الطعن الثالث
قالوا إنه ولي عمر الخلافة ولم يوله رسول الله ص شيئا
[ 169 ]
من أعماله البتة إلا ما ولاه يوم خيبر فرجع منهزما وولاه الصدقة فلما شكاه العباس عزله . أجاب قاضي القضاة بأن تركه ع أن يوليه لا يدل على أنه لا يصلح لذلك وتوليته إياه لا يدل على صلاحيته للإمامة فإنه ص قد ولى خالد بن الوليد وعمرو بن العاص ولم يدل ذلك على صلاحيتهما للإمامة وكذلك تركه أن يولي لا يدل على أنه غير صالح بل المعتبر بالصفات التي تصلح للإمامة فإذا كملت صلح لذلك ولي من قبل أو لم يول وقد ثبت أن النبي ص ترك أن يولي أمير المؤمنين ع أمورا كثيرة ولم يجب إلا من يصلح لها وثبت أن أمير المؤمنين ع لم يول الحسين ع ابنه ولم يمنع ذلك من أن يصلح للإمامة وحكي عن أبي علي أن ذلك إنما كان يصح أن يتعلق به لو ظفروا بتقصير من عمر فيما تولاه فأما وأحواله معروفة في قيامه بالأمر حين يعجز غيره فكيف يصح ما قالوه وبعد فهلا دل ما روي من قوله وإن تولوا عمر تجدوه قويا في أمر الله قويا في بدنه على جواز ذلك وإن ترك النبي ص توليته لأن هذا القول أقوى من الفعل . اعترض المرتضى رحمه الله فقال قد علمنا بالعادة أن من ترشح لكبار الأمور لا بد من أن يدرج إليها بصغارها لأن من يريد بعض الملوك تأهيله للأمر من بعده لا بد من أن ينبه عليه بكل قول وفعل يدل على ترشيحه لهذه المنزلة ويستكفيه من أمور ولاياته ما يعلم عنده أو يغلب على ظنه صلاحه لما يريده له وإن من يرى الملك مع حضوره وامتداد الزمان وتطاوله لا يستكفيه شيئا من الولايات ومتى ولاه عزله وإنما يولي غيره ويستكفي سواه لا بد أن يغلب في الظن أنه ليس بأهل للولاية وإن جوزنا أنه لم يوله لأسباب كثيرة سوى أنه لا يصلح للولاية إلا أن مع هذا التجويز لا بد أن
[ 170 ](1/4866)
يغلب على الظن بما ذكرناه فأما خالد وعمرو فإنما لم يصلحا للإمامة لفقد شروط الإمامة فيهما وإن كانا يصلحان لما ولياه من الإمارة فترك الولاية مع امتداد الزمان وتطاول الأيام وجميع الشروط التي ذكرناها تقتضي غلبه الظن لفقد الصلاح والولاية لشي ء لا تدل على الصلاح لغيره إذا كانت الشرائط في القيام بذلك الغير معلوما فقدها وقد نجد الملك يولي بعض أموره من لا يصلح للملك بعده لظهور فقد الشرائط فيه ولا يجوز أن يكون بحضرته من يرشحه للملك بعده ثم لا يوليه على تطاول الزمان شيئا من الولايات فبان الفرق بين الولاية وتركها فيما ذكرناه . فأما أمير المؤمنين ع وإن يتول جميع أمور النبي ص في حياته فقد تولى أكثرها وأعظمها وخلفه في المدينة وكان الأمير على الجيش المبعوث إلى خيبر وجرى الفتح على يديه بعد انهزام من انهزم منها وكان المؤدي عنه سورة براءة بعد عزل من عزل عنها وارتجاعها منه إلى غير ذلك من عظيم الولايات والمقامات بما يطول شرحه ولو لم يكن إلا أنه لم يول عليه واليا قط لكفى . فأما اعتراضه بأن أمير المؤمنين ع لم يول الحسين فبعيد عن الصواب لأن أيام أمير المؤمنين ع لم تطل فيتمكن فيها من مراداته وكانت على قصرها منقسمة بين قتال الأعداء لأنه ع لما بويع لم يلبث أن خرج عليه أهل البصرة فاحتاج إلى قتالهم ثم انكفأ من قتالهم إلى قتال أهل الشام وتعقب ذلك قتال أهل النهروان ولم تستقر به الدار ولا امتد به الزمان وهذا بخلاف أيام النبي ص التي تطاولت وامتدت على أنه قد نص عليه بالإمامة بعد أخيه الحسن وإنما تطلب الولايات لغلبة الظن بالصلاح للإمامة . فإن كان هناك وجه يقتضي العلم بالصلاح لها كان أولى من طريق الظن على أنه
[ 171 ](1/4867)
لا خلاف بين المسلمين أن الحسين ع كان يصلح للإمامة وإن لم يوله أبوه الولايات وفي مثل ذلك خلاف من حال عمر فافترق الأمران فأما قوله إنه لم يعثر على عمر بتقصير في الولاية فمن سلم بذلك أ وليس يعلم أن مخالفته تعد تقصيرا كثيرا ولو لم يكن إلا ما اتفق عليه من خطئه في الأحكام ورجوعه من قول إلى غيره واستفتائه الناس في الصغير والكبير وقوله كل الناس أفقه من عمر لكان فيه كفاية وليس كل النهوض بالإمامة يرجع إلى حسن التدبير والسياسة الدنياوية ورم الأعمال والاستظهار في جباية الأموال وتمصير الأمصار ووضع الأعشار بل حظ الإمامة من العلم بالأحكام والفتيا بالحلال والحرام والناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه أقوى فمن قصر في هذا لم ينفعه أن يكون كاملا في ذلك . فأما قوله فهلا دل ما روي من
قوله ع فإن وليتم عمر وجدتموه قويا في أمر الله قويا في بدنه فهذا لو ثبت لدل وقد تقدم القول عليه وأقوى ما يبطله عدول أبي بكر عن ذكره والاحتجاج به لما أراد النص على عمر فعوتب على ذلك وقيل له ما تقول لربك إذ وليت علينا فظا غليظا فلو كان صحيحا لكان يحتج به ويقول وليت عليكم من شهد النبي ص بأنه قوي في أمر الله قوي في بدنه وقد قيل في الطعن على صحة هذا الخبر إن ظاهره يقتضي تفضيل عمر على أبي بكر والإجماع بخلاف ذلك لأن القوة في الجسم فضل قال الله تعالى إِنَّ اَللَّهَ اِصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي اَلْعِلْمِ وَ اَلْجِسْمِ وبعد فكيف يعارض ما اعتمدناه من عدوله ع عن ولايته وهو أمر معلوم بهذا الخبر المردود المدفوع . قلت أما ما ادعاه من عادة الملوك فالأمر بخلافه فإنا قد وقفنا على سير الأكاسرة وملوك الروم وغيرهم فما سمعنا أن أحدا منهم رشح ولده
[ 172 ](1/4868)
للملك بعده باستعماله على طرف من الأطراف ولا جيش من الجيوش وإنما كانوا يثقفونهم بالآداب والفروسية في مقار ملكهم لا غير والحال في ملوك الإسلام كذلك فقد سمعنا بالدولة الأموية ورأينا الدولة العباسية فلم نعرف الدولة التي ادعاها المرتضى وإنما قد يقع في الأقل النادر شي ء مما أشار إليه والأغلب الأكثر خلاف ذلك على أن أصحابنا لا يقولون إن عمر كان مرشحا للخلافة بعد رسول الله ص ليقال لهم فلو كان قد رشحه للخلافة بعده لاستكفاه كثيرا من أموره وإنما عمر مرشح عندهم في أيام أبي بكر للخلافة بعد أبي بكر وقد كان أبو بكر استعمله على القضاء مدة خلافته بل كان هو الخليفة في المعنى لأنه فوض إليه أكثر التدبير فعلى هذا يكون قد سلمنا أن ترك استعمال النبي ص لعمر يدل على أنه غير مرشح في نظره للخلافة بعده وكذلك نقول ولا يلزم من ذلك ألا يكون خليفة بعد أبي بكر على أنا لا نسلم أنه ما استعمله فقد ذكر الواقدي وابن إسحاق أنه بعثه في سرية في سنة سبع من الهجرة إلى الوادي المعروف ببرمة بضم الباء وفتح الراء وبها جمع من هوازن فخرج ومعه دليل من بني هلال وكانوا يسيرون الليل ويكمنون النهار وأتى الخبر هوازن فهربوا وجاء عمر محالهم فلم يلق منهم أحدا فانصرف إلى المدينة . ثم يعارض المرتضى بما ذكره قاضي القضاة من ترك تولية علي ابنه الحسين ع وقوله في العذر عن ذلك إن عليا ع كان ممنوا بحرب البغاة والخوارج لا يدفع المعارضة لأن تلك الأيام التي هي أيام حروبه مع هؤلاء هي الأيام التي كان ينبغي أن يولي الحسين ع بعض الأمور فيها كاستعماله على جيش ينفذه سرية إلى بعض الجهات واستعماله على الكوفة بعد خروجه منها إلى حرب صفين أو استعماله على القضاء
[ 173 ](1/4869)
و ليس اشتغاله بالحرب بمانع له عن ولاية ولده وقد كان مشتغلا بالحرب وهو يولي بني عمه العباس الولايات والبلاد الجليلة فأما قوله على أنه قد نص عليه بالإمامة بعد أخيه الحسن فهذا يغني عن توليته شيئا من الأعمال فلقائل أن يمنع ما ذكره من حديث النص فإنه أمر تنفرد به الشيعة وأكثر أرباب السير والتواريخ لا يذكرون أن أمير المؤمنين ع نص على أحد ثم إن ساغ له ذلك ساغ لقاضي القضاة أن يقول إن
قول النبي ص اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر يغني عن تولية عمر شيئا من الولايات لأن هذا القول آكد من الولاية في ترشحه للخلافة . فأما قوله على أنه لا خلاف بين المسلمين في صلاحية الحسين للخلافة وإن لم يوله أبوه الولايات وفي عمر خلاف ظاهر بين المسلمين فلقائل أن يقول له إجماع المسلمين على صلاحية الحسين للخلافة لا يدفع المعارضة بل يؤكدها لأنه إذا كان المسلمون قد أجمعوا على صلاحيته للخلافة ولم يكن ترك تولية أبيه إياه الولايات قادحا في صلاحيته لها بعده جاز أيضا أن يكون ترك تولية رسول الله ص عمر الولايات في حياته غير قادح في صلاحيته للخلافة بعده . ثم ما ذكره من تقصير عمر في الخلافة بطريق اختلاف أحكامه ورجوعه إلى فتاوى العلماء فقد ذكرنا ذلك فيما تقدم لما تكلمنا في مطاعن الشيعة على عمر وأجبنا عنه . وأما قوله لا يغني حسن التدبير والسياسة ورم الأمور مر القصور في الفقه فأصحابنا يذهبون إلى أنه إذا تساوى اثنان في خصال الإمامة إلا أنه كان أحدهما أعلم والآخر
[ 174 ](1/4870)
أسوس فإن الأسوس أولى بالإمامة لأن حاجة الإمامة إلى السياسة وحسن التدبير آكد من حاجتها إلى العلم والفقه . وأما الخبر المروي في عمر وهو قوله وإن تولوها عمر فيجوز ألا يكون أبو بكر سمعه من رسول الله ص ويكون الراوي له غيره ويجوز أن يكون سمعه وشذ عنه أن يحتج به على طلحة لما أنكر استخلاف عمر ويجوز ألا يكون شذ عنه وترك الاحتجاج به استغناء عنه لعلمه أن طلحة لا يعتد بقوله عند الناس إذا عارض قوله ولعله كنى عن هذا النص بقوله إذا سألني ربي قلت له استخلفت عليهم خير أهلك على أنا متى فتحنا باب هلا احتج فلان بكذا جر علينا ما لا قبل لنا به وقيل هلا احتج علي ع على طلحة وعائشة والزبير
بقول رسول الله ص من كنت مولاه فهذا علي مولاه وهلا احتج عليهم
بقوله أنت مني بمنزله هارون من موسى ولا يمكن الشيعة أن يعتذروا هاهنا بالتقية لأن السيوف كانت قد سلت من الفريقين ولم يكن مقام تقية . وأما قوله هذا الخبر لو صح لاقتضى أن يكون عمر أفضل من أبي بكر وهو خلاف إجماع المسلمين فلقائل أن يقول لم قلت إن المسلمين أجمعوا على أن أبا بكر أفضل من عمر مع أن كتب الكلام والتصانيف المصنفة في المقالات مشحونة بذكر الفرقة العمرية وهم القائلون إن عمر أفضل من أبي بكر وهي طائفة عظيمة من المسلمين يقال إن عبد الله بن مسعود منهم وقد رأيت أن جماعة من الفقهاء يذهبون إلى هذا ويناظرون عليه على أنه لا يدل الخبر على ما ذكره المرتضى لأنه وإن كان عمر أفضل منه باعتبار قوة البدن فلا يدل على أنه أفضل منه مطلقا فمن الجائز أن يكون بإزاء هذه الخصلة خصال كثيرة في أبي بكر من خصال الخير يفضل بها على عمر
[ 175 ]
أ لا ترى أنا نقول أبو دجانة أفضل من أبي بكر بجهاده بالسيف في مقام الحرب ولا يلزم من ذلك أن يكون أفضل منه مطلقا لأن في أبي بكر من خصال الفضل ما إذا قيس بهذه الخصلة أربى عليها أضعافا مضاعفة(1/4871)
الطعن الرابع
قالوا إن أبا بكر كان في جيش أسامة وإن رسول الله ص كرر حين موته الأمر بتنفيذ جيش أسامة فتأخره يقتضي مخالفة الرسول ص فإن قلتم إنه لم يكن في الجيش قيل لكم لا شك أن عمر بن الخطاب كان في الجيش وأنه حبسه ومنعه من النفوذ مع القوم وهذا كالأول في أنه معصية وربما قالوا إنه ص جعل هؤلاء القوم في جيش أسامة ليبعدوا بعد وفاته عن المدينة فلا يقع منهم توثب على الإمامة ولذلك لم يجعل أمير المؤمنين ع في ذلك الجيش وجعل فيه أبا بكر وعمر وعثمان وغيرهم وذلك من أوكد الدلالة على أنه لم يرد أن يختاروا للإمامة . أجاب قاضي القضاة بأن أنكر أولا أن يكون أبو بكر في جيش أسامة وأحال على كتب المغازي ثم سلم ذلك وقال إن الأمر لا يقتضي الفور فلا يلزم من تأخر أبي بكر عن النفوذ أن يكون عاصيا ثم قال إن خطابه ص بتنفيذ الجيش يجب أن يكون متوجها إلى القائم بعده لأنه من خطاب الأئمة وهذا يقتضي ألا يدخل المخاطب بالتنفيذ في الجملة ثم قال وهذا يدل على أنه لم يكن هناك إمام منصوص عليه لأنه لو كان لأقبل بالخطاب عليه وخصه بالأمر بالتنفيذ دون الجميع
[ 176 ](1/4872)
ثم ذكر أن أمر رسول الله ص لا بد أن يكون مشروطا بالمصلحة وبأن لا يعرض ما هو أهم منه لأنه لا يجوز أن يأمرهم بالنفوذ وإن أعقب ضررا في الدين ثم قوى ذلك بأنه لم ينكر على أسامة تأخره وقوله لم أكن لأسأل عنك الركب ثم قال لو كان الإمام منصوصا عليه لجاز أن يسترد جيش أسامة أو بعضه لنصرته وكذلك إذا كان بالاختيار ثم حكى عن الشيخ أبي علي استدلاله على أن أبا بكر لم يكن في جيش أسامة بأنه ولاه الصلاة في مرضه مع تكريره أمر الجيش بالنفوذ والخروج . ثم ذكر أن الرسول ص إنما يأمر بما يتعلق بمصالح الدنيا من الحروب ونحوها عن اجتهاده وليس بواجب أن يكون ذلك عن وحي كما يجب في الأحكام الشرعية وأن اجتهاده يجوز أن يخالف بعد وفاته وإن لم يجز في حياته لأن اجتهاده في الحياة أولى من اجتهاد غيره ثم ذكر أن العلة في احتباس عمر عن الجيش حاجة أبي بكر إليه وقيامه بما لا يقوم به غيره وأن ذلك أحوط للدين من نفوذه . ثم ذكر أن أمير المؤمنين ع حارب معاوية بأمر الله تعالى وأمر رسوله ومع هذا فقد ترك محاربته في بعض الأوقات ولم يجب بذلك ألا يكون متمثلا للأمر وذكر توليته ع أبا موسى وتولية الرسول ص خالد بن الوليد مع ما جرى منهما وأن ذلك يقتضي الشرط . ثم ذكر أن من يصلح للإمامة ممن ضمه جيش أسامة يجب تأخيره ليختار للإمامة أحدهم فإن ذلك أهم من نفوذهم فإذا جاز لهذه العلة التأخير قبل العقد جاز التأخير بعده للمعاضدة وغيرها وطعن في قول من جعل أن إخراجهم في الجيش على جهة الإبعاد لهم عن المدينة بأن قال إن بعدهم عن المدينة لا يمنع من أن يختاروا للإمامة
[ 177 ]
و لأنه ع لم يكن قاطعا على موته لا محالة لأنه لم يرد(1/4873)
نفذوا جيش أسامة في حياتي ثم ذكر أن ولاية أسامة عليهما لا تقتضي فضله وأنهما دونه وذكر ولاية عمرو بن العاص عليهما وإن لم يكونا دونه في الفضل وأن أحدا لم يفضل أسامة عليهما ثم ذكر أن السبب في كون عمر من جملة جيش أسامة أن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي قال عند ولاية أسامة تولى علينا شاب حدث ونحن مشيخة قريش فقال عمر يا رسول الله مرني حتى أضرب عنقه فقد طعن في تأميرك إياه ثم قال أنا أخرج في جيش أسامة تواضعا وتعظيما لأمره ع . اعترض المرتضى هذه الأجوبة فقال أما كون أبي بكر في جملة جيش أسامة فظاهر قد ذكره أصحاب السير والتواريخ وقد روى البلاذري في تاريخه وهو معروف بالثقة والضبط وبري ء من ممالاة الشيعة ومقاربتها أن أبا بكر وعمر معا كانا في جيش أسامة والإنكار لما يجري هذا المجرى لا يغني شيئا وقد كان يجب على من أحال بذلك على كتب المغازي في الجملة أن يومئ إلى الكتاب المتضمن لذلك بعينه ليرجع إليه فأما خطابه ع بالتنفيذ للجيش فالمقصود به الفور دون التراخي إما من حيث مقتضى الأمر على مذهب من يرى ذلك لغة وإما شرعا من حيث وجدنا جميع الأمة من لدن الصحابة إلى هذا الوقت يحملون أوامره على الفور ويطلبون في تراخيها الأدلة ثم لو لم يثبت كل ذلك لكان قول أسامة لم أكن لأسأل عنك الركب أوضح دليل على أنه عقل من الأمر الفور لأن سؤال الركب عنه ع بعد وفاته لا معنى له .
[ 178 ](1/4874)
و أما قول صاحب الكتاب إنه لم ينكر على أسامة تأخره فليس بشي ء وأي إنكار أبلغ من تكراره الأمر وترداده القول في حال يشغل عن المهم ويقطع الفكر إلا فيها وقد كرر الأمر على المأمور تارة بتكرار الأمر وأخرى بغيره وإذا سلمنا أن أمره ع كان متوجها إلى القائم بعده بالأمر لتنفيذ الجيش بعد الوفاة لم يلزم ما ذكره من خروج المخاطب بالتنفيذ عن الجملة وكيف يصح ذلك وهو من جملة الجيش والأمر متضمن تنفيذ الجيش فلا بد من نفوذ كل من كان في جملته لأن تأخر بعضهم يسلب النافذين اسم الجيش على الإطلاق أ وليس من مذهب صاحب الكتاب أن الأمر بالشي ء أمر بما لا يتم إلا معه وقد اعتمد على هذا في مواضع كثيرة فإن كان خروج الجيش ونفوذه لا يتم إلا بخروج أبي بكر فالأمر بخروج الجيش أمر لأبي بكر بالنفوذ والخروج وكذلك لو أقبل عليه على سبيل التخصيص و
قال نفذوا جيش أسامة وكان هو من جملة الجيش فلا بد أن يكون ذلك أمرا له بالخروج واستدلاله على أنه لم يكن هناك إمام منصوص عليه بعموم الأمر بالتنفيذ ليس بصحيح لأنا قد بينا أن الخطاب إنما توجه إلى الحاضرين ولم يتوجه إلى الإمام بعده على أن هذا لازم له لأن الإمام بعده لا يكون إلا واحدا فلم عمم الخطاب ولم يفرد به الواحد فيقول لينفذ القائم من بعدي بالأمر جيش أسامة فإن الحال لا يختلف في كون الإمام بعده واحدا بين أن يكون منصوصا عليه أو مختارا . وأما ما ادعاه أن الشرط في أمره ع لهم بالنفوذ فباطل لأن إطلاق الأمر يمنع من إثبات الشرط وإنما يثبت من الشروط ما يقتضي الدليل إثباته من التمكن والقدرة لأن ذلك شرط ثابت في كل أمر ورد من حكيم والمصلحة بخلاف ذلك لأن الحكيم لا يأمر بشرط المصلحة بل إطلاق الأمر منه يقتضي ثبوت المصلحة وانتفاء المفسدة وليس كذلك التمكن وما يجري مجراه ولهذا لا يشترط
[ 179 ](1/4875)
أحد في أوامر الله تعالى ورسوله ص بالشرائع المصلحة وانتفاء المفسدة وشرطوا في ذلك التمكن ورفع التعذر ولو كان الإمام منصوصا عليه بعينه واسمه لما جاز أن يسترد جيش أسامة بخلاف ما ظنه ولا يعزل من ولاه ع ولا يولي من عزله للعلة التي ذكرناها . فأما استدلال أبي علي على أن أبا بكر لم يكن في الجيش بحديث الصلاة فأول ما فيه أنه اعتراف بأن الأمر بتنفيذ الجيش كان في الحياة دون بعد الوفاة وهذا ناقض لما بنى صاحب الكتاب عليه أمره ع . ثم إنا قد بينا أنه ع لم يوله الصلاة وذكرنا ما في ذلك ثم ما المانع من أن يوليه تلك الصلاة إن كان ولاه إياها ثم يأمره بالنفوذ من بعد مع الجيش فإن الأمر بالصلاة في تلك الحال لا يقتضي أمره بها على التأبيد . وأما ادعاؤه أن النبي ص يأمر بالحروب وما يتصل بها عن اجتهاد دون الوحي فمعاذ الله أن يكون صحيحا لأن حروبه ع لم تكن مما يختص بمصالح أمور الدنيا بل للدين فيها أقوى تعلق لما يعود على الإسلام وأهله بفتوحه من العز والقوة وعلو الكلمة وليس يجري ذلك مجرى أكله وشربه ونومه لأن ذلك لا تعلق له بالدين فيجوز أن يكون عن رأيه ولو جاز أن تكون مغازيه وبعوثه مع التعلق القوي لها بالدين عن اجتهاد لجاز ذلك في الأحكام . ثم لو كان ذلك عن اجتهاد لما ساغت مخالفته فيه بعد وفاته كما لا تسوغ في حياته فكل علة تمنع من أحد الأمرين هي مانعة من الآخر فأما الاعتذار له عن حبس عمر عن الجيش بما ذكره فباطل لأنا قد قلنا إن ما يأمر به ع لا يسوغ مخالفته مع الإمكان ولا مراعاة لما عساه يعرض فيه من رأي غيره وأي حاجة إلى عمر بعد تمام العقد واستقراره ورضا الأمة به على طريق المخالف وإجماعها عليه ولم يكن
[ 180 ](1/4876)
هناك فتنة ولا تنازع ولا اختلاف يحتاج فيه إلى مشاورته وتدبيره وكل هذا تعلل باطل . فأما محاربة أمير المؤمنين ع معاوية فإنما كان مأمورا بها مع التمكن ووجود الأنصار وقد فعل ع من ذلك ما وجب عليه لما تمكن منه فأما مع التعذر وفقد الأنصار فما كان مأمورا بها وليس كذلك القول في جيش أسامة لأن تأخر من تأخر عنه كان مع القدرة والتمكن فأما تولية أبي موسى فلا ندري كيف يشبه ما نحن فيه لأنه إنما ولاه بأن يرجع إلى كتاب الله تعالى فيحكم فيه وفي خصمه بما يقتضيه وأبو موسى فعل خلاف ما جعل إليه فلم يكن ممتثلا لأمر من ولاه وكذلك خالد بن الوليد إنما خالف ما أمره به الرسول ص فتبرأ من فعله وكل هذا لا يشبه أمره ع بتنفيذ جيش أسامة أمرا مطلقا وتأكيده ذلك وتكراره له فأما جيش أسامة فإنه لم يضم من يصلح للإمامة فيجوز تأخرهم ليختار أحدهم على ما ظنه صاحب الكتاب على أن ذلك لو صح أيضا لم يكن عذرا في التأخر لأن من خرج في الجيش يمكن أن يختار وإن كان بعيدا ولا يمنع بعده من صحة الاختيار وقد صرح صاحب الكتاب بذلك ثم لو صح هذا العذر لكان عذرا في التأخر قبل العقد فأما بعد إبرامه فلا عذر فيه والمعاضدة التي ادعاها قد بينا ما فيها . فأما ادعاء صاحب الكتاب رادا على من جعل إخراج القوم في الجيش ليتم أمر النص أن من أبعدهم لا يمنع أن يختاروا للإمامة فيدل على أنه لم يتبين معنى هذا الطعن على حقيقته لأن الطاعن به لا يقول إنه أبعدهم لئلا يختاروا للإمامة وإنما يقول إنه أبعدهم حتى ينتصب بعده في الأرض من نص عليه ولا يكون هناك من ينازعه ويخالفه
[ 181 ](1/4877)
و أما قوله لم يكن قاطعا علي موته فلا يضر تسليمه أ ليس كان مشفقا وخائفا وعلى الخائف أن يتحرز ممن يخاف منه فأما قوله فإنه لم يرد نفذوا الجيش في حياتي فقد بينا ما فيه فأما ولاية أسامة على من ولي عليه فلا بد من اقتضائها لفضله على الجماعة فيما كان واليا فيه وقد دللنا فيما تقدم من الكتاب على أن ولاية المفضول على الفاضل فيما كان أفضل منه فيه قبيحة فكذلك القول في ولاية عمرو بن العاص عليها فيما تقدم والقول في الأمرين واحد . وقوله إن أحدا لم يدع فضل أسامة على أبي بكر وعمر فليس الأمر علي ما ظنه لأن من ذهب إلى فساد إمامة المفضول لا بد من أن يفضل أسامة عليهما فيما كان واليا فيه فأما ادعاؤه ما ذكره من السبب في دخول عمر في الجيش فما نعرفه ولا وقفنا عليه إلا من كتابه ثم لو صح لم يغن شيئا لأن عمر لو كان أفضل من أسامة لمنعه الرسول ص من الدخول في إمارته والمسير تحت لوائه والتواضع لا يقتضي فعل القبيح . قلت إن الكلام في هذا الفصل قد تشعب شعبا كثيرة والمرتضى رحمه الله لا يورد كلام قاضي القضاة بنصه وإنما يختصره ويورده مبتورا ويومئ إلى المعاني إيماء لطيفا وغرضه الإيجاز ولو أورد كلام قاضي القضاة بنصه لكان أليق وكان أبعد عن الظنة وأدفع لقول قائل من خصومه إنه يحرف كلام قاضي القضاة ويذكر على غير وجه أ لا ترى أن من نصب نفسه لاختصار كلام فقد ضمن على نفسه أنه قد فهم معاني ذلك الكلام حتى يصح منه اختصاره ومن الجائز أن يظن أنه قد فهم
[ 182 ](1/4878)
بعض المواضع ولم يكن قد فهمه على الحقيقة فيختصر ما في نفسه لا ما في تصنيف ذلك الشخص وأما من يورد كلام الناس بنصه فقد استراح من هذه التبعة وعرض عقل غيره وعقل نفسه على الناظرين والسامعين . ثم نقول إن هذا الفصل ينقسم أقساما منها قول قاضي القضاة لا نسلم أن أبا بكر كان في جيش أسامة . وأما قول المرتضى إنه قد ذكره أرباب السير والتواريخ وقوله إن البلاذري ذكره في تاريخه وقوله هلا عين قاضي القضاة الكتاب الذي ذكر أنه يتضمن عدم كون أبي بكر في ذلك الجيش فإن الأمر عندي في هذا الموضع مشتبه والتواريخ مختلفة في هذه القضية فمنهم من يقول إن أبا بكر كان في جملة الجيش ومنهم من يقول إنه لم يكن وما أشار إليه قاضي القضاة بقوله في كتب المغازي لا ينتهي إلى أمر صحيح ولم يكن ممن يستحل القول بالباطل في دينه ولا في رئاسته ذكر الواقدي في كتاب المغازي أن أبا بكر لم يكن في جيش أسامة وإنما كان عمر وأبو عبيدة وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وقتادة بن النعمان وسلمة بن أسلم ورجال كثير من المهاجرين والأنصار قال وكان المنكر لإمارة أسامة عياش بن أبي ربيعة وغير الواقدي يقول عبد الله بن عياش وقد قيل عبد الله بن أبي ربيعة أخو عياش . وقال الواقدي وجاء عمر بن الخطاب فودع رسول الله ص ليسير مع أسامة وقال وجاء أبو بكر فقال يا رسول الله أصبحت مفيقا بحمد الله واليوم يوم ابنة خارجة فأذن لي فأذن له فذهب إلى منزله بالسنح وسار أسامة في العسكر وهذا تصريح بأن أبا بكر لم يكن في جيش أسامة .
[ 183 ](1/4879)
و ذكر موسى بن عقبة في كتاب المغازي أن أبا بكر لم يكن في جيش أسامة وكثير من المحدثين يقولون بل كان في جيشه . فأما أبو جعفر محمد بن جرير الطبري فلم يذكر أنه كان في جيش أسامة إلا عمر وقال أبو جعفر حدثني السدي بإسناد ذكره أن رسول الله ص ضرب قبل وفاته بعثا على أهل المدينة ومن حولهم وفيهم عمر بن الخطاب وأمر عليهم أسامة بن زيد فلم يجاوز آخرهم الخندق حتى قبض رسول الله ص فوقف أسامة بالناس ثم قال لعمر ارجع إلى خليفة رسول الله ص فاستأذنه يأذن لي أرجع بالناس فإن معي وجوه الصحابة ولا آمن على خليفة رسول الله ص وثقل رسول الله ص وأثقال المسلمين أن يتخطفهم المشركون حول المدينة وقالت الأنصار لعمر سرا فإن أبى إلا أن يمضي فأبلغه عنا واطلب إليه أن يولي أمرنا رجلا أقدم سنا من أسامة فخرج عمر بأمر أسامة فأتى أبا بكر فأخبره بما قال أسامة فقال أبو بكر لو تخطفتني الكلاب والذئاب لم أرد قضاء قضى به رسول الله ص قال فإن الأنصار أمروني أن أبلغك أنهم يطلبون إليك أن تولي أمرهم رجلا أقدم سنا من أسامة فوثب أبو بكر وكان جالسا فأخذ بلحية عمر وقال ثكلتك أمك يا ابن الخطاب أ يستعمله رسول الله ص وتأمرني أن أنزعه فخرج عمر إلى الناس فقالوا له ما صنعت فقال امضوا ثكلتكم أمهاتكم ما لقيت في سبيلكم اليوم من خليفة رسول الله ص ثم خرج أبو بكر حتى أتاهم فأشخصهم وشيعهم وهو ماش وأسامة راكب وعبد الرحمن بن عوف يقود دابة أبي بكر فقال له أسامة بن زيد يا خليفة رسول الله لتركبن أو لأنزلن فقال والله لا تنزل ولا أركب وما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة
[ 184 ]
فإن للغازي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة تكتب له وسبعمائة درجة ترفع له وسبعمائة خطيئة تمحى عنه حتى إذا انتهى قال لأسامة إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل فأذن له ثم(1/4880)
قال أيها الناس قفوا حتى أوصيكم بعشر فاحفظوها عني لا تخونوا ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلا صغيرا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بعيرا ولا بقرة إلا لمأكلة وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم للعبادة في الصوامع فدعوهم فيما فرغوا أنفسهم له وسوف تقدمون على أقوام يأتونكم بصحاف فيها ألوان الطعام فلا تأكلوا من شي ء حتى تذكروا اسم الله عليه وسوف تلقون أقواما قد حصوا أوساط رءوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فاخفقوهم بالسيوف خفقا أفناهم الله بالطعن والطاعون سيروا على اسم الله . وأما قول الشيخ أبي علي فإنه يدل على أنه لم يكن في جيش أسامة أمره إياه بالصلاة وقول المرتضى هذا اعتراف بأن الأمر بتنفيذ الجيش كان في الحال دون ما بعد الوفاة وهذا ينقض ما بنى عليه قاضي القضاة أمره فلقائل أن يقول إنه لا ينقض ما بناه لأن قاضي القضاة ما قال إن الأمر بتنفيذ الجيش ما كان إلا بعد الوفاة بل قال إنه أمر والأمر على التراخي فلو نفذ الجيش في الحال لجاز ولو تأخر إلى بعد الوفاة لجاز . فأما إنكار المرتضى أن تكون صلاة أبي بكر بالناس كانت عن أمر رسول الله ص فقد ذكرنا ما عندنا في هذا فيما تقدم . وأما قوله يجوز أن يكون أمر بصلاة واحدة أو صلاتين ثم أمره بالنفوذ بعد
[ 185 ](1/4881)
ذلك فهذا لعمري جائز وقد يمكن أن يقال إنه لما خرج متحاملا من شدة المرض فتأخر أبو بكر عن مقامه وصلى رسول الله ص بالناس أمره بالنفوذ مع الجيش وأسكت رسول الله ص في أثناء ذلك اليوم واستمر أبو بكر على الصلاة بالناس إلى أن توفي ع فقد جاء في الحديث أنه أسكت وأن أسامة دخل عليه فلم يستطع كلامه لكنه كان يرفع يديه ويضعهما عليه كالداعي له ويمكن أن يكون زمان هذه السكتة قد امتد يوما أو يومين وهذا الموضع من المواضع المشتبهة عندي ومنها قول قاضي القضاة إن الأمر على التراخي فلا يلزم من تأخر أبي بكر عن النفوذ أن يكون عاصيا . فأما قول المرتضى الأمر على الفور إما لغة عند من قال به أو شرعا لإجماع الكل على أن الأوامر الشرعية على الفور إلا ما خرج بالدليل فالظاهر في هذا الموضع صحة ما قاله المرتضى لأن قرائن الأحوال عند من يقرأ السير ويعرف التواريخ تدل على أن الرسول ص كان يحثهم على الخروج والمسير وهذا هو الفور . وأما قول المرتضى وقول أسامة لم أكن لأسأل عنك الركب فهو أوضح دليل على أنه عقل من الأمر الفور لأن سؤال الركب عنه بعد الوفاة لا معنى له فلقائل أن يقول إن ذلك لا يدل على الفور بل يدل على أنه مأمور في الجملة بالنفوذ والمسير فإن التعجيل والتأخير مفوضان إلى رأيه فلما قال له النبي ص لم تأخرت عن المسير قال لم أكن لأسير وأسأل عنك الركب إني انتظرت عافيتك فإني إذا سرت وأنت على هذه الحال لم يكن لي قلب للجهاد بل أكون قلقا شديد الجزع أسأل
[ 186 ](1/4882)
عنك الركبان وهذا الكلام لا يدل على أنه عقل من الأمر الفور لا محالة بل هو على أن يدل على التراخي أظهر وقول النبي ص لم تأخرت عن المسير لا يدل على الفور لأنه قد يقال مثل ذلك لمن يؤمر بالشي ء على جهة التراخي إذا لم يكن سؤال إنكار . وقول المرتضى لأن سؤال الركب عنه بعد الوفاة لا معنى له قول من قد توهم على قاضي القضاة أنه يقول إن النبي ص ما أمرهم بالنفوذ إلا بعد وفاته ولم يقل قاضي القضاة ذلك وإنما ادعى أن الأمر على التراخي لا غير وكيف يظن بقاضي القضاة أنه حمل كلام أسامة على سؤال الركب بعد الموت وهل كان أسامة يعلم الغيب فيقول ذاك وهل سأل أحد عن حال أحد من المرضى بعد موته . فأما قول المرتضى عقيب هذا الكلام لا معنى لقول قاضي القضاة إنه لم ينكر على أسامة تأخره فإن الإنكار قد وقع بتكرار الأمر حالا بعد حال فلقائل أن يقول إن قاضي القضاة لم يجعل عدم الإنكار على أسامة حجة على كون الأمر على التراخي وإنما جعل ذلك دليلا على أن الأمر كان مشروطا بالمصلحة ومن تأمل كلام قاضي القضاة الذي حكاه عنه المرتضى تحقق ذلك فلا يجوز للمرتضى أن ينتزعه من الوضع الذي أورده فيه فيجعله في موضع آخر . ومنها قول قاضي القضاة الأمر بتنفيذ الجيش يجب أن يكون متوجها إلى الخليفة بعده والمخاطب لا يدخل تحت الخطاب واعتراض المرتضى عليه بأن لفظة الجيش يدخل تحتها أبو بكر فلا بد من وجوب النفوذ عليه لأن عدم نفوذه يسلب الجماعة اسم الجيش فليس بجيد لأن لفظة الجيش لفظة موضوعة لجماعة من الناس قد أعدت للحرب فإذا خرج منها واحد أو اثنان لم يزل مسمى الجيش عن الباقين والمرتضى
[ 187 ](1/4883)
اعتقد أن ذلك مثل الماهيات المركبة نحو العشرة إذا عدم منها واحد زال مسمى العشرة وليس الأمر كذلك يبين ذلك أنه لو قال بعض الملوك لمائة إنسان أنتم جيشي ثم قال لواحد منهم إذا مت فأعط كل واحد من جيشي درهما من خزانتي فقد جعلتك أميرا عليهم لم يكن له أن يأخذ لنفسه درهما ويقول أنا من جملة الجماعة الذين أطلق عليهم لفظة الجيش . ومنها قول قاضي القضاة هذه القضية تدل على أنه لم يكن هناك إمام منصوص عليه وأما قول المرتضى فقد بينا أن الخطاب إنما توجه إلى الحاضرين لا إلى القائم بالأمر بعده فلم نجد في كلامه في هذا الفصل بطوله ما بين فيه ذلك ولا أعلم على ما ذا أحال ولو كان قد بين على ما زعم أن الخطاب متوجه إلى الحاضرين لكان الإشكال قائما لأنه يقال له إذا كان الإمام المنصوص عليه حاضرا عنده فلم وجه الخطاب إلى الحاضرين أ لا ترى أنه لا يجوز أن يقول الملك للرعية اقضوا بين هذين الشخصين والقاضي حاضر عنده إلا إذا كان قد عزله عن القضاء في تلك الواقعة عن الرعية . فأما قول المرتضى هذا ينقلب عليكم فليس ينقلب وإنما ينقلب لو كان يريد تنفيذ الجيش بعد موته فقط ولا يريده وهو حي فكان يجي ء ما قاله المرتضى لينفذ القائم بالأمر بعدي جيش أسامة فأما إذا كان يريد نفوذ الجيش من حين ما أمر بنفوذه فقد سقط القلب لأن الخليفة حينئذ لم يكن قد تعين لأن الاختيار ما وقع بعد وعلى مذهب المرتضى الإمام متعين حاضر عنده نصب عينه فافترق الوصفان . ومنها قول قاضي القضاة إن مخالفة أمره ص في النفوذ مع الجيش أو في إنفاذ الجيش لا يكون معصية وبين ذلك من وجوه
[ 188 ](1/4884)
أحدها أن أمره ع بذلك لا بد أن يكون مشروطا بالمصلحة وألا يعرض ما هو أهم من نفوذ الجيش لأنه لا يجوز أن يأمرهم بالنفوذ وإن أعقب ضررا في الدين فأما قول المرتضى الأمر المطلق يدل على ثبوت المصلحة ولا يجوز أن يجعل الأمر المطلق فقول جيد إذا اعترض به على الوجه الذي أورده قاضي القضاة فأما إذا أورده أصحابنا على وجه آخر فإنه يندفع كلام المرتضى وذلك أنه يجوز تخصيص عمومات النصوص بالقياس الجلي عند كثير من أصحابنا على ما هو مذكور في أصول الفقه فلم لا يجوز لأبي بكر أن يخص عموم قوله انفذوا بعث أسامة لمصلحة غلبت على ظنه في عدم نفوذه نفسه ولمفسدة غلبت على نفسه في نفوذه نفسه مع البعث . وثانيها أنه ع كان يبعث السرايا عن اجتهاد لا عن وحي يحرم مخالفته فأما قول المرتضى إن للدين تعلقا قويا بأمثال ذلك وإنها ليست من الأمور الدنياوية المحضة نحو أكله وشربه ونومه فإنه يعود على الإسلام بفتوحه عز وقوة وعلو كلمة فيقال له وإذا أكل اللحم وقوي مزاجه بذلك ونام نوما طبيعيا يزول عنه به المرض والإعياء اقتضى ذلك أيضا عز الإسلام وقوته فقل إن ذلك أيضا عن وحي . ثم إن الذي يقتضيه فتوحه وغزواته وحروبه من العز وعلو الكلمة لا ينافي كون تلك الغزوات والحروب باجتهاده لأنه لا منافاة بين اجتهاده وبين عز الدين وعلو كلمته بحروبه وإن الذي ينافي اجتهاده بالرأي هو مثل فرائض الصلوات ومقادير الزكوات ومناسك الحج ونحو ذلك من الأحكام التي تشعر بأنها متلقاة من محض الوحي وليس للرأي والاجتهاد فيها مدخل وقد خرج بهذا الكلام الجواب عن قوله
[ 189 ](1/4885)
لو جاز أن تكون السرايا والحروب عن اجتهاده لجاز أن تكون الأحكام كلها عن اجتهاده وأيضا فإن الصحابة كانوا يراجعونه في الحروب وآراءه التي يدبرها بها ويرجع ع إليهم في كثير منها بعد أن قد رأى غيره وأما الأحكام فلم يكن يراجع فيها أصلا فكيف يحمل أحد البابين على الآخر . فأما قوله لو كانت عن اجتهاد لوجب أن يحرم مخالفته فيها وهو حي لا فرق بين الحالين فلقائل أن يقول القياس يقتضي ما ذكرت إلا أنه وقع الإجماع على أنه لو كان في الأحكام أو في الحروب والجهاد ما هو باجتهاده لما جازت مخالفته والعدول عن مذهبه وهو حي لم يختلف أحد من المسلمين في ذلك وأجازوا مخالفته بعد وفاته بتقدير أن يكون ما صار إليه عن اجتهاد والإجماع حجة . فأما قول قاضي القضاة لأن اجتهاده وهو حي أولى من اجتهاد غيره فليس يكاد يظهر لأن اجتهاده وهو ميت أولى أيضا من اجتهاد غيره ويغلب على ظني أنهم فرقوا بين حالتي الحياة والموت فإن في مخالفته وهو حي نوعا من أذى له وأذاه محرم لقوله تعالى وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اَللَّهِ والأذى بعد الموت لا يكون فافترق الحالان . وثالثها أنه لو كان الإمام منصوصا عليه لجاز أن يسترد جيش أسامة أو بعضه لنصرته فكذلك إذا كان بالاختيار وهذا قد منع منه المرتضى وقال إنه لا يجوز للمنصوص عليه ذلك ولا أن يولي من عزله رسول الله ص ولا أن يعزل من ولاه رسول الله ص
[ 190 ](1/4886)
و رابعها أنه ع ترك حرب معاوية في بعض الحالات ولم يوجب ذلك أن يكون عاصيا فكذلك أبو بكر في ترك النفوذ في جيش أسامة . فأما قول المرتضى إن عليا ع كان مأمورا بحرب معاوية مع التمكن ووجود الأنصار فإذا عدما لم يكن مأمورا بحربه فلقائل أن يقول وأبو بكر كان مأمورا بالنفوذ في جيش أسامة مع التمكن ووجود الأنصار وقد عدم التمكن لما استخلف فإنه قد تحمل أعباء الإمامة وتعذر عليه الخروج عن المدينة التي هي دار الإمامة فلم يكن مأمورا والحال هذه بالنفوذ في جيش أسامة . فإن قلت الإشكال عليكم إنما هو من قبل الاستخلاف كيف جاز لأبي بكر أن يتأخر عن المسير وكيف جاز له أن يرجع إلى المدينة وهو مأمور بالمسير وهلا نفذ لوجهه ولم يرجع وإن بلغه موت رسول الله ص . قلت لعل أسامة أذن له فهو مأمور بطاعته ولأنه رأى أسامة وقد عاد باللواء فعاد هو لأنه لم يكن يمكنه أن يسير إلى الروم وحده وأيضا فإن أصحابنا قالوا إن ولاية أسامة بطلت بموت النبي ص وعاد الأمر إلى رأي من ينصب للأمر قالوا لأن تصرف أسامة إنما كان من جهة النبي ص ثم زال تصرف النبي ص بموته فوجب أن يزول تصرف أسامة لأن تصرفه تبع لتصرف الرسول ص قالوا وذلك كالوكيل تبطل وكالته بموت الموكل قالوا ويفارق الوصي لأن ولايته لا تثبت إلا بعد موت الموصي فهو كعهد الإمام إلى غيره لا يثبت إلا بعد موت الإمام ثم فرع أصحابنا على هذا الأصل مسألة وهي الحاكم هل ينعزل بموت الإمام أم لا قال قوم من أصحابنا لا ينعزل وبنوه على أن التولي من غير جهة الإمام يجوز فجعلوا الحاكم نائبا عن المسلمين أجمعين لا عن الإمام
[ 191 ](1/4887)
و إن وقف تصرفه على اختياره وصار ذلك عندهم بمنزلة أن يختار المسلمون واحدا يحكم بينهم ثم يموت من رضي بذلك فإن تصرفه يبقى على ما كان عليه وقال قوم من أصحابنا ينعزل وإن هذا النوع من التصرف لا يستفاد إلا من جهة الإمام ولا يقوم به غيره وإذا ثبت أن أسامة قد بطلت ولايته لم تبق تبعة على أبي بكر في الرجوع من بعض الطريق إلى المدينة . وخامسها أن أمير المؤمنين ولى أبا موسى الحكم وولى رسول الله ص خالد بن الوليد السرية إلى الغميصاء وهذا الكلام إنما ذكره قاضي القضاة تتمة لقوله إن أمره ع بنفوذ بعث أسامة كان مشروطا بالمصلحة قال كما أن توليته ع أبا موسى كانت مشروطة باتباع القرآن وكما أن تولية رسول الله ص خالد بن الوليد كانت مشروطة بأن يعمل بما أوصاه به فخالفا ولم يعملا الحق فإذا كانت هذه الأوامر مشروطة فكذلك أمره جيش أسامة بالنفوذ كان مشروطا بالمصلحة وألا يعرض ما يقتضي رجوع الجيش أو بعضه إلى المدينة وقد سبق القول في كون الأمر مشروطا . وسادسها أن أبا بكر كان محتاجا إلى مقام عمر عنده ليعاضده ويقوم في تمهيد أمر الإمامة ما لا يقوم به غيره فكان ذلك أصلح في باب الدين من مسيره مع الجيش فجاز أن يحبسه عنده لذلك وهذا الوجه مختص بمن قال إن أبا بكر لم يكن في الجيش وإيضاح عذره في حبس عمر عن النفوذ مع الجيش .
[ 192 ](1/4888)
فأما قول المرتضى فإن ذلك غير جائز لأن مخالفة النص حرام فقد قلنا إن هذا مبني على مسألة تخصيص العمومات الواردة في القرآن بالقياس . وأما قوله أي حاجة كانت لأبي بكر إلى عمر بعد وقوع البيعة ولم يكن هناك تنازع ولا اختلاف فعجيب وهل كان لو لا مقام عمر وحضوره في تلك المقامات يتم لأبي بكر أمر أو ينتظم له حال ولو لا عمر لما بايع علي ولا الزبير ولا أكثر الأنصار والأمر في هذا أظهر من كل ظاهر . وسابعها أن من يصلح للإمامة ممن ضمه جيش أسامة يجب تأخرهم ليختار للإمامة أحدهم فإن ذلك أهم من نفوذهم فإذا جاز لهذه العلة التأخر قبل العقد جاز التأخر بعده للمعاضدة وغيرها . فأما قول المرتضى إن ذلك الجيش لم يضم من يصلح للإمامة فبناء على مذهبه في أن كل من ليس بمعصوم لا يصلح للإمامة فأما قوله ولو صح ذلك لم يكن عذرا في التأخر لأن من خرج في الجيش يمكن أن يختار ولو كان بعيدا ولا يمكن بعده من صحة الاختيار فلقائل أن يقول دار الهجرة هي التي فيها أهل الحل والعقد وأقارب رسول الله ص والقراء وأصحاب السقيفة فلا يجوز العدول عن الاجتماع والمشاورة فيها إلى الاختيار على البعد وعلى جناح السفر من غير مشاركة من ذكرنا من أعيان المسلمين . فأما قوله ولو صح هذا العقد لكان عذرا في التأخر قبل العقد فأما بعد إبرامه فلا عذر فيه فلقائل أن يقول إذا أجزت التأخر قبل العقد لنوع من المصلحة فأجز التأخر بعد العقد لنوع آخر من المصلحة وهو المعاضدة والمساعدة .
[ 193 ](1/4889)
هذه الوجوه السبعة كلها لبيان قوله تأخر أبي بكر أو عمر عن النفوذ في جيش أسامة وإن كان مأمورا بالنفوذ . ثم نعود إلى تمام أقسام الفصل ومنها قول قاضي القضاة لا معنى لقول من قال إن رسول الله ص قصد إبعادهم عن المدينة لأن بعدهم عنها لا يمنعهم من أن يختاروا واحدا منهم للإمامة ولأنه ع لم يكن قاطعا على موته لا محالة لأنه لم يرد نفذوا جيش أسامة في حياته . وقد اعترض المرتضى هذا فقال إنه لم يتبين معنى الطعن لأن الطاعن لا يقول إنهم أبعدوا عن المدينة كي لا يختاروا واحدا للإمامة بل يقول إنما أبعدوا لينتصب بعد موته ص في المدينة الشخص الذي نص عليه ولا يكون حاضرا بالمدينة من يخالفه وينازعه وليس يضرنا ألا يكون ص قاطعا على موته لأنه وإن لم يكن قاطعا فهو لا محالة يشفق ويخاف من الموت وعلى الخائف أن يتحرز مما يخاف منه وكلام المرتضى في هذا الموضع أظهر من كلام قاضي القضاة . ومنها قول قاضي القضاة إن ولاية أسامة عليهما لا تقتضي كونهما دونه في الفضل كما أن عمرو بن العاص لما ولي عليهما لم يقتض كونه أفضل منهما وقد اعترض المرتضى هذا بأنه يقبح تقديم المفضول على الفاضل فيما هو أفضل منه وإن تقديم عمرو بن العاص عليهما في الإمرة يقتضي أن يكون أفضل منهما فيما يرجع إلى الإمرة والسياسة ولا يقتضي أفضليته عليهما في غير ذلك وكذلك القول في أسامة .
[ 194 ](1/4890)
و لقائل أن يقول إن الملوك قد يؤمرون الأمراء على الجيوش لوجهين أحدهما أن يقصد الملك بتأمير ذلك الشخص أن يسوس الجيش ويدبره بفضل رأيه وشيخوخته وقديم تجربته وما عرف من يمن نقيبته في الحرب وقود العساكر والثاني أن يؤمر على الجيش غلاما حدثا من غلمانه أو من ولده أو من أهله ويأمر الأكابر من الجيش أن يثقفوه ويعلموه ويأمره أن يتدبر بتدبيرهم ويرجع إلى رأيهم ويكون قصد الملك من ذلك تخريج ذلك الغلام وتمرينه على الإمارة وأن يثبت له في نفوس الناس منزلة وأن يرشحه لجلائل الأمور ومعاظم الشئون ففي الوجه الأول يقبح تقديم المفضول على الفاضل وفي الوجه الثاني لا يقبح فلم لا يجوز أن يكون تأمير أسامة عليهما من قبيل الوجه الثاني والحال يشهد لذلك لأن أسامة كان غلاما لم يبلغ ثماني عشرة سنة حين قبض النبي ص فمن أين حصل له من تجربة الحرب وممارسة الوقائع وقود الجيش ما يكون به أعرف بالإمرة من أبي بكر وعمر وأبي عبيدة وسعد بن أبي وقاص وغيرهم . ومنها قول قاضي القضاة إن السبب في كون عمر في الجيش أنه أنكر على عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة تسخطه إمرة أسامة وقال أنا أخرج في جيش أسامة فخرج من تلقاء نفسه تعظيما لأمر رسول الله ص وقد اعترضه المرتضى فقال هذا شي ء لم نسمعه من راو ولا قرأناه في كتاب وصدق المرتضى فيما قال فإن هذا حديث غريب لا يعرف . وأما قول عمر دعني أضرب عنقه فقد نافق فمنقول مشهور لا محالة وإنما الغريب الذي لم يعرف كون عمر خرج من تلقاء نفسه في الجيش مراغمة لعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة حيث أنكر ما أنكر ولعل قاضي القضاة سمعه من راو أو نقله من كتاب إلا أنا نحن ما وقفنا على ذلك
[ 195 ](1/4891)
الطعن الخامس
قالوا إنه ص لم يول أبا بكر الأعمال وولى غيره ولما ولاه الحج بالناس وقراءة سورة براءة على الناس عزله عن ذلك كله وجعل الأمر إلى أمير المؤمنين ع و
قال لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني حتى يرجع أبو بكر إلى النبي ص . أجاب قاضي القضاة فقال لو سلمنا أنه لم يوله لما دل ذلك على نقص ولا على أنه لم يصلح للإمارة والإمامة بل لو قيل إنه لم يوله لحاجته إليه بحضرته وإن ذلك رفعة له لكان أقرب لا سيما وقد روي عنه ما يدل على أنهما وزيراه وأنه كان ص محتاجا إليهما وإلى رأيهما فلذلك لم يولهما ولو كان للعمل على تركه فضل لكان عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وغيرهما أفضل من أكابر الصحابة لأنه ع ولاهما وقدمهما وقد قدمنا أن توليته هي بحسب الصلاح وقد يولى المفضول على الفاضل تارة والفاضل أخرى وربما ولى الواحد لاستغنائه عنه بحضرته وربما ولاه لاتصال بينه وبين من يولى عليه إلى غير ذلك ثم ادعى أنه ولى أبا بكر على الموسم والحج قد ثبتت بلا خلاف بين أهل الأخبار ولم يصح أنه عزله ولا يدل رجوع أبي بكر إلى النبي ص مستفهما عن القصة على العزل ثم جعل إنكار من أنكر حج أبي بكر في تلك السنة بالناس كإنكار عباد وطبقته أخذ أمير المؤمنين ع سورة براءة من أبي بكر وحكي عن أبي علي أن المعنى كان في أخذ السورة من أبي بكر أن من عادة العرب أن سيدا من سادات قبائلهم إذا عقد عقد القوم فإن ذلك العقد لا ينحل إلا أن يحله هو أو بعض سادات قومه فلما كان هذا عادتهم وأراد النبي ص أن ينبذ إليهم عقدهم وينقض ما كان بينه وبينهم علم
[ 196 ](1/4892)
أنه لا ينحل ذلك إلا به أو بسيد من سادات رهطه فعدل عن أبي بكر إلى أمير المؤمنين المقرب في النسب ثم ادعى أنه ص ولى أبا بكر في مرضه الصلاة وذلك أشرف الولايات وقال في ذلك يأبى الله ورسوله والمسلمون إلا أبا بكر . ثم اعترض نفسه بصلاته ع خلف عبد الرحمن بن عوف وأجاب بأنه ص إنما صلى خلفه لا أنه ولاه الصلاة وقدمه فيها قال وإنما قدم عبد الرحمن عند غيبة النبي ص فصلى بغير أمره وقد ضاق الوقت فجاء النبي ص فصلى خلفه . اعترض المرتضى فقال قد بينا أن تركه ص الولاية لبعض أصحابه مع حضوره وإمكان ولايته والعدول عنه إلى غيره مع تطاول الزمان وامتداده لا بد من أن تقتضي غلبة الظن بأنه لا يصلح للولاية فأما ادعاؤه أنه لم يوله لافتقاره إليه بحضرته وحاجته إلى تدبيره ورأيه فقد بينا أنه ع ما كان يفتقر إلى رأي أحد لكماله ورجحانه على كل أحد وإنما كان يشاور أصحابه على سبيل التعليم لهم والتأديب أو لغير ذلك مما قد ذكر وبعد فكيف استمرت هذه الحاجة واتصلت منه إليهما حتى لم يستغن في زمان من الأزمان عن حضورهما فيوليهما وهل هذا إلا قدح في رأي رسول الله ص ونسبته إلى أنه كان ممن يحتاج إلى أن يلقن ويوقف على كل شي ء وقد نزهه الله تعالى عن ذلك فأما ادعاؤه أن الرواية قد وردت بأنهما وزيراه فقد كان يجب أن يصحح ذلك قبل أن يعتمده ويحتج به فإنا ندفعه عنه أشد دفع فأما ولاية عمرو بن العاص وخالد بن الوليد فقد تكلمنا عليها من قبل وبينا أن ولايتهما تدل على صلاحهما لما ولياه ولا تدل على صلاحهما للإمامة لأن شرائط الإمامة لم تتكامل فيهما وبينا أيضا لأن ولاية المفضول على الفاضل لا تجوز فأما تعظيمه
[ 197 ](1/4893)
و إكباره قول من يذهب إلى أن أبا بكر عزل عن أداء السورة والموسم جميعا وجمعه بين ذلك في البعد وبين إنكار عباد أن يكون أمير المؤمنين ع ارتجع سورة براءة من أبي بكر فأول ما فيه أنا لا ننكر أن يكون أكثر الأخبار واردة بأن أبا بكر حج بالناس في تلك السنة إلا أنه قد روى قوم من أصحابنا خلاف ذلك وأن أمير المؤمنين ع كان أمير الموسم في تلك السنة وأن عزل الرجل كان عن الأمرين معا واستكبار ذلك وفيه خلاف لا معنى له فأما ما حكاه عن عباد فإنا لا نعرفه وما نظن أحدا يذهب إلى مثله وليس يمكنه بإزاء ذلك جحد مذهب أصحابنا الذي حكيناه وليس عباد لو صحت الرواية عنه بإزاء من ذكرناه فهو ملي ء بالجهالات ودفع الضرورات وبعد فلو سلمنا أن ولاية الموسم لم تفسخ لكان الكلام باقيا لأنه إذا كان ما ولي مع تطاول الزمان إلا هذه الولاية ثم سلب شطرها والأفخم الأعظم منها فليس ذلك إلا تنبيها على ما ذكرناه . فأما ما حكاه عن أبي علي من أن عادة العرب ألا يحل ما عقده الرئيس منهم إلا هو أو المتقدم من رهطه فمعاذ الله أن يجري النبي ص سنته وأحكامه على عادات الجاهلية وقد بين ع لما رجع إليه أبو بكر يسأله عن أخذ السورة منه الحال
فقال إنه أوحي إلي ألا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني ولم يذكر ما ادعاه أبو علي على أن هذه العادة قد كان يعرفها النبي ص قبل بعثه أبا بكر بسورة براءة فما باله لم يعتمدها في الابتداء ويبعث من يجوز أن يحل عقده من قومه . فأما ادعاؤه ولاية أبي بكر الصلاة فقد ذكرنا فيما تقدم أنه لم يوله إياها فأما فصله بين صلاته خلف عبد الرحمن وبين صلاة أبي بكر بالناس فليس بشي ء لأنا إذا كنا قد دللنا على أن الرسول ص ما قدم أبا بكر إلى الصلاة فقد
[ 198 ](1/4894)
استوى الأمران وبعد فأي فرق بين أن يصلي خلفه وبين أن يوليه ويقدمه ونحن نعلم أن صلاته خلفه إقرار لولايته ورضا بها فقد عاد الأمر إلى أن عبد الرحمن كأنه قد صلى بأمره وإذنه على أن قصة عبد الرحمن أوكد لأنه قد اعترف بأن الرسول صلى خلفه ولم يصل خلف أبي بكر وإن ذهب كثير من الناس إلى أنه قدمه وأمر بالصلاة قبل خروجه إلى المسجد وتحامله . ثم سأل المرتضى رحمه الله نفسه فقال إن قيل ليس يخلو النبي ص من أن يكون سلم في الابتداء سورة براءة إلى أبي بكر بأمر الله أو باجتهاده ورأيه فإن كان بأمر الله تعالى فكيف يجوز أن يرتجع منه السورة قبل وقت الأداء وعندكم أنه لا يجوز نسخ الشي ء قبل تقضي وقت فعله وإن كان باجتهاده ص فعندكم أنه لا يجوز أن يجتهد فيما يجري هذا المجرى . وأجاب فقال إنه ما سلم السورة إلى أبي بكر إلا بإذنه تعالى إلا أنه لم يأمره بأدائها ولا كلفه قراءتها على أهل الموسم لأن أحدا لم يمكنه أن ينقل ع في ذلك لفظ الأمر والتكليف فكأنه سلم سورة براءة إليه لتقرأ على أهل الموسم ولم يصرح بذكر القارئ المبلغ لها في الحال ولو نقل عنه تصريح لجاز أن يكون مشروطا بشرط لم يظهر . فإن قيل فأي فائدة في دفع السورة إلى أبي بكر وهو لا يريد أن يؤديها ثم ارتجاعها منه وهلا دفعت في الابتداء إلى أمير المؤمنين ع . قيل الفائدة في ذلك ظهور فضل أمير المؤمنين ع ومرتبته وأن الرجل الذي نزعت السورة عنه لا يصلح لما يصلح له وهذا غرض قوي في وقوع الأمر على ما وقع عليه
[ 199 ](1/4895)
قلت قد ذكرنا فيما تقدم القول في تولية الملك بعض أصحابه وترك تولية بعضهم وكيفية الحال في ذلك على أنه قد روى أصحاب المغازي أنه أمر أبا بكر في شعبان من سنة سبع على سرية بعثها إلى نجد فلقوا جمعا من هوازن فبيتوهم فروى إياس بن سلمة عن أبيه قال كنت في ذلك البعث فقتلت بيدي سبعة منهم وكان شعارنا أمت أمت وقتل من أصحاب النبي ص قوم وجرح أبو بكر وارتث وعاد إلى المدينة على أن أمراء السرايا الذين كان يبعثهم ص كانوا قوما مشهورين بالشجاعة ولقاء الحروب كمحمد بن مسلمة وأبي دجانة وزيد بن حارثة ونحوهم ولم يكن أبو بكر مشهورا بالشجاعة ولقاء الحروب ولم يكن جبانا ولا خوارا وإنما كان رجلا مجتمع القلب عاقلا ذا رأي وحسن تدبير وكان رسول الله ص يترك بعثه في السرايا لأن غيره أنفع منه فيها ولا يدل ذلك على أنه لا يصلح للإمامة وأن الإمامة لا تحتاج أن يكون صاحبها من المشهورين بالشجاعة وإنما يحتاج إلى ثبات القلب وإلا يكون هلعا طائر الجنان وكيف يقول المرتضى إنه ص لم يكن محتاجا إلى رأي أحد وقد نقل الناس كلهم رجوعه من رأي إلى رأي عند المشورة نحو ما جرى يوم بدر من تغير المنزل لما أشار عليه الحباب بن المنذر ونحو ما جرى يوم الخندق من فسخ رأيه في دفع ثلث تمر المدينة إلى عيينة بن حصن ليرجع بالأحزاب عنهم لأجل ما رآه سعد بن معاذ وسعد بن عبادة من الحرب والعدول عن الصلح ونحو ما جرى في تلقيح النخل بالمدينة وغير ذلك فأما ولاية أبي بكر الموسم فأكثر الأخبار على ذلك ولم يرو عزله عن الموسم إلا قوم من الشيعة .
[ 200 ](1/4896)
و أما ما أنكره المرتضى من حال عباد بن سليمان ودفعه أن يكون علي أخذ براءة من أبي بكر واستغرابه ذلك عجب فإن قول عباد قد ذهب إليه كثير من الناس ورووا أن رسول الله ص لم يدفع براءة إلى أبي بكر وأنه بعد أن نفذ أبو بكر بالحجيج أتبعه عليا ومعه تسع آيات من براءة وقد أمره أن يقرأها على الناس ويؤذنهم بنقض العهد وقطع الدنية فانصرف أبو بكر إلى رسول الله ص فأعاده على الحجيج وقال له أنت الأمير وعلي المبلغ فإنه لا يبلغ عني إلا أنا أو رجل مني ولم ينكر عباد أمر براءة بالكلية وإنما أنكر أن يكون النبي ص دفعها إلى أبي بكر ثم انتزعها منه وطائفة عظيمة من المحدثين يروون ما ذكرناه وإن كان الأكثر الأظهر أنه دفعها إليه ثم أتبعه بعلي ع فانتزعها منه والمقصود أن المرتضى قد تعجب مما لا يتعجب من مثله فظن أن عبادا أنكر حديث براءة بالكلية وقد وقفت أنا على ما ذكره عباد في هذه القضية في كتابه المعروف بكتاب الأبواب وهو الكتاب الذي نقضه شيخنا أبو هاشم فأما عذر شيخنا أبي علي وقوله إن عادة العرب ذلك واعتراض المرتضى عليه فالذي قاله المرتضى أصح وأظهر وما نسب إلى عادة العرب غير معروف وإنما هو تأويل تأول به متعصبو أبي بكر لانتزاع براءة منه وليس بشي ء ولست أقول ما قاله المرتضى من أن غرض رسول الله ص إظهار أن أبا بكر لا يصلح للأداء عنه بل أقول فعل ذلك لمصلحة رآها ولعل السبب في ذلك أن عليا ع من بني عبد مناف وهم جمرة قريش بمكة وعلي أيضا شجاع لا يقام له وقد حصل في صدور قريش منه الهيبة الشديدة والمخافة العظيمة فإذا حصل مثل هذا الشجاع البطل وحوله من بني عمه وهم أهل العزة والقوة والحمية
[ 201 ](1/4897)
كان أدعى إلى نجاته من قريش وسلامة نفسه وبلوغ الغرض من نبذ العهد على يده أ لا ترى أن رسول الله ص في عمرة الحديبية بعث عثمان بن عفان إلى مكة يطلب منهم الإذن له في الدخول وإنما بعثه لأنه من بني عبد مناف ولم يكن بنو عبد مناف وخصوصا بني عبد شمس ليمكنوا من قتله ولذلك حمله بنو سعيد بن العاص على بعير يوم دخل مكة وأحدقوا به مستلئمين بالسلاح وقالوا له أقبل وأدبر ولا تخف أحدا بنو سعيد أعزة الحرم وأما القول في تولية رسول الله ص أبا بكر الصلاة فقد تقدم وما رامه قاضي القضاة من الفرق بين صلاة أبي بكر بالناس وصلاة عبد الرحمن بهم مع كون رسول الله ص صلى خلفه ضعيف وكلام المرتضى أقوى منه فأما السؤال الذي سأله المرتضى من نفسه فقوي والجواب الصحيح أن بعث براءة مع أبي بكر كان باجتهاد من الرسول ص ولم يكن عن وحي ولا من جملة الشرائع التي تتلقى عن جبرائيل ع فلم يقبح نسخ ذلك قبل تقضي وقت فعله وجواب المرتضى ليس بقوي لأنه من البعيد أن يسلم سورة براءة إلى أبي بكر ولا يقال له ما ذا تصنع بها بل يقال خذ هذه معك لا غير والقول بأن الكلام مشروط بشرط لم يظهر خلاف الظاهر وفتح هذا الباب يفسد كثيرا من القواعد .(1/4898)
الطعن السادس
أن أبا بكر لم يكن يعرف الفقه وأحكام الشريعة فقد قال في الكلالة أقول
[ 202 ]
فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ولم يعرف ميراث الجد ومن حاله هذه لا يصلح للإمامة . أجاب قاضي القضاة بأن الإمام لا يجب أن يعلم جميع الأحكام وأن القدر الذي يحتاج إليه هو القدر الذي يحتاج إليه الحاكم وأن القول بالرأي هو الواجب فيما لا نص فيه وقد قال أمير المؤمنين ع بالرأي في مسائل كثيرة . اعترض المرتضى فقال قد دللنا على أن الإمام لا بد أن يكون عالما بجميع الشرعيات وفرقنا بينه وبين الحاكم ودللنا على فساد الرأي والاجتهاد وأما أمير المؤمنين ع فلم يقل قط بالرأي وما يروى من خبر بيع أمهات الأولاد غير صحيح ولو صح لجاز أن يكون أراد بالرأي الرجوع إلى النصوص والأدلة ولا شبهة عندنا أن قوله كان واحدا في الحالين وإن ظهر في أحدهما خلاف مذهبه للتقية . قلت هذا الطعن مبني على أمرين أحدهما هل من شرط الإمامة أن يعلم الإمام كل الأحكام الشرعية أم لا وهذا مذكور في كتبنا الكلامية والثاني هو القول في الاجتهاد والرأي حق أم لا وهذا مذكور في كتبنا الأصولية .(1/4899)
الطعن السابع
قصة خالد بن الوليد وقتله مالك بن نويرة ومضاجعته امرأته من ليلته وأن أبا بكر
[ 203 ]
ترك إقامة الحد عليه وزعم أنه سيف من سيوف الله سله الله على أعدائه مع أن الله تعالى قد أوجب القود وحد الزناء عموما وأن عمر نبهه وقال له اقتله فإنه قتل مسلما . أجاب قاضي القضاة فقال إن شيخنا أبا علي قال إن الردة ظهرت من مالك بن نويرة لأنه جاء في الأخبار أنه رد صدقات قومه عليهم لما بلغه موت رسول الله ص كما فعله سائر أهل الردة فاستحق القتل فإن قال قائل فقد كان يصلي قيل له وكذلك سائر أهل الردة وإنما كفروا بالامتناع من الزكاة واعتقادهم إسقاط وجوبها دون غيره فإن قيل فلم أنكر عمر قيل كان الأمر إلى أبي بكر فلا وجه لإنكار عمر وقد يجوز أن يعلم أبو بكر من الحال ما يخفى على عمر فإن قيل فما معنى ما روي عن أبي بكر من أن خالدا تأول فأخطأ قيل أراد عجلته عليه بالقتل وقد كان الواجب عنده على خالد أن يتوقف للشبهة واستدل أبو علي على ردته بأن أخاه متمم بن نويرة لما أنشد عمر مرثيته أخاه قال له وددت أني أقول الشعر فأرثي أخي زيدا بمثل ما رثيت به أخاك فقال متمم لو قتل أخي على مثل ما قتل عليه أخوك ما رثيته فقال عمر ما عزاني أحد بمثل تعزيتك فدل هذا على أن مالكا لم يقتل على الإسلام كما قتل زيد . وأجاب عن تزويج خالد بامرأته بأنه إذا قتل على الردة في دار الكفر جاز تزويج امرأته عند كثير من أهل العلم وإن كان لا يجوز أن يطأها إلا بعد الاستبراء . وحكي عن أبي علي أنه إنما قتله لأنه ذكر رسول الله ص فقال صاحبك وأوهم بذلك أنه ليس بصاحب له وكان عنده أن ذلك رده وعلم عند المشاهدة
[ 204 ](1/4900)
المقصد وهو أمير القوم فجاز أن يقتله وإن كان الأولى ألا يستعجل وأن يكشف الأمر في ردته حتى يتضح فلهذا لم يقتله أبو بكر به فأما وطؤه لامرأته فلم يثبت فلا يصح أن يجعل طعنا فيه اعترض المرتضى فقال أما منع خالد في قتل مالك بن نويرة واستباحة امرأته وأمواله لنسبته إياه إلى ردة لم تظهر منه بل كان الظاهر خلافها من الإسلام فعظيم ويجري مجراه في العظم تغافل من تغافل عن أمره ولم يقم فيه حكم الله تعالى وأقره على الخطإ الذي شهد هو به على نفسه ويجري مجراهما من أمكنه أن يعلم الحال فأهملها ولم يتصفح ما روي من الأخبار في هذا الباب وتعصب لأسلافه ومذهبه وكيف يجوز عند خصومنا على مالك وأصحابه جحد الزكاة مع المقام على الصلاة وهما جميعا في قرن لأن العلم الضروري بأنهما من دينه ع وشريعته على حد واحد وهل نسبة مالك إلى الردة مع ما ذكرناه إلا قدح في الأصول ونقض لما تضمنته من أن الزكاة معلومة ضرورة من دينه ع وأعجب من كل عجيب قوله وكذلك سائر أهل الردة يعني أنهم كانوا يصلون ويجحدون الزكاة لأنا قد بينا أن ذلك مستحيل غير ممكن وكيف يصح ذلك وقد روى جميع أهل النقل أن أبا بكر لما وصى الجيش الذين أنفذهم بأن يؤذنوا ويقيموا فإن أذن القوم كأذانهم وإقامتهم كفوا عنهم وإن لم يفعلوا أغاروا عليهم فجعل أمارة الإسلام والبراءة من الردة الأذان والإقامة وكيف يطلق في سائر أهل الردة ما أطلقه من أنهم كانوا يصلون وقد علمنا أن أصحاب مسيلمة وطليحة وغيرهما ممن كان ادعى النبوة وخلع الشريعة ما كانوا يرون الصلاة ولا شيئا مما جاءت به شريعتنا وقصة مالك معروفة عند من تأمل كتب السير والنقل لأنه كان على صدقات قومه بني
[ 205 ](1/4901)
يربوع واليا من قبل رسول الله ص ولما بلغته وفاة رسول الله ص أمسك عن أخذ الصدقة من قومه وقال لهم تربصوا بها حتى يقوم قائم بعد النبي ص وننظر ما يكون من أمره وقد صرح بذلك في شعره حيث يقول
و قال رجال سدد اليوم مالك
و قال رجال مالك لم يسدد
فقلت دعوني لا أبا لأبيكم
فلم أخط رأيا في المقام ولا الندي
و قلت خذوا أموالكم غير خائف
و لا ناظر فيما يجي ء به غدي
فدونكموها إنما هي مالكم
مصورة أخلاقها لم تجدد
سأجعل نفسي دون ما تحذرونه
و أرهنكم يوما بما قلته يدي
فإن قام بالأمر المجدد قائم
أطعنا وقلنا الدين دين محمد
فصرح كما ترى أنه استبقى الصدقة في أيدي قومه رفقا بهم وتقربا إليهم إلى أن يقوم بالأمر من يدفع ذلك إليه وقد روى جماعة من أهل السير وذكره الطبري في تاريخه أن مالكا نهى قومه عن الاجتماع على منع الصدقات وفرقهم وقال يا بني يربوع إنا كنا قد عصينا أمراءنا إذ دعونا إلى هذا الدين وبطأنا الناس عنه فلم نفلح ولم ننجح وأني قد نظرت في هذا الأمر فوجدت الأمر يتأتى لهؤلاء القوم بغير سياسة وإذا أمر لا يسوسه الناس فإياكم ومعاداة قوم يصنع لهم فتفرقوا على ذلك إلى أموالهم ورجع مالك إلى منزله فلما قدم خالد البطاح بث السرايا وأمرهم بداعية الإسلام وأن يأتوه بكل من لم يجب وأمرهم إن امتنع أن يقاتلوه فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر من بني يربوع واختلف السرية في أمرهم وفي السرية أبو قتادة الحارث بن ربعي فكان ممن شهد أنهم أذنوا وأقاموا وصلوا فلما اختلفوا فيهم
[ 206 ](1/4902)
أمر بهم خالد فحبسوا وكانت ليلة باردة لا يقوم لها شي ء فأمر خالد مناديا ينادي أدفئوا أسراءكم فظنوا أنهم أمروا بقتلهم لأن هذه اللفظة تستعمل في لغة كنانة للقتل فقتل ضرار بن الأزور مالكا وتزوج خالد زوجته أم تميم بنت المنهال . وفي خبر آخر أن السرية التي بعث بها خالد لما غشيت القوم تحت الليل راعوهم فأخذ القوم السلاح قال فقلنا إنا المسلمون فقالوا ونحن المسلمون قلنا فما بال السلاح معكم قلنا فضعوا السلاح فلما وضعوا السلاح ربطوا أسارى فأتوا بهم خالدا فحدث أبو قتادة خالد بن الوليد أن القوم نادوا بالإسلام وأن لهم أمانا فلم يلتفت خالد إلى قولهم وأمر بقتلهم وقسم سبيهم وحلف أبو قتادة ألا يسير تحت لواء خالد في جيش أبدا وركب فرسه شاذا إلى أبي بكر فأخبره الخبر وقال له إني نهيت خالدا عن قتله فلم يقبل قولي وأخذ بشهادة الأعراب الذين غرضهم الغنائم وأن عمر لما سمع ذلك تكلم فيه عند أبي بكر فأكثر وقال إن القصاص قد وجب عليه ولما أقبل خالد بن الوليد قافلا دخل المسجد وعليه قباء له عليه صدأ الحديد معتجرا بعمامة له قد غرز في عمامته أسهما فلما دخل المسجد قام إليه عمر فنزع الأسهم عن رأسه فحطمها ثم قال له يا عدو نفسه أ عدوت على امرئ مسلم فقتلته ثم نزوت على امرأته والله لنرجمنك بأحجارك وخالد لا يكلمه ولا يظن إلا أن رأي أبي بكر مثل رأيه حتى دخل إلى أبي بكر واعتذر إليه بعذره وتجاوز عنه فخرج خالد وعمر جالس في المسجد فقال هلم إلى يا ابن أم شملة فعرف عمر أن أبا بكر قد رضي عنه فلم يكلمه ودخل بيته . وقد روي أيضا أن عمر لما ولي جمع من عشيرة مالك بن نويرة من وجد منهم
[ 207 ](1/4903)
و استرجع ما وجد عند المسلمين من أموالهم وأولادهم ونسائهم فرد ذلك عليهم جميعا مع نصيبه كان منهم وقيل إنه ارتجع بعض نسائهم من نواحي دمشق وبعضهن حوامل فردهن على أزواجهن فالأمر ظاهر في خطإ خالد وخطإ من تجاوز عنه وقول صاحب الكتاب إنه يجوز أن يخفى عن عمر ما يظهر لأبي بكر ليس بشي ء لأن الأمر في قصة خالد لم يكن مشتبها بل كان مشاهدا معلوما لكل من حضره وما تأول به في القتل لا يعذر لأجله وما رأينا أبا بكر حكم فيه بحكم المتأول ولا غيره ولا تلافى خطأه وزلله وكونه سيفا من سيوف الله على ما ادعاه لا يسقط عنه الأحكام ويبرئه من الآثام وأما قول متمم لو قتل أخي على ما قتل عليه أخوك لما رثيته لا يدل على أنه كان مرتدا فكيف يظن عاقل أن متمما يعترف بردة أخيه وهو يطالب أبا بكر بدمه والاقتصاص من قاتليه ورد سبيه وأنه أراد في الجملة التقرب إلى عمر بتقريظ أخيه ثم لو كان ظاهر هذا القول كباطنه لكان إنما يقصد تفضيل قتلة زيد على قتلة مالك والحال في ذلك أظهر لأن زيدا قتل في بعث المسلمين ذابا عن وجوههم ومالك قتل على شبهة وبين الأمرين فرق . وأما قوله في النبي ص صاحبك فقد قال أهل العلم إنه أراد القرشية لأن خالدا قرشي وبعد فليس في ظاهر إضافته إليه دلالة على نفيه له عن نفسه ولو كان علم من مقصده الاستخفاف والإهانة على ما ادعاه صاحب الكتاب لوجب أن يعتذر خالد بذلك عند أبي بكر وعمر ويعتذر به أبو بكر لما طالبه عمر بقتله فإن عمر ما كان يمنع من قتل قادح في نبوة النبي ص وإن كان الأمر على ذلك فأي معنى لقول أبي بكر تأول فأخطأ وإنما تأول فأصاب إن كان الأمر على ما ذكر
[ 208 ](1/4904)
قلت أما تعجب المرتضى من كون قوم منعوا الزكاة وأقاموا على الصلاة ودعواه أن هذا غير ممكن ولا صحيح فالعجب منه كيف ينكر وقوع ذلك وكيف ينكر إمكانه أما الإمكان فلأنه لا ملازمة بين العبادتين إلا من كونهما مقترنتين في بعض المواضع في القرآن وذلك لا يوجب تلازمهما في الوجود أو من قوله إن الناس يعلمون كون الزكاة واجبة في دين الإسلام ضرورة كما تعلمون كون الصلاة في دين الإسلام ضرورة وهذا لا يمنع اعتقادهم سقوط وجوب الزكاة لشبهة دخلت عليهم فإنهم قالوا إن الله تعالى قال لرسوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ قالوا فوصف الصدقة المفروضة بأنها صدقة من شأنها أن يطهر رسول الله ص الناس ويزكيهم بأخذها منهم ثم عقب ذلك بأن فرض عليه مع أخذ الزكاة منهم أن يصلي عليهم صلاة تكون سكنا لهم قالوا وهذه الصفات لا تتحقق في غيره لأن غيره لا يطهر الناس ويزكيهم بأخذ الصدقة ولا إذا صلى على الناس كانت صلاته سكنا لهم فلم يجب علينا دفع الزكاة إلى غيره وهذه الشبهة لا تنافي كون الزكاة معلوما وجوبها ضرورة من دين محمد ص لأنهم ما جحدوا وجوبها ولكنهم قالوا إنه وجوب مشروط وليس يعلم بالضرورة انتفاء كونها مشروطة وإنما يعلم ذلك بنظر وتأويل فقد بان أن ما ادعاه من الضرورة ليس بدال على أنه لا يمكن أحد اعتقاد نفي وجوب الزكاة بعد موت الرسول ولو عرضت مثل هذه الشبهة في صلاة لصح لذاهب أن يذهب إلى أنها قد سقطت عن الناس فأما الوقوع فهو المعلوم ضرورة بالتواتر كالعلم بأن أبا بكر ولي الخلافة بعد الرسول ص ضرورة بطريق التواتر ومن أراد الوقوف على ذلك فلينظر في كتب التواريخ
[ 209 ](1/4905)
فإنها تشتمل من ذلك على ما يشفي ويكفي وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ الكبير بإسناد ذكره أن أبا بكر أقام بالمدينة بعد وفاة رسول الله ص وتوجيهه أسامة في جيشه إلى حيث قتل أبوه زيد بن حارثة لم يحدث شيئا وجاءته وفود العرب مرتدين يقرون بالصلاة ويمنعون الصدقة فلم يقيل منهم وردهم وأقام حتى قدم أسامة بعد أربعين يوما من شخوصه ويقال بعد سبعين يوما . وروى أبو جعفر قال امتنعت العرب قاطبة من أداء الزكاة بعد رسول الله ص إلا قريشا وثقيفا . وروى أبو جعفر عن السري عن شعيب عن سيف عن هشام بن عروة عن أبيه قال ارتدت العرب ومنعت الزكاة إلا قريشا وثقيفا فأما هوازن فقدمت رجلا وأخرت أخرى أمسكوا الصدقة . وروى أبو جعفر قال لما منعت العرب الزكاة كان أبو بكر ينتظر قدوم أسامة بالجيش فلم يحارب أحدا قبل قدومه إلا عبسا وذبيان فإنه قاتلهم قبل رجوع أسامة . وروى أبو جعفر قال قدمت وفود من قبائل العرب المدينة فنزلوا على وجوه الناس بها ويحملونهم إلى أبي بكر أن يقيموا الصلاة وألا يؤتوا الزكاة فعزم الله لأبي بكر على الحق وقال لو منعوني عقال بعير لجاهدتهم عليه . وروى أبو جعفر شعرا للخطيل بن أوس أخي الحطيئة في معنى منع الزكاة وأن
[ 210 ]
أبا بكر رد سؤال العرب ولم يجبهم من جملته
أطعنا رسول الله إذا كان بيننا
فيا لعباد الله ما لأبي بكر
أ يورثها بكر إذا مات بعده
و تلك لعمر الله قاصمة الظهر
فهلا رددتم وفدنا بإجابة
و هلا حسبتم منه راعية البكر
فإن الذي سألوكم فمنعتم
لكالتمر أو أحلى لحلف بني فهر(1/4906)
و روى أبو جعفر قال لما قدمت العرب المدينة على أبي بكر فكلموه في إسقاط الزكاة نزلوا على وجوه الناس بالمدينة فلم يبق أحد إلا وأنزل عليه ناسا منهم إلا العباس بن عبد المطلب ثم اجتمع إلى أبي بكر المسلمون فخوفوه بأس العرب واجتماعها قال ضرار بن الأزور فما رأيت أحدا ليس رسول الله أملأ بحرب شعواء من أبي بكر فجعلنا نخوفه ونروعه وكأنما إنما نخبره بما له لا ما عليه واجتمعت كلمة المسلمين على إجابة العرب إلى ما طلبت وأبى أبو بكر أن يفعل إلا ما كان يفعله رسول الله ص وأن يأخذ إلا ما كان يأخذ ثم أجلهم يوما وليلة ثم أمرهم بالانصراف وطاروا إلى عشائرهم . وروى أبو جعفر قال كان رسول الله ص بعث عمرو بن العاص إلى عمان قبل موته فمات وهو بعمان فأقبل قافلا إلى المدينة فوجد العرب قد منعت الزكاة فنزل في بني عامر على قرة بن هبيرة وقرة يقدم رجلا ويؤخر أخرى وعلى ذلك بنو عامر كلهم إلا الخواص ثم قدم المدينة فأطافت به قريش فأخبرهم أن العساكر معسكرة حولهم فتفرق المسلمون وتحلقوا حلقا وأقبل عمر بن الخطاب فمر بحلقة
[ 211 ](1/4907)
و هم يتحدثون فيما سمعوا من عمرو وفي تلك الحلقة علي وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد فلما دنا عمر منهم سكتوا فقال في أي شي ء أنتم فلم يخبروه فقال ما أعلمني بالذي خلوتم عليه فغضب طلحة وقال الله يا ابن الخطاب إنك لتعلم الغيب فقال لا يعلم الغيب إلا الله ولكن أظن قلتم ما أخوفنا على قريش من العرب وأخلقهم ألا يقروا بهذا الأمر قالوا صدقت فقال فلا تخافوا هذه المنزلة أنا والله منكم على العرب أخوف مني عليكم من العرب . قال أبو جعفر وحدثني السري قال حدثنا شعيب عن سيف عن هشام بن عروة عن أبيه قال نزل عمرو بن العاص بمنصرفه من عمان بعد وفاة رسول الله ص بقرة بن هبيرة بن سلمة بن يسير وحوله عساكر من أفنائهم فذبح له وأكرم منزلته فلما أراد الرحلة خلا به وقال يا هذا إن العرب لا تطيب لكم أنفسا بالإتاوة فإن أنتم أعفيتموها من أخذ أموالها فستسمع وتطيع وإن أبيتم فإنها تجتمع عليكم فقال عمرو أ توعدنا بالعرب وتخوفنا بها موعدنا حفش أمك أما والله لأوطئنه عليك الخيل وقدم على أبي بكر والمسلمين فأخبرهم . وروى أبو جعفر قال كان رسول الله ص قد فرق عماله في بني تميم على قبض الصدقات فجعل الزبرقان بن بدر على عوف والرباب وقيس بن عاصم على مقاعس والبطون وصفوان بن صفوان وسبرة بن عمرو على بني عمرو ومالك بن نويرة على بني حنظلة فلما توفي رسول الله ص ضرب صفوان إلى أبي بكر حين وقع إليه الخبر بموت النبي ص بصدقات بني عمرو وبما ولي منها وما ولي سبرة وأقام سبرة في قومه لحدث إن ناب وأطرق قيس بن عاصم ينظر ما الزبرقان صانع فكان له عدوا وقال وهو ينتظره وينتظر ما يصنع ويلي عليه ما أدري ما أصنع إن أنا
[ 212 ](1/4908)
بايعت أبا بكر وأتيته بصدقات قومي خلفني فيهم فساءني عندهم وإن رددتها عليهم فليأتين أبا بكر فيسوءني عنده ثم عزم قيس على قسمتها في مقاعس والبطون ففعل وعزم الزبرقان على الوفاء فاتبع صفوان بصدقات عوف والرباب حتى قدم بها المدينة وقال شعرا يعرض فيه بقيس بن عاصم ومن جملته
وفيت بأذواد الرسول وقد أبت
سعاة فلم يردد بعيرا أميرها
فلما أرسل أبو بكر إلى قيس العلاء بن الحضرمي أخرج الصدقة فأتاه بها وقدم معه إلى المدينة . وفي تاريخ أبي جعفر الطبري من هذا الكثير الواسع وكذلك في تاريخ غيره من التواريخ وهذا أمر معلوم باضطرار لا يجوز لأحد أن يخالف فيه فأما قوله كيف يصح ذلك وقد قال لهم أبو بكر إذا أذنوا وأقاموا كإقامتكم فكفوا عنهم فجعل أمارة الإسلام والبراءة من الردة الأذان والإقامة فإنه قد أسقط بعض الخبر قال أبو جعفر الطبري في كتابه كانت وصيته لهم إذا نزلتم فأذنوا وأقيموا فإن أذن القوم وأقاموا فكفوا عنهم فإن لم يفعلوا فلا شي ء إلا الغارة ثم اقتلوهم كل قتلة الحرق فما سواه وإن أجابوا داعية الإسلام فاسألوهم فإن أقروا بالزكاة فاقبلوا منهم وإن أبوا فلا شي ء إلا الغارة ولا كلمة . فأما قوله وكيف يطلق قاضي القضاة في سائر أهل الردة ما أطلقه من أنهم كانوا يصلون ومن جملتهم أصحاب مسيلمة وطلحة فإنما أراد قاضي القضاة بأهل الردة هاهنا مانعي الزكاة لا غير ولم يرد من جحد الإسلام بالكلية . فأما قصة مالك بن نويرة وخالد بن الوليد فإنها مشتبهة عندي ولا غرو فقد اشتهت على الصحابة وذلك أن من حضرها من العرب اختلفوا في حال القوم هل كان
[ 213 ](1/4909)
عليهم شعار الإسلام أو لا واختلف أبو بكر وعمر في خالد مع شدة اتفاقهما فأما الشعر الذي رواه المرتضى لمالك بن نويرة فهو معروف إلا البيت الأخير فإنه غير معروف وعليه عمدة المرتضى في هذا المقام وما ذكره بعد من قصة القوم صحيح كله مطابق لما في التواريخ إلا مويضعات يسيرة . منها قوله إن مالكا نهى قومه عن الاجتماع على منع الصدقات فإن ذلك غير منقول وإنما المنقول أنه نهى قومه عن الاجتماع في موضع واحد وأمرهم أن يتفرقوا في مياههم ذكر ذلك الطبري ولم يذكر نهيه إياهم عن الاجتماع على منع الصدقة وقال الطبري إن مالكا تردد في أمره هل يحمل الصدقات أم لا فجاءه خالد وهو متحير سبح . ومنها أن الطبري ذكر أن ضرار بن الأزور قتل مالكا عن غير أمر خالد وأن خالدا لما سمع الواعية خرج وقد فرغوا منهم فقال إذا أراد الله أمرا أصابه قال الطبري وغضب أبو قتادة لذلك وقال لخالد هذا عملك وفارقه وأتى أبا بكر فأخبره فغضب عليه أبو بكر حتى كلمه فيه عمر فلم يرض إلا أن يرجع إلى خالد فرجع إليه حتى قدم معه المدينة . ومنها أن الطبري روى أن خالدا لما تزوج أم تميم بنت المنهال امرأة مالك لم يدخل بها وتركها حتى تقضي طهرها ولم يذكر المرتضى ذلك . ومنها أن الطبري روى أن متمما لما قدم المدينة طلب إلى أبي بكر في سبيهم فكتب له برد السبي والمرتضى ذكر أنه لم يرد إلا في خلافة عمر . فأما قول المرتضى إن قول متمم لو قتل أخي على مثل ما قتل عليه أخوك لما رثيته
[ 214 ](1/4910)
لا يدل على ردته فصحيح ولا ريب أنه قصد تقريظ زيد بن الخطاب وأن يرضي عمر أخاه بذلك ونعما قال المرتضى إن بين القتلتين فرقا ظاهرا وإليه أشار متمم لا محالة . فأما قول مالك صاحبك يعني النبي ص فقد روى هذه اللفظة الطبري في التاريخ قال كان خالد يعتذر عن قتله فيقول إنه قال له وهو يراجعه ما إخال صاحبكم إلا قال كذا وكذا فقال له خالد أ وما تعده لك صاحبا وهذه لعمري كلمة جافية وإن كان لها مخرج في التأويل إلا أنه مستكره وقرائن الأحوال يعرفها من شاهدها وسمعها فإذا كان خالد قد كان يعتذر بذلك فقد اندفع قول المرتضى هلا اعتذر بذلك ولست أنزه خالدا عن الخطإ وأعلم أنه كان جبارا فاتكا لا يراقب الدين فيما يحمله عليه الغضب وهوى نفسه ولقد وقع منه في حياة رسول الله ص مع بني خذيمة بالغميصاء أعظم مما وقع منه في حق مالك بن نويرة وعفا عنه رسول الله ص بعد أن غضب عليه مدة وأعرض عنه وذلك العفو هو الذي أطمعه حتى فعل ببني يربوع ما فعل بالبطاح .(1/4911)
الطعن الثامن
قولهم إن مما يؤثر في حاله وحال عمر دفنهما مع رسول الله ص في بيته وقد منع الله تعالى الكل من ذلك في حال حياته فكيف بعد الممات بقوله تعالى لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ اَلنَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ . أجاب قاضي القضاة بأن الموضع كان ملكا لعائشة وهي حجرتها التي كانت
[ 215 ]
معروفة بها والحجر كلها كانت أملاكا لأزواج النبي ص وقد نطق القرآن بذلك في قوله وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وذكر أن عمر استأذن عائشة في أن يدفن في ذلك الموضع وحتى قال إن لم تأذن لي فادفنوني في البقيع وعلى هذا الوجه يحمل ما(1/4912)
روي عن الحسن ع أنه لما مات أوصى أن يدفن إلى جنب رسول الله ص وإن لم يترك ففي البقيع فلما كان من مروان وسعيد بن العاص ما كان دفن بالبقيع وإنما أوصى بذلك بإذن عائشة ويجوز أن يكون علم من عائشة أنها جعلت الموضع في حكم الوقف فاستباحوا ذلك لهذا الوجه قال وفي دفنه ع في ذلك الموضع ما يدل على فضل أبي بكر لأنه ع لما مات اختلفوا في موضع دفنه وكثر القول حتى روى أبو بكر عنه ص أنه قال ما يدل على أن الأنبياء إذا ماتوا دفنوا حيث ماتوا فزال الخلاف في ذلك . اعترض المرتضى فقال لا يخلو موضع قبر النبي ص من أن يكون باقيا على ملكه ع أو يكون انتقل في حياته إلى عائشة على ما ادعاه فإن كان الأول لم يخل أن يكون ميراثا بعده أو صدقة فإن كان ميراثا فما كان يحل لأبي بكر ولا لعمر من بعده أن يأمرا بدفنهما فيه إلا بعد إرضاء الورثة الذين هم على مذهبنا فاطمة وجماعة الأزواج وعلى مذهبهم هؤلاء والعباس ولم نجد واحدا منهما خاطب أحدا من هؤلاء الورثة على ابتياع هذا المكان ولا استنزله عنه بثمن ولا غيره وإن كان صدقة فقد كان يجب أن يرضى عنه جماعة المسلمين ويبتاعه منهم هذا إن جاز الابتياع لما يجري هذا المجرى وإن كان انتقل في حياته فقد كان يجب أن يظهر سبب انتقاله والحجة فيه فإن فاطمة ع لم يقنع منها في انتقال فدك إلى ملكها بقولها ولا بشهادة من
[ 216 ](1/4913)
شهد لها فأما تعلقه بإضافة البيوت إليهن في قوله وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ فمن ضعيف الشبهة لأنا قد بينا فيما مضى من هذا الكتاب أن هذه الإضافة لا تقتضي الملك وإنما تقتضي السكنى والعادة في استعمال هذه اللفظة فيما ذكرناه ظاهرة قال تعالى لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ولم يرد الله تعالى إلا حيث يسكن وينزلن دون حيث يملكن وما أشبهه وأظرف من كل شي ء تقدم قوله إن الحسن ع استأذن عائشة في أن يدفن في البيت حتى منعه مروان وسعيد بن العاص لأن هذه مكابرة منه ظاهرة فإن المانع للحسن ع من ذلك لم يكن إلا عائشة ولعل من ذكره من مروان وسعيد وغيرهما أعانها واتبع في ذلك أمرهما وروي أنها خرجت في ذلك اليوم على بغل حتى قال ابن عباس يوما على بغل ويوما على جمل فكيف تأذن عائشة في ذلك وهي مالكة الموضع على قولهم ويمنع منه مروان وغيره ممن لا ملك له في الموضع ولا شركة ولا يد وهذا من قبيح ما يرتكب وأي فضل لأبي بكر في روايته عن النبي ص حديث الدفن وعملهم بقوله إن صح فمن مذهب صاحب الكتاب وأصحابه العمل بخبر الواحد العدل في أحكام الدين العظيمة فكيف لا يعمل بقول أبي بكر في الدفن وهم يعملون بقول من هو دونه فيما هو أعظم من ذلك قلت أما أبو بكر فإنه لا يلحقه بدفنه مع الرسول ص ذم لأنه ما دفن نفسه وإنما دفنه الناس وهو ميت فإن كان ذلك خطأ فالإثم والذم لاحقان بمن فعل به ذلك ولم يثبت عنه بأنه أوصى أن يدفن مع رسول الله ص وإنما قد يمكن أن يتوجه هذا الطعن إلى عمر لأنه سأل عائشة أن يدفن في الحجرة مع رسول الله ص وأبي بكر والقول عندي مشتبه في أمر حجر الأزواج
[ 217 ](1/4914)
هل كانت على ملك رسول الله ص إلى أن توفي أم ملكها نساؤه والذي تنطق به التواريخ أنه لما خرج من قباء ودخل المدينة وسكن منزل أبي أيوب اختط المسجد واختط حجر نسائه وبناته وهذا يدل على أنه كان المالك للمواضع وأما خروجها عن ملكه إلى الأزواج والبنات فمما لم أقف عليه ويجوز أن تكون الصحابة قد فهمت من قرائن الأحوال ومما شاهدوه منه ع أنه قد أقر كل بيت منها في يد زوجة من الزوجات على سبيل الهبة والعطية وإن لم ينقل عنه في ذلك صيغة لفظ معين والقول في بيت فاطمة ع كذلك لأن فاطمة ع لم تكن تملك مالا وعلي ع بعلها كان فقيرا في حياة رسول الله ص حتى أنه كان يستقي الماء ليهود بيده يسقي بساتينهم لقوت يدفعونه إليه فمن أين كان له ما يبتاع به حجرة يسكن فيها هو وزوجته والقول في كثير من الزوجات كذلك أنهن كن فقيرات مدقعات نحو صفية بنت حيي بن أخطب وجويرية بنت الحارث وميمونة وغيرهن فلا وجه يمكن أن يتملك منه هؤلاء النسوة والبنت الحجر إلا أن يكون رسول الله ص وهبها لهن هذا إن ثبت أنها خرجت عن ملكيته ع وإلا فهي باقية على ملكيته باستصحاب الحال والقول في حجرة زينب بنت رسول الله ص كذلك لأنه أقدمها من مكة مفارقة لبعلها أبي العاص بن الربيع فأسكنها بالمدينة في حجرة منفردة خالية عن بعل فلا بد أن تكون تلك الحجرة بمقتضى ما يتغلب على الظن ملكا له ع فيستدام الحكم بملكه لها إلى أن نجد دليلا ينقلنا عن ذلك وأما رقية وأم كلثوم زوجتا عثمان فإن كان مثريا ذا مال فيجوز أن يكون ابتاع حجرة سكنت فيها الأولى منهما ثم الثانية بعدها .
[ 218 ](1/4915)
فأما احتجاج قاضي القضاة بقوله وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ فاعتراض المرتضى عليه قوي لأن هذه الإضافة إنما تقتضي التخصيص فقط لا التمليك كما قال لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ويجوز أن يكون أبو بكر لما روى قوله نحن لا نورث ترك الحجر في أيدي الزوجات والبنت على سبيل الإقطاع لهن لا التمليك أي أباحهن السكنى لا التصرف في رقاب الأرض والأبنية والآلات لما رأى في ذلك من المصلحة ولأنه كان من المتهجن القبيح إخراجهن من البيوت وليس كذلك فدك فإنها قرية كبيرة ذات نخل كثير خارجة عن المدينة ولم تكن فاطمة متصرفة فيها من قبل نفسها ولا بوكيلها ولا رأتها قط فلا تشبه حالها حال الحجر وأيضا لإباحة هذه الحجر ونزارة أثمانهن فإنها كانت مبنية من طين قصيرة الجدران فلعل أبا بكر والصحابة استحقروها فأقروا النساء فيها وعوضوا المسلمين عنها بالشي ء اليسير مما يقتضي الحساب أن يكون من سهم الأزواج والبنت عند قسمة الفي ء . وأما القول في الحسن وما جرى من عائشة وبني أمية فقد تقدم وكذلك القول في الخبر المروي في دفن الرسول ع فكان أبو المظفر هبة الله بن الموسوي صدر المخزن المعمور كان في أيام الناصر لدين الله إذا حادثته حديث وفاة رسول الله ص ورواية أبي بكر ما رواه من
قوله ع الأنبياء يدفنون حيث يموتون يحلف أن أبا بكر افتعل هذا الحديث في الحال والوقت ليدفن النبي ص في حجرة ابنته ثم يدفن هو معه عند موته علما منه أنه لم يبق من عمره إلا مثل ظم ء الحمار وأنه إذا دفن النبي ص في حجرة ابنته فإن ابنته تدفنه لا محالة في حجرتها عند بعلها وإن دفن النبي ص في موضع
[ 219 ](1/4916)
آخر فربما لا يتهيأ له أن يدفن عنده فرأى أن هذا الفوز بهذا الشرف العظيم وهذا المكان الجليل مما لا يقتضي حسن التدبير فوته وإن انتهاز الفرصة فيه واجب فروى لهم الخبر فلا يمكنهم بعد روايته ألا يعملوا به لا سيما وقد صار هو الخليفة وإليه السلطان والنفع والضرر وأدرك ما كان في نفسه ثم نسج عمر على منواله فرغب إلى عائشة في مثل ذلك وقد كان يكرمها ويقدمها على سائر الزوجات في العطاء وغيره فأجابته إلى ذلك وكان مطاعا في حياته وبعد مماته وكان يقول وا عجبا للحسن وطمعه في أن يدفن في حجرة عائشة والله لو كان أبوه الخليفة يومئذ لما تهيأ له ذلك ولا تم لبغض عائشة لهم وحسد الناس إياهم وتمالؤ بني أمية وغيرهم من قريش عليهم ولهذا قالوا يدفن عثمان في حش كوكب ويدفن الحسن في حجرة رسول الله ص فكيف والخليفة معاوية والأمراء بالمدينة بنو أمية وعائشة صاحبة الموضع والناصر لبني هاشم قليل والشانئ كثير . وأنا أستغفر الله مما كان أبو المظفر يحلف عليه وأعلم وأظن ظنا شبيها بالعلم أن أبا بكر ما روى إلا ما سمع وأنه كان أتقى لله من ذلك .(1/4917)
الطعن التاسع
قولهم إنه نص على عمر بالخلافة فخالف رسول الله ص على زعمه لأنه كان يزعم هو ومن قال بقوله أن رسول الله ص لم يستخلف .
[ 220 ]
و الجواب أن كونه لم يستخلف لا يدل على تحريم الاستخلاف كما أنه من لم يركب الفيل لا يدل على تحريم ركوب الفيل فإن قالوا ركوب الفيل فيه منفعة ولا مضرة فيه ولم يرد نص بتحريمه فوجب أن يحسن قيل لهم والاستخلاف مصلحة ولا مضرة فيه وقد أجمع المسلمون أنه طريق إلى الإمامة فوجب كونه طريقا إليها وقد روي
عن عمر أنه قال إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني يعني أبا بكر وإن أترك فقد ترك من هو خير مني يعني رسول الله ص فأما الاجتماع المشار إليه فهو أن الصحابة أجمعوا على أن عمر إمام بنص أبي بكر عليه وأنفذوا أحكامه وانقادوا إليه لأجل نص أبي بكر لا لشي ء سواه فلو لم يكن ذلك طريقا إلى الإمامة لما أطبقوا عليه وقد اختلف الشيخان أبو علي وأبو هاشم في أن نص الإمام على إمام بعده هل يكفي في انعقاد إمامته فقال أبو علي لا يكفي بل لا بد من أن يرضى به أربعة حتى يجري عهده إليه مجرى عقد الواحد برضا أربعة فإذا قارنه رضا أربعة صار بذلك إماما ويقول في بيعة عمر أن أبا بكر أحضر جماعة من الصحابة لما نص عليه ورجع إلى رضاهم بذلك وقال أبو هاشم بل يكفي نصه ع ولا يراعى في ذلك رضا غيره به ولو ثبت أن أبا بكر فعله لكان على طريق التبع للنص لا أنه يؤثر في إمامته مع العهد ولعل أبا بكر إن كان فعل ذلك فقد استطاب به نفوسهم ولهذا لم يؤثر فيه كراهية طلحة حين قال وليت علينا فظا غليظا ويبين ذلك أنه لم ينقل استئناف العقد من الصحابة لعمر بعد موت أبي بكر ولا اجتماع جماعة لعقد البيعة له والرضا به فدل على أنهم اكتفوا بعهد أبي بكر إليه
[ 221 ](1/4918)
الطعن العاشر
قولهم إنه سمى نفسه بخليفة رسول الله ص لاستخلافه إياه بعد موته مع اعترافه أنه لم يستخلفه . والجواب أن الصحابة سمته خليفة رسول الله ص لاستخلافه إياه على الصلاة عند موته والاستخلاف على الصلاة عند الموت له مزية على الاستخلاف على الصلاة حال الحياة لأن حال الموت هي الحال التي تكون فيها العهود والوصايا وما يهتم به الإنسان من أمور الدنيا والدين لأنها حال المفارقة وأيضا فإن رسول الله ص ما استخلف أحدا على الصلاة بالمدينة وهو حاضر وإنما كان يستخلف على الصلاة قوما أيام غيبته عن المدينة فلم يحصل الاستخلاف المطلق على الصلاة بالناس كلهم وهو ص حاضر بين الناس حي إلا لأبي بكر وهذه مزية ظاهرة على سائر الاستخلافات في أمر الصلاة فلذلك سموه خليفة رسول الله ص وبعد فإذا ثبت أن الإجماع على كون الاختيار طريقا إلى الإمامة وحجة وثبت أن قوما من أفاضل الصحابة اختاروه للخلافة فقد ثبت أنه خليفة رسول الله ص لأنه لا فرق بين أن ينص الرسول ص على شخص معين وبين أن يشير إلى قوم فيقول من اختار هؤلاء القوم فهو الإمام في أن كل واحد منهما يصح أن يطلق عليه خليفة رسول الله ص .
[ 222 ](1/4919)
الطعن الحادي عشر
قولهم إنه حرق الفجاءة السلمي بالنار وقد نهى النبي ص أن يحرق أحد بالنار . والجواب أن الفجاءة جاء إلى أبي بكر كما ذكر أصحاب التواريخ فطلب منه سلاحا يتقوى به على الجهاد في أهل الردة فأعطاه فلما خرج قطع الطريق ونهب أموال المسلمين وأهل الردة جميعا وقتل كل من وجد كما فعلت الخوارج حيث خرجت فلما ظفر به أبو بكر رأى حرقه بالنار إرهابا لأمثاله من أهل الفساد ويجوز للإمام أن يخص النص العام بالقياس الجلي عندنا .(1/4920)
الطعن الثاني عشر
قولهم إنه تكلم في الصلاة قبل التسليم فقال لا يفعلن خالد ما أمرته قالوا ولذلك جاز عند أبي حنيفة أن يخرج الإنسان من الصلاة بالكلام وغيره من مفسدات الصلاة من دون تسليم وبهذا احتج أبو حنيفة . والجواب أن هذا من الأخبار التي تتفرد بها الإمامية ولم تثبت وأما أبو حنيفة فلم يذهب إلى ما ذهب إليه لأجل هذا الحديث وإنما احتج بأن التسليم خطاب آدمي وليس هو من الصلاة وأذكارها ولا من أركانها بل هو ضدها ولذلك يبطلها قبل التمام ولذلك لا يسلم المسبوق تبعا لسلام الإمام بل يقوم من غير تسليم فدل على أنه ضد للصلاة وجميع الأضداد بالنسبة إلى رفع الضد على وتيرة واحدة ولذلك استوى الكل في
[ 223 ]
الإبطال قبل التمام فيستوي الكل في الانتهاء بعد التمام وما يذكره القوم من سبب كلام أبي بكر في الصلاة أمر بعيد ولو كان أبو بكر يريد ذلك لأمر خالد أن يفعل ذلك الفعل بالشخص المعروف وهو نائم ليلا في بيته ولا يعلم أحد من الفاعل .(1/4921)
الطعن الثالث عشر
قولهم إنه كتب إلى خالد بن الوليد وهو على الشام يأمره أن يقتل سعد بن عبادة فكمن له هو وآخر معه ليلا فلما مر بهما رمياه فقتلاه وهتف صاحب خالد في ظلام الليل بعد أن ألقيا سعدا في بئر هناك فيها ماء ببيتين
نحن قتلنا سيد الخزرج
سعد بن عباده
و رميناه بسهمين
فلم تخط فؤاده
يوهم أن ذلك شعر الجن وأن الجن قتلت سعدا فلما أصبح الناس فقدوا سعدا وقد سمع قوم منهم ذلك الهاتف فطلبوه فوجدوه بعد ثلاثة أيام في تلك البئر وقد اخضر فقالوا هذا مسيس الجن وقال شيطان الطاق لسائل سأله ما منع عليا أن يخاصم أبا بكر في الخلافة فقال يا ابن أخي خاف أن تقتله الجن . والجواب أما أنا فلا أعتقد أن الجن قتلت سعدا ولا أن هذا شعر الجن ولا أرتاب أن البشر قتلوه وأن هذا الشعر شعر البشر ولكن لم يثبت عندي أن أبا بكر أمر خالدا ولا أستبعد أن يكون فعله من تلقاء نفسه ليرضى بذلك أبا بكر وحاشاه فيكون الإثم على
[ 224 ]
خالد وأبو بكر بري ء من إثمه وما ذلك من أفعال خالد ببعيد .(1/4922)
الطعن الرابع عشر
قولهم إنه لما استخلف قطع لنفسه على بيت المال أجرة كل يوم ثلاثة دراهم قالوا وذلك لا يجوز لأن مصارف أموال بيت المسلمين لم يذكر فيها أجرة للإمام . والجواب أنه تعالى جعل في جملة مصرف أموال الصدقات العاملين عليها وأبو بكر من العاملين واعلم أن الإمامية لو أنصفت لرأت أن هذا الطعن بأن يكون من مناقب أبي بكر أولى من أن يكون من مساويه ومثالبه ولكن العصبية لا حيلة فيها .(1/4923)
الطعن الخامس عشر
قولهم إنه لما استخلف صرخ مناديه في المدينة من كان عنده شي ء من كلام الله فليأتنا به فإنا عازمون على جمع القرآن ولا يأتنا بشي ء منه إلا ومعه شاهدا عدل قالوا وهذا خطأ لأن القرآن قد بان بفصاحته عن فصاحة البشر فأي حاجة إلى شاهدي عدل . والجواب أن المرتضى ومن تابعه من الشيعة لا يصح لهم هذا الطعن لأن القرآن عندهم ليس معجزا بفصاحته على أن من جعل معجزته للفصاحة لم يقل إن كل آية من القرآن هي معجزة في الفصاحة وأبو بكر إنما طلب كل آية من القرآن لا السورة بتمامها وكمالها التي يتحقق الإعجاز من طريق الفصاحة فيها وأيضا فإنه لو أحضر إنسان آية أو آيتين ولم يكن معه شاهد فربما تختلف العرب هل هذه في الفصاحة بالغة
[ 225 ](1/4924)
مبلغ الإعجاز الكلي أم هي ثابتة من كلام العرب بثبوته غير بالغة إلى حد الإعجاز فكان يلتبس الأمر ويقع النزاع فاستظهر أبو بكر بطلب الشهود تأكيدا لأنه إذا انضمت الشهادة إلى الفصاحة الظاهرة ثبت أن ذلك الكلام من القرآن : وَ مِنْ هَذَا اَلْكِتَابِ مِنْهُ إِنِّي وَ اَللَّهِ لَوْ لَقِيتُهُمْ وَاحِداً وَ هُمْ طِلاَعُ اَلْأَرْضِ كُلِّهَا مَا بَالَيْتُ وَ لاَ اِسْتَوْحَشْتُ وَ إِنِّي مِنْ ضَلاَلِهِمُ اَلَّذِي هُمْ فِيهِ وَ اَلْهُدَى اَلَّذِي أَنَا عَلَيْهِ لَعَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ نَفْسِي وَ يَقِينٍ مِنْ رَبِّي وَ إِنِّي إِلَى لِقَاءِ اَللَّهِ لَمُشْتَاقٌ وَ لِحُسْنِ حُسْنِ ثَوَابِهِ لَمُنْتَظِرٌ رَاجٍ وَ لَكِنَّنِي آسَى أَنْ يَلِيَ هَذِهِ اَلْأُمَّةَ أَمْرَ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ سُفَهَاؤُهَا وَ فُجَّارُهَا فَيَتَّخِذُوا مَالَ اَللَّهِ دُوَلاً وَ عِبَادَهُ خَوَلاً وَ اَلصَّالِحِينَ حَرْباً وَ اَلْفَاسِقِينَ حِزْباً فَإِنَّ مِنْهُمُ اَلَّذِي قَدْ شَرِبَ فِيكُمُ اَلْحَرَامَ وَ جُلِدَ حَدّاً فِي اَلْإِسْلاَمِ وَ إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى رُضِخَتْ لَهُ عَلَى اَلْإِسْلاَمِ اَلرَّضَائِخُ فَلَوْ لاَ ذَلِكَ مَا أَكْثَرْتُ تَأْلِيبَكُمْ وَ تَأْنِيبَكُمْ وَ جَمْعَكُمْ وَ تَحْرِيضَكُمْ وَ لَتَرَكْتُكُمْ إِذْ أَبَيْتُمْ وَ وَنَيْتُمْ أَ لاَ تَرَوْنَ إِلَى أَطْرَافِكُمْ قَدِ اِنْتَقَصَتْ وَ إِلَى أَمْصَارِكُمْ قَدِ اُفْتُتِحَتْ وَ إِلَى مَمَالِكِكُمْ تُزْوَى وَ إِلَى بِلاَدِكُمْ تُغْزَى اِنْفِرُوا رَحِمَكُمُ اَللَّهُ إِلَى قِتَالِ عَدُوِّكُمْ وَ لاَ تَثَّاقَلُوا إِلَى اَلْأَرْضِ فَتُقِرُّوا بِالْخَسْفِ وَ تَبَوَّءُوا بِالذُّلِّ وَ يَكُونَ نَصِيبُكُمُ اَلْأَخَسَّ وَ إِنَّ أَخَا اَلْحَرْبِ اَلْأَرِقُ وَ مَنْ نَامَ لَمْ يُنَمْ عَنْهُ وَ اَلسَّلاَمُ
[ 226 ](1/4925)
طلاع الأرض ملؤها ومنه قول عمر لو أن لي طلاع الأرض ذهبا لافتديت به من هول المطلع . وآسى أحزن . وأكثرت تأليبكم تحريضكم وإغراءكم به والتأنيب أشد اللوم . وونيتم ضعفتم وفترتم وممالككم تزوى أي تقبض . ولا تثاقلوا بالتشديد أصله تتثاقلوا وتقروا بالخسف تعترفوا بالضيم وتصبروا له وتبوءوا بالذل ترجعوا به والأرق الذي لا ينام ومثل قوله ع من نام لم ينم عنه قول الشاعر
لله درك ما أردت بثائر
حران ليس عن الترات براقد
أسهرته ثم اضطجعت ولم ينم
حنقا عليك وكيف نوم الحاقد
فأما الذي رضخت له على الإسلام الرضائخ فمعاوية والرضيخة شي ء قليل يعطاه الإنسان يصانع به عن شي ء يطلب منه كالأجر وذلك لأنه من المؤلفة قلوبهم الذين رغبوا في الإسلام والطاعة بجمال وشاء دفعت إليهم وهم قوم معروفون كمعاوية وأخيه يزيد وأبيهما أبي سفيان وحكيم بن حزام وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام بن المغيرة وحويطب بن عبد العزى والأخنس بن شريق وصفوان بن أمية وعمير بن وهب الجمحي وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس وعباس بن مرداس وغيرهم وكان إسلام هؤلاء للطمع والأغراض الدنياوية ولم يكن عن أصل ولا عن يقين وعلم .
[ 227 ](1/4926)
و قال الراوندي عنى بقوله رضخت لهم الرضائخ عمرو بن العاص وليس بصحيح لأن عمرا لم يسلم بعد الفتح وأصحاب الرضائخ كلهم أسلموا بعد الفتح صونعوا على الإسلام بغنائم حنين ولعمري إن إسلام عمرو كان مدخولا أيضا إلا أنه لم يكن عن رضيخة وإنما كان لمعنى آخر فأما الذي شرب الحرام وجلد في حد الإسلام فقد قال الراوندي هو المغيرة بن شعبة وأخطأ فيما قال لأن المغيرة إنما اتهم بالزنى ولم يحد ولم يجر للمغيرة ذكر في شرب الخمر وقد تقدم خبر المغيرة مستوفى وأيضا فإن المغيرة لم يشهد صفين مع معاوية ولا مع علي ع وما للراوندي ولهذا إنما يعرف هذا الفن أربابه والذي عناه علي ع الوليد بن عقبة بن أبي معيط وكان أشد الناس عليه وأبلغهم تحريضا لمعاوية وأهل الشام على حربه(1/4927)
أخبار الوليد بن عقبة
و نحن نذكر خبر الوليد وشربه الخمر منقولا من كتاب الأغاني لأبي الفرج علي بن الحسين الأصفهاني قال أبو الفرج كان سبب إمارة الوليد بن عقبة الكوفة لعثمان ما حدثني به أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني عبد العزيز بن محمد بن حكيم عن خالد بن سعيد بن عمرو بن سعيد عن أبيه قال لم يكن يجلس مع عثمان على سريره إلا العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن حرب والحكم بن أبي العاص والوليد بن عقبة ولم يكن سريره يسع إلا عثمان وواحدا منهم فأقبل الوليد يوما فجلس فجاء الحكم بن أبي العاص فأومأ عثمان إلى الوليد فرحل له عن مجلسه فلما قام الحكم قال الوليد والله يا أمير المؤمنين لقد تلجلج في صدري بيتان قلتهما حين رأيتك آثرت ابن عمك على ابن أمك وكان الحكم عم عثمان والوليد أخاه
[ 228 ]
لأمه فقال عثمان إن الحكم شيخ قريش فما البيتان فقال
رأيت لعم المرء زلفى قرابة
دوين أخيه حادثا لم يكن قدما
فأملت عمرا أن يشب وخالدا
لكي يدعواني يوم نائبة عما
يعني عمرا وخالدا ابني عثمان قال فرق له عثمان وقال قد وليتك الكوفة فأخرجه إليها . قال أبو الفرج وأخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثني عمر بن شبة قال حدثني بعض أصحابنا عن ابن دأب قال لما ولى عثمان الوليد بن عقبة الكوفة قدمها وعليها سعد بن أبي وقاص فأخبر بقدومه ولم يعلم أنه قد أمر فقال وما صنع قالوا وقف في السوق فهو يحدث الناس هناك ولسنا ننكر شيئا من أمره فلم يلبث أن جاءه نصف النهار فاستأذن على سعد فأذن له فسلم عليه بالإمرة وجلس معه فقال له سعد ما أقدمك يا أبا وهب قال أحببت زيارتك قال وعلى ذاك أ جئت بريدا قال أنا أرزن من ذلك ولكن القوم احتاجوا إلى عملهم فسرحوني إليه وقد استعملني أمير المؤمنين على الكوفة فسكت سعد طويلا ثم قال لا والله ما أدري أصلحت بعدنا أم فسدنا بعدك ثم قال
كليني وجريني ضباع وأبشري(1/4928)
بلحم امرئ لم يشهد اليوم ناصره
فقال الوليد أما والله لأنا أقول للشعر منك وأروى له ولو شئت لأجبتك ولكني أدع ذاك لما تعلم نعم والله لقد أمرت بمحاسبتك والنظر في أمر عمالك ثم بعث إلى عمال سعد فحبسهم وضيق عليهم فكتبوا إلى سعد يستغيثون به فكلمه فيهم فقال له أ وللمعروف عندك موضع قال نعم فخلى سبيلهم .
[ 229 ]
قال أحمد وحدثني عمر عن أبي بكر الباهلي عن هشيم عن العوام بن حوشب قال لما قدم الوليد على سعد قال له سعد والله ما أدري كست بعدنا أم حمقنا بعدك فقال لا تجزعن يا أبا إسحاق فإنه الملك يتغداه قوم ويتعشاه آخرون فقال سعد أراكم والله ستجعلونه ملكا . قال أبو الفرج وحدثنا أحمد قال حدثني عمر قال حدثني هارون بن معروف عن ضمرة بن ربيعة عن ابن شوذب قال صلى الوليد بأهل الكوفة الغداة أربع ركعات ثم التفت إليهم فقال أزيدكم فقال عبد الله بن مسعود ما زلنا معك في زيادة منذ اليوم . قال أبو الفرج وحدثني أحمد قال حدثنا عمر قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا جرير عن الأجلح عن الشعبي قال قال الحطيئة يذكر الوليد
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه
إن الوليد أحق بالغدر
نادى وقد تمت صلاتهم
أ أزيدكم سكرا ولم يدر
فأبوا أبا وهب ولو أذنوا
لقرنت بين الشفع والوتر
كفوا عنانك إذ جريت ولو
تركوا عنانك لم تزل تجري
[ 230 ]
و قال الحطيئة أيضا
تكلم في الصلاة وزاد فيها
علانية وأعلن بالنفاق
و مج الخمر في سنن المصلي
و نادى والجميع إلى افتراق
أزيدكم على أن تحمدوني
فما لكم وما لي من خلاق
قال أبو الفرج وأخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني أبي قال قال أبو عبيدة وهشام بن الكلبي والأصمعي كان الوليد زانيا يشرب الخمر فشرب بالكوفة وقام ليصلي بهم الصبح في المسجد الجامع فصلى بهم أربع ركعات ثم التفت إليهم فقال أزيدكم وتقيأ في المحراب بعد أن قرأ بهم رافعا صوته في الصلاة
علق القلب الربابا(1/4929)
بعد ما شابت وشابا
فشخص أهل الكوفة إلى عثمان فأخبروه بخبره وشهدوا عليه بشرب الخمر فأتي به فأمر رجلا من المسلمين أن يضربه الحد فلما دنا منه قال نشدتك الله وقرابتي من أمير المؤمنين فتركه فخاف علي بن أبي طالب ع أن يعطل الحد فقام إليه فحده بيده فقال الوليد نشدتك الله والقرابة فقال أمير المؤمنين ع اسكت أبا وهب فإنما هلك بنو إسرائيل لتعطيلهم الحدود فلما ضربه وفرغ منه قال لتدعوني قريش بعدها جلادا قال إسحاق وحدثني مصعب بن الزبير قال قال الوليد بعد ما شهدوا عليه فجلد اللهم إنهم قد شهدوا علي بزور فلا ترضهم عن أمير ولا ترض عنهم أميرا قال وقد عكس الحطيئة أبياته فجعلها مدحا للوليد
شهد الحطيئة حين يلقى ربه
أن الوليد أحق بالعذر
[ 231 ]
كفوا عنانك إذ جريت ولو
تركوا عنانك لم تزل تجري
و رأوا شمائل ماجد أنف
يعطى على الميسور والعسر
فنزعت مكذوبا عليك ولم
تنزع على طمع ولا ذعر
قال أبو الفرج ونسخت من كتاب هارون بن الرباب بخطه عن عمر بن شبة قال شهد رجل عند أبي العجاج وكان على قضاء البصرة على رجل من المعيطيين بشهادة وكان الشاهد سكران فقال المشهود عليه وهو المعيطي أعزك الله أيها القاضي إنه لا يحسن من السكر أن يقرأ شيئا من القرآن فقال الشاهد بلى أحسن قال فاقرأ فقال
علق القلب الربابا
بعد ما شابت وشابا(1/4930)
يمجن بذلك ويحكي ما قاله الوليد في الصلاة وكان أبو العجاج أحمق فظن أن هذا الكلام من القرآن فجعل يقول صدق الله ورسوله ويلكم كم تعلمون ولا تعملون . قال أبو الفرج وأخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة عن المدائني عن مبارك بن سلام عن فطر بن خليفة عن أبي الضحى قال كان ناس من أهل الكوفة يتطلبون عثرة الوليد بن عقبة منهم أبو زينب الأزدي وأبو مورع فجاءا يوما ولم يحضر الوليد الصلاة فسألا عنه فتلطفا حتى علما أنه يشرب فاقتحما الدار فوجداه يقي ء فاحتملاه وهو سكران حتى وضعاه على سريره وأخذا خاتمه من يده فأفاق فافتقد خاتمه فسأل عنه أهله فقالوا لا ندري وقد رأينا رجلين دخلا عليك
[ 232 ]
فاحتملاك فوضعاك على سريرك فقال صفوهما لي فقالوا أحدهما آدم طوال حسن الوجه والآخر عريض مربوع عليه خميصة فقال هذا أبو زينب وهذا أبو مورع . قال ولقي أبو زينب وصاحبه عبد الله بن حبيش الأسدي وعلقمة بن يزيد البكري وغيرهما فأخبروهم فقالوا أشخصوا إلى أمير المؤمنين فأعلموه وقال بعضهم إنه لا يقبل قولكم في أخيه فشخصوا إليه فقالوا إنا جئناك في أمر ونحن مخرجوه إليك من أعناقنا وقد قيل إنك لا تقبله قال وما هو قالوا رأينا الوليد وهو سكران من خمر شربها وهذا خاتمه أخذناه من يده وهو لا يعقل(1/4931)
فأرسل عثمان إلى علي ع فأخبره فقال أرى أن تشخصه فإذا شهدوا عليه بمحضر منه حددته فكتب عثمان إلى الوليد فقدم عليه فشهد عليه أبو زينب وأبو مورع وجندب الأزدي وسعد بن مالك الأشعري فقال عثمان لعلي ع قم يا أبا الحسن فاجلده فقال علي ع للحسن ابنه قم فاضربه فقال الحسن ما لك ولهذا يكفيك غيرك فقال علي لعبد الله بن جعفر قم فاضربه فضربه بمخصرة فيها سير له رأسان فلما بلغ أربعين قال حسبك . قال أبو الفرج وحدثني أحمد قال حدثنا عمر قال حدثني المدائني عن الوقاصي عن الزهري قال خرج رهط من أهل الكوفة إلى عثمان في أمر الوليد فقال أ كلما غضب رجل على أميره رماه بالباطل لئن أصبحت لكم لأنكلن بكم فاستجاروا بعائشة وأصبح عثمان فسمع من حجرتها صوتا وكلاما فيه بعض الغلظة فقال أ ما يجد فساق العراق ومراقها ملجأ إلا بيت عائشة فسمعت فرفعت نعل رسول الله ص وقالت تركت سنة صاحب هذا النعل وتسامع الناس فجاءوا حتى ملئوا المسجد فمن قائل قد أحسنت ومن قائل ما للنساء ولهذا حتى تخاصموا
[ 233 ]
و تضاربوا بالنعال ودخل رهط من أصحاب رسول الله ص على عثمان فقالوا له اتق الله ولا تعطل الحدود واعزل أخاك عنهم ففعل قال أبو الفرج حدثنا أحمد قال حدثني عمر عن المدائني عن أبي محمد الناجي عن مطر الوراق قال قدم رجل من أهل الكوفة إلى المدينة فقال لعثمان إني صليت صلاة الغداة خلف الوليد فالتفت في الصلاة إلى الناس فقال أ أزيدكم فإني أجد اليوم نشاطا وشممنا منه رائحة الخمر فضرب عثمان الرجل فقال الناس عطلت الحدود وضربت الشهود . قال أبو الفرج وحدثنا أحمد قال حدثنا عمر قال حدثنا أبو بكر الباهلي عن بعض من حدثه قال لما شهد على الوليد عند عثمان بشرب الخمر كتب إليه يأمره بالشخوص فخرج وخرج معه قوم يعذرونه منهم عدي بن حاتم الطائي فنزل الوليد يوما يسوق بهم فارتجز وقال
لا تحسبنا قد نسينا الأحقاف
و النشوات من معتق صاف(1/4932)
و عزف قينات علينا عزاف
فقال عدي فأين تذهب بنا إذن فأقم . قال أبو الفرج وقد روى أحمد عن عمر عن رجاله عن الشعبي عن جندب الأزدي قال كنت فيمن شهد على الوليد عند عثمان فلما استتممنا عليه الشهادة حبسه عثمان ثم ذكر باقي الخبر وضرب علي ع إياه وقول الحسن ابنه ما لك ولهذا وزاد فيه وقال علي ع لست إذن مسلما أو قال من المسلمين .
[ 234 ]
قال أبو الفرج وأخبرني أحمد عن عمر عن رجاله أن الشهادة لما تمت قال عثمان لعلي ع دونك ابن عمك فأقم عليه الحد فأمر علي ع ابنه الحسن ع فلم يفعل فقال يكفيك غيرك فقال علي ع بل ضعفت ووهنت وعجزت قم يا عبد الله بن جعفر فاجلده فقام فجلده وعلي ع يعد حتى بلغ أربعين فقال له علي ع أمسك حسبك جلد رسول الله ص أربعين وجلد أبو بكر أربعين وكملها عمر ثمانين وكل سنة . قال أبو الفرج وحدثني أحمد عن عمر عن عبد الله بن محمد بن حكيم عن خالد بن سعيد قال وأخبرني بذلك أيضا إبراهيم بن محمد بن أيوب عن عبد الله بن مسلم قالوا جميعا لما ضرب عثمان الوليد الحد قال إنك لتضربني اليوم بشهادة قوم ليقتلنك عاما قابلا . قال أبو الفرج وحدثني أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن عمر بن شبة عن عبد الله بن محمد بن حكيم عن خالد بن سعيد وأخبرني أيضا إبراهيم عن عبد الله قالوا جميعا كان أبو زبيد الطائي نديما للوليد بن عقبة أيام ولايته الكوفة فلما شهدوا عليه بالسكر من الخمر خرج عن الكوفة معزولا فقال أبو زبيد يتذكر أيامه وندامته
من يرى العير أن تمشي على ظهر
المرورى حداتهن عجال
ناعجات والبيت بيت أبي وهب
خلاء تحن فيه الشمال
يعرف الجاهل المضلل أن الدهر
فيه النكراء والزلزال
ليت شعري كذا كم العهد أم كانوا
أناسا كمن يزول فزالوا
[ 235 ]
بعد ما تعلمين يا أم عمرو
كان فيهم عز لنا وجمال
و وجوه تودنا مشرقات
و نوال إذا أريد النوال
أصبح البيت قد تبدل بالحي
وجوها كأنها الأقيال
كل شي ء يحتال فيه الرجال(1/4933)
غير أن ليس للمنايا احتيال
و لعمر الإله لو كان للسيف
مضاء وللسان مقال
ما تناسيتك الصفاء ولا
الود ولا حال دونك الإشغال
و لحرمت لحمك المتعضي
ضلة ضل حلمهم ما اغتالوا
قولهم شربك الحرام وقد كان
شراب سوى الحرام حلال
و أبي ظاهر العداوة والشنآن
إلا مقال ما لا يقال
من رجال تقارضوا منكرات
لينالوا الذي أرادوا فنالوا
غير ما طالبين ذحلا ولكن
مال دهر على أناس فمالوا
من يخنك الصفاء أو يتبدل
أو يزل مثل ما يزول الظلال
فاعلمن أنني أخوك أخو
الود حياتي حتى تزول الجبال
ليس بخلي عليك يوما بمال
أبدا ما أقل نعلا قبال
و لك النصر باللسان وبالكف
إذا كان لليدين مصال
قال أبو الفرج وحدثني أحمد قال حدثني عمر قال لما قدم الوليد بن عقبة الكوفة قدم عليه أبو زبيد فأنزله دار عقيل بن أبي طالب على باب المسجد وهي التي
[ 236 ](1/4934)
تعرف بدار القبطي فكان مما احتج به عليه أهل الكوفة أن أبا زبيد كان يخرج إليه من داره وهو نصراني يخترق المسجد فيجعله طريقا . قال أبو الفرج وأخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي عبيد الله عن ابن حبيب عن ابن الأعرابي أن أبا زبيد وفد على الوليد حين استعمله عثمان على الكوفة فأنزله الوليد دار عقيل بن أبي طالب عند باب المسجد واستوهبها منه فوهبها له فكان ذلك أول الطعن عليه من أهل الكوفة لأن أبا زبيد كان يخرج من داره حتى يشق المسجد إلى الوليد فيسمر عنده ويشرب معه ويخرج فيشق المسجد وهو سكران فذاك نبههم عليه قال وقد كان عثمان ولى الوليد صدقات بني تغلب فبلغه عنه شعر فيه خلاعه فعزله قال فلما ولاه الكوفة اختص أبا زبيد الطائي وقربه ومدحه أبو زبيد بشعر كثير وقد كان الوليد استعمل الربيع بن مري بن أوس بن حارثة بن لام الطائي على الحمى فيما بين الجزيرة وظهر الحيرة فأجدبت الجزيرة وكان أبو زبيد في بني تغلب نازلا فخرج بإبلهم ليرعيهم فأبى عليهم الربيع بن مري ومنعهم وقال لأبي زبيد إن شئت أرعيك وحدك فعلت فأتى أبو زبيد إلى الوليد فشكاه فأعطاه ما بين القصور الحمر من الشام إلى القصور الحمر من الحيرة وجعلها له حمى وأخذها من الربيع بن مري فقال أبو زبيد يمدح الوليد والشعر يدل على أن الحمى كان بيد مري بن أوس لا بيد الربيع ابنه وهكذا هو في رواية عمر بن شبة
لعمر أبيك يا ابن أبي مري
لغيرك من أباح لنا الديارا
أباح لنا أبارق ذات قور
و نرعى القف منها والقفارا
[ 237 ]
بحمد الله ثم فتى قريش
أبي وهب غدت بدنا غزارا
أباح لنا ولا نحمي عليكم
إذا ما كنتم سنة جزارا
قال يقول إذا أجدبتم فإنا لا نحميها عليكم وإذا كنتم أسأتم وحميتموها علينا .
فتى طالت يداه إلى المعالي
و طحطحت المجذمة القصارا
قال ومن شعر أبي زبيد فيه يذكر نصره له على مري بن أوس بن حارثة
يا ليت شعري بأنباء أنبؤها(1/4935)
قد كان يعنى بها صدري وتقديري
عن امرئ ما يزده الله من شرف
أفرح به ومري غير مسرور
إن الوليد له عندي وحق له
ود الخليل ونصح غير مذخور
لقد دعاني وأدناني أظهرني
على الأعادي بنصر غير تغرير
و شذب القوم عني غير مكترث
حتى تناهوا على رغم وتصغير
نفسي فداء أبي وهب وقل له
يا أم عمرو فحلي اليوم أو سيري
و قال أبو زبيد يمدح الوليد ويتألم لفراقه حين عزل عن الكوفة
لعمري لئن أمسى الوليد ببلدة
سواي لقد أمسيت للدهر معورا
خلا أن رزق الله غاد ورائح
و إني له راج وإن سار أشهرا
و كان هو الحصن الذي ليس مسلمي
إذا أنا بالنكراء هيجت معشرا
إذا صادفوا دوني الوليد فإنما
يرون بوادي ذي حماس مزعفرا
[ 238 ]
و هي طويلة يصف فيها الأسد قال أبو الفرج وحدثنا أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر عن رجاله عن الوليد قال لما فتح رسول الله ص مكة جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم فيدعو لهم بالبركة ويمسح يده على رءوسهم فجي ء بي إليه وأنا مخلق فلم يمسني وما منعه إلا أن أمي خلقتني بخلوق فلم يمسني من أجل الخلوق .(1/4936)
قال أبو الفرج وحدثني إسحاق بن بنان الأنماطي عن حنيش بن ميسر عن عبد الله بن موسى عن أبي ليلى عن الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال الوليد بن عقبة لعلي بن أبي طالب ع أنا أحد منك سنانا وأبسط منك لسانا وأملأ للكتيبة فقال علي ع اسكت يا فاسق فنزل القرآن فيهما أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ . قال أبو الفرج وحدثني أحمد بن عبد العزيز عن عمر بن شبة عن محمد بن حاتم عن يونس بن عمر عن شيبان عن يونس عن قتادة في قوله تعالى يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا قال هو الوليد بن عقبة بعثه النبي ص مصدقا إلى بني المصطلق فلما رأوه أقبلوا نحوه فهابهم فرجع إلى النبي ص فقال له إنهم ارتدوا عن الإسلام فبعث النبي ص خالد بن الوليد فعلم عملهم وأمره أن يتثبت وقال له انطلق ولا تعجل فانطلق حتى أتاهم ليلا وأنفذ عيونه نحوهم فلما جاءوه أخبروه أنهم متمسكون بالإسلام وسمع أذانهم وصلاتهم فلما أصبح أتاهم فرأى ما يعجبه فرجع إلى الرسول ص فأخبره فنزلت هذه الآية .
[ 239 ](1/4937)
قلت قد لمح ابن عبد البر صاحب كتاب الإستيعاب في هذا الموضع نكتة حسنة فقال في حديث الخلوق هذا حديث مضطرب منكر لا يصح وليس يمكن أن يكون من بعثه النبي ص مصدقا صبيا يوم الفتح قال ويدل أيضا على فساده أن الزبير بن بكار وغيره من أهل العلم بالسير والأخبار ذكروا أن الوليد وأخاه عمارة ابني عقبة بن أبي معيط خرجا من مكة ليردا أختهما أم كلثوم عن الهجرة وكانت هجرتها في الهدنة التي بين النبي ص وبين أهل مكة ومن كان غلاما مخلقا بالخلوق يوم الفتح ليس يجي ء منه مثل هذا قال ولا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن أن قوله عز وجل إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أنزلت في الوليد لما بعثه رسول الله ص مصدقا فكذب على بني المصطلق وقال إنهم ارتدوا وامتنعوا من أداء الصدقة قال أبو عمر وفيه وفي علي ع نزل أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ في قصتهما المشهورة قال ومن كان صبيا يوم الفتح لا يجي ء منه مثل هذا فوجب أن ينظر في حديث الخلوق فإنه رواية جعفر بن برقان عن ثابت عن الحجاج عن أبي موسى الهمداني وأبو موسى مجهول لا يصح حديثه . ثم نعود إلى كتاب أبي الفرج الأصبهاني
قال أبو الفرج وأخبرني أحمد بن عبد العزيز عن عمر بن شبة عن عبد الله بن موسى عن نعيم بن حكيم عن أبي مريم عن علي ع أن امرأة الوليد بن عقبة جاءت إلى النبي ص تشتكي إليه الوليد وقالت إنه يضربها فقال لها ارجعي إليه وقولي له إن رسول الله قد أجارني فانطلقت فمكثت ساعة ثم رجعت فقالت إنه
[ 240 ](1/4938)
ما أقلع عني فقطع رسول الله ص هدبة من ثوبه وقال اذهبي بها إليه وقولي له إن رسول الله قد أجارني فانطلقت فمكثت ساعة ثم رجعت فقالت ما زادني إلا ضربا فرفع رسول الله ص يده ثم قال اللهم عليك بالوليد مرتين أو ثلاثا . قال أبو الفرج واختص الوليد لما كان واليا بالكوفة ساحرا كاد يفتن الناس كان يريه كتيبتين تقتتلان فتحمل إحداهما على الأخرى فتهزمها ثم يقول له أ يسرك أن أريك المنهزمة تغلب الغالبة فتهزمها فيقول نعم فجاء جندب الأزدي مشتملا على سيفه فقال أفرجوا لي فأفرجوا فضربه حتى قتله فحبسه الوليد قليلا ثم تركه . قال أبو الفرج وروى أحمد عن عمر عن رجاله أن جندبا لما قتل الساحر حبسه الوليد فقال له دينار بن دينار فيم حبست هذا وقد قتل من أعلن بالسحر في دين محمد ص ثم مضى إليه فأخرجه من الحبس فأرسل الوليد إلى دينار بن دينار فقتله . قال أبو الفرج حدثني عمي الحسن بن محمد قال حدثني الخراز عن المدائني عن علي بن مجاهد عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان عن الزهري وغيره أن رسول الله ص لما انصرف عن غزاة بني المصطلق نزل رجل من المسلمين فساق بالقوم ورجز ثم آخر فساق بهم ورجز ثم بدا لرسول الله ص أن يواسي أصحابه فنزل فساق بهم ورجز وجعل يقول فيما يقول
جندب وما جندب
و الأقطع زيد الخير
[ 241 ]
فدنا منه أصحابه فقالوا يا رسول الله ما ينفعنا سيرنا مخافة أن تنهشك دابة أو تصيبك نكبة فركب ودنوا منه وقالوا قلت قولا لا ندري ما هو قال وما ذاك قالوا كنت تقول
جندب وما جندب
و الأقطع زيد الخير(1/4939)
فقال رجلان يكونان في هذه الأمة يضرب أحدهما ضربة يفرق بين الحق والباطل وتقطع يد الآخر في سبيل الله ثم يتبع الله آخر جسده بأوله وكان زيد هو زيد بن صوحان وقطعت يده في سبيل الله يوم جلولاء وقتل يوم الجمل مع علي بن أبي طالب ع وأما جندب هذا فدخل على الوليد بن عقبة وعنده ساحر يقال له أبو شيبان يأخذ أعين الناس فيخرج مصارين بطنهم ثم يردها فجاء من خلفه فضربه فقتله وقال
العن وليدا وأبا شيبان
و ابن حبيش راكب الشيطان
رسول فرعون إلى هامان
قال أبو الفرج وقد روي أن هذا الساحر كان يدخل عند الوليد في جوف بقرة حية ثم يخرج منها فرآه جندب فذهب إلى بيته فاشتمل على سيف فلما دخل الساحر في البقرة قال جندب أ فتأتون السحر وأنتم تبصرون ثم ضرب وسط البقرة فقطعها وقطع الساحر معها فذعر الناس فسجنه الوليد وكتب بأمره إلى عثمان . قال أبو الفرج فروى أحمد بن عبد العزيز عن حجاج بن نصير عن قرة عن
[ 242 ]
محمد بن سيرين قال انطلق بجندب بن كعب الأزدي قاتل الساحر بالكوفة إلى السجن وعلى السجن رجل نصراني من قبل الوليد وكان يرى جندب بن كعب يقوم بالليل ويصبح صائما فوكل بالسجن رجلا ثم خرج فسأل الناس عن أفضل أهل الكوفة فقالوا الأشعث بن قيس فاستضافه فجعل يراه ينام الليل ثم يصبح فيدعو بغدائه فخرج من عنده وسأل أي أهل الكوفة أفضل قالوا جرير بن عبد الله فذهب إليه فوجده ينام الليل ثم يصبح فيدعو بغدائه فاستقبل القبلة وقال ربي رب جندب وديني دين جندب ثم أسلم . قال أبو الفرج فلما نزع عثمان الوليد عن الكوفة أمر عليها سعيد بن العاص فلما قدمها قال اغسلوا هذا المنبر فإن الوليد كان رجلا نجسا فلم يصعده حتى غسل قال أبو الفرج وكان الوليد أسن من سعيد بن العاص وأسخى نفسا وألين جانبا وأرضى عندهم فقال بعض شعرائهم
و جاءنا من بعده سعيد
ينقص في الصاع ولا يزيد
و قال آخر منهم
فررت من الوليد إلى سعيد(1/4940)
كأهل الحجر إذ فزعوا فباروا
يلينا من قريش كل عام
أمير محدث أو مستشار
لنا نار تحرقنا فنخشى
و ليس لهم ولا يخشون نار
قال أبو الفرج وحدثنا أحمد قال حدثنا عمر عن المدائني قال قدم الوليد بن
[ 243 ]
عقبة الكوفة في أيام معاوية زائرا للمغيرة بن شعبة فأتاه أشراف الكوفة فسلموا عليه وقالوا والله ما رأينا بعدك مثلك فقال أ خيرا أم شرا قالوا بل خيرا قال ولكني ما رأيت بعدكم شرا منكم فأعادوا الثناء عليه فقال بعض ما تأتون به فو الله إن بغضكم لتلف وإن حبكم لصلف قال أبو الفرج وروى عمر بن شبة أن قبيصة بن جابر كان ممن كثر على الوليد فقال معاوية يوما والوليد وقبيصة عنده يا قبيصة ما كان شأنك وشأن الوليد قال خير يا أمير المؤمنين إنه في أول الأمر وصل الرحم وأحسن الكلام فلا تسأل عن شكر وحسن ثناء ثم غضب على الناس وغضبوا عليه وكنا معهم فإما ظالمون فنستغفر الله وإما مظلومون فيغفر الله له فخذ في غير هذا يا أمير المؤمنين فإن الحديث ينسي القديم قال معاوية ما أعلمه إلا قد أحسن السيرة وبسط الخير وقبض الشر قال فأنت يا أمير المؤمنين اليوم أقدر على ذلك فافعله فقال اسكت لا سكت فسكت وسكت القوم فقال معاوية بعد يسير ما لك لا تتكلم يا قبيصة قال نهيتني عما كنت أحب فسكت عما لا أحب . قال أبو الفرج ومات الوليد بن عقبة فويق الرقة ومات أبو زبيد هناك فدفنا جميعا في موضع واحد فقال في ذلك أشجع السلمي وقد مر بقبريهما
مررت على عظام أبي زبيد
و قد لاحت ببلقعة صلود
فكان له الوليد نديم صدق
فنادم قبره قبر الوليد
و ما أدري بمن تبدو المنايا
بحمزة أم بأشجع أم يزيد
قيل هم إخوته وقيل ندماؤه . قال أبو الفرج وحدثني أحمد بن عبد العزيز عن محمد بن زكريا الغلابي
[ 244 ](1/4941)
عن عبد الله بن الضحاك عن هشام بن محمد عن أبيه قال وفد الوليد بن عقبة وكان جوادا إلى معاوية فقيل له هذا الوليد بن عقبة بالباب فقال والله ليرجعن مغيظا غير معطى فإنه الآن قد أتانا يقول علي دين وعلي كذا ائذن له فأذن له فسأله وتحدث معه ثم قال له معاوية أما والله إن كنا لنحب إتيان مالك بالوادي ولقد كان يعجب أمير المؤمنين فإن رأيت أن تهبه ليزيد فافعل قال هو ليزيد ثم خرج وجعل يختلف إلى معاوية فقال له يوما انظر يا أمير المؤمنين في شأني فإن علي مئونة وقد أرهقني دين فقال له أ لا تستحيي لنفسك وحسبك تأخذ ما تأخذه فتبذره ثم لا تنفك تشكو دينا فقال الوليد أفعل ثم انطلق من مكانه فسار إلى الجزيرة وقال يخاطب معاوية
فإذا سئلت تقول لا
و إذا سألت تقول هات
تأبى فعال الخير لا
تروي وأنت على الفرات
أ فلا تميل إلى نعم
أو ترك لا حتى الممات
و بلغ معاوية شخوصه إلى الجزيرة فخافه وكتب إليه أقبل فكتب
أعف وأستعفي كما قد أمرتني
فأعط سواي ما بدا لك وابخل
سأحدو ركابي عنك إن عزيمتي
إذا نابني أمر كسلة منصل
و إني امرؤ للنأي مني تطرب
و ليس شبا قفل علي بمقفل
ثم رحل إلى الحجاز فبعث إليه معاوية بجائزة . وأما أبو عمر بن عبد البر فإنه ذكر في الإستيعاب في باب الوليد قال إن له أخبارا فيها شناعة تقطع على سوء حاله وقبح أفعاله غفر الله لنا وله فلقد كان من رجال قريش
[ 245 ](1/4942)
ظرفا وحلما وشجاعة وجودا وأدبا وكان من الشعراء المطبوعين قال وكان الأصمعي وأبو عبيدة وابن الكلبي وغيرهم يقولون إنه كان فاسقا شريب خمر وكان شاعرا كريما قال وأخباره في شربه الخمر ومنادمته أبا زبيد الطائي كثيرة مشهورة ويسمج بنا ذكرها ولكنا نذكر منها طرفا ثم ذكر ما ذكره أبو الفرج في الأغاني وقال إن خبر الصلاة وهو سكران وقوله أ أزيدكم خبر مشهور روته الثقات من نقلة الحديث . قال أبو عمر بن عبد البر وقد ذكر الطبري في رواية أنه تغضب عليه قوم من أهل الكوفة حسدا وبغيا وشهدوا عليه بشرب الخمر وقال إن عثمان قال له يا أخي اصبر فإن الله يأجرك ويبوء القوم بإثمك . قال أبو عمر هذا الحديث لا يصح عند أهل الأخبار ونقلة الحديث ولا له عند أهل العلم أصل والصحيح ثبوت الشهادة عليه عند عثمان وجلده الحد وأن عليا هو الذي جلده قال ولم يجلده بيده وإنما أمر بجلده فنسب الجلد إليه . قال أبو عمر ولم يرو الوليد من السنة ما يحتاج فيها إليه ولكن حارثة بن مضرب روى عنه أنه قال ما كانت نبوة إلا كان بعدها ملك
[ 246 ](1/4943)
و من كتاب له ع إلى أبي موسى الأشعري
و هو عامله على الكوفة وقد بلغه عنه تثبيطه الناس عن الخروج إليه لما ندبهم لحرب أصحاب الجمل مِنْ عَبْدِ اَللَّهِ عَلِيٍّ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ إِلَى عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ قَيْسٍ أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِي عَنْكَ قَوْلٌ هُوَ لَكَ وَ عَلَيْكَ فَإِذَا قَدِمَ عَلَيْكَ رَسُولِي رَسُولِي عَلَيْكَ فَارْفَعْ ذَيْلَكَ وَ اُشْدُدْ مِئْزَرَكَ وَ اُخْرُجْ مِنْ جُحْرِكَ وَ اُنْدُبْ مَنْ مَعَكَ فَإِنْ حَقَّقْتَ فَانْفُذْ وَ إِنْ تَفَشَّلْتَ فَابْعُدْ وَ اَيْمُ اَللَّهِ لَتُؤْتَيَنَّ مِنْ حَيْثُ أَنْتَ وَ لاَ تُتْرَكُ حَتَّى يُخْلَطَ زُبْدُكَ بِخَاثِرِكَ وَ ذَائِبُكَ بِجَامِدِكَ وَ حَتَّى تُعْجَلُ عَنْ قِعْدَتِكَ وَ تَحْذَرَ مِنْ أَمَامِكَ كَحَذَرِكَ مِنْ خَلْفِكَ وَ مَا هِيَ بِالْهُوَيْنَى اَلَّتِي تَرْجُو وَ لَكِنَّهَا اَلدَّاهِيَةُ اَلْكُبْرَى يُرْكَبُ جَمَلُهَا وَ يُذَلُّ يُذَلَّلُّ صَعْبُهَا وَ يُسَهَّلُ جَبَلُهَا فَاعْقِلْ عَقْلَكَ وَ اِمْلِكْ أَمْرَكَ وَ خُذْ نَصِيبَكَ وَ حَظَّكَ فَإِنْ كَرِهْتَ فَتَنَحَّ إِلَى غَيْرِ رَحْبٍ وَ لاَ فِي نَجَاةٍ فَبِالْحَرِيِّ لَتُكْفَيَنَّ وَ أَنْتَ نَائِمٌ حَتَّى لاَ يُقَالَ أَيْنَ فُلاَنٌ وَ اَللَّهِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مَعَ مُحِقٍّ وَ مَا يُبَالِي أُبَالِي مَا صَنَعَ اَلْمُلْحِدُونَ وَ اَلسَّلاَمُ المراد بقوله قول هو لك وعليك أن أبا موسى كان يقول لأهل الكوفة إن عليا إمام هدى وبيعته صحيحة ألا إنه لا يجوز القتال معه لأهل القبلة وهذا القول بعضه حق وبعضه باطل .
[ 247 ](1/4944)
و قوله فارفع ذيلك أي شمر للنهوض معي واللحاق بي لنشهد حرب أهل البصرة وكذلك قوله واشدد مئزرك وكلتاهما كنايتان عن الجد والتشمير في الأمر . قال واخرج من جحرك أمر له بالخروج من منزله للحاق به وهي كناية فيها غض من أبي موسى واستهانة به لأنه لو أراد إعظامه لقال واخرج من خيسك أو من غيلك كما يقال للأسد ولكنه جعله ثعلبا أو ضبا . قال واندب من معك أي واندب رعيتك من أهل الكوفة إلى الخروج معي واللحاق بي . ثم قال وإن تحققت فانفذ أي أمرك مبني على الشك وكلامك في طاعتي كالمتناقض فإن حققت لزوم طاعتي لك فانفذ أي سر حتى تقدم علي وإن أقمت على الشك فاعتزل العمل فقد عزلتك . قوله وايم الله لتؤتين معناه إن أقمت على الشك والاسترابة وتثبيط أهل الكوفة عن الخروج إلي وقولك لهم لا يحل لكم سل السيف لا مع علي ولا مع طلحة والزموا بيوتكم واكسروا سيوفكم ليأتينكم وأنتم في منازلكم بالكوفة أهل البصرة مع طلحة ونأتينكم نحن بأهل المدينة والحجاز فيجتمع عليكم سيفان من أمامكم ومن خلفكم فتكون ذلك الداهية الكبرى التي لا شواة لها . قوله ولا تترك حتى يخلط زبدك بخاثرك تقول للرجل إذا ضربته حتى أثخنته لقد ضربته حتى خلطت زبده بخاثره وكذلك حتى خلطت ذائبه بجامده والخاثر اللبن الغيظ والزبد خلاصة اللبن وصفوته فإذا أثخنت الإنسان ضربا كنت كأنك
[ 248 ](1/4945)
خلطت ما رق ولطف من أخلاطه بما كثف وغلظ منها وهذا مثل ومعناه لتفسدن حالك ولتخلطن وليضربن ما هو الآن منتظم من أمرك . قوله وحتى تعجل عن قعدتك القعدة بالكسر هيئة القعود كالجلسة والركبة أي وليعجلنك الأمر عن هيئة قعودك يصف شدة الأمر وصعوبته . قوله وتحذر من أمامك كحذرك من خلفك يعني يأتيك من خلفك إن أقمت على منع الناس عن الحرب معنا ومعهم أهل البصرة وأهل المدينة فتكون كما قال الله تعالى إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ . قوله وما هي بالهوينى التي ترجو الهوينى تصغير الهونى التي هي أنثى أهون أي ليست هذه الداهية والجائحة التي أذكرها لك بالشي ء الهين الذي ترجو اندفاعه وسهولته . ثم قال بل هي الداهية الكبرى ستفعل لا محالة إن استمررت على ما أنت عليه وكنى عن قوله ستفعل لا محالة بقوله يركب جملها وما بعده وذلك لأنها إذا ركب جملها وذلل صعبها وسهل وعرها فقد فعلت أي لا تقل هذا أمر عظيم صعب المرام أي قصد الجيوش من كلا الجانبين الكوفة فإنه إن دام الأمر على ما أشرت إلى أهل الكوفة من التخاذل والجلوس في البيوت وقولك لهم كن عبد الله المقتول لنقعن بموجب ما ذكرته لك وليرتكبن أهل الحجاز وأهل البصرة هذا الأمر المستصعب لأنا نحن نطلب أن نملك الكوفة وأهل البصرة كذلك فيجتمع عليها الفريقان . ثم عاد إلى أمره بالخروج إليه فقال له فاعقل عقلك واملك أمرك وخذ نصيبك
[ 249 ](1/4946)
و حظك أي من الطاعة واتباع الإمام الذي لزمتك بيعته فإن كرهت ذلك فتنح عن العمل فقد عزلتك وابعد عنا لا في رحب أي لا في سعة وهذا ضد قولهم مرحبا . ثم قال فجدير أن تكفى ما كلفته من حضور الحرب وأنت نائم أي لست معدودا عندنا ولا عند الناس من الرجال الذين تفتقر الحروب والتدبيرات إليهم فسيغني الله عنك ولا يقال أين فلان . ثم أقسم إنه لحق أي إني في حرب هؤلاء لعلى حق وإن من أطاعني مع إمام محق ليس يبالي ما صنع الملحدون وهذا إشارة إلى
قول النبي ص اللهم أدر الحق معه حيثما دار
[ 250 ](1/4947)
64 ـ ومن كتاب له ع إلى معاوية جوابا عن كتابه
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّا كُنَّا نَحْنُ وَ أَنْتُمْ عَلَى مَا ذَكَرْتَ مِنَ اَلْأُلْفَةِ وَ اَلْجَمَاعَةِ فَفَرَّقَ بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمْ أَمْسِ أَنَّا آمَنَّا وَ كَفَرْتُمْ وَ اَلْيَوْمَ أَنَّا اِسْتَقَمْنَا وَ فُتِنْتُمْ وَ مَا أَسْلَمَ مُسْلِمُكُمْ إِلاَّ كَرْهاً وَ بَعْدَ أَنْ كَانَ أَنْفُ اَلْإِسْلاَمِ كُلُّهُ لِرَسُولِ اَللَّهِ ص حَرْباً حِزْباً وَ ذَكَرْتَ أَنِّي قَتَلْتُ طَلْحَةَ وَ اَلزُّبَيْرَ وَ شَرَّدْتُ بِعَائِشَةَ وَ نَزَلْتُ بَيْنَ اَلْمِصْرَيْنِ وَ ذَلِكَ أَمْرٌ غِبْتَ عَنْهُ فَلاَ عَلَيْكَ وَ لاَ اَلْعُذْرُ فِيهِ إِلَيْكَ وَ ذَكَرْتَ أَنَّكَ زَائِرِي فِي جَمْعِ اَلْمُهَاجِرِينَ وَ اَلْأَنْصَارِ وَ قَدِ اِنْقَطَعَتِ اَلْهِجْرَةُ يَوْمَ أُسِرَ أَخُوكَ فَإِنْ كَانَ فِيكَ فِيهِ عَجَلٌ فَاسْتَرْفِهْ فَإِنِّي إِنْ أَزُرْكَ فَذَلِكَ جَدِيرٌ أَنْ يَكُونَ اَللَّهُ إِنَّمَا بَعَثَنِي إِلَيْكَ لِلنِّقْمَةِ مِنْكَ وَ إِنْ تَزُرْنِي فَكَمَا قَالَ أَخُو بَنِي أَسَدٍ
مُسْتَقْبِلِينَ رِيَاحَ اَلصَّيْفِ تَضْرِبُهُمْ
بِحَاصِبٍ بَيْنَ أَغْوَارٍ وَ جُلْمُودِ
وَ عِنْدِي اَلسَّيْفُ اَلَّذِي أَعْضَضْتُهُ بِجَدِّكَ وَ خَالِكَ وَ أَخِيكَ فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ فَإِنَّكَ وَ إِنَّكَ وَ اَللَّهِ مَا عَلِمْتُ اَلْأَغْلَفُ اَلْقَلْبِ اَلْمُقَارِبُ اَلْعَقْلِ وَ اَلْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ لَكَ إِنَّكَ رَقِيتَ سُلَّماً أَطْلَعَكَ مَطْلَعَ سُوءٍ عَلَيْكَ لاَ لَكَ لِأَنَّكَ نَشَدْتَ غَيْرَ ضَالَّتِكَ وَ رَعَيْتَ غَيْرَ سَائِمَتِكَ وَ طَلَبْتَ أَمْراً لَسْتَ مِنْ أَهْلِهِ وَ لاَ فِي مَعْدِنِهِ فَمَا أَبْعَدَ قَوْلَكَ مِنْ فِعْلِكَ
[ 251 ](1/4948)
وَ قَرِيبٌ مَا أَشْبَهْتَ مِنْ أَعْمَامٍ وَ أَخْوَالٍ حَمَلَتْهُمُ اَلشَّقَاوَةُ وَ تَمَنِّي اَلْبَاطِلِ عَلَى اَلْجُحُودِ بِمُحَمَّدٍ ص فَصُرِعُوا مَصَارِعَهُمْ حَيْثُ عَلِمْتَ لَمْ يَدْفَعُوا عَظِيماً وَ لَمْ يَمْنَعُوا حَرِيماً بِوَقْعِ سُيُوفٍ مَا خَلاَ مِنْهَا اَلْوَغَى وَ لَمْ تُمَاشِهَا اَلْهُوَيْنَى وَ قَدْ أَكْثَرْتَ فِي قَتَلَةِ عُثْمَانَ فَادْخُلْ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ اَلنَّاسُ ثُمَّ حَاكِمِ اَلْقَوْمَ إِلَيَّ أَحْمِلْكَ وَ إِيَّاهُمْ عَلَى كِتَابِ اَللَّهِ تَعَالَى وَ أَمَّا تِلْكَ اَلَّتِي تُرِيدُ فَإِنَّهَا خُدْعَةُ اَلصَّبِيِّ عَنِ اَللَّبَنِ فِي أَوَّلِ اَلْفِصَالِ وَ اَلسَّلاَمُ لِأَهْلِهِ(1/4949)
كتاب معاوية إلى علي
أما الكتاب الذي كتبه إليه معاوية وهذا الكتاب جوابه فهو من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب أما بعد فإنا بني عبد مناف لم نزل ننزع من قليب واحد ونجري في حلبة واحدة ليس لبعضنا على بعض فضل ولا لقائمنا على قاعدنا فخر كلمتنا مؤتلفة وألفتنا جامعة ودارنا واحدة يجمعنا كرم العرق ويحوينا شرف النجار ويحنو قوينا على ضعيفنا ويواسي غنينا فقيرنا قد خلصت قلوبنا من وغل الحسد وطهرت أنفسنا من خبث النية فلم نزل كذلك حتى كان منك ما كان من الإدهان في أمر ابن عمك والحسد له ونصرة الناس عليه حتى قتل بمشهد منك لا تدفع عنه بلسان ولا يد فليتك
[ 252 ]
أظهرت نصره حيث أسررت خبره فكنت كالمتعلق بين الناس بعذر وإن ضعف والمتبرئ من دمه بدفع وإن وهن ولكنك جلست في دارك تدس إليه الدواهي وترسل إليه الأفاعي حتى إذا قضيت وطرك منه أظهرت شماتة وأبديت طلاقة وحسرت للأمر عن ساعدك وشمرت عن ساقك ودعوت الناس إلى نفسك وأكرهت أعيان المسلمين على بيعتك ثم كان منك بعد ما كان من قتلك شيخي المسلمين أبي محمد طلحة وأبي عبد الله الزبير وهما من الموعودين بالجنة والمبشر قاتل أحدهما بالنار في الآخرة هذا إلى تشريدك بأم المؤمنين عائشة وإحلالها محل الهون متبذلة بين أيدي الأعراب وفسقة أهل الكوفة فمن بين مشهر لها وبين شامت بها وبين ساخر منها ترى ابن عمك كان بهذه لو رآه راضيا أم كان يكون عليك ساخطا ولك عنه زاجرا أن تؤذي أهله وتشرد بحليلته وتسفك دماء أهل ملته ثم تركك دار الهجرة التي(1/4950)
قال رسول الله ص عنها إن المدينة لتنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد فلعمري لقد صح وعده وصدق قوله ولقد نفت خبثها وطردت عنها من ليس بأهل أن يستوطنها فأقمت بين المصرين وبعدت عن بركة الحرمين ورضيت بالكوفة بدلا من المدينة وبمجاورة الخورنق والحيرة عوضا من مجاورة خاتم النبوة ومن قبل ذلك ما عبت خليفتي رسول الله ص أيام حياتهما فقعدت عنهما وألبت عليهما وامتنعت من بيعتهما ورمت أمرا لم يرك الله تعالى له أهلا ورقيت سلما وعرا وحاولت مقاما دحضا وادعيت ما لم تجد عليه ناصرا ولعمري لو وليتها حينئذ لما ازدادت إلا فسادا واضطرابا ولا أعقبت ولايتكها إلا انتشارا وارتدادا لأنك الشامخ بأنفه الذاهب بنفسه المستطيل على الناس بلسانه ويده وها أنا سائر إليك في جمع
[ 253 ](1/4951)
من المهاجرين والأنصار تحفهم سيوف شامية ورماح قحطانية حتى يحاكموك إلى الله فانظر لنفسك وللمسلمين وادفع إلي قتلة عثمان فإنهم خاصتك وخلصاؤك والمحدقون بك فإن أبيت إلا سلوك سبيل اللجاج والإصرار على الغي والضلال فاعلم أن هذه الآية إنما نزلت فيك وفي أهل العراق معك وَ ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اَللَّهِ فَأَذاقَهَا اَللَّهُ لِباسَ اَلْجُوعِ وَ اَلْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ . ثم نعود إلى تفسير ألفاظ الفصل ومعانيه قال ع لعمري إنا كنا بيتا واحدا في الجاهلية لأنا بنو عبد مناف إلا أن الفرقة بيننا وبينكم حصلت منذ بعث الله محمدا ص فإنا آمنا وكفرتم ثم تأكدت الفرقة اليوم بأنا استقمنا على منهاج الحق وفتنتم . ثم قال وما أسلم من أسلم منكم إلا كرها كأبي سفيان وأولاده يزيد ومعاوية وغيرهم من بني عبد شمس . قال وبعد أن كان أنف الإسلام محاربا لرسول الله ص أي في أول الإسلام يقال كان ذلك في أنف دولة بني فلان أي في أولها وأنف كل شي ء أوله وطرفه وكان أبو سفيان وأهله من بني عبد شمس أشد الناس على رسول الله ص في أول الهجرة إلى أن فتح مكة ثم أجابه عن قوله قتلت طلحة والزبير وشردت بعائشة ونزلت بين المصرين بكلام مختصر أعرض فيه عنه
[ 254 ](1/4952)
هوانا به فقال هذا أمر غبت عنه فليس عليك كان العدوان الذي تزعم ولا العذر إليك لو وجب على العذر عنه . فأما الجواب المفصل فأن يقال إن طلحة والزبير قتلا أنفسهما ببغيهما ونكثهما ولو استقاما على الطريقة لسلما ومن قتله الحق فدمه هدر وأما كونهما شيخين من شيوخ الإسلام فغير مدفوع ولكن العيب يحدث وأصحابنا يذهبون إلى أنهما تابا وفارقا الدنيا نادمين على ما صنعا وكذلك نقول نحن فإن الأخبار كثرت بذلك فهما من أهل الجنة لتوبتهما ولو لا توبتهما لكانا هالكين كما هلك غيرهما فإن الله تعالى لا يحابي أحدا في الطاعة والتقوى لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ . وأما الوعد لهما بالجنة فمشروط بسلامة العاقبة والكلام في سلامتهما وإذا ثبتت توبتهما فقد صح الوعد لهما وتحقق و
قوله بشر قاتل ابن صفية بالنار فقد اختلف فيه فقال قوم من أرباب السير وعلماء الحديث هو كلام أمير المؤمنين ع غير مرفوع وقوم منهم جعلوه مرفوعا وعلى كل حال فهو حق لأن ابن جرموز قلته موليا خارجا من الصف مفارقا للحرب فقد قتله على توبة وإنابة ورجوع من الباطل وقاتل من هذه حاله فاسق مستحق للنار وأما أم المؤمنين عائشة فقد صحت توبتها والأخبار الواردة في توبتها أكثر من الأخبار الواردة في توبة طلحة والزبير لأنها عاشت زمانا طويلا وهما لم يبقيا والذي جرى لها كان خطأ منها فأي ذنب لأمير المؤمنين ع في ذلك ولو أقامت في منزلها لم تبتذل بين الأعراب وأهل الكوفة على أن أمير المؤمنين ع أكرمها وصانها وعظم من شأنها ومن أحب أن يقف على ما فعله معها فليطالع كتب السيرة ولو كانت فعلت بعمر ما فعلت به وشقت عصا الأمة عليه ثم ظفر بها لقتلها ومزقها إربا إربا ولكن عليا كان حليما كريما .
[ 255 ](1/4953)
و أما قوله لو عاش رسول الله ص فبربك هل كان يرضى لك أن تؤذي حليلته فلعلي ع أن يقلب الكلام عليه فيقول أ فتراه لو عاش أ كان يرضى لحليلته أن تؤذي أخاه ووصيه وأيضا أ تراه لو عاش أ كان يرضى لك يا ابن أبي سفيان أن تنازع عليا الخلافة وتفرق جماعة هذه الأمة وأيضا أ تراه لو عاش أ كان يرضى لطلحة والزبير أن يبايعا ثم ينكثا لا لسبب بل قالا جئنا نطلب الدراهم فقد قيل لنا إن بالبصرة أموالا كثيرة هذا كلام يقوله مثلهما . فأما قوله تركت دار الهجرة فلا عيب عليه إذا انقضت عليه أطراف الإسلام بالبغي والفساد أن يخرج من المدينة إليها ويهذب أهلها وليس كل من خرج من المدينة كان خبثا فقد خرج عنها عمر مرارا إلى الشام ثم لعلي ع أن يقلب عليه الكلام فيقول له وأنت يا معاوية فقد نفتك المدينة أيضا عنها فأنت إذا خبث وكذلك طلحة والزبير وعائشة الذين تتعصب لهم وتحتج على الناس بهم وقد خرج عن المدينة الصالحون كابن مسعود وأبي ذر وغيرهما وماتوا في بلاد نائية عنها وأما قوله بعدت عن حرمة الحرمين ومجاورة قبر رسول الله ص فكلام إقناعي ضعيف والواجب على الإمام أن يقدم الأهم فالأهم من مصالح الإسلام وتقديم قتال أهل البغي على المقام بين الحرمين أولى فأما ما ذكره من خذلانه عثمان وشماتته به ودعائه الناس بعد قتله إلى نفسه وإكراهه طلحة والزبير وغيرهما على بيعته فكله دعوى والأمر بخلافها ومن نظر كتب السير عرف أنه قد بهته وادعى عليه ما لم يقع منه . وأما قوله التويت على أبي بكر وعمر وقعدت عنهما وحاولت الخلافة بعد رسول الله ص فإن عليا ع لم يكن يجحد ذلك ولا ينكره ولا ريب
[ 256 ](1/4954)
أنه كان يدعى الأمر بعد وفاة رسول الله ص لنفسه على الجملة أما لنص كما تقوله الشيعة أو لأمر آخر كما يقوله أصحابنا فأما قوله لو وليتها حينئذ لفسد الأمر واضطرب الإسلام فهذا علم غيب لا يعلمه إلا الله ولعله لو وليها حينئذ لاستقام الأمر وصلح الإسلام وتمهد فإنه ما وقع الاضطراب عند ولايته بعد عثمان إلا لأن أمره هان عندهم بتأخره عن الخلافة وتقدم غيره عليه فصغر شأنه في النفوس وقرر من تقدمه في قلوب الناس أنه لا يصلح لها كل الصلاحية والناس على ما يحصل في نفوسهم ولو كان وليها ابتداء وهو على تلك الحالة التي كان عليها أيام حياة رسول الله ص وتلك المنزلة الرفيعة والاختصاص الذي كان له لكان الأمر غير الذي رأيناه عند ولايته بعد عثمان وأما قوله لأنك الشامخ بأنفه الذاهب بنفسه فقد أسرف في وصفه بما وصفه به ولا شك أن عليا ع كان عنده زهو لكن لا هكذا وكان ع مع زهوه ألطف الناس خلقا . ثم نرجع إلى تفسير ألفاظه ع قوله وذكرت أنك زائري في جمع من المهاجرين والأنصار وقد انقطعت الهجرة يوم أسر أخوك هذا الكلام تكذيب له في قوله في جمع من المهاجرين والأنصار أي ليس معك مهاجر لأن أكثر من معك ممن رأى رسول الله ص هم أبناء الطلقاء ومن أسلم بعد الفتح و
قد قال النبي ص لا هجرة بعد الفتح . وعبر عن يوم الفتح بعبارة حسنة فيها تقريع لمعاوية وأهله بالكفر وأنهم ليسوا من ذوي السوابق فقال قد انقطعت الهجرة يوم أسر أخوك يعني يزيد بن أبي سفيان أسر يوم الفتح في باب الخندمة وكان خرج في نفر من قريش يحاربون ويمنعون
[ 257 ]
من دخول مكة فقتل منهم قوم وأسر يزيد بن أبي سفيان أسره خالد بن الوليد فخلصه أبو سفيان منه وأدخله داره فأمن
لأن رسول الله ص قال يومئذ من دخل دار أبي سفيان فهو آمن(1/4955)
ذكر الخبر عن فتح مكة
و يجب أن نذكر في هذا الموضع ملخص ما ذكره الواقدي في كتاب المغازي في فتح مكة فإن الموضع يقتضيه لقوله ع ما أسلم مسلمكم إلا كرها وقوله يوم أسر أخوك . قال محمد بن عمر الواقدي في كتاب المغازي كان رسول الله ص قد هادن قريشا في عام الحديبية عشر سنين وجعل خزاعة داخلة معه وجعلت قريش بني بكر بن عبد مناة من كنانة داخلة معهم وكان بين بني بكر وبين خزاعة تراث في الجاهلية ودماء وقد كانت خزاعة من قبل حالفت عبد المطلب بن هاشم وكان معها كتاب منه وكان رسول الله ص يعرف ذلك فلما تم صلح الحديبية وأمن الناس سمع غلام من خزاعة إنسانا من بني كنانة يقال له أنس بن زنيم الدؤلي ينشد هجاء له في رسول الله ص فضربه فشجه فخرج أنس إلى قومه فأراهم شجته فثار بينهم الشر وتذاكروا أحقادهم القديمة والقوم مجاورون بمكة فاستنجدت بكر بن عبد مناة قريشا على خزاعة فمن قريش من كره ذلك وقال لا انقض عهد محمد ومنهم من خف إليه وكان أبو سفيان أحد من كره ذلك وكان صفوان بن أمية وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص
[ 258 ]
ممن أعان بني بكر ودسوا إليهم الرجال بالسلاح سرا وبيتوا خزاعة ليلا فأوقعوا بهم فقتلوا منهم عشرين رجلا فلما أصبحوا عاتبوا قريشا فجحدت قريش أنها أعانت بكرا وكذبت في ذلك وتبرأ أبو سفيان وقوم من قريش مما جرى وشخص قوم من خزاعة إلى المدينة مستصرخين برسول الله ص فدخلوا عليه وهو في المسجد فقام عمرو بن سالم الخزاعي فأنشده
لا هم إني ناشد محمدا
حلف أبينا وأبيه الأتلدا
لكنت والدا وكنا ولدا
ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا
إن قريشا أخلفوك الموعدا
و نقضوا ميثاقك المؤكدا
هم بيتونا بالوتير هجدا
نتلو القران ركعا وسجدا
و زعموا أن لست تدعو أحدا
و هم أذل وأقل عددا
فانصر هداك الله نصرا أيدا
و ادع عباد الله يأتوا مددا
في فيلق كالبحر يجري مزبدا
فيهم رسول الله قد تجردا
قرم لقوم من قروم أصيدا(1/4956)
ثم ذكروا له ما أثار الشر وقالوا له إن أنس بن زنيم هجاك وإن صفوان بن أمية وفلانا وفلانا دسوا إلينا رجال قريش مستنصرين فبيتونا بمنزلنا بالوتير فقتلونا وجئناك مستصرخين بك فزعموا أن رسول الله ص قام مغضبا يجر رداءه ويقول لا نصرت إن لم أنصر خزاعة فيما أنصر منه نفسي .
[ 259 ]
قلت فصادف ذلك من رسول الله ص إيثارا وحبا لنقض العهد لأنه كان يريد أن يفتح مكة وهم بها في عام الحديبية فصد ثم هم بها في عمرة القضية ثم وقف لأجل العهد والميثاق الذي كان عقده معهم فلما جرى ما جرى على خزاعة اغتنمها . قال الواقدي فكتب إلى جميع الناس في أقطار الحجاز وغيرها يأمرهم أن يكونوا بالمدينة في رمضان من سنة ثمان للهجرة فوافته الوفود والقبائل من كل جهة فخرج من المدينة بالناس يوم الأربعاء لعشر خلون من رمضان في عشرة آلاف فكان المهاجرون سبعمائة ومعهم من الخيل ثلاثمائة فرس وكانت الأنصار أربعة آلاف معهم من الخيل خمسمائة وكانت مزينة ألفا فيها من الخيل مائة فرس وكانت أسلم أربعمائة فيها من الخيل ثلاثون فرسا وكانت جهينة ثمانمائة معها خمسون فرسا ومن سائر الناس تمام عشرة آلاف وهم بنو ضمرة وبنو غفار وأشجع وبنو سليم وبنو كعب بن عمرو وغيرهم وعقد للمهاجرين ثلاثة ألوية لواء مع علي ولواء مع الزبير ولواء مع سعد بن أبي وقاص وكانت الرايات في الأنصار وغيرهم وكتم عن الناس الخبر فلم يعلم به إلا خواصه وأما قريش بمكة فندمت على ما صنعت بخزاعة وعرفت أن ذلك انقضاء ما بينهم وبين النبي ص من العهد ومشى الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي ربيعة إلى أبي سفيان فقالا له إن هذا أمر لا بد له أن يصلح والله إن لم يصلح لا يروعكم إلا محمد في أصحابه وقال أبو سفيان قد رأت هند بنت عتبة رؤيا كرهتها وأفظعتها وخفت من شرها قالوا ما رأت قال رأت كان دما أقبل من الحجون يسيل حتى وقف بالخندمة مليا ثم كان ذلك الدم لم يكن فكره(1/4957)
القوم ذلك وقالوا هذا شر . قال الواقدي فلما رأى أبو سفيان ما رأى من الشر قال هذا والله أمر لم أشهده
[ 260 ]
و لم أغب عنه لا يحمل هذا إلا علي ولا والله ما شوورت ولا هونت حيث بلغني والله ليغزونا محمد إن صدق ظني وهو صادق وما لي بد أن آتي محمدا فأكلمه أن يزيد في الهدنة ويجدد العهد قبل أن يبلغه هذا الأمر قالت قريش قد والله أصبت وندمت قريش على ما صنعت بخزاعة وعرفت أن رسول الله ص لا بد أن يغزوها فخرج أبو سفيان وخرج معه مولى له على راحلتين وأسرع السير وهو يرى أنه أول من خرج من مكة إلى رسول الله ص قال الواقدي وقد روى الخبر على وجه آخر وهو أنه لما قدم ركب خزاعة على رسول الله ص فأخبروه بمن قتل منهم قال لهم بمن تهمتكم وطلبتكم قالوا بنو بكر بن عبد مناة قال كلها قالوا لا ولكن تهمتنا بنو نفاثة قصرة ورأسهم نوفل بن معاوية النفاثي فقال هذا بطن من بكر فأنا باعث إلى أهل مكة فسائلهم عن هذا الأمر ومخيرهم في خصال فبعث إليهم ضمرة يخيرهم بين إحدى خلال ثلاث بين أن يدوا خزاعة أو يبرءوا من حلف نفاثة أو ينبذ إليهم على سواء فأتاهم ضمرة فخيرهم بين الخلال الثلاث فقال قريظة بن عبد عمرو الأعمى أما أن ندي قتلى خزاعة فإنا إن وديناهم لم يبق لنا سبد ولا لبد وأما أن نبرأ من حلف نفاثة فإنه ليس قبيلة تحج هذا البيت أشد تعظيما له من نفاثة وهم حلفاؤنا فلا نبرأ من حلفهم ولكنا ننبذ إليه على سواء فعاد ضمرة إلى رسول الله ص بذلك وندمت قريش أن ردت ضمرة بما ردته به . قال الواقدي وقد روي غير ذلك روي أن قريشا لما ندمت على قتل خزاعة وقالت محمد غازينا قال لهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وهو يومئذ كافر مرتد
[ 261 ](1/4958)
عندهم أن عندي رأيا أن محمدا ليس يغزوكم حتى يعذر إليكم ويخيركم في خصال كلها أهون عليكم من غزوة قالوا ما هي قال يرسل إليكم أن تدوا قتلى خزاعة أو تبرءوا من حلف من نقض العهد وهم بنو نفاثة أو ينبذ إليكم العهد فقال القوم أحر بما قال ابن أبي سرح أن يكون فقال سهيل بن عمرو ما خصلة أيسر علينا من أن نبرأ من حلف نفاثة فقال شيبة بن عثمان العبدري حطت أخوالك خزاعة وغضبت لهم قال سهيل وأي قريش لم تلد خزاعة قال شيبة لا ولكن ندي قتلى خزاعة فهو أهون علينا فقال قريظة بن عبد عمرو لا والله لا نديهم ولا نبرأ عن نفاثة أبر العرب بنا وأعمرهم لبيت ربنا ولكن ننبذ إليهم على سواء فقال أبو سفيان ما هذا بشي ء وما الرأي إلا جحد هذا الأمر أن تكون قريش دخلت في نقض العهد أو قطع مدة فإن قطعه قوم بغير هوى منا ولا مشورة فما علينا قالوا هذا هو الرأي لا رأي إلا الجحد لكل ما كان من ذلك فقال أنا أقسم أني لم أشهد ولم أوامر وأنا صادق لقد كرهت ما صنعتم وعرفت أن سيكون له يوم غماس قالت قريش لأبي سفيان فاخرج أنت بذلك فخرج . قال الواقدي وحدثني عبد الله بن عامر الأسلمي عن عطاء بن أبي مروان قال قال رسول الله ص لعائشة صبيحة الليلة التي أوقعت فيها نفاثة وقريش بخزاعة بالوتير يا عائشة لقد حدث الليلة في خزاعة أمر فقالت عائشة يا رسول الله أ ترى قريشا تجترئ على نقض العهد بينك وبينهم أ ينقضون وقد أفناهم السيف فقال العهد لأمر يريده الله بهم فقالت خير أم شر يا رسول الله فقال خير .
قال الواقدي وحدثني عبد الحميد بن جعفر قال حدثني عمران بن أبي أنس عن ابن عباس قال قام رسول الله ص وهو يجر طرف ردائه ويقول
[ 262 ](1/4959)
لا نصرت إن لم أنصر بني كعب يعني خزاعة فيما أنصر منه نفسي . قال الواقدي وحدثني حرام بن هشام عن أبيه قال قال رسول الله ص لكأنكم بأبي سفيان قد جاءكم يقول جدد العهد وزد في الهدنة وهو راجع بسخطه وقال لبني خزاعة عمرو بن سالم وأصحابه ارجعوا وتفرقوا في الأودية وقام فدخل على عائشة وهو مغضب فدعا بماء فدخل يغتسل
قالت عائشة فأسمعه يقول وهو يصب الماء على رجليه لا نصرت أن لم أنصر بني كعب . قال الواقدي فأما أبو سفيان فخرج من مكة وهو متخوف أن يكون عمرو بن سالم ورهطه من خزاعة سبقوه إلى المدينة وكان القوم لما رجعوا من المدينة وأتوا الأبواء تفرقوا كما أوصاهم رسول الله ص فذهبت طائفة إلى الساحل تعارض الطريق ولزم بديل ابن أم أصرم الطريق في نفر معه فلقيهم أبو سفيان فلما رآهم أشفق أن يكونوا لقوا محمدا ص بل كان اليقين عنده فقام للقوم منذ كم عهدكم بيثرب قالوا لا عهد لنا بها فعرف أنهم كتموه فقال أ ما معكم من تمر يثرب شي ء تطعموناه فإن لتمر يثرب فضلا على تمر تهامة قالوا لا ثم أبت نفسه أن تقر فقال يا بديل هل جئت محمدا قال لا ولكني سرت في بلاد خزاعة من هذا الساحل في قتيل كان بينهم حتى أصلحت بينهم قال يقول أبو سفيان إنك والله ما علمت بر واصل فلما راح بديل وأصحابه جاء أبو سفيان إلى أبعار إبلهم ففتها فإذا فيها النوى ووجد في منزلهم نوى من تمر عجوة كأنه ألسنة العصافير فقال أحلف بالله لقد جاء القوم محمدا وأقبل حتى قدم المدينة فدخل على النبي ص فقال يا محمد إني كنت غائبا في صلح الحديبية فاشدد العهد وزدنا في المدة فقال رسول الله ص ولذلك قدمت يا أبا سفيان قال نعم قال فهل كان قبلكم حدث
[ 263 ](1/4960)
فقال معاذ الله فقال رسول الله فنحن على موثقنا وصلحنا يوم الحديبية لا نغير ولا نبدل فقام من عنده فدخل على ابنته أم حبيبة فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله ص طوته دونه فقال أ رغبت بهذا الفراش عني أم رغبت بي عنه فقالت بل هو فراش رسول الله ص وأنت امرؤ نجس مشرك قال يا بنية لقد أصابك بعدي شر فقالت إن الله هداني للإسلام وأنت يا أبت سيد قريش وكبيرها كيف يخفى عنك فضل الإسلام وتعبد حجرا لا يسمع ولا يبصر فقال يا عجبا وهذا منك أيضا أ أترك ما كان يعبد آبائي وأتبع دين محمد ثم قام من عندها فلقي أبا بكر فكلمه وقال تكلم أنت محمدا وتجير أنت بين الناس فقال أبو بكر جواري جوار رسول الله ص ثم لقي عمر فكلمه بمثل ما كلم به أبا بكر فقال عمر والله لو وجدت السنور تقاتلكم لأعنتها عليكم قال أبو سفيان جزيت من ذي رحم شرا ثم دخل على عثمان بن عفان فقال له إنه ليس في القوم أحد أمس بي رحما منك فزدني الهدنة وجدد العهد فإن صاحبك لا يرد عليك أبدا والله ما رأيت رجلا قط أشد إكراما لصاحب من محمد لأصحابه فقال عثمان جواري جوار رسول الله ص فجاء أبو سفيان حتى دخل على فاطمة بنت رسول الله ص فكلمها وقال أجيري بين الناس فقالت إنما أنا امرأة قال إن جوارك جائز وقد أجارت أختك أبا العاص بن الربيع فأجاز محمد ذلك فقالت فاطمة ذلك إلى رسول الله ص وأبت عليه فقال مري أحد هذين ابنيك يجير بين الناس قالت إنهما صبيان وليس يجير الصبي فلما أبت عليه أتى عليا ع فقال يا أبا حسن أجر بين الناس وكلم محمدا ليزيد في المدة فقال علي ع ويحك يا أبا سفيان إن رسول الله ص قد عزم
[ 264 ](1/4961)
ألا يفعل وليس أحد يستطيع أن يكلمه في شي ء يكرهه قال أبو سفيان فما الرأي عندك فتشير لأمري فإنه قد ضاق علي فمرني بأمر ترى أنه نافعي قال علي ع والله ما أجد لك شيئا مثل أن تقوم فتجير بين الناس فإنك سيد كنانة قال أ ترى ذلك مغنيا عني شيئا قال علي إني لا أظن ذلك والله ولكني لا أجد لك غيره فقام أبو سفيان بين ظهري الناس فصاح ألا إني قد أجرت بين الناس ولا أظن محمدا يحقرني ثم دخل على رسول الله ص فقال يا محمد ما أظن أن ترد جواري فقال ع أنت تقول ذلك يا أبا سفيان ويقال إنه لما صاح لم يأت النبي ص وركب راحلته وانطلق إلى مكة ويروى أنه أيضا أتى سعد بن عبادة فكلمه في ذلك وقال يا أبا ثابت قد عرفت الذي كان بيني وبينك وإني كنت لك في حرمنا جارا وكنت لي بيثرب مثل ذلك وأنت سيد هذه المدرة فأجر بين الناس وزدني في المدة فقال سعد جواري جوار رسول الله ص ما يجير أحد على رسول الله ص فلما انطلق أبو سفيان إلى مكة وقد كان طالت غيبته عن قريش وأبطأ فاتهموه وقالوا نراه قد صبا واتبع محمدا سرا وكتم إسلامه فلما دخل على هند ليلا قالت قد احتبست حتى اتهمك قومك فإن كنت جئتهم بنجح فأنت الرجل وقد كان دنا منها ليغشاها فأخبرها الخبر وقال لم أجد إلا ما قال لي علي فضربت برجلها في صدوره وقالت قبحت من رسول قوم . قال الواقدي فحدثني عبد الله بن عثمان عن أبي سليمان عن أبيه قال لما أصبح أبو سفيان حلق رأسه عند الصنمين أساف ونائلة وذبح لهما وجعل يمسح بالدم رءوسهما ويقول لا أفارق عبادتكما حتى أموت على ما مات عليه أبي قال فعل ذلك ليبرئ نفسه مما اتهمته قريش به
[ 265 ](1/4962)
قال الواقدي وقالت قريش لأبي سفيان ما صنعت وما وراءك وهل جئتنا بكتاب من محمد وزيادة في المدة فإنا لا نأمن من أن يغزونا فقال والله لقد أبى علي ولقد كلمت عليه أصحابه فما قدرت على شي ء منهم ورموني بكلمة منهم واحدة إلا أن عليا قال لما ضاقت بي الأمور أنت سيد كنانة فأجر بين الناس فناديت بالجوار ثم دخلت على محمد فقلت إني قد أجرت بين الناس وما أظن محمدا يرد جواري فقال محمد أنت تقول ذاك يا أبا سفيان لم يزد على ذلك قالوا ما زاد علي على أن يلعب بك تلعبا قال فو الله ما وجدت غير ذلك .
قال الواقدي فحدثني محمد بن عبد الله عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم قال لما خرج أبو سفيان عن المدينة قال رسول الله ص لعائشة جهزينا وأخفي أمرك و
قال رسول الله ص اللهم خذ عن قريش الأخبار والعيون حتى نأتيهم بغتة و
روي أنه قال اللهم خذ على أبصارهم فلا يروني إلا بغتة ولا يسمعون بي إلا فجأة قال وأخذ رسول الله ص الأنقاب وجعل عليها الرجال ومنع من يخرج من المدينة فدخل أبو بكر على عائشة وهي تجهز رسول الله ص تعمل له قمحا سويقا ودقيقا وتمرا فقال لها أ هم رسول الله ص بغزو قالت لا أدري قال إن كان هم بسفر فآذنينا نتهيأ له قالت لا أدري لعله أراد بني سليم لعله أراد ثقيفا أو هوازن فاستعجمت عليه فدخل على رسول الله ص فقال يا رسول الله أردت سفرا قال نعم قال أ فأتجهز قال نعم قال وأين تريد قال قريشا وأخف ذلك يا أبا بكر وأمر رسول الله ص الناس فتجهزوا وطوى عنهم الوجه الذي يريد وقال له أبو بكر يا رسول الله أ وليس بيننا وبينهم مدة فقال إنهم غدروا ونقضوا العهد
[ 266 ](1/4963)
فأنا غازيهم فاطو ما ذكرت لك فكان الناس بين ظان يظن أنه يريد سليما وظان يظن أنه يريد هوازن وظان يظن أنه يريد ثقيفا وظان يظن أنه يريد الشام وبعث رسول الله ص أبا قتادة بن ربعي في نفر إلى بطن ليظن الناس أن رسول الله ص قدم أمامه أولئك الرجال لتوجهه إلى تلك الجهة ولتذهب بذلك الأخبار . قال الواقدي حدثني المنذر بن سعد عن يزيد بن رومان قال لما أجمع رسول الله ص المسير إلى قريش وعلم بذلك من علم من الناس كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله ص في أمرهم وأعطى الكتاب امرأة من مزينة وجعل لها على ذلك جعلا على أن تبلغه قريشا فجعلت الكتاب في رأسها ثم فتلت عليه قرونها وخرجت به وأتى الخبر إلى النبي ص من السماء بما صنع حاطب فبعث عليا ع والزبير فقال أدركا امرأة من مزينة قد كتب معها حاطب كتابا يحذر قريشا فخرجا وأدركاها بذي الحليفة فاستنزلاها والتمسا الكتاب في رحلها فلم يجدا شيئا فقالا لها نحلف بالله ما كذب رسول الله ص ولا كذبنا ولتخرجن الكتاب أو لنكشفنك فلما رأت منهما الجد حلت قرونها واستخرجت الكتاب فدفعته إليهما فأقبلا به إلى رسول الله ص فدعا حاطبا وقال له ما حملك على هذا فقال يا رسول الله والله إني لمسلم مؤمن بالله ورسوله ما غيرت ولا بدلت ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم أصل ولا عشيرة وكان لي بين أظهرهم أهل وولد فصانعتهم فقال عمر قاتلك الله ترى رسول الله ص يأخذ بالأنقاب وتكتب إلى قريش تحذرهم دعني يا رسول الله أضرب عنقه فإنه قد نافق
فقال رسول الله ص
[ 267 ](1/4964)
و ما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم قال الواقدي فلما خرج رسول الله ص من المدينة بالألوية المعقودة والرايات بعد العصر من يوم الأربعاء لعشر خلون من شهر رمضان لم يحل عقده حتى انتهى إلى الصلصل والمسلمون يقودون الخيل وقد امتطوا الإبل وقدم أمامه الزبير بن العوام في مائتين قال فلما كان بالبيداء نظر إلى عنان السماء فقال إني لأرى السحاب تستهل بنصر بني كعب يعني خزاعة . قال الواقدي وجاء كعب بن مالك ليعلم أي جهة يقصد فبرك بين يديه على ركبتيه ثم أنشده
قضينا من تهامة كل نحب
و خيبر ثم أحمينا السيوفا
فسائلها ولو نطقت لقالت
قواضبهن دوسا أو ثقيفا
فلست بحاضر إن لم تروها
بساحة داركم منها ألوفا
فننتزع الخيام ببطن وج
و نترك دوركم منها خلوفا
قال فتبسم رسول الله ص ولم يزد على ذلك فجعل الناس يقولون والله ما بين لك رسول الله ص شيئا فلم تزل الناس كذلك حتى نزلوا بمر الظهران . قال الواقدي وخرج العباس بن عبد المطلب ومخرمة بن نوفل من مكة يطلبان رسول الله ص ظنا منهما أنه بالمدينة يريدان الإسلام فلقياه بالسقيا .
[ 268 ](1/4965)
قال الواقدي فلما كانت الليلة التي أصبح فيها بالجحفة رأى فيها أبو بكر في منامه أن النبي ص وأصحابه قد دنوا من مكة فخرجت عليهم كلبة تهر فلما دنوا منها استلقت على قفاها وإذا أطباؤها تشخب لبنا فقصها على رسول الله ص فقال ذهب كلبهم وأقبل درهم وهم سائلونا بأرحامهم وأنتم لاقون بعضهم فإن لقيتم أبا سفيان فلا تقتلوه قال الواقدي وإلى أن وصل مر الظهران لم يبلغ قريشا حرف واحد من حاله فلما نزل بمر الظهران أمر أصحابه أن يوقدوا النار فأوقدوا عشرة آلاف نار وأجمعت قريش أن يبعثوا أبا سفيان يتجسس لهم الأخبار فخرج هو وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء قال وقد كان العباس بن عبد المطلب قال وا سوء صباح قريش والله إن دخلها رسول الله ص عنوة إنه لهلاك قريش آخر الدهر قال العباس فأخذت بغلة رسول الله ص الشهباء فركبتها وقلت ألتمس حطابا أو إنسانا أبعثه إلى قريش فيلقوا رسول الله ص قبل أن يدخلها عليهم عنوة فو الله إني لفي الأراك ليلا أبتغي ذلك إذ سمعت كلاما يقول والله إن رأيت كالليلة نارا قال يقول بديل بن ورقاء إنها نيران خزاعة جاشها الحرب قال يقول أبو سفيان خزاعة أذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها فعرفت صوته فقلت أبا حنظلة فعرف صوتي فقال لبيك أبا الفضل فقلت ويحك هذا رسول الله ص في عشرة آلاف وهو مصبحكم فقال بأبي وأمي فهل من حيلة فقلت نعم تركب عجز هذه البغلة فأذهب بك إلى رسول الله ص فإنه إن ظفر بك دون ذلك ليقتلنك قال والله أنا أرى ذلك فركب خلفي ورحل
[ 269 ](1/4966)
بديل وحكيم فتوجهت به فلما مررت به على نار من نيران المسلمين قالوا من هذا فإذا رأوني قالوا عم رسول الله ص على بغلة رسول الله حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فلما رآني قال من هذا قلت العباس فذهب ينظر فرأى أبا سفيان خلفي فقال أبو سفيان عدو الله الحمد لله الذي أمكن منك بغير عهد ولا عقد ثم خرج يشتد نحو رسول الله ص وركضت البغلة حتى اجتمعنا جميعا على باب قبة رسول الله ص فدخلت ودخل عمر بن الخطاب على أثري فقال عمر يا رسول الله هذا أبو سفيان عدو الله قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد فدعني أضرب عنقه فقلت يا رسول الله إني قد أجرته ثم لزمت رسول الله ص فقلت والله لا يناجيه الليلة أحد دوني فلما أكثر عمر فيه قلت مهلا يا عمر فإنه لو كان رجلا من عدي بن كعب ما قلت هذا ولكنه أحد بني عبد مناف فقال عمر مهلا يا أبا الفضل فو الله لإسلامك كان أحب إلي من إسلام الخطاب أو قال من إسلام رجل من ولد الخطاب لو أسلم فقال رسول الله ص اذهب به فقد أجرناه فليبت عندك حتى تغدو به علينا إذا أصبحت فلما أصبحت غدوت به فلما رآه رسول الله ص قال ويحك يا أبا سفيان أ لم يأن لك أن تعلم لا إله إلا الله قال بأبي أنت ما أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك قد كان يقع في نفسي أن لو كان مع الله إله آخر لأغنى قال يا أبا سفيان أ لم يأن لك أن تعلم أني رسول الله قال بأبي أنت ما أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك أما هذه فو الله إن في النفس منها لشيئا بعد قال العباس فقلت ويحك تشهد وقل لا إله الله محمد رسول الله قبل أن تقتل فتشهد وقال العباس يا رسول الله إنك قد عرفت أبا سفيان وفيه الشرف والفخر فاجعل له شيئا
فقال من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن أغلق داره فهو آمن ثم قال خذه فاحبسه بمضيق الوادي إلى خطم الجبل
[ 270 ](1/4967)
حتى تمر عليه جنود الله فيراها قال العباس فعدلت به في مضيق الوادي إلى خطم الجبل فحبسته هناك فقال أ غدرا يا بني هاشم فقلت له إن أهل النبوة لا يغدرون وإنما حبستك لحاجة قال فهلا بدأت بها أولا فأعلمتنيها فكان أفرخ لروعي ثم مرت به القبائل على قادتها والكتائب على راياتها فكان أول من مر به خالد بن الوليد في بني سليم وهم ألف ولهم لواءان يحمل أحدهما العباس بن مرداس والآخر خفاف بن ندبة وراية يحملها المقداد فقال أبو سفيان يا أبا الفضل من هؤلاء قال هؤلاء بنو سليم وعليهم خالد بن الوليد قال الغلام قال نعم فلما حاذى خالد العباس وأبا سفيان كبر ثلاثا وكبروا معه ثم مضوا ومر على أثره الزبير بن العوام في خمسمائة فيهم جماعة من المهاجرين وقوم من أفناء الناس ومعه راية سوداء فلما حاذاهما كبر ثلاثا وكبر أصحابه فقال من هذا قال هذا الزبير قال ابن أختك قال نعم قال ثم مرت به بنو غفار في ثلاثمائة يحمل رايتهم أبو ذر ويقال إيماء بن رحضة فلما حاذوهما كبروا ثلاثا قال يا أبا الفضل من هؤلاء قال بنو غفار قال ما لي ولبني غفار ثم مرت به أسلم في أربعمائة يحمل لواءها يزيد بن الخصيب ولواء آخر مع ناجية بن الأعجم فلما حاذوه كبروا ثلاثا فسأل عنهم فقال هؤلاء أسلم فقال ما لي ولأسلم ما كان بيننا وبينهم ترة قط ثم مرت بنو كعب بن عمرو بن خزاعة في خمسمائة يحمل رايتهم بشر بن سفيان فقال من هؤلاء قال كعب بن عمرو قال نعم حلفاء محمد فلما حاذوه كبروا ثلاثا ثم مرت مزينة في ألف فيها ثلاثة ألوية مع النعمان بن مقرن وبلال بن الحارث وعبد الله بن عمرو فلما حاذوهما كبروا قال من هؤلاء قال مزينة قال يا أبا الفضل ما لي ولمزينة قد جاءتني تقعقع من شواهقها
[ 271 ](1/4968)
ثم مرت جهينة في ثمانمائة فيها أربعة ألوية مع معبد بن خالد وسويد بن صخر ورافع بن مكيث وعبد الله بن بدر فلما حاذوه كبروا ثلاثا فسأل عنهم فقيل جهينة ثم مرت بنو كنانة وبنو ليث وضمرة وسعد بن أبي بكر في مائتين يحمل لواءهم أبو واقد الليثي فلما حاذوه كبروا ثلاثا قال من هؤلاء قال بنو بكر قال نعم أهل شؤم هؤلاء الذين غزانا محمد لأجلهم أما والله ما شوورت فيهم ولا علمته ولقد كنت له كارها حيث بلغني ولكنه أمر حم قال العباس لقد خار الله لك في غزو محمد إياكم ودخلتم في الإسلام كافة ثم مرت أشجع وهم آخر من مر به قبل أن تأتي كتيبة رسول الله ص وهم ثلاثة يحمل لواءهم معقل بن سنان ولواء آخر مع نعيم بن مسعود فكبروا قال من هؤلاء قال أشجع فقال هؤلاء كانوا أشد العرب على محمد قال العباس نعم ولكن الله أدخل الإسلام قلوبهم وذلك من فضل الله فسكت وقال أ ما مر محمد بعد قال لا ولو رأيت الكتيبة التي هو فيها لرأيت الحديد والخيل والرجال وما ليس لأحد به طاقة فلما طلعت كتيبة رسول الله ص الخضراء طلع سواد شديد وغبرة من سنابك الخيل وجعل الناس يمرون كل ذلك يقول أ ما مر محمد بعد فيقول العباس لا حتى مر رسول الله ص يسير على ناقته القصوى بين أبي بكر وأسيد بن حضير وهو يحدثهما وقال له العباس هذا رسول الله ص في كتيبته الخضراء فانظر قال وكان في تلك الكتيبة وجوه المهاجرين والأنصار وفيها الألوية والرايات وكلهم منغمسون في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق ولعمر بن الخطاب فيها زجل وعليه الحديد وصوته عال وهو يزعها فقال يا أبا الفضل من هذا المتكلم قال هذا
[ 272 ]
عمر بن الخطاب قال لقد أمر أمر بني عدي بعد قلة وذلة فقال إن الله يرفع من يشاء بما يشاء وإن عمر ممن رفعه الإسلام وكان في الكتيبة ألفا دارع وراية رسول الله ص مع سعد بن عبادة وهو أمام الكتيبة فلما حاذاهما سعد نادى يا أبا سفيان(1/4969)
اليوم يوم الملحمة
اليوم تسبى الحرمة
اليوم أذل الله قريشا فلما حاذاهما رسول الله ص ناداه أبو سفيان يا رسول الله أمرت بقتل قومك أن سعدا قال
اليوم يوم الملحمة
اليوم تسبى الحرمة
اليوم أذل الله قريشا وإني أنشدك الله في قومك فأنت أبر الناس وأرحم الناس وأوصل الناس فقال عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف يا رسول الله إنا لا نأمن سعدا أن يكون له في قريش صولة
فوقف رسول الله ص وناداه يا أبا سفيان بل اليوم يوم المرحمة اليوم أعز الله قريشا وأرسل إلى سعد فعزله عن اللواء واختلف فيمن دفع إليه اللواء فقيل دفعه إلى علي بن أبي طالب ع فذهب به حتى دخل مكة فغرزه عند الركن وهو قول ضرار بن الخطاب الفهري وقيل دفعه إلى قيس بن سعد بن عبادة ورأى رسول الله ص أنه لم يخرجه عن سعد حيث دفعه إلى ولده فذهب به حتى غرزه بالحجون قال وقال أبو سفيان للعباس ما رأيت مثل هذه الكتيبة قط ولا أخبرنيه مخبر سبحان الله ما لأحد بهؤلاء طاقة ولا يدان لقد أصبح ملك ابن أخيك يا عباس عظيما قال فقلت ويحك إنه ليس بملك وإنها النبوة قال نعم . قال الواقدي قال العباس فقلت له انج ويحك فأدرك قومك قبل أن يدخل
[ 273 ](1/4970)
عليهم فخرج أبو سفيان حتى دخل من كداء وهو ينادي من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن حتى انتهى إلى هند بنت عتبة فقالت ما وراءك قال هذا محمد في عشرة آلاف عليهم الحديد وقد جعل لي أنه من دخل داري فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن ألقى سلاحه فهو آمن فقالت قبحك الله من رسول قوم وجعلت تقول ويحكم اقتلوا وافدكم قبحه الله من وافد قوم فيقول أبو سفيان ويحكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم فإني رأيت ما لم تروا الرجال والكراع والسلاح ليس لأحد بهذا طاقة محمد في عشرة آلاف فأسلموا تسلموا وقال المبرد في الكامل أمسكت هند برأس أبي سفيان وقالت بئس طليعة القوم والله ما خدشت خدشا يا أهل مكة عليكم الحميت الدسم فاقتلوه قال الحميت الزق المزفت . قال الواقدي وخرج أهل مكة إلى ذي طوى ينظرون إلى رسول الله ص وانضوى إلى صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو ناس من أهل مكة ومن بني بكر وهذيل فلبسوا السلاح وأقسموا لا يدخل محمد مكة عنوة أبدا وكان رجل من بني الدؤل يقال له حماس بن قيس بن خالد الدؤلي لما سمع برسول الله ص جلس يصلح سلاحه فقالت له امرأته لم تعد السلاح قال لمحمد وأصحابه وإني لأرجو أن أخدمك منهم خادما فإنك إليه محتاجة قالت ويحك لا تفعل لا تقاتل محمدا والله ليضلن هذا عنك لو رأيت محمدا وأصحابه قال سترين وأقبل رسول الله ص وهو على ناقته القصواء معتجرا ببرد حبرة وعليه عمامة سوداء ورايته سوداء ولواؤه أسود حتى وقف بذي طوى وتوسط الناس وإن عثنونه ليمس واسطة الرحل أو يقرب منه تواضعا لله حيث رأى ما رأى من الفتح وكثرة المسلمين و
قال لا عيش إلا عيش الآخرة .
[ 274 ]
و جعلت الخيل تعج بذي طوى في كل وجه ثم ثابت وسكنت والتفت رسول الله ص إلى أسيد بن حضير فقال كيف قال حسان بن ثابت قال فأنشده
عدمنا خيلنا إن لم تروها
تثير النقع موعدها كداء
تظل جيادنا متمطرات(1/4971)
تلطمهن بالخمر النساء
فتبسم رسول الله ص وحمد الله وأمر الزبير بن العوام أن يدخل من كداء وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من الليط وأمر قيس بن سعد أن يدخل من كدى ودخل هو ص من أذاخر . قال الواقدي وحدثني مروان بن محمد عن عيسى بن عميلة الفزاري قال دخل رسول الله ص مكة بين الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن . قال الواقدي وروى عيسى بن معمر عن عباد بن عبد الله عن أسماء بنت أبي بكر قالت صعد أبو قحافة بصغرى بناته واسمها قريبة وهو يومئذ أعمى وهي تقوده حتى ظهرت به إلى أبي قبيس فلما أشرفت به قال يا بنية ما ذا ترين قالت أرى سوادا مجتمعا مقبلا كثيرا قال يا بنية تلك الخيل فانظري ما ذا ترين قالت أرى رجلا يسعى بين ذلك السواد مقبلا ومدبرا قال ذاك الوازع فانظري ما ذا ترين قالت قد تفرق السواد قال قد تفرق الجيش البيت البيت قالت فنزلت الجارية به وهي ترعب لما ترى فقال يا بنية لا تخافي فو الله إن أخاك عتيقا لآثر أصحاب محمد عند محمد قالت وعليها طوق من فضة فاختلسه بعض من دخل
[ 275 ](1/4972)
فلما دخل رسول الله ص مكة جعل أبو بكر ينادي أنشدكم الله أيها الناس طوق أختي فلم يرد أحد عليه فقال يا أخية احتسبي طوقك فإن الأمانة في الناس قليل . قال الواقدي ونهى رسول الله ص عن الحرب وأمر بقتل ستة رجال وأربع نسوة عكرمة بن أبي جهل وهبار بن الأسود وعبد الله بن سعد بن أبي سرح ومقيس بن صبابة الليثي والحويرث بن نفيل وعبد الله بن هلال بن خطل الأدرمي وهند بنت عتبة وسارة مولاة لبني هاشم وقينتين لابن خطل قريبا وقريبة ويقال قرينا وأرنب . قال الواقدي ودخلت الجنود كلها فلم تلق حربا إلا خالد بن الوليد فإنه وجد جمعا من قريش وأحابيشها قد جمعوا له فيهم صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو فمنعوه الدخول وشهروا السلاح ورموه بالنبل وقالوا لا تدخلها عنوة أبدا فصاح خالد في أصحابه وقاتلهم فقتل من قريش أربعة وعشرون ومن هذيل أربعة وانهزموا أقبح انهزام حتى قتلوا بالحزورة وهم مولون من كل وجه وانطلقت طائفة منهم فوق رءوس الجبال واتبعهم المسلمون وجعل أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام يناديان يا معشر قريش علام تقتلون أنفسكم من دخل داره فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن وضع السلاح فهو آمن فجعل الناس يقتحمون الدور ويغلقون عليهم الأبواب ويطرحون السلاح في الطرق حتى يأخذه المسلمون . قال الواقدي وأشرف رسول الله ص من على ثنية أذاخر فنظر إلى البارقة فقال ما هذه البارقة أ لم أنه عن القتال قيل يا رسول الله خالد بن الوليد
[ 276 ](1/4973)
قوتل ولو لم يقاتل ما قاتل فقال قضاء الله خير وأقبل ابن خطل مدججا في الحديد على فرس ذنوب بيده قناة يقول لا والله لا يدخلها عنوة حتى يرى ضربا كأفواه المزاد فلما انتهى إلى الخندمة ورأى القتال دخله رعب حتى ما يستمسك من الرعدة ومر هاربا حتى انتهى إلى الكعبة فدخل بين أستارها بعد أن طرح سلاحه وترك فرسه وأقبل حماس بن خالد الدؤلي منهزما حتى أتى بيته فدقه ففتحت له امرأته فدخل وقد ذهبت روحه فقالت أين الخادم التي وعدتني ما زلت منتظرتك منذ اليوم تسخر به فقال دعي هذا وأغلقي الباب فإنه من أغلق بابه فهو آمن قالت ويحك أ لم أنهك عن قتال محمد وقلت لك إني ما رأيته يقاتلكم مرة إلا وظهر عليكم وما بابنا قال إنه لا يفتح على أحد بابه ثم أنشدها
إنك لو شهدتنا بالخندمه
إذ فر صفوان وفر عكرمه
و بو يزيد كالعجوز المؤتمه
و ضربناهم بالسيوف المسلمه
لهم زئير خلفنا وغمغمه
لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه
قال الواقدي وحدثني قدامة بن موسى عن بشير مولى المازنيين عن جابر بن عبد الله قال كنت ممن لزم رسول الله ص يومئذ فدخلت معه يوم الفتح من أذاخر فلما أشرف نظر إلى بيوت مكة فحمد الله وأثنى عليه ونظر إلى موضع قبة بالأبطح تجاه شعب بني هاشم حيث حصر رسول الله ص وأهله ثلاث
[ 277 ](1/4974)
سنين وقال يا جابر إن منزلنا اليوم حيث تقاسمت علينا قريش في كفرها قال جابر فذكرت كلاما كنت أسمعه في المدينة قبل ذلك كان يقول منزلنا غدا إن شاء الله إذا فتح علينا مكة في الخيف حيث تقاسموا على الكفر . قال الواقدي وكانت قبته يومئذ بالأدم ضربت له بالحجون فأقبل حتى انتهى إليها ومعه أم سلمة وميمونة قال الواقدي وحدثني معاوية بن عبد الله بن عبيد الله عن أبيه عن أبي رافع قال قيل للنبي ص أ لا تنزل منزلك من الشعب قال وهل ترك لنا عقيل من منزل وكان عقيل قد باع منزل رسول الله ص ومنازل إخوته من الرجال والنساء بمكة فقيل لرسول الله ص فانزل في بعض بيوت مكة من غير منازلك فأبى وقال لا أدخل البيوت فلم يزل مضطربا بالحجون لم يدخل بيتا وكان يأتي إلى المسجد من الحجون قال وكذلك فعل في عمرة القضية وفي حجته . قال الواقدي وكانت أم هانئ بنت أبي طالب تحت هبيرة بن أبي وهب المخزومي فلما كان يوم الفتح دخل عليها حموان لها عبد الله بن أبي ربيعة والحارث بن هشام المخزوميان فاستجارا بها وقالا نحن في جوارك فقالت نعم أنتما في جواري قالت أم هانئ فهما عندي إذ دخل علي فارس مدجج في الحديد ولا أعرفه فقلت له أنا بنت عم رسول الله فأسفر عن وجهه فإذا علي أخي فاعتنقته ونظر إليهما فشهر السيف عليهما فقلت أخي من بين الناس تصنع بي هذا فألقيت عليهما ثوبا فقال أ تجيرين المشركين فحلت دونهما وقلت لا والله وابتدئ بي قبلهما قالت فخرج ولم يكد فأغلقت عليهما بيتا وقلت لا تخافا وذهبت إلى خباء رسول الله ص
[ 278 ](1/4975)
بالبطحاء فلم أجده ووجدت فيه فاطمة فقلت لها ما لقيت من ابن أمي علي أجرت حموين لي من المشركين فتفلت عليهما ليقتلهما قالت وكانت أشد علي من زوجها وقالت لم تجيرين المشركين وطلع رسول الله ص وعليه الغبار فقال مرحبا بفاختة وهو اسم أم هانئ فقلت ما ذا لقيت من ابن أمي علي ما كدت أفلت منه أجرت حموين لي من المشركين فتفلت عليهما ليقتلهما فقال ما كان ذلك له قد أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت ثم أمر فاطمة فسكبت له غسلا فاغتسل ثم صلى ثماني ركعات في ثوب واحد ملتحفا به وقت الضحى قالت فرجعت إليهما وأخبرتهما وقلت إن شئتما فأقيما وإن شئتما فارجعا إلى منازلكما فأقاما عندي في منزلي يومين ثم انصرفا إلى منازلهما . وأتى آت إلى النبي ص فقال إن الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي ربيعة جالسان في ناديهما متفضلان في الملإ المزعفر فقال لا سبيل إليهما قد أجرناهما . قال الواقدي ومكث رسول الله ص في قبة ساعة من النهار ثم دعا براحلته بعد أن اغتسل وصلى فأدنيت إلى باب القبة وخرج وعليه السلاح والمغفر على رأسه وقد صف له الناس فركبها والخيل تمعج ما بين الخندمة إلى الحجون ثم مر وأبو بكر إلى جانبه على راحلة أخرى يسير ويحادثه وإذا بنات أبي أحيحة سعيد بن العاص بالبطحاء حذاء منزل أبي أحيحة وقد نشرن شعورهن فلطمن وجوه الخيل بالخمر فنظر رسول الله ص إلى أبي بكر فتبسم وأنشده قول حسان
[ 279 ]
تظل جيادنا متمطرات
تلطمهن بالخمر النساء(1/4976)
فلما انتهى إلى الكعبة تقدم على راحلته فاستلم الركن بمحجنه وكبر فكبر المسلمون لتكبيره وعجوا بالتكبير حتى ارتجت مكة وجعل رسول الله ص يشير إليهم أن اسكتوا والمشركون فوق الجبال ينظرون ثم طاف بالبيت على راحلته ومحمد بن مسلمة آخذ بزمامها وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما مرصوصة بالرصاص وكان هبل أعظمها وهو تجاه الكعبة على بابها وإساف ونائلة حيث ينحرون ويذبحون الذبائح فجعل كلما يمر بصنم منها يشير بقضيب في يده ويقول جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا فيقع الصنم لوجهه ثم أمر بهبل فكسر وهو واقف عليه فقال الزبير لأبي سفيان يا أبا سفيان قد كسر هبل أ ما إنك قد كنت منه يوم أحد في غرور حين تزعم أنه قد أنعم فقال دع هذا عنك يا ابن العوام فقد أرى أن لو كان مع إله محمد غيره لكان غير ما كان . قال الواقدي ثم انصرف رسول الله ص فجلس ناحية من المسجد وأرسل بلالا إلى عثمان بن طلحة يأتيه بالمفتاح مفتاح الكعبة فقال عثمان نعم فخرج إلى أمه وهي بنت شيبة فقال لها والمفتاح عندها يومئذ إن رسول الله ص قد طلب المفتاح فقالت أعيذك بالله أن يكون الذي يذهب مأثرة قومه على يده فقال فو الله لتأتيني به أو ليأتينك غيري فيأخذه منك فأدخلته في حجرتها وقالت أي رجل يدخل يده هاهنا فبينما هما على ذلك وهو يكلمها إذ سمعت صوت أبي بكر وعمر في الدار وعمر رافع صوته حين رأى عثمان أبطأ يا عثمان اخرج فقالت أمه خذ المفتاح فلأن تأخذه أنت أحب إلي من أن يأخذه تيم وعدي فأخذه فأتى به رسول الله ص فلما تناوله بسط العباس بن عبد المطلب يده وقال يا رسول الله بأبي أنت اجمع لنا بين السقاية والحجابة فقال إنما أعطيكم ما ترضون فيه ولا أعطيكم ما ترزءون منه
[ 280 ](1/4977)
قالوا وكان عثمان بن طلحة قد قدم على رسول الله ص مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص مسلما قبل الفتح . قال الواقدي وبعث رسول الله ص عمر بن الخطاب ومعه عثمان بن طلحة وأمره أن يفتح البيت فلا يدع فيه صورة ولا تمثالا إلا صورة إبراهيم الخليل ع فلما دخل الكعبة رأى صورة إبراهيم شيخا كبيرا يستقسم بالأزلام . قال الواقدي وقد روي أنه أمره بمحو الصور كلها لم يستثن فترك عمر صورة إبراهيم فقال لعمر أ لم آمرك ألا تدع فيها صورة فقال عمر كانت صورة إبراهيم قال فامحها وقال قاتلهم الله جعلوه شيخا يستقسم بالأزلام . قال ومحا صورة مريم قال وقد روي أن رسول الله ص محا الصور بيده
روى ذلك ابن أبي ذئب عن عبد الرحمن بن مهران عن عمير مولى ابن عباس عن أسامة بن زيد قال دخلت مع رسول الله ص الكعبة فرأى فيها صورا فأمرني أن آتيه في الدلو بماء فجعل يبل به الثوب ويضرب به الصور ويقول قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون
قال الواقدي وأمر رسول الله ص بالكعبة فأغلقت عليه ومعه فيها أسامة بن زيد وبلال بن رباح وعثمان بن طلحة فمكث فيها ما شاء الله وخالد بن الوليد واقف على الباب يذب الناس عنه حتى خرج رسول الله ص فوقف وأخذ بعضادتي الباب وأشرف على الناس وفي يده المفتاح ثم جعله في كمه وأهل مكة قيام تحته وبعضهم جلوس قد ليط بهم فقال الحمد لله الذي
[ 281 ](1/4978)
صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ما ذا تقولون وما ذا تظنون قالوا نقول خيرا ونظن شرا أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت فقال إني أقول كما قال أخي يوسف لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اَلْيَوْمَ يَغْفِرُ اَللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ اَلرَّاحِمِينَ ألا إن كل ربا في الجاهلية أو دم أو مأثرة فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة الكعبة وسقاية الحاج ألا وفي قتيل شبه العمد قتيل العصا والسوط الدية مغلظة مائة ناقة منها أربعون في بطونها أولادها إن الله قد أذهب نخوة الجاهلية وتكبرها بآبائها كلكم لآدم وآدم من تراب وأكرمكم عند الله أتقاكم ألا إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام بحرم الله لم تحل لأحد كان قبل ولا تحل لأحد يأتي بعدي وما أحلت لي إلا ساعة من النهار قال يقصدها رسول الله ص بيده هكذا لا ينفر صيدها ولا يعضد عضاهها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد ولا يختلى خلاها فقال العباس إلا الإذخر يا رسول الله فإنه لا بد منه للقبور والبيوت فسكت رسول الله ص ساعة ثم قال إلا الإذخر فإنه حلال ولا وصية لوارث والولد للفراش وللعاهر الحجر ولا يحل لامرأة أن تعطي من مالها إلا بإذن زوجها والمسلم أخو المسلم والمسلمون إخوة يد واحدة على من سواهم تتكافأ دماؤهم يسعى بذمتهم أدناهم ويرد عليهم أقصاهم ولا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده ولا يتوارث أهل ملتين مختلفتين ولا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها والبينة على من ادعى واليمين على من أنكر ولا تسافر امرأة مسيرة ثلاث إلا مع ذي محرم ولا صلاة بعد العصر ولا بعد الصبح وأنهاكم عن صيام يومين يوم الأضحى ويوم الفطر ثم قال ادعوا لي عثمان بن طلحة فجاء وقد كان رسول الله ص قال له يوما بمكة قبل الهجرة ومع عثمان المفتاح لعلك سترى هذا المفتاح بيدي يوما أضعه حيث شئت فقال عثمان لقد هلكت قريش إذا وذلت فقال ع بل عمرت وعزت قال عثمان فلما(1/4979)
دعاني يومئذ والمفتاح بيده ذكرت قوله حين قال فاستقبلته
[ 282 ]
ببشر فاستقبلني بمثله ثم قال خذوها يا بني أبي طلحة خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته فكلوا بالمعروف قال عثمان فلما وليت ناداني فرجعت فقال أ لم يكن الذي قلت لك يعني ما كان قاله بمكة من قبل فقلت بلى أشهد أنك رسول الله ص قال الواقدي وأمر رسول الله ص يومئذ برفع السلاح وقال إلا خزاعة عن بني بكر إلى صلاة العصر فخبطوهم بالسيف ساعة وهي الساعة التي أحلت لرسول الله ص . قال الواقدي وقد كان نوفل بن معاوية الدؤلي من بني بكر استأمن رسول الله ص على نفسه فأمنه وكانت خزاعة تطلبه بدماء من قتلت بكر وقريش منها بالوتير وقد كانت خزاعة قالت أيضا لرسول الله ص إن أنس بن زنيم هجاك فهدر رسول الله ص دمه فلما فتح مكة هرب والتحق بالجبال وقد كان قبل أن يفتح رسول الله ص مكة قال شعرا يعتذر فيه إلى رسول الله ص من جملته
أنت الذي تهدى معد بأمره
بك الله يهديها وقال لها ارشدي
فما حملت من ناقة فوق كورها
أبر وأوفى ذمة من محمد
أحث على خير وأوسع نائلا
إذا راح يهتز اهتزاز المهند
و أكسى لبرد الخال قبل ارتدائه
و أعطى لرأس السابق المتجرد
تعلم رسول الله أنك مدركي
و إن وعيدا منك كالأخذ باليد
تعلم رسول الله أنك قادر
على كل حي من تهام ومنجد
و نبي رسول الله أني هجوته
فلا رفعت سوطي إلي إذن يدي
سوى أنني قد قلت يا ويح فتية
أصيبوا بنحس يوم طلق وأسعد
[ 283 ]
أصابهم من لم يكن لدمائهم
كفاء فعزت عبرتي وتلددي
ذؤيبا وكلثوما وسلمى تتابعوا
جميعا فإلا تدمع العين أكمد
على أن سلمى ليس منهم كمثله
و إخوته وهل ملوك كأعبد
فإني لا عرضا خرقت ولا دما
هرقت ففكر عالم الحق واقصد(1/4980)
قال الواقدي وكانت كلمته هذه قد بلغت رسول الله ص قبل أن يفتح مكة فنهنهت عنه وكلمه يوم الفتح نوفل بن معاوية الدؤلي فقال يا رسول الله أنت أولى الناس بالعفو ومن منا لم يعادك ولم يؤذك ونحن في جاهلية لا ندري ما نأخذ وما ندع حتى هدانا الله بك وأنقذنا بيمنك من الهلكة وقد كذب عليه الركب وكثروا في أمره عندك فقال رسول الله ص دع الركب عنك أنا لم نجد بتهامة أحدا من ذوي رحم ولا بعيد الرحم كان أبر بنا من خزاعة فاسكت يا نوفل فلما سكت قال رسول الله ص قد عفوت عنه فقال نوفل فداك أبي وأمي . قال الواقدي وجاءت الظهر فأمر رسول الله ص بلالا أن يؤذن فوق ظهر الكعبة وقريش في رءوس الجبال ومنهم من قد تغيب وستر وجهه خوفا من أن يقتلوا ومنهم من يطلب الأمان ومنهم من قد أمن فلما أذن بلال وبلغ إلى قوله أشهد أن محمدا رسول الله ص رفع صوته كأشد ما يكون قال تقول جويرية بنت أبي جهل قد لعمري رفع لك ذكرك فأما الصلاة فسنصلي ولكن والله لا نحب من قتل الأحبة أبدا ولقد كان جاء أبي الذي جاء محمدا من النبوة فردها ولم يرد خلاف قومه . وقال خالد بن سعيد بن العاص الحمد لله الذي أكرم أبي فلم يدرك هذا اليوم
[ 284 ](1/4981)
و قال الحارث بن هشام وا ثكلاه ليتني مت قبل هذا اليوم قبل أن أسمع بلالا ينهق فوق الكعبة وقال الحكم بن أبي العاص هذا والله الحدث العظيم أن يصيح عبد بني جمح يصيح بما يصيح به على بيت أبي طلحة وقال سهيل بن عمرو إن كان هذا سخطا من الله تعالى فسيغيره وإن كان لله رضا فسيقره وقال أبو سفيان أما أنا فلا أقول شيئا لو قلت شيئا لأخبرته هذه الحصباء قال فأتى جبرئيل ع رسول الله ص فأخبره مقالة القوم . قال الواقدي فكان سهيل بن عمرو يحدث فيقول لما دخل محمد مكة انقمعت فدخلت بيتي وأغلقته علي وقلت لابني عبد الله بن سهيل اذهب فاطلب لي جوارا من محمد فإني لا آمن أن أقتل وجعلت أتذكر أثري عنده وعند أصحابه فلا أرى أسوأ أثرا مني فإني لقيته يوم الحديبية بما لم يلقه أحد به وكنت الذي كاتبه مع حضوري بدرا وأحدا وكلما تحركت قريش كنت فيها فذهب عبد الله بن سهيل إلى رسول الله ص فقال يا رسول الله أبي تؤمنه قال نعم هو آمن بأمان الله فليظهر ثم التفت إلى من حوله فقال من لقي سهيل بن عمرو فلا يشدن النظر إليه ثم قال قل له فليخرج فلعمري إن سهيلا له عقل وشرف وما مثل سهيل جهل الإسلام ولقد رأى ما كان يوضع فيه إن لم يكن له تتابع فخرج عبد الله إلى أبيه فأخبره بمقالة رسول الله ص فقال سهيل كان والله برا صغيرا وكبيرا وكان سهيل يقبل ويدبر غير خائف وخرج إلى خيبر مع النبي ص وهو على شركه حتى أسلم بالجعرانة(1/4982)
? الجزء السابع عشر
? تتمة أبواب الكتب والرسائل
? 46 ومن كتاب له ع إلى بعض عماله
? 47 ومن وصية له ع للحسن والحسين ع لما ضربه ابن ملجم لعنه الله
? فصل في الآثار الواردة في حقوق الجار
? 48 ومن كتاب له ع إلى معاوية
? 49 ومن كتاب له ع إلى معاوية أيضا
? 50 ومن كتاب له ع إلى أمرائه على الجيوش
? 51 ومن كتاب له ع إلى عماله على الخراج
? 52 ومن كتاب له ع إلى أمراء البلاد في معنى الصلاة
? بيان اختلاف الفقهاء في أوقات الصلاة
? 53 ومن كتاب له ع كتبه للأشتر النخعي رحمه الله لما ولاه على مصر وأعمالها
? فصل في النهي عن ذكر عيوب الناس وما ورد في ذلك من الآثار
? فصل في النهي عن سماع السعاية وما ورد ذلك من الآثار
? رسالة الإسكندر إلى أرسطو ورد أرسطو عليه
? فصل في القضاة وما يلزمهم وذكر بعض نوادرهم
? عهد سابور بن أردشير لابنه
? فصل فيما يجب على مصاحب الملك
? فصل في الكتاب وما يلزمهم من الآداب
? فصل في ذكر ما نصحت به الأوائل الوزراء
? ذكر الحجاب وما ورد فيه من الخبر والشعر
? طرف من أخبار عمر بن عبد العزيز ونزاهته في خلافته
? فصل فيما جاء في الحذر من كيد العدو
? فصل في ذكر بعض وصايا العرب
? 54 ومن كتاب له ع إلى طلحة والزبير
? عمران بن الحصين
? أبو جعفر الإسكافي
? 55 ومن كتاب له ع إلى معاوية
? 56 ومن كلام له ع وصى به شريح بن هانئ لما جعله على مقدمته إلى الشام
? شريح بن هانئ
? 57 ومن كتاب له ع إلى أهل الكوفة عند مسيره من المدينة إلى البصرة
? 58 ومن كتاب له ع كتبه إلى أهل الأمصار يقص فيه ما جرى بينه وبين أهل صفين
? 59 ومن كتاب له ع إلى الأسود بن قطبة صاحب جند حلوان
? الأسود بن قطبة
? 60 ومن كتاب له ع إلى العمال الذين يطأ عملهم الجيوش
? 61 ومن كتاب له ع إلى كميل بن زياد النخعي
? كميل بن زياد ونسبه(1/4983)
? 62 ومن كتاب له ع إلى أهل مصر مع مالك الأشتر رحمه الله لما ولاه إمارتها
? ذكر ما طعن به الشيعة في إمامة أبي بكر والجواب عنها
? الطعن الأول
? الطعن الثاني
? الطعن الثالث
? الطعن الرابع
? الطعن الخامس
? الطعن السادس
? الطعن السابع
? الطعن الثامن
? الطعن التاسع
? الطعن العاشر
? الطعن الحادي عشر
? الطعن الثاني عشر
? الطعن الثالث عشر
? الطعن الرابع عشر
? الطعن الخامس عشر
? أخبار الوليد بن عقبة
? ومن كتاب له ع إلى أبي موسى الأشعري
? 64 ومن كتاب له ع إلى معاوية جوابا عن كتابه
? كتاب معاوية إلى علي
? ذكر الخبر عن فتح مكة(1/4984)
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد المعتزلي
الجزء الثامن عشر(1/4985)
تتمة أبواب الكتب والرسائل(1/4986)
تتمة 64 كتاب له ع إلى معاوية(1/4987)
ذكر بقية الخبر عن فتح مكة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل قال الواقدي وهرب هبيرة بن أبي وهب وعبد الله بن الزبعري جميعا حتى انتهيا إلى نجران فلم يأمنا الخوف حتى دخلا حصن نجران فقيل ما شأنكما قالا أما قريش فقد قتلت ودخل محمد مكة ونحن والله نرى أن محمدا سائر إلى حصنكم هذا فجعلت بلحارث بن كعب يصلحون ما رث من حصنهم وجمعوا ماشيتهم فأرسل حسان بن ثابت إلى ابن الزبعرى
لا تعدمن رجلا أحلك بغضه
نجران في عيش أجد ذميم
بليت قناتك في الحروب فألفيت
جوفاء ذات معايب ووصوم
غضب الإله على الزبعرى وابنه
بعذاب سوء في الحياة مقيم
فلما جاء ابن الزبعرى شعر حسان تهيأ للخروج فقال هبيرة بن وهب أين تريد يا ابن عم قال له أريد والله محمدا قال أ تريد أن تتبعه قال إي والله قال هبيرة يا ليت أني كنت رافقت غيرك والله ما ظننت أنك تتبع محمدا أبدا قال ابن الزبعرى هو ذاك فعلى أي شي ء أقيم مع بني الحارث بن كعب وأترك ابن عمى وخير الناس وأبرهم وبين قومي وداري فانحدر ابن الزبعرى حتى جاء رسول الله ص
[ 8 ]
و هو جالس في أصحابه فلما نظر إليه قال هذا ابن الزبعرى ومعه وجه فيه نور الإسلام فلما وقف على رسول الله ص قال السلام عليك يا رسول الله شهدت أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله والحمد لله الذي هداني للإسلام لقد عاديتك وأجلبت عليك وركبت الفرس والبعير ومشيت على قدمي في عداوتك ثم هربت منك إلى نجران وأنا أريد ألا أقرب الإسلام أبدا ثم أرادني الله منه بخير فألقاه في قلبي وحببه إلي وذكرت ما كنت فيه من الضلال واتباع ما لا ينفع ذا عقل من حجر يعبد ويذبح له لا يدرى من عبده ومن لا يعبده
فقال رسول الله ص الحمد لله الذي هداك للإسلام احمد الله إن الإسلام يجب ما كان قبله وأقام هبيرة بنجران وأسلمت أم هانئ فقال هبيرة حين بلغه إسلامها يوم الفتح يؤنبها شعرا من جملته
و إن كنت قد تابعت دين محمد(1/4988)
و قطعت الأرحام منك حبالها
فكوني على أعلى سحوق بهضبة
ململمة غبراء يبس بلالها
فأقام بنجران حتى مات مشركا . قال الواقدي وهرب حويطب بن عبد العزى فدخل حائطا بمكة وجاء أبو ذر لحاجته فدخل الحائط فرآه فهرب حويطب فقال أبو ذر تعال فأنت آمن فرجع إليه فقال أنت آمن فاذهب حيث شئت وإن شئت أدخلتك على رسول الله ص وإن شئت فإلى منزلك قال وهل من سبيل إلى منزلي ألفى فأقتل قبل أن أصل إلى منزلي
[ 9 ]
أو يدخل علي منزلي فأقتل قال فأنا أبلغ معك منزلك فبلغ معه منزله ثم جعل ينادي على بابه أن حويطبا آمن فلا يهيج ثم انصرف إلى رسول الله ص فأخبره فقال أ وليس قد أمنا الناس كلهم إلا من أمرت بقتله . قال الواقدي وهرب عكرمة بن أبي جهل إلى اليمن حتى ركب البحر قال وجاءت زوجته أم حكيم بنت الحارث بن هشام إلى رسول الله ص في نسوة منهن هند بنت عتبة وقد كان رسول الله ص أمر بقتلها والبغوم بنت المعدل الكنانية امرأة صفوان بن أمية وفاطمة بنت الوليد بن المغيرة امرأة الحارث بن هشام وهند بنت عتبة بن الحجاج أم عبد الله بن عمرو بن العاص ورسول الله ص بالأبطح فأسلمن ولما دخلن عليه دخلن وعنده زوجتاه وابنته فاطمة ونساء من نساء بني عبد المطلب وسألن أن يبايعهن فقال إني لا أصافح النساء ويقال إنه وضع على يده ثوبا فمسحن عليه ويقال كان يؤتى بقدح من ماء فيدخل يده فيه ثم يرفعه إليهن فيدخلن أيديهن فيه فقالت أم حكيم امرأة عكرمة يا رسول الله إن عكرمة هرب منك إلى اليمن خاف أن تقتله فأمنه فقال هو آمن فخرجت أم حكيم في طلبه ومعها غلام لها رومي فراودها عن نفسها فجعلت تمنيه حتى قدمت به على حي فاستغاثت بهم عليه فأوثقوه رباطا وأدركت عكرمة وقد انتهى إلى ساحل من سواحل تهامة فركب البحر فهاج بهم فجعل نوتي السفينة يقول له أن أخلص قال أي شي ء أقول قال قل لا إله إلا الله قال عكرمة ما هربت إلا من هذا فجاءت أم حكيم على هذا من الأمر(1/4989)
فجعلت تلح عليه وتقول يا ابن عم جئتك من عند خير الناس وأوصل الناس وأبر الناس لا تهلك نفسك فوقف لها حتى أدركته فقالت إني قد استأمنت لك رسول الله ص فأمنك قال
[ 10 ]
أنت فعلت قالت نعم أنا كلمته فأمنك فرجع معها فقالت ما لقيت من غلامك الرومي وأخبرته خبره فقتله عكرمة فلما دنا من مكة
قال رسول الله ص لأصحابه يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنا فلا تسبوا أباه فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت فلما وصل عكرمة ودخل على رسول الله ص وثب إليه ص وليس عليه رداء فرحا به ثم جلس فوق عكرمة بين يديه ومعه زوجته منقبة فقال يا محمد إن هذه أخبرتني أنك أمنتني فقال صدقت أنت آمن فقال عكرمة فإلام تدعو فقال إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وعد خصال الإسلام فقال عكرمة ما دعوت إلا إلى حق وإلى حسن جميل ولقد كنت فينا من قبل أن تدعو إلى ما دعوت إليه وأنت أصدقنا حديثا وأعظمنا برا ثم قال فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال رسول الله ص لا تسألني اليوم شيئا أعطيه أحدا إلا أعطيتكه قال فإني أسألك أن تغفر لي كل عداوة عاديتكها أو مسير أوضعت فيه أو مقام لقيتك فيه أو كلام قلته في وجهك أو أنت غائب عنه فقال اللهم اغفر له كل عداوة عادانيها وكل مسير سار فيه إلي يريد بذلك إطفاء نورك واغفر له ما نال مني ومن عرضي في وجهي أو أنا غائب عنه فقال عكرمة رضيت بذلك يا رسول الله ثم قال أما والله لا أدع نفقة كنت أنفقها في صد عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الإسلام وفي سبيل الله ولأجتهدن في القتال بين يديك حتى أقتل شهيدا قال فرد عليه رسول الله ص امرأته بذلك النكاح الأول . قال الواقدي وأما صفوان بن أمية فهرب حتى أتى الشعبة وجعل يقول لغلامه
[ 11 ](1/4990)
يسار وليس معه غيره ويحك انظر من ترى فقال هذا عمير بن وهب قال صفوان ما أصنع بعمير والله ما جاء إلا يريد قتلي قد ظاهر محمدا علي فلحقه فقال صفوان يا عمير ما لك ما كفاك ما صنعت حملتني دينك وعيالك ثم جئت تريد قتلي فقال يا أبا وهب جعلت فداك جئتك من عند خير الناس وأبر الناس وأوصل الناس وقد كان عمير قال لرسول الله ص يا رسول الله سيد قومي صفوان بن أمية خرج هاربا ليقذف نفسه في البحر خاف ألا تؤمنه فأمنه فداك أبي وأمي فقال قد أمنته فخرج في أثره فقال إن رسول الله ص قد أمنك صفوان لا والله حتى تأتيني بعلامة أعرفها فرجع إلى رسول الله ص فأخبره وقال يا رسول الله جئته وهو يريد أن يقتل نفسه فقال لا أرجع إلا بعلامة أعرفها فقال خذ عمامتي فرجع عمير إليه بعمامة رسول الله ص وهي البرد الذي دخل فيه رسول الله ص مكة معتجرا به برد حبرة أحمر فخرج عمير في طلبه الثانية حتى جاءه بالبرد فقال يا أبا وهب جئتك من عند خير الناس وأوصل الناس وأبر الناس وأحلم الناس مجده مجدك وعزه عزك وملكه ملكك ابن أبيك وأمك أذكرك الله في نفسك فقال أخاف أن أقتل قال فإنه دعاك إلى الإسلام فإن رضيت وإلا سيرك شهرين فهو أوفى الناس وأبرهم وقد بعث إليك ببرده الذي دخل به معتجرا أ تعرفه قال نعم فأخرجه فقال نعم هو هو فرجع صفوان حتى انتهى إلى رسول الله ص فوجده يصلي العصر بالناس فقال كم يصلون قالوا خمس صلوات في اليوم والليلة قال أ محمد يصلي بهم قالوا نعم فلما سلم من صلاته صاح صفوان يا محمد إن عمير
[ 12 ](1/4991)
بن وهب جاءني ببردك وزعم أنك دعوتني إلى القدوم إليك فإن رضيت أمرا وإلا سيرتني شهرين فقال رسول الله ص انزل أبا وهب فقال لا والله أو تبين لي قال بل سر أربعة أشهر فنزل صفوان وخرج معه إلى حنين وهو كافر وأرسل إليه يستعير أدراعه وكانت مائة درع فقال أ طوعا أم كرها فقال ع بل طوعا عارية مؤداة فأعاره إياها ثم أعادها إليه بعد انقضاء حنين والطائف فلما كان رسول الله ص بالجعرانة يسير في غنائم هوازن ينظر إليها فنظر صفوان إلى شعب هناك مملوء نعما وشاء ورعاء فأدام النظر إليه ورسول الله ص يرمقه فقال أبا وهب يعجبك هذا الشعب قال نعم قال هو لك وما فيه فقال صفوان ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ص . قال الواقدي فأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح فكان قد أسلم وكان يكتب لرسول الله ص الوحي فربما أملى عليه رسول الله ص سميع عليم فيكتب عزيز حكيم ونحو ذلك ويقرأ على رسول الله ص فيقول كذلك الله ويقرأ فافتتن وقال والله ما يدري ما يقول إني لأكتب له ما شئت فلا ينكر وإنه ليوحى إلي كما يوحى إلى محمد وخرج هاربا من المدينة إلى مكة مرتدا فأهدر رسول الله دمه وأمر بقتله يوم الفتح فلما كان يومئذ جاء إلى عثمان وكان أخاه من الرضاعة فقال يا أخي إني قد أجرتك فاحتبسني هاهنا واذهب إلى محمد فكلمه في فإن محمدا إن رآني ضرب عنقي أن جرمي أعظم الجرم وقد جئت تائبا فقال عثمان قم فاذهب معي إليه قال كلا والله إنه إن رآني ضرب عنقي ولم يناظرني قد أهدر دمي وأصحابه يطلبونني في كل موضع فقال عثمان انطلق معي فإنه لا يقتلك إن شاء الله فلم يرع رسول الله ص إلا بعثمان
[ 13 ](1/4992)
آخذا بيد عبد الله بن سعد واقفين بين يديه فقال عثمان يا رسول الله هذا أخي من الرضاعة إن أمه كانت تحملني وتمشيه وترضعني وتفطمه وتلطفني وتتركه فهبه لي فأعرض رسول الله ص عنه وجعل عثمان كلما أعرض رسول الله عنه استقبله بوجهه وأعاد عليه هذا الكلام وإنما أعرض ع عنه إرادة لأن يقوم رجل فيضرب عنقه فلما رأى ألا يقوم أحد وعثمان قد انكب عليه يقبل رأسه ويقول يا رسول الله بايعه فداك أبي وأمي على الإسلام فقال رسول الله ص نعم فبايعه . قال الواقدي قال رسول الله ص بعد ذلك للمسلمين ما منعكم أن يقوم منكم واحد إلى هذا الكلب فيقتله أو قال الفاسق فقال عباد بن بشر والذي بعثك بالحق إني لأتبع طرفك من كل ناحية رجاء أن تشير إلي فأضرب عنقه ويقال إن أبا البشير هو الذي قال هذا ويقال بل قاله عمر بن الخطاب فقال ع إني لا أقتل بالإشارة وقيل إنه قال إن النبي لا يكون له خائنة الأعين . قال الواقدي فجعل عبد الله بن سعد يفر من رسول الله ص كلما رآه فقال له عثمان بأبي أنت وأمي لو ترى ابن أم عبد يفر منك كلما رآك فتبسم رسول الله ص فقال أ ولم أبايعه وأؤمنه قال بلى ولكنه يتذكر عظم جرمه في الإسلام
فقال إن الإسلام يجب ما قبله قال الواقدي وأما الحويرث بن معبد وهو من ولد قصي بن كلاب فإنه كان يؤذي رسول الله ص بمكة فأهدر دمه فبينما هو في منزله يوم الفتح وقد أغلق عليه بابه جاء علي ع يسأل عنه فقيل له هو في البادية وأخبر الحويرث أنه جاء يطلبه وتنحى علي ع عن بابه فخرج الحويرث يريد أن
[ 14 ](1/4993)
يهرب من بيت إلى بيت آخر فتلقاه علي ع فضرب عنقه . قال الواقدي وأما هبار بن الأسود فقد كان رسول الله ص أمر أن يحرقه بالنار ثم قال إنما يعذب بالنار رب النار اقطعوا يديه ورجليه إن قدرتم عليه ثم اقتلوه وكان جرمه أن نخس زينب بنت رسول الله ص لما هاجرت وضرب ظهرها بالرمح وهي حبلى فأسقطت فلم يقدر المسلمون عليه يوم الفتح فلما رجع رسول الله ص إلى المدينة طلع هبار بن الأسود قائلا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فقبل النبي ص إسلامه فخرجت سلمى مولاة النبي ص فقالت لا أنعم الله بك عينا أنت الذي فعلت وفعلت فقال رسول الله ص وهبار يعتذر إليه أن الإسلام محا ذلك ونهى عن التعرض له . قال الواقدي قال ابن عباس رضي الله عنه رأيت رسول الله ص وهبار يعتذر إليه وهو يطأطئ رأسه استحياء مما يعتذر هبار ويقول له قد عفوت عنك . قال الواقدي وأما ابن خطل فإنه خرج حتى دخل بين أستار الكعبة فأخرجه أبو برزة الأسلمي منها فضرب عنقه بين الركن والمقام ويقال بل قتله عمار بن ياسر وقيل سعد بن حريث المخزومي وقيل شريك بن عبدة العجلاني والأثبت أنه أبو برزة قال وكان جرمه أنه أسلم وهاجر إلى المدينة وبعثه رسول الله ص ساعيا وبعث معه رجلا من خزاعة فقتله وساق ما أخذ من مال الصدقة ورجع إلى مكة فقالت له قريش ما جاء بك قال لم أجد دينا خيرا من دينكم وكانت له قينتان إحداهما قرينى والأخرى قرينة أو أرنب وكان ابن خطل يقول
[ 15 ]
الشعر يهجو به رسول الله ص ويغنيان به ويدخل عليه المشركون بيته فيشربون عنده الخمر ويسمعون الغناء بهجاء رسول الله ص . قال الواقدي وأما مقيس بن صبابة فإن أمه سهمية وكان يوم الفتح عند أخواله بني سهم فاصطبح الخمر ذلك اليوم في ندامى له وخرج ثملا يتغنى ويتمثل بأبيات منها
دعيني أصطبح يا بكر إني
رأيت الموت نقب عن هشام
و نقب عن أبيك أبي يزيد
أخي القينات والشرب الكرام(1/4994)
يخبرنا ابن كبشة أن سنحيا
و كيف حياة أصداء وهام
إذا ما الرأس زال بمنكبيه
فقد شبع الأنيس من الطعام
أ تقتلني إذا ما كنت حيا
و تحييني إذا رمت عظامي
فلقيه نميلة بن عبد الله الليثي وهو من رهطه فضربه بالسيف حتى قتله فقالت أخته ترثيه
لعمري لقد أخزى نميلة رهطه
و فجع أصناف النساء بمقيس
فلله عينا من رأى مثل مقيس
إذا النفساء أصبحت لم تخرس
و كان جرم مقيس من قبل أن أخاه هاشم بن صبابة أسلم وشهد المريسيع مع رسول الله ص فقتله رجل من رهط عبادة بن الصامت وقيل من بني عمرو بن عوف وهو لا يعرفه فظنه من المشركين فقضى له رسول الله ص بالدية على العاقلة فقدم مقيس أخوه المدينة فأخذ ديته وأسلم ثم عدا على قاتل أخيه فقتله وهرب مرتدا كافرا يهجو رسول الله ص بالشعر فأهدر دمه .
[ 16 ]
قال الواقدي فأما سارة مولاة بني هاشم وكانت مغنية نواحة بمكة وكانت قد قدمت على رسول الله ص المدينة تطلب أن يصلها وشكت إليه الحاجة وذلك بعد بدر وأحد فقال لها أ ما كان لك في غنائك ونياحك ما يغنيك قالت يا محمد إن قريشا منذ قتل من قتل منهم ببدر تركوا استماع الغناء فوصلها رسول الله ص وأوقر لها بعيرا طعاما فرجعت إلى قريش وهي على دينها وكانت يلقى عليها هجاء رسول الله ص فتغنى به فأمر بها رسول الله ص يوم الفتح أن تقتل فقتلت وأما قينتا ابن خطل فقتل يوم الفتح إحداهما وهي أرنب أو قرينة وأما قريني فاستؤمن لها رسول الله ص فأمنها وعاشت حتى ماتت في أيام عثمان . قال الواقدي وقد روي أن رسول الله ص أمر بقتل وحشي يوم الفتح فهرب إلى الطائف فلم يزل بها مقيما حتى قدم مع وفد الطائف على رسول الله ص فدخل عليه فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال أ وحشي قال نعم قال اجلس وحدثني كيف قتلت حمزة فلما أخبره قال قم وغيب عني وجهك فكان إذا رآه توارى عنه .(1/4995)
قال الواقدي وحدثني ابن أبي ذئب ومعمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي عمرو بن عدي بن أبي الحمراء قال سمعت رسول الله ص يقول بعد فراغه من أمر الفتح وهو يريد الخروج من مكة أما والله إنك لخير أرض الله وأحب بلاد الله إلي ولو لا أن أهلك أخرجوني ما خرجت . وزاد محمد بن إسحاق في كتاب المغازي أن هند بنت عتبة جاءت إلى رسول الله
[ 17 ]
ص مع نساء قريش متنكرة متنقبة لحدثها الذي كان في الإسلام وما صنعت بحمزة حين جدعته وبقرت بطنه عن كبده فهي تخاف أن يأخذها رسول الله ص بحدثها ذلك فلما دنت منه وقال حين بايعنه على ألا يشركن بالله شيئا قلن نعم قال ولا يسرقن فقالت هند والله أنا كنت لأصيب من مال أبي سفيان الهنة والهنيهة فما أعلم أ حلال ذلك أم لا فقال رسول الله ص وإنك لهند قالت نعم أنا هند وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فاعف عما سلف عفا الله عنك فقال رسول الله ص ولا يزنين فقالت هند وهل تزني الحرة فقال لا ولا يقتلن أولادهن فقالت هند قد لعمري ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا ببدر فأنت وهم أعرف فضحك عمر بن الخطاب من قولها حتى أسفرت نواجذه قال ولا يأتين ببهتان يفترينه فقالت هند إن إتيان البهتان لقبيح فقال ولا يعصينك في معروف فقالت ما جلسنا هذه الجلسة ونحن نريد أن نعصيك . قال محمد بن إسحاق ومن جيد شعر عبد الله بن الزبعرى الذي اعتذر به إلى رسول الله ص حين قدم عليه
منع الرقاد بلابل وهموم
فالليل ممتد الرواق بهيم
مما أتاني أن أحمد لامني
فيه فبت كأنني محموم
يا خير من حملت على أوصالها
عيرانة سرح اليدين سعوم
[ 18 ]
إني لمعتذر إليك من الذي
أسديت إذ أنا في الضلال أهيم
أيان تأمرني بأغوى خطة
سهم وتأمرني به مخزوم
و أمد أسباب الردى ويقودني
أمر الغواة وأمرهم مشئوم
فاليوم آمن بالنبي محمد
قلبي ومخطئ هذه محروم
مضت العداوة وانقضت أسبابها
و دعت أواصر بيننا وحلوم(1/4996)
فاغفر فدى لك والدي كلاهما
زللي فإنك راحم مرحوم
و عليك من علم المليك علامة
نور أغر وخاتم مختوم
أعطاك بعد محبة برهانه
شرفا وبرهان الإله عظيم
و لقد شهدت بأن دينك صادق
بر وشأنك في العباد جسيم
و الله يشهد أن أحمد مصطفى
متقبل في الصالحين كريم
فرع علا بنيانه من هاشم
دوح تمكن في العلا وأروم
قال الواقدي وفي يوم الفتح سمى رسول الله ص أهل مكة الذين دخلها عليهم الطلقاء لمنه عليهم بعد أن أظفره الله بهم فصاروا أرقاء له وقد قيل له يوم الفتح قد أمكنك الله تعالى فخذ ما شئت من أقمار على غصون يعنون النساء فقال ع يأبى ذلك إطعامهم الضيف وإكرامهم البيت ووجؤهم مناحر الهدي . ثم نعود إلى تفسير ما بقي من ألفاظ الفصل قوله فإن كان فيك عجل فاسترفه
[ 19 ](1/4997)
أي كن ذا رفاهية ولا ترهقن نفسك بالعجل فلا بد من لقاء بعضنا بعضا فأي حاجة بك إلى أن تعجل ثم فسر ذلك فقال إن أزرك في بلادك أي إن غزوتك في بلادك فخليق أن يكون الله بعثني للانتقام منك وإن زرتني أي إن غزوتني في بلادي وأقبلت بجموعك إلي . كنتم كما قال أخو بني أسد كنت أسمع قديما أن هذا البيت من شعر بشر بن أبي خازم الأسدي والآن فقد تصفحت شعره فلم أجده ولا وقفت بعد على قائله وإن وقفت فيما يستقبل من الزمان عليه ألحقته . وريح حاصب تحمل الحصباء وهي صغار الحصى وإذا كانت بين أغوار وهي ما سفل من الأرض وكانت مع ذلك ريح صيف كانت أعظم مشقة وأشد ضررا على من تلاقيه وجلمود يمكن أن يكون عطفا على حاصب ويمكن أن يكون عطفا على أغوار أي بين غور من الأرض وحرة وذلك أشد لأذاها لما تكسبه الحرة من لفح السموم ووهجها والوجه الأول أليق . وأعضضته أي جعلته معضوضا برءوس أهلك وأكثر ما يأتي أفعلته أن تجعله فاعلا وهي هاهنا من المقلوب أي أعضضت رءوس أهلك به كقوله قد قطع الحبل بالمرود . وجده عتبة بن ربيعة وخاله الوليد بن عتبة وأخوه حنظلة بن أبي سفيان قتلهم علي ع يوم بدر . والأغلف القلب الذي لا بصيرة له كأن قلبه في غلاف قال تعالى وَ قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ .
[ 20 ](1/4998)
و المقارب العقل بالكسر الذي ليس عقله بجيد والعامة تقول فيما هذا شأنه مقارب بفتح الراء . ثم قال الأولى أن يقال هذه الكلمة لك . ونشدت الضالة طلبتها وأنشدتها عرفتها أي طلبت ما ليس لك . والسائمة المال الراعي والكلام خارج مخرج الاستعارة . فإن قلت كل هذا الكلام يطابق بعضه بعضا إلا قوله فما أبعد قولك من فعلك وكيف استبعد ع ذلك ولا بعد بينهما لأنه يطلب الخلافة قولا وفعلا فأي بعد بين قوله وفعله . قلت لأن فعله البغي والخروج على الإمام الذي ثبتت إمامته وصحت وتفريق جماعة المسلمين وشق العصا هذا مع الأمور التي كانت تظهر عليه وتقتضي الفسق من لبس الحرير والمنسوج بالذهب وما كان يتعاطاه في حياة عثمان من المنكرات التي لم تثبت توبته منها فهذا فعله . وأما قوله فزعمه أنه أمير المؤمنين وخليفة المسلمين وهذا القول بعيد من ذلك الفعل جدا . وما في قوله وقريب ما أشبهت مصدرية أي وقريب شبهك بأعمام وأخوال وقد ذكرنا من قتل من بني أمية في حروب رسول الله ص فيما تقدم وإليهم الإشارة بالأعمام والأخوال لأن أخوال معاوية من بني عبد شمس كما أن أعمامه من بني عبد شمس . قوله ولم تماشها الهوينى أي لم تصحبها يصفها بالسرعة والمضي في الرءوس الأعناق
[ 21 ](1/4999)
و أما قوله ادخل فيما دخل فيه الناس وحاكم القوم فهي الحجة التي يحتج بها أصحابنا له في أنه لم يسلم قتلة عثمان إلى معاوية وهي حجة صحيحة لأن الإمام يجب أن يطاع ثم يتحاكم إليه أولياء الدم والمتهمون فإن حكم بالحق استديمت حكومته وإلا فسق وبطلت إمامته . قوله فأما تلك التي تريدها قيل إنه يريد التعلق بهذه الشبهة وهي قتلة عثمان وقيل أراد به ما كان معاوية يكرر طلبه من أمير المؤمنين ع وهو أن يقره على الشام وحده ولا يكلفه البيعة قال إن ذلك كمخادعة الصبي في أول فطامه عن اللبن بما تصنعه النساء له مما يكره إليه الثدي ويسليه عنه ويرغبه في التعوض بغيره وكتاب معاوية الذي ذكرناه لم يتضمن حديث الشام
[ 22 ](1/5000)
65 ومن كتاب له ع إليه أيضا
أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ آنَ لَكَ أَنْ تَنْتَفِعَ بِاللَّمْحِ اَلْبَاصِرِ مِنْ عِيَانِ اَلْأُمُورِ فَلَقَدْ فَقَدْ سَلَكْتَ مَدَارِجَ أَسْلاَفِكَ بِادِّعَائِكَ اَلْأَبَاطِيلَ وَ اِقْتِحَامِكَ غُرُورَ اَلْمَيْنِ وَ اَلْأَكَاذِيبِ مِنِ اِنْتِحَالِكَ وَ بِانْتِحَالِكَ مَا قَدْ عَلاَ عَنْكَ وَ اِبْتِزَازِكَ لِمَا قَدِ اُخْتُزِنَ دُونَكَ فِرَاراً مِنَ اَلْحَقِّ وَ جُحُوداً لِمَا هُوَ أَلْزَمُ لَكَ مِنْ لَحْمِكَ وَ دَمِكَ مِمَّا قَدْ وَعَاهُ سَمْعُكَ وَ مُلِئَ بِهِ صَدْرُكَ فَمَا ذَا بَعْدَ اَلْحَقِّ إِلاَّ اَلضَّلاَلُ وَ بَعْدَ اَلْبَيَانِ إِلاَّ اَللَّبْسُ فَاحْذَرِ اَلشُّبْهَةَ وَ اِشْتِمَالَهَا عَلَى لُبْسَتِهَا فَإِنَّ اَلْفِتْنَةَ طَالَمَا أَغْدَفَتْ جَلاَبِيبَهَا وَ أَعْشَتِ اَلْأَبْصَارَ ظُلْمَتُهَا وَ قَدْ أَتَانِي كِتَابٌ مِنْكَ ذُو أَفَانِينَ مِنَ اَلْقَوْلِ ضَعُفَتْ قُوَاهَا عَنِ اَلسِّلْمِ وَ أَسَاطِيرَ لَمْ يَحُكْهَا عَنْكَ مِنْكَ عِلْمٌ وَ لاَ حِلْمٌ أَصْبَحْتَ مِنْهَا كَالْخَائِضِ فِي اَلدَّهَاسِ وَ اَلْخَابِطِ فِي اَلدِّيمَاسِ وَ تَرَقَّيْتَ إِلَى مَرْقَبَةٍ بَعِيدَةِ اَلْمَرَامِ نَازِحَةِ اَلْأَعْلاَمِ تَقْصُرُ دُونَهَا اَلْأَنُوقُ وَ يُحَاذَى بِهَا اَلْعَيُّوقُ وَ حَاشَ لِلَّهِ أَنْ تَلِيَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ بَعْدِي صَدْراً أَوْ وِرْداً أَوْ أُجْرِيَ لَكَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ عَقْداً أَوْ عَهْداً فَمِنَ اَلآْنَ فَتَدَارَكْ نَفْسَكَ وَ اُنْظُرْ لَهَا فَإِنَّكَ إِنْ فَرَّطْتَ حَتَّى يَنْهَدَ إِلَيْكَ عِبَادُ اَللَّهِ أُرْتِجَتْ عَلَيْكَ اَلْأُمُورُ وَ مُنِعْتَ أَمْراً هُوَ مِنْكَ اَلْيَوْمَ مَقْبُولٌ وَ اَلسَّلاَمُ
[ 23 ]
آن لك وأنى لك بمعنى أي قرب وحان تقول آن لك أن تفعل كذا يئين أينا وقال(1/5001)
أ لم يأن أن لي تجل عني عمايتي
و أقصر عن ليلى بلى قد أنى ليا
فجمع بين اللغتين وأنى مقلوبة عن آن ومما يجري مجرى المثل قولهم لمن يرونه شيئا شديدا يبصره ولا يشك فيه قد رأيته لمحا باصرا قالوا أي نظرا بتحديق شديد ومخرجه مخرج رجل لابن وتامر أي ذو لبن وتمر فمعنى باصر ذو بصر يقول ع لمعاوية قد حان لك أن تنتفع بما تعلمه من معاينة الأمور والأحوال وتتحققه يقينا بقلبك كما يتحقق ذو اللمح الباصر ما يبصره بحاسة بصره وأراد ببيان الأمور هاهنا معاينتها وهو ما يعرفه ضرورة من استحقاق علي ع للخلافة دونه وبراءته من كل شبهة ينسبها إليه . ثم قال له فقد سلكت أي اتبعت طرائق أبي سفيان أبيك وعتبة جدك وأمثالهما من أهلك ذوي الكفر والشقاق . والأباطيل جمع باطل على غير قياس كأنهم جمعوا إبطيلا . والاقتحام إلقاء النفس في الأمر من غير روية . والمين الكذب والغرور بالضم المصدر وبالفتح الاسم . وانتحلت القصيدة أي ادعيتها كذبا . قال ما قد علا عنك أي أنت دون الخلافة ولست من أهلها والابتزاز الاستلاب .
[ 24 ](1/5002)
قال لما قد اختزن دونك يعني التسمي بإمرة المؤمنين . ثم قال فرارا من الحق أي فعلت ذلك كله هربا من التمسك بالحق والدين وحبا للكفر والشقاق والتغلب . قال وجحودا لما هو ألزم يعني فرض طاعة علي ع لأنه قد وعاها سمعه لا ريب في ذلك إما بالنص في أيام رسول الله ص كما تذكره الشيعة فقد كان معاوية حاضرا يوم الغدير لأنه حج معهم حجة الوداع وقد كان أيضا حاضرا يوم تبوك حين قال له بمحضر من الناس كافة أنت مني بمنزلة هارون من موسى وقد سمع غير ذلك وأما بالبيعة كما نذكره نحن فإنه قد اتصل به خبرها وتواتر عنده وقوعها فصار وقوعها عنده معلوما بالضرورة كعلمه بأن في الدنيا بلدا اسمها مصر وإن كان ما رآها . والظاهر من كلام أمير المؤمنين ع أنه يريد المعنى الأول ونحن نخرجه على وجه لا يلزم منه ما تقوله الشيعة فنقول لنفرض أن النبي ص ما نص عليه بالخلافة بعده أ ليس يعلم معاوية وغيره من الصحابة أنه لو قال له في ألف مقام أنا حرب لمن حاربت وسلم لمن سالمت ونحو ذلك من قوله اللهم عاد من عاداه ووال من والاه وقوله حربك حربي وسلمك سلمي وقوله أنت مع الحق والحق معك وقوله هذا مني وأنا منه وقوله هذا أخي وقوله يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله وقوله اللهم ائتني بأحب خلقك إليك وقوله إنه ولي كل مؤمن ومؤمنة بعدي وقوله في كلام قاله خاصف النعل وقوله لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق وقوله إن الجنة لتشتاق إلى أربعة وجعله أولهم وقوله لعمار تقتلك الفئة الباغية وقوله ستقاتل الناكثين والقاسطين
[ 25 ](1/5003)
و المارقين بعدي إلى غير ذلك مما يطول تعداده جدا ويحتاج إلى كتاب مفرد يوضع له أ فما كان ينبغي لمعاوية أن يفكر في هذا ويتأمله ويخشى الله ويتقيه فلعله ع إلى هذا أشار بقوله وجحودا لما هو ألزم لك من لحمك ودمك مما قد وعاه سمعك وملئ به صدرك . قوله فما ذا بعد الحق إلا الضلال كلمة من الكلام الإلهي المقدس . قال وبعد البيان إلا اللبس يقال لبست عليه الأمر لبسا أي خلطته والمضارع يلبس بالكسر . قال فاحذر الشبهة واشتمالها على اللبسة بالضم يقال في الأمر لبسة أي اشتباه وليس بواضح ويجوز أن يكون اشتمال مصدرا مضافا إلى معاوية أي احذر الشبهة واحذر اشتمالك إياها على اللبسة أي ادراعك بها وتقمصك بها على ما فيها من الإبهام والاشتباه ويجوز أن يكون مصدرا مضافا إلى ضمير الشبهة فقط أي احذر الشبهة واحتواءها على اللبسة التي فيها . وتقول أغدفت المرأة قناعها أي أرسلته على وجهها وأغدف الليل أي أرخى سدوله وأصل الكلمة التغطية . والجلابيب جمع جلباب وهو الثوب . قال وأعشت الأبصار ظلمتها أي أكسبتها العشي وهو ظلمة العين وروي وأغشت بالغين المعجمة ظلمتها بالنصب أي جعلت الفتنة ظلمتها غشاء للأبصار . والأفانين الأساليب المختلفة . قوله ضعفت قواها عن السلم أي عن الإسلام أي لا تصدر تلك الأفانين
[ 26 ](1/5004)
المختلطة عن مسلم وكان كتب إليه يطلب منه أن يفرده بالشام وأن يوليه العهد من بعده وألا يكلفه الحضور عنده وقرأ أبو عمرو اُدْخُلُوا فِي اَلسِّلْمِ كَافَّةً وقال ليس المعني بهذا الصلح بل الإسلام والإيمان لا غير ومعنى ضعفت قواها أي ليس لتلك الطلبات والدعاوي والشبهات التي تضمنها كتابك من القوة ما يقتضي أن يكون المتمسك به مسلما لأنه كلام لا يقوله إلا من هو إما كافر منافق أو فاسق والكافر ليس بمسلم والفاسق أيضا ليس بمسلم على قول أصحابنا ولا كافر . ثم قال وأساطير لم يحكها منك علم ولا حلم الأساطير الأباطيل واحدها أسطورة بالضم وإسطارة بالكسر والألف وحوك الكلام صنعته ونظمه والحلم العقل يقول له ما صدر هذا الكلام والهجر الفاسد عن عالم ولا عاقل . ومن رواها الدهاس بالكسر فهو جمع دهس ومن قرأها بالفتح فهو مفرد يقول هذا دهس ودهاس بالفتح مثل لبث ولباث للمكان السهل الذي لا يبلغ أن يكون رملا وليس هو بتراب ولا طين . والديماس بالكسر السرب المظلم تحت الأرض وفي حديث المسيح أنه سبط الشعر كثير خيلان الوجه كأنه خرج من ديماس يعني في نضرته وكثرة ماء وجهه كأنه خرج من كن لأنه قال في وصفه كان رأسه يقطر ماء وكان للحجاج سجن اسمه الديماس لظلمته وأصله من دمس الظلام يدمس أي اشتد وليل دامس وداموس أي مظلم وجاءنا فلان بأمور دمس أي مظلمة عظيمة يقول له أنت في كتابك هذا كالخائض في تلك الأرض الرخوة وتقوم وتقع ولا تتخلص وكالخابط في الليل المظلم يعثر وينهض ولا يهتدى الطريق .
[ 27 ](1/5005)
و المرقبة الموضع العالي والأعلام جمع علم وهو ما يهتدى به في الطرقات من المنار يقول له سمت همتك إلى دعوى الخلافة وهي منك كالمرقبة التي لا ترام بتعد على من يطلبها وليس فيها أعلام تهدى إلى سلوك طريقها أي الطرق إليها غامضة كالجبل الأملس الذي ليس فيه درج ومراق يسلك منها إلى ذروته . والأنوق على فعول بالفتح كأكول وشروب طائر وهو الرخمة وفي المثل أعز من بيض الأنوق لأنها تحرزه ولا يكاد أحد يظفر به وذلك لأن أوكارها في رءوس الجبال والأماكن الصعبة البعيدة . والعيوق كوكب معروف فوق زحل في العلو وهذه أمثال ضربها في بعد معاوية عن الخلافة . ثم قال حاش لله إن أوليك شيئا من أمور المسلمين بعدي أي معاذ الله والأصل إثبات الألف في حاشا وإنما اتبع فيها المصحف . والورد والصدر الدخول والخروج وأصله في الإبل والماء وينهد إليك عباد الله أي ينهض وأرتجت عليك الأمور أغلقت . وهذا الكتاب هو جواب كتاب وصل من معاوية إليه ع بعد قتل علي ع الخوارج وفيه تلويح بما كان يقوله من قبل إن رسول الله وعدني بقتال طائفة أخرى غير أصحاب الجمل وصفين وإنه سماهم المارقين فلما واقعهم ع بالنهروان وقتلهم كلهم بيوم واحد وهم عشرة آلاف فارس أحب أن يذكر معاوية بما كان يقول من قبل ويعد به أصحابه وخواصه فقال له قد آن لك أن تنتفع بما عاينت وشاهدت معاينة ومشاهدة من صدق القول الذي كنت أقوله للناس ويبلغك فتستهزئ به
[ 28 ](1/5006)
66 ومن كتاب له ع كتبه إلى عبد الله بن العباس
و قد تقدم ذكره بخلاف هذه الرواية : أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اَلْعَبْدَ اَلْمَرْءَ لَيَفْرَحُ بِالشَّيْ ءِ اَلَّذِي لَمْ يَكُنْ لِيَفُوتَهُ وَ يَحْزَنُ عَلَى اَلشَّيْ ءِ اَلَّذِي لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ فَلاَ يَكُنْ أَفْضَلَ مَا نِلْتَ فِي نَفْسِكَ مِنْ دُنْيَاكَ بُلُوغُ لَذَّةٍ أَوْ شِفَاءُ غَيْظٍ وَ لَكِنْ إِطْفَاءُ بَاطِلٍ وَ إِحْيَاءُ حَقٍّ وَ لْيَكُنْ سُرُورُكَ بِمَا قَدَّمْتَ وَ أَسَفُكَ عَلَى مَا خَلَّفْتَ وَ هَمُّكَ فِيمَا بَعْدَ اَلْمَوْتِ هذا الفصل قد تقدم شرح نظيره وليس في ألفاظه ولا معانيه ما يفتقر إلى تفسير ولكنا سنذكر من كلام الحكماء والصالحين كلمات تناسبه(1/5007)
نبذ من كلام الحكماء
فمن كلام بعضهم ما قدر لك أتاك وما لم يقدر لك تعداك فعلام تفرح بما لم يكن بد من وصوله إليك وعلام تحزن بما لم يكن ليقدم عليك . ومن كلامهم الدنيا تقبل إقبال الطالب وتدبر إدبار الهارب وتصل وصال المتهالك وتفارق فراق المبغض الفارك فخيرها يسير وعيشها قصير وإقبالها خدعة وإدبارها
[ 29 ]
فجعة ولذاتها فانية وتبعاتها باقية فاغتنم غفلة الزمان وانتهز فرصة الإمكان وخذ من نفسك لنفسك وتزود من يومك لغدك قبل نفاذ المدة وزوال القدرة فلكل امرئ من دنياه ما ينفعه على عمارة أخراه . ومن كلامهم من نكد الدنيا أنها لا تبقى على حالة ولا تخلو من استحالة تصلح جانبا بإفساد جانب وتسر صاحبا بمساءة صاحب فالسكون فيها خطر والثقة إليها غرر والالتجاء إليها محال والاعتماد عليها ضلال . ومن كلامهم لا تبتهجن لنفسك بما أدركت من لذاتها الجسمانية وابتهج لها بما تناله من لذاتها العقلية ومن القول بالحق والعمل بالحق فإن اللذات الحسية خيال ينفد والمعارف العقلية باقية بقاء الأبد
[ 30 ](1/5008)
67 ومن كتاب له ع كتبه إلى قثم بن العباس وهو عامله على مكة
أَمَّا بَعْدُ فَأَقِمْ لِلنَّاسِ اَلْحَجَّ وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اَللَّهِ وَ اِجْلِسْ لَهُمُ اَلْعَصْرَيْنِ فَأَفْتِ اَلْمُسْتَفْتِيَ وَ عَلِّمِ اَلْجَاهِلَ وَ ذَاكِرِ اَلْعَالِمَ وَ لاَ يَكُنْ لَكَ إِلَى اَلنَّاسِ سَفِيرٌ إِلاَّ لِسَانُكَ وَ لاَ حَاجِبٌ إِلاَّ وَجْهُكَ وَ لاَ تَحْجُبَنَّ ذَا حَاجَةٍ عَنْ لِقَائِكَ بِهَا فَإِنَّهَا إِنْ ذِيدَتْ عَنْ أَبْوَابِكَ فِي أَوَّلِ وِرْدِهَا لَمْ تُحْمَدْ فِيمَا بَعْدُ عَلَى قَضَائِهَا وَ اُنْظُرْ إِلَى مَا اِجْتَمَعَ عِنْدَكَ مِنْ مَالِ اَللَّهِ فَاصْرِفْهُ إِلَى مَنْ قِبَلَكَ مِنْ ذَوِي اَلْعِيَالِ وَ اَلْمَجَاعَةِ مُصِيباً بِهِ مَوَاضِعَ اَلْمَفَاقِرِ اَلْفَاقَةِ وَ اَلْخَلاَّتِ وَ مَا فَضَلَ عَنْ ذَلِكَ فَاحْمِلْهُ إِلَيْنَا لِنَقْسِمَهُ فِيمَنْ قِبَلَنَا وَ مُرْ أَهْلَ مَكَّةَ أَلاَّ يَأْخُذُوا مِنْ سَاكِنٍ أَجْراً فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ سَواءً اَلْعاكِفُ فِيهِ وَ اَلْبادِ فَالْعَاكِفُ اَلْمُقِيمُ بِهِ وَ اَلْبَادِي اَلَّذِي يَحُجُّ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ وَفَّقَنَا اَللَّهُ وَ إِيَّاكُمْ لِمَحَابِّهِ وَ اَلسَّلاَمُ
[ 31 ](1/5009)
قد تقدم ذكر قثم ونسبه أمره أن يقيم للناس حجهم وأن يذكرهم بأيام الله وهي أيام الإنعام وأيام الانتقام لتحصل الرغبة والرهبة . واجلس لهم العصرين الغداة والعشي . ثم قسم له ثمرة جلوسه لهم ثلاثة أقسام إما أن يفتي مستفتيا من العامة في بعض الأحكام وإما أن يعلم متعلما يطلب الفقه وإما أن يذاكر عالما ويباحثه ويفاوضه ولم يذكر السياسة والأمور السلطانية لأن غرضه متعلق بالحجيج وهم أضيافه يقيمون ليالي يسيرة ويقفلون وإنما يذكر السياسة وما يتعلق بها فيما يرجع إلى أهل مكة ومن يدخل تحت ولايته دائما ثم نهاه عن توسط السفراء والحجاب بينه وبينهم بل ينبغي أن يكون سفيره لسانه وحاجبه وجهه وروي ولا يكن إلا لسانك سفيرا لك إلى الناس بجعل لسانك اسم كان مثل قوله فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا والرواية الأولى هي المشهورة وهو أن يكون سفيرا اسم كان ولك خبرها ولا يصح ما قاله الراوندي إن خبرها إلى الناس لأن إلى هاهنا متعلقة بنفس سفير فلا يجوز أن تكون الخبر عن سفير تقول سفرت إلى بني فلان في الصلح وإذا تعلق حرف الجر بالكلمة صار كالشي ء الواحد . ثم قال فإنها إن ذيدت أي طردت ودفعت . كان أبو عباد ثابت بن يحيى كاتب المأمون إذا سئل الحاجة يشتم السائل ويسطو عليه ويخجله ويبكته ساعة ثم يأمر له بها فيقوم وقد صارت إليه وهو يذمه ويلعنه قال علي بن جبلة العكوك
[ 32 ]
لعن الله أبا عباد
لعنا يتوالى
يوسع السائل شتما
ثم يعطيه السؤالا
و كان الناس يقفون لأبي عباد وقت ركوبه فيتقدم الواحد منهم إليه بقصته ليناوله إياها فيركله برجله بالركاب ويضربه بسوطه ويطير غضبا ثم لا ينزل عن فرسه حتى يقضي حاجته ويأمر له بطلبته فينصرف الرجل بها وهو ذام له ساخط عليه فقال فيه دعبل
أولى الأمور بضيعة وفساد
ملك يدبره أبو عباد
متعمد بدواته جلساءه
فمضرج ومخضب بمداد(1/5010)
و كأنه من دير هزقل مفلت
حرب يجر سلاسل الأقياد
فاشدد أمير المؤمنين صفاده
بأشد منه في يد الحداد
و قال فيه بعض الشعراء
قل للخليفة يا ابن عم محمد
قيد وزيرك إنه ركال
فلسوطه بين الرءوس مسالك
و لرجله بين الصدور مجال
و المفاقر الحاجات يقال سد الله مفاقره أي أغنى الله فقره ثم أمره أن يأمر أهل مكة ألا يأخذوا من أحد من الحجيج أجرة مسكن واحتج على ذلك بالآية وأصحاب أبي حنيفة يتمسكون بها في امتناع بيع دور مكة وإجارتها وهذا بناء على أن
[ 33 ]
المسجد الحرام هو مكة كلها والشافعي يرى خلاف ذلك ويقول إنه الكعبة ولا يمنع من بيع دور مكة ولا إجارتها ويحتج بقوله تعالى اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وأصحاب أبي حنيفة يقولون إنها إضافة اختصاص لا إضافة تمليك كما تقول جل الدابة وقرأ سواء بالنصب على أن يكون أحد مفعولي جعلنا أي جعلناه مستويا فيه العاكف والباد ومن قرأ بالرفع جعل الجملة هي المفعول الثاني
[ 34 ](1/5011)
68 ومن كتاب له ع كتبه إلى سلمان الفارسي رحمه الله قبل أيام خلافته
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّمَا مَثَلُ اَلدُّنْيَا مَثَلُ اَلْحَيَّةِ لَيِّنٌ مَسُّهَا قَاتِلٌ سَمُّهَا فَأَعْرِضْ عَمَّا يُعْجِبُكَ فِيهَا لِقِلَّةِ مَا يَصْحَبُكَ مِنْهَا وَ ضَعْ عَنْكَ هُمُومَهَا لِمَا أَيْقَنْتَ بِهِ مِنْ فِرَاقِهَا وَ تَصَرُّفِ حَالاَتِهَا وَ كُنْ آنَسَ مَا تَكُونُ بِهَا أَحْذَرَ مَا تَكُونُ مِنْهَا فَإِنَّ صَاحِبَهَا كُلَّمَا اِطْمَأَنَّ فِيهَا إِلَى سُرُورٍ أَشْخَصَتْهُ عَنْهُ إِلَى مَحْذُورٍ أَوْ إِلَى إِينَاسٍ أَزَالَتْهُ عَنْهُ إِلَى إِيحَاشٍ وَ اَلسَّلاَمُ(1/5012)
سلمان الفارسي وخبر إسلامه
سلمان رجل من فارس من رامهرمز وقيل بل من أصبهان من قرية يقال لها جي وهو معدود من موالي رسول الله ص وكنيته أبو عبد الله وكان إذا قيل ابن من أنت يقول أنا سلمان ابن الإسلام أنا من بني آدم . وقد روي أنه قد تداوله أرباب كثيرة بضعة عشر ربا من واحد إلى آخر حتى أفضى إلى رسول الله ص . وروى أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب أن سلمان أتى رسول الله
[ 35 ]
ص بصدقة فقال هذه صدقة عليك وعلى أصحابك فلم يقبلها وقال إنه لا تحل لنا الصدقة فرفعها ثم جاء من الغد بمثلها وقال هدية هذه فقال لأصحابه كلوا . واشتراه من أربابه وهم قوم يهود بدراهم وعلى أن يغرس لهم من النخيل كذا وكذا ويعمل فيها حتى تدرك فغرس رسول الله ص ذلك النخل كله بيده إلا نخلة واحدة غرسها عمر بن الخطاب فأطعم النخل كله إلا تلك النخلة فقال رسول الله ص من غرسها قيل عمر فقلعها وغرسها رسول الله ص بيده فأطعمت . قال أبو عمر وكان سلمان يسف الخوص وهو أمير على المدائن ويبيعه ويأكل منه ويقول لا أحب أن آكل إلا من عمل يدي وكان قد تعلم سف الخوص من المدينة . وأول مشاهده الخندق وهو الذي أشار بحفره فقال أبو سفيان وأصحابه لما رأوه هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها . قال أبو عمر وقد روي أن سلمان شهد بدرا وأحدا وهو عبد يومئذ والأكثر أن أول مشاهده الخندق ولم يفته بعد ذلك مشهد . قال وكان سلمان خيرا فاضلا حبرا عالما زاهدا متقشفا . قال وذكر هشام بن حسان عن الحسن البصري قال كان عطاء سلمان خمسة آلاف وكان إذا خرج عطاؤه تصدق به ويأكل من عمل يده وكانت له عباءة يفرش بعضها ويلبس بعضها .
[ 36 ](1/5013)
قال وقد ذكر ابن وهب وابن نافع أن سلمان لم يكن له بيت إنما كان يستظل بالجدر والشجر وأن رجلا قال له أ لا أبني لك بيتا تسكن فيه قال لا حاجة لي في ذلك فما زال به الرجل حتى قال له أنا أعرف البيت الذي يوافقك قال فصفه لي قال أبني لك بيتا إذا أنت قمت فيه أصاب رأسك سقفه وإن أنت مددت فيه رجليك أصابهما الجدار قال نعم فبنى له .
قال أبو عمر وقد روي عن رسول الله ص من وجوه أنه قال لو كان الدين في الثريا لناله سلمان و
في رواية أخرى لناله رجل من فارس قال و
قد روينا عن عائشة قالت كان لسلمان مجلس من رسول الله ص ينفرد به بالليل حتى كاد يغلبنا على رسول الله ص
قال وقد روي من حديث ابن بريدة عن أبيه أن رسول الله ص قال أمرني ربي بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم علي وأبو ذر والمقداد وسلمان
قال وروى قتادة عن أبي هريرة قال سلمان صاحب الكتابين يعني الإنجيل والقرآن . و
قد روى الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن علي ع أنه سئل عن سلمان فقال علم العلم الأول والعلم الآخر ذاك بحر لا ينزف وهو منا أهل البيت
قال وفي رواية زاذان عن علي ع سلمان الفارسي كلقمان الحكيم
قال وقال فيه كعب الأحبار سلمان حشي علما وحكمة .
[ 37 ](1/5014)
قال وفي الحديث المروي أن أبا سفيان مر على سلمان وصهيب وبلال في نفر من المسلمين فقالوا ما أخذت السيوف من عنق عدو الله مأخذها وأبو سفيان يسمع قولهم فقال لهم أبو بكر أ تقولون هذا لشيخ قريش وسيدها وأتى النبي ص وأخبره فقال يا أبا بكر لعلك أغضبتهم لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت الله فأتاهم أبو بكر فقال أبو بكر يا إخوتاه لعلي أغضبتكم قالوا لا يا أبا بكر يغفر الله لك . قال وآخى رسول الله ص بينه وبين أبي الدرداء لما آخى بين المسلمين . قال ولسلمان فضائل جمة وأخبار حسان وتوفي في آخر خلافة عثمان سنة خمس وثلاثين وقيل توفي في أول سنة ست وثلاثين وقال قوم توفي في خلافة عمر والأول أكثر . وأما حديث إسلام سلمان فقد ذكره كثير من المحدثين ورووه عنه قال كنت ابن دهقان قرية جي من أصبهان وبلغ من حب أبي لي أن حبسني في البيت كما تحبس الجارية فاجتهدت في المجوسية حتى صرت قطن بيت النار فأرسلني أبي يوما إلى ضيعة له فمررت بكنيسة النصارى فدخلت عليهم فأعجبتني صلاتهم فقلت دين هؤلاء خير من ديني فسألتهم أين أصل هذا الدين قالوا بالشام فهربت من والدي حتى قدمت الشام فدخلت على الأسقف فجعلت أخدمه وأتعلم منه حتى حضرته الوفاة فقلت إلى من توصي بي فقال قد هلك الناس وتركوا دينهم إلا رجلا بالموصل فالحق به فلما قضى نحبه لحقت بذلك الرجل
[ 38 ](1/5015)
فلم يلبث إلا قليلا حتى حضرته الوفاة فقلت إلى من توصي بي فقال ما أعلم رجلا بقي على الطريقة المستقيمة إلا رجلا بنصيبين فلحقت بصاحب نصيبين قالوا وتلك الصومعة اليوم باقية وهي التي تعبد فيها سلمان قبل الإسلام قال ثم احتضر صاحب نصيبين فبعثني إلى رجل بعمورية من أرض الروم فأتيته وأقمت عنده واكتسبت بقيرات وغنيمات فلما نزل به الموت قلت له بمن توصي بي فقال قد ترك الناس دينهم وما بقي أحد منهم على الحق وقد أظل زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب مهاجرا إلى أرض بين حرتين لها نخل قلت فما علامته قال يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة بين كتفيه خاتم النبوة قال ومر بي ركب من كلب فخرجت معهم فلما بلغوا بي وادي القرى ظلموني وباعوني من يهودي فكنت أعمل له في زرعه ونخله فبينا أنا عنده إذ قدم ابن عم له فابتاعني منه وحملني إلى المدينة فو الله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها وبعث الله محمدا بمكة ولا أعلم بشي ء من أمره فبينا أنا في رأس نخلة إذ أقبل ابن عم لسيدي فقال قاتل الله بني قيلة قد اجتمعوا على رجل بقباء قدم عليهم من مكة يزعمون أنه نبي قال فأخذني القر والانتفاض ونزلت عن النخلة وجعلت أستقصي في السؤال فما كلمني سيدي بكلمة بل قال أقبل على شأنك ودع ما لا يعنيك فلما أمسيت أخذت شيئا كان عندي من التمر وأتيت به النبي ص فقلت له بلغني أنك رجل صالح وأن لك أصحابا غرباء ذوي حاجة وهذا شي ء عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم فقال ع لأصحابه كلوا وأمسك فلم يأكل فقلت في نفسي هذه واحدة وانصرفت فلما كان من الغد أخذت ما كان بقي عندي وأتيته به فقلت له إني رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية
[ 39 ](1/5016)
فقال كلوا وأكل معهم فقلت إنه لهو فأكببت عليه أقبله وأبكي فقال ما لك فقصصت عليه القصة فأعجبه ثم قال يا سلمان كاتب صاحبك فكاتبته على ثلاثمائة نخلة وأربعين أوقية فقال رسول الله ص للأنصار أعينوا أخاكم فأعانوني بالنخل حتى جمعت ثلاثمائة ودية فوضعها رسول الله ص بيده فصحت كلها وأتاه مال من بعض المغازي فأعطاني منه وقال أد كتابتك فأديت وعتقت . وكان سلمان من شيعة علي ع وخاصته وتزعم الإمامية أنه أحد الأربعة الذين حلقوا رءوسهم وأتوه متقلدي سيوفهم في خبر يطول وليس هذا موضع ذكره وأصحابنا لا يخالفونهم في أن سلمان كان من الشيعة وإنما يخالفونهم في أمر أزيد من ذلك وما يذكره المحدثون من قوله للمسلمين يوم السقيفة كرديد ونكرديد محمول عند أصحابنا على أن المراد صنعتم شيئا وما صنعتم أي استخلفتم خليفة ونعم ما فعلتم إلا أنكم عدلتم عن أهل البيت فلو كان الخليفة منهم كان أولى والإمامية تقول معناه أسلمتم وما أسلمتم واللفظة المذكورة في الفارسية لا تعطي هذا المعنى وإنما تدل على الفعل والعمل لا غير ويدل على صحة قول أصحابنا أن سلمان عمل لعمر على المدائن فلو كان ما تنسبه الإمامية إليه حقا لم يعمل له . فأما ألفاظ الفصل ومعانيه فظاهرة ومما يناسب مضمونه قول بعض الحكماء تعز عن الشي ء إذا منعته بقلة صحبته لك إذا أعطيته . وكان يقال الهالك على الدنيا رجلان رجل نافس في عزها ورجل أنف من ذلها .
[ 40 ](1/5017)
و مر بعض الزهاد بباب دار وأهلها يبكون ميتا لهم فقال وا عجبا لقوم مسافرين يبكون مسافرا قد بلغ منزله . وكان يقال يا ابن آدم لا تأسف على مفقود لا يرده عليك الفوت ولا تفرح بموجود لا يتركه عليك الموت . لقي عالم من العلماء راهبا فقال أيها الراهب كيف ترى الدنيا قال تخلق الأبدان وتجدد الآمال وتباعد الأمنية وتقرب المنية قال فما حال أهلها قال من ظفر بها نصب ومن فاتته أسف قال فكيف الغنى عنها قال بقطع الرجاء منها قال فأي الأصحاب أبر وأوفى قال العمل الصالح قال فأيهم أضر وأنكى قال النفس والهوى قال فكيف المخرج قال في سلوك المنهج قال وبما ذا أسلكه قال بأن تخلع لباس الشهوات الفانية وتعمل للدار الباقية
[ 41 ](1/5018)
69 ومن كتاب له ع كتبه إلى الحارث الهمداني
وَ تَمَسَّكْ بِحَبْلِ اَلْقُرْآنِ وَ اِنْتَصِحْهُ اِسْتَنْصِحْهُ وَ أَحِلَّ حَلاَلَهُ وَ حَرِّمْ حَرَامَهُ وَ صَدِّقْ بِمَا سَلَفَ مِنَ اَلْحَقِّ وَ اِعْتَبِرْ بِمَا مَضَى مِنَ اَلدُّنْيَا لِمَا بَقِيَ مِنْهَا فَإِنَّ بَعْضَهَا يُشْبِهُ بَعْضاً وَ آخِرَهَا لاَحِقٌ بِأَوَّلِهَا وَ كُلُّهَا حَائِلٌ مُفَارِقٌ وَ عَظِّمِ اِسْمَ اَللَّهِ أَنْ تَذْكُرَهُ إِلاَّ عَلَى حَقٍّ وَ أَكْثِرْ ذِكْرَ اَلْمَوْتِ وَ مَا بَعْدَ اَلْمَوْتِ وَ لاَ تَتَمَنَّ اَلْمَوْتَ إِلاَّ بِشَرْطٍ وَثِيقٍ وَ اِحْذَرْ كُلَّ عَمَلٍ يَرْضَاهُ صَاحِبُهُ لِنَفْسِهِ وَ يَكْرَهُهُ يُكْرَهُ لِعَامَّةِ اَلْمُسْلِمِينَ وَ اِحْذَرْ كُلَّ عَمَلٍ يُعْمَلُ بِهِ فِي اَلسِّرِّ وَ يُسْتَحَى مِنْهُ فِي اَلْعَلاَنِيَةِ وَ اِحْذَرْ كُلَّ عَمَلٍ إِذَا سُئِلَ عَنْهُ صَاحِبُهُ أَنْكَرَهُ وَ اِعْتَذَرَ مِنْهُ وَ لاَ تَجْعَلْ عِرْضَكَ غَرَضاً لِنِبَالِ اَلْقَوْمِ اَلْقَوْلِ وَ لاَ تُحَدِّثِ اَلنَّاسَ بِكُلِّ مَا سَمِعْتَ بِهِ فَكَفَى بِذَلِكَ كَذِباً وَ لاَ تَرُدَّ عَلَى اَلنَّاسِ كُلَّ مَا حَدَّثُوكَ بِهِ فَكَفَى بِذَلِكَ جَهْلاً وَ اِكْظِمِ اَلْغَيْظَ وَ اُحْلُمْ عِنْدَ اَلْغَضَبِ وَ تَجَاوَزْ عِنْدَ اَلْمَقْدِرَةِ تَجَاوَزْ عِنْدَ اَلْمَقْدِرَةِ وَ اُحْلُمْ عِنْدَ اَلْغَضَبِ وَ اِصْفَحْ مَعَ اَلدَّوْلَةِ تَكُنْ لَكَ اَلْعَاقِبَةُ وَ اِسْتَصْلِحْ كُلَّ نِعْمَةٍ أَنْعَمَهَا اَللَّهُ عَلَيْكَ وَ لاَ تُضَيِّعَنَّ نِعْمَةً مِنْ نِعَمِ اَللَّهِ عِنْدَكَ وَ لْيُرَ عَلَيْكَ أَثَرُ مَا أَنْعَمَ اَللَّهُ بِهِ عَلَيْكَ وَ اِعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُهُمْ تَقْدِمَةً مِنْ نَفْسِهِ وَ أَهْلِهِ وَ مَالِهِ وَ إِنَّكَ فَإِنَّكَ مَا تُقَدِّمْ مِنْ خَيْرٍ يَبْقَ لَكَ ذُخْرُهُ وَ مَا(1/5019)
تُؤَخِّرْهُ يَكُنْ لِغَيْرِكَ خَيْرُهُ
[ 42 ]
وَ اِحْذَرْ صَحَابَةَ مَنْ يَفِيلُ رَأْيُهُ وَ يُنْكَرُ عَمَلُهُ فَإِنَّ اَلصَّاحِبَ مُعْتَبَرٌ بِصَاحِبِهِ وَ اُسْكُنِ اَلْأَمْصَارَ اَلْعِظَامَ فَإِنَّهَا جِمَاعُ اَلْمُسْلِمِينَ وَ اِحْذَرْ مَنَازِلَ اَلْغَفْلَةِ وَ اَلْجَفَاءِ وَ قِلَّةَ اَلْأَعْوَانِ عَلَى طَاعَةِ اَللَّهِ وَ اُقْصُرْ رَأْيَكَ عَلَى مَا يَعْنِيكَ وَ إِيَّاكَ وَ مَقَاعِدَ اَلْأَسْوَاقِ فَإِنَّهَا مَحَاضِرُ اَلشَّيْطَانِ وَ مَعَارِيضُ اَلْفِتَنِ وَ أَكْثِرْ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى مَنْ فُضِّلْتَ عَلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ اَلشُّكْرِ وَ لاَ تُسَافِرْ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ حَتَّى تَشْهَدَ اَلصَّلاَةَ إِلاَّ فَاصِلاً فِي سَبِيلِ اَللَّهِ أَوْ فِي أَمْرٍ تُعْذَرُ بِهِ وَ أَطِعِ اَللَّهَ فِي جُمَلِ جَمِيعِ أُمُورِكَ فَإِنَّ طَاعَةَ اَللَّهِ فَاضِلَةٌ عَلَى مَا سِوَاهَا وَ خَادِعْ نَفْسَكَ فِي اَلْعِبَادَةِ وَ اُرْفُقْ بِهَا وَ لاَ تَقْهَرْهَا وَ خُذْ عَفْوَهَا وَ نَشَاطَهَا إِلاَّ مَا كَانَ مَكْتُوباً عَلَيْكَ مِنَ اَلْفَرِيضَةِ فَإِنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ قَضَائِهَا وَ تَعَاهُدِهَا عِنْدَ مَحَلِّهَا وَ إِيَّاكَ أَنْ يَنْزِلَ بِكَ اَلْمَوْتُ وَ أَنْتَ آبِقٌ مِنْ رَبِّكَ فِي طَلَبِ اَلدُّنْيَا وَ إِيَّاكَ وَ مُصَاحَبَةَ اَلْفُسَّاقِ فَإِنَّ اَلشَّرَّ بِالشَّرِّ مُلْحَقٌ وَ وَقِّرِ اَللَّهَ وَ أَحْبِبْ أَحِبَّاءَهُ وَ اِحْذَرِ اَلْغَضَبَ فَإِنَّهُ جُنْدٌ مِنْ جُنُودِ إِبْلِيسَ وَ اَلسَّلاَمُ(1/5020)
الحارث الأعور ونسبه
هو الحارث الأعور صاحب أمير المؤمنين ع وهو الحارث بن عبد الله بن كعب بن أسد بن نخلة بن حرث بن سبع بن صعب بن معاوية الهمداني كان أحد
[ 43 ]
الفقهاء له قول في الفتيا وكان صاحب علي ع وإليه تنسب الشيعة الخطاب الذي خاطبه به في
قوله ع
يا حار همدان من يمت يرني
من مؤمن أو منافق قبلا
و هي أبيات مشهورة قد ذكرناها فيما تقدم(1/5021)
نبذ من الأقوال الحكيمة
و قد اشتمل هذا الفصل على وصايا جليلة الموقع منها قوله وتمسك بحبل القرآن
جاء في الخبر المرفوع لما ذكر الثقلين فقال أحدهما كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض طرف بيد الله وطرف بأيديكم . ومنها قوله انتصحه أي عده ناصحا لك فيما أمرك به ونهاك عنه . ومنها قوله وأحل حلاله وحرم حرامه أي احكم بين الناس في الحلال والحرام بما نص عليه القرآن . ومنها قوله وصدق بما سلف من الحق أي صدق بما تضمنه القرآن من أيام الله ومثلاته في الأمم السالفة لما عصوا وكذبوا . ومنها قوله واعتبر بما مضى من الدنيا لما بقي منها وفي المثل إذا شئت أن تنظر الدنيا بعدك فانظرها بعد غيرك وقال الشاعر
و ما نحن إلا مثلهم غير أننا
أقمنا قليلا بعدهم ثم نرحل
و يناسب قوله وآخرها لاحق بأولها وكلها حائل مفارق قوله أيضا ع
[ 44 ]
في غير هذا الفصل الماضي(1/5022)
للمقيم عبرة والميت للحي عظة وليس لأمس عودة ولا المرء من غد على ثقة الأول للأوسط رائد والأوسط للأخير قائد وكل بكل لاحق والكل للكل مفارق . ومنها قوله وعظم اسم الله أن تذكره إلا على حق قال الله سبحانه وَ لا تَجْعَلُوا اَللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ وقد نهى عن الحلف بالله في الكذب والصدق أما في أحدهما فمحرم وأما في الآخر فمكروه ولذلك لا يجوز ذكر اسمه تعالى في لغو القول والهزء والعبث . ومنها قوله وأكثر ذكر الموت وما بعد الموت جاء في الخبر المرفوع أكثروا ذكر هاذم اللذات وما بعد الموت العقاب والثواب في القبر وفي الآخرة . ومنها قوله ولا تتمن الموت إلا بشرط وثيق هذه كلمة شريفة عظيمة القدر أي لا تتمن الموت إلا وأنت واثق من أعمالك الصالحة أنها تؤديك إلى الجنة وتنقذك من النار وهذا هو معنى قوله تعالى لليهود إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ اَلنَّاسِ فَتَمَنَّوُا اَلْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَ لا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ . ومنها قوله واحذر كل عمل يرضاه صاحبه لنفسه ويكرهه لعامة المسلمين واحذر كل عمل يعمل في السر ويستحيا منه في العلانية واحذر كل عمل إذا سئل عنه صاحبه أنكره واعتذر منه وهذه الوصايا الثلاث متقاربة في المعنى ويشملها معنى قول الشاعر
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم
[ 45 ]
و قال الله تعالى حاكيا عن نبي من أنبيائه وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ . ومن كلام الجنيد الصوفي ليكن عملك من وراء سترك كعملك من وراء الزجاج الصافي وفي المثل وهو منسوب إلى علي ع إياك وما يعتذر منه . ومنها قوله ولا تجعل عرضك غرضا لنبال القوم قال الشاعر
لا تستتر أبدا ما لا تقوم له
و لا تهيجن من عريسة الأسدا
إن الزنابير إن حركتها سفها(1/5023)
من كورها أوجعت من لسعها الجسدا
و قال
مقالة السوء إلى أهلها
أسرع من منحدر سائل
و من دعا الناس إلى ذمه
ذموه بالحق وبالباطل
و منها قوله ولا تحدث الناس بكل ما سمعت فكفى بذلك كذبا قد نهى أن يحدث الإنسان بكل ما رأى من العجائب فضلا عما سمع لأن الحديث الغريب المعجب تسارع النفس إلى تكذيبه وإلى أن تقوم الدلالة على صدقه قد فرط من سوء الظن فيه ما فرط . ويقال إن بعض العلوية قال في حضرة عضد الدولة ببغداد عندنا في الكوفة نبق وزن كل نبقة مثقالان فاستطرف الملك ذلك وكاد يكذبه الحاضرون فلما قام ذكر ذلك لأبيه فأرسل حماما كان عنده في الحال إلى الكوفة يأمر وكلاءه بإرسال مائة حمامة في رجلي كل واحدة نبقتان من ذلك النبق فجاء النبق في بكرة الغد وحمل إلى عضد الدولة فاستحسنه وصدقه حينئذ ثم قال له لعمري لقد صدقت
[ 46 ]
و لكن لا تحدث فيما بعد بكل ما رأيت من الغرائب فليس كل وقت يتهيأ لك إرسال الحمام . وكان يقال الناس يكتبون أحسن ما يسمعون ويحفظون أحسن ما يكتبون ويتحدثون بأحسن ما يحفظون والأصدق نوع تحت جنس الأحسن ومنها قوله ولا ترد على الناس كل ما حدثوك فكفى بذلك جهلا من الجهل المبادرة بإنكار ما يسمعه وقال ابن سينا في آخر الإشارات إياك أن يكون تكيسك وتبرؤك من العامة هو أن تنبري منكرا لكل شي ء فلذلك عجز وطيش وليس الخرق في تكذيبك ما لم يستبن لك بعد جليته دون الخرق في تصديقك بما لم تقم بين يديك بينة بل عليك الاعتصام بحبل التوقف وإن أزعجك استنكار ما يوعيه سمعك مما لم يبرهن على استحالته لك فالصواب أن تسرح أمثال ذلك إلى بقعة الإمكان ما لم يذدك عنها قائم البرهان . ومنها قوله واكظم الغيظ قد مدح الله تعالى ذلك فقال وَ اَلْكاظِمِينَ اَلْغَيْظَ و(1/5024)
روي أن عبدا لموسى بن جعفر ع قدم إليه صحفة فيها طعام حار فعجل فصبها على رأسه ووجهه فغضب فقال له وَ اَلْكاظِمِينَ اَلْغَيْظَ قال قد كظمت قال وَ اَلْعافِينَ عَنِ اَلنَّاسِ قال قد عفوت قال وَ اَللَّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ قال أنت حر لوجه الله وقد نحلتك ضيعتي الفلانية . ومنها قوله واحلم عند الغضب هذه مناسبة الأولى وقد تقدم منا قول كثير في الحلم وفضله وكذلك القول في قوله ع وتجاوز عند القدرة وكان يقال القدرة تذهب الحفيظة .
[ 47 ](1/5025)
و منها قوله واصفح مع الدولة تكن لك العاقبة هذه كانت شيمة رسول الله ص وشيمة علي ع أما شيمة رسول الله ص فظفر بمشركي مكة وعفا عنهم كما سبق القول فيه في عام الفتح وأما علي ع فظفر بأصحاب الجمل وقد شقوا عصا الإسلام عليه وطعنوا فيه وفي خلافته فعفا عنهم مع علمه بأنهم يفسدون عليه أمره فيما بعد ويصيرون إلى معاوية إما بأنفسهم أو بآرائهم ومكتوباتهم وهذا أعظم من الصفح عن أهل مكة لأن أهل مكة لم يبق لهم لما فتحت فئة يتحيزون إليها ويفسدون الدين عندها . ومنها قوله واستصلح كل نعمة أنعمها الله عليك معنى استصلحها استدمها لأنه إذا استدامها فقد أصلحها فإن بقاءها صلاح لها واستدامتها بالشكر . ومنها قوله ولا تضيعن نعمة من نعم الله عندك أي واس الناس منها وأحسن إليهم واجعل بعضها لنفسك وبعضها للصدقة والإيثار فإنك إن لم تفعل ذلك تكن قد أضعتها . ومنها قوله ولير عليك أثر النعمة قد أمر بأن يظهر الإنسان على نفسه آثار نعمة الله عليه وقال سبحانه وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ وقال الرشيد لجعفر قم بنا لنمضي إلى منزل الأصمعي فمضيا إليه خفية ومعهما خادم معه ألف دينار ليدفع ذلك إليه فدخلا داره فوجدا كساء جرداء وبارية سملاء وحصيرا مقطوعا وخباء قديمة وأباريق من خزف ودواة من زجاج ودفاتر عليها التراب وحيطانا مملوءة من نسج العناكب فوجم الرشيد وسأله مسائل غشة لم تكن من غرضه وإنما قطع بها خجله وقال الرشيد لجعفر أ لا ترى إلى نفس هذا المهين قد بررناه بأكثر
[ 48 ](1/5026)
من خمسين ألف دينار وهذه حاله لم تظهر عليه آثار نعمتنا والله لا دفعت إليه شيئا وخرج ولم يعطه . ومنها قوله واعلم أن أفضل المؤمنين أفضلهم تقدمة من نفسه وأهله وماله أي أفضلهم إنفاقا في البر والخير من ماله وهي التقدمة قال الله تعالى وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ فأما النفس والأهل فإن تقدمتهما في الجهاد وقد تكون التقدمة في النفس بأن يشفع شفاعة حسنة أو يحضر عند السلطان بكلام طيب وثناء حسن وأن يصلح بين المتخاصمين ونحو ذلك والتقدمة في الأهل أن يحج بولده وزوجته ويكلفهما المشاق في طاعة الله وأن يؤدب ولده إن أذنب وأن يقيم عليه الحد ونحو ذلك . ومنها قوله وما تقدم من خير يبق لك زخره وما تؤخره يكن لغيرك خيره وقد سبق مثل هذا وأن ما يتركه الإنسان بعده فقد حرم نفعه وكأنما كان يكدح لغيره وذلك من الشقاوة وقلة التوفيق . ومنها قوله واحذر صحابة من يفيل رأيه الصحابة بفتح الصاد مصدر صحبت والصحابة بالفتح أيضا جمع صاحب والمراد هاهنا الأول وفال رأيه فسد وهذا المعنى قد تكرر وقال طرفة
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
فإن القرين بالمقارن يقتدي
و منها قوله واسكن الأمصار العظام قد قيل لا تسكن إلا في مصر فيه سوق قائمة ونهر جار وطبيب حاذق وسلطان عادل فأما منازل الغفلة والجفاء فمثل قرى السواد الصغار فإن أهلها لا نور فيهم ولا ضوء عليهم وإنما هم كالدواب
[ 49 ]
و الأنعام همهم الحرث والفلاحة ولا يفقهون شيئا أصلا فمجاورتهم تعمي القلب وتظلم الحس وإذا لم يجد الإنسان من يعينه على طاعة الله وعلى تعلم العلم قصر فيهما . ومنها قوله واقصر رأيك على ما يعنيك كان يقال من دخل فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه . ومنها نهيه إياه عن القعود في الأسواق قد جاء في المثل السوق محل الفسوق . و(1/5027)
جاء في الخبر المرفوع الأسواق مواطن إبليس وجنده وذلك لأنها قلما تخلو عن الأيمان الكاذبة والبيوع الفاسدة وهي أيضا مجمع النساء المومسات وفجار الرجال وفيها اجتماع أرباب الأهواء والبدع فلا يخلو أن يتجادل اثنان منهم في المذاهب والنحل فيفضي إلى الفتن . ومنها قوله وانظر إلى من فضلت عليه كان يقال انظر إلى من دونك ولا تنظر إلى من فوقك وقد بين ع السر فيه فقال إن ذلك من أبواب الشكر وصدق ع لأنك إذا رأيت جاهلا وأنت عالم أو عالما وأنت أعلم منه أو فقيرا وأنت أغنى منه أو مبتلى بسقم وأنت معافى عنه كان ذلك باعثا وداعيا لك إلى الشكر . ومنها نهيه عن السفر يوم الجمعة ينبغي أن يكون هذا النهي عن السفر يوم الجمعة قبل الصلاة وأما بعد الصلاة فلا بأس به واستثنى فقال إلا فاصلا في سبيل الله أي شاخصا إلى الجهاد . قال أو في أمر تعذر به أي لضرورة دعتك إلى ذلك .
[ 50 ](1/5028)
و قد ورد نهي كثير عن السفر يوم الجمعة قبل أداء الفرض على أن من الناس من كره ذلك بعد الصلاة أيضا وهو قول شاذ . ومنها قوله وأطع الله في جمل أمورك أي في جملتها وفيها كلها وليس يعني في جملتها دون تفاصيلها قال فإن طاعة الله فاضلة على غيرها وصدق ع لأنها توجب السعادة الدائمة والخلاص من الشقاء الدائم ولا أفضل مما يؤدي إلى ذلك . ومنها قوله وخادع نفسك في العبادة أمره أن يتلطف بنفسه في النوافل وأن يخادعها ولا يقهرها فتمل وتضجر وتترك بل يأخذ عفوها ويتوخى أوقات النشاط وانشراح الصدر للعبادة . قال فأما الفرائض فحكمها غير هذا الحكم عليك أن تقوم بها كرهتها النفس أو لم تكرهها ثم أمره أن يقوم بالفريضة في وقتها ولا يؤخرها عنه فتصير قضاء . ومنها قوله وإياك أن ينزل بك المنون وأنت آبق من ربك في طلب الدنيا هذه وصية شريفة جدا جعل طالب الدنيا المعرض عن الله عند موته كالعبد الآبق يقدم به على مولاه أسيرا مكتوفا ناكس الرأس فما ظنك به حينئذ . ومنها قوله وإياك ومصاحبة الفساق فإن الشر بالشر ملحق يقول إن الطباع ينزع بعضها إلى بعض فلا تصحبن الفساق فإنه ينزع بك ما فيك من طبع الشر إلى مساعدتهم على الفسوق والمعصية وما هو إلا كالنار تقوى بالنار فإذا لم تجاورها وتمازجها نار كانت إلى الانطفاء والخمود أقرب .
[ 51 ]
و روي ملحق بكسر الحاء وقد جاء ذلك
في الخبر النبوي فإن عذابك بالكفار ملحق بالكسر . ومنها قوله وأحب أحباءه
قد جاء في الخبر لا يكمل إيمان امرئ حتى يحب من أحب الله ويبغض من أبغض الله ومنها قوله واحذر الغضب قد تقدم لنا كلام طويل في الغضب و(1/5029)
قال إنسان للنبي ص أوصني قال لا تغضب فقال زدني فقال لا تغضب قال زدني قال لا أجد لك مزيدا وإنما جعله ع جندا عظيما من جنود إبليس لأنه أصل الظلم والقتل وإفساد كل أمر صالح وهو إحدى القوتين المشئومتين اللتين لم يخلق أضر منهما على الإنسان وهما منبع الشر الغضب والشهوة
[ 52 ](1/5030)
70 ومن كتاب له ع إلى سهل بن حنيف الأنصاري وهو عامله على المدينة في معنى قوم من أهلها لحقوا بمعاوية
أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالاً مِمَّنْ قِبَلَكَ يَتَسَلَّلُونَ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَلاَ تَأْسَفْ عَلَى مَا يَفُوتُكَ مِنْ عَدَدِهِمْ وَ يَذْهَبُ عَنْكَ مِنْ مَدَدِهِمْ فَكَفَى لَهُمْ غَيّاً وَ لَكَ مِنْهُمْ شَافِياً فِرَارُهُمْ مِنَ اَلْهُدَى وَ اَلْحَقِّ وَ إِيضَاعُهُمْ إِلَى اَلْعَمَى وَ اَلْجَهْلِ فَإِنَّمَا هُمْ أَهْلُ دُنْيَا مُقْبِلُونَ عَلَيْهَا وَ مُهْطِعُونَ إِلَيْهَا قَدْ عَرَفُوا اَلْعَدْلَ وَ رَأَوْهُ وَ سَمِعُوهُ وَ وَعَوْهُ وَ عَلِمُوا أَنَّ اَلنَّاسَ عِنْدَنَا فِي اَلْحَقِّ أُسْوَةٌ فَهَرَبُوا إِلَى اَلْأَثَرَةِ فَبُعْداً لَهُمْ وَ سُحْقاً إِنَّهُمْ وَ اَللَّهِ لَمْ يَفِرُّوا يَنْفِرُوا مِنْ جَوْرٍ وَ لَمْ يَلْحَقُوا بِعَدْلٍ وَ إِنَّا لَنَطْمَعُ فِي هَذَا اَلْأَمْرِ أَنْ يُذَلِّلَ اَللَّهُ لَنَا صَعْبَهُ وَ يُسَهِّلَ لَنَا حَزْنَهُ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ وَ اَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ وَ رَحْمَةُ اَللَّهِ وَ بَرَكَاتُهُ قد تقدم نسب سهل بن حنيف وأخيه عثمان فيما مضى . ويتسللون يخرجون إلى معاوية هاربين في خفية واستتار . قال فلا تأسف أي لا تحزن والغي الضلال . قال ولك منهم شافيا أي يكفيك في الانتقام منهم وشفاء النفس من عقوبتهم أنهم يتسللون إلى معاوية .
[ 53 ]
قال ارض لمن غاب عنك غيبته فذاك ذنب عقابه فيه . والإيضاع الإسراع وضع البعير أي أسرع وأوضعه صاحبه قال
رأى برقا فأوضع فوق بكر
فلا يك ما أسال ولا أعاما(1/5031)
و مهطعون مسرعون أيضا والأثرة الاستئثار يقول قد عرفوا أني لا أقسم إلا بالسوية وأني لا أنفل قوما على قوم ولا أعطي على الأحساب والأنساب كما فعل غيري فتركوني وهربوا إلى من يستأثر ويؤثر . قال فبعدا لهم وسحقا دعاء عليهم بالبعد والهلاك . وروي أنهم لم ينفروا بالنون من نفر ثم ذكر أنه راج من الله أن يذلل له صعب هذا الأمر ويسهل له حزنه والحزن ما غلظ من الأرض وضده السهل
[ 54 ](1/5032)
71 ومن كتاب له ع إلى المنذر بن الجارود العبدي
و قد كان استعمله على بعض النواحي فخان الأمانة في بعض ما ولاه من أعماله : أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ صَلاَحَ أَبِيكَ غَرَّنِي مِنْكَ وَ ظَنَنْتُ أَنَّكَ تَتَّبِعُ هَدْيَهُ وَ تَسْلُكُ سَبِيلَهُ فَإِذَا أَنْتَ فِيمَا رُقِّيَ إِلَيَّ عَنْكَ لاَ تَدَعُ لِهَوَاكَ اِنْقِيَاداً وَ لاَ تُبْقِي لآِخِرَتِكَ عَتَاداً تَعْمُرُ دُنْيَاكَ بِخَرَابِ آخِرَتِكَ وَ تَصِلُ عَشِيرَتَكَ بِقَطِيعَةِ دِينِكَ وَ لَئِنْ كَانَ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ حَقّاً لَجَمَلُ أَهْلِكَ وَ شِسْعُ نَعْلِكَ خَيْرٌ مِنْكَ وَ مَنْ كَانَ بِصِفَتِكَ فَلَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يُسَدَّ بِهِ ثَغْرٌ أَوْ يُنْفَذَ بِهِ أَمْرٌ أَوْ يُعْلَى لَهُ قَدْرٌ أَوْ يُشْرَكَ فِي أَمَانَةٍ أَوْ يُؤْمَنَ عَلَى جِبَايَةٍ فَأَقْبِلْ إِلَيَّ حِينَ يَصِلُ إِلَيْكَ كِتَابِي هَذَا إِنْ شَاءَ اَللَّهُ : قال الرضي رضي الله عنه : المنذر بن الجارود هذا هو الذي قال فيه أمير المؤمنين ع إنه لنظار في عطفيه مختال في برديه تفال في شراكيه
[ 55 ](1/5033)
ذكر المنذر وأبيه الجارود
هو المنذر بن الجارود واسم الجارود بشر بن خنيس بن المعلى وهو الحارث بن زيد بن حارثة بن معاوية بن ثعلبة بن جذيمة بن عوف بن أنمار بن عمرو بن وديعة بن لكيز بن أفصى بن عبد القيس بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان بيتهم بيت الشرف في عبد القيس وإنما سمي الجارود لبيت قاله بعض الشعراء فيه في آخره .
كما جرد الجارود بكر بن وائل
و وفد الجارود على النبي ص في سنة تسع وقيل في سنة عشر . وذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب أنه كان نصرانيا فأسلم وحسن إسلامه وكان قد وفد مع المنذر بن ساوى في جماعة من عبد القيس وقال
شهدت بأن الله حق وسامحت
بنات فؤادي بالشهادة والنهض
فأبلغ رسول الله مني رسالة
بأني حنيف حيث كنت من الأرض
قال وقد اختلف في نسبه اختلافا كثيرا فقيل بشر بن المعلى بن خنيس وقيل بشر بن خنيس بن المعلى وقيل بشر بن عمرو بن العلاء وقيل بشر بن عمرو بن المعلى وكنيته أبو عتاب ويكنى أيضا أبا المنذر . وسكن الجارود البصرة وقتل بأرض فارس وقيل بل قتل بنهاوند مع النعمان بن مقرن وقيل إن عثمان بن العاص بعث الجارود في بعث نحو ساحل فارس فقتل
[ 56 ]
بموضع يعرف بعقبة الجارود وكان قبل ذلك يعرف بعقبة الطين فلما قتل الجارود فيه عرفه الناس بعقبة الجارود وذلك في سنة إحدى وعشرين . وقد روي عن النبي ص أحاديث وروي عنه وأمه دريمكة بنت رويم الشيبانية . وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب التاج إن رسول الله ص أكرم الجارود وعبد القيس حين وفدا إليه وقال للأنصار قوموا إلى إخوانكم وأشبه الناس بكم قال لأنهم أصحاب نخل كما أن الأوس والخزرج أصحاب نخل ومسكنهم البحرين واليمامة قال أبو عبيدة وقال عمر بن الخطاب لو لا أني(1/5034)
سمعت رسول الله ص يقول إن هذا الأمر لا يكون إلا في قريش لما عدلت بالخلافة عن الجارود بن بشر بن المعلى ولا تخالجني في ذلك الأمور . قال أبو عبيدة ولعبد القيس ست خصال فاقت بها على العرب منها أسود العرب بيتا وأشرفهم رهطا الجارود هو وولده . ومنها أشجع العرب حكيم بن جبلة قطعت رجله يوم الجمل فأخذها بيده وزحف على قاتله فضربه بها حتى قتله وهو يقول
يا نفس لا تراعي
إن قطعت كراعي
إن معي ذراعي
فلا يعرف في العرب أحد صنع صنيعه . ومنها أعبد العرب هرم بن حيان صاحب أويس القرني . ومنها أجود العرب عبد الله بن سواد بن همام غزا السند في أربعة آلاف ففتحها وأطعم الجيش كله ذاهبا وقافلا فبلغه أن رجلا من الجيش مرض فاشتهى خبيصا
[ 57 ]
فأمر باتخاذ الخبيص لأربعة آلاف إنسان فأطعمهم حتى فضل وتقدم إليهم ألا يوقد أحد منهم نارا لطعام في عسكره مع ناره . ومنها أخطب العرب مصقلة بن رقبة به يضرب المثل فيقال أخطب من مصقلة . ومنها أهدى العرب في الجاهلية وأبعدهم مغارا وأثرا في الأرض في عدوه وهو دعيميص الرمل كان يعرف بالنجوم هداية وكان أهدى من القطا يدفن بيض النعام في الرمل مملوءا ماء ثم يعود إليه فيستخرجه . فأما المنذر بن الجارود فكان شريفا وابنه الحكم بن المنذر يتلوه في الشرف والمنذر غير معدود في الصحابة ولا رأى رسول الله ص ولا ولد له في أيامه وكان تائها معجبا بنفسه وفي الحكم ابنه يقول الراجز
يا حكم بن المنذر بن الجارود
أنت الجواد ابن الجواد المحمود
سرادق المجد عليك ممدود(1/5035)
و كان يقال أطوع الناس في قومه الجارود بن بشر بن المعلى لما قبض رسول الله ص فارتدت العرب خطب قومه فقال أيها الناس إن كان محمد قد مات فإن الله حتى لا يموت فاستمسكوا بدينكم ومن ذهب له في هذه الفتنة دينار أو درهم أو بقرة أو شاة فعلي مثلاه فما خالفه من عبد القيس أحد . قوله ع إن صلاح أبيك غرني منك قد ذكرنا حال الجارود وصحبته وصلاحه وكثيرا ما يغتر الإنسان بحال الآباء فيظن أن الأبناء على منهاجهم فلا يكون والأمر كذلك يُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ . قوله فيما رقي بالتشديد أي فيما رفع إلي وأصله أن يكون الإنسان في موضع عال
[ 58 ]
فيرقى إليه شي ء وكان العلو هاهنا هو علو المرتبة بين الإمام والأمير ونحوه قولهم تعال باعتبار علو رتبة الآمر على المأمور واللام في لهواك متعلقة بمحذوف دل عليه انقيادا ولا يتعلق بنفس انقياد لأن المتعلق من حروف الجر بالمصدر لا يجوز أن يتقدم على المصدر . والعتاد العدة . قوله وتصل عشيرتك كان فيما رقي إليه عنه أنه يقتطع المال ويفيضه على رهطه وقومه ويخرج بعضه في لذاته ومآربه . قوله لجمل أهلك العرب تضرب بالجمل المثل في الهوان قال
لقد عظم البعير بغير لب
و لم يستغن بالعظم البعير
يصرفه الصبي بكل وجه
و يحبسه على الخسف الجرير
و تضربه الوليدة بالهراوى
فلا غير لديه ولا نكير(1/5036)
فأما شسع النعل فضرب المثل بها في الاستهانة مشهور لابتذالها ووطئها الأقدام في التراب . ثم ذكر أنه من كان بصفته فليس بأهل لكذا ولا كذا إلى أن قال أو يشرك في أمانة وقد جعل الله تعالى البلاد والرعايا أمانة في ذمة الإمام فإذا استعمل العمال على البلاد والرعايا فقد شركهم في تلك الأمانة . قال أو يؤمن على جباية أي على استجباء الخراج وجمعه وهذه الرواية التي سمعناها ومن الناس من يرويها على خيانة وهكذا رواها الراوندي ولم يرو الرواية الصحيحة التي ذكرناها نحن وقال يكون على متعلقة بمحذوف أو بيؤمن نفسها وهو بعيد ومتكلف .
[ 59 ]
ثم أمره أن يقبل إليه وهذه كناية عن العزل . فأما الكلمات التي ذكرها الرضي عنه ع في أمر المنذر فهي دالة على أنه نسبه إلى التيه والعجب فقال نظار في عطفيه أي جانبيه ينظر تارة هكذا وتارة هكذا ينظر لنفسه ويستحسن هيئته ولبسته وينظر هل عنده نقص في ذلك أو عيب فيستدركه بإزالته كما يفعل أرباب الزهو ومن يدعي لنفسه الحسن والملاحة . قال مختال في برديه يمشي الخيلاء عجبا قال محمد بن واسع لابن له وقد رآه يختال في برد له ادن فدنا فقال من أين جاءتك هذه الخيلاء ويلك أما أمك فأمة ابتعتها بمائتي درهم وأما أبوك فلا أكثر الله في الناس أمثاله . قوله تفال في شراكيه الشراك السير الذي يكون في النعل على ظهر القدم . والتفل بالسكون مصدر تفل أي بصق والتفل محركا البصاق نفسه وإنما يفعله المعجب والتائه في شراكيه ليذهب عنهما الغبار والوسخ يتفل فيهما ويمسحهما ليعودا كالجديدين
[ 60 ](1/5037)
72 ومن كتاب له ع إلى عبد الله بن العباس رضي الله عنه
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكَ لَسْتُ بِسَابِقٍ أَجَلَكَ وَ لاَ مَرْزُوقٍ مَا لَيْسَ لَكَ وَ اِعْلَمْ بِأَنَّ اَلدَّهْرَ يَوْمَانِ يَوْمٌ لَكَ وَ يَوْمٌ عَلَيْكَ وَ أَنَّ اَلدُّنْيَا دَارُ دُوَلٍ فَمَا كَانَ مِنْهَا لَكَ أَتَاكَ عَلَى ضَعْفِكَ وَ مَا كَانَ مِنْهَا عَلَيْكَ لَمْ تَدْفَعْهُ بِقُوَّتِكَ قد تقدم شرح مثل هذا الكلام وهذا معنى مطروق قد قال الناس فيه فأكثروا قال الشاعر
قد يرزق العاجز الضعيف وما
شد بكور رحلا ولا قتبا
و يحرم المرء ذو الجلادة والرأي
و من لا يزال مغتربا
و من جيد ما قيل في هذا المعنى قول أبي يعقوب الخريمي
هل الدهر إلا صرفه ونوائبه
و سراء عيش زائل ومصائبه
يقول الفتى ثمرت مالي وإنما
لوارثه ما ثمر المال كاسبه
[ 61 ]
يحاسب فيه نفسه في حياته
و يتركه نهبا لمن لا يحاسبه
فكله وأطعمه وخالسه وارثا
شحيحا ودهرا تعتريك نوائبه
أرى المال والإنسان للدهر نهبة
فلا البخل مبقية ولا الجود خاربه
لكل امرئ رزق وللرزق جالب
و ليس يفوت المرء ما خط كاتبه
يخيب الفتى من حيث يرزق غيره
و يعطى الفتى من حيث يحرم صاحبه
يساق إلى ذا رزقه وهو وادع
و يحرم هذا الرزق وهو يغالبه
و إنك لا تدري أ رزقك في الذي
تطالبه أم في الذي لا تطالبه
تناس ذنوب الأقربين فإنه
لكل حميم راكب هو راكبه
له هفوات في الرخاء يشوبها
بنصرة يوم لا توارى كواكبه
تراه غدوا ما أمنت وتتقي
بجبهته يوم الوغى من يحاربه
لكل امرئ إخوان بؤس ونعمة
و أعظمهم في النائبات أقاربه
[ 62 ](1/5038)
73 ومن كتاب له ع إلى معاوية
أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي عَلَى اَلتَّرَدُّدِ فِي جَوَابِكَ وَ اَلاِسْتِمَاعِ إِلَى كِتَابِكَ لَمُوَهِّنٌ رَأْيِي وَ مُخَطِّئٌ فِرَاسَتِي وَ إِنَّكَ إِذْ تُحَاوِلُنِي اَلْأُمُورَ وَ تُرَاجِعُنِي اَلسُّطُورَ كَالْمُسْتَثْقِلِ اَلنَّائِمِ تَكْذِبُهُ أَحْلاَمُهُ وَ اَلْمُتَحَيِّرِ اَلْقَائِمِ يَبْهَظُهُ مَقَامُهُ لاَ يَدْرِي أَ لَهُ مَا يَأْتِي أَمْ عَلَيْهِ وَ لَسْتَ بِهِ غَيْرَ أَنَّهُ بِكَ شَبِيهٌ وَ أُقْسِمُ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَوْ لاَ بَعْضُ اَلاِسْتِبْقَاءِ لَوَصَلَتْ مِنِّي إِلَيْكَ إِلَيْكَ مِنِّي قَوَارِعُ تَقْرَعُ اَلْعَظْمَ وَ تَنْهَسُ تَهْلِسُ اَللَّحْمَ وَ اِعْلَمْ أَنَّ اَلشَّيْطَانَ قَدْ ثَبَّطَكَ عَنْ أَنْ تُرَاجِعَ أَحْسَنَ أُمُورِكَ وَ تَأْذَنَ لِمَقَالِ نَصِيحِكَ نَصِيحَتِكَ وَ اَلسَّلاَمُ لِأَهْلِهِ روي نوازع جمع نازعة أي جاذبة قالعة وروي تهلس اللحم وتلهس بتقديم اللام وتهلس بكسر اللام تذيبه حتى يصير كبدن به الهلاس وهو السل وأما تلهس فهو بمعنى تلحس أبدلت الحاء هاء وهو عن لحست كذا بلساني بالكسر ألحسه أي تأتي على اللحم حتى تلحسه لحسا لأن الشي ء إنما يلحس إذا ذهب وبقي أثره وأما ينهس وهي الرواية المشهورة فمعناه يعترق .
[ 63 ](1/5039)
و تأذن بفتح الذال أي تسمع . قوله ع إني لموهن رأيي بالتشديد أي إني لائم نفسي ومستضعف رأيي في أن جعلتك نظيرا أكتب وتجيبني وتكتب وأجيبك وإنما كان ينبغي أن يكون جواب مثلك السكوت لهوانك . فإن قلت فما معنى قوله على التردد . قلت ليس معناه التوقف بل معناه الترداد والتكرار أي أنا لائم نفسي على أني أكرر تارة بعد تارة أجوبتك عما تكتبه ثم قال وإنك في مناظرتي ومقاومتي بالأمور التي تحاولها والكتب التي تكتبها كالنائم يرى أحلاما كاذبة أو كمن قام مقاما بين يدي سلطان أو بين قوم عقلاء ليعتذر عن أمر أو ليخطب بأمر في نفسه قد بهظه مقامه ذلك أي أثقله فهو لا يدري هل ينطق بكلام هو له أم عليه فيتحير ويتبلد ويدركه العمى والحصر . قال وإن كنت لست بذلك الرجل فإنك شبيه به أما تشبيهه بالنائم ثم ذي الأحلام فإن معاوية لو رأى في المنام في حياة رسول الله ص أنه خليفة يخاطب بإمرة المؤمنين ويحارب عليا على الخلافة ويقوم في المسلمين مقام رسول الله ص لما طلب لذلك المنام تأويلا ولا تعبيرا ولعده من وساوس الخيال وأضغاث الأحلام وكيف وأنى له أن يخطر هذا بباله وهو أبعد الخلق منه وهذا كما يخطر للنفاط أن يكون ملكا ولا تنظرن إلى نسبه في المناقب بل انظر إلى أن
[ 64 ](1/5040)
الإمامة هي نبوة مختصره وأن الطليق المعدود من المؤلفة قلوبهم المكذب بقلبه وأن أقر بلسانه الناقص المنزلة عند المسلمين القاعد في أخريات الصف إذا دخل إلى مجلس فيه أهل السوابق من المهاجرين كيف يخطر ببال أحد أنها تصير فيه ويملكها ويسمه الناس وسمها ويكون للمؤمنين أميرا ويصير هو الحاكم في رقاب أولئك العظماء من أهل الدين والفضل وهذا أعجب من العجب أن يجاهد النبي ص قوما بسيفه ولسانه ثلاثا وعشرين سنة ويلعنهم ويبعدهم عنه وينزل القرآن بذمهم ولعنهم والبراءة منهم فلما تمهدت له الدولة وغلب الدين على الدنيا وصارت شريعة دينية محكمة مات فشيد دينه الصالحون من أصحابه وأوسعوا رقعة ملته وعظم قدرها في النفوس فتسلمها منهم أولئك الأعداء الذين جاهدهم النبي ص فملكوها وحكموا فيها وقتلوا الصلحاء والأبرار وأقارب نبيهم الذين يظهرون طاعته وآلت تلك الحركة الأولى وذلك الاجتهاد السابق إلى أن كان ثمرته لهم فليته كان يبعث فيرى معاوية الطليق وابنه ومروان وابنه خلفاء في مقامه يحكمون على المسلمين فوضح أن معاوية فيما يراجعه ويكاتبه به كصاحب الأحلام . وأما تشبيهه إياه بالقائم مقاما قد بهظه فلأن الحجج والشبه والمعاذير التي يذكرها معاوية في كتبه أوهن من نسج العنكبوت فهو حال ما يكتب كالقائم ذلك المقام يخبط خبط العشواء ويكتب ما يعلم هو والعقلاء من الناس أنه سفه وباطل . فإن قلت فما معنى قوله ع لو لا بعض الاستبقاء وهل كانت الحال تقتضي أن يستبقي وما تلك القوارع التي أشار إليها .
[ 65 ](1/5041)
قلت قد قيل إن النبي ص فوض إليه أمر نسائه بعد موته وجعل إليه أن يقطع عصمة أيتهن شاء إذا رأى ذلك وله من الصحابة جماعة يشهدون له بذلك فقد كان قادرا على أن يقطع عصمة أم حبيبة ويبيح نكاحها الرجال عقوبة لها ولمعاوية أخيها فإنها كانت تبغض عليا كما يبغضه أخوها ولو فعل ذلك لانتهس لحمه وهذا قول الإمامية وقد رووا عن رجالهم أنه ع تهدد عائشة بضرب من ذلك وأما نحن فلا نصدق هذا الخبر ونفسر كلامه على معنى آخر وهو أنه قد كان معه من الصحابة قوم كثيرون سمعوا من رسول الله ص يلعن معاوية بعد إسلامه ويقول إنه منافق كافر وإنه من أهل النار والأخبار في ذلك مشهورة فلو شاء أن يحمل إلى أهل الشام خطوطهم وشهاداتهم بذلك ويسمعهم قولهم ملافظة ومشافهة لفعل ولكنه رأى العدول عن ذلك مصلحة لأمر يعلمه هو ع ولو فعل ذلك لانتهس لحمه وإنما أبقى عليه . وقلت لأبي زيد البصري لم أبقى عليه فقال والله ما أبقى عليه مراعاة له ولا رفقا به ولكنه خاف أن يفعل كفعله فيقول لعمرو بن العاص وحبيب بن مسلمة وبسر بن أبي أرطاة وأبي الأعور وأمثالهم ارووا أنتم عن النبي ص أن عليا ع منافق من أهل النار ثم يحمل ذلك إلى أهل العراق فلهذا السبب أبقى عليه
[ 66 ](1/5042)
74 ومن حلف له ع كتبه بين ربيعة واليمن
و نقل من خط هشام بن الكلبي : هَذَا مَا اِجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ اَلْيَمَنِ حَاضِرُهَا وَ بَادِيهَا وَ رَبِيعَةُ حَاضِرُهَا وَ بَادِيهَا أَنَّهُمْ عَلَى كِتَابِ اَللَّهِ يَدْعُونَ إِلَيْهِ وَ يَأْمُرُونَ بِهِ وَ يُجِيبُونَ مَنْ دَعَا إِلَيْهِ وَ أَمَرَ بِهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً وَ لاَ يَرْضَوْنَ بِهِ بَدَلاً وَ أَنَّهُمْ يَدٌ وَاحِدَةٌ عَلَى مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ وَ تَرَكَهُ وَ أَنَّهُمْ أَنْصَارٌ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ دَعْوَتُهُمْ وَاحِدَةٌ لاَ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ لِمَعْتَبَةِ عَاتِبٍ وَ لاَ لِغَضَبِ غَاضِبٍ وَ لاَ لاِسْتِذْلاَلِ قَوْمٍ قَوْماً وَ لاَ لِمَسَبَّةِ قَوْمٍ قَوْماً عَلَى ذَلِكَ شَاهِدُهُمْ وَ غَائِبُهُمْ وَ سَفِيهُهُمْ وَ عَالِمُهُمْ وَ حَلِيمُهُمْ وَ جَاهِلُهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ عَهْدَ اَللَّهِ وَ مِيثَاقَهُ إِنَّ عَهْدَ اَللَّهِ كَانَ مَسْئُولاً وَ كَتَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الحلف العهد أي ومن كتاب حلف فحذف المضاف واليمن كل من ولده قحطان نحو حمير وعك وجذام وكندة والأزد وغيرهم . وربيعة هو ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان وهم بكر وتغلب وعبد القيس . وهشام هو هشام بن محمد بن السائب الكلبي نسابة ابن نسابة عالم بأيام العرب وأخبارها وأبوه أعلم منه وهو يروى عن أبيه .
[ 67 ](1/5043)
و الحاضر ساكنو الحضر والبادي ساكنو البادية واللفظ لفظ المفرد والمعنى الجمع . قوله إنهم على كتاب الله حرف الجر يتعلق بمحذوف أي مجتمعون . قوله لا يشترون به ثمنا قليلا أي لا يتعوضون عنه بالثمن فسمى التعوض اشتراء والأصل هو أن يشترى الشي ء بالثمن لا الثمن بالشي ء لكنه من باب اتساع العرب وهو من ألفاظ القرآن العزيز . وإنهم يد واحدة أي لا خلف بينهم . قوله لمعتبة عاتب أي لا يؤثر في هذا العهد والحلف ولا ينقضه أن يعتب أحد منهم على بعضهم لأنه استجداه فلم يجده أو طلب منه أمرا فلم يقم به ولا لأن أحدا منهم غضب من أمر صدر من صاحبه ولا لأن عزيزا منهم استذل ذليلا منهم ولا لأن إنسانا منهم سب أو هجا بعضهم فإن أمثال هذه الأمور يتعذر ارتفاعها بين الناس ولو كانت تنقض الحلف لما كان حلف أصلا . واعلم أنه قد ورد
في الحديث عن النبي ص كل حلف كان في الجاهلية فلا يزيده الإسلام إلا شدة ولا حلف في الإسلام لكن فعل أمير المؤمنين ع أولى بالاتباع من خبر الواحد وقد تحالفت العرب في الإسلام مرارا ومن أراد الوقوف على ذلك فليطلبه من كتب التواريخ
[ 68 ](1/5044)
75 ومن كتاب له ع إلى معاوية من المدينة في أول ما بويع له بالخلافة
ذكره الواقدي في كتاب الجمل : مِنْ عَبْدِ اَللَّهِ عَلِيٍّ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ عَلِمْتَ إِعْذَارِي فِيكُمْ وَ إِعْرَاضِي عَنْكُمْ حَتَّى كَانَ مَا لاَ بُدَّ مِنْهُ وَ لاَ دَفْعَ لَهُ وَ اَلْحَدِيثُ طَوِيلٌ وَ اَلْكَلاَمُ كَثِيرٌ وَ قَدْ أَدْبَرَ مَا أَدْبَرَ وَ أَقْبَلَ مَا أَقْبَلَ فَبَايِعْ مَنْ قِبَلَكَ وَ أَقْبِلْ إِلَيَّ فِي وَفْدٍ مِنْ أَصْحَابِكَ وَ اَلسَّلاَمُ كتابه إلى معاوية ومخاطبته لبني أمية جميعا قال وقد علمت إعذاري فيكم أي كوني ذا عذر لو لمتكم أو ذممتكم يعني في أيام عثمان . ثم قال وإعراضي عنكم أي مع كوني ذا عذر لو فعلت ذلك فلم أفعله بل أعرضت عن إساءتكم إلي وضربت عنكم صفحا حتى كان ما لا بد منه يعني قتل عثمان وما جرى من الرجبة بالمدينة . ثم قاطعه الكلام مقاطعة وقال له والحديث طويل والكلام كثير وقد أدبر ذلك الزمان وأقبل زمان آخر فبايع وأقدم فلم يبايع ولا قدم وكيف يبايع
[ 69 ]
و عينه طامحة إلى الملك والرئاسة منذ أمره عمر على الشام وكان عالي الهمة تواقا إلى معالي الأمور وكيف يطيع عليا والمحرضون له على حربه عدد الحصى ولو لم يكن إلا الوليد بن عقبة لكفى وكيف يسمع قوله
فو الله ما هند بأمك إن مضى النهار
و لم يثأر بعثمان ثائر
أ يقتل عبد القوم سيد أهله
و لم تقتلوه ليت أمك عاقر
و من عجب أن بت بالشام وادعا
قريرا وقد دارت عليه الدوائر(1/5045)
و يطيع عليا ويبايع له ويقدم عليه ويسلم نفسه إليه وهو نازل بالشام في وسط قحطان ودونه منهم حرة لا ترام وهم أطوع له من نعله والأمر قد أمكنه الشروع فيه وتالله لو سمع هذا التحريض أجبن الناس وأضعفهم نفسا وأنقصهم همة لحركه وشحذ من عزمه فكيف معاوية وقد أيقظ الوليد بشعره من لا ينام
[ 70 ](1/5046)
76 ومن وصية له ع لعبد الله بن العباس عند استخلافه إياه على البصرة
سَعِ اَلنَّاسَ بِوَجْهِكَ وَ مَجْلِسِكَ وَ حُكْمِكَ وَ إِيَّاكَ وَ اَلْغَضَبَ فَإِنَّهُ طَيْرَةٌ مِنَ اَلشَّيْطَانِ وَ اِعْلَمْ أَنَّ مَا قَرَّبَكَ مِنَ اَللَّهِ يُبَاعِدُكَ مِنَ اَلنَّارِ وَ مَا بَاعَدَكَ مِنَ اَللَّهِ يُقَرِّبُكَ مِنَ اَلنَّارِ روي وحلمك والقرب من الله هو القرب من ثوابه ولا شبهة أن ما قرب من الثواب باعد من العقاب وبالعكس لتنافيهما . فأما وصيته له أن يسع الناس بوجهه ومجلسه وحكمه فقد تقدم شرح مثله وكذلك القول في الغضب . وطيرة من الشيطان بفتح الطاء وسكون الياء أي خفة وطيش قال الكميت
و حلمك عز إذا ما حلمت
و طيرتك الصاب والحنظل
[ 71 ](1/5047)
77 ومن وصية له ع لعبد الله بن العباس أيضا لما بعثه للاحتجاج على الخوارج
لاَ تُخَاصِمْهُمْ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّ اَلْقُرْآنَ حَمَّالٌ ذُو وُجُوهٍ تَقُولُ وَ يَقُولُونَ . . . وَ لَكِنْ حَاجِجْهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَجِدُوا عَنْهَا مَحِيصاً هذا الكلام لا نظير له في شرفه وعلو معناه وذلك أن القرآن كثير الاشتباه فيه مواضع يظن في الظاهر أنها متناقضة متنافية نحو قوله لا تُدْرِكُهُ اَلْأَبْصارُ وقوله إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ونحو قوله وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ وقوله وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا اَلْعَمى عَلَى اَلْهُدى ونحو ذلك وهو كثير جدا وأما السنة فليست كذلك وذلك لأن الصحابة كانت تسأل رسول الله ص وتستوضح منه الأحكام في الوقائع وما عساه يشتبه عليهم من كلامهم يراجعونه فيه ولم يكونوا يراجعونه في القرآن إلا فيما قل بل كانوا يأخذونه منه تلقفا وأكثرهم لا يفهم معناه
[ 72 ](1/5048)
لا لأنه غير مفهوم بل لأنهم ما كانوا يتعاطون فهمه إما إجلالا له أو لرسول الله أن يسألوه عنه أو يجرونه مجرى الأسماء الشريفة التي إنما يراد منها بركتها لا الإحاطة بمعناها فلذلك كثر الاختلاف في القرآن وأيضا فإن ناسخه ومنسوخه أكثر من ناسخ السنة ومنسوخها وقد كان في الصحابة من يسأل الرسول عن كلمة في القرآن يفسرها له تفسيرا موجزا فلا يحصل له كل الفهم لما أنزلت آية الكلالة وقال في آخرها يُبَيِّنُ اَللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا سأله عمر عن الكلالة ما هو فقال له يكفيك آية الصيف لم يزد على ذلك فلم يراجعه عمر وانصرف عنه فلم يفهم مراده وبقي عمر على ذلك إلى أن مات وكان يقول بعد ذلك اللهم مهما بينت فإن عمر لم يتبين يشير إلى قوله يُبَيِّنُ اَللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وكانوا في السنة ومخاطبة الرسول على خلاف هذه القاعدة فلذلك أوصاه علي ع أن يحاجهم بالسنة لا بالقرآن . فإن قلت فهل حاجهم بوصيته . قلت لا بل حاجهم بالقرآن مثل قوله فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها ومثل قوله في صيد المحرم يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ولذلك لم يرجعوا والتحمت الحرب وإنما رجع باحتجاجه نفر منهم . فإن قلت فما هي السنة التي أمره أن يحاجهم بها . قلت كان لأمير المؤمنين ع في ذلك غرض صحيح وإليه أشار وحوله كان يطوف ويحوم وذلك أنه أراد أن يقول لهم
قال رسول الله ص علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار و
قوله اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله ونحو ذلك من الأخبار التي
[ 73 ](1/5049)
كانت الصحابة قد سمعتها من فلق فيه ص وقد بقي ممن سمعها جماعة تقوم الحجة وتثبت بنقلهم ولو احتج بها على الخوارج أنه لا يحل مخالفته والعدول عنه بحال لحصل من ذلك غرض أمير المؤمنين في محاجتهم وأغراض أخرى أرفع وأعلى منهم فلم يقع الأمر بموجب ما أراد وقضي عليهم بالحرب حتى أكلتهم عن آخرهم وكان أمر الله مفعولا
[ 74 ](1/5050)
78 ومن كتاب له ع أجاب به أبا موسى الأشعري
عن كتاب كتبه إليه من المكان الذي اتعدوا فيه للحكومة وذكر هذا الكتاب سعيد بن يحيى الأموي في كتاب المغازي : فَإِنَّ اَلنَّاسَ قَدْ تَغَيَّرَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ حَظِّهِمْ فَمَالُوا مَعَ اَلدُّنْيَا وَ نَطَقُوا بِالْهَوَى وَ إِنِّي نَزَلْتُ مِنْ هَذَا اَلْأَمْرِ مَنْزِلاً مُعْجِباً اِجْتَمَعَ بِهِ أَقْوَامٌ أَعْجَبَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ وَ أَنَا أُدَاوِي مِنْهُمْ قَرْحاً أَخَافُ أَنْ يَعُودَ عَلَقاً يَعُودُ يَكُونَ عَلَقاً وَ لَيْسَ رَجُلٌ فَاعْلَمْ أَحْرَصَ اَلنَّاسِ عَلَى جَمَاعَةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ص وَ أُلْفَتِهَا مِنِّي أَبْتَغِي بِذَلِكَ حُسْنَ اَلثَّوَابِ وَ كَرَمَ اَلْمَآبِ وَ سَأَفِي بِالَّذِي وَأَيْتُ عَلَى نَفْسِي وَ إِنْ تَغَيَّرْتَ عَنْ صَالِحِ مَا فَارَقْتَنِي عَلَيْهِ فَإِنَّ اَلشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ نَفْعَ مَا أُوتِيَ مِنَ اَلْعَقْلِ وَ اَلتَّجْرِبَةِ وَ إِنِّي لَأَعْبَدُ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ بِبَاطِلٍ وَ أَنْ أُفْسِدَ أَمْراً قَدْ أَصْلَحَهُ اَللَّهُ فَدَعْ عَنْكَ مَا لاَ تَعْرِفُ فَإِنَّ شِرَارَ اَلنَّاسِ طَائِرُونَ إِلَيْكَ بِأَقَاوِيلِ اَلسُّوءِ وَ اَلسَّلاَمُ روي ونطقوا مع الهوى أي مائلين مع الهوى . وروي وأنا أداري بالراء من المداراة وهي الملاينة والمساهلة .
[ 75 ](1/5051)
و روي نفع ما أولى باللام يقول أوليته معروفا . وروي إن قال قائل بباطل ويفسد أمرا قد أصلحه الله . واعلم أن هذا الكتاب كتاب من شك في أبي موسى واستوحش منه ومن قد نقل عنه إلى أبي موسى كلاما إما صدقا وإما كذبا وقد نقل عن أبي موسى إليه كلاما إما صدقا أيضا وإما كذبا قال ع إن الناس قد تغير كثير منهم عن حظهم من الآخرة فمالوا مع الدنيا وإني نزلت من هذا الأمر منزلا معجبا بكسر الجيم أي يعجب من رآه أي يجعله متعجبا منه . وهذا الكلام شكوى من أصحابه ونصاره من أهل العراق فإنهم كان اختلافهم عليه واضطرابهم شديدا جدا والمنزل والنزول هاهنا مجاز واستعارة والمعنى أني حصلت في هذا الأمر الذي حصلت فيه على حال معجبة لمن تأملها لأني حصلت بين قوم كل واحد منهم مستبد برأي يخالف فيه رأي صاحبه فلا تنتظم لهم كلمة ولا يستوثق لهم أمر وإن حكمت عليهم برأي أراه أنا خالفوه وعصوه ومن لا يطاع فلا رأي له وأنا معهم كالطبيب الذي يداوي قرحا أي جراحة قد قاربت الاندمال ولم تندمل بعد فهو يخاف أن يعود علقا أي دما . ثم قال له ليس أحد فاعلم أحرص على ألفة الأمة وضم نشر المسلمين . وأدخل قوله فاعلم بين اسم ليس وخبرها فصاحة ويجوز رفع أحرص بجعله صفة لاسم ليس ويكون الخبر محذوفا أي ليس في الوجود رجل . وتقول قد وأيت وأيا أي وعدت وعدا قال له أما أنا فسوف أفي بما وعدت وما استقر بيني وبينك وإن كنت أنت قد تغيرت عن صالح ما فارقتني عليه .
[ 76 ]
فإن قلت فهل يجوز أن يكون قوله وإن تغيرت من جملة قوله فيما بعد فإن الشقي كما تقول إن خالفتني فإن الشقي من يخالف الحق . قلت نعم والأول أحسن لأنه أدخل في مدح أمير المؤمنين ع كأنه يقول أنا أفي وإن كنت لا تفي والإيجاب يحسنه السلب الواقع في مقابلته
و الضد يظهر حسنه الضد(1/5052)
ثم قال وإني لأعبد أي آنف من عبد بالكسر أي أنف وفسروا قوله فَأَنَا أَوَّلُ اَلْعابِدِينَ بذلك يقول إني لآنف من أن يقول غيري قولا باطلا فكيف لا آنف أنا من ذلك لنفسي ثم تختلف الروايات في اللفظة بعدها كما ذكرنا . ثم قال فدع عنك ما لا تعرف أي لا تبن أمرك إلا على اليقين والعلم القطعي ولا تصغ إلى أقوال الوشاة ونقلة الحديث فإن الكذب يخالط أقوالهم كثيرا فلا تصدق ما عساه يبلغك عني شرار الناس فإنهم سراع إلى أقاويل السوء ولقد أحسن القائل فيهم
أن يسمعوا الخير يخفوه وإن سمعوا
شرا أذاعوا وإن لم يسمعوا كذبوا
و نحو قول الآخر
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا
و إن ذكرت بخير عندهم دفنوا
[ 77 ](1/5053)
79 ومن كتاب كتبه ع لما استخلف إلى أمراء الأجناد
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ مَنَعُوا اَلنَّاسَ اَلْحَقَّ فَاشْتَرَوْهُ وَ أَخَذُوهُمْ بِالْبَاطِلِ فَاقْتَدَوْهُ أي منعوا الناس الحق فاشترى الناس الحق منهم بالرشى والأموال أي لم يضعوا الأمور مواضعها ولا ولوا الولايات مستحقيها وكانت أمورهم الدينية والدنياوية تجري على وفق الهوى والغرض الفاسد فاشترى الناس منهم الميراث والحقوق كما تشترى السلع بالمال . ثم قال وأخذوهم بالباطل فاقتدوه أي حملوهم على الباطل فجاء الخلف من بعد السلف فاقتدوا بآبائهم وأسلافهم في ارتكاب ذلك الباطل ظنا أنه حق لما قد ألفوه ونشئوا وربوا عليه . وروي فاستروه بالسين المهملة أي اختاروه يقال استريت خيار المال أي اخترته ويكون الضمير عائدا إلى الظلمة لا إلى الناس أي منعوا الناس حقهم من المال واختاروه لأنفسهم واستأثروا به
[ 78 ]
[ 79 ](1/5054)
باب الحكم والمواعظ
[ 80 ]
[ 81 ]
باب المختار من حكم أمير المؤمنين ومواعظه ويدخل في ذلك المختار من أجوبة مسائله والكلام القصير الخارج من سائر أغراضه اعلم أن هذا الباب من كتابنا كالروح من البدن والسواد من العين وهو الدرة المكنونة التي سائر الكتاب صدفها وربما وقع فيه تكرار لبعض ما تقدم يسير جدا وسبب ذلك طول الكتاب وبعد أطرافه عن الذهن وإذا كان الرضي رحمه الله قدسها فكرر في مواضع كثيرة في نهج البلاغة على اختصاره كنا نحن في تكرار يسير في كتابنا الطويل أعذر
[ 82 ](1/5055)
1
قَالَ ع كُنْ فِي اَلْفِتْنَةِ كَابْنِ اَللَّبُونِ لاَ ظَهْرٌ فَيُرْكَبَ وَ لاَ ضَرْعٌ فَيُحْلَبَ ابن اللبون ولد الناقة الذكر إذا استكمل السنة الثانية ودخل في الثالثة ويقال للأنثى ابنة اللبون وذلك لأن أمهما في الأغلب ترضع غيرهما فتكون ذات لبن واللبون من الإبل والشاة ذات اللبن غزيرة كانت أو بكيئة فإذا أرادوا الغزيرة قالوا لبنة ويقال ابن لبون وابن اللبون منكرا أو معرفا قال الشاعر
و ابن اللبون إذا ما لز في قرن
لم يستطع صولة البزل القناعيس
و ابن اللبون لا يكون قد كمل وقوي ظهره على أن يركب وليس بأنثى ذات ضرع فيحلب وهو مطرح لا ينتفع به . وأيام الفتنة هي أيام الخصومة والحرب بين رئيسين ضالين يدعوان كلاهما إلى ضلالة كفتنة عبد الملك وابن الزبير وفتنة مروان والضحاك وفتنة الحجاج وابن الأشعث ونحو ذلك فأما إذا كان أحدهما صاحب حق فليست أيام فتنة كالجمل وصفين ونحوهما بل يجب الجهاد مع صاحب الحق وسل السيف والنهي عن المنكر وبذل النفس في إعزاز الدين وإظهار الحق .
[ 83 ]
قال ع أخمل نفسك أيام الفتنة وكن ضعيفا مغمورا بين الناس لا تصلح لهم بنفسك ولا بمالك ولا تنصر هؤلاء وهؤلاء . وقوله فيركب فيحلب منصوبان لأنهما جواب النفي وفي الكلام محذوف تقديره له وهو يستحق الرفع لأنه خبر المبتدإ مثل قولك لا إله إلا الله تقديره لنا أو في الوجود
[ 84 ](1/5056)
2
وَ قَالَ ع أَزْرَى بِنَفْسِهِ مَنِ اِسْتَشْعَرَ اَلطَّمَعَ وَ رَضِيَ بِالذُّلِّ مَنْ كَشَفَ عَنْ ضُرِّهِ وَ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ مَنْ أَمَّرَ عَلَيْهَا لِسَانَهُ هذه ثلاثة فصول الفصل الأول في الطمع قوله ع أزرى بنفسه أي قصر بها من استشعر الطمع أي جعله شعاره أي لازمه . و
في الحديث المرفوع أن الصفا الزلزال الذي لا تثبت عليه أقدام العلماء الطمع و
في الحديث أنه قال للأنصار إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع أي عند طمع الرزق . وكان يقال أكثر مصارع الألباب تحت ظلال الطمع . وقال بعضهم العبيد ثلاثة عبد رق وعبد شهوة وعبد طمع . و
سئل رسول الله ص عن الغنى فقال اليأس عما في أيدي الناس ومن مشى منكم إلى طمع الدنيا فليمش رويدا
[ 85 ]
و قال أبو الأسود
البس عدوك في رفق وفي دعة
طوبى لذي إربة للدهر لباس
و لا تغرنك أحقاد مزملة
قد يركب الدبر الدامي بأحلاس
و استغن عن كل ذي قربى وذي رحم
إن الغني الذي استغنى عن الناس
قال عمر ما الخمر صرفا بأذهب لعقول الرجال من الطمع و
في الحديث المرفوع الطمع الفقر الحاضر قال الشاعر
رأيت مخيلة فطمعت فيها
و في الطمع المذلة للرقاب(1/5057)
الفصل الثاني في الشكوى قال ع من كشف للناس ضره أي شكا إليهم بؤسه وفقره فقد رضي بالذل . كان يقال لا تشكون إلى أحد فإنه إن كان عدوا سره وإن كان صديقا ساءه وليست مسرة العدو ولا مساءة الصديق بمحمودة . سمع الأحنف رجلا يقول لم أنم الليلة من وجع ضرسي فجعل يكثر فقال يا هذا لم تكثر فو الله لقد ذهبت عيني منذ ثلاثين سنة فما شكوت ذلك إلى أحد ولا أعلمت بها أحدا . الفصل الثالث في حفظ اللسان قد تقدم لنا قول شاف في ذلك وكان يقال حفظ اللسان راحة الإنسان وكان يقال رب كلمة سفكت دما وأورثت ندما . وفي الأمثال العامية قال اللسان للرأس كيف أنت قال بخير لو تركتني . وفي وصية المهلب لولده يا بني تباذلوا تحابوا فإن بني الأعيان يختلفون فكيف ببني العلات إن البر ينسأ في الأجل ويزيد في العدد وإن القطيعة تورث القلة وتعقب
[ 86 ]
النار بعد الذلة اتقوا زلة اللسان فإن الرجل تزل رجله فينتعش ويزل لسانه فيهلك وعليكم في الحرب بالمكيدة فإنها أبلغ من النجدة وإن القتال إذا وقع وقع القضاء فإن ظفر الرجل ذو الكيد والحزم سعد وإن ظفر به لم يقولوا فرط . وقال الشاعر في هذا المعنى
يموت الفتى من عثرة بلسانه
و ليس يموت المرء من عثرة الرجل
[ 87 ](1/5058)
3
وَ قَالَ ع اَلْبُخْلُ عَارٌ وَ اَلْجُبْنُ مَنْقَصَةٌ وَ اَلْفَقْرُ يُخْرِسُ اَلْفَطِنَ عَنْ حَاجَتِهِ حُجَّتِهِ وَ اَلْمُقِلُّ غَرِيبٌ فِي بَلْدَتِهِ هذه ثلاثة فصول الفصل الأول في البخل وقد تقدم لنا كلام مقنع في ذلك . ومن كلام بعض الحكماء في ذلك ما أقل من يحمده الطالب وتستقل به العشائر ويرضى عنه السائل وما زالت أم الكرم نزورا وأم اللؤم ذلولا وأكثر الواجدين من لا يجود وأكثر الأجواد من لا يجد . وما أحسن قول القائل كفى حزنا أن الجواد مقتر عليه ولا معروف عند بخيل . وكان يقال البخل مهانة والجود مهابة . ومن أحسن ما نقل من جود عبد الله المأمون أن عمر بن مسعدة كاتبه مات في سنة سبع عشرة ومائتين وخلف تركة جليلة فبعث أخاه أبا إسحاق المعتصم وجماعة معه من الكتاب ليحصروا مبلغها فجاء المعتصم إليه وهو في مجلس الخلافة ومعه الكتاب فقال ما رأيتم فقال المعتصم معظما لما رآه وجدنا عينا وصامتا وضياعا قيمة ذلك أجمع ثمانية آلاف ألف دينار ومد صوته فقال المأمون إنا لله والله ما كنت أرضاها
[ 88 ]
لتابع من أتباعه ليوفر هذا على مخلفيه فخجل المعتصم حتى ظهر خجله للحاضرين الفصل الثاني في الجبن وقد تقدم قولنا في فضل الشجاعة . وقال هشام بن عبد الملك لمسلمة أخيه يا أبا سعيد هل دخلك ذعر في حرب قط شهدتها قال ما سلمت في ذلك عن ذعر ينبه على حيلة ولا غشيني ذعر سلبني رأيي فقال له هشام هذه والله البسالة قال أبو دلامة وكان جبانا
إني أعوذ بروح أن يقدمني
إلى القتال فتشقى بي بنو أسد
إن المهلب حب الموت أورثكم
و لم أرث رغبة في الموت عن أحد(1/5059)
قال المنصور لأبي دلامة في حرب إبراهيم تقدم ويلك قال يا أمير المؤمنين شهدت مع مروان بن محمد أربعة عساكر كلها انهزمت وكسرت وإني أعيذك بالله أن يكون عسكرك الخامس . الفصل الثالث في الفقر وقد تقدم القول فيه أيضا . ومثل قوله الفقر يخرس الفطن عن حاجته قول الشاعر
سأعمل نص العيس حتى يكفني
غنى المال يوما أو غنى الحدثان
فللموت خير من حياة يرى لها
على الحر بالإقلال وسم هوان
متى يتكلم يلغ حكم كلامه
و إن لم يقل قالوا عديم بيان
كأن الغنى عن أهله بورك الغنى
بغير لسان ناطق بلسان
و مثل قوله ع والمقل غريب في بلدته قول خلف الأحمر
لا تظني أن الغريب هو النائي
و لكنما الغريب المقل
و كان يقال مالك نورك فإن أردت أن تنكسف ففرقه وأتلفه .
[ 89 ]
قيل للإسكندر لم حفظت الفلاسفة المال مع حكمتها ومعرفتها بالدنيا قال لئلا تحوجهم الدنيا إلى أن يقوموا مقاما لا يستحقونه . وقال بعض الزهاد ابدأ برغيفيك فاحرزهما ثم تعبد . و
قال الحسن ع من زعم أنه لا يحب المال فهو عندي كاذب فإن علمت صدقه فهو عندي أحمق
[ 90 ](1/5060)
4
وَ قَالَ ع اَلْعَجْزُ آفَةٌ وَ اَلصَّبْرُ شَجَاعَةٌ وَ اَلزُّهْدُ ثَرْوَةٌ وَ اَلْوَرَعُ جُنَّةٌ وَ نِعْمَ اَلْقَرِينُ اَلرِّضَا اَلرِّضَى فهذه فصول خمسة الفصل الأول قوله ع العجز آفة وهذا حق لأن الآفة هي النقص أو ما أوجب النقص والعجز كذلك . وكان يقال العجز المفرط ترك التأهب للمعاد . وقالوا العجز عجزان أحدهما عجز التقصير وقد أمكن الأمر والثاني الجد في طلبه وقد فات . وقالوا العجز نائم والحزم يقظان . الفصل الثاني في الصبر والشجاعة قد تقدم قولنا في الصبر . وكان يقال الصبر مر لا يتجرعه إلا حر . وكان يقال إن للأزمان المحمودة والمذمومة أعمارا وآجالا كأعمار الناس وآجالهم فاصبروا لزمان السوء حتى يفنى عمره ويأتي أجله . وكان يقال إذا تضيفتك نازلة فاقرها الصبر عليها وأكرم مثواها لديك بالتوكل
[ 91 ]
و الاحتساب لترحل عنك وقد أبقت عليك أكثر مما سلبت منك ولا تنسها عند رخائك فإن تذكرك لها أوقات الرخاء يبعد السوء عن فعلك وينفى القساوة عن قلبك ويوزعك حمد الله وتقواه . الفصل الثالث قوله والزهد ثروة وهذا حق لأن الثروة ما استغنى به الإنسان عن الناس ولا غناء عنهم كالزهد في دنياهم فالزهد على الحقيقة هو الغنى الأكبر . و(1/5061)
روي أن عليا ع قال لعمر بن الخطاب أول ما ولي الخلافة إن سرك أن تلحق بصاحبيك فقصر الأمل وكل دون الشبع وارقع القميص واخصف النعل واستغن عن الناس بفقرك تلحق بهما . وقف ملك على سقراط وهو في المشرفة قد أسند ظهره إلى جب كان يأوي إليه فقال له سل حاجتك فقال حاجتي أن تتنحى عني فقد منعني ظلك المرفق بالشمس فسأله عن الجب قال آوي إليه قال فإن انكسر الجب لم ينكسر المكان . وكان يقال الزهد في الدنيا هو الزهد في المحمدة والرئاسة لا في المطعم والمشرب وعند العارفين الزهد ترك كل شي ء يشغلك عن الله . وكان يقال العالم إذا لم يكن زاهدا لكان عقوبة لأهل زمانه لأنهم يقولون لو لا أن علمه لم يصوب عنده الزهد لزهد فهم يقتدون بزهده في الزهد . الفصل الرابع قوله والورع جنة كان يقال لا عصمة كعصمة الورع والعبادة أما الورع فيعصمك من المعاصي وأما العبادة فتعصمك من خصمك فإن عدوك لو رآك قائما تصلي وقد دخل ليقتلك لصد عنك وهابك .
[ 92 ]
و قال رجل من بني هلال لبنيه يا بني أظهروا النسك فإن الناس إن رأوا من أحد منكم بخلا قالوا مقتصد لا يحب الإسراف وإن رأوا عيا قالوا متوق يكره الكلام وإن رأوا جبنا قالوا متحرج يكره الإقدام على الشبهات . الفصل الخامس قوله ونعم القرين الرضا قد سبق منا قول مقنع في الرضا . وقال أبو عمرو بن العلاء دفعت إلى أرض مجدبة بها نفر من الأعراب فقلت لبعضهم ما أرضكم هذه قال كما ترى لا زرع ولا ضرع قلت فكيف تعيشون قالوا نحترش الضباب ونصيد الدواب قلت فكيف صبركم على ذلك قالوا يا هذا سل خالق الخلق هل سويت فقال بل رضيت . وكان يقال من سخط القضاء طاح ومن رضي به استراح . وكان يقال عليك بالرضا ولو قلبت على جمر الغضا . و
في الخبر المرفوع أنه ص قال عن الله تعالى من لم يرض بقضائي فليتخذ ربا سوائي
[ 93 ](1/5062)
5
وَ قَالَ ع اَلْعِلْمُ وِرَاثَةٌ كَرِيمَةٌ وَ اَلآْدَابُ حُلَلٌ مُجَدَّدَةٌ وَ اَلْفِكْرُ مِرْآةٌ صَافِيَةٌ إنما قال العلم وراثة لأن كل عالم من البشر إنما يكتسب علمه من أستاذ يهذبه وموقف يعلمه فكأنه ورث العلم عنه كما يرث الابن المال عن أبيه وقد سبق منا كلام شاف في العلم والأدب . وكان يقال عطية العالم شبيهة بمواهب الله عز وجل لأنها لا تنفد عند الجود بها وتبقى بكمالها عند مفيدها . وكان يقال الفضائل العلمية تشبه النخل بطي ء الثمرة بعيد الفساد . وكان يقال ينبغي للعالم ألا يترفع على الجاهل وأن يتطامن له بمقدار ما رفعه الله عليه وينقله من الشك إلى اليقين ومن الحيرة إلى التبيين لأن مكافحته قسوة والصبر عليه وإرشاده سياسة . ومثاله قول بعض الحكماء الخير من العلماء من يرى الجاهل بمنزلة الطفل الذي هو بالرحمة أحق منه بالغلظة ويعذره بنقصه فيما فرط منه ولا يعذر نفسه في التأخر عن هدايته .
[ 94 ]
و كان يقال العلم في الأرض بمنزلة الشمس في الفلك لو لا الشمس لأظلم الجو ولو لا العلم لأظلم أهل الأرض . وكان يقال لا حلة أجمل من حلة الأدب لأن حلل الثياب تبلى وحلل الأدب تبقى وحلل الثياب قد يغتصبها الغاصب ويسرقها السارق وحلل الآداب باقية مع جوهر النفس . وكان يقال الفكرة الصحيحة أصطرلاب روحاني . وقال أوس بن حجر يرثي
إن الذي جمع السماحة والنجدة
و الحزم والنهي جمعا
الألمعي الذي يظن بك الظن
كان قد رأى وقد سمعا(1/5063)
و من كلام الحكماء النار لا ينقصها ما أخذ منها ولكن يخمدها ألا تجد حطبا وكذلك العلم لا يفنيه الاقتباس ولكن فقد الحاملين له سبب عدمه . قيل لبعضهم أي العلوم أفضل قال ما العامة فيه أزهد . وقال أفلاطون من جهل الشي ء ولم يسأل عنه جمع على نفسه فضيحتين . وكان يقال ثلاثة لا تجربة معهن أدب يزين ومجانبة الريبة وكف الأذى . وكان يقال عليكم بالأدب فإنه صاحب في السفر ومؤنس في الوحدة وجمال في المحفل وسبب إلى طلب الحاجة . وكان عبد الملك أديبا فاضلا ولا يجالس إلا أديبا . وروى الهيثم بن عدي عن مسعر بن كدام قال حدثني سعيد بن خالد الجدلي
[ 95 ]
قال لما قدم عبد الملك الكوفة بعد قتل مصعب دعا الناس يعرضهم على فرائضهم فحضرنا بين يديه فقال من القوم قلنا جديلة فقال جديلة عدوان قلنا نعم فأنشده
عذير الحي من عدوان
كانوا حية الأرض
بغى بعضهم بعضا
فلم يرعوا على بعض
و منهم كانت السادات
و الموفون بالقرض
و منهم حكم يقضي
فلا ينقض ما يقضي
و منهم من يجيز الناس
بالسنة والفرض
ثم أقبل على رجل منا وسيم جسيم قدمناه أمامنا فقال أيكم يقول هذا الشعر قال لا أدري فقلت أنا من خلفه يقوله ذو الإصبع فتركني وأقبل على ذلك الرجل الجسيم فقال ما كان اسم ذي الإصبع قال لا أدري فقلت أنا من خلفه اسمه حرثان فتركني وأقبل عليه فقال له ولم سمي ذا الإصبع قال لا أدري فقلت أنا من خلفه نهشته حية في إصبعه فأقبل عليه وتركني فقال من أيكم كان فقال لا أدري فقلت أنا من خلفه من بني تاج الذين يقول الشاعر فيهم
فأما بنو تاج فلا تذكرنهم
و لا تتبعن عيناك من كان هالكا(1/5064)
فأقبل على الجسيم فقال كم عطاؤك قال سبعمائة درهم فأقبل علي وقال وكم عطاؤك أنت قلت أربعمائة فقال يا أبا الزعيزعة حط من عطاء هذا ثلاثمائة وزدها في عطاء هذا فرحت وعطائي سبعمائة وعطاؤه أربعمائة . وأنشد منشد بحضرة الواثق هارون بن المعتصم
[ 96 ]
أ ظلوم إن مصابكم رجلا
أهدى السلام تحية ظلم
فقال شخص رجل هو خبر إن ووافقه على ذلك قوم وخالفه آخرون فقال الواثق من بقي من علماء النحويين قالوا أبو عثمان المازني بالبصرة فأمر بإشخاصه إلى سر من رأى بعد إزاحة علته قال أبو عثمان فأشخصت فلما أدخلت عليه قال ممن الرجل قلت من مازن قال من مازن تميم أم من مازن ربيعة أم مازن قيس أم مازن اليمين قلت من مازن ربيعة قال باسمك بالباء يريد ما اسمك لأن لغة مازن ربيعة هكذا يبدلون الميم باء والباء ميما فقلت مكر أي بكر فضحك وقال اجلس واطمئن فجلست فسألني عن البيت فأنشدته منصوبا فقال فأين خبر إن فقلت ظلم قال كيف هذا قلت يا أمير المؤمنين ألا ترى أن البيت إن لم يجعل ظلم خبر إن يكون مقطوع المعنى معدوم الفائدة فلما كررت القول عليه فهم وقال قبح الله من لا أدب له ثم قال أ لك ولد قلت بنية قال فما قالت لك حين ودعتها قلت ما قالت بنت الأعشى
تقول ابنتي حين جد الرحيل
أرانا سواء ومن قد يتم
أبانا فلا رمت من عندنا
فإنا بخير إذا لم ترم
أبانا إذا أضمرتك البلاد
نجفى وتقطع منا الرحم
قال فما قلت لها قال قلت أنشدتها بيت جرير
ثقي بالله ليس له شريك
و من عند الخليفة بالنجاح
فقال ثق بالنجاح إن شاء الله تعالى ثم أمر لي بألف دينار وكسوة وردني إلى البصرة
[ 97 ](1/5065)
6
وَ قَالَ ع وَ صَدْرُ اَلْعَاقِلِ صُنْدُوقُ سِرِّهِ وَ اَلْبَشَاشَةُ حِبَالَةُ اَلْمَوَدَّةِ وَ اَلاِحْتِمَالُ قَبْرُ اَلْعُيُوبِ وَ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ فِي اَلْعِبَارَةِ عَنْ هَذَا اَلْمَعْنَى أَيْضاً اَلْمُسَالَمَةُ خَبْ ءُ اَلْعُيُوبِ اَلْمَسْأَلَةُ خِبَاءُ اَلْعُيُوبِ وَ مَنْ رَضِيَ عَنْ نَفْسِهِ كَثُرَ اَلسَّاخِطُ عَلَيْهِ هذه فصول ثلاثة الفصل الأول قوله صدر العاقل صندوق سره قد ذكرنا فيما تقدم طرفا صالحا في كتمان السر . وكان يقال لا تنكح خاطب سرك . قال معاوية للنجار العذري ابغ لي محدثا قال معي يا أمير المؤمنين قال نعم أستريح منك إليه ومنه إليك وأجعله كتوما فإن الرجل إذا اتخذ جليسا ألقى إليه عجره وبجره . وقال بعض الأعراب لا تضع سرك عند من لا سر له عندك . وقالوا إذا كان سر الملك عند اثنين دخلت على الملك الشبهة واتسعت على الرجلين المعاذير فإن عاقبهما عند شياعه عاقب اثنين بذنب واحد وإن اتهمهما اتهم بريئا
[ 98 ]
بجناية مجرم وإن عفا عنهما كان العفو عن أحدهما ولا ذنب له وعن الآخر ولا حجة عليه . الفصل الثاني قوله البشاشة حبالة المودة قد قلنا في البشر والبشاشة فيما سبق قولا مقنعا . وكان يقال البشر دال على السخاء من ممدوحك وعلى الود من صديقك دلالة النور على الثمر . وكان يقال ثلاث تبين لك الود في صدر أخيك تلقاه ببشرك وتبدؤه بالسلام وتوسع له في المجلس . وقال الشاعر
لا تدخلنك ضجرة من سائل
فلخير دهرك أن ترى مسئولا
لا تجبهن بالرد وجه مؤمل
قد رام غيرك أن يرى مأمولا
تلقى الكريم فتستدل ببشره
و ترى العبوس على اللئيم دليلا
و اعلم بأنك عن قليل صائر
خبرا فكن خبرا يروق جميلا
و قال البحتري
لو أن كفك لم تجد لمؤمل
لكفاه عاجل بشرك المتهلل
و لو أن مجدك لم يكن متقادما
أغناك آخر سؤدد عن أول
أدركت ما فات الكهول من الحجا(1/5066)
من عنفوان شبابك المستقبل
فإذا أمرت فما يقال لك اتئد
و إذا حكمت فما يقال لك اعدل
الفصل الثالث قوله الاحتمال قبر العيوب أي إذا احتملت صاحبك وحلمت
[ 99 ]
عنه ستر هذا الخلق الحسن منك عيوبك كما يستر القبر الميت وهذا مثل قولهم في الجود كل عيب فالكرم يغطيه . فأما الخب ء فمصدر خبأته أخبؤه والمعنى في الروايتين واحد وقد ذكرنا في فضل الاحتمال والمسالمة فيما تقدم أشياء صالحة . و
من كلامه ع وجدت الاحتمال أنصر لي من الرجال و
من كلامه من سالم الناس سلم منهم ومن حارب الناس حاربوه فإن العثرة للكاثر وكان يقال العاقل خادم الأحمق أبدا إن كان فوقه لم يجد من مداراته والتقرب إليه بدا وإن كان دونه لم يجد من احتماله واستكفاف شره بدا . وأسمع رجل يزيد بن عمر بن هبيرة فأعرض عنه فقال الرجل إياك أعني قال وعنك أعرض . وقال الشاعر
إذا نطق السفيه فلا تجبه
فخير من إجابته السكوت
سكت عن السفيه فظن أني
عييت عن الجواب وما عييت
[ 100 ](1/5067)
7
مَنْ رَضِيَ عَنْ نَفْسِهِ كَثُرَ اَلسَّاخِطُ عَلَيْهِ وَ اَلصَّدَقَةُ دَوَاءٌ مُنْجِحٌ وَ أَعْمَالُ اَلْعِبَادِ فِي عَاجِلِهِمْ نُصْبُ أَعْيُنِهِمْ فِي آجِلِهِمْ آجَالِهِمْ هذه فصول ثلاثة الفصل الأول قوله من رضي عن نفسه كثر الساخط عليه قال بعض الفضلاء لرجل كان يرضى عن نفسه ويدعي التميز على الناس بالعلم عليك بقوم تروقهم بزبرجك وتروعهم بزخرفك فإنك لا تعدم عزا ولا تفقد غمرا لا يبلغ مسبارهما غورك ولا تستغرق أقدارهما طورك . وقال الشاعر
أرى كل إنسان يرى عيب غيره
و يعمى عن العيب الذي هو فيه
و ما خير من تخفى عليه عيوبه
و يبدو له العيب الذي بأخيه
و قال بعضهم دخلت على ابن منارة وبين يديه كتاب قد صنفه فقلت ما هذا قال كتاب عملته مدخلا إلى التوراة فقلت إن الناس ينكرون هذا فلو قطعت الوقت بغيره قال الناس جهال قلت وأنت ضدهم قال نعم قلت
[ 101 ]
فينبغي أن يكون ضدهم جاهلا عندهم قال كذاك هو قلت فقد بقيت أنت جاهلا بإجماع الناس والناس جهال بقولك وحدك ومثل هذا المعنى قول الشاعر
إذا كنت تقضي أن عقلك كامل
و أن بني حواء غيرك جاهل
و أن مفيض العلم صدرك كله
فمن ذا الذي يدري بأنك عاقل
الفصل الثاني الصدقة دواء منجح قد جاء في الصدقة فضل كثير وذكرنا بعض ذلك فيما تقدم و
في الحديث المرفوع تاجروا الله بالصدقة تربحوا وقيل الصدقة صداق الجنة . وقيل للشبلي ما يجب في مائتي درهم فقال أما من جهة الشرع فخمسة دراهم وأما من جهة الإخلاص فالكل . و
روى أبو هريرة عن النبي ص أنه سئل فقيل أي الصدقة أفضل فقال أن تعطي وأنت صحيح شحيح تأمل البقاء وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا . ومثل قوله ع الصدقة دواء منجح(1/5068)
قول النبي ص داووا مرضاكم بالصدقة . الفصل الثالث قوله أعمال العباد في عاجلهم نصب أعينهم في آجلهم هذا من قوله تعالى يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ
[ 102 ]
لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وقال تعالى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ . ومن كلام بعضهم إنما تقدم على ما قدمت ولست تقدم على ما تركت فآثر ما تلقاه غدا على ما لا تراه أبدا . ومن حكمة أفلاطون اكتم حسن صنيعك عن أعين البشر فإن له ممن بيده ملكوت السماء أعينا ترمقه فتجازي عليه
[ 103 ](1/5069)
8
وَ قَالَ ع اِعْجَبُوا لِهَذَا اَلْإِنْسَانِ يَنْظُرُ بِشَحْمٍ وَ يَتَكَلَّمُ بِلَحْمٍ وَ يَسْمَعُ بِعَظْمٍ وَ يَتَنَفَّسُ مِنْ خَرْمٍ هذا كلام محمول بعضه على ظاهره لما تدعو إليه الضرورة من مخاطبة العامة بما يفهمونه والعدول عما لا تقبله عقولهم ولا تعيه قلوبهم . أما الإبصار فقد اختلف فيه فقيل إنه بخروج شعاع من العين يتصل بالمرئي وقيل إن القوة المبصرة التي في العين تلاقي بذاتها المرئيات فتبصرها وقال قوم بل بتكيف الهواء بالشعاع البصري من غير خروج فيصير الهواء باعتبار تكيفه بالشعاع به آلة العين في الإدراك . وقال المحققون من الحكماء إن الإدراك البصري هو بانطباع أشباح المرئيات في الرطوبة الجلدية من العين عند توسط الهواء الشفاف المضي ء كما تنطبع الصورة في المرآة قالوا ولو كانت المرآة ذات قوة مبصرة لأدركت الصور المنطبعة فيها وعلى جميع الأقوال فلا بد من إثبات القوة المبصرة في الرطوبة الجلدية وإلى الرطوبة الجلدية وقعت إشارته ع بقوله ينظر بشحم . وأما الكلام فمحله اللسان عند قوم وقال قوم ليس اللسان آلة ضرورية في الكلام لأن من يقطع لسانه من أصله يتكلم وأما إذا قطع رأسه لم يتكلم قالوا وإنما الكلام
[ 104 ](1/5070)
باللهوات وعلى كلا القولين فلا بد أن تكون آلة الكلام لحما وإليه وقعت إشارة أمير المؤمنين ع وليس هذه البنية المخصوصة شرطا في الكلام على الإطلاق لجواز وجوده في الشجر والجماد عند أصحابنا وإنما هي شرط في كلام الإنسان ولذا قال أمير المؤمنين اعجبوا لهذا الإنسان . فأما السمع للصوت فليس بعظم عند التحقيق وإنما هو بالقوة المودعة في العصب المفروش في الصماخ كالغشاء فإذا حمل الهواء الصوت ودخل في ثقب الأذن المنتهي إلى الصماخ بعد تعويجات فيه جعلت لتجري مجرى اليراعة المصوتة وأفضى ذلك الصوت إلى ذلك العصب الحامل للقوة السامعة حصل الإدراك وبالجملة فلا بد من عظم لأن الحامل اللحم والعصب إنما هو العظم . وأما التنفس فلا ريب أنه من خرم لأنه من الأنف وإن كان قد يمكن لو سد الأنف أن يتنفس الإنسان من الفم وهو خرم أيضا والحاجة إلى التنفس إخراج الهواء الحار عن القلب وإدخال النسيم البارد إليه فجعلت الرئة كالمروحة تنبسط وتنقبض فيدخل الهواء بها ويخرج من قصبتها النافذة إلى المنخرين
[ 105 ](1/5071)
9
وَ قَالَ ع إِذَا أَقْبَلَتِ اَلدُّنْيَا عَلَى قَوْمٍ أَعَارَتْهُمْ مَحَاسِنَ غَيْرِهِمْ وَ إِذَا أَدْبَرَتْ عَنْهُمْ سَلَبَتْهُمْ مَحَاسِنَ أَنْفُسِهِمْ أَحَدٍ أَعَارَتْهُ مَحَاسِنَ غَيْرِهِ وَ إِذَا أَدْبَرَتْ عَنْهُ سَلَبَتْهُ مَحَاسِنَ نَفْسِهِ كان الرشيد أيام كان حسن الرأي في جعفر بن يحيى يحلف بالله أن جعفرا أفصح من قس بن ساعدة وأشجع من عامر بن الطفيل وأكتب من عبد الحميد بن يحيى وأسوس من عمر بن الخطاب وأحسن من مصعب بن الزبير وكان جعفر ليس بحسن الصورة وكان طويل الوجه جدا وأنصح له من الحجاج لعبد الملك وأسمح من عبد الله بن جعفر وأعف من يوسف بن يعقوب فلما تغير رأيه فيه أنكر محاسنه الحقيقية التي لا يختلف اثنان أنها فيه نحو كياسته وسماحته ولم يكن أحد يجسر أن يرد على جعفر قولا ولا رأيا فيقال إن أول ما ظهر من تغير الرشيد له أنه كلم الفضل بن الربيع بشي ء فرده عليه الفضل ولم تجر عادته من قبل أن يفتح فاه في وجهه فأنكر سليمان بن أبي جعفر ذلك على الفضل فغضب الرشيد لإنكار سليمان وقال ما دخولك بين أخي ومولاي كالراضي بما كان من الفضل ثم تكلم جعفر بشي ء قاله للفضل فقال الفضل اشهد عليه يا أمير المؤمنين فقال جعفر فض الله فاك يا جاهل إذا كان أمير المؤمنين الشاهد فمن الحاكم المشهود عنده فضحك الرشيد وقال يا فضل لا تمار جعفرا فإنك لا تقع منه موقعا .
[ 106 ](1/5072)
و اعلم أنا قد وجدنا تصديق ما قاله ع في العلوم والفضائل والخصائص النفسانية دع حديث الدنيا والسلطان والرئاسة فإن المحظوظ من علم أو من فضيلة تضاف إليه شوارد تلك الفضيلة وشوارد ذلك الفن مثاله حظ علي ع من الشجاعة ومن الأمثال الحكمية قل أن ترى مثلا شاردا أو كلمة حكمية إلا وتضيفها الناس إليه وكذلك ما يدعي العامة له من الشجاعة وقتل الأبطال حتى يقال إنه حمل على سبعين ألفا فهزمهم وقتل الجن في البئر وفتل الطوق الحديد في عنق خالد بن الوليد وكذلك حظ عنترة بن شداد في الشجاعة يذكر له من الأخبار ما لم يكن وكذلك ما اشتهر به أبو نواس في وصف الخمر يضاف إليه من الشعر في هذا الفن ما لم يكن قاله وكذلك جود حاتم وعبد الله بن جعفر ونحو ذلك وبالعكس من لا حظ له ينفى عنه ما هو حقيقة له فقد رأينا كثيرا من الشعر الجيد ينفى عن قائله استحقارا له لأنه خامل الذكر وينسب إلى غيره بل رأينا كتبا مصنفة في فنون من العلوم خمل ذكر مصنفيها ونسبت إلى غيرهم من ذوي النباهة والصيت وكل ذلك منسوب إلى الجد والإقبال
[ 107 ](1/5073)
10
وَ قَالَ ع خَالِطُوا اَلنَّاسَ مُخَالَطَةً إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَكَوْا عَلَيْكُمْ وَ إِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُمْ وقد روي خنوا بالخاء المعجمة من الخنين وهو صوت يخرج من الأنف عند البكاء وإلى تتعلق بمحذوف أي حنوا شوقا إليكم . وقد ورد في الأمر بإحسان العشرة مع الناس الكثير الواسع وقد ذكرنا طرفا من ذلك فيما تقدم . و
في الخبر المرفوع إذا وسعتم الناس ببسط الوجوه وحسن الخلق وحسن الجوار فكأنما وسعتموهم بالمال . وقال أبو الدرداء إنا لنهش في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتقليهم . وقال محمد بن الفضل الهاشمي لأبيه لم تجلس إلى فلان وقد عرفت عداوته قال أخبئ نارا وأقدح عن ود . وقال المهاجر بن عبد الله
و إني لأقصى المرء من غير بغضة
و أدنى أخا البغضاء مني على عمد
ليحدث ودا بعد بغضاء أو أرى
له مصرعا يردي به الله من يردي
و قال عقال بن شبة التميمي كنت ردف أبي فلقيه جرير بن الخطفى على بغلة
[ 108 ]
فحياه أبي وألطفه فلما مضى قلت له أ بعد أن قال لنا ما قال قال يا بني أ فأوسع جرحي . و
قال محمد بن الحنفية ع قد يدفع باحتمال المكروه ما هو أعظم منه و
قال الحسن ع حسن السؤال نصف العلم ومداراة الناس نصف العقل والقصد في المعيشة نصف المئونة . ومدح ابن شهاب شاعرا فأعطاه وقال إن من ابتغاء الخير اتقاء الشر . وقال الشاعر
و أنزلني طول النوى دار غربة
متى شئت لاقيت أمرا لا أشاكله
أخا ثقة حتى يقال سجية
و لو كان ذا عقل لكنت أعاقله
و
في الحديث المرفوع للمسلم على المسلم ست يسلم عليه إذا لقيه ويجيبه إذا دعاه ويشمته إذا عطس ويعوده إذا مرض ويحب له ما يحب لنفسه ويشيع جنازته إذا مات و
وقف ص على عجوز فجعل يسألها ويتحفاها وقال إن حسن العهد من الإيمان إنها كانت تأتينا أيام خديجة
[ 109 ](1/5074)
11
وَ قَالَ ع إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ اَلْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ قد أخذت أنا هذا المعنى فقلت في قطعة لي
إن الأماني أكساب الجهول فلا
تقنع بها واركب الأهوال والخطرا
و اجعل من العقل جهلا واطرح نظرا
في الموبقات ولا تستشعر الحذرا
و إن قدرت على الأعداء منتصرا
فاشكر بعفوك عن أعدائك الظفرا
و قد تقدم لنا كلام طويل في الحلم والصفح والعفو . ونحن نذكر هاهنا زيادة على ذلك شجر بين أبي مسلم وبين صاحب مرو كلام أربى فيه صاحب مرو عليه وأغلظ له في القول فاحتمله أبو مسلم وندم صاحب مرو وقام بين يدي أبي مسلم معتذرا وكان قال له في جملة ما قال يا لقيط فقال أبو مسلم مه لسان سبق ووهم أخطأ والغضب شيطان وأنا جرأتك علي باحتمالك قديما فإن كنت للذنب معتذرا فقد شاركتك فيه وإن كنت مغلوبا فالعفو يسعك فقال صاحب مرو أيها الأمير إن عظم ذنبي يمنعني من الهدوء فقال أبو مسلم يا عجبا أقابلك بإحسان وأنت مسي ء ثم أقابلك بإساءة وأنت محسن فقال الآن وثقت بعفوك . وأذنب بعض كتاب المأمون ذنبا وتقدم إليه ليحتج لنفسه فقال يا هذا قف
[ 110 ](1/5075)
مكانك فإنما هو عذر أو يمين فقد وهبتهما لك وقد تكرر منك ذلك فلا تزال تسي ء ونحسن وتذنب ونغفر حتى يكون العفو هو الذي يصلحك . وكان يقال أحسن أفعال القادر العفو وأقبحها الانتقام . وكان يقال ظفر الكريم عفو وعفو اللئيم عقوبة . وكان يقال رب ذنب مقدار العقوبة عليه إعلام المذنب به ولا يجاوز به حد الارتفاع إلى الإيقاع . وكان يقال ما عفا عن الذنب من قرع به . ومن الحلم الذي يتضمن كبرا مستحسنا ما روي أن مصعب بن الزبير لما ولي العراق عرض الناس ليدفع إليهم أرزاقهم فنادى مناديه أين عمرو بن جرموز فقيل له أيها الأمير إنه أبعد في الأرض قال أ وظن الأحمق أني أقتله بأبي عبد الله قولوا له فليظهر آمنا وليأخذ عطاءه مسلما . وأكثر رجل من سب الأحنف وهو لا يجيبه فقال الرجل ويلي عليه والله ما منعه من جوابي إلا هواني عنده . وقال لقيط بن زرارة
فقل لبني سعد وما لي وما لكم
ترقون مني ما استطعتم وأعتق
أ غركم أني بأحسن شيمة
بصير وأني بالفواحش أخرق
و أنك قد ساببتني فقهرتني
هنيئا مريئا أنت بالفحش أحذق
و قال المأمون لإبراهيم بن المهدي لما ظفر به إني قد شاورت في أمرك فأشير علي بقتلك إلا أني وجدت قدرك فوق ذنبك فكرهت قتلك للازم حرمتك فقال إبراهيم يا أمير المؤمنين إن المشير أشار بما تقتضيه السياسة وتوجيه العادة إلا أنك أبيت أن
[ 111 ](1/5076)
تطلب النصر إلا من حيث عودته من العفو فإن قتلت فلك نظراء وإن عفوت فلا نظير لك قال قد عفوت فاذهب آمنا . ضل الأعشى في طريقه فأصبح بأبيات علقمة بن علاثة فقال قائده وقد نظر إلى قباب الأدم وا سوء صباحاه يا أبا بصير هذه والله أبيات علقمة فخرج فتيان الحي فقبضوا على الأعشى فأتوا به علقمة فمثل بين يديه فقال الحمد لله الذي أظفرني بك من غير ذمة ولا عقد قال الأعشى أ وتدري لم ذلك جعلت فداك قال نعم لانتقم اليوم منك بتقوالك علي الباطل مع إحساني إليك قال لا والله ولكن أظفرك الله بي ليبلو قدر حلمك في فأطرق علقمة فاندفع الأعشى فقال
أ علقم قد صيرتني الأمور
إليك وما كان بي منكص
كساكم علاثة أثوابه
و ورثكم حلمه الأحوص
فهب لي نفسي فدتك النفوس
فلا زلت تنمي ولا تنقص
فقال قد فعلت أما والله لو قلت في بعض ما قلته في عامر بن عمر لأغنيتك طول حياتك ولو قلت في عامر بعض ما قلته في ما أذاقك برد الحياة . قال معاوية لخالد بن معمر السدوسي على ما ذا أحببت عليا قال على ثلاث حلمه إذا غضب وصدقه إذا قال ووفاؤه إذا وعد
[ 112 ](1/5077)
12
وَ قَالَ ع أَعْجَزُ اَلنَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ اِكْتِسَابِ اَلْإِخْوَانِ وَ أَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ قد ذكرنا قطعة صالحة من الإخوانيات فيما تقدم و
في الحديث المرفوع أن النبي ص بكى لما قتل جعفر بمؤتة وقال المرء كثير بأخيه و
قال جعفر بن محمد ع لكل شي ء حلية وحلية الرجل أوداؤه . وأنشد ابن الأعرابي
لعمرك ما مال الفتى بذخيرة
و لكن إخوان الصفاء الذخائر
و كان أبو أيوب السختياني يقول إذا بلغني موت أخ كان لي فكأنما سقط عضو مني . وكان يقال الإخوان ثلاث طبقات طبقة كالغذاء لا يستغني عنه وطبقة كالدواء يحتاج إليه عند المرض وطبقة كالداء لا يحتاج إليه أبدا . وكان يقال صاحبك كرقعة في قميصك فانظر بما ترقع قميصك .
[ 113 ]
و كان يونس بن عبيد يقول اثنان ما في الأرض أقل منهما ولا يزدادان إلا قلة درهم يوضع في حق وأخ يسكن إليه في الله . وقال الشاعر
أخاك أخاك إن من لا أخا له
كساع إلى الهيجا بغير سلاح
و إن ابن عم المرء فاعلم جناحه
و هل ينهض البازي بغير جناح
و قال آخر
و لن تنفك تحسد أو تعادى
فأكثر ما استطعت من الصديق
و بغضك للتقي أقل ضرا
و أسلم من مودة ذي الفسوق
و أوصى بعضهم ابنه فقال يا بني إذا نازعتك نفسك إلى مصاحبة الرجال فاصحب من إذا صحبته زانك وإذا خدمته صانك وإذا عرضت لك مؤنة أعانك وإن قلت صدق قولك وإن صلت شد صولك وإن مددت يدك لأمر مدها وإن بدت لك عورة سدها وإن رأى منك حسنة عدها وإن سألته أعطاك وإن سكت ابتدأك وإن نزلت بك ملمة واساك من لا تأتيك منه البوائق ولا تحتار عليك منه الطرائق ولا يخذلك عند الحقائق . و
من الشعر المنسوب إلى علي ع
إن أخاك الحق من كان معك
و من يضر نفسه لينفعك
و من إذا ريب الزمان صدعك
شتت فيك شمله ليجمعك
[ 114 ]
و(1/5078)
من الشعر المنسوب إليه ع أيضا
أخوك الذي إن أجرضتك ملمة
من الدهر لم يبرح لها الدهر واجما
و ليس أخوك بالذي إن تشعبت
عليك أمور ظل يلحاك لائما
و قال بعض الحكماء ينبغي للإنسان أن يوكل بنفسه كالئين أحدهما يكلؤه من أمامه والآخر يكلؤه من ورائه وهما عقله الصحيح وأخوه النصيح فإن عقله وإن صح فلن يبصره من عيبه إلا بمقدار ما يرى الرجل من وجهه في المرآة ويخفى عليه ما خلفه وأما أخوه النصيح فيبصره ما خلفه وما أمامه أيضا . وكتب ظريف إلى صديق له أني غير محمود على الانقياد إليك لأني صادقتك من جوهر نفسي والنفس يتبع بعضها بعضا . و
في الحديث المرفوع إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه . وقال الأحنف خير الإخوان من إذا استغنيت عنه لم يزدك ودا وإن احتجت إليه لم ينقصك . وقال أعشى باهلة يرثي المنتشر بن وهب
إما سلكت سبيلا كنت سالكها
فاذهب فلا يبعدنك الله منتشر
من ليس في خيره شر ينكده
على الصديق ولا في صفوه كدر
و قال آخر يرثي صديقا له
أخ طالما سرني ذكره
و أصبحت أشجى لدى ذكره
و قد كنت أغدو إلى قصره
فأصبحت أغدو إلى قبره
و كنت أراني غنيا به
عن الناس لو مد في عمره
إذا جئته طالبا حاجة
فأمري يجوز على أمره
رأى بعض الحكماء مصطحبين لا يفترقان فسأل عنهما فقيل صديقان قال فما بال أحدهما غنيا والآخر فقيرا
[ 115 ](1/5079)
13
وَ قَالَ ع فِي اَلَّذِينَ اِعْتَزَلُوا اَلْقِتَالَ مَعَهُ خَذَلُوا اَلْحَقَّ وَ لَمْ يَنْصُرُوا اَلْبَاطِلَ قد سبق ذكر هؤلاء فيما تقدم وهم عبد الله بن عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وأسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وأنس بن مالك وجماعة غيرهم . وقد ذكر شيخنا أبو الحسين في الغرر أن أمير المؤمنين ع لما دعاهم إلى القتال معه واعتذروا بما اعتذروا به قال لهم أ تنكرون هذه البيعة قالوا لا لكنا لا نقاتل فقال إذا بايعتم فقد قاتلتم قال فسلموا بذلك من الذم لأن إمامهم رضي عنهم . ومعنى قوله خذلوا الحق ولم ينصروا الباطل أي خذلوني ولم يحاربوا معي معاوية وبعض أصحابنا البغداديين يتوقف في هؤلاء وإلى هذا القول يميل شيخنا أبو جعفر الإسكافي
[ 116 ](1/5080)
14
وَ قَالَ ع إِذَا وَصَلَتْ إِلَيْكُمْ أَطْرَافُ اَلنِّعَمِ فَلاَ تُنَفِّرُوا أَقْصَاهَا بِقِلَّةِ اَلشُّكْرِ قد سبق القول في الشكر ونحن نذكر هاهنا زيادة على ذلك . قال بعضهم ما شيبتني السنون بل شكري من أحتاج أن أشكره . وقالوا العفاف زينة الفقر والشكر زينة الغنى . وقالوا من سعادة المرء أن يضع معروفه عند من يشكره . ومن جيد ما قيل في الشكر قول أبي نواس
قد قلت للعباس معتذرا
من ضعف شكريه ومعترفا
أنت امرؤ حملتني نعما
أوهت قوى شكري فقد ضعفا
فإليك مني اليوم معذرة
جاءتك بالتصريح منكشفا
لا تسدين إلى عارفة
حتى أقوم بشكر ما سلفا
و قال البحتري
فإن أنا لم أشكر لنعماك جاهدا
فلا نلت نعمى بعدها توجب الشكرا
[ 117 ]
و قال أيضا
سأجهد في شكري لنعماك إنني
أرى الكفر للنعماء ضربا من الكفر
و قال ابن أبي طاهر
شكرت عليا بره وبلاءه
فقصر بي شكري وإني لجاهد
و ما أنا من شكري عليا بواحد
و لكنه في الفضل والجود واحد
و قال أبو الفتح البستي
لا تظنن بي وبرك حي
أن شكري وشكر غيري موات
أنا أرض وراحتاك سحاب
و الأيادي وبل وشكري نبات
و قال أيضا
و خر لما أوليت شكري ساجدا
و مثل الذي أوليت يعبده الشكر
البحتري
أراك بعين المكتسي ورق الغنى
بآلائك اللاتي يعددها الشكر
و يعجبني فقري إليك ولم يكن
ليعجبني لو لا محبتك الفقر
آخر
بدأت بمعروف وثنيت بالرضا
و ثلثت بالحسنى وربعت بالكرم
و باشرت أمري واعتنيت بحاجتي
و أخرت لا عني وقدمت لي نعم
و صدقت لي ظني وأنجزت موعدي
و طبت به نفسا ولم تتبع الندم
فإن نحن كافأنا بشكر فواجب
و إن نحن قصرنا فما الود متهم
[ 118 ](1/5081)
15
وَ قَالَ ع مَنْ ضَيَّعَهُ اَلْأَقْرَبُ أُتِيحَ لَهُ اَلْأَبْعَدُ إن الإنسان قد ينصره من لا يرجو نصره وإن أهمله أقربوه وخذلوه فقد تقوم به الأجانب من الناس وقد وجدنا ذلك في حق رسول الله ص ضيعه أهله ورهطه من قريش وخذلوه وتمالئوا عليه فقام بنصره الأوس والخزرج وهم أبعد الناس نسبا منه لأنه من عدنان وهم من قحطان وكل واحد من الفريقين لا يحب الآخر حتى تحب الأرض الدم وقامت ربيعة بنصر علي ع في صفين وهم أعداء مضر الذين هم أهله ورهطه وقامت اليمن بنصر معاوية في صفين وهم أعداء مضر وقامت الخراسانية وهم عجم بنصر الدولة العباسية وهي دولة العرب وإذا تأملت السير وجدت هذا كثيرا شائعا
[ 119 ](1/5082)
16
وَ قَالَ ع مَا كُلُّ مَفْتُونٍ يُعَاتَبُ هذه الكلمة قالها علي ع لسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن عمر لما امتنعوا من الخروج معه لحرب أصحاب الجمل ونظيرها أو قريب منها قول أبي الطيب
فما كل فعال يجازى بفعله
و لا كل قوال لدي يجاب
و رب كلام مر فوق مسامعي
كما طن في لفح الهجير ذباب
[ 120 ](1/5083)
17
وَ قَالَ ع تَذِلُّ اَلْأُمُورُ لِلْمَقَادِيرِ حَتَّى يَكُونَ اَلْحَتْفُ فِي اَلتَّدْبِيرِ إذا تأملت أحوال العالم وجدت صدق هذه الكلمة ظاهرا ولو شئنا أن نذكر الكثير من ذلك لذكرنا ما يحتاج في تقييده بالكتابة إلى مثل حجم كتابنا هذا ولكنا نذكر لمحا ونكتا وأطرافا ودررا من القول . فرش مروان بن محمد وقد لقي عبد الله بن علي أنطاعا وبسط عليها المال وقال من جاءني برأس فله مائة درهم فعجزت الحفظة والحراس عن حمايته واشتغلت طائفة من الجند بنهبه وتهافت الجيش عليه لينتهبوه فغشيهم عبد الله بن علي بعساكره فقتل منهم ما لا يحصى وهزم الباقون . وكسر إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن جيش أبي جعفر المنصور بباخمرى وأمر أصحابه باتباعهم فحال بينهم وبين أصحاب أبي جعفر ماء ضحضاح فكره إبراهيم وجيشه خوض ذلك الماء وكان واسعا فأمر صاحب لوائه أن يتعرج باللواء على مسناة كانت على ذلك الماء يابسة فسلكها صاحب اللواء وهي تفضي بانعراج وانعكاس إلى الأرض اليبس فلما رأى عسكر أبي جعفر أن لواء القوم قد تراجع
[ 121 ](1/5084)
القهقرى ظنوهم منهزمين فعطفوا عليهم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وجاء سهم غرب فأصاب إبراهيم فقتله . وقد دبرت من قبل قريش في حماية العير بأن نفرت على الصعب والذلول لتدفع رسول الله ص عن اللطيمة فكان هلاكها في تدبيرها . وكسرت الأنصار يوم أحد بأن أخرجت النبي ص عن المدينة ظنا منها أن الظفر والنصرة كانت بذلك وكان سبب عطبها وظفر قريش بها ولو أقامت بين جدران المدينة لم تظفر قريش منها بشي ء . ودبر أبو مسلم الدولة الهاشمية وقام بها حتى كان حتفه في تدبيره . وكذلك جرى لأبي عبد الله المحتسب مع عبد الله المهدي بالمغرب . ودبر أبو القاسم بن المسلمة رئيس الرؤساء في إخراج البساسيري عن العراق حتى كان هلاكه على يده وكذلك أيضا انعكس عليه تدبيره في إزالة الدولة البويهية من الدولة السلجوقية ظنا منه أنه يدفع الشر بغير الشر فدفع الشر بما هو شر منه . وأمثال هذا ونظائره أكثر من أن تحصى
[ 122 ](1/5085)
18
وَ سُئِلَ ع عَنْ قَوْلِ اَلرَّسُولِ ص غَيِّرُوا اَلشَّيْبَ وَ لاَ تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ فَقَالَ ع إِنَّمَا قَالَ ص ذَلِكَ وَ اَلدِّينُ قُلٌّ فَأَمَّا اَلآْنَ وَ قَدِ اِتَّسَعَ نِطَاقُهُ وَ ضَرَبَ بِجِرَانِهِ فَامْرُؤٌ وَ مَا اِخْتَارَ اليهود لا تخضب وكان النبي ص أمر أصحابه بالخضاب ليكونوا في مرأى العين شبابا فيجبن المشركون عنهم حال الحرب فإن الشيخ مظنة الضعف . قال علي ع كان ذلك والإسلام قل أي قليل وأما الآن وقد اتسع نطاقه وضرب بجرانه فقد سقط ذلك الأمر وصار الخضاب مباحا غير مندوب . والنطاق ثوب تلبسه المرأة لبسة مخصوصة ليس بصدرة ولا سراويل وسميت أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين لأنها قطعت من ثوبها ذلك قطعة شدت بها سفرة لها حملها أبو بكر معه حين خرج من مكة مع النبي ص يوم الهجرة فقال النبي ص لقد أبدلها الله بها نطاقين في الجنة وكان نفر الشام ينادون عبد الله ابنها حين حصره الحجاج بمكة يشتمونه كما زعموا يا ابن ذات النطاقين فيضحك عبد الله منهم وقال لابن أبي عتيق أ لا تسمع يظنونه ذما ثم يقول
[ 123 ]
و تلك شكاة ظاهر عنك عارها
و استعار أمير المؤمنين ع هذه اللفظة لسعة رقعة الإسلام وكذلك استعار قوله وضرب بجرانه أي أقام وثبت وذلك لأن البعير إذا ضرب بجرانه الأرض وجرانه مقدم عنقه فقد استناخ وبرك . وامرؤ مبتدأ وإن كان نكرة كقولهم شر أهر ذا ناب لحصول الفائدة والواو بمعنى مع وهي وما بعدها الخبر وما مصدرية أي امرؤ مع اختياره(1/5086)
نبذ مما قيل في الشيب والخضاب
فأما القول في الخضاب فقد روى قوم أن رسول الله ص بدا شيب يسير في لحيته فغيره بالخضاب خضب بالحناء والكتم وقال قوم لم يشب أصلا . وروي أن عائشة قالت ما كان الله ليشينه بالشيب فقيل أ وشين هو يا أم المؤمنين قالت كلكم يكرهه وأما أبو بكر فصح الخبر عنه بذلك وكذلك أمير المؤمنين وقيل إنه لم يخضب وقتل الحسين ع يوم الطف وهو مخضوب و
في الحديث المرفوع رواه عقبة بن عامر عليكم بالحناء فإنه خضاب الإسلام إنه يصفي البصر ويذهب بالصداع ويزيد في الباه وإياكم والسواد فإنه من سود سود الله وجهه يوم القيامة و
عنه ص عليكم بالخضاب فإنه أهيب لعدوكم وأعجب إلى نسائكم .
[ 124 ]
و يقال في أبواب الكناية للمختضب هو يسود وجه النذير لأن النذير الشيب قيل في قوله تعالى وَ جاءَكُمُ اَلنَّذِيرُ إنه الشيب . وكان عبد الرحمن بن الأسود أبيض الرأس واللحية فأصبح ذات يوم وقد حمرهما وقال إن عائشة أرسلت إلى البارحة جاريتها فأقسمت علي لأغيرن وقالت إن أبا بكر كان يصبغ . وروى قيس بن أبي حازم قال كان أبو بكر يخرج إلينا وكان لحيته ضرام عرفج . وعن أبي عامر الأنصاري رأيت أبا بكر يغير بالحناء والكتم ورأيت عمر لا يغير شيئا من شيبه و
قال إني سمعت رسول الله ص يقول من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة ولا أحب أن أغير نوري . وكان أنس بن مالك يخضب وينشد
نسود أعلاها وتأبى أصولها
و ليس إلى رد الشباب سبيل
و روي أن عبد المطلب وفد على سيف بن ذي يزن فقال له لو خضبت فلما عاد إلى مكة خضب فقالت له امرأته نثيلة أم العباس وضرار ما أحسن هذا الخضاب لو دام فقال
فلو دام لي هذا الخضاب حمدته
و كان بديلا من خليل قد انصرم
تمتعت منه والحياة قصيرة
و لا بد من موت نثيلة أو هرم
و موت جهيز عاجل لا شوى له
أحب إلينا من مقالكم حكم
قال يعني إنه صار شيخا فصار حكما بين الناس من قوله(1/5087)
لا تغبط المرء أن يقال له
أضحى فلان لسنه حكما
[ 125 ]
و قال أسماء بن خارجة لجاريته اخضبيني فقالت حتى متى أرقعك فقال
عيرتني خلقا أبليت جدته
و هل رأيت جديدا لم يعد خلقا
و أما من يروى أن عليا ع ما خضب فيحتج بقوله و
قد قيل له لو غيرت شيبك يا أمير المؤمنين فقال الخضاب زينة ونحن في مصيبة يعني برسول الله ص . و
سئل الحسن ع عن الخضاب فقال هو جزع قبيح وقال محمود الوراق
يا خاضب الشيب الذي
في كل ثالثة يعود
إن الخضاب إذا مضى
فكأنه شيب جديد
فدع المشيب وما يريد
فلن تعود كما تريد
و
قد روى قوم عن النبي ص كراهية الخضاب وأنه قال لو استقبلتم الشيب بالتواضع لكان خيرا لكم . قال الشاعر
و صبغت ما صبغ الزمان فلم يدم
صبغي ودامت صبغة الأيام
و قال آخر
يا أيها الرجل المغير شيبه
كيما تعد به من الشبان
أقصر فلو سودت كل حمامة
بيضاء ما عدت من الغربان
و يقولون في ديوان عرض الجيش ببغداد لمن يخضب إذا ذكروا حليته مستعار وهي كناية لطيفة وأنا أستحسن قول البحتري خضبت بالمقراض كناية عن قص الشعر الأبيض فجعل ذلك خضابه عوضا عن الصبغ والأبيات هذه
لابس من شبيبة أم ناض
و مليح من شيبة أم راض
[ 126 ]
و إذا ما امتعضت من ولع الشيب
برأسي لم يثن ذاك امتعاضي
ليس يرضى عن الزمان امرؤ فيه
إلا عن غفلة أو تغاضي
و البواقي من الليالي وإن
خالفن شيئا شبيهة بالمواضي
و أبت تركي الغديات والآصال
حتى خضبت بالمقراض
و دواء المشيب كالبخص في عيني
فقل فيه في العيون المراض
طال حزني على الشباب وما
بيض من لون صبغه الفضفاض
فهل الحادثات يا ابن عويف
تاركاتي ولبس هذا البياض
[ 127 ](1/5088)
19
وَ قَالَ ع مَنْ جَرَى فِي عِنَان أَمَلِهِ عَثَرَ بِأَجلِهِ قد تقدم لنا قول كثير في الأمل ونذكر هاهنا زيادة على ذلك .
قال الحسن ع لو رأيت الأجل ومسيره لنسيت الأمل وغروره ويقدر المقدرون والقضاء يضحك و
روى أبو سعيد الخدري أن أسامة بن زيد اشترى وليدة بمائة دينار إلى شهر فقال رسول الله ص أ لا تعجبون من أسامة يشتري إلى شهر إن أسامة لطويل الأمل . أبو عثمان النهدي قد بلغت نحوا من ثلاثين ومائة سنة فما من شي ء إلا قد عرفت فيه النقص إلا أملى فإنه كما كان . قال الشاعر
أراك تزيدك الأيام حرصا
على الدنيا كأنك لا تموت
فهل لك غاية إن صرت يوما
إليها قلت حسبي قد رضيت
و قال آخر
من تمنى المنى فأغرق فيها
مات من قبل أن ينال مناه
ليس في مال من تتابع في اللذات
فضل عن نفسه لسواه
[ 128 ](1/5089)
20
وَ قَالَ ع أَقِيلُوا ذَوِي اَلْمُرُوءَاتِ عَثَرَاتِهِمْ فَمَا يَعْثُرُ مِنْهُمْ عَاثِرٌ إِلاَّ وَ يَدُهُ بِيَدِ اَللَّهِ يَدُ اَللَّهِ بِيَدِهِ يَرْفَعُهُ(1/5090)
نبذ مما قيل في المروءة
قد رويت هذه الكلمة مرفوعة ذكر ذلك ابن قتيبة في عيون الأخبار وأحسن ما قيل في المروءة قولهم اللذة ترك المروءة والمروءة ترك اللذة . و
في الحديث أن رجلا قام إلى رسول الله ص فقال يا رسول الله أ لست أفضل قومي فقال إن كان لك عقل فلك فضل وإن كان لك خلق فلك مروءة وإن كان لك مال فلك حسب وإن كان لك تقى فلك دين . وسئل الحسن عن المروءة فقال
جاء في الحديث المرفوع أن الله تعالى يحب معالي الأمور ويكره سفسافها . وكان يقال من مروءة الرجل جلوسه بباب داره . وقال الحسن لا دين إلا بمروءة
[ 129 ]
و قيل لابن هبيرة ما المروءة فقال إصلاح المال والرزانة في المجلس والغداء والعشاء بالفناء . و
جاء أيضا في الحديث المرفوع حسب الرجل ماله وكرمه دينه ومروءته خلقه وكان يقال ليس من المروءة كثرة الالتفات في الطريق . ويقال سرعة المشي تذهب بمروءة الرجل . وقال معاوية لعمرو ما ألذ الأشياء قال مر فتيان قريش أن يقوموا فلما قاموا قال إسقاط المروءة . وكان عروة بن الزبير يقول لبنيه يا بني العبوا فإن المروءة لا تكون إلا بعد اللعب وقيل للأحنف ما المروءة قال العفة والحرفة تعف عما حرم الله وتحترف فيما أحل الله . وقال محمد بن عمران التيمي لا أشد من المروءة وهي ألا تعمل في السر شيئا تستحيي منه في العلانية وسئل النظام عن المروءة فأنشد بيت زهير
الستر دون الفاحشات ولا
يلقاك دون الخير من ستر
و قال عمر تعلموا العربية فإنها تزيد في المروءة وتعلموا النسب فرب رحم مجهولة قد وصلت به . وقال ميمون بن مهران أول المروءة طلاقة الوجه والثاني التودد إلى الناس والثالث قضاء الحوائج . وقال مسلمة بن عبد الملك مروءتان ظاهرتان الرياش والفصاحة . وكان يقال تعرف مروءة الرجل بكثرة ديونه . وكان يقال العقل يأمرك بالأنفع والمروءة تأمرك بالأجمل .
[ 130 ](1/5091)
لام معاوية يزيد ابنه على سماع الغناء وحب القيان وقال له أسقطت مروءتك فقال يزيد أتكلم بلساني كلمة قال نعم وبلسان أبي سفيان بن حرب وهند بنت عتبة مع لسانك قال والله لقد حدثني عمرو بن العاص واستشهد على ذلك ابنه عبد الله بصدقه أن أبا سفيان كان يخلع على المغني الفاضل والمضاعف من ثيابه ولقد حدثني أن جاريتي عبد الله بن جدعان غنتاه يوما فأطربتاه فجعل يخلع عليهما أثوابه ثوبا ثوبا حتى تجرد تجرد العير ولقد كان هو وعفان بن أبي العاص ربما حملا جارية العاص بن وائل على أعناقهما فمرا بها على الأبطح وجلة قريش ينظرون إليهما مرة على ظهر أبيك ومرة على ظهر عفان فما الذي تنكر مني فقال معاوية اسكت لحاك الله والله ما أحد ألحق بأبيك هذا إلا ليغرك ويفضحك وإن كان أبو سفيان ما علمت لثقيل الحلم يقظان الرأي عازب الهوى طويل الأناة بعيد القعر وما سودته قريش إلا لفضله
[ 131 ](1/5092)
21
وَ قَالَ ع قُرِنَتِ اَلْهَيْبَةُ بِالْخَيْبَةِ وَ اَلْحَيَاءُ بِالْحِرْمَانِ وَ اَلْفُرْصَةُ تَمُرُّ مَرَّ اَلسَّحَابِ فَانْتَهِزُوا فُرَصَ اَلْخَيْرِ في المثل من أقدم لم يندم وقال الشاعر
ليس للحاجات إلا
من له وجه وقاح
و لسان طرمذي
و غدو ورواح
فعليه السعي فيها
و على الله النجاح
و كان يقال الفرصة ما إذا حاولته فأخطأك نفعه لم يصل إليك ضره . ومن كلام ابن المقفع انتهز الفرصة في إحراز المآثر واغتنم الإمكان باصطناع الخير ولا تنتظر ما تعامل فتجازى عنه بمثله فإنك إن عوملت بمكروه واشتغلت برصد المكافأة عنه قصر العمر بك عن اكتساب فائدة واقتناء منقبة وتصرمت أيامك بين تعد عليك وانتظار للظفر بإدراك الثأر من خصمك ولا عيشة في الحياة أكثر من ذلك . كانت العرب إذا أوفدت وافدا قالت له إياك والهيبة فإنها خيبة ولا تبت عند ذنب الأمر وبت عند رأسه
[ 132 ](1/5093)
22
وَ قَالَ ع لَنَا حَقٌّ فَإِنْ أُعْطِيْنَاهُ وَ إِلاَّ رَكِبْنَا أَعْجَازَ اَلْإِبِلِ وَ إِنْ طَالَ اَلسُّرَى قال الرضي رحمه الله تعالى وهذا القول من لطيف الكلام وفصيحه ومعناه أنا إن لم نعط حقنا كنا أذلاء وذلك أن الرديف يركب عجز البعير كالعبد والأسير ومن يجري مجراهما هذا الفصل قد ذكره أبو عبيد الهروي في الجمع بين الغريبين وصورته أن لنا حقا إن نعطه نأخذه وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل وإن طال السرى قال قد فسروه على وجهين أحدهما أن راكب عجز البعير يلحقه مشقة وضرر فأراد أنا إذا منعنا حقنا صبرنا على المشقة والمضرة كما يصبر راكب عجز البعير وهذا التفسير قريب مما فسره الرضي والوجه الثاني أن راكب عجز البعير إنما يكون إذا كان غيره قد ركب على ظهر البعير وراكب ظهر البعير متقدم على راكب عجز البعير فأراد أنا إذا منعنا حقنا تأخرنا وتقدم غيرنا علينا فكنا كالراكب رديفا لغيره وأكد المعنى على كلا التفسيرين بقوله وإن طال السرى لأنه إذا طال السرى كانت المشقة
[ 133 ]
على راكب عجز البعير أعظم وكان الصبر على تأخر راكب عجز البعير عن الراكب على ظهره أشد وأصعب . وهذا الكلام تزعم الإمامية أنه قاله يوم السقيفة أو في تلك الأيام ويذهب أصحابنا إلى أنه قاله يوم الشورى بعد وفاة عمر واجتماع الجماعة لاختيار واحد من الستة وأكثر أرباب السير ينقلونه على هذا الوجه
[ 134 ](1/5094)
23
وَ قَالَ ع مَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ حَسَبُهُ نَسَبُهُ هذا الكلام حث وحض وتحريض على العبادة وقد تقدم أمثاله وسيأتي له نظائر كثيرة وهو مثل
قول النبي ص يا فاطمة بنت محمد إني لا أغني عنك من الله شيئا يا عباس بن عبد المطلب إني لا أغني عنك من الله شيئا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللَّهِ أَتْقاكُمْ
[ 135 ](1/5095)
24
وَ قَالَ ع مِنْ كَفَّارَاتِ اَلذُّنُوبِ اَلْعِظَامِ إِغَاثَةُ اَلْمَلْهُوفِ وَ اَلتَّنْفِيسُ عَنِ اَلْمَكْرُوبِ قد جاء في هذا المعنى آثار كثيرة وأخبار جميلة كان العتابي قد أملق فجاء فوقف بباب المأمون يسترزق الله على يديه فوافى يحيى بن أكثم فعرض له العتابي فقال له إن رأيت أيها القاضي أن تعلم أمير المؤمنين مكاني فافعل فقال لست بحاجب قال قد علمت ولكنك ذو فضل وذو الفضل معوان فقال سلكت بي غير طريقي قال إن الله أتحفك منه بجاه ونعمة وهو مقبل عليك بالزيادة إن شكرت وبالتغيير إن كفرت وأنا لك اليوم خير منك لنفسك لأني أدعوك إلى ما فيه ازدياد نعمتك وأنت تأبى علي ولكل شي ء زكاة وزكاة الجاه رفد المستعين فدخل يحيى فأخبر المأمون به فأحضره وحادثه ولاطفه ووصله
[ 136 ](1/5096)
25
وَ قَالَ ع يَا اِبْنَ آدَمَ إِذَا رَأَيْتَ رَبَّكَ سُبْحَانَهُ يُتَابِعُ عَلَيْكَ نِعَمَهُ وَ أَنْتَ تَعْصِيهِ فَاحْذَرْهُ هذا الكلام تخويف وتحذير من الاستدراج قال سبحانه سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وذلك لأن العبد بغروره يعتقد أن موالاة النعم عليه وهو عاص من باب الرضا عنه ولا يعلم أنه استدراج له ونقمة عليه . فإن قلت كيف يصح القول بالاستدراج على أصولكم في العدل أ ليس معنى الاستدراج إيهام العبد أنه سبحانه غير ساخط فعله ومعصيته فهل هذا الاستدراج إلا مفسدة وسبب إلى الإصرار على القبيح . قلت إذا كان المكلف عالما بقبح القبيح أو متمكنا من العلم بقبحه ثم رأى النعم تتوالى عليه وهو مصر على المعصية كان ترادف تلك النعم كالمنبه له على وجوب الحذر مثال ذلك من هو في خدمة ملك وهو عون ذلك الملك في دولته ويعلم أن الملك قد عرف حاله ثم يرى نعم الملك مترادفة إليه فإنه يجب بمقتضى الاحتياط أن يشتد حذره لأنه يقول ليست حالي مع الملك حال من يستحق هذه النعم وما هذه إلا مكيدة وتحتها غائلة فيجب إذن عليه أن يحذر
[ 137 ](1/5097)
26
وَ قَالَ ع مَا أَضْمَرَ أَحَدٌ شَيْئاً إِلاَّ ظَهَرَ فِي فَلَتَاتِ لِسَانِهِ وَ صَفَحَاتِ وَجْهِهِ قال زهير بن أبي سلمى
و مهما تكن عند امرئ من خليقة
و إن خالها تخفى على الناس تعلم
و قال آخر
تخبرني العينان ما القلب كاتم
و ما جن بالبغضاء والنظر الشزر
و قال آخر
و في عينيك ترجمة أراها
تدل على الضغائن والحقود
و أخلاق عهدت اللين فيها
غدت وكأنها زبر الحديد
و قد عاهدتني بخلاف هذا
و قال الله أَوْفُوا بِالْعُقُودِ
و كان يقال العين والوجه واللسان أصحاب أخبار على القلب وقالوا القلوب كالمرايا المتقابلة إذا ارتسمت في إحداهن صورة ظهرت في الأخرى
[ 138 ](1/5098)
27
وَ قَالَ ع اِمْشِ بِدَائِكَ مَا مَشَى بِكَ يقول مهما وجدت سبيلا إلى الصبر على أمر من الأمور التي قد دفعت إليها وفيها مشقة عليك وضرر لاحق بك فاصبر ولا تلتمس طريقا إلى تغيير ما دفعت إليه أن تسلكها بالعنف ومراغمة الوقت ومعاناة الأقضية والأقدار ومثال ذلك من يعرض له مرض ما يمكنه أن يحتمله ويدافع الوقت فإنه يجب عليه ألا يطرح جانبه إلى الأرض ويخلد إلى النوم على الفراش ليعالج ذلك المرض قوة وقهرا فربما أفضى به مقاهرة ذلك المرض الصغير بالأدوية إلى أن يصير كبيرا معضلا
[ 139 ](1/5099)
28
وَ قَالَ ع أَفْضَلُ اَلزُّهْدِ إِخْفَاءُ اَلزُّهْدِ إنما كان كذلك لأن الجهر بالعبادة والزهادة والإعلان بذلك قل أن يسلم من مخالطة الرياء وقد تقدم لنا في الرياء أقوال مقنعة . رأى المنصور رجلا واقفا ببابه فقال مثل هذا الدرهم بين عينيك وأنت واقف ببابنا فقال الربيع نعم لأنه ضرب على غير السكة . شاعر
معشر أثبت الصلاة عليهم
لجباه يشقها المحراب
عمروا موضع التصنع منهم
و مكان الإخلاص منهم خراب
[ 140 ](1/5100)
29
وَ قَالَ ع إِذَا كُنْتَ فِي إِدْبَارٍ وَ اَلْمَوْتُ فِي إِقْبَالٍ فَمَا أَسْرَعَ اَلْمُلْتَقَى هذا ظاهر لأنه إذا كان كلما جاء ففي إدبار والموت كلما جاء ففي إقبال فيا سرعان ما يلتقيان وذلك لأن إدباره هو توجهه إلى الموت وإقبال الموت هو توجه الموت إلى نحوه فقد حق إذن الالتقاء سريعا ومثال ذلك سفينتان بدجلة أو غيرها تصعد إحداهما والأخرى تنحدر نحوها فلا ريب إن الالتقاء يكون وشيكا
[ 141 ](1/5101)
30
وَ قَالَ ع اَلْحَذَرَ اَلْحَذَرَ فَوَاللَّهِ لَقَدْ سَتَرَ حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ غَفَرَ قد تقدم هذا المعنى وهو الاستدراج الذي ذكرناه آنفا
[ 142 ](1/5102)
31
وَ سُئِلَ ع عَنِ اَلْإِيمَانِ فَقَالَ اَلْإِيمَانُ عَلَى أَرْبَعِ دَعَائِمَ عَلَى اَلصَّبْرِ وَ اَلْيَقِينِ وَ اَلْعَدْلِ وَ اَلْجِهَادِ وَ اَلصَّبْرُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ عَلَى اَلشَّوْقِ وَ اَلشَّفَقِ وَ اَلزُّهْدِ وَ اَلتَّرَقُّبِ فَمَنِ اِشْتَاقَ إِلَى اَلْجَنَّةِ سَلاَ عَنِ اَلشَّهَوَاتِ وَ مَنْ أَشْفَقَ مِنَ اَلنَّارِ اِجْتَنَبَ اَلْمُحَرَّمَاتِ وَ مَنْ زَهِدَ فِي اَلدُّنْيَا اِسْتَهَانَ بِالْمُصِيبَاتِ وَ مَنِ اِرْتَقَبَ اَلْمَوْتَ سَارَعَ فِي إِلَى اَلْخَيْرَاتِ وَ اَلْيَقِينُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ عَلَى تَبْصِرَةِ اَلْفِطْنَةِ وَ تَأَوُّلِ اَلْحِكْمَةِ وَ مَوْعِظَةِ اَلْعِبْرَةِ وَ سُنَّةِ اَلْأَوَّلِينَ فَمَنْ تَبَصَّرَ فِي اَلْفِطْنَةِ تَبَيَّنَتْ لَهُ اَلْحِكْمَةُ وَ مَنْ تَبَيَّنَتْ لَهُ اَلْحِكْمَةُ عَرَفَ اَلْعِبْرَةَ وَ مَنْ عَرَفَ اَلْعِبْرَةَ فَكَأَنَّمَا كَانَ فِي اَلْأَوَّلِينَ وَ اَلْعَدْلُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ عَلَى غَائِصِ اَلْفَهْمِ وَ غَوْرِ اَلْعِلْمِ وَ زُهْرَةِ اَلْحُكْمِ وَ رَسَاخَةِ اَلْحِلْمِ فَمَنْ فَهِمَ عَلِمَ غَوْرَ اَلْعِلْمِ وَ مَنْ عَلِمَ غَوْرَ اَلْعِلْمِ صَدَرَ عَنْ شَرَائِعِ اَلْحِلْمِ اَلْحُكْمِ وَ مَنْ حَلُمَ لَمْ يُفَرِّطْ فِي أَمْرِهِ وَ عَاشَ فِي اَلنَّاسِ حَمِيداً وَ اَلْجِهَادُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ عَلَى اَلْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَ اَلنَّهْيِ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ اَلصِّدْقِ فِي اَلْمَوَاطِنِ وَ شَنَآنِ اَلْفَاسِقِينَ فَمَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ شَدَّ ظُهُورَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ نَهَى عَنِ اَلْمُنْكَرِ أَرْغَمَ أُنُوفَ اَلْمُنَافِقِينَ وَ مَنْ صَدَقَ فِي اَلْمَوَاطِنِ قَضَى مَا عَلَيْهِ وَ مَنْ شَنِئَ اَلْفَاسِقِينَ وَ غَضِبَ لِلَّهِ غَضِبَ اَللَّهُ لَهُ وَ أَرْضَاهُ يَوْمَ(1/5103)
اَلْقِيَامَةِ وَ اَلْكُفْرُ عَلَى أَرْبَعِ دَعَائِمَ عَلَى اَلتَّعَمُّقِ وَ اَلتَّنَازُعِ وَ اَلزَّيْغِ وَ اَلشِّقَاقِ فَمَنْ تَعَمَّقَ لَمْ يُنِبْ إِلَى اَلْحَقِّ وَ مَنْ كَثُرَ نِزَاعُهُ بِالْجَهْلِ دَامَ عَمَاهُ عَنِ اَلْحَقِّ
[ 143 ]
وَ مَنْ زَاغَ سَاءَتْ عِنْدَهُ اَلْحَسَنَةُ وَ حَسُنَتْ عِنْدَهُ اَلسَّيِّئَةُ وَ سَكِرَ سُكْرَ اَلضَّلاَلَةِ وَ مَنْ شَاقَّ وَعُرَتْ عَلَيْهِ طُرُقُهُ وَ أَعْضَلَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ وَ ضَاقَ عَلَيْهِ مَخْرَجُهُ وَ اَلشَّكُّ عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ عَلَى اَلتَّمَارِي وَ اَلْهَوْلِ وَ اَلتَّرَدُّدِ وَ اَلاِسْتِسْلاَمِ فَمَنْ جَعَلَ اَلْمِرَاءَ دَيْدَناً لَمْ يُصْبِحْ لَيْلُهُ وَ مَنْ هَالَهُ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَ مَنْ تَرَدَّدَ فِي اَلرَّيْبِ وَطِئَتْهُ سَنَابِكُ اَلشَّيَاطِينِ وَ مَنِ اِسْتَسْلَمَ لِهَلَكَةِ اَلدُّنْيَا وَ اَلآْخِرَةِ هَلَكَ فِيهِمَا قال الرضي رحمه الله تعالى وبعد هذا كلام تركنا ذكره خوف الإطالة والخروج عن الغرض المقصود في هذا الكتاب من هذا الفصل أخذت الصوفية وأصحاب الطريقة والحقيقة كثيرا من فنونهم في علومهم ومن تأمل كلام سهل بن عبد الله التستري وكلام الجنيد والسري وغيرهم رأى هذه الكلمات في فرش كلامهم تلوح كالكواكب الزاهرة وكل المقامات والأحوال المذكورة في هذا الفصل قد تقدم قولنا فيها(1/5104)
نبذ وحكايات مما وقع بين يدي الملوك
و نذكر هاهنا الصدق في المواطن وبين يدي الملوك ومن يغضب لله وينهى عن المنكر ويقوم بالحق ولا يبالي بالسلطان ولا يراقبه .
[ 144 ]
دخل عمر بن عبد العزيز على سليمان بن عبد الملك وعنده أيوب ابنه وهو يومئذ ولي عهده قد عقد له من بعده فجاء إنسان يطلب ميراثا من بعض نساء الخلفاء فقال سليمان ما إخال النساء يرثن في العقار شيئا فقال عمر بن عبد العزيز سبحان الله وأين كتاب الله فقال سليمان يا غلام اذهب فأتني بسجل عبد الملك الذي كتب في ذلك فقال له عمر لكأنك أرسلت إلى المصحف فقال أيوب بن سليمان والله ليوشكن الرجل يتكلم بمثل هذا عند أمير المؤمنين فلا يشعر حتى يفارقه رأسه فقال عمر إذا أفضى الأمر إليك وإلى أمثالك كان ما يدخل على الإسلام أشد مما يخشى عليكم من هذا القول ثم قام فخرج . وروى إبراهيم بن هشام بن يحيى قال حدثني أبي عن جدي قال كان عمر بن عبد العزيز ينهى سليمان بن عبد الملك عن قتل الحرورية ويقول ضمنهم الحبوس حتى يحدثوا توبة فأتي سليمان بحروري مستقتل وعنده عمر بن عبد العزيز فقال سليمان للحروري ما ذا تقول قال ما أقول يا فاسق يا ابن الفاسق فقال سليمان لعمر ما ترى يا أبا حفص فسكت فقال أقسمت عليك لتخبرني ما ذا ترى عليه فقال أرى أن تشتمه كما شتمك وتشتم أباه كما شتم أباك فقال سليمان ليس إلا قال ليس إلا فلم يرجع سليمان إلى قوله وأمر بضرب عنق الحروري . وروى ابن قتيبة في كتاب عيون الأخبار قال بينما المنصور يطوف ليلا بالبيت سمع قائلا يقول اللهم إليك أشكو ظهور البغي والفساد وما يحول بين الحق وأهله من الطمع فخرج المنصور فجلس ناحية من المسجد وأرسل إلى الرجل يدعوه فصلى ركعتين واستلم الركن وأقبل على المنصور فسلم عليه بالخلافة فقال المنصور ما الذي سمعتك تقوله من ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق
[ 145 ](1/5105)
و أهله من الطمع فو الله لقد حشوت مسامعي ما أرمضني فقال يا أمير المؤمنين إن أمنتني على نفسي أنبأتك بالأمور من أصولها وإلا احتجزت منك واقتصرت على نفسي فلي فيها شاغل قال أنت آمن على نفسك فقل فقال إن الذي دخله الطمع حتى حال بينه وبين إصلاح ما ظهر من البغي والفساد لأنت قال ويحك وكيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في قبضتي والحلو والحامض عندي قال وهل دخل أحد من الطمع ما دخلك إن الله عز وجل استرعاك المسلمين وأموالهم فأغفلت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم وجعلت بينك وبينهم حجبا من الجص والآجر وأبوابا من الحديد وحجبة معهم السلاح ثم سجنت نفسك فيها منهم وبعثت عمالك في جباية الأموال وجمعها فقويتهم بالسلاح والرجال والكراع وأمرت بألا يدخل عليك إلا فلان وفلان نفر سميتهم ولم تأمر بإيصال المظلوم والملهوف ولا الجائع والفقير ولا الضعيف والعاري ولا أحد ممن له في هذا المال حق فما زال هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك وأمرت ألا يحجبوا عنك يجبون الأموال ويجمعونها ويحجبونها وقالوا هذا رجل قد خان الله فما لنا لا نخونه وقد سخرنا فائتمروا على ألا يصل إليك من أخبار الناس شي ء إلا ما أرادوا ولا يخرج لك عامل فيخالف أمرهم إلا بغضوه عندك وبغوه الغوائل حتى تسقط منزلته ويصغر قدره فلما انتشر ذلك عنك وعنهم أعظمهم الناس وهابوهم وكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا والأموال ليقووا بها على ظلم رعيتك ثم فعل ذلك ذوو القدرة والثروة من رعيتك لينالوا به ظلم من دونهم فامتلأت بلاد الله بالطمع بغيا وفسادا وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطنتك وأنت غافل فإن جاء متظلم حيل بينه وبين دخول
[ 146 ](1/5106)
دارك وإن أراد رفع قصته إليك عند ظهورك وجدك وقد نهيت عن ذلك ووقفت للناس رجلا ينظر في مظالمهم فإن جاء المتظلم إليه أرسلوا إلى صاحب المظالم ألا يرفع إليك قصته ولا يكشف لك حاله فيجيبهم خوفا منك فلا يزال المظلوم يختلف نحوه ويلوذ به ويستغيث إليه وهو يدفعه ويعتل عليه وإذا أجهد وأحرج وظهرت أنت لبعض شأنك صرخ بين يديك فيضرب ضربا مبرحا ليكون نكالا لغيره وأنت تنظر ولا تنكر فما بقاء الإسلام على هذا . ولقد كنت أيام شبيبتي أسافر إلى الصين فقدمتها مرة وقد أصيب ملكها بسمعه فبكى بكاء شديدا فحداه جلساؤه على الصبر فقال أما إني لست أبكي للبلية النازلة ولكن أبكي للمظلوم بالباب يصرخ فلا أسمع صوته ثم قال أما إذ ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب نادوا في الناس ألا يلبس ثوبا أحمر إلا مظلوم ثم كان يركب الفيل طرفي نهاره ينظر هل يرى مظلوما فهذا مشرك بالله غلبت رأفته بالمشركين على شح نفسه وأنت مؤمن بالله من أهل بيت نبيه لا تغلبك رأفتك بالمسلمين على شح نفسك فإن كنت إنما تجمع المال لولدك فقد أراك الله تعالى عبرا في الطفل يسقط من بطن أمه ما له على الأرض مال وما من مال يومئذ إلا ودونه يد شحيحة تحويه فلا يزال الله يلطف بذلك الطفل حتى تعظم رغبة الناس إليه ولست بالذي تعطي ولكن الله يعطي من يشاء ما يشاء وإن قلت إنما أجمع المال لتشييد السلطان فقد أراك الله عبرا في بني أمية ما أغنى عنهم ما جمعوا من الذهب والفضة وأعدوا من الرجال والسلاح والكراع حين أراد الله بهم ما أراد وإن قلت أجمع المال لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنا فيها فو الله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة لا تدرك إلا بخلاف ما أنت عليه انظر هل تعاقب من عصاك بأشد من القتل قال لا قال فإن الملك الذي خولك ما خولك
[ 147 ](1/5107)
لا يعاقب من عصاه بالقتل بالخلود في العذاب الأليم وقد رأى ما قد عقدت عليه قلبك وعملته جوارحك ونظر إليه بصرك واجترحته يداك ومشت إليه رجلاك وانظر هل يغني عنك ما شححت عليه من أمر الدنيا إذا انتزعه من يدك ودعاك إلى الحساب على ما منحك . فبكى المنصور وقال ليتني لم أخلق ويحك فكيف أحتال لنفسي قال إن للناس أعلاما يفزعون إليهم في دينهم ويرضون بقولهم فاجعلهم بطانتك يرشدوك وشاورهم في أمرك يسددوك قال قد بعثت إليهم فهربوا مني قال نعم خافوا أن تحملهم على طريقك ولكن افتح بابك وسهل حجابك وانظر المظلوم واقمع الظالم وخذ الفي ء والصدقات مما حل وطاب واقسمه بالحق والعدل على أهله وأنا الضامن عنهم أن يأتوك ويسعدوك على صلاح الأمة . وجاء المؤذنون فسلموا عليه ونادوا بالصلاة فقام وصلى وعاد إلى مجلسه فطلب الرجل فلم يوجد . وروى ابن قتيبة أيضا في الكتاب المذكور أن عمرو بن عبيد قال للمنصور إن الله أعطاك الدنيا بأسرها فاشتر نفسك منه ببعضها واذكر ليلة تتمخض لك صبيحتها عن يوم القيامة قال يعني ليلة موته فوجم المنصور فقال الربيع حسبك فقد عممت أمير المؤمنين فقال عمرو بن عبيد إن هذا صحبك عشرين سنة لم ير عليه أن ينصحك يوما واحدا ولم يعمل وراء بابك بشي ء مما في كتاب الله ولا في سنة نبيه قال أبو جعفر فما أصنع قد قلت لك خاتمي في يدك فهلم أنت وأصحابك فاكفني فقال عمرو دعنا بعدلك نسخ بأنفسنا بعونك وببابك مظالم كثيرة فارددها نعلم أنك صادق .
[ 148 ](1/5108)
و قال ابن قتيبة في الكتاب المذكور وقد قام أعرابي بين يدي سليمان بن عبد الملك بنحو هذا قال له إني مكلمك يا أمير المؤمنين بكلام فيه بعض الغلظة فاحتمله إن كرهته فإن وراءه ما تحب قال قل قال إني سأطلق لساني بما خرست عنه الألسن من عظتك تأدية لحق الله إنك قد تكنفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم فابتاعوا دنياهم بدينهم فهم حرب الآخرة سلم الدنيا فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه فإنهم لم يألوا الأمانة تضييعا والأمة خسفا وأنت مسئول عما اجترحوا وليسوا مسئولين عما اجترحت فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك فإن أعظم الناس غبنا من باع آخرته بدنيا غيره قال فقال سليمان أما أنت يا أعرابي فإنك قد سللت علينا عاجلا لسانك وهو أقطع سيفيك فقال أجل لقد سللته ولكن لك لا عليك
[ 149 ](1/5109)
32
وَ قَالَ ع فَاعِلُ اَلْخَيْرِ خَيْرٌ مِنْهُ وَ فَاعِلُ اَلشَّرِّ شَرٌّ مِنْهُ قد نظمت أنا هذا اللفظ والمعنى فقلت في جملة أبيات لي
خير البضائع للإنسان مكرمة
تنمي وتزكو إذا بارت بضائعه
فالخير خير وخير منه فاعله
و الشر شر وشر منه صانعه
فإن قلت كيف يكون فاعل الخير خيرا من الخير وفاعل الشر شرا من الشر مع أن فاعل الخير إنما كان ممدوحا لأجل الخير وفاعل الشر إنما كان مذموما لأجل الشر فإذا كان الخير والشر هما سببا المدح والذم وهما الأصل في ذلك فكيف يكون فاعلاهما خيرا وشرا منهما . قلت لأن الخير والشر ليسا عبارة عن ذات حية قادرة وإنما هما فعلان أو فعل وعدم فعل أو عدمان فلو قطع النظر عن الذات الحية القادرة التي يصدران عنها لما انتفع أحد بهما ولا استضر فالنفع والضرر إنما حصلا من الحي الموصوف بهما لا منهما على انفرادهما فلذلك كان فاعل الخير خيرا من الخير وفاعل الشر شرا من الشر
[ 150 ](1/5110)
33
وَ قَالَ ع كُنْ سَمَحاً وَ لاَ تَكُنْ مُبَذِّراً وَ كُنْ مُقَدِّراً وَ لاَ تَكُنْ مُقَتِّراً كل كلام جاء في هذا فهو مأخوذ من قوله سبحانه وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ اَلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً . ونحو قوله إِنَّ اَلْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ اَلشَّياطِينِ وَ كانَ اَلشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً
[ 151 ](1/5111)
34
وَ قَالَ ع أَشْرَفُ اَلْغِنَى تَرْكُ اَلْمُنَى قد سبق منا قول كثير في المنى ونذكر هاهنا ما لم نذكره هناك . سئل عبيد الله بن أبي بكر أي شي ء أدوم متاعا فقال المنى . وقال بلال بن أبي بردة ما يسرني بنصيبي من المنى حمر النعم . وكان يقال الأماني للنفس كالرونق للبصر . ومن كلام بعض الحكماء الأماني تعمي أعين البصائر والحظ يأتي من لا يأتيه وربما كان الطمع وعاء حشوه المتالف وسائقا يدعو إلى الندامة وأشقى الناس بالسلطان صاحبه كما أن أقرب الأشياء إلى النار أسرعها إحراقا ولا يدرك الغني بالسلطان إلا نفس خائفة وجسم تعب ودين منكتم وإن كان البحر كدر الماء فهو بعيد الهواء
[ 152 ](1/5112)
35
وَ قَالَ ع مَنْ أَسْرَعَ إِلَى اَلنَّاسِ بِمَا يَكْرَهُونَ قَالُوا فِيهِ مَا بِمَا لاَ يَعْلَمُونَ هذا المعنى كثير واسع ولنقتصر هاهنا فيه على حكاية ذكرها المبرد في الكامل قال لما فتح قتيبة بن مسلم سمرقند أفضى إلى أثاث لم ير مثله وإلى آلات لم ير مثلها فأراد أن يري الناس عظيم ما أنعم الله به عليه ويعرفهم أقدار القوم الذين ظهر عليهم فأمر بدار ففرشت وفي صحنها قدور يرتقى إليها بالسلالم فإذا الحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة الرقاشي قد أقبل والناس جلوس على مراتبهم والحضين شيخ كبير فلما رآه عبد الله بن مسلم قال لأخيه قتيبة ائذن لي في معاتبته قال لا ترده لأنه خبيث الجواب فأبى عبد الله إلا أن يأذن له وكان عبد الله يضعف وقد كان تسور حائطا إلى امرأة قبل ذلك فأقبل على الحضين فقال أ من الباب دخلت يا أبا ساسان
[ 153 ]
قال أجل أسن عمك عن تسور الحيطان قال أ رأيت هذه القدور قال هي أعظم من ألا ترى قال ما أحسب بكر بن وائل رأى مثلها قال أجل ولا غيلان ولو كان رآها سمي شبعان ولم يسم غيلان قال له عبد الله يا أبا ساسان أ تعرف الذي يقول
عزلنا وأمرنا وبكر بن وائل
تجر خصاها تبتغي من تحالفه
قال أجل أعرفه وأعرف الذي يقول
بأدنى العزم قاد بني قشير
و من كانت له أسرى كلاب
و خيبة من يخيب على غني
و باهلة بن يعصر والركاب
يريد يا خيبة من يخيب قال أ فتعرف الذي يقول
كأن فقاح الأزد حول ابن مسمع
إذا عرقت أفواه بكر بن وائل
قال نعم أعرفه وأعرف الذي يقول
قوم قتيبة أمهم وأبوهم
لو لا قتيبة أصبحوا في مجهل
قال أما الشعر فأراك ترويه فهل تقرأ من القرآن شيئا قال أقرأ منه الأكثر الأطيب هَلْ أَتى عَلَى اَلْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ اَلدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً فأغضبه فقال والله لقد بلغني أن امرأة الحضين حملت إليه وهي حبلى من غيره
[ 154 ](1/5113)
قال فما تحرك الشيخ عن هيئته الأولى ثم قال على رسله وما يكون تلد غلاما على فراشي فيقال فلان بن الحضين كما يقال عبد الله بن مسلم فأقبل قتيبة على عبد الله وقال لا يبعد الله غيرك . قلت هو الحضين بالضاد المعجمة وليس في العرب من اسمه الحضين بالضاد المعجمة غيره
[ 155 ](1/5114)
36
وَ قَالَ ع مَنْ أَطَالَ اَلْأَمَلَ أَسَاءَ اَلْعَمَلَ قد تقدم منا كلام في الأمل . وقيل لبعض الصالحين أ لك حاجة إلى بغداد قال ما أحب أن أبسط أملي حتى تذهب إلى بغداد وتعود . وقال أبو عثمان النهدي قد أتت علي ثلاثون ومائة سنة ما من شي ء إلا وأجد فيه النقص إلا أملي فإني وجدته كما هو أو يزيد
[ 156 ](1/5115)
37
وَ قَالَ ع وَ قَدْ لَقِيَهُ عِنْدَ مَسِيرِهِ إِلَى اَلشَّامِ دَهَاقِينُ اَلْأَنْبَارِ فَتَرَجَّلُوا لَهُ وَ اِشْتَدُّوا بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ مَا هَذَا اَلَّذِي صَنَعْتُمُوهُ فَقَالُوا خُلُقٌ مِنَّا نُعَظِّمُ بِهِ أُمَرَاءَنَا فَقَالَ وَ اَللَّهِ مَا يَنْتَفِعُ بِهَذَا أُمَرَاؤُكُمْ وَ إِنَّكُمْ لَتَشُقُّونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ وَ تَشْقَوْنَ بِهِ فِي أُخْرَاكُمْ آخِرَتِكُمْ وَ مَا أَخْسَرَ اَلْمَشَقَّةَ وَرَاءَهَا اَلْعِقَابُ وَ أَرْبَحَ اَلدَّعَةَ مَعَهَا اَلْأَمَانُ مِنَ اَلنَّارِ اشتدوا بين يديه أسرعوا شيئا فنهاهم عن ذلك وقال إنكم تشقون به على أنفسكم لما فيه من تعب الأبدان وتشقون به في آخرتكم تخضعون للولاة كما زعمتم أنه خلق وعادة لكم خضوعا تطلبون به الدنيا والمنافع العاجلة فيها وكل خضوع وتذلل لغير الله فهو معصية . ثم ذكر أن الخسران المبين مشقة عاجلة يتبعها عقاب الآخرة والربح البين دعة عاجلة يتبعها الأمان من النار
[ 157 ](1/5116)
38
وَ قَالَ ع لاِبْنِهِ اَلْحَسَنِ ع يَا بُنَيَّ اِحْفَظْ عَنِّي أَرْبَعاً وَ أَرْبَعاً لاَ يَضُرُّكَ مَا عَمِلْتَ مَعَهُنَّ إِنَّ أَغْنَى اَلْغِنَى اَلْعَقْلُ وَ أَكْبَرَ اَلْفَقْرِ اَلْحُمْقُ وَ أَوْحَشَ اَلْوَحْشَةِ اَلْعُجْبُ وَ أَكْرَمَ اَلْحَسَبِ حُسْنُ اَلْخُلُقِ يَا بُنَيَّ إِيَّاكَ وَ مُصَادَقَةَ اَلْأَحْمَقِ فَإِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَنْفَعَكَ فَيَضُرُّكَ وَ إِيَّاكَ وَ مُصَادَقَةَ اَلْبَخِيلِ فَإِنَّهُ يَقْعُدُ عَنْكَ أَحْوَجَ مَا تَكُونُ إِلَيْهِ وَ إِيَّاكَ وَ مُصَادَقَةَ اَلْفَاجِرِ فَإِنَّهُ يَبِيعُكَ بِالتَّافِهِ وَ إِيَّاكَ وَ مُصَادَقَةَ اَلْكَذَّابِ فَإِنَّهُ كَالسَّرَابِ يُقَرِّبُ عَلَيْكَ اَلْبَعِيدَ وَ يُبَعِّدُ عَلَيْكَ اَلْقَرِيبَ هذا الفصل يتضمن ذكر العقل والحمق والعجب وحسن الخلق والبخل والفجور والكذب وقد تقدم كلامنا في هذه الخصال أجمع وقد أخذت قوله ع إياك ومصادقة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك فقلت في أبيات لي
حياتك لا تصحبن الجهول
فلا خير في صحبة الأخرق
يظن أخو الجهل أن الضلال
عين الرشاد فلا يتقي
و يكسب صاحبه حمقه
فيسرق منه ولا يسرق
و أقسم أن العدو اللبيب
خير من المشفق الأحمق
[ 158 ](1/5117)
39
وَ قَالَ ع لاَ قُرْبَةَ بِالنَّوَافِلِ إِذَا أَضَرَّتْ بِالْفَرَائِضِ هذا الكلام يمكن أن يحمل على حقيقته ويمكن أن يحمل على مجازه فإن حمل على حقيقته فقد ذهب إلى هذا المذهب كثير من الفقهاء وهو مذهب الإمامية وهو أنه لا يصح التنفل ممن عليه قضاء فريضة فاتته لا في الصلاة ولا في غيرها فأما الحج فمتفق عليه بين المسلمين أنه لا يصح الابتداء بنفله وإذا نوى نية النفل ولم يكن قد حج حجة الإسلام وقع حجه فرضا فأما نوافل الزكاة فما عرفت أحدا قال إنه لا يثاب المتصدق بها وإن كان لم يؤد الزكاة الواجبة وأما إذا حمل على مجازه فإن معناه يجب الابتداء بالأهم وتقديمه على ما ليس بأهم فتدخل هذه الكلمة في الآداب السلطانية والإخوانية نحو أن تقول لمن توصيه لا تبدأ بخدمة حاجب الملك قبل أن تبدأ بخدمة ولد الملك فإنك إنما تروم القربة للملك بالخدمة ولا قربة إليه في تأخير خدمة ولده وتقديم خدمة غلامه وحمل الكلمة على حقيقتها أولى لأن اهتمام أمير المؤمنين ع بالأمور الدينية والشرعية في وصاياه ومنثور كلامه أعظم
[ 159 ](1/5118)
40
وَ قَالَ ع لِسَانُ اَلْعَاقِلِ وَرَاءَ قَلْبِهِ وَ قَلْبُ اَلْأَحْمَقِ وَرَاءَ لِسَانِهِ قال الرضي رحمه الله تعالى وهذا من المعاني العجيبة الشريفة والمراد به أن العاقل لا يطلق لسانه إلا بعد مشاورة الروية ومؤامرة الفكرة والأحمق تسبق حذفات لسانه وفلتات كلامه مراجعة فكره ومماخضة رأيه فكان لسان العاقل تابع لقلبه وكان قلب الأحمق تابع للسانه قال وقد روي عنه ع هذا المعنى بلفظ آخر وهو قوله قلب الأحمق في فيه ولسان العاقل في قلبه ومعناهما واحد قد تقدم القول في العقل والحمق ونذكر هاهنا زيادات أخرى(1/5119)
أقوال وحكايات حول الحمقى
قالوا كل شي ء يعز إذا قل والعقل كلما كان أكثر كان أعز وأغلى . وكان عبد الملك يقول أنا للعاقل المدبر أرجى مني للأحمق المقبل . قيل لبعضهم ما جماع العقل فقال ما رأيته مجتمعا في أحد فأصفه وما لا يوجد كاملا فلا حد له .
[ 160 ]
و قال الزهري إذا أنكرت عقلك فاقدحه بعاقل . وقيل عظمت المئونة في عاقل متجاهل وجاهل متعاقل . وقيل الأحمق يتحفظ من كل شي ء إلا من نفسه . وقيل لبعضهم العقل أفضل أم الجد فقال العقل من الجد . وخطب رجلان إلى ديماووس الحكيم ابنته وكان أحدهما فقيرا والآخر غنيا فزوجها من الفقير فسأله الإسكندر عن ذلك فقال لأن الغني كان أحمق فكنت أخاف عليه الفقر والفقير كان عاقلا فرجوت له الغنى . وقال أرسطو العاقل يوافق العاقل والأحمق لا يوافق العاقل ولا أحمق كالعود المستقيم الذي ينطبق على المستقيم فأما المعوج فإنه لا ينطبق على المعوج ولا على المستقيم . وقال بعضهم لأن أزاول أحمق أحب إلي من أن أزاول نصف أحمق أعني الجاهل المتعاقل . واعلم أن أخبار الحمقى ونوادرهم كثيرة إلا أنا نذكر منها هاهنا ما يليق بكتابنا فإنه كتاب نزهناه عن الخلاعة والفحش إجلالا لمنصب أمير المؤمنين . قال هشام بن عبد الملك يوما لأصحابه إن حمق الرجل يعرف بخصال أربع طول لحيته وبشاعة كنيته ونقش خاتمه وإفراط نهمته فدخل عليه شيخ طويل العثنون فقال هشام أما هذا فقد جاء بواحدة فانظروا أين هو من الباقي قالوا له ما كنية الشيخ قال أبو الياقوت فسألوه عن نقش خاتمه فإذا هو
[ 161 ](1/5120)
وَ جاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ فقيل له أي الطعام تشتهي قال الدباء بالزيت فقال هشام إن صاحبكم قد كمل . وسمع عمر بن عبد العزيز رجلا ينادي آخر يا أبا العمرين فقال لو كان له عقل لكفاه أحدهما وأرسل ابن لعجل بن لجيم فرسا له في حلبة فجاء سابقا فقيل له سمه باسم يعرف به فقام ففقأ عينه وقال قد سميته الأعور فقال شاعر يهجوه
رمتني بنو عجل بداء أبيهم
و أي عباد الله أنوك من عجل
أ ليس أبوهم عار عين جواده
فأضحت به الأمثال تضرب بالجهل
و قال أبو كعب القاص في قصصه إن النبي ص قال في كبد حمزة ما علمتم فادعوا الله أن يطعمنا من كبد حمزة . وقال مرة في قصصه اسم الذئب الذي أكل يوسف كذا وكذا فقيل له إن يوسف لم يأكله الذئب فقال فهذا اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف . ودخل كعب البقر الهاشمي على محمد بن عبد الله بن طاهر يعزيه في أخيه فقال له أعظم الله مصيبة الأمير فقال الأمير أما فيك فقد فعل والله لقد هممت أن أحلق لحيتك فقال إنما هي لحية الله ولحية الأمير فليفعل ما أحب . وكان عامر بن كريز أبو عبد الله بن عامر من حمقى قريش نظر إلى عبد الله وهو يخطب والناس يستحسنون كلامه فقال لإنسان إلى جانبه أنا أخرجته من هذا وأشار إلى متاعه .
[ 162 ](1/5121)
و من حمقى قريش العاص بن هشام المخزومي وكان أبو لهب قامره فقمره ماله ثم داره ثم قليله وكثيره وأهله ونفسه فاتخذه عبدا وأسلمه قينا فلما كان يوم بدر بعث به بديلا عن نفسه فقتل ببدر قتله عمر بن الخطاب وكان ابن عم أمه . ومن الحمقى الأحوص بن جعفر بن عمرو بن حريث قال له يوما مجالسوه ما بال وجهك أصفر أ تشتكي شيئا فرجع إلى أهله وقال يا بني الخيبة أنا شاك ولا تعلمونني اطرحوا علي الثياب وابعثوا إلي الطبيب . ومن حمقى بني عجل حسان بن الغضبان من أهل الكوفة ورث نصف دار أبيه فقال أريد أن أبيع حصتي من الدار وأشتري بالثمن النصف الباقي فتصير الدار كلها لي . ومن حمقى قريش بكار بن عبد الملك بن مروان وكان أبوه ينهاه أن يجالس خالد بن يزيد بن معاوية لما يعرف من حمقه فجلس يوما إلى خالد فقال خالد يعبث به هذا والله المردد في بني عبد مناف فقال بكار أجل أنا والله كما قال الأول
مردد في بني اللخناء ترديدا
و طار لبكار هذا بازي فقال لصاحب الشرطة أغلق أبواب دمشق لئلا يخرج البازي . ومن حمقى قريش معاوية بن مروان بن الحكم بينا هو واقف بباب دمشق ينتظر أخاه عبد الملك على باب طحان وحمار الطحان يدور بالرحى وفي عنقه جلجل فقال للطحان لم جعلت في عنق هذا الحمار جلجلا فقال ربما أدركتني نعسة أو سآمة فإذا لم أسمع صوت الجلجل علمت أنه قد نام فصحت به فقال أ رأيته إن قام وحرك رأسه ما علمك به أنه قائم فقال ومن لحماري بمثل عقل الأمير .
[ 163 ](1/5122)
و قال معاوية لحميه وقد دخل بابنته تلك الليلة فافتضها لقد ملأتنا ابنتك البارحة دما فقال إنها من نسوة يخبأن ذلك لأزواجهن . ومن حمقى قريش سليمان بن يزيد بن عبد الملك قال يوما لعن الله الوليد أخي فلقد كان فاجرا أرادني على الفاحشة فقال له قائل من أهله اسكت ويحك فو الله إن كان هم لقد فعل . وخطب سعيد بن العاص عائشة ابنة عثمان فقالت هو أحمق لا أتزوجه أبدا له برذونان لونهما واحد عند الناس ويحمل مؤنة اثنين . وممن كان يحمق من قريش عتبة بن أبي سفيان بن حرب وعبد الله بن معاوية بن أبي سفيان وعبد الله بن قيس بن مخرمة بن المطلب وسهل بن عمرو أخو سهيل بن عمرو بن العاص وكان عبد الملك بن مروان يقول أحمق بيت في قريش آل قيس بن مخرمة . ومن القبائل المشهورة بالحمق الأزد كتب مسلمة بن عبد الملك إلى يزيد بن المهلب لما خرج عليهم أنك لست بصاحب هذا الأمر إن صاحبه مغمور موتور وأنت مشهور غير موتور فقام إليه رجل من الأزد فقال قدم ابنك مخلدا حتى يقتل فتصير موتورا . وقام رجل من الأزد إلى عبيد الله بن زياد فقال أصلح الله الأمير إن امرأتي هلكت وقد أردت أن أتزوج أمها وهذا عريفي فأعني في الصداق فقال في كم أنت من العطاء فقال في سبعمائة فقال حطوا من عطائه أربعمائة يكفيك ثلاثمائة . ومدح رجل منهم المهلب فقال
نعم أمير الرفقة المهلب
أبيض وضاح كتيس الحلب
[ 164 ](1/5123)
فقال المهلب حسبك يرحمك الله . وكان عبد الملك بن هلال عنده زنبيل مملوء حصا للتسبيح فكان يسبح بواحدة واحدة فإذا مل طرح اثنتين اثنتين ثم ثلاثا ثلاثا فإذا ازداد ملالة قبض قبضة وقال سبحان الله عددك فإذا ضجر أخذ بعرا الزنبيل وقلبه وقال سبحان الله بعدد هذا . ودخل قوم منزل الخريمي لبعض الأمر فجاء وقت صلاة الظهر فسألوه عن القبلة فقال إنما تركتها منذ شهر . وحكى بعضهم قال رأيت أعرابيا يبكي فسألته عن سبب بكائه فقال بلغني أن جالوت قتل مظلوما . وصف بعضهم أحمق فقال يسمع غير ما يقال ويحفظ غير ما يسمع ويكتب غير ما يحفظ ويحدث بغير ما يكتب . قال المأمون لثمامة ما جهد البلاء يا أبا معن قال عالم يجري عليه حكم جاهل قال من أين قلت هذا قال حبسني الرشيد عند مسرور الكبير فضيق علي أنفاسي فسمعته يوما يقرأ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بفتح الذال فقلت له لا تقل أيها الأمير هكذا قل لِلْمُكَذِّبِينَ وكسرت له الذال لأن المكذبين هم الأنبياء فقال قد كان يقال لي عنك أنك قدري فلا نجوت إن نجوت الليلة مني فعاينت منه تلك الليلة الموت من شدة ما عذبني . قال أعرابي لابنه يا بني كن سبعا خالصا أو ذئبا حائسا أو كلبا حارسا ولا تكن أحمق ناقصا .
[ 165 ](1/5124)
و كان يقال لو لا ظلمة الخطإ ما أشرق نور الصواب . وقال أبو سعيد السيرافي رأيت متكلما ببغداد بلغ به نقصه في العربية أنه قال في مجلس مشهور إن العبد مضطر بفتح الطاء والله مضطر بكسرها وزعم أن من قال الله مضطر عبد إلى كذا بالفتح كافر فانظر أين بلغ به جهله وإلى أي رذيلة أداه نقصه . وصف بعضهم إنسانا أحمق فقال والله للحكمة أزل عن قلبه من المداد عن الأديم الدهين . مر عمر بن الخطاب على رماة غرض فسمع بعضهم يقول أخطيت وأسبت فقال له مه فإن سوء اللحن شر من سوء الرماية . تضجر عمر بن عبد العزيز من كلام رجل بين يديه فقال له صاحب شرطته قم فقد أوذيت أمير المؤمنين فقال عمر والله إنك لأشد أذى لي بكلامك هذا منه . ومن حمقى العرب وجهلائهم كلاب بن صعصعة خرج إخوته يشترون خيلا فخرج معهم فجاء بعجل يقوده فقيل له ما هذا فقال فرس اشتريته قالوا يا مائق هذه بقرة أ ما ترى قرنيها فرجع إلى منزله فقطع قرنيها ثم قادها فقال لهم قد أعدتها فرسا كما تريدون فأولاده يدعون بني فارس البقرة . وكان شذرة بن الزبرقان بن بدر من الحمقى جاء يوم الجمعة إلى المسجد الجامع فأخذ بعضادتي الباب ثم رفع صوته سلام عليكم أ يلج شذرة فقيل له هذا يوم لا يستأذن فيه فقال أ ويلج مثلي على قوم ولم يعرف له مكانه .
[ 166 ](1/5125)
و استعمل معاوية عاملا من كلب فخطب يوما فذكر المجوس فقال لعنهم الله ينكحون أمهاتهم والله لو أعطيت عشرة آلاف درهم ما نكحت أمي فبلغ ذلك معاوية فقال قبحه الله أ ترونه لو زادوه فعل وعزله . وشرد بعير لهبنقة واسمه يزيد بن شروان فجعل ينادي لمن أتى به بعيران فقيل له كيف تبذل ويلك بعيرين في بعير فقال لحلاوة الوجدان . وسرق من أعرابي حمار فقيل له أ سرق حمارك قال نعم وأحمد الله فقيل له على ما ذا تحمده قال كيف لم أكن عليه . وخطب وكيع بن أبي سود بخراسان فقال إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أشهر فقيل له إنها ستة أيام فقال والله لقد قلتها وأنا أستقلها . وأجريت خيل فطلع فيها فرس سابق فجعل رجل من النظارة يكبر ويثبت من الفرح فقال له رجل إلى جانبه يا فتى أ هذا الفرس السابق لك قال لا ولكن اللجام لي . وقيل لأبي السفاح الأعرابي عند موته أوص فقال إنا الكرام يوم طخفة قالوا قل خيرا يا أبا السفاح قال إن أحبت امرأتي فأعطوها بعيرا قالوا قل خيرا قال إذا مات غلامي فهو حر . وقيل لرجل عند موته قل لا إله إلا الله فأعرض فأعادوا عليه مرارا فقال لهم أخبروني عن أبي طالب قالها عند موته قالوا وما أنت وأبو طالب فقال أرغب بنفسي عن ذلك الشريف .
[ 167 ]
و قيل لآخر عند موته أ لا توصي فقال أنا مغفور لي قالوا قل إن شاء الله قال قد شاء الله ذلك قالوا يا هذا لا تدع الوصية فقال لابني أخيه يا ابني حريث ارفعا وسادي واحتفظا بالحلة الجياد فإنما حولكما الأعادي . وقيل لمعلم بن معلم ما لك أحمق فقال لو لم أكن أحمق لكنت ولد زنا
[ 168 ](1/5126)
41
وَ قَالَ ع لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ فِي عِلَّةٍ اِعْتَلَّهَا جَعَلَ اَللَّهُ مَا كَانَ مِنْكَ مِنْ شَكْوَاكَ حَطّاً لِسَيِّئَاتِكَ فَإِنَّ اَلْمَرَضَ لاَ أَجْرَ فِيهِ وَ لَكِنَّهُ يَحُطُّ اَلسَّيِّئَاتِ وَ يَحُتُّهَا حَتَّ اَلْأَوْرَاقِ وَ إِنَّمَا اَلْأَجْرُ فِي اَلْقَوْلِ بِاللِّسَانِ وَ اَلْعَمَلِ بِالْأَيْدِي وَ اَلْأَقْدَامِ وَ إِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ يُدْخِلُ بِصِدْقِ اَلنِّيَّةِ وَ اَلسَّرِيرَةِ اَلصَّالِحَةِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ اَلْجَنَّةَ قال الرضي رحمه الله تعالى وأقول صدق ع إن المرض لا أجر فيه لأنه من قبيل ما يستحق عليه العوض لأن العوض يستحق على ما كان في مقابلة فعل الله تعالى بالعبد من الآلام والأمراض وما يجري مجرى ذلك والأجر والثواب يستحقان على ما كان في مقابل فعل العبد فبينهما فرق قد بينه ع كما يقتضيه علمه الثاقب ورأيه الصائب ينبغي أن يحمل كلام أمير المؤمنين ع في هذا الفصل على تأويل يطابق ما تدل عليه العقول وألا يحمل على ظاهره وذلك لأن المرض إذا استحق عليه الإنسان
[ 169 ](1/5127)
العوض لم يجز أن يقال إن العوض يحط السيئات بنفسه لا على قول أصحابنا ولا على قول الإمامية أما الإمامية فإنهم مرجئة لا يذهبون إلى التحابط وأما أصحابنا فإنهم لا تحابط عندهم إلا في الثواب والعقاب فأما العقاب والعوض فلا تحابط بينهما لأن التحابط بين الثواب والعقاب إنما كان باعتبار التنافي بينهما من حيث كان أحدهما يتضمن الإجلال والإعظام والآخر يتضمن الاستخفاف والإهانة ومحال أن يكون الإنسان الواحد مهانا معظما في حال واحدة ولما كان العوض لا يتضمن إجلالا وإعظاما وإنما هو نفع خالص فقط لم يكن منافيا للعقاب وجاز أن يجتمع للإنسان الواحد في الوقت الواحد كونه مستحقا للعقاب والعوض إما بأن يوفر العوض عليه في دار الدنيا وإما بأن يوصل إليه في الآخرة قبل عقابه إن لم يمنع الإجماع من ذلك في حق الكافر وإما أن يخفف عليه بعض عقابه ويجعل ذلك بدلا من العوض الذي كان سبيله أن يوصل إليه وإذا ثبت ذلك وجب أن يجعل كلام أمير المؤمنين ع على تأويل صحيح وهو الذي أراده ع لأنه كان أعرف الناس بهذه المعاني ومنه تعلم المتكلمون علم الكلام وهو أن المرض والألم يحط الله تعالى عن الإنسان المبتلى به ما يستحقه من العقاب على معاصيه السالفة تفضلا منه سبحانه فلما كان إسقاط العقاب متعقبا للمرض وواقعا بعده بلا فصل جاز أن يطلق اللفظ بأن المرض يحط السيئات ويحتها حت الورق كما جاز أن يطلق اللفظ بأن الجماع يحبل المرأة وبأن سقي البذر الماء ينبته إن كان الولد والزرع عند المتكلمين وقعا من الله تعالى على سبيل الاختيار لا على الإيجاب ولكنه أجرى العادة وأن يفعل ذلك عقيب الجماع وعقيب سقي البذر الماء . فإن قلت أ يجوز أن يقال إن الله تعالى يمرض الإنسان المستحق للعقاب ويكون إنما أمرضه ليسقط عنه العقاب لا غير .
[ 170 ](1/5128)
قلت لا لأنه قادر على أن يسقط عنه العقاب ابتداء ولا يجوز إنزال الألم إلا حيث لا يمكن اقتناص العوض المجزى به إليه إلا بطريق الألم وإلا كان فعل الألم عبثا أ لا ترى أنه لا يجوز أن يستحق زيد على عمرو ألف درهم فيضربه ويقول إنما أضربه لأجعل ما يناله من ألم الضرب مسقطا لما استحقه من الدراهم عليه وتذمه العقلاء ويسفهونه ويقولون له فهلا وهبتها له وأسقطتها عنه من غير حاجة إلى أن تضربه وتؤلمه والبحث المستقصى في هذه المسائل مذكور في كتبي الكلامية فليرجع إليها وأيضا فإن الآلام قد تنزل بالأنبياء وليسوا ذوي ذنوب ومعاص ليقال إنها تحطها عنهم . فأما قوله ع وإنما الأجر في القول إلى آخر الفصل فإنه ع قسم أسباب الثواب أقساما فقال لما كان المرض لا يقتضي الثواب لأنه ليس فعل المكلف وإنما يستحق المكلف الثواب على ما كان من فعله وجب أن يبين ما الذي يستحق به المكلف الثواب والذي يستحق المكلف به ذلك أن يفعل فعلا إما من أفعال الجوارح وإما من أفعال القلوب فأفعال الجوارح إما قول باللسان أو عمل ببعض الجوارح وعبر عن سائر الجوارح عدا اللسان بالأيدي والأقدام لأن أكثر ما يفعل بها وإن كان قد يفعل بغيرها نحو مجامعة الرجل زوجته إذا قصد به تحصينها وتحصينه عن الزناء ونحو أن ينحي حجرا ثقيلا برأسه عن صدر إنسان قد يقتله وغير ذلك وأما أفعال القلوب فهي العزوم والإرادات والنظر والعلوم والظنون والندم فعبر ع عن جميع ذلك بقوله بصدق النية والسريرة الصالحة واكتفى بذلك عن تعديد هذه الأجناس . فإن قلت فإن الإنسان قد يستحق الثواب على ألا يفعل القبيح وهذا يخرم الحصر الذي حصره أمير المؤمنين قلت يجوز أن يكون يذهب مذهب أبي علي في أن القادر بقدرة لا يخلو عن الأخذ والترك
[ 171 ](1/5129)
42
وَ قَالَ ع فِي ذِكْرِ خَبَّابٍ خَبَّابِ بْنِ اَلْأَرَتِّ رَحِمَ اَللَّهُ خَبَّابَ بْنَ اَلْأَرَتِّ فَلَقَدْ أَسْلَمَ رَاغِباً وَ هَاجَرَ طَائِعاً وَ عَاشَ مُجَاهِداً طُوبَى لِمَنْ ذَكَرَ اَلْمَعَادَ وَ عَمِلَ لِلْحِسَابِ وَ قَنِعَ بِالْكَفَافِ وَ رَضِيَ عَنِ اَللَّهِ قَنِعَ بِالْكَفَافِ وَ رَضِيَ عَنِ اَللَّهِ وَ عَاشَ مُجَاهِداً 44 طُوبَى لِمَنْ ذَكَرَ اَلْمَعَادَ وَ عَمِلَ لِلْحِسَابِ وَ قَنِعَ بِالْكَفَافِ وَ رَضِيَ عَنِ اَللَّهِ(1/5130)
خباب بن الأرت
هو خباب بن الأرت بن جندلة بن سعد بن خزيمة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم يكنى أبا عبد الله وقيل أبا محمد وقيل أبا يحيى أصابه سبي فبيع بمكة . وكانت أمه ختانة وخباب من فقراء المسلمين وخيارهم وكان به مرض وكان في الجاهلية قينا حدادا يعمل السيوف وهو قديم الإسلام قيل إنه كان سادس ستة وشهد بدرا وما بعدها من المشاهد وهو معدود في المعذبين في الله سأله عمر بن الخطاب
[ 172 ]
أيام خلافته ما لقيت من أهل مكة فقال انظر إلى ظهري فنظر فقال ما رأيت كاليوم ظهر رجل فقال خباب أوقدوا لي نارا وسحبت عليها فما أطفأها إلا ودك ظهري . وجاء خباب إلى عمر فجعل يقول ادنه ادنه ثم قال له ما أحد أحق بهذا المجلس منك إلا أن يكون عمار بن ياسر نزل خباب إلى الكوفة ومات بها في سنة سبع وثلاثين وقيل سنة تسع وثلاثين بعد أن شهد مع أمير المؤمنين علي ع صفين ونهروان وصلى عليه علي ع وكانت سنه يوم مات ثلاثا وسبعين سنة ودفن بظهر الكوفة . وهو أول من دفن بظهر الكوفة وعبد الله بن خباب هو الذي قتلته الخوارج فاحتج علي ع به وطلبهم بدمه وقد تقدم ذكر ذلك
[ 173 ](1/5131)
43
وَ قَالَ ع : لَوْ ضَرَبْتُ خَيْشُومَ اَلْمُؤْمِنِ بِسَيْفِي هَذَا عَلَى أَنْ يُبْغِضَنِي مَا أَبْغَضَنِي وَ لَوْ صَبَبْتُ اَلدُّنْيَا بِجَمَّاتِهَا عَلَى اَلْمُنَافِقِ عَلَى أَنْ يُحِبَّنِي مَا أَحَبَّنِي وَ ذَلِكَ أَنَّهُ قