شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد ج 1
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد ج 1(1/)
شرح نهج البلاغه لابن ابى الحديد لابن أبى الحديد بتحيق محمد أبو الفضل ابراهيم الجزء الاول دار احياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه(1/1)
جميع الحقوق المحفوظة الطبعة الاولى [ 1378 ه - 1959 م ] شرح نهج البلاغه لابن ابى الحديد لابن أبى الحديد (586 - 656) تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم(1/2)
بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة * 1 - نهج البلاغة اجتمع للامام على بن أبي طالب من صفات الكمال ، ومحمود الشمائل والخلال ، وسناء الحسب وباذخ الشرف ، مع الفطرة النقية ، والنفس المرضية ، ما لم يتهيأ لغيره من أفذاذ الرجال .
__________
(*) مصادر البحث والترجمة : 1 - البداية والنهاية ، لابن كثير - 13 - 198 - 199 ، (مطبعة السعادة) .
2 - تلخيص مجمع الاداب لابن الفوطى - الجزء الرابع الورقة 9 ، (مصورة معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية) .
3 - الحوادث الجامعة والتجارب النافعة في المائة السابعة ، لابن الفوطى ص 336 ، (طبعة المكتبة العرب ببغداد) 4 - درة الاسلاك في دولة الا ترك ، لابن حبيب الحلبي - وفيات سنة 655 ، (مصورة دار الكتب المصرية رقم 6170 ح) .
5 - روضات الجنات لمحمد باقر الخوانسارى 406 - 409 ، (طبع العجم) .
(6) عقد الجمان للعينى - وفيات سنة 655 ، (مخطوطة دار الكتب المصرية 1584 تاريخ) .
7 - عيون التواريخ لابن شاكر - وفيات سنة 655 ، (مخطوطة دار الكتب المصرية رقم 1497 تاريخ) .
8 - فوات الوفيات 1 : 519 - 527 (مطبعة النهضة المصرية) .
9 - كشف الظنون 1273 ، 1291 ، 1291 ، 1576 ، 1991 ، (طبع استانبول 1943) .
10 - مجمع الاداب لابن الفوطى ، (في ذيل الجزء الرابع من شرح نهج البلاغة - طبعة الحلبي) .
12 - نسمة السحر في ذكر من تشيع وشعر ، ليوسف بن يحيى الصنعانى ، الورقة 260 - 262 (مصورة دار الكتب المصرية 13849 ح) (*) .(1/3)
تحدر من أكرم المناسب ، وانتمى إلى أطيب الاعراق ، فأبوه أبو طالب عظيم المشيخة من قريش ، وجده عبد المطلب أمير مكة وسيد البطحاء ، ثم هو قبل ذلك من هامات بني هاشم وأعيانهم ، وبنو هاشم كانوا كما وصفهم الجاحظ : ملح الارض ، وزينة الدنيا ، وحلى العالم ، والسنام الاضخم ، والكامل الاعظم ، ولباب كل جوهر كريم ، وسر كل عنصر شريف ، والطينة البيضاء ، والمغرس المبارك ، والنصاب الوثيق ، ومعدن الفهم ، وينبوع العلم ...
" (1) .
واختص بقرابته القريبة من الرسول عليه السلام ، فكان ابن عمه ، وزوج ابنته ، وأحب عترته إليه ، كما كان كاتب وحيه ، وأقرب الناس إلى فصاحته وبلاغته ، وأحفظهم لقوله وجوامع كلمه ، أسلم على يديه صبيا قبل أن يمس قلبه عقيدة سابقة ، أو يخالط عقله شوب من شرك موروث ، ولازمه فتيا يافعا ، في غدوة ورواحه ، وسلمه وحربه ، حتى تخلق بأخلاقه ، واتسم بصفاته ، وفقه عنه الدين ، وثقف ما نزل به الروح الامين ، فكان من أفقه أصحابه وأقضاهم ، وأحفظهم وأوعاهم ، وأدقهم في الفتيا ، وأقربهم إلى الصواب ، وحتى قال فيه عمر : لابقيت لمعضلته ليس لها أبو الحسن ، وكانت حياته كلها مفعمة بالاحداث ، مليئة بحلائل الامور ، فعلي عهد الرسو عليه السلام ناضل المشركين واليهود ، فكان فارس الحلبة ومشعر الميدان ، صليب النبع جميع الفؤاد ...
وفي أيام خلافته كانت له أحداث أخرى ، لقى فيها مالقى من تفرق الكلمة واختلاف الجماعة ، وانفصام العروة ، ما طوى أضالعه على الهم والاسى ، ولاع قلبه بالحزن والشجن ، وفى كل مالقى من أحداث وأمور ، وما صادف من محن وخطوب ، بلا الناس وخبرهم ، وتفطن لمطاوى نفوسهم ، واستشف ما وراء مظاهرهم ، فكان العالم المجرب الحكيم ، والناقد الصيرفى الخبير ، وكان لطيف الحسن ، نقى الجوهر وضاء النفس ، سليم الذوق ، مستقيم الرأي ،
__________
(1) زهر الاداب 1 : 59 .
(*)(1/4)
حسن الطريقة سريع البديهة ، حاضر الخاطر ، حولا قلبا ، عارفا بمهمات الامور إصدارا وإيرادا ...
، بل كان كما وصفه الحسن البصري : سهما صائبا من ما رمي الله على عدوه ، ورباني هذه الامة وذا فضلها وذا فضلها وسابقتها وذا قرابتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يكن بالنئومة عن أمر الله ، ولا بالملومة في دين الله ، ولا بالسروقة لمال الله ، أعطى القرآن عز أئمه ، ففاز منه برياض مونقة ، وأعلام مشرقة ، ذاك على بن أبي طالب ! * * * كل هذه المزايا مجتمعة ، وتلك الصفات متآزرة متناصرة ، وما صاحبها من نفح إلهى ، وإلهام قدسي ، مكنت للامام على من موجوه البيان ، وملكته أعنقه الكلام ، وألهمته أسمى المعاني وأكرمها ، وهيأت له أشرف المواقف وأعزها ، فجزت على لسانه الخطب الرائعة ، والرسائل الجامعة ، والوصايا النافعة ، والكلمة يرسلها عفو الخاطر فتغدو حكمة ، والحديث يلقيه بلا تعمل ولا إعنات فيصبح مثلا ، في أداء محكم ، ومعنى واضح ، ولفظ عذب سائغ ...
وإذا هذا الكلام يملاء السهل والجبل ، ويتنقل في البدو والحضر ، يرويه على كثرته الرواة ويحفظه العلماء والدارسون ، قال المسعودي : والذي حفظ الناس عنه من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة خطبة ، ونيف وثمانون خطبة ، يوردها على البديهة ، تداول عنه الناس ذلك قولا وعملا (1) .
ثم ظل هكذا محفوظا في الصدور مرويا على الاسنة ، حتى كان عصر التدوين والتأليف ، فانتثرت خطبه ورسائله في كتب التاريخ والسير والمغازي والمحاضرات والادب
__________
(1) تاريخ المسعودي 2 : 431 .
(*)(1/5)
على الخصوص ، كما انتخبت كلماته ومأثور حكمه فيما وضعوه من إبواب المواعظ والدعاء : وفي كتابي الغريب لابي عبيد القاسم بن سلام وابن قتيبة منه الشئ الكثير .
وإذ كان لكلام الامام على طابع خاص يميزه عن غيره من الخطباء ، ونهج واضح يخالف غيره من البلغاء والمترسلين ، فقد حاول كثير من العلماء والادباء على مر العصور أن يفردوه لكلامه كتبا خاصة ودواوين مستقلة ، بقى بعضها وذهب الكثير منها على الايام ، منهم نصر بن مزاحم صاحب صفين ، وأبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي ، وأبو مخنف لوط بن يحيى الازدي ، ومحمد بن عمر الواقدي ، وأبو الحسن على بن محمد المدائني ، وأبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ، وأبو الحسن على بن الحسين المسعودي ، وأبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعى ، و عبد الواحد بن محمد بن عبد الواحد التممى ، ورشيد الدين محمد بن محمد المعروف بالوطواط ، وعز الدين عبد الحميد بن أبي الحديد ، وغيرهم كثيرون .
إلا أن أعظم هذه المحاولات خطرا ، وأعلاها شأنا ، وأحسنها أبوابها : وأبعدها صيتا وشأوا ، هو مجموع ما اختار الشريف الرضى أبو الحسن محمد بن الحسين الموسوي ، في كتابه " " نهج البلاغة " .
بناه على ما أفرده في كتاب " خصائص الائمة " من " فصل يتضمن محاسن ما نقل عنه عليه السلام من الكلام القصير في الحكم والامثال وآلاداب ، دون الخطب الطويلة والكتب المبسوطة (1) " ، ثم جعله كتابا " يحتوى على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في جميع فنونه ومتشعبات غصونه ، من خطب وكتب ومواعظ وآداب ، علما أن ذلك يتضمن من عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة وجواهر العربية وثواقب الكلم الدينية والدنيوية ما لا يوجد مجتمعا في كلام ، ولا مجموع الاطراف في كتاب " (1)
__________
(1) مقدمة الراضي للنهج .
(*)(1/6)
وأدار اختياره على ثلاثة أقطاب : أولها الخطب والاوامر ، وثانيها التكب والرسائل ، وثالثها الحكم والمواعظ ، وأسماه كتاب " نهج البلاغة " " إذ كان يفتح للناظر فيه أبوابها ، ويقرب علهى طلابها ، فيه حاجة العالم والمتعلم ، وبغية البليغ والزاهد " (1) .
ومنذ أن صدر هذا الكتاب عن جامعة سار في الناس ذكره ، وتألق نجمه ، أشام وأعرق ، وأنجد وأتهم ، وأعجب به الناس حيث كان ، وتدارسوه في كل مكان .
لما اشتمل عليه من اللفظ المنتقى ، والمعنى المشرق ، وما احتواه من جوامع الكلم ، ونوابغ الحكم ، في أسلوب متساوق الاغراض ، محكم السبك ، يعد في الذروة العليا من النثر العربي الرائع .
* * * ولم يذكر الشريف الرضي في صدر كتابه المصادر التى رجع إليها ، أو الشيوخ الذين نقل عنهم ، إلا أنه - كما يبدو من تضاعيف الكتاب - نقل في بعض ما نقل عن كتاب البيان والتبيين للجاحظ ، والتبيين للجاحظ ، والمقتضب للمبرد ، وكتاب المغازي لسعيد بن يحيى الاموي ، وكتاب الجمل للواقدي ، والمقامات في مناقب أمير المؤمنين لابي جعفر الاسكافي ، وتاريخ ابن جريج الطبري ، وحكاية أبي جعفر محمد بن على الباقر ، ورواية اليماني عن أحمد ابن قتيبة ، وما وجد بخط هشام بن الكلبي وخبر ضرار بن حمزة الصدائي ، ورواية حجيفة ، وحكاية ثعلب عن أبي الاعرابي (2) ، ولعله في غير ما نقل عن هؤلاء ، نقل من صمادر أخرى لم يصرح بها .
* * * وعلى مر العصور والازمان كانت نسبة ما في كتاب نهج البلاغة إلى الامام على مثارا للشك عند العلماء والباحثين ، المتقدمين والمتأخرين .
__________
(1) مقدمة الرضى للنهج .
(2) انظر نهج البلاغة 1 : : 93 ، 566 ، 568 - و 2 : 147 ، 178 ، 189 ، 180 ، 216 ، 293 ، 294 ، (المطبعة اليمنية 1328 ه) .
(*)(1/7)
وقد تناول ابن أبي الحديد هذه القضية بالبحث ، فقال : " كثيرة من أرباب الهوى يقولون : إن كثيرا من نهج البلاغة كلام محدث صنعه قوم من فصحاء الشيعة ، وربما عزوا بعضه إلى الرضى أبى الحسن أو غيره ، وهؤلاء أعمت العصبية أعينهم فضلوا عن النهج الواضح ، وركبوا بنيات (1) الطريق ، ضلالا وقلة معرفة بأساليب الكلام .
وأنا أوضح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط فأقول : لا يخلوا إما أن يكون كل نهج البلاغة مصنوعا منحولا ، أو بضعه .
والاول باطل بالضرورة ، لانا نعلم بالتواتر صحة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، وقد نقل المحدثون ، كلهم أو جلهم - والمؤرخون كثيرا منه ، وليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك .
والثاني : يدل على ما قلناه ، لان من قد أنس بالكلام والخطابة ، وشدا طرفا من علم البيان ، وصار له ذوق في هذا الباب ، لابد أن يفرق بين الكلام الركيك ، والفصيح ، وبين الفصيح والافصح ، وبين الاصليل والمولد ، وإذا وقف على كراس واحد يتصمن كلاما لجماعة من الخطباء أو لاثنين منهم فقط ، فلا بد أن يفرق بين الكلامين ، ويميز بين الطريقين ، ألا ترى أنا مع معرفتنا بالشعر ونقده ، لو تصفحنا ديوان أبى تمام فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبى تمام نفسه وطريقته ومذهبه في القريض ، ألا ترى أن العلماء بهذا الشان حذوفوا من شعره قصائد كثيره منحولة إليه لمباينتها لمذهبه في الشعر ! وكذلك حذفوا من شعر أبى نواس كثيرا
__________
(1) بينات الطريق : هي الطرف الصغار تتشعب من الجادة ، وهى الترهات .
(*)(1/8)
لما ظهر أنه ليس من ألفاظه ولا من شعره ، وكذلك غيرهما من الشعراء ، ولم يعتمدوا في ذلك إلا على الذوق خاصة .
وأنت إذا تأملت نهج البلاغة وجدته كله ماء واحدا ، ونفسا واحدا ، وأسلوبا واحدا ، كالجسم البسيط الذى ليس بعض من أبعاضه مخالفا لباقي الالفاظ في الماهية ، وكالقران العزيز ، أوله كوسطه ، وأوسطه كاخره ، وكل سورة منه ، وكل آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفن والطريق والنظم لباقي الايات والسور .
ولو كان بعض نهج البلاغة منحولا ، وبعضه صحيحا لم يكن ذلك كذلك ، فقد ظهر لك بالبرهان الواضح ضلال من زعم أن هذا الكتاب أو بعضه منحول إلى أمير المؤمنين عليه السلام .
واعلم أن قائل هذا القول يطرق على نفسه ما لا قبل له به ، لانا متى فتحنا هذا الباب ، وسلطنا الشكوك على أنفسنا في هذا النحو ، لم نتق بضحة كلام منقول عن رسول الله صلى الله عليه وآله أبدا وساغ لطاعن أن يطعن ويقول : هذا الخبر منحول ، وهذا كلام مصنوع ، وكذا ما نقل عن أبى بكر وعمر من الكلام والخطب والمواعظ والاداب وغير ذلك وكل أمر جعله هذا الطاعن مستندا له فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم وآله والائمة الراشدين والصحابة والتابعين والشعراء والمترسلين والخطباء - فلناصرى أمير المؤمنين عليه السلام أن يستعدوا إلى مثله فيما يروونه عنه من نهج البلاغة وغيره ، وهذا واضح " (1)
__________
(1) ابن أبى الحديد 2 : 546 طبعة الحلبي (*)(1/9)
2 - شرح نهج البلاغه وقد تصدر لشرح كتاب " نهج البلاغة " كثيرون من العلماء والفضلاء ، ذكر السيد هبة الله شهرستانى (1) أنها تنوف على الخمسين شرحا ، ما بين مبسوط ومختصر ، منهم أبو الحسين البيهقى ، والامام فخر الدين الرازي ، والقطب الراوندي ، وكمال الدين محمد ميثم البحراني ، من المتقدمين ، والشيخ محمد عبده ومحمد نائل المرصفى من المتأخرين ...
ولكن أعظم هذه الشروح وأطولها ، وأشملها بالعلوم والاداب والمعارف وأملؤها ، هو شرح عز الدين عبد الحميد بن أبى الحديد المدائني ، صنفه برسم خزانة مؤيد الدين أبى طالب محمد بن أحمد بن العلقمي ، وزير المستعصم بالله ، آخر ملوك العباسيين .
" كان من فضلاء الشيعة وأعيانهم ببغداد ، مائلا للاداب مقربا للادباء ، وكانت له خزانة كتب فيها عشرة آلاف مجلد من نفائس الكتب " (2) .
شرع في تأليفه في غرة شهر رجب من سنة أربع وأربعين وستمائة ، وأئمة في آخر سلخ صفر من سنة تسع وأربعين وستمائة ، فقضى أربع سنين وثمانية أشهر ، وكانت كما يقول : " مقدار مدة خلافة أمير المؤمنين عليه السلام " ، وكسره على عشرين جزءا .
ولما فرغ من تصنيفه أنفذه على يد أخيه موفق الدين أبى المعالى ، فبعث إليه بمائة دينار وخلعة سنية وفرس ، فكتب إلى الوزير : أيارب العباد رفعت ضبعى * وطلت بمنكبي وبللت ريقي وزيغ الاشعري كشفت عنى * فلم أسلك بنيات الطريق
__________
(1) في كتابه ما هو نهج البلاغة 8 - 10 (2) الفخري 295 (*)(1/10)
أحب الاعتزال وناصريه * ذوى الألباب والنظر الدقيق فاهل العدل والتوحيد أهلى * ونعم فريقهم أبدا فريقي وشرح النهج لم أدركه إلا * بعونك بعد مجهدة وضيق تمثل إذ بدأت به لعيني * هناك كذروة الطود السحيق فتم بحسن عونك وهو أناى * من العيون أو بيض الانوق بال العلقمي ورت زنادى * وقامت بين أهل الفضل سوقى فكم ثوب أنيق نلت منهم * ونلت بهم وكم طرف عتيق أدام الله دولتهم وأنحى * على أعدائهم بالخنفقيق (1) وقد ذكر في صدر كتابه أنه لم يسبقه أحد بشرح النهج سوى سعيد بن هبة الله بن الحسن الفقيه ، المعروف بالراوندي ، وأنه قد تعرض لهذا الشرح فيما ناقضه فيه ، في مواضع يسيرة ، وأعرض عن كثير مما قاله ، وقد التزم في شرحه أن يقسم الكلام فصولا ، فيشرح كلمات كل فصل شرحا دقيقا ، مشتملا على " الغريب والمعاني وعلم البيان ، وما عساه يشتبه ويشكل من الاعراب والتصريف " (2) ، ثم يورد " ما يطابقه من النظاور والاشباه نثرا ونظما " ، (2) ثم يستطرد إلى ذكر " ما يتضمنه من السير والوقائع والاحداث ...
" (2) ، ويشير إلى ما ينطوى عليه هذا الفضل " من دقائق علم التوحيد والعدل إشارة خفية (2) " ، ويلوح " إلى ما يستدعى الشرح ذكره من الانساب والامثال والنكت تلويحات لطيفة " (2) ، ويرصعه بما يشاء " من المواعظ الزهدية ، والزواجر الدينية والحكم النفيسة ، والاداب الخليفة ، المناسبة لفقره والمشاكلة لدرره (2) " .
ثم ينتقل إلى الفصل الذى يليه ، وهكذا ،
__________
(1) الخنفقيق : الداهية .
(2) مقدمة الشارح .
(*)(1/11)
وهو بهذا النهج الذى التزمه ، والطريق الذى سلكه ، قد نقل إلى هذا الكتاب عصارة ما في كتب الادب والنقد والتاريخ والنسب والمغازى والسير والفقه والجدل والمناظرة وعلوم الكلام ، وخلاصة ما اشتملت عليه الرسائل والمتون والشروح والحواشي والتعاليق ، وطرزه بما اختاره من روائع الخطب وتوابغ الحكم ومصطفى الرسائل ، مما نطق به مصاقع الخطباء وبلغاء الكتاب وزعما القول في الجاهلية والاسلام ، ثم وشاه بما انتحله من دواوين الشعراء الجاهلين والمخضرمين والاسلاميين والمولدين من فاخر القول وحر الكلام ، في متنوع فنون الشعر ومذاهبه ، ومختلف أغراضه ومراميه .
وقد ارتفع أسلوبه في جميع مراحل الكتاب عن الخلل والتعقيد ، وتجافى عن الركاكة والتعسف والابهام ، والتزم الاسلوب الرصين ، والتعبير الفصيح ، واللفظ العربي الاصيل ، سوى بعض الالفاظ التى تدست فيما نقله عن المتكلمين وأصحاب المقولات ، من نحو قولهم : " المحسوسات " ، و " الكل والبعض " ، وقولهم : " الصفات الذاتية والجسمانيات " ، وقولهم : " أما أولا فالحال كذا " ، ونحو ذلك مما يأباه الفصيح من الالفاظ والسليم من الاساليب .
وقد اعتذر عن ذلك المؤلف بقوله : " استهجنا تبديل ألفاظهم وتغيير عباراتهم ، فمن كلم قوما كلمهم باصطلاحهم ، ومن دخل ظفار حمر " (1) .
وما أحسن ما اعتذر به ! وبتلك المزايا المتنوعة للكتاب ، خرج " كتابا كاملا في فنه ، واحدا بين أبناء جنسه ، ممتعا بمحاسنه ، جليلة فوائده ، شريفة مقاصده ، عظيما شانه ، عالية منزلته ومكانه " ، يرد شرعته العلماء وينهل من مورده الباحثون والادباء .
__________
(1) خاتمة الشرح ، المجلد الرابع ص 574 (*)(1/12)
3 - ابن أبى الحديد ومؤلف هذا الشرح هو عز الدين أبو حامد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين ابن أبى الحديد المدائني ، أحد جهابذة العلماء ، وأثبات المؤرخين ، ممن نجم في العصر العباسي الثاني ، أزهى العصور الاسلامية إنتاجا وتاليفا ، وأحلفها بالشعراء والكتاب والادباء والمؤرخين واللغويين وأصحاب المعاجم والموسوعات .
كان فقيها أصوليا ، وله في ذلك مصنفات معروفة مشهورة ، وكان متكلما جدليا نظارا ، اصطنع مذهب الاعتزال ، وعلى أساسه جادل وناظر ، وحاج وناقش ، وفى شرح النهج وكثير من كتبه آراء منثورة مما ذهب إليه ، وله مع الاشعري والغزالي والرازي كتب ومواقف .
وكان أديبا ناقدا ، ثاقب النظر ، خبيرا بمحاسن الكلام ومساوئه ، وكتابه " الفلك الدائر على المثل السائر " دليل على بعد غوره ، ورسوخ قدمه في نقد الشعر وفنون البيان .
ثم كان أديبا متضلعا في فنون الادب ، متقنا لعلوم اللسان ، عارفا باخبار العرب ، مطلعا على لغاتها ، جامعا لخطبها ومنافراتها ، راويا لاشعارها وأمثالها ، حافظا لملحها وطرفها ، قارئا مستوعبا لكل ما حوته الكتب والاسفار في زمانه .
وكان وراء هذا شاعرا عذب المورد ، مشرق المعنى ، متصرفا مجيدا ، كما كان كاتبا بديع الانشاء حسن الترسل ناصع البيان .
ولد بالمدائن في غرة ذى الحجة سنة ست و ثمانين وخمسمائة ، ونشأ بها ، وتلقى عن(1/13)
شيوخها ، ودرس المذاهب الكلامية فيها ، ثم مال إلى مذهب الاعتزال منها ، وكان الغالب على أهل المدائن التشيع والتطرف والمغالاة ، فسار في دربهم ، وتقيل مذهبهم ، ونظم القصائد المعروفة بالعلويات السبع على طريقتهم ، وفيها غالى وتشيع ، وذهب به الاسراف في كثير من أبياتها كل مذهب ، يقول في إحدها (1) : علم الغيوب إليه غير مدافع * والصبح أبيض مسفر لا يدفع وإليه في يوم المعاد حسابنا * وهو الملاذ لنا غدا والمفزع هذا اعتقادي قد كشفت غطاءه * سيضر معتقدا له أو ينفع يا من له في أرض قلبى منزل * نعم المراد الرحب والمستربع وتكاد نفسي أن تذوب صبابة * خلقا وطبعا لا كمن يتطبع ورايت دين الاعتزال واننى * أهوى لاجلك كل من يتشيع ولقد علمت بانه لابد من * مهديكم وليومه أتوقع تحميه من جند الاله كتائب * كاليم أقبل زاخرا يتدفع فيها لال أبى الحديد صوارم * مشهورة ورماح خط شرع ورجال موت مقدمون كأنهم * أسد العرين الربد لا تتكعكع تلك المنى إما أغب عنها فلى * نفس تنازعني وشوق ينزع تالله لا أنسى الحسين وشلوه * تحت السنابك بالعراء موزع متلفعا حمر الثياب وفى غد * بالخضر من فردوسه يتلفع تطأ السنابك صدره وجبينه * والارض ترجف خيفة وتضعضع والشمس ناشرة الذوائب ثاكل * والدهر مشقوق الرداء مقنع
__________
(1) العلويات السبع 16 ، 17 (*)(1/14)
لهفى على تلك تراق في * أيدى أمية عنوة وتضيع يابى أبو العباس أحمد إنه * خير الورى من أن يطل ويمنع (1) فهو الولى لثارها وهو الحمو * ل لعبئها إذ كل عود يضلع والدهر طوع والشبيبة غصة * والسيف غضب والفؤاد مشيع (2) وحينما انقضت أيام صباه ، وطوى رداء شبابه ، خف إلى بغداد ، حاضرة الخلافة ، وكعبة القصاد ، وعش العلماء ، وكانت خزائنها بالكتب معمورة ، ومجالسها بالعلم والادب ماهولة ، فقرأ الكتب واستزاد من العلم ، وأوغل في البحث ، ووعى المسائل ، ومحص الحقائق ، واختلط بالعلماء من أصحاب المذاهب ، ثم جنح إلى الاعتدال ، وأصبح كما يقول صاحب " نسمة السحر " : معتزليا جاحظيا ...
في أكثر شرحه للنهج - بعد أن كان شيعيا غاليا .
وفى بغداد أيضا نال الحظوة عند الخلفاء من العباسيين ومدحهم ، وأخذ جوائزهم ، ونال عندهم سنى المراتب ورفيع المناصب ، فكان كاتبا في دار التشريقات ، ثم في الديوان ، ثم ناظرا للبيمارستان ، وأخيرا فوض إليه أمر خزائن الكتب في بغداد ، وفى كل هذا كان مرموق الجانب ، عزيز المحل ، كريم المنزلة إلى أن مات .
وكان مع اشتغاله بالمناصب ، ومعاناته للتاليف ، شاعرا مجيدا ، ذكره صاحب " نسمة السحر في ذكر من تشيع وشعر " ، وكان له ديوان ، ذكر ابن شاكر أنه كان معروفا مشهورا .
وقد جال بشعره في شتى المعاني ومختلف الاغراض ، فقال في المدح والرثاء ، والحكم والوصف
__________
(1) هو الخليفة أبو العباس أحمد بن المستضئ بأمر الله المعروف بالناصر ، بويع بالخلافة سنة 575 ، ومات سنة 629 ، وكان يرى رأى الامامية ، الفخري 280 (2) المشيع : الشجاع .
(*)(1/15)
والغزل ، إلا أن الغرض (1) الذى غلب عليه واشتهر به هو المناجاة والمخاطبة على مسلك أرباب الطريقة ، أورد في النهج كثير منه فمن ذلك قوله : فلا والله ما وصل ابن سينا * ولا أغنى ذكاء أبى الحسين ولا رجعا بشئ بعد بحث * وتدقيق سوى خفى حنين لقد طوفت أطلبكم ولكن * يحول الوقت بينكم وبيني فهل بعد انقضاء الوقت أحظى * بوصلكم غدا وتقر عينى منى عشنا بها زمنا وكانت * تسوفنا بصدق أو بمين فان أكذب فذاك ضياع دينى * وان أجذب فذاك حلول دينى وقوله : وحقك إن أدخلتني النار قلت للذين بها قد كنت ممن أحبه وأفنيت عمرى في علوم دقيقة * وما بغيتى إلا رضاه وقربه هبوني مسيئا أوتغ الجهل قلبه * وأوبقه بين البرية ذنبه (2) أما يقتضى شرع التكرم عتقه * أيحسن أن ينسى هواه وحبه ! أما كان ينوى الحق فيما يقوله * ألم تنصر التوحيد والعدل كتبه أما رد زيغ ابن الخطيب وشكه * وإلحاده إذ حل في الدين خطبه أما قلتم من كان فينا مجاهدا * سنكرم مثواه ونعذب شربه فاى اجتهاد فوق ما كان صانعا * وقد أحرقت رزق الشياطين شهبه فان تصفحوا نعنم وإن تتجرموا * فتعذيبكم حلوا المذاقة عذبه وآية صدق الصب يعذب الاذى * إذا كان من يهوى عليه يصبه
__________
(1) المجلد الرابع ص 29 ، 30 (2) أوتغ : أهلك .
(*)(1/16)
ونحو هذا من الشعر في شرح النهج كثير .
ومن طريف ما أوردله صاحب نسمة السحر قوله : لولا ثلاث لم أخف صرعتي * ليست كما قال فتى العبد (1) أن أنصر التوحيد والعدل في * كل مكان باذلا جهدي وأن أناجي الله مستمتعا * بخلوة احلى من الشهد وأن أتيه الدهر كبرا على كل الئيم اأصعر الخد كذاك لا أهوى فتاه ولا * خمرا ولاذا ميعة نهد وقد اضطرب المؤرخون في تاريخ وفاته ، فذكر بعضهم أنه توفى في سنة 655 ، ذهب إلى ذلك ابن شاكر في كتابيه : فوات الوفيات وعيون التواريخ ، وكذلك ابن كثير ، والعيني ، وابن حبيب الحلبي في كتابه درة الاسلاك .
ونقل صاحب كتاب " نسمة السحر " عن الديار بكرى أنه توفى قبل الدخول التتار بغداد بنحو سبعة عشر يوما ، وكان دخولهم إليها في العشرين من المحرم سنة 656 ، على ما ذكره المؤرخون ، وقال الذهبي في سير النبلاء (2) : " انه توفى في الخامس من جمادى الاخرة سنة ست وخمسين وستمائة " .
__________
(1) بشير بهذا البيت إلى قول طرفة في مطقته : ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى * وحقك لم أحفل متى قام عودي فمنهن سبق العاذلات بشربة * كميت متى ما تعل بالماء تزبد وكرى إذ نادى المضاف محنتا * كسيد الغضا نبهته المتورد وتقصير يوم الدجن والدجن معجب * ببهكنة تمت الخباء المعمد (2) المجلد الثالث عشر ، الورقة 316 (مصورة دار الكتب المصرية رقم 12195 ح) (*)(1/17)
وذكر ابن الفوطى في كتاب مجمع الالقاب أنه أدرك سقوط بغداد ، وأنه كان ممن خلص من القتل في دار الوزير مؤيد الدين العلقمي مع أخيه موفق الدين ، كما ذكر أيضا في كتابه الحوادث الجامعة ، في وفيات سنة 656 : " توفى فيها الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي في جمادى الاخرة ببغداد ...
والقاضى موفق الدين أبو المعالى القاسم بن أبى الحديد المدائني في جمادى الاخرة ، فرثاه أخوه عز الدين عبد الحميد بقوله : أأبا المعالى هل سمعت تاوهى * فلقد عهدتك في الحياة سميعا عينى بكتك ولو تطيق جوانحي * وجوارحي أجرت عليك نجيعا أنفا غضبت على الزمان فلم تطع * حبلا لاسباب الوفاء قطوعا ووفيت للمولى الوزير فلم تعش * من بعده شهرا ولا أسبوعا وبقيت بعد كما فلو كان الردى * بيدى لفارقنا الحياة جميعا فعاش عز الدين بعد أخيه أربعة عشر يوما " .
وله من المصنفات : 1 - الاعتبار ، على كتاب الذريعة في أصول الشريعة ، ذكره ابن الفوطى وصاحب روضات الجنات .
2 - انتقاد المستصفى للغزالي ، ذكره ابن الفوطى .
3 - الحواشى على كتاب المفضل في النحو ، ذكره ابن الفوطى .
4 - شرح المحصل للامام فخر الدين الرازي ، وهو يجرى مجرى النقص له ، ذكره ابن الفوطى .(1/18)
5 - شرح مشكلات الغرر لابي الحسين البصري في أصول الكلام ، ذكره ابن الفوطى وصاحب روضات الجنات .
6 - ديوان شعره ، ذكره ابن شاكر الكتبى .
7 - شرح نهج البلاغة .
8 - شرح الياقوت لابن نوبخت في الكلام ، ذكره ابن الفوطى وصاحب روضات الجنات .
9 - العبقري الحسان ، ذكره صاحب الجنات ، وقال : وهو كتاب غريب الوضع قد اختار فيه قطعة وافرة من الكلام والتواريخ والاشعار وأودعه شيئا من إنشائه وترسلاته ومنظوماته .
10 - الفلك الدائر على الملك السائر (1) ، ألفه برسم الخليفة المستنصر ، بدأ في تأليفه في أول ذى الحجة سنة 633 ، وفرغ منه في خمسة عشر يوما .
11 - القصائد السبع العلويات (2) ، ذكر ابن الفوطى أنه نظمها في صباه وهو بالمدائن سنة 611 .
12 - المستنصريات ، كتبها برسم الخليفة المستنصر ، ومنه نسخة بمكتبة السماوي بالنجف .
13 - نظم فصيح ثعلب ، ذكره ابن شاكر وصاحب الظنون .
14 - نقض المحصول في علم الاصول للامام فخر الدين الرازي ، ذكره ابن الفوطى وصاحب روضات الجنات وصاحب كشف الظنون .
15 - الوشاح الذهبي في العلم الابى ، ذكره ابن الفوطى .
__________
(1) طبع بالهند سنة 1309 ه (2) طبع بمصر سنة 1317 (*)(1/19)
4 - تحقيق الكتاب وحينما شرعت في تحقيق هذا الكتاب بذلت الجهد الممكن في الحصول على النسخ التى تعين على تحقيقه ، وقد وقع لى من ذلك ما ياتي : 1 - نسخة كاملة تقع في عشرين جزءا ، بخطوط مختلفة ، مصورة عن الاصل المحفوظ بمكتبة المتحف البريطاني برقم 126 وتشتمل على المجموعات الاتية : ا - المجموعة الاولى ، وتشتمل على الجزء الاول والثانى والثالث والرابع منها ، مكتوبة بقلم تعليق ، ولم يعلم ناسخها ولا تاريخ نسخها ، ويبدو أنها كتبت في القرن الثاني عشر تقريبا ، وتقع في 249 ورقة ، ومسطرتها تسعة وعشرون سطرا ، في كل سطر 25 كلمة تقريبا .
ب - المجموعة الثانية ، وتشتمل على الجزء الخامس والسادس .
ح - المجموعة الثالثة و تشتمل على الجزء السابع والثامن والتاسع .
ء - المجموعة الرابعة وتشتمل على الاجزاء من الخامس عشر إلى السادس عشر .
ه - والمجموعة الخامسة وتشتمل على الاجزاء ، من السادس عشر إلى آخر الكتاب .
وقد رمزت إلى هذه النسخة بالحرف (ا) .
2 - نسخة مطبوعة على الحجر في طهران سنة 1271 ، على أصل مخطوط في هذا التاريخ .
وعلى هاتين النسختين كان اعتمادي في تحقيق الاجزاء الاولى من هذا الكتاب .(1/20)
3 - نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية برقم 4029 أدب ، بها عشرة أجزاء ، وهى من السادس إلى العاشر ، ومن السادس عشر إلى آخر الكتاب .
4 - نسخة أخرى مصورة عن مكتبة المتحف البريطاني ، محفوظة بها برقم 4029 ، وهى قطع من أجزاء متفرقة ، تبدأ من أثناء الجزء الثالث عشر .
5 - نسخة أخرى مصورة عن نسخة مخطوطة بمكتبة الفاتيكان برقم 988 ، وبها الجزء السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر .
6 - نسخة مصورة عن نسخة مخطوطة بمكتبة الفاتيكان محفوظة بها برقم 986 ، تشتمل على الجزء الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين .
وساتولى وصف المجموعة الثانية والثالثة والرابعة والخامسة من النسخة الاولى ، التى رمرت إليها بالحرف (ا) ، كما سأتولى وصف النسخ الباقية وما عساه أن أحصل عليه من نسخ أخرى منه حينما ياتي موضعها من الكتاب (1) .
ورجعت في تحقيق نص كتاب نهج البلاغة - فوق النسخ التى اعتمدت عليها في شرحه - إلى نسخة منه مخطوطة محفوظة بمكتبة طلعت بدار الكتب المصرية برقم 4840 أدب ، وهى نسخة خزائنية نفسية ، كتب بالقلم النسخ الجميل ، مضبوطة بالشكل الكامل ، ومحلاة بالذهب والازورد ، وبصفحة العنوان دائرة مذهبة برسم خزانة " غياث الحق والدين " يليها صفحتان متقابلتان منقوشتان بنقوش هندسية بالذهب
__________
(1) وهناك بدار الكتب المصرية نسخة مخطوطة محفوظة برقم 576 أدب ، تمت كتابتها في صبيحة يوم الخميس التاسع من شهر شعبان سنة 1292 ، لم أرجع إليها ، إذ ترجيح عندي أنها منسوخة من مطبوعة طهران سنة 1271 ، كما أن النسخة المطبوعة في مصر سنة 1329 قد طبعت عن هذه النسخة ، فلم أرجع إليها أيصا .
(*)(1/21)
والالوان ، وبداخلهما عنوان : " كتاب نهج البلاغة ، من كلام على عليه السلام والصلاة على محمد وآله الطاهرين " .
وبعض عناوين النسخة مكتوبة بالذهب ، وفواصل الفقرات محلاة بالذهب أيضا .
وباخرها خاتمة النسخة داخل حلية مذهبة جاء بها : " تم الكتاب بالحضرة الشريفة المقدسة النجفية بمشهد مولانا وسيدنا أمير المؤمنين على بن أبى طالب ، أخى الرسول ، وزوج البتول ، ووالد أولاد الرسول صلوات الله عليهم " .
وكتبه وذهبه الحسين بن محمد الحسنى ، في شهور سنة الثنتين وثمانين وستمائة .
والنسخة مجلدة بجلد أثرى بالضغط والتدهيب ، والمرجع أنه من عصر الكتابة .
وتقع في 421 ورقة ، ومسطرتها 13 سطرا .
وقد اقتضاني تحقيق هذا الكتاب الجامع أن أرجع إلى ما أمكننى العثور عليه من الكتب التى رجع إليها المؤلف ، كتاريخ الطبري ، والاغانى ومقاتل الطالبيين لابي الفرج الاصفهانى ، والحيوان والبيان والتبيين والعثمانية للجاحظ ، والشافي للشريف المرتضى ، والمغنى للقاضى عبد الجبار ، وحلية الاولياء لابي نعيم ، وكتاب صفين للمنقرى ، والكامل للمبرد ، والاوائل لابي هلال العسكري ، ونسب قريش للزبير بن بكار ، والمنتظم لابن الجوزى والصحاح للجوهري ، وغيرها من كتب الادب واللغة والتاريخ ، كما أنى رجعت فيما أورده من الشعر إلى دواوين الشعراء والمجموعات المختارة منها .
وحاولت أن أضبط الاعلام والنصوص اللغوية والشعرية ضبطا صحيحا ، وعلقت في الحواشى ما اقتضاه إيضاح النص تعليقا وسطا في غير إسراف ولا تقصير .(1/22)
كما أنى فصلت موضوعاته بعناوين وضعتها بين علامتى الزيادة ، لتتضح معالم الكتاب ، وتسهل الاحاطة بما فيه .
وسيخرج - بما أرجو من الله المعونة والتاييد - في عشرين جزءا كما وضعه مؤلفه ، أما الفهارس العامة المتنوعة فسافرد لها جزءا خاصا في آخر الكتاب ، والله الموفق للصواب (ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير) .
محمد أبو الفضل إبراهيم القاهرة (10 جمادى الاخرة سنة 1378 ه 21 ديسمبر سنة 1958 م)(1/23)
فاتحة مخطوطة نهج البلاغة(1/24)
شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد (586 - 656) الجزء الاول تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم(1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله (1) الواحد العدل الحمد لله الذى تفرد بالكمال فكل كامل سواه منقوص ، واستوعب عموم المحامد والممادح فكل ذى عموم عداه مخصوص الذى وزع منفسات نعمه بين من يشاء من خلقه واقتضت حكمته ان نافس الحاذق في حذقه فاحتسب به عليه من رزقه وزوى (2) الدنيا عن الفضلاء فلم ياخذها الشريف بشرفه ولا السابق بسبقه .
وقدم المفضول على الافضل لمصلحه اقتضاها التكليف واختص الافضل من جلائل الماثر ونفائس المفاخر بما يعظم عن التشبيه ويجل عن التكييف .
وصلى الله على رسوله محمد ، الذى (3) المكنى عنه شعاع من شمسه ، وغصن من غرسه ، وقوه من قوى نفسه ، ومنسوب إليه نسبه الغد إلى يومه ، واليوم إلى امسه ، فما هما الا سابق ولاحق ، وقائد وسائق ، وساكت وناطق ، ومجل ومصل ، سبقا لمحه البارق ، وانارا سدفه الغاسق ، صلى الله عليهما ما استخلب (4) خبير ، وتناوح حراء وثبير (5) .
وبعد ، فان مراسم المولى الوزير الاعظم ، الصاحب (6) ، الصدر الكبير المعظم العالم العادل المظفر المنصور المجاهد ، المرابط (7) مؤيد الدين عضد الاسلام ، سيد وزراء الشرق والغرب ، ابى محمد
__________
(1 - 1) تكملة من ب .
(2) زوى الدنيا : نحاها وصرفها .
(3) في ا : " والذي " .
(4) استخلب ، بالبناء للمجهول : قطع .
والخبير : النبات ، وورد في حديث طهفة : " ونستخلب الخبير " قال ابن الاثير : الخبير : النبات والعشب ، شبه بخبير الابل ، وهو وبرها .
النهاية 1 : 280 (5) يقال : هما جبلان يتناوحان ، إذا كانا متقابلين ، وثبير : جبل شامخ بمكة يقابل حراء ، وهو أرفع من ثبير .
ياقوت 3 : 240 (6) ب : " صاحب " .
(7) ا : والمرابط .
(*)(1/3)
ابن أحمد بن محمد العلقمي (1) ، نصير أمير المؤمنين - أسبغ الله عليه من ملابس النعم أضفاها ، وأحله من مراقب السعادة مراتب السياده أشرفها وأعلاها - لما شرفت عبد دولته ، وربيب نعمته بالاهتمام بشرح " نهج البلاغه " - على صاحبه أفضل الصلوات ، ولذكره اطيب التحيات - بادر إلى ذلك مبادره من بعثه من قبل عزم ، ثم حمله (2) امر جزم ، وشرع فيه بادى الراى شروع مختصر ، وعلى ذكر الغريب والمعنى مقتصر ، ثم تعقب الفكر فراى ان هذه النغبه (3) لا تشفى أو اما ، ولا تزيد الحائم الا حياما ، فتنكب ذلك المسلك ، ورفض ذلك المنهج ، وبسط القول في شرحه بسطا اشتمل على الغريب والمعاني وعلم البيان ، وما عساه يشتبه ويشكل من الاعراب والتصريف ، واورد في كل موضع ما يطابقه من النظائر والاشباه ، نثرا ونظما ، وذكر ما يتضمنه من السير والوقائع والاحداث فصلا فصلا ، واشار إلى ما ينطوى عليه من دقائق علم التوحيد والعدل اشارة خفيفه ، ولوح إلى ما يستدعى الشرح ذكره من الانساب والامثال والنكت تلويحات لطيفه ، ورصعه من المواعظ الزهديه ، والزواجر الدينيه ، والحكم النفسيه ، والاداب الخلقيه ، المناسبة لفقره ، والمشاكلة لدرره ، والمنتظمة مع معانيه في سمط ، والمتسقه مع جواهره في لط (4) ، بما يهزأ بشنوف النضار ، ويخجل قطع الروض غب القطار ، واوضح ما يومئ إليه من المسائل الفقهيه ، وبرهن على ان كثيرا من فصوله داخل في باب المعجزات المحمدية ، لاشتمالها على
__________
(1) هو مؤيد الدين أبو طالب محمد بن أحمد بن العلقمي البغدادي ، وزير المستعصم بالله ، الخليفة العباسي .
اشتغل في صباه بالادب ، ففاق فيه ، وكتب خطا مليحا ، وترسل ترسلا فصيحا ، وكان لبيبا كريما ، رئيسا متمسكا بقوانين الرياسة ، خبيرا بأدوات السياسة ، محبا للادب ، مقربا لاهل العلم ، اقتنى كتبا كثيرة نفيسة ، وصنف الناس له ، منهم الصغاني ، صنف له العباب ، وهذا المصنف الذي ألف برسمه ، وكان ممدحا ، مدحه الشعراء ، وانتجعه الفضلاء ، وأخباره الطيبة كثيرة وجليلة .
توفي سنة 656 .
الفخري 265 ، 266 (2) ب " حركة " .
(4) النغبة في الاصل : الجرعة من الماء .
وفي ا : " البغية " ، والاجود ما أثبته من ب .
(4) الط : العقد .
(*)(1/4)
الاخبار الغيبية ، وخروجها عن وسع الطبيعة البشرية .
وبين من مقامات العارفين ، التى يرمز إليها في كلامه ما لا يعقله إلا العالمون ، ولا يدركه إلا الروحانيون المقربون .
وكشف عن مقاصده عليه السلام في لفظه يرسلها ، ومعضلة (1) يكنى عنها ، وغامضة يعرض بها ، وخفايا يجمجم بذكرها ، وهنات تجيش في صدره فينفث بها نفثه المصدور ، ومرمضات مؤلمات يشكوها فيستريح بشكواها استراحه المكروب .
فخرج هذا الكتاب كتابا كاملا في فنه ، واحدا بين ابناء جنسه ، ممتعا بمحاسنه ، جليله فوائده ، شريفه مقاصده ، عظيما شانه ، عاليه منزلته ومكانه .
ولا عجب ان يتقرب بسيد الكتب إلى سيد الملوك ، وبجامع الفضائل إلى جامع المناقب ، وبواحد العصر إلى اوحد الدهر ، فالاشياء بامثالها اليق ، وإلى اشكالها اقرب ، وشبه الشئ إليه منجذب ، ونحوه دان ومقترب .
ولم يشرح هذا الكتاب قبلى فيما اعلمه الا واحد ، وهو سعيد بن هبه الله بن الحسن الفقيه المعروف بالقطب الراوندي (2) ، وكان من فقهاء الامامية ، ولم يكن من رجال هذا الكتاب ، لاقتصاره مدة عمره على الاشتغال بعلم الفقه وحده ، وانى للفقيه ان يشرح هذه الفنون المتنوعة ، ويخوض في هذه العلوم المتشعبة ، لا جرم ان شرحه لا يخفى حاله عن الذكى ، وجرى الوادي فطم على القرى (3) .
وقد تعرضت في هذا الشرح لمنا قضته
__________
(1) ا : " معضلة " بدون الواو .
(2) هو سعيد بن هبة الله بن الحسن الراوندي ، أحد فقهاء الشيعة ، وتصانيفه كثيرة متنوعة ، أسمى كتابه في شرح النهج " منهاج البراعة ، في شرح نهج البلاغة " ، وتوفي سنة 573 .
لسان الميزان 3 : 48 ، روضات الجنان 302 (3) جرى الوادي فطم على القرى ، مثل ، قال الميداني في شرحه : أي جرى الوادي فطم ، أي دفن ، يقال : طم السيل الركية ، أي دفنها .
والقرى : مجرى الماء في الروضة ، والجمع أقرية وقريان ، و " على " من صلة المعنى ، أي أتى على القرى ، يعنى أهلكه بأن رفنه ، يضرب عند تجاوز الشئ حده " .
مجمع الامثال 1 : 159 (*)(1/5)
في مواضع يسيره اقتضت الحال ذكرها ، واعرضت عن كثير مما قاله إذ لم ار في ذكره ونقضه كبير فائده .
* * * وانا قبل ان اشرع في الشرح ، اذكر اقوال اصحابنا رحمهم الله في الامامه والتفضيل ، والبغاه والخوارج .
ومتبع ذلك بذكر نسب امير المؤمنين عليه السلام ، ولمع يسيره من فضائله .
ثم اثلث بذكر نسب الرضى ابى الحسن محمد بن الحسين الموسوي رحمه الله ، وبعض خصائصه ومناقبه .
ثم اشرع في شرح خطبه " نهج البلاغه " التى هي من كلام الرضى ابى الحسن رحمه الله (1) ، فإذا انهيت من ذلك كله ابتدات بعون الله وتوفيقه في شرح كلام امير المؤمنين ع شيئا فشيئا .
* * * ومن الله سبحانه استمد المعونة ، واستدر اسباب العصمه ، واستميح غمائم الرحمه ، وامترى اخلاف البركه ، واشيم بارق النماء والزياده ، فما المرجو الا فضله ، ولا المأمول الا طوله ، ولا الوثوق الا برحمته ، ولا السكون الا إلى رافته " ربنا عليك توكلنا واليك انبنا واليك المصير .
ربنا لا تجعلنا فتنه للذين كفروا واغفر لنا ربنا انك انت العزيز الحكيم " (2) .
__________
(1) ب : " رضى الله عنه " .
(2) سورة الممتحنة 4 ، 5 (*)(1/6)
اتفق شيوخنا كافه رحمهم الله ، المتقدمون منهم والمتاخرون ، والبصريون والبغداديون ، على ان بيعه ابى بكر الصديق بيعه صحيحه شرعيه ، وانها لم تكن عن نص وانما كانت بالاختيار الذى ثبت بالاجماع ، وبغير الاجماع كونه طريقا إلى الامامه .
واختلفوا في التفضيل ، فقال قدماء البصريين كابى عثمان عمرو بن عبيد ، وابى اسحاق ابراهيم بن سيار النظام ، وابى عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ، وابى معن ثمامه بن اشرس ، وابى محمد هشام بن عمرو الفوطى ، وابى يعقوب يوسف بن عبد الله الشحام ، وجماعه غيرهم : ان ابا بكر افضل من على عليه السلام ، وهؤلاء يجعلون ترتيب الاربعة في الفضل كترتيبهم في الخلافه .
وقال البغداديون قاطبة ، قدماؤهم ومتاخروهم ، كابى سهل بشر بن المعتمر ، وابى موسى عيسى بن صبيح ، وابى عبد الله جعفر بن مبشر ، وابى جعفر الاسكافي ، وابى الحسين الخياط ، وابى القاسم عبد الله بن محمود البلخى وتلامذته ان عليا عليه السلام افضل من ابى بكر .
وإلى هذا المذهب ذهب من البصريين أبو على محمد بن عبد الوهاب الجبائى اخيرا وكان من قبل من المتوقفين ، كان يميل إلى التفضيل ولا يصرح به ، وإذا صنف ذهب إلى الوقف في مصنفاته .
وقال في كثير من تصانيفه : ان صح خبر الطائر فعلى افضل (1) .
__________
(1) يشير إلى ما رواه الترمذي في باب المناقب 13 : 170 ، بسنده عن أنس بن مالك ، ولفظه هذا الطير " فجاء على فأكل معه .
قال أبو عيسى : هذا حديث غريب لا يعرف من حديث السدى إلا من هذا الوجه .
(*)(1/7)
ثم ان قاضى القضاه رحمه الله ذكر في شرح " المقالات " لابي القاسم البلخى ان ابا على رحمه الله ما مات حتى قال بتفضيل على عليه السلام ، وقال انه نقل ذلك عنه سماعا ، ولم يوجد في شئ من مصنفاته .
وقال أيضا : إن ابا على رحمه الله يوم مات استدنى ابنه ابا هاشم إليه ، - وكان قد ضعف عن رفع الصوت - فالقى إليه اشياء ، من جملتها القول بتفضيل على عليه السلام .
وممن ذهب من البصريين إلى تفضيله عليه السلام الشيخ أبو عبد الله الحسين بن على البصري رضى الله عنه ، كان متحققا بتفضيله ، ومبالغا في ذلك وصنف فيه كتابا مفردا .
وممن ذهب إلى تفضيله عليه السلام من البصريين قاضى القضاه أبو الحسن عبد الجبار بن احمد رحمه الله ، ذكر ابن متويه عنه في كتاب " الكفايه " في علم الكلام انه كان من المتوقفين بين على عليه السلام وابى بكر ، ثم قطع على تفضيل على عليه السلام بكامل المنزله .
ومن البصريين الذاهبين إلى تفضيله عليه السلام أبو محمد الحسن بن متويه صاحب " التذكره " نص في كتاب " الكفايه " على تفضيله عليه السلام على ابى بكر ، احتج لذلك ، واطال في الاحتجاج .
فهذان المذهبان كما عرفت .
وذهب كثير من الشيوخ رحمهم الله إلى التوقف فيهما ، وهو قول ابى حذيفه واصل بن عطاء ، وابى الهذيل محمد بن الهذيل العلاف ، من المتقدمين .
وهما - وان ذهبا إلى التوقف (1) بينه عليه السلام وبين ابى بكر وعمر - قاطعان على تفضيله على عثمان .
__________
(2) ب " الوقف " .
(*)(1/8)
ومن الذاهبين إلى الوقف الشيخ أبو هاشم عبد السلام بن أبى على رحمهما الله ، والشيخ أبو الحسين محمد بن على بن الطيب البصري رحمه الله .
واما نحن فنذهب إلى ما يذهب إليه شيوخنا البغداديون ، من تفضيله عليه السلام .
وقد ذكرنا في كتبنا الكلامية ما معنى الافضل ، وهل المراد به الاكثر ثوابا أو (1) الاجمع لمزايا الفضل والخلال الحميده ، وبينا انه عليه السلام افضل على التفسيرين معا .
وليس هذا الكتاب موضوعا لذكر الحجاج في ذلك أو في غيره من المباحث الكلامية لنذكره ، ولهذا موضع هو املك به .
واما (2) القول في البغاه عليه (3) والخوارج ، فعلى (4) ما اذكره لك : اما اصحاب الجمل فهم عند اصحابنا هالكون كلهم الا عائشة وطلحه والزبير ، (5 رحمهم الله 5) فانهم تابوا ، ولو لا التوبة لحكم لهم بالنار لاصرارهم على البغى .
واما عسكر الشام بصفين فانهم هالكون كلهم عند اصحابنا لا يحكم لاحد منهم الا بالنار ، لاصرارهم على البغى وموتهم عليه ، رؤساؤهم والاتباع جميعا .
واما الخوارج فانهم مرقوا عن الدين بالخبر النبوى المجمع عليه ، ولا يختلف اصحابنا في انهم من اهل النار .
وجملة الامر ان اصحابنا يحكمون بالنار لكل فاسق مات على فسقه ، ولا ريب في ان الباغى على الامام الحق والخارج عليه بشبهه أو بغير شبهه فاسق ، وليس هذا مما يخصون به عليا عليه السلام ، فلو خرج قوم من المسلمين على غيره من ائمه الاسلام العدول (6) لكان حكمهم حكم من خرج على على صلوات الله عليه .
__________
(1) ب : " أم " .
(2) ب : " فأما " .
(3) ساقطة من أ (4) ب : " فهو على " .
(5 - 5) ساقط من ب (6) ب : " من أئمة العدل " .
(7) ب : " يرى " تصحيف .
(8) ب : " كثير " .
(*)(1/9)
وكان شيخنا أبو القاسم البلخى إذا ذكر عنده عبد الله بن الزبير ، يقول : لا خير فيه .
وقال مرة : لا يعجبنى صلاته وصومه ، وليسا بنافعين له مع قول رسول الله صلى الله عليه وآله لعلى عليه السلام : " لا يبغضك الا منافق " .
وقال أبو عبد الله البصري رحمه الله لما سئل عنه : ما صح عندي انه تاب من يوم الجمل ، ولكنه استكثر مما كان عليه .
فهذه هي المذاهب والاقوال ، اما الاستدلال عليها فهو مذكور في الكتب الموضوعه لهذا الفن .(1/10)
القول في نسب امير المؤمنين على عليه السلام وذكر لمع يسيره من فضائله هو أبو الحسن على بن ابى طالب - واسمه عبد مناف - بن عبد المطلب - واسمه شيبه - بن هاشم - واسمه عمرو - بن عبد مناف بن قصى .
الغالب عليه من الكنيه عليه السلام أبو الحسن .
وكان ابنه الحسن عليه السلام يدعوه في حياه رسول الله صلى الله عليه وآله ابا الحسين ، ويدعوه الحسين عليه السلام أبا الحسن ، ويدعوان رسول الله صلى الله عليه وآله أباهما ، فلما توفى النبي صلى الله عليه وآله (1) دعواه بأبيهما .
وكناه رسول الله صلى الله عليه وآله أبا تراب ، وجده نائما في تراب ، قد سقط عنه رداؤه ، اصاب التراب جسده ، فجاء حتى جلس عند راسه ، وايقظه ، وجعل يمسح التراب عن ظهره ويقول له : اجلس ، انما انت ابو تراب (2) .
فكانت من احب كناه إليه صلوات الله عليه ، وكان يفرح إذا دعى بها ، وكانت ترغب (3) بنو اميه خطباءها
__________
(1) ساقطة من أ (2) رواية الخبر كما في صحيح البخاري ، في كتاب فضائل الصحابة 2 : 300 ، بسنده عن عبد الله ابن مسلمة : " أن رجلا جاء إلى سهل بن سعد ، فقال : هذا فلان - لامير المدينة - يدعو عليا عند المنبر ، قال : فيقول ماذا ؟ قال : يقول له : أبو تراب .
فضحك ، قال : والله ما سماه إلا النبي صلى الله عليه وسلم ، وما كان له اسم أحب إليه منه .
فاستطعمت الحديث سهلا ، وقلت : يا أبا عباس ، كيف ؟ قال : دخل علي على فاطمة ، ثم خرج فاضطجع في المسجد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أين ابن عمك ؟ قالت : في المسجد ، فخرج إليه فوجد رداءه قد سقط عن ظهره ، وخلص التراب إلى ظهره ، فجعل يمسح التراب عن ظهره فيقول : اجلس يا أبا تراب ، مرتين " .
ولهذا الخبر رواية أخرى ذكرها صاحب الرياض النضرة 2 : 154 (3) ب : " فدعت بنو أمية " .
(*)(1/11)
أن يسبوه بها على المنابر ، وجعلوها نقيصه له ووصمه عليه ، فكانما كسوه بها الحلى والحلل ، كما قال الحسن البصري رحمه الله .
وكان اسمه الاول الذى سمته به امه حيدرة ، باسم ابيها اسد بن هاشم - والحيدره : الاسد - فغير ابوه اسمه ، وسماه عليا .
وقيل : ان حيدره اسم كانت قريش تسميه به .
والقول الاول اصح ، يدل عليه خبره (1) يوم برز إليه مرحب ، وارتجز عليه فقال : * انا الذى سمتنى امى مرحبا (2) * فاجابه عليه السلام رجزا : * انا الذى سمتنى امى حيدره (3) * ورجزهما معا مشهور منقول لا حاجه لنا الان إلى ذكره .
وتزعم الشيعه انه خوطب في حياه رسول الله صلى الله عليه وآله بامير المؤمنين ، خاطبه بذلك جلة المهاجرين والانصار ، ولم يثبت ذلك في اخبار المحدثين ، الا انهم قد رووا ما يعطى هذا المعنى ، وان لم يكن اللفظ بعينه ، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وآله له : " انت يعسوب الدين والمال يعسوب الظلمه " ، وفي روايه اخرى : " هذا يعسوب المؤمنين ،
__________
(1) الخبر رواه مسلم مفصلا بسنده عن إياس بن سلمة عن أبيه ، في كتاب الجهاد والسير ص 1433 - 1441 ، في غزوة خيبر (2) رواية مسلم : قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب (3) بقيته ، كما رواه مسلم : كليث غاب كريه المنظره أوفيهم بالصاع كيل السندره والسندرة : مكيال واسع .
(*)(1/12)
وقائد الغر المحجلين " (1) .
واليعسوب : ذكر النحل واميرها .
روى هاتين الروايتين أبو عبد الله احمد بن حنبل الشيباني في " المسند " في كتابه " فضائل الصحابة " ، ورواهما ابو نعيم الحافظ في " حليه الاولياء " (2) .
ودعى بعد وفاه رسول الله صلى الله عليه وآله بوصى رسول الله ، لوصايته إليه بما اراده .
واصجابنا لا ينكرون ذلك ، ولكن يقولون : انها لم تكن وصيه بالخلافه ، بل بكثير من المتجددات بعده ، أفضى بها إليه عليه السلام .
وسنذكر طرفا من هذا المعنى فيما بعد .
وامه فاطمه بنت اسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصى ، اول هاشميه ولدت لهاشمي ، كان على عليه السلام اصغر بنيها ، وجعفر اسن منه بعشر سنين ، وعقيل اسن منه بعشر سنين ، وطالب اسن من عقيل بعشر سنين ، وفاطمة بنت اسد امهم جميعا .
وام فاطمه بنت اسد ، فاطمه (1) بنت هرم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيص (ابن عامر بن لؤى وامها حدية بنت) (4) وهب بن ثعلبه بن وائلة بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر .
(وامها فاطمه بنت عبيد بن منقذ بن عمرو بن معيص بن عامر بن لؤى .
وامها سلمى بنت عامر بن ربيعه بن هلال بن اهيب بن ضبه بن الحارث بن فهر) (4) .
وامها عاتكه بنت ابى همهمة - واسمه عمرو بن عبد العزى - بن عامر بن عميره بن وديعه بن الحارث بن فهر .
(وامها تماضر بنت عمرو بن عبد مناف بن قصى بن كلاب بن مره بن كعب بن لؤى) (4) .
وامها حبيبه ، وهى امة الله بنت عبد ياليل بن سالم بن مالك بن حطيط بن جشم بن قسى ، وهو ثقيف .
وامها فلانة بنت مخزوم بن اسامه بن ضبع (5) بن وائله بن نصر بن صعصعه بن ثعلبه بن كنانه بن عمرو بن قين بن فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان
__________
(1) ورواه أيضا الطبراني في الكبير ، ونقله صاحب الرياض النضيرة 2 : 155 ، مع اختلاف في اللفظ .
(2) حليلة الاولياء 1 : 63 ، بسنده عن أنس ، ولفظه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أنس ، أول من يدخل من هذا الباب أمير المؤمنين ، وسيد المسلمين ، وقائد الغر المحجلين ، وخاتم الوصيين " .
(3) تكملة في مقاتل الطالبين .
(4) كذا في ب ، وفي أ : " ضجيج " وفي مقاتل الطالبيين " صبح " .
(*)(1/13)
ابن مضر .
وأمها ربطه بنت يسار بن مالك بن حطيط بن جشم بن ثقيف .
وأمها كلة (1) بنت حصين بن سعد بن بكر بن هوازن .
وأمها حبى بنت الحارث بن النابغة بن عميره بن عوف بن نصر بن بكر بن هوازن .
ذكر هذا النسب أبو الفرج على بن الحسين الاصفهانى في كتاب " مقاتل الطالبيين " (2) .
أسلمت فاطمة بنت أسد بعد عشره من المسلمين ، وكانت الحادى عشر ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يكرمها ويعظمها ويدعوها : أمي ، وأوصت إليه حين حضرتها الوفاة ، فقبل وصيتها ، وصلى عليها ، ونزل في لحدها ، واضطجع معها فيه بعد أن ألبسها قميصه ، فقال له أصحابه إنا ما رأيناك صنعت يا رسول الله بأحد ما صنعت بها ، فقال إنه لم يكن أحد بعد أبى طالب أبر بى منها ، إنما ألبستها قميصي لتكسى من حلل الجنة ، واضطجعت معها ليهون عليها ضغطه القبر .
وفاطمة أول امرأة بايعت رسول الله صلى الله عليه وآله من النساء .
وأم أبى طالب بن عبد المطلب فاطمه بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم .
وهى أم عبد الله ، والد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأم الزبير بن عبد المطلب ، وسائر ولد عبد المطلب بعد لامهات شتى .
واختلف في مولد على عليه السلام أين كان ؟ فكثير من الشيعه يزعمون أنه ولد في الكعبة ، والمحدثون لا يعترفون بذلك ، ويزعمون أن المولود في الكعبة حكيم بن حزام ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصى .
واختلف في سنه حين أظهر النبي صلى الله عليه وآله الدعوة ، إذ تكامل له صلوات الله عليه أربعون سنة ، فالاشهر من الروايات أنه كان ابن عشر .
وكثير من أصحابنا المتكلمين يقولون : إنه كان ابن ثلاث عشرة سنة ، ذكر ذلك شيخنا أبو القاسم البلخى وغيره من شيوخنا .
__________
(1) مقاتل الطالبيين : " كلية بنت قصية " .
(2) في ترجمة جعفر بن أبي طالب ص 7 .
(*)(1/14)
والاولون يقولون : إنه قتل وهو ابن ثلاث وستين سنة ، وهؤلاء يقولون : ابن ست وستين ، والروايات في ذلك مختلفة .
ومن الناس من يزعم أن سنه كانت دون العشر ، والاكثر الاظهر خلاف ذلك .
وذكر أحمد بن يحيى البلاذرى وعلى بن الحسين الاصفهانى أن قريشا أصابتها أزمة وقحط ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لعميه : حمزه والعباس : أ لا نحمل ثقل أبى طالب في هذا المحل ! فجاءوا إليه وسألوه أن يدفع إليهم ولده ليكفوه أمرهم ، فقال : دعوا لى عقيلا وخذوا من شئتم - وكان شديد الحب لعقيل - فأخذ العباس طالبا ، وأخذ حمزه جعفرا ، وأخذ محمد صلى الله عليه وآله عليا ، وقال لهم : قد اخترت - من اختاره الله لى عليكم - عليا ، قالوا فكان على عليه السلام في حجر رسول الله صلى الله عليه وآله ، منذ كان عمره ست سنين .
وكان ما يسدى إليه ص من إحسانه وشفقته وبره وحسن تربيته ، كالمكافأه والمعاوضة لصنيع أبى طالب به ، حيث مات عبد المطلب وجعله في حجره .
وهذا يطابق قوله عليه السلام : لقد عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الامة سبع سنين .
وقوله كنت أسمع الصوت وأبصر الضوء سنين سبعا ، ورسول الله صلى الله عليه وآله حينئذ صامت ما أذن له في الانذار والتبليغ ، وذلك لانه إذا كان عمره يوم إظهار الدعوه ثلاث عشرة سنة ، وتسليمه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله من أبيه وهو ابن ست - فقد صح انه كان يعبد الله قبل الناس بأجمعهم سبع سنين ، و أبيه وهو ابن ست - فقد صح أنه كان يعبد الله قبل الناس بأجمعهم سبع سنين ، وابن ست تصح منه العبادة إذا كان ذا تمييز على أن عبادة مثله هي التعظيم والاجلال وخشوع القلب ، واستخذاء الجوارح إذا شاهد شيئا من جلال الله سبحانه وآياته الباهرة ، ومثل هذا موجود في الصبيان .
وقتل عليه السلام ليله الجمعة لثلاث عشرة بقين من شهر رمضان ، سنه أربعين في(1/15)
روايه أبى عبد الرحمن السلمى (1) - وهى الرواية المشهورة - وفي روايه أبى مخنف أنها كانت لاحدى عشرة ليلة بقين من شهر رمضان ، وعليه الشيعه في زماننا .
والقول الاول أثبت عند المحدثين ، والليلة السابعه عشره من شهر رمضان هي ليلة بدر ، وقد كانت الروايات وردت أنه يقتل في ليله بدر ، عليه السلام ، وقبره بالغرى .
وما يدعيه أصحاب الحديث من الاختلاف في قبره ، وأنه حمل إلى المدينة ، أو أنه دفن في رحبة الجامع ، أو عند باب قصر الامارة أو ند البعير الذى حمل عليه فاخذته الاعراب - باطل كله ، لا حقيقة له ، وأولاده أعرف بقبره ، وأولاد كل الناس أعرف بقبور آبائهم من الاجانب ، وهذا القبر الذي زاره بنوه لما قدموا العراق ، منهم جعفر بن محمد عليه السلام وغيره من أكابرهم وأعيانهم .
وروى أبو الفرج في " مقاتل الطالبيين " بإسناد (2) ذكره هناك ان الحسين عليه السلام لما سئل : أين دفنتم أمير المؤمنين ؟ فقال : خرجنا به ليلا من منزله بالكوفة ، حتى مررنا به على مسجد الاشعث ، حتى انتهينا به إلى الظهر بجنب الغرى .
وسنذكر خبر مقتله عليه السلام فيما بعد .
فأما فضائله عليه السلام ، فإنها قد بلغت من العظم والجلاله والانتشار والاشتهار مبلغا يسمج معه التعرض لذكرها ، والتصدي لتفصيلها ، فصارت كما قال أبو العيناء لعبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل والمعتمد : رأيتنى فيما أتعاطى من وصف فضلك ، كالمخبر عن ضوء النهار الباهر ، والقمر الزاهر ، الذى لا يخفى على الناظر ، فايقنت أنى حيث انتهى بى القول منسوب إلى العجز ، مقصر عن الغاية ، فانصرفت عن الثناء عليك إلى الدعاء لك ، ووكلت الاخبار عنك إلى علم الناس بك .
وما أقول في رجل أقر له أعداؤه وخصومه بالفضل ، ولم يمكنهم جحد مناقبه ،
__________
(1) نقلها أبو الفرج في مقاتل الطالبيين .
(2) مقاتل الطالبيين ص 42 ، وفيه " الحسن " .
(*)(1/16)
ولا كتمان فضائله ، فقد علمت أنه استولى بنو أمية على سلطان الاسلام في شرق الارض وغربها ، واجتهدوا بكل حيله في إطفاء نوره ، والتحريض عليه ، ووضع المعايب والمثالب له ، ولعنوه على جميع المنابر ، وتوعدوا مادحيه ، بل حبسوهم وقتلوهم ، ومنعوا من رواية حديث يتضمن له فضيله ، أو يرفع له ذكرا ، حتى حظروا أن يسمى أحد باسمه ، فما زاده ذلك إلا رفعه وسموا ، وكان كالمسك كلما ستر انتشر عرفه ، وكلما كتم تضوع نشره ، وكالشمس لا تستر بالراح ، وكضوء النهار ان حجبت عنه عين واحدة ، أدركته عيون كثيره ! وما أقول في رجل تعزى إليه كل فضيلة ، وتنتهى إليه كل فرقة ، وتتجاذبه كل طائفة ، فهو رئيس الفضائل وينبوعها ، وأبو عذرها ، وسابق مضمارها ، ومجلى حلبتها ، كل من بزغ فيها بعده فمنه أخذ ، وله اقتفى ، وعلى مثاله احتذى .
وقد عرفت أن أشرف العلوم هو العلم الالهى ، لان شرف العلم بشرف المعلوم ، ومعلومه أشرف الموجودات ، فكان هو أشرف العلوم .
ومن كلامه عليه السلام اقتبس ، وعنه نقل ، وإليه انتهى ، ومنه ابتدأ فإن المعتزلة (1) - الذين هم أ هل التوحيد والعدل ، وأرباب النظر ، ومنهم تعلم الناس هذا الفن - تلامذته وأصحابه ، لان كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبى هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية (2) ، وأبو هاشم تلميذ أبيه وأبوه تلميذه عليه السلام .
وأما الاشعرية فانهم ينتمون إلى أبى الحسن على بن " إسماعيل بن " أبى بشر الاشعري ، وهو تلميذ أبى على الجبائى ، وأبو علي أحد مشايخ المعتزلة ، فالاشعرية ينتهون بأخرة إلى أستاذ المعتزلة ومعلمهم وهو على بن أبى طالب عليه السلام .
وأما الامامية والزيدية فانتماؤهم إليه ظاهر .
* * *
__________
(1) انظر أمالى المرتضى 1 : 148 وما بعدها ، في كلام المؤلف عن سند المعتزلة إلى على عليه السلام (2) هو إمام الكيسانية ، وعنه انتقلت البيعة إلى بنى العباس .
" تنقيح المقال 2 : 212 " .
(*)(1/17)
ومن العلوم : علم الفقه ، وهو عليه السلام أصله وأساسه ، وكل فقيه في الاسلام فهو عيال عليه ، ومستفيد من فقهه ، أما أصحاب أبى حنيفه كأبى يوسف ومحمد وغيرهما ، فأخذوا عن أبى حنيفة ، وأما الشافعي فقرأ على محمد بن الحسن ، فيرجع فقهه إيضا إلى أبى حنيفة ، وأما أحمد بن حنبل ، فقرأ على الشافعي فيرجع فقهه أيضا إلى أبى حنيفة ، وأبو حنيفة قرأ على جعفر بن محمد عليه السلام ، وقرأ جعفر على أبيه عليه السلام ، وينتهى الامر إلى على عليه السلام .
وأما مالك بن أنس ، فقرأ على ربيعة الرأى ، وقرأ ربيعة على عكرمة ، وقرأ عكرمه على عبد الله بن عباس ، وقرأ عبد الله بن عباس على على بن أبى طالب (1) ، وإن شئت رددت إليه فقه الشافعي بقراءته على مالك كان لك ذلك ، فهؤلاء الفقهاء الاربعة .
واما فقه الشيعة : فرجوعه إليه ظاهر وأيضا فإن فقهاء الصحابة كانوا : عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس ، وكلاهما أخذ عن على عليه السلام .
أما ابن عباس فظاهر ، وأما عمر فقد عرف كل أحد رجوعه إليه في كثير من المسائل التى أشكلت عليه وعلى غيره من الصحابة ، وقوله غير مرة : لو لا على لهلك عمر ، وقوله : لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن .
وقوله : لا يفتين أحد في المسجد وعلى حاضر ، فقد عرف بهذا الوجه أيضا انتهاء الفقه إليه .
وقد روت العامة والخاصة قوله صلى الله عليه وآله : " أقضاكم على " (2) ، والقضاء هو الفقه ، فهو إذا أفقههم .
وروى الكل أيضا أنه عليه السلام قال له وقد بعثه إلى اليمن قاضيا : " اللهم اهد قلبه وثبت لسانه " قال : فما شككت بعدها في قضاء بين اثنين (3) ،
__________
(1) ب : " عن علي " .
(2) نقله السيوطي في الجامع الصغير 1 : 58 عن مسند أبي يعلي بلفظ : " أرأف أمتي أبو بكر ، وأشدهم في دين الله عمر ، وأصدقهم حياء عثمان ، وأقضاهم علي ...
" وضعفه .
(3) رواه أبو داود في كتاب الاقضية 3 : 409 بسنده عن علي ، ولفظه : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضيا فقلت : يا رسول الله ، ترسلني وأنا حديث السن ، ولا علم لي بالقضاء ! فقال : " إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك ، فإدا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الاول ، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء " ، قال : فما زلت قاضيا - أو ما شككت في قضاء بعد .
(*)(1/18)
وهو عليه السلام الذى أفتى في المرأة التى وضعت لسته أشهر ، وهو الذى أفتى في الحامل الزانية (1) ، وهو الذى قال في المنبرية (2) : صار ثمنها تسعا .
وهذه المسأله لو فكر الفرضي فيها فكرا طويلا لاستحسن منه بعد طول النظر هذا الجواب ، فما ظنك بمن قاله بديهة ، واقتضبه ارتجالا .
ومن العلوم : علم تفسير القرآن ، وعنه أخذ ، ومنه فرع .
وإذا رجعت إلى كتب التفسير علمت صحة ذلك ، لان أكثره عنه وعن عبد الله بن عباس ، وقد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته له ، وانقطاعه إليه ، وأنه تلميذه وخريجه .
وقيل له : أين علمك من علم ابن عمك ؟ فقال : كنسبة قطره من المطر إلى البحر المحيط .
ومن العلوم : علم الطريقة والحقيقة ، وأحوال التصوف ، وقد عرفت أن أرباب هذا الفن في جميع بلاد الاسلام ، إليه ينتهون ، وعنده يقفون ، وقد صرح بذلك الشبلي ، والجنيد ، وسري (3) ، وأبو يزيد البسطامى ، وأبو محفوظ معروف الكرخي ، وغيرهم .
ويكفيك دلالة على ذلك الخرقة (4) التى هي شعارهم إلى اليوم ، وكونهم يسندونها بإسناد متصل إليه عليه السلام .
__________
(1) ذكر القرطبي في تفسيره 16 : 193 ، عند الكلام على قوله تعالى : " وحمله وفصاله ثلاثون شهرا " أن عثمان قد أتى بامرأة ولدت لستة أشهر ، فأراد أن يقضي عليها بالحد ، فقال له علي رضي الله عنه : ليس ذلك عليها ، قال الله تعالى : " وحمله وفصاله ثلاثون شهرا " .
(2) سميت المنبرية ، لانه سئل عنها وهو على المنبر ، فأفتى من غير روية ، وبيانها أنه سئل في ابنتين وأبوين وامرأة ، فقال : صار ثمنها تسعا ، قال أبو عبيد ، أراد أن السهام عالت حتى صار للمرأة التسع ، ولها في الاصل الثمن ، وذلك أن الفريضة لو لم تعل كانت أربعة وعشرين ، فلما عالت صارت من سبعة وعشرين ، فللابنتين الثلثان : ستة عشر سهما ، وللابوين السدسان ، ثمانية أسهم ، وللمرأة ثلاثة من سبع وعشرين ، وهو التسع ، وكان لها قبل العول ثلاثة من أربعة وعشرين ، وهو الثمن .
وانظر النهاية لابن الاثير 3 : 139 ، واللسان 13 : 512 ، وحاشية البقري على متن الرحبية 34 .
(3) هو سري بن المغلس السقطي ، خال الجنيد وأستاذه ، وصاحب معروف الكرخي ، وأول من تكلم ببغداد في لسان التوحيد وحقائق الاحوال .
مات سنة 251 .
" طبقات الصوفية للسلمي ص 48 " .
(4) فصل السهروردي في الباب الثاني عشر من كتابه عوارف المعارف " 4 : 191 وما بعدها - على هامش الاحياء " الكلام في شرح خرقة المشايخ الصوفية ولبسها .
(*)(1/19)
ومن العلوم : علم النحو والعربية ، وقد علم الناس كافه أنه هو الذى ابتدعه وأنشأه ، وأملى على أبى الاسود الدؤلى جوامعه وأصوله ، من جملتها الكلام كله ثلاثة أشياء : اسم وفعل وحرف .
ومن جملتها : تقسيم الكلمة إلى معرفة ونكرة ، وتقسيم وجوه الاعراب إلى الرفع والنصب والجر والجزم (1) ، وهذا يكاد يلحق بالمعجزات ، لان القوة البشرية لا تفي بهذا الحصر ، ولا تنهض بهذا الاستنباط .
وإن رجعت إلى الخصائص الخلقية والفضائل النفسانية والدينية وجدته ابن جلاها وطلاع ثناياها (2) .
وأما الشجاعة : فإنه أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله ، ومحا اسم من يأتي بعده ، ومقاماته في الحرب مشهورة يضرب بها الامثال إلى يوم القيامة ، وهو الشجاع الذى ما فر قط ، ولا ارتاع من كتيبة ، ولا بارز أحدا إلا قتله ، ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت الاولى إلى ثانية ، وفي الحديث " كانت ضرباته وترا " ، ولما دعا معاوية إلى المبارزه ليستريح الناس من الحرب بقتل أحدهما ، قال له عمرو : لقد أنصفك ، فقال معاوية : ما غششتني منذ نصحتني إلا اليوم ! أ تأمرني بمبارزه أبي الحسن وأنت تعلم أنه الشجاع المطرق ! أراك طمعت في إمارة الشام بعدي ! وكانت العرب تفتخر بوقوفها في الحرب في مقابلته ، فأما قتلاه فافتخار رهطهم بأنه عليه السلام قتلهم أظهر وأكثر ، قالت أخت عمرو بن عبد ود ثرثيه : لو كان قاتل عمرو غير قاتله بكيته أبدا ما دمت في الابد (3)
__________
(1) معجم الادباء 14 : 42 - 50 (2) اقتباس من قول سحيم بن وثيل الرياحي : أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني وابن جلا ، أي الواضح الامر ، وطلاع الثنايا : كناية عن السمو إلى معالي الامور ، والثنايا في الاصل : جمع ثنية ، وهي الطريق في الجبل .
وانظر اللسان 18 : 165 .
(3) من أبيات ذكرها صاحب اللسان 8 : 395 ، وروايته : لو كان قاتل عمرو غير قاتله بكيته ما أقام الروح في جسدي لكن قاتله من لا يعاب به وكان يدعى قديما بيضة البلد (*)(1/20)
لكن قاتله من لا نظير له وكان يدعى أبوه بيضة البلد (1) وانتبه يوما معاوية ، فرأى عبد الله بن الزبير جالسا تحت رجليه على سريره ، فقعد ، فقال له عبد الله يداعبه : يا أمير المؤمنين ، لو شئت أن أفتك بك لفعلت ، فقال : لقد شجعت بعدنا يا أبا بكر ، قال : وما الذي تنكره من شجاعتي وقد وقفت في الصف إزاء علي بن أبى طالب ! قال : لا جرم إنه قتلك وأباك بيسرى يديه ، وبقيت اليمنى فارغة ، يطلب من يقتله بها .
وجملة الامر أن كل شجاع في الدنيا إليه ينتهي ، وباسمه ينادى في مشارق الارض ومغاربها .
* * * وأما القوة والايد : فبه يضرب المثل فيهما ، قال ابن قتيبه في " المعارف " : (2) ما صارع أحدا قط إلا صرعه .
وهو الذى قلع باب خيبر ، واجتمع عليه عصبه من الناس ليقلبوه فلم يقلبوه ، وهو الذى اقتلع هبل من أعلى الكعبة ، وكان عظيما جدا ، وألقاه (3) إلى الارض .
وهو الذى اقتلع الصخره العظيمة في أيام خلافته عليه السلام بيده بعد عجز الجيش كله عنها ، وأنبط (4) الماء من تحتها .
وأما السخاء والجود : فحاله فيه ظاهرة ، وكان يصوم ويطوي ويؤثر بزاده ، وفيه أنزل " ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا .
إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا " (5) .
وروى المفسرون أنه لم يكن يملك إلا أربعة دراهم ، فتصدق بدرهم ليلا ، وبدرهم نهارا ، وبدرهم سرا ، وبدرهم علانية ، فأنزل فيه : " الذين
__________
(1) بيضة البلد ، يريد علي بن أبي طالب ، أي أنه فرد ليس مثله في الشرف كالبيضة التي هي تريكة وحدها ، ليس معها غيرها ، كذا فسر في اللسان .
(2) المعارف ص 90 (3) ب : " فألقاه " .
(4) ب : " فأنبط " .
(5) سورة الانسان 9 ، 10 .
(*)(1/21)
ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية " (1) .
وروى عنه أنه كان يسقي بيده لنخل قوم من يهود المدينة ، حتى مجلت (2) يده ، ويتصدق بالاجرة ، ويشد على بطنه حجرا .
وقال الشعبى وقد ذكره عليه السلام : كان أسخى الناس ، كان على الخلق الذي يحبه الله : السخاء والجود ، ما قال : " لا " لسائل قط .
وقال عدوه ومبغضه الذي يجتهد في وصمه وعيبه معاوية بن أبى سفيان لمحفن (3) بن أبي محفن الضبي لما قال له : جئتك من عند أبخل الناس ، فقال : ويحك " ! كيف تقول إنه أبخل الناس ، لو ملك بيتا من تبر وبيتا من تبن ، لانفد تبره قبل تبنه .
وهو الذى كان يكنس بيوت الاموال ويصلي فيها ، وهو الذي قال : يا صفراء ، ويا بيضاء ، غري غيري .
وهو الذي لم يخلف ميراثا ، وكانت الدنيا كلها بيده إلا ما كان من الشام .
وأما الحلم والصفح : فكان أحلم الناس عن ذنب ، وأصفحهم عن مسئ ، وقد ظهر صحة ما قلناه يوم الجمل ، حيث ظفر بمروان بن الحكم - وكان أعدى الناس له ، وأشدهم بغضا - فصفح عنه .
وكان عبد الله بن الزبير يشتمه على رءوس الاشهاد ، وخطب يوم البصرة فقال : قد أتاكم الوغد (4) اللئيم علي بن أبى طالب - وكان علي عليه السلام يقول : ما زال الزبير
__________
(1) سورة البقرة 274 ، وللمفسرين في هذه الآية أسباب أخرى للنزول ، ذكرها القرطبي في التفسير 19 : 128 ، وانظر أسباب النزول للواحدي 231 .
(2) مجلت يده ، أي ثخن جلده وتعجز وظهر فيه ما يشبه البثر من العمل بالاشياء الصلبة الخشنة ، ومنه حديث فاطمة ، أنها شكت إلى علي مجل يديها من الطحن .
النهاية لابن الاثير 4 : 80 .
(3) كذا ضبطه الذهبي بالقلم في المشتبه ص 464 .
(5) في ب : " الوغب " ، وهما بمعنى .
(*)(1/22)
رجلا منا اهل البيت حتى شب عبد الله - فظفر به يوم الجمل ، فأخذه أسيرا ، فصفح عنه ، وقال : اذهب فلا أرينك ، لم يزده على ذلك .
وظفر بسعيد بن العاص بعد وقعة الجمل بمكة ، وكان له عدوا ، فأعرض عنه ولم يقل له شيئا .
وقد علمتم ما كان من عائشة في أمره ، فلما ظفر بها أكرمها ، وبعث معها إلى المدينة عشرين امرأة من نساء عبد القيس عممهن بالعمائم ، وقلدهن بالسيوف ، فلما كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يذكر به ، وتأففت وقالت : هتك سترى برجاله وجنده الذين وكلهم بى فلما وصلت المدينة ألقى النساء عمائمهن ، وقلن لها : إنما نحن نسوه .
وحاربه أهل البصرة وضربوا وجهه ووجوه أولاده بالسيوف ، وشتموه ولعنوه ، فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم ، ونادى مناديه في أقطار العسكر : ألا لا يتبع (1) مول ، ولا يجهز على جريح ، ولا يقتل مستأسر ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن تحيز إلى عسكر الامام فهو آمن .
ولم يأخذ أثقالهم ، ولا سبى ذراريهم ، ولا غنم شيئا من أموالهم ، ولو شاء أن يفعل كل ذلك لفعل ، ولكنه أبى إلا الصفح والعفو وتقيل سنة رسول الله صلى الله عليه وآله يوم فتح مكة ، فإنه عفا والاحقاد لم تبرد ، والاساءة لم تنس .
ولما ملك عسكر معاوية عليه الماء ، وأحاطوا بشريعة الفرات ، وقالت رؤساء الشام له : اقتلهم بالعطش كما قتلوا عثمان عطشا ، سألهم علي عليه السلام وأصحابه أن يشرعوا (2) لهم شرب الماء ، فقالوا : لا والله ، ولا قطرة حتى تموت ظمأ كما مات ابن عفان ، فلما رأى عليه السلام أنه الموت لا محالة تقدم بأصحابه ، وحمل على عساكر معاوية حملات كثيفة ، حتى أزالهم عن مراكزهم بعد قتل ذريع ، سقطت منه الرؤوس والايدي ، وملكوا عليهم الماء ،
__________
(1) أ : " ألا يتبع مول " .
(2) كذا في أ ، وفي ب : " يسوغوا " .
(*)(1/23)
وصار أصحاب معاوية في الفلاة ، لا ماء لهم ، فقال له أصحابه وشيعته : امنعهم الماء يا أمير المؤمنين ، كما منعوك ، ولا تسقهم منه قطرة ، واقتلهم بسيوف العطش ، وخذهم قبضا بالايدي فلا حاجه لك إلى الحرب ، فقال : لا والله لا أكافئهم بمثل فعلهم ، افسحوا لهم عن بعض الشريعة ، ففي حد السيف ما يغني عن ذلك .
فهذه إن نسبتها إلى الحلم والصفح فناهيك بها جمالا وحسنا ، وإن نسبتها إلى الدين والورع فأخلق بمثلها أن تصدر عن مثله عليه السلام ! .
وأما الجهاد في سبيل الله : فمعلوم عند صديقه وعدوه أنه سيد المجاهدين ، وهل الجهاد لاحد من الناس إلا له ! وقد عرفت أن أعظم غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وآله وأشدها نكاية في المشركين بدر الكبرى ، قتل فيها سبعون من المشركين ، قتل علي نصفهم ، وقتل المسلمون والملائكة النصف الآخر .
وإذا رجعت إلى مغازي محمد بن عمر الواقدي وتاريخ الاشراف ليحيى بن جابر البلاذري وغيرهما علمت صحة ذلك ، دع من قتله في غيرها كأحد والخندق وغيرهما ، وهذا الفصل لا معنى للاطناب فيه ، لانه من المعلومات الضرورية ، كالعلم بوجود مكة ومصر ونحوهما .
* * * وأما الفصاحة : فهو عليه السلام إمام الفصحاء ، وسيد البلغاء ، وفي (1) كلامه قيل : دون كلام الخالق ، وفوق كلام المخلوقين .
ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة ، قال عبد الحميد بن يحيى : حفظت سبعين خطبة من خطب الاصلع ، ففاضت ثم فاضت .
وقال ابن نباتة (2) : حفظت من الخطابة كنزا لا يزيده الانفاق الا سعة وكثرة ، حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبى طالب .
ولما قال محفن بن أبى محفن لمعاوية : جئتك من عند أعيا الناس ، قال له : ويحك !
__________
(1) ب : " وعن كلامه " .
(2) هو عبد الرحيم بن محمد بن محمد بن إسماعيل الفارقي الجذامي .
(*)(1/24)
كيف يكون أعيا الناس ! فو الله ما سن الفصاحة لقريش غيره ، ويكفى هذا الكتاب الذي نحن شارحوه دلالة على أنه لا يجارى في الفصاحة ، ولا يبارى في البلاغة .
وحسبك أنه لم يدون لاحد من فصحاء الصحابة العشر ، ولا نصف العشر مما دون له ، وكفاك في هذا الباب ما يقوله أبو عثمان الجاحظ في مدحه في كتاب " البيان والتبيين " وفي غيره من كتبه .
وأما سجاحة الاخلاق ، وبشر الوجه ، وطلاقة المحيا ، والتبسم : فهو المضروب به المثل فيه حتى عابه بذلك أعداؤه ، قال عمرو بن العاص لاهل الشام : أنه ذو دعابة شديدة .
وقال علي عليه السلام في ذاك : عجبا لابن النابغة ! يزعم لاهل الشام أن في دعابة ، وأني امرؤ تلعابة ، أعافس وأمارس (1) ! وعمرو بن العاص إنما أخذها عن عمر بن الخطاب لقوله له لما عزم على استخلافه : لله أبوك لولا دعابة فيك ! إلا أن عمر اقتصر عليها ، وعمرو زاد فيها وسمجها .
قال صعصعة بن صوحان وغيره من شيعته وأصحابه : كان فينا كأحدنا ، لين جانب ، وشدة تواضع ، وسهولة قياد ، وكنا نهابه مهابة الاسير المربوط للسياف الواقف على رأسه .
وقال معاوية لقيس بن سعد : رحم الله أبا حسن ، فلقد كان هشا بشا ، ذا فكاهة ، قال قيس : نعم ، كان رسول الله صلى الله عليه وآله يمزح ويبتسم إلى أصحابه ، وأراك تسر حسوا في ارتغاء (2) ، وتعيبه بذلك ! أما والله لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسه الطوى ، تلك هيبة التقوى ، وليس كما يهابك طغام أهل الشام ! .
__________
(1) التلعابة ، بفتح التاء وكسرها : الكثير اللعب والمرح .
والمعافسة : الملاعبة أيضا .
والممارسة : ملاعبة النساء .
والخبر أورده ابن الاثير في النهاية 1 : 117 ، و 3 : 59 ، 110 ، و 4 : 59 ، 89 .
(2) في المثل : " هو يسر حسوا في ارتغاء " ، يضرب لمن يظهر أمرا وهو يريد غيره .
(اللسان 19 : 46) .
(*)(1/25)
وقد بقى هذا الخلق متوارثا متنافلا في محبيه وأوليائه إلى الآن ، كما بقي الجفاء والخشونة والوعورة في الجانب الآخر ، ومن له أدنى معرفة بأخلاق الناس وعوائدهم يعرف ذلك .
* * * وأما الزهد في الدنيا : فهو سيد الزهاد ، وبدل الابدال ، وإليه تشد الرحال ، وعنده تنفض الاحلاس ، ما شبع من طعام قط .
وكان أخشن الناس مأكلا وملبسا ، قال عبد الله بن أبي رافع : دخلت إليه يوم عيد ، فقدم جرابا مختوما ، فوجدنا فيه خبز شعير يابسا مرضوضا ، فقدم فأكل ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، فكيف تختمه ؟ قال : خفت هذين الولدين أن يلتاه بسمن أو زيت .
وكان ثوبه مرقوعا بجلد تارة ، وليف أخرى ، ونعلاه من ليف .
وكان يلبس الكرباس (1) الغليظ ، فإذا وجد كمه طويلا قطعه بشفرة ، ولم يخطه ، فكان لا يزال متساقطا على ذراعيه حتى يبقى سدى لا لحمة له ، وكان يأتدم إذا ائتدم بخل أو بملح ، فإن ترقى عن ذلك فبعض نبات الارض ، فإن ارتفع عن ذلك فبقليل من ألبان الابل ، ولا يأكل اللحم إلا قليلا ، ويقول : لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان .
وكان مع ذلك أشد الناس قوة وأعظمهم أيدا ، لا ينقض (2) الجوع قوته ، ولا يخون (3) الاقلال منته .
وهو الذي طلق الدنيا وكانت الاموال تجبى إليه من جميع بلاد الاسلام إلا من الشام ، فكان يفرقها ويمزقها ، ثم يقول : هذا جناي وخياره فيه إذ كل جان يده إلى فيه (4) * (هامش) (1) الكرباس بالكسر : ثوب من القطن الابيض ، معرب .
(2) ب : " ينقص " .
(3) يخون : ينقص ، وفي ب : " يخور " ، وما أثبته عن أ .
(4) البيت أنشده عمرو بن عدي حينما كان غلاما ، وكان يخرج مع الخدم يجتنون للملك " جذيمة الابرش " الكمأة ، فكانوا إذا وجدوا كمأة خيارا أكلوها وأتوا بالباقي إلى الملك ، وكان عمرو لا يأكل منه ، ويأتي به كما هو ، وينشد البيت .
وانظر القاموس 3 : 259 - 260 ، وحديث علي ورد مفصلا في حلية الاولياء 1 : 81 .
(*)(1/26)
وأما العبادة : فكان أعبد الناس وأكثرهم صلاة وصوما ، ومنه تعلم الناس صلاة الليل ، وملازمة الاوراد وقيام النافلة ، وما ظنك برجل يبلغ من محافظته على ورده أن يبسط له نطع بين الصفين ليلة الهرير ، فيصلي عليه ورده ، والسهام تقع بين يديه وتمر على صماخيه يمينا وشمالا ، فلا يرتاع لذلك ، ولا يقوم حتى يفرغ من وظيفته ! وما ظنك برجل كانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده .
وأنت إذا تأملت دعواته ومناجاته ، ووقفت على ما فيها من تعظيم الله سبحانه وإجلاله ، وما يتضمنه من الخضوع لهيبته ، والخشوع لعزته والاستخذاء له ، عرفت ما ينطوي عليه من الاخلاص ، وفهمت من أي قلب خرجت ، وعلى أي لسان جرت ! .
وقيل لعلي بن الحسين عليه السلام - وكان الغاية في العبادة : أين عبادتك من عبادة جدك ؟ قال : عبادتي عند عبادة جدي كعبادة جدى عند عبادة رسول الله صلى الله عليه وآله وأما قراءته القرآن واشتغاله به : فهو المنظور إليه في هذا الباب ، اتفق الكل على أنه كان يحفظ القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ، ولم يكن غيره يحفظه ، ثم هو أول من جمعه ، نقلوا كلهم أنه تأخر عن بيعة أبى بكر ، فأهل الحديث لا يقولون ما تقوله الشيعة من أنه تأخر مخالفة للبيعة ، بل يقولون : تشاغل بجمع القرآن فهذا يدل على أنه أول من جمع القرآن ، لانه لو كان مجموعا في حياه رسول الله صلى الله عليه وآله لما احتاج إلى أن يتشاغل (1) بجمعه بعد وفاته صلى الله عليه وآله .
وإذا رجعت إلى كتب القراءات وجدت أئمة القراء كلهم يرجعون إليه ، كابي عمرو بن العلاء وعاصم بن أبي النجود وغيرهما ، لانهم يرجعون إلى أبي عبد الرحمن السلمى القارئ ، وأبو عبد الرحمن كان
__________
(1) ب : " تشاغل " .
(*)(1/27)
تلميذه ، وعنه أخذ القرآن ، فقد صار هذا الفن من الفنون التى تنتهى إليه أيضا ، مثل كثير مما سبق .
وأما الرأي والتدبير : فكان من أسد الناس رأيا ، وأصحهم تدبيرا ، وهو الذي أشار على عمر بن الخطاب لما عزم على أن يتوجه بنفسه إلى حرب الروم والفرس بما أشار .
وهو الذى أشار على عثمان بأمور كان صلاحه فيها ، ولو قبلها لم يحدث عليه ما حدث .
وإنما قال أعداؤه : لا رأي له ، لانه كان متقيدا بالشريعة لا يرى خلافها ، ولا يعمل بما يقتضي الدين تحريمه .
وقد قال عليه السلام : لو لا الدين والتقى لكنت أدهى العرب .
وغيره من الخلفاء كان يعمل بمقتضى ما يستصلحه ويستوفقه ، سواء أ كان مطابقا للشرع أم لم يكن .
ولا ريب أن من يعمل بما يؤدي إليه اجتهاده ، ولا يقف مع ضوابط وقيود يمتنع لاجلها مما يرى الصلاح فيه ، تكون أحواله الدنيوية إلى الانتظام أقرب ، ومن كان بخلاف ذلك تكون أحواله الدنيوية إلى الانتثار أقرب .
وأما السياسة : فإنه كان شديد السياسة ، خشنا في ذات الله ، لم يراقب ابن عمه في عمل كان ولاه إياه ، ولا راقب أخاه عقيلا في كلام جبهه به .
وأحرق قوما بالنار ، ونقض دار مصقلة بن هبيرة ودار جرير بن عبد الله البجلي ، وقطع جماعة وصلب آخرين .
ومن جملة سياسته في حروبه أيام خلافته بالجمل وصفين والنهروان ، وفي أقل القليل منها مقنع ، فإن كل سائس في الدنيا لم يبلغ فتكه وبطشه وانتقامه مبلغ العشر مما فعل عليه السلام في هذه الحروب بيده وأعوانه .
* * * فهذه هي خصائص البشر ومزاياهم قد أوضحنا أنه فيها الامام المتبع فعله ، والرئيس المقتفى أثره .
وما أقول في رجل تحبه أهل الذمة على تكذيبهم بالنبوة ، وتعظمه الفلاسفة على معاندتهم لاهل الملة ، وتصور ملوك الفرنج والروم صورته في بيعها وبيوت عباداتها ،(1/28)
حاملا سيفه ، مشمرا لحربه ، وتصور ملوك الترك والديلم صورته على أسيافها ! كان علي سيف عضد الدولة بن بويه وسيف أبيه ركن الدولة صورته ، وكان علي سيف إلب أرسلان وابنه ملكشاه صورته ، كأنهم يتفاءلون به النصر والظفر .
وما اقول في رجل أحب كل واحد أن يتكثر به ، وود كل أحد أن يتجمل ويتحسن بالانتساب إليه ، حتى الفتوة التى أحسن ما قيل في حدها : ألا تستحسن من نفسك ما تستقبحه من غيرك ، فإن أربابها نسبوا أنفسهم إليه ، وصنفوا في ذلك كتبا ، وجعلوا لذلك إسنادا أنهوه إليه ، وقصروه عليه وسموه سيد الفتيان ، وعضدوا مذهبهم إليه بالبيت المشهور المروي ، انه سمع من السماء يوم أحد : لا سيف إلا ذو الفقا ر ولا فتى إلا علي وما أقول في رجل أبوه أبو طالب سيد البطحاء ، وشيخ قريش ، ورئيس مكة ، قالوا : قل أن يسود فقير ، وساد أبو طالب وهو فقير لا مال له ، وكانت قريش تسميه الشيخ .
وفي حديث عفيف الكندي ، لما رأى (1) النبي صلى الله عليه وآله يصلى في مبدأ الدعوة ، ومعه غلام وامرأة ، قال : فقلت للعباس أي شئ هذا ؟ قال : هذا ابن أخي ، يزعم أنه رسول من الله إلى الناس ، ولم يتبعه على قوله إلا هذا الغلام - وهو ابن أخي أيضا - وهذه الامرأة ، وهي زوجته .
قال : فقلت : ما الذي تقولونه أنتم ؟ قال : ننتظر ما يفعل الشيخ - يعني أبا طالب .
وأبو طالب هو الذى كفل رسول الله صلى الله عليه وآله صغيرا ، وحماه وحاطه كبيرا ، ومنعه من مشركي قريش ، ولقي لاجله عنتا عظيما ، وقاسى بلاء شديدا ، وصبر على نصره والقيام بأمره .
وجاء في الخبر أنه لما توفى أبو طالب أوحى إليه عليه السلام وقيل له : اخرج منها ، فقد مات ناصرك .
وله مع شرف هذه الابوة أن ابن عمه محمد سيد الاولين والآخرين ، وأخاه جعفر ذو الجناحين ، الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وآله : " أشبهت خلقي وخلقي " فمر يحجل
__________
(1) الخبر في أسد الغابة 3 : 414 مع اختلاف في الرواية .
(*)(1/29)
فرحا .
وزوجته سيدة نساء العالمين ، وابنيه سيدا شباب أهل الجنة ، فأباؤه آباء رسول الله ، وأمهاته أمهات رسول الله ، وهو مسوط بلحمه ودمه ، لم يفارقه منذ خلق الله آدم ، إلى أن مات عبد المطلب بين الاخوين عبد الله وأبى طالب ، وأمهما واحدة ، فكان منهما سيد الناس ، هذا الاول وهذا التالي ، وهذا المنذر وهذا الهادى ! .
وما أقول في رجل سبق الناس إلى الهدى ، وآمن بالله وعبده ، وكل من في الارض يعبد الحجر ، ويجحد الخالق ، لم يسبقه أحد إلى التوحيد إلا السابق إلى كل خير ، محمد رسول الله صلى الله عليه وآله .
ذهب أكثر أهل الحديث إلى أنه عليه السلام أول الناس اتباعا لرسول الله صلى الله عليه وآله إيمانا به ، ولم يخالف في ذلك إلا الاقلون .
وقد قال هو عليه السلام : أنا الصديق الاكبر ، وأنا الفاروق الاول ، أسلمت قبل إسلام الناس ، وصليت قبل صلاتهم .
ومن وقف على كتب أصحاب الحديث تحقق ذلك وعلمه واضحا .
وإليه ذهب الواقدي ، وابن جرير الطبري ، وهو القول الذي رجحه ونصره صاحب كتاب " الاستيعاب " (1) .
ولانا إنما نذكر في مقدمة هذا الكتاب جملة من فضاله عنت بالعرض لا بالقصد ، وجب أن نختصر ونقتصر ، فلو أردنا شرح مناقبه وخصائصه لاحتجنا إلى كتاب مفرد يماثل حجم هذا بل يزيد عليه ، وبالله التوفيق (2) .
__________
(1) الاستيعاب لابن عبد البر النمري القرطبي 2 : 457 .
(2) وانظر ترجمته وأخباره أيضا في أسد الغابة 4 : 16 - 40 ، والاستيعاب 2 : 256 - 274 ، والاصابة 4 : 269 - 271 ، وإنباه الرواة 1 : 10 - 12 ، وتاريخ الاسلام للذهبي 2 : 191 - 207 ، وتاريخ بغداد 1 : 133 - 138 ، وتاريخ أبي الفدا 1 : 181 - 182 ، وتاريخ الطبري 6 : 88 - 91 ، وتاريخ ابن كثير 7 : 332 - 361 ، و 8 : 1 - 13 ، وتذكرة الحفاظ 1 : 10 - 13 ، وتهذيب الاسماء واللغات 1 : 344 - 349 ، وتهذيب التهذيب 7 : 334 - 339 ، وحلية الاولياء 1 : 49 - 51 ، وصفة الصفوة 1 : 119 - 144 ، وطبقات ابن سعد 6 : 6 ، وطبقات القراء لابن الجزري 1 : 146 - 547 ، ومروج الذهب 2 : 45 - 50 ، والمعارف 88 - 92 ، ومعجم الادباء 14 : 41 - 50 ، ومعجم الشعراء 279 - 280 ، ومقاتل الطالبيين 24 - 45 ، والنجوم الزاهرة 1 : 119 - 120 .
(*)(1/30)
القول في نسب الرضي أبي الحسن رحمه الله وذكر طرف من خصائصه ومناقبه هو أبو الحسن محمد بن أبي أحمد الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم ابن موسى بن جعفر الصادق عليه السلام .
مولده سنة تسع وخمسين وثلثمائه .
وكان أبوه النقيب أبو أحمد جليل القدر ، عظيم المنزلة في دولة بني العباس ودولة بني بوية ، ولقب بالطاهر ذي المناقب ، وخاطبه بهاء الدولة أبو نصر بن بويه بالطاهر الاوحد ، وولي نقابة الطالبيين خمس دفعات ، ومات وهو متقلدها بعد أن حالفته الامراض ، وذهب بصره ، وتوفي عن سبع وتسعين سنة ، فإن مولده كان في سنة أربع وثلثمائة ، وتوفي سنة أربعمائة .
وقد ذكر ابنه الرضى أبو الحسن كمية عمره في قصيدته التي رثاه بها ، وأولها : وسمتك حالية الربيع المرهم * وسقتك ساقية الغمام المرزم (1) سبع وتسعون اهتبلن لك العدا * حتى مضوا وغبرت غير مذمم لم يلحقوا فيها بشأوك بعد ما * أملوا فعاقهم اعتراض الازلم (2) إلا بقايا من غبارك أصبحت * غصصا وأقذاء لعين أو فم إن يتبعوا عقبيك في طلب العلا * فالذئب يعسل في طريق الضيغم (3) ودفن النقيب أبو أحمد أولا في داره ، ثم نقل منها إلى مشهد الحسين عليه السلام .
وهو الذي كان السفير بين الخلفاء وبين الملوك من بنى بويه والامراء من بني حمدان وغيرهم .
وكان مبارك الغرة ميمون النقيبة ، مهيبا نبيلا ، ما شرع في إصلاح أمر فاسد
__________
(1) ديوانه ، لوحة 153 (2) الازلم : الدهر .
(3) عسل الذئب : مضى مسرعا واضطرب في عدوه .
(*)(1/31)
إلا وصلح على يديه ، وانتظم بحسن سفارته ، وبركة همته ، وحسن تدبيره ووساطته .
ولاستعظام عضد الدولة أمره ، وامتلاء صدره وعينه به حين قدم العراق ما (1) قبض عليه وحمله إلى القلعة بفارس ، فلم يزل بها إلى أن مات عضد الدولة ، فأطلقه شرف الدولة أبو الفوارس شير ذيل بن عضد الدولة ، واستصحبه في جملته حيث قدم إلى بغداد ، وملك الحضرة ، ولما توفي عضد الدولة ببغداد كان عمر الرضي أبي الحسن أربع عشرة سنة ، فكتب إلى أبيه وهو معتقل بالقلعة بشيراز : أبلغا عنى الحسين ألوكا * أن ذا الطود بعد عهدك ساخا (2) والشهاب الذي اصطليت لظاه * عكست ضوءه الخطوب فباخا (3) والفنيق الذي تذرع طول الارض * خوى به الردى وأناخا (4) إن يرد مورد القذى وهو راض * فبما يكرع الزلال النقاخا (5) والعقاب الشغواء أهبطها النيق وقد أرعت النجوم صماخا (6) أعجلتها المنون عنا ولكن * خلفت في ديارنا أفراخا وعلي ذاك فالزمان بهم عا * د غلاما من بعد ما كان شاخا وأم الرضي أبي الحسن فاطمة بنت الحسين (بن أحمد) (7) بن الحسن الناصر الاصم صاحب الديلم ، وهو أبو محمد الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن أبي طالب عليهم السلام .
شيخ الطالبيين وعالمهم وزاهدهم ، وأديبهم وشاعرهم ،
__________
(1) ما هنا بمعنى المصدر .
(2) لوحة 182 .
(3) باخ : سكن وفتر .
(4) الفنيق في الاصل : الفحل المكرم لا يؤذي لكرامته على أهله ولا يركب .
(5) النقاخ : البارد العذب الصافي .
(6) الشغواء من وصف العقاب ، قيل لها ذلك لفضل في منفارها الاعلى على الاسفل .
والنيق : حرف من حروف الجبل .
(7) تكملة من أ .
(*)(1/32)
ملك بلاد الديلم والجبل ، ويلقب بالناصر للحق ، جرت له حروب عظيمة مع السامانية ، وتوفي بطبرستان سنة أربع وثلاثمائة ، وسنة تسع وسبعون سنة ، وانتصب في منصبه الحسن ابن القاسم بن الحسين الحسني ، ويلقب بالداعي إلى الحق .
وهي أم أخيه أبى القاسم علي المرتضى أيضا .
وحفظ الرضي رحمه الله القرآن بعد أن جاوز ثلاثين سنة في مدة يسيره ، وعرف من الفقه والفرائض طرفا قويا .
وكان رحمه الله عالما أديبا ، وشاعرا مفلقا ، فصيح النظم ، ضخم الالفاظ ، قادرا على القريض ، متصرفا في فنونه ، إن قصد الرقة في النسيب أتى بالعجب العجاب ، وإن أراد الفخامة وجزالة الالفاظ في المدح (1) أتى بما لا يشق فيه غباره ، وإن قصد في المراثى جاء سابقا والشعراء منقطع أنفاسها على أثره .
وكان مع هذا مترسلا ذا كتابة قوية ، وكان عفيفا شريف النفس ، عالي الهمة ، ملتزما (2) بالدين وقوانينه ، ولم يقبل من أحد صلة ولا جائزة ، حتى أنه رد صلات أبيه ، وناهيك بذلك شرف نفس ، وشدة ظلف (3) .
فاما بنو بويه فإنهم اجتهدوا على قبوله صلاتهم فلم يقبل .
وكان يرضى بالاكرام وصيانة الجانب وإعزاز الاتباع والاصحاب ، وكان الطائع (4) أكثر ميلا إليه من القادر (5) ، وكان هو أشد حبا وأكثر ولاء للطائع منه للقادر ، وهو القائل للقادر في قصيدته التي مدحه بها ، منها :
__________
(1) ب : " في المدح وغيره " .
(2) ب : " مستلزما " ، وما أثبته عن أ .
(3) الظلف ، من ظلف نفسه عن الشئ بظلفها ظلفا : منعها وحبسها .
(4) هو أبو بكر عبد الكريم الطائع لامر الله ، بويع بالخلافة له سنة 363 ، ثم خلع ، وقبض عليه الديلم سنة 381 ، وبويع لاخيه القادر ، فحمل إليه الطائع ، وبقي عنده إلى أن توفي سنة 393 .
الفخري 254 ، وابن الاثير حوادث سنة 381 .
(5) هو أبو العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر ، المعروف بالقادر ، بويع له بالخلافة بعد خلع أخيه ، وتوفي سنة 422 .
الفخري 254 .
(*)(1/33)
عطفا أمير المؤمنين فإننا * في دوحة العلياء لا نتفرق (1) ما بيننا يوم الفخار تفاوت * أبدا كلانا في المعالي معرق إلا الخلافة شرفتك فإننى * أنا عاطل منها وأنت مطوق فيقال أن القادر قال له على رغم أنف الشريف .
وذكر الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في التاريخ في وفاة الشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد الطبري الفقيه المالكي ، قال : كان شيخ الشهود المعدلين ببغداد ومتقدمهم ، وسمع الحديث الكثير ، وكان كريما مفضلا على أهل العلم ، قال : وعليه قرأ الشريف الرضي رحمه الله القرآن ، وهو شاب حدث " السن " (3) ، فقال له يوما : أيها الشريف أين مقامك ؟ قال : في دار أبى ، بباب محول ، فقال : مثلك لا يقيم بدار أبيه ، قد نحلتك داري بالكرخ المعروفة بدار البركة .
فامتنع الرضي من قبولها وقال له : لم أقبل من أبى قط شيئا ، فقال إن حقي عليك أعظم من حق أبيك عليك ، لاني حفظتك كتاب الله تعالى فقبلها (4) .
وكان الرضي لعلو همته تنازعه نفسه (5) إلى أمور عظيمة يجيش بها خاطره ، وينظمها شعره ، ولا يجد من (6) الدهر عليها مساعدة ، فيذوب كمدا ، ويفنى وجدا ، حتى توفي ولم يبلغ غرضا .
فمن ذلك قوله : ما أنا للعلياء إن لم يكن * من ولدي ما كان من والدي (7) ولا مشت بي الخيل إن لم أطأ * سرير هذا الاصيد الماجد (8)
__________
(1) ديوانه لوحة 40 .
(2) الديوان : " ميزتك وإنني " .
(3) تكملة من أ .
(4) المنتظم " حوادث سنة 393 .
(5) أ : " في " وما أثبته عن ب .
(6) أ : " في الدهر " وما أثبته عن ب .
(7) ديوانه ، لوحة 89 .
(8) ديوانه " الاغلب الماجد " .
(*)(1/34)
ومنه قوله : متى تراني مشيحا في أوائلهم * يطفو بي النقع أحيانا ويخفيني (1) " لتنظرني مشيحا في أوائلها * يغيب بي النقع أحيانا ويبديني " (2) لا تعرفوني إلا بالطعان وقد * أضحى لثامي معصوبا بعرنيني (3) ومنه قوله - يعني نفسه : فوا عجبا مما يظن محمد * وللظن في بعض المواطن غدار (4) يؤمل أن الملك طوع يمينه (5) * ومن دون ما يرجو المقدر أقدار لئن هو أعفى للخلافه لمة * لها طرر فوق الجبين وإطرار ورام العلا بالشعر والشعر دائبا * ففي الناس شعر خاملون وشعار وإني أرى زندا تواتر قدحه * ويوشك يوما أن تكون له نار ومنه قوله (6) : لا هم قلبى بركوب العلا * يوما ولا بلت يدي بالسماح (7)
__________
(1) ديوانه ص 522 - مطبعة نخبة الاخبار ، من قصيدة يذكر فيها القبض على الطائع لله ، ويصف خروجه من الدار سليما ، وأنه حين أحسن بالامر بادر ونزل دجلة ، وتلوم من القضاة والاشراف والشهود ، فامتهنوا وأخذت ثيابهم .
ومطلعها : لواعج الشوق تخطيهم وتصميني * واللوم في الحب ينهاهم ويغريني ولو لقوا بعض ما ألقى نعمت بهم * لكنهم سلموا مما يعنيني (2) هذا البيت لم يذكر في أ ، ب ، وهو في المطبوعة المصرية والديوان .
(3) الديوان " إذا " (4) ديوانه لوحة 214 ، وروايته : " غرار " .
وفي أ : " بعض المواضع " .
(5) الديوان " يقدر أن الملك " .
(6) ديوانه لوحة 84 ، من قصيدة أولها : نبهتهم مثل عوالي الرماح * إلى الوغى قبل نموم الصباح فوارس نالوا المنى بالقنا * وصافحوا أغراضهم بالصفاح (7) الديوان : " ولا بل يدي " .
(*)(1/35)
إن لم أنلها باشتراط كما * شئت على بيض الظبى واقتراح أفوز منها باللباب * الذي يعيي الاماني نيله والصراح فما الذي يقعدني عن مدى * ما هو بالبسل ولا باللقاح يطمح من لا مجد يسمو به * إني إذا أعذر عند الطماح أما فتى نال المنى فاشتفى * أو بطل ذاق الردى فاستراح ! وفي هذه القصيدة ما هو أخشن مسا ، وأعظم نكاية ، ولكنا عدلنا عنه وتخطيناه ، كراهية لذكره .
وفي شعره الكثير الواسع من هذا النمط .
* * * وكان أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي (1) الكاتب له صديقا ، وبينهما لحمة الادب ووشائجه ، ومراسلات (2) ومكاتبات بالشعر ، فكتب الصابي إلى الرضي في هذا النمط : أبا حسن لي في الرجال فراسة * تعودت منها أن تقول فتصدقا (3) وقد خبرتني عنك أنك ماجد * سترقى إلى العلياء أبعد مرتقى (4) فوفيتك التعظيم قبل أوانه * وقلت أطال الله للسيد البقا
__________
(1) هو أبو إسحاق الصابي ، صاحب الرسائل المشهورة ، كان كاتب الانشاء ببغداد عن الخليفة ، وعن عز الدولة بختيار بن معز الدولة بن بويه الديلمي ، وكان صابئيا متشددا في دينه ، وجهد عليه عز الدولة أن يسلم فلم يفعل ، ولكنه كان يصوم شهر رمضان مع المسلمين ، ويحفظ القرآن الكريم أحسن حفظ ، ويستعمله في رسائله ، ولما مات رثاه الشريف بقصيدته الدالية المشهورة : أرأيت من حملوا على الاعواد * أرأيت كيف خبا ضياء النادي وعاتبه الناس في ذلك لكونه شريفا يرثي صابئا ، فقال : إنما رثيت فضله .
توفي سنة 384 .
" ابن خلكان 1 : 12 " .
(2) ب : " وبينهما " .
(3) ديوان الرضي ، لوحة 194 .
(4) الديوان " من العلياء " .
(*)(1/36)
وأضمرت منه لفظة لم أبح بها * إلى أن أرى إظهارها لي مطلقا فإن مت أو إن عشت فاذكر بشارتي * وأوجب بها حقا عليك محققا وكن لي في الاولاد والاهل حافظا * إذا ما اطمأن الجنب في مضجع البقا فكتب إليه الرضي جوابا عن ذلك قصيدة ، أولها : سننت لهذا الرمح غربا مذلقا * وأجريت في ذا الهندواني رونقا (1) وسومت ذا الطرف الجواد وإنما * شرعت لها نهجا فخب وأعنقا وهى قصيدة طويلة ثابتة في ديوانه ، يعد فيها نفسه ، ويعد الصابي أيضا ببلوغ آماله إن ساعد الدهر وتم المرام ، وهذه الابيات أنكرها الصابي لما شاعت ، وقال : إني عملتها في الحسن على بن عبد العزيز حاجب النعمام ، كاتب الطائع ، وما كان الامر كما ادعاه ، ولكنه خاف على نفسه .
* * * وذكر أبو الحسن الصابي (2) وابنه غرس النعمة محمد في تاريخهما أن القادر بالله عقد مجلسا أحضر فيه الطاهر أبا أحمد الموسوي وابنه أبا القاسم المرتضى وجماعة من القضاة والشهود والفقهاء ، وأبرز إليهم أبيات الرضي أبي الحسن التي أولها : ما مقامي على الهوان وعندي * مقول صارم وأنف حمي (3) وإباء محلق بي عن الضيم * كما زاغ طائر وحشي أي عذر له إلى المجد إن * ذل غلام في غمده المشرفي
__________
(1) ديوانه ، 194 .
(2) هو هلال بن المحسن بن إبراهيم الصابي ، حفيد أبي إسحاق الصابي ، ذكر صاحب كشف الظنون 290 أن ثابت بن قرة الصابي كتب تاريخا سنة 190 إلى سنة 363 ، وذيله ابن أخته هلال بن محسن الصابي ، وانتهى إلى سنة 447 ، وذيله ولده غرس النعمة محمد بن هلال ولم يتم .
(3) ديوانه 546 (مطبعة نخبة الاخيار) (*)(1/37)
أحمل الضيم في بلاد الاعادي (1) * وبمصر الخليفة العلوى من أبوه أبى ومولاه مولا * ي إذا ضامني البعيد القصي لف عرقي بعرفة سيدا الناس * جميعا محمد وعلي وقال القادر للنقيب أبى أحمد : قل لولدك محمد : أي هو ان قد أقام عليه عندنا ! وأى ضيم لقى من جهتنا ! وأي ذل أصابه في مملكتنا (2) ! وما الذي يعمل معه صاحب مصر اكثر من هذا ما نظنه كان يكون لو حصل عنده الا واحدا من ابناء الطالبيين بمصر فقال النقيب ابو احمد اما هذا الشعر فمما لم نسمعه منه ولا رأيناه بخطه ولا يبعد ان يكون بعض اعدائه نحله اياه وعزاه إليه فقال القادر ان كان كذلك فلتكتب الان محضرا يتضمن القدح في انساب ولاه مصر ويكتب محمد خطه فيه فكتب محضرا بذلك شهد فيه جميع من حضر المجلس منهم النقيب ابو احمد وابنه المرتضى وحمل المحضر إلى الرضى ليكتب خطه فيه حمله ابوه واخوه فامتنع من سطر خطه وقال لا اكتب واخاف دعاه صاحب مصر وانكر الشعر وكتب خطه واقسم فيه انه ليس بشعره وانه لا يعرفه فاجبره ابوه على ان يكتب خطه في المحضر فلم يفعل وقال اخاف دعاه المصريين وغيلتهم لى فانهم معروفون بذلك فقال ابوه يا عجباه ا تخاف من بينك وبينه ستمائة فرسخ ولا تخاف من بينك وبينه مائه ذراع وحلف الا يكلمه وكذلك المرتضى فعلا ذلك تقيه وخوفا من القادر
__________
(1) الديوان : " ألبس الذل في ديار الاعادي " .
(2) ب : " في ملكنا " .
(3) ب ، : " ضيعتنا " .
(4) ب ، : " فكتب محضر " ، بالبناء للمجهول .
(6) ب ، : " يسطر " .
(*)(1/38)
وتسكينا له ولما انتهى الامر إلى القادر سكت على سوء اضمره وبعد ذلك بايام صرفه عن النقابة وولاها محمد بن عمر النهر سابسى .
وقرات بخط محمد بن ادريس الحلى الفقيه الامامي قال حكى ابو حامد احمد بن محمد الاسفرايينى الفقيه الشافعي قال كنت يوما عند فخر الملك ابى غالب محمد بن خلف وزير بهاء الدولة وابنه سلطان الدولة فدخل عليه الرضى أبو الحسن فاعظمه واجله ورفع من منزلته وخلى ما كان بيده من الرقاع و القصص واقبل عليه يحادثه إلى ان انصرف ثم دخل بعد ذلك المرتضى أبو القاسم رحمه الله فلم يعظمه ذلك التعظيم ولا اكرمه ذلك الاكرام وتشاغل عنه برقاع يقرؤها وتوقيعات يوقع بها فجلس قليلا وساله امرا فقضاه ثم انصرف .
قال ابو حامد فتقدمت إليه وقلت له اصلح الله الوزير الضرورة إلى ملازمة المجلس إلى أن تقوض الناس واحدا فواحدا ، فلما لم يبق إلا غلمانه وحجابه ، دعا بالطعام ، فلما أكلنا وغسل يديه وانصرف عنه أكثر آ غلمانه ، ولم يبق عنده غيري ، قال لخادم : هات الكتابين اللذين دفعتهما إليك منذ أيام ، وأمرتك أن تجعلهما في السفط الفلاني .
فأحضرهما ، فقال : هذا كتاب الرضي اتصل بي أنه قد ولد له ولد ، فأنفذت إليه ألف دينار ، وقلت له : هذه للقابلة ، فقد جرت العادة أن يحمل الاصدقاء
__________
(1) منسوب إلى نهر سايس ، فوق واسط .
" ياقوت " .
(*)(1/39)
إلى أخلائهم وذوى مودتهم مثل هذا .
في مثل هذه الحال ، فردها وكتب إلي : هذا الكتاب فأقرأه ، قال : فقرأته ، وهو اعتذار عن الرد ، وفي جملته : إننا أهل بيت لا نطلع على أحوالنا قابلة غريبة ، وإنما عجائزنا يتولين هذا الامر من نسائنا ، ولسن ممن يأخذن أجره ، ولا يقبلن صلة .
قال : فهذا هذا .
وأما المرتضى فإننا كنا قد وزعنا وقسطنا على الاملاك ببادوريا تقسيطا نصرفه في حفر فوهة النهر المعروف بنهر عيسى ، فأصاب ملكا للشريف المرتضى بالناحية المعروفة بالداهرية من التقسيط عشرون درهما ، ثمنها دينار واحد ، قد كتب إلي منذ أيام في هذا المعنى هذا الكتاب ، فأقرأه ، فقرأته ، وهو أكثر من مائة سطر ، يتضمن من الخضوع والخشوع والاستمالة والهز والطلب والسؤال في إسقاط هذه الدراهم المذكورة عن أملاكه المشار إليها ما يطول شرحه .
قال فخر الملك : فأيهما ترى أولى بالتعظيم والتبجيل ؟ هذا العالم المتكلم الفقيه الاوحد ونفسه هذه النفس ، أم ذلك الذي لم يشهر إلا بالشعر خاصة ، ونفسه تلك النفس ! فقلت : وفق الله تعالى سيدنا الوزير ، فما زال موفقا ، والله ما وضع سيدنا الوزير الامر إلا في موضعه ، ولا أحله إلا في محله ! وقمت فانصرفت .
* * * وتوفي الرضي رحمه الله في المحرم من سنة أربع وأربعمائة ، وحضر الوزير فخر الملك ، وجميع الاعيان والاشراف والقضاة جنازته ، والصلاة عليه ، ودفن في داره بمسجد الانباريين بالكرخ ، ومضى أخوه المرتضى من جزعه عليه إلى مشهد موسى بن جعفر عليهما السلام ، لانه لم يستطع أن ينظر إلى تابوته ودفنه ، وصلى عليه فخر الملك أبو غالب ، ومضى بنفسه آخر النهار إلى أخيه المرتضى بالمشهد الشريف الكاظمي ، فألزمه بالعود إلى داره .(1/40)
ومما رثاه به أخوه المرتضى الابيات المشهورة التي من جملتها (1) : يا للرجال لفجعة جذمت يدي * ووددت لو ذهبت علي براسي (2) ما زلت آبي وردها حتى أتت * فحسوتها في بعض ما أنا حاسي ومطلتها زمنا فلما صممت * لم يثنها مطلي وطول مكاسي لله عمرك من قصير طاهر * ولرب عمر طال بالادناس ! * * * وحدثني فخار بن معد العلوي الموسوي رحمه الله ، قال : رأى المفيد أبو عبد الله محمد بن النعمان الفقيه الامام في منامه ، كأن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلت عليه وهو في مسجده بالكرخ ، ومعها ولداها : الحسن والحسين عليهما السلام ، صغيرين ، فسلمتهما إليه ، وقالت له : علمهما الفقه .
فانتبه متعجبا من ذلك ، فلما تعالى النهار في صبيحة تلك الليلة التي رأى فيها الرؤيا دخلت إليه المسجد فاطمة بنت الناصر ، وحولها جواريها وبين يديها ابناها محمد الرضي وعلي المرتضى صغيرين ، فقام إليها وسلم عليها (3) ، فقالت له (3) : أيها الشيخ ، هذان ولداي ، قد أحضرتهما لتعلمهما الفقه فبكى أبو عبد الله وقص عليها المنام ، وتولى تعليمهما الفقه (3) ، وأنعم الله عليهما ، وفتح لهما من أبواب العلوم والفضائل ما اشتهر عنهما في آفاق الدنيا ، وهو باق ما بقي الدهر (4) .
__________
(1) ب : " التي من جملة مرثيته " ، وما أثبته عن أ .
(2) ديوانه ج 2 ، لوحة 142 " مصورة دار الكتب المصرية " .
(3) ساقط من ب .
(4) وانظر ترجمة الشريف الرضي أيضا في أخبار المحمدين من الشعراء 88 - 89 ، وإنباه الرواة 3 : 114 - 115 ، وتاريخ ابن الاثير 7 : 280 ، وتاريخ بغداد 2 : 246 - 247 ، وتاريخ أبي الفدا 2 : 145 ، وتاريخ ابن كثير 12 : 3 - 4 ، وابن خلكان 2 : 2 - 4 ، ودمية القصر 73 - 75 ، وروضات الجنان 573 - 579 ، وشذرات الذهب 3 : 182 ، وعيون التواريخ " وفيات 406 " ، ولسان الميزان 5 : 141 ، ومرآة الجنان 3 : 18 - 20 ، والمنتظم لابن الجوزي " وفيات 406 " ، والنجوم الزاهرة 4 : 240 ، والوافي بالوفيات 2 : 374 - 379 ، ويتيمة الدهر 3 : 116 - 135 ، وله أيضا ترجمة في مقدمة كتابه المجازات النبوية " طبع بغداد " منقولة عن كتاب " تأسيس الشيعة الكرام لفنون الاسلام " ، بتحقيق السيد حسن صدر بالدين .
(*)(1/41)
القول في شرح خطبة نهج البلاغة قال الرضي رحمه الله : بسم الله الرحمن الرحيم " أما بعد حمد (1) الله الذي جعل الحمد ثمنا لنعمائه ، ومعاذا من بلائه ، ووسيلا إلى جنانه ، وسببا لزيادة إحسانه .
والصلاة على رسوله ، نبي الرحمة ، وإمام الائمة ، وسراج الامة ، المنتجب من طينة الكرم ، وسلالة المجد الاقدم ، ومغرس الفخار المعرق ، وفرع العلاء المثمر المورق ، وعلى أهل بيته مصابيح الظلم ، وعصم الامم ، ومنار الدين الواضحة ، ومثاقيل الفضل الراجحة .
فصلى الله عليهم أجمعين ، صلاة تكون إزاء لفضلهم ، ومكافأة لعملهم ، وكفاء لطيب أصلهم وفرعهم ، ما أنار (2) فجر طالع ، وخوى نجم ساطع (3) " .
* * * الشرح : اعلم أني لا أتعرض في هذا الشرح للكلام فيما قد فرغ من أئمة العربية ، ولا لتفسير ما هو ظاهر مكشوف ، كما فعل القطب الراوندي ، فإنه شرع أولا في تفسير قوله : " أما بعد " ، ثم قال : هذا هو فصل الخطاب ، ثم ذكر ما معنى الفصل ، وأطال فيه ، وقسمه أقساما ، يشرح ما قد فرع له منه ، ثم شرح الشرح .
وكذلك أخذ يفسر قوله : " من بلائه " ، وقوله : " إلى جنانه " ، وقوله : " وسببا " ، وقوله : " المجد " ، وقوله :
__________
(1) أ : " حمدا " .
(2 - 2) ب : " ما أنار فجر ساطع ، وخوى نجم طالع " .
وكذا في مخطوطة النهج .
(*)(1/42)
" الاقدم " ، وهذا كله إطالة وتضييع للزمان من غير فائدة ، ولو أخذنا بشرح مثل ذلك لوجب أن نشرح لفظه " أما " المفتوحة ، وأن نذكر الفصل بينها وبين " إما " المكسورة ، ونذكر : هل المكسورة من حروف العطف أو لا ؟ ففيه خلاف ، ونذكر هل المفتوحة مركبة أو مفردة ؟ ومهملة أو عاملة ؟ ونفسر معنى قول الشاعر : أبا خراشة أما كنت ذا نفر * فإن قومي لم تأكلهم الضبع (1) بالفتح ، ونذكر بعد لم ضمت إذا قطعت عن الاضافة ؟ ولم فتحت هاهنا حيث أضيفت ؟ ونخرج عن المعنى الذي قصدناه من موضوع الكتاب ، إلى فنون أخرى قد أحكمها أربابها .
ونبتدئ الآن فنقول : قال لي إمام من أئمة اللغة في زماننا : هو الفخار ، بكسر الفاء ، قال : وهذا مما يغلط فيه الخاصة فيفتحونها ، وهو غير جائز ، لانه مصدر " فاخر " ، وفاعل يجئ مصدره على " فعال " بالكسر لا غير ، نحو : قاتلت قتالا ، ونازلت نزالا ، وخاصمت خصاما ، وكافحت كفاحا ، وصارعت صراعا .
وعندي أنه لا يبعد أن تكون الكلمة مفتوحة الفاء ، وتكون مصدر " فخر " لا مصدر " فاخر " ، فقد جاء مصدر الثلاثي إذا كان عينه أو لامه حرف حلق على " فعال " ، بالفتح ، نحو سمح سماحا ، وذهب ذهابا ، اللهم إلا أن ينقل ذلك عن شيخ أو كتاب موثوق به نقلا صريحا ، فتزول الشبهة .
والعصم جمع عصمة ، وهو ما يعتصم به .
والمنار : الاعلام ، واحدها منارة ، بفتح الميم .
والمثاقيل : جمع مثقال ، وهو مقدار وزن الشئ ، تقول مثقال حبة ، ومثقال قيراط ، ومثقال دينار .
وليس كما تظنه العامة أنه اسم للدينار خاصة ، فقوله : " مثاقيل الفضل " ، أي زنات الفضل ، وهذا من باب الاستعارة .
وقوله : " تكون إزاء لفضلهم " ، أي مقابلة له .
ومكافأة بالهمز ، من كافأته أي جازيته ، وكفاء ، بالهمز والمد ، أي نظيرا .
__________
(1) البيت لعباس بن مرداس السلمي ، وأبو خراشة كنية خفاف بن ندبة .
" اللسان 8 : 183 " .
(*)(1/43)
وخوى النجم ، أي سقط .
وطينة المجد ، أصله .
وسلالة المجد فرعه .
والوسيل : جمع وسيلة هو ما يتقرب به ، ولو قال : " وسبيلا إلى جنانه " لكان حسنا وإنما قصد الاغراب ، على أنا قد قرأناه كذلك في بعض النسخ .
وقوله : " ومكافأة لعملهم " إن أراد أن يجعله قرينة " لفضلهم " كان مستقبحا عند من يريد البديع ، لان الاولى ساكنة الاوسط ، والاخرى متحركة الاوسط .
وأما من لا يقصد البديع كالكلام القديم فليس بمستقبح ، وإن لم يرد أن يجعلها قرينه بل جعلها من حشو السجعة الثانية ، وجعل القرينة " واصلهم " ، فهو جائز إلا أن السجعة الثانية تطول جدا .
ولو قال عوض " لعملهم " ، " لفعلهم " لكان حسنا .
* * * قال الرضي رحمه الله : " فإني كنت في عنفوان السن ، وغضاضة الغصن ، ابتدأت تأليف كتاب في خصائص الائمة عليهم السلام ، يشتمل على محاسن أخبارهم ، وجواهر كلامهم ، حداني عليه غرض ذكرته في صدر الكتاب ، وجعلته أمام الكلام .
وفرغت من الخصائص التي تخص أمير المؤمنين عليا ، صلوات الله عليه ، وعاقت عن إتمام بقية الكتاب محاجزات الايام ، ومماطلات الزمان .
وكنت قد بوبت ما خرج من ذلك أبوابا ، وفصلته فصولا ، فجاء في آخرها فصل يتضمن محاسن ما نقل عنه عليه السلام ، من الكلام القصير في المواعظ والحكم والامثال والآداب ، دون الخطب الطويلة ، والكتب المبسوطة ، فاستحسن جماعة من الاصدقاء ما اشتمل عليه الفصل المقدم ذكره ، معجبين ببدائعه ، ومتعجبين من نواصعه ، وسألوني عند ذلك أن أبدأ بتأليف كتاب يحتوي على مختار كلام أمير المؤمنين عليه السلام في جميع فنونه ، ومتشعبات غصونه ، من خطب وكتب ومواعظ وأدب علما أن ذلك يتضمن من عجائب البلاغة ، وغرائب الفصاحة ، وجواهر العربية ، وثواقب الكلم الدينية والدنياوية ، ما لا يوجد مجتمعا في كلام ، ولا مجموع الاطراف(1/44)
في كتاب ، إذ كان أمير المؤمنين عليه السلام مشرع الفصاحة وموردها ، ومنشأ البلاغة ومولدها ، ومنه عليه السلام ظهر مكنونها ، وعنه أخذت قوانينها ، وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب ، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ ، ومع ذلك فقد سبق وقصروا ، وقد تقدم وتاخروا ، لان كلامه عليه السلام الكلام الذي عليه مسحة من العلم الالهي ، وفيه عبقة من الكلام النبوي " .
* * * الشرح : عنفوان السن : أولها .
ومحاجزات الايام : ممانعاتها .
ومماطلات الزمان : مدافعاته .
وقوله : " معجبين " ثم قال : و " متعجبين " ، ف " معجبين " من قولك : أعجب فلان برأيه ، وبنفسه فهو معجب بهما ، والاسم العجب بالضم ، ولا يكون ذلك إلا في المستحسن ، و " متعجبين " من قولك : تعجبت من كذا ، والاسم العجب .
وقد يكون في الشئ يستحسن ويستقبح ويتهول منه ويستغرب ، مراده هنا التهول والاستغراب ، ومن ذلك قول أبي تمام : أبدت أسى إذ رأتني مخلس القصب * وآل ما كان من عجب إلى عجب (1) يريد أنها كانت معجبة به أيام الشبيبة لحسنه ، فلما شاب انقلب ذلك العجب عجبا ، إما استقباحا له أو تهولا منه واستغرابا .
وفي بعض الروايات : " معجبين ببدائعه " ، أي أنهم يعجبون غيرهم .
والنواصع : الخالصة .
وثواقب الكلم : مضيئاتها ، ومنه الشهاب الثاقب .
وحذا كل قائل : اقتفى واتبع .
وقوله : " مسحة " يقولون .
على فلان مسحة من جمال ، مثل قولك : شئ ، وكأنه هاهنا يريد ضوءا وصقالا .
وقوله : " عبقة " ، أي رائحة ،
__________
(1) ديوانه 1 : 115 ، مطلع قصيدة يمدح فيها الحسن بن سهل .
المخلس ، من قولهم : أخلس رأسه إذا صار فيه بياض وسواد .
والقصب : جمع قصبة ، وهي خصلة من الشعر تجعل كهيئة القصبة الدقيقة .
" من شرح الديوان " .(1/45)
ولو قال عوض " العلم الالهي " " الكتاب الالهي " لكان أحسن .
* * * قال الرضي رحمه الله : " فأجبتهم إلى الابتداء بذلك ، عالما بما فيه من عظيم النفع ، ومنشور الذكر ، ومذخور الاجر .
واعتمدت به أن أبين من عظيم قدر أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الفضيلة ، مضافة إلى المحاسن الدثرة ، والفضائل الجمة ، وأنه انفرد ببلوغ غايتها عن جميع السلف الاولين ، الذين إنما يؤثر عنهم منها القليل النادر ، والشاذ الشارد ، فأما كلامه عليه السلام فهو البحر الذي لا يساجل ، والجم الذي لا يحافل ، وأردت أن يسوغ لي التمثل في الافتخار به صلوات الله عليه بقول الفرزدق : أولئك آبائي فجئني بمثلهم * إذا جمعتنا يا جرير المجامع " * * * الشرح : المحاسن الدثرة : الكثيرة ، مال دثر ، أي كثير ، والجمة مثله ، ويؤثر عنهم ، أي يحكي وينقل ، قلته آثرا ، أي حاكيا ، ولا يساجل ، أي لا يكاثر ، أصله من النزع بالسجل ، وهو الدلو الملئ ، قال : من يساجلني يساجل ماجدا * يملا الدلو إلى عقد الكرب (1) ويروى : " ويساحل " بالحاء ، من ساحل البحر وهو طرفه ، أي لا يشابه في بعد ساحله .
ولا يحافل ، أي لا يفاخر بالكثرة ، أصله من الحفل ، وهو الامتلاء .
والمحافلة : المفاخرة بالامتلاء ، ضرع حافل ، أي ممتلئ .
__________
(1) للفضل بن عباس بن عتبد بن أبي لهب ، اللسان 13 : 346 ، ونقل عن ابن بري : " أصل المساجلة ، أن يستقي ساقيان فيخرج كل واحد منهما في سجله مثل ما يخرج الآخر ، فأيهما نكل فقد غلب ، فضربته العرب أصلا للمفاخرة " .
(*)(1/46)
والفرزدق همام بن غالب بن صعصعة التميمي ، ومن هذه الابيات (1) : ومنا الذي اختير الرجال سماحة * وجودا إذا هب الرياح الزعازع (2) ومنا الذي أحيا الوئيد وغالب * وعمرو ومنا حاجب والاقارع (3) ومنا الذي قاد الجياد على الوجا (4) * بنجران حتى صبحته الترائع ومنا الذي أعطى الرسول عطية * أسارى تميم والعيون هوامع الترائع : الكرام من الخيل ، يعني غزاة الاقرع بن حابس قبل الاسلام بني تغلب بنجران ، وهو الذي أعطاه الرسول يوم حنين أسارى تميم - ومنا غداة الروع فرسان غارة * إذا منعت بعد الزجاج الاشاجع (5) ومنا خطيب لا يعاب وحامل * أغر إذا التفت عليه المجامع (6) - أي إذا مدت الاصابع بعد الزجاج إتماما لها ، لانها رماح قصيرة .
وحامل ، أي حامل للديات -
__________
(1) من نقيضته لقصيدة جرير التي أولها : ذكرت وصال البيض والشيب شائع * ودار الصبا من عهدهن بلاقع وهما في النقائض 685 - 705 " طبع أوربا " ، ويختلف ترتيب القصيدة هنا عن ترتيبها هناك .
(2) رواية النقائض : " منا الذي اختير " ، بخذف الواو ، وهو ما يسمى بالخرم ، فتخذف الفاء من " فعولن " ، في أول البيت من القصيدة .
وانظر خبر غالب بن صعصعة ، أبو الفرزدق مع عمير بن قيس الشيباني وطلبة بن قيس بن عاصم المنقري في الاغاني 19 : 5 " طبعة الساسي " .
(3) الذي أحيا الوئيد ، هو جده صعصعة بن ناجية بن عقال ، وغالب أبوه ، وعمرو بن عمرو بن عدس ، والاقارع : الاقرع ، وفراس ابنا حابس بن عقال ، وانظر أخبار هؤلاء جميعا في شرح النقائض .
(4) الوجا : الحفا .
(5) منعت ، يريد ارتفعت بالسيوف بعد الطعان بالرماح .
والاشاجع : عصب ظاهر الكف .
وفي الديوان " فتيان غارة " .
(6) قوله : " خطيب " نعني شبه بن عقال بن صعصعة .
والحامل ، يعني عبد الله بن حكيم بن نافد ، من بني حوي بن سفيان بن مشاجع ، الذي حمل الحملات يوم المربد حين قتل مسعود بن عمرو العتكي ، وكان يقال له القرين .
والاغر من الرجال : المعروف كما يعرف الفرس بغرته في الخيل ، يقول : فهو معروف في الكرم والجود .
" من شرح النقائض " .
(*)(1/47)
أولئك آبائي فجئني بمثلهم * إذا جمعتنا يا جرير المجامع بهم أعتلى ما حملتنيه دارم (1) * وأصرع أقراني الذين أصارع أخذنا بآفاق السماء عليكم * لنا قمراها والنجوم الطوالع (2) فوا عجبا حتى كليب تسبني * كان أباها نهشل أو مجاشع ! * * * قال الرضي رحمه الله : " ورايت كلامه عليه السلام ، يدور على أقطاب ثلاثة : أولها الخطب والاوامر ، وثانيها الكتب والرسائل ، وثالثها الحكم والمواعظ ، فأجمعت بوفيق الله سبحانه على الابتداء باختيار محاسن الخطب ، ثم محاسن الكتب ، ثم محاسن الحكم والادب ، مفردا لكل صنف من ذلك بابا ، ومفصلا فيه أوراقا ، ليكون مقدمة لاستدراك ما عساه يشذ عني عاجلا ، ويقع إلي آجلا ، وإذا جاء شئ من كلامه الخارج في أثناء حوار ، أو جواب سؤال ، أو غرض آخر من الاغراض في غير الانحاء التي ذكرتها ، وقررت القاعدة عليها ، نسبتة إلى أليق الابواب به ، وأشدها ملامحة لغرضه .
وربما جاء فيما أختاره من ذلك فصول غير متسقة ، ومحاسن كلم غير منتظمة ، لاني أورد النكت واللمع ، ولا أقصد التتالي والنسق " .
الشرح : قوله : " أجمعت على الابتداء " ، أي عزمت .
وقال القطب الراوندي : تقديره : اجمعت عازما على الابتداء ، قال : لانه لا يقال إلا أجمعت الامر ، ولا يقال : أجمعت على الامر ، قال سبحانه : " فأجمعوا أمركم " (3) .
__________
(1) النقائض : ما حملتني مجاشع " .
(2) قمراها : الشمس والقمر ، فغلب المذكر مع حاجته إلى إقامة البيت .
(3) سورة يونس 71 .
(*)(1/48)
هذا الذي ذكره الراوندي خلاف نص أهل اللغة ، قالوا : أجمعت الامر ، وعلى الامر كله جائز ، نص صاحب " الصحاح " على ذلك .
والمحاسن : جمع حسن ، على غير قياس ، كما قالوا : الملامح والمذاكر (2) ، ومثله المقابح .
والحوار ، بكسر الحاء : مصدر حاورته ، أي خاطبته .
والانحاء : الوجوه والمقاصد .
وأشدها ملامحة لغرضه ، أي أشدها إبصارا له ونظرا إليه ، من لمحت الشئ وهذه استعارة ، يقال : هذا الكلام يلمح الكلام الفلاني ، أي يشابهه ، كأن ذلك الكلام يلمح ويبصر من هذا الكلام .
* * * قال الرضي رحمه الله : " ومن عجائبه عيله السلام التي انفرد بها ، وأمن المشاركة فيها أن كلامه الوارد في الزهد والمواعظ ، والتذكير والزواجر ، إذا تأمله المتأمل ، وفكر فيه المفكر (3) ، وخلع من قلبه أنه كلام مثله ، ممن عظم قدره ، ونفذ أمره وأحاط بالرقاب ملكه ، لم يعترضه الشك في أنه كلام من لا حظ له في غير الزهادة ، ولا شغل له بغير العبادة ، قد قبع في كسر بيت ، أو انقطع إلى (4) سفح جبل ، لا يسمع إلا حسه ، ولا يرى إلا نفسه ، ولا يكاد يوقن بأنه كلام من ينغمس في الحرب ، مصلتا سيفه ، فيقط الرقاب ، ويجدل الابطال ، ويعود به ينطف دما ، ويقطر مهجا ، وهو مع تلك الحال ، زاهد الزهاد ، وبدل الابدال .
وهذه من فضائله العجيبة ، وخصائصه اللطيفة ، التي جمع بها بين الاضداد ، وألف بين الاشتات ، وكثيرا ما أذاكر الاخوان بها ، وأستخرج عجبهم منها ، وهي موضع العبرة بها (5) ، والفكرة فيها .
* * *
__________
(1) الصحاح 3 : 1198 .
(2) ب : " المذاكير " ، وما أثبته عن أ .
(3) ب : " المتفكر " ، وما أثبته عن أ .
(4) مخطوطة النهج : " في سفح " .
(5) كلمة " بها " ساقطة من ب ، وهي في أ .
(*)(1/49)
الشرح : قبع القنفذ قبوعا ، إذا أدخل رأسه في جلده ، وكذلك الرجل إذا أدخل رأسه في قميصه ، وكل من أنزوى في جحر أو مكان ضيق فقد قبع .
وكسر البيت : جانب الخباء .
وسفح الجبل أسفله ، وأصله حيث يسفح فيه الماء .
ويقط الرقاب : يقطعها عرضا لا طولا ، كما قاله الراوندي ، وإنما ذاك القد ، قددته طولا ، وقططته عرضا .
قال ابن فارس صاحب " المجمل " : قال ابن عائشة : كانت ضربات علي عليه السلام في الحرب أبكارا ، إن أعتلى قد ، وإن اعترض قط ، ويجدل الابطال : يلقيهم على الجدالة ، وهي وجه الارض .
وينطف دما : يقطر ، والابدال : قوم صالحون لا تخلو الأرض منهم ، إذا مات أحدهم أبدل الله مكانه آخر ، قد ورد ذلك في كثير من كتب الحديث .
كان أمير المؤمنين عليه السلام ذا أخلاق متضادة .
فمنها ما قد (1) ذكره الرضي رحمه الله ، وهو موضع التعجب ، لان الغالب على أهل الشجاعة والاقدام والمغامرة والجرأة أن يكونوا ذوي قلوب قاسية ، وفتك وتمرد وجبرية ، والغالب على أهل الزهد ورفض الدنيا وهجران ملاذها والاشتغال بمواعظ الناس وتخويفهم المعاد ، وتذكيرهم الموت ، أن يكونوا ذوي رقة ولين ، وضعف قلب ، وخور طبع ، وهاتان حالتان متضادتان ، وقد اجتمعتا له عليه السلام .
ومنها أن الغالب على ذوي الشجاعة وإراقة الدماء أن يكونوا ذوي أخلاق سبعية ، وطباع حوشية وغرائز وحشية ، وكذلك الغالب على أهل الزهادة وأرباب الوعظ والتذكير ورفض الدنيا أن يكونوا ذوي انقباض في الاخلاق ، وعبوس في الوجوه ، ونفار من الناس
__________
(1) كلمة " قد " ساقطة من ب .
(*)(1/50)
واستيحاش ، وأمير المؤمنين عليه السلام كان أشجع الناس وأعظمهم إراقة للدم ، وأزهد الناس وأبعدهم عن ملاذ الدنيا ، وأكثرهم وعظا وتذكيرا بأيام الله ومثلاته ، وأشدهم اجتهادا في العبادة ، وآدابا لنفسه في المعاملة .
وكان مع ذلك ألطف العالم أخلاقا ، وأسفرهم وجها ، وإكثرهم بشرا ، وأوفاهم هشاشة ، وأبعدهم عن انقباض موحش ، أو خلق نافر ، أو تجهم مباعد ، أو غلظة وفظاظة تنفر معهما نفس ، أو يتكدر معهما قلب .
حتى عيب بالدعابة ، ولما لم يجدوا فيه مغمزا ولا مطعنا تعلقوا بها ، واعتمدوا في التنفير عنه عليها .
* وتلك شكاة ظاهر عنك عارها (1) * وهذا من عجائبه وغرائبه اللطيفة .
ومنها أن الغالب على شرفاء الناس ومن هو من أهل بيت السيادة والرياسة أن يكون ذا كبر وتيه وتعظم وتغطرس ، خصوصا أذا أضيف إلى شرفه من جهة النسب شرفه من جهات أخرى ، وكان أمير المؤمنين عليه السلام في مصاص الشرف ومعدنه ومعانيه ، لا يشك عدو ولا صديق أنه أشرف خلق الله نسبا بعد ابن عمه صلوات الله عليه ، وقد حصل له من الشرف غير شرف النسب جهات كثيرة متعددة ، قد ذكرنا بعضها ، ومع ذلك فكان أشد الناس تواضعا لصغير وكبير ، وألينهم عريكة ، وأسمحهم خلقا ، وأبعدهم عن الكبر ، وأعرفهم بحق ، وكانت حاله هذه في كلا زمانيه : زمان خلافته ،
__________
(1) " الشكاة توضع موضع العيب والذم ، وعير الرجل عبد الله بن الزبير بأمه ، فقال ابن الزبير : * وتلك شكاة ظاهر عنك عارها * أراد أن تعبيره إياه بأن أمه كانت ذات النطاقين ليس بعار .
ومعنى قوله : " ظاهر عنك عارها " ، أي ناب ، أراد أن هذا ليس عارا يلزق به ، وأنه يفخر بذلك ، لانها إنما سميت ذات النطاقين ، لانه كان لها نطاقان تحمل في أحدهما الزاد إلى إبيها وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ، وكانت تنتطق بالنطاق الآخر ، وهي أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها " .
اللسان : " 19 : 171 " ، وديوان الهذلين (1 : 21) ، وهذا العجز لابي ذؤيب الهذلي ، وصدره : * وعيرها الواشون أني أحبها * (*)(1/51)
والزمان الذي قبله ، لم تغيره الامرة ، ولا أحالت خلقه الرياسة ، وكيف تحيل الرياسة خلقه وما زال رئيسا ! وكيف تغير الامرة سجيته وما برح أميرا لم ! يستفد بالخلافة شرفا ، ولا أكتسب بها زينة ، بل هو كما قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل ، ذكر ذلك الشيخ أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي في تاريخه المعروف " بالمنتظم " تذاكروا عند أحمد خلافة أبي بكر وعلي وقالوا فأكثروا ، فرفع رأسه إليهم ، وقال : قد أكثرتم ! إن عليا لم تزنه الخلافة ، ولكنه زانها .
وهذا الكلام دال بفحواه ومفهومه على أن غيره ازدان بالخلافة وتممت نقيصته ، وأن عليا عليه السلام لم يكن فيه نقص يحتاج إلى أن يتمم بالخلافة ، وكانت الخلافة ذات نقص في نفسها ، فتم نقصها بولايته إياها .
ومنها أن الغالب على ذوي الشجاعة وقتل الانفس وإراقة الدماء أن يكونوا قليلي الصفح ، بعيدي العفو لان أكبادهم واغرة ، وقلوبهم ملتهبة ، والقوة الغضبية عندهم شديدة ، وقد علمت حال أمير المؤمنين عليه السلام في كثرة إراقة الدم وما عنده من الحلم والصفح ، ومغالبة هوى النفس ، وقد رأيت فعله يوم الجمل ، ولقد أحسن مهيار في قوله (1) : حتى إذا دارت رحى بغيهم * عليهم وسبق السيف العذل عاذوا بعفو ماجد معود * للعفو حمال لهم على العلل فنجت البقيا عليهم من نجا * وأكل الحديد منهم من أكل أطت بهم أرحامهم فلم يطع * ثائرة الغيظ ولم يشف الغلل ومنها أنا ما رأينا شجاعا جوادا قط ، كان عبد الله بن الزبير شجاعا وكان أبخل الناس ، وكان الزبير أبوه شجاعا وكان شحيحا ، قال له عمر : لو وليتها لظلت تلاطم الناس
__________
(1) من قصيدة في ديوانه 3 : 109 - 116 يذكر فيها مناقب الامام علي وما منى به من أعدائه .
(*)(1/52)
في البطحاء على الصاع والمد .
وأراد علي عليه السلام أن يحجر على عبد الله بن جعفر لتبذيره المال ، فاحتال لنفسه ، فشارك الزبير في أمواله وتجاراته ، فقال عليه السلام : أما إنه قد لاذ بملاذ ، ولم يحجر عليه .
وكان طلحة شجاعا وكان شحيحا ، أمسك عن الانفاق حتى خلف من الاموال ما لا يأتي عليه الحصر .
وكان عبد الملك شجاعا وكان شحيحا ، يضرب به المثل في الشح ، وسمي رشح الحجر ، لبخله .
وقد علمت حال أمير المؤمنين عليه السلام في الشجاعة والسخاء ، كيف هي وهذا من أعاجيبه أيضا عليه السلام ! * * * قال الرضى رحمه الله : وربما جاء في أثناء هذا الاختيار اللفظ المردد ، والمعنى المكرر ، والعذر في ذلك أن روايات كلامه تختلف اختلافا شديدا ، فربما اتفق الكلام المختار في رواية فنقل على وجهه ، ثم وجد بعد ذلك في رواية أخرى موضوعا غير وضعه الاول ، أما بزيادة مختارة ، أو بلفظ أحسن عبارة ، فتقتضي الحال أن يعاد استظهارا للاختيار ، وغيرة على عقائل الكلام .
وربما بعد العهد أيضا بما أختير أولا ، فأعيد بعضه سهوا ونسيانا ، لا قصدا أو اعتمادا .
ولا أدعي مع ذلك أنني أحيط بأقطار جميع كلامه عليه السلام ، حتى لا يشذ عني منه شاذ ، ولا يند ناد بل لا أبعد أن يكون القاصر عني فوق الواقع إلي ، والحاصل في ربقتي دون الخارج من يدي ، وما علي إلا بذل الجهد ، وبلاغة الوسع ، وعلى الله سبحانه نهج السبيل ، وإرشاد الدليل .
ورأيت من بعد تسمية هذا الكتاب ب " نهج البلاغة " ، إذ كان يفتح للناظر فيه أبوابها ، ويقرب عليه طلابها ، وفيه حاجة العالم والمتعلم ، وبغية البليغ والزاهد ، ويمضي في أثنائه من عجيب الكلام في التوحيد والعدل وتنزيه الله سبحانه وتعالى عن شبه الخلق ، ما هو بلال كل غلة ، وشفاء كل علة ، وجلاء كل شبهة .
ومن الله أستمد التوفيق والعصمة ، وأتنجز التسديد والمعونة ، وأستعيذه من خطأ الجنان قبل خطأ(1/53)
اللسان ، ومن زلة الكلم قبل زلة القدم ، وهو حسبي ونعم الوكيل " .
الشرح : في أثناء هذا الاختيار : تضاعيفه ، واحدها ثني كعذق وأعذاق .
والغيرة : بالفتح ، والكسر خطأ .
وعقائل الكلام : كرائمه ، وعقيلة الحي : كريمته ، وكذلك عقيلة الذود .
والاقطار : الجوانب ، وأحدها قطر .
والناد : المنفرد ، ند البعير يند .
الربقة : عروة الحبل يجعل فيها رأس البهيمة .
وقوله : " وعلى الله نهج السبيل " ، أي إبانته وإيضاحه ، نهجت له نهجا .
وأما أسم الكتاب ف " نهج البلاغة " والنهج هنا ليس بمصدر ، بل هو اسم للطريق الواضح نفسه .
والطلاب بكسر الطاء : الطلب .
والبغية : ما يبتغي .
وبلال كل غلة ، بكسر الباء : ما يبل به الصدى ، ومنه قوله : أنضحوا الرحم ببلالها ، أي صلوها بصلتها وندوها ، قال أوس : كأني حلوت الشعر حين مدحته * صفا صخرة صماء يبس بلالها (1) وإنما استعاذ من خطأ الجنان قبل خطأ اللسان ، لان خطأ الجنان أعظم وأفحش من خطأ اللسان ، أ لا ترى أن اعتقاد الكفر بالقلب أعظم عقابا من أن يكفر الانسان بلسانه وهو غير معتقد للكفر بقلبه ، وإنما استعاذ من زلة الكلم قبل زلة القدم لانه أراد زلة القدم الحقيقية ، ولا ريب أن زلة القدم أهون وأسهل ، لان العاثر يستقيل من عثرته ، وذا الزلة تجده ينهض من صرعته ، وأما الزلة باللسان فقد لا تستقال عثرتها ، ولا ينهض صريعها ، وطالما كانت لا شوى (3) لها ، قال أبو تمام : يا زلة ما وقيتم شر مصرعها * وزلة الرأي تنسي زلة القدم (3)
__________
(1) يهجو الحكم بن مروان بن زنباع ، اللسان 13 : 67 ، 18 : 210 وحلا الرجل الشئ يحلوه ، أعطاه إياه ، أي جعل الشعر حلوانا له مثل العطاء .
(2) لا شوى لها ، أي لا برء لها ، قال الكميت : أجيبوا رقي الآسي النطاسي واحذزوا * مطفئة الرصيف التي لا شوى لها (3) ديوانه 3 : 194 ، وروايته : " يا عثرة ما وقيتم " .
(*)(1/54)
باب الخطب والاوامر(1/55)
قال الرضي رحمه الله : باب المختار من خطب أمير المؤمنين صلوات الله عليه وأوامره ويدخل في ذلك المختار من كلامه الجاري مجرى الخطب في المقامات المحضورة والمواقف المذكورة ، والخطوب الواردة الشرح : المقامات : جمع مقامة ، وقد تكون المقامة المجلس والنادي الذي يجتمع إليه الناس ، وقد يكون اسما للجماعة ، والاول أليق هاهنا بقوله .
المحضورة ، أي التي قد حضرها الناس .
ومنذ الآن نبتدئ بشرح كلام أمير المؤمنين عليه السلام ، ونجعل ترجمة الفصل الذي نروم شرحه " الاصل " فإذا أنهيناه قلنا : " الشرح " ، فذكرنا ما عندنا فيه وبالله التوفيق .
* * * (1) الاصل : فمن خطبة له عليه السلام يذكر فيها ابتداء خلق السماء والارض وخلق آدم " الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون ، ولا يحصي نعماءه العادون ، ولا يؤدي حقه المجتهدون ، الذي لا يدركه بعد الهمم ، ولا يناله غوص الفطن .
الذي ليس لصفته حد محدود ، ولا نعت موجود ، ولا وقت معدود ، ولا أجل ممدود ، فطر الخلائق بقدرته ، ونشر الرياح برحمته ، ووتد بالصخور ميدان أرضه " .(1/57)
الشرح : الذي عليه أكثر الادباء والمتكلمين أن الحمد والمدح أخوان ، لا فرق بينهما ، تقول : حمدت زيدا على أنعامه ، ومدحته على أنعامه ، وحمدته على شجاعته ، ومدحته على شجاعته ، فهما سواء يدخلان فيما كان من فعل الانسان ، وفيما ليس من فعله ، كما ذكرناه من المثالين ، فأما الشكر فأخص من المدح ، لانه لا يكون إلا على النعمة خاصة ، ولا يكون إلا صادرا من منعم عليه ، فلا يجوز عندهم أن يقال : شكر زيد عمرا لنعمة أنعمها عمرو على إنسان غير زيد .
إن قيل : الاستعمال خلاف ذلك ، لانهم يقولون : حضرنا عند فلان فوجدناه يشكر الامير على معروفه عند زيد .
قيل : ذلك إنما يصح إذا كان إنعام الامير على زيد أوجب سرور فلان ، فيكون شكر إنعام الامير على زيد شكرا على السرور الداخل على قلبه بالانعام على زيد ، وتكون لفظة " زيد " التي استعيرت ظاهرا لاستناد الشكر إلى مسماها كناية لا حقيقة ، ويكون ذلك الشكر شكرا باعتبار السرور المذكور ، ومدحا باعتبار آخر ، وهو المناداة على ذلك الجميل والثناء الواقع بجنسه .
ثم إن هؤلاء المتكلمين الذين حكينا قولهم يزعمون أن الحمد والمدح والشكر لا يكون إلا باللسان مع انطواء القلب على الثناء والتعظيم ، فإن استعمل شئ من ذلك في الافعال بالجوارح كان مجازا .
وبقي البحث عن اشتراطهم مطابقة القلب للسان ، فإن الاستعمال لا يساعدهم ، لان أهل الاصطلاح يقولون لمن مدح غيره ، أو شكره رياء وسمعه : إنه قد مدحه وشكره وإن كان منافقا عندهم .
ونظير هذا الموضع الايمان ، فإن أكثر المتكلمين لا يطلقونه على مجرد النطق اللساني ، بل يشترطون فيه الاعتقاد القلبي ، فأما(1/58)
أن يقصروا به عليه كما هو مذهب الاشعرية (1) والامامية (2) ، أو تؤخذ معه أمور أخرى وهي فعل الواجب وتجنب القبيح كما هو مذهب المعتزلة (3) ، ولا يخالف جمهور المتكلمين في هذه المسألة إلا الكرامية (4) ، فإن المنافق عندهم يسمى مؤمنا ، ونظروا إلى مجرد الظاهر ، فجعلوا النطق اللساني وحده إيمانا .
والمدحة : هيئة المدح ، كالركبة ، هيئة الركوب ، والجلسة هيئة الجلوس (5) ، والمعنى مطروق جدا ، ومنه في الكتاب العزيز كثير ، كقوله تعالى : " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " (6) وفي الاثر النبوي : " لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " ، وقال الكتاب (7) من ذلك ما يطول ذكره ، فمن جيد ذلك قول بعضهم : الحمد لله على نعمه التي منها إقدارنا على الاجتهاد في حمدها ، وإن عجزنا عن إحصائها وعدها .
وقالت الخنساء بنت عمرو بن الشريد : فما بلغت كف امرئ متناول * بها المجد إلا والذي نلت أطول (8)
__________
(1) الاشعرية هم أصحاب أبي الحسن علي بن إسماعيل الاشعري ، المنتسب إلى أبي موسى الاشعري ، وهي جماعة الصفاتية ، الذين يثبتون لله تعالى الصفات الازلية ، كالعلم والقدرة والحياة وغيرها .
وانظر الكلام عليهم في الملل والنحل للشهرستاني 1 : 58 - 94 .
(2) الامامية هم القائلون بإمامة علي رضي الله عنه بعد النبي عليه السلام ، وهم فرق متعددة ذكرهم الشهرستاني في الملل والنحل 1 : 144 - 154 .
(3) المعتزلة ويسمون أصحاب العدل والتوحيد ، انظر أيضا الكلام عليهم ، وتعداد فرقهم في المصدر السابق 1 : 49 - 78 .
(4) الكرامية هم أصحاب أبي عبد الله محمد بن كرام ، عدهم الشهرستاني من جماعة الصفاتية ، لانهم كانوا ممن يثبتون الصفات ، إلا أنهم انتهوا فيها إلى التجسيم والتشبيه ، الملل والنحل 1 : 99 - 104 .
(5 - 5) أ : " كالركبة والجلسة هيئة الركوب والجلوس " .
(6) سورة إبراهيم 34 ، النحل 18 .
(7) ب : " في الكتاب " ، وكلمة " في " مقحمة .
(8) ديوانها 184 ، والرواية هناك فما بلغت كف امرئ متناول * بها المجد إلا حيث ما نلت أطول وما بلغ المهدون في القول مدحة * ولا صفة إلا الذي فيك أفضل (*)(1/59)
ولا حبر المثنون في القول مدحة * وإن أطنبوا إلا وما فيك أفضل * * * ومن مستحسن ما وقفت عليه من تعظيم الباري عز جلاله بلفظ (1) " الحمد " قول بعض الفضلاء في خطبة أرجوزه علمية : الحمد لله بقدر الله * لا قدر وسع العبد ذي التناهي والحمد لله الذي برهانه * أن ليس شأن ليس فيه شانه والحمد لله الذي من ينكره * فإنما ينكر من يصوره وأما قوله " الذي لا يدركه " ، فيريد أن همم النظار وأصحاب الفكر وإن علت وبعدت فإنها لا تدركه تعالى ، ولا تحيط به .
وهذا حق لان كل متصور فلا بد أن يكون محسوسا ، أو متخيلا ، إو موجودا من فطرة النفس ، والاستقراء يشهد بذلك .
مثال المحسوس السواد والحموضة ، مثال المتخيل إنسان يطير ، أو بحر من دم ، مثال الموجود من فطرة النفس تصور الالم واللذة .
ولما كان الباري سبحانه خارجا عن هذا أجمع (2) لم يكن متصورا .
فأما قوله : " الذي ليس لصفته حد محدود " فأنه يعني بصفته هاهنا كنهه وحقيقته يقول : ليس لكنهه حد فيعرف بذلك الحد قياسا على الاشياء المحدودة ، لانه ليس بمركب ، وكل محدود مركب .
ثم قال : " ولا نعت موجود " أي (3) ولا يدرك بالرسم ، كما تدرك الاشياء برسومها ، وهو أن تعرف بلازم من لوازمها ، وصفة من صفاتها .
ثم قال : " ولا وقت معدود ، ولا أجل ممدود " ، فيه إشارة إلى الرد على من قال : إنا
__________
(1) أ : " بلفظة " .
(2) ب : " جميعا " .
(3) ب : " لا يدرك " ، من غير واو .
(*)(1/60)
نعلم كنه الباري سبحانه لا في هذه الدنيا بل في الآخرة ، فإن القائلين برؤيته في الآخرة يقولون : إنا نعرف حينئذ كنهه ، فهو عليه السلام رد قولهم ، وقال : إنه لا وقت أبدا على الاطلاق تعرف فيه حقيقته وكنهه ، لا الآن ولا بعد الآن ، وهو الحق ، لانا لو رأيناه في الآخرة وعرفنا كنهه لتشخص تشخصا يمنع من حمله على كثيرين ، ولا يتصور أن يتشخص هذا التشخص إلا ما يشار إلى جهته ، ولا جهة له سبحانه .
وقد شرحت هذا الموضع في كتابي المعروف ب " زيادات النقضين (1) " ، وبينت أن الرؤية المنزهة عن الكيفية التي يزعمها أصحاب الاشعري لا بد فيها من إثبات الجهة ، وأنها لا تجري مجرى العلم ، لان العلم لا يشخص المعلوم ، والرؤية تشخص المرئي ، والتشخيص لا يمكن إلا مع كون المتشخص ذا جهة .
واعلم أن نفي الاحاطة مذكور في الكتاب العزيز في مواضع ، منها قوله تعالى : " ولا يحيطون به علما " (2) ومنها قوله : " ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير " (3) وقال بعض الصحابة : العجز عن درك الادارك إدراك ، وقد غلا محمد بن هانئ فقال في ممدوحه المعز أبي تميم معد بن المنصور العلوي : أتبعته فكري حتى إذا بلغت * غاياتها بين تصويب وتصعيد (4) رأيت موضع برهان يلوح وما * رأيت موضع تكييف وتحديد (5) وهذا مدح يليق بالخالق تعالى ، ولا يليق بالمخلوق .
فأما قوله : " فطر الخلائق ...
" إلى آخر الفصل ، فهو تقسيم مشتق من الكتاب العزيز ، فقوله : " فطر الخلائق بقدرته " من قوله تعالى : " قال من رب السموات والارض
__________
(1) كذا في ب ، وفي أ : " زيادات التقصير " ، ولم أعثر على ذكر له في كتب التراجم والفهارس .
(2) سورة طه 110 .
(3) سورة الملك 4 .
(4) ديوانه 210 .
(5) الديوان : " برهان يبين " .
(*)(1/61)
وما بينهما " (1) وقوله : " ونشر الرياح برحمته " من قوله : يرسل الرياح نشرا بين يدي رحمته " (2) .
وقوله : " ووتد بالصخور ميدان أرضه " ، من قوله : " والجبال أوتادا " (3) .
والميدان : التحرك والتموج .
* * * فأما القطب الراوندي رحمه الله فإنه قال ، إنه عليه السلام أخبر عن نفسه بأول هذا الفصل أنه يحمد الله ، وذلك من ظاهر كلامه ، ثم أمر غيره من فحوى كلامه أن يحمد الله ، وأخبر عليه السلام أنه ثابت على ذلك مدة حياته ، وأنه يجب على المكلفين ثبوتهم عليه ما بقوا ، ولو قال " أحمد الله " لم يعلم منه جميع ذلك .
ثم قال : والحمد أعم من الشكر ، والله أخص من الاله ، قال فأما قوله : " الذي لا يبلغ مدحته القائلون " فإنه أظهر العجز عن القيام بواجب مدائحه ، فكيف بمحامده ! والمعنى أن الحمد كل الحمد ثابت للمعبود الذي حقت العبادة له في الازل ، واستحقها حين خلق الخلق ، وأنعم بأصول النعم التي يستحق بها العبادة .
* * * ولقائل أن يقول : أنه ليس في فحوى كلامه أنه أمر غيره أن يحمد الله ، وليس يفهم من قول بعض رعية الملك لغيره منهم : العظمة والجلال لهذا الملك ، أنه قد أمرهم بتعظيمه وإجلاله .
ولا أيضا في الكلام ما يدل على أنه ثابت على ذلك مدة حياته ، وأنه يجب على المكلفين ثبوتهم عليه ما بقوا .
ولا أعلم كيف قد وقع ذلك للراوندي ! فإن زعم أن العقل يقتضي ذلك فحق ، ولكن
__________
(1) سورة الشعراء 24 .
(2) سورة الاعراف 57 ، وهي قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو (الجامع لاحكام القرآن 7 : 229) .
(3) سورة النبأ 7 .
(*)(1/62)
ليس مستفادا من الكلام ، وهو أنه (1) قال : إن ذلك موجود في الكلام .
فأما قوله : لو كان قال : أحمد الله لم يعلم منه جميع ذلك ، فإنه لا فرق في انتفاء دلالة " أحمد الله " على ذلك ودلالة " الحمد لله " ، وهما سواء في أنهما لا يدلان على شئ من أحوال غير القائل ، فضلا عن دلالتهما على ثبوت ذلك ودوامه في حق غير القائل .
وأما قوله : الله أخص من الاله ، فإن أراد في أصل اللغة ، فلا فرق ، بل الله هو الاله وفخم بعد حذف الهمزة ، هذا قول كافة البصريين ، وإن أراد أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون على الاصنام لفظة " الآلهة " ولا يسمونها " الله " فحق ، وذلك عائد إلى عرفهم واصطلاحهم ، لا إلى أصل اللغة والاشتقاق ، أ لا ترى أن الدابة في العرف لا تطلق على القملة ، وإن كانت في أصل اللغة دابة ! فأما قوله : قد أظهر العجز عن القيام بواجب مدائحه فكيف بمحامده ! فكلام يقتضى أن المدح غير الحمد ، ونحن لا نعرف فرقا بينهما .
وأيضا فإن الكلام لا يقتضي العجز عن القيام بالواجب ، لا من الممادح ولا من المحامد ، ولا فيه تعرض لذكر الوجوب ، وإنما نفى أن يبلغ القائلون مدحته ، لم يقل غير ذلك .
وأما قوله : الذي حقت العبادة له في الازل وأستحقها حين خلق الخلق ، وأنعم بأصول النعم فكلام ظاهره متناقض ، لانه إذا كان إنما استحقها حين خلق الخلق ، فكيف يقال : إنه استحقها في الازل ! وهل يكون في الازل مخلوق ليستحق عليه العبادة ! واعلم أن المتكلمين لا يطلقون على الباري سبحانه أنه معبود في الازل أو مستحق للعبادة في الازل إلا بالقوة لا بالفعل (3) ، لانه ليس في الازل مكلف يعبده تعالى ، ولا أنعم على أحد في الازل بنعمة يستحق بها العبادة ، حتى إنهم قالوا في الاثر الوارد : " يا قديم
__________
(1) ب : " وهو إنما " .
(2) ساقطة من ب .
(3) أ : " ولا بالفعل " .
(*)(1/63)
الاحسان " : إن معناه أن إحسانه متقادم العهد ، لا أنه قديم حقيقة ، كما جاء في الكتاب العزيز : " حتى عاد كالعرجون القديم " (1) ، أي الذي قد توالت عليه الازمنة المتطاوله .
* * * ثم (2) قال الراوندي : والحمد والمدح يكونان بالقول وبالفعل ، والالف واللام في " القائلون " لتعريف الجنس ، كمثلهما في الحمد .
والبلوغ المشارفة ، يقال : بلغت المكان إذا أشرفت عليه ، وإذا لم تشرف على حمده تعالى بالقول فكيف توصل إليه بالفعل ! والاله : مصدر بمعنى المألوه .
* * * ولقائل أن يقول : الذي سمعناه أن التعظيم يكون بالقول والفعل وبترك القول والفعل ، قالوا : فمن قال لغيره : يا عالم فقد عظمه ، ومن قام لغيره فقد عظمه ، ومن ترك مد رجله بحضرة غيره فقد عظمه ، ومن كف غرب لسانه عن غيره فقد عظمه .
وكذلك الاستخفاف والاهانة تكون بالقول والفعل وبتركهما حسب ما قدمنا ذكره في التعظيم .
فأما الحمد والمدح فلا وجه لكونهما بالفعل ، وأما قوله : أن اللام في " القائلون " لتعريف الجنس ، كما أنها في الحمد كذلك فعجيب ، لانها للاستغراق في " القائلون " لا شبهة في ذلك كالمؤمنين والمشركين ، ولا يتم المعنى إلا به ، لانه للمبالغة ، بل الحق المحض أنه لا يبلغ مدحته كل القائلين بأسرهم .
وجعل اللام للجنس ينقص عن هذا المعنى إن أراد بالجنس المعهود ، وإن أراد الجنسية العامة ، فلا نزاع بيننا وبينه ، إلا أن قوله : " كما أنها في الحمد كذلك " يمنع من أن يحمل كلامه على المحمل الصحيح ، لانها ليست في الحمد للاستغراق ، يبين ذلك أنها لو كانت للاستغراق لما جاز أن يحمد رسول الله صلى الله عليه وآله ولا غيره من الناس ، وهذا باطل .
__________
(1) سورة يس 39 .
(2) كلمة " ثم " ساقطة من أ .
(*)(1/64)
وأيضا فإنها لفظ واحد مفرد معرف بلام الجنس ، والاصل في مثل ذلك أن يفيد الجنسية المطلقة ، ولا يفيد الاستغراق ، فإن جاء منه شئ للاستغراق ، كقوله : " إن الانسان لفي خسر " (1) ، وأهلك الناس الدرهم والدينار ، فمجاز ، والحقيقة ما ذكرناه .
فأما قوله : البلوغ المشارفة : يقال : بلغت المكان إذا أشرفت عليه .
فالاجود أن يقول قالوا : بلغت المكان ، إذا شارفته ، وبين قولنا : " شارفته " ، و " أشرفت عليه " فرق .
وأما قوله : " وإذا لم يشرف على حمده بالقول فكيف يوصل إليه بالفعل ! " ، فكلام مبني على أن الحمد قد يكون بالفعل ، وهو خلاف ما يقوله أرباب هذه الصناعة .
وقوله : والاله مصدر بمعنى المألوه ، كلام طريف ، أما أولا ، فإنه ليس بمصدر ، بل هو اسم كوجار للضبع ، وسرار للشهر (2) ، وهو اسم جنس كالرجل والفرس ، يقع على كل معبود بحق أو باطل ، ثم غلب على المعبود بالحق ، كالنجم اسم لكل كوكب ، ثم غلب على الثريا ، والسنة : اسم لكل عام ، ثم غلب على عام القحط .
وأظنه رحمه الله لما رآه " فعالا " ظن أنه اسم مصدر كالحصاد والجذاذ وغيرهما .
وأما ثانيا ، فلان المألوه صيغة " مفعول " وليست صيغة مصدر إلا في ألفاظ نادرة ، كقولهم : ليس له معقول ولا مجلود ، ولم يسمع " مألوه " في اللغة ، لانه قد الفاظ نادرة ، كقولهم : ليس له معقول ولا مجلود ، ولم يسمع " مألوه " في اللغة ، لانه قد جاء : أله الرجل إذا دهش وتحير ، وهو فعل لازم لا يبنى منه مفعول .
* * * ثم قال الراوندي : وفي قول الله تعالى : " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " ، بلفظ الافراد .
وقول أمير المؤمنين عليه السلام : " لا يحصي نعماءه العادون " بلفظ الجمع سر عجيب ، لانه تعالى أراد أن نعمة واحدة من نعمه لا يمكن العباد عد وجوه كونها نعمه .
وأراد أمير المؤمنين عليه السلام أن أصول نعمه لا تحصى لكثرتها ، فكيف تعد
__________
(1) سورة العصر 1 .
(2) السرار : بالفتح والكسر : آخر ليلة من الشهر (*)(1/65)
وجوه فروع نعمائه .
وكذلك في كون الآيه واردة بلفظة " إن " الشرطية وكلام أمير المؤمنين عليه السلام على صيغة الخبر ، تحته لطيفة عجيبة ، لانه سبحانه يريد أنكم إن أردتم أن تعدوا نعمة لم تقدروا على حصرها ، وعلي عليه السلام أخبر أنه قد أنعم النظر ، فعلم أن أحدا لا يمكنه حصر نعمه تعالى .
* * * ولقائل أن يقول : الصحيح أن المفهوم من قوله : " وإن تعدوا نعمة الله " الجنس ، كما يقول القائل : أنا لا أجحد إحسانك إلي ، وامتنانك علي ، ولا يقصد بذلك إحسانا واحدا ، بل جنس الاحسان .
وما ذكره من الفرق بين كلام البارئ وكلام أمير المؤمنين عليه السلام غير بين ، فإنه لو قال تعالى : وإن تعدوا نعم الله ، وقال عليه السلام : ولا يحصي نعمته العادون ، لكان كل واحد منهما سادا مسد الآخر .
أما اللطيفة الثانية فغير ظاهرة أيضا ولا مليحة ، لانه لو انعكس الامر ، فكان القرآن بصيغة الخبر ، وكلام علي عليه السلام بصيغة الشرط ، لكان مناسبا أيضا ، حسب مناسبته ، والحال بعكس ذلك ، اللهم إلا أن تكون قرينة السجعة من كلام علي عليه السلام تنبو عن لفظة الشرط ، وإلا فمتى حذفت القرينة السجعية عن وهمك لم تجد فرقا ، ونحن نعوذ بالله من التعسف والتعجرف الداعي إلى ارتكاب هذه الدعاوى المنكرة .
* * * ثم قال الراوندي : إنه لو قال أمير المؤمنين عليه السلام : " الذي لا يعد نعمه الحاسبون " لم تحصل المبالغة التي أرادها بعبارته ، لان اشتقاق الحساب من الحسبان ، وهو الظن .
قال : وأما اشتقاق العدد فمن العد ، وهو الماء الذي له مادة ، والاحصاء : الاطاقة ، أحصيته ، أي أطقته ، فتقدير الكلام : لا يطيق عد نعمائه العادون ، ومعنى ذلك(1/66)
أن مدائحه تعالى لا يشرف على ذكرها الانبياء والمرسلون ، لانها أكثر من أن تعدها الملائكة المقربون ، والكرام الكاتبون .
* * * ولقائل أن يقول : أما الحساب فليس مشتقا من الحسبان بمعنى الظن ، كما توهمه ، بل هو أصل برأسه ، أ لا ترى أن أحدهما حسبت أحسب ، والآخر حسبت أحسب ، وأحسب بالفتح والضم ، وهو من الالفاظ الاربعة التي جاءت شاذة ، وأيضا فإن " حسبت " بمعنى ظننت يتعدى إلى مفعولين لا يجوز الاقتصار على أحدهما ، و " حسبت " من العدد يتعدى إلى مفعول واحد .
ثم يقال له : وهب أن " الحاسبين " لو قالها مشتقة من الظن لم تحصل المبالغة ، بل المبالغة كادت تكون أكثر ، لان النعم التي لا يحصرها الظان بظنونه أكثر من النعم التي لا يعدها العالم بعلومه .
وأما قوله : العدد مشتق من العد ، وهو الماء الذى له مادة ، فليس كذلك ، بل هما أصلان .
وأيضا لو كان أحدهما مشتقا من الآخر ، لوجب أن يكون العد مشتقا من العدد ، لان المصادر هي الاصول التي يقع الاشتقاق منها سواء ، أ كان المشتق فعلا أو اسما (1) ، أ لا تراهم قالوا في كتب الاشتقاق : إن الضرب : الرجل الخفيف ، مشتق من الضرب ، أي السير في الارض للابتغاء ، قال الله تعالى : " لا يستطيعون ضربا في الارض " (2) ، فجعل الاسم منقولا ومشتقا من المصدر .
وأما الاحصاء فهو الحصر والعد وليس هو الاطاقة كما ذكر ، لا يقال : أحصيت الحجر ، أي أطقت حمله .
وأما ما قال : إنه معنى الكلمة فطريف ، لانه عليه السلام لم يذكر الانبياء ولا الملائكة
__________
(1) كذا عطف بأو بعد الهمزة التسوية ، قال ابن هشام : وقد أولع الفقهاء وغيرهم بأن يقولوا : سواء إكان كذا أو كذا ، والصواب العطف بأم .
المعنى 1 : 39 .
(2) سورة البقرة 273 .
(*)(1/67)
لا مطابقة ولا تضمنا ولا التزاما ، وأي حاجة إلى هذا التقدير الطريف الذي لا يشعر الكلام به ، ومراده عليه السلام ظاهر ، وهو أن نعمة جلت لكثرتها أن يحصيها عاد ما ، هو نفي لمطلق العادين من غير تعرض لعاد مخصوص .
* * * قال الراوندي : فأما قوله : " لا يدركه بعد الهمم " ، فالادراك هو الرؤية والنيل والاصابة ، ومعنى الكلام : الحمد لله الذي ليس بجسم ولا عرض ، إذ لو كان أحدهما لرآه الراءون إذا أصابوه ، وأنما خص " بعد الهمم " بإسناد نفي الادراك " وغوص الفطن " بإسناد نفي النيل لغرض صحيح ، وذلك أن الثنوية (1) يقولون بقدم النور والظلمة ، ويثبتون النور جهة العلو ، والظلمة جهة السفل ، ويقولون : إن العالم ممتزج منهما ، فرد عليه السلام عليهم بما معناه : إن النور والظلمة جسمان ، والاجسام محدثة ، والبارئ تعالى قديم .
* * * ولقائل أن يقول : إنه لم يجر للرؤية ذكر في الكلام ، لانه عليه السلام لم يقل : الذي لا تدركه العيون ولا الحواس ، وإنما قال : " لا يدركه بعد الهمم " ، وهذا يدل على أنه إنما أراد أن العقول لا تحيط بكنهه وحقيقته .
وأيضا فلو سلمنا أنه إنما نفى الرؤية ، لكان لمحاج أن يحاجه فيقول له : هب أن الامر كما تزعم ، أ لست تريد بيان الامر الذي لاجله خصص بعد الهمم بنفي الادراك ، وخصص غوص الفطن بنفى النيل ! وقلت : إنما قسم هذا التقسيم لغرض صحيح ، وما رأيناك أوضحت هذا الغرض ، وإنما حكيت مذهب الثنوية ، وليس يدل مذهبهم على وجوب تخصيص بعد الهمم بنفي الادراك دون نفي النيل ، ولا يوجب تخصيص غوص الفطن
__________
(1) الثنوية : هم أصحاب الاثنين الازلين ، يزعمون أن النور والظلمة أزليان قديمان .
الشهرستاني 1 : 224 (*)(1/68)
بنفي النيل دون نفي الادراك ، وأكثر ما في حكاية مذهبهم أنهم يزعمون أن إلهي العالم : النور والظلمة ، وهما جسمان ، وأمير المؤمنين عليه السلام يقول : لو كان صانع العالم جسما لرئي ، وحيث لم ير لم يكن جسما ، أي شئ في هذا مما يدل على وجوب ذلك التقسيم والتخصيص الذي زعمت أنه إنما خصصه وقسمه لغرض صحيح ! .
ثم (1) قال الراوندي : ويجوز أن يقال : البعد والغوص مصدران هاهنا بمعنى الفاعل ، كقولهم : فلان عدل ، أي عادل وقوله تعالى : " إن أصبح ماؤكم غورا " (2) ، أي غائرا ، فيكون المعنى : لا يدركه العالم البعيد الهمم فكيف الجاهل ! ويكون المقصد بذلك الرد على من قال : أن محمدا صلى الله عليه وآله رأى ربه ليلة الاسراء ، وأن يونس عليه السلام رأى ربه ليلة هبوطه إلى قعر البحر .
* * * ولقائل أن يقول : إن المصدر الذي جاء بمعنى الفاعل ألفاظ معدودة ، لا يجوز القياس عليها ، ولو جاز لما كان المصدر هاهنا بمعنى الفاعل ، لانه مصدر مضاف ، والمصدر المضاف لا يكون بمعنى الفاعل .
ولو جاز أن يكون المصدر المضاف بمعنى الفاعل لم يجز أن يحمل كلامه عليه السلام على الرد على من أثبت إن البارئ سبحانه مرئي ، لانه ليس في الكلام نفي الرؤية أصلا ، وإنما غرض الكلام نفي معقوليته سبحانه ، وإن الافكار والانظار لا تحيط بكنهه ، ولا تتعقل خصوصيه ذاته ، جلت عظمته .
* * * ثم قال الراوندي : فأما قوله : " الذي ليس لصفته حد محدود ، ولا نعت موجود ، ولا وقت معدود ، ولا أجل ممدود " ، فالوقت : تحرك الفلك ودورانه على وجه ، والاجل :
__________
(1) كلمة " ثم " ساقطة من أ .
(2) سورة الملك 30 .
(*)(1/69)
مدة الشئ ، ومعنى الكلام أن شكري لله تعالى متجدد عند تجدد كل ساعة ، ولهذا أبدل هذه الجملة من الجملة التي قبلها وهي الثانية ، كما أبدل الثانية من الاولى .
* * * ولقائل أن يقول : الوقت عند أهل النظر مقدار حركة الفلك ، لا نفس حركته ، والاجل ليس مطلق الوقت ، أ لا تراهم يقولون : جئتك وقت العصر ، ولا يقولون ، أجل العصر ! والاجل عندهم هو الوقت الذي يعلم الله تعالى أن حياة الحيوان تبطل فيه ، مأخوذ من أجل الدين ، وهو الوقت الذي يحل قضاؤه فيه .
فأما قوله : ومعنى الكلام أن شكري متجدد لله تعالى في كل وقت ، ففاسد ، ولا ذكر في هذه الالفاظ للشكر ، ولا أعلم من أين خطر هذا للراوندي ! وظنه أن هذه الجمل من باب البدل غلط ، لانها صفات ، كل واحدة منها صفة بعد أخرى ، كما تقول : مررت بزيد العالم ، الظريف ، الشاعر .
* * * قال الراوندي : فأما قوله : " الذي ليس لصفته حد " فظاهره إثبات الصفة له سبحانه ، وأصحابنا لا يثبتون لله سبحانه صفة ، كما يثبتها الاشعرية ، لكنهم يجعلونه على حال ، ويجعلونه متميزا بذاته ، فأمير المؤمنين عليه السلام بظاهر كلامه - وإن أثبت له صفة - إلا أن من له أنس بكلام العرب يعلم أنه ليس بإثبات على الحقيقة .
وقد سألني سائل فقال : هاهنا كلمتان ، أحداهما كفر ، والاخرى ليست بكفر ، وهما : لله تعالى شريك غير بصير .
ليس شريك الله تعالى بصيرا ، فأيهما كلمه الكفر ؟ فقلت له : القضية الثانية ، وهي " ليس شريك الله تعالى بصيرا " كفر ، لانها تتضمن إثبات الشريك ، وأما الكلمة الاخرى ، فيكون معناها لله شريك غير بصير ؟ بهمزة الاستفهام المقدرة المحذوفة .(1/70)
ثم أخذ في كلام طويل يبحث فيه عن الصفة والمعنى ، ويبطل مذهب الاشعرية بما يقوله المتكلمون من أصحابنا ، وأخذ في توحيد الصفة لم جاء ؟ وكيف يدل نفي الصفة الواحدة على نفي مطلق الصفات ؟ وأنتقل من ذلك إلى الكلام في الصفة الخامسة التي أثبتها أبو هاشم (1) ، ثم خرج إلى مذهب أبي الحسين (2) ، وأطال جدا فيما لا حاجد إليه (3) .
* * * ولقائل أن يقول : الامر أسهل مما تظن ، فإنا قد بينا أن مراده نفي الاحاطة بكنهه ، وأيضا يمكن أن يجعل الصفة هاهنا قول الواصف ، فيكون المعنى : لا ينتهي الواصف إلى حد إلا وهو قاصر عن النعت لجلالته وعظمته جلت قدرته ! .
فأما القضيتان اللتان سأله السائل عنهما فالصواب غير ما أجاب به فيهما ، وهو أن القضية الاولى كفر ، لانها صريحة في إثبات الشريك ، والثانية لا تقتضي ذلك ، لانه قد ينفي قول الشريك بصيرا على أحد وجهين ، أما لان هناك شريكا لكنه غير بصير ، لان الشريك غير موجود وإذا لم يكن موجودا لم يكن بصيرا ، فإذا كان هذا الاعتبار الثاني مرادا لم يكن كفرا ، وصار كالاثر المنقول : " كان مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله لا تؤثر هفواته " ، أي لم يكن فيه هفوات فتؤثر وتحكى ، (4 وليس أنه كان 4) المراد في مجلسه هفوات إلا أنها لم تؤثر .
* * * قال الراوندي : فأن قيل : تركيب هذه الجملة يدل على إنه تعالى فطر الخليقة قبل خلق السموات والارض .
__________
(1) هو أبو هاشم عبد السلام بن أبي علي الجبائي ، وانظر ص 9 من هذا الجزء .
(2) هو أبو الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري ، وانظر ص 9 من هذا الجزء .
(3) ب : " فيه " .
(4 - 4) ب : " وليس المراد أنه قد كانت " .
(*)(1/71)
قلنا : قد أختلف في ذلك فقيل : أول ما يحسن منه تعالى خلقه ذاتا حية ، يخلق فيها ، شهوة لمدرك تدركه فتلتذ به ، ولهذا قيل : تقديم خلق الجماد على خلق الحيوان عبث وقبيح .
وقيل : لا مانع من تقديم خلق الجماد إذا علم أن علم بعض المكلفين فيما بعد بخلقه قبله لطف له .
* * * ولقائل أن يقول : أما إلى حيث انتهى به الشرح فليس في الكلام تركيب يدل على أنه تعالى فطر خلقه قبل خلق السموات والارض وإنما قد يوهم تأمل كلامه عليه السلام فيما بعد شيئا من ذلك ، لما قال : " ثم إنشأ سبحانه فتق الاجواء " ، على أنا إذا تأملنا لم نجد في كلامه عليه السلام ما يدل على تقديم خلق الحيوان ، لانه قبل أن يذكر خلق السماء لم يذكر إلا أنه فطر الخلائق .
وتارة قال : " أنشأ الخلق " ، ودل كلامه أيضا على أنه نشر الرياح ، وأنه خلق الارض وهي مضطربة فأرساها بالجبال ، كل هذا يدل عليه كلامه ، وهو مقدم في كلامه على فتق الهواء والفضاء وخلق السماء ، فإما تقديم خلق الحيوان أو تأخيره فلم يتعرض كلامه عليه السلام له ، فلا معنى لجواب الراوندي .
وذكره ما يذكره المتكلمون من أنه : هل يحسن تقديم خلق الجماد على الحيوان أم لا ؟ .
* * * الاصل أول الدين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الاخلاص له ، وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه ، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف ، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة .
فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثناه ، ومن ثناه فقد جزأه ، ومن جزأه فقد جهله ،(1/72)
ومن جهله فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حده ، ومن حده فقد عده ، ومن قال : " فيم " فقد ضمنه ، ومن قال : " علام " فقد أخلى منه .
* * * الشرح : إنما قال عليه السلام : " أول الدين معرفته " ، لان التقليد باطل ، وإول الواجبات الدينيه المعرفة .
ويمكن أن يقول قائل : أ لستم تقولون في علم الكلام : أول الواجبات النظر في طريق معرفة الله تعالى ، وتارة تقولون : القصد إلى النظر ؟ فهل يمكن الجمع بين هذا وبين كلامه عليه السلام ! .
وجوابه أن النظر والقصد إلى النظر إنما وجبا بالعرض لا بالذات ، لانهما وصلة إلى المعرفة ، والمعرفة هي المقصود بالوجوب وأمير المؤمنين عليه السلام أراد أول واجب مقصود بذاته من الدين معرفة البارئ سبحانه ، فلا تناقض بين كلامه وبين آراء المتكلمين .
وأما قوله : " وكمال معرفته التصديق به " ، فلان معرفته قد تكون ناقصة ، وقد تكون غير ناقصة ، فالمعرفة الناقصة هي المعرفة بأن للعالم صانعا غير العالم ، وذلك باعتبار أن الممكن لا بد له من مؤثر ، فمن علم هذا فقط علم الله تعالى ، ولكن علما ناقصا ، وأما المعرفة التي ليست ناقصة ، فإن تعلم أن ذلك المؤثر خارج عن سلسلة الممكنات ، والخارج عن كل الممكنات ليس بممكن ، وما ليس ممكن فهو واجب الوجود ، فمن علم أن للعالم مؤثرا واجب الوجود فقد عرفه عرفانا أكمل من عرفان أن للعالم مؤثرا فقط ، وهذا الامر الزائد هو المكنى عنه بالتصديق به ، لان أخص ما يمتاز به البارئ عن مخلوقاته هو وجوب الوجود .(1/73)
وأما (1) قوله عليه السلام : " وكمال التصديق به توحيده " ، فلان من علم أنه تعالى واجب الوجود مصدق بالبارئ سبحانه ، لكن ذلك التصديق قد يكون ناقصا ، وقد يكون غير ناقص ، فالتصديق الناقص أن يقتصر على أن يعلم أنه واجب الوجود فقط ، والتصديق الذي هو أكمل من ذلك وأتم هو العلم بتوحيده سبحانه ، باعتبار أن وجوب الوجود لا يمكن أن يكون لذاتين ، لان فرض واجبي الوجود يفضي إلى عموم وجوب الوجود لهما ، وامتياز كل واحد منهما بأمر غير الوجوب المشترك ، وذلك يفضي إلى تركيبهما وإخراجهما عن كونهما واجبي الوجود ، فمن علم البارئ سبحانه واحدا ، أي لا واجب الوجود إلا هو ، يكون أكمل تصديقا ممن لم يعلم ذلك ، وإنما أقتصر على أن صانع العالم واجب الوجود فقط .
وأما قوله : " وكمال توحيده الاخلاص له " ، فالمراد بالاخلاص له هاهنا هو نفي الجسمية والعرضية ولوازمهما عنه ، لان الجسم مركب ، وكل مركب ممكن ، وواجب الوجود ليس بممكن .
وأيضا فكل عرض مفتقر ، وواجب الوجود غير مفتقر ، فواجب الوجود ليس بعرض .
وأيضا فكل جرم محدث ، وواجب الوجود ليس بمحدث ، فواجب (2) الوجود ليس بجرم .
وأيضا فكل حاصل في الجهة ، إما جرم أو عرض ، وواجب الوجود ليس بجرم ولا عرض ، فلا يكون حاصلا في جهة ، فمن عرف وحدانية البارئ ولم يعرف هذه الامور كان توحيده ناقصا ، ومن عرف هذه الامور بعد العلم بوحدانيته تعالى فهو المخلص في عرفانه جل اسمه ، ومعرفته تكون أتم وأكمل .
وأما قوله : " وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه " ، فهو تصريح بالتوحيد الذي تذهب إليه المعتزلة ، وهو نفي المعاني القديمة (3) التي تثبتها الاشعرية وغيرهم ، قال عليه السلام :
__________
(1) ب : " فأما " .
(2) ب : " وواجب " .
(3) إ : " التقدمية " .
(*)(1/74)
" لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف ، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة " ، وهذا هو دليل المعتزلة بعينه ، قالوا : لو كان عالما بمعنى قديم ، لكان ذلك المعنى إما هو أو غيره أو ليس هو ولا غيره .
والاول باطل ، لانا نعقل ذاته قبل أن نعقل أو نتصور له علما ، والمتصور مغاير لما ليس بمتصور .
والثالث باطل أيضا ، لان إثبات شيئين : أحدهما ليس هو الآخر ولا غيره ، معلوم فساده ببديهة العقل ، فتعين القسم الثاني وهو محال ، إما أولا فبإجماع أهل الملة ، وإما ثانيا فلما سبق من أن وجوب الوجود لا يجوز إن يكون لشيئين ، فإذا عرفت هذا ، فاعرف أن الاخلاص له تعالى قد يكون ناقصا وقد لا يكون ، فالاخلاص الناقص هو العلم بوجوب وجوده ، وأنه واحد ليس بجسم ولا عرض ، ولا (1) يصح عليه ما يصح على الاجسام والاعراض .
والاخلاص التام هو العلم بأنه لا تقوم به المعاني القديمة ، مضافا إلى تلك العلوم السابقة ، وحينئذ تتم المعرفة وتكمل .
ثم أكد أمير المؤمنين عليه السلام هذه الاشارات الالهية بقوله : " فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه " ، وهذا حق ، لان الموصوف يقارن الصفة ، والصفة تقارنه .
قال : " ومن قرنه فقد ثناه " ، وهذا حق ، لانه قد أثبت قديمين ، وذلك محض التثنية .
قال : " ومن ثناه فقد جزأه " ، وهذا حق ، لانه إذا أطلق لفظة الله تعالى على الذات والعلم القديم فقد جعل مسمى هذا اللفظ وفائدته متجزئة ، كإطلاق لفظ " الاسود " على الذات التي حلها سواد .
قال : " ومن جزأه فقد جهله " ، وهذا حق ، لان الجهل هو اعتقاد الشئ على خلاف ما هو به .
قال : " ومن أشار إليه فقد حده " ، وهذا حق ، لان كل مشار إليه فهو محدود ،
__________
(1) ب : " فلا يصح " .
(*)(1/75)
لان المشار إليه لا بد أن يكون في جهة مخصوصة ، وكل ما هو في جهة فله حد وحدود ، أي أقطار وإطراف .
قال : " ومن حده فقد عده " ، أي جعله من الاشياء المحدثة ، وهذا حق ، لان كل محدود معدود في الذوات المحدثه .
قال : " ومن قال : فيم ؟ فقد ضمنه " ، وهذا حق ، لان من تصور أنه في شئ فقد جعله أما جسما مستترا في مكان ، أو عرضا ساريا في محل ، والمكان متضمن للتمكن ، والمحل متضمن للعرض .
قال : " ومن قال : علام ؟ فقد أخلى منه " ، وهذا حق ، لان من تصور إنه تعالى على العرش ، أو على الكرسي ، فقد أخلى منه غير ذلك الموضع .
وأصحاب تلك المقالة يمتنعون من ذلك ، ومراده عليه السلام إظهار تناقض أقوالهم ، وإلا فلو قالوا (1) : هب إنا قد أخلينا منه غير ذلك الموضع ، أي محذور يلزمنا ؟ فإذا قيل لهم : لو خلا منه موضع دون موضع لكان جسما ، ولزم حدوثه ، قالوا : لزوم الحدوث والجسمية إنما هو من حصوله في الجهة لا من خلو بعض الجهات عنه ، وأنتم إنما أحتججتم علينا بمجرد خلو بعض الجهات منه ، فظهر أن توجيه الكلام عليهم إنما هو إلزام لهم لا إستدلال على فساد قولهم .
* * * فأما القطب الراوندي فإنه قال في معنى قوله : " نفى الصفات عنه " : أي صفات المخلوقين ، قال : لانه تعالى عالم قادر ، وله بذلك صفات ، فكيف يجوز أن يقال : لا صفة له ! وأيضا فإنه عليه السلام قد أثبت لله تعالى صفة أولا ، حيث قال : " الذي ليس لصفته حد محدود " فوجب أن يحمل كلامه على ما يتنزه عن المناقضة .
__________
(1) ب : " قال " .
(*)(1/76)
وأيضا فأنه قد قال فيما بعد في صفة الملائكة : " إنهم لا يصفون الله تعالى بصفات المصنوعين " ، فوجب أن يحمل قوله الآن : " وكمال توحيده نفي الصفات عنه " ، على صفات المخلوقين ، حملا للمطلق على المقيد .
* * * ولقائل أن يقول : لو أراد نفي صفات المخلوقين عنه لم يستدل على ذلك بدليل الغيرية ، وهو قوله : " لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف " ، لان هذا الاستدلال لا ينطبق على دعوى أنه غير موصوف بصفات المخلوقين ، بل كان ينبغي أن يستدل بأن صفات المخلوقين من لوازم الجسمية والعرضية ، والبارئ ليس بجسم ولا عرض ، ونحن قد بينا أن مراده عليه السلام إبطال القول بالمعاني القديمة ، وهي المسماة بالصفات في الاصطلاح القديم ، ولهذا يسمى أصحاب المعاني بالصفاتية ، فأما كونه قادرا وعالما فأصحابها أصحاب الاحوال ، وقد بينا أن مراده عليه السلام بقوله : " ليس لصفته حد محدود " ، أي لكنهه وحقيقته .
وأما كون الملائكة لا تصف البارئ بصفات المصنوعين فلا يقتضي أن يحمل كل موضوع فيه ذكر الصفات على صفات المصنوعين ، لاجل تقييد ذلك في ذكر الملائكة ، وأين هذا من باب حمل المطلق على المقيد ! ، لا سيما وقد ثبت أن التعليل والاستدلال يقضي ألا يكون المراد صفات المخلوقين .
وقد تكلف الراوندي لتطبيق تعليله عليه السلام نفي الصفات عنه بقوله : " لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف " ، بكلام عجيب ، وأنا أحكي إلفاظه لتعلم ، قال : معنى هذا التعليل أن الفعل في الشاهد لا يشابه الفاعل ، والفاعل غير الفعل ، لان ما يوصف به الغير إنما هو الفعل ، أو معنى الفعل ، كالضارب والفهم ، فإن الفهم والضرب كلاهما فعل ، والموصوف بهما فاعل ، والدليل لا يختلف شاهدا وغائبا ، فإذا كان تعالى قديما وهذه الاجسام محدثة كانت معدومه ثم وجدت ، يدل على أنها غير الموصوف بأنه خالقها ومدبرها .(1/77)
انقضى كلامه ، وحكايته تغنى عن الرد عليه .
ثم قال : الاول ، على وزن " أفعل " يستوي فيه المذكر والمؤنث ، إذا لم يكن فيه الالف واللام ، فإذا كانا فيه قيل للمؤنث " الاولى " .
وهذا غير صحيح ، لانه يقال : كلمت فضلاهن ، وليس فيه (1) ألف ولام ، وكان ينبغي أن يقول إذا كان منكرا مصحوبا بمن استوى المذكر والمؤنث في لفظ " أفعل " ، تقول : زيد أفضل من عمرو ، وهند أحسن من دعد .
* * * الاصل كائن لا عن حدث ، موجود لا عن عدم ، مع كل شئ بمقارنة ، وغير كل شئ لا بمزايلة .
فاعل لا بمعنى الحركات والآلة .
بصير ، إذ لا منظور إليه من خلقه .
متوحد ، إذ لا سكن يستأنس به ، ولا يستوحش لفقده .
أنشأ الخلق إنشاء ، وابتدأه ابتداء ، بلا روية أجالها ، ولا تجربة استفادها ، ولا حركة أحدثها ، ولا همامة نفس اضطرب فيها .
أحال الاشياء لاوقاتها ، ولاءم بين مختلفاتها ، وغرز غرائزها ، وألزمها أشباحها ، عالما بها قبل ابتدائها ، محيطا بحدودها وانتهائها ، عارفا بقرائنها وأحنائها .
* * * الشرح : قوله عليه السلام : " كائن " ، وإن كان في الاصطلاح العرفي مقولا على ما ينزه البارئ عنه ، فمراده (2) به المفهوم اللغوي ، وهو اسم فاعل من " كان " بمعنى وجد : كأنه قال : موجود غير محدث .
__________
(1) ب : " فيهن " .
(2) إ : " فمراد " .
(*)(1/78)
فإن قيل : فقد قال بعده : " موجود لا عن عدم " فلا يبقى بين الكلمتين فرق .
قيل : بينهما فرق ، ومراده بالموجود لا عن عدم هاهنا وجوب وجوده ونفي إمكانه ، لان من أثبت قديما ممكنا ، فأنه وإن نفى حدوثه الزماني فلم ينف حدوثه الذاتي ، وأمير المؤمنين عليه السلام نفى عن البارئ تعالى في الكلمة الاولى الحدوث الزماني ، ونفى عنه في الكلمة الثانية الذاتي .
وقولنا في الممكن : إنه موجود من عدم ، صحيح عند التأمل ، لا بمعنى أن عدمه سابق له زمانا ، بل سابق لوجوده ذاتا ، لان الممكن يستحق من ذاته أنه لا يستحق الوجود من ذاته .
وأما قوله : " مع كل شئ لا بمقارنة " ، فمراده بذلك أنه يعلم الجزئيات والكليات كما قال سبحانه : " ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم " (1) .
وأما (2) قوله : " وغير كل شئ لا بمزايلة " ، فحق ، لان الغيرين في الشاهد هما ما زايل أحدهما الآخر وباينه بمكان أو زمان ، والبارئ سبحانه يباين الموجودات مباينة منزهة عن المكان والزمان ، فصدق عليه أنه غير كل شئ لا بمزايلة .
وأما قوله : " فاعل لا بمعنى الحركات والآلة " ، فحق ، لان فعله اختراع ، والحكماء يقولون : إبداع ، ومعنى الكلمتين واحد ، وهو أنه يفعل لا بالحركة والآلة كما يفعل الواحد منا ، ولا يوجد شيئا من شئ .
وأما قوله : " بصير إذ لا منظور إليه من خلقه " ، فهو حقيقة مذهب أبي هاشم (3) رحمه الله وأصحابه ، لانهم يطلقون عليه في الازل أنه سميع بصير ، وليس هناك مسموع ولا مبصر ، ومعنى ذلك كونه بحال يصح منه إدراك المسموعات والمبصرات إذا وجدت ،
__________
(1) سورة المجادلة 7 .
(2) أ : " فأما " .
(3) هو أبو هاشم عبد السلام بن أبي محمد الجبائي المتكلم المشهور ، وأحد كبار المعتزلة ، وله مقالات في هذا المذهب زخرت بها كتب الكلام .
توفي سنة 321 .
(ابن خلكان 1 : 292) .
(*)(1/79)
وذلك يرجع إلى كونه حيا لا آفة به ، ولا يطلقون عليه أنه سامع مبصر في الازل ، لان السامع المبصر هو المدرك بالفعل لا بالقوه .
وأما قوله : " متوحد إذ لا سكن يستأنس به ، ويستوحش لفقده " ، ف " إذ " هاهنا ظرف ، ومعنى الكلام أن العادة والعرف إطلاق " متوحد " على من قد كان له من يستأنس بقربه ويستوحش ببعده فأنفرد عنه ، والبارئ سبحانه يطلق عليه أنه متوحد في الازل ولا موجود سواه ، وإذا صدق سلب الموجودات كلها في الازل صدق سلب ما يؤنس أو يوحش ، فتوحده سبحانه بخلاف توحد غيره .
وأما قوله عليه السلام : " أنشأ الخلق إنشاء ، وأبتدأه إبتداء " ، فكلمتان مترادفتان على طريقة الفصحاء والبلغاء ، كقوله سبحانه : " لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب " (1) .
وقوله : " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " (2) .
وقوله : " بلا روية أجالها " ، فالروية الفكرة ، وأجالها : رددها ، ومن رواه : " أحالها " بالحاء ، أراد صرفها .
وقوله : " ولا تجربة استفادها " ، أي لم يكن قد خلق من قبل أجساما فحصلت له التجربة التي إعانته على خلق هذه الاجسام .
وقوله : " ولا حركة أحدثها " ، فيه رد على الكرامية الذين يقولون : إنه إذا أراد أن يخلق شيئا مباينا عنه أحدث في ذاته حادثا ، يسمى الاحداث ، فوقع ذلك الشئ المباين عن ذلك المعنى المتجدد المسمى إحداثا .
وقوله : " ولا همامة نفس اضطرب فيها " ، فيه رد على المجوس والثنوية القائلين بالهمامة ، ولهم فيها خبط طويل يذكره أصحاب المقالات ، وهذا يدل على صحة ما يقال : أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يعرف آراء المتقدمين والمتأخرين ، ويعلم العلوم كلها ، وليس ذلك ببعيد من فضائله ومناقبه عليه السلام .
__________
(1) سورة فاطر 35 .
(2) سورة المائدة 48 .
(*)(1/80)
وأما قوله : " أحال الاشياء لاوقاتها " ، فمن رواها : " أحل الاشياء لاوقاتها " ، فمعناه جعل محل كل شئ ووقته ، كمحل الدين .
ومن رواها : " أحال " فهو من قولك : حال في متن فرسه ، أي وثب ، وأحاله غيره ، أي أوثبه على متن الفرس ، عداه بالهمزة ، وكأنه لما أقر الاشياء في أحيانها وأوقاتها صار كمن أحال غيره على فرسه .
وقوله : " ولاءم بين مختلفاتها " ، أي جعل المختلفات ملتئمات (1) ، كما قرن النفس الروحانية بالجسد الترابي ، جلت عظمته ! .
وقوله : " وغرز غرائزها " ، المروي بالتشديد ، والغريزة الطبيعة ، وجمعها غرائز ، وقوله : " غرزها " ، أي جعلها غرائز ، كما قيل : سبحان من ضوأ الاضواء ! ويجوز أن يكون من غرزت الابرة بمعنى غرست .
وقد رأيناه في بعض النسخ بالتخفيف .
وقوله : " وألزمها أشباحها " ، الضمير المنصوب في " ألزمها " عائد إلى الغرائز ، أي ألزم الغرائز أشباحها ، أي أشخاصها ، جمع شبح ، وهذا حق ، لان كلا مطبوع على غريزة لازمة ، فالشجاع لا يكون جبانا ، والبخيل لا يكون جوادا ، وكذلك كل الغرائز لازمة لا تنتقل .
وقوله : " عالما بها قبل ابتدائها " ، إشارة إلى أنه عالم بالاشياء فيما لم يزل .
وقوله : " محيطا بحدودها وانتهائها " ، أي بأطرافها ونهاياتها .
وقوله : " عارفا بقرائنها وأحنائها " ، القرائن جمع قرونه (2) ، وهي النفس .
والاحناء الجوانب ، جمع حنو ، يقول : أنه سبحانه عارف بنفوس هذه الغرائز التي ألزمها أشباحها ، عارف بجهاتها وسائر أحوالها المتعلقه بها والصادره عنها .
* * *
__________
(1) ب : " ملتئمة " ، وما أثبته عن أ .
(2) ومنه قول أوس بن حجر : فلاقي امرأ من ميدعان وأسمحت * قرونته باليأس منها فعجلا أي طابت نفسه بتركها .
(*)(1/81)
فأما القطب الراوندي فأنه قال : معنى قوله عليه السلام : " كائن لا عن حدث ، موجود لا عن عدم " : إنه لم يزل موجودا ، ولا يزال موجودا ، فهو باق أبدا كما كان موجودا أولا ، وهذا ليس بجيد ، لان اللفظ لا يدل على ذلك ولا فيه تعرض بالبقاء فيما لا يزال .
وقال أيضا : قوله عليه السلام : " لا يستوحش " ، كلام مستأنف .
ولقائل أن يقول : كيف يكون كلاما مستأنفا ، والهاء " في فقده " ترجع إلى " السكن " المذكور أولا ! .
وقال أيضا : يقال ما له في الامر همة ولا همامة ، أي لا يهم به ، والهمامة : التردد ، كالعزم .
ولقائل أن يقول : العزم هو إرادة جازمة حصلت بعد التردد ، فبطل قوله : إن الهمامة هي نفس التردد كالعزم .
وأيضا فقد بينا مراده عليه السلام بالهمامة ، حكى زرقان (1) في كتاب " المقالات " وأبو عيسى الوراق (2) ، والحسن بن موسى (3) ، وذكره شيخنا أبو القاسم البلخي (4) في كتابه في " المقالات " أيضا عن الثنوية : أن النور الاعظم اضطربت عزائمه وإرادته في غزو الظلمة والاغارة عليها ، فخرجت من ذاته قطعة وهي الهمامة المضطربة في نفسه فخالطت الظلمة غازية لها ، فاقتطعتها الظلمة عن النور الاعظم ، وحالت بينها وبينه ، وخرجت همامة الظلمة غازية للنور الاعظم ، فاقتطعها النور الاعظم عن الظلمة ، ومزجها بأجزائه ، وامتزجت همامة النور بأجزاء الظلمة أيضا ، ثم ما زالت الهمامتان تتقاربان
__________
(1) هو زرقان المتكلم ، تلميذ إبراهيم بن سيار النظام ، وقد حكى زرقان عن النظام أقوالا في الفرق 50 - 51 ، وذكره المسعودي في التنبيه والاشراف 342 .
(2) هو أبو عيسى محمد بن هارون الوراق ، كان من نظاري المعتزلة ، وله تصاينف على مذهبهم .
توفي سنة 247 .
لسان الميزان 5 : 412 .
(3) هو أبو محمد الحسن بن موسى النوبختي ، من متكلمي الامامية ، وذكره الطوسي في طبقاتهم ، عاش في القرن الثالث .
لسان الميزان 2 : 258 ، روضات الجنات 31 ، تنقيح المقال 1 : 312 .
(4) هو أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي الكعبي ، شيخ المعتزلة ، وكان على رأس طائفة منهم يقال لهم الكعبية ، توفي سنة 319 .
ابن خلكان 1 : 252 .
(*)(1/82)
وتتدانيان وهما ممتزجتان ، بأجزاء هذا وهذا ، حتى أنبنى منهما هذا العالم المحسوس .
ولهم في الهمامة كلام مشهور ، وهي لفظة اصطلحوا عليها ، واللغة العربية ما عرفنا فيها استعمال الهمامة بمعنى الهمة ، والذي عرفناه الهمة والهمة ، بالكسر والفتح ، والمهمة ، وتقول : لا همام لي بهذا الامر ، مبني على الكسر كقطام ، ولكنها لفظة اصطلاحيه مشهورة عند أهلها .
الاصل : ثم أنشأ سبحانه فتق الاجواء ، وشق الارجاء ، وسكائك الهواء ، فأجرى (1) فيها ماء متلاطما تياره ، متراكما زخاره ، حمله على متن الريح العاصفة ، والزعزع القاصفة ، فأمرها برده ، وسلطها على شده ، وقرنها إلى حده ، الهواء من تحتها فتيق ، والماء من فوقها دفيق .
ثم أنشأ سبحانه ريحا اعتقم مهبها ، وأدام مربها ، وأعصف مجراها ، وأبعد منشاها ، فأمرها بتصفيق الماء الزخار ، وإثاره موج البحار ، فمخضته مخض السقاء ، وعصفت به عصفها بالفضاء ، ترد أوله على آخره ، وساجيه إلى (2) مائره ، حتى عب عبابه ، ورمى بالزبد ركامه ، فرفعه في هواء منفتق ، وجو منفهق ، فسوى منه سبع سموات جعل سفلاهن موجا مكفوفا ، وعلياهن سقفا محفوظا ، وسمكا مرفوعا ، بغير عمد يدعمها ، ولا دسار ينتظمها (3) .
ثم زينها بزينة الكواكب ، وضياء الثواقب ، وأجرى فيها سراجا مستطيرا ، وقمرا منيرا ، في فلك دائر ، وسقف سائر ، ورقيم مائر .
__________
(1) أ : " فأجاز " ، وكذلك في مخطوطة النهج .
(2) أ " على " ، وكذلك في مخطوطة النهج .
(3) مخطوطة النهج : " ينتظمها " .
(*)(1/83)
الشرح : لسائل أن يسأل فيقول : ظاهر هذا الكلام أنه سبحانه خلق الفضاء والسموات بعد خلق كل شئ ، لانه قد قال قبل : " فطر الخلائق ، ونشر الرياح ، ووتد الارض بالجبال " ، ثم عاد فقال : " أنشأ الخلق إنشاء ، وابتدأه ابتداء " ، وهو الآن يقول : " ثم أنشأ سبحانه فتق الاجواء " ، ولفظة " ثم " للتراخي .
فالجواب أن قوله (1) : " ثم " هو تعقيب وتراخ ، لا في مخلوقات البارئ سبحانه ، بل في كلامه عليه السلام ، كأنه يقول : ثم أقول الآن بعد قولي المتقدم : إنه تعالى أنشأ فتق الاجواء .
ويمكن أن يقال : أن لفظة " ثم " هاهنا تعطي معنى الجمع المطلق كالواو ، ومثل ذلك قوله تعالى : " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى " (2) .
واعلم أن كلام أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الفصل يشتمل على مباحث : منها : أن ظاهر لفظه أن الفضاء الذي هو الفراغ الذي يحصل فيه الاجسام خلقه الله تعالى ولم يكن من قبل ، وهذا يقتضي كون الفضاء شيئا ، لان المخلوق لا يكون عدما محضا .
وليس ذلك ببعيد ، فقد ذهب إليه قوم من أهل النظر ، وجعلوه جسما لطيفا خارجا عن مشابهة هذه الاجسام .
ومنهم من جعله مجردا .
فان قيل : هذا الكلام يشعر بأن خلق الاجسام في العدم المحض قبل خلق الفضاء ليس بممكن ، وهذا ينافي العقل .
قيل : بل هذا هو محض مذهب الحكماء ، فأنهم يقولون إنه لا يمكن وجود جسم
__________
(1) كذا في أ ، وفي ب : " فالجواب قوله " .
(2) سورة طه 82 .
(*)(1/84)
ولا حركة جسم خارج الفلك الاقصى ، وليس ذلك إلا لاستحالة وجود الاجسام وحركتها ، إلا في الفضاء .
ومنها إن البارئ - سبحانه - خلق في الفضاء الذي أوجده ماء جعله على متن الريح ، فاستقل عليها وثبت وصارت مكانا له ، ثم خلق فوق ذلك الماء ريحا أخرى سلطها عليه فموجته تمويجا شديدا حتى ارتفع ، فخلق منه السموات .
وهذا أيضا قد قاله قوم من الحكماء ، ومن جملتهم تاليس الاسكندراني ، وزعم أن الماء أصل كل (1) العناصر ، لانه إذا انجمد صار أرضا ، وإذا لطف صار هواء ، والهواء يستحيل نارا ، لان النار صفوة الهواء .
ويقال : إن في التوراة في أول السفر الاول كلاما يناسب هذا ، وهو أن الله تعالى خلق جوهرا ، فنظر إليه نظر الهيبة ، فذابت أجزاؤه فصارت ماء ، ثم ارتفع من ذلك الماء بخار كالدخان ، (2 فخلق منه السموات ، وظهر على وجه ذلك الماء زبد 2) ، فخلق منه الارض ، ثم أرساها بالجبال .
ومنها : أن السماء الدنيا موج مكفوف ، بخلاف السموات الفوقانية .
وهذا أيضا قول قد ذهب إليه قوم ، واستدلوا عليه بما نشاهده (3) من حركة الكواكب المتحيرة وارتعادها في مرأى (4) العين واضطرابها .
قالوا : لان المتحيرة متحركة في أفلاكها ، ونحن نشاهدها بالحس البصري ، وبيننا وبينها أجرام الافلاك الشفافة ، ونشاهدها مرتعدة حسب ارتعاد الجسم السائر في الماء ، وما ذاك إلا لان السماء الدنيا ماء متموج ، فارتعاد الكواكب
__________
(1) كلمة " كل " ساقطة من أ .
(2 - 2) ساقط من أ .
(3) ب : " شاهده " .
(4) إ : " مرائي " .
(*)(1/85)
المشاهدد حسا إنما هو بحسب ارتعاد أجزاء الفلك الادنى .
قالوا فأما الكواكب الثابتة فإنما (1) لم نشاهدها كذلك ، لانها ليست بمتحركة ، وأما القمر وإن كان في السماء الدنيا ، إلا أن فلك تدويره من جنس الاجرام الفوقانية ، وليس بماء متموج كالفلك الممثل التحتاني .
وكذلك القول في الشمس .
ومنها : أن الكواكب في قوله : " ثم زينها بزينة الكواكب " أين هي ؟ فإن اللفظ محتمل ، وينبغي أن يتقدم على ذلك بحث في أصل قوله تعالى : " إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب .
وحفظا من كل شيطان مارد " (2) .
فنقول : إن ظاهر هذا اللفظ أن الكواكب في السماء الدنيا ، وأنها جعلت فيها حراسة للشياطين من استراق السمع ، فمن دنا منهم لذلك رجم بشهاب ، وهذا هو الذي يقتضيه ظاهر اللفظ .
ومذهب الحكماء أن السماء الدنيا ليس فيها إلا القمر وحده ، وعندهم أن الشهب المنقضة هي آثار تظهر في الفلك الاثيري الناري الذي تحت فلك القمر ، والكواكب لا ينقض منها شئ ، والواجب التصديق بما في ظاهر لفظ الكتاب العزيز ، وأن يحمل كلام أمير المؤمنين عليه السلام على مطابقته ، فيكون الضمير في قوله : " زينها " راجعا إلى " سفلاهن " ، التي قال " إنها موج مكفوف " ، (3) ويكون الضمير في قوله : " وأجرى فيها " راجعا إلى جملة السموات : إذا وافقنا الحكماء في أن الشمس في السماء الرابعة .
ومنها : أن ظاهر الكلام يقتضي أن خلق السموات بعد خلق الارض ، أ لا تراه كيف لم يتعرض فيه لكيفية خلق الارض أصلا ! وهذا قول قد ذهب إليه جماعة من أهل الملة ،
__________
(1) أ : " فإنا " .
(2) سورة الصافات 6 ، 7 .
(3) أ : " فيكون " .
(*)(1/86)
واستدلوا (1) عليه بقوله تعالى : " قل أ ئنكم لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين " (2) ، ثم قال : " ثم أستوى إلى السماء وهي دخان " (3) .
ومنها : أن الهاء في قوله : " فرفعه في هواء منفتق " والهاء في قوله : " فسوى منه سبع سموات " إلى ماذا ترجع ؟ فإن آخر المذكورات قبلها " الزبد " .
وهل يجوز أن تكون السموات مخلوقة من زبد الماء ؟ الحق أن الضمائر ترجع إلى الماء الذي عب عبابه ، لا إلى الزبد ، فإن أحدا لم يذهب إلى أن السماء مخلوقة من زبد الماء ، وإنما قالوا : إنها مخلوقة من بخاره .
ومنها : أن يقال : أن البارئ سبحانه قادر على خلق الاشياء إبداعا واختراعا ، فما الذي اقتضى أن خلق المخلوقات على هذا الترتيب ؟ وهلا أوجدها إيجاد الماء الذي ابتدعه أولا من غير شئ ! .
فيقال في جواب ذلك على طريق أصحابنا : لعل إخباره للمكلفين بذلك على هذا الترتيب يكون لطفا لهم ، ولا يجوز الاخبار منه تعالى إلا والمخبر عنه مطابق للاخبار .
فهذا حظ المباحث المعنوية من هذا الفصل .
* * * ثم نشرع في تفسير ألفاظه : أما الاجواء فجمع جو ، والجو هنا الفضاء العالي بين السماء والارض .
والارجاء :
__________
(1) إ : " استدلوا " (2) سورة فصلت 9 .
(3) سورة فصلت 10 .
(*)(1/87)
الجوانب ، واحدها رجا مثل عصا .
والسكائك : جمع سكاكة ، وهي أعلى الفضاء ، كما قالوا : ذؤابة وذوائب .
والتيار : الموج ، والمتراكم : الذي بعضه فوق بعض .
والزخار : الذي يزخر ، أي يمتد ويرتفع .
والريح الزعزع : الشديدة الهبوب ، وكذلك القاصفة ، كأنها تهلك الناس بشدة هبوبها .
ومعنى قوله : " فأمرها برده " ، أي بمنعه عن الهبوط ، لان الماء ثقيل ، ومن شأن الثقيل الهوي .
ومعنى قوله : " وسلطها على شده " ، أي على وثاقه ، كأنه سبحانه لما سلط الريح على منعه من الهبوط ، فكأنه قد شده بها وأوثقه ومنعه من الحركة .
ومعنى قوله : " وقرنها دإلى حده " ، أي جعلها مكانا له ، أي جعل حد الماء المذكور - وهو سطحه الاسفل - مما ساطح الريح التي تحمله وتقله .
والفتيق : المفتوق المنبسط .
والدفيق : المدفوق .
واعتقم مهبها ، أي جعل هبوبها عقيما ، والريح العقيم : التي لا تلقح سحابا ولا شجرا ، وكذلك كانت تلك الريح المشار إليها ، لانه سبحانه إنما خلقها لتمويج الماء فقط .
وأدام مربها ، أي ملازمتها ، أرب بالمكان مثل ألب به ، أي لازمه .
ومعنى قوله : " وعصفت به عصفها بالفضاء " ، فيه (1) معنى لطيف ، يقول : إن الريح إذا عصفت بالفضاء الذي لا أجسام فيه كان عصفها شديدا لعدم المانع ، وهذه الريح عصمت بذلك الماء العظيم عصفا شديدا ، كأنها تعصف في فضاء لا ممانع لها فيه من الاجسام .
والساجي : الساكن .
والمائر : الذي يذهب ويجئ .
وعب عبابة : أي ارتفع أعلاه .
وركامه : ثبجه وهضبته (2) .
والجو المنفهق : المفتوح الواسع .
والموج المكفوف : الممنوع من السيلان .
وعمد يدعمها : يكون لها دعامة .
والدسار : واحد الدسر وهي المسامير .
والثواقب النيرة : المشرقة .
وسراجا مستطيرا ، أي منتشر الضوء ، يقال : قد استطار
__________
(1) كلمة " فيه " ساقطة من ب .
(2) أ : " هضبه " ؟ .
(*)(1/88)
الفجر ، أي انتشر ضوءه .
ورقيم مائر ، أي لوح متحرك ، سمي الفلك رقيما تشبيها باللوح ، لانه مسطح .
* * * فأما القطب الراوندي فقال : إنه عليه السلام ذكر قبل هذه الكلمات أنه أنشأ حيوانا له أعضاء وأحناء ، ثم ذكر هاهنا أنه فتق السماء ، وميز بعضها عن بعض ، ثم ذكر أن بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام ، وهي سبع سموات وكذلك بين كل أرض وأرض ، وهي سبع أيضا .
وروى حديث البقرة التي تحمل الملك الحامل للعرش ، والصخرة التي تحمل البقرة ، والحوت الذي يحمل الصخرة .
* * * ولقائل أن يقول : إنه عليه السلام لم يذكر فيما تقدم أن الله تعالى خلق حيوانا ذا أعضاء ، ولا قوله الآن : " ثم أنشأ سبحانه فتق الاجواء " ، هو معنى قوله تعالى : " أن السموات والارض كانتا رتقا ففتقناهما " (1) ، أ لا تراه كيف صرح عليه السلام بأن البارئ سبحانه خلق الهواء الذي هو الفضاء ، وعبر عن ذلك بقوله : " ثم أنشأ سبحانه فتق الاجواء " ، وليس فتق الاجواء هو فتق السماء ! .
فإن قلت : فكيف يمكن التطبيق بين كلامه عليه السلام وبين الايه ؟ قلت : إنه تعالى لما سلط الريح على الماء فعصفت به ، حتى جعلته بخارا وزبدا ، وخلق من أحدهما السماء ومن الآخر الارض ، كان فاتقا لهما من شئ واحد ، وهو الماء .
فأما حديث البعد بين السموات وكونه مسيرة خمسمائة عام بين كل سماء وسماء ، فقد ورد ورودا لم يوثق به ، وأكثر (2) الناس على خلاف ذلك .
وكون الارض سبعا أيضا
__________
(1) سورة الانبياء 30 .
(2) أ : " فأكثر 2 ، وما أثبته عن أ ب .
(*)(1/89)
خلاف ما يقوله جمهور العقلاء ، وليس في القرآن العزيز ما يدل على تعدد الارض إلا قوله تعالى : " ومن الارض مثلهن " (1) ، وقد أولوه على الاقاليم السبعة .
وحديث الصخرة والحوت والبقرة من الخرافات في غالب الظن ، والصحيح أن الله تعالى يمسك الكل بغير واسطة جسم آخر .
* * * ثم قال الراوندي : السكائك : جمع سكاك ، وهذا (2) غير جائز ، لان " فعالا " لا يجمع على " فعائل " ، وإنما هو جمع سكاكة ، ذكر ذلك الجوهري (3) .
ثم قال : " وسلطها على شده " ، الشد : العدو .
ولا يجوز حمل الشد هاهنا على العدو ، لانه لا معنى له ، والصحيح ما ذكرناه .
وقال في تفسير قوله عليه السلام : " جعل سفلاهن موجا مكفوفا " ، أراد تشبيهها بالموج لصفائها واعتلائها ، فيقال له : إن الموج ليس بعال ليشبه به الجسم العالي ، وأما صفاؤه فإن كل السموات صافية ، فلماذا خص سفلاهن بذلك ! .
ثم قال : ويمكن أن تكون السماء السفلى قد كانت أول ما وجدت موجا ثم عقدها .
يقال له : والسموات الاخر كذلك كانت ، فلماذا خص السفلى بذلك ! .
ثم قال : الريح الاولى غير الريح الثانية ، لان أحداهما معرفة والاخرى نكرة ، وهذا مثل قوله : صم اليوم ، صم يوما ، فإنه يقتضي يومين .
يقال له : ليست المغايرة بينهما مستفادة من مجرد التعريف والتنكير ، لانه لو كان قال
__________
(1) سورة الطلاق 12 .
(2) ب : " وهو " ، وما أثبته عن أ .
(3) الصحاح ص 1591 ، والذي فيه : " والسكاك والسكاكة : الهواء الذي يلاقي أعنان السماء " .
(*)(1/90)
عليه السلام : " وحمله على متن ريح عاصفة وزعزع قاصفة " لكانت الريحان الاولى والثانية منكرتين معا ، وهما متغايرتان ، وإنما علمنا تغايرهما ، لان أحداهما تحت الماء ، والاخرى فوقه ، والجسم الواحد لا يكون في جهتين .
* * * الاصل : ثم فتق ما بين السموات العلا ، فملاهن أطوارا من ملائكته ، منهم سجود لا يركعون ، وركوع لا ينتصبون ، وصافون لا يتزايلون ، ومسبحون لا يسأمون ، لا يغشاهم نوم العيون ، ولا سهو العقول ، ولا فترة الابدان ، ولا غفلة النسيان .
ومنهم أمناء على وحيه ، وألسنة إلى رسله ، ومختلفون بقضائه (1) وأمره .
ومنهم الحفظة لعباده ، والسدنة لابواب جنانه .
ومنهم الثابتة في الارضين السفلى أقدامهم ، والمارقة من السماء العليا أعناقهم ، والخارجة من الاقطار إركانهم ، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم ، ناكسة دونه أبصارهم ، متلفعون تحته بأجنحتهم ، مضروبة بينهم وبين من دونهم حجب العزة وأستار القدرة ، لا يتوهمون ربهم بالتصوير ، ولا يجرون عليه صفات المصنوعين ، ولا يحدونه بالاماكن ، ولا يشيرون إليه بالنظائر .
* * * الشرح : القول في الملائكة وأقسامهم الملك عند المعتزلة حيوان نوري ، فمنه شفاف عادم اللون كالهواء ، ومنه ملون بلون الشمس .
والملائكة عندهم قادرون عالمون أحياء ، بعلوم وقدر وحياة ، كالواحد منا ، ومكلفون كالواحد منا ، إلا أنهم معصومون .
ولهم في كيفية تكليفهم كلام ، لان التكليف
__________
(1) مخطوطة النهج : " لقضائه " .
(*)(1/91)
مبني على الشهوة ، وفي كيفية خلق الشهوة فيهم نظر ، وليس هذا الكتاب موضوعا للبحث في ذلك .
وقد جعلهم عليه السلام في هذا الفصل أربعه أقسام : القسم الاول : أرباب العبادة ، فمنهم من هو ساجد أبدا لم يقم من سجوده ليركع ، ومنهم من هو راكع أبدا لم ينتصب قط ، ومنهم الصافون في الصلاة بين يدي خالقهم لا يتزايلون ، ومنهم المسبحون الذين لا يملون التسبيح والتحميد له سبحانه .
والقسم الثاني : السفراء بينه تعالى وبين المكلفين من البشر بتحمل الوحي الالهي إلى الرسل والمختلفون بقضائه وأمره إلى أهل الارض .
والقسم الثالث : ضربان أحدهما حفظة العباد كالكرام الكاتبين ، وكالملائكة الذين يحفظون البشر من المهالك والورطات ، ولو لا ذلك لكان العطب أكثر من السلامة .
وثانيهما سدنة الجنان .
القسم الرابع : حمله العرش .
ويجب أن يكون الضمير في " دونه " - وهو الهاء - راجعا إلى العرش لا إلى البارئ سبحانه .
وكذلك الهاء في قوله : " تحته " .
ويجب أن تكون الاشارة بقوله : " وبين من دونهم " إلى الملائكة الذين دون هؤلاء في الرتبه .
فأما ألفاظ الفصل فكلها غنيه عن التفسير إلا يسيرا ، كالسدنة جمع سادن وهو الخادم ، والمارق : الخارج .
وتلفعت بالثوب ، أي التحفت به .
* * * وأما (1) القطب الراوندي فجعل الامناء على الوحي وحفظة العباد وسدنة الجنان
__________
(1) أ : " فأما " .
(*)(1/92)
قسما واحدا فأعاد الاقسام الاربعة إلى ثلاثه وليس بجيد لانه قال ومنهم الحفظه فلفظه ومنهم تقتضي كون الاقسام أربعه لانه بها فصل بين الاقسام .
وقال أيضا معنى قوله عليه السلام " لا يغشاهم نوم العيون " يقتضى أن لهم نوما قليلا يغفلهم عن ذكر الله سبحانه فأما البارئ سبحانه فإنه لا تأخذه سنة ولا نوم أصلا مع أنه حى وهذه هي المدحه العظمى .
ولقائل أن يقول لو ناموا قليلا لكانوا زمان ذلك النوم - وان قل - غافلين عن ذكر الله سبحانه لان الجمع بين النوم وبين الذكر مستحيل .
والصحيح أن الملك لا يجوز عليه النوم كما لا يجوز عليه الاكل والشرب لان النوم من توابع المزاج والملك لا مزاج له وأما مدح البارئ بأنه لا تأخذه سنه ولانوم فخارج عن هذا الباب لانه تعالى يستحيل عليه النوم استحالة ذاتيه لا يجوز تبدلها والملك يجوز أن يخرج عن كونه ملكا بأن يخلق في أجزاء جسمه رطوبأ ويبوسة وحرارة وبروده يحصل من اجتماعها مزاج ويتبع ذلك المزاج النوم فاستحاله النوم عليه إنما هي ما دام ملكا فهو كقولك : الماء بارد أي ما دام ماء لانه يمكن ان يستحيل هواء ثم نارا فلا يكون باردا لانه ليس حينئذ ماء .
والبارئ جلت عظمته يستحيل على ذاته ان يتغير فاستحال عليه النوم استحاله مطلقة مع أنه حى ومن هذا انشاء التمدح وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله أن الله خلق الخلق أربعه أصناف الملائكة والشياطين والجن والانس ثم جعل الاصناف الاربعة عشره أجزاء فتسعه منها الملائكه وجزء واحد الشياطين والجن والانس ثم جعل هؤلاء الثلاثه عشره أجزاء فتسعة منها الشياطين وجزء واحد الجن والانس ثم جعل الجن والانس عشره أجزاء فتسعة منها الجن وجزء واحد الانس " .(1/93)
وفى الحديث الصحيح : إن الملائكة كانت تصافح عمران بن الحصين وتزوره ، ثم افتقدها ، فقال : يارسول الله ، إن رجالا كانوا يأتوننى لم أر أحسن وجوها ، ولا أطيب أرواحا منهم ، ثم انقطعوا .
فقال عليه السلام : " أصابك جرح فكنت تكتمه " ؟ فقال : أجل ، قال : " ثم أظهرته " ؟ قال : أجل ، قال : " أما لو أقمت على كتمانه لزارتك الملائكه إلى أن تموت " ، وكان هذا الجرح أصابه في سبيل الله .
وقال سعيد بن المسيب وغيره : الملائكة ليسوا بذكور ولا إناث ، ولا يتوالدون ولا يأكلون ولا يشربون ، والجن يتوالدون وفيهم ذكور وإناث ويموتون ، والشياطين ذكور وإناث ، ويتوالدون ولا يموتون حتى يموت إبليس .
وقال النبي صلى الله عليه وآله في رواية أبى ذر : " إنى أرى ما لا ترون ، وأسمع ما لا تسمعون ، أطت السماء وحق لها أن تئط (1) فما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد واضع جبهته لله ، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ، ولبكيتم كثيرا ، وما تلذذتم بالنساء على الفرش ، ولخرجتم إلى الفلوات تجأرون إلى الله ، والله لوددت أنى كنت شجرة تعضد " (2) .
قلت : ويوشك هذه الكلمة الاخيرة أن تكون قول أبى ذر .
واتفق أهل الكتب على أن رؤساء الملائكه وأعيانهم أربعة : جبرائيل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وعزرائيل ، وهو ملك الموت .
وقالوا : إن إسرافيل صاحب الصور ، وإليه النفخة ، وإن ميكائيل صاحب النبات والمطر ، وإن عزرائيل على أرواح الحيوانات ، وإن جبرائيل على جنود السموات والارض كلها وإليه تدبير الرياح ، وهو ينزل إليهم كلهم بما يؤمرون به .
__________
(1) ذكره ابن الاثير في النهايه 1 : 35 ، وقال : " الاطيط : صوت الاقتاب ، وأطيط الابل : أصواتها وحنينها ، أي أن كثرة ما فيها من الملائكة قد أثقلها حتى أطت ، وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة ، وإن لم يكن ثم أطيط ، وإنما هو كلام تقريب ، أريد به تقرير عظمة الله تعالى " .
(2) تعضد : تقطع ، وانظر النهاية لابن الاثير 3 : 104 .
(*)(1/94)
وروى أنس بن مالك أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله : ما هؤلاء الذين استثنى بهم في قوله تعالى : (فصعق من في السموات ومن في الارض إلا من شاء الله) ؟ (1) فقال : " جبرائيل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وعزرائيل ، فيقول الله عزوجل لعزرائيل : يا ملك الموت ، من بقى ؟ وهو سبحانه أعلم - فيقول : سبحانك ربى ذا الجلال والاكرام ! بقى جبرائيل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وملك الموت - فيقول : يا ملك الموت ، خذ نفس إسرافيل ، فيقع في صورته التى خلق عليها كأعظم ما يكون من الاطواد ، ثم يقول : - وهو أعلم - من بقى يا ملك الموت ؟ فيقول : سبحانك ربى يا ذا الجلال والاكرام ! جبرائيل وميكائيل ، وملك الموت ، فيقول : خذ نفس ميكائيل ، فيقع في صورته التى خلق عليها ، وهى أعظم ما يكون من خلق إسرافيل بأضعاف مضاعفة .
ثم يقول سبحانه : يا ملك الموت ، من بقى ؟ فيقول : سبحانك ربى ذاالجلال والاكرام : جبرائيل ، وملك الموت ، فيقول تعالى : يا ملك الموت ، مت فيموت ، ويبقى جبرائيل - وهو من الله تعالى بالمكان الذى ذكر لكم - فيقول الله : يا جبرائيل ، إنه لا بد من أن يموت أحدنا ، فيقع جبرائيل ساجدا يخفق بجناحيه ، يقول : سبحانك ربى وبحمدك ! أنت الدائم القائم الذى لا يموت ، وجبرائيل الهالك الميت الفاني ، فيقبض الله روحه ، فيقع على ميكائيل وإسرافيل ، وإن فضل خلقه على خلقهما كفضل الطود العظيم على الظرب (2) من الظراب .
وفى الاحاديث الصحيحة أن جبرائيل كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله على صورة دحية الكلبى ، وإنه كان يوم بدر على فرس اسمه حيزوم ، وإنه سمع ذلك اليوم صوته : أقدم حيزوم .
__________
(1) سورة الزمر 68 .
(2) الضرب ، ككتف : الجبل الصغير .
(*)(1/95)
والكروبيون (1) عند أهل الملة سادة الملائكة ، كجبرائيل وميكائيل .
وعند الفلاسفة أن سادة الملائكة هم الروحانيون - يعنون العقول الفعالة وهى المفارقة للعالم الجسماني المسلوبة التعلق به ، لا بالحول ولا بالتدبير .
وأما الكروبيون فدون الروحانيين في المرتبة وهى أنفس الافلاك المدبرة لها ، الجارية منها مجرى نفوسنا مع أجسامنا .
ثم هي على قسمين : قسم أشرف وأعلى من القسم الآخر ، فالقسم الاشرف ما كان نفسا ناطقة غير حالة في جرم الفلك ، كأنفسنا بالنسبة إلى أبداننا .
والقسم الثاني ما كان حالا في جرم الفلك ، ويجرى ذلك مجرى القوى التى في أبداننا ، كالحس المشترك والقوة الباصرة .
* * * الاصل : منها في صفة آدم عليه السلام : ثم جمع سبحانه من حزن الارض وسهلها ، وعذبها وسبخها تربة سنها بالماء حتى خلصت ، ولاطها بالبلة حتى لزبت ، فجبل منها صورة ذات أحناء ، ووصول وأعضاء وفصول أجمدها حتى استمسكت ، وأصلدها حتى صلصلت ، لوقت معدود ، وأجل معلوم .
ثم نفخ فيها من روحه فتمثلت (2) إنسانا ذا أذهان يجيلها ، وفكر يتصرف بها ، وجوارح يختدمها ، وأدوات يقلبها ، ومعرفة يفرق بها بين الحق والباطل ، والاذواق والمشام ، والالوان والاجناس ، معجونا بطينته الالوان المختلفة ،
__________
(1) الكروبيون ، مخففة الراء - على ماقاله صاحب القاموس - : هم أقرب الملائكة إلى حملة العرش ، وأصله من الكرب وهو القرب ، قال أمية : ملائكة لا يفترون عبادة كروبية منهم ركوع وسجد (2) مخطوطة النهج : " فمثلت " (*)(1/96)
(1 والاشباه المؤتلفة 1) ، والاضداد المتعادية ، والاخلاط المتباينة ، من الحر والبرد ، والبلة والجمود ، والمساءة والسرور .
واستأدى الله سبحانه الملائكة وديعته لديهم ، وعهد وصيته إليهم ، في الاذعان بالسجود له ، والخنوع لتكرمته ، فقال لهم : (اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس) (2) وقبيله ، اعترتهم الحمية ، وغلبت عليهم الشقوة ، وتعززوا بخلقه النار ، واستوهنوا خلق الصلصال ، فأعطاه الله النظرة استحقاقا للسخطة ، واستتماما للبلية ، وإنجازا للعدة ، فقال : (فإنك من المنظرين .
إلى يوم الوقت المعلوم) (3) .
* * * الشرح : الحزن : ما غلظ من الارض .
وسبخها : ما ملح منها .
وسنها بالماء ، أي ملسها ، قال : ثم خاصرتها إلى القبة الخضراء تمشى في مرمر مسنون (4) أي مملس .
ولاطها ، من قولهم : لطت الحوض بالطين ، أي ملطته وطينته به .
والبلة بفتح الباء ، من البلل .
لزبت ، بفتح الزاى ، أي التصقت وثبتت .
فجبل منها ، أي خلق .
والاحناء : الجوانب ، جمع حنو .
وأصلدها : جعلها صلدا ، أي صلبا متينا .
وصلصلت : يبست ، وهو الصلصال .
ويختدمها : يجعلها في مآربه وأوطاره كالخدم الذين تستعملهم وتستخدمهم .
واستأدى الملائكة وديعته : طلب منهم أداءها .
والخنوع : الخضوع .
والشقوة ، بكسر الشين ، وفي الكتاب العزيز : (ربنا غلبت علينا
__________
(1 - 1) تكملة مخطوطة النهج .
(2) سورة البقرة 34 .
(3) سورة ص 80 ، 81 (4) لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت من أبيات يشبب فيها بأبنة معاوية ، كذا نسبه صاحب اللسان 17 : 88 ونقل عن ابن برى أنها تروى لابي دهبل .(1/97)
شقوتنا) (1) .
واستوهنوا : عدوه واهنا ضعيفا .
والنظرة ، بفتح النون وكسر الظاء : الامهال والتأخير .
فأما معاني الفصل فظاهرة ، وفيه مع ذلك مباحث : منها أن يقال : اللام في قوله : " لوقت معدود " بماذا تتعلق ؟ والجواب ، أنها تتعلق بمحذوف تقديره : " حتى صلصلت كائنة لوقت " ، فيكون الجار والمجرور في موضع الحال ، ويكون معنى الكلام أنه أصلدها حتى يبست وجفت معدة لوقت معلوم ، فنفخ حينئذ روحه فيها .
ويمكن أن تكون اللام متعلقة بقوله : " فجبل " أي جبل وخلق من الارض هذه الجثة لوقت ، أي لاجل وقت معلوم ، وهو يوم القيامة .
* * * ومنها أن يقال : لماذا قال : " من حزن الارض وسهلها ، وعذبها وسبخها " ؟ والجواب ، أن المراد من ذلك أن يكون الانسان مركبا من طباع مختلفة ، وفيه استعداد للخير والشر ، والحسن والقبح .
* * * ومنها أن يقال : لماذا أخر نفخ الروح في جثة آدم مدة طويلة ، فقد قيل : إنه بقى طينا تشاهده الملائكة أربعين سنة ، ولا يعلمون ما المراد به ؟ والجواب ، يجوز أن يكون في ذلك (2 لطف للملائكة ، لانهم تذهب ظنونهم في ذلك 2) كل مذهب ، فصار كإنزال المتشابهات الذى تحصل به رياضة الاذهان وتخريجها ، وفى ضمن ذلك يكون اللطف .
ويجوز أن يكون في إخبار ذرية آدم بذلك فيما بعد لطف لهم ، ولا يجوز إخبارهم بذلك إلا إذا كان المخبر عنه حقا .
__________
(1) سورة المؤمنين 106 .
(2 - 2) ساقط من ا .
(*)(1/98)
ومنها أن يقال : ما المعنى بقوله : " ثم نفخ فيها من روحه " ؟ الجواب ، أن النفس لما كانت جوهرا مجردا ، لا متحيزة ولا حالة في المتحيز ، حسن لذلك نسبتها إلى البارئ ، لانها أقرب إلى الانتساب إليه من الجثمانيات .
ويمكن أيضا أن تكون لشرفها مضافة إليه ، كما يقال : بيت الله للكعبة .
وأما النفخ فعبارة عن إفاضة النفس على الجسد ، ولما كان نفخ الريح في الوعاء عبارة عن إدخال الريح إلى جوفه ، وكان الاحياء عبارة عن إفاضة النفس على الجسد ، ويستلزم ذلك حلول القوى والارواح في الجثة باطنا وظاهرا ، سمى ذلك نفخا مجازا .
* * * ومنها أن يقال : ما معنى قوله : " معجونا بطينته الالوان المختلفة " ؟ الجواب : أنه عليه السلام قد فسر ذلك بقوله : " من الحر والبرد ، والبلة والجمود " ، يعنى الرطوبة واليبوسة ، ومراده بذلك المزاج الذى هو كيفية واحدة حاصلة من كيفيات مختلفة ، قد إنكسر بعضها ببعض .
وقوله : " معجونا " صفة " إنسانا " .
والالوان المختلفة ، يعنى الضروب والفنون ، كما تقول (1) : في الدار ألوان من الفاكهة .
* * * ومنها أن يقال : ما المعنى بقوله : " واستأدى الملائكة وديعته لديهم " ؟ وكيف كان هذا العهد والوصية بينه وبينهم ؟ الجواب ، أن العهد والوصية هو قوله تعالى لهم : (إنى خالق بشرا من طين .
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) (2) .
* * *
__________
(1) ا : " كما يقال " .
(2) سورة ص 71 ، 72 .
(*)(1/99)
ومنها أن يقال : كيف كانت شبهة إبليس وأصحابه في التعزز بخلقه النار ؟ الجواب ، لما كانت النار مشرقة بالذات ، والارض مظلمة ، وكانت النار أشبه بالنور ، والنور أشبه بالمجردات ، جعل إبليس ذلك حجة احتج بها في شرف عنصره على عنصر آدم عليه السلام ، ولان النار أقرب ، إلى ، الفلك من الارض ، وكل شئ كان أقرب إلى الفلك من غيره كان أشرف ، والبارئ تعالى لم يعتبر ذلك ، وفعل سبحانه ما يعلم أنه المصلحة والصواب .
* * * ومنها أن يقال : كيف يجوز السجود لغير الله تعالى ؟ والجواب ، أنه قيل : إن السجود لم يكن إلا لله تعالى ، وإنما كان آدم عليه السلام قبلة .
ويمكن أن يقال : إن السجود لله على وجه العبادة ، ولغيره على وجه التكرمة ، كما سجد أبو يوسف وإخوته له .
يجوز أن تختلف الاحوال والاوقات في حسن ذلك وقبحه .
* * * ومنها أن يقال : كيف جاز على ما تعتقدونه من حكمة البارئ أن يسلط إبليس على المكلفين ، أليس هذا هو الاستفساد الذى تأبونه وتمنعونه ! والجواب : أما الشيخ أبو على رحمه الله فيقول : حد المفسدة ما وقع عند الفساد ، ولولاه لم يقع مع تمكن المكلف من الفعل في الحالين ، ومن فسد بدعاء إبليس لم يتحقق فيه هذا الحد ، لان الله تعالى علم أن كل من فسد عند دعائه ، فإنه يفسد ، ولو لم يدعه .
وأما أبو هاشم رحمه الله فيحد المفسدة بهذا الحد أيضا ، ويقول : إن في الاتيان بالطاعة مع دعاء إبليس إلى القبيح مشقة زائدة على مشقة الاتيان بها ، لو لم يدع إبليس إلى(1/100)
القبيح ، فصار الاتيان بها مع اعتبار دعاء إبليس إلى خلافها خارجا عن الحد المذكور ، وداخلا في حيز التمكن الذى لو فرضنا ارتفاعه لما صح من المكلف الاتيان بالفعل ، ونحن قلنا في الحد مع تمكن المكلف من الاتيان بالفعل في الحالين .
* * * ومنها أن يقال : كيف جاز للحكيم سبحانه أن يقول لابليس : (إنك من المنظرين) إلى يوم القيامة ! وهذا إغراء بالقبيح ، وأنتم تمنعون أن يقول الحكيم لزيد : أنت لا تموت إلى سنة ، بل إلى شهر أو يوم واحد ، لما فيه من الاغراء بالقبيح ، والعزم على التوبة قبل انقضاء الامد .
والجواب ، أن أصحابنا قالوا : إن البارئ تعالى لم يقل لابليس : إنى منظرك إلى يوم القيامة ، وإنما قال : (إلى يوم الوقت المعلوم) ، وهو عبارة عن وقت موته واخترامه ، وكل مكلف من الانس والجن منظر إلى يوم الوقت المعلوم على هذا التفسير ، وإذا (1) كان كذلك لم يكن إبليس عالما أنه يبقى لا محالة ، فلم يكن في ذلك إغراء له (2) بالقبيح .
فإن قلت : فما معنى قوله عليه السلام : " وإنجازا للعدة " ؟ أليس معنى ذلك أنه قد كان وعده أن يبقيه إلى يوم القيامة ! .
قلت : إنما وعده الانظار ، ويمكن أن يكون إلى يوم القيامة ، وإلى غيره من الاوقات الاوقات ولم يبين له ، فهو تعالى أنجز له وعده في الانظار المطلق ، وما من وقت إلا ويجوز فيه إبليس (3) أن يخترم ، فلا يحصل الاغراء بالقبيح .
وهذا الكلام عندنا ضعيف ، ولنا فيه نظر مذكور في كتبنا الكلامية .
* * *
__________
(1) ا : (فإذا) .
(2) كلمة (له) ساقطة من ا .
(3) كلمة (إبليس) ساقطه من ب .
(*)(1/101)
الاصل ثم أسكن آدم دارا أرغد فيها عيشته ، وآمن فيها محلته ، وحذره إبليس وعداوته ، فاغتره عدوه نفاسة عليه بدار المقام ، ومرافقة الابرار ، فباع اليقين بشكه ، والعزيمة بوهنه ، واستبدل بالجذل وجلا ، وبالاغترار ندما .
ثم بسط الله سبحانه له في توبته ، ولقاه كلمة رحمته ، ووعده المرد إلى جنته ، فأهبطه إلى دار البلية ، وتناسل الذرية .
* * * الشرح أما الالفاظ فظاهرة ، والمعاني أظهر ، وفيها ما يسأل عنه : * * * فمنها أن يقال : الفاء في قوله عليه السلام : (فأهبطه) تقتضي أن تكون التوبه على آدم قبل هبوطه من الجنه ! والجواب ، أن ذلك أحد قولى المفسرين ، ويعضده قوله تعالى : (وعصى آدم ربه فغوى .
ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى .
قال اهبطا منها) (1) ، فجعل الهبوط بعد قبول التوبة .
* * * ومنها أن يقال : إذا كان تعالى قد طرد إبليس عن الجنة لما أبى السجود ، فكيف توصل إلى آدم وهو في الجنة حتى استنزله عنها بتحسين أكل الشجرة له ! الجواب ، أنه يجوز أن يكون إنما منع من دخول الجنة على وجه التقريب والاكرام ،
__________
(1) سورة طه 121 - 123 .
(*)(1/102)
كدخول الملائكة ، ولم يمنع من دخولها على غير ذلك الوجه .
وقيل : إنه دخل في جوف الحية ، كما ورد في التفسير .
ومنها أن يقال : كيف اشتبه على آدم الحال في الشجرة المنهى عنها فخالف النهى ! الجواب ، أنه قيل له : لا تقربا هذه الشجرة ، وأريد بذلك نوع الشجرة ، فحمل آدم النهى على الشخص ، وأكل من شجرة أخرى من نوعها .
ومنها أن يقال : هذا الكلام من أمير المؤمنين عليه السلام ، تصريح بوقوع المعصية من آدم عليه السلام ، وهو قوله : (فباع اليقين بشكه ، والعزيمة بوهنه) ، فما قولكم في ذلك ؟ الجواب ، اما أصحابنا ، فإنهم لا يمتنعون من إطلاق العصيان عليه ، ويقولون إنها كانت صغيرة ، وعندهم أن الصغائر جائزة على الانبياء عليهم السلام .
وأما الامامية فيقولون : إن النهى كان نهى تنزيه ، لا نهى تحريم ، لانهم لا يجيزون على الانبياء الغلط والخطأ ، لا كبيرا ولا صغيرا ، وظواهر هذه الالفاظ تشهد بخلاف قولهم .
* * * [ اختلاف الاقوال في خلق البشر ] وأعلم أن الناس اختلفوا في ابتداء خلق البشر كيف كان ، فذهب اهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى إلى أن مبدأ البشر هو آدم ، الاب الاول عليه السلام ، وأكثر ، ما في القرآن العزيز من قصة آدم مطابق لما في التوراة .
وذهب طوائف من الناس إلى غير ذلك .
أما الفلاسفة ، فإنهم زعموا أنه لا أول لنوع البشر ، ولا لغيرهم من الانواع .
وأما الهند ، فمن كان منهم على رأى الفلاسفة ، فقوله ما ذكرناه .
ومن لم يكن منهم(1/103)
على رأى الفلاسفة ويقول بحدوث الاجسام لا يثبت آدم ، ويقول : إن الله تعالى خلق الافلاك وخلق فيها طباعا محركة لها بذاتها ، فلما تحركت - وحشوها أجسام لاستحالة الخلاء - كانت تلك الاجسام ، على طبيعة واحدة ، فأختلفت طبائعها بالحركة الفلكية ، فكان القريب من الفلك المتحرك أسخن وألطف ، والبعيد أبرد وأكثف .
ثم اختلطت العناصر ، وتكونت منها المركبات ، ومنها تكون نوع البشر كما يتكون الدود في الفاكهة واللحم ، والبق في البطائح والمواضع العفنة ، ثم تكون بعض البشر من بعض بالتوالد ، وصار ذلك قانونا مستمرا ، ونسى التخليق الاول الذى كان بالتولد .
ومن الممكن أن يكون بعض البشر في بعض الاراضي القاصية مخلوقا بالتوالد ، وإنما انقطع التوالد ، لان الطبيعة إذا وجدت للتكون طريقا استغنت به عن طريق ثان .
وأما المجوس فلا يعرفون آدم ، ولا نوحا ، ولا ساما ، ولا حاما ، ولا يافث .
وأول متكون عندهم من البشر البشرى (1) المسمى " كيومرث " ، ولقبه " كوشاه " أي ملك الجبل ، لان " كو " هو الجبل بالفهلوبة ، وكان هذا البشر في الجبال .
ومنهم من يسميه " كلشاه " ، أي ملك الطين و " كل " اسم الطين ، لانه لم يكن حين إذن بشر ليملكهم .
وقيل تفسير " كيومرث " حى ناطق ميت ، قالوا : وكان قد رزق من الحسن ما لا يقع عليه بصر حيوان إلا وبهت وأغمى عليه ، ويزعمون أن مبدأ تكونه وحدوثه أن يزدان - وهو الصانع الاول عندهم - أفكر (2) في أمر أهرمن ، - وهو الشيطان عندهم - فكرة أوجبت أن عرق جبينه ، فمسح العرق ورمى به ، فصار منه كيومرث .
ولهم خبط طويل في كيفية تكون " أهرمن " من فكرة " يزدان " أو من إعجابه بنفسه ، أو من توحشه ، وبينهم خلاف في قدم " أهرمن " ، وحدوثه لا يليق شرحه بهذا الموضع (3) .
__________
(1) ب : " البشر " .
(2) أفكر وفكر بالتشديد ، بمعنى .
(3) انظر الشاهنامة 14 .
(*)(1/104)
ثم اختلفوا في مدة بقاء كيومرث في الوجود ، فقال الاكثرون : ثلاثون سنة .
وقال الاقلون : أربعون سنة .
وقال قوم منهم : إن كيومرث مكث في الجنة التى في السماء ثلاثة آلاف سنة ، وهى ألف الحمل ، وألف الثور ، وألف الجوزاء .
ثم أهبط إلى الارض فكان بها آمنا مطمئنا ثلاثة آلاف سنة اخرى ، وهى ألف السرطان ، وألف الاسد ، وألف السنبلة .
ثم مكث بعد ذلك ثلاثين أو أربعين سنة في حرب وخصام بينه وبين أهرمن حتى هلك (1) .
واختلفوا في كيفية هلاكه مع اتفاقهم ، على أنه هلك قتلا ، فالاكثرون قالوا : إنه قتل ابنا لاهرمن يسمى خزوره ، فاستغاث أهرمن منه إلى يزدان ، فلم يجد بدا من أن يقاصه به حفظا للعهود التى بينه وبين أهرمن ، فقتله بابن أهرمن .
وقال قوم : بل قتله أهرمن في صراع كان بينهما ، قهره فيه أهرمن ، وعلاه وأكله (1) .
وذكروا في كيفية ذلك الصراع أن كيومرث كان هو القاهر لاهرمن في بادئ الحال ، وأنه ركبه ، وجعل يطوف به في العالم إلى أن سأله أهرمن عن أي الاشياء أخوف له وأهولها عنده ، فقال له : باب جهنم ، فلما بلغ به أهرمن إليها جمح به حتى سقط من فوقه ، ولم يستمسك ، فعلاه وسأله عن أي الجهات يبتدئ به في الاكل ، فقال : من جهة الرجل لاكون ناظرا إلى حسن العالم مدة ما ، فأبتدأه أهرمن فأكله من عند رأسه ، فبلغ إلى موضع الخصى واوعية المنى من الصلب ، فقطر من كيومرث قطرتا نطفة على الارض فنبت منهما ريباستان (2) في جبل بإصطخر يعرف بجبل دام داذ ، ثم ظهرت على تينك الريباستين الاعضاء البشرية في أول الشهر التاسع ، وتمت في آخره ، فتصور منهما بشران : ذكر وانثى ، وهما " ميشى " ، " وميشانه " ، وهما بمنزلة آدم وحواء عند المليين .
ويقال لهما أيضا : " ملهى " " وملهيانه " ، ويسميهما مجوس خوارزم : " مرد " و " مردانه " ،
__________
(1) انظر الشاهنامه 14 .
(2) الريباس ، بالكسر : نبت له عساليج غضه خضراء ، عراض الورق ، طعمها حامض مع قبض ، ينبت في الجبال ذات الثلوج والبلاد الباردة من غير زرع .
المعتمد 123 (*)(1/105)
وزعموا أنهما مكثا خمسين سنة مستغنين عن الطعام والشراب ، متنعمين غير متأذيين بشئ إلى أن ظهر لهما أهرمن في صورة شيخ كبير ، فحملهما على التناول من فواكه الاشجار وأكل منها ، وهما يبصرانه شيخا ، فعاد شابا ، فأكلا منها حينئذ ، فوقعا في البلايا والشرور ، وظهر فيهما الحرص حتى تزواجا ، وولد لهما ولد فأكلاه حرصا ، ثم ألقى الله تعالى في قلوبهما رأفة ، فولد لهما بعد ذلك ستة أبطن ، كل بطن ذكر وأنثى ، وأسماؤهم - في كتاب أپستا ، وهو الكتاب الذى جاء به زرادشت - معروفة ، ثم كان في البطن السابع " سياميك " و " فرواك " ، فتزاوجا ، فولد لهما الملك المشهور الذى لم يعرف قبله ملك وهو " أوشهنج " ، وهو الذى خلف جده كيومرث ، وعقد التاج ، وجلس على السرير ، وبنى مدينتي بابل والسوس .
فهذا ما يذكره المجوس في مبدأ الخلق .
قول بعض الزنادقة في تصويب إبليس الامتناع عن السجود لآدم وكان في المسلمين - ممن يرمى بالزندقة - من يذهب إلى تصويب إبليس في الامتناع من السجود ، ويفضله على آدم ، وهو بشار بن برد المرعث (1) ، ومن الشعر المنسوب إليه : النار مشرقة والارض مظلمة والنار معبودة مذ كانت النار (2)
__________
(1) الاغانى 3 : 145 (2) في اللسان : " سمى بذلك لرعاث كانت له في صغره في أذنه " .
والرعاث جمع رعثة ، وهى ما علق في الاذن من قرط ونحره .
وروى صاحب الاغانى : وإنما سمى المرعث بقوله : قلت ريم مرعث ساحر الطرف والنظر لست والله نائلي قلت أو يغلب القدر أنت إن رمت وصلنا فانج ، هل تدرك القمر ! (*)(1/106)
وكان أبو الفتوح أحمد بن محمد الغزالي الواعظ (1) ، أخو أبى حامد محمد بن محمد الغزالي الفقيه الشافعي ، قاصا لطيفا وواعظا مفوها ، وهو من خراسان من مدينة طوس ، وقدم إلى بغداد ، ووعظ بها ، وسلك في وعظه مسلكا منكرا ، لانه كان يتعصب لابليس ، ويقول : إنه سيد الموحدين ، وقال يوما على المنبر : من لم يتعلم التوحيد من إبليس فهو زنديق ، أمر أن يسجد لغير سيده فأبى ولست بضارع إلا إليكم وأما غيركم حاشا وكلا وقال مرة أخرى لما قال له موسى : " أرنى " فقال : " لن (2) " قال : هذا شغلك (3) ، تصطفى آدم ثم تسود وجهه ، وتخرجه من الجنة ، وتدعوني إلى الطور ، ثم تشمت بى الاعداء ! هذا عملك بالاحباب (4) ، فكيف تصنع بالاعداء (5) ! وقال مرة أخرى وقد ذكر إبليس على المنبر : لم يدر ذلك المسكين أن أظافير القضاء إذا حكت أدمت ، وأن قسى القدر إذا رمت أصمت .
ثم قال : لسان حال آدم ينشد في قصته وقصة إبليس : وكنت وليلى في صعود من الهوى فلما توافينا ثبت وزلت وقال مرة أخرى : التقى موسى وإبليس عند عقبة الطور ، فقال موسى : يا إبليس ، لم لم تسجد لآدم عليه السلام ؟ فقال : كلا ، ما كنت لاسجد لبشر ، كيف أوحده ثم ألتفت إلى غيره ! ولكنك أنت يا موسى سألت رؤيته ثم نظرت إلى الجبل ، فأنا أصدق منك في التوحيد .
__________
(1) ذكره ابن الجوزى في الجزء التاسع من المنتظم ص 260 ، ضمن وفيات سنة 520 ، وقال عنه : " الغالب على كلامه التخليط ورواية الاحاديث الموضوعة والحكايات الفارغة والمعاني الفاسدة ، وقد علق عنه كثير من ذلك " .
وذكره أيضا ابن حجر في لسان الميزان 1 : 293 (2) يشير إلى قوله تعالى في قصة موسى من سورة الاعراف 143 : (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال ربى أرنى أنظر إليك قال لن تراني ...
) .
(3) المنتظم : " شأنك " .
(4) المنتظم : " الاخيار " .
(5) المنتظم 9 : 261 .
(*)(1/107)
وكان هذا النمط في كلامه ينفق على أهل بغداد ، وصار له بينهم صيت مشهور ، واسم كبير .
وحكى عنه أبو الفرج بن الجوزى في " التاريخ " أنه قال على المنبر : معاشر الناس ، إنى كنت دائما أدعوكم إلى الله ، وأنا اليوم احذركم منه ، والله ما شدت الزنانير إلا في حبه ، ولا أديت الجزية إلا في عشقه .
وقال أيضا : إن رجلا يهوديا أدخل عليه ليسلم على يده ، فقال له : لا تسلم ، فقال له الناس : كيف تمنعه من الاسلام ؟ فقال : احملوه إلى أبى حامد - يعنى أخاه - ليعلمه " لا " (1) إلى المنافقين .
ثم قال : ويحكم أتظنون أن قوله : " لا إله إلا الله " منشور ولايته ! ذا منشور عزله (2) .
وهذا نوع تعرفه الصوفية بالغلو والشطح .
ويروى عن أبى يزيد البسطامى (3) منه كثير .
ومما يتعلق بما نحن فيه ما رووه عنه من قوله : فمن آدم في البين ومن إبليس لولاكا ! فتنت الكل والكل مع الفتنة يهواكا ويقال : أول من قاس إبليس ، فأخطأ في القياس وهلك بخطئه .
ويقال : إن أول حمية وعصبية ظهرت عصبية إبليس وحميته .
[ اختلاف الاقوال في خلق الجنة والنار ] فإن قيل : فما قول شيوخكم في الجنة والنار ، فإن المشهور عنهم أنهما لم يخلقا ، وسيخلقان
__________
(1) في المنتظم : " يعنى : لا إله إلا الله " .
(2) عبارة المنتظم : " أفنسوا عزله ! " .
قال ابن الجوزى بعد أن أورد هذه الحكايات : " لقد أدهشني نفاق هذا الهذيان في بغداد وهى دار العلم ، ولقد حضر مجلسه يوسف الهمذانى ، فقال : مدد كلام هذا شيطاني ، لا ربانى ، ذهب دينه والدنيا لا تبقى له " .
(3) هو أبو يزيد طيفور بن عيسى ، توفى سنة 261 .
طبقات الصوفية للسلمى 67 (*)(1/108)
عند قيام الاجساد ، وقد دل القرآن العزيز ، ونطق كلام أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الفصل ، بأن آدم كان في الجنة وأخرج منها ! قيل : قد اختلف شيوخنا رحمهم الله في هذه المسألة ، فمن ذهب منهم إلى أنهما غير مخلوقتين الآن يقول : قد ثبت بدليل السمع أن سائر الاجسام تعدم ولا يبقى في الوجود إلا ذات الله تعالى ، بدليل قوله : (كل شئ هالك إلا وجهه) (1) وقوله : (هو الاول والآخر) (2) ، فلما كان " أولا " بمعنى أنه لا جسم في الوجود معه في الازل وجب أن يكون " آخرا " ، بمعنى أنه لا يبقى في الوجود جسم من الاجسام معه فيما لا يزال ، وبآيات كثيرة أخرى .
وإذا كان لا بد من عدم سائر الاجسام لم يكن في خلق الجنة والنار قبل أوقات الجزاء فائدة ، لانه لا بد أن يفنيهما مع الاجسام التى تفنى يوم القيامة فلا يبقى مع خلقهما من قبل معنى .
ويحملون الآيات التى دلت على كون آدم عليه السلام كان في الجنة وأخرج منها ، على بستان من بساتين الدنيا .
قالوا : والهبوط لا يدل على كونهما في السماء ، لجواز أن يكون في الارض ، إلا أنهما في موضع مرتفع عن سائر الارض .
وأما غير هؤلاء من شيوخنا فقالوا : إنهما مخلوقتان الآن ، واعترفوا بأن آدم كان في جنة الجزاء والثواب ، وقالوا : لا يبعد أن يكون في إخبار المكلفين بوجود الجنة والنار لطف لهم في التكليف ، وإنما يحسن الاخبار بذلك إذا كان صدقا ، وإنما يكون صدقا إذا كان خبره على ما هو عليه .
[ القول في آدم والملائكة أيهما أفضل ] فإن قيل : فما الذى يقوله شيوخكم في آدم والملائكة : أيهما أفضل ؟ قيل : لا خلاف بين شيوخنا رحمهم الله أن الملائكة أفضل من آدم ومن جميع الانبياء
__________
(1) سورة القصص 88 .
(2) سورة الحديد 3 .
(*)(1/109)
عليهم السلام ، ولو لم يدل على ذلك ألا قوله تعالى في هذه القصة : (إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) (1) لكفى .
وقد احتج اصحابنا أيضا بقوله تعالى : (لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون) (2) ، وهذا كما تقول : لا يستنكف الوزير أن يعظمنى ويرفع من منزلتي ، ولا الملك أيضا .
فإن هذا يقتضى كون الملك أرفع منزلة من الوزير .
وكذلك قوله : (ولا الملائكة المقربون) ، يقتضى كونهم أرفع منزلة من عيسى .
ومما احتجوا به قولهم : إنه تعالى لما ذكر جبريل ومحمدا عليهما السلام ، في معرض المدح ، مدح جبريل عليه السلام بأعظم مما مدح به محمدا عليه السلام ، فقال : (إنه لقول رسول كريم .
ذى قوة عند ذى العرش مكين .
مطاع ثم أمين .
وما صاحبكم بمجنون .
ولقد رآه بالافق المبين .
وما هو على الغيب بضنين) (3) .
فالمديح الاول لجبريل ، والثانى لمحمد عليهما السلام ، ولا يخفى تفاوت ما بين المدحين .
فإن قيل : فهل كان إبليس من الملائكه أم من نوع آخر ؟ قيل : قد اختلف في ذلك فمن قال : إنه من الملائكة احتج بالاستثناء في قوله : (فسجد الملائكة) كلهم أجمعون .
إلا إبليس ((4) ، وقال : إن الاستثناء من غير الجنس خلاف الاصل .
ومن قال : إنه لم يكن منهم احتج بقوله تعالى : (إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه) (4) .
وأجاب الاولون عن هذا فقالوا : إن الملائكه يطلق عليهم لفظ الجن لاجتنانهم واستتارهم عن الاعين .
وقالوا : قد ورد ذلك في القرآن أيضا في قوله تعالى : (وجعلوا بينه
__________
(1) سورة الاعراف 20 .
(2) سورة النساء 172 (3) سورة التكوير 19 - 24 .
(4) سورة الحجر 29 ، 30 (*)(1/110)
وبين الجنة نسبا) (1) ، والجنة هاهنا هم الملائكة ، لانهم قالوا : إن الملائكة بنات الله ، بدليل قوله : (ا فأصفاكم ربكم بالبنين .
واتخذ من الملائكة إناثا) ، وكتب التفسير تشتمل من هذا على ما لا نرى الاطالة بذكره .
* * * فأما القطب الراوندي فقال في هذين الفصلين في تفسير الفاظهما اللغويه : العذب من الارض ما ينبت ، والسبخ ما لا ينبت ، وهذا غير صحيح لان السبخ ينبت النخل ، فليزم أن يكو عذبا على تفسيره .
وقال : فجبل منها صورة ، أي خلق خلقا عظيما .
ولفظة " جبل " في اللغة تدل على " خلق " سواء كان المخلوق عظيما أو غير عظيم .
وقال : الوصول : جمع وصل ، وهو العضو ، وكل شئ اتصل بشئ فما بينهما وصلة .
والفصول : جمع فصل وهو الشئ المنفصل ، وما عرفنا في كتب اللغه أن الوصل هو العضو ، ولا قيل هذا .
وقوله بعد ذلك : وكل شئ اتصل بشئ فما بينهما وصله لا معنى لذكره بعد ذلك التفسير .
والصحيح أن مراده عليه السلام أظهر من أن يتكلف له هذا التكلف ، ومراده عليه السلام أن تلك الصورة ذات أعضاء متصلة ، كعظم الساق أو عظم الساعد ، وذات أعضاء منفصلة في الحقيقة ، وإن كانت متصلة بروابط خارجة عن ذواتها ، كاتصال الساعد بالمرفق ، واتصال الساق بالفخذ .
ثم قال : يقال استخدمته لنفسي ولغيري ، واختدمته لنفسي خاصة ، وهذا مما لم أعرفه ، ولعله نقله من كتاب .
__________
(1) سورة الكهف 50 (2) سورة الصافات 158 (*)(1/111)
ثم قال : والاذعان : الانقياد ، والخنوع : الخضوع ، وإنما كرر الخنوع بعد الاذعان ، لان الاول يفيد أنهم أمروا بالخضوع له في السجود ، والثانى يفيد ثباتهم على الخضوع لتكرمته أبدا .
ولقائل أن يقول : إنه لم يكرر لفظة " الخنوع " ، وإنما ذكر أولا الاذعان ، وهو الانقياد والطاعة ، ومعناه أنهم سجدوا ، ثم ذكر الخنوع الذى معناه الخضوع ، وهو يعطى معنى غير المعنى الاول ، (1) لانه ليس كل ساجد خاضعا بقلبه ، فقد يكون ساجدا بظاهره دون باطنه .
وقول الراوندي : أفاد بالثاني ثباتهم على الخضوع له لتكرمته أبدا تفسير لا يدل عليه اللفظ ، ولا معنى الكلام .
ثم قال : قبيل إبليس نسله ، قال تعالى : (إنه يراكم هو وقبيله) (2) ، وكل جيل من الانس والجن قبيل .
والتصحيح أن قبيله نوعه ، كما أن البشر قبيل كل بشرى ، سواء كانوا من ولده أو لم يكونوا .
وقد قيل أيضا : كل جماعة قبيل وإن اختلفوا ، نحو أن يكون بعضهم روما وبعبضهم زنجا .
وبعضهم عربا .
وقوله تعالى : (إنه يراكم هو وقبيله) لا يدل على أنهم نسله .
وقوله بعد : وكل جيل من الانس والجن قبيل .
ينقض دعواه أن قبيله لا يكون إلا نسله .
ثم تكلم في المعاني فقال : إن القياس الذى قاسه إبليس كان باطلا ، لانه ادعى أن النار أشرف من الارض ، والامر بالعكس ، لان كل ما يدخل إلى النار ينقص ، وكل ما يدخل التراب يزيد .
وهذا عجيب ! فإنا نرى الحيوانات الميتة إذا دفنت في الارض تنقص أجسامها ، وكذلك الاشجار المدفونة في الارض ، على أن التحقيق أن المحترق بالنار والبالى بالتراب لم تعدم أجزاؤه ولا بعضها ، وإنما استحالت إلى صور أخرى .
__________
(1) ا : (فإنه) .
(2) سورة الاسراء 40 (*)(1/112)
ثم قال : ولما علمنا أن تقديم المفضول على الفاضل قبيح ، علمنا أن آدم كان أفضل من الملائكة في ذلك الوقت وفيما بعده .
ولقائل أن يقول : أليس قد سجد يعقوب ليوسف عليه السلام ! أفيدل ذلك على ان يوسف أفضل من يعقوب ! ولا يقال : إن قوله تعالى : (ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا) (1) لا يدل على سجود الوالدين ، فلعل الضمير يرجع إلى الاخوة خاصة ، لانا نقول هذا الاحتمال مدفوع بقوله : (والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين) (2) ، وهو كناية عن الوالدين .
وايضا قد بينا أن السجود إنما كان لله سبحانه ، وأن آدم كان قبلة ، والقبلة لا تكون أفضل من الساجد إليها ، ألا ترى أن الكعبة ليست أفضل من النبي عليه السلام ! * * * الاصل : واصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحى ميثاقهم ، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم ، لما بدل أكثر خلقه عهد الله إليهم ، فجهلوا حقه ، واتخذوا الانداد معه ، واجتالتهم الشياطين عن معرفته ، واقتطعتهم عن عبادته ، فبعث فيهم (3) رسله ، وواتر إليهم أنبياءه ، ليستأدوهم ميثاق فطرته ، ويذكروهم منسى نعمته ، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ، ويثيروا لهم دفائن العقول ، ويروهم آيات المقدرة ، من سقف فوقهم مرفوع ، ومهاد تحتهم موضوع ، ومعايش تحييهم ، وآجال تفنيهم ، وأوصاب تهرمهم ، وأحداث تتابع عليهم .
ولم يخل الله سبحانه خلقه من نبى مرسل ، أو كتاب منزل ، أو حجة لازمة ،
__________
(1) سورة يوسف 100 .
(2) سورة يوسف 4 (3) مخطوطة النهج : (إليهم) .
(*)(1/113)
أو محجة قائمة ، رسل لا تقصر بهم قلة عددهم ، ولا كثرة المكذبين لهم من سابق سمى له من بعده ، أو غابر عرفه من قبله .
* * * الشرح : " اجتالتهم الشياطين " : أدارتهم ، تقول : اجتال فلان فلانا ، واجتاله عن كذا وعلى كذا ، أي اداره عليه ، كأنه يصرفه تارة هكذا ، وتارة هكذا ، يحسن له فعله ، ويغريه به .
وقال الراوندي : اجتالتهم : عدلت بهم ، وليس بشئ .
وقوله عليه السلام : " واتر إليهم أنبيائه " ، أي بعثهم وبين كل نبيين فترة ، وهذا مما تغلط فيه العامة فتظنه كما ظن الراوندي أن المراد به المرادفة والمتابعة .
والاوصاب : الامراض .
والغابر : الباقي .
* * * ويسأل في هذا الفصل عن أشياء : منها ، عن قوله عليه السلام : " أخذ على الوحى ميثاقهم " .
والجواب ، أن المراد أخذ على أداء الوحى ميثاقهم ، وذلك أن كل رسول أرسل فمأخوذ عليه أداء الرسالة ، كقوله تعالى : (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) (1) .
ومنها أن يقال : ما معنى قوله عليه السلام : " ليستأدوهم ميثاق فطرته " ؟ هل هذا
__________
(1) سورة المائدة 67 (*)(1/114)
إشارة إلى ما يقوله أهل الحديث في تفسير قوله تعالى : (وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم ، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى) (1) .
والجواب ، أنه لا حاجة في تفسير هذه اللفظة إلى تصحيح ذلك الخبر ، ومراده عليه السلام بهذا اللفظ أنه لما كانت المعرفة به تعالى وأدلة التوحيد والعدل مركوزة في العقول ، أرسل سبحانه الانبياء أو بعضهم ، ليؤكدوا (2) ذلك المركوز في العقول .
وهذه هي الفطرة المشار إليها بقوله عليه السلام : " كل مولود يولد على الفطرة " .
ومنها أن يقال : إلى ماذا يشير بقوله : " أو حجة لازمة " ؟ هل هو إشارة إلى ما يقوله الامامية ، من أنه لابد في كل زمان من وجود إمام معصوم ؟ الجواب ، أنهم يفسرون هذه اللفظة بذلك .
ويمكن أن يكون المراد بها حجة العقل .
وأما القطب الراوندي ، فقال في قوله عليه السلام : " واصطفى سبحانه من ولده أنبياء " : الولد يقال على الواحد والجمع ، لانه مصدر في الاصل ، وليس بصحيح ، لان الماضي " فعل " بالفتح ، والمفتوح لا يأتي مصدره بالفتح ، ولكن " فعلا " مصدر " فعل " بالكسر ، كقولك : ولهت عليه ولها ، ووحمت المرأة وحما .
ثم قال : إن الله تعالى بعث يونس قبل نوح ، وهذا خلاف إجماع المفسرين وأصحاب السير .
ثم قال : وكل واحد من الرسل والائمه كان يقوم بالامر ، ولا يردعه عن ذلك قلة عدد أوليائه ، ولا كثرة عدد أعدائه .
فيقال له : هذا خلاف قولك في الائمة المعصومين ، فإنك تجيز عليهم التقية ، وترك القيام بالامر إذا كثرت أعداؤهم .
وقال في تفسير قوله عليه السلام : " من سابق سمى له من بعده ، أو غابر عرفه
__________
(1) سورة المائدة 167 .
(2) ا : " يؤكد " .(1/115)
من قبله " : كان من ألطاف الانبياء المتقدمين وأوصيائهم ، أن يعرفوا الانبياء المتأخرين وأوصياءهم ، فعرفهم الله تعالى ذلك ، وكان من اللطف بالمتأخرين وأوصيائهم أن يعرفوا أحوال المتقدمين من الانبياء والاوصياء ، فعرفهم الله تعالى ذلك أيضا ، فتم اللطف لجميعهم .
ولقائل أن يقول : لو كان عليه السلام : " قال أو غابر عرف من قبله " لكان هذا التفسير مطابقا ، ولكنه عليه السلام لم يقل ذلك ، وإنما قال : " عرفه من قبله " وليس هذا التفسير مطابقا لقوله : " عرفه " .
والصحيح أن المراد به : من نبى سابق عرف من يأتي بعده من الانبياء أي عرفه الله تعالى ذلك ، أو نبى غابر نص عليه من قبله ، وبشر به كبشارة الانبياء بمحمد عليه السلام .
* * * الاصل : على ذلك نسلت القرون ، ومضت الدهور ، وسلفت الآباء ، وخلفت الابناء ، إلى أن بعث الله سبحانه محمدا صلى الله عليه لانجاز عدته ، وإتمام (1) نبوته ، مأخوذا على النبيين ميثاقه ، مشهورة سماته ، كريما ميلاده ، وأهل الارض يومئذ ملل متفرقة ، وأهواء منتشرة ، وطرائق متشتتة ، بين مشبه لله بخلقه ، أو ملحد في اسمه ، أو مشير إلى غيره ، فهداهم به من الضلالة وأنقذهم بمكانه من الجهالة .
ثم اختار سبحانه لمحمد صلى الله عليه لقاءه ، ورضى له ما عنده ، وأكرمه (2) عن دار الدنيا ، ورغب به عن مقام البلوى ، فقبضه إليه كريما ، وخلف فيكم ما خلفت الانبياء في أممها - إذ لم يتركوهم هملا بغير طريق واضح ،
__________
(1) مخطوطة النهج : " وتمام " .
(2) مخطوطة النهج : " فأكرمه " .
(*)(1/116)
ولا علم قائم - كتاب ربكم ، مبينا لكم (1) حلاله وحرامه ، وفرائضه وفضائله ، وناسخه ومنسوخه ، ورخصه وعزائمه ، وخاصه وعامه ، وعبره وأمثاله ، ومرسله ومحدوده ، ومحكمه ومتشابهه ، مفسرا مجمله (2) ، ومبينا غوامضه ، بين مأخوذ ميثاق علمه ، وموسع على العباد في جهله ، وبين مثبت في الكتاب فرضه ، ومعلوم في السنة نسخه ، وواجب في السنة أخذه ، ومرخص في الكتاب تركه ، وبين واجب بوقته ، وزائل في مستقبله .
ومباين بين محارمه ، من كبير أوعد عليه نيرانه ، أو صغير أرصد له غفرانه .
وبين مقبول في أدناه ، موسع في أقصاه .
* * * الشرح : قوله عليه السلام : " نسلت القرون " ، ولدت .
والهاء في قوله : " لانجاز عدته " راجعة إلى البارئ سبحانه .
والهاء في قوله : " وإتمام نبوته " ، راجعة إلى محمد صلى الله عليه وآله .
وقوله : " مأخوذ على النبيين ميثاقه " ، قيل : لم يكن نبى قط إلا وبشر بمبعث محمد صلى الله عليه وآله ، وأخذ عليه تعظيمه ، وإن كان بعد لم يوجد .
فأما قوله : " وأهل الارض يومئذ ملل متفرقة " ، فإن العلماء يذكرون أن النبي صلى الله عليه وآله بعث والناس أصناف شتى في أديانهم : يهود ، ونصارى ، ومجوس ، وصائبون ، عبدة أصنام ، وفلاسفة وزنادقة .
[ أديان العرب في الجاهلية ] فأما الامة التى بعث محمد صلى الله عليه وآله فيها فهم العرب .
وكانوا أصنافا شتى ،
__________
(1) ب : " فيكم " .
وهى ساقطة من مخطوطة النهج .
(2) مخطوطة النهج : " جمله " .
(*)(1/117)
فمنهم معطلة ، ومنهم غير معطلة .
فأما المعطلة منهم ، فبعضهم أنكر الخالق والبعث والاعادة ، وقالوا ما قال القرآن العزيز عنهم : (ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر) (1) ، فجعلوا الجامع لهم الطبع ، والمهلك لهم الدهر .
وبعضهم اعترف بالخالق سبحانه وانكر البعث ، وهم الذين أخبر سبحانه عنهم بقوله : (قال من يحيى العظام وهى رميم) .
ومنهم من أقر بالخالق ونوع من الاعادة ، وأنكروا الرسل وعبدوا الاصنام ، وزعموا أنها شفعاء عند الله في الآخرة ، وحجوا ، لها ونحروا لها الهدى ، وقربوا لها القربان ، وحللوا وحرموا ، وهم جمهور العرب ، وهم الذين قال الله تعالى عنهم : (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشى في الاسواق) (2) .
فممن نطق شعره بإنكار البعث بعضهم يرثى قتلى بدر (3) : فماذا بالقليب قليب بدر من الفتيان والقوم الكرام ! (4) وماذا بالقليب قليب بدر من الشيزى تكلل بالسنام ! (5) أيخبرنا ابن كبشة أن سنحيا وكيف حياة أصداء وهام ! إذا ما الرأس زال بمنكبيه فقد شبع الانيس من الطعام أيقتلني إذا ما كنت حيا ويحييني إذا رمت عظامي !
__________
(1) سورة الجاثية 24 .
(2) سورة الفرقان 7 .
(3) سيرة ابن هشام 2 : 113 مع اختلاف في الرواية وترتيب الابيات وعددها ، ونسبها إلى شداد ابن الاسود .
(4) ابن هشام : * من القينات والشرب الكرام * والقليب : البئر .
(5) البيت في اللسان 7 : 230 ، ورواه : " يزين بالسنام " ، وقال في شرحه : الشيزى : شجر يتخذ منه الجفان ، وأراد بالجفان أربابها الذين كانوا يطمعون فيها وقتلوا ببدر وألقوا في القليب ، فهو يرثيهم ، وسمى الجفان شيزى بأسم أصلها " .
(*)(1/118)
وكان من العرب من يعتقد التناسخ وتنقل الارواح في الاجساد ، ومن هؤلاء أرباب الهامة ، التى قال عليه السلام عنهم : لا عدوى ولاهامه ولا صفر (1) وقال ذو الاصبع : يا عمرو إلا تدع شتمى ومنقصتي أضربك حيث تقول الهامة اسقوني (2) وقالوا : إن ليلى الاخيلية لما سلمت على قبر توبة بن الحمير خرج إليها هامة من القبر صائحه ، أفزعت ناقتها ، فوقصت (3) بها فماتت ، وكان ذلك تصديق قوله : ولو أن ليلى الاخيلية سلمت على ودوني جندل وصفائح (4) لسلمت تسليم البشاشة أو زقى إليها صدى من جانب القبر صائح وكان توبة وليلى في أيام بنى أمية .
وكانوا في عبادة الاصنام مختلفين ، فمنهم من يجعلها مشاركة للبارئ تعالى ، ويطلق عليها لفظة الشريك ، ومن ذلك قولهم : في التلبية : لبيك اللهم لبيك : لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك .
ومنهم من لا يطلق عليها لفظ الشريك ، ويجعلها وسائل وذرائع إلى الخالق سبحانه ، وهم الذين قالوا : (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) (5) .
وكان في العرب مشبهة ومجسمة ، منهم امية بن أبى الصلت ، وهو القائل : من فوق عرش جالس قد حط رجليه إلى كرسيه المنصوب وكان جمهورهم عبدة الاصنام ، فكان ود لكلب بدومة الجندل ، وسواع الهذيل ،
__________
(1) كانت العرب تزعم أن في البطن حية يقال لها الصفر ، تصيب الانسان إذا جاع وتؤذية .
نهاية ابن الاثير 2 : 226 .
(2) من قصيدة مفضلية ، المفضليات 163 .
(3) وقصت بها ، أي سقطت عنها فماتت .
(4) ديوان الحماسه لابي تمام بشرح التبريزي 3 : 267 .
والصفائح : الحجارة العراض تكون على القبور (5) سورة الزمر 3 .
(*)(1/119)
ونسر لحمير ، ويغوث لهمدان ، واللات لثقيف بالطائف ، والعزى لكنانة وقريش وبعض بنى سليم ، ومناة لغسان والاوس والخزرج ، وكان هبل لقريش خاصة على ظهر الكعبة ، وأساف ونائلة على الصفا والمروة .
وكان في العرب من يميل إلى اليهودية ، منهم جماعة من التبابعة وملوك اليمن ، ومنهم نصارى كبنى تغلب والعباديين رهط عدى بن زيد ، ونصارى نجران ، ومنهم من كان يميل إلى الصابئة ويقول بالنجوم والانواء .
فأما الذين ليسوا بمعطلة من العرب ، فالقليل منهم ، وهم المتألهون أصحاب الورع (1) والتحرج عن القبائح كعبد الله ، وعبد المطلب وابنه أبى طالب ، وزيد بن عمرو بن نفيل ، وقس بن ساعدة الايادي ، وعامر بن الظرب العدواني ، وجماعة غير هؤلاء .
وغرضنا من هذ الفصل بيان قوله عليه السلام : " بين مشبه لله بخلقه أو ملحد في اسمه " إلى غير ذلك ، وقد ظهر بما شرحناه .
* * * ثم ذكر عليه السلام أن محمدا صلى الله عليه وآله خلف في الامة بعده كتاب الله تعالى طريقا واضحا ، وعلما قائما ، والعلم المنار يهتدى به .
ثم قسم ما بينه عليه السلام في الكتاب أقساما .
فمنها حلاله وحرامه ، فالحلال كالنكاح ، والحرام كالزنا .
ومنها فضائله وفرائضه ، فالفضائل النوافل ، أي هي فضلة غير واجبة كركعتي الصبح وغيرهما ، والفرائض كفريضة الصبح .
وقال الراوندي : الفضائل هاهنا جمع فضيلة وهى الدرجة الرفيعة .
وليس بصحيح ، ألا تراه كيف جعل الفرائض في مقابلتها وقسيما لها ، فدل ذلك على أنه أراد النوافل .
__________
(1) ا : " التورع " .
(*)(1/120)
ومنها ناسخه ومنسوخه ، فالناسخ كقوله : (اقتلوا المشركين) (1) ، والمنسوخ كقوله : (لا إكراه في الدين) (2) .
ومنها رخصه وعزائمه ، فالرخص كقوله تعالى : (فمن اضطر في مخمصة) (3) والعزائم ، كقوله : (فاعلم أنه إلاله إلا الله) (4) .
ومنها خاصه وعامه ، فالخاص ، كقوله تعالى : (وأمرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبى) (5) ، والعام كالالفاظ الدالة على الاحكام العامة لسائر المكلفين كقوله : (أقيموا الصلاة) (6) .
ويمكن أن يراد بالخاص العمومات التى يراد بها الخصوص ، كقوله : (وأوتيت من كل شئ) (6) وبالعام ما ليس مخصوصا ، بل هو على عمومه كقوله تعالى : (والله بكل شئ عليم) (7) .
ومنها عبره وأمثاله ، فالعبر كقصة أصحاب الفيل ، وكالآيات التى تتضمن النكال والعذاب النازل بأمم الانبياء من قبل ، والامثال كقوله : (كمثل الذى استوقد نارا) (8) .
ومنها مرسله ومحدوده ، وهو عبارة عن المطلق والمقيد ، وسمى المقيد محدودا وهى لفظة فصيحة جدا ، كقوله : (فتحرير رقبة) (9) وقال في موضع آخر : (وتحرير رقبة مؤمنة) (10) .
ومنها محكمه ومتشابهه ، فمحكمه كقوله تعالى : (قل هو الله احد) (11) ، والمتشابه ، كقوله : (إلى ربها ناظره) (12) .
ثم قسم عليه السلام الكتاب قسمة ثانية ، فقال : إن منه ما لا يسع احدا جهله
__________
(1) سورة التوبة 5 .
(2) البقرة 256 (3) سورة المائدة 3 (4) سورة محمد 19 (5) سورة الاحزاب 50 (6) سورة النمل 23 (7) سورة البقرة 282 (8) سورة البقرة 17 (9) سورة المائدة 3 (10) سورة النساء 92 (11) سورة الاخلاص 1 (12) سورة القيامة 23 (*)(1/121)
ومنه ما يسع الناس ، جهله ، مثال الاول قوله : (الله لا اله الا هو الحى القيوم) (1) ومثال الثاني : (كهيعص) (حمعسق) .
ثم قال : ومنه ما حكمه مذكور في الكتاب منسوخ بالسنة وما حكمه مذكور في السنة منسوخ بالكتاب ، مثال الاول قوله تعالى : (فامسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت) (2) نسخ بما سنه عليه السلام من رجم الزانى المحصن .
ومثال الثاني صوم يوم عاشوراء كان واجبا بالسنة ثم نسخه صوم شهر رمضان الواجب بنص الكتاب .
ثم قال : " وبين واجب بوقته ، وزائل في مستقبله " ، يريد الواجبات المؤقته كصلاة الجمعة ، فإنها تجب في وقت مخصوص ، ويسقط وجوبها في مستقبل ذلك الوقت .
ثم قال عليه السلام : " ومباين بين محارمه " ، الواجب أن يكون " ومباين " بالرفع لا بالجر ، فإنه ليس معطوفا على ما قبله ، ألا ترى أن جميع ما قبله يستدعى الشئ وضده ، أو الشئ ونقيضه .
وقوله ؟ : " ومباين بين محارمه " لا نقيض ولا ضد له .
لانه ليس القرآن العزيز على قسمين : أحدهما مباين بين محارمه والآخر غير مباين ، فإن ذلك لا يجوز فوجب رفع " مباين " ، وأن يكون خبر مبتدأ محذوف ، ثم فسر ما معنى المباينه بين محارمه ، فقال : إن محارمه تنقسم إلى كبيرة وصغيرة فالكبيرة أوعد سبحانه عليها بالعقاب ، والصغيرة مغفورة ، وهذا نص مذهب المعتزلة في الوعيد .
ثم عدل عليه السلام عن تقسيم المحارم المتباينة ، ورجع إلى تقسيم الكتاب فقال ، " وبين مقبول في أدناه ، وموسع في أقصاه " ، كقوله : (فاقرءوا ما تيسر منه .
) (3) فإن القليل من القرآن مقبول ، والكثير منه موسع مرخص في تركه .
* * *
__________
(1) سورة البقرة 255 .
(2) سورة النساء 15 .
(3) سورة المزمل 20 .
(*)(1/122)
الاصل : وفرض عليكم حج بيته الحرام ، الذى جعله قبلة للانام ، يردونه ورود الانعام ، ويألهون إليه ولوه الحمام ، وجعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته ، وإذعانهم لعزته ، واختار من خلقه سماعا أجابوا إليه دعوته ، وصدقوا (1) كلمته ، ووقفوا مواقف انبيائه ، وتشبهوا بملائكته المطيفين بعرشه ، يحرزون الارباح في متجر عبادته ، ويتبادرون عنده موعد مغفرته .
جعله سبحانه وتعالى للاسلام علما ، وللعائذين حرما ، وفرض حقه ، وأوجب حجه (2) وكتب عليكم وفادته ، فقال سبحانه : (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غنى عن العالمين) (3) .
* * * الشرح : الوله : شدة الوجد ، حتى يكاد العقل يذهب ، وله الرجل يوله ولها .
ومن روى : " يألهون إليه ولوه الحمام " فسره بشئ آخر ، وهو يعكفون عليه عكوف الحمام ، وأصل " أله " عبد ، ومنه الاله ، أي المعبود .
ولما كان العكوف على الشئ كالعبادة له لملازمته والانقطاع إليه قيل : أله فلان إلى كذا ، أي عكف عليه كأنه يعبده .
ولا يجوز أن يقال : " يألهون إليه " في هذا الموضع بمعنى " يولهون " ، وأن أصل الهمزة الواو كما فسره الراوندي لان " فعولا " لا يجوز أن يكون مصدرا من فعلت بالكسر ، ولو كان يألهون هو يولهون ، كان أصله أله بالكسر ، فلم يجز أن يقول : " ولوه الحمام " ، وأما على ما فسرناه نحن فلا يمتنع أن يكون الولوه مصدرا ، لان " أله " مفتوح ، فصار كقولك : دخل دخولا .
وباقى الفصل غنى عن التفسير .
__________
(1) مخطوطة النهج : " وصدقوا إليه " .
(2) مخطوطة النهج : " فرض حجه ، وأوجب حقه " (3) سورة آل عمران 97 (*)(1/123)
[ فضل الكعبة ] جاء في الخبر الصحيح أن في السماء بيتا يطوف به الملائكة طواف البشر بهذا البيت اسمه الضراح ، وأن هذا البيت تحته على خط مستقيم ، وأنه المراد بقوله تعالى : (والبيت المعمور) (1) ، أقسم سبحانه به لشرفه ومنزلته عنده ، وفي الحديث أن آدم لما قضى مناسكه ، وطاف بالبيت لقيته الملائكة ، فقالت : يا آدم ، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفى عام .
قال مجاهد : إن الحاج : ذا قدموا مكة استقبلتهم الملائكة ، فسلموا على ركبان الابل ، وصافحوا ركبان الحمير ، واعتنقوا المشاة اعتناقا .
من سنة السلف أن يستقبلوا الحاج ، ويقبلوا بين أعينهم ويسألوهم الدعاء لهم ، ويبادروا ذلك قبل أن يتدنسوا بالذنوب والآثام .
وفي الحديث : " إن الله تعالى قد وعد هذا البيت أن يحجه في كل سنة ستمائة ألف ، فإن (2) نقصوا أتمهم الله بالملائكة ، وإن الكعبة تحشر كالعروس المزفوفة ، وكل من حجها متعلق بأستارها يسعون حولها ، حتى تدخل الجنة فيدخلون معها " .
وفي الحديث إن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها إلا الوقوف بعرفة .
وفيه : " أعظم الناس ذنبا من وقف بعرفة فظن أن الله لا يغفر له " .
عمربن ذر الهمداني لما قضى مناسكه أسند ظهره إلى الكعبة وقال مودعا للبيت : ما زلنا نحل إليك عروة ، ونشد إليك أخرى ، ونصعد لك أكمة ، ونهبط أخرى ، وتخفضنا أرض ، وترفعنا أخرى ، حتى أتيناك .
فليت شعرى بم يكون منصرفنا ؟ أبذنب مغفور ، فأعظم بها من نعمة ! أم بعمل مردود فأعظم بها من مصيبة ! فيا من له خرجنا وإليه
__________
(1) سورة الطور 4 .
(2) ا : " وإن " (*)(1/124)
قصدنا ، وبحرمه أنخنا ، ارحم .
يا معطى الوفد بفنائك ، فقد أتيناك بها معراة جلودها ، ذابلة أسنمتها ، نقبة (1) أخفافها ، وإن أعظم الرزية أن نرجع وقد اكتنفتنا الخيبة .
اللهم وإن للزائرين حقا ، فاجعل حقنا عليك غفران ذنوبنا ، فإنك جواد كريم ، ماجد لا ينقصك نائل ، ولا يبخلك سائل .
ابن جريج ، ما ظننت أن الله ينفع أحدا بشعر عمر بن أبى ربيعة ، حتى كنت باليمن ، فسمعت منشدا ينشد قوله : بالله قولا له في غير معتبة ما ذا أردت بطول المكث في اليمن ! (2) إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت بها (3) فما أخذت بترك الحج من ثمن ! فحركني ذلك على ترك اليمن ، والخروج إلى مكة ، فخرجت فحججت .
سمع أبو حازم امرأة حاجة ترفث (4) في كلامها ، فقال : يا أمة الله ، ألست حاجة ! أ لا تتقين الله ! فسفرت عن وجه صبيح ، ثم قالت له : أنا من اللواتى قال فيهن عمر بن أبى ربيعة (5) : أماطت كساء الخز عن حر وجهها وردت على الخدين بردا مهلهلا من اللائى لم يحججن يبغين حسبة ولكن ليقتلن البرئ المغفلا .
فقال أبو حازم : فأنا أسأل الله ألا يعذب هذا الوجه بالنار .
فبلغ ذلك سعيد بن المسيب ، فقال : رحم الله أبا حازم ! لو كان من عباد العراق ، لقال لها : اعزبي يا عدوة الله ! ولكنه ظرف نساك الحجاز .
__________
(1) نقبة ، من نقب البعير ، إذا رقت أخفافه .
(2) ديوانه 276 ، والمعتبة : العتاب .
(3) الديوان : " أو نعمت بها " .
(4) الرفث : الفحش في القول .
(5) الصواب أنهما للعرجى ، وهما من قصيدة في ديوانه 71 - 75 مطلعها : رأتنى خضيب الرأس شمرت مئزري وقد عهدتني أسود الرأس مسبلا ونسبهما إليه أبوفي الاغانى 1 : 404 (طبعة دار الكتب) .
(*)(1/125)
[ فصل في الكلام على السجع ] واعلم أن قوما من أرباب علم البيان عابوا السجع ، وأدخلوا خطب أمير المؤمنين عليه السلام في جملة ما عابوه ، لانه يقصد فيها السجع ، وقالوا : إن الخطب الخالية من السجع ، والقرائن والفواصل ، هي خطب العرب ، وهى المستحسنة الخالية من التكلف ، كخطبة النبي صلى الله عليه وآله في حجة الوداع ، وهى (1) : الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا ، من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل الله فلا هادى له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .
أوصيكم عباد الله بتقوى الله ، وأحثكم على العمل بطاعته ، وأستفتح الله بالذى هو خير ، أما بعد ، أيها الناس ، اسمعوا منى أبين لكم ، فإنى لا أدرى ، لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا ، في موقفي هذا أيها الناس ، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا .
ألا هل بلغت اللهم اشهد .
من كانت عنده أمانه فليؤدها إلى من أئتمنه عليها ، وإن ربا الجاهلية موضوع (2) ، وأول ربا أبدإ به ربا العباس بن عبد المطلب ، وإن دماء الجاهلية موضوعة ، وأول دم أبدأ به دم آدم (3) بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير
__________
(1) الخطبة في سيرة ابن هشام 2 : 350 ، والبيان والتبيين 2 : 31 ، والطبري 3 : 168 وإعجاز القرآن للباقلاني 198 ، والعقد 4 : 57 ، وابن الاثير 2 : 205 .
(2) يقال : وضعت الدين والجزية عنه ونحوهما ، إذا أسقطته .
(3) كذا في ب ، وهو يوافق ما ذكره السهيلي ، قال : اسمه آدم ، وكان مسترضعا في هذيل ، وقيل اسمه تمام ، وكان سبب قتله حرب كانت بين قبائل هذيل ، تقاذفوا فيها بالحجاره ، فأصاب الطفل حجر وهو يحبو بين البيوت .
وفى ا " عامر " ، وهو يوافق مافى البيان والتبيين والعقد ، وفى الطبري والباقلاني : " دم ابن ربيعة بن الحارث بن الحارث " .
(*)(1/126)
السدانة والسقاية (1) .
والعمد (2) قود ، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر ، فيه مائة بعير فمن ازداد فهو من الجاهلية .
أيها الناس ، إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه ، ولكنه قد رضى أن يطاع فيما سوى ذلك فيما تحتقرون من أعمالكم .
أيها الناس ، إنما النسئ (3) زيادة في الكفر ، يضل به الذين كفروا ، يحلونه عاما ، ويحرمونه عاما ، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والارض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والارض ، منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات وواحد فرد : ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب ، الذى بين جمادى وشعبان ، ألا هل بلغت .
أيها الناس ، إن لنسائكم عليكم حقا ، ولكم عليهن حقا ، فعليهن ألا يوطئن فرشكم غيركم ، ولا يدخلن بيوتكم أحدا تكرهونه إلا بإذنكم ، ولا يأتين بفاحشة ، فإن فعلن فقد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم كسوتهن ورزقهن بالمعروف ، فإنما النساء عندكم عوان (4) لا يملكن لانفسهن شيئا ، أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيرا .
__________
(1) السدانة : خدمة الكعبة ، بفتح السين وكسرها .
والسقاية : ما كانت قريش تسقيه الحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء .
(2) القود : القصاص ، أي من قتل متعمدا يقتل .
(3) النسئ : تأخير حرمة شهر آخر ، وذلك أن العرب في الجاهلية كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا مكانه شهر آخر ، فيحملون المحرم ويحرمون صفرا ، فإن احتاجوا أحلوه وحرموا ربيعا الاول ، وهكذا حتى استدار التحريم على شهور السنة كلها ، وكانوا يعتبرون في التحريم مجرد العدد لا خصوصية الاشهر المعلومة ، وأول من أحدث ذلك جنادة بن عوف الكنانى .
وانظر تفسير الالوسى 3 : 305 (4) عوان : أسيرات .
(*)(1/127)
أيها الناس ، إنما المؤمنون إخوة ، ولا يحل لامرئ مال أخيه إلا على طيب نفس ، ألا هل بلغت اللهم اشهد .
ألا لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ، فإنى قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا ، كتاب الله ربكم ، ألا هل بلغت اللهم اشهد .
أيها الناس ، إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد ، كلكم لآدم وآدم من تراب ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، وليس لعربى على عجمى فضل إلا بالتقوى ، ألا فليبلغ الشاهد الغائب .
أيها الناس ، إن الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث ، ولا تجوز وصية في أكثر من الثلث ، والولد للفراش وللعاهر الحجر ، من ادعى إلى غير أبيه ، أو تولى غير مواليه فهو ملعون ، لا يقبل الله منه صرفا (1) ولا عدلا .
والسلام عليكم ورحمة الله عليكم .
* * * واعلم أن السجع لو كان عيبا لكان كلام الله سبحانه معيبا لانه مسجوع ، كله ذو فواصل وقرائن ، ويكفى هذا القدر وحده مبطلا لمذهب هؤلاء .
فأما خطبة رسول الله صلى الله عليه وآله هذه فإنها وإن لم تكن ذات سجع ، فإن أكثر خطبه مسجوع ، كقوله : إن مع العز ذلا ، وان مع الحياة موتا ، وإن مع الدنيا آخرة ، وإن لكل شئ حسابا و لكل حسنة ثوابا ، ولكل سيئة عقابا ، وإن على كل شئ رقيبا ، وأنه لا بد لك من قرين يدفن معك هو حى وأنت ميت ، فإن كان كريما أكرمك ، وإن كان لئيما أسلمك ، ثم لا يحشر إلا معك ، ولا تبعث إلا معه ، ولا تسأل إلا عنه ، فلا تجعله إلا صالحا ، فإنه إن صلح أنست به ، وإن فسد لم تستوحش إلا منه ، وهو عملك .
فأكثر هذا الكلام مسجوع كما تراه ، وكذلك خطبه الطوال كلها .
وأما كلامه
__________
(1) أي لا يقبل منهم شئ ، وأصل العدل أن يقتل الرجل الرجل ، وانصرف : أن ينصرف عن الدم إلى أخذ الديه .
(*)(1/128)
القصير ، فإنه غير مسجوع ، لانه لا يحتمل السجع ، وكذلك القصير من كلام أمير المؤمنين عليه السلام .
فأما قولهم : إن السجع يدل على التكلف ، فإن المذموم هو التكلف الذى تظهر سماجته وثقله للسامعين ، فأما التكلف المستحسن ، فأى عيب فيه ! أ لا ترى أن الشعر نفسه لا بد فيه من تكلف إقامة الوزن ، وليس لطاعن أن يطعن فيه بذلك .
واحتج عائبو السجع بقوله عليه السلام لبعضهم منكرا عليه : " أ سجعا كسجع الكهان ! " .
ولو لا أن السجع منكر لما أنكر عليه السلام سجع الكهان وأمثاله ، فيقال لهم : إنما أنكر عليه السلام السجع الذى يسجع الكهان أمثاله ، لا السجع على الاطلاق ، وصورة الواقعة أنه عليه السلام أمر في الجنين بغره (1) ، فقال قائل : أ أدى من لا شرب ولا أكل ، ولا نطق ولا استهل ، ومثل هذا يطل ! فأنكر عليه السلام ذلك ، لان الكهان كانوا يحكمون في الجاهلية بألفاظ مسجوعة كقولهم : حبة بر ، في إحليل مهر .
وقولهم : عبد المسيح ، على جمل مشيح (2) ، لرؤيا المؤبذان ، وارتجاس الايوان .
ونحو ذلك من كلامهم .
وكان عليه السلام قد أبطل الكهانة والتنجيم والسحر ، ونهى عنها ، فلما سمع كلام ذلك القائل أعاد الانكار ، ومراده به تأكيد تحريم العمل على أقوال الكهنة .
ولو كان عليه السلام قد أنكر السجع لما قاله ، وقد بينا أن كثيرا من كلامه مسجوع ، وذكرنا خطبته .
ومن كلامه عليه السلام المسجوع خبر ابن مسعود رحمه الله تعالى ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : " استحيوا من الله حق الحياء " ، فقلنا إنا لنستحيى يا رسول الله من الله تعالى ، فقال : " ليس ذلك ما أمرتكم به ، وإنما الاستحياء من الله أن تحفظ الرأس
__________
(1) الغرة : ما بلغ ثمنه نصف عشر الدية من العبيد والاماء .
انظر النهايه لابن الاثير (3 : 155) .
(2) جمل مشيح : جاد مسرع .
(*)(1/129)
وما وعى ، والبطن وما حوى ، وتذكر الموت والبلى ، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا .
ومن ذلك كلامه المشهور لما قدم المدينة عليه السلام أول قدومه إليها : " أيها الناس ، أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، وصلوا الارحام ، وصلوا بالليل والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام " .
وعوذ الحسن عليهما السلام ، فقال : " أعيذك من الهامة ، والسامة ، وكل عين لامة " ، وإنما أراد " ملمة " ، فقال : " لامة " لاجل السجع .
وكذلك قوله : " ارجعن مأزورات ، غير مأجورات " وإنما هو " موزورات " ، بالواو .
* * *(1/130)
- 2 - ومن خطبة له عليه السلام بعد انصرافه من صفين : صفين : اسم الارض التى كانت فيها الحرب ، والنون فيها أصلية ، ذكر ذلك صاحب " الصحاح " (1) فوزنها على هذا : " فعيل " كفسيق ، وخمير ، وصريع ، وظليم ، وضليل .
فإن قيل : فاشتقاقه مما ذا يكون ؟ قيل : لو كان اسما لحيوان لامكن أن يكون من صفن الفرس - إذا قام على ثلاث وأقام الرابعة على طرف الحافر - يصفن ، بالكسر صفونا .
أو من صفن القوم ، إذا صفوا أقدامهم لا يخرج بعضها من بعض (2) .
فإن قيل : أ يمكن أن يشتق من ذلك وهو اسم أرض ؟ قيل : يمكن على تعسف ، وهو أن تكون تلك الارض لما كانت مما تصفن فيها الخيل ، أو تصطف فيها الاقدام ، سميت صفين .
فإن قيل : أ يمكن أن تكون النون زائدة مع الياء ، كما هما في " غسلين " " وعفرين " .
قيل : لو جاء في الاصل " صف " ، بكسر الصاد لامكن أن تتوهم الزيادة ، كالزيادة
__________
(1) الصحاح ، 215 ، أي أنه ذكرها في مادة " صفن " .
(2) ا : " عن بعض " (*)(1/131)
في غسل ، وهو ما يغتسل به نحو الخطمى وغيره ، فقيل : غسلين ، لما يسيل من صديد أهل النار ودمائهم ، وكالزيادة في عفر وهو الخبيث الداهى (1) ، فقيل : عفرين ، لمأسدة بعينها .
وقيل : عفريت للداهية ، هكذا ذكروه .
ولقائل أن يقول لهم : أ ليس قد قالوا للاسد : عفرنى ، بفتح العين ، وأصله العفر ، بالكسر ، فقد بان أنهم لم يراعوا في اشتقاقهم وتصريف كلامهم الحركة المخصوصة ، وإ نما يراعون الحرف ، ولا كل الحروف ، بل الاصلى منها ، فغير ممتنع على هذا عندنا أن تكون الياء والنون زائدتين في " صفين " .
وصفين : اسم غير منصرف للتأنيث والتعريف ، قال (2) : إنى أدين بما دان الوصي به يوم الخريبة من قتل المحلينا (3) وبالذي دان يوم النهر دنت به وشاركت كفه كفى بصفينا تلك الدماء معا يا رب في عنقي ثم اسقنى مثلها آمين آمينا * * * الاصل : أحمده استتماما لنعمته ، واستسلاما لعزته ، واستعصاما من معصيته .
وأستعينه فاقة إلى كفايته ، إنه لا يضل من هداه ، ولا يئل من عاداه ، ولا يفتقر من كفاه ، فإنه أرجح ما وزن ، وأفضل ما خزن .
وأشهد أن لا إله إلا الله (4 وحده لا شريك له 4) ، شهادة ممتحنا إخلاصها ، معتقدا مصاصها ، نتمسك بها أبدا
__________
(1) يقال : رجل داه وداهية ، بمعنى .
(2) هو السيد الحميرى ، والابيات بنسبتها إليه في الكامل 7 : 107 - بشرح المرصفى .
(3) الخريبة : موضع بالبصره ، كانت عنده وقعة الجمل ، ذكره ياقوت ، واستشهد بالبيت ، وفى الاصول : " الحربيه " ، بالحاء ، تصحيف .
وفى الكامل : " يوم النخلة " .
(4 - 4) ساقط من ا : ومخطوطة النهج .
(*)(1/132)
ما أبقانا ، وندخرها لاهاويل ما يلقانا ، فإنها عزيمة الايمان ، وفاتحة الاحسان ، ومرضاة الرحمن ، ومدحرة الشيطان .
* * * الشرح : وأل ، أي نجا ، يئل .
والمصاص : خالص الشئ .
والفاقة الحاجة والفقر .
الاهاويل : جمع أهوال ، والاهوال : جمع هول ، فهو جمع الجمع ، كما قالوا : أنعام وأناعيم .
وقيل : أهاويل أصله تهاويل ، وهى ما يهولك من شئ ، أي يروعك ، وإن جاز هذا فهو بعيد ، لان التاء قل أن تبدل همزة .
والعزيمة : النية المقطوع عليها .
ومدحرة الشيطان ، أي تدحره ، أي تبعده وتطرده .
وقوله عليه السلام : " استتماما " و " استسلاما " و " استعصاما " من لطيف الكناية وبديعها ، فسبحان من خصه بالفضائل التى لا تنتهى السنة الفصحاء إلى وصفها ، وجعله إمام كل ذى علم ، وقدوة كل صاحب خصية ! وقوله : " فإنه أرجح " ، الهاء عائدة إلى ما دل عليه قوله : " أحمده " ، يعنى الحمد ، والفعل ، يدل على المصدر ، وترجع الضمائر إليه كقوله تعالى : (بل هو شر) (1) وهو ضمير البخل الذى دل عليه قوله : " يبخلون " .
[ لزوم ما لا يلزم وإيراد أمثلة منه ] وقوله عليه السلام : وزن وخزن ، بلزوم الزاى ، من الباب المسمى لزوم ما لا يلزم ، وهو أحد أنواع البديع ، وذلك أن تكون الحروف التى قبل الفاصلة حرفا واحدا ، هذا
__________
(1) سورة آل عمران 180 (*)(1/133)
في المنثور ، وأما في المنظوم فأن تتساوى الحروف التى قبل الروى مع كونها ليست بواجبة التساوى ، مثال ذلك قول بعض شعراء الحماسة (1) : بيضاء باكرها النعيم فصاغها بلباقة فأدقها وأجلها (2) حجبت تحيتها فقلت لصاحبي ما كان أكثرها لنا وأقلها وإذا وجدت لها وساوس سلوة شفع الضمير إلى الفؤاد فسلها (3) أ لا تراه كيف قد لزم اللام الاولى من اللامين اللذين صارا حرفا مشددا ! فالثاني منهما هو الروى ، واللام الاول الذى قبله التزام ما لا يلزم ، فلو قال في القصيدة : وصلها ، وقبلها ، وفعلها ، لجاز .
واحترزنا نحن بقولنا : مع كونها ليست بواجبة التساوى عن قول الراجز ، وهو من شعر الحماسة أيضا : وفيشة ليست كهذى الفيش قد ملئت من نزق وطيش (4) إذا بدت قلت أمير الجيش من ذاقها يعرف طعم العيش .
فإن لزوم الياء قبل حرف الروى ليس من هذا الباب ، لانه لزوم واجب ، أ لا ترى أنه لو قال في هذا الرجز : البطش والفرش والعرش لم يجز ، لان الردف (5) لا يجوز أن يكون حرفا خارجا عن حروف العلة ، وقد جاء من اللزوم في الكتاب العزيز مواضع
__________
(1) من أبيات أربعة ، أولها : إن التى زعمت فؤادك ملها خلقت هواك كما خلقت هوى لها وهى في المرزوقى 1235 ، وأمالى القالى (1 : 156) من غير نسبة ، ونقل التبريزي عن أبى رياش أنها لعروة بن أذينة .
(2) أدقها وأجلها ، أي أتى بها دقيقة العين والانف والثغر والخصر ، جليلة الساق والفخذ والصدر .
(3) الحماسة : * شفع الضمير لها إلى فسلها * (4) ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 4 : 340 .
(5) الردف عند العروضيين هو حرف لين أو مد قبل الروى يتصلان به .
(*)(1/134)
ليست بكثيرة ، فمنها قوله سبحانه : (فتكون للشيطان وليا قال أ راغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لارجمنك واهجرني مليا) (1) ، وقوله تعالى : (ولكن كان في ضلال بعيد .
قال لا تختصموا لدى وقد قدمت إليكم بالوعيد) (2) .
وقوله : (اقرأ باسم ربك الذى خلق .
خلق الانسان من علق) (3) ، وقوله : (والطور .
وكتاب مسطور) (4) ، وقوله : (بكاهن ولا مجنون .
أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون) (5) ، وقوله : (في سدر مخضود .
وطلح منضود) (6) ، وقوله : (فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير .
وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير) (7) ، والظاهر أن ذلك غير مقصود قصده .
ومما ورد منه في كلام العرب أن لقيط بن زرارة تزوج ابنة قيس بن خالد الشيباني ، فأحبته ، فلما قتل عنها تزوجت غيره ، فكانت تذكر لقيطا ، فسألها عن حبها له ، فقالت : أذكره وقد خرج تارة في يوم دجن ، وقد تطيب وشرب الخمر ، وطرد بقرا ، فصرع بعضها ، ثم جاءني وبه نضح دم وعبير ، فضمني ضمة ، وشمني شمة ، فليتني كنت مت ثمة .
وقد صنع أبو العلاء المعرى كتابا في اللزوم من نظمه ، فأتى فيه بالجيد والردئ ، وأكثره متكلف ، ومن جيده قوله : لا تطلبن بآلة لك حالة قلم البليغ بغير حظ مغزل (8) سكن السما كان السماء كلاهما هذا له رمح وهذا أعزل * * * الاصل : وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالدين المشهور ، والعلم المأثور ،
__________
(1) سورة مريم 44 ، 45 .
(2) سورة 27 ، 28 (3) سورة العلق 1 ، 2 .
(4) سورة الطور 1 ، 2 (5) سورة الطور 29 ، 30 .
(6) سورة الواقعة 28 ، 29 (7) سورة الانفال 39 ، 40 .
(8) لم يرد البيتان نسخ اللزوميات ، ونسبهما إليه ابن خلكان (1 : 33) ، وابن الوردى ، ومرآة الجنان ، وابن كثير حوادث 449 ، وشذرات الذهب 3 : 281 ، وتقديم أبى بكر لا بن حجه 435 .
(*)(1/135)
والكتاب المسطور ، والنور الساطع ، والضياء اللامع ، والامر الصادع ، إزاحة للشبهات ، واحتجاجا بالبينات ، وتحذيرا بالآيات ، وتخويفا بالمثلات ، والناس في فتن انجذم فيها (1) حبل الدين ، وتزعزعت سوارى اليقين ، واختلف النجر ، وتشتت الامر ، وضاق المخرج ، وعمى المصدر ، فالهدى خامل ، والعمى شامل ، عصى الرحمن ، ونصر الشيطان ، وخذل الايمان ، فانهارت دعائمه ، وتنكرت معالمه ، ودرست سبله ، وعفت شركه .
أطاعوا الشيطان فسلكوا مسالكه ، ووردوا مناهله ، بهم سارت أعلامه ، وقام لواؤه .
في فتن داستهم بأخفافها ، ووطئتهم بأظلافها ، وقامت على سنابكها ، فهم فيها تائهون حائرون ، جاهلون مفتونون ، في خير دار وشر جيران ، نومهم سهود ، وكحلهم دموع ، بأرض عالمها ملجم ، وجاهلها مكرم .
* * * الشرح : قوله عليه السلام : " والعلم المأثور " ، يجوز أن يكون عنى به القرآن ، لان المأثور المحكى ، والعلم ما يهتدى ، به ، والمتكلمون يسمون المعجزات اعلاما .
ويجوز أن يريد به أحد معجزاته غير القرآن ، فإنها كثيرة ومأثورة ، ويؤكد هذا قوله بعد : " والكتاب المسطور " ، فدل على تغايرهما ، ومن يذهب إلى الاول يقول : المراد بهما واحد ، والثانيه توكيد الاولى على قاعدة الخطابة والكتابة .
والصادع : الظاهر الجلى ، قال تعالى : (فاصدع بما تؤمر) (2) أي أظهره ولا تخفه .
والمثلات ، بفتح الميم وضم الثاء : العقوبات ، جمع مثلة قال تعالى : (ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات) (3) .
وانجذم : انقطع .
والسوارى : جمع سارية ، وهى الدعامة يدعم بها السقف .
والنجر :
__________
(1) مخطوطة النهج : " فيها " (2) سورة الرعد 6 .
(3) سورة الحجر 94 (*)(1/136)
الاصل ، ومثله النجار .
وانهارت : تساقطت .
والشرك : الطرائق ، جمع شراك .
والاخفاف للابل ، والاظلاف للبقر والمعز .
وقال الراوندي في تفسير قوله : " خير دار ، وشر جيران " : خير دار : الكوفة .
وقيل : الشام ، لانها الارض المقدسة ، وأهلها شر جيران ، يعنى أصحاب معاوية .
وعلى التفسير الاول يعنى أصحابه عليه السلام .
قال : وقوله : " نومهم سهود " يعنى أصحاب معاوية لا ينامون طول الليل ، بل يرتبون أمره .
وإن كان وصفا لاصحابه عليه السلام بالكوفة - وهو الاقرب - فالمعنى أنهم خائفون يسهرون ويبكون لقلة موافقتهم إياه ، وهذا شكاية منه عليه السلام لهم .
وكحلهم دموع ، أي نفاقا فإنه إذا تم نفاق المرء ملك عينيه .
ولقائل أن يقول : لم يجر فيما تقدم ذكر أصحابه عليه السلام ولا أصحاب معاوية ، والكلام كله في وصف أهل الجاهلية قبل مبعث محمد صلى الله عليه وآله .
ثم لا يخفى ما في هذا التفسير من الركاكة والفجاجة وهو أن يريد بقوله : " نومهم سهود " أنهم طوال الليل يرتبون أمر معاوية ، لا ينامون ، وأن يريد بذلك أن أصحابه يبكون من خوف معاوية وعساكره ، أو أنهم يبكون نفاقا ، والامر أقرب من أن يتمحل له مثل هذا .
ونحن نقول : إنه عليه السلام لم يخرج من صفة أهل الجاهلية ، وقوله : " في خير دار " يعنى مكة ، " وشر جيران " يعنى قريشا ، وهذا لفظ النبي صلى الله عليه وآله حين حكى بالمدينة حالة كانت في مبدأ البعثة ، فقال : " كنت في خير دار " و " شر جيران " ، ثم حكى عليه السلام ما جرى له مع عقبة بن أبى معيط ، والحديث مشهور .
وقوله : " نومهم سهود ، وكحلهم دموع " مثل أن يقول : جودهم بخل ، وأمنهم خوف ، أي لو استماحهم محمد عليه السلام النوم لجادوا عليه بالسهود ، عوضا عنه ، ولو استجداهم الكحل لكان كحلهم الذى يصلونه به الدموع .(1/137)
ثم قال : " بأرض عالمها ملجم " أي من عرف صدق محمد صلى الله عليه وآله وآمن به في تقية وخوف .
" وجاهلها مكرم " ، أي من جحد نبوته وكذبه في عز ومنعه ، وهذا ظاهر .
* * * الاصل ومنها ، ويعنى آل النبي صلى الله عليه : هم موضع سره ، ولجأ أمره ، وعيبه علمه ، وموئل حكمه ، وكهوف كتبه ، وجبال دينه ، بهم أقام انحناء ظهره ، وأذهب ارتعاد فرائصه .
الشرح : اللجأ : ما تلتجئ إليه ، كالوزر ما تعتصم به .
والموئل : ما ترجع إليه ، يقول : إن أمر النبي صلى الله عليه وآله ، أي شانه ملتجئ إليهم ، وعلمه مودع عندهم ، كالثوب يودع العيبة .
وحكمه ، أي شرعه يرجع ويؤول إليهم .
وكتبه - يعنى القرآن والسنة عندهم ، فهم كالكهوف له ، لاحتوائهم عليه .
وهم جبال دينه لا يتحلحلون عن الدين ، أو أن الدين ثابت بوجودهم ، كما أن الارض ثابتة بالجبال ، ولولا الجبال لمادت بأهلها .
والهاء في " ظهره " ترجع إلى الدين ، وكذلك الهاء في " فرائصه " ، والفرائص : جمع فريصة ، اللحمه بين الجنب والكتف لا تزال ترعد من الدابة .
الاصل : ومنها في المنافقين : زرعوا الفجور ، وسقوه الغرور ، وحصدوا الثبور ، لا يقاس بآل محمد صلى الله عليه من هذه الامه أحد ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا .
هم أساس الدين ، وعماد اليقين ، إليهم يفئ الغالى ، وبهم يلحق(1/138)
التالى ، ولهم خصائص حق الولاية ، وفيهم الوصية والوراثة ، الآن إذ رجع الحق إلى أهله ونقل إلى منتقله .
الشرح : جعل ما فعلوه من القبيح بمنزلة زرع زرعوه ، ثم سقوه ، فالذي زرعوه الفجور ، ثم سقوه بالغرور ، الاستعارة واقعة موقعها ، لان تماديهم ، وما سكنت إليه نفوسهم من الامهال ، هو الذى أوجب استمرارهم على القبائح التى واقعوها ، فكان ذلك كما يسقى الزرع ، ويربى بالماء ، ويستحفظ .
ثم قال : " وحصدوا الثبور " ، أي كانت نتيجة ذلك الزرع والسقى حصاد ما هو الهلاك والعطب .
وإشارته هذه ليست إلى المنافقين كما ذكر الرضى رحمه الله ، وإنما هي إشارة إلى من تغلب عليه ، وجحد حقه كمعاوية وغيره .
ولعل الرضى رحمه الله تعالى عرف ذلك وكنى عنه .
ثم عاد إلى الثناء على آل محمد صلى الله عليه وآله ، فقال : " هم أصول الدين ، إليهم يفئ الغالى ، وبهم يلحق التالى ، " جعلهم كمقنب يسير في فلاة ، فالغالى منه أي الفارط المتقدم ، الذى قد غلا في سيره يرجع إلى ذلك المقنب إذا خاف عدوا ، ومن قد تخلف عن ذلك المقنب فصار تاليا له يلتحق به إذا أشفق من أن يتخطف .
ثم ذكر خصائص حق الولاية ، والولاية الامرة ، فأما الامامية فيقولون : أراد نص النبي صلى الله عليه وآله وعلى أولاده .
ونحن نقول : لهم خصائص حق ولاية الرسول صلى الله عليه وآله على الخلق .
ثم قال عليه السلام : " وفيهم الوصية والوراثة " ، أما الوصية فلا ريب عندنا أن عليا عليه السلام كان وصى رسول الله صلى الله عليه وآله ، وإن خالف في ذلك من هو منسوب(1/139)
عندنا إلى العناد ، ولسنا نعنى بالوصية النص والخلافة ، ولكن أمورا أخرى لعلها - إذا لمحت - أشرف وأجل .
وأما الوراثة فالامامية يحملونها على ميراث المال ، والخلافة ، ونحن نحملها على وراثة العلم .
ثم ذكر عليه السلام أن الحق رجع الآن إلى أهله ، وهذا يقتضى أن يكون فيما قبل في غير أهله ، ونحن نتأول ذلك على غير ما تذكره الامامية ، ونقول : إنه عليه السلام كان أولى بالامر وأحق ، لا على وجه النص ، بل على وجه الافضلية ، فإنه أفضل البشر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأحق بالخلافة من جميع المسلمين ، لكنه ترك حقه لما علمه من المصلحة ، وما تفرس فيه هو والمسلمون من اضطراب الاسلام ، وانتشار الكلمة ، لحسد العرب له ، وضغنهم عليه .
وجائز لمن كان أولى بشئ فتركه ثم استرجعه أن يقول : قد رجع الامر إلى أهله .
وأما قوله : " وانتقل إلى منتقله " ، ففيه مضاف محذوف ، تقديره : " إلى موضع منتقله " ، والمنتقل بفتح القاف مصدر بمعنى الانتقال ، كقولك : لى في هذا الامر مضطرب ، أي اضطراب ، قال : قد كان لى مضطرب واسع في الارض ذات الطول والعرض (1) وتقول : ما معتقدك ؟ أي ما اعتقادك .
قد رجع الامر إلى نصابه ، وإلى الموضع الذى هو على الحقيقة الموضع الذى يجب أن يكون انتقاله إليه .
فإن قيل : ما معنى قوله عليه السلام : " لا يقاس بآل محمد من هذه الامه أحد ، ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه ابدا " .
قيل لا شبهة أن المنعم أعلى وأشرف من المنعم عليه ، ولا ريب أن محمدا صلى الله
__________
(1) ديوان الحماسة 1 : 287 بشرح المرزوقى ، من أبيات نسبها إلى خطاب بن المعلى ، واسمه في التبريزي : " حطان بن المعلى " .
(*)(1/140)
عليه وآله وأهله الادنين من بنى هاشم ، لا سيما عليا عليه السلام ، أنعموا على الخلق كافة بنعمة لا يقدر قدرها ، وهى الدعاء إلى الاسلام والهداية إليه ، فمحمد صلى الله عليه وآله وإن كان هدى الخلق بالدعوة التى قام بها بلسانه ويده ، ونصره الله تعالى له بملائكته وتأييده ، وهو السيد المتبوع ، والمصطفى المنتجب الواجب الطاعة ، إلا أن لعلى عليه السلام من الهداية أيضا - وإن كان ثانيا لاول ، ومصليا على إثر سابق - ما لا يجحد ، ولو لم يكن إلا جهاده بالسيف أولا وثانيا ، وما كان بين الجهادين من نشر العلوم وتفسير القرآن وإرشاد العرب إلى ما لم تكن له فاهمة ولا متصورة ، لكفى في وجوب حقه ، وسبوغ نعمته عليه السلام .
فإن قيل : لا ريب في أن كلامه هذا تعريض بمن تقدم عليه ، فأى نعمة له عليهم ؟ قيل : نعمتان .
الاولى منهما الجهاد عنهم وهم قاعدون ، فإن من أنصف علم أنه لولا سيف على عليه السلام لاصطلم المشركون ، من أشار إليه وغيرهم من المسلمين ، وقد علمت آثاره في بدر ، وأحد ، والخندق ، وخيبر ، وحنين ، وأن الشرك فيها فغرفاه ، فلولا أن سده بسيفه لالتهم المسلمين كافة - والثانية علومه التى لو لاها لحكم بغير الصواب في كثير من الاحكام ، وقد اعترف عمر له بذلك ، والخبر مشهور : " لو لا على لهلك عمر " .
ويمكن أن يخرج كلامه على وجه آخر ، وذلك أن العرب تفضل القبيلة التى (2) منها الرئيس الاعظم على سائر القبائل ، وتفضل الادنى منه نسبا فالادنى على سائر آحاد تلك القبيلة ، فإن بنى دارم يفتخرون بحاجب وإخوته ، وبزرارة أبيهم على سائر بنى تميم ، ويسوغ للواحد من أبناء بنى دارم ، أن يقول : لا يقاس ببنى دارم أحد من بنى تميم ، ولا يستوى بهم من جرت رياستهم عليه أبدا ، ويعنى بذلك أن واحدا من بنى دارم قد رأس على بنى تميم ، فكذلك لما كان رسول الله صلى الله عليه وآله رئيس الكل ،
__________
(1) ...
(2) ا : " فيها " .
(*)(1/141)
والمنعم على الكل ، جاز لواحد من بنى هاشم ، لا سيما مثل على عليه السلام أن يقول هذه الكلمات .
* * * واعلم أن عليا عليه السلام كان يدعى التقدم على الكل ، والشرف على الكل ، والنعمة على الكل ، بابن عمه صلى الله عليه وآله ، وبنفسه وبأبيه أبى طالب ، فإن من قرأ علوم السير عرف ، أن الاسلام لو لا أبو طالب لم يكن شيئا مذكورا .
وليس لقائل أن يقول : كيف يقال هذا في دين تكفل الله تعالى بإظهاره ، سواء أبو طالب موجودا أو معدوما ؟ لانا نقول : فينبغي على هذا ألا يمدح رسول الله صلى الله عليه وآله ، لا يقال : إنه هدى الناس من الضلالة ، وأنقذهم من الجهاله ، وأن له حقا على المسلمين .
وأنه لو لاه لما عبد الله تعالى في الارض ، وألا يمدح أبو بكر ، ولا يقال : إن له أثرا في الاسلام ، وأن عبد الرحمن وسعدا وطلحة وعثمان ، وغيرهم من الاولين في الدين اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وآله لاتباعه له ، وأن له يدا غير مجحودة في الانفاق ، واشتراء المعذبين واعتاقهم ، وأنه لو لاه لاستمرت الردة بعد الوفاة ، وظهرت دعوة مسيلمة وطليحة وأنه لو لا عمر لما كانت الفتوح ، ولا جهزت الجيوش ، ولا قوى أمر الدين بعد ضعفه ، ولا انتشرت الدعوة بعد خمولها .
فإن قلتم في كل ذلك : إن هؤلاء يحمدون ويثنى عليهم ، لان الله تعالى أجرى هذه الامور على أيديهم ، ووفقهم لها ، والفاعل بذلك بالحقيقة هو الله تعالى ، وهؤلاء آلة مستعملة ، ووسائط تجرى الافعال على أيديها ، فحمدهم والثناء عليهم ، والاعتراف لهم إنما هو باعتبار ذلك .
قيل : لكم في شأن أبى طالب مثله (1) .
* * *
__________
(1) ا : " قبل لهم " (*)(1/142)
واعلم أن هذه الكلمات ، وهى قوله عليه السلام : " الآن إذ رجع الحق إلى أهله " ، إلى آخرها يبعد عندي أن تكون مقولة عقيب انصرافه عليه السلام من صفين ، لانه انصرف عنها وقتئذ مضطرب الامر ، منتشر الحبل ، بواقعة التحكيم ، ومكيدة ابن العاص ، وما تم لمعاوية عليه من الاستظهار ، وما شاهد في عسكره من الخذلان ، وهذه الكلمات لا تقال في مثل هذه الحال ، وأخلق بها أن تكون قيلت في ابتداء بيعته ، قبل أن يخرج من المدينة إلى البصرة ، وأن الرضى رحمه الله تعالى نقل ما وجد ، وحكى ما سمع ، والغلط من غيره ، والوهم سابق له ، وما ذكرناه واضح .
[ ما ورد في وصاية على من الشعر ] ومما رويناه من الشعر المقول في صدر الاسلام المتضمن كونه عليه السلام وصى رسول الله قول عبد الله بن أبى سفيان بن الحرث ابن عبد المطلب : ومنا على ذاك صاحب خيبر وصاحب بدر يوم سالت كتائبه وصى النبي المصطفى وابن عمه فمن ذا يدانيه ومن ذا يقاربه ! وقال عبد الرحمن بن جعيل : لعمري لقد بايعتم ذا حفيظة على الدين ، معروف العفاف موفقا عليا وصى المصطفى وابن عمه وأول من صلى أخا الدين والتقى وقال أبو الهيثم بن التيهان - وكان بدريا : قل للزبير وقل لطلحة إننا نحن الذين شعارنا الانصار نحن الذين رأت قريش فعلنا يوم القليب أولئك الكفار كنا شعار نبينا ودثاره يفديه منا الروح والابصار(1/143)
إن الوصي إمامنا وولينا برح الخفاء وباحت الاسرار (1) .
وقال عمر بن حارثة الانصاري ، وكان مع محمد بن الحنفية يوم الجمل ، وقد لامه أبوه عليه السلام لما أمره بالحملة ، فتقاعس : أبا حسن أنت فصل الامور يبين بك الحل والمحرم جمعت الرجال على راية بها ابنك يوم الوغى مقحم ولم ينكص المرء من خيفة ولكن توالت له أسهم فقال رويدا ولا تعجلوا فإنى إذا رشقوا مقدم فاعجلته والفتى مجمع بما يكره الوجل المحجم سمى النبي وشبه الوصي ورايته لونها العندم وقال رجل من الازد يوم الجمل : هذا على وهو الوصي آخاه يوم النجوة النبي وقال هذا بعدى الولى وعاه واع ونسى الشقى وخرج يوم الجمل غلام من بنى ضبة شاب معلم (2) من عسكر عائشة ، وهو يقول : نحن بنو ضبة أعداء على ذاك الذى يعرف قدما بالوصى وفارس الخيل على عهد النبي ما أنا عن فضل على بالعمى لكننى أنعى ابن عفان التقى إن الولى طالب ثأر الولى وقال سعيد بن قيس الهمداني يوم الجمل وكان في عسكر على عليه السلام : أية حرب أضرمت نيرانها وكسرت يوم الوغى مرانها (3)
__________
(1) برح الخفاء ، أي ظهر ما كان خافيا وانكشف ، مأخوذ من براح ، وهو البارز الظاهر .
(2) المعلم ، بكسر اللام : الذى علم مكانه في الحرب بعلامة أعلمها .
(3) المران : الرماح الصلبة اللدنة ، واحدة مرانة .
(*)(1/144)
قل للوصي أقبلت قحطانها فادع بها تكفيكها همدانها * هم بنوها وهم إخوانها * وقال زياد بن لبيد الانصاري يوم الجمل ، وكان من أصحاب على عليه السلام : كيف ترى الانصار في يوم الكلب إنا أناس لا نبالي من عطب ولا نبالي في الوصي من غضب وإنما الانصار جد لا لعب هذا على وابن عبد المطلب ننصره اليوم على من قد كذب * من يكسب البغى فبئسما اكتسب * وقال حجر بن عدى الكندى في ذلك اليوم أيضا : يا ربنا سلم لنا عليا سلم لنا المبارك المضيا المؤمن الموحد التقيا لا خطل الرأى ولا غويا بل هاديا موفقا مهديا واحفظه ربى واحفظ النبيا فيه فقد كان له وليا ثم ارتضاه بعده وصيا وقال خزيمة بن ثابت الانصاري ، ذو الشهادتين - وكان بدريا - في يوم الجمل أيضا : ليس بين الانصار في جحمة الحرب وبين العداة إلا الطعان وقراع الكماة بالقضب البيض إذا ما تحطم المران فادعها تستجب فليس من الخز رج والاوس يا على جبان يا وصى النبي قد أجلت الحرب الاعادي وسارت الاظعان واستقامت لك الامور سوى الشام وفي الشام يظهر الاذعان حسبهم ما رأوا وحسبك منا هكذا نحن حيث كنا وكانوا(1/145)
وقال خزيمة أيضا في يوم الجمل : أ عائش خلى عن على وعيبه بما ليس فيه إنما أنت والده وصى رسول الله من دون أهله وأنت على ما كان من ذاك شاهده وحسبك منه بعض ما تعلمينه ويكفيك لو لم تعلمي غير واحده إذا قيل ما ذا عبت منه رميته بخذل ابن عفان وما تلك آبده وليس سماء الله قاطرة دما لذاك وما الارض الفضاء بمائدة وقال ابن بديل بن ورقاء الخزاعى يوم الجمل أيضا : يا قوم للخطة العظمى التى حدثت حرب الوصي وما للحرب من آسى الفاصل الحكم بالتقوى إذا ضربت تلك القبائل أخماسا لاسداس (1) وقال عمرو بن أحيحة يوم الجمل في خطبة الحسن بن على عليه السلام بعد خطبة عبد الله ابن الزبير : حسن الخير يا شبيه أبيه قمت فينا مقام خير خطيب قمت بالخطبة التى صدع الله بها عن أبيك أهل العيوب وكشفت القناع فاتضح الامر وأصلحت فاسدات القلوب لست كابن الزبير لجلج في القول وطاطا عنان فسل مريب وأبى الله أن يقوم بما قام به ابن الوصي وابن النجيب إن شخصا بين النبي - لك الخير - وبين الوصي غير مشوب
__________
(1) يقال لمن يظهر شيئا ويريد غير : ضرب أخماسا لاسداس .
والخمس والسدس من أضماء الابل ، والاصل فيه أن الرسل إذا أراد سفرا بعيدا عود إبله أن يشرب خمسا ، ثم سدسا ، حتى إذا أخذت في السير صبرت عن الماء .
(مجمع الامثال 1 : 418) .
(*)(1/146)
وقال زحر بن قيس الجعفي يوم الجمل أيضا : أضربكم حتى تقروا لعلى خير قريش كلها بعد النبي من زانه الله وسماه الوصي إن الولى حافظ ظهر الولى * كما الغوى تابع أمر الغوى * ذكر هذه الاشعار والاراجيز بأجمعها أبو مخنف لوط بن يحيى (1) في كتاب وقعة الجمل .
وأبو مخنف من المحدثين وممن يرى صحة الامامة بالاختيار ، وليس من الشيعة ولا معدودا من رجالها .
* * * ومما رويناه من أشعار صفين التى تتضمن تسميته عليه السلام بالوصى ما ذكره نصر ابن مزاحم (2) بن يسار المنقرى في كتاب صفين ، وهو من رجال الحديث ، قال نصر ابن مزاحم : قال زحر (3) بن قيس الجعفي : فصلى الاله على أحمد رسول المليك تمام النعم رسول المليك ومن بعده خليفتنا القائم المدعم عليا عنيت وصى النبي نجالد عنه غواة الامم قال نصر : ومن الشعر المنسوب إلى الاشعث بن قيس (4) : أتانا الرسول رسول الانام فسر بمقدمه المسلمونا رسول الوصي وصى النبي له السبق والفضل في المؤمنينا
__________
(1) هو لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف بن سليم الاسدي ، كان راوية أخبار وصاحب تصانيف في الفتوح وحروب الاسلام ، توفى سنة 157 .
معجم الادباء 17 : 41 ، الفهرست 93 .
(2) ذكره ابن حجر في لسان الميزان 6 : 157 ، وقال : إنه توفى سنة 212 .
(3) زحر ، ضبطه صاحب القاموس بفتح الزاى وسكون الحاء المهملة ، والذى في كتاب صفين ص 22 ، أنها لجرير بن عبد الله البجلى ، ضمن عشرة أبيات .
(4) كتاب صفين لنصر بن مزاحم 27 .
(*)(1/147)
ومن الشعر المنسوب إلى الاشعث أيضا : أتانا الرسول رسول الوصي على المهذب من هاشم (1) وزير النبي وذو صهره وخير البرية والعالم (2) قال نصر بن مزاحم : من شعر أمير المؤمنين عليه السلام في صفين لا يا عجبا لقد سمعت منكرا كذبا على الله يشيب الشعرا (3) ما كان يرضى أحمد لو أخبرا أن يقرنوا وصيه والابترا شانى الرسول واللعين الا خزرا (4) إنى إذا الموت دنا وحضرا (5) شمرت ثوبي ودعوت قنبرا : قدم لوائى لا تؤخر حذرا لا يدفع الحذار ما قد قدرا (6) لو أن عندي يا بن حرب جعفرا أو حمزة القرم الهمام الازهرا رأت قريش نجم ليل ظهرا
__________
(1) كتاب صفين 28 (2) كتاب صفين : " وخير البريه في العالم (3) كتاب صفين 48 ، وبعد هذا البيت : * يسترق السمع ويغشى البصرا * (4) كذا في ا ، وفى كتاب صفين ، وفى ب " الاخورا " ، وبعده هناك : كلاهما في جنده قد عسكرا قد باع هذا دينه فأفجرا من ذا بدينا قد خسرا بملك مصر أن أصاب الضفر (5) ا : " وأحضرا " : (6) كتاب صفين : " لن يدفع " ، وبعده .
لما رأيت الموت موتا أحمرا عبأت همدان وعبوا حميرا حى يمان يعظمون الخطرا قرم إذا ناطح قرنا كسرا قل لابن لا تدب الخمرا أردد قليلا أبدى منك الضجرا لا تحسبني يبن حرب عمرا وسل بنا بدرا معا وخيبرا كانت قريش يوم بدر جزرا إذ وردو الامر فذموا الصدرا (*)(1/148)
وقال جرير بن عبد الله البجلى ، كتب بهذا الشعر إلى شرحبيل بن السمط الكندى ، رئيس اليمامة من أصحاب معاوية : نصحتك يا بن السمط لا تتبع الهوى فما لك في الدنيا من الدين من بدل (1) ولا تك كالمجرى إلى شر غاية فقد خرق السربال واستنوق الجمل مقال ابن هند في على عضيهة ولله في صدر ابن ابى طالب أجل (2) وما كان إلا لازما قعر بيته إلى أن أتى عثمان في بيته الاجل وصى رسول الله من دون أهله وفارسه الحامى به يضرب المثل (3) وقال النعمان بن عجلان الانصاري (4) : كيف التفرق والوصى إمامنا لا كيف إلا حيرة وتخاذلا لا تغبنن عقولكم ، لا خير في من لم يكن عند البلابل عاقلا وذروا معاوة الغوى وتابعوا دين الوصي لتحمدوه آجلا (5) وقال عبد الرحمن بن ذؤيب الاسلمي : ألا أبلغ معاوية بن حرب فما لك لا تهش إلى الضراب ؟ فإن تسلم وتبق الدهر يوما يزرك بجحفل عدد التراب يقودهم الوصي إليك حتى يردك عن ضلال وارتياب وقال المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب : يا عصبة الموت صبرا لا يهولكم جيش ابن حرب فإن الحق قد ظهرا (6) وأيقنوا أن من أضحى يخالفكم أضحى شقيا وأمسى نفسه خسرا
__________
(1) كتاب صفين ص 53 ، 54 ، وروايته هناك : " شرحبل يبن السمط " .
(2) صفين : " وقال ابن هند " .
(3) صفين : " وفارسه الاولى به " .
(4) صفين ص 415 ، وفيه : " النضر بن عجلان " .
(5) صفين : " تصادفوه عاجلا " .
(6) صفين 437 ، وفيه : " يا شرطة الخير " (*)(1/149)
فيكم وصى رسول الله قائدكم وصهره وكتاب الله قد نشرا وقال عبد الله بن العباس بن عبد المطلب (1) : وصى رسول الله من دون أهله وفارسه إن قيل هل من منازل فدونكه إن كنت تبغى مهاجرا أشم كنصل السيف عير حلاحل (2) والاشعار التى تتضمن هذه اللفظة كثير جدا ، ولكنا ذكرنا منها هاهنا بعض ما قيل في هذين الحزبين ، فأما ما عداهما ، فإنه يجل عن الحصر ، ويعظم عن الاحصاء والعد ، ولو لا خوف الملالة والاضجار ، لذكرنا من ذلك ما يملا أوراقا كثيرة .
* * * (1) صفين 474 (2) عير القوم : سيدهم ، والحلاحل بالفتح : جمع حلاحل ، بالضم ، وهو الشجاع .
(*)(1/150)
- 3 - ومن خطبة له وهى المعروفة بالشقشقية (1) : الاصل : أما والله .
لقد تقمصها ابن أبى قحافة (2) ، وإنه ليعلم أن محلى منها محل القطب من الرحا ، ينحدر عنى السيل ، ولا يرقى إلى الطير .
فسدلت دونها ثوبا ، وطويت عنها كشحا ، وطفقت أرتئى بين أن أصول بيد جذاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن (3) حتى يلقى ربه ، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجا ، أرى تراثي نهبا .
الشرح : سدلت دونها ثوبا ، أي أرخيت ، يقول ضربت بينى وبينها حجابا ، فعل الزاهد فيها ، الراغب عنها .
وطويت عنها كشحا ، أي قطعتها وصرمتها ، وهو مثل ، قالوا : لان من كان إلى جانبك الايمن ماثلا فطويت كشحك الايسر فقد ملت عنه ، والكشح : ما بين الخاصرة والجنب .
وعندي أنهم أرادوا غير ذلك ، وهو أن من أجاع نفسه فقد طوى كشحه ، كما أن من أكل وشبع فقد ملا كشحه ، فكأنه أراد أنى أجعت نفسي عنها ، ولم ألتمها .
واليد الجذاء بالدال المهملة وبالذال المعجمة ، والحاء المهملة مع الذال المعجمة ، كله بمعنى المقطوعة .
والطخية : قطعة من الغيم والسحاب .
وقوله : " عمياء " ، تأكيد لظلام الحال واسودادها ، يقولون : مفازة عمياء ، أي يعمى فيها الدليل .
ويكدح : يسعى ويكد * (الهامش) * (1) مخطوطة النهج : " الشقشقية والمقمصة " (2) مخطوطة النهج : " فلان " (3) مخطوطة النهج : " المؤمن " .
(*)(1/151)
مع مشقة قال تعالى : (إنك كادح إلى ربك كدحا) (1) .
وهاتا ، بمعنى هذه " ها " للتنبيه ، و " تا " للاشارة ، ومعنى " تا " ذى ، وهذا أحجى من كذا أي أليق بالحجا ، وهو العقل .
* * * وفي هذا الفصل من باب البديع في علم البيان عشرة ألفاظ : أولها : قوله : " لقد تقمصها " ، أي جعلها كالقميص مشتملة عليه ، والضمير للخلافة ، ولم يذكرها للعلم بها ، كقوله سبحانه : (حتى توارت بالحجاب) (2) ، وكقوله : (كل من عليها فان) (3) ، وكقول حاتم : أماوى ما يغنى الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر (4) وهذه اللفظة مأخوذة من كتاب الله تعالى في قوله سبحانه : (ولباس التقوى) (5) ، وقول النابغة (6) : تسربل سربالا من النصر وارتدى عليه بعضب في الكريهة فاصل الثانية : قوله : " ينحدر عنى السيل " ، يعنى رفعة منزلته عليه السلام ، كأنه في ذروة جبل أو يفاع مشرف ، ينحدر السيل عنه إلى الوهاد والغيطان ، قال الهذلى : وعيطاء يكثر فيها الزليل وينحدر السيل عنها انحدارا (7) الثالثة قوله عليه السلام : " ولا يرقى إلى الطير " ، هذه أعظم في الرفعة والعلو من التى قبلها ، لان السيل ينحدر عن الرابية والهضبة ، وأما تعذر رقى الطير فربما يكون للقلال الشاهقة جدا ، بل ما هو أعلى من قلال الجبال ، كأنه يقول : إنى لعلو منزلتي كمن في السماء التى يستحيل أن يرقى الطير إليها ، قال أبو الطيب : فوق السماء وفوق ما طلبوا فإذا أرادوا غاية نزلوا (8)
__________
(1) سورة الانشقاق 6 (2) سورة ص 32 (3) سورة الرحمن 26 (4) ديوانه 118 (5) سورة الاعراف 26 (6) كذا في الاصول ، والصواب أنه لابي تمام ، ديوانه 3 : 82 (7) عيطاء : مرتفعة .
والزليل : الزلل (8) ديوانه 3 : 31 (*)(1/152)
وقال حبيب : مكارم لجت في علو كأنما تحاول ثأرا عند بعض الكواكب (1) الرابعة : قوله : " سدلت دونها ثوبا " ، قد ذكرناه .
الخامسة : قوله : " وطويت عنها كشحا " ، قد ذك رناه أيضا .
السادسة : قوله : " أصول بيد جذاء " ، قد ذكرناه .
السابعة قوله : " أصبر على طخية عمياء " ، قد ذكرناه أيضا .
الثامنة : قوله : " وفى العين قذى " ، أي صبرت على مضض كما يصبر الارمد .
التاسعة : قوله : " وفي الحلق شجا " ، وهو ما يعترض في الحلق ، أي كما يصبر من غص بأمر فهو يكابد الخنق .
العاشرة : قوله : " أرى تراثي نهبا " ، كنى عن الخلافة بالتراث ، وهو الموروث من المال .
* * * فأما قوله عليه السلام : " إن محلى منها محل القطب من الرحا " ، فليس من هذا النمط الذى نحن فيه ، ولكنه تشبيه محض ، خارج من باب الاستعارة والتوسع ، يقول : كما أن الرحا لا تدور إلا على القطب ، ودورانها بغير قطب لا ثمرة له ولا فائدة فيه ، كذلك نسبتى إلى الخلافة ، فإنها لا تقوم إلا بى ، ولا يدور أمرها إلا على .
هكذا فسروه .
وعندي أنه أراد أمرا آخر ، وهو أنى من الخلافة في الصميم ، وفي وسطها وبحبوحتها ، كما أن القطب وسط دائرة الرحا ، قال الراجز (2) :
__________
(1) ديوانه 1 : 217 (2) هو جرير بن عطية ، ديوانه .
52 ، والابيات أيضا في الكامل 300 ، 545 ، يقولها في الحكم ابن أيوب بن أبى عقيل الثقفى ، ابن عم الحجاج ، وكان عامله على البصرة .
(*)(1/153)
على قلاص مثل خيطان السلم (1) إذا قطعن علما بدا علم (2) حتى أنحناها إلى باب الحكم (3) خليفة الحجاج غير المتهم * في سرة المجد وبحبوج الكرم (4) * وقال أميه بن أبى الصلت لعبد الله بن جدعان : فحللت منها بالبطاح وحل غيرك بالظواهر (5) وأما قوله : " يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير " ، فيمكن أن يكون من باب الحقائق ، ويمكن أن يكون من باب المجازات والاستعارات ، أما الاول فإنه يعنى به طول مدة ولاية المتقدمين عليه ، فإنها مدة يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير .
وأما الثاني فإنه يعنى بذلك صعوبة تلك الايام ، حتى إن الكبير من الناس يكاد يهرم لصعوبتها ، والصغير يشيب من أهوالها ، كقولهم : هذا أمر يشيب له ، الوليد وإن لم يشب على الحقيقة .
__________
(1) القلاص : جمع قلوص ، وهى الناقة الفتية .
والخيطان : والخوط جمع خوط ، جمع خوطة ، وهى الغصن الناعم .
والسلم : شجر ، واحدته سلمة ، يصف ضورها .
وبعده في رواية الديوان : قد طويت بطونها على الادم بعد انفضاج البدن واللحم الزيم (2) بعده في رواية الديوان : * فهن بحثا كمضلات الخدم * (3) رواية الديوان : * حتى تناهين إلى باب الحكم * (4) رواية الديوان : * في ضئضئ الممجد وبؤبو الكرم * (5) البطاح : بطن مكة ، والظواهر أعلاها ، والبيت في اللسان 6 : 197 منسوب للكميت : بهذه الرواية فحللت معتلج البطاح وحل غيرك بالظواهر (*)(1/154)
واعلم أن في الكلام تقديما وتأخيرا ، وتقديره : ولا يرقى إلى الطير ، فطفقت أرتئى بين كذا وكذا ، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى ، فسدلت دونها ثوبا ، وطويت عنها كشحا ، ثم " فصبرت وفي العين قذى " ، إلى آخر القصة ، لانه لا يجوز أن يسدل دونها ثوبا ويطوى عنها كشحا ، ثم يطفق يرتئى بين أن ينابذهم أو يصبر ، أ لا ترى أنه إذا سدل دونها ثوبا ، وطوى عنها كشحا ، فقد تركها وصرمها ، ومن يترك ويصرم لا يرتئى في المنابذة ! والتقديم والتأخير طريق لاحب ، وسبيل مهيع في لغة العرب ، قال سبحانه : (الذى أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا .
قيما) ، (1) أي أنزل على عبده الكتاب قيما ، ولم يجعل له عوجا ، وهذا كثير .
وقوله عليه السلام : " حتى يلقى ربه " بالوقف والاسكان ، كما جاءت به الرواية في قوله سبحانه : (ذلك لمن خشى ربه) (2) بالوقف أيضا .
[ نسب أبى بكر ونبذه من أخبار أبيه ] ابن أبى قحافة المشار إليه هو أبو بكر ، واسمه القديم عبد الكعبة ، فسماه رسول الله صلى الله عليه وآله عبد الله .
واختلفوا في " عتيق " ، فقيل : كان اسمه في الجاهلية ، وقيل : بل سماه به رسول الله صلى الله عليه وآله .
واسم أبى قحافة عثمان ، وهو عثمان بن عامر بن عمرو ابن كعب بن سعد بن تيم بن مره بن كعب بن لؤى بن غالب .
وأمه ابنة عم أبيه ، وهى أم الخير بنت صخر بن عمرو بن كعب بن سعد .
أسلم أبو قحافة يوم الفتح ، جاء به ابنه أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وآله ، وهو شيخ كبير ، رأسه كالثغامة البيضاء ، فأسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : " غيروا شيبته " .
__________
(1) سورة الكهف 1 ، 2 (2) سورة البينة 8 (3) أورد الخبر ابن الاثير في النهاية (1 : 129) : " أنى بأبى قحافة يوم الفتح وكأن رأسه ثغامة " .
وقال : " هو نبت أبيض الزهر والثمر ، يشبه به الشيب .
وقيل : هي شجرة تبيض كأنها الثلج " .
(*)(1/155)
وولى ابنه الخلافة وهو حى منقطع في بيته ، مكفوف عاجز عن الحركة ، فسمع ضوضاء الناس ، فقال : ما الخبر ؟ فقالوا ولى ابنك الخلافة ، فقال : رضيت بنو عبد مناف بذلك ؟ قالوا : نعم ، قال : اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطى لما منعت .
ولم يل الخلافة من أبوه حى إلا أبو بكر ، وأبو بكر عبد الكريم (1) الطائع لله ، ولى الامر وأبوه المطيع حى ، خلع نفسه من الخلافة ، وعهد بها إلى ابنه .
وكان المنصور يسمى عبد الله بن الحسن بن الحسن (2) أبا قحافة تهكما به ، لان ابنه (3) محمدا ادعى الخلافة وأبوه حى .
ومات أبو بكر وأبو قحافة حى ، فسمع الاصوات فسأل ، فقيل : مات ابنك ، فقال : رزء جليل .
وتوفى أبو قحافة في أيام عمر في سنة أربع عشرة للهجرة ، وعمره سبع وتسعون سنة ، وهى السنة التى توفى فيها نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم (4) .
إن قيل : بينوا لنا ما عندكم في هذا الكلام ! أ ليس صريحه دالا على تظليم القوم ونسبتهم إلى اغتصاب الامر ! فما قولكم في ذلك ؟ إن حكمتم عليهم بذلك فقد طعنتم فيهم ، وإن لم تحكموا عليهم بذلك ، فقد طعنتم في المتظلم المتكلم عليهم ! قيل : أما الامامية من الشيعة فتجرى هذه الالفاظ على ظواهرها ، وتذهب إلى أن النبي صلى الله عليه وآله نص على أمير المؤمنين عليه السلام ، وأنه غصب حقه .
__________
(1) أصيب المطيع لله بالفالج ، ولما قوى عليه وثقل لسانه ، خلع نفسه .
وبويع لولده الطائع ، وكان ذلك في سنة 364 .
الفخري ص 253 (2) كان عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب ، شيخ بنى هاشم في وقته ، والمقدم فيهم .
وانظر أخباره في مقاتل الطالبيين ص 179 - 185 .
(3) كان علماء آل أبى طالب يرون في محمد بن عبد الله بن الحسن أنه النفس الزكية ، وكان أفضل أهل بيته في علمه بكتاب الله وحفظه له ، مع فقهه في الدين وشجاعته وجوده وبأسه وكل أمر يجمل بمثله .
وانظر ترجمته وأخباره في مقاتل الطالبيين ص 232 - 299 (4) هو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، له صحبة ، وكان أسن من أسلم من بنى هاشم ، حتى من عميه حمزة والعباس .
الاصابة 6 : 258 (*)(1/156)
وأما اصحابنا رحمهم الله ، فلهم أن يقولوا : إنه لما كان أمير المؤمنين عليه السلام هو الافضل والاحق ، وعدل عنه إلى من لا يساويه في فضل ، ولا يوازيه في جهاد وعلم ، ولا يماثله في سؤدد وشرف - ساغ إطلاق هذه الالفاظ ، وإن كان من وسم بالخلافة قبله عدلا تقيا ، وكانت بيعته بيعة صحيحة ، أ لا ترى أن البلد قد يكون فيه فقيهان : أحدهما أعلم من الآخر بطبقات كثيرة ، فيجعل السلطان الانقص علما منهما قاضيا ، فيتوجد الاعلم (1) ويتألم ، وينفث أحيانا بالشكوى ، ولا يكون ذلك طعنا في القاضى ولا تفسيقا له ، ولا حكما منه بأنه غير صالح ، بل للعدول عن الاحق والاولى ! وهذا أمر مركوز في طباع البشر ، ومجبول في أصل الغريزة والفطرة ، فأصحابنا رحمهم الله ، لما أحسنوا الظن بالصحابة ، وحملوا ما وقع منهم على وجه الصواب ، وأنهم نظروا إلى مصلحة الاسلام ، وخافوا فتنة لا تقتصر على ذهاب الخلافة فقط ، بل وتفضي إلى ذهاب النبوة والملة ، فعدلوا عن الافضل الاشرف الاحق ، إلى فاضل آخر دونه ، فعقدوا له - احتاجوا إلى تأويل هذه الالفاظ الصادرة عمن يعتقدونه في الجلالة والرفعة قريبا من منزلة النبوة ، فتأولوها بهذا التأويل ، وحملوها على التألم ، للعدول عن الاولى .
وليس هذا بأبعد من تأويل الامامية قوله تعالى : (وعصى آدم ربه فغوى) (2) ، وقولهم : معنى " عصى " أنه عدل عن الاولى ، لان الامر بترك أكل الشجرة كان أمرا على سبيل الندب ، فلما تركه آدم ، كان تاركا للافضل والاولى ، فسمى عاصيا باعتبار مخالفة الاولى ، وحملوا " غوى " على " خاب " لا على الغواية بمعنى الضلال .
ومعلوم أن تأويل كلام أمير المؤمنين عليه السلام وحمله على أنه شكا من تركهم الاولى أحسن من حمل قوله تعالى : (وعصى آدم) على أنه ترك الاولى .
__________
(1) ب : " الاعظم " ، والاجود ما أثبته من ا (2) سورة طه 121 (*)(1/157)
إن قيل : لا تخلو الصحابة إما أن تكون عدلت عن الافضل لعلة ومانع في الافضل ، أو لا لمانع .
فإن كان لا لمانع ، كان ذلك عقدا للمفضول بالهوى ، فيكون باطلا ، وأن كان لمانع - وهو ما تذكرونه من خوف الفتنة ، وكون الناس كانوا يبغضون عليا عليه السلام ويحسدونه - فقد كان يجب أن يعذرهم أمير المؤمنين عليه السلام في العدول عنه ، ويعلم أن العقد لغيره هو المصلحة للاسلام ، فكيف حسن منه أن يشكوهم بعد ذلك ، ويتوجد عليهم ! وأيضا ، فما معنى قوله : " فطفقت أرتئى بين أن أصول بيد جذاء " ، على ما تأولتم به كلامه ؟ فإن تارك الاولى لا يصال عليه بالحرب ! قيل : يجوز أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام لم يغلب على ظنه ما غلب على ظنون الصحابة من الشغب وثوران الفتنة ، والظنون تختلف باختلاف الامارات ، فرب إنسان يغلب على ظنه أمر يغلب على ظن غيره خلافه .
وأما قوله : " أرتئى بين أن أصول " ، فيجوز أن يكون لم يعن به صيال الحرب ، بل صيال الجدل والمناظرة ، يبين ذلك أنه لو كان جادلهم وأظهر ما في نفسه لهم ، فربما خصموه بأن يقولوا له : قد غلب على ظنوننا أن الفساد يعظم ويتفاقم إن وليت الامر ، ولا يجوز مع غلبة ظنوننا لذلك أن نسلم الامر إليك ، فهو عليه السلام قال : طفقت أرتئى بين أن أذكر لهم فضائلي عليهم ، وأحاجهم بها ، فيجيبوني بهذا الضرب من الجواب - الذى تصير حجتى به جذاء مقطوعة ، ولا قدرة لى على تشييدها ونصرتها - وبين أن أصبر على ما منيت به ، ودفعت إليه .
إن قيل : إذا كان عليه السلام لم يغلب على ظنه وجود العلة والمانع فيه ، وقد استراب الصحابة وشكاهم لعدولهم عن الافضل الذى لا علة فيه عنده فقد سلمتم أنه ظلم الصحابة ونسبهم إلى غصب حقه ، فما الفرق بين ذلك وبين أن يستظلمهم لمخالفة النص ؟ وكيف(1/158)
هربتم من نسبته لهم إلى الظلم لدفع النص ، ووقعتم في نسبته لهم إلى الظلم لخلاف الاولى من غير علة في الاولى ! ومعلوم أن مخالفة الاولى من غير علة في الاولى كتارك النص ، لان العقد في كلا الموضعين يكون فاسدا ! قيل : الفرق بين الامرين ظاهر ، لانه عليه السلام لو نسبهم إلى مخالفة النص لوجب وجود النص ، ولو كان النص موجودا لكانوا فساقا أو كفارا لمخالفته .
وأما إذا نسبهم إلى ترك الاولى من غير علة في الاولى ، فقد نسبهم إلى أمر يدعون فيه خلاف ما يدعى عليه السلام ، وأحد الامرين لازم ، وهو إما أن يكون ظنهم صحيحا ، أو غير صحيح ، فإن كان ظنهم هو الصحيح فلا كلام في المسالة ، وإن لم يكن ظنهم صحيحا كانوا كالمجتهد إذا ظن وأخطأ ، فإنه معذور ، ومخالفة النص خارج عن هذا الباب ، لان مخالفه غير معذور بحال ، فافترق المحملان .
[ مرض رسول الله وإمرة أسامة بن زيد على الجيش ] لما مرض رسول الله صلى الله عليه وآله مرض الموت ، دعا أسامة بن زيد بن حارثة ، فقال : سر إلى مقتل أبيك ، فأوطئهم الخيل ، فقد وليتك على هذا الجيش ، وإن أظفرك الله بالعدو ، فاقلل اللبث ، وبث العيون ، وقدم الطلائع ، فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين والانصار إلا كان في ذلك الجيش ، منهم أبو بكر وعمر ، فتكلم قوم وقالوا : يستعمل هذا الغلام على جلة المهاجرين والانصار ! فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله لما سمع ذلك ، وخرج عاصبا رأسه ، فصعد المنبر وعليه قطيفة (2) فقال : " أيها الناس ، ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة ! لئن طعنتم في تأميري أسامة ، فقد طعنتم في تأميري أباه من قبله ، وايم الله إن كان لخليقا بالامارة ، وابنه من (3) بعده لخليق بها ،
__________
(1) قتل زيد بن حارثة بمؤتة ، إحدى قرى البلقاء ، وتفصيل الخبر في الطبري ، (حوادث السنة الثامنة) .
(2) القطيفة : كساء له أهداب (3) ا : " وإن ابنه من بعده الخليق بها " (*)(1/159)
وإنهما لمن أحب الناس إلى ، فاستوصوا به خيرا ، فإنه من خياركم " ثم نزل ودخل بيته ، وجاء المسلمون يودعون رسول الله صلى الله عليه وآله ، ويمضون إلى عسكر أسامة بالجرف (1) .
وثقل (2) رسول الله صلى الله عليه وآله ، واشتد ما يجده ، فأرسل بعض نسائه إلى أسامة وبعض من كان معه ، يعلمونهم ذلك ، فدخل أسامة من معسكره - والنبى صلى الله عليه وآله مغمور ، وهو اليوم الذى لدوه (3) فيه - فتطأطأ أسامة عليه فقبله ، ورسول الله صلى الله عليه وآله قد أسكت ، فهو لا يتكلم ، فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعهما على أسامة ، كالداعي له ، ثم أشار إليه بالرجوع إلى عسكره ، والتوجه لما بعثه فيه ، فرجع أسامة إلى عسكره ثم أرسل نساء رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أسامة يأمرنه بالدخول ، ويقلن : إن رسول الله صلى الله عليه وآله قد أصبح بارئا ، فدخل أسامة من معسكره يوم الاثنين ، الثاني عشر من شهر ربيع الاول فوجد رسول الله صلى الله عليه وآله مفيقا ، فأمره بالخروج وتعجيل النفوذ وقال : اغد على بركة الله ، وجعل يقول : أنفذوا بعث أسامة ، ويكرر ذلك ، فودع رسول الله صلى الله عليه وآله ، وخرج ومعه أبو بكر وعمر ، فلما ركب جاءه رسول أم أيمن ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله يموت ، فأقبل ومعه أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ، فانتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله حين زالت الشمس من هذا اليوم ، وهو يوم الاثنين ، وقد مات واللواء مع بريدة بن الحصيب ، فدخل باللواء فركزه عند باب رسول الله صلى الله عليه وآله وهو مغلق ، وعلى عليه السلام وبعض بنى هاشم مشتغلون بإعداد جهازه وغسله ، فقال العباس لعلى - وهما في الدار : امدد يدك أبايعك ، فيقول الناس : عم رسول الله بايع ابن عم رسول الله فلا يختلف عليك
__________
(1) الجرف : موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام .
(2) ثقل ، بالكسر : اشتد مرضه (3) يقال لد المريض ، بالبناء للمجهول أي دووى باللدود ، بالفتح ، وهو من الادوية ما يسقاه المريض في أحد شقى الفم ، وانظر النهاية لابن الاثير 3 : 55 ، واللسان 4 : 393 (*)(1/160)
اثنان ، فقال له : أو يطمع يا عم فيها طامع غيرى ! قال : ستعلم ، فلم يلبثا أن جاءتهما الاخبار بأن الانصار أقعدت سعدا لتبايعه ، وأن عمر جاء بأبى بكر فبايعه وسبق الانصار بالبيعة ، فندم على عليه السلام على تفريطه في أمر البيعة وتقاعده عنها ، وأنشده العباس قول دريد : أمرتهم أمرى بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد (1) * * * وتزعم الشيعة أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يعلم موته ، وأنه سير أبا بكر وعمر في بعث أسامة لتخلو دار الهجرة منهما ، فيصفو الامر لعلى عليه السلام ، ويبايعه من تخلف من المسلمين بالمدينة على سكون وطمأنينة ، فإذا جاءهما الخبر بموت رسول الله صلى الله عليه وآله وبيعة الناس لعلى عليه السلام بعده ، كانا عن المنازعة والخلاف أبعد ، لان العرب كانت تلتزم بإتمام تلك البيعة ، ويحتاج في نقضها إلى حروب شديدة ، فلم يتم له ما قدر ، وتثاقل أسامة بالجيش أياما ، مع شدة حث رسول الله صلى الله عليه وآله على نفوذه وخروجه بالجيش ، حتى مات صلى الله عليه وآله وهما بالمدينة ، فسبقا عليا إلى البيعة وجرى ما جرى .
وهذا عندي غير منقدح ، لانه إن كان صلى الله عليه وآله يعلم موته ، فهو أيضا يعلم أن أبا بكر سيلى الخلافة ، وما يعلمه لا يحترس منه ، وإنما يتم هذا ويصح إذا فرضنا أنه عليه السلام كان يظن موته ولا يعلمه حقيقة ، ويظن أن أبا بكر وعمر يتمالآن على ابن عمه ، ويخاف وقوع ذلك منهما ولا يعلمه حقيقة ، فيجوز إن كانت الحال هكذا أن ينقدح هذا التوهم ، ويتطرق هذا الظن ، كالواحد منا له ولدان : يخاف من أحدهما
__________
(1) ديوان الحماسة - بشرح المرزوقى 2 : 814 ، وروايته : " فلم يستبينوا الرشد " .
(*)(1/161)
أن يتغلب بعد موته على جميع ماله ، ولا يوصل أخاه إلى شئ من حقه ، فإنه قد يخطر له عند مرضه الذى يتخوف أن يموت فيه أن يأمر الولد المخوف جانبه بالسفر إلى بلد بعيد في تجارة يسلمها إليه ، يجعل ذلك طريقا إلى دفع تغلبه على الولد الآخر .
* * * الاصل : حتى مضى الاول لسبيله ، فأدلى بها إلى ابن الخطاب بعده (1) : شتان ما يومى على كورها ويوم حيان أخى جابر فيا عجبا ! بينا هو يستقيلها في حياته ، إذ عقدها لآخر بعد وفاته ، لشد ما تشطرا ضرعيها فصيرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ، ويخشن مسها ، ويكثر العثار فيها ، والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصعبة ، إن أشنق لها خرم ، وإن أسلس لها تقحم ، فمنى الناس لعمر الله بخبط وشماس ، وتلون واعتراض ، فصبرت على طول المدة وشدة المحنة .
* * * الشرح : مضى لسبيله : مات ، والسبيل الطريق ، وتقديره : مضى على سبيله ، وتجئ اللام بمعنى " على " كقوله (2) : * فخر صريعا لليدين وللفم * وقوله : " فأدلى بها " من قوله تعالى : (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل
__________
(1) في مخطوطة النهج : " ثم تمثل بقول الاعشى " .
وكذلك في حواشى ب (2) لجابر بن حنى التغلبي ، وصدره : * تناوله بالرمح ثم اتنى له * من قصيدة له مفضلية 208 - 212 ، وهو أيضا من شواهد المغنى : 212 ، على وضع اللام موضع " على " .
(*)(1/162)
وتدلوا بها إلى الحكام) (1) ، أي تدفعوها إليهم رشوة ، وأصله من : أدليت الدلو في البئر ، أرسلتها .
فإن قلت : فإن أبا بكر إنما دفعها إلى عمر حين ، مات ولا معنى للرشوة عند الموت ! قلت : لما كان عليه السلام يرى أن العدول بها عنه إلى غيره إخراج لها إلى غير جهة الاستحقاق ، شبه ذلك بادلاء الانسان بماله إلى الحاكم ، فإنه إخراج للمال إلى غير وجهه ، فكان ذلك من باب الاستعارة .
[ عهد أبى بكر بالخلافة إلى عمر بن الخطاب ] وابن الخطاب هو أبو حفص عمر الفاروق ، وأبوه الخطاب بن نفيل بن عبد العزى ابن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدى بن كعب بن لؤى بن غالب .
وأم عمر حنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم .
لما احتضر أبو بكر ، قال للكاتب اكتب : هذا ما عهد عبد الله بن عثمان (2) ، آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة ، في الساعة التى يبر فيها الفاجر ، ويسلم فيها الكافر .
ثم أغمى عليه فكتب الكاتب : عمر بن الخطاب ، ثم أفاق أبو بكر ، فقال : اقرأ ما كتبت ، فقرأ وذكر اسم عمر ، فقال : أنى لك هذا ! قال : ما كنت لتعدوه ، فقال : أصبت ، ثم قال : أتم كتابك ، قال : ما أكتب ؟ قال اكتب : وذلك حيث أجال رأيه وأعمل فكره ، فرأى أن هذا الامر (3 لا يصلح آخره إلا بما به أوله ولا 3) ، ولا يحتمله إلا أفضل العرب مقدرة ، وأملكهم لنفسه ، وأشدهم في حال الشدة ، وأسلسهم في حال اللين ، وأعلمهم برأى ذوى الرأى ، لا يتشاغل بما لا يعنيه ، ولا يحزن لما لم ينزل به ، ولا يستحى من التعلم ، ولا يتحير
__________
(1) سورة البقرة 188 (2) عثمان اسم أبى قحافة (3 - 3) ب : " لا يصلح آخره إلا بما يصلح به أوله " .
(*)(1/163)
عند البديهة .
قوى على الامور ، لا يجوز بشئ منها حده عدوانا ولا تقصيرا ، يرصد لما هو آت عتاده من الحذر .
فلما فرغ من الكتاب ، دخل عليه قوم من الصحابة ، منهم طلحة ، فقال له (1) : ما أنت قائل لربك غدا ، وقد وليت علينا فظا غليظا ، تفرق منه النفوس ، وتنفض عنه القلوب ! فقال أبو بكر : أسندوني - وكان مستلقيا - فأسندوه ، فقال لطلحة : أ بالله تخوفنى ! إذا قال لى ذلك غدا قلت له : وليت عليهم خير أهلك .
ويقال (2) : أصدق الناس فراسة ثلاثة : العزيز في قوله لامراته عن يوسف عليه السلام : (وقال الذى اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا) (3) ، وابنة شعيب حيث قالت لابيها في موسى : (يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوى الامين) (4) ، وأبو بكر في عمر .
* * * وروى كثير من الناس أن أبا بكر لما نزل به الموت (5) دعا عبد الرحمن بن عوف ، فقال : أخبرني عن عمر ، فقال : إنه أفضل من رأيك فيه إلا أن فيه غلظة ، فقال أبو بكر : ذاك لانه يرانى رقيقا ، ولو قد أفضى الامر إليه لترك كثيرا مما هو عليه ، وقد رمقته إذا أنا غضبت على رجل أرانى الرضا عنه ، وإذا ألنت له أرانى الشدة عليه .
ثم دعا عثمان ابن عفان ، فقال : أخبرني عن عمر ، فقال : سريرته خير (6) من علانيته ، وليس فينا مثله ، فقال لهما : لا تذكرا مما قلت لكما شيئا ، ولو تركت عمر لما عدوتك يا عثمان ، والخيرة لك ألا تلى من أمورهم شيئا ، ولوددت أنى كنت من أموركم خلوا ، وكنت فيمن مضى من سلفكم .
ودخل طلحة بن عبيدالله على أبى بكر ، فقال : إنه بلغني أنك يا خليفة
__________
(1) كلمة " له " ساقطة من ب (2) ا : " ويقال إنه " (3) سورة يوسف 21 (4) سورة القصص 26 (5) ساقطة من ب (6) ا : " تقصر عن علانيته " (*)(1/164)
رسول الله ، استخلفت على الناس عمر ، وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه ، فكيف به إذا خلا بهم ، وأنت غدا لاق ربك ، فيسألك عن رعيتك ! فقال أبو بكر : أجلسوني ، ثم قال : أ بالله تخوفنى ! إذا لقيت ربى فسألني ، قلت : استخلفت عليهم خير أهلك .
فقال طلحة : أ عمر خير الناس يا خليفة رسول الله ! فاشتد غضبه ، وقال : أي والله ، هو خيرهم وأنت شرهم .
أما والله لو وليتك لجعلت أنفك في قفاك ، ولرفعت نفسك فوق قدرها ، حتى يكون الله هو الذى يضعها ! أتيتني وقد دلكت عينك ، تريد أن تفتنني عن دينى ، وتزيلني عن رأيى ! قم لا أقام الله رجليك ! أما والله لئن عشت فواق ناقة ، وبلغني أنك غمصته فيها ، أو ذكرته بسوء ، لالحقنك بمحمضات قنة ، حيث كنتم تسقون ولا تروون ، وترعون ولا تشبعون ، وأنتم بذلك الحجون راضون ! فقام طلحة فخرج .
* * * أحضر أبو بكر عثمان - وهو يجود بنفسه - فأمره أن يكتب عهدا ، وقال - اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما عهد عبد الله بن عثمان (1) إلى المسلمين ، ثم أما بعد ، ثم أغمى عليه ، وكتب عثمان : قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ، وأفاق أبو بكر فقال : اقرإ فقرأه ، فكبر أبو بكر ، وسر ، وقال : أراك خفت أن يختلف الناس إن مت في غشيتي ! قال : نعم ، قال : جزاك الله خيرا عن الاسلام وأهله ، ثم أتم العهد ، وأمر أن يقرأ على الناس فقرئ عليهم ، ثم أوصى عمر ، فقال له : إن لله حقا بالليل لا يقبله في النهار ، وحقا في النهار لا يقبله بالليل ، وأنه لا يقبل نافلة ما لم تؤد الفريضة ، وإنما ثقلت موازين من اتبع الحق مع ثقله عليه ، وإنما خفت موازين من اتبع الباطل لخفته ، عليه إنما أنزلت آية الرخاء مع آية الشدة ، لئلا يرغب المؤمن رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له ، ولئلا
__________
(1) في تاريخ الطبري 4 : 52 : " أبو بكر بن أبى قحافة " .
(*)(1/165)
يرهب رهبة يلقى فيها بيده ، فإن حفظت وصيتى ، فلا يكن غائب أحب إليك من الموت ، ولست معجزه .
ثم توفى أبو بكر .
* * * دعا أبو بكر عمر يوم موته بعد عهده إليه ، فقال : إنى لارجو إن أموت في يومى هذا فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى بن حارثة ، وإن تأخرت إلى الليل فلا تصبحن حتى تندب الناس معه ، ولا تشغلنكم مصيبة عن دينكم ، وقد رأيتنى متوفى رسول الله صلى الله عليه وآله كيف صنعت .
وتوفى أبو بكر ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة من سنة ثلاث عشرة .
* * * وأما البيت الذى تمثل به عليه السلام ، فإنه للاعشى الكبير ، أعشى قيس .
وهو أبو بصير ميمون بن قيس بن جندل ، من القصيدة التى قالها في منافرة علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل ، وأولها : علقم ما أنت إلى عامر الناقض الاوتار والواتر (1) يقول فيها : وقد أسلى الهم إذ يعترى بجسرة دوسرة عاقر (2) زيافة بالرحل خطارة تلوى بشرخى ميسة قاتر (3) - شرخا الرحل : مقدمه ومؤخره ، والميس : شجر يتخذ منه الرحال ، ورحل قاتر : جيد الوقوع على ظهر البعير - .
__________
(1) ديوانه 104 - 108 ، ويقع هذا البيت الخامس عشر منها ، وأولها : شاقتك من قتلة أطلاها بالشط فالوتر إلى حاجر (2) الجسرة : الناقة السريعة ، والدوسرة : الضخمة .
والعاقر : التى لم تحمل ، وفى الديوان : " حين اعترى " .
(3) الزيافة : المختالة في سيرها .
والخطارة : التى تخطر بذنبها نشاطا .
(*)(1/166)
شتان ما يومى على كورها ويوم حيان أخى جابر أرمى بها البيداء إذ هجرت وأنت بين القرو والعاصر (1) في مجدل شيد بنيانه يزل عنه ظفر الطائر تقول : شتان ما هما ، وشتان هما ، ولا يجوز شتان ما بينهما ، إلا على قول ضعيف .
وشتان أصله شتت ، كوشكان ذا خروجا ، من وشك .
وحيان وجابر ابنا السمين الحنفيان ، وكان حيان صاحب شراب ومعاقرة خمر ، وكان نديم الاعشى ، وكان أخوه جابر أصغر سنا منه ، فيقال : إن حيان قال للاعشى : نسبتني إلى أخى ، وهو أصغر سنا منى ! فقال : إن الروى اضطرني إلى ذلك ، فقال : والله لا نازعتك كأسا أبدا ما عشت .
يقول : شتان يومى وأنا في الهاجرة والرمضاء ، أسير على كور هذه الناقة ، ويوم حيان وهو في سكرة الشراب ، ناعم البال ، مرفه من الاكدار والمشاق .
والقرو شبه حوض ، يتخذ من جذع أو من شجر ينبذ فيه ، والعاصر : الذى يعتصر العنب .
والمجدل : الحصن المنيع .
* * * وشبيه بهذا المعنى قول الفضل بن الربيع في أيام فتنة الامين يذكر حاله وحال أخيه المأمون : إنما نحن (2) شعب من أصل ، أن قوى قوينا ، وإن ضعف ضعفنا ، وإن هذا الرجل قد ألقى بيده إلقاء الامة الوكعاء ، يشاور النساء ، ويقدم على الرؤيا ، قد أمكن أهل الخسارة واللهو من سمعه ، فهم يمنونه الظفر ، ويعدونه عقب الايام ، والهلاك أسرع إليه من السيل إلى قيعان الرمل ، ينام نوم الظربان ، وينتبه انتباه الذئب ، همه بطنه وفرجه ، لا يفكر في زوال نعمة ، ولا يروى في إمضاء رأى ولا مكيدة ، قد شمر له عبد الله
__________
(1) لم يرد هذا البيت في ديوانه ، وهو في اللسان 20 : 34 ، وروايته : * أرمى بها البيداء إذ أعرضت * (2) الخبر بالتفصيل في تاريخ الطبري (حوادث سنة 196) .
(*)(1/167)
عن ساقه ، وفوق إليه أسد سهامه ، يرميه على بعد الدار بالحتف النافذ ، والموت القاصد ، قد عبأ له المنايا على متون الخيل ، وناط له البلايا بأسنة الرماح وشفار السيوف ، فهو كما قال الشاعر : لشتان ما بينى وبين ابن خالد أمية في الرزق الذى الله يقسم (1) يقارع أتراك ابن خاقان ليلة إلى أن يرى الاصباح لا يتلعثم وآخذها حمراء كالمسك ريحها لها أرج من دنها يتنسم فيصبح من طول الطراد وجسمه نحيل وأضحى في النعيم أصمم وأمية المذكور في هذا الشعر ، هو أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبى العيص ابن أمية بن عبد شمس ، كان والى خراسان ، وحارب الترك .
والشعر للبعيث .
* * * يقول أمير المؤمنين عليه السلام : شتان بين يومى في الخلافة مع ما انتقض على من الامر ، ومنيت به من انتشار الحبل ، واضطراب أركان الخلافة ، وبين يوم عمر حيث وليها على قاعدة ممهدة ، وأركان ثابتة ، وسكون شامل ، فانتظم أمره ، واطرد حاله ، وسكنت أيامه .
قوله عليه السلام : " فيا عجبا " أصله ، فيا عجبى ، كقولك : يا غلامي ، ثم قلبوا الياء الفا ، فقالوا : يا عجبا ، كقولهم : يا غلاما ، فإن وقفت وقفت على هاء السكت ، فقلت : يا عجباه ! ويا غلاماه ! قال : العجب منه ، وهو يستقيل المسلمين من الخلافة أيام حياته ، فيقول : أقيلوني ، ثم يعقدها عند وفاته لآخر ، وهذا يناقض الزهد فيها والاستقالة منها .
وقال شاعر من شعراء الشيعة : حملوها يوم السقيفة أوزارا تخف الجبال وهى ثقال
__________
(1) رواية الطبري : فشتان ما بينى وبين ابن خالد أمية في الرزق الذى الله قاسم (*)(1/168)
ثم جاءوا من بعدها يستقيلون ، وهيهات عثرة لا تقال ! وقد اختلف الرواة في هذه اللفظة ، فكثير من الناس رواها : " أقيلوني فلست بخيركم " ، ومن الناس من أنكر هذه اللفظة ولم يروها ، وإنما روى قوله : " وليتكم ولست بخيركم " .
واحتج بذلك من لم يشترط الافضلية في الامامة .
ومن رواها اعتذر لابي بكر فقال : إنما قال : أقيلوني ، ليثور (1) ما في نفوس (2) الناس من بيعته ، ويخبر ما عندهم من ولايته ، فيعلم مريدهم وكارههم ، ومحبهم ومبغضهم .
فلما رأى النفوس إليه ساكنة ، والقلوب لبيعته مذعنة ، استمر على إمارته وحكم حكم الخلفاء في رعيته ، ولم يكن منكرا منه أن يعهد إلى من استصلحه لخلافته .
قالوا : وقد جرى مثل ذلك لعلى عيله السلام ، فإنه قال للناس بعد قتل عثمان : دعوني والتمسوا غيرى ، فأنا لكم وزيرا خير منى لكم أميرا .
وقال لهم : اتركوني ، فأنا كأحدكم ، بل أنا أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم ، فأبوا عليه وبايعوه ، فكرهها أولا ، ثم عهد بها إلى الحسن عليه السلام عند موته .
قالت الامامية : هذا غير لازم ، والفرق بين الموضعين ظاهر ، لان عليا عليه السلام لم يقل : إنى لا أصلح ، ولكنه كره الفتنة ، وأبو بكر قال كلاما معناه : إنى لا أصلح لها ، لقوله : " لست بخيركم " ، ومن نفى عن نفسه صلاحيته للامامة ، لا يجوز أن يعهد بها إلى غيره .
واعلم أن الكلام في هذا الموضع مبنى على أن الافضلية هل هي شرط في الامامة أم لا ؟ وقد تكلمنا في شرح " الغرر " لشيخنا أبى الحسين (3) رحمه الله تعالى في هذا البحث بما لا يحتمله هذا الكتاب .
__________
(1) يثور : يبحث (2) ا : " قلوب " .
(3) هو أبو الحسين محمد بن على بن الطيب المتكلم المعتزلي ، توفى سنة 436 ، وكتابه " غرر الادلة " ، ذكره ابن خلكان 1 : 482 .
(*)(1/169)
وقوله عليه السلام : " لشد ما تشطرا ضرعيها " ، شد أصله " شدد " ، كقولك : حب في " حبذا " أصله حبب ، ومعنى " شد " صار شديدا جدا ، ومعنى " حب " صار حبيبا ، قال البحترى : شد ما أغريت ظلوم بهجري بعد وجدى بها وقلة صبرى (1) وللناقة أربعة أخلاف : خلفان قادمان وخلفان آخران ، وكل اثنين منهما شطر .
وتشطر ضرعيها : اقتسما فائدتها ونفعهما ، والضمير للخلافة ، وسمى القادمين معا ضرعا ، وسمى الآخرين معا ضرعا لما كانا لتجاورهما ، ولكونهما لا يحلبان إلا معا كشئ واحد .
قوله عليه السلام : " فجعلها في حوزة خشناء " ، أي في جهة صعبة المرام ، شديدة الشكيمة .
والكلم : الجرح .
وقوله : " يغلظ " ، من الناس من قال : كيف قال : يغلظ كلمها ، والكلم لا يوصف بالغلظ ؟ وهذا قلة فهم بالفصاحة ، أ لا ترى كيف قد وصف الله سبحانه العذاب بالغلظ ، فقال : (ونجيناهم من عذاب غليظ) (2) أي متضاعف ! لان الغليظ من الاجسام هو ما كثف وجسم ، فكان أجزاؤه وجواهره متضاعفة ، فلما كان العذاب - أعاذنا الله منه - متضاعفا ، سمى غليظا ، وكذلك الجرح إذا أمعن وعمق ، فكأنه قد تضاعف وصار جروحا ، فسمى غليظا .
إن قيل : قد قال عليه السلام " في حوزة خشناء " ، فوصفها بالخشونة ، فكيف عاد ذكر الخشونة ثانية فقال : " يخشن مسها " ؟ قيل : الاعتبار مختلف ، لان مراده بقوله " في حوزة خشناء " أي لا ينال ما عندها ولا يرام يقال : إن فلانا لخشن الجانب ووعر الجانب ، ومراده بقوله : " يخشن
__________
(1) ديوانه 2 : 19 (2) سورة هود 58 (*)(1/170)
مسها " أي تؤذى وتضر وتنكئ من يمسها ، يصف جفاء أخلاق الوالى المذكور ، ونفور طبعه وشدة بادرته .
قوله عليه السلام : " ويكثر العثار فيها ، والاعتذار منها " ، يقول : ليست هذه الجهة جددا مهيعا ، بل هي كطريق كثيرة الحجارة ، لا يزال الماشي فيه عاثرا .
وأما " منها " في قوله عليه السلام : " والاعتذار منها " ، فيمكن أن تكون " من " على أصلها ، يعنى أن عمر كان كثيرا ما يحكم بالامر ثم ينقضه ، ويفتى بالفتيا ثم يرجع عنها ، ويعتذر مما أفتى به أولا .
ويمكن أن تكون " من " هاهنا للتعليل والسببية ، أي ويكثر اعتذار الناس عن أفعالهم وحركاتهم لاجلها ، قال : أ من رسم دار مربع ومصيف لعينيك من ماء الشؤون وكيف ! (1) أي لاجل أن رسم المربع والمصيف هذه الدار ، وكف دمع عينيك ! والصعبة من النوق : ما لم تركب ولم ترض ، إن أشنق لها راكبها بالزمام خرم أنفها ، وإن أسلس زمامها تقحم في المهالك فألقته في مهواة أو ماء أو نار ، أو ندت فلم تقف حتى ترديه عنها فهلك .
وأشنق الرجل ناقته إذا كفها بالزمام ، وهو راكبها ، واللغة المشهورة شنق ، ثلاثية .
وفي الحديث أن طلحة أنشد قصيدة فما زال شانقا راحلته ، حتى كتبت له (2) .
وأشنق البعير نفسه ، إذا رفع رأسه ، يتعدى ولا يتعدى ، وأصله من الشناق ، وهو خيط يشد به فم القربة .
وقال الرضى أبو الحسن رحمه الله تعالى : إنما قال عليه السلام : أشنق لها ، ولم يقل : " أشنقها " ، لانه جعل ذلك في مقابلة قوله : " أسلس لها " وهذا حسن ، فإنهم إذا
__________
(1) وكيف الدمع : سيلانه .
(2) الخبر في الفائق 1 : 677 ، وقال في شرحه : " هو أن يجذب رأسها بزمامها ، حتى يدانى قفاها قامة الرحل .
وقد شنقها وأشنقها " .
(*)(1/171)
قصدوا الازدواج في الخطابة فعلوا مثل هذا ، قالوا : الغدايا والعشايا ، والاصل الغدوات جمع غدوة وقال صلى الله عليه وآله : " ارجعن مأزورات غير مأجورات " ، وأصله " موزورات " بالواو ، لانه من الوزر .
وقال الرضى رحمه الله تعالى : ومما يشهد على أن أشنق بمعنى " شنق " قول عدى ابن زيد العبادي : ساءها ما لها تبين في الايدى وإشناقها إلى الاعناق قلت : " تبين " في هذا البيت فعل ماض ، تبين يتبين تبينا ، واللام في " لها " تتعلق ب " تبين " ، يقول : ظهر لها ما في أيدينا فساءها .
وهذا البيت من قصيدة أولها : ليس شئ على المنون بباق غير وجه المسبح الخلاق (1) وقد كان زارته بنية له صغيرة اسمها هند ، وهو في الحبس ، حبس النعمان ، ويداه مغلولتان إلى عنقه فأنكرت ذلك ، وقالت : ما هذا الذى في يدك وعنقك يا أبت ؟ وبكت ، فقال : هذا الشعر .
وقبل هذا البيت : ولقد غمني زيارة ذى قربى صغير لقربنا مشتاق ساءها ما لها تبين في الايدى وإشناقها إلى الاعناق (2) أي ساءها ما ظهر لها من ذلك .
ويروى : " ساءها ما بنا تبين " أي ما بان وظهر ، ويروى " ما بنا تبين " بالرفع على أنه مضارع .
ويروى " إشناقها " بالرفع عطفا على " ما " ، التى هي بمعنى الذى وهى فاعلة .
ويروى بالجر عطفا على الايدى .
__________
(1) في الاغانى 2 : 116 (طبعة دار الكتب المصرية) (2) بعده في رواية الاغانى : فاذهبي يا أميم غير بعيد لا يؤاتى من في الوثاق وأذهبي يا أميم إن يشأ الله ينفس من أزم هذا الخناق (*)(1/172)
وقال الرضى رحمه الله تعالى أيضا : ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وآله خطب الناس وهو على ناقة قد شنق لها ، وهى تقصع بجرتها .
قلت : الجرة : ما يعلو من الجوف وتجتره الابل ، والدرة ما يسفل .
وتقصع بها : تدفع ، وقد كان للرضى رحمه الله تعالى إذا كانت الرواية قد وردت هكذا أن يحتج بها على جواز " أشنق لها " فإن الفعل في الخبر قد عدى باللام لا بنفسه .
قوله عليه السلام : " فمنى الناس " أي بلى الناس ، قال .
* منيت بزمردة كالعصا * (1) والخبط : السير على غير جادة ، والشماس : النفار .
والتلون : التبدل .
والاعتراض : السير لا على خط مستقيم ، كأنه يسير عرضا في غضون سيره طولا ، وإنما يفعل ذلك البعير الجامح الخابط .
وبعير عرضى : يعترض في مسيره ، لانه لم يتم رياضته ، وفي فلان عرضية ، أي عجرفة وصعوبة .
[ طرف من أخبار عمر بن الخطاب ] وكان عمر بن الخطاب صعبا ، عظيم الهيبة شديد السياسة ، لا يحابى أحدا ، ولا يراقب شريفا ولا مشروفا .
وكان أكابر الصحابة يتحامون ويتفادون من لقائه ، كان أبو سفيان ابن حرب في مجلس عمر ، وهناك زياد بن سمية وكثير من الصحابة ، فتكلم زياد فأحسن ، وهو يومئذ غلام ، فقال على عليه السلام - وكان حاضرا لابي سفيان وهو إلى جانبه - لله هذا الغلام : لو كان قرشيا لساق العرب بعصاه .
فقال له أبو سفيان : أما والله لو عرفت أباه لعرفت أنه من خير أهلك ، قال : ومن أبوه ؟ قال أنا وضعته والله في رحم أمه فقال على عليه السلام : فما يمنعك من استلحاقه ! قال : أخاف هذا العير (2) الجالس أن يخرق على إهابى ! وقيل لابن عباس لما أظهر قوله في العول (3) بعد موت عمر - ولم يكن قبل يظهره :
__________
(1) لابي الغطمش الحنفي ، ذكره أبو تمام الحماسة 1881 بشرح المرزوقى ، وبقيته : * ألص وأخبث من كندش * (2) عير القوم : سيدهم .
(3) عول الفريضة ، وهو أن تزيد سهامها ، فيدخل النقصان على أهل الفرائص .
(*)(1/173)
هلا قلت هذا وعمر حى ؟ قال : هبته ، وكان امرأ مهابا (1) .
واستدعى عمر امرأة ليسألها عن أمر وكانت حاملا ، فلشدة هيبته ألقت ما في بطنها ، فأجهضت به جنينا ميتا ، فاستفتى عمر أكابر الصحابة في ذلك ، فقالوا : لا شئ عليك ، إنما أنت مؤدب ، فقال له على عليه السلام : إن كانوا راقبوك فقد غشوك ، وإن كان هذا جهد رأيهم فقد أخطئوا عليك غرة - يعنى عتق رقبة - فرجع عمر والصحابة إلى قوله وعمر هو الذى شد بيعة أبى بكر ، ورقم المخالفين فيها فكسر سيف الزبير لما جرده ، ودفع في صدر المقداد ، ووطئ في السقيفة سعد بن عبادة ، وقال : اقتلوا سعدا ، قتل الله سعدا .
وحطم أنف الحباب بن المنذر الذى قال يوم السقيفة : أنا جذيلها (2) المحكك ، وعذيقها المرجب .
وتوعد من لجأ إلى دار فاطمة عليها السلام من الهاشميين ، وأخرجهم منها ولولاه لم يثبت لابي بكر أمر ، ولا قامت له قائمة .
* * * وهو الذى ساس العمال وأخذ أموالهم في خلافته ، وذلك من أحسن السياسات .
وروى الزبير بن بكار ، قال : لما قلد عمر عمرو بن العاص مصر ، بلغه أنه قد صار له مال عظيم من ناطق وصامت ، فكتب إليه ، أما بعد : فقد ظهر لى من مالك ما لم يكن في رزقك ، ولا كان لك مال قبل أن أستعملك ، فأنى لك هذا ! فو الله لو لم يهمنى في ذات الله إلا من اختان في مال الله ، لكثر همى ، وانتثر أمرى ، ولقد كان عندي من المهاجرين الاولين من هو خير منك ، ولكني قلدتك رجاء غنائك ، فاكتب إلى من أين لك هذا المال ، وعجل .
__________
(1) كذا في ا ، وفى ب : " وكان امر اميبها " (2) الفائق ا : 180 ، وبقية الخبر فيه : " منا أمير ومنكم أمير " .
الجذيل : تصغير الجذل ، بالكسر ، وهو في الاصل عود ينصب للجربى تحتك به فتستشفى .
والمحكك : الذى كثر به الاحتكاك حتى صار مملسا .
به كثير في مثل هذه الحادثة ، وأنا في كثرة التجارب والعلم بموارد الاحوال فيها وفى أمثالها ومصادرها كالنخلة الكثيرة الحمل " .
(*)(1/174)
فكتب إليه عمرو : أما بعد ، فقد فهمت كتاب أمير المؤمنين فأما ما ظهر لى من مال ، فإنا قدمنا بلادا رخيصة الاسعار ، كثيرة الغزو ، فجعلنا ما أصابنا في الفضول التى اتصل بأمير المؤمنين نبؤها ، ووالله لو كانت خيانتك حلالا ما خنتك .
وقد ائتمنتنى ، فإن لنا أحسابا إذا رجعنا إليها أغنتنا عن خيانتك .
وذكرت أن عندك من المهاجرين الاولين من هو خير منى ، فإذا كان ذاك فو الله ما دققت لك يا أمير المؤمنين بابا ، ولا فتحت لك قفلا .
فكتب إليه عمر : أما بعد ، فإنى لست من تسطيرك الكتاب وتشقيقك الكلام في شئ ، ولكنكم معشر الامراء ، قعدتم على عيون الاموال ، ولن تعدموا عذرا ، وإنما تأكلون النار ، وتتعجلون العار ، وقد وجهت إليك محمد بن مسلمة ، فسلم إليه شطر مالك .
فلما قدم محمد صنع له عمرو طعاما ودعاه فلم يأكل ، وقال هذه تقدمة الشر ، ولو جئتني بطعام الضيف لاكلت ، فنح عنى طعامك ، وأحضر لى مالك ، فأحضره ، فأخذ شطره .
فلما رأى عمرو كثرة ما أخذ منه ، قال : لعن الله زمانا صرت فيه عاملا لعمر ، والله لقد رأيت عمر وأباه على كل واحد منهما عباءة قطوانية (1) لا تجاوز مأبض (2) ركبتيه ، وعلى عنقه حزمة حطب ، والعاص بن وائل في مزررات الديباج .
فقال محمد : إيها عنك يا عمرو ! فعمر والله خير منك ، وأما أبوك وأبوه فإنهما في النار ، ولو لا الاسلام لالفيت معتلفا شاة ، يسرك غزرها ، ويسوءك بكوءها ، (3) قال : صدقت فاكتم على ، قال أفعل .
* * * قال الربيع بن زياد الحارثى : كنت (4) عاملا لابي موسى الاشعري على البحرين
__________
(1) قطوانية : منسوبة إلى قطوان ، موضع بالكوفة ، تنسب إليه الاكسية .
(2) المأبض : باطن الركبة .
(3) يقال : ركأت الناقة بكوءا ، إذا قل لبنها .
(4) الخبر في الكامل 87 - 88 (طبع اوربا) .
(*)(1/175)
فكتب إليه عمر بالقدوم عليه هو وعماله ، وأن يستخلفوا جميعا .
فلما قدمنا المدينة اتيت يرفأ حاجب عمر ، فقلت : يا يرفأ ، مسترشد وابن سبيل ! أي الهيآت أحب إلى أمير المؤمنين أن يرى فيها عماله ؟ فأومأ إلى بالخشونة ، فاتخذت خفين مطارقين (1) ، ولبست جبة صوف ، ولثت عمامتى على رأسي ، ثم دخلنا على عمر فصفنا بين يديه ، فصعد بصره فينا وصوب ، فلم فلم تأخذ أحدا غيرى ، فدعاني ، فقال : من أنت ؟ قلت : الربيع بن زياد الحارثى ، قال : وما تتولى من أعمالنا ؟ قلت : البحرين ، قال : كم ترزق ؟ قلت ألفا ، قال : كثير ، فما تصنع به ؟ قلت : أتقوت منه شيئا ، وأعود بباقيه على أقارب لى ، فما فضل منهم فعلى فقراء المسلمين ، قال : لا بأس ، ارجع إلى موضعك ، فرجعت إلى موضعي من الصف ، فصعد فينا وصوب ، فلم تقع عينه إلا على فدعاني ، فقال : كم سنك ؟ قلت : خمس وأربعون ، فقال : الآن حيث استحكمت ! ثم دعا بالطعام ، وأصحابي حديث عهدهم بلين العيش ، وقد تجوعت له ، فأتى بخبز يابس وأكسار (2) بعير ، فجعل أصحابي يعافون ذلك ، وجعلت آكل فأجيد ، وأنا أنظر إليه ، وهو يلحظنى من بينهم ، ثم سبقت منى كلمة تمنيت لها أنى سخت في الارض ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، إن الناس يحتاجون إلى صلاحك ، فلو عمدت إلى طعام ألين من هذا ! فزجرني ، ثم قال : كيف قلت ؟ فقلت : يا أمير المؤمنين ، أن تنظر إلى قوتك من الطحين فيخبز قبل إرادتك إياه بيوم ، ويطبخ لك اللحم كذلك ، فتؤتى بالخبز لينا ، وباللحم غريضا .
فسكن من غربه ، وقال : أ هاهنا غرت (3) ! قلت : نعم ، فقال : يا ربيع ، إنا لو نشاء لملانا هذه الرحاب من صلائق (4) وسبائك (5) وصناب (6) ، ولكني رأيت الله نعى على قوم شهواتهم ، فقال : (أذهبتم طيباتكم
__________
(1) ليست خفين مطارقين ، أي مطبقين ، واحدا فوق الآخر ، يقال : أطرق النعل وطارقها .
(2) كسور الابل ، أي أعضاؤها ، واحدها كسر ، بالفتح والكسر .
(3) غرت : ذهبت ، وفى الاصول : " غرب " تحريف .
(4) الصلائق : جمع صليقة ، وهى الخبزة الرقيقة والقطعة المشواة من اللحم .
(5) السبائك : ما سبك من الدقيق ونخل فأخذ خالصه ، يعنى الحوارى ، وكانوا يسمون الرقاق السبائك .
(6) الصناب : صباغ يؤتدم به .
(*)(1/176)
في حياتكم الدنيا) (1) ، ثم أمر أبا موسى بإقرارى ، وأن يستبدل بأصحابى .
* * * أسلم عمر بعد جماعة من الناس ، وكان سبب إسلامه أن أخته وبعلها أسلما سرا من عمر ، فدخل إليهما خباب بن الارت ، يعلمهما الدين خفية ، فوشى بهم واش إلى عمر ، فجاء دار أخته ، فتوارى خباب منه داخل البيت ، فقال عمر : ما هذه الهينمة عندكم ؟ قالت أخته : ما عدا حديثا تحدثناه بيننا .
قال أراكما قد صبوتما ، قال ختنه : أ رأيت إن كان هو الحق ! فوثب عليه عمر فوطئه وطئا شديدا ، فجاءت أخته فدفعته عنه ، فنفحها بيده ، فدمي وجهها ، ثم ندم ورق ، وجلس واجما ، فخرج إليه خباب فقال : أبشر يا عمر ، فإنى أرجو أن تكون دعوة رسول الله لك الليلة ، فإنه لم يزل يدعو منذ الليلة : " اللهم أعز الاسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام " .
قال : فانطلق عمر متقلدا سيفه حتى أتى إلى الدار التى فيها رسول الله صلى الله عليه وآله يومئذ وهى الدار التى في أصل الصفا ، وعلى الباب حمزة وطلحة وناس من المسلمين ، فوجل القوم من عمر إلا حمزة فإنه قال : قد جاءنا عمر ، فإن يرد الله به خيرا يهده ، وإن يرد غير ذلك كان قتله علينا هينا ، والنبى صلى الله عليه وآله داخل الدار يوحى إليه ، فسمع كلامهم ، فخرج حتى أتى عمر ، فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل سيفه ، وقال : " ما أنت بمنته يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزى والنكال ما أنزل بالوليد بن المغيرة ، اللهم هذا عمر ، اللهم أعز الاسلام بعمر " ، فقال عمر : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله .
* * * مر يوما عمر في بعض شوارع المدينة ، فناداه إنسان : ما أراك إلا تستعمل عمالك ، وتعهد إليهم العهود ، وترى أن ذلك قد أجزأك ! كلا والله ، إنك المأخوذ بهم إن لم تتعهدهم ،
__________
(1) سورة الاحقاف 20 (*)(1/177)
قال : ما ذاك ؟ قال عياض بن غنم ، يلبس اللين ، ويأكل الطيب ، ويفعل كذا وكذا قال : أ ساع (1) ؟ قال : بل مؤد ما عليه ، فقال لمحمد بن مسلمة : الحق بعياض بن غنم فأتني به كما تجده ، فمضى محمد بن مسلمة حتى أتى باب عياض ، وهو أمير على حمص ، وإذا عليه بواب ، فقال له : قل لعياض : على بابك رجل يريد أن يلقاك ، قال : ما تقول ؟ قال : قل له ما أقول لك فقام كالمعجب فأخبره ، فعرف عياض أنه أمر حدث ، فخرج فإذا محمد بن مسلمة ، فأدخله ، فرأى على عياض قميصا رقيقا ، ورداء لينا ، فقال : إ ن أمير المؤمنين أمرنى ألا أفارقك حتى آتيه بك كما أجدك .
فأقدمه على عمر وأخبره أنه وجده في عيش ناعم ، فأمر له بعصا وكساء ، وقال : إذهب بهذه الغنم ، فأحسن رعيها ، فقال : الموت أهون من ذلك ، فقال : كذبت ، ولقد كان ترك ما كنت عليه أهون عليك من ذلك .
فساق الغنم بعصاه ، والكساء في عنقه ، فلما بعد رده ، وقال : أ رأيت إن رددتك إلى عملك أ تصنع خيرا ؟ قال : نعم والله يا أمير المؤمنين ، لا يبلغك منى بعدها ما تكره .
فرده إلى عمله ، فلم يبلغه عنه بعدها ما ينقمه عليه .
* * * كان الناس بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله يأتون الشجرة التى كانت بيعة الرضوان تحتها ، فيصلون عندها ، فقال عمر : أراكم أيها الناس رجعتم إلى العزى ! ألا لا أوتى منذ اليوم بأحد عاد لمثلها إلا قتلته بالسيف كما يقتل المرتد ، ثم أمر بها فقطعت .
* * * لما مات رسول الله صلى الله عليه وآله ، وشاع بين الناس موته ، طاف عمر على الناس قائلا : أنه لم يمت ، ولكنه غاب عنا كما غاب موسى عن قومه ، وليرجعن فليقطعن أيدى رجال وأرجلهم ، يزعمون أنه مات ؟ فجعل لا يمر بأحد يقول إنه مات إلا ويخبطه ويتوعده ، حتى جاء أبو بكر ، فقال : أيها الناس ، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ،
__________
(1) الساعي هنا : الواشى .
(*)(1/178)
ومن كان يعبد رب محمد ، فإنه حى لم يمت ، ثم تلا قوله تعالى : (أ فإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) (1) ، قالوا : فو الله لكأن الناس ما سمعوا هذه الآية حتى تلاها أبو بكر .
وقال عمر : لما سمعته يتلوها هويت إلى الارض ، وعلمت أن رسول الله قد مات .
* * * لما قتل خالد مالك بن نويرة ونكح امرأته ، كان في عسكره أبو قتادة الانصاري ، فركب فرسه ، والتحق بأبى بكر ، وحلف ألا يسير في جيش تحت لواء خالد أبدا ، فقص على أبى بكر القصة ، فقال أبو بكر : لقد فتنت الغنائم العرب ، وترك خالد ما أمرته ، فقال عمر : إن عليك أن تقيده بمالك ، فسكت أبو بكر ، وقدم خالد فدخل المسجد وعليه ثياب قد صدئت من الحديد ، وفي عمامته ثلاثة أسهم ، فلما رآه عمر قال : أ رياء يا عدو الله ! عدوت على رجل من المسلمين فقتلته ، ونكحت امرأته ، أما والله إن أمكننى الله منك لارجمنك ، ثم تناول الاسهم من عمامته فكسرها ، وخالد ساكت لا يرد عليه ، ظنا أن ذلك عن أمر أبى بكر ورأيه ، فلما دخل إلى أبى بكر وحدثه ، صدقه فيما حكاه وقبل عذره .
فكان عمر يحرض أبا بكر على خالد ويشير عليه أن يقتص منه بدم مالك ، فقال أبو بكر : إيها يا عمر ! ما هو بأول من أخطأ ، فارفع لسانك عنه ، ثم ودى مالكا من بيت مال المسلمين .
* * * لما صالح خالد أهل اليمامة وكتب بينه وبينهم كتاب الصلح ، وتزوج ابنة مجاعة بن مرارة الحنفي ، وصل إليه كتاب أبى بكر : لعمري يا بن أم خالد ، إنك لفارغ حتى تزوج النساء ، وحول حجرتك دماء المسلمين لم تجف بعد ...
في كلام أغلظ له فيه ، فقال خالد : هذا الكتاب ليس من عمل أبى بكر ، هذا عمل الاعيس يعنى عمر
__________
(1) سورة آل عمران 144 (*)(1/179)
عزل عمر خالدا عن إمارة حمص في سنة سبع عشرة ، وأقامه للناس ، وعقله بعمامته ، ونزع قلنسوته عن رأسه وقال : أعلمني ، من أين لك هذا المال ؟ وذلك أنه أجاز الاشعث ابن قيس بعشرة آلاف درهم ، فقال من الانفال والسهمان ؟ فقال : لا والله ، لا تعمل لى عملا بعد اليوم ، وشاطره ماله ، وكتب إلى الامصار بعزله ، وقال : إن الناس فتنوا به ، فخفت أن يوكلوا إليه ، وأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع .
* * * لما أسر الهرمزان حمل إلى عمر من تستر إلى المدينة ، ومعه رجال من المسلمين ، منهم الاحنف بن قيس ، وأنس بن مالك ، فأدخلوه المدينة في هيئته وتاجه وكسوته ، فوجدوا عمر نائما في جانب المسجد ، فجلسوا عنده ينتظرون انتباهه ، فقال الهرمزان : وأين عمر ؟ قالوا : ها هو ذا ، قال أين حرسه ؟ قالوا : لا حاجب له ولا حارس قال : فينبغي أن يكون هذا نبيا ، قالوا : إنه يعمل بعمل الانبياء .
واستيقظ عمر ، فقال الهرمز ! فقالوا نعم ، قال : لا أكلمه أو لا يبقى عليه من حليته شئ ، فرموا ما عليه ، وألبسوه ثوبا صفيقا ، فلما كلمه عمر ، أمر أبا طلحة أن ينتضى سيفه ويقوم على رأسه ، ففعل .
ثم قال له : ما عذرك في نقض الصلح ونكث العهد ! - وقد كان الهرمزان صالح أولا ثم نقض وغدر - فقال : أخبرك ، قال : قل ، قال : وأنا شديد العطش ! فاسقني ثم أخبرك .
فأحضر له ماء ، فلما تناوله جعلت يده ترعد ، قال : ما شأنك ؟ قال : أخاف أن أمد عنقي وأنا أشرب فيقتلني سيفك ؟ قال لا بأس عليك حتى تشرب ، فألقى الاناء عن يده ، فقال : ما بالك ؟ أعيدوا عليه الماء ، ولا تجمعوا عليه بين القتل والعطش ، قال : إنك قد أمنتنى ، قال : كذبت ! قال : لم أكذب ، قال أنس : صدق يا أمير المؤمنين ، قال : ويحك يا أنس ! أنا أؤمن قاتل مجزأة بن ثور والبراء بن مالك ! والله لتأتينى بالمخرج أو لاعاقبنك ، قال : أنت يا أمير المؤمنين قلت : لا بأس عليك حتى تشرب .
وقال له ناس من المسلمين(1/180)
مثل قول أنس ، فقال للهرمزان : ويحك أ تخدعني ! والله لاقتلنك إلا أن تسلم ، ثم أومأ إلى أبى طلحة ، فقال الهرمزان : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله .
فأمنه وأنزله المدينة .
* * * سأل عمر عمرو بن معد يكرب عن السلاح فقال له : ما تقول في الرمح ؟ قال : أخوك وربما خانك ، قال فالنبل ؟ قال : رسل المنايا ! تخطئ وتصيب ، قال فالدرع ؟ قال : مشغلة للفارس ، متعبة للراجل ، وإنها مع ذلك لحصن حصين ، قال فالترس ؟ قال : هو المجن ، وعليه تدور الدوائر ، قال : فالسيف ؟ قال : هناك قارعت أمك الهبل ، قال : بل أمك ، قال : بل أمي ، والحمى أمرعنى (1) لك .
* * * وأول من ضرب عمر بالدرة أم فروة بنت أبى قحافة ، مات أبو بكر فناح النساء عليه ، وفيهن أخته أم فروة ، فنهاهن عمر مرارا ، وهن يعاودن ، فأخرج أم فرورة من بينهن ، وعلاها بالدرة فهربن وتفرقن .
* * * كان يقال : درة عمر أهيب من سيف الحجاج .
وفي الصحيح أن نسوة كن عند رسول الله صلى الله عليه وآله قد كثر لغطهن ، فجاء عمر فهربن هيبة له ، فقال لهن : يا عديات أنفسهن ! أ تهبننى ولا تهبن رسول الله ! قلن : نعم ، أنت أغلظ وأفظ .
* * * وكان عمر يفتى كثيرا بالحكم ثم ينقضه ، ويفتى بضده وخلافه ، قضى في الجد مع الاخوة قضايا كثيرة مختلفة ، ثم خاف من الحكم في هذه المسألة فقال : من أراد أن يتقحم جراثيم جهنم فليقل في الجد برأيه .
__________
(1) ب : " أصرعتني " ، وما أثبته من ا (*)(1/181)
وقال مرة : لا يبلغني أن امرأة تجاوز صداقها صداق نساء النبي إلا ارتجعت ذلك منها ، فقالت له امرأة : ما جعل الله لك ذلك ، إنه تعالى قال : (وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أ تأخذونه بهتانا وإثما مبينا) (1) فقال : كل النساء أفقه من عمر ، حتى ربات الحجال ! أ لا تعجبون من إمام أخطأ وامرأة أصابت ، فاضلت إمامكم ففضلته ! * * * ومر يوما بشاب من فتيان الانصار وهو ظمآن ، فاستسقاه ، فجدح (2) له ماء بعسل فلم يشربه ، وقال : إن الله تعالى يقول : (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا) فقال له الفتى : يا أمير المؤمنين ، إنها ليست لك ولا لاحد من هذه القبيلة ، اقرأ ما قبلها : (ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا) (3) ، فقال عمر : كل الناس أفقه من عمر ! * * * وقيل إن عمر كان يعس بالليل ، فسمع صوت رجل وامرأة في بيت ، فارتاب فتسور الحائط ، فوجد امرأة ورجلا ، وعندهما زق خمر ، فقال : يا عدو الله ، أ كنت ترى أن الله يسترك وأنت على معصيته ! قال : يا أمير المؤمنين ، إن كنت أخطأت في واحدة فقد أخطأت في ثلاث ، قال الله تعالى : (ولا تجسسوا) (4) ، وقد تجسست .
وقال : (وأتوا البيوت من أبوابها) (5) ، وقد تسورت ، وقال : (فإذا دخلتم بيوتا فسلموا) (6) ، وما سلمت ! وقال : متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا محرمهما ، ومعاقب عليهما : متعة النساء ومتعة الحج .
وهذا الكلام وإن كان ظاهره منكرا فله عندنا مخرج وتأويل ، وقد ذكره أصحابنا الفقهاء في كتبهم .
* * *
__________
(1) سورة النساء 20 (2) جدح : خلط (3) سورة الاحقاف 20 (4) سورة الحجرات 12 (5) سورة البقرة 189 (6) سورة النور 61 (*)(1/182)
وكان في أخلاق عمر وألفاظه جفاء وعنجهية ظاهرة ، يحسبه السامع لها أنه أراد بها ما لم يكن قد أراد ، ويتوهم من تحكى له أنه قصد بها ظاهرا ما لم يقصده ، فمنها الكلمة التى قالها في مرض رسول الله صلى الله عليه وآله .
ومعاذ الله أن يقصد بها ظاهرها ! ولكنه أرسلها على مقتضى خشونة غريزته ، ولم يتحفظ منها .
وكان الاحسن أن يقول : " مغمور " أو " مغلوب بالمرض " ، وحاشاه أن يعنى بها غير ذلك ! ولجفاة الاعراب من هذا الفن كثير ، سمع سليمان بن عبد الملك أعرابيا يقول في سنة قحط : رب العباد ما لنا وما لكا ! قد كنت تسقينا فما بدا لكا ! أنزل علينا القطر لا أبا لكا ! فقال سليمان : أشهد أنه لا أب له ولا صاحبة ولا ولد ، فأخرجه أحسن مخرج (1) .
وعلى نحو هذا يحتمل كلامه في صلح الحديبية لما قال للنبى صلى الله عليه وآله : أ لم تقل لنا : ستدخلونها ، في الفاظ نكره حكايتها ، حتى شكاه النبي صلى الله عليه وآله إلى أبى بكر ، وحتى قال له أبو بكر : الزم بغرزه (2) ، فو الله إنه لرسول الله .
وعمر هو الذى أغلظ على جبلة بن الايهم حتى اضطره إلى مفارقة دار الهجرة ، بل مفارقة دار الاسلام كلها ، وعاد مرتدا داخلا في دين النصرانية ، لاجل لطمة لطمها .
وقال جبلة بعد ارتداده متندما على ما فعل : تنصرت الاشراف من أجل لطمة وما كان فيها لو صبرت لها ضرر ! فيا ليت أمي لم تلدني وليتني رجعت إلى القول الذى قاله عمر * * *
__________
(1) الخبر في الكامل 7 : 145 بشرح المرصفى (2) الغرز في الاصل : ركاب الرحل ، وفى الكلام استعارة ، والمراد هنا : اتبع قوله .
(*)(1/183)
الاصل : حتى إذا مضى لسبيله ، جعلها في جماعة زعم أنى أحدهم ، فيا لله وللشورى ! متى اعترض الريب في مع الاول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر ! لكنى أسففت إذ أسفوا ، وطرت إذ طاروا ، فصغا رجل منهم لضغنه ، ومال الآخر لصهره ، مع هن وهن .
الشرح : لا للام في " يا لله " مفتوحة ، واللام في و " للشورى " مكسورة ، لان الاولى للمدعو ، والثانية للمدعو إليه ، قال : يا للرجال ليوم الاربعاء أما ينفك يحدث لى بعد النهى طربا اللام في " للرجال " مفتوحة ، وفي " ليوم " مكسورة .
وأسف الرجل ، إذا دخل في الامر الدنئ أصله من " أسف الطائر " إذا دنا من الارض في طيرانه .
والضغن : الحقد .
وقوله : " مع هن وهن " ، أي مع أمور يكنى عنها ولا يصرح بذكرها ، وأكثر ما يستعمل ذلك في الشر ، قال (1) : * على هنوات شرها متتابع * يقول عليه السلام : إن عمر لما طعن جعل الخلافة في ستة ، هو عليه السلام أحدهم ، ثم تعجب من ذلك ، فقال : متى اعترض الشك في مع أبى بكر ، حتى أقرن بسعد بن أبى وقاص وعبد الرحمن بن عوف وأمثالهما ! لكنى طلبت الامر وهو موسوم بالاصاغر منهم ، كما طلبته أولا وهو موسوم بأكابرهم ، أي هو حقى فلا أستنكف من طلبه ، إن كان المنازع فيه جليل القدر أو صغير المنزلة .
وصغا الرجل بمعنى مال ، الصغو : الميل ، بالفتح والكسر .
__________
(1) البيت في اللسان (20 : 243) من غير نسبه ، وأوله : * أرى ابن نزار قد جفاني وملنى * (*)(1/184)
[ قصة الشورى ] وصورة هذه الواقعة أن عمر لما طعنه أبو لؤلؤة ، وعلم أنه ميت ، استشار فيمن يوليه الامر بعده ، فأشير عليه بابنه عبد الله ، فقال : لاها الله إذا لا يليها رجلان من ولد الخطاب ! حسب عمر ما حمل ! حسب عمر ما احتقب ، لاها الله ! لا أتحملها حيا وميتا ! ثم قال : إن رسول الله مات وهو راض عن هذه الستة من قريش : على ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وعبد الرحمن بن عوف ، وقد رأيت أن أجعلها شورى بينهم ليختاروا لانفسهم .
ثم قال : إن أستخلف فقد استخلف من هو خير منى - يعنى أبا بكر - وإن أترك فقد ترك من هو خير منى - يعنى رسول الله صلى الله عليه وآله - ثم قال : ادعوهم لى ، فدعوهم ، فدخلوا عليه وهو ملقى على فراشه يجود بنفسه .
فنظر إليهم فقال : أ كلكم يطمع في الخلافة بعدى ! فوجموا ، فقال لهم ثانية ، فأجابه الزبير وقال : وما الذى يبعدنا منها ! وليتها أنت فقمت بها ، ولسنا دونك في قريش ولا في السابقة ولا في القرابة .
- قال الشيخ أبو عثمان الجاحظ : والله لو لا علمه أن عمر يموت في مجلسه ذلك لم يقدم على أن يفوه من هذا الكلام بكلمة ، ولا أن ينبس منه بلفظه - .
فقال عمر : أ فلا أخبركم عن أنفسكم ! قال : قل ، فإنا لو استعفيناك لم تعفنا .
فقال : أما أنت يا زبير فوعق لقس (1) ، مؤمن الرضا ، كافر الغضب ، يوما إنسان ويوما شيطان ، ولعلها لو أفضت إليك ظلت يومك تلاطم بالبطحاء على مد من شعير ! أ فرأيت إن أفضت إليك ، فليت شعرى ، من يكون للناس يوم تكون شيطانا ، ومن يكون يوم تغضب ! وما كان الله ليجمع لك أمر هذه الامة ، وأنت على هذه الصفة .
ثم أقبل على طلحة - وكان له مبغضا منذ قال لابي بكر يوم وفاته ما قال في عمر - فقال له : أقول أم أسكت : قال : قل ، فإنك لا تقول من الخير شيئا ، قال : أما إنى أعرفك منذ أصيبت إصبعك يوم أحد وائيا (2) بالذى حدث لك ، ولقد مات رسول الله صلى الله عليه وآله
__________
(1) الوعق : الضجر المتبرم ، واللقس : من لا يستقيم على وجه .
(2) وائيا : غاضبا .
(*)(1/185)
ساخطا عليك بالكلمة التى قلتها يوم أنزلت آية الحجاب .
قال شيخنا أبو عثمان الجاحظ رحمه الله تعالى : الكلمة المذكورة أن طلحة لما أنزلت آية الحجاب قال بمحضر ممن نقل عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله : ما الذى يعنيه حجابهن اليوم ، وسيموت غدا فننكحهن ! قال أبو عثمان أيضا : لو قال لعمر قائل : أنت قلت : إن رسول الله صلى الله عليه وآله مات وهو راض عن الستة ، فكيف تقول الآن لطلحة أنه مات عليه السلام ساخطا عليك للكلمة التى قلتها - لكان قد رماه بمشاقصه (1) ولكن من الذى كان يجسر على عمر أن يقول له ما دون هذا ، فكيف هذا ! قال : ثم أقبل على سعد بن أبى وقاص فقال : إنما أنت صاحب مقنب (2) من هذه المقانب ، تقاتل به ، وصاحب قنص وقوس وأسهم ، وما زهرة (3) ، والخلافة وأمور الناس ! ثم أقبل على عبد الرحمن بن عوف ، فقال : وأما أنت يا عبد الرحمن فلو وزن نصف إيمان المسلمين بإيمانك لرجح إيمانك به ، ولكن ليس يصلح هذا الامر لمن فيه ضعف كضعفك ، وما زهرة وهذا الامر ! ثم أقبل على على عليه السلام ، فقال : لله أنت لو لا دعابة فيك ! أما والله لئن وليتهم لتحملنهم على الحق الواضح ، والمحجة البيضاء .
ثم أقبل على عثمان ، فقال : هيها إليك ! كأنى بك قد قلدتك قريش هذا الامر لحبها إياك ، فحملت بنى أمية وبنى أبى معيط على رقاب الناس ، وآثرتهم بالفئ ، فسارت إليك عصابة من ذؤبان العرب ، فذبحوك على فراشك ذبحا .
والله لئن فعلوا لتفعلن ، ولئن فعلت ليفعلن ، ثم أخذ بناصيته ، فقال : فإذا كان ذلك فاذكر قولى ، فإنه كائن .
ذكر هذا الخبر كله شيخنا أبو عثمان في كتاب " السفيانية " (4) وذكره جماعة غيره في باب فراسة عمر ، وذكر أبو عثمان في هذا الكتاب عقيب رواية هذا الخبر قال : وروى
__________
(1) المشاقص : جمع مشقص ، وهو نصل السهم إذا كان طويلا (2) المقنب : جماعة خيل (3) زهرة : قبيلة سعد بن أبى وقاص (4) كتاب السفيانية ...
(*)(1/186)
معمر بن سليمان التيمى عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس ، قال : سمعت عمر ابن الخطاب يقول لاهل الشورى : إنكم إن تعاونتم وتوازرتم وتناصحتم أكلتموها وأولادكم ، وإن تحاسدتم وتقاعدتم وتدابرتم وتباغضتم ، غلبكم على هذا الامر معاوية بن أبى سفيان ، وكان معاوية حينئذ أمير الشام .
ثم رجع بنا الكلام إلى تمام قصة الشورى .
ثم قال : ادعوا إلى أبا طلحة الانصاري ، فدعوه له فقال : انظر يا أبا طلحة ، إذا عدتم من حفرتي ، فكن في خمسين رجلا من الانصار حاملي سيوفكم ، فخذ هؤلاء النفر بإمضاء الامر وتعجيله ، واجمعهم في بيت ، وقف بأصحابك على باب البيت ليتشاوروا ويختاروا واحدا منهم ، فإن اتفق خمسة وأبى واحد فاضرب عنقه ، وإن اتفق أربعة وأبى اثنان فاضرب أعناقهما ، وإن اتفق ثلاثة وخالف ثلاثة ، فانظر ، الثلاثة التى فيها عبد الرحمن ، فارجع إلى ما قد اتفقت عليه ، فإن أصرت الثلاثة الاخرى على خلافها فاضرب أعناقها ، وإن مضت ثلاثة أيام ولم يتفقوا على أمر ، فاضرب أعناق الستة ودع المسلمين يختاروا لانفسهم .
فلما دفن عمر ، جمعهم أبو طلحة ، ووقف على باب البيت بالسيف في خمسين من الانصار ، حاملي سيوفهم ، ثم تكلم القوم وتنازعوا ، فأول ما عمل طلحة أنه أشهدهم على نفسه أنه قد وهب حقه من الشورى لعثمان ، وذلك لعلمه أن الناس لا يعدلون به ، عليا وعثمان ، وأن الخلافة لا تخلص له وهذان موجودان ، فأراد تقوية أمر عثمان وإضعاف جانب على عليه السلام ، بهبة أمر لا انتفاع له به ، ولا تمكن له منه .
فقال الزبير في معارضته : وأنا أشهدكم على نفسي أنى قد وهبت حقى من الشورى لعلى ، وإنما فعل ذلك لانه لما رأى عليا قد ضعف وانخزل بهبة طلحة حقه لعثمان ، دخلته حمية النسب ، لانه ابن عمة أمير المؤمنين عليه السلام ، وهى صفية بنت عبد المطلب ، وأبو طالب خاله .
وإنما مال طلحة إلى عثمان لانحرافه عن على عليه السلام ، باعتبار أنه(1/187)
تيمى ، وابن عم أبى بكر الصديق ، وقد كان حصل في نفوس بنى هاشم من بنى تيم حنق شديد لاجل الخلافة ، وكذلك صار في صدور تيم على بنى هاشم ، وهذا أمر مركوز في طبيعة البشر ، وخصوصا طينة العرب وطباعها ، والتجربة إلى الآن تحقق ذلك ، فبقى من الستة أربعة .
فقال سعد بن أبى وقاص : وأنا قد وهبت حقى من الشورى لابن عمى عبد الرحمن - وذلك لانهما من بنى زهرة ، ولعلم سعد أن الامر لا يتم له - فلما لم يبق إلا الثلاثة .
قال عبد الرحمن لعلى وعثمان : أيكما يخرج نفسه من الخلافة ، ويكون إليه الاختيار في الاثنين الباقيين ؟ فلم يتكلم منهما أحد ، فقال عبد الرحمن : أشهدكم أننى قد أخرجت نفسي من الخلافة ، على أن أختار أحدهما ، فأمسكا ، فبدأ بعلى عليه السلام ، وقال له : أبايعك على كتاب الله ، وسنة رسول الله ، وسيرة الشيخين : أبى بكر وعمر .
فقال : بل على كتاب الله وسنة رسوله واجتهاد رأيى .
فعدل عنه ألى عثمان ، فعرض ذلك عليه ، فقال : نعم ، فعاد إلى على عليه السلام ، فأعاد قوله ، فعل ذلك عبد الرحمن ثلاثا ، فلما رأى أن عليا غير راجع عما قاله ، وأن عثمان ينعم له (1) بالاجابة صفق على يد عثمان ، وقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، فيقال : إن عليا عليه السلام قال له .
والله ما فعلتها إلا لانك رجوت منه ما رجا صاحبكما من صاحبه ، دق الله بينكما عطر منشم (2) .
قيل : ففسد بعد ذلك بين عثمان وعبد الرحمن ، فلم يكلم أحدهما صاحبه حتى مات عبد الرحمن .
* * *
__________
(1) أنعم له ، إذا قال مجيبا " نعم " .
(2) قال الاصمعي : منشم ، بكسر الشين : اسم امرأة كانت بمكة عطارة ، وكانت خزاعة وجرهم إذا أرادوا القتال تطيبوا من طيبها ، وكانوا إذا فعلوا ذلك كثرت القتلى فيما بينهم ، فكان يقال : أشأم من عطر منشم ، فصار مثلا .
صحاح الجوهرى 5 : 2041 (*)(1/188)
ثم نرجع إلى تفسير ألفاظ الفصل .
أما قوله عليه السلام " فصغا رجل منهم لضغنه " ، فإنه يعنى طلحة .
وقال القطب الراوندي : يعنى سعد بن أبى وقاص ، لان عليا عليه السلام قتل أباه يوم بدر .
وهذا خطأ فإن أباه أبو وقاص ، واسمه مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب ابن لؤى بن غالب ، مات في الجاهلية حتف أنفه .
وأما قوله : " ومال الآخر لصهره " فإنه يعنى عبد الرحمن مال إلى عثمان ، لان أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط كانت تحته ، وأم كلثوم هذه هي أخت عثمان من أمه ، أروى بنت كريز .
وروى القطب الراوندي أن عمر لما قال : كونوا مع الثلاثة التى عبد الرحمن فيها ، قال ابن عباس لعلى عليه السلام : ذهب الامر منا ، الرجل يريد أن يكون الامر في عثمان ، فقال على عليه السلام : وأنا أعلم ذلك ، ولكني أدخل معهم في الشورى ، لان عمر قد أهلني الآن للخلافة ، وكان قبل ذلك (1) يقول : إن رسول الله صلى الله عليه قال : إن النبوة والامامة لا يجتمعان في بيت ، فأنا (2) أدخل في ذلك لاظهر للناس مناقضة فعله لروايته .
الذى ذكره (3) الراوندي غير معروف ، ولم ينقل عمر هذا عن رسول الله صلى الله عليه ، ولكنه قال لعبد الله بن عباس يوما : يا عبد الله ، ما تقول في منع قومكم منكم ؟ قال : لا أعلم يا أمير المؤمنين ، قال : اللهم غفرا ! إن قومكم كرهوا أن تجتمع لكم النبوة والخلافة ، فتذهبون في السماء بذخا وشمخا ، لعلكم تقولون : إن أبا بكر أراد الامرة عليكم ، وهضمكم ! كلا ، لكنه حضره أمر لم يكن عنده أحزم مما فعل ، ولو لا رأى أبى بكر
__________
(1) كلمة " ذلك " ساقطة من ب (2) ا : " وأنا " (3) ب " رواه " (*)(1/189)
في بعد موته لاعاد أمركم إليكم ، ولو فعل ما هنأكم مع قومكم ، إنهم لينظرون إليكم نظر الثور إلى جازره .
فأما الرواية التى جاءت بأن طلحة لم يكن حاضرا يوم الشورى ، فإن صحت فذو الضغن هو سعد بن أبى وقاص ، لان أمه حمية بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس ، والضغينة التى عنده على على عليه السلام من قبل أخواله الذين قتل صناديدهم ، وتقلد دماءهم ، ولم يعرف أن عليا عليه السلام قتل أحدا من بنى زهرة لينسب الضغن إليه .
* * * وهذه الرواية هي التى اختارها أبو جعفر محمد بن جرير الطبري صاحب " التاريخ " قال : لما طعن عمر (1) قيل له : لو استخلفت : [ يا أمير المؤمنين ] (2) فقال [ من أستخلف ] (2) ! لو كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته (3) وقلت لربى لو سألني : سمعت نبيك يقول : " ابو عبيدة أمين هذه الامة " ، ولو كان سالم مولى أبى حذيفة حيا استخلفته ، (5) وقلت لربى إن سألني : سمعت نبيك عليه السلام يقول : " إن سالما شديد الحب لله " ، فقال له رجل : ول (6) عبد الله بن عمر ، فقال : قاتلك الله ! والله ما الله أردت بهذا الامر ! [ ويحك ] (2) ! كيف أستخلف رجلا عجز عن طلاق امرأته ! لا أرب لعمر في خلافتكم (7) ، ما حمدتها فأرغب فيها لاحد من أهل بيتى ، إن تك خيرا فقد أصبنا منه ، وإن تك شرا يصرف عنا ، حسب آل عمر أن يحاسب منهم [ رجل ] (2) واحد ، ويسأل عن أمر أمة محمد .
فخرج الناس من عنده ، ثم راحوا إليه فقالوا له : لو عهدت عهدا ! قال : قد كنت أجمعت بعد مقالتي [ لكم ] (2) أن أولى أمركم رجلا ، هو أحراكم أن يحملكم على الحق -
__________
(1) تاريخ الرسل والملوك 5 : 33 وما بعدها ، مع تصرف واختصار .
(2) تكملة من تاريخ الطبري (3) الطبري : " استخلفته " (4) الطبري : " إنه أمين هذه الامة " (5) الطبري : " فإن سألني ربى قلت ...
" (6) الطبري : " أدلك عليه عبد الله بن عمر " (7) الطبري : " أموركم " .
(*)(1/190)
وأشار إلى على عليه السلام - فرهقتني غشية ، فرأيت رجلا يدخل جنة ، فجعل يقطف كل غضة ويانعة ، فيضمها إليه ، ويصيرها تحته ، فخفت أن أتحملها حيا وميتا ، وعلمت أن الله غالب أمره عليكم بالرهط الذى قال رسول الله عنهم : إنهم من أهل الجنة ، ثم ذكر خمسة : عليا ، وعثمان ، وعبد الرحمن ، والزبير ، وسعدا .
قال : ولم يذكر في هذا المجلس طلحة ، ولا كان طلحة يومئذ بالمدينة .
ثم قال لهم : انهضوا إلى حجرة عائشة فتشاوروا فيها : ووضع رأسه وقد نزفه الدم ، فقال العباس لعلى عليه السلام : لا تدخل معهم ، وارفع نفسك عنهم ، قال : إنى أكره الخلاف ، قال : إذن ترى ما تكره ، فدخلوا الحجرة فتناجوا حتى ارتفعت أصواتهم ، فقال عبد الله بن عمر : إن أمير المؤمنين لم يمت بعد ، ففيم هذا اللغط ! وانتبه عمر ، وسمع الاصوات ، فقال : ليصل بالناس صهيب ، ولا يأتين اليوم الرابع من يوم موتى إلا وعليكم أمير ، وليحضر عبد الله بن عمر مشيرا وليس له شئ من الامر وطلحة بن عبيد الله شريككم في الامر ، فإن قدم إلى ثلاثة أيام فأحضروه أمركم ، وإلا فارضوه ، ومن لى برضا طلحة ! فقال سعد : أنا لك به ، ولن يخالف إن شاء الله تعالى .
ثم ذكر وصيته لابي طلحة الانصاري وما خص به عبد الرحمن بن عوف من كون الحق في الفئة التى هو فيها وأمره بقتل من يخالف ، ثم خرج الناس فقال على عليه السلام لقوم معه من بنى هاشم : إن أطيع فيكم قومكم من قريش لم تؤمروا أبدا .
وقال للعباس : عدل بالامر عنى يا عم .
قال : وما علمك ؟ قال : قرن بى عثمان .
وقال عمر كونوا مع الاكثر ، فإن رضى رجلان رجلا ورجلان رجلا ، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن ، فسعد لا يخالف ابن عمه ، وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفان ، فيوليها أحدهما الآخر ، فلو كان الآخران معى لم يغنيا شيئا ، فقال العباس : لم أرفعك إلى شئ إلا رجعت إلى(1/191)
مستأخرا بما أكره ، أشرت عليك عند مرض رسول الله صلى الله عليه أن تسأله عن هذا الامر فيمن هو ، فأبيت ، وأشرت عليك عند وفاته أن تعاجل البيعة (1) فأبيت ، وقد أشرت عليك حين سماك عمر في الشورى اليوم ، أن ترفع نفسك عنها ، ولا تدخل معهم فيها ، فأبيت ، فاحفظ عنى واحدة ، كلما عرض عليك القوم الامر فقل : لا ، إلا أن يولوك .
واعلم أن هؤلاء لا يبرحون يدفعونك عن هذا الامر حتى يقوم لك به غيرك ، وايم الله لا تناله إلا بشر لا ينفع معه خير ، فقال عليه السلام : أما إنى أعلم أنهم سيولون عثمان ، وليحدثن البدع والاحداث ، ولئن بقى لاذكرنك ، وإن قتل أو مات ليتداولنها بنو أمية بينهم ، وإن كنت حيا لتجدني حيث تكرهون ، ثم تمثل : حلفت برب الراقصات عشية غدون خفافا يبتدرن المحصبا (2) ليجتلبن رهط ابن يعمر غدوة نجيعا بنو الشداخ وردا مصلبا .
قال : ثم التفت فرأى أبا طلحة الانصاري ، فكره مكانه ، فقال أبو طلحة لا نزاع أبا حسن ، فلما مات عمر ، ودفن وخلوا بأنفسهم للمشاورة في الامر ، وقام أبو طلحة يحجبهم بباب البيت ، جاء عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ، فجلسا بالباب ، فحصبهما سعد وأقامهما ، وقال : إنما تريدان أن تقولا حضرنا وكنا في أصحاب الشورى .
فتنافس القوم في الامر وكثر بينهم الكلام ، فقال أبو طلحة : أنا كنت لان تدافعوها أخوف منى عليكم أن تنافسوها ! ألا والذى ذهب بنفس عمر لا أزيدكم على الايام الثلاثة التى وقفت لكم ، فاصنعوا ما بدا لكم ! قال : ثم إن عبد الرحمن قال لابن عمه سعد بن أبى وقاص : إنى قد كرهتها ، وساخلع نفسي منها ، لانى رأيت الليلة روضة خضراء كثيرة العشب ، فدخل فحل ما رأيت
__________
(1) الطبري : " الامر " (2) الطبري : " فابتدرن " .
(*)(1/192)
أكرم منه ، فمر كأنه سهم لم يلتفت إلى شئ منها حتى قطعها ، لم يعرج ودخل بعير يتلوه تابع أثره حتى خرج منها .
ثم دخل فحل عبقري يجر خطامه ، ومضى قصد الاولين ، ثم دخل بعير رابع ، فوقع في الروضة يرتع ويخضم ، ولا والله لا أكون الرابع ، وإن أحدا لا يقوم مقام أبى بكر وعمر فيرضى الناس عنه .
ثم ذكر خلع عبد الرحمن نفسه من الامر ، على أن يوليها أفضلهم في نفسه ، وأن عثمان أجاب إلى ذلك ، وأن عليا عليه السلام سكت ، فلما روجع رضى على موثق أعطاه عبد الرحمن ، أن يؤثر الحق ، ولا يتبع الهوى ، ولا يخص ذا رحم ، ولا يألو الامة نصحا ، وأن عبد الرحمن ردد القول بين على وعثمان متلوما ، وأنه خلا بسعد تارة ، وبالمسور بن مخرمة الزهري تارة أخرى ، وأجال فكره ، وأعمل نظره ، ووقف موقف الحائر بينهما ، قال : قال على عليه السلام لسعد بن أبى وقاص : يا سعد ، اتقوا الله الذى تساءلون به والارحام ، أسألك برحم ابني هذا من رسول الله صلى الله عليه وبرحم عمى حمزة منك ، ألا تكون مع عبد الرحمن لعثمان ظهيرا .
- قلت : رحم حمزة من سعد ، هي أن أم حمزة هالة بنت أهيب بن عبد مناف ابن زهرة ، وهى أيضا أم المقوم ، وحجل - واسمه المغيرة - والغيداق أبناء عبد المطلب بن هاشم ابن عبد مناف ، هؤلاء الاربعة بنو عبد المطلب من هالة ، وهالة هذه هي عمة سعد بن أبى وقاص ، فحمزة إذن ابن عمة سعد ، وسعد ابن خال حمزة .
- قال أبو جعفر : فلما أتى اليوم الثالث ، جمعهم عبد الرحمن ، واجتمع الناس كافة ، فقال عبد الرحمن : أيها الناس ، أشيروا على في هذين الرجلين ! فقال عمار بن ياسر : إن أردت ألا يختلف الناس ، فبايع عليا عليه السلام ، فقال المقداد : صدق عمار ، وإن بايعت عليا سمعنا وأطعنا ، فقال عبد الله بن أبى سرح : إن أردت ألا يختلف قريش ،(1/193)
فبايع عثمان ، قال عبد الله بن أبى ربيعة المخزومى : صدق ، إن بايعت عثمان سمعنا واطعنا .
فشتم عمار ابن أبى سرح ، وقال له : متى كنت تنصح الاسلام ! فتكلم بنو هاشم وبنو أمية ، وقام عمار ، فقال : أيها الناس ، إن الله أكرمكم بنبيه ، وأعزكم بدينه ، فإلى متى تصرفون هذا الامر عن أهل بيت نبيكم ! فقال رجل من بنى مخزوم : لقد عدوت طورك يا بن سمية ، وما أنت وتأمير قريش لانفسها ! فقال سعد : يا عبد الرحمن ، افرغ من أمرك قبل أن يفتتن الناس .
فحينئذ عرض عبد الرحمن على على عليه السلام العمل بسيرة الشيخين ، فقال : بل أجتهد برأيى .
فبايع عثمان بعد أن عرض عليه ، فقال : نعم ، فقال على عليه السلام : ليس هذا بأول يوم تظاهرتم فيه علينا ، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ، والله ما وليته الامر إلا ليرده إليك ، والله كل يوم في شأن .
فقال عبد الرحمن : لا تجعلن على نفسك سبيلا يا على - يعنى أمر عمر أبا طلحة أن يضرب عنق المخالف - فقام على عليه السلام فخرج ، وقال : سيبلغ الكتاب أجله ، فقال عمار : يا عبد الرحمن ، أما والله لقد تركته ، وإنه من الذين يقضون بالحق وبه كانوا يعدلون .
فقال المقداد : تالله ما رأيت مثل ما أتى إلى أهل هذا البيت بعد نبيهم ، وا عجبا لقريش ! لقد تركت رجلا ما أقول ولا أعلم أن أحدا أقضى بالعدل ولا أعلم ولا أتقى منه ! أما والله لو أجد أعوانا ! فقال عبد الرحمن : اتق الله يا مقداد ، فإنى خائف عليك الفتنة .
وقال على عليه السلام : إنى لاعلم ما في أنفسهم إن الناس ينظرون إلى قريش ، وقريش تنظر في صلاح شأنها ، فتقول : إن ولى الامر بنو هاشم لم يخرج منهم أبدا ، وما كان في غيرهم فهو متداول في بطون قريش .
قال : وقدم طلحة في اليوم الذى بويع فيه لعثمان فتلكأ ساعة ، ثم بايع .
* * *(1/194)
وروى أبو جعفر رواية أخرى أطالها ، وذكر خطب أهل الشورى وما قاله كل منهم ، وذكر كلاما قاله على عليه السلام في ذلك اليوم ، وهو : الحمد لله الذى اختار محمدا منا نبيا ، وابتعثه إلينا رسولا ، فنحن أهل بيت النبوة ومعدن الحكمة ، أمان لاهل الارض ، ونجاة لمن طلب ، إن لنا حقا إن نعطه نأخذه ، وإن نمنعه نركب أعجاز الابل ، وإن طال السرى ، لو عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله عهدا لانفذنا عهده ، ولو قال لنا قولا لجالدنا عليه حتى نموت ، لن يسرع أحد قبلى إلى دعوة حق وصلة رحم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم .
اسمعوا كلامي وعوا منطقى ، عسى أن تروا هذا الامر بعد هذا الجمع تنتضى فيه السيوف ، وتخان فيه العهود ، حتى لا يكون لكم جماعة ، وحتى يكون بعضكم أئمة لاهل الضلالة وشيعة لاهل الجهالة .
* * * قلت : وقد ذكر الهروي (1) في كتاب " الجمع بين الغريبين " قوله : " وإن نمنعه نركب أعجاز الابل " ، وفسره على وجهين : أحدهما : أن من ركب عجز البعير يعانى مشقة ، ويقاسي جهدا ، فكأنه قال : وإن نمنعه نصبر على المشقة ، كما يصبر عليها راكب عجز البعير .
والوجه الثاني أنه أراد : نتبع غيرنا ، كما أن راكب عجز البعير يكون رديفا لمن هو أمامه ، فكأنه قال : وإن نمنعه نتأخر ونتبع غيرنا ، كما يتأخر راكب البعير ! * * *
__________
(1) هو أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي ، صيف كتابه في الجمع بين غريبى القرآن والحديث .
(*)(1/195)
وقال أبو هلال العسكري في كتاب " الاوائل " : استجيبت دعوة على عليه السلام في عثمان وعبد الرحمن ، فما ماتا إلا متهاجرين متعاديين ، أرسل عبد الرحمن إلى عثمان يعاتبه وقال لرسوله : قل له : لقد وليتك ما وليتك من أمر الناس ، وإن لى لامور اما هي لك ، شهدت بدرا وما شهدتها ، وشهدت بيعة الرضوان وما شهدتها ، وفررت يوم أحد وصبرت ، فقال عثمان لرسوله ، قل له : أما يوم بدر فإن رسول الله صلى الله عليه ردنى إلى ابنته لما بها من المرض ، وقد كنت خرجت للذى خرجت له ، ولقيته عند منصرفه ، فبشرني بأجر مثل أجوركم ، وأعطاني سهما مثل سهامكم .
وأما بيعة الرضوان فإنه صلى الله عليه بعثنى أستأذن قريشا في دخوله إلى مكة ، فلما قيل له : إنى قتلت ، بايع المسلمين على الموت لما سمعه عنى ، وقال : إن كان حيا فأنا أبايع عنه ، وصفق بإحدى يديه على الاخرى ، وقال : يسارى خير من يمين عثمان ، فيدك أفضل أم يد رسول الله صلى الله عليه ! وأما صبرك يوم أحد وفرارى ، فلقد كان ذلك فأنزل الله تعالى العفو عنى في كتابه ، فعيرتني بذنب غفره الله لى ، ونسيت من ذنوبك ما لا تدرى أ غفر لك أم لم يغفر .
لما بنى عثمان قصره طمار بالزوراء ، وصنع طعاما كثيرا ، ودعا الناس إليه ، كان فيهم عبد الرحمن ، وفلما نظر للبناء والطعام قال : يا بن عفان ، لقد صدقنا عليك ، ما كنا نكذب فيك ، وإنى أستعيذ بالله من بيعتك .
فغضب عثمان ، وقال : أخرجه عنى يا غلام ، فأخرجوه ، وأمر الناس ألا يجالسوه ، فلم يكن يأتيه أحد إلا ابن عباس ، كان يأتيه فيتعلم منه القرآن والفرائض .
ومرض عبد الرحمن فعاده عثمان ، وكلمه فلم يكلمه حتى مات .
* * *(1/196)
الاصل : إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه ، بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الابل نبتة الربيع ، إلى أن انتكث فتله ، وأجهز عليه عمله ، وكبت به بطنته .
الشرح : نافجا حضنيه : رافعا لهما ، والحضن : ما بين الابط والكشح ، يقال للمتكبر : جاء نافجا حضنيه ، ويقال لمن امتلا بطنه طعاما : جاء نافجا حضنيه ، ومراده عليه السلام هذا الثاني .
والنثيل : الروث .
والمعتلف : موضع العلف ، يريد أن همه الاكل والرجيع ، وهذا من ممض الذم ، وأشد من قول الحطيئة الذى قيل إنه أهجى بيت للعرب : دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسى (1) والخضم : أكل بكل الفم ، وضده القضم ، وهو الاكل بأطراف الاسنان .
وقيل : الخضم أكل الشئ الرطب ، والقضم أكل الشئ اليابس ، والمراد على التفسيرين لا يختلف ، وهو أنهم على قدم عظيمة من النهم وشدة الاكل وامتلاء الافواه .
وقال أبو ذر رحمه الله تعالى عن بنى أمية : يخضمون ونقضم ، والموعد الله .
والماضي " خضمت " بالكسر ، ومثله قضمت .
والنبتة ، بكسر النون كالنبات ، تقول : نبت الرطب نباتا ونبتة .
وانتكث فتله : انتقض ، وهذه استعارة .
وأجهز عليه عمله : تمم قتله .
يقال : أجهزت على الجريح ، مثل ذففت إذا أتممت قتله وكبت به بطنته ، كبا الجواد إذا سقط لوجهه .
والبطنة الاسراف في الشبع .
* * *
__________
(1) ديوانه 54 (*)(1/197)
[ نتف من أخبار عثمان بن عفان ] وثالث القوم هو عثمان بن عفان بن أبى العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ، كنيته أبو عمرو ، وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس .
بايعه الناس بعد انقضاء الشورى واستقرار الامر له ، وصحت فيه فراسة عمر ، فإنه أوطأ بنى أمية رقاب الناس ، وولاهم الولايات وأقطعهم القطائع ، وافتتحت إفريقية في أيامه ، فأخذ الخمس كله فوهبه لمروان ، فقال عبد الرحمن بن حنبل الجمحى : أحلف بالله رب الانام ما ترك الله شيئا سدى ولكن خلقت لنا فتنة لكى نبتلى بك أو تبتلى فإن الامينين قد بينا منار الطريق عليه الهدى فما أخذا درهما غيلة ولا جعلا درهما في هوى وأعطيت مروان خمس البلاد فهيهات سعيك ممن سعى ! الامينان : أبو بكر وعمر .
وطلب منه عبد الله بن خالد بن أسيد صلة ، فأعطاه أربعمائة الف درهم .
وأعاد الحكم بن أبى العاص ، بعد أن كان (1) رسول الله صلى الله عليه وآله ، قد سيره ثم لم يرده أبو بكر ولا عمر ، وأعطاه مائة ألف درهم .
وتصدق رسول الله صلى الله عليه وآله بموضع سوق بالمدينة يعرف بمهزور على المسلمين ، فأقطعه عثمان الحارث بن الحكم أخا مروان بن الحكم .
وأقطع مروان فدك (2) ، وقد كانت فاطمة عليها السلام طلبتها بعد وفاة أبيها صلوات الله
__________
(1) كلمة " كان " ساقطة من ب (2) فدك : قربة بالحجاز بينها وبين المدينة يومان ، أفاءها الله على رسوله في سنة سبع صلحا ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل خيبر ، وفتح حصونها ، ولم يبق إلا ثلث ، واشتد بهم الحصار ، راسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه أن ينزلهم على الجلاء ، وفعل ، وبلغ ذلك أهل فدك ، فأرسلوا إلى رسول الله أن يصالحهم على النصف من ثمارها وأموالهم فأجابهم إلى ذلك ، فهى مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه .
معجم البلدان 6 : 343 .
(*)(1/198)
عليه تارة بالميراث ، وتارة بالنحلة فدفعت عنها .
وحمى المراعى حول المدينة كلها من مواشي المسلمين كلهم إلا عن بنى أمية .
وأعطى عبد الله بن أبى سرح جميع ما أفاء الله عليه من فتح إفريقية بالمغرب ، وهى من طرابلس الغرب إلى طنجة من غير أن يشركه فيه أحد من المسلمين .
وأعطى أبا سفيان بن حرب مائتي ألف من بيت المال ، في اليوم الذى أمر فيه لمروان بن الحكم بمائة ألف من بيت المال ، وقد كان زوجه ابنته أم أبان ، فجاء زيد بن أرقم صاحب بيت المال بالمفاتيح ، فوضعها بين يدى عثمان وبكى ، فقال عثمان : أ تبكى أن وصلت رحمى ! قال : لا ، ولكن أبكى لانى أظنك أنك أخذت هذا المال عوضا عما كنت أنفقته في سبيل الله في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله .
والله لو أعطيت مروان مائة درهم لكان كثيرا ، فقال : ألق المفاتيح يا بن أرقم ، فإنا سنجد غيرك .
وأتاه أبو موسى بأموال من العراق جليلة ، فقسمها كلها في بنى أمية .
وأنكح الحارث ابن الحكم ابنته عائشة ، فأعطاه مائة ألف من بيت المال أيضا بعد صرفه زيد بن أرقم عن خزنه .
وانضم إلى هذه الامور أمور أخرى نقمها عليه المسلمون ، كتسيير أبى ذر رحمه الله تعالى إلى الربذة ، وضرب عبد الله بن مسعود حتى كسر أضلاعه ، وما أظهر من الحجاب والعدول عن طريقة عمر في إقامة الحدود ، ورد المظالم ، وكف الايدى العادية والانتصاب لسياسة الرعية ، وختم ذلك ما وجدوه من كتابه إلى معاوية يأمره فيه بقتل قوم من المسلمين ، واجتمع عليه كثير من أهل المدينة مع القوم الذين وصلوا من مصر لتعديد أحداثه عليه فقتلوه .
وقد أجاب أصحابنا عن المطاعن في عثمان بأجوبة مشهورة مذكورة في كتبهم .
والذى نقول نحن : إنها وإن كانت أحداثا ، إلا أنها لم تبلغ المبلغ الذى يستباح به دمه ،(1/199)
وقد كان الواجب عليهم أن يخلعوه من الخلافة حيث لم يستصلحوه لها ، ولا يعجلوا بقتله ، وأمير المؤمنين عليه السلام أبرأ الناس من دمه ، وقد صرح بذلك في كثير من كلامه ، من ذلك قوله عليه السلام : والله ما قتلت عثمان ولا مالات على قتله .
وصدق صلوات الله عليه .
* * * الاصل : فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلى ، ينثالون على من كل جانب ، حتى لقد وطئ الحسنان ، وشق عطفاى ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم .
فلما نهضت بالامر نكثت طائفة ، ومرقت أخرى ، وقسط آخرون ، كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول : (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الارض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) (1) ، بلى والله لقد سمعوها ووعوها ، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم ، وراقهم زبرجها ! .
* * * الشرح : عرف الضبع : ثخين ، ويضرب به المثل في الازدحام .
وينثالون يتتابعون مزدحمين .
والحسنان : الحسن والحسين عليهما السلام .
والعطفان : الجانبان من المنكب إلى الورك ، ويروى " عطافى " ، والعطاف الرداء وهو أشبه بالحال ، إلا أن الرواية الاولى أشهر ، والمعنى خدش جانباى لشدة الاصطكاك منهم والزحام .
* * * وقال القطب الراوندي : الحسنان : إبهاما الرجل ، وهذا لا أعرفه .
__________
(1) سورة القصص 83 (*)(1/200)
وقوله : " كربيضة الغنم " أي كالقطعة الرابضة من الغنم ، يصف شدة ازدحامهم حوله ، وجثومهم بين يديه .
وقال القطب الراوندي : يصف بلادتهم ونقصان عقولهم ، لان الغنم توصف بقلة الفطنة .
وهذا التفسير بعيد وغير مناسب للحال .
فأما الطائفة الناكثة ، فهم أصحاب الجمل ، وأما الطائفة القاسطة فأصحاب صفين .
وسماهم رسول الله صلى الله عليه وآله القاسطين .
وأما الطائفة المارقة فأصحاب النهروان ، وأشرنا نحن بقولنا : سماهم رسول الله صلى الله عليه وآله القاسطين إلى قوله عليه السلام : " ستقاتل بعدى الناكثين ، والقاسطين والمارقين " .
وهذا الخبر من دلائل نبوته صلوات الله عليه ، لانه إخبار صريح بالغيب ، لا يحتمل التمويه والتدليس ، كما تحتمله الاخبار المجملة ، وصدق قوله عليه السلام : والمارقين " ، قوله أولا في الخوارج : " يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " ، وصدق قوله عليه السلام الناكثين كونهم نكثوا البيعة بادئ بدء ، وقد كان عليه السلام يتلو وقت مبايعتهم له : (ومن نكث فإنما ينكث على نفسه) (1) .
وأما أصحاب صفين ، فإنهم عند أصحابنا رحمهم الله مخلدون في النار لفسقهم ، فصح فيهم قوله تعالى : (وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا) (2) .
وقوله عليه السلام : " حليت الدنيا في أعينهم " تقول : حلا الشئ في فمى يحلو ، وحلى لعيني يحلى .
والزبرج : الزينة من وشى أو غيره ويقال : الزبرج الذهب .
فأما الآية فنحن نذكر بعض ما فيها ، فنقول : إنه تعالى لم يعلق الوعد بترك العلو في الارض والفساد ، ولكن بترك إرادتهما ، وهو كقوله تعالى : (ولا تركنوا إلى الذين)
__________
(1) سورة الفتح 10 (2) سورة الجن 15 (*)(1/201)
ظلموا فتمسكم النار) (1) علق الوعيد بالركون إليهم والميل معهم ، وهذا شديد في الوعيد .
ويروى عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال : إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أحسن من شراك نعل صاحبه فيدخل تحت هذه الآية .
ويقال : إن عمر بن عبد العزيز كان يرددها حتى قبض .
* * * الاصل : أما والذى فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، لولا حضور الحاضر ، وقيام الحجة بوجود الناصر ، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ، ولا سغب مظلوم ، لالقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أولها ، ولالفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز .
* * * الشرح : فلق الحبة ، من قوله تعالى : (فالق الحب والنوى) (2) ، والنسمة : كل ذى روح من البشر خاصة .
قوله : " لولا حضور الحاضر " ، يمكن أن يريد به لو لا حضور البيعة - فإنها بعد عقدها تتعين المحاماة عنها - ويمكن أن يريد بالحاضر من حضره من الجيش الذين يستعين بهم على الحرب .
والكظة بكسر الكاف : ما يعترى الانسان من الثقل والكرب عند الامتلاء من الطعام .
والسغب : الجوع .
وقولهم : قد ألقى فلان حبل فلان على غاربه ،
__________
(1) سورة هود 113 (2) سورة الانعام 95 (*)(1/202)
أي تركه هملا يسرح حيث يشاء من غير وازع ولا مانع ، والفقهاء يذكرون هذه اللفظة في كنايات الطلاق .
وعفطة عنز : ما تنثره من أنفها عفطت تعفط بالكسر ، وأكثر ما يستعمل ذلك في النعجة ، فأما العنز فالمستعمل الاشهر فيها " النفطة " بالنون ، ويقولون : ما له عافط ولا نافط ، أي نعجة ولا عنز .
فإن قيل : أ يجوز أن يقال العفطة هاهنا الحبقة ؟ فإن ذلك يقال في العنز خاصة ، عفطت تعفط .
قيل : ذلك جائز ، إلا أن الاحسن والاليق بكلام أمير المؤمنين عليه السلام التفسير الاول ، فإن جلالته وسؤدده تقتضي أن يكون ذاك أراد لا الثاني .
فإن صح أنه لا يقال في العطسة عفطة إلا للنعجة .
قلنا : إنه استعمله في العنز مجازا .
يقول عليه السلام : لو لا وجود من ينصرني - لا كما كانت الحال عليها أولا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله ، فإنى لم أكن حينئذ واجدا للناصر مع كونى مكلفا ألا أمكن الظالم من ظلمه - لتركت الخلافة ، ولرفضتها الآن كما رفضتها قبل ، ولوجدتم هذه الدنيا عندي أهون من عطسة عنز ، وهذا إشارة إلى ما يقوله أصحابنا من وجوب النهى عن المنكر عند التمكن .
* * * الاصل : قالوا : وقام إليه رجل من أهل السواد عند بلوغه إلى هذا الموضع من خطبته ، فناوله كتابا فأقبل ينظر فيه ، قال له ابن عباس رضى الله عنهما : يا أمير المؤمنين ، لو اطردت خطبتك من حيث أفضيت ! فقال : هيهات يا بن عباس ! تلك شقشقة هدرت ثم قرت .
قال ابن عباس : فو الله ما أسفت على كلام قط كأسفي على هذا الكلام ألا يكون أمير المؤمنين عليه السلام بلغ منه حيث أراد .
* * *(1/203)
قال الرضى : قوله عليه السلام في هذه الخطبة : " كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحم " ، يريد أنه إذا شدد عليها في جذب الزمام وهى تنازعه رأسها خرم أنفها ، وإن أرخى لها شيئا مع صعوبتها تقحمت به فلم يملكها .
يقال : أشنق الناقة إذا جذب رأسها بالزمام فرفعه ، شنقها أيضا ، ذكر ذلك ابن السكيت في " إصلاح المنطق " .
وإنما قال عليه السلام : " أشنق لها " ولم يقل " أشنقها " لانه جعله في مقابلة قوله : " أسلس لها " ، فكأنه قال : إن رفع لها رأسها بالزمام أمسكه عليها بالزمام ، وفى الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب على ناقته وقد شنق لها فهى تقصع بجرتها .
ومن الشاهد على أن " أشنق " بمعنى شنق قول عدى بن زيد العبادي : ساءها ما لها تبين في الايدى وإشناقها إلى الاعناق * * * الشرح : سمى السواد سوادا لخضرته بالزروع والاشجار والنخل ، والعرب تسمى الاخضر أسود ، قال سبحانه : (مدهامتان) يريد الخضرة .
وقوله : " لو اطردت مقالتك ، أي أتبعت الاول قولا ثانيا ! من قولهم : اطرد النهر إذا تتابع جريه .
وقوله : " من حيث أفضيت " أصل أفضى خرج إلى الفضاء ، فكأنه شبهه عليه السلام حيث سكت عما كان يقوله ، بمن خرج من خباء أو جدار إلى فضاء من الارض ، وذلك لان النفس والقوى والهمة عند ارتجال الخطب ، والاشعار تجتمع إلى القلب ، فإذا قطع الانسان وفرغ ، تفرقت وخرجت عن حجر الاجتماع واستراحت .(1/204)
والشقشقة بالسكر فيهما : شئ يخرجه البعير من فيه إذا هاج ، وإذا قالوا للخطيب : ذو شقشقة فإنما شبهوه بالفحل .
والهدير : صوتها .
وأما قول ابن عباس : " ما أسفت على كلام ...
" إلى آخره ، فحدثني شيخي أبو الخير مصدق بن شبيب الواسطي (1) في سنة ثلاث وستمائة ، قال : قرأت على الشيخ أبى محمد عبد الله بن أحمد المعروف بابن الخشاب هذه الخطبة ، فلما انتهيت إلى هذا الموضع ، قال لى : لو سمعت ابن عباس يقول هذا لقلت له : وهل بقى في نفس ابن عمك أمر لم يبلغه في هذه الخطبة لتتأسف ألا يكون بلغ من كلامه ما أراد ! والله ما رجع عن الاولين ولا عن الآخرين ، ولا بقى في نفسه أحد لم يذكره إلا رسول الله صلى الله عليه وآله .
قال مصدق : وكان ابن الخشاب صاحب دعابة وهزل ، قال : فقلت له : أ تقول أنها منحولة ! فقال : لا والله ، وإنى لاعلم أنها كلامه ، كما أعلم أنك مصدق .
قال فقلت له : إن كثيرا من الناس يقولون إنها من كلام الرضى ، رحمه الله تعالى .
فقال : إنى للرضى ولغير الرضى هذا النفس وهذا الاسلوب ! قد وقفنا على رسائل الرضى ، وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور ، وما يقع مع هذا الكلام في خل ولا خمر : ثم قال : والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنفت قبل أن يخلق الرضى بمائتي سنة ، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها ، وأعرف خطوط من هو من العلماء وأهل الادب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضى .
قلت : وقد وجدت أنا كثيرا من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبى القاسم (2) البلخى
__________
(1) مصدق بن شبيب بن الحسين الصلحى الواسطي ، ذكره القفطى في إنباه الرواة (3 : 274) ، وقال إنه قدم بغداد ، وقرأ بها على ابن الخشاب وحبشي بن محمد الضرير ، وعبد الرحمن بن الانباري وغيرهم ، وتوفى ببعداد سنة 605 (3) أبو القاسم البلخى ، ذكره ابن النديم وقال : " كان من أهل بلخ ، يطوف البلاد ويجول الارض ، حسن المعرفة عبد الله بن أحمد بالفلسفة والعلوم القديمة ...
ورأيت بخطه شيئا كثيرا في علوم كثيرة مسودات ودساتير ، يخرج منها إلى الناس كتاب تام " الفهرست 299 .
وابن خلكان 1 : 252 (*)(1/205)
إمام البغداديين من المعتزلة ، وكان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضى بمدة طويلة .
ووجدت أيضا كثيرا منها في كتاب أبى جعفر بن قبة أحد متكلمي الامامية (1) وهو الكتاب المشهور المعروف بكتاب " الانصاف " .
وكان أبو جعفر هذا من تلامذة الشيخ أبى القاسم البلخى رحمه الله تعالى ، ومات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضى رحمة الله تعالى موجودا .
* * *
__________
هو أبو جعفر بن قبة ، من متكلمي الشيعة وحذاقهم ، وله من الكتب كتاب الانصاف في الامامة ، الفهرست 176 (*)(1/206)
(4) الاصل : من خطبة له عليه السلام : بنا اهتديتم في الظلماء ، وتسنمتم ذروة العلياء (1) ، وبنا انفجرتم عن السرار .
وقر سمع لم يفقه الواعية ، وكيف يراعى النبأة من أصمته الصيحة .
ربط جنان لم يفارقه الخفقان .
ما زلت أنتظر بكم عواقب الغدر ، وأتوسمكم بحلية المغترين .
حتى (2) سترني عنكم جلباب الدين ، وبصرنيكم صدق النية .
أقمت لكم على سنن الحق في جواد المضلة ، حيث تلتقون ولا دليل ، وتحتفرون ولا تميهون .
اليوم أنطق لكم العجماء ذات البيان .
عزب رأى امرئ تخلف عنى ، ما شككت في الحق مذ أريته .
لم يوجس موسى عليه السلام خيفة على نفسه ، بل أشفق من غلبة الجهال ودول الضلال .
اليوم تواقفنا على سبيل الحق والباطل .
من وثق بماء لم يظمأ .
* * *
__________
(1) كذا في ا ، وفى ب : " تسنمتم العلياء " .
(2) ب : ومخطوطة النهج سترني بحذف كلمة " حتى " (*)(1/207)
الشرح : هذه الكلمات والامثال ملتقطة من خطبة طويلة ، منسوبة إليه عليه السلام ، قد زاد (1) فيها قوم أشياء حملتهم عليها أهواؤهم ، لا توافق ألفاظها طريقته عليه السلام في الخطب ، ولا تناسب فصاحتها فصاحته ، ولا حاجة إلى ذكرها ، فهى شهيرة .
ونحن نشرح هذه الالفاظ ، لانها كلامه عليه السلام ، لا يشك في ذلك من له ذوق ونقد ومعرفة بمذاهب الخطباء والفصحاء في خطبهم ورسائلهم ، ولان الرواية لها كثيرة ، ولان الرضى رحمة الله تعالى عليه قد التقطها ونسبها إليه عليه السلام ، وصححها وحذف ما عداها .
وأما قوله عليه السلام : " بنا اهتديتم في الظلماء " ، فيعنى بالظلماء الجهالة ، وتسنمتم العلياء : ركبتم سنامها ، وهذه استعارة .
قوله : " وبنا انفجرتم عن السرار " ، أي دخلتم في الفجر ، والسرار : الليلة والليلتان يستتر فيهما القمر في آخر الشهر فلا يظهر .
وروى " أفجرتم " ، وهو أفصح وأصح ، لان " انفعل " لا يكون إلا مطاوع " فعل " ، نحو كسرته فانكسر ، وحطمته فانحطم ، إلا ما شذ من قولهم : أغلقت الباب فانغلق وأزعجته فانزعج .
وأيضا فإنه لا يقع إلا حيث يكون علاج وتأثير ، نحو انكسر وانحطم ، ولهذا قالوا : إن قولهم انعدم خطأ وأما " أفعل " فيجئ لصيرورة الشئ على حال وأمر ، نحو أغد البعير ، أي صار ذا غدة ، وأجرب الرجل ، إذا صار ذا إبل جربى ، وغير ذلك .
فأفجرتم ، أي صرتم ذوى فجر .
وأما " عن " في قوله : " عن السرار " فهى للمجاوزة على حقيقة معناها الاصلى ، أي منتقلين عن السرار ومتجاوزين له .
وقوله عليه السلام : " وقر سمع " هذا دعاء على السمع الذى لم يفقه الواعية بالثقل والصمم ، وقرت أذن زيد ، بضم الواو فهى موقورة ، والوقر ، بالفتح .
الثقل في الاذن
__________
(1) ب " رأى " .
(*)(1/208)
وقرت أذنه ، بفتح الواو وكسر القاف توقر وقرا أي صمت ، والمصدر في هذا الموضع جاء بالسكون ، وهو شاذ ، وقياسه التحريك بالفتح ، نحو ورم ورما .
والواعية : الصارخة ، من الوعاء ، وهو الجلبة والاصوات ، والمراد العبر والمواعظ .
قوله : " كيف يراعى النبأة " ، هذا مثل آخر ، يقول : كيف يلاحظ ويراعى العبر الضعيفة من لم ينتفع بالعبر الجلية الظاهرة ، بل فسد عندها ، وشبه ذلك بمن أصمته الصيحة القوية ، فإنه محال أن يراعى بعد ذلك الصوت الضعيف .
والنبأة : هي الصوت الخفى .
فإن قيل : هذا يخالف قولكم : إن الاستفساد لا يجوز على الحكيم سبحانه ، فإن كلامه عليه السلام صريح في أن بعض المكلفين يفسد عند العبر والمواعظ .
قيل : إن لفظة " أفعل " قد تأتى لوجود الشئ على صفة ، نحو أحمدته ، إذا أصبته محمودا .
وقالوا : أحييت الارض ، إذا وجدتها حية النبات (1) ، فقوله : " أصمته الصيحة " ، ليس معناه أن الصيحة كانت علة لصممه ، بل بمعناه صادفته أصم ، وبهذا تأول أصحابنا قوله تعالى : (وأضله الله على علم) (2) .
قوله : " ربط جنان لم يفارقه الخفقان " ، هذا مثل آخر ، وهو دعاء لقلب لا يزال خائفا من الله يخفق بالثبوت والاستمساك .
قوله : " ما زلت أنتظر بكم " ، يقول : كنت مترقبا غدركم متفرسا فيكم الغرر ، وهو الغفلة .
وقيل : إن هذه الخطبة خطبها بعد مقتل طلحة والزبير ، مخاطبا بها ، لهما ولغيرهما من أمثالهما ، كما قال النبي صلى الله عليه وآله يوم بدر ، بعد قتل من قتل من قريش : " يا عتبة بن ربيعة ،
__________
(1) ا : " ذا نبات " (2) سورة الجاثية 23 (*)(1/209)
يا شيبة بن ربيعة ، يا عمرو بن هشام " ، وهم جيف منتنة قد جروا إلى القليب .
قوله : " سترني عنكم " ، هذا يحتمل وجوها ، أوضحها أن إظهاركم شعار الاسلام عصمكم منى مع علمي بنفاقكم ، وإنما أبصرت نفاقكم وبواطنكم الخبيثة بصدق نيتى ، كما يقال : المؤمن يبصر بنور الله .
ويحتمل أن يريد : سترني عنكم جلباب دينى ومنعنى أن أعرفكم نفسي وما أقدر عليه من عسفكم ، كما تقول لمن استهان بحقك : أنت لا تعرفني ولو شئت لعرفتك نفسي .
وفسر القطب الراوندي قوله عليه السلام : " وبصرنيكم صدق النية " ، قال : معناه أنكم إذا صدقتم نياتكم ، ونظرتم بأعين لم تطرف بالحسد والغش وأنصفتموني ، أبصرتم عظيم منزلتي .
وهذا ليس بجيد ، لانه لو كان هو المراد لقال : وبصركم إياى صدق النية ، ولم يقل ذلك ، وإنما قال : " بصرنيكم " ، فجعل صدق النية مبصرا له لا لهم .
وأيضا فإنه حكم بأن صدق النية هو علة التبصير ، وأعداؤه لم يكن فيهم صادق النية ، وظاهر الكلام الحكم والقطع ، لا التعليق بالشرط .
قوله : " أقمت لكم على سنن الحق " ، يقال : تنح عن سنن الطريق وسنن الطريق بفتح السين وضمها ، فالاول مفرد ، والثانى جمع سنة ، وهى جادة الطريق والواضح منها ، وأرض مضلة ومضلة ، بفتح الضاد وكسرها : يضل سالكها .
وأماه المحتفر يميه ، أنبط الماء ، يقول : فعلت من إرشادكم وأمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر ما يجب على مثلى ، فوقفت لكم على جادة الحق ومنهجه ، حيث طرق الضلال كثيرة مختلفة من سائر جهاتي ، وأنتم تائهون فيها تلتقون ، ولا دليل لكم ، وتحتفرون لتجدوا ماء تنقعون به غلتكم فلا تظفرون بالماء ، وهذه كلها استعارات .(1/210)
قوله : " اليوم أنطق " ، هذا مثل آخر ، والعجماء التى لا نطق لها ، وهذا إشارة إلى الرموز التى تتضمنها هذه الخطبة ، يقول : هي خفية غامضة وهى مع غموضها جلية لاولى الالباب ، فكأنها تنطق ، كما ينطق ذوو الالسنة ، كما قيل : ما الامور الصامتة الناطقة ؟ فقيل : الدلائل المخبرة ، والعبر الواعظة .
وفي الاثر : سل الارض : من شق أنهارك ، وأخرج ثمارك ؟ فإن لم تجبك حوارا ، أجابتك اعتبارا .
قوله : " عزب رأى امرئ تخلف عنى " هذا كلام آخر ، عزب ، أي بعد ، والعازب : البعيد .
ويحتمل أن يكون هذا الكلام إخبارا ، وأن يكون دعاء ، كما أن قوله تعالى : (حصرت صدورهم) (1) ، يحتمل الامرين .
قوله : " ما شككت في الحق مذ رأيته " ، هذا كلام آخر ، يقول : معارفى ثابتة لا يتطرق إليها الشك والشبهة .
قوله : " لم يوجس موسى " ، هذا كلام شريف جدا ، يقول : إن موسى لما أوجس الخيفة بدلالة قوله تعالى : (فأوجس في نفسه خيفة موسى) (2) لم يكن ذلك الخوف على نفسه ، وإنما خاف من الفتنة والشبهة الداخلة على المكلفين عند إلقاء السحرة عصيهم ، فخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ، وكذلك أنا لا أخاف على نفسي من الاعداء الذين نصبوا لى الحبائل ، وأرصدوا لى المكائد ، وسعروا على نيران الحرب ، وإنما أخاف أن يفتتن المكلفون بشبههم وتمويهاتهم ، فتقوى دولة الضلال ، وتغلب كلمة الجهال .
قوله : " اليوم تواقفنا " ، القاف قبل الفاء ، تواقف القوم على الطريق ، أي وقفوا كلهم عليها ، يقول : اليوم اتضح الحق والباطل ، وعرفناهما نحن وأنتم .
قوله : " من وثق بماء لم يظمأ " ، الظمأ الذى يكون عند عدم الثقة بالماء ، وليس
__________
(1) سورة النساء 90 (2) سورة طه 67 (*)(1/211)
يريد النفى المطلق ، لان الواثق بالماء قد يظمأ ، ولكن لا يكون عطشه على حد العطش الكائن عند عدم الماء ، وعدم الوثوق بوجوده ، وهذا كقول أبى الطيب : وما صبابة مشتاق على أمل من اللقاء كمشتاق بلا أمل (1) والصائم في شهر رمضان يصبح جائعا تنازعه نفسه إلى الغذاء ، وفي أيام الفطر لا يجد تلك المنازعة في مثل ذلك الوقت ، لان الصائم ممنوع ، والنفس تحرص على طلب ما منعت منه ، يقول : إن وثقتم بى وسكنتم إلى قولى ، كنتم أبعد عن الضلال وأقرب إلى اليقين وثلج النفس ، كمن وثق بأن الماء في إداوته ، يكون عن الظمأ وخوف الهلاك من العطش أبعد ممن لم يثق بذلك .
* * *
__________
(1) ديوانه 3 : 75 (*)(1/212)
(5) الاصل : ومن كلام له (1) عليه السلام لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله ، وخاطبه العباس وأبو سفيان بن حرب في أن (2) يبايعا له بالخلافة : أيها الناس ، شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة ، وعرجوا عن طريق المنافرة ، وضعوا تيجان المفاخرة .
أفلح من نهض بجناح ، أو استسلم (3) فأراح .
هذا (4) ماء آجن ، ولقمة يغص بها آكلها .
ومجتنى الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه ، فإن أقل يقولوا حرص على الملك ، وإن أسكت يقولوا جزع من الموت .
هيهات بعد اللتيا والتى ! والله لابن أبى طالب آنس بالموت من الطفل بثدى أمه ، بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الارشية في الطوى البعيدة (5) .
* * * الشرح : المفاخرة : أن يذكر كل واحد من الرجلين مفاخره وفضائله وقديمه ، ثم يتحاكما إلى ثالث .
والماء الآجن : المتغير الفاسد ، أجن الماء ، بفتح الجيم ، يأجن ويأجن ، بالكسر والضم .
والايناع : إدراك الثمرة .
واللتيا : تصغير التى ، كما أن اللذيا تصغير الذى .
واندمجت : انطويت .
والطوى : البئر المطوية بالحجارة .
يقول : تخلصوا عن الفتنة وانجوا منها بالمتاركة والمسالمة والعدول عن المنافرة والمفاخرة .
__________
(1) ا : " خطبة " (2) ا : " أن يبايعاه " .
(3) ا : " واستسلم " (4) ساقطة من ا ومخطوطة النهج (5) بعد هذه الكلمة في مخطوطة النهج : " السلام " (*)(1/213)
أفلح من نهض بجناح ، أي مات ، شبه الميت المفارق للدنيا بطائر نهض عن الارض بجناحه .
ويحتمل أن يريد بذلك : أفلح من اعتزل هذا العالم ، وساح في الارض منقطعا عن تكاليف الدنيا .
ويحتمل أيضا أن يريد أفلح من نهض في طلب الرياسة بناصر ينصره ، وأعوان يجاهدون بين يديه ، وعلى التقادير كلها تنطبق اللفظة الثانية ، وهى قوله : " أو استسلم فأراح (1) " ، أي أراح نفسه باستسلامه .
ثم قال : إلامرة على الناس وخيمة العاقبة ، ذات مشقة في العاجلة ، فهى في عاجلها كالماء الآجن يجد شاربه مشقة ، وفي آجلها كاللقمة التى تحدث عن أكلها الغصة .
ويغص مفتوح حرف المضارعة ومفتوح الغين ، أصله : " غصصت " بالكسر : ويحتمل أن يكون الامران معا للعاجلة ، لان الغصص في أول البلع ، كما أن ألم شرب الماء الآجن يحدث في أول الشرب .
ويجوز ألا يكون عنى الامرة المطلقة ، بل هي (2) الامرة المخصوصة ، يعنى بيعة السقيفة .
ثم أخذ في الاعتذار عن الامساك وترك المنازعة ، فقال : مجتنى الثمرة قبل أن تدرك لا ينتفع بما اجتناه ، كمن زرع في غير أرضه ، ولا ينتفع بذلك الزرع ، يريد أنه ليس هذا الوقت هو الوقت الذى يسوغ لى فيه طلب الامر وأنه لم يأن بعد .
ثم قال : قد حصلت بين حالين ، إن قلت ، قال الناس : حرص على الملك ، وإن لم أقل ، قالوا : جزع من الموت .
قال : هيهات ، استبعادا لظنهم فيه (3) الجزع .
ثم قال : " اللتيا والتى " ، أي أبعد اللتيا والتى أجزع ! أبعد أن قاسيت الاهوال الكبار والصغار ، ومنيت بكل داهية عظيمة وصغيرة فاللتيا الصغيرة والتى الكبيرة .
__________
(1) ا : " واستسلم " : (2) ا : " هذه " (3) ساقطة من ا (*)(1/214)
ذكر أن أنسه بالموت كأنس الطفل بثدى أمه ، وأنه انطوى على علم هو ممتنع لموجبه من المنازعة ، وأن ذلك العلم لا يباح به (1) ، ولو باح به لاضطرب سامعوه كاضطراب الارشية ، وهى الحبال في البئر البعيدة القعر ، وهذا إشارة إلى الوصية التى خص بها عليه السلام ، أنه قد كان من جملتها الامر بترك النزاع في مبدأ الاختلاف عليه .
[ استطراد بذكر طائفة من الاستعارات ] واعلم أن أحسن الاستعارات ما تضمن مناسبة بين المستعار والمستعار منه ، كهذه الاستعارات ، فإن قوله عليه السلام : " شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة " من هذا النوع ، وذلك لان الفتن قد تتضاعف وتترادف ، فحسن تشبيهها بأمواج البحر المضطربة .
ولما كانت السفن الحقيقة تنجي من أمواج البحر ، حسن أن يستعار لفظ السفن لما ينجى من الفتن ، وكذلك قوله : " وضعوا تيجان المفاخرة " ، لان التاج لما كان مما يعظم به قدر الانسان استعاره لما يتعظ به الانسان من الافتخار وذكر القديم وكذلك استعارة النهوض بالجناح لمن اعتزل الناس ، كأنه لما نفض يديه عنهم صار كالطائر الذى ينهض من الارض بجناحيه .
وفي الاستعارات ما هو خارج عن هذا النوع ، وهو مستقبح ، وذلك كقول أبى نواس : بح صوت المال مما منك يبكى وينوح (2) وكذلك قوله : ما لرجل المال أضحت تشتكى منك الكلالا (3)
__________
(1) ساقطة من ب (2) ديوانه 119 (3) ديوانه 70 (*)(1/215)
وقول أبى تمام : وكم أحرزت منكم على قبح قدها صروف النوى من مرهف حسن القد (1) وكقوله : بلوناك ، أما كعب عرضك في العلا فعال ، ولكن خد مالك أسفل (2) فإنه لا مناسبة بين الرجل والمال ، ولا بين الصوت والمال ، ولا معنى لتصييره للنوى قدا ، ولا للعرض كعبا ، ولا للمال خدا .
وقريب منه أيضا قوله : لا تسقنى ماء الملام فإننى صب قد استعذبت ماء بكائى (3) ويقال : إن مخلدا الموصلي (4) بعث إليه بقارورة يسأله أن يبعث له فيها قليلا من ماء الملام ، فقال لصاحبه : قل له يبعث إلى بريشة من جناح الذل لاستخرج بها من القارورة ما أبعثه إليه .
وهذا ظلم من أبى تمام لمخلد ، وما الامران سواء ، لان الطائر إذا أعيا وتعب ذل وخفض جناحيه ، وكذلك الانسان إذا استسلم ألقى بيديه ذلا ، ويده جناحه ، فذاك هو الذى حسن قوله تعالى : (واخفض لهما جناح الذل) (5) أ لا ترى أنه لو قال : واخفض لهما ساق الذل أو بطن الذل لم يكن مستحسنا ! * * * ومن الاستعارة المستحسنة في الكلام المنثور ، ما اختاره قدامة بن جعفر في كتاب " الخراح " نحو قول أبى الحسين جعفر بن محمد بن ثوابة في جوابه لابي الجيش خمارويه
__________
(1) ديوانه 2 : 110 (2) ديوانه 3 : 73 (3) ديوانه 1 : 25 (4) هو مخلد بن بكار الموصلي ، وله مع أبى تمام أخبار ومساجلات ، ذكرها الصولى في كتابه أخبار أبى تمام 234 - 243 (5) سورة الاسراء 24 (*)(1/216)
ابن احمد بن طولون عن المعتضد بالله ، لما كتب بإنفاذ ابنته قطر الندى التى تزوجها المعتضد ، وذلك قول ابن ثوابة هذا : وأما الوديعة فهى بمنزلة ما انتقل من شمالك إلى يمينك ، عناية بها وحياطة لها ورعاية لمودتك فيها .
وقال ابن ثوابة لما كتب هذا الكتاب لابي القاسم عبيد الله بن سليمان بن وهب وزير المعتضد والله إن تسميتي إياها بالوديعة نصف البلاغة .
وذكر أحمد بن يوسف الكاتب رجلا خلا بالمأمون فقال : ما زال يفتله في الذروة والغارب حتى لفته عن رأيه .
وقال إسحق بن إبراهيم الموصلي : النبيذ قيد الحديث .
وذكر بعضهم رجلا فذمه ، فقال : هو أملس (1) ليس فيه مستقر لخير ولا شر .
ورضى بعض الرؤساء عن رجل من موجدة ، ثم أقبل يوبخه عليها ، فقال : إن رأيت ألا تخدش وجه رضاك بالتوبيخ فافعل .
وقال بعض الاعراب : خرجنا في ليلة حندس (2) ، قد ألقت على الارض أكارعها ، فمحت صورة الابدان ، فما كنا نتعارف إلا بالآذان .
وغزت حنيفة نميرا ، فاتبعتهم نمير فأتوا عليهم ، فقيل لرجل منهم : كيف صنع قومك ؟ قال : اتبعوهم والله ، وقد أحقبوا كل جمالية خيفانة (3) ، فما زالوا يخصفون آثار المطى بحوافر الخيل حتى لحقوهم ، فجعلوا المران (4) أرشية الموت ، فاستقوا بها ارواحهم .
ومن كلام لعبد الله بن المعتز ، يصف القلم : يخدم الارادة ، ولا يمل الاستزادة ،
__________
(1) ا : " إبليس " تحريف .
(2) ليلة حندس : شديدة الظلمة (3) الجمالية ، الناقة الوثقة ، تشبه بالجمل في خلقتها وشدتها وعظمها .
والخيفانة : السريعة ، شبهت بالجرادة السريعة .
(4) حاشية ب : " المران : الرماح ...
" (*)(1/217)
ويسكت واقفا ، وينطق سائرا ، على أرض بياضها مظلم ، وسوادها مضئ .
* * * فأما القطب الراوندي ، فقال : قوله عليه السلام : " شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة " معناه : كونوا مع أهل البيت لانهم سفن النجاة ، لقوله عليه السلام : " مثل أهل بيتى كسفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق " .
ولقائل أن يقول : لا شبهة أن أهل البيت سفن النجاة ، ولكنهم لم يرادوا هاهنا بهذه اللفظة لانه لو كان ذلك هو المراد ، لكان قد أمر أبا سفيان والعباس بالكون مع أهل البيت ، ومراده الآن ينقض ذلك ، لانه يأمر بالتقية وإظهار اتباع الذين عقد لهم الامر ، ويرى أن الاستسلام هو المتعين ، فالذي ظنه الراوندي لا يحتمله الكلام ولا يناسبه .
وقال أيضا : التعريج على الشئ الاقامة عليه ، يقال : عرج فلان على المنزل ، إذا حبس نفسه عليه ، فالتقدير : عرجوا على الاستقامة منصرفين عن المنافرة .
ولقائل أن يقول : التعريج يعدى تارة ب " عن " وتارة ب " على " ، فإذا عديته بعن أردت التجنب والرفض ، وإذا عديته ب " على " أردت المقام والوقوف ، وكلامه عليه السلام معدى ب " عن " قال : " وعرجوا عن طريق المنافرة " .
وقال أيضا " آنس بالموت " أي أسر به ، وليس بتفسير صحيح ، بل هو من الانس ضد الوحشة .
[ اختلاف الرأى في الخلافة بعد وفاة رسول الله ] لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله ، واشتغل على عليه السلام بغسله ودفنه ، وبويع أبو بكر ، خلا الزبير وأبو سفيان وجماعة من المهاجرين بعباس وعلى عليه(1/218)
السلام ، لاجالة الرأى ، وتكلموا بكلام يقتضى الاستنهاض والتهييج ، فقال العباس رضى الله عنه : قد سمعنا قولكم فلا لقلة نستعين بكم ، ولا لظنة نترك آراءكم ، فأمهلونا نراجع الفكر ، فإن يكن لنا من الاثم مخرج يصر بنا وبهم الحق صرير الجدجد ، ونبسط إلى المجد أكفا لا نقبضها أو نبلغ المدى ، وإن تكن الاخرى ، فلا لقلة في العدد ولا لوهن في الايد ، والله لو لا أن الاسلام قيد الفتك ، لتدكدكت جنادل صخر يسمع اصطكاكها من المحل العلى .
فحل على عليه السلام حبوته ، وقال : الصبر حلم ، والتقوى دين ، والحجة محمد ، والطريق الصراط ، أيها الناس شقوا أمواج الفتن ...
الخطبة ، ثم نهض فدخل إلى منزله وافترق القوم .
* * * وقال البراء بن عازب : لم أزل لبنى هاشم ، محبا فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله خفت أن تتمالا قريش على إخراج هذا الامر عنهم ، فأخذني ما يأخذ الوالهة العجول ، مع ما في نفسي من الحزن لوفاة رسول الله صلى الله عليه وآله ، فكنت أتردد إلى بنى هاشم وهم عند النبي صلى الله عليه وآله في الحجرة ، وأتفقد وجوه قريش ، فأنى كذلك إذ فقدت أبا بكر وعمر ، وإذا قائل يقول : القوم في سقيفة بنى ساعدة ، وإذا قائل آخر يقول : قد بويع أبو بكر ، فلم ألبث وإذا أنا بأبى بكر قد أقبل ومعه عمر وأبو عبيدة وجماعة من أصحاب السقيفة ، وهم محتجزون بالازر الصنعانية لا يمرون بأحد إلا خبطوه ، وقدموه فمدوا يده فمسحوها على يد أبى بكر يبايعه ، شاء ذلك أو أبى ، فأنكرت عقلي ، وخرجت أشتد حتى انتهيت إلى بنى هاشم ، والباب مغلق ، فضربت عليهم الباب ضربا عنيفا ، وقلت : قد بايع الناس لابي بكر بن أبى قحافة ، فقال العباس تربت أيديكم إلى آخر الدهر ، أما إنى قد أمرتكم فعصيتموني .
فمكثت أكابد ما في نفسي ، ورأيت(1/219)
في الليل المقداد وسلمان وأبا ذر وعبادة بن الصامت وأبا الهيثم بن التيهان وحذيفة وعمارا ، وهم يريدون أن يعيدوا الامر شورى بين المهاجرين .
وبلغ ذلك أبا بكر وعمر ، فأرسلا إلى أبى عبيدة وإلى المغيرة بن شعبة فسألاهما عن الرأى ، فقال المغيرة : الرأى أن تلقوا العباس فتجعلوا له ولولده في هذه الامرة نصيبا ، ليقطعوا بذلك ناحية على بن أبى طالب .
فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة والمغيرة ، حتى دخلوا على العباس ، وذلك في الليلة الثانية من وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله ، فحمد أبو بكر الله وأثنى عليه ، وقال : إن الله ابتعث لكم محمدا صلى الله عليه وآله نبيا ، وللمؤمنين وليا ، فمن الله عليهم بكونه بين ظهرانيهم ، حتى اختار له ما عنده ، فخلى على الناس أمورهم ليختاروا لانفسهم متفقين غير مختلفين ، فاختاروني عليهم واليا ، ولامورهم راعيا ، فتوليت ذلك ، وما أخاف بعون الله وتسديده وهنا ولا حيرة ولا جبنا ، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ، وما أنفك يبلغني عن طاعن يقول بخلاف قول عامة المسلمين ، يتخذكم لجأ فتكونون حصنه المنيع ، وخطبه البديع ، فإما دخلتم فيما دخل فيه الناس ، أو صرفتموهم عما مالوا إليه ، فقد جئناك ، ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الامر نصيبا ، ولمن بعدك من عقبك ، إذ كنت عم رسول الله صلى الله عليه وآله ، وإن كان المسلمون قد رأوا مكانك من رسول الله صلى الله عليه وآله ، ومكان أهلك ثم عدلوا بهذا الامر عنكم وعلى رسلكم بنى هاشم ، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله منا ومنكم .
فاعترض كلامه عمر ، وخرج إلى مذهبه في الخشونة والوعيد وإتيان الامر من أصعب جهاته ، فقال : أي والله ، وأخرى إنا لم نأتكم حاجة إليكم ، ولكن كرهنا أن يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون منكم فيتفاقم الخطب بكم وبهم فانظروا لانفسكم ولعامتهم .
ثم سكت .(1/220)
فتكلم العباس ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إن الله ابتعث محمدا نبيا ، كما وصفت ، ووليا للمؤمنين ، فمن الله به على أمته حتى اختار له ما عنده ، فخلى الناس على أمرهم ليختاروا لانفسهم ، مصيبين للحق مائلين عن زيغ الهوى ، فإن كنت برسول الله طلبت فحقنا أخذت ، وإن كنت بالمؤمنين فنحن منهم ، ما تقدمنا في أمركم فرطا ، ولا حللنا وسطا ، ولا نزحنا شحطا ، فإن كان هذا الامر يجب لك بالمؤمنين ، فما وجب ، إذ كنا كارهين وما أبعد قولك إنهم طعنوا من قولك أنهم مالوا إليك ، وأما ما بذلت لنا ، فإن يكن حقك اعطيتناه فأمسكه عليك ، وإن يكن حق المؤمنين فليس لك أن تحكم فيه ، وإن يكن حقنا لم نرض لك ببعضه دون بعض .
وما أقول هذا أروم صرفك عما دخلت فيه ، ولكن للحجة نصيبها من البيان .
وأما قولك : إن رسول الله صلى الله عليه وآله منا ومنكم ، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله من شجرة نحن أغصانها ، وأنتم جيرانها ، وأما قولك : يا عمر ، إنك تخاف الناس علينا ، فهذا الذى قدمتموه أول ذلك ، وبالله المستعان .
* * * لما اجتمع المهاجرون على بيعة أبى بكر ، أقبل أبو سفيان وهو يقول : أما والله إنى لارى عجاجة لا يطفئها إلا الدم ! يا لعبد مناف ، فيم أبو بكر من أمركم ! اين المستضعفان ؟ أين الاذلان ! يعنى عليا والعباس ، ما بال هذا الامر في أقل حى من قريش .
ثم قال لعلى : أبسط يدك أبايعك ، فو الله إن شئت لاملانها على أبى فضيل - يعنى أبا بكر - خيلا ورجلا ، فامتنع عليه على عليه السلام ، فلما يئس منه قام عنه وهو ينشد شعر المتلمس :(1/221)
ولا يقيم على ضيم يراد به إلا الاذلان عير الحى والوتد (1) هذا على الخسف مربوط برمته وذا يشج فلا يرثى له أحد (2) * * * قيل لابي قحافة يوم ولى الامر ابنه : قد ولى ابنك الخلافة ، فقرأ (قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء) (3) ، ثم قال : لم ولوه ؟ قالوا : لسنه قال أنا أسن منه .
نازع أبو سفيان أبا بكر في أمر فأغلظ له أبو بكر ، فقال له أبو قحافة : يا بنى ، أتقول هذا لابي سفيان شيخ البطحاء ! قال : إن الله تعالى رفع بالاسلام بيوتا ، ووضع بيوتا ، فكان مما رفع بيتك يا أبت ، ومما وضع بيت أبى سفيان .
__________
(1) معاهد التنصيص 2 : 306 .
والعير هنا : الحمار .
(2) الخسف : النقيصة .
والرمة : القطعة من الحبل .
(3) سورة آل عمران 26 (*)(1/222)
(6) الاصل : ومن كلام له لما أشير عليه بألا يتبع طلحة والزبير ولا يرصد لهما القتال : والله لا أكون كالضبع تنام على طول اللدم ، حتى يصل إليها طالبها ، ويختلها راصدها ، ولكني أضرب بالمقبل ألى الحق المدبر عنه ، وبالسامع المطيع العاصى المريب أبدا ، حتى يأتي على يومى .
فو الله ما زلت مدفوعا عن حقى ، مستأثرا على منذ قبض الله نبيه صلى الله عليه حتى يوم الناس هذا .
الشرح : يقال : أرصد له بشر ، أي أعد له وهيأه ، وفي الحديث : " (1) إلا أن أرصده لدين على " .
واللدم : صوت الحجر أو العصا أو غيرهما ، تضرب به الارض ضربا ليس بشديد .
ولما شرح الراوندي هذه اللفظات ، قال : وفي الحديث : " والله لا أكون مثل الضبع تسمع اللدم حتى تخرج فتصاد " ، وقد كان - سامحه الله - وقت تصنيفه الشرح ينظر في " صحاح الجوهرى " (2) وينقل منها ، فنقل هذا الحديث ظنا منه أنه حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، وليس كما ظن ، بل الحديث الذى أشار إليه الجوهرى هو حديث على عليه السلام الذى نحن بصدد تفسيره .
ويختلها راصدها : يخدعها مترقبها ، اختلت فلانا ، خدعته .
ورصدته : ترقبته .
ومستأثرا على أي مستبدا دوني بالامر ، والاسم الاثرة ، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وآله ، (1) نقله ابن الاثير في النهاية (2 : 82) عن أبى ذر : قال له عليه الصلاة والسلام : " ما أحب عندي مثل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل الله ، وتمسى ثالثة وعندي منه دينارا ، إلا دينارا أرصده لدين " (2) صحاح الجوهرى 5 : 2029 (*)(1/223)
قال للانصار : " ستلقون بعدى أثرة ، فإذا كان ذلك ، فاصبروا حتى تردوا على الحوض " (1) .
والعرب تقول في رموزها وأمثالها : أحمق من الضبع (2) ، ويزعمون أن الصائد يدخل عليها وجارها ، فيقول لها أطرقي أم طريق ، خامرى أم عامر ، ويكرر ذلك عليها مرارا .
معنى أطرقي أم طريق ، طأطئى رأسك ، وكناها أم طريق لكثرة إطراقها على " فعيل " كالقبيط للناطف ، والعليق لنبت .
ومعنى خامرى : الزمى وجارك واستتري فيه ، خامر الرجل منزله إذا لزمه ، قالوا : فتلجأ إلى أقصى مغارها وتتقبض ، فيقول : أم عامر ليست في وجارها ، أم عامر نائمة ، فتمد يديها ورجليها ، وتستلقى فيدخل عليها فيوثقها ، وهو يقول لها أبشرى أم عامر بكم (3) الرجال ، أبشرى أم عامر بشاء هزلى ، وجراد عظلى (4) ، أي يركب بعضه بعضا ، فتشد عراقيبها فلا تتحرك ، ولو شاءت أن تقتله لامكنها ، قال الكميت : فعل المقرة للمقالة خامرى يا أم عامر (5) وقال الشنفرى : لا تقبروني إن قبري محرم عليكم ولكن خامرى أم عامر (6) إذا ما مضى رأسي وفي الرأس أكثرى وغودر عند الملتقى ثم سائرى (7) هنا لك لا أرجو حياة تسرني سجيس الليالى مبسلا بالجرائر (8)
__________
(1) ذكره ابن الاثير في النهاية (1 : 15) ، وقال : " الاثرة " ، بفتح الهمزة والثاء الاسم من آثر يؤثر إيثار ، إذا أعطى ، أراد أنه يستأثر عليكم فيفضل غيركم في نصيبه في الفئ " .
(2) المثل في جمهرة الامثال 1 : 276 (3) كم : جمع كمة ، وهى قلفة الذكر ، وفى جمهرة الامثال : " كمر " ، جمع كمرة ، وهى رأس الذكر .
(4) في اللسان : " تعاظلت الجراد ، إذا تسافدت " وأورد المثل .
(5) من أبيات في معاني ابن قتيبة 1 : 214 (6) ديوانه 36 (من مجموعة الطائف الادبية) ، وفيه : " أبشرى أم عامر " (7) ديوانه : * إذا احتملوا رأسي وفى الرأس أكثرى * (8) سجيس الليالى ، أي أبدا ، ومبسلا ، أي مسلما ، كذا فسره صاحب اللسان في (7 : 408) ، (3 : 57) ، واستشهد بالبيت .
(*)(1/224)
أوصاهم ألا يدفنوه إذا قتل ، وقال : اجعلوني أكلا للسباع ، كالشئ الذى يرغب به الضبع في الخروج ، وتقدير الكلام : لا تقبروني ولكن اجعلوني كالتى يقال لها : خامرى أم عامر ، وهى الضبع ، فإنها لا تقبر .
ويمكن أن يقال أيضا : أراد لا تقبروني واجعلوني فريسة للتى يقال لها : خامرى أم عامر ، لانها تأكل الجيف وأشلاء القتلى والموتى .
وقال أبو عبيدة : يأتي الصائد فيضرب بعقبه الارض عند باب مغارها ضربا خفيفا ، وذلك هو اللدم ، ويقول : خامرى أم عامر ، مرارا بصوت ليس بشديد ، فتنام على ذلك ، فيدخل إليها ، فيجعل الحبل في عرقوبها ويجرها فيخرجها .
يقول : لا أقعد عن الحرب والانتصار لنفسي وسلطاني ، فيكون حالى مع القوم المشار إليهم حال الضبع مع صائدها ، فأكون قد أسلمت نفسي ، فعل العاجز الاحمق ، ولكني أحارب من عصاني بمن أطاعنى حتى أموت ، ثم عقب ذلك بقوله : إن الاستئثار على ، والتغلب أمر لم يتجدد الآن ، ولكنه كان منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله .
[ طلحة والزبير ونسبهما ] وطلحة هو أبو محمد طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة .
أبوه ابن عم أبى بكر ، وأمه الصعبة بنت الحضرمي ، وكانت قبل أن تكون عند عبيد الله تحت أبى سفيان صخر بن حرب ، فطلقها ثم تبعتها نفسه ، فقال فيها شعرا أوله : إنى وصعبة فيما أرى بعيدان والود ود قريب في أبيات مشهورة .
وطلحة أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ، وأحد أصحاب الشورى ، وكان له في الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وآله يوم أحد أثر عظيم ، وشلت بعض(1/225)
أصابعه يومئذ وقى رسول الله صلى الله عليه وآله بيده من سيوف المشركين ، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله يومئذ : " اليوم أوجب طلحة الجنة " (1) .
* * * والزبير هو أبو عبد الله الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصى ، أمه صفية بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، عمة رسول الله صلى الله عليه وآله ، وهو أحد العشرة أيضا ، وأحد الستة ، وممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وآله يوم أحد وأبلى بلاء حسنا ، وقال النبي صلى الله عليه وآله : " لكل نبى حوارى وحواري الزبير " .
والحوارى : الخالصة ، تقول : فلان خالصة فلان ، وخلصانه وحواريه ، أي شديد الاختصاص به والاستخلاص له .
[ خروج طارق بن شهاب لاستقبال على بن أبى طالب ] خرج طارق بن شهاب الاحمسي يستقبل عليا عليه السلام وقد صار بالربذة طالبا عائشة وأصحابها ، وكان طارق من صحابة على عليه السلام وشيعته ، قال : فسألت عنه قبل أن القاه : ما أقدمه ؟ فقيل : خالفه طلحة والزبير وعائشة فأتوا البصرة ، فقلت في نفسي : إنها الحرب ! أ فأقاتل أم المؤمنين ! وحواري رسول الله صلى الله عليه وآله ! إن هذا لعظيم ، ثم قلت : أ أدع عليا ، وهو أول المؤمنين إيمانا بالله ، وابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله ووصيه ! هذا أعظم ! ثم أتيته فسلمت عليه ، ثم جلست إليه ، فقص على قصة القوم وقصته ، ثم صلى بنا الظهر ، فلما انفتل جاءه الحسن ابنه عليهما السلام ، فبكى بين يديه ، قال : ما بالك ؟ قال أبكى لقتلك غدا بمضيعة ولا ناصر لك .
أما إنى أمرتك فعصيتني ، ثم أمرتك فعصيتني ! فقال عليه السلام : لا تزال تحن حنين الامة ! ما الذى أمرتنى به فعصيتك ! قال : أمرتك حين أحاط الناس بعثمان أن تعتزل ، فإن الناس إذا قتلوه طلبوك أينما كنت حتى يبايعوك ، فلم تفعل .
ثم أمرتك لما قتل عثمان ألا توافقهم على
__________
(1) أي عمل أوجب له الجنة .
وانظر النهاية لابن الاثير 4 : 194 (*)(1/226)
البيعة حتى يجتمع الناس ويأتيك وفود العرب فلم تفعل .
ثم خالفك هؤلاء القوم ، فأمرتك ألا تخرج من المدينة ، وأن تدعهم وشأنهم ، فإن اجتمعت عليك الامة فذاك ، وإلا رضيت بقضاء الله .
فقال عليه السلام : والله لا أكون كالضبع تنام على اللدم حتى يدخل إليها طالبها فيعلق الحبل برجلها ، ويقول لها دباب دباب ، حتى يقطع عرقوبها .
وذكر تمام الفصل .
فكان طارق بن شهاب يبكى إذا ذكر هذا الحديث .
دباب اسم الضبع ، مبنى على الكسر كبراح اسم الشمس .
* * *(1/227)
(7) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : اتخذوا الشيطان لامرهم ملاكا ، واتخذهم له أشراكا ، فباض وفرخ في صدورهم ، ودب ودرج في حجورهم فنظر بأعينهم ، ونطق بألسنتهم ، فركب بهم الزلل ، وزين لهم الخطل ، فعل من قد شركه الشيطان في سلطانه ، ونطق بالباطل على لسانه .
الشرح : يجوز أن يكون أشراكا ، جمع شريك ، كشريف وأشراف .
ويجوز أن يكون جمع شرك ، كجبل وأجبال ، والمعنى بالاعتبارين مختلف .
وباض وفرخ في صدورهم ، استعارة للوسوسة والاغواء ، ومراده طول مكثه وإقامته عليهم ، لان الطائر لا يبيض ويفرخ إلا في الاعشاش التى هي وطنه ومسكنه .
ودب ودرج في حجورهم ، أي ربوا الباطل كما يربى الوالدان الولد في حجورهما .
ثم ذكر أنه لشدة اتحاده بهم وامتزاجه صار كمن ينظر بأعينهم ، وينطق بألسنتهم ، أي صار الاثنان كالواحد ، قال ابو الطيب : ما الخل إلا من أود بقلبه وأرى بطرف لا يرى بسوائه (1) وقال آخر : كنا من المساعدة نحيا بروح واحده
__________
(1) ديوانه 1 : 4 (*)(1/228)
وقال آخر : جبلت نفسك في نفسي كما تجبل الخمرة بالماء الزلال فإذا مسك شئ مسنى فإذا أنت أنا في كل حال والخطل : القول الفاسد .
ويجوز : أشركه الشيطان في سلطانه ، بالهمزة ، وشركه أيضا ، وبغير الهمزة أفصح * * *(1/229)
(8) الاصل : ومن كلام له عليه السلام يعنى به الزبير في حال اقتضت ذلك : يزعم أنه قد بايع بيده ولم يبايع بقلبه ، فقد أقر بالبيعة ، وادعى الوليجة ، فليأت عليها بأمر يعرف ، وإلا فليدخل فيما خرج منه .
* * * الشرح : الوليجة : البطانة ، والامر يسر ويكتم ، قال الله سبحانه : (ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة) (1) .
كان الزبير يقول : بايعت بيدى لا بقلبي ، وكان يدعى تارة أنه أكره ، ويدعى تارة أنه ورى في البيعة تورية ، ونوى دخيلة ، وأتى بمعاريض لا تحمل على ظاهرها ، فقال عليه السلام هذا الكلام ، إقرار منه بالبيعة وادعاء أمر آخر لم يقم عليه دليلا ، ولم ينصب له برهانا ، فإما أن يقيم دليلا على فساد البيعة الظاهرة ، وأنها غير لازمة له ، وإما أن يعاود طاعته .
قال على عليه السلام للزبير يوم بايعه : إنى لخائف أن تغدر بى وتنكث بيعتى ، قال : لا تخافن ، فإن ذلك لا يكون منى أبدا ، فقال عليه السلام : فلى الله عليك بذلك راع وكفيل ، قال : نعم ، الله لك على بذلك راع وكفيل .
[ أمر طلحة والزبير مع على بن أبى طالب بعد بيعتهما له ] لما بويع على عليه السلام كتب إلى معاوية : أما بعد فإن الناس قتلوا عثمان عن غير
__________
(1) سورة التوبة 16 (*)(1/230)
مشورة منى وبايعوني عن مشورة منهم واجتماع ، فإذا أتاك كتابي فبايع لى ، وأوفد إلى أشراف أهل الشام قبلك .
فلما قدم رسوله على معاوية ، وقرأ كتابه ، بعث رجلا من بنى عميس ، وكتب معه كتابا إلى الزبير بن العوام ، وفيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، لعبد الله الزبير أمير المؤمنين من معاوية بن أبى سفيان : سلام عليك ، أما بعد ، فإنى قد بايعت لك أهل الشام ، فأجابوا واستوسقوا (1) ، كما يستوسق الجلب ، فدونك الكوفة والبصرة ، لا يسبقك إليها ابن أبى طالب ، فإنه لا شئ بعد هذين المصرين ، وقد بايعت لطلحة بن عبيد الله من بعدك ، فأظهرا الطلب بدم عثمان ، وادعوا الناس إلى ذلك ، وليكن منكما الجد والتشمير ، أظفركما الله ، وخذل مناوئكما ! فلما وصل هذا الكتاب إلى الزبير سر به ، وأعلم به طلحة وأقرأه إياه ، فلم يشكا في النصح لهما من قبل معاوية ، وأجمعا عند ذلك على خلاف على عليه السلام .
* * * جاء الزبير وطلحة إلى على عليه السلام بعد البيعة بأيام ، فقالا له : يا أمير المؤمنين ، قد رأيت ما كنا فيه من الجفوة في ولاية عثمان كلها ، وعلمت رأى عثمان كان في بنى أمية ، وقد ولاك الله الخلافة من بعده ، فولنا بعض أعمالك ، فقال لهما : ارضيا بقسم الله لكما ، حتى أرى رأيى ، واعلما أنى لا أشرك في أمانتى إلا من أرضى بدينه وأمانته من أصحابي ، ومن قد عرفت دخيلته ، فانصرفا عنه وقد دخلهما اليأس ، فاستأذناه في العمرة .
* * *
__________
(1) استوسقوا : استجمعوا وانضموا .
وفى نهاية ابن الاثير : " ومنه حديث أحد : استوسقوا كما يستوسق جرب الغنم ، أي استجمعوا " .
(*)(1/231)
طلب طلحة والزبير من على عليه السلام أن يوليهما المصرين : البصرة والكوفة ، فقال : حتى أنظر .
ثم استشار المغيرة بن شعبة ، فقال له : أرى أن توليهما إلى أن يستقيم لك أمر الناس .
فخلا بابن عباس ، وقال : ما ترى ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، إن الكوفة والبصرة عين الخلافة ، وبهما كنوز الرجال ، ومكان طلحة والزبير من الاسلام ما قد علمت ، ولست آمنهما إن وليتهما أن يحدثا أمرا .
فأخذ على عليه السلام برأى ابن عباس .
وقد كان استشار المغيرة أيضا في أمر معاوية ، فقال له : أرى إقراره على الشام ، وأن تبعث إليه بعهده إلى أن يسكن شغب الناس ، ولك بعد رأيك .
فلم يأخذ برأيه .
فقال المغيرة بعد ذلك : والله ما نصحته قبلها ، ولا أنصحه بعدها ، ما بقيت .
* * * دخل الزبير وطلحة على على عليه السلام ، فاستأذناه في العمرة ، فقال : ما العمرة تريدان ، فحلفا له بالله أنهما ما يريدان غير العمرة ، فقال لهما : ما العمرة تريدان ، وإنما تريدان الغدرة ونكث البيعة ، فحلفا بالله ما الخلاف عليه ولا نكث بيعة يريدان ، وما رأيهما غير العمرة .
قال لهما : فأعيدا البيعة لى ثانية ، فأعاداها بأشد ما يكون من الايمان والمواثيق ، فأذن لهما ، فلما خرجا من عنده ، قال لمن كان حاضرا : والله لا ترونهما إلا في فتنة يقتتلان فيها .
قالوا : يا أمير المؤمنين ، فمر بردهما عليك ، قال : ليقضى الله أمرا كان مفعولا .
* * * لما خرج الزبير وطلحة من المدينة إلى مكة لم يلقيا أحدا إلا وقالا له : ليس لعلى في أعناقنا بيعة ، وإنما بايعناه مكرهين .
فبلغ عليا عليه السلام قولهما ، فقال : ابعدهما الله وأغرب (1) دارهما ، أما والله لقد علمت أنهما سيقتلان أنفسهما أخبث مقتل ، ويأتيان من
__________
(1) يقال : أغرب دار : أبعدها .
(*)(1/232)
وردا عليه بأشأم يوم ، والله ما العمرة يريدان ، ولقد أتياني بوجهي فاجرين ، ورجعا بوجهي غادرين ناكثين ، والله لا يلقيانني بعد اليوم إلا في كتيبة خشناء ، يقتلان فيها أنفسهما ، فبعدا لهما وسحقا .
* * * وذكر أبو مخنف في " كتاب الجمل " : أن عليا عليه السلام خطب لما سار الزبير وطلحة من مكة ، ومعهما عائشة يريدون البصرة ، فقال : أيها الناس ، إن عائشة سارت إلى البصرة ، ومعها طلحة والزبير ، وكل منهما يرى الامر له دون صاحبه ، أما طلحة فابن عمها ، وأما الزبير فختنها ، والله لو ظفروا بما أرادوا - ولن ينالوا ذلك ابدا - ليضربن أحدهما عنق صاحبه بعد تنازع منهما شديد .
والله إن راكبة الجمل الاحمر ما تقطع عقبة ولا تحل عقدة إلا في معصية الله وسخطه ، حتى تورد نفسها ومن معها موارد الهلكة ، أي والله ليقتلن ثلثهم ، وليهربن ثلثهم : وليتوبن ثلثهم ، وإنها التى تنبحها كلاب الحوءب ، وإنهما ليعلمان أنهما مخطئان .
ورب عالم قتله جهله ، ومعه علمه لا ينفعه ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ! فقد قامت الفتنة فيها الفئة الباغية ، أين المحتسبون ؟ أين المؤمنون ؟ ما لى ولقريش ! أما والله لقد قتلتهم كافرين ، ولاقتلنهم مفتونين ! وما لنا إلى عائشة من ذنب إلا أنا أدخلناها في حيزنا ، والله لابقرن الباطل ، حتى يظهر الحق من خاصرته ، فقل لقريش فلتضج ضجيجها .
ثم نزل .
* * * برز على عليه السلام يوم الجمل ، ونادى بالزبير : يا أبا عبد الله ، مرارا ، فخرج الزبير ، فتقاربا حتى اختلفت أعناق خيلهما ، فقال له على عليه السلام : إنما دعوتك لاذكرك حديثا قاله لى ولك رسول صلى الله عليه ، أتذكر يوم رآك وأنت معتنقي ، فقال لك :(1/233)
" أ تحبه " ؟ قلت : وما لى لا أحبه وهو أخى وابن خالي ! فقال : " أما إنك ستحاربه وأنت ظالم له " ، فاسترجع الزبير ، وقال : أذكرتني ما أنسانيه الدهر ، ورجع إلى صفوفه .
فقال له عبد الله ابنه : لقد رجعت إلينا بغير الوجه الذى فارقتنا به ! فقال : أذكرني على حديثا أنسانيه الدهر ، فلا أحاربه أبدا ، وإنى لراجع وتارككم منذ اليوم .
فقال له عبد الله : ما أراك إلا جبنت عن سيوف بنى عبد المطلب ، إنها لسيوف حداد ، تحملها فتية أنجاد ، فقال الزبير : ويلك ! أتهيجني على حربه ، أما إنى قد حلفت ألا أحاربه ، قال : كفر عن يمينك ، لا تتحدث نساء قريش أنك جبنت ، وما كنت جبانا ، فقال الزبير : غلامي مكحول حر كفارة عن يمينى ، ثم أنصل (1) سنان رمحه ، وحمل على عسكر على عليه السلام برمح لا سنان له ، فقال على عليه السلام : أفرجوا له ، فإنه مخرج ، ثم عاد إلى أصحابه ، ثم حمل ثانية ، ثم ثالثة ، ثم قال لابنه : أجبنا ويلك ترى ! فقال : لقد أعذرت .
* * * لما أذكر على عليه السلام الزبير بما أذكره به ورجع الزبير ، قال : نادى على بأمر لست أنكره وكان عمر أبيك الخير مذ حين فقلت حسبك من عذل أبا حسن بعض الذى قلت منذ اليوم يكفيني ترك الامور التى تخشى مغبتها والله أمثل في الدنيا وفي الدين فاخترت عارا على نار مؤججة أنى يقوم لها خلق من الطين ! * * * لما خرج على عليه السلام لطلب الزبير ، خرج حاسرا ، وخرج إليه الزبير دارعا مدججا ، فقال للزبير : يا أبا عبد الله ، قد لعمري أعددت سلاحا ، وحبذا فهل أعددت عند الله عذرا ؟ فقال الزبير : إن مردنا إلى الله ، قال على عليه السلام : (يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين) (2) ، ثم أذكره الخبر ، فلما كر
__________
(1) أنصل سنان رمحه ، أي نزعه .
(2) سورة النور 25 (*)(1/234)
الزبير راجعا إلى أصحابه نادما واجما ، رجع على عليه السلام إلى أصحابه جذلا مسرورا ، فقال له أصحابه : يا أمير المؤمنين ، تبرز إلى الزبير حاسرا ، وهو شاك في السلاح ، وأنت تعرف شجاعته ! قال : إنه ليس بقاتلي ، إنما يقتلنى رجل خامل الذكر ، ضئيل النسب ، غيلة في غير مأقط (1) حرب ، ولا معركة رجال ، ويلمه أشقى البشر ! ليودن أن أمه هبلت به ! أما إنه وأحمر ثمود لمقرونان في قرن ! * * * لما انصرف الزبير عن حرب على عليه السلام ، مر بوادي السباع ، والاحنف ابن قيس هناك في جمع من بنى تميم قد اعتزل الفريقين ، فأخبر الاحنف بمرور الزبير ، فقال رافعا صوته : ما أصنع بالزبير ! لف غارين (2) من المسلمين ، حتى أخذت السيوف منهما مأخذها ، انسل وتركهم .
أما إنه لخليق بالقتل ، قتله الله ! فاتبعه عمرو بن جرموز - وكان فاتكا - فلما قرب منه وقف الزبير ، وقال : ما شأنك ؟ قال : جئت لاسالك عن أمر الناس ، قال الزبير : إنى تركتهم قياما في الركب ، يضرب بعضهم وجه بعض بالسيف .
فسار ابن جرموز معه ، وكل واحد منهما يتقى الآخر .
فلما حضرت الصلاة ، قال الزبير : يا هذا ، إنا نريد أن نصلى .
فقال ابن جرموز : وأنا أريد ذلك ، فقال الزبير : فتؤمني وأؤمنك ؟ قال : نعم ، فثنى الزبير رجله ، وأخذ وضوءه .
فلما قام إلى الصلاة شد ابن جرموز عليه فقتله ، وأخذ رأسه وخاتمه وسيفه ، وحثا عليه ترابا يسيرا ، ورجع إلى الاحنف ، فأخبره ، فقال : والله ما أدرى أسأت أم أحسنت ؟ اذهب إلى على عليه السلام فأخبره ، فجاء إلى على عليه السلام ، فقال للآذن : قل له : عمرو بن جرموز بالباب ومعه رأس الزبير وسيفه ، فأدخله .
وفي كثير من الروايات أنه لم يأت بالرأس بل بالسيف ، فقال له : أنت قتلته ؟ ! قال : نعم ، قال : والله ما كان ابن صفية جبانا ولا لئيما ، ولكن الحين ومصارع السوء ،
__________
(1) المأقط : ساحة القتال .
(2) الغار هنا : الجيش ، وفى اللسان 6 : 34 : " جمع غارين " .
(*)(1/235)
ثم قال : ناولنى سيفه ، فناوله فهزه ، وقال : سيف طالما به الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله .
فقال ابن جرموز : الجائزة يا أمير المؤمنين ، فقال : أما إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : " بشر قاتل ابن صفية بالنار " ، فخرج ابن جرموز خائبا ، وقال : أتيت عليا برأس الزبير أبغى به عنده الزلفه (1) فبشر بالنار يوم الحساب فبئست بشارة ذى التحفه فقلت له إن قتل الزبير لو لا رضاك من الكلفه فإن ترض ذاك فمنك الرضا وإلا فدونك لى حلفه ورب المحلين والمحرمين ورب الجماعة والالفه لسيان عندي قتل الزبير وضرطة عنز بذى الجحفه ثم خرج ابن جرموز على على عليه السلام ، مع أهل النهر ، فقتله معهم فيمن قتل .
__________
(1) المسعودي 1 : 373 (*)(1/236)
(9) الاصل : ومن كلام له عليه السلام : وقد أرعدوا وأبرقوا ، ومع هذين الامرين الفشل ، ولسنا نرعد حتى نوقع ، ولا نسيل نمطر .
* * * الشرح : أرعد الرجل وأبرق ، إذا أوعد وتهدد ، وكان الاصمى ينكره ، ويزعم أنه لا يقال : إلا رعد وبرق ، ولما احتج عليه ببيت الكميت : أرعد وأبرق يا يزيد فما وعيدك لى بضائر قال : الكميت قروى لا يحتج بقوله (1) .
وكلام أمير المؤمنين عليه السلام حجة دالة على بطلان قول الاصمعي .
والفشل : الجبن والخور .
وقوله : " ولا نسيل حتى نمطر " كلمة فصيحة ، يقول : إن أصحاب الجمل في وعيدهم وإجلابهم بمنزلة من يدعى أنه يحدث السيل قبل إحداث المطر ، وهذا محال ، لان السيل إنما يكون من المطر ، فكيف يسبق المطر ! وأما نحن فإنا لا ندعى ذلك ، وإنما نجرى الامور على حقائقها ، فإن كان منا مطر كان منا سيل ، وإذا أوقعنا بخصمنا أوعدنا حينئذ بالايقاع به غيره من خصومنا .
__________
(1) الخبر والبيت في أمالى القالى 1 : 96 (*)(1/237)
وقوله عليه السلام : " ومع هذين الامرين الفشل " معنى حسن ، لان الغالب من الجبناء كثرة الضوضاء والجلبة يوم الحرب ، كما أن الغالب من الشجعان الصمت والسكون .
وسمع أبو طاهر (1) الجنابي ضوضاء عسكر المقتدر بالله ودبادبهم (2) وبوقاتهم ، وهو في ألف وخمسمائة ، وعسكر المقتدر في عشرين ألفا ، مقدمهم يوسف بن أبى الساج ، فقال لبعض أصحابه : ما هذا الزجل (3) ؟ قال : فشل ، قال : أجل .
ويقال : إنه ما رئى جيش كجيش أبى طاهر ، ما كان يسمع لهم صوت ، حتى إن الخيل لم تكن لها حمحمة ، فرشق عسكر ابن أبى الساج (4) القرامطة بالسهام المسمومة ، فجرح منهم أكثر من خمسمائة إنسان .
وكان أبو طاهر في عمارية له ، فنزل وركب فرسا ، وحمل بنفسه ومعه أصحابه حملة عظيمة على عسكر ابن أبى الساج ، فكسروه وفلوه وخلصوا إلى يوسف فأسروه ، وتقطع عسكره بعد أن أتى بالقتل على كثير منهم ، وكان ذلك في سنة خمس عشرة وثلثمائة .
ومن أمثالهم : الصدق ينبئ عنك لا الوعيد .
__________
(1) هو أبو طاهر سليمان بن أبى سعيد الحسن بن بهرام الجنابي ، كان أبوه الحسن كبير القرامطة ، وقتل سنة 301 ، قتله خام له صقلبى ، فتولى ابنه أبو طاهر أمر القرامطة بعده ، بعد أن عجز أخوه سعيد عن الامر .
ابن الاثير 6 : 147 (2) في اللسان : " الدبادب : صوت كأنه دب ، دب ، وهى حكاية الصوت " .
(3) الزجل : الجلبة ورفع الصوت 6 : (4) هو يوسف بن أبى الساج ، أحد ولاة الرى في عهد المقتدر ، وكان استقل عن الخليفة ، ثم عاد إلى طاعته .
وانظر طرفا من أخباره في ابن الاثير في 6 : 175 ، وما بعدها .
(*)(1/238)
(10) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : ألا وإن الشيطان قد جمع حزبه ، واستجلب خيله ورجله ، وإن معى لبصيرتي ، ما لبست على نفسي ، ولا لبس على .
وايم الله لافرطن لهم حوضا أنا ماتحه ، لا يصدرون عنه ، ولا يعودون إليه .
* * * الشرح : يمكن أن يعنى بالشيطان الشيطان الحقيقي ، ويمكن أن يعنى به معاوية ، فإن عنى معاوية ، فقوله : " قد جمع حزبه ، واستجلب خيله ورجله " كلام جار على حقائقه ، وإن عنى به الشيطان ، كان ذلك من باب الاستعارة ، ومأخوذا من قوله تعالى : (واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك) (1) ، والرجل : جمع راجل ، كالشرب ، جمع شارب ، والركب : جمع راكب .
قوله : " وإن معى لبصيرتي " ، يريد أن البصيرة التى كانت معى في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله تتغير .
وقوله : " ما لبست " تقسيم جيد ، لان كل ضال عن الهداية ، فإما أن يضل من تلقاء نفسه ، أو بإضلال غيره له .
وقوله : " لافرطن " من رواها بفتح الهمزة ، فأصله " فرط " ثلاثى يقال : فرط
__________
(1) سورة الاسراء 64 (*)(1/239)
زيد القوم أي سبقهم ، ورجل فرط : يسبق القوم إلى البئر ، فيهيئ لهم الارشية والدلاء ، ومنه قوله عليه السلام : " أنا فرطكم على الحوض " ، ويكون تقدير الكلام : وايم الله لافرطن لهم إلى حوض ، فلما حذف الجار عدى الفعل بنفسه ، فنصب ، كقوله تعالى : (واختار موسى قومه) (1) ، وتكون اللام في " لهم " إما لام التعدية ، كقوله : " ويؤمن للمؤمنين " أي ويؤمن المؤمنين ، أو تكون لام التعليل ، أي لاجلهم .
ومن رواها " لافرطن " بضم الهمزة ، فهو من أفرط المزادة ، أي ملاها .
والماتح : المستقى ، متح يمتح ، بالفتح ، والمايح ، بالياء : الذى ينزل إلى البئر فيملا الدلو .
وقيل لابي على رحمه الله : ما الفرق بين الماتح والمايح ؟ فقال : هما كإعجامهما ، يعنى أن التاء بنقطتين من فوق ، وكذلك الماتح لانه المستقى ، فهو فوق البئر ، والياء بنقطتين من تحت ، وكذلك المايح لانه تحت في الماء الذى في البئر يملاء الدلاء .
ومعنى قوله : " أنا ماتحه " أنا خبير به ، كما يقل من يدعى معرفة الدار : أنا بانى هذه الدار ، والكلام استعارة ، يقول لاملان لهم حياض الحرب التى هي دربتى وعادتي ، أو لاسبقنهم إلى حياض حرب أنا متدرب لها ، مجرب لها ، إذا وردوها لا يصدرون عنها يعنى قتلهم وإزهاق أنفسهم ومن فر منهم لا يعود إليها ، ومن هذا اللفظ قول الشاعر : مخضت بدلوه حتى تحسى ذنوب الشر ملاى أو قرابا (2) * * *
__________
(1) سورة الاعراف 155 (2) البيت في شرح الحماسة للمرزوقي 533 من غير نسبة .
(*)(1/240)
(11) الاصل : ومن كلام له عليه السلام لابنه محمد بن الحنفية لما أعطاه الراية يوم الجمل : تزول الجبال ولا تزل ، عض على ناجذك ، أعر الله جمجمتك ، تد في الارض قدمك ، ارم ببصرك أقصى القوم ، وغض بصرك ، واعلم أن النصر من عند الله سبحانه .
الشرح : قوله : " تزول الجبال ولا تزل " ، خبر فيه معنى الشرط ، تقديره : إن زالت الجبال فلا تزل أنت ، والمراد المبالغة .
في أخبار صفين أن بنى عكل - وكانوا مع أهل الشام - حملوا في يوم من أيام صفين ، خرجوا وعقلوا أنفسهم بعمائمهم ، وتحالفوا أنا لا نفر حتى يفر هذا " الحكر " ، بالكاف ، قالوا : لان عكلا تبدل الجيم كافا .
والناجذ : أقصى الاضراس .
وتد أمر من وتد قدمه في الارض ، أي أثبتها فيها كالوتد .
ولا تناقض بين قوله : " ارم ببصرك " وقوله : " غض بصرك " ، وذلك لانه في الاولى أمره أن يفتح عينه ويرفع طرفه ، ويحدق إلى أقاصى القوم ببصره ، فعل الشجاع المقدام غير المكترث ولا المبالى ، لان الجبان تضعف نفسه ويخفق قلبه فيقصر ، بصره ولا يرتفع طرفه ، ولا يمتد عنقه ، ويكون ناكس الرأس ، غضيض الطرف .
وفي الثانية أمره أن يغض بصره عن بريق سيوفهم ولمعان دروعهم ، لئلا يبرق بصره ، ويدهش ويستشعر خوفا .
وتقرير الكلام و " احمل " وحذف ذلك للعلم به ، فكأنه قال : إذا عزمت على الحملة(1/241)
وصممت ، فغض حينئذ بصرك واحمل ، وكن كالعشواء التى تخبط ما أمامها ولا تبالي .
وقوله : " عض على ناجذك " ، قالوا : إن العاض على نواجذه ينبو السيف عن دماغه ، لان عظام الرأس تشتد وتصلب ، وقد جاء في كلامه عليه السلام هذا مشروحا في موضع آخر ، وهو قوله : " وعضوا على النواجذ ، فإنه أنبى للصوارم عن الهام " .
ويحتمل أن يريد به شدة الحنق .
قالوا : فلان يحرق على الارم ، يريدون شدة الغيظ ، والحرق : صريف الاسنان وصوتها ، والارم : الاضراس .
وقوله : " أعر الله جمجمتك " ، معناه ابذلها في طاعة الله ، ويمكن أن يقال : إن ذلك إشعار له أنه لا يقتل في تلك الحرب ، لان العارية مردودة ، ولو قال له : بع الله جمجمتك ، لكان ذلك إشعارا له بالشهادة فيها .
وأخذ يزيد بن المهلب هذه اللفظة فخطب أصحابه بواسط ، فقال : إنى قد أسمع قول الرعاع : جاء مسلمة ، وجاء العباس (1) ، وجاء أهل الشام ، ومن أهل الشام ! والله ما هم إلا تسعة أسياف ، سبعة منها معى ، واثنان على ، وأما مسلمة فجرادة صفراء ، وأما العباس فنسطوس ابن نسطوس ، أتاكم في برابرة وصقالبة وجرامقة وأقباط وأخلاط ، إنما أقبل إليكم الفلاحون وأوباش كأشلاء اللحم .
والله ما لقوا قط كحديدكم وعديدكم ، أعيروني سواعدكم ساعة تصفقون بها خراطيمهم ، فإنما هي غدوة أو روحة ، حتى يحكم الله بيننا وبين القوم الظالمين .
من صفات الشجاع قولهم : فلان مغامر ، وفلان غشمشم ، أي لا يبصر ما بين يديه في الحرب ، وذلك لشدة تقحمه وركوبه المهلكة ، وقلة نظره في العاقبة ، وهذا هو معنى قوله عليه السلام لمحمد : " غض بصرك " .
__________
(1) هما مسلمة بن عبد الملك والعباس بن الوليد بن عبد الملك جهزهما يزيد بن بن عبد الملك لقتال يزيد بن المهلب .
انظر ابن خلكان ، ترجمة يزيد بن عبد الملك .
(*)(1/242)
[ ذكر خبر مقتل حمزة بن عبد المطلب ] وكان حمزة بن عبد المطلب مغامرا غشمشما لا يبصر أمامه ، قال جبير بن مطعم ابن عدى بن نوفل بن عبد مناف لعبده وحشى يوم أحد : ويلك ! إن عليا قتل عمى طعيمة سيد البطحاء يوم بدر ، فإن قتلته اليوم فأنت حر ، وإن قتلت محمدا فأنت حر ، وإن قتلت حمزة فأنت حر ، فلا أحد يعدل عمى إلا هؤلاء .
فقال : أما محمد فإن أصحابه دونه ، ولن يسلموه ، ولا أرانى أصل إليه ، وأما على فرجل حذر مرس ، (1) كثير الالتفات في الحرب لا أستطيع قتله ، ولكن سأقتل لك حمزة ، فإنه رجل لا يبصر أمامه في الحرب ، فوقف لحمزة حتى إذا حاذاه زرقه بالحربة كما تزرق (2) الحبشة بحرابها ، فقتله .
[ محمد بن الحنفية ونسبه وبعض أخباره ] دفع أمير المؤمنين عليه السلام يوم الجمل رايته إلى محمد ابنه عليه السلام ، وقد استوت الصفوف ، وقال له : احمل ، فتوقف قليلا ، فقال له : احمل ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أ ما ترى السهام كأنها شآبيب المطر ! فدفع في صدر ، فقال : أدركك عرق من أمك ، ثم أخذ الراية فهزها ، ثم قال : اطعن بها طعن أبيك تحمد لا خير في الحرب إذا لم توقد * بالمشرفى والقنا المسدد * ثم حمل وحمل الناس خلفه ، فطحن عسكر البصرة .
* * *
__________
(1) رجل مرس : شديد العلاج للامور .
(2) زرقه : طعنه .
(*)(1/243)
قيل لمحمد لم يغرر بك أبوك في الحرب ولا يغرر بالحسن والحسين عليهما السلام ؟ فقال : إنهما عيناه وأنا يمينه ، فهو يدفع عن عينيه بيمينه .
* * * كان على عليه السلام يقذف بمحمد في مهالك الحرب ، ويكف حسنا وحسينا عنها .
ومن كلامه في يوم صفين : أملكوا عنى هذين الفتيين ، أخاف أن ينقطع بهما نسل رسول الله صلى الله عليه وآله .
أم محمد رضى الله عنه ، خولة بنت جعفر بن قيس بن مسلمة بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع ابن ثعلبة ابن الدؤل بن حنيفة بن لجيم بن صعب بن على بن بكر بن وائل .
واختلف في أمرها ، فقال قوم : إنها سبية من سبايا الردة ، قوتل أهلها على يد خالد ابن الوليد في أيام أبى بكر ، لما منع كثير من العرب الزكاة ، وارتدت بنو حنيفة ، وادعت نبوة مسيلمة ، وإن أبا بكر دفعها إلى على عليه السلام من سهمه في المغنم .
وقال قوم ، منهم أبو الحسن على بن محمد بن سيف المدائني : هي سبية في أيام رسول الله صلى الله عليه وآله ، قالوا : بعث رسول الله صلى الله عليه وآله عليا إلى اليمن ، فأصاب خولة في بنى زبيد ، وقد ارتدوا مع عمرو بن معدى كرب ، وكانت زبيد سبتها من بنى حنيفة في غارة لهم عليهم ، فصارت في سهم على عليه السلام ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : إن ولدت منك غلاما فسمه باسمى ، وكنه بكنيتي ، فولدت له بعد موت فاطمة عليها السلام محمدا ، فكناه أبا القاسم .
وقال قوم ، وهم المحققون ، وقولهم الاظهر : إن بنى أسد أغارت على بنى حنيفة في خلافة أبى بكر الصديق ، فسبوا خولة بنت جعفر ، وقدموا بها المدينة فباعوها من على عليه السلام ،(1/244)
وبلغ قومها خبرها ، فقدموا المدينة على على عليه السلام ، فعرفوها وأخبروه بموضعها منهم ، فأعتقها ومهرها وتزوجها ، فولدت له محمدا ، فكناه أبا القاسم .
وهذا القول ، هو اختيار أحمد بن يحيى البلاذرى في كتابه المعروف ب " تاريخ الاشراف " .
* * * لما تقاعس محمد يوم الجمل عن الحملة ، وحمل على عليه السلام بالراية ، فضعضع أركان عسكر الجمل ، دفع إليه الراية ، وقال : امح الاولى بالاخرى ، وهذه الانصار معك .
وضم إليه خزيمة بن ثابت ذا الشهادتين ، في جمع من الانصار ، كثير منهم من أهل بدر ، فحمل حملات كثيرة ، أزال بها القوم عن مواقفهم وأبلى بلاء حسنا .
فقال خزيمة بن ثابت لعلى عليه السلام : أما إنه لو كان غير محمد اليوم لافتضح ، ولئن كنت خفت عليه الجبن وهو بينك وبين حمزة وجعفر لما خفناه عليه ، وإن كنت أردت ان تعلمه الطعان فطالما علمته الرجال .
وقالت الانصار : يا أمير المؤمنين ، لو لا ما جعل الله تعالى للحسن والحسين عليه السلام لما قدمنا على محمد أحدا من العرب .
فقال على عليه السلام : أين النجم من الشمس والقمر ! أما إنه قد أغنى وأبلى ، وله فضله ، ولا ينقص فضل صاحبيه عليه ، وحسب صاحبكم ما انتهت به نعمة الله تعالى إليه ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، إنا والله لا نجعله كالحسن والحسين ، ولا نظلمهما له ، ولا نظلمه - لفضلهما عليه - حقه ، فقال على عليه السلام : أين يقع ابني من ابني بنت رسول الله صلى الله عليه وآله ! فقال خزيمة بن ثابت فيه : محمد ما في عودك اليوم وصمة ولا كنت في الحرب الضروس معردا (1) أبوك الذى لم يركب الخيل مثله على ، وسماك النبي محمدا فلو كان حقا من أبيك خليفة لكنت ، ولكن ذاك ما لا يرى بدا
__________
(1) معرد : منهزم .
(*)(1/245)
وأنت بحمد الله أطول غالب (1) لسانا ، وأنداها بما ملكت يدا وأقربها من كل خير تريده قريش وأوفاها بما قال موعدا وأطعنهم صدر الكمى برمحه وأكساهم للهام عضبا مهندا سوى أخويك السيدين ، كلاهما إمام الورى والداعيان إلى الهدى أبى الله أن يعطى عدوك مقعدا من الارض أو في الاوج مرقى ومصعدا * * *
__________
(1) غالب يقصد به ذرية غالب بن قهر بن مالك .
(*)(1/246)
ومن كلام له عليه السلام ، لما أظفره الله بأصحاب الجمل ، وقد قال له بعض أصحابه : وددت أن أخى فلانا كان شاهدنا ليرى ما نصرك الله به على أعدائك ، فقال على عليه السلام : أ هوى أخيك معنا ؟ فقال : نعم ، قال : فقد شهدنا ، ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام (1) في أصلاب الرجال ، وأرحام النساء ، سيرعف بهم الزمان ، ويقوى بهم الايمان .
* * * الشرح : يرعف بهم الزمان : يوجدهم ويخرجهم ، كما يرعف الانسان بالدم الذى يخرجه من أنفه ، قال الشاعر : وما رعف الزمان بمثل عمرو ولا تلد النساء له ضريبا والمعنى مأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وآله لعثمان - ولم يكن شهد بدرا ، تخلف على رقية ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله لما مرضت مرض موتها : " لقد كنت شاهدا وإن كنت غائبا ، لك أجرك وسهمك " ، [ من أخبار يوم الجمل ] قال الكلبى : قلت لابي صالح : كيف لم يضع على عليه السلام السيف في أهل البصرة يوم الجمل بعد ظفره ، قال : سار فيهم بالصفح والمن الذى سار به رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) مخطوطة النهج : " قوم " .
(*)(1/247)
عليه وآله في أهل مكة يوم الفتح ، فإنه أراد أن يستعرضهم بالسيف ، ثم من عليهم ، وكان يحب أن يهديهم الله .
قال فطر بن خليفة : ما دخلت دار الوليد بالكوفة التى فيها القصارون إلا وذكرت بأصواتهم وقع السيوف يوم الجمل .
حرب بن جيهان الجعفي : لقد رأيت الرماح يوم الجمل قد أشرعها الرجال ، بعضها في صدور بعض ، كأنها آجام القصب ، لو شاءت الرجال أن تمشى عليها لمشت ، ولقد صدقونا القتال حتى ما ظننت أن ينهزموا ، وما رأيت يوما قط أشبه بيوم الجمل من يوم جلولاء الوقيعة (1) .
الاصبغ بن نباتة : لما انهزم أهل البصرة ركب على عليه السلام بغلة رسول الله صلى الله عليه وآله الشهباء ، وكانت باقية عنده ، وسار في القتلى يستعرضهم ، فمر بكعب بن سور القاضى ، قاضى البصرة ، وهو قتيل ، فقال : أجلسوه فأجلس ، فقال له : ويلمك أمك كعب ابن سور ! لقد كان لك علم لو نفعك ! ولكن الشيطان أضلك فأزلك ، فعجلك إلى النار ، أرسلوه .
ثم مر بطلحة بن عبيد الله قتيلا ، فقال : أجلسوه ، فأجلس - قال أبو مخنف في كتابه : فقال ! ويلمك أمك طلحة ! لقد كان لك قدم لو نفعك ! ولكن الشيطان أضلك فأزلك فعجلك إلى النار .
وأما أصحابنا فيروون غير ذلك ، يروون أنه عليه السلام قال له لما أجلسوه : أعزز على أبا محمد أن أراك معفرا تحت نجوم السماء وفي بطن هذا الوادي ! أ بعد جهادك في الله ، وذبك عن رسول الله صلى الله عليه وآله ! فجاء إليه إنسان فقال : أشهد يا أمير المؤمنين ، لقد مررت عليه بعد أن أصابه السهم وهو صريع ، فصاح بى ، فقال : من أصحاب من أنت ؟ فقلت : من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام ، فقال : امدد يدك لابايع
__________
(1) جلولاء : موضع في خراسان ، كانت بها وقعة المسلمين على الفرس سنة 16 ، وسميت الوقيعة لما أوقع بهم المسلمون (ياقوت) .
(*)(1/248)
لامير المؤمنين عليه السلام ، فمددت إليه يدى فبايعني لك .
فقال على عليه السلام : أبى الله ان يدخل طلحة الجنة إلا وبيعتي في عنقه .
ثم مر بعبد الله بن خلف الخزاعى ، وكان عليه السلام قتله بيده مبارزة ، وكان رئيس أهل البصرة ، فقال : أجلسوه ، فأجلس ، فقال : الو يل لك يا بن خلف ! لقد عانيت أمرا عظيما .
وقال شيخنا أبو عثمان الجاحظ : ومر عليه السلام بعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد ، فقال : أجلسوه ، فأجلس ، فقال : هذا يعسوب قريش ، هذا اللباب المحض من بنى عبد مناف ! ثم قال : شفيت نفسي ، وقتلت معشرى ، إلى الله أشكو عجرى وبجرى ! (1) قتلت الصناديد من بنى عبد مناف ، وأفلتني الاعيار (2) من بنى مذحج .
فقال له قائل : لشد ما أطريت هذا الفتى منذ اليوم يا أمير المؤمنين ! قال : إنه قام عنى وعنه نسوة لم يقمن عنك .
* * * قال أبو الأسود الدؤلى ، لما ظهر على عليه السلام يوم الجمل ، دخل بيت المال بالبصرة في ناس من المهاجرين والانصار وأنا معهم ، فلما رأى كثرة ما فيه ، قال : غرى غيرى ، مرارا ، ثم نظر إلى المال ، وصعد فيه بصره وصوب ، وقال : اقسموه بين أصحابي خمسمائة ، فقسم بينهم ، فلا والذى بعث محمدا بالحق ما نقص درهما ولا زاد درهما ، كأنه كان يعرف مبلغه ومقداره ، وكان ستة آلاف ألف درهم ، والناس اثنا عشر ألفا .
__________
(1) عجرى وبجرى ، نقل صاحب اللسان (6 : 216) عن محمد بن يزيد : " معناه همومى وأحزانى ، وقيل : ما أبدى وأخفى ، وكله على المثل " .
وقال : " وأصل العجر العروق المنعقدة في الصدر ، والبجر العروق المنعقدة في البطن خاصة " .
(2) الاعيار هنا : جمع عير ، وعير القوم : سيدهم ، وعليه قول الحارث بن حلزة : زعموا أن كل من ضرب العير موال لنا وأنى الولاء (*)(1/249)
حبه العرنى ، (1) قسم على عليه السلام بيت مال البصرة على أصحابه خمسمائة خمسمائة ، وأخذ خمسمائة درهم كواحد منهم ، فجاءه إنسان لم يحضر الوقعة ، فقال : يا أمير المؤمنين ، كنت شاهدا معك بقلبي ، وإن غاب عنك جسمي ، فاعطني من الفئ شيئا .
فدفع إليه الذى أخذه لنفسه وهو خمسمائة درهم ، ولم يصب من الفئ شيئا .
* * * اتفقت الرواة كلها على أنه عليه السلام قبض ما وجد في عسكر الجمل من سلاح ودابة ومملوك ومتاع وعروض ، فقسمه بين أصحابه ، وأنهم قالوا له : اقسم بيننا أهل البصرة فاجعلهم رقيقا ، فقال : لا ، فقالوا : فكيف تحل لنا دماءهم وتحرم علينا سبيهم ! فقال : كيف يحل لكم ذرية ضعيفة في دار هجرة وإسلام ! أما ما أجلب به القوم في معسكرهم عليكم فهو لكم مغنم ، وأما ما وارت الدور وأغلقت عليه الابواب فهو لاهله ، ولا نصيب لكم في شئ منه ، فلما أكثروا عليه قال : فاقرعوا على عائشة ، لادفعها إلى من تصيبه القرعة ! فقالوا : نستغفر الله يا أمير المؤمنين ! ثم انصرفوا .
__________
(1) حبة ، بفتح أوله ، ثم موحدة ثقيلة ، بن جوين العرنى ، الكوفى .
كان غاليا في التشيع ، قال في التهذيب : مات أول ما قدم الحجاج العراق سنة 76 (*)(1/250)
(13) الاصل : ومن كلام له عليه السلام في ذم أهل البصرة : كنتم جند المرأة ، وأتباع البهيمة ، رغا فأجبتم ، وعقر فهربتم ، أخلاقكم دقاق ، وعهدكم شقاق ، ودينكم نفاق ، وماؤكم زعاق ، والمقيم بين أظهركم مرتهن بذنبه ، والشاخص عنكم متدارك برحمة من ربه ، كأنى بمسجدكم كجؤجؤ سفينة ، قد بعث الله عليها العذاب من فوقها ومن تحتها ، وغرق من في ضمنها .
وفي رواية : وايم الله ، لتغرقن بلدتكم ، حتى كأنى أنظر إلى مسجدها كؤجؤ سفينة ، أو نعامة جاثمة .
وفي رواية : كجؤجؤ طير في لجة بحر .
وفي رواية أخرى : بلادكم أنتن بلاد الله تربة ، أقربها من الماء ، وأبعدها من السماء وبها تسعة أعشار الشر ، المحتبس فيها بذنبه ، والخارج بعفو الله .
كأنى أنظر إلى قريتكم هذه قد طبقها الماء ، حتى ما يرى منها إلا شرف المسجد ، كأنه جؤجؤ طير في لجة بحر .
* * *(1/251)
الشرح : قوله : " وأتباع البهيمة " ، يعنى الجمل ، وكان جمل عائشة راية عسكر البصرة ، قتلوا دونه كما تقتل الرجال تحت راياتها .
وقوله : " أخلاقكم دقاق " ، يصفهم باللؤم ، وفى الحديث أن رجلا قال له : يا رسول الله إنى أحب أن أنكح فلانة ، إلا أن في أخلاق أهلها دقة ، فقال له : " إياك وخضراء الدمن ، إياك والمرأة الحسناء في منبت السوء " .
قوله : " وعهدكم شقاق " يصفهم بالغدر ، يقول : عهدكم وذمتكم لا يوثق بها ، بل هي وإن كانت في الصورة عهدا أو ذمة ، فإنها في المعنى خلاف وعداوة .
قوله : " وماؤكم زعاق " ، أي ملح ، وهذا وإن لم يكن من أفعالهم إلا أنه مما تذم به المدينة ، كما قال : بلاد بها الحمى وأسد عرينة وفيها المعلى يعتدى ويجور فإنى لمن قد حل فيها لراحم وإنى من لم يأتها لنذير ولا ذنب لاهلها في أنها بلاد الحمى والسباع : ثم وصف المقيم بين أظهرهم بأنه مرتهن بذنبه ، لانه إما أن يشاركهم في الذنوب أو يراها فلا ينكرها ، ومذهب أصحابنا أنه لا تجوز الاقامة في دار الفسق ، كما لا تجوز الاقامة في دار الكفر .
والجؤجؤ : عظم الصدر وجؤجؤ السفينة : صدرها .(1/252)
فأما إخباره عليه السلام أن البصرة تغرق عدا المسجد الجامع بها ، فقد رأيت من يذكر أن كتب الملاحم تدل على أن البصرة تهلك بالماء الاسود ينفجر من أرضها ، فتغرق ويبقى مسجدها .
والصحيح أن المخبر به قد وقع ، فإن البصرة غرقت مرتين ، مرة في أيام القادر ، بالله ومرة في أيام القائم بأمر الله ، غرقت بأجمعها ولم يبق منها إلا مسجدها الجامع بارزا بعضه كجؤجؤ الطائر ، حسب ماأاخبر به أمير المؤمنين عليه السلام ، جاءها الماء من بحر فارس من جهة الموضع المعروف الآن بجزيرة الفرس ، ومن جهة الجبل المعروف بجبل السنام ، وخربت دورها ، وغرق كل ما في ضمنها ، وهلك كثير من أهلها .
وأخبار هذين الغرقين معروفة عند أهل البصرة ، يتناقلها خلفهم عن سلفهم .
[ من أخبار يوم الجمل أيضا ] قال أبو الحسن على بن محمد بن سيف المدائني ومحمد بن عمر الواقدي : ما حفظ رجز قط أكثر من رجز قيل يوم الجمل ، وأكثره لبنى ضبة والاسد ، الذين كانوا حول الجمل يحامون عنه ، ولقد كانت الرؤوس تندر (1) عن الكواهل ، والايدى تطيح من المعاصم ، وأقتاب البطن (2) تندلق من الاجواف ، وهم حول الجمل كالجراد الثابتة لا تتحلحل ولا تتزلزل ، حتى لقد صرخ عليه السلام بأعلى صوته : ويلكم أعقروا ، الجمل فإنه شيطان ! ثم قال : أعقروه وإلا فنيت العرب .
لا يزال السيف قائما وراكعا حتى يهوى هذا البعير
__________
(1) تندر : تقطع .
(2) الاقتاب : الامعاء ، واحده قتب ، محركة بالتاء أو بكسر فسكون (*)(1/253)
إلى الارض ، فصمدوا له حتى عقروه فسقط وله رغاء شديد ، فلما برك كانت الهزيمة .
* * * ومن الاراجيز المحفوظة يوم الجمل لعسكر البصرة قول بعضهم (1) : نحن بنو ضبة أصحاب الجمل ننازل الموت إذا الموت نزل ننعي ابن عفان باطراف الاسل ردوا علينا شيخنا ثم بجل (2) الموت أحلى عندنا من العسل لا عار في الموت إذا خان الاجل إن عليا هو من شر البدل إن تعدلوا بشيخنا لا يعتدل * اين االوهاد وشماريخ القلل * فأجابه رجل من عسكر الكوفة من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام : نحن قتلنا نعثلا فيمن قتل أكثر من أكثر فيه أو أقل (4) أنى يرد نعثل وقد قحل نحن ضربنا وسطه حتى انجدل (5) لحكمه حكم الطواغيت الاول آثر بالفئ وجافى في العمل فأبدل الله به خير بدل إنى امرؤ مستقدم غير وكل * مشمر للحرب معروف بطل * ومن اراجيز اهل البصر ة : يا أيها الجند الصليب الايمان قوموا قياما واستغيثوا الرحمن
__________
(1) الابيات في الطبري (5 : 209) ، منسوبة إلى رجل يدعى الحارث من بنى ضبة ، وفى المسعودي (2 : 37) من غير نسبة ، مع اختلاف في الرواية وعدد الابيات .
(2) بجل : حسب ، كذا فسره صاحب اللسان (13 : 48) ، واستشهد بالبيت .
(3) الشماريخ : رءوس الجبال .
(4) قال صاحب اللسان : " نعثل رجل من أهل مصر ، كان طويل اللحية ، قيل إنه كان يشبه عثمان رضى الله عنه ، هذا قول أبى عبيد .
وشاتمو عثمان رضى الله عنه يسمونه نعثلا ، تشبيها بالرجل المصرى لطول لحيته ، ولم يكونوا يجون فيه عيبا غير هذا " (5) قحل : مات وجف جلده .
وانجدل : سقط .
(*)(1/254)
إنى أتانى خبر ذو ألوان أن عليا قتل ابن عفان ردوا إلينا شيخنا كما كان يا رب وابعث ناصرا لعثمان * يقتلهم بقوة وسلطان * فاجابه رجل من عسكر الكوفة : أبت سيوف مذحج وهمدان بأن ترد نعثلا كما كان خلقا سويا بعد خلق الرحمن وقد قضى بالحكم حكم الشيطان وفارق الحق ونور الفرقان فذاق كأس الموت شرب الظمان .
ومن الرجز المشهور المقول يوم الجمل قاله ، أهل البصرة : يا أمنا عائش لا تراعى كل بنيك بطل المصاع (1) ينعى ابن عفان إليك ناعى كعب بن سور كاشف القناع فارضى بنصر السيد المطاع والازد فيها كرم الطباع .
ومنه قول بعضهم : يا أمنا يكفيك منا دنوه لن يؤخذ الدهر الخطام عنوه وحولك اليوم رجال شنوه وحى همدان رجال الهبوه (2) والمالكيون القليلو الكبوه والازد حى ليس فيهم نبوه قالوا : وخرج من أهل البصرة شيخ صبيح الوجه ، نبيل ، عليه جبة وشى ، يحض الناس على الحرب ، ويقول : يا معشر الازد عليكم أمكم فإنها صلاتكم وصومكم والحرمة العظمى التى تعمكم فأحضروها جدكم وحزمكم
__________
(1) المصاع : الجلاد والضرب .
(2) الهبوة : الغبرة ، يريد ما يتناثر في المعارك من الغبار والتراب .
(*)(1/255)
لا يغلبن سم العدو سمكم إن العدو إن علاكم زمكم وخصكم بجوره وعمكم لا تفضحوا اليوم فداكم قومكم قال المدائني والواقدى : وهذا الرجز يصدق الرواية أن الزبير وطلحة قاما في الناس ، فقالا : إن عليا إن يظفر فهو فناؤكم يا أهل البصرة ، فاحموا حقيقتكم ، فإنه لا يبقى حرمة إلا انتهكها ، ولا حريما إلا هتكه ، ولا ذرية إلا قتلها ، ولا ذوات خدر إلا سباهن ، فقاتلوا مقاتلة من يحمى عن حريمه ، ويختار الموت على الفضيحة يراها في أهله .
وقال أبو مخنف : لم يقل أحد من رجاز البصرة قولا كان أحب إلى أهل الجمل من قول هذا الشيخ : استقتل الناس عند قوله : وثبتوا حول الجمل ، وانتدبوا ، فخرج عوف بن قطن الضبى ، وهو ينادى : ليس لعثمان ثأر إلا على بن أبى طالب وولده ، فأخذ خطام الجمل ، وقال : يا أم يا أم خلا منى الوطن لا أبتغى القبر ولا أبغى الكفن من هاهنا محشر عوف بن قطن إن فاتنا اليوم على فالغبن أو فاتنا ابناه حسين وحسن إذا أمت بطول هم وحزن ثم تقدم ، فضرب بسيفه حتى قتل .
وتناول عبد الله بن أبزى خطام الجمل ، وكان كل من أراد الجد في الحرب وقاتل قتال مستميت يتقدم إلى الجمل فيأخذ بخطامه ، ثم شد على عسكر على عليه السلا م ، وقال : أضربهم ولا أرى أبا حسن ها إن هذا حزن من الحزن فشد عليه على أمير المؤمنين عليه السلام بالرمح فطعنه فقتله ، وقال : قد رأيت أبا حسن ، فكيف رأيته ! وترك الرمح فيه .
* * *(1/256)
وأخذت عائشة كفا من حصى ، فحصبت به أصحاب على عليه السلام ، وصاحت بأعلى صوتها شاهت الوجوه ! كما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله يوم حنين ، فقال لها قائل : وما رميت إذ رميت ولكن الشيطان (1) رمى .
وزحف على عليه السلام نحو (2) الجمل بنفسه في كتيبته الخضراء من المهاجرين والانصار ، وحوله بنوه : حسن وحسين ومحمد عليهم السلام ودفع الراية إلى محمد ، وقال : أقدم بها حتى تركزها في عين (3) الجمل ، ولا تقفن دونه .
فتقدم محمد ، فرشقته السهام ، فقال لاصحابه : رويدا حتى تنفد سهامهم ، فلم يبق لهم إلا رشقة أو رشقتان .
فأنفذا إليه على عليه السلام يستحثه ، ويأمره بالمناجزة ، فلما أبطأ عليه جاء بنفسه من خلفه ، فوضع يده اليسرى على منكبه الايمن ، وقال له : أقدم لا أم لك ! فكان محمد رضى الله عنه إذا ذكر ذلك بعد يبكى ، ويقول : لكأنى أجد ريح نفسه في قفاى ، والله لا أنسى ذلك أبدا .
ثم أدركت عليا عليه السلام رقة على ولده ، فتناول الراية منه بيده اليسرى ، وذو الفقار مشهور في يمنى يديه ، ثم حمل فغاص في عسكر الجمل ، ثم رجع وقد انحنى سيفه ، فأقامه بركبته .
فقال له أصحابه وبنوه والاشتر وعمار ، نحن نكفيك يا أمير المؤمنين .
فلم يجب أحدا منهم ولا رد إليهم بصره ، وظل ينحط (4) ويزأر زئير الاسد ، حتى فرق من حوله .
وتبادروه وإنه لطامح ببصره نحو عسكر البصرة ، لا يبصر من حوله ، ولا يرد حوارا ، ثم دفع الراية إلى ابنه محمد ، ثم حمل حملة ثانية وحده ، فدخل وسطهم فضربهم بالسيف قدما قدما ، والرجال تفر من بين يديه وتنحاز عنه يمنة ويسرة ، حتى خضب الارض بدماء القتلى ، ثم رجع وقد انحنى سيفه ، فأقامه بركبته ، فاعصوصب (5) به أصحابه ، وناشدوه الله في نفسه وفي الاسلام ، وقالوا : إنك إن تصب يذهب الدين ، فأمسك ونحن نكفيك .
فقال : والله ما أريد بما ترون إلا وجه الله والدار الآخرة .
ثم قال لمحمد ابنه : هكذا تصنع يا بن الحنفية ، فقال الناس : من الذى يستطيع ما تستطيعه يا أمير المؤمنين !
__________
(1) كذا في ا ، وفى ب " ولكن الله " .
(2) ا : " يوم " .
(3) ا : " عجز " (4) ينحط : يزفر .
(5) اعصوصوبوا به : استجمعوا والتفوا حوله .
(*)(1/257)
ومن كلماته الفصيحة عليه السلام في يوم الجمل ، ما رواه الكلبى عن رجل من الانصار ، قال : بينا أنا واقف في أول الصفوف يوم الجمل ، إذ جاء على عليه السلام فانحرفت إليه فقال : أين مثرى القوم ؟ فقلت : هاهنا ، نحو عائشة .
قال الكلبى : يريد أين عددهم ؟ وأين جمهورهم وكثرتهم ؟ والمال الثرى على " فعيل " هو الكثير ، ومنه رجل ثروان ، وامرأة ثروى ، وتصغيرها ثريا : والصدقة مثراة للمال ، أي مكثرة له .
* * * قال أبو مخنف : وبعث على عليه السلام إلى الاشتر : أن احمل على ميسرتهم ، فحمل عليها وفيها هلال بن وكيع ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، وقتل هلال ، قتله الاشتر ، فمالت الميسره إلى عائشة ، فلاذوا بها ، وعظمهم بنو ضبة وبنو عدى ، ثم عطفت الازد وضبة وناجية وباهلة إلى الجمل ، فأحاطوا به ، واقتتل الناس حوله قتالا شديدا ، وقتل كعب بن سور قاضى البصرة ، جاءه سهم (1) غرب ، فقتله وخطام الجمل في يده ، ثم قتل عمرو بن يثربى الضبى (2) ، وكان فارس أصحاب الجمل وشجاعهم ، بعد أن قتل كثيرا من أصحاب على عليه السلام .
قالوا : كان عمرو أخذ بخطام الجمل ، فدفعه إلى ابنه ، ثم دعا إلى البراز ، فخرج إليه علباء بن الهيثم السدوسى ، فقتله عمرو ، ثم دعا إلى البراز ، فخرج إليه هند بن عمرو الجملى (3) فقتله عمرو ، ثم دعا إلى البراز ، فقال زيد بن صوحان العبدى لعلى عليه السلام : يا أمير المؤمنين ، إنى رأيت يدا أشرفت على من السماء وهى تقول ، هلم إلينا ، وأنا خارج إلى
__________
(1) يقال : أصابه سهم غرب (بفتحتين) وغرب (بفتح فسكون) ، إذا كان لا يدرى من رماه ، وقيل : إذا أتاه من حيث لا يدرى .
اللسان 2 : 133 (2) عمرو بن يثربى .
كان من رءوس ضبة في الجاهلية ثم أسلم ، واستقضاه عثمان على البصرة .
الاصابة 5 : 120 ، والاشتقاق 413 (3) هو هند بن عمرو الجملى ، نسبة إلى نجمل بن سعد العشيرة ، حى من مذحج .
الاشتقاق 413 .
(*)(1/258)
ابن يثربى ، فإذا قتلني فادفني بدمى ، ولا تغسلني ، فإنى مخاصم عند ربى .
ثم خرج فقتله عمرو ، ثم رجع إلى خطام الجمل مرتجزا يقول : أرديت علباء وهندا في طلق ثم ابن صوحان خضيبا في علق (1) قد سبق اليوم لنا ما قد سبق والوتر منا في عدى ذى الفرق والاشتر الغاوى وعمرو بن الحمق (2) والفارس المعلم في الحرب الحنق ذاك الذى في الحادثات لم يطق أعنى عليا ليته فينا مزق قال : قوله : " والوتر منا في عدى " يعنى عدى بن حاتم الطائى ، وكان من أشد الناس على عثمان ، ومن أشدهم جهادا مع على عليه السلام .
ثم ترك ابن يثربى الخطام ، وخرج يطلب المبارزة فاختلف في قاتله ، فقال قوم : إن عمار بن ياسر خرج إليه ، والناس يسترجعون له ، لانه كان أضعف من برز إليه يومئذ .
أقصرهم سيفا ، وأقصفهم رمحا ، وأحمشهم (3) ساقا ، حمالة سيفه من نسعة (4) الرحل ، وذباب سيفه (5) قريب من إبطه .
فاختلفا ضربتين ، فنشب سيف ابن يثربى في حجفة (6) عمار فضربه عمار على رأسه فصرعه ، ثم أخذ برجله يسحبه حتى انتهى به إلى على عليه السلام ، فقال : يا أمير المؤمنين استبقني أجاهد بين يديك ، وأقتل منهم مثل ما قتلت منكم .
فقال له على عليه السلام : أ بعد زيد وهند وعلباء أستبقيك ! لاها الله إذا ! قال : فأدننى منك أسارك ، قال له : أنت متمرد ، وقد أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله بالمتمردين ، وذكرك فيهم .
فقال : أما والله لو وصلت إليك لعضضت أنفك عضة أبنته منك .
فأمر به عليه السلام فضربت عنقه .
__________
(1) الطلق : الشوط ، والفلق : الدم (2) عمرو بن الحمق ، يعرف بالكاهن ، صحب الرسول عليه السلام وشهد المشاهد مع على ، وقتله معاوية بالجزيرة ، وكان رأسه أول رأس صلب في الاسلام .
الاشتقاق 474 (3) أحمش الساقين : دقيقهما .
(4) المسع : سير ينسج عريضا على هيئة أعنة النعال ، تشتد به الرحال ، والقطعة منه نسعة .
(5) الذباب : حد السيف ، أو طرفه المتطرف .
(6) الحجفة : واحدة الحجف ، وهى التروس من جلد أو خشب .
(*)(1/259)
وقال قوم : إن عمرا لما قتل من قتل ، وأراد أن يخرج لطلب البراز ، قال للازد : يا معشر الازد ، إنكم قوم لكم حياء وبأس ، وإنى قد وترت القوم وهم قاتلي ، وهذه أمكم نصرها دين ، وخذلانها عقوق ، ولست أخشى أن أقتل حتى أصرع ، فإن صرعت فاستنقذوني .
فقالت له الازد : ما في هذا الجمع أحد نخافه عليك إلا الاشتر ، قال : فإياه أخاف .
قال أبو مخنف : فقيضه الله له ، وقد أعلما جميعا ، فارتجز الاشتر : إنى إذا ما الحرب أبدت نابها وأغلقت يوم الوغى أبوابها ومزقت من حنق أثوابها كنا قداماها ولا أذنابها (1) ليس العدو دوننا أصحابها من هابها اليوم فلن أهابها * لا طعنها أخشى ولا ضرابها * ثم حمل عليه فطعنه فصرعه ، وحامت عنه الازد فاستنقذوه ، فوثب وهو وقيذ ثقيل (2) ، فلم يستطع أن يدفع عن نفسه ، واستعرضه عبد الرحمن بن طود البكري ، فطعنه فصرعه ثانية ، ووثب عليه رجل من سدوس ، فأخذه مسحوبا برجله حتى أتى به عليا عليه السلام ، فناشده الله ، وقال : يا أمير المؤمنين ، اعف عنى ، فإن العرب لم تزل قائلة عنك : إنك لم تجهز على جريح قط .
فأطلقه ، وقال : إذهب حيث شئت ، فجاء إلى أصحابه وهو لما به .
حضره الموت ، فقالوا له : دمك عند أي الناس ؟ فقال : أما الاشتر فلقينى وأنا كالمهر الارن (3) ، فعلا حده حدى ، ولقيت رجلا يبتغى له عشرة أمثالى .
وأما البكري فلقينى ، وأنا لما بى ، وكان يبتغى لى عشرة أمثاله ، وتولى أسرى أضعف القوم ، وصاحبى الاشتر .
قال أبو مخنف : فلما انكشفت الحرب ، شكرت ابنة عمرو بن يثربى الازد ، وعابت قومها ، فقالت :
__________
(1) قدامى الجيش : مقدمه .
(2) الوقيذ : الجريح المشرف على الموت .
(3) الاردن : النشيط .
(*)(1/260)
يا ضب إنك قد فجعت بفارس حامى الحقيقة قاتل الاقران عمرو بن يثرب الذى فجعت به كل القبائل من بنى عدنان لم يحمه وسط العجاجة قومه وحنت عليه الازد ، أزد عمان فلهم على بذاك حادث نعمة ولحبهم أحببت كل يمان لو كان يدفع عن منية هالك طول الاكف بذابل المران أو معشر وصلوا الخطا بسيوفهم وسط العجاجة والحتوف دوانى ما نيل عمر والحوادث جمة حتى ينال النجم والقمران لو غير الاشتر ناله لندبته وبكيته ما دام هضب أبان (1) لكنه من لا يعاب بقتله أسد الاسود وفارس الفرسان قال أبو مخنف : وبلغنا أن عبد الرحمن بن طود البكري قال لقومه : أنا والله قتلت عمرا ، وان الاشتر كان بعدى وأنا أمامه في الصعاليك ، فطعنت عمرا طعنة لم أحسب أنها تجعل للاشتر دوني ، وإنما الاشتر ذو حظ في الحرب ، وإنه ليعلم أنه كان خلفي ، ولكن أبى الناس إلا أنه صاحبه ، ولا أرى أن أكون خصم العامة ، وإن الاشتر لاهل ألا ينازع .
فلما بلغ الاشتر قوله قال : أما والله لو لا أنى أطفأت جمرته عنه ما دنا منه ، وما صاحبه غيرى ، وإن الصيد لمن وقذه .
فقال عبد الرحمن : لا أنازع فيه ، ما القول إلا ما قاله ، وأنى لى أن أخالف الناس ! * * * قال : وخرج عبد الله بن خلف الخزاعى ، وهو رئيس البصرة ، وأكثر أهلها مالا وضياعا ، فطلب البراز ، وسأل ألا يخرج إليه إلا على عليه السلام ، وارتجز فقال : ابا تراب ادن منى فترا (2) فإننى دان إليك شبرا وإن في صدري عليك غمرا (3)
__________
(1) أبان : من أسماء الجبال عندهم .
(2) كذا في ا ، وفى " يا با تراب " .
(3) الغمر الحقد والعداوة .
(*)(1/261)
فخرج إليه على عليه السلام ، فلم يمهله أن ضربه ، فقلق هامته .
* * * قالوا : استدار الجمل كما تدور الرحا ، وتكاثفت الرجال من حوله ، واشتد رغاؤه واشتد زحام الناس عليه ، ونادى الحتات المجاشعى : أيها الناس ، أمكم أمكم ! واختلط الناس ، فضرب بعضهم بعضا ، وتقصد أهل الكوفة قصد الجمل ، والرجال دونه كالجبال ، كلما خف قوم جاء أضعافهم ، فنادى على عليه السلام : ويحكم ! ارشقوا الجمل بالنبل ، اعقروه لعنه الله ! فرشق بالسهام ، فلم يبق فيه موضع إلا أصابه النبل ، وكان متجفجفا (1) فتعلقت السهام به ، فصار كالقنفذ ، ونادت الازد وضبة : يا لثارات عثمان ! فاتخذوها شعارا ، ونادى أصحاب على عليه السلام : يا محمد ! فاتخذوها شعارا ، واختلط الفريقان ، ونادى على عليه السلام بشعار رسول الله صلى الله عليه وآله : يا منصور أمت (2) .
وهذا في اليوم الثاني من أيام الجمل ، فلما دعا بها تزلزلت أقدام القوم ، وذلك وقت العصر ، بعد أن كانت الحرب من وقت الفجر .
قال الواقدي : وقد روى أن شعاره عليه السلام كان في ذلك اليوم " حم لا ينصرون .
اللهم انصرنا على القوم الناكثين " ، ثم تحاجز الفريقان ، والقتل فاش فيهما ، إلا أنه في أهل البصرة أكثر ، وأمارات النصر لائحة لعسكر الكوفة ، ثم تواقفوا في اليوم الثالث ، فبرز أول الناس عبد الله بن الزبير ، ودعا إلى المبارزة ، فبرز إليه الاشتر ، فقالت عائشة : من برز إلى عبد الله ؟ قالوا : الاشتر ، فقالت : واثكل أسماء ! فضرب كل منهما صاحبه فجرحه ، ثم اعتنقا ، فصرع الاشتر عبد الله ، وقعد على صدره ، واختلط الفريقان : هؤلاء لينقذوا عبد الله ، وهؤلاء ليعينوا الاشتر .
وكان الاشتر طاويا ثلاثة أيام
__________
(1) متجفجفا ، من قولهم تجفجف الثوب ، إذا ابتل ثم جف وفيه ندى .
(2) هو أمر بالموت ، والمراد به التفاؤل بالنصر بعد الامر بالاماتة ، مع حصول الغرض (النهايه لابن الاثير) .
(*)(1/262)
لم يطعم ، وهذه عادته في الحرب ، وكان أيضا شيخا عالى السن ، فجعل عبد الله ينادى : * اقتلوني ومالكا (1) * فلو قال : " اقتلوني والاشتر " لقتلوهما ، إلا أن أكثر من كان يمر بهما لا يعرفهما ، لكثرة من وقع في المعركة صرعى بعضهم فوق بعض ، وأفلت ابن الزبير من تحته أو لم يكد ، فذلك قول الاشتر : أ عائش لو لا أننى كنت طاويا ثلاثا لالفيت ابن أختك هالكا غداة ينادى والرجال تحوزه بأضعف صوت : اقتلوني ومالكا ! فلم يعرفوه إذ دعاهم وغمه خدب عليه في العجاجة باركا (2) فنجاه منى أكله وشبابه وأنى شيخ لم أكن متماسكا * * * وروى أبو مخنف عن الاصبغ بن نباتة ، قال : دخل عمار بن ياسر ومالك بن الحارث الاشتر على عائشة بعد انقضاء أمر الجمل فقالت عائشة : يا عمار ، من معك ؟ قال الاشتر : فقالت : يا مالك ، أنت الذى صنعت بابن أختى ما صنعت ؟ قال : نعم ، ولو لا أنى كنت طاويا ثلاثة أيام لارحت أمة محمد منه ، فقالت : أ ما علمت أن رسول الله صلى الله عليه قال : " لا يحل دم مسلم الا بإحد أمور ثلاث : كفر بعد الايمان ، أو زنا بعد إحصان ، أو قتل نفس بغير حق " ! قال الاشتر : على بعض هذه الثلاثة قاتلناه يا أم المؤمنين ، وايم الله ما خاننى سيفى قبلها ، ولقد أقسمت ألا يصحبني بعدها .
قال أبو مخنف : ففى ذلك يقول الاشتر من جملة هذا الشعر الذى ذكرناه : وقالت على أي الخصال صرعته بقتل أتى ، أم ردة لا أبا لكا ! أم المحصن الزانى الذى حل قتله فقلت لها لا بد من بعض ذلكا * * *
__________
(1) بقيته * واقتلوا مالكا معى * وانظر المسعودي 2 : 376 (2) الخدب : الضخم .
(*)(1/263)
قال أبو مخنف : وانتهى الحارث بن زهير الازدي من أصحاب على عليه السلام إلى الجمل ، ورجل (1) آخذ بخطامه ، لا يدنو منه أحد إلا قتله ، فلما رآه الحارث بن زهير مشى إليه بالسيف وارتجز ، فقال لعائشة : يا أمنا أعق أم نعلم (2) والام تغذو ولدها وترحم أ ما ترين كم شجاع يكلم ! وتختلى هامته والمعصم ! (3) فاختلف هو والرجل ضربتين ، فكلاهما أثخن صاحبه .
قال جندب بن عبد الله الازدي : فجئت حتى وقفت عليهما وهما يفحصان بأرجلهما حتى ماتا .
قال : فأتيت عائشة بعد ذلك أسلم عليها بالمدينة ، فقالت : من أنت ؟ قلت : رجل من أهل الكوفة ، قالت : هل شهدتنا يوم البصرة ؟ قلت : نعم ، قالت : مع أي الفريقين ؟ قلت : مع على ، قالت : هل سمعت مقالة الذى قال : * يا أمنا أعق أم نعلم * قلت : نعم ، وأعرفه ، قالت : ومن هو ؟ قلت : ابن عم لى ، قالت : وما فعل ؟ قلت : قتل عند الجمل وقتل قاتله ، قال : فبكت حتى ظننت والله أنها لا تسكت ، ثم قالت : لوددت والله أننى كنت مت قبل ذلك اليوم بعشرين سنة .
قالوا : وخرج رجل من عسكر البصرة يعرف بخباب بن عمرو الراسبى ، فارتجز فقال : أضربهم ولو أرى عليا عممته أبيض مشرفيا * أريح منه معشرا غويا * فقصده الاشتر فقتله .
ثم تقدم عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد بن أبى العاص بن أمية بن عبد شمس ، وهو
__________
(1) هو عمرو بن الاشرف .
الطبري 5 : 211 (2) ذكر الطبري رواية أخرى في هذا الرجز : * يا أمنا يا خير أم نعلم * (3) تختلى : تقطع (*)(1/264)
من أشراف قريش - وكان اسم سيفه " ولول " - فارتجز ، فقال : أنا ابن عتاب وسيفي ولول والموت دون الجمل المجلل (1) فحمل عليه الاشتر فقتله .
ثم خرج عبد الله بن حكيم بن حزام ، من بنى أسد بن عبد العزى ابن قصى ، من أشراف قريش أيضا ، فارتجز وطلب المبارزة ، فخرج إليه الاشتر فضربه على رأسه فصرعه ، ثم قام فنجا بنفسه .
قالوا : وأخذ خطام الجمل سبعون من قريش ، قتلوا كلهم ، ولم يكن يأخذ بخطام الجمل أحد إلا سالت نفسه ، أو قطعت يده .
وجاءت بنو ناجية ، فأخذوا بخطام الجمل ، ولم يكن يأخذ الخطام أحد إلا سألت عائشة : من هذا ؟ فسألت عنهم ، فقيل : بنو ناجية ، فقالت عائشة : صبرا يا بنى ناجية ، فإنى أعرف فيكم شمائل قريش .
قالوا : وبنو ناجية مطعون في نسبهم (2 إلى قريش 2) ، فقتلوا حولها جميعا .
قال أبو مخنف : وحدثنا إسحاق بن راشد عن عبد الله بن الزبير ، قال : أمسيت يوم الجمل وبى سبعة وثلاثون جرحا ، من ضربة وطعنة ورمية ، وما رأيت مثل يوم الجمل قط ، ما كان الفريقان إلا كالجبلين لا يزولان .
قال أبو مخنف : وقام رجل إلى على عليه السلام ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أي فتنة أعظم من هذه ؟ إن البدرية ليمشى بعضها إلى بعض بالسيف ! فقال على عليه السلام : ويحك ! أ تكون فتنة أنا أميرها وقائدها ! والذى بعث محمدا بالحق وكرم وجهه ، ما كذبت ولا كذبت ، ولا ضللت ولا ضل بى ، ولا زللت ولا زل بى ، وإنى لعلى بينة من ربى ، بينها الله لرسوله ، وبينها رسوله لى ، وسأدعى يوم القيامة ولا ذنب لى ، ولو كان لى ذنب لكفر عنى ذنوبي ما أنا فيه من قتالهم .
قال أبو مخنف : وحدثنا مسلم الاعور عن حبة العرنى قال : فلما رأى على عليه السلام
__________
(1) ب : " عند الجمل " (2 - 2) ساقطة من ب (*)(1/265)
أن الموت عند الجمل ، وأنه ما دام قائما فالحرب لا تطفأ ، وضع سيفه على عاتقه ، وعطف نحوه ، وأمر أصحابه بذلك ، ومشى نحوه والخطام مع بنى ضبة ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، واستحر القتل في بنى ضبة ، فقتل منهم مقتلة عظيمة ، وخلص على عليه السلام في جماعة من النخع وهمدان إلى الجمل ، فقال لرجل من النخع اسمه بجير : دونك الجمل يا بجير ، فضرب عجز الجمل بسيفه فوقع لجنبه ، وضرب بجرانه الارض ، وعج عجيجا لم يسمع بأشد منه ، فما هو إلا أن صرع الجمل حتى فرت الرجال كما يطير الجراد في الريح الشديدة الهبوب ، واحتملت عائشة بهودجها ، فحملت إلى دار عبد الله بن خلف ، وأمر على عليه السلام بالجمل أن يحرق ثم يذرى في الريح .
وقال عليه السلام : لعنه الله من دابة ! فما أشبهه بعجل بنى إسرائيل ، ثم قرأ : (وانظر إلى إلهك الذى ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا) (1) .
* * *
__________
(1) سورة طه 97 (*)(1/266)
(14) الاصل : ومن كلام له عليه السلام في مثل ذلك : أرضكم قريبة من الماء ، بعيدة من السماء .
خفت عقولكم ، وسفهت حلومكم ، فأنتم غرض لنابل ، وأكلة لآكل ، وفريسة لصائل .
* * * الشرح : الغرض : ما ينصب ليرمى بالسهام .
والنابل : ذو النبل .
والاكلة ، بضم الهمزة : المأكول .
وفريسة الاسد : ما يفترسه .
وسفه فلان ، بالكسر ، أي صار سفيها ، وسفه بالضم أيضا .
فإذا قلت : سفه فلان رأيه أو حلمه أو نفسه ، لم تقل إلا بالكسر ، لان " فعل " بالضم لا يتعدى .
وقولهم : سفه فلان نفسه ، وغبن رأيه ، وبطر عيشه ، وألم بطنه ، ورفق حاله ، ورشد أمره ، كان الاصل فيه كله : سفهت نفس زيد ، فلما حول الفعل إلى الرجل انتصب ما بعده بالمفعولية .
هذا مذهب البصريين والكسائي من الكوفيين : وقال الفراء : لما حول الفعل إلى الرجل خرج ما بعده مفسرا ليدل على أن السفاهة فيه ، وكان حكمه أن يكون : سفه زيد نفسا ، لان المفسر لا يكون إلا نكرة ، ولكنه ترك على إضافته ، ونصب كنصب النكرة ، تشبيها بها .
ويجوز عند البصريين والكسائي تقديم المنصوب ، كما يجوز : ضرب غلامه زيد ، وعند الفراء لا يجوز تقديمه ، لان المفسر لا يتقدم (1) .
__________
(1) الصحاح 6 : 2235 (*)(1/267)
فأما قوله : " أرضكم قريبة من الماء ، بعيدة من السماء " ، فقد قدمنا (1) معنى قوله " قريبة من الماء " وذكرنا غرقها من بحر فارس دفعتين ، ومراده عليه السلام بقوله : " قريبة من الماء " ، أي قريبة من الغرق بالماء .
وأما " بعيدة من السماء " ، فإن أرباب علم الهيئة وصناعة التنجيم يذكرون أن أبعد موضع في الارض عن السماء الابلة (2) ، وذلك موافق لقوله عليه السلام .
ومعنى البعد عن السماء هاهنا هو بعد تلك الارض المخصوصة عن دائرة معدل النهار والبقاع ، والبلاد تختلف في ذلك .
وقد دلت الارصاد والآلات النجومية على أن أبعد موضع في المعمورة عن دائرة معدل النهار هو الابلة ، والابلة هي قصبة البصرة .
وهذا الموضع من خصائص أمير المؤمنين عليه السلام ، لانه أخبر عن أمر لا تعرفه العرب ، ولا تهتدى إليه ، وهو مخصوص بالمدققين من الحكماء .
وهذا من أسراره وغرائبه البديعة
__________
(1) ص 253 من هذا الجزء .
(2) الابلة بضم أوله وثانيه وتشديد اللام وفتحها : بلدة على شاطئ دجلة البصرة العظمى ، في زاوية الخليج الذى يدخل إلى مدينة البصرة ، وهى أقدم من البصرة .
مراصد الاطلاع 1 : 18 (*)(1/268)
(15) الاصل : ومن كلام له عليه السلام فيما رده على المسلمين من قطائع عثمان رضى الله عنه : والله لو وجدته قد تزوج به النساء ، وملك به الاماء ، لرددته ، فإن في العدل سعة .
ومن ضاق عليه العدل ، فالجور عليه أضيق .
* * * الشرح : القطائع : ما يقطعه الامام بعض الرعية من أرض بيت المال ذات الخراج ، ويسقط عنه خراجه ، ويجعل عليه ضريبة يسيرة عوضا عن الخراج .
وقد كان عثمان أقطع كثيرا من بنى أمية وغيرهم من أوليائه وأصحابه قطائع من أرض الخراج على هذه الصورة ، وقد كان عمر أقطع قطائع ، ولكن لارباب الغناء في الحرب والآثار المشهورة في الجهاد ، فعل ذلك ثمنا عما بذلوه من مهجهم في طاعة الله سبحانه ، وعثمان أقطع القطائع صلة لرحمه ، وميلا إلى أصحابه ، عن غير عناء في الحرب ولا أثر .
وهذه الخطبة ذكرها الكلبى مروية مرفوعة إلى أبى صالح عن ابن عباس رضى الله عنه : أن عليا عليه السلام خطب في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة ، فقال : ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان ، وكل مال أعطاه من مال الله ، فهو مردود في بيت المال ، فإن الحق القديم لا يبطله شئ ، ولو وجدته وقد (1) تزوج به النساء ، وفرق في البلدان ، لرددته إلى حاله (2) ، فإن في العدل سعة ، ومن ضاق عنه الحق فالجور عليه أضيق .
__________
(1) ب : " قد " .
(2) ب : " على حاله " .
(*)(1/269)
وتفسير هذا الكلام أن الوالى إذا ضاقت عليه تدبيرات اموره في العدل ، فهى في الجور أضيق عليه ، لان الجائر في مظنة أن يمنع ويصد عن جوره .
* * * قال الكلبى : ثم أمر عليه السلام بكل سلاح وجد لعثمان في داره ، مما تقوى به على المسلمين فقبض ، وأمر بقبض نجائب كانت في داره من إبل الصدقة ، فقبضت ، وأمر بقبض سيفه ودرعه ، وأمر ألا يعرض لسلاح وجد له لم يقاتل به المسلمون ، وبالكف عن جميع أمواله التى وجدت في داره وفي غير داره ، وأمر أن ترتجع الاموال التى أجاز بها عثمان حيث أصيبت أو أصيب أصحابها .
فبلغ ذلك عمرو بن العاص ، وكان بأيلة من أرض الشام ، أتاها حيث وثب الناس على عثمان ، فنزلها فكتب إلى معاوية : ما كنت صانعا فاصنع ، إذ قشرك ابن أبى طالب من كل مال تملكه كما تقشر عن العصا لحاها .
وقال الوليد بن عقبة - وهو أخو عثمان من أمه - يذكر قبض على عليه السلام نجائب عثمان وسيفه وسلاحه (1) : بنى هاشم ردوا سلاح ابن أختكم ولا تنهبوه لا تحل مناهبه بنى هاشم كيف الهوادة بيننا وعند على درعه ونجائبه ! بنى هاشم كيف التودد منكم وبز ابن أروى فيكم وحرائبه ! (2) بنى هاشم إلا تردوا فإننا سواء علينا قاتلاه وسالبه بنى هاشم إنا وما كان منكم كصدع الصفا لا يشعب الصدع شاعبه قتلتم أخى كيما تكونوا مكانه كما غدرت يوما بكسرى مرازبه (3)
__________
(1) الابيات في السمعودى 2 : 356 ، مع اختلاف في الرواية وترتيب الابيات .
(2) البز : متاع البيت من الثياب .
الحرائب : جمع حريبة ، وهو مال الرجل الذى يقوم به أمره ، وراية البيت في المسعودي : بنى هاشم ، كيف الهوادة بيننا وسيف ابن أروى عندكم وحرائبه (3) رواية المسعودي : * غدرتم به كيما تكونوا مكانه * (*)(1/270)
فأجابه عبد الله بن ابى سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بأبيات طويلة (1) ، من جملتها : فلا تسألونا سيفكم إن سيفكم أضيع وألقاه لدى الروع صاحبه وشبهته كسرى وقد كان مثله شبيها بكسرى هديه وضرائبه أي كان كافرا ، كما كان كسرى كافرا .
وكان المنصور رحمه الله تعالى إذا أنشد هذا الشعر (2) يقول : لعن الله الوليد ! هو الذى فرق بين بنى عبد مناف بهذا الشعر ! * * *
__________
(1) نسبها المسعودي إلى الفضل بن العباس بن عتبة بن أبى لهب ، ذكر بعد البيت الاول : سلوا أهل مصر عن سلاح ابن أختنا فهم سلبوه سيفه وحرائبه وكان ولى الامر بعد محمد على وفى كل المواطن صاحبه على ولى الله أظهر دينه وأنت مع الاشقين فيما تحاربه وأنت امرؤ من أهل صفواء نازح فمالك فينا من حميم تعاتبه وقد أنزل الرحمن أنك فاسق فمالك في الاسلام سهم تطالبه (2) ب : " البيت " .
(*)(1/271)
(16) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام لما بويع بالمدينة : ذمتي بما أقول رهينة ، وأنا به زعيم .
إن من صرحت له العبر عما بين يديه من المثلات ، حجزته التقوى عن تقحم الشبهات .
ألا وإن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيه (1) .
والذى بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة ، ولتغربلن غربلة ولتساطن سوط القدر ، حتى يعود أسفلكم أعلاكم ، وأعلاكم أسفلكم .
وليسبقن سابقون كانوا قصروا ، وليقصرن سباقون كانوا سبقوا .
والله ما كتمت وشمة ، ولا كذبت كذبة ، ولقد نبئت بهذا المقام وهذا اليوم .
ألا وإن الخطايا خيل شمس حمل عليها أهلها ، وخلعت لجمها ، فتقحمت بهم في النار .
ألا وإن التقوى مطايا ذلل ، حمل عليها أهلها ، وأعطوا أزمتها ، فأوردتهم الجنة .
حق وباطل ، ولكل أهل ، فلئن أمر الباطل لقديما فعل ، ولئن قل الحق لربما ولعل ، ولقلما أدبر شئ فأقبل .
* * * (2 قال الرضى عليه السلام 2) وأقول : إن في هذا الكلام الادنى من مواقع
__________
(1) كذا في ا ومخطوطة النهج ، وفى ب : " نبيهم " .
(2 - 2) ساقط من ب (*)(1/272)
الاحسان ما لا تبلغه مواقع الاستحسان ، وإن حظ العجب منه أكثر من حظ العجب به ، وفيه مع الحال التى وصفنا (1) زوائد من الفصاحة لا يقوم بها لسان ، ولا يطلع فجها إنسان ، ولا يعرف ما أقول إلا من ضرب في هذه الصناعة بحق ، وجرى فيها على عرق ، (وما يعقلها إلا العالمون) .
* * * ومن هذه الخطبة : شغل من الجنة والنار أمامه .
ساع سريع نجا ، وطالب بطئ رجا ، ومقصر في النار هوى .
اليمين والشمال مضلة ، والطريق الوسطى هي الجادة ، عليها باقى (2) الكتاب وآثار النبوة منها منفذ السنة ، وإليها مصير العاقبة .
هلك من ادعى وخاب من افترى .
من أبد صفحته للحق هلك (3) .
وكفى بالمرء جهلا ألا يعرف قدره .
لا يهلك على التقوى سنخ أصل ، ولا يظمأ عليها زرع قوم ، فاستتروا في بيوتكم ، وأصلحوا ذات بينكم ، والتوبة من ورائكم ، ولا يحمد حامد إلا ربه ، ولا يلم لائم إلا نفسه .
* * *
__________
(1) مخطوطة النهج : " وصفناه " .
(2) مخطوطة النهج : " ما في الكتاب " .
(3) زاد في مخطوطة النهج بعد هذه الكلمة : " عند جهلة الناس " .
(*)(1/273)
الشرح : الذمة : العقد والعهد ، يقول : هذا الدين في ذمتي ، كقولك : في عنقي ، وهما كناية عن الالتزام والضمان والتقلد .
والزعيم : الكفيل ، ومخرج الكلام لهم مخرج الترغيب في سماع ما يقوله ، كما يقول المهتم بإيضاح امر لقوم لهم : أنا المدرك المتقلد بصدق ما أقوله لكم .
وصرحت : كشفت .
والعبر : جمع عبرة ، وهى الموعظة .
والمثلات : العقوبات .
وحجزه منعه .
وقوله : " لتبلبلن " أي لتخلطن ، تبلبلت الالسن ، أي اختلطت .
" ولتغربلن " يجوز أن يكون من الغربال الذى يغربل به الدقيق ، ويجوز أن يكون من غربلت اللحم ، أي قطعته .
فإن كان الاول كان له معنيان : أحدهما الاختلاط ، كالتبلبل ، لان غربلة الدقيق تخلط بعضه ببعض .
والثانى أن يريد بذلك أنه يستخلص الصالح منكم من الفاسد ، ويتميز كما يتميز الدقيق عند الغربلة من نخالته .
وتقول : ما عصيت فلانا وشمة ، أي كلمة .
وحصان شموس : يمنع ظهره ، شمس الفرس ، بالفتح ، وبه شماس .
وأمر الباطل : كثر .
وقوله : " لقديما فعل " أي لقديما فعل الباطل ذلك ، ونسب الفعل إلى الباطل مجازا .
ويجوز أن يكون " فعل " بمعنى " انفعل " كقوله (1) : * قد جبر الدين الاله فجبر * أي فانجبر .
والسنخ : الاصل ، وقوله : " سنخ أصل " كقوله (2) : * إذا حاص عينيه كرى النوم ...
* وفي بعض الروايات : " من أبدى صفحته للحق هلك عند جهله الناس " ، والتأويل مختلف فمراده على الرواية الاولى - وهى الصحيحة - من كاشف الحق مخاصما له هلك ،
__________
(1) مطلع أرجوزة للعجاج ، ديوانه 15 ، واللسان 5 : 185 (2) لتأبط شرا ، والبيت برواية أبى تمام في الحماسة - بشرح المرزوقى 1 : 97 : إذا عينيه كرى النوم لم يزل له كالئ من قلب شيحان فاتك (*)(1/274)
وهى كلمة جارية مجرى المثل .
ومراده على الرواية الثانية : من أبدى صفحته لنصره الحق غلبه أهل الجهل ، لانهم العامة ، وفيهم الكثرة ، فهلك .
* * * وهذه الخطبة من جلائل خطبه عليه السلام ومن مشهوراتها ، قد رواها الناس كلهم ، وفيها زيادات حذفها الرضى ، إما اختصارا أو خوفا من إيحاش السامعين ، وقد ذكرها شيخنا أبو عثمان الجاحظ في كتاب " البيان والتبيين " على وجهها (1) ، ورواها عن أبى عبيدة معمر بن المثنى .
قال : أول خطبة خطبها أمير المؤمنين على عليه السلام بالمدينة في خلافته (2 حمد الله وأثنى عليه ، وصلى على النبي صلى الله وآله 2) ، ثم قال : ألا لا يرعين (3) مرع إلا على نفسه .
شغل من الجنة والنار أمامه (4) .
ساع مجتهد [ ينجو ] (5) ، وطالب يرجو ، ومقصر في النار (6) ، ثلاثة .
واثنان : ملك طار بجناحيه ، ونبى أخذ الله بيده (7) ، لا سادس .
لك من ادعى ، وردى من اقتحم .
(8) اليمين والشمال مضلة ، والوسطى الجادة (9) ، منهج عليه باقى الكتاب والسنة وآثار النبوة .
إن الله داوى هذه الامة بدواءين : السوط والسيف ، لا هوادة عند الامام فيهما .
استتروا في بيوتكم (10) ، وأصلحوا ذات بينكم (11) ، والتوبة من ورائكم .
من أبدى صفحته
__________
(1) البيان والتبيين (2 : 50 - 52) ، ورواها أيضا ابن قتيبة في عيون الاخبار (2 : 236) .
(2 - 2) البيان : " أنه قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه " .
(3) البيان : " أما بعد فلا يرعين " .
(4) في البيان : " فإن من أرعى على غير نفسه شغل عن الجنة والنار أمامه " (5) تكملة من البيان والتبيين (6) عند ابن قتيبة في العيون : " ساع سريع نجا ، وطالب بطئ رجاء ، ومقصر في النار هوى " .
(7) البيان والعيون : " بيديه " (8) البيان : " فإن اليمين " .
(9) الجادة : الطريق الواضح .
(10) البيان : " استتروا بيوتكم " ، والعيون " فاستتروا ببيوتكم " .
(11) البيان : " وأصلحوا فيما بينكم " .
(*)(1/275)
للحق هلك .
قد كانت [ لكم ] أمور [ ملتم فيها على ميلة ] (1) لم تكونوا عندي فيها محمودين (2) [ ولا مصيبين ] (1) .
أما إنى لو أشاء لقلت : عفا الله عما سلف .
سبق الرجلان وقام الثالث كالغراب ، همته بطنه .
ويحه (3) لو قص جناحاه ، وقطع رأسه لكان خير له ! انظروا فإن أنكرتم فأنكروا ، وإن عرفتم فآزروا .
حق وباطل ، ولكل أهل .
ولئن أمر الباطل لقديما فعل ، وإن (4) قل الحق لربما ولعل ، وقلما أدبر شئ فأقبل (5) .
ولئن رجعت إليكم أموركم إنكم لسعداء ، وإنى لاخشى أن تكونوا في فترة ، وما علينا إلا الاجتهاد .
قال شيخنا أبو عثمان رحمه الله تعالى : وقال أبو عبيدة : وزاد (6 فيها في رواية جعفر ابن محمد عليه السلام عن آبائه عليهم السلام 6) : ألا إن أبرار عترتي ، وأطايب أرومتى ، أحلم الناس صغارا ، وأعلم الناس كبارا .
ألا وإنا أهل بيت من علم الله علمنا ، وبحكم الله حكمنا ، ومن قول صادق سمعنا ، فإن تتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا ، وإن لم تفعلوا يهلككم الله بأيدينا .
ومعنا راية الحق ، من تبعها لحق ، ومن تأخر عنها غرق .
ألا وبنا يدرك ترة كل مؤمن ، وبنا تخلع ربقة الذل عن أعناقكم (7) ، وبنا فتح (8) لا بكم ، ومنا يختم لا بكم .
* * * قوله : " لا يرعين " أي لا يبقين ، أرعيت عليه ، أي أبقيت ، يقول : من أبقى على الناس فإنما أبقى على نفسه .
والهوادة : الرفق والصلح ، وأصله اللين ، والتهويد : المشى ،
__________
(1) تكملة من البيان والتبيين .
(2) البيان : " بمحمودين " (3) البيان : " يا ويحه " .
(4) البيان : " ولئن قل " .
(5) البيان : " ما أدبر شئ فأقبل " .
(6 - 6) البيان : " وروى فيها جعفر بن محمد " .
(7) البيان : " من أعناقكم " .
(8) ا ، والبيان : " فتح الله " .
(*)(1/276)
رويدا ، وفي الحديث : " أسرعوا المشى في الجنازة ولا تهودوا كما تهود أهل الكتاب " .
وآزرت : زيدا : أعنته .
والترة : والوتر .
والربقة : الحبل يجعل في عنق الشاة .
وردى : هلك ، من الردى ، كقولك : عمى من العمى ، وشجى من الشجى .
وقوله : " شغل من الجنة والنار أمامه " ، يريد به أن من كانت هاتان الداران أمامه لفى شغل عن أمور الدنيا إن كان رشيدا .
وقوله : " ساع مجتهد " إلى قوله : " لا سادس " كلام تقديره : المكلفون على خمسة أقسام : ساع مجتهد ، وطالب راج ، ومقصر هالك .
ثم قال : ثلاثة ، أي فهؤلاء ثلاثة أقسام ، وهذا ينظر إلى قوله سبحانه : (ثم أرثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله) (1) ، ثم ذكر القسمين : الرابع والخامس ، فقال : هما ملك طار بجناحيه ، ونبى أخذ الله بيده ، يريد عصمة هذين النوعين من القبيح ، ثم قال : " لا سادس " ، أي لم يبق في المكلفين قسم سادس .
وهذا يقتضى أن العصمة ليست إلا للانبياء والملائكة ، ولو كان الامام يجب أن يكون معصوما لكان قسما سادسا ، فإذن قد شهد هذا الكلام بصحة ما تقوله المعتزلة في نفى اشتراط العصمة في الامامة ، اللهم إلا أن يجعل الامام المعصوم داخلا في القسم الاول ، وهو الساعي المجتهد .
وفيه بعد وضعف .
وقوله : " هلك من ادعى ، وردى من اقتحم " ، يريد هلك من ادعى وكذب ، لا بد من تقدير ذلك ، لان الدعوى تعم الصدق والكذب ، وكأنه يقول : هلك من ادعى الامامة ، وردى من اقتحمها وولجها عن غير استحقاق ، لان كلامه عليه السلام في هذه الخطبة كله كنايات عن الامامة لا عن غيرها .
__________
(1) سورة فاطر 32 (*)(1/277)
وقوله : " اليمين والشمال " ، مثال لان السالك الطريق المنهج اللاحب ناج ، والعادل عنها يمينا وشمالا معرض للخطر .
ونحو هذا الكلام ما روى عن عمر ، أنه لما صدر عن منى في السنة التى قتل فيها ، كوم كومة من البطحاء (1) فقام عليها ، فخطب الناس ، فقال : أيها الناس ، قد سنت لكم السنن ، وفرضت لكم الفرائض ، وتركتم على الواضحة ، إلا أن تميلوا بالناس يمينا وشمالا گ ثم قرأ : (أ لم نجعل له عينين .
ولسانا وشفتين .
وهديناه النجدين) (2) ثم قال الا إنهما نجدا الخير والشر ، فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير .
* * * [ من كلام للحجاج وزياد نسجا فيه على منوال كلام على ] وقوله : " إن الله داوى هذه الامة بدواءين " كلام شريف ، وعلى منواله نسج الحجاج وزياد كلامهما المذكور فيه السوط والسيف .
فمن ذلك قول الحجاج (3) : من أعياه داؤه ، فعلى دواؤه ، ومن استبطأ أجله فعلى أن أعجله ، ومن استثقل رأسه وضعت عنه ثقله ، ومن استطال ماضى عمره قصرت عليه باقيه ، إن للشيطان طيفا ، وإن للسلطان سيفا ، فمن سقمت سريرته ، صحت عقوبته ، ومن وضعه ذنبه ، رفعه صلبه ، ومن لم تسعه العافية لم تضق عنه الهلكة ، ومن سبقته بادرة فمه ، سبق بدنه سفك دمه .
إنى لانذر ثم لا أنظر ، وأحذر ثم لا أعذر ، وأتوعد ثم لا أغفر ، إنما أفسدكم (4) ترقيق ولاتكم .
ومن استرخى لببه (5) ، ساء أدبه .
إن الحزم والعزم سلباني
__________
(1) البطحاء : التراب السهل مما جرته السيول .
(2) سورة البلد 8 - 10 (3) نهاية الارب 7 : 224 ، صبح الاعشى 1 : 220 ، سرح العيون 122 (4) في صبح الاعشى : " ترنيق " ، والترنيق الضعف في الامر .
(5) اللبب : ما يشد في صدر الدابة ليمنع استئخار الرحل ، يريد أن الهوادة واللين لمما يفسد الرعية .
(*)(1/278)
سوطي ، (1 وجعلا سوطي سيفى 1) ، فقائمه في يدى ، ونجاده (2) في عنقي ، وذبابه (3) قلادة لمن عصاني .
الله لا آمر أحدا أن يخرج من (4 باب من 4) أبواب المسجد فيخرج من الباب الذى يليه إلا ضربت عنقه .
ومن ذلك قول زياد : إنما هو زجر بالقول ، ثم ضرب بالسوط ، ثم الثالثة التى لا شوى (5) لها .
فلا يكونن لسان أحدكم شفرة (6) تجرى على أوداجه (7) ، وليعلم إذا خلا بنفسه أنى قد حملت سيفى بيده ، فإن شهره لم أغمده ، وإن أغمده لم أشهره .
* * * وقوله عليه السلام : " كالغراب " يعنى الحرص والجشع ، والغراب يقع على الجيفة ، ويقع على الثمرة ، ويقع على الحبة ، وفي الامثال : " أجشع من غراب " ، " وأحرص من غراب .
وقوله : " ويحه لو قص " ، يريد لو كان قتل أو مات قبل أن يتلبس بالخلافة لكان خيرا له ، من أن يعيش ويدخل فيها ، ثم قال لهم : أفكروا فيما قد قلت ، فإن كان منكرا فأنكروه ، وإن كان حقا فأعينوا عليه .
وقوله : " استتروا في بيوتكم " نهى لهم عن العصبية (8) والاجتماع والتحزب ، فقد كان قوم بعد قتل عثمان تكلموا في قتله من شيعة بنى أمية بالمدينة .
__________
(1 - 1) صبح الاعشى : " وأبدلاني به سيفى " .
(2) النجاد : علاقة السيف .
(3) ذباب السيف : حده .
(4 - 4) ساقط من ب ، وهو في ا وصبح الاعشى .
(5) لا شوى لها ، أي لا خطأ لها ، أو لا براء ، ومنه قول الكميت : أجيبوا رقى الآسى النطاسى واحذروا مطفئة الرضف التى لا شوى لها (6) الشفرة : السكين العظيم ، أو ما عرض من الحديد وحدد .
(7) الاوداج : عروق العنق .
(8) ا : " المعصية " (*)(1/279)
وأما قوله : " قد كانت أمور لم تكونوا عندي فيها محمودين " ، فمراده أمر عثمان وتقديمه في الخلافة عليه .
ومن الناس من يحمل ذلك على خلافة الشيخين أيضا .
ويبعد عندي أن يكون أراده ، لان المدة قد كانت طالت ، ولم يبق من يعاتبه ليقول : قد كانت أمور لم تكونوا عندي فيها محمودين ، فإن هذا الكلام يشعر بمعاتبة قوم على أمر كان أنكره منهم .
وأما بيعة عثمان ، ثم ما جرى بينه وبين عثمان من منازعات طويلة ، وغضب تارة ، وصلح أخرى ، ومراسلات خشنة ولطيفة ، وكون الناس بالمدينة كانوا حزبين وفئتين : إحداهما معه عليه السلام ، والاخرى مع عثمان ، فإن (1) صرف الكلام إلى ما قلناه بهذا الاعتبار أليق .
ولسنا نمنع من أن يكون في كلامه عليه السلام الكثير من التوجد والتألم لصرف الخلافة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله عنه ، وإنما كلامنا الآن في هذه اللفظات التى في هذه الخطبة ، على أن قوله عليه السلام : " سبق الرجلان " والاقتصار على ذلك فيه كفاية في انحرافه عنهما .
وأما قوله : " حق وباطل " إلى آخر الفصل ، فمعناه كل أمر فهو إما حق ، وإما باطل ، ولكل واحد من هذين أهل ، وما زال أهل الباطل أكثر من أهل الحق ، ولئن كان الحق قليلا فربما كثر ، ولعله ينتصر أهله .
ثم قال على سبيل التضجر بنفسه : " وقلما أدبر شئ فأقبل " ، استبعد عليه السلام أن تعود دولة قوم بعد زوالها عنهم ، وإلى هذا المعنى ذهب الشاعر في قوله : وقالوا يعود الماء في النهر بعد ما ذوى نبت جنبيه وجف المشارع فقلت إلى أن يرجع النهر جاريا ويعشب جنباه يموت الضفادع
__________
(1) ا : " وإن " .
(*)(1/280)
ثم قال : " ولئن رجعت عليكم أموركم " أي إن ساعدني الوقت ، وتمكنت من أن أحكم فيكم بحكم الله تعالى ورسوله ، وعادت إليكم أيام شبيهة بأيام رسول الله صلى الله عليه وآله ، وسيرة مماثلة لسيرته في أصحابه ، إنكم لسعداء .
ثم قال : " وإنى لاخشى أن تكونوا في فترة " ، الفترة هي الازمنة التى بين الانبياء إذا انقطعت الرسل فيها ، كالفترة التى بين عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وآله ، لانه لم يكن بينهما نبى ، بخلاف المدة التى كانت بين موسى وعيسى عليهما السلام ، لانه بعث فيها أنبياء كثيرون ، فيقول عليه السلام : إنى لاخشى ألا أتمكن من الحكم بكتاب الله تعالى فيكم ، فتكونوا كالامم الذين في أزمنة الفترة لا يرجعون إلى نبى يشافههم بالشرائع والاحكام ، وكأنه عليه السلام قد كان يعلم أن الامر سيضطرب عليه .
ثم قال : " وما علينا إلا الاجتهاد " ، يقول : أنا أعمل ما يجب على (1 من الاجتهاد 1) في القيام بالشريعة وعزل ولاة السوء وأمراء الفساد عن المسلمين ، فإن تم ما أريده فذاك ، وإلا كنت قد أعذرت .
وأما التتمة المروية عن جعفر بن محمد عليهما السلام فواضحة الالفاظ ، وقوله في آخرها : " وبنا تختم لا بكم " إشارة إلى المهدى الذى يظهر في آخر الزمان .
وأكثر المحدثين على أنه من ولد فاطمة عليها السلام .
وأصحابنا المعتزلة لا ينكرونه ، وقد صرحوا بذكره في كتبهم ، واعترف به شيوخهم ، إلا أنه عندنا لم يخلق بعد ، وسيخلق .
وإلى هذا المذهب يذهب أصحاب الحديث أيضا .
وروى قاضى القضاة رحمه الله تعالى عن كافى الكفاة أبى القاسم إسمعيل بن عباد
__________
(1 - 1) ساقط من ب (*)(1/281)
رحمه الله بإسناد متصل بعلى عليه السلام أنه ذكر المهدى ، وقال : إنه من ولد الحسين عليه السلام ، وذكر حليته (1) ، فقال رجل : أجلى الجبين ، أقنى الانف ، ضخم البطن ، أزيل (2) الفخذين ، أبلج الثنايا ، بفخذه اليمنى شامة ...
وذكر هذا الحديث بعينه عبد الله بن قتيبة في كتاب " غريب الحديث " .
* * *
__________
(1) الحلية هنا : الصفة .
(2) الزيل ، محركة : تباعد مابين الفخذين ، وهو أزيل .
(*)(1/282)
(17) ومن كلام له عليه السلا م في صفة من يتصدى للحكم بين الامة وليس لذلك بأهل : إن أبغض الخلائق إلى الله تعالى رجلان : رجل وكله الله إلى نفسه ، فهو جائر عن قصد السبيل ، مشغوف بكلام بدعة ، ودعاء ضلالة ، فهو فتنة لمن ، افتتن به ، ضال عن هدى من كان قبله ، مضل لمن اقتدى به في حياته وبعد وفاته .
حمال خطايا غيره ، رهن بخطيئته .
ورجل قمش جهلا ، موضع في جهال الامة ، عاد في أغباش الفتنة ، عم بما في عقد الهدنة ، قد سماه أشباه الناس عالما ، وليس به .
بكر فاستكثر من جمع ، ما قل منه خير مما كثر ، حتى إذا ارتوى من آجن ، واكتنز من غير طائل .
جلس بين الناس قاضيا ، ضامنا لتخليص ما التبس على غيره .
فإن نزلت به إحدى المبهمات ، هيأ لها حشوا رثا من رأيه ، ثم قطع به .
فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت ، لا يدرى أصاب أم أخطأ ، فإن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ ، وإن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب .
جاهل خباط جهالات ، عاش ركاب عشوات ، لم يعض على العلم بضرس قاطع .
يذرى الروايات إذراء الريح الهشيم ، لا ملئ والله بإصدار ما ورد عليه ، ولا هو أهل لما فوض إليه .
لا يحسب العلم في شئ مما أنكره ، ولا يرى أن من وراء ما بلغ مذهبا لغيره ، وإن أظلم عليه أمر اكتتم به ، لما يعلم من جهل نفسه ، تصرخ من جور قضائه الدماء ، وتعج منه المواريث .(1/283)
إلى الله من معشر يعيشون جهالا ، ويموتون ضلالا ، ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تلى حق تلاوته ، ولا سلعة أنفق بيعا ، ولا أغلى ثمنا من الكتاب إذا حرف عن مواضعه ، ولا عندهم أنكر من المعروف ، ولا أعرف من المنكر .
* * * الشرح : وكله إلى نفسه : تركه ونفسه ، وكلته وكلا ووكولا .
والجائر : الضال العادل عن الطريق .
وقمش جهلا : جمعه .
وموضع : مسرع ، أوضع البعير أسرع ، وأوضعه راكبه فهو موضع به ، أي أسرع به .
وأغباش الفتنة : ظلمها ، الواحدة غبش ، وأغباش الليل : بقايا ظلمته ، ومنه الحديث في صلاة الصبح : " والنساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغبش " .
والماء الآجن : الفاسد .
واكثر ، كقولك : " استكثر " ، ويروى : " اكتنز " ، أي اتخذ العلم كنزا .
والتخليص : التبيين ، وهو والتلخيص متقاربان ، ولعلهما شئ واحد من المقلوب .
والمبهمات : المشكلات ، وإنما قيل لها مبهمة ، لانها أبهمت عن البيان ، كأنها أصمتت فلم يجعل عليها دليل ولا إليها سبيل ، أو جعل عليها دليل وإليها سبيل ، إلا أنه متعسر مستصعب ، ولهذا قيل لما لا ينطق من الحيوان : بهيمة ، وقيل للمصمت اللون الذى لا شية فيه بهيم .
وقوله : " حشوا رثا " كلام مخرجه الذم ، والرث : الخلق ، ضد الجديد .
وقوله " حشوا " ، يعنى كثيرا لا فائدة فيه .
وعاش : خابط في ظلام .
وقوله : " لم يعض " يريد أنه لم يتقن ولم يحكم الامور ، فيكون بمنزلة من يعض بالناجذ ، وهو آخر الاضراس وإنما
__________
(1) مروطهن : أكسيتهن .
(*)(1/284)
يطلع إذا استحكمت شبيبة الانسان واشتدت مرته ، ولذلك يدعوه العوام ضرس الحلم (1) ، كأن الحلم يأتي مع طلوعه ، ويذهب نزق الصبا ، ويقولون : رجل منجذ ، أي مجرب محكم ، كأنه قد عض على ناجذه وكمل عقله .
وقوله : " يذرى الروايات " هكذا أكثر النسخ ، وأكثر الروايات " يذرى " من " أذرى " رباعيا ، وقد أوضحه قوله : " إذراء الريح " ، يقال : طعنه فأذراه ، أي ألقاه ، وأذريت الحب للزرع ، أي ألقيته ، فكأنه يقول : يلقى الروايات كما يلقى الانسان الشئ على الارض ، والاجود الاصح الرواية الاخرى " يذرو الروايات ذرو الريح الهشيم " ، وهكذا ذكر ابن قتيبة في " غريب الحديث " لما ذكر هذه الخطبة عن أمير المؤمنين عليه السلام ، قال تعالى : (فأصبح هشيما تذروه الرياح) ، (2) والهشيم : ما يبس من النبت وتفتت .
قوله : " لا ملئ " ، أي لا قيم به ، وفلان غنى ملئ ، أي ثقة بين الملا والملاء ، بالمد .
وفي كتاب ابن قتيبة تتمة هذا الكلام : " ولا أهل لما قرظ به " ، قال : أي ليس بمستحق للمدح الذى مدح به .
والذى رواه ابن قتيبة من تمام كلام أمير المؤمنين عليه السلام هو الصحيح الجيد ، لانه يستقبح في العربية أن تقول : لا زيد قائم ، حتى تقول : ولا عمرو .
أو تقول : ولا قاعد ، فقوله عليه السلام : " لا ملئ " أي لا هو ملئ ، وهذا يستدعى " لا " ثانية ، ولا يحسن الاقتصار على الاولى .
وقوله عليه السلام : " اكتتم به " أي كتمه وستره .
وقوله : " تصرخ منه وتعج " .
العج : رفع الصوت ، وهذا من باب الاستعارة .
وفي كثير من النسخ : " إلى الله أشكو " فمن روى ذلك وقف على " المواريث " ،
__________
(1) الحلم ، بالكسر : الاناة والمقل .
(2) سورة الكهف 45 (*)(1/285)
ومن روى الرواية الاولى وقف على قوله : " إلى الله " ويكون قوله : " من معشر " من تمام صفات ذلك الحاكم ، أي هو من معشر صفتهم كذا .
وأبور " أفعل " من البور الفاسد ، بار الشئ ، أي فسد ، وبارت السلعة ، أي كسدت ولم تنفق ، وهو المراد هاهنا ، وأصله الفساد أيضا .
إن قيل : بينوا الفرق بين الرجلين اللذين أحدهما وكله الله إلى نفسه ، والآخر رجل قمش جهلا ، فإنهما في الظاهر واحد .
قيل : أما الرجل الاول ، فهو الضال في أصول العقائد ، كالمشبه والمجبر ونحوهما ، أ لا تراه كيف قال : " مشغوف بكلام بدعة ، ودعاء ضلالة " ، وهذا يشعر بما قلناه ، من أن مراده به المتكلم في أصول الدين ، وهو ضال عن الحق ، ولهذا قال : إنه فتنة لمن افتتن به ، ضال عن هدى من قبله ، مضل لمن يجئ بعده .
وأما الرجل الثاني فهو المتفقه في فروع الشرعيات ، وليس بأهل لذلك ، كفقهاء السوء ، أ لا تراه كيف يقول : جلس بين الناس قاضيا ! وقال أيضا : " تصرخ من جور قضائه الدماء ، وتعج منه المواريث " .
فإن قيل : ما معنى قوله في الرجل الاول : " رهن بخطيئته " ؟ قيل : لانه إن كان ضالا في دعوته مضلا لمن اتبعه ، فقد حمل خطاياه وخطايا غيره ، فهو رهن بالخطيئتين معا ، وهذا مثل قوله تعالى : (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) (1) .
إن قيل : ما معنى قوله " عم بما في عقد الهدنة " ؟ قيل : الهدنة أصلها في اللغة السكون ، يقال : هدن إذا سكن ، ومعنى الكلام أنه لا يعرف ما في الفتنة من الشر ، ولا ما في السكون والمصالحة (2) من الخير .
__________
(1) سورة العنكبوت 13 (2) ا : ا " المصلحة " ، تصحيف .
(*)(1/286)
ويروى " بما في غيب الهدنة " أي في طيها وفي ضمنها .
ويروى " غار في أغباش الفتنة " ، أي غافل ذو غرة .
وروى " من جمع " بالتنوين فتكون " ما " على هذا اسما موصولا ، وهى وصلتها في موضع جر لانها صفة " جمع " ، ومن لم يرو التنوين في " جمع " حذف الموصوف ، تقديره : من جمع شئ ما قل منه خير مما كثر ، فتكون " ما " مصدرية ، وتقدير الكلام : قلته خير من كثرته ، ويكون موضع ذلك جرا أيضا بالصفة .
* * *(1/287)
(18) الاصل : ومن كلام له عليه السلام في ذم اختلاف العلماء في الفتيا : ترد على أحدهم القضية في حكم من الاحكام ، فيحكم فيها برأيه ، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره ، فيحكم فيها بخلاف قوله (1) ، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الامام الذى استقضاهم ، فيصوب آراءهم جميعا وإلههم واحد ، ونبيهم واحد ، وكتابهم واحد .
أ فأمرهم الله تعالى بالاختلاف فأطاعوه ! أم نهاهم عنه فعصوه ! أم أنزل الله (2) سبحانه دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه ! أم كانوا شركاء له ، فلهم أن يقولوا ، وعليه أن يرضى ! أم أنزل الله سبحانه دينا تاما فقصر الرسول عن تبليغه وأدائه ، والله سبحانه يقول : (ما فرطنا في الكتاب من شئ (3)) ، (4 وفيه تبيان كل شئ .
4) وذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضا ، وأنه لا اختلاف فيه ، فقال سبحانه : (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) (5) .
وإن القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق ، لا تفنى عجائبه ، ولا تنقضي غرائبه ، ولا تكشف الظلمات إلا به .
* * *
__________
(1) كذا في ا ومخطوطة النهج ، وفى ب " بخلافه " .
(2) ا : " أم أنزل إليهم " .
(3) سورة الانعام 38 (4 - 4) في ب : " وقال : فيه تبيان كل شئ " ، والاصوب ما أثبته من ا ، ومخطوطة النهج .
(5) سورة النساء 82 (*)(1/288)
الشرح : الانيق : المعجب ، وآنقنى الشئ ، أي أعجبني ، يقول : لا ينبغى أن يحمل جميع ما في لكتاب العزيز على ظاهره ، فكم من ظاهر فيه غير مراد ، بل المراد به أمر آخر باطن ، والمراد الرد على أهل الاجتهاد في الاحكام الشرعية ، وإفساد قول من قال : كل مجتهد مصيب ، وتلخيص الاحتجاج من خمسة أوجه : الاول : أنه لما كان الاله سبحانه واحدا ، والرسول صلى الله عليه وآله واحدا ، والكتاب واحدا ، وجب أن يكون الحكم في الواقعة واحدا ، كالملك الذى يرسل إلى رعيته رسولا بكتاب يأمرهم فيه بأوامر يقتضيها ملكه وإمرته ، فإنه لا يجوز أن تتناقض أوامره ، ولو تناقضت لنسب إلى السفه والجهل .
الثاني : لا يخلو الاختلاف الذى ذهب إليه المجتهدون ، إما أن يكون مأمورا به أو منهيا عنه ، والاول باطل ، لانه ليس في الكتاب والسنة ما يمكن الخصم أن يتعلق به ، في كون الاختلاف مأمورا به .
والثانى حق ، ويلزم منه تحريم الاختلاف .
الثالث : إما أن يكون دين الاسلام ناقصا أو تاما ، فإن كان الاول ، كان الله سبحانه قد استعان بالمكلفين على إتمام شريعة ناقصة أرسل بها رسوله ، إما إستعانة على سبيل النيابة عنه ، أو على سبيل المشاركة له ، وكلاهما كفر وإن كان الثاني ، فإما أن يكون الله تعالى أنزل الشرع تاما فقصر الرسول عن تبليغه ، أو يكون الرسول قد أبلغه على تمامه وكماله ، فإن كان الاول فهو كفر أيضا ، وإن كان الثاني فقد بطل الاجتهاد ، لان الاجتهاد إنما يكون فيما لم يتبين فأما ما قد بين فلا مجال للاجتهاد فيه .
الرابع : الاستدلال بقوله تعالى : (ما فرطنا في الكتاب من شئ (1)) ، وقوله : (تبيانا لكل شئ) (2) ، وقوله سبحانه : (ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب
__________
(1) سورة الانعام 38 (3) سورة النحل 89 ، وفى الاصول : وقوله : " فيه تبيان كل شئ " ، والتلاوة ما أثبته (*)(1/289)
مبين) (1) ، فهذه الآيات دالة على اشتمال الكتاب العزيز على جميع الاحكام ، فكل ما ليس في الكتاب وجب ألا يكون في الشرع .
الخامس : قوله تعالى : (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) (2) ، فجعل الاختلاف دليلا على أنه ليس من عند الله ، لكنه من عند الله سبحانه بالادلة القاطعة الدالة على صحة النبوة ، فوجب ألا يكون فيه اختلاف .
واعلم أن هذه الوجوه هي التى يتعلق بها الامامية ونفاة القياس والاجتهاد في الشرعيات ، وقد تكلم عليها أصحابنا في كتبهم ، وقالوا : إن أمير المؤمنين عليه السلام كان يجتهد ويقيس ، وادعوا إجماع الصحابة على صحة الاجتهاد والقياس ، ودفعوا صحة هذا الكلام المنسوب في هذا الكتاب إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، وقالوا : إنه من رواية الامامية ، وهو معارض بما ترويه الزيدية عنه وعن أبنائه عليهم السلام في صحة القياس والاجتهاد ، ومخالطة الزيدية لائمة أهل البيت عليهم السلام كمخالطة الامامية لهم ، ومعرفتهم بأقوالهم وأحوالهم ومذاهبهم كمعرفة الامامية ، لا فرق بين الفئتين في ذلك .
والزيدية قاطبة جاروديتها وصالحيتها (3) تقول بالقياس والاجتهاد ، وينقلون في ذلك نصوصا عن أهل البيت عليهم السلام .
وإذا تعارضت الروايتان تساقطتا ، وعدنا إلى الادلة المذكورة في هذه المسألة .
وقد تكلمت في " اعتبار الذريعة " للمرتضى (4) على احتجاجه في إبطال القياس والاجتهاد بما ليس هذا موضع ذكره .
__________
(1) سورة الانعام 59 (2) سورة النساء 82 (3) الزيدية : أتباع زيد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب ، وهم أصناف ثلاثة : جارودية ، وهم أصحاب أبى الجارود زياد بن أبى زياد ، وسليمانية وهم أصحاب سليمان بن جرير ، وصالحية أصحاب الحسن بن صالح بن حى ، ومن هؤلاء البترية أصحاب كثير الابتر .
وانظر بتفصيل مذهبهم في الملل والنحل للشهرستاني 1 : 137 - 143 (4) هو كتاب الذريعة إلى أصول الشريعة ، للشريف المرتضى ، شرحه ابن أبى الحديد وسمى شرحه الاعتبار على كتاب الذريعة ، في ثلاثة مجلدات .
وانظر كتاب الذريعة إلى تصانيف الشيعة 10 : 26 (*)(1/290)
(19) الاصل : ومن كلام له عليه السلام ، قاله للاشعث بن قيس ، وهو على منبر الكوفة يخطب ، فمضى في بعض كلامه شئ اعترضه الاشعث فيه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، هذه عليك لا لك ، فخفض عليه السلام إليه بصره ، ثم قال : ما يدريك ما على مما لى ، عليك لعنة الله ولعنة اللاعنين ! حائك ابن حائك ، منافق ابن كافر .
والله لقد أسرك الكفر مرة والاسلام أخرى ، فما فداك من واحدة منهما مالك ولا حسبك .
وإن امرأ دل على قومه السيف ، وساق إليهم الحتف ، لحرى أن يمقته الاقرب ، ولا يأمنه الابعد .
قال الرضى رحمه الله : يريد عليه السلام أنه أسر في الكفر مرة وفي الاسلام مرة .
وأما قوله عليه السلام : " دل على قومه السيف " ، فأراد به حديثا كان للاشعث مع خالد بن الوليد باليمامة ، غر فيه قومه ، ومكر بهم ، حتى أوقع بهم خالد ، وكان قومه بعد ذلك يسمونه عرف النار ، وهو اسم للغادر عندهم * * *(1/291)
الشرح : فض إليه بصره : طأطأه .
وقوله : " فما فداك " لا يريد به الفداء الحقيقي فإن الاشعث فدى في الجاهلية بفداء يضرب به المثل ، فقال : " أغلى فداء من الاشعث " ، وسنذكره ، وإنما يريد : ما دفع عنك الاسر مالك ولا حسبك .
ويمقته : يبغضه ، والمقت : البغض .
[ الاشعث ونسبه وبعض أخباره ] اسم الاشعث معدى كرب ، وأبوه قيس الاشج - سمى الاشج ، لانه شج في بعض حروبهم - بن معدى كرب بن معاوية بن معدى كرب بن معاوية بن جبلة ابن عبد العزى بن ربيعة بن معاوية الاكرمين بن الحارث بن معاوية بن الحارث ابن معاوية بن ثور بن مرتع (1) بن معاوية بن كندة بن عفير بن عدى بن الحارث ابن مرة بن أدد .
وأم الاشعث كبشة بنت يزيد بن شرحبيل بن يزيد بن امرئ القيس بن عمرو المقصور الملك .
كان الاشعث أبدا أشعث الرأس ، فسمى الاشعث ، وغلب عليه حتى نسى اسمه ، ولعبد الرحمن بن محمد بن الاشعث يقول أعشى همدان (2) : يا بن الاشج قريع كندة لا أبالى فيك عتبا (3)
__________
(1) مرتع ، كمحدث ، وكمحسن أيضا .
القاموس .
(2) هو أبو مصح عبد الرحمن بن عبد الله ، من أبيات في ديوانه الاعشير 311 ، أولها : من مبلغ الحجاج أنى قد ندبت إليه حربا حربا مذكرة عوانا تترك الشبان شهبا (3) في الديوان : لابن الاشج قريع كندة لا أبين فيه عتبا (*)(1/292)
أنت الرئيس ابن الرئيس وأنت أعلى الناس كعبا (1) .
وتزوج رسول الله صلى الله عليه وآله قتيلة أخت الاشعث ، فتوفى قبل أن تصل إليه .
فأما الاسر الذى أشار أمير المؤمنين عليه السلام إليه في الجاهلية فقد ذكره ابن الكلبى في " جمهرة النسب " فقال : إن مرادا لما قتلت قيسا الاشمج ، خرج الاشعث طالبا بثأره (2) ، فخرجت كندة متساندين على ثلاثة ألوية : على أحد الالوية كبس ابن هانئ بن شرحبيل بن الحارث بن عدى بن ربيعة بن معاوية الاكرمين - ويعرف هانئ بالمطلع ، لانه كان يغزو فيقول : اطلعت بنى (3) فلان ، فسمى المطلع .
وعلى أحدها القشعم أبو جبر (4) بن يزيد الارقم .
وعلى أحدها الاشعث فأخطاوا مرادا ، ولم يقعوا .
عليهم ، ووقعوا على بنى الحارث بن كعب ، فقتل كبس والقشعم أبو جبر ، وأسر الاشعث ، ففدى بثلاثة آلاف بعير ، لم يفد بها عربي بعده ولا قبله ، فقال في ذلك عمرو بن معدى كرب الزبيدى : فكان فداؤه ألفى بعير وألفا من طريفات وتلد .
وأما الاسر الثاني في الاسلام ، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله لما قدمت كندة حجاجا قبل الهجرة ، عرض رسول الله صلى الله عليه وآله نفسه عليهم ، كما كان يعرض نفسه على أحياء العرب ، فدفعه بنو وليعة من بنى عمرو بن معاوية ولم يقبلوه ، فلما هاجر صلى الله عليه وآله وتمهدت دعوته ، وجاءته وفود العرب ، جاءه وفد كندة ، فيهم الاشعث وبنو وليعة فأسلموا ، فأطعم رسول الله صلى الله عليه وآله بنى وليعة طعمة من صدقات حضرموت ، وكان قد استعمل على حضرموت زياد بن لبيد البياضى الانصاري ، فدفعها زياد إليهم ، فأبوا أخذها ، وقالوا : لا ظهر لنا (5) ، فابعث بها إلى بلادنا على ظهر
__________
(1) الديوان : " أعلى القوم " .
(2) ا : " ثأره " .
(3) أطلع القوم : هجم عليهم .
(4) ا : " القاسم بن جبر " ، وصوابه من ب ، والاشتقاق 365 (5) الظهر : الركاب التى تحمل الاسفار في السفر سميت بذلك لحملها إياها على ظهورها .
(*)(1/293)
من عندك ، فأبى زياد ، وحدث بينهم وبين زياد شر ، كاد يكون حربا ، فرجع منهم قوم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ، وكتب زياد إليه عليه السلام يشكوهم .
وفي هذه الوقعة كان الخبر المشهور عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، قال لبنى وليعة : " لتنتهن يا بنى وليعة ، أو لابعثن عليكم رجلا عديل نفسي ، يقتل مقاتلتكم ، ويسبي ذراريكم " .
قال عمر بن الخطاب : فما تمنيت الامارة إلا يومئذ ، وجعلت أنصب له صدري رجاء أن يقول : هو هذا ، فأخذ بيد على عليه السلام ، وقال : " هو هذا " .
ثم كتب لهم رسول الله صلى الله عليه وآله ، إلى زياد ، فوصلوا إليه الكتاب ، وقد توفى رسول الله صلى الله عليه وآله ، وطار الخبر بموته إلى قبائل العرب ، فارتدت بنو وليعة ، وغنت بغاياهم ، وخضبن له أيديهن .
وقال محمد بن حبيب : كان إسلام بنى وليعه ضعيفا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يعلم ذلك منهم .
ولما حج رسول الله صلى الله عليه وآله حجة الوداع ، وانتهى إلى فم الشعب دخل أسامة بن زيد ليبول ، فانتظره رسول الله صلى الله عليه وآله ، وكان أسامة أسود أفطس ، فقال بنو وليعة : هذا الحبشى حبسنا ! فكانت الردة في أنفسهم .
قال أبو جعفر محمد بن جرير (1) : فأمر أبو بكر زيادا على حضر موت ، وأمره بأخذ البيعة على أهلها واستيفاء صدقاتهم ، فبايعوه إلا بنى وليعة ، فلما خرج ليقبض الصدقات من بنى عمرو بن معاوية ، أخذ ناقة لغلام منهم يعرف بشيطان بن حجر ، وكانت صفية (2) نفيسة ، اسمها شذرة ، فمنعه الغلام عنها ، وقال : خذ غيرها ، فأبى زياد ذلك ولج ، فاستغاث شيطان بأخيه العداء بن حجر ، فقال لزياد : دعها وخذ غيرها ، فأبى زياد ذلك ، ولج الغلامان في أخذها ولج زياد وقال لهما : لا تكونن شذرة عليكما كالبسوس ،
__________
(1) تاريخ الطبري 3 : 270 ، مع تصرف .
(29 الصفية : الناقة الغزيرة اللبن .
(*)(1/294)
فهتف الغلامان : يالعمرو ! أ نضام ونضطهد ! إن الذليل من أكل في داره .
وهتفا بمسروق بن معدى كرب ، فقال مسروق لزياد أطلقها ، فأبى ، فقال مسروق : يطلقها شيخ بخديه الشيب (1) ملمع فيه كتلميع الثوب (2) ماض على الريب إذا كان الريب (3) ثم قام فأطلقها ، فاجتمع إلى زياد بن لبيد أصحابه ، واجتمع بنو وليعة ، وأظهروا أمرهم ، فبيتهم زياد وهم غارون ، فقتل منهم جمعا كثيرا ، ونهب وسبى ، ولحق فلهم بالاشعث بن قيس ، فاستنصروه فقال : لا أنصركم حتى تملكوني عليكم .
فملكوه وتوجوه كما يتوج الملك من قحطان .
فخرج إلى زياد في جمع كثيف ، وكتب أبو بكر إلى المهاجر ابن أبى أمية وهو على صنعاء ، أن يسير بمن معه إلى زياد ، فاستخلف على صنعاء ، وسار إلى زياد ، فلقوا الاشعث فهزموه وقتل مسروق ، ولجأ الاشعث والباقون إلى الحصن المعروف بالنجير (4) .
فحاصرهم المسلمون حصارا شديدا حتى ضعفوا ، ونزل الاشعث ليلا إلى المهاجر وزياد ، فسألهما الامان على نفسه ، حتى يقدما به على أبى بكر فيرى فيه رأيه ، على أن يفتح لهم الحصن ويسلم إليهم من فيه .
وقيل : بل كان في الامان عشرة من أهل الاشعث .
فأمناه وأمضيا شرطه ، ففتح لهم الحصن ، فدخلوه واستنزلوا كل من فيه ، وأخذوا أسلحتهم ، وقالوا للاشعث : اعزل العشرة ، فعزلهم ، فتركوهم وقتلوا الباقين - وكانوا ثمانمائة - وقطعوا أيدى النساء اللواتى شمتن برسول الله صلى الله عليه وآله ، وحملوا الاشعث
__________
(1) الطبري : " يمنعها " (2) الطبري : * ملمع كما يلمع الثوب * (3) لم يرد هذا البيت في الطبري .
(4) كذا ضبطه صاحب مراصد الاطلاع بالتصغير ، وقال : " حصن باليمن قرب حضر موت " (*)(1/295)
إلى أبى بكر موثقا في الحديد هو والعشرة ، فعفا عنه وعنهم ، وزوجه أخته أم فروة بنت أبى قحافة - وكانت عمياء - فولدت للاشعث محمدا وإسماعيل وإسحاق .
وخرج الاشعث يوم البناء عليها إلى سوق المدينة ، فما مر بذات أربع إلا عقرها ، وقال للناس : هذه وليمة البناء ، وثمن كل عقيرة في مالى .
فدفع أثمانها إلى أربابها .
قال أبو جعفر محمد بن جرير في التاريخ : وكان المسلمون يلعنون الاشعث ويلعنه الكافرون أيضا وسبايا قومه ، وسماه نساء قومه عرف النار ، وهو اسم للغادر عندهم (1) .
وهذا عندي هو الوجه ، وهو أصح مما ذكره الرضى رحمه الله تعالى من قوله في تفسير قول أمير المؤمنين : " وإن امرأ دل على قومه السيف " : إنه أراد به حديثا كان للاشعث مع خالد بن الوليد باليمامة غر فيه قومه ، ومكر بهم حتى قتلهم ، فإنا لم نعرف في التواريخ إن الاشعث جرى له باليمامة مع خالد هذا ولا شبهه ، وأين كندة واليمامة ؟ كندة باليمن ، واليمامة لبنى حنيفة ، ولا أعلم من أين نقل الرضى رحمه الله تعالى هذا ! * * * فأما الكلام الذى كان أمير المؤمنين عليه السلام قاله على منبر الكوفة فاعترضه فيه الاشعث ، فإن عليا عليه السلام قام إليه وهو يخطب ، ويذكر أمر الحكمين ، فقام رجل من أصحابه ، بعد أن انقضى أمر الخوارج ، فقال له : نهيتنا عن الحكومة ثم أمرتنا بها ، فما ندرى أي الامرين أرشد ! فصفق عليه السلام بإحدى يديه على الاخرى ، وقال : هذا جزاء من ترك العقدة .
وكان مراده عليه السلام : هذا جزاؤكم إذ تركتم الرأى والحزم ، وأصررتم على إجابة القوم إلى التحكيم ، فظن الاشعث أنه أراد : هذا جزائي حيث تركت الرأى والحزم وحكمت ، لان هذه اللفظة محتملة ، أ لا ترك أن الرئيس
__________
(1) الطبري 3 : 275 ، وعبارته : " كلام يمان به الغادر " (*)(1/296)
إذا شغب عليه جنده وطلبوا منه اعتماد أمر ليس بصواب ، فوافقهم تسكينا لشغبهم لا استصلاحا لرأيهم ، ثم ندموا بعد ذلك ، قد يقول : هذا جزاء من ترك الرأى ، وخالف وجه الحزم ، ويعنى بذلك أصحابه ، وقد يقوله يعنى به نفسه حيث وافقهم .
وأمير المؤمنين عليه السلام إنما عنى ما ذكرناه دون ما خطر للاشعث ، فلما قال له : هذه عليك لا لك ، قال له : وما يدريك ما على مما لى ، عليك لعنة الله ولعنة اللاعنين ! وكان الاشعث من المنافقين في خلافة على عليه السلام ، وهو في أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام ، كما كان عبد الله بن أبى بن سلول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ، كل واحد منهما رأس النفاق في زمانه .
وأما قوله عليه السلام للاشعث : " حائك ابن حائك " ، فإن أهل اليمن يعيرون بالحياكة وليس هذا مما يخص الاشعث .
ومن كلام خالد بن صفوان : ما أقول في قوم ليس فيهم إلا حائك برد ، أو دابغ جلد ، أو سائس قرد ، ملكتهم امرأة ، وأغرقتهم فأرة ، ودل عليهم هدهد ! * * *(1/297)
(20) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : فإنكم لو قد عاينتم ما قد عاين من مات منكم ، لجزعتم ووهلتم وسمعتم وأطعتم ، ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا ، وقريب ما يطرح الحجاب ! ولقد بصرتم إن أبصرتم وأسمعتم إن سمعتم ، وهديتم إن اهتديتم ، وبحق أقول لكم (1) : لقد جاهرتكم العبر ، وزجرتم بما فيه مزدجر ، وما يبلغ عن الله بعد رسل السماء إلا البشر .
* * * الشرح : الوهل : الخوف ، وهل الرجل يوهل .
و " ما " في قوله : " ما يطرح " مصدرية ، تقديره : " وقريب طرح الحجاب " ، يعنى رفعه بالموت .
وهذا الكلام يدل على صحة القول بعذاب القبر ، وأصحابنا كلهم يذهبون إليه ، وإن شنع عليهم أعداؤهم من الاشعرية وغيرهم بجحده .
وذكر قاضى القضاة رحمه الله تعالى : أنه لم يعرف (2) معتزليا نفى عذاب القبر ، لا من
__________
(1) كلمة " لكم " ساقطة من ا (2) : " يعرف " .
(*)(1/298)
متقدميهم ولا من متأخريهم ، قال : وإنما نفاه ضرار (1) بن عمرو ، ولمخالطته لاصحابنا وأخذه عن شيوخنا ، ما نسب قوله إليهم .
ويمكن أن يقول قائل : هذا الكلام لا يدل على صحة القول بعذاب القبر ، لجواز أن يعنى بمعاينة من قد مات ، ما يشاهده المحتضر من الحالة الدالة على السعادة أو الشقاوة ، فقد جاء في الخبر : " لا يموت امرؤ حتى يعلم مصيره ، هل هو إلى جنة أم إلى النار " .
ويمكن أن يعنى به ما يعاينه المحتضر من ملك الموت وهول قدومه .
ويمكن أن يعنى به ما كان عليه السلام يقوله عن نفسه : إنه لا يموت ميت حتى يشاهده عليه السلام حاضرا عنده .
والشيعة تذهب إلى هذا القول وتعتقده ، وتروى عنه عليه السلام شعرا قاله للحارث الاعور الهمداني : يا حار همدان من يمت يرنى من مؤمن أو منافق قبلا يعرفني طرفه وأعرفه بعينه واسمه وما فعلا أقول للنار وهى توقد للعرض ذريه لا تقربي الرجلا ذريه لا تقربيه إن له حبلا بحبل الوصي متصلا وأنت يا حار إن تمنى فلا تخف عثرة ولا زللا (2) أسقيك من بارد على ظمإ تخاله في الحلاوة العسلا وليس هذا بمنكر ، إن صح أنه عليه السلام قاله عن نفسه ، ففى الكتاب العزيز ما يدل على أن أهل الكتاب لا يموت منهم ميت حتى يصدق بعيسى بن مريم عليه السلام ، وذلك قوله : (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم
__________
(1) ضرار بن عمرو ، صاحب مذهب الضرارية من فرق الجبرية ، وكان في بدء أمره تلميذا لواصل ابن عطاء المعتزلي ، ثم خالفه في خلق الاعمال وإنكار عذاب القبر .
الفرق بين الفرق 201 (2) هذا البيت والذى يليه لم يذكرا في ب (*)(1/299)
القيامة يكون عليهم شهيدا) (1) ، قال كثير من المفسرين : معنى ذلك أن كل ميت من اليهود وغيرهم من أهل الكتب السالفة إذا احتضر رأى المسيح عيسى (2) عنده ، فيصدق به من لم يكن في أوقات التكليف مصدقا به .
وشبيه بقوله عليه السلام : " لو عاينتم ما عاين من مات قبلكم " قول أبى حازم لسليمان بن عبد الملك في كلام يعظه به : إن آباءك ابتزوا هذا الامر من غير مشورة ، ثم ماتوا ، فلو علمت ما قالوا وما قيل لهم ! فقيل : إنه (3 بكى حتى سقط 3) .
* * *
__________
(1) سورة النساء 159 (2) ساقطة من ب (3 - 3) ا : " إن سليمان بكى حتى سقط " .
(*)(1/300)
(21) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : فإن الغاية أمامكم ، وإن وراءكم الساعة تحدوكم .
تخففوا تلحقوا ، فإنما ينتظر بأولكم آخركم .
* * * قال الرضى رحمه الله : أقول إن هذا الكلام لو وزن بعد كلام الله سبحانه ، وبعد كلام رسول الله صلى الله عليه وآله بكل كلام لمال به راجحا ، وبرز عليه سابقا .
فأما قوله عليه السلام : " تخففوا تلحقوا " ، فما سمع كلام أقل منه مسموعا ولا أكثر منه (1) محصولا ، وما أبعد غورها من كلمة ! وأنقع نطفتها من حكمة ! وقد نبهنا في كتاب " الخصائص " (2) على عظم قدرها ، وشرف جوهرها .
* * * الشرح : غاية المكلفين هي الثواب أو العقاب ، فيحتمل أن يكون أراد ذلك ، ويحتمل أن يكون أراد بالغاية الموت ، وإنما جعل ذلك أمامنا ، لان الانسان كالسائر إلى الموت ، أو كالسائر إلى الجزاء ، فهما أمامه ، أي بين يديه .
__________
(1) ساقطة من ب .
(2) كتاب خصائص الائمة للشريف الرضى .
انظر الذريعة في مصنفات الشيعة 7 : 164 (*)(1/301)
ثم قال : " وإن وراءكم الساعة تحدوكم " ، أي تسوقكم ، وإنما جعلها وراءنا ، لانها إذا وجدت ساقت الناس إلى موقف الجزاء كما يسوق الراعى الابل ، فلما كانت سائقة لنا ، كانت كالشئ يحفز الانسان من خلفه ، ويحركه من ورائه ، إلى جهة ما بين يديه .
ولا يجوز أن يقال : إنما سماها " وراءنا " ، لانها تكون بعد موتنا وخروجنا من الدنيا ، وذلك أن الثواب والعقاب هذا شأنهما ، وقد جعلهما أمامنا .
وأما القطب الراوندي ، فإنه قال : معنى قوله : " فإن الغاية أمامكم " ، يعنى أن الجنة والنار خلفكم .
ومعنى قوله : " وراءكم الساعة " ، أي قدامكم .
ولقائل أن يقول : أما الوراء بمعنى القدام فقد ورد ، ولكن ما ورد " أمام " بمعنى " خلف " ، ولا سمعنا ذلك .
وأما قوله : " تخففوا تلحقوا " ، فأصله الرجل يسعى ، وهو غير مثقل بما يحمله ، يكون أجدر أن يلحق الذين سبقوه ، ومثله قوله : " نجا المخففون " .
وقوله عليه السلام : " فإنما ينتظر بأولكم آخركم " ، يريد : إنما ينتظر ببعث الذين ماتوا في أول الدهر ، مجئ من ما يخلقون ويموتون في آخره ، كأمير يريد إعطاء جنده إذا تكامل عرضهم ، إنما يعطى الاول منهم إذا انتهى عرض الاخير .
وهذا كلام فصيح جدا .
والغور : العمق .
والنطفة ما صفا من الماء ، وما أنقع هذا الماء ! أي ما أرواه للعطش !(1/302)
(22) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : ألا وإن الشيطان قد ذمر حزبه ، واستجلب جلبه ، ليعود الجور إلى أوطانه (1) ، ويرجع الباطل إلى نصابه .
والله ما أنكروا على منكرا ، ولا جعلوا بينى وبينهم نصفا ، وإنهم ليطلبون حقا هم تركوه ودما هم سفكوه ، فلئن كنت شريكهم فيه ، فإن لهم لنصيبهم منه ، ولئن كانوا ولوه دوني ، فما التبعة إلا عندهم .
وإن أعظم حجتهم لعلى أنفسهم ، يرتضعون أما قد فطمت ، ويحيون بدعة قد أميتت .
يا خيبة الداعي ! من دعا ! وإلام أجيب ! وإنى لراض بحجة الله عليهم ، وعلمه فيهم ، فإن أبوا أعطيتهم حد السيف ، وكفى به شافيا من الباطل ، وناصرا للحق ! ومن العجب بعثهم إلى أن أبرز للطعان ، وأن أصبر للجلاد .
هبلتهم الهبول ! لقد كنت وما أهدد بالحرب ، ولا أرهب بالضرب .
وإنى لعلى يقين من ربى ، وغير شبهة من دينى * * *
__________
(1) ا : " قطابه " .
(*)(1/303)
الشرح : يروى : " ذمر " بالتخفيف ، و " ذمر " بالتشديد ، وأصله الحض والحث ، والتشديد دليل على التكثير .
واستجلب جلبه ، الجلب بفتح اللام : ما يجلب ، كما يقال : جمع جمعه .
ويروى : " جلبه " و " جلبه " ، وهما بمعنى ، وهو السحاب الرقيق الذى لا ماء فيه ، أي جمع قوما كالجهام الذى لا نفع فيه .
وروى : " ليعود الجور إلى قطابه " ، والقطاب : مزاج الخمر بالماء ، أي ليعود الجور ممتزجا بالعدل كما كان .
ويجوز أن يعنى بالقطاب قطاب الجيب ، وهو مدخل الرة س فيه ، أي ليعود الجور إلى لباسه وثوبه .
وقال الراوندي : قطابه : أصله ، وليس ذلك بمعروف في اللغة .
وروى " الباطل " بالنصب ، على أن يكون " يرجع " متعديا ، تقول : رجعت زيدا إلى كذا ، والمعنى : ويرد الجور الباطل إلى أوطانه .
وقال الراوندي : " يعود " أيضا مثل " يرجع " ، يكون لازما ومتعديا ، وأجاز نصب " الجور " به ، وهذا غير صحيح ، لان " عاد " لم يأت متعديا ، وإنما يعدى بالهمزة .
والنصف : الذى ينصف .
وقال الراوندي : النصف : النصفة (1) ، والمعنى لا يحتمله ، لانه لا معنى لقوله : ولا جعلوا بينى وبينهم إنصافا ، بل المعنى : لم يجعلوا ذا إنصاف بينى وبينهم .
يرتضعون أما قد فطمت : يقول : يطلبون الشئ بعد فواته ، لان الام إذا فطمت ولدها فقد انقضى إرضاعها .
وقوله : " يا خيبة الداعي " ، هاهنا كالنداء في قوله تعالى : (يا حسرة على العباد) ، (2) وقوله : (يا حسرتنا على ما فرطنا فيها) (3) أي يا خيبة احضرى ، فهذا أوانك !
__________
(1) كذا في ا ، وفى ب : " النصف " ، والنصفة : العدل (2) سورة يس 30 (3) سورة الانعام 31 (*)(1/304)
وكلامه في هذه الخطبة مع أصحاب الجمل ، والداعى هو أحد الثلاثة : الرجلان والمرأة .
ثم قال على سبيل الاستصغار لهم والاستحقار : " من دعا ! وإلى ما ذا أجيب ! " أي أحقر بقوم دعاهم هذا الداعي ! وأبح بالامر الذى أجابوه إليه ، فما أفحشه وأرذله ! وقال الراوندي : يا خيبة الداعي ، تقديره : يا هؤلاء ، فحذف المنادى ، ثم قال : خيبة الداعي ، أي خاب الداعي خيبة .
وهذا ارتكاب ضرورة لا حاجة إليها ، وإنما يحذف المنادى في المواضع التى دل الدليل فيها على الحذف ، كقوله : * يا فانظرا أيمن الوادي على إضم * وأيضا ، فإن المصدر الذى لا عامل فيه غير جائز حذف عامله ، وتقدير حذفه تقدير ما لا دليل عليه .
وهبلته أمه : ثكلته بكسر الباء .
وقوله : " لقد كنت وما أهدد بالحرب " ، معناه : ما زلت لا أهدد بالحرب ، والواو زائدة .
وهذه كلمة فصيحة كثيرا ما تستعملها العرب .
وقد ورد في القرآن العزيز " كان " بمعنى " ما زال " في قوله : (وكان الله عليما حكيما) ونحو ذلك من الآى ، معنى ذلك : لم يزل الله عليما حكيما .
والذى تأوله المرتضى رحمه الله تعالى في " تكملة الغرر والدرر " (2) كلام متكلف ، والوجه الصحيح ما ذكرناه .
* * * وهذه الخطبة ليست من خطب صفين كما ذكره الراوندي ، بل من خطب الجمل ، وقد ذكر كثيرا منها أبو مخنف رحمه الله تعالى ، قال : حدثنا مسافر بن عفيف بن أبى الاخنس ،
__________
(1) سورة النساء 170 (2) تكملة الغرر والدرر 2 : 300 - 302 (*)(1/305)
قال : لما رجعت رسل على عليه السلام من عند طلحة والزبير وعائشة يؤذنونه بالحرب ، قام فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على رسوله صلى الله عليه ، ثم قال : أيها الناس ، إنى قد راقبت هؤلاء القوم كى يرعووا أو يرجعوا ، ووبختهم بنكثهم ، وعرفتهم بغيهم فلم يستحيوا ، وقد بعثوا إلى أن أبرز للطعان ، وأصبر للجلاد ، وإنما تمنيك نفسك أمانى الباطل ، وتعدك الغرور .
ألا هبلتهم الهبول ، لقد كنت وما أهدد بالحرب ولا أرهب بالضرب ! ولقد أنصف القارة من راماها (1) ، فليرعدوا وليبرقوا ، فقد رأوني قديما ، وعرفوا نكايتى ، فكيف رأوني ! أنا أبو الحسن ، الذى فللت حد المشركين ، وفرقت جماعتهم ، وبذلك القلب ألقى عدوى اليوم ، وإنى لعلى ما وعدني ربى من النصر والتأييد ، وعلى يقين من أمرى ، وفي غير شبهة من دينى .
أيها الناس ، إن الموت لا يفوته المقيم ، ولا يعجزه الهارب ، ليس عن الموت محيد ولا محيص ، من لم يقتل مات .
إن أفضل الموت القتل ، والذى نفس على بيده لالف ضربة بالسيف أهون من موتة واحدة على الفراش .
اللهم إن طلحة نكث بيعتى ، وألب على عثمان حتى قتله ، ثم عضهنى (2) به ورماني .
اللهم فلا تمهله .
اللهم إن الزبير قطع رحمى ، ونكث بيعتى ، وظاهر على عدوى ، فاكفنيه اليوم بما شئت .
ثم نزل * * *
__________
(1) قد أنصف القارة من راماها ، مثل ، والقارة : قوم رماة من العرب .
وفى اللسان (6 : 436) عن التهذيب : " كانوا رماة الحدق في الجاهلة ، وهم اليوم في اليمن ينسبون إلى أسد ، والنسبة إليهم قارى ، وزعموا أن رجلين التقيا ، أحدهما قارى والآخر أسدى ، فقال القارى : إن شئت صارعتك ، وإن شئت سابقتك ، وإن شئت راميتك ، فقال : اخترت المراماة ، فقا القارى : القد أنصفتني ، وأنشد : قد أنصف القارة من راماها إنا إذا ما فئة نلقاها * نرد أولاها على أخراها * ثم انتزع له سهما فشك فؤادها .
(2) عضهه ، أي قال فيه ما لم يكن .
(*)(1/306)
[ خطبة على بمكة في أول إمارته ] واعلم أن كلام أمير المؤمنين عليه السلام وكلام أصحابه وعماله في واقعة الجمل ، كله يدور على هذه المعاني التى اشتملت عليها ألفاظ هذا الفصل ، فمن ذلك الخطبة التى رواها أبو الحسن على بن محمد المدائني ، عن عبد الله بن جنادة ، قال : قدمت الحجاز أريد العراق ، في أول إمارة على عليه السلام ، فمررت بمكة ، فاعتمرت ، ثم قدمت المدينة ، فدخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله ، إذ نودى : الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس ، وخرج على عليه السلام متقلدا سيفه ، فشخصت الابصار نحوه ، فحمد الله وصلى على رسوله صلى الله عليه وآله ، ثم قال : أما بعد ، فإنه لما قبض الله نبيه صلى الله عليه وآله ، قلنا : نحن أهله وورثته وعترته ، وأولياؤه دون الناس ، لا ينازعنا سلطانه أحد ، ولا يطمع في حقنا طامع ، إذ انبرى لنا قومنا فغصبونا سلطان نبينا ، فصارت الامرة (1) لغيرنا .
وصرنا سوقة ، يطمع فينا الضعيف ، ويتعزز علينا الذليل ، فبكت الاعين منا لذلك ، وخشنت الصدور ، وجزعت النفوس .
وايم الله لو لا مخافة الفرقة بين المسلمين ، وأن يعود الكفر ، ويبور الدين ، لكنا على غير ما كنا لهم عليه ، فولى الامر ولاة لم يألوا الناس خيرا ، ثم استخرجتموني أيها الناس من بيتى ، فبايعتموني على شين منى لامركم ، وفراسة تصدقني ما في قلوب كثير منكم ، وبايعني هذان الرجلان في أول من بايع ، تعلمون ذلك ، وقد نكثا وغدرا ، ونهضا إلى البصرة بعائشة ليفرقا جماعتكم ، ويلقيا بأسكم بينكم .
اللهم فخذهما بما عملا أخذة رابية (2) ،
__________
(1) ا : " الامارة " .
(2) ب : " أخذة واحدة رابية " ، وما أثبته عن ا .
وأخذة رابية ، أي أخذة تزيد على الاخذات ، وقال الجوهرى : أي زائدة ، كقولك : أربيت ، إذا أخذت أكثر مما أعطيت ، قال تعالى : (فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية) .
(*)(1/307)
ولا تنعش (1) لهما صرعة ، ولا تقل لهما عثرة ، ولا تمهلهما فواقا (2) ، فإنهما يطلبان حقا تركاه ، ودما سفكاه .
اللهم إنى أقتضيك وعدك ، فإنك قلت وقولك الحق ، ثم بغى عليه لينصرنه الله (3) .
اللهم فأنجز لى موعدك ، ولا تكلني إلى نفسي ، إنك على كل شئ قدير .
ثم نزل .
* * * [ خطبته عند مسيره للبصرة ] وروى الكلبى ، قال : لما أراد على عليه السلام المسير إلى البصرة ، قام فخطب الناس ، فقال بعد أن حمد الله وصلى على رسوله ، صلى الله عليه : إن الله لما قبض نبيه ، استأثرت علينا قريش بالامر ، ودفعتنا عن حق نحن أحق به من الناس كافة ، فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين ، وسفك دمائهم .
والناس حديثو عهد بالاسلام ، والدين يمخض مخض الوطب ، يفسده أدنى وهن ، ويعكسه أقل خلف .
فولى الامر قوم لم يألوا في أمرهم اجتهادا ، ثم انتقلوا ألى دار الجزاء ، والله ولى تمحيص سيئاتهم ، والعفو عن هفواتهم .
فما بال طلحة والزبير ، وليسا من هذا الامر بسبيل ! لم يصبرا على حولا ولا شهرا حتى وثبا ومرقا ، ونازعانى أمرا لم يجعل الله لهما إليه سبيلا ، بعد أن بايعا طائعين غير مكرهين ، يرتضعان أما قد فطمت ، ويحييان بدعة قد أميتت .
أدم عثمان زعما ؟ والله ما التبعة إلا عندهم وفيهم ، وإن أعظم حجتهم لعلى
__________
(1) النعش : الرافع ، نعشت فلانا ، إذا جبرته بعد فقر ، ورفعته بعد عثرة .
(2) الفواق ، بفتح الفاء وضمها : ما بين الحلبتين من الوقت ، لانها تحلب ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل لتدر ثم تحلب ، يقال : ما أقام عندنا إلا فواقا ، أي قدر فواق .
(3) إشارة إلى قوله تعالى في سورة الحج 60 : (ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور) .
(*)(1/308)
أنفسهم ، وأنا راض بحجة الله عليهم وعمله فيهم ، فإن فاءا وأنابا فحظهما أحرزا ، وأنفسهما غنما ، وأعظم بها غنيمة ! وإن أبيا أعطيتهما حد السيف ، وكفى به ناصرا لحق ، وشافيا لباطل ! ثم نزل .
* * * [ خطبته أيضا بذى قار ] وروى أبو مخنف عن زيد بن صوحان ، قال : شهدت عليا عليه السلام بذى قار (1) ، وهو معتم بعمامة سوداء ، ملتف بساج يخطب ، فقال في خطبة : الحمد لله على كل أمر وحال ، في الغدو والآصال ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، ابتعثه رحمة للعباد ، وحياة للبلاد ، حين امتلات الارض فتنة ، واضطرب حبلها ، وعبد الشيطان في أكنافها ، واشتمل عدو الله إبليس على عقائد أهلها ، فكان محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، الذى أطفأ الله به نيرانها ، وأخمد به شرارها ، ونزع به أوتادها ، وأقام به ميلها إمام الهدى ، والنبى المصطفى ، صلى الله عليه وآله .
فلقد صدع بما أمر به ، وبلغ رسالات ربه ، فأصلح الله به ذات البين ، وآمن به السبل ، وحقن به به الدماء ، وألف به بين ذوى الضغائن الواغرة في الصدور ، حتى أتاه اليقين ، ثم قبضه الله إليه حميدا .
ثم استخلف الناس أبا بكر ، فلم يأل جهده ، ثم استخلف أبو بكر عمر فلم يأل جهده ، ثم استخلف الناس عثمان ، فنال منكم ونلتم منه ، حتى إذا كان من أمره ما كان ، أتيتموني لتبايعوني ، فقلت : لا حاجة لى في ذلك ، ودخلت منزلي ، فاستخرجتموني فقبضت يدى فبسطتموها ، وتداككتم (2) على ، حتى ظننت أنكم قاتلي ، وأن بعضكم قاتل بعض ، فبايعتموني وأنا غير مسرور بذلك ، ولا جذل .
__________
(1) ذوقار : موضع قريب من البصرة ، وهو المكان الذى كانت فيه الحرب بين العرب والفرس .
(2) تزاحمتم .
(*)(1/309)
وقد علم الله سبحانه أنى كنت كارها للحكومة ، بين أمة محمد صلى الله عليه وآله ، ولقد سمعته يقول : " مامن وال يلى شيئا من أمر أمتى إلا أتى به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه على رءوس الخلائق ، ثم ينشر كتابه ، فإن كان عادلا نجا ، وإن كان جائرا هوى " ، حتى اجتمع على ملؤكم ، وبايعني طلحة والزبير ، وأنا أعرف الغدر في أوجههما ، والنكث في أعينهما ، ثم استأذناني في العمرة ، فأعلمتهما أن ليس العمرة يريدان ، فسارا إلى مكة واستخفا عائشة وخدعاها ، وشخص معهما أبناء الطلقاء (1) ، فقدموا البصرة ، فقتلوا بها المسلمين ، وفعلوا المنكر .
ويا عجبا لاستقامتهما لابي بكر وعمر وبغيهما على ! هما يعلمان أنى لست دون أحدهما ، ولو شئت أن أقول لقلت ، ولقد كان معاوية كتب إليهما من الشام كتابا يخدعهما فيه ، فكتماه عنى ، وخرجا يوهمان الطغام أنهما يطلبان بدم عثمان ، والله ما أنكرا على منكرا ، ولا جعلا بينى وبينهم نصفا ، وإن دم عثمان لمعصوب بهما ، ومطلوب منهما .
يا خيبة الداعي ! إلام دعا ! وبما ذا أجيب ؟ والله إنهما لعلى ضلالة صماء ، وجهالة عمياء ، وإن الشيطان قد ذمر لهما حزبه ، واستجلب منهما خيله ورجله ، ليعيد الجور إلى أوطانه ، ويرد الباطل إلى نصابه .
ثم رفع يديه ، فقال : اللهم إن طلحة والزبير قطعاني ، وظلمانى ، وألبا على ، ونكثا بيعتى ، فاحلل ما عقدا ، وانكث ما أبرما ، ولا تغفر لهما أبدا ، وأرهما المساءة فيما عملا وأملا ! قال أبو مخنف : فقام إليه الاشتر ، فقال : الحمد لله الذى من علينا فأفضل ، وأحسن إلينا فأجمل ، قد سمعنا كلامك يا أمير المؤمنين ، ولقد أصبت ووفقت ، وأنت ابن عم نبينا وصهره ، ووصيه ، وأول مصدق به ، ومصل معه ، شهدت
__________
(1) الطلقاء : هم الذين خلى عليهم الرسول عليه السلام يوم فتح مكة ، وأطلقهم فلم يسترقهم ، واحدهم طليق ، فعيل بمعنى مفعول ، وهو الاسير إذا أطلق سبيله .
(*)(1/310)
مشاهده كلها ، فكان لك الفضل فيها على جميع الامة ، فمن اتبعك أصاب حظه ، واستبشر بفلجه ، ومن عصاك ، ورغب عنك ، فإلى أمة الهاوية ! لعمري يا أمير المؤمنين ما أمر طلحة والزبير وعائشة علينا بمخيل ، ولقد دخل الرجلان فيما دخلا فيه ، وفارقا على غير حدث أحدثت ، ولا جور صنعت ، فإن زعما أنهما يطلبان بدم عثمان فليقيدا من أنفسهما فإنهما أول من ألب عليه ، وأغرى الناس بدمه ، وأشهد الله ، لئن لم يدخلا فيما خرجا منه لنلحقنهما بعثمان ، فإن سيوفنا في عواتقنا ، وقلوبنا في صدورنا ، ونحن اليوم كما كنا أمس .
ثم قعد .
* * *(1/311)
(23) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام : أما بعد ، فإن الامر ينزل من السماء إلى الارض كقطر المطر إلى كل نفس بما قسم لها من زيادة أو نقصان ، فإن (1) رأى أحدكم لاخيه غفيرة في أهل أو مال أو نفس ، فلا تكونن له فتنة ، فإن المرء المسلم ما لم يغش دناءة تظهر فيخشع لها إذا ذكرت ويغرى بها لئام الناس ، كان كالفالج الياسر الذى ينتظر أول فوزة من قداحه توجب له المغنم ، ويرفع عنه بها المغرم .
وكذلك المرء المسلم البرئ من الخيانة ينتظر من الله إحدى الحسنيين ، إما داعى الله فما عند الله خير له ، وإما رزق الله ، فإذا هو ذو أهل ومال ، ومعه دينه وحسبه .
وإن (2) المال والبنين حرث الدنيا ، والعمل الصالح حرث الآخرة ، وقد يجمعهما الله تعالى لاقوام ، فاحذروا من الله ما حذركم من نفسه ، واخشوه خشية ليست بتعذير ، واعملوا في غير رياء ولا سمعة ، فإنه من يعمل لغير الله يكله الله لمن عمل له .
نسأل الله منازل الشهداء ، ومعايشة السعداء ، ومرافقة الانبياء ! أيها الناس ، إنه لا يستغنى الرجل وإن كان ذا مال عن عترته (3) ، ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم ، وهم أعظم الناس حيطة من ورائه ، وألمهم لشعثه ، وأعطفهم
__________
(1) ب : " فإذا " .
(2) ب : " إن " .
(3) ب : " عشيرته " .
(*)(1/312)
عليه عند نازلة إن (1) نزلت به ، ولسان الصدق يجعله الله للمرء في الناس خير له من المال يورثه غيره (2) .
ومنها : ألا لا يعدلن أحدكم عن القرابة يرى بها الخصاصة أن يسدها بالذى لا يزيده إن أمسكه ، ولا ينقصه إن أهلكه .
ومن يقبض يده عن عشيرته ، فإنما تقبض منه عنهم يد واحدة ، وتقبض منهم عنه أيد كثيرة .
ومن تلن حاشيته يستدم من قومه المودة .
* * * قال الرضى رحمه الله (3) : أقول : الغفيرة هاهنا الزيادة والكثرة ، من قولهم للجمع الكثير : الجم الغفير ، والجماء الغفير .
ويروى : " عفوة من (4) أهل أو مال " ، والعفوة : الخيار من الشئ ، يقال : أكلت عفوة الطعام ، أي خياره .
وما أحسن المعنى الذى أراده عليه السلام بقوله : " ومن يقبض يده عن عشيرته ...
" إلى تمام الكلام ، فإن الممسك خيره عن عشيرته ، إنما يمسك نفع يد واحدة ، فإذا احتاج إلى نصرتهم واضطر إلى مرافدتهم ، قعدوا عن نصره ، وتثاقلوا عن صوته ، فمنع ترافد الايدى الكثيرة وتناهض الاقدام الجمة .
* * *
__________
(1) ب : " إذا " .
(2) ب : " يورثه غيره " .
(3) ساقطة من ا (4) ا " في " .
(*)(1/313)
الشرح : الفالج : الظافر الفائز ، فلج يفلج ، بالضم ، وفي المثل : " من يأت الحكم وحده يفلج " .
والياسر : الذى يلعب بالقداح ، واليسر مثله ، والجمع أيسار .
وفي الكلام تقديم وتأخير ، تقديره : كالياسر الفالج ، أي كاللاعب بالقداح المحظوظ منها ، وهو من باب تقديم الصفة على الموصوف ، كقوله تعالى : (وغرابيب سود) (1) ، وحسن ذلك هاهنا أن اللفظتين صفتان ، وإن كانت إحداهما مرتبة على الاخرى .
وقوله : " ليست بتعذير " ، أي ليست بذات تعذير ، أي تقصير ، فحذف المضاف ، كقوله تعالى : (قتل أصحاب الاخدود النار) (2) أي ذى النار .
وقوله : " هم أعظم الناس حيطة " كبيعة ، أي رعاية وكلاءة ، ويروى ، " حيطة " ، كغيبة ، وهى مصدر حاط ، أي تحننا وتعطفا .
والخصاصة : الفقر ، يقول : القضاء والقدر ينزل من السماء إلى الارض كقطر المطر ، أي مبثوث في جميع أقطار الارض إلى كل نفس بما قسم لها من زيادة أو نقصان ، في المال والعمر والجاه والولد وغير ذلك .
فإذا رأى أحدكم لاخيه زيادة في رزق أو عمر أو ولد وغير ذلك ، فلا يكونن ذلك له فتنة تفضى به إلى الحسد ، فإن الانسان المسلم إذا كان غير مواقع لدناءة وقبيح يستحيى من ذكره بين الناس ، ويخشع إذا قرع به ، ويغرى لئام الناس بهتك ستره به ، كاللاعب بالقداح ، المحظوظ منها ، ينتظر أول فوزة وغلبة من قداحه ، تجلب له نفعا ، وتدفع عنه ضرا ، كذلك من وصفنا حاله ، يصبر وينتظر إحدى الحسنيين ، إما أن يدعوه الله فيقبضه إليه ، ويستأثر به ، فالذي عند الله خير له .
وإما أن ينسأ في أجله ، فيرزقه الله أهلا ومالا ، فيصبح وقد اجتمع له ذلك مع حسبه ودينه ومروءته المحفوظة عليه .
ثم قال : " المال والبنون حرث الدنيا " وهو من قوله سبحانه : (المال والبنون
__________
(1) سورة فاطر 27 (2) سورة البروج ، 5 (*)(1/314)
زينة الحياة الدنيا) ، ومن قوله تعالى : (من كان يريد حرث الآخرة) نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب) (1) .
قال : وقد يجمعهما الله لاقوام ، فإنه تعالى قد يرزق الرجل الصالح مالا وبنين ، فتجمع له الدنيا والآخرة .
ثم قال : " فاحذروا من الله ما حذركم من نفسه " ، وذلك لانه تعالى قال : (فاتقون) ، (2) وقال : (فارهبون) ، (3) وقال : (فلا تخشوا الناس واخشون) ، (4) وغير ذلك من آيات التحذير .
ثم قال : ولتكن التقوى منكم أقصى نهايات جهدكم ، لا ذات تقصيركم ، فإن العمل القاصر ، قاصر الثواب ، قاصر المنزلة [ فصل في ذم الحاسد والحسد ووما قيل في ذلك من الكلام ] واعلم أن مصدر هذا الكلام النهى عن الحسد ، وهو من أقبح الاخلاق المذمومة .
وروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله : " ألا لا تعادوا نعم الله " ، قيل : يا رسول الله ، ومن الذى يعادى نعم الله ؟ قال : " الذين يحسدون الناس " .
وكان ابن عمر يقول : تعوذوا بالله من قدر وافق إرادة حسود .
__________
(1) سورة الشورى 20 (2) سورة البقرة 41 : (ولا تشتروا بآياتى ثمنا قليلا وإياى فاتقون) (3) سورة البقرة 40 (وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم) (4) سورة المائدة 44 (*)(1/315)
قيل لارسطو : ما بال الحسود أشد غما من المكروب ؟ قال : لانه يأخذ نصيبه من غموم الدنيا ، ويضاف إلى ذلك غمه بسرور الناس .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله : " استعينوا على حوائجكم بالكتمان ، فإن كل ذى نعمة محسود " .
وقال منصور الفقيه (1) : منافسة الفتى فيما يزول على نقصان همته دليل ومختار القليل أقل منه وكل فوائد الدنيا قليل ومن الكلام المروى عن أمير المؤمنين عليه السلام : لله در الحسد ! ما أعدله ! بدأ بصاحبه فقتله .
ومن كلام عثمان بن عفان : يكفيك من انتقامك من الحاسد أنه يغتم وقت سرورك .
وقال مالك بن دينار : شهادة القراء مقبولة في كل شئ إلا شهاده بعضهم على بعض ، فإنهم أشد تحاسدا من السوس في الوبر .
وقال أبو تمام : وأذا أراد الله نشر فضيلة طويت ، أتاح لها لسان حسود (2) لو لا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب عرف العود لو لا محاذرة العواقب لم تزل للحاسد النعمى على المحسود وتذاكر قوم من ظرفاء البصرة الحسد ، فقال رجل منهم : إن الناس ربما حسدوا على الصلب ، فأنكروا ذلك ، ثم جاءهم بعد ذلك بأيام ، فقال : إن الخليفة قد أمر بصلب
__________
(1) هو منصور بن إسماعيل بن عيسى التميمي أحد فقهاء الشافعة .
طبقات السبكى 2 .
317 (*)(1/316)
الاحنف (1 بن قيس 1) ، ومالك بن مسمع ، وحمدان الحجام ، فقالوا : هذا الخبيث يصلب مع هذين الرئيسين ! فقال : أ لم أقل لكم إن الناس يحسدون على الصلب ! وروى أنس بن مالك مرفوعا " أن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب " .
وفي الكتب القديمة : يقول الله عزوجل : الحاسد عدو نعمتي ، متسخط لفعلى ، غير راض بقسمتي .
وقال الاصمعي : رأيت أعرابيا قد بلغ مائة وعشرين سنة ، فقلت له : ما أطول عمرك ! فقال : تركت الحسد فبقيت .
وقال بعضهم : ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد .
وقال الشاعر : تراه كأن الله يجدع أنفه وأذنيه إن مولاه ثاب إلى وفر وقال آخر : قل للحسود إذا تنفس ضغنه يا ظالما وكأنه مظلوم ! ومن كلام الحكماء : إياك والحسد ، فإنه يبين فيك ولا يبين في المحسود .
ومن كلامهم : من دناءة الحسد أنه يبدأ بالاقرب فالاقرب .
وقيل لبعضهم : لزمت البادية ، وتركت قومك وبلدك ! قال : وهل بقى إلا حاسد نعمة ، أو شامت بمصيبة ! بينا عبد الملك بن صالح يسير مع الرشيد في موكبه ، إذ هتف هاتف : يا أمير المؤمنين ، طأطئ من إشرافه ، وقصر من عنانه ، واشدد من شكاله - وكان عبد الملك متهما
__________
(1) ساقط من ب (*)(1/317)
عند الرشيد بالطمع في الخلافة - فقال الرشيد : ما يقول هذا ؟ فقال عبد الملك : مقال حاسد ، ودسيس حاقد يا أمير المؤمنين .
قال : قد صدقت ، نقص القوم وفضلتهم ، وتخلفوا وسبقتهم ، حتى برز شأوك ، وقصر عنك غيرك ، ففى صدورهم جمرات التخلف ، وحزازات التبلد .
قال عبد الملك : فأضرمها يا أمير المؤمنين عليهم بالمزيد .
وقال شاعر : يا طالب العيش في أمن وفي دعة محضا بلا كدر ، صفوا بلا رنق خلص فؤادك من غل ومن حسد فالغل في القلب مثل الغل في العنق .
ومن كلام عبد الله بن المعتز : إذا زال المحسود عليه ، علمت أن الحاسد كان يحسد على غير شئ .
ومن كلامه : الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له ، بخيل بما لا يملكه .
ومن كلامه : لا راحة لحاسد ولا حياء لحريص .
ومن كلامه : الميت يقل الحسد له ، ويكثر الكذب عليه .
ومن كلامه : ما ذل قوم حتى ضعفوا ، وما ضعفوا حتى تفرقوا ، وما تفرقوا حتى اختلفوا ، وما اختلفوا حتى تباغضوا ، وما تباغضوا حتى تحاسدوا ، وما تحاسدوا حتى استأثر بعضهم على بعض .
وقال الشاعر : إن يحسدونى فإنى غير لائمهم قبلى من الناس أهل الفضل قد حسدوا (1) فدام لى ولهم ما بى وما بهم ومات أكثرنا غيظا بما يجد
__________
(1) من أبيات في أمالى المرتضى 1 : 414 ، ونسبها إلى الكميت بن زيد ، وهى في شرح المختار من شعر بشار 67 من غير نسبة .
(*)(1/318)
ومن كلامهم : ما خلا جسد عن حسد .
وحد الحسد هو أن تغتاظ مما رزقه غيرك ، وتود أنه زال عنه وصار إليك .
والغبطة ألا تغتاظ ولا تود زواله عنه ، وإنما تود أن ترزق مثله ، وليست الغبطة بمذمومة .
وقال الشاعر : حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه فالكل أعداء له وخصوم كضرائر الحسناء قلن لوجهها - حسدا وبغيا - إنه لدميم (1) * * * [ فصل في مدح الصبر وانتظار الفرج وما قيل في ذلك من الكلام ] واعلم أنه عليه السلام بعد أن نهى عن الحسد أمر بالصبر وانتظار الفرج من الله ، أما بموت مريح ، أو بظفر بالمطلوب .
والصبر من المقامات الشريفة ، وقد ورد فيه آثار كثيرة ، روى عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله : " إن الصبر نصف الايمان ، واليقين الايمان كله " .
وقالت عائشة : لو كان الصبر رجلا لكان كريما .
وقال على عليه السلام : الصبر إما صبر على المصيبة ، أو على الطاعة ، أو عن المعصية ، وهذا القسم الثالث أعلى درجة من القسمين الاولين .
وعنه عليه السلام : الحياء زينة والتقوى كرم ، وخير المراكب مركب الصبر .
وعنه عيله السلام : القناعة سيف لا ينبو ، والصبر مطية لا تكبو ، وأفضل العدة الصبر على الشدة .
قال الحسن عليه السلام : جربنا وجرب المجربون ، فلم نر شيئا أنفع وجدانا ، ولا أضر فقدانا من الصبر ، تداوى به الامور ، ولا يداوى هو بغيره .
__________
(1) لابي الاسود الدؤلى ، ملحق ديوانه 51 .
(*)(1/319)
وقال سعيد بن حميد الكاتب (1) : لا تعتبن على النوائب فالدهر يرغم كل عاتب واصبر على حدثانه إن الامور لها عواقب كم نعمة مطوية لك بين أثناء النوائب (2) ومسرة قد أقبلت من حيث تنتظر المصائب ومن كلامهم : الصبر مر ، لا يتجرعه إلا حر .
قال أعرابي : كن حلو الصبر عند مرارة النازلة .
وقال كسرى لبزر جمهر : ما علامة الظفر بالامور المطلوبة المستصعبة ؟ قال : ملازمة الطلب ، والمحافظة على الصبر ، وكتمان السر .
وقال الاحنف برقيق : لست حليما ، إنما أنا صبور ، فأفادنى الصبر صفتي بالحلم .
وسئل على عليه السلام .
أي شئ أقرب إلى الكفر ؟ قال : ذو فاقة لا صبر له .
ومن كلامه عليه السلام : الصبر يناضل الحدثان ، والجزع من أعوان الزمان .
وقال أعشى همدان : إن نلت لم أفرح بشئ نلته وإذا سبقت به فلا أتلهف (3) ومتى تصبك من الحوادث نكبة فاصبر فكل غيابة تتكشف والامر يذكر بالامر ، وهذا البيت هو الذى قاله له الحجاج يوم قتله ، ذكر ذلك أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار الانباري في " الامالى " قال : لما أتى الحجاج بأعشى همدان أسيرا ، وقد كان خرج مع ابن الاشعث ، قال له : يا بن اللخناء ! أنت القائل لعدو الرحمن - يعنى عبد الرحمن بن محمد بن الاشعث :
__________
(1) البيتان الثالث والرابع في شرح المختار من شعر بشار 314 ، من غير نسبة .
(2) شرح المختار : " كم فرجة " (3) ديوان الاعشين 35 ، مع اختلاف في الرواية والترتيب .(1/320)
يا بن الاشج قريع كندة لا أبالى فيك عتبا (1) أنت الرئيس ابن الرئيس ، وأنت أعلى الناس كعبا (2) نبئت حجاج بن يوسف خر من زلق فتبا فانهض هديت لعله يجلو بك الرحمن كربا (3) وأبعث عطية في الحروب يكبهن عليه كبا ثم قال : عبد الرحمن خر من زلق فتب ، وخسر وانكب ، وما لقى ما أحب .
ورفع بها صوته ، واهتز منكباه ، ودر ودجاه (4) ، واحمرت عيناه ، ولم يبق في المجلس إلا من هابه ، فقال : أيها الامير ، وأنا القائل : أبى الله إلا أن يتمم نوره ويطفئ نار الكافرين فتخمدا (5) وينزل ذلا بالعراق وأهله كما نقضوا العهد الوثيق المؤكدا وما لبث الحجاج أن سل سيفه علينا ، فولى جمعنا وتبددا فالتفت الحجاج إلى من حضر ، فقال : ما تقولون ؟ قالوا : لقد أحسن أيها الامير ، ومحا بآخر قوله أوله ، فليسعه حلمك .
فقال : لاها الله ! إنه لم يرد ما ظننتم ، وإنما أراد تحريض أصحابه ، ثم قال له : ويلك ! ألست القائل : إن نلت لم أفرح بشئ نلته وإذا سبقت به فلا أتلهف ومتى تصبك من الحوادث نكبة فاصبر ، فكل غيابة تتكشف أما والله لتظلمن عليك غيابة لا تنكشف أبدا ، أ لست القائل في عبد الرحمن : وإذا سألت المجد أين محله فالمجد بين محمد وسعيد
__________
(1) ديوان الاعشين 312 (2) ديوان الاعشين : " أعلى القوم " .
(3) ديوان الاعشين : " فديت " .
(4) يقال : در العرق ، إذا امتلا دما ، والودجان : عرقان في العنق .
(5) ديوان الاعشين 320 ، مع اختلاف في الرواية وترتيب الابيات .
(*)(1/321)
بين الاشج وبين قيس نازل بخ بخ لوالده وللمولود (1) والله لا ينجح بعدها أبدا .
يا حرسي اضرب عنقه .
* * * ومما جاء في الصبر قيل للاحنف : إنك شيخ ضعيف ، وإن الصيام يهدك .
فقال : إنى أعده لشر يوم طويل ، وإن الصبر على طاعة الله أهون من الصبر على عذاب الله .
ومن كلامه : من لم يصبر على كلمة سمع كلمات .
رب غيظ قد تجرعته مخافة ما هو أشد منه .
يونس بن عبيد : لو أمرنا بالجزع لصبرنا .
ابن السماك : المصيبة واحدة ، فإن جزع صاحبها منها صارت اثنتين .
يعنى : فقد المصاب وفقد الثواب .
الحارث بن أسد المحاسبى : لكل شئ جوهر ، وجوهر الانسان العقل ، وجوهر العقل الصبر .
جابر بن عبد الله : سئل رسول الله صلى الله عليه وآله عن الايمان ، فقال : " الصبر والسماحة " .
وقال العتابى : اصبر إذا بدهتك نائبة ما عال منقطع إلى الصبر الصبر أولى ما اعتصمت به ولنعم حشو جوانح الصدر ومن كلام على عليه السلام : الصبر مفتاح الظفر ، والتوكل على الله رسول الفرج .
ومن كلامه عليه السلام : انتظار الفرج بالصبر عبادة .
أكثم بن صيفي : الصبر على جرع الحمام أعذب من جنا الندم .
__________
(1) ديوان الاعشين 323 (*)(1/322)
ومن كلام بعض الزهاد : واصبر على عمل لا غناء بك عن ثوابه ، واصبر عن عمل لا صبر على عقابك به .
وكتب ابن العميد : أقرأ في الصبر سورا ، ولا أقرأ في الجزع آية .
وأحفظ في التماسك والتجلد قصائد ، ولا أحفظ في التهافت قافية .
وقال الشاعر : ويوم كيوم البعث ما فيه حاكم ولا عاصم إلا قنا ودروع حبست به نفسي على موقف الردى حفاظا وأطراف الرماح شروع وما يستوى عند الملمات إن عرت صبور على مكروهها وجزوع أبو حية النميري : إنى رأيت وفي الايام تجربة للصبر عاقبة محمودة الاثر (1) وقل من جد في أمر يحاوله واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر ووصف الحسن البصري عليا عليه السلام ، فقال : كان لا يجهل ، وإن جهل عليه حلم .
ولا يظلم ، وإن ظلم غفر .
ولا يبخل ، وإن بخلت الدنيا عليه صبر .
عبد العزيز بن زرارة الكلابي : قد عشت في الدهر أطوارا على طرق شتى فقاسيت منه الحلو والبشعا (2) كلا بلوت فلا النعماء تبطرنى ولا تخشعت من لاوائها جزعا لا يملا الامر صدري قبل موقعه ولا يضيق به صدري إذا وقعا ومن كلام بعضهم : من تبصر تصبر .
الصبر يفسح الفرج ، ويفتح المرتتج .
المحنة إذا تلقيت بالرضا والصبر كانت نعمة دائمة ، والنعمة إذا خلت من الشكر كانت محنة لازمة .
__________
(1) المقدسي 43 من غير نسبة .
(2) ديوان المعاني 1 : 88 ، وفى نسبة هذه الابيات وروايتها خلاف ، أنظره في حواشى الآلئ 412 (*)(1/323)
قيل لابي مسلم صاحب الدولة : بم أصبت ما أصبت ؟ قال : ارتديت بالصبر ، واتزرت بالكتمان ، وحالفت الحزم ، وخالفت الهوى ، ولم أجعل العدو صديقا ، ولا الصديق عدوا .
منصور النمري في الرشيد : وليس لاعباء الامور إذا عرت بمكترث لكن لهن صبور يرى ساكن الاطراف باسط وجهه يريك الهوينى والامور تطير من كلام أمير المؤمنين عليه السلام : أوصيكم بخمس ، لو ضربتم إليهن آباط الابل كانت لذلك أهلا : لا يرجون أحدكم إلا ربه ، ولا يخافن إلا ذنبه ، ولا يستحين إذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم ، ولا يستحيى إذا جهل أمرا أن يتعلمه .
وعليكم بالصبر ، فإن الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد فكما لا خير في جسد لا رأس له ، لا خير في إيمان لا صبر معه .
وعنه عليه السلام : لا يعدم الصبور الظفر ، وإن طال به الزمان .
نهشل بن حرى : ويوم كأن المصطلين بحره وإن لم يكن جمرا قيام على جمر صبرنا له حتى تجلى وإنما تفرج أيام الكريهة بالصبر على عليه السلام : اطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصبر وحسن اليقين .
وعنه عليه السلام : وإن كنت جازعا على ما تفلت من يديك ، فاجزع على كل ما لم يصل إليك ! وفي كتابه عليه السلام ، الذى كتبه إلى عقيل أخيه : ولا تحسبن ابن أمك - ولو أسلمه الناس - متضرعا متخشعا ، ولا مقرا للضيم واهنا ، ولا سلس الزمام للقائد ، ولا وطئ الظهر للراكب ، ولكنه كما قال أخو بنى سليم :(1/324)
فإن تسأليني كيف أنت فإننى صبور على ريب الزمان صليب (1) يعز على أن ترى بى كآبة فيشمت عاد أو يساء حبيب [ فصل في الرياء والنهى عنه ] واعلم أنه عليه السلام ، بعد أن أمرنا بالصبر ، نهى عن الرياء في العمل ، والرياء في العمل منهى عنه ، بل العمل ذو الرياء ليس بعمل على الحقيقة ، لانه لم يقصد به وجه الله تعالى .
وأصحابنا المتكلمون يقولون : ينبغى أن يعمل المكلف الواجب لانه واجب ويجتنب القبيح لانه قبيح ، ولا يفعل الطاعة ويترك المعصية رغبة في الثواب ، وخوفا من العقاب ، فإن ذلك يخرج عمله من أن يكون طريقا إلى الثواب ، وشبهوه بالاعتذار في الشئ ، فإن من يعتذر إليك من ذنب خوفا أن تعاقبه على ذلك الذنب ، لا ندما على القبيح الذى سبق منه ، لا يكون عذره مقبولا ، ولا ذنبه عندك مغفورا .
وهذا مقام جليل لا يصل إليه إلا الافراد من ألوف الالوف .
وقد جاء في الآثار من النهى عن الرياء والسمعة كثير ، روى عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال " يؤتى في يوم القيامة بالرجل قد عمل اعمال الخير كالجبال - أو قال : كجبال تهامة - وله خطيئة واحدة ، فيقال إنما عملتها ليقال عنك ، فقد قيل ، وذاك ثوابك وهذه خطيئتك ، أدخلوه بها إلى جهنم " .
وقال عليه السلام : " ليست الصلاة قيامك وقعودك ، إنما الصلاة إخلاصك ، وأن تريد بها الله وحده " .
وقال حبيب الفارسى : لو أن الله تعالى أقامنى يوم القيامة وقال : هل تعد سجدة سجدت ليس للشيطان فيها نصيب ؟ لم أقدر على ذلك .
__________
(1) مجموعة المعاني 72 ، وهما لصخر بن عمرو السلمى ، أخى الخنساء ، والاول من أبيات أربعة في الاغانى 13 : 131 (طبعة الساسى) .
(*)(1/325)
توصل عبد الله بن الزبير إلى إمرأة عبد الله بن عمر - وهى أخت المختار بن أبى عبيد الثقفى - في أن تكلم بعلها عبد الله بن عمر أن يبايعه .
فكلمته في ذلك ، وذكرت صلاته وقيامه وصيامه ، فقال لها : أ ما رأيت البغلات الشهب التى كنا نراها تحت معاوية بالحجر إذا قدم مكة ؟ قالت : بلى ، قال : فإياها يطلب ابن الزبير بصومه وصلاته ! وفي الخبر المرفوع : " إن أخوف ما أخاف على أمتى الرياء في العمل ، ألا وإن الرياء في العمل هو الشرك الخفى " : صلى وصام لامر كان يطلبه حتى حواه فلا صلى ولا صاما [ فصل في الاعتضاد بالعشيرة والتكثر بالقبيلة ] ثم إنه عليه السلام بعد نهيه عن الرياء وطلب السمعة ، أمر بالاعتضاد بالعشيرة والتكثر بالقبيلة ، فأن الانسان لا يستغنى عنهم وإن كان ذا مال ، وقد قالت الشعراء في هذا المعنى كثيرا ، فمن ذلك قول بعض شعراء الحماسة (1) : إذا المرء لم يغضب له حين يغضب فوارس إن قيل اركبوا الموت يركبوا ولم يحبه بالنصر قوم أعزة مقاحيم في الامر الذى يتهيب (2) تهضمه أدنى العداة فلم يزل وإن كان عضا بالظلامة يضرب (3) فآخ لحال السلم من شئت واعلمن بأن سوى مولاك في الحرب أجنب ومولاك مولاك الذى إن دعوته أجابك طوعا والدماء تصبب فلا تخذل المولى وإن كان ظالما فإن به تثأى الامور وترأب (4) .
__________
(1) في الحماسة : " قراد بن عباد " ، وصححه التبريزي : " قراد بن العيار " ، وقال : " أبوه العيار أحد شياطين العرب " ، والابيات في 2 : 669 ، من ديوان الحماسة - بشرح المرزوقى .
(2) مقاحيم : جمع مقحام ، وهو الذى يخوض قحمة الشئ ، أي معظمه .
(3) تهضمه ، أي كسره وأذله .
والعض : المنكر الشديد اللسان .
(4) تتأى : بخرق وتفتق .
وفى الاصول : " تتأى " ، تصحيف .
(*)(1/326)
ومن شعر الحماسة أيضا : أفيقوا بنى حزن وأهواؤنا معا وأرحامنا موصولة لم تقضب (1) لعمري لرهط المرء خير بقية عليه وإن عالوا به كل مركب إذا كنت في قوم وأمك منهم لتعزى إليهم في خبيث وطيب وإن حدثتك النفس إنك قادر على ما حوت أيدى الرجال فكذب ومن شعر الحماسة أيضا : لعمرك ما أنصفتني حين سمتنى هواك مع المولى وأن لا هوى ليا (2) إذا ظلم المولى فزعت لظلمه فحرق أحشائي وهرت كلابيا ومن شعر الحماسة أيضا : وما كنت أبغى العم يمشى على شفا وإن بلغتني من أذاه الجنادع (3) ولكن أواسيه وأنسى ذنوبه لترجعه يوما إلى الرواجع وحسبك من ذل وسوء صنيعة مناوأة ذى القربى وإن قيل قاطع ومن شعر الحماسة أيضا : ألا هل أتى الانصار أن ابن بحدل حميدا شفى كلبا فقرت عيونها (4) فإنا وكلبا كاليدين متى تقع شمالك في الهيجا تعنها يمينها
__________
(1) ديوان الحماسة (1 : 311) بشرح المرزوقى ، ونسبه التبريزي (1 : 297) إلى جندل بن عمرو .
معا ، أي مجتمعة .
والقضب : القطع ، ولم يرد في الحماسة سوى البيت الاول .
(2) ديوان الحماسة (1 : 350) بشرح التبريزي ، ونسبه إلى حريت بن جابر .
(3) ديوان الحماسة (1 : 380) بشرح التبريزي ، ونسبه إلى محمد بن عبد الله الازدي وروايته : " لا أدفع ابن العم يمشى ...
" ، وشفا الشئ : حرفه .
والجنادع : الدواهي .
(4) ديوان (الحماسة 2 : 522) بشرح المرزوقى وهى هناك أربعة أبيات ، هنا الاول والرابع منها ، ونسبها إلى بعض بنى جهينة .
(*)(1/327)
ومن شعر الحماسة أيضا : أخوك أخوك من ينأى وتدنو مودته وإن دعى استجابا (1) إذا حاربت حارب من تعادى وزاد غناؤه منك اقترابا (2) يواسى في كريهته ويدنو إذا ما مضلع الحدثان نابا (3) [ فصل في حسن الثناء وطيب الاحدوثة ] ثم إنه عليه السلام ذكر إن لسان الصدق يجعله الله للمرء في الناس خيرا له من المال يورثه غيره .
ولسان الصدق هو أن يذكر الانسان بالخير ، ويثنى عليه به ، قال سبحانه : (واجعل لى لسان صدق في الآخرين) (4) .
وقد ورد في هذا المعنى من النثر (5) والنظم الكثير الواسع ، فمن ذلك قول عمر لابنة هرم : ما الذى أعطى أبوك زهيرا ؟ قالت : أعطاه مالا يفنى ، وثيابا تبلى .
قال : لكن ما أعطاكم زهير لا يبليه الدهر ، ولا يفنيه الزمان .
ومن شعر الحماسة أيضا : إذا أنت أعطيت الغنى ثم لم تجد بفضل الغنى ألفيت ما لك حامد (6) وقل غناء عنك مال جمعته إذا كان ميراثا وواراك لاحد وقال يزيد بن المهلب : المال والحياة احب شئ إلى الانسان ، والثناء الحسن أحب إلى منهما ، ولو أنى أعطيت ما لم يعطه أحد لاحببت أن يكون لى إذن أسمع بها ما يقال في غدا وقد مت كريما .
وحكى أبو عثمان الجاحظ عن إبراهيم السندي ، قال : قلت في أيام ولايتى الكوفة
__________
(1) ديوان الحماسة - بشرح المرزوقى 2 : 542 ، ونسبها إلى ربيعة بن مقروم .
(2) الحماسة : " وزاد سلاحه " .
(3) لم يذكر هذا البيت في الحماسة (4) سورة الشعراء 84 .
(5) ديوان الحماسة 3 : 1199 بشرح المرزوقى ، من أبيات نسبها إلى محمد بن أبى شحاذ .
(6) ب : " الشعر " ، والاجود ما أثبته من ا .
(*)(1/328)
لرجل من وجوهها - كان لا يجف لبده ولا يستريح قلمه ، ولا تسكن حركته في طلب حوائج الناس ، وإدخال السرور على قلوبهم ، والمرافق على ضعفائهم ، وكان عفيف الطعمة .
خبرني عما هون عليك النصب ، وقواك على التعب ؟ فقال : قد والله سمعت غناء الاطيار بالاسحار على أغصان الاشجار ، وسمعت خفق الاوتار ، وتجاوب العود والمزمار ، فما طربت من صوت قط ، طربي من ثناء حسن ، على رجل محسن ، فقلت : لله أبوك ! فلقد ملئت كرما .
وقال حاتم : أماوى إن يصبح صداى بقفرة من الارض لا ماء لدى ولا خمر (1) ترى أن ما أنفقت لم يك ضرنى (2) وأن يدى مما بخلت به صفر أماوى ما يغنى الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر (3) بعض المحدثين : من اشترى بماله حسن الثناء ماغبن ، أفقره سماحته فذلك الفقر الغنى .
ومن أمثال الفرس : كل ما يؤكل ينتن ، وكل ما يوهب يأرج .
وقال أبو الطيب : ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته ما فاته وفضول العيش أشغال (4) [ فصل في مواساة الاهل وصلة الرحم ] ثم إنه عليه السلام بعد أن قرظ الثناء والذكر الجميل ، وفضله على المال ، أمر بمواساة
__________
(1) ديوانه 118 (2) الديوان : " ما أهلكت " .
(3) الديوان : " إذا حشرجت نفس " .
(4) ديوانه 3 : 288 (*)(1/329)
الاهل ، وصلة الرحم وإن قل ما يواسى به ، فقال : ألا لا يعدلن أحدكم عن القرابة ...
" ، إلى آخر الفصل ، وقد قال الناس في هذا المعنى فأكثروا .
فمن ذلك قول زهير : ومن يك ذافضل فيبخل بفضله على قومه يستغن عنه ويذمم (1) .
وقال عثمان : إن عمر كان يمنع أقرباءه ابتغاء وجه الله ، وأنا اعطيتهم ابتغاء وجه الله ، ولن تروا مثل عمر .
أبو هريرة مرفوعا : " الرحم مشتقة من الرحمن ، والرحمن اسم من أسماء الله العظمى ، قال الله لها : من وصلك وصلته ، ومن قطعك قطعته " .
وفى الحديث المشهور : " صلة الرحم تزيد في العمر " .
وقال طرفة يهجو إنسانا بأنه يصل الاباعد ويقطع الاقارب : وأنت على الادنى شمال عرية شآمية تروى الوجوه بليل (2) وأنت على الاقصى صبا غير قرة وقدآب منها مزرع ومسيل (3) ومن شعر الحماسة : لهم جل مالى إن تتابع لى غنى وإن قل مالى لا أكلفهم رفدا (4) ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
__________
(1) ديوانه 30 (من مجموعة خمسة دواوين) (2) ديوانه 52 .
الادنى : الاقرب والشمال : ريح غير محمودة .
بلبل : ريح باردة .
(39 الاقصى البعيد .
والصبا : ريح مهبها من مطلع الثريا ، وهى محمودة عندهم .
وقرة : باردة .
(4) للمقنع الكندى ، الحماسة - بشرح المرزوقى 3 : 1180 (*)(1/330)
(24) الاصل : من خطبه له عليه السلام : ولعمري ما على من قتال من خالف الحق ، وخابط الغى ، من إدهان ولا إيهان .
فاتقوا الله عباد الله ، وفروا إلى الله من الله ، وامضوا في الذى نهجه لكم ، وقوموا بما عصبه بكم ، فعلى ضامن لفلجكم آجلا ، إن لم تمنحوه عاجلا .
* * * الشرح : الادهان : المصانعة والمنافقة ، قال سبحانه : (ودوا لو تدهن فيدهنون) (1) .
والايهان : مصدر أوهنته ، أي أضعفته ، ويجوز وهنته ، بحذف الهمزة .
ونهجه : أوضحه وجعله نهجا ، أي طريقا بينا .
وعصبه بكم : ناطه بكم وجعله كالعصابة التى تشد بها الرأس .
والفلج : الفوز والظفر .
وقوله : " وخابط الغى " كأنه جعله والغى متخابطين ، يخبط أحدهما في الآخر ، وذلك أشد مبالغة من أن تقول : خبط في الغى ، لان من يخبط ويخبطه غيره يكون أشد اضطرابا ممن يخبط ولا يخبطه غيره .
وقوله : " ففروا إلى الله من الله " ، أي اهربوا إلى رحمة الله من عذابه .
وقد نظر الفرزدق إلى هذا فقال : إليك فررت منك ومن زياد ولم أحسب دمى لكم حلالا (2)
__________
(1) سورة القلم 9 (2) ديوانه 608 ، في مدح سعيد بن العاصى ، ورايته : " ولم أجعل دمى " .
(*)(1/331)
(25) الاصل : ومن خطبة له عليه السلام وقد تواترت عليه الاخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد ، وقدم عليه عاملاه على اليمن ، وهما عبيد الله بن عباس وسعيد بن نمران ، لما غلب عليهما بسر بن أرطاة ، فقام عليه السلام على المنبر ، ضجرا بتثاقل أصحابه عن الجهاد ، ومخالفتهم له في الرأى ، فقال : ما هي إلا الكوفة أقبضها وأبسطها ، إن لم تكوني إلا أنت تهب أعاصيرك فقبحك الله ! وتمثل بقول الشاعر : لعمر أبيك الخير يا عمرو إننى على وضر من ذا الاناء قليل (1) ثم قال عليه السلام : أنبئت بسرا قد اطلع اليمن ، وإنى والله لاظن أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم ، وتفرقكم عن حقكم ، وبمعصيتكم إمامكم في الحق ، وطاعتهم إمامهم في الباطل ، وبأدائهم الامانة إلى صاحبهم وخيانتكم ، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم ، فلو ائتمنت أحدكم على قعب لخشيت أن يذهب بعلاقته .
اللهم إنى قد مللتهم وملوني ، وسئمتهم وسئموني ، فأبدلنى بهم خيرا منهم ،
__________
(1) الوضر : بقية الدسم في الاناء .
(*)(1/332)
وابدلهم بى شرا منى ! اللهم مث قلوبهم كما يماث الملح في الماء .
أما والله لوددت أن لى بكم ألف فارس من بنى فراس بن غنم : هنالك لو دعوت أتاك منهم فوارس مثل أرمية الحميم (1) * * * ثم نزل عليه السلام من المنبر : قال الرضى رحمه الله : أقول الارمية : جمع رمى ، وهو السحاب .
والحميم هاهنا : وقت الصيف ، وإنما خص الشاعر سحاب الصيف بالذكر لانه أشد جفولا ، وأسرع خفوقا ، لانه لا ماء فيه ، وإنما يكون السحاب ثقيل السير لامتلائه بالماء ، وذلك لا يكون في الاكثر إلا زمان الشتاء ، وإنما أراد الشاعر وصفهم بالسرعة إذا دعوا ، والاغاثة إذا استغيثوا ، والدليل على ذلك قوله : * هنالك لو دعوت أتاك منهم * الشرح : تواترات عليه الاخبار ، مثل ترادفت وتواصلت .
من الناس من يطعن في هذا ، ويقول : التواتر لا يكون إلا مع فترات بين أوقات الاتيان ، ومنه قوله سبحانه : (ثم أرسلنا رسلنا تترى) (2) ، ليس المراد أنهم مترادفون ، بل بين كل نبيين فترة ، قالوا : وأصل " تترى " من الواو ، واشتقاقها من " الوتر " ، وهو الفرد : وعدوا هذا الموضع مما تغلط فيه الخاصة .
__________
(1) البيت في اللسان (19 : 54) ، ونسبه إلى أبى جندب الهذلى ، وروايته : " رجال مثل أرمية الحميم " .
(2) سورة المؤمنين 44 (*)(1/333)
[ نسب معاوية وبعض أخباره ] ومعاوية هو أبو عبد الرحمن معاوية بن أبى سفيان صخر بن حرب بن أمية ابن عبد شمس بن عبد مناف بن قصى .
وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصى .
وهى أم أخيه عتبة بن أبى سفيان .
فأما يزيد بن أبى سفيان ، ومحمد بن أبى سفيان ، وعنبسة بن أبى سفيان ، وحنظلة بن أبى سفيان ، وعمرو بن أبى سفيان ، فمن أمهات شتى .
وأبو سفيان هو الذى قاد قريشا في حروبها إلى النبي صلى الله عليه وآله ، وهو رئيس بنى عبد شمس بعد قتل عتبة بن ربيعة ببدر ، ذاك صاحب العير وهذا صاحب النفير ، وبهما يضرب المثل ، فيقال للخامل : " لا في العير ولا في النفير " .
وروى الزبير بن بكار أن عبد الله بن يزيد بن معاوية جاء إلى أخيه خالد بن يزيد في أيام عبد الملك ، فقال : لقد هممت اليوم يا أخى أن أفتك بالوليد بن عبد الملك ، قال : بئسما هممت به في ابن أمير المؤمنين ، وولى عهد المسلمين ! فما ذاك ؟ قال : إن خيلى مرت به فعبث بها وأصغرني ، فقال خالد : أنا أكفيك ، فدخل على عبد الملك والوليد عنده ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن الوليد مرت به خيل ابن عمه عبد الله ، فعبث بها وأصغره - وكان عبد الملك مطرقا - فرفع رأسه ، وقال : (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون) (1) ، فقال خالد : (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) (2) ، فقال عبد الملك : أ في عبد الله تكلمني ! والله لقد دخل أمس على فما أقام لسانه لحنا ! قال
__________
(1) سورة النمل 44 (2) سورة الاسراء 16 (*)(1/334)
خالد : أ فعلى الوليد تعول يا أمير المؤمنين ! قال عبد الملك : إن كان الوليد يلحن فإن أخاه خالد [ لا ] (1) ، فالتفت الوليد إلى خالد وقال له : اسكت ويحك فو الله ما تعد في العير ولا في النفير ، فقال : اسمع يا أمير المؤمنين ، ثم التفت إلى الوليد ، فقال له : ويحك ! فمن صاحب العير والنفير غير جدى أبى سفيان صاحب العير ، وجدى عتبة صاحب النفير ! ولكن لو قلت : غنيمات وحبيلات والطائف ، ورحم الله عثمان " ، لقلنا : صدقت (2) .
* * * وهذا من الكلام المستحسن ، والالفاظ الفصيحة ، والجوابات المسكتة ، وإنما كان أبو سفيان صاحب العير ، لانه هو الذى قدم بالعير التى رام رسول الله صلى الله عليه وآله وأصحابه أن يعترضوها ، وكانت قادمة من الشام إلى مكة تحمل العطر والبر ، فنذر بهم أبو سفيان ، فضرب وجوه العير إلى البحر ، فساحل (3) بها حتى أنقذها منهم ، وكانت وقعة بدر العظمى لاجلها ، لان قريشا أتاهم النذير بحالها ، وبخروج النبي صلى الله عليه وآله بأصحابه من المدينة في طلبها ، لينفروا ، وكان رئيس الجيش النافر لحمايتها عتبة بن ربيعة ابن شمس جد معاوية لامه .
وأما " غنيمات وحبيلات ...
" إلى آخر الكلام ، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله لما طرد الحكم بن أبى إلعاص إلى الطائف لامور نقمها عليه ، أقام بالطائف في حبلة ابتاعها - وهى الكرمة - وكان يرعى غنيمات اتخذها ، يشرب من لبنها .
فلما ولى أبو بكر ، شفع إليه عثمان في أن يرده ، فلم يفعل ، فلما ولى عمر شفع إليه أيضا فلم يفعل ، فلما ولى هو الامر رده .
والحكم جد عبد الملك ، فعيرهم خالد بن يزيد به .
* * * وبنو أمية صنفان : الاعياص والعنابس ، فالاعياص : العاص ، وأبو العاص ،
__________
(1) من مجمع الامثال .
(2) الخبر في مجمع الامثال 2 : 222 (3) ساحل بها : أتى بها ساحل البحر .
(*)(1/335)
والعيص ، وأبو العيص .
والعنابس : حرب ، وأبو حرب ، وسفيان ، وأبو سفيان .
فبنو مروان وعثمان من الاعياص ، ومعاوية وابنه من العنابس ، ولكل واحد من الصنفين المذكورين وشيعتهم كلام طويل ، واختلاف شديد ، في تفضيل بعضهم على بعض .
* * * وكانت هند تذكر في مكة بفجور وعهر .
وقال الزمخشري في كتاب " ربيع الابرار " : كان معاوية يعزى إلى أربعة : إلى مسافر بن أبى عمرو ، وإلى عمارة بن الوليد بن المغيرة ، وإلى العباس بن عبد المطلب ، وإلى الصباح ، مغن كان لعمارة بن الوليد .
قال : وقد كان أبو سفيان دميما قصيرا ، وكان الصباح عسيفا (1) لابي سفيان ، شابا وسيما ، فدعته هند إلى نفسها فغشيها .
وقالوا : إن عتبة بن أبى سفيان من الصباح أيضا ، وقالوا : إنها كرهت أن تدعه في منزلها ، فخرجت إلى أجياد ، فوضعته هناك .
وفى هذا المعنى يقول حسان أيام المهاجاة بين المسلمين والمشركين في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله قبل عام الفتح (2) : لمن الصبى بجانب البطحاء في الترب ملقى غير ذى مهد نجلت به بيضاء آنسة من عبد شمس صلته الخد (3) والذين نزهوا هند عن هذا القذف رووا غير هذا .
فروى أبو عبيدة معمر بن المثنى أن هندا كانت تحت الفاكه بن المغيرة المخزومى ، وكان له بيت ضيافة يغشاه الناس ، فيدخلونه من غير إذن ، فخلا ذلك البيت يوما ، فاضطجع فيه الفاكه وهند ، ثم قام الفاكه وترك هندا في البيت لامر عرض له ، ثم عاد إلى البيت ، فإذا رجل قد خرج من البيت ، فأقبل إلى هند ، فركلها برجله ، وقال : من الذى كان عندك ؟ فقالت : لم يكن عندي
__________
(1) العسيف : الاجير .
(2) ديوانه 157 (3) نجلت به ولدته ، وصلته الخد ، الصلت : الاملس : وفى الاصول : " صلبة " تصحيف (*)(1/336)
أحد ، وإنما كنت نائمة .
فقال : الحقى بأهلك ، فقامت من فورها إلى أهلها ، فتكلم الناس في ذلك ، فقال لها عتبة أبوها : يا بنية ، إن الناس قد أكثروا في أمرك ، فأخبريني بقصتك على الصحة ، فإن كان لك ذنب دسست إلى الفاكه من يقتله ، فتنقطع عنك القالة .
فحلفت أنها لا تعرف لنفسها جرما ، وإنه لكاذب عليها .
فقال عتبة للفاكه : إنك قد رميت ابنتى بأمر عظيم ، فهل لك أن تحاكمني إلى بعض الكهنة ؟ فخرج الفاكه في جماعة من بنى مخزوم ، وخرج عتبة في جماعة من بنى عبد مناف ، وأخرج معه هندا ونسوة معها ، فلما شارفوا بلاد الكاهن تغيرت حال هند ، وتنكر أمرها ، واختطف لونها .
فرأى ذلك أبوها ، فقال لها : إنى أرى ما بك ، وماذاك إلا لمكروه عندك ! فهلا كان هذا قبل أن يشتهر عند الناس مسيرنا ! قالت : يا أبت ، إن الذى رأيت منى ليس لمكروه عندي ، ولكني أعلم أنكم تأتون بشرا يخطئ ويصيب ، ولا آمن أن يسمنى ميسما يكون على عارا عند نساء مكة .
قال لها : فإنى سأمتحنه قبل المسألة بأمر ، ثم صفر بفرس له فأدلى ، ثم أخذ حبة بر فأدخلها في إحليله ، وشده بسير وتركه .
حتى إذا وردوا على الكاهن أكرمهم ، ونحر لهم .
فقال عتبة : إنا قد جئناك لامر ، وقد خبأت لك خبيئا أختبرك به ، فانظر ما هو ؟ فقال : ثمرة في كمرة ، فقال : أبين من هذا ، قال : حبة بر ، في إحليل مهر ، قال : صدقت ، انظر الآن في أمر هؤلاء النسوة .
فجعل يدنو من واحدة واحدة منهن ، ويقول : انهضي ، حتى صار إلى هند ، فضرب على كتفها ، وقال : انهضي غير رقحاء ولا زانية ، ولتلدن ملكا يقال له معاوية .
فوثب إليها الفاكه ، فأخذها بيده وقال : قومي إلى بيتك ، فجذبت يدها من يده ، وقالت : إليك عنى ، فو الله لا كان منك ، ولا كان إلا من غيرك ! فتزوجها أبو سفيان بن حرب .
الرقحاء : البغى التى تكتسب بالفجور ، والرقاحة : التجارة .
* * *(1/337)
وولى معاوية اثنتين وأربعين سنة ، منها اثنتان وعشرون سنة ولى فيها إمارة الشام منذ مات أخوه يزيد بن أبى سفيان ، بعد خمس سنين من خلافة عمر ، إلى أن قتل أمير المؤمنين على عليه السلام في سنة أربعين .
ومنها عشرون سنة خليفة إلى أن مات في سنة ستين .
ومر به إنسان وهو غلام يلعب مع الغلمان ، فقال : إنى أظن هذا الغلام سيسود قومه ، فقالت هند : ثكلته إن كان لا يسود إلا قومه ! ولم يزل معاوية ذا همة عالية ، يطلب معالى الامور ، ويرشح نفسه للرياسة ، وكان أحد كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله .
واختلف في كتابته له كيف كانت ، فالذي عليه المحققون من أهل السيرة أن الوحى كان يكتبه على عليه السلام وزيد بن ثابت ، وزيد بن أرقم ، وأن حنظلة بن الربيع التيمى ومعاوية بن أبى سفيان كانا يكتبان له إلى الملوك وإلى رؤساء القبائل ، ويكتبان حوائجه بين يديه ، ويكتبان ما يجبى من أموال الصدقات وما يقسم في أربابها .
وكان معاوية على أس (1) الدهر مبغضا لعلى عليه السلام ، شديد الانحراف عنه ، وكيف لا يبغضه ، وقد قتل أخاه حنظلة يوم بدر ، وخاله الوليد بن عتبة ، وشرك عمه في جده وهو عتبة - أو في عمه ، وهو شيبة ، على اختلاف الرواية - وقتل من بنى عمه عبد شمس نفرا كثيرا من أعيانهم وأماثلهم ، ثم جاءت الطامة الكبرى واقعة عثمان ، فنسبها كلها إليه بشبهة إمساكه عنه ، وانضواء كثير من قتلته إليه عليه السلام ، فتأكدت البغضة ، وثارت الاحقاد ، وتذكرت تلك الترات الاولى ، حتى أفضى الامر إلى ما أفضى إليه .
وقد كان معاوية ، مع عظم قدر على عليه السلام في النفوس ، واعتراف العرب بشجاعته ، وأنه البطل الذى لا يقام له ، يتهدده - وعثمان بعد حى - بالحرب والمنابذة ، ويراسله من الشام رسائل خشنة ، حتى قال له في وجهه ما رواه أبو هلال العسكري في كتاب " الاوائل " ، قال :
__________
و (1) أس الدهر ، بفتح الهمزة أو ضمها أو كسرها : قدم الدهر ووجهه .
(*)(1/338)
قدم معاوية المدينة قدمة أيام عثمان في أواخر خلافته ، فجلس عثمان يوما للناس ، فاعتذر من أمور نقمت عليه ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله قبل توبة الكافر ، وإنى رددت الحكم عمى لانه تاب ، فقبلت توبته ، ولو كان بينه وبين أبى بكر وعمر من الرحم ما بينى وبينه لآوياه ، فأما ما نقمتم على إنى أعطيت من مال الله ، فإن الامر إلى ، أحكم في هذا المال بما أراه صلاحا للامة ، وإلا فلما ذا كنت خليفة ! فقطع عليه الكلام معاوية وقال للمسلمين الحاضرين عنده : أيها المهاجرون ، قد علمتم أنه ليس منكم رجل إلا وقد كان قبل الاسلام مغمورا في قومه ، تقطع الامور من دونه ، حتى بعث الله رسوله فسبقتم إليه ، وأبطأ عنه أهل الشرف والرياسة ، فسدتم بالسبق لا بغيره ، حتى إنه ليقال اليوم : رهط فلان ، وآل فلان ، ولم يكونوا قبل شيئا مذكورا ، وسيدوم لكم هذا الامر ما استقمتم ، فإن تركتم شيخنا هذا يموت على فراشه وإلا خرج منكم ، ولا ينفعكم سبقكم وهجرتكم .
فقال له على عليه السلام : ما أنت وهذا يا بن اللخناء ! فقال معاوية : مهلا يا أبا الحسن عن ذكر أمي ، فما كانت بأخس نسائكم ، ولقد صافحها رسول الله صلى الله عليه يوم أسلمت ولم يصافح امرأة غيرها ، أما لو قالها غيرك ! فنهض على عليه السلام ليخرج مغضبا ، فقال عثمان : اجلس ، فقال له : لا أجلس ، فقال : عزمت عليك لتجلسن ، فأبى وولى ، فأخذ عثمان طرف ردائه فترك الرداء في يده وخرج ، فأتبعه عثمان بصره ، فقال : والله لا تصل إليك ولا إلى أحد من ولدك .
قال أسامة بن زيد : كنت حاضرا هذا المجلس ، فعجبت في نفسي من تألى عثمان ، فذكرته لسعد بن أبى وقاص ، فقال : لا تعجب ، فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه يقول : " لا ينالها على ولا ولده " قال أسامة : فإنى في الغد لفى المسجد ، وعلى وطلحة والزبير وجماعة من المهاجرين جلوس ، إذ جاء معاوية ، فتآمروا بينهم ألا يوسعوا له ، فجاء حتى جلس بين أيديهم ،(1/339)
فقال : أ تدرون لما ذاجئت ؟ قالوا : لا ، قال : إنى أقسم بالله إن لم تتركوا شيخكم يموت على فراشه لا أعطيكم إلا هذا السيف ! ثم قام فخرج .
فقال على عليه السلام : لقد كنت أحسب أن عند هذا شيئا ، فقال له طلحة : وأى شئ يكون عنده أعظم مما قال ! قاتله الله ! لقد رمى الغرض فأصاب ، والله ما سمعت يا أبا الحسن كلمة هي أملا لصدرك منها .
ومعاوية مطعون في دينه عند شيوخنا رحمهم الله ، يرمى بالزندقة .
وقد ذكرنا في نقض " السفيانية " على شيخنا أبى عثمان الجاحظ ما رواه أصحابنا في كتبهم الكلامية عنه من الالحاد والتعرض لرسول الله صلى الله عليه وآله ، وما تظاهر به من الجبر والارجاء ، ولو لم يكن شئ من ذلك ، لكان في محاربته الامام ما يكفى في فساد حاله ، لا سيما على قواعد أصحابنا ، وكونهم بالكبيرة الواحدة يقطعون على المصير إلى النار والخلود فيها ، إن لم تكفرها التوبة .
[ بسر بن أرطاة ونسبه ] وأما (1) بسر بن أرطاة فهو (2 بسر بن أرطاة 2) - وقيل ابن أبى أرطاة - بن عويمر بن عمران بن الحليس بن سيار بن نزار بن معيص بن عامر بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة .
بعثه معاوية إلى اليمن في جيش كثيف ، وأمره أن يقتل كل من كان في طاعة على عليه السلام ، فقتل خلقا كثيرا ، وقتل فيمن قتل ابني عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب ، وكانا غلامين صغيرين ، فقالت أمهما ترثيهما : يا من أحس بنيى اللذين هما كالدرتين تشظى عنهما الصدف (1) في أبيات مشهورة .
__________
(1) ب : " أما " (2 - 2) ساقط من ب ، وما أثبته من ا (3) تشظى : تفرق شظايا .
والابيات في الكامل 8 - 158 - بشرح المرصفى .
(*)(1/340)
[ عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب ] وكان عبيد الله عامل على عليه السلام على اليمن ، وهو عبيد الله بن العباس ابن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصى .
أمه وأم إخوته : عبد الله ، وقثم ، ومعبد ، وعبد الرحمن لبابة بنت الحارث بن حزن ، من بنى عامر بن صعصعة .
ومات عبيد الله بالمدينة ، وكان جوادا ، وأعقب ومن أولاده : قثم بن العباس بن عبيد الله بن العباس ولاه أبو جعفر المنصور المدينة ، وكان جوادا ممدوحا ، وله يقول ابن المولى (1) : أعفيت من كور ومن رحلة يا ناق إن أدنيتني من قثم في وجهه نور وفي باعه طول وفي العرنين منه شمم ويقال : ما رئى قبور إخوة أكثر تباعدا من قبور بنى العباس رحمه الله تعالى : قبر عبد الله بالطائف ، وقبر عبيد الله بالمدينة ، وقبر قثم بسمرقند ، وقبر عبد الرحمن بالشام ، وقبر معبد بأفريقية .
* * * ثم نعود إلى شرح الخطبة : الاعاصير : جمع إعصار ، وهى الريح المستديرة على نفسها ، قال الله تعالى : (فأصابها إعصار فيه نار) (2) .
والوضر : بقية الدسم في الاناء .
وقد اطلع اليمن ، أي غشيها وغزاها وأغار عليها .
وقوله : " سيدالون منكم " ، أي يغلبونكم وتكون لهم الدولة عليكم .
وماث زيد الملح في الماء : أذابه وبنو فراس بن غنم بن ثعلبة بن مالك بن كنانة ، حى مشهور بالشجاعة ، منهم
__________
(1) كذا بهذه النسبة في نسب قريش 33 ، وهما من أبيات تنسب إلى داود بن سلم ، في الاغانى 6 : 20 ، 9 : 169 (طبعة الدار) وفى الكامل 369 (طبعة أوربا) منسوبة إلى سليمان بن قتة .
(2) سورة البقرة 266 (*)(1/341)
علقمة بن فراس ، وهو جذل الطعان .
ومنهم ربيعة بن مكدم بن حرثان بن جذيمة بن علقمة بن فراس ، الشجاع المشهور ، حامى الظعن حيا وميتا ، ولم يحم الحريم وهو ميت أحد غيره ، عرض له فرسان من بنى سليم ، ومعه ظعائن من أهله يحميهم وحده ، فطاعنهم ، فرماه نبيشة ابن حبيب بسهم أصاب قلبه ، فنصب رمحه في الارض ، واعتمد عليه وهو ثابت في سرجه لم يزل ولم يمل .
وأشار إلى الظعائن بالرواح ، فسرن حتى بلغن بيوت الحى ، وبنو سليم قيام إزاءه لا يقدمون عليه ، ويظنونه حيا ، حتى قال قائل منهم : إنى لا أراه إلا ميتا ، ولو كان حيا لتحرك ، إنه والله لماثل راتب على هيئة واحدة ، لا يرفع يده ، ولا يحرك رأسه .
فلم يقدم أحد منهم على الدنو منه ، حتى رموا فرسه بسهم ، فشب من تحته ، فوقع وهو ميت ، وفاتتهم الظعائن .
وقال الشاعر : لا يبعدن ربيعة بن مكدم وسقى الغوادى قبره بذنوب (1) نفرت قلوصى من حجارة حرة بنيت على طلق اليدين وهوب لا تنفري يا ناق منه فإنه شريب خمر مسعر لحروب لو لا السفار وبعد خرق مهمه لتركتها تجثو على العرقوب نعم الفتى أدى نبيشة بزه يوم اللقاء نبيشة بن حبيب وقوله عليه السلام : " ما هي إلا الكوفة " ، أي ما ملكتي إلا الكوفة .
اقبضها وأبسطها ، أي أتصرف فيها ، كما يتصرف الانسان في ثوبه ، يقبضه ويبسطه كما يريد .
ثم قال على طريق صرف الخطاب : " فإن لم تكوني إلا أنت " ، خرج من الغيبة إلى خطاب الحاضر ، كقوله تعالى : (الحمد لله رب العالمين .
الرحمن الرحيم .
مالك يوم الدين .
إياك نعبد وإياك نستعين) ، يقول : إن لم يكن لى من الدنيا ملك إلا ملك الكوفة ذات الفتن ، والآراء المختلفة ، فأبعدها الله !
__________
(1) لحسان بن ثابت ، وقيل هي لضرار بن الخطاب ، وهى الاغانى 14 : 126 (طبعة الساس) والكامل 668 (طبع أوربا) في اختلاف في الرواية .
(*)(1/342)
وشبه ما كان يحدث من أهلها من الاختلاف والشقاق بالاعاصير ، لاثارتها التراب وإفسادها الارض .
ثم ذكر علة إدالة أهل الشام من أهل العراق ، وهى اجتماع كلمتهم وطاعتهم لصاحبهم وأداؤهم الامانة وإصلاحهم بلادهم .
[ أهل العراق وخطب الحجاج فيهم ] وقال أبو عثمان الجاحظ : العلة في عصيان أهل العراق على الامراء وطاعة أهل الشام أن أهل العراق أهل نظر وذوو فطن ثاقبة ، ومع الفطنة والنظر يكون التنقيب والبحث ، ومع التنقيب والبحث يكون الطعن والقدح والترجيح بين الرجال ، والتمييز بين الرؤساء ، وإظهار عيوب الامراء .
وأهل الشام ذوو بلادة وتقليد وجمود على رأى واحد ، لا يرون النظر ، ولا يسألون عن مغيب الاحوال .
وما زال العراق موصوفا أهله بقلة الطاعة ، وبالشقاق على أولى الرئاسة .
* * * ومن كلام الحجاج (1) : يا أهل العراق ، يا أهل الشقاق والنفاق ، ومساوئ الاخلاق ! أما والله لالحونكم لحو العصا ، ولاعصبنكم عصب السلم ، ولاضربنكم ضرب غرائب الابل ، إنى أسمع لكم تكبيرا ليس بالتكبير الذى يراد به الترغيب ، ولكنه تكبير الترهيب .
ألا إنها عجاجة تحتها قصف (2) ، يا بنى اللكيعة ، وعبيد العصا ، وأبناء الاماء ! إنما مثلى ومثلكم كما قال ابن براقة (4) : وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم فهل أنا في ذا يال همدان ظالم ! (5)
__________
(1) البيان والتبيين 2 : 137 ، وتاريخ الطبري 7 : 212 ، مع اختلاف في الرواية .
(2) العجاجة : شدة الغبار ، والقصف : شدة الريح .
(3) اللكيعة : اللئيمة .
(4) هو عمرو بن الحارث بن عمرو بن منبه بن شهر بن سهم الهمداني ، وبراقة أمه ، ينسب إليها .
(5) البيتان من قصيدة طويلة له ، ذكرها القالى في الامالى 2 : 122 ، في خبر له مع حريم المرادى حين أغار عليه .
(*)(1/343)
متى تجمع القلب الذكى وصارما وأنفا حميا تجتنبك المظالم والله لا تقرع عصا عصا إلا جعلتها كأمس الذاهب .
وكانت هذه الخطبة عقيب سماعه تكبيرا منكرا في شوارع الكوفة ، فأشفق من الفتنة .
* * * ومما خطب به في ذم أهل العراق بعد وقعة دير الجماجم (1) .
يا أهل العراق ، يا أهل الشقاق والنفاق ، إن الشيطان استبطنكم ، فخالط اللحم والدم والعصب ، والمسامع والاطراف والاعضاء والشغاف ، ثم أفضى إلى الامخاخ والاصماخ ، ثم ارتفع فعشش ، ثم باض ففرخ ، فحشاكم نفاقا وشقاقا ، وملاكم غدرا وخلافا ، اتخذتموه دليلا تتبعونه ، وقائدا تطيعونه ، ومؤامرا تستشيرونه ، فكيف تنفعكم تجربة ، أو تعظكم واقعة ، أو يحجزكم إسلام ، أو يعصمكم ميثاق ! أ لستم أصحابي بالاهواز ، حيث رمتم المكر ، وسعيتم بالغدر ، وظننتم أن الله يخذل دينه وخلافته ، وأنا أرميكم بطرفي ، وأنتم تتسللون لواذا ، وتنهزمون سراعا ! ثم يوم الزاوية (2) ! وما يوم الزاوية ! بها كان فشلكم وكسلكم وتخاذلكم وتنازعكم ، وبراءة الله منكم ، ونكول وليكم عنكم ، إذ وليتم كالابل الشوارد إلى أوطانها ، النوازع إلى أعطانها ، لا يسأل المرء عن أخيه ، ولا يلوى الاب على بنيه ، لما عضكم السلاح ، وقصمتكم (3) الرماح .
ثم يوم دير الجماجم ، وما يوم دير الجماجم !
__________
(1) وقعة دير الجماجم ، كانت بين الحجاج وابن الاشعث قرب الكوفة سنة 83 ، وهزم فيها ابن الاشعث الطبري (8 : 21) والخطبة في البيان والتبيين 2 : 138 ، العقد 4 : 115 ، نهاية الارب 7 : 245 مع اختلاف الرواية (2) الزاوية : موضع قرب البصرة ، كانت به وقعة بين الحجاج وابن الاشعث ، قتل فيها خلق كثير ، وذلك سنة 82 .
الطبري (8 : 12) .
(3) قصتمتكم : كسرتكم وغلبتكم ، وفى البيان : " وقصتكم " ، وهما بمعنى .
(*)(1/344)
بها كانت المعارك والملاحم ، بضرب يزيل الهام عن مقيله ، ويذهل الخليل عن خليله (1) .
يا أهل العراق ، يا أهل الشقاق والنفاق ! الكفرات بعد الفجرات ، والغدرات بعد الخترات (2) ، والنزوة بعد النزوات ! إن بعثتكم إلى ثغوركم غللتم (3) وخنتم ، وإن أمنتم أرجفتم ، وإن خفتم نافقتم .
لا تذكرون حسنة ، ولا تشكرون نعمة .
هل استخفكم ناكث ، أو استغواكم غاو ، أو استفزكم عاص ، أو استنصركم ظالم ، أو استعضدكم خالع ، إلا اتبعتموه وآويتموه ، ونصرتموه وزكيتموه ! يا أهل العراق ، هل شغب شاغب ، أو نعب ناعب ، أو زفر كاذب (4) ، إلا كنتم أشياعه وأتباعه ، وحماته وأنصاره ! يا أهل العراق ، أ لم تزجركم المواعظ ! أ لم تنبهكم الوقائع ! أ لم تردعكم الحوادث ! ثم التفت إلى أهل الشام وهم حول المنبر ، فقال : يا أهل الشام ، إنما أنا لكم كالظليم الرامح (5) عن فراخه ، ينفى عنها القذر (6) ويباعد عنها الحجر ، ويكنها من المطر ، ويحميها من الضباب ، ويحرسها من الذئاب ! يا أهل الشام ، أنتم الجنة والرداء ، وأنتم العدة والحذاء .
ثم نزل .
* * *
__________
(1) أخذه من رجز عمار بن ياسر يوم صفين ، وفيه : ضرب يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله ومقيله : موضعه .
وانظر وقعة صفين 366 - 387 (2) الخترات : جمع خترة ، وهى الغدر والخديعة .
(3) الغل هنا : الخيانة .
(4) العد : " زفر زافر " .
(5) الظليم : ذكر النعام ، والرامح : المدافع .
(6) البيان والعقد : " المدر " .
(*)(1/345)
ومن خطبه في هذا المعنى وقد أراد الحج (1) : يا أهل الكوفة ، إنى أريد الحج وقد استخلفت عليكم ابني محمدا ، وأوصيته بخلاف وصية رسول الله صلى الله عليه في الانصار ، فإنه أمر أن يقبل من محسنهم ، ويتجاوز عن مسيئهم ، وأنى قد أوصيته ألا يقبل من محسنكم ، ولا يتجاوز عن مسيئكم .
ألا وإنكم ستقولون بعدى : لا أحسن الله له الصحابة ! ألا وإنى معجل لكم الجواب : لا أحسن الله لكم الخلافة ! * * * ومن خطبة له في هذا المعنى : يا أهل الكوفة ، إن الفتنة تلقح بالنجوى (2) ، وتنتج بالشكوى ، وتحصد بالسيف ، أما والله إن أبغضتموني لا تضروني ، وإن أحببتموني لا تنفعوني ! وما أنا بالمستوحش لعداوتكم ، ولا المستريح إلى مودتكم ، زعمتم أنى ساحر وقد قال الله تعالى : (ولا يفلح الساحر) (3) ، وقد أفلحت .
وزعمتم أنى أعلم الاسم الاكبر ، فلم تقاتلون من يعلم ما لا تعلمون ! ثم التفت إلى أهل الشام فقال : لازواجكم أطيب من المسك ، ولابناؤكم آنس بالقلب من الولد ، وما أنتم إلا كما قال أخو ذبيان : إذا حاولت في أسد فجورا فإنى لست منك ولست منى (4) هم درعى التى استلامت فيها إلى يوم النسار وهم مجنى (5)
__________
(1) عيون الاخبار 2 : 245 (2) النجوى : المسارة .
(3) سورة طه 63 (4) ديوانه 79 (من مجموعة خمسة دواوين) (5) استلام : لبس اللامة ، وهى الدرع .
النسار : ماء لبنى عامر .
والمجن : الترس .
(*)(1/346)
ثم قال : بل أنتم يا أهل الشام ، كما قال الله سبحانه : (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين .
إنهم لهم المنصورون .
وإن جندنا لهم الغالبون) (1) .
* * * وخطب مرة بعد موت أخيه وابنه قال : بلغني أنكم تقولون : يموت الحجاج ، ومات الحجاج ! فمه ! وما كان ما ذا ! والله ما أرجو الخير كله إلا بعد الموت ! وما رضى الله البقاء إلا لاهون المخلوقين عليه ، إبليس ، (قال أنظرني إلى يوم يبعثون .
قال إنك من المنظرين) (2) .
ثم قال : يا أهل العراق ، أتيتكم وأنا ذو لمة وافرة أرفل فيها ، فما زال بى شقاقكم وعصيانكم حتى أحص شعرى .
ثم كشف رأسه وهو أصلع ، وقال : من يك ذا لمة يكشفها فإننى غير ضائري زعرى (3) لا يمنع المرء أن يسود وأن يضرب بالسيف - قلة الشعر * * * فأما قوله عليه السلام : " اللهم أبدلني بهم خيرا منهم ، وأبدلهم بى شرا منى " ، ولا خير فيهم ولا شر فيه عليه السلام ، فإن " أفعل " هاهنا بمنزلته في قوله تعالى : (أ فمن يلقى في النار خير أمن يأتي آمنا يوم القيامة) (4) ، وبمنزلته في قوله : (قل أ ذلك خير أم جنة الخلد) (5) .
__________
(1) سورة الصافات 171 - 173 (2) سورة الاعراف 14 ، 15 من يك ذا لمة يكشفها فإننى غير ضائري زعرى (3) لا يمنع المرء أن يسود وأن يضرب بالسيف - قلة الشعر * * * فأما قوله عليه السلام : " اللهم أبدلني بهم خيرا منهم ، وأبدلهم بى شرا منى " ، ولا خير فيهم ولا شر فيه عليه السلام ، فإن " أفعل " هاهنا بمنزلته في قوله تعالى : (أ فمن يلقى في النار خير أمن يأتي آمنا يوم القيامة) (4) ، وبمنزلته في قوله : (قل أ ذلك خير أم جنة الخلد) (5) .
__________
(1) سورة الصافات 171 - 173 (2) سورة الاعراف 14 ، 15 (3) الزعر : ذهاب أصول الشعر .
(4) سورة فصلت 40 (5) سورة الفرقان 15 (*)(1/347)
ويحتمل أن يكون الذى تمناه عليه السلام من إبداله بهم خيرا منهم قوما صالحين ينصرونه ويوفقون لطاعته .
ويحتمل أن يريد بذلك ما بعد الموت من مرافقة النبي صلى الله عليه وآله .
وقال القطب الراوندي : بنو فراس بن غنم هم الروم .
وليس بجيد ، والصحيح ما ذكرناه .
والبيت المتمثل به أخيرا لابي جندب الهذلى ، وأول الابيات : ألا يا أم زنباع أقيمي صدور العيس نحو بنى تميم * * * وهذه الخطبة ، خطب بها أمير المؤمنين عليه السلام بعد فراغه من صفين ، وانقضاء أمر الحكمين والخوارج ، وهى من أواخر خطبه عليه السلام .
* * * تم الجزء الاول (1) من شرح نهج البلاغة بحمد الله ومنه ، والحمد لله وحده العزيز ، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين .
__________
(1) من تجزئة المؤلف ، وهذه خاتمة نسخة ب ، وفى آخر نسخة ا : " هذا آخر الجزء الاول ، ويتلوه الجزء الثاني إن شاء الله " .(1/348)
شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد ج 2
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد ج 2(2/)
شرح نهج البلاغه لابن ابى الحديد لابن أبى الحديد بتحيق محمد أبو الفضل ابراهيم الجزء الثاني دار احياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه(2/1)
جميع الحقوق المحفوظة الطبعة الاولى [ 1378 ه - 1959 م ] شرح نهج البلاغه لابن ابى الحديد لابن أبى الحديد (586 - 656) تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم(2/2)
بسم الله الرحمن الرحيم بعث معاوية بسر بن ارطاه إلى الحجاز واليمن) فاما خبر بسر بن ارطاه العامري ، من بنى عامر بن لؤى بن غالب ، وبعث معاوية له ليغير على اعمال امير المؤمنين عليه السلام ، وما عمله من سفك الدماء واخذ الاموال ، فقد ذكر ارباب السير ان الذى هاج معاوية على تسريح بسر بن ارطاه - ويقال ابن ابى ارطاة - إلى الحجاز واليمن ، ان قوما بصنعاء كانوا من شيعة عثمان ، يعظمون قتله ، لم يكن لهم نظام ولا راس ، فبايعوا لعلي عليه السلام على ما في انفسهم ، وعامل علي عليه السلام على صنعاء يومئذ عبيد الله بن عباس (1) وعامله على الجند سعيد بن نمران (2) فلما اختلف الناس على علي عليه السلام بالعراق ، وقتل محمد بن ابى بكر بمصر ، وكثرت غارات اهل الشام ، تكلموا ودعوا إلى الطلب بدم عثمان ، فبلغ ذلك عبيد الله ابن عباس ، فارسل إلى ناس من وجوههم ، فقال : ما هذا الذي بلغني عنكم ؟ قالوا : انا لم نزل ننكر قتل عثمان ، ونرى مجاهدة من سعى عليه .
فحبسهم ، فكتبوا إلى من بالجند من اصحابهم ، فثاروا بسعيد بن نمران ، فاخرجوه من الجند ، واظهروا امرهم ، وخرج إليهم من كان بصنعاء ، وانضم إليهم كل من كان على رأيهم ، ولحق بهم قوم لم يكو نوا على رأيهم ، ارادة أن يمنعوا الصدقة ، والتقى عبيد الله بن عباس وسعيد بن نمران ، ومعهما شيعة علي عليه السلام ، فقال أبن عباس لابن نمران : والله لقد اجتمع هؤلاء ، وانهم لنا
__________
(1) عبيدالله بن العباس ، كان اصغر من أخيه عبد الله بسنة ، رأى النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه ، وحفظ عنه .
الاستيعاب 404 .
(2) سعيد بن نمران الهمداني ، كان كاتبا لعلي ، وأدرك من حياة النبي عليه السلام أعواما .
الاستيعاب 542 .
(*)(2/3)
لمقاربون ، وان قاتلناهم لا نعلم على من تكون الدائرة ، فهلم لنكتب إلى أمير المؤمنين عليه السلام (1) بخبرهم وقدحهم ، وبمنزلهم الذي هم به .
فكتب إلى أمير المؤمنين عليه السلام (1) : اما بعد ، فانا نخبر أمير المؤمنين عليه السلام أن شيعة عثمان وثبوا بنا ، واظهرو ان معاوية قد شيد امره ، واتسق له أكثر الناس ، وانا سرنا إليهم بشيعة أمير المؤمنين ومن كان على طاعته ، وأن ذلك أحمشهم (2) والبهم ، فعبئوا (3) لنا ، وداعوا علينا من كل اوب ، ونصرهم علينا من لم يكن له رأى فيهم ، اراده أان يمنع حق الله المفروض عليه .
وليس يمنعنا من مناجزتهم إلا أنتظار أمر أمير المؤمنين ، أدام الله عزه وأيده ، وقضى له بالاقدار الصالحة في جميع اموره ، والسلام .
فلما وصل كتابهما ، ساء عليا عليه السلام وأغضبه ، وكتب اليهما : من علي أمير المؤمنين إلى عبيد الله بن العباس وسعيد بن نمران : سلام الله عليكما ، فانى احمد اليكما الله الذي لا اله الا هو .
أما بعد ، فانه أتانى كتا بكما تذكران فيه خروج هذه الخارجة ، وتعظمان من شانها صغيرا ، وتكثران من عددها قليلا ، وقد علمت أن نخب افئدتكما ، وصغر أنفسكما ، وشتات رأيكما ، وسوء تدبيركما ، هو الذى أفسد عليكما من لم يكن عليكما فاسدا ، وجزاء عليكما من كان عن لقائكما جبانا ، فإذا قدم رسولي عليكما ، فامضيا إلى القوم حتى تقرءا عليهم كتابي إليهم ، وتدعواهم إلى حظهم وتقوى ربهم ، فان أجابوا حمدنا الله وقبلناهم ، وان حاربوا استعنا بالله عليهم ونابذناهم على سواء ، أن الله لا يحب الخائنين .
قالوا : وقال علي عليه السلام ليزيد بن قيس الارحبي : ا لا ترى إلى ما صنع قومك !
__________
(1) (1 - 1) ساقط من أ .
(2) احمشهم : هاجمهم وأغضبهم * .
(3) ب : (فتعبوا) تصحيف .
(*)(2/4)
فقال : أن ظنى يا أمير المؤمنين بقومي لحسن في طاعتك ، فان شئت خرجت إليهم فكفيتهم ، وأن شئت كتبت إليهم فتنظر ما يجيبونك .
فكتب علي عليه السلام إليهم (1) : من عبد الله على أمير المؤمنين ، إلى من شاق وغدر من اهل الجند وصنعاء .
اما بعد ، فانى احمد الله الذى لا اله الا هو ، الذى لا يعقب له حكم ، ولا يرد له قضاء ، ولا يرد باسه عن القوم المجرمين .
وقد بلغني تجرؤكم وشقاقكم واعراضكم عن دينكم ، بعد الطاعه واعطاء البيعه ، فسالت اهل الدين الخالص ، والورع الصادق ، واللب الراجح عن بدء محرككم ، وما نويتم به ، وما احمشكم له ، فحدثت عن ذلك بما لم ار لكم في شئ منه عذرا مبينا ، ولا مقالا جميلا ، ولا حجه ظاهرة ، فإذا اتاكم رسولي فتفرقوا وانصرفوا إلى رحالكم اعف عنكم ، واصفح عن جاهلكم ، واحفظ قاصيكم ، واعمل فيكم بحكم الكتاب .
فان لم تفعلوا ، فاستعدوا لقدوم جيش جم الفرسان ، عظيم الاركان ، يقصد لمن طغى وعصى (2) ، فتطحنوا كطحن الرحى ، فمن احسن فلنفسه ، ومن اساء فعليها ، وما ربك بظلام للعبيد .
ووجه الكتاب مع رجل من همدان ، فقدم عليهم بالكتاب فلم يجيبوه إلى خير ، فقال لهم : انى تركت امير المؤمنين يريد ان يوجه اليكم يزيد بن قيس الارحبي ، في جيش كثيف ، فلم يمنعه الا انتظار جوابكم .
فقالوا : نحن سامعون مطيعون ، ان عزل عنا هذين الرجلين : عبيد الله وسعيدا .
فرجع الهمداني من عندهم إلى على عليه السلام فاخبره خبر القوم .
قالوا : وكتبت تلك العصابه حين جاءها كتاب على عليه السلام إلى معاوية يخبرونه ، وكتبوا في كتابهم : معاوى الا تسرع السير نحونا نبايع عليا أو يزيد اليمانيا .
__________
(1) ساقطة من ب .
(2) ساقطة من ا .
(*)(2/5)
فلما قدم كتابهم ، دعا بسر بن ابى ارطاة ، وكان قاسى القلب فظا سفاكا للدماء ، لارافه عنده ولا رحمه ، فأمره ان ياخذ طريق الحجاز والمدينة ومكه حتى ينتهى إلى اليمن ، وقال له : لا تنزل على بلد اهله على طاعة على الا بسطت عليهم لسانك ، حتى يروا انهم لا نجاء لهم ، وانك محيط بهم .
ثم اكفف عنهم ، وادعهم إلى البيعة لى ، فمن ابى فاقتله ، واقتل شيعة على حيث كانوا .
* * * وروى ابراهيم بن هلال الثقفى في كتاب ، ، الغارات ، ، عن يزيد بن جابر الازدي ، قال : سمعت عبد الرحمن بن مسعده الفزارى يحدث في خلافة عبد الملك ، قال : لما دخلت سنه اربعين ، تحدث الناس بالشام ان عليا عليه السلام يستنفر الناس بالعراق فلا ينفرون معه ، وتذاكروا ان قد اختلفت اهواؤهم ، ووقعت الفرقة بينهم ، قال : فقمت في نفر من اهل الشام إلى الوليد بن عقبة ، فقلنا له : ان النا س لا يشكون في اختلاف الناس على علي عليه السلام بالعراق ، فادخل إلى صاحبك فمره فليسر بنا إليهم قبل ان يجتمعوا بعد تفرقهم ، أو يصلح لصاحبهم ما قد فسد عليه من امره .
فقال : بلى ، لقد قاولته في ذلك وراجعته وعاتبته ، حتى لقد برم بى ، واستثقل طلعتي ، وايم الله على ذلك ما ادع ان ابلغه ما مشيتم (1) إلى فيه .
فدخل عليه فخبره بمجيئنا إليه ، ومقالتنا له ، فاذن لنا ، فدخلنا عليه ، فقال : ما هذا الخبر الذى جاءني به عنكم الوليد ؟ فقلنا : هذا خبر في الناس سائر ، فشمر للحرب ، وناهض الاعداء ، واهتبل الفرصة ، واغتنم الغرة ، فانك لا تدري متى تقدر على عدوك على مثل حالهم التى هم عليها ، وان تسير إلى عدوك اعزلك من ان يسيروا اليك .
واعلم
__________
(1) أ : (ما شئتم) (*)(2/6)
والله انه لو لا تفرق الناس على صاحبك لقد نهض اليك .
فقال لنا : ما استغنى عن رايكم ومشورتكم ، ومتى احتج إلى ذلك منكم ادعكم .
ان هؤلاء الذين تذكرون تفرقهم على صا حبهم ، واختلاف اهوائهم ، لم يبلغ ذلك عندي بهم ان اكون اطمع في استئصالهم واجتياحهم ، وان اسير إليهم مخاطرا بجندي ، لا ادرى على تكون الدائره ام لى ! فاياكم واستبطائي ، فانى آخذ بهم في وجه هو ارفق بكم ، وابلغ في هلكتهم .
قد شننت عليهم الغارات من كل جانب ، فخيلي مرة بالجزيرة ، ومرة بالحجاز ، قد فتح الله فيما بين ذلك مصر ، فاعز بفتحها ولينا ، واذل به عدونا ، فاشراف اهل العراق لما يرون من حسن صنيع الله لنا ، ياتوننا على قلائصهم في كل ايام ، وهذا مما يزيدكم الله به وينقصهم ، ويقويكم ويضعفهم ، ويعزكم ويذلهم ، فاصبروا ولا تعجلو ، فانى لو رايت فرصتي لاهتبلتها .
فخرجنا من عنده ونحن نعرف الفصل فيما ذكر ، فجلسنا ناحية ، وبعث معاوية عند خروجنا من عنده إلى بسر بن ابى ارطاة ، فبعثه في ثلاثه آلاف ، وقال : سر حتى تمر بالمدينة ، فاطرد الناس ، واخف من مررت به ، وانهب اموال كل من اصبت له مالا ، ممن لم يكن دخل في طاعتنا ، فإذا دخلت المدينة ، فارهم انك تريد انفسهم ، واخبرهم انه لا براءة لهم عندك ولا عذر ، حتى إذا ظنوا انك موقع بهم فاكفف عنهم ، ثم سر حتى تدخل مكة ، ولا تعرض فيها لاحد ، وارهب الناس عنك فيما بين المدينة ومكة ، واجعلها شردا ، حتى تأتى صنعاء والجند ، فان لنا بهما شيعة ، وقد جاءني كتابهم ..فخرج بسر في ذلك البعث ، حتى اتى دير مروان ، فعرضهم فسقط منهم اربعمائة ، فمضى في الفين وستمائة ، فقال الوليد بن عقبة : اشرنا على معاوية براينا ان يسير(2/7)
إلى الكوفة فبعث الجيش إلى المدينة ، فمثلنا ومثله ، كما قال الاول : * اريها السها وتريني القمر (1) * فبلغ ذلك معاوية ، فغضب وقال : والله لقد هممت بمساءة هذا الاحمق الذى لا يحسن التدبير ، ولا يدرى سياسة الامور .
ثم كف عنه .
* * * قلت الوليد كان لشدة بغضه عليا عليه السلام القديم التالد ، لا يرى الاناة في حربه ، ولا يستصلح الغارات على اطراف بلاده ، ولا يشفى غيظه ، ولا يبرد حزازات قلبه الا باستئصاله نفسه بالجيوش ، وتسييرها إلى دار ملكه ، وسرير خلافته ، وهى الكوفة ، وان يكون معاوية بنفسه هو الذى يسير بالجيوش إليه ، ليكون ذلك ابلغ في هلاك على عليه السلام ، واجتثاث اصل سلطانه ، ومعاوية كان يرى غير هذا الرأى ، ويعلم ان السير بالجيش للقاء علي عليه السلام خطر عظيم ، فاقتضت المصلحة عنده ، وما يغلب على ظنه من حسن التدبير ، ان يثبت بمركزه بالشام في جمهور جيشه ، ويسرب الغارات على اعمال علي عليه السلام وبلاده ، فتجوس خلال الديار وتضعفها ، فإذا اضعفتها اضعفت بيضة ملك علي عليه السلام ، لان ضعف الاطراف يوجب ضعف البيضة ، وإذا اضعفت البيضة كان على بلوغ ارادته ، والمسير حينئذ - ان استصوب المسير - أقدر .
ولايلام الوليد على ما في نفسه ، فان عليا عليه السلام قتل اباه عقبة بن ابى معيط صبرا (2) يوم بدر وسمى الفاسق (3) بعد ذلك في القرآن ، لنزاع وقع بينه وبينه ،
__________
(1) السها : كويكب صغير خفي الضوء في بنات نعش الكبرى ، والناس يمتحنون به أبصارهم .
والمثل في اللسان 19 : 123 .
(2) القتل صبرا : أن يحبس الانسان ويرمى حتى يموت .
(3) يشير الى ما ذكروه من سبب نزول قوله تعالى في سورة الحجرات (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبا فتبينوا) ، وانظر الاصابة 6 : 631 واسباب النزول ، للواحدي 291 .
(*)(2/8)
ثم جلد الحد في خلافة عثمان ، وعزله عن الكوفة ، وكان عاملها ، وببعض هذا عند العرب ارباب الدين والتقى تستحل المحارم ، وتستباح الدماء ، ولا تبقى مراقبة في شفاء الغيظ لدين ولا لعقاب ولا لثواب ، فكيف الوليد المشتمل على ا لفسوق والفجور ، مجاهرا بذلك ! وكان من المؤلفة قلوبهم ، مطعونا في دينه (1) مرميا بالالحاد والزندقة ! * * * قال ابراهيم بن هلال : ر وى عوانة عن الكلبي ولوط بن يحيى ، ان بسرا لما اسقط من اسقط من جيشه ، سار بمن تخلف معه ، وكانوا إذا وردوا ماء اخذوا ابل اهل ذلك الماء فركبوها ، وقادوا خيولهم حتى يردوا الماء الاخر ، فيردون تلك الابل ، ويركبون ابل هؤلاء ، فلم يزل يصنع ذلك حتى قرب إلى المدينة .
قال : وقد روى ان قضاعة استقبلتهم ينحرون لهم الجزر ، حتى دخلوا المدينة .
قال : فدخلوها ، وعامل علي عليه السلام عليها أبو أيوب الانصاري ، صاحب منزل رسول الله صلى الله عليه وآله ، فخرج عنها هاربا ، ودخل بسر المدينة ، فخطب الناس وشتمهم وتهددهم يومئذ وتوعدهم ، وقال : شاهت الوجوه ! ان الله تعالى : (ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة ياتيها رزقها ...
) (2) الاية ، وقد اوقع الله تعالى ذلك المثل بكم وجعلكم اهله ، كان بلدكم مهاجر النبي صلى الله عليه ومنزله ، وفيه قبره ومنازل الخلفاء من بعده ، فلم تشكروا نعمة ربكم ، ولم ترعوا حق نبيكم ، وقتل خليفة الله بين اظهركم ، فكنتم بين قاتل وخاذل ، ومتربص وشامت ، ان كانت للمؤمنين قلتم : ا لم نكن معكم ! وان كان للكافرين نصيب قلتم : ا لم نستحوذ عليكم ونمنعكم من
__________
(1) ا : (نسبه) .
(2) سورة النحل 112 ، وبقيتها : (من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) .
(*)(2/9)
المؤمنين ! ثم شتم الانصار ، فقال : يا معشر اليهود وابناء العبيد ، بنى زريق وبنى النجار وبنى سالم وبنى عبد الاشهل ، اما والله لاوقعن بكم وقعة تشفى غليل صدور المؤمنين وآل عثمان .
اما والله لادعنكم احاديث كالامم السالفة (1) .
فتهددهم حتى خاف الناس ان يوقع بهم ، ففزعوا إلى حويطب بن عبد العزى - ويقال انه زوج امه - فصعد إليه المنبر ، فناشده ، وقال : عترتك وانصار رسول الله ، وليسوا بقتله عثمان ، فلم يزل به حتى سكن ، ودعا الناس إلى بيعة معاوية فبايعوه .
ونزل فاحرق دورا كثيره ، منها دار زراره بن حرون ، احد بنى عمرو بن عوف ، ودار رفاعة بن رافع الزرقى ، ودار ابى ايوب الانصاري ، وتفقد جابر بن عبد الله ، فقال : ما لى لا ارى جابرا ! يا بنى سلمة ، لا امان لكم عندي ، أو تاتونى بجابر ! فعاذ جابر بأم سلمة رضى الله عنها ، فارسلت إلى بسر بن ارطاه ، فقال : لا اؤمنه حتى يبايع ، فقالت له ام سلمة : اذهب فبايع ، وقالت لابنها عمر ، اذهب فبايع ، فذهبا فبايعاه (2) .
قال ابراهيم : وروى الوليد بن كثير عن وهب بن كيسان ، قال : سمعت جابر ابن عبد الله الانصاري يقول : لما خفت بسرا وتواريت عنه ، قال لقومي : لا امان لكم عندي حتى يحضر جابر ، فاتوني ، وقالوا : ننشدك الله لما انطلقت معنا فبايعت ، فحقنت دمك ودماء قومك ، فانك ان لم تفعل قتلت مقاتلينا ، وسبيت ذرارينا .
فاستنظرتهم الليل ، فلما امسيت دخلت على ام سلمة فاخبرتها الخبر ، فقالت : يا بنى ، انطلق فبايع ، احقن دمك ودماء قومك ، فانى قد امرت ابن اخى ان يذهب فيبايع ، وانى لاعلم انها بيعة ضلالة .
__________
(1) تاريخ الطبري 6 : 80 ، مع اختلاف في تفصيل الخبر .
(2) في تاريخ الطبري : (فقال لها : ماذا ترين ؟ إنى قد خشيت أن أقتل ، وهذه بيعة ضلالة ، فقالت : أرى أن تبايع ، فإني قد أمرت ابني عمربن أبي سلمة أن يبابع ، وامرت ختنى عبد الله بن زمعة ...
) ..(*)(2/10)
قال ابراهيم : فاقام بسر بالمدينة اياما ثم قال لهم : انى قد عفوت عنكم : وان لم تكونوا لذلك باهل ، ما قوم قتل امامهم بين ظهرانيهم باهل ان يكف عنهم العذاب ، و لئن نالكم العفو منى في الدنيا ، انى لارجو الا تنالكم رحمة الله عزوجل في الاخرة ، وقد استخلفت عليكم ابا هريرة ، فاياكم وخلافة .
ثم خرج إلى مكة .
قال ابراهيم : روى الوليد بن هشام ، قال : اقبل بسر ، فدخل المدينة ، فصعد منبر الرسول صلى الله عليه وآله ، ثم قال : يا اهل المدينة ، خضبتم لحاكم وقتلتم عثمان مخضوبا ، والله لا ادع في المسجد مخضوبا إلا قتلته ، ثم قال لاصحابه : خذوا بابواب المسجد وهو يريد ان يستعرضهم .
فقام إليه عبد الله بن الزبير وابو قيس احد بنى عامر بن لؤى ، فطلبا إليه حتى كف عنهم ، وخرج إلى مكة ، فلما قرب منها هرب قثم بن العباس - وكان عامل علي عليه السلام - ودخلها بسر ، فشتم اهل مكة وانبهم .
ثم خرج عنها واستعمل عليها شيبة بن عثمان .
* * * قال ابراهيم : وقد روى عوانة عن الكلبي ابسرا لما خرج من المدينة إلى مكة قتل في طريقه رجالا ، واخذ اموالا ، وبلغ اهل مكة خبره ، فتنحى عنها عامه اهلها ، وتراضي الناس بشيبة بن عثمان اميرا لما خرج قثم بن العباس عنها ، وخرج إلى بسر قوم من قريش ، فتلقوه ، فشتمهم ، ثم قال : اما والله لو تركت ورايى فيكم لتركتكم وما فيكم روح تمشى على الارض ، فقالوا : ننشدك الله في اهلك وعترتك ! فسكت ثم دخل وطاف بالبيت ، وصلى ركعتين ، ثم خطبهم ، فقال : الحمد لله الذى اعز دعوتنا ، وجمع الفتنا ، واذل (1) عدونا بالقتل والتشريد ، هذا ابن أبي طالب بناحية العراق في ضنك وضيق ، قد ابتلاه الله بخطيئته ، واسلمه بجريرته ،
__________
(1) ا : (خذل) .
(*)(2/11)
فتفرق عنه اصحابه ناقمين عليه ، وولى الامر معاوية الطالب بدم عثمان ، فبايعوا ولا تجعلوا على انفسكم سبيلا .
فبايعوا .
وتفقد سعيد بن العاص فطلبه فلم يجده ، واقام اياما ثم خطبهم فقال : يا اهل مكة ، انى قد صفحت عنكم ، فاياكم والخلاف ، فو الله ان فعلتم لاقصدن منكم إلى التى تبير اصل ، وتحرب المال ، وتخرب الديار .
ثم خرج إلى الطائف ، فكتب إليه المغيرة ن شعبه حين خرج من مكة إليها : اما بعد ، فقد بلغني مسيرك إلى الحجاز ، ونزولك مكة ، وشدتك على المريب ، وعفوك عن المسئ ، واكرامك لاولى النهى ، فحمدت رايك في ذلك ، فدم على صالح ما كنت عليه ، فان الله عزو جل لن يزيد بالخير اهله الا خيرا ، جعلنا الله واياك من الامرين بالمعروف ، والقاصدين إلى الحق ، والذاكرين الله كثيرا .
قال : ووجه رجلا من قريش إلى تباله : وبها قوم من شيعة علي عليه السلام ، وامره بقتلهم ، فاخذهم ، وكلم فيهم وقيل له : هؤلاء قومك ، فكف عنهم حتى ناتيك بكتاب من بسر بامانهم ، فحبسهم .
وخرج منيع الباهلي من عندهم إلى بسر وهو بالطائف ، يستشفع إليه فيهم ، فتحمل عليه بقوم من الطائف ، فكلموه فيهم ، وسالوه الكتاب باطلاقهم ، فوعدهم ومطلهم بالكتاب حتى ظن انه قد قتلهم القرشى المبعوث لقتلهم ، وان كتابه لا يصل إليهم حتى يقتلوا ، ثم كتب لهم ، فاتى منيع منزله ، وكان قد نزل على امرأة بالطائف ورحله عندها ، فلم يجدها في منزلها ، فوطئ على ناقته بردائه ، وركب فسار يوم الجمعة وليلة السبت لم ينزل عن راحلته قط ، فأتاهم ضحوه ، وقد اخرج القوم ليقتلوا ، واستبطئ كتاب بسر فيهم ، فقدم رجل منهم فضربه رجل من اهل الشام ، فانقطع سيفه ، فقال الشاميون بعضهم لبعض : شمسوا سيوفكم حتى تلين فهزوها .
وتبصر منيع(2/12)
الباهلى بريق السيوف ، فالمع بثوبه ، فقال القوم : هذا راكب عنده خير ، فكفوا ، وقام به بعيره فنزل عنه ، وجاء على رجليه يشد فدفع الكتاب إليهم فاطلقوا ، وكان الرجل المقدم - الذى ضرب بالسيف فانكسر السيف - اخاه .
* * * .
قال ابراهيم : وروى على بن مجاهد ، عن ابن اسحاق ، ان اهل مكة لما بلغهم ما صنع بسر ، خافوه وهربوا ، فخرج بنا عبيد الله بن العباس ، وهما سليمان وداود ، وامهما جويرية ابنه خالد بن قرظ الكنانية ، وتكنى ام حكيم ، وهم حلفاء بنى زهره ، وهما غلامان مع اهل مكة ، فاضلوهما عند بئر ميمون بن ا لحضرمي - وميمون هذا هو اخو العلاء بن - الحضرمي وهجم عليهما بسر ، فاخذهما وذبحهما ، قالت امهما (1) : ها من احس بابني اللذين هما كالدرتين تشظى عنهما الصدف (2) ها من احس بابني اللذين هما سمعي وقلبي فقلبي اليوم مختطف هامن احس بابنى اللذين هما مخ العظام فمخي اليوم مزدهف (3) نبئت بسرا وما صدقت ما زعموا من قولهم ومن الافك الذى اقترفوا انحى على ودجى ابني مرهفه مشحوذة ، وكذاك الاثم يقترف (4) من دل والهة حرى مسلبة (5) على صبيين ضلا إذ مضى السلف (6)
__________
(1) الابيات في الكامل - بشرح المرصفي 8 : 158 ، وهى أيضا مع الخبر في الاغاني 15 : 45 (طبعة الساسي) (2) الكامل والاغاني : (يامن أحسن بني) وتشظى : تفرق .
(3) مزدهف : ذهب به .
(4) الكامل : (على ودجى طفلي) وبعد هذا البيت في رواية الاغاني : حتى لقيت رجالا من أرومته شم الانوف لهم في قومهم شرف فالان ألعن بسراحق لعنته هذا لعمر أبي بسر هو السرف (5) الكامل : (مفجعة) ، والاغاني : (مولهة) .
(6) الكامل : (على صبيين غابا) والاغاني : (إذ غدا السلف) .
(*)(2/13)
وقد روى ان اسمهما قثم ، وعبد الرحمن .
وروى انهما ضلا في اخوالهما من بنى كنانة .
وروى ان بسرا انما قتلهما باليمن ، وانهما ذبحا على درج صنعاء .
* * * وروى عبد الملك بن نوفل بن مساحق عن ابيه ، ان بسرا لما دخل الطائف ، وقد كلمه المغيرة قال له : لقد صدقتني ونصحتني ، فبات بها وخرج منها ، وشيعة المغيرة ساعة ، ثم ودعه وانصرف عنه ، فخرج حتى مر ببنى كنانة ، وفيهم ابنا عبيد الله بن العباس وامهما .
فلما انتهى بسر إليهم ، طلبهما ، فدخل رجل من بنى كنانة - وكان ابوهما اوصاه بهما - فاخذ السيف من بيته وخرج ، فقال له بسر : ثكلتك امك ! والله ما كنا اردنا قتلك ، فلم ، عرضت نفسك للقتل ! قال : اقتل دون جارى اعذر لى عند الله والناس .
ثم شد على اصحاب بسر بالسيف حاسرا ، وهو يرتجز : آليت لا يمنع حافات الدار ولا يموت مصلتا دون الجار (1) * الا فتى اروع غير غدار * فضارب بسيفه حتى قتل ، ثم قدم الغلامان فقتلا ، فخرج نسوة من بني كنانة ، فقالت امراة منهن : هذه الرجال يقتلها ، فما بال الولدان ! والله ما كانوا يقتلون في جاهلية ولا اسلام ، والله ان سلطانا لا يشتد الا بقتل الزرع الضعيف والشيخ الكبير ورفع الرحمة ، وقطع الارحام ، لسلطان سوء .
فقال بسر : والله لهممت ان اضع فيكن السيف ، قالت : والله انه لاحب إلى ان فعلت ! * * * قال ابراهيم : وخرج بسر من الطائف ، فاتى نجران ، فقتل عبد الله بن عبد المدان وابنه مالكا - وكان عبد الله هذا صهرا لعبيد الله بن العباس - ثم جمعهم وقام فيهم ، وقال :
__________
(1) المصلت : المضروب بالسيف .
(*)(2/14)
يا اهل نجران ، يا معشر النصارى واخوان القرود : اما والله ان بلغني عنكم ما اكره لاعودن عليكم بالتى تقطع النسل ، وتهلك الحرث ، وتخرب الديار ! وتهددهم طويلا ، ثم سار حتى ارحب ، فقتل ابا كرب - وكان يتشيع - ويقال انه سيد من كان بالبادية من همدان ، فقدمه فقتله .
واتى صنعاء وقد خرج عنها عبيد الله بن العباس ، وسعيد بن نمران ، وقد استخلف عبيد الله عليها عمرو بن اراكة الثقفي ، فمنع بسرا من دخولها وقاتله ، فقتله بسر ، ودخل صنعاء ، فقتل منها قوما ، واتاه وفد مارب فقتلهم ، فلم ينج منهم الا رجل واحد ، ورجع إلى قومه ، فقال لهم : (انعى قتلانا ، شيوخا وشبانا) .
قال ابراهيم : وهذه الابيات المشهورة عبد الله بن اراكة الثقفى ، يرثى بها ابنه عمرا (1) : لعمري لقد اردى ابن ارطاه فارسا بصنعاء كالليث الهزبر ابى الاجر (2) تعز فان كان البكا رد هالكا على احد فاجهد بكاك على عمرو (3) ولا تبك ميتا بعد ميت اجنه على وعباس وآل ابى بكر .
قال : وروى نمير بن وعلة ، عن ابى وداك (4) ، قال : كنت عند علي عليه السلام ، لما قدم عليه سعيد بن نمران الكوفة ، فعتب عليه وعلى عبيد الله الا يكونا قاتلا بسرا
__________
(1) الابيات في الكامل - بشرح المرصفي 8 : 157 ، وقبلها في روايته : لعمري لئن أتبعت عينك ما مضى به الدهر أوساق الحمام إلى القبر لتستنفدن ماء الشئون بأسره ولو كنت تمريهن من ثبج البحر (2) في الكامل : (أبي أجر) ، وأجر : جمع جرو ، وهو هنا اسم لولد الاسد ، ويجمع على أجراء أيضا .
(3) رواية الكامل تبين فإن كان البكا رد هالكا على أهله فاشدد بكاك على عمرو (4) هو جبر بن نوف الهمداني ، أبو الوداك ، بفتح الواو وتشديد الدال التقريب 41 (*)(2/15)
فقال سعيد : قد والله قاتلت ، ولكن ابن عباس خذلني وابى ان يقاتل ، ولقد خلوت به حين دنا منا بسر ، فقلت ان ابن عمك لا يرضى منى ومنك بدون الجد في قتالهم ، قال : لا والله ما لنا بهم طاقة ولايدان ، فقمت في الناس ، فحمدت الله ثم قلت : يا اهل اليمن من كان في طاعتنا وعلى بيعة أمير المؤمنين عليه السلام فالى إلى .
فأجابني منهم عصابة ، فاستقدمت بهم ، فقاتلت قتالا ضعيفا ، وتفرق الناس عنى وانصرفت .
قال : ثم خرج بسر من صنعاء ، فاتى اهل جيشان (1) .
- وهم شيعة - لعلي عليه السلام ، فقاتلهم وقاتلوه فهزمهم وقتلهم قتلا ذريعا ، ثم رجع إلى صنعاء ، فقتل بها مائة شيخ من ابناء فارس ، لان ابني عبيد الله بن العباس كانا مستترين في بيت امراة من ابنائهم ، تعرف بابنه بزرج .
وقال الكلبى وابو مخنف ، فندب على عليه السلام اصحابه لبعث سريه في اثر بسر ، فتثاقلوا ، واجابه جارية بن قدامة السعدى ، فبعثه في الفين ، فشخص إلى البصرة ، ثم اخذ طريق الحجاز حتى قدم اليمن ، وسال عن بسر فقيل : اخذ في بلاد بنى تميم ، فقال : اخذ في ديار قوم يمنعون انفسهم .
وبلغ بسرامسير جارية ، فانحدر إلى اليمامة ، واخذ جاريه بن قدامة السير ، ما يلتفت إلى مدينة مر بها ولا اهل حصن ، ولا يعرج على شئ الا ان يرمل (2) بعض اصحابه من الزاد ، فيأمر اصحابه بمواساته أو يسقط بعير رجل ، أو تحفى دابته ، فيأمر اصحابه بان يعقبوه ، حتى انتهوا إلى ارض اليمن ، فهربت شيعة عثمان حتى لحقوا بالجبال ، واتبعهم شيعة علي عليه السلام ، وتداعت عليهم من كل جانب ، واصابوا منهم ، وصمد (3) نحو بسر ، وبسر بين يديه يفر من جهة إلى جهة اخرى ، حتى اخرجه من اعمال علي عليه السلام كلها .
فلما فعل به ذلك ، اقام جارية بحرس نحوا من شهر ، حتى استراح واراح اصحابه ، ووثب الناس ببسر في طريقه لما انصرف من بين يدى جارية ، لسوء سيرته وفظاظته وظلمه وغشمه ، واصاب بنو تميم ثقلا من ثقله في بلاده .
وصحبه إلى معاوية ليبايعه على الطاعة ابن مجاعة
__________
(1) جيشان : مخلاف باليمن ، مالي لحج وغربي بلاد يافع .
(2) يقال : أرمل القوم ، إذانفذ زادهم .
(3) صمد : قصد .
(*)(2/16)
رئيس اليمامة ، فلما وصل بسر إلى معاوية قال : يا امير المؤمنين ، هذا ابن مجاعة قد اتيتك به فاقتله ، فقال معاوية : تركته لم تقتله ، ثم جئتني به فقلت : اقتله ! لا لعمري لا اقتله .
ثم بايعه ووصله ، واعاده إلى قومه .
وقال بسر احمد الله يا امير المؤمنين انى سرت في هذا الجيش اقتل عدوك ذاهبا جائيا لم ينكب رجل منهم نكبة ، فقال معاوية : الله قد فعل ذلك لا انت .
وكان الذى قتل بسر في وجهه ذلك ثلاثين الفا ، وحرق قوما بالنار ، فقال يزيد ابن مفرغ : تعلق من اسماء ماس قد تعلقا ومثل الذى لاقى من الشوق ارقا (1) سقى هزم الارعاد منبعج الكلى منازلها من مسرقان فسرقا إلى الشرف الاعلى إلى رامهرمز إلى قريات الشيخ من نهراربقا إلى دشت بارين إلى الشط كله إلى مجمع السلان من بطن دورقا إلى حيث يرفا من دجيل سفينة إلى مجمع النهرين حيث تفرقا إلى حيث سار المرء بسر بجيشه فقتل بسر ما استطاع وحرقا * * * وروى أبو الحسن المدائني ، قال : اجتمع عبيد الله بن العباس وبسر بن ارطاه يوما عند معاوية بعد صلح الحسن عليه السلام ، فقال له ابن عباس ، انت امرت اللعين السيئ الفدم ان يقتل ابني ؟ فقال : ما امرته بذلك ، ولوددت انه لم يكن قتلهما ، فغضب بسر ونزع سيفه ، فالقاه ، وقال لمعاوية ، اقبض سيفك ، قلدت قلدتنيه وامرتني ان اخبط به الناس ففعلت ، حتى إذا بلغت ما اردت قلت لم اهو ولم آمر .
فقال : خذ سيفك اليك ، فلعمري
__________
(1) وردت هذه الابيات في الاغاني 17 : 48 (ساسي) ، ومعجم ما استعجم 2 : 1225 - 1226 ومعجم البلدان 8 : 52 ، مع اختلاف في الرواية وعدد الابيات وترتيبها .
(*)(2/17)
انك ضعيف مائق حين تلقي السيف بين يدى رجل من بنى عبد مناف ، قد قتلت امس ابنيه .
فقال له عبيد الله : ا تحسبني يا معاويه قاتلا بسرا باحد ابني ! هو احقر وألام من ذلك ولكني والله لا ارى لى مقنعا ولا ادرك ثارا الا ان اصيب بهما يزيد وعبد الله .
فتبسم معاوية وقال : وما ذنب معاوية وابنى معاوية ! والله ما علمت ولا امرت ، ولا رضيت ولا هويت .
واحتملها منه لشرفه وسؤدده .
قال : ودعا علي عليه السلام على بسر فقال : اللهم ان بسرا باع دينه بالدنيا ، وانتهك محارمك ، وكانت طاعة مخلوق فاجر آثر عنده مما عندك .
اللهم فلا تمته حتى تسلبه عقله ، ولا توجب له رحمتك ولا ساعة من نهار ، اللهم العن بسرا وعمرا ومعاوية وليحل عليهم غضبك ، ولتنزل بهم نقمتك وليصبهم باسك ورجزك الذى لا ترده عن القوم المجرمين .
فلم يلبث بسر بعد ذلك الا يسيرا حتى وسوس وذهب عقله ، فكان يهذى بالسيف ، ويقول : اعطوني سيفا اقتل به ، لا يزال يردد ذلك حتى اتخذ له سيف من خشب ، وكانوا يدنون منه المرفقة ، فلا يزال يضربها حتى يغشى عليه ، فلبث كذالك إلى ان مات .
قلت : كان مسلم بن عقبة ليزيد وما عمل بالمدينة في وقعة الحرة ، كما كان بسر لمعاوية وما عمل في الحجاز واليمن ، ومن اشبه أباه فما ظلم ! نبني كما كانت اوائلنا تبنى ونفعل مثل ما فعلوا(2/18)
ومن خطبته له عليه السلام : الاصل : ان الله بعث محمدا صلى الله عليه نذيرا للعالمين ، وامينا على التنزيل ، وانتم معشر العرب على شر دين وفي شر دار ، منيخون بين حجاره خشن ، وحيات صم ، تشربون الكدر ، وتاكلون الجشب ، وتسفكون دماءكم ، تقطعون ارحامكم ، الاصنام فيكم منصوبة ، والاثام بكم معصوبة .
* * * الشرح : يجوزأن يعني بقوله : (بين حجارة خشن وحيات صم) الحقيقة لا المجاز ز ، وذلك أن البادية بالحجاز ونجد وتهامة وغيرها من ارض العرب ذات حيات وحجار خشن ، وقد يعنى بالحجارة الخشن الجبال ايضا ، أو الاصنام ، فيكون داخلا في قسم الحقيقة إذا فرضناه مرادا ، ويكون المعنى بذلك وصف ما كانوا عليه من البؤس وشظف العيشة وسوء الاختار في العبادة ، فأبدلهم الله تعالى بذلك الريف (1) ولين المهاد وعبادة من يستحق العبادة .
ويجوز أن يعني به المجاز ، وهو الاحسن ، يقال للاعداء حيات .
والحية الصماء أدهى من التي ليست بصماء ، لانها لا تنزجر بالصوت .
ويقال للعدو أيضا : إنه لحجر خشن المس إذا كان الد الخصام .
والجشب من الطعام الغليظ الخشن .
__________
(1) الريف : أرض فيها زرع وخصب وسعة في المأكل و المشرب .
(*)(2/19)
وقال ابوالبخترى وهب بن وهب القاضي : كنت عند الرشيد يوما ، واستدعى ماء مبردا بالثلج ، فلم يوجد في الخزانة ثلج ، فاعتذر إليه بذلك ، واحضر إليه ماء غير مثلوج ، فضرب وجه الغلام بالكوز ، واستشاط غضبا ، فقلت له : اقول يا امير المؤمنين وانا آمن ! فقال : قل ، قلت : يا امير المؤمنين قد رايت ما كان من الغير بالامس - يعنى زوال دولة بنى امية - والدنيا غير دائمة ولا موثوق بها ، والحزم الا تعود نفسك الترفه والنعمة ، بل تأكل اللين والجشب ، وتلبس الناعم والخشن ، وتشرب الحار والقار .
فنفحنى بيده ، وقال : لا والله ، لا اذهب إلى ما تذهب إليه ، بل البس النعمة ما لبستني ، فإذا نابت نوبة الدهر عدت إلى نصاب غير حوار (1) ..وقوله : (والاثام بكم معصوبة) استعارة ، كأنها مشدودة إليهم .
وعنى بقوله : (تسفكون دماءكم وتقطعون ارحامكم) ما كانوا عليه في الجاهلية من الغارات والحروب .
الاصل : ومنها : فنظرت فا ذا ليس لى معين الا اهل بيتي ، فضننت بهم عن الموت ، واغضيت على القذى ، وشربت على الشجى ، وصبرت على اخذ الكظم ، وعلى امر من طعم العلقم .
* * *
__________
(1) الحوار ، كسحاب : النقصان والكساد .
(*)(2/20)
الشرح : الكظم ، بفتح الظاء : مخرج النفس ، والجمع أكظام .
وضننت ، بالكسر : بخلت .
وأغضيت على كذا : غضضت طرفي ، والشجى : ما يعترض في الحلق .
(حديث السقيفة) اختلفت الروايات في قصة السقيفة ، فالذي تقوله الشيعة - وقد قال قوم من المحدثين بعضه ورووا كثيرا منه - ان عليا عليه السلام امتنع من البيعة حتى اخرج كرها ، وان الزبير بن العوام امتنع من البيعة وقال : لا ابايع الا عليا عليه السلام ، وكذلك أبو سفيان ابن حرب ، وخالد بن سعيد بن العاص بن امية بن عبد شمس ، والعباس بن عبد المطلب وبنوه ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، وجميع بنى هاشم ، وقالوا : ان الزبير شهر سيفه ، فلما جاء عمر ومعه جماعة من الانصار وغيرهم ، قال في جملة ما قال : خذوا سيف هذا فاضربوا به الحجر .
ويقال : انه اخذ السيف من يد الزبير فضرب به حجرا فكسره ، وساقهم كلهم بين يديه إلى ابى بكر ، فحملهم على بيعته ولم يتخلف الا علي عليه السلام وحده ، فانه اعتصم ببيت فاطمة عليها السلام ، فتحاموا اخراجه منه قسرا ، وقامت فاطمة عليها السلام إلى باب البيت فاسمعت من جاء يطلبه ، فتفرقوا وعلموا انه بمفرده لا يضر شيئا ، فتركوه .
وقيل : انهم اخرجوه فيمن اخرج وحمل إلى ابى بكر فبايعه .
وقد روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري كثيرا من هذا (1) .
فاما حديث التحريق وما جرى مجراه من الامور الفظيعة ، وقول من قال انهم اخذوا عليا عليه السلام يقاد بعمامته والناس حوله ، فامر بعيد ، والشيعة تنفرد به على ان جماعة من اهل الحديث قد رووا نحوه ، وسنذكر ذالك .
__________
(1) تاريخ الطبري 3 : 199 وما بعدها (*)(2/21)
وقال أبو جعفر : ان الانصار لما فاتها ما طلبت من الخلافة ، قالت - أو قال بعضها : لا نبايع الا عليا .
وذكر نحو هذا علي بن عبد الكريم المعروف بابن الاثير الموصلي في تاريخه (1) فاما قوله : (لم يكن لى معين الا اهل بيتى فضننت بهم عن الموت) فقول ما زال على عليه السلام يقوله ، ولقد قاله عقيب وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله ، قال : لو وجدت اربعين ذوى عزم ! ذكر ذلك نصر بن مزاحم في كتاب ، ، صفين ، ، ، وذكره كثير من أرباب السيرة .
واما الذى يقوله جمهور المحدثين واعيانهم ، فانه عليه السلام امتنع من البيعة ستة أشهر ، ولزم بيته فلم يبايع حتى ماتت فاطمة عليها السلام ، فلما ماتت بايع طوعا .
وفي صحيحي مسلم والبخاري : كانت وجوه الناس إليه وفاطمة باقية بعد فلما ماتت فاطمة عليها السلام انصرفت وجوه الناس عنه ، وخرج من بيته فبايع ابا بكر ، وكانت مده بقائها بعد أبيها عليه السلام ستة اشهر (2) وروى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ ، (3) عن ابن عباس رضى الله عنه قال : قال لى عبد الرحمن بن عوف ، وقد حججنا مع عمر (3) شهدت اليوم امير المؤمنين عليه السلام بمنى ، وقال له رجل (4) : انى سمعت فلانا يقول : لو قد مات عمر لبايعت فلانا ، فقال عمر (5) : انى لقائم العشية في الناس احذرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن
__________
(1) الكامل 2 : 220 وما بعدها .
(2) صحيح البخاري بسنده عن عائشة في كتاب المغازي 3 : 55 ، وصحيح مسلم بسنده أيضا عن عائشة ، في كتاب الجهاد والسير 3 : 138 .
(3 - 3) صدر الخبر في الطبري : (عن ابن عباس ، قال كنت أقرى عبد الرحمن بن عوف ، قال : فحج عمر وحججنا معه ، قال : فإني لفي منزل بمعنى إذ جاءني عبد الرحمن بن عوف فقال : شهدت) .
(4) الطبري : (وقام إليه رجل فقال) .
(5) الطبري : (فقال أمير المؤمنين) .
(*)(2/22)
يغتصبوا الناس امرهم .
قال عبد الرحمن : فقلت يا امير المؤمنين ، ان الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم ، (1 وهم الذين يقربون من مجلسك ويغلبون عليه ، واخاف ان تقول مقالة لا يعونها ولا يحفظونها فيطيروا بها 1) ولكن امهل حتى تقدم المدينة (2) وتخلص باصحاب رسول الله ، فتقول (ما قلت متمكنا) (3) ، فيسمعوا (4) مقالتك .
فقال : والله لاقومن بها اول مقام اقومه بالمدينة .
قال ابن عباس : (5 فلما قدمناها هجرت يوم الجمعة لحديث 5) عبد الرحمن ، فلما جلس (6 عمر على المنبر حمد الله واثنى عليه ثم قال 6) بعد ان ذكر الرجم وحد الزنا : انه بلغني ان قائلا منكم يقول : لو مات امير المؤمنين بايعت فلانا ، فلا يغرن امرا ان يقول : ان بيعة أبى بكر كانت فلتة ، فلقد كانت كذلك ، ولكن (7) الله وقى شرها ، وليس فيكم من تقطع إليه الاعناق كأبى بكر ، وانه كان من خبرنا حين توفى رسول الله صلى الله عليه .
أن عليا والزبير تخلفا عنا في بيت فاطمة ومن معهما ، وتخلفت عنا الانصار ، واجتمع المهاجرون إلى ابى بكر ، فقلت له : انطلق بنا إلى اخواننا من الانصار ، فانطلقنا نحوهم ، فلقينا رجلان صالحان من الانصار قد شهدا بدرا : احدهما عويم بن ساعدة ، والثانى معن بن عدى ، فقالا لنا : ارجعوا فاقضوا امركم بينكم (8) فاتينا الانصار ، وهم مجتمعون في سقيفة
__________
(1 - 1) عبارة الطبري : (وإنهم الذين يغلبون مجلسهم ، وإني لخائف إن قلت اليوم مقالة ألا يعوها ولا يحفظوها ، ولا يضعوها على مواضعها ، وأن يطيرو بها كل مطير) .
(2) الطبري : (دار الهجرة والسنة) .
(3) تكملة في تاريخ الطبري .
(4) الطبري : (فيعوا) .
(5 - 5) الطبري : (فلما قدمنا المدينة وجاء يوم الجمعة هجرت للحديث الذي حدثنيه عبد الرحمن فوجت سعيد بن زيد قد سبقني بالتهجير ، فجلست) .
(6 - 6) عبارة الطبري : (فوجدت سعيد بن زيد قد سبقني بالتهجير ، فجلست إلى جنبه عند المنبر ، ركبتي إلى ركبته ، فلما زالت الشمس لم يلبث عمر أن خرج ، فقلت لسعيد وهو مقبل : ليقولن أمير المومنين اليوم على هذا المنبر مقالة لم تقل قبله ، فغضب وقال : فأي مقالة يقول لم تقل قبله ! فلما جلس عمر على المنبر أذن الموذنون ، فلما قضي الموذن أذانه قام عمر ، فحمد الله وأثنى عليه وقال ...
) (7) الطبري : (غير أن) .
(8) بعدها من الطبري : (فقلنا والله لنأتينهم) .
(*)(2/23)
بنى ساعدة ، وبين اظهرهم رجل مزمل ، فقلت : من هذا ؟ (1 قالوا : سعد بن عبادة وجع 1) فقام رجل منهم ، فحمد الله واثنى عليه ، فقال اما بعد ، فنحن الانصار ، وكتيبة الاسلام وانتم يا معشر قريش رهط نبينا ، قد دفت الينا دافة من قومكم (2) فإذا انتم تريدون ان تغصبون الامر .
فلما سكت ، (3 وكنت قد زورت في نفسي مقالة اقولها بين يدي ابي بكر 3) ، فلما ذهبت اتكلم ، قال أبو بكر : على رسلك ! فقام فحمد الله واثنى عليه ، فما ترك شيئا كنت زورت في نفسي الا جاء به أو باحسن منه ، وقال : يا معشر الانصار انكم لا تذكرون فضلا الا وانتم له اهل ، وان العرب لا تعرف هذا الامر الا لقريش ، اوسط العرب دارا ونسبا ، وقد رضيت لكم احد هذين الرجلين .
وأخذ بيدى ويد ابى عبيدة بن الجراح - والله ما كرهت من كلامه غيرها ، إن كنت لاقدم فتضرب عنقي فيما لا يقربني إلى إثم ، أحب إلى من ان اؤمر على قوم فيهم أبو بكر .
فلما قضى أبو بكر كلامه ، قام رجل (5) من الانصار ، فقال : انا جذيلها المحكك ، وعذيقها المرجب (6) ، منا أمير ومنكم أمير .
__________
(1 - 1) * عبارة الطبري (فقلت : ما شأنه ؟ قالوا : وجع) .
(2) الدافة : الجماعة من الناس تقبل من بلد إلى بلد .
(3 - 3) الطبرى : " قال فلما رأيتهم يريدون ان يختزلونا من أصلنا ويعصبونا الأمر ، وقد كنت زورت فى نفس مقالة أقدمها بين يدى أبى بكر " .
(4) زورت في نفسي كلاما ، أي هيأت وأصلحت ، والتزوير : إصلاح الشئ .
(5) هو الحباب بن المنذر الخزرجي ، ذكره الزمخشري في الفائق 1 : 181 ، وأورد كلامه .
(6) الحذيل في الاصل : تصغير الجذل ، وهو عود ينصب للابل الجربى تستشفى بالاحتكاك به .
والمحكك : الذي كثر به الاحتكاك حتى صار مملسا .
والعذيق : تصغير العذق وهو النخلة .
والمرجب : المدعوم بالرجبة ، وهي خشبة ذات شعبتين ، وذلك إذا كثر وطال حمله والمعني أنى ذو رأي يشفى بالاستضاءة به كثيرا في مثل هذه الحادثة وأنا في كثرة التجارب والعلم بموارد الاحوال فيها وفي أمثالها ومصادرها كالنخلة الكثيرة الحمل .
الفائق 1 : 181 ، 182 .
(*)(2/24)
وارتفعت الاصوات واللغط ، فلما خفت الاختلاف ، قلت لابي بكر : ابسط يدك أبايعك فبسط يده فبايعته وبايعه الناس ، ثم نزونا على سعد بن عبادة ، فقال قائلهم : قتلتم سعدا ! فقلت : اقتلوه قتله الله ، وانا والله ما وجدنا امرا هو أقوى من بيعة ابى بكر ، خشيت ان فارقت القوم ولم تكن بيعة ، ان يحدثوا بعدنا بيعة ، فاما ان نبايعهم على ما لا نرضى أو نخالفهم فيكون فساد .
هذا حديث متفق عليه من اهل السيره وقد وردت الروايات فيه بزيادات .
روى المدائني قال : لما اخذ أبو بكر بيد عمر وأبى عبيدة وقال للناس : قد رضيت لكم احد هذين الرجلين ، قال أبو عبيدة لعمر : امدد يدك نبايعك ، فقال عمر : ما لك في الاسلام فهة (1) غيرها .
أ تقول هذا وابو بكر حاضر ! (2) ثم قال للناس : ايكم يطيب نفسا أن يتقدم قدمين قدمهما رسول الله صلى الله عليه للصلاة ؟ رضيك رسول الله صلى الله عليه لديننا ، أ فلا نرضاك لدنيانا ! ثم مد يده إلى ابى بكر فبايعه .
وهذه الرواية هي التى ذكرها قاضى القضاة رحمه الله تعالى في كتاب ، ، المغنى ، ، .
وقال الواقدي في روايته في حكاية كلام عمر : والله لان اقدم فانحر كما ينحر البعير ، أحب إلى من ان أتقدم على ابى بكر .
وقال شيخنا أبو القاسم البلخى : قال شيخنا أبو عثمان الجاحظ : إن الرجل الذى قال : لو قد مات عمر لبايعت فلانا ، عمار بن ياسر ، قال : لو قد مات عمر لبايعت عليا عليه السلام فهذا القول هو الذى هاج عمر ان خطب بما خطب به .
وقال غيره من أهل الحديث انما كان المعزوم على بيعته لو مات عمر طلحة ابن عبيد الله .
__________
(1) الفهة : السقطة والجهلة ونحوها .
(2) في رواية اللسان (أتبايعني وفيكم الصديق ثاني اثنين !) .
(*)(2/25)
فأما حديث الفلتة ، فقد كان سبق من عمر ان قال : ان بيعة ابى بكر كانت فلتة وقى الله شرها ، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه .
وهذا الخبر الذى ذكرناه عن ابن عباس وعبد الرحمن بن عوف فيه حديث الفلتة ولكنه منسوق على ما قاله أولا ، أ لا تراه يقول : فلا يغرن أمرا ان يقول : ان بيعة ابى بكر كانت فلتة ، فلقد كانت كذلك ، فهذا يشعر بانه قد كان قال من قبل : ان بيعة ابى بكر كانت فلتة .
وقد أكثر الناس في حديث الفلتة ، وذكرها شيوخنا المتكلمون ، فقال شيخنا أبو على رحمه الله تعالى : الفلتة ليست الزلة والخطيئة ، بل هي البغتة وما وقع فجأة من غير روية ولا مشاورة ، واستشهد بقول الشاعر : من يامن الحدثان بعد صبيرة القرشى ماتا (1) سبقت منيته المشيب وكان ميتته افتلاتا .
يعنى بغتة .
وقال شيخنا أبو على رحمه الله تعالى ، ذكر الرياشى أن العرب تسمى آخر يوم من شوال فلتة من حيث ان كل من لم يدرك ثأره فيه فاته ، لانهم كانوا إذا دخلوا في الاشهر الحرم لا يطلبون الثأر ، وذو القعدة من الاشهر الحرم ، فسموا ذلك اليوم فلتة لانهم إذا ادركوا فيه ثارهم ، فقد أدركوا ما كان يفوتهم .
فأراد عمر أن بيعة أبى بكر تداركها بعد ان كادت تفوت .
وقوله (وقى الله شرها) دليل على تصويب البيعة ، لان المراد بذلك أن الله تعالى دفع شر الاختلاف فيها .
__________
(1) البيان في الكامل 3 .
61 - بشرح المرصفي .
(*)(2/26)
فاما قوله : (فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه) فالمراد من عاد إلى أن يبايع من غير مشاورة ولا عدد يثبت صحة البيعة به ، ولا ضرورة داعية إلى البيعة ثم بسط يده على المسلمين يدخلهم في البيعة قهرا فاقتلوه (1) .
قال قاضى القضاة رحمه الله تعالى : وهل يشك أحدفى تعظيم عمر لابي بكر وطاعته إياه ومعلوم ضرورة من حال عمر إعظامه له ، والقو ل بامامته والرضا بالبيعة والثناء عليه ، فكيف يجوز ان يترك ما يعلم ضرورة ، لقول محتمل ذى وجوه وتأويلات ! وكيف يجوز أن تحمل هذه اللفظة من عمر على الذم والتخطئة وسوء القول ! واعلم أن هذه اللفظة من عمر مناسبة للفظات كثيرة كان يقولها بمقتضى ما جبله الله تعالى عليه من غلظ الطينة وجفاء الطبيعة : ولا حيلة له فيها ، لانه مجبول عليها لا يستطيع تغييرها ، ولا ريب عندنا أنه كان يتعاطى أن يتلطف ، وأن يخرج الفاظه مخارج حسنة لطيفة ، فينزع به الطبع الجاسى ، والغريزة الغليظة إلى امثال هذه اللفظات ، ولا يقصد بها سوءا ، ولا يريد بها ذما ولا تخطئة ، كما قدمنا من قبل في اللفظة (2) التى قالها في مرض رسول الله صلى الله عليه وآله ، وكاللفظات (3) التى قالها عام الحديبية وغير ذلك والله تعالى لا يجازى المكلف الا بما نواه ، ولقد كانت نيته من أطهر النيات واخلصها لله سبحانه وللمسلمين .
ومن أنصف علم ان هذا الكلام حق ، وانه يغنى عن تأويل شيخنا ابى على .
ونحن من بعد نذكر ما قاله المرتضى رحمه الله تعالى في كتاب ، ، الشافي ، ، (4) لما تكلم في هذا الموضع ، قال : أما ما ادعى من العلم الضرورى برضا عمر ببيعة ابى بكر وامامتة فالمعلوم ضرورة بلا شبهة أنه كان راضيا بامامته ، وليس كل من رضى شيئا
__________
(1) نقلة المرتضى في الشافي 241 .
(2) الجزؤ الاول ص 161 .
(3) انظر سيرة ابن هشام 3 : 365 .
(4) كتاب الشافي في الامامة والنقص على كتاب المغني للقاضي عبد الجبار ، وقد اختصره أبو جعفر محمد ابن الحسن الطوسي المتوفي سنة 460 ، وطبع الكتاب والمختصر في العجم سنة 1301 في جزأين .
(*)(2/27)
كان متدينا به ، معتقدا لصوابه ، فان كثيرا من الناس يرضون باشياء من حيث كانت دافعة لما هو أضر منها ، وان كانوا لا يرونها صوابا ، ولو ملكوا الاختيار لاختاروا غيرها ، وقد علمنا ان معاوية كان راضيا ببيعة يزيد وولاية (1) العهد له من بعده ، ولم يكن متدينا بذلك ومعتقدا صحته ، وانما رضى عمر ببيعة ابى بكر ، من حيث كانت حاجزة عن بيعة امير المؤمنين عليه السلام ، ولو ملك الاختيار لكان مصير الامر إليه (2) أسر في نفسه ، وأقر لعينه ، وان ادعى ان المعلوم ضرورة تدين عمر بامامة ابى بكر ، وأنه أولى بالامامة منه ، فهذا مدفوع أشد دفع ، مع انه قد كان يبدر من عمر (3) في وقت بعد آخر ما يدل على ما اوردناه ، روى الهيثم (4) بن عدى من عبد الله بن عياش الهمداني (5) عن سعيد بن جبير ، قال : ذكر أبو بكر وعمر عند عبد الله بن عمر ، فقال رجل : كانا والله شمسي هذه الامة ونوريها ، فقال ابن عمر : وما يدريك ؟ قال الرجل : أو ليس قد ائتلفا ! قال ابن عمر : بل اختلفا لو كنتم تعلمون ! أشهد أنى كنت عند أبى يوما ، قد امرني أن أحبس الناس عنه ، فاستأذن عليه عبد الرحمن بن أبى بكر فقال عمر : دويبة سوء ، ولهو خير من أبيه ، فاوحشني ذلك منه ، فقلت : يا أبت ، عبد الرحمن خير من أبيه ! فقال : ومن ليس بخير من أبيه لا أم لك ! ائذن لعبد الرحمن ، فدخل عليه فكلمه في الحطيئة الشاعر أن يرضى عنه ، وقد كان عمر حبسه في شعر قاله ، فقال عمر : ان في الحطيئة أودا (6) فدعني أقومه بطول حبسه ، فألح عليه عبد الرحمن وأبى عمر ،
__________
(1) الشافي : (وولايته) (2) * الشافي : (آثر) * (3) الشافي : (منه - أعني عمر) .
(4) هو الهيثم بن عدي الطائي المنبجي الكوفي ، كان اخباريا روي عن هشام بن عروة وعبد الله بن عياش ومجالد ، قال بن عدي : انما هو صاحب اخبار .
وقال ابن المدني : هو اوثق من الواقدي ولا ارضاه في شئ .
وقال النسائي : متروك الحديث .
وقال أبو نعيم : يوجد في حديث المناكير توفي سنة 206 ، لسان الميزان 4 : 210 .
(5) في الاصول والشافي : (عباس) ، تصحيف ، وهو عبد الله بن عياش بن عبد الله الهمداني الكوفي ، كان راوية للاخبار والاداب ، ويقع في اخباره المناكير .
مات سنة 158 ، لسان الميزان 3 : 322 .
(6) الشافي : (إن الحطيئة لبذئ) (*)(2/28)
فخرج عبد الرحمن ، فأقبل على أبى وقال : أفى غفلة أنت إلى يومك هذا عما كان من تقدم أحيمق بنى تميم على وظلمه لى ! فقلت : لا علم لى بما كان من ذلك ، قال : يا بنى فما عسيت أن تعلم ؟ فقلت : والله لهو أحب إلى الناس من ضياء أبصارهم ، قال : ان ذلك لكذلك على رغم أبيك وسخطه ، قلت : يا أبت ، أفلا تجلى عن فعله (1) بموقف في الناس تبين ذلك لهم ؟ قال : وكيف لى بذلك مع ما ذكرت انه احب إلى الناس من ضياء أبصارهم ! اذن يرضخ (2) رأس أبيك بالجندل .
قال ابن عمر : ثم تجاسر والله فجسر ، فما دارت الجمعة حتى قام خطيبا في الناس ، فقال : أيها الناس ، إن بيعة أبى بكر كانت فلتة وقى الله شرها فمن دعاكم إلى مثلها فاقتلوه .
وروى الهيثم بن عدى ، عن مجالد (3) بن سعيد ، قال : غدوت يوما إلى الشعبى وأنا أريد أن أساله عن شئ بلغني عن ابن مسعود أنه كان يقوله ، فأتيته وهو في مسجد حيه وفي المسجد قوم ينتظرونه ، فخرج فتعرفت إليه ، وقلت : أصلحك الله ! كان ابن مسعود يقول : ما كنت محدثا قوما حديثا لا تبلغه عقولهم الا كان لبعضهم فتنة ، قال : نعم ، كان ابن مسعود يقول ذلك ، وكان ابن عباس يقوله ايضا - وكان عند ابن عباس دفائن علم يعطيها أهلها ، ويصرفها عن غيرهم - فبينا نحن كذلك إذ أقبل رجل من الازد ، فجلس الينا ، فاخذنا في ذكر أبى بكر وعمر ، فضحك الشعبي وقال : لقد كان في صدر عمر ضب (4) على ابى بكر ، فقال الازدي : والله ما رأينا ولا سمعنا برجل قط كان أسلس قيادا لرجل ،
__________
(1) الشافي : (أفلا تحكي عن فعله) .
(2) الرضخ : كسر الرأس بالحجر .
(3) هو مجالد بن سعيد بن عمير الهمدانى الكوفى .
قال البخارى : كان يحيي بن سعيد يضعفه ، وكان ابن مهدى لا يروى عنه ، وكان أحمد بن حنبل لا يراه شيئا .
وقال ابن معين : ضعيف واهى الحديث ، مات سند 144 .
تهذيب التهذيب 10 : 36 .
(4) الضب : الحقد والعداوة ، وجمعه ضباب ، قال الشاعر : فما زالت رقاك تسل ضغنى وتخرج من مكامنها ضبابى (*)(2/29)
ولا أقول فيه بالجميل من عمر في أ بى بكر ، فأقبل على الشعبي وقال : هذا مما سألت عنه ، ثم أقبل على الرجل وقال : يا اخا الازد ، فكيف تصنع بالفلتة التى وقى الله شرها ! أترى عدوا يقول في عدو يريد ان يهدم ما بنى لنفسه في الناس أكثر من قول عمر في أبى بكر ، فقال الرجل : سبحان الله ! أنت تقول ذلك يا أبا عمرو ! فقال الشعبي : انا أقوله ، قاله عمر ابن الخطاب على رؤس الاشهاد ، فلمه أو دع .
فنهض الرجل مغضبا وهو يهمهم في الكلام بشئ لم أفهمه ، قال مجالد : فقلت للشعبي : ما أحسب هذا الرجل الا سينقل عنك هذا الكلام إلى الناس ويبثه فيهم ! قال : اذن والله لا أحفل به ، وشئ لم يحفل به عمر حين قام على رؤس الاشهاد من المهاجرين والانصار أحفل به انا ! أذيعوه أنتم عنى أيضا ما بدا لكم .
وروى شريك بن عبد الله النخعي (1) ، عن محمد بن عمرو بن مره عن أبيه عن عبد الله بن سلمة ، عن أبى موسى الاشعري ، قال : حججت مع عمر ، فلما نزلنا وعظم الناس خرجت من رحلى أريده ، فلقينى المغيرة بن شعبة ، فرافقني ، ثم قال : أين تريد ؟ فقلت : أمير المؤمنين ، فهل لك ؟ قال : نعم فانطلقنا نريد رحل عمر ، فإنا لفي طريقنا إذ ذكرنا تولى عمر وقيامه بما هو فيه ، وحياطته على الاسلام ، ونهوضه بما قبله من ذلك ، ثم خرجنا إلى ذكر أبى بكر ، فقلت للمغيرة : يا لك الخير ! لقد كان أبو بكر مسددا في عمر ، لكأنه ينظر إلى قيامه من بعده ، وجده واجتهاده وغنائه في الاسلام فقال المغيرة : لقد كان ذلك ، وان كان قوم كرهوا ولاية عمر ليزووها عنه ، وما كان لهم في ذلك من حظ ، فقلت له : لا أبا لك ! ومن القوم الذين كرهوا ذلك لعمر ؟ فقال المغيرة : لله أنت ! كأنك
__________
(1) هو شريك بن عبد الله بن ابي شريك النخعي أبو عبد الله الكوفي ، قال ابن معين : شريك صدوق ثقة الا انه إذا خالف فغيره احب الينا منه .
وقال ابن المبارك : شريك اعلم بحديث الكوفيين من الثورة .
وقال الجوزجاني شريك سئ الحفظ مضطرب الحديث مائل .
مات سنة 177 .
تهذيب التهذيب 4 : 335 .
(*)(2/30)
لا تعرف هذا الحى من قريش وما خصوا به من الحسد ! فو الله لو كان هذا الحسد يدرك بحساب لكان لقريش تسعة اأعشاره ، وللناس كلهم عشر ، فقلت : مه يا مغيرة فإن قريشا بانت بفضلها على الناس .
فلم نزل في مثل ذلك حتى انتهينا إلى رحل عمر فلم نجده ، فسالنا عنه فقيل : قد خرج آنفا ، فمضينا نقفو أثره ، حتى دخلنا المسجد ، فإذا عمر يطوف بالبيت ، فطفنا معه ، فلما فرغ دخل بينى وبين المغيرة ، فتوكأ على المغيرة وقال : من اين جئتما ؟ فقلنا : خرجنا نريدك يا أمير المؤمنين ، فأتينا رحلك فقيل لنا : خرج إلى المسجد ، فاتبعناك .
فقال : اتبعكما الخير ، ثم نظر المغيرة إلى وتبسم ، فرمقه عمر ، فقال : مم تبسمت أيها العبد ! فقال من حديث كنت أنا وأبو موسى فيه آنفا في طريقنا اليك ، قال : وما ذاك الحديث ؟ فقصصنا عليه الخبر حتى بلغنا ذكر حسد قريش ، وذكر من اراد صرف أبى بكر عن استخلاف عمر ، فتنفس الصعداء ثم قال : ثكلتك أمك يا مغيرة ! وما تسعة أعشار الحسد ! بل وتسعة أعشار العشر ، وفي الناس كلهم عشر العشر ، بل وقريش شركاؤهم أيضا فيه ! وسكت مليا وهو يتهادى بيننا ، ثم قال : ألا أخبركما بأحسد قريش كلها ؟ قلنا : بلى يا امير المؤمنين ، قال : وعليكما ثيابكما ، قلنا : نعم ، قال : وكيف بذلك وأنتما ملبسان ثيابكما ؟ قلنا يا أمير المؤمنين ، وما بال الثياب ؟ قال : خوف الاذاعة منها ، قلنا له : أتخاف الاذاعة من الثياب أنت ، وأنت من ملبس الثياب أخوف ! وما الثياب أردت ! قال : هو ذاك ، ثم انطلق وانطلقنا معه حتى انتهينا إلى رحله ، فخلى أيدينا من يده ، ثم قال : لا تريما ، ودخل فقلت للمغيرة : لا أبا لك ! لقد أثرنا بكلامنا معه ، وما كنا فيه وما نراه حبسنا إلا ليذاكرنا اياها ، قال ، فإنا لكذلك إذ أخرج إذنه إلينا ، فقال : ادخلا ، فدخلنا فوجدناه مستلقيا على برذعة برحل ، فلما رآنا تمثل بقول كعب بن زهير : لا تفش سرك الا عند ذى ثقة أولى وأفضل ما استودعت أسرارا (1)
__________
(1) ملحق ديوانه 257 ، وغرر الخصائص 181 (*)(2/31)
صدرا رحيبا وقلبا واسعا قمنا ألا تخاف متى أودعت إظهارا (1) فعلمنا أنه يريد أن نضمن له كتمان حديثه ، فقلت أنا له : يا امير المؤمنين ، الزمنا وخصنا وصلنا ، قال : بما ذا يا أخا الاشعرين ؟ فقلت : بإفشاء سرك وإن تشركنا في همتك فنعم المستشاران نحن لك .
قال : انكما كذلك ، فاسألا عما بدا لكما ، ثم قام إلى الباب ليعلقه ، فإذا الاذن الذى أذن لنا عليه في الحجرة فقال : امض عنا لا أم لك : فخرج وأغلق الباب خلفه ، ثم اقبل علينا ، فجلس معنا ، وقال : سلا تخبرا ، قلنا نريد أن يخبرنا أمير المؤمنين بأحسد قريش : الذى لم يأمن ثيابنا على ذكره لنا ، فقال : سألتما عن معضلة ، وسأخبركما فليكن عندكما في ذمة منيعة وحرز ما بقيت ، فإذا مت فشانكما وما شئتما من إظهار أو كتمان .
قلنا : فإن لك عندنا ذلك ، قال أبو موسى : وأنا اقول في نفسي : ما يريد إلا الذين كرهوا استخلاف أبى بكر له كطلحة وغيره ، فإنهم قالوا لابي بكر : أتستخلف علينا فظا غليظا : وإذا هو يذهب إلى غير ما في نفسي ، فعاد إلى التنفس ، ثم قال : من تريانه ؟ قلنا : والله ما ندرى إلا ظنا ! قال : وما تظنان ؟ قلنا : عساك تريد القوم الذين أرادوا أبا بكر على صرف هذا الامر عنك ، قال : كلا والله ! بل كان أبو بكر أعق ، وهو الذى سألتما عنه ، كان والله أحسد قريش كلها ، ثم أطرق طويلا ، فنظر المغيرة إلى ونظرت إليه ، وأطرقنا مليا لاطراقه ، وطال السكوت منا ومنه ، حتى ظننا أنه قد ندم على ما بدا منه ، ثم قال : وا لهفاه على ضئيل بنى تيم بن مرة ! لقد تقدمنى ظالما ، وخرج إلي منها آثما ، فقال المغيرة : أما تقدمه عليك يا أمير المؤمنين ظالما فقد عرفناه ، كيف خرج إليك منها آثمالا قال : ذاك لانه لم يخرج إلى منها إلا بعد يأس منها ، أما والله لو كنت أطعت يزيد بن الخطاب وأصحابه لم يتلمظ من حلاوتها بشئ أبدا ، ولكني قدمت وأخرت ، وصعدت وصوبت ، ونقضت وأبرمت ، فلم اجد إلا الاغضاء على ما نشب به منها ، والتلهف على نفسي ، وأملت إنابته ورجوعه ، فو الله ما فعل حتى نغر بها بشما .
__________
(1) الديوان : (لم تخش منه لما أودعت) (*)(2/32)
قال المغيرة : فما منعك منها يا أمير المؤمنين ، وقد عرضك لها يوم السقيفة بدعائك إليها ، ثم أنت الان تنقم وتتأسف ، قال : ثكلتك أمك يا مغيرة ! إنى كنت لاعدك (1) من دهاه العرب ، كأنك كنت غائبا عما هناك ! إن الرجل ماكرني فماكرته ، وألفانى أحذر من قطاة ، إنه لما رأى شغف الناس به ، وإقبالهم بوجوههم عليه ، أيقن أنهم لا يريدون به بدلا ، فاحب لما راى من حرص الناس عليه ، وميلهم إليه ، أن يعلم ما عندي ، وهل تنازعني نفسي إليها ! وأحب أن يبلوني باطماعي فيها ، والتعريض لي بها وقد علم وعلمت لو قبلت ما عرضه على ، لم يجب الناس إلى ذلك ، فألفاني قائما على إخمصى مستوفزا حذرا ولو أجبته إلى قبولها لم يسلم الناس إلى ذلك ، واختباها ضغنا على في قلبه ، ولم آمن غائلته ولو بعد حين : مع ما بدا لى من كراهة الناس لى : أما سمعت نداءهم من كل ناحية عند عرضها على : لا نريد سواك يا أبا بكر ، أنت لها ! فرددتها إليه عند ذلك ، فلقد رأيته التمع وجهه لذلك سرورا .
ولقد عاتبني مرة على كلام بلغه عنى ، وذلك لما قدم عليه بالاشعث أسيرا ، فمن عليه وأطلقه ، وزوجه أخته أم فروة ، فقلت للاشعث وهو قاعد بين يديه : يا عدو الله أكفرت بعد إسلامك ، وارتددت ناكصا على عقبيك ! فنظر إلى نظرا علمت أنه يريد أن يكلمني بكلام في نفسه ، ثم لقيني بعد ذلك في سكك المدينة ، فقال لي : أنت صاحب الكلام يا بن الخطاب ؟ فقلت : نعم يا عدو الله ، ولك عندي شر من ذلك ، فقال : بئس الجزاء هذا لى منك ! قلت : وعلا م تريدمني حسن الجزاء ؟ قال : لانفتى لك من اتباع هذا الرجل ، والله ما جرانى على الخلاف عليه إلا تقدمه عليك ، وتخلفك عنها ، ولو كنت صاحبها لما رأيت مني خلافا عليك .
قلت : لقد كان ذلك ، فما تامر الان ؟ قال : انه ليس بوقت أمر بل وقت صبر ، ومضى ومضيت .
ولقى الاشعث الزبرقان بن بدر فذكر له ما جرى بيني وبينه ، فنقل ذلك إلى أبى بكر ، فأرسل إلى بعتاب مؤلم فارسلت إليه : أما والله
__________
(1) ب (أعدك) .
(*)(2/33)
لتكفن أو لاقولن كلمة بالغة بي وبك في الناس ، تحملها الركبان حيث ساروا وإن شئت استدمنا ما نحن فيه عفوا ، فقال : بل نستديمه ، وانها لصائره إليك بعد ايام ، فظننت أنه لا ياتي عليه جمعة حتى يردها على ، فتغافل ، والله ما ذكرني بعد ذلك حرفا حتى هلك .
ولقد مد في أمدها عاضا على نواجذه حتى حضره الموت ، وأيس منها فكان منه ما رأيتما ، فاكتما ما قلت لكما عن الناس كافة وعن بنى هاشم خاصة ، وليكن منكما بحيث أمرتكما ، قوما إذا شئتما على بركة الله .
فقمنا ونحن نعجب من قوله ، فو الله ما أفشينا سره حتى هلك (1) قال المرتضى : وليس في طعن عمر على أبى بكر ما يؤدى إلى فساد خلافته ، إذ له أن يثبت إمامه نفسه بالاجماع ، لا بنص أبى بكر عليه .
وأاما الفلتة فانها وان كانت محتملة للبغتة كما قاله أبو علي رحمه الله تعالى ، إالا أن قوله : (وقى الله شرها) .
يخصصها بأن مخرجها مخرج الذم .
وكذلك قوله : (فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه) وقوله : المراد وقى الله شر الاختلاف فيها ، عدول عن الظاهر ، لان الشر في الكلام مضاف إليها دون غيرها ، وأبعد من هذا التأويل قوله إن المراد من عاد إلى مثلها من غير ضرورة وأكره المسلمين عليها ، فاقتلوه ، لان ما جرى هذا المجرى لا يكون مثلا لبيعة أبى بكر عندهم ، لان كل ذلك ما جرى فيها على مذاهبهم ، وقد كان يجب على هذا أن يقول : فمن عاد إلى خلافها فاقتلوه .
وليس له أن يقول : إنما أراد بالمثل وجها واحدا ، وهو وقوعها من غير مشاورة لان ذالك إنما تم في أبي بكر خاصة بظهور أمره .
اشتهار فضله .
ولنهم بادروا إلى العقد خوفا من الفتنة ، وذلك لانه غير منكر أن يتفق من ظهور فضل غير أبى بكر ، واشتهار أمره وخوف الفتنة ما اتفق لابي بكر فلا يستحق قتلا ولا ذما ، على أن قوله : (مثلها) يقتضي وقوعها على الوجه الذي وقعت عليه ، فكيف يكون ما وقع من غير مشاورة لضرورة داعية وأسباب موجبة مثلا لما وقع بلا مشاورة ، ومن غير ضرورة ولا أسباب ! والذي رواه عن اهل اللغة
__________
(1) كتاب الشافي 241 - 244 (*)(2/34)
من أن آخر يوم من شوال يسمى فلتة من حيث إن من لم يدرك فيه الثأر ، فإنه قول لا نعرفه ، والذى نعرفه انهم يسمون الليلة التى ينقضي بها آخر الاشهر الحرم ويتم ، فلتة ، وهى آخر ليلة من ليالي الشهر ، لانه ربما راى الهلال قوم لتسع وعشرين ولم يبصره الباقون ، فيغير هؤلاء على اولئك وهم غارون (1) ، فلهذا سميت تلك الليلة فلتة .
على أنا قد بينا أن مجموع الكلام يقتضي ما ذكرناه من المعنى ، لو سلم له ما رواه عن أهل اللغة في احتمال هذه اللفظة .
قال : وقد ذكر صاحب كتاب ، ، العين ، ، أن الفلتة الامر الذى يقع على غير إحكام ، فقد صح أنها موضوعة في اللغة لهذا ، وإن جاز الا تختص به ، بل تكون لفظة مشتركة .
وبعد ، فلو كان عمر لم يرد بقوله توهين بيعة أبى بكر ، بل أراد ما ظنه المخالفون لكان ذلك عائدا عليه بالنقص ، لانه وضع كلامه في غير موضعه ، وأراد شيئا فعبر عن خلافة ، فليس يخرج هذا الخبر من أن يكون طعنا على أبى بكر ، إلا بان يكون طعنا على عمر (2) * * * واعلم انه لا يبعد ان يقال : إن الرضا والسخط ، والحب والبغض ، وما شاكل ذلك ، من الاخلاق النفسانية وإن كانت امورا باطنه ، فانها قد تعلم ويضطر الحاضرون إلى حصولها بقرائن أحوال تفيدهم العلم الضرور ي ، كما يعلم خوف الخائف وسرور المبتهج .
وقد يكون الانسان عاشقا لاخر فيعلم المخالطون لهما ضرورة أنه يعشقه ، لما يشاهدونه من قرائن الاحوال ، وكذلك يعلم من قرائن أحوال العابد المجتهد في العبادة ، وصوم الهواجر وملازمة الاوراد ، وسهر الليل ، انه يتدين بذلك .
فغير منكر أن يقول قاضي القضاة رحمه الله
__________
(1) غارون : غافلون .
(2) كتاب الشافي 244 مع اختصار وتصرف .
(*)(2/35)
تعالى : إن المعلوم ضرورة من حال عمر تعظيم أبى بكر ورضاه بخلافته وتدينه بذلك ، فالذي اعترضه رحمه الله تعالى به غير وارد عليه .
وأما الاخبار التى رواها عن عمر فأخبار غريبة ، ما رأيناها في الكتب المدونة ، وما وقفنا عليها إلا من كتاب المرتضى ، وكتاب آخر يعرف بكتاب ، ، المسترشد ، ، (1) لمحمد بن جرير الطبري ، وليس هو محمد بن جرير صاحب ، ، التاريخ ، ، بل هو من رجال الشيعة وأظن أن أمه من بنى جرير من مدينة آمل طبرستان ، وبنو جرير الامليون شيعة مستهترون بالتشيع ، فنسب إلى أخواله ، ويدل على ذلك شعر مروي له وهو : بامل مولدي وبنو جرير فأخوالى ويحكى المرء خاله (2) فمن يك رافضيا عن أبيه فانى رافضي عن كلاله .
وانت تعلم حال الاخبار الغريبة ، التى لا توجد في الكتب المدونة كيف هي ؟ فاما إنكاره ما ذكره شيخنا أبو على رحمه الله تعالى من أن الفلتة هي آخر يوم من شوال ، وقوله : إنا لا نعرفه ، فليس الامر كذلك ، بل هو تفسير صحيح ، ذكره الجوهرى في كتاب ، ، الصحاح ، ، قال : الفلتة آخر ليلة من كل شهر ، ويقال هي آخر يوم من الشهر الذى بعده الشهر الحرام ، وهذا يدل على أن آخر يوم من شوال يسمى فلتة وكذلك آخر يوم من جمادي الاخرة ، وانما التفسير الذي ذكره المرتضى غير معروف عند أهل اللغة .
واما ما ذكره من إفساد حمل الفلتة في الخبر على هذه الوجوه المتأولة ، فجيد ، إلا أن الانصاف أن عمر لم يخرج الكلام مخرج الذم لامر أبى بكر ، وانما اراد باللفظة محض حقيقتها في اللغة ذكر صاحب ، ، الصحاح ، ، أن الفلتة الامر الذى يعمل فجاة من
__________
(1) كتاب المسترشد في الامامة ، طبع في النجف وفي الاصول : (المسترشد) وهو خطأ ، راجع النجاشي 266 .
(2) نسبهما ياقوت في معجم البلدان (1 : 63) إلى أبي بكر الخوارزمي ، وظن أنه قالها في خاله الطبري المؤرخ ، وحققه محمد باقر ، وذكر أن الامر اشتبه على ياقوت .
وانظر روضات الجنان 673 .
(*)(2/36)
غير تردد ولا تدبر ، وهكذا كانت بيعة أبى بكر ، لان الامر لم يكن فيها شورى بين المسلمين ، وإنما وقعت بغتة لم تمحص فيها الاراء ، ولم يتناظر فيها الرجال ، وكانت كالشئ المستلب المنتهب ، وكان عمر يخاف أن يموت عن غير وصية أو يقتل قتلا فيبايع أحد من المسلمين بغتة كبيعة أبى بكر ، فخطب بما خطب به ، وقال معتذرا : ألا إنه ليس فيكم من تقطع إليه الاعناق كأبى بكر ! وايضا قول المرتضى قد سبق من ظهور فضل غير أبى بكر ، وخوف الفتنة مثل ما اتفق لابي بكر ، فلا يستحق القتل ، فان لقائل أن يقول : إن عمر لم يخاطب بهذا إلا أهل عصره وكان هو رحمه الله يذهب إلى أنه ليس فيهم كأبى بكر ، ولا من يحتمل له أن يبايع فلتة ، كما احتمل ذلك لابي بكر ، فإن اتفق أن يكون في عصر آخر بعد عصره من يظهر فضله ، ويكون في زمانه كأبى بكر في زمانه ، فهو غير داخل في نهى عمر وتحريمه .
واعلم (1) ان الشيعة لم تسلم لعمر أن بيعة أبى بكر كانت فلتة ، قال محمد بن هانئ المغربي : ولكن أمرا كان أبرم بينهم وإن قال قوم فلتة غير مبرم (2) وقال آخر : زعموها فلتة فاجئة لا ورب البيت والركن المشيد انما كانت امورا نسجت بينهم اسبابها نسج البرود * * * وروى أبو جعفر أيضا في (3) التاريخ أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما قبض اجتمعت الانصار في سقيفة بني ساعدة ، وأخرجوا سعد بن عبادة ، ليولوه الخلافه ، وكان
__________
(1) ب : (قلت) .
(2) ديوانه 689 (طبع المعارف) (3) تاريخ الطبرى 3 : 207 وما بعدها مع اختصار وتصرف .
(*)(2/37)
مريضا ، فخطبهم ودعاهم إلى إعطائه الرياسة والخلافة ، فأجابوه ، ثم ترادوا الكلام فقالوا : فإن أبى المهاجرون ، وقالوا : نحن أولياؤه وعترته ! فقال قوم من الانصار : نقول منا أمير ومنكم أمير فقال سعد : فهذا أول الوهن ! وسمع عمر الخبر فأتى منزل رسول الله صلى الله عليه وآله ، وفيه أبو بكر ، فأرسل إليه أن اخرج إلى ، فأرسل إنى مشغول فأرسل إليه عمر أن اخرج ، فقد حدث أمر لا بد أن تحضره ، فخرج فأعلمه الخبر ، فمضيا مسرعين نحوهم ، ومعهما أبو عبيدة ، فتكلم أبو بكر ، فذكر قرب المهاجرين من رسول الله صلى الله عليه وأنهم أولياؤه وعترته ، ثم قال : نحن الامراء وانتم الوزراء ، لا نفتات عليكم بمشورة ، ولا نقضى دونكم الامور .
فقام الحباب بن المنذر بن الجموح ، فقال : يا معشر الانصار ، املكوا عليكم أمركم ، فان الناس في ظلكم ، ولن يجترئ مجترئ على خلافكم ، ولا يصدر أحد إلا عن رأيكم .
أنتم أهل العزة والمنعة ، وأولو العدد والكثره ، وذوو البأس والنجدة ، وإنما ينظر الناس ما تصنعون ، فلا تختلفوا فتفسد عليكم أموركم فإن أبى هؤلاء إلا ما سمعتم ، فمنا أمير ومنهم أمير .
فقال عمر : هيهات ! لا يجتمع سيفان في غمد ، والله لا ترضى العرب أن تؤمركم ونبيها من غيركم ، ولا تمتنع العرب أن تولى أمرها من كانت النبوة منهم ، من ينازعنا سلطان محمد ، ونحن أولياؤه وعشيرته ! فقال الحباب بن المنذر : يا معشر الانصار ، املكوا أيديكم ، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه ، فيذهبوا بنصيبكم من هذا الامر ، فإن أبواعليكم فأجلوهم من هذه البلاد ، فأنتم أحق بهذا الامر منهم ، فإنه بأسيافكم دان الناس بهذا الدين ، أنا جذيلها المحكك ، وعذيقها المرجب ،(2/38)
انا ابو شبل في عريسة الاسد ، والله إن شئتم لنعيدنها جذعة .
فقال عمر : إذن يقتلك الله ، قال : بل إياك يقتل .
فقال أبو عبيدة : يا معشر الانصار ، إنكم أول من نصر ، فلا تكونوا أول من بدل وغير .
فقام بشير بن سعد ، والد النعمان بن بشير فقال : يا معشر الانصار ، ألا إن محمدا من قريش ، وقومه أولى به ، وايم الله لا يرانى الله أنازعهم هذا الامر .
فقال أبو بكر : هذا عمر وأبو عبيدة بايعوا أيهما شئتم ، فقالا : والله لا نتولى هذا الامر عليك وأنت أفضل المهاجرين ، وخليفة رسول الله صلى الله عليه في الصلاة ، وهي أفضل الدين ، ابسط يدك ، فلما بسط يده ليبايعاه ، سبقهما إليه بشير بن سعد فبايعه ، فناداه الحباب بن المنذر : يا بشير ، عققت (1) عقاق أ نفست على ابن عمك الامارة (2) ! فقال أسيد بن حضير (3) رئيس الاوس لاصحابه : والله لئن لم تبايعوا ليكونن للخزرج عليكم الفضيلة أبدا ، فقاموا فبايعوا أبا بكر .
فانكس على سعد بن عبادة والخزرج ما اجتمعوا عليه ، وأقبل الناس يبايعون أبا بكر من كل جانب ، ثم حمل سعد بن عبادة إلى داره ، فبقى أياما ، وأرسل إليه أبو بكر ليبايع ، فقال : لا والله - حتى أرميكم بما في كنا نتى ، وأخضب سنان رمحي ، وأضرب بسيفي ما أطاعنى وأقاتلكم بأهل بيتى ومن تبعني ، ولو اجتمع معكم الجن والانس ما بايعتكم حتى أعرض على ربى .
فقال عمر لا تدعه حتى يبايع ، فقال ، بشير بن سعد : إنه قد لج ، وليس بمبايع لكم
__________
(1) عفاق : مبنية على الكسر ، مثل حذام (2) بعده كما في التاريخ : (فقال : لا والله ، ولكني كرهت أن أنازع قوما حقا جعله الله لهم .
(3) في الطبري : (ولما رات الاوس ما صنع بشير بن سعد وما تدعوا إليه قريش ، وما تطلب الخزرج من تأمير سعيد بن عبادة ، فقال بعضهم لبعض ، وفيهم اسيد بن حضير ...
) ثم ذكر كلام اسيد .
(*)(2/39)
حتى يقتل ، وليس بمقتول حتى يقتل معه أهله وطائفة من عشيرته ، ولا يضركم تركه ، إنما هو رجل واحد ، فتركوه .
وجاءت أسلم فبايعت ، فقوى بهم جانب أبى بكر ، وبايعه الناس .
وفي كتب غريب الحديث في تتمة كلام عمر : فأيما رجل بايع رجلا بغير مشورة من الناس فلا يؤمر واحد منهما تغرة أن يقتلا (1) قالوا : غرر تغريرا وتغرة ، كما قالوا : حلل تحليلا وتحلد ، وعلل تعليلا وتعلد وانتصب (تغرة) هاهنا لانه مفعول له ، ومعنى لكلام أنه إذا بايع واحد لاخر بغتة عن غير شورى ، فلا يؤمر واحد منهما ، لانهما قد غررا بأنفسهما تغرة وعرضاهما لان تقتلا .
وروى جميع أصحاب السيرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله ، لما توفى كان أبو بكر في منزله (2) بالسنح ، فقام عمربن الخطاب فقال : ما مات رسول الله صلى الله عليه ، ولا يموت حتى يظهر دينه على الدين كله ، وليرجعن فليقطعن أيدى رجال وأرجلهم ممن أرجف بموته ، لا أسمع رجلا يقول : مات رسول الله إلا ضربته بسيفي .
فجاء أبو بكر وكشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقال : بابى وأمى ! طبت حيا وميتا والله لا يذيقك الله الموتتين أبدا ثم خرج والناس حول عمر ، وهو يقول لهم : إنه لم يمت ، ويحلف ، فقال له : أيها الحالف ، على رسلك ! ثم قال : من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت ، قال الله تعالى (انك ميت وانهم ميتون) ، (3) وقال : (أفان مات أو قتل انقلبتم على اعقابكم) (4) قال عمر : فو الله
__________
(1) النهاية لابن الاثير 3 : 156 .
(2) السنح ، بالضم ثم السكون : إحدى محال المدينة ، كان بها منزل أبي بكر ، وهي بني الحارث ابن الخزرج بعوالي المدينة .
(3) سورة الزمر 30 .
(4) سورة آل عمران 144 .
(*)(2/40)
ما ملك نفسي حيث سمعتها أن سقطت إلى الارض ، علمت أن رسول الله صلى الله عليه قد مات .
وقد تكلمت الشيعة في هذا الموضع ، وقالوا : إنه بلغ من قلة علمه أنه لم يعلم أن الموت يجوز على رسول الله صلى الله عليه وآله ، وانه اسوة الانبياء في ذلك وقال : لما تلا أبو بكر الايات ، أيقنت الان بوفاته ، كانى لم أسمع هذه الاية ، فلو كان يحفظ القرآن أو يتفكر فيه ، ما قال ذلك ، ومن هذه حاله لا يجوز أن يكون اماما .
وأجاب قاضى القضاة رحمه الله تعالى في ، ، المغنى ، ، (1) عن هذا فقال : إن عمر لم يمنع من جواز موته عليه السلام ، ولا نفى كونه ممكنا ، ولكنه تأول في ذلك قوله تعالى : (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله) (2) وقال : كيف يموت ولم يظهر صلوات الله عليه على الدين كله ؟ فقال أبو بكر ، إذا ظهر دينه فقد ظهر هو ، وسيظهر دينه بعد وفاته .
فحمل عمر قوله تعالى : (أفان مات) على تأخر الموت ، لا على نفيه بالكلية قال ولا يجب فيمن ذهل عن بعض احكام القرآن ، الا يحفظ القرآن لان الامر لو كان كذلك لوجب ألا يحفظ القرآن إلامن عرف جميع أحكامه ، على أن حفظ جميع القرآن غير واجب ، ولا يقدح الاخلال به في الفضل (3) .
واعترض المرتضى رحمه الله تعالى في كتاب ، ، الشافي ، ، هذا الكلام ، فقال : لا يخلو خلاف عمر في وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله من أن يكون على سبيل الانكار لموته على كل حال والاعتقاد أن (4) الموت لا يجوز عليه على كل وجه ، أو يكون منكرا لموته في
__________
(1) المغنى للقاضي عبد الجبار ، في أصول الدين ومنه نسخة مصورة في دار الكتب المصرية ، عن مكتبة صنعاء .
(2) سورة التوبة 33 .
(3) نقله المرتضى في الشافي 252 ص مع اختلاف في الروايتين .
(4) ب : (لان) ، والاصوب ما أثبته من أ .
(*)(2/41)
تلك الحال من حيث لم يظهر على الدين كله ، فإن كان الاول فهو مما لا يجوز خلاف عاقل فيه ، والعلم بجواز الموت على جميع البشر ضروري ، وليس يحتاج في حصول هذا العلم إلى تلاوة الايات التى تلاها أبو بكر .
وإن كان الثاني ، فأول ما فيه أن هذا الاختلاف لا يليق بما احتج به أبو بكر عليه من قوله : (انك ميت) ، لان عمر لم ينكر على هذا الوجه جواز الموت عليه وصحته ، وإنما خالف في وقته .
فكان يجب أن يقول لابي بكر : وأى حجه في هذه الايات على ! فاني لم أمنع جواز موته ، وإنما منعت وقوع موته الان ، وجوزته في المستقبل ، والايات إنما تدل على جواز الموت فقط ، لا على تخصيصه بحال معينه .
وبعد ، فكيف دخلت هذه الشبهة البعيدة على عمر من بين سائر الخلق ! ومن أين زعم أنه سيعود فيقطع أيدى رجال وأرجلهم ! وكيف لم يحصل له من اليقين لما رأى من الواعية (1) وكابة الخلق واغلاق الباب وصراخ النساء ما يدفع به ذلك الوهم والشبهة البعيدة فلم يحتج إلى موقف .
وبعد ، فيجب إن كانت هذه شبهته أن يقول في مرض النبي صلى الله عليه وآله - وقد رأى جزع أهله وخوفهم عليه الموت ، وقول أسامه صاحب الجيش : لم أكن لارحل وأنت هكذا واسال عنك الركب ، يا هؤلاء لا تخافوا ولا تجزعوا ، ولا تخف أنت يا أسامه فان رسول الله صلى الله عليه لا يموت الان لانه لم يظهر على الدين كله .
وبعد ، فليس هذا من أحكام الكتاب التى يعذر من لا يعرفها على ما ظن المعتذر له (2) .
ونحن نقول : إن عمر كان أجل قدرا من أن يعتقد ما ظهر عنه في هذه الواقعة ،
__________
(1) الواعية : الصراخ على الميت .
(2) الشافي 252 .
(*)(2/42)
ولكنه لما علم أن رسول الله صلى الله عليه وآله قد مات ، خاف من وقوع فتنة في الامامة ، وتقلب أقوام عليها ، امامن الانصار أو غيرهم ، وخاف أيضا من حدوث ردة ، ورجوع عن الاسلام ، فإنه كان ضعيفا بعد لم يتمكن ، وخاف من ترات تشن ، ودماء تراق ، فإن أكثر العرب كان موتورا في حياه رسول الله صلى الله عليه وآله لقتل من قتل اصحابه منهم ، وفي مثل ذلك الحال تنتهز الفرصة ، وتهتبل الغرة ، فاقتضت المصلحة عنده تسكين الناس بأن أظهر ما أظهره من كون رسول الله صلى الله عليه وآله لم يمت ، وأوقع تلك الشبهة في قلوبهم ، فكسر بها شرة كثير منهم ، وظنوها حقا ، فثناهم بذلك عن حادث يحدثونه ، تخيلا منهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله ما مات ، وإنما غاب كما غاب موسى عن قومه ، وهكذا كان عمر يقول لهم : إنه قد غاب عنكم كما غاب موسى عن قومه ، وليعودن فليقطعن أيدى قوم أرجفوا بموته .
ومثل هذا الكلام يقع في الوهم ، فيصد عن كثير من العزم ، ألا ترى أن الملك إذا مات في مدينة وقع فيها في اكثر الامر نهب وفساد وتحريق ، وكل من في نفسه حقد على آخر بلغ منه غرضه ، إما بقتل أو جرح أو نهب مال ، إلى أن تتمهد قاعدة الملك الذى يلى بعده ، فإذا كان في المدينة وزير حازم الرأى ، كتم موت الملك ، وسجن قوما ممن أرجف نداء بموته ، وأقام فيهم السياسة ، وأشاع أن الملك حى ، وأن أوامره وكتبه نافذة ، ولا يزال يلزم ذلك الناموس إلى أن يمهد قاعده الملك الوالى بعده ، وكذلك عمر أظهر ما أظهر حراسة للدين والدولة ، إلى أن جاء أبو بكر وكان غائبا بالسنح ، وهو منزل بعيد عن المدينة ، فلما اجتمع بأبى بكر قوى به جاشه ، وأشتد به أزره ، وعظم طاعة الناس له وميلهم إليه ، فسكت حينئذ عن تلك الدعوى التى كان ادعاها ، لانه قد أمن بحضور أبى بكر من خطب يحدث ، أو فساد يتجدد ، وكان أبو بكر محببا إلى الناس ، لا سيما المهاجرين .(2/43)
يجوز عند الشيعة وعند أصحابنا أيضا أن يقول الانسان كلاما ظاهر الكذب على جهة المعاريض ، فلا وصمة على عمر إذا كان حلف أن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يمت ، ولا وصمة عليه في قوله بعد حضور أبى بكر وتلاوة ما تلا ، كانى لم أسمعها ، أو قد تيقنت الان وفاته صلى الله عليه ، لانه أراد بهذا القول الاخير تشييد القول الاول ، وكان هو الصواب ، وكان من سيئ الرأى وقبيحه أن يقول : إنما قلته تسكينا لكم ، ولم أقله عن اعتقاد ، فالذي بدأ به حسن وصواب ، والذى ختم به أحسن وأصوب .
وروى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهرى في كتاب ، ، السقيفة ، ، عن عمر بن شبة عن محمد بن منصور ، عن جعفر بن سليمان ، عن مالك بن دينار ، قال : كان النبي صلى الله عليه وآله قد بعث أبا سفيان ساعيا (1) فرجع من سعايته ، وقد مات رسول الله صلى الله عليه وآله ، فلقيه قوم فسألهم ، فقالوا : مات رسول الله صلى الله عليه ، فقال : من ولى بعده ؟ قيل : أبو بكر ، قال : أبو فضيل ! قالوا : نعم ، قال : فما فعل المستضعفان : على والعباس ! أما والذي نفسي بيده لارفعن لهما من اعضادهما .
قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز وذكر الراوى - وهو جعفر بن سليمان - أن ابا سفيان قال شيئا آخر لم تحفظه الرواة فلما قدم المدينة قال : إنى لارى عجاجة لا يطفئها إلا الدم ! قال : فكلم عمر أبا بكر ، فقال : إن أبا سفيان قد قدم ، وإنا لا نامن شره ، فدع له ما في يده ، فتركه فرضى .
وروى أحمد بن عبد العزيز أن أبا سفيان ، قال لما بويع عثمان : كان هذا الامر في تيم ، وأنى لتيم هذا الامر ! ثم صار إلى عدى فأبعد وأبعد ، ثم رجعت إلى منازلها ، واستقر الامر قراره ، فتلقفوها تلقف الكرة .
__________
(1) السعاية : مباشرة أعمال الصدقات .
(*)(2/44)
قال أحمد بن عبد العزيز : وحدثني المغيرة بن محمد المهبلى قال : ذاكرت إسماعيل ابن إسحاق القاضى بهذا الحديث ، وأن أبا سفيان قال لعثمان : بأبى أنت ! أنفق ولا تكن كأبى حجر ، وتداولوها يا بنى أمية تداول الولدان الكرة ، فو الله ما من جنة ولا نار وكان الزبير حاضرا ، فقال عثمان لابي سفيان : اعزب ، فقال : يا بنى أهاهنا أحد ! قال الزبير : نعم والله لا كتمتها عليك .
قال : فقال إسماعيل : هذا باطل .
قلت : وكيف ذلك ؟ قال : ما أنكر هذا من أبى سفيان ، ولكن أنكر أن يكون سمعه عثمان ، ولم يضرب عنقه .
وروى أحمد بن عبد العزيز ، قال : جاء أبو سفيان إلى علي عليه السلام ، فقال : وليتم على هذا الامر أذل بيت في قريش ، اما والله لئن شئت لاملانها الضرورة إلى ملازمة المجلس إلى أن تقوض الناس واحدا فواحدا ، فلما لم يبق إلا غلمانه وحجابه ، دعا بالطعام ، فلما أكلنا وغسل يديه وانصرف عنه أكثر على أبي فضيل خيلا ورجلا ، فقال علي عليه السلام : طالما غششت الاسلام وأهله فما ضررتهم شيئا ! لا حاجة لنا إلى خيلك ورجلك ، لولا أنا رأينا أبا بكر لها أهلا ما تركناه .
وروى أحمد بن عبد العزيز ، قال : لما بويع لابي بكر كان الزبير و المقداد يختلفان في جماعة من الناس إلى علي ، وهو في بيت فاطمة ، فيتشاورون ويتراجعون أمورهم ، فخرج عمر حتى دخل على فاطمة عليها السلام ، وقال : يا بنت رسول الله ، ما من أحد من الخلق أحب إلينا من أبيك ، وما من أحد أحب إلينا منك بعد أبيك ، وأيم الله ما ذاك بما نعي أن اجتمع هؤلاء النفر عندك ان آمر بتحريق البيت عليهم .
فلما خرج عمر جاءوها ، فقالت : تعلمون أن عمر جاءني ، وحلف لي بالله إن عدتم ليحرقن عليكم البيت ، وأيم الله ليمضين لما حلف له .
فانصرفوا عنا راشدين .
فلم يرجعوا إلى بيتها ، وذهبوا فبايعوا لابي بكر * * * وروى أحمد - وروى المبرد في " الكامل " صدر هذا الخبر (1) عن عبد الرحمن
__________
(1) والخبر أيضا في تاريخ الطبري : (3 : 234) وما بعدها .
(*)(2/45)
إبن عوف ، قال : دخلت على أبي بكر أعوده في مرضه الذي مات فيه ، فسلمت ، وسالته : كيف به ؟ فاستوى جالسا ، فقلت : لقد أصبحت بحمد الله بارئا ، فقال : أما إني على ما ترى لوجع ، وجعلتم لي معشر المهاجرين شغلا مع وجعي ، وجعلت لكم عهدا مني من بعدي ، واخترت لكم خيركم في نفسي ، فكلكم ورم (1) لذلك أنفه رجاء أن يكون الامر له ، ورأيتم الدنيا قد أقبلت ، والله لتتخذن ستور الحرير ونضائد الديباج (2) ، وتألمون ضجائع الصوف الاذربي (3) ، كأان أحدكم على حسك (4) السعدان .
والله لان يقدم أحدكم فتضرب عنقه في غير حد لخير له من أن يسبح في غمرة لدنيا ، وإنكم غدا لاول ضال بالناس يجورون عن الطريق يمينا وشمالا ، يا هادي الطريق ، إنما هو البجر أو الفجر (5) .
فقال له عبد الرحمن : لا تكثر على ما بك فيهيضك (6) ، والله ما أردت إلا خيرا (7) ، وإن صاحبك لذو خير ، وما الناس إلا رجلان : رجل رأى ما رأيت ، فلا خلاف عليك منه ، ورجل رأى غير ذلك ، وإنما يشير عليك برأيه .
فسكن وسكت هنيهة .
فقال عبد الرحمن : ما أرى بك بأسا والحمد لله ، فلا تأس على الدنيا ، فو الله إن علمناك إلا صالحا مصلحا .
فقال : أما إني لا آسى إلا على ثلاث فعلتهن ، وددت أني لم أفعلهن ، وثلاث لم أفعلهن وددت أني فعلتهن ، وثلاث وددت أني سألت رسول الله ص عنهن : فأما الثلاث التى فعلتها ووددت أني لم أكن فعلتها ، فوددت أني لم أكن كشفت
__________
(1) ورم أنفه : أي إمت لا من ذلك غضبا .
(2) نضائد الديباج : واحدتها نضيدة ، وهي الوسادة وما ينضد من المتاع .
(3) الاذربي : منسوب إلى أذربيجان .
(4) السعدان : نبت كثير الحسك تأكله الابل فتسمن عليه .
(5) قال في الكامل : " وقوله : والله هو الفجر أو البجر ، يقول : إن انتظرت حتى يضئ لك الفجر الطريق أبصرت قصدك ، وإن خبطت الظلماء وركبت العشواء هجما بك على المكروه .
(6) يهيضك ، أي ينعتك ويؤذيك ، وأصله في العظم إذا كسر بعد الجبور فإنه يكون أشد وجعا .
(7) هذه آخر رواية المبرد - مع تصرف كثير في العبارة ، في الكامل 1 : 54 ، 55 - بشرح المرصفي .
(*)(2/46)
عن بيت فاطمة وتركته ولو أغلق على حرب ، ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الامر في عنق أحد الرجلين : عمر أو أبي عبيدة ، فكان أميرا وكنت وزيرا ، ووددت أني إذ أتيت بالفجاءة (1) لم أكن أحرقته ، وكنت قتلته بالحديد أو أطلقته .
وأما الثلاث التي تركتها ووددت أني فعلتها ، فوددت أني يوم أتيت بالاشعث كنت ضربت عنقه ، فإنه يخيل إلي أنه لا يرى شرا إلا أعان عليه ، ووددت أني حيث وجهت خالدا إلى أهل الردة أقمت بذي القصة ، فإن ظفر المسلمون وإلا كنت ردءا لهم ، ووددت حيث وجهت خالدا إلى الشام كنت وجهت عمر إلى العراق ، فاكون قد بسطت كلتا يدي اليمين والشمال في سبيل الله .
وأما الثلاث اللواتي وددت أني كنت سالت رسول الله ص عنهن : فوددت أني سألته فيمن هذا الامر ، فكنا لا ننازعه أهله ، (ووددت أني كنت سألته هل للانصار في هذا الامر نصيب) (2) ووددت أني سألته عن ميراث العمة وإبنة الاخت ، فإن في نفسي منهما حاجة .
ومن كتاب معاوية المشهور إلى علي ع : وأعهدك أمس تحمل قعيدة بيتك ليلا على حمار ، ويداك في يدي إبنيك الحسن والحسين يوم بويع أبو بكر الصديق ، فلم تدع أحدا من أهل بدر والسوابق إلا دعوتهم إلى نفسك ، ومشيت إليهم بامرأتك ، وأدليت إليهم بابنيك ، واستنصرتهم على صاحب رسول الله ، فلم يجبك منهم إلا أربعة أو خمسة ، ولعمري لو كنت محقا لاجابوك ، ولكنك إدعيت باطلا ، وقلت ما لا يعرف ، ورمت ما لا يدرك ، ومهما نسيت فلا أنسى قولك لابي سفيان ، لما حركك وهيجك : لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم ، فما يوم المسلمين منك بواحد ، ولا بغيك على الخلفاء بطريف ولا مستبدع .
__________
(1) هو إياس بن عبد الله بن عبد ياليل السلمي ، وكان قد إستعرض الناس يقتلهم ويأخذ أموالهم ، فأمر أبي بكر بإحراقه .
وانظر تفصيل الخبر في الطبري 3 : 234 .
(2) زيادة من الطبري يقتضيها السياق .
(*)(2/47)
وسنذكر تمام هذا الكتاب وأوله عند انتهائنا إلى كتب على ع .
وروى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن أبي المنذر وهشام بن محمد بن السائب عن أبيه ، عن أبي صالح ، عن إبن عباس ، قال : كان بين العباس وعلي مباعدة ، فلقي إبن عباس عليا ، فقال : إن كان لك في النظر إلى عمك حاجه فأته ، وما أراك تلقاه بعدها ، فوجم (1) لها وقال : تقدمني واستأذن ، فتقدمته واستاذنت له ، فأذن فدخل ، فاعتنق كل واحد منهما صاحبه ، وأقبل علي ع على يده ورجله يقبلهما ، ويقول : يا عم ، إرض عني رضي الله عنك ، قال : قد رضيت عنك .
ثم قال : يا بن أخي ، قد أشرت عليك باشياء ثلاثة فلم تقبل ، ورأيت في عاقبتها ما كرهت ، وها أنا ذا أشير عليك برأي رابع ، فإن قبلته ، وإلا نالك ما نالك مما كان قبله .
قال : وما ذاك يا عم ؟ قال : أشرت عليك في مرض رسول الله ص أن تسأله ، فإن كان الامر فينا أعطاناه ، وإن كان في غيرنا أوصى بنا .
فقلت : أخشى إن منعناه لا يعطيناه أحد بعده (1) ، فمضت تلك .
فلما قبض رسول الله ص ، أتانا أبو سفيان بن حرب تلك الساعة فدعوناك إلى أن نبايعك ، وقلت لك : إبسط يدك أبايعك ويبايعك هذا الشيخ ، فإنا إن بايعناك لم يختلف عليك أحد من بني عبد مناف ، وإذا بايعك بنو عبد مناف لم يختلف عليك أحد (2) من قريش ، وإذا بايعتك قريش لم يختلف عليك أحد من العرب ، فقلت : لنا بجهاز رسول الله ص شغل ، وهذا الامر فليس نخشى عليه ، فلم نلبث أن سمعنا التكبير من سقيفة بني ساعده ، فقلت : يا عم ، ما هذا ؟ قلت : ما دعوناك إليه ، فأبيت ! قلت : سبحان الله ! أو يكون هذا ! قلت : نعم .
قلت : أفلا يرد ؟ قلت لك : وهل رد مثل هذا قط ! ثم أشرت عليك حين طعن عمر فقلت : لا تدخل نفسك في الشورى ، فإنك إن إعتزلتهم قدموك ، وإن ساويتهم تقدموك ، فدخلت معهم ، فكان ما رأيت .
__________
(1) ساقطة من ب .
(2) ب : قرشي .
(*)(2/48)
ثم أنا الآن أشير عليك برأي رابع ، فإن قبلته وإلا نالك ما نالك مما كان قبله .
إني أرى أن هذا الرجل - يعنى عثمان - قد أخذ في أمور ، والله لكأني بالعرب قد سارت إليه حتى ينحر في بيته كما ينحر الجمل ، والله إن كان ذلك وأنت بالمدينة ألزمك الناس به ، وإذا كان ذلك لم تنل من الامر شيئا إلا من بعد شر لا خير معه .
قال عبد الله بن عباس : فلما كان يوم الجمل عرضت له - وقد قتل طلحة ، وقد أكثر أهل الكوفة في سبه وغمصه - فقال على ع : أما والله لئن قالوا ذلك ، لقد كان كما قال اخو جعفى (1) : فتى كان يدنيه الغنى من صديقه * إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر ثم قال : والله لكأن عمي كان ينظر من وراء ستر رقيق ، والله ما نلت من هذا الامر شيئا إلا بعد شر لا خير معه .
وروى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز ، عن حباب بن يزيد ، عن جرير بن المغيرة أن سلمان والزبير والانصار كان هواهم أن يبايعوا عليا ع بعد النبي ص ، فلما بويع أبو بكر ، قال سلمان : أصبتم الخبرة وأخطأتم المعدن .
قال أبو بكر : وأخبرنا أبو زيد عمر بن شبة ، قال : حدثنا علي بن أبي هاشم ، قال : حدثنا عمرو بن ثابت ، عن حبيب بن أبي ثابت ، قال : قال سلمان يومئذ : أصبتم ذا السن منكم وأخطاتم أهل بيت نبيكم ، لو جعلتموها فيهم ما اختلف عليكم إثنان ، ولاكلتموها رغدا .
قال أبو بكر : وأخبرنا عمر بن شبة ، قال : حدثني محمد بن يحيي ، قال : حدثنا غسان
__________
(1) هو سلمة بن يزيد بن مشجعة الجعفي ، من كلمة له يرثي فيها أخاه لامه قيس بن سلمة .
أمالي القالي 2 : 73 (*)(2/49)
إبن عبد الحميد ، قال : لما أكثر الناس في تخلف علي ع عن بيعة أبي بكر ، واشتد أبو بكر وعمر عليه في ذلك ، خرجت أم مسطح بن أثاثة ، فوقفت عند القبر ، وقالت : كانت أمور وأنباء وهنبثة * لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب (1) إنا فقدناك فقد الارض وابلها * واختل قومك فاشهدهم ولا تغب (2) قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز : وأخبرنا أبو زيد عمر بن شبة ، قال : حدثنا إبراهيم ابن المنذر عن ابن وهب عن ابن لهيعة عن أبي الاسود ، قال : غضب رجال من المهاجرين في بيعة أبي بكر بغير مشورة ، وغضب علي والزبير ، فدخلا بيت فاطمة ع ، معهما السلاح ، فجاء عمر في عصابة ، منهم أسيد بن حضير وسلمة بن سلامة بن وقش ، وهما من بني عبد الاشهل ، فصاحت فاطمة ع ، وناشدتهم الله .
فأخذوا سيفي علي والزبير ، فضربوا بهما الجدار حتى كسروهما ، ثم أخرجهما عمر يسوقهما حتى بايعا ، ثم قام أبو بكر فخطب الناس ، واعتذر إليهم ، وقال : إن بيعتي كانت فلتة وقى الله شرها ، وخشيت الفتنة ، وأيم الله ما حرصت عليها يوما قط ، ولقد قلدت أمرا عظيما ما لي به طاقة ولا يدان ، ولوددت أن أقوى الناس عليه مكاني .
وجعل يعتذر إليهم ، فقبل المهاجرون عذره .
وقال علي والزبير : ما غضبنا إلا في المشورة ، وإنا لنرى أبا بكر أحق الناس بها ، إنه لصاحب الغار ، وإنا لنعرف له سنة ، ولقد أمره رسول الله ص بالصلاة بالناس وهو حي .
قال أبو بكر - وقد روى بإسناد آخر ذكره : أن ثابت بن قيس بن شماس كان مع الجماعة الذين حضروا مع عمر في بيت فاطمة ع ، وثابت هذا أخو بني الحارث إبن الخزرج .
__________
(1) الهنبثة ، واحدة الهنابث ، وهي الامور الشدائد المختلفة ، والبيتان في اللسان (3 : 20) ، وذكر أنه جاء في حديث أن فاطمة قالتهما بعد موت الرسول ص ، وذكر أيضا أنه ورد هذا الشعر في حديث آخر ، قال : لما قبض رسول الله ص خرجت صفية تلمع بثوبها وتقول البيتين " .
(2) اللسان : " فاختل " .
(*)(2/50)
وروى أيضا أن محمد بن مسلمة كان معهم ، وأن محمدا هو الذي كسر سيف الزبير .
قال أبو بكر : وحدثني يعقوب بن شيبة ، عن أحمد بن أيوب ، عن إبراهيم بن سعد ، عن ابن إسحاق ، عن الزهري ، عن عبد الله بن عباس ، قال : خرج علي ع على الناس من عند رسول الله ص في مرضه ، فقال له الناس : كيف أصبح رسول الله ص يا أبا حسن ؟ قال : أصبح بحمد الله بارئا ، قال : فأخذ العباس بيد علي ، ثم قال : يا علي ، أنت عبد العصا بعد ثلاث ، أحلف لقد رأيت الموت في وجهه - وإني لاعرف الموت في وجوه بني عبد المطلب - فانطلق إلى رسول الله ص فاذكر له هذا الامر ، إن كان فينا أعلمنا ، وإن كان في غيرنا أوصى بنا ، فقال لا أفعل ، والله إن منعناه اليوم لا يؤتيناه الناس بعده .
قال : فتوفى رسول الله ذلك اليوم .
وقال أبو بكر : حدثني المغيرة بن محمد المهلبى من حفظه ، وعمر بن شبة من كتابه بإسناد رفعه إلى أبي سعيد الخدري ، قال : سمعت البراء بن عازب يقول : لم أزل لبني هاشم محبا ، فلما قبض رسول الله ص تخوفت أن تتمالا قريش على إخراج هذا الامر عن بنى هاشم ، فأخذني ما يأخذ الواله العجول .
ثم ذكر ما قد ذكرناه نحن في أول هذا الكتاب في شرح قوله ع : " أما والله لقد تقمصها فلان " وزاد فيه في هذه الرواية : فمكثت أكابد ما في نفسي ، فلما كان بليل ، خرجت إلى المسجد ، فلما صرت فيه تذكرت أني كنت أسمع همهمه رسول الله ص بالقرآن ، فامتنعت من مكاني ، فخرجت إلى الفضاء فضاء بني بياضة وأجد نفرا يتناجون ، فلما دنوت منهم سكتوا فانصرفت عنهم ، فعرفوني وما أعرفهم ، فدعوني إليهم ، فأتيتهم ، فأجد المقداد بن الاسود وعبادة بن الصامت ، وسلمان الفارسي ، وأبا ذر ، وحذيفة ، وأبا الهيثم بن التيهان ، وإذا حذيفة يقول لهم : والله ليكونن ما أخبرتكم(2/51)
به ، والله ما كذبت ولا كذبت ، وإذا القوم يريدون أن يعيدوا الامر شورى بين المهاجرين .
ثم قال : ائتوا أبي بن كعب ، فقد علم كما علمت .
قال : فانطلقنا إلى أبي فضربنا عليه بابه ، حتى صار خلف الباب ، فقال : من أنتم ؟ فكلمه المقداد ، فقال : ما حاجتكم ؟ فقال له : إفتح عليك بابك ، فإن الامر أعظم من أن يجري من وراء حجاب ، قال : ما أنا بفاتح بابي ، وقد عرفت ما جئتم له ، كأنكم أردتم النظر في هذا العقد .
فقلنا : نعم ، فقال : أفيكم حذيفة ؟ فقلنا : نعم ، قال ، فالقول ما قال ، وبالله ما أفتح (1) عني بابي حتى تجري على ما هي جارية ، ولما يكون بعدها شر منها ، وإلى الله المشتكى .
قال : وبلغ الخبر أبا بكر وعمر ، فأرسلا إلى أبي عبيدة والمغيرة بن شعبة ، فسألاهما عن الرأي ، فقال المغيرة : أن تلقوا العباس فتجعلوا له في هذا الامر نصيبا فيكون له ولعقبه فتقطعوا به من ناحية علي ، ويكون لكم حجة عند الناس على علي ، إذا مال معكم العباس .
فانطلقوا حتى دخلوا على العباس في الليلة الثانية من وفاة رسول الله ص .
ثم ذكر خطبة أبي بكر وكلام عمر وما أجابهما العباس به ، وقد ذكرناه فيما تقدم من هذا الكتاب في الجزء الاول .
وروى أبو بكر ، قال : أخبرنا أحمد بن إسحاق بن صالح ، قال : حدثنا عبد الله بن عمر ، عن حماد بن زيد ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد ، قال : لما توفي النبي ص إجتمعت الانصار إلى سعد بن عبادة ، فأتاهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ، فقال : الحباب
__________
(1) ب : " ما يفتح " .
(*)(2/52)
ابن المنذر : منا أمير ومنكم أمير ، إنا والله ما ننفس (1) هذا الامر عليكم أيها الرهط ، ولكنا نخاف أن يليه بعدكم من قتلنا أبناءهم وآباءهم وإخوانهم .
فقال عمر بن الخطاب : إذا كان ذلك قمت إن استطعت .
فتكلم أبو بكر فقال : نحن الامراء وأنتم الوزراء ، والامر بيننا نصفان كشق الابلمة (2) .
فبويع ، وكان أول من بايعه بشير بن سعد والد النعمان ابن بشير .
فلما إجتمع الناس على أبي بكر قسم قسما (3) بين نساء المهاجرين والانصار ، فبعث إلى إمرأة من بني عدي بن النجار قسمها مع زيد بن ثابت ، فقالت : ما هذا ؟ قال : قسم قسمه أبو بكر للنساء ، قالت : أتراشونني عن ديني ! والله لا أقبل منه شيئا ! فردته عليه .
قلت : قرأت هذا الخبر على أبي جعفر يحيى بن محمد العلوي الحسيني المعروف بإبن أبي زيد نقيب البصرة رحمه الله تعالى في سنة عشر وستمائة من كتاب السقيفة لاحمد ابن عبد العزيز الجوهري ، قال : لقد صدقت فراسة الحباب ، فإن الذي خافه وقع يوم الحرة ، وأخذ من الانصار ثأر المشركين يوم بدر .
ثم قال لي رحمه الله تعالى : ومن هذا خاف أيضا رسول الله ص على ذريته وأهله ، فإنه كان ع قد وتر الناس ، وعلم أنه إن مات وترك إبنته وولدها سوقة ورعية تحت أيدي الولاة ، كانوا بعرض خطر عظيم فما زال يقرر لابن عمه قاعدة الامر بعده ، حفظا لدمه ودماء أهل بيته ، فإنهم إذا كانوا ولاة الامر كانت دماؤهم أقرب إلى الصيانة والعصمة ، مما إذا كانوا سوقة تحت يد وال من غيرهم ، فلم يساعده القضاء والقدر ، وكان من الامر ما كان .
ثم أفضى أمر ذريته فيما بعد إلى ما قد علمت .
__________
(1) ننفس : نحسد .
(2) في اللسان : (14 : 320) وفي حديث السقيفة : " الامر بيننا وبينكم كقد الابلمة " والابلمة بضم الهمزة واللام وفتحهما وكسرهما : خوصة المقل ، وهمزتها زائدة ، يقول : نحن وإياكم في الحكم سواء ، لا فضل لامير على مأمور ، كالخوصة إذا شقت إثنتين متساويتين .
(3) القسم هنا : العطاء .
(*)(2/53)
قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز : حدثني يعقوب بن شيبة باسناد رفعه إلى طلحة إبن مصرف قال : قلت لهذيل بن شرحبيل : إن الناس يقولون : إن رسول الله ص أوصى إلى علي ع فقال : أبو بكر يتأمر على وصى رسول الله ص ! ود أبو بكر أنه وجد من رسول الله ص عهدا فخزم أنفه .
قلت : هذا الحديث قد خرجه الشيخان : محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج القشيري في صحيحيهما عن طلحة بن مصرف قال : سألت عبد الله بن أبي أوفى : أوصى (1) رسول الله ص ؟ قال : لا قلت : فكيف كتب على المسلمين الوصيه (2) ؟ أو كيف أمر بالوصية ولم يوص (3) ؟ قال أوصى بكتاب الله (4) .
قال طلحة : ثم قال : أبن أوفى : ما كان أبو بكر يتأمر على وصي رسول الله ص ود أبو بكر : أنه وجد من رسول الله ص عهدا فخزم أنفه بخزامة .
وروى الشيخان في الصحيحين عن عائشة أنه ذكر عندها أن رسول الله ص أوصى قالت : ومتى أوصى ؟ ومن يقول ذلك ؟ قيل : إنهم يقولون قالت : من يقوله ؟ لقد دعا بطست ليبول وانه بين سحري ونحري فانخنث (5) في صدري فمات وما شعرت (6) .
وفي الصحيحين أيضا خرجاه معا عن ابن عباس أنه كان يقول : يوم الخميس وما يوم الخميس ! ثم بكى حتى بل دمعه الحصى فقلنا : يا بن عباس وما يوم الخميس ؟
__________
(1) لفظ مسلم : " هل أوصى ؟ " .
(2) لفظ مسلم : " فلم كتب على المسلمين الوصية ؟ " .
(3) لفظ مسلم : " أو فلم أمر بالوصية ؟ " .
(4) صحيح مسلم 3 : 1256 .
(5) إنخنث : مال وسقط .
(6) لفظ مسلم 3 : 1257 بسنده عن الاسود بن يزيد : " ذكروا عند عائشة أن عليا كان وصيا فقالت : متى أوصى إليه ؟ فقد كنت مسندته إلى صدري - أو قالت حجري - فدعا بالطست فلقد إنخنث في حجري وما شعرت أنه مات فمتى أوصى إليه ؟ " .
(*)(2/54)
قال : إشتد برسول الله ص وجعه فقال : إئتوني بكتاب أكتبه لكم (1) لا تضلوا بعدى أبدا .
فتنازعوا فقال : إنه لا ينبغي عندي تنازع فقال قائل : ما شأنه ؟ أهجر ؟ إستفهموه .
فذهبوا يعيدون عليه فقال : دعوني والذى إنا فيه خير من الذى أنتم فيه ثم أمر بثلاثة أشياء فقال : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم .
وسئل ابن عباس عن الثالثة فقال : إما ألا يكون تكلم بها وإما أن يكون قالها فنسيت (2) .
وفي الصحيحين أيضا خرجاه معا عن ابن عباس رحمه الله تعالى قال : لما إحتضر (3) رسول الله ص وفي البيت رجال منهم عمر بن الخطاب قال النبي ص : هلم أكتب لكم كتابا لا تضلون بعده فقال عمر : إن رسول الله ص : قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله .
فاختلف القوم وإختصموا فمنهم من يقول : قربوا إليه يكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ومنهم من يقول : القول ما قاله عمر فلما أكثروا اللغو والاختلاف عنده ع قال لهم : قوموا فقاموا فكان ابن عباس يقول : إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله ص وبين أن يكتب لكم (4) ذلك الكتاب (5) .
قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهرى : وحدثني أحمد بن إسحاق بن صالح قال : حدثنى عبد الله بن عمر بن معاذ عن إبن عون قال : حدثني رجل من زريق
__________
(1) لفظ مسلم : " إئتوني أكتب لكم كتابا " .
(2) لفظ مسلم : " قال : وسكت عن الثالثة أو قال : " فأنسيتها " والحديث قي صحيحه 3 : 1257 - 1258 .
(3) لفظ مسلم : " حضر " وهما بمعنى حضره الموت .
(4) لفظ مسلم : " لهم " .
(5) صحيح مسلم 3 : 1259 .
(*)(2/55)
أن عمر كان يومئذ - قال : يعني يوم بويع أبو بكر - محتجزا (1) يهرول بين يدي أبي بكر ويقول : ألا إن الناس قد بايعوا أبا بكر قال : فجاء أبو بكر حتى جلس على منبر رسول الله ص فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد فإني وليتكم ولست بخيركم ولكنه نزل القرآن وسنت السنن وعلمنا فتعلمنا أن اكيس الكيس التقى وأحمق الحمق الفجور وأن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بالحق وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق .
أيها الناس إنما أنا متبع ولست بمبتدع إذا أحسنت فأعينوني وإذا زغت فقوموني .
قال أبو بكر : وحدثني أبو زيد عمر بن شبة قال : حدثنا أحمد بن معاوية قال : حدثنى النضر بن شميل قال : حدثنا محمد بن عمرو عن سلمة بن عبد الرحمن قال : لما جلس أبو بكر على المنبر كان علي ع والزبير وناس من بني هاشم في بيت فاطمة فجاء عمر إليهم فقال : ولذي نفسي بيده لتخرجن إلى البيعة أو لاحرقن البيت عليكم ! فخرج الزبير مصلتا سيفه فاعتنقه رجل من الانصار وزياد بن لبيد فدق به فبدر السيف فصاح به أبو بكر وهو على المنبر : إضرب به الحجر قال أبو عمرو بن حماس : فلقد رأيت الحجر فيه تلك الضربة ويقال : هذه ضربة سيف الزبير .
ثم قال أبو بكر : دعوهم فسيأتي الله بهم قال : فخرجوا إليه بعد ذلك فبايعوه .
قال أبو بكر : وقد روي في رواية أخرى أن سعد بن أبي وقاص كان معهم في بيت فاطمة ع والمقداد بن الاسود أيضا وأنهم إجتمعوا على أن يبايعوا عليا ع فأتاهم عمر ليحرق عليهم البيت فخرج إليه الزبير بالسيف وخرجت فاطمة ع تبكي وتصيح فنهنهت من الناس وقالوا : ليس عندنا معصية ولا خلاف في خير إجتمع عليه الناس وإنما إجتمعنا لنؤلف القرآن في مصحف واحد .
ثم بايعوا أبا بكر فاستمر الامر واطمأن الناس .
__________
(1) يقال : إحتجز بالازار إذا شده على وسطه .
(*)(2/56)
قال أبو بكر : وحدثنا أبو زيد عمر بن شبة قال : أخبرنا أبو بكر الباهلي قال : حدثنا إسماعيل بن مجالد عن الشعبي قال : سأل أبو بكر فقال : أين الزبير ؟ فقيل : عند علي وقد تقلد سيفه فقال : فقم يا عمر قم يا خالد بن الوليد إنطلقا حتى تأتياني بهما فإنطلقا فدخل عمر وقام خالد على باب البيت من خارج فقال عمر للزبير : ما هذا السيف ؟ فقال : نبايع عليا فإخترطه عمر فضرب به حجرا فكسره ثم اخذ بيد الزبير فأقامه ثم دفعه وقال : يا خالد دونكه فأمسكه ثم قال لعلي : قم فبايع لابي بكر فتلكأ وإحتبس فأخذ بيده وقال : قم فأبى أن يقوم ، فحمله ودفعه كما دفع الزبير ، فأخرجه ، ورأت فاطمة ما صنع بهما ، فقامت على باب الحجرة ، وقالت : يا أبا بكر ، ما أسرع ما أغرتم على أهل بيت رسول الله ! والله لا أكلم عمر حتى القى الله .
قال : فمشى إليها أبو بكر بعد ذلك وشفع لعمر ، وطلب إليها فرضيت عنه .
قال أبو بكر : وحدثنا أبو زيد ، قال : حدثنا محمد بن حاتم ، قال : حدثنا الحرامي قال : حدثنا الحسين بن زيد ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن إبن عباس ، قال : مر عمر بعلي وعنده إبن عباس بفناء داره ، فسلم فسألاه : أين تريد ؟ فقال : ما لي بينبع ، قال علي : أفلا نصل جناحك ونقوم معك ؟ فقال : بلى ، فقال لابن عباس : قم معه ، قال : فشبك : أصابعه في أصابعي ، ومضى حتى إذا خلفنا البقيع ، قال : يابن عباس أما والله .
أن كان صاحبك هذا أولى الناس بالامر بعد وفاة رسول الله إلا أنا خفناه على إثنتين .
قال إبن عباس : فجاء بمنطق لم أجد بدا معه من مسالته عنه ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، ما هما ؟ قال : خشيناه على حداثه سنه وحبه بني عبد المطلب .
قال أبو بكر : وحدثني أبو زيد ، قال : حدثنا هارون بن عمر ، بإسناد رفعه إلى إبن عباس رحمه الله تعالى ، قال : تفرق الناس ليلة الجابية (1) عن عمر ، فسار
__________
(1) الجابية : قرية من اعمال دمشق ، ذكر ياقوت أن عمر خطب فيه خطبته المشهورة .
(*)(2/57)
كل واحد مع إلفه ، ثم صادفت عمر تلك الليلة في مسيرنا ، فحادثته ، فشكى إلي تخلف علي عنه .
فقلت : ألم يعتذر إليك ؟ قال : بلى ، فقلت : هو ما اعتذر به ، قال : يابن عباس ، إن أول من ريثكم عن هذا الامر أبو بكر ، إن قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة والنبوة ، قلت : لم ذاك يا أمير المؤمنين ؟ ألم ننلهم خيرا ؟ قال : بلى ، ولكنهم لو فعلوا لكنتم عليهم جحفا جحفا (1) .
قال أبو بكر : وأخبرنا أبو زيد ، قال : حدثنا عبد العزيز بن الخطاب ، قال : حدثنا علي بن هشام ، مرفوعا إلى عاصم بن عمرو بن قتادة ، قال : لقي علي ع عمر ، فقال له علي ع : أنشدك الله ! هل أستخلفك رسول الله ص ؟ قال : لا ، قال : فكيف تصنع أنت وصاحبك ؟ قال : أما صاحبي فقد مضى لسبيله ، وأما أنا فساخلعها من عنقي إلى عنقك ، فقال : جدع الله أنف من ينقذك منها ! لا ولكن جعلني الله علما ، فإذا قمت فمن خالفني ضل .
قال أبو بكر : وأخبرنا أبو زيد ، عن هارون بن عمر ، عن محمد بن سعيد بن الفضل عن أبيه ، عن الحارث بن كعب ، عن عبد الله بن أبي أوفى الخزاعي ، قال : كان خالد إبن سعيد بن العاص من عمال رسول الله ص على اليمن ، فلما قبض رسول الله ص جاء المدينة ، وقد بايع الناس أبا بكر ، فإحتبس عن أبي بكر فلم يبايعه أياما ، وقد بايع الناس ، وأتى بني هاشم ، فقال : أنتم الظهر والبطن والشعار دون الدثار (2) ، والعصا دون اللحا (3) ، فإذا رضيتم رضينا ، وإذا أسخطتم سخطنا .
حدثوني إن كنتم قد بايعتم هذا الرجل ! قالوا : نعم ، قال :
__________
(1) جحفا ، جحفا ، أي فخرا فخرا وشرفا شرفا .
النهاية لابن الاثير 1 : 145 .
(2) الشعار : ما يلي شعر الجسد ، وهو تحت الدثار .
(3) اللحاء : ما على العصا من قشرها ، يمد ويقصر ، وفي خطبة الحجاج : لالحونكم لحو العصا .
(*)(2/58)
فأنا أرضى وأبايع إذا بايعتم .
أما والله يا بني هاشم ، إنكم الطوال الشجر الطيبو الثمر .
ثم إنه بايع أبا بكر ، وبلغت أبا بكر فلم يحفل بها ، وإضطغنها عليه عمر ، فلما ولاه أبو بكر الجند الذي استنفر إلى الشام قال له عمر : أتولى خالدا وقد حبس عليك بيعته ، وقال لبني هاشم ما قال ! وقد جاء بورق من اليمن وعبيد وحبشان ودروع ورماح ! ما أرى أن توليه ، وما آمن خلافه فانصرف عنه أبو بكر ، وولى أبا عبيدة بن الجراح ، ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنه .
واعلم أن الآثار والاخبار في هذا الباب كثيرة جدا ، ومن تأملها وأنصف ، علم أنه لم يكن هناك نص صريح ومقطوع به لا تختلجه الشكوك ولا تتطرق إليه الاحتمالات ، كما تزعم الامامية فإنهم يقولون إن الرسول ص نص على أمير المؤمنين ع نصا صريحا جليا ليس بنص يوم (1) الغدير ، ولا خبر المنزلة (2) ، ولا ما شابههما من الاخبار الواردة من طرق العامة وغيرها ، بل نص عليه بالخلافة وبإمرة المؤمنين ، وأمر المسلمين أن يسلموا عليه بذلك ، فسلموا عليه بها ، وصرح لهم في كثير من المقامات بأنه خليفه عليهم من بعده ، وأمرهم بالسمع والطاعة له .
ولا ريب أن المنصف إذا سمع ما جرى لهم بعد وفاة رسول الله ص ، يعلم قطعا أنه لم يكن هذا النص ، ولكن قد سبق إلى النفوس والعقول أنه قد كان هناك تعريض وتلويح ، وكناية وقول غير صريح ، وحكم غير مبتوت ، ولعله ص كان يصده عن التصريح بذلك أمر يعلمه ، ومصلحة يراعيها ، أو وقوف ، مع إذن الله تعالى في ذلك .
فأما إمتناع على ع من البيعة حتى أخرج على الوجه الذى اخرج عليه فقد
__________
(1) هو غدير خم ، موضع بين مكة والمدينة ، نقل المحب الطبري في الرياض النضرة (2 : 169) أن الرسول ع قال يوم غدير خم : " من كنت مولاه فعلي مولاه " .
(2) يشير إلى حديث : " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " .
(*)(2/59)
ذكره المحدثون ورواه أهل السير .
وقد ذكرنا ما قاله الجوهري في هذا الباب ، وهو من رجال الحديث ومن الثقات المأمونين ، وقد ذكر غيره من هذا النحو ما لا يحصى كثرة .
فأما الامور الشنيعة المستهجنة التي تذكرها الشيعة من إرسال قنفذ إلى بيت فاطمة ع ، وإنه ضربها بالسوط فصار في عضدها كالدملج وبقي أثره إلى أن ماتت ، وأن عمر أضغطها بين الباب والجدار ، فصاحت : يا أبتاه يا رسول الله ! وألقت جنينا ميتا ، وجعل في عنق على ع حبل يقاد به وهو يعتل ، وفاطمة خلفه تصرخ ونادى بالويل والثبور ، وإبناه حسن وحسين معهما يبكيان .
وأن عليا لما أحضر سلموه البيعة فامتنع ، فتهدد بالقتل ، فقال : إذن تقتلون عبد الله وأخا رسول الله ! فقالوا : أما عبد الله فنعم ! وأما أخو رسول الله فلا .
وأنه طعن فيهم في أوجههم بالنفاق ، وسطر صحيفة الغدر التي إجتمعوا عليها ، وبأنهم أرادوا أن ينفروا ناقة رسول الله ص ليلة العقبة ، فكله لا أصل له عند أصحابنا ، ولا يثبته أحد منهم ، ولا رواه أهل الحديث ، ولا يعرفونه ، وإنما هو شئ تنفرد الشيعة بنقله .
* الاصل : ومنها : ولم يبايع حتى شرط ان يؤتيه على البيعة ثمنا ، فلا ظفرت يد البائع .
وخزيت أمانة المبتاع ! فخذوا للحرب أهبتها ، وأعدوا لها عدتها ، فقد شب لظاها ، وعلا سناها .
واستشعروا الصبر ، فإنه أدعى إلى النص .
* الشرح : هذا فصل من كلام يذكر فيه ع عمرو بن العاص .
وقوله : " فلا ظفرت يد البائع " ، يعني معاوية .
وقوله : " وخزيت أمانة المبتاع " ، يعني عمرا ، وخزيت ، أي(2/60)
خسرت وهانت .
وفي أكثر النسخ " فلا ظفرت يد ا لمبايع " ، وبميم المفاعلة ، والظاهر ما رويناه .
وفي بعض النسخ " فإنه أحزم للنصر " ، من حزمت الشئ إذا شددته ، كأنه يشد النصر ويوثقه .
والرواية التي ذكرناها احسن .
والاهبة : العدة .
وشب لظاها استعارة ، وأصله صعود طرف النار الاعلى .
والسنا بالقصر : الضوء .
وإستشعروا الصبر : إتخذوه شعارا ، والشعار : ما يلي الجسد من الثياب ، وهو ألزم الثياب للجسد ، يقول : لازموا الصبر كما يلزم الانسان ثوبه الذي يلي جلده لا بد له منه ، وقد يستغنى عن غيره من الثياب .
(أمر عمرو بن العاص) لما نزل علي ع الكوفة بعد فراغه من أمر البصرة ، كتب إلى معاوية كتابا يدعوه إلى البيعة ، أرسل فيه جرير بن عبد الله البجلي .
فقدم عليه به الشام .
فقرأه واغتم بما فيه ، وذهبت به أفكاره كل مذهب ، وطاول جريرا بالجواب عن الكتاب ، حتى كلم قوما من اهل الشام في الطلب بدم عثمان ، فأجابوه ووثقوا له ، وأحب الزيادة في الاستظهار فاستشار بأخيه عتبة بن أبي سفيان ، فقال له : إستعن بعمرو بن العاص ، فإنه من قد علمت في دهائه ورأيه ، وقد إعتزل عثمان في حياته ، وهو لامرك أشد إعتزالا ، ألا أن يثمن له دينه فسيبيعك ، فإنه صاحب دنيا .
فكتب إليه معاوية : أما بعد فإنه كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك ، وقد سقط إلينا مروان بن الحكم في نفر من (1) أهل البصره ، وقدم علينا جرير بن عبد الله في بيعة علي ، و قد حبست نفسي عليك ، (2) فأقبل أذاكرك أمورا لا تعدم صلاح مغبتها ، إن شاء الله (3)
__________
(1) في كتاب صفين : " في رافضة أهل البصرة " .
(2 - 3) في صفين : " حتى تأتيني ، أقبل إذاكرك أمرا " .
(*)(2/61)
فلما قدم الكتاب على عمرو إستشار إبنيه : عبد الله بن عمرو ، ومحمد بن عمرو ، فقال لهما : ما تريان ؟ فقال عبد الله : أرى أن رسول الله ص قبض وهو عنك راض ، والخليفتان من بعده ، وقتل عثمان وانت عنه غائب ، فقر في منزلك ، فلست مجعولا خليفة ، ولا تزيد على (1) أن تكون حاشية لمعاوية على دنيا قليله أوشكتما أن تهلكا ، فتستويا (2) في عقابها .
وقال محمد : أرى أنك شيخ قريش ، وصاحب أمرها ، وإن تصرم هذا الامر وأنت فيه غافل (3) ، تصاغر أمرك ، فالحق بجماعة أهل الشام ، وكن يدا من أيديها ، طالبا بدم عثمان ، فإنه سيقوم بذلك بنو أمية (4) .
فقال عمرو : أما انت يا عبد الله ، فأمرتني بما هو خير لي في ديني ، وأنت يا محمد فأمرتني بما هو خير لي في دنياي ، وأنا ناظر ، فلما جنه الليل رفع صوته وأهله يسمعون (5) ، فقال : تطاول ليلي بالهموم الطوارق * وخوف التي تجلو وجوه العوائق (6) وإن ابن هند سألني أن أزوره * وتلك التى فيها بنات البوائق (7) أتاه جرير من علي بخطة * أمرت عليه العيش ذات مضائق فإن نال مني ما يؤمل رده * وإن لم ينله ذل ذل المطابق (8) فو الله ما أدري وما كنت هكذا * أكون ومهما قادني فهو سابقي أخادعه إن الخداع دنية * أم أعطيه من نفسي نصيحة وامق
__________
(1) في كتاب صفسين والامامة والسياسة 158 : " ولا تريد أن تكون " .
(2) كذا في أ ، والامامة والسياسة ، وفي ب : " فتسويا " ، وفي كتاب صفين " أوشك أن تهلك فتشقى فيها " .
(3) في صفين والامامة والسياسة : " غافل " (4) في الامامة والسياسة : " فإنك به تستميل بني أمية " .
(5) كتاب صفين : " ينظرون " .
(6) في صفين : " وخول التي تجلو " ، والعوائق : جمع عائق ، وهي الشابة .
(7) البوائق : جمع بائقة ، وهي الداهية ، وفي صفين : " سائلي أن أزوره " .
(8) المطابقة : المشي في الفيد .
(*)(2/62)
أم أقعد في بيتي وفي ذاك راحة * لشيخ يخاف الموت في كل شارق (1) وقد قال عبد الله قولا تعلقت * به النفس إن لم تقتطعني عوائقي (2) وخالفه فيه أخوه محمد * وإني لصلب العود عند الحقائق (3) فقال عبد الله : رحل الشيخ (4) .
ودعا عمرو غلامه وردان ، وكان داهيا ماردا ، فقال : إرحل يا وردان ، ثم قال : أحطط يا وردان ثم قال : إرحل يا وردان .
أحطط يا وردان .
فقال له وردان : خلطت أبا عبد الله ! أما إنك إن شئت أنباتك بما في قلبك ، قال : هات ويحك ! قال : إعتركت الدنيا والاخره على قلبك ، فقلت : علي معه الاخرة في غير دنيا ، وفي الاخرة عوض من الدنيا ، ومعاوية معه الدنيا بغير آخرة ، وليس في الدنيا عوض من الاخرة ، وأنت (5) واقف بينهما ، قال : قاتلك الله ! ما أخطات ما في قلبي ، فما ترى يا وردان ؟ قال : أرى أن تقيم في بيتك ، فإن ظهر أهل الدين عشت في عفو (6) دينهم ، وإن ظهر أهل الدنيا لم يستغنوا عنك .
قال : الآن لما أشهرت العرب سيري إلى معاوية (7) ! فارتحل وهو يقول : يا قاتل الله وردانا وقدحته * أبدى لعمرك ما في النفس وردان (8) لما تعرضت الدنيا عرضت لها * بحرص نفسي وفي الاطباع إدهان نفس تعف وأخرى الحرص يغلبها * والمرء يأكل تبنا وهو غرثان أما علي فدين ليس يشركه * دنيا وذاك له دنيا وسلطان
__________
(1) في صفين : " أو أقعد " .
(2) في صفين : " إن لم يعتقلني " .
(3) الحقائق : ما يجب على المرء حمايته من عرض أو مال .
(4) في صفين : " ترحل " .
(5) في صفين : " فأنت " .
(6) عفو دينهم ، أي فضل دينهم .
(7) في الامامة والسياسة : " الآن حين شهرتني العرب بمسيري إلى معاوية " .
(8) في صفين : " ومزحته " .
(*)(2/63)
فاخترت من طمعي دنيا على بصر * وما معي بالذي أختار برهان إني لاعرف ما فيها وأبصره * وفي أيضا لما أهواه الوان لكن نفسي تحب العيش في شرف * وليس يرضى بذل العيش انسان فسار حتى قدم على معاوية ، وعرف حاجة معاوية إليه ، فباعده من نفسه ، وكايد كل واحد منهما صاحبه .
فقال له معاوية يوم دخل عليه : أبا عبد الله ، طرقتنا في ليلتنا ثلاثه أخبار ليس فيها ورد ولا صدر ، قال : وما ذاك ؟ قال : منها أن محمد بن أبي حذيفة كسر سجن مصر فخرج هو وأصحابه ، وهو من آفات هذا الدين .
ومنها أن قيصر زحف بجماعة الروم ليغلب على الشام .
ومنها أن عليا نزل الكوفه ، وتهيا للمسير الينا .
فقال عمرو : ليس كل ما ذكرت عظيما ، أما إبن أبي حذيفة ، فما يتعاظمك من رجل خرج في أشباهه أن تبعث إليه رجلا يقتله أو يأتيك به ، وإن قاتل لم يضرك (1) .
وأما قيصر فأهد له الوصائف وآنيه الذهب والفضة ، وسله الموادعة فإنه إليها سريع .
وأما علي فلا والله يا معاوية ، ما يسوي العرب (2) بينك وبينه في شئ من الاشياء ، وإن له في الحرب لحظا ما هو لاحد من قريش ، وإنه لصاحب ما هو فيه إلا أن تظلمه .
هكذا في رواية نصر بن مزاحم عن محمد بن عبيد الله (3) .
وروى نصر (4) أيضا عن عمر بن سعد قال : قال : معاوية لعمرو : يا أبا عبد الله ، إني أدعوك إلى جهاد هذا الرجل الذي عصى الله وشق عصا المسلمين ، وقتل الخليفة وأظهر الفتنة ، وفرق
__________
(1) في وقعة صفين : " وإن فاتك لا يضرك " وفي الامامة والسياسة : " وإن يقتل فلا يضرك " .
(2) كذا في أ ، وصفين ، وفي ب : " ما يسوي العرب " .
(3) وقعة صفين 39 - 40 ، وفي ب : " عبد الله " ، وصوابه من أ .
(4) وقعة صفين 42 - 52 .
(*)(2/64)
الجماعة وقطع الرحم ، فقال عمرو : من هو ؟ قال : علي قال : والله يا معاوية ما أنت وعلي بحملي (1) بعير ، ليس لك (2) هجرته ولا سابقته ، ولا صحبته ولا جهاده ، ولا فقهه ولا علمه .
(3) ووالله إن له مع ذلك لحظا في الحرب ليس لاحد غيره ، ولكني قد تعودت من الله تعالى إحسانا وبلاء جميلا (3) ، فما تجعل لي إن شايعتك على حربه ، وأنت تعلم ما فيه من الغرر والخطر ؟ قال : حكمك ، فقال : مصر طعمة .
فتلكأ عليه معاوية .
قال نصر : وفي حديث غير عمر بن سعد : فقال له معاوية : يا أبا عبد الله ، إني أكره لك أن تتحدث العرب عنك أنك إنما دخلت في هذا الامر لغرض الدنيا ، قال عمرو : دعني عنك ، فقال معاوية : إني لو شئت أن أمنيك وأخدعك لفعلت ، قال عمرو : لا ، لعمر الله ما مثلي يخدع ، لانا (4) أكيس من ذلك ، قال معاوية : أدن مني أسارك ، فدنا منه عمرو ليساره ، فعض معاوية أذنه ، وقال : هذه خدعة ! هل ترى في البيت أحدا ليس غيري وغيرك ! قلت : قال شيخنا أبو القاسم البلخي رحمه الله تعالى : قول عمرو له : " دعني عنك " كناية عن الالحاد ، بل تصريح به ، أي دع هذا الكلام لا أصل له ، فإن إعتقاد الآخرة .
أنها لا تباع بعرض الدنيا من الخرافات .
وقال رحمه الله تعالى : وما زال عمرو بن العاص ملحدا ، ما تردد قط في الالحاد والزندقة ، وكان معاوية مثله ، ويكفي من تلاعبهما بالاسلام حديث السرار المروي ، وأن معاوية عض أذن عمرو ، أين هذا من سيرة عمرو ؟ وأين هذا من أخلاق علي ع ، وشدته في ذات الله ، وهما مع ذلك يعيبانه بالدعابة !
__________
(1) في كتاب صفين : " بعكمي بعير " ، والعكمان : عدلان يشدان على جانبي الهودج .
(2) في صفين : " مالك هجرته " .
(3 - 3) وقعة صفين : " والله إن له مع ذلك حدا وجدا ، وحظا وحظوة ، وبلاء من الله حسنا " .
(4) كذا في ب ، ج ، وفي أ : " لاني " .
(*)(2/65)
قال نصر فأنشأ عمرو يقول : معاوي لا أعطيك ديني ولم أنل * به منك دنيا فانظرن كيف تصنع فإن تعطني مصرا فأربح بصفقة * أخذت بها شيخا يضر وينفع (1) وما الدين والدنيا سواء وإنني * لآخذ ما تعطي ورأسي مقنع ولكنني أغضي الجفون وإنني * لاخدع نفسي ، والمخادع يخدع وأعطيك أمرا فيه للملك قوة * وألفي به إن زلت النعل أصرع (2) وتمنعني مصرا وليست برغبة * وإني بذا الممنوع قدما لمولع .
قال شيخنا أبو عثمان الجاحظ : كانت مصر في نفس عمرو بن العاص ، لانه هو الذي فتحها في سنة تسع عشرة من الهجرة في خلافة عمر ، فكان لعظمها في نفسه وجلالتها في صدره ، وما قد عرفه من اموالها وسعة الدنيا ، لا يستعظم أن يجعلها ثمنا من دينه ، وهذا معنى قوله : * وإني بذا الممنوع قدما لمولع * قال نصر : فقال له معاوية : يا أبا عبد الله ، أما تعلم أن مصر مثل العراق ! قال : بلى ، ولكنها إنما تكون لي إذا كانت لك ، وإنما تكون لك إذا غلبت عليا على العراق .
قال : وقد كان أهل مصر بعثوا بطاعتهم إلى على ع .
فلما حضر عتبة بن أبي سفيان قال لمعاوية : أما ترضى أن تشتري عمرا بمصر (هامش) * (1) هذا البيت ورد في كتاب صفين ، ولم يرد في الاصول .
(2) في كتاب صفين : * وإني به إن زلت النعل أضرع * (*)(2/66)
إن هي صفت لك ! ليتك لا تغلب على الشام .
فقال معاوية : يا عتبة ، بت عندنا الليلة ، فلما جن الليل على عتبة رفع صوته ليسمع معاوية وقال : أيها المانع سيفا لم يهز * إنما ملت على خز وقز إنما أنت خروف ماثل * بين ضرعين وصوف لم يجز أعط عمرا إن عمرا تارك * دينه اليوم لدنيا لم تحز يا لك الخير فخذ من دره * شخبه الاول وابعد ما غرز واسحب الذيل وبادر فوقها (1) * وإنتهزها إن عمرا ينتهز أعطه مصرا وزده مثلها * إنما مصر لمن عز فبز واترك الحرص عليها ضلة * واشبب النار لمقرور يكز (2) إن مصرا لعلي أو لنا * يغلب اليوم عليها من عجز قال : فلما سمع معاوية قول عتبة ، أرسل إلى عمرو فأعطاه مصر ، فقال عمرو : لي الله عليك بذلك شاهد ! قال : نعم ، لك الله علي بذلك إن فتح الله علينا الكوفة ، فقال عمرو : " والله على ما نقول وكيل " (3) .
فخرج عمرو من عنده ، فقال له إبناه : ما صنعت ؟ قال : أعطانا مصر طعمة ، قالا : وما مصر في ملك العرب ! قال : لا أشبع الله بطونكما إن لم تشبعكما (مصر) (4) .
قال : (5) وكتب معاوية له بمصر كتابه ، وكتب (5) : " على الا ينقض شرط طاعة " ، فكتب عمرو : " على الا تنقض طاعة شرطا " فكايد كل واحد منهما صاحبه .
قلت : قد ذكر هذا اللفظ على ألا تنقض طاعة شرطا " .
فكايد كل واحد منهما صاحبه .
قلت : قد ذكر هذا اللفظ أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتابه " الكامل "
__________
(1) الفوق هنا : الطريق الاول .
(2) الكزاز : داء يأخذ من شدة البرد ، وتعتري منه رعدة .
(3) سورة القصص 28 .
(4) من كتاب وقعة صفين .
(5 - 5) في كتاب وقعة صفين : " قأعطاه إياها ، وكتب له كتابا ، وكتب معاوية " .
(*)(2/67)
ولم يفسره (1) ، وتفسيره أن معاوية قال للكاتب : " أكتب على ألا ينقض شرط طاعة " يريد أخذ إقرار عمرو له أنه قد بايعه على الطاعة بيعة مطلقة غير مشروطة بشئ ، وهذه مكايدة له لانه لو كتب ذلك لكان لمعاوية أن يرجع في إعطائه مصر ولم يكن لعمرو أن يرجع عن طاعته ، ويحتج عليه برجوعه عن إعطائه مصر ، لان مقتضى المشارطة المذكورة أن طاعة معاوية واجبة عليه مطلقا سواء أكانت مصر مسلمة إليه أم لا .
فلما إنتبه عمرو إلى هذه المكيده منع الكاتب من أن يكتب ذلك ، وقال : بل أكتب : " على ألا تنقض طاعة شرطا " يريد أخذ إقرار معاوية له بأنه إذا كان أطاعه لا تنقض طاعته إياه ما شارطه عليه من تسليم مصر إليه .
وهذا أيضا مكايدة من عمرو لمعاوية ومنع له من أن يغدر بما اعطاه من مصر .
قال نصر : وكان لعمرو بن العاص إبن عم من بني سهم ، أريب (2) ، فلما جاء عمرو بالكتاب مسرورا عجب الفتى وقال : ألا تخبرني يا عمرو بأي رأي تعيش في قريش ! أعطيت دينك وتمنيت دنيا غيرك ! أترى أهل مصر - وهم قتلة عثمان - يدفعونها إلى معاوية وعلي حي ! وأتراها إن صارت لمعاوية لا ياخذها بالحرف الذي قدمة في الكتاب ؟ فقال عمرو : يا بن أخي إن الامر لله دون علي ومعاوية ، فقال الفتى : ألا يا هند أخت بني زياد * * رمي عمرو بداهية البلاد (3) رمي عمرو بأعور عبشمي * * بعيد القعر مخشي الكياد (4) له خدع يحار العقل منها * * مزخرفة صوائد للفؤاد فشرط في الكتاب عليه حرفا * * يناديه بخدعته المنادي
__________
(1) الكامل 3 : 210 - بشرح المرصفي .
(2) في كتاب صفين : " وكان مع عمرو إبن عم له ، فتى شاب ، وكان داهية حليما " ، وفي كتاب الامامة والسياسة 160 " وكان مع عمرو بن العاص إبن أخ له جاءه من مصر " .
وهو ما يناسب ما يجئ بعد .
(3) كتاب صفين : " دهى عمرو " .
(4) يريد أنه يخشى كيده .
(*)(2/68)
وأثبت مثله عمرو عليه * * كلا المرإين حية بطن وادي ألا يا عمرو ما احرزت مصرا * * ولا ملت الغداه إلى الرشاد أ بعت الدين بالدنيا خسارا * * فأنت بذاك من شر العباد فلو كنت الغداة أخذت مصرا * * ولكن دونها خرط القتاد وفدت إلى معاوية بن حرب * * فكنت بها كوافد قوم عاد وأعطيت الذي أعطيت منها * * بطرس فيه نضح من مداد أ لم تعرف أبا حسن عليا * * وما نالت يداه من الاعادي عدلت به معاوية بن حرب * * فيا بعد البياض من السواد ! ويا بعد الاصابع من سهيل * * ويا بعد الصلاح من الفساد ! أ تأمن أن تدال على خدب * * يحث الخيل بالاسل الحداد (1) ينادي بالنزال وأنت منه قريب فانظرن من ذا تعادي فقال عمرو : يا بن أخي لو كنت عند علي لوسعني ولكني الآن عند معاوية (2) .
قال الفتى : إنك لو لم ترد معاوية لم يردك ، ولكنك تريد دنياه وهو يريد دينك .
وبلغ معاوية قول الفتى فطلبه فهرب فلحق بعلي ع فحدثه أمره فسر به وقربه .
قال : وغضب مروان وقال ما بالى لا أشترى (كما اشتري عمرو) (3) ؟ فقال معاوية : إنما يشترى الرجال لك .
فلما بلغ عليا ع ما صنع معاوية قال : يا عجبا لقد سمعت منكرا * * كذبا على الله يشيب الشعرا يسترق السمع ويعشي البصرا * * ما كان يرضى أحمد لو أخبرا (4)
__________
(1) الخدب : الضخم .
وتناء : ترفع .
(2) كذا في ج وكتاب صفين وفي أ ، ب : " ولكني الآن عنده " .
(3) تكملة من كتاب صفين .
(4) صفين : " لو خبرا " .
(*)(2/69)
أن يقرنوا وصيه والابترا * * شاني الرسول واللعين الا خزرا (1) كلاهما في جنده قد عسكرا * * قد باع هذا دينه فأفجرا من ذا بدنيا بيعه قد خسرا * * بملك مصر أن أصاب الظفرا ! إني إذا الموت دنا وحضرا * * شمرت ثوبي ودعوت قنبرا (2) قدم لوائي لا تؤخر حذرا * * لا يدفع الحذار ما قد قدرا لما رأيت الموت موتا أحمرا * * عبأت همدان وعبوا حميرا حي يمان يعظمون الخطرا * * قرن إذا ناطح قرنا كسرا قل لابن حرب لا تدب الخمرا * * أرود قليلا أبد منك الضجرا (3) لا تحسبني يا بن هند غمرا * * لو وسل بنا بدرا معا وخيبرا (4) يوم جعلناكم ببدر جزرا * * لو أن عندي يابن هند جعفرا أو حمزة القرم الهمام الازهرا * * رأت قريش نجم ليل ظهرا .
قال نصر : فلما كتب الكتاب (6) ، قال معاوية لعمرو : ما ترى الآن ؟ قال : أمض الرأي الاول .
فبعث مالك بن هبيرة الكندي في طلب محمد بن أبي حذيفة فأدركه فقتله ، وبعث إلى قيصر بالهدايا فوادعه ، ثم قال : ما ترى في علي ؟ قال : (أرى فيه
__________
(1) الاخزر : الذي ينظر بمؤخرة عينه .
(2) قنبر مولى علي .
(3) الخمر : ما واراك من الشجر والجبال ونحوها ، والدبيب : المشي على هينة ، يقال للرجل إذا ختل صاحبه : هو يدب له الضراء ويمشي له الخمر ، والارواء : الامهال .
(4) الغمر : من لم يجرب الامور .
(5) الجزر : اللحم الذي تأكله السباع ، وفي كتاب صفين : * كانت قريشا يوم بدر جزرا * وبعده * إذ وردوا الامر فذموا الصدرا * (6) في كتاب صفين : " لما بات عمرو عند معاوية وأصبح أعطاه مصر طعمة له ، وكتب له بها كتابا " .
(*)(2/70)
خيرا) (1) ، إنه قد أتاك في طلب البيعة خير أهل العراق ، ومن عند خير الناس في أنفس الناس ودعواك أهل الشام إلى رد هذه البيعة خطر شديد ، ورأس أهل الشام شرحبيل بن السمط الكندي وهو عدو لجرير المرسل اليك ، فابعث إليه ووطن له ثقاتك فليفشوا في الناس أن عليا قتل عثمان ، وليكونوا أهل رضا عند شرحبيل فإنها كلمة جامعة لك أهل الشام على ما تحب وإن تعلقت بقلب شرحبيل لم تخرج منه بشئ أبدا .
فكتب إلى شرحبيل : إن جرير بن عبد الله قدم علينا من عند علي بن أبي طالب بامر مفظع ، فاقدم .
ودعا معاوية يزيد بن أسد ، وبسر بن أرطاة ، وعمرو بن سفيان ، ومخارق بن الحارث الزبيدي ، وحمزة بن مالك ، وحابس بن سعد الطائي ، وهؤلاء رءوس قحطان واليمن وكانوا ثقات معاوية وخاصته وبني عم شرحبيل بن السمط فأمرهم أن يلقوه ويخبروه أن عليا قتل عثمان ، فلما قدم كتاب معاوية على شرحبيل وهو بحمص إستشار أهل اليمن فاختلفوا عليه فقام إليه عبد الرحمن بن غنم الازدي وهو صاحب معاذ بن جبل وختنه وكان أفقه أهل الشام فقال : يا شرحبيل بن السمط ، إن الله لم يزل يزيدك خيرا منذ هاجرت إلى اليوم وإنه لا ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من الناس ، وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .
إنه قد ألقي إلى معاوية أن عليا قتل عثمان (2) ولهذا يريدك فإن كان قتله فقد بايعه المهاجرون والانصار وهم الحكام على الناس وإن لم يكن قتله فعلام تصدق معاوية عليه ! لا تهلكن نفسك وقومك ، فإن كرهت أن يذهب بحظها جرير فسر إلى علي فبايعه عن (3) شامك وقومك .
فأبى شرحبيل إلا أن يسير إلى معاوية فكتب إليه عياض الثمالي - وكان ناسكا :
__________
(1) من كتاب صفين .
(2) في كتاب صفين : " إنه قد ألقي إلينا قتل عثمان ، وأن عليا فتل عثمان " .
(3) صفين : " على شامك وقومك " .
(*)(2/71)
يا شرح يا بن السمط إنك بالغ * * بود علي ما تريد من الامر (1) ويا شرح إن الشام شامك ما بها * * سواك فدع عنك المضلل من فهر (2) فإن ابن هند ناصب لك خدعة * * تكون علينا مثل راغية البكر (3) فإن نال ما يرجو بنا كان ملكنا * * هنيئا له والحرب قاصمة الظهر فلا تبغين حرب العراق فإنها * * تحرم أطهار النساء من الذعر وإن عليا خير من وطئ الثرى * * من الهاشميين المداريك للوتر (4) له في رقاب الناس عهد وذمة * * كعهد أبي حفص وعهد أبي بكر فبايع ولا ترجع على العقب كافرا * * أعيذك بالله العزيز من الكفر ! ولا تسمعن قول الطغاة فإنهم * * يريدون أن يلقوك في لجة البحر وما ذا عليهم أن تطاعن دونهم * * عليا بأطراف المثقفة السمر فإن غلبوا كانوا علينا أئمة * * وكنا بحمد الله من ولد الطهر وإن غلبوا لم يصل بالخطب غيرنا * * وكان علي حربنا آخر الدهر يهون على عليا لؤي بن غالب * * دماء بني قحطان في ملكهم تجري فدع عنك عثمان بن عفان إنما لك الخبر لا تدري بأنك لا تدري على أي حال كان مصرع جنبه * * فلا تسمعن قول الاعيور أو عمرو قال : فلما قدم شرحبيل على معاوية أمر الناس أن يتلقوه ويعظموه فلما
__________
(1) شرح : مرخم شرحبيل .
(2) صفين : " فدع عنك المضلل " .
(3) راغية البكر : يريد رغاء البكر ، فوضع راغية موضع المصدر ، يشير إلى ما كان من رغاء بكر ثمود ، رغافيهم فأهلكوا ، فضربته العرب مثلا في الشؤم وأكثرت فيه .
أنظر الكامل للمبرد 1 : 22 - بششرح المرصفي .
(4) الوتر : الثأر والذحل .
(*)(2/72)
دخل على معاوية تكلم معاوية فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا شرحبيل ، إن جرير إبن عبد الله قدم علينا يدعونا إلى بيعة علي وعلي خير الناس لو لا أنه قتل عثمان بن عفان وقد حبست نفسي عليك وإنما أنا رجل من أهل الشام أرضى ما رضوا وأكره ما كرهوا .
فقال شرحبيل : أخرج فأنظر .
فلقيه هؤلاء النفر الموطئون له ، فكلهم أخبره (1) أن عليا قتل عثمان فرجع مغضبا إلى معاوية فقال : يا معاوية أبى الناس الا أن عليا قتل عثمان والله ان بايعت له لنخرجنك من شامنا أو لنقتلنك .
فقال معاوية : ما كنت لاخالف عليكم ، ما أنا إلا رجل من أهل الشام .
قال فرد هذا الرجل إلى صاحبه إذن .
فعرف معاوية أن شرحبيل قد نفذت بصيرته في حرب أهل العراق وأن الشام كله مع شرحبيل وكتب إلى علي ع ما سنورده فيما بعد إن شاء الله تعالى .
__________
(1) كتاب صفين : " يخبره " .
(*)(2/73)
(27) ومن خطبة له ع : الاصل : أما بعد فإن الجهاد أبواب الجنة ، فتحه الله لخاصة أوليائه ، وهو لباس التقوى ، ودرع الله الحصينة ، وجنته الوثيقة .
فمن تركه رغبة عنه البسه الله ثوب الذل ، وشمله البلاء ، وديث بالصغار والقماءة ، وضرب على قلبه بالاسهاب ، وأديل الحق منه بتضييع الجهاد ، وسيم الخسف ، ومنع النصف .
ألا وإني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا ونهارا ، وسرا وإعلانا وقلت لكم : أغزوهم قبل أن يغزوكم ، فو الله ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا فتواكلتم وتخاذلتم حتى شنت عليكم الغارات ، وملكت عليكم الاوطان .
(1) وهذا أخو غامد قد وردت خيله الانبار ، وقد قتل حسان بن حسان البكري ، وأزال خيلكم عن مسالحها ، ولقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة ، والاخرى المعاهدة ، فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعثها ما تمتنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام .
ثم انصرفوا وافرين ، ما نال رجل منهم كلم ، ولا أريق لهم دم ، فلو أن امرأ مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان به ملوما ، بل كان به عندي جديرا ! فيا عجبا ! عجبا والله يميت القلب ، ويجلب الهم ، من إجتماع هؤلاء القوم على باطلهم ، وتفرقكم عن حقكم ! فقبحا لكم وترحا ، حين صرتم غرضا يرمى ، يغار
__________
(1) ج : " فهذا " .
مخطوطة النهج : " هذا " .
(*)(2/74)
عليكم ولا تغيرون ، وتغزون ولا تغزون ، ويعصى الله وترضون ! فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر ، قلتم : هذه حمارة القيظ ، أمهلنا يسبخ عنا الحر ، وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء ، قلتم : هذه صبارة القر ، أمهلنا ينسلخ عنا البرد ، كل هذا فرارا من الحر والقر ، فإذا كنتم من الحر والقر تفرون فأنتم والله من السيف أفر ! يا أشباه الرجال ولا رجال ، حلوم الاطفال ، وعقول ربات الحجال ، لوددت أنى لم أركم ولم أعرفكم معرفة - والله - جرت ندما وأعقبت سدما .
قاتلكم الله ! لقد ملاتم قلبي قيحا ، وشحنتم صدري غيظا ، وجرعتموني نغب التهمام أنفاسا ، وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان ، حتى لقد قالت قريش : إن ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب .
لله أبوهم ! وهل أحد منهم أشد لها مراسا وأقدم فيها مقاما ، مني ! لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين وها أنا ذا قد ذرفت على الستين ! ولكن لا رأي لمن لا يطاع ! * * * الشرح هذه الخطبة من مشاهير خطبه ع ، قد ذكرها كثير من الناس ، ورواها أبو العباس المبرد في أول " الكامل " ، (1) وأسقط من هذه الرواية ألفاظا وزاد فيها الفاظا ، وقال في أولها : " إنه انتهى إلى على ع أن خيلا وردت الانبار لمعاويه فقتلوا عاملا له
__________
(1) الكامل 1 : 104 - 107 - بشرح المرصفي ، يرويها عن عبيد الله بن حفص التيمي المعروف بابن عائشة .
(*)(2/75)
يقال له حسان بن حسان ، فخرج مغضبا يجر رداءه (1) حتى أتى النخيلة (2) واتبعه الناس فرقى رباوة (3) من الارض ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على نبيه ص ، ثم قال : أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة ، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله الذل وسيما الخسف " .
وقال في شرح ذلك : قوله : " وسيما الخسف " ، هكذا حدثونا به وأظنه " سيم الخسف " ، من قوله تعالى : " يسومونكم سوء العذاب " (4) .
وقال : فإن نصرنا ما سمعناه ، " فسيما الخسف " (5) ، تأويله علامة الخسف ، قال الله تعالى : " سيماهم في وجوههم " (6) ، وقال : " يعرف المجرمون بسيماهم " (7) وسيما مقصور ، وفي معناه " سيمياء " ممدود ، قال الشاعر غلام رماه الله بالحسن يافعا * * له سيمياء لا تشق على البصر .
ونحن نقول : إن السماع الذى حكاه أبو العباس غير مرضى والصحيح ما يتضمنه " نهج البلاغة " وهو " سيم الخسف " فعل ما لم يسم فاعله ، و " الخسف " منصوب لانه مفعول ، وتأويله أولي الخسف وكلف إياه والخسف : الذل والمشقة .
وأيضا فإن في " نهج البلاغة " لا يمكن أن يكون إلا كما اخترناه ، لانه بين أفعال متعددة بنيت للمفعول به ، وهي : " ديث " و " ضرب " و " أديل " و " منع " ،
__________
(1) في الكامل : " توبة " .
(2) النخيلة : إسم موضع خارج الكوفة .
(3) الرباوة : اسم لكل ما ارتفع من الارض ، كالربة والربوة والرابية .
(4) سورة البقرة 49 .
(5) كذا في الاصول ، وعبارة الكامل فيما لدينا من نسخة : " ومعنى قوله : " سيما الخسف " ، تأويله علامة ، هذا أصل هذا " .
(6) سورة الفتح 29 .
(7) سورة الرحمن 41 .
(8) في زيادات الكامل : " هو ابن عنقاء الفزاري في عميلة الفزاري " ، وذكر بعده : كأن الثريا علقت في جبينه * * وفي أنفه الشعرى وفي جيده القمر (*)(2/76)
ولا يمكن أن يكون ما بين هذه الافعال ومعطوفا عليها إلا مثلها ، ولا يجوز أن يكون إسما .
وأما قوله ع : " وهو لباس التقوى " فهو لفظة مأخوذة من الكتاب العزيز قال الله سبحانه : " قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى " (1) .
والجنة ما يجتن به ، أي يستتر ، كالدرع والحجفه .
وتركه رغبه عنه أي زهدا فيه ، رغبت عن كذا ضد رغبت في كذا .
وديث بالصغار ، أي ذلل ، بعير مديث أي مذلل ، ومنه الديوث : الذى لاغيرة له كأنه قد ذلل حتى صار كذلك .
والصغار : الذل والضيم .
والقماء ، بالمد : مصدر قمؤ الرجل قماء وقماءة ، أي صار قميئا وهو الصغير الذليل فأما قمأ بفتح الميم فمعناه سمن ومصدره القموء والقموءة .
وروى الراوندي : وديث بالصغار والقمأ ، بالقصر وهو غير معروف .
وقوله ع : " وضرب على قلبه بالاسهاب " ، فالاسهاب هاهنا هو ذهاب العقل ويمكن أن يكون من الاسهاب الذى هو كثرة الكلام كأنه عوقب بأن يكثر كلامه فيما لا فائدة تحته .
قوله : " وأديل الحق منه بتضييع الجهاد " ، قد يظن ظان (2) أنه يريد ع : وأديل الحق منه بأن أضيع جهاده ، كالياءات المتقدمة ، وهي قوله : " وديث بالصغار " ، و " ضرب على قلبه بالاسهاب " .
__________
(1) سورة الاعراف 26 .
(2) ب ، ج : " فلان " ، وما أثبته عن أ .
(*)(2/77)
وليس كما ظن ، بل المراد : وأديل الحق منه لاجل تضييعه الجهاد ، فالباء هاهنا للسببية كقوله تعالى : " ذلك جزيناهم ببغيهم " (1) .
والنصف : الانصاف .
وعقر دارهم بالضم : أصل دارهم ، والعقر : الاصل ، ومنه العقار للنخل كأنه أصل المال .
وتواكلتم ، من وكلت الامر اليك ووكلته إلى أي لم يتوله أحد منا ولكن أحال به كل واحد على الآخر ، ومنه رجل وكل ، أي عاجز يكل أمره إلى غيره ، وكذلك وكله .
وتخاذلتم ، من الخذلان .
وشنت عليكم الغارات : فرقت ، وما كان من ذلك متفرقا ، نحو إرسال الماء على الوجه دفعة بعد دفعة ، فهو بالشين المعجمة ، وما كان إرسالا غير متفرق فهو بالسين المهملة ، ويجوز شن الغارة وأشنها .
والمسالح : جمع مسلحة وهي كالثغر والمرقب ، وفي الحديث : " كان أدنى مسالح فارس إلى العرب العذيب " (2) .
والمعاهدة : ذات العهد وهي الذمية .
والحجل : الخلخال ، ومن هذا قيل للفرس محجل ، وسمي القيد حجلا لانه يكون مكان الخلخال .
ورعثها : شنوفها ، جمع رعاث بكسر الراء ، ورعاث : جمع رعثة ، فالاول مثل خمار وخمر والثاني مثل جفنة وجفان .
والقلب : جمع قلب وهو السوار المصمت .
والاسترجاع ، قوله : " إنا لله وإنا إليه راجعون " (3) .
والاسترحام : أن تناشده الرحم .
وانصرفوا وافرين ، أي تامين ، وفر الشئ نفسه أي تم فهو وافر ، ووفرت الشئ ، متعد : أي أتممته .
وفي رواية المبرد " موفورين " ، قال : من الوفر أي لم ينل أحد منهم بأن يرزأ (4) في بدن أو مال .
__________
(1) سورة الانعام 146 .
(2) ذكره ابن الاثير في النهاية 2 : 174 .
(3) سورة البقرة 156 .
(4) لم يرزأ ، من الرزء وهو المصيبة .
(*)(2/78)
وفي رواية المبرد أيضا : " فتواكلتم وتخاذلتم ، وثقل عليكم قولي ، واتخذتموه وراءكم ظهريا " ، قال : أي رميتم به وراء ظهوركم ، أي لم تلتفتوا إليه ، يقال في المثل : لا تجعل حاجتي منك بظهر ، أي لا تطرحها غير ناظر إليها ، قال الفرزدق : تميم بن مر لا تكونن حاجتي * * بظهر ولا يعيا عليك جوابها (1) والكلم : الجراح .
وفي رواية المبرد أيضا : " مات من دون هذا أسفا " والاسف : التحسر .
وفي رواية المبرد أيضا : " من تضافر هؤلاء القوم على باطلهم " أي من تعاونهم وتظاهرهم .
وفي رواية المبرد أيضا : " وفشلكم عن حقكم " ، الفشل : الجبن والنكول عن الشئ : فقبحا لكم وترحا ، دعاء بأن ينحيهم الله عن الخير وأن يخزيهم ويسؤهم .
والغرض : الهدف .
وحمارة القيظ ، بتشديد الراء : شدة حره .
ويسبخ عنا الحر أي يخف ، وفي الحديث أن عائشة أكثرت من الدعاء على سارق سرق منها شيئا ، فقال لها النبي ص : " لا تسبخي عنه بدعائك " .
وصبارة الشتاء بتشديد الراء : شدة برده ، ولم يرو المبرد هذه اللفظة وروى : " إذا قلت لكم اغزوهم في الشتاء قلتم هذا أوان قر وصر ، وإن قلت لكم اغزوهم في الصيف قلتم هذه حمارة القيظ أنظرنا ينصرم عنا الحر " .
الصر : شدة البرد ، قال تعالى : " كمثل ريح فيها صر " (2) .
ولم يرو المبرد " حلوم الاطفال " وروى عوضها " يا طغام الاحلام " وقال : الطغام : من لا معرفة عنده ، ومنه قولهم : " طغام أهل الشام " .
وربات الحجال : النساء ، والحجال جمع حجلة ، وهي بيت يزين بالستور والثياب والاسرة .
__________
(1) اللسان 6 : 195 ، ورواية الديوان 95 : تميم بن زيد لا تهونن حاجتي * * لديك ، ولا يعيا علي جوابها وبهذه الرواية لا شاهد فيه لهذا الموضع .
(2) سورة آل عمران 117 (*)(2/79)
والسدم : الحزن والغيظ .
والقيح ما يكون في القرحة من صديدها .
وشحنتم : ملاتم .
والنغب : جمع نغبة وهي الجرعة .
والتهمام ، بفتح التاء : الهم وكذلك كل " تفعال " كالترداد والتكرار والتجوال إلا التبيان والتلقاء فإنهما بالكسر .
وأنفاسا أي جرعة بعد جرعة ، يقال : إكرع في الاناء نفسين أو ثلاثة .
وذرفت على الستين ، أي زدت .
ورواها المبرد : " نيفت " .
وروى المبرد في آخرها : فقام إليه رجل ومعه أخوه فقال : يا أمير المؤمنين إني وأخي هذا ، كما قال الله تعالى : " رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي " (1) ، فمرنا بأمرك فو الله لننتهين إليه ولو حال بيننا وبينه جمر الغضا وشوك القتاد .
فدعا لهما بخير وقال : واين تقعان مما أريد ؟ ثم نزل .
(استطراد بذكر كلام لابن نباتة في الجهاد) واعلم أن التحريض على الجهاد والحض عليه قد قال فيه الناس فأكثروا وكلهم أخذوا من كلام أمير المؤمنين ع ، فمن جيد ذلك ما قاله ابن نباتة (2) الخطيب .
أيها الناس ، إلى كم تسمعون الذكر فلا تعون ! وإلى كم تقرعون بالزجر فلا تقلعون ! كأن أسماعكم تمج ودائع الوعظ وكأن قلوبكم بها استكبار عن الحفظ ، وعدوكم يعمل
__________
(1) سورة المائدة 25 .
(2) هو أبويحيى عبد الرحيم بن محمد بن إسماعيل الفارقي ، كان خطيب حلب ، وبها إجتمع مع أبي الطيب المتنبي في خدمة سيف الدولة ، وكان سيف الدولة كثير الغزوات ، فكثرت خطبه في الجهاد ليحض الناس على نصر سيف الدولة ، توفي سنة 374 .
ونباتة ، بضم النون وفتح الباء .
إبن خلكان 1 : 283 - 284 .
(*)(2/80)
في دياركم عمله ، ويبلغ بتخلفكم عن جهاده أمله ، وصرخ بهم الشيطان إلى باطله فأجابوه وندبكم الرحمن إلى حقه فخالفتموه ، وهذه البهائم تناضل عن ذمارها ، وهذه الطير تموت حمية دون أوكارها ، بلا كتاب أنزل عليها ، ولا رسول أرسل إليها .
وأنتم أهل العقول والافهام ، وأهل الشرائع والاحكام تندون من عدوكم نديد الابل ، وتدرعون له مدارع العجز والفشل ، وأنتم والله أولى بالغزو إليهم ، وأحرى بالمغار عليهم لانكم أمناء الله على كتابه ، والمصدقون بعقابه وثوابه ، خصكم الله بالنجدة والبأس ، وجعلكم خير أمه أخرجت للناس ، فأين حمية الايمان ؟ وأين بصيرة الايقان ؟ وأين الاشفاق من لهب النيران ؟ وأين الثقة بضمان الرحمن ؟ فقد قال الله عزوجل في القرآن : " بلى إن تصبروا وتتقوا " (1) ، فاشترط عليكم التقوى والصبر ، وضمن لكم المعونة والنصر ، أ فتتهمونه في ضمانه ؟ أم تشكون في عدله وإحسانه ؟ فسابقوا رحمكم الله إلى الجهاد بقلوب نقية ، ونفوس أبية ، وأعمال رضية ، ووجوه مضية ، وخذوا بعزائم التشمير ، واكشفوا عن رءوسكم عار التقصير ، وهبوا نفوسكم لمن هو أملك بها منكم ، ولا تركنوا إلى الجزع فإنه لا يدفع الموت عنكم ، " لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لاخوانهم إذا ضربوا في الارض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا " (2) .
فالجهاد الجهاد أيها الموقنون ، والظفر الظفر أيها الصابرون ! والجنة الجنة أيها الراغبون ! والنار النار أيها الراهبون ! فإن الجهاد أثبت قواعد الايمان ، وأوسع أبواب الرضوان ، وأرفع درجات الجنان ، وإن من ناصح الله لبين منزلتين مرغوب فيهما ، مجمع على تفضيلهما : أما السعادة بالظفر في العاجل ، وأما الفوز بالشهادة في الآجل ، وأكره المنزلتين إليكم أعظمهما نعمة
__________
.
(1) سورة آل عمران 125 .
(2) سورة آل عمران .
(*)(2/81)
عليكم فانصروا الله فإن نصره حرز من الهلكات حريز ، " ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز " (1) .
هذا آخر خطبة ابن نباتة ، فانظر إليها وإلى خطبته ع بعين الانصاف ، تجدها بالنسبة إليها كمخنث بالنسبة إلى فحل ، أو كسيف من رصاص بالاضافة إلى سيف من حديد وانظر ما عليها من أثر التوليد وشين التكلف وفجاجة كثير من الالفاظ ، أ لا ترى إلى فجاجة قوله : " كأن أسماعكم تمج ودائع الوعظ وكأن قلوبكم بها استكبار عن الحفظ " ! وكذلك ليس يخفى نزول قوله : " تندون من عدوكم نديد الابل ، وتدرعون له مدارع العجز والفشل " .
وفيها كثير من هذا الجنس ، إذا تأمله الخبير عرفه ، ومع هذا فهي مسروقة من كلام أمير المؤمنين ع ، أ لا ترى أن قوله ع : " أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة " ، قد سرقه ابن نباتة ، فقال : " فإن الجهاد أثبت قواعد الايمان ، وأوسع أبواب الرضوان ، وأرفع درجات الجنان " ! وقوله ع : " من إجتماع هؤلاء على باطلهم وتفرقكم عن حقكم " ، سرقه أيضا ، فقال : " صرخ بهم الشيطان إلى باطله فأجابوه ، وندبكم الرحمن إلى حقه فخالفتموه " .
وقوله ع : " قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ...
" إلى آخره ، سرقه أيضا ، فقال : " كم تسمعون الذكر فلا تعون ، وتقرعون بالزجر فلا تقلعون " ! وقوله ع " حتى شنت عليكم الغارات وملكت عليكم الاوطان " سرقه أيضا ، وقال : " وعدوكم يعمل في دياركم عمله ، ويبلغ بتخلفكم عن جهاده أمله " .
وأما باقي خطبة ابن نباتة فمسروق من خطب لامير المؤمنين ع أخر ، سيأتي ذكرها .
* * *
__________
.
(1) سورة الحج 40 .
(*)(2/82)
واعلم أني أضرب لك مثلا تتخذه دستورا في كلام أمير المؤمنين ع ، وكلام الكتاب والخطباء بعده كابن نباتة والصابئ وغيرهما ، انظر نسبة شعر أبي تمام والبحتري وأبي نؤاس ومسلم ، إلى شعر امرئ القيس والنابغة وزهير والاعشى ، هل إذا تأملت أشعار هؤلاء وأشعار هؤلاء ، تجد نفسك حاكمة بتساوي القبيلين أو بتفضيل أبي نؤاس وأصحابه عليهم ؟ ما أظن أن ذلك مما تقوله أنت ولا قاله غيرك ، ولا يقوله إلا من لا يعرف علم البيان ، وماهية الفصاحة ، وكنه البلاغة ، وفضيلة المطبوع على المصنوع ، ومزية المتقدم على المتأخر ، فإذا أقررت من نفسك بالفرق والفضل ، وعرفت فضل الفاضل ، ونقص الناقص ، فإعلم أن نسبة كلام أمير المؤمنين ع إلى هؤلاء هذه النسبة ، بل أظهر ، لانك تجد في شعر امرئ القيس وأصحابه من التعجرف والكلام الحوشي ، واللفظ الغريب المستكره شيئا كثيرا ، ولا تجد من ذلك في كلام أمير المؤمنين ع شيئا ، وأكثر فساد الكلام ونزوله إنما هو باستعمال ذلك .
فإن شئت أن تزداد استبصارا ، فانظر القرآن العزيز - واعلم أن الناس قد اتفقوا على أنه في أعلى طبقات الفصاحة - وتأمله تأملا شافيا ، وانظر إلى ما خص به من مزية الفصاحة والبعد عن التقعير والتقعيب (1) والكلام الوحشي الغريب ، وانظر كلام أمير المؤمنين ع فإنك تجده مشتقا من الفاظه ، ومقتضبا من معانيه ومذاهبه ، ومحذوا به حذوه ، ومسلوكا به في منهاجه ، فهو وإن لم يكن نظيرا ولا ندا يصلح أن يقال إنه ليس بعده كلام أفصح منه ولا أجزل ، ولا أعلى ولا أفخم ولا أنبل ، إلا أن يكون كلام ابن عمه ع وهذا أمر لا يعلمه إلا من ثبتت له قدم راسخة في علم هذه الصناعة ، وليس كل الناس يصلح لانتقاد الجوهر ، بل ولا لانتقاد الذهب ، ولكل صناعة أهل ، ولكل عمل رجال .
* * * ومن خطب ابن نباتة التي يحرض فيها على الجهاد :
__________
(1) التقعير : التعمق في الكلام والتشدق به ، ومثله التقعيب .
(*)(2/83)
" ألا وإن الجهاد كنز وفر الله منه أقسامكم ، وحرز طهر الله به أجسامكم ، وعز أظهر الله به إسلامكم ، فإن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ، فانفروا رحمكم الله جميعا وثبات (1) ، وشنوا على أعدائكم الغارات ، وتمسكوا بعصم الاقدام ومعاقل الثبات ، وأخلصوا في جهاد عدوكم حقائق النيات ، فإنه والله ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا ، ولا قعدوا عن صون ديارهم إلا اضمحلوا .
واعلموا أنه لا يصلح الجهاد بغير اجتهاد ، كما لا يصلح السفر بغير زاد ، فقدموا مجاهدة القلوب ، قبل مشاهدة الحروب ، ومغالبة الاهواء قبل محاربة الاعداء ، وبادروا بإصلاح السرائر ، فإنها من أنفس العدد والذخائر ، واعتاضوا من حياة لا بد من فنائها ، بالحياة التي لا ريب في بقائها ، وكونوا ممن أطاع الله وشمر في مرضاته ، وسابقوا بالجهاد إلى تملك جناته ، فإن للجنة بابا حدوده تطهير الاعمال ، وتشييده إنفاق الاموال ، وساحته زحف الرجال ، وطريقه غمغمة الالبطال ، ومفتاحه الثبات في معترك القتال ، ومدخله من مشرعة الصوارم والنبال " .
فلينظر الناظر في هذا الكلام ، فإنه وإن كان قد أخذ من صناعة البديع بنصيب ، إلا أنه في حضيض الارض وكلام أمير المؤمنين ع في أوج السماء ، فإنه لا ينكر لزومه فيه لما لا يلزمه اقتدارا وقوة وكتابة ، نحو قوله : " كنز " فإن بإزاء " حرز " و " عز " ، وقوله : " مشاهدة " بإزاء قوله : " مجاهدة " ، و " مغالبة " بإزاء " محاربة " ، و " حدوده " بازاء " تشييده " ، لكن مثله بالقياس إلى كلام أمير المؤمنين ع كدار مبنية من اللبن والطين ، مموهة الجدران بالنقوش والتصاوير ، مزخرفة بالذهب من فوق الجص والاسفيداج (2) ، بالقياس إلى دار مبنية بالصخر الاصم الصلد ، المسبوك بينه عمد الرصاص والنحاس المذاب ، وهي مكشوفة غير مموهة ولا مزخرفة .
فإن بين هاتين الدارين بونا بعيدا ، وفرقا عظيما .
وانظر قوله : " ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا " ، كيف تصيح من بين الخطبة صياحا ، وتنادي على نفسها نداء فصيحا ، وتعلم سامعها أنها ليست من المعدن
__________
(1) ثبات : جماعة بعد جماعة .
(2) الاسفيداج : رماد الرصاص .
(*)(2/84)
الذي خرج باقي الكلام منه ، ولا من الخاطر الذي صدر ذلك السجع عنه ، ولعمر الله ، لقد جملت الخطبة وحسنتها وزانتها ، وما مثلها فيها إلا كآية من الكتاب العزيز يتمثل بها في رسالة أو خطبة ، فإنها تكون كاللؤلؤة المضيئة تزهر وتنير ، وتقوم بنفسها ، وتكتسي الرسالة بها رونقا ، وتكتسب بها ديباجة .
وإذا أردت تحقيق ذلك ، فانظر إلى السجعة الثانية التي تكلفها ليوازنها بها ، وهي قوله : " ولاقعدوا عن صون ديارهم إلا اضمحلوا " ، فإنك إذا نظرت إليها وجدت عليها من التكلف والغثاثة ما يقوي عندك صدق ما قلته لك .
على أن في كلام ابن نباتة في هذا الفصل ما ليس بجيد ، وهو قوله : " وحرز طهر الله به أجسامكم " فإنه لا يقال في الحرز إنه يطهر الاجسام ، ولو قال عوض " طهر " : حصن الله به أجسامكم ، لكان أليق ، لكنه أراد أن يقول : " طهر " ليكون بإزاء " وفر " وبإزاء " أظهر " ، فأداه حب التقابل إلى ما ليس بجيد .
(غارة سفيان بن عوف الغامدي على الانبار) فأما أخو غامد الذي وردت خيله الانبار ، فهو سفيان بن عوف بن المغفل الغامدي وغامد قبيلة من اليمن ، وهي من الازد ، أزد شنوءة ، واسم غامد عمر بن عبد الله بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الازد .
وسمى غامدا لانه كان بين قومه شر فأصلحه وتغمدهم بذلك .
روى إبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال الثقفي (1) في كتاب " الغارات " عن أبي الكنود ، قال : حدثني سفيان بن عوف الغامدي ، قال : دعاني معاوية ، فقال : إني باعثك في جيش كثيف ، ذي أداة وجلادة ، فالزم لي جانب الفرات ، حتى تمر بهيت (2)
__________
(1) إبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال بن عاصم بن سعد الثقفي ، من علماء أصبهان ، ذكره ابو نعيم في تاريخه وقال : كان غاليا في الرفض ، مات سنة 280 .
لسان الميزان 1 : 102 .
(2) هيت : بلد على الفرات فوق الانبار .
(*)(2/85)
فتقطعها ، فإن وجدت بها جندا فأغر عليهم ، وإلا فامض حتى تغير على الانبار ، فإن لم تجد بها جندا فامض حتى توغل في المدائن .
ثم أقبل إلي واتق أن تقرب الكوفة .
واعلم أنك إن أغرت على أهل الانبار وأهل المدائن فكأنك أغرت على الكوفة .
إن هذه الغارات يا سفيان على أهل العراق ترعب قلوبهم ، وتفرح كل من له فينا هوى منهم ، وتدعو إلينا كل من خاف الدوائر ، فاقتل من لقيته ممن ليس هو على مثل رأيك ، وأخرب كل ما مررت به من القرى ، واحرب الاموال ، فإن حرب الاموال شبيه بالقتل ، وهو أوجع للقلب .
قال : فخرجت من عنده فعسكرت ، وقام معاوية في الناس فخطبهم ، فقال : أيها الناس ، انتدبوا (1) مع سفيان بن عوف ، فإنه وجه عظيم فيه أجر ، سريعة فيه أوبتكم إن شاء الله .
ثم نزل .
قال : فو الذى لا إله غيره ما مرت ثالثة حتى خرجت في ستة آلاف ، ثم لزمت شاطئ الفرات ، فأغذذت السير حتى أمر بهيت ، فبلغهم أني قد غشيتهم فقطعوا الفرات فمررت بها وما بها عريب ، (2) كأنها لم تحلل قط ، فوطئتها حتى أمر بصندوداء (3) ، ففروا فلم ألق بها أحدا ، فأمضي حتى أفتتح الانبار ، وقد نذروا بي ، فخرج صاحب المسلحة الي ، فوقف لي فلم أقدم عليه حتى أخذت غلمانا من أهل القرية ، فقلت لهم : أخبروني ، كم بالانبار من أصحاب علي ع ؟ قالوا : عدة رجال المسلحة خمسمائة ، ولكنهم قد تبددوا ورجعوا إلى الكوفة ، ولا ندري الذي يكون فيها ، قد يكون مائتي رجل ، فنزلت فكتبت أصحابي كتائب ، ثم أخذت أبعثهم إليه كتيبة بعد كتيبة ، فيقاتلهم والله ويصبر لهم ، ويطاردهم ويطاردونه في الازقة ، فلما رأيت ذلك أنزلت إليهم نحوا من مائتين ،
__________
(1) انتدبوا : خفوا للقتال .
(2) عريب : أحد .
(3) صندوداء : قرية كانت في غربي الفرات فوق الانبار .
(*)(2/86)
وأتبعتهم الخيل ، فلما حملت عليهم الخيل وأمامها الرجال تمشي ، لم يكن شئ حتى تفرقوا وقتل صاحبهم في نحو من ثلاثين رجلا ، وحملنا ما كان في الانبار من الاموال ، ثم انصرفت ، فو الله ما غزوت غزاة كانت أسلم ولا أقر للعيون ، ولا أسر للنفوس منها .
وبلغني والله أنها أرعبت الناس ، فلما عدت إلى معاوية ، حدثته الحديث على وجهه ، فقال : كنت عند ظني بك ، لا تنزل في بلد من بلداني إلا قضيت فيه مثل ما يقضي فيه أميره ، وإن أحببت توليته وليتك ، وليس لاحد من خلق الله عليك أمر دوني .
قال : فو الله ما لبثنا إلا يسيرا ، حتى رأيت رجال أهل العراق يأتوننا على الابل هرابا من عسكر علي ع .
قال إبراهيم : كان اسم عامل علي ع على مسلحة الانبار أشرس بن حسان البكري .
* * * وروى إبراهيم عن عبد الله بن قيس ، عن حبيب بن عفيف ، قال كنت مع أشرس بن حسان البكري بالانبار على مسلحتها ، إذ صبحنا سفيان بن عوف في كتائب تلمع الابصار منها ، فهالونا والله ، وعلمنا إذ رأيناهم أنه ليس لنا طاقة بهم ولا يد ، فخرج إليهم صاحبنا وقد تفرقنا فلم يلقهم نصفنا ، وأيم الله لقد قاتلناهم فأحسنا قتالهم ، حتى كرهونا ، ثم نزل صاحبنا وهو يتلو قوله تعالى : " فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا " (1) .
ثم قال لنا : من كان لا يريد لقاء الله ، ولا يطيب نفسا بالموت ، فليخرج عن القرية ما دمنا نقاتلهم ، فإن قتالنا إياهم شاغل لهم عن طلب هارب ، ومن أراد ما عند الله فما عند الله خير للابرار .
ثم نزل في ثلاثين رجلا ، فهممت بالنزول معه ، ثم أبت نفسي واستقدم هو وأصحابه ، فقاتلوا حتى قتلوا رحمهم الله ، وانصرفنا نحن منهزمين .
__________
(1) سورة الاحزاب 23 .
(*)(2/87)
قال إبراهيم : وقدم (1) علج من أهل الانبار على علي ع ، فأخبره الخبر ، فصعد المنبر فخطب الناس ، وقال : إن أخاكم البكري قد أصيب بالانبار ، وهو معتز لا يخاف ما كان ، واختار ما عند الله على الدنيا ، فانتدبوا إليهم حتى تلاقوهم ، فإن أصبتم منهم طرفا أنكلتموهم عن العراق أبدا ما بقوا .
ثم سكت عنهم رجاء أن يجيبوه أو يتكلم منهم متكلم ، فلم ينبس أحد منهم بكلمة ، فلما رأى صمتهم نزل ، وخرج يمشي راجلا حتى أتى النخيلة ، والناس يمشون خلفه حتى أحاط به قوم من أشرافهم ، فقالوا : ارجع يا أمير المؤمنين ونحن نكفيك ، فقال : ما تكفونني ولا تكفون أنفسكم .
فلم يزالوا به حتى صرفوه إلى منزله ، فرجع وهو واجم كئيب ، ودعا سعيد بن قيس الهمداني ، فبعثه من النخيلة في ثمانية آلاف ، وذلك أنه أخبر أن القوم جاءوا في جمع كثيف .
فخرج سعيد بن قيس على شاطئ الفرات في طلب سفيان بن عوف ، حتى إذا بلغ عانات (2) ، سرح أمامه هانئ بن الخطاب الهمداني ، فاتبع آثارهم حتى دخل أداني أرض قنسرين وقد فاتوه ، فانصرف .
قال : ولبث علي ع ترى فيه الكآبة والحزن حتى قدم عليه سعيد بن قيس ، وكان تلك الايام عليلا ، فلم يقو على القيام في الناس بما يريده من القول ، فجلس بباب السدة التى تصل إلى المسجد ، ومعه إبناه حسن وحسين ع ، وعبد الله بن جعفر ، ودعا سعدا مولاه ، فدفع إليه الكتاب ، وأمره أن يقرأه على الناس ، فقام سعد بحيث يستمع علي ع صوته ، ويسمع ما يرد الناس عليه ، ثم قرأ هذه الخطبة التي نحن في شرحها .
* * *
__________
(1) العلج : الرجل من كفار العجم .
(2) عانات : بلد بين الرقة وهيت قريبة من الانبار .
(*)(2/88)
وذكر أن القائم إليه ، العارض نفسه عليه جندب بن عفيف الازدي ، هو وابن أخ له يقال له : عبد الرحمن بن عبد الله بن عفيف .
قال : ثم أمر الحارث الاعور الهمداني ، فنادى في الناس : أين من يشتري نفسه لربه ويبيع دنياه بآخرته ؟ أصبحوا غدا بالرحبة إن شاء الله ، ولا يحضر إلا صادق النية في السير معنا ، والجهاد لعدونا .
فأصبح وليس بالرحبة إلا دون ثلاثمائة ، فلما عرضهم قال : لو كانوا ألفا كان لي فيهم رأي .
وأتاه قوم يعتذرون ، فقال : " وجاء المعذرون " (1) ، وتخلف المكذبون ، ومكث أياما باديا حزنه شديد الكابة ، ثم جمع الناس فخطبهم فقال : أما بعد أيها الناس ، فوالله لاهل مصركم في الامصار أكثر من الانصار في العرب ، وما كانوا يوم أعطوا رسول الله ص أن يمنعوه ومن معه من المهاجرين حتى يبلغ رسالات ربه إلا قبيلتين ، قريبا مولدهما ، ما هما بأقدم العرب ميلادا ، ولا بأكثرهم عددا .
فلما آووا النبي ص وأصحابه ، ونصروا الله ودينه ، رمتهم العرب عن قوس واحدة ، فتحالفت عليهم اليهود ، وغزتهم القبائل قبيلة بعد قبيلة ، فتجردوا لنصرة دين الله ، وقطعوا ما بينهم وبين العرب من الحبائل ، وما بينهم وبين اليهود من الحلف ، ونصبوا لاهل نجد وتهامة وأهل مكة واليمامة ، وأهل الحزن والسهل ، وأقاموا قناة الدين ، وصبروا تحت حماس الجلاد ، حتى دانت لرسول الله ص العرب ، ورأى منهم قرة العين قبل أن يقبضه الله عزوجل إليه ، وأنتم اليوم في الناس أكثر من أولئك ذلك الزمان في العرب .
فقام إليه رجل آدم طوال ، فقال : ما أنت بمحمد ، ولا نحن باولئك الذين
__________
(1) سورة التوبة .
(*)(2/89)
ذكرت ، فقال ع : أحسن سمعا تحسن إجابة ! ثكلتكم الثواكل ! ما تزيدونني إلا غما هل ! أخبرتكم أني محمد ، وأنكم الانصار ! إنما ضربت لكم مثلا ، وإنما أرجو أن تتأسوا بهم .
ثم قام رجل آخر ، فقال : ما أحوج أمير المؤمنين اليوم وأصحابه إلى أصحاب النهروان .
ثم تكلم الناس من كل ناحية ولغطوا ، وقام رجل منهم فقال بأعلى صوته : استبان فقد الاشتر على أهل العراق ! أشهد لو كان حيا لقل اللغط ، ولعلم كل امرئ ما يقول .
فقال علي ع : هبلتكم الهوابل ! أنا أوجب عليكم حقا من الاشتر ، وهل للاشتر عليكم من الحق إلا حق المسلم على المسلم ! فقام حجر بن عدي الكندي وسعيد بن قيس الهمداني ، فقالا لا يسوءك الله يا أمير المؤمنين ، مرنا بأمرك نتبعه ، فو الله ما نعظم جزعا على أموالنا إن نفدت ، ولا على عشائرنا إن قتلت في طاعتك .
فقال : تجهزوا للمسير إلى عدونا .
فلما دخل منزله ودخل عليه وجوه أصحابه ، قال لهم : أشيروا على برجل صليب ناصح ، يحشر الناس من السواد .
فقال له سعيد بن قيس : يا أمير المؤمنين ، أشير عليك بالناصح الاريب الشجاع الصليب معقل بن قيس التميمي ، قال : نعم .
ثم دعاه فوجهه ، فسار فلم يقدم حتى أصيب أمير المؤمنين ع(2/90)
(28) ومن خطبة له ع : الاصل : أما بعد فإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع ، وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع (1) ألا وإن اليوم المضمار ، وغدا السباق ، والسبقة الجنة ، والغاية النار .
أفلا تائب من خطيئته قبل منيته ! ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه ! ألا وإنكم في أيام أمل ، من ورائه أجل ، فمن عمل في أيام أمله قبل حضور أجله ، فقد نفعه عمله ، ولم يضرره أجله .
ومن قصر في أيام أمله قبل حضور أجله ، فقد خسر عمله ، وضره أجله .
ألا فاعملوا في الرغبة ، كما تعملون في الرهبة .
ألا وإني لم أر كالجنة نام طالبها ، ولا كالنار نام هاربها .
ألا وإنه من لا ينفعه الحق ، يضره الباطل ، ومن لا يستقيم به الهدى ، يجر به الضلال إلى الردى .
ألا وإنكم قد أمرتم بالظعن ، ودللتم على الزاد ، وإن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الامل ، فتزودوا في الدنيا من الدنيا ما تحرزون به أنفسكم غدا .
* * *
__________
(1) أ : " على اطلاع " .
(*)(2/91)
قال الرضي رحمه الله : وأقو ل : إنه لو كان كلام يأخذ بالاعناق إلى الزهد في الدنيا ، ويضطر إلى عمل الآخرة لكان هذا الكلام .
لو كان كلام يأخذ بالاعناق إلى الزهد في الدنيا ، ويضطر إلى عمل الآخرة لكان هذا الكلام .
وكفى به قاطعا لعلائق الآمال ، وقادحا زناد الاتعاظ والانزدجار .
ومن أعجبه قوله ع : " ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق ، والسبقة الجنة والغاية النار " ، فإن فيه مع فخامة اللفظ ، وعظم قدر المعنى ، وصادق التمثيل وواقع التشبيه ، سرا عجيبا ، ومعنى لطيفا ، وهو قوله ع " والسبقة الجنة والغاية النار " ، فخالف بين اللفظين لاختلاف المعنيين ، ولم يقل السبقة النار كما قال : " السبقة الجنة " لان الاستباق إنما يكون إلى أمر محبوب وغرض مطلوب ، وهذه صفة الجنة ، وليس هذا المعنى موجودا في النار ، نعوذ بالله منها ! فلم يجز أن يقول : " والسبقة النار " بل قال : " والغاية النار " ، لان الغاية قد ينتهى إليها من لا يسره الانتهاء إليها ، ومن يسره ذلك فصلح أن يعبر بها عن الامرين معا ، فهي في هذا الموضع كالمصير والمال ، قال الله تعالى : " قتمتعوا فإن مصيركم إلى النار " ، ولا يجوز في هذا الموضع أن يقال : فإن " سبقتكم (بسكون الباء) إلى النار " .
فتأمل ذلك فباطنه عجيب ، وغوره بعيد لطيف ، وكذلك أكثر كلامه ع .
وفي بعض النسخ ، وقد جاء في رواية أخرى " والسبقة الجنة (1) " بضم السين ، والسبقة عندهم : اسم لما يجعل للسابق ، إذا سبق من مال أو عرض ، والمعنيان متقاربان ، لان ذلك لا يكون جزاء على فعل الامر المذموم ، وإنما يكون جزاء على فعل الامر المحمود * * *
__________
(1) وهي رواية مخطوطة النهج .
(*)(2/92)
الشرح : آذنت : أعلمت .
والمضمار ، منصوب ، لانه اسم " إن " .
واليوم ظرف ، وموضعه رفع ، لانه خبر " إن " ، وظرف الزمان يجوز أن يكون خبرا عن الحدث ، والمضمار : حدث ، وهو الزمان الذي تضمر فيه الخيل للسباق ، والضمر : الهزال وخفة اللحم .
وإعراب قوله : " وغدا السباق " ، على هذا الوجه أيضا .
ويجوز الرفع في الموضعين على أن تجعلهما خبران بأنفسهما .
وقوله ع : " ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه " أخذه ابن نباتة مصالة (1) ، فقال في بعض خطبه : " ألا عامل لنفسه قبل حلول رمسه " .
قوله : " ألا فاعملوا في الرغبة " ، يقول : لا ريب أن أحدكم إذا مسه الضر من مرض شديد ، أو خوف مقلق ، من عدو قاهر ، فإنه يكون شديد الاخلاص والعبادة وهذه حال من يخاف الغرق في سفينة تتلاعب بها الامواج ، فهو ع أمر بأن يكون المكلف عاملا أيام عدم الخوف مثل عمله وإخلاصه ، وانقطاعه إلى الله أيام هذه العوارض .
قوله : " لم أر كالجنة نام طالبها " ، يقول : إن من أعجب العجائب من يؤمن بالجنة كيف يطلبها وينام ! ، ومن أعجب العجائب من يوقن بالنار ، كيف لا يهرب منها وينام ! أي لا ينبغي أن ينام طالب هذه ولا الهارب من هذه .
وقد فسر الرضى رحمه الله تعالى معنى قوله : " والسبقة الجنة " .
(نبذ من أقوال الصالحين والحكماء) ونحن نورد في هذا الفصل نكتا من مواعظ الصالحين يرحمهم الله ، تناسب هذا المأخذ .
فمما يؤثر عن أبي حازم الاعرج - كان في أيام بني أمية - قوله لعمر بن عبد العزيز ،
__________
(1) المصالة في الاصل : ما قطر من الجرة ونحوها ، وكذلك ما سال من ماء الاقط .
(*)(2/93)
وقد قال له : يا أبا حازم ، إني أخاف الله مما قد دخلت فيه ، فقال : لست أخاف عليك أن تخاف ، وإنما أخاف عليك ألا تخاف .
وقيل له : كيف يكون الناس يوم القيامة ؟ قال : أما العاصي فآبق قدم به على مولاه ، وأما المطيع فغائب قدم على أهله .
ومن كلامه : إنما بيني وبين الملوك يوم واحد ، أما أمس فلا يجدون لذته ، ولا أجد شدته ، وأما غدا فإني وإياهم منه على خطر ، وإنما هو اليوم ، فما عسى أن يكون ! ومن كلامه ، إذا تتابعت عليك نعم ربك وأنت تعصيه فاحذره .
وقال له سليمان بن عبد الملك : عظني ، فقال عظم ربك أن يراك حيث نهاك ، أو يفقدك حيث أمرك .
وقيل له : ما مالك ؟ قال : شيآن لا عدم بي معهما : الرضى عن الله ، والغنى عن الناس .
ومن كلامه ، عجبا لقوم يعملون لدار يرحلون عنها كل يوم مرحلة ، ويتركون أن يعملوا لدار يرحلون إليها كل يوم مرحلة ! ومن كلامه : إن عوفينا من شر ما أعطانا ، لم يضرنا فقد ما زوي عنا .
ومن كلامه : نحن لا نريد أن نموت حتى نتوب ، ونحن لا نتوب حتى نموت .
ولما ثقل عبد الملك رأى غسالا يلوي بيده ثوبا ، فقال : وددت أني كنت غسالا مثل هذا ، أعيش بما أكتسب يوما فيوما ، فذكر ذلك لابي حازم ، فقال : الحمد لله الذي جعلهم عند الموت يتمنون ما نحن فيه ، ولا نتمنى عند الموت ما هم فيه .
* * * ومن كلام غيره من الصالحين : دخل سالم بن عبد الله بن عمر على هشام بن عبد الملك(2/94)
في الكعبة ، فكلمه هشام ، ثم قال له : سل حاجتك قال : معاذ الله أن أسأل في بيت الله غير الله .
وقيل لرابعة القيسية : لو كلمت أهلك أن يشتروا لك خادما يكفيك مؤنة بيتك ! قالت : إني لاستحي أن أسال الدنيا من يملكها ، فكيف من لا يملكها ! وقال بكر بن عبد الله : أطفئوا نار الغضب بذكر نار جهنم .
عامر بن عبد القيس : الدنيا والدة للموت ، ناقضة للمبرم ، مرتجعة للعطية ، وكل من فيها يجري إلى ما لا يدري ، وكل مستقر فيها غير راض بها ، وذلك شهيد على أنها ليست بدار قرار .
باع عتبة بن عبد الله بن مسعود أرضا له بثمانين الفا ، فتصدق بها ، فقيل له : لو جعلت هذا المال أو بعضه ذخرا لولدك ! قال : بل أجعل هذا المال ذخرا لي ، وأجعل الله تعالى ذخرا لولدي .
رأى إياس بن قتادة شيبة في لحيته ، فقال : أرى الموت يطلبني ، وأراني لا أفوته .
فلزم بيته وترك الاكتساب .
فقال له أهله : تموت هزالا ، قال : لان أموت مؤمنا مهزولا أحب إلي من أعيش منافقا سمينا .
بكر بن عبد الله المزني : ما الدنيا ليت شعري ! أما ما مضى منها فحلم ، وأما ما بقي فأماني ! مورق العجلي : خير من العجب بالطاعة ألا تأتي بالطاعة .
ومن كلامه ضاحك : معترف بذنبه ، خير من باك مدل على ربه .
ومن كلامه : أوحى الله إلى الدنيا : من خدمني فاخدميه ، ومن خدمك فاستخدميه .(2/95)
قيل لرابعة : هل عملت عملا ترين أنه يقبل منك ؟ قالت إن كان فخوفي أن يرد على .
نظر حبيب إلى مالك بن دينار ، وهو يقسم صدقته علانية ، فقال يا أخي ، إن الكنوز لتستر ، فما بال هذا يجهر به ! قال عمرو بن عبيد للمنصور : إن الله أعطاك الدنيا بأسرها ، فاشتر نفسك منه ببعضها ، وإن هذا الذي أصبح اليوم في يدك ، لو كان مما يبقى على الناس لبقي في يد من كان قبلك ، ولم يصر إليك ، فاحذر ليلة تمخض بيوم لا ترى بعده إلا يوم القيامة .
فبكى المنصور ، وقال : يا أبا عثمان ، سل حاجة ، قال : حاجتى ألا تعطيني حتى أسالك ، ولا تدعني حتى أجيئك ، قال : إذن لا نلتقي أبدا ، قال : فذاك أريد .
كان يقال : الدنيا جاهلة ، ومن جهلها ، أنها لا تعطي أحدا ما يستحقه ، إما أن تزيده ، وإما أن تنقصه .
قيل لخالد بن صفوان : من أبلغ الناس ؟ قال : الحسن لقوله : فضح الموت الدنيا .
قيل لبعض الزهاد : كيف سخط نفسك على الدنيا ؟ قال : أيقنت إني خارج منها كرها ، فأحببت أن أخرج منها طوعا .
مر إبراهيم بن أدهم بباب أبي جعفر المنصور ، فنظر السلاح والحرس ، فقال : المريب خائف .
قيل لزاهد : ما أصبرك على الوحدة ! قال : كلا ، أنا أجالس ربي ، إذا شئت أن يناجيني قرأت كتابه ، وإذا شئت أن أناجيه صليت .
كان يقال : خف الله لقدرته عليك : واستحي منه لقربه منك .(2/96)
قال الرشيد (1) للفضيل بن عياض : ما أزهدك ! قال : أنت يا هارون أزهد مني ، لاني زهدت في دنيا فانية ، وزهدت في آخرة باقية .
وقال الفضيل : يا ربي ، إني لاستحيي أن أقول : توكلت عليك ، لو توكلت عليك ما خفت إلا منك ، ولا رجوت إلا إياك .
عوتب بعض الزهاد على كثرة التصدق بماله ، فقال : لو أراد رجل أن ينتقل من دار إلى دار ، ما أظنه كان يترك في الدار الاولى شيئا ! قال بعض الملوك لبعض الزهاد : ما لك لا تغشى بابي ، وأنت عبدي ! قال : لو علمت أيها الملك ، لعلمت أنك عبد عبدي ، لاني أملك الهوى ، والهوى يملكك .
دخل متظلم على سليمان بن عبد الملك ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أذكر يوم الاذان ، قال : وما يوم الاذان ؟ قال : اليوم الذي قال تعالى فيه : " فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين " (2) ، فبكى سليمان وأزال ظلامته .
سئل الفضيل بن عياض عن الزهد ، فقال : يجمعه حرفان في كتاب الله : " لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم " (3) .
كتب يحيى بن خالد من الحبس إلى الرشيد : ما يمر يوم من نعيمك إلا ويمر يوم من بؤسي ، وكلاهما إلى نفاد .
قيل لحاتم الاصم : علام بنيت أمرك ؟ قال : على أربع خصال : علمت أن رزقي لا يأكله غيري فلم أهتم به ، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به ، وعلمت أن الموت يأتيني بغتة فأنا أبادره ، وعلمت أني بعين الله في كل حال فاستحييت منه .
__________
(1) ب : " قال بعض الملوك " ، وما أتيته من أ ، ج .
(2) سورة الاعراف 44 .
(3) سورة الحديد 23 .
(*)(2/97)
نظر بعض الصالحين إلى رجل يفحش في قوله ، فقال : يا هذا إنما تملي على حافظيك كتابا إلى ربك ، فانظر ما تودعه .
كان يقال : مثل الدنيا والآخرة مثل ضرتين لبعل واحد ، إن أرضى هذه أسخط الاخرى .
قيل لبعضهم : ما مثل الدنيا ؟ قال هي أقل من أن يكون لها مثل .
دخل لص على بعض الزهاد الصالحين ، فلم ير في داره شيئا ، فقال له : يا هذا ، أين متاعك ؟ قال : حولته إلى الدار الاخرى .
قيل للربيع بن خيثم : يا ربيع ، ما نراك تذم أحدا ! فقال : ما أنا عن نفسي براض ، فأتحول من ذمي إلى ذم الناس ، إن الناس خافوا الله على ذنوب العباد وأمنوه على ذنوبهم .
قال عيسى بن موسى لابي شيبة القاضي : لم لا تأتينا ؟ قال : إن قربتني فتنتني ، وإن أقصيتني أحزنتني ، وليس عندي ما أخافك عليه ، ولا عندك ما أرجوك له .
من كلام بعض الزهاد : تأمل ذا الغنى ، ما أشد نصبه ، وإقل راحته ، وأخس من ماله حظه ، وأشد من الايام حذره ! هو بين سلطان يتهضمه ، وعدو يبغي عليه ، وحقوق تلزمه ، وأكفاء يحسدونه ، وولد يود فراقه ، قد بعث عليه غناه من سلطانه العنت ، ومن أكفائه الحسد ، ومن أعدائه البغي ، ومن ذوي الحقوق الذم ، ومن الولد الملالة .
ومن كلام سفيان الثوري : يا بن آدم ، جوارحك سلاح الله عليك ، بأيها شاء قتلك .
ميمون بن مهران في قوله تعالى : " ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون " (1) ، قال : إنها لتعزية للمظلوم ، ووعيد للظالم .
__________
(1) سورة إبراهيم 42 .
(*)(2/98)
دخل عبد الوارث بن سعيد على مريض يعوده ، فقال له : ما نمت منذ أربعين ليله ، فقال : يا هذا ، أحصيت ليالي البلاء ، فهل أحصيت ليالي الرخاء ! بعضهم : وا عجباه لمن يفرح بالدنيا ، فإنما هي عقوبة ذنب ! إبن السماك : خف الله حتى كأنك لم تطعه قط ، وارجه حتى كأنك لم تعصه قط .
بعضهم : العلماء أطباء هذا الخلق ، والدنيا داء هذا الخلق ، فإذا كان الطبيب يطلب الداء فمتى يبرئ غيره .
قيل لمحمد بن واسع : فلان زاهد ، قال : وما قدر الدنيا حتى يحمد من يزهد فيها ؟ رئي عبد الله بن المبارك واقفا بين مقبرة ومزبلة ، فقيل له : ما أوقفك ؟ قال أنا بين كنزين من كنوز الدنيا فيهما عبرة : هذا كنز الاموال ، وهذا كنز الرجال .
قيل لبعضهم : أتعبت نفسك ، فقال : راحتها أطلب .
دخل الاسكندر مدينة فتحها ، فسأل عمن بقي من أولاد الملوك بها ، فقيل : رجل يسكن المقابر ، فدعا به ، فقال : ما دعاك إلى لزوم هذه المقابر ؟ فقال : أحببت أن إميز بين عظام الملوك ، وعظام عبيدهم ، فوجدتها سواء .
فقال : هل لك أن تتبعني فأحيي شرفك وشرف آبائك ، إن كانت لك همة ! قال : همتي عظيمة ، قال : وما همتك ؟ قال : حياة لا موت معها ، وشباب لا هرم معه ، وغنى لا فقر معه ، وسرور لا مكروه معه ، فقال : ليس هذا عندي ، قال : فدعني التمسه ممن هو عنده .
مات ابن لعمر بن ذر ، فقال : لقد شغلني الحزن لك يا بني عن الحزن عليك .
كان يقال : من هوان الدنيا على الله ألا يعصى إلا فيها ، ولا ينال ما عنده إلا بتركها .
ومن كلام عبد الله بن شداد : أرى دواعي الموت لا تقلع ، وأرى من مضى لا يرجع ،(2/99)
فلا تزهدن في معروف ، فإن الدهر ذو صروف .
كم من راغب قد كان مرغوبا إليه ! والزمان ذو ألوان ، من يصحب الزمان ير الهوان ، وإن غلبت يوما على المال فلا تغلبن على الحيلة على كل حال ، وكن أحسن ما تكون في الظاهر حالا ، أقل ما تكون في الباطن مآلا .
كان يقال : إن مما يعجل الله تعالى عقوبته : الامانة تخان ، والاحسان يكفر ، والرحم تقطع ، والبغي على الناس .
الربيع بن خيثم : لو كانت الذنوب تفوح روائحها لم يجلس أحد إلى إحد .
قيل لبعضهم : كيف أصبحت ؟ قال : آسفا على أمسي ، كارها ليومي ، متهما لغدي .
وقيل لآخر : لم تركت الدنيا ؟ قال : أنفت من قليلها ، وأنف مني كثيرها .
وهذا كما قال بعضهم ، وقد قيل له : لم لا تقول الشعر ؟ قال : يأباني جيده ، وآبى رديئه .
بعض الصالحين : لو أنزل الله تعالى كتابا : إني معذب رجلا واحدا خفت أن أكونه ، أو إنه راحم رجلا واحدا ، لرجوت أن أكونه .
مطرف بن الشخير : خير الامور أوساطها ، وشر السير الحقحقة (1) .
وهذا الكلام قد روي مرفوعا .
يحيى بن معاذ : إن لله عليك نعمتين : في السراء التذكر ، وفي الضراء التصبر ، فكن في السراء عبدا شكورا ، وفي الضراء حرا صبورا .
دخل ابن السماك على الرشيد ، فقال له : عظني ، ثم دعا بماء ليشربه ، فقال له : ناشدتك الله لو منعك الله من شربه ما كنت فاعلا ؟ قال : كنت أفتديه بنصف ملكي ، قال : فاشربه ، فلما شرب ، قال : ناشدتك الله ! لو منعك الله من خروجه ما كنت فاعلا ؟ قال : كنت أفتديه بنصف ملكي ، قال : إن ملكا يفتدى به شربة ماء ، لخليق ألا ينافس عليه .
قال المنصور لعمرو بن عبيد رحمه الله تعالى : عظني ، قال : بما رأيت أم بما سمعت ؟
__________
(1) الحقحقة : أرفع السير وأتعبه للظهر .
(*)(2/100)
قال : بما رأيت ، قال : رأيت عمر بن عبد العزيز ، وقد مات ، فخلف أحد عشر ابنا ، وبلغت تركته سبعة عشر دينارا ، كفن منها بخمسة دنانير ، واشتري موضع قبره بدينارين ، وأصاب كل واحد من ولده دون الدينار .
ثم رأيت هشام بن عبد الملك ، وقد مات وخلف عشرة ذكور ، فأصاب كل واحد من ولده الف الف دينار .
ورأيت رجلا من ولد عمر بن عبد العزيز ، قد حمل في يوم واحد على مائة فرس في سبيل الله ، ورأيت رجلا من ولد هشام ، يسأل الناس ليتصدقوا عليه .
حسان بن أبي سنان : ما شئ أهون من ورع ؟ إذا رابك شئ فدعه .
مورق العجلي : لقد سألت الله حاجة أربعين سنة ، ما قضاها ولا يئست منها ، قيل : وما هي ؟ قال : ترك ما لا يعنيني .
قتادة : إن الله ليعطي العبد على نية الآخرة ما يسأله من الدنيا ، ولا يعطيه على نية الدنيا إلا الدنيا .
من كلام محمد بن واسع : ليس في النار عذاب أشد على أهلها من علمهم بأنه ليس لكربهم تنفيس ، ولا لضيقتهم ترفيه ، ولا لعذابهم غاية ، وليس في الجنة نعيم أبلغ من علم أهلها بأن ذلك الملك لا يزول عنهم .
قال بعض الملوك لبعض الزهاد : أذمم لي الدنيا ، قال : أيها الملك ، هي الآخذة لما تعطي ، المورثة بعد ذلك الندم ، السالبة ما تكسو ، المورثة بعد ذلك الفضوح ، تسد بالاراذل مكان الافاضل وبالعجزة مكان الحزمة ، تجد في كل من كل خلفا ، وترضى بكل من كل بدلا ، تسكن دار كل قرن قرنا ، وتطعم سؤر كل قوم قوما .
ومن كلام الحجاج - وكان مع غشمه وإلحاده واعظا بليغا مفوها - خطب فقال : اللهم أرني الغي غيا فأتجنبه ، وأرني الهدى هدى فأتبعه ، ولا تكلني إلى نفسي فأضل(2/101)
ضلالا بعيدا ، والله ما أحب أن ما مضى من الدنيا بعمامتي هذه ، ولما بقي منها أشبه بما مضى من الماء بالماء .
وقال مالك بن دينار : غدوت إلى الجمعة ، فجلست قريبا من المنبر ، فصعد الحجاج ، فسمعته يقول : امرؤ زور عمله ، امرؤ حاسب نفسه ، امرؤ فكر فيما يقرؤه في صحيفته ، ويراه في ميزانه ، امرؤ كان عند قلبه زاجر ، وعند همه آمر ، امرؤ أخذ بعنان قلبه ، كما يأخذ الرجل بخطام جمله ، فإن قاده إلى طاعة الله تبعه ، وإن قاده إلى معصية الله كفه ، إننا والله ما خلقنا للفناء ، وإنما خلقنا للبقاء ، وإنما ننتقل من دار إلى دار .
وخطب يوما ، فقال : إن الله أمرنا بطلب الآخرة ، وكفانا مئونة الدنيا ، فليته كفانا مئونة الآخرة ، وأمرنا بطلب الدنيا .
فقال الحسن : ضالة المؤمن خرجت من قلب المنافق .
ومن الكلام المنسوب إليه - وأكثر الناس يروونه عن أمير المؤمنين ع : أيها الناس ، اقدعوا هذه الانفس ، فإنها أسأل شئ إذا أعطيت ، وأبخل لشئ إذا سئلت ، فرحم الله امرأ جعل لنفسه خطاما وزماما ، فقادها بخطامها إلى طاعة الله ، وعطفها بزمامها عن معصية الله ، فإني رأيت الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذاب الله .
ومن كلامه : إن امرأ أتت عليه ساعة من عمره لم يذكر فيها ربه ، ويستغفر من ذنبه ، ويفكر في معاده ، لجدير أن يطول حزنه ، ويتضاعف أسفه .
إن الله كتب على الدنيا الفناء ، وعلى الآخرة البقاء ، فلا بقاء لما كتب عليه الفناء ، ولا فناء لما كتب عليه البقاء ، فلا يغرنكم شاهد الدنيا عن غائب الآخرة ، واقهروا طول الامل بقصر الاجل .(2/102)
ونقلت من " أمالي " أبي أحمد العسكري رحمه الله تعالى ، قال : خطب الحجاج يوما ، فقال : أيها الناس ، قد أصبحتم في أجل منقوص ، وعمل محفوظ .
رب دائب مضيع وساع لغيره .
والموت في أعقابكم ، والنار بين أيديكم ، والجنة أمامكم ، خذوا من أنفسكم لانفسكم ، ومن غناكم لفقركم ، ومما في أيديكم لما بين أيديكم ، فكأن ما قد مضى من الدنيا لم يكن ، وكأن الاموات لم يكونوا أحياء ، وكل ما ترونه فإنه ذاهب .
هذه شمس عاد وثمود وقرون كثيرة بين ذلك ، هذه الشمس التي طلعت على التبابعة والاكاسرة وخزائنهم السائرة بين أيديهم وقصورهم المشيدة ، ثم طلعت على قبورهم ! أين الملوك الاولون ! أين الجبابرة المتكبرون ! المحاسب الله ، والصراط منصوب ، وجهنم تزفر وتتوقد ، وأهل الجنة ينعمون ، في روضة يحبرون ، جعلنا الله وإياكم من الذين ، " إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا " (1) .
قال : فكان الحسن رحمه الله تعالى يقول : ألا تعجبون من هذا الفاجر ، يرقى عتبات المنبر فيتكلم بكلام الانبياء ، وينزل فيفتك فتك الجبارين ! يوافق الله في قوله ، ويخالفه في فعله ! (استطراد بلاغي في الكلام على المقابلة) وأما ما ذكره الرضي رحمه الله تعالى من المقابلة بين السبقة والغاية ، فنكتة جيده من علم البيان ، ونحن نذكر فيها أبحاثا نافعة ، فنقول : إما أن مقابل الشئ ضده أو ما ليس بضده .
فالاول كالسواد والبياض ، وهو قسمان : أحدهما : مقابله في اللفظ والمعنى .
__________
(1) سورة الفرقان 73 .
(*)(2/103)
والثاني : مقابله في المعنى لا في اللفظ .
أما الاول ، فكقوله تعالى : " فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا " (1) ، فالضحك ضد البكاء ، والقليل ضد الكثير .
وكذلك قوله تعالى : " لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم " (2) .
ومن كلام النبي ص : " خير المال عين ساهرة لعين نائمة " .
ومن كلام أمير المؤمنين ع لعثمان : إن الحق ثقيل مرئ ، وإن الباطل خفيف وبئ ، وأنت رجل إن صدقت سخطت ، وإن كذبت رضيت .
وكذلك قوله ع لما قالت الخوارج : لا حكم إلا لله : " كلمة حق أريد بها باطل " .
وقال الحجاج لسعيد بن جبير لما أراد قتله : ما اسمك ؟ فقال : سعيد بن جبير ، فقال : بل شقي بن كسير .
* * * وقال ابن الاثير في كتابه المسمى ب " المثل السائر " : إن هذا النوع من المقابلة غير مختص بلغه العرب ، فإنه لما مات قباذ أحد ملوك الفرس قال وزيره : حركنا بسكونه .
وفي أول كتاب الفصول لبقراط في الطب : العمر قصير والصناعة طويلة ، وهذا الكتاب على لغة اليونان (3) .
قلت : أي حاجة به إلى هذا التكلف ! وهل هذه الدعوى من الامور التي يجوز إن يعتري الشك والشبهة فيها ، ليأتي بحكاية مواضع من غير كلام العرب يحتج بها ! أليس كل قبيلة وكل أمة لها لغة تختص بها ! أليس الالفاظ دلالات على ما في الانفس
__________
(1) سورة التوبة 82 .
(2) سورة الحديد 23 .
(3) المثل السائر 2 : 280 ، من فصل عقده للتناسب بين المعاني .
(*)(2/104)
من المعاني ! فإذا خطر في النفس كلام يتضمن أمرين ضدين فلا بد لصاحب ذلك الخاطر - سواء أ كان عربيا أو فارسيا إو زنجيا أو حبشيا - أن ينطق بلفظ يدل على تلك المعاني المتضادة ، وهذا أمر يعم العقلاء كلهم ، على أن تلك اللفظة التي قالها ، ما قيلت في موت قباذ ، وإنما قيلت في موت الاسكندر ، لما تكلمت الحكماء وهم حول تابوته بما تكلموا به من الحكم .
* * * ومما جاء من هذا القسم من المقابلة في الكتاب العزيز قوله تعالى في صفة الواقعة : " خافضة رافعة " (1) ، لانها تخفض العاصين ، وترفع المطيعين .
وقوله تعالى : " فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب " (2) .
وقوله : " أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين (3) .
ومن هذا الباب قول النبي ص للانصار : " إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع " .
ومما جاء من ذلك في الشعر قول الفرزدق يهجو قبيله جرير : يستيقظون إلى نهيق حميرهم * * وتنام أعينهم عن الاوتار (4) وقال آخر : فلا الجود يفني المال والجد مقبل * * ولا البخل يبقي المال والجد مدبر (5)
__________
(1) سورة الواقعة 3 .
(2) سورة الحديد 13 .
(3) سورة المائدة 54 .
(4) ديوانه : 45 ، وروايته : " إلى نهاق حميرهم " .
(5) في المثل السائر 283 2 من غير نسبة .
(*)(2/105)
وقال أبو تمام : ما إن ترى الاحساب بيضا وضحا * * إلا بحيث ترى المنايا سودا (1) .
(وكذلك قال من هذه القصيدة أيضا) (2) : شرف على أولى الزمان وإنما * * خلق المناسب ما يكون جديدا (3) .
وإما القسم الثاني من القسم الاول ، وهو مقابلة الشئ بضده بالمعنى لا باللفظ ، فكقول المقنع الكندي : لهم جل مالي إن تتابع لي غنى * * وإن قل مالي لا أكلفهم رفدا (4) .
فقوله : " إن تتابع لي غنى " في قوة قوله : " إن كثر مالي " ، والكثرة ضد القلة ، فهو إذن مقابل بالمعنى لا باللفظ بعينه .
ومن هذا الباب قول البحتري : تقيض لي من حيث لا أعلم النوى * * ويسري إلي الشوق من حيث أعلم (5) .
فقوله : " لا أعلم " ليس ضدا لقوله : " أعلم " ، لكنه نقيض له ، وفي قوة قوله : " أجهل " ، والجهل ضد العلم .
ومن لطيف ما وقعت المقابلة به من هذا النوع قول أبي تمام : مها الوحش إلا أن هاتا أوانس * * قنا الخط إلا أن تلك ذوابل (6)
__________
(1) ديوانه 1 : 423 .
(2) تكملة من كتاب المثل السائر .
(3) ديوانه 1 : 419 .
(4) ديوان الحماسة - بشرح المرزوقي 2 : 1180 .
(5) ديوانه 3 : 116 ، قال الصولي في شرحه يقول : هن كبقر الوحش في تهاديهن وحسن عيونهن ، وهن كقنا الخط في القد ، إلا أن القنا ذوابل ، وهن طراء ، وقيل للقنا : ذوابل ، لانها تلين عند الطعن فلا تنكسر .
(*)(2/106)
فقابل بين " هاتا " وبين " تلك " ، وهي مقابلة معنوية لا لفظية ، لان " هاتا " للحاضرة ، و " تلك " للغائبة ، والحضور ضد الغيبة .
وإما مقابلة الشئ لما ليس بضده ، فإما أن يكون مثلا أو مخالفا .
والاول على ضربين : مقابلة المفرد بالمفرد ، ومقابلة الجملة بالجملة .
مثال مقابلة المفرد بالمفرد قوله تعالى : " نسوا الله فأنساهم أنفسهم " (1) ، وقوله : " ومكروا مكرا ومكرنا مكرا " (2) ، هكذا قال نصر الله بن الاثير .
قال : وهذا مراعى في القرآن الكريم إذا كان جوابا كما تقدم من الآيتين ، وكقوله : " وجزاء سيئة سيئة مثلها " (3) ، وقوله : " من كفر فعليه كفره " (4) .
قال : وقد كان يجوز إن يقول : " من كفر فعليه ذنبه " ، لكن الاحسن هو إعادة اللفظ ، فأما إذا كان غير جواب لم تلزم فيه هذه المراعاة اللفظية ، بل قد تقابل اللفظة بلفظة تفيد معناها ، وإن لم تكن هي بعينها ، نحو قوله تعالى : " ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون " (5) ، فقال : " يفعلون " ولم يقل " يعملون " .
وكذلك قوله تعالى : " ففزع منهم قالوا لا تخف " (6) ، ولم يقل : " قالوا لا تفزع " .
وكذلك قوله تعالى : " إنما كنا نخوض ونلعب قل أ بالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون " (7) ، ولم يقل : " كنتم تخوضون وتلعبون " .
__________
(1) سورة الحشر 19 .
(2) سورة النمل 50 .
(3) سورة الشورى 40 .
(4) سورة الروم 44 .
(5) سورة الزمر 70 .
(6) سورة ص 22 .
(7) سورة التوبة 65 .
(*)(2/107)
قال : ونحو ذلك من الابيات الشعرية قول أبي تمام : بسط الرجاء لنا برغم نوائب * * كثرت بهن مصارع الآمال (1) فقال : " الآمال " عوض " الرجاء " قال أبو الطيب : إني لاعلم واللبيب خبير * * أن الحياة - وإن حرصت - غرور (2) فقال : " خبير " ولم يقل : " عليم " .
قال : وإنما حسن ذلك ، لانه ليس بجواب ، وإنما هو كلام مبتدأ .
قلت : الصحيح أن هذه الآيات ، وهي قوله تعالى : " نسوا الله فأنساهم أنفسهم " وما شابهها ليست من باب المقابلة التي نحن في ذكرها ، وأنها نوع آخر ، ولو سميت : المماثلة أو المكافأة لكان أولى ، والدليل على ذلك أن هذا الرجل حد المقابلة في أول الباب الذي ذكر هذا البحث فيه ، فقال : إنها ضد التجنيس ، لان التجنيس أن يكون اللفظ واحدا مختلف المعنى ، وهذه لا بد أن تتضمن معنيين ضدين ، وإن كان التضاد مأخوذا في حدها ، فقد خرجت هذه الآيات من باب المقابلة ، وكانت نوعا آخر .
وأيضا فإن قوله تعالى : " ومكروا مكرا ومكرنا مكرا " ليس من سلك الآيات الاخرى ، لانه بالواو ، والآيات الاخرى ، بالفاء ، والفاء جواب ، والواو ليست بجواب .
وأيضا فإنا إذا تأملنا القرآن العزيز لم نجد ما ذكره هذا الرجل مطردا ، قال تعالى : " أما من استغنى .
فأنت له تصدى .
وما عليك ألا يزكى .
وأما من جاءك يسعى .
وهو يخشى .
فأنت عنه تلهى) (3) ، فلم يقل في الثانية : " وأما من جاءك يسعى .
وهو فقير " .
وقال تعالى : " فأما من أعطى واتقى .
وصدق بالحسنى .
فسنيسره لليسرى .
وأما من
__________
(1) ديوانه 3 : 151 .
(2) ديوانه 2 : 128 .
(3) سورة عبس 5 - 10 .
(*)(2/108)
بخل واستغنى .
وكذب بالحسنى .
فسنيسره للعسرى " (1) ، فقابل بين " أعطى " و " بخل " ولم يقابل بين " اتقى " و " استغنى " ، ومثل هذا في القرآن العزيز كثير ، وأكثر من الكثير .
وقد بان الآن أن التقسيم الاول فاسد ، وأنه لا مقابلة إلا بين الاضداد وما يجري مجراها .
وأما مقابلة الجملة بالجملة في تقابل المتماثلين ، فإنه إذا كانت إحداهما في معنى الاخرى وقعت المقابلة ، والاغلب أن تقابل الجملة الماضية بالماضية ، والمستقبلة بالمستقبلة .
وقد تقابل الجملة الماضية بالمستقبلة ، فمن ذلك قوله تعالى : " قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي " (2) ، فإن هذا تقابل من جهة المعنى ، لانه لو كان من جهة اللفظ لقال : " وإن اهتديت فإنما أهتدى لها " .
ووجه التقابل المعنوي هو أن كل ما على النفس فهو بها ، أعني كل ما هو عليها وبال وضرر فهو منها وبسببها ، لانها الامارة بالسوء ، وكل ما لها مما ينفعها فهو بهداية ربها وتوفيقه لها .
ومن ذلك قوله تعالى : " ألم يروا إنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا " (3) ، فإنه لم يراع التقابل اللفظي ، ولو راعاه لقال : والنهار ليبصروا فيه ، وإنما المراعاة لجانب المعنى ، لان معنى " مبصرا " ليبصروا فيه طرق التقلب في الحاجات .
وأما مقابلة المخالف ، فهو على وجهين : أحدهما : أن يكون بين المقابل والمقابل نوع مناسبة وتقابل ، كقول القائل : يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة * * ومن إساءة أهل السوء إحسانا .
__________
(1) سورة الليل 5 - 10 .
(2) سورة سبأ 50 .
(3) سورة النمل 86 .
(4) لانيف بن قريط العنبري من أبيات في ديوان الحماسة - بشرح المرزوقي 1 : 22 .
(*)(2/109)
فقابل الظلم بالمغفرة ، وهي مخالفة له ، ليست مثله ولا ضده ، وإنما الظلم ضد العدل ، إلا أنه لما كانت المغفرة قريبة من العدل حسنت المقابلة بينها وبين الظلم ، ونحو هذا قوله تعالى : " أشداء على الكفار رحماء بينهم " (1) ، فإن الرحمة ليست ضدا للشدة ، وإنما ضد الشدة اللين ، إلا أنه لما كانت الرحمة سببا للين حسنت المقابلة بينها وبين الشدة .
وكذلك قوله تعالى : " إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا " (2) ، فإن المصيبة أخص من السيئة ، فالتقابل هاهنا من جهة العموم والخصوص .
الوجه الثاني : ما كان بين المقابل والمقابل بعد ، وذلك مما لا يحسن استعماله ، كقول امرأة من العرب لابنها ، وقد تزوج بامرأة غير محمودة : تربص بها الايام عل صروفها * * سترمي بها في جاحم متسعر (3) فكم من كريم قد مناه إلهه * * بمذمومة الاخلاق واسعه الحر .
ف " مذمومة " ليست في مقابلة " واسعة " ، ولو كانت قالت : " بضيقة الاخلاق " ، كانت المقابلة صحيحة ، والشعر مستقيما .
وكذلك قول المتنبي : لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها * * سرور محب أو مساءة مجرم ! (4) فالمقابلة الصحيحة بين المحب والمبغض ، لا بين المحب والمجرم .
قلت : إن لقائل أن يقول : هلا قلت في هذا ما قلت في السيئة والمصيبة ! ألست القائل إن : التقابل حسن بين المصيبة والسيئة ، لكنه تقابل العموم والخصوص ! وهذا الموضع مثله أيضا ، لان كل مبغض لك مجرم إليك ، لان مجرد البغضة جرم ، ففيهما عموم وخصوص .
بل لقائل أن يقول : كل مجرم مبغض ، وكل مبغض مجرم ، وهذا صحيح مطرد .
__________
(1) سورة الفتح 29 .
(2) سورة التوبة 50 .
(3) من أبيات نسبها أبو تمام في الحماسة إلى أم القحيف .
شرح التبريزي (4 : 34) والجاحم : النار الشديدة التأجج .
(4) ديوانه 4 : 141 .
(*)(2/110)
(29) الاصل : من خطبة له ع : أيها الناس ، المجتمعة أبدانهم ، المختلفة أهواؤهم كلامكم يوهي الصم الصلاب ، وفعلكم يطمع فيكم الاعداء .
تقولون في المجالس : كيت وكيت ، فإذا جاء القتال قلتم : حيدي حياد ! ما عزت دعوة من دعاكم ، ولا استراح قلب من قاساكم ، أعاليل بأضاليل ، دفاع ذي الدين المطول .
لا يمنع الضيم الذليل ، ولا يدرك الحق إلا بالجد .
أي دار بعد داركم تمنعون ! ومع أي إمام بعدي تقاتلون ! المغرور والله من غررتموه ، ومن فاز بكم فقد فاز والله بالسهم الاخيب ، ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل .
أصبحت والله لا أصدق قولكم ، ولا أطمع في نصركم ، ولا أوعد العدو بكم .
ما بالكم ؟ ما دواؤكم ؟ ما طبكم ؟ القوم رجال أمثالكم .
أقولا بغير علم ! وغفلة من غير ورع ! وطمعا في غير حق ! * * * الشرح حيدي حياد ، كلمة يقولها الهارب الفار ، وهي نظيرة قولهم : " فيحي فياح " (1) ،
__________
(1) في اللسان : فياح مثل قطام : إسم للغارة ، وكان يقال للغارة في الجاهلية : فيحي فياح ، وذلك إذا دفعت الخيل المغيرة فاتسعت .
(*)(2/111)
أي اتسعي ، وصمي صمام ، للداهية (1) .
وأصلها من حاد عن الشئ ، أي انحرف ، وحياد ، مبنية على الكسر ، وكذلك ما كان من بابها ، نحو قولهم : بدار ، أي ليأخذ كل واحد قرنه .
وقولهم : خراج في لعبة للصبيان ، أي اخرجوا .
والباء في قوله : " بأضاليل " متعلقة ب " أعاليل " نفسها ، أي يتعللون بالاضاليل التي لا جدوى لها .
والسهم الافوق : المكسور الفوق ، وهو مدخل الوتر .
والناصل : الذي لا نصل فيه يخاطبهم ، فيقول لهم : أبدانكم مجتمعة وأهواؤكم مختلفة ، متكلمون بما هو في الشده والقوة يوهي الجبال الصم الصلبة ، وعند الحرب يظهر أن ذلك الكلام لم يكن له ثمرة .
تقولون في المجالس : كيت وكيت ، أي سنفعل وسنفعل ، وكيت وكيت كناية عن الحديث ، كما كنى بفلان عن العلم ، ولا تستعمل إلا مكرره ، وهما مخففان من " كيه " وقد استعملت على الاصل ، وهي مبنية على الفتح .
وقد روى أئمة العربية فيها الضم والكسر أيضا .
فإذا جاء القتال فررتم وقلتم الفرار الفرار .
ثم أخذ في الشكوى ، فقال : من دعاكم لم تعز دعوته ، ومن قاساكم لم يسترح قلبه .
دأبكم التعلل بالامور الباطلة ، والاماني الكاذبة .
وسألتموني الارجاء وتأخر الحرب كمن يمطل بدين لازم له .
والضيم لا يدفعه الذليل ، ولا يدرك الحق إلا بالجد فيه والاجتهاد وعدم الانكماش .
وباقي الفصل ظاهر المعنى .
__________
(1) صمي صمام ، أي زيدي .
(*)(2/112)
وقوله : " القوم رجال أمثالكم " مثل قول الشاعر : قاتلوا القوم يا خزاع ولا * * يدخلكم من قتالهم فشل القوم أمثالكم لهم شعر * * في الرأس لا ينشرون إن قتلوا .
* * * وهذه الخطبة خطب بها أمير المؤمنين ع في غارة الضحاك بن قيس ، ونحن نقص ها هنا : (غارة الضحاك بن قيس ونتف من أخباره) روى إبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال الثقفي في كتاب " الغارات " قال : كانت غارة الضحاك بن قيس بعد الحكمين ، وقبل قتال النهروان ، وذلك أن معاوية لما بلغه أن عليا ع بعد واقعة الحكمين تحمل إليه مقبلا ، هاله ذلك ، فخرج من دمشق معسكرا ، وبعث إلى كور الشام ، فصاح بها (1) : إن عليا قد سار إليكم .
وكتب إليهم نسخة واحدة ، فقرئت على الناس .
أما بعد ، فإنا كنا كتبنا كتابا بيننا وبين علي ، وشرطنا فيه شروطا ، وحكمنا رجلين يحكمان علينا وعليه بحكم الكتاب لا يعدوانه ، وجعلنا عهد الله وميثاقه على من نكث العهد ولم يمض الحكم ، وإن حكمي الذي كنت حكمته أثبتني ، وإن حكمه خلعه ، وقد أقبل إليكم ظالما ، " فمن نكث فإنما ينكث على نفسه " (2) ، تجهزوا للحرب بأحسن الجهاز ، وأعدوا آله القتال ، وأقبلوا خفافا وثقالا يسرنا الله وإياكم لصالح الاعمال !
__________
(1) ب : " فيها " .
(2) سورة الفتح 10 .
(*)(2/113)
فاجتمع إليه الناس من كل كوره (1) وأرادوا المسير إلى صفين ، فاستشارهم ، وقال : إن عليا قد خرج من الكوفة ، وعهد العاهد به أنه فارق النخيلة (2) .
فقال حبيب بن مسلمة : فإني أرى أن نخرج حتى ننزل منزلنا الذي كنا فيه ، فإنه منزل مبارك ، وقد متعنا الله به وأعطانا من عدونا فيه النصف .
وقال عمرو بن العاص : إني أرى لك أن تسير بالجنود حتى توغلها في سلطانهم من أرض الجزيرة ، فإن ذلك أقوى لجندك ، وأذل لاهل حربك .
فقال معاوية : والله إني لاعرف أن الذي تقول كما تقول ، ولكن الناس لا يطيقون ذلك .
قال عمرو : إنها أرض رفيقة ، فقال معاوية : إن جهد الناس أن يبلغوا منزلهم الذي كانوا به - يعني صفين .
فمكثوا يجيلون الرأي يومين أو ثلاثة ، حتى قدمت عليهم عيونهم : أن عليا اختلف عليه أصحابه ففارقته منهم فرقة أنكرت أمر الحكومة ، وأنه قد رجع عنكم إليهم .
فكبر الناس سرورا لانصرافه عنهم ، وما ألقى الله عزوجل من الخلاف بينهم .
فلم يزل معاوية معسكرا في مكانه ، منتظرا لما يكون من علي وأصحابه ، وهل يقبل بالناس أم لا ؟ فما برح حتى جاء الخبر أن عليا قد قتل أولئك الخوارج ، وأنه أراد بعد قتلهم أن يقبل بالناس ، وأنهم استنظروه ودافعوه ، فسر بذلك هو ومن قبله من الناس .
قال : وروى ابن أبي سيف (3) ، عن يزيد بن يزيد بن جابر ، عن عبد الرحمن بن مسعدة الفزاري قال : جاءنا كتاب عمارة بن عقبة بن أبي معيط ، وكان بالكوفة مقيما ، ونحن معسكرون مع معاوية ، نتخوف أن يفرغ علي من الخوارج ثم يقبل إلينا ، ونحن نقول : إن أقبل إلينا كان أفضل المكان الذى نستقبله به ، المكان الذي لقيناه فيه العام الماضي .
فكان في كتاب عمارة بن عقبة : أما بعد : فإن عليا خرج عليه قراء
__________
(1) الكورة : كل صقع يشتمل على عدة قرى ، ولا بد لتلك القرى من قصبة أو مدينة أو نهر ، يجمع اسمها .
معجم البلدان 1 : 36 .
(2) النخيلة : موضع قرب الكوفة .
(3) كذا في أ ، ج ، وفي ب : " سفيان " .
(*)(2/114)
أصحابه ونساكهم ، فخرج إليهم فقتلهم ، وقد فسد عليه جنده وأهل مصره ، ووقعت بينهم العداوة ، وتفرقوا أشد الفرقة ، وأحببت إعلامك لتحمد الله والسلام .
قال عبد الرحمن بن مسعدة : فقرأه معاوية على وجه أخيه عتبة ، وعلى الوليد بن عقبة ، وعلى أبي الاعور السلمي ، ثم نظر إلى أخيه عتبة وإلى الوليد بن عقبة ، وقال للوليد : لقد رضي أخوك أن يكون لنا عينا .
فضحك الوليد وقال : إن في ذلك أيضا لنفعا .
وروى أبو جعفر الطبري قال : كان عمارة مقيما بالكوفة بعد قتل عثمان ، لم يهجه علي ع ولم يذعره ، وكان يكتب إلى معاوية بالاخبار سرا .
ومن شعر الوليد لاخيه عمارة يحرضه : إن يك ظني في عمارة صادقا * * ينم ثم لا يطلب بذحل ولا وتر (1) يبيت وأوتار ابن عفان عنده * * مخيمة بين الخورنق فالقصر تمشى رخي البال مستشزر القوى * * كأنك لم تسمع بقتل أبي عمرو (2) ألا إن خير الناس بعد ثلاثة * * قتيل التجيبي الذي جاء من مصر (3) قال : فاجأبه الفضل بن العباس بن عبد المطلب : أتطلب ثأرا لست منه ولا له * * وما لابن ذكوان الصفوري والوتر (4)
__________
(1) تاريخ الطبري 5 : 151 ، مع اختلاف في الرواية وترتيب الابيات .
والوتر والذحل : الثأر .
(2) لم يذكره في الطبري ، ومستشزر القوى : مستحكم ، وأصله في الحبل المفتول .
(3) التجيبي ، هو كنانة بن بشر بن عتاب الرياحي ، أحد قتلة عثمان ، قال الطبري : " ضرب كنانة بن بشر جبينه ومقدم رأسه بعمود حديد ، فخر لجبينه " (6 : 132) .
(4) الطبري : * وأين ابن ذكوان الصفوري من عمرو * *(2/115)
كما افتخرت بنت الحمار بأمها * * وتنسى أباها إذ تسامى أولو الفخر (1) ألا إن خير الناس بعد نبيهم * * وصي النبي المصطفى عند ذي الذكر (2) وأول من صلى وصنو نبيه * * وأول من أردى الغواة لدى بدر (3) أما معنى قوله : " وما لابن ذكوان الصفوري " ، فإن الوليد هو ابن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو ، واسمه ذكوان بن أمية بن عبد شمس .
وقد ذكر جماعة من النسابين أن ذكوان كان مولى لامية بن عبد شمس ، فتبناه وكناه أبا عمرو ، فبنوه موال وليسوا من بني أمية لصلبه .
والصفوري : منسوب إلى صفورية قرية من قرى الروم .
* * * قال إبراهيم بن هلال الثقفي : فعند ذلك دعا معاوية الضحاك بن قيس الفهري ، وقال له : سر حتى تمر بناحية الكوفة وترتفع عنها ما استطعت ، فمن وجدته من الاعراب في طاعة علي ع فأغر عليه ، وإن وجدت له مسلحة (4) أو خيلا فأغر عليها ، وإذا أصبحت في بلدة فأمس في أخرى ، وجدت له مسلحة (4) أو خيلا فأغر عليها ، وإذا أصبحت في بلدة فأمس في أخرى ، ولا تقيمن لخيل بلغك أنها قد سرحت إليك لتلقاها فتقاتلها .
فسرحه فيما بين ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف .
فأقبل الضحاك ، فنهب الاموال وقتل من لقي من الاعراب ، حتى مر بالثعلبية (5)
__________
(1) رواية الطبري : كما اتصلت بنت الحمار بأمها * * وتنسى أباها إذ تسامى أولي الفخر (2) الطبري : " بعد محمد " .
(3) بعده في الطبري : فلو رأت الانصار ظلم ابن عمكم * * لكانوا له من ظلمه حاضري النصر كفى ذاك عيبا أن يشيروا بقتله * * وأن يسلموه للاحابيش من مصر (4) المسلحة هنا : القوم ذوو سلاح .
(5) الثعلبية : من منازل طريق مكة إلى الكوفة .
(*)(2/116)
فأغار على الحاج ، فأخذ أمتعتهم ، ثم أقبل فلقي عمرو بن عميس بن مسعود الذهلي ، وهو ابن أخي عبد الله بن مسعود ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقتله في طريق الحاج عند القطقطانة (1) .
وقتل معه ناسا من أصحابه .
قال : فروى إبراهيم بن مبارك البجلي عن أبيه ، عن بكر بن عيسى ، عن أبى روق ، قال : حدثنى أبي ، قال : سمعت عليا عليه السلام ، وقد خرج إلى الناس ، وهو يقول على المنبر : يا أهل الكوفة ، اخرجوا إلى العبد الصالح عمرو بن عميس ، وإلى جيوش لكم قد أصيب منهم طرف ، اخرجوا فقاتلوا عدوكم ، وامنعوا حريمكم إن كنتم فاعلين .
فردوا عليه ردا ضعيفا ، ورأى منهم عجزا وفشلا ، فقال : والله لوددت أن لي بكل ثمانية منكم رجلا منهم ! ويحكم اخرجوا معي ، ثم فروا عني ما بدا لكم ، فو الله ما أكره لقاء ربي على نيتي وبصيرتي ، وفي ذلك روح لي عظيم ، وفرج من مناجاتكم ومقاساتكم .
ثم نزل .
فخرج يمشي حتى بلغ الغريين ، ثم دعا حجر بن عدي الكندي ، فعقد له على أربعة آلاف .
وروى محمد بن يعقوب الكليني ، قال : استصرخ أمير المؤمنين عليه السلام الناس عقيب غارة الضحاك بن قيس الفهري على أطراف أعماله ، فتقاعدوا عنه ، فخطبهم ، فقال : ما عزت دعوة من دعاكم ، ولا استراح قلب من قاساكم ...
الفصل إلى آخره .
* * * قال إبراهيم الثقفي : فخرج حجر بن عدي حتى مر بالسماوة - وهي أرض كلب -
__________
(1) القطقطانة : بالضم ثم السكون : موضع قرب الكوفة من جهة البرية بالطف .
(*)(2/117)
فلقي بها امرأ القيس بن عدي بن أوس بن جابر بن كعب بن عليم الكلبي - وهم أصهار الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام - فكانوا أدلاءه في الطريق وعلى المياه فلم يزل مغذا في أثر الضحاك ، حتى لقيه بناحيه تدمر ، فواقعه فاقتتلوا ساعة ، فقتل من أصحاب الضحاك تسعة عشر رجلا ، وقتل من أصحاب حجر رجلان ، وحجز الليل بينهم .
فمضى الضحاك ، فلما أصبحوا لم يجدوا له ولاصحابه إثرا .
وكان الضحاك يقول بعد : أنا ابن قيس ، أنا أبو أنيس ! أنا قاتل عمرو بن عميس .
* * * قال : وكتب في أثر هذه الوقعة عقيل بن أبي طالب إلى أخيه أمير المؤمنين عليه السلام ، حين بلغه خذلان أهل الكوفة وتقاعدهم به : لعبد الله علي أمير المؤمنين عليه السلام .
من عقيل بن أبي طالب .
سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد ، فإن الله حارسك من كل سوء ، وعاصمك من كل مكروه ، وعلى كل حال ، إني قد خرجت إلى مكة معتمرا ، فلقيت عبد الله بن سعد بن أبي سرح في نحو من أربعين شابا من أبناء الطلقاء ، فعرفت المنكر في وجوههم ، فقلت : إلى أين يا أبناء الشانئين ! أ بمعاوية تلحقون ! عداوة والله منكم قديما غير مستنكرة ، تر يدون بها إطفاء نور الله ، وتبديل أمره .
فأسمعني القوم وأسمعتهم ، فلما قدمت مكة ، سمعت أهلها يتحدثون أن الضحاك بن قيس أغار على الحيرة ، فاحتمل من أموالها ما شاء ، ثم انكفا راجعا سالما .
فأف لحياة في دهر جرأ عليك الضحاك ! وما الضحاك ! فقع بقرقر (1) ! وقد توهمت حيث بلغني ذلك أن شيعتك و أنصارك خذلوك ، فاكتب إلى يا بن أمي برأيك فإن كنت الموت تريد ، تحملت إليك ببني أخيك ،
__________
(1) القرقر : المستوية ، والفقع : ضرب من أردأ الكمأة ، يقال للرجل الذليل : هو فقع قرقر ، لان الدواب تنجله بأرجلها .
(*)(2/118)
وولد أبيك ، فعشنا معك ما عشت ، ومتنا معك إذا مت ، فو الله ما أحب أن أبقى في الدنيا بعدك فواقا .
وأقسم بالاعز الاجل ، إن عيشا نعيشه بعدك في الحياة لغير هنئ ولا مرئ ولا نجيع ، والسلام عليك ورحمه الله وبركاته .
* * * فكتب إليه عليه السلام : من عبد الله علي أمير المؤمنين : إلى عقيل بن أبي طالب .
سلام الله عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد : كلانا الله وإياك كلاءة من يخشاه بالغيب ، إنه حميد مجيد .
قد وصل إلي كتابك مع عبد الرحمن بن عبيد الازدي ، تذكر فيه أنك لقيت عبد الله بن سعد بن أبي سرح مقبلا من قديد (1) في نحو من أربعين فارسا من أبناء الطلقاء ، متوجهين إلى جهة الغرب ، وإن ابن أبي سرح طالما كاد الله ورسوله وكتابه ، وصد عن سبيله وبغاها عوجا ، فدع ابن أبي سرح ، ودع عنك قريشا ، وخلهم وتركاضهم في الضلال ، وتجوالهم في الشقاق .
ألا وإن العرب قد أجمعت على حرب أخيك اليوم إجماعها على حرب رسول الله صلى الله عليه وآله قبل اليوم ، فأصبحوا قد جهلوا حقه ، وجحدوا فضله ، وبادروه العداوة ، ونصبوا له الحرب ، وجهدوا عليه كل الجهد ، وجروا إليه جيش الاحزاب .
اللهم فاجز قريشا عني الجوازي (2) ! فقد قطعت رحمي ، وتظاهرت علي ، ودفعتني عن حقي ، وسلبتني سلطان ابن أمي ، وسلمت ذلك إلى من ليس مثلي في قرابتي من الرسول ، وسابقتي في الاسلام ! إلا أن يدعي مدع ما لا أعرفه ، ولا أظن الله يعرفه ، والحمد لله على كل حال .
فأما ما ذكرته من غارة الضحاك على أهل الحيرة ، فهو أقل وأزل من أن يلم بها
__________
(1) قديد : موضع قرب مكة .
(2) الجوازي : جمع جازية ، وهي المكافأة على الشئ .
(*)(2/119)
أو يدنو منها ، ولكنه قد كان أقبل في جريدة خيل ، على السماوة ، حتى مر بواقصة (1) وشراف (2) والقطقطانة ، مما والى ذلك الصقع ، فوجهت إليه جندا كثيفا من المسلمين ، فلما بلغه ذلك فر هاربا ، فأتبعوه فلحقوه ببعض الطريق وقد أمعن ، وكان ذلك حين طفلت (3) الشمس للاياب ، فتناوشوا القتال قليلا كلا ولا (4) ، فلم يصبر لوقع المشرفية (5) ، وولى هاربا ، وقتل من أصحابه بضعة عشر رجلا ، ونجا جريضا (6) بعد ما أخذ منه بالمخنق ، فلايا بلاي ما نجا .
فأما ما سألتني أن أكتب لك برأيي فيما أنا فيه ، فإن رأيي جهاد المحلين حتى ألقى الله ، لا يزيدني كثرة الناس معي عزة ، ولا تفرقهم عني وحشة ، لانني محق والله مع المحق ، ووالله ما أكره الموت على الحق ، وما الخير كله إلا بعد الموت لمن كان محقا .
وأما ما عرضت به من مسيرك إلي ببنيك وبنى أبيك فلا حاجة لي في ذلك ، فأقم راشدا محمودا ، فو الله ما أحب أن تهلكوا معي إن هلكت ، ولا تحسبن ابن أمك - ولو أسلمه الناس - متخشعا ولا متضرعا إنه لكما قال أخو بني سليم (7) : فإن تسأليني كيف أنت فإنني * * صبور على ريب الزمان صليب يعز علي أن تري بي كآبة * * فيشمت عاد أو يساء حبيب .
* * * قال إبراهيم بن هلال الثقفي : وذكر محمد بن مخنف أنه سمع الضحاك بن قيس بعد ذلك بزمان يخطب على منبر الكوفة ، وقد كان بلغه أن قوما من أهلها يشتمون عثمان
__________
(1) واقصة : منزل في طريق مكة .
(2) إشراف ، بفتح أوله : موضع قريب من واقصة في طريق مكة أيضا .
(3) طفلت الشمس : مالت إلى الغروب .
(4) قال في اللسان : العرب إذا أرادوا تقليل مدة فعل قالوا : كان فعله كلا ، وربما كرروا فقالوا : كلا ولا (20 : 375) .
(5) المشرفية : السيوف ، منسوبة إلى مشارف الشام ، قرى من أرض العرب تدنو من الريف .
(6) جريضا : مجهودا يكاد يقضي .
(7) هو صخر بن الشريد السلمي .
(*)(2/120)
ويبرءون منه ، فسمعته يقول : بلغني أن رجالا منكم ضلالا يشتمون أئمة الهدى ، ويعيبون أسلافنا الصالحين ، أما والذي ليس له ند ولا شريك ، لئن لم تنتهوا عما يبلغني عنكم ، لاضعن فيكم سيف زياد ، ثم لا تجدونني ضعيف السورة (1) ، ولا كليل الشفرة .
أما إني لصاحبكم الذي أغرت على بلادكم ، فكنت أول من غزاها في الاسلام ، وشرب من ماء الثعلبية ومن شاطئ الفرات ، إعاقب من شئت ، وأعفو عمن شئت ، لقد ذعرت المخدرات (2) في خدورهن ، وإن كانت المرأة ليبكي ابنها فلا ترهبه ولا تسكته إلا بذكر اسمي .
فاتقوا الله يا أهل العراق ، أنا الضحاك بن قيس ، أنا أبو أنيس ، أنا قاتل عمرو بن عميس ! فقام إليه عبد الرحمن بن عبيد ، فقال : صدق الامير وأحسن القول ، ما أعرفنا والله بما ذكرت ! ولقد لقيناك بغربي تدمر ، فوجدناك شجاعا مجربا صبورا .
ثم جلس ، وقال : أ يفخر علينا بما صنع ببلادنا أول ما قدم .
وأيم الله لاذكرنه أبغض مواطنه إليه .
قال : فسكت الضحاك قليلا ، وكأنه خزي واستحيا ، ثم قال : نعم كان ذلك اليوم ! فاخذه بكلام ثقيل ، ثم نزل .
قال محمد بن مخنف : فقلت لعبد الرحمن بن عبيد - أو قيل له : لقد اجترأت حين تذكره هذا اليوم ، وتخبره أنك كنت فيمن لقيه ! فقال : لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا .
قال : وسأل الضحاك عبد الرحمن بن عبيد حين قدم الكوفة ، فقال : لقد رأيت منكم بغربي تدمر رجلا ما كنت أرى أن في الناس مثله ، حمل علينا ، فما كذب حتى ضرب الكتيبة التي أنا فيها ، فلما ذهب ليولي حملت عليه ، فطعنته ، فوقع ثم قام
__________
(1) السورة : الشدة .
(2) المخدرة : المرأة في الخدر ، وهو ستر يمد في ناحية البيت .
(*)(2/121)
فلم يضره شيئا ، ثم لم يلبث أن حمل علينا في الكتيبة التي أنا فيها ، فصرع رجلا ثم ذهب لينصرف ، فحملت عليه فضربته على رأسه بالسيف ، فخيل إلي أن سيفي قد ثبت في عظم رأسه ، فضربني ، فو الله ما صنع سيفه شيئا ، ثم ذهب فظننت إنه لن يعود ، فو الله ما راعني إلا وقد عصب رأسه بعمامة ، ثم أقبل نحونا فقلت : ثكلتك أمك ! أ ما نهتك الاوليان عن الاقدام علينا ؟ قال : إنهما لم تنهياني ، إنما أحتسب هذا في سبيل الله .
ثم حمل ليطعنني ، فطعنته وحمل أصحابه علينا ، فانفصلنا ، وحال الليل بيننا ، فقال له عبد الرحمن : هذا يوم شهده هذا - يعني ربيعة بن ماجد - وهو فارس الحي ، وما أظنه يخفى أمر هذا الرجل ، فقال له : أ تعرفه ؟ قال : نعم ، قال : من هو ؟ قال : أنا ، قال : فأرني الضربة التي برأسك ، فأراه فإذا هي ضربة قد برت العظم منكرة ، فقال له : فما رأيك اليوم ؟ أ هو كرأيك يومئذ ! قال : رأيي اليوم رأي الجماعة ، قال : فما عليكم من بأس ، أنتم آمنون ما لم تظهروا خلافا ، ولكن العجب كيف نجوت من زياد لم يقتلك فيمن قتل ، أو يسيرك فيمن سير ! فقال : أما التسيير فقد سيرني ، وأما القتل فقد عافانا الله منه ! * * * قال إبراهيم الثقفي : وأصاب الضحاك في هربه من حجر عطش شديد ، وذلك لان الجمل الذي كان عليه ماؤه ضل فعطش ، وخفق برأسه خفقتين لنعاس أصابه ، فترك الطريق وانتبه ، وليس معه إلا نفر يسير من أصحابه ، وليس منهم أحد معه ماء ، فبعث رجالا منهم في جانب يلتمسون الماء ولا أنيس ، فكان الضحاك بعد ذلك يحكي ، قال : فرأيت جادة فلزمتها ، فسمعت قائلا يقول : دعاني الهوى فازددت شوقا وربما * * دعاني الهوى من ساعة فأجيب وأرقني بعد المنام وربما * * أرقت لساري الهم حين يئوب(2/122)
فإن أك قد أحببتكم ورأيتكم * * فإني بداري عامر لغريب (1) قال : وأشرف علي رجل فقلت : يا عبد الله ، أسقني ماء ، فقال : لا والله ، حتى تعطيني ثمنه ، قلت : وما ثمنه ! قال : ديتك ، قلت : أ ما ترى عليك من الحق أن تقري الضيف ، فتطعمه وتسقيه ! قال : ربما فعلنا وربما بخلنا ، قال : فقلت : والله ما أراك فعلت خيرا قط ، أسقني ، قال : ما أطيق ، قلت : فإني أحسن إليك وأكسوك ، قال : لا والله لا أنقص شربة من مائة دينار ، فقلت له : ويحك ! اسقني ، فقال : ويحك ! أعطني ، قلت : لا والله ما هي معي ، ولكنك تسقيني ، ثم تنطلق معي أعطيكها ، قال : لا والله ، قلت : اسقني وأرهنك فرسي حتى أوفيكها ، قال : نعم ، ثم خرج بين يدي واتبعته ، فأشرفنا على أخبية وناس على ماء ، فقال لي : مكانك حتى آتيك ، فقلت : بل أجئ معك ، قال : وساءه حيث رأيت الناس والماء ، فذهب يشتد حتى دخل بيتا ، ثم جاء بماء في إناء ، فقال : اشرب ، فقلت : لا حاجة لي فيه ، ثم دنوت من القوم ، فقلت : اسقوني ماء ، فقال شيخ لابنته : اسقيه ، فقامت ابنته فجاءت بماء ولبن ، فقال ذلك الرجل : نجيتك من العطش ، وتذهب بحقي ! والله لا أفارقك حتى أستوفي منك حقي ، فقلت : إجلس حتى أوفيك .
فجلس ، فنزلت فأخذت الماء واللبن من يد الفتاة ، فشربت واجتمع إلي أهل الماء ، فقلت لهم : هذا ألام الناس ! فعل بي كذا وكذا ! وهذا الشيخ خير منه وأسدى ، استسقيته فلم يكلمني وأمر ابنته فسقتني ، وهو الآن يلزمني بمائة دينار .
فشتمه أهل الحي ، ووقعوا به ، ولم يكن بأسرع من أن لحقني قوم من أصحابي ، فسلموا علي بالامرة ، فارتاب الرجل وجزع ، وذهب يريد أن يقوم ، فقلت : والله لا تبرح حتى أوفيك المائة ، فجلس ما يدري ما الذي أريد به ! فلما كثر جندي عندي سرحت إلي ثقلي (2) ، فأتيت به ، ثم أمرت بالرجل فجلد مائة جلده ، ودعوت الشيخ وابنته فأمرت لهما بمائة دينار وكسوتهما ، وكسوت أهل الماء
__________
(1) داري : واد لبني عامر .
القاموس .
(2) الثقل : متاع المسافر .
(*)(2/123)
ثوبا ثوبا ، وحرمته .
فقال : أهل الماء : كان أيها الامير أهلا لذلك ، وكنت لما أتيت من خير أهلا .
فلما رجعت إلى معاوية ، وحدثته عجب ، وقال : لقد رأيت في سفرك هذا عجبا .
ويذكر أهل النسب أن قيسا أبا الضحاك بن قيس كان يبيع عسب الفحول (1) في الجاهلية * * * ورووا أن عقيلا رحمه الله تعالى ، قدم على أمير المؤمنين ، فوجده جالسا في صحن المسجد بالكوفة ، فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمه الله وبركاته - وكان عقيل قد كف بصره - فقال : وعليك السلام يا أبا يزيد ، ثم التفت إلى ابنه الحسن عليه السلام ، فقال : قم فأنزل عمك ، فقام فأنزله ، ثم عاد فقال : اذهب فاشتر لعمك قميصا جديدا ، ورداء جديدا ، وإزارا جديدا ، ونعلا جديدا ، فذهب فاشترى له ، فغدا عقيل على علي عليه السلام في الثياب ، فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، قال : وعليك السلام يا أبا يزيد ، قال : يا أمير المؤمنين ، ما أراك أصبت من الدنيا شيئا ، وإني لا ترضى نفسي من خلافتك بما رضيت به لنفسك ، فقال : يا أبا يزيد ، يخرج عطائي فأدفعه إليك .
فلما ارتحل عن أمير المؤمنين عليه السلام أتى معاوية فنصبت له كراسيه ، وأجلس جلساءه حوله ، فلما ورد عليه أمر له بمائة ألف فقبضها ، ثم غدا عليه يوما بعد ذلك ، وبعد وفاة أمير المؤمنين علي عليه السلام ، وبيعة الحسن لمعاوية ، وجلساء معاوية حوله ، فقال : يا أبا يزيد ، أخبرني عن عسكري وعسكر أخيك ، فقد وردت عليهما ، قال : أخبرك ، مررت والله
__________
(1) العسب هنا : ماء الفحل .
(*)(2/124)
بعسكر أخي ، فإذا ليل كليل رسول الله صلى الله عليه وآله ، ونهار كنهار رسول الله صلى الله عليه وآله ، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله ليس في القوم ، ما رأيت إلا مصليا ، ولا سمعت إلا قارئا .
ومررت بعسكرك ، فاستقبلني قوم من المنافقين ممن نفر برسول الله ليلة العقبة ، ثم قال : من هذا عن يمينك يا معاوية ؟ قال : هذا عمرو بن العاص ، قال : هذا الذي اختصم فيه ستة نفر ، فغلب عليه جزار قريش : فمن الآخر ؟ قال : الضحاك بن قيس الفهري قال : أما والله لقد كان أبوه جيد الاخذ لعسب التيوس ، فمن هذا الآخر ؟ قال ابو موسى الاشعري ، قال : هذا ابن السراقة ، فلما رأى معاوية أنه قد أغضب جلساءه ، علم أنه إن استخبره عن نفسه ، قال فيه سوءا ، فأحب أن يسأله ليقول فيه ما يعلمه من السوء ، فيذهب بذلك غضب جلسائه ، قال : يا أبا يزيد ، فما تقول في ؟ قال : دعني من هذا ! قال : لتقولن ، قال : أ تعرف حمامة ؟ قال : ومن حمامة يا أبا يزيد ؟ قال : قد أخبرتك ، ثم قام فمضى ، فأرسل معاوية إلى النسابة ، فدعاه ، فقال : من حمامة ؟ قال ولي الامان ! قال : نعم ، قال : حمامة جدتك أم أبي سفيان ، كانت بغيا في الجاهلية صاحبة راية ، فقال معاوية لجلسائه : قد ساويتكم وزدت عليكم فلا تغضبوا .(2/125)
(30) ومن خطبة له عليه السلام في معنى قتل عثمان : الاصل : لو أمرت به لكنت قاتلا ، أو نهيت عنه لكنت ناصرا ، غير أن من نصره لا يستطيع أن يقول : خذله من أنا خير منه ، ومن خذله لا يستطيع أن يقول : نصره من هو خير مني .
وأنا جامع لكم أمره ، استأثر فأساء الاثرة ، وجزعتم فأسأتم الجزع ، ولله حكم واقع في المستأثر والجازع .
* * * الشرح : هذا الكلام بظاهره يقتضي أنه ما أمر بقتله ، ولا نهى عنه ، فيكون دمه عنده في حكم الامور المباحة التي لا يؤمر بها ، ولا ينهى عنها .
غير أنه لا يجوز أن يحمل الكلام على ظاهره ، لما ثبت من عصمة دم عثمان .
وأيضا فقد ثبت في السير والاخبار أنه كان عليه السلام ينهى الناس عن قتله ، فإذن يجب أن يحمل لفظ النهي على المنع كما يقال : الامير ينهى عن نهب أموال الرعية ، أي يمنع ، وحينئذ يستقيم الكلام لانه عليه السلام ما أمر بقتله ولا منع عن قتله ، وإنما كان ينهى عنه باللسان ولا يمنع عنه باليد .
فإن قيل : فالنهي عن المنكر واجب ، فهلا منع من قتله باليد ؟ قيل : إنما يجب المنع باليد عن المنكر إذا كان حسنا ، وإنما يكون الانكار حسنا(2/126)
إذا لم يغلب على ظن الناهي عن المنكر أن نهيه لا يؤثر ، فإن غلب على ظنه أن نهيه لا يؤثر ، قبح إنكار المنكر ، لانه إن كان الغرض تعريف فاعل القبيح قبح ما أقدم عليه ، فذلك حاصل من دون الانكار وإن كان الغرض ألا يقع المنكر ، فذلك غير حاصل ، لانه قد غلب على ظنه أن نهيه وإنكاره لا يؤثر ، ولذلك لا يحسن من الانسان الانكار على أصحاب المآصر (1) ما هم عليه من أخذ المكوس ، لما غلب على الظن أن الانكار لا يؤثر ، وهذا يقتضي أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام قد غلب على ظنه أن إنكاره لا يؤثر ، فلذلك لم ينكر .
ولاجل اشتباه هذا الكلام على السامعين ، قال كعب بن جعيل ، شاعر أهل الشام الابيات التي منها (2) : أرى الشام تكره أهل العراق * * وأهل العراق لهم كارهونا (3) وكل لصاحبه مبغض * * يرى كل ما كان من ذاك دينا إذا ما رمونا رميناهم * * ودناهم مثل ما يقرضونا (4) وقالوا علي إمام لنا * * فقلنا رضينا ابن هند رضينا وقالوا نرى أن تدينوا لنا * * فقلنا ألا لا نرى أن ندينا (5) ومن دون ذلك خرط القتاد * * وطعن وضرب يقر العيونا (6)
__________
(1) المآصر : الماضع المعدة لحبس المارة عن المسير لاخذ العشور .
(2) الابيات في وقعة صفين 62 ، 64 ، وأورد المبرد في الكامل (4 - 212 - بشرح المرصفي) الستة الابيات الاولى منها ، وقال : " وفي آخر هذا الشعر ذم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أمسكنا عن ذكره " .
(3) وقعة صفين " والكامل " : " ملك العراق " .
(4) دناهم : من الدين ، وهو القرض : ويقرضونا ، حذفت النون من غير ناصب ولا جازم ، وهو جائز في العربية ، وانظر خزانة الادب (3 : 525 - 526) .
(5) هذه رواية ابن أبي الحديد ، وهو توافق رواية المبرد ، وفي صفين : وقلنا نرى أن تدينوا لنا * * فقالوا لنا لا نرى أن ندينا (6) قال المبرد : " وأحسن الروايتين : يفض الشئونا " .
(*)(2/127)
وكل يسر بما عنده * * يرى غث ما في يديه سمينا وما في علي لمستعتب * * مقال سوى ضمه المحدثينا وإيثاره اليوم أهل الذنوب * * ورفع القصاص عن القاتلينا إذا سيل عنه حذا شبهة * * وعمى الجواب على السائلينا (1) فليس براض ولا ساخط * * ولا في النهاة ولا الآمرينا ولا هو ساء ولا سره * * ولا بد من بعض ذا أن يكونا وهذا شعر خبيث منكر ، ومقصد عميق ، وما قال هذا الشعر إلا بعد أن نقل إلى أهل الشام كلام كثير لامير المؤمنين عليه السلام في عثمان يجري هذا المجرى ، نحو قوله : ما سرني ولا ساءني .
وقيل له : أ رضيت بقتله ؟ فقال : لم أرض ، فقيل له : أ سخطت قتله ؟ فقال : لم أسخط .
وقوله تارة : الله قتله وأنا معه ، وقوله تارة أخرى : ما قتلت عثمان ولا مالات في قتله .
وقوله تارة أخرى : كنت رجلا من المسلمين أوردت إذ أوردوا ، وأصدرت إذ أصدروا .
ولكل شئ من كلامه إذا صح عنه تأويل يعرفه أولو الالباب .
فأما قوله : " غير أن من نصره " ، فكلام معناه أن خاذليه كانوا خيرا من ناصريه ، لان الذين نصروه كان أكثرهم فساقا ، كمروان بن الحكم وأضرابه ، وخذله المهاجرون والانصار .
فأما قوله : " وأنا جامع لكم أمره ...
" إلى آخر الفصل ، فمعناه أنه فعل ما لا يجوز ، وفعلتم ما لا يجوز ، أما هو فاستأثر فأساء الاثرة ، أي استبد بالامور فأساء في الاستبداد ، وأما أنتم فجزعتم مما فعل أي حزنتم فأسأتم الجزع ، لانكم قتلتموه ، وقد كان الواجب عليه أن
__________
(1) حذا : أعطى ، وفي صفين : " حدا " ، أي ساق .
(*)(2/128)
يرجع عن استئثاره ، وكان الواجب عليكم ألا تجعلوا جزاءه عما أذنب القتل ، بل الخلع والحبس وترتيب غيره في الامامة .
ثم قال : ولله حكم سيحكم به فيه وفيكم .
(إضطراب الامر على عثمان ثم أخبار مقتله) ويجب أن نذكر في هذا الموضع ابتداء اضطراب الامر على عثمان إلى إن قتل .
وأصح ما ذكر في ذلك ما أورده أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في " التاريخ " (1) .
وخلاصه ذلك أن عثمان أحدث أحداثا مشهورة نقمها الناس عليه ، من تأمير بني أمية ، ولا سيما الفساق منهم وأرباب السفه وقلة الدين ، وإخراج مال الفئ إليهم ، وما جرى في أمر عمار وأبي ذر وعبد الله بن مسعود ، وغير ذلك من الامور التي جرت في أواخر خلافته .
ثم اتفق أن الوليد بن عقبة لما كان عامله على الكوفة وشهد عليه بشرب الخمر ، صرفه وولى سعيد بن العاص مكانه ، فقدم سيعد الكوفة ، واستخلص من أهلها قوما يسمرون عنده ، فقال سعيد يوما : إن السواد بستان لقريش وبني أمية .
فقال الاشتر النخعي : وتزعم أن السواد الذي أفاءه الله على المسلمين بأسيافنا بستان لك ولقومك ! فقال صاحب شرطته : أ ترد على الامير مقالته ! وأغلظ له ، فقال الاشتر لمن كان حوله من النخع وغيرهم من أشراف الكوفة : أ لا تسمعون ! فوثبوا عليه بحضرة سعيد فوطئوه وطأ عنيفا ، وجروا برجله ، فغلظ ذلك على سعيد ، وأبعد سماره فلم يأذن بعد لهم ، فجعلوا يشتمون سعيدا في مجالسهم ، ثم تعدوا ذلك إلى شتم عثمان ، واجتمع إليهم ناس كثير ، حتى غلظ أمرهم ، فكتب سعيد إلى عثمان في أمرهم ، فكتب إليه أن يسيرهم إلى الشام ، لئلا يفسدوا أهل الكوفة ، وكتب إلى معاوية وهو والي الشام : إن نفرا من أهل الكوفة
__________
(1) في حوادث 33 - 35 ، مع تصرف واختصار في جميع ما أورده في هذا الفصل .
(*)(2/129)
قد هموا بإثارة الفتنة ، وقد سيرتهم إليك ، فانههم ، فإن آنست منهم رشدا فأحسن إليهم ، وارددهم إلى بلادهم .
فلما قدموا على معاوية - وكانوا : الاشتر ، ومالك بن كعب الارحبي ، والاسود بن يزيد النخعي ، وعلقمة بن قيس النخعي ، وصعصعة بن صوحان العبدي ، وغيرهم - جمعهم يوما ، وقال لهم : إنكم قوم من العرب ، ذوو أسنان وألسنة ، وقد أدركتم بالاسلام شرفا ، وغلبتم الامم ، وحويتم مواريثهم ، وقد بلغني أنكم ذممتم قريشا ، ونقمتم على الولاة فيها ، ولو لا قريش لكنتم أذلة ، إن أئمتكم لكم جنة ، فلا تفرقوا عن جنتكم ، إن أئمتكم ليصبرون لكم على الجور ، ويحتملون منكم (1) العقاب ، والله لتنتهن أو ليبتلينكم الله بمن يسومكم الخسف ، ولا يحمدكم على الصبر ، ثم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرعية في حياتكم ، وبعد وفاتكم .
فقال له صعصعة بن صوحان : أما قريش فإنها لم تكن أكثر العرب ولا أمنعها في الجاهلية ، وإن غيرها من العرب لاكثر منها كان وامنع .
فقال معاوية : إنك لخطيب القوم ، ولا أرى لك عقلا ، وقد عرفتكم الآن ، وعلمت أن الذي أغراكم قلة العقول .
أعظم عليكم أمر الاسلام فتذكرني الجاهلية ! أخزى الله قوما عظموا أمركم ! إفقهوا عني ولا أظنكم تفقهون ، إن قريشا لم تعز في جاهلية ولا إسلام إلا بالله وحده ، لم تكن بأكثر العرب ولا أشدها ، ولكنهم كانوا أكرمهم أحسابا ، وأمحضهم (2) أنسابا ، وأكملهم مروءة ، ولم يمتنعوا في الجاهلية - والناس يأكل بعضهم بعضا - إلا بالله ، فبوأهم حرما آمنا يتخطف الناس من حولهم .
هل تعرفون عربا أو عجما ، أو سودا أو حمرا إلا وقد أصابهم الدهر في بلدهم وحرمهم ، إلا ما كان من قريش ، فإنه لم يردهم أحد من الناس بكيد إلا جعل الله خده الاسفل ، حتى أراد الله تعالى أن يستنقذ من أكرمه باتباع دينه من هوان الدنيا ، وسوء مرد الآخرة ، فارتضى لذلك خير
__________
(1) كذا في أ ، ج ، وفي ب : " فيكم " .
(2) يقال : عربي محض ، أي خالص النسب .
(*)(2/130)
خلقه ، ثم ارتضى له أصحابا ، وكان خيارهم قريشا .
ثم بنى هذا الملك عليهم ، وجعل هذه الخلافة فيهم ، فلا يصلح الامر إلا بهم ، وقد كان الله يحوطهم في الجاهلية وهم على كفرهم ، أ فتراه لا يحوطهم وهم على دينه ! أف لك ولاصحابك ! أما أنت يا صعصعة ، فإن قريتك شر القرى ! أنتنها نبتا ، وأعمقها واديا ، وألامها جيرانا ، وأعرفها بالشر ، لم يسكنها شريف قط ولا وضيع إلا سب بها ، نزاع الامم وعبيد فارس .
وأنت شر قومك ! أ حين أبرزك الاسلام ، وخلطك بالناس ، أقبلت تبغي دين الله عوجا ، وتنزع إلى الغواية ! إنه لن يضر ذلك قريشا ولا يضعهم ، ولا يمنعهم من تأدية ما عليهم ، إن الشيطان عنكم لغير غافل ، قد عرفكم بالشر ، فأغراكم بالناس ، وهو صارعكم ، وإنكم لا تدركون بالشر أمرا إلا فتح عليكم شر منه وأخزى .
قد أذنت لكم فاذهبوا حيث شئتم ، لا ينفع الله بكم أحدا أبدا ولا يضره ، ولستم برجال منفعة ولا مضرة ، فإن أردتم النجاة ، فالزموا جماعتكم ولا تبطرنكم النعمة ، فإن البطر لا يجر خيرا .
اذهبوا حيث شئتم ، فسأكتب إلى أمير المؤمنين فيكم .
وكتب إلى عثمان : إنه قدم علي قوم ليست لهم عقول ولا أديان ، أضجرهم العدل ، لا يريدون الله بشئ ، ولا يتكلمون بحجة ، إنما همهم الفتنة ، والله مبتليهم ثم فاضحهم ، وليسوا بالذين نخاف نكايتهم ، وليسوا الاكثر ممن له شغب ونكير .
ثم أخرجهم من الشام (1) .
* * * وروى أبو الحسن المدائني : أنه كان لهم مع معاوية بالشام مجالس طالت فيها المحاورات والمخاطبات بينهم ، وأن معاوية قال لهم في جملة ما قاله : إن قريشا قد عرفت أن أبا سفيان
__________
(1) تاريخ الطبري 5 : 87 - 88 .
(*)(2/131)
كان أكرمها وابن أكرمها ، إلا ما جعل الله لنبيه صلى الله عليه ، فإنه انتجبه (1) وأكرمه ، ولو أن أبا سفيان ولد الناس كلهم لكانوا حلماء (2) .
فقال له صعصعة بن صوحان : كذبت ! قد ولدهم خير من أبي سفيان ! من خلقه الله بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وأمر الملائكة فسجدوا له ، فكان فيهم البر والفاجر ، والكيس والاحمق (3) .
* * * قال : ومن المجالس التى دارت بينهم ، أن معاوية قال لهم : أيها القوم ردوا خيرا أو اسكتوا ، وتفكروا وانظروا فيما ينفعكم والمسلمين ، فاطلبوه وأطيعوني .
فقال له صعصعة : لست بأهل ذلك ! ولا كرامة لك أن تطاع في معصية الله .
فقال : إن أول كلام ابتدات به أن أمرتكم بتقوى الله وطاعة رسوله ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا (4) .
فقالوا : بل أمرت بالفرقة وخلاف ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله .
فقال : إن كنت فعلت فإني الآن أتوب ، وآمركم بتقوى الله وطاعته ، ولزوم الجماعة ، وأن توقروا أئمتكم وتطيعوهم .
فقال صعصعة : إن كنت تبت فإنا نأمرك أن تعتزل عملك (5) ، فإن في المسلمين من هو أحق به منك ، ممن كان أبوه أحسن أثرا في الاسلام من أبيك ، وهو أحسن قدما في الاسلام منك .
فقال معاوية : إن لي في الاسلام لقدما ، وإن كان غيري أحسن قدما مني ، لكنه
__________
(1) إنتجبه : إصطفاه واختاره ، وفي الطبري : " إنتخبه " .
(2) عبارة الطبري : " ولو ولد الناس لم يلد إلا حازما " .
(3) الطبري 5 : 89 .
(4) في الاصول : " فقال " وصوابه من الطبري .
(5) كذا في أ ، ج ، وفي ب : " أمرك " .
(*)(2/132)
ليس في زماني أحد أقوى على ما أنا فيه مني ، ولقد رأى عمر بن الخطاب ذلك ، فلو كان غيري أقوى مني لم يكن عند عمر هوادة لي ولا لغيري ، ولم أحدث (1) ما ينبغي له أن أعتزل عملي ، فلو رأى ذلك أمير المؤمنين لكتب إلي (بخط يده) (2) فاعتزلت عمله ، فمهلا فإن في دون ما أنتم فيه ما يأمر فيه الشيطان وينهى .
ولعمري لو كانت الامور تقضى على رأيكم و أهوائكم ، ما استقام الامر لاهل الاسلام يوما ولا ليلة ، فعاودوا الخير وقولوه ، فإن الله ذو سطوات ، وإني خائف عليكم أن تتتابعوا إلى مطاوعة الشيطان ومعصية الرحمن .
فيحلكم ذلك دار الهون في العاجل والآجل .
فوثبوا على معاوية فأخذوا برأسه ولحيته ، فقال : مه إن هذه ليست بأرض الكوفة ، والله لو رأى أهل الشام ما صنعتم بي (وأنا إمامهم) (2) ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم ، فلعمري إن صنيعكم يشبه بعضه بعضا .
ثم قام من عندهم ، وكتب إلى عثمان في إمرهم (3) ، فكتب إليه إن ردهم إلى سعيد بن العاص بالكوفة .
فردهم ، فأطلقوا ألسنتهم في ذمه وذم عثمان وعيبهما .
فكتب إليه عثمان أن يسيرهم إلى حمص ، إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، فسيرهم إليها (4) .
* * *
__________
(1) ب .
" ولا حدث " .
(2) من الطبري .
(3) ذكر الطبري كتاب معاوية إلى عثمان ، وهذا نصه : " بسم الله الرحمن الرحيم .
لعبد الله عثمان أمير المؤ منين من معاوية بن أبي سفيان ، أما بعد ، يا أمير المؤ منين ، فإنك بعثت إلي أقواما يتكلمون بألسنة الشياطين وما يملون عليهم ، ويأتون الناس - زعموا - من قبل القرآن ، فيشبهون على الناس ، وليس كل الناس يعلم ما يريدون ، وإنما يريدون فرقة ، ويقربون فتنة ، قد أثقلهم الاسلام وأضجرهم ، وتمكنت رقى الشيطان من قلوبهم : فقد أفسدوا كثيرا من الناس ممن كانوا بين ظهرانيهم من أهل الكوفة ، ولست آمن إن أقاموا وسط أهل الشام أن يغروهم بسحرهم وفجورهم ، فارددهم إلى مصرهم ، فلتكن دارهم في مصرهم الذي نجم فيه نفاقهم ، والسلام " .
(4) الطبري 5 : 89 - 90 .
(*)(2/133)
وروى الواقدي ، قال : لما سير بالنفر الذين طردهم عثمان عن اكوفة إلى حمص - وهم : الاشتر ، وثابت بن قيس الهمداني ، وكميل بن زياد النخعي ، وزيد بن صوحان ، وأخوه صعصعة ، وجندب (1) بن زهير الغامدي ، وجندب (1) بن كعب الازدي ، وعروة بن الجعد ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، وابن الكواء - جمعهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، بعد أن أنزلهم أياما ، وفرض لهم طعاما ، ثم قال لهم : يا بني الشيطان ، لا مرحبا بكم ولا أهلا ، قد رجع الشيطان محسورا ، وأنتم بعد في بساط ضلالكم وغيكم ! جزى الله عبد الرحمن إن لم يؤذكم ! يا معشر من لا أدري أ عرب هم أم عجم ! أ تراكم تقولون لي ما قلتم لمعاوية ! أنا ابن خالد بن الوليد ! أنا ابن من عجمته العاجمات ، أنا ابن فاقئ عين الردة ، والله يا بن صوحان لاطيرن بك طيرة بعيده المهوى ، إن بلغني أن أحدا ممن معي دق أنفك فاقنعت (2) رأسك .
قال : فأقاموا عنده شهرا ، كلما ركب أمشاهم معه ، ويقول لصعصعة : يا بن الخطيئة ، إن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر ! ما لك لا تقول كما كنت تقول لسعيد ومعاوية ! فيقولون : سنتوب إلى الله ، أقلنا أقالك الله ! فما زال ذاك دأبه ودأبهم ، حتى قال : تاب الله عليكم .
فكتب إلى عثمان يسترضيه عنهم ، ويسأله فيهم ، فردهم إلى الكوفة .
* * * قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله تعالى : ثم أن سعيد بن العاص قدم على عثمان سنة إحدى عشرة من خلافته .
فلما دخل المدينة اجتمع قوم من الصحابة ، فذكروا سعيدا وأعماله ، وذكروا قرابات عثمان وما سوغهم من مال المسلمين ، وعابوا أفعال عثمان ، فأرسلوا إليه عامر بن عبد القيس - وكان متألها (4) ، واسم أبيه عبد الله ، وهو من تميم ، ثم من بني العنبر - فدخل على عثمان ، فقال له : إن ناسا من الصحابة
__________
(1) أ ، ج : " حبيب " ، وما أثبته من ب والطبري .
(2) أقنعت رأسك : رفعتها .
(3) تاريخ الطبري 5 : 87 ، 90 .
(3) المتأله : المتعبد المتنسك .
(*)(2/134)
اجتمعوا ونظروا في أعمالك ، فوجدوك قد ركبت أمورا عظاما ، فاتق الله وتب إليه .
فقال عثمان : انظروا إلى هذا ، تزعم الناس أنه قارئ ، ثم هو يجئ إلي فيكلمني فيما لا يعلمه ! والله ما تدري أين الله ! فقال عامر : بلى والله إني لادري أن الله لبالمرصاد .
(1) فأخرجه عثمان ، وأرسل إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وإلى معاوية وسعيد ابن العاص وعمرو بن العاص وعبد الله بن عامر - وكان قد استقدم الامراء من أعمالهم - فشاورهم ، وقال : إن لكل أمير وزراء ونصحاء ، وإنكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي ، وقد صنع الناس ما قد رأيتم ، وطلبوا إلي أن أعزل عمالي ، وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبون ، فاجتهدوا رأيكم .
فقال عبد الله بن عامر : أرى لك يا أمير المؤمنين أن تشغلهم عنك بالجهاد حتى يذلوا لك ، ولا تكون همة أحدهم إلا في نفسه ، وما هو فيه من دبر دابته (2) وقمل فروته .
وقال سعيد بن العاص : أحسم عنك الداء ، واقطع عنك الذي تخاف ، إن لكل قوم قادة متى يهلكوا يتفرقوا ولا يجتمع لهم أمر .
فقال عثمان : إن هذا لهو الرأي لو لا ما فيه ، وقال معاوية : أشير عليك أن تأمر أمراء الاجناد فيكفيك كل رجل منهم ما قبله ، فأنا أكفيك أهل الشام .
وقال عبد الله بن سعد : إن الناس أهل طمع ، فأعطهم من هذا المال ، تعطف عليك قلوبهم .
فقال عمرو بن العاص : يا أمير المؤمنين ، إنك قد ركبت الناس (3) ببني أمية ، فقلت وقالوا ، وزغت وزاغوا ، فاعتدل أو اعتزل ، فإن أبيت فاعزم عزما ، وامض قدما .
__________
(1) في الطبري : " فإن ربك بالمرصاد لك ، فأرسل عثمان إلى معاوية بن أبي سفيان .." .
(2) الدبرة ، بالتحريك : قرحة الدابة والبعير ، وجمعها دبر ، بفتحتين .
(3) عبارة الطبري : " قد ركبت الناس بما يكرهون " .
(*)(2/135)
فقال له عثمان : مالك قمل فروك ! أ هذا بجد (1) منك ! فسكت عمرو حتى تفرقوا ، ثم قال : والله يا أمير المؤمنين ، لانت أكرم علي من ذلك ، ولكني علمت أن بالباب من يبلغ الناس قول كل رجل منا ، فأردت أن يبلغهم قولي ، فيثقوا بي ، فأقود إليك خيرا ، وأدفع عنك شرا .
فرد عثمان عماله إلى أعمالهم ، وأمرهم بتجهيز الناس في البعوث ، وعزم على أن يحرمهم أعطياتهم ليطيعوه ، ورد سعيد بن العاص إلى الكوفة ، فتلقاه أهلها بالجرعة (2) - وكانوا قد كرهوا إمارته ، وذموا سيرته - فقالوا له : ارجع إلى صاحبك ، فلا حاجة لنا فيك .
فهم بأن يمضي لوجهه ولا يرجع ، فكثر الناس عليه ، فقال له قائل : ما هذا ! أ ترد السيل عن أدراجه ! والله لا يسكن الغوغاء إلا المشرفية (3) ، ويوشك أن تنتضي بعد اليوم ، ثم يتمنون ما هم اليوم فيه ، فلا يرد عليهم .
فارجع إلى المدينة ، فإن الكوفة ليست لك بدار .
فرجع إلى عثمان ، فاخبره بما فعلوا ، فانفذ أبا موسى الاشعري أميرا على الكوفة ، وكتب إليهم : أما بعد ، فقد أرسلت إليكم أبا موسى الاشعري أميرا ، وأعفيتكم من سعيد ، ووالله لافوضنكم عرضي ، ولابذلن لكم صبري ، ولاستصلحنكم جهدي ، فلا تدعوا شيئا أحببتموه لا يعصى الله فيه إلا سألتموه ، ولا شيئا كرهتموه لا يعصى الله فيه إلا استعفيتم منه ، لاكون فيه عند ما أحببتم وكرهتم ، حتى لا يكون لكم على الله حجة ، والله لنصبرن كما أمرنا ، وسيجزي الله الصابرين (4) .
__________
(1) الطبري : " أ هذا الجد منك ! " .
(2) الجرعة ، بالتحريك ، وقيل بسكون الراء : موضع قرب الكوفة ، بين النجف والحيرة .
(3) المشرفية : السيوف المنسوبة إلى مشارف ، قرى قرب حوران .
(4) الطبري 5 : 94 - 96 .
(*)(2/136)
قال أبو جعفر : فلما دخلت سنه خمس وثلاثين ، تكاتب أعداء عثمان وبني أمية في البلاد ، وحرض بعضهم بعضا على خلع عثمان عن الخلافة ، وعزل عماله عن الامصار ، واتصل ذلك بعثمان ، فكتب إلى أهل الامصار : أما بعد ، فإنه رفع إلي أن أقواما منكم يشتمهم عمالي ويضربونهم ، فمن أصابه شئ من ذلك فليواف الموسم بمكة ، فليأخذ بحقه مني أو من عمالي ، فإني قد استقدمتهم ، أو تصدقوا فإن الله يجزي المتصدقين .
ثم كاتب عماله واستقدمهم ، فلما قدموا عليه جمعهم ، وقال : ما شكاية الناس منكم ؟ إني لخائف أن تكونوا مصدوقا عليكم ، وما يعصب هذا الامر إلا بي .
فقالوا له : والله ما صدق من رفع إليك ولا بر ، ولا نعلم لهذا الامر أصلا ، فقال عثمان : فأشيروا علي ، فقال سعيد بن العاص : هذه أمور مصنوعة تلقى في السر ، فيتحدث بها الناس ، ودواء ذلك السيف .
وقال عبد الله بن سعد : خذ من الناس الذي عليهم ، إذا أعطيتهم الذي لهم .
وقال معاوية : الرأي حسن الادب .
وقال عمرو بن العاص : أرى لك أن تلزم طريق صاحبيك ، فتلين (في) (1) موضع اللين ، وتشتد (في) (1) موضع الشدة .
فقال عثمان : قد سمعت ما قلتم ، إن الامر الذي يخاف على هذه الامة كائن لا بد منه ، وإن بابه الذي يغلق عليه ليفتحن ، فكفكفوهم (2) باللين والمداراة إلا في حدود الله ، فقد علم الله إني لم آل الناس خيرا ، وإن رحا الفتنة لدائرة ، فطوبى لعثمان إن مات ولم يحركها ! سكنوا الناس وهبوا لهم حقوقهم (3) ، فإذا تعوطيت حقوق الله فلا تدهنوا فيها (4) .
__________
(1) تكملة من الطبري .
(2) كفكفوهم : اصرفوهم .
(3) المداهنة : المصانعة ، وفي الطبري وج : " فلا تدهنوا " ، والادهان : المصانعة .
(4) في الاصول : " حقوقكم " ، وما أثبته عن الطبري .
(*)(2/137)
ثم نفر فقدم المدينة ، فدعا عليا وطلحة والزبير ، فحضروا وعنده معاوية ، فسكت عثمان ولم يتكلم ، وتكلم معاوية ، فحمد الله ، وقال : أنتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وخيرته من خلقه ، وولاة أمر هذه الامة ، لا يطمع فيه أحد غيركم ، اخترتم صاحبكم عن غير غلبة ولا طمع ، وقد كبر (1) وولى عمره ، فلو انتظرتم به الهرم كان قريبا ، مع إني أرجو أن يكون أكرم على الله أن يبلغه ذلك ، وقد فشت مقالة خفتها عليكم ، فما عبتم فيه من شئ فهذه يدي لكم به رهنا (2) ، فلا تطمعوا الناس في أمركم ، فو الله إن أطعتموهم لا رأيتم أبدا منها إلا إدبارا .
فقال علي عليه السلام : وما لك وذاك لا أم لك ! فقال : دع أمي فإنها ليست بشر إمهاتكم ، قد أسلمت وبايعت النبي صلى الله عليه ، وأجبني عما أقول لك .
فقال عثمان : صدق ابن أخي ، أنا أخبركم عني وعما وليت ، إن صاحبي اللذين كانا قبلي ، ظلما أنفسهما ومن كان منهما بسبيل ، احتسابا .
وإن رسول الله صلى الله عليه كان يعطي قرابته ، وأنا في رهط أهل عيلة وقلة معاش ، فبسطت يدي في شئ من ذلك لما أقوم به فيه ، فإن رأيتم ذلك خطأ فردوه ، فأمري لامركم تبع .
قالوا : أصبت وأحسنت ، إنك أعطيت عبد الله بن خالد بن أسيد خمسين ألفا ، وأعطيت مروان خمسة عشر ألفا ، فاستعدها منهما .
فاستعادها ، فخرجوا راضين (3) .
* * * قال أبو جعفر : وقال معاوية لعثمان : اخرج معي إلى الشام ، فإنهم على الطاعة
__________
(1) الطبري : " كبرت سنه " .
(2) كلمة " رهنا " ساقطة من الطبري .
(3) الطبري 5 : 99 ، 101 .
(*)(2/138)
قبل أن يهجم عليك ما لا قبل لك به ، فقال : لا أبيع جوار رسول الله صلى الله عليه بشئ ، وإن كان فيه (قطع) (1) خيط عنقي .
قال : فأبعث إليك جندا من الشام يقيم معك لنائبة إن نابت (المدينة أو إياك) (1) .
فقال : لا أضيق على جيران رسول الله صلى الله عليه ، فقال : والله لتغتالن ، فقال : حسبي الله ونعم الوكيل (2) .
* * * قال أبو جعفر : وخرج معاوية من عند عثمان ، فمر على نفر من المهاجرين ، فيهم على عليه السلام ، وطلحة والزبير ، وعلى معاوية ثياب سفره ، وهو خارج إلى الشام ، فقام عليهم ، فقال : إنكم تعلمون أن هذا الامر كان الناس يتغالبون عليه ، حتى بعث الله نبيه ، فتفاضلوا بالسابقة والقدمة والجهاد ، فإن أخذوا بذلك فالامر أمرهم ، والناس لهم تبع ، وإن طلبوا الدنيا بالتغالب سلبوا ذلك ، ورده الله إلى غيرهم ، وإن الله على البدل لقادر .
وإني قد خلفت فيكم شيخنا ، فاستوصوا به خيرا وكانفوه ، تكونوا أسعد منه بذلك .
ثم ودعهم ومضى .
فقال علي عليه السلام : كنت أرى في هذا خيرا .
فقال الزبير : والله ما كان أعظم قط في صدرك وصدورنا منه اليوم .
* * * قلت : من هذا اليوم ، أنشب معاوية أظفاره في الخلافة ، لانه غلب على ظنه قتل عثمان ، ورأى أن الشام بيده ، وأن أهلها يطيعونه ، وأن له حجة يحتج بها عليهم ، ويجعلها ذريعة إلى غرضه ، وهي قتل عثمان إذا قتل ، ويجعلها ذريعة إلى غرضه ، وهي قتل عثمان إذا على تدبير الجيوش ، واستمالة العرب ، فبنى أمره من هذا اليوم على الطمع في الخلافة .
ألا ترى إلى قوله لصعصعة من قبل : أنه ليس أحد أقوى مني على الاماره ، وإن عمر
__________
(1) تكملة من الطبري .
(2) الطبري 5 : 101 .
(*)(2/139)
إستعملني ورضي سيرتي ، أ ولا ترى إلى قوله للمهاجرين الاولين : إن شرعتم في أخذها بالتغالب ، وملتم على هذا الشيخ ، أخرجها الله منكم إلى غيركم ! وهو على الاستبدال قادر ، وإنما كان يعني نفسه ، وهو يكني عنها ، ولهذا تربض (1) بنصرة عثمان لما استنصره ولم يبعث إليه أحدا .
وروى محمد بن عمر الواقدي رحمه الله تعالى ، قال : لما أجلب الناس على عثمان ، وكثرت القالة فيه ، خرج ناس من مصر منهم عبد الرحمن بن عديس البلوي ، وكنانة بن بشر الليثي ، وسودان بن حمران السكوني ، وقتيرة بن وهب السكسكي 7 وعليهم جميعا أبو حرب الغافقي ، وكانوا في ألفين .
وخرج ناس من الكوفة ، منهم زيد بن صوحان العبدي ، ومالك الاشتر النخعي ، وزياد بن النضر الحارثي ، وعبد الله بن الاصم الغامدي ، في ألفين .
وخرج ناس من أهل البصرة ، منهم حكيم بن جبلة العبدي ، وجماعة من أمرائهم ، وعليهم حرقوص بن زهير السعدي ، وذلك في شوال من سنة خمس وثلاثين ، وأظهروا أنهم يريدون الحج .
فلما كانوا من المدينة على ثلاث ، تقدم أهل البصرة ، فنزلوا ذا خشب (2) - وكان هواهم في طلحة ، وتقدم أهل الكوفة ، فنزلوا الاعوص (3) - وكان هواهم في الزبير .
وجاء أهل مصر فنزلوا المروة (4) - وكان هواهم في علي عليه السلام .
ودخل ناس منهم إلى المدينة يخبرون ما في قلوب الناس لعثمان ، فلقوا جماعة من المهاجرين والانصار ، ولقوا أزواج النبي صلى الله عليه وآله ، وقالوا : إنما نريد الحج ، ونستعفي من عمالنا .
ثم لقي جماعة من المصريين عليا عليه السلام ، وهو متقلد سيفه عند أحجار الزيت (5)
__________
(1) تربض : قعد ولم ينصره .
(2) ذو خشب : واد على مسيرة ليلة من المدينة .
(3) أعوص : موضع قرب المدينة على أميال منها .
(4) المروة : جبل بمكة ينتهي إليه السعي من الصفا .
(5) أحجار الزيت : موضع بالمدينة .
(*)(2/140)
فسلموا عليه ، وعرضوا عليه أمرهم ، فصاح بهم وطردهم ، وقال : لقد علم الصالحون أن جيش المروة وذي خشب والاعوص ، ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه .
فانصرفوا عنه .
وأتى البصريون طلحة ، فقال لهم مثل ذلك ، وأتى الكوفيون الزبير ، فقال لهم مثل ذلك .
فتفرقوا وخرجوا عن المدينة إلى أصحابهم .
فلما أمن أهل المدينة منهم واطمأنوا إلى رجوعهم لم يشعروا إلا والتكبير في نواحي المدينة ، وقد نزلوها ، وأحاطوا بعثمان ، ونادى مناديهم : يا أهل المدينة ، من كف يده عن الحرب فهو آمن .
فحصروه في منزله ، إلا أنهم لم يمنعوا الناس من كلامه ولقائه ، فجاءهم جماعة من رؤساء المهاجرين ، وسألوهم : ما شانهم ؟ فقالوا : لا حاجة لنا في هذا الرجل ليعتزلنا لنولي غيره ، لم يزيدوهم على ذلك .
فكتب عثمان إلى أهل الامصار ، يستنجدهم ويأمرهم بتعجيل الشخوص إليه للمنع عنه ، ويعرفهم ما الناس فيه .
فخرج أهل الامصار على الصعب والذلول ، فبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري ، وبعث عبد الله بن سعد بن أبي سرح معاوية بن خديج ، وخرج من الكوفة القعقاع بن عمرو ، بعثه أبو موسى .
وقام بالكوفة نفر يحرضون الناس على نصر عثمان وإعانة أهل المدينة ، منهم عقبة بن عمر ، وعبد الله بن أبي أوفى ، وحنظله الكاتب ، وكل هؤلاء من الصحابة .
ومن التابعين مسروق ، والاسود ، وشريح ، وغيرهم .
وقام بالبصرة عمران بن الحصين ، وأنس بن مالك ، وغيرهما من الصحابة .
ومن التابعين كعب بن سور (1) ، وهرم بن حيان وغيرهما .
__________
(1) في الاصول : " شور " ، وصوابه من الطبري والقاموس .
(*)(2/141)
وقام بالشام ومصر جماعة من الصحابة والتابعين .
وخرج عثمان يوم الجمعة ، فصلى بالناس ، وقام على المنبر ، فقال : يا هؤلاء ، الله الله ، فو الله إن أهل المدينة يعلمون أنكم ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه ، فامحوا الخطا بالصواب .
فقام محمد بن مسلمة الانصاري ، فقال : نعم أنا أعلم ذلك ، فأقعده حكيم بن جبلة .
وقام زيد بن ثابت فأقعده قتيرة بن وهب .
وثار القوم فحصبوا الناس حتى أخرجوهم من المسجد ، وحصبوا عثمان حتى صرع عن المنبر مغشيا عليه ، فأدخل داره ، واستقتل نفر من أهل المدينة مع عثمان ، منهم سعد بن أبي وقاص ، والحسن بن على عليه السلام ، وزيد بن ثابت ، وأبو هريرة ، فأرسل إليهم عثمان : عزمت عليكم أن تنصرفوا ، فانصرفوا .
وأقبل علي وطلحة والزبير ، فدخلوا على عثمان يعودونه من صرعته ، ويشكون إليه ما يجدون لاجله ، وعند عثمان نفر من بنى أمية ، منهم مروان بن الحكم ، فقالوا لعلي عليه السلام : أهلكتنا وصنعت هذا الذي صنعت ! والله إن بلغت هذا الامر الذي تريده لتمرن عليك الدنيا ، فقام مغضبا ، وخرج الجماعة الذين حضروا معه إلى منازلهم (1) .
* * * وروى الواقدي ، قال : صلى عثمان بعد ما وثبوا به في المسجد شهرا كاملا ، ثم منعوه الصلاة ، وصلى بالناس أميرهم الغافقي .
وروى المدائني ، قال : كان عثمان محصورا محاطا به ، وهو يصلي بالناس في المسجد ، وأهل مصر والكوفة والبصرة الحاضرون له يصلون خلفه ، وهم أدق في عينه من التراب .
* * *
__________
(1) تاريخ الطبري 5 : 105 - 106 .
(*)(2/142)
قال أبو جعفر في التاريخ : ثم إن أهل المدينة تفرقوا عنه ، ولزموا بيوتهم ، لا يخرج أحد منهم إلا بسيفه يمتنع به ، فكان حصاره أربعين يوما .
وروى الكلبي والواقدي والمدائني : أن محمد بن أبي بكر ، ومحمد بن أبي حذيفة كانا بمصر يحرضان الناس على عثمان ، فسار محمد بن أبي بكر مع من سار إلى عثمان ، وأقام محمد بن أبي حذيفة بمصر ، ثم غلب عليها لما سار عبد الله بن سعد بن أبي سرح عامل عثمان عنها إلى المدينة في أثر المصريين ، بإذن عثمان له ، فلما كان بأيلة ، بلغه أن المصريين قد أحاطوا بعثمان وأنه مقتول ، وأن محمد بن أبي حذيفة قد غلب على مصر ، فعاد عبد الله إلى مصر ، فمنع عنها ، فأتى فلسطين ، فأقام بها حتى قتل عثمان (1) .
وروى الكلبي ، قال : بعث عبد الله بن سعد بن أبي سرح رسولا من مصر إلى عثمان يخبره بنهوض من نهض من مصر إليه ، وأنهم قد أظهروا العمرة ، وقصدهم خلعه أو قتله ، فخطب عثمان الناس ، وأعلمهم حالهم ، وقال : إنهم قد أسرعوا إلى الفتنة واستطالوا عمري ، والله إن فارقتهم ليتمنين كل منهم أن عمري كان طال عليهم مكان كل يوم سنة ، مما يرون من الدماء المسفوكة ، والاحن والاثرة الظاهرة ، والاحكام المغيرة (2) .
* * * وروى أبو جعفر ، قال : كان عمرو بن العاص ممن يحرض على عثمان ويغري به ، ولقد خطب عثمان يوما في أواخر خلافته ، فصاح به عمرو بن العاص ، اتق الله يا عثمان ، فإنك قد ركبت أمورا وركبناها معك ، فتب إلى الله نتب ! فناداه عثمان ! وإنك هاهنا يا بن النابغة ! قملت والله جبتك منذ نزعتك عن العمل .
فنودي من ناحية أخرى : تب إلى الله ، ونودي من أخرى مثل ذلك ، فرفع يديه إلى السماء ، وقال : اللهم إني أول التائبين ! ثم نزل (2) .
* * *
__________
(1) تاريخ الطبري 5 : 122 .
(2) تاريخ الطبري 5 : 109 .
(*)(2/143)
وروى أبو جعفر ، قال : كان عمرو بن العاص شديد التحريض والتأليب على عثمان ، وكان يقول : والله إن كنت لالقى الراعي فأحرضه على عثمان ، فضلا عن الرؤساء والوجوه .
فلما سعر الشر بالمدينة خرج إلى منزله بفلسطين ، فبينا هو بقصره ومعه إبناه : عبد الله ومحمد ، وعندهم سلامة بن روح الجذامي ، إذ مر بهم راكب من المدينة فسألوه عن عثمان ، فقال : محصور ، فقال عمرو : انا أبو عبد الله ، العير قد يضرط والمكواة في النار ، ثم مر بهم راكب آخر ، فسألوه ، فقال : قتل عثمان فقال عمرو : أنا أبو عبد الله ، إذا نكات قرحة أدميتها ، فقال سلامة بن روح : يا معشر قريش ، إنما كان بينكم وبين العرب باب فكسرتموه ، فقال : نعم أردنا أن يخرج الحق من خاصرة الباطل ، ليكون الناس في الامر شرعا سواء (1) .
وروى أبو جعفر ، قال : لما نزل القوم ذا خشب يريدون قتل عثمان إن لم ينزع عما يكرهون ، وعلم عثمان ذلك ، جاء إلى منزل علي عليه السلام ، فدخل وقال : يا بن عم ، إن قرابتي قريبة ، ولي عليك حق ، وقد جاء ما ترى من هؤلاء القوم وهم مصبحي ، ولك عند الناس قدر ، وهم يسمعون منك ، وأحب أن تركب إليهم فتردهم عني ، فإن في دخولهم علي وهنا لامري ، وجرأة علي .
فقال عليه السلام : على أي شئ أردهم ؟ قال : على أن أصير إلى ما أشرت به ، ورأيته لي .
فقال علي عليه السلام : إني قد كلمتك مرة بعد أخرى ، فكل ذلك تخرج وتقول ، وتعد ثم ترجع ! وهذا من فعل مروان ومعاوية وابن عامر وعبد الله بن سعد ، فإنك أطعتهم وعصيتني ! قال : عثمان فإني أعصيهم أطيعك .
فأمر علي عليه السلام الناس أن يركبوا معه ، فركب ثلاثون رجلا من المهاجرين
__________
(1) تاريخ الطبري 5 : 109 .
(*)(2/144)
والانصار ، منهم سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، وأبو جهم العدوي ، وجبير بن مطعم ، وحكيم بن حزام ، ومروان بن الحكم ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن عتاب ابن أسيد .
ومن الانصار أبو أسيد الساعدي ، وزيد بن ثابت ، وحسان بن ثابت ، وكعب بن مالك ، وغيرهم .
فأتوا المصريين فكلموهم ، فكان (1) الذي يكلمهم علي ومحمد بن مسلمة ، فسمعوا منهما ، ورجعوا بأصحابهم يطلبون مصر ، ورجع علي عليه السلام حتى دخل على عثمان ، فأشار عليه أن يتكلم بكلام يسمعه الناس منه ، ليسكنوا إلى ما يعدهم به من النزوع (2) .
وقال له : إن البلاد قد تمخضت عليك ، ولا آمن أنه يجئ ركب من جهة أخرى ، فتقول لي : يا علي ، إركب إليهم ، فإن لم أفعل رأيتني قد قطعت رحمك ، واستخففت بحقك .
فخرج عثمان ، فخطب الخطبة التي نزع فيها ، وأعطى الناس من نفسه التوبه ، وقال لهم : أنا أول من اتعظ ، وأستغفر الله عما فعلت وأتوب إليه ، فمثلي نزع وتاب ، فإذا نزلت فليأتني أشرافكم فليروا رأيهم ، وليذكر كل واحد ظلامته ، لاكشفها ، وحاجته لاقضيها ، فو الله لئن ردني الحق عبدا لاستن بسنة العبيد ، ولاذلن ذل العبيد ، وما عن الله مذهب إلا إليه ، والله لاعطينكم الرضا ، ولانحين مروان وذويه ، ولا أحتجب عنكم .
فرق الناس له وبكوا حتى خضلوا لحاهم ، وبكى هو أيضا ، فلما نزل وجد مروان وسعدا ونفرا من بني أمية في منزله قعودا لم يكونوا شهدوا خطبته ، ولكنها بلغتهم ، فلما جلس ، قال مروان : يا أمير المؤمنين ، أأتكلم أم أسكت ؟ فقالت نائلة ابنة الفرافصة امرأة عثمان ، لا بل تسكت ، فأنتم والله قاتلوه وميتموا أطفاله ، إنه قد قال مقاله لا ينبغي له
__________
(1) أ ، ج : " وكان " .
(2) نزع عن الامر نزوعا : إنتهى منه .
(*)(2/145)
أن ينزع عنها .
فقال لها مروان : وما انت وذاك ! والله لقد مات أبوك وما يحسن أن يتوضأ ! فقالت : مهلا يا مروان عن ذكر أبي إلا بخير ، والله لو لا أن أباك عم عثمان ، وأنه يناله غمه وعيبه ، لالخبرتك من أمره بما لا أكذب فيه عليه .
فأعرض عنه عثمان ، ثم عاد فقال : يا أمير المؤمنين ، أأتكلم أم أسكت ؟ فقال : تكلم ، فقال : بأبي أنت وأمي ! والله لوددت أن مقالتك هذه كانت وأنت ممتنع ، فكنت أول من رضي بها وأعان عليها ، ولكنك قلت ما قلت ، وقد بلغ الحزام الطبيين ، وجاوز السيل الزبى (1) ، وحين أعطي الخطة الذليلة الذليل ، والله لاقامة على خطيئة تستغفر الله منها ، أجمل من توبة تخوف عليها ، ما زدت على أن جرأت عليك الناس .
فقال عثمان : قد كان من قولي ما كان ، وإن الفائت لا يرد ، ولم آل خيرا .
فقال مروان : إن الناس قد اجتمعوا ببابك أمثال الجبال ، قال : ما شأنهم ؟ قال : أنت دعوتهم إلى نفسك ، فهذا يذكر مظلمة ، وهذا يطلب مالا ، وهذا يسأل نزع عامل من عمالك عنه ، وهذا ما جنيت على خلافتك ، ولو استمسكت وصبرت كان خيرا لك .
قال : فاخرج أنت إلى الناس فكلمهم فإني أستحيي أن أكلمهم وأردهم .
فخرج مروان إلى الناس ، وقد ركب بعضهم بعضا ، فقال : ما شأنكم ؟ قد اجتمعتم كأنكم جئتم لنهب ، شاهت الوجوه (2) ! أتريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا ! اعزبوا عنا ، والله إن رمتمونا لنمرن عليكم ما حلا ، ولنحلن بكم ما لا يسركم ، ولا تحمدوا فيه غب (3) رأيكم ، ارجعوا إلى منازلكم ، فإنا والله غير مغلوبين على ما في أيدينا
__________
(1) جاوز الحزام الطبيين ، مثل ، يقال لمواضع الاخلاف من الناقة أطباء ، واحدها طبى ، بضم الطاء وكسرها ، فإذا بلغ الحزام الطبيين فقد انتهى في المكروه .
ومثله جاوز السيل الزبى ، والزبى : جمع زبية ، وهي مصيدة الاسد ، ولا تتخذ إلا في قلة أو هضبة أو رابية .
(2) شاهت الوجوه : قبحت .
(3) غب رأيكم ، أي عاقبة رأيكم .
(*)(2/146)
فرجع الناس خائبين يشتمون عثمان ومروان ، وأتى بعضهم عليا عليه السلام فأخبره الخبر فأقبل علي عليه السلام على عبد الرحمن بن الاسود بن عبد يغوث الزهري ، فقال : أحضرت خطبة عثمان ؟ قال : نعم ، قال : أحضرت مقالة مروان للناس ؟ قال : نعم فقال : أي عباد الله ، يا لله للمسلمين ! إني إن قعدت في بيتي ، قال لي : تركتني وخذلتني ! وإن تكلمت فبلغت له ما يريد ، جاء مروان فتلعب به حتى قد صار سيقة (1) له ، يسوقه حيث يشاء ، بعد كبر السن وصحبته الرسول صلى الله عليه .
وقام مغضبا من فوره حتى دخل على عثمان ، فقال له : أما يرضى مروان منك إلا أن يحرفك عن دينك وعقلك ! فأنت معه كجمل الظعينة ، يقاد حيث يسار به ، والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا عقله ، وإني لاراه يوردك ثم لا يصدرك ، وما أنا عائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك ، أفسدت شرفك ، وغلبت على رأيك .
ثم نهض .
فدخلت نائلة بنت الفرافصة ، فقالت : قد سمعت قول علي لك ، وإنه ليس براجع إليك ولا معاود لك ، وقد أطعت مروان يقودك حيث يشاء .
قال : فما أصنع ؟ قالت : تتقي الله وتتبع سنة صاحبيك ، فإنك متى أطعت مروان قتلك ، وليس لمروان عند الناس قدر ولا هيبة ولا محبة ، وإنما تركك الناس لمكانه ، وإنما رجع عنك أهل مصر لقول علي ، فأرسل إليه فاستصلحه ، فإن له عند الناس قدما ، وإنه لا يعصى .
فأرسل إلى علي فلم يأته وقال : قد أعلمته أني غير عائد (2) .
قال أبو جعفر : فجاء عثمان إلى علي بمنزله ليلا ، فاعتذر إليه ، ووعد من نفسه الجميل ، وقال : إني فاعل ، وإني غير فاعل ، فقال له علي عليه السلام : أبعد ما تكلمت على منبر رسول الله صلى الله عليه ، وأعطيت من نفسك ، ثم دخلت بيتك ، وخرج مروان
__________
(1) سيقة له ، أي مسوقا .
(2) تاريخ الطبري 111 - 112 .
(*)(2/147)
إلى الناس يشتمهم على بابك ! فخرج عثمان من عنده ، وهو يقول : خذلتني يا أبا الحسن ! وجرأت الناس علي ! فقال علي عليه السلام : والله إني لاكثر الناس ذبا عنك ، ولكني كلما جئت بشئ أظنه لك رضا ، جاء مروان بغيره ، فسمعت قوله ، وتركت قولي .
ولم يغد علي إلى نصر عثمان ، إلى أن منع الماء لما اشتد الحصار عليه ، فغضب علي من ذلك غضبا شديدا ، وقال لطلحة : أدخلوا عليه الروايا ، فكره طلحة ذلك وساءه ، فلم يزل على عليه السلام حتى أدخل الماء إليه (1) .
وروى أبو جعفر أيضا أن عليا عليه السلام كان في ماله بخيبر لما حصر عثمان ، فقدم المدينة والناس مجتمعون على طلحة ، وكان لطلحة في حصار عثمان أثر ، فلما قدم علي عليه السلام أتاه عثمان ، وقال له : أما بعد ، فإن لي حق الاسلام وحق الاخاء والقرابة والصهر ، ولو لم يكن من ذلك شئ وكنا في جاهلية ، لكان عارا على بني عبد مناف أن يبتز بنو تيم أمرهم - يعني طلحة - فقال له علي : أنا أكفيك ، فاذهب أنت .
ثم خرج إلى المسجد فرأى أسامه بن زيد ، فتوكأ على يده حتى دخل دار طلحة وهي مملوءة من الناس ، فقال له : يا طلحة ما هذا الامر الذي صنعت بعثمان ؟ فقال : يا أبا حسن ، أ بعد أن مس الحزام الطبيين ! فانصرف علي عليه السلام حتى أتى بيت المال ، فقال : افتحوه ، فلم يجدوا المفاتيح ، فكسر الباب ، وفرق ما فيه على الناس ، فانصرف الناس من عند طلحة حتى بقي وحده ، وسر عثمان بذلك ، وجاء طلحة فدخل على عثمان ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إني أردت أمرا فحال الله بيني وبينه ، وقد جئتك تائبا .
فقال : والله ما جئت تائبا ولكن جئت مغلوبا ، الله حسيبك يا طلحة .
* * *
__________
(1) تاريخ الطبري 5 : 112 .
(*)(2/148)
قال أبو جعفر : كان عثمان مستضعفا ، طمع فيه الناس ، وأعان على نفسه بأفعاله وباستيلاء بني أمية عليه ، وكان ابتداء الجرأة عليه أن إبلا من إبل الصدقة قدم بها عليه ، فوهبها لبعض ولد الحكم بن أبي العاص ، فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف ، فأخذها وقسمها بين الناس وعثمان في داره ، فكان ذلك أول وهن دخل على خلافة عثمان .
وقيل : بل كان أول وهن دخل عليه ، أن عثمان مر بجبلة بن عمرو الساعدي ، وهو في نادي قومه ، وفي يده جامعة ، فسلم فرد القوم عليه ، فقال جبلة : لم تردون على رجل فعل كذا وفعل كذا ! ثم قال لعثمان : والله لاطرحن هذه الجامعة في عنقك أو لتتركن بطانتك هذه الخبيثة : مروان ، وابن عامر ، وابن أبي سرح ، فمنهم من نزل القرآن بذمه ، ومنهم من أباح رسول الله صلى الله عليه دمه (1) .
وقيل : أنه خطب يوما وبيده عصا كان رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأبو بكر وعمر يخطبون عليها ، فأخذها جهجاه الغفاري من يده ، وكسرها على ركبته ، فلما تكاثرت أحداثه ، وتكاثر طمع الناس فيه ، كتب جمع من أهل المدينة من الصحابة وغيرهم إلى من بالآفاق : إن كنتم تريدون الجهاد ، فهلموا إلينا فإن دين محمد قد أفسده خليفتكم فاخلعوه ، فاختلفت عليه القلوب ، وجاء المصريون وغيرهم إلى المدينة حتى حدث ما حدث .
وروى الواقدي والمدائني وابن الكلبي وغيرهم ، وذكره أبو جعفر في التاريخ ، وذكره غيره من جميع المؤرخين : أن عليا عليه السلام لما رد المصريين رجعوا ، بعد ثلاثة أيام ، فأخرجوا صحيفة في أنبوبة رصاص ، وقالوا : وجدنا غلام عثمان بالموضع المعروف
__________
(1) تاريخ الطبري 5 : 114 .
(*)(2/149)
بالبويب (1) على بعير من إبل الصدقة ، ففتشنا متاعه ، لانا استربنا أمره ، فوجدنا فيه هذه الصحيفة ، ومضمونها أمر عبد الله بن سعد بن أبي سرح بجلد عبد الرحمن بن عديس ، وعمرو بن الحمق ، وحلق رؤوسهما ولحاهما ، وحبسهما وصلب قوم آخرين من أهل مصر .
وقيل : إن الذي أخذت منه الصحيفة أبو الأعور السلمي ، وإنهم لما رأوه وسألوه عن مسيره ، وهل معه كتاب ، فقال : لا ، فسألوه : في أي شئ هو ؟ فتغير كلامه ، فأخذوه وفتشوه وأخذوا الكتاب منه ، وعادوا إلى المدينة .
وجاء الناس إلى علي عليه السلام ، وسألوه أن يدخل إلى عثمان ، فيسأله عن هذه الحال ، فقام فجاء إليه فسأله ، فأقسم بالله ما كتبته ولا علمته ، ولا أمرت به ، فقال محمد بن مسلمة : صدق ، هذا من عمل مروان ، فقال : لا أدري ، وكان أهل مصر حضورا ، فقالوا : أ فيجترئ عليك ويبعث غلامك على جمل من إبل الصدقة ، وينقش على خاتمك ، ويبعث إلى عاملك بهذه الامور العظيمة ، وأنت لا تدري ، قال : نعم ، قالوا : إنك أما صادق ، أو كاذب ، فإن كنت كاذبا فقد استحققت الخلع لما أمرت به من قتلنا وعقوبتنا بغير حق ، وإن كنت صادقا فقد استحققت الخلع لضعفك عن هذا الامر وغفلتك ، وخبث بطانتك .
ولا ينبغي لنا أن نترك هذا الامر بيد من تقطع الامور دونه لضعفه وغفلته ، فاخلع نفسك منه .
فقال : لا أنزع قميصا ألبسنيه الله ، ولكني أتوب وأنزع .
قالوا : لو كان هذا أول ذنب تبت منه ، لقبلنا ، ولكنا رأيناك تتوب ثم تعود ، ولسنا بمنصرفين حتى نخلعك أو نقتلك أو تلحق أرواحنا بالله ، وإن منعك أصحابك وأهلك ، قاتلناهم حتى نخلص إليك .
فقال : أما أن أبرأ من خلافة الله ، فالقتل أحب إلي من ذلك ! وأما قتالكم من يمنع عني ، فإني لا آمر أحدا بقتالكم ، فمن قاتلكم فبغير أمري قاتل ، ولو أردت قتالكم لكتبت إلى الاجناد ، فقدموا علي أو لحقت
__________
(1) البويب : مدخل أهل الحجاز إلى مصر .
(*)(2/150)
ببعض الاطراف ، وكثرت الاصوات واللغط ، فقام علي فأخرج أهل مصر معه ، وخرج إلى منزله .
* * * قال أبو جعفر : وكتب عثمان إلى معاوية وابن عامر وأمراء الاجناد ، يستنجدهم ، ويأمر بالعجل والبدار وإرسال الجنود إليه ، فتربص به معاوية ، فقام في أهل الشام يزيد بن أسد القسري جد خالد بن عبد الله بن يزيد أمير العراق ، فتبعه خلق كثير ، فسار بهم إلى عثمان ، فلما كانوا بوادي القرى ، بلغهم قتل عثمان ، فرجعوا .
وقيل : بل أشخص معاوية من الشام حبيب بن مسلمة الفهري ، وسار من البصرة مجاشع بن مسعود السلمي ، فلما وصلوا الربذة (1) ، ونزلت مقدمتهم الموضع المسمى صرارا (2) بناحية المدينة ، أتاهم قتل عثمان ، فرجعوا .
وكان عثمان قد استشار نصحاءه في أمره ، فأشاروا أن يرسل إلى علي عليه السلام ، يطلب إليه أن يرد الناس و يعطيهم ما يرضيهم ليطاولهم ، حتى تأتيه الامداد ، فقال : إنهم لا يقبلون التعليل ، وقد كان مني في المرة الاولى ما كان .
فقال مروان : أعطهم ما سألوك وطاولهم ما طاولوك ، فانهم قوم قد بغوا عليك ، ولا عهد لهم .
فدعا عليا عليه السلام ، وقال له : قد ترى ما كان من الناس ، ولست آمنهم على دمي ، فارددهم عني ، فإني أعطيهم ما يريدون من الحق من نفسي ومن غيري .
فقال علي : إن الناس إلى عدلك أحوج منهم إلى قتلك ، وإنهم لا يرضون إلا بالرضا
__________
(1) الربذة : من قرى المدينة ، على ثلاثة أميال منها ، بها قبر أبي ذر الغفاري .
(2) صرار : موضع قريب من المدينة ، على طريق العراق .
(*)(2/151)
وقد كنت أعطيتهم من قبل عهدا فلم تف به ، فلا تغرر في هذه المرة ، فإني معطيهم عنك الحق ، قال : أعطهم فو الله لافين لهم .
فخرج علي عليه السلام إلى الناس ، فقال : إنكم إنما تطلبون الحق ، وقد أعطيتموه ، وإنه منصفكم من نفسه ، فسأله الناس أن يستوثق لهم ، وقالوا : إنا لا نرضى بقول دون فعل ، فدخل عليه فأعلمه ، فقال : اضرب بيني وبين الناس أجلا ، فإني لا أقدر على تبديل ما كرهوا في يوم واحد ، فقال علي عليه السلام : أما ما كان بالمدينة فلا أجل فيه ، وأما ما غاب فأجله وصول أمرك ، قال : نعم ، فأجلني فيما بالمدينة ثلاثة أيام .
فأجابه إلى ذلك ، وكتب بينه وبين الناس كتابا على رد كل مظلمة ، وعزل كل عامل كرهوه .
فكف الناس عنه ، وجعل يتاهب سرا للقتال ، ويستعد بالسلاح ، واتخذ جندا ، فلما مضت الايام الثلاثة ولم يغير شيئا ثار به الناس ، وخرج قوم إلى من بذي خشب من المصريين ، فأعلموهم الحال ، فقدموا المدينة ، وتكاثر الناس عليه ، وطلبوا منه عزل عماله ورد مظالمهم ، فكان جوابه لهم : إنى إن كنت أستعمل من تريدون لا من أريد ، فلست إذن في شئ من الخلافة ، والامر أمركم .
فقالوا : والله لتفعلن أو لتخلعن أو لنقتلنك ، فأبى عليهم وقال : لا أنزع سربالا سربلنيه الله .
فحصروه وضيقوا الحصار عليه .
* * * وروى أبو جعفر : لما اشتد على عثمان الحصار ، أشرف على الناس ، فقال : يا أهل المدينة ، أستودعكم الله وأساله أن يحسن عليكم الخلافة من بعدى ، ثم قال : أنشدكم الله ! هل تعلمون أنكم دعوتم الله عند مصاب عمر أن يختار لكم ويجمعكم على خيركم ! أ فتقولون : إن الله لم يستجب لكم ، وهنتم عليه ، وأنتم أهل حقه وأنصار نبيه (1) ، أم تقولون : هان على الله
__________
(1) ب " دينه " .
(*)(2/152)
دينه ، فلم يبال من ولى ، والدين لم يتفرق أهله بعد ! أم تقولون : لم يكن أخذ عن مشورة ، إنما كان مكابرة فوكل الله الامة - إذ عصته ولم يتشاوروا في الامامة - إلى أنفسها ! أم تقولون : إن الله لم يعلم عاقبة أمري ! فمهلا مهلا ! لا تقتلوني ، وإنه لا يحل إلا قتل ثلاثة : زان بعد إحصان ، أو كافر بعد إيمان ، أو قاتل نفس بغير حق .
أما إنكم إن قتلتموني وضعتم السيف على رقابكم ثم لا يرفعه الله عنكم أبدا .
فقالوا : أما ما ذكرت من استخارة الناس بعد عمر ، فإن كل ما يصنعه الله الخيرة ، ولكن الله جعلك بلية ابتلى بها عباده ، ولقد كانت لك قدم وسابقة ، وكنت أهلا للولاية ، ولكن أحدثت ما تعلمه ، ولا نترك اليوم إقامة الحق عليك مخافة الفتنة عاما قابلا .
وأما قولك : لا يحل دم إلا بإحدى ثلاث : فإنا نجد في كتاب الله إباحة دم غير الثلاثة : دم من سعى في الارض بالفساد ، ودم من بغى ثم قاتل على بغيه ، ودم من حال دون شئ من الحق ومنعه وقاتل دونه ، وقد بغيت ومنعت الحق ، وحلت دونه ، وكابرت عليه ، ولم تقد من نفسك من ظلمته ، ولا من عمالك ، وقد تمسكت بالامارة علينا .
والذين يقومون دونك ، ويمنعونك ، إنما يمنعونك ويقاتلوننا لتسميتك بالامارة ، فلو خلعت نفسك لانصرفوا عن القتال معك .
فسكت عثمان ، ولزم الدار وأمر أهل المدينة بالرجوع ، وأقسم عليهم فرجعوا ، إلا الحسن بن علي ، ومحمد بن طلحة ، وعبد الله بن الزبير وأشباها لهم ، وكانت مدة الحصار أربعين يوما (1) .
* * * قال أبو جعفر : ثم أن محاصري عثمان اشفقوا من وصول أجناد من الشام والبصرة تمنعه ، فحالوا بين عثمان وبين الناس ، ومنعوه كل شئ حتى الماء ، فأرسل عثمان سرا إلى علي عليه السلام ، وإلى أزواج النبي صلى الله عليه أنهم قد منعونا الماء ، فإن قدرتم أن
__________
(1) تاريخ الطبري 5 : 133 .
(*)(2/153)
ترسلوا إلينا ماء فافعلوا .
فجاء علي عليه السلام في الغلس وأم حبيبة بنت أبي سفيان ، فوقف علي عليه السلام على الناس فوعظهم ، وقال : أيها الناس ، إن الذي تفعلون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين ، إن فارس والروم لتأسر فتطعم وتسقي فالله الله ! لا تقطعوا الماء عن الرجل ، فاغلظوا له وقالوا : لا نعم ولا نعمة عين (1) .
فلما رأى منهم الجد نزع عمامته عن راسه ، ورمى بها إلى دار عثمان ، يعلمه أنه قد نهض وعاد .
وأما إم حبيبة وكانت مشتملة على إداوة فضربوا وجه بغلتها ، فقالت : إن وصايا أيتام بني أمية عند هذا الرجل ، فأحببت أن أساله عنها لئلا تهلك أموال اليتامى ، فشتموها ، وقالوا : أنت كاذبة ، وقطعوا حبل (2) البغلة بالسيف ، فنفرت وكادت تسقط عنها ، فتلقاها الناس فحملوها إلى منزلها (3) .
* * * وروى أبو جعفر ، قال : أشرف عثمان عليهم يوما ، فقال : أنشدكم الله ، هل تعلمون أني اشتريت بئر رومة (4) بمالي ، أستعذب بها ، وجعلت رشائي فيها كرجل من المسلمين (5) ! قالوا : نعم ، قال : فلم تمنعونني أن أشرب منها حتى أفطر على ماء البحر ! ثم قال : أنشدكم الله ، هل تعلمون أني اشتريت أرض كذا ، فزدتها في المسجد ؟ قالوا : نعم ، قال : فهل علمتم أن أحدا منع أن يصلي فيه قبلي (5) ! (هامش) * (1) نعمة العين : قرتها .
(2) الحبل للدابة : رسنها .
(3) الطبري 5 : 127 مع تصرف .
(4) بئر رومة في عقيق المدينة ، روي عن بشير الاسلمي : قال : لما قدم المهاجرون المدينة استنكروا الماء : وكان لرجل من بني غفار بئر يقال لها بئر رومة ، كان يبيع منها القربة بالمد ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : بعنيها بعين في الجنة ، فقال : يا رسول الله ، ليس لي ولا لعيالي غيرها : لا أستطيع ذلك ، فبلغ ذلك عثمان ، فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم ...
وتصدق بها كلها .
(معجم البلدان 1 : 4) .
(5) تاريخ الطبري 5 : 125 بتصرف .
(*)(2/154)
وروى أبو جعفر عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي ، قال : دخلت على عثمان ، فأخذ بيدي فأسمعني ، كلام من على بابه من الناس ، فمنهم من يقول : ما تنتظرون به ! ومنهم من يقول : لا تعجلوا ، فعساه ينزع ويراجع ، فبينا نحن إذ مر طلحة ، فقام إليه إبن عديس البلوي ، فناجاه ، ثم رجع ابن عديس ، فقال لاصحابه : لا تتركوا أحدا يدخل إلى عثمان ولا يخرج من عنده ، قال لي عثمان : هذا ما أمر به طلحة ، اللهم اكفني طلحة ، فإنه حمل هؤلا القوم وألبهم علي ، والله إني لارجو أن يكون منها صفرا ، وإن يسفك دمه ! قال : فأردت أن أخرج ، فمنعوني حتى أمرهم محمد بن أبي بكر ، فتركوني أخرج (1) .
قال أبو جعفر : فلما طال الامر وعلم المصريون أنهم قد أجرموا إليه جرما كجرم القتل وأنه لا فرق بين قتله وبين ما أتوا إليه ، وخافوا على نفوسهم من تركه حيا ، راموا الدخول عليه من باب داره ، فأغلقت الباب ، ومانعهم الحسن بن علي ، وعبد الله بن الزبير ، ومحمد بن طلحة ، ومروان ، وسعيد بن العاص ، وجماعة معهم من أبناء الانصار ، فزجرهم عثمان ، وقال : أنتم في حل من نصرتي ، فأبوا ولم يرجعوا (2) .
وقام رجل من أسلم يقال له نيار بن عياض - وكان من الصحابة - فنادى عثمان ، وأمره أن يخلع نفسه ، فبينا هو يناشده ويسومه خلع نفسه ، رماه كثير بن الصلت الكندي - وكان من أصحاب عثمان من أهل الدار - بسهم فقتله - فصاح المصريون وغيرهم عند ذلك : ادفعوا إلينا قاتل ابن عياض لنقتله به ، فقال عثمان : لم أكن لادفع إليكم رجلا نصرني وأنتم تريدون قتلي ! فثاروا إلى الباب ، فاغلق دونهم ، فجاءوا بنار فأحرقوه وأحرقوا السقيفة التي عليه .
فقال لمن عنده من أنصاره : إن رسول الله صلى الله عليه عهد
__________
(1) تاريخ الطبري 5 : 122 .
(2) تاريخ الطبري 5 : 128 .
(*)(2/155)
إلي عهدا فأنا صابر عليه ، فأحرج على رجل يقاتل دوني ! ثم قال للحسن : إن أباك الآن لفي أمر عظيم من أجلك ، فاخرج إليه ، أقسمت عليك لما خرجت إليه ! فلم يفعل ، ووقف محاميا عنه .
وخرج مروان بسيفه يجالد الناس ، فضربه رجل من بني ليث على رقبته ، فأثبته (1) وقطع إحدى علباويه (2) ، فعاش مروان بعد ذلك أو قص (3) ، وقام إليه عبيد بن رفاعة الزرقي ليذفف عليه (4) ، فقامت دونه فاطمه أم إبراهيم بن عدي - وكانت أرضعت مروان وأرضعت له - فقالت له : إن كنت تريد قتله فقد قتل ، وإن كنت إنما تريد أن تتلعب بلحمه فأقبح بذلك ! فتركه فخلصته وأدخلته بيتها ، فعرف لها بنوه ذلك بعد ، واستعملوا ابنها إبراهيم ، وكان له منهم خاصة (5) .
وقتل المغيرة بن الاخنس بن شريق ، وهو يحامي عن عثمان بالسيف ، واقتحم القوم الدار ، ودخل كثير منهم الدور المجاورة لها ، وتسوروا من دار عمرو بن حزم إليها حتى ملئوها وغلب الناس على عثمان ، وندبوا رجلا لقتله ، فدخل إليه البيت ، فقال له : اخلعها وندعك ، فقال : ويحك ! والله ما كشفت عن امرأة في جاهلية ولا إسلام ، ولا تعينت (6) ولا تمنيت ، ولا وضعت يميني على عورتي مذ بايعت رسول الله ، ولست بخالع قميصا كسانيه الله ، حتى يكرم أهل السعادة ، ويهين أهل الشقاوة .
فخرج عنه فقالوا له : ما صنعت ، قال : إني لم أستحل قتله ، فأدخلوا إليه رجلا من الصحابة ، فقال له : لست بصاحبي ، اإ النبي صلى الله عليه دعا لك أن يحفظك يوم كذا ، ولن تضيع ، فرجع عنه .
__________
(1) أثبته : جعله ثابتا في مكانه لا يتحرك من أثر الجراحة .
(2) علباوان : مثنى علباء ، وهي عصب العنق .
(3) الوقص : قصر العنق .
(4) يدفف عليه : يجهز .
(5) تاريخ الطبري 5 : 124 والخاصة : من خصه بنفسك .
(6) تعين الرجل : تأنى ليصيب شيئا بعينه .
(*)(2/156)
فأدخلوا إليه رجلا من قريش ، فقال له : إن رسول الله صلى الله عليه استغفر لك يوم كذا ، فلن تقارف دما حراما .
فرجع عنه .
فدخل عليه محمد بن أبي بكر ، فقال له عثمان : ويحك ! أ على الله تغضب ! هل لي إليك جرم إلا أني أخذت حق الله منك ؟ فأخذ محمد بلحيته ، وقال : أخزاك الله يا نعثل (1) ! قال : لست بنعثل ، ولكني عثمان وأمير المؤمنين ، فقال : ما أغنى عنك معاوية وفلان وفلان ، فقال عثمان : يا بن أخي ، دعها من يدك ، فما كان أبوك ليقبض عليها ، فقال : لو عملت ما عملت في حياة أبي لقبض عليها ، والذي أريد بك أشد من قبضي عليها ، فقال : أستنصر الله عليك ، وأستعين به ، فتركه وخرج .
وقيل : بل طعن جبينه بمشقص (2) كان في يده ، فثار سودان بن حمران ، وأبو حرب الغافقي ، وقتيرة بن وهب السكسكي ، فضربه الغافقي بعمود كان في يده ، وضرب المصحف برجله ، وكان في حجره ، فنزل بين يديه وسال عليه الدم ، وجاء سودان ليضربه بالسيف ، فأكبت عليه امرأته نائلة بنت الفرافصة (3) الكلبية ، واتقت السيف بيدها وهي تصرخ ، فنفح أصابعها فأطنها (4) ، فولت ، فغمز بعضهم أوراكها ، وقال : إنها لكبيرة العجز ، وضرب سودان عثمان فقتله .
وقيل : بل قتله كنانة بن بشر التجيبي وقيل : بل قتيرة بن وهب .
ودخل غلمان عثمان ومواليه ، فضرب أحدهم عنق سودان فقتله ، فوثب قتيرة بن وهب على ذلك الغلام
__________
(1) نعثل : رجل من أهل مصر كان طويل اللحية ، قيل إنه كان يشبه عثمان ، قال أبو عبيد : وشاتمو عثمان رضي الله عنه يسمونه نعثلا (اللسان) .
(2) المشقص ، كمنبر : نصل عريض .
(3) الفرافصة ، قال في اللسان : ليس في العرب من يسمى الفرافصة بالالف واللام غيره ، ونقل ابن بري عن القالي عن ابن الانباري عن أبيه عن شيوخه ، قال : كل ما في العرب فرافصة ، بضم الفاء إلا فرافصة أبا نائلة امرأة عثمان رضي الله عنه .
بفتح الفاء لا غير .
تاج العروس 4 : 415 .
(4) أطنها : قطعها .
(*)(2/157)
فقتله ، فوثب غلام آخر على قتيرة فقتله ، ونهبت دار عثمان ، وأخذ ما على نسائه وما كان في بيت المال ، وكان فيه غرارتان دراهم .
ووثب عمرو بن الحمق على صدر عثمان وبه رمق فطعنه تسع طعنات ، وقال : أما ثلاث منها ، فإني طعنتهن لله تعالى ، وأما ست منها فلما كان في صدري عليه .
وأرادوا قطع رأسه ، فوقعت عليه زوجتاه نائلة بنت الفرافصة وأم البنين ، ابنة عيينة بن حصن الفزاري ، فصحن وضربن الوجوه ، فقال ابن عديس : اتركوه ، وأقبل عمير بن ضابئ البرجمي فوثب عليه ، فكسر ضلعين من أضلاعه ، وقال له : سجنت أبي حتى مات في السجن .
وكان قتله يوم الثامن عشر من ذي الحجة من سنة خمس وثلاثين ، وقيل : بل في أيام التشريق ، وكان عمره ستا وثمانين سنة .
قال أبو جعفر : وبقي عثمان ثلاثة أيام لا يدفن .
ثم إن حكيم بن حزام وجبير بن مطعم ، كلما عليا عليه السلام في أن يأذن في دفنه ففعل ، فلما سمع الناس بذلك قعد له قوم في الطريق بالحجارة ، وخرج به ناس يسير من أهله ، ومعهم الحسن بن علي وابن الزبير وأبو جهم بن حذيفة بين المغرب والعشاء ، فأتوا به حائطا من حيطان المدينة ، يعرف بحش كوكب (1) وهو خارج البقيع ، فصلوا عليه .
وجاء ناس من الانصار ليمنعوا من الصلاة عليه ، فارسل علي عليه السلام ، فمنع من رجم سريره ، وكف الذين راموا منع الصلاه عليه ، ودفن في حش كوكب ، فلما ظهر معاوية على الامر ، أمر بذلك الحائط فهدم ، وأدخل في البقيع ، وأمر الناس أن يدفنوا موتاهم حول قبره ، حتى اتصل بمقابر المسلمين بالبقيع .
وقيل : إن عثمان لم يغسل ، وإنه كفن في ثيابه التى قتل فيها .
(هامش) * (1) حش كوكب : موضع بجانب البقيع ، اشتراه عثمان وزاد فيه (مراصد الاطلاع) .
(*)(2/158)
قال أبو جعفر : وروي عن عامر الشعبي أنه قال : ما قتل عمر بن الخطاب حتى ملته قريش واستطالت خلافته ، وقد كان يعلم فتنتهم ، فحصرهم في المدينة وقال لهم : إن أخوف ما أخاف على هذه الامة إنتشاركم في البلاد .
وإن كان الرجل ليستاذنه في الغزو ، فيقول : إن لك في غزوك مع رسول الله ضلى الله عليه ما يكفيك ، وهو خير لك من غزوك اليوم ، وخير لك من الغزو ألا ترى الدنيا ولا تراك .
فكان يفعل هذا بالمهاجرين من قريش ، ولم يكن يفعله بغيرهم من أهل مكة ، فلما ولي عثمان الخلافة خلى عنهم ، فانتشروا في البلاد ، وخالطهم الناس ، وأفضى الامر إلى ما أفضى إليه ، وكان عثمان أحب إلى الرعية من عمر .
* * * قال أبو جعفر : وكان أول منكر ظهر بالمدينة في خلافة عثمان حين فاضت الدنيا على العرب والمسلمين طيران الحمام والمسابقة بها ، والرمى عن الجلاهقات - وهى قسي البندق - فاستعمل عثمان عليها رجلا من بني ليث في سنه ثمان من خلافته ، فقص الطيور وكسر الجلاهقات .
* * * وروى أبو جعفر ، قال : سال رجل سعيد بن المسيب عن محمد بن أبي حذيفة : ما دعاه إلى الخروج على عثمان ؟ فقال : كان يتيما في حجر عثمان ، وكان والي أيتام أهل بيته ومحتمل كلهم ، فسأل عثمان العمل ، فقال : (1) يا بني لو كنت رضا لاستعملتك ، قال : فأذن لي فأخرج فأطلب الرزق (1) ، قال : اذهب حيث شئت ، وجهزه من عنده ، وحمله وأعطاه ، فلما وقع إلى مصر كان فيمن أعان عليه ، لانه منعه الامارة .
فقيل له : فعمار بن ياسر ؟ قال :
__________
(1 - 1) عبارة الطبري ، يا بني ، لو كنت رضا ، ثم سألتني العمل لاستعملتك ، ولكن لست هناك ، قال : فأذن لي ، فلاخرج فلاطلب ما يقوتني " .
(*)(2/159)
كان بينه وبين العباس بن عتبة بن أبى لهب كلام فضربهما عثمان ، فأورث ذلك تعاديا بين عمار وعثمان : وقد كانا تقاذفا قبل ذلك (1) .
قال أبو جعفر : وسئل سالم بن عبد الله عن محمد بن أبي بكر : ما دعاه إلى ركوب عثمان ؟ فقال : لزمه حق ، فأخذ عثمان من ظهره ، فغضب ، وغره أقوام فطمع ، لانه كان من الاسلام بمكان ، وكانت له دالة ، فصار مذمما بعد أن كان محمدا ، وكان كعب بن ذي الحبكة النهدي يلعب بالنيرنجات (2) بالكوفة ، فكتب عثمان إلى الوليد أن يوجعه ضربا ، فضربه وسيره إلى دنباوند (3) .
وكان ممن خرج إليه وسار إليه ، وحبس ضابئ بن الحارث البرجمي ، لانه هجا قوما فنسبهم إلى أن كلبهم يأتي أمهم ، فقال لهم : فأمكم لا تتركوها وكلبكم * * فإن عقوق الوالدين كبير (4) .
__________
(1) تاريخ الطبري 5 : 135 .
(2) النيرنجات : أخذ تشبه السحر ، وليست بحقيقة .
(3) دنباوند : جبل بنواحي الري ، ويقال له : دباوند .
(4) ذكر الطبري أن ضابئ بن الحارث الجرهمي استعار في زمان الوليد بن عقبة كلبا من قوم من الانصار ، يدعى قرحان ، لصيد الظباء ، فحبسه عنهم ، فنافره الانصاريون ، واستغاثوا عليه بقومه ، فكاثروه فانتزعوه منه ، وردوه على الانصار ، فهجاهم وقال في ذلك : تجشم دوني وفد قرحان خطة * * تضل لها الوجناء وهي حسير فباتوا شباعا ناعمين كأنما * * حباهم ببيت المرزبان أمير فكلبكم لا تتركوا فهو أمكم * * فإن عقوق الوالدين كبير فاستعدوا عليه عثمان ، فأرسل إليه ، فعزره وحبسه ، كما كان يصنع بالمسلمين ، فاستثقل ذلك ، فما زال في الحبس حتى مات فيه ، وقال في الفتك يعتذر إلى أصحابه : هممت ولم أفعل وكدت وليتني * * فعلت ووليت البكاء حلائله وقائلة قد مات في السجن ضابئ * * ألا من لخصم لم يجد من يجادله ! وقائلة لا يبعد الله ضابئا * * فنعم الفتى تفلو به وتحاوله (*)(2/160)
فاستعدوا عليه عثمان ، فحبسه فمات في السجن ، فلذلك حقد ابنه عمير عليه ، وكسر أضلاعه بعد قتله .
* * * قال أبو جعفر : وكان لعثمان على طلحة بن عبيد الله خمسون ألفا ، فقال طلحه له يوما : قد تهيأ مالك فاقبضه ، فقال : هو لك معونة على مروءتك ، فلما حصر عثمان ، قال علي عليه السلام لطلحة : أنشدك الله إلا كففت عن عثمان ! فقال : لا والله حتى تعطي بنو أمية الحق من أنفسها .
فكان علي عليه السلام يقول : لحا الله ابن الصعبة ! أعطاه عثمان ما أعطاه وفعل به ما فعل ! * * *(2/161)
(31) ومن كلام له عليه السلام لما أنفذ عبد الله بن عباس إلى الزبير قبل وقوع الحرب يوم الجمل ليستفيئه إلى طاعته (1) : الاصل : لا تلقين طلحة ، فإنك إن تلقه تجده كالثور عاقصا قرنه ، يركب الصعب ويقول : هو الذلول ، ولكن الق الزبير ، فإنه ألين عريكة ، فقل له : يقول لك ابن خالك : عرفتني بالحجاز ، وأنكرتني بالعراق ، فما عدا مما بدا ! قال الرضي (2) رحمه الله : وهو عليه السلام أول من سمعت منه هذه الكلمة - أعني : " فما عدا مما بدا " .
* * * الشرح : ليستفيئه إلى طاعته ، أي يسترجعه ، فاء ، أي رجع ، ومنه سمي الفئ للظل بعد الزوال .
وجاء في رواية : " فإنك إن تلقه تلفه " أي تجده ، ألفيته على كذا ، أي وجدته .
وعاقصا قرنه ، أي قد عطفه ، تيس أعقص ، أي قد التوى قرناه على أذنيه ، والفعل فيه عقص الثور قرنه ، بالفتح .
وقال القطب الراوندي عقص ، بالكسر ، وليس بصحيح ، وإنما يقال : عقص الرجل ، بالكسر ، إذا شح وساء خلقه ، فهو عقص .
وقوله : " يركب الصعب " ، إي يستهين بالمستصعب من الامور ، يصفه بشراسة
__________
(1) أ ، ج بعد هذه الكلمة : " قال عليه السلام " .
(2) مخطوطة النهج : " السيد " .
(*)(2/162)
الخلق والبأو (1) ، وكذلك كان طلحة ، وقد وصفه عمر بذلك .
ويقال : أن طلحة أحدث يوم أحد عنده كبرا شديدا لم يكن ، وذاك لانه أغنى (2) في ذلك اليوم ، عمر بذلك .
ويقال : أن طلحة أحدث يوم أحد عنده كبرا شديدا لم يكن ، وذاك لانه أغنى (1) في ذلك اليوم ، وأبلى بلاء حسنا .
والعريكة هاهنا : الطبيعة ، يقال : فلان لين العريكة ، إذا كان سلسا .
وقال الراوندي : العريكة : بقية السنام ، ولقد صدق ، لكن ليس هذا موضع ذاك .
وقوله عليه السلام لابن عباس : " قل له يقول لك ابن خالك " لطيف جدا ، وهو من باب الاستمالة والاذكار بالنسب والرحم ، أ لا ترى أن له في القلب من الموقع الداعي إلى الانقياد ما ليس لقوله : " يقول لك أمير المؤمنين " ! ومن هذا الباب قوله تعالى في ذكر موسى وهارون : " وألقى الالواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الاعداء " (3) ، لما رأى هارون غضب موسى واحتدامه ، شرع معه في الاستمالة والملاطفة ، فقال له : " ابن أم " وأذكره حق الاخوة ، وذلك أدعى إلى عطفه عليه من أن يقول له : " يا موسى " أو " يا أيها النبي " .
فأما قوله : " فما عدا مما بدا " فعدا بمعنى صرف ، قال الشاعر : وإني عداني أن أزورك محكم * * متى ما أحرك فيه ساقي تصخب .
و " من " هاهنا بمعنى " عن " ، وقد جاءت في كثير من كلامهم كذلك ، قال ابن قتيبة في " أدب الكاتب " : قالوا : حدثني فلان من فلان ، أي عن فلان ، ولهيت من كذا ، أي عنه (4) ، ويصير ترتيب الكلام وتقديره : فما صرفك عما بدا منك ! أي
__________
(1) البأو : الفخر والادعاء .
(2) أغنى ، أي صرف الاعداء وكفهم .
(3) سورة الاعراف 150 .
(4) أدب الكاتب ص 505 مع اختلاف في العبارة .
(*)(2/163)
ظهر ، والمعنى : ما الذي صدك عن طاعتي بعد إظهارك لها ! وحذف الضمير المفعول المنصوب كثير جدا ، كقوله تعالى : " واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا " (1) ، أي أرسلناه ، ولا بد من تقديره ، كي لا يبقى الموصول بلا عائد .
وقال القطب الراوندي : قوله : " فما عدا مما بدا " له معنيان : أحدهما ما الذي منعك مما كان قد بدا منك من البيعة قبل هذه الحاله ؟ والثاني : ما الذي عاقك ؟ ويكون المفعول الثاني ل " عدا " محذوفا ، يدل عليه الكلام ، أي ما عداك ! يريد ما شغلك وما منعك مما كان بدا لك من نصرتي ! من البدا الذي يبدو للانسان .
ولقائل أن يقول : ليس في الوجه الثاني زيادة على الوجه الاول إلا زيادة فاسدة ، أما إنه ليس فيه زيادة ، فلانه فسر في الوجه الاول " عدا " بمعنى منع ، ثم فسره في الوجه الثاني بمعنى عاق ، وفسر عاق بمنع وشغل ، فصار " عدا " في الوجه الثاني مثل " عدا " في الوجه الاول .
وقوله : " مما كان بدا منك " فسره في الاول والثاني بتفسير واحد ، فلم يبق بين الوجهين تفاوت .
وأما الزيادة الفاسدة فظنه أن " عدا " يتعدى إلى مفعولين ، وأنه قد حذف الثاني ، وهذا غير صحيح ، لان " عدا " ليس من الافعال التي تتعدى إلى مفعولين بإجماع النحاة ، ومن العجب تفسيره المفعول الثاني المحذوف على زعمه بقوله : أي ما عداك ؟ وهذا المفعول المحذوف هاهنا هو مفعول " عدا " الذي لا مفعول لها غيره ، فلا يجوز أن يقال إنه أول ولا ثان .
ثم حكى القطب الراوندي حكاية معناها أن صفية بنت عبد المطلب أعتقت عبيدا ، (2) (ثم ماتت) (2) ، ثم مات العبيد ولم يخلفوا وارثا إلا مواليهم ، وطلب علي عليه السلام ميراث العبيد بحق التعصيب ، وطلبه الزبير بحق الارث من أمه ، وتحاكما إلى عمر ، فقضى عمر بالميراث للزبير .
__________
(1) سورة الزخرف 45 .
(2 - 2) ساقطة من ب .
(*)(2/164)
قال القطب الراوندي رحمه الله تعالى ، حكاية عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال : هذا خلاف الشرع ، لان ولاء معتق المرأة إذا كانت ميتة يكون لعصبتها ، وهم العاقلة ، لا لاولادها .
قلت هذه المسألة مختلف فيها بين الامامية ، فأبو عبد الله بن النعمان المعروف بالمفيد (1) ، يقول : إن الولاء لولدها ، ولا يصحح هذا الخبر ، ويطعن في راويه ، وغيره من فقهاء الامامية كأبي جعفر الطوسي (2) ومن قال بقوله ، يذهبون إلى أن الولاء لعصبتها لا لولدها ، ويصححون الخبر ، ويزعمون أن أمير المؤمنين عليه السلام سكت ولم ينازع ، على قاعدته في التقية ، واستعمال المجاملة مع القوم .
فأما مذاهب الفقهاء غير الامامية فإنها متفقة على أن الولاء للولد لا للعصبة ، كما هو قول المفيد رحمه الله تعالى .
وروى جعفر بن محمد الصادق ، عن أبيه عن جده ، عليهم السلام ، قال : سألت ابن عباس رضي الله عنه عن ذلك ، فقال : إني قد أتيت الزبير ، فقلت له ، فقال : قل له إني أريد ما تريد - كأنه يقول : الملك - لم يزدني على ذلك .
فرجعت إلى علي عليه السلام فأخبرته .
وروى محمد بن إسحاق والكلبي ، عن ابن عباس رضي الله عنه ، قال : قلت : الكلمة للزبير فلم يزدني علي أن قال : قل له أنا مع الخوف الشديد لنطمع .
__________
(1) هو أبو عبد الله محمد بنمحمد بن النعمان بن عبد السلام البغدادي المعروف بالمفيد ، أحد أعيان الشيعة وعلمائهم ، انتهت إليه رئاسة الامامية في وقته .
وله قريب من مائتي مصنف ، وفيها حفظت أقوال الشيعة وآراؤهم وشرحهم وتفصيل مذاهبهم ، وعنه تلقى الشريف المرتضى الفقه والتفسير وعلم الكلام ، وتوفي سنة 413 .
روضات الجنات 536 .
(2) هو أبو جعفر محمد بن يلي بن محمد الطوسي المشهدي ، أحد تلاميذ الشيخ المفيد ، ثم الشريف المرتضى من بعده .
وكان إماما واعظا ، ألف الوسيلة والواسطة والفتاوى على مذهب الشيعة ، وغيرها .
توفي سنة 406 .
روضات الجنات 567 .
(*)(2/165)
قال : وسئل ابن عباس عما يعني بقوله هذا ، فقال : يقول إنا على الخوف لنطمع أن نلي من الامر ما وليتم .
وقد فسره قوم تفسيرا (1) آخر ، وقالوا : أراد إنا مع الخوف من الله ، لنطمع إن يغفر لنا هذا الذنب .
قلت : وعلى كلام التفسيرين لم يحصل جواب المسالة .
(من أخبار الزبير وابنه عبد الله) كان عبد الله بن الزبير هو الذي يصلي بالناس في أيام الجمل ، لان طلحة والزبير تدافعا الصلاة ، فأمرت عائشة عبد الله أن يصلي قطعا لمنازعتهما ، فإن ظهروا كان الامر إلى عائشة ، تستخلف من شاءت .
وكان عبد الله بن الزبير يدعي أنه أحق بالخلافة من أبيه ومن طلحة ، ويزعم أن عثمان يوم الدار أوصى بها إليه .
واختلفت الرواية في كيفية السلام على الزبير وطلحة ، فروي أنه كان يسلم على الزبير وحده بالامرة ، فيقال : السلام عليك إيها الامير ، لان عائشة ولته أمر الحرب .
وروي أنه كان يسلم على كل واحد منهما بذلك .
* * * لما نزل علي عليه السلام بالبصرة ووقف جيشه بإزاء جيش عائشة ، قال الزبير : والله ما كان أمر قط إلا عرفت أين أضع قدمي فيه ، إلا هذا الامر ، فإني لا أدري : أمقبل أنا فيه أم مدبر ! فقال له ابنه عبد الله : كلا ولكنك فرقت (2) سيوف ابن أبي طالب ، وعرفت أن الموت الناقع تحت راياته .
فقال الزبير : ما لك أخزاك الله من ولد ما أشأمك !
__________
(1) كذا قي أ ، ج وفي ب : " بتفسير " .
(2) فرقت : خفت .
(*)(2/166)
كان أمير المؤمنين عليه السلام ، يقول : ما زال الزبير منا أهل البيت ، حتى شب ابنه عبد الله .
برز علي عليه السلام بين الصفين حاسرا ، وقال ليبرز إلي الزبير ، فبرز إليه مدججا - فقيل لعائشة : قد برز الزبير إلى علي عليه السلام ، فصاحت : وا زبيراه ! فقيل لها : لا بأس عليه منه ، إنه حاسر والزبير دارع (1) - فقال له : ما حملك يا أبا عبد الله على ما صنعت ! قال : أطلب بدم عثمان ، قال : أنت وطلحة وليتماه ، وإنما نوبتك من ذلك أن تقيد به نفسك وتسلمها إلى ورثته ، ثم قال : نشدتك الله ! أ تذكر يوم مررت بي ورسول الله صلى الله عليه متكئ على يدك ، وهو جاء من بني عمرو بن عوف ، فسلم علي وضحك في وجهي ، فضحكت إليه ، لم أزده على ذلك ، فقلت : لا يترك ابن أبي طالب يا رسول الله زهوه ! فقال لك : " مه إنه ليس بذي زهو ، أما إنك ستقاتله وأنت له ظالم " ! فاسترجع الزبير وقال : لقد كان ذلك ، ولكن الدهر أنسانيه ، ولانصرفن عنك ، فرجع ، فأعتق عبده سرجس تحللا (2) من يمين لزمته في القتال ، ثم أتى عائشة ، فقال لها : إني ما وقفت موقفا قط ، ولا شهدت حربا إلا ولي فيه رأي وبصيرة إلا هذه الحرب ، وإني لعلى شك من أمري ، وما أكاد أبصر موضع قدمي .
فقالت له : يا أبا عبد الله ، أظنك فرقت سيوف ابن أبي طالب ، إنها والله سيوف حداد ، معدة للجلاد ، تحملها فئة أنجاد ، ولئن فرقتها لقد فرقها الرجال قبلك ! قال : كلا ، ولكنه ما قلت لك .
ثم انصرف .
* * * وروى فروة بن الحارث التميمي ، قال : كنت فيمن اعتزل عن الحرب بوادي السباع (3) مع الاحنف بن قيس ، وخرج ابن عم لي يقال له الجون ، مع عسكر البصرة ، فنهيته
__________
(1) الحاسر : من لا درع له ولا جنة ، والدارع : لابس الدرع .
(2) كذا في أ ، ج ، وفي ب : " محللا " .
(3) وادي السباع : موضع بين البصرة ومكة .
(*)(2/167)
فقال : لا أرغب بنفسي عن نصرة أم المؤمنين ، وحواري رسول الله ! فخرج معهم .
وإني لجالس مع الاحنف ، يستنبئ الاخبار ، إذا بالجون بن قتادة ، ابن عمي مقبلا ، فقمت إليه واعتنقته ، وسألته عن الخبر ، فقال : أخبرك العجب ، خرجت وأنا لا أريد أن أبرح الحرب حتى يحكم الله بين الفريقين ، فبينا أنا واقف مع الزبير ، إذ جاءه رجل ، فقال : أبشر أيها الامير ، فإن عليا لما رأى ما أعد الله له من هذا الجمع ، نكص على عقبيه ، وتفرق عنه أصحابه .
وأتاه آخر ، فقال له مثل ذلك ، فقال الزبير : ويحكم ! أبو حسن يرجع ! والله لو لم يجد إلا العرفج (1) لدب إلينا فيه .
ثم أقبل رجل آخر ، فقال : أيها الامير ، إن نفرا من أصحاب علي فارقوه ليدخلوا معنا ، منهم عمار بن ياسر ، فقال الزبير : كلا ورب الكعبة ، إن عمارا لا يفارقه أبدا ، فقال الرجل : بلى والله ، مرارا .
فلما رأى الزبير أن الرجل ليس براجع عن قوله ، بعث معه رجلا آخر ، وقال : اذهبا فانظرا ، فعادا وقالا : إن عمارا قد أتاك رسولا من عند صاحبه .
قال جون : فسمعت والله الزبير يقول : وا انقطاع ظهراه ! وا جدع أنفاه ! وا سواد وجهاه ! ويكرر ذلك مرارا ، ثم أخذته رعده شديدة ، فقلت : والله إن الزبير ليس بجبان ، وإنه لمن فرسان قريش المذكورين ، وإن لهذا الكلام لشأنا ، ولا أريد أن أشهد مشهدا يقول أميره هذه المقالة ، فرجعت إليكم فلم يكن إلا قليل حتى مر الزبير بنا متاركا للقوم ، فأتبعه عمير بن جرموز فقتله .
* * * أكثر الروايات على أن ابن جرموز قتل مع أصحاب النهر ، وجاء في بعضها أنه عاش إلى أيام ولاية مصعب بن الزبير العراق ، وأنه لما قدم مصعب البصرة خافه ابن جرموز
__________
(1) العرفج : شجر سهلي ، واحدته بهاء .
(*)(2/168)
فهرب ، فقال مصعب : ليظهر سالما ، وليأخذ عطاءه موفورا ، أ يظن أني أقتله بأبي عبد الله وأجعله فداء له ! فكان هذا من الكبر المستحسن .
كان ابن جرموز يدعو لدنياه ، فقيل له : هلا دعوت لآخرتك ؟ فقال : أيست من الجنة .
الزبير أول من شهر سيفه في سبيل الله ، قيل له في أول الدعوة ، قد قتل رسول الله ، فخرج وهو غلام يسعى بسيفه مشهورا .
* * * وروى الزبير بن بكار في " الموفقيات (1) " قال : لما سار علي عليه السلام إلى البصرة ، بعث ابن عباس فقال : ائت الزبير ، فاقرأ عليه السلام ، وقل له : يا أبا عبد الله ، كيف عرفتنا بالمدينة وأنكرتنا بالبصرة ! فقال ابن عباس : أ فلا آتي طلحة ؟ قال : لا ، إذا تجده عاقصا قرنه في حزن ، يقول : هذا سهل .
قال : فأتيت الزبير ، فوجدته في بيت يتروح في يوم حار وعبد الله ابنه عنده فقال : مرحبا بك يا بن لبابة ، أ جئت زائرا أم سفيرا ؟ قلت : كلا ، إن ابن خالك يقرأ عليك السلام ، ويقول لك : يا أبا عبد الله ، كيف عرفتنا بالمدينة ، وأنكرتنا بالبصرة ! فقال : علقتهم أني خلقت عصبه * * قتادة تعلقت بنشبه .
لن أدعهم حتى أؤلف بينهم ! قال : فأردت منه جوابا غير ذلك ، فقال لي ابنه عبد الله : قل له بيننا وبينك دم خليفة ، ووصية خليفة ، واجتماع اثنين ، وانفراد واحد ، وأم مبرورة ، ومشاورة العشيرة .
قال : فعلمت أنه ليس وراء هذا الكلام إلا الحرب ، فرجعت إلى علي عليه السلام فأخبرته .
__________
(1) كتاب الموفقيات في الاخبار ، ألفه الزبير بن بكار للموفق بالله ، وهو الزبير بن بكار بن عبد الله بن مصعب ابن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام ، كان علامة نسابة ، وكتبه في الانساب عليها الاعتماد .
توفي سنة 256 .
معجم الادباء 11 : 161 .
(*)(2/169)
قال الزبير بن بكار : هذا الحديث كان يرويه عمي مصعب ، ثم تركه ، وقال : إني رأيت جد أبا عبد الله الزبير بن العوام في المنام ، وهو يعتذر من يوم الجمل ، فقلت له : كيف تعتذر منه ، وأنت القائل : علقتهم أني خلقت عصبه * * قتادة تعلقت بنشبه .
لن أدعهم حتى أؤلف بينهم ! فقال : لم أقله .
(استطراد بلاغي في الكلام على الاستدراج) واعلم أن في علم البيان بابا يسمى باب الخداع والاستدراج يناسب ما يذكره فيه علماء البيان قول أمير المؤمنين عليه السلام : يقول لك ابن خالك عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق ! قالوا : ومن ذلك قول الله تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون : " وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أ تقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب " (1) ، فإنه أخذ معهم في الاحتجاج بطريق التقسيم ، فقال : هذا الرجل إما أن يكون كاذبا فكذبه يعود عليه ولا يتعداه ، وإما أن يكون صادقا فيصيبكم بعض ما يعدكم به ، ولم يقل : " كل ما يعدكم به " مخادعة لهم وتلطفا واستمالة لقلوبهم كي لا ينفروا منه لو أغلظ في القول وأظهر لهم إنه يهضمه بعض حقه .
وكذلك تقديم قسم الكذب على قسم الصدق ، كأنه (2) رشاهم ذلك ، وجعله برطيلا (3) لهم ليطمئنوا إلى نصحه .
__________
(1) سورة غافر 28 .
(2) ب : " كأنهم " وما أثبته عن أ ، ج .
(3) البرطيل هنا : الرشوة .
(*)(2/170)
ومن ذلك قول إبراهيم على ما حكاه تعالى عنه في قوله : " إذ قال لابيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا .
يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني إهدك صراطا سويا .
يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا .
يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا " (1) ، فطلب منه في مبدأ الامر السبب في عبادته الصنم والعلة لذلك ، ونبهه على أن عبادة ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني شيئا قبيحة ، ثم لم يقل له : إني قد تبحرت في العلوم ، بل قال له : قد حصل عندي نوع من العلم لم يحصل عندك .
وهذا من باب الادب في الخطاب .
ثم نبهه على أن الشيطان عاص لله ، فلا يجوز اتباعه ، ثم خوفه من عذاب الله إن اتبع الشيطان ، وخاطبه في جميع ذلك بقوله : " يا أبت " استعطافا واستدراجا ، كقول علي عليه السلام : " يقول لك ابن خالك " ، فلم يجبه أبوه إلى ما أراد ، ولا قال له : " يا بني " بل قال : " أ راغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم " ، فخاطبه بالاسم ، وأتاه بهمزه الاستفهام المتضمنة للانكار ، ثم توعده ، فقال : " لئن لم تنته لارجمنك واهجرني مليا " .
قالوا : ومن هذا الباب ما روي أن الحسين بن علي عليهما السلام كلم معاوية في أمر ابنه يزيد ، ونهاه عن أن يعهد إليه ، فأبى عليه معاوية حتى أغضب كل واحد منهما صاحبه ، فقال الحسين عليه السلام في غضون كلامه : أبي خير من أبيه ، وأمي خير من أمه .
فقال معاوية : يا بن أخي ، أما أمك فخير من أمه ، وكيف تقاس امرأة من كلب بابنة رسول الله (2) صلى الله عليه ! وأما أبوه فحاكم أباك إلى الله تعالى ، فحكم لابيه على أبيك .
__________
(1) سورة مريم 42 - 45 .
(2) في المثل السائر : " وبنت رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من امرأة من كلب " .
(*)(2/171)
قالوا : وهذا من باب الاستدراج اللطيف ، لان معاوية علم أنه إن أجابه بجواب يتضمن الدعوى ، لكونه خيرا من علي عليه السلام لم يلتفت أحد إليه ، ولم يكن له كلام يتعلق به ، لان آثار علي عليه السلام في الاسلام ، وشرفه وفضيلته تجل أن يقاس بها أحد ، فعدل عن ذكر ذلك إلى التعلق بما تعلق به ، فكان الفلج له .
ذكر هذا الخبر نصر الله بن الاثير في كتابه المسمى ب " المثل السائر " في باب الاستدراج (1) .
وعندي أن هذا خارج عن باب الاستدراج ، وأنه من باب الجوابات الاقناعية التي تسميها الحكماء الجدليات والخطابيات ، وهي أجوبة إذا بحث عنها لم يكن وراءها تحقيق ، وكانت ببادئ النظر مسكته للخصم ، صالحه لمصادمته في مقام المجادلة .
ومثل ذلك قول معاوية لاهل الشام حيث التحق به عقيل بن أبي طالب : يا أهل الشام ، ما ظنكم برجل لم يصلح لاخيه ! وقوله لاهل الشام : إن أبا لهب المذموم في القرآن باسمه ، عم علي بن أبي طالب .
فارتاع أهل الشام لذلك ، وشتموا عليا ولعنوه .
ومن ذلك قول عمر يوم السقيفة : أيكم يطيب نفسا أن يتقدم قدمين قدمهما رسول الله صلى الله عليه للصلاة ! ومن ذلك قول علي عليه السلام مجيبا لمن سأله : كم بين السماء والارض ؟ فقال : دعوة مستجابه .
__________
(1) المثل السائر 2 : 68 - 71 .
(*)(2/172)
وجوابه أيضا لمن قال له : كم بين المشرق والمغرب ؟ فقال : مسيره يوم للشمس .
ومن ذلك قول أبي بكر - وقد قال له عمر : أقد خالدا بمالك بن نويرة : سيف الله فلا أغمده .
وكقوله - وقد أشير عليه أيضا بأن يقيد من بعض أمرائه : أنا أقيد من وزعة (1) الله ! ذكر ذلك صاحب " الصحاح " في باب " وزع " (2) .
والجوابات الاقناعية كثيرة ، ولعلها جمهور ما يتداوله الناس ، ويسكت به بعضهم بعضا .
__________
(1) الوزعة : جمع وازع ، وهو الذي يتقدم الصف فيصلحه ، ويقدم ويؤخر .
(2) الصحاح 1297 (*)(2/173)
(32) ومن خطبة له عليه السلام : الاصل : أيها الناس ، أصبحنا في دهر عنود ، وزمن شديد (1) ، يعد فيه المحسن مسيئا ، ويزداد الظالم فيه عتوا ، لا ننتفع بما علمنا ، ولا نسأل عما جهلنا ، ولا نتخوف قارعة حتى تحل بنا .
والناس على أربعة أصناف : منهم من لا يمنعه الفساد في الارض إلا مهانه نفسه وكلاله حده ، ونضيض وفره .
ومنهم المصلت بسيفه ، والمعلن بشره ، والمجلب بخيله ورجله ، قد أشرط نفسه وأوبق دينه ، لحطام ينتهزه ، أو مقنب يقوده ، أو منبر يفرعه .
ولبئس المتجر أن ترى الدنيا لنفسك ثمنا ، ومما لك عند الله عوضا ! ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة ، ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا ، قد طامن من شخصه ، وقارب من خطوه ، وشمر من ثوبه ، وزخرف من نفسه للامانة ، واتخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية .
ومنهم من أبعده عن طلب الملك ضئولة نفسه ، وانقطاع سببه ، فقصرته الحال على حاله ، فتحلى باسم القناعة ، وتزين بلباس أهل الزهادة ، وليس من ذلك في مراح ولا مغدى .
__________
(1) ج : كنود " شديد " .
(*)(2/174)
وبقي رجال غض أبصارهم ذكر المرجع ، وأراق دموعهم خوف المحشر ، فهم بين شريد ناد ، وخائف مقموع ، وساكت مكعوم ، وداع مخلص ، وثكلان موجع ، قد إخملتهم التقية ، وشملتهم الذلة ، فهم في بحر أجاج ، أفواههم ضامزة ، وقلوبهم قرحة ، قد وعظوا حتى ملوا ، وقهروا حتى ذلوا ، وقتلوا حتى قلوا .
فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حثالة القرظ ، وقراضة الجلم .
واتعظوا بمن كان قبلكم ، قبل أن يتعظ بكم من بعدكم ، وارفضوها ذميمة ، فإنها قد رفضت من كان أشغف بها منكم .
* * * قال الرضي رحمه الله : وهذه الخطبة ربما نسبها من لا علم له إلى معاوية ، وهي من كلام أمير المؤمنين عليه السلام الذي لا يشك فيه .
وأين الذهب من الرغام ! وأين العذب من الاجاج ! وقد دل على ذلك الدليل الخريت ، ونقده الناقد البصير ، عمرو بن بحر الجاحظ ، فإنه ذكر هذه الخطبة في كتاب " البيان والتبيين " (1) وذكر من نسبها إلى معاوية .
ثم تكلم من بعدها بكلام في معناها ، جملته أنه قال : وهذا الكلام بكلام علي عليه السلام
__________
(1) البيان والتبيين 2 : 59 - 61 ، عن شعيب بن صفوان ، وقال : " وزاد فيها البقطري وغيره " ، وقال : " لما حضرت معاوية الوفاة قال لمولى له : من بالباب ؟ قال : نفر من قريش يتباشرون بموتك ، فقال : ويحك ! ولم ؟ قال : لا أدري ، قال فوالله ما لهم بعدي إلا الذي يسوءهم ، وأذن للناس فدخلوا " .
ثم أورد الخطبة بروايته ، وقال في آخرها : " وفي هذه الخطبة : أبقاك الله ضروب من العجب ، منها أن الكلام لا يشبه السبب الذي من أجله دعاهم معاوية .
ومنها أن هذا المذهب في تصنيف الناس ، وفي الاخبار عما هم عليه من القهر والاذلال ، ومن التقية والخوف أشبه بكلام علي رضي الله عنه ومعانيه وحاله منه بحال معاوية ، ومنها أنا لم نجد معاوية في حال من الحالات يسلك في كلامه مسلك الزهاد ، ولا يذهب مذاهب العباد ، وإنما نكتب لكم ونخبر بما سمعناه ، والله أعلم بأصحاب الاخبار ، وبكثير منهم " .
(*)(2/175)
أشبه ، وبمذهبه في تصنيف الناس وفي الاخبار عما هم عليه من القهر والاذلال ، ومن التقية والخوف أليق .
قال : ومتى وجدنا معاوية في حال من الاحوال يسلك في كلامه مسلك الزهاد ، ومذاهب العباد ! * * * الشرح : دهر عنود : جائر ، عند عن الطريق ، يعند بالضم : أي عدل وجار .
ويمكن أن يكون من عند يعند بالكسر ، أي خالف ورد الحق وهو يعرفه ، إلا أن اسم الفاعل المشهور في ذلك عاند وعنيد ، وأما عنود فهو اسم فاعل من عند يعند بالضم .
قوله : " وزمن شديد " أي بخيل ، ومنه قوله تعالى : " وإنه لحب الخير لشديد " (1) أي وإنه لبخيل لاجل حب الخير ، والخير : المال .
وقد روي " وزمن كنود " وهو الكفور ، قال تعالى : " إن الانسان لربه لكنود " (2) .
والقارعة : الخطب الذي يقرع ، أي يصيب .
قوله : " ونضيض وفره " أي قلة ماله ، وكان الاصل " ونضاضة وفره " ليكون المصدر في مقابلة المصدر الاول ، وهو " كلاله حده " ، لكنه أخرجه على باب إضافة الصفة إلى الموصوف ، كقولهم : عليه سحق عمامة ، وجرد قطيفة ، واخلاق ثياب .
قوله : " والمجلب بخيله ورجله " ، المجلب اسم فاعل من أجلب عليهم ، أي أعان عليهم .
والرجل : جمع راجل ، كالركب جمع راكب ، والشرب جمع شارب ، وهذا من الفاظ الكتاب العزيز : " واجلب عليهم بخيلك ورجلك " (3) .
__________
(1) سورة العاديات 8 .
(2) سورة العاديات 6 .
(3) سورة الاسراء 64 وقراءة حفص بكسر الجيم في " رجلك " .
(*)(2/176)
وأشرط نفسه ، أي هيإها وأعدها للفساد في الارض .
وأوبق دينه : أهلكه .
والحطام : المال ، وأصله ما تكسر من اليبيس .
ينتهزه : يختلسه .
والمقنب : خيل ما بين الثلاثين إلى الاربعين .
ويفرعه : يعلوه .
وطامن من شخصه ، أي خفض .
وقارب من خطوه : لم يسرع ومشى رويدا .
وشمر من ثوبه : قصره .
وزخرف من نفسه : حسن ونمق وزين .
والزخرف : الذهب في الاصل .
وضئولة نفسه : حقارتها .
والناد : المنفرد .
والمكعوم : من كعمت البعير ، إذا شددت فمه .
والاجاج : الملح .
وإفواههم ضامزة ، بالزاي أي ساكنة ، قال بشر بن أبي خازم : لقد ضمزت بجرتها سليم * * مخافتنا كما ضمز الحمار (1) .
والقرظ : ورق السلم ، يدبغ به .
وحثالته : ما يسقط منه .
والجلم : المقص تجز به أوبار الابل .
وقراضته : ما يقع من قرضه وقطعه .
فإن قيل : بينوا لنا تفصيل هذه الاقسام الاربعة .
قيل : القسم الاول من يقعد به عن طلب الامرة قله ماله ، وحقارته في نفسه .
والقسم الثاني : من يشمر ويطلب الامارة ويفسد في الارض ويكاشف .
والقسم الثالث : من يظهر ناموس الدين ويطلب به الدنيا .
والقسم الرابع : من لا مال له أصلا ، ولا يكاشف ويطلب الملك ولا يطلب الدنيا
__________
(1) الصحاح (2 : 881) ، واللسان (7 : 232) ، ونسبه إلى ابن مقبل ، وقال في شرحه : " معناه قد خضعت وذلت كما ضمز الحمار ، لان الحمار لا يجتر ، وإنما قال : ضمزت بجرتها على جهة المثل ، أي سكتوا فما يتحركون ولا ينطقون " .
(*)(2/177)
بالرياء والناموس ، بل تنقطع أسبابه كلها فيخلد إلى القناعة ، ويتحلى بحلية لزهادة في اللذات الدنيوية ، لا طلبا للدنيا بل عجزا عن الحركة فيها ، وليس بزاهد على الحقيقة .
فإن قيل : فهاهنا قسم خامس ، قد ذكره عليه السلام ، وهم الابرار الاتقياء ، الذين أراق دموعهم خوف الآخرة .
قيل : إنه عليه السلام إنما قال : " إن الناس على أربعة أصناف " ، وعنى بهم من عدا المتقين ، ولهذا قال لما انقضى التقسيم : " وبقي رجال غض أبصارهم ذكر المرجع " ، فأبان بذلك عن أن هؤلاء خارجون عن الاقسام الاربعة .
* * * (فصل في ذكر الآيات والاخبار الواردة في ذم الرياء والشهرة) واعلم أن هذه الخطبة تتضمن الذم الكثير لمن يدعي الآخرة من أهل زماننا ، وهم أهل الرياء والنفاق ، ولابسوا الصوف والثياب المرقوعة لغير وجه الله .
وقد ورد في ذم الرياء شئ كثير ، وقد ذكرنا بعض ذلك فيما تقدم .
ومن الآيات الواردة في ذلك قوله تعالى : " يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا " (1) .
ومنها قوله تعالى : " فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعباده ربه أحدا " (2) .
__________
(1) سورة النساء 142 .
(2) سورة الكهف 110 .
(*)(2/178)
ومنها قوله تعالى : " إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا " (1) .
ومنها قوله تعالى : " الذين هم عن صلاتهم ساهون .
الذين هم يراءون ويمنعون الماعون " (2) .
ومن الاخبار النبوية قوله صلى الله عليه وآله ، وقد سأله رجل يا رسول الله ، فيم النجاة ؟ فقال : " ألا تعمل بطاعة الله وتريد بها الناس " .
وفي الحديث : " من راءى راءى الله به ، ومن سمع سمع الله به " .
وفي الحديث : " إن الله تعالى يقول للملائكة : إن هذا العمل لم يرد صاحبه به وجهي ، فاجعلوه في سجين " .
وقال صلى الله عليه وآله : " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الاصغر " ، قالوا : وما الشرك الاصغر يا رسول الله ؟ قال : " الرياء ، يقول الله تعالى إذا جازى العباد بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تراءونهم في الدنيا ، فاطلبوا جزاءكم منهم " .
وفي حديث شداد بن أوس : رأيت النبي صلى الله عليه وآله يبكى ، فقلت : يا رسول الله ، ما يبكيك ؟ فقال : " إني تخوفت على أمتي الشرك ، أما إنهم لا يعبدون صنما ولا شمسا ولا قمرا ، ولكنهم يراءون بأعمالهم " .
ورأى عمر رجلا يتخشع ويطاطئ رقبته في مشيته ، فقال له : يا صاحب الرقبة ، إرفع رقبتك ، ليس الخشوع في الرقاب " .
ورأى أبو أمامة رجلا في المسجد يبكي في سجوده ، فقال له : أنت أنت لو كان هذا في بيتك !
__________
(1) سورة الانسان 9 .
(2) سورة الماعون 5 ، 6 .
(*)(2/179)
وقال علي عليه السلام : للمرائي أربع علامات : يكسل إذا كان وحده ، وينشط إذا كان في الناس ، ويزيد في العمل إذا إثني عليه ، وينقص منه إذا لم يثن عليه .
وقال رجل لعبادة بن الصامت : أقاتل بسيفي في سبيل الله أريد به وجهه ومحمدة الناس ، قال : لا شئ لك ، فسأله ثلاث مرات ، كل ذلك يقول : لا شئ لك ! ثم قال في الثالثة : يقول الله تعالى : أنا أغنى الاغنياء عن الشرك ...
الحديث .
وضرب عمر رجلا بالدرة ، ثم ظهر له أنه لم يات جرما ، فقال له : اقتص مني ، فقال : بل أدعها لله ولك ، قال : ما صنعت شيئا ، إما أن تدعها لي فأعرف ذلك لك ، أو تدعها لله وحده .
وقال الحسن : لقد صحبت أقوما ، أن كان أحدهم لتعرض له الكلمة لو نطق بها لنفعته ونفعت أصحابه ، ما يمنعه منها إلا مخافة الشهرة ، وأن كان إحدهم ليمر فيرى الاذى على الطريق فما يمنعه أن ينحيه إلا مخافة الشهرة .
وقال الفضيل : كانوا يراءون بما يعملون ، وصاروا اليوم يراءون بما لا يعملون .
وقال عكرمة : إن الله تعالى يعطى العبد على نيته ما لا يعطيه على عمله ، لان النية لا رياء فيها .
وقال الحسن : المرائي يريد أن يغلب قدر الله تعالى ، هو رجل سوء ، يريد أن يقول الناس : هذا صالح ، وكيف يقولون وقد حل من ربه محل الاردئاء (1) ، فلا بد لقلوب المؤمنين أن تعرفه .
وقال قتادة : إذا راءى العبد ، قال الله تعالى لملائكته : انظروا إلى عبدي يستهزئ بي .
وقال الفضيل : من أراد أن ينظر مرائيا فلينظر إلي .
__________
(1) أردئاء : جمع ردئ .
(*)(2/180)
وقال محمد بن المبارك الصوري : أظهر السمت (1) بالليل ، فإنه أشرف من سمتك بالنهار ، فإن سمت النهار للمخلوقين ، وسمت الليل لرب العالمين .
وقال إبراهيم بن أدهم : ما صدق الله من أحب أن يشتهر .
ومن الكلام المعزو إلى عيسى بن مريم عليه السلام : إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن رأسه ولحيته ، وليمسح شفتيه ، لئلا يعلم الناس أنه صائم ، وإذا أعطى بيمينه ، فليخف عن شماله ، وإذا صلى فليرخ ستر بابه ، فإن الله يقسم الثناء كما يقسم الرزق .
ومن كلام بعض الصالحين : آخر ما يخرج من رءوس الصديقين حب الرياسة .
وروى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال : " يحسب المرء من الشر - إلا من عصمه الله من السوء - أن يشير الناس إليه بالاصابع في دينه ودنياه ، إن الله لا ينظر إلى صوركم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " .
وقال علي عليه السلام : تبذل لا تشتهر ، ولا ترفع شخصك لتذكر بعلم ، واسكت واصمت تسلم ، تسر الابرار ، وتغيظ الفجار .
وكان خالد بن معدان إذا كثرت حلقته ، قام مخافة الشهرة .
ورأى طلحة بن مصرف قوما يمشون معه نحو عشرة ، فقال : فراش نار ، وذبان طمع .
وقال سليمان بن حنظلة : بينا نحن حوالي أبي بن كعب نمشي ، إذ رآه عمر فعلاه بالدرة ، وقال له : انظر من حولك ! إن الذي أنت فيه ذلة للتابع ، فتنة للمتبوع .
وخرج عبد الله بن مسعود من منزله ، فاتبعه قوم ، فالتفت إليهم ، وقال : علام تتبعونني ! فو الله لو تعلمون مني ما أغلق عليه بابي لما تبعني منكم اثنان .
وقال الحسن : خفق النعال حول الرجال مما يثبت عليهم قلوب الحمقى .
__________
(1) السمت : حسن المذهب في الدين .
(*)(2/181)
وروي أن رجلا صحب الحسن في طريق ، فلما فارقه قال : أوصني رحمك الله ! قال : إن استطعت أن تعرف ولا تعرف ، وتمشي ولا يمشى إليك ، وتسأل ولا تسأل ، فافعل .
وخرج أيوب السختياني في سفر ، فشيعه قوم ، فقال : لو لا أني أعلم أن الله يعلم من قلبي أني لهذا كاره ، لخشيت المقت من الله .
وعوتب أيوب على تطويل قميصه ، فقال : إن الشهرة كانت فيما مضى في طوله ، وهي اليوم في قصره .
وقال بعضهم : كنت مع أبي قلابة ، إذ دخل رجل عليه كساء ، فقال : إياكم وهذا الحمار الناهق - يشير به إلى طالب شهرة .
وقال رجل لبشر بن الحارث : أوصني ، فقال : أخمل ذكرك ، وطيب مطعمك .
وكان حوشب يبكي ويقول : بلغ اسمى المسجد الجامع .
وقال بشر : ما أعرف رجلا أحب أن يعرف إلا ذهب دينه وافتضح .
وقال أيضا : لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب أن يعرفه الناس .
فهذه الآثار قليل مما ورد عن الصالحين رحمهم الله في ذم الرياء وكون الشهرة طريقا إلى الفتنة .
(فصل في مدح الخمول والجنوح إلى العزلة) وقد صرح أمير المؤمنين عليه السلام في مدح الابرار - وهم القسم الخامس - بمدح الخمول ، فقال : " قد أخملتهم التقية " ، يعني الخوف .
وقد ورد في الاخبار والآثار شئ كثير في مدح الخمول .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله : " رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له ،(2/182)
لو أقسم على الله لابر قسمه " .
وفي رواية ابن مسعود : " رب ذي طمرين لا يؤبه له ، لو سأل الجنة لاعطيها " .
وفي الحديث أيضا عنه صلى الله عليه وآله : " أ لا أدلكم على أهل الجنة ! كل ضعيف مستضعف ، لو أقسم على الله لابره .
أ لا أدلكم على أهل النار ! كل متكبر جواظ " .
وعنه صلى الله عليه وآله : " إن أهل الجنة الشعث الغبر ، الذين إذا استاذنوا على الامراء لم يؤذن لهم ، وإذا خطبوا لم ينكحوا ، وإذا قالوا لم ينصت لهم ، حوائج أحدهم تتلجلج في صدره ، لو قسم نورهم يوم القيامة على الناس لوسعهم " .
وروي أن عمر دخل المسجد ، فإذا بمعاذ بن جبل يبكي عند قبر رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقال : ما يبكيك ؟ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : " إن اليسير من الرياء لشرك ، وإن الله يحب الاتقياء الاخفياء ، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا ، وإذا حضروا لم يعرفوا ، قلوبهم مصابيح الهدى ، ينجون من كل غبراء مظلمة " .
وقال ابن مسعود : كونوا ينابيع العلم ، مصابيح الهدى ، أحلاس البيوت ، سرج الليل ، جدد القلوب ، خلقان الثياب ، تعرفون عند أهل السماء ، وتخفون عند أهل الارض .
وفي حديث أبي أمامة ، يرفعه : " قال الله تعالى : إن أغبط أوليائي لعبد مؤمن ، خفيف الحاذ (1) ، ذو حظ من صلاة ، وقد أحسن عبادة ربه ، وأطاعه في السر ، وكان غامضا في الناس ، لا يشار إليه بالاصابع " .
وفي الحديث : " السعيد من خمل صيته ، وقل تراثه ، وسهلت منيته ، وقلت بواكيه " .
__________
(1) خفيف الحاذ : قليل المال .
(*)(2/183)
وقال الفضيل : روي لي أن الله تعالى يقول في بعض ما يمن به على عبده : أ لم أنعم عليك ! أ لم أسترك ! أ لم أخمل ذكرك ! وكان الخليل بن أحمد يقول في دعائه : اللهم اجعلني عندك من أرفع خلقك ، واجعلني عند نفسي من أوضع خلقك ، واجعلني عند الناس من أوسط خلقك .
وقال إبراهيم بن أدهم : ما قرت عيني ليلة قط في الدنيا إلا مرة ، بت ليلة في بعض مساجد قرى الشام ، وكان بي علة البطن ، فجرني المؤذن برجلي حتى أخرجني من المسجد .
وقال الفضيل : إن قدرت على ألا تعرف ، فافعل ، وما عليك ألا تعرف ! وما عليك ألا يثنى عليك ! وما عليك أن تكون مذموما عند الناس ، إذا كنت محمودا عند الله تعالى ! * * * فإن قيل : فما قولك في شهرة الانبياء والائمة عليهم السلام ، وأكابر الفقهاء المجتهدين ؟ قيل : إن المذموم طلب الشهرة ، فأما وجودها من الله تعالى من غير تكلف من العبد ولا طلب فليس بمذموم ، بل لا بد من وجود إنسان يشتهر أمره ، فإن بطريقه ينصلح العالم ، ومثال ذلك الغرقى الذين بينهم غريق ضعيف ، الاولى به ألا يعرفه أحد منهم ، لئلا يتعلق به فيهلك ويهلكوا معه ، فإن كان بينهم سابح قوي مشهور بالقوة فالاولى ألا يكون مجهولا ، بل ينبغي أن يعرف ليتعلقوا به ، فينجو هو ويتخلصوا من الغرق بطريقه .(2/184)
(33) ومن خطبه له عليه السلام عند مسيره لقتال أهل البصرة : الاصل : قال عبد الله بن العباس : دخلت على أمير المؤمنين بذي قار وهو يخصف نعله ، فقال لي : ما قيمة هذا النعل ؟ فقلت : لا قيمة لها ، فقال عليه السلام : والله لهي أحب إلي من إمرتكم ، إلا أن أقيم حقا ، أو أدفع باطلا ، ثم خرج فخطب الناس فقال : إن الله سبحانه بعث محمدا صلى الله عليه ، وليس أحد من العرب يقرا كتابا ، ولا يدعي نبوة ، فساق الناس حتى بوأهم محلتهم ، وبلغهم منجاتهم ، فاستقامت قناتهم ، واطمأنت صفاتهم .
أما والله إن كنت لفي ساقتها ، حتى تولت (1) بحذافيرها ، ما عجزت (2) ولا جبنت ، وإن مسيري هذا لمثلها ، فلانقبن الباطل حتى يخرج الحق من جنبه .
ما لي ولقريش ! والله لقد قاتلتهم كافرين ، ولاقاتلنهم مفتونين ، وإني لصاحبهم بالامس ، كما أنا صاحبهم اليوم ! والله ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم ، فأدخلناهم في حيزنا ، فكانوا كما قال الاول : أدمت لعمري شربك المحض صابحا * * وأكلك بالزبد المقشرة البجرا (3) ونحن وهبناك العلاء ولم تكن * * عليا وحطنا حولك الجرد والسمرا * * *
__________
(1) ب : " ولت " .
(2) ب : " ما ضعفت " .
(3) المحض : اللبن الخالص بلا رغوة .
(*)(2/185)
الشرح : ذو قار : موضع قريب من البصرة ، وهو المكان الذى كانت فيه الحرب بين العرب والفرس ، ونصرت العرب على الفرس قبل الاسلام .
ويخصف نعله ، أي يخرزها .
وبوأهم محلتهم : أسكنهم منزلهم ، أي ضرب الناس بسيفه على الاسلام حتى أوصلهم إليه ، ومثله " وبلغهم منجاتهم " إلا أن في هذه الفاصلة ذكر النجاة مصرحا به .
فاستقامت قناتهم : استقاموا على الاسلام ، أي كانت قناتهم معوجه فاستقامت .
واطمأنت صفاتهم ، كانت متقلقلة متزلزلة ، فاطمأنت واستقرت .
وهذه كلها استعارات .
ثم أقسم أنه كان في ساقتها حتى تولت بحذافيرها ، الاصل في " ساقتها " أن يكون جمع سائق كحائض وحاضة ، وحائك وحاكة ، ثم استعملت لفظة " الساقة " للاخير ، لان السائق إنما يكون في آخر الركب أو الجيش .
وشبه عليه السلام أمر الجاهلية ، أما بعجاجة ثاثرة ، أو بكتيبة مقبلة للحرب ، فقال : إني طردتها فولت بين يدي ، ولم أزل في ساقتها أنا أطردها وهي تنطرد أمامي ، حتى تولت بأسرها ولم يبق منها شئ ، ما عجزت عنها ، ولا جبنت منها .
ثم قال : وإن مسيري هذا لمثلها ، فلانقبن الباطل ، كأنه جعل الباطل كشئ قد اشتمل على الحق ، واحتوى عليه ، وصار الحق في طيه ، كالشئ الكامن المستتر فيه ، فأقسم لينقبن ذلك الباطل إلى أن يخرج الحق من جنبه .
وهذا من باب الاستعارة أيضا .(2/186)
ثم قال : " لقد قاتلت قريشا كافرين ، ولاقاتلنهم مفتونين " ، لان الباغي على الامام مفتون فاسق .
وهذا الكلام يؤكد قول أصحابنا : إن أصحاب صفين والجمل ليسوا بكفار ، خلافا للامامية فإنهم يزعمون أنهم كفار .
(من أخبار يوم ذي قار) روى أبو مخنف عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن زيد بن علي ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلنا مع علي عليه السلام ذا قار ، قلت : يا أمير المؤمنين ، ما أقل من ياتيك من أهل الكوفة فيما أظن ! فقال : والله ليأتيني منهم ستة آلاف وخمسمائة وستون رجلا ، لا يزيدون ولا ينقصون .
قال ابن عباس : فدخلني والله من ذلك شك شديد في قوله ، وقلت في نفسي : والله إن قدموا لاعدنهم .
قال أبو مخنف : فحدث ابن إسحاق ، عن عمه عبد الرحمن بن يسار ، قال : نفر إلى علي عليه السلام إلى ذي قار من الكوفة في البحر والبر ستة آلاف وخمسمائة وستون رجلا .
أقام علي بذى قار خمسة عشر يوما ، حتى سمع صهيل الخيل وشحيح البغال حوله .
قال : فلما سار بهم منقلة (1) ، قال ابن عباس : والله لاعدنهم ، فإن كانوا كما قال ، وإلا أتممتهم من غيرهم ، فإن الناس قد كانوا سمعوا قوله .
قال : فعرضتهم فو الله ما وجدتهم يزيدون رجلا ، ولا ينقصون رجلا ، فقلت : الله أكبر ! صدق الله ورسوله ! ثم سرنا .
قال أبو مخنف : ولما بلغ حذيفة بن اليمان أن عليا قد قدم ذا قار ، واستنفر الناس ، دعا
__________
(1) المنقلة : مرحلة سفر .
(*)(2/187)
أصحابه فوعظهم وذكرهم الله وزهدهم في الدنيا ، ورغبهم في الآخرة ، وقال لهم : الحقوا بأمير المؤمنين ووصي سيد المرسلين ، فإن من الحق أن تنصروه ، وهذا الحسن ابنه وعمار ، قد قدما الكوفة يستنفران الناس ، فانفروا .
قال : فنفر أصحاب حذيفة إلى أمير المؤمنين ، ومكث حذيفة بعد ذلك خمس عشرة ليلة ، وتوفي رحمه الله تعالى .
قال أبو مخنف : وقال هاشم بن عتبة المرقال ، يذكر نفورهم إلى علي عليه السلام : وسرنا إلى خير البرية كلها * * على علمنا أنا إلى الله نرجع نوقره في فضله ونجله * * وفي الله ما نرجو وما نتوقع ونخصف أخفاف المطي على الوجا * * وفي الله ما نزجي وفي الله نوضع دلفنا بجمع آثروا الحق والهدى * * إلى ذي تقى في نصره نتسرع نكافح عنه والسيوف شهيرة * * تصافح أعناق الرجال فتقطع .
قال أبو مخنف : فلما قدم أهل الكوفة على علي عليه السلام ، سلموا عليه ، وقالوا : الحمد لله يا أمير المؤمنين ، الذي اختصنا بموازرتك ، وأكرمنا بنصرتك ، قد أجبناك طائعين غير مكرهين ، فمرنا بأمرك .
قال : فقام فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله وقال : مرحبا بأهل الكوفة ، بيوتات العرب ووجوهها ، وأهل الفضل وفرسانها ، وأشد العرب مودة لرسول الله صلى الله عليه ولاهل بيته ، ولذلك بعثت إليكم واستصرختكم عند نقض طلحة والزبير بيعتي ، عن غير جور مني ولا حدث ، ولعمري لو لم تنصروني بأهل الكوفة ، لرجوت أن يكفيني الله غوغاء الناس ، وطغام أهل البصرة ، مع أن عامة من بها ووجوهها وأهل الفضل والدين قد اعتزلوها ، ورغبوا عنها .
فقام رءوس - والدين قد اعتزلوها ورغبوا عنها .
فقام رءوس القبائل فخطبوا وبذلوا له النصر ، فأمرهم بالرحيل إلى البصرة .(2/188)
(34) ومن خطبة له عليه السلام في استنفار الناس إلى أهل الشام : أف لكم ! لقد سئمت عتابكم .
أرضيتم بالحياه الدنيا من الآخرة عوضا ، وبالذل من العز خلفا ! إذا دعوتكم إلى جهاد عدوكم دارت أعينكم ، كانكم من الموت في غمرة ، ومن الذهول في سكرة .
يرتج عليكم حواري فتعمهون ، فكأن قلوبكم مألوسه ، فأنتم لا تعقلون .
ما أنتم لي بثقة سجيس الليالي ، وما أنتم بركن يمال بكم ، ولا زوافر عز يفتقر إليكم .
ما أنتم إلا كإبل ضل رعاتها ، فكلما جمعت من جانب انتشرت من آخر .
لبئس لعمر الله سعر نار الحرب أنتم ! تكادون ولا تكيدون ، وتنتقص أطرافكم فلا تمتعضون ، لا ينام عنكم وأنتم في غفلة ساهون .
غلب والله المتخاذلون ! وأيم الله ، إني لاظن بكم أن لو حمس الوغى ، واستحر الموت ، قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج الرأس .
والله إن امرأ يمكن عدوه من نفسه ، يعرق لحمه ، ويهشم عظمه ، ويفري جلده ، لعظيم عجزه ، ضعيف ما ضمت عليه جوانح صدره .
أنت فكن ذاك إن شئت ، فأما أنا فو الله دون أن أعطي ذلك ضرب بالمشرفية تطير منه فراش الهام ، وتطيح السواعد والاقدام ، ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء .
أيها الناس ، إن لي عليكم حقا ، ولكم علي حق ، فأما حقكم علي فالنصيحة(2/189)
لكم ، وتوفير فيئكم عليكم ، وتعليمكم كيلا تجهلوا ، وتأديبكم كيما تعلموا ، وأما حقي عليكم ، فالوفاء بالبيعة ، والنصيحة في المشهد والمغيب ، والاجابة حين أدعوكم ، والطاعة حين آمركم .
اشرح : * * * أف لكم : كلمة استقذار ومهانة ، وفيها لغات .
ويرتج : يغلق .
والحوار : المحاورة والمخاطبة .
وتعمهون ، من العمه وهو التحير والتردد ، الماضي عمه بالكسر .
وقوله : " دارت أعينكم " من قوله تعالى : " ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت " (1) ، ومن قوله : " تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت " (2) .
وقلوبكم مألوسة ، من الالس ، بسكون اللام ، وهو الجنون واختلاط العقل .
قوله : " ما أنتم لي بثقة سجيس الليالي " كلمة تقال للابد ، تقول : لا أفعله سجيس الليالي ، وسجيس عجيس ، وسجيس الاوجس ، معنى ذلك كله الدهر ، والزمان ، وأبدا .
قوله : " ما أنتم بركن يمال بكم " ، أي لستم بركن يستند إليكم ، ويمال على العدو بعزكم وقوتكم .
قوله : " ولا زوافر عز " ، جمع زافرة ، وزافرة الرجل : أنصاره وعشيرته ، ويجوز أن يكون زوافر عز ، أي حوامل عز ، زفرت الجمل أزفره زفرا ، أي حملته .
قوله : " سعر نار الحرب " جمع ساعر ، كقولك : قوم كظم للغيظ ، جمع كاظم ،
__________
(1) سورة القتال 20 .
(2) سورة الاحزاب 19 .
(*)(2/190)
وتمتعضون : تأنفون وتغضبون .
وحمس الوغى ، اشتد ، وأصل الوغى الصوت والجلبة ، ثم سميت الحرب نفسها وغى ، لما فيها من الاصوات والجلبة .
واستحر الموت ، أي اشتد .
وقوله : " انفرجتم انفراج الرأس " ، أي كما ينفلق الرأس فيذهب نصفه يمنة ونصفه شامة .
والمشرفية : السيوف المنسوبة إلى مشارف ، وهي قرى من أرض العرب تدنو من الريف ، ولا يقال مشارفي ، كما لا يقال : جعافري ، لمن ينسب إلى جعافر .
وفراش الهام : العظام الخفيفة تلي القحف .
وقال الراوندي في تفسير قوله " انفراج الرأس " أراد به انفرجتم عني رأسا ، أي قطعا ، وعرفه بالالف واللام ، وهذا غير صحيح لان " رأسا " لا يعرف .
قال : وله تفسير آخر : أن يكون المعنى انفراج رأس من أدنى رأسه إلى غيره ، ثم حرف رأسه عنه .
وهذا أيضا غير صحيح ، لانه لا خصوصية للرأس في ذلك ، فإن اليد والرجل إذا أدنيتهما من شخص ، ثم حرفتهما عنه فقد انفرج ما بين ذلك العضو وبينه ، فأي معنى لتخصيص الرأس بالذكر .
فأما قوله : " أنت فكن ذاك " فإنه إنما خاطب من يمكن عدوه من نفسه كائنا من كان ، غير معين ولا مخصص ، ولكن الرواية وردت بأنه خاطب بذلك الاشعث بن قيس ، فإنه روي أنه قال له عليه السلام وهو يخطب ويلوم الناس على تثبيطهم وتقاعدهم : هلا فعلت فعل ابن عفان ! فقال له : " إن فعل ابن عفان لمخزاة على من لا دين له ، ولا وثيقة معه ، إن امرأ أمكن عدوه من نفسه يهشم عظمه ، ويفري جلده ، لضعيف رأيه مأفون عقله .
أنت فكن ذاك إن أحببت ، فأما أنا فدون أن أعطي ذاك ضرب بالمشرفية ...
الفصل " .(2/191)
ويمكن أن تكون الرواية صحيحة ، والخطاب عام لكل من أمكن من نفسه ، فلا منافاة بينهما .
وقد نظمت أنا هذه الالفاظ في أبيات كتبتها إلى صاحب لي في ضمن مكتوب اقتضاها ، وهي : إن امرأ أمكن من نفسه * * عدوه يجدع آرابه (1) لا يدفع الضيم ولا ينكر الذ * * ل ولا يحصن جلبابه لفائل الرأي ضعيف القوى * * قد صرم الخذلان أسبابه أنت فكن ذاك فإني امرؤ * * لا يرهب الخطب إذا نابه إن قال دهر لم يطع أو شحا * * له فم أدرد أنيابه (2) أو سامه الخسف أبى وانتضى * * دون مرام الخسف قرضا به (3) أخزر غضبان شديد السطا * * يقدر أن يترك ما رابه .
خطب أمير المؤمنين عليه السلام بهذه الخطبة ، بعد فراغه من أمر الخوارج ، وقد كان قام بالنهروان ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : أما بعد ، فإن الله قد أحسن نصركم ، فتوجهوا من فوركم هذا إلى عدوكم من أهل الشام .
فقاموا إليه ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، نفدت نبالنا ، وكلت سيوفنا ، وانصلتت (4) أسنة رماحنا ، وعاد أكثرها قصدا (5) .
ارجع بنا إلى مصرنا ، نستعد بأحسن عدتنا ، ولعل أمير المؤمنين يزيد في عددنا مثل من هلك منا ، فإنه أقوى لنا على عدونا .
__________
(1) آرابه : جمع إرب ، وهو العضو .
(2) شحا فاه : فتحة .
والدرد : سقوط الاسنان .
(3) القرضاب : السيف .
(4) انصلتت : انجردت .
(5) قصد : جمع قصدة ، وهي الكرة من القناة أو الرمح .
(*)(2/192)
فكان جوابه عليه السلام : " يا قوم ادخلوا الارض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين " (1) .
فتلكأوا عليه ، وقالوا إن البرد شديد .
فقال : إنهم يجدون البرد كما تجدون .
فتلكأوا وأبوا ، فقال : أف لكم ! إنها سنة جرت ، ثم تلا قوله تعالى : " قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون " (2) .
فقام منهم ناس فقالوا : يا أمير المؤمنين ، الجراح فاش في الناس - وكان أهل النهروان قد أكثروا الجراح في عسكر أمير المؤمنين عليه السلام - فارجع إلى الكوفة ، فأقم بها أياما ثم اخرج ، خار الله لك ! فرجع إلى الكوفة عن غير رضا .
(أمر الناس بعد وقعة النهروان) وروى نصر بن مزاحم ، عن عمر بن سعد ، عن نمير بن وعلة ، عن أبي وداك ، قال : لما كره القوم المسير إلى الشام عقيب واقعة النهروان ، أقبل بهم أمير المؤمنين ، فأنزلهم النخيلة ، وأمر الناس أن يلزموا معسكرهم ، ويوطنوا على الجهاد أنفسهم ، وأن يقلوا زيارة النساء وأبنائهم ، حتى يسير بهم إلى عدوهم ، وكان ذلك هو الرأي لو فعلوه ، لكنهم لم يفعلوا ، وأقبلوا يتسللون ويدخلون الكوفة ، فتركوه عليه السلام وما معه من الناس إلا رجال من وجوههم قليل ، وبقي المعسكر خاليا ، فلا من دخل الكوفة خرج إليه ، ولا من أقام معه صبر .
فلما رأى ذلك دخل الكوفة .
* * *
__________
(1) سورة المائدة 21 .
(2) سورة المائدة 22 .
(*)(2/193)
قال نصر بن مزاحم : فخطب الناس بالكوفة ، وهي أول خطبة خطبها بعد قدومه من حرب الخوارج ، فقال : أيها الناس استعدوا لقتال عدو في جهادهم القربة إلى الله عزوجل ، ودرك الوسيلة عنده ، قوم حيارى عن الحق لا يبصرونه ، موزعين (1) بالجور والظلم لا يعدلون به ، جفاة عن الكتاب ، نكب عن الدين ، يعمهون في الطغيان ، ويتسكعون في غمرة الضلال ، فأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ، وتوكلوا على الله ، وكفى بالله وكيلا .
قال : فلم ينفروا ولم ينشروا (2) ، فتركهم أياما ، ثم خطبهم ، فقال : أف لكم ! لقد سئمت عتابكم .
أ رضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضا ...
الفصل الذي شرحناه آنفا إلى آخره .
وزاد فيه : " أنتم أسود الشرى في الدعة ، وثعالب رواغة حين البأس ، إن أخا الحرب اليقظان ، ألا إن المغلوب مقهور ومسلوب " .
* * * وروى الاعمش عن الحكم بن عتيبة ، عن قيس بن أبي حازم ، قال : سمعت عليا عليه السلام على منبر الكوفة ، وهو يقول : يا أبناء المهاجرين ، انفروا إلى أئمة الكفر ، وبقية الاحزاب ، وأولياء الشيطان .
انفروا إلى من يقاتل على دم حمال الخطايا ، فو الله الذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، إنه ليحمل خطاياهم إلى يوم القيامة لا ينقص من أوزارهم شيئا .
قلت : هذا قيس بن أبي حازم ، وهو الذي روى حديث " إنكم لترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته " ، وقد طعن مشايخنا المتكلمون فيه ، وقالوا : إنه فاسق ، ولا تقبل روايته ، لانه قال : إني سمعت عليا يخطب على منبر الكوفة ،
__________
(1) يقال : أوزعه بالشئ ، إذا أغراه به .
(2) لم ينشروا : أي لم يتفرقوا .
(*)(2/194)
ويقول : انفروا إلى بقية الاحزاب ، فأبغضته ، ودخل بغضه في قلبي ، ومن يبغض عليا عليه السلام لا تقبل روايته .
فإن قيل : فما يقول مشايخكم في قوله عليه االسلام : " انفروا إلى من يقاتل على دم حمال الخطايا " ؟ أ ليس هذا طعنا منه عليه السلام في عثمان ! قيل الاشهر الاكثر في الرواية صدر الحديث ، وأما عجز الحديث فليس بمشهور تلك الشهرة ، وإن صح حملناه على أنه أراد به معاوية ، وسمى ناصريه مقاتلين على دمه ، لانهم يحامون عن دمه ، ومن حامى عن دم إنسان فقد قاتل عليه .
وروى إبو نعيم الحافظ ، قال : حدثنا أبو عاصم الثقفي ، قال : جاءت امرأة من بني عبس إلى علي عليه السلام ، وهو يخطب بهذه الخطبة على منبر الكوفة ، فقالت : يا أمير المؤمنين ، ثلاث بلبلن القلوب عليك ، قال : وما هن ويحك ! قالت : رضاك بالقضية ، وأخذك بالدنية ، وجزعك عند البلية .
فقال : إنما أنت امرأة ، فاذهبي فاجلسي على ذيلك ، فقالت : لا والله ما من جلوس إلا تحت ظلال السيوف .
وروى عمرو بن شمر الجعفي ، عن جابر ، عن رفيع بن فرقد البجلي ، قال : سمعت عليا عليه السلام ، يقول : يا أهل الكوفة لقد ضربتكم بالدرة التي أعظ بها السفهاء فما أراكم تنتهون ! ولقد ضربتكم بالسياط التي أقيم بها الحدود ، فما أراكم ترعوون ! فلم يبق إلا أن أضربكم بسيفي ، وإني لاعلم ما يقومكم ، ولكني لا أحب أن إلي ذلك منكم .
وا عجبا لكم ولاهل الشام ! أميرهم يعصى الله وهم يطيعونه ، وأميركم يطيع الله وأنتم تعصونه ! والله لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني ، ولو سقت الدنيا بحذافيرها إلى الكافر لما أحبني ، وذلك أنه قضي ما قضي على لسان النبي الامي أنه لا يبغضني(2/195)
مؤمن ، ولا يحبني كافر ، وقد خاب من حمل ظلما .
والله لتصبرن يا أهل الكوفة على قتال عدوكم أو ليسلطن الله عليكم قوما أنتم أولى بالحق منهم ، فليعذبنكم ! أ فمن قتله بالسيف تحيدون إلى موتة على الفراش ! والله لموتة على الفراش أشد من ضربة ألف سيف .
قلت : ما أحسن قول أبي العيناء ، وقد قال له المتوكل : إلى متى تمدح الناس وتهجوهم ! فقال : ما أحسنوا وأساءوا .
وهذا أمير المؤمنين عليه السلام ، وهو سيد البشر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ، يمدح الكوفة وأهلها عقيب الانتصار على أصحاب الجمل ، بما قد ذكرنا بعضه ، وسنذكر باقيه ، مدحا ليس باليسير ولا بالمستصغر ، ويقول للكوفة عند نظره إليها : أهلا بك وبأهلك ! ما أرادك جبار بكيد إلا قصمه الله .
ويثني عليها وعلى أهلها حسب ذمه للبصرة وعيبه لها ودعائه عليها وعلى أهلها ، فلما خذله أهل الكوفة يوم التحكيم ، وتقاعدوا عن نصره على أهل الشام ، وخرج منهم الخوارج ، ومرق منهم المراق ، ثم استنفرهم بعد فلم ينفروا ، واستصرخهم فلم يصرخوا (1) ، ورأى منهم دلائل الوهن ، وإمارات الفشل ، انقلب ذلك المدح ذما (2) ، وذلك الثناء استزاده وتقريعا وتهجينا .
وهذا أمر مركوز في طبيعة البشر ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله كذلك ، والقرآن العزيز أيضا كذلك ، أثنى على الانصار لما نهضوا ، وذمهم لما قعدوا في غزاة تبوك ، فقال : " فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ...
" (2) الآيات ، إلى أن رضي الله عنهم ، فقال : " وعلى
__________
(1) لم يصرخوا : لم يغيثوا .
(2) سورة التوبة .
(*)(2/196)
الثلاثة الذين خلفوا " أي عن رسول الله " حتى إذا ضاقت عليهم الارض بما رحبت ...
" الآية .
* * * (مناقب علي وذكر طرف من أخباره في عدله وزهده) روى علي بن محمد بن أبي سيف المدائني ، عن فضيل بن الجعد ، قال : آكد الاسباب في تقاعد العرب عن أمير المؤمنين عليه السلام أمر المال ، فإنه لم يكن يفضل شريفا على مشروف ولا عربيا على عجمي ، ولا يصانع الرؤساء وأمراء القبائل ، كما يصنع الملوك ، ولا يستميل أحدا إلى نفسه .
وكان معاوية بخلاف ذلك ، فترك الناس عليا والتحقوا بمعاوية : فشكا علي عليه السلام إلى الاشتر تخاذل أصحابه ، وفرار بعضهم إلى معاوية ، فقال الاشتر : يا أمير المؤمنين ، إنا قاتلنا أهل البصرة بأهل البصرة وأهل الكوفة ، ورأي الناس واحد ، وقد اختلفوا بعد ، وتعادوا وضعفت النية ، وقل العدد ، وأنت تأخذهم بالعدل ، وتعمل فيهم بالحق ، وتنصف الوضيع من الشريف ، فليس للشريف عندك فضل منزلة على الوضيع ، فضجت طائفة ممن معك من الحق إذ عموا به ، واغتموا من العدل إذ صاروا فيه ، ورأوا صنائع معاوية عند أهل الغناء والشرف ، فتاقت أنفس الناس إلى الدنيا ، وقل من ليس للدنيا بصاحب ، وأكثرهم يجتوي الحق ويشتري الباطل ، ويؤثر الدنيا ، فإن تبذل المال يا أمير المؤمنين تمل إليك أعناق الرجال ، وتصف نصيحتهم لك ، وتستخلص ودهم ، صنع الله لك يا أمير المؤمنين ! وكبت أعداءك ، وفض جمعهم ، وأوهن كيدهم ، وشتت أمورهم ، إنه بما يعملون خبير .
فقال علي عليه السلام :
__________
(1) سورة التوبة 118 .
(*)(2/197)
أما ما ذكرت من عملنا وسيرتنا بالعدل ، فإن الله عزوجل يقول : " من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد " (1) وأنا من أن أكون مقصرا فيما ذكرت أخوف .
وأما ما ذكرت من أن الحق ثقل عليهم ففارقونا لذلك ، فقد علم الله أنهم لم يفارقونا من جور ، ولا لجأوا إذ فارقونا إلى عدل ، ولم يلتمسوا إلا دنيا زائلة عنهم كان قد فارقوها ، وليسألن يوم القيامة : أ للدنيا أرادوا أم لله عملوا ؟ وأما ما ذكرت من بذل الاموال واصطناع الرجال ، فإنه لا يسعنا أن نؤتي امرأ من الفئ أكثر من حقه ، وقد قال الله سبحانه وتعالى وقوله الحق : " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين " (2) وقد بعث الله محمدا صلى الله عليه وحده ، فكثره بعد القلة ، وأعز فئته بعد الذلة ، وإن يرد الله أن يولينا هذا الامر يذلل لنا صعبه ، ويسهل لنا حزنه ، وأنا قابل من رأيك ما كان لله عزوجل رضا ، وأنت من آمن الناس عندي ، وأنصحهم لي ، وأوثقهم في نفسي إن شاء الله .
* * * وذكر الشعبي ، قال : دخلت الرحبة بالكوفة - وأنا غلام - في غلمان ، فإذا أنا بعلي عليه السلام قائما على صبرتين (3) من ذهب وفضة ، ومعه مخفقة ، وهو يطرد الناس بمخفقته ثم يرجع إلى المال فيقسمه بين الناس ، حتى لم يبق منه شئ ، ثم انصرف ولم يحمل إلى بيته قليلا ولا كثيرا .
فرجعت إلى أبي ، فقلت له : لقد رأيت اليوم خير الناس أو أحمق الناس .
قال : من هو يا بني ، قلت : علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ، رأيته يصنع كذا ، فقصصت عليه ، فبكى ، وقال : يا بني بل رأيت خير الناس .
* * *
__________
(1) سورة فصلت 46 .
(2) سورة البقرة 249 .
(3) الصبرة ، بالضم : ما جمع من الطعام بلا كيل ولا وزن .
(*)(2/198)
وروى محمد بن فضيل عن هارون بن عنترة ، عن زاذان ، قال : انطلقت مع قنبر غلام علي عليه السلام ، فإذا هو يقول : قم يا أمير المؤمنين ، فقد خبات لك خبيئا ، قال : وما هو ، ويحك ! قال : قم معي ، فانطلق به إلى بيته ، وإذا بغرارة مملوءة من جامات ذهبا وفضة ، فقال : يا أمير المؤمنين ، رأيتك لا تترك شيئا إلا قسمته ، فادخرت لك هذا من بيت المال ، فقال علي عليه السلام : ويحك يا قنبر ! لقد أحببت أن تدخل بيتي نارا عظيمة .
ثم سل سيفه وضربه ضربات كثيرة ، فانتثرت من بين إناء مقطوع نصفه ، وآخر ثلثه ، ونحو ذلك ، ثم دعا بالناس ، فقال : اقسموه بالحصص ، ثم قام إلى بيت المال ، فقسم ما وجد فيه ، ثم رأى في البيت إبرا ومسال ، فقال : ولتقسموا هذا ، فقالوا : لا حاجة لنا فيه ، وقد كان علي عليه السلام يأخذ من كل عامل مما يعمل .
فضحك ، وقال : ليؤخذن شره مع خيره .
* * * وروى عبد الرحمن بن عجلان ، قال : كان علي عليه السلام يقسم بين الناس الابزار والحرف (1) والكمون ، وكذا وكذا .
وروى مجمع التيمي ، قال : كان علي عليه السلام يكنس بيت المال كل جمعة ، ويصلي فيه ركعتين ، ويقول : ليشهد لي يوم القيامة .
وروى بكر بن عيسى عن عاصم بن كليب الجرمي ، عن أبيه ، قال : شهدت عليا عليه السلام وقد جاءه مال من الجبل ، فقام وقمنا معه ، وجاء الناس يزدحمون ، فأخذ حبالا فوصلها بيده ، وعقد بعضها إلى بعض ، ثم أدارها حول المال ، وقال : لا أحل لاحد أن يجاوز هذا الحبل ، قال : فقعد الناس كلهم من وراء الحبل ، ودخل هو ، فقال : أين رءوس الاسباع ؟ وكانت الكوفة يومئذ أسباعا - فجعلوا يحملون هذه الجوالق إلى هذه الجوالق ، وهذا إلى هذا ، حتى استوت القسمة سبعة أجزاء ، ووجد مع المتاع
__________
(1) الحرف ، بالضم : الخردل .
(*)(2/199)
رغيف ، فقال : اكسروه سبع كسر ، وضعوا على كل جزء كسرة ، ثم قال : هذا جناي وخياره فيه * * إذ كل جان يده إلى فيه (1) .
ثم أقرع عليها ودفعها إلى رءوس الاسباع ، فجعل كل رجل منهم يدعو قومه فيحملون الجواليق .
* * * وروى مجمع ، عن أبي رجاء ، قال : أخرج علي عليه السلام سيفا إلى السوق ، فقال : من يشتري مني هذا ؟ فو الذي نفس علي بيده ، لو كان عندي ثمن إزار ما بعته ، فقلت له : أنا أبيعك إزارا وأنسئك ثمنه إلى عطائك ، فدفعت إليه إزارا إلى عطائه ، فلما قبض عطاءه دفع إلي ثمن الازار .
وروى هارون بن سعيد ، قال : قال عبد الله بن جعفر بن أبي طالب لعلي عليه السلام : يا أمير المؤمنين ، لو أمرت لي بمعونة أو نفقة ! فو الله ما لي نفقة إلا أن أبيع دابتي ، فقال : لا والله ما أجد لك شيئا إلا أن تأمر عمك أن يسرق فيعطيك .
وروى بكر بن عيسى ، قال : كان علي عليه السلام يقول : يا أهل الكوفة ، إذا أنا خرجت من عندكم بغير راحلتي ، ورحلي وغلامي فلان ، فأنا خائن .
فكانت نفقته تأتيه من غلته بالمدينة بينبع ، وكان يطعم الناس منها الخبز واللحم ، ويأكل هو الثريد بالزيت .
وروى أبو إسحاق الهمداني أن امرأتين أتتا عليا عليه السلام : إحداهما من العرب والاخرى من الموالي ، فسألتاه ، فدفع إليهما دراهم وطعاما بالسواء ، فقالت إحداهما
__________
(1) البيت أنشده عمرو بن عدي حين كان غلاما ، وكان يخرج مع الخدم يجتنون للملك (جذيمة بن الابرش) الكمأة ، فكانوا إذا وجدوا كمأة خيارا أكلوها وأتوا بالباقي إلى الملك ، وكان عمرو لا يأكل منه ، ويأتي به كما هو وينشد البيت .
وانظر القاموس 3 : 259 - 260 ، وحديث علي ورد مفصلا في حلية الاولياء 1 : 81 .
(*)(2/200)
إني امرأة من العرب ، وهذه من العجم ، فقال : إني والله لا أجد في هذا الفئ فضلا على بني إسحاق .
وروى معاوية بن عمار عن جعفر بن محمد عليهما السلام ، قال : ما اعتلج على علي عليه السلام أمران في ذات الله ، إلا أخذ بأشدهما ، ولقد علمتم أنه كان يأكل - يا أهل الكوفة - عندكم من ماله بالمدينة ، وإن كان ليأخذ السويق فيجعله في جراب ، ويختم عليه مخافة أن يزاد عليه من غيره .
ومن كان أزهد في الدنيا من علي عليه السلام ! وروى النضر بن منصور ، عن عقبة بن علقمة ، قال : دخلت على علي عليه السلام ، فإذا بين يديه لبن حامض ، آذتني حموضته ، وكسر يابسة ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، أ تأكل مثل هذا ! فقال لي : يا أبا الجنوب ، كان رسول الله يأكل أيبس من هذا ، ويلبس أخشن من هذا ، وأشار إلى ثيابه ، فإن أنا لم آخذ بما آخذ به خفت ألا ألحق به .
وروى عمران بن مسلمة ، عن سويد بن علقمة ، قال : دخلت على علي عليه السلام بالكوفة ، فإذا بين يديه قعب لبن أجد ريحه من شدة حموضته ، وفي يده رغيف ، ترى قشار الشعير على وجهه ، وهو يكسره ، ويستعين أحياتا بركبته ، وإذا جاريته فضة قائمة على رأسه ، فقلت : يا فضة ، أ ما تتقون الله في هذا الشيخ ! أ لا نخلتم دقيقه ؟ فقالت : إنا نكره أن نؤجر ويأثم ، نحن قد أخذ علينا ألا ننخل له دقيقا ما صحبناه - قال : وعلي عليه السلام لا يسمع ما تقول ، فالتفت إليها فقال : ما تقولين ؟ قالت : سله ، فقال لى : ما قلت لها ؟ قال : فقلت إني قلت لها : لو نخلتم دقيقه ! فبكى ، ثم قال : بأبي وأمي من لم يشبع ثلاثا متوالية (من) خبز بر حتى فارق الدنيا ، ولم ينخل دقيقه ، قال : يعني رسول الله صلى الله عليه وآله .(2/201)
وروى يوسف بن يعقوب ، عن صالح بياع الاكسية ، أن جدته لقيت عليا عليه السلام بالكوفة ، ومعه تمريحمله ، فسلمت عليه ، وقالت له : أعطني يا أمير المؤمنين هذا التمر أحمله عنك إلى بيتك ، فقال : أبو العيال أحق بحمله .
قالت : ثم قال لي : أ لا تأكلين منه ؟ فقلت : لا أريد ، قالت : فانطلق به إلى منزله ثم رجع مرتديا بتلك الشملة ، وفيها قشور التمر ، فصلى بالناس فيها الجمعة .
وروى محمد بن فضيل بن غزوان ، قال : قيل لعلي عليه السلام : كم تتصدق ! كم تخرج مالك ! أ لا تمسك ! قال : إني والله لو أعلم أن الله تعالى قبل مني فرضا واحدا لامسكت ، ولكني والله ما أدري : أ قبل مني سبحانه شيئا أم لا ! روى عنبسة العابد عن عبد الله بن الحسين بن الحسن ، قال : أعتق علي عليه السلام في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله ألف مملوك مما مجلت (1) يداه ، وعرق جبينه ، ولقد ولي الخلافة ، وأتته الاموال ، فما كان حلواه إلا التمر ، ولا ثيابه إلا الكرابيس .
وروى العوام بن حوشب ، عن أبي صادق ، قال : تزوج علي عليه السلام ليلى بنت مسعود النهشلية ، فضربت له في داره حجلة ، فجاء فهتكها ، وقال : حسب أهل علي ما هم فيه ! وروى حاتم بن إسمعيل المدني ، عن جعفر بن محمد عليه السلام ، قال : ابتاع علي عليه السلام في خلافته قميصا سملا (2) بأربعة دراهم ، ثم دعا الخياط ، فمد كم القميص ، وأمره بقطع ما جاوز الاصابع .
* * * وإنما ذكرنا هذه الاخبار والروايات - وإن كانت خارجة عن مقصد الفصل - لان الحال اقتضى ذكرها ، من حيث أردنا أن نبين أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يكن
__________
(1) مجلت يده : عملت .
(2) السمل : الخلق من الثياب .
(*)(2/202)
يذهب في خلافته مذهب الملوك الذين يصانعون بالاموال ويصرفونها في مصالح ملكهم وملاذ أنفسهم ، وأنه لم يكن من أهل الدنيا ، وإنما كان رجلا متألها صاحب حق ، لا يريد بالله ورسوله بدلا .
* * * وروى علي بن محمد بن أبي سيف المدائني أن طائفة من أصحاب علي عليه السلام مشوا إليه ، فقالوا : يا أمير المؤمنين : أعط هذه الاموال وفضل هؤلاء الالشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم ، واستمل من تخاف خلافه من الناس وفراره ، وإنما قالوا له ذلك لما كان معاوية يصنع في المال ، فقال لهم : أ تأمرونني أن أطلب النصر بالجور ، لا والله لا أفعل ما طلعت شمس ، وما لاح في السماء نجم ، والله لو كان المال لي لواسيت بينهم ، فكيف وإنما هي أموالهم .
ثم سكت طويلا واجما ، ثم قال : الامر أسرع من ذلك .
قالها ثلاثا .(2/203)
(35) ومن خطبة له عليه السلام بعد التحكيم : الاصل : الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح ، والحدث الجليل ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ليس معه إله غيره ، وأن محمدا عبده ورسوله ، صلى الله عليه .
أما بعد ، فإن معصية الناصح الشفيق العالم المجرب ، تورث الحسرة ، وتعقب الندامة ، وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري ، ونخلت لكم مخزون رأيي ، لو كان يطاع لقصير أمر ! فأبيتم علي إباء المخالفين الجفاة ، والمنابذين العصاة ، حتى ارتاب الناصح بنصحه ، وضن الزند بقدحه ، فكنت أنا وإياكم كما قال أخو هوازن : أمرتكم أمري بمنعرج اللوى * * فلم تستبينوا النصح إلا ضحى الغد * * * الشرح : الخطب الفادح : الثقيل .
ونخلت لكم ، أي أخلصته ، من نخلت الدقيق بالمنخل .
وقوله : " الحمد لله وإن أتى الدهر " ، أي أحمده على كل حال من السراء والضراء .
وقوله : " لو كان يطاع لقصير أمر " ، فهو قصير صاحب جذيمة ، وحديثه مع جذيمة ومع الزباء مشهور ، فضرب المثل لكل ناصح يعصى بقصير .(2/204)
وقوله : " حتى ارتاب الناصح بنصحه ، وضن الزند بقدحه " ، يشير إلى نفسه ، يقول : خالفتموني حتى ظننت أن النصح الذي نصحتكم به غير نصح ، ولاطباقكم وإجماعكم على خلافي ، وهذا حق ، لالن ذا الرأي الصواب إذا كثر مخالفوه يشك في نفسه ، وأما ضن الزند بقدحه ، فمعناه أنه لم يقدح لي بعد ذلك رأي صالح ، لشدة ما لقيت منكم من الاباء والخلاف والعصيان ، وهذا أيضا حق ، لان المشير الناصح إذا اتهم واستغش عمي قلبه وفسد رأيه .
وأخو هوازن صاحب الشعر هو دريد بن الصمة ، والابيات مذكورة في الحماسة ، وأولها : نصحت لعارض وأصحاب عارض * * ورهط بني السوداء والقوم شهدي (1) فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج * * سراتهم في الفارسي المسرد (2) أمرتهم أمري بمنعرج اللوى * * فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد (3) فلما عصوني كنت منهم وقد أرى * * غوايتهم وأنني غير مهتد وما أنا إلا من غزية إن غوت * * غويت وإن ترشد غزية أرشد (4) .
__________
(1) ديوان الحماسة - بشرح المرزوقي (2 : 813) .
وكان من خبر هذا الشعر أن عبد الله - وهو اسم آخر لعارض وهو أخو دريد - كان أسود إخوته ، فغزا ببني جشم وبني نصر ابني معاوية بن بكر بن هوازن ، وغنم مالا عظيما بمنعرج اللوى ، فمنعه دريد عن الليث ، وقال : إن غطفان ليست بغافلة عنا ، فحلف أنه لا يريم حتى يقسم ، وأوقعوا بعبد الله وأصحابه ، وقتل عبد الله ، وجعل دريد يذب عنه وهو جريح .
شرح التبريزي (2 : 304) .
(2) ظنوا : قال المرزوقي : يجوز أن يكون معناه : ظنوا كل ظن قبيح بهم إذا غزوكم في أرضكم وعقر دياركم .
ويجوز أن يكون معنى ظنوا أيقنوا ، لان الظن يستعمل في اليقين ، على حد قوله تعالى : " الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم " .
والمدجج : التام السلاح ، من الدجة ، وهي الظلمة .
وسراتهم : خيارهم ، وعنى بالفارسي المسرد ، الدروع .
(3) في الحماسة ذكر هذا البيت بعد تاليه .
(4) في الحماسة : " وهل أنا إلا من غزية رهطه .
(*)(2/205)
وهذه الالفاظ من خطبة خطب بها عليه السلام بعد خديعة ابن العاص لابي موسى وافتراقهما ، وقبل وقعة النهروان (قصة التحكيم ثم ظهور أمر الخوارج) ويجب أن نذكر في هذا الفصل أمر التحكيم ، كيف كان ، وما الذي دعا إليه ! فنقول : إن الذي دعا إليه طلب أهل الشام له ، واعتصامهم به من سيوف أهل العراق ، فقد كانت إمارات القهر والغلبة لاحت ، ودلائل النصر والظفر وضحت ، فعدل أهل الشام عن القراع إلى الخداع ، وكان ذلك برأي عمرو بن العاص .
وهذه الحال وقعت عقيب ليلة الهرير (1) ، وهي الليلة العظيمة التي يضرب بها المثل .
* * * ونحن نذكر ما أورده نصر بن مزاحم في كتاب صفين في هذا المعنى ، فهو ثقة ثبت ، صحيح النقل ، غير منسوب إلى هوى ولا إدغال ، وهو من رجال أصحاب الحديث ، قال نصر : حدثنا عمرو بن شمر ، قال : حدثني أبو ضرار ، قال : حدثنى عمار بن ربيعة ، قال : غلس علي عليه السلام بالناس صلاة الغداة يوم الثلاثاء ، عاشر شهر ربيع الاول ، سنة سبع وثلاثين .
وقيل : عاشر شهر صفر ، ثم زحف إلى أهل الشام بعسكر العراق ، والناس على راياتهم وأعلامهم ، وزحف إليهم أهل الشام ، وقد كانت الحرب أكلت الفريقين ، ولكنها
__________
(1) من هرير الفرسان بعضهم على بعض كما تهر السباع ، وهو صوت دون النباح .
(*)(2/206)
في أهل الشام أشد نكاية ، وأعظم وقعا ، فقد ملوا الحرب ، وكرهوا القتال ، وتضعضعت أركانهم .
قال : فخرج رجل من أهل العراق على فرس كميت ذنوب (1) ، عليه السلاح لا يرى منه إلا عيناه ، وبيده الرمح ، فجعل يضرب رءوس أهل العراق بالقناة ، ويقول : سووا صفوفكم رحمكم الله ! حتى إذا عدل الصفوف والرايات ، استقبلهم بوجهه ، وولى أهل الشام ظهره ، ثم حمد الله وإثنى عليه ، وقال : الحمد لله الذي جعل فينا ابن عم نبيه ، أقدمهم هجرة ، وأولهم إسلاما ، سيف من سيوف الله على أعدائه ، فانظروا إذا حمى الوطيس (2) ، وثار القتام (3) ، وتكسر المران (4) ، وجالت الخيل بالابطال ، فلا أسمع إلا غمغمة أو همهمة ، فاتبعوني وكونوا في أثري .
ثم حمل على أهل الشام فكسر فيهم رمحه ، ثم رجع فإذا هو الاشتر .
قال : وخرج رجل من أهل الشام ، فنادى بين الصفين : يا أبا الحسن ، يا علي ، ابرز إلي .
فخرج إليه علي عليه السلام ، حتى اختلفت أعناق دابتيهما بين الصفين ، فقال : إن لك يا علي لقدما في الاسلام والهجرة (5) ، فهل لك في أمر أعرضه عليك ، يكون فيه حقن هذه الدماء ، وتأخر (6) هذه الحروب ، حتى ترى رأيك ؟ قال : وما هو ؟ قال : ترجع إلى
__________
(1) الذنوب : الفرس الوافر الذنب .
(2) الوطيس في الاصل : التنور ، أو حفرة تحتفر ويختبز فيها ويشوى .
وقيل : الوطيس : شئ يتخذ مثل التنور يختبز فيه ، وقيل : هي تنور من حديد وبه شبه حر الحرب .
وحمي الوطيس ، مثل يضرب للامر إذا اشتد .
اللسان (8 : 142) .
(3) القتام : الغبار .
(4) المران : جمع مرانة ، وهي الرماح الصلبة اللدنة .
(5) وقعة صفين : " وهجرة " .
(6) وقعة صفين : " تأخير " .
(*)(2/207)
عراقك ، فنخلي بينك وبين العراق ، ونرجع نحن إلى شامنا ، فتخي بيننا وبين الشام (1) .
فقال علي عليه السلام : (2) قد عرفت ما عرضت ، إن هذه لنصيحة وشفقة (2) ، ولقد أهمني هذا الامر وأسهرني ، وضربت أنفه وعينه فلم أجد إلا القتال أو الكفر بما أنزل الله على محمد .
إن الله تعالى ذكره لم يرض من أوليائه أن يعصى في الارض وهم سكوت مذعنون ، لا يأمرون بمعروف ، ولا ينهون عن منكر ، فوجدت القتال أهون علي من معالجة في الاغلال في جهنم .
قال : فرجع الرجل (3) وهو يسترجع ، وزحف الناس بعضهم إلى بعض فارتموا بالنبل والحجارة حتى فنيت ، ثم تطاعنوا بالرماح حتى تكسرت واندقت .
ثم مشى القوم بعضهم إلى بعض بالسيوف ، وعمد الحديد ، فلم يسمع السامعون إلا وقع الحديد بعضه على بعض ، لهو إشد هولا في صدور الرجال من الصواعق ، ومن جبال تهامة يدك بعضها بعضا ، وانكسفت الشمس بالنقع ، وثار القتام والقسطل (4) ، وضلت الالوية والرايات ، وأخذ الاشتر يسير فيما بين الميمنة والميسرة ، فيأمر كل قبيلة أو كتيبة من القراء بالاقدام على التي تليها ، فاجتلدوا بالسيوف وعمد الحديد ، من صلاة الغداة من اليوم المذكور إلى نصف الليل ، لم يصلوا لله صلاة ، فلم يزل الاشتر يفعل ذلك حتى أصبح والمعركة خلف ظهره ، وافترقوا عن سبعين ألف قتيل في ذلك اليوم ، وتلك الليلة وهي ليلة الهرير المشهورة .
وكان الاشتر في ميمنة الناس ، وابن عباس في الميسرة ، وعلي عليه السلام في القلب ، والناس يقتتلون .
ثم استمر القتال من نصف الليل الثاني إلى ارتفاع الضحى ، والاشتر يقول لاصحابه
__________
(1) صفين : " شامنا " .
(2 - 2) صفين : " لقد عرفت ، إنما عرضت هذه النصيحة شفقة " .
(3) صفين : " الشامي " .
(4) القسطل : الغبار .
(*)(2/208)
وهو يزحف بهم نحو أهل الشام : ازحفوا قيد رمحي هذا ، ويلقى رمحه ، فإذا فعلوا ذلك ، قال : ازحفوا قاب هذا القوس (1) ، فإذا فعلوا ذلك (2) سألهم مثل ذلك ، (2) حتى مل أكثر الناس من الاقدام ، فلما رأى ذلك قال : أعيذكم بالله أن ترضعوا الغنم سائر اليوم .
ثم دعا بفرسه ، وركز رايته - وكانت مع حيان بن هوذة النخعي - وسار بين الكتائب ، وهو يقول : أ لا من يشتري نفسه لله ويقاتل مع الاشتر ، حتى يظهر أو يلحق بالله ! فلا يزال الرجل من الناس يخرج إليه فيقاتل معه (3) .
* * * قال نصر : وحدثني عمرو قال : حدثني أبو ضرار قال : حدثني عمار بن ربيعة ، قال : مر بي الاشتر ، فأقبلت معه حتى رجع إلى المكان الذي كان به ، فقام في أصحابه ، فقال : شدوا - فدا لكم عمي وخالي - شدة ترضون بها الله ، وتعزون بها الدين .
(4 إذا أنا حملت فاحملوا 4) .
ثم نزل ، وضرب وجه دابته ، وقال لصاحب رايته : أقدم .
فتقدم (5) بها ، ثم شد على القوم ، وشد معه أصحابه ، فضرب أهل الشام حتى انتهى بهم إلى معسكرهم ، فقاتلوا عند المعسكر قتالا شديدا ، وقتل صاحب رايتهم ، وأخذ علي عليه السلام - لما رأى الظفر قد جاء من قبله - يمده بالرجال (6) .
* * * وروى نصر عن رجاله ، قال : لما بلغ القوم إلى ما بلغوا إليه ، قام علي عليه السلام خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال :
__________
(1) القاب : ما بين المقبض والسية ، والقوس : يذكر ويؤنث .
(2 - 2) ساقط من ب ، وأثبته من أ ، ج .
(3) وقعة صفين : 540 - 544 .
(4 - 4) وقعة صفين : " فإذا شددت فشدوا " .
(5) صفين : " فأقدم بها " .
(6) وقعة صفين 544 .
(*)(2/209)
أيها الناس ، قد بلغ بكم الامر وبعدوكم ما قد رأيتم ، ولم يبق منهم إلا آخر نفس ، وإن الامور إذا أقبلت اعتبر آخرها بأولها ، وقد صبر لكم القوم على غير دين حتى بلغنا منهم ما بلغنا ، وأنا غاد عليهم بالغداة أحاكمهم إلى الله .
قال : فبلغ ذلك معاوية ، فدعا عمرو بن العاص ، وقال : يا عمرو ، إنما هي الليلة ، حتى يغدو علي علينا بالفيصل (1) ، فما ترى ؟ قال : إن رجالك لا يقومون لرجاله ، ولست مثله ، هو يقاتلك على أمر وأنت تقاتله على غيره ، أنت تريد البقاء ، وهو يريد الفناء ، وأهل العراق يخافون منك إن ظفرت بهم ، وأهل الشام لا يخافون عليا إن ظفر بهم ، ولكن ألق إلى القوم أمرا إن قبلوه اختلفوا ، وإن ردوه اختلفوا ، ادعهم إلى كتاب الله حكما فيما بينك وبينهم ، فإنك بالغ به حاجتك في القوم ، وإني لم أزل أؤخر هذا الامر لوقت حاجتك إليه .
فعرف معاوية ذلك وقال له : صدقت .
* * * قال نصر : وحدثنا عمرو بن شمر عن جابر بن عمير (3) الانصاري ، قال : والله لكأني أسمع عليا يوم الهرير ، وذلك بعد ما طحنت رحا مذحج ، فيما بينها وبين عك ولخم وجذام والاشعريين بأمر عظيم تشيب منه النواصي ، حتى (4 استقلت الشمس ، وقام قائم الظهر 4) ، وعلي عليه السلام يقول لاصحابه : حتى متى نخلي بين هذين الحيين ! قد فنيا وأنتم وقوف تنظرون ! أ ما تخافون مقت الله ! ثم انفتل (5) إلى القبلة ، ورفع
__________
(1) ب : " بالفصل " ، وما أثبته من أ ، ج .
(2) وقعة صفين 545 .
(3) في الاصول : " نمير " ، وصوابه من كتاب صفين .
(4 - 4) صفين : " من حين استقلت الشمس حتى قام قائم الظهيرة " واستقلت الشمس : ارتفعت .
(5) ب : " استقبل " ، والصواب ما أثبته من أ ، ج .
(*)(2/210)
يديه إلى الله عزوجل ، ونادى : يا الله ، يا رحمن ، يا رحيم ، يا واحد ، يا أحد ، يا صمد ، يا الله ، يا إله محمد ، اللهم إليك نقلت الاقدام ، وأفضت القلوب ، ورفعت الايدي ، ومدت الاعناق ، وشخصت الابصار ، وطلبت الحوائج ! اللهم إنا نشكو إليك غيبة نبينا ، وكثرة عدونا ، وتشتت أهوائنا ، " ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ، وأنت خير الفاتحين) (1) .
سيروا على بركة الله .
ثم نادى : لا إله إلا الله والله أكبر ، كلمة التقوى .
قال : فلا والذي بعث محمدا بالحق نبيا ، ما سمعنا رئيس قوم منذ خلق الله السموات والارض أصاب بيده في يوم واحد ما أصاب ، إنه قتل - فيما ذكر العادون - زيادة على خمسمائة من أعلام العرب ، يخرج بسيفه منحنيا ، فيقول : معذرة إلى الله وإليكم من هذا .
لقد هممت أن أفلقه (2) ، ولكن يحجزني عنه أنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله ، يقول : " لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي " .
وأنا أقاتل به دونه صلى الله عليه .
قال : فكنا نأخذه فنقومه ، ثم يتناوله من أيدينا فيقتحم به في عرض الصف ، فلا والله ما ليث بأشد نكاية منه في عدوه ، عليه السلام (3) .
* * * قال نصر : فحدثنا عمرو بن شمر ، عن جابر ، قال : سمعت تميم بن حذيم ، يقول : لما أصبحنا من ليلة الهرير ، نظرنا فإذا أشباه الرايات ، أمام أهل الشام في وسط الفيلق
__________
(1) سورة الاعراف 89 .
(2) صفين : " أصقله " .
(3) كتاب صفين 545 - 546 .
(*)(2/211)
حيال موقف علي ومعاوية ، فلما أسفرنا إذا هي المصاحف قد ربطت في أطراف الرماح ، وهي عظام مصاحف العسكر ، وقد شدوا ثلاثة أرماح جميعا ، وربطوا عليها مصحف المسجد الاعظم ، يمسكه عشرة رهط .
قال نصر : وقال أبو جعفر وأبو الطفيل : استقبلوا عليا بمائة مصحف ، ووضعوا في كل مجنبة (1) مائتي مصحف ، فكان جميعها خمسمائة مصحف .
قال أبو جعفر : ثم قام الطفيل بن أدهم حيال علي عليه السلام ، وقام أبو شريح الجذامي حيال الميمنة ، وقام ورقاء بن المعمر حيال الميسرة ، ثم نادوا : يا معشر العرب ، الله الله في النساء والبنات والابناء من الروم والاتراك وأهل فارس غدا إذا فنيتم ! الله الله في دينكم ! هذا كتاب الله بيننا وبينكم .
فقال علي عليه السلام : اللهم إنك تعلم أنهم ما الكتاب يريدون ، فاحكم بيننا وبينهم إنك أنت الحكم الحق المبين .
فاختلف أصحاب علي عليه السلام في الرأي ، فطائفة قالت القتال ، وطائفة قالت المحاكمة إلى الكتاب ، ولا يحل لنا الحرب ، وقد دعينا إلى حكم الكتاب ، فعند ذلك بطلت الحرب ووضعت أوزارها (2) .
* * * قال نصر : وحدثنا عمرو بن شمر ، عن جابر ، قال : حدثنا أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين ، قال : لما كان اليوم الاعظم ، قال أصحاب معاوية : والله لا نبرح اليوم العرصة حتى نموت أو يفتح لنا ، وقال أصحاب علي عليه السلام : لا نبرح اليوم العرصة حتى نموت أو يفتح لنا ، فبادروا القتال غدوة في يوم من أيام الشعرى (3) طويل ، شديد
__________
(1) المجنبة ، بكسر النون المشددة : ميمنة الجيس وميسرته .
(2) وقعة صفين 546 - 547 .
(3) الشعرى : كوكب نير يقال له المرزم يطلع بعد الجوزاء ، وطلوعه في شدة الحر .
(اللسان) .
(*)(2/212)
الحر ، فتراموا حتى فنيت النبال ، وتطاعنوا حتى تقصفت الرماح ، ثم نزل القوم عن خيولهم ، ومشى بعضهم إلى بعض بالسيوف حتى كسرت جفونها ، وقام الفرسان في الركب ، ثم اضطربوا بالسيوف وبعمد الحديد ، فلم يسمع السامعون إلا تغمغم القوم ، وصليل الحديد في الهام ، وتكادم الافواه .
وكسفت الشمس ، وثار القتام ، وضلت الالوية والرايات ، ومرت مواقيت أربع صلوات ، ما يسجد فيهن لله إلا تكبيرا ، ونادت المشيخة في تلك الغمرات : يا معشر العرب ، الله الله في الحرمات من النساء والبنات ! قال جابر : فبكى أبو جعفر وهو يحدثنا بهذا الحديث .
قال نصر : وأقبل الاشتر على فرس كميت محذوف ، وقد وضع مغفره على قربوس السرج ، وهو ينادي : اصبروا يا معشر المؤمنين ، فقد حمي الوطيس ، ورجعت الشمس ، من الكسوف ، واشتد القتال ، وأخذت السباع بعضها بعضا ، فهم كما قال الشاعر (1) : مضت واستأخر القرعاء عنها * * وخلى بينهم إلا الوريع (2) قال : يقول واحد لصاحبه في تلك الحال : أي رجل هذا لو كانت له نية ! فيقول له صاحبه : وأي نية أعظم من هذه ثكلتك أمك وهبلتك ! إن رجلا كما ترى قد سبح في الدم ، وما أضجرته الحرب ، وقد غلت هام الكماة من الحر ، وبلغت القلوب الحناجر ، وهو كما تراه جذعا يقول هذه المقالة ! اللهم لا تبقنا بعد هذا ! قلت : لله أم قامت عن الاشتر لو أن إنسانا يقسم أن الله تعالى ما خلق في العرب
__________
(1) هو عمرو بن معد كرب ، من الاصمعية التي مطلعها : أمن ريحانة الداعي السميع * * يؤ رقني وأصحابي هجوع وهي في الاصمعيات 198 - 202 ، وخزانة الادب 3 : 462 - 463 .
(2) القرعاء : جمع قريع ، وهو المغلوب المهزوم .
وفي الخزانة والاصمعيات : " الاوغال " جمع وغل وهو الضعيف .
والوريع : الضعيف الذي لا غناء عنده .
(*)(2/213)
ولا في العجم أشجع منه إلا أستاذه عليه السلام لما خشيت عليه الاثم ! ولله در القائل ، وقد سئل عن الاشتر : ما أقول في رجل هزمت حياته أهل الشام ، وهزم موته أهل العراق ! وبحق ما قال فيه أمير المؤمنين عليه السلام : كان الاشتر لي كما كنت لرسول الله صلى الله عليه (1) .
* * * قال نصر : وروى الشعبي عن صعصعة ، قال : الاشتر لي كما كنت لرسول الله صلى الله عليه (1) * * * قال نصر وروى الشعبي عن صعصعة ، قال : وقد كان الاشعث بن قيس بدر منه قول ليلة الهرير ، نقله الناقلون إلى معاوية ، فاغتنمه وبنى عليه تدبيره ، وذلك أن الاشعث خطب أصحابه من كنده تلك الليلة ، فقال : الحمد لله ، أحمده وأستعينه ، وأومن به وأتوكل عليه ، وإستنصره وأستغفره ، وأستجيره وأستهديه ، وأستشيره وأستشهد به ، فإن من هداه (2) الله فلا مضل له ، ومن يضلل الله فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه .
ثم قال : قد رأيتم يا معشر المسلمين ما قد كان في يومكم هذا الماضي ، وما قد فني فيه من العرب ، فو الله لقد بلغت من السن ما شاء الله أن أبلغ ، فما رأيت مثل هذا اليوم قط .
ألا فليبلغ الشاهد الغائب ، إنا نحن إن تواقفنا غدا ، إنه لفناء العرب وضيعة الحرمات (3) ! أما والله ما أقول هذه المقالة جزعا من الحرب ، ولكني رجل مسن أخاف على النساء والذراري غدا إذا فنينا ، اللهم إنك تعلم إني قد نظرت لقومي ولاهل ديني فلم آل ، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ، والرأي يخطئ ويصيب ،
__________
(1) وقعة صفين 547 - 549 .
(2) صفين : " بهد الله " .
(3) في ب : " لفنيت العرب وضيعت الحرمات " ، وما أثبته عن صفين .
(*)(2/214)
وإذا قضى الله أمرا أمضاه على ما أحب العباد أو كرهوا ، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم .
قال الشعبي : قال صعصعة : فانطلقت عيون معاوية إليه بخطبة الاشعث ، فقال : أصاب ورب الكعبة ! لئن نحن التقينا غدا لتميلن الروم على ذراري أهل الشام ونسائهم ، ولتميلن فارس على ذراري أهل العراق ونسائهم ! إنما يبصر هذا ذوو الاحلام والنهى ، ثم قال لاصحابه : اربطوا المصاحف على أطراف القنا .
فثار أهل الشام في سواد الليل ينادون عن قول معاوية وأمره : يا أهل العراق ، من لذرارينا إن قتلتمونا ! ومن لذراريكم إذا قتلناكم ! الله الله في البقية ! وأصبحوا وقد رفعوا المصاحف على رءوس الرماح ، وقد قلدوها الخيل (والناس على الرايات قد اشتهوا ما دعوا إليه) (1) ، ومصحف دمشق الاعظم يحمله عشرة رجال على رءوس الرماح ، وهم ينادون : كتاب الله بيننا وبينكم .
وأقبل أبو الأعور السلمي على برذون أبيض ، وقد وضع المصحف على رأسه ، ينادي : يا أهل العراق ، كتاب الله بيننا وبينكم .
قال : فجاء عدي بن حاتم الطائي ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنه لم يصب منا عصبة إلا وقد أصيب منهم مثلها (2) ، وكل مقروح ، ولكنا أمثل بقية منهم ، وقد جزع القوم ، وليس بعد الجزع إلا ما نحب ، فناجزهم (3) .
وقام الاشتر ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن معاوية لا خلف له من رجاله ، ولكن
__________
(1) من كتاب صفين .
(2) كتاب صفين : " إن كان أهل الباطل لا يقومون بأهل الحق ، فإنه لم يصب ...
" .
(3) في كتاب صفين : " فناجز القوم " ، والمناجزة في القتال : المبارزة والمقاتلة ، وهو أن يتبارز الفارسان فيتمارسان حتى يقتل كل واحد منهما صاحبه ، أو يقتل أحدهما .
(*)(2/215)
بحمد الله لك الخلف ، ولو كان له مثل رجالك لم يكن له مثل صبرك ولا نصرك ، فاقرع الحديد بالحديد ، واستعن بالله الحميد .
ثم قام عمرو بن الحمق ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنا والله ما أجبناك ولا نصرناك على الباطل ، ولا أجبنا إلا الله ، ولا طلبنا إلا الحق ، ولو دعانا غيرك إلى ما دعوتنا إليه لاستشرى (1) فيه اللجاج ، وطالت فيه النجوى ، وقد بلغ الحق مقطعه ، وليس لنا معك رأي .
فقام الاشعث بن قيس مغضبا ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنا لك اليوم على ما كنا عليه أمس ، وليس آخر أمرنا كأوله ، وما من القوم أحد أحنى على أهل العراق ولا أوتر لاهل الشام مني ! فأجب القوم إلى كتاب الله عزوجل ، فإنك أحق به منهم ، وقد أحب الناس البقاء ، وكرهوا القتال .
فقال علي عليه السلام : هذا أمر ينظر فيه .
فتنادى الناس من كل جانب الموادعة .
فقال علي عليه السلام : أيها الناس ، إني أحق من أجاب إلى كتاب الله ، ولكن معاوية ، وعمرو بن العاص ، وابن أبي معيط ، وابن أبي سرح ، وابن مسلمة ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، إني أعرف بهم منكم ، صحبتهم صغارا ورجالا ، فكانوا شر صغار ، وشر رجال ، ويحكم إنها كلمة حق يراد بها باطل ! إنهم ما رفعوها أنهم يعرفونها ويعملون بها ، ولكنها الخديعة والوهن والمكيدة ! أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعه واحدة ، فقد بلغ الحق مقطعه ، ولم يبق إلا ان يقطع دابر الذين ظلموا .
فجاءه من أصحابه زهاء عشرين ألفا مقنعين في الحديد ، شاكي السلاح سيوفهم على
__________
(1) استشرى : اشتد .
(*)(2/216)
عواتقهم ، وقد اسودت جباههم من السجود ، يتقدمهم مسعر بن فدكي ، وزيد بن حصين وعصابة من القراء الذين صاروا خوارج من بعد ، فنادوه باسمه لا بإمرة المؤمنين : يا علي ، أجب القوم إلى كتاب الله إذ دعيت إليه ، وإلا قتلناك كما قتلنا ابن عفان ، فو الله لنفعلنها إن لم تجبهم ! فقال لهم : ويحكم ! أنا أول من دعا إلى كتاب الله ، وأول من أجاب إليه ، وليس يحل لي ، ولا يسعني في ديني أن أدعى إلى كتاب الله فلا أقبله ، إني إنما قاتلتهم ليدينوا بحكم القرآن ، فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم ، ونقضوا عهده ، ونبذوا كتابه ، ولكني قد أعلمتكم أنهم قد كادوكم ، وأنهم ليس العمل بالقرآن يريدون .
قالوا : فابعث إلى الاشتر ليأتينك ، وقد كان الاشتر صبيحة ليلة الهرير أشرف على عسكر معاوية ليدخله .
* * * قال نصر : فحدثني فضيل بن خديج ، (عن رجل من النخع) (1) قال : سأل مصعب (2 إبراهيم بن الاشتر 2) عن الحال كيف كانت ؟ فقال : كنت عند علي عليه السلام حين بعث إلى الاشتر ليأتيه ، وقد كان الاشتر أشرف على معسكر معاوية ليدخله ، فأرسل إليه علي عليه السلام يزيد بن هانئ : أن ائتني ، فأتاه فأبلغه (3) ، فقال الاشتر : ائته فقل له : ليس هذه بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني عن موقفي ،
__________
(1) من كتاب صفين .
(2 - 2) ب : " سأل مصعب بن إبراهيم " ، وصوابه من أ ، ج .
(3) كتاب صفين : " فبلغه " .
(*)(2/217)
إني قد رجوت (1) الفتح فلا تعجلني ، فرجع يزيد بن هانئ إلى علي عليه السلام فأخبره ، فما هو إلا أن انتهى إلينا حتى ارتفع الرهج ، وعلت الاصوات من قبل الاشتر ، وظهرت دلائل الفتح والنصر لاهل العراق ، ودلائل الخذلان والادبار على أهل الشام ، فقال القوم لعلي : والله ما نراك أمرته إلا بالقتال ! قال : أ رأيتموني ساررت (2) رسولي إليه ! أ ليس إنما كلمته على رءوسكم علانية وأنتم تسمعون ! قالوا : فابعث إليه فليأتك ، وإلا فو الله اعتزلناك ! فقال : ويحك يا يزيد ! قل له : أقبل إلى ، فإن الفتنة قد وقعت .
فأتاه فأخبره ، فقال الاشتر : أ برفع (3) هذه المصاحف ؟ قال : نعم ، قال : أما والله لقد ظننت أنها حين رفعت ستوقع خلافا وفرقة ، إنها مشورة ابن النابغة (4) ! ثم قال ليزيد بن هانئ : ويحك ! أ لا ترى إلى الفتح ! أ لا ترى إلى ما يلقون ! أ لا ترى الذي يصنع الله لنا ؟ أ ينبغي أن ندع هذا وننصرف عنه ! فقال له يزيد : أ تحب أنك ظفرت هاهنا وأن أمير المؤمنين بمكانه الذي هو فيه يفرج عنه ، ويسلم إلى عدوه ! قال : سبحان الله ! لا والله لا أحب ذلك ، قال : فإنهم قد قالوا له ، وحلفوا عليه ، لترسلن إلى الاشتر فليأتينك ، أو لنقتلنك بأسيافنا ، كما قتلنا عثمان ، أو لنسلمنك إلى عدوك .
فأقبل الاشتر حتى انتهى إليهم ، فصاح : يا أهل الذل والوهن ، أ حين علوتم القوم ، وظنوا أنكم لهم قاهرون ، رفعوا (5) المصاحف يدعونكم إلى ما فيها ! وقد والله تركوا ما أمر الله به فيها ، وتركوا سنة من أنزلت عليه ، فلا تجيبوهم ! أمهلوني فواقا (6) فإني
__________
(1) كتاب صفين : " إني قد رجوت الله أن يفتح لي " .
(2) ب : " شاورت " ، وصوابه من أ ، ج ، وكتاب صفين .
(3) كتاب صفين : " أ لرفع " .
(4) كتاب صفين : " يعني عمرو بن العاص " .
(5) كذا في الاصول وتاريخ الطبري 6 : 27 ، وفي كتاب صفين : " ورفعوا " .
(6) الفواق : ما بين الحلبتين ، يقال : انتظرتك فواق ناقة .
(*)(2/218)
قد أحسست بالفتح .
قالوا : لا نمهلك ، قال : فأمهلوني عدوة الفرس ، فإني قد طمعت في النصر ، قالوا : إذن ندخل معك في خطيئتك .
قال : فحدثوني عنكم ، وقد قتل أماثلكم ، وبقى أراذلكم ، متى كنتم محقين ! أ حين كنتم تقتلون أهل الشام ! فأنتم الآن حين أمسكتم عن قتالهم مبطلون ! أم أنتم الآن في إمساككم عن القتال محقون ! فقتلاكم إذن الذين لا تنكرون فضلهم ، وإنهم خير منكم في النار .
قالوا : دعنا منك يا أشتر ، قاتلناهم في الله وندع قتالهم في الله ، إنا لسنا نطيعك فاجتنبنا ، فقال : خدعتم والله فانخدعتم ، ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم ، يا أصحاب الجباه السود ، كنا نظن صلاتكم زهادة في الدنيا وشوقا إلى لقاء الله ! فلا أرى فراركم إلا إلى الدنيا من الموت ، ألا فقبحا يا أشباه النيب (1) الجلالة ، ما أنتم برائين بعدها عزا أبدا ، فابعدوا كما بعد القوم الظالمون .
فسبوه وسبهم ، وضربوا بسياطهم وجه دابته ، وضرب بسوطه وجوه دوابهم ، وصاح بهم علي عليه السلام ، فكفوا .
وقال الاشتر : يا أمير المؤمنين ، إحمل الصف على الصف تصرع القوم .
فتصايحوا إن أمير المؤمنين قد قبل الحكومة ، ورضي بحكم القرآن .
فقال الاشتر : إن كان أمير المؤمنين قد قبل ورضي ، فقد رضيت بما رضي به أمير المؤمنين ، فأقبل الناس يقولون : قد رضي أمير المؤمنين ، قد قبل أمير المؤمنين ، وهو ساكت لا يبض (2) بكلمة ، مطرق إلى الارض .
ثم قام فسكت الناس كلهم ، فقال : أيها الناس ، إن أمري لم يزل معكم على ما أحب إلى أن أخذت منكم الحرب ، وقد والله أخذت منكم وتركت ، وأخذت من عدوكم فلم تترك ، وإنها فيهم أنكى وأنهك ، ألا إني كنت أمس أمير المؤمنين فأصبحت اليوم
__________
(1) النيب ، جمع ناب ، وهي الناقة المسنة .
(2) لا يبض بكلمة : لا يتكلم .
(*)(2/219)
مأمورا ، وكنت ناهيا فأصبحت منهيا ، وقد أحببتم البقاء ، وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون ثم قعد .
قال نصر : ثم تكلم رؤساء القبائل ، فكل قال ما يراه ويهواه ، إما من الحرب أو من السلم ، فقام كردوس بن هانئ البكري فقال : أيها الناس ، إنا والله ما تولينا معاوية منذ تبرأنا منه ، ولا تبرأنا من علي منذ توليناه ، وإن قتلانا لشهداء ، وإن أحياءنا لابرار ، وإن عليا لعلى بينة من ربه ، وما أحدث إلا الانصاف ، فمن سلم له نجا ، ومن خالفه هلك .
ثم قام شقيق بن ثور البكري ، فقال : أيها الناس ، إنا دعونا أهل الشام إلى كتاب الله ، فردوه علينا ، فقاتلناهم عليه ، وإنهم قد دعونا اليوم إليه (1) ، فإن رددناه عليهم .
حل لهم منا ما حل لنا منهم ، ولسنا نخاف أن يحيف الله علينا ورسوله ، ألا إن عليا ليس بالراجع الناكس ، ولا الشاك الواقف ، وهو اليوم على ما كان عليه أمس ، وقد أكلتنا هذه الحرب ، ولا نرى البقاء إلا في الموادعة (2) .
* * * قال نصر : ثم ن أهل الشام لما أبطا عنهم علم حال أهل العراق : هل أجابوا إلى الموادعة أم لا ؟ جزعوا فقالوا : يا معاوية ، ما نرى أهل العراق أجابوا إلى ما دعوناهم إليه ، فأعدها جذعة (3) ، فإنك قد غمرت بدعائك القوم ، واطمعتهم فيك .
فدعا معاوية عبد الله بن عمرو بن العاص ، فأمره أن يكلم أهل العراق ، ويستعلم له ما عندهم ، فأقبل حتى إذا كان بين الصفين ، نادى : يا أهل العراق ، أنا عبد الله بن
__________
(1) كتاب وقعة صفين : " إلى كتاب الله " .
(2) كتاب صفين 561 - 564 ، 553 - 554 ، وتاريخ الطبري 6 - 57 بسنده عن عبد الرحمن بن جندب عن أبيه .
(3) أعدها جذعة ، أي ابدأ بها مرة أخرى .
وفي اللسان : " و إذ طفئت حرب بين قوم فقال بعضهم : " إن شئتم أعدناها جذعة ، أي أول ما يبتدأ منها " .
وفي الاصول " خدعة " والصواب ما أثبته من كتاب صفين .
(*)(2/220)
عمرو بن العاص ، إنه قد كانت بيننا وبينكم أمور للدين أو الدنيا (1) فإن تكن للدين فقد والله أعذرنا وأعذرتم ، وإن تكن للدنيا فقد والله أسرفنا وأسرفتم ، وقد دعوناكم إلى أمر لو دعوتمونا إليه لاجبناكم ، فإن يجمعنا وإياكم الرضا فذاك من الله .
فاغتنموا هذه الفرصة ، عسى أن يعيش فيها المحترف (2) و ينسى فيها القتيل ، فإن بقاء المهلك بعد الهالك قليل .
فأجابه سعيد بن قيس الهمداني ، فقال : أما بعد يا أهل الشام ، إنه قد كانت بيننا وبينكم أمور حامينا فيها على الدين والدنيا ، وسميتموها عذرا وسرفا ، وقد دعوتمونا اليوم إلى ما قاتلناكم عليه أمس ، ولم يكن ليرجع أهل العراق إلى عراقهم ، وأهل الشام إلى شامهم ، بأمر أجمل من أن يحكم فيه بما أنزل الله سبحانه ، (فالامر في أيدينا دونكم ، وإلا فنحن نحن وأنتم أنتم) (3) .
فقام الناس إلى علي عليه السلام ، فقالوا له : (4 أجب القوم إلى المحاكمة ، قال : ونادى إنسان من أهل الشام في جوف الليل بشعر سمعه الناس ، وهو 4) : رءوس العراق أجيبوا الدعاء * * فقد بلغت غاية الشدة وقد أودت الحرب بالعالمين * * وأهل الحفائظ والنجدة فلسنا ولستم من المشركين * * ولا المجمعين على الردة ولكن أناس لقوا مثلهم * * لنا عدة ولكم عدة (5)
__________
(1) كتاب وقعة صفين : " للدين والدنيا " .
(2) في ج : " المحتزق " وفي حواشيها : " الحزق ، محركة : الدهش من الخوف " .
(3) تكملة من كتاب صفين .
(4 - 4) في كتاب صفين : " أجب القوم إلى ما دعوك إليه ، فإنا قد قبلنا ، ونادى إنسان من أهل الشام في سواد الليل بشعر سمعه الناس ، وهو " .
(5) كتاب وقعة صفين : " ولهم عدة " .
(*)(2/221)
(فقاتل كل على وجهه * * يقحمه الجد والحده) (1) فإن تقبلوها ففيها البقاء * * وأمن الفريقين والبلده وإن تدفعوها ففيها الفناء * * وكل بلاء إلى مده فحتى متى مخض هذا السقاء * * ولا بد أن تخرج الزبده ثلاثة رهط هم أهلها * * وإن يسكتوا تخمد الوقده سعيد بن قيس وكبش العراق * * وذاك المسود من كنده .
قال : فأما المسود من كنده ، وهو الاشعث ، فإنه لم يرض بالسكوت ، بل كان من أعظم الناس قولا في إطفاء الحرب والركون إلى الموادعة .
وأما كبش العراق ، وهو الاشتر ، فلم يكن يرى إلا الحرب ، ولكنه سكت على مضض .
وأما سعيد بن قيس ، فكان تارة هكذا وتارة هكذا (2) .
* * * وذكر ابن ديزيل (3) الهمداني في كتاب " صفين " قال : خرج عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ومعه لواء معاوية ، فارتجز فخرج إليه جارية بن قدامة السعدي ، فارتجز أيضا مجيبا له ثم اطعنا (4) فلم يصنعا شيئا ، وانصرف كل واحد منهما عن صاحبه ، فقال عمرو بن العاص لعبد الرحمن : اقحم يا بن سيف الله ، فتقدم عبد الرحمن بلوائه ، وتقدم أصحابه ، فأقبل علي عليه السلام على الاشتر ، فقال له : قد بلغ لواء معاويه حيث
__________
(1) تكملة من كتاب صفين .
(2) كتاب وقعة صفين : 551 - 553 .
(3) ابن ديزيل ، هو إبراهيم بن الحسين بن علي بن مهران بن ديزيل الكسائي الهمذاني ، أحد كبار الحفاظ ومتكلميهم ، ذكره ابن حجر في لسان الميزان (1 : 49) ، وقال : " مات في آخر يوم من شعبان سنة إحدى وثمانين ومائتين " .
(4) اطعنا : أي تطاعنا .
(*)(2/222)
ترى ، فدونك القوم .
فأخذ الاشتر لواء علي عليه السلام ، وقال (1) : إني أنا الاشتر معروف الشتر (2) * * إني أنا الافعى العراقي الذكر لست ربيعيا ولست من مضر (3) * * لكنني من مذحج الشم الغرر فضارب القوم حتى ردهم ، فانتدب (4) له همام بن قبيصة الطائي - وكان مع معاوية - فشد عليه في مذحج ، فانتصر عدي بن حاتم الطائي للاشتر ، فحمل عليه في طئ ، فاشتد القتال جدا ، فدعا علي ببغلة رسول الله صلى الله عليه وآله فركبها ، ثم تعصب بعمامة رسول الله ، ونادى : أيها الناس ، من يشري نفسه لله ! إن هذا يوم له ما بعده ، فانتدب معه ما بين عشرة آلاف إلى إثني عشر ألفا ، فتقدمهم علي عليه السلام ، وقال : دبوا دبيب النمل لا تفوتوا * * وأصبحوا أمركم أو بيتوا (5) حتى تنالوا الثأر أو تموتوا وحمل وحمل الناس كلهم حملة واحدة ، فلم يبق لاهل الشام صف إلا أزالوه ، حتى أفضوا إلى معاوية ، فدعا معاوية بفرسه ليفر عليه .
وكان معاوية بعد ذلك يحدث فيقول : لما وضعت رجلي في الركاب ، ذكرت قول عمرو بن الاطنابة (6) أبت لي عفتي وأبى بلائي * * وأخذي الحمد بالثمن الربيح
__________
(1) الابيات ذكرها نصر بن مزاحم في وقعة صفين 451 ، والمسعودي في تاريخه 2 : 390 .
(2) الشتر : انقلاب جفن العين من أعلى وأسفل وتشنجه .
(3) رواية المسعودي : * لست من الحي ربيع أو مضر * (4) انتدب له : خف له .
(5) في وقعة صفين 559 للمنقري : " وأصبحوا بحربكم " ، وفيما يأتي من شرح النهج (2 : 286) : " وأصبحوا في حربكم " .
(6) الخبر والابيات في الكامل (8 : 215) - بشرح المرصفي ، وأمالي القالي (1 : 258) ، وعيون الاخبار (1 : 126) ، والاطنابة : اسم أمه ، وهو عمرو بن عامر من بني الحارث بن الخزرج .
(*)(2/223)
وإقدامي على المكروه نفسي * * وضربي هامة البطل المشيح (1) وقولي كلما جشأت وجاشت * * " مكانك تحمدي أو تستريحي " (2) فأخرجت رجلي من الركاب وأقمت ، ونظرت إلى عمرو ، فقلت له : اليوم صبر وغدا فخر ، فقال : صدقت .
قال إبراهيم بن ديزيل : روى عبد الله بن أبي بكر ، عن عبد الرحمن بن حاطب ، عن معاوية ، قال : أخذت بمعرفة فرسي ، ووضعت رجلي في الركاب للهرب ، حتى ذكرت شعر ابن الاطنابة ، فعدت إلى مقعدي ، فأصبت خير الدنيا ، وإني لراج أن أصيب خير الآخرة .
قال إبراهيم بن ديزيل : فكان ذلك يوم الهرير ، ثم رفعت المصاحف بعده .
وروى إبراهيم ، عن ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن ربيعة بن لقيط ، قال : شهدنا صفين ، فمطرت السماء علينا دما عبيطا .
وقال : وفي حديث الليث بن سعد أن كانوا ليأخذونه بالصحاف والآنية .
وفي حديث ابن لهيعة : " حتى إن الصحاف والآنية لتمتلئ ونهريقها " .
قال إبراهيم : وروى عبد الرحمن بن زياد ، عن الليث بن سعد ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عمن حدثه ممن حضر صفين أنهم مطروا دما عبيطا ، فتلقاه الناس بالقصاع والآنية ، وذلك في يوم الهرير ، وفزع أهل الشام وهموا أن يتفرقوا ، فقام عمرو بن العاص فيهم فقال : أيها الناس ، إنما هذه آية من آيات الله ، فأصلح امرؤ ما بينه وبين الله ، ثم لا عليه أن ينتطح هذان الجبلان .
فأخذوا في القتال
__________
(1) في الكامل : " وإجشامي على المكروه نفسي " ، والمشيح : المقبل على عدوه ، المانع لما وراء ظهره .
(2) جشأت وجاشت ، أي ارتفعت من الفزع .
(*)(2/224)
قال إبراهيم : وروى أبو عبد الله المكي ، قال : حدثنا سفيان بن عاصم بن كليب الحارثي عن أبيه ، قال : أخبرني ابن عباس ، قال : لقد حدثني معاوية أنه كان يومئذ قد قرب إليه فرسا له أنثى ، بعيدة البطن من الارض ، ليهرب عليها ، حتى أتاه آت من أهل العراق ، فقال له : إني تركت أصحاب علي في مثل ليلة الصدر (1) من منى ، فأقمت ، قال : فقلنا له : فأخبرنا من هو ذلك الرجل ؟ فأبى وقال : لا أخبركم من هو .
* * * قال نصر وإبراهيم أيضا : وكتب معاوية إلى علي عليه السلام : أما بعد ، فإن هذا الامر قد طال بيننا وبينك ، وكل واحد منا يرى أنه على الحق فيما يطلب من صاحبه ، ولن يعطي واحد منا الطاعة للآخر ، وقد قتل فيما بيننا بشر كثير ، وأنا أتخوف أن يكون ما بقي أشد مما مضى ، وإنا سوف نسأل عن هذه المواطن ، ولا يحاسب (به) (2) غيري وغيرك ، وقد دعوتك إلى أمر لنا ولك فيه حياة وعذر ، وبراءة وصلاح للامة ، وحقن للدماء ، وألفه للدين ، وذهاب للضغائن والفتن ، أن نحكم بيني وبينكم حكمين مرضيين ، أحدهما من أصحابي ، والآخر من أصحابك ، فيحكمان بيننا بما أنزل الله ، فهو خير لي ولك ، وأقطع لهذه الفتن ، فاتق الله فيما دعيت إليه ، وارض بحكم القرآن إن كنت من أهله والسلام .
فكتب إليه علي عليه السلام : من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان ، أما بعد ، فإن أفضل ما شغل به المرء نفسه اتباع ما حسن به (3 فعله ، واستوجب فضله ، وسلم من عيبه 3) ،
__________
(1) الصدر : اليوم الرابع من أيام منى .
(2) تكملة من وقعة صفين للمنقري .
(3 - 3) وقعة صفين .
" ما يحسن به فعله ، ويستوجب فضله ، ويسلم من عيبه " .
(*)(2/225)
وإن البغي والزور يزريان بالمرء في دينه ودنياه ، فاحذر الدنيا ، فإنه لا فرح في شئ وصلت إليه منها ، ولقد علمت أنك غير مدرك ما قضي فواته ، وقد رام قوم أمرا بغير الحق ، وتأولوه (1) على الله عزوجل ، فأكذبهم ومتعهم قليلا ، ثم اضطرهم إلى عذاب غليظ ، فاحذر يوما يغتبط فيه من حمد عاقبة عمله ، ويندم فيه من أمكن الشيطان من قياده ، (ولم يحاده) (2) ، وغرته الدنيا واطمأن إليها ، ثم إنك قد دعوتني إلى حكم القرآن ، ولقد علمت أنك لست من أهل القرآن ولا حكمه تريد ، والله المستعان ، فقد أجبنا القرآن إلى حكمه ، ولسنا إياك أجبنا ، ومن لم يرض بحكم القرآن فقد ضل ضلالا بعيدا (3) .
فكتب معاوية إلى علي عليه السلام : أما بعد ، عافانا الله وإياك ، فقد آن لك أن تجيب إلى ما فيه صلاحنا وألفة بيننا ، وقد فعلت الذي فعلت وأنا أعرف حقي ، ولكني اشتريت بالعفو صلاح الامة ، ولم أكثر فرحا بشئ جاء ولا ذهب ، وإنما أدخلني في هذا الامر القيام بالحق فيما بين الباغي والمبغي عليه ، والامر بالمعروف والنهى عن المنكر ، فدعوت إلى كتاب الله فيما بيننا وبينك ، فإنه لا يجمعنا وإياك إلا هو ، نحيي ما أحيا القرآن ، ونميت ما أمات القرآن ، والسلام (4) .
* * * قال نصر : فكتب علي عليه السلام إلى عمرو بن العاص ، يعظه ويرشده .
__________
(1) وقعة صفين : " فتأولوا على الله " .
(2) تكملة من وقعة صفين للمنقري .
(3) وقعة صفين للمنقري 565 - 566 .
(4) وقعة صفين للمنقري 570 .
(*)(2/226)
أما بعد ، فإن الدنيا مشغلة عن غيرها ، ولن يصيب صاحبها منها شيئا إلا له حرصا يزيده فيها رغبة ، ولن يستغني صاحبها بما نال عما لم يبلغ (1) ، ومن وراء ذلك فراق ما جمع ، والسعيد من وعظ بغيره ، فلا تحبط أبا عبد الله أجرك ، ولا تجار معاوية في باطله ، والسلام .
فكتب إليه عمرو الجواب : أما بعد أقول ، فالذي (2) فيه صلاحنا وألفتنا الانابة إلى الحق ، وقد جعلنا القرآن بيننا حكما ، وأجبنا إليه ، فصبر الرجل منا نفسه على ما حكم عليه القرآن ، وعذره الناس بعد المحاجزة ، والسلام .
فكتب إليه علي عليه السلام : أما بعد ، فإن الذي أعجبك من الدنيا مما نازعتك إليه نفسك ، ووثقت به منها ، لمنقلب عنك ، ومفارق لك ، فلا تطمئن إلى الدنيا ، فإنها غرارة ، ولو اعتبرت بما مضى لحفظت ما بقي ، وانتفعت منها بما وعظت به ، والسلام .
فأجابه عمرو : أما بعد ، فقد أنصف من جعل القرآن إماما ، ودعا الناس إلى أحكامه ، فاصبر أبا حسن ، فإنا غير منيليك إلا ما أنالك القرآن ، والسلام (3) .
* * * قال نصر : وجاء الاشعث إلى علي عليه السلام ، فقال : يا أمير المؤمنين ، ما أرى الناس إلا قد رضوا ، وسرهم أن يجيبوا القوم إلى ما دعوهم إليه من حكم القرآن ،
__________
(1) وقعة صفين : " لم يبلغه " .
(2) وقعة صفين : " فإن ما فيه صلاحنا " .
(3) وقعة صفين للمنقري 570 - 571 .
(*)(2/227)
فإن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد ، ونظرت ما الذي يسأل ، قال : فأته إن شئت ، فأتاه ، فسأله : يا معاوية ، لاي شئ رفعتم هذه المصاحف ؟ قال : لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله به فيها (1) ، فابعثوا رجلا منكم ترضون به ، ونبعث منا رجلا ، ونأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله ولا يعدوانه ، ثم نتبع ما اتفقا عليه .
فقال الاشعث : هذا هو الحق .
وانصرف إلى علي عليه السلام ، فأخبره ، فبعث علي عليه السلام قراء من اهل العراق ، وبعث معاوية قراء من أهل الشام ، فاجتمعوا بين الصفين ، ومعهم المصحف ، فنظروا فيه وتدارسوا (2) واجتمعوا على أن يحيوا ما أحيا القرآن ، ويميتوا ما أمات القرآن ، ورجع كل فريق إلى صاحبه ، فقال أهل الشام : إنا قد رضينا واخترنا عمرو بن العاص ، وقال الاشعث والقراء الذين صاروا خوارج فيما بعد : قد رضينا نحن واخترنا أبا موسى الاشعري .
فقال لهم علي عليه السلام : فإنى لا أرضى بأبي موسى ولا أرى أن أوليه ، فقال الاشعث وزيد بن حصين ومسعر بن فدكي في عصابة من القراء : إنا لا نرضى إلا به ، فإنه قد كان حذرنا ما وقعنا فيه .
فقال علي عليه السلام : فإنه ليس لي برضا ، وقد فارقني وخذل الناس عني ، وهرب مني حتى أمنته بعد أشهر ، ولكن هذا ابن عباس أوليه ذلك .
قالوا : والله ما نبالي ، أ كنت أنت أو ابن عباس ! ولا نريد إلا رجلا هو منك ومن معاوية سواء ، ليس إلى واحد منكما بأدنى من الآخر .
قال علي عليه السلام : فإني أجعل الاشتر ، فقال الاشعث : وهل سعر الارض علينا إلا الاشتر ! وهل نحن إلا في حكم الاشتر ! قال علي عليه السلام : وما حكمه ؟ قال : حكمه أن يضرب بعضنا بعضا بالسيف حتى يكون ما أردت وما أراد (3) .
* * *
__________
(1) وقعة صفين : " في كتابه " .
(2) صفين : " وتدارسوه " .
(3) وقعة صفين للمنقري 572 .
(*)(2/228)
قال نصر : وحدثنا عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبي جعفر محمد بن علي ، قال : لما أراد الناس عليا أن يضع الحكمين ، قال لهم : إن معاوية لم يكن ليضع لهذا الامر أحدا هو أوثق برأيه ونظره من عمرو بن العاص ، وإنه لا يصلح للقرشي إلا مثله ، فعليكم بعبد الله بن العباس ، فارموه به ، فإن عمرا لا يعقد عقدة إلا حلها عبد الله ، ولا يحل عقدة إلا عقدها ، ولا يبرم أمرا إلا نقضه ، ولا ينقض أمرا إلا أبرمه .
فقال الاشعث : لا والله ، لا يحكم فينا مضريان حتى تقوم الساعة ، ولكن اجعل رجلا من أهل اليمن إذ جعلوا رجلا من مضر ، فقال علي عليه السلام : إني أخاف أن يخدع يمنيكم ، فإن عمرا ليس من الله في شئ إذا كان له في أمر هوى .
فقال الاشعث : والله لان يحكما ببعض ما نكره ، وأحدهما من أهل اليمن ، أحب إلينا من أن يكون بعض ما نحب في حكمهما وهما مضريان .
قال : وذكر الشعبي أيضا مثل ذلك (1) .
* * * قال نصر : فقال علي عليه السلام : قد أبيتم إلا أبا موسى ! قالوا : نعم ، قال : فاصنعوا ما شئتم ، فبعثوا إلى أبي موسى - وهو بأرض من أرض الشام يقال لها عرض (2) قد اعتزل القتال - فأتاه مولى له ، فقال : إن الناس قد اصطلحوا ، فقال : الحمد لله رب العالمين ، قال : وقد جعلوك حكما ، فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ! فجاء أبو موسى حتى دخل عسكر علي عليه السلام ، وجاء الاشتر عليا ، فقال : يا أمير المؤمنين ألزني (3) بعمرو بن العاص ، فو الذي لا إله غيره ، لئن ملات عيني منه لاقتلنه .
__________
(1) وقعة صفين للمنقري 573 .
(2) عرض : بلد بين تدمر ورصافة الشام .
(3) ألزه به : ألزمه إياه .
(*)(2/229)
وجاء الاحنف بن قيس عليا ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنك قد رميت بحجر (1) الارض ، ومن حارب الله ورسوله أنف (2) الاسلام ، وإني قد عجمت هذا الرجل - يعني أبا موسى - وحلبت أشطره ، فوجدته كليل الشفرة قريب القعر ، وإنه لا يصلح لهؤلاء القوم إلا رجل يدنو منهم حتى يكون في أكفهم ، ويتباعد منهم حتى يكون بمنزلة النجم منهم ، (3 فإن شئت أن تجعلني حكما فاجعلني ، وإن شئت أن تجعلني ثانيا إو ثالثا 3) ، فإن عمرا لا يعقد عقدة إلا حللتها ، ولا يحل عقدة إلا عقدت لك أشد منها .
فعرض علي عليه السلام ذلك على الناس فأبوه ، وقالوا : لا يكون إلا أبا موسى (4) .
* * * قال نصر : مال الاحنف إلى علي عليه السلام ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إني خيرتك يوم الجمل أن آتيك فيمن أطاعني أو أكف عنك بني سعد ، فقلت : كف قومك ، فكفى بكفك نصيرا ، فأقمت بأمرك ، وإن عبد الله بن قيس (5) رجل قد حلبت أشطره ، فوجدته قريب القعر ، كليل المدية ، وهو رجل يمان وقومه مع معاوية ؟ وقد رميت بحجر الارض ، وبمن حارب الله ورسوله ، وإن صاحب القوم من ينأى حتى يكون مع النجم ، ويدنو حتى يكون في أكفهم ، فابعثني ، فو الله لا يحل عنك عقدة إلا عقدت لك أشد منها ، فإن قلت : إني لست من أصحاب رسول الله ، فابعث رجلا من أصحاب رسول الله ، وابعثني معه .
__________
(1) في اللسان 5 : 273 : " ويقال : رمى فلان بحجر الارض ، إذا رمى بداهية من الرجال ، وفي حديث الاحنف بن قيس : أنه قال لعلي حين سمى معاوية أحد الحكمين عمرو بن العاص : إنك رميت بحجر الارض ...
" .
(2) أنف كل شئ : أوله ، يقال : سار في أنف النهار ، أي أوله .
(3 - 3) وقعة صفين : " فإن تجعلني حكما فاجعلني ، وإن أبيت أن تجعلني حكما فاجعلني ثانيا أو ثالثا " .
(4) وقعة صفين 574 .
(5) عبد الله بن قيس هو أبو موسى الاشعري .
(*)(2/230)
فقال علي عليه السلام : إن القوم أتوني بعبد الله بن قيس مبرنسا ، فقالوا : ابعث هذا ، رضينا به والله بالغ أمره (1) .
* * * قال نصر : وروي أن ابن الكواء ، قام إلى علي عليه السلام ، فقال : هذا عبد الله بن قيس وافد أهل اليمن إلى رسول الله صلى الله عليه وصاحب مقاسم أبى بكر (2) وعامل عمر ، وقد رضي به القوم ، وعرضنا عليهم ابن عباس ، فزعموا أنه قريب القرابة منك ، ظنون (3) في أمرك .
فبلغ ذلك أهل الشام ، فبعث أيمن بن خزيم الاسدي ، وكان معتزلا لمعاوية بهذه الابيات ، وكان هواه أن يكون الامر لالهل العراق : لو كان للقوم رأي يعصمون به * * من الضلال رموكم بابن عباس لله در أبيه أيما رجل * * ما مثله لفصال الخطب في الناس ! لكن رموكم بشيخ من ذوي يمن * * لا يهتدي ضرب أخماس لاسداس (4) إن يخل عمرو به يقذفه في لجج * * يهوي به النجم تيسا بين أتياس ابلغ لديك عليا غير عاتبه (5) * * قول امرئ لا يرى بالحق من باس ما الاشعري بمأمون أبا حسن * * فاعلم هديت وليس العجز كالراس فاصدم بصاحبك الادنى زعيمهم * * إن ابن عمك عباس هو الآسي فلما بلغ الناس هذا الشعر ، طارت أهواء قوم من أولياء علي عليه السلام وشيعته إلى ابن عباس ، وأبت القراء إلا أبا موسى (6) .
__________
(1) وقعة صفين 575 .
(2) صاحب المقاسم : الذي يتولى أمر قسمة المغانم ونحوها .
الظنون : المتهم ، كالظنين .
(4) وقعة صفين والمسعودي 2 : 410 : " لم يدر ما ضرب أخماس " .
(5) صفين : " عائبة " .
(6) وقعة صفين : 575 - 576 .
(*)(2/231)
قال نصر : وكان أيمن بن خزيم رجلا عابدا مجتهدا ، وقد كان معاوية جعل له فلسطين ، على أن يتابعه ويشايعه على قتال علي عليه السلام ، فقال أيمن : وبعث بها إليه : ولست مقاتلا رجلا يصلي * * على سلطان آخر من قريش له سلطانه وعلي إثمي * * معاذ الله من سفه وطيش أ أقتل مسلما في غير جرم * * فليس بنافعي ما عشت عيشي ! قال نصر : فلما رضي أهل الشام بعمرو ، وأهل العراق بأبي موسى ، أخذوا في سطر كتاب الموادعة ، وكانت صورته : " هذا ما تقاضى عليه علي أمير المؤمنين ومعاوية بن أبي سفيان " .
فقال معاوية : بئس الرجل أنا إن أقررت أنه أمير المؤمنين ثم قاتلته ! وقال عمرو : بل نكتب اسمه واسم أبيه ، إنما هو أميركم ، فأما أميرنا فلا .
فلما أعيد إليه الكتاب أمر بمحوه ، فقال الاحنف : لا تمح اسم أمير المؤمنين عنك ، فإني أتخوف إن محوتها ألا ترجع إليك أبدا ، فلا تمحها .
فقال علي عليه السلام : إن هذا اليوم كيوم الحديبية حين كتب الكتاب عن رسول الله صلى الله عليه : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو ، فقال سهيل : لو أعلم أنك رسول الله لم أقاتلك ، ولم أخالفك ، إني إذا لظالم لك إن منعتك أن تطوف ببيت الله الحرام وأنت رسوله ، ولكن اكتب : " من محمد بن عبد الله " ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه : " يا علي ، إني لرسول الله ، وأنا محمد بن عبد الله ، ولن يمحو عني الرسالة كتابي لهم من محمد بن عبد الله ، فاكتبها وامح ما أراد محوه ، أما إن لك مثلها ستعطيها وأنت مضطهد " .
قال نصر : وقد روي أن عمرو بن العاص عاد بالكتاب إلى علي عليه السلام ، فطلب منه أن يمحو اسمه من إمرة المؤمنين فقص عليه وعلى من حضر قصة صلح الحديبيه ،(2/232)
قال : إن ذلك الكتاب أنا كتبته بيننا وبين المشركين ، واليوم أكتبه إلى أبنائهم ، كما كان رسول الله صلى الله عليه كتبه إلى آبائهم شبها (1) ومثلا ، فقال عمرو : سبحان الله ، أ تشبهنا (2) بالكفار ، ونحن مسلمون ! فقال علي عليه السلام : يا بن النابغة ، ومتى لم تكن للكافرين وليا وللمسلمين عدوا ! فقام عمرو ، وقال : والله لا يجمع بيني وبينك مجلس بعد اليوم .
فقال علي : أما والله إنى لارجو أن يظهر الله عليك وعلى أصحابك .
وجاءت عصابة قد وضعت سيوفها على عواتقها ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، مرنا بما شئت ، فقال لهم سهل بن حنيف : أيها الناس ، اتهموا رأيكم ، فلقد شهدنا صلح رسول الله صلى الله عليه يوم الحديبية ، ولو نرى قتالا لقاتلنا (3) .
وزاد إبراهيم بن ديزيل : لقد رأيتني يوم أبي جندل - يعني الحديبية - ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه لرددته ، ثم لم نر في ذلك الصلح إلا خيرا .
قال نصر : وقد روى أبو إسحاق الشيباني ، قال : قرأت كتاب الصلح عند سعيد بن أبي بردة في صحيفة صفراء ، عليها خاتمان : خاتم من أسفلها ، وخاتم من أعلاها ، على خاتم علي عليه السلام محمد رسول الله صلى الله عليه ، وعلى خاتم معاوية محمد رسول الله .
وقيل لعلي عليه السلام ، حين أراد أن يكتب الكتاب بينه وبين معاوية وأهل الشام : أ تقر أنهم مؤمنون مسلمون ! فقال علي عليه السلام : ما أقر لمعاوية ولا لاصحابه أنهم مؤمنون ولا مسلمون ، ولكن يكتب معاوية ما شاء بما شاء ، ويقر بما شاء لنفسه ولاصحابه ، ويسمي نفسه بما شاء وأصحابه ، فكتبوا : هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان قاضى على بن ابى طالب
__________
(1) وقعة صفين : " سنة ومثلا " .
(2) صفين : " شبهتنا بالكفار ونحن مؤ منون " ! .
(3) كتاب صفين 582 - 583 .
(*)(2/233)
على أهل العراق ومن كان معه من شيعته من المؤمنين والمسلمين ، وقاضي معاوية بن أبي سفيان على أهل الشام ومن كان معه من شيعته من المؤمنين والمسلمين ، إننا ننزل عند حكم الله تعالى وكتابه ، ولا يجمع بيننا إلا إياه .
وإن كتاب الله سبحانه وتعالى بيننا من فاتحته إلى خاتمته ، نحيي ما أحيا القرآن ، ونميت ما أمات القرآن ، فإن وجد الحكمان ذلك في كتاب الله اتبعاه ، وإن لم يجداه أخذا بالسنة العادلة غير المفرقة ، والحكمان : عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص .
وقد أخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين أنهما آمنان على أنفسهما وأموالهما وأهلهما ، والامة لهما أنصار ، وعلى الذى يقضيان عليه وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين عهد الله أن يعملوا بما يقضيان عليه ، مما وافق الكتاب والسنة ، وإن الامن والموادعة ووضع السلاح متفق عليه بين الطائفتين ، إلى أن يقع الحكم ، وعلى كل واحد من الحكمين عهد الله ليحكمن بين الامة بالحق ، لا بالهوى ، وأجل الموادعة سنة كاملة .
فإن أحب الحكمان أن يعجلا الحكم عجلاه ، وإن توفي أحدهما فلامير شيعته أن يختار مكانه رجلا ، لا يألو الحق والعدل ، وإن توفي أحد الاميرين كان نصب غيره إلى أصحابه ممن يرضون أمره ، ويحمدون طريقته .
اللهم إنا نستنصرك على من ترك ما في هذه الصحيفة ، وأراد فيها إلحادا وظلما ! قال نصر : هذه رواية محمد بن على بن الحسين والشعبي ، وروى جابر عن زيد بن الحسن بن الحسن زيادات على هذه النسخة : هذا ما تقاضى عليه ابن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان ، وشيعتهما فيما تراضيا به من الحكم بكتاب الله وسنة رسوله قضية علي على أهل العراق ومن كان من شيعته من شاهد أو غائب ، وقضية معاوية على أهل الشام ومن كان من شيعته من شاهد أو غائب ، إننا رضينا أن ننزل عند حكم القرآن فيما حكم ، وأن نقف عند أمره فيما أمر ، فإنه لا يجمع بيننا إلا ذلك ، وإنا جعلنا كتاب الله سبحانه حكما بيننا فيما اختلفنا فيه ، من فاتحته إلى(2/234)
خاتمته ، نحيى ما أحيا القرآن ، ونميت ما أماته ، على ذلك تقاضينا ، وبه تراضينا ، وإن عليا وشيعته رضوا أن يبعثوا عبد الله بن قيس ناظرا ومحاكما ، ورضي معاوية وشيعته أن يبعثوا عمرو بن العاص ناظرا ومحاكما ، على أنهم أخذوا عليهما عهد الله وميثاقه ، وأعظم ما أخذ الله على إحد من خلقه ليتخذان الكتاب إماما فيما بعثا إليه ، لا يعدوانه إلى غيره ما وجداه فيه مسطورا ، وما لم يجداه مسمى في الكتاب رداه إلى سنة رسول الله صلى الله عليه الجامعة ، لا يتعمدان لها خلافا ، ولا يتبعان هوى ، ولا يدخلان في شبهة ، وقد أخذ عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص على علي ومعاوية عهد الله وميثاقه بالرضا بما حكما به من كتاب الله وسنة نبيه ، وليس لهما أن ينقضا ذلك ولا يخالفاه إلى غيره ، وإنهما آمنان في حكمهما على دمائهما وأموالهما وأهلهما ، ما لم يعدوا الحق ، رضي بذلك راض أو أنكره منكر .
وإن الامة أنصار لهما على ما قضيا به من العدل ، فإن توفي أحد الحكمين قبل انقضاء الحكومة فأمير شيعته وأصحابه يختارون مكانه رجلا ، لا يألون عن أهل المعدلة والاقساط على ما كان عليه صاحبه من العهد والميثاق والحكم بكتاب الله وسنة رسوله ، وله مثل شرط صاحبه ، وإن مات أحد الاميرين قبل القضاء ، فلشيعته أن يولوا مكانه رجلا يرضون عدله .
وقد وقعت هذه القضية ، ومعها الامن والتفاوض ، ووضع السلاح والسلام والموادعة ، وعلى الحكمين عهد الله وميثاقه ألا يألوا اجتهادا ، ولا يتعمدا جورا ، ولا يدخلا في شبهة ، ولا يعدوا حكم الكتاب ، فإن لم يقبلا برئت الامة من حكمهما ، ولا عهد لهما ولا ذمة ، وقد وجبت القضية على ما قد سمى في هذا الكتاب من مواقع الشروط على الحكمين والاميرين والفريقين ، والله أقرب شهيدا ، وأدنى حفيظا .
والناس آمنون على أنفسهم وأهلهم وأموالهم ، إلى انقضاء مدة الاجل ، والسلاح موضوع ، والسبل مخلاة ، والشاهد والغائب من الفريقين سواء في الامن ، وللحكمين أن ينزلا منزلا عدلا بين أهل العراق والشام ، لا يحضرهما فيه إلا من أحبا عن ملا منهما وتراض ،(2/235)
وإن المسلمين قد أجلوا هذين القاضيين إلى انسلاخ شهر رمضان ، فإن رأيا تعجيل الحكومة فيما وجها له عجلاها ، وإن أرادا تأخيرها بعد شهر رمضان إلى انقضاء الموسم فذلك إليهما ، وإن هما لم يحكما بكتاب الله وسنة نبيه إلى انقضاء الموسم فالمسلمون على أمرهم الاول في الحرب ، ولا شرط بين الفريقين ، وعلى الامة عهد الله وميثاقه على التمام والوفاء بما في هذا الكتاب ، وهم يد على من أراد فيه إلحادا وظلما ، أو حاول له نقضا ، وشهد فيه من أصحاب علي عشرة ، ومن أصحاب معاوية عشرة ، وتاريخ كتابته لليلة بقيت من صفر سنة سبع وثلاثين (1) .
* * * قال نصر : وحدثنا عمرو بن سعيد ، قال : حدثني أبو جناب ، عن ربيعة الجرمي ، قال : لما كتبت الصحيفة دعي لها الاشتر ، ليشهد مع الشهود عليه ، فقال : لا صحبتني يميني ولانفعني بعدها الشمال إن كتب لي في هذه الصحيفة اسم على صلح أو موادعة ، أ ولست على بينة من أمري ويقين من ضلالة عدوي ، أ ولستم قد رأيتم الظفر إن لم تجمعوا على الخور ! فقال له رجل (من الناس) (2) : والله ما رأيت ظفرا ولا خورا ، هلم فاشهد على نفسك ، واقرر بما كتب في هذه الصحيفة ، فإنه لا رغبة لك عن الناس ، فقال : بلى والله ، إن لي لرغبة عنك في الدنيا للدنيا ، وفي الآخرة للآخرة ، ولقد سفك الله بسيفي هذا دماء رجال ما أنت عندي بخير منهم ، ولا أحرم دما .
قال نصر بن مزاحم : الرجل هو الاشعث بن قيس ، قال : فكأنما قصع (3) على أنفه الحميم ثم قال : ولكني قد رضيت بما يرضى به أمير المؤمنين ، ودخلت فيما دخل فيه ، وخرجت مما خرج منه ، فإنه لا يدخل إلا في الهدى والصواب .
__________
(1) وقعة صفين 585 - 586 .
(2) من صفين .
(3) القصع : الدلك والضرب .
وفي صفين والطبري (6 : 30) : " الحمم " .
(*)(2/236)
قال نصر : فحدثنا عمر بن سعد عن أبي جناب الكلبي عن إسماعيل بن شفيع (1) عن (2) سفيان بن سلمة ، قال : فلما تم الكتاب وشهدت فيه الشهود ، وتراضي الناس خرج الاشعث ، ومعه ناس بنسخة الكتاب يقرؤها على الناس ، ويعرضها عليهم ، فمر به على صفوف من أهل الشام ، وهم على راياتهم ، فأسمعهم إياه ، فرضوا به ، ثم مر به على صفوف من أهل العراق ، وهم على راياتهم ، فأسمعهم إياه ، فرضوا به ، حتى مر برايات عنزة ، وكان مع علي عليه السلام من عنزة بصفين أربعة آلاف مجفف (3) ، فلما مر بهم الاشعث يقرؤه عليهم ، قال فتيان منهم : لا حكم إلا لله ، ثم حملا على أهل الشام بسيوفهما ، فقاتلا حتى قتلا على باب رواق معاوية - فهما أول من حكم .
واسماهما جعد ومعدان - ثم مر بهما على مراد ، فقال صالح بن شقيق ، وكان من رؤوسهم : ما لعلي في الدماء قد حكم * * لو قاتل الاحزاب يوما ما ظلم .
لا حكم إلا لله ، ولو كره المشركون .
ثم مر على رايات بني راسب ، فقرأها عليهم ، فقال رجل منهم : لا حكم إلا لله ، لا نرضى ولا نحكم الرجال في دين الله .
ثم مر على رايات تميم ، منهم : لا حكم إلا لله ، لا نرضى ولا نحكم الرجال في دين الله ، ثم مر على رايات تميم ، فقرأها عليهم ، فقال رجل منهم : لاحكم إلا لله ، يقضي بالحق وهو خير الفاصلين .
فقال رجل منهم لآخر : أما هذا فقد طعن طعنة نافذة .
وخرج عروة بن أدية ، أخو مرداس بن أدية التميمي ، فقال : أ تحكمون الرجال في أمر الله لا حكم إلا لله ! فأين قتلانا يا أشعث ! ثم شد بسيفه ليضرب به الاشعث ، فأخطأه ، وضرب عجز دابته ضربة خفيفة ، فصاح به الناس : أن املك (4) يدك ، فكف ورجع الاشعث إلى قومه ، فمشى الاحنف إليه ومعقل بن قيس ، ومسعر بن فدكي ، و رجال من بني تميم ، فتنصلوا واعتذروا ، فقبل منهم ذلك ، وانطلق إلى علي عليه السلام ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إني
__________
(1) كتاب صفين .
" سميع " بالتصغير .
(2) كتاب صفين : " عن شقيق بن سلمة " .
(3) المجفف : لابس التجفاف ، وأصله ما يجلل به الفرس من سلاح وآله .
(4) صفين : " أن أ مسك " .
(*)(2/237)
عرضت الحكومة على صفوف أهل الشام ، وأهل العراق ، فقالوا جميعا : رضينا ، حتى مررت برايات بني راسب ، ونبذ (1) من الناس سواهم ، فقالوا : لا نرضى لا حكم إلا لله فمل (2) بأهل العراق وأهل الشام عليهم حتى نقتلهم .
فقال علي عليه السلام : هل هي غير راية أو رايتين ونبذ من الناس ؟ قال : لا ، قال : فدعهم .
قال نصر : فظن علي عليه السلام أنهم قليلون لا يعبأ بهم ، فما راعه إلا نداء الناس من كل جهة ومن كل ناحية : لا حكم إلا لله ! الحكم لله يا علي لا لك ! لا نرضى بأن يحكم الرجال في دين الله ، إن الله قد أمضى حكمه في معاوية ة وأصحابه ، أن يقتلوا أو يدخلوا تحت حكمنا عليهم (3) ، وقد كنا زللنا وأخطأنا حين رضينا بالحكمين ، وقد بان لنا زللنا وخطؤنا فرجعنا إلى الله وتبنا ، فارجع أنت يا علي كما رجعنا ، وتب إلى الله كما تبنا ، وإلا برئنا منك .
فقال علي عليه السلام : ويحكم أ بعد الرضا والميثاق والعهد نرجع ! أ ليس الله تعالى قد قال ، " أوفوا بالعقود " (4) وقال : " وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا " (5) ، فأبى علي أن يرجع ، وأبت الخوارج إلا تضليل التحكيم والطعن فيه ، فبرئت من علي عليه السلام وبرئ علي عليه السلام منهم (6) .
قال نصر : وقام إلى علي عليه السلام محمد بن جريش (7) ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أ ما إلى الرجوع عن هذا الكتاب سبيل ! فو الله إني لاخاف أن يورث ذلا ، فقال علي عليه
__________
(1) نبذ من الناس ، أي عدد قليل منهم .
(2) صفين : " فلنحمل " .
(3) صفين : " أو يدخلوا في حكمنا عليهم " .
(4) سورة المائدة 1 .
(5) سورة النحل 91 .
(6) وقعة صفين 589 - 590 .
(7) كتاب صفين : " محرز بن جريش " ، وقال : " وكان محرز يدعى محضضا ، وذلك أنه أخذ عنزة بصفين ، وأخذ معه إداوة من ماء ، فإذا وجد رجلا جريحا من أصحاب علي جريحا سقاه من اللبن ، وإذا وجد رجلا من أصحاب معاوية خضخضه بالعنزة حتى يقتله " .
(*)(2/238)
السلام : أ بعد أن كتبناه ننقضه ! إن هذا لا يحل (1) .
* * * قال نصر : وحدثني عمر بن نمير بن وعلة ، عن أبي الوداك ، قال : لما تداعى الناس إلى المصاحف ، وكتبت صحيفة الصلح والتحكيم ، قال علي عليه السلام : إنما فعلت ما فعلت لما بدا فيكم من الخور والفشل عن الحرب (2) ، فجاءت إليه همدان كأنها ركن حصير (3) فيهم سعيد بن قيس وابنه عبد الرحمن ، غلام له ذؤابة فقال سعيد : ها أنا ذا وقومي ، لا نرد أمرك (4) فقل ما شئت نعمله ، فقال : أما لو كان هذا قبل سطر الصحيفة (5) لازلتهم عن عسكرهم ، أو تنفرد سالفتي (6) ، ولكن انصرفوا راشدين (7) (فلعمري ما كنت لاعرض قبيلة واحدة للناس) (8) .
* * * قال نصر : وروى الشعبي أن عليا عليه السلام ، قال يوم صفين حين أقر الناس بالصلح ، إن هؤلاء القوم لم يكونوا لينيبوا إلى الحق ، ولا ليجيبوا (9) إلى كلمة سواء حتى يرموا بالمناسر (10) تتبعها العساكر ، وحتى يرجموا بالكتائب تقفوها الجلائب (11) ،
__________
(1) كتاب صفين 596 .
(2) صفين : " لما بدا فيكم من الخور والفشل - هما الضعف " .
(3) .
في صفين : " فجمع سعيد بن قيس قومه ، ثم جاء في رجراجة من همدان كأنها ركن حصير يعني جبلا باليمن " .
(4) صفين : " ولا نرد عليك " .
(5) صفين : " أما لو كان هذا قبل رفع المصاحف " .
(6) السالفة : صفحة العنق ، وفي حديث الحديبية : " اأقاتلنهم على أمري حتى تنفرد سالفتي " ، قال في اللسان : كنى بانفرادها عن الموت ، لانها لا تنفرد عما يليها إلا بالموت .
(7) كتاب صفين 596 - 597 .
(8) الزيادة من كتاب صفين .
(9) صفين : " ليفيئوا " .
(10) المناسر : جمع منسر ، بكسر الميم ، وهو القطعة من الجيش تمر قدام الجيش الكبير .
(11) الجلائب : ....(*)(2/239)
وحتى يجر ببلادهم الخميس يتلوه الخميس (1) ، وحتى يدعوا الخيول في نواحي أرضهم ، وبأحناء مساربهم ومسارحهم ، وحتى تشن عليهم الغارات من كل فج ، وحتى يلقاهم قوم صدق صبر ، لا يزيدهم هلاك من هلك من قتلاهم وموتاهم في سبيل الله إلا جدا فطي طاعة الله ، وحرصا على لقاء الله ، ولقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه ، نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأخوالنا وأعمامنا ، لا يزيدنا ذلك إلا إيمانا وتسليما ، ومضيا على أمض الالم ، وجدا على جهاد العدو ، والاستقلال بمبارزة الاقران ، ولقد كان الرجل منا والآخر من عدونا يتصاولان تصاول الفحلين ، يتخالسان أنفسهما أيهما يسقي صاحبه كأس المنون ، فمرة لنا من عدونا ، ومرة لعدونا منا ، فلما رآنا الله صدقا صبرا أنزل بعدونا الكبت ، وأنزل علينا النصر ، ولعمري لو كنا نأتى مثل الذي أتيتم ما قام الدين ولا عز الاسلام (2) (وأيم الله لتحلبنها دما ، فاحفظوا ما أقول لكم) (3) .
* * * وروى بصر عن عمرو بن شمر ، عن فضيل بن خديج ، قال : قيل لعلي عليه السلام لما كتبت الصحيفة : إن الاشتر لم يرض بما في الصحيفة ، ولا يرى إلا قتال القوم ، فقال علي عليه السلام : بلى إن الاشتر ليرضى إذا رضيت ، وقد رضيت ورضيتم ، ولا يصلح الرجوع بعد الرضا ، ولا التبديل بعد الاقرار ، إلا أن يعصى الله أو يتعدى ما في كتابه ، وأما الذي ذكرتم من تركه أمري وما أنا عليه ، فليس من أولئك ولا أعرفه (4) على ذلك ، وليت فيكم مثله اثنين ، بل ليت فيكم مثله واحدا ، يرى في عدوي مثل رأيه ، إذا لخفت مؤنتكم علي ، ورجوت أن يستقيم لي بعض أودكم (5) .
* * *
__________
(1) الخميس : الجيش الجرار ، سمي بذلك لانه خمس فرق : المقدمة والقلب والميمنة والميسرة والساق .
(2) كتاب صفين 597 ، 598 .
(3) تكملة من كتاب صفين .
(4) كتاب صفين : " وليس أتخوفه " .
(5) كتاب صفين 598 .
(*)(2/240)
قال نصر : وروى أبو عبد الله زيد الآودي أن رجلا منهم يقال له عمرو بن أوس ، قاتل مع علي عليه السلام يوم صفين ، فأسره معاوية في أسرى كثيرة ، فقال له عمرو بن العاص : اقتلهم ، فقال له عمرو بن أوس : لا تقتلني يا معاوية ، فإنك خالي ، فقامت إليه بنو أود (1) فاستوهبوه ، فقال : دعوه ، فلعمري إن كان صادقا فيما ادعاه من خئولتي إياه ليستغنين عن شفاعتكم ، وإلا فشفاعتكم من ورائه ، ثم استدناه ، فقال : من أين أنا خالك ؟ فو الله ما بين بني عبد شمس وبين أود من مصاهرة ، قال : فإن أخبرتك فعرفت ، فهو أمان عندك ؟ قال : نعم ، قال : أ ليست أم حبيبة (2) أختك أم المؤمنين ؟ فأنا ابنها وأنت أخوها ، فأنت إذا خالي ! فقال معاوية : لله أبوه ! أ ما كان في هؤلاء الاسرى من يفطن إلى هذا غيره ! ثم خلى سبيله (3) .
* * * وروى إبراهيم بن الحسين بن على الكسائي المعروف بابن ديزيل الهمداني ، في " كتاب صفين " ، قال : حدثنا عبد الله بن عمر ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، قال : دعا معاوية بن أبي سفيان عمرو بن العاص ، ليبعثه حكما ، فجاء وهو متحزم ، عليه ثيابه وسيفه ، وحوله أخوه وناس من قريش ، فقال له معاوية : يا عمرو ، إن أهل الكوفة أكرهوا عليا على أبي موسى وهو لا يريده و ، نحن بك راضون ، وقد ضم إليك رجل طويل اللسان ، كليل المدية ، وله بعد حظ من دين ، فإذا قال فدعه يقل ، ثم قل فأوجز واقطع المفصل ، ولا تلقه بكل رأيك ، واعلم أن خبء (4) الرأي زيادة في العقل ، فإن خوفك بأهل العراق فخوفه بأهل الشام ، وإن خوفك بعلي فخوفه بمعاوية ، وإن
__________
(1) أود : بطن من قيس عيلان .
(2) أم حبيبة ، هي رملة بنت أبي سفيان .
(3) كتاب صفين 594 ، 595 .
(4) الخبء : ما خبئ وغاب من الشئ .
وفي ج : " خبئ " .
(*)(2/241)
خوفك بمصر فخوفه باليمن ، وإن أتاك بالتفصيل فأته بالجمل .
فقال له عمرو : يا معاوية ، أنت وعلي رجلا قريش ، ولم تنل في حربك ما رجوت ، ولم تأمن ما خفت ، ذكرت أن لعبد الله دينا ، وصاحب الدين منصور ، وأيم الله لافنين (عليه) (1) علله ، ولاستخرجن خبأه (2) ، ولكن إذا جاءني بالايمان والهجرة ومناقب علي ، ما عسيت أن أقول ! قال : قل ما ترى ، فقال عمرو : وهل تدعني وما أرى ! وخرج مغضبا كأنه كره أن يوصى ثقة بنفسه ، وقال لاصحابه حين خرج : إنما أراد معاوية أن يصغر أمر أبي موسى ، لانه علم أني خادعه غدا ، فأحب أن يقول : إن عمرا لم يخدع أريبا ، فقد كدته بالخلاف عليه .
وقال في ذلك شعرا : يشجعني معاوية بن حرب * * كأني للحوادث مستكين وإني عن معاوية غني * * بحمد الله والله المعين وهون أمر عبد الله عمدا * * وقال له على ما كان دين فقلت له ولم أردد عليه * * مقالته وللشاكي أنين ترى أهل العراق يذب عنهم * * وعن جيرانهم رجل مهين فلو جهلوه لم يجهل علي * * وغث القول يحمله السمين ولكن خطبه فيهم عظيم * * وفضل المرء فيهم مستبين فان أظفر فلم أظفر بوغد * * وإن يظفر فقد قطع الوتين .
فلما بلغ معاوية شعره ، غضب من ذلك وقال : لو لا مسيره لكان لي فيه رأي ! فقال له عبد الرحمن بن أم الحكم : أما والله إن أمثاله في قريش لكثير ، ولكنك ألزمت نفسك الحاجة إليه ، فألزمها الغناء عنه ، فقال له معاوية : فأجبه عن شعره ، فقال عبد الرحمن يعيره بفراره من علي يوم صفين
__________
(1) تكملة من ج .
(2) ج : " خبيئه " .
(*)(2/242)
ألا يا عمرو عمرو قبيل سهم * * أمن طب أصابك ذا الجنون دع البغي الذي أصبحت فيه * * فإن البغي صاحبه لعين ألم تهرب بنفسك من علي * * بصفين وأنت بها ضنين حذارا أن تلاقيك المنايا * * وكل فتى سيدركه المنون ولسنا عائبين عليك إلا * * لقولك إنني لا أستكين .
* * * قال نصر : ثم إن الناس أقبلوا على قتلاهم فدفنوهم .
قال : وقد كان عمر بن الخطاب دعا في خلافته حابس بن سعد الطائي ، فقال له : إني أريد أن أوليك قضاء حمص ، فكيف أنت صانع ! قال أجتهد رأيي وأستشير جلسائي ، قال : فانطلق إليها .
فلم يمش (1) إلا يسيرا حتى رجع ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إني رأيت رؤيا أحببت أن أقصها عليك ، قال : هاتها ، قال : رأيت كأن الشمس أقبلت من المشرق ، ومعها جمع عظيم ، وكأن القمر قد أقبل من المغرب ومعه جمع عظيم ، فقال له عمر : مع أيهما كنت ؟ قال : كنت مع القمر ، قال : كنت مع الآية الممحوة ، اذهب فلا والله لا تلي لي عملا ، ورده .
فشهد مع معاوية صفين ، وكانت راية طيئ معه ، فقتل يومئذ ، فمر به عدي بن حاتم ، ومعه ابنه زيد ، فرآه قتيلا ، فقال له : يا أبت هذا والله خالي ، قال : نعم ، لعن الله خالك ! فبئس والله المصرع مصرعه ! فوقف زيد وقال : من قتل هذا الرجل ؟ مرارا ، فخرج إليه رجل من بكر بن وائل ، طوال يخضب ، فقال : أنا قتلته ، فقال له : كيف صنعت به ؟ فجعل يخبره ، فطعنه زيد بالرمح فقتله ، وذلك بعد أن وضعت الحرب أوزارها ، فحمل عليه عدي أبوه يسبه ويشتم (2) أمه ، ويقول : يابن المائقة ، لست على دين محمد إن لم أدفعك إليهم ، فضرب
__________
(1) صفين : " فلم يمض " .
(2) صفين : " ويسب أمه " .
(*)(2/243)
زيد فرسه فلحق بمعاوية ، فأكرمه وحمله وأدنى مجلسه ، فرفع عدي يديه فدعا عليه ، وقال : اللهم إن زيدا قد فارق المسلمين ، ولحق بالملحدين (1) ، اللهم فارمه بسهم من سهامك لا يشوي (2) ، (أو قال لا يخطئ ، فإن رميتك لا تنمي) (3) ، والله لا أكلمه من رأسي كلمة أبدا ، ولا يظلني وإياه سقف أبدا .
وقال زيد في قتل البكري : من مبلغ أبناء طي ى بأنني * * ثأرت بخالي ثم لم أتأثم تركت أخا بكر ينوء بصدره * * بصفين مخضوب الجبين من الدم (4) وذكرني ثأري غداة رأيته * * فأوجرته رمحي فخر على الفم لقد غادرت أرماح بكر بن وائل * * قتيلا عن الاهوال ليس بمحجم قتيلا يظل الحي يثنون بعده * * عليه بأيد من نداه وأنعم لقد فجعت طي بحلم ونائل * * وصاحب غارات ونهب مقسم لقد كان خالي ليس خال كمثله * * دفاعا لضيم واحتمالا لمغرم (5) .
قال نصر : وروى الشعبي ، عن زياد بن النضر أن عليا عليه السلام بعث أربعمائة ، عليهم شريح بن هانئ الحارثي ، ومعه عبد الله بن عباس يصلى بهم ، (ويلي أمورهم) (6) ، ومعهم أبو موسى الاشعري ، وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة (7) ، ثم إنهم
__________
(1) صفين : " المحلين " .
(2) أشوى : رمى فأصاب الشوى ، وهي الاطراف ، ولم يصب المقتل .
(3) تكملة من كتاب صفين .
ويقال : أنمى الصيد ، إذا رماه فأصابه ، ثم ذهب عنه فمات .
(4) صفين : " مخضوب الجيوب " .
(5) صفين 599 - 600 ، والمغرم : الدية .
(6) من كتاب صفين .
(7) في كتاب صفين بعد هذه الكلمة : " قال : فكان إذا كتب علي بشئ أتاه أهل الكوفة فقالوا : ما الذي كتب به إليك أمير المؤمنين ؟ فيكتمهم ، فيقولون له : كتمتنا ما كتب به إليك ! إنما كتب في كذا وكذا .
ثم يجئ رسول معاوية إلى عمرو بن العاص فلا يدري في أي شئ جاء ، ولا في أي شئ ذهب ، ولا يسمعون حول صاحبهم لغطا ، فأنب ابن عباس أهل الكوفة بذاك وقال : إذا جاء رسول قلتم بأي شئ جاء ؟ فإن كتمتكم قلتم : لم تكتمنا ؟ جاء بكذا وكذا ، فلا تزالون توقفون وتقاربون حتى تصيبوا ، فليس لكم سر ! " .
(*)(2/244)
خلوا بين الحكمين فكان رأى عبد الله بن قيس (أبو موسى (1)) في عبد الله بن عمر بن الخطاب ، وكان يقول : والله إن استطعت لاحيين سنة عمر (2) .
* * * قال نصر : وفي حديث محمد بن عبيد الله ، عن الجرجاني قال : لما أراد أبو موسى المسير ، قام إليه شريح بن هانئ ، فأخذ بيده ، وقال : يا أبا موسى ، إنك قد نصبت لامر عظيم لا يجبر صدعه ، ولا تستقال فتنته (3) ، ومهما تقل من شئ عليك أو لك ، يثبت حقه وتر صحته وإن كان باطلا ، وإنه لا بقاء لاهل العراق إن ملكهم معاوية ، ولا بأس على أهل الشام إن ملكهم علي ، وقد كانت منك تثبيطة أيام الكوفة والجمل ، فإن تشفعها بمثلها يكن الظن بك يقينا ، والرجاء منك يأسا ، ثم قال له شريح في ذلك شعرا : أبا موسى رميت بشر خصم * * فلا تضع العراق فدتك نفسي وأعط الحق شامهم وخذه * * فإن اليوم في مهل كأمس وإن غدا يجئ بما عليه * * كذاك الدهر من سعد ونحس ولا يخدعك عمرو إن عمرا * * عدو الله مطلع كل شمس له خدع يحار العقل منها * * مموهة مزخرفة بلبس فلا تجعل معاوية بن حرب * * كشيخ في الحوادث غير نكس هداه الله للاسلام فردا * * سوى عرس النبي ، وأي عرس ! (4) فقال أبو موسى : ما ينبغي لقوم اتهموني أن يرسلوني لادفع عنهم باطلا ، أو أجر إليهم حقا .
* * *
__________
(1) من كتاب صفين .
كتاب صفين 614 .
(3) كتاب صفين : " ولا يستقال فتقه " .
(4) كتاب صفين : * سوى بنت النبي وأي عرس * (*)(2/245)
وروى المدائني (1) في " كتاب صفين " ، قال : لما أجمع أهل العراق على طلب أبي موسى ، وأحضروه للتحكيم على كره من علي عليه السلام ، أتاه عبد الله بن العباس ، وعنده وجوه الناس واشرافهم فقال له يا ابا موسى ان الناس لم يرضوا بك ولم يجتمعوا عليك لفضل لا تشارك فيه وما أكثر اشباهك من المهاجرين والانصار والمتقدمين قبلك ولكن أهل العراق أبوا إلا أن يكون الحكم يمانيا ورأوا أن (2) معظم أهل الشام يمان وايم الله انى لاظن ذلك شرا لك ولنا فانه قد ضم اليك داهيه العرب وليس في معاويه خله يستحق بها الخلافه فإن تقذف بحقك على باطله تدرك حاجتك منه وإن يطمع باطله في حقك وأن أباه رأس الاحزاب وأنه يدعى الخلافه من غير مشوره ولا بيعه فان زعم لك أن عمر وعثمان استعملاه فلقد صدق استعمله عمر وهو الوالى عليه بمنزله الطبيب يحميه ما يشتهى ويوجره ما يكره ثم استعمله عثمان برأى عمر وما أكثر من استعملا ممن لم يدع الخلافه واعلم ان لعمرو مع كل شئ يسرك خبيئا يسوءك ومهما نسيت فلا تنس أن عليا بايعه القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان وأنها بيعه هدى وأنه لم يقاتل إلا العاصين والناكثين فقال أبو موسى رحمك الله والله ما لى إمام غير على وإنى لواقف عند ما رأى وإن حق الله أحب إلى من رضا معاويه وأهل الشام وما أنت وأنا إلا الله .
وروى البلاذرى (3) في كتاب أنساب الاشراف قال قيل لعبد الله بن عباس
__________
(1) هو أبو الحسن على بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف المدائني صاحب النصانيف الكثيرة في السيرة وأخبار القبائل والخلفاء والفتوح والمغازى وغيرها توفى سنة 215 .
الفهرست لابن النديم 100 - 104 (2) كذا في ب ج وفى الان .
(3) هو أبو جعفر بن يحيى بن جابر البلاذرى صاحب البلدان وأنساب الاشراف توفى سنة 279 .
الفهرست 113 ، ومعجم الادباء 9 : 85 .
(*)(2/246)
ما منع عليا ان يبعثك مع عمرو يوم التحكيم فقال منعه حاجز القدر ومحنه الابتلاء وقصر المده اما والله لو كنت لقعدت على مدارج انفاسه ناقضا ما ابرم ومبرما ما نقض أطير إذا أسف وأسف إذا طار ولكن قد سبق قدر وبقى أسف ومع اليوم غد والاخره خير لامير المؤمنين .
وذكر البلاذرى أيضا قال قام عمرو بن العاص بالموسم فاطرى معاويه وبنى أميه وتناول بنى هاشم وذكر مشاهده بصفين ويوم ابى موسى فقام إليه ابن عباس فقال يا عمرو إنك بعت دينك من معاويه فاعطيته ما في يدك ومناك ما في يد غيره فكان الذى أخذه منك فوق الذى أعطاك وكان الذى أخذت منه دون ما أعطيته وكل راض بما أخذ وأعطى فلما صارت مصر في يدك تتبعك بالنقض عليك والتعقب لامرك ثم بالعزل لك حتى لو أن نفسك في يدك لارسلتها وذكرت يومك مع أبى موسى فلا أراك فخرت إلا بالغدر ولا منيت إلا بالفجور والغش وذكرت مشاهدك بصفين فو الله ما ثقلت علينا وطاتك ولا نكات فينا جرأتك ولقد كنت فيها طويل اللسان قصير البنان آخر الحرب إذا اقبلت وأولها إذا أدبرت لك يدان يد لا تقبضها عن شر ويد لا تبسطها إلى خير ووجهان وجه مؤنس ووجه موحش ولعمري إن من باع دينه بدنيا غيره لحرى حزنه على ما باع واشترى أما إن لك بيانا ولكن فيك خطل وإن لك لرأيا ولكن فيك فشل وإن أصغر عيب فيك لاعظم عيب في غيرك .
قال نصر وكان النجاشي الشاعر صديقا لابي موسى فكتب إليه يحذره من عمرو بن العاص يؤمل أهل الشام عمرا وإنني لامل عبد الله عند الحقائق(2/247)
وإن أبا موسى سيدرك حقنا * إذا ما رمى عمرا بإحدى البوائق (1) فلله ما يرمى العراق وأهله * به منه إن لم يرمه بالصواعق (2) فكتب إليه أبو موسى إنى لارجو أن ينجلى هذا الامر ، وأنا فيه على رضا الله سبحانه .
قال نصر ثم إن شريح بن هانئ جهز أبا موسى جهازا حسنا ، وعظم أمره في الناس ليشرف في قومه ، فقال الاعور الشنى في ذلك يخاطب شريحا : زففت ابن قيس زفاف العروس * شريح إلى دومة الجندل وفى زفك الاشعري البلاء * وما يقض من حادث ينزل وما الاشعري بذى اربة * ولا صاحب الخطة الفيصل (3) ولا آخذا حظ أهل العراق * ولو قيل ها خذه لم يفعل يحاول عمرا وعمرو له * خدائع يأتي بها من على فإن يحكما بالهدى يتبعا وإن يحكما بالهوى الاميل يكونا كتيسين في قفرة أكيلى نقيف من الحنظل (4) فقال شريح : والله لقد تعجلت رجال مساءتنا في أبى موسى وطعنوا عليه بأسوا (5) الطعن ، وظنوا ف 4 يه ما الله عصمه (6) منه ، إن شاء الله
__________
(1) كتاب صفين 615 : (الصواعق) .
وبعده فيه : وحققه حتى يدر وريده * ونحن على ذاكم كأحنق حانق على عمرا لا يشق غباره * إذا ما جرى بالجهد أهل السوابق (2) صفين : (صاحب الخطبة) (3) صفين : (صاحب الخطبة) (4) الحنظل المقوف : الذى يكسر ليستخرج حبه .
(5) كتاب صفين : (بسوء الظن) (6) صفين : (عاصمه) .
(*)(2/248)
قال : وسار مع عمرو بن العاص شرحبيل بن السمط في خيل عظيمة حتى إذا أمن عليه خيل أهل العراق ودعه ، ثم قال له : يا عمرو انك رجل قريش وإن معاوية لم يبعثك إلا لعلمه انك لا تؤتى من عجز ولا مكيدة وقد عرفت أنى وطأت هذا الامر لك ولصاحبك فكن عند ظنى بك ثم انصرف وانصرف شريح بن هانئ حين أمن خيل أهل الشام على ابى موسى ، وودعه .
وكان آخر من ودع أبا موسى الاحنف بن قيس اخذ بيده ، ثم قال له يا أبا موسى ، اعرف خطب هذا الامر واعلم أن له ما بعده ، وانك إن أضعت العراق فلا عراق اتق الله فإنها تجمع لك دنياك وآخرتك وإذا لقيت غدا عمرا فلا تبدأه بالسلام فإنها وان كانت سنة إلا أنه ليس من أهلها ولا تعطه يدك فإنها أمانة ، وإياك أن يقعدك على صدر الفراش فإنها خدعه ، ولا تلقه إلا وحده .
واحذر أن يكلمك في بيت فيه (2) مخدع تخبأ لك فيه الرجال والشهود ثم أراد أن يثور (1) ما في نفسه لعلى : فقال له ، فإن لم يستقم لك عمرو على الرضا بعلى ، فليختر أهل العراق من قريش الشام من شاءوا ، أو فليختر أهل الشام من قريش العراق من شاءوا .
فقال أبو موسى : قد سمعت ما قلت ولم ينكر ماقاله من زوال الامر عن على فرجع الاحنف إلى على (ع) فقال له : أخرج أبو موسى والله زبدة سقائه في اول مخضه ، لاأرانا إلا بعثنا رجلا لا ينكر خلعك .
فقال على : الله غالب على أمره (3) .
قال نصر : وشاع وفشا أمر الاحنف وأبى موسى في الناس ، فبعث الصلتان العبدى وهو بالكوفة إلى دومة الجندل بهذه الابيات
__________
(1) بثور : يختبر) ، وفى ا ، ب ، (يبلو) ، وفى صفين : (يبور) وكلمه بمعنى .
(2) ا ، ج ، (له) .
(3) كتاب صفين .
61 - 613 .
(*)(2/249)
لعمرك لا الفى مدى الدهر خالعا * عليا بقول الاشعري ولاعمرو فإن يحكما بالحق نقبله منهما * والا اثرناها كراغية البكر (1) ولسنا نقوالدهر ذاك اليهما ، وفى ذاك لو قلناه قاصمة الظهر ولكن نقول الامر والنهى كله * إليه ، وفى كفيه عاقبه الامر وما اليوم إلا مثل أمس وإننا * لفى وشل الضحضاح أو لجه البحر (2) .
قال فلما سمع الناس قول الصلتان شحذهم ذلك على أبى موسى ، واستبطاه القوم وظنوا به الظنون ومكث الرجلان بدومة الجندل لا يقولان شيئا .
وكان سعد بن أبى وقاص قد اعتزل عليا ومعاوية ونزل على ماء لبنى سليم بارض البادية يتشوف (3) الاخبار ، وكان رجلا له بأس وراى ومكان في قريش ولم يكن له هوى في على ولا في معاوية ، فأقبل راكب يوضع (4) من بعيد فإذا هو ابنه عمر فقال له أبوه مهيم (5) ! فقال التقى الناس بصفين فكان بينهم ما قد بلغك حتى تفانوا ثم حكموا عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص وقد حضر ناس من قريش عندهما ، وأنت من أصحاب رسول الله (ص) ومن أهل الشورى ، ومن قال له النبي (ص) : (اتقوا دعوته) ، ولم تدخل في شى مما تكره الامه ، فاحضر دومة الجندل فإنك صاحبها غدا فقال : مهلا يا عمر ، إنى سمعت رسول الله (ص) يقول : (تكون بعدى فتنه خير الناس فيها التقى الخفى) وهذا أمر لم أشهد أوله فلا اشهد آخره ،
__________
(1) الراغيته : الرغاء ، والبكر : ولد النافة المضاف والمنسوب ص 284 : (راغية البكر ، من أمثال العرب ، وعن أبى عمرو .
قولهم : كانت عليهم كراغية البكر ، أي استؤصلوا اسنئالا ، يعنون رغاءبكر ثمود حين عقر الناقة قدار .
(2) الوشل : المقدار اليسير من الماء .
(3) ينشوف الاخبار ، أي يتطلع إليها .
(4) يوضع في سيره .
يسرع (5) مهيم ، أي ما وراءك وما وراءك وما حالك ؟ وهى كلمة استفهام بلعة اليمن .
(*)(2/250)
ولو كنت غامسا يدى في هذا الامر لغمستها مع على بن أبى طالب (1) ، وقد رأيت أباك كيف وهب حقه من الشورى ، وكره الدخول في الامر .
فارتحل عمر استبان له أمر أبيه .
قال نصر : وقد كان الاجناد (2) أبطات على معاوية ، فبعث إلى رجال من قريش كانوا كرهوا ان يعينوه في حربه : إن الحرب قد وضعت أوزارها ، والتقى هذان الرجلان في دومة الجندل ، فاقدموا على .
فأتاه عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر بن الخطاب وأبوالجهم بن حذيفه العدوى ، وعبد الرحمن بن عبد يغوث الزهري ، وعبد الله بن صفوان الجمحى .
وأتاه المغيرة بن شعبة ، وكان مقيما بالطائف لم يشهد الحرب ، فقال له : يا مغيرة ما ترى ؟ قال : يا معاوية ، لو وسعنى أن أنصرك لنصرتك ، ولكن على أن آتيك بأمر الرجلين .
فرحل حتى أتى دومة الجندل فدخل على أبى موسى كالزائر له ، فقال : يا أبا موسى ما تقول فيمن اعتزل هذا الامر وكره الدماء ؟ قال : أولئك خير (3) الناس ، خفت ظهورهم من دمائهم ، وخمصت بطونهم من أموالهم ثم أتى عمرا ، فقال : يا ابا عبد الله ، ما تقول فيمن اعتزل هذا الامر ، وكره الدماء ؟ قال : اولئك شرار الناس لم يعرفوا حقا ، ولم ينكروا باطلا .
فرجع المغيرة إلى معاوية ، فقال له : قد ذقت الرجلين ، أما عبد الله
__________
(1) كتاب وقعة صفين بعد هذه الكلمة : (قد رأيت القوم حملوني على حد السيف فاخترته على النار ، فأقم أيك ليلتك هذه ، فراجعه حتى طمع الشيخ ، فلما جنه الليل رفع صوته ليسمع ابنه ، فقال ..) وذكر أبياتا مطلعها : دعوت أباك اليوم والله للذى * دعاني إليه القوم والامر مقبل (2) وقعة صفين : (الاخبار) (3) وقعة صفين : (خيار) (*)(2/251)
ابن قيس ، فخالع صاحبه ، وجاعلها لرجل لم يشهد هذا الامر وهواه في (1) عبد الله ابن عمر ، وأما عمرو بن العاص فهو صاحب الذى تعرف وقد ظن الناس أنه يرومها لنفسه وأنه لا يرى انك احق بهذا الامر منه قال نصر في حديث عمرو بن شمر قال : أقبل أبو موسى ألى عمرو ، فقال (2) يا عمرو هل لك في أمر هو للامة صلاح ، ولصلحاء الناس رضا ؟ نولي هذا الامر عبد الله بن عمر بن الخطاب ، الذى لم يدخل في شئ من هذه الفتنة ولا هذه الفرقة .
قال : وكان عبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن الزبير قريبين يسمعان هذا الكلام ، فقال عمرو فأين أنت يا أبا موسى عن معاوية ؟ فأبى عليه أبو موسى قال : وشهدهم عبد الله بن هشام وعبد الرحمن بن الاسود بن عبد يغوث وأبوالجهم بن حذيفه العدوى والمغيره ابن شعبة (1) ، فقال عمرو : الست تعلم أن عثمان قتل مظلوما ؟ قال : بلى ، قال : اشهد (3) ، ثم قال : فما يمنعك من معاوية وهو ولى عثمان وقد قال الله تعالى : ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا (4) ؟ ثم أن بيت معاوية من قريش ما قد علمت ، فإن خشيت أن يقول الناس ولى معاوية وليست له سابقه فإن لك حجة أن تقول : وجدته ولى عثمان الخليفه المظلوم ، والطالب بدمه ، الحسن السياسة ، الحسن التدبير ، وهو أخو أم حبيبة أم المؤمنين ، وزوج النبي (ص) ، وقد صحبه ، وهو أحد الصحابة .
ثم عرض له بالسلطان ، فقال له : إن هو ولى الامر أكرمك كرامة لم يكرمك أحد قط مثلها فقال أبو موسى اتق الله يا عمرو ، أما ما ذكرت من شرف معاوية ، فإن هذا
__________
(1) من كتاب صفين (2) وقعة صفين 62 - 621 (3) صفين : (اشهدوا) (4) سورة الاسراء (*)(2/252)
الامر ليس على الشرف يولاه أهله لو كان على الشرف كان أحق الناس بهذا الامر أبرهه بن الصباح ، إنما هو لاهل الدين والفضل ، مع أنى لو كنت أعطيه أفضل قريش شرفا لاعطيته على بن أبى طالب وأما قولك : إن معاوية ولى عثمان فوله هذا الامر فإنى لم أكن أوليه إياه لنسبته من عثمان ، وادع المهاجرين الاولين ! وأما تعريضك لى بالامرة والسلطان فو الله لو خرج لى من سلطانه ما وليته ، وما كنت أرتشى في الله ولكنك إن شئت أحيينا سنة عمر بن الخطاب .
قال نصر : وحدثني عمر بن سعد عن أبى جناب أن أبا موسى قال غير مرة : والله إن استطعت لاحيين اسم عمر بن الخطاب ، قال : فقال عمرو بن العاص : إن كنت إنما تريد أن تبايع ابن عمر لدينة ، فما يمنعك من ابني عبد الله ، وانت تعرف فضله وصلاحه ! فقال إن ابنك لرجل صدق ، ولكنك قد غمسته في هذ ه الفتنة (!) قال نصر : وحدثنا عمر بن سعد ، عن محمد بن اسحاق ، عن نافع ، قال : قال أبو موسى لعمرو : يا عمرو ، إن شئت ولينا هذا الامر الطيب ابن الطيب ، عبد الله بن عمر فقال له عمرو يا أبا موسى ، إن هذا الامر لا يصلح له الا رجل له ضرس يأكل ويطعم ، وإن عبد الله ليس هناك .
قال نصر : وقد كان في أبى موسى غفلة ، فقال ابن الزبير لابن عمر : اذهب إلى عمرو بن العاص فارشه ، فقال ابن عمر : لا والله لا ارشو عليها بشئ أبدا ما عشت ، ولكنه قال له : إن العرب قد أسندت إليك أمرها بعد ما تقارعت بالسيوف ، وتطاعنت بالرماح ، فلا تردهم في فتنة واتق الله .
__________
(1) وقعة صفين 622 - 623 (*)(2/253)
قال نصر : وحدثنا عمر بن سعد ، عن أزهر العبسى عن النضر بن صالح ، قال : كنت مع شريح بن هانئ في غزوة سجستان فحدثني أن عليا (ع) أوصاه بكلمات إلى عمرو بن العاص ، وقال له : قل لعمرو إذا لقيتة : إن عليا يقول لك : إن أفضل الخلق عند الله من كان العمل بالحق احب إليه وإن نقصه ، وإن أبعد الخلق من الله من كان العمل بالباطل أحب إليه وإن زاده ، والله يا عمرو إنك لتعلم أين موضع الحق فلم تتجاهل ؟ أبان اوتيت طمعا يسيرا صرت لله ولاوليائه عدوا ! فكان ما قد أوتيت قد زال عنك ، فلا تكن للخائنين خصيما ، ولا للظالمين ظهيرا .
أما إنى أعلم أن يومك الذى أنت فيه نادم ، هو يوم وفاتك ، وسوف تتمنى أنك لم تظهر لى عداوة ، ولم تأخذ على حكم الله رشوة قال شريح : فابلغته ذلك يوم لقيته ، فتمعر وجهه (1) وقال : متى (2 كنت قابلا مشورة على أو منيبا إلى رأيه ، أو معتدا بأمره) ! فقلت : وما يمنعك يابن النابغة أن تقبل من مولاك وسيد المسلمين بعد نبيهم مشورته ! لقد كان من هو خير منك أبو بكر وعمر يستشيرانه ويعملان برأيه : فقال : إن مثلى لا يكلم مثلك ، فقلت : بأى أبويك ترغب عن كلامي ، ! بأبيك الوشيظ (3) أم بأمك النابغة ! فقام من مكانه وقمت (4) .
قال نصر : وروى أبو جناب الكلبى أن عمرا وأبا موسى لما التقيا بدومة الجندل أخذ عمرو يقدم أبا موسى في الكلام ، ويقول : إنك صحبت رسول الله (ص) قبلى ، وانت أكبر منى سنا ، فتكلم أنت ثم أتكلم أنا ، فجعل ذلك سنة وعادة بينهما
__________
(1) وقعة صفين : (فتمعروجه عمرو) .
وتمعر : تغير وجهه غيظا .
(2 - 2) وقعة صفين : (متى كنت أقبل مشورة على أو أنيب إلى أمره وأعتد برأيه !) (3) الوشيظ : الخسيس والتابع .
(4) وقعة صفين 624 (*)(2/254)
وإنما كان مكرا وخديعة واغترارا له أن يقدمه ، فيبدأ بخلع على ثم يرى رأيه .
وقال ابن ديزيل في كتاب صفين : أعطاه عمرو صدر المجلس ، وكان لا يتكلم قبله ، وأعطاه التقدم في الصلاة وفى الطعام ، لا يأكل حتى يأكل ، وإذا خاطبه فإنما يخاطبه بأجل الاسماء ، ويقول له : يا صاحب رسول الله ، حتى اطمان إليه ، وظن أنه لا يغشه .
قال نصر : فلما انمخضت الزبده بينهما ، قال له عمرو : اخبرني ما رأيك يا أبا موسى ؟ قال : أرى أن أنخلع هذين الرجلين ، ونجعل الامر شورى بين المسلمين ، يختارون من شاءوا ، فقال عمرو : الرأى والله ما رأيت .
فأقبلا إلى الناس وهم مجتمعون ، فتكلم أبو موسى ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إن رأيى ورأى عمرو قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح الله به شأن هذه الامة ، فقال عمرو : صدق ثم قال له : تقدم يا أبا موسى ، فتكلم ، فقام ليتكلم فدعاه ابن عباس ، فقال له : ويحك ! وإنى لاظنه خدعك ، إن كنتما قد اتفقتما على أمر فقدمه قبلك ليتكلم به ثم تكلم أنت بعده ، فإنه رجل غدار ، ولا آمن أن يكون قد أعطاك الرضا فيما بينك وبينه ، فإذا قمت قمت به في الناس خالفك .
وكان أبو موسى رجلا مغفلا ، فقال : إيها عنك إنا قد اتفقنا ! .
فتقدم أبو موسى ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، إنا قد نظرنا في أمر هذه الامة ، فلم نر شيئا هو أصلح لامرها ولا الم لشعثها من ألا تتباين امورها ، وقد أجمع رأيى ورأى صاحبي على خلع على ومعاوية ، وأن يستقبل هذا الامر ، فيكون شورى بين المسلمين ، يولون أمورهم من أحبوا ، وإنى قد خلعت عليا ومعاوية ، فاستقبلوا(2/255)
أموركم ، وولوا من رأيتموه لهذا الامر أهلا ثم تنحى .
فقام عمرو بن العاص في مقامه : فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إن هذا قد قال ما سمعتم ، وخلع صاحبه ، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه ، وأثبت صاحبي معاوية في الخلافة ، فإنه ولى عثمان ، والطالب بدمه ، وأحق الناس بمقامه .
فقال له أبو موسى : ما لك لا وفقك الله قد غدرت وفجرت ! إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث (1) فقال له عمرو : إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارا .
(2) وحمل شريح بن هانئ على عمرو فقنعه بالسوط ، وحمل ابن عمرو على شريح فقنعه بالسوط ، وقام الناس فحجزوا بينهما فكان شريح يقول بعد ذلك : ما ندمت على شئ ندامتي ألا أكون ضربت عمرا بالسيف بدل السوط ، أتى الدهر بما أتى به ! والتمس اصحاب على (ع) أبا موسى فركب ناقته ، ولحق بمكة وكان ابن عباس يقول : قبح الله أبا موسى ! لقد حذرته وهديته إلى الرأى فما عقل .
وكان أبو موسى يقول : لقد حذرني ابن عباس غدرة الفاسق ، ولكني اطماننت إليه وظننت أنه لا يؤثر شيئا على نصيحة الامة (3) .
قال نصر : (4 ورجع عمرو إلى منزله من دومة الجندل ، فكتب إلى معاوية 4) : أتتك الخلافه مزفوفة * هنيئا مريئا تقر العيونا
__________
(1) شورة الاعراف 176 (2) سورة الجمعة 5 (3) كتاب صفين 627 - 629 مع تصرف .
(4 - 4) العبارة كما وردت في كتاب صفين : ولما فعل ، واختلط الناس ، رجع إلى منزله ، مجهز را كبا إلى معاوية يخبر بالامر من أوله إلى آخره ، وكتب في كتاب على حده) .
(*)(2/256)
تزف اليك زفاف العرو س (1) * بأهون من طعنك الدارعينا وما الاشعري بصلد الزناد * ولا خامل الذكر في الاشعرينا ولكن أتيحت له حية * يظل الشجاع لها مستكينا فقالوا وقلت وكنت امرا * اجهجه بالخصم حتى يلينا (2) فخذها ابن هند على بعدها * (3) فقد دافع الله ما تحذرونا وقد صرف الله عن شامكم * عدوا مبينا وحربا زبونا (4) قال نصر : فقام سعد بن قيس الهمداني ، وقال : ولله لو اجتمعتما على الهدى ما زدتمانا على ما نحن الان عليه ، وما ضلالكما بلازم لنا ، وما رجعتما إلا بما بداتما به ، وإنا اليوم لعلى ما كنا عليه أمس .
وقام كردوس بن هانئ مغضبا ، فقال (5) : ألا ليت من يرضى من الناس كلهم * بعمرو وعبد الله في لجه البحر رضينا بحكم الله لا حكم غيره * وبالله ربا والنبى وبالذكر وبالاصلع الهادى على امامنا * رضينا بذاك الشيخ في العسر واليسر رضينا به حيا وميتا وأنه * امام هدى في الحكم والنهى والامر فمن قال لا قلنا بلى إن امره * لافضل ما نعطاه في ليلة القدر وما لابن هند بيعة في رقابنا * وما بيننا غير المثقفة السمر
__________
(1) كتاب صفين (كزف العروس) .
(2) أجهجه : قال الجوهرى : (جهحهت بالسبع ، صحت به لينكف .
(3) كتاب صفين : (على بأسها) (4) كتاب صفين : (عدواشنيا) .
وحرب زبون : تزبن الناس ، أي تصدمهم وتدفهم .
(5) عبارة كتاب صفين : (وتكلم الناس غير الاشعث بن قيس ، وتكلم كردوس بن هاني ، فقال : أما والله إنى الظنك أول راض بهذا الامر يا أخا ربيعة ، فغضب كردوس فقال) .
(*)(2/257)
وضرب يزيل الهام عن مستقره * وهيهات هيهات الرضا آخر الدهر ! أبت لى اشياخ الاراقم سبة * أسب بها حتى أغيب في القبر (1) .
وتكلم يزيد بن اسد القسرى - وهو من قواد معاوية - فقال : يا أهل العراق ، اتقوا الله ، فإن أهون ما تردنا وإياكم إليه الحرب ما كنا عليه بالامس ، وهو الفناء ، وقد شخصت الابصار إلى الصلح ، وأشرفت الانفس على الفناء ، وأصبح كل امرئ يبكى على قتيل ، ما لكم رضيتم بأول أمر صاحبكم وكرهتم آخره ! إنه ليس لكم وحدكم الرضا .
قال : وقال بعض الاشعريين لابي موسى (2) : أبا موسى خدعت وكنت شيخا * قريب القعر مدهوش الجنان رمى عمرو صفاتك يا ابن قيس * بامر لا تنوء به اليدان وقد كنا نجمجم عن ظنون * فصرحت الظنون عن العيان فعض الكف من ندم وماذا * يرد عليك عضك بالبنان .
قال : وشمت أهل الشام بأهل العراق ، وقال كعب بن جعيل شاعر معاوية : وكان أبو موسى عشيه أذرح * يطوف بلقمان الحكيم يواربه (3) ولما تلاقوا في تراث محمد * نمت بابن هند في قريش مناسبه (4) سعى بابن عفان ليدرك ثاره * وولى عباد الله بالثار طالبه
__________
(1) الاراقم : حى في تغلب ، والسبة : العار .
(2) في كتاب صفين : (فتشاءم عمرو وأبو موسى من ليلته ، فإذا ابن عم لابي موسى يقول) .
(3) كتاب صفين ومعجم البلدان 1 - 162 : (كأن أبا موسى) وأذرح : بلد في أطراف الشام مجاورة لارض الحجاز ، وكان فيها أمر الحسكمين في أحد القولين 7 وثانيهما في دومة الجندل .
ويعنى بلقمان الحسكيم عمرو بن العاس .
(4) كتاب صفين وياقوت : (مضاربه) (*)(2/258)
وقد غشيتنا في الزبير غضاضه * وطلحة إذ قامت عليه نوادبه فرد ابن هند ملكه في نصابه * ومن غالب الاقدار فالله غالبه وما لابن هند من لؤى بن غالب * نظير وإن جاشت عليه أقاربه فهذاك ملك الشام واف سنامه * وهذاك ملك القوم قد جب غاربه يحاول عبد الله عمرا وإنه * ليضرب في بحر عريض مذاهبه دحا دحوة في صدره فهوت به * إلى أسفل الجب الظنون كواذبه (1) .
قال نصر : وكان على (ع) لما خدع عمرو أبا موسى بالكوفة ، كان قد دخلها منتظرا ما يحكم به الحكمان ، فلما تم على أبى موسى ما تم من الحيله ، غم ذلك عليا وساءه ، ووجم له ، وخطب الناس ، فقال : (الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح والحدث الجليل ...
) الخطبه التى ذكرها الرضى رحمه الله تعالى ، وهى التى نحن في شرحها ، وزاد في آخرها بعد الاستشهاد ببيت دريد : (ألا إن هذين الرجلين اللذين اخترتموهما قد نبذا حكم الكتاب وأحييا ما أمات واتبع كل واحد منهما هواه ، وحكم بغير حجة ولا بينة ولا سنة ماضية واختلفا فيما حكما ، فكلاهما لم يرشد الله .
فاستعدوا للجهاد ، وتأهبوا للمسير ، واصبحوا في معسكركم يوم كذا)
__________
(1) كتاب صفين : * إلى أسفل المهوى ظنون كواذبه * فرد عليه رجل من أصحاب على فقال : غدر تم وكان منكم سجية * فما ضرنا غدر اللئيم وصاحبه وسميتم شر البرية مؤمنا * كذبتم فشر الناس كاذبه (*)(2/259)
قال نصر : فكان على (ع) بعد الحكومة ، إذا صلى الغداة والمغرب ، وفرغ من الصلاة وسلم ، قال : اللهم العن معاوية ، وعمرا ، وأبا موسى ، وحبيب بن مسلمة ، وعبد الرحمن بن خالد ، والضحاك بن قيس ، والوليد بن عقبة فبلغ ذلك معاوية ، فكان إذا صلى لعن عليا ، وحسنا ، وحسينا ، وابن عباس ، وقيس بن سعد بن عبادة ولاشتر وزاد ابن ديزيل في أصحاب معاوية أبا الاعور السلمى .
وروى إبن ديزيل أيضا أن أبا موسى كتب من مكة إلى على (ع) : اما بعد ، فإنى قد بلغني أنك تلعنني في الصلاة ويؤمن خلفك الجاهلون ، وإنى أقول كما قال موسى (ع) : (رب بما أنعمت على فلن أكون ظهيرا للمجرمين) .
(1) وروى ابن ديزيل ، عن وكيع ، عن فضل بن مرزوق ، عن عطية ، عن عبد الرحمن بن حبيب ، عن على (ع) ، أنه قال : يؤتى بى وبمعاوية يوم القيامة ، فنجئ ونختصم عند ذى العرش ، فأينا فلج فلج أصحاب .
وروى أيضا عن عبد الرحمن بن نافع القارئ ، عن أبيه ، قال : سئل على (ع) عن قتلى صفين ، فقال : إنما الحساب على وعلى معاوية وروى أيضا عن الاعمش عن موسى بن طريف ، عن عباية (2) ، قال سمعت عليا (ع) ، وهو يقول : أنا قسيم النار ، هذا لى وهذا لك .
وروى أيضا عن أبى سعيد الخدرى ، قال : قال رسول الله (ص) : لا تقوم الساعه حتى تقتتل فئتان عظيمتان ، دعوتهما واحدة ، فبينما هم كذلك مرقت منهم مارقة ، يقتلهم أولى الطائفتين بالحق .
__________
(1) سورة القصص 17 (2) عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج الانصاري (*)(2/260)
قال إبراهيم بن ديزيل : وحدثنا سعيد بن كثير ، عن عفير ، قال : حدثنا ابن لهيعة ، عن ابن هبيرة ، عن حنش الصنعانى ، قال : جئت إلى أبى سعيد الخدرى ، وقد عمى فقلت : أخبرني عن هذه الخوارج ، فقال : تأتوننا فنخبركم ، ثم ترفعون ذلك إلى معاوية ، فيبعث إلينا بالكلام الشديد ! قال : قلت : أنا حنش ، فقال : مرحبا بك يا حنش المصرى ، سمعت رسول الله (ص) ، يقول ، يخرج ناس يقرءون القرآن ، لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، ينظر أحدكم في نصله ، فلا يرى شيئا ، فينظر في قذذه (1) فلا يرى شيئا ، سبق الفرث والدم ، يصلى بقتالهم أولى الطائفتين بالله ، فقال حنش : فإن عليا صلى بقتالهم ، فقال أبو سعيد : وما يمنع عليا أن يكون أولى الطائفتين بالله ! وذكر محمد بن القاسم بن بشار الانباري في أماليه ، قال : قال عبد الرحمن بن خالد بن الوليد : حضرت الحكومة ، فلما كان يوم الفصل جاء عبد الله بن عباس ، فقعد إلى جانب أبى موسى وقد نشر اذنيه ، حتى كاد أن ينطق بهما ، فعلمت أن الامر لا يتم لنا ما دام هناك ، وأنه سيفسد على عمرو حيلته ، فأعملت المكيدة في أمره ، فجئت حتى قعدت عنده ، وقد شرع عمرو وأبو موسى في الكلام ، فكلمت ابن عباس كلمة استطعمته جوابها فلم يجب ، فكلمته أخرى فلم يجب ، فكلمته ثالثه ، فقال : إنى لفى شغل عن حوارك الان ، فجبهته ، وقلت : يا بنى هاشم ، لا تتركون بأوكم (2) وكبركم أبد ا ! أما والله لو لا مكان النبوة لكان لى ولك شأن ، قال : فحمى وغضب ، واضطرب فكر ه ورأيه وأسمعني كلاما يسوء سماعه ، فأعرضت عنه ، وقمت فقعدت إلى جانب عمرو بن العاص ، فقلت : قد كفيتك التقوالة (3) ، أنى قد شغلت باله بما دار بينى وبينه ، فأحكم أنت أمرك ، قال :
__________
(1) القدذ جمع قذة ، وهى : ريش (2) لبأو : التفاخر .
(3) التقوالة : الكثير القول .
(*)(2/261)
فذهل والله ابن عباس عن الكلام الدائر بين الرجلين ، حتى قام أبو موسى ، فخلع عليا .
وروى الزبير بن بكار في الموفقيات ورواه جميع الناس ممن عنى بنقل الاثار والسير ، عن الحسن البصري : أربع خصال كن في معاوية لو لم يكن فيه إلا واحدة منهن لكانت موبقة : انتزاؤه على هذه الامة بالسفهاء حتى ابتزها أمرها بغير مشورة منهم وفيهم ، أمرها بغير مشورة منهم ، وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة .
واستخلافه بعده ابنه يزيد ، سكيرا خميرا يلبس الحرير ويضرب بالطنابير وادعاؤه زيادا ، وقد قال رسول الله (ص) : الولد للفراش وللعاهر الحجر .
وقتله حجر بن عدى وأصحابه ، فيا ويله من حجر وأصحاب حجر .
وروى في الموفقيات أيضا الخبر الذى رواه المدائني ، وقد ذكرناه آنفا من كلام ابن عباس لابي موسى ، وقوله : إن الناس لم يرتضوك لفضل عندك لم تشارك فيه ..وذكر في آخره فقال بعض شعراء قريش : والله ما كلم الاقوام من بشر * بعد الوصي على كابن عباس أوصى ابن قيس بأمر فيه عصمته * لو كان فيها أبو موسى من الناس إنى أخاف عليه مكر صاحبه * ارجو رجاء مخوف شيب بالياس .
وذكر الزبير أيضا في الموفقيات أن يزيد بن حجية التيمى ، شهد الجمل وصفين ونهروان مع على (ع) ، ثم ولاه الرى ودستبى (1) ، فسرق من أموالهما ، ولحق بمعاوية وهجا عليا (ع) وأصحابه ، ومدح معاوية وأصحابه ، فدعا عليه على (ع) ، ورفع أصحابه أيديهم فأمنوا ، وكتب إليه رجل من بنى عمه كتابا يقبح إليه
__________
(1) دستبى ، بفتح أوله وسكون ثانيه وفتح التاء المقصورة : كورة كبيرة كانت مقسومة بين الرى وهمدان .
ياقوت (*)(2/262)
ما صنع ، وكان الكتاب شعرا ، فكتب يزيد بن حجية إليه لو كنت أقول شعرا ، لاجبتك ، ولكن قد كان منكم خلال 4 ثلاث لاترون معهن شيئا مما تحبون ، أما الاولى فإنكم سرتم إلى أهل الشام ، حتى إذا دخلتم بلادهم ، وطعنتموهم بالرماح ، وأذقتموهم ألم الجراح ، رفعوا المصاحف فسخروا منكم ، وردوكم عنهم ، فوالله والله لا دخلتموها بمثل تلك الشوكة والشدة أبدا .
والثانية أن القوم بعثوا حكما ، وبعثتم حكما ، فأما حكمهم فأثبتهم ، وأما حكمكم فخلعكم ، ورجع صاحبهم يدعى أمير المؤمنين ، ورجعتم متضاغنين : والثالثة أن قراءكم وفقهاءكم وفرسانكم خالفوكم ، فعدوتم عليهم ، فقتلتموهم ، ثم كتب في آخر الكتاب بيتين لعفان بن شرحبيل التميمي أحببت أهل الشام من بين الملا * و بكيت من أسف على عثمان أرضا مقدسة وقوما منهم * أهل اليقين وتابعو الفرقان وذكر أبو أحمد العسكري (1) في كتاب الامالى أن سعد بن أبى وقاص دخل على معاوية عام الجماعة ، فلم يسلم عليه بإمرة المؤمنين ، فقال له معاوية : لو شئت أن تقول في سلامك غير هذا لقلت ، فقال سعد : نحن المؤمنون ولم نؤمرك ، كأنك قد بهجت بما أنت فيه يا معاوية ! والله ما يسرنى ما أنت فيه وأنى هرقت المحجمة دم ، قال : ولكني وابن عمك عليا يا أبا إسحاق قد هرقنا أكثر من محجمة ومحجمتين ، هلم فاجلس معى على السرير ، فجلس معه ، فذكر له معاوية اعتزاله الحرب ، يعاتبه ، فقال سعد : إنما كان مثلى ومثل الناس كقوم أصابتهم ظلمة ، فقال واحد منهم لبعيره إخ ، فأناخ حتى أضاء له الطريق
__________
(1) هو الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري أبو أحمد ، أحد أعلام اللغة والادب ، أخذ عن ابن دريد وطبقته ، وصاحب كتال التصحيف توفى سنة .
38 ، (إنباه الرواة 1 : .
31) (*)(2/263)
فقال معاوية : والله يا أبا اسحاق ، مافى كتاب الله إخ وإنما فيه : وأن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفئ إلى أمر الله ، (1) ، فوالله ما قاتلت الباغية ولا المبغى عليها .
فأفحمه .
وزاد ابن ديزيل في هذا الخبر زيادة ذكرها في كتاب صفين قال : فقال سعد : أتأمرني أن أقاتل رجلا قال له رسول الله (ص) : أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبى بعدى ! فقال معاوية : من سمع هذا معك ؟ قال : فلان وفلان وأم سلمة فقال معاوية : لو كنت سمعت هذا لما قاتلته .
__________
(1) سورة الحجرات 9 (*)(2/264)
(36) ومن خطبه له (ع) في تخويف أهل النهروان فأنا نذير لكم أن تصبحوا صرعى بأثناء هذا النهر ، وبأهضام هذا الغائط ، على غير بينة من ربكم ، ولا سلطان مبين معكم ، قد طوحت بكم الدار ، واحتبلكم المقدار .
وقد كنت نهيتكم عن هذه الحكومة ، فأبيتم على إباء المخالفين المنابذين ، حتى صرفت رأيى إلى هواكم .
وأنتم معاشر أخفاء الهام ، سفهاء الاحلام ، ولم آت لا أبا لكم بجرا ، ولا أردت بكم ضرا الاهضام : جمع هضم ، وهو المطمئن من الوادي .
والغائط : ما سفل من الارض .
واحتبلكم المقدار : أوقعكم في الحبالة .
والبجر : الداهية والامر العظيم ويروى هجرا ، وهو المستقبح من القول ويروى عرا ، والعر : قروح في مشافر الابل ويستعار للداهية أخبار الخوارج قد تظافرت الاخبار حتى بلغت حد التواتر بما وعد الله تعالى قاتلي الخوارج من الثواب ، على لسان رسوله (ص) .
وفى الصحاح المتفق عليها أن(2/265)
رسول الله (ص) (1) بينا هو يقسم قسما جاء رجل من بنى تميم ، يدعى ذا الخويصرة ، فقال : اعدل يا محمد ، فقال (ع) : قد عدلت ، فقال له ثانية : أعدل يا محمد ، فإنك لم تعدل ، فقال (ص) : ويلك ! ومن يعدل إذا لم أعدل ! فقام عمر بن الخطاب ، فقال يا رسول الله ، ائذن لى أضرب عنقه ، فقال : دعه ، فسيخرج من ضئضئ (2) هذا قوم يمرقون (3) من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، ينظر أحد كم إلى نصله (4) فلا يجد شيئا ، فينظر إلى نضيه (5) فلا يجد شيئا ، ثم ينظر إلى القذذ (6) فكذلك ، سبق الفرث والدم (7) يخرجون على حين فرقة من الناس ، تحتقر صلاتكم في جنب صلاتهم ، وصومكم عند صومهم ، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم .
آيتهم (8) رجل أسود أوقال أدعج (9) مخدج (10) ، اليد ، إحدى يديه كأنها ثدى امرأة أو بضعة تدردر (11) .
وفى بعض الصحاح أن رسول الله (ص) قال لابي بكر ، وقد غاب الرجل
__________
(1) نقله المبرد في الكامل 545 ، 565 (طبع أوربا) مع اختلاف في الرواية .
(2) ضئضئ هذا ، أي من جنس هذا ، يقال : فلان من ضئضى صدق ، ومن محتد صدق ، وفى مركب صدق (3) قال المبرد : (يقال : مرق السهم من الرمية ، إذا نقذ منها ، وأكثر ما يكون ذلك ألك الا بعلق به من دمها شئ (4) النصل : حديدة السهم ولا سيف (5) النضى ، على (فعيل) : القدح (بكسر فسكون) ، وهو السهم قبل أن ينصل ويريش .
(6) الفذذ : جمع قذة ، وهى ريشة السهم .
(7) الضمير عائد على السهم ، والكلام على التشبيه والاستعارة التمثيلية ، ضربه صلى الله عليه وسلم مثلا لخروجهم من الدين ، لم يعلق بقلوبهم منه شئ (8) ذكروا آنه حرقوص بن زهير ، كان صحابيا أمد به عمر المسلمين الذين نازلوا الاهواز ، ثم كان مع على في صفين ، ثم صار خارجيا عليه ، فقتل تاج العروس (4 : 379) (9) الدعج : شدة سواد العين مع اتساعها (10) مخدج اليد ، من أخدجه الله ، نقص عضوامنه .
(11) تدردر ، قال ابن الاثير في النهاية (2 : 19) : (تدردر ، أي ترجرج ، تحبئ وتذهب ، والاصل تتدردر ، فحذف إحدى التاءين تخفيفا (*)(2/266)
عن عينه : قم إلى هذا فاقتله ، فقام ثم عاد وقال : وجدته يصلى ، فقال لعمر مثل ذلك ، فعاد وقال : وجدته يصلى ، فقال لعلى (ع) مثل ذلك فعاد فقال : لم أجده ، فقال رسول الله (ص) : لو قتل هذا لكان أول فتنه وآخرها ، أما إنه سيخرج من ضيئضئ هذا قوم الحديث .
وفى بعض الصحاح : يقتلهم أولى الفريقين بالحق .
وفى مسند أحمد بن حنبل ، عن مسروق ، قال : قالت لى عائشة : إنك من ولدى ومن أحبهم إلى فهل عندك علم من المخدج ؟ فقلت : نعم ، قتله على بن أبى طالب على نهر يقال لاعلاه تامرا (1) ولاسفله النهروان ، بين لخاقيق وطرفاء (2) ، قالت : ابغنى على ذلك بينة ، فأقمت رجالا شهدوا عندها بذلك ، قال : فقلت لها سألتك بصاحب القبر ، ما الذى سمعت من رسول الله (ص) فيهم ؟ فقالت : نعم سمعته ، يقول : إنهم شر الخلق والخليقة ، يقتلهم خير الخلق والخليقة ، وأقربهم عند الله وسيلة وفي كتاب صفين للواقدي عن على (ع) : لو لا أن تبطروا فتدعوا العمل لحدثتكم بما سبق على لسان رسول الله (ص) لمن قتل هؤلاء وفيه : قال على (ع) : إذا حدثتكم عن رسول الله (ص) فلان أخر من السماء أحب إلى من أن أكذب على رسول الله (ص) ، وإذا حدثتكم فيما بيننا عن نفسي ، فإن الحرب خدعة ، وإنما أنا رجل محارب سمعت رسول الله (ص) يقول : يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الاسنان ، سفهاء الاحلام ، قولهم من خير
__________
(1) تامرا ، ضيطه ياقوت : (بفتح الميم وتشديد الراء والقصر) وقال (نهر واسع يخرج من جبال شهر زور والجبال المجاورة لها) (2) لخاقيق : لخقوق ، وهو شق في الارض ، والطرفاء : شجر من الحمض ، واحدته طرفاء .
(*)(2/267)
أقوال أهل البرية ، صلاتهم أكثر من صلاتكم ، وقراءتهم أكثر من قراءتكم ، لا يجاوز إيمانهم تراقيهم أو قال حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فاقتلوهم ، فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة .
وفى كتاب صفين ايضا للمدائني عن مسروق ، أن عائشة قالت له لما عرفت أن عليا (ع) قتل ذا الثدية : لعن الله عمرو بن العاص ! فإنه كتب إلى يخبرني أنه قتله بالاسكندرية ، ألا انه ليس يمنعنى ما في نفسي أن أقول ما سمعته من رسول الله (ص) ، يقول : يقتله خير أمتى من بعدى .
وذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ أن عليا (ع) لما دخل الكوفه دخلها معه كثير من الخوارج ، وتخلف منهم بالنخيلة وغيرها خلق كثير لم يدخلوها ، فدخل حرقوص بن زهير السعدى ، وزرعه بن البرج الطائى وهما من رءوس الخوارج على على (ع) ، فقال لحرقوص : تب من خطيئتك ، واخرج بنا إلى معاوية نجاهده ، فقال له على (ع) : إنى كنت نهيتكم عن الحكومة فأبيتم ، ثم الان تجعلونها ذنبا ! أما إنها ليست بمعصية ، ولكنها عجز من الرأى ، وفعف في التدبير ، وقد نهيتكم عنه ، فقال زرعه : أما والله لئن لم تتب من تحكيمك الرجال لاقتلنك (1) ، أطلب بذلك وجه الله ورضوانه ، فقال على (ع) : بؤسا لك ما أشقاك ! كأنى بك قتيلا تسفى عليك الرياح ! قال زرعة : وددت أنه كان ذلك (2) .
قال : وخرج على (ع) يخطب الناس فصاحوا به من جوانب المسجد
__________
(1) الطبري : (قاتلتك) (2) تاريخ الطبري 6 : 40 ، 41 (*)(2/268)
لا حكم إلا لله ، وصاح به رجل منهم واضع إصبعه في أذنيه ، فقال (1) : ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين (2) ، فقال له على (ع) : فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون .
(3) وروى ابن ديزيل في كتاب صفين قال : كانت الخوارج في أول ما انصرفت عن رايات على (ع) تهدد الناس قتلا .
قال : فأتت طائفة منهم على النهر إلى جانب قريه ، فخرج منها رجل مذعورا آخذا بثيابه ، فأدركوه فقالوا له رعبناك ؟ قال : أجل ، فقالوا له : قد عرفناك ، أنت عبد الله بن خباب ، صاحب رسول الله (ص) ، قال : نعم قالوا : فما سمعت من أبيك يحدث عن رسول الله (ص) ؟ .
قال ابن ديزيل : فحدثهم أن رسول الله (ص) قال : أن فتنه جائيه ، القاعد فيها خير من القائم ...
الحديث .
وقال غيره : بل حدثهم أن طائفة تمرق من الدين كما يمرق السهم من الرميه ، يقرءون القرآن ، صلاتهم أكثر من صلاتكم ...
الحديث فضربوا رأسه ، فسال دمه في النهر ، ما امذقر ، أي ما اختلط بالماء كأنه شراك ، ثم دعوا بجارية له حبلى فبقروا عما في بطنها .
وروى ابن ديزيل ، قال : عزم على (ع) على الخروج من الكوفه إلى الحروريه (4) ، وكان في أصحابه منجم فقال له : يا أمير المؤمنين لا تسر في هذه الساعة ،
__________
(1) تكملة من تاريخ الطبري (2) سورة الزمر 65 (3) سورة الروم 60 والخبر في الطبري 5 : 401 (4) الحرورية : نسبة إلى حروراء : قربة على ميلين من الكوفة ، كان احتماع الخوارج فيها ، فنسبوا إليها .
(*)(2/269)
وسر على ثلاث ساعات مضين من النهار ، فإنك إن سرت في هذه الساعه أصابك وأصحابك أذى وضر شديد ، وإن سرت في الساعة التى أمرتك بها ظفر ت وظهرت وأصبت ما طلبت .
فقال له على (ع) : أتدرى مافى بطن فرسى هذه : أذكر هو أم أنثى ؟ قال : إن حسبت علمت ، فقال على (ع) : من صدقك بهذا فقد كذب بالقر آن ، قال الله تعالى : إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الارحام ..(1) الايه ، ثم قال (ع) : إن محمدا (ص) ما كان يدعى علم ما ادعيت علمه ، أتزعم أنك تهدى إلى الساعة التى يصيب النفع من سار فيها ، وتصرف عن الساعة التى يحيق السوء بمن سار فيها ! فمن صدقك بهذا فقد استغنى عن الاستعانة بالله جل ذكره في صرف المكروه عنه .
وينبغى للموقن بأمرك أن يوليك الحمد دون الله جل جلاله ، لانك بزعمك هديته إلى الساعة التى يصيب النفع من سار فيها ، وصرفته عن الساعة التى يحيق السوء بمن سار فيها ، فمن آمن بك في هذا لم آمن عليه أن يكون كمن اتخذ من دون الله ضدا وندا .
اللهم لا طير إلا طيرك ولا ضر إلا ضرك ، ولا إله غيرك .
ثم قال : نخالف ونسير في الساعة التى نهيتنا عنها .
ثم أقبل على الناس ، فقال : أيها الناس ، إياكم والتعلم للنجوم إلا ما يهتدى به في ظلمات البر والبحر ، إنما المنجم كالكاهن ، والكاهن كالكافر ، والكافر في النار .
أما والله لئن بلغني أنك تعمل بالنجوم لاخلدنك السجن أبدا ما بقيت ، ولاحرمنك العطاء ما كان لى من سلطان ثم سار في الساعة التى نهاه عنها المنجم ، فظفر بأهل النهر وظهر عليهم ثم قال : لو سرنا في الساعة التى أمرنا بها المنجم لقال الناس : سار في الساعة التى أمر بها المنجم فظفر وظهر ، أما إنه ما كان لمحمد (ص) منجم ، ولا لنا من بعده ، حتى فتح الله علينا بلاد كسرى وقيصر .
أيها الناس ، توكلوا على الله وثقوا به ، فإنه يكفى ممن سواه .
__________
(1) سورة افمان 34 .
(*)(2/270)
قال : فروى مسلم الضبى عن حبة العرنى ، قال : لما انتهينا إليهم رمونا ، فقلنا لعلى (ع) : يا أمير المؤمنين قد رمونا ، فقال لنا : كفوا ، ثم رمونا ، فقال لنا (ع) : كفوا ، ثم الثالثة ، فقال : الان طاب القتال ، احملوا عليهم .
وروى أيضا عن قيس بن سعد بن عبادة أن عليا (ع) لما انتهى إليهم ، قال لهم : أقيدونا بدم عبد الله بن خباب ، فقالوا : كلنا قتله ، فقال : احملوا عليهم وذكر أبو هلال العسكري في كتاب الاوائل أن أول من قال : لا حكم إلا لله ، عروة بن حدير ، قالها بصفين ، وقيل : زيد بن عاصم المحاربي ، قال : وكان أميرهم أول ما اعتزلوا ابن الكواء ، ثم بايعوا لعبد الله بن وهب الراسبى وكان أحد الخطباء فقال لهم عند بيعتهم إياه : إياكم والرأى الفطير (1) ، والكلام القضيب (2) ، دعوا لرأى يغب (3) ، فإن غبوبه يكشف للمرء عن قضته (4) ، وازدحام الجواب مضلة للصواب ، وليس الرأى بالارتجال ، ولا الحزم بالاقتضاب ، فلا تدعونكم السلامة من خطأ موبق ، وغنيمة نلتموها من غير صواب ، إلى معاودته والتماس الربح من جهته .
إن الراى ليس بنهنهى (5) ولا هو ما أعطتك البديهة ، وإن خمير الرأى خير من فطيره ، ورب شئ غابه خير من طريئه ، وتأخيره خير من تقديمه .
وذكر المدائني في كتاب الخوارج قال : لما خرج على (ع) إلى أهل النهر أقبل رجل من أصحابه ممن كان على مقدمته يركض ، حتى انتهى إلى على (ع)
__________
(1) الرأى الفطير الذى يبدو تديها من غير تروية ، خلاف الخمير (2) الكلام القضيب : المرتجل (3) يغب ، أي يمضى عليه وقت (4) القضة : العيت (5) النهنهى ، نسبة إلى النهنه ، وهو الثوب الرقيق النسيج (*)(2/271)
فقال : البشرى يا أمير المؤمنين ، قال : ما بشراك ؟ قال إن القوم عبروا النهر لمبلغهم وصولك ، فأبشر ، فقد منحك الله أكتافهم ، فقال له : آلله أنت رأيتهم قد عبروا ! قال نعم ، فاحلفه ثلاث مرات ، في كلها يقول : نعم فقال على (ع) : والله ما عبروه ولن يعبروه ، وإن مصارعهم لدون النطفة ، والذى فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، لن يبلغوا الا ثلاث ، ولا قصر بوازن ، حتى يقتلهم الله ، وقد خاب من افترى قال : ثم أقبل فارس آخر يركض ، فقال كقول الاول ، فلم يكترث على (ع) بقوله ، وجاءت الفرسان تركض كلها تقول مثل ذلك ، فقام على (ع) فجال في متن فرسه قال : فيقول شاب من الناس : والله لاكونن قريبا منه ، فإن كانوا عبروا النهر لاجعلن سنان هذا الرمح في عينه ، أيدعى علم الغيب ! فلما انتهى (ع) إلى النهر وجد القوم قد كسروا جفون سيوفهم ، وعرقبوا خيلهم ، وجثوا على ركبهم ، وحكموا تحكيمة واحدة بصوت عظيم له زجل .
فنزل ذلك الشاب ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنى كنت شككت فيك آنفا ، وإنى تائب إلى الله واليك ، فاغفر لى ، فقال على (ع) : إن الله هو الذى يغفر الذنوب فاستغفره .
وذكر أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في الكامل قال : لما واقفهم على (ع) بالنهروان ، قال : لا تبدءوهم بقتال حتى يبدءوكم ، فحمل منهم رجل على صف على (ع) ، فقتل منهم ثلاثه ثم قال : أقتلهم ولا أرى عليا * ولو بدا أوجرته الخطيا .
(1) فخرج إليه على (ع) فضربه ، فقتله ، فلما خالطه ، سيفه قال : يا حبذا الروحة إلى الجنة ! فقال عبد الله بن وهب : والله ما أدرى إلى الجنه أم إلى النار ! فقال رجل منهم
__________
(1) أو جرته الخطى : طعنته بالرمح (*)(2/272)
من بنى سعد : إنما حضرت اغترارا بهذا الرجل يعنى عبد الله وأراه قد شك واعتزل عن الحرب بجماعة من الناس ، ومال ألف منهم إلى جهة أبى أيوب الانصاري وكان على ميمنة على (ع) ، فقال على (ع) لاصحابه : احملوا عليهم ، فو الله لا يقتل منكم عشرة ، ولا يسلم منهم عشرة (2) .
فحمل عليهم فطحنهم طحنا ، قتل من أصحابه (ع) تسعه ، وأفلت من الخوارج ثمانية وذكر أبو العباس ، وذكر غيره أيضا أن أمير المؤمنين (ع) لما وجه إليهم عبد الله بن عباس ليناظرهم قال لهم : ما الذي نقمتم على أمير المؤمنين ؟ قالوله : قد كان للمؤمنين أميرا ، فلما حكم في دين الله خرج من الايمان ، فليتب بعد إقراره بالكفر ، نعد إليه (3) ، قال : ابن عباس : ما ينبغى لمؤمن لم يشب ايمانه بشك أن يقر على نفسه بالكفر ، قالوا : إنه حكم ، قال : إن الله أمر بالتحكيم في قتل صيد ، فقال يحكم به ذوا عدل منكم (4) ، فكيف في إمامة قد أشكلت على المسلمين ! فقالوا : إنه حكم عليه فلم يرض ، فقال : إن الحكومة كالامامة ، ومتى فسق الامام وجبت معصيته ، وكذلك الحكمان لما خالفا نبذت أقا ويلهما ، فقال بعضهم لبعض : اجعلوا احتجاج قريش حجة عليهم ، فإن هذا من الذين قال الله فيهم : بل هم قوم خصمون (5) ، وقال جل ثناؤه : وتنذر به قوما لدا (6) .
قال أبو العباس : ويقال إن أول من حكم عروة بن أدية وأدية جدة له جاهلية وهو عروة بن حدير ، أحد بنى ربيعة بن حنظلة .
وقال قوم : أول من حكم رجل من بنى
__________
(1) في الكامل : (لا يفلت) (2) الكامل 543 - 544 (طبعة أوربا) (3) ب : (تعدله) (4) سورة المائدة 95 (5) سورة الزخرف 58 (6) سورة مريم 97 ، 572 (طبعة اوربا .
) (*)(2/273)
محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان ، يقال له سعيد ولم يختلفوا في اجتماعهم (1) على عبد الله بن وهب الراسبى ، وأنه امتنع عليهم وأومأ إلى غيره فلم يقنعوا إلا به ، فكان إمام القوم ، وكان يوصف برأى .
فأما أول سيف سل من سيوف الخوارج فسيف عروة بن أدية ، وذاك أنه أقبل على الاشعث ، فقال له : ما هذه الدنية يا أشعث ؟ وما هذا التحكيم ؟ أشرط أوثق من شرط الله عزوجل ! ثم شهر عليه السيف ، والاشعث مول ، فضرب به عجز بغلته .
قال أبو العباس : وعروة بن حدير هذا من النفر الذين نجوا من حرب النهروان ، فلم يزل باقيا مدة من أيام معاوية ، ثم أتى به زياد ومعه مولى له ، فسأله عن أبى بكر وعمر فقال خيرا ، فقال له : فما تقول في أمير المؤمنين عثمان ، وفى أبى تراب ؟ فتولى عثمان ست سنين من خلافته ثم شهد عليه بالكفر ، وفعل في أمر على (ع) مثل ذلك إلى أن حكم ثم شهد عليه بالكفر ، ثم سأله عن معاوية فسبه سبا قبيحا ، ثم سأله عن نفسه ، فقال له : أو لك لزنية (2) ، وآخرك لدعوة ، وأنت بعد عاص لربك .
فأمر به فضربت عنقه ، ثم دعا مولاه فقال له : صف لى أموره ، قال أطنب أم أختصر ؟ قال : بل اختصر ، قال : ما أتيته بطعام بنهار قط ، ولا فرشت له فراشا بليل قط (3) ! قال أبو العباس : وسبب تسميتهم الحرورية أن عليا (ع) لما ناظرهم بعد مناظرة ابن عباس إياهم ، كان فيما قال لهم : ألا تعلمون أن هؤلاء القوم لما رفعوا المصاحف ، قلت لكم : إن هذه مكيدة ووهن (4) ، وأنهم لو قصدوا إلى حكم المصاحف لاتونى ، وسألوني التحكيم ! أفتعلمون أن أحدا كان أكره للتحكيم منى ؟ قالوا : صدقت ، قال : فهل تعلمون أنكم استكرهتموني على ذلك حتى أجبتكم إليه ، فاشترطت أن حكمهما نافذ ما حكما
__________
(1) الكامل : (إجماعهم) (2) لزنية ، يذكر ما كان من أبى سفيان في جاهليته من غشيانه أمه سمية البعى (3) الكامل 538 - 539 (طبع أوربا) (4) ب : (مكيدة وهن) (*)(2/274)
بحكم الله ، فمتى خالفاه ، فأنا وأنتم من ذلك برآء ، وأنتم تعلمون أن حكم الله لا يعدونى ! قالوا : اللهم نعم ، قال : وكان معهم في ذلك الوقت ابن الكواء (1) ، قال : وهذا من قبل أن يذبحوا عبد الله بن خباب ، وإنما ذبحوه في الفرقة الثانية بكسكر (2) ، فقالوا له : حكمت في دين الله برأينا ونحن مقرون بأنا كنا كفرنا ، ولكنا الان تائبون فأقر بمثل ما أقررنا به ، وتب ننهض معك إلى الشام ، فقال : أما تعلمون أن الله تعالى قد أمر بالتحكيم في شقاق بين الرجل وامرأته ، فقال سبحانه : فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ، وفى صيد أصيب كأرنب يساوى نصف درهم ، فقال : يحكم به ذوا عدل منكم ! فقالوا له : فإن عمرا لما أبى عليك أن تقول في كتابك : (هذا ما كتبه عبد الله على أمير المؤمنين) محوت اسمك من الخلافة ، وكتبت : (على بن أبى طالب ،) فقد خلعت نفسك ، فقال : لى في رسول الله (ص) عليه أسوة حين أبى عليه سهيل بن عمرو ، أن يكتب هذا كتاب كتبه محمد رسول الله (ص) وسهيل بن عمرو ، وقال له : لو أقررت بأنك رسول الله ما خالفتك ، ولكني أقدمك لفضلك ، فاكتب محمد بن عبد الله ، فقال لى : يا على ، امح رسول الله ، فقلت : يا رسول الله ، لا تشجعني نفسي على محو اسمك من النبوة ، قال : فقضى عليه ، فمحاه بيده ، ثم قال : (اكتب محمد بن عبد الله ،) ثم تبسم إلى وقال : يا على ، أما إنك ستسام مثلها فتعطى ، فرجع معه منهم ألفان من حروراء وقد كانوا تجمعوا بها ، فقال لهم على : ما نسميكم ؟ ثم قال : أنتم الحرورية ، لاجتماعكم بحروراء (3) وروى جميع أهل السير كافة أن عليا (ع) لما طحن القوم طلب ذا الثدية طلبا
__________
(1) ابن الكواء ، هو عبد الله بن الكواء ، من بنى يشكر بن بكر بن وائل (2) كسكر : كورة بين الكوفة والبصرة .
(3) الكامل 540 (طبعة أوربا) .
(*)(2/275)
شديدا وقلب القتلى ظهرا لبطن ، فلم يقدر عليه ، فساءه ذلك ، وجعل يقول : والله ما كذبت ، ولا كذبت ، اطلبوا الرجل ، وإنه لفى القوم ، فلم يزل يتطلبه حتى وجده ، وهو رجل مخدج اليد ، كأنها ثدى في صدره .
وروى إبراهيم بن ديزيل في كتاب صفين عن الاعمش ، عن زيد بن وهب ، قال : لما شجرهم على (ع) بالرماح ، قال : اطلبوا ذا الثدية ، فطلبوه طلبا شديدا ، حتى وجدوه في وهدة من الارض تحت ناس من القتلى ، فأتى به ، وإذا رجل على ثديه مثل سبلات (1) السنور ، فكبر على (ع) ، وكبر الناس معه سرورا بذلك .
وروى أيضا عن مسلم الضبى عن حبة العرنى ، قال : كان رجلا أسود منتن الريح ، له ثدى كثدي المرأة ، إذا مدت كانت بطول اليد الاخرى ، وإذا تركت اجتمعت وتقلصت وصارت كثدي المرأة ، عليها شعرات مثل شوارب الهرة فلما وجدوه قطعوا يده ، ونصبوها على رمح ، ثم جعل على (ع) ينادى : صدق الله وبلغ رسوله ، لم يزل يقول ذلك هو وأصحابه بعد العصر ، إلى أن غربت الشمس أو كادت .
وروى ابن ديزيل أيضا ، قال : لما عيل (2) صبر على (ع) في طلب المخدج ، قال : ائتونى ببغلة رسول الله (ص) ، فركبها واتبعه الناس ، فرأى القتلى ، ويقول : اقلبوا ، فيقلبون قتيلا عن قتيل ، حتى استخرجوه ، فسجد على (ع) .
وروى كثير من الناس أنه لما دعا بالبغلة ليركبها ، قال : ائتونى بها ، فإنها هادية فوقفت به على المخدج ، فأخرجه من تحت قتلى كثيرين .
وروى العوام بن حوشب عن أبيه عن جده يزيد بن رويم ، قال : قال على (ع)
__________
(1) السبلة : ما على الشارب من الشعر وجمعه سبلات (2) عيل صبره : أعوزه الصبر (*)(2/276)
نقتل اليوم أربعه آلاف من الخوارج ، أحدهم ذوالثدية ، فلما طحن القوم ورام استخراج ذاالثدية فاتبعه ، أمرنى أن أقطع له أربعة آلاف قصبة ، وركب بغلة رسول الله (ص) ، وقال : اطرح على كل قتيل منهم قصبة ، فلم أزل كذلك وأنا بين يديه ، وهو راكب خلفي ، والناس يتبعونه حتى بقيت في يدى واحدة ، فنظرت إليه وإذا وجهه أربد ، وإذا هو يقول : والله ما كذبت ولا كذبت ، فإذا خرير ماء عند موضع دالية ، فقال : فتش هذا ففتشته ، فإذا قتيل قد صارفى الماء وإذا رجله في يدى ، فجذبتها ، وقلت : هذه رجل إنسان ، فنزل عن البغلة مسرعا ، فجذب الرجل الاخرى ، وجررناه ، حتى صار على التراب ، فإذا هو المخدج فكبر على (ع) بأعلى صوته ، ثم سجد ، فكبر الناس كلهم .
وقد روى كثير من المحد ثين أن النبي (ص) قال لاصحابه يوما : (إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن ، كما قاتلت على تنزيله ،) فقال أبو بكر : أنا يا رسول الله ؟ فقال : (لا) ، فقال عمر : أنا يا رسول الله ؟ فقال : (لا ، بل خاصف النعل) ، وأشار إلى على (ع) .
وقال أبو العباس في الكامل : يقال : إن أول من لفظ بالحكومة ولم يشد (1) بها رجل من بنى سعد بن زيد مناة بن تميم بن مر ، من بنى صريم ، يقال له الحجاج بن عبد الله ، ويعرف بالبرك ، وهو الذى ضرب آخرا معاوية على أليته ، يقال : إنه لما سمع بذكر الحكمين ، قال : أيحكم أمير المؤمنين الرجال في دين الله ! لا حكم إلا لله ! فسمعه سامع ، فقال : طعن والله فأنفذ .
قال أبو العباس : وأول من حكم بين الصفين رجل من بنى يشكر بن بكر
__________
(1) لم يشد ، من أشاد به ، إذا رفع صوته (*)(2/277)
ابن وائل ، كان من أصحاب على (ع) ، فحمل على رجل منهم فقتله غيلة ، ثم مرق بين الصفين يحكم ، وحمل على أصحاب معاوية ، فكثروه ، فرجع إلى ناحية على (ع) ، فخرج إليه رجل من همدان فقتله ، فقال شاعر همدان : وما كان أغنى اليشكرى عن التى * تصلى بها جمرا من النار حاميا غداة ينادى والرماح تنوشه * خلعت عليا بادئا ومعاويا (1) قال أبو العباس : وقد روى المحد ثون (2) أن رجلا تلا بحضرة على (ع) : قل هل أنبئكم بالاخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنع (3) ، فقال على (ع) : أهل حروراء منهم قال أبو العباس : ومن شعر أمير المؤمنين (ع) الذى لا اختلاف فيه ، أنه قال : وكان يردده أنهم لما ساموه أنه يقر بالكفر ، ويتوب حتى يسيروا معه إلى الشام ، فقال أبعد صحبة رسول الله (ص) والتفقه في الدين أرجع كافرا ! ثم قال : يا شاهد الله على فاشهد * أنى على دين النبي أحمد .
من شك في الله فإنى مهتد (4) وذكر أبو العباس ايضا في أن عليا عليه السلام في أول خروج القوم عليه ، دعا صعصعة بن صوحان العبدى ، وقد كان وجهه إليهم وزياد بن النضر الحارثى ، مع عبد الله بن عباس ، فقال لصعصعة : بأى القوم رأيتهم أشد اطافة (5) ؟ قال : بيزيد بن قيس الارحبي ، فركب على (ع) إلى حروراء ، فجعل يتخللهم حتى صار إلى مضرب يزيد بن قيس ، فصلى فيه ركعتين ، ثم خرج فاتكا على قوسه ، وأقبل
__________
(1) تنوشه : تتناوله (2) في الكامل : وجاء في الحديث (3) سورة الكهف 104 (4) كامل 544 (5) إطلفة ، مصدر أطاف بالشى ، إذا أحاط به (*)(2/278)
على الناس ، فقال : هذا مقام من فلج (1 فيه فلج (2) يوم القيامة .
ثم كلمهم وناشدهم ، فقالوا : إنا أذنبنا ذنبا عظيما بالتحكيم وقد تبنا ، فتب إلى الله كما تبنا ، فتب إلى الله كما تبنا نعد لك .
فقال على (ع) : أنا أستغفر الله من كل ذنب ، فرجعوا معه وهم ستة آلاف ، فلما استقروا بالكوفة أشاعوا أن عليا (ع) رجع عن التحكيم ، ورآه ضلالا ، وقالوا إنما ينتظر أمير المؤمنين أن يسمن الكراع (3) وتجبى الاموال ، ثم ينهض بنا إلى الشام فأتى الاشعث عليا (ع) ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أن الناس قد تحدثوا أنك رأيت الحكومة ضلالا والاقامة عليها كفرا ، فقام على (4) (ع) يخطب ، فقال : من زعم أنى رجعت عن الحكومة فقد كذب ، ومن رآها ضلالا فقد ضل ، فخرجت حينئذ الخوارج من المسجد فحكمت (5) .
قلت : كل فساد كان في خلافة على (ع) ، وكل اضطراب حدث فأصله الاشعث ، ولو لا محاقته (6) أمير المؤمنين (ع) في معنى الحكومة في هذه المرة لم تكن حرب النهروان ، ولكان أمير المؤمنين (ع) ينهض بهم إلى معاوية ، ويملك الشام فإنه (ص) حاول أن يسلك معهم مسلك التعريض والمواربة ، وفى المثل النبوى صلوات الله على قائله : الحرب خدعة وذاك أنهم قالوا له : تب إلى الله
__________
(1 - 1) عبارة الكامل : (من فاج فيه بوم القيامة ، أشد كم الله ، أعلمتم أحدا منكم كان أكره للحكومة مى ! قالوا : اللهم لا ، قال : أفعلمتم أنكم أكرهتموني حتى قبلتها ! قالوا : اللهم عم ، قال : فعلام خالفتموني ونابذتموني ؟ قالوا : إتل أتينا ذنبا عظيما ، فتب إلى الله منه ، واستغفره نعد للك ، فقال على) (2) فلج فيه ، من الفلح ، وهو الظفر .
(3) الكراع : اسم للخيل (4) الكامل : (فخطب على الناس) (5) الكامل 558 ، 559 (طبع أوربا) .
(6) المحافة : أن يقول كل واحد من الطرفين : (أنا أحق) ، هذا أصلها ، وللراد المحاجة والمحاجة (*)(2/279)
مما فعلت ، كما تبنا ننهض معك إلى حرب أهل الشام ، فقال لهم كلمة مجملة مرسلة قولها الانبياء والمعصومون ، وهى قوله : أستغفر الله من كل ذنب ، فرضوا بها وعدوها إجابة لهم إلى سؤلهم ، وصفت له (ع) نياتهم ، واستخلص بها ضمائرهم ، من غير أن تتضمن تلك الكلمة اعترافا بكفر أو ذنب ، فلم يتركه الاشعث ، وجاء إليه مستفسرا وكاشفا عن الحال ، وهاتكا ستر التورية والكناية ، ومخرجا لها من مظلمة الاجمال وستر الحيلة إلى تفسيرها بما يفسد التدبير ، ويوغر الصدور ويعيد الفتنة ، ولم يستفسره (ع) عنها إلا بحضور من لا يمكنه (ع) أن يجعلها معه هدنة على دخن ، ولا توقيفا عن صبوح ، وألجأه بتضييق الخناق عليه إلى أن يكشف ما في نفسه ، ولا يترك الكلمة على احتمالها ، ولا يطويها على غرها ، فخطب بما صدع به عن صورة ما عنده مجاهرة ، فانتقض ما دبره ، وعادت الخوارج إلى شبهتها الاولى ، وراجعوا التحكيم والمروق ، وهكذا الدول التى تظهر فيها أمارات الانقضاء والزوال ، يتاح لها أمثال الاشعث من أولى الفساد في الارض ، سنه الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا قال أبو العباس : ثم مضى القوم إلى النهروان ، وقد كانوا أرادوا المضى إلى المدائن ، فمن طريف أخبارهم أنهم أصابوا في طريقهم مسلما ونصرانيا ، فقتلوا المسلم لانه عندهم كافر ، إذ كان على خلاف معتقدهم ، واستوصوا بالنصراني ، وقالوا : احفظوا ذمة نبيكم .
__________
سورة الحزاب 62 (*)(2/280)
قال أبو العباس : ونحو ذلك أن واصل بن عطاء رحمه الله تعالى أقبل في رفقة فأحسوا بالخوارج ، فقال واصل لاهل الرفقة : إن هذا ليس من شأنكم ، فاعتزلوا ودعوني وإياهم ، وكانوا قد أشرفوا على العطب ، فقالوا : شأنك ، فخرج إليهم ، فقالوا : ما أنت واصحابك ؟ فقال : قوم مشركون مستجيرون بكم ، ليسمعوا كلام الله ، ويفهموا حدوده ، قالوا : قد أجرناكم ، قال : فعلمونا ، فجعلوا يعلمونهم أحكامهم ، ويقول واصل : قد قبلت أنا ومن معى ، قالوا : فامضوا مصاحبين فقد صرتم (1) إخواننا ، فقال : بل تبلغوننا مأمننا ، لان الله تعالى يقول : وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه (2) ، قال : فينظر (3) بعضهم إلى بعض ، ثم قالوا : ذاك لكم ، فساروا معهم بجمعهم حتى أبلغوهم المأمن (4) .
قال أبو العباس : ولقيهم عبد الله بن خباب في عنقه مصحف ، على حمار ، ومعه أمراته وهى حامل فقالوا له : إن هذا الذى في عنقك ليأمرنا بقتلك ، فقال لهم : ما أحياه القرآن فأحيوه وما أماته فأميتوه ، فوثب رجل منهم على رطبة سقطت من نخلة فوضعها في فيه ، فصاحوا به ، فلفظها تورعا .
وعرض لرجل منهم خنزير فضربه فقتله ، فقالوا : هذا فساد في الارض ، وأنكروا قتل الخنزير ، ثم قالوا لابن خباب : حدثنا عن أبيك ، فقال : إنى سمعت أبى يقول : سمعت رسول الله (ص) يقول : ستكون بعدى فتنة
__________
(1) الكامل : (فإنكم إخواننا) (2) سورة النوبة 6 (3) الكامل : (فنظر بعضهم إلى بعض) (4) الكامل 528 (*)(2/281)
يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه ، يمسى مؤمنا ويصبح كافرا ، فكن عبد الله المقتول ، ولا تكن القاتل ، قالوا : فما تقول في أبى بكر وعمر ؟ فأثنى خيرا ، قالوا : فما تقول في على قبل التحكيم ، وفى عثمان في السنين الست الاخيرة ؟ فأثنى خيرا : قالوا : فما تقول في على بعد التحكيم والحكومة ؟ قال : إن عليا أعلم بالله وأشد توقيا على دينه ، وأنفذ بصيرة ، فقالوا : إنك لست تتبع الهدى ، إنما تتبع الرجال على أسمائهم ، ثم قربوه إلى شاطئ النهر ، فاضجعوه فذبحوه (1) .
قال أبو العباس : وساوموا رجلا نصرانيا بنخلة له ، فقال هي لكم ، فقالوا : ما كنا لنأخذها إلا بثمن ، فقال : واعجباه ! أتقتلون مثل عبد الله بن خباب ، ولا تقبلون جنانخلة إلا بثمن (1) .
وروى أبو عبيدة معمر بن المثنى ، قال طعن واحد من الخوارج يوم النهروان ، فمشى في الرمح ، وهو شاهر سيفه ، إلى أن وصل إلى طاعنه فضربه فقتله ، وهو يقرأ : وعجلت إليك رب لترضى .
وروى أبو عبيدة أيضا قال : استنطقهم على (ع) بقتل عبد الله بن خباب ، فاقروا به ، فقال : انفردوا كتائب لاسمع قولكم كتيبة كتيبه ، فتكتبوا كتائب وأقرت كل كتيبة بمثل ما أقرت به الاخرى ، من قتل ابن خباب ، وقالوا : ولنقتلنك كما قتلناه ، فقال على : والله لو أقر أهل الدنيا كلهم بقتله هكذا وأنا أقدر على قتلهم به لقتلتهم ، ثم التفت إلى أصحابه فقال لهم : شدوا عليهم ، فأنا أول من يشد عليهم .
وحمل بذى الفقار
__________
(1) الكامل 560 (2) سورة طه 84 (*)(2/282)
حملة منكرة ثلاث مرات ، كل حملة يضرب به حتى يعوج متنه ثم يخرج فيسويه بركبتيه ، ثم يحمل به حتى أفناهم .
وروى محمد بن حبيب ، قال : خطب على (ع) الخوارج يوم النهر ، فقال لهم : نحن أهل بيت النبوة ، وموضع الرسالة ، ومختلف الملائكة ، وعنصر الرحمة ، ومعدن العلم والحكمة ، نحن أفق الحجاز ، بنا يلحق البطئ ، وإلينا يرجع التائب ، أيها القوم ، إنى نذير لكم أن تصبحوا صرعى بأهضام هذا الوادي إلى آخر الفصل(2/283)
37 ومن كلام له (ع) يجرى مجرى الخطبه فقمت بالامر حين فشلوا ، وتطلعت حين تقبعوا ، ونطقت حين تعتعوا ، ومضيت بنور الله حين وقفوا .
وكنت أخفضهم صوتا ، وأعلاهم فوتا فطرت بعنانها ، واستبددت برهانها .
كالجبل لا تحركه القواصف ، ولا تزيله العواصف .
لم يكن لاحد في مهمز ، ولا لقائل في مغمز .
الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له ، والقوى عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه .
رضينا عن الله قضاءه ، وسلمناه لله أمره .
أتراني أكذب على رسول الله (ص) ! والله لانا أول من صدقه ، فلا أكون أول من كذب عليه .
فنظرت في أمرى ، فإذا طاعتي قد سبقت بيعتى ، وإذا الميثاق في عنقي لغيري هذه فصول أربعة ، لا يمتزج بعضها ببعض ، وكل كلام منها ينحو به أمير المؤمنين (ع) نحوا غير ما ينحوه بالاخر ، وإنما الرضى رحمه الله تعالى التقطها من كلام لامير المؤمنين (ع) طويل منتشر ، قاله بعد وقعة النهروان ، ذكر فيه حاله منذ توفى رسول الله (ص)(2/284)
وإلى آخر وقت ، فجعل الرضى رحمه الله تعالى ما التقطه منه سردا ، وصار عند السامع كأنه يقصد به مقصدا واحدا .
فالفصل الاول وهو من أول الكلام إلى قوله : واستبددت برهانها ، يذكر فيه مقاماته في الامر بالمعروف والنهى عن المنكر أيام أحداث عثمان ، وكون المهاجرين كلهم لم ينكروا ولم يواجهوا عثمان بما كان يواجهه به وينهاه عنه ، فهذا هو معنى قوله : فقمت بالامر حين فشلوا ، أي قمت بإنكار المنكر حين فشل أصحاب محمد (ص) عنه .
والفشل : الخور والجبن .
قال : ونطقت حين تعتعوا ، يقال : تعتع فلان ، إذا تردد في كلامه من عى أو حصر .
قوله : وتطلعت حين تقبعوا ، امرأة طلعة قبعه ة ، تطلع ثم تقبع رأسها ، أي تدخله كما يقبع القنفذ ، يدخل برأسه في جلده ، وقد تقبع الرجل ، أي اختبأ وضده تطلع .
قوله وكنت أخفضهم صوتا ، وأعلاهم فوتا يقول : علوتهم وفتهم وشأوتهم سبقا ، وأنا مع ذلك خافض الصوت ، يشير إلى التواضع ونفى التكبر .
قوله : فطرت بعنانها ، واستبددت برهانها ، يقول : سبقتهم .
وهذا الكلام استعارة من مسابقة خيل الحلبة .
واستبددت بالرهان ، أي انفردت بالخطر (1) الذى وقع التراهن عليه .
الفصل الثاني فيه ذكر حاله (ع) في الخلافة بعد عثمان ، يقول : كنت لما وليت الامر كالجبل لا تحركه القواصف ، يعنى الرياح الشديدة ، ومثله العواصف .
والمهمز : موضع الهمز ، وهو العيب ، وكذاك المغمز .
__________
(1) الخطر : السبق الذى يترامى عليه في الرهان .
(*)(2/285)
ثم قال : الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له ، والقوى عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه ، هذا آخر الفصل الثاني ، يقول : الذليل المظلوم أقوم بإعزازه ونصره وأقوى يده إلى أن آخذ الحق له ، ثم يعود بعد ذلك إلى الحالة التى كان عليها قبل أن أقوم بإعزازه ونصره ، والقوى الظالم أستضعفه وأقهره وأذله إلى أن آخذ الحق منه ، ثم يعود إلى الحالة التى كان عليها قبل أن أهتضمه ، لاستيفاء الحق .
الفصل الثالث من قوله : رضينا عن الله قضاءه ، إلى قوله : فلا أكون اول من كذب عليه ، هذا كلام قاله (ع) لما تفرس في قوم من عسكره أنهم يتهمونه فيما يخبرهم به عن النبي (ص) من أخبار الملاحم والغائبات ، وقد كان شك منهم جماعة في اقواله ، ومنهم من واجهه بالشك والتهمة الاخبار الواردة عن معرفة الامام على بالامور الغيبية روى ابن هلال الثقفى في كتاب الغارات عن زكريا بن يحيى العطار ، عن فضيل ، عن محمد بن على ، قال : لما قال على (ع) : سلونى قبل أن تفقدوني ، فوالله لا تسألونني عن فئه تضل مائة ، وتهدى مائة إلا أنبأتكم بناعقتها وسائقتها ، قام إليه رجل فقال : أخبرني بما في رأسي ولحيتي من طاقه شعر ، فقال له على (ع) : والله لقد حدثنى خليلي أن على كل طاقة شعر من رأسك ملكا يلعنك ، وإن على كل طاقة شعر من لحيتك شيطانا يغويك ، وإن في بيتك سخلا يقتل ابن رسول الله (ص) وكان ابنه قاتل الحسين (ع) يومئذ طفلا يحبو ، وهو سنان بن أنس النخعي .
وروى الحسن بن محبوب عن ثابت الثمالى ، عن سويد بن غفلة أن عليا (ع) ، خطب ذات يوم ، فقام رجل من تحت منبره ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنى مررت بوادي(2/286)
القرى ، فوجدت خالد بن عرفطة قد مات ، فاستغفر له ، فقال (ع) : والله ما مات ولا يموت حتى يقود جيش ضلالة ، صاحب لوائه حبيب بن حمار .
فقام رجل آخر من تحت المنبر ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أنا حبيب بن حمار ، وإنى لك شيعة ومحب ، فقال : أنت حبيب بن حمار ؟ قال : نعم ، فقال له ثانية : والله إنك لحبيب بن حمار ؟ فقال : إى والله ! قال : أما والله إنك لحاملها ولتحملنها ، ولتدخلن بها من هذا الباب .
وأشار بها إلى باب الفيل بمسجد الكوفة قال ثابت : فوالله مامت حتى رأيت ابن زياد ، وقد بعث عمر بن سعد إلى الحسين بن على (ع) ، وجعل خالد بن عرفطة على مقدمته وحبيب بن حمار صاحب رايته ، فدخل بها من باب الفيل .
وروى محمد بن إسماعيل بن عمرو البجلى ، قال : أخبرنا عمرو بن موسى الوجيهى ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث ، قال : قال على (ع) على المنبر : ما أحد جرت عليه المواسى إلا وقد أنزل الله فيه قرآنا .
فقام إليه رجل من مبغضيه فقال له : فما أنزل الله تعالى فيك ؟ فقام الناس إليه يضربونه ، فقال : دعوه ، أتقرأ سورة هود ؟ قال : نعم ، قال : فقرأ (ع) : أ فقام الناس إليه يضربونه ، فقال : دعوه ، أتقرأ سورة هود ؟ قال : نعم ، قال : فقرأ (ع) : أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه (1) ثم قال : الذى كان على بينة من ربه محمد (ص) ، والشاهد الذى يتلوه أنا .
وروى عثمان بن سعيد ، عن عبد الله بن بكير ، عن حكيم بن جبير ، قال : خطب على (ع) فقال في أثناء خطبته : أنا عبد الله ، وأخو رسوله ، لا يقولها أحد قبلى ولا بعدى إلا كذب ، ورثت نبى الرحمة ، ونكحت سيدة نساء هذه الامة ، وأنا خاتم الوصيين
__________
(1) سورة هود 17 (*)(2/287)
فقال رجل من عبس : ومن لا يحسن أن يقول مثل هذا ! فلم يرجع إلى أهله حتى جن وصرع ، فسألوهم : هل رأيتم به عرضا قبل هذا ؟ قالوا : ما رأينا به قبل هذا عرضا .
وروى محمد بن جبلة الخياط ، عن عكرمة ، عن يزيد الاحمسي أن عليا (ع) كان جالسا في مسجد الكوفة ، وبين يديه قوم منهم عمرو بن حريس ، إذ أقبلت امرأة مختمرة لا تعرف فوقفت ، فقالت لعلى (ع) : يامن قتل الرجال ، وسفك الدماء وأيتم الصبيان ، وأرمل النساء ! فقال (ع) .
وإنها لهى هذه السلقلقة الجلعة المجعة وإنها لهى هذه ، شبيهة الرجال والنساء ، التى ما رأت دما قط ، قال : فولت هاربة منكسة رأسها ، فتبعها عمرو بن حريث ، فلما صارت بالرحبة ، قال لها : والله لقد سررت بما كان منك اليوم إلى هذا الرجل ، فادخلي منزلي حتى أهب لك وأكسوك ، فلما دخلت منزله أمر جوارية بتفتيشها وكشفها ونزع ثيابها لينظر صدقه فيما قاله عنها ، فبكت وسألته ألا يكشفها ، وقالت : أنا والله كما قال ، لى ركب النساء ، وأنثيان كأنثى الرجال ، وما رأيت دما قط .
فتركها وأخرجها .
ثم جاء إلى على (ع) فأخبره ، فقال : إن خليلي رسول الله (ص) أخبرني بالمتمردين على من الرجال والمتمردات من النساء إلى أن تقوم الساعة .
قلت السلقلقة : السليطة ، وأصله من السلق وهو الذئب ، والسلقه : الذئبه .
والجلعة المجعة : البذيئة اللسان والركب : منبت العانة .
وروى عثمان بن سعيد ، عن شريك بن عبد الله ، قال : لما بلغ عليا أن الناس يتهمونه فيما يذكره من تقديم النبي (ص) وتفضيله على الناس ، قال : أنشد الله من بقى ممن لقى رسول الله (ص) وسمع مقاله في يوم غدير خم (1) إلا قام
__________
(1) خم : وادبين مكة والمدينة عند الججفة ، به غدير عرف به (*)(2/288)
فشهد بما سمع ، فقام ستة ممن عن يمينه ، من أصحاب رسول الله (ص) ، وستة ممن على شماله من الصحابة أيضا فشهدو أنهم سمعوا رسول الله (ص) يقول ذلك اليوم ، وهو رافع بيدى على (ع) : من كنت مولاه فهذا على مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر ، من نصره ، واخذل من خذله ، وأحب من أحبه ، وابغض من أبغضه (1) .
وروى عثمان بن سعيد عن يحيى التيمى ، عن الاعمش ، عن إسماعيل بن رجاء ، قال : قام أعشى باهلة (2) وهو غلام يومئذ حدث إلى على (ع) ، وهو يخطب ويذكر الملاحم ، فقال : يا أمير المؤمنين ، ما أشبه هذا الحديث بحديث خرافة ! فقال على (ع) : إن كنت آثما فيما قلت يا غلام ، فرماك الله بغلام ثقيف ، ثم سكت ، فقام رجال فقالوا : ومن غلام ثقيف يا أمير المؤمنين ؟ قال : غلام يملك بلدتكم هذه لا يترك لله حرمة إلا انتهكها ، يضرب عنق هذا الغلام بسيفه ، فقالوا : كم يملك يا أمير المؤمنين ؟ قال : عشرين إن بلغها ، قالوا : فيقتل قتلا أم يموت موتا ؟ قال : بل يموت حتف أنفه بداء البطن ، يثقب سريره لكثرة ما يخرج من جوفه .
قال إسماعيل بن رجاء : فوالله لقد رأيت بعينى أعشى باهلة ، وقد أحضر في جملة الاسرى الذين أسروا من جيش عبد الرحمن بن محمد بن الاشعث بين يدى الحجاج ، فقرعه ووبخه ، واستنشده شعره الذى يحرض فيه عبد الرحمن على الحرب ، ثم ضرب عنقه في ذلك المجلس .
وروى محمد بن على الصواف ، عن الحسين بن سفيان ، عن أبيه ، عن شمير بن سدير الازدي قال : قال على (ع) لعمرو بن الحمق الخزاعى : أين نزلت يا عمرو ؟ قال :
__________
(1) نقله الحب الطبري في الرياض النضرة (2 : 169) ، .
تحدث عن طرقه هناك .
(2) أعشى باهلة (اسمه عامر بن الحارث ، صاحب ، للرثية المشهورة في أخيه لامه المنتشر .
(*)(2/289)
في قومي ، قال : لا تنزلن فيهم ، قال : فأنزل في بنى كنانة جيراننا ؟ قال : لا قا : فأنزل في ثقيف ؟ قال : فما تصنع بالمعرة والمجرة ؟ قال وما هما قال عنقان نار ، يخرجان من ظهر الكوفة ، يأتي أحدهما على تميم وبكر بن وائل ، فقلما يفلت منه أحد ، ويأتى العنق الاخر ، فيأخذ على الجانب الاخر من الكوفة ، فقل من يصيب منهم ، إنما يدخل الدار فيحرق البيت والبيتين .
قال : فأين أنزل ؟ قال : أنزل في بنى عمرو بن عامر ، من الازد ، قال : فقال قوم حضروا هذا الكلام : ما نراه إلا كاهنا يتحدث بحديث الكهنة ، فقال : يا عمرو ، إنك المقتول بعدى ، وإن رأسك لمنقول ، وهو اول رأس ينقل في الاسلام والويل لقاتلك ! أما إنك لا تنزل بقوم إلا أسلموك برمتك ، إلا هذا الحى من بنى عمرو بن عامر من الازد ، فإنهم لن يسلموك ولن يخذلوك ، قال : فوالله مامضت الايام حتى تنقل عمرو بن الحمق في خلافة معاوية في بعض أحياء العرب ، خائفا مذعورا ، حتى نزل في قومه من بنى خزاعه ، فأسلموه ، فقتل وحمل رأسه من العراق إلى معاوية بالشام ، وهو أول رأس حمل في الاسلام من بلد إلى بلد .
وروى إبراهيم بن ميمون الازدي عن حبة العرنى ، قال : كان جويرية بن مسهر العبدى صالحا ، وكان لعلى بن أبى طالب صديقا ، وكان على يحبه ، ونظر يوما إليه وهو يسير ، فناداه يا جويرية ، الحق بى ، فإنى إذا رأيتك هويتك قال إسماعيل بن أبان فحدثني الصباح ، عن مسلم عن حبة العرنى ، قال : سرنا مع على (ع) يوما فالتفت فإذا جويرية خلفه بعيدا ، فناداه : يا جويرية ، الحق بى لا أبالك ! ألا تعلم أنى أهواك وأحبك ! قال : فركض نحوه ، فقال له : إنى محدثك بأمور فاحفظها ، ثم اشتركا في الحديث سرا ، فقال له جويرية : يا أمير المؤمنين ، إنى رجل نسى (1) ، فقال له : إنى أعيد عليك
__________
(1) النسى : الكثير النسيان (*)(2/290)
الحديث لتحفظه ، ثم قال له في آخر ما حدثه إياه : يا جويرية ، أحبب حبيبنا ما أحبنا ، فإذا أبغضنا فابغضه ، وابغض بغيضنا ما أبغضنا ، فإذا أحبنا فأحبه .
قال : فكان ناس ممن يشك في أمر على (ع) يقولون : أتراه جعل جويرية وصيه كما يدعى هو من وصية رسول الله (ص) ؟ قال : يقولون ذلك لشدة اختصاصه له ، حتى دخل على على (ع) يوما ، وهو مضطجع ، وعنده قوم من أصحابه ، فناداه جويرية : أيها النائم ، استيقظ ، فلتضربن على رأسك ضربة تخضب منها لحيتك ، قال : فتبسم أمير المؤمنين (ع) ، قال : وأحدثك يا جويرية بأمرك ، أما والذى نفسي بيده لتعتلن (1) إلى العتل الزنيم ، فليقطعن يدك ورجلك وليصلبنك تحت جذع كافر ، قال : فوالله مامضت الايام على ذلك حتى أخذ زياد جويرية ، فقطع يده ورجله وصلبه إلى جانب جذع ابن مكعبر ، وكان جذعا طويلا ، فصلبه على جذع قصير إلى جانبه وروى إبراهيم في كتاب الغارات عن أحمد بن الحسن الميثمى ، قال : كان ميثم التمار مولى على بن أبى طالب (ع) عبدا لامرأة من بنى أسد فاشتراه على (ع) منها وأعتقه ، وقال له : ما اسمك ؟ فقال : سالم ، فقال : إن رسول الله (ص) أخبرني أن اسمك الذى سماك به أبوك في العجم ميثم ، فقال : صدق الله ورسوله ، وصدقت يا أمير المؤمنين ، فهو والله اسمى .
قال : فارجع إلى اسمك ، ودع سالما ، فنحن نكنيك به ، فكناه أبا سالم .
قال : وقد كان قد أطلعه على (ع) على علم كثير ، وأسرار خفية من أسرار الوصية ، فكان ميثم يحدث ببعض ذلك ، فيشك فيه قوم من أهل الكوفة وينسبون عليا (ع) في ذلك إلى المخرقة (2) والايهام والتدليس ، حتى قال له يوما بمحضر من خلق كثير من أصحابه ، وفيهم الشاك والمخلص : يا ميثم ،
__________
(1) يقال : عتله عتلا ، إذا أخذه بمجامعه وحره جرا عنيفا .
(2) المخرفة اختلاق الكذب ، (*)(2/291)
إنك تؤخذ بعدى وتصلب ، فإذا كان اليوم الثاني ابتدر منخراك وفمك دما ، حتى تخضب لحيتك ، فإذا كان اليوم الثالث طعنت بحربة يقضى عليك ، فانتظر ذلك .
والموضع الذى تصلب فيه على باب دار عمرو بن حريث ، إنك لعاشر عشره أنت أقصرهم خشبه ، وأقربهم من المطهرة يعنى الارض ولارينك النخلة التى تصلب على جذعها ، ثم أراه إياها بعد ذلك بيومين ، وكان ميثم يأتيها ، فيصلى عندها ، ويقول : بوركت من نخله ، لك خلقت ، ولى نبت ، فلم يزل يتعاهدها بعد قتل على (ع) ، حتى قطعت ، فكان يرصد جذعها ، ويتعاهده ويتردد إليه ، ويبصره ، وكان يلقى عمرو بن حريث ، فيقول له : إنى مجاورك فاحسن جواري ، فلا يعلم عمرو ما يريد ، فيقول له : أتريد أن تشترى دار ابن مسعود ، أم دار ابن حكيم ؟ .
قال : وحج في السنة التى قتل فيها ، فدخل على أم سلمة رضى الله عنها ، فقالت له : من أنت ؟ قال : عراقى ، فاستنسبته ، فذكر لها أنه مولى على بن أبى طالب ، فقالت : أنت هيثم ، قال : بل أنا ميثم ، فقالت : سبحان الله ! والله لربما سمعت رسول الله (ص) يوصى بك عليا في جوف الليل ، فسألها عن الحسين بن على ، فقالت : هو في حائط (1) له ، قال : أخبريه أنى قد أحببت السلام عليه ، ونحن ملتقون عند رب العالمين ، إن شاء الله ، ولا أقدر اليوم على لقائه ، وأريد الرجوع ، فدعت بطيب فطيبت لحيته ، فقال لها : أما إنها ستخضب بدم ، فقالت : من أنباك هذا ؟ قال : أنبأني سيدى ، فبكت أم سلمة ، وقالت له : إنه ليس بسيدك وحدك ، هو سيدى وسيد المسلمين ، ثم ودعته .
__________
(1) الحائط : البستان .
(*)(2/292)
فقدم الكوفة ، فأخذ وأدخل على عبيد الله بن زياد .
وقيل له : هذا كان من آثر الناس عند أبى تراب ، قال : ويحكم هذا الاعجمي ! قالوا : نعم ، فقال له عبيد الله : أين ربك ؟ قال : بالمرصاد ، قال : قد بلغني اختصاص أبى تراب لك ، قال : قد كان بعض ذلك ، فما تريد ؟ قال : وإنه ليقال إنه قد أخبرك بما سيلقاك ، قال نعم ، إنه أخبرني ، (1 قال : ما الذى أخبرك أنى صانع بك 1) ؟ قال : أخبرني أنك تصلبني عاشر عشرة وأنا أقصرهم خشبة ، وأقربهم من المطهرة ، قال : لاخالفنه ، قال : ويحك ! كيف تخالفه ، إنما أخبر عن رسول الله (ص) ، وأخبر رسول الله عن جبرائيل ، وأخبر جبرائيل عن الله ، فكيف تخالف هؤلاء ! أما والله لقد عرفت الموضع الذى أصلب فيه أين هو من الكوفة ؟ وإنى لاول خلق الله ألجم في الاسلام بلجام ، كما يلجم الخيل .
فحبسه وحبس معه المختار بن أبى عبيدة الثقفى ، فقال ميثم للمختار وهما في حبس ابن زياد : إنك تفلت وتخرج ثائرا بدم الحسين (ع) فتقتل هذا الجبار الذى نحن في سجنه (2) ، وتطأ بقدمك هذا على جبهته وخديه .
فلما دعا عبيد الله بن زياد بالمختار ليقتله طلع البريد بكتاب يزيد بن معاوية إلى عبيد الله بن زياد ، يأمره بتخلية سبيله ، وذاك أن أخته كانت تحت عبد الله بن عمر بن الخطاب ، فسألت بعلها أن يشفع فيه إلى يزيد فشفع فأمضى شفاعته ، وكتب بتخلية سبيل المختار على البريد ، فوافى البريد ، وقد أخرج ليضرب عنقه ، فاطلق .
وأما ميثم فأخرج بعده ليصلب .
وقال عبيد الله : لامضين حكم أبى تراب فيه ، فلقيه رجل ، فقال له : ما كان أغناك عن هذا يا ميثم ؟ فتبسم ، وقال : لها خلقت ، ولى غذيت ، فلما رفع على الخشبة اجتمع الناس حوله على باب عمرو بن حريث ، فقال عمرو : لقد كان يقول لى : إنى مجاورك ، فكان يأمر جاريته كل عشية أن تكنس تحت خشبته وترشه ، وتجمر بالمجمر تحته ، فجعل ميثم يحدث بفضائل بنى هاشم ، ومخازي
__________
(1 - 1) ساقط من ا (2) كذا في ا ، ج ، وفى ب : (حبسه) .
(*)(2/293)
بنى أمية ، وهو مصلوب على الخشبة ، فقيل لابن زياد : قد فضحكم هذا العبد ، فقال : ألجموه ، فألجم فكان أول خلق الله ألجم في الاسلام ، فلما كان في اليوم الثاني فاضت منخراه وفمه دما ، فلما كان في اليوم الثالث طعن بحربة فمات .
وكان قتل ميثم قبل قدوم الحسين (ع) العراق بعشرة أيام .
قال إبراهيم : وحدثني إبراهيم بن العباس النهدي ، حدثنى مبارك البجلى ، عن أبى بكر بن عياش ، قال : حدثنى المجالد ، عن الشعبى ، عن زياد بن النضر الحارثى ، قال : كنت عند زياد ، وقد أتى برشيد الهجرى ، وكان من خواص أصحاب على (ع) ، فقال له زياد : ما قال خليلك لك إنا فاعلون بك ؟ قال : تقطعون يدى ورجلي ، وتصلبونني ، فقال زياد : أما والله لاكذبن حديثه .
خلوا سبيله ، فلما أراد أن يخرج قال : ردوه لانجد شيئا أصلح مما قال لك صاحبك ، إنك لا تزال تبغى لنا سوءاإن بقيت ، اقطعوا يديه ورجليه .
فقطعوا يديه ورجليه ، وهو يتكلم ، فقال اصلبوه خنقا في عنقه ، فقال رشيد : قد بقى لى عندكم شئ ما أراكم فعلتموه ، فقال زياد : اقطعوا لسانه ، فلما أخرجوا لسانه ليقطع قال : نفسوا عنى أتكلم كلمة واحدة فنفسوا عنه ، فقال : هذا والله تصديق خبر أمير المؤمنين ، أخبرني بقطع لساني .
فقطعوا لسانه وصلبوه .
وروى أبو داود الطيالسي ، عن سليمان بن رزيق ، عن عبد العزيز بن صهيب قال : حدثنى أبو العالية قال : حدثنى مزرع صاحب على بن أبى طالب (ع) أنه قال : ليقبلن جيش حتى إذا كانو بالبيداء ، خسف بهم .
قال ابو العالية : فقلت له : إنك لتحدثني بالغيب ! فقال : احفظ ما أقوله لك ، فإنما حدثنى به الثقة على بن أبى طالب وحدثني أيضا شيئا آخر ليؤخذن رجل فليقتلن وليصلبن بين شرفتين من شرف المسجد ، فقلت له : إنك لتحدثني بالغيب ! فقال : احفظ ما أقول لك : قال أبو العالية : فوالله ما أتت(2/294)
علينا جمعة ، حتى أخذ مزرع ، فقتل وصلب بين شرفتين من شرف المسجد .
قلت : حديث الخسف بالجيش قد خرجه البخاري ومسلم في الصحيحين ، عن أم سلمة رضى الله عنها ، قالت : سمعت رسول الله (ص) يقول : يعوذ قوم بالبيت حتى إذا كانوا بالبيداء (2) خسف بهم ، فقلت : يارسول الله ، لعل فيهم المكره أو الكاره ، فقال : يخسف بهم ، ولكن يحشرون أو قال : يبعثون على نياتهم (3) يوم القيامة .
قال : فسئل أبو جعفر محمد بن على : أهى بيداء من الارض ؟ فقال : كلا والله إنها بيداء المدينة .
أخرج البخاري بعضه وأخرج مسلم (1) الباقي .
وروى محمد بن موسى العنزي ، قال : كان مالك بن ضمرة الرؤاسى من أصحاب على (ع) وممن استبطن من جهته علما كثيرا ، وكان أيضا قد صحب أبا ذر ، فأخذ من علمه ، وكان يقول في أيام بنى أمية : اللهم لا تجعلني أشقى الثلاثة ، فيقال له : وما الثلاثه ؟ ! فيقول : رجل يرمى من فوق طمار (4) ، ورجل تقطع يداه ورجلاه ولسانه ويصلب ، ورجل يموت على فراشه .
فكان من الناس من يهزأ به ، ويقول : هذا من أكاذيب أبى تراب .
قال : وكان الذى رمى به من طمار هانئ بن عروة ، والذى قطع وصلب رشيد الهجرى ، ومات مالك على فراشه .
الفصل الرابع وهو من قوله : فنظرت في أمرى إلى آخر الكلام ، هذه كلمات
__________
(1) صحيح مسلم 4 : 2209 (2) البيداء : كل أرض ملساء لا شئ فيها .
(3) لفظ مسلم : (ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته) (4) طمار ، كقطام : المكان المرتفع .
(*)(2/295)
مقطوعة من كلام يذكر فيه حاله بعد وفاة رسول الله (ص) ، وأنه كان معهودا إليه ألا ينازع في الامر ولا يثير فتنة ، بل يطلبه بالرفق ، فإن حصل له وإلا أمسك .
هكذا كان يقول (ع) ، وقوله الحق ، وتأويل هذه الكلمات : فنظرت فإذا طاعتي لرسول الله (ص) ، أي وجوب طاعتي ، فحذف المضاف ، وأقام المضاف إليه مقامه .
قد سبقت بيعتى للقوم ، أي وجوب طاعة رسول الله (ص) على ، ووجوب امتثالي أمره سابق على بيعتى للقوم ، فلا سبيل لى إلى الامتناع من البيعة لانه (ص) أمرنى بها .
وإذا الميثاق في عنقي لغيري ، أي رسول الله (ص) أخذ على الميثاق بترك الشقاق والمنازعة ، فلم يحل لى أن أتعدى أمره ، أو أخالف نهيه .
فإن قيل : فهذا تصريح بمذهب الامامية قيل : ليس الامر كذلك ، بل هذا تصريح بمذهب أصحابنا من البغداديين ، لانهم يزعمون أنه الافضل والاحق بالامامة ، وأنه لولا ما يعلمه الله ورسوله من أن الاصلح للمكلفين من تقديم المفضول عليه ، لكان من تقدم عليه هالكا ، فرسول الله (ص) أخبره أن الامامة حقه ، وأنه أولى بها من الناس أجمعين ، وأعلمه أن في تقديم غيره وصبره على التأخر عنها مصلحة للدين راجعة إلى المكلفين ، وأنه يجب عليه أن يمسك عن طلبها ، ويغضى عنها لمن هو دون مرتبته ، فامتثل ما أمره به رسول الله (ص) ، ولم يخرجه تقدم من تقدم عليه من كونه الافضل والاولى والاحق .
وقد صرح شيخنا أبو القاسم البلخى رحمه الله تعالى بهذا وصرح به تلامذته ، وقالوا : لو نازع عقيب وفاة رسول الله (ص) ، وسل سيفه لحكمنا بهلاك كل من خالفه وتقدم عليه(2/296)
كما حكمنا بهلاك من نازعه حين أظهر نفسه ، ولكنه مالك الامر ، وصاحب الخلافة ، إذا طلبها وجب علينا القول بتفسيق من ينازعه فيها ، وإذا أمسك عنها وجب علينا القول بعدالة من أغضى له عليها ، وحكمه في ذلك حكم رسول الله (ص) ، لانه قد ثبت عنه في الاخبار الصحيحة أنه قال : (على مع الحق ، والحق مع على ، يدور حيثما دار ،) وقال له غير مرة : (حربك حربى وسلمك سلمى) .
وهذا المذهب هو أعدل المذاهب عندي ، وبه أقول(2/297)
(38) ومن خطبه له (ع) وإنما سميت الشبهة شبهة لانها تشبه الحق ، فأما أولياء الله فضياؤهم فيها اليقين ، ودليلهم سمت الهدى .
وأما أعداء الله فدعاؤهم فيها (1) الضلال ، ودليلهم العمى ، فما ينجو من الموت من خافه ، ولا يعطى البقاء من أحبه .
هذان فصلان ، أحدهما غير ملتئم مع الاخر ، بل مبتور عنه ، وإنما الرضى رحمه الله تعالى كان يلتقط الكلام التقاطا ، ومراده أن يأتي بفصيح كلامه (ع) ، وما يجرى مجرى الخطابه والكتابة ، فلهذا يقع في الفصل الواحد الكلام الذى لا يناسب بعضه بعضا ، وقد قال الرضى ذلك في خطبة الكتاب (2) .
أما الفصل الاول فهو الكلام في الشبهة ، ولما ذا سميت شبهة ، قال (ع) لانها تشبه الحق ، وهذا هو محض ما يقوله المتكلمون ، ولهذا يسمون ما يحتج به أهل الحق دليلا ، ويسمون ما يحتج به أهل الباطل شبهة .
قال : فأما أولياء الله فضياؤهم في حل الشبهة اليقين ، ودليلهم سمت الهدى ، وهذا حق لان من اعتبر مقدمات الشبة وراعى الامور اليقينية ، وطلب المقدمات المعلومة قطعا ، انحلت الشبهة ، وظهر له فسادها من أين هو ؟ ثم قال : وأما أعداء الله فدعاؤهم
__________
(1) ساقطة من مخطوطة النهج .
(2) الجزء الاول ص 53 (*)(2/298)
الضلال ، ودليلهم العمى ، وهذا حق ، لان المبطل ينظر في الشبهة ، لانظر من راعى الامور اليقينية ، ويحلل المقدمات إلى القضايا المعلومة ، بل يغلب عليه حب المذهب ، وعصبية أسلافه ، وإيثار نصره من قد ألزم بنصرته ، فذاك هو العمى والضلال ، اللذان أشار أمير المؤمنين إليهما فلا تنحل الشبهة له ، وتزداد عقيدته فسادا ، وقد ذكرنا في كتبنا الكلامية الكلام في توليد النظر للعلم ، وأنه لا يولد الجهل .
الفصل الثاني ، قوله ، لا ينجو من الموت من خافه ، ولا يعطى البقاء من أحبه ، هذا كلام أجنبي عما تقدم ، وهو ماخوذ من قوله تعالى : قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ، (1) ، وقوله أينما تكونوا يدرككم الموت (2) ، وقوله : فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (3) .
__________
(1) سورة آل عمران 154 (2) سورة النساء 78 .
(3) سورة الاعراف 34 .
(*)(2/299)
(39) ومن خطبه له (ع) منيت بمن لا يطيع إذا أمرت ، ولا يجيب إذا دعوت ، لا أبا لكم ! ما تنتظرون بنصركم ربكم ! أما دين يجمعكم ، ولا حمية تحمشكم ! أقوم فيكم مستصرخا ، وأناديكم متغوثا ، فلا تسمعون لى قولا ، ولا تطيعون لى أمرا ، حتى تكشف الامور عن عواقب المساءة ، فما يدرك بكم ثار ، ولا يبلغ بكم مرام .
دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجر جرتم جرجرة الجمل الاسر ، وتثاقلتم تثاقل النضو الادبر ، ثم خرج إلى منكم جنيد متذائب ضعيف ، كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون .
قال الرضى رحمه الله قوله (ع) : متذائب أي مضطرب ، من قولهم : تذاءبت الريح ، أي أضطرب هبوبها ، ومنه سمى الذئب ذئبا لاضطراب مشيته .
منيت ، أي بليت .
وتحمشكم تغضبكم ، أحمشه أي أغضبه .
والمستصرخ : المستنصر .
والمتغوث : القائل واغوثاه !(2/300)
والجرجرة : صوت يردده البعير في حنجرته ، وأكثر ما يكون ذلك عند الاعياء والتعب .
والجمل الاسر : الذى بكركرتة دبرة (1) .
والنضو : البعير المهزول .
والادبر : الذى به دبر ، وهو المعقور من القتب وغيره .
هذا الكلام خطب به أمير المؤمنين (ع) في غارة النعمان بن بشير الانصاري على عين التمر (2) .
أمر النعمان بن بشير مع على ومالك بن كعب الارحبي ذكر صاحب الغارات أن النعمان بن بشير ، قدم هو وأبو هريرة على على (ع) من عند معاوية ، بعد أبى مسلم الخولانى ، يسالانه أن يدفع قتلة عثمان إلى معاوية ليقيدهم بعثمان ، لعل الحرب أن تطفا ، ويصطلح الناس ، وإنما أراد معاوية أن يرجع مثل النعمان وأبى هريرة من عند على (ع) إلى الناس ، وهم لمعاوية عاذرون ، ولعلى لائمون وقد علم معاوية أن عليا لا يدفع قتلة عثمان إليه فأراد أن يكون هذان يشهدان له عند أهل الشام بذلك ، وأن يظهر عذره ، فقال لهما ، ائتيا عليا فانشداه الله وسلاه بالله لما دفع إلينا قتلة عثمان ، فإنه قد آواهم ومنعهم ، ثم لا حرب بيننا وبينه ، فإن أبى فكونوا شهداء الله عليه .
وأقبلا على الناس فأعلماهم ذلك ، فأتيا إلى على (ع) ، فدخلا عليه ، فقال له أبو هريرة : يا أبا حسن ، أن الله قد جعل لك في الاسلام فضلا وشرفا ، أنت ابن عم محمد رسول الله (ص) ، وقد بعثنا إليك ابن عمك معاوية ، يسألك أمرا تسكن به هذه
__________
(1) الكركرة ، بانكسر : زور البعير .
والدبرة : قرحة الدابة .
(2) عين التمر : بلدة في طرف البادية ، على غربي الفرات .
(*)(2/301)
الحرب ، ويصلح الله تعالى ذات البين ، أن تدفع إليه قتلة عثمان ابن عمه ، فيقتلهم به ، ويجمع الله تعالى أمرك وأمره ، ويصلح بينكم ، وتسلم هذه الامة من الفتنة والفرقة .
ثم تكلم النعمان بنحو من ذلك (1) .
فقال لهما : دعا الكلام في هذا ، حدثنى عنك يا نعمان : أنت أهدى قومك سبيلا ؟ يعنى الانصار ، قال : لا ، قال : فكل قومك قد اتبعنى إلا شذاذا ، منهم ثلاثه أو أربعه ، أفتكون أنت من الشذاذ ! فقال النعمان : أصلحك الله ، إنما جئت لاكون معك وألزمك ، وقد كان معاوية سألني أن أؤدى هذا الكلام ، ورجوت أن يكون لى موقف أجتمع فيه معك ، وطمعت أن يجرى الله تعالى بينكما صلحا ، فإذا كان غير ذلك رأيك فأنا ملازمك وكائن معك .
فأما أبو هريرة فلحق بالشام ، وأقام النعمان عند على (ع) ، فأخبر أبو هريرة معاوية بالخبر ، فأمره أن يعلم الناس ، ففعل ، وأقام النعمان بعده شهرا ، ثم خرج فارا من على (ع) ، حتى إذا مر بعين التمر أخذه مالك بن كعب الارحبي وكان عامل على (ع) عليها فأراد حبسه ، وقال له : ما مر بك بيننا (2) ؟ قال : إنما أنا رسول بلغت رسالة صاحبي ، ثم انصرفت ، فحبسه وقال : كما أنت ، حتى أكتب إلى على فيك فناشده ، وعظم عليه أن يكتب إلى على فيه ، فأرسل النعمان إلى قرظة بن كعب الانصاري وهو كاتب عين التمر يجبى خراجها لعلى (ع) فجاءه مسرعا ، فقال لمالك بن كعب : خل سبيل ابن عمى ، يرحمك الله ! فقال : يا قرظة ، اتق الله ولا تتكلم في هذا ، فإنه لو كان من عباد الانصار ونساكهم ، لم يهرب من أمير المؤمنين إلى أمير المنافقين .
فلم يزل به يقسم عليه حتى خلى سبيله ، وقال له : يا هذا ، لك الامان اليوم والليلة
__________
(1) ب (هذا) .
(2) ب (هاهنا) .
(*)(2/302)
وغدا ، والله إن أدركتك بعدها لاضربن عنقك ، فخرج مسرعا لا يلوى على شئ ، وذهبت به راحلته ، فلم يدر أين يتسكع من الارض ثلاثة أيام ، لا يعلم أين هو ! فكان النعمان يحدث بعد ذلك ، يقول : والله ما علمت أين أنا ، حتى سمعت قول قائلة تقول وهى تطحن : شربت مع الجوزاء كأسا روية * وأخر ى مع الشعرى إذا ما استقلت معتقة كانت قريش تصونها * فلما استحلوا قتل عثمان حلت .
فعلمت أنى عند حى من أصحاب معاوية وإذا الماء لبنى القين ، فعلمت أنى قد انتهيت إلى الماء .
ثم قدم على معاوية فخبره بما لقى ، ولم يزل معه مصاحبا ، لم يجاهد عليا ، ويتتبع قتلة عثمان ، حتى غزا الضحاك بن قيس أرض العراق ، ثم انصرف إلى معاوية ، وقد كان معاوية قال قبل ذلك بشهرين أو ثلاثة : أما من رجل أبعث به (1) بجريدة خيل ، حتى يغير على شاطئ الفرات ! فإن الله يرعب بها أهل العراق ! فقال له النعمان : فابعثني ، فان لى في قتالهم نية وهوى وكان النعمان : عثمانيا : قال : فانتدب على اسم الله ، فانتدب وندب معه ألفى رجل ، وأوصاه أن يتجنب المدن والجماعات ، وألا يغير إلا على مسلحة ، وأن يعجل الرجوع .
فأقبل النعمان بن بشير ، حتى دنا من عين التمر ، وبها مالك بن كعب الارحبي الذى جرى له معه ما جرى (2) ، ومع مالك ألف رجل ، وقد أذن لهم ، فرجعوا إلى الكوفة فلم يبق معه إلا مائة أو نحوها ، فكتب مالك إلى على (ع) : أما بعد ، فإن النعمان بن بشير ، قد نزل بى في جمع كثيف ، فر رأيك ، سددك الله تعالى وثبتك .
والسلام .
فوصل الكتاب إلى على (ع) ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :
__________
(1) ب : (معه) (2) ب : (ما ذكرناه) (*)(2/303)
اخرجوا هدا كم الله إلى مالك بن كعب أخيكم ، فإن النعمان بن بشير قد نزل به في جمع من أهل الشام ، ليس بالكثير ، فانهضوا إلى إخوانكم ، لعل الله يقطع بكم من الكافرين طرفا ، ثم نزل .
فلم يخرجوا ، فأرسل إلى وجوههم وكبر ائهم ، فأمرهم أن ينهضوا ويحثوا الناس على المسير ، فلم يصنعوا شيئا ، واجتمع منهم نفر يسير نحو ثلثمائة فارس أو دونها ، فقام (ع) ، فقال : ألا إنى منيت بمن لا يطيع الفصل الذى شرحناه إلى آخره ، ثم نزل .
فدخل منزله ، فقام عدى بن حاتم ، فقال : هذا والله الخذلان ، على هذا بايعنا أمير المؤمنين ، ثم دخل إليه فقال : يا أمير المؤمنين ، إن معى من طيئ ألف رجل لا يعصوننى ، فإن شئت أن أسير بهم سرت .
قال : ما كنت لاعرض قبيلة واحدة من قبائل العرب للناس ولكن اخرج إلى النخيلة فعسكر بهم ، وفرض على (ع) لكل رجل سبعمائة ، فاجتمع إليه ألف فارس ، عدا طيئا أصحاب عدى بن حاتم .
وورد على على (ع) الخبر بهزيمة النعمان بن بشير ونصرة مالك بن كعب فقرأ الكتاب على أهل الكوفة وحمد الله وأثنى عليه ، ثم نظر إليهم وقال هذا بحمد الله وذم أكثركم .
فأما خبر مالك بن كعب مع النعمان بن بشير ، قال عبد الله بن حوزة الازدي : قال كنت مع مالك بن كعب حين نزل بنا النعمان بن بشير ، وهو في ألفين ، وما نحن إلا مائة ، فقال لنا : قاتلوهم في القرية ، واجعلوا الجدر في ظهوركم ، ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة واعلموا أن الله تعالى ينصر العشرة على المائة ، والمائة على الالف ، والقليل على الكثير .
ثم قال : إن أقرب من هاهنا إلينا من شيعة أمير المؤمنين وأنصاره وعماله قرظة بن كعب(2/304)
ومخنف بن سليم ، فاركض إليهما ، فأعلمهما حالنا ، وقل لهما : فلينصرانا ما استطاعا (1) ، فأقبلت أركض ، وقد تركته وأصحابه يرامون أصحاب ابن بشير بالنبل ، فمررت بقرظة فاستصرخته ، فقال : إنما أنا صاحب خراج ، وليس عندي من أعينه به .
فمضيت إلى مخنف بن سليم ، فأخبرته الخبر ، فسرح معى عبد الرحمن بن مخنف في خمسين رجلا ، وقاتل مالك بن كعب النعمان وأصحابه إلى العصر ، فأتيناه وقد كسر هو وأصحابه جفون سيوفهم ، واستقبلوا الموت (2) ، فلو أبطأنا عنهم هلكوا ، فما هو إلا أن رآنا أهل الشام ، وقد أقبلنا عليهم ، فأخذوا ينكصون عنهم ويرتفعون ، ورآنا مالك وأصحابه ، فشدوا عليهم حتى دفعوهم عن القرية ، فاستعرضناهم ، فصرعنا منهم رجالا ثلاثة ، وارتفع القوم عنا ، وظنوا أن وراءنا مددا ، ولو ظنوا أنه ليس غيرنا لاقبلوا علينا ولاهلكونا ، وحال الليل بيننا وبينهم ، فانصرفوا إلى أرضهم .
وكتب مالك بن كعب إلى على (ع) .
أما بعد ، فإنه نزل بنا النعمان بن بشير في جمع من أهل الشام ، كالظاهر علينا ، وكان عظم (3) ، أصحابي متفرقين ، وكنا للذى كان منهم آمنين ، فخرجنا إليهم رجالا مصلتين (4) ، فقاتلناهم حتى المساء واستصرخنا مخنف بن سليم ، فبعث إلينا رجالا من شيعة أمير المؤمنين وولده ، فنعم الفتى ونعم الانصار كانوا ، فحملنا على عدونا وشددنا عليهم ، فأنزل الله علينا نصره ، وهزم عدوه ، وأعز جنده .
والحمد لله رب العالمين ، والسلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته .
__________
(1) كذا في ا ، ج ، وفى ب : (بما استطاعا) (2) ب : (واستسلموا للموت .
(3) عظم الشئ ، أي معظمه (4) يقال : أصلت الرجل السيف ، إذا جرده من غمده (*)(2/305)
وروى محمد بن فرات الجرمى ، عن زيد بن على (ع) ، قال : قال على (ع) في هذه الخطبه أيها الناس ، إنى 4 دعوتكم إلى الحق فتوليتم عنى ، ضربتكم بالدرة فأعييتمونى ، أما إنه سيليكم بعدى ولاة لا يرضون عنكم بذلك حتى يعذ بوكم بالسياط وبالحديد ، فأما أنا فلا أعذبكم بهما ، إنه من عذب الناس في الدنيا عذبه الله في الاخرة ، وآية ذلك أن يأتيكم صاحب اليمن حتى يحل بين ظهر كم ، فيأخذ العمال وعمال العمال (1) رجل يقال له يوسف بن عمرو ، ويقوم عند ذلك رجل منا أهل البيت ، فانصروه فإنه داع إلى الحق .
قال : وكان الناس يتحدثون أن ذلك الرجل هو زيد (ع)
__________
(1) ساقطة من ب .
(*)(2/306)
ومن كلام له (ع) للخوارج لما سمع قولهم : لا حكم إلا لله قال : كلمه حق يراد بها باطل ، نعم إنه لا حكم إلا لله ولكن هؤلاء يقولون : لا إمرة (1) .
وإنه لا بد للناس من أمير بر أو فاجر ، يعمل في إمرته المؤمن ، ويستمتع فيها الكافر ، ويبلغ الله فيها الاجل ، ويجمع به الفئ ، ويقاتل به العدو ، وتأمن به السبل ، ويؤخذ به للضعيف من القوى ، حتى يستريح بر ، ويستراح من فاجر وفى روايه أخرى أنه (ع) لما سمع تحكيمهم قال : حكم الله أنتظر فيكم .
وقال : أما الامرة البرة فيعمل فيها التقى ، وأما الامرة الفاجرة فيتمتع فيها (2) الشقى ، إلى أن تنقطع مدته ، وتدركه منيته .
اختلاف الرأى في القول بوجوب الامامة هذا نص صريح منه (ع) ، بأن الامامة واجبة ، وقد اختلف الناس في هذه
__________
(1) ب : (لاإمرة إلا لله) وما أثبته عن ا ، ج ومخطوطة النهج .
(2) ا : (بها) .
(*)(2/307)
المسألة فقال المتكلمون : كلمة الامامة واجبة ، إلا ما يحكى عن أبى بكر الاصم من قدماء أصحابنا أنها غير واجبة ، إذا تناصفت الامة ولم تتظالم .
وقال المتأخرون من أصحابنا : إن هذا القول منه غير مخالف لما عليه الامة لانه إذا كان لا يجوز في العادة أن تستقيم أمور الناس من دون رئيس يحكم بينهم ، فقد قال بوجوب الرياسة على كل حال ، اللهم إلا أن يقول : إنه يجوز أن تستقيم أمور الناس من دون رئيس ، وهذا بعيد أن يقوله ، فأما طريق وجوب الامامة ما هي ؟ فإن مشايخنا البصريين رحمهم الله يقولون طريق وجوبها الشرع ، وليس في العقل ما يدل على وجوبها .
وقال البغداديون وأبو عثمان الجاحظ من البصريين وشيخنا أبو الحسين رحمه الله تعالى : إن العقل يدل على وجوب الرياسة ، وهو قول الامامية ، إلا أن الوجه الذى منه يوجب أصحابنا الرياسة غير الوجه الذى توجب الامامية منه الرياسة ، وذاك أن أصحابنا يوجبون الرياسة على المكلفين ، من حيث كان في الرياسة مصالح دنيوية ، ودفع مضار دنيوية .
والامامية يوجبون الرياسة على الله تعالى ، من حيث كان في الرياسة لطف وبعد للمكلفين عن مواقعة القبائح العقلية .
والظاهر من كلام أمير المؤمنين (ع) يطابق ما يقوله أصحابنا ، ألا تراه كيف علل قوله : لابد للناس من أمير ، فقال في تعليلة : يجمع به الفئ ، ويقاتل به العدو وتؤمن به السبل ، ويؤخذ للضعيف من القوى ! وهذه كلها من مصالح الدنيا .
فإن قيل : ذكرتم أن الناس كافة قالوا بوجوب الامام ، فكيف يقول أمير المؤمنين (ع) عن الخوارج إنهم يقولون : لا إمرة .
قيل : إنهم كانوا في بدء أمرهم يقولون ذلك ، ويذهبون إلى أنه لا حاجة إلى الامام ، ثم رجعوا عن ذلك القول لما أمروا عليهم عبد الله بن وهب الراسبى .(2/308)
فإن قيل : فسروا لنا ألفاظ أمير المؤمنين (ع) قيل : إن الالفاظ كلها ترجع إلى إمرة الفاجر .
قال : يعمل فيها المؤمن ، أي ليست بمانعة للمؤمن من العمل ، لانه يمكنه أن يصلى ويصوم ويتصدق ، وإن كان الامير فاجرا في نفسه .
ثم قال : ويستمتع فيها الكافر أي يتمتع بمدته ، كما قال سبحانه للكافرين قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار (1) .
ويبلغ الله فيها الاجل ، لان إمارة الفاجر كإمارة البر ، في أن المدة المضروبة فيها تنتهى إلى الاجل المؤقت للانسان .
ثم قال : ويجمع به الفئ ويقاتل به العدو ، وتأمن به السبل ، ويؤخذ به للضعيف من القوى ، وهذا كله يمكن حصوله في إمارة الفاجر القوى في نفسه ، وقد قال رسول الله (=) : إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ، وقد اتفقت المعتزلة على أن أمراء بنى أميه كانوا فجارا عدا عثمان ، وعمر بن عبد العزيز ، ويزيد بن الوليد وكان الفى يجمع بهم ، والبلاد تفتح في أيامهم ، والثغور الاسلامية محصنة محوطه ، والسبل آمنة ، والضعيف منصور على القوى الظالم ، وما ضر فجورهم شيئا في هذه الامور ثم قال (ع) فتكون هذه الامور حاصلة إلى أن يستريح بر بموته ، أو يستراح من فاجر بموته أو عزله .
فأما الرواية الثانية ، فإنه قد جعل التقى يعمل فيها للامرة خاصة .
وباقى الكلام غنى عن الشرح
__________
(1) سورة إبراهيم 39 (*)(2/309)
من أخبار الخوارج أيضا وروى إبراهيم بن الحسن بن ديزيل المحدث في كتاب صفين عن عبد الرحمن ابن زياد ، عن خالد بن حميد المصرى ، عن عمر مولى غفرة ، قال : لما رجع على (ع) من صفين إلى الكوفة ، أقام الخوارج حتى جموا (1) ، ثم خرجوا إلى صحراء بالكوفة تسمى حروراء ، فنادوا : لا حكم إلا لله ولو كره المشركون ، ألا إن عليا ومعاوية أشركا في حكم الله .
فأرسل على (ع) إليهم عبد الله بن عباس ، فنظر في أمرهم وكلمهم ، ثم رجع إلى على (ع) ، فقال له : ما رأيت ؟ فقال ابن عباس : والله ما أدرى ما هم ! فقال له على (ع) : رأيتهم منافقين ! قال : والله ما سيماهم بسيما المنافقين ، إن بين أعينهم لاثر السجود وهم يتأولون (2) القرآن .
فقال على (ع) : دعوهم ، ما لم يسفكوا دما ، أو يغصبوا مالا ، وأرسل إليهم : ما هذا الذى أحدثتم ؟ وما تريدون ؟ قالوا : نريد أن نخرج نحن وأنت ومن كان معنا بصفين ثلاث ليال ، ونتوب إلى الله من أمر الحكمين ، ثم نسير إلى معاوية ، فنقاتله حتى يحكم الله بيننا وبينه ، فقال على (ع) : فهلا قلتم هذا حين (3) بعثنا الحكمين وأخذنا منهم العهد ، وأعطيناهموه ! ألا قلتم هذا حينئذ ! قالوا : كنا قد طالت الحرب علينا ، واشتد البأس ، وكثر الجراح ، وخلا الكراع والسلاح ، فقال لهم : أفحين اشتد البأس عليكم ، عاهدتم ، فلما وجدتم الجمام قلتم ننقض العهد ! إن رسول الله كان يفى للمشركين ، أفتأمرونني بنقضه ! فمكثوا مكانهم لا يزال الواحد منهم يرجع إلى على (ع) ، ولا يزال الاخر
__________
(1) الجمام ، بالفتح : الراحة .
(2) ا : (ويتأولون) .
(3) ب : (حيث) .
(*)(2/310)
يخرج من عند على (ع) ، فدخل واحد منهم على على (ع) بالمسجد ، والناس حوله ، فصاح : لا حكم إلا لله ولو كره المشركون ، فتلفت الناس ، فنادى : لا حكم إلا لله ولو كره المتلفتون ، فرفع (1) على (ع) : رأسه إليه ، فقال : لا حكم إلا لله ولو كره أبو حسن .
فقال على (ع) : إن أبا الحسن لا يكره أن يكون الحكم لله ، ثم قال : حكم الله أنتظر فيكم ، فقال له الناس : هلا ملت يا أمير المؤمنين على هؤلاء فأفنيتهم ! فقال : إنهم لا يفنون ، إنهم لفى أصلاب الرجال وأرحام النساء ، إلى يوم القيامة .
وروى أنس بن عياض المدنى ، قال : حدثنى جعفر بن محمد الصادق (ع) ، عن أبيه عن جده أن عليا (ع) ، كان يوما يؤم الناس ، وهو يجهر بالقر اءة ، فجهر إبن الكواء من خلفه : ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين (3) ، فلما جهر ابن الكواء وهو خلفه بها سكت على ، فلما أنهاها ابن الكواء عاد على (ع) ، فأتم قراءته ، فلما شرع على (ع) في القراءة أعاد ابن الكواء الجهر بتلك الاية ، فسكت على ، فلم يزالا كذلك يسكت هذا ، ويقرأ ذاك مرارا ، حتى قرأ على (ع) : فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون (4) ، فسكت ابن الكواء ، وعاد (ع) إلى قراءته .
__________
(1) ب : (فرجع) ، وما أثبته عن ا ، ج (2) ب : (لا يكره أن يكون الجكم إلا لله) (3) سورة الزمر 65 (4) سورة الروم 60 (*)(2/311)
أيها الناس ، إن الوفاء توءم الصدق ، ولا أعلم جنة أوقى منه ، وما يغدر من علم كيف المرجع .
ولقد أصبحنا فزمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيسا ، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة مالهم قاتلهم الله ! قد يرى الحول القلب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله ونهيه ، فيدعها رأى عين بعد القدرة عليها ، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين .
يقال : هذا توءم هذا ، وهذه توءمته ، وهما توءمان وإنما جعل الوفاء توءم الصدق ، لان الوفاء صدق في الحقيقة ، توءمته ، وهما توءمان ، وإنما جعل الوفاء توءم الصدق ، لان الوفاء صدق في الحقيقة ، ألا ترى أنه قد عاهد على أمر وصدق فيه ولم يخلف ، وكأنهما أعم وأخص ، وكل ألا ترى أنه قد عاهد على أمر وصدق فيه ولم يخلف ، وكأنهما أعم وأخص وكل وفاء صدق ، وليس كل صدق وفاء ، فإن امتنع من حيث الاصطلاح تسمية الوفاء صدقا فلامر آخر ، وهو أن الوفاء قد يكون بالفعل دون القول ، ولا يكون الصدق إلا في القول ، لانه نوع من أنواع الخبر ، والخبر قول .
__________
(1) من مخطوط النهج .
(2) ب (ولا) .
(*)(2/312)
ثم قال : ولا أعلم جنة أي درعا .
أوقى منه ، أي أشد وقاية وحفظا لان الوفى محفوظ من الله ، مشكور بين الناس .
ثم قال : وما يغدر من علم كيف المرجع ، أي من علم الاخرة وطوى عليها عقيدتة ، منعه ذلك أن يغدر ، لان الغدر يحبط الايمان .
ثم ذكر أن الناس في هذا الزمان ينسبون أصحاب الغدر إلى الكيس ، وهو الفطنة والذكاء ، فيقولون لمن يخدع ويغدر ، ولارباب الجريرة والمكر : هؤلاء أذكياء أكياس كما كانوا ، يقولون في عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وينسبون أرباب ذلك إلى حسن الحيلة وصحة التدبير .
ثم قال : ما لهم قاتلهم ! الله دعاء عليهم .
ثم قال : قد يرى الحول القلب وجه الحيلة ، ويمنعه عنها نهى الله تعالى عنها ، وتحريمه بعد أن قدر عليها ، وأمكنه .
والحول القلب : الذى قد تحول وتقلب في الامور وجرب وحنكته الخطوب والحوادث .
ثم قال : وينتهز فرصتها ، أي يبادر إلى افتراصها ويغتنمها .
من لا حريجة له في الدين ، أي ليس بذى حرج ، والتحرج : التأثم .
والحريجة : التقوى ، وهذه كانت سجيته (ع) وشيمته ، ملك أهل الشام الماء عليه ، والشريعة بصفين ، وأرادوا قتله وقتل أهل العراق ، عطشا ، فضاربهم على الشريعة حتى ملكها عليهم ، وطردهم عنها فقال له أهل العراق : اقتلهم بسيوف العطش ، وامنعهم الماء ، وخذهم قبضا بالايدي ، فقال : إن في حد السيف لغنى عن ذلك ، وإنى لا أستحل منعهم الماء .
فأفرج لهم عن الماء فوردوه ، ثم قاسمهم الشريعة شطرين بينهم وبينه .
وكان الاشتر يستأذنه أن يبيت (1) معاوية ، فيقول :
__________
(19 يقال : بيت الدو ، أي قصده في الليل من غير أن يعلم فيؤخذ بغتة ، وهو البيات .
(*)(2/313)
إن رسول الله (ص) نهى أن يبيت المشركون ، وتوارث بنوه (ع) هذا الخلق الابى .
أراد المضاء أن يبيت عيسى بن موسى فمنعه إبراهيم بن عبد الله (1) .
وأرسل لما ظهر بالبصرة إلى محمد بن قحطبة مولى باهلة وكان قد ولى لابي جعفر المنصور بعض أعمال بفارس ، فقال له : هل عندك مال ! قال : لا ، قال : آلله ؟ قال : آلله قال : خلواسبيله ، فخرج ابن قحطبة ، وهو يقول بالفارسة ، ليس هذا من رجال أبى جعفر .
وقال لعبد الحميد بن لاحق : بلغني أن عندك مالا للظلمة ، يعنى آل أبى أيوب الموريانى كاتب المنصور ، فقال : مالهم عندي مال ، قال : تقسم بالله ! قال : نعم ، فقال : إن ظهر لهم عندك مال لاعدنك كذابا (2) .
وأرسل إلى طلحة الغدرى وكان للمنصور عنده مال : بلغنا ، أن عندك مالا فأتنا به ، فقال : أجل ، إن عندي مالا ، فإن أخذته منى أغرمنيه أبو جعفر فأضرب عنه .
وكان لغير إبراهيم (ع) من آل أبى طالب من هذا النوع أخبار كثيرة وكان القوم أصحاب دين ليسوا من الدنيا بسبيل ، وإنما يطلبونها ليقيموا عمود الدين بالامرة فيها فلم يستقم لهم ، والدنيا إلى أهلها أميل .
__________
(1) هو إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب ، دخل البصرة على عهد أبى جعفر المنصور ودعا الناس إلى أخيه محمد بن عبد الله فبايعه كثيرون من أهلها ، ثم استولى على الاهواز وواسط ، ولم يزل بها حتى ؤتاه نعى أخيه محمد قبل فطر سنة 145 بثلانة أيام ، فأرسل إليه أبو جعفر قائده عيسى بن موسى ، فخرج إبراهيم لملاقاته ، والتقيا عند با خمرى وكانت العاقبة لعيسى ، وقتل إبراهيم لخمس ليال بقين من ذى القعدة سنة 145 ، والمضاء أحد رجاله .
مقاتل الطالبيين 315 وما بعدها ، وتاريخ الطبري (حوادث سنة 145) .
(2) مقاتل الطالبيين 333 (*)(2/314)
ومن الاخبار النبوية المرفوعة في ذم الغدر : (ذمة المسلمين واحدة ، فإن أجارت عليهم أمة منهم ، فلا تخفروا جوارها ، فإن لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة (1) .
) وروى أبو هريرة ، قال : مر رسول الله (ص) برجل يبيع طعاما فسأله : كيف تبيع ؟ فأخبره ، فأمر أبا هريرة أن يدخل فيه يده ، فأدخلها فإذا هو مبلول ، فقال رسول الله (ص) : ليس منا من غش قال بعض الملوك لرسول ورد إليه من ملك آخر : أطلعني على سر صاحبك ، فقال : أيها الملك ، إنا لا نستحسن الغدر ، وإنه لو حول ثواب الوفاء إليه لما كان فيه عوض من قبحه ، ولكان سماجة اسمه ، وبشاعة ذكره ، ناهيين عنه .
مالك بن دينار : كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينا للخونة .
وقع جعفر بن يحيى على ظهر كتاب كتبه على بن عيسى بن ماهان إلى الرشيد ، يسعى (2) فيه بالبرامكة ، فدفعه الرشيد إلى جعفر ، يمن به عليه ، وقال : أجبه عنه ، فكتب في ظاهره : حبب الله إليك الوفاء يا أخي فقد أبغضته ، وبغض إليك الغدر فقد أحببته ، إنى نظرت إلى الاشياء حتى أجد لك فيها مشبها فلم أجد ، فرجعت إليك ، فشبهتك بك ، ولقد بلغ من حسن ظنك بالايام أن أملت السلامة مع البغى ، وليس هذا من عاداتها .
والسلام .
كان العهد في عيسى بن موسى بن محمد بعد المنصور بكتاب كتبه السفاح ، فلما طالت أيام المنصور ، سامه أن يخلع نفسه من العهد ، ويقدم محمدا المهدى عليه ، فكتب إليه عيسى : بدت لى أمارات من الغدر شمتها * أرى ما بدا منها سيمطركم دما
__________
(1) مقله السيوطي في الجامع الصغير 2 : 30 عن الحاكم ، مع اختلاف في الرواية (2) السعي هنا : الوشاية .
(*)(2/315)
وما يعلم العالي متى هبطاته * وإن سار في ريح الغرور مسلما أبو هريرة يرفعه : (اللهم إنى أعوذ بك من الجوع فبئس الضجيع ، وأعوذ بك من الجوع فبئس الضجيع ، وأعوذ بك من الخيانة فبئست البطانة ! وعنه مرفوعا : المكر والخديعة والخيانة في النار .
قال مروان بن محمد لعبد الحميد الكاتب ، عند زوال أمره : أرى أن تصير إلى هؤلاء ، فلعلك أن تنفعني في مخلفي ، فقال : وكيف لى بعلم الناس جميعا أن هذا عن رأيك ! إنهم ليقولون كلهم : إنى غدرت بك ، ثم أنشد : وغدري ظاهر .
لا شك فيه * لمبصره وعذرى بالمغيب فلما ظفر به عبد الله بن على ، قطع يديه ورجليه ، ثم ضرب عنقه .
كان يقال : لا يغدر غادر إلا لصغر همته عن الوفاء ، واتضاع قدره عن احتمال المكاره في جنب نيل المكارم .
من كلام أمير المؤمنين (ع) : الوفاء لاهل الغدر غدر ، والغدر بأهل الغدر وفاء عند الله تعالى .
قلت : هذا إنما يريد به إذا كان بينهما عهد ومشارطة فغدر أحد الفريقين ، وخاس بشرطه ، فإن للاخر أن يغدر بشرطه أيضا ولا يفى به .
ومن شعر الحماسة ، واسم الشاعر العارق الطائى (1) .
__________
(1) واسمه أيضا قيس بن جروة الطائى ، والابيات في ديوان الحماسة بشرح المرزوق 3 : 1466 ، 1467 .
قال الشارح : (كان عمرو بن هند غزا اليمامة فأحفق ورجع منفضا ، فمر بطئ - وكانوا في ذمته - بكتاب عقد اكتتبه لهم ، وعهد أحكمه معهم فقال زرارة بن عدس له : أبيت اللعن ! أصب من هذا الحى شيئا .
قال : ويلك ! إن لهم عقدا لا يجوز لنا تخطيه .
فأخذ زرارة يهون أمر العهد عليه ، ويحسن الايقاع بهم ، فلم يزل يفتل له في الذروة والغارب معه لشئ كان في نفسه على طئ ، حتى أصاب أذوادا ونساء ، فهجا عارق عمرو بن هند بأبيات يعصب بها رأسه فيها بالغدر الذى كان منه ، فوقعت الابيات إلى عمرو بن هند ، فتوعد عارقا وحلف أنه يقتله ، فاتصلت مقالته بعارق ، فقال هذه الابيات) (*)(2/316)
من مبلغ عمرو بن هند رسالة .
* إذا استحقبتها العيس جاءت من البعد (1) أيوعدنى الرمل بينى وبينه * تبين رويدا ما أمامة من هند ! (2) ومن أجا حولي رعان كأنها * قنابل خيل من كميت ومن ورد (3) غدرت بأمر كنت أنت اجتررتنا * إليه وبئس الشيمة الغدر بالعهد .
(4) قال أبو بكر الصديق : ثلاث من كن فيه كن عليه : البغى والنكث والمكر ، قال سبحانه : يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم (5) وقال : فمن نكث فإنما ينكث على نفسه (6) ، وقال : ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله (7)
__________
(1) استحقبتها : حملتها في الحقائب .
وتنضى : تهزل (2) أيوعدنى ، الاستفهام على طريق التقريع واستعظام الامر (3) أجأ : أحد جبلى طئ ، وثانيهما سلمى .
جمع رعن ، وهو أنف يتقدم من الجبل .
والقنابل جماعات الخيل ، قال التبريزي ، (جعلها مختلفة الالوان لاختلاف ألوان الجبال) (4) في حماسة المرزوقى (اجتذبتنا) وفى التبريزي : دعوتنا .
(5) سورة يونس 23 (6) سورة الفتح 10 (7) سورة فاطر 43 .
(*)(2/317)
أيها الناس ، إن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان اتباع الهوى وطول الامل ، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق وأما طول الامل فينسى الاخرة .
ألا وإن الدنيا قد ولت حذاء فلم يبق منها إلا صبابة كصبابة الاناء ، اصطبها صابها .
ألا وإن الاخرة قد أقبلت ، ولكل منهما بنون ، فكونوا من أبناء الاخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإن كل ولد سيلحق بأمه يوم القيامة ، وإن اليوم عمل ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل .
قال الرضى رحمه الله : أقول : الحذاء : السريعة ، ومن الناس من يرويه : جذاء بالجيم والذال ، أي انقطع درها وخيرها .
الصبابة : بقية الماء في الاناء .
واصطبها صابها ، مثل قولك : أبقاها مبقيها أو تركها تاركها ، ونحو ذلك يقول : أخوف ما أخافه عليكم اتباع الهوى وطول الامل ، أما اتباع الهوى فيصد عن الحق ، وهذا صحيح لا ريب فيه ، لان الهوى يعمى البصيرة وقد قيل :(2/318)
حبك الشئ يعمى ويصم ، ولهذا قال بعض الصالحين : رحم الله امرأ أهدى إلى عيوبي ، وذاك لان الانسان يحب نفسه ، ومن أحب شيئا عمى عن عيوبه ، فلا يكاد الانسان يلمح عيب نفسه وقد قيل : أرى كل إنسان يرى عيب غيره * ويعمى عن العيب الذى هو فيه .
فلهذا استعان الصالحون على معرفة عيوبهم بأقوال غيرهم ، علما منهم أن هوى النفس لذاتها يعميها عن أن تدرك عيبها ، وما زال الهوى مرديا قتالا ، ولهذا قال سبحانه : ونهى النفس عن الهوى (1) ، وقال (ص) : ثلاث مهلكات : شح مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه (2) .
وأنت إذا تأملت هلاك من هلك من المتكلمين كالمجبرة والمرجئة ، مع ذكائهم وفطنتهم واشتغالهم بالعلوم ، عرفت أنه لاسبب لهلاكهم إلا هوى الانفس ، وحبهم الانتصار للمذهب الذى قد ألفوه ، وقد رأسوا بطريقة ، وصارت لهم الاتباع والتلامذة ، وأقبلت الدنيا عليهم ، وعدهم السلاطين علماء ورؤساء ، فيكرهون نقض ذلك كله وإبطاله ، ويحبون الانتصار لتلك المذاهب والاراء التى نشئوا عليها ، وعرفوا بها ، ووصلوا إلى ما وصلوا إليه بطريقها ، ويخافون عار الانتقال عن المذهب ، وأن يشتفى بهم الخصوم ويقرعهم الاعداء ، ومن أنصف علم أن الذى ذكرناه حق وأما طول الامل فينسى الاخرة ، وهذا حق لان ، الذهن إذا انصرف إلى الامل ، ومد الانسان في مداه ، فإنه لا يذكر الاخرة ، بل يصير مستغرق الوقت بأحوال الدنيا ، وما يرجو حصوله منها في مستقبل الزمان .
__________
(1) سور النازعات 40 (2) كذا أورد الحديث مختصرا ، ونقله السيوطي في الجامع الصغير (1 : 236) بهذه الرواية : (ثلاث مهلكات ، وثلاث منجيات ، وثلاث كفارات ، وثلاث درجات ، فأما المهلكات فشح مطاع ، وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه ، أما المنجيات ..) إلى آخر الحديث .
(*)(2/319)
ومن كلام مسعر بن كدام : كم من مستقبل يوما ليس يستكمله ، ومنتظر غدا ليس من أجله ! ولو رأيتم الاجل ومسيره ، أبغضتم الامل وغروره .
وكان يقال : تسويف الامل غرار ، وتسويل المحال ضرار .
ومن الشعر المنسوب إلى على (ع) : غر جهولا أمله * يموت من جا أجله ومن دنا من حتفه * لم تغن عنه حيله وما بقاء آخر * قد غاب عنه أوله والمرء لا يصحبه * في القبر إلا عمله .
وقال أبو العتاهية .
لا تأمن الموت في لحظ ولا نفس * ولو تمنعت بالحجاب والحرس (1) واعلم بأن سهام الموت قاصدة * لكل مدرع منا ومترس ما بال دينك ترضى أن تدنسه * وثوب لبسك مغسول من الدنس ! ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها * إن السفينة لا تجرى على اليبس ومن الحديث المرفوع : أيها الناس إن الاعمال تطوى ، والاعمار تفنى ، والابدان تبلى في الثرى ، وإن الليل والنهار يتراكضان تراكض الفرقدين ، يقربان كل بعيد ، ويخلقان كل جديد ، وفى ذلك ما الهى عن الامل ، وأذكرك بحلول الاجل وقال بعض الصالحين : بقاؤك إلى فناء ، وفناؤك إلى بقاء فخذ من فنائك الذى الذى لا يبقى ، لبقائك الذى لا يفنى .
وقال بعضهم : اغتنم بنفس الاجل ، وإمكان العمل ، اقطع ذكر المعاذير والعلل ودع تسويف الامانى والامل ، فإنك في نفس معدود ، وعمر محدود ، ليس بممدود .
وقال بعضهم : اعمل عمل المرتحل ، فإن حادى الموت يحدوك ليوم لا يعدوك
__________
(1) ديوانه 133 .
(*)(2/320)
ثم قال (ع) : ألا إن الدنيا قد أدبرت حذاء بالحاء والذال المعجمة ، وهى السريعة ، وقطاة حذاء : خف ريش ذنبها ، ورجل أحذ ، أي خفيف اليد ، وقد روى : قد أدبرت جذاء بالجيم ، أي قد انقطع خيرها ودرها .
ثم قال : إن كل ولد سيلحق بأمه يوم القيامة ، فكونوا من أبناء الاخرة لتلحقوا بها وتفوزوا ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا فتلحقوا بها وتخسروا .
ثم قال : اليوم عمل ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل ، وهذا من باب المقابلة في علم البيان (1)
__________
(1) هنا آخر الجزء الثاني في نسخة ا ، وفيها تعد هذه الكامة : (تم الجزء الثاني من شرح تهج البلاغة) (*)(2/321)
ومن كلام له (ع) ، وقد أشار عليه أصحابه بالاستعداد لحرب أهل الشام ، بعد إرساله إلى معاويه بجرير بن عبد الله البجلى : إن استعدادي لحرب أهل الشام وجرير عندهم ، إغلاق للشام ، وصرف لاهله عن خير إن أرادوه ، ولكن قد وقت لجرير وقتا لا يقيم بعده إلا مخدوعا أو عاصيا والرأى مع الاناة فارودوا ، ولا أكره لكم الاعداد ولقد ضربت أنف هذا الامر وعينه ، وقلبت ظهره وبطنه ، فلم أر فيه (1) إلا القتال أو الكفر (2 بما جاء به محمد (ص) 2) .
إنه قد كان على الامة وال أحدث أحداثا ، وأوجد الناس (3) مقالا فقالوا ، ثم نقموا فغيروا أرودوا ، أي ارفقوا ، أرود في السير إروادا ، أي سار برفق ، والاناه : التثبت والتأنى ونهيه لهم عن الاستعداد ، وقوله بعد : ولا أكره لكم الاعداد غير متناقض ، لانه كره منهم إظهار الاستعداد والجهر به ، ولم يكره الاعداد في السر ، وعلى وجه الخفاء
__________
(1) كذا في ب ، وفى ا : (فلم أر إلا القتال) ، وفى ج : (فلم أر لي إلا القتال) (2 - 2) كذا في ب 7 وهو ساقط من ا ، ج (3) مخطوطة النهج .
(للناس) (*)(2/322)
والكتمان ، ويمكن أن يقال إنه كره استعداد نفسه ، ولم يكره إعداد أصحابه ، وهذان متغايران .
وهذا الوجه اختاره القطب الراوندي .
ولقائل أن يقول : التعليل الذى علل به (ع) يقتضى كراهية الامرين معا ، وهو أن يتصل بأهل الشام الاستعداد ، فيرجعوا عن السلم إلى الحرب ، بل ينبغى أن تكون كراهته لاعداد جيشه وعسكره خيولهم وآلات حربهم أولى ، لان شياع ذلك أعظم من شياع استعداده وحده ، لانه وحده يمكن أن يكتم استعداده ، وأما استعداد العساكر العظيمة ، فلا يمكن أن يكتم ، فيكون إتصاله وانتقاله إلى أهل الشام أسرع ، فيكون ، إغلاق الشام عن باب خير إن أرادوه أقرب والوجه في الجمع بين اللفظتين ما قدمناه .
وأما قوله (ع) : ضربت أنف هذا الامر وعينه ، فمثل تقوله العرب إذا أرادت الاستقصاء في البحث والتأمل والفكر ، وإنما خص الانف والعين ، لانهما صورة الوجه ، والذى يتأمل من الانسان إنما هو وجهه .
وأما قوله : ليس إلا القتال أو الكفر فلان النهى عن المنكر واجب على الامام ، ولا يجوز له الاقرار عليه ، فإن تركه فسق ، ووجب عزله عن الامامة .
وقوله : أو الكفر من باب المبالغة ، وإنما هو القتال أو الفسق ، فسمى الفسق كفرا تغليظا وتشديدا في الزجر عنه .
وقوله (ع) : أوجد الناس مقالا ، أي جعلهم واجدين له (1) .
وقال الراوندي : أوجد هاهنا بمعنى أغضب .
وهذا غير صحيح ، لانه لا شئ ينصب به مقالا إذا كان بمعنى أغضب .
والوالى المشار إليه عثمان .
__________
(1) عبارة ابن ميثم (أي جعل لهم بتلك الاحداث طرقا إلى القول عليه فقالوا .
(*)(2/323)
ذكر ما أورده القاضى عبد الجبار من دفع ما تعلق به الناس على عثمان من الاحداث يجب أن نذكر هاهنا أحداثه ، وما يقوله أصحابنا في تأويلاتها ، وماتكا به المرتضى في كتاب الشافي في هذا المعنى ، فنقول : إن قاضى (1) القضاة رحمه الله تعالى ، قال في المغنى قبل الكلام في تفصيل هذه الاحداث كلاما مجملا ، معناه أن كل من تثبت عدالته ووجب توليه ، إما على القطع وإما على الظاهر ، فغير جائز أن يعدل فيه عن هذه الطريقة إلا بأمر متيقن يقتضى العدول عنها ، يبين ذلك أن من شاهدناه على ما يوجب الظاهر توليه وتعظيمه يجب أن يبقى فيه على هذه الطريقة ، وإن غاب عنا ، وقد عرفنا أن مع الغيبة يجوز أن يكون مستمرا على حالته ، ويجوز أن يكون منتقلا ، ولم يقدح هذا التجويز في وجوب ما ذكرناه .
ثم قال : فالحدث الذى يوجب الانتقال عن التعظيم والتولى إذا كان من باب محتمل لم يجز الانتقال لاجله .
والاحوال المتقررة في النفوس بالعادات والاحوال المعروفة فيمن نتولاه أقوى في باب الامارة من الامور المتجددة فإن مثل فرقد السبخى (2) ، ومالك ابن دينار (3) ، لو شوهدا في دار فيها منكر لقوى في الظن حضورهما للتغيير والانكار ،
__________
(1) هو عبد الجبار بن أحمد بن عيد الجبار الهمداني ، صاحب كتاب (المغنى) في الجدل ، وإماى أهل امعترلة في زمانه ، توفى 415 .
طبقات الشافعية 3 : 219 .
(2) السبخى ، بفتح السين والباء الموحدة ، وفى آخرها خاء معجمة : منسوب إلى السبخة ، موضع بالبصرة ، وهو أبو يعقوب فرقد بن يعقوب السبخى ، من زهاد البصرة ، ومات سنة 131 معجم البلدان 5 : 27 .
(3) هو أبويحيى .
مالك بن دينار ، وكان من كبار الزهاد والوعاظ ، روى أنس بن مالك وعن جماعة من كبار التابعين كالحسن وابن سيرين ، توفى سنة 130 .
صفة الصفوة 3 : 197 .
(*)(2/324)
أو على وجه الاكراه أو الغلط ، ولو كان الحاضر هناك من علم من حاله الاختلاط بالمنكر لجوز حضوره للفساد ، بل كان ذلك هو الظاهر من حاله .
ثم قال : واعلم أن الكلام فيما يدعى من الحدث والتغير فيمن ثبت توليه ، قد يكون من وجهين : أحدهما : هل علم بذلك أم لا ؟ والثانى : أنه مع يقين حصوله : هل هو حدث يؤثر في العدالة أم لا ؟ ولا فرق بين تجويز ألا يكون حدث أصلا ، وبين أن يعلم حدوثه ، ويجوز ألا يكون حدثا .
ثم قال : كل محتمل لو أخبر الفاعل أنه فعله على أحد الوجهين ، وكان يغلب على الظن صدقه لوجب تصديقه ، فإذا عرف من حاله المتقررة في النفوس ما يطابق ذلك جرى مجرى الاقرار ، بل ربما كان أقوى ، ومتى لم نسلك هذه الطريقة في الامور المشتبهة لم يصح في أكثر من نتولاه ونعظمه أن تسلم حاله عندنا ، فإنا لو رأينا من يظن به الخير ، يكلم امرأة حسناء في الطريق لكان ذلك من باب المحتمل ، فإذا كان لو أخبر أنها أخته أو امرأته لوجب ألا نحول عن توليه ، فكذلك إذا كان قد تقدم في النفوس ستره وصلاحه ، فالواجب أن نحمله على هذا الوجه .
ثم قال : وقول الامام له مزية في هذا الباب ، لانه آكد من غيره ، وأما ما ينقل عن رسول الله (ص) فإنه وإن لم يكن مقطوعا به يؤثر في هذا الباب ، ويكون أقوى مما تقدم .
ثم قال : وقد طعن الطاعنون فيه بأمور متنوعة مختلفه ، ونحن نقدم على تلك المطاعن كلاما مجملا ، يبين بطلانها على الجملة ، ثم نتكلم عن تفصيلها .(2/325)
قال : وذلك أن شيخنا أبا على (1) رحمه الله تعالى قد قال : لو كانت هذه الاحداث مما توجب طعنا على الحقيقة ، لوجب من الوقت الذى ظهر ذلك من حاله أن يطلب المسلمون رجلا ينصب للامامة وأن يكون ظهور ذلك عن عثمان كموته ، فإنه لا خلاف أنه متى ظهر من الامام ما يوجب خلعه ، أن الواجب على المسلمين إقامة إمام سواه ، فلما علمنا أن طلبهم لاقامة إمام إنما كان بعد قتله ، ولم يكن من قبل والتمكن قائم ، علمنا بطلان ما أضيف إليه من الاحداث .
قال : وليس لاحد أن يقول : إنهم لم يتمكنوا من ذلك ، لان المتعالم من حالهم أنهم حصروه ومنعوه من التمكن من نفسه ، ومن التصرف في سلطانه ، خصوصا والخصوم يدعون أن الجميع كانوا على قول واحد في خلعه والبراءة منه .
قال : ومعلوم من حال هذه الاحداث أنها لم تحصل أجمع في الايام التى حوصر فيها وقتل ، بل كانت تحصل من قبل حالا بعد حال ، فلو كان ذلك يوجب الخلع والبراءة لما تأخر من المسلمين الانكار عليه ، ولكان كبار الصحابة المقيمون بالمدينة أولى بذلك من الواردين من البلاد ، لان أهل العلم والفضل بإنكار ذلك أحق من غيرهم .
قال : فقد كان يجب على طريقتهم أن تحصل البراءة والخلع من أول الوقت الذى حصل منه ما أوجب ذلك ، وألا ينتظر حصول غيره من الاحداث ، لانه لو وجب انتظار ذلك لم ينته إلى حد إلا وينتظر غيره .
ثم ذكر أن إمساكهم عن ذلك إذا تيقنوا الاحداث منه يوجب نسبة الجميع إلى الخطا والضلال .
ولا يمكنهم أن يقولوا : أن علمهم بذلك إنما حصل في الوقت الذى حصر ومنع ، لان من جملة الاحداث التى يذكرونها ما تقدم عن هذه الحال ، بل كلها أو جلها تقدم هذا الوقت ، وإنما يمكنهم أن يتعلقوا فيما حدث في هذا الوقت بما يذكرونه من
__________
(1) هو محد بن عبد الوهاب الجبائى ، شيخ المعتزلة .
توفى سنة 303 .
شذرات الذهب 2 : 241 .
(*)(2/326)
حديث الكتال النافذ إلى ابن أبى سرح بالقتل ، وما أوجب كون ذلك حدثا يوجب كون غيره حدثا ، فكان يجب أن يفعلوا ذلك من قبل ، واحتمال المتقدم للتأويل كاحتمال المتأخر .
ثم قال : وبعد ، فليس يخلو من أن يدعوا أن طلب الخلع وقع من كل الامة أو من بعضهم ، فإن ادعوا ذلك في بعض الامة ، فقد علمنا أن الامامة إذا ثبتت بالاجماع لم يجز إبطالها ، بلا خلاف ، لان الخطأ جائز على بعض الامة ، وإن ادعوا في ذلك الاجماع ، لم يصح ، لان من جملة أهل الاجماع عثمان ومن كان ينصره ، ولا يمكن إخراجه من الاجماع ، بأن يقال : إنه كان على باطل ، لان بالاجماع يتوصل إلى ذلك ، ولم يثبت .
ثم قال : على أن الظاهر من حال الصحابة أنها كانت بين فريقين ، أما من نصره ، فقد روى عن زيد بن ثابت أنه قال لعثمان ومن معه من الانصار : ائذن لنا بنصرك .
وروى مثل ذلك عن ابن عمر وأبى هريرة والمغيرة بن شعبة ، والباقون ممتنعون انتظارا لزوال العارض ، إلا أنه لو ضيق عليهم الامر في الدفع ما قعدوا ، بل المتعالم من حالهم ذلك .
ثم ذكر ما روى من إنفاذ أمير المؤمنين (ع) الحسن والحسين (ع) إليه وأنه لما قتل لامهما (ع) على وصول القوم إليه ، ظنا منه أنهما قصرا .
وذكر أن أصحاب الحديث يروون عن النبي (ص) أنه قال : ستكون فتنه واختلاف ، وإن عثمان وأصحابه يومئذ على الهدى .
وما روى عن عائشة من قولها : قتل والله مظلوما .
قال : ولا يمتنع أن يتعلق بأخبار الاحاديث في ذلك ، لانه ليس هناك أمر ظاهر يدفعه ، نحو دعواهم أن جميع الصحابة كانوا عليه ، لان ذلك دعوى منهم ، وإن كان فيه رواية من جهة الاحاد ، وإذا تعارضت الروايات سقطت ، ووجب الرجوع إلى ما ثبت من أحواله السليمة ، ووجوب توليه .(2/327)
قال : ولا يجوز أن يعدل عن تعظيمه وصحة إمامته بأمور محتملة ، فلا شئ مما ذكروه إلا ويحتمل الوجه الصحيح .
ثم ذكر أن للامام أن يجتهد برأيه في الامور المنوطه به ، ويعمل فيها على غالب ظنه ، وقد يكون مصيبا ، وإن أفضت إلى عاقبة مذمومة .
فهذه جملة ما ذكره قاضى القضاة رحمه الله تعالى في المغنى من الكلام إجمالا في دفع ما يتعلق به على عثمان من الاحداث (1) رد المرتضى على ما أورده القاضى عبد الجبار من الدفاع عن عثمان واعترض المرتضى رحمه الله تعالى في الشافي (2) ، فقال : أما قوله : من تثبت عدالته ووجب توليه إما قطعا أو على الظاهر ، فغير جائز أن يعدل فيه عن هذه الطريقة إلا بأمر متيقن ، فغير مسلم لان من نتولاه على الظاهر ، وثبتت عدالته عندنا من جهة غالب الظن ، يجب أن نرجع عن ولايته بما يقتضى غالب الظن دون اليقين ، ولهذا يؤثر في جرح الشهود وسقوط عدالتهم أقوال الجارحين ، وإن كانت مظنونة غير معلومة .
وما يظهر من أنفسهم من الافعال التى لها ظاهر يظن معه القبيح بهم حتى نرجع عما كنا عليه من القول بعدالتهم ، وإن لم يكن كل ذلك متيقنا ، وإنما يصح ما ذكره فيمن ثبتت عدالته على القطع ووجب توليه على الباطن ، فلا يجوز أن يؤثر في حاله ما يقتضى الظن ، لان الظن لا يقابل العلم ، والدلالة لا تقابل الامارة .
فإن قال : لم أرد بقولى إلا بأمر متيقن أن كونه حدثا متيقن ، وإنما أردت تيقن وقوع الفعل نفسه .
قلنا : الامران سواء في تأثير غلبة الظن فيهما ، ولهذا يؤثر في عدالة من تقدمت
__________
(1) نقله المتضى في الشافي 264 مع تصرف في العبارة .
(2) كتاب الشافي في الامامة والرد على كتاب المغنى .
طبع في العجم سنة 1301 .
(*)(2/328)
عدالته عندنا على سبيل الظن أقوال من يخبرنا عنه بارتكاب القبائح (1) إذا كانوا عدولا ، وإن كانت أقوالهم لا تقتضي اليقين ، بل يحصل عندها غالب الظن .
وكيف لا نرجع عن ولاية من توليناه على الظاهر بوقوع أفعال منه يقتضى ظاهرها خلاف الولاية ، ونحن إنما قلنا بعدالته في الاصل على سبيل الظاهر ! ومع التجويز لان يكون ما وقع منه في الباطن قبيحا لا يستحق به التولى والتعظيم ، ألا ترى أن من شاهدناه يلزم مجالس العلم ، ويكرر تلاوه القرآن ، ويدمن الصلاة والصيام والحج ، يجب أن نتولاه ونعظمه على الظاهر ! وإن جوزنا أن يكون جميع ما وقع منه مع خبث باطنه ، وأن غرضه في فعله القبيح فلم نتوله إلا على الظاهر .
ومع التجويز ، فكيف لا نرجع عن ولايته بما يقابل هذه الطريقة ! فأما من غاب عنا وتقدمت له أحوال تقتضي الولاية ، فيجب أن نستمر على ولايته ، وإن جوزنا على الغيبة أن يكون منتقلا عن الاحوال الجميلة التى عهدناها منه ، إلا إن هذا تجويز محض لا ظاهر معه يقابل ما تقدم من الظاهر الجميل ، وهو بخلاف ماذ كرناه من مقابلة الظاهر للظاهر ، وإن كان في كل واحد من الامرين تجويز .
قال : وقد أصاب في قوله : إن ما يحتمل لا ينتقل (2) له عن التعظيم والتولى إن أراد بالاحتمال ما لا ظاهر له ، وأما ما له ظاهر ومع ذلك يجوز أن يكون الامر فيه بخلاف ظاهره ، فإنه لا يسمى محتملا .
وقد يكون مؤثرا فيما ثبت من التولى على الظاهر على ما ذكرناه .
قال : فأما قوله : إن الاحوال المتقررة في النفوس بالعادات فيمن نتولاه تؤثر ما لا يؤثر غيرها ، وتقتضي حمل أفعاله على الصحة والتأول له ، فلا شك أن ما ذكره مؤثر وطريق قوى إلى غلبه الظن ، إلا أنه ليس يقتضى ما يتقرر في نفوسنا لبعض من نتولاه على الظاهر أن نتأول كل ما يشاهد منه من الافعال التى لها ظاهر قبيح ، ونحمل الجميع على
__________
(1) الشافي : (قبيح) .
(2) الشافي : (لا يجوز أن ينتقل له) .
(*)(2/329)
أجمل الوجوه ، وإن كان بخلاف الظاهر ، بل ربما تبين الامر فيما يقع (1) منه من الافعال التى ظاهرها القبيح إلى أن تؤثر أحواله المقررة ، ونرجع بها عن ولايته ، ولهذا نجد كثيرا من أهل العدالة المتقررة لهم في النفوس ، ينسلخون منها حتى يلحقوا بمن لا تثبت له في وقت من الاوقات عدالة ، وإنما يكون ذلك بما يتوالى منهم ويتكرر من الافعال القبيحة الظاهرة .
قال : فأما ما استشهد به من أن مثل مالك بن دينار لو شاهدناه في دار فيها منكر لقوى في الظن حضوره لاجل التغيير والانكار (2) ، أو على وجه الاكراه والغلط وأن غيره يخالفة في هذا الباب ، فصحيح لا يخالف ما ذكرناه ، لان مثل مالك بن دينار ، ممن تناصرت أمارات عدالته وشواهد نزاهته حالا بعد حال ، لا يجوز أن يقدح فيه فعل له ظاهر قبيح ، بل يجب لما تقدم من حاله أن نتاول فعله ، ونخرجه عن ظاهره إلى أجمل وجوهه .
وإنما وجب ذلك لان الظنون المتقدمة أقوى وأولى بالترجيح والغلبة ، فنجعلها قاضية على الفعل والفعلين ، ولهذا متى توالت منه الافعال القبيحة الظاهرة وتكررت ، قدحت في حاله ، وأثرت في ولايته ، كيف لا يكون كذلك وطريق ولايته في الاصل هو الظن والظاهر ، ولا بد من قدح الظاهر في الظاهر ، وتأثير الظن في الظن على بعض الوجوه .
قال : فأما قوله : فإن كل محتمل لو أخبرنا عنه وهو مما يغلب على الظن صدقه أنه فعله على أحد الوجهين ، وجب تصديقه ، فمتى عرف من حاله المتقررة في النفوس ما يطابق ذلك جرى مجرى الاخبار (3) ، فأول ما فيه أن المحتمل هو مالا ظاهر له من الافعال ، والذى يكون جواز كونه قبيحا كجواز كونه حسنا ، ومثل هذا الفعل لا يقتضى ولاية
__________
(1) الشافي : (فيما يرجع منه) (2) الشافي : (الاقرار) .
(3) الشافي : (الاقرار) .
(*)(2/330)
ولا عداوة ، وإنما يقتضى الولاية ماله من الافعال ظاهر جميل ، ويقتضى العداوة ماله ظاهر قبيح .
فإن قال : أردت بالمحتمل ماله ظاهر لكنه يجوز أن يكون الامر بخلاف ظاهره .
قيل له : ما ذكرته لا يسمى محتملا ، فإن كنت عنيته فقد وضعت العبارة في غير موضعها ، ولا شك في أنه إذا كان ممن لو أخبرنا بأنه فعل الفعل على أحد الوجهين لوجب تصديقه ، وحمل الفعل على خلاف ظاهره ، فإن الواجب لما تقرر له في النفوس أن يتأول له ويعدل بفعله عن الوجه القبيح إلى الوجه الجميل ، إلا أنه متى توالت منه الافعال التى لها ظواهر قبيحة فلا بد أن تكون مؤثرة في تصديقه ، متى خبرنا بأن غرضه في الفعل خلاف ظاهره ، كما تكون مانعة من الابتداء بالتأول .
وضربه المثل بأن من نراه يكلم امرأة حسناء في الطريق إذا أخبر أنها أخته أو امرأته في أن تصديقه واجب ، ولو لم يخبر بذلك لحملنا كلامه لها على أجمل الوجوه ، لما تقدم له في النفوس ، صحيح ، إلا أنه لابد من مراعاة ما تقدم ذكره ، من أنه قد يقوى الامر لقوة الامارات والظواهر إلى حد لا يجوز معه تصديقه ولا التأول له ، ولو لا أن الامر قد ينتهى إلى ذلك لما صح أن يخرج أحد عندنا من الولاية إلى العداوة ، ولا من العدالة إلى خلافها ، لانه لا شئ مما يفعله الفساق المتهتكون إلا ويجوز أن يكون له باطن بخلاف الظاهر ، ومع ذلك فلا يلتفت إلى هذا التجويز ، يبين صحة ماد كرناه أنا لو رأينا من يظن به الخير يكلم امرأة حسناء في الطريق ويداعها ويضاحكها لظننا به الجميل مرة ومرات ، ثم ينتهى الامر إلى ألا نظنه .
وكذلك لو شاهدناه وبحضرته المنكر ، لحملنا حضوره على الغلط أو الاكراه أو غير ذلك من الوجوه الجميلة .
ثم لا بد من انتهاء الامر إلى أن نظن به القبيح ولا نصدقه في كلامه .(2/331)
قال : ثم نقول (1) له : أخبرنا عمن شاهدناه من بعد وهو مفترش امرأة نعلم أنها ليست له بمحرم ، وأن لها في الحال زوجا غيره ، وهو ممن تقررت له في النفوس عدالة متقدمة ، ما ذا يجب أن نظن به ؟ وهل نرجع بهذا الفعل عن ولايته ، أم نحمله على أنه غالط ومتوهم أن المرأة زوجته ، أو على أنه مكره على الفعل ، أو غير ذلك من الوجوه الجميله ! فإن قال : نرجع عن الولاية ، اعترف بخلاف ما قصده في الكلام ، وقيل له : أي فرق بين هذا الفعل وبين جميع ما عددناه من الافعال وادعيت أن الواجب أن نعدل عن ظاهرها ؟ وما جواز الجميل في ذلك الا كجواز الجميل في هذا الفعل .
وإن قال : لاأرجع بهذا الفعل عن ولايته (2) ، بل نؤوله على بعض الوجوه الجميلة .
قيل له : أرأيت لو تكرر هذا الفعل وتوالى هو وأمثاله حتى نشاهده حاضرا في دور القمار ومجالس اللهو واللعب ونراه يشرب الخمر بعينها ، وكل هذا مما يجوز أن يكون عليه مكرها وفى أنه القبيح بعينه غالطا ، أ كان يجب علينا الاستمرار على ولايته أم العدول عنها ؟ فإن قال : نستمر ونتأول ، ارتكب ما لا شبهة في فساده ، وألزم ما قد قدمنا ذكره من أنه لا طريق إلى الرجوع عن ولاية أحد ولو شاهدنا منه أعظم المناكير .
ووقف أيضا على أن طريق الولاية المتقدمة إذا كان الظن دون القطع ، فكيف لا نرجع عنها لمثل هذا الطريق ، فلا بد إذن من الرجوع إلى ما بيناه وفصلناه في هذا الباب .
قال : فأما قوله : إن قول الامام له مزية ، لانه آكد من غيره فلا معنى له ، لان قول الامام على مذهبنا يجب أن يكون له مزية من حيث كان معصوما مأمون (3) مكرها وفى أنه القبيح بعينه غالطا ، أ كان يجب علينا الاستمرار على ولايته أم العدول عنها ؟ فإن قال : نستمر ونتأول ، ارتكب ما لا شبهة في فساده ، وألزم ما قد قدمنا ذكره من أنه لا طريق إلى الرجوع عن ولاية أحد ولو شاهدنا منه أعظم المناكير .
ووقف أيضا على أن طريق الولاية المتقدمة إذا كان الظن دون القطع ، فكيف لا نرجع عنها لمثل هذا الطريق ، فلا بد إذن من الرجوع إلى ما بيناه وفصلناه في هذا الباب .
قال : فأما قوله : إن قول الامام له مزية ، لانه آكد من غيره فلا معنى له ، لان قول الامام على مذهبنا يجب أن يكون له مزية من حيث كان معصوما مأمون (3) الباطن ، وعلى مذهبه إنما تثبت ولايته بالظاهر كما تثبت ولاية غيره من سائر المؤمنين ، فأى مزية له في هذا الباب !
__________
(1) ب (ثم يقال) (2) الشافي : (الولاية) (3) الشافي : (معصوما مأمونا باطنه .
) .
(*)(2/332)
ووله : إن ما ينقل عن الرسول وإن لم يكن مقطوعا عليه يؤثر في هذا الباب ، ويكون أقوى مما تقدم ، غير صحيح على إطلاقه ، لان تأثير ما ينقل إذا كان يقتضى غلبة الظن لا شبهة فيه ، فأما تقويته على غيره فلا وجه له ، وقد كان يجب أن يبين من أي الوجوه يكون اقوى .
فهذه جملة ما اعترض به المرتضى على الفصل الاول من كلام قاضى القضاة رحمه الله تعالى .
تم الجزء الثاني من شرح نهج البلاغه
__________
(1) الشافي ص 264 - 266 .
(2) هذا نهاية نسخة ب ، ج ، وفى آخر نسخة ج : (تم الجزء الثاني من شرح البلاغة ، بحمدالله ومنه وصلى الله على محمد وآله .
) (*)(2/333)
شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد ج 3
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد ج 3(3/)
شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (586 - 656) الجزء الثالث تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم(3/1)
شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد(3/2)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمدلله الواحد العدل الكريم .
واعلم أن الذى ذكره المرتضى رحمة الله تعالى ، وأورده على قاضى القضاة (1) جيد ولازم ، متى ادعى قاضى القضاة أن العدالة إذا ثبتت ظنا أو قطعا لم يجز العدول عنها والتبرؤ إلا بما يوجب القطع ، ويعلم به علما يقينيا زوالها ، فأما إذا ادعى أن المعلوم لا يزول إلا بما يوجب العلم ، فلا يرد عليه ما ذكره المرتضى رحمه الله تعالى .
وله أن يقول : قد ثبتت بالاجماع إمامة عثمان ، والاجماع دليل قطعي عند أصحابنا ، وكل من ثبتت إمامته ثبتت عدالته بالطريق التى بها ثبتت إمامته ، لانه لا يجوز أن تكون إمامته معلومة وشرائطها مظنونة ، لان الموقوف على المظنون مظنون ، فتكون إمامته مظنونة ، وقد فرضناها معلومة ، وهذا خلف ومحال .
وإذا كانت عدالته معلومة لم يجز القول بانتفائها وزوالها إلا بأمر معلوم .
والاخبار التى رويت في أحداثه أخبار آحاد لا تفيد العلم ، فلا يجوز العدول عن المعلوم بها ، فهذا الكلام إذا رتب هذا الترتيب اندفع به ما اعترض به المرتضى رحمة الله تعالى .
* * *
__________
(1) انظر ص 24 من الجزء الثاني ، وما بعدها .
(*)(3/3)
[ بقية رد المرتضى على ما أورده القاضى عبد الجبار من الدفاع عن عثمان ] فأما كلام المرتضى رحمه الله تعالى على الفصل الثاني من كلام قاضى القضاة ، وهو الفصل المحكى عن شيخنا أبى على رحمه الله تعالى ، فنحن نورده .
قال رحمه الله تعالى (1) .
أما قوله : لو كان ما ذكر من الاحداث قادحا لوجب من الوقت الذى ظهرت الاحداث فيه أن يطلبوا رجلا ينصبونه في الامامة ، لان ظهور الحدث كموته ، فلما رأيناهم طلبوا إماما بعد قتله دل على بطلان ما أضافوه إليه من الاحداث .
فليس بشئ معتمد ، لان تلك الاحداث وإن كانت مزيلة عندهم لامامته ، وفاسخة لها ، ومقتضية لان يعقدوا لغيره الامامة ، (2) إلا أنهم لم يكونوا قادرين على أن يتفقوا على نصب غيره ، مع تشبثه بالامر ، خوفا من الفتنة والتنازع والتجاذب ، وأرادوا أن يخلع نفسه ، حتى تزول الشبهة ، وينشط من يصلح للامر لقبول العقد والتكفل بالامر .
وليس يجرى ذلك مجرى موته ، لان موته يحسم الطمع في استمرار ولايته ، ولا تبقى شبهة في خلو الزمان من إمام .
وليس كذلك حدثه الذى يسوغ فيه التأويل على بعده ، وتبقى معه الشبهة في استمرار أمره .
وليس نقول (3) : إنهم لم يتمكنوا من ذلك كما سأل نفسه ، بل الوجه في عدولهم ما ذكرناه من إرادتهم حسم (4) المواد وإزالة الشبهة وقطع أسباب الفتنة .
__________
تابع لما ورد في الجزء الثاني ص 328 وما بعدها .
(1) الشافي 266 وما بعدها ، وعبارته في أول هذا الفصل : (فأما عد الاحداث التى نقمت عليه ، فنحن نتكلم عليها وعلى ما أورده من المعاذير فيها بمشيئة الله تعالى عند ذكره لذلك ، فأما ما حكاه عن أبى على من قوله : لو كان ما ذكره من الاحداث قادحا ....) .
وانظر ص 362 من الجزء الثاني .
(2 - 2) كذا في ا ، ج ، وفى ب والشافي : (فإنهم لم يقدموا على نصب غيره ..) .
(3) الشافي : (ليس نقول) .
(4) ا : (لحسم) ، وكذلك في الشافي .
(*)(3/4)
قال : فأما قوله : إنه معلوم من حال هذه الاحداث أنها لم تحصل أجمع في الايام التى حصر فيها وقتل ، بل كانت تقع حالا بعد حال ، فلو كانت توجب الخلع والبراءة ، لما تأخر من المسلمين الانكار عليه ، ولكان المقيمون من الصحابة بالمدينة أولى بذلك من الواردين من البلاد ، فلا شك أن الاحداث لم تحصل في وقت واحد ، إلا أنه غير منكر أن يكون نكيرهم إنما تأخر لانهم تأولوا ما ورد عليهم من أفعاله على أجمل الوجوه ، حتى زاد الامر وتفاقم ، وبعد التأويل ، و تعذر التخريج ، ولم يبق للظن الجميل طريق ، فحينئذ أنكروا ، وهذا مستمر على ما قدمنا ذكره ، من أن العدالة والطريقة الجميلة يتأول لها في الفعل والافعال القليلة ، بحسب ما تقدم من حسن الظن به ، ثم ينتهى الامر [ بعد ذلك ] (1) إلى بعد التأويل ، والعمل على الظاهر القبيح .
قال : على أن الوجه الصحيح في هذا الباب أن أهل الحق كانوا معتقدين بخلعه من أول حدث ، بل معتقدين أن إمامته لم تثبت وقتا من الاوقات ، وإنما منعهم من إظهار ما في نفوسهم ما قدمناه من أسباب الخوف والتقية ، لان الاعتذار بالوجل (2) كان عاما ، فلما تبين أمره حالا بعد حال ، وأعرضت الوجوه عنه ، وقل العاذر له ، قويت الكلمة في خلعه .
وهذا إنما كان في آخر الامر دون أوله ، فليس يقتضى الامساك عنه إلى الوقت الذى وقع الكلام فيه نسبة الخطأ إلى الجميع ، على ما ظنه .
قال : فأما دفعه بأن تكون الامة أجمعت على خلعه بخروجه (3) نفسه وخروج من كان في حيزه عن القوم ، فليس بشئ ، لانه إذا ثبت أ من عداه وعدا عبيده والرهيط من فجار أهله وفساقهم ، كمروان ومن جرى مجراه ، كانوا مجمعين على خلعه ، فلا شبهة
__________
(1) من كتاب الشافي .
(2) كذا في ج ، وفي حاشيتها : (يعنى أكثر الناس يعتذرون بالخوف) ، وفى ا ، ب : (لان الاعذار بالرجل) ، وفي الشافي : (لان الاغترار بالرجل) .
(3) ب : (بإخراجه) .
(*)(3/5)
في أن الحق في غير حيزه ، لانه لا يجوز أن يكون هو المصيب ، وجميع الامة مبطل ، وإنما يدعى أنه على الحق لمن ينازع في إجماع من عداه ، فأما مع التسليم لذلك ، فليس يبقى شبهة ، وما نجد مخالفينا يعتبرون في باب الاجماع بإجماع الشذاذ والنفر القليل الخارجين من الاجماع ، ألا ترى أنهم لا يحفلون (1) بخلاف سعد (2) وأهله وولده في بيعة أبى بكر لقلتهم وكثرة من بإزائهم ، ولذلك لا يعتدون بخلاف من امتنع من بيعة أمير المؤمنين عليه السلام ، ويجعلونه شاذا ، لا تأثير بخلافة (3) ، فكيف فارقوا هذه الطريقة في خلع عثمان ! وهل هذا إلا تقلب وتلون ! * * * قلت : أما إذا احتج أصحابنا على إمامة أبى بكر بالاجماع ، فاعتراض حجتهم بخلاف سعد وولده وأهله اعتراض جيد ، وليس يقول أصحابنا في جوابه : هؤلاء شذاذ فلا نحفل بخلافهم ، وإنما المعتبر بالكثرة التى بإزائهم .
وكيف يقولون هذا ، وحجتهم الاجماع ولا إجماع ولكنهم يجيبون عن ذلك بأن سعدا مات في خلافة عمر ، فلم يبق من يخالف في خلافة عمر ، فانعقد الاجماع عليها ، وبايع ولد سعد وأهله من قبل ، وإذا صحت خلافة عمر صحت خلافه أبى بكر ، لانها فرع عليها ، ومحال أن يصح الفرع ، ويكون الاصل فاسدا ، فهكذا يجيب أصحابنا عن الاعتراض بخلاف سعد إذا احتجوا بالاجماع ، فأما إذا احتجوا بالاختيار فلا يتوجه نحوهم الاعتراض بخلاف سعد وأهله وولده ، لانه ليس من شرط ثبوت الامامة بالاختيار إجماع الامة على الاختيار ، وإنما يكفى فيه بيعة خمسة من أهل الحل والعقد على الترتيب الذى يرتب أصحابنا الدلالة عليه ، وبهذا الطريق يثبت عندهم إمامة على عليه السلام ، ولم يحفل بخلاف معاوية وأهل الشام فيها .
* * *
__________
(1) يقال : لم يحفل بالامر ، إذا لم يبال به .
(2) هو سعد بن عبادة الانصاري ، وانظر حديث السقيفة في تاريخ الطبري (حوادث السنة الحادية عشرة) .
(3) ا ، ج : (لا تأثير له) .
(*)(3/6)
قال رحمة الله تعالى : فأما قوله : إن الصحابة كانت بين فريقين : من نصره (1) كزيد بن ثابت وابن عمر وفلان وفلان ، والباقون ممتنعون انتظارا لزوال العارض ولانه ما ضيق عليهم الامر في الدفع عنه ، فعجيب ، لان الظاهر أن أنصاره هم الذين كانوا معه في الدار ، يقاتلون عنه (2) ، ويدفعون الهاجمين عليه .
فأما من كان في منزله ما أغنى عنه فتيلا ، فلا يعد ناصرا ، وكيف يجوز ممن أراد نصرته وكان معتقدا لصوابه ، وخطأ المطالبين له بالخلع ، أن يتوقف عن النصرة طلبا لزوال العارض ! وهل تراد النصرة إلا لدفع العارض ، وبعد زواله لا حاجة إليها ! وليس يحتاج في نصرته إلى أن يضيق هو عليهم الامر فيها ، بل من كان معتقدا لها لا يحتاج حمله إلى إذنه فيها ، ولا يحفل بنهيه عنها ، لان المنكر مما قد تقدم أمر الله تعالى بالنهي عنه ، فليس يحتاج في إنكاره إلى أمر غيره .
قال : فأما زيد بن ثابت ، فقد روى ميله إلى عثمان ، وما يغنى ذلك وبإزائه جميع المهاجرين والانصار ! ولميله إليه سبب معروف ، فإن الواقدي روى في ، ، كتاب الدار ، ، أن مروان بن الحكم لما حصر عثمان الحصر الاخير أتى زيد بن ثابت فاستصحبه إلى عائشة ليكلمها في هذا الامر ، فمضيا إليها وهى عازمة على الحج ، فكلماها في أن تقيم وتذب عنه ، فأقبلت على زيد بن ثابت ، فقالت : وما منعك يا بن ثابت ولك الاشاريف قد اقتطعكها (3) عثمان ، ولك كذا وكذا ، وأعطاك عثمان من بيت المال عشرة آلاف دينار ! قال زيد : فلم أرجع عليها حرفا واحدا ، وأشارت إلى مروان بالقيام ، فقام مروان وهو يقول :
__________
(1) الشافي : (من ينصره) .
(2) ب : (يقاتلون غيره) .
(3) الشافي : (قد قطعها) .
(*)(3/7)
حرق قيس على البلاد حتى إذا اضطرمت أجذما (1) .
فنادته عائشة وقد خرج من العتبة : يا بن الحكم ، أعلى تمثل الاشعار ! قد والله سمعت ما قلت ، أتراني في شك من صاحبك ! والذى نفسي بيده لوددت أنه الان في غرارة من غرائري مخيط عليه ، فألقيه في البحر الاخضر ، قال زيد بن ثابت : فخرجنا من عندها (2) على الياس منها .
وروى الواقدي أن زيد بن ثابت اجتمع عليه عصابة من الانصار ، وهو يدعوهم إلى نصرة عثمان .
فوقف عليه جبلة بن عمرو بن حبة المازنى ، فقال له : وما يمنعك يا زيد أن تذب عنه ؟ أعطاك عشرة آلاف دينار وحدائق من نخل لم ترث عن أبيك مثل حديقة منها .
فأما ابن عمر فإن الواقدي روى أيضا عنه أنه قال : والله ما كان فينا إلا خاذل أو قاتل .
والامر على هذا أوضح من أن يخفى .
فأما ما ذكره من إنفاذ أمير المؤمنين عليه السلام الحسن والحسين عليهما السلام ، فإنما أنفذهما - إن كان أنفذهما - ليمنعا من انتهاك حريمه وتعمد قتله ، ومنع خرمه (3) ونسائه من الطعام والشراب ، ولم ينفذهما ليمنعا من مطالبته بالخلع ، وكيف وهو عليه السلام مصرح بأنه يستحق بأحداثه الخلع ، والقوم الذين سعوا في ذلك إليه كانوا يغدون ويروحون ، ومعلوم منه ضرورة أنه كان مساعدا على خلعه ونقض أمره ، لا سيما في المرة الاخيرة .
فأما ادعاؤه أنه عليه السلام لعن قتلته ، فهو يعلم ما في هذا من الروايات المختلفة التى
__________
(1) الاجذام : الاقلاع ، والبيت للربيع بن زياد ، من أبيات في الحماسة 2 - 484 - 487 ، بشرح المرزوفى .
وفي الشطر الاول من البيت زحاف بالحرم ، وهو جائز في أول المتقارب والطويل ، ورواية اللسان : (وحرق) ، بلا خرم .
وقيس هو ابن زياد العبسى .
(2 - 2) الشافي : (على الناس) .
(3) ب : (حريمه) ، وما أثبته من ا ، وكتاب الشافي .(3/8)
هي أظهر من هذه الرواية ، وإن صحت فيجوز أن تكون محمولة على لعن من قتله متعمدا قتله ، قاصدا إليه ، فإن ذلك لم يكن لهم .
فأما ادعاؤه أن طلحة رجع لما ناشده عثمان يوم الدار ، فظاهر البطلان وغير معروف في الرواية ، والظاهر المعروف أنه لم يكن على عثمان أشد من طلحة ، ولا أغلظ منه .
قال : ولو حكينا من كلامه فيه ما قد روى لا فنينا قطعة كثيرة من هذا الكتاب ، وقد روى أن عثمان كان يقول يوم الدار : اللهم اكفني طلحة ، ويكرر ذلك ، علما بأنه أشد القوم عليه .
وروى أن طلحة كان عليه يوم الدار درع وهو يرامى الناس ، ولم ينزع عن القتال حتى قتل الرجل (1) .
فأما ادعاؤه الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله : (ستكون فتنة ، وإن عثمان وأصحابه يومئذ على الهدى) فهو يعلم أن هذه الرواية الشاذة لا تكون في مقابله المعلوم ضرورة من إجماع الامة على خلعه وخذله ، وكلام وجوه المهاجرين والانصار فيه ، وبإزاء هذه الرواية ما يملا الطروس عن النبي صلى الله عليه وآله وغيره ، مما يتضمن ما تضمنته .
ولو كانت هذه الرواية معروفة لكان عثمان أولى الناس بالاحتجاج بها يوم الدار ، وقد احتج عليهم بكل غث وسمين ، وقبل ذلك لما خوصم وطولب بأن يخلع نفسه ، ولاحتج بها عنه بعض أصحابه وأنصاره ، وفي علمنا بأن شيئا من ذلك لم يكن ، دلالة على أنها مصنوعة موضوعة .
فأما ما رواه عن عائشة من قولها : (قتل والله مظلوما) فأقوال عائشة فيه معروفة ومعلومة ، وإخراجها قميص رسول الله صلى الله عليه وآله وهى تقول : (هذا قميصه لم يبل ، وقد أبلى عثمان سنته) ، إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة .
__________
(1) ب (الرجال) وما أثبته عن ا ، ج ، وكتاب الشافي .
(*)(3/9)
فأما مدحها له وثناؤها عليه ، فإنما كانا عقيب علمها بانتقال الامر إلى من انتقل إليه ، والسبب فيه معروف ، وقد وقفت عليه ، وقوبل بين كلامها فيه متقدما ومتأخرا .
فأما قوله : لا يمتنع أن يتعلق باخبار الاحاد في ذلك لانها في مقابلة ما يدعونه مما طريقه أيضا الاحاد ، فواضح البطلان ، لان إطباق الصحابة وأهل المدينة - إلا من كان في الدار معه على خلافه ، فإنهم كانوا بين مجاهد ومقاتل مبارز ، وبين متقاعد خاذل - معلوم ضرورة لكل من سمع الاخبار ، وكيف يدعى أنها من جهة الاحاد حتى يعارض بأخبار شاذة نادرة ! وهل هذا إلا مكابرة ظاهرة ! فأما قوله : إنا لا نعدل عن ولايته بأمور محتملة ، فقد مضى الكلام في هذا المعنى ، وقلنا إن المحتمل هو ما لا ظاهر له ، ويتجاذبه أمور محتملة ، فأما ما له ظاهر فلا يسمى محتملا وإن سماه بهذه التسمية ، فقد بينا أنه مما يعدل من أجله عن الولاية ، وفصلنا ذلك تفصيلا بينا .
وأما قوله : إن للامام أن يجتهد برأيه في الامور المنوطة به ، ويكون مصيبا وإن أفضت إلى عاقبة مذمومة ، فأول ما فيه أنه ليس للامام ولا غيره أن يجتهد في الاحكام ولا يجوز أن يعمل فيها إلا على النص ، ثم إذا سلمنا الاجتهاد ، فلا شك أن هاهنا أمورا لا يسوغ فيها الاجتهاد ، حتى يكون من خبرنا عنه بأنه اجتهد فيها غير مصوب (1) ، وتفصيل هذه الجملة يبين عند الكلام على ما تعاطاه من الاعذار عن إحداثه (2) على جهة التفصيل .
* * * قلت : الكلام في هذا الموضع على سبيل الاستقصاء إنما يكون في الكتب الكلامية المبسوطة في مسألة الامامة ، وليس هذا موضع ذاك ، ولكن يكفى قاضى القضاة أن يقول :
__________
(1) كذا في الاصول ، وفي كتاب الاشافى : (غير مصرق) .
(2) السافى : (في أحداثه) .(3/10)
قد ثبت بالاجماع صحة إمامة عثمان ، فلا يجوز الرجوع عن هذا الاجماع إلا بإجماع معلوم على خلعه وإباحة قتله ، ولم يجمع المسلمون على ذلك ، لانه قد كان بالمدينة من ينكر ذلك وإن قلوا ، وقد كان أهل الامصار ينكرون ذلك ، كالشام والبصرة والحجاز واليمن ومكه وخراسان ، وكثير من أهل الكوفة ، وهؤلاء مسلمون ، فيجب أن تعتبر أقوالهم في الاجماع ، فإذا لم يدخلوا فيمن أجلب عليه لم ينعقد الاجماع على خلعه ولا على إباحة دمه ، فوجب البقاء على ما اقتضاه الاجماع الاول .
* * * [ ذكر المطاعن التى طعن بها على عثمان والرد عليها ] فأما الكلام في المطاعن المفصلة التى طعن بها فيه ، فنحن نذكرها ، ونحكي ما ذكره قاضى القضاة وما اعترضه به المرتضى رحمه الله تعالى .
(1) الطعن الاول : قال قاضى القضاة في ، ، المغنى ، ، فمما طعن به عليه قولهم : إنه ولى امور المسلمين من لا يصلح لذلك ولا يؤتمن عليه ، ومن ظهر منه الفسق والفساد ، ومن لا علم عنده ، مراعاة منه لحرمة القرابة ، وعدولا عن مراعاة حرمة الدين والنظر للمسلمين ، حتى ظهر ذلك منه وتكرر ، وقد كان عمر حذره من ذلك ، حيث وصفه بأنه كلف بأقاربه ، وقال له : إذا وليت هذا الامر فلا تسلط بنى أبى معيط على رقاب الناس .
فوقع منه ما حذره إياه ، وعوتب في ذلك فلم ينفع العتب ، وذلك نحو استعماله الوليد بن عقبة (2) ، وتقليده إياه
__________
(1) نقله المرتضى في الشافي 267 وما بعدها .
(2) هو الوليد بن عقبة بن أبى معيط أخو عثمان لامه ، وأمهما أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب ابن عبد شمس .
ولاه عثمان الكوفة بعد عزل سعد بن أبى وقاص ، ثم عزله عنها بعد أن ثبت عليه شرب الخمر ، في خبر مشهور .
الاصابة 3 : 601 .
(*)(3/11)
حتى ظهر منه شرب الخمر ، واستعماله سعيد بن العاص (1) حتى ظهرت منه الامور التى عندها أخرجه أهل الكوفة ، وتوليته عبد الله بن أبى سرح (2) وعبد الله بن عامر بن كريز (3) ، حتى روى عنه في أمر ابن أبى سرح أنه لما تظلم منه أهل مصر وصرفه عنهم بمحمد بن أبى بكر ، كاتبه بأن يستمر على ولايته ، فأبطن خلاف ما أظهر ، فعل من غرضه خلاف الدين .
ويقال : إنه كاتبه بقتل محمد بن أبى بكر وغيره ممن يرد عليه ، وظفر بذلك الكتاب ، ولذلك عظم التظلم من بعد ، وكثر الجمع ، وكان سبب الحصار والقتل ، حتى كان من أمر مروان وتسلطه عليه وعلى أموره ما قتل بسببه ، وذلك ظاهر لا يمكن دفعه .
قال رحمه الله تعالى : وجوابنا عن ذلك أن نقول : أما ما ذكر من توليته من لا يجوز أن يستعمل ، فقد علمنا أنه لا يمكن أن يدعى أنه حين استعملهم علم من أحوالهم خلاف الستر والصلاح ، لان الذى ثبت عنهم من الامور القبيحة حدث من بعد ، ولا يمتنع كونهم في الاول مستورين في الحقيقة أو مستورين عنده ، وإنما كان يجب تخطئته لو استعملهم ، وهم في الحال لا يصلحون لذلك .
فإن قيل ، فلما علم بحالهم كان يجب أن يعزلهم ! قيل : كذلك فعل ، لانه إنما استعمل الوليد بن عقبة قبل ظهور شرب الخمر عنه
__________
(1) هو سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية القرشى الاموى .
ولاه عثمان الكوفة بعد الوليد ابن عقبة ، ثم شكاه أهل الكوفة ، لتجبر وغلظة فيه ، وكتبوا إلى عثمان : لا حاجة لنا في وليدك ولا سعبدك ، فعزله .
الاستيعاب لا بن عبد البر 621 .
(2) هو عبد الله بن سعد بن أبن سرح بن الحارث بن حبيب القرشى العامري ، أخو عثمان من الرضاعة ، كان على الصعيد في زمن عمر ، ثم ضم إليه عثمان مصر كلها ، وافتتح إفريقية ، لاصابة 3 : 309 .
(3) هو عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصى القرشى العبشمى ، ابن خال عثمان بن عفان .
عزل عثمان أبا موسى الاشعري عن البصرة وعثمان بن أبن العاص عن فارس ، وجمع ذلك كله لعبد الله بن عامر .
الاستيعاب لابن عبد البر 931 .
(*)(3/12)
فلما شهد عليه بذلك جلده الحد وصرفه .
وقد روى مثله عن عمر ، فإنه ولى قدامة بن مظعون بعض أعماله ، فشهدوا عليه بشرب الخمر ، أشخصه وجلده الحد ، فإذا عد ذلك في فضائل عمر لم يجز أن يعد ما ذكروه في الوليد من معايب عثمان .
ويقال : إنه لما أشخصه أقام عليه الحد بمشهد أمير المؤمنين عليه السلام .
وقد اعتذر من عزله سعد بن أبى وقاص بالوليد ، بأن سعدا شكاه أهل الكوفة ، فأداه اجتهاده إلى عزله بالوليد .
فأما سعيد بن العاص فإنه عزله عن الكوفة وولى مكانه أبا موسى ، وكذلك عبد الله بن أبى سرح عزله وولى مكانه محمد بن أبى بكر ، ولم يظهر له من مروان (1) ما يوجب أن يصرفه عما كان مستعملا فيه ، ولو كان ذلك طعنا لوجب مثله في كل من ولى ، وقد علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولى الوليد بن عقبة ، فحدث منه ما حدث .
وحدث من بعض أمراء أمير المؤمنين عليه السلام الخيانة ، كالقعقاع بن شور ، لانه ولاه على ميسان فأخذ مالها ولحق بمعاوية ، وكذلك فعل الاشعث بن قيس بمال أذربيجان .
وولى أبا موسى الحكم ، فكان منه ما كان ، ولا يجب أن يعاب أحد بفعل غيره ، وإذا لم يلحقه عيب في ابتداء ولايته فقد زال العيب فيما بعده .
وقولهم : إنه قسم أكثر الولايات في أقاربه ، وزال عن طريقة الاحتياط للمسلمين ، وقد كان عمر حذره من ذلك ، فليس بعيب ، لان تولية الاقارب كتولية الاباعد ، في أنه يحسن إذا كانوا على صفات مخصوصة .
ولو قيل إن تقديمهم أولى لم يمتنع ، إذا كان المولى لهم أشد تمكنا من عزلهم ، والاستبدال بهم ، وقد ولى أمير المؤمنين عليه السلام عبد الله بن العباس البصرة ، وعبيد الله بن العباس اليمن ، وقثم بن العباس مكة ، حتى قال مالك الاشتر عند ذلك :
__________
(1) كذا في ج ، وفى ب والشافي : (في باب مروان) .
(*)(3/13)
على ما ذا قتلنا الشيخ أمس ! فيما يروى ، ولم يكن ذلك بعيب إذا أدى ما وجب عليه في اجتهاده .
فأما قولهم : إنه كتب إلى ابن أبى سرح حيث ولى محمد بن أبى بكر بأنه يقتله ويقتل أصحابه ، د فقد أنكر ذلك أشد إنكار ، حتى حلف عليه ، وبين أن الكتاب الذى ظهر ليس كتابه ولا الغلام غلامه ولا الراحلة راحلته ، وكان في جملة من خاطبه في ذلك أمير المؤمنين عليه السلام ، فقبل عذره .
وذلك بين ، لان قول كل أحد مقبول في مثل ذلك ، وقد علم أن الكتاب يجوز فيه التزوير ، فهو بمنزله الخبر الذى يجوز فيه الكذب .
فإن قيل : فقد علم أن مروان هو الذى زور الكتاب ، لانه هو الذى كان يكتب عنه ، فهلا أقام فيه الحد ! قيل : ليس يجب بهذا القدر أن يقطع على أن مروان هو الذى فعل ذلك ، لانه وإن غلب ذلك في الظن ، فلا يجوز أن يحكم به ، وقد كان القوم يسومونه تسليم مروان إليهم ، وذلك ظلم ، لان الواجب على الامام أن يقيم الحد على من يستحقه أو التأديب ، ولا يحل له تسليمه إلى غيره ، فقد كان الواجب أن يثبتوا عنده ما يوجب في مروان الحد والتأديب ليفعله به ، وكان إذا لم يفعل والحال هذه يستحق التعنيف .
وقد ذكر الفقهاء في كتبهم أن الامر بالقتل لا يوجب قودا ولا دية ولا حدا ، فلو ثبت ، في مروان ما ذكروه لم يستحق القتل وإن استحق التعزير ، لكنه عدل عن تعزيره ، لانه لم يثبت ، وقد يجوز أن يكون عثمان ظن أن هذا الفعل فعل بعض من يعادى مروان تقبيحا لامره ، لان ذلك يجوز ، كما يجوز أن يكون من فعله ، ولا يعلم كيف كان اجتهاده وظنه ! وبعد فإن هذا الحدث من أجل ما نقموا عليه ، فإن كان شئ من ذلك يوجب خلع عثمان وقتله ، فليس إلا هذا ، وقد علمنا أن هذا الامر لو ثبت ما كان يوجب القتل ، لان الامر بالقتل لا يوجب القتل ، سيما قبل وقوع القتل المأمور به ، فنقول (1) لهم : لو ثبت ذلك على عثمان أ كان يجب قتله ! فلا يمكنهم ادعاء
__________
(1) الشافي (فيقال لهم) .
(*)(3/14)
ذلك ، لانه بخلاف الدين ، ولا بد أن يقولوا : إن قتله ظلم ، وكذلك حبسه في الدار ، ومنعه من الماء ، فقد كان يجب أن يدفع القوم عن كل ذلك ، وأن يقال : إن من لم يدفعهم وينكر عليهم يكون مخطئا .
وفي القول بأن الصحابة اجتمعوا على ذلك كلهم تخطئة لجميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ، وذلك غير جائز ، وقد علم أيضا أن المستحق للقتل والخلع لا يحل أن يمنع الطعام والشراب ، وعلم أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يمنع أهل الشام من الماء في صفين ، وقد تمكن من منعهم ، وكل ذلك يدل على كون عثمان مظلوما ، وأن ذلك من صنع الجهال ، وأن أعيان الصحابة كانوا كارهين لذلك .
وأيضا فإن قتله لو وجب لم يجز أن يتولاه العوام من الناس ، ولا شبهة أن الذين أقدموا على قتله كانوا بهذه الصفة ، وإذا صح أن قتله لم يكن لهم ، فمنعهم والنكير عليهم واجب .
وأيضا فقد علم أنه لم يكن من عثمان ما يستحق به القتل ، من كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان ، أو قتل نفس بغير حق ، وأنه لو كان منه ما يوجب القتل لكان الواجب أن يتولاه الامام ، فقتله على كل حال منكر ، وإنكار المنكر واجب .
وليس لاحد أن يقول : إنه أباح قتل نفسه ، من حيث امتنع من دفع الظلم عنهم ، لانه لم يمتنع من ذلك ، بل أنصفهم ، ونظر في حالهم ، ولانه لو لم يفعل ذلك لم يحل لهم قتله ، لانه إنما يحل قتل الظالم إذا كان على وجه الدفع ، والمروى أنهم أحرقوا بابه ، وهجموا عليه في منزله ، وبعجوه بالسيف والمشاقص (1) وضربوا يد زوجته لما وقعت عليه ، وانتهبوا متاع داره ، ومثل هذه القتلة لا تحل في الكافر والمرتد ، فكيف يظن أن الصحابة لم ينكروا ذلك ، ولم يعدوه ظلما ، حتى يقال إنه مستحق من حيث لم يدفع القوم عنه ! وقد تظاهر الخبر بما جرى من تجمع القوم عليه ، وتوسط أمير المؤمنين عليه السلام لامرهم وأنه
__________
(1) المشاقص : جمع مشقص ، وهو النصل العريض .
(*)(3/15)
بذل لهم ما أرادوه ، وأعتبهم (1) وأشهد على نفسه بذلك ، وإن الكتاب الموجود بعد ذلك المتضمن لقتل القوم ، ووقف عليه - وممن أوقفه عليه أمير المؤمنين عليه السلام (2) - فحلف أنه ما كتبه ، ولا امر به ، فقال له : فمن تتهم ؟ قال : ما أتهم أحدا ، وإن للناس لحيلا .
والرواية ظاهرة أيضا بقوله : إن كنت أخطات أو تعمدت فإنى تائب ومستغفر ، فكيف يجوز والحال هذه أن تهتك فيه حرمة الاسلام وحرمة البلد الحرام ! ولا شبهة في أن القتل على وجه الغيلة لا يحل فيمن يستحق القتل ، فكيف فيمن لا يستحقه ! ولو لا أنه كان يمنع من محاربة القوم ظنا منه أن ذلك يؤدى إلى القتل الذريع لكثر أنصاره .
وقد جاء في الرواية أن الانصار بدأت معونته ونصرته ، وأن أمير المؤمنين عليه السلام قد بعث إليه ابنه الحسن عليه السلام ، فقال له : قل لابيك فلتأتنى ، فأراد أمير المؤمنين عليه السلام المصير إليه ، فمنعه من ذلك محمد ابنه ، واستعان بالنساء عليه ، حتى جاء الصريخ (3) بقتل عثمان ، فمد يده إلى القبلة ، وقال : اللهم إنى أبرأ إليك من دم عثمان .
فإن قالوا : إنهم اعتقدوا أنه من المفسدين في الارض ، وأنه داخل تحت آية المحاربين .
قيل : فقد كان يجب أن يتولى الامام هذا الفعل ، لان ذلك يجرى مجرى الحد ، وكيف يدعى ذلك ، والمشهور عنه أنه كان يمنع من مقاتلتهم ، حتى روى أنه قال لعبيده ومواليه ، وقد هموا بالقتال : من أغمد سيفه فهو حر ! ولقد كان مؤثرا لنكير ذلك الامر بما لا يؤدى إلى إراقة الدماء والفتنة ، ولذلك لم يستعن بأصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وإن كان لما اشتد الامر ، أعانه من أعان ، لان عند ذلك تجب النصرة والمعونة ، فحيث
__________
(1) أعتبهم : أرضاهم .
(2) عبارة الشافي : (وذكر أن أمير المومنين عليه السلام واقفه على الكتاب) .
(3) الصريخ : المستغيث .
(*)(3/16)
كانت الحال متماسكة ، وكان ينهى عن إنجاده وإعانته بالحرب امتنعوا وتوقفوا ، وحيث اشتد الامر أعانه ونصره من أدركه ، دون من لم يغلب ذلك في ظنه .
* * * اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام ، فقال (1) : أما قوله : لم يكن عالما بحال الفسقة الذين ولاهم قبل الولاية ، فلا تعويل عليه ، لانه لم يول هؤلاء النفر إلا وحالهم مشهورة في الخلاعة والمجانة والتجرم والتهتك ، ولم يختلف اثنان في أن الوليد بن عقبة لم يستأنف التظاهر بشرب الخمر والاستخفاف بالدين على استقبال ولايته للكوفة ، بل هذه كانت سنته والعادة المعروفة منه ، وكيف يخفى على عثمان - وهو قريبه ولصيقه وأخوه لامه - من حاله ما لا يخفى على الاجانب الاباعد ! ولهذا قال له سعد بن أبى وقاص - في رواية الواقدي ، وقد دخل الكوفة - : يا أبا وهب (2) ، أمير أم زائر ؟ قال : بل أمير ، فقال سعد : ما أدرى أحمقت بعدك أم كست (3) بعدى ! قال : ما حمقت بعدى ولا كست بعدك ، ولكن القوم ملكوا (4) فاستأثروا فقال سعد : ما أراك إلا صادقا .
وفي رواية أبى مخنف لوط بن يحيى الازدي أن الوليد لما دخل الكوفة مر على مجلس عمرو بن زرارة النخعي ، فوقف ، فقال عمرو : يا معشر بنى أسد ، بئسما استقبلنا به أخوكم ابن عفان ! أمن عدله أن ينزع عنا ابن أبى وقاص ، الهين اللين السهل القريب ، ويبعث بدله أخاه الوليد ، الاحمق الماجن الفاجر قديما وحديثا ! واستعظم الناس مقدمه ، وعزل سعد به ، وقالوا : أراد عثمان كرامة أخيه بهوان أمة محمد صلى الله عليه ! وهذا تحقيق ما ذكرناه من أن حاله كانت مشهورة قبل الولاية ، لا ريب فيها عند أحد ، فكيف
__________
(1) الشافي ص 269 (2) أبو وهب كنية الوليد لن عقبة .
(3) من الكيس ، وهو خلاف الحمق .
(4) كذا في ج والشافي ، وفي ب : (ولوا) .
(2 - نهج - 3) (*)(3/17)
يقال : إنه كان مستورا حتى ظهر منه ما ظهر ! وفي الوليد نزل قوله تعالى : (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا يستوون) (1) ، فالمؤمن هاهنا أمير المؤمنين عليه السلام ، والفاسق الوليد ، على ما ذكره أهل التأويل .
وفيه نزل قوله تعالى : (يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) (2) ، والسبب في ذلك أنه كذب على بنى المصطلق عند رسول الله صلى الله عليه وآله ، وادعى أنهم منعوه الصدقة .
ولو قصصنا مخازيه المتقدمة ومساويه لطال بها الشرح .
وأما شربه الخمر بالكوفة وسكره ، حتى دخل عليه [ من دخل ] (3) وأخذ خاتمه من إصبعه ، وهو لا يعلم ، فظاهر ، وقد سارت به الركبان .
وكذلك كلامه في الصلاة ، والتفاته إلى من يقتدى به فيها وهو سكران ، وقوله لهم : أ أزيدكم ؟ فقالوا : لا ، قد قضينا صلواتنا ، حتى قال الحطيئة في ذلك : شهد الحطيئة يوم يلقى ربه أن الوليد أحق بالعذر (4)
__________
(1) سورة السجدة 18 .
(2) سورة الحجرات 6 .
(3) تكملة من كتاب الشافي .
(4) كذا وردت الرواية في الاصول والشافي ، وروى صاحب الاغانى 4 : 176 (ساسى) بسنده عن مصعب الزبيري ، قال : قال الوليد بن عقبة بعد ما جلد : اللهم أنهم شهدوا على بزور ، فلا ترضهم عن أمير ، ولا ترض عنهم أميرا ، فقال الحطيئة يكذب عنه : شهد الحطيئة يوم يلقى ربه أن الوليد أحق بالعذر خلعوا عنانك إذ جريت ولو تركوا عنانك لم تزل تجرى ورأوا شمائل ماجد أنف يعطى على الميسور والعسر فنزعت مكذوبا عليك ولم تنزع إلى طمع ولا فقر فقال رجل من بنى عجل يرد على الحطيئة : نادى وقد تمت صلاتهم أأزيدكم - ثملا - وما يدرى ليزيدكم خيرا ولو قبلوا لقرنت بين الشفع والوتر(3/18)
نادى وقد نفدت صلاتهم أ أزيدكم - ثملا - وما يدرى ليزيدهم خيرا ولو قبلوا منه لقادهم على عشر فأبوا أبا وهب ولو فعلوا لقرنت بين الشفع والوتر حبسوا عنانك إذ جريت ولو خلوا عنانك لم تزل تجرى وقال فيه أيضا : تكلم في الصلاة وزاد فيها علانية وجاهر بالنفاق (1) ومج الخمر في سنن المصلى ونادى والجميع إلى افتراق أزيدكم على أن تحمدوني فما لكم وما لى من خلاق وأما قوله : إنه جلده الحد وعزله ، فبعد أي شئ كان ذلك ، ولم يعزله إلا بعد أن دافع ومانع ، واحتج عنه وناضل ! ولو لم يقهره أمير المؤمنين عليه السلام على رأيه لما عزله ، ولا أمكن من جلده .
وقد روى الواقدي أن عثمان لما جاءه الشهود يشهدون على الوليد بشرب الخمر أو عدهم وتهددهم .
قال الواقدي : ويقال إنه ضرب بعض الشهود أيضا أسواطا ، فأتوا أمير المؤمنين عليه السلام ، فشكوا إليه ، فأتى عثمان ، فقال : عطلت الحدود ، وضربت قوما شهدوا على أخيك ، فقلبت الحكم ، وقد قال لك عمر : لا تحمل بنى أمية وآل أبى معيط على رقاب الناس ! قال : فما ترى ؟ قال : أرى أن تعزله ولا توليه شيئا من أمور المسلمين ، وأن تسأل عن الشهود ، فإن لم يكونوا أهل ظنة ولا عداوة ، أقمت على صاحبك الحد .
وتكلم في مثل ذلك طلحة والزبير وعائشة ، وقالوا أقوالا شديدة ، وأخذته الالسن من كل جانب ، فحينئذ عزله ، ومكن من إقامة الحد عليه .
__________
فأبوا أبا وهب ولو فعلوا وصلت صلاتهم ألى العشر وانظر ديوان الحطيئة 85 .
(1) ديوانه 119(3/19)
وقد روى (1) الواقدي أن الشهود لما شهدوا عليه في وجهه ، وأراد عثمان أن يحده ألبسه جبة خز ، وأدخله بيتا ، فجعل إذا بعث إليه رجلا من قريش ليضربه ، قال له الوليد : أنشدك الله أن تقطع رحمى وتغضب أمير المؤمنين ! فلما رأى على عليه السلام ذلك ، أخذ السوط ودخل عليه ، فجلده به .
فأى عذر لعثمان في عزله وجلده بعد هذه الممانعة الطويلة ، والمدافعة الشديدة ! وقصة الوليد - مع الساحر الذى كان يلعب بين يديه ، ويغر الناس بمكره وخديعته ، وأن جندب بن عبد الله الازدي امتعض من ذلك ودخل عليه فقتله ، وقال له : احى نفسك إن كنت صادقا ، وأن الوليد أراد أن يقتل جندبا بالساحر ، حتى أنكر الازد ذلك عليه ، فحبسه وطال حبسه حتى هرب من السجن - معروفة مشهورة .
فإن قيل : فقد ولى رسول الله صلى الله عليه وآله الوليد بن عقبة هذا صدقة بنى المصطلق ، وولاه عمر صدقة تغلب ، فكيف تدعون أن حاله في أنه لا يصلح للولاية ظاهرة ! قلنا : لا جرم ، إنه غر رسول الله صلى الله عليه وآله ، وكذب على القوم حتى نزلت فيه الاية التى قدمنا ذكرها ، فعزله .
وليس خطب ولاية الصدقة مثل خطب ولاية الكوفة ، فأما عمر فإنه لما بلغه قوله : إذا ما شددت الرأس منى بمشوذ فويلك منى تغب ابنة وائل (2) عزله .
وأما عزل أمير المؤمنين عليه السلام بعض أمرائه لما ظهر من الحدث كالقعقاع ابن شور وغيره ، وكذلك عزل عمر قدامة بن مظعون لما شهد عليه بشرب الخمر ، وجلده له ، فإنه لا يشبه ما تقدم ، لان كل واحد ممن ذكرناه لم يول إلا من هو حسن الظاهر عنده وعند الناس ، غير معروف باللعب ولا مشهور بالفساد .
ثم لما ظهر منه ما ظهر
__________
(1) كذا في ا ، ج ، وفي ب والشافي : (وروى) .
(2) اللسان 5 : 31 وروايته : (والمشوذ : العمامة .
(*)(3/20)
لم يحام عنه ولا كذب الشهود عليه وكابرهم ، بل عزله مختارا غير مضطر ، وكل هذا لم يجر في أمراء عثمان ، وقد بينا كيف كان عزل الوليد وإقامة الحد عليه .
فأما أبو موسى فإن أمير المؤمنين عليه السلام لم يوله الحكم مختارا ، لكنه غلب على رأيه وقهر على أمره ، ولا رأى لمقهور .
فأما قوله : إن ولاية الاقارب كولاية الاباعد ، (1) بل الاقارب أولى من ، حيث كان التمكن من عزلهم أشد .
وذكر تولية أمير المؤمنين عليه السلام (2) أولاد العباس رحمه الله تعالى وغيرهم - فليس بشئ ، لان عثمان لم ينقم عليه تولية الاقارب من حيث كانوا أقارب ، بل من حيث كانوا أهل بيت الظنة والتهمة ، ولهذا حذره عمر وأشعر بأنه يحملهم على رقاب الناس .
وأمير المؤمنين عليه السلام لم يول من أقاربه متهما ولا ظنينا ، وحين أحس من ابن العباس ببعض الريبة لم يمهله ولا احتمله ، وكاتبه بما هو شائع ظاهر ، ولو لم يجب على عثمان أن يعدل عن ولاية أقاربه إلا من حيث جعل عمر ذلك سبب عدوله عن النص عليه ، وشرط عليه يوم الشورى ألا يحمل أقاربه على رقاب الناس ، ولا يؤثرهم لمكان القرابة بما لا يؤثر به غيرهم - لكان صارفا قويا ، فضلا عن أن ينضاف إلى ذلك ما انضاف من خصالهم الذميمة وطرائقهم القبيحة .
فأما سعيد بن أبى العاص ، فإنه قال في الكوفة : إنما السواد بستان لقريش ، تأخذ منه ما شاءت وتترك ، حتى قالوا له : أتجعل ما أفاء الله علينا بستانا لك ولقومك ! ونابذوه ، وأفضى الامر إلى تسييره من سير عن الكوفة ، والقصة مشهورة ، ثم انتهى الامر إلى منع أهل الكوفه سعيدا من دخولها ، وتكلموا فيه وفي عثمان كلاما ظاهرا ، حتى
__________
(1 - 1) كذا في الاصول .
وفى الشافي : (بل الاباعد أولى أن يقدم الاقارب عليهم) .
(2 - 2) الشافي : (عبد الله وعبيد الله وقثما بنى العباس وغيرهم) .
(*)(3/21)
كادوا يخلعون عثمان ، فاضطر حينئذ إلى إجابتهم إلى ولاية أبى موسى ، فلم يصرف سعيدا مختارا ، بل ما صرفه جملة ، وإنما صرفه أهل الكوفة عنهم (1) .
فأما قوله : إنه أنكر الكتاب المتضمن لقتل محمد بن أبى بكر وأصحابه ، وحلف على أن الكتاب ليس بكتابه ، ولا الغلام غلامه ، ولا الراحلة راحلته ، وأن أمير المؤمنين عليه السلام قبل عذره ، فأول ما فيه أنه حكى القصة بخلاف ما جرت عليه ، لان جميع من يروى هذه القصة ذكر أنه اعترف بالخاتم والغلام والراحلة ، وإنما أنكر أن يكون أمر بالكتابة ، لانه روى أن القوم لما ظفروا بالكتاب قدموا المدينة ، فجمعوا أمير المؤمنين عليه السلام وطلحة والزبير وسعدا وجماعة الاصحاب ، ثم فكوا الكتاب بمحضر منهم ، وأخبروهم بقصة الغلام ، فدخلوا على عثمان والكتاب مع أمير المؤمنين ، فقال له : أهذا الغلام غلامك ؟ قال : نعم ، قال : والبعير بعيرك ؟ قال : نعم ، قال : أفأنت كتبت هذا الكتاب ؟ قال : لا ، وحلف بالله أنه ما كتب الكتاب ، ولا أمر به ، فقال له : فالخاتم خاتمك ؟ قال : نعم ، قال : فكيف يخرج غلامك على بعيرك بكتاب عليه خاتمك ، ولا تعلم به ! وفي رواية أخرى أنه لما واقفه عليه ، قال عثمان : أما الخط فخط كاتبى ، وأما الخاتم فعلى (2) خاتمي ، قال : فمن تتهم ؟ قال : أتهمك وأتهم كاتبى ، فخرج أمير المؤمنين عليه السلام مغضبا ، وهو يقول : بل بأمرك ، ولزم داره ، وبعد عن توسط أمره ، حتى جرى عليه ما جرى .
وأعجب الامور قوله لامير المؤمنين عليه السلام : (إنى أتهمك) وتظاهره بذلك وتلقيه إياه في وجهه بهذا القول ، مع بعده من التهمة والظنة في كل شئ ، وفي أمره خاصة ، فإن القوم في الدفعة الاولى أرادوا أن يعجلوا له ما أخبروه ، حتى قام أمير المؤمنين عليه السلام بأمره وتوسطه وأصلحه ، وأشار عليه بأن يقاربهم ويعينهم ، حتى انصرفوا عنه ، وهذا
__________
(1) ساقطة من ا ، ج ، وهى في ب و الشافي .
(2) ا : (فهو) .
(*)(3/22)
فعل النصيح المشفق الحدب المتحنن ، ولو كان عليه السلام - وحوشى من ذلك - متهما عليه لما كان للتهمة عليه مجال في أمر الكتاب خاصة ، لان الكتاب بخط عدوه مروان (1) ، وفي يد غلام عثمان ، ومحمول على بعيره ، ومختوم بخاتمه ، فأى ظن تعلق بأمير المؤمنين عليه السلام في هذا المكان ، لو لا العداوة وقلة الشكر للنعمة ! ولقد قال له المصريون لما جحد أن يكون الكتاب كتابه شيئا لا زيادة عليه في باب الحجة ، لانهم قالوا له : إذا كنت ما كتبت ولا أمرت به ، فأنت ضعيف ، من حيث تم عليك أن يكتب كاتبك بما تختمه بخاتمك ، وينفذه بيد غلامك وعلى بعيرك بغير أمرك ، ومن تم عليه ذلك لا يصلح أن يكون واليا على أمور المسلمين .
فاختلع عن الخلافة على كل حال .
قال : ولقد كان يجب على صاحب ، ، المغنى ، ، أن يستحيى من قوله : إن أمير المؤمنين عليه السلام قبل عذره ، وكيف يقبل عذر من يتهمه ويستغشه ، وهو له ناصح ! وما قاله أمير المؤمنين عليه السلام بعد سماع هذا القول منه معروف .
وقوله : إن الكتاب يجوز فيه التزوير ، ليس بشئ ، لانه لا يجوز التزوير في الكتاب والغلام والبعير ، وهذه الامور إذا انضاف بعضها إلى بعض ، بعد فيها التزوير ، وقد كان يجب على كل حال أن يبحث عن القصة وعمن زور الكتاب ، وأنفذ الرسول ، ولا ينام عن ذلك ، حتى يعرف من أين دهى ، وكيف تمت الحيلة عليه ، فيحترز من مثلها ، ولا يغضى عن ذلك إغضاء ساتر له ، خائف من بحثه وكشفه .
فأما قوله : إنه وإن غلب على الظن أن مروان كتب الكتاب ، فإن الحكم بالظن لا يجوز ، وتسليمه إلى القوم على ما سألوه إياه ظلم ، لان الحد والادب إذا وجب عليه ، فالامام يقيمه دونهم ، فتعلل بما لا يجدى ، لانا لا نعمل إلا على قوله في أنه لم يعلم أن
__________
(1) الشافي : (بخط عدو الله وعدو رسوله وعدو أمير المومنين .
(*)(3/23)
مروان هو الذى كتب الكتاب ، وإنما غلب على ظنه ، أما كان يستحق مروان بهذا الظن بعض التعنيف والزجر والتهديد ! أو ما كان يجب مع وقوع التهمه عليه ، وقوة الامارات في أنه جالب الفتنة وسبب الفرقة أن يبعده عنه ، ويطرده من داره ويسلبه ما كان يخصه به من إكرامه ! وما في هذه الامور أظهر من أن ينبه له .
فأما قوله : إن الامر بالقتل لا يوجب قودا ولا ديه سيما قبل وقوع القتل المأمور به ، فهب أن ذلك على ما قال ، أما أوجب (1) الله تعالى على الامر بقتل المسلمين تأديبا ولا تعزيرا ولا طردا ولا إبعادا ! وقوله : لم يثبت ذلك ، قد مضى ما فيه ، وبين أنه لم يستعمل فيه ما يجب استعماله من البحث والكشف ، وتهديد المتهم وطرده وإبعاده والتبرؤ من التهمة بما يتبرا به من مثلها .
فأما قوله : إن قتله ظلم وكذلك حبسه في الدار ، و منعه من الماء ، وأنه لو استحق القتل أو الخلع لا يحل أن يمنع الطعام والشراب ، وقوله : إن من لم يدفع عن ذلك من الصحابة يجب أن يكون مخطئا ، وقوله : إن قتله لو وجب لم يجز أن يتولاه العوام من الناس ، فباطل ، لان الذين قتلوه غير منكر أن يكونوا تعمدوا قتله ، وإنما طالبوه بأن يخلع نفسه لما ظهر لهم من إحداثه ، ويعتزل عن (2) الامر اعتزالا يتمكنون معه من إقامة غيره ، فلج وصمم على الامتناع ، وأقام على أمر واحد ، فقصد القوم بحصره أن يلجئوه إلى خلع نفسه ، فاعتصم بداره ، واجتمع إليه نفر من أوباش بنى أمية ، يدفعون عنه ، ويرمون من دنا إلى الدار فانتهى الامر إلى القتال بتدريج ، ثم إلى القتل ، ولم يكن القتال ولا القتل مقصودين في الاصل ، وإنما أفضى الامر اليهما على ترتيب ، وجرى ذلك مجرى
__________
(1) الشافي : (يوجب) (2) ج والشافي : (يعتزل الامر) .
(*)(3/24)