ، فلما طال به الحصار قال لاصحابه : ما تنتظرون ! والله ما تؤتون من قلة ، وأنكم لفرسان عشائركم ، ولقد حاربتموهم مرارا فانتصفتم منهم ، وما بقى مع هذا الحصار إلا أن تفنى ذخائركم ، فيموت أحدكم ، فيدفنه أخوه ، ثم يموت أخوه فلا يجد من يدفنه ، فقاتلوا القوم وبكم قوة من قبل أن يضعف أحدكم عن أن يمشى إلى قرنه .
فلما أصبح صلى بهم الصبح ، ثم خرج إلى الخوارج وهم غارون (2) ، وقد نصب لواء لجارية له يقال لها ياسمين ، فقال : من أراد البقاء فليلحق بلواء ياسمين ، ومن أراد الجهاد فليخرج معى ، فخرج في ألفين وسبعمائة فارس ، فلم يشعر بهم الخوارج حتى غشوهم ، فقاتلوهم بجد لم تر الخوارج منهم مثله ، فعقروا منهم خلقا كثيرا وقتل الزبير بن على ، وانهزمت الخوارج ، فلم يتبعهم عتاب ففى ذلك يقول القائل : ويوم بجى تلافيته (3) * ولو لاك لاصطلم العسكر (4) وقال آخر : خرجت من المدينة مستميتا * ولم أك في كتيبة ياسمينا
__________
(1) في الكامل قيل هذا الكلام : (وقال ابن حوشب لبلال بن أبى بردة يعيره بأمه - وبلال مشدود عند يوسف بن عمر يابن حوراء ! فقال بلال - وكان جلدا : إن الامة تسمى حوراء وجيداء ولطيفة وزعم الكلبى أن بلالا كان جلدا حيث ابتلى .
قال الكلبى : ويعجبنى أن أرى الاسير جلدا .
قال : وقال خالد بن صفوان له بحضرة يوسف : الحمد لله الذى أزال سلطانك ، وهد ركنك ، وغير حالك ، فو الله لقدم كنت شديد الحجاب ، مستخفا بالشريف ، مظهرا للعصبية ، فقال له بلال : إنما طال لسانك يا خالد لثلاث معك هن على : الامر عليك مقبل وهو عنى مدبر ، وأنت مطلق وأنا مأسور ، وأنت في طينتك وأنا في هذا البلد غريب - وإنما جرى إلى هذا لانه يقال : إن أصل آل الاهتم من الحيرة ، وأنهم أشابة دخلت في بنى منقر من الروم) .
(2) غارون : غافلون .
(3) جى : اسم مدينة كانت ناحية أصبهان ، والبيت لاعشى همدان (ياقوت) .
(4) اصطلم : أبيد .
(*)(4/166)
أ ليس من الفضائل أن قومي * غدوا مستلئمين مجاهدينا (1) قال : وتزعم الرواة أنهم في أيام حصارهم كانوا يتواقفون ، ويحمل بعضهم على بعض ، وربما كانت مواقفة (2) بغير حرب ، و ربما اشتدت الحرب بينهم ، وكان رجل من أصحاب عتاب - يقال له : شريح ، و يكنى أبا هريرة - إذا تحاجز (3) القوم مع المساء نادى بالخوارج والزبير بن على : يا بن أبى الماحوز والاشرار * كيف ترون يا كلاب النار شد أبى هريرة الهرار * يهركم بالليل والنهار أ لم تروا جيا على المضمار * تمسى من الرحمن في جوار فغاظهم ذلك ، فكمن له عبيدة بن هلال ، فضربه بالسيف ، واحتمله أصحابه ، وظنت الخوارج أنه قد قتل ، فكانوا إذا تواقفوا نادوهم : ما فعل الهرار ؟ فيقولون : ما به من بأس ، حتى أبل من علته ، فخرج إليهم ، فقال : يا أعداء الله ، أ ترون بى بأسا ؟ فصاحوا به : قد كنا نرى أنك قد لحقت بأمك الهاوية ، إلى النار الحامية .
* * * [ قطرى بن الفجاءة المازنى ] ومنهم قطرى بن الفجاءة المازنى ، قال أبو العباس (4) : لما قتل (3) الزبير بن على أدارت الخوارج أمرها ، فأرادوا تولية عبيدة بن هلال ، فقال : أدلكم على من هو خير لكم منى ؟ من يطاعن في قبل ، ويحمى في دبر ، عليكم
__________
(1) مستلئمين : لا بسين اللامة ، وهى الدرع ، وفي ج : (مستسلمين) .
(2) المواقفة في الحرب والخصومة : أن يقف كل من الطرفين أمام الاخر .
(3) ج : (تأخر) .
(4) الكامل 652 وما بعدها (طبعة أوربا) .
(*)(4/167)
بقطرى بن الفجاءة المازنى .
فبايعوه .
وقالوا : يا أمير المؤمنين ، امض بنا إلى فارس ، فقال : إن بفارس عمر بن عبيد الله بن معمر ، ولكن نسير إلى الاهواز ، فإن خرج مصعب من البصرة دخلناها ، فأتوا الاهواز ثم ترفعوا عنها على إيذج (1) - وكان المصعب قد عزم على الخروج إلى باجميرا (2) - وقال لاصحابه : إن قطريا لمطل علينا ، وإن خرجنا عن البصرة دخلها ، فبعث إلى المهلب فقال : اكفنا هذا العدو ، فخرج إليهم المهلب ، فلما أحس به قطرى يمم نحو كرمان ، وأقام المهلب بالاهواز ، ثم كر عليه قطرى ، وقد استعد ، وكانت الخوارج في حالاتهم أحسن عدة ممن يقاتلهم بكثرة السلاح وكثرة الدواب ، وحصانة الجنن (3) فحاربهم المهلب ، فدفعهم فصاروا إلى رامهرمز ، وكان الحارث بن عميرة الهمداني قد صار إلى المهلب مراغما لعتاب بن ورقاء ، ويقال : إنه لم يرضه عن قتله الزبير بن على ، وكان الحارث بن عميرة ، هو الذى قتله وخاض إليه أصحابه ، ففى ذلك يقول أعشى همدان : إن المكارم أكملت أسبابها * لابن الليوث الغر من همدان (4) للفارس الحامى الحقيقة معلما * زاد الرفاق وفارس الفرسان (5)
__________
(1) إيذج ، بكسر الهمزة وفتح الذال : بلد بين خوزستان وأصبهان .
(2) باجميرا ، بضم الجيم وفتح الميم وياء ساكنة : موضع دون تكريت .
(3) الجنن : جمع جنة ، وهى الدرع .
(4) ديوان الاعشين 343 ، وروايته : (من قحطان) ، وهى رواية الكامل أيضا .
(5) ديوان الاعشين والكامل : (زاد الرفاق إلى قرى نجران) ، قال المبرد : وتأويله أن الرفقة إذا صحبها أغناها عن التزود ، كما فال جرير - وأراد ابن له سفرا ، وفي ذلك السفر يحيى بن أبى حفصة ، فقال لابيه : زودني ، فقال جرير : أزادا سوى يحيى تريد وصاحبا * ألا إن يحيى نعم زاد المسافر فما تنكر الكو ماء ضربة سيفه * إذا أرملوا أو خف ما في الغرائر وزاد في الديوان بعد هذا البيت : حتى تداركهم أغر سميدع * فحماهم إن الكريم يمان (*)(4/168)
الحارث بن عميرة الليث الذى * يحمى العراق إلى قرى نجران (1) ود الازراق لو يصاب بطعنة * ويموت من فرسانهم مائتان قال أبو العباس : وخرج مصعب إلى باجميرا ، ثم أتى الخوارج خبر مقتله بمسكن ، ولم يأت المهلب وأصحابه ، فتواقفوا يوما برامهرمز على الخندق ، فناداهم الخوارج : ما تقولون في مصعب ؟ قالوا : إمام هدى ، قالوا : فما تقولون في عبد الملك ؟ قالوا : ضال مضل ، فلما كان بعد يومين أتى المهلب قتل المصعب ، وأن أهل العراق قد اجتمعوا على عبد الملك ، وورد عليه كتاب عبد الملك بولايته ، فلما تواقفوا ناداهم الخوارج : ما تقولون في المصعب ؟ قالوا : لا نخبركم ، قالوا : فما تقولون في عبد الملك ؟ قالوا : إمام هدى ، قالوا : يا أعداء الله ، بالامس ضال مضل ، واليوم إمام هدى ! يا عبيد الدنيا عليكم لعنة الله ! * * * وروى أبو الفرج الاصفهانى في كتاب ، ، الاغانى الكبير ، ، ، قال : (2) كان الشراة والمسلمون في حرب المهلب وقطري يتواقفون ويتساءلون بينهم عن أمر الدين وغير ذلك ، على أمان وسكون ، لا يهيج بعضهم بعضا ، فتواقف يوما عبيدة بن هلال اليشكرى ، وأبو حزابة (3) التميمي ، فقال عبيدة : يا أبا حزابة ، إنى أسألك عن أشياء ، أ فتصدقني عنها في الجواب ؟ قال : نعم ، إن ضمنت لى مثل ذلك ، قال : قد فعلت ، قال : فسل عما بدا لك ، قال : ما تقولون في أئمتكم ؟ قال : يبيحون الدم الحرام ، قال : ويحك ! فكيف فعلهم في المال ؟ قال : يحبونه من غير حله ، وينفقونه في غير وجهه ، قال : فكيف فعلهم في اليتيم ؟ قال : يظلمونه ماله ، ويمنعونه حقه ، وينيكون أمه ، قال : ويحك يا أبا حزابة ! أ مثل هؤلاء تتبع ! قال : قد أجبتك ، فاسمع سؤالي ، ودع عتابي على رأيى ،
__________
(1) الديوان : (إلى قرى كرمان) .
(2) الاغانى 6 : 149 وما بعدها (طبعة الدار) .
(3) هو الوليد بن حنيفة أحد شعراء الدولة الاموية .
(*)(4/169)
قال : سل ، قال : أي الخمر أطيب ، خمر السهل أم خمر الجبل ؟ قال : ويحك ! أ مثلى يسأل عن هذا ! قال : قد أوجبت على نفسك أن تجيب ، قال : أما إذ أبيت ، فإن خمر الجبل أقوى وأسكر ، وخمر السهل أحسن وأسلس ، قال : فأى الزوانى أفره ؟ أ زوانى رامهرمز ، أم زوانى أرجان ؟ قال : ويحك ! إن مثلى لا يسأل عن هذا ، قال : لا بد من الجواب أو تغدر .
قال : أما إذ أبيت فزوانى رامهرمز أرق أبشارا ، وزوانى أرجان أحسن أدانا .
قال : فأى الرجلين اشعر ، جرير أم الفرزدق ؟ قال : عليك وعليهما لعنة الله ، قال : لا بد أن تجيب ، قال : أيهما الذى يقول : وطوى الطراد مع القياد بطونها * طى التجار بحضرموت برودا قال : جرير ، قال : فهو أشعرهما .
قال أبو الفرج : وقد كان الناس تجادلوا في أمر جرير والفرزدق في عسكر المهلب ، حتى تواثبوا ، وصاروا إليه محكمين له في ذلك ، فقال : أ تريدون أن أحكم بين هذين الكلبين المتهارشين ، فيمضغاني ! ما كنت لاحكم بينهما ، ولكني أدلكم على من يحكم بينهما ، ثم يهون عليه سبابهما ، عليكم بالشراة فاسألوهم إذا تواقفتم ، فلما تواقفوا سأل أبو حزابة عبيدة بن هلال عن ذلك ، فأجابه بهذا الجواب .
* * * وروى أبو الفرج أن (1) امرأة من الخوارج كانت مع قطرى بن الفجاءة ، يقال لها أم حكيم ، وكانت من أشجع الناس وأجملهم وجها ، وأحسنهم بالدين تمسكا ، وخطبها
__________
(1) الاغانى 6 : 150 (طبعة الدار) .
(*)(4/170)
جماعة منهم فردتهم ولم تجبهم ، فأخبر من شاهدها في الحرب أنها كانت تحمل على الناس وترتجز ، فتقول : أحمل رأسا قد سئمت حمله * وقد مللت دهنه وغسله * أ لا فتى يحمل عنى ثقله * والخوارج يفدونها بالاباء والامهات ، فما رأينا قبلها ولا بعدها مثلها .
* * * وروى أبو الفرج (1) ، قال : كان عبيدة بن هلال ، إذا تكاف الناس ناداهم : ليخرج إلى بعضكم ، فيخرج إليه فتيان من عسكر المهلب ، فيقول لهم : أيما أحب إليكم ؟ أقرأ عليكم القرآن أم أنشدكم الشعر ؟ فيقولون له : أما القرآن فقد عرفناه مثل معرفتك ، ولكن تنشدنا ، فيقول : يا فسقة ، قد والله علمت أنكم تختارون الشعرعلى القرآن ! ثم لا يزال ينشدهم ويستنشدهم حتى يملوا ويفترقوا .
* * * قال أبو العباس (2) : وولى خالد بن عبدد الله بن أسيد فقدم فدخل البصرة ، فأراد عزل المهلب ، فأشير عليه بالا يفعل ، وقيل له : إنما أمن [ أهل ] (3) هذا المصر ، لان المهلب بالاهواز وعمر بن عبيد الله بفارس ، فقد تنحى عمر ، وإن نحيت المهلب لم تأمن على البصرة .
فأبى إلا عزله ، فقدم المهلب البصرة : وخرج خالد إلى الاهواز ، فاستصحبه (4) ، فلما صار بكربج دينار لقيه قطرى ، فمنعه حط أثقاله ، وحاربه ثلاثين يوما .
ثم أقام قطرى بإزائه ، وخندق على نفسه ، فقال المهلب لخالد : إن قطريا ليس
__________
(1) الاغانى 6 : 151 (طبعة الدار) (2) الكامل 654 (طبعة أوربا) .
(3) من الكامل .
(4) الكامل : (فأشخصه) .
(*)(4/171)
باحق بالخندق منك ، فعبر دجيلا إلى شق نهر تيرى ، واتبعه قطرى فصار إلى مدينة نهر تيرى ، فبنى سورها ، وخندق عليها ، فقال المهلب لخالد : خندق على نفسك ، فإنى لا آمن البيات ، فقال : يا أبا سعيد ، الامر أعجل من ذاك ، فقال المهلب لبعض ولده : انى أرى أمرا ضائعا ، ثم قال لزياد بن عمرو : خندق علينا ، فخندق المهلب على نفسه (1) ، وأمر بسفنه ففرغت ، وأبى خالد أن يفرغ سفنه ، فقال المهلب لفيروز حصين ، صر معنا ، فقال : يا أبا سعيد ، إن الحزم ما تقول ، غير أنى أكره أن أفارق أصحابي ، قال : فكن بقربنا ، قال : أما هذه فنعم .
وقد كان عبد الملك كتب إلى بشر بن مروان يأمره أن يمد خالدا بجيش كثيف ، أميره عبد الرحمن بن محمد بن الاشعث : ففعل ، فقدم عليه عبد الرحمن ، فأقام قطرى يغاديهم القتال ويراوحهم أربعين يوما ، فقال المهلب لمولى أبى عيينة : سر (2) إلى ذلك الناوس ، فبت عليه كل ليلة ، فمتى أحسست خبرا للخوارج ، أو حركة أو صهيل خيل ، فاعجل إلينا .
فجاءه ليلة ، فقال : قد تحرك القوم ، فجلس المهلب بباب الخندق ، وأعد قطرى سفنا فيها حطب وأشعلها نارا ، وأرسلها على سفن خالد ، وخرج في أدربارها حتى خالطهم ، لا يمر برجل إلا قتله ، ولا بدابة إلا عقرها ، ولا بفسطاط إلا هتكه ، فأمر المهلب يزيد ابنه ، فخرج في مائة فارس .
فقاتل ، وأبلى عبد الرحمن بن محمد ابن الاشعث يومئذ بلاء حسنا ، وخرج فيروز حصين في مواليه ، فلم يزل يرميهم بالنشاب هو ومن معه ، فأثر أثرا جميلا ، وصرع يزيد بن المهلب يومئذ ، وصرع عبد الرحمن ابن محمد بن الاشعث ، فحامى عنهما أصحابهما حتى ركبا ، وسقط فيروز حصين في
__________
(1) كذا في الاصول ، وهى ساقطة من الكامل .
(2) كذا في ب ، وفي ج : (شد) ، وفي الكامل : (انتبذ) ، أي سر إليه منفردا .
والناوس في الاصل : مقابر النصارى .
(*)(4/172)
الخندق ، فأخذ بيده رجل من الازد ، فاستنقذه ، فوهب له فيروز عشرة آلاف ، وأصبح عسكر خالد كأنه حرة سوداء (1) ، فجعل لا يرى إلا قتيلا أو جريحا ، فقال للمهلب : يا أبا سعيد ، كدنا نفتضح ! فقال : خندق على نفسك ، فإن لم تفعل عادوا إليك ، فقال : اكفني أمر الخندق ، فجمع له الاحماس (2) فلم يبق شريف إلا عمل فيه ، فصاح بهم الخوارج : والله لو لا هذا الساحر المزونى ، لكان الله قد دمر عليكم - وكانت الخوارج تسمى المهلب الساحر - ، لانهم كانوا يدبرون الامر فيجدون المهلب قد سبق إلى نقض تدبيرهم .
وقال أعشى همدان لابن الاشعث ، يذكره بلاء القحطانية عنده ، في كلمة طويلة (3) : ويوم أهوازك لا تنسه * ليس الثنا والذكر بالبائد ثم مضى قطرى إلى كرمان ، وانصرف خالد إلى البصرد ، وأقام قطرى بكرمان شهرا ، ثم عمد لفارس ، فخرج خالد إلى الاهواز وندب الناس للرحيل ، فجعلوا يطلبون المهلب ، فقال خالد : ذهب المهلب بحظ هذا المصر ، إنى قد وليت أخى قتال الازارقة .
فولى أخاه عبد العزيز ، واستخلف المهلب على الاهواز في ثلاثمائة ، ومضى عبد العزيز والخوارج بدرابجرد وهو في ثلاثين ألفا ، فجعل عبد العزيز يقول في طريقه : يزعم أهل البصرة أن هذا الامر لا يتم إلا بالمهلب ، سيعلمون ! قال صقعب (4) بن يزيد : فلما خرج عبد العزيز عن الاهواز ، جاءني كردوس ،
__________
(1) الحرة : أرض ذات حجارة سوداء نخرة ، كأنما أحرقت بالنار .
(2) الاحماس : هم جند البصرة .
(3) ديوان الاعشين 34 ، ومطلعها : هل تعرف الدار عفار سمها * بالحضر فالروضة من آمد دار لخود طفلة رودة * بانت فأمسى حبها عامدى (4) الكامل : (صعب بن زيد) .
(*)(4/173)
حاجب المهلب ، فدعاني ، فجئت إلى المهلب وهو في سطح ، وعليه ثياب هروية ، فقال : يا صقعب ، أنا ضائع كأنى أنظر إلى هزيمة عبد العزيز ، وأخشى أن توافيني الازارقة ولا جند معى ، فابعث رجلا من قبلك يأتيني بخبرهم سابقا إلى به ، فوجهت رجلا من قبلى يقال يقال له عمران بن فلان ، وقلت له : اصحب عسكر عبد العزيز ، واكتب إلى بخبر يوم فيوم ، فجعلت أورده على المهلب ، فلما قاربهم عبد العزيز وقف وقفة ، فقال له الناس : هذا منزل ، فينبغي أن تنزل فيه أيها الامير ، حتى نطمئن ثم نأخذ أهبتنا ، فقال : كلا ، الامر قريب ، فنزل الناس عن غير أمره ، فلم يستتم النزول ، حتى ورد عليه سعد الطلائع في خمسمائة فارس ، كأنهم خيط ممدود ، فناهضهم عبد العزيز فواقفوه ساعة ، ثم انهزموا عنه مكيدة ، واتبعهم فقال له الناس : لا تتبعهم ، فإنا على غير تعبية ، فأبى ، فلم يزل في آثارهم حتى اقتحموا عقبة ، فاقتحمها وراءهم والناس ينهونه ويأبى ، وكان قد جعل على بنى تميم عبس بن طلق الصريمى الملقب عبس الطعان ، وعلى بكر بن وائل مقاتل بن مسمع ، وعلى شرطته رجلا من بنى ضبيعة بن ربيعة بن نزار .
فنزلوا عن العقبة ، ونزل خلفهم و [ كان ] (1) لهم في بطن العقبة كمين ، فلما صاروا من ورائها ، خرج عليهم الكمين ، وعطف سعد الطلائع ، فترجل عبس بن طلق ، فقتل وقتل مقاتل بن مسمع ، وقتل الضبيعى ، صاحب شرطة عبد العزيز ، وانحاز عبد العزيز واتبعهم الخوارج فرسخين يقتلونهم كيف شاءوا ، وكان عبد العزيز قد أخرج معه أم حفص بنت المنذر ابن الجارود امرأته ، فسبوا النساء يومئذ ، وأخذوا أسارى لا تحصى ، فقذفوهم في غار بعد أن شدوهم وثاقا ، ثم سدوا عليهم بابه ، حتى ماتوا فيه .
وقال بعض من حضر ذلك اليوم : رأيت عبد العزيز ، وإن ثلاثين رجلا ليضربونه
__________
(1) من الكامل .
(*)(4/174)
بسيوفهم ، فما تحيك في جنبه (1) ، نودى على السبى يومئذ ، فغولى بأم حفص ، فبلغ بها رجل سبعين ألفا ، وكان ذلك الرجل من مجوس كانوا أسلموا ، ولحقوا بالخوارج ، ففرضوا لكل رجل منهم خمسمائة ، فكاد ذلك الرجل يأخذ أم حفص ، فشق ذلك على قطرى ، وقال : ما ينبغى لرجل مسلم أن يكون عنده سبعون ألفا ، إن هذه لفتنة ! فوثب عليها أبو الحديد العبدى فقتلها ، فأتى به قطرى ، فقال : مهيم (2) يا أبا الحديد ! فقال : يا أمير المؤمنين ، رأيت المؤمنين تزايدوا في هذه المشركة فخشيت عليهم الفتنة ، فقال قطرى : أحسنت ، فقال رجل من الخوارج : كفانا فتنة عظمت وجلت * بحمد الله سيف أبى الحديد أهاب المسلمون بها وقالوا * على فرط الهوى هل من مزيد ! (3) فزاد أبو الحديد بنصل سيف * رقيق الحد فعل فتى رشيد وكان العلاء بن مطرف السعدى ابن عم عمرو القنا ، وكان يحب أن يلقاه في صدر مبارزة (4) ، فلحقه عمرو القنا يومئذ ، وهو منهزم ، فضحك منه وقال متمثلا : تمنانى ليلقانى لقيط * أعام لك ابن صعصعة بن سعد (5) ثم صاح به : انج يا أبا المصدى (6) ، وكان العلاء بن مطرف قد حمل معه امرأتين :
__________
(1) قال المبرد : (يقال : ما أحاك فيه السيف ، وما يحييك فيه ، وما حك ذا المر في صدري ، وما حكى في صدري ، وما احتكى في صدري .
ويقال : حاك الرجل في مشيته يحيك إذا تبختر) .
(2) مهيم : حرف استفهام ، معناه : ما الخبر ؟ وما المر ؟ فهو دال على ذلك محذوف الخبر .
(3) أهاب به : أعلن .
(4) الكامل : (في تلك الحروب مبارزة) .
(5) البيت من شرح سيبويه 1 : 329 ، في باب المنادى ، ونسبه لشريح بن الاحوص ، ونسبه المبرد في الكامل إلى يزيد بن الصعق وفي شرح الشواهد للاعلم : (الشاهد في قوله : (لك) ، والمعنى : يا عامر ، دعائي لك ، والمعنى معنى التعجب ، كما تقول : يالك فارسا ! ، أي يا هذا دعائي لك من فارس ، أي أعجب لك في هذه الحال ...
وكان لقيط بن زرارة التميمي قد توعد الاحوص أبا شريح الكلابي ، وتمنى أن يلقاه فيقتله ، فقال هذا متعجبا لقومه من بنى عامر من تمنيه لقتله وتوعده له ...
وأراد عامر ابن صعصعة فرخم) .
(6) هي كنية عمرو القنا .
(*)(4/175)
إحداهما من بنى ضبة ، يقال لها أم جميل ، والاخرى بنت عمه ، يقال لها فلانة بنت عقيل فطلق الضبية ، وحملها أولا ، وتخلص بابنة عمه ، فقال في ذلك : أ لست كريما إذ أقول لفتيتى * قفوا فاحملوها قبل بنت عقيل ولو لم يكن عودي نضارا لاصبحت * تجر على المتنين أم جميل (1) قال الصقعب بن يزيد : وبعثنى المهلب لاتيه بالخبر ، فصرت إلى قنطرة أربك (2) على فرس اشتريته بثلاثة آلاف درهم ، فلم أحس خبرا ، فسرت مهجرا (3) إلى أن أمسيت ، فلما أمسينا وأظلمنا ، سمعت كلام رجل عرفته من الجهاضم ، فقلت : ما وراءك ؟ قال : الشر ، قلت : فأين عبد العزيز ؟ قال : أمامك ، فلما كان آخر الليل ، إذا أنا بزهاء خمسين فارسا معهم لواء ، فقلت : لواء من هذا ؟ قالوا : لواء عبد العزيز ، فتقدمت إليه ، فسلمت عليه ، وقلت : أصلح الله الامير ! لا يكبرن عليك ما كان ، فإنك كنت في شر جند وأخبثه ، قال لى : أو كنت معنا ؟ قلت : لا ، ولكن كأنى شاهد أمرك ، ثم أقبلت إلى المهلب وتركته ، فقال لى : ما وراءك ؟ قلت : ما يسرك ، هزم الرجل وفل جيشه ، فقال : ويحك ! وما يسرنى من هزيمة رجل من قريش وفل جيش من المسلمين ! قلت : قد كان ذلك ، ساءك أو سرك ، فوجه رجلا إلى خالد يخبره بسلامة أخيه .
قال الرجل : فلما خبرت خالدا ، قال : كذبت ولؤمت ، ودخل رجل من قريش فكذبني ، فقال لى خالد : والله لقد هممت أن أضرب عنقك ، فقلت : أصلح الله الامير ! إن كنت كاذبا فاقتلني ، وإن كنت صادقا فأعطني مطرف هذا المتكلم ، فقال خالد : لبئس ما أخطرت به دمك ! فما برحت حتى دخل عليه بعض الفل ، وقدم عبد العزيز سوق الاهواز ، فأكرمه المهلب وكساه ، وقدم معه على خالد ، واستخلف المهلب ابنه حبيبا ، وقال له :
__________
(1) الكامل : (تخر على المتنين) (2) أربك : قرية بخوزستان .
(3) مهجرا : وقت الهاجرة .
(*)(4/176)
تجسس الاخبار ، فإن أحسست بخيل الازارقة قريبا منك فانصرف إلى البصرة على نهر تيرى .
فلما أحس حبيب بهم ، دخل البصرة ، وأعلم خالدا بدخوله ، فغضب وخاف حبيب منه ، فاستتر في بنى عامر بن صعصعة ، وتزوج هناك في استتاره الهلالية ، وهى أم ابنه عباد بن حبيب .
وقال الشاعر لخالد يفيل (1) رأيه : بعثت غلاما من قريش فروقة * وتترك ذا الرأى الاصيل المهلبا (2) أبى الذم واختار الوفاء وأحكمت * قواه ، وقد ساس الامور وجربا وقال الحارث بن خالد المخزومى : فر عبد العزيز إذ راء عيسى * وابن داود نازلا قطريا (3) عاهد الله إن نجا ملمنايا * ليعودن بعدها حرميا (4) يسكن الخل (5) والصفاح فغورينا مرارا ومرة نجديا حيث لا يشهد القتال ولا يسمع يوما لكر خيل دويا وكتب خالد إلى عبد الملك بعذر عبد العزيز ، وقال للمهلب : ما ترى أمير المؤمنين صانعا بى ؟ قال : يعزلك ، قال : أ تراه قاطعا رحمى ! قال : نعم ، قد أتته هزيمة أمية أخيك (6) ففعل - يعنى هرب أمية من سجستان - فكتب عبد الملك إلى خالد :
__________
(1) يفيل رأيه : يخطئه .
(2) الفروقة : شديد الفزع .
(3) في الكامل : فر عبد العزيز لما رأى الابطال في السفح نازلوا قطريا (4) قال المبرد : العرب تنسب الحرم فيقولون : حرمى وحرمى .
(5) الخل والصفاح وغورين مواضع ، ورواية البيت في الكامل : يسكن الخل والصفاح فمرا * ن وسلعا وتارة نجديا (6) عبارة الكامل : (أتته هزيمة أمية أخيك من البحرين وتأتية هزيمة أخيك عبد العزيز من فارس !) (12 - نهج - 4) (*)(4/177)
أما بعد ، فإنى كنت حددت لك حدا في [ أمر ] (1) المهلب ، فلما ملكت أمرك ، نبذت طاعتي وراءك ، واستبددت برأيك ، فوليت المهلب الجباية ، ووليت أخاك حرب الازارقة ، فقبح الله هذا رأيا ! أ تبعث غلاما غرا لم يجرب الامور والحروب للحرب ، وتترك سيدا شجاعا مدبرا حازما قد مارس الحروب ففلج (3) ، فشغلته بالجباية ! أما لو كافأتك على قدر ذنبك لاتاك من نكيرى ما لا بقية لك معه ! ولكن تذكرت رحمك فكفتني عنك ، وقد جعلت عقوبتك عزلك .
والسلام .
قال : وولى بشر بن مروان الامارة وهو بالكوفة ، وكتب إليه : أما بعد ، فإنك أخو أمير المؤمنين يجمعك وإياه مروان بن الحكم ، وإن خالدا لا مجتمع له مع أمير المؤمنين دون أمية ، فانظر المهلب بى أبى صفرة ، فوله حرب الازارقة ، فإنه سيد بطل مجرب ، وامدده من أهل الكوفة بثمانية آلاف رجل ، والسلام .
فشق على بشر ما أمره به في المهلب ، وقال : والله لاقتلنه ، فقال له موسى بن نصير : أيها الامير ، إن للمهلب حفاظا ووفاء وبلاء .
وخرج بشر بن مروان يريد البصرة ، فكتب موسى بن نصير وعكرمة بن ربعى إلى المهلب أن يتلقاه لقاء لا يعرفه به ، فتلقاه المهلب على بغل ، وسلم عليه في غمار (4) الناس ، فلما جلس بشر مجلسه ، قال : ما فعل أميركم المهلب ؟ قالوا : قد تلقاك أيها الامير ، وهو شاك .
فهم بشر أن يولى حرب الازارقة عمر بن عبيد الله بن معمر ، وشد عزمه أسماء
__________
(1) من الكامل .
(2) ج : (فاستبددت) .
(3) فلج : ظفر وانتصر .
(4) غمار ، بكسر الغين : جمع غمرة ، والغمرة : المزدحم .
وفي الكامل : (خمار الناس) ، وخمار الناس كثرتهم وزحمتهم وجماعتهم .
(*)(4/178)
ابن خارجة ، وقال له : إنما ولاك أمير المؤمنين لترى رأيك ، فقال له عكرمة بن ربعى : اكتب إلى أمير المؤمنين فأعلمه علة المهلب ، فكتب إليه بذلك ، وأن بالبصرة من يغنى غناءه ، ووجه بالكتاب مع وفد أوفدهم إليه ، رئيسهم عبد الله بن حكيم المجاشعى .
فلما قرأ عبد الملك الكتاب خلا بعبد الله ، فقال له : إن لك دينا ورأيا وحزما ، فمن لقتال هؤلاء الازارقة ؟ قال : المهلب ، قال : إنه عليل ، قال : ليست علته بمانعة (1) ، فقال عبد الملك : لقد أراد بشر أن يفعل ما فعل خالد ، فكتب إليه يعزم عليه أن يولى المهلب الحرب ، فوجه إليه ، فقال : أنا عليل ، ولا يمكننى الاختلاف ، فأمر بشر بحمل الدواوين إليه ، فجعل ينتخب ، فعزم عليه بشر بالخروج ، فاقتطع أكثر نخبته ، ثم عزم عليه ألا يقيم بعد ثالثة ، وقد أخذت الخوارج الاهواز وخلفوها وراء ظهورهم ، وصاروا بالفرات ، فخرج المهلب حتى صار إلى شهار طاق ، فأتاه شيخ من بنى تميم ، فقال : أصلح الله الامير ! إن سنى ما ترى ، فهبني لعيالي ، فقال (2) : على أن تقول للامير إذا خطب فحثكم على الجهاد : كيف تحثنا على الجهاد ، وأنت تحبس عنه أشرافنا ، وأهل النجدة منا ! ففعل الشيخ ذلك ، فقال له بشر : وما أنت وذاك ! ثم أعطى المهلب رجلا ألف درهم ، على أن يأتي بشرا فيقول له : أيها الامير ، أعن (3) المهلب بالشرطة والمقاتلة ، ففعل الرجل ذلك ، فقال له بشر : وما أنت وذاك ؟ فقال : نصيحة حضرتني للامير والمسلمين ، ولا أعود إلى مثلها ، فأمده بشر بالشرطة والمقاتلة ، وكتب إلى خليفته على الكوفة أن يعقد لعبد الرحمن بن مخنف على ثمانية آلاف ، من كل ربع ألفين ، ويوجه بهم مددا للمهلب .
__________
(1) الكامل : (بما نعته) .
(2) ساقطة من ج .
(3) ب : (أغن) .
(*)(4/179)
فلما أتاه الكتاب ، بعث إلى عبد الرحمن بن مخنف الازدي يعقد (1) له ، واختار من كل ربع ألفين ، فكان على ربع أهل المدينة بشر بن جرير بن عبد الله البجلى ، وعلى ربع تميم وهمدان محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني ، وعلى ربع كندة محمد ابن إسحاق بن الاشعث بن قيس الكندى ، وعلى ربع مذحج وأسد زحر بن قيس المذحجي ، فقدموا على بشر بن مروان ، فخلا بعبد الرحمن بن مخنف ، وقال له : قد عرفت رأيى فيك ، وثقتى بك ، فكن عند ظنى بك ، وانظر إلى هذا المزونى ، فخالفه في أمره ، وأفسد عليه رأيه .
فخرج عبد الرحمن ، وهو يقول : ما أعجب ما طلب (2) منى هذا الغلام ! يأمرنى أن أصغر شأن (3) شيخ من مشايخ أهلى ، وسيد من ساداتهم ! فلحق بالمهلب .
فلما أحس الازارقة بدنو المهلب منهم انكشفوا عن الفرات ، فاتبعهم المهلب إلى سوق الاهواز ، فنفاهم عنها ، ثم اتبعهم إلى رامهرمز فهزمهم عنها ، فدخلوا فارس ، وأبلى يزيد ابنه في وقائعه هذه بلاء شديدا ، تقدم فيه وهو ابن احدى وعشرين سنة .
فلما صار القوم إلى فارس ، وجه إليهم ابنه المغيرة ، فقال له عبد الرحمن بن صالح : أيها الامير ، إنه ليس لك برأى قتل هذه الاكلب ، ولئن والله قتلتهم لتقعدن في بيتك ، ولكن طاولهم ، وكل بهم .
فقال : ليس هذا من الوفاء ، فلم يلبث برامهرمز الا شهرا ، حتى أتاه موت بشر بن مروان .
فاضطرب الجند على ابن مخنف ، فوجه إلى إسحاق بن الاشعث وابن زحر فاستحلفهما ألا يبرحا ، فحلفا له ولم يفيا ، وجعل الجند من أهل الكوفة يتسللون حتى اجتمعوا
__________
(1) الكامل : (فعقد) .
(2) كذا في ا ، ج ، وفي الكامل ، وب : (طمع) .
(3) ج : (رأى) .
(*)(4/180)
بسوق الاهواز ، وأراد أهل البصرة الانسلال من المهلب ، فخطبهم فقال : إنكم لستم كأهل الكوفة ، إنما تذبون عن مصركم وأموالكم وحرمكم .
فأقام منهم قوم ، وتسلل منهم قوم كثير .
وكان خالد بن عبد الله خليفة بشر بن مروان ، فوجه مولى له بكتاب منه إلى من بالاهواز ، يحلف بالله مجتهدا : لئن لم يرجعوا إلى مراكزهم ، وانصرفوا عصاة لا يظفر بأحد إلا قتله .
فجاءهم مولاه ، فجعل يقرأ عليهم الكتاب ، ولا يرى في وجوههم قبولا ، فقال : إنى أرى وجوها ما القبول من شأنها ، فقال له ابن زحر : أيها العبد ، اقرأ ما في الكتاب ، وانصرف إلى صاحبك ، فإنك لا تدرى ما في أنفسنا .
وجعلوا يستحثونه بقراءته ، ثم قصدوا قصد الكوفة ، فنزلوا النخيلة ، وكتبوا إلى خليفة بشر يسألونه أن يأذن لهم في دخول الكوفة ، فأبى ، فدخلوها بغير إذن .
فلم يزل المهلب ومن معه من قواده وابن مخنف ، في عدد قليل ، فلم يلبثوا أن ولى الحجاج العراق .
فدخل الكوفة قبل البصرة ، وذلك في سنة خمس وسبعين ، فخطبهم الخطبة المشهورة (1) ، وتهددهم ، ثم نزل فقال لوجوه أهلها : ما كانت الولاة تفعل بالعصاة ؟ قالوا : كانت تضرب وتحبس ، فقال : ولكن ليس لهم عندي إلا السيف ، إن المسلمين لو لم يغزوا المشركين لغزاهم المشركون ، ولو ساغت المعصية لاهلها ، ما قوتل عدو ، ولا جبى فئ ، ولا عز دين .
ثم جلس لتوجيه الناس ، فقال : قد أجلتكم ثلاثا ، وأقسم بالله لا يتخلف أحد من
__________
(1) في الكامل : (وقد ذكرنا الخطبة متقدما) ، وهى في الكامل 217 (طبعة أوربا) .
(*)(4/181)
أصحاب ابن مخنف بعدها إلا قتلته .
ثم قال لصاحب حرسه ولصاحب شرطته (1) : إذا مضت ثلاثة أيام ، فاشحذا (2) سيوفكما .
(3 فجاءه عمير بن ضابئ [ البرجمى ] (4) بابنه فقال : أصلح الله الامير ! إن هذا أنفع لكم منى ، وهو أشد بنى تميم أبدانا (5) ، وأجمعهم سلاحا ، وأربطهم جأشا ، وأنا شيخ كبير عليل ، واستشهد [ جلساءه ] (4) ، فقال له الحجاج : إن عذرك لواضح ، وإن ضعفك لبين ، ولكني أكره أن يجترئ بك الناس على ، وبعد ، فأنت ابن ضابئ صاحب عثمان ، وأمر به فقتل 3) ، فاحتمل الناس ، وإن أحدهم ليتبع بزاده وسلاحه ، ففى ذلك يقول [ عبد الله ] (4) بن الزبير الاسدي (6) : أقول لعبد الله يوم لقيته * أرى الامر أمسى منصبا متشعبا (7)
__________
(1) الكامل : (شرطه) .
(2) الكامل : (فاتخذا) .
(3 - 3) وفي رواية أخرى للمبرد 217 : (فوضع للناس أعطياتهم ، فجعلوا يأخذون ، حتى أتاه شيخ يرعش كبرا ، فقال : أيها الامير ، إنى من الضعف على ما ترى ، ولى ابن هو أقوى على الاسفار منى ، فتقبله بدلا منى ، فقال الحجاج : نفعل أيها الشيخ ، فلما ولى قال له قائل (هو عنبسة بن سعيد الاموى) : أتدرى من هذا أيها الامير ؟ قال : لا ، قال : هذا عمير بن ضابئ البرجمى الذى يقول أبوه : هممت ولم أفعل وكدت وليتني * تركت على عثمان تبكى حلائله ودخل هذا الشيخ على عثمان مقتولا ، فوطئ بطنه ، فكسر ضلعين من أضلاعه .
فقال : ردوه ، فلما رد قال له الحجاج : أيها الشيخ ، هلا بعثت إلى أمير المؤمنين عثمان بدلا يوم الدار ! إن في قتلك أيها الشيخ لصلاحا للمسلمين ، يا حرسي ، اضرب عنقه ، فجعل الرجل يضيق عليه أمره فيرتحل ، ويأمر وليه أن يلحقه بزاده ، ففى ذلك يقول عبد الله بن الزبير ....) الابيات .
وانظر الشعر والشعراء 311 ، وطبقات الشعراء لابن سلام 145 .
(4) من الكامل .
(5) الكامل : (أيدا) .
(6) نقل المرصفى في رغبة الامل 4 : 270 ، أنه في هذه الابيات يخاطب إبراهيم بن عامر الاسدي ، وروى البيت الاول : أقول لابراهيم لما لقيته * أرى المر أضحى منصبا متشعبا وذكر بعده : تجهز وأسرع فالحق الجيش لا أرى * سوى الجيش إلا في المهالك مذهبا فما إن أرى الحجاج يغمد سيفه * مدى الدهر حتى يترك الطفل أشيبا (7) منصبا : معييا مجهدا .
(*)(4/182)
تجهز فإما أن تزور ابن ضابئ * عميرا ، وإما أن تزور المهلبا هما خطتا خسف نجاؤك منهما * ركوبك حوليا من الثلج أشهبا (1) فما إن أرى الحجاج يغمد سيفه * مدى الدهر حتى يترك الطفل أشيبا فأضحى ولو كانت خراسان دونه * رآها مكان السوق أو هي أقربا (2) وهرب سوار بن المضرب السعدى من الحجاج ، وقال : أ قاتلي الحجاج إن لم أزر له * دراب وأترك عند هند فؤاديا (3) في قصيدة مشهورة له .
فخرج الناس عن الكوفة ، وأتى الحجاج البصرة ، فكان أشد عليهم إلحاحا ، وقد كان أتاهم خبره بالكوفة ، فتحمل الناس قبل قدومه .
وأتاه رجل من بنى يشكر ، وكان شيخا أعور ، يجعل على عينه العوراء صوفة ، فكان يلقب ذا الكرسفة ، فقال :
__________
(1) نقل المرصفى بعده : فكائن ترى من مكره الغزو مسمرا * تحمم حنو السرج حتى تحنبا والمسمر : الذى لم ينم ، وتحمم حنو السرج : لزمه ، حتى صار كأنه حميم له .
وحنو السرج : ما انفطف منه .
وتحنب : تقوس .
(2) الهاء في (دونه) عائدة على المهلب ، أي لو كانت خراسان قريبة من موضع غزوه ، والسوق : هو سوق حكمة ، موضع بنواحي الكوفة .
وأقرب معفول ثان ، على أن (رأى) بمعنى (ظن) ، والضمير المرفوع وضع موضع الضمير المنصوب ، و (أو) بمعنى (بل) ، وانظر الكامل - بشرح المرصفى 4 : 79 (3) دراب ، هي درا بجرد ، اقتصر على أحد الجزأين : كورة بفارس وروى المبرد في الكامل 289 (طبع أوربا) بعد هذا البيت : فإن كان لا يرضيك حتى تردني * إلى قطرى ما إخالك راضيا إذ جاوزت درب المجيزين ناقتي * فباست أبى الحجاج لما ثنانيا أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي * وقومي تميم والفلاة ورائيا ! (*)(4/183)
أصلح الله الامير ! إن بى فتقا ، وقد عذرني بشر بن مروان ، وقد رددت العطاء ، فقال : إنك عندي لصادق ، ثم أمر به فضربت عنقه ، ففى ذلك يقول كعب الاشقري - أو الفرزدق (1) : لقد ضرب الحجاج بالمصر ضربة * تقرقر منها بطن كل عريف (2) * * * ويروى عن أبى البئر (3) ، قال : إنا لنتغدى معه يوما ، إذ جاءه رجل من بنى سليم (4) برجل يقوده ، فقال : أصلح الله الامير ! إن هذا عاص ، فقال له الرجل : أنشدك الله أيها الامير في دمى ! فو الله ما قبضت ديوانا قط ، ولا شهدت عسكرا قط ، وإنى لحائك ، أخذت من تحت الحف (5) فقال : اضربوا عنقه .
فلما أحس بالسيف سجد ، فلحقه السيف وهو ساجد ، فأمسكنا عن الاكل ، فأقبل علينا ، وقال : ما لى أراكم قد صفرت أيديكم ، واصفرت وجوهكم ، وحد نظركم من قتل رجل واحد ! ألا إن العاصى يجمع خلالا ، يخل بمركزه ، ويعصى أميره ، ويغر المسلمين ، وهو أجير لهم ، وإنما يأخذ الاجرة لما يعمل ، والوالى مخير فيه ، إن شاء قتل ، وإن شاء عفا .
ثم كتب إلى المهلب : أما بعد ، فإن بشرا استكره نفسه (6) عليك ، وأراك غناه (7) عنك ، وأنا أريك حاجتى إليك ، فأرني الجد في قتال عدوك ، ومن خفته على المعصية ممن قبلك فاقتله ،
__________
(1) انظر ديوان الفرزدق 2 : 570 .
(2) تقرقر : صوت ، والعريف : النقيب دون الرئيس .
(3) كذا في ب ، وفي ا ، ج : (عن أبى النسر) ، وفي الكامل : (ابن أبى ميرة) .
(4) كذا في ب والكامل ، وفي ا ، ج : (من بنى تميم) .
(5) الحف : القصبة التى تجئ وتذهب .
(6) استكره نفسه : أدارها على الكره منها .
(7) أي أراك أنه في غنى عنك .
(*)(4/184)
فإنى قاتل من قبلى ، ومن كان عندي ممن هرب عنك ، فأعلمني مكانه ، فإنى أرى أن آخذ السمى بالسمى ، والولى بالولي .
فكتب إليه المهلب : ليس قبلى إلا مطيع - وإن الناس إذا [ خافوا العقوبة كبروا الذنب ، وإذا ] (1) أمنوا العقوبة صغروا الذنب ، وإذا يئسوا من العفو أكفرهم (2) ذلك ، فهب لى هؤلاء الذين سميتهم عصاة ، فإنهم فرسان أبطال ، أرجو أن يقتل الله بهم العدو - [ ونادم على ذنبه ] (3) .
فلما راى المهلب كثرة الناس عنده قال : اليوم قوتل هذا العدو .
* * * ولما رأى ذلك قطرى ، قال لاصحابه : انهضوا بنا نريد السردن (4) ، فنتحصن فيها ، فقال عبيدة بن هلال : أو تأتى (5) سابور ، فتأخذ منها ما نريد ، وتصير إلى كرمان .
فأتوا سابور ، وخرج المهلب في آثارهم فأتى أرجان ، وخاف أن يكونوا قد تحصنوا بالسردن - وليست بمدينة ، ولكنها جبال محدقة منيعة - فلم يصب بها أحدا ، فخرج فعسكر بكازرون (6) ، واستعدوا لقتاله ، فخندق على نفسه ، ووجه إلى عبد الرحمن
__________
(1) من الكامل .
(2) أكفر هم : حملهم على الكفر .
(3) من الكامل و : (نادم) معطوف على (مطيع) .
(4) السردن : موضع ببلاد فارس إزاء كازرون .
(5) سابور : كورة بينها وبين شيراز خمسة وعشرون فرسخا .
(6) كازرون ، بتقدبم الزاى : مدينة من أخصب مدن سابور ، وذكر ياقوت أن لها ذكرا في أخبار الخوارج ، وروى للنعمان بن عقبة من أصحاب المهلب : ليت الحواصن في الخدور شهدننا * فيرين من وغل الكتيبة أولا وقروا وكنا في الوقار كمثلهم * إذ ليس تسمع غير قدم أو هلا رعدوا فأبرقنا لهم بسيوفنا * ضربا ترى منه السواعد تختلى تركوا الجماجم والرماح تجيلها * في كازرون كما تجيل الحنظلا (*)(4/185)
ابن مخنف : خندق على نفسك .
فوجه إليه : خنادقنا سيوفنا ، فوجه المهلب إليه : إنى لا آمن عليك البيات ، فقال ابنه جعفر : ذاك أهون علينا من ضرطة جمل ، فأقبل المهلب على ابنه المغيرة ، فقال : لم يصيبوا الرأى ، ولم يأخذوا بالوثيقة .
فلما أصبح القوم عاودوه الحرب ، فبعث إلى ابن مخنف يستمده ، فأمده بجماعة ، جعل عليهم ابنه جعفرا ، فجاءوا وعليهم أقبية بيض جدد ، فأبلوا يومئذ حتى عرف مكانهم المهلب ، وأبلى بنوه يومئذ كبلاء الكوفيين أو أشد .
ثم أتى رئيس من الخوارج ، يقال له صالح بن مخراق ، وهو ينتخب قوما من جلة العسكر حتى بلغ أربعمائة ، فقال لابنه المغيرة : ما أراه يعد هؤلاء إلا للبيات (1) .
وانكشفت الخوارج ، والامر للمهلب عليهم ، وقد كثر فيهم الجراح والقتل ، وقد كان الحجاج يتفقد العصاة ، ويوجه الرجال ، وكان يحبسهم نهارا ، ويفتح الحبس ليلا ، فيتسلل الرجال إلى ناحية المهلب ، وكان الحجاج لا يعلم ، فإذا رأى إسراعهم تمثل : إن لها لسائقا عشنزرا * إذا وثبن وثبة تغشمرا .
* * * ثم كتب الحجاج إلى المهلب يستحثه : أما بعد ، فإنه قد بلغني أنك قد أقبلت على جباية الخراج ، وتركت قتال العدو ، وإنى وليتك (3) وأنا أرى مكان عبد الله بن حكيم المجاشعى ، وعباد بن الحصين الحبطى ، واخترتك وأنت من أهل عمان ، ثم رجل من الازد ، فالقهم يوم كذا في مكان كذا ، وإلا أشرعت إليك صدر الرمح
__________
(1) الكامل : (ما يعد هؤلاء إلا للبيات) .
(2) في الكامل : (إذا ونين ونية) ، وفيه (العشنزر : الصلب ، والتغشمر : ركوب الرأس ، والمتغشمر : الجاد على ما خيلت) يريد : ما خيلت نفسه ، وهم يحذفون فاعل هذا الفعل .
(3) يريد أبقيتك على ولايتك .
(*)(4/186)
فشاور المهلب بنيه ، فقالوا : أيها الامير (1 ، لا تغلظ عليه في الجواب 1) .
فكتب إليه : ورد إلى كتابك ، تزعم أنى أقبلت على جباية الخراج ، وتركت قتال العدو ، ومن عجز عن جباية الخراج ، فهو عن قتال العدو أعجز .
وزعمت أنك وليتني ، وأنت ترى مكان عبد الله بن حكيم وعباد بن الحصين ، ولو وليتهما لكانا مستحقين لذلك لفضلهما وغنائهما وبطشهما .
وزعمت أنك اخترتني وأنا رجل من الازد ، ولعمري إن شرا من الازد لقبيلة تنازعتها ثلاث قبائل ، لم تستقر في واحدة منهن .
وزعمت أنى إن لم ألقهم يوم كذا في مكان كذا أشرعت إلى صدر الرمح ، لو فعلت لقلبت لك ظهر المجن (2) .
والسلام .
قال : ثم كانت الوقعة بينه وبين الخوارج عقيب هذا الكتاب .
* * * فلما انصرف الخوارج تلك الليلة ، قال لابنه المغيرة : إنى أخاف البيات على بنى تميم ، فانهض إليهم فكن فيهم ، فأتاهم المغيرة ، فقال له الحريش بن هلال : يا أبا حاتم ، أ يخاف الامير أن يؤتى من ناحيتنا ! قل له : فليبت آمنا ، فإنا كافوه ما قبلنا إن شاء الله .
فلما انتصف الليل ، وقد رجع المغيرة إلى أبيه ، سرى صالح بن مخراق في القوم الذين كان أعدهم للبيات إلى ناحية بنى تميم ، ومعه عبيدة بن هلال ، وهو يقول : إنى لمذك للشراة نارها * ومانع ممن أتاها دارها * وغاسل بالسيف عنها عارها .
*
__________
(1 - 1) الكامل : (إنه أمير ، فلا تغلظ عليه في الجواب) .
(2) المجن من السلاح : ما يتقى به .
(*)(4/187)
فوجد بنى تميم أيقاظا متحارسين ، وخرج إليهم الحريش بن هلال ، وهو يقول : وجدتمونا وقرا أنجادا * لا كشفا ميلا ولا أوغادا (1) ثم حمل على الخوارج ، فرجعوا عنه ، فاتبعهم ثم صاح بهم : إلى أين يا كلاب النار ! فقالوا : إنما أعدت لك ولاصحابك ، فقال الحريش : كل مملوك لى حر إن لم تدخلوا النار ، ما دخلها مجوسي فيما بين سفوان (2) وخراسان .
ثم قال بعضهم لبعض : نأتى عسكر ابن مخنف ، فإنه لا خندق عليه ، وقد بعث فرسانهم اليوم مع المهلب ، وقد زعموا أنا أهون عليهم من ضرطة جمل .
فأتوهم فلم يشعر ابن مخنف وأصحابه ، إلا وقد خالطوهم في عسكرهم .
وكان ابن مخنف شريفا ، وفيه يقول رجل من بنى عامر لرجل يعاتبه ، ويضرب بابن مخنف المثل : تروح وتغدو كل يوم معظما * كأنك فينا مخنف وابن مخنف فترجل عبد الرحمن تلك الليلة يجالدهم ، حتى قتل وقتل معه سبعون رجلا من القراء ، فيهم نفر من أصحاب على بن أبى طالب ، ونفر من أصحاب ابن مسعود .
وبلغ الخبر المهلب - وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف عند المهلب - فجاءهم مغيثا فقاتل حتى ارتث (3) ، ووجه المهلب إليهم ابنه حبيبا ، فكشفهم ، ثم جاء المهلب حتى صلى على عبد الرحمن بن مخنف وأصحابه ، وصار جنده في جند المهلب ، فضمهم إلى ابنه حبيب ، فعيرهم البصريون ، وسموا جعفرا خضفة الجمل .
__________
(1) في الكامل : (قوله) : وجدتم وقرا ، جمع وقور ، والنجد : ضد البليد ، وهو المتيقظ الذى لا كسل عنده ولا فتور .
والاميل ، فيه قولان : قالوا : الذى لا يستقر على الدابة ، وقالوا : الذى لا سيف معه .
والا كشف : الذى لا ترس معه .
والاجم : الذى لا رمح معه ، والحاسر : الذى لا درع عليه .
والاعزل : الذى لا يتقوم على هر الدابة .
و الوغد : الضعيف) .
وذكر بعده هذا البيت : هيهات لا تلفوننا رقادا * لا بل إذا صيح بنا آسادا (2) سفوان ، بفتحتين : ماء على قدر مرحلة من مربد البصرة .
(3) المرتث : الذى يحمل من المعركة جريحا وبه رمق .
(*)(4/188)
وقال رجل منهم لجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف : تركت أصحابكم تدمى نحورهم * وجئت تسعى إالينا خضفة الجمل .
(1) فلام المهلب (2) أهل البصرة ، وقال بئسما قلتم ، والله ما فروا ولا جبنوا ، ولكنهم خالفوا أميرهم ، أ فلا تذكرون فراركم بدولاب عنى ، وفراركم بدارس (3) عن عثمان (4) ! * * * ووجه الحجاج البراء بن قبيصة إلى المهلب يستحثه في مناجزة القوم ، وكتب إليه : إنك تحب بقاءهم لتأكل بهم ، فقال المهلب لاصحابه : حركوهم ، فخرج فرسان من أصحابه ، فخرج إليهم من الخوارج جمع كثير ، فاقتتلوا إلى الليل : فقال لهم الخوارج : ويلكم ! أما تملون ! فقالوا : لا ، حتى تملوا ، فقالوا : فمن أنتم ؟ قالوا : تميم ، فقالت الخوارج : ونحن تميم أيضا ، فلما أمسوا افترقوا ، فلما كان الغد خرج عشرة من أصحاب المهلب ، وخرج إليهم من الخوارج عشرة ، واحتفر كل واحد منهم حفيرة ، وأثبت قدميه فيها ، كلما قتل رجل جاء رجل من أصحابه فاجتره وقام (5) مكانه حتى أعتموا (6) ، فقال لهم الخوارج : ارجعوا ، فقالوا : بل ارجعوا أنتم ، قالوا لهم : ويلكم من أنتم ! قالوا : تميم ، قالوا : ونحن
__________
(1) في الكامل : (تركت أصحابنا) ، وفيه : قوله : (خضفة الجمل ، يريد ضرطة الجمل ، يقال : خضف البعير ، وأنشدني الرياشى لاعرابي يذم رجلا اتخذ وليمة : إنا وجدنا خلفا بئس الخلف * أغلق عنا بابه ثم حلف لا يدخل البواب إلا من عرف * عبدا إذا ما ناء باحمل خضف (2) في الكامل : (فلامهم) .
(3) في الاصول : (بفارس) ، وما أثبته عن الكامل .
ودارس .
موضع ذكره البكري وقال : إنه في ناحية مسرقان .
ومسرقان : قرية من أعمال البصرة .
(4) هو عثمان بن قطن بن عبيد الله ، أحد بنى الحارث بن كعب ، وكان الحجاج بعثه إلى شبيب ، فانهزم أصحابه عنه ، وقاتل حتى قتل .
(5) الكامل : (ووقف) .
(6) أعتموا : صاروا في العتمة ، وهى ثلث الليل الاول بعد مغيب الشفق .
(*)(4/189)
تميم أيضا : فرجع البراء بن قبيصة إلى الحجاج فقال له : مهيم ؟ (1) قال : رأيت أيها الامير قوما لا يعين عليهم إلا الله .
وكتب المهلب جواب الحجاج : إنى منتظر بهم إحدى ثلاث : موتا ذريعا ، (2) أو جوعا مضرا ، أو اختلافا من أهوائهم .
وكان المهلب لا يتكل في الحراسة على أحد ، كان يتولى ذلك بنفسه ، ويستعين عليه بولده ، وبمن يحل محلهم في الثقة عنده .
قال أبو حرملة العبذى يهجو المهلب ، وكان في عسكره : عدمتك يا مهلب من أمير * أما تندى يمينك للفقير ! بدولاب أضعت دماء قومي * وطرت على مواشكة درور (3) فقال له المهلب : ويحك ! والله إنى لاقيكم بنفسى وولدى ، قال : جعلني الله فداء الامير ! فذاك الذى نكره منك ، ما كلنا يحب الموت .
قال : ويحك ! وهل عنه من محيص ! قال لا ، ولكنا نكره التعجيل ، وأنت تقدم عليه إقداما ، قال المهلب : ويلك ! أما سمعت قول الكلحبة اليربوعي : فقلت لكاس ألجميها فإنما * نزلنا الكثيب من زرود لنفزعا .
(4)
__________
(1) مهيم ، كلمة استفهام معناها : ما الخبر وما الامر ؟ وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى عبد الرحمن بن عوف ، وعليه درع خلق ، فقال : مهيم ؟ فقال : تزوجت يا رسول الله .
وفي الكامل : (مه) وهى بمعنى الاستفهام أيضا .
(2) ذريع : سريع .
(3) قال المبرد : قوله : (مواشكة) ، يريد سريعة ، ويقال : نحن على وشك رحيل .
ويقال : ذميل مواشك ، إذا كان سريعا ، قال ذو الرمة : إذا ما رمينا رمية في مفازة * عر اقيبها بالشيظمى المواشك و (درور) فعول ، من در الشئ ، إذا تتابع .
(4) كأس : اسم بنته ، والعرب لا تثق بأحد في خيلها إلا بأولادها ونسائها .
والكثيب ، القطعة = (*)(4/190)
فقال : بلى ، قد سمعت ، ولكن قولى أحب إلى منه : ولما وقفتم غدوة وعدوكم * إلى مهجتي وليت أعداءكم ظهرى وطرت ولم أحفل ملامة جاهل * يساقى المنايا بالردينية السمر (1) فقال المهلب : بئس حشو الكتيبة أنت والله يا أبا حرملة ! إن شئت أذنت لك فانصرفت إلى أهلك .
قال : بل أقيم معك أيها الامير ، فوهب له المهلب وأعطاه ، فقال يمدحه : يرى حتما عليه أبو سعيد * جلاد القوم في أولى النفير إذا نادى الشراة أبا سعيد * مشى في رفل محكمة القتير (2) قال : وكان المهلب يقول : ما يسرنى أن في عسكري ألف شجاع مكان بيهس بن صهيب ، فيقال له : أيها الامير ، بيهس ليس بشجاع ، فيقول : أجل ، ولكنه سديد الرأى ، محكم العقل ، وذو الرأى حذر سئول ، فأنا آمن أن يغتفل ، ولو كان مكانه ألف شجاع لخلت أنهم ينشامون (3) حيث يحتاج إليهم .
قال : ومطرت السماء مطرا شديدا وهم بسابور ، وبين المهلب وبين الشراة عقبة ، فقال المهلب : من يكفينا أمر هذه العقبة الليلة ؟ فلم يقم أحد ، فلبس المهلب سلاحه ، وقام إلى العقبة واتبعه ابنه المغيرة ، فقال رجل من أصحابه : دعانا الامير إلى ضبط العقبة ، والحظ
__________
= المستطيلة من الرمل ، محدودبة .
وزردود : موضع .
والفزع : هنا الاغاثة وهو من الاضداد .
وقبل هذا البيت : ونادى منادى الحى أن قد أتيتم * وقد شربت ماء المزادة أجمعا وهما من قصيدة مفضلية وفيها : أمرتكم أمرى بمنعرج اللوى * ولا أمر للمعصى إلا مضيعا إذا المرء لم يغش الكريهة أو شكت * حبال الهوينى بالفتى أن تقطعا (1) الكامل : (ملامة عاجز) ، الردينية : الرماح ، منسوبة إلى ردينة ، امرأة كانت تقوم الرماح .
(2) الرفل بكسر الراء : الذيل ، وقد أرفل رفله ، أرسل ذيله ، وأما الرفل بفتحها ، فمصدر رفل كنصر : جر ذيله وركضه برجله ، والقتير : رءوس مسامير حلق الدروع .
(3) ينشامون ، من انشام الشئ دخل فيه واختبأ ، كتشيم ، يريد أنهم يكونون بمعزل مخافة أن يغتفلوا .
(*)(4/191)
في ذلك لنا ، فلم نطعه ، ولبس سلاحه واتبعه جماعة من العسكر ، فصاروا إليه ، فإذا المهلب والمغيرة ولا ثالث لهما ، فقالوا : انصرف أيها الامير فنحن نكفيك إن شاء الله ، فلما أصبحوا إذا هم بالشراة على العقبة ، فخرج إليهم غلام من أهل عمان على فرس ، فجعل يحمل وفرسه تزلق ، ويلقاه مدرك في جماعة معه ، حتى ردوهم عن العقبة .
فلما كان يوم النحر والمهلب على المنبر يخطب الناس ، إذ الشراة قد أكبوا (2) ، فقال المهلب : سبحان الله ! أ في مثل هذا اليوم ! يا مغيرة اكفنيهم : فخرج إليهم المغيرة ، وأمامه سعد بن نجد القردوسى (3) وكان سعد مقدما في شجاعته ، وكان الحجاج (4) إذا ظن برجل أن نفسه قد أعجبته قال له : لو كنت سعد بن نجد القردوسى ما عدا (5) ! فخرج أمام المغيرة ، ومع المغيرة جماعة من فرسان المهلب ، فالتقوا ، وأمام الخوارج غلام جامع السلاح ، مديد القامة ، كريه الوجه ، شديد الحملة ، صحيح الفروسية ، فأقبل يحمل على الناس ، ويرتجز فيقول : نحن صبحناكم غداة النحر * بالخيل أمثال الوشيج تجرى (6) فخرج إليه سعد بن نجد القردوسى ، من الازد ، فتجاولا ساعة ثم طعنه سعد فقتله ، والتقى الناس ، فصرع المغيرة يومئذ ، فحامى عليه سعد بن نجد ودينار السجستاني (7) وجماعة من الفرسان ، حتى ركب وانكشف الناس عند سقطة المغيرة حتى صاروا إلى المهلب ، فقالوا : قتل المغيرة ، فأتاه دينار السجستاني ، فأخبره بسلامته ، فأعتق كل مملوك كان بحضرته .
__________
(1) الشراة : الخوارج ، قال الجوهرى : سموا بذلك لقولهم : إنا شرينا أنفسنا في طاعة الله ، أي بعناها بالجنة حين فارقنا الائمة الجائرة .
(2) الكامل : (تألبوا) .
(3) في الاصول : (الفردوسي) ، تصحيف صوابه من الكامل ، وقردوس : قبيلة من الازد .
(4) الكامل : (المهلب) .
(5) أي ما تجاوز إعجابك إعجابه .
(6) الوشيج : ما نبت من شجر الرماح ملتفا دخل بعضه في بعض ، أو ما صلب فيه .
(7) الكامل : (السختيانى) .
(*)(4/192)
قال : ووجه الحجاج الجراح بن عبد الله إلى المهلب يستبطئه في مناجزة القوم ، وكتب إليه : أما بعد ، فإنك جبيت الخراج بالعلل (1) ، وتحصنت بالخنادق ، وطاولت القوم وأنت أعز ناصرا ، وأكثر عددا ، وما أظن بك مع هذا معصية ولا جبنا ، ولكنك اتخذتهم أكلا (2) ، وكان بقاؤهم أيسر عليك من قتالهم ، فناجزهم وإلا أنكرتني ، والسلام .
فقال المهلب للجراح : يا أبا عقبة ، والله ما تركت حيلة إلا احتلتها ، ولا مكيدة إلا أعملتها ، وما العجب من إبطاء النصرة (3) وتراخى الظفر ، ولكن العجب أن يكون الرأى لمن يملكه دون من يبصره .
ثم ناهضهم ثلاثة أيام ، يغاديهم القتال ، فلا يزالون كذلك إلى العصر ، وينصرف أصحابه وبهم قرح ، وبالخوارج قرح وقتل .
فقال له الجراح : قد أعذرت .
فكتب المهلب إلى الحجاج : أتانى كتابك تستبطئنى في لقاء القوم ، على أنك لا تظن بى معصية ولا جبنا ، وقد عاتبتني معاتبة الجبان (4) ، وأوعدتني وعيد (5) العاصى ، فسل الجراح .
والسلام .
فقال الحجاج للجراح : كيف رأيت أخاك ؟ قال : والله أيها الامير ، ما رأيت مثله قط ، ولا ظننت أن أحدا يبقى على مثل ما هو عليه ، ولقد شهدت أصحابه أياما ثلاثة يغدون إلى الحرب ، ثم ينصرفون عنها ، وهم يتطاعنون بالرماح ، ويتجالدون بالسيوف ،
__________
(1) بالعلل ، أي سترته بالعلل .
(2) الاكل بالضم : اسم للمأكول .
(3) الكامل : (النصر) .
(4) أي معاتبتك للجبان .
(5) في الاصول : (وعد) ، وما أثبته من الكامل .
(13 - نهج - 4) (*)(4/193)
ويتخابطون بالعمد ، ثم يروحون كأن لم يصنعوا شيئا ، رواح قوم تلك عادتهم وتجارتهم .
فقال الحجاج : لشد ما مدحته (1) أبا عقبة ! فقال : الحق أولى .
وكانت ركب الناس (2) قديما من الخشب ، فكان الرجل يضرب ركابه فينقطع ، فإذا أراد الضرب أو الطعن لم يكن له معتمد ، فأمر المهلب بضرب (3) الركب من الحديد : فهو أول من أمر بطبعها ، وفي ذلك يقول عمران بن عصام العنزي : ضربوا الدراهم في إمارتهم * وضربت للحدثان والحرب حلقا ترى منها مرافقهم * كمناكب الجمالة الجرب (4) * * * قال : وكتب الحجاج إلى عتاب بن ورقاء الرياحي ، من بنى رياح بن يربوع - وهو والى أصفهان - يأمره بالمسير إلى المهلب ، وأن يضم إليه جند عبد الرحمن بن مخنف ، فكل بلد يدخلانه من فتوح أهل البصرة فالمهلب أمير الجماعة فيه ، وأنت على أهل الكوفة ، فإذا دخلتم بلدا فتحه أهل الكوفة (5) فأنت أمير الجماعة ، والمهلب على أهل البصرة .
فقدم عتاب في إحدى جماديين من سنة ست وسبعين على المهلب ، وهو بسابور - وهى من فتوح أهل البصرة - فكان المهلب أمير الناس وعتاب على أصحاب ابن مخنف ، والخوارج بأيديهم كرمان ، وهم بإزاء المهلب بفارس ، يحاربونه من جميع النواحى .
__________
(1) كذا في ب والكامل ، وفي ا ، ج : (وصفته) .
(2) ركب الناس ، الركب ، بضمتين : جمع ركاب ، وهو ما يعتمد عليه راكب السرج بقدميه ، فأما ما يعتمد على راكب البعير ، فهو الغرز .
(3) ج : (فضربت) .
(4) المرافق هنا : معتمدات الارجل من الحلق ، ويريد بمناكب الجمالة الجرب أنها رقيقة الوسط عريضة الطرفين .
والجمالة ، مثلثة الجيم مخففة الميم : الطائفة من الجمال .
(5) الكامل : (فتحه لاهل الكوفة) .
(*)(4/194)
قال : ووجه الحجاج إلى المهلب رجلين يستحثانه لمناجزة القوم : أحدهما يقال له زياد ابن عبد الرحمن ، من بنى عامر بن صعصعة ، والاخر من آل أبى عقيل من رهط الحجاج ، فضم المهلب زيادا إلى ابنه حبيب ، وضم الثقفى إلى ابنه يزيد ، وقال لهما : خذا يزيد وحبيبا بالمناجزة ، وغادوا الخوارج .
فاقتتلوا أشد قتال ، فقتل زياد بن عبد الرحمن العامري ، وفقد الثقفى .
ثم باكروهم في اليوم الثاني ، وقد وجد الثقفى ، فدعا به المهلب ، ودعا بالغداء ، فجعل النبل يقع قريبا منهم ويتجاوزهم ، والثقفي يعجب من أمر المهلب ، فقال الصلتان العبدى : ألا يا اصبحاني قبل عوق العوائق (1) * وقبل اختراط القوم مثل العقائق (2) غداة حبيب في الحديد يقودنا * يخوض المنايا في ظلال الخوافق حرون إذا ما الحرب طار شرارها (3) * وهاج عجاج النقع فوق المفارق (4) فمن مبلغ الحجاج أن أمينه * زيادا أطاحته رماح الازارق ! فلم يزل عتاب بن ورقاء مع المهلب ثمانية أشهر حتى ظهر شبيب بن يزيد ، فكتب الحجاج إلى عتاب يأمره بالمصير إليه ليوجهه إلى شبيب ، وكتب إلى المهلب يأمره أن يرزق الجند ، فرزق أهل البصرة ، وأبى أن يرزق أهل الكوفة ، فقال له عتاب : ما أنا ببارح حتى ترزق أهل الكوفة ، فأبى ، فجرت بينهما غلظة ، فقال له عتاب : قد كان يبلغني أنك شجاع ، فرأيتك جبانا ، وكان يبلغني أنك جواد ، فرأيتك بخيلا .
فقال له المهلب : يا بن اللخناء ، فقال له عتاب : لكنك معم مخول !
__________
(1) اصبحاني ، من صبحه إذا سقاه صبوحا من خمر أولين .
والعوائق : جمع عائقة ، وهى كل ما صرفك عما تريد .
(2) في الكامل : (قوله : وقبل اختراط القوم مثل العقائق ، يعنى السيوف ، والعقائق : جمع عقيقة ، يقال : سيف كأنه عقيقة برق ، أي كأنه لمعة برق ، ويقال : انعق البرق إذا تبسم) .
(3) حرون ، لقب حبيب ، لانه كان يحرن في الحرب فلا يبرح ، وذلك مستعر من قولهم : فرس حرون لا ينقاد ، وانظر رغبة الامل 4 : 88 .
(4) الكامل : (البوارق) ، والبوارق : السيوف .
(*)(4/195)
فغضبت بكر بن وائل للمهلب للحلف ، ووثب نعيم بن هبيرة ، ابن أخى مصقلة ابن هبيرة على عتاب فشتمه ، وقد كان المهلب كارها للحلف ، فلما رأى نصرة بكر ابن وائل له سره ، واغتبط به ، فلم يزل يؤكده ، وغضبت تميم البصرة لعتاب ، وغضبت أزد الكوفة للمهلب ، فلما رأى ذلك المغيرة مشى بين أبيه وبين عتاب ، وقال لعتاب : يا أبا ورقاء ، إن الامير يصير إلى كل ما تحب ، وسأل أباه أن يرزق أهل الكوفة ، ففعل فصلح الامر ، فكانت تميم قاطبة وعتاب بن ورقاء يحمدون المغيرة بن المهلب ، وكان عتاب يقول : إنى لاعرف فضله على أبيه .
وقال رجل من الازد ، من بنى إياد بن سود : ألا أبلغ أبا ورقاء عنا * فلو لا أننا كنا غضابا على الشيخ المهلب إذ جفانا * للاقت خيلكم منا ضرابا * * * قال : وكان المهلب يقول لبنيه : لا تبدءوا الخوارج بقتال حتى يبدءوكم ، ويبغوا عليكم ، فإنهم إذا بغوا عليكم نصرتم عليهم .
فشخص عتاب إلى الحجاج في سنة سبع وسبعين ، فوجهه إلى شبيب فقتله شبيب .
وأقام المهلب على حربهم ، فلما انقضى من مقامه ثمانية عشر شهرا اختلفوا وافترقت كلمتهم .
وكان سبب اختلافهم أن رجلا حدادا من الازارقة ، كان يعمل نصالا مسمومة ، فيرمى بها أصحاب المهلب ، فرفع ذلك إلى المهلب ، فقال : أنا أكفيكموه إن شاء الله ، فوجه رجلا من أصحابه بكتاب وألف درهم إلى عسكر قطرى ، فقال له : ألق هذا الكتاب في العسكر والدراهم ، واحذر على نفسك - وكان الحداد يقال له أبزى - فمضى الرجل .
وكان في الكتاب : أما بعد ، فإن نصالك قد وصلت إلى ، وقد وجهت إليك بألف درهم فاقبضها وزدنا من هذه النصال .(4/196)
فوقع الكتاب إلى قطرى ، فدعا بأبزى ، فقال : ما هذا الكتاب ؟ قال : لا أدرى ، قال : فما هذه الدراهم ؟ قال : لا أعلم ، فأمر به فقتل .
فجاءه عبد ربه الصغير مولى بنى قيس بن ثعلبة ، فقال له : أقتلت رجلا على غير ثقة (1) ولا تبين ! قال قطرى : فما حال هذه الالف ؟ قال : يجوز أن يكون أمرها كذبا ، ويجوز أن يكون حقا ، فقال قطرى : إن قتل رجل في صلاح الناس غير منكر ، وللامام أن يحكم بما رآه صلاحا ، وليس للرعية أن تعترض عليه .
فتنكر له عبد ربه في جماعة معه ، ولم يفارقوه .
وبلغ ذلك المهلب فدس إليهم رجلا نصرانيا ، جعل له جعلا يرغب في مثله ، وقال له : إذا رأيت قطريا فاسجد له ، فإذا نهاك فقل : إنما سجدت لك ، ففعل ذلك النصراني ، فقال قطرى : إنما السجود لله تعالى ، فقال ما سجدت إلا لك ، فقال رجل من الخوارج : إنه قد عبدك من دون الله ، وتلا : (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون) (2) ، فقال قطرى : إن النصارى قد عبدوا عيسى بن مريم ، فما ضر عيسى ذلك شيئا .
فقام رجل من الخوارج إلى النصراني فقتله ، فأنكر قطرى ذلك عليه ، وأنكر قوم من الخوارج إنكاره .
وبلغ المهلب ذلك ، فوجه إليهم رجلا يسألهم ، فأتاهم الرجل ، فقال : أرأيتم رجلين خرجا مهاجرين إليكم ، فمات أحدهما في الطريق ، وبلغ الاخر إليكم فامتحنتموه فلم يجز المحنة ، ما تقولون فيهما ؟ فقال بعضهم : أما الميت فمؤمن من أهل الجنة ، وأما الذى لم يجز المحنة فكافر حتى يجيز المحنة .
وقال قوم آخرون : بل هما كافران حتى يجيز المحنة ، فكثر الاختلاف .
وخرج قطرى إلى حدود إصطخر ، فأقام شهرا ، والقوم في اختلافهم .
ثم أقبل فقال
__________
(1) ج : (وثيقة) .
(2) سورة الانبياء 98 (*)(4/197)
لهم صالح بن مخراق : يا قوم ، إنكم أقررتم عين عدوكم ، وأطمعتموه فيكم بما يظهر من خلافكم (1) ، فعودوا إلى سلامة القلوب ، واجتماع الكلمة .
وخرج عمرو القنا - وهو من بنى سعد بن زيد مناة بن تميم - فنادى : يا أيها المحلون (2) ، هل لكم في الطراد فقد طال عهدي به ! ثم قال : ألم تر أنا مذ ثلاثين ليلة * جديب وأعداء الكتاب على خفض (3) فتهايج القوم ، وأسرع بعضهم إلى بعض ، وكانت الوقعة ، وأبلى يومئذ المغيرة بن المهلب ، وصار في وسط الازارقة ، فجعلت الرماح تحطه وترفعه ، واعتورت رأسه السيوف ، وعليه ساعد حديد ، فوضع يده على رأسه ، فلم يعمل السيف فيه شيئا ، واستنقذه فرسان من الازد بعد أن صرع ، وكان الذى صرعه عبيدة بن هلال بن يشكر بن بكر بن وائل ، وكان يقول يومئذ : أنا ابن خير قومه هلال * شيخ على دين أبى بلال * وذاك دينى آخر الليالى * فقال رجل للمغيرة : كنا نعجب كيف تصرع ، والان نعجب كيف تنجو ! وقال المهلب لبنيه : إن سرحكم (4) لغار ، ولست آمنهم عليه ، أ فوكلتم به أحدا ؟ قالوا : لا ، فلم يستتم الكلام حتى أتاه آت ، فقال : إن صالح بن مخراق قد أغار على السرح ، فشق على المهلب ، وقال : كل أمر لا إليه بنفسى فهو ضائع ، وتذمر عليهم ، فقال له بشر بن المغيرة : أرح نفسك ، فإن كنت إنما تريد مثلك فو الله ما يعدل خيرنا شسع (5) نعلك ،
__________
(1) ج : (اختلافكم) .
(2) المحلون : الذين لا يحفظون عهدا ولا يرعون حرمة ، فكأنما أحلوا أعراضهم وأموالهم أن تستباح .
(3) الحفض .
الدعة ولين العيش .
(4) السرح : المال السائم في المرعى من الانعام ، وأراد بالغار الذى يطمع الناس في أخذه حيث لا راعى له يحفظه .
(5) الشسع : قبال النعل .
(*)(4/198)
فقال : خذوا عليهم الطريق ، فبادر بشر بن المغيرة ، ومدرك والمفضل ابنا المهلب ، فسبق بشر إلى الطريق ، فإذا رجل أسود من الازارقة يشل السرح (1) ، وهو يقول : نحن قمعناكم بشل السرح * وقد نكأنا القرح بعد القرح (2) ولحقه المفضل ومدرك ، فصاحا برجل من طيئ : اكفنا الاسود ، فاعتوره الطائى وبشر ابن المغيرة فقتلاه ، وأسرا رجلا من الازارقة من همدان ، واستردا السرح (3) .
قال : وكان عياش الكندى شجاعا بئيسا (4) ، فأبلى يومئذ ، فلما مات على فراشه بعد ذلك ، قال المهلب : لا وألت (5) نفس الجبان بعد عياش ! وقال المهلب : ما رأيت تالله كهؤلاء القوم ، كلما انتقص (6) منهم يزيد فيهم ! * * * ووجه الحجاج رجلين إلى المهلب يستحثانه بالقتال : أحدهما من كلب ، والاخر من سليم ، فقال المهلب متمثلا بشعر لاوس بن حجر : ومستعجب مما يرى من أناتنا * ولو زبنته الحرب لم يترمرم (7) فقال المهلب ليزيد ابنه : حرك القوم ، فحركهم فتهايجوا ، وذلك في قرية من قرى إصطخر ، فحمل رجل من الخوارج على رجل من أصحاب المهلب وطعنه ، فشك فخذه بالسرج ، فقال المهلب للسلمى والكلبي : كيف يقاتل (8) قوم هذا طعنهم وحمل
__________
(1) في الكامل : (يشل السرح ، أي يطرده) .
(2) في الكامل : (الشل : الطرد .
ويقال : نكأت القرحة ، مهموز ، ونكيت العدو غير مهموز ، من النكاية ، ونكأت القرحة نكأ ، قال ابن هرمة : ولا أراها تزال ظالمة * تحدث لى قرحة وتنكوها (3) في الكامل : (وخلى سبيله) .
(4) البئيس ، من بؤس الرجل يبؤس ، إذا اشتدت شجاعته .
(5) لا وألت ، أي لا نجت .
(6) الكامل : (ينقص) .
(7) قال المبرد : قوله زبنته ، يقول : دفعته .
ولم يترمرم : لم يتحرك ، يقال : قيل له كذا وكذا فما ترمرم .
(8) الكامل : (نقاتل) .
(*)(4/199)
يزيد عليهم ، وقد جاء الرقاد - وهو من فرسان المهلب - وهو أحد بنى مالك بن ربيعة على فرس له أدهم ، وبه نيف وعشرون جراحة ، وقد وضع عليها القطن ، فلما حمل يزيد ولى الجمع ، وحماهم فارسان منهم ، فقال يزيد لقيس الخشنى ، مولى العتيك : من لهذين ؟ قال : أنا ، فحمل عليهما ، فعطف عليه أحدهما فطعنه قيس فصرعه ، وحمل عليه الاخر فتعانقا ، فسقطا جميعا إلى الارض ، فصاح قيس الخشنى : اقتلونا جميعا ، فحملت خيل هؤلاء وخيل هؤلاء ، فحجزوا بينهما ، فإذا معانق قيس امرأة ، فقام قيس مستحييا ، فقال له يزيد : يا أبا بشر ، أما أنت فبارزتها على أنها رجل ، فقال : أرأيت لو قتلت ، أما كان يقال : قتلته امرأة ! وأبلى يومئذ ابن المنجب السدوسى ، فقال غلام له يقال له خلاج : والله لوددنا أنا فضضنا عسكرهم حتى نصير إلى مستقرهم ، فأستلب مما هناك جاريتين .
فقال له مولاه ابن المنجب : وكيف تمنيت ويحك اثنتين ! فقال : لاعطيك إحداهما وآخذ الاخرى ، فقال ابن المنجب : أخلاج إنك لن تعانق طفلة * شرقا بها الجادى كالتمثال (1) حتى تلاقى في الكتيبة معلما * عمرو القنا وعبيدة بن هلال (2) وترى المقعطر في الفوارس مقدما * في عصبة نشطوا على الضلال (3)
__________
(1) قال المبرد : (قوله : طفلة ، يقول : ناعمة ، وإذا كسرت الطاء فقلت : طفلة ، فهى الصغيرة .
والجادى : الزعفران) .
(2) قال المبرد : (الكتيبة : الجيش ، وإنما سمى الجيش كتيبة لا نضمام أهله بعضهم إلى بعض ، وبهذا سمى الكتاب ، ومنه قولهم : كتبت البغلة والناقة ، وكتبت القربة ، إذا خرزت ذلك الموضع .
المعلم .
الذى قد شهر نفسه بعلامة ، إما بعمامة صبيغ ، أو بمشهرة ، وإما بغير ذلك ..وعمرو القنا من بنى سعد بن زيد مناة بن تميم ، وعبيدة بن هلال من بنى يشكر بن بكر بن وائل .
والذى طعن صاحب المهلب في فخذه فشكها مع السرج من بنى تميم ، قال : ولا أدرى : أعمرو هو أم غيره ؟) .
(3) في الكامل : (قسطوا مع الضلال) .
قال : والمقعطر : من عبد القيس ، وقوله : (قسطوا) ، أي جاروا ، يقال : قسط يقسط فهو قاسط ، إذا جار ، قال الله جل ثناؤه : (وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا) .
(*)(4/200)
أو أن يعلمك المهلب غزوة * وترى جبالا قد دنت لجبال قال : وكان بدر بن الهذيل من أصحاب المهلب شجاعا ، وكان لحانة ، كان إذا أحس بالخوارج ينادى : (يا خيل الله اركبي) ، وإليه يشير القائل : وإذا طلبت إلى المهلب حاجة * عرضت توابع دونه وعبيد (1) العبد كردس وبدر مثله * وعلاج باب الاحمرين شديد (2) قال : وكان بشر بن المغيرة بن أبى صفرة أبلى يومئذ بلاء حسنا عرف مكانه فيه ، وكانت بينه وبين المهلب جفوة ، فقال لبنيه : يا بنى عم ، إنى قد قصرت عن شكاة العاتب (3) ، وجاوزت شكاة المستعتب (4) ، حتى كأنى لا موصول ولا محروم ، فاجعلوا لى فرجة أعيش بها ، وهبوني امرأ رجوتم نصره ، أو خفتم لسانه .
فرجعوا له ووصلوه ، وكلموا فيه المهلب ، فوصله .
وولى الحجاج كردما فارس ، ووجهه إليها والحرب قائمة ، فقال رجل من أصحاب المهلب : ولو رآها كردم لكردما * كردمة العير أحس الضيغما (5) فكتب المهلب إلى الحجاج يسأله أن يتجافى له عن إصطخر ودارابجرد لارزاق الجند ، ففعل .
وقد كان قطرى هدم مدينة إصطخر ، لان أهلها كانوا يكاتبون المهلب بأخباره ، وأراد مثل ذلك بمدينة فسا ، فاشتراها منه آزاذ مرد بن الهربذ بمائة ألف درهم
__________
(1) قال المبرد : توابع ، أراد به الرجال ، فجاز في الشعر ، وإنما رده إلى أصله للضرورة ، وما كان من النعوت على (فاعل) مجمعه (فاعلون) ، لئلا يلتبس بجمع (فاعلة ، التى هي نعت) .
(2) قال المبرد : كردوس : رجل من الازد ، وكان حاجب المهلب .
وقوله : (وعلاج باب الاحمرين شديد) ، العرب تسمى العجم الحمراء .
(3) العاتب : الساخط .
(4) المستعتب : الطالب الرضا .
(5) في الكامل : (الضيغم : الاسد ، والكردمة : النفوز) .
(*)(4/201)
فلم يهدمها .
فواقعه وجه المهلب فهزمه ، فنفاه إلى كرمان ، وأتبعه المغيرة ابنه ، وقد كان دفع إليه سيفا وجه به الحجاج إلى المهلب ، وأقسم عليه أن يتقلده ، فدفعه إلى المغيرة بعد ما تقلده ، فرجع به المغيرة إليه وقد دماه ، فسر المهلب ، وقال : ما يسرنى أن يكون كنت دفعته إلى غيرك من ولدى ، وقال له : اكفني جباية خراج هاتين الكورتين ، وضم إليه الرقاد ، فجعلا يجبيان ، ولا يعطيان الجند شيئا ، ففى ذلك يقول رجل من بنى تميم في كلمة له : ولو علم ابن يوسف ما نلاقى * من الافات والكرب الشداد لفاضت عينه جزعا علينا * وأصلح ما استطاع من الفساد ألا قل للامير جزيت خيرا * أرحنا من مغيرة والرقاد فما رزق الجنود بهم قفيزا * وقد ساست مطامير الحصاد (1) أي وقع فيها السوس (2) .
قال : ثم حاربهم المهلب بالسيرجان (3) حتى نفاهم عنها إلى جيرفت (4) واتبعهم ونزل قريبا منهم .
* * * ثم اختلفت كلمة الخوارج ، وكان سبب ذلك أن عبيدة بن هلال اتهم بامرأة رجل نجار ، رأوه يدخل مرارا إليها بغير إذن ، فأتى قطريا فذكروا ذلك له ، فقال لهم : إن عبيدة من الدين بحيث علمتم ، ومن الجهاد بحيث رأيتم ، فقالوا : إنا لا نقار على الفاحشة ، فقال :
__________
(1) المطامير : جمع مطمورة ، وهى حفرة تحت الارض يوسع أسفلها ، تخبأ فيها الحبوب .
(2) يقال : ساس الطعام وأساس ، إذا وقع فيه السوس .
(3) السيرجان ، بكسر السين وسكون الياء وفتح الراء : مدينة بين كرمان وفارس .
(4) جيرفت ، بكسر فسكون ففتح راء وسكون فاء : مدينة بكرمان .
(*)(4/202)
نصرفوا ، ثم بعث عبيدة ، فأخبره ، وقال له : أنا لا أقار على الفاحشة ، فقال : بهتونى (1) يا أمير المؤمنين فما ترى ؟ قال : إنى جامع بينك وبينهم ، فلا تخضع خضوع المذنب ، ولا تتطاول تطاول البرئ ، فجمع بينهم ، فتكلموا ، فقام عبيدة ، فقال : بسم الله الرحمن الرحيم ، (إن الذين جاءوا بالافك عصبة منكم) ...
حتى تلا الايات (2) ، فبكوا وقاموا إليه فاعتنقوه ، وقالوا : استغفر لنا .
ففعل ، فقال عبد ربه الصغير مولى بنى قيس بن ثعلبة : والله لقد خدعكم ، فتابع عبد ربه منهم ناس كثير ، ولم يظهروا ، ولم يجدوا على عبيدة في إقامة الحد ثبتا (3) .
* * * وكان قطرى قد استعمل رجلا من الدهاقين ، فظهرت له أموال كثيرة ، فأتوا قطريا ، فقالوا : إن عمر بن الخطاب لم يكن يقار عماله على مثل هذا ، فقال قطرى : إنى استعملته ، وله ضياع وتجارات ، فأوغر ذلك صدورهم ، وبلغ المهلب ذلك ، فقال : اختلافهم أشد عليهم منى ، ثم قالوا لقطرى : أ لا تخرج بنا إلى عدونا ؟ فقال : لا ، ثم خرج فقالوا : قد كذب وارتد ، فاتبعوه يوما ، فأحس بالشر ، ودخل دارا مع جماعة من أصحابه ، فاجتمعوا عليه وصاحوا : اخرج إلينا يا دابة ، فخرج إليهم فقال : أرجعتم بعدى كفارا ! قالوا : أ ولست دابة ! قال الله تعالى : (وما من دابة في الارض إلا على الله رزقها) (4) ، ولكنك قد كفرت بقولك .
(إنا قد رجعنا كفارا) ، فتب إلى الله .
فشاور عبيدة في ذلك ، فقال له : إن تبت لم يقبلوا منك ، فقل : إنى استفهمت فقلت : (أ رجعتم بعدى كفارا ؟) فقال لهم ذلك ، فقبلوا منه ، فرجع إلى منزله .
__________
(1) بهتونى : قالوا على ما لم أفعل .
(2) سورة النور 11 - 20 (3) ثبتا ، بالتحريك ، أي حجة .
(4) سورة هود 6 .
(*)(4/203)
[ عبد ربه الصغير ] ومنهم عبد ربه الصغير ، أحد موالى قيس بن ثعلبة .
لما (1) اختلفت الخوارج على قطرى بايعه منهم جمع كثير ، وكان قطرى قد عزم على أن يبايع للمقعطر العبدى ، ويخلع نفسه ، فجعله أمير الجيش في الحرب قبل أن يعهد إليه بالخلافة فكرهه القوم وأبوه ، وقال صالح بن مخراق عنهم وعن نفسه : ابغ لنا غير المقعطر ، فقال لهم قطرى : إنى أرى طول العهد قد غيركم ، وأنتم بصدد عدو ، فاتقوا الله وأقبلوا على شأنكم ، واستعدوا للقاء القوم ، فقال صالح : إن الناس قبلنا قد سألوا عثمان بن عفان أن يعزل سعيد بن العاصى عنهم ففعل .
ويجب على الامام أن يعفى الرعية مما كرهت .
فأبى قطرى أن يعزل المقعطر ، فقال له القوم : فإنا قد خلعناك وبايعنا عبد ربه الصغير - وكان عبد ربه هذا معلم كتاب ، وكان عبد ربه الكبير بائع رمان : وكلاهما من موالى قيس ابن ثعلبة - فانفصل إلى عبد ربه الصغير أكثر من شطرهم : وجلهم الموالى والعجم ، وكان منهم هناك ثمانية آلاف وهم القراء ، ثم ندم صالح بن مخراق ، وقال لقطرى : هذه نفخة من نفخات الشيطان فأعفنا من المقعطر ، وسر بنا إلى عدونا وعدوك ، فأبى قطرى إلا للمقعطر ، وحمل فتى من الشراة على صالح بن مخراق ، فطعنه فأنفذه ، وأوجره الرمح (2) .
فنشبت الحرب بينهم ، فتهايجوا .
ثم انحاز كل قوم إلى صاحبهم ، فلما كان الغد اجتمعوا ، فاقتتلوا ، فأجلت الحرب عن ألفى قتيل ، فلما كان الغد عاودوا الحرب ، فلم ينتصف النهار حتى أخرجت العجم العرب عن المدينة ، فأقام عبد ربه بها ، وصار قطرى خارجا من
__________
(1) الكامل 3 : 392 وما بعدها .
(2) قال المبرد : (ومعنى أوجره الرمح طعنه وترك الرمح فيه ، قال عنترة : وآخر منهم أجررت رمحي * وفي البجلى معبلة وقيع (*)(4/204)
مدينة جيرفت بإزائهم ، فقال له عبيدة بن هلال : يا أمير المؤمنين ، إن أقمت لم آمن هذه العبيد عليك ، إلا أن تخندق على نفسك ، فخندق على باب المدينة وجعل يناوشهم ، وارتحل المهلب ، وكان منهم على ليلة ، ورسول الحجاج معه يستحثه ، فقال له : أصلح الله الامير ! عاجلهم قبل أن يصطلحوا ، فقال المهلب : إنهم لن يصطلحوا ، ولكن دعهم فإنهم سيصيرون إلى حال لا يفلحون معها ، ثم دس رجلا من أصحابه ، فقال : ائت عسكر قطرى ، فقل : إنى لم أزل أرى قطريا يصيب الرأى ، حتى نزل منزله هذا ، فظهر خطؤه : أ يقيم بين المهلب وعبد ربه ، يغاديه القتال هذا ، ويراوحه هذا ! فنمى الكلام إلى قطرى ، فقال : صدق : تنحوا بنا عن هذا الموضع ، فإن اتبعنا المهلب قاتلناه ، وإن أقام على عبد ربه رأيتم فيه ما تحبون .
فقال له الصلت بن مرة : يا أمير المؤمنين ، إن كنت إنما تريد الله فأقدم على القوم ، وإن كنت إنما تريد الدنيا فأعلم أصحابك حتى يستأمنوا ، ثم قال : قل للمحلين قد قرت عيونكم * بفرقة القوم والبغضاء والهرب كنا أناسا على دين فغيرنا * طول الجدال وخلط الجد باللعب ما كان أغنى رجالا قل جيشهم * عن الجدال وأغناهم عن الخطب إنى لاهونكم في الارض مضطبا * مالى سوى فرسى والرمح من نشب ثم قال : أصبح المهلب يرجو منا ما كنا نطمع منه فيه .
وارتحل قطرى ، وبلغ ذلك المهلب ، فقال لهزيم بن أبى طحمة المجاشعى : إنى لا آمن أن يكون كاذبا بترك موضعه ، اذهب فتعرف الخبر ، فمضى الهزيم في اثنى عشر فارسا ، فلم ير في المعسكر إلا عبدا وعلجا ، مريضين فسألهما عن قطرى وأصحابه ، فقالا :
__________
(1) الكامل : (ضل سعيهم) .
(*)(4/205)
مضوا يرتادون غير هذا المنزل ، فرجع هزيم إلى المهلب ، فأخبره ، فارتحل حتى نزل خندق قطرى ، فجعل يقاتل عبد ربه أحيانا بالغداة ، وأحيانا بالعشى ، فقال رجل من سدوس ، يقال له المعتق ، وكان فارسا : ليت الحرائر بالعراق شهدننا * ورأيننا بالسفح ذى الاجبال فنكحن أهل الجد من فرساننا (1) * والضاربين جماجم الابطال ووجه المهلب يزيد ابنه إلى الحجاج يخبره بأنه قد نزل منزل قطرى ، وأنه مقيم على عبد ربه ، ويسأله أن يوجه في أثر قطرى رجلا جلدا .
فسر بذلك الحجاج سرورا أظهره .
ثم كتب إلى المهلب يستحثه لمناجزة القوم مع عبيد بن موهب : أما بعد ، فإنك تتراخى عن الحرب حتى تأتيك رسلي فيرجعون بعذرك ، وذلك أنك تمسك حتى تبرأ الجراح ، وتنسى القتلى ، وتحمل الكال (2) ثم تلقاهم ، فتحمل منهم ثقل ما يحتملون منك من وحشة القتل ، وألم الجراح ، ولو كنت تلقاهم بذلك الجد لكان الداء قد حسم ، والقرن (3) قد قصم ، ولعمري ما أنت والقوم سواء ، لان من ورائك رجالا ، وأمامك أموالا ، وليس للقوم إلا ما نعهد ، ولا يدرك الوجيف (4) بالدبيب ، ولا الظفر بالتعذير .
فلما ورد عليه الكتاب ، قال لاصحابه : يا قوم إن الله قد أراحكم من أمور أربعة : قطرى بن الفجاءة ، وصالح بن مخراق ، وعبيدة بن هلال ، وسعد بن الطلائع ، وإنما بين أيديكم عبد ربه الصغير في خشار من خشار (5) الشيطان ، تقتلونهم إن شاء الله تعالى .
__________
(1) الكامل : (أهل الجزء) ، والجزء : الغناء والكفاية في الحرب .
(2) الكامل : (ويجم الناس) .
(3) قصم القرن ، أي كسر ، يكنى بذلك عن هلاك القوم .
(4) الوجيف : ضرب من السير السريع .
(5) الخشار : الردئ وما لا خير فيه .
(*)(4/206)
فكانوا يتغادون القتال ويتراوحون ، فتصيبهم الجراح ، ثم يتحاجزون ، فكأنما انصرفوا عن مجلس كانوا يتحدثون فيه ، يضحك بعضهم إلى بعض ، فقال عبيد بن موهب للمهلب : قد بان عذرك ، فاكتب فإنى مخبر الامير .
فكتب إلى الحجاج : أما بعد ، فإنى لم أعط رسلك على قول الحق أجرا ، ولم أحتج منهم عن المشاهدة إلى تلقين .
ذكرت إنى أجم القوم ، ولا بد من وقت راحة يستريح فيه الغالب ، ويحتال فيه المغلوب .
وذكرت أن في الجمام ما ينسى القتلى ، وتبرأ [ منه ] (1) الجراح ، هيهات أن ينسى ما بيننا وبينهم ! تأبى ذلك قتلى لم تجن (2) ، وقروح لم تتقرف (3) ، ونحن والقوم على حالة ، وهم يرقبون منا حالات ، إن طمعوا حاربوا ، وإن ملوا وقفوا ، وإن يئسوا انصرفوا .
وعلينا أن نقاتلهم إذا قاتلوا ، ونتحرز إذا وقفوا ، ونطلب إذا هربوا ، فإن تركتني والرأى ، كان القرن مقصوما ، والداء بإذن الله محسوما ، وإن أعجلتني لم أطعك ولم أعصك ، وجعلت وجهى إلى بابك ، وأعوذ بالله من سخط الله ومقت الناس .
قال : ولما اشتد الحصار على عبد ربه ، قال لاصحابه : لا تفتقروا إلى من ذهب عنكم من الرجال ، فإن المسلم لا يفتقر مع الاسلام إلى غيره ، والمسلم إذا صح توحيده عز بربه ، وقد أراحكم الله من غلظة قطرى ، وعجلة صالح بن مخراق ونخوته ، واختلاط عبيدة بن هلال ، ووكلكم إلى بصائركم ، فالقوا عدوكم بصبر ونية ، وانتقلوا عن منزلكم هذا ، فمن قتل منكم قتل شهيدا ، ومن سلم من القتل فهو المحروم .
__________
(1) من الكامل .
(2) لم تجن : لم تدفن في الجنن ، وهو القبر (3) لم تتقرف : لم تتقشر .
(*)(4/207)
قال : وورد في ذلك الوقت على المهلب عبيد بن أبى ربيعة بن أبى الصلت الثقفى من عند الحجاج ، يستحثه بالقتال ، ومعه أمينان ، فقال للمهلب : خالفت وصيه الامير ، وآثرت المدافعة والمطاولة .
فقال له المهلب : والله ما تركت جهدا .
فلما كان العشى خرجت الازارقة ، وقد حملوا حريمهم وأموالهم ، وخف (1) متاعهم لينتقلوا ، فقال المهلب لاصحابه : الزموا مصافكم ، وأشرعوا (2) رماحكم ، ودعوهم والذهاب ، فقال له عبيدد بن أبى ربيعة : هذا لعمري أيسر عليك .
فغضب وقال للناس : ردوهم عن وجههم ، وقال لبنيه : تفرقوا في الناس وقال لعبيدة بن أبى ربيعة : كن مع [ يزيد ، فخذه بالمحاربة أشد الاخذ ، وقال لاحد الامينين : كن مع ] (3) المغيرة ، ولا ترخص له في الفتور .
فاقتتلوا قتالا شديدا ، حتى عقرت الخيل (4) ، وصرع الفرسان ، وقتلت الرجالة (5) ، وجعلت الخوارج تقاتل عن القدح (6) يؤخذ منها ، والسوط والعلف والحشيش (7) أشد قتال .
وسقط رمح لرجل من مراد ، من الخوارج ، فقاتلوا عليه حتى كثر الجراح والقتل ، وذلك مع المغرب ، والمرادي يرتجز ، ويقول : الليل ليل فيه ويل ويل * قد سال بالقوم الشراة السيل * إن جاز للاعداء فينا قول *
__________
(1) الخف ، بالكسر : الخفيف ، ومنه قول امرئ القيس : * يزل الغلام الخف عن صهواتها * (2) أشرع الرمح : رفعه .
(3) من الكامل .
(4) الكامل : (الدواب) .
(5) الكامل : (الرجال) .
(6) الكامل (على القدح) .
(7) الكامل : (والعلق الخسيس) .
(*)(4/208)
فلما عظم الخطب في ذلك (1) الرمح بعث المهلب إلى المغيرة : خل لهم عن الرمح ، عليهم لعنة الله ! فخلوا لهم عنه ، ومضت الخوارج ، فنزلت على أربعة فراسخ من جيرفت ، فدخلها المهلب ، وأمر بجمع ما كان لهم من متاع ، وما خلفوه من دقيق ، وجثم عليه وهو والثقفي والامينان ، ثم اتبعهم فوجدهم قد نزلوا على ماء وعين لا يشرب منها أحد إلا قوى (2) ، يأتي الرجل بالدلو قد شدها في طرف رمحه فيستقى بها ، وهناك قرية فيها أهلها ، فغاداهم القتال ، وضم الثقفى إلى ابنه يزيد ، وأحد الامينين إلى المغيرة ، فاقتتل القوم إلى نصف النهار .
وقال المهلب لابي علقمة العبدى - وكان شجاعا ، وكان عاتيا هازلا - : أمددنا يا أبا علقمة بخيل اليحمد ، وقل لهم : فليعيرونا جماجمهم ساعة ، فقال : أيها الامير ، إن جماجمهم ليست بفخار فتعار ، ولا أعناقهم كرادى (3) فتنبت .
وقال : لحبيب بن أوس : كر على القوم ، فلم يفعل ، وقال : يقول لى الامير بغير علم * تقدم حين جد به المراس فمالى إن أطعتك من حياة * ومالى غير هذا الرأس راس (4) وقال لمعن بن المغيرة بن أبى صفرة : احمل ، فقال : لا ، إلا أن تزوجني ابنتك أم مالك ، فقال : قد زوجتك ، فحمل على الخوارج فكشفهم ، وطعن فيهم ، وقال : ليت من يشترى الحياة بمال * ملكة كان عندنا فيرانا (5)
__________
(1) الكامل : (فيه) .
(2) الكامل : (على عين لا يشرب منها إلا قوى) .
(3) في الاصول : (كراث) ، وصوابه من الكامل ، قال أبو الحسن الاخفش : (تقول العرب لاعذاق النخل كراد ، وهو فارسي عرب) .
(4) في الكامل : نصب (غير) ، لانه استثناء مقدم .
(5) رواية الكامل : ليت من يشترى الغداة بمال * هلكه اليوم عندنا فيرانا (14 - نهج - 4) (*)(4/209)
نصل الكر عند ذاك بطعن * إن للموت عندنا ألوانا قوله : (ملكة) ، أي تزويجا ونكاحا .
قال : ثم جال الناس جوله عند حملة حملها عليهم الخوارج ، فالتفت المهلب ، فقال للمغيرة ابنه : ما فعل الامين الذى كان معك ؟ قال : قتل وهرب الثقفى ، فقال ليزيد : ما فعل عبيد بن أبى ربيعة ؟ قال : لم أره منذ كانت الجولة ، فقال الامين الاخر للمغيرة : أانت قتلت صاحبي ، فلما كان العشى رجع الثقفى ، فقال رجل من بنى عامر بن صعصعة : ما زلت يا ثقفي تخطب بيننا * وتغمنا بوصية الحجاج حتى إذا ما الموت أقبل زاخرا * وسقى لنا صرفا بغير مزاج وليت يا ثقفي غير مناظر * تنساب بين أحزة وفجاج (1) ليست مقارعة الكماة لدى الوغى * شرب المدامة في إناء زجاج فقال المهلب للامين الاخر : ينبغى أن تتوجه مع ابني حبيب في ألف رجل ، حتى تبيتوا عسكرهم فقال : ما تريد أيها الامير إلا أن تقتلني كما فعلت بصاحبي ! فضحك المهلب ، وقال : ذاك إليك .
ولم يكن للقوم خنادق ، فكان كل حذرا من صاحبه ، غير أن الطعام والعدة مع المهلب ، وهو في زهاء ثلاثين ألفا ، فلما أصبح أشرف على واد فإذا هو برجل معه رمح مكسور مخضوب بالدم ، وهو ينشد : وإنى لاعفى ذا الخمار وصنعتي * إذا راح أطواء بنى الاصاغر (2)
__________
(1) قال المبرد .
(قوله : بين أحزة) ، هو جمع حزيز ، وهو متن ينقاد من الارض ويغلظ ، والفجاج : الطرق ، واحدها فج .
(2) قال المبرد : (قوله : (ذو الخمار) ، يعنى فرسا ، وكان ذو الخمار فرس مالك بن نويرة ، قال جرير يهجو الفرزدق : بيربوع فخرت وآل سعد * فلا مجدي بلغت ولا افتخاري بيربوع فوارس كل يوم * يوارى شمسه رهج الغبار عتيبة والاحمير وابن عمرو * وعتاب وفارس ذى الخمار = (*)(4/210)
أخادعهم عنه ليغبق دونهم * وأعلم غير الظن إنى مغاور كأنى وأبدان السلاح عشية * يمر بنا في بطن فيحان طائر (1) فقال له : أ تميمي أنت ؟ قال : نعم ، قال : أ حنظلى ؟ قال : نعم ، قال : أ يربوعى ؟ قال : نعم ، قال : أ من آل نويرة ؟ قال ، نعم ، أنا ولد مالك بن نويرة ، قال : قد عرفتك بالشعر .
قال أبو العباس : وذو الخمار فرس مالك بن نويرة .
قال : فمكثوا أياما يتحاربون (2) ودوابهم مسرجة ، ولا خنادق لهم ، حتى ضعف الفريقان ، فلما كان الليلة التى قتل في صبيحتها عبد ربه ، جمع أصحابه ، فقال : يا معشر المهاجرين ، إن قطريا وعبيدة هربا طلبا للبقاء ، ولا سبيل إلى البقاء ، فالقوا عدوكم غدا ، فإن غلبوكم على الحياة ، فلا يغلبنكم على الموت ، فتلقوا الرماح بنحوركم ، والسيوف بوجوهكم ، وهبوا أنفسكم لله في الدنيا يهبها لكم في الاخرة .
فلما أصبحوا ، غادوا المهلب ، فاقتتلوا قتالا شديدا أنسى ما كان قبله ، وقال رجل من الازد ، من أصحاب المهلب : من يبا يعنى على الموت ؟ فبايعه أربعون رجلا من الازد ، فصرع بعضهم ، وقتل بعضهم ، وجرح بعضهم .
__________
= وقوله : (أطواء ، يقال : رجل طوى البطن ، أي منطو ، يخبر أنه كان يؤثر فرسه لعى ولده فيشبعه وهم جياع ، وذلك قوله : * أخادعهم عنه ليغبق دونهم * والغبوق : شرب آخر النهار ، وهو شئ تفتخر به العرب) ، واللهنه : الطعم الذى يتعلل به قبل الغداء ، وفي الكامل : جزاني دوائي ذو الخمار وصنعتي * إذا بات أطواء بنى الاصاغر قال المرصفى : دوائي ، بالكسر ، مصدر دوى الفرس مداواة : سقاه اللبن ، وصنعته الفرس : حسن القيام عليه .
(1) أبدان السلاح : جمع بدن ، وهو الدرع القصيرة ، وفيحان : موضع أو واد في بنى أسد .
(2) الكامل : (يتحارسون) .
(*)(4/211)
وقال عبد الله بن رزام الحارثى للمهلب : احملوا ، فقال المهلب : أعرابي مجنون - وكان من أهل نجران - فحمل وحده ، فاخترق القوم حتى خرج من ناحية [ أخرى ] ، ثم كر ثانية ففعل فعلته الاولى ، وتهايج الناس ، فترجلت الخوارج ، وعقروا دوابهم ، فناداهم عمرو القنا - ولم يترجل هو ولا أصحابه (2) ، وهم زهاء أربعمائة - فقال : موتوا على ظهور دوابكم كراما ، ولا تعقروها ، فقالوا : إنا إذا كنا على الدواب ذكرنا الفرار ، [ فاقتتلوا ] (3) ، ونادى المهلب بأصحابه : الارض الارض ! وقال لبنيه : تفرقوا في الناس ليروا وجوهكم ، ونادت الخوارج : ألا إن العيال لمن غلب ، فصبر بنو المهلب (4 وقاتل يزيد بين يدى أبيه قتالا شديدا 4) ، أبلى فيه ، فقال له أبوه : يا بنى إنى أرى موطنا لا ينجو فيه إلا من صبر ، وما مر بى يوم مثل هذا منذ مارست الحروب .
وكسرت الخوارج أجفان سيوفها ، وتجاولوا ، فأجلت جولتهم عن عبد ربه مقتولا .
فهرب عمرو القنا وأصحابه ، واستأمن قوم ، وأجلت الحرب عن أربعة آلاف قتيل وجريح من الخوارج ومأسور ، وأمر المهلب أن يدفع كل جريح إلى عشيرته ، وظفر بعسكرهم ، فحوى ما فيه ، ثم انصرف إلى جيرفت ، فقال : الحمد لله الذى ردنا إلى الخفض والدعة ، فما كان عيشنا ذلك العيش (5) .
ثم نظر المهلب إلى قوم في عسكره ولم يعرفهم ، فقال : ما أشد عادة السلاح (6) ! ناولنى درعى ، فلبسها ، ثم قال : خذوا هؤلاء ، فلما صيرهم إليه ، قال : ما أنتم ؟ قالوا : جئنا لنطلب غرتك للفتك (7) بك .
فأمر بهم فقتلوا .
__________
(1) من الكامل .
(2) الكامل : (هو وأصحابه) .
(3) من الكامل .
(4 - 4) الكامل : (وصبر يزيد بين يدى أبيه ، وقاتل قتالا شديدا) .
(5) الكامل : (فما كان عيشنا بعيش) .
(6) وكذا في الكامل ، ويرى السيد جاسم أن الانسب : (ما أشد عادة لبس السلاح) .
(7) الكامل : (لنفتك بك) .
(*)(4/212)
[ طرف من اخبار المهلب وبينه ] ووجه كعب بن معد الاشقري (1) ومرة بن بليد الازدي ، فوردا على الحجاج ، فلما طلعا عليه ، تقدم كعب فأنشده (2) : * يا حفص إنى عدانى عنكم السفر (3) * فقال الحجاج : أ شاعر أم خطيب ؟ قال : شاعر ، فأنشده القصيدة ، فأقبل عليه الحجاج ، وقال : خبرني عن بنى المهلب ، قال : المغيرة سيدهم وفارسهم ، وكفى بيزيد فارسا شجاعا !
__________
(1) الاشقري : منسوب إلى الاشقر ، بطن في الازد .
(2) قصيدة طويلة ، يذكر فيها يوم رامهرمز وأيام سابور وجيرفت ، أوردها الطبري في تاريخه 6 : 104 (3) وبقيته : * وقد أرقت فآذى عينى السهر * ومنها : علقت يا كعب بعد الشيب غانية * والشيب فيه عن الاهواء مزدجر أممسك أنت عنها بالذى عهدت * أم حبلها إذ نأتك اليوم منبتر علقت خودا بأعلى الطف منزلها * في غرفة دونها الابواب والحجر درما منا كبا ريا مآكمها * تكاد إذ نهضت للمشى تنبتر وقد تركت بشط الزابيين لها * دارا بها يسعد البادون والحضر واخترت دارا بها حى أسر بهم * ما زال فيهم لمن تختارهم خير لما نبت بى بلادي سرت منتجعا * وطالب الخير مرتاد ومنتظر أبا سعيد فإنى جئت منتجعا * أرجو نوالك لما مسنى الضرر لو لا المهلب مازرنا بلادهم * ما دامت الارض فيها الماء والشجر فما من الناس من حى علمتهم * إلا يرى فيهم من سيبكم أثر (*)(4/213)
وجوادهم وسخيهم قبيصة ، ولا يستحى الشجاع أن يفر من مدرك ، وعبد الملك سم ناقع ، وحبيب موت ذعاف ، ومحمد ليث غاب ، وكفاك بالفضل نجدة ! فقال له : فكيف خلفت جماعة الناس ؟ قال : خلفتهم بخير ، قد أدركوا ما أملوا ، وأمنوا ما خافوا ، قال : فكيف كان بنو المهلب فيهم ؟ قال : كانوا حماة السرح فإذا أليلوا ففرسان البيات ، قال : فأيهم كان أنجد ؟ قال : كانوا كالحلقة المفرغة ، لا يدرى [ أين ] طرفاها ، قال : فكيف كنتم أنتم وعدوكم ؟ قال : كنا إذا أخذنا عفونا وإذا أخذوا يئسنا منهم ، وإذا اجتهدنا واجتهدوا طمعنا فيهم .
قال الحجاج : إن العاقبة للمتقين ، فكيف أفلتكم قطرى ؟ قال : (2 كدناه وظن أن قد كادنا ، بأن صرنا منه إلى التى نحب 2) .
قال : فهلا اتبعتموه ؟ قال : كان حرب الحاضر آثر عندنا من اتباع الفل (3) ، قال : فكيف كان المهلب لكم وكنتم له ؟ قال : كان لنا منه شفقة الوالد ، وله منا بر الولد ، قال : فكيف كان اغتباط الناس به ؟ قال : نشأ (4) فيهم الامن ، وشملهم النفل (5) ، قال : أ كنت أعددت [ لى ] (6) هذا الجواب ؟ قال : لا يعلم الغيب إلا الله ، قال : هكذا والله تكون الرجال ! المهلب كان أعلم بذلك حيث بعثك .
هذه رواية أبى العباس (7) .
وروى أبو الفرج في الاغانى (8) أن كعبا لما أوفده المهلب إلى الحجاج أنشده قصيدته التى أولها :
__________
(1) من الكامل .
(2 - 2) الكامل : (كدناه ببعض ما كادنا به ، فصرنا منه إلى الذى نحب) .
(3) الكامل : (كان الحد عندنا آثر من الفل) (4) الكامل : (فشا) .
(5) النفل : الغنيمة .
(6) من الكامل .
(7) الكامل 695 (طبع أوربا) .
(8) الاغانى الجزء الرابع عشر 284 - 285 (طبعة الدار) .
(*)(4/214)
يا حفص إنى عدانى عنكم السفر * وقد سهرت وآذى عينى السهر (1) يذكر فيها حروب المهلب مع الخوارج ، ويصف وقائعه فيهم في بلد ، وهى طويلة ، ومن جملتها (2) : كنا نهون قبل اليوم شأنهم * حتى تفاقم أمر كان يحتقر (3) لما وهنا وقد حلوا بساحتنا * واستنفر الناس تارات فما نفروا (4) نادى امرؤ لا خلاف في عشيرته * عنه ، وليس به عن مثله قصر خبوا كمينهم بالسفح إذ نزلوا * بكازرون فما عزوا ولا نصروا (5) باتت كتائبنا تردى مسمومة * حول المهلب حتى نور القمر (6) هناك ولوا خزايا بعد ما هزموا * وحال دونهم الانهار والجدر تأبى علينا حزازات النفوس فما * نبقى عليهم ولا يبقون إن قدروا فضحك الحجاج ، وقال : إنك لمنصف يا كعب ، ثم قال له : كيف كانت حالكم مع عدوكم ؟ قال : كنا إذا لقيناهم بعفونا وعفوهم يئسنا (7) منهم ، وإذا لقيناهم بجدنا وجدهم (8) طمعنا فيهم .
قال : فكيف كان بنو المهلب ؟ قال : حماة الحريم نهارا ، وفرسان الليل تيقظا (9) ، قال : فأين السماع من العيان ؟ قال : السماع دون العيان ، قال :
__________
(1) عداه عن الامر : صرفه عنه .
(2) قال أبو الفرج بعد أن أورد أبياتا منها : (وهى قصيدة طويلة ، قد ذكرها الرواة في الخبر ، فتركت ذكرها لطولها ، يقول فيها ...
) وأورد الابيات .
(3) في الاغانى قبل هذا البيت : فما يجاوز باب الجسر من أحد * قد عضت الحرب أهل المصر فانجحروا (4) استنفر الناس : استنجدهم .
(5) في الطبري ، (عبوا جنودهم) .
(6) الكتيبة : جماعة الخيل ، وتردى : تضرب الارض بحوافرها .
(7) الاغانى : (فعفوهم تأنيس لهم) .
(8) الاغانى : (بجهدنا وجهدهم) .
(9) الاغانى : (أيقاظا) .
(*)(4/215)
صفهم لى رجلا رجلا .
قال : المغيرة فارسهم وسيدهم ، نار ذاكية ، وصعدة (1) عالية .
وكفى بيزيد فارسا شجاعا ! ليث غاب ، وبحر جم العباب .
وجوادهم قبيصة ، ليث المغار ، وحامى الذمار ، ولا يستحى الشجاع أن يفر من مدرك ، وكيف لا يفر من مدرك ، وكيف لا يفر من الموت الحاضر ، والاسد الخادر (2) ! وعبد الملك سم ناقع ، وسيف قاطع ، وحبيب الموت الذعاف (3) ، طود شامخ ، وبحر باذح (4) ، وأبو عيينة البطل الهمام ، والسيف الحسام ، وكفاك بالمفضل نجدة ، ليث هدار وبحر مواز (5) ! ومحمد ليث غاب ، وحسام ضراب .
قال : فأيهم أفضل ؟ قال : هم كالحلقة المفرغة لا يعرف طرفاها (6) ، قال : فكيف جماعة الناس ؟ قال : على أحسن حال ، أرضاهم العدل ، وأغناهم النفل .
قال : فكيف رضاهم بالمهلب ؟ قال : أحسن رضا ، يعدمون (7 منه إشفاق الوالد ، ولا يعدم منهم بر الولد 7) .
وذكر تمام الحديث .
وقال : إن الحجاج أمر له بعشرين ألف درهم ، وحمله على فرس ، وأوفده على عبد الملك ، فأمر له بعشرين ألفا أخرى .
قال أبو الفرج : وكعب (8) الاشقري من شعراء المهلب ومادحيه ، وهو شاعر مجيد .
قال عبد الملك بن مروان للشعراء (9) : تشبهونني مرة بالاسد ، ومرة ه بالبازى ، ألا قلتم كما قال كعب الاشقري للمهلب وولده : براك الله حين براك بحرا * وفجر منك أنهارا غزارا
__________
(1) ذكت النار : اشتد لهبا ، والصعدة : القناة المستوية تنبت كذلك .
(2) أسد خادر : مقيم في عرينه داخل في الخدر .
(3) الذعاف : السريع .
(4) الباذخ : العالي .
(5) موار : مضطرب .
(6) في الاصول : (طرفها) ، وما أثبته من الاغانى .
(7 - 7) الاغانى : (وكيف لا يكونون كذلك ، وهم لا يعدمون رضا الوالد ، ولا يعدم منهم بر الولد) (8) الاغانى 14 : 286 ، 287 (9) الاغانى : (كان يقول للشعراء) .
(*)(4/216)
بنوك السابقون إلى المعالى * إذا ما أعظم الناس الخطارا (1) كأنهم نجوم حول بدر * تكمل إذ تكمل فاستدارا (2) ملوك ينزلون بكل ثغر * إذا ما الهام يوم الروع طارا (3) رزان في الخطوب ترى عليهم * من الشيخ الشمائل والنجارا (4) نجوم يهتدى بهم إذا ما * أخو الغمرات في الظلماء حارا (5) قال أبو الفرج : وهذا الشعر من قصيدة لكعب ، يمدح بها المهلب ، ويذكر الخوارج (6) ، ومنها : سلوا أهل الاباطح من قريش * عن المجد المؤثل أين صارا (7)
__________
(1) الخطار : المراهنة .
(2) الاغانى : * درارى تكمل فاستدارا * (3) الهام : الرؤس .
(4) في الاغانى : (رزان في الامور) ، والنجار : الحسب والاصل (5) في الاغانى : (أخو الظلماء) .
(6) ذكر صاحب الاغانى ثلاثة أبيات من أولها ، مما فيه غناء : طربت وهاج لى ذاك اد كارا * بكش وقد أطلت به الحصارا وكنت ألذ بعض العيش حتى * كبرت وصار لى همى شعارا رأيت الغانيات كرهن وصلى * وأبدين الصريمة لى جهارا (7) الاغانى 14 : 295 ، وذكر قبلها : غرضن بمجلسى وكرهن وصلى * أوان كسيت من شمط عذارا زرين على حين بدا مشيبي * وصارت ساحتي للهم دارا أتانى والحديث له نماء * مقالة جائر أحفى وجارا وذكر بعده : ومن يحمى الثغور إذا استحرت * حروب لا ينون لها غرارا (*)(4/217)
لقوم الازد في الغمرات أمضى * وأوفى ذمة وأعز جارا (1) هم قادوا الجياد على وجاها * من الامصار يقذفن المهارا (2) إلى كرمان يحملن المنايا * بكل ثنية يوقدن نارا (3) شوازب ما أصبنا الثار حتى * رددناها مكلمة مرارا (4) غداة تركن مصرع عبد رب * نثرن عليه من رهج غبارا (5) ويوم الزحف بالاهواز ظلنا * نروى منهم الاسل الحرارا (6) فقرت أعين كانت حزينا * قليلا نومها إلا غرارا (7) ولو لا الشيخ بالمصرين ينفى * عدوهم لقد نزلوا الديارا (8) ولكن قارع الابطال حتى * أصابوا الامن واحتلوا القرارا (9)
__________
(1) الاغانى : (لقومي الازد) .
(2) الوجى : الحفى ، وذكر بعده : بكل مفازة وبكل سهب * بسابس لا يرون لها منارا (3) الثنية : الطريق في الجبل .
(4) مكلمة : مجروحة ، وفي الاغانى : (لم يصبن) ، وبعده : ويشجرن العوالي السمر حتى * ترى فيها عن الاسل ازورارا (5) هو عبد ربه الصغير أمير الازارقة المذكور قبلا ، بعد قطرى .
وفي الاغانى : (يثرن عليه من رهج عصارا) ، والعصار هو الغبار .
(6) الحرار : جمع حران ، وهو العطشان .
(7) حزين ، فعيل ، مما يستوى فيه المفرد والمثنى والجمع ، والمذكر والمؤنث ، وفي الاغانى : (حديثا) ، وبعده في الاغانى : صنائعنا السوابغ والمذاكي * ومن بالمصر يحتلب العشارا فهن يبحن كل حمى عزيز * ويحمين الحقائق والذمارا طوالات المتون يصن إلا * إذا سار المهلب حيث سارا (8) المصران : البصرة والكوفة .
وفي الاغانى : (تركوا الديارا) .
(9) الاغانى : * أصابوا الامن واجتنبوا الفرارا * (*)(4/218)
إذا وهنوا وحل بهم عظيم * يدق العظم كان لهم جبارا ومبهمة يحيد الناس عنها * تشب الموت شد لها إزارا شهاب تنجلي الظلماء عنه * يرى في كل مظلمة منارا (1) براك الله حين براك بحرا * وفجر منك أنهارا غزارا .
الابيات المتقدمة .
* * * قال أبو الفرج : وحدثني (2) محمد بن خلف وكيع ، بإسناد ذكره ، أن الحجاج لما كتب إلى المهلب يأمره بمناجزة الخوارج حينئذ ، ويستبطئه ، ويضعفه ويعجزه من تأخيره أمرهم ، ومطاولته لهم ، قال المهلب لرسوله قل له : إنما البلاء أن يكون الامر لمن يملكه ، لا لمن يعرفه ، فإن كنت نصبتني لحرب هؤلاء القوم - على أن أدبرها كما أرى ، فإذا أمكنتني فرصة انتهزتها ، وإن لم تمكني توقفت - فأنا أدبر ذلك بما يصلحه ، وإن أردت أن أعمل برأيك وأنا حاضر وأنت غائب - فإن كان صوابا فلك ، وإن كان خطأ فعلى - فابعث من رأيت مكاني ، وكتب من فوره بذلك إلى عبد الملك ، فكتب عبد الملك إلى الحجاج : لا تعارض المهلب فيما يراه ، ولا تعجله ودعه يدبر أمره .
قال : وقام كعب الاشقري إلى المهلب ، فأنشده بحضرة رسول الحجاج : إن ابن يوسف غره من أمركم * خفض المقام بجانب الامصار (3) لو شهد الصفين حيث تلاقيا * ضاقت عليه رحيبة الاقطار من أرض سابور الجنود وخيلنا * مثل القداح بريتها بشفار
__________
(1) الاغانى : (في كل مظلمة) .
(2) الاغانى 14 : 290 ، 292 (3) الاغانى : (غره من غزوكم) .
(*)(4/219)
من كل صنديد يرى بلبانه * وقع الظباة مع القنا الخطار (1) لرأى معاودة الرباع غنيمة * أزمان كان محالف الاقتار فدع الحروب لشيبها وشبابها * وعليك كل غريرة معطار (2) فبلغت أبياته الحجاج ، فكتب إلى المهلب يأمره بإشخاص كعب الاشقري إليه : فأعلم [ المهلب ] (3) كعبا بذلك ، وأوفده إلى عبد الملك من ليلته ، وكتب إليه يستوهبه منه ، فقدم كعب على عبد الملك برسالة المهلب ، فاستنطقه فأعجبه ، وأوفده إلى الحجاج ، وكتب إليه يقسم عليه أن يصفح ، ويعفو عما بلغه من شعره ، فلما دخل قال : إيه يا كعب ! * لرأى معاودة الرباع غنيمة * فقال : أيها الامير ، والله لوددت في بعض ما شاهدته من تلك الحروب ، وما أوردناه المهلب (4) من خطرها ، أن أنجو منها وأكون حجاما أو حائكا ، قال : أولى لك ! لو لا قسم أمير المؤمنين ما نفعك ما تقول ، الحق بصاحبك ، ورده إلى المهلب (5) .
* * * قال أبو العباس : وكان (6) كتاب المهلب إلى الحجاج ، الذى بشره فيه بالظفر والنصر : [ بسم الله الرحمن الرحيم ] (7) الحمد لله الكافي بالاسلام فقد ما سواه ، الحاكم بألا ينقطع المزيد من فضله حتى ينقطع الشكر من عباده ، أما بعد :
__________
(1) اللبان هنا : المصدر ، والظباة : جمع ظبة ، وهى حد السيف .
ورمح خطار : ذو اهتزاز شديد .
(2) امرأة معطار : اعتادت أن تتعهد نفسها بالطيب وتكثر منه .
(3) من الاغانى .
(4) الاغانى : (يوردناه) .
(5) الاغانى : (من وقته) .
(6) الكامل 3 : 404 وما بعدها (طبعة نهضة مصر) .
(7) من الكامل .
(*)(4/220)
فقد كان من أمرنا ما قد بلغك ، وكنا نحن وعدونا على حالين مختلفين ، يسرنا منهم أكثر مما يسوءنا ، ويسؤهم منا أكثر مما يسرهم ، على اشتداد شوكتهم ، فقد كان علا أمرهم حتى ارتاعت له الفتاة ، ونوم به الرضيع ، فانتهزت الفرصة منهم في وقت إمكانها ، وأدنيت السواد من (1) السواد ، حتى تعارفت الوجوه ، فلم نزل كذلك حتى بلغ الكتاب أجله ، فقطع دابر القوم الذين ظلموا ، والحمد لله رب العالمين .
فكتب إليه الحجاج : أما بعد ، فقد فعل الله بالمسلمين خيرا ، وأراحهم من بأس الجلاد ، وثقل الجهاد ، ولقد كنت أعلم بما قبلك ، فالحمد لله رب العالمين ، فإذا ورد عليك كتابي فاقسم في المجاهدين فيئهم ، ونفل (2) الناس على قدر بلائهم ، وفضل من رأيت تفضيله ، وإن كانت بقيت من القوم بقية فخلف خيلا تقوم بإزائهم ، واستعمل على كرمان من رأيت ، وول الخيل شهما من ولدك ، ولا ترخص لاحد في اللحاق بمنزله دون أن تقدم بهم على ، وعجل القدوم إن شاء الله .
فولى المهلب يزيد ابنه كرمان ، وقال له : يا بنى ، إنك اليوم لست كما كنت ، إنما لك من كرمان ما فضل عن الحجاج ، ولن تحتمل إلا على ما احتمل عليه أبوك ، فأحسن إلى من تبعك ، وإن أنكرت من إنسان شيئا فوجه إلى ، وتفضل على قومك ، [ إن شاء الله ] (3)
__________
(1) أي قربت ما بين الفريقين .
(2) قال المبرد : قوله : (نفل) أي أقسم بينهم ، والنفل : العطية التى تفضل ، كذا كان الاصل ، وإنما تفضل الله عزوجل بالغنائم على عباده ، قال لبيد : إن تقوى ربنا خير نفل * وبإذن الله ريث وعجل وقال جل جلاله له : (يسألونك عن الانفال) ، ويقال : نفلتك كذا وكذا ، أي أعطيتك ، ثم صار النفل لازما واجبا .
(3) من الكامل (*)(4/221)
ثم قدم المهلب على الحجاج ، فأجلسه إلى جانبه ، وأظهر بره وإكرامه ، وقال : يا أهل العراق ، أنتم عبيد قن للمهلب ، ثم قال : أنت والله كما لقيط (1) : فقلدوا أمركم لله دركم * رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا (2) لا يطعم النوم إلا ريث يبعثه * هم يكاد حشاه يقصم الضلعا (3) لا مترفا إن رخاء العيش ساعده * ولا إذا عض مكرو به خشعا (4) ما زال يحلب هذا الدهر أشطره * يكون متبعا طورا ومتبعا (5) حتى استمرت على شرر مريرته * مستحكم الرأى لا قحما ولا ضرعا (6) وروى أنه قام إليه رجل فقال : أصلح الله الامير ! والله لكأنى أسمع الساعة قطريا وهو يقول لاصحابه : المهلب والله كما قال لقيط الايادي ، ثم أنشد هذا الشعر .
فسر الحجاج حتى امتلا سرورا ، فقال المهلب : أما والله ما كنا أشد من عدونا ولا أحد ، ولكن دمغ الحق الباطل ، وقهرت الجماعة الفتنة ، والعاقبد للمتقين (7) ، وكان ما كرهناه من المطاولة خيرا لنا مما أحببناه من المعاجلة .
__________
(1) هو لقيط بن يعمر الايادي ، من قصيدة طويلة ، ذكرها ابن الشجرى في مختاراته 1 - 6 ، أنذر فيها قومه من إياد بغز وكسرى ، وكان كاتبا في ديوانه ، وأولها : يا دار عمرة من محتلها الجرعا * هاجت لى الهم والاحزان والوجعا تامت فؤادى بذات الجزع خرعبة * مرت تريد بذاب العذبة البيعا (2) رحب الذراع : يريد واسع الصدر متباعد ما بين المنكبين ، كناية عن قوته وشدة مراسه ، ومضطلعا : أي يحمل الامر ويقوم عليه .
(3) ريث يبعثه ، أي مقدار ما يبعثه .
(4) المترف : المتنعم السادر في ملاذه .
(5) يحلب أشطره ، أي أنه اختبر ضروب الدهر من خير شر وحلو ومر .
(6) المريرة من الحبال : ما طال والشتد فتله ، واستمرت استحكمت ، والشزر : الفتل إلى فوق ، خلاف اليسر ، وهو الفتل إلى أيسر ، والاول أحكم الفتلين ، ضرب ذلك مثلا لاستجماع قوته .
والضرع : الصغير الضعيف ، والقحم : آخر سن الشيخ .
(7) الكامل : (للتقوى) .
(*)(4/222)
فقال الحجاج : صدقت ، اذكر لى القوم الذين أبلوا ، وصف لى بلاءهم ، [ فأمر الناس فكتبوا ذلك إلى الحجاج ، فقال لهم المهلب : ما ذخر الله لكم خير لكم من عاجل الدنيا إن شاء الله ] (1) ، فذكرهم (2) المهلب على مراتبهم في البلاء ، وتفاضلهم في الغناء ، وقدم بنيه : المغيرة ، ويزيد ، ومدركا ، وحبيبا ، وقبيصة ، والمفضل ، وعبد الملك ، ومحمدا ، وقال : والله لو واحد يقدمهم في البلاء لقدمته عليهم ، ولو لا أن أظلمهم لاخرتهم .
فقال الحجاج : صدقت ، وما أنت أعلم بهم منى ، وإن حضرت وغبت إنهم لسيوف من سيوف الله .
ثم ذكر معن بن المغيرة والرقاد وأشباههما .
فقال الحجاج : من الرقاد (3) ؟ فدخل رجل طويل أجنأ (4) ، فقال المهلب : هذا فارس العرب ، فقال الرقاد للحجاج : أيها الامير ، إنى كنت أقاتل مع غير المهلب فكنت كبعض الناس ، فلما صرت مع من يلزمنى الصبر ، ويجعلنى أسوة نفسه وولده ، ويجازيني على البلاء ، صرت أنا وأصحابي فرسانا .
فأمر الحجاج بتفضيل قوم على قوم على قدر بلائهم ، وزاد ولد المهلب ألفين ألفين ، وفعل بالرقاد وبجماعة شبيها بذلك .
وقال يزيد بن حبناء من الازارقة : دعى اللوم إن العيش ليس بدائم * ولا تعجلى باللوم يا أم عاصم (4) فإن عجلت منك الملامة فاسمعي * مقالة معنى بحقك عالم ولا تعذلينا في الهدية إنما * تكون الهدايا من فضول المغانم
__________
(1) من الكامل .
(2) الكامل : (ثم ذكرهم) .
(3) الكامل : (أين الرقاد) .
(4) أجنأ ، من الجنأ ، بالتحريك ، وهو ميل في الظهر .
(4) الكامل 3 : 409 ، 410 (*)(4/223)
وليس بمهد من يكون نهاره * جلادا ، ويمسى ليله غير ناثم (1) يريد ثواب الله يوما بطعنة * غموس كشدق العنبري ابن سالم (2) أبيت وسربالى دلاص حصينة * ومغفرها ، والسيف فوق الحيازم (3) حلفت برب الواقفين عشية * لدى عرفات حلفة غير آثم لقد كان في القوم الذين لقيتهم * بسابور شغل عن بزوز اللطائم (4) توقد في أيديهم زاعبية * ومرهفة تفرى شؤون الجماجم (5) وقال المغيرة الحنظلي من أصحاب المهلب : إنى امرؤ كفني ربى وأكرمني * عن الامور التى في غبها وخم (6) وإنما أنا إنسان أعيش كما * عاشت رجال وعاشت قبلها أمم ما عاقني عن قفول الجند إذ قفلوا * عى بما صنعوا حولي ولا صمم (7) ولو أردت قفولا ما تجهمنى * إذن الامير ولا الكتاب إذ رقموا إن المهلب إن أشتق لرؤيته * أو أمتدحه فإن الناس قد علموا أنه الاريب الذى ترجى نوافله * والمستنير الذى تجلى به الظلم والقائل الفاعل الميمون طائره * أبو سعيد إذا ما عدت النعم أزمان كرمان إذ غص الحديد بهم * وإذ تمنى رجال أنهم هزموا .
__________
(1) قال المبرد : (يريد يمسى هو في ليله ، ويكون هو في نهاره ، ولكنه جعل الفعل لليل والنهار على السعة ، وفي القرآن : (بل مكر الليل والنهار) والمعنى : بل مكركم في الليل والنهار) .
(2) قال المبرد : قوله غموس ، يريد واسعة ، والعنبري ابن سالم : رجل منهم كان يقال له الاشدق .
(3) الدلاص : الدرع الملساء اللينة .
(4) اللطائم ، واحدتها لطيمة ، وهى الابل التى تحمل البز والعطر .
(5) زاعبية ، يعنى الرماح .
والزاعبية : منسوبة إلى زاعب ، وهو رجل من الخزرج كان يعمل الرماح وتفرى : تقد .
(6) الكامل .
(في رعيها وخم) .
(7) الكامل .
(عنى بما صنعوا عجز ولا بكم) .
(*)(4/224)
وقال حبيب بن عوف من قواد المهلب : أبا سعيد جزاك الله صالحة * فقد كفيت ولم تعنف على أحد (1) داويت بالحلم أهل الجهل فانقمعوا * وكنت كالوالد الحانى على الولد وقال عبيدة بن هلال الخارجي يذكر رجلا من أصحابه : يهوى فترفعه الرماح كأنه * شلو تنشب في مخالب ضار (2) يهوى صريعا والرماح تنوشه * إن الشراة قصيرة الاعمار (3) * * * [ شبيب بن يزيد الشيباني ] ومنهم (4) شبيب بن يزيد الشيباني ، وكان في ابتداء أمره يصحب صالح بن مسرح ، أحد الخوارج الصفرية ، وكان ناسكا مصفر الوجه ، صاحب عبادة ، وله أصحاب يقرئهم القرآن ، ويفقههم ويقص عليهم (5) ، ويقدم الكوفة ، فيقيم بها الشهر والشهرين .
وكان بأرض الموصل والجزيرة ، وكان إذا فرغ من التحميد والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله ، ذكر أبا بكر فأثنى عليه ، وثنى بعمر ، ثم ذكر عثمان وما كان من أحداثه ، ثم عليا عليه السلام وتحكيمه الرجال في دين الله ، ويتبرأ من عثمان وعلى ، ثم
__________
(1) لم تعنف ، من العنف ، وهو الشدة .
(2) الشلو : العضو .
(3) الكامل : (فئون صريعا) .
(4) نقل المؤلف أخبار شبيب من تاريخ الطبري 5 : 216 وما بعدها ، أحيانا بنصها ، وأحيانا مع تصرف واختصار .
(5) في الطبري : (فكان قبيصة بن عبد الرحمن حدث أصحابنا أن قصص صالح بن مسرح عنده ، وكان ممن سرى رأيهم ، فسألوه أن يبعث بالكتاب إليهم ، ففعل ، وكان قصصه : الحمد لله رب العالمين ، الذى خلق السموات والارض ....) ، ثم أورد نص الكتاب ، وآخره : (جعلنا الله وإياكم من الشاكرين الذاكرين الذين يهدون بالحق وبه يعدلون) ، وقد أورده المؤلف ملخصا .
(15 - نهج - 4) (*)(4/225)
يدعو إلى مجاهدة أئمة الضلال ، وقال : تيسروا يا إخوانى للخروج من دار الفناء إلى دار البقاء ، واللحاق بإخواننا المؤمنين ، الذين باعوا الدنيا بالاخرة ، ولا تجزعوا من من القتل في الله ، فإن القتل أيسر من الموت ، والموت نازل بكم ، مفرق بينكم وبين آبائكم وإخوانكم ، وأبنائكم وحلائلكم ودنياكم ، وإن اشتد لذلك جزعكم ، ألا فبيعوا أنفسكم طائعين وأموالكم ، تدخلوا الجنة ...
وأشباه هذا من الكلام .
وكان فيمن يحضره من أهل الكوفد سويد والبطين ، فقال يوما لاصحابه : ماذا تنتظرون ؟ ما يزيد أئمة الجور إلا عتوا وعلوا ، وتباعدا من الحق ، وجراءة على الرب ، فراسلوا إخوانكم حتى يأتوكم ، وننظر في أمورنا ما نحن صانعون .
وأى وقت إن خرجنا نحن خارجون .
فبينا هو كذلك إذ أتاه المحلل بن وائل (1) بكتاب من شبيب بن يزيد ، وقد كتب إلى صالح : أما بعد ، فقد [ أردت الشخوص ، وقد ] (2) كنت دعوتني إلى أمر أستجيب (3) لك ، فإن كان ذلك (4) من شأنك ، فإنك شيخ المسلمين ، ولم يعدل بك منا أحد (5) ، وإن أردت تأخير ذلك أعلمني (6) ، فإن الاجال غادية ورائحة ، ولا آمن أن تخترمنى المنية ، ولما أجاهد الظالمين ، [ فيا له غبنا ويا له فضلا ! ] (2) ، جعلنا الله وإياكم ممن يريد الله بعلمه [ ورضوانه والنظر إلى وجهه ، ومرافقة الصالحين في دار السلام ] (2) .
والسلام عليك .
__________
(1) ب : (قائد) ، وم ما أثبته عن ا ، ج والطبري .
(2) تكملة من تاريخ الطبري .
(3) الطبري : (فاستجبت لك) .
(4) الطبري : (فإن كان ذلك اليوم) .
(5) الطبري : (ولن نعدل بك منا أحدا) .
(6) الطبري : (وإن أردت تأخير ذلك اليوم أعلمتني) .
(*)(4/226)
فأجابه صالح بجواب جميل ، يقول فيه (1 : إنه لم يمنعنى من الخروج - مع ما أنا فيه من الاستعداد - إلا انتظارك ، فاقدم علينا ، ثم اخرج بنا ، فإنك ممن لا تقضى الامور دونه ، والسلام عليك 1) .
فلما ورد كتابه على شبيب ، دعا القراء من أصحابه ، فجمعهم إليه ، منهم أخوه مصاد ابن يزيد والمحلل بن وائل ، والصقر بن حاتم ، وإبراهيم بن حجر وجماعة مثلهم (2) ، ثم خرج حتى قدم على صالح بن مسرح ، وهو بدارات (3) أرض الموصل ، فبث صالح رسله ، وواعدهم بالخروج ، في هلال صفر ليلة الاربعاء سنة ست وتسعين .
فاجتمع بعضهم إلى بعض ، واجتمعوا عنده تلك الليلة ، فحدث فروة بن لقيط (4) ، قال : إنى لمعهم تلك الليلة عند صالح (5) ، وكان رأيى استعراض الناس ، لما رأيت من المكر والفساد في الارض ، فقمت إليه ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، كيف ترى السيرة في هؤلاء الظلمة ، أ نقتلهم قبل الدعاء ، أم ندعوهم قبل القتال ؟ فإنى أخبرك برأيى فيهم قبل أن تخبرني بذلك ، إنا نخرج على قوم طاغين ، قد تركوا أمر الله ، أو راضين بذلك ، فأرى أن نضع السيف ، فقال : لا ، بل ندعوهم ، ولعمري لا يجيبك إلا من يرى رأيك ، وليقاتلنك من يزرى عليك ، والدعاء أقطع لحجتهم ، وأبلغ في الحجد عليهم لك .
فقلت :
__________
(1 - 1) الكتاب كما في الطبري : (أما بعد ، فقد كان كتابك وخبرك أبطأ عني ، حتى أهمنى ذلك ، ثم إن أميرا من أمراء السملمين نبأنى بنبأ مخرجك ومقدمك ، فنحمد الله على قضاء ربنا ، وقد قدم على رسولك بكتابك ، فكل ما فيه قد فهمته ، ونحن في جهاز واستعداد للخروج ، ولم يمنعنى من الخروج إلا انتظارك ، فأقبل إلينا ثم اخرج بنا متى أحببت ، فإنك ممن لا يستغنى عن رأيه ، ولا تقضى دونه الامور ، والسلام) .
(2) في الطبري : (وإبراهيم بن حجر أبو الصقير من بنى محلم والفضل بن عامر من بنى ذهل بن شيبان) .
(3) في حواشى ج : (الدارة : كل أرض واسعة بين جبال ، ومن الرمل ما استدار معه وجمعه دارات ودور) ، وفي الطبري : (قدم على صالح بدارا) .
(4) في الطبري : (قال أبو مخنف : فحدثني فروة بن لقيط) .
(5) كذا في الاصول ، وفي الطبري : (قال - أي فروة - والله إنى لمع شبيب بالمدائن ، إذ حدثنا عن مخرجهم ، قال : لما هممنا بالخروج اجتمعنا إلى صالح بن مسرح ليلة خرج ، فكان رأيى استعراض الناس ....) إلى آخر الخبر مع اختلاف في الرواية .
(*)(4/227)
وكيف ترى فيمن قاتلنا فظفرنا به ؟ وما تقول في دمائهم وأموالهم ؟ فقال : إن قتلنا وغنمنا فلنا وإن تجاوزنا وعفونا فموسع علينا .
ثم قال صالح (1) لاصحابه ليلته (2) تلك : اتقوا الله عباد الله ، ولا تعجلوا إلى قتال أحد من الناس ، إلا أن يكونوا [ قوما ] (3) يريدونكم [ وينصبون لكم ] (3) ، فإنكم إنما خرجتم غضبا لله حيث انتهكت محارمه ، وعصى في الارض ، (4 وسفكت الدماء بغير حقها ، وأخذت الاموال غصبا 4) ، فلا تعيبوا على قوم أعمالا ثم تعملونها (5) ، [ فإن كل ما أنتم عاملون أنتم عنه مسئولون ، وإن عظمكم رجالة ] (3) ، وهذه دواب لمحمد بن مروان في هذا الرستاق (6) ، وابدءوا بها فاحملوا عليها راجلكم ، وتقووا بها على عدوكم (7) .
ففعلوا ذلك ، وتحصن منهم أهل دارا (8) .
وبلغ خبرهم محمد بن مروان وهو يومئذ أمير الجزيرة ، فاستخف بأمرهم ، وبعث إليهم عدى بن عميرة في خمسمائة ، وكان صالح في مائة وعشرة ، فقال عدى : أصلح الله
__________
(1) الخبر في الطبري عن أبى مخنف أيضا عن رجل من بنى محلم .
(2) الطبري : (ليلة خرج) .
(3) من الطبري .
(4 - 4) الطبري : (فسفكت الدماء بغير حلها ، وأخذت الاموال بغير حقها) .
(5) الطبري : (تعملون بها) .
(6) الرستاق - فيما ذكره حمزة بن الحسن - مشتق من (روذه فستا) ، وروذه : اسم للسطر والصف والسماط .
وفستا : اسم للحال ، والعنى أنه على التسطير والنظام .
قال ياقوت : (والذى عرفناه وشاهدناه في زماننا في بلاد الفرس أنهم يعنون بالرستاق : كل موضع فيه مزارع وقرى ولا يقال ذلك للمدن كالبصرة وبغداد ، فهو عند الفرس بمنزلة السواد عند أهل بغداد) معجم البلدان 1 : 37 .
(7 - 7) الطبري : (فابدءوا بها ، فشدوا عليها ، فاحملوا أرجلكم ، وتقووا بها على عدوكم) .
(8) الطبري : (أهل دارا وأهل نصيبين وأهل سنجار ، وخرج صالح ليلة خرج في مائة وعشرين ، وقيل : في مائة وعشرة) .
(*)(4/228)
الامير ! تبعثني إلى رأس الخوارج [ منذ عشرين سنة ] (1) ، ومعه رجال سموا لى [ كانوا يعازوننا ] (1) ، وإن الرجل منهم خير من مائة فارس في خمسمائة ! فقال له : إنى أزيدك خمسمائد ، فسر إليهم في ألف فارس .
فسار من حران في ألف رجل ، وكأنما يساقون إلى الموت - وكان عدى رجلا ناسكا (2) - فلما نزل دوغان (3) نزل بالناس ، وأنفذ إلى صالح بن مسرح رجلا دسه إليه فقال : إن عديا بعثنى إليك يسألك أن تخرج عن هذا البلد ، وتأتى بلدا آخر فتقاتل أهله ، فإنى للقتال كاره ، فقال له صالح : ارجع إليه ، فقل له : إن كنت ترى رأينا ، فأرنا من ذلك ما نعرف ، ثم نحن مدلجون (4) عنك ، وإن كنت على رأى الجبابرة ، وأئمة السوء ، رأينا رأينا ، فإما بدأنا بك ، وإلا رحلنا إلى غيرك .
فانصرف إليه الرسول ، فأبلغه ، فقال له عدى : ارجع إليه فقل له : إنى والله لا أرى رأيك ، ولكني أكره قتالك وقتال غيرك من المسلمين (5) .
فقال صالح لاصحابه : اركبوا ، فركبوا ، واحتبس الرجل عنده ، ومضى بأصحابه حتى أتى عديا في سوق دوغان ، وهو قائم يصلى الضحى ، فلم يشعر إلا بالخيل طالعة عليهم ، فلما دنا صالح منهم ، رآهم على غير تعبية (6) ، وقد تنادوا ، وبعضهم يجول في بعض ، فأمر شبيبا فحمل عليهم في كتيبة ، ثم أمر سويدا فحمل في كتيبة ، فكانت هزيمتهم ،
__________
(1) من الطبري .
(2) الطبري : (يتنسك) .
(3) دوغان : قرية بين رأس عين ونصيبين ، كانت سوقا لاهل الجزيرة يجتمع إليها أهلها مرة في كل شهر .
(مراصد الاطلاع) .
(4) الدلج والدلجة : السير آخر لليل .
(5) في الطبري بعدها : (فقاتل غيرى) .
(6) عبأ الجيش للحرب تعبئة : هيأه وجهزه ، يقال بالهمز وبغير الهمز .
(*)(4/229)
وأتى عدى بدابته فركبها ، ومضى على وجهه ، واحتوى صالح على عسكره وما فيه ، وذهب فل عدى حتى لحقوا بمحمد بن مروان ، فغضب ، ثم دعا بخالد بن جزء السلمى فبعثه في ألف وخمسمائة ، ودعا الحارث بن جعونة في ألف وخمسمائد ، وقال لهما : اخرجا إلى هذه الخارجة القليلة الخبيثة ، وعجلا [ الخروج ، وأغذا السير ] (1) فأيكما سبق ، فهو الامير على صاحبه ، فخرجا وأغذا (2) في السير ، وجعلا يسألان عن صالح ، فقيل لهما : توجه نحو آمد (3) ، فاتبعاه حتى انتهيا إليه بامد ، فنزلا ليلا ، وخندقا وهما متساندان ، كل ، واحد منهما على حدته ، فوجه صالح شبيبا إلى الحارث بن جعونة في شطر أصحابه ، وتوجه هو نحو خالد السلمى ، فاقتتلوا أشد قتال اقتتله قوم حتى حجز بينهم الليل ، وقد انتصف بعضهم من بعض .
فتحدث بعض أصحاب (4) صالح ، قال : كنا إذا حملنا عليهم استقبلنا رجالهم بالرماح ، ونضحنا (5) رماتهم بالنبل ، وخيلهم تطاردنا في خلال ذلك ، فانصرفنا عند الليل ، وقد كرهناهم وكرهونا ، فلما رجعنا وصلينا وتروحنا وأكلنا من الكسر (6) ، دعانا صالح وقال : يا أخلائى ، ماذا ترون ؟ فقال شبيب : إنا إن قاتلنا هؤلاء القوم وهم معتصمون بخندقهم ، لم ننل منهم طائلا ، والرأى أن نرحل عنهم ، فقال صالح : وأنا أرى ذلك ، فخرجوا من تحت ليلتهم حتى قطعوا أرض الجزيرة ، وأرض الموصل ، ومضوا حتى قطعوا أرض الدسكرة .
فلما بلغ ذلك الحجاج سرح عليهم الحارث بن عميرد في ثلاثة آلاف ،
__________
(1) من الطبري .
(2) أغذ في السير : أسرع فيه .
(3) آمد ، بكسر الميم : بلد قديم حصين ، تحيط دجلة بأكثره .
مراصد الاطلاع .
(4) في الطبري : (قال أبو مخنف : (فحدثني المحلمى قال ...
) ، وأورد الخبر باختلاف في الرواية .
(5) النضح : الرمى بالنبل .
(6) الكسرة : القطعة من الخبز ، وجمعه كسر .
(*)(4/230)
فسار وخرج صالح نحو جلولاء وخانقين (1) واتبعه الحارث حتى انتهى إلى قرية يقال لها المدبج (2) ، وصالح يومئذ في تسعين رجلا ، فعبى الحارث بن عميرة أصحابه ميمنة وميسرة ، وجعل صالح أصحابه ثلاثة كراديس وهو في كردوس (3) ، وشبيب في ميمنة في كردوس ، وسويد بن سليم في كردوس في ميسرته ، في كل كردوس منهم ثلاثون رجلا ، فلما شد عليهم الحارث بن عميرة انكشف سويد بن سليم ، وثبت صالح فقتل ، وضارب شبيب حتى صرع عن فرسه ، فوقع بين رجاله ، فجاء حتى انتهى إلى موقف صالح ، فوجده قتيلا فنادى : إلى يا معشر المسلمين ! فلاذوا به ، فقال لاصحابه : ليجعل كل رجل منكم ظهره إلى ظهر صاحبه ، وليطاعن عدوه إذا قدم عليه ، حتى ندخل هذا الحصن ، ونرى رأينا .
ففعلوا ذلك حتى دخلوا الحصن ، وهم سبعون رجلا مع شبيب ، وأحاط بهم الحارث بن عميرة ممسيا ، وقال لاصحابه : أحرقوا الباب ، فإذا صار جمرا فدعوه ، فإنهم لا يقدرون على الخروج حتى نصبح (4) فنقتلهم ، ففعلوا ذلك بالباب ، ثم انصرفوا إلى معسكرهم .
فقال شبيب لاصحابه : يا هؤلاء ، ما تنتظرون ! فو الله إن صبحوكم غدوة (5) إنه لهلاككم ، فقالوا له : مرنا بأمرك ، فقال لهم : [ إن الليل أخفى للويل ] (6) ، بايعوني إن شئتم ، أو بايعوا من شئتم منكم ، ثم اخرجوا بنا حتى نشد عليهم في عسكرهم ، فإنهم آمنون منكم ، وإنى أرجو أن ينصركم الله عليهم .
قالوا : ابسط يدك ، فبايعوه ، فلما جاءوا
__________
(1) جلولاء : موضع في طريق خراسان ، بينه وبين خانقين سبعة فراسخ ، وخانقين : في نواحى السواد في طريق همذان .
(2) في الطبري : (المدبج : من أرض الموصل ، على تخوم ما بينها وبين أرض جوخى) .
(3) الكردوس : القطعة من الخيل ، وجمعه كراديس .
(4) الطبري : (نصبحهم) .
(5) صبحوكم : أغاروا عليكم صباحا .
(6) من الطبري .
(*)(4/231)
إلى الباب ، وجدوه جمرا ، فأتوه باللبود (1) فبلوها بالماء ، ثم ألقوها عليه وخرجوا ، فلم يشعر الحارث بن عميرة إلا وشبيب وأصحابه يضربونهم بالسيوف في جوف عسكرهم ، فضارب الحارث حتى صرع ، واحتمله أصحابه ، وانهزموا وخلوا لهم المعسكر وما فيه ، ومضوا حتى نزلوا المدائن ، وكان ذلك الجيش أول جيش هزمه شبيب (2) .
* * * [ دخول شبيب الكوفة وأمره مع الحجاج ] ثم ارتفع في أداني أرض الموصل (3) ، ثم ارتفع إلى نحو أذربيجان يجبى الخراج ، وكان سفيان بن أبى العالية قد أمر أن يحارب صاحب طبرستان ، فأمر بالقفول نحو شبيب ، وأن يصالح صاحب طبرستان ، فصالحه ، فأقبل في ألف فارس ، وقد ورد عليه كتاب من الحجاج : (4 أما بعد ، فأقم بالدسكرة فيمن معك ، حتى يأتيك جيش الحارث بن عميرة .
قاتل صالح بن مسرح ، ثم سر إلى شبيب حتى تناجزه 4) .
ففعل سفيان ذلك ، ونزل إلى الدسكرة حتى أتوه ، وخرج مرتحلا في طلب شبيب ، فارتفع شبيب عنهم ، كأنه يكره قتالهم ولقاءهم ، وقد أكمن لهم أخاه مصادا في خمسين رجلا ، في هضم (5) من الارض ، فلما رأوا شبيبا جمع أصحابه ، ولهم ، ومضى في سفح من الجبل
__________
(1) اللبد : كل شعر أو صوف متبلد ، سمى به للصوق بعضه ببعض ، وجمعه لبود .
(2) في الطبري بعدها : (وأصيب صالح بن مسرح يوم الثلاث لثلاث عشرة بقيت من جمادى الاولى من سنته) .
(3) في الطبري بعدها : (وتخوم أرض جوخى) .
(4 - 4) الكتاب كما في الطبري : (أما بعد فسر حتى تنزل الدسكرة فيمن معك ، ثم أقم حتى يأتيك جيش الحارث بن عميرة الهمداني بن ذى المشعار ، وهو الذى قتل صالح بن مسرح وخيل المناظر ، ثم سر إلى شبيب حتى تناجزه) .
(5) الهضم : المكان المطمئن من الارض ، وفي الطبري : (هزم من الاض) ، وهما بمعنى .
(*)(4/232)
مشرقا ، قالوا : هرب عدو الله ، واتبعوه .
فقال لهم عدى بن عميرة الشيباني : أيها الناس ، لا تعجلوا عليهم حتى نضرب في الارض ونستبرئها (1) : فإن يكونوا أكمنوا كمينا حذرناه ، وإلا كان طلبهم بين أيدينا لن يفوتنا .
فلم يسمعوا منه ، فأسرعوا في آثارهم .
* * * فلما رأى شبيب أنهم قد جازوا الكمين ، عطف عليهم ، فحمل من أمامهم ، وخرج الكمين من ورائهم ، فلم يقاتل (2) أحد ، وإنما كانت الهزيمة ، وثبت سفيان بن أبى العالية في مائتي رجل ، فقاتل (3 قتالا شديدا حتى انتصف من شبيب 3) ، فقال سويد بن سليم لاصحابه : أ منكم أحد يعرف أمير القوم ابن أبى العالية (4) ؟ فقال له شبيب : أنا من أعرف الناس به ، أما ترى صاحب الفرس الاغر الذى دونه المرامية ! فإنه هو ، (5) فإن كنت تريده فأمهله قليلا .
ثم قال : يا قعنب ، اخرج في عشرين ، فأتهم من ورائهم .
فخرج قعنب في عشرين فارتفع عليهم ، فلما رأوه يريد أن يأتيهم من ورائهم ، جعلوا ينتقصون ويتسللون ، وحمل سويد بن سليم على سفيان بن أبى العالية يطاعنه (6) ، فلم تصنع رماحهما شيئا ، ثم اضطربا بسيفهما ، ثم اعتنق كل واحد منهما صاحبه ، فوقعا إلى الارض يعتركان ، ثم تحاجزا ، وحمل عليهم شبيب ، فانكشف من كان مع سفيان ، ونزل غلام له يقال له غزوان عن برذونه ، وقال لسفيان : اركب يا مولاى ، فركب سفيان ، وأحاط به أصحاب شبيب ، فقاتل دونه غزوان حتى قتل ، وكان معه رايته ، وأقبل سفيان منهزما ، حتى انتهى
__________
(1) يقال : استبرأ أرض بنى فلان ، إذا سار فيها وانتهى إلى آخرها .
وفي الطبري : (نسير بها) .
(2) الطبري : (فلم يقاتلهم أحد) .
(3 - 3) الطبري : (فقاتلهم قتالا شديدا حسنا حتى ظن أنه انتصف من شبيب وأصحابه) .
(4) في الطبري بعدها : (فوالله لئن عرفته لا جهدن نفسي في قتله) .
(5) الطبري : (فإنه ذلك) .
(6) الطبري : (فطاعنه) .
(*)(4/233)
إلى بابل مهروذ ، فنزل بها ، وكتب إلى الحجاج (1) ، وكان الحجاج أمر سورة ابن أبجر أن يلحق بسفيان ، فكاتب سورة سفيان ، وقال له : انتظرني ، فلم يفعل وعجل نحو الخوارج ، فلما عرف الحجاج خبر سفيان ، و قرأ كتابه ، قال للناس : من صنع كما صنع هذا وأبلى كما أبلى فقد أحسن .
ثم كتب إليه يعذره (2) ، ويقول : إذا خف عليك الوجع فأقبل مأجورا إلى أهلك .
وكتب إلى سورة بن أبجر : (3 أما بعد يا بن أم سورة ، فما كنت خليقا 3) أن تجترئ على ترك عهدي ، وخذلان جندي ، فإذا أتاك كتابي فابعث رجلا ممن معك صليبا إلى (4) المدائن ، فلينتخب من جندها خمسمائة رجل ، ثم ليقدم بهم عليك ، [ ثم سر بهم ] (5) حتى تلقى هذه المارقة ، واحزم أمرك ، وكد عدوك ، فإن أفضل أمر الحروب حسن المكيدة .
والسلام .
فلما أتى سورة كتاب الحجاج بعث عدى بن عمير إلى المدائن ، وكان بها ألف فارس ، فانتخب منهم خمسمائة ، ثم رحل بهم (6) حتى قدم على سورة ببابل مهروذ ،
__________
(1) كتابه إلى الحجاج كما في الطبري : (أما بعد ، فإنى أخبر الامير أصلحه الله ! إنى اتبعت هذه المارقة حتى لحقتهم بخانقين فقاتلتهم ، فضرب الله وجوههم ونصرنا عليهم ، فبينا نحن كذلك إذ أتاهم قوم كانوا غيبا عنهم ، فحملوا على الناس فهزموهم ، فنزلت في رجال من أهل الدين والصبر ، فقاتلتهم حتى خررت بين القتلى ، فحملت مرتثا ، فأتى بى بابل مهروذ ، فها أنا بها والجند الذين وجههم الامير وافوا إلا سورة بن أبجر ، فإنه لم يأتنى ، ولم يشهد معى ، حتى إذا ما نزلت بابل مهروذ أتانى يقول ما لا أعرف ، ويعتذر بغير العذر والسلام) .
(2) كتاب الحجاج إلى سفيان كما في الطبري : (أما بعد ، فقد أحسنت البلاء ، وقضيت الذى عليك ، فإذا خف عنك الوجع فأقبل مأجورا إلى أهلك .
والسلام) .
(3 - 3) الطبري : (أما بعد فيابن أم سورة ، ما كنت خليقا أن تجترئ على) .
(4) الطبري : (إلى الخيل التى بالمدائن) .
(5) من الطبري .
(6) عبارة الطبري : (ثم دخل على عبد الله بن أبى عصيفير ، وهو أمير الدائن إمارته الاولى ، فسلم عليه ، فأجازه بألف درهم ، وحمله على فرس وكساه أثوابا ، ثم إنه خرج من عنده ، فإقبل بأصحابه حتى قدم بهم على سورة ...
) (*)(4/234)
فخرج بهم في طلب شبيب ، وخرج شبيب يجول في جوخى (1) ، وسورة في طلبه ، فجاء شبيب إلى المدائن فتحصن منه أهلها فانتهب المدائن الاولى ، وأصاب دواب من دواب الجند ، وقتل من ظهر له ، ولم يدخل البيوت ، ثم أتى فقيل له : هذا سورة قد أقبل إليك ، فخرج في أصحابه حتى [ انتهى إلى النهروان ، فنزلوا به وتوضئوا وصلوا ، ثم ] (2) أتوا مصارع إخوانهم الذين قتلهم على بن أبى طالب ، فاستغفروا لهم ، وتبرءوا من على وأصحابه ، وبكوا فأطالوا البكاء ، ثم عبروا جسر النهروان ، فنزلوا جانبه الشرقي ، وجاء سورة حتى نزل بنفطرانا (3) وجاءته عيونه ، فأخبروه بمنزل شبيب بالنهروان ، فدعا سورة رؤوس أصحابه ، فقال لهم : إن الخوارج قلما يلقون في صحراء أو على ظهر إلا انتصفوا ، وقد حدثت أنهم لا يزيدون على مائة رجل ، وقد رأيت أن أنتخبكم ، وأسير في ثلاثمائة رجل منكم ، من أقويائكم وشجعانكم فأبيتهم (4 فإنهم آيسون من بياتكم 4) ، وإنى والله أرجو أن يصرعهم الله مصارع إخوانهم في النهروان من قبل ، فقالوا : اصنع ما أحببت .
فاستعمل على عسكره حازم بن قدامة ، وانتخب ثلاثمائة من شجعان أصحابه ، ثم أقبل بهم حتى قرب من النهروان ، وبات وقد أذكى الحرس ، ثم بيتهم ، فلما دنا أصحاب سورة منهم نذروا (5) بهم ، فاستووا على خيولهم ، وتعبوا تعبيتهم ، فلما انتهى إليهم سورة وأصحابه ، أصابوهم وقد نذروا ، فحمل عليهم سورة ، فصاح شبيب بأصحابه ، فحمل عليهم
__________
(1) جوخى ، بالقصر وقد يفتح : نهر عليه كورة واسعة في سواد بغداد ، بالجانب الشرقي منه الرذان ، وهو بين خانقين وخوزستان ، قالوا : ولم يكن ببغداد مثل كورة جوخى ، كان خراجها ثمانين ألف ألف درهم ، حتى صرفت دجلة عنها فخربت ، وأصابهم بعد ذلك طاعون شيرون فأتى عليهم ، ولم يزل السواد في إدبار من ذلك الطاعون .
مراصد الاطلاع 1 : 355 (2) من الطبري .
(3) كذا في الاصول وفي الطبري : (قطراثا) .
(4 - 4) الطبري : (فأتيهم الان فإنهم آمنون لبياتكم) .
(5) نذروا بهم : علموا بهم .
وفي ج : (حذروا) .
(*)(4/235)
حتى تركوا له العرصة ، وحمل شبيب ، وجعل يضرب ويقول : * من ينك العير ينك نياكا (1) * فرجع (2 سورة مفلولا ، قد هزم فرسانه وأهل القوة من أصحابه ، وأقبل نحو المدائن ، وتبعه شبيب ، حتى انتهى سورة إلى بيوت المدائن ، وانتهى شبيب إليهم ، وقد دخل الناس البيوت ، وخرج ابن أبى عصيفير ، وهو أمير المدائن يومئذ في جماعة ، فلقيهم في شوارع المدائن ، ورماهم الناس بالنبل والحجارة من فوق البيوت .
ثم سار شبيب إلى تكريت 2) ، فبينا ذلك الجند بالمدائن إذ أرجف (3) الناس فقالوا : هذا شبيب قد أقبل يريد أن يبيت أهل المدائن ، فارتحل عامة الجند ، فلحقوا بالكوفة ، (4) وإن شبيبا بتكريت ، فلما أتى الحجاج (5) الخبر ، قال : قبح الله سورة ! ضيع العسكر وخرج يبيت الخوارج ، والله لاسوءنه (6) .
__________
(1) بقيته في الطبري : * جندلتان اصطكتا اصطكاكا * (2 - 2) الطبري : (فرجع سورة إلى عسكره ، وقد هزم الفرسان وأهل القوة ، فتحمل بهم حتى أقبل بهم نحو المدائن ، فدفع إليهم وقد تحمل وتعدى الطريق الذى فيه شبيب ، واتبعه شبيب ، وهو يرجو أن يلحقه فيصيب عسكره ، ويصيب بهزيمته أهل العسكر ، فأغذ السير في طلبهم ، فانتهوا إلى المدائن فدخلوها ، وجاء شبيب حتى النتهى إلى بيوت المدائن فدفع إليهم وقد دخل الناس ، وخرج ابن أبى عصيفير في أهل المدائن ، فرماهم بالنبل ورموا من فوق البيوت بالحجارة ، فارتفع شبيب بأصحابه عن المدائن ، فمر على كلوذا فأصاب بها دواب كثيرة للحجاج ، فأخذها ، ثم أخذ يسير في أرض جوخى ثم مضى نحو تكريت ...
) .
(3) أرجف القوم ، أي خاضوا في الاخبار السيئة ، وذكر الفتن ، على أن يوقعوا في الناس الاضطراب من غير أن يصح عندهم شئ ، وفي القرآن الكريم : (والمرجفون في المدينة) .
(4) في الطبري عن عبد الله بن علقمة الخثعمي : (والله لقد هربوا من المدائن ، وقالوا : نبيت الليلة ، وإن شبيبا لبتكريت ، ولما أتى الفل على الحجاج ، سرح الجزل بن سعيد بن شرحبيل بن عمرو الكندى) (5) في الطبري : (عن فضيل بن خديج الكندى : أن الحجاج لما أتاه الفل قال ...
) (6) في الطبري : (وكان قد حبسه ثم عفا عنه) .
(*)(4/236)
ثم دعا الحجاج بالجزل ، وهو عثمان بن سعيد ، فقال له : تيسر للخروج إلى هذه المارقة ، فإذا لقيتهم فلا تعجل عجلة الخرق النزق (1) ، ولا تحجم إحجام الوانى الفرق (2) ، أ فهمت (3) ؟ قال : نعم أصلح الله الامير قد فهمت ، قال : فاخرج وعسكر بدير عبد الرحمن حتى يخرج الناس إليك ، فقال : أصلح الله الامير ! لا تبعث معى أحدا من الجند المهزوم المفلول ، فإن الرعب قد دخل قلوبهم ، وقد خشيت ألا ينفعك والمسلمين منهم أحد ، قال : ذلك لك ، ولا أراك إلا قد أحسنت الرأى ، ووفقت ، ثم دعا أصحاب الدواوين ، فقال ، اضربوا على الناس البعث ، وأخرجوا أربعة آلاف من الناس ، وعجلوا ، فجمعت العرفاء ، وجلس أصحاب الدواوين ، وضربوا البعث ، فأخرجوا أربعة آلاف ، فأمرهم باللحاق بالعسكر ، ثم نودى فيهم بالرحيل ، فارتحلوا ، ونادى منادى الحجاج : أن برئت الذمة من رجل أصبناه من بعث الجزل متخلفا .
فمضى بهم الجزل ، [ وقد قدم بين يديه عياض بن أبى لينة الكندى على مقدمته فخرج ] (4) ، حتى أتى المدائن ، فأقام بها ثلاثا ، ثم خرج وبعث إليه ابن أبى عصيفير بفرس وبرذون وألفى درهم ، ووضع للناس من الحطب (5) والعلف ما كفاهم ثلاثة أيام ، وأصاب الناس ما شاءوا من ذلك .
* * * ثم إن الجزل خرج بالناس إثر شبيب ، فطلبه في أرض جوخى ، فجعل شبيب يريه الهيبة ، فيخرج من رستاق إلى رستاق ، ومن طسوج إلى طسوج [ ولا يقيم له ] (4) ،
__________
(1) الخرق : الرجل الاحمق ، والنزق : الطائش الخفيف عند الغضب .
(2) الفرق : الشديد الفزع .
(3) في الطبري بعدها : (الله أنت يا أخا بنى عمرو بن معاوية) .
(4) من الطبري .
(5) الطبري : (الجزر) .
(*)(4/237)
يريد بذلك أن يفرق الجزل أصحابه ، ويتعجل إليه فيلقاه في عدد يسير على غير تعبية ، فجعل الجزل لا يسير إلا على تعبية ، ولا ينزل إلا خندق على نفسه وأصحابه ، فلما طال ذلك على شبيب ، دعا يوما أصحابه ، وهم مائة وستون رجلا ، هو في أربعين ، ومصاد أخوه في أربعين ، وسويد بن سليم في أربعين ، والمحلل بن وائل في أربعين ، وقد أتته عيونه [ فأخبرته ] (1) ، أن الجزل بن سعيد قد نزل ببئر سعيد (2) .
فقال لاخيه وللامراء الذين ذكرناهم : إنى أريد أن أبيت الليلة هذا العسكر ، فأتهم أنت يا مصاد من قبل حلوان (3) ، وسأتيهم أنا من أمامهم من قبل الكوفة ، وأتهم أنت يا سويد من قبل المشرق ، وأتهم أنت يا محلل ، من قبل المغرب ، وليلج كل امرئ منكم على الجانب الذى يحمل عليه ، ولا تقلعوا عنهم حتى يأتيكم أمرى .
قال فروة بن لقيط (4) : وكنت أنا في الاربعين الذين كانوا معه (5 ، فقال لجماعتنا : تيسروا ، وليسر كل امرئ منكم مع أميره ، ولينظرما يأمره به أميره فليتبعه ، فلما قضمت دوابنا - وذلك أول ما هدأت العيون - خرجنا حتى انتهينا إلى دير الخرارة ، فإذا القوم عليهم مسلحة بن أبى لينة ، فما هو إلا أن رآهم مصاد أخو شبيب حتى حمل عليهم في أربعين رجلا ، وكان شبيب أراد أن يرتفع عليهم ، حتى يأتيهم من ورائهم ، كما أمره 5) .
__________
(1) من الطبري .
(2) الطبري : (بدير يزدجرد) .
(3) تطلق حلوان على عدة مواضع ، وهى هنا حلوان العراق ، آخر حدود السواد مما يلى العراق ، كانت مدينة عامرة لم يكن بالعراق بعد البصرة والكوفة ، وواسط بغداد أكبر منها .
(مراصد الاطلاع) .
(4) هو راوي الخبر في الطبري ، حدثه به عنه أبو مخنف .
(5 - 5) النص كما في الطبري : (حتى إذا قضمت دوابنا ، وذلك أول الليل ، أول ما هدأت العيون ، خرجنا حتى انتهينا إلى دير الخرارة ، فإذا للقوم مسلحة ، عليهم عياض بن لينة ، فما هو إلا أن انتهينا إليهم ، فحمل عليهم مصاد أخو شيبي في أربعين رجلا - وكان أمام شبيب - وقد كان أراد أن يسبق شبيبا حتى يرتفع عليهم ويأتيهم من ورائه كما أمره) .
(*)(4/238)
فلما لقى هؤلاء قاتلهم ، فصبروا له ساعة وقاتلوه .
ثم إنا دفعنا إليهم جميعا ، فهزمناهم ، وأخذوا الطريق الاعظم ، وليس بينهم وبين عسكرهم بدير يزدجرد إلا نحو ميل (1) ، فقال لنا شبيب : اركبوا معاشر المسلمين أكتافهم ، حتى تدخلوا معهم عسكرهم إن استطعتم ، فأتبعناهم ملظين (2) بهم ، ملحين عليهم ، ما نرفه عنهم وهم منهزمون ، ما لهم همة إلا عسكرهم .
فمنعهم أصحابهم أن يدخلوا عليهم ، ورشقوهم (3) بالنبل ، وكانت لهم عيون قد أتتهم فأخبرتهم بمكاننا ، وكان الجزل قد خندق عليهم وتحرز ، ووضع هذه المسلحة الذين لقيناهم [ بدير الخرارة ] (4) ، ووضع مسلحة أخرى مما يلى حلوان .
فلما اجتمعت المسالح ، ورشقوهم بالنبل ، ومنعونا من خندقهم ، رأى (5) شبيب أنه لا يصل إليهم ، فقال لاصحابه : سيروا ودعوهم ، فلما سار عنهم أخذ على طريق حلوان ، حتى كان منهم على سبعة أميال ، قال لاصحابه : انزلوا فأقضموا دوابكم ، وقيلوا وتروحوا ، فصلوا ركعتين ، ثم اركبوا .
ففعلوا ذلك .
ثم أقبل بهم راجعا إلى عسكر الكوفة ، وقال : سيروا على تعبيتكم التى عبأتكم عليها أول الليل ، وأطيفوا (6) بعسكرهم كما أمرتكم .
فأقبلنا (7) معه ، وقد أدخل أهل العسكر مسالحهم إليهم ، وأمنوا ، فما شعروا حتى سمعوا وقع حوافر الخيل ، فانتهينا إليهم قبيل الصبح ، وأحطنا بعسكرهم ، وصحنا بهم من كل ناحية ، فقاتلونا ، ورمونا بالنبل ، فقال شبيب (8) لاخيه مصاد ، وكان يقاتلهم من الجانب
__________
(1) الطبري : (قريب من ميل) .
(2) ملظين : ملحين .
(3) الطبري : (ورشقونا) .
(4) من الطبري .
(5) الطبري : (ثم أطيفوا بعسكركم) .
(6) في الاصول : (نظر) ، والاجود ما أثبته من تاريخ الطبري) .
(7) الطبري : (فأقبلوا) .
(8) الطبري : (ثم أن شبيبا) .
(*)(4/239)
الذى يلى الكوفة : خل لهم سبيل [ طريق ] (1) الكوفة ، فخلى لهم ، وقاتلناهم من [ تلك ] (1) الوجوه الثلاثة الاخرى إلى الصبح (2) ، ثم سرنا وتركناهم ، لانا لم نظفر بهم ، فلما سار شبيب سار الجزل في أثره يطلبه ، وجعل لا يسير إلا على تعبية وترتيب ، ولا ينزل إلا على خندق ، وأما شبيب فضرب في أرض جوخى ، وترك الجزل ، فطال أمره على الحجاج ، فكتب إلى الجزل كتابا قرئ على الناس وهو : أما بعد ، فإنى بعثتك في فرسان [ أهل ] (1) المصر ووجوه الناس ، وأمرتك باتباع هذه (3 المارقة ، وألا تقلع عنها حتى تقتلها وتفنيها 3) ، فجعلت (4) التعريس في القرى ، والتخييم في الخنادق ، أهون عليك من المضى لمناهضتهم ومناجزتهم .
[ والسلام ] (5) .
قال : فشق كتاب الحجاج على الجزل ، وأرجف الناس بأمره ، وقالوا : سيعزله ، فما لبث الناس أن بعث الحجاج سعيد بن المجالد أميرا بدله ، وعهد إليه : إذا لقى المارقة أن يزحف إليهم ، ولا يناظرهم ، ولا يطاولهم ، ولا يصنع صنع الجزل (6) ، وكان الجزل يومئذ قد انتهى في طلب شبيب إلى النهروان ، وقد لزم عسكره ، وخندق عليهم ، فجاء سعيد حتى دخل عسكر أهل الكوفة أميرا ، فقام فيهم خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يا أهل الكوفة ، إنكم قد عجزتم ووهنتم ، وأغضبتم عليكم أميركم ، أنتم في طلب هذه الاعاريب العجف منذ شهرين ، قد أخربوا بلادكم ، وكسروا خراجكم ، وأنتم
__________
(1) من الطبري .
(2) الطبري : (حتى أصبحنا) .
(3 - 3) الطبري : (المارقة الضالة المضلة ، حتى تلقاها فلا تقلع عنها حتى تقتلها وتفنيها) .
(4) الطبري : (فوجدت) .
(5) في الطرى ، بعدها : (فقرئ الكتاب علينا ، ونحن بقطرثا ودير أبى مريم) .
(6) بعدها في الطبري : (واطلبهم طلب السبع ، وحد عنهم حيدان الضبع) .
(*)(4/240)
حذرون في جوف هذه الخنادق لا تزايلونها إلا أن يبلغكم أنهم قد ارتحلوا عنكم ، ونزلوا بلدا سوى بلدكم ، اخرجوا على اسم الله إليهم .
ثم خرج وخرج الناس معه (1) ، فقال له الجزل : ما تريد أن تصنع ؟ قال : أقدم على شبيب وأصحابه في هذه الخيل ، فقال له الجزل : أقم أنت في جماعة الناس (2) ، فارسهم وراجلهم (3 ، ولا تفرق أصحابك ، ودعني أصحر له (4) ، فإن ذلك خير لك وشر لهم 3) .
فقال سعيد : بل تقف أنت في الصف ، وأنا أصحر له ، فقال الجزل : إنى برئ من رأيك هذا ، سمع الله ومن حضر من المسلمين ! فقال سعيد : هو رأيى ، إن أصبت فيه ، فالله وفقني ، وإن أخطأت (5) فيه فأنتم برآء .
فوقف الجزل في صف [ أهل ] (6) الكوفة ، وقد [ أخرجهم من الخندق و ] (6) جعل على ميمنتهم عياض بن أبى لينة الكندى ، وعلى ميسرتهم عبد الرحمن بن عوف أبا حميد الراسبى (7) ، ووقف الجزل في جماعتهم ، واستقد سعيد بن مجالد فخرج [ وأخرج ] (6) الناس معه ، وقد أخذ شبيب إلى براز الروز (8) ، فنزل قطفتا (9) ، وأمر دهقانها أن يشوى لهم غنما ، ويعد لهم غداء ففعل ، وأغلق مدينة قطفتا ، ولم يفرغ
__________
(1) في الطبري بعدها : (وجمع إليه خيول أهل العسكر) .
(2) الطبري : (الجيش) .
(3 - 3) عبارة الطبري : (وأصحر له ، فو الله ليتقدمن عليك ، فلا تفرق أصحابك ، فإن ذلك شر لهم وخير لك) .
(4) أصحر القوم ، إذا برزوا في الصحراء ، لا يواريهم شئ .
(5) الطبري : (وإن يكن غير صواب) .
(6) من الطبري .
(7) في الاصول : (وأبا حميد) ، والصواب ما أثبته من الطبري .
(8) براز الروز ، بالزاى ، وألف ولام وراء مضمومة : من طساسيج السواد ببغداد ، من الجانب الشرقي من أستان البهقباذ ، كان للمعتضد به أبنية جليلة .
(مراصد الاطلاع) .
(9) قطفتا : محلة غربي بغداد .
(16 - نهج - 4) (*)(4/241)
الدهقان من طعامه حتى أحاط بها ابن مجالد ، فصعد الدهقان ، ثم نزل ، وقد تغير لونه ، فقال شبيب : ما بالك ؟ قال : قد جاءك جمع عظيم ، قال : أ بلغ (1) شواؤك ؟ قال : لا ، قال : دعه يبلغ ، ثم أشرف الدهقان إشرافة أخرى ، ثم نزل فقال : قد أحاطوا بالجوسق ، قال : هات شواءك ، فجعل يأكل غير مكترث بهم ولا فزع ، فلما فرغ قال لاصحابه ، قوموا إلى الصلاة ، وقام فتوضأ ، فصلى بأصحابة صلاة الاولى ، ولبس درعه ، وتقلد سيفه ، وأخذ عموده الحديد ، ثم قال : أسرجوا لي بغلتي ، فقال أخوه : أ في مثل هذا اليوم تركب (2) بغلة ؟ قال : نعم ، أسرجوها ، فركبها ، ثم قال : يا فلان ، أنت على الميمنة ، وأنت يا فلان على الميسرة ، وأنت يا مصاد - يعنى أخاه - على القلب ، وأمر الدهقان ففتح الباب في وجوههم .
فخرج إليهم وهو يحكم (3) ، وحمل حملة عظيمة ، فجعل سعيد وأصحابه يرجعون القهقرى ، حتى صار بينهم وبين الدير ميل ، وشبيب يصيح : أتاكم الموت الزؤام ! فاثبتوا ، وسعيد يصيح : يا معشر همدان ، إلى إلى ، أنا ابن ذى مران ! فقال شبيب لمصاد : ويحك ! استعرضهم استعراضا ، فإنهم قد تقطعوا ، وإنى حامل على أميرهم ، وأثكلنيك الله إن لم أثكله ولده ، ثم حمل على سعيد فعلاه بالعمود ، فسقط (4) ميتا وانهزم أصحابه ، ولم يقتل يومئذ من الخوارج إلا رجل واحد .
وانتهى قتل سعيد إلى الجزل ، فناداهم : أيها الناس ، إلى إلى ، وصاح عياض ابن أبى لينة : أيها الناس ، إن يكن أميركم هذا القادم هلك ، فهذا أميركم الميمون النقيبة ، أقبلوا إليه ، فمنهم من أقبل إليه ، ومنهم من ركب فرسه منهزما ، وقاتل الجزل يومئذ قتالا شديدا حتى صرع ، وحامى عنه خالد بن نهيك ، وعياض بن أبى لينة ، حتى استنقذاه
__________
(1) الطبري : (أبلغ الشواء) وبلوغ الشواء : نضجه .
(2) الطبري : (تسرج) .
(3) التحكيم : قول الخوارج : (لا حكم إلا لله) .
(4) في الاصول : (ثم سقط) ، والاجود ما أثبته من الطبري .
(*)(4/242)
مرتثا ، وأقبل الناس منهزمين حتى دخلوا الكوفة ، وأتى بالجزل جريحا حتى دخل المدائن ، فكتب إلى الحجاج : أما بعد ، فإنى أخبر الامير - أصلحه الله - أنى خرجت فيمن قبلى من الجند الذى وجهنى فيه إلى عدوه ، وقد كنت حفظت عهد الامير إلى فيهم ورأيه ، فكنت أخرج إلى المارقين (1) إذا رأيت الفرصة ، وأحبس [ الناس ] (2) عنهم إذا خشيت الورطة ، فلم أزل كذلك أدير الامر ، وأرفق في التدبير ، وقد أرادنى العدو بكل مكيدة ، فلم يصب منى غرة ، حتى قدم على سعيد بن مجالد ، فأمرته بالتؤدة ، ونهيته عن العجلة ، وأمرته ألا يقاتلهم إلا في جماعة الناس عامة ، فعصاني وتعجل إليهم في الخيل ، فأشهدت الله عليه وأهل المصرين أنى برئ من رأيه الذى رأى ، وأنى لا أهوى الذى صنع ، فمضى فقتل ، تجاوز الله عنه ! ودفع (3) الناس [ إلى ] (2) فنزلت ودعوتهم إلى نفسي (4) ورفعت رايتى ، وقاتلت حتى صرعت ، فحملني أصحابي من بين القتلى ، فما أفقت إلا وأنا على أيديهم ، على رأس ميل من المعركة ، وأنا اليوم بالمدائن ، وفي جراحات (5) قد يموت الانسان من دونها ، وقد يعافى من مثلها ، فليسأل الامير أصلحه الله عن نصيحتي له ولجنده ، وعن مكايدتي عدوه ، وعن موقفي يوم البأس ، فإنه سيبين (6) له عند ذلك إنى صدقته ونصحت له .
والسلام .
فكتب إليه الحجاج :
__________
(1) الطبري : (إليهم) .
(2) من الطبري (3) دفع الناس ، أي جاءوا مرة مجتمعين .
(4) الطبري : (ودعوتهم إلى) .
(5) الطبري : (جراحة) .
(6) الطبري : (يستبين) .
(*)(4/243)
أما بعد ، فقد أتانى كتابك وقرأته ، (1 وفهمت كل ما ذكرته فيه من إمر سعيد وأمر نفسك ، وقد صدقتك في نصيحتك لاميرك وحيطتك على أهل مصرك ، وشدتك على عدوك ، وقد رضيت عجلة سعيد وتؤدتك 1) .
فأما عجلته فإنها أفضت به إلى الجنة ، وأما تؤدتك (2 فإنها ما لم تدع الفرصة إذا أمكنت حزم 2) ، وقد أحسنت وأصبت وأجرت ، وأنت عندي من أهل السمع والطاعة والنصيحة ، وقد أشخصت إليك حيان بن أبجر (3) الطبيب ليداويك ، ويعالج جراحاتك ، وقد بعثت إليك بألفى درهم نفقة تصرفها في حاجتك وما ينوبك (4) .
والسلام .
وبعث عبد الله بن أبى عصيفير والى المدائن إلى الجزل بألف درهم ، وكان يعوده ويتعاهده بالالطاف والهدايا .
وأما شبيب ، فأقبل حتى قطع دجلة عند الكرخ ، وأخذ بأصحابه نحو الكوفة .
وبلغ الحجاج مكانه بحمام أعين ، فبعث إليه سويد بن عبد الرحمن السعدى ، فجهزه بألفى فارس منتخبين ، وقال له : اخرج إلى شبيب فالقه ولا تتبعه ، فخرج بالناس بالسبخة (5) ، وبلغه أن شبيبا قد أقبل ، فسار نحوه كأنما يساق إلى الموت هو وأصحابه ، وأمر الحجاج عثمان بن قطن ، فعسكر بالناس في السبخة ، ونادى : ألا برئت الذمة من رجل من هذا الجند ، بات الليلة بالكوفة ، ولم يخرج إلى عثمان بن قطن بالسبخة ، فبينا سويد بن عبد الرحمن يسير في الالفين الذين معه ، وهو يعبيهم ويحرضهم ، إذ قيل له :
__________
(1 - 1) الطبري : (وفهمت كل كما ذكرت فيه ، وقد صدقتك في كل ما وصفت به نفسك من نصيحتك لاميرك وحيطتك على أهل مصرك وشدتك على عدوك ، وقد فهمت ما ذكرت من أمر سعيد وعجلته إلى عدوه وتؤدتك .
) (2 - 2) الطبري : (فإنها لم تدع الفرصة إذا أمكنت ، وترك الفرصة إذا لم تمكن حزم) .
(3) ب : (جبار بن الاعن) .
(4) في الطبري بعدها : (فقدم عليه حيان بن أبجر الكنانى ، من بنى فراس ، وهم يعالجون الكى وغيره ، فكان يداويه) .
(5) السبخة : موضع بالبصرة .
(*)(4/244)
قد غشيك شبيب ، فنزل ونزل معه جل أصحابه ، وقدم رايته ، فأخبر أن شبيبا لما علم بمكانه تركه ، ووجد مخاضة (1) فعبر الفرات ، يريد الكوفة من غير الوجه الذى سويد ابن عبد الرحمن به ، ثم قيل : أما تراهم ! فنادى في أصحابه ، فركبوا في آثارهم ، فأتى شبيب دار الرزق فنزلها ، وقيل له : إن أهل الكوفة بأجمعهم معسكرون ، فلما بلغهم مكان شبيب ، ماج الناس بعضهم إلى بعض ، وجالوا وهموا بدخول الكوفة ، حتى قيل : هذا سويد بن عبد الرحمن في آثارهم قد لحقهم ، وهو يقاتلهم في الخيل ، ومضى شبيب حتى أخذ على شاطئ الفرات ، ثم أخذ على الانبار ، ثم دخل دقوقاء (2) ، ثم ارتفع إلى أداني أذربيجان .
وخرج الحجاج من الكوفة إلى البصرة حيث بعد شبيب ، واستخلف على الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة ، فما شعر الناس إلا بكتاب [ من ] (3) مادارسب (4) ، دهقان بابل مهروز إلى عروة بن المغيرة بن شعبة ، أن تاجرا من تجار [ الانبار من ] (3) أهل بلادي
__________
(1) المخاضة : موضع الخوض في الماء .
(2) دقوقاء ، بفتح أوله وضم ثانيه وبعد الواو قاف أخرى وألف ممدودة ومقصورة : مدينة بين إربل وبغداد معروفة ، قال ياقوت : لها ذكر في الاخبار والفتوح ، كان بها وقعة للخوارج فقال الجعدى بن أبى حمام الذهلى يرثيهم : شباب أطاعوا الله حتى أحبهم * وكلهم شار يخاف ويطمع فلما تبووا من دقوقا بمنزل * لميعاد إخوان تداعوا فأجمعوا دعوا خصمهم بالمحكمات وبينوا * ضلالتهم ، والله ذو العرش يسمع بنفسى قتلى في دقوقاء غودرت * وقد قطعت منها رءوس وأذرع لتبك نساء المسلمين عليهم * وفي دون مالاقين مبكى ومجزع (3) من الطبري .
(4) الطبري : (ماذ رواست) .
(*)(4/245)
أتانى يذكر أن شبيبا يريد أن يدخل الكوفة في أول هذا الشهر المستقبل ، وأحببت إعلامك [ ذلك ] (1) لترى رأيك ، (2 وإنى لم ألبث بعد ذلك إذ جاءني اثنان من جيراني 2) فحدثاني أن شبيبا قد نزل خانيجار (3) .
فأخذ عروة كتابه فأدرجه وسرح به إلى الحجاج إلى البصرة .
فلما قرأ الحجاج أقبل جادا (4) إلى الكوفة ، وأقبل شبيب [ يسير ] (1) حتى انتهى إلى قرية حربى (5) على شاطئ دجلة ، فعبرها وقال (6) لاصحابه : يا هؤلاء إن الحجاج ليس بالكوفة ، وليس دون أخذها شئ إن شاء الله .
فسيروا بنا ، فخرج يبادر الحجاج إلى الكوفة ، وكتب عروة إلى الحجاج : إن شبيبا قد أقبل مسرعا يريد الكوفة ، فالعجل العجل .
فطوى الحجاج المنازل مسابقا (7) لشبيب إلى الكوفة ، فسبقه ونزلها صلاة العصر ، ونزل شبيب السبخة صلاة العشاء الاخرة ، فأصاب هو وأصحابه من الطعام شيئا يسيرا ، ثم ركبوا خيولهم ، فدخل شبيب الكوفة في أصحابه حتى انتهى إلى السوق ، وشد حتى ضرب باب القصر بعموده ، فحدث جماعد (8) أنهم رأوا أثر ضربة شبيب بالعمود بباب القصر ، ثم أقبل حتى وقف عند باب المصطبة ، وأنشد :
__________
(1) من الطبري (2 - 2) الطبري : (ثم لم ألبث إلا ساعة حتى جاءني جابيان من جباتى) .
(3) خانيجار : بليدة قريبة من دقوقاء .
(4) الطبري : (جوادا) .
(5) قال ياقوت : (حربى مقصور ، والعامة تتلفظ به ممالا : بليدة في أقصى دجيل ، بين بغداد وتكريت مقابل الحظيرة) ...
(6) في الطبري بعدها : (فقال : ما اسم هذه القرية ؟ فقالوا : حربى ، فقال : حرب يصلى بها عدوكم ، ورحب (بالفتح) تدخلونه بيوتهم ، إنما يتطير من يقوف ويعيف .
ثم ضرب رايته ، وقال لاصحابه : سيروا ، فأقبل حتى نزل عقرقوفا ، فقال له سويد بن سليم : يا أمير المؤمنين ، لو تحولت بنا من هذه القرية المشئومة الاسم ؟ قال : وقد تطيرت أيضا ! والله لا أتحول عنها حتى أسير إلى عدوى منها ، إنما شؤمها إن شاء الله على عدوكم ، تحملون عليهم فيها فالعقر لهم) .
(7) (واستبقا إلى الكوفة) .
(8) الطبري : (قال أبو المنذر ، رأيت ضربة شبيب ...
) (*)(4/246)
وكأن حافرها بكل ثنية * فرق يكيل به شحيح معدم (1) (2 ثم أقحم هو وأصحابه المسجد الجامع ، ولا يفارقه قوم يصلون 2) فيه ، فقتل منهم جماعة ، ومر هو بدار حوشب - وكان هو على شرطة الحجاج - فوقف على بابه في جماعة ، فقالوا : إن الامير - يعنون الحجاج - يدعو حوشبا ، وقد أخرج ميمون غلامه برذونه ليركب ، [ فكأنه أنكرهم ، فظنوا أنه قد اتهمهم ] (3) فأراد أن يدخل إلى صاحبه ، فقالوا له : كما أنت حتى يخرج صاحبك إليك ، فسمع حوشب الكلام ، فأنكر القوم ، وذهب لينصرف فعجلوا نحوه ، فأغلق الباب دونه ، فقتلوا غلامه ميمونا ، وأخذوا برذونه ، ومضوا حتى مروا بالجحاف بن نبيط الشيباني ، من رهط حوشب .
فقال له سويد : انزل إلينا ، فقال : ما تصنع بنزولي ! فقال : انزل ، إنى لم أقضك ثمن البكرة التى ابتعتها منك بالبادية ، فقال الجحاف : بئس ساعة القضاء هذه ! وبئس المكان لقضاء الدين هذا .
ويحك ! أما ذكرت أداء أمانتك إلا والليل مظلم ، وأنت على متن فرسك ! قبح الله يا سويد دينا لا يصلح ولا يتم إلا بقتل الانفس (4) وسفك الدماء .
ثم مروا بمسجد بنى ذهل ، فلقوا ذهل بن الحارث ، وكان يصلى في مسجد قومه ، فيطيل الصلاة إلى الليل ، فصادفوه منصرفا إلى منزله فقتلوه (5) ثم خرجوا متوجهين نحو الردمة (6) ، وأمر الحجاج المنادى : يا خيل الله اركبي وأبشرى ، وهو فوق باب القصر ، وهناك (7) مصباح مع غلام له قائم .
__________
(1) الفرق : مكيال يسع ثلاثة آصع ، أو ستة عشر رطلا .
وفي الطبري : (كيل يكيل به) ، وبعده : عبد دعى من ثمود أصله * لابل يقال أبو أبيهم يقدم (2 - 2) الطبري : (ثم اقتحموا المسجد الاعظم ، وكان لا يفارقه قوم يصلون فيه) .
(3) من الطبري .
(4) الطبري : (بقتل ذوى القرابة وسفك دماء هذه الامة) .
(5) في الطبري : (فشدوا عليه ليقتلوه ، فقال : اللهم إنى أشكو إليك هؤلاء وظلمهم وجهلهم ، اللهم إنى عنهم ضعيف فانتصر لى منهم ، فضربوه حتى قتلوه) .
(6) الطبري : (المردمة) .
(7) الطبري : (وثم) .
(*)(4/247)
وكان أول من جاء من الناس عثمان بن قطن ، ومعه مواليه وناس من أهله ، وقال : أعلموا الامير مكاني ، أنا عثمان بن قطن ، فليأمرني بأمره .
فناداه الغلام صاحب المصباح : قف مكانك حتى يأتيك أمر الامير ، وجاء الناس من كل جانب ، وبات عثمان مكانه فيمن اجتمع إليه من الناس ، حتى أصبح .
وقد كان عبد الملك بن مروان بعث محمد بن موسى بن طلحة على سجستان ، وكتب له عهده عليها ، وكتب إلى الحجاج : إذا قدم عليك محمد بن موسى الكوفة ، فجهز معه ألفى رجل ، وعجل سراحه إلى سجستان .
فلما قدم الكوفة ، جعل يتجهز (1) ، فقال له أصحابه ونصحاؤه : تعجل أيها الرجل إلى عملك ، فإنك لا تدرى ما يحدث ، وعرض أمر شبيب حينئذ ودخوله الكوفة ، فقيل للحجاج : إن محمد بن موسى إن سار إلى سجستان مع نجدته وصهره لامير المؤمنين عبد الملك ، فلجأ إليه أحد ممن تطلبه ، منعك منه .
قال : فما الحيلة ؟ قالوا : أن تذكر له أن شبيبا في طريقه وقد أعياك ، وأنك ترجو أن يريح الله منه على يده ، فيكون له ذكر ذلك وشهرته .
فكتب إليه الحجاج : إنك عامل على كل بلد مررت به ، وهذا شبيب في طريقك تجاهده ومن معه ، ولك أجره وذكره وصيته ، ثم تمضى إلى عملك ، فاستجاب له .
وبعث الحجاج بشر بن غالب الاسدي في ألفى رجل ، وزياد بن قدامة في ألفين ، وأبا الضريس مولى تميم في ألف من الموالى ، وأعين صاحب حمام أعين مولى لبشر بن مروان في ألف ، وجماعة غيرهم ، فاجتمعت تلك الامراء في أسفل الفرات ، وترك شبيب الوجه الذى فيه جماعة هؤلاء القواد ، وأخذ نحو القادسية ، فوجه الحجاج زحر بن قيس
__________
(1) الطبري : (جعل يتحبس في الجهاز) ، والتحبس : التوقف والتباطؤ .
(*)(4/248)
في جريدة خيل ، نقاوة (1) ، عدتها ألف وثمانمائة فارس ، وقال له : اتبع شبيبا حتى تواقعه حيثما أدركته ، فخرج زحر بن قيس حتى انتهى إلى السيلحين (2) ، وبلغ شبيبا مسيره إليه فأقبل نحوه ، فالتقيا ، وقد جعل زحر على ميمنته عبد الله بن كناز ، وكان شجاعا ، وعلى ميسرته عدى بن عدى بن عميرة الكندى ، وجمع شبيب خيله كلها كبكبة (3) واحدة ، ثم اعترض بها الصف يوجف (4) وجيفا ، حتى انتهى إلى زحربن قيس ، فنزل زحر ، فقاتل حتى صرع وانهزم أصحابه ، وظن أنه قد قتل .
فلما كان الليل وأصابه البرد ، قام يمشى حتى دخل قرية ، فبات بها وحمل منها إلى الكوفة ، وبوجهه أربع (5) عشرة ضربة ، فمكث أياما ، ثم أتى الحجاج ، وعلى وجهه [ وجراحه ] (6) القطن ، فأجلسه معه على السرير (7) .
وقال أصحاب شبيب لشبيب ،
__________
(1) نقاوة الشئ : خياره .
(2) قال ياقوت : (ذكر سيلحين في الفتوح وغيرها من الشعر يدل على أنها قرب الحيرة ضاربة في البر قرب القادسية ، ولذلك ذكر الشعراء أيام القادسية مع الحيرة والقادسية ، فقال سليمان بن ثمامة حين سير امرأته من اليمامة إلى الكوفة : فمرت بباب القادسية غدوة * وراحتها بالسيلحين العبائر فلما انتهت دون الخورنق عادها * وقصر بنى النعمان حيث الاواخر إلى أهل مصر أصلح الله حاله * به المسلمون والجهود الاكابر فصارت إلى أرض الجهاد وبلدة * مباركة والارض فيها مصائر فألقت عصاها واستقر بها النوى * كما قر عينا بالاياب المسافر (3) الكبكبة : الجماعة من الناس (4) أو جفت الخيل في السير : سارت سيرا فسيحا واسعا .
وفي الطبري : (فوجب وجيفا) .
(5) الطبري : (وبوجهه بضع عشرة جراحة ، من بين ضربة وطعنة) .
(6) من الطبري .
(7) في الطبري بعدها : (وقال لمن حوله : من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة يمشى بين الناس وهو شهيد ، فلينظر إلى هذا) .
(*)(4/249)
وهم يظنون أنهم قد قتلوا زحرا : قد هزمنا جندهم ، وقتلنا أميرا من أمرائهم عظيما ، فانصرف بنا الان موفورين (1) .
فقال لهم : (2 إن قتلكم هذا الرجل (3) وهزيمتكم هذا الجند قد أرعب هؤلاء الامراء 2) ، فاقصدوا بنا قصدهم ، فو الله لئن نحن قتلناهم ما دون قتل الحجاج وأخذ الكوفة شئ .
فقالوا له : نحن طوع لامرك ورأيك ، فانقض بهم جادا (4) ، حتى أتى ناحية عين (5) التمر ، واستخبر عن القوم ، فعرف اجتماعهم في روذبار (6) في أسفل الفرات ، على رأس أربعة وعشرين فرسخا من الكوفة .
وبلغ الحجاج مسير شبيب إليهم ، فبعث إليهم (7) : إن جمعكم قتال ، فأمير الناس زائدة بن قدامة .
فانتهى (8) إليهم شبيب ، وفيهم سبعة أمراء ، على جماعتهم زائدة بن قدامة ، وقد عبى كل أمير أصحابه على حدة ، وهو واقف في أصحابه ، فأشرف شبيب على الناس ، وهو على فرس أغر كميت (9) ، فنظر إلى تعبيتهم ، ثم رجع إلى أصحابه ، وأقبل في ثلاث كتائب يزحف (10) بها ، حتى إذا دنا من الناس مضت كتيبة فيها سويد بن سليم ،
__________
(1) الطبري : وافرين) (2 - 2) الطبري : (فقال لهم : إن قتلنا هذا الرجل وهزيمتنا هذا الجند قد أرعبت هذه الامراء والجنود التى بعثث في طلبهم) .
(3) الطبري : (ما دون الحجاج من شئ وأخذ الكوفة إن شاء الله) .
(4) الطبري : (جوادا) .
(5) في الطبري : (نجران الكوفة ناحية عين التمر) .
ونجران الكوفة ، على يومين منها ، فيما بينها وبين واسط (على الطريق ، سكنه أهل نجران لما أجلاهم عمر ، فسموا الموضع باسمهم .
وعين التمر : بلدة في طرف البادية على غربي الفرات ، أكثر نخلها القسب ، ويحمل إلى سائر الاماكن .
(مراصد الاطلاع) .
(6) روذبار ، ضبطه صاحب مراصد الاطلاع ، بضم أوله وسكون ثانية وذال معجمة ، وباء موحدة ، وآخره راء ، قال : ويطلق على عدة مواضع .
(7) في الطبري : (فبعث إليهم عبد الرحمن بن الفرق ، مولى ابن أبى عقيل ، وكان على الحجاج كريما) .
(8) الكلام في الطبري ، عن أبى مخنف عن عبد الرحمن بن جندب .
(9) الكميت من الخيل : ما بين الاسود والاحمر .
والاغر : ما كان بجبهته غرة .
(10) في الطبري : (يوجفون بها) .
(*)(4/250)
فوقفت بازاء ميمنة زائدة بن قدامة ، وفيها زياد بن عمرو العتكى ، ومضت كتيبة فيها مصاد أخو شبيب ، فوقفت بإزاء الميسرة ، وفيها بشر بن غالب الاسدي ، وجاء شبيب في كتيبة ، حتى وقف مقابل القوم في القلب ، فخرج زائدة بن قدامة يسير في الناس بين الميمنة والميسرة ، يحرض الناس ، ويقول : عباد الله ! إنكم الطيبون الكثيرون ، وقد نزل بكم الخبيثون القليلون ، فاصبروا جعلت لكم الفداء ! إنما هي حملتان أو ثلاث ، ثم هو النصر ليس دونه شئ ، ألا ترونهم والله لا يكونون مائتي رجل ، إنما هم أكلة رأس (1) وهم السراق المراق ، إنما جاءوكم ليهريقوا دماءكم ، ويأخذوا فيئكم ، فلا يكونوا على أخذه أقوى منكم على منعه ، وهم قليل وأنتم كثير ، وهم أهل فرقة وأنتم أهل جماعة ، غضوا الابصار واستقبلوهم بالاسنة ، ولا تحملوا عليهم حتى آمركم .
ثم انصرف إلى موقفه ، فحمل سويد بن سليم على زياد بن عمرو العتكى ، فكشف صفه ، وثبت زياد قليلا ثم ارتفع سويد عنهم يسيرا ثم كر عليهم ثانية (2) .
فقال فروة بن لقيط الخارجي (3) : اطعنا ذلك اليوم ساعة فصبروا لنا حتى ظننت أنهم لن يزولوا ، وقاتل زياد بن عمرو قتالا شديدا (4) ، ولقد رأيت سويد بن سليم يومئذ وإنه لاشد العرب قتالا وأشجعهم ، وهو واقف لا يعرض لهم ، ثم ارتفعنا عنهم ، فإذا هم يتقوضون ، فقال بعض أصحابنا لبعض : ألا ترونهم يتقوضون ! احملوا (5) عليهم ، فأرسل إلينا شبيب : خلوهم لا تحملوا عليهم حتى يخفوا ، فتركناهم قليلا ، ثم حملنا عليهم الثالثة فانهزموا ، فنظرت إلى زياد بن عمرو ، وإنه ليضرب بالسيوف (6) ، وما من سيف يضرب به
__________
(1) يقولون : هم أ كلة رأس ، أي هم قليل يشبعهم رأس واحد .
(2) في الطبري بعدها : (فاطعنوا ساعة) (3) في الطبري : (قال أبو مخنف : فحدثني فروة) (4) في الطبري بعدها : (وجعل ينادى : يا خيلى ، ويشد بالسيف ، فيقاتل قتالا شديدا) .
(5) الطبري : (احمل عليهم) .
(6) الطبري : (بالسيف) .
(*)(4/251)
إلا نبا عنه ، ولقد أعتوره أكثر من عشرين سيفا وهو مجفف ، فما ضره شئ منها ، ثم انهزم (1) .
وانتهينا إلى محمد بن موسى بن طلحة أمير سجستان عند المغرب ، وهو قائم في أصحابه ، فقاتلناه قتالا شديدا ، وصبر لنا .
ثم إن مصادا حمل (2) على بشر بن غالب في الميسرة فصبر وكرم وأبلى ، ونزل معه رجال من أهل البصرة نحو خمسين ، فضاربوا بأسيافهم (3) حتى قتلوا ، ثم انهزم أصحابه فشددنا على أبى الضريس فهزمناه ، ثم انتهينا إلى موقف أعين ، ثم شددنا على أعين ، فهزمناهم حتى انتهينا إلى زائدة بن قدامة ، فلما انتهوا إليه ، نزل ونادى : يا أهل الاسلام ، الارض الارض ! ألا لا يكونون على كفرهم أصبر منكم على إيمانكم .
فقاتلوا عامة الليل إلى السحر .
ثم إن شبيبا شد على زائدة بن قدامة في جماعة من أصحابه ، فقتله وقتل ربضة (4) حوله من أهل الحفاظ ، ونادى شبيب في أصحابه : ارفعوا السيف ، وادعوهم إلى البيعة ، فدعوهم عند الفجر إلى البيعة .
قال عبد الرحمن (5) بن جندب : فكنت فيمن تقدم فبايعه بالخلافة ، وهو واقف على
__________
(1) في الطبري بعدها .
(وقد جرح جراحة يسيرة ، وذلك عند المساء ، قال : شددنا على عبد الاعلى ابن عبد الله بن عمر ، فهزمناه وما قاتلنا كثير قتال ، وقد ضارب ساعة ، وقد بلغني أنه كان جرح ثم لحق بزياد بن عمرو فمضيا منهزمبن ، حتى انتهينا إلى محمد بن موسى ...
) .
(2) الكلام من هنا في الطبري عن هشام عن أبى مخنف ، عن عبد الرحمن بن جندب وفروة بن لقيط .
(3) في الطبري بعدها : (حتى قتلوا عن آخرهم ، وكان فيهم عروة بن زهير بن ناجذ الزدى ، وأمه زرارة ، امرأة ولدت في الازد ، فيقال لهم بنو زرارة ، فلما قتلوه وانهزم أصحابه ، مالوا فشدوا على أبى الضريس) .
(4) في الطبري : (وتركهم ربضة حوله) ، والربضة : كل قوم قتلوا في موقعة واحدة ، وفي الحديث : (الذين قتلوا يوم الجماجم كانوا ربضة واحدة) .
(5) في الطبري بعدها عن أبى مخنف : (وحدثني عبد الرحمن بن جندب قال : سمعت زائدة بن قدامة ليلتئذ رافعا صوته ، يقول : يا أيها الناس ، اصبروا وصابروا ، يا أيها الذين آمنوا ، إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم .
ثم ما برح يقاتلهم مقبلا غير مدبر حتى قتل) .
(*)(4/252)
فرس أغر كميت ، وخيله واقفة دونه وكل من جاء ليبايعه ينزع سيفه عن عاتقه ، ويؤخذ سلاحه ، ثم يدنو من شبيب فيسلم عليه بإمرة المؤمنين ، (1) ثم يبايع ، فإنا كذلك إذ أضاء الفجر (2) ومحمد بن موسى بن طلحة في أقصى العسكر مع أصحابه ، وكان الحجاج قد جعل موقفه آخر الناس ، وزائدة بن قدامة بين يديه ، ومقام محمد بن موسى مقام الامير على الجماعة كلها ، فأمر محمد مؤذنه فأذن ، فلما سمع شبيب الاذان ، قال : ما هذا ؟ قيل : هذا ابن طلحة لم يبرح ، قال : ظننت أن حمقه وخيلاءه سيحملانه على هذا ، نحوا هؤلاء عنا ، وانزلوا بنا فلنصل ، فنزل وأذن هو ، ثم استقدم فصلى بأصحابه ، وقرأ : (ويل لكل همزة لمزة) ، و (أرأيت الذى يكذب بالدين) ، ثم سلم وركب (3) : وأرسل إلى محمد بن موسى بن طلحة : إنك امرؤ مخدوع قد اتقى بك الحجاج المنية ، وأنت لى جار بالكوفة ، ولك حق فانطلق لما أمرت به ، ولك الله ألا أسوءك (4) ، فأبى محاربته (5) فأعاد عليه الرسول فأبى إلا قتاله ، فقال له شبيب : كأنى بأصحابك لو التقت حلقتا (6) البطان قد أسلموك ، وصرعت مصرع أمثالك ، فأطعني وانصرف
__________
(1) في الطبري : (ثم يخلى سبيله) .
(2) في الطبري : (إذ انفجر الفجر) .
(3) في الطبري : (ثم ركبوا فحمل عليهم ، فانكشفت طائفة من أصحابه ، وثبتت طائفة ، قال فروة : فما أنسى قوله ، وقد غشيناه وهو يقاتل بسيفه ، وهو يقول : (ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون .
ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) .
قال : وضارب حتى قتل ، فسمعت أصحابي يقولون : إن شبيبا هو الذى قتله .
ثم إنا نزلنا فأخذنا ما كان في العسكر من شئ ، وهرب الذين كانوا بايعوا شبيبا ، فلم يبق منهم أحد ...
) .
(4) الطبري : (ولك الله لا آذيتك) .
(5) الكلام هنا يختلف عما في الطبري ، بالتقديم والتأخير واختلاف العبارات .
(6) البطان : حزام الرحل أو القتب الذى يلى البطن ، له حلقتان في كل طرف حلقة ، يصعب التقاؤهما ، فإذا التقتا ، بلغ الشد غايته ، يريدون أن الشدة بلغت منتهاها ، وهو مثل ، ومنه قول أوس : وإذا التقت حلقتا البطان بأقوام وطارت نفوسهم جزعا (*)(4/253)
لشأنك ، فإنى أنفس بك عن القتل ، فأبى وخرج بنفسه ، ودعا إلى البراز ، فبرز له البطين ثم قعنب بن سويد ، وهو يأبى إلا شبيبا .
فقالوا لشبيب : إنه قد رغب عنا إليك ، قال : فما ظنكم بمن يرغب عن الاشراف ! ثم برز له ، وقال له : أنشدك الله يا محمد في دمك ، فإن لك جوارا ! فأبى إلا قتاله ، فحمل عليه بعموده الحديد ، وكان فيه اثنا عشر رطلا ، فهشم رأسه وبيضة كانت عليه فقتله ، ونزل إليه فكفنه ودفنه ، وتتبع ما غنم الخوارج من عسكره ، فبعث به إلى أهله ، واعتذر إلى أصحابه ، وقال : هو جارى بالكوفة ، ولى أن أهب ما غنمت .
فقال له أصحابه : ما دون الكوفة الان أحد يمنعك ، فنظر فإذا أصحابه قد فشا فيهم الجراح ، فقال : (1 ليس عليكم أكثر مما قد فعلتم 1) .
وخرج بهم على نفر (2) ، ثم خرج بهم نحو بغداد (3) ، يطلب خانيجار (4) .
وبلغ الحجاج أن شبيبا قد أخذ نحو نفر ، فظن أنه يريد المدائن ، وهى باب الكوفة ، ومن أخذ المدائن كان ما في يديه من أرض الكوفة أكثر ، فهال ذلك الحجاج ، وبعث إلى عثمان بن قطن ، فسرحه إلى المدائن ، وولاه منبرها والصلاة ومعونة جوخى كلها ، وخراج الاستان ، فجاء مسرعا حتى نزل المدائن ، وعزل الحجاج ابن أبى عصيفير عن المدائن ، وكان الجزل مقيما بها يداوى جراحاته ، وكان ابن أبى عصيفير يعوده ويكرمه ، ويلطفه (5) ، فلما قدم عثمان بن قطن لم يكن يتعاهده ولا يلطفه بشئ ، فكان الجزل يقول : اللهم زد ابن أبى عصيفير فضلا وكرما ، وزد عثمان بن قطن ضيقا وبخلا .
* * *
__________
(1 - 1) الكلام هنا يختلف عما في الطبري ، بالتقديم والتأخير واختلاف العبارات .
(2) نفر ، بكسر أوله وتشديد ثانيه وفتحه وراء : بلدة أو قرية على نهر الترس ، من بلاد الفرس ، عن الخطيب ، فإن كان عنى أنه من بلاد الفرس قديما جاز ، فأما الان فهو من نواحى بابل بأرض الكوفة (ياقوت) .
(3) في الطبري : (ثم على الصراة ، ثم على بغداد) .
(4) بعدها في الطبري : (فأقام بها) .
(5) ألطف فلان فلانا : أكرمه وبره وأتحفه .
(*)(4/254)
ثم إن الحجاج دعا عبد الرحمن بن محمد بن الاشعث ، فقال له : انتخب الناس ، فأخرج ستمائة من قومه من كندة ، وأخرج من سائر الناس ستة آلاف ، واستحثه الحجاج على الشخوص ، فخرج بعسكره بدير عبد الرحمن ، فلما استتموا هناك كتب إليهم الحجاج كتابا قرئ عليهم .
أما بعد فقد اعتدتم عادة الاذلاء ، ووليتم الدبر يوم الزحف ، دأب الكافرين (1) وقد صفحت عنكم مرة بعد مرة ، وتارة بعد أخرى ، وإنى أقسم بالله قسما صادقا لئن عدتم لذلك لاوقعن بكم إيقاعا يكون أشد عليكم من هذا العدو الذى تنهزمون (2) منه في بطون الاودية والشعاب ، وتستترون منه بأثناء (3) الانهار وألواذ (4) الجبال ، فليخف من كان له معقول (5) على نفسه ، ولا يجعل عليها سبيلا ، فقد أعذر من أنذر .
والسلام .
وارتحل عبد الرحمن بالناس حتى مر بالمدائن ، فنزل بها يوما ليشترى أصحابه منها حوائجهم ، ثم نادى في الناس بالرحيل ، وأقبل حتى دخل على عثمان بن قطن مودعا ، ثم أتى الجزل عائدا ، فسأله عن جراحته ، وحادثه ، فقال الجزل : يابن عم ، إنك تسير إلى فرسان العرب وأبناء الحرب وأحلاس (6) الخيل ، والله لكأنما خلقوا من ضلوعها ، ثم ربوا (7) على ظهورها ، ثم هم أسد الاجم ، الفارس منهم أشد من مائة ، إن لم يبدأ به
__________
(1) الطبري : (وذلك دأب الكافرين) .
(2) الطبري : (تهربون) (3) الاثناء : جمع ثنى ، وهو المنعطف .
(4) الالواذ : جمع لوذ ، وهو جانب الجبل .
(5) المعقول هنا : العقل ، وهو مصدر من المصادر التى وردت على اسم المفعول ، كالمجهود والميسور ، وفي المثل : (ماله حول ولا معقول) .
(6) الحلس في الاصل : كل شئ ولى ظهر البعير والدابة تحت الرحل والقتب والسرج ، كالمرشحة تكون تحت اللبد .
ويقال : فلان من أحلاس الخيل ، أي من راضتها وساستها والملازمين ظهورها ، على التشبيه بالحلس .
(7) في الطبري : (بنوا) .
(*)(4/255)
بدأ هو ، وإن هجهج (1) أقدم ، وإنى قد قاتلتهم وبلوتهم ، فإذا أصحرت لهم انتصفوا منى ، وكان لهم الفضل على ، وإذا خندقت أو قاتلت في مضيق نلت منهم ما أحب ، وكانت لى عليهم ، فلا تلقهم وأنت تستطيع إلا وأنت في تعبية أو خندق ، ثم ودعه ، وقال له : هذه فرسى الفسيفساء خذها فيها لا تجارى ، فأخذها ثم خرج بالناس نحو شبيب ، فلما دنا منه ارتفع شبيب عنه إلى دقوقاء وشهرزور ، فخرج عبد الرحمن في طلبه ، حتى إذا كان على تخوم تلك الارض أقام ، وقال : إنما هو في أرض الموصل ، فليقاتل أمير الموصل وأهلها عن بلادهم أو فليدعوا .
وبلغ ذلك الحجاج ، فكتب إليه : أما بعد فاطلب شبيبا واسلك في أثره (2) أين سلك حتى تدركه فتقتله أو تنفيه عن الارض ، فإنما السلطان سلطان أمير المؤمنين ، والجند جنده .
والسلام .
فلما قرأ عبد الرحمن كتاب الحجاج خرج في طلب شبيب ، فكان شبيب يدعه ، حتى إذا دنا منه ليبيته فيجده قد خندق وحذر ، فيمضى ويتركه ، فيتبعه عبد الرحمن فإذا بلغ شبيبا أنه قد تحمل وسار يطلبه كر في الخيل نحوه ، فإذا انتهى إليه وجده قد صف خيله ورجالته المرامية ، فلا يصيب له غرة ولا غفلة (3) ، فيمضى ويدعه .
ولما رأى شبيب أنه لا يصيب غرته ، ولا يصل إليه ، صار يخرج كلما دنا منه عبد الرحمن ، حتى ينزل على مسيرة عشرين فرسخا ، ثم يقيم في أرض غليظة وعرة ، فيجئ عبد الرحمن في ثقله وخيله ، حتى إذا دنا من شبيب ارتحل ، فسار عشرين أو خمسة عشر فرسخا ، فنزل منزلا غليظا خشنا ، ثم يقيم حتى يبلغ عبد الرحمن ذلك المنزل ، ثم يرتحل ، فعذب العسكر ، وشق عليهم ، وأحفى دوابهم ، ولقوا منه كل بلاء .
__________
(1) هجهج : صيح به .
(2) ج : (واسلك أينما سلك) .
(3) الطبري : (ولا له علة) .
(*)(4/256)
فلم يزل عبد الرحمن يتبعه ، حتى صار إلى خانقين وجلولاء ، ثم أقبل على تامرا (1) ، فصار إلى البت (2) ، ونزل على تخوم الموصل ليس بينه وبين الكوفة إلا نهر حولايا (3) ، وجاء عبد الرحمن حتى نزل بشرقي حولايا ، وهم في راذان (4) الاعلى من أرض جوخى ، ونزل في عواقيل (5) من النهر ، ونزلها عبد الرحمن حيث نزلها ، وهى تعجبه ، يرى أنها مثل الخندق الحصين .
فأرسل شبيب إلى عبد الرحمن أن هذه الايام أيام عيد لنا ولكم ، فإن رأيتم أن توادعونا حتى تمضى هذه الايام فعلتم ، فأجابه عبد الرحمن إلى ذلك ، ولم يكن شئ أحب إلى عبد الرحمن من المطاولة والموادعة ، فكتب عثمان بن قطن إلى الحجاج : أما بعد ، فإنى أخبر الامير أصلحه الله ، أن عبد الرحمن بن محمد بن الاشعث قد حفر جوخى كلها عليه خندقا واحدا ، وخلى شبيبا ، وكسر خراجها ، فهو يأكل أهلها ، والسلام .
فكتب إليه الحجاج : قد فهمت ما ذكرت ، وقد لعمري فعل عبد الرحمن ، فسر إلى الناس ، فأنت أميرهم ، وعاجل المارقة حتى تلقاهم ، [ فإن الله إن شاء ناصرك عليهم ] (6) ، والسلام .
وبعث الحجاج على المدائن مطرف بن المغيرة بن شعبة ، وخرج عثمان حتى قدم على
__________
(1) تامرا ، بفتح الميم وتشديد الراء ، والقصر : نهر كبير تحت بغداد ، شرقيها ، مخرجه من جبال شهرزور .
(مراصد الاطلاع) .
(2) البت : قرية من قرى الموصل (الطبري) .
(3) حولايا ، بفتح الحاء وسكون الواو آخره ياء وألف : قرية كانت بالنهروان خربت بخرابه .
(مراصد الاطلاع) .
(4) في الاصول : (ذاذان) تصحيف ، وصوابه من الطبري ، قال في مراصد الاطلاع : راذان بعد الالف ذال معجمة وآخره نون : راذان الاعلى وراذان الاسفل : كورتان ببغداد تشتمل على قرى كثيرة) .
(5) العواقيل : جمع عاقول ، وهو منعطف النهر .
(6) من الطبري .
(17 - نهج - 4) (*)(4/257)
عبد الرحمن ومن معه ، وهم معسكرون على نهر حولايا ، قريبا من البت ، وذلك يوم التروية (1) عشاء ، فنادى في الناس ، وهو على تلعة (2) : أيها الناس ، اخرجوا إلى عدوكم .
فوثبوا إليه ، وقالوا : ننشدك الله ! هذا المساء قد غشينا ، والناس لم يوطنوا أنفسهم على القتال فبت الليلة ثم اخرج على تعبية ، فجعل يقول : لاناجزنهم الليلة ، ولتكونن الفرصة لى أو لهم ، فأتاه عبد الرحمن بن محمد بن الاشعث ، فأخذ بعنان بغلته ، وناشده الله لما نزل ، وقال له عقيل بن شداد السلونى : إن الذى تريده من مناجزتهم الساعة أنت فاعله غدا ، وهو خير لك وللناس ، إن هذه ساعة ريح قد اشتدت مساء فانزل ، ثم أبكر بنا غدوة .
فنزل وسفت عليه الريح ، وشق عليه الغبار ، فاستدعى صاحب الخراج علوجا ، فبنوا له قبة ، فبات فيها ، ثم أصبح فخرج بالناس ، فاستقبلتهم ريح شديدة وغبرة ، فصاح الناس إليه ، وقالوا : ننشدك الله ألا تخرج بنا في هذا اليوم ! فإن الريح علينا ، فأقام ذلك اليوم .
وكان شبيب يخرج إليهم ، فلما رآهم لا يخرجون إليه أقام ، فلما كان الغد خرج عثمان يعبى الناس على أرباعهم ، وسألهم : من كان على ميمنتكم وميسرتكم ؟ فقالوا : خالد بن نهيك بن قيس الكندى على ميسرتنا ، وعقيل بن شداد السلولى على ميمنتنا ، فدعاهما وقال لهما : قفا في مواقفكما التى كنتما بها فقد وليتكما المجنبتين ، فاثبتا ولا تفرا ، فو الله لا أزول حتى تزول نخيل راذان عن أصولها .
فقالا : نحن والله الذى لا إله إلا هو لا نفر حتى نظفر أو نقتل ، فقال لهما : جزاكما الله خيرا ! ثم أقام حتى صلى بالناس الغداة ، ثم خرج بالخيل ، فنزل يمشى في الرجال ، وخرج شبيب ومعه يومئذ مائة وأحد وثمانون رجلا ، فقطع إليهم النهر ، وكان هو في ميمنة أصحابه ، وجعل على الميسرة سويد بن سليم ، وجعل في القلب مصادا أخاه وزحفوا ، وكان عثمان بن قطن يقول لاصحابه فيكثر : (قل لن
__________
(1) يوم التروية : الثامن من ذى الحجة .
(2) التلعة هنا : ما علا من الجبل ، وفي الطبري ، (على بغلة) .
(*)(4/258)
ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا) (1) .
ثم قال شبيب لاصحابه : إنى حامل على ميسرتهم ، مما يلى النهر ، فإذا هزمتها فليحمل صاحب ميسرتي على ميمنتهم ، ولا يبرح صاحب القلب حتى يأتيه أمرى ، ثم حمل في ميمنة أصحابه مما يلى النهر على ميسرة عثمان بن قطن ، فانهزموا ، ونزل عقيل بن شداد مع طائفة من أهل الحفاظ ، فقاتل حتى قتل وقتلوا معه (2) .
ودخل شبيب عسكرهم ، وحمل سويد بن سليم في ميسرة شبيب على ميمنة عثمان بن قطن فهزمها ، وعليها خالد بن نهيك الكندى ، فنزل خالد ، وقاتل قتالا شديدا ، فحمل عليه شبيب من ورائه ، فلم ينثن حتى علاه بالسيف فقتله ، ومشى عثمان بن قطن ، وقد نزلت معه العرفاء والفرسان وأشراف الناس نحن القلب ، وفيه أخو شبيب في نحو من ستين رجلا ، فلما دنا منهم عثمان ، شد عليهم في الاشراف وأهل الصبر ، فضربهم مصاد وأصحابه ، حتى فرقوا بينهم ، وحمل شبيب من ورائهم بالخيل ، فما شعروا إلا والرماح في أكتافهم تكبهم لوجوههم ، وعطف عليهم سويد بن سليم أيضا في خيله ، وقاتل عثمان فأحسن القتال .
ثم إن الخوارج شدوا عليهم ، فأحاطوا بعثمان ، وحمل عليه مصاد أخو شبيب : فضربه ضربة بالسيف فاستدار لها ، وسقط ، وقال : (وكان أمر الله قدرا مقدورا) (3) ، فقتل وقتل معه العرفاء ووجوه الناس ، وقتل من كندة يومئذ مائة وعشرون رجلا ، وقتل من سائر الناس نحو ألف ، ووقع عبد الرحمن بن محمد بن الاشعث إلى الارض ، فعرفه
__________
(1) سورة الاحزاب 16 (2) في الطبري : وقتل يومئذ مالك بن عبد الله الهمداني ، ثم المرهبى ، عم عياش بن عبد الله بن عياش المنتوف ، وجعل يومئذ عقيل بن شداد يقول وهو يجالدهم : لاضربن بالحسام الباتر * ضرب غلام من سلول صابر (3) سورة الاحزاب 33 (*)(4/259)
ابن أبى سبرة ، فنزل وأركبه ، وصار رديفا له (1) .
وقال له عبد الرحمن : ناد في الناس ، الحقوا بدير ابن أبى مريم ، فنادى بذلك ، وانطلقا ذاهبين ، وأمر شبيب أصحابه ، فرفعوا عن الناس السيف ، ودعاهم إلى البيعة ، فأتاه من بقى من الرجال ، فبايعوه ، وبات عبد الرحمن بدير اليعار ، فأتاه فارسان ليلا ، فخلا به أحدهما يناجيه طويلا ، وقام الاخر قريبا منهما ، ثم مضيا ولم يعرفا ، فتحدث الناس أن المناجى له كان شبيبا ، وأن الذى كان يرقبهما كان مصادا أخاه ، واتهم عبد الرحمن بمكاتبة شبيب من قبل .
ثم خرج عبد الرحمن آخر الليل ، فسار حتى أتى دير ابن أبى مريم ، فإذا هو بالناس قبله قد سبقوه .
وقد وضع لهم ابن أبى سبرة صبر الشعير والقت (2) كأنها القصور ، ونحر لهم من الجزور ما شاءوا ، واجتمع الناس إلى عبد الرحمن ، فقالوا له : إن علم شبيب بمكانك أتاك فكنت له غنيمة ، قد تفرق الناس عنك ، وقتل خيارهم ، فالحق أيها الرجل بالكوفة .
فخرج وخرج معه الناس ، حتى دخل الكوفة مستترا من الحجاج ، إلى أن أخذ له الامان بعد ذلك .
* * * ثم إن شبيبا اشتد عليه الحر وعلى أصحابه ، فأتى ماه بهراذان ، فصيف (3) بها ثلاثة أشهر ، وأتاه ناس ممن كان يطلب الدنيا والغنيمة كثير ، ولحق به ناس ممن كان يطلبهم
__________
(1) في الطبري : (فقال عبد الرحمن بن محمد : أينا الرديف ؟ قال ابن أبى سبرة : سبحان الله ! أنت الامير تكون المقدم ، فركب) .
(2) في الاصول : (القيت) ، وما أثبته من الطبري ، وفيه : (بعضه على بعض) .
(3) صيف بالمكان : أقام به صيفا ، وفي الطبري : (تصيف) ، وهما بمعنى .
(*)(4/260)
الحجاج بمال وتبعة (1) ، فمنهم رجل يقال له الحر بن عبد الله بن عوف ، كان قتل دهقانين من أهل نهر درقيط ، كانا أساءا إليه ، ولحق بشبيب حتى شهد معه مواطنه إلى أن هلك ، وله مقام عند الحجاج ، وكلام سلم به من القتل ، وهو أن الحجاج بعد هلاك شبيب ، أمن كل من خرج إليه ممن كان يطلبهم الحجاج بمال ، أو تبعة ، فخرج إليه الحر فيمن خرج ، فجاء أهل الدهقانين يستعدون عليه الحجاج ، فأحضره ، وقال : يا عدو الله ، قتلت رجلين من أهل الخراج ، فقال : قد كان أصلحك الله منى ما هو أعظم من هذا ، قال : وما هو ؟ قال : خروجي عن الطاعة ، وفراقي الجماعة ، ثم إنك أمنت كل من خرج عليك ، وهذا أمانى وكتابك لى .
فقال الحجاج : قد لعمري فعلت ، ذلك أولى لك ! وخلى سبيله .
ثم لما باخ الحر (2) ، وسكن عن شبيب خرج من ماه نهروان في نحو من ثمانمائة رجل فأقبل نحو المدائن ، وعليها المطرف بن المغيرة بن شعبة ، فجاء حتى نزل قناطر حذيفة (3) بن اليمان فكتب ماذراسب (4) وهو عظيم بابل مهروذ إلى الحجاج يخبره خبر شبيب وقدومه إلى قناطر حذيفة ، فقام الحجاج في الناس وخطبهم ، وقال : أيها الناس ، لتقاتلن عن بلادكم وفيئكم ، أو لابعثن إلى قوم هم أطوع وأسمع ، وأصبر على البلاء (5) منكم ، فيقاتلون عدوكم ويأكلون فيئكم - يعنى جند الشام .
فقام إليه الناس من كل جانب ، يقولون : بل نحن نقاتلهم ، ونغيث (6) الامير ، ليندبنا إليهم ، فإنا حيث يسره .
__________
(1) في الطبري : (التباعات) .
(2) باخ الحر : سكن وفتر .
وفي الطبري : (انفسح) .
(3) قناطر حذيفة : بسواد بغداد .
(4) في الطبري : (ماذرواسب) .
(5) الطبري : (اللاواء) .
(6) الطبري : (ونعتب) .
(*)(4/261)
وقام إليه زهرة بن حوية - وهو يومئذ شيخ كبير لا يستتم قائما ، حتى يؤخذ بيده - فقال : أصلح الله الامير ! إنك إنما تبعث الناس متقطعين ، فاستنفر إليهم الناس كافة ، وابعث عليهم رجلا متينا شجاعا مجربا ، يرى الفرار هضما وعارا ، والصبر مجدا وكرما .
فقال الحجاج : فأنت ذاك ، فاخرج .
فقال : أصلح الله الامير ! إنما يصلح لهذا الموقف رجل يحمل الرمح والدرع ، ويهز السيف ، ويثبت على متن الفرس ، وأنا لا أطيق ذلك ، قد ضعفت وضعف بصرى (1 ولكن ابعثنى مع أمير تعتمده ، فأكون في عسكره ، وأشير عليه برأيى 1) .
فقال : (2 جزاك الله عن الاسلام والطاعة خيرا 2) ، لقد نصحت وصدقت ، وأنا مخرج الناس كافة ، ألا فسيروا أيها الناس .
فانصرف الناس يتجهزون وينتشرون ، ولا يدرون من أميرهم .
وكتب الحجاج إلى عبد الملك : أما بعد ، فإنى أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله ، أن شبيبا قد شارف المدائن ، وإنما يريد الكوفة ، وقد عجز أهل العراق عن قتاله في مواطن كثيرة ، في كلها تقتل أمراؤهم ويفل خيولهم (3) وأجنادهم ، فإن رأى أمير المؤمنين أن يبعث إلى جندا من جند الشام ليقاتلوا عدوهم ، ويأكلوا بلادهم فعل إن شاء الله .
فلما أتى عبد الملك كتابه بعث إليه سفيان بن الابرد في أربعة آلاف ، وبعث إليه حبيب ابن عبد الرحمن [ الحكمى ] (4) من (5) مذحج في ألفين وسرحهم نحوه حين أتاه الكتاب (6) .
__________
(1 - 1) الطبري : (ولكن أخرجنى في الناس مع الامير ، فإنى إنما أثبت على الراحلة ، فأكون مع الامير في عسكره ، وأشير عليه برأيى) .
(2 - 2) الطبري : (جزاك الله عن الاسلام وأهله في أول الاسلام خيرا ، وجزاك الله عن الاسلام في آخر الاسلام خيرا) .
(3) الطبري : (جنودهم) .
(4) من الطبري .
(5) في الاصول .
(ابن) ، وما أثبته من الطبري .
(6) بعدها في الطبري : (من الحجاج) .
(*)(4/262)
وقد كان الحجاج بعث إلى عتاب بن ورقاء الرياحي ليأتيه ، وكان على خيل الكوفة مع المهلب ، ودعا الحجاج أشراف أهل الكوفة ، منهم زهرة بن حوية ، وقبيصة بن والق ، فقال : من ترون أن أبعث على هذا الجيش ؟ قالوا : رأيك أيها الامير أفضل ، قال : إنى قد بعثت إلى عتاب بن ورقاء وهو قادم عليكم الليلة ، فيكون هو الذى يسير بالناس ، فقال زهرة بن حوية : أصلح الله الامير ! رميتهم بحجرهم ، لا والله لا يرجع إليك حتى يظفر أو يقتل .
فقال قبيصة بن والق : وإنى مشير عليك أيها الامير برأى اجتهدته ، نصيحة لك ولامير المؤمنين ولعامة المسلمين ، إن الناس قد تحدثوا أن جيشا قد وصل إليك من الشام ، لان أهل الكوفة قد هزموا ، وهان عليهم الفرار والعار من الهزيمة ، فكأنما قلوبهم في صدور قوم آخرين ، فإن رأيت أن تبعث إلى الجيش الذى قد أمددت به من أهل الشام ، فليأخذوا حذرهم ، ولا يثبتوا بمنزل إلا وهم يرون أنهم يبيتون فعلت ، فإن فعلت فإنك إنما تحارب حولا قلبا محلالا مظعانا (1) ، إن شبيبا بينا هو في أرض إذا هو في أخرى ، ولا آمن أن يأتيهم وهم غارون ، فإن يهلكوا يهلك العراق كله .
فقال الحجاج : لله أبوك ! ما أحسن ما رأيت ! وما اصح ما أشرت به ! فبعث إلى الجيش الوارد عليه من الشام كتابا قرءوه وقد نزلوا هيت ، وهو : أما بعد ، فإذا حاذيتم هيت ، فدعوا طريق الفرات والانبار ، وخذوا على عين التمر ، حتى تقدموا الكوفة ، إن شاء الله (2) .
فأقبل القوم سراعا ، وقدم عتاب بن ورقاء في الليلة التى قال الحجاج إنه فيها قادم ، فأمره الحجاج ، فخرج بالناس ، وعسكر بحمام (3) أعين ، وأقبل شبيب حتى انتهى
__________
(1) الطبري : (ظعانا رحالا) .
(2) في الطبري بعدها : (وخذوا حذركم وعجلوا السير ، والسلام) .
(3) حمام أعين : موضع بالكوفة ، منسوب إلى أعين مولى سعد بن أبى وقاص .
(*)(4/263)
إلى كلواذى (1) ، فقطع منها دجلة ، وأقبل حتى نزل بهرسير (2) ، وصار بينه وبين مطرف ابن المغيرة بن شعبة جسر دجلة ، فقطع مطرف الجسر ، ورأى رأيا صالحا كاد به شبيبا ، حتى حبسه عن وجهه ، وذلك أنه بعث إليه : أن ابعث إلى رجالا من فقهاء أصحابك وقرائهم ، وأظهر له أنه يريد أن يدارسهم القرآن ، وينظر فيما يدعون إليه ، فإن وجد حقا اتبعه ، فبعث إليه شبيب رجالا ، فيهم قعنب وسويد والمحلل ، ووصاهم ألا يدخلوا السفينة حتى يرجع رسوله من عند مطرف ، وأرسل إلى مطرف : أن ابعث إلى من أصحابك ووجوه فرسانك بعدة أصحابي ، ليكونوا رهنا في يدى ، حتى ترد على أصحابي .
فقال مطرف لرسوله : القه ، وقل له : كيف آمنك الان على أصحابي ، إذ أبعثهم إليك ، وأنت لا تأمننى على أصحابك ! فأبلغه الرسول ، فقال : قل له : قد علمت أنا لا نستحل الغدر في ديننا ، وأنتم قوم غدر تستحلون الغدر وتفعلونه .
فبعث إليه مطرف جماعة من وجوه أصحابه ، فلما صاروا في يد شبيب ، سرح إليه أصحابه ، فعبروا إليه في السفينة ، فأتوه ، فمكثوا أربعة أيام يتناظرون ، ولم يتفقوا على شئ ، فلما تبين لشبيب أن مطرفا كاده ، وأنه غير متابع له ، تعبي للمسير ، وجمع إليه أصحابه ، وقال لهم : إن هذا الثقفى قطعني عن رأيى منذ أربعة أيام ، وذلك أنى هممت أن أخرج في جريدة من الخيل ، حتى ألقى هذا الجيش المقبل من الشام ، وأرجو أن أصادف غرتهم قبل أن يحذروا ، وكنت ألقاهم منقطعين عن المصر ، ليس عليهم أمير كالحجاج يستندون إليه ، ولا لهم مصر كالكوفة يعتصمون به ، وقد جاءني عيون (3) أن أوائلهم قد دخلوا عين التمر ، فهم الان قد شارفوا الكوفة ، وجاءني أيضا عيون من نحو عتاب (3) أنه نزل بحمام أعين بجماعة أهل الكوفة (4 وأهل البصرة ، فما أقرب ما بيننا وبينهم ! فتيسروا بنا للمسير إلى عتاب .
__________
(1) كلواذى : موضع قرب بغداد .
(2) بهر سير : من نواحى بغداد قرب المدائن .
(3) الطبري .
(عيوني) .
(4) الطبري : (بجماعة أهل الكوفة الصراة) .
(*)(4/264)
و كان عتاب حينئذ قد أخرج معه خمسين ألفا من المقاتلة ، وهددهم الحجاج إن هربوا كعادة أهل الكوفة ، وتوعدهم ، وعرض شبيب أصحابه بالمدائن ، فكانوا ألف رجل فخطبهم وقال : يا معشر المسلمين ، إن الله عزوجل كان ينصركم وأنتم مائة ومائتان ، واليوم فأنتم مئون [ ومئون ] (1) ، ألا وإنى مصل الظهر ، ثم سائر بكم إن شاء الله .
فصلى الظهر ، ثم نادى في الناس ، فتخلف عنه بعضهم .
قال فروة بن (2) لقيط : فلما جاز ساباط ، ونزلنا معه ، قص علينا ، وذكرنا بأيام الله ، وزهدنا في الدنيا ، ورغبنا في الاخرة .
ثم أذن مؤذنة فصلى بنا العصر ، ثم أقبل حتى أشرف على عتاب بن ورقاء ، فلما رأى جيش عتاب نزل من ساعته ، وأمر مؤذنه ، فأذن ثم تقدم ، فصلى بأصحابه صلاة المغرب (3) ، وخرج عتاب بالناس كلهم فعبأهم ، وكان قد خندق على نفسه مذ يوم نزل .
وجعل على ميمنته محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني ، قال له : يا بن أخى إنك شريف ، فاصبر وصابر ، فقال : أما أنا فو الله لاقاتلن ما ثبت معى إنسان .
وقال لقبيصة بن والق التغلبي (4) : اكفني الميسرة ، فقال : (5 أنا شيخ كبير ، غايتي أن أثبت تحت رايتى ، أما تراني لا أستطيع القيام إلا أن أقام ، وأخى نعيم بن عليم ذو غناء ، فابعثه على الميسرة .
فبعثه عليها 5) .
وبعث حنظلة بن الحارث الرياحي ابن عمه ، وشيخ
__________
(1) من الطبري .
(2) راوي الخبر في الطبري .
(3) في الطبري : (وكان مؤذنه سلام بن سيار الشيباني) .
(4) في الطبري : (وكان على ثلث بنى تغلب) (5 - 5) الطبري : (أنا شيخ كبير ، كثير منى أن أثبت تحت رايتى ، قد انبت منى القيام ، ما أستطيع القيام إلا أن أقام ، ولكن هذا عبيد الله بن الحليس ، ونعيم بن عليم التغلبيان ، وكان كل واحد منهما على ثلث من أثلاث تغلب ، أبعث أيهما أحببت ، فأيهما بعثت فلتبعثن ذا حزم وعزم وغناء ، فبعث نعيم بن عليم على ميسرته) .
(*)(4/265)
أهل بيته على الرجالة ، وبعث معه ثلاثة صفوف : صف فيه الرجالة ومعهم السيوف ، وصف هم أصحاب الرماح ، وصف فيه المرامية .
ثم سار عتاب بين الميمنة والميسرة يمر بأهل راية راية ، فيحرض من تحتها على الصبر ، ومن كلامه يومئذ : إن أعظم الناس نصيبا من الجنة الشهداء ، وليس الله لاحد أمقت منه لاهل البغى ، ألا ترون عدوكم هذا يستعرض المسلمين بسيفه ، لا يرى ذلك إلا قربة لهم ! فهم شرار أهل الارض ، وكلاب أهل النار .
فلم يجبه أحد ، فقال : أين القصاص يقصون على الناس ، ويحرضونهم ؟ فلم يتكلم أحد ، فقال : أين من يروى شعر عنترة ، فيحرك الناس ؟ فلم يجبه أحد ولا رد عليه كلمة ، فقال : لا حول ولا قوة إلا بالله ، والله لكأنى بكم وقد تفرقتم عن عتاب وتركتموه تسفى في استه الريح ، ثم أقبل حتى جلس في القلب ، ومعه زهرة بن حوية ، وعبد الرحمن بن محمد بن الاشعث .
وأقبل شبيب في ستمائة ، وقد تخلف عنه من الناس أربعمائة ، فقال : إنه لم يتخلف عنى إلا من لا أحب أن أراه معى ، فبعث سويد بن سليم في مائتين إلى الميسرة ، وبعث المحلل بن وائل في مائتين إلى القلب ، ومضى هو في مائتين إلى الميمنة ، وذلك بين المغرب والعشاء الاخرة ، حين أضاء القمر ، فناداهم : لمن هذه الرايات ؟ قالوا : رايات همدان .
فقال : رايات طالما نصرت الحق ، وطالما نصرت الباطل ، لها في كل (1) نصيب ، أنا أبوالمدله اثبتوا إن شئتم .
ثم حمل عليهم ، وهم على مسناة أمام الخندق ، ففضهم ، وثبت أصحاب رايات قبيصة بن والق .
فجاء شبيب فوقف عليه ، وقال لاصحابه : مثل هذا قوله تعالى : (واتل عليهم
__________
(1) بعدها في الطبري : (والله لاجاهدنكم محتسبا للخير في جهادكم ، أنتم ربيعة وأنا شبيب ، أنا أبو المدله لا حكم إلا لله) (*)(4/266)
نبأ الذى آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعة الشيطان فكان من الغاوين) ، (1) ثم حمل على الميسرة ففضها ، وصمد نحو القلب ، وعتاب جالس على طنفسة ، هو وزهرة ابن حوية ، فغشيهم شبيب ، فانفض الناس عن عتاب وتركوه ، فقال عتاب : يا زهرة ، هذا يوم كثر فيه العدد ، وقل فيه الغناء ، لهفى على خمسمائة فارس من وجوه الناس ، ألا صابر لعدوه ! الأمواس بنفسه ! فمضى الناس على وجوههم ، فلما دنا منه شبيب وثب إليه في عصابة قليلة صبرت معه ، فقال له بعضهم : إن عبد الرحمن بن محمد بن الاشعث قد هرب ، وانصفق معه ناس كثير ، فقال : أما إنه قد فر قبل اليوم ، وما رأيت مثل ذلك الفتى ، ما يبالى ما صنع ، ثم قاتلهم ساعة ، وهو يقول : ما رأيت كاليوم قط موطنا لم أبل بمثله ، أقل ناصرا ، ولا أكثرها ربا خاذلا ، فرآه رجل من بنى تغلب من أصحاب شبيب - وكان أصاب دما في قومه ، والتحق بشبيب : فقال : إنى لاظن هذا المتكلم عتاب ابن ورقاء ، فحمل عليه فطعنه ، فوقع وقتل ، ووطئت الخيل زهرة بن حوية ، فأخذ يذبب بسيفه ، وهو شيخ كبير لا يستطيع أن ينهض ، فجاءه الفضل بن عامر الشيباني فقتله ، وانتهى إليه شبيب ، فوجده صريعا فعرفه ، فقال : من قتل هذا ؟ قال الفضل : أنا قتلته ، فقال شبيب : هذا زهرة بن حوية ، أما والله لئن كنت قتلت على ضلالة ، لرب يوم من أيام المسلمين قد حسن فيه بلاؤك ، وعظم فيه غناؤك ، ولرب خيل للمشركين هزمتها ، وسرية لهم ذعرتها ، ومدينة لهم فتحتها ! ثم كان في علم الله أن تقتل ناصرا للظالمين .
وقتل يومئذ وجوه العرب من عسكر العراق في المعركة : واستمكن شبيب من أهل العسكر ، فقال : ارفعوا عنهم السيف ، ودعاهم إلى البيعة ، فبايعه الناس عامة من ساعتهم ، واحتوى على جميع ما في العسكر ، وبعث إلى أخيه وهو بالمدائن ، فأتاه فأقام بموضع المعركة يومين ، ودخل سفيان بن الابرد الكلبى ، وحبيب بن عبد الرحمن فيمن معهما
__________
(1) سورة الاعراف 175 (*)(4/267)
إلى الكوفة ، فشدوا ظهر الحجاج ، واستغنى بهم عن أهل العراق ، ووصلته أخبار عتاب وعسكره ، فصعد المنبر ، فقال : يا أهل الكوفة ، لا أعز الله من أراد بكم العز ، ولا نصر من أراد منكم النصر ، اخرجوا عنا فلا تشهدوا معنا قتال عدونا ، والحقوا بالحيرة ، فانزلوا مع اليهود والنصارى ، (1 ولا يقاتلن معنا إلا من لم يشهد قتال عتاب بن ورقاء 1) .
وخرج شبيب يريد الكوفة ، فانتهى إلى سورا (2) ، فقال لاصحابه : أيكم يأتيني برأس عاملها ، فانتدب إليه قطين ، وقعنب ، وسويد ، ورجلان من أصحاب شبيب ، فكانوا خمسة ، وساروا حتى انتهوا إلى دار الخراج ، والعمال فيها ، فقالوا : أجيبوا الامير ، فقال الناس : أي أمير ؟ قالوا : أمير قد خرج من قبل الحجاج ، يريد هذا الفاسق شبيبا ، فاغتر بذلك عامل سورا ، فخرج إليهم فلما خالطهم شهروا السيوف ، وحكموا وخبطوه بها حتى قتلوه ، وقبضوا ما وجدوا في دار الخراج من مال ، ولحقوا بشبيب .
فلما رأى شبيب البدر ، قال : أتيتمونا بفتنة المسلمين ! هلم يا غلام الحربة ، فخرق بها البدر ، وأمر أن تنخس الدواب التى كانت البدر عليها ، فمرت رائحة ، والمال يتناثر من البدر ، حتى وردت الصراة ، فقال : إن كان بقى شئ فاقذفوه في الماء .
* * * وقال سفيان بن الابرد للحجاج : ابعثنى إلى شبيب أستقبله قبل أن يرد الكوفة ، فقال : لا ، ما أحب أن نفترق حتى ألقاه في جماعتكم ، والكوفة في ظهرنا ، وأقبل شبيب حتى نزل حمام أعين ، دعا الحجاج الحارث بن معاوية بن أبى زرعة بن مسعود الثقفى فوجهه في ناس لم يكونوا شهدوا يوم عتاب .
فخرج في ألف رجل ، حتى انتهى إلى شبيب ليدفعه عن الكوفة ، فلما رآه شبيب حمل عليه فقتله ، وفل أصحابه .
فجاءوا حتى دخلوا
__________
(1 - 1) الطبري : (ولا تقاتلوا معنا إلا من كان لنا عاملا ، ومن لم يكن شهد قتال عتاب بن ورقاء) .
(2) سورا : كورة قريبة من الفرات .
(*)(4/268)
الكوفة ، وبعث شبيب البطين في عشرة فوارس يرتادون له منزلا على شاطئ الفرات ، في دار الرزق ، فوجه الحجاج حوشب بن يزيد ، في جمع من أهل الكوفة ، فأخذوا بأفواه السكك ، فقاتلهم البطين فلم يقو عليهم ، فبعث إلى شبيب ، فأمده بفوارس من أصحابه ، فعقروا فرس حوشب وهزموه ، فنجا بنفسه ، ومضى البطين إلى دار الرزق في أصحابه ، ونزل شبيب بها ، ولم يوجه إليه الحجاج أحدا ، فابتنى مسجدا في أقصى السبخة ، وأقام ثلاثا لم يوجه إليه الحجاج أحدا ، ولا يخرج إليه من أهل الكوفة ، ولا من أهل الشام أحد ، وكانت امرأته غزالة نذرت أن تصلى في مسجد الكوفة ركعتين ، تقرأ فيهما بالبقرة وآل عمران (1) .
* * * فجاء شبيب مع امرأته حتى أوفت بنذرها في المسجد ، وأشير على الحجاج أن يخرج بنفسه إليه ، فقال لقتيبة بن مسلم : إنى خارج ، فاخرج أنت ، فارتد لى معسكرا ، فخرج وعاد ، فقال : وجدت المدى سهلا ، فسر أيها الامير على اسم الله والطائر الميمون ، فخرج الحجاج بنفسه ، ومر على مكان فيه كناسة وأقذار ، فقال : ألقوا لى هنا بساطا ، فقيل له : إن الموضع قذر ، فقال : ما تدعوني إليه أقذر ، الارض تحته طيبة ، والسماء فوقة طيبة .
ووقف هناك وأخرج مولى له يعرف بأبى الورد ، وعليه تجفاف (2) ، وأحاط به غلمان كثير ، وقيل : هذا الحجاج ، فحمل عليه شبيب فقتله ، وقال : إن يكن الحجاج ، فقد أرحت الناس (3) منه ، ودلف الحجاج نحوه حينئذ ، وعلى ميمنته مطر بن ناجية ، وعلى ميسرته خالد بن عتاب بن ورقاء ، وهو في زهاء أربعة آلاف ، فقيل له : أيها الامير لا نعرف
__________
(1) بعدها في الطبري : (ففعلت) .
(2) التجفاف : آلة للحرب يلبسها الفارس في الحرب للوقاية : كأنها درع (3) الطبري : (أرحتكم) .
(*)(4/269)
شبيبا بمكانك ، فتنكر ، وأخفى مكانه ، وتشبه به مولى آخر للحجاج في هيئته وزيه ، فحمل عليه شبيب ، فضربه بالعمود فقتله ، ويقال إنه قال لما سقط : (أخ) بالخاء المعجمة فقال شبيب : قاتل الله ابن أم الحجاج ! اتقى الموت بالعبيد ، وذلك أن العرب تقول عند التأوه (أح) بالحاء المهملة .
ثم تشبه بالحجاج أعين صاحب حمام أعين ، ولبس لبسته ، فحمل عليه شبيب فقتله ، فقال الحجاج : على بالبغل لاركبه ، فأتى ببغل محجل ، وقيل : أيها الامير ، أصلحك الله ! إن الاعاجم كانت تتطير أن تركب مثل هذا البغل في مثل هذا اليوم ، فقال : أدنوه منى فإنه أغر محجل ، وهذا يوم أغر محجل ، فركبه ، ثم سار في الناس يمينا وشمالا ثم قال : اطرحوا لى عباءة ، فطرحت له ، فنزل فجلس عليها ، ثم قال : ائتونى بكرسى ، فأتى به ، فقام فجلس عليه ، ثم نادى أهل الشام ، فقال : يا أهل الشام ، يا أهل السمع والطاعة ، لا يغلبن باطل هؤلاء الارجاس حقكم ، غضوا الابصار ، واجثوا على الركب ، واستقبلوا القوم بأطراف الاسنة ، فجثوا على الركب ، وكأنهم حرة سوداء .
ومنذ هذا الوقت ركدت ريح شبيب ، وأذن الله تعالى في إدربار أمره ، وانقضاء أيامه فأقبل ، حتى إذا دنا من أهل الشام عبى أصحابه ثلاثة كراديس ، كتيبة معه ، وكتيبة مع سويد بن سليم وكتيبة مع المحلل بن وائل ، وقال لسويد : احمل عليهم في خيلك ، فحمل عليهم فثبتوا له حتى إذا غشى أطراف أسنتهم ، وثبوا في وجهه ، فقاتلهم طويلا ، فصبروا له ، ثم طاعنوه ، قدما قدما ، حتى ألحقوه بأصحابه .
فلما رأى شبيب صبرهم ، نادى : يا سويد ، احمل في خيلك في هذه الرايات الاخرى ، لعلك تزيل أهلها ، فتأتى الحجاج من ورائه ، ونحمل نحن عليه من أمامه .
فحمل سويد على تلك الرايات ، وهى بين جدران الكوفة ، فرمى بالحجارة من سطوح البيوت ، ومن أفواه السكك ، فانصرف ولم يظفروا .(4/270)
ورماه عروة بن المغيرة بن شعبة بالسهام ، وقد كان الحجاج جعله في ثلاثمائة رام من أهل الشام ردءا له كى لا يؤتى من ورائه ، فصاح شبيب في أصحابه .
يا أهل الاسلام ! إنما شريتم لله ، ومن يكن شراؤه لله لم يضره ما أصابه من ألم وأذى (1) ، لله أبوكم ! الصبر الصبر ، شدة كشداتكم الكريمة في مواطنكم المشهورة .
فشدوا شدة عظيمة ، فلم يزل أهل الشام عن مراكزهم ، فقال شبيب : الارض ! دبوا دبيبا تحت تراسكم ، حتى إذا صارت أسنة أصحاب الحجاج فوقها ، فأذلقوها صعدا ، وادخلوا تحتها ، واضربوا سوقهم وأقدامهم ، وهى الهزيمة بإذن الله .
فأقبلوا يدبون دبيبا تحت الحجف : صمدا صمدا ، نحو أصحاب الحجاج .
فقال خالد بن عتاب بن ورقاء : أيها الامير ، أنا موتور ، ولا أتهم في نصيحتي (2) ، فأذن لى حتى آتيهم من ورائهم ، فأغير على معسكرهم وثقلهم ، فقال : افعل ذلك (3) ، فخرج في جمع من مواليه وشاكريته (4) وبنى عمه ، حتى صار من ورائهم ، فالتقى بمصاد أخى شبيب فقتله ، وقتل غزالة امرأة شبيب ، وألقى النار في معسكرهم ، والتفت شبيب والحجاج ، فشاهدا النار ، فأما الحجاج فكبر وكبر أصحابه ، وأما شبيب ، فوثب هو وكل راجل من أصحابه على خيولهم مرعوبين ، فقال الحجاج لاصحابه : شدوا عليهم ، فقد أتاهم ما أرعبهم ، فشدوا عليهم ، فهزموهم ، وتخلف شبيب في خاصة الناس ، حتى خرج من الجسر ، وتبعه خيل الحجاج ، وغشيه النعاس ، فجعل يخفق برأسه ، والخيل تطلبه .
قال أصغر الخارجي (5) : كنت معه ذلك اليوم ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، التفت
__________
(1) الطبري : (ومن شرى الله لم يكبر عليه ما أصابه من الاذى) .
(2) الطبري : (في نصيحة) .
(3) الطبري : (ما بدالك) .
(4) الشاكرية : جمع شاكري .
وهو الاجير .
(5) في الطبري : (قال هشام : فحدثني أصغر الخارجي ، قال : حدثنى من كان مع شبيب ...
) (*)(4/271)
فانظر من خلفك ، فالتفت غير مكترث ، وجعل (1) يخفق برأسه .
قال : ودنوا منا ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، قد دنا القوم منك ، فالتفت والله ثانية غير مكترث بهم ، وجعل يخفق برأسه ، وبعث الحجاج خيلا تركض تقول : دعوه يذهب في حرق الله ، فتركوه وانصرفوا عنه (2) .
ومضى شبيب بأصحابه ، حتى قطعوا جسر المدائن ، فدخلوا ديرا هناك ، وخالد بن عتاب يقفوهم ، فحصرهم في الدير ، فخرج شبيب إليه فهزمه وأصحابه نحوا من فرسخين ، حتى ألقى خالد نفسه في دجلة هو وأصحابه بخيولهم ، فمر به شبيب ، فرآه في دجلة ، ولواؤه في يده ، فقال : قاتله الله فارسا ، وقاتل فرسه ! فرس هذا أشد الناس قوة ، وفرسه أقوى فرس في الارض ، وانصرف ، فقيل له بعد انصرافه : إن الفارس الذى رأيت هو خالد بن عتاب بن ورقاء ، فقال : معرق في الشجاعة ! لو علمت لاقحمت خلفه ، ولو دخل النار .
ثم دخل الحجاج الكوفة بعد هزيمة شبيب ، فصعد المنبر ، وقال : والله ما قوتل شبيب قط قبل اليوم ، ولى هاربا ، وترك امرأته يكسر في استها القصب .
ثم دعا حبيب بن عبد الرحمن فبعثه في أثره في ثلاثة آلاف من أهل الشام ، وقال : احذر بياته ، وحيثما لقيته فنازله ، فإن الله تعالى قد فل حده ، وقصم نابه .
فخرج حبيب في أثره ، حتى نزل الانبار ، وبعث الحجاج إلى العمال : أن دسوا إلا اصحاب شبيب ، من جاءنا منكم فهو آمن ، فكان كل من ليست له بصيرة في دين الخوارج ، ممن هزه (3) القتال .
وكرهه ذلك اليوم يجئ فيؤمن .
وقبل ذلك كان الحجاج نادى يوم هزم شبيب : من جاءنا فهو آمن ، فتفرق عن شبيب ناس كثير من أصحابه .
__________
(1) الطبري : (ثم أكب يخفق برأسه) .
(2) الطبري : (ورجعوا) .
(3) الطبري : (هذه القتال) .
(*)(4/272)
وبلغ شبيبا منزل حبيب بن عبد الرحمن بالانبار ، فأقبل بأصحابه حتى دنا منه ، فقال يزيد السكسكى (1) : كنت مع أهل الشام بالانبار ليلة جاءنا شبيب ، فبيتنا ، فلما أمسينا جمعنا حبيب بن عبد الرحمن ، فجعلنا أرباعا ، وجعل على كل ربع أميرا ، وقال لنا : ليحم (2) كل ربع منكم جانبه ، فإن قتل هذا الربع فلا يعنهم الربع الاخر ، فإنه بلغني أن الخوارج منكم قريب ، فوطنوا أنفسكم على أنكم مبيتون فمقاتلون ، قال : فما زلنا على تعبيتنا حتى جاءنا شبيب تلك الليلة فبيتنا ، فشد على (3 ربع منا فصابرهم طويلا ، فما زالت قدم إنسان منهم .
ثم تركهم وأقبل إلى ربع آخر ، فقاتلهم طويلا فلم يظفر بشئ ، ثم طاف بنا يحمل علينا ربعا ربعا ، حتى ذهب ثلاثة أرباع الليل 3) ولصق بنا 4) حتى قلنا : لا يفارقنا ، ثم ترجل فنازلنا راجلا نزالا طويلا هو وأصحابه ، فسقطت والله بيننا وبينهم الايدى والارجل ، وفقئت الاعين ، وكثرت القتلى ، فقتلنا منهم نحو ثلاثين ، وقتلوا منا نحو مائة ، وايم الله لو كانوا أكثر من مائتي رجل لاهلكونا ، ثم فارقونا وقد مللناهم وملونا ، وكرهناهم وكرهونا ، ولقد رأيت الرجل منا يضرب الرجل منهم بالسيف فما يضره من الاعياء والضعف ، ولقد رأيت الرجل منا يقاتل جالسا ينفخ بسيفه ما يستطيع أن يقوم من الاعياء والبهر .
حتى ركب شبيب ، وقال لاصحابه الذين نزلوا معه : اركبوا ، وتوجه بهم منصرفا عنا .
فقال فروة بن لقيط الخارجي - وكان شهد معه مواطنه كلها - قال لنا ليلتئذ ، وقد رأى
__________
(1) في الطبري : (قال أبو مخنف ، فحدثني أبو يزيد السكسكى قال) .
(2) الطبري : (ليجز كل ربع) .
(3 - 3) الطبري : (فشد على ربع منا ، عليهم عثمان بن سعيد العذري ، فضاربهم طويلا ، فمازالت قدم الانسان منهم ، ثم تركهم وأقبل على الربع الاخر ، وقد جعل عليهم سعد بن بجل العامري ، فقاتلهم فما زالت قدم إنسان منهم ، ثم تركهم وأقبل على الربع الاخر ، وعليهم النعمان بن سعد الحميرى ، فما قدر منهم على شئ .
ثم أقبل على الربع الاخر وعليهم ابن أقيصر الخثعمي ، فقاتلهم طويلا ، فلم يظفر بشئ ، ثم أطاف بنا يحمل علينا ، حتى ذهب ثلاثة أرباع لليل) .
(4) الطبري : (وألزبنا) .
(18 - نهج - 4) (*)(4/273)
بنا كآبة ظاهرة ، وجراحات شديدة : ما أشد هذا الذى بنا لو كنا نطلب الدنيا ! وما أيسر هذا في طاعة الله وثوابه ! فقال أصحابه : صدقت يا أمير المؤمنين .
قال فروة بن لقيط : وسمعته تلك الليلة يحدث سويد بن سليم ، ويقول له : لقد قتلت منهم أمس رجلين من أشجع (1) الناس ، خرجت عشية أمس طليعة لكم ، فلقيت منهم ثلاثة نفر دخلوا قرية يشترون منها حوائجهم ، فاشترى أحدهم حاجته ، وخرج قبل أصحابه فخرجت معه ، فقال لى : أراك لم تشتر علفا (2) ! فقلت : إن لى رفقاء قد كفوني ذلك ، ثم قلت له : أين ترى عدونا [ هذا نزل ] (3) ؟ فقال : بلغني أنه قد نزل قريبا منا ، وايم الله لوددت أنى لقيت شبيبهم هذا ، قلت : أ فتحب ذلك ؟ قال : إى والله ، قلت : فخذ حذرك ، فأنا والله شبيب ، وانتضيت السيف ، فخر والله ميتا [ فقلت له : ارتفع ويحك ! وذهبت أنظر فإذا هو قد مات ] (3) فانصرفت راجعا ، فاستقبلت الاخر خارجا من القرية ، فقال : أين تذهب هذه الساعة التى يرجع فيها الناس إلى معسكرهم ؟ فلم أكلمه ، ومضيت ، فنفرت بى فرسى ، وذهبت تتمطر (4) ، فإذا به في أثرى حتى لحقني ، فعطفت عليه ، وقلت : ما بالك ؟ قال : أظنك والله من عدونا .
قلت : أجل والله ، قال : إذا لا تبرح حتى أقتلت أو تقتلني ، فحملت عليه وحمل على ، فاضطربنا بسيفينا ساعة ، فو الله ما فضلته في شدة نفس ولا إقدام ، إلا أن سيفى كان أقطع من سيفه فقتلته .
* * * وبلغ شبيبا أن جند الشام الذى مع حبيب حملوا معهم حجرا ، وحلفوا لا يفرون حتى يفر هذا الحجر ، فأراد أن يكذبهم ، فعمد إلى أربعة أفراس ، وربط في أذبانها ترسة ،
__________
(1) الطبري : (قتلت منهم أمس رجلين : أحدهما أشجع الناس ، والاخر أجبن الناس) .
(2) الطبري : (كأنك لم تشتر علفا) .
(3) من الطبري .
(4) تتمطر : تسرع في جريها .
(*)(4/274)
في ذنب كل فرس ترسين ، ثم ندب ثمانية نفر من أصحابه ، وغلاما له يقال له حيان - كان شجاعا فاتكا - وأمره أن يحمل معه إداوة من ماء ، ثم سار ليلا حتى أتى ناحية من عسكر أهل الشام ، فأمر أصحابه أن يكونوا في نواحى العسكر الاربع ، وأن يكون مع كل رجلين فرس : ثم يلبسوها الحديد حتى تجد حره ، ثم يخلوها في العسكر ، وواعدهم تلعة قريبة من العسكر ، وقال : من نجا منكم ، فإن موعده التلعة ، فكره أصحابه الاقدام على ما أمرهم ، فنزل بنفسه حتى صنع بالخيل ما أمرهم به ، حتى دخلت في العسكر ، ودخل هو يتلوها ، ويشد خلفها شدا محكما ، فتفرقت في نواحى العسكر ، واضطرب الناس ، فضرب بعضهم بعضا ، وماجوا ، ونادى حبيب بن عبد الرحمن : ويحكم إنها مكيدة ! فالزموا الارض حتى يتبين لكم الامر ، ففعلوا ، وحصل شبيب بينهم ، فلزم الارض معهم ، حتى رآهم قد سكنوا ، وقد أصابته ضربة عمود أوهنته .
فلما هدأ الناس ورجعوا إلى مراكزهم خرج في غمارهم ، حتى أتى التلعة ، فإذا مولاه حيان ، فقال : أفرغ ويحك على رأسي من هذه الاداوة ! فلما مد رأسه ليصب عليه من الماء هم حيان بضرب عنقه ، وقال لنفسه : لا أجد مكرمة لى ، ولا ذكرا أرفع من هذا في هذه الخلوة ، وهو أمانى من الحجاج ، فأخذته الرعدة حين هم بما هم به ، فلما أبطأ عليه ، قال له : ويحك ! ما انتظارك بحلها ! ناولنيها ، وتناول السكين من موزجه (1) فخرقها به ، ثم ناوله إياها ، فأفرغ عليه من الماء ، فكان حيان بعد ذلك يقول : لقد هممت فأخذتني الرعدة فجبنت عنه ، وما كنت أعهد نفسي جبانا .
* * * ثم إن الحجاج أخرج الناس إلى شبيب ، وقسم فيهم أموالا عظيمة ، وأعطى الجرحى وكل ذى بلاء ، وأمر سفيان بن الابرد أن يسير بهم ، فشق ذلك على حبيب ،
__________
(1) الموزج : الخف .
(*)(4/275)
ابن عبد الرحمن ، وقال : تبعث سفيان إلى رجل قد فللته ، وقتلت فرسانه ! وكان شبيب قد أقام بكرمان حتى جبر ، واستراش هو وأصحابه ، فمضى سفيان بالرجال ، واستقبله شبيب بدجيل الاهواز ، وعليه جسر معقود ، فعبر إلى سفيان ، فوجده قد نزل بالرجال ، وجعل مهاصر (1) بن صيفي على خيله ، وبشر بن حسان (1) الفهرى على ميمنته ، وعمر بن هبيرة الفزارى على ميسرته ، وأقبل شبيب في ثلاثة كراديس ، هو في كتيبة ، وسويد بن سليم في كتيبة ، وقعنب في كتيبة ، وخلف المحلل في عسكره ، فلما حمل سويد وهو في ميمنته على ميسرة سفيان وقعنب وهو في ميسرته على ميمنة سفيان ، حمل هو على سفيان ، ثم اضطربوا مليا ، حتى رجعت الخوارج إلى مكانها الذى كانوا فيه .
فقال يزيد السكسكى - وكان من أصحاب سفيان يومئذ : كر علينا شبيب وأصحابه أكثر من ثلاثين كرة ، ولا يزول من صفنا أحد ، فقال لنا سفيان : لا تحملوا عليهم متفرقين ، ولكن لتزحف عليهم الرجال زحفا ، ففعلنا ، وما زلنا نطاعنهم حتى اضطررناهم إلى الجسر ، فقاتلونا عليه أشد قتال يكون لقوم قط .
ثم نزل شبيب ، ونزل معه نحو مائة رجل ، فما هو إلا أن نزلوا حتى أوقعوا بنا من الضرب والطعن شيئا ما رأينا مثله قط ، ولا ظنناه يكون ، فلما رأى سفيان أنه لا يقدر عليهم ، ولا يأمن ظفرهم ، دعا الرماة فقال : اشقوهم بالنبل ، وذلك عند المساء ، وكان الالتقاء ذلك اليوم نصف النهار ، فرشقهم أصحابه ، وقد كان سفيان صفهم على حدة ، وعليهم أمير ، فلما رشقوهم شدوا عليهم ، فشددنا نحن ، وشغلناهم عنهم ، فلما رأوا ذلك ركب شبيب وأصحابه ، وكروا على أصحاب النبل كرة شديدة ، صرعوا منهم فيها أكثر من ثلاثين راميا ، ثم عطف علينا يطاعننا بالرماح ، حتى اختلط الظلام ، ثم انصرف عنا ، فقال سفيان بن الابرد لاصحابه :
__________
(1) ب : (مضاض) .
(*)(4/276)
يا قوم ، دعوهم لا تتبعوهم ، يا قوم دعوهم لا تتبعوهم حتى نصبحهم .
قال : فكففنا عنهم وليس شئ أحب إلينا من أن ينصرفوا عنا .
قال فروة بن لقيظ الخارجي : فلما انتهينا إلى الجسر ، قال شبيب : اعبروا معاشر المسلمين فإذا أصبحنا باكرناهم إن شاء الله تعالى ، قال : فعبرنا أمامه ، وتخلف في آخرنا ، وأقبل يعبر الجسر ، وتحته حصان جموح ، وبين يديه فرس أنثى ماذيانة ، فنزا حصانه عليها وهو على الجسر ، فاضطربت الماذيانة وزل حافر فرس شبيب عن حرف السفينة ، فسقط في الماء ، فسمعناه يقول لما سقط : (ليقضى الله أمرا كان مفعولا) (1) واغتمس (2) في الماء ثم ارتفع فقال : (ذلك تقدير العزيز العليم) (3) ثم اغتمس في الماء ، فلم يرتفع .
هكذا روى أكثر الناس .
وقال قوم : إنه كان مع شبيب رجال كثير بايعوه في الوقائع التى كان يهزم الجيش فيها ، وكانت بيعتهم إياه على غير بصيرة ، وقد كان أصاب عشائرهم وساداتهم ، فهم منه موتورون ، فلما تخلف في أخريات الناس يومئذ ، قال بعضهم لبعض : هل لكم أن نقطع به الجسر ، فندرك ثأرنا الساعة ! فقالوا : هذا هو الرأى ، فقطعوا الجسر ، فمالت به السفينة : ففزع حصانه ونفر ، فسقط في الماء وغرق .
والرواية الاولى أشهر ، فحدث قوم من أصحاب سفيان ، قالوا : سمعنا صوت الخوارج يقولون : غرق أمير المؤمنين ، فعبرنا إلى عسكرهم ، فإذا هو ليس فيه صافر (4) ولا أثر ، فنزلنا فيه ، وطلبنا شبيبا حتى استخرجناه من الماء ، وعليه الدرع ، فيزعم الناس أنهم
__________
(1) سورة الانفال 42 (2) الطبري : (ارتمس) ، وهما بمعنى .
(3) سورة يس 38 (4) هو مثل ، يقال : (ما بالدار من صافر) أي أحد .
(*)(4/277)
شقوا بطنه وأخرجوا قلبه فكان مجتمعا صلبا كالصخرة ، وأنه كان يضرب به الارض فينبو ، ويثب قامة الانسان .
ويحكى أن أم شبيب كانت لا تصدق أحدا نعاه إليها ، وقد كان قيل لها مرارا إنه قد قتل فلا تقبل ، فلما قيل لها : إنه قد غرق بكت ، فقيل لها في ذلك ، فقالت : رأيت في المنام حين ولدته أنه خرج من فرجى نار ملات الافاق ، ثم سقطت في ماء فخمدت ، فعلمت أنه لا يهلك إلا بالغرق (1) .
* * * وهذا آخر الجزء الرابع من شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ويتلوه الجزء الخامس إن شاء الله (2)
__________
(1) وفي رواية أخرى ذكرها الطبري : (كان شبيب ينعى لامه ، فيقال : قتل ، فلا تقبل ، فقيل لها : إنه غرق ، فقبلت وقالت : إنى رأيت حين ولدته أنه خرج منى شهاب نار ، فعلمت أنه لا بطفئه إلا الماء) .
يقولون : غرق أمير المؤمنين ، فعبرنا إلى عسكرهم ، فإذا هو ليس فيه صافر (4) ولا أثر ، فنزلنا فيه ، وطلبنا شبيبا حتى استخرجناه من الماء ، وعليه الدرع ، فيزعم الناس أنهم
__________
(1) سورة الانفال 42 (2) الطبري : (ارتمس) ، وهما بمعنى .
(3) سورة يس 38 (4) هو مثل ، يقال : (ما بالدار من صافر) أي أحد .
(*)(4/278)
شقوا بطنه وأخرجوا قلبه فكان مجتمعا صلبا كالصخرة ، وأنه كان يضرب به الارض فينبو ، ويثب قامة الانسان .
ويحكى أن أم شبيب كانت لا تصدق أحدا نعاه إليها ، وقد كان قيل لها مرارا إنه قد قتل فلا تقبل ، فلما قيل لها : إنه قد غرق بكت ، فقيل لها في ذلك ، فقالت : رأيت في المنام حين ولدته أنه خرج من فرجى نار ملات الافاق ، ثم سقطت في ماء فخمدت ، فعلمت أنه لا يهلك إلا بالغرق (1) .
* * * وهذا آخر الجزء الرابع من شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ويتلوه الجزء الخامس إن شاء الله (2)
__________
(1) وفي رواية أخرى ذكرها الطبري : (كان شبيب ينعى لامه ، فيقال : قتل ، فلا تقبل ، فقيل لها : إنه غرق ، فقبلت وقالت : إنى رأيت حين ولدته أنه خرج منى شهاب نار ، فعلمت أنه لا بطفئه إلا الماء) .
(2) هذا آخر ما ورد في نسخة (ج) ، وجاء في آخر نسخة (ب) : (وهذا آخر الجزء الرابع من شرح نهج البلاغة ، ويتلوه الجزء الخامس إن شاء الله تعالى .
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيد الانبياء وسند الاصفياء محمد وآله الطيبين الطاهرين) .
(*)(4/278)
شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد ج 5
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد ج 5(5/)
شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد بتحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم الجزء الخامس دار احياء الكتب العربية عيسى البابى الحلبي وشركاه الطبعة الاولى جميع الحقوق محفوظة [ 1379 ه - 1959 م ] بسم الله الرحمن الرحيم بيان ذكرت في مقدمة الجزء الاول من هذا الكتاب ، ضمن النسخ التى العتمدت عليها في التحقيق ، النسخة المصورة عن الاصل المحفوظ بمكتبة المتحف البريطاني برقم 126 ، والتي رمزت لها بالحرف (ا) : وذكرت أنها تشتمل على أربع مجموعات ، وقد وصفت المجموعة هناك الاولى التى تشتمل على الجزء الاول والثاني والثالث والرابع منها .
ومن هذا الجزء تبدأ المجموعة الثانية ، وهي تشتمل على الجزأين : الخامس والسادس ، يقعان في مائة وإحدى وثلاثين لوحة ، مسطرتها سبع وعشرون سطرا ، في كل سطر خمس عشرة كلمة في المتوسط .
وهى مكتوبة بخط نسخ تعليق ، يغاير خط المجموعة الاولى ، بقلم عبد القادر اللاهوري ، بتاريخ شعبان المعظم سنة ثمانين بعد الالف .
ومع وضوح هذا الخط ، فإنه لم يخل من الخطأ والتحريف والتصحيف .
ومن الله العون والتوفيق 30 ربيع الثاني سنة 1379 - 1 نوفمبر سنة 1959 محمد أبو الفضل إبراهيم الصفحة الاولى من الجزء الخامس (أ) الصفحة الاخيرة من الجزء الخامس (أ)(5/1)
شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (586 - 656) الجزء الخامس تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم(5/1)
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله أجمعين (58) الاصل : وقال عليه السلام لما عزم على حرب الخوارج ، وقيل له : إن القوم قد عبروا جسر النهروان : مصارعهم دون النطفة ، والله لا يفلت منهم عشرة ، ولا يهلك منكم عشرة قال الرضى رحمه الله : يعنى بالنطفة ماء النهر ، وهى أفصح كناية عن الماء وإن كان كثيرا جما ، وقد أشرنا إلى ذلك فيما تقدم عند مضى ما أشبهه .
الشرح : هذا الخبر من الاخبار التى تكاد تكون متواترة ، لاشتهاره ونقل الناس كافة له ، وهو من معجزاته وأخباره المفصلة عن الغيوب .
والاخبار على قسمين : أحدهما : الاخبار المجملة ، ولا إعجاز فيها ، نحو أن يقول الرجل لاصحابه : إنكم(5/3)
ستنصرون على هذه الفئة التى تلقونها غدا ، فان نصر جعل ذلك حجه له عند اصحابه ، وسماها معجزة ، وإن لم ينصر ، قال : لهم تغيرت نياتكم وشككتم في قولى ، فمنعكم الله نصره ، ونحو ذلك من القول ، ولانه قد جرت العادة أن الملوك والرؤساء يعدون أصحابهم بالظفر والنصر ، ويمنونهم الدول ، فلا يدل وقوع ما يقع من ذلك على إخبار عن غيب يتضمن إعجازا .
والقسم الثاني : في الاخبار المفصلة عن الغيوب ، مثل هذا الخبر ، فإنه لا يحتمل التلبيس ، لتقييده بالعدد المعين في أصحابه وفى الخوارج ، ووقوع الامر بعد الحرب بموجبه ، من غير زيادة ولا نقصان ، وذلك أمر إلهى عرفه من جهة رسول الله صلى الله عليه وآله ، وعرفه رسول الله صلى الله عليه آله من جهه الله سبحانه .
والقوه البشرية تقصر عن إدراك مثل هذا ، ولقد كان له من هذا الباب ما لم يكن لغيره .
وبمقتضى ما شاهد الناس من معجزاته ، وأحواله المنافية لقوى البشر ، غلا فيه من غلا ، حتى نسب إلى أن الجوهر الالهى حل في بدنه ، كما قالت النصارى في عيسى عليه السلام ، وقد أخبره النبي صلى الله عليه وآله بذلك ، فقال : (يهلك فيك رجلان محب غال ، ومبغض قال) .
وقال له تارة أخرى : (والذى نفسي بيده ، لولا أنى أشفق أن يقول طوائف من أمتى فيك ، ما قالت النصارى في ابن مريم ، لقلت اليوم فيك مقالا ، لاتمر بملا من الناس إلا أخذوا التراب من تحت قدميك للبركة)(5/4)
[ بدء ظهور الغلاة ] وأول من جهر بالغلو في أيامه عبد الله بن سبا (1) قام إليه وهو يخطب ، فقال له : أنت أنت ! وجعل يكررها ، فقال له : ويلك ! من أنا ؟ فقال : أنت الله ، فأمر بأخذه وأخذ قوم كانوا معه على رأيه .
وروى أبو العباس أحمد بن عبيد الله ، عن عمار الثقفى ، عن على بن محمد بن سليمان النوفلي ، عن ابيه ، وعن غيره من مشيخته ، أن عليا قال : (يهلك في رجلان : محب مطر يضعني غير موضعي ويمدحني بما ليس في ، ومبغض مفتر يرمينى بما أنا منه برئ) .
وقال أبو العباس : وهذا تأويل الحديث المروى عن النبي صلى الله عليه وآله فيه ، وهو قوله : (إن فيك مثلا من عيسى بن مريم ، أحبته النصارى فرفعته فوق قدره ، وأبغضته اليهود حتى بهتت أمه " .
قال أبو العباس : وقد كان على عثر على قوم خرجوا من محبته ، باستحواذ الشيطان عليهم ، إلى أن كفروا بربهم ، وجحدوا ما جاء به نبيهم ، واتخذوه ربا وإلها ، وقالوا : انت خالقنا ورازقنا ، فاستتابهم وتوعدهم ، فاقاموا على قولهم ، فحفر لهم حفرا دخن عليهم فيها طمعا في رجوعهم ، فأبوا ، فحرقهم بالنار ، وقال : ألا ترون قد حفرت حفرا (2) انى إذا رأيت أمرا منكرا * وقدت نارى ودعوت قنبرا *
__________
(1) عبد الله بن سبأ : رأس الطائفة السبئية ، نقل ابن حجر عن ابن عساكر في تاريخه : (كان أصله من اليمن ، وكان يهوديا فأظهر الاسلام ، وطاف بالمسلمين ليلفتهم عن طاعة الائمة ، ويدخل بينهم الشر ، ودخل دمشق لذلك) .
وانظر لسان الميزان 3 : 289 - 290 .
(2) الحفر ، بلسكون ويحرك : البئر الواسعة .
(*)(5/5)
وروى أصحابنا في كتب المقالات أنه لما حرقهم صاحوا إليه الآن ظهر لنا ظهورا بينا أنك أنت الاله ، لان ابن عمك الذى أرسلته قال : (لا يعذب بالنار إلا رب النار) .
روى أبو العباس ، عن محمد بن سليمان بن حبيب المصيصى (1) عن على بن محمد النوفلي عن ابيه ومشيخته ، ان عليا مر بهم وهم يأكلون في شهر رمضان نهارا ، فقال : أسفر أم مرضى ؟ قالوا : ولا واحدة منهما قال : أفمن أهل الكتاب أنتم ؟ قالوا : لا ، قال : فما بال الاكل في شهر رمضان نهارا ! قالوا : أنت أنت ! لم يزيدوه على ذلك ، ففهم مرادهم ، فنزل عن فرسه ، فالصق خده بالتراب ، ثم قال ويلكم إنما أنا عبد من عبيد الله ، فاتقوا الله ، وارجعوا إلى الاسلام ، فأبوا فدعاهم مرارا ، فأقاموا على أمرهم ، فنهض عنهم ، ثم قال : شدوهم وثاقا ، وعلى بالفعلة والنار والحطب ، ثم أمر بحفر بئرين ، فحفرتا ، فجعل أحداهما سربا (2) والآخر مكشوفة ، وألقى الحطب في المكشوفة ، وفتح بينهما فتحا ، وألقى النار في الحطب ، فدخن عليهم ، وجعل يهتف بهم ، ويناشدهم : ارجعوا إلى الاسلام ، فأبوا ، فأمر بالحطب والنار ، وألقى عليهم ، فاحترقوا ، فقال الشاعر : لترم بى المنية حيث شاءت إذا لم ترم بى في الحفرتين إذا ما حشتا حطبا بنار (3) فذاك الموت نقدا غير دين قال : فلم يبرح واقفا عليهم حتى صاروا حمما .
قال أبو العباس ثم إن جماعة من أصحاب على ، منهم عبد الله بن عباس ، شفعوا في عبد الله بن سبا خاصة ، وقالوا : يا أمير المؤمنين ، إنه قد تاب فاعف عنه ، فأطلقه بعد أن اشترط عليه ألا يقيم بالكوفة ، فقال : أين أهب ؟ قال : المدائن ، فنفاه إلى المدائن ،
__________
(1) المصيصى ، بكسر الميم والصاد المشددة وسكون الياء : منسوب إلى المصيصة : مدينة على الساحل .
(2) السرب ، بفتحتين : الحفير تحت الارض .
(3) حش النار ، أي أوقدها .(5/6)
فلما قتل أمير المؤمنين عليه السلام أظهر مقالته ، وصارت له طائفة وفرقة يوصدقونه يتبعونه ، وقال لما بلغه قتل على : والله لو جئتمونا بدماغه في سبعين صرة ، لعلمنا أنه لم يمت ، ولا يموت حتى يسوق العرب بعصاه .
فلما بلغ ابن عباس ، ذلك قال : لو علمنا أنه يرجع لما تزوجنا نساءه ، ولا قسمنا ميراثه .
قال أصحاب المقالات : واجتمع إلى عبد الله بن سبأ بالمدائن جماعة على هذا القول منهم عبد الله بن صبرة الهمداني ، وعبد الله بن عمرو بن حرب الكندى ، وآخرون غيرهما ، وتفاقم أمرهم .
وشاع بين الناس قولهم ، وصار لهم دعوة يدعون إليها ، وشبهة يرجعون إليها ، وهى ما ظهر وشاع بين الناس ، من إخباره بالمغيبات حالا بعد حال ، فقالوا : إن ذلك لا يمكن أن يكون إلا من الله تعالى ، أو من حلت ذات الاله في جسده ، ولعمري إنه لا يقدر على ذلك إلا بإقدار الله تعالى إياه عليه ، ولكن لا يلزم من إقداره إياه عليه أن يكون هو الاله ، أو تكون ذات الاله حالة فيه ، وتعلق بعضهم بشبهة ضعيفة ، نحو قول عمر وقد فقأ على عين إنسان ألحد في الحرم : ما أقول في يد الله ، فقأت عينا في حرم الله ! ونحو قول على : والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية ، بل بقوة إلهية ونحو قول رسول الله صلى الله عليه وآله : (لا إله إلا الله وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الاحزاب وحده) والذى هزم الاحزاب هو على بن أبى طالب ، لانه قتل شجاعهم وفارسهم عمرا لما اقتحموا الخندق ، فأصبحوا صبيحة تلك الليلة هاربين مفلولين ، من غير حرب سوى قتل فارسهم .
وقد أومأ بعض شعراء الامامية إلى هذه القالة ، فجعلها من فضائلة ، وذلك قولة : إذا كنتم ممن يرم لحاقه فهلا برزتم نحو عمر ومرحب (1)
__________
(1) عمرو بن ود ومرحب اليهودي ، قتل على أولهما يوم الخندق وثانيهما يوم خيبر ، خبرهما مشهور معروف .(5/7)
وكيف فررتم يوم أحد وخيبر ويوم حنين مهربا بعد مهرب ألم تشهدوا يوم الاخاء وبيعه الغدير وكل حضر غير غيب (1) فكيف غدا صنو النفيلى ويحه أميرا على صنو النبي المرجب ! وكيف علا من لا يطا ثوب أحمد على من علا من أحمد فوق منكب إمام هدى ردت له الشمس جهرة فصلى أداء عصره بعد مغرب (2) ومن قبله أفنى سليمان خيله رجاء فلم يبلغ بها نيل مطلب (3) يجل عن الافهام كنه صفاته ويرجع عنها الذهن رجعة أخيب فليس بيان القول عنه بكاشف غطاء ، ولا فصل الخطاب بمعرب وحق لقبر ضم اعضاء حيدر وغودر منه في صفيح مغيب (4)
__________
(1) هو غدير خم : موضع بين مكة والمدينة ، روى صاحب الرياض النضرة (2 : 169) : عن البراء بن عازب ، قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا بغدير خم ، فنودى فينا : الصلاة جامعة فآوى رسول الله صلى عليه وسلم تحت شجرة ، فصلى الظهر وأخذ بيد على ، وقال : ألستم تعلمون أنى أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا : بلى ، فأخذ بيد على وقال : اللهم من كنت مولاه فعلى مولاه ، اللهم وال من والاه ، قال : فلقيه عمر بعد ذلك ، فقال : هنيئا لك يا ابن طالب ، أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة) .
(2) قال الشريف المرتضى في أماليه (2 : 340) : (هو خبر رد الشمس له عليه السلام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، الانه روى أن النبي صلى الله عليه وآله كان نائما ، ورأسه في حجر أمير المؤمنين عليه السلام ، فلما مضى وقتها وانتبه النبي عليه السلام دعا الله تعالى بردها له ، فردها ، فصلى عليه السلام الصلاة في وقتها) ، ثم أورد بيت السيد الحميرى : ردت عليه لما فاته وقت الصلاة وقد دنت للمغرب (3) يشير إلى ما رواه بعض المفسرين لقوله تعالى : (ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب * إذ عرض عليه بالعشى الصافنات الجياد * فقال إنى أحببت حب الخير عن ذكر ربى حتى توارت بالحجاب * ردوها على فطفق مسحا بالسوق والاعناق) : إن سليمان عرض عليه خيل جياد - في وقت العصر - ألهاه ذلك عن الصلاة العصر ، فغضب لذلك ، وطلب من الله أن يرد عليه الشمس بعد الغروبها ليصلى العصر حاضرا ، فردت ، ثم غضب على الخيل التى كانت سببا في فوت الصلاة أعناقها وسوقها) .
(4) الصفيح : الحجر الرقيق تسقف به القبور .(5/8)
يكون ثراه سر قدس ممنع وحصباؤه من نور وحى محجب وتغشاه من نور الاله غمامة تغاديه من قدس الجلال بصيب وتنقض أسراب النجوم عواكفا على حجرتيه كوكب بعد كوكب فلولاك لم ينج ابن متى ولاخبا سعير لابراهيم بعد تلهب ولا فلق البحر ابن عمران بالعصا ولا فرت الاحزاب عن اهل يثرب ولا قبلت من عابد صلواته ولا غفر الرحمن زلة مذنب ولم يغل فيك المسلمون جهالة ولكن لسر في علاك مغيب وقالوا أيضا : إن بكريا وشيعيا تجادلا ، واحتكما إلى بعض أهل الذمة ممن لاهوى له مع أحد الرجلين في التفضيل ، فأنشدهما : كم بين من شك في عقيدته وبين من قيل انه الله ! [ طرق الاخبار بالمغيبات ] فأما الاخبار عن الغيوب ، فلمعترض أن يقول : قد يقع الاخبار عن الغيوب من طريق النجوم ، فإن المنجمين قد اتفقوا على أن شكلا من أشكال الطالع ، إذا وقع لمولود ، اقتضى أن يكون صاحبه متمكنا من الاخبار عن الغيوب .
وقد يقع الاخبار عن الغيوب من الكهان ، كما يحكى عن سطيح ، وشق ، وسواد ابن قارب وغيرهم (1) .
__________
(1) شق بن أنمار بن نزار ، وسطيح بن مازن بن غسان ، وسواد بن قارب الدوسى ، وأخبارهم في الكهانه معروفة في كتب الادب والتاريخ .(5/9)
وقد يقع الاخبار عن الغيوب لاصحاب زجر الطير والبهائم ، كما يحكى عن بنى لهب في الجاهلية (1) .
وقد يقع الاخبار عن الغيوب للقافة ، كما يحكى عن بنى مدلج (2) .
وقد يخبر أرباب التبخيرات وأرباب السحر والطلسمات بالمغيبات .
وقد يقع الاخبار عن الغيوب لارباب النفس الناطقة القوية الصافية التى تتصل مادتها الروحانية على ما تقوله الفلاسفة ، وقد يقع الاخبار عن الغيوب بطريق المنامات الصادقة ، على ما رآه أكثر الناس ، وقد وردت الشريعة نصا به .
وقد يقع الاخبار عن الغيوب بأمر صناعي يشبه الطبيعي ، كما رأيناه عن أبى البيان وابنه .
وقد يقع الاخبار عن الغيوب بواسطة إعلام ذلك الغيب إنسانا آخر لنفسه بنفس ذلك المخبر اتحاد أو كالاتحاد ، وذلك كما يحكى أبو البركات بن ملكا الطبيب في كتاب ، ، المعتبر ، ، (3) قال : والمرأة العمياء التى رأيناها ببغداد ، وتكررت مشاهدتنا لها منذ مد ة مديدة ، قدرها ما يقارب ثلاثين سنة ، وهى على ذلك إلى الآن تعرض عليها الخبايا ، فتدل عليها بأنواعها وأشكالها ومقاديرها ، وأعدادها ، قريبها ومألوفها ، دقيقها
__________
(1) الزجر : الاستدلال بأصوات الحيوانات وحركاتها وسائر أحوالها على الحوادث واستعلام ما غاب عنهم .
وبنو لهب : حى في الازد ، كانوا أزجر العرب .
(2) القيافة قسمان : قيافة الاثر ، ويقال لها العيافة ، وقيافة البشر ، أما العيافة فهو علم باحث عن تتبع آثار الاقدام والاخفاف والحوافر في المقابلة للاثر ، حتى لقد روى أن بعضهم كان يفرق بين أثر قدم الشاب والشيخ وقدم الرجل والمرأة ، والبكر والثيب .
أما قيافة البشر فهى الاستدلال بهيئات أعضاء الشخصين على المشاركة والاتحاد بينهما في النسب والولادة وسائر أحوالهما وأخلاقهما وكان بنو مدلج ، وهم بطن في ، كنانة ، من أعلم العرب في قيافة البشر .
(3) هو كتاب المعتبر في النمطق ، لابي البركات هبة الله بن ملكا البغدادي ، المتوفى سنة 547 ، ذكره ، صاحب كشف الظنون .
(*)(5/10)
وجليلها ، تجيب على أثر السؤال من غير توقف ولا استعانة بشئ من الاشياء إلا أنها كانت تلتمس أن يرى الذى يسأل عنه أبوها ، أو يسمعه في بعض الاوقات دون بعض ، وعند قوم دون قوم ، فيتصور الدهماء أن الذى تقوله بإشاره من أبيها ، وكان الذى تقوله يبلغ من الكثرة إلى ما يزيد على عشرين كلمة ، إذا قيل بصريح الكلام الذى هو الطريق الاخصر ، وإنما كان ابوها ، يقول إذا رأى ما يراه من أشياء كثيرة مختلفة الانواع والاشكال في مدة واحدة : كلمة واحدة ، وأقصاه كلمتان ، وهى التى يكررها في كل قول ، ومع كل ما يسمع ، ويرى : سلها وسلها تخبرك ، أو قولى له ، أو قولى يا صغيرة .
قال أبو البركات : ولقد عاندته يوما وحاققته في ألا يتكلم البتة ، وأريته عدة أشياء ، فقال لفظة واحدة ، فقلت له : الشرط أملك (1) ، فاغتاظ واحتد طيشه عن أن يملك نفسه ، فباح بخبيئته ، قال : ومثلك يظن أننى أشرت إلى هذا كله بهذه اللفظة ، فاسمع الآن ، ثم التفت إليها ، وأخذ يشير بإصبعه إلى شئ ، وهو يقول تلك الكلمة ، وهى تقول : هذا كذا ، وهذا كذا ، على الاتصال من غير توقف ، وهو يقول تلك الكلمة ، لا زيادة عليها ، وهى لفظة واحدة ، بلحن واحد ، وهيئة واحدة ، حتى ضجرنا ، واشتد تعجبنا ، ورأينا أن هذه الاشارة ، لو كانت تتضمن هذه الاشياء لكانت أعجب من كل ما تقوله العمياء .
قال أبو البركات : ومن عجيب ما شاهدناه من أمرها ، أن أباها كان يغلط في شئ يعتقده على خلاف ما هو به ، فتخبر هي عنه على معتقداتها ، كأن نفسها هي نفسه .
قال أبو البركات : ورأيناها تقول ما لا يعلمه أبوها من خبيئة في الخبيئة التى اطلع عليها أبوها ، فكانت تطلع على ما قد علمه أبوها ، وعلى ما لم يعلمه أبوها وهذا أعجب وأعجب .
__________
(1) من المثل : الشرط أملك ، عليك أم لك ، أي الشرط يملك صاحبه في إلزامه إياه المشروط ، إن كان له أو عليه .
(*)(5/11)
قال أبو البركات : وحكاياتها أكثر من أن تعد ، وعند كل أحد من الناس من حديثها ما ليس عند الآخر ، لانها كانت تقول من ذلك على الاتصال لشخص شخص جوابا بحسب السؤال .
قال : وما زلت أقول : إن من يأتي بعدنا لا يصدق ما رأيناه منها ، فإن قلت لى : أريد أن تفيدني العلة في معرفة المغيبات هذه ؟ قلت : لك العلة التى تصلح في جواب (لم) في نسبة المحمول إلى الموضوع ، تكون الحد الاوسط في القياس وهذه فالعلة الفاعلة الموجبة لذلك فيها هي نفسها بقوتها وخاصتها ، فما الذى أقوله في هذا ! وهل لى أن أجعل ما ليس بعلة علة ! واعلم أنا لا ننكر أن يكون في نوع البشر أشخاص يخبرون عن الغيوب ، ولكن كل ذلك مستند إلى الباري سبحانه بإقداره وتمكينه وتهيئة أسبابه ، فإن كان المخبر عن الغيوب ممن يدعى النبوة لم يجز أن يكون ذلك إلا بأذن الله سبحانه وتمكينه ، وأن يريد به تعالى استدلال المكلفين على صدق مدعى النبوة ، لانه لو كان كاذبا لكان يجوز أن يمكن الله تعالى الجن من تعليمه ذلك إضلالا للمكلفين ، وكذلك لا يجوز أن يمكن سبحانه الكاذب في ادعاء النبوة من الاخبار عن الغيب بطريق السحر ، وتسخير الكواكب والطلسمات ، ولا بالزجر ، ولا بالقيافة ، ولا بغير ذلك من الطرق المذكورة ، لما فيه من استفساد البشر وإغوائهم .
وأما إذا لم يكن المخبر عن الغيوب مدعيا للنبوة ، نظر في حاله ، فإن كان ذلك من الصالحين الاتقياء نسب ذلك إلى أنه كرامة أظهرها الله تعالى على يده ، إبانة له وتمييزا(5/12)
من غيره ، كما في حق على عليه السلام ، وإن لم يكن كذلك أمكن أن يكون ساحرا أو كاهنا ، أو نحو ذلك .
وبالجملة فصاحب هذه الخاصية إفضل وأشرف ممن لا يكون فيه ، من حيث اختصاصه بها ، فإن كان للانسان العارى منها مزية أخرى يختص بها توازيها ، أو تزيد عليها ، فنرجع إلى التمثيل والترجيح بينهما ، وإلا فالمختص بهذه الخاصية أرجح وأعظم من الخالى منها على جميع الاحوال .(5/13)
(59) الاصل : وقال لما قتل الخوارج فقيل له : يا أمير المؤمنين هلك القوم بأجمعهم : كلا والله ، إنهم نطف في أصلاب الرجال ، وقرارات النساء ، وكلما نجم منهم قرن قطع حتى يكون آخرهم لصوصا سلابين .
الشرح : نجم : ظهر وطلع .
قرارات النساء : كناية لطيفة عن الارحام .
ومن الكنايات اللطيفة الجارية هذا المجرى قوله تعالى : (أو لامستم النساء) (1) يعنى الجماع .
وقوله تعالى : (إن هذا أخى له تسع وتسعون نعجة) (2) .
وقوله : (شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم) (3) ، يعنى الفروج .
__________
(1) سورة النساء 43 ، المائدة 6 (2) سورة ص 23 ، والنعجة هنا كناية عن المرأة ، كما كنوا عنها بالشاة أيضا ، ومنه قول عنترة : يا ما قنص لمن حلت له حرمت على وليتها لم تحرم (3) سورة فصلت 20 (*)(5/14)
وقول رسول الله صلى الله عليه وآله للحادي : (يا أنجشة رفقا بالقوارير) (1) يعنى النساء .
[ الكناية والرموز والتعر يض مع ذكر مثل منها ] والكنا ية إبدال لفظة يستحى من ذكرها ، أو يستهجن ذكرها أو يتطير بها أو يقتضى الحال رفضها لامر من الامور بلفظة ليس فيها ذلك المانع ، ومن هذا الباب قول امرئ القيس : سموت إليها بعد أن نام أهلها سمو حباب الماء حالا على حال (2) فقالت لك الويلات إنك فاضحي ألست ترى السمار والناس أحوالى (3) فلما تنازعنا الحديث وأسمحت هصرت بغصن ذى شماريخ ميال (4) فصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا ورضت فذلت صعبة أي إذلال (5) .
قوله : (فصرنا إلى الحسنى) كناية عن الرفث ومقدمات الجماع .
وقال ابن قتيبة : تمازح (6) معاوية والاحنف ، فما رئى مازحان أوقر منهما ، قال
__________
(1) أنجشة الاسود الحادى ، كان حبشيا يكنى أبا مارية ، وكان حسن الصوت بلحداء ...
وعن أنس قال : كان أنجشة يحدو بالنساء ، وكان البراء بن مالك يحدو بالرجال ، فإذا اعتقب الابل قال النبي صلى الله عليه وسلم : (يا أنجشة رويدك سوقك بلقوارير) .
(2) ديوانه 31 ، 32 مع اختلاف في الرواية وترتيب الابيات .
وحباب المال : طرائقه .
وقوله : (حالا بعد حال) ، أي شيئا بعد شئ .
(3) الديوان : (فقالت : سباك الله) .
(4) تنازعنا الحديث ، أي حدثتها وحدثتني ، وأصله من النزع بالدلو ، وهو جذبها .
وأسمحت ، اقادت وسهلت بعد صعوبتها وامتناعها ، وهصرت ، أي جدبت ، وشبه شعرها بشماريخ النخل لتداخله وغزارته .
(5) رق كلامنا ، أي صرنا إلى الصبا والغزل فلم نرفع أصواتنا لئلا يشعر بنا .
ورضت فذلت ، أي لينتها .
بالكلام يراض البعير بالسير .
(6) الخبر في عيون الاخبار 2 : 203 ، وروى بيتين ، والثالث في اللسان (16 : 20) ، ونسب الابيات إلى يزيد بن عمرو بن الصعق ، وهى أيضا في الكامل 1 : 98 (طبعة أوربا) ، ونسبها لابي مهوش الفقعى ، ونقل عن دعبل أنها لابي المهوس الاسدي .
(*)(5/15)
معاوية : يا أبا بحر ، ما الشئ الملفف في البجاد ؟ فقال : السخينة (1) يا أمير المؤمنين ، وإنما كنى معاوية عن رمى بنى تميم بالنهم وحب الاكل ، بقول القائل : إذا ما مات ميت من تميم فسرك أن يعيش فجئ بزاد بخبز أو بتمر أو بسمن أو الشئ الملفف في البجاد (2) تراه يطوف في الآفاق حرصا ليأكل رأس لقمان بن عاد .
وأراد الشاعر وطب اللبن ، فقال الاحنف : (هو السخينة يا أمير المؤمنين) ، لان قريشا كانت تعير بأكل السخينة قبل الاسلام ، لان أكثر زمانها كان زمان قحط والسخينة ما يسخن بالنار ويذر عليه دقيق ، وغلب ذلك على قريش حتى سميت سخينة ، قال حسان : زعمت سخينة أن ستغلب ربها وليغلبن مغالب الغلاب (3) فعبر كل واحد من معاوية والاحنف عما أراده بلفظ غير مستهجن ، ولا مستقبح ، وعلم كل واحد منهما مراد صاحبه ، ولم يفهم الحاضرون ما دار بينهما وهذا من باب التعريض وهو قريب من الكناية .
ومن كنايات الكتاب العزيز أيضا قوله تعالى : (وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها) ، كنى بذلك عن مناكح النساء .
ومنها قوله تعالى : (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) (4) ، كنى عن مواقع النسل بمواقع الحرث .
__________
(1) السخينة : طعام يتخذ من دقيق وسمن ، وكانت قريش تكثر من أكلها فعيرت بها حتى سموا سخينة .
(2) البجاد : كساء مخطط ، من أكسية الاعراب .
(3) نسبة صاحب اللسان (17 : 68) ألى كعب بن مالك الانصاري .
(4) سورة البقرة 223(5/16)
ومما ورد في الاخبار النبوية في هذا الباب ، الخبر الذى فيه : إن المرأة قالت للرجل القاعد منها مقعد القابلة لا يحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه ، فقام عنها وتركها .
وقد أخذ الصاحب بن عباد هذه اللفظة ، فقال لابي العلاء الاسدي الاصفهانى ، وقد دخل بزوجة له بكر : قلبى على الجمرة يا أبا العلا فهل فتحت الموضع المقفلا ! (1) وهل فضضت الكيس عن ختمه وهل كحلت الناظر الاحولا ! وأنشد الفرزدق في سليمان بن عبد الملك شعرا قال فيه : دفعن إلى لم يطمثن قبلى وهن أصح من بيض النعام (2) فبتن بجانبى مصرعات وبت أفض أغلاق الختام .
فاستنكر سليمان ذلك - وكان غيورا جدا - وقال له : قد أقررت بالزنا ، فلاجلدنك ، فقال : يا أمير المؤمنين إنى شاعر ، وإن الله يقول في الشعراء : (وأنهم يقولون ما لا يفعلون) ، وقد قلت ما لم أفعل (3) .
قال سليمان : نجوت بها .
ومن الاخبار النبوية أيضا ، قوله عليه السلام في الشهادة على الزنا : (حتى تشاهد الميل في المكحلة) .
__________
(1) الكناية والتعويض للثعالبي 13 (2) ديوانه 836 ، وفيه (يمدح هشام بن عبد الملك) بقصيدة مطلعها : ألستم عائجين بنا لعنا نرى العرصات أو أثر الخيام والخبر أيضا في الكنايات الجرجاني 21 .
(3) زاد الجرجاني بعدها : (ثم أنشأ يقول : لقد شهدت لى في الطواسين آية أقام بها عذرى الكتاب المنزل يقولون مالا يفعلون وإنني من القوم قوال لما لست أفعل (2 - نهج - 5) (*)(5/17)
ومنها قوله عليه السلام للمرأة التى استفتته في الذى استخلت له ولم يستطع جماعها : (لا ، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) .
ومنها قول المرأة التى شكت إلى عائشة زوجها أنه يطمح بصره إلى غيرها : (إنى عزمت على إن أقيد الجمل) ، إشارة إلى ربطه .
ومنها قول عمر : يا رسول الله ، هلكت ، قال : (وأهلكك ؟) قال : حولت رحلى ، فقال عليه السلام : (أقبل وأدبر واتق الحيضة) ، ففهم صلى الله عليه وآله ما أراد .
ورأى عبد الله بن سلام على إنسان ثوبا معصفرا ، فقال : لو أن ثوبك في تنور أهلك لكان خيرا لك ، فذهب الرجل فأحرق ثوبه في تنور أهله ، وظن أنه أراد الظاهر ، ولم يرد ابن سلام ذلك ، وإنما أراد : لو صرف ثمنه في دقيق يخبزه في تنور أهله .
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله : (إياكم وخضراء الدمن) ، والدمن : جمع دمنة وهى المزبلة فيها البعر تنبت نباتا أخضر ، وكنى بذلك عن المرأة الحسناء في منبت السوء .
ومن ذلك قولهم : (إياك وعقيلة الملح) ، لان الدرة تكون في الماء الملح ، ومرادهم النهى عن المرأة الحسناء ، وأهلها أهل سوء .
ومن ذلك قولهم : (لبس له جلد النمر) ، و (قلب له ظهر المجن) .
وقال أبو نواس : لا أذود الطير عن شجر قد بلوت المر من ثمره (1)
__________
(1) من قصيدة يمدح فيها العباس بن عبيد الله بن أبى جعفر المنصور ، ومطلعها : أيها المنتاب من عفره لست من ليلى ولا سمره ديوانه 66 .
(*)(5/18)
وقد فسر قوم قوله تعالى : (وإذا مروا باللغو مروا كراما) (1) فقالوا : أراد وإذا عبروا عن لفظ يقبح ذكره كنوا عنه ، فسمى التعبير عن الشئ مرورا به ، وسمى الكناية عنه كرما .
ومن ذلك أن بنت أعرابية صرخت ، وقالت : لسعتني العقرب ، فقالت أمها : أين ؟ فقالت : موضع لا يضع الراقي فيه أنفه ، كنت بذلك عن السوأة .
ومن هذا الباب قوله سبحانه : (ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام) (2) ، قال كثير من المفسرين : هو كناية عن الغائط ، لانه يكون من الطعام ، فكنى عنه ، إذ هو منه مسبب ، كما كنوا عن السمة بالنار فقالوا : ما نار تلك ؟ أي ما سمتها ؟ ومنه قول الشاعر (3) : قد وسموا آبالهم بالنار (4) والنار قد تشفى من الاوار (5) وهذا من أبيات المعاني ، يقول : هم أهل عز ومنعة ، فسقى راعيهم إبلهم بالسمات التى على الابل ، وعلم المزاحمون له في الماء انه لا طاقه لهم بمنازعتهم عليه لعزهم ، فكانت السمات سببا لسقيها .
ولاوار : العطش ، فكنى سبحانه بقوله : (يأكلان الطعام) عن إتيان الغائط ، لما كان أكل الطعام سببا له ، كما كنى الشاعر بالنار عن السمة ، لما كانت النار ، سبب السمة .
__________
(1) سورة الفرقان 72 (2) سورة المائدة 75 (3) البيتان في اللسان 7 : 2 .
1 ، والمقايس 1 : 40 من غير نسبة .
(4) رواية البيت في المقاييس : * قد شربت آبالهم بالنار * وروايته في اللسان : * حتى سقوا آبالهم بالنار * وقال في شرحه : (أي سقوا إبلهم بالسمة ، أي إذا نظروا في سمة صاحبه عرف صاحبه فسقى وقدم على غيره لشرف أرباب تلك السمة ، وخلوا لها الماء) .
(5) وروى هذا البيت أيضا في اللسان 5 : 95 .
(*)(5/19)
ومن هذا الباب قوله سبحانه : (وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض) ، (1) كنى بالافضاء عن الجماع .
ومن الاحاديث النبوية : (من كشف قناع امرأة ، وجب عليه مهرها) ، كنى عن الدخول بها يكشف القناع ، لانه يكشف في تلك الحاله غالبا .
والعرب تقول في الكناية عن العفة : ما وضعت مومسة عنده قناعا .
ومن حديث عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وآله يصيب من رءوس نسائه وهو صائم .
كنت بذلك عن القبلة .
ومن ذلك قوله تعالى : (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) ، (2) كنى بذلك عن الجماع والمخالطة .
وقال النابغة الجعدى : إذا ما الضجيع ثنى عطفها تثنت فكانت عليه لباسا (3) .
وقد كنت العرب عن المرأة بالريحان ، وبالسرحة ، قال ابن الرقيات : لا أشم الريحان إلا بعينى كرما إنما يشم الكلاب أي أقنع من النساء بالنظر ، ولا أرتكب منهن محرما .
وقال حميد بن ثور الهلالي : أبى الله إلا أن سرحة مالك على كل أفنان العضاة تروق (4) فيا طيب رياها وبرد ظلالها إذا حان من حامى النهار وديق * (هامش) (1) سورة النساء 21 (2) سورة البقرة 187 (3) اللسان 7 : 87 ، ومقاييس اللغة : 5 : 230 ، وروايته : (ثنى جيدها) .
(4) ديوانه 40 .
(*)(5/20)
وهل أنا إن عللت نفسي بسرحة من السرح مسدود على طريق ! والسرحة : الشجرة .
وقال أعرابي ، وكنى عن امرأتين : أيا نخلتى أود إذا كان فيكما جنى فانظرا من تطعمان جناكما ! (1) ويا نخلتى أود إذا هبت الصبا وأمسيت مقرورا ذكرت ذراكما ومن الاخبار النبوية قوله عليه السلام : (من كان يؤمن بالله واليوم اللآخر فلا يسقين ماءه زرع غيره) ، أراد النهى عن نكاح الحبائل ، لانه إذا وطئها فقد سقى ماءه زرع غيره .
وقال صلى الله عليه وآله لخوات بن جبير (2) : (ما فعل جملك يا خوات) ؟ يمازحه ، فقال : قيده الاسلام يا رسول الله ، لان خواتا في الجاهلية كان يغشى البيوت ، ويقول : شرد جملى وأنا أطلبه ، وإنما يطلب النساء والخلوة بهن ، وخوات هذا هو صاحب ذات النحيين .
ومن كنايات القرآن العزيز قوله تعالى : (ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن) (3) ، كنى بذلك عن الزنا ، لان الرجل يكون في تلك الحال بين يدى المرأة ورجليها .
ومنه في الحديث : (إذا قعد الرجل بين شعبها الاربع) .
__________
أود : موضع بالبادية .
(2) خوات بن جبير بن النعمان بن أمية الانصاري الصحابي ، أبو عبد الله ، وقيل : أبو صالح أحد فرسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مات سنة 1 : 543 .
(3) سورة الممتحنة 12 .
(*)(5/21)
وقد فسر قوم قوله تعالى : (وامرأته حمالة الحطب) ، عن النميمة ، والعرب تقول لمن ينم ويشى : يوقد بين الناس الحطب الرطب .
وقال الشاعر يذكر امرأة : من البيض لم تصطد على خيل لامة ولم تمش بين الناس بالحطب الرطب (1) أي لم تؤخذ على أمر تلام عليه ، ولم تفسد بين الحى بالكذب والنميمة .
ومما ورد نظير ممازحة معاوية والاحنف من التعريضات أن أبا غسان المسمعى مر بأبى غفار السدوسى ، فقال : يا غفار ، ما فعل الدرهمان ؟ فقال : لحقا بالدرهم ، أراد بالدرهمين قول الاخطل : فإن تبخل سدوس بدرهميها فإن الريح طيبة قبول (2) وأراد الآخر قول بشار : وفى جحدر لؤم وفى آل مسمع صلاح ولكن درهم القوم كوكب (3) وكان محمد بن عقال المجاشعى عند يزيد بن مزيد الشيباني ، وعنده سيوف تعرض عليه ، فدفع سيفا منها إلى يد محمد ، فقال : كيف ترى هذا السيف ؟ فقال : نحن أبصر بالتمر منا بالسيوف ، أراد يزيد قول جرير في الفرزدق : بسيف أبى رغوان سيف مجاشع ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم (4) ضربت به عند الامام فأرعشت يداك ، وقالوا محدث غير صارم
__________
(1) البيت في اللسان 1 : 313 ، من غير نسبة .
(2) ديوانه 12 6 (3) 1 : 343 (4) ديوانه 563 .
(*)(5/22)
وأراد محمد قول مروان بن أبى حفصة : لقد أفسدت أسنان بكر بن وائل من التمر مالو أصلحته لمارها وقال محمد بن عمير بن عطاء التميمي لشريك النميري ، وعلى يده صقر : ليس في الجوارح أحب إلى من البازى .
فقال شريك : إذا كان يصيد القطا ، أراد محمد قول جرير : أنا البازى المطل على نمير أتيح من السماء له انصبابا (1) وأراد شريك قول الطرماح : تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ولو سلكت سبل المكارم ضلت (2) ودخل عبد الله بن ثعلبة المحاربي على عبد الملك بن يزيد الهلالي ، وهو يومئذ والى إرمينية ، فقال له : ماذا لقينا الليلة من شيوخ محارب ! منعونا النوم بضوضائهم ولغطهم ، فقال عبد الله بن ثعلبة : إنهم أصلح الله الامير ! أضلوا الليلة برقعا ، فكانوا يطلبونه .
أراد عبد الملك قول الشاعر : تكش بلا شئ شيوخ محارب وما خلتها كانت تريش ولا تبرى (3) ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت قدل عليها حية البحر وأراد الله قول القائل : لكل هلالي من اللؤم برقع ولابن يزيد برقع وجلال (4)
__________
(1) ديوانه 72 .
(2) الشعر والخبر في اللآلى 863 ، وكنايات الجرجاني 72 (3) للآخطل ، ديوانه 32 ، تكش : تصوت ، وفى الديوان : (تفق) (4) الشعر والخبر في كنايات الجرجاني 72(5/23)
وروى أبو بكر بن دريد في كتاب ، ، الامالى ، ، عن أبى حاتم ، عن العتبى ، عن أبيه ، أنه عرض على معاوية فرس وعنده عبد الرحمن بن الحكم بن أبى العاص ، فقال : كيف ترى هذا الفرس يا أبا مطرف ؟ قال : أراه أجش هزيما ، قال معاوية : أجل ، لكنه لا يطلع على الكنائن ، قال : يا أمير المؤمنين ، ما استوجبت منك هذا الجواب كله ، قال : قد عوضتك عنه عشرين ألفا .
قال أبو بكر بن دريد : أراد عبد الرحمن التعريض بمعاوية بما قاله النجاشي في أيام صفين : ونجى ابن حرب سابح ذو علالة أجش هزيم والرماح دوانى (1) إذا قلت أطراف الرماح تنوشه مرته له الساقان والقدمان (2) فلم يحتمل معاوية منه هذا المزاح ، وقال : لكنه لا يطلع على الكنائن ، لان عبد الرحمن كان يتهم بنساء إخوته (3) وروى ابن دريد أيضا في كتاب ، ، الامالى ، ، عن أبى حاتم النخعي ، أن النجاشي دخل على معاوية ، فقال له : كيف قلت : (ونجى ابن حرب سابح) ، وقد علمت أن الخيل لا تجرى بمثلى فرارا ؟ قال : إنما عنيت عتبة أخاك - وعتبة جالس - فلم يقل معاوية ولا عتبة شيئا
__________
(1) السابح : الفرس السريع ، كأنه يسبح ، ولعلالة : البقية من السير .
والاجش : الغليظ الصوت من الانسان والخيل والرعد وغيره .
والهزيم : الفرس الشديد الصوت .
(2) مرته : استدرت جريه .
(3) الخبر برواية أخرى في الاغانى 13 : 260 .
(*)(5/24)
وورد إلى البصرة (1) غلام من بنى فقعس ، كان يجلس في المربد (2) ، فينشد شعرا ، ويجمع الناس إليه ، فذكر ذلك للفرزدق ، فقال : لاسوءنه ، فجاء إليه ، فسمع شيئا من شعره ، فحسده عليه ، فقال : ممن أنت قال : من بنى فقعس ، قال : كيف تركت القنان (3) ؟ فقال : مقابل لصاف (4) ، فقال : يا غلام ، هل أنجدت أمك ؟ قال : بل أنجد أبى .
قال أبو العباس المبرد : أراد الفرزدق قول الشاعر (5) : ضمن القنان لفقعس سوأتها إن القنان لفقعس لمعمر (6) والقنان جبل في بلاد فقعس ، يريد أن هذا الجبل يستر سوآتهم ، وأراد الغلام قول أبى المهوش (7) : وإذا يسرك من تميم خلة فلما يسوءك من تميم أكثر (8) أكلت أسيد والهجيم ودارم أير الحمار وخصيتيه العنبر قد كنت أحسبهم أسود خفية فإذا لصاف يبيض فيه الحمر ولصاف : جبل في بلاد بنى تميم ، وأراد بقوله : (هل أنجدت أمك) ، أي إن كانت
__________
(1) الخبر في أمالى القالى 2 : 236 وكنايات الجرحانى 73 وخزانة الادب 3 : 85 والآلى للبكري 859 مع اختلاف الرواية .
(2) المربد ، يطلق على مواضع ، والمراد هنا مربد البصرة ، قال ياقوت : (من أشهر محالها ، وكان يكون سوق الابل فيه قديما ، ثم صار محلة عظيمة ، سكنها الناس ، وبه كانت مفاخرات الشعراء ومجلس الخطباء) .
(3) في الاصل : (القيان) تصحيف ، والقنان : موضع ذكره ياقوت ، وقال : (هو جبل فيه ماء يدعى العسيلة ، وهو لبنى أسد ، ولذلك قيل ...
) ، وأورد البيت .
(4) رواية الخزانة : (تبيض فيه الحمر) .
(5) هو نهشل بن حرى ، يهجو بنى فقعس ، كما ذكره ياقوت (لصاف) .
(6) قال ياقوت : (معمر ، أي ملجأ) .
(7) من أبيات تسعة ذكرها صاحب الخزانة 3 : 84 نقلا عن ضالة الادب .
(8) في الجرجاني والبكرى والخزانة : (خصلة) .
(*)(5/25)
أنجد فقد أصابها أبى ، فخرجت تشبهني ، فقال : بل أنجد أبى ، يريد بل أبى أصاب أمك فوجدها بغيا .
قال عبد الله بن سوار : كنا على مائدة إسحاق بن عيسى بن على الهاشمي ، فأتينا بحريرة قد عملت بالسكر والسمن والدقيق ، فقال (1) معد بن غيلان العبدى : يا حبذا السخينة ، ما أكلت أيها الامير سخينة ألذ من هذه ، فقال : إلا أنها تولد الرياح في الجوف كثيرا ، ولا هكذا ! إن المعايب لا تذكر على الخوان .
أراد معد ما كانت العرب تعير به قريشا في الجاهلية من أكل السخينة (2) ، وقد قدمنا ذكره ، وأراد إسحاق بن عيسى ما يعير به عبد القيس من الفسو ، قال الشاعر : وعبد القيس مصفر لحاها كان فساءها قطع الضباب .
وكان سنان (3) بن أحمس النميري ، يساير الامير عمر بن هبيرة الفزارى ، وهو على له ، فتقدمت البغلة على فرس الامير ، فقال : اغضض (4) بغلتك يا سنان ، فقال : أيها الامير ، إنها مكتوبة ، فضحك الامير .
أراد عمر بن هبيرة قول جرير : فغض الطرف إنك من نمير فلا كعبا بلغت ولا كلابا .
وأراد سنان قول ابن دارة (5) : لا تأمنن فزاريا خلوت به على قلوصك واكتبها بأسيار .
__________
(1) في كنايات الجرجاني (معدل) .
(2) الخبر في الكنايات للجرجاني 72 (3) في الاقتضاب : (شريك بن عبد الله النمري) .
(4) في الاقتضاب : (غض من لجام بغلتك) .
(5) في الاصول : (الاخطل) ، وهو خطأ ، والبيت لسالم بن دارة ، من أبيات أوردها صاحب الخزانة : 1 : 557 وانظر الجرجاني 74 ، والفضل 54 ، والسهيلى 2 : 288 ، وزهر الآدب 21 ، والاقتضاب 50 .
(*)(5/26)
وكانت فزارة تعير بإتيان الابل ، ولذلك قال الفرزدق يهجو عمر بن هبيرة هذا ، ويخاطب يزيد بن عبد الملك (1) .
أمير المؤمنين وأنت بر تقى لست بالجشع الحريص (2) أأطعمت العراق ورافديه فزاريا أحذ يد القميص (3) تفنق بالعراق أبو المثنى وعلم قومه أكل الخبيص (4) ولم يك قبلها راعى مخاض لتأمنه على وركى قلوص (5) الرافدان : دجلة والفرات ، وأحذ يد القميص ، كناية عن السرقة والخيانة .
وتفنق : تنعم وسمن ، وجارية فنق ، أي سمينة .
والبيت الآخر كناية عن إتيان الابل الذى كانوا يعيرون به (6) .
وروى أبو عبيدة عن عبد الله بن عبد الاعلى قال : كنا نتغدى مع الامير عمر بن هبيرة ، فأحضر طباخه جام خبيص ، فكرهه للبيت المذكور السابق ، إلا أن جلده أدركه ، فقال : ضعه يا غلام ، قاتل الله الفرزدق ، لقد جعلني أرى الخبيص فاأتحى منه (7) .
قال المبرد : وقد يسير البيت في واحد ، ويرى أثره عليه أبدا ، كقول أبى العتاهية
__________
(1) ديوانه 487 ، الكامل 479 (طبع أوربا) ، الفضال 111 ، كنايات الجرجاني 74 ، الحيوان 5 : 197 ، الشعراء لابن قتيبة 34 (2) الديوان والحيوان : (بالوالى الحريص) .
(3) الاخذ : السريع اليد الخفيفها قال ابن قتيبة : (يريد أنه خفيف اليد بالخيانة ، فاضطرته القافية لذكر القميص) .
(4) في الحيوان : (تفتق) ، من قولهم : تفقت خواصر الغنم من البقل ، إذا تسعت من كثرة الرعى .
والخبيص : ضرب من الحلوى المطبوخة .
(5) المخاض : الحوامل من النوق : والقلوس : الشابة من الابل .
(6) كنايات الجرجاني 74 (7) كنايات الجرجاني 75 .
(*)(5/27)
في عبد الله بن معن بن زائدة : فما تصنع بالسيف إذا لم تك قتالا (1) فكسر حلبة السيف وضعها لك خلخلا وكان (2) عبد الله بن معن إذا تقلد السيف ورأى من يرمقه بان أثره عليه ، فظهر الخجل منه .
ومثل ذلك ما يحكى أن جريرا قال : والله لقد قلت في بنى ثعلب بيتا لو طعنوا بعدها بالرماح في أستاههم ما حكوها ، وهو : والتغلبى إذا تنحنح للقرى حك استه وتمثل الامثالا (3) .
وحكى أبو عبيدة عن يونس ، قال : قال عبد الملك بن مروان ، يوما وعنده رجال : هل تعلمون أهل بيت قيل فيهم شعر ، ودوا لو انهم افتدوا منه بأموالهم ؟ فقال أسماء بن خارجة الفزارى : نحن يا أمير المؤمنين ، قال : وما هو ؟ قال : قول الحارث بن ظالم المرى : وما قومي بثعلبة بن سعد ولا بفزارة الشعر الرقابا .
فوالله يا أمير المؤمنين ، إنى لالبس العمامة الصفيقة ، فيخيل لى أن شعر قفاى قد بدا منها .
__________
(1) ديوانه 334 ، والخبر والبيتان في كنايات الجرجاني 75 ، وقبلهما : لقد بلغت ما قالا فما باليت ما قالا ولو كان من الاسد لما هال ولا صالا (2) الجرجاني : (قال : فكان) .
(3) الخبر في كنايات الجرجاني 75 .
(*)(5/28)
وقال هانئ قبيصة النميري : يا إمير المؤمنين ، قال : وما هو ؟ قال قول جرير : فغض الطرف إنك من نمير فلا كعبا بلغت ولا كلابا (1) كان النميري يا أمير المؤمنين ، إذا قيل له : ممن أنت ؟ قال : من نمير ، فصار يقول بعد هذا البيت : (من عامر بن صعصعة) (2) .
إذا ذلك ما يروى أن النجاشي لما هجا بنى العجلان بقوله (3) : إذا الله عادى أهل لؤم وقلة فعادى بنى العجلان رهط ابن مقبل (4) قبيلة لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل ولا يردون الماء إلا عشية إذا صدر الوراد عن كل منهل وما سمى العجلان إلا لقوله : خذ القعب فاحلب أيها العبد اعجل (5) فكان الرجل منهم إذا سئل عن نسبة يقول : من بنى كعب ، وترك أن يقول : (مجلانى) .
وكان عبد الملك بن عمير القاضى ، يقول : والله إن التنحنح والسعال ليأخذني وأنا في الخلاء فأرده ، حياء من قول القائل : إذا ذات دل كلمته لحاجة * فهم بأن يقضى تنحنح أو سعل
__________
(1) ديوانه 75 (2) كنايات الجرجاني 75 ، والعمدة لابن رشيق 1 : 75 .
(3) الابيات في العمدة لابن رشيق 1 : 27 ، كنايات الجرجاني 75 ، مختارات ابن الشحرى 131 ، الشعر والعشراء 290 ، الخزانة 1 : 113 ، مع خبر مذكور ، يختلف رواية .
(4) ابن مقبل ، هو تميم أبى مقبل ، قال الجمحى في الطبقات 125 : (تميم بن أبى مقبل ، شاعر خنذيذ مغلب ، غلبه النجاشي) ولم يكن إليه في الشعر ، وقد قهره في الهجاء فقال : * إذا الله عادى أهل لؤم ودقة * (5) القعب : القدح الضخم الغليظ الجافي .
(*)(5/29)
ومن التعريضات اللطيفة ، ما روى أن المفضل بن محمد الضبى بعث بأضحية هزيل إلى شاعر ، فلما سأله عنها ، فقال : كانت قليلة الدم .
فضك المفضل ، وقال : مهلا يا أبا فلان ، أراد الشاعر قول القائل : ولو ذبح الضبى بالسيف لم تجد من اللؤم للضبي لحما ولا دما (1) وروى ابن الاعرابي في الامالى ، قال : رأى عقال بن شبة بن عقال المجاشعى على أصبغ بن عنبس وضحا ، فقال : ما هذا البياض على أصبعك يا أبا الجراح ؟ فقال : سلح النامة يا بن أخى .
أراد قول جرير : فضح العشيرة يوم يسلح قائما سلح النعامة شبة بن عقال (2) وكان شبة بن عقال قد برز يوم الطوانة (3) مع العباس بن الوليد بن عبد الملك إلى رجل من الروم ، فحمل عليه الرومي ، فنكص وأحدث ، فبلغ ذلك جريرا باليمامة ، فقال فيه ذلك (4) .
ولقى الفرزدق مخنثا يحمل قماشه (5) ، كأنه يتحول من دار إلى دار ، فقال : أين راحت عمتنا ؟ فقال : قد نفاها الاغر يا أبا فراس ، يريد قول جرير في الفرزدق : نفاك الاغر ابن عبد العزيز وحقك تنفى من المسجد (6)
__________
(1) كنايات الجرجاني 77 (2) ديوانه 471 (3) الطوانة ، بضم أوله وبعد الالف نون : بلد بثغور المصيصة .
(5) قماش البيت : متاعه .
(6) ديوانه 128 (*)(5/30)
وذلك أن الفرزدق ورد المدينة ، والامير عليها عمر بن عبد العزيز ، فأكرمه حمزة بن عبد الله بن الزبير وأعطاه ، وقعد عنه عبد الله بن عمرو بن عفان وقصر به ، فمدح الفرزدق حمزة بن عبد الله ، وهجا عبد الله ، فقال : ما أنتم من هاشم في سرها فاذهب إليك ولا بنى العوام قوم لهم شرف البطاح وأنتم وضر البلاط موطئ الاقدام (1) .
فلما تناشد الناس ذلك بعث إليه عمر بن عبد العزيز ، فأمره أن يخرج عن المدينة ، وقال له : إن وجدتك فيها بعد ثلاث عاقبتك ، فقال الفرزدق : ما أرانى إلا كثمود حين قيل لهم : (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام) ، فقال جرير يهجوه : نفاك الاغر ابن عبد العزيز وحقك تنفى من المسجد وسميت نفسك أشقى ثمود فقالوا ضللت ولم تهتد وقد أجلوا حين حل العذاب ثلاث ليال إلى الموعد وجدنا الفرزدق بالموسمين خبيث المداخل والمشهد وحكى أبو عبيدة ، قال : بينا نحن على أشراف الكوفه وقوف ، إذ جاء أسماء بن خارجة الفزارى فوقف ، وأقبل ابن مكعبر الضبى فوقف متنحيا عنه ، فأخذ أسماء خاتما كان في يده ، فصه فيروزج أزرق ، فدفعه إلى غلامه ، وأشار إليه أن يدفعه إلى ابن مكعبر ، فأخذ ابن مكعبر شسع نعله ، فربطه بالخاتم ، وأعاده إلى أسماء ، فتمازحا ولم يفهم أحد من الناس ما أرادا ، أراد أسماء بن خارجة قول الشاعر : لقد زرقت عيناك يا بن مكعبر كذا كل ضبى من اللؤم أزرق .
__________
(1) ديوانه 777 ، وروايته : (في مثل أسرة هاشم) (*)(5/31)
وأراد ابن مكعبر قول الشاعر : لا تأمنن فزاريا خلوت به على قلوصك واكتبها بأسيار (1) وكانت فزارة تعير بإتيان الابل ، وعيرت أيضا بأكل جردان الحمار ، لان رجلا منهم كان في سفر ، فجاع فاستطعم قوما فدفعوا إليه جردان الحمار ، فشواه وأكله ، فأكثرت الشعراء ذكرهم بذلك ، وقال الفرزدق : (2) جهز إذا كنت مرتادا ومنتجعا إلى فزارة عيرا تحمل الكمرا (3) إن الفزارى لو يعمى فيطعمه أير الحمار طبيب أبرا البصرا إن الفزارى لا يشفيه من قرم أطايب العير حتى ينهش الذكرا وفى كتب الامثال أنه اصطحب ثلاثة : فزارى وتغلبي ومرى ، وكان اسم التغلبي مرقمة ، فصادوا حمارا ، وغاب عنهما الفزارى لحاجة ، فقالوا : نخبأ له جردانه نضحك منه ، وأكلوا سائره ، فلما جاء دفعا إليه الجردان ، وقالا : هذا نصيبك ، فنهسه ، فإذا هو صلب ، فعرف أنهم عرضوا له بما تعاب به فزارة ، فاستل سيفه ، وقال : لتأكلانه ، ودفعه إلى مرقمة ، فأبى أن يأكله ، فضربه فقتله ، فقال المرى : طاح مرقمة ، قال : وأنت إن لم تلقمه ، فأكله (4) وذكر أبو عبيدة أن إنسانا قال لمالك بن أسماء بن خارجة الفزارى : اقض دينى أيها الامير ، فإن على دينا ، قال : مالك عندي إلا ما ضرب به الحمار بطنه ، فقال له عبيد بن أبى محجن :
__________
(1) اللآلى 862 ، وكنايات الجرجاني 79 (2) ديوانه 284 .
(3) في الديوان : (جهز فإنك ممتار ومتعث) .
(4) الخبر في الآلي 860 ، وكنايات الجرجاني 76 (*)(5/32)
محجن : بارك الله لكم يا بنى فزارة في أير الحمار ، إن جعتم أكلتموه ، وإن أصابكم غرم قضيتموه به .
ويحكى أن بنى فزارة وبنى هلال بن عامر بن صعصعة تنافروا إلى أنس بن مدرك الخثعمي ، وتراضوا به ، فقالت بنو هلال : أكلتم يا بنى فزارة أير الحمار ، فقالت بنو فزارة : وأنتم مدرتم (1) الحوض بسلحكم ، فقضى أنس لبنى فزارة على بنى هلال ، فأخذ الفزاريون منهم مائة بعير كانوا تخاطروا عليها ، وفى مادر يقول الشاعر : لقد جللت خزيا هلال بن عامر بنى عامر طرا بسلحة مادر (2) فأف لكم لا تذكروا الفخر بعدها بنى عامر أنتم شرار المعاشر (3) وذكر أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتاب ، ، الكامل ، ، أن قتيبة بن مسلم لما فتح سمرقند ، أفضى إلى أثاث لم ير مثله ، وآلات لم يسمع مثلها ، فأراد أن يرى الناس عظيم ما فتح الله عليه ، ويعرفهم أقدار القوم الذين ظهر عليهم ، فأمر بدار ففرشت ، وفى صحنها قدور يرتقى إليها بالسلاليم ، فإذا بالحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة الرقاشى قد أقبل ، والناس جلوس على مراتبهم ، والحضين شيخ كبير ، فلما رآه عبد الله بن مسلم قال لاخيه قتيبة ائذن لى في معاتبته ، قال : لا ترده ، فإنه خبيث الجواب ، فأبى عبد الله إلا أن يأذن له - وكان عبد الله يضعف (4) ، وكان قد تسور حائطا إلى امرأة قبل ذلك - فأقبل على الحضين ، فقال : أمن الباب دخلت يا أبا ساسان ؟ قال : أجل ، أسن عمك عن تسور
__________
(1) مدرتم الحوص ، أي سلحتم فيه .
(2) في اللسان : (وفى المثل : (ألام من مادر) ، وهو جد بنى هلال بن عامر) .
وفى الصحاح : (هو رجل من هلال بن عامر بن صعصعة ، لانه سقى إبله ، فبقى في أسفل الحوض ماء ، فسلح فيه ، ومدر به حوضه بخلا أن يشرب من فضله) .
(3) كنايات الجرجاني 76 ، 77 ، والبيتان أيضا في اللسان 7 : 8 (4) يضعف ، أي يوصف بالضعف لقلة عقله .
(3 - نهج - 5) (*)(5/33)
الحيطان ، قال : أرأيت هذه القدور ؟ قال : هي أعظم من ألا ترى ، قال : ما أحسب بكر بن وائل رأى مثلها .
قال : أجل ، ولا عيلان ، ولو رآها سمى شبعان ، ولم يسم عيلان ، فقال عبد الله : أتعرف يا أبا ساسان الذى يقول : عزلنا وأمرنا وبكر بن وائل تجر خصاها تبتغى من تحالف (1) فقال : أعرفه ، وأعرف الذى يقول : فأدى الغرم من نادى مشيرا ومن كانت له أسرى كلاب وخيبة من يخيب على غنى وباهلة بن أعصر والرباب (2) فقال : أفتعرف الذى يقول : كأن فقاح الازد حول ابن مسمع وقد عرقت أفواه بكر بن وائل قال : نعم وأعرف الذى يقول : قوم قتيبة أمهم وأبوهم لولا قتيبة أصبحوا في مجهل قال : أما الشعر ، فأراك ترويه ، فهل تقرأ من القرآن شيئا ؟ قال : نعم ، أقرأ الاكثر الاطيب (3) : (هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) (4) .
__________
(1) في رغبة الكامل للمرصفى : رواية غيره : (نزعنا وولينا) ، وبعده : وما مات بكرى من الدهر ليلة فيصبح إلا وهو للذل عارف وهذا الشعر لحارثة بن بدر الغدانى ، قاله يوم رضى أهل البصرة أن يولوا عليهم بعد الموت معاوية بن يزيد ابن عبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشمي ، حتى يجتمع الناس على إمام ، وكان عبيد الله بن زياد الوالى عليهم .
قد طلب الامارة لنفسه ، فلم يرضوا به ، فلما رأى الغدر منهم هرب هو وأخوه ، فلجآ إلى دار مسعود ابن عمر الازدي ، وقد استخف بكر بن وائل مالك بن مسمع الجحدرى ، فجمع وأعد وطلب من الازد المحلفة على نصرة عبيد الله بن زياد ، ورده إلى دار الامارة فلم ينجح) .
(2) في زيادت الكامل : (أي يا خيبة من يخيب) .
والرباب : قبائل ، والبيتان لزيد الخيل ، ذكرهما ابن قتيبة في الشعراء 246 ، وفيه وفى الكامل : (الركاب) بدل (الرباب) : (3) الكامل : (الاغلب) .
(4) سورة الانسان آية : 1 (*)(5/34)
فأغضبه ، فقال : والله لقد بلغني أن امرأة الحضين حملت إليه وهى حبلى من غيره ، قال : فما تحرك الشيخ عن هيئته الاولى ، بل قال على رسله (1) : وما يكون ! تلد غلاما على فراشي ، فيقال : فلان بن الحضين ، كما يقال : عبد الله بن مسلم ، فأقبل قتيبة على عبد الله : وقال له : لا يبعد الله غيرك (2) .
وغرضنا من هذه الحكاية الادبية المستحسنة قول الحضين تعريضا بفاحشة عبد الله : (أجل ، أسن عمك عن تسور الحيطان) .
ويحكى أن أبا العيناء أهدى إلى أبى على البصري - وقد ولد له مولود - حجرا ، يذهب في ذلك إلى قوله عليه السلام : (الولد للفراش وللعاهر الحجر) ، فاستخرج أبو على ذلك بفطنته وذكائه ، ثم ولد بعد أيام لابي العيناء مولود ، فقال له : في أي وقت ولد لك ؟ قال : وقت السحر ، فقال : اطرد قياسه ، وخرج في الوقت الذى يخرج فيه أمثاله - يعنى السؤال - يعرض بأن أبا العيناء شحاذ ، وأن ولده خرج يشبهه (3) .
ومن التعريضات والرموز بالفعل دون القول ، ما ذكره مؤرج بن عمرو السدوسى ، في كتاب ، ، الامثال ، ، أن الاحوص بن جعفر الكلابي ، أتاه آت من قومه ، فقال : إن رجلا لا نعرفه جاءنا ، فلما دنا منا حيث نراه ، نزل عن راحلته ، فعلق على شجرة وطبا من لبن ، ووضع في بعض أغصانها حنظلة ، ووضع صرة من تراب ، وحزمة من شوك ، ثم أثار راحلته ، فاستوى عليها وذهب .
وكان أيام حرب تميم وقيس عيلان ، فنظر الاحوص في ذلك ، فعى به ، فقال : ارسلوا إلى قيس بن زهير ، فقال له : ألم تك أخبرتني أنه لايرد
__________
(1) على رسله ، أي على مهله وتؤدته .
(2) الكامل 435 (طبع أوروبا) .
(3) كنايات الجرجاني 79(5/35)
عليك أمر إلا عرفت ما فيه ما لم تر نواصى الخيل ! قال : ما خبرك ؟ فأعلمه ، فقال : (قد بين الصبح لذى عينين) ، هذا رجل قد أخذت عليه العهود ألا يكلمكم ، ولا يرسل إليكم ، وأنه قد جاء فأنذركم .
أما الحنظلة ، فإنه يخبركم أنه قد أتاكم بنو حنظلة وأما الصرة من التراب ، فإنه يزعم أنهم عدد كثير ، وأما الشوك فيخبركم أن لهم شوكة ، وأما الوطب فإنه يدلكم على قرب القوم وبعدهم فذوقوه ، فإن كان حلوا حليبا فالقوم قريب ، وإن كان قارصا (1) فالقوم بعيد ، وإن كان المسيخ (2) لاحلوا ولا حامضا ، فالقوم لا قريب ، ولا بعيد ، فقاموا إلى الرطب فوجدوه حليبا ، فبادروا الاستعداد ، وغشيتهم الخيل فوجدتهم مستعدين (3) .
ومن الكنايات ، (4 بل الرموز الدقيقة 4) ، ما حكى أن قتيبة بن مسلم دخل على الحجاج وبين يديه كتاب قد ورد إليه من عبد الملك ، وهو يقرؤه ، ولا يعلم معناه ، وهو مفكر ، فقال : ما الذى أحزن الامير ؟ قال : كتاب ورد من أمير المؤمنين ، لا أعلم معناه ؟ فقال : إن رأى الامير إعلامى به ! فناوله إياه ، وفيه : (أما بعد ، فإنك سالم ، والسلام) .
فقال قتيبة : مالى إن استخرجت لك ما أراد به ؟ قال : ولاية خراسان ، قال : إنه ما يسرك أيها الامير ، ويقر عينك ، إنما أراد قول الشاعر : يديرونني عن سالم وأديرهم وجلدة بين العين والانف سالم (5) أي أنت عندي مثل سالم عند هذا الشاعر ، فولاه خراسان (6) .
حكى الجاحظ في كتاب ، ، البيان والتبيين ، ، قال : خطب الوليد بن عبد الملك فقال :
__________
(1) القارص : اللبن الحامض .
(2) المسيخ : الذى لا طعم له .
(3) كنايات الجرجاني 80 (4 - 4) ساقط من ا ، ج (5) البيت في اللسان 15 : 191 ، ونسبه إلى عبد الله بن عمر ، يقوله في ابنه سالم .
(6) كنايات الجرجاني 82 (*)(5/36)
أمير المؤمنين عبد الملك قال : إن الحجاج جلدة ما بين عينى وأنفى ، ألا وإنى أقول : إن الحجاج جلدة وجهى كله) (1) .
وعلى ذكر هذا البيت حكى أن رجلا كان يسقى جلساءه شرابا صرفا غير ممزوج ، وكان يحتاج إلى المزج لقوته ، فجعل يغنى لهم : يديرونني عن سالم وأديرهم وجلدة بين العين والانف سالم (2) فقال له واحد منهم : يا أبا فلان ، لو نقلت (ما) من غنائك إلى شرابك ، لصلح غناؤنا ونبيذنا جميعا (3) .
ويشبه حكاية قتيبة والحجاج كتاب عبد الملك إلى الحجاج ، جوابا عن كتاب كتبه إليه يغلظ فيه أمر الخوارج ، ويذكر فيه حال قطرى وغيره ، وشدة شوكتهم ، فكتب إليه عبد الملك : (أوصيك بما أوصى به البكري زيدا ، والسلام) .
فلم يفهم الحجاج ما أراد عبد الملك ، فاستعلم ذلك من كثير من العلماء بأخبار العرب ، فلم يعلموه ، فقال : من جاءني بتفسيره فله عشره آلاف درهم ، وورد رجل من أهل الحجاز يتظلم من بعض العمال ، فقال له قائل : أتعلم ما أوصى به البكري زيدا ؟ قال : نعم أعلمه ، فقيل له : فأت الامير ، فأخبره ولك عشره آلاف درهم ، فدخل عليه فسأله ، فقال : نعم أيها الامير ، إنه يعنى قوله : أقول لزيد لا تترتر فإنهم يرون المنايا دون قتلك أو قتلى (4) فإن وضعوا حربا فضعها ، وإن أبوا فعرضة نار الحرب مثلك أو مثلى وإن رفعوا الحرب العوان التى ترى فشب وقود النار بالحطب الجزل فقال الحجاج : أصاب أمير المؤمنين فيما أوصاني ، وأصاب البكري فيما أوصى به زيدا ، وأصبت أيها الاعرابي ، ودفع إليه الدراهم .
__________
(1) البيان والتبيين 1 : 292 (2) كذا في الاصول وكتاب الكنايات ، ويبدو أن الاصوب زيادة كلمة (ما) بعد كلمة (وجلدة) على سبيل الخطأ من المغنى ، ليكون الخبر مفهوما .
(3) كنايات الجرجاني 82 .
(4) الابيات لموسى بن جابر ، حماسة أبى تمام بشرح المرزوقى 336 ، والترترة : العجلة .
(*)(5/37)
وكتب إلى المهلب : إن أمير المؤمنين أوصاني بما أوصى به البكري زيدا ، وأنا أوصيك بذلك ، وبما أوصى به الحارث بن كعب بنيه .
فنظر المهلب في وصية الحارث بن كعب ، فإذا فيها : يا بنى كونوا جميعا ، ولا تكونوا شيعا فتفرقوا ، وبزوا قبل أن تبزوا .
الموت في قوة وعز ، خير من الحياة في ذل وعجز .
فقال المهلب : صدق البكري وأصاب ، وصدق الحارث وأصاب .
واعلم أن كثيرا مما ذكرناه داخل في باب التعريض ، وخارج عن باب الكناية ، وإنما ذكرناه لمشابهة الكناية وكونهما كالنوعين تحت جنس عام ، وسنذكر كلاما كليا فيهما إذا انتهينا إلى آخر الفصل إن شاء الله .
ومن الكنايات قول أبى نواس : وناظرة إلى من النقاب تلاحظني بطرف مستراب (1) كشفت قناعها فإذا عجوز مموهة المفارق بالخضاب فما زالت تجشمنى طويلا وتأخذ في أحاديث التصابى تحاول أن يقوم أبو زياد ودون قيامه شيب الغراب أتت بجرابها تكتال فيه فقامت وهى فارغة الجراب والكناية في البيت الاخير وهى ظاهرة .
ومنها قول أبى تمام : ما لى رأيت ترابكم بئس الثرى مالى أرى أطوادكم تتهدم (2)
__________
(1) المثل السائر 2 : 207 (2) ديوانه 3 : 199 ، وديوانه : * مالى رأيت ترابكم يبساله * (*)(5/38)
فكنى ب (بئس الثرى) عن تنكر ذات بينهم ، وب ((بتهدم الاطواد) عن خفة حلومهم وطيش عقولهم .
ومنها قول أبى الطيب : وشر ما قنصته راحتي قنص شهب البزاة سواء فيه والرخم (1) كنى بذلك عن سيف الدولة ، وأنه يساوى بينه وبين غيره من أراذل الشعراء وخامليهم في الصلة والقرب .
وقال الاقيشر لرجل : ما أراد الشاعر بقوله (2) : ولقد غدوت بمشرف يافوخه مثل الهراوة ماؤه يتفصد (3) أرن يسيل من المراح لعابه ويكاد جلد إهابه يتقدد (4) قال : إنه يصف فرسا ، فقال : حملك الله على مثله ، وهذان البيتان من لطيف الكناية ورشيقها ، وإنما عنى العضو .
وقريب من هذه الكناية قول سعيد بن عبد الرحمن بن حسان ، وهو غلام يختلف إلى عبد الصمد بن عبد الاعلى مؤدب ولد هشام بن عبد الملك ، وقد جمشه عبد الصمد فأغضبه ، فدخل إلى هشام ، فقال له : إنه والله لولا أنت لم ينج منى سالما عبد الصمد
__________
(1) ديوانه 3 : 373 (2) الخبر والبيتان ومعهما ثالث في كنايات الجرجاني 20 ، وفيه : (وحكى ابن دريد قال : وقف أعرابي على أبى عبيدة فقال : ما يعنى الشاعر بقوله .....
إلى آخر الخبر) وهما أيضا في شرح التبريزي على الحماسة 4 : 356 .
(3) رواية التبريزي : (عسر المكرة) .
(4) أرن ، أي نشيط ، ورواية التبريزي : (مرح يمج) ، وذكر بعده : حتى علوت به مشق ثنية طورا أغور به وطورا أنجد (*)(5/39)
فقال هشام : ولم ذلك ؟ قال : إنه قد رام منى خطة لم يرمها قبله منى أحد قال هشام : وما هي ؟ ويحك ! قال : رام جهلا بى وجهلا بأبى يدخل الافعى إلى بيت الاسد فضحك هشام ، وقال : لو ضربته لم أنكر عليك (1) .
ومن هذا الباب قول أبى نواس : إذا ما كنت جار أبى حسين فنم ويداك في طرف السلاح (2) فإن له نساء سارقات - إذا ما بتن - أطراف الرماح سرقن وقد نزلت عليه عضوى فلم أظفر به حتى الصباح فجاء وقد تخدش جانباه يئن إلى من ألم الجراح والكناية في قوله : (أطراف الرماح) ، وفى قوله : (في طرف السلاح) .
ومن الكناية الحسنة قول الفرزدق يرثى امرأته ، وقد ماتت بجمع (3) : وجفن سلاح قد رزئت فلم أنح عليه ، ولم أبعث عليه البواكيا (4) وفى جوفه من دارم ذو حفيظة لو أن المنايا أخطأته لياليا (5)
__________
(1) المثل السائر 2 : 209 .
(2) المثل السائر 2 : 209 ، 210 .
(3) جمع ، هي المزدلقة .
(4) ديوانه 894 ، وروايته : (وغمد سلاح) .
(5) الدايوان : * لو أن الليالى أنسأته لياليا * (*)(5/40)
أخذه الرضى رحمه الله تعالى ، فقال يرثى امرأة : إن لم تكن نصلا فغمد نصول غالته أحداث الزمان بغول (1) أو لم تكن بأبى شبول ضيغم تدمى أظافره فأم شبول ومن الكنايات ما يروى أن رجلا من خواص كسرى ، أحب الملك امرأته ، فكان يختلف إليها سرا وتختلف إليه ، فعلم بذلك فهجرها وترك فراشها ، فأخبرت كسرى ، فقال له يوما : بلغني أن لك عينا عذبة ، وأنك لا تشرب منها ! فقال : بلغني أيها الملك أن الاسد يردها فخفته ، فتركتها له ، فاستحسن ذلك منه ووصله .
ومن الكنايات الحسنة قول حاتم : وما تشتكينى جارتي غير أننى إذا غاب عنها بعلها لا أزورها (2) سيبلغها خيرى ويرجع بعلها إليها ولم يسبل على ستورها (3) فكنى بإسبال الستر عن الفعل ، لانه يقع عنده غالبا .
فأما قول عمر : (من أرخى سترا أو أغلق بابا فقد وجب عليه المهر) .
فيمكن أن يكنى بذلك عن الجماع نفسه ، ويمكن أن يكنى به عن الخلوة فقط ، وهو مذهب أبى حنيفة ، وهو الظاهر من اللفظ لامرين : أحدهما قوله : (أغلق بابا) فإنه لو أراد الكناية لم يحسن الترديد ب (أو) ، وثانيهما أنه قد كان مقررا عندهم أن الجماع نفسه يوجب كمال المهر ، فلم يكن به حاجة إلى ذكر ذلك .
ويشبه قول حاتم في الكناية المقدم ذكرها قول بشار بن بشر (4)
__________
(1) ديوانه لوحة 149 ، مطلع قصيدة يعزى فيها أبا سعد بن خلف عن أخته .
(2) ديوانه 110 (3) الديوان : (ولم يقصر على) .
(4) هو بشار بن بشر المجاشعى ، حماسة ابن الشجرى 135 ، والابيات أيضا في أمالى المرتضى 1 : 379 ونسبها إلى هلال بن خثعم ، مع اختلاف في الرواية ، وترتيب الابيات .
(*)(5/41)
وإنى لعف عن زيارة جارتي وإنى لمشنوء إلى اغتيابها ولم أك طلابا أحاديث سرها ولا عالما من أي حوك ثيابها (1) إذا غاب عنها بعلها لم أكن لها زءورا ولم تنبح على كلابها (2) .
وقال الاخطل في ضد ذلك يهجو رجلا ويرميه بالزنا : سبنتى يظل الكلب يمضغ ثوبه له في ديار الغانيات طريق السبنتى : النمر ، يريد أنه جرئ وقح ، وأن الكلب لانسه به وكثرة اختلافه إلى جاراته يعرفه ، ويمضغ ثوبه ، يطلب ما يطعمه ، والعفيف ينكره الكلب ولا يأنس به ، ثم أكد ذلك بأنه قد صار له بكثرة تردده إلى ديار النساء طريق معروف .
ومن جيد الكناية عن العفة قول عقيل بن علفة المرى (4) : ولست بسائل جارات بيتى أغياب رجالك أم شهود (5) * (هامش) (1) رواية المرتضى : * وما أنا بالدارى أحاديث بيتها * وذكر بعده : وإن قراب البطن يكفيك ملؤه ويكفيك عورات النساء أجتنابها وزاد ابن الشجرى بعده : إذا سد باب عنك من دون حاجة فذرها لاخرى لين لك بابها (2) ابن الشجرى : (لم تأنس إلى كلابها) ، ويقال : رجل زوار وزءور ، كذا ذكره صاحب اللسان واستشهد بالبيت .
(3) ديوانه 276 ، وروايته : (له في معان الغانيات) ، وفى شرحه : (المعان : منزل القوم ومحلهم) .
وفيه أيضا : (السبنتى : الذئب) .
(4) من أبيات في حماسة أبى تمام - بشرح التبريزي 1 : 377 ، والآلى 185 ، والخزانة 4 : 12 وكنايات الجرجاني 10 ، وفى الاصول وكتاب الجرجاني (عقيل بن علقمة) وهو خطأ .
(5) قال التبريزي : (ويجوز أن يكون عرض بقذف الذى يهجوه ، كما يقول من لم تجر عادته بلزوم الاسواق لمن هو متعود للمبايعة والمشاراة : لست أعاشر المنادين ولا أبخس إذا وزنت ، أي أنك يا سامع تفخر بذلك) .
(*)(5/42)
ولا ملق لذى الودعات سوطي ألاعبه وريبته أريد (1) ومن جيد ذلك ومختاره قول مسكين الدارمي : نارى ونار الجار واحدة وإليه قبلى تنزل القدر (2) ما ضر جارا لى أجاوره ألا يكون لبابه ستر أعمى إذا ما جارتي برزت حتى يوارى جارتي الخدر (3) والعرب تكنى عن الفرج بالازار ، فتقول : هو عفيف الازار ، وبالذيل ، فتقول : هو طاهر الذيل ، وإنما كنوا بهما ، لان الذيل والازار لا بد من رفعهما عند الفعل ، وقد كنوا بالازار عن الزوجة في قول الشاعر : ألا أبلغ أبا بشر رسولا فدا لك من أخى ثقة إزارى (4) يريد به زوجتى ، أو كنى بالازار هاهنا عن نفسه .
وقال زهير :
__________
(1) يعنى بذى الودعات الطفل ، لانهم يعلقون عليه الودع .
(2) الابيات في معجم الادباء 11 : 131 ، - 132 ، وأمالى المرتضى 1 : 43 ، 44 ، وكنايات الجرجاني 10 .
(3) معجم الادباء : (أغضى) ، وذكر بعده : ويصم عما كان بينهما سمعي وما بى غيره وقر (4) البيت مع آ خر في كنايات الثعالبي 3 ، ذكرهما في خبر ، قال : (وأما الكناية بالقوص ، فكما كتب رجل من مغزى كان فيه إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه يوصيه بنسائه : ألا أبلغ أبا حفص رسولا فدا لك من أخى ثقة إزارى قلائصنا هداك الله إنا شغلنا عنكم زمن الحصار (*)(5/43)
الحافظون ذمام عهدهم والطيبون معاقد الازر (1) الستر دون الفاحشات ولا يلقاك دون الخير من ستر ويقولون في الكناية عن العفيف : ما وضعت مومسة عنده قناعا ، ولا رفع عن مومسة ذيلا .
وقد أحسن ابن طباطبا في قوله : فطربت طربة فاسق متهتك وعففت عفة ناسك متحرج (2) الله يعلم كيف كانت عفتى ما بين خلخال هناك ودملج ومن الكناية عن العفة قول ابن ميادة : وما نلت منها محرما غير أننى أقبل بساما من الثغر أفلجا (3) وألثم فاها آخذا بقرونها وأترك حاجات النفوس تحرجا فكنى عن الفعل نفسه بحاجات النفوس ، كما كنى أبو نواس عنه بذلك العمل في قوله : مر بنا والعيون ترمقه تجرح منه مواضع القبل
__________
(1) كذا نسب المؤلف البيتين لزهير ، والثانى في ديوانه 95 ، من قصيدته التى يمدح فيها هرم بن سنان ، ومطلعها : لمن الديار بقنة الحجر أقوين من حجج ومن دهر ونيس منها البيت الاول ، وهو في الكامل 495 ، والآلى 548 من أبيات للخرنق أخت طرفة ، بهذه الرواية ، وخزانة الادب 4 : 301 وكنايات الجرجاني 11 ، والكتاب بهذه الرواية : النازلين بكل معترك والطيبون معاقد الازر (2) كنايات الجرجاني 10 (3) كنايات الجرجاني 11 (*)(5/44)
أفرغ في قالب الجمال فما يصلح إلا لذلك العمل وكما كنى عنه ابن المعتز بقوله : وزارنى في ظلام الليل مستترا يستعجل الخطو من خوف ومن حذر ولاح ضوء هلال كاد يفضحه مثل القلامة قد قصت من الظفر فقمت أفرش خدى في الطريق له ذلا وأسحب أذيالي على الاثر فكان ما كان مما لست أذكره فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر ومما تطيروا من ذكره ، فكنوا عنه قولهم : (مات) ، فإنهم عبروا عنه بعبارات مختلفة داخلة في باب الكناية ، نحو قولهم : (لعق إصبعه)) .
وقالوا : (اصفرت أنامله) لان اصفرار الانامل من صفات الموتى ، قال الشاعر : فقرباني بأبى أنتما من وطنى قبل اصفرار البنان وقبل منعاى إلى نسوه منزلها حران والرقتان (1) وقال لبيد : وكل أناس سوف تدخل بينهم دويهية تصفر منها الانامل (2) يعنى الموت .
ويقولون في الكناية عنه : صك لفلان على أبى يحيى ، وأبو يحيى كنية الموت ، كنى عنه بضده ، كما كنوا عن الاسود بالابيض ، وقال الخوارزمي : سريعة موت العاشقين كأنما يغار عليهم من هواها أبو يحيى (3)
__________
(1) كنايات الجرجاني 49 وفيها : (والرقمتان) .
(2) ديوانه 2 : 28 (3) كنايات الجرجاني 49 ، وثمار القلوب 197 .
(*)(5/45)
وكنى رسول الله صلى الله عليه وآله عنه بها ذم (1) اللذات ، فقال : (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) .
وقال أبو العتاهية : رأيت المنايا قسمت بين أنفس ونفسي سيأتي بينهن نصيبها (2) فيا هاذم اللذات ما منك مهرب تحاذر نفسي منك ما سيصيبها .
وقالوا : حلقت به العنقاء ، وحلقت به عنقاء مغرب ، قال : فلولا دفاعي اليوم عنك تحلقت بشلوك بين القوم عنقاء مغرب (3) .
وقالوا فيه : زل الشراك عن قدمه ، قال : لا يسلمون العداة جارهم حتى يزل الشراك عن قدمه (4) أي حتى يموت ، فيستغنى عن لبس النعل .
فأما قولهم : (زلت نعله) فيكنى به تارة عن غلطه وخطئه ، وتارة عن سوء حاله واختلال أمره بالفقر ، وهذا المعنى الاخير أراد الشاعر بقوله : سأشكر عمرا ما تراخت منيتى أيادى لم تمنن وإن هي جلت (5)
__________
(1) هاذم ، بالذال ، أي قاطع .
(2) ديوانه 35 ، وكنايات الجرجاني 49 (3) كنايات الجرجاني 50 ، وروايته : إذا ما أبن عبد الله خلى مكانه فقد حلفت بالحق عنقاء مغرب (4) كنايات الجرجاني 50 (5) معجم الشعراء للمرزباني ، ونسبها إلى محمد بن سعد الكاتب التميمي ، أمالى القالى 1 : 40 ، ونسبها لبعض الاعراب .
وقال أبو عبيد البكري في الآلي : (الشعر لابي الاسود الدؤلى ، وكان عند عمرو بن سعيد العاص ، فيينا هو يحدثه إذ ظهركم قميصه من تحت حبته وبه خرق ، فلما انصرف بعث إليه بعشرة آلاف درهم ومائة ثوب فقال هذا الشعر .
وذكر على بن الحسين أن الشعر لعبد الله ابن الزبير الاسدي ، وأنه أتى عمرو بن أبان ، فسأله فقال لوكيله : اقترض لنا مالا ، فقال : ما يعطينا التجار ، فقال : أربحهم ، فاقترض ثمانية آلاف باثنى عشر ألفا فهو أول من تعين (أي استقرض بالربا ، من العنية) ، فقال فيه ابن الزبير : وذكر الابيات : الآلي 166 .
وقيل الشعر الابراهيم بن العباس الصولى ، مجموعة المعاني 66 ، معجم الادباء 5 : 158 - مرجيلوت ، ابن خلكان 2 : 247 .
والابيات أيضا في حماسة أبى تمام - بشرح المرزوقى 4 : 1589 من غير نسبة .
(*)(5/46)
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت رأى خلتى من حيث يخفى مكانها فكانت قذى عينيه حتى تجلت .
ويقولون فيه : شالت نعامته ، قال : يا ليت أمي قد شالت نعامتها أيما إلى جنة أيما إلى نار (1) ليست بشبعى ولو أوردتها هجرا ولا بريا ولو حلت بذى قار أي لا يشبعها كثرة التمر ولو نزلت هجر - وهجر كثيرة النخل - ولا تروى ولو نزلت ذا قار ، وهو موضع كثير الماء .
قال ابن دريد : والنعامة خط باطن القدم في هذه الكناية .
ويقال أيضا للقوم قد تفرقوا بجلاء عن منازلهم : شالت نعامتهم ، وذلك لان النعامة خفيفة الطيران عن وجه الارض ، كأنهم خفوا عن منزلهم .
وقال ابن السكيت : يقال لمن يغضب ثم يسكن : شالت نعامته ثم وقعت .
وقالوا أيضا في الكناية عن الموت : مضى لسبيله ، واستأثر الله به ، ونقله إلى جواره ، ودعى فأجاب ، وقضى نحبة والنحب : النذر ، كأنهم رأوا أن الموت لما كان حتما في الاعناق كان نذرا .
وقالوا في الدعاء عليه : اقتضاه الله بذنبه .
إشارة إلى هذا ، وقالوا : ضحا ظله ، ومعناه صار ظله شمسا ، وإذا صار الظل شمسا فقد عدم صاحبه .
ويقولون أيضا خلى فلان مكانه ، وأنشد ثعلب للعتبى في السرى بن عبد الله : كأن الذى يأتي السرى لحاجة أباح إليه بالذى جاء يطلب (2) إذا ما ابن عبد الله خلى مكانه فقد حلقت بالجود عنقاء مغرب .
__________
(1) كنايات الجرجاني 50 ، والبيت الاول من شواهد المغنى 1 : 53 (المطبعة الشرقية 1328) ، وفى حاشية الامير : (هو لرجل من عبد القيس ، يقال له سعد ، كان عاقا لامه ، وكانت بارة به) .
(2) كنايات الجرجاني 50 (*)(5/47)
وقال دريد بن الصمة : فإن يك عبد الله خلى مكانه فما كان وقافا ولا طائش اليد (1) .
وكثير ممن لا يفهم يعتقد أنه أراد بقوله : (خلى مكانه) فر ، ولو كان كذلك لكان هجاء .
ويقولون : وقع في حياض غتيم ، وهو اسم للموت (2) .
ويقولون : طار من ماله الثمين ، يريدون الثمن ، يقال ثمن وثمين ، وسبع وسبيع ، وذلك لان الميت ترث زوجته من ماله الثمن غالبا ، قال الشاعر يذكر جوده بماله ، ويخاطب امرأته : فلا وأبيك لا أولى عليها لتمنع طالبا منها اليمين (3) فإنى لست منك ولست منى إذا ما طار من مالى الثمين أي إذا مت ، فأخذت ثمنك من تركتي .
وقالوا : لحق باللطيف الخبير ، قال : ومن الناس من يحبك حبا ظاهر الود ليس بالتقصير (4) فإذا ما سألته ربع فلس ألحق الود باللطيف الخبير .
وقال أبو العلاء : لا تسل عن عداك أين استقروا لحق القوم باللطيف الخبير (5) .
__________
(1) كنايات الجرجاني 50 (2) كنايات الجرجاني 50 .
(3) كنايات الجرجاني 50 (4) كنايات الجرجاني 48 ، وقال : هذان ينسبان لدعبل ، بعد البيت الاول : وإذا ما خبرته الطرف على حبه بما في الضمير وإذا ما بحثت قلت : كهذا لى ورأس مال كبير (5) سقط الزند 234 ، وكنايات الجرجاني 48 .
(*)(5/48)
ويقولون : قرض رباطه (1) ، أي كاد يموت جهدا وعطشا .
وقالوا في الدعاء عليه : لا عد من نفره ، أي إذا عد قومه ، فلا عد معهم ، وإنما يكون كذلك إذا مات ، قال امرؤ القيس : فهو لا تنمى رميته ما له لا عد من نفره (2) .
وهذا إنما يريد به وصفه ، والتعجب منه ، لا أنه يدعو عليه حقيقة ، كما تقول لمن يجيد الطعن : شلت يده ، ما أحذقه ! .
وقالوا في الكناية عن الدفن : أضلوه وأضلوا به ، قال الله تعالى : (وقالوا أئذا ضللنا في الارض أئنا لفى خلق جديد) (3) ، أي إذا دفنا في الارض .
وقال المخبل السعدى : أضلت بنو قيس بن سعد عميدها وسيدها في الدهر قيس بن عاصم (4) .
ويقولون للمقتول : ركب الاشقر ، كناية عن الدم ، وإليه أشار الحارث بن هشام المخزومى في شعره ، الذى يعتذر به عن فراره يوم بدر ، عن أخيه أبى جهل بن هشام حين قتل : الله يعلم ما تركت قتالهم حتى علوا فرسى بأشقر مزبد (5) * (هامش) (1) الرباط هنا : القلب .
(2) ديوانه 125 ، وفى شرحه : قوله : فهو لاتنمى رميته ، أي لا تنهض بالسهم وتغيب عنه ، بل تسقط مكانها لاصابته مقتلها ، يقال : نمت الرمية وأنماها الرامى ، إذا مضت بالسهم فغابت به .....
وقوله : (لا عد من نفره) دعاء عليه على وجه التعجب .
(3) سورة السجدة 10 (4) اللسان 13 : 419 ، ورواه : (وفارسها) .
(5) سيرة ابن هشام 2 : 358 ، (4 - نهج - 5) (*)(5/49)
وعلمت أنى إن أقاتل واحدا أقتل ولا يضرر عدوى مشهدى (1) فصددت عنهم والاحبه فيهم طمعا لهم بعقاب يوم مرصد (2) .
أراد بدم أشقر ، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه ، كناية عنه ، والعرب تقيم الصفة مقام الموصوف كثيرا ، كقوله تعالى : (وحملناه على ذات ألواح ودسر) (2) أي على سفينة ذات ألواح ، وكقول عنترة : * تمكو فريصته كشدق الاعلم (4) * أي كشدق الانسان الاعلم ، أو البعير الاعلم .
ويقولون : ترك فلان بجعجاع ، أي قتل ، قال أبو قيس بن الاسلت : من يذق الحرب يجد طعمها مرا وتتركه بجعجاع (5) أي تتركه قتيلا مخلى بالفضاء .
ومما كنوا عنه قولهم للمقيد : هو محمول على الادهم ، والادهم القيد ، قال الشاعر : أوعدنى بالسجن والاداهم رجلى ورجلي شثنة المناسم .
وقال الحجاج للغضبان بن القبعثرى : لاحملنك على الادهم ، فتجاهل عليه ، وقال : مثل الامير حمل على الادهم والاشهب (6) .
__________
(1) ابن هشام : (ولا يبكى عدوى) .
(2) ابن هشام : (مفسد) .
(3) سورة القمر 13 (4) من المعلقة 192 - بشرح التبريزي ، وصدره : * وحليل غانية تركت مجدلا * الحليل : الزوج .
والغانية : التى استغنت بزوجها ، أو بحسنها ، وقيل : هي الشابة .
وتمسكو : تصفر .
والفريصة : الموضع الذى يرعد من الدابة والانسان إذا خاف .
والاعلم : المشقوق الشفة العليا .
(5) جمهرة أشعار العرب 126 .
والجعجاع : المكان الذى ينشف فيه الماء .
(6) كنايات الجرجاني 42 (*)(5/50)
وقد كنوا عن القيد أيضا بالاسمر ، أنشد ابن عرفة لبعضهم : فما وجد صعلوك بصنعاء موثق بساقيه من سمر القيود كبول قليل الموالى مسلم بجريرة له بعد نومات العيون غليل يقول له البواب أنت معذب غداة غد أو رائح فقتيل بأكثر من وجدى بكم يوم راعني فراق حبيب ما إليه سبيل وهذا من لطيف شعر العرب وتشبيهها .
ومن كناياتهم عنه : ركب ردعه ، وأصله في السهم يرمى به فيرتدع نصله فيه ، يقال ارتدع السهم ، إذا رجع النصل في السنخ متجاوزا ، فقولهم : ركب ردعه ، أي وقص فدخل عنقه في صدره ، قال الشاعر وهو من شعر الحماسة (1) : تقول وصكت صدرها بيمينها أبعلى هذا بالرحا المتقاعس (2) ! فقلت لها لا تعجلى وتبيني بلاى إذا التفت على الفوارس ألست أرد القرن يركب ردعه وفيه سنان ذو غرارين يابس (3) لعمر أبيك الخير إنى لخادم لضيفي وإنى إن ركبت لفارس .
وأنشد الجاحظ في كتاب ، ، البيان والتبيين ، ، لبعض الخوارج (4) : ومسوم للموت يركب ردعه بين الاسنة والقنا الخطار يدنو وترفعه الرماح كأنه شلو تنشب في مخالب ضارى
__________
(1) الكامل 1 : 142 - بشرح المرصفى ، قال : (ومما يستحسن ويستجاد قول أعرابي من سعد ابن زبد مناة بن تميم ، وكان مملكا ، فنزل به أضياف ، فقام إلى الرحى فطحن لهم ، فمرت به زوجته في نسوة ، فقالت لهن : هذا بعلى ! فأعلم بذلك فقال ...
) ، وذكر الابيات .
(2) المتقاعس : الذى يخرج صدره ويدخل ظهره .
(3) الغرار : الحد .
(4) البيان والتبيين 1 : 406 ، قال : (وذكر أبوالعيزار جماعة من الخوارج بالادب والخطب فقال) .
(*)(5/51)
فثوى صريعا والرماح تنوشه إن الشراة قصيرة الاعمار (1) .
وقد تطيرت العرب من لفظة البرص ، فكنوا عنه بالوضح ، فقالوا : جذيمة الوضاح ، يريدون الابرص ، وكنى عنه بالابرش أيضا ، وكل أبيض عند العرب وضاح ، ويسمون اللبن وضحا ، يقولون : ما أكثر الوضح عند بنى فلان (2) ! .
ومما تفاءلوا به قولهم للفلاة التى يظن فيها الهلاك مفازة ، اشتقاقا من الفوز وهو النجاة ، وقال بعض المحدثين : أحب الفأل حين رأى كثيرا أبوه عن اقتناء المجد عاجز (3) فسماه لقلته كثيرا كتلقيب المهالك بالمفاوز فأما من قال : إن المفازة (مفعلة) من فوز الرجل ، أي هلك ، فإنه يخرج هذه اللفظة من باب الكنايات .
ومن هذا تسميتهم اللديغ سليما ، قال : كأنى من تذكر ما ألاقى إذا ما أظلم الليل البهيم (4) سليم مل منه أقربوه وأسلمه المجاور والحميم
__________
(1) ثوى : هلك .
تنوشه : تأخذه وتتناوله ، وفى البيان والتبيين بعده : أدباء إما جمعهم خطباء ضمناء كل كتيبة جرار (2) كنايات الجرجاني 53 (3) كنايات الجرجاني 53 (4) كنايات الجرجاني 53 ، ونسبهما إلى بقيلة ، وذكر قبله : أرقت ونام عنى يلوم ولكن أنم أنا والهموم (*)(5/52)
وقال أبو تمام في الشيب (1) : شعلة في المفارق استودعتني في صميم الاحشاء ثكلا صميما (2) تستثير الهموم ما اكتن منها صعدا وهى تستثير الهموما دقة في الحياة تدعى جلالا مثلما سمى اللديغ سليما غرة بهمة ألا إنما كنت أغرا أيام كنت بهيما حلمتنى زعمتم وأرانى قبل هذا التحليم كنت حليما ومن هذا قولهم للاعور : ممتع ، كأنهم أرادوا أنه قد متع ببقاء إحدى عينيه ، ولم يرم ضوءهما معا (3) .
ومن كناياتهم على العكس ، قولهم للاسود : يا أبا البيضاء ، وللاسود أيضا : يا كافور ، وللابيض يا أبا الجون ، وللاقرع : يا أبا الجعد .
وسموا الغراب أعور لحدة بصره ، قال ابن ميادة : ألا طرقتنا أم عمرو ودونها فياف من البيداء يعشى غرابها
__________
(1) ديوانه 3 : 223 ، من قصيدة يمدح فيها أبا سعيد محمد بن يوسف ، وطلعها : إن عهدا لو تعلمان ذميما أن تناما عن ليلتى أو تنيما (2) قال شارح الديوان : (الشعلة : تحتمل وجهين : أحدهما أن يكون من شعلة النار ، والآخر أن يكون من شعلة الفرس ، يقال : فرس أشعل ، إذا كان في ذنبه بياض .
وقال : (شعلة في المفارق) ، فصنع بذلك ، لان الشعلة جرت عادتها أن تكون في الاذناب ، وهى هنا المفارق ، فهى مخالفة لتلك .
وصميم كل شئ : خالصة) .
(3) الجرجاني 53 ، وروى في ذلك بيتين : ولقبت بالكفى عمى وجهالة وإن كان أمر العجز عندك أوقعا كما سمى الاعمى بصيرا وسمى اللديغ سليما والمخل ممتعا (*)(5/53)
خص الغراب بذلك لحدة نظره ، أي فكيف غيره .
ومما جاء في تحسين اللفظ ما روى أن المنصور كان في بستان داره والربيع بين يديه ، فقال له : ما هذه الشجرة فقال : (وفاق) يا أمير المؤمنين ، وكانت شجرة خلاف ، فاستحسن منه ذلك .
ومثل هذا استحسان الرشيد قول عبد الملك بن صالح ، وقد أهدى إليه باكورة فاكهة في أطباق خيزران : بعثت إلى أمير المؤمنين في أطباق قضبان تحمل من جنايا باكورة بستانه ما راج وأينع .
فقال الرشيد لمن حضر : ما أحسن ما كنى عن اسم أمنا ! .
ويقال : إن عبد الملك سبق بهذه الكناية ، وإن الهادى قال لابن دأب ، وفى يده عصا : ما جنس هذه ؟ فقال : من أصول القنا - يعنى الخيزران .
والخيزران أم ا لهادي والرشيد معا .
وشبيه بذلك ما يقال : إن الحسن بن سهل كان في يده ضغث من أطراف الاراك ، فسأله المأمون عنه : ما هذه ؟ فقال : (محاسنك) يا أمير المؤمنين ، تجنبا لان يقول : (مساويك) ، وهذا لطيف .
ومن الكنايات اللطيفة أن عبد الملك بعث الشعبى إلى أخيه عبد العزيز بن مروان وهو أمير مصر يومئذ ، لسبر أخلاقه وسياسته ، ويعود إليه فيخبره بحاله ، فلما عاد سأله فقال : وجدته أحوج الناس إلى بقائك يا أمير المؤمنين ، وكان عبد العزيز يضعف .
ومن الالفاظ التى جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وآله من باب الكنايات قوله صلى الله عليه وآله : (بعثت إلى الاسود والاحمر) ، يريد إلى العرب والعجم ، فكنى عن العرب بالسود وعن العجم بالحمر ، ولعرب تسمى العجمي أحمر ، لان الشقرة تغلب عليه .(5/54)
قال ابن قتيبة : خطب إلى عقيل بن علفة المرى ابنته هشام بن اسمعيل المخزومى وكان والى المدينة ، وخال هشام بن عبد الملك - فرده ، لانه كان أبيض شديد البياض ، وكان عقيل أعرابيا جافيا غيورا مفرط الغيرة ، وقال : رددت صحيفة القرشى لما أبت أعراقه إلا احمرارا فرده ، لانه توسم فيه أن بعض أعراقه ينزع إلى العجم ، لما رأى من بياض لونه وشقرته (1) .
ومنه قول جرير يذكر العجم : يسموننا الاعراب والعرب اسمنا وأسماؤهم فينا رقاب المزاود (2) وإنما يسمونهم رقاب المزاود ، لانها حمراء .
ومن كناياتهم تعبيرهم عن المفاخرة بالمساجلة ، وأصلها من السجل ، وهى الدلو الملئ ، كان الرجلان يستقيان ، فأيهما غلب صاحبه كان الفوز والفخر له ، قال الفضل بن العباس ابن عتبة بن أبى لهب بن عبد المطلب : وأنا الاخضر من يعرفني أخضر الجلدة من بيت العرب (3) من يساجلنى يساجل ماجدا يملا الدلو إلى عقد الكرب (4) برسول الله وابنى عمه وبعباس بن عبد المطلب ويقال : إن الفرزدق مر بالفضل وهو ينشد : (من يساجلنى) ، فقال : أنا أساجلك ،
__________
(1) عيون الاخبار 4 : 12 (2) كذا ذكره الؤلف ، ولم أجده في ديوانه ، وفى عيون الاخبار (4 : 12) نسبه لرجل من الاعراب .
(3) الخبر في الكامل 1 : 110 ، والابيات في ستة مع الخبر ، في الاغانى 14 : 171 - 15 : 3 ، وهى في كنايات الجرجاني 51 .
(4) الكرب : حبل يشد على عراقى الدلو .
(*)(5/55)
ونزع ثيابه ، فقال الفضل : (برسول الله وابن عمه) ، فلبس الفرزدق ثيابه ، وقال : أعض الله من يساجلك بما نفت المواسى من بظر أمه .
ورواها أبو بكر بن دريد : (بما أبقت المواسى) .
وقد نزل القرآن العزيز على مخرج كلام العرب في المساجلة فقال تبارك وتعالى : (فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم) (1) ، الذنوب : الدلو ، والمراد ما ذكرناه .
وقال المبرد : المراد بقوله : (وأنا الاخضر) ، أي الاسمر والاسود .
والعرب كانت تفتخر بالسمرة والسواد ، وكانت تكره الحمرة والشقرة ، وتقول : إنهما من ألوان العجم .
وقال ابن دريد : مراده أن بيتى ربيع أبدا مخصب ، كثير الخير ، لان الخصب مع الخضرة ، وقال الشاعر : قوم إذا اخضرت نعالهم يتناهقون تناهق الحمر (2) أي إذا أعشبت الارض اخضرت نعالهم من وطئهم إياها ، فأغار بعضهم على بعض ، والتناهق هاهنا : أصواتهم حين ينادون للغارة ، ويدعو بعضهم بعضا ، ونظير هذا البيت قول الآخر : قوم إذا نبت الربيع لهم نبتت عداوتهم مع البقل (3) أي إذا أخصبوا وشبعوا غزا بعضهم بعضا ، ومثله قول الآخر : يا بن هشام أهلك الناس اللبن فكلهم يغدو بسيف وقرن (4) .
أي تسفهوا لما رأوا من كثرة اللبن والخصب ، فأفسدوا في الارض ، وأغار بعضهم على بعض .
والقرن : الجعبة .
__________
(1) سورة الذاريات 59 .
(2) كنايات الجرجاني 52 .
(3) كنايات الجرجاني 52 .
(4) كنايات الجرجاني 52 .
(*)(5/56)
وقيل لبعضهم : متى يخاف من شر بنى فلان ؟ فقال : إذا ألبنوا .
ومن الكنايات الداخلة في باب الايماء قول الشاعر : فتى لا يرى قد القميص بخصره ولكنما يوهى القميص عواتقه (1) .
لما كان سلامة القميص من الخرق في موضع الخصر ، تابعا لدقة الخصر ، ووهنه في الكاهل تابعا لعظم الكاهل ، ذكر ما دل بهما على دقه خصر هذا الممدوح وعظم كاهله ومنه قول مسلم بن الوليد : فرعاء في فرعها ليل على قمر على قضيب على حقف النقا الدعس (2) كأن قلبى وشاحاها إذا خطرت وقلبها قلبها في الصمت والخرس تجرى محبتها في قلب عاشقها مجرى السلامة في أعضاء منتكس فلما كان قلق الوشاح تابعا لدقة الخصر ذكره دالا به عليه .
ومن هذا الباب قول القائل : إذا غرد المكاء في غير روضة فويل لاهل الشاء والحمرات (3) .
أومأ بذلك إلى الجدب ، لان المكاء يألف الرياض ، فإذا أجدبت الارض سقط في عير روضة ، وغرد ، فالويل حينئذ لاهل الشاء والحمر .
ومنه قول القائل : لعمري لنعم الحى حى بنى كعب إذا جعل الخلخال في موضع القلب
__________
(1) كنايات الجرجاني 52 ، وفيه (كواهله) .
(2) كنايات الجرجاني 52 .
(3) المكاء : طائر أبيض ، يكون بالحجاز ، وله صفير .
(*)(5/57)
القلب السوار ، يقول : نعم الحى هؤلاء إذا ريع الناس وخافوا ، حتى إن المرأة لشدة خوفها تلبس الخلخال مكان السوار ، فاختصر الكلام اختصارا شديدا .
ومنه قول الافوه الاودى : إن بنى أود هم ما هم للحرب أو للجدب عام الشموس (1) أشار إلى الجدب وقلة السحب والمطر ، أي الايام التى كلها أيام شمس وصحو ، لا غيم فيها ولا مطر .
فقد ذكرنا من الكنايات والتعريضات وما يدخل في ذلك ، ويجرى مجراه من باب الايماء والرمز قطعة صالحة ، وسنذكر شيئا آخر من ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى ، إذا مررنا في شرح كلامه عليه السلام بما يقتضيه ويستدعيه .
__________
(1) ديوانه 16 (ضمن مجموعة الطرائف الادبية) .
(*)(5/58)
[ حقيقة الكناية والتعريض والفرق بينهما ] وقد كنا وعدنا أن نذكر كلاما كليا في حقيقة الكناية والتعريض ، والفرق بينهما ، فنقول : الكناية قسم من أقسام المجاز ، وهو إبدال لفظة عرض في النطق بها مانع ، بلفظة لا مانع عن النطق بها ، كقوله عليه السلام : (قرارات النساء) ، لما وجد الناس قد تواضعوا على استهجان لفظة (أرحام النساء) .
وأما التعريض فقد يكون بغير اللفظ ، كدفع أسماء بن خارجة الفص الفيروزج الازرق من يده إلى ابن معكبر الضبى إذ كارا له ، بقول الشاعر : * كذا كل ضبى من اللؤم ازرق (1) * فالتعريض إذا هو التنبيه بفعل أو لفظ على معنى اقتضت الحال العدول عن التصريح به .
وأنا أحكى هاهنا كلام نصر الله بن محمد بن الاثير الجزرى في كتابه المسمى ، ، بالمثل السائر ، ، في الكناية والتعريض (2) ، وأذكر ما عندي فيه ، قال : خلط أرباب هذه الصناعة الكناية بالتعريض ، ولم يفصلوا بينهما ، فقال ابن سنان : (3) إن قول امرئ القيس : فصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا ورضت فذلت صعبة أي إذلال
__________
(1) انظر صفحة 31 من هذا الجزاء .
(2) المثل السائر 2 : 191 وما بعدها ، مع تصرف في العبارات .
(3) سر الفصاحة لابن سنان الخفاجى 176 .
(*)(5/59)
من باب الكناية (1) ، والصحيح أنه من باب التعريض .
قال : وقد قال الغانمى والعسكري وابن حمدون وغيرهم نحو ذلك ، ومزجوا أحد القسمين بالآخر .
قال : وقد حد قوم الكناية فقالوا : هي اللفظ الدال على الشئ بغير الوضع الحقيقي ، بوصف جامع بين الكناية والمكنى عنه ، كاللمس والجماع ، فإن الجماع اسم لموضوع حقيقي ، واللمس كناية عنه ، وبينهما وصف جامع ، إذ الجماع لمس وزيادة ، فكان دالا عليه بالوضع المجازى .
قال : وهذا الحد فاسد ، لانه يجوز أن يكون حدا للتشبيه والمشبه ، فإن التشبيه هو اللفظ الدال على الوضع الحقيقي الجامع بين المشبه والمشبة به في صفة من الاوصاف ، ألا ترى إذا قلنا : زيد أسد ، كان ذلك لفظا دالا على غير الوضع الحقيقي ، بوصف جامع بين زيد والاسد ، وذلك الوصف هو الشجاعة (2) .
قال : وأما (3) أصحاب أصول الفقه ، فقالوا في حد الكناية : إنها اللفظ المحتمل ، ومعناه أنها اللفظ الذى يحتمل الدلالة على المعنى ، وعلى خلافه .
وهذا منقوض بالالفاظ المفردة المشتركة ، وبكثير من الاقوال المركبة المحتملة للشئ وخلافه ، وليست بكنايات .
قال : وعندي أن الكنايات لا بد أن يتجاذبها جانبا حقيقة ومجاز ، ومتى أفردت جاز حملها على الجانبين معا ، ألا ترى أن اللمس في قوله سبحانه : (أو لامستم النساء) (4)
__________
(1) في المثل السائر : (وهذا مثل ضربه للكناية عن المباضعة) .
(2) في المثل السائر بعدها : (ومن هنا وقع الغلط لمن أشرت إليه في الذى ذكرته في هذه الكناية) .
(3) المثل السائر : (علماء) .
(4) سورة النساء آية : 43 .
(*)(5/60)
يجوز حمله على الحقيقة والمجاز ، وكل منهما يصح به المعنى ولا يختل ! (1 ولهذا قال الشافعي : إن ملامسة المرأة تنقض الوضوء والطهارة 1) .
وذهب غيره إلى أن المراد باللمس في الآية الجماع ، وهو الكناية المجازية ، فكل موضع يرد فيه الكناية ، فسبيله هذا السبيل ، وليس التشبيه بهذه الصورة ولا غيره من أقسام المجاز ، لانه لا يجوز حمله إلا على جانب المجاز خاصة ، ولو حمل على جانب الحقيقة لاستحال المعنى ، ألا ترى أنا إذا قلنا : زيد أسد لم يصح أن يحمل إلا على الجهة المجازية ، وهى التشبيه بالاسد في شجاعته ، ولا يجوز حمله على الجهة الحقيقية لان (زيدا) لا يكون سبعا ذا أنياب ومخالب ، فقد صار إذن حد الكناية أنها اللفظ الدال على معنى يجوز حمله على جانبى ، الحقيقة والمجاز ، بوصف جامع بين الحقيقة والمجاز .
قال : والدليل على ذلك أن الكناية في أصل الوضع أن تتكلم بشئ وتريد غيره ، يقال : كنيت بكذا عن كذا ، فهى تدل على ما تكلمت به ، وعلى ما أردته من غيره فلا يخلو (2) إما أن يكون في لفظ تجاذبه (3 جانبا حقيقة وحقيقة ، أو في لفظ تجاذبه جانبا مجاز ومجاز ، أو في لفظ لا يتجاذبه أمر .
وليس لنا قسم رابع 3) .
والثانى باطل ، لان ذاك هو اللفظ المشترك ، فإن أطلق من غير قرينة مخصصة كان مبهما غير مفهوم ، وإن كان معه قرينة صار مخصصا لشئ بعينه ، والكناية أن تتكلم بشئ وتريد غيره ، وذلك مخالف للفظ المشترك إذا أضيف إليه القرينة ، لانه يختص بشئ واحد بعينه ، ولا يتعداه إلى غيره ، والثالث باطل أيضا ، لان المجاز لا بد له من حقيقة ينقل عنها لانه فرع عليها .
__________
(1 - 1) المثل السائر : (ولهذا ذهب الشافعي رحمه الله إلى أن اللمس هو مصافحة الجسد ، فأوجب الوضوء على الرجل إذا لمس المرأة ، وذلك هو الحقيقة في اللمس) .
(2) المثل السائر : (وعلى هذا فلا تخلو) .
(3 - 3) المثل السائر : (تجاذبه جانبا حقيقة ومجاز ، آو في لفظ : تجاذبه جانبا مجاز ومجاز ، أو في لفظ تجاذبه جانبا : حقيقة وحقيقة ، وليس لنا قسم رابع) .
(*)(5/61)
وذلك اللفظ الدال على المجاز ، إما أن يكون للحقيقة شركة في الدلالة عليه أو لا يكون لها شركه في الدلالة عليه ، كأن اللفظ الواحد قد دل على ثلاثة أشياء : أحدها الحقيقة ، والآخران المجازان .
وهذا مخالف لاصل الوضع ، لان أصل الوضع أن تتكلم بشئ وأنت تريد غيره ، وهاهنا يكون قد تكلمت بشئ وأنت تريد شيئين غيرين ، وإن لم يكن للحقيقة شركة في الدلالة كان ذلك مخالفا لاصل الوضع أيضا ، إذ أصل الوضع أن تتكلم بشئ وأنت تريد غيره ، فيكون الذى تكلمت به دالا على غيره ، وإذا أخرجت الحقيقة عن أن يكون لها شركة في الدلالة ، لم يكن الذى تكلمت به ، وهذا محال ، فثبت إذن أن الكناية هي أن تتكلم بالحقيقة وأنت تريد المجاز .
قال : وهذا مما لم يسبقنى إليه أحد .
ثم قال : قد يأتي من الكلام ما يجوز أن يكون كناية ، ويجوز أن يكون استعارة ، ويختلف ذلك باختلاف النظر إليه بمفرده والنظر إلى ما بعده .
كقول نصر بن سيار [ في أبياته المشهورة التى يحرض بها على بنى أمية عند خروج أبى مسلم ] (1) : أرى خلل الرماد وميض جمر ويوشك أن يكون له ضرام (2) فإن النار بالزندين تورى وإن الحرب أولها كلام (3)
__________
(1) من المثل السائر .
(2) الابيات في الاخبار الطوال 340 (3) الاخبار الطوال : * وإن الشر مبدؤه الكلام * (*)(5/62)
أقول من التعجب : ليت شعرى أأيقاظ أمية أم نيام (1) ! فالبيت الاول لو ورد بمفرده لكان كناية ، لانه لا يجوز حمله على جانبى الحقيقة والمجاز (2) ، فإذا نظرنا إلى الابيات بجملتها ، كان البيت الاول المذكور استعارة لا كناية .
ثم أخذ في الفرق بين الكناية والتعريض ، فقال : التعريض هو اللفظ الدال على الشئ من طريق المفهوم ، لا بالوضع الحقيقي ولا بالمجازي ، فإنك إذا قلت لمن تتوقع معروفه وصلته بغير طلب : أنا محتاج ولا شئ في يدى ، وأنا عريان والبرد قد آذانى ، فإن هذا وأشباهه تعريض بالطلب وليس اللفظ موضوعا للطلب ، لا حقيقة ولا مجازا ، وإنما يدل عليه من طريق المفهوم بخلاف قوله : (أو لا مستم النساء) (3) ، وعلى هذا ورد تفسير التعريض في خطبة النكاح ، كقولك للمرأة : أنت جميلة ، أو إنك خلية وأنا عزب .
فإن هذا وشبهه لا يدل على طلب النكاح بالحقيقة ولا بالمجاز ، والتعريض أخفى من الكناية ، لان دلالة الكناية وضعية من جهة المجاز ، ودلالة التعريض من جهة المفهوم المركب ، وليست وضعيه ، وإنما يسمى التعريض تعريضا ، لان المعنى فيه يفهم من عرض اللفظ المفهوم ، أي من جانبه .
__________
(1) الاخبار الطوال : (أقول) ، وبعده في المثل السائر : فإن هبوا فذاك بقاء ملك وإن رقدوا لا ألام وبعده في الاخبار الطوال : فإن يك أصبحوا وثووا نياما فقل قوموا فقد حان القيام (2) في المثل السائر بعد هذه الكلمة : (أما الحقيقة فإنه أخبر أنه رأى وميض جمر في خلل الرماد ، وأنه سيضطرم ، وأما المجاز فإنه أراد أن هناك ابتداء شر كامن ، ومثله بوميض جمر من خلل الرماد) .
(3) في المثل السائر : (بخلاف دلالة اللمس على الجماع) .
(*)(5/63)
قال : وأعلم أن الكناية تشتمل على اللفظ المفرد ، واللفظ المركب ، فتأتى على هذا مرة ، وعلى هذا أخرى ، وأما التعريض فإنه يختص باللفظ المركب ، ولا يأتي في اللفظ المفرد البتة ، لانه لا يفهم المعنى فية من جهة الحقيقة ، ولا من جهة المجاز ، بل من جهة التلويح والاشارة ، وهذا أمر لا يستقل به اللفظ المفرد ، ويحتاج في الدلالة عليه إلى اللفظ المركب .
قال : فقد ظهر فيما قلنا في البيت الذى ذكره ابن سنان مثال الكناية ، ومثال التعريض هو بيت امرئ (1) القيس ، لان غرض الشاعر منه أن يذكر الجماع ، إلا أنه لم يذكره بل ذكر كلاما آخر ، ففهم الجماع من عرضه ، لان المصير إلى الحسنى ورقة الكلام لا يدلان على الجماع ، لاحقيقه ولا مجازا .
ثم ذكر أن من باب الكناية قوله سبحانه : (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ...
) (2) الآية .
قال : كنى بالماء عن العلم ، وبالاودية عن القلوب ، وبالزبد عن الضلال .
قال : وقد تحقق ما اخترعناه وقدرناه من هذه الآية ، لانه يجوز حملها على جانب الحقيقة ، كما يجوز حملها على جانب المجاز .
قال : وقد أخطأ الفراء حيث زعم أن قوله سبحانه وتعالى : (وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال) (3) كناية عن أمر النبي صلى الله عليه وآله ، وأنه كنى عنه بالجبال .
قال : ووجه الخطأ أنه لا يجوز أن يتجاذب اللفظ هاهنا جانبا الحقيقة والمجاز ، لان مكرهم لم يكن لتزول منه الجبال الحقيقية ، فالآية إذا من باب المجاز لا من باب الكناية .
__________
(1) هو بيت امرئ القيس : فصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا * * ورضت فذلت صعبة أي إذلال (2) سورة الرعد 17 .
(3) سورة إبراهيم 46 .
(*)(5/64)
قال : ومن الكنايات المستحسنة قوله عليه السلام للحادي بالنساء : (ياأنجشة رفقا بالقوارير) .
وقول امرأة لرجل قعد منها مقعد القابلة : لا يحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه .
وقول بديل بن ورقاء الخزاعى لرسول الله صلى الله عليه وآله : إن قريشا قد نزلت على ماء الحديبية معها العوذ المطافيل ، وإنهم صادوك عن البيت .
قال : فهذه كناية عن النساء والصبيان ، لان العوذ المطافيل : الابل الحديثات النتاج ومعها أولادها .
ومن الكناية ما ورد في شهادة الزنا أن يشهد عليه برؤية الميل في المكحلة .
ومنها قول عمر لرسول الله صلى الله عليه وآله : هلكت يا رسول الله .
قال : (وما أهلكك ؟) ، قال : حولت رحلى البارحة (1) .
قال : أشار بذلك إلى الاتيان (2) في غير المأتى .
ومنها قول ابن سلام لمن رأى عليه ثوبا معصفرا : (لو أن ثوبك في تنور أهلك لكان خيرا لك) .
قال : ومن الكنايات المستقبحة قول الرضى يرثى امرأة : * إن لم تكن نصلا فغمد نصول * لان الوهم يسبق في هذا الموضع إلى ما يقبح ، وإنما سرقه من قول الفرزدق في امرأته وقد ماتت بجمع : وجفن سلاح قد رزئت فلم أنح عليه ولم أبعث عليه البواكيا (3)
__________
(1) في المثل السائر بعدها : (فقال له النبي صلى الله عليه وسلم) : أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة .
(2) في ا ، ج : (إتيان) .
(3) ديوانه 884 ، وانظر ص 40 من هذا الجزء .
(5 - نهج - 5) (*)(5/65)
وفى جوفه من دارم ذو حفيظة لو أن المنايا أخطأته لياليا فأخذه الرضى فأفسده ولم يحسن تصريفه .
قال : فأما أمثلة التعريض فكثيرة ، منها قوله تعالى : (قال الملا الذين قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك أتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادى الرأى وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين) ف (1) ، فقوله : (ما نراك إلا بشرا مثلنا) تعريض بأنهم أحق بالنبوة ، وأن الله تعالى لو أراد أن يجعلها في واحد من البشر لجعلها فيهم ، فقالوا : هب أنك واحد من الملا وموازيهم في المنزلة ، فما جعلك أحق بالنبوة منهم ! ألا ترى إلى قوله : (وما نرى لكم علينا من فضل) .
هذه خلاصة ما ذكره ابن الاثير في هذا الباب .
واعلم أنا قد تكلمنا عليه في كثير من هذا الموضع في كتابنا الذى أفردناه للنقض عليه ، وهو الكتاب المسمى ب (الفلك الدائر على المثل السائر) فقلنا (2) أولا : إنه اختار حد الكناية وشرع يبرهن (3) على التحديد ، والحدود لا يبرهن عليها ، ولا هي من باب الدعاوى التى تحتاج إلى الادلة ، لان من وضع لفظ الكناية لمفهوم مخصوص ، لا يحتاج إلى دليل ، كمن وضع لفظ الجدار للحائط لا يحتاج إلى دليل .
ثم يقال له : لم قلت : إنه لا بد من أن يتردد لفظ الكناية بين محملى حقيقة ومجاز ، ولم لا يتردد بين مجازين ؟ وما استدللت به على ذلك لا معنى له ...
أما أولا ، فلانك أردت أن تقول : إما أن تكون للفظة الدالة على المجازين شركة في الدلالة على الحقيقة ، أو لا يكون لها في الدلالة على الحقيقة شركة ، لان كلامك هكذا يقتضى ، ولا ينتظم إلا إذا قلت هكذا فلم تقله .
وقلت : إما أن يكون للحقيقة شركة في
__________
(1) سورة هود 27 .
(2) الفلك الدائر 170 وما بعدها مع اختلاف في العباراة .
(3) ا ، ج : (عن) .
(*)(5/66)
اللفظ الدال على المجازين ، وهذا قلب للكلام الصحيح وعكس له .
وأما ثانيا فلم قلت : إنه لا يكون للفظه الدالة على المجازين شركة في الدلالة على الحقيقة التى هي أصل لهما ، فأما قولك هذا يقتضى أن يكون الانسان متكلما بشئ وهو يريد شيئين غيره ، وأصل الوضع أن يتكلم بشئ وهو يريد غيره ، فليس معنى قولهم : الكناية أن تتكلم بشئ وأنت تريد غيره ، أنك تريد شيئا واحدا غيره ، كلا ليس هذا هو المقصود ، بل المقصود أن تتكلم بشئ وأنت تريد ما هو مغاير له ، وإن أردت (1 شيئا واحدا 1) ، اأو شيئين أو ثلاثة أشياء أو ما زاد ، فقد أردت ما هو مغاير له ، لان كل مغاير لما دل عليه ظاهر لفظك فليس في لفظه غير ما يقتضى الوحدة والافراد .
وأما ثالثا فلم لا يجوز أن يكون للفظ الدال على المجازين شركة في الدلالة على الحقيقة أصلا ، بل يدل على المجازين فقط ، فأما قولك إذا خرجت الحقيقة عن أن يكون لها في ذلك شركة لم يكن الذى تكلمت به دالا على ما تكلمت به وهو محال ، ومرادك بهذا الكلام المقلوب أنه إذا خرجت اللفظة عن أن يكون لها شركة في الدلالة على الحقيقة التى هي موضوعة لها في الاصل لم يكن ما تكلم به الانسان دالا على ما تكلم به ، وهو حقيقة ، ولا دالا أيضا على ما تكلم به وهو مجاز ، لانه إذا لم يدل على الحقيقة ، وهى الاصل ، لم يجز أن يدل على المجاز الذى هو الفرع ، لان انتفاء الدلالة على الاصل ، يوجب انتفاء الدلالة على الفرع ، وهكذا يجب أن يتأول استدلاله ، وإلا لم يكن له معنى محصل ، لان اللفظ هو الدال على مفهوماته ، وليس المفهوم دالا على اللفظ ، ولا له شركة في الدلالة عليه ، ولا على مفهوم آخر يعترض اللفظ بتقدير انتقال اللفظ ، اللهم إلا أن يكون دلالة عقلية ، وكلامنا في الالفاظ ودلالتها .
__________
(1 - 1) ساقط من ب ، وأثبته من ا ، ج .
(*)(5/67)
فإذا أصلحنا كلامه على ما ينبغى ، قلنا له في الاعتراض عليه : لم قلت إنه إذا خرج اللفظ عن أن يكون له شركة في الدلالة على الحقيقة ، لم يكن ما تكلم به الانسان دالا على ما تكلم به ؟ ولم لا يجوز أن يكون للحقيقة مجازان قد كثر استعمالهما حتى نسيت تلك الحقيقة ، فإذا تكلم الانسان بذلك اللفظ كان دالا به على أحد ذينك المجازين ، ولا يكون له تعرض ما بتلك الحقيقة ، فلا يكون الذى تكلم به غير دال على ما تكلم به ، لان حقيقة تلك اللفظة قد صارت ملغاة منسية ، فلا يكون عدم إرادتها موجبا أن يكون اللفظ الذى يتكلم به المتكلم غير دال على ما تكلم به ، لانها قد خرجت بترك الاستعمال ، عن أن تكون هي ما تكلم به المتكلم .
ثم يقال ؟ : إنك منعت أن يكون قولنا : (زيد أسد) .
كناية وقلت : لانه لا يجوز أن يحمل أحد هذا اللفظ على أن (زيدا) هو السبع ذو الانياب والمخالب ، ومنعت من قول الفراء إن الجبال في قوله : (لتزول منه الجبال) كناية عن دعوة محمد صلى الله عليه وآله وشريعته ، لان أحدا لا يعتقد ولا يتصور أن مكر البشر يزيل الجبال الحقيقية عن أماكنها ، ومنعت من قول من قال إن قول الشاعر : * ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب (1) * من باب الكناية ، لان أحدا لا يتصور أن الحقائب - وهى جمادات - تثنى وتشكر .
وقلت : لا بد أن يصح حمل لفظ الكناية على محملى الحقيقة والمجاز .
ثم قلت : إن
__________
(1) لنصيب ، من أبيات يمدح فيها سليمان بن عبد اللملك وصدره : * فعاجوا فأثنوا بالذى أنت أهله * البيان والتبيين 1 : 83 .
(*)(5/68)
قول عبد الله بن سلام لصاحب الثوب المعصفر : (لو أنك جعلت ثوبك في تنور أهلك) كناية ، وقول الرضى في امرأة ماتت : * أن لم تكن نصلا فغمد نصول * كناية ، وإن كانت مستقبحة ، وقول النبي صعى الله عليه وآله : (يا أنجشة رفقا بالقوارير) ، وهو يحدو بالنساء كناية ، فهل يجيز عاقل قط أو يتصور في الاذهان أن تكون المرأة غمدا للسيف ! وهل (يحمل (1) أحد) قط قوله للحادي (رفقا بالقوارير) على أنه يمكن أن يكون نهاه عن العنف بالزجاج ، أو يحمل أحد قط قول ابن سلام على أنه أراد إحراق الثوب بالنار ، أو يحمل قط أحد قوله : (الميل في المكحلة) على حقيقتها ، أو يحمل قط أحد قوله : (لا يحل لك فض الخاتم) على حقيقته ! وهل يشك عاقل قط في أن هذه الافاظ ليست دائرة بين المحملين دوران اللمس والجماع والمصافحة ، وهذه مناقضة ظاهرة ، ولا جواب عنها إلا بإخراج هذه المواضع من باب الكناية ، أو بحذف ذلك الشرط الذى اشترطته في حد الكناية .
فأما ما ذكره حكاية عن غيره في حد الكناية بأنها اللفظ الدال على الشئ بغير الوضع الحقيقي ، بوصف جامع بين الكناية والمكنى عنه .
وقوله : هذا الحد هو حد التشبيه ، فلا يجوز أن يكون حد الكناية .
فلقائل أن يقول : إذا قلنا : زيد أسد ، كان ذلك لفظا دالا على غير الوضع الحقيقي ، وذلك المدلول هو بعينه الوصف المشترك بين المشبه والمشبه به ، ألا ترى أن المدلول هو الشجاعة وهى المشترك بين زيد وألاسد ، وأصحاب الحد قالوا في حدهم : الكناية هي اللفظ الدال على الشئ بغير الوضع الحقيقي ، باعتبار وصف جامع بينهما ، فجعلوا المدلول أمرا
__________
(1) ب : (يحمل قط) .
(*)(5/69)
والوصف الجامع أمرا آخر باعتباره وقت الدلالة ، ألا ترى أن لفظ (لامستم) يدل على الجماع الذى لم يوضع لفظ (لامستم) له ، وإنما يدل عليه باعتبار أمر آخر ، هو كون الملامسة مقدمة الجماع ومفضية إليه ، فقد تغاير إذن حد التشبيه (1) وحد الكناية ، ولم يكن أحدهما هو الآخر .
فأما قوله : إن الكناية قد تكون بالمفردات ، والتعريض لا يكون بالمفردات ، فدعوى ، وذلك أن اللفظ المفرد لا ينتظم منه فائدة ، وإنما تفيد الجملة المركبة من مبتدإ وخبر ، أو من فعل وفاعل ، والكناية والتعريض في هذا الباب سواء ، وأقل ما يمكن أن يقيد في الكناية قولك : لامست هندا ، وكذلك أقل ما يمكن أن يفيد في التعريض : (أنا عزب) ، كما قد ذكره هو في أمثلة التعريض .
فإن قال : أردت أنه قد يقال : اللمس يصلح أن يكنى به عن الجماع ، واللمس لفظ مفرد .
قيل له : وقد يقال التعزب يصلح أن يعرض به في طلب النكاح .
فأما قوله : إن بيت نصر بن سيار ، إذا نظر إليه لمفرده صلح أن يكون كناية ، وإنما يخرجه عن كونه كناية ضم الابيات التى بعده إليه ، ويدخله في باب الاستعارة ، فلزم عليه أن يخرج قول عمر : (حولت رحلى) عن باب الكناية بما انضم إليه من قوله : (هلكت) ، وبما أجابه رسول الله صلى الله عليه وآله من قوله : (أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة) ، وبقرينة الحال .
وكان يجب ألا تذكر هذه اللفظة في أمثلة الكنايات .
فأما بيت امرئ القيس فلا وجه لاسقاطه من باب الكناية وإدخاله في باب
__________
(1) ا ، ج (هو والكناية) .
(*)(5/70)
التعريض ، إلا فيما اعتمد عليه ، من أن من شرط الكناية أن يتجاذبها جانبا حقيقة ومجاز ، وقد بينا بطلان اشتراط ذلك ، فبطل ما يتفرع عليه .
وأما قول بديل بن ورقاء : (معها العوذ المطافيل) فإنه ليس بكناية عن النساء والاولاد كما زعم ، بل أراد به الابل ونتجها ، فإن كتب السير كلها متفقة على أن قريشا لم يخرج معها في سنه الحديبية نساؤها وأولادها ، ولم يحارب رسول الله صلى الله عليه وآله قوما أحضروا معهم نساءهم وأولادهم ، إلا هوازن يوم حنين ، وإذا لم يكن لهذا الوجه حقيقة ولا وجود ، فقد بطل حمل اللفظ عليه .
فأما ما زرى به على الرضى رحمه الله تعالى من قوله : * إن لم تكن نصلا فغمد نصول * وقوله : هذا مما يسبق الوهم فيه إلى ما يستقبح ، واستحسانه شعر الفرزدق ، وقوله : إن الرضى أخذه منه فأسا الاخذ ، فالوهم الذى يسبق إلى بيت الرضى يسبق مثله إلى بيت الفرزدق ، لانه قد جعل هذه المرأة جفن السلاح ، فإن كان الوهم يسبق هناك إلى قبيح فهاهنا أيضا يسبق إلى مثله .
وأما الآية التى مثل بها على التعريض ، فإنه قال : إن قوله تعالى : (ما نراك إلا بشرا مثلنا) تعريض بأنهم أحق بالنبوة منه ، ولم يبين ذلك ، وإنما قال : فحوى الكلام أنهم قالوا له : هب أنك واحد من الملاء وموازيهم في المنزلة ، فما جعلك أحق بالنبوة منهم ! ألا ترى إلى قوله : (وما نرى لكم علينا من فضل) ! وهذا الكلام لا يقتضى ما ادعاه أولا من التعريض ، لانه ادعى أن قوله : (ما نراك إلا بشرا مثلنا) تعريض بأنهم أحق بالنبوة منه ، وما قرره به يقتضى مساواته لهم ، ولا يقتضى كونهم أحق بالنبوة منه ، فبطل دعوى الاحقية ، التى زعم أن التعريض إنما كان (1) بها .
__________
(1) ا : (يكون) .
(*)(5/71)
فأما قوله تعالى : (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا) وقوله : إن هذا من باب الكناية وأنه تعالى كنى به عن العلم والضلال وقلوب البشر ، فبعيد ، والحكيم سبحانه لا يجوز أن يخاطب قوما بلغتهم ، فيعمى عليهم ، وأن يصطلح هو ونفسه على ألفاظ لا يفهمون المراد بها ، وإنما يعلمها هو وحده ، ألا ترى أنه لا يجوز أن يحمل قوله تعالى : (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين) (1) على أنه أراد أنا زينا رءوس البشر بالحواس الباطنة والظاهرة المجعولة فيها ، وجعلناها بالقوى الفكرية والخيالية المركبة في الدماغ راجمة وطاردة للشبه المضلة ، وإن من حمل كلام الحكيم سبحانه على ذلك ، فقد نسبه إلى الالغاز والتعمية ، وذلك يقدح في حكمته تعالى .
والمراد بالآية المقدم ذكرها ظاهرها ، والمتكلف لحملها على غيرها سخيف العقل ، ويؤكد ذلك قوله تعالى : (ومما يوقدون عليه في النار أبتغاء حلية أو متاع زبد مثله) (2) ، أفترى الحكيم سبحانه يقول : إن للذهب والفضة زبدا مثل الجهل والضلال ، ويبين ذلك قوله : (كذلك يضرب الله الامثال) (2) ، فضرب سبحانه الماء الذى يبقى في الارض ، فينتفع (3) به الناس ، والزبد الذى يعلو فوق الماء فيذهب جفاء مثلا للحق والباطل كما صرح به سبحانه فقال : (كذلك يضرب الله الحق والباطل (2) ، ولو كانت هذه الآية من باب الكنايات ، وقد كنى سبحانه بالاودية عن القلوب ، وبالماء الذى أنزله من السماء عن العلم ، وبالزبد عن الضلال ، لما جعل تعالى هذه الالفاظ أمثالا ، فإن الكناية خارجة عن باب المثل ، ولهذا لا تقول إن قوله تعالى : (أو لامستم النساء) من باب المثل ، ولهذا أفرد هذا الرجل في كتابه بابا آخر غير باب الكناية ، سماه باب المثل ، وجعلهما قسمين متغايرين في علم البيان ، والامر في هذا * (هامش) (1) سورة الملك 5 (2) سورة الرعد 17 (3) ا : (لينفع) .
(*)(5/72)
الموضع واضح ، ولكن هذا الرجل كان يحب هذه الترهات ، ويذهب وقته فيها ، وقد استقصينا في مناقضته والرد عليه في كتابنا الذى أشرنا إليه .
فأما قوله عليه السلام : (كلما نجم منهم قرن قطع) ، فاستعارة حسنة ، يريد : كلما ظهر منهم قوم استؤصلوا ، فعبر عن ذلك بلفظة (قرن) كما يقطع قرن الشاة إذا نجم ، وقد صح إخباره عليه السلام عنهم أنهم لم يهلكوا بأجمعهم في وقعة النهروان ، وأنها دعوة سيدعو إليها قوم لم يخلقوا بعد ، وهكذا وقع وصح إخباره عليه السلام أيضا أنه سيكون آخرهم لصوصا سلابين ، فإن دعوة الخوارج اضمحلت ، ورجالها فنيت ، حتى أفضى الامر إلى أن صار خلفهم قطاع طريق ، متظاهرين بالفسوق والفساد في الارض .
[ مقتل الوليد بن طريف الخارجي ورثاء أخته له ] فممن انتهى أمره منهم إلى ذلك الوليد بن طريف الشيباني (1) .
في أيام الرشيد بن المهدى ، فأشخص إليه يزيد بن مزيد الشيباني فقتله ، وحمل رأسه إلى الرشيد ، وقالت أخته ترثيه ، وتذكر أنه كان من أهل التقى والدين ، على قاعدة شعراء الخوارج ، ولم يكن الوليد كما زعمت : أيا شجر الخابور ما لك مورقا كأنك لم تجزع على ابن طريف (2) فتى لا يحب الزاد إلا من التقى ولا المال إلا من قنا وسيوف
__________
(1) انظر ترجمة الوليد بن طريف في ابن خلكان 2 : 179 (2) هي الفارعة بنت الوليد ، من قصيدة طويلة ، نقلها ابن خلكان في ترجمة الوليد ، وقال : (وكان للوليد المذكور أخت تسمى الفارعة - وقيل فاطمة - تجيد الشعر وتسلك سبيل الخنساء في مراثيها لاخيها صخر ، فرثت الفارعة أخاها بقصيدة أجادت فيها ، وهى قليلة الجود ، ولم أجد في مجاميع كتب الادب إلا بعضها ، حتى إن أبا على الفالى لم يذكر منها في أماليه سوى أربعة أبيات ، فاتفق أنى ظفرت بها كاملة فأثبتها لغرابتها وحسنها ، وهى هذه) .
وأورد القصيدة ومنها أبيات في أمالى الفالى 2 : 284 ، واللآلئ 913 ، وتاريخ الطبري 10 : 65 ، وشرح شواهد الغنى 55 .
(*)(5/73)
ولا الذخر إلاكل جرداء شطبة وكل رقيق الشفرتين خفيف (1) فقدناك فقدان الربيع وليتنا فديناك من ساداتنا بألوف وقال مسلم بن الوليد يمدح يزيد بن مزيد ، ويذكر قتله الوليد : والمارق ابن طريف قد دلفت له بعارض للمنايا مسبل هطل (2) لو أن شرا بكى مما أطاف به فاز الوليد بقدح الناضل الخصل (3) ما كان جمعهم لما لقيتهم إلا كرجل جراد ريع منجفل فاسلم يزيد فما في الملك من أود إذا سلمت ، ولا في الدين من خلل [ خروج ابن عمرو الخثعمي وأمره مع محمد بن يوسف الطائى ] ثم خرج في أيام المتوكل ابن عمرو الخثعمي ، بالجزيرة فقطع الطريق ، وأخاف السبيل وتسمى بالخلافة ، فحاربه أبو سعيد محمد بن يوسف الطائى الثغرى الصامتى ، فقتل كثيرا من أصحابه ، وأسر كثيرا منهم ، ونجا بنفسه هاربا ، فمدحه أبو عبادة البحترى ، وذكر ذلك فقال : كنا نكفر من أمية عصبة طلبوا الخلافة فجرة وفسوقا (5) ونلوم طلحة والزبير كليهما ونعنف الصديق والفاروقا ونقول تيم أقربت وعديها أمرا بعيدا حيث كان سحيقا وهم قريش الابطحون إذا انتموا طابوا أصولا في العلا وعروقا
__________
(1) الجردا : الفرس القصيرة الشعر والشطبة : السبطة اللحم .
(2) ديوانه ..(3) الخصل : إصابة الغرض .
(4) ديوانه 145 ، من قصيدة أولها : أأفاق صب من هوى فأفيقا أم خان عهدا أم أطاع شقيقا (*)(5/74)
حتى غدت جشم بن بكر تبتغى إرث النبي وتدعيه حقوقا ، جاءوا براعيهم ليتخذوا به عمدا إلى قطع الطريق طريقا عقدوا عمامته برأس قناته ورأوه برا فاستحال عقوقا وأقام ينفذ في الجزيرة حكمه ويظن وعد الكاذبين صدوقا حتى إذا ما الحية الذكر انكفى من أرزن حربا يمج حريقا (1) غضبان يلقى الشمس منه بهامة يعشى العيون تألقا وبروقا أوفى عليه فظل من دهش يظن البر بحرا والفضاء مضيقا غدرت أمانيه به وتمزقت عنه غيابة سكره تمزيقا طلعت جيادك من ربا الجودى قد حملن من دفع المنون وسوقا فدعا فريقا من سيوفك حتفهم وشددت في عقد الحديد فريقا ومضى ابن عمرو قد أساء بعمره ظنا ينزق مهره تنزيقا فاجتاز دجلة خائضا وكأنها قعب على باب الكحيل أريقا (1) لو خاضها عمليق أو عوج إذا ما جوزت عوجا ولا عمليقا لولا اضطراب الخوف في أحشائه رسب العباب به فمات غريقا لو نفسته الخيل لفتة ناظر ملا البلاد زلازلا وفتوقا لثنى صدور الخيل تكشف كربة ولوى رماح الخط تفرج ضيقا (2) ولبكرت بكر وراحت تغلب في نصر دعوته إليه طروقا حتى يعود الذئب ليثا ضيغما والغصن ساقا والقرارة نيقا
__________
(1) أرزن : موضع ، والحرب : الغضبان .
(2) رواية الديوان : لثنى صدور السمر تكشف كربة ولوى رءوس الخيل تفرج ضيقا (*)(5/75)
هيهات مارس فليقا متيقظا قلقا إذا سكن البليد رشيقا مستسلفا جعل الغبوق صبوحه ومرى صبوح غد فكان غبوقا وهذه القصيدة من ناصح شعر البحترى ومختاره .
[ ذكر جماعة ممن كان يرى رأى الخوارج ] وقد خرج بعد هذين جماعة من الخوارج بأعمال كرمان وجماعة أخرى من أهل عمان لا نباهة لهم ، وقد ذكرهم أبو إسحق الصابى في الكتاب ، ، التاجى ، ، (1) وكلهم بمعزل عن طرائق سلفهم وإنما وكدهم وقصدهم إخافة السبيل والفساد في الارض ، واكتساب الاموال من غير حلها ، ولا حاجة لنا إلى الاطالة بذكرهم .
ومن المشهورين برأى الخوارج الذين تم بهم صدق قول أمير المؤمنين عليه السلام : إنهم نطف في أصلاب الرجال وقرارات النساء ، عكرمة مولى ابن عباس ، ومالك بن أنس الاصبحي الفقيه ، يروى عنه أنه كان يذكر عليا عليه السلام وعثمان وطلحة والزبير ، فيقول : والله ما اقتتلوا إلا على الثريد الاعفر .
ومنهم المنذر بن الجارود العبدى ، ومنهم يزيد بن أبى مسلم مولى الحجاج .
وروى أن الحجاج أتى بامرأة من الخوارج وبحضرته مولاه يزيد بن أبى مسلم ، وكان يستسر برأى الخوارج ، فكلم الحجاج المرأة فأعرضت عنه ، فقال لها يزيد الامير ويلك يكلمك ! فقالت : بل الويل لك أيها الفاسق الردئ ! والردئ عند الخوارج هو الذى يعلم الحق من قولهم ويكتمه .
ومنهم صالح بن عبد الرحمن صاحب ديوان العراق .
وممن ينسب إلى هذا الرأى من السلف جابر بن زيد وعمرو بن دينار ومجاهد .
وممن ينسب إليه بعد هذه الطبقة ، أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمى ، يقال إنه كان يرى رأى الصفرية .
__________
(1) كتاب الناجى في أخبار دولة بنى بويه ، ذكره ابن النديم .
(*)(5/76)
ومنهم اليمان بن رباب ، وكان على رأى البيهسية (1) ، وعبد الله بن يزيد ومحمد بن حرب ويحيى بن كامل ، وهؤلاء إباضية (2) .
وقد نسب إلى هذا المذهب أيضا من قبل أبو هارون العبدى ، وأبو الشعثاء ، وإسماعيل ابن سميع ، وهبيرة بن بريم .
وزعم ابن قتيبة أن هبيرة كان من غلاة الشيعة .
ونسب أبو العباس محمد بن يزيد المبرد إلى رأى الخوارج لاطنابه في كتابه المعروف ، ، بالكامل ، ، في ذكرهم وظهور الميل منه إليهم .
__________
(1) البيهسية : أصحاب أبى بيهس الهصيم بن جابر ، كان الحجاج طلبه في أيام الوليد فهرب إلى المدينة ، فطلبه بها عثمان بن حيان ، فظفر به وحبسه ، وكان يسامره إلى أن ورد كتاب الوليد بأن يقطع يديه ورجليه ثم يقتله ، ففعل به ذلك .
وبقية أخباره وأقواله في الشهرستاني 113 .
(2) الاباضية : أصحاب عبد الله بن إباض ، خرج في أيام مروان ، وانظر أخباره وأقواله في الشهرستاني 1 : 121 .
(*)(5/77)
(60) الاصل وقال عليه السلام في الخوارج : لا تقاتلوا الخوارج بعدى ، فلس من طلب الحق فأخطأه ، كمن طلب الباطل فأدركه .
قال الرضى رحمه الله : يعنى معاوية وأصحابه .
الشرح مراده أن الخوارج ضلوا بشبهة دخلت عليهم ، وكانوا يطلبون الحق ، ولهم في الجملة تمسك بالدين ، ومحاماة عن عقيدة اعتقدوها ، وإن أخطئوا فيها ، وأما معاوية فلم يكن يطلب الحق ، وإنما كان ذا باطل لا يحامى عن اعتقاد قد بناه على شبهة ، وأحواله كانت تدل على ذلك ، فإنه لم يكن من أرباب الدين ، ولا ظهر عنه نسك ، ولا صلاح حال ، وكان مترفا يذهب مال الفئ في مآربه ، وتمهيد ملكه ، ويصانع به عن سلطانه ، وكانت أحواله كلها مؤذنة بانسلاخه عن العدالة ، وإصراره على الباطل ، وإذا كان كذلك لم يجز أن ينصر المسلمون سلطانه ، وتحارب الخوارج عليه وإن كانوا أهل ضلال ، لانهم أحسن حالا منه ، فإنهم كانوا ينهون عن المنكر ، ويرون الخروج على أئمة الجور واجبا .
وعند أصحابنا أن الخروج على أئمة الجور واجب ، وعند أصحابنا أيضا أن الفاسق المتغلب(5/78)
بغير شبهه يعتمد عليها لا يجوز أن ينصر على من يخرج عليه ممن ينتمى إلى الدين ، ويأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، بل يجب أن ينصر الخارجون عليه ، وأن كانوا ضالين في عقيده اعتقدوها بشبهة دينية دخلت عليهم ، لانهم أعدل منه ، وأقرب إلى الحق ، ولا ريب في تلزم الخوارج بالدين ، كما لا ريب في أن معاوية لم يظهر عنه مثل ذلك .(5/79)
عود إلى أخبار الخوارج وذكر رجالهم وحروبهم ذكر أبو العباس المبرد في الكتاب ، ، الكامل ، ، أن عروة بن أدية أحد بنى ربيعة بن حنظلة - ويقال إنه أول من حكم - حضر حرب النهروان ، ونجا فيها فيمن نجا ، فلم يزل باقيا مده من خلافة معاوية ، ثم أخذ فأتى به زياد ومعه مولى له ، فسأله عن أبى بكر وعمر فقال خيرا ، فقال : له فما تقول في عثمان وفى أبى تراب ؟ فتولى عثمان ست سنين من خلافته ، ثم شهد عليه بالكفر ، وفعل في أمر على عليه السلام مثل ذلك إلى أن حكم ثم شهد عليه بالكفر .
ثم سأله عن معاوية ، فسبه سبا قبيحا ، ثم سأله عن نفسه ، فقال : أو لك لريبة وآخرك لدعوة ، وأنت بعد عاص ربك .
فأمر فضربت عنقه ، ثم دعا مولاه ، فقال : صف لى أموره ، فقال : أأطنب أم أختصر ؟ قال : بل اختصر ، قال : ما أتيته بطعام في نهار قط ولا فرشت له فراشا في ليل قط .
قال : وحدثت أن واصل بن عطاء أبا حذيفة أقبل في رفقة ، فأحسوا بالخوارج ، فقال واصل لاهل الرفقة : إن هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا ، ودعوني وإياهم - وقد كانوا قد أشرفوا على العطب - فقالوا : شأنك ، فخرج إليهم فقالوا : (2) ما أنت وأصحابك ؟ فقال : قوم مشركون مستجيرون بكم ، ليسمعوا كلام الله ، ويفهموا حدوده ، فقالوا : قد أجرناكم قال : فعلمونا ، فجعلوا يعلمونهم أحكامهم ، وواصل يقول : قد قبلت أنا ومن معى ، قالوا : فامضوا مصاحبين فإنكم إخواننا ، فقال : ليس ذاك إليكم ، قال الله عزوجل : (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ، ثم أبلغه مأمنه) (3)
__________
انظر ما من أخبارهم في الجزء الرابع .
(1) الكامل 539 (طبعة أوربا) (2) ا : (من) .
(3) سورة التوبة 6 .
(*)(5/80)
فأبلغونا مأمننا فنظر بعضهم إلى بعض ، ثم قالوا : ذاك لكم ، فساروا معهم بجمعهم ، حتى أبلغوهم المأمن (1) .
وقال أبو العباس : أتى (2) عبد الملك بن مروان برجل من الخوارج ، فبحثه فرأى منه ما شاء (3) فهما وعلما ، ثم بحثه (4 فرأى منه ما شاء أدبا وذهنا 4) ، فرغب فيه ، فاستدعاه إلى الرجوع عن مذهبه ، فرآه مستبصرا محققا ، فزاده في الاستدعاء ، فقال : تغنيك الاولى عن الثانيه ، وقد قلت وسمعت ، فاسمع أقل ، قال : قل ، فجعل يبسط من قول الخوارج ويزين له من مذهبهم بلسان طلق ، وألفاظ بينة ، ومعان قريبة .
فقال عبد الملك بعد ذلك على معرفته (5) وفضله : لقد كاد يوقع في خاطري أن الجنة إنما خلقت لهم ، وإنى أولى العباد بالجهاد معهم ، ثم رجعت إلى ما ثبت الله على من الحجة ، وقرر في قلبى من الحق ، فقلت [ له ] (6) : الدنيا والآخرة ، لله وقد سلطنا الله في الدنيا ، ومكن لنا فيها ، وأراك لست تجيبنا إلى ما نقول ، والله لاقتلنك إن لم تطع .
فأنا في ذلك ، إذ دخل على بابنى مروان .
قال أبو العباس : وكان مروان أخا يزيد بن عبد الملك لامه ، [ أمهما ] (7) عاتكة بنت يزيد بن معاوية ، وكان أبيا عزيز النفس ، فدخل به على أبيه في هذا الوقت باكيا
__________
(1) الكامل 528 .
(2) ا ، ج .
(أتى رجل) .
(3) ب : (مما شاء) .
(4 - 4) ساقط من ب .
(5) ا ، ج : (على معرفة وفضل) .
(6) من الكامل (6 - نهج - 5) (*)(5/81)
لضرب المؤدب إياه ، فشق ذلك على عبد الملك ، فأقبل عليه الخارجي وقال : [ له ] (1) دعه يبك ، فإنه أرحب لشدقه ، وأصح لدماغه ، وأذهب لصوته ، وأحرى ألا تأبى عليه عينه إذا حضرته طاعة (2) ، واستدعى عبرتها .
فأعجب ذلك من قوله عبد الملك ، وقال له متعجبا : أما يشغلك ما أنت فيه ويعرضك عن هذا ؟ فقال : ما ينبغى أن يشغل المؤمن عن قول الحق شئ ، فأمر بحبسه ، وصفح عن قتله ، وقال بعد معتذرا إليه : لولا أن تفسد بألفاظك أكثر رعيتي ما حبستك ، ثم قال : عبد الملك : لقد شككني ووهمني حتى مالت بى عصمه الله ، وغير بعيد أن يستهوى من بعدى (3) .
[ مرداس بن حدير ] قال أبو العباس : وكان من المجتهدين من الخوارج البلجاء ، وهى امرأة من بنى حرام ابن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم .
وكان مرداس بن حدير أبو بلال ، أحد بنى ربيعة بن حنظلة ناسكا ، تعظمه الخوارج ، وكان كثير الصواب في لفظه مجتهدا ، فلقيه غيلان بن خرشة الضبى ، فقال : يا أبا بلال ، إنى سمعت الامير البارحة - يعنى عبيد الله بن زياد - يذكر البلجاء ، وأحسبها ستؤخذ ، فمضى إليها أبو بلال فقال : إن الله قد وسع على المؤمنين في التقية (4) فاستترى ، فإن هذا
__________
(1) من الكامل (2) ب : (طاعة الله) (3) الكامل 573 ، 574 (4) التقية : حفظ النفس بما يستطاع من المكروه .
(*)(5/82)
المسرف على نفسه ، الجبار العنيد قد ذكرك ، قالت : إن يأخذني فهو أشقى به ، فأما أنا فما أحب أن يعنت إنسان بسببي (1) ، فوجه إليها عبيد الله بن زياد ، فأتى بها فقطع يديها ورجليها ، ورمى بها في السوق ، فمر بها أبو بلال والناس مجتمعون ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : البلجاء ، فعرج إليها فنظر ثم عض على لحيته ، وقال لنفسه : هذه لهذه أطيب نفسا من بقية الدنيا منك يا مرداس .
قال : ثم أن عبيد الله أخذ مرداسا فحبسه (2 فرأى صاحب السجن منه شدة اجتهاده ، وحلاوة منطقه ، فقال له : إنى أرى لك مذهبا حسنا 2) ، وإنى لاحب أن أوليك معروفا ، أفرأيتك إن تركتك تنصرف ليلا إلى بيتك أتدلج (3) إلى ؟ قال : نعم ، فكان يفعل ذلك [ به ] (2) .
ولج عبيد الله في حبس الخوارج وقتلهم ، وكلم في بعضهم فأبى وقال : أقمع (4) النفاق قبل أن ينجم ، لكلام هؤلاء أسرع إلى القلوب من النار إلى اليراع (5) .
فلما كان ذات يوم قتل رجل من الخوارج رجلا من الشرطة ، فقال ابن زياد : ما أدرى ما أصنع بهؤلاء ! كلما أمرت رجلا بقتل رجل منهم قتلوا بقاتله ، لاقتلن من في حبسي منهم .
وأخرج السجان مرداسا إلى منزله كما كان يفعل ، فأتى مرداسا الخبر ، فلما كان في السحر ، تهيأ للرجوع إلى السجن ، فقال له أهله : اتق الله في نفسك ، فإنك إذا رجعت قتلت ، فأبى وقال : والله ما كنت لالقى الله غادرا .
فرجع إلى السجان ، فقال : إنى قد علمت ما عزم عليه صاحبك ، قال : أعلمت ، ثم جئت (6) .
__________
(1) ب : (في) (2 - 2) ا ، ج : (فرأى منه الحباس مذهبا حسنا) (3) تدلج : تسير أول الليل .
(4) كذا في الكامل ، وفى الاصول كلمة غير واضحة .
(5) اليراع : القصب ، واحدته يراعة .
(6) الكامل 584 ، 585 (*)(5/83)
قال أبو العباس : ويروى أن مرداسا مر بأعرابى يهنأ (1) بعيرا له ، فهرج (2) البعير ، فسقط مرداس مغشيا عليه ، فظن الاعرابي أنه صرع ، فقرأ في أذنه ، فلما أفاق قال له الا عربي : إنى قرأت في أذنك ، فقام مرداس : ليس بى ما خفته على ، ولكني رأيت بعيرا هرج من القطران ، فذكرت به قطران جهنم ، فأصابني ما رأيت ، فقال الاعرابي : لا جرم ! والله لا أفارقك أبدا .
قال أبو العباس : وكان مرداس قد شهد مع على عليه السلام صفين ، ثم أنكر التحكيم ، وشهد النهروان ، ونجا فيمن نجا ، ثم حبسه ابن زياد ، كما ذكرناه ، وخرج من حبسه ، فرأى جد ابن زياد في طلب الشراة ، فعزم على الخروج ، فقال لاصحابه : أنه والله ما يسعنا المقام مع هؤلاء الظالمين ، تجرى علينا أحكامهم ، مجانبين للعدل ، مفارقين للقصد (3) ، والله إن الصبر على هذا لعظيم ، وإن تجريد السيف وإخافة الناس لعظيم ، ولكنا ننبذ عنهم ، ولا نجرد سيفا ، ولا نقاتل إلا من قاتلنا .
فاجتمع إليه أصحابه زهاء ثلاثين رجلا ، منهم حريث بن حجل وكهمس بن طلق الصريمى ، وأرادوا أن يولوا أمرهم حريثا فأبى ، فولوا أمرهم مرداسا ، فلما مضى بأصحابه لقيه عبد الله بن رباح الانصاري - وكان له صديقا - فقال : يا أخى ، أين تريد ؟ قال : أريد أن أهرب بدينى ودين أصحابي من أحكام هؤلاء الجورة ، فقال ، أعلم بكم أحد ؟ قال : لا ، قال : فارجع ، قال : أو تخاف على نكرا (4) ؟ قال : نعم ، وأن يؤتى بك .
قال : لا تخف ، فإنى لا أجرد سيفا ، ولا أخيف أحدا ، ولا أقاتل إلا من قاتلني .
ثم مضى حتى نزل آسك وهى ما بين رامهرمز وأرجان ، فمر به مال يحمل إلى ابن
__________
(1) هنأ البعير ، طلاه بالهناء ، والهناء : القطران .
(2) هرج : تحير وسدر من حرارة القطران .
(3) الكامل : (للفصل) ، إلى الحق (4) ا ، ج : (نكيرا) ، والكامل : (مكروها) .
(*)(5/84)
زياد ، وقد قارب أصحابه الاربعين ، فحط ذلك المال ، وأخذ منه عطاءه وعطاء أصحابه ، ورد الباقي على الرسل ، وقال : قولوا لصاحبكم : إنا قبضنا أعطياتنا ، فقال بعض أصحابه : علا م ندع الباقي ؟ فقال : إنهم يقيمون هذا الفئ ، كما يقيمون الصلاة فلا نقاتلهم على الصلاة .
قال أبو العباس : ولابي بلال مرداس في الخروج أشعار ، أخترت منها قوله : أبعد ابن وهب ذى النزاهة والتقى ومن خاض في تلك الحروب المهالكا (1) أحب بقاء أو وأرجى سلامة وقد قتلوا زيد بن حصن ومالكا فيا رب سلم نيتى وبصيرتي وهب لى التقى حتى ألاقى أولائكا قال أبو العباس : ثم إن عبيد الله بن زياد ، ندب جيشا إلى خراسان ، فحكى بعض من كان في ذلك الجيش ، قال : مررنا بآسك ، فإذا نحن بهم ستة وثلاثن رجلا ، فصاح بنا أبو بلال : أقاصدون لقتالنا أنتم ؟ قال : وكنت أنا وأخى قد دخلنا زربا (2) فوقف أخى ببابه ، فقال : السلام عليكم ، فقال مرداس : وعليكم السلام ، ثم قال لاخى : أجئتم لقتالنا ؟ قال : لا إنما نريد خراسان ، قال : فأبلغوا من لقيتم أنا لم نخرج لنفسد في الارض ، ولا لنروع أحدا ، ولكن هربا من الظلم .
ولسنا نقاتل إلا من يقاتلنا ، ولا نأخذ من الفئ إلا أعطياتنا ، ثم قال : أندب لنا (3) أحد ؟ قلنا : نعم ، أسلم بن زرعة الكلابي ، قال : فمتى ترونه يصل إلينا ؟ قلنا : يوم كذا وكذا ، فقال أبو بلال : حسبنا الله ونعم الوكيل .
قال أبو العباس : وجهز عبيد الله بن زياد أسلم بن زرعة في أسرع مدة ووجهه إليهم
__________
(1) يريد عبيد الله بن وهب الراسى ، أحد بنى راسب ، بطن من الازد ، زعيم الخوارج في مبدأ أمرهم ، وانظر الكامل 526 ، 527 .
(2) الزرب : مكمن يحتفره الصائد يتوارى فيه ليختل الصيد .
(3) الكامل : (إلينا) .
(*)(5/85)
في ألفين ، وقد تتام أصحاب مرداس أربعين رجلا ، فلما صار أسلم إليهم صاح به أبو بلال : اتق الله يا أسلم ، فإنا لا نريد فسادا (1) في الارض ، ولا نحتجر فيئا ، فما الذى تريد ؟ قال : أريد أن أردكم إلى ابن زياد ، قال : إذن يقتلنا ، قال : وإن قتلكم ! قال : تشرك في دمائنا ، قال إنى أدين بأنه محق وأنتم مبطلون ، فصاح به حريث بن حجل : أهو محق ، وهو يطيع الفجرة وهو أحدهم ، ويقتل بالظنة ويخص بالفئ ، ويجور في الحكم ! أما علمت أنه قتل بابن سعاد أربعة برآء وأنا أحد قتلته ، وضعت في بطنه دراهم كانت معه .
ثم حملوا على أسلم حملة رجل واحد ، فانهزم هو وأصحابه من غير قتال ، وكاد يأسره معبد أحد الخوارج ، فلما عاد إلى ابن زياد غضب عليه غضبا شديدا ، وقال ويلك ! أتمضى في ألفين ، فتهزم بهم من حملة أربعين ! فكان أسلم يقول : لان يذمنى ابن زياد وأنا حى ، أحب إلى أن يمدحني وأنا ميت .
وكان إذا خرج إلى السوق ، أو مر بصبيان صاحوا به : أبو بلال وراءك ! وربما صاحوا به : يا معبد خذه ، حتى شكا إلى ابن زياد ، فأمر الشرط أن يكفوا الناس عنه ، ففى ذلك يقول عيسى بن فاتك ، من بنى تيم اللات بن ثعلبة أحد الخوارج : فلما أصبحوا صلوا وقاموا إلى الجرد العتاق مسومينا (2) فلما استجمعوا حملوا عليهم فظل ذوو الجعائل يقتلونا (3) بقية يومهم حتى أتاهم سواد الليل فيه يراوغونا يقول نصيرهم لما أتاهم فإن القوم ولوا هاربينا أألفا مؤمن فيكم زعمتم ويهزمكم بآسك أربعونا
__________
(1) الكامل (لا نريد قتالا) ، ب : (لا نريد فسادا في الارض) .
(2) الجرد : جمع أجرد ، وهو من الخيل القصير الشعر ، والعتاق : النجائب ، الواحد عتيق .
مسومين : معلمين بعلامة الحرب .
(3) الجعائل : جمع جعيلة أو جعالة ، وهى ما يأخذه العامل من الاجرة .
(*)(5/86)
كذبتم ليس ذاك كما زعمتم ولكن الخوارج مؤمنونا هم الفئة القليلة غير شك على الفئة الكثيرة ينصرونا قال أبو العباس : أما قول حريث بن حجل : (أما علمت أنه قتل بابن سعاد أربعة برآء وأنا أحد قتلته) ، فابن سعاد هو المثلم بن مشرح (1) الباهلى ، وسعاد اسم أمه وكان من خبره أنه ذكر لعبيد الله بن زياد رجل من سدوس ، يقال له خالد بن عباد ، أو ابن عبادة ، وكان من نساك الخوارج ، فوجه إليه فأخذه ، فأتاه رجل من آل ثور (2) فكذب عنه وقال : هو صهرى وفى ضمنى ، فحلى عنه ، فلم يزل الرجل يتفقده حتى تغيب ، فأتى ابن زياد فأخبره ، فلم يزل يبعث إلى خالد بن عباد حتى ظفر به ، فأخذه ، فقال : أين كنت في غيبتك هذه ؟ قال : كنت عند قوم يذكرون الله ويسبحونه ، ويذكرون أئمة الجور ، فيتبرءون منهم .
قال : ادللنى عليهم ، قال : إذن يسعدوا وتشقى ، ولم أكن لاروعهم ، قال : فما تقول في أبى بكر وعمر ؟ فقال خيرا ، قال : فما تقول في عثمان وفى معاوية ، أتتولاهما ؟ فقال : إن كانا وليين لله فلست معاديهما ، فأراغه مرارا ليرجع عن قوله فلم يفعل ، فعزم على قتله ، فأمر بإخراجه إلى رحبة تعرف برحبة الرسى (3) وقتله بها ، فجعل الشرطة يتفادون من قتله ويروغون عنه توقيا ، لانه كان متقشفا (4) عليه أثر العبادة ، حتى أتى المثلم بن مشرح (1) الباهلى ، وكان من الشرطة ، فتقدم فقتله ، فائتمر به الخوارج أن يقتلوه ، وكان مغرما باللقاح (5) يتبعها ، فيشتريها من مظانها ، وهم في تفقده ، فدسوا إليه رجلا في هيئة الفتيان عليه ردع (6)
__________
(1) الكامل : (مسروح) (2) ثور : هو كندة .
(3) الكامل : (الزينى) .
(4) الكامل : (شاسفا) والشاسف : الهزيل .
(5) اللقاح : النوق ، واحدتها لقحة ، وهى الحلوب .
(6) ردع الزعفران : اللطخ به .
(*)(5/87)
زعفران ، فلقيه بالمربد (1) وهو يسأل عن لقحة صفى (2) ، فقال له الفتى : إن كنت تبتغى (3) فعندي ما يغنيك عن غيره ، فامض معى ، فمضى المثلم معه على فرسه ، يمشى الفتى أمامه حتى أتى به بنى سعد ، فدخل دارا ، وقال له : أدخل على فرسك ، فلما دخل وتوغل في الدار ، أغلق الباب ، وثارت به الخوارج ، فاعتوره حريث بن حجل وكهمس بن طلق الصريمى ، فقتلاه ، وجعلا دراهم كانت معه في بطنه ، ودفناه في ناحية الدار ، وحكا آثار الدم وخليا فرسه في الليل ، فأصيب في الغد في المربد وتجسس عنه الباهليون ، فلم يروا له أثرا ، فاتهموا بنى سدوس به ، فاستعدوا عليهم السلطان ، وجعل السدوسية يحلفون ، فتحامل ابن زياد مع الباهليين ، فأخذ من السدوسيين أربع ديات ، وقال : ما أدرى ما أصنع بهؤلاء الخوارج ! كلما أمرت بقتل رجل اغتالوا قاتله ، فلم يعلم بمكان المثلم حتى خرج مرداس وأصحابه ، فلما واقفهم ابن زرعة الكلابي صاح بهم حريث ، وقال : أهاهنا من ياهلة أحد ؟ قالوا : نعم ، قال : يا أعداء الله ، أخذتم للمثلم (4) من بنى سدوس أربع ديات ، وأنا قتلته ، وجعلت دراهم كانت معه في بطنه ، وهو في موضع كذا مدفون ، فلما انهزم ابن زرعة وأصحابه صاروا إلى الدار ، فأصابوا أشلاءه (5) ، ففى ذلك يقول أبو الأسود : وآليت لا أغدو إلى رب لقحة أساومه حتى يئوب المثلم (6)
__________
(1) المربد : كل ما حبست فيه الابل .
(2) الصفى : الغزيرة اللبن .
(3) الكامل : (تبلغ) .
(4) الكامل : (بالمثلم) .
(5) الكامل 503 ، 504 (6) كما في ديوانه : وقال له كوماء حمراء جلدة وقاربه في السوم والقتل يكتم فأصبح قد عمى على الناس أمره وقد بات يجرى فوق أثوابه الدم وقد كان فيما كان منه بمعزل ولكن حين المرء للمرء مسلم (*)(5/88)
قال أبو العباس : فأما ما كان من مرداس ، فإن عبيد الله بن زياد ندب إليه الناس ، فاختار عباد بن أخضر المازنى - وليس بابن أخضر ، بل هو عباد بن علقمة المازنى وكان أخضر زوج أمه ، وغلب عليه - فوجهه إلى مرداس وأصحابه في أربعة آلاف فارس ، وكانت الخوارج قد تنحت من موضعها ، إلى درابجرد من أرض فارس ، فصار إليهم عباد ، فكان التقاؤهم في يوم جمعة ، فناداه أبو بلال : اخرج إلى يا عباد ، فإنى أريد أن أحاورك ، فخرج إليه ، فقال : ما الذى تبغى ؟ قال : أن آخذ بأقفيتكم فأردكم إلى الامير عبيد الله بن زياد ، قال : أو غير ذلك ، أن نرجع ، فإنا لا نخيف سبيلا ، ولا نذعر مسلما ، ولا نحارب إلا من يحاربنا ، ولا نجبى إلا ما حمينا ، فقال عباد : الامر ما قلت لك ، فقال له حريث بن حجل : أتحاول أن ترد فئة من المسلمين إلى جبار عنيد ضال ! فقال لهم : أنتم أولى بالضلال منه ، وما من ذاك من بد .
قال : وقدم القعقاع بن عطية الباهلى من خراسان ، يريد الحج ، فلما رأى الجمعين قال : ما هذا ؟ قالوا : الشراة ، فحمل عليهم ونشبت الحرب بينهم ، فأخذت الخوارج القعقاع أسيرا ، فأتوا به أبا بلال ، فقال له : من أنت ؟ قال : ما أنا من أعدائك ، إنما قدمت للحج ، فحملت وغررت ، فأطلقه ، فرجع إلى عباد وأصلح من شأنه ، وحمل على الخوارج ثانية ، وهو يقول : أقاتلهم وليس على بعث نشاطا ليس هذا بالنشاط أكر على الحروريين مهرى لاحملهم على وضح الصراط فحمل عليه حريث بن حجل السدوسى ، وكهمس بن طلق الصريمى ، فأسراه وقتلاه ولم يأتيا به أبا بلال .
ولم يزل القوم يجتلدون حتى جاء وقت صلاة الجمعة ، فناداهم أبو بلال : يا قوم هذا وقت الصلاة ، فوادعونا حتى نصلى وتصلوا ، قالوا : لك ذاك ، فرمى القوم أجمعون(5/89)
بأسلحتهم ، وعمدوا للصلاة ، فأسرع عباد ومن معه وقضوا صلاتهم ، والحرورية مبطئون ، فيهم ما بين راكع وساجد وقائم في الصلاة وقاعد ، حتى مال عليهم عباد ومن معه ، فقتلوهم جميعا ، وأتى برأس أبى بلال .
قال : ويرى الشراة أن مرداسا أبا بلال لما عقد على أصحابه ، وعزم على الخروج رفع يديه ، فقال : اللهم إن كان ما نحن فيه حقا فأرنا آية ، فرجف البيت .
وقال آخرون : فارتفع السقف .
ويقال : إن رجلا من الخوارج ذكر ذلك لابي العالية الرياحي ، يعجبه من الآية ، ويرغبه في مذهب القوم ، فقال أبو العالية : كاد الخسف ينزل بهم ، ثم أدركتهم نظرة من الله .
قال : فلما فرغ عباد من الجماعة أقبل بهم فصلب رؤوسهم ، وفيهم داود بن شبيب ، وكان ناسكا ، وفيهم حبيبة البكري من عبد القيس ، وكان مجتهدا ، ويروى عنه أنه قال : لما عزمت على الخروج فكرت في بناتى ، فقلت ذات ليلة : لامسكن عن نفقتهن حتى أنظر ، فلما كان في جوف الليل استسقت بنية لى ، فقالت : يا أبت اسقنى ، فلم أجبها ، وأعادت ، فقامت أخت لها فسقتها ، فعلمت أن الله عزوجل غير مضيعهن ، فأتممت عزمى .
وكان في القوم كهمس ، وكان من أبر الناس بأمه ، فقال لها : يا أمه ، لولا مكانك لخرجت ، فقالت : يا بنى ، وهبتك لله .
ففى مقتلهم يقول عيسى بن فاتك الخطى : ألا في الله لا في الناس سالت بداود وإخوته الجذوع مضوا قتلا وتمزيقا وصلبا تحوم عليهم طير وقوع إذا ما الليل أظلم كابدوه فيسفر عنهم وهم ركوع أطار الخوف نومهم فقاموا وأهل الارض في الدنيا هجوع(5/90)
وقال عمران بن حطان : يا عين بكى لمرداس ومصرعه يا رب مرداس الحقنى بمرداس تركتني هائما أبكى لمرزئة (1) في منزل موحش من بعد إيناس أنكرت بعدك من قد كنت أعرفة ما الناس بعدك يا مرداس بالناس إما شربت بكأس دار أولها على القرون فذاقوا جرعة الكاس فكل من لم يذقها شاربا عجلا يسقى بأنفاس ورد بعد أنفاس وقال أيضا : لقد زاد الحياة إلى بغضا وحبا للخروج أبو بلال (2) أحاذر أن أموت على فراشي وأرجو الموت تحت ذرا العوالي (3) فمن يك همه الدنيا فإنى لها والله رب البيت قالى [ عمران بن حطان ] وقال أبو العباس : وعمران هذا ، أحد بنى عمرو بن يسار بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة ابن صعب بن عك بن بكر بن وائل .
وكان رأس القعد من الصفرية وفقيههم وخطيبهم وشاعرهم ، وشعره هذا بخلاف شعر أبى خالد القنانى وكان من قعد الخوارج أيضا .
وقد كان كتب قطرى بن الفجاءة المازنى يلومه على القعود :
__________
(1) الكامل : (المرزئتى) .
(2) الابيات في الكامل 530 .
(3) في الكامل بعده : ولو أنى علمت بأن حتفى كحتف أبى بلال لم أبال (*)(5/91)
أبا خالد أيقن فلست بخالد وما جعل الرحمن عذرا لقاعد أتزعم أن الخارجي على الهدى وأنت مقيم بين لص وجاحد ! فكتب إليه أبو خالد : لقد زاد الحياة إلى حبا بناتى إنهن من الضعاف أحاذر أن يرون الفقر بعدى وأن يشربن رنقا بعد صاف وأن يعرين إن كسى الجوارى فتنبو العين عن كرم عجاف ولولا ذاك قد سومت مهرى وفى الرحمن للضعفاء كاف وقال أبو العباس : ومما حدثنى به (2) العباس بن أبى الفرج الرياشى ، عن محمد بن سلام أن عمران بن حطان لما طرده الحجاج ، جعل يتنقل في القبائل ، وكان إذا نزل بحى انتسب نسبا يقرب منهم ، ففى ذلك يقول : نزلنا في بنى سعد بن زيد وفى عك وعامر عوبثان (3) وفى لخم وفى أدد بن عمرو وفى بكر وحى بنى الغدان ثم خرج حتى لقى روح بن زنباع الجذامي ، وكان روح يقرى الاضياف ، وكان مسايرا لعبد الملك بن مروان ، أثيرا (4) عنده .
وقال ابن عبد الملك فيه : من أعطى مثل ما أعطى أبو زرعة أعطى فقه الحجاز ودهاء أهل العراق وطاعة أهل الشام .
وانتمى عمران إليه أنه من الازد ، فكان روح لا يسمع شعرا نادرا ، ولا حديثا غريبا
__________
(1) الرنق : الكدر .
(2) الكامل : (وكان من حديث عمران) (3) عوبثان بن زاهر بن مراد ، جد بداء بن عامر (القاموس) (4) أثيرا : مكرما ، من آثره ، إذا أكرمه .
(*)(5/92)
عند عبد الملك ، فيسأل عنه عمران إلا عرفه وزاد فيه .
فقال روح لعبد الملك : إن لى ضيفا ما أسمع من أمير المؤمنين خبرا ولا شعرا إلا عرفه وزاد فيه ، فقال : أخبرني ببعض أخباره ، فأخبره وأنشده ، فقال : إن اللغة لغة عدنانية ، ولا أحسبه إلا عمران بن حطان ، حتى تذاكروا ليلة البيتين أولهما : (يا ضربة (1) .....
) .
فلم يدر الملك لمن هما ، فرجع روح فسأل عمران عنهما ، فقال : هذا الشعر لعمران بن حطان يمدح عبد الرحمن بن ملجم .
فرجع روح إليه فأخبره ، فقال : ضيفك عمران بن حطان ، فاذهب فجئني به ، فرجع إليه فقال : أمير المؤمنين قد أحب أن يراك ، فقال له عمران : قد أردت أن أسالك ذاك فاستحييت منك ، فاذهب فأنى بالاثر ، فرجع روح ألى عبد الملك فخبره ، فقال : أما إنك سترجع فلا تجده ، فرجع فوجد عمران قد احتمل ، وخلف رقعة فيها : يا روح كم من أخى مثوى نزلت به قد ظن ظنك من لخم وغسان حتى إذا خفته زايلت منزله من بعد ما قيل عمران بن حطان قد كنت جارك حولا لا يروعنى فيه طوارق من إنس ولا جان حتى أردت بى العظمى فأدركني ما أدرك الناس من خوف ابن مروان فاعذر أخاك ابن زنباع فإن له في الحادثات هنات ذات ألوان يوما يمان إذا لاقيت ذايمن وإن لقيت معديا فعدناني
__________
(1) البيتان كما أوردهما في الكامل : يا ضربة من تقى ما أراد بها إلا ليبلغ من ذى العرش رضوانا إنى لاذكره حينا فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزانا وفى زيادات الكامل : (قلبه الفقيه الطبري فقال) : يا ضربة من شقى ما أراد بها إلا ليهدم من ذى العرش بنيانا إنى لاذكره يوما فألعنه إيها وألعن عمران بن حطانا (*)(5/93)
لو كنت مستغفرا يوما لطاغية كنت المقدم في سرى وإعلاني لكن أبت ذاك آيات مطهرة عند التلاوة في طه وعمران ثم ارتحل ، حتى نزل بزفر بن الحارث أحد بنى عمرو بن كلاب ، فانتسب له أوزاعيا (1) ، وكان عمران يطيل الصلاة ، فكان غلمان بنى عامر يضحكون منه ، فأتاه رجل ممن كان عند روح ، فسلم عليه ، فدعاه زفر ، فقال له : من هذا ؟ فقال : رجل من الازد ، رأيته ضيفا لروح بن زنباع ، فقال له زفر : يا هذا ، أزديا مرة وأوزاعيا أخرى ! إن كنت خائفا أمناك ، وإن كنت فقيرا جبرناك ، فلما أمسى خلف في منزله رقعة ، وهرب فوجدوا فيها : إن التى أصبحت يعيا بها زفر أعيت زمانا على روح بن زنباع (2) ما زال يسألنى حولا لاخبره والناس ما بين مخدوع وخداع حتى إذا انقطعت منى وسائله كف السؤال ولم يولع بإهلاع فاكفف لسانك عن لومى ومسألتي ما ذا تريد إلى شيخ بلا راعى ! (3) فاكفف كما كف عنى إننى رجل إما صميم وإما فقعة القاع
__________
= وقال محمد بن أحمد الطيب يرد على عمران بن حطان : يا ضربة من غدور صار ضاربها أشقى البرية عند الله إنسانا إذا تفكرت فيه ظلت ألعنه وألعن الكلب عمران بن حطان (1) أوزاعي : منسوب إلى أوزاع ، أبى بطن من همدان .
(2) في الكامل : (قال أبو العباس : أنشدنيه الرياشى : * أعيا عياها على روح بن زنباع * وأنكره كما أنكرناه ، لانه قصر الممدود ، وذلك في الشعر جائز ، ولا يجوز مد المقصور .
(3) في الكامل : إلى شيخ لاوزاعي) ، والبيت في ترتيب الكامل ورد بعد تاليه .
(*)(5/94)
أما الصلاة فإنى غير تاركها كل امرئ للذى يعنى به ساع أكرم بروح بن زنباع وأسرته قوم دعا أوليهم للعلا داع جاورتهم سنة مما أسر به عرضى صحيح ونومى غير تهجاع فاعمل فإنك منعى بواحدة حسب اللبيب بهذا الشيب من داع (1) ثم ارتحل حتى أتى عمان ، فوجدهم يعظمون أمر أبى بلال ، وظهر (2) فيهم ، فأظهر أمره فيهم ، فبلغ ذلك الحجاج ، فكتب فيه إلى أهل عمان ، فهرب حتى أتى قوما من الازد في سواد الكوفة ، فنزل بهم ، فلم يزل عندهم حتى مات ، وفى نزوله فيهم يقول : نزلنا بحمد الله في خير منزل نسر بما فيه من الانس والخفر (3) نزلنا بقوم يجمع الله شملهم وليس لهم دعوى سوى المجد يعتصر من الازد إن الازد أكرم أسوة (4) يمانية طابوا إذا انتسب البشر (5) فأصبحت فيهم آمنا لا كمعشر أتونى فقالوا من ربيعة أو مضر أم الحى قحطان ولكن سفاهة (6) كما قال لى روح وصاحبه زفر وما منهما إلا يسر بنسبة (7) تقربنى منه وإن كان ذا نفر (8) فنحن عباد الله والله واحد وأولى عباد الله بالله من شكر
__________
(1) في الاصول : (من داع) ، وما أثبته من الكامل .
(2) الكامل : (ويظهرونه) .
(3) الانس ، بكسر الهمزة مصافاة المودة .
(4) الكامل : (أكرم معشر) .
(5) الكامل : (إذا نسب) .
(6) الكامل : (فتلكم سفاهة) .
(7) بنسبة ، أي بانتساب .
(8) ذو نفر ، أي من ذى العزة والمنعة .
(*)(5/95)
قال أبو العباس : ومن الخوارج من مشى في الرمح وهو في صدره خارجا من ظهره ، حتى خالط طاعنه فضربه بالسيف فقتله ، وهو يقول : (وعجلت إليك رب لترضى) (1) ومنهم الذى سأل عليا عليه السلام يوم النهروان المبارزة في قوله : أطعنهم ولا أرى عليا ولو بدا أوجرته الخطيا (2) فخرج إليه على فضربه بالسيف فقتله ، فلما خالطه السيف قال : (يا حبذا الروحة إلى الجنة) (3) .
ومنهم ابن ملجم ، وقطع الحسن بن على يديه ورجليه وهو في ذلك يذكر الله ، ثم عمد إلى لسانه فقطعه فجزع ، فقيل له في ذلك قال : أحببت ألا يزال لساني رطبا من ذكر الله .
ومنهم القوم الذين وثب رجل منهم على رطبة سقطت من نخلة فوضعها في فيه ، فلفظها تورعا .
ومنهم أبو بلال مرداس ، الذى ينتحله من الفرق لتقشفه وتصرمه وصحة عبادته ، وصلابة نيته .
أما المعتزلة فتنتحله وتقول : إنه خرج منكرا لجور السلطان ، داعيا إلى الحق ، وإنه من أهل العدل ، ويحتجون لذلك بقوله لزياد ، وقد كان قال في خطبته على المنبر : والله لآخذن المحسن بالمسئ ، والحاضر بالغائب ، والصحيح بالسقيم ، فقام إليه مرداس ، فقال : قد سمعنا ما قلت أيها الانسان ، وما هكذا قال الله تعالى لنبيه إبراهيم ، إذ يقول :
__________
(1) سورة طه : 84 (2) أوجرته الخطيا ، أي طعنته بالرمح في فيه ، أو صدره .
(3) الخبر بتفصيل أوسع في الكامل 543 (*)(5/96)
(وإبراهيم الذى وفى .
ألا تزر وازرة وزر أخرى) (1) ، ثم خرج عليه عقيب هذا اليوم .
وأما الشيعة فتنتحله ، وتزعم أنه كتب إلى الحسين بن على : إنى والله لست من الخوارج ، ولا أرى رأيهم ، وإنى على دين أبيك إبراهيم .
[ المستورد السعدى ] ومنهم المستورد ، أحد بنى سعد بن زيد بن مناة ، كان ناسكا مجتهدا ، وهو أحد من ترأس على الخوارج في أيام على ، وله الخطبة المشهورة التى أولها : أن رسول الله صلى الله عليه أتانا بالعدل تخفق راياته ، وتلمع معالمه ، فبلغنا عن ربه ، ونصح لامته ، حتى قبضه الله تعالى مخيرا مختارا .
ونجا يوم النخيلة من سيف على ، فخرج بعد مدة على المغيرة بن شعبة وهو والى الكوفة ، فبارزه معقل بن قيس الرياحي ، فاختلفا ضربتين ، فخر كل واحد منهما ميتا .
ومن كلام المستورد : لو ملكت الدنيا بحذافيرها ، ثم دعيت إلى أن أستفيد بها خطيئة ما فعلت .
ومن كلامه : إذا أفضيت بسرى إلى صديقى فأفشاه لم ألمه ، لانى كنت أولى بحفظه .
ومن كلامه : كن أحرص على حفظ سرك منك على حقن دمك .
وكان يقول : أول ما يدل على عيب (2) عائب الناس معرفته بالعيوب ، ولا يعيب إلا معيب .
__________
(1) سورة النجم 37 ، 38 .
(2) الكامل : (عليه) .
(7 - نهج - 5) (*)(5/97)
وكان يقول : المال غير باق عليك ، فاشتر به من الحمد والاجر ما يبقى عليك (1) .
[ حوثرة الاسدي ] قال أبو العباس (2 : وخرج من الخوارج على معاوية بعد قتل على ، حوثرة الاسدي ، وحابس الطائى ، خرجا في جمعهما ، فصارا إلى مواضع أصحاب النخيلة 2) ، ومعاوية يمئذ بالكوفة قد دخلها في عام الجماعة (3) ، وقد نزل الحسن بن على ، وخرج يريد المدينة ، فوجه إليه معاوية - وقد تجاوز في طريقه - يسأله أن يكون المتولي لمحاربة الخوارج ، فكان جواب الحسن : والله لقد كففت عنك لحقن دماء المسلمين ، وما أحسب ذاك يسعنى ، أفأقاتل عنك قوما أنت والله أولى بالقتال منهم ! قلت : هذا موافق لقول أبيه : (لا تقاتلوا الخوارج بعدى ، فليس من طلب الحق فأخطأه ، مثل من طلب الباطل فأدركه) ، وهو الحق الذى لا يعدل عنه ، وبه يقول أصحابنا ، فإن الخوارج عندهم أعذر من معاوية ، وأقل ضلالا ، ومعاوية أولى بأن يحارب منهم .
قال أبو العباس : فلما رجع الجواب إلى معاوية أرسل إلى حوثرة الاسدي أباه ، وقال له : اذهب فاكفني أمر ابنك ، فصار إليه أبوه ، فدعاه إلى الرجوع فأبى ، فما رأه (4) فصمم ، فقال : يا بنى أجيئك بابنك ، فلعلك تراه فتحن إليه ، فقال : يا أبت ، أنا والله إلى طعنة نافذة أتقلب فيها على كعوب الرمح ، أشوق منى إلى ابني !
__________
(1) الكامل 578 (2 - 2) الكامل : (فأول من خرج بعد قتل على عليه السلام حوثرة الاسدي ، فإنه كان متنحيا بالبندنيجين ، فكتب إلى حابس الطائى يسأله أن يتولى أمر الخوارج ، حتى يسير إليه بجمعه فيتعاضدا على مجاهدة معاوية فأصابه ، فرجعا إلى موضع أصحاب النخيلة) .
(3) الكامل : (بعد أن بايعه الحسن والحسين) .
(4) الكامل : (فأداره) .
(*)(5/98)
فرجع إلى معاوية فأخبره فقال : يا أبا حوثرة ، لقد عتا بحق هذا جدا .
ثم وجه إليه جيشا أكثره أهل الكوفة ، فلما نظر إليهم حوثرة ، قال لهم : يا أعداء الله ، أنتم بالامس تقاتلون معاوية لتهدوا سلطانه ، وأنتم اليوم تقاتلون معه لتشدوا سلطانه ! فخرج إليه أبوه ، فدعاه إلى البراز ، فقال : يا أبت ، لك في غيرى مندوحة ، ولى في غيرك مذهب ، ثم حمل على القوم وهو يقول : اكرر على هذى الجموع حوثره فعن قليل ما تنال المغفره فحمل عليه رجل من طيئ فقتله ، فلما رأى أثر السجود قد لوح جبهته ندم على قتله (1) .
وقال الرهين المرادى أحد فقهاء الخوارج ونساكها (2) : يا نفس قد طال في الدنيا مراوغتي لا تأمنن لصرف الدهر تنغيصا إنى لبائع ما يفنى لباقية إن لم يعقنى رجاء العيش تربيصا (3) وأسال الله بيع النفس محتسبا حتى ألاقى في الفردوس حرقوصا (4) وابن المنيح ومرداسا وإخوته إذ فارقوا هذه الدنيا مخاميصا قال أبو العباس : وأكثرهم لم يكن يبالى بالقتل ، وشيمتهم استعذاب الموت ، والاستهانة بالمنية .
ومنهم الهازئ بالامراء ، وقد قدم إلى السيف ، ولى زياد شيبان بن عبد الله الاشعري - صاحب مقبرة بنى شيبان - باب عثمان وما يليه بالبصرة ، فجد في طلب الخوارج ، وأخافهم ، فلم
__________
(1) الكامل 578 ، 579 (2) في الكامل : (وكان رجلا من مراد ، وكان لا يرى القعود عن الحرب ، وكان في الدهاء والمعرفة والشعر والفقه بقول الخوارج بمنزلة عمران بن حطان في وقته شاعر قعد الصفرية ورئسهم وفقيهم) .
(3) التربيص : الانتظار ، وهو تمييز محول عن الفاعل ، أي لم يعوقنى الامل في الحياة .
(4) حرقوص : ذو الثدية ، وهو من رجالهم .
(*)(5/99)
يزل على ذلك حتى أتاه ليلة ، وهو متكئ بباب داره رجلان من الخوارج ، فضرباه بأسيافهما فقتلاه ، فأتى زياد بعد ذلك برجل من الخوارج ، فقال : اذهبوا به فاقتلوه متكئا كما قتل شيبان ، فصاح به الخارجي : يا عدلاه ! يتهزأ .
[ أمر عباد بن أخضر مع الخوارج ] قال : وأما عباد بن أخضر ، قاتل أبى بلال مرداس بن أدية ، وقد ذكرنا قصته - فإنه لم يزل بعد قتله مرداسا محمودا في المصر موصوفا بما كان منه ، حتى ائتمر جماعة من الخوارج أن يقتلوه ، فذمر (1) بعضهم بعضا على ذلك ، فجلسوا له يوم جمعة (2) بعد أن أقبل على بغلته ، وابنه رديفه ، فقام إليه رجل منهم فقال له : أسألك [ عن ] (3) مسألة ! قال : قل ، قال : رأيت رجلا قتل رجلا بغير حق ، وللقاتل جاه وقدر وناحية من السلطان ، ولم يعد عليه السلطان لجوره ، ألولى ذلك المقتول أن يقتل (4) القاتل إن قدر عليه ! فقال : بل يرفعه إلى السلطان .
قال : إن السلطان لا يعدى عليه لمكانه منه ، ولعظم جاهه عنده ، قال : أخاف عليه إن فتك به [ فتك به السلطان ] (5) .
قال : دع ما تخافه من السلطان ، أيلحقه تبعة (6) فيما بينه وبين الله ؟ قال : لا ، فحكم هو وأصحابه ثم خبطوه بأسيافهم ، ورمى عباد بابنه فنجا ، وتنادى الناس : قتل عباد ، فاجتمعوا فأخذوا أفواه الطرق ، وكان مقتل [ عباد في سكة ] (7) بنى مازن عند مسجد بنى كليب بن يربوع ، فجاء معبد بن أخضر ، أخو عباد ، وهو معبد
__________
(1) الكامل 796 ، وفيه : (يهزأ به) .
(2) الكامل : (وقد أقبل) .
(3) من الكامل .
(4) الكامل : (أن يفتك) .
(5) من الكامل .
(6) لتبعة : ما يلحقة من الاثم .
(7) من الكامل .
(*)(5/100)
بن علقمة ، وأخضر زوج أمهما في جماعة من بنى مازن ، وصاحوا بالناس : دعونا وثأرنا ، فأحجم الناس ، فتقدم المازنيون ، فحاربوا الخوارج حتى قتلوهم جميعا ، لم يفلت منهم أحد إلا عبيدة بن هلال ، فإنه خرق خصا ونفذ فيه ، ففى ذلك يقول الفرزدق : لقد أدرك الاوتار غير ذميمة إذا ذم طلاب الترات الاخاضر هم جردوا الاسياف يوم ابن أخضر فنالوا التى ما فوقها نال ثائر أقادوا به أسدا لها في اقتحامها - إذا برزت نحو الحروب - بصائر ثم هجا كليب بن يربوع ، رهط جرير بن الخطفى ، لانه قتل بحضرة مسجدهم ولم ينصروه ، فقال في كلمته هذه : كفعل كليب إذ أخلت بجارها ونصر اللئيم معتم وهو حاضر وما لكليب حين تذكر أول وما لكليب حين تذكر آخر قال : وكان مقتل عباد بن أخضر وعبيد الله بن زياد بالكوفة ، وخليفته على البصرة عبيد الله بن أبى بكرة ، فكتب إليه يأمره ألا يدع أحدا يعرف بهذا الرأى إلا حبسه ، فجد في طلب من تغيب عنه ، وجعل يتبعهم ويأخذهم ، فإذا شفع إليه أحد منهم كفله إلى أن يقدم به على ابن زياد ، حتى أتوه بعروة بن أدية فأطلقه ، وقال : أنا كفيلك ، فلما قدم ابن زياد أخذ من في الحبس ، فقتلهم جميعا ، وطلب الكفلاء بمن كفلوا به ، فكل من جاء بصاحبه أطلقه ، وقتل الخارجي ، ومن لم يأت بمن كفل به منهم قتله .
ثم قال لابن أبى بكرة : هات عروة بن أدية ، قال : لا أقدر عليه ، قال : إذا والله أقتلك ، فك كفيله ، فلم يزل يطلبه حتى دل عليه في سرب (1) العلاء بن سوية المنقرى ، فكتب بذلك إلى عبيد الله بن زياد ، فقرأ عليه كتابه (2) فقال : إنا قد أصبناه في شرب
__________
(1) السرب : الطريق أو المسلك .
(2) الكامل : (الكتاب) (*)(5/101)
العلاء ، فتهانف (1) به عبيد الله (2) وقال : صحفت ولؤمت ، إنما هو (في سرب العلاء) ، ولوددت أنه كان ممن شرب (3) النبيذ ، فلما أقيم عروة بين يديه ، قال : لم جهزت (4) أخاك على ؟ يعنى أبا بلال ، فقال : والله لقد كنت به ضنينا ، وكان لى عزا ، ولقد أردت له ما أريد لنفسي ، فعزم عزما فمضى عليه ، وما أحب لنفسي إلا المقام وترك الخروج ، فقال له : أفأنت على رأيه ؟ قال : كلنا نعبد ربا واحدا ، قال : أما والله لامثلن بك ، قال : اختر لنفسك من القصاص ما شئت ، فأمر به فقطعوا يديه ورجليه ، ثم قال له : كيف ترى ؟ قال أفسدت على دنياى ، وأفسدت عليك آخرتك ، فأمر به فصلب على باب داره (5) .
[ أبو الوازع الراسبى ] قال أبو العباس : وكان أبو الوازع الراسبى من مجتهدي الخوارج ونساكها ، وكان يذم نفسه ويلومها على القعود ، وكان شاعرا ، وكان يفعل ذلك بأصحابه ، فأتى نافع بن الازرق وهو في جماعة من أصحابه ، يصف لهم جور السلطان وفساد العامة ، وكان نافع ذا لسان عضب واحتجاج وصبر على المنازعة ، فأتاه أبو الوازع ، فقال له : يا نافع ، نإك * (هامش) (1) قال المبرد : فتهانف ، حقيقته تضاحك به هزء وسخرية ، قال عمر بن ربيعة : فتهانفن وقد قلن لها حسن في كل عين من تود (2) في الكامل بعدها : (وكان كثر المحاورة ، عاشقا للكلام الجيد ، مستحسنا للصواب منه ، لا يزال يبحث عن عذره ، فإذا سمع الكلمة الجيدة عرج عليها .
ويروى أنه قال في عقب مقتل الحسين بن على عليه السلام لزينب بنت على رحمها الله ، وكانت أسن من حمل إليه منهن ، وقد كلمته من الحجة حاجتها ، فقال لها : إن تكوني بلغت من الحجة حاجتك فقد كان أبوك خطيبا شاعرا ، فقالت : ما للنساء والشعر ، وكان هذا ألكن برتضح لغة فارسية ، وقال لرجل مرة واتهمه برأى الخوارج : أهرورى منذ اليوم) .
(3) الكامل : (ممن يشرب النبيذ) (4) العبارة في الكامل : (فلما أقيم عروة بين أدية بين يديه ، حاوره ، وقد اختلف الناس في خبره ، وأصحه عندنا أنه قال له : جهزت أخاك على) .
(5) الكامل 592 - 593 (*)(5/102)
أعطيت لسانا صارما ، وقلبا كليلا ، فلوددت أن صرامة لسانك كانت لقلبك ، وكلال قلبك كان للسانك ، أتحض على الحق وتقعد عنه ! وتقبح الباطل وتقيم عليه ! فقال نافع : يا أبا الوازع ، إنما ننتظر الفرص ، إلى أن تجمع من أصحابك من تنكى به عدوك ، فقال أبو الوازع : لسانك لا تنكى به القوم إنما تنال بكفيك النجاة من الكرب فجاهد أناسا حاربوا الله واصطبر عسى الله أن يجزى غوى بنى حرب (1) يعنى معاوية .
ثم قال : والله لا ألومك ، ونفسي ألوم ، ولاغدون غدوة لا أنثنى بعدها أبدا ، ثم مضى فاشترى سيفا ، وأتى صيقلا (2) كان يذم الخوارج ، ويدل على عوارتهم ، فشاوره في السيف ، فحمده ، ثم [ قال ] (3) : أشحذه فشحذه حتى إذا رضيه ، خبط به الصيقل فقتله ، وحمل على الناس فهربوا منه ، حتى أتى مقبرة بنى يشكر ، فدفع عليه رجل حائط ستره ، فشدخه وأمر ابن زياد بصلبه (4) .
[ عمران بن الحارث الراسبى ] قال أبو العباس : ومن نساكهم الذين قتلوا في الحرب عمران بن الحارث الراسبى ، قتل يوم دولاب ، التقى هو والحجاج بن باب الحميرى ، وكان الامير يومئذ على أهل البصرة ، وصاحب رايتهم ضربتين فخرا ميتين ، فقالت أم عمران ترثيه : الله أيد عمرانا وطهره وكان يدعو الله في السحر
__________
(1) في الكامل : (يخزى) ، وغوى بنى الحرب هو عبيد الله بن زياد .
(2) الصقيل : شحاذ السيوف وجلاؤها .
(3) من الكامل (4) الكامل 605 .
(*)(5/103)
يدعوه سرا وإعلانا ليرزقه شهادة بيدى ملحادة غدر ولى صحابته عن حر ملحمة وشد عمران كالضرغامة الذكر (1) قال : وممن قتل من رؤسائهم يوم دولاب نافع بن الازرق - وكان خليفتهم - خاطبوه بإمرة المؤمنين ، فقال رجل منهم يرثيه : شمت ابن بدر والحوادث جمة والجائرون بنافع بن الازرق (2) والموت حتم لا محالة واقع من لا يصبحه نهارا يطرق (3) فلئن أمير المؤمنين أصابه ريب المنون فمن يصبه يغلق (4) وقال قطرى بن الفجاءة يذكر يوم دولاب (5) : لعمرك إنى في الحياة لزاهد وفى العيش ما لم ألق أم حكيم (6) من الخفرات البيض لم ير مثلها شفاء لذى بث ولا لسقيم
__________
(1) الكامل 617 (2) الاغانى 6 : 147 (طبعة دار) ، وروايته : (والظالمون) ، وهى أيضا في الكامل 620 (3) طرقه يطرقه ، إذا ، إذا أتاه ليلا (4) يغلق : لا ينجو ، وأصله من قولهم : غلق الرهن في يد المرتهن ، إذا لم يقدر على فكاكه واستخلاصه .
(5) دولاب ، بفتح أوله وآخره باء موحدة ، وأكثر المحدثين يروونه بالضم ، وقد روى بالفتح في عدة مواضع ، دولاب هنا : قرية بينها وبين الاهوز أربعة فراسخ ، كانت بها وقعة بين أهل البصرة وأميرهم مسلم بن كريز ، قتل فيها نافع بن الازرق (ياقوت) .
(6) الكامل 619 (طبع أوربا) ، الاغانى 6 : 148 (طبعة دار) ، معجم البلدان 4 : 104 وأم حكيم : امرأة من الخوارج ، وكانت من أشجع الناس ، كانت تحمل على الناس وترتجز : أحمل رأسا قد سئمت حمله وقد مللت دهنه وغسله * ألا فتى يحمل عنى ثقله * وكانوا يفدونها بالآباء والامهات ، وكانت من أجمل النساء وجها ، وأحسنهم بدينهم تمسكا .
(رغبة الآمل 7 : 247) .
(*)(5/104)
لعمرك إنى يوم ألطم وجهها على نائبات الدهر جد لئيم (1) فلو شهدتنا يوم دولاب شاهدت طعان فتى في الحرب غير ذميم (2) غداة طفت علماء بكر بن وائل (3) وعجنا صدور الخيل نحو تميم (4) وكان بعبد القيس أول جدنا وأحلافها من يحصب وسليم وظلت شيوخ الازد في حومة الوغى تعوم فمن مستنزل وهزيم (5) فلم أر يوما كان أكثر مقعصا يمج دما من فائظ وكليم (6) وضاربة خدا كريما على فتى أغر نجيب الامهات كريم
__________
(1) في ياقوت بعد هذا البيت : إذا قلت يصبو القلب أو ينتهى المنى أبى القلب ألا حب أم حكيم منعمة صفراء حلو دلالها أبيت بها بعد الهدوء أهيم قطوف الخطا مخطوطة المتن زانها مع الحسن خلق في الجمال عميم (2) قال المبرد : قوله : (ولو شهدتنا يوم دولاب) ، فلم ينصرف (دولاب) ، فإنما ذاك لانه أراد البلدة ، ودولاب : أعجمى معرب) .
(3) في الاصول : (في الماء) ، وصوابه من الكامل والاغانى وياقوت .
قال المبرد : (وقوله : غداة طفت علماء بكر بن (وائل) ، وهو يريد : (على الماء) ، فإن العرب إذا التقت في مثل هذا الموضع لا مان استجازوا حذف إحدهما استثقالا للتضعيف ، لان ما بقى دليل على ما حذف ، فيقولون : (علماء بنو فلان) ، كما قال الفرزدق : وما سبق القيسي من ضعف حيلة ولكن طفت علماء قلفة خالد (4) رواية هذا البيت وتاليه في الاغانى : غداة طغت علماء بكر بن وائل وألافها من حمير وسليم ومال الحجازيون نحو بلادهم وعجنا صدور الخيل نحو تميم (5) يقال : استنزل فلان ، إذا حط عن قدره .
الشطر الثاني في الكامل وياقوت : * تعوم وظلنا في الجلاد نعوم * (6) مقعصا ، من أقعصه برمحه ، إذا طعنه فمات مكانه ، وفائظ ، من فاظ يفوظ ويفيظ ، مات .
(*)(5/105)
أصيب بدولاب ولم تك موطنا له أرض دولاب وأرض حميم (1) فلو شهدتنا يوم ذاك خيلنا تبيح من الكفار كل حريم رأت فتية باعوا الاله نفوسهم بجنات عدن عنده ونعيم [ عبد الله بن يحيى والمختار بن عوف ] ومن رؤساء الخوارج وكبارهم عبد الله بن يحيى الكندى الملقب طالب الحق ، وصاحبه المختار بن عوف الازدي صاحب وقعة قديد (2) ، ونحن نذكر ما ذكره أبو الفرج الاصفهانى من قصتهما في كتاب ، ، الاغانى ، ، (3) مختصرا محذوفا عنه ما لا حاجة بنا في هذا الموضع إليه .
قال أبو الفرج : كان عبد الله بن يحيى من حضرموت ، وكان مجتهدا عابدا ، وكان يقول قبل أن يخرج : لقيني رجل فأطال النظر إلى وقال : ممن أنت ؟ قلت : من كندة ، فقال : من أيهم ؟ فقلت : من بنى شيطان ، فقال : والله لتملكن وتبلغن وادى (4) القرى ، وذلك بعد أن تذهب إحدى عينيك ، وقد ذهبت ، وأنا أتخوف ما قال ، وأستخير الله .
فرأى باليمن جورا ظاهرا ، وعسفا شديدا ، وسيرة في الناس قبيحة ، فقال لاصحابه : إنه لا يحل لنا المقام على ما نرى ، ولا ولا الصبر عليه ، وكتب إلى جماعة من الاباضية بالبصرة وغيرها ، يشاورهم في الخروج ، فكتبوا إليه : إن استطعت ألا تقيم يوما واحدا فافعل ،
__________
(1) كذا في الاصول ، وفى الكامل والاغانى وياقوت : (دير حميم) ، وهو موضع بالاهوز .
(2) قديد : موضع قرب مكة .
(3) الاغانى 20 : 97 وما بعدها ، ملخصا متصرفا .
(4) وادى القرى : بين المدينة والشام .
(*)(5/106)
فإن المبادرة بالعمل الصالح أفضل ، ولست تدرى متى يأتي أجلك ، ولله بقية خير من عباده ، يبعثهم إذا شاء بنصر دينه ، ويختص بالشهادة منهم من يشاء .
وشخص إليه أبو حمزة المختار بن عوف الازدي وبلج بن عقبة المسعودي في رجال من الاباضية ، فقدموا عليه حضرموت فحرضوه على الخروج ، وأتوه بكتب أصحابه يوصونه ويوصون أصحابه : إذا خرجتم فلا تغلوا ، ولا تغدروا ، واقتدوا بسلفكم الصالحين ، وسيروا بسيرتهم ، فقد علمتم أن الذى أخرجهم على السلطان العيب لاعمالهم .
فدعا عبد الله أصحابه فبايعوه ، وقصدوا دار الامارة ، وعلى حضرموت يومئذ إبراهيم بن جبلة بن مخرمة الكندى فأخذه ، فحبسه يوما ثم أطلقه ، فأتى صنعاء ، وأقام عبد الله بحضرموت ، وكثر جمعه ، وسموه (طالب الحق) .
وكتب إلى من كان من بأصحابه بصنعاء : إنى قادم عليكم ، ثم استخلف على حضرموت عبد الله بن سعيد الحضرمي ، وتوجه إلى صنعاء ، وذلك في سنة تسعة عشر ومائة في ألفين ، والعامل على صنعاء يومئذ القاسم بن عمرو أخو يوسف بن عمرو الثقفى ، فجرت بينه وبين عبد الله بن يحيى حروب ومناوشات ، كانت الدولة فيها والنصرة لعبد الله بن يحيى ، فدخل إلى صنعاء ، وجمع ما فيها من الخزائن والاموال فأحرزها .
فلما استولى على بلاد اليمن خطب ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على رسوله ، وذكر وحذر ، ثم قال : إنا ندعوكم أيها الناس إلى كتاب الله وسنة نبيه ، وإجابة من دعا إليهما .
الاسلام ديننا ، ومحمد نبينا ، والكعبة قبلتنا ، والقرآن إمامنا ، رضينا بالحلال حلالا ، لا نبتغى به بدلا ، ولا نشترى به ثمنا ، وحرمنا الحرام ، ونبذناه وراء ظهورنا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وإلى الله المشتكى ، وعليه المعول ، من زنى فهو كافر ، ومن سرق فهو كافر ، ومن شرب الخمر فهو كافر ، ومن شك في أنه كافر فهو كافر ، ندعوكم إلى فرائض بينات ، وآيات محكمات ،(5/107)
وآثار نقتدى بها ، ونشهد أن الله صادق فيما وعد ، وعدل فيما حكم ، وندعو إلى توحيد الرب واليقين ، بالوعد والوعيد ، وأداء الفرائض ، والامر بالمعروف والنهى عن المنكر ، والولاية لاهل ولاية الله ، والعداوة لاعداء الله .
أيها الناس إن من رحمه الله أن جعل في كل فترة بقايا من أهل العلم ، يدعون من ضل إلى الهدى ، ويصبرون على الالم في جنب الله ، ويقتلون على الحق في سالف الايام ، شهداء فما نسيهم ربهم ، وما كان ربك نسيا .
أوصيكم بتقوى الله وحسن القيام على ما وكلتم بالقيام عليه ، وقابلوا الله حسنا في أمره وزجره ، أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم .
قال : وأقام عبد الله بن يحيى بصنعاء أشهرا ، يحسن السيرة في الناس ، ويلين جانبه لهم ، ويكف الاذى عنهم ، وكثر جمعه ، وأتته الشراة من كل جانب ، فلما كان في وقت الحج وجه أبا حمزة المختار بن عوف ، وبلخ بن عقبة ، وأبرهة بن الصباح إلى مكة ، والامير عليهم أبو حمزة في الف ، وأمره أن يقيم بمكة إذا صدر الناس ، ويوجه بلجا إلى الشام ، فأقبل المختار إلى مكة يوم التروية ، وعليها وعلى المدينة عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك في خلافة مروان بن محمد بن مروان ، وأم عبد الواحد بنت عبد الله بن خالد بن أسيد ، فكره عبد الوحد قتالهم ، وفزع الناس منهم حين رأوهم وقد طلعوا عليهم بعرفة ومعهم أعلام سود في رءوس الرماح ، وقالوا : لهم ما لكم وما حالكم ؟ فأخبروهم بخلافهم مروان وآل مروان والتبرئ منهم ، فراسلهم عبد الواحد في ألا يعطلوا على الناس حجتهم ، فقال أبو حمزة : نحن بحجنا أضن ، وعليه أشح ، فصالحهم على أنهم جميعا آمنون بعضهم من بعض ، حتى ينفر الناس النفر الاخير ، وأصبحوا من الغد ، ووقفوا بحيال عبد الواحد بعرفة ودفع عبد الواحد بالناس ، فلما كانوا بمنى ، قيل لعبد الواحد : قد أخطأت فيهم ، ولو حملت عليهم الحاج ما كانوا إلا أكلة رأس (1) .
__________
(1) أكلة رأس ، أي عددهم قليل يكفيهم رأس واحد .(5/108)
وبعث عبد الواحد إلى أبى حمزة عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب ، ومحمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان ، وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبى بكر ، وعبيد الله ابن عمر بن حفص العمرى ، وربيعة بن عبد الرحمن ، ورجالا أمثالهم ، فلما قربوا من أبى حمزة أخذتهم مسالحه (1) فأدخلوا على أبى حمزة ، فوجدوه جالسا ، وعليه إزار قطرى (2) قد ربطه بحوره في قفاه ، فلما دنوا ، تقدم إليه عبد الله بن الحسن العلوى ، ومحمد بن عبد الله العثماني ، فنسبهما (3) ، فلما انتسبا له عبس في وجوههما ، وأظهر الكراهية لهما ، ثم تقدم إليه بعدهما البكري والعمرى فنسبهما فانتسبا له ، فهش إليهما وتبسم في وجوههما ، وقال : والله ما خرجنا إلا لنسير سيرة أبويكما ، فقال له عبد الله بن حسن : والله ما جئناك لتفاخر بين آبائنا ، ولكن الامير بعثنا إليك برسالة ، وهذا ربيعة يخبركها ، فلما أخبره ربيعة ، قال له : إن الامير يخاف نقض العهد ، قال : معاذ الله أن ننقض العهد ، أو نخيس (4) به ! والله لا أفعل ولو قطعت رقبتي هذه ، ولكن إلى أن تنقضي الهدنة بيننا وبينكم .
فخرجوا من عنده ، فأبلغوا عبد الواحد ، فلما كان النفر الاخير ، نفر عبد الواحد وخلى مكة لابي حمزة ، فدخل بغير قتال ، فقال بعض الشعراء يهجو عبد الواحد : زار الحجيج عصابة قد خالفوا دين الاله ففر عبد الواحد ترك الامارة والمواسم هاربا ومضى يخبط كالبعير الشارد فلو أن والده تخير أمه (5) لصفت خلائقه بعرق الوالد
__________
(1) المسالح : جمع مسلحة ، وهى هنا القوم يحملون السلاح .
(2) في الاغانى : (قطوانى) .
(3) نسبهما : أي سألهما أن ينتسبا .
(4) خاس بالعهد ، أي غدر ونكث .
(5) الاغانى : (لو كان والده) (*)(5/109)
ثم مضى عبد الواحد حتى دخل المدينة ودعا بالديوان ، فضرب على الناس البعث ، وزادهم في العطاء عشرة عشرة ، واستعمل على الجيش عبد العزيز بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان فخرجوا ، فلقيتهم جزر منحورة ، فتشاءم الناس بها ، فلما كانوا بالعقيق (1) علق لواء عبد العزيز بسمرة (2) فانكسر الرمح ، فتشاءموا بذلك أيضا .
ثم ساروا حتى نزلوا قديدا ، فنزل بها قوم معتزلون ، ليسوا بأصحاب حرب ، وأكثرهم تجار أغمار ، قد خرجوا في المصبغات والثياب الناعمة واللهو ، لا يظنون أن للخوارج شوكة ، ولا يشكون في أنهم في أيديهم .
وقال رجل منهم من قريش : لو شاء أهل الطائف لكفونا أمر هؤلاء ، ولكنهم داهنوا في دين الله ، والله لنظفرن ولنسيرن إلى أهل الطائف فلنسبينهم .
ثم قال : من يشترى منى من سبى أهل الطائف ؟ قال أبو الفرج : فكان هذا الرجل أول المنهزمين ، فلما وصل المدينة ، ودخل داره ، أراد أن يقول لجاريته : أغلقى الباب ، قال لها : ((غاق ناق) دهشا ، فلقبه أهل المدينة بعد ذلك (غاق ناق) ، ولم تفهم الجارية قوله ، حتى أومأ إليها بيده ، فأغلقت الباب .
قال : وكان عبد العزيز يعرض الجيش بذى الحليفة (3) ، فمر به أمية بن عتبة بن سعيد ابن العاص ، فرحب به وضحك إليه ، ثم مر به عمارة بن حمزة بن مصعب بن الزبير فلم يكلمه ، ولم يلتفت إليه ، فقال له عمران بن عبد الله بن مطيع ، وكان ابن خالته ، أمهما ابنتا عبد الله بن خالد بن أسيد : سبحان الله ! مر بك شيخ من شيوخ قريش ، فلم تنظر
__________
(1) عقيق المدينة ، قيل : هما عقيقان : الاكبر مما يلى الحرة إلى قصر المراجل ، والاصغر ما سفل عن قصر المراجل .
(2) السمرة : شجرة العضاه (3) ذو الحليفة : موضع من تهامة بين حاذة وذات عرق (*)(5/110)
إليه ولم تكلمه ، ومر بك غلام من بنى أمية فضحكت إليه ولاطفته ! أما والله لو التقى الجمعان لعلمت أيهما اصبر ! .
قال : فكان إمية بن عتبة أول من انهزم وركب فرسه ومضى ، وقال لغلامه : يا مجيب ، أما والله لئن أحرزت (1) هذه الاكلب من بنى الشراة إنى لعاجز .
وأما عمارة بن حمزة بن مصعب بن الزبير فقاتل يومئذ ، حتى قتل وكان يحمل ويتمثل : وإنى إذا ضن الامير بإذنه على الاذن من نفسي إذا شئت قادر والشعر للاغر بن حماد اليشكرى .
قال : فلما بلغ أبا حمزة إقبال أهل المدينة إليه ، استخلف على مكة أبرهة بن الصباح ، وشخص إليهم ، وعلى مقدمته بلخ بن عقبة .
فلما كان في الليلة التى وافاهم في صبيحتها ، وأهل المدينة نزول بقديد ، قال لاصحابه : إنكم ملاقوا القوم غدا ، وأميرهم فيما بلغني ابن عثمان ، أول من خالف سنة الخلفاء وبدل سنة رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقد وضح الصبح لذى عينين ، فأكثروا ذكر الله وتلاوة القرآن ، ووطنوا أنفسكم على الموت .
وصبحهم غداة الخميس لتسع خلون من صفر سنة ثلاثين ومائه .
قال أبو الفرج : وقال عبد العزيز لغلامه في تلك الليلة : ابغنا علفا ، قال : هو غال ، فقال : ويحك ! البواكي علينا غدا أغلى ، وأرسل أبو حمزة إليهم بلخ بن عقبة ليدعوهم ، فأتاهم في ثلاثين راكبا فذكرهم الله ، وسألهم أن يكفوا عنهم ، وقال لهم : خلوا سبيلنا إلى الشام ، لنسير
__________
(1) كذا في ب ، وفى ج : (لو اجتورت نفسي) ، وفى الاغانى : (أجرزت نفسي) .
(*)(5/111)
إلى من ظلمكم ، وجار في الحكم عليكم ، ولا تجعلوا حدنا بكم ، فأنا لا نريد قتالكم ، فشتمهم أهل المدينة ، وقالوا : يا أعداء الله ، أنحن نخليكم ، ونترككم (1) تفسدون في الارض ! فقالت الخوارج : يا أعداء الله ، أنحن نفسد في الارض ، إنما خرجنا لنكف الفساد ونقاتل من قاتلنا منكم ، واستأثر بالفئ ، فانظروا لانفسكم ، واخلعوا من لم يجعل الله له طاعة فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، فادخلوا في السلم ، وعاونوا أهل الحق .
فناداه عبد العزيز : ما تقول في عثمان ؟ قال : قد برئ منه المسلمون قبلى ، وأنا متبع آثارهم ، ومقتد بهم ، قال : رجع إلى أصحابك فليس بيننا وبينكم إلا السيف ، فرجع إلى أبى حمزة فأخبره ، فقال : كفوا عنهم ، ولا تقاتلوهم حتى يبدءوكم بالقتال ، فواقفوهم ولم يقاتلوهم ، فرمى رجل من أهل المدينة بسهم في عسكر أبى حمزة ، فجرح منهم رجلا ، فقال أبو حمزة : شأنكم الآن ، فقد حل قتالهم ، فحملوا عليهم فثبت بعضهم لبعض وراية قريش مع إبراهيم بن عبد الله بن مطيع ، ثم انكشف أهل المدينة ، فلم يتبعوهم ، وكان على عامتهم صخر بن الجهم بن حذيفة العدوى ، فكبر وكبر الناس معه ، فقاتلوا قليلا ، ثم انهزموا فلم يبعدوا حتى كبر ثانية ، فثبت معه ناس وقاتلوا ، ثم انهزموا هزيمة لم يبق بعدها منهم باقية .
فقال على بن الحصين لابي حمزة : اتبع آثار القوم ، أو دعني أتبعهم ، فأقتل المدبر ، وأذفف (2) على الجريح ، فإن هؤلاء شر علينا من أهل الشام ، ولو قد جاءك أهل الشام غدا لرأيت من هؤلاء ما تكره ، قال : لا أفعل ، ولا أخالف سيرة أسلافنا .
وأخذ جماعة منهم أسرا وأراد إطلاقهم ، فمنعه على بن الحصين ، وقال : إن لكل
__________
(1) الاغانى : (وندعكم) .
(2) يذفف على الجريح : يقضى عليه .
(*)(5/112)
زمان سيرة ، وهؤلاء لم يؤسروا وهم هراب ، وإنما أسروا وهم يقاتلون ، ولو قتلوا في ذلك الوقت لم يحرم قتلهم ، فهكذا الآن (1 ، قتلهم حلال .
ودعا بهم 1) ، فكان إذا رأى رجلا من قريش قتله ، وإذا رأى رجلا من الانصار أطلقه .
قال أبو الفرج : وذلك لان قريشا كانوا أكثر الجيش ، وبهم كانت الشوكة .
وأتى محمد بن عبد العزيز بن عمرو بن عثمان ، فنسبه ، فقال : أنا رجل من الانصار ، فسأل الانصار فأقرت بذلك ، فأطلقه ، فلما ولى قال : والله إنى لاعلم أنه قرشي ، ولكن قد أطلقته .
قال : وقد بلغت قتلى قديد ألفين ومائتين وثلاثين رجلا ، منهم من قريش أربعمائة وخمسون رجلا ، ومن الانصار ثمانون رجلا ، ومن الموالى وسائر الناس ألف وسبعمائة رجل .
قال : وكان في قتلى قريش من بنى أسد بن عبد العزى بن قصى أربعون رجلا .
قال : وقتل يومئذ أمية بن عبد الله بن عمرو بن عثمان ، خرج مقنعا ، فلم يكلم أحدا ، وقاتل حتى قتل ، ودخل بلج المدينة بغير حرب ، فدخلوا في طاعته ، وكف عنهم ، ورجع إلى ملكه ، وكان على شرطته أبو بكر بن عبد الله بن عمر من آل سراقة ، فكان أهل المدينة ، يقولون : لعن الله السراقى ، ولعن الله بلجا العراقى .
وقالت نائحة : أهل المدينة : ما للزمان وماليه أفنت قديد رجاليه فلابكين سريرة ولابكين علانيه ولابكين على قديد بسوء ما أولانيه (2) ولاعوين إذا خلوت مع الكلاب العاويه
__________
(1 - 1) ساقط من ج (2) في الاغانى : (أبلانيه) .
(8 - نهج 5) (*)(5/113)
[ أبو حمزة الشارى ] قال أبو الفرج : ولما سار عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك إلى الشام ، وخلف المدينة لبلج ، أقبل أبو حمزة من مكة حتى دخلها ، فرقى المنبر ، فحمد الله وقال : يا أهل المدينة ، سألناكم عن ولاتكم هؤلاء ، فأسأتم لعمري والله القول فيهم ، وسألناكم هل يقتلون بالظن ؟ فقلتم : نعم ، وسألناكم : هل يستحلون المال الحرام والفرج الحرام ؟ فقلتم : نعم ، فقلنا لكم : تعالوا نحن وأنتم ، فانشدوا الله وحده أن يتنحوا عنا وعنكم ليختار المسلمون لانفسهم ، فقلتم : لا نفعل ، فقلنا لكم : تعالوا نحن وأنتم نلقاهم ، فإن نظهر نحن وأنتم (1) يأت من يقيم لنا كتاب الله وسنة نبيه ، ويعدل في أحكامكم ، ويحملكم على سنة نبيكم ، فأبيتم وقاتلتمونا ، فقاتلناكم وقتلناكم ، فأبعدكم الله وأسحقكم يا أهل المدينة ! مررت بكم في زمن الاحول هشام بن عبد الملك ، وقد أصابتكم عاهة في ثماركم ، فركبتم إليه تسألونه أن يضع خراجكم عنكم ، فكتب بوضعه عن قوم من ذوى اليسار منكم ، فزاد الغنى غنى ، والفقير فقرا (2) .
وقلتم : جزاه الله خيرا ، فلا جزاه خيرا ولا جزاكم ! .
قال أبو الفرج : فأما خطبتا أبى حمزة المشهورتان اللتان خطب بهما في المدينة ، فإن أحداهما قوله : تعلمون يا أهل المدينة ، أنا لم نخرج من ديارنا وأموالنا أشرا ولا بطرا ، ولا عبثا ولا لهوا ، ولا لدولة ملك نريد أن نخوض فيه ، ولا لثأر قديم نيل منا ، ولكنا لما رأينا مصابيح الحق قد أطفئت ، ومعالم العدل قد عطلت ، وعنف القائم بالحق ، وقتل القائم بالقسط ، ضاقت علينا الارض بما رحبت ، وسمعنا داعيا (3) يدعو إلى طاعة الرحمن ، وحكم القرآن ، فأجبنا داعى الله ، (ومن لا يجب داعى الله فليس بمعجز في الارض)
__________
(1) في الاصول : (فإن يظهروا يأت) ، وما أثبته من الاغانى ، والطبري 9 : 107 .
(2) في الاصول : (فرد الغنى غنيا ، والفقير فقيرا) ، وما أثبته من الاغانى .
(3) يريد بالداعى عبد الله بن يحيى (*)(5/114)
فأقبلنا من قبائل شتى ، النفر (1) منا على البعير الواحد ، وعليه زادهم ، يتعاورون لحافا واحدا ، قليلون مستضعفون في الارض ، فآوانا الله وأيدنا بنصره ، وأصبحنا - والله المحمود - من أهل فضله ونعمته .
ثم لقينا رجالكم بقديد ، فدعوناهم إلى طاعة الرحمن ، وحكم القرآن ، فدعونا إلى طاعة الشيطان ، وحكم مروان ، فشتان لعمر الله ما بين الغى والرشد ! ثم أقبلوا يزفون (2) ويهرعون ، قد ضرب الشيطان فيهم بجرانه (3) ، وصدق عليهم إبليس ظنه ، وأقبل أنصار الله عصائب وكتائب ، بكل مهند ذى رونق ، فدارت رحانا واستدارت رحاهم ، بضرب يرتاب منه المبطلون .
وايم الله يا أهل المدينة ، إن تنصروا مروان وآل مروان فيسحتكم (4) الله بعذاب من عنده أو بأيدينا ، ويشف صدور قوم مؤمنين .
يا أهل المدينة ، الناس منا ونحن منهم ، إلا مشركا عباد وثن ، أو كافرا من أهل الكتاب ، أو إماما جائرا .
يا أهل المدينة ، من يزعم أن الله تعالى كلف نفسا فوق طاقتها ، وسألها عما لم يؤتها فهو لنا حرب .
يا أهل المدينة ، أخبروني عن ثمانية أسهم فرضها الله في كتابه على القوى والضعيف ، فجاء تاسع ليس له منها سهم ، فأخذها جميعا لنفسه ، مكابرا محاربا لربه ، ما تقولون فيه ، وفيمن عاونه على فعله ؟ يا أهل المدينة ، بلغني أنكم تنتقصون أصحابي ، قلتم : هم شباب أحداث ، وأعراب جفاة ، ويحكم يا أهل المدينة ! وهل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا شبابا
__________
(1) النفر : جماعة الرجال ، من ثلاثة إلى عشرة .
(2) يزفون : يسرعون ، وأصله في الظليم .
(3) جران البعير : مقدم عنقه .
(4) يسحتكم : يسأصلكم .
(*)(5/115)
أحداثا ! نعم والله إن أصحابي لشباب مكتهلون (1) في شبابهم ، غضيضة عن الشر أعينهم ، ثقيلة عن الباطل أقدامهم (2) ، قد باعوا أنفسا تموت غدا بأنفس لا تموت أبدا ، قد خلطوا كلالهم بكلالهم ، وقيام ليلهم بصيام نهارهم ، محنية أصلابهم على أجزاء القرآن ، كلما مروا بآية خوف شهقوا خوفا من النار ، وكلما مروا بآية رجاء شهقوا شوقا إلى الجنة ، وإذا نظروا إلى السيوف وقد انتضيت ، وإلى الرماح وقد أشرعت ، وإلى السهام وقد فوقت ، وأرعدت الكتيبة بصواعق الموت ، استخفوا وعيدها عند وعيد الله ، وانغمسوا فيها .
فطوبى لهم وحسن مآب ! فكم من عين في منقار طائر طالما بكى بها صاحبها من خشية الله ! وكم من يد قد أبينت عن ساعدها ، طالما اعتمد عليها صاحبها راكعا وساجدا في طاعة الله ! أقول قولى هذا وأستغفر الله ، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب .
وأما الخطبة الثانية ، فقوله : يا أهل المدينة ، مالى رأيت رسم الدين فيكم عافيا ، وآثاره دارسة ! لا تقبلون عظة ، ولا تفقهون من أهله حجة ، قد بليت فيكم جدته ، وانطمست عنكم سنته ، ترون معروفه منكرا ، والمنكر من غيره معروفا ، فإذا انكشفت لكم العبر ، وأوضحت لكم النذر ، عميت عنها أبصاركم ، وصمت عنها آذانكم ، ساهين في غمرة ، لاهين في غفلة ، تنبسط قلوبكم للباطل إذا نشر ، وتنقبض عن الحق إذا ذكر ، مستوحشة من العلم ، مستأنسة بالجهل ، كلما وردت عليها موعظة زادتها عن الحق نفورا ، تحملون قلوبا في صدوركم كالحجارة أو أشد قسوة من الحجارة ، فهى لا تلين بكتاب الله ، الذى لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشيه الله !
__________
(1) مكتهلون ، أي قد أحرزوا رزانة الكهول .
(2) ج : (أرجلهم) .
(*)(5/116)
يا أهل المدينة ، إنه لا تغنى عنكم صحة أبدانكم إذا سقمت قلوبكم ، قد جعل الله لكل شئ سببا ، غالبا عليه لينقاد إليه مطيع أمره ، فجعل القلوب غالبة على الابدان ، فإذا مالت القلوب ميلا كانت الابدان لها تبعا ، وإن القلوب لا تلين لاهلها إلا بصحتها ، ولا يصححها إلا المعرفة بالله ، وقوة النية ونفاذ البصيرة ، ولو استشعرت تقوى الله قلوبكم ، لاستعملت في طاعة الله أبدانكم .
يا أهل المدينة ، داركم دار الهجرة ومثوى الرسول صلى الله عليه وسلم ، لما نبت به داره ، وضاق به قراره ، وآذاه الاعداء وتجهمت له ، فنقله الله إليكم ، بل إلى قوم لعمري لم يكونوا أمثالكم ، متوازرين مع الحق على الباطل ، مختارين الآجل على العاجل ، يصبرون للضراء رجاء ثوابها ، فنصروا الله وجاهدوا في سبيله ، وآزروا (1) رسوله صلى الله عليه وسلم ، واتبعوا النور الذى أنزل معه ، وآثروا الله على أنفسهم ، ولو كان بهم خصاصة فقال الله تعالى لهم ولامثالهم ، ولمن اهتدى بهديهم : (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) .
وأنتم أبناؤهم ومن بقى من خلفهم ، تتركون أن تقتدوا بهم ، أو تأخذوا بسنتهم ، عمى القلوب صم الآذان ، اتبعتم الهوى فأرداكم عن الهدى ، واسهاكم (2 عن مواعظ القرآن ، لا تزجركم 2) فتنزجرون ، ولا تعظكم فتتعظون ، ولا توقظكم فتستيقظون ، لبئس الخلف أنتم من قوم مضوا قبلكم ! ما سرتم سيرتهم ، ولا حفظتم وصيتهم ، ولا احتذيتم مثالهم ، لو شقت عنهم قبورهم فعرضت عليهم أعمالكم لعجبوا كيف صرف العذاب عنكم ! ألا ترون إلى خلافة الله ، وإمامة المسلمين كيف أضيعت ، حتى تداولها بنو مروان ، أهل بيت اللعنة ، وطرداء رسول الله ، وقوم [ من ] (3) الطلقاء ، ليسوا من المهاجرين ولا الانصار ولا التابعين بإحسان ! فأكلوا مال الله أكلا ، وتلعبوا بدين الله لعبا ، واتخذوا عباد الله عبيدا ، يورث الاكبر منهم ذلك الاصغر ، فيالها
__________
(1) الاغانى : (وآووا) .
(2 - 2) الاغانى : (وأسهاكم ، فلا مواعظ القرآن تزجركم) .
(3) من ج .
(*)(5/117)
أمه ما أضعفها وأضيعها ! ومضوا على ذلك من سيئ أعمالهم واستخفافهم بكتاب الله ، قد نبذوه وراء ظهورهم ، فالعنوهم لعنهم الله لعنا ، [ كما يستحقونه ] (1) .
ولقد ولى منهم عمر بن عبد العزيز فاجتهد ولم يكد ، وعجز عن الذى أظهر ، حتى مضى لسبيله .
قال : ولم يذكره بخير ولا بشر ، ثم قال : وولى بعده يزيد بن الوليد عبد الملك ، غلام سفيه ضعيف ، غير مأمون على شئ من أمور المسلمين ، لم يبلغ أشده ، ولم يؤنس رشده ، وقد قال الله عزوجل : (فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) وأمر أمة محمد صلى الله عليه وأحكامها وفروجها ودمائها أعظم عند الله من مال اليتيم ، وإن كان عند الله عظيما ، غلام مأبون في فرجه وبطنه ، يأكل الحرام ، ويشرب الخمر ، ويلبس بردين قد حيكا من غير حلهما ، وصرفت أثمانهما في غير وجهها ، بعد أن ضربت فيهما لابشار (2) ، وحلقت فيهما الاشعار ، استحل ما لم يحله الله لعبد صالح ، ولا لنبى مرسل ، فأجلس حبابة عن يمينه ، وسلامة عن يساره ، يغنيانه بمزامير الشيطان ، ويشرب الخمر الصراح ، المحرمة نصا بعينها ، حتى إذا أخذت منه مأخذها ، وخالطت روحه ولحمه ودمه ، وغلبت سورتها على عقله ، مزق برديه ، ثم التفت إليهما ، فقال : أتأذنان لى بأن أطير ! نعم فطر إلى النار ، طر إلى لعنة الله ، طر إلى حيث لا يردك الله .
ثم ذكر بنى أمية وأعمالهم ، فقال : أصابوا إمرة ضائعة ، وقوما طغاما جهالا لا يقومون لله بحق ، ولا يفرقون بين الضلالة والهدى ، ويرون أن بنى أمية أرباب لهم ، فملكوا الامر ، وتسلطوا فيه تسلط ربوبية ، بطشهم بطش الجبابرة ، يحكمون بالهوى ، ويقتلون على الغضب ويأخذون بالظن ، ويعطلون الحدود بالشفاعات ، ويؤمنون الخونة ، ويعصون ذوى
__________
(1) من ب .
(2) الابشار : جمع بشر ، وهو جمع بشرة ، ظاهر الجلد ، أي ضرب الناس في جباية الاموال .
(*)(5/118)
الامانة ، ويتناولون الصدقة من غير فرضها ، ويضعونها غير موضعها ، فتلك الفرقة الحاكمة بغير ما أنزل الله ، فالعنوهم لعنهم الله .
قال : ثم ذكر شيعة آل أبى طالب ، فقال : وأما إخواننا من الشيعة - وليسوا (1) بإخواننا في الدين ، لكنى سمعت الله يقول : (يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) - فإنها فرقة تظاهرت بكتاب الله ، وآثرت الفرقة على الله ، لا يرجعون إلى نظر نافذ في القرآن ، ولا عقل بالغ في الفقه ، ولا تفتيش عن حقيقة الثواب ، قد قلدوا أمورهم أهواءهم ، وجعلوا دينهم العصبية لحزب لزموه ، واطاعوه في جميع ما يقوله غيا كان أو رشدا ، ضلالة كان أو هدى ، ينتظرون الدول في رجعة الموتى ويؤمنون بالبعث قبل الساعة ، ويدعون علم الغيب لمخلوقين لا يعلم واحدهم ما في بيته ، بل لا يعلم ما ينطوى عليه ثوبه ، أو يحويه جسمه ، ينقمون المعاصي على أهلها ، ويعملون بها ولا يعلمون المخرج منها ، جفاة في دينهم ، قليلة عقولهم ، قد قلدوا أهل بيت من العرب دينهم ، وزعموا أن موالاتهم لهم تغنيهم عن الاعمال الصالحة ، وتنجيهم من عقاب الاعمال السيئة ، قاتلهم الله أنى يؤفكون ! فأى الفرق يا أهل المدينة تتبعون ، أم بأى مذاهبهم تقتدون ! ولقد بلغني مقالكم في أصحابي ، وما عبتموه من حداثة أسنانهم ، ويحكم ! وهل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أحداثا ! نعم إنهم لشباب مكتهلون (2) في شبابهم ، غضيضة عن الشر أعينهم ، ثقيلة في الباطل أرجلهم ، أنضاء (3) عبادة ، قد نظر الله إليهم في جوف الليل ، محنية أصلابهم على أجزاء القرآن كلما مر أحدهم بآية فيها ذكر الجنة بكى شوقا ، وكلما مر بآية فيها ذكر النار شهق خوفا ، كأن زفير جهنم بين أذنيه ، قد أكلت الارض جباههم وركبهم ،
__________
(1) كذا في ا ، ب ، في ج : (فليسوا) .
(2) ج : (يتكهلون) .
(3) أنضاء : جمع نضو ، وهو المهزول .
(*)(5/119)
ووصلوا گلال ليلهم بگلال نهارهم ، مصفرة ألوانهم ، ناحلة أبدانهم ، من طول القيام ، وكثرة الصيام ، يوفون بعهد الله ، منجزون لوعد الله ، قد سيروا أنفسهم في طاعة الله ، حتى إذا التقت الكتيبتان (1) ، وأبرقت سيوفها ، وفوقت (2) سهامها ، وأشرعت (3) رماحها ، لقوا شبا (4) الاسنة وزجاج السهام (5) وظبى السيوف ، بنحورهم ، ووجوههم وصدورهم فمضى الشاب منهم قدما ، حتى اختلفت رجلاه على عنق فرسه ، واختضبت محاسن وجهه بالدماء ، وعفر (6) جبينه بالتراب والثرى ، وانحطت عليه الطير من السماء ، ومزقته سباع الارض ، فكم من عين في منقار طائر طالما بكى بها صاحبها في جوف الليل من خوف الله ! وكم من وجه رقيق ، وجبين عتيق (7) قد فلق بعمد الحديد .
ثم بكى فقال : آه ، آه على فراق الاخوان ، رحمة الله تعالى على تلك الابدان ، اللهم أدخل أرواحها الجنان .
قال أبو الفرج : وسار أبو حمزة ، وخلف بالمدينة المفضل الازدي في جماعة من أصحابه ، وبعث مروان بن محمد عبد الملك بن عطية السعدى في أربعة آلاف من أهل الشام ، فيهم فرسان عسكره ووجهوهم لحرب أبى حمزة وعبد الله بن يحيى طالب الحق ، وأمر ابن عطية بالجد في المسير ، وأعطى كل رجل من الجيش مائة دينار ، وفرسا عربيا ، وبغلا لثقله ، فخرج ابن عطية حتى إذا كان بالمعلى ، وكان رجل من أهل وادى القرى ، يقال له : العلاء
__________
(1) ج : (الفئتان) .
(2) فوق السهم : جعل له فوقا ، وهو موضع الوتد من السهم ، أي أعدت للرمي .
(3) أشرعت : سددت .
(4) شبا : جمع شباة ، وهى حد كل شئ .
(5) الزجاج : جمع زج ، وهو نصل السهم .
(6) عفر : أصابه العفر ، وهو التراب .
(7) عتيق : كريم .
(*)(5/120)
ابن أفلح مولى ابن القيس ، يقول : لقيني في ذلك اليوم وأنا غلام رجل من أصحاب ابن عطية ، فقال لى : ما اسمك يا غلام ؟ فقلت : العلاء ، فقال : ابن من ؟ قلت : ابن أفلح ، قال : أعربي أم مولى ؟ فقلت : مولى ، قال : مولى من ؟ قلت : مولى ابى الغيث ، قال : فأين نحن ؟ قلت بالمعلى ، قال : فأين نحن غدا ؟ قلت : بغالب (1) ، قال : فما كلمني حتى أردفني خلفه ، ومضى حتى أدخلني على ابن عطية ، وقال له : أيها الامير ، سل الغلام ما اسمه ؟ فسأل وأنا أرد عليه القول ، فسر بذلك ، ووهب لى دراهم .
قال أبو الفرج : وقدم أبو حمزة ، وأمامه بلج بن عقبة في ستمائة رجل ، ليقاتل عبد الملك ابن عطية ، فلقيه بوادي ، القرى لايام خلت من جمادى الاولى سنة ثلاثين ومائة ، فتواقفوا ، ودعاهم بلج إلى الكتاب والسنة ، وذكر بنى أمية وظلمهم ، فشتمه أهل الشام ، وقالوا : يا أعداء الله ، أنتم أحق بهذا ممن ذكرتم .
فحمل بلج وأصحابه عليهم ، وانكشفت طائفة من أهل الشام ، وثبت ابن عطية في عصبة صبروا معه ، فناداهم : يا أهل الشام ، يا أهل الحفاظ ، ناضلوا عن دينكم وأميركم ، واصبروا وقاتلوا قتالا شديدا ، فقتل بلج وأكثر أصحابه ، وانحازت قطعة من أصحابه نحو المائة إلى جبل اعتصموا به ، فقاتلهم ابن عطية ثلاثة أيام ، فقتل منهم سبعين رجلا ، ونجا منهم ثلاثون .
فرجعوا إلى أبى حمزة وهو بالمدينة ، وقد اغتموا وجزعوا من ذلك الخبر ، وقالوا : فررنا من الزحف ، فقال لهم أبو حمزة : لا تجزعوا فإنا لكم فئة (2) ، وإلى تحيزتم .
وخرج أبو حمزة إلى مكة ، فدعا عمر بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أهل المدينة إلى قتال المفضل ، خليفة أبى حمزة على المدينة ، فلم يجد إليه أحدا ، لان القتل قد كان أسرع في الناس ، وخرج وجوه أهل البدعة ، فاجتمع إلى عمر البربر والزنوج وأهل السوق ، فقاتل
__________
(1) وغالب : صنعان بالحجاز .
(2) الفئة : الجماعة المتظاهرة التى يرجع بعضها إلى بعض في التعاضد .
(*)(5/121)
بهم الشراة ، فقتل المفضل وعامة أصحابه ، وهرب الباقون ، فلم يبق منهم أحد ، فقال في ذلك سهيل مولى زينب بنت الحكم بن أبى العاص : ليت مروان رآنا يوم الاثنين عشيه إذ غسلنا العار عنا وانتضينا المشرفيه قال : فلما قدم ابن عطية أتاه عمر بن عبد الرحمن ، فقال له : أصلحك الله ! إنى جمعت قضى وقضيضى ، فقاتلت هؤلاء الشراة فلقبه أهل المدينة (قضى وقضيضى) .
قال أبو الفرج : وأقام ابن عطية بالمدينة شهرا ، وأبو حمزة مقيم بمكة ، ثم توجه إليه ، فقال على بن الحصين العبدى لابي حمزة : إنى كنت أشرت عليك يوم قديد وقبله أن تقتل الاسرى فلم تفعل ، حتى قتلوا المفضل وأصحابنا المقيمين معه بالمدينة وأنا أشير عليك الآن أن تضع السيف في أهل مكة ، فأنهم كفرة فجرة ، ولو قد قدم ابن عطية لكانوا أشد عليك من أهل المدينة ، فقال : لا أرى ذلك ، لانهم قد دخلوا في الطاعة ، وأقروا بالحكم ، ووجب لهم حق الولاية .
فقال : إنهم سيغدرون ، فقال : (ومن نكث فإنما ينكث على نفسه) (1) .
وقدم ابن عطية مكة فصير أصحابه فرقتين ، ولقى الخوارج من وجهين ، فكان هو بإزاء أبى حمزة في أسفل مكة ، وجعل طائفة أخرى بالابطح بإزاء أبرهة بن الصباح ، فقتل أبرهة ، كمن له ابن هبار وهو على خيل دمشق ، فقتله عند بئر ميمون ، والتقى ابن عطية بأبى حمزة ، فخرج أهل مكة بأجمعهم مع ابن عطية ، وتكاثر الناس على أبى حمزة ، فقتل على فم الشعب ، وقتلت معه امرأته وهى ترتجز : أنا الجديعاء وبنت الاعلم من سال عن إسمى فإسمى مريم
__________
(1) سورة الفتح 10 .
(2) الاغانى : (الجعيداء) .
(*)(5/122)
* بعت سوارى بعضب مخذم (1) * وقتلت الخوارج قتلا ذريعا ، وأسر منهم أربعمائة ، فقال لهم ابن عطية : ويلكم ! ما دعاكم إلى الخروج مع هذا ؟ فقالوا : ضمن لنا (الكنة) ، يريدون (الجنة) (2) فقتلهم كلهم ، وصلب أبا حمزة وأبرهة بن الصباح (3) على شعب الخيف ، ودخل على بن الحصين دارا من دور قريش ، فأحدق أهل الشام بها فأحرقوها ، فرمى بنفسه عليهم وقاتل ، فأسر وقتل وصلب مع أبى حمزة ، فلم يزالوا مصلوبين حتى أفضى الامر إلى بنى هاشم (4) ، فأنزلوا في خلافة أبى العباس .
قال أبو الفرج : وذكر ابن الماجشون أن ابن عطية لما التقى بأبى حمزة ، قال أبو حمزة لاصحابه : لا تقاتلوهم حتى تختبروهم ، فصاحوا فقالوا : يا أهل الشام ، ما تقولون في القرآن ؟ [ والعمل به ] (5) ؟ فقال ابن عطية : نضعه في جوف الجوالق ، قالوا : فما تقولون في اليتيم ؟ قالوا : نأكل ماله ونفجر بأمه ، في أشياء بلغني أنهم سئلوا عنها ، فلما سمعوا كلامهم قاتلوهم حتى أمسوا ، فصاحت الشراة : ويحك يا بن عطية ! إن الله عزوجل قد جعل الليل سكنا فاسكن ونسكن ، فأبى وقاتلهم حتى أفناهم .
قال : ولما خرج أبو حمزة من المدينة خطب ، فقال : يا أهل المدينة ، إنا خارجون لحرب مروان ، فإن نظهر عليه نعدل في أحكامكم ، ونحملكم على سنة نبيكم ، وإن يكن ما تمنيتم لنا ، فسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .
__________
(1) مخذم : قاطع .
(2) في الاغانى : (وهى لغتهم) .
(3) في الاغانى : (ورجلين من أصحابهم) .
(4) في الاغانى : (إلى بنى العباس) .
(5) من الاغانى .
(*)(5/123)
قال : وقد كان اتبعه على رأيه قوم من أهل المدينة وبايعوه ، منهم بشكست النحوي ، فلما جاءهم قتله وثب الناس على أصحابه فقتلوهم ، وكان ممن قتلوه بشكست (1) النحوي ، طلبوه فرقى في درجة دار ، فلحقوه فأنزلوه ، وقتلوه وهو يصيح : يا عباد الله ، فيم تقتلونني ! فقيل فيه : لقد كان بشكست عبد العزيز من أهل القراءة والمسجد فبعدا لبشكست عبد العزيز وأما القرآن فلا تبعد قال أبو الفرج : وحدثني بعض أصحابنا أنه رأى رجلا واقفا على سطح يرمى بالحجارة قوم أبى حمزة بمكة ، فقيل له : كيف تدرى (2) لمن ترمى مع اختلاط الناس ؟ فقال : والله ما أبالى من رميت ، إنما يقع حجري في شام أو شار ، والله ما أبالى أيهما قتلت .
قال أبو الفرج : وخرج ابن عطية إلى الطائف ، وأتى قتل أبى حمزة إلى عبد الله بن يحيى طالب الحق ، وهو بصنعاء ، فأقبل في أصحابه يريد حرب ابن عطية ، فشخص ابن عطية إليه ، والتقوا ، فقتل بين الفريقين جمع كثير ، وترجل عبد الله بن يحيى في ألف رجل ، فقاتلوا حتى قتلوا كلهم ، وقتل عبد الله بن يحيى ، وبعث ابن عطية رأسه إلى مروان بن محمد ، وقال أبو صخر الهذلى ، يذكر ذلك : قتلنا عبيدا والذى يكتنى الكنى أبا حمزة القارى المصلى اليمانيا (3) وأبرهة الكندى خاضت رماحنا وبلجا منحناه السيوف المواضيا
__________
(1) هو عبد العزيز القارئ الملقب ببشكست المدنى النحوي الشاعر ، أخذ عن أهل المدينة ، وكان يذهب مذهب الشراة ، ويكتم ذلك ، فلما ظهر أبو حمزة خرج معه .
إنباه الرواة 2 : 183 .
(2) الاغانى : (ويلك) ! (3) أوردها صاحب الاغانى ، ومنها أبيات في معجم الشعراء للمرزيانى 229 (*)(5/124)
وما تركت أسيافنا منذ جردت لمروان جبارا على الارض عاصيا وقال عمرو بن الحصين العنبري ، يرثى أبا حمزة وغيره من الشراة ، وهذه القصيدة من مختار شعر العرب : هبت قبيل تبلج الفجر هند تقول ودمعها يجرى إذ أبصرت عينى وأدمعها تنهل واكفة على النحر أنى اعتراك وكنت عهدي لا سرب الدموع وكنت ذا صبر ! أقذى بعينك لا يفارقها أم عائر أم مالها تذرى ! أم ذكر إخوان فجعت بهم سلكوا سبيلهم على قدر فأجبتها بل ذكر مصرعهم لا غيره عبراتها تمرى يا رب أسلكني سبيلهم ذا العرش واشدد بالتقى أزرى في فتية صبروا نفوسهم (1) للمشرفية والقنا السمر (1) تالله ما في الدهر مثلهم حتى أكون رهينة القبر (2) أوفى بذمتهم إذا عقدوا وأعف عند العسر واليسر متأهبون لكل صالحة ناهون من لاقوا عن النكر (3) صمت إذا حضروا مجالسهم من غير ماعى بهم يزرى (4) إلا تجيئهم فإنهم رجف القلوب بحضرة الذكر (5)
__________
(1) معجم الشعراء : (شرطوا) .
(2) الاغانى : (تالله أنقى الدهر) .
(3) الاغانى : (متأهلين) .
(4) الاغانى : صمت أذا احتضروا مجالسهم وزن لقول خطيبهم وقر (5) الاغانى : (إلا تجيبهم) .
(*)(5/125)
متأوهون كأن جمر غضا للموت بين ضلوعهم يسرى (1) فهم كأن بهم جرى مرض أو مسهم طرف من السحر لا ليلهم ليل فيلبسهم فيه غواشي النوم بالسكر إلا كرى خلسا وآونة حذر العقاب فهم على ذعر كم من أخ لك قد فجعت به قوام ليلته إلى الفجر متأوها يتلو قوارع من آى الكتاب مفزع الصدر (2) ظمآن وقدة كل هاجرة تراك لذته على قدر رفاض ما تهوى النفوس إذا رغب النفوس دعت إلى المزر (3) ومبرأ من كل سيئة عف الهوى ذا مرة شزر (4) والمصطلى بالحرب يوقدها بحسامه في فتية زهر (5) يختاضها بأفل ذى شطب عضب المضارب ظاهر الاثر (6) لا شئ يلقاه أسر له من طعنة في ثغرة النحر منهارة منه تجيش بما كانت عواصم جوفه تجرى (7)
__________
(1) الاغانى : (للموت بين ضلوعهم) ، وبعده : تلقهم إلا كأنهم لخشوعهم صدروا عن الحشر (2) في الاصول : (مفرح) ، وما أثبته من الاغانى ، وفيه بعده : نصب تجيش بنات مهجته من خوف جيش مشاشة القدر (3) المزر : النبيذ من الشعير أو الحنطة .
(4) هذا البيت يذكر في الاغانى .
(5) الاغانى : والمصطلى بالحرب يسعرها بغبارها وبفتية سمر (6) الاثر : جوهر السيف ، وفى الاغانى : (يجتاحها ...
قاطع البتر) .
(7) الاغانى : (منهرة) .
(*)(5/126)
لخليلك المختار أذك به ! من مغتد في الله أو مسرى ! خواض غمرة كل متلفة في الله تحت العثير الكدر نزال ذى النجوات مختضبا بنجيعه بالطعنة الشزر وابن الحصين وهل له شبه في العرف أنى كان والنكر بشهامة لم تحن أضلعه لذوى أحزته على غدر (1) طلق اللسان بكل محكمة رأب صدع العظم ذى الكسر لم ينفكك في جوفه حزن تغلى حرارته وتستشرى ترقى وآونة يخفضها بتنفس الصعداء والزفر ومخالطى بلج وخالصتي سهم العدو وجابر الكسر (2) نكل الخصوم إذا هم شغبوا وسداد ثلمة عورة الثغر (3) والخائض الغمرات يخطر في وسط الاعادي أيما خطر بمشطب أو غير ذى شطب هام العدا بذبابه يفرى وأخيك أبرهة الهجان أخى الحرب العوان وموقد الجمر (4) والضارب الاخدود ليس لها حد ينهنهها عن السمر وولى حكمهم فجعت به عمرو فوا كبدي على عمرو ! قوال محكمة وذو فهم عف الهوى متثبت الامر ومسيب فاذكر وصيته لا تنس إما كنت ذا ذكر
__________
(1) الاغانى : (على غمر) .
(2) الاغانى : (سم العدو) .
(3) في الاصول : (حوزة الثغر) ، وما أثبته من الاغانى .
(4) الاغانى : (ملقح الجمر) .
(*)(5/127)
فكلاهما قد كان مختشعا لله ذا تقوى وذا بر في مخبتين ولم أسمهم كانوا ندى وهم أولو نصرى وهم مساعر في الوغى رجح وخيار من يمشى على العفر (1) حتى وفوا لله حيث لقوا بعهود لا كذب ولا غدر فتخالسوا مهجات أنفسهم وعداتهم بقواضب بتر وأسنة أثبتن في لدن خطية بأكفهم زهر تحت العجاج وفوقهم خرق يخفقن من سود ومن حمر فتوقدت نيران حربهم ما بين أعلى البيت والحجر وتصرعت عنهم فوارسهم لم يغمضوا عينا على وتر صرعى فخاوية بيوتهم وخوامع بجسومهم تفرى (2) قال أبو الفرج : وأقام ابن عطية بحضرموت بعد ظفره بالخوارج حتى أتاه كتاب مروان ، يأمره بالتعجيل إلى مكة ، فيحج بالناس ، فشخص إلى مكة متعجلا مخفا في تسعة عشرة فارسا ، وندم مروان على ما كتبه ، وقال : قتلت ابن عطية ، وسوف يخرج متعجلا مخفا من اليمن ، ليلحق الحج فيقتله الخوارج ، فكان كما قال ، صادفه في طريقه جماعة متلففة ، فمن كان منهم إباضيا قال : ما تنتظر أن ندرك ثأر إخواننا ، ومن لم يكن منهم إباضيا ظن أنه إباضى منهزم من ابن عطية ، فصمد له سعيد وجمانة ابنا الاخنس
__________
(1) مساعر : جمع مسعر ، وهو الشجاع موقد الحرب ، كأنه آلة في إيقادها .
والعفر : التراب .
(2) الخوامع : الضباع .
(*)(5/128)
الكنديان في جماعة من قومهما ، وكانوا على رأى الخوارج ، فعطف ابن عطية على سعيد فضربه بالسيف ، وطعنه جمانة فصرعه ، فنزل إليه ، سعيد فقعد على صدره ، فقال له ابن عطية هل لك في أن تكون أكرم العرب أسيرا ؟ فقال سعيد : يا عدو الله ، أتظن الله يهملك ؟ أو تطمع في الحياة ، وقد قتلت طالب الحق وأبا حمزة وبلجا وأبرهة ! فذبحه وقتل أصحابه أجمعون .
فهذا يسير مما هو معلوم ، من حال هذه الطائفة في خشونتها في الدين ، وتلزمها بناموسه ، وإن كانت في أصل العقيدة على ضلال ، وهكذا قال النبي صلى الله عليه وآله عنهم : (تستحقر صلاة أحدكم في جنب صلاتهم ، وصيام أحدكم في جنب صيامهم) ، ومعلوم أن معاوية ومن بعده من بنى أمية لم تكن هذه الطريقة طريقتهم ، ولا هذه السنة سنتهم ، وأنهم كانوا أهل دنيا ، وأصحاب لعب ولهو وانغماس في اللذات ، وقلة مبالاة بالدين ، ومنهم من هو مرمى بالزندقة والالحاد .
[ أخبار متفرقة عن أحوال معاوية ] وقد طعن كثير من أصحابنا في دين معاوية ، ولم يقتصروا على تفسيقه ، وقالوا عنه إنه كان ملحدا لا يعتقد النبوة ، ونقلوا عنه في فلتات كلامه ، وسقطات ألفاظه ما يدل على ذلك .
وروى الزبير بن بكار في ، ، الموفقيات ، ، - وهو غير متهم على معاوية ، ولا منسوب إلى اعتقاد الشيعة ، لما هو معلوم من حاله من مجانبة على عليه السلام ، والانحراف عنه - : قال المطرف بن المغيرة بن شعبة : دخلت مع أبى على معاوية ، فكان أبى يأتيه ، فيتحدث معه ، ثم ينصرف إلى فيذكر معاوية وعقله ، ويعجب بما يرى منه ، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء ، ورأيته مغتما فانتظرته ساعة ، وظننت أنه لامر حدث (9 - نهج - 5)(5/129)
فينا ، فقلت : مالى أراك مغتما منذ الليلة ؟ فقال : يا بنى ، جئت من عند أكفر الناس وأخبثهم ، قلت : وما ذاك ؟ قال : قلت له وقد خلوت به .
إنك قد بلغت سنا يا أمير المؤمنين ، فلو أظهرت عدلا ، وبسطت خيرا فإنك (1) قد كبرت ، ولو نظرت إلى إخوتك من بنى هاشم ، فوصلت أرحامهم فوالله ما عندهم اليوم شئ تخافه ، وإن ذلك مما يبقى لك ذكره وثوابه ، فقال : هيهات هيهات ! أي ذكر أرجو بقاءه ! ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل ، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره ، إلا أن يقول قائل : أبو بكر ، ثم ملك أخو عدى ، فاجتهد وشمر عشر سنين ، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره ، إلا أن يقول قائل : عمر ، وإن ابن أبى كبشة ليصاح به كل يوم خمس مرات : (أشهد أن محمدا رسول الله) ، فأى عملي يبقى ، وأى ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك ! لا والله إلا دفنا دفنا .
وأما أفعاله المجانبة للعدالة الظاهرة ، من لبسه الحرير ، وشربه في آنية الذهب والفضة ، حتى أنكر عليه ذلك أبو الدرداء ، فقال له : إنى سمعت رسول الله صلى عليه وآله يقول : (إن الشارب فيها ليجرجر في جوفه نار جهنم) ، وقال معاوية : أما أنا فلا أرى بذلك بأسا ، فقال أبو الدرداء : من عذيري من معاوية ! أنا أخبره عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو يخبرني عن رأيه ! لا أساكنك بأرض أبدا .
نقل هذا الخبر المحدثون والفقهاء في كتبهم في باب الاحتجاج على أن خبر الواحد معمول به في الشرع ، وهذا الخبر يقدح في عدالته كما يقدح أيضا في عقيدته ، لان من قال في مقابلة خبر قد روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله : أما أنا فلا أرى بأسا فيما حرمه رسول الله صلى الله عليه وآله ، ليس بصحيح العقيدة .
ومن المعلوم أيضا من حالة استئثاره بمال الفئ ، وضربه من لا حد عليه ، وإسقاط الحد عمن يستحق إقامة الحد عليه ، وحكمه
__________
(1) ساقطة من ب ، وهى في ا ، ج .
(*)(5/130)
برأيه في الرعية وفى دين الله ، واستلحاقه زيادا ، وهو يعلم قول رسول الله صلى الله عليه وآله : (الولد للفراش وللعاهر الحجر) ، وقتله حجر بن عدى وأصحابه ولم يجب عليهم القتل ، ومهانته لابي ذر الغفاري وجبهه وشتمه وإشخاصه إلى المدينة على قتب بعير وطاق لانكاره عليه ، ولعنه عليا وحسنا وحسينا وعبد الله بن عباس على منابر الاسلام ، وعهده بالخلافة إلى ابنه يزيد ، مع ظهور فسقه وشربه المسكر جهارا ، ولعبه بالنرد ، ونومه بين القيان المغنيات ، واصطباحه معهن ، ولعبه بالطنبور بينهن ، وتطريقه بنى أمية للوثوب على مقام رسول الله صلى الله عليه وآله وخلافته ، حتى أفضت إلى يزيد بن عبد الملك والوليد بن يزيد ، المفتضحين الفاسقين : صاحب حبابة وسلامة ، والآخر رامى المصحف بالسهام وصاحب الاشعار في الزندقة والالحاد .
ولا ريب أن الخوارج إنما برئ أهل الدين والحق منهم لانهم فارقوا عليا وبرئوا منه وما عدا ذلك من عقائدهم ، نحو القول بتخليد الفاسق في النار ، والقول بالخروج على أمراء الجور ، وغير ذلك من أقاويلهم ، فإن أصحابنا يقولون بها ، ويذهبون إليها ، فلم يبق ما يقتضى البراءة منهم إلا برأتهم من على ، وقد كان معاوية يلعنه على رءوس الاشهاد وعلى المنابر في الجمع والاعياد ، في المدينة ومكة وفى سائر مدن الاسلام فقد شارك الخوارج في الامر المكروه منهم ، وامتازوا عليه بإظهار الدين والتلزم بقوانين الشريعة ، والاجتهاد في العبادة وإنكار المنكرات ، وكانوا أحق بأن ينصروا عليه من أن ينصر عليهم ، فوضح بذلك قول أمير المؤمنين : (لا تقاتلوا الخوارج بعدى) ، يعنى في ملك معاوية .
ومما يؤكد هذا المعنى أن عبد الله بن الزبير استنصر على يزيد بن معاوية بالخوارج واستدعاهم إلى ملكه ، فقال فيه الشاعر : يا بن الزبير أتهوى فتية قتلوا ظلما أباك ولما تنزع الشكك (1) ضحوا بعثمان يوم النحر ضاحية يا طيب ذاك الدم الزاكى الذى سفكوا ! فقال ابن الزبير : لو شايعني الترك والديلم على محاربة بنى أمية ، لشايعتهم وانتصرت بهم .
__________
(1) الشكك : جمع شكة ، وهى السلاح .
(*)(5/131)
(61) الاصل : ومن كلام له عليه السلام لما خوف من الغيلة : وإن على من الله جنة حصينة ، فإذا جاء يومى انفرجت عنى وأسلمتنى ، فحينئذ لا يطيش السهم ، ولا يبرأ الكلم .
الشرح : الغيلة : القتل على غير علم ولا شعور ، والجنة الدرع وما يجن به ، أي يستتر من ترس وغيره .
وطاش السهم ، إذا صدف عن الغرض .
والكلم : الجرح ، ويعنى بالجنة هاهنا الاجل ، وعلى هذا المعنى الشعر المنسوب إليه عليه السلام : من أي يومى من الموت أفر أيوم لم يقدر أم يوم قدر (1) فيوم لا يقدر لا أرهبه ويوم قد قدر لا يغنى الحذر ومنه قول صاحب الزنج : وإذا تنازعني أقول لها قرى موت يريحك أو صعود المنبر ما قد قضى سيكون فاصطبري له ولك الامان من الذى لم يقدر ومثله : قد علم المستأخرون في الوهل أن الفرار لا يزيد في الاجل والاصل في هذا كله قوله تعالى : (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا) .
__________
(1) البيت في اللسان 6 : 383 ، وانظر هناك توجيه نصب : (يقدر) .
(*)(5/132)
وقوله تعالى : (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) (1) .
وقوله سبحانه : (توفته رسلنا وهم لا يفرطون) (2) ، وفى القرآن العزيز كثير من ذلك .
[ اختلاف الناس في الآجال ] واختلف الناس في الآجال ، فقالت الفلاسفة والاطباء : لا أجل مضروب لاحد من الحيوان كله من البشر ولا من غيرهم .
والموت عندهم على ضربين : قسرى وطبيعي : فالقسري الموت بعارض ، إما من خارج الجسد كالمتردى والغريق والمقتول ، ونحو ذلك ، أو من داخل الجسد كما يعرض من الامراض القاتلة ، مثل السل والاستسقاء والسرسام ، ونحو ذلك .
والموت الطبيعي ما يكون بوقوف القوة الغاذية التى تورد على البدن عوض ما يتحلل منه ، وهذه القوة المستخدمة للقوى الاربع : الجاذبة ، والدافعة ، والماسكة ، والهاضمة ، والبدن لا يزال في التحلل دائما من الحركات الخارجية ، ومن الافكار والهموم وملاقاة الشمس والريح ، والعوارض الطارئة ، ومن الجوع والعطش .
والقوة الغاذية تورد على البدن عوض الاجزاء المتحللة ، فتصرفها في الغذاء المتناول ، واستخدام القوى الاربع المذكورة .
ومنتهى بقاء هذه القوة في الاعم الاغلب للانسان مائة وعشرون سنة ، وقد رأيت في كتب بعض الحكماء أنها تبقى مائة وستين سنة ، ولا يصدق هؤلاء بما يروى من بقاء المعمرين ، فأما أهل الملل فيصدقون بذلك .
__________
(1) سورة الاعراف 34 .
(2) سورة الانعام 61 .
(*)(5/133)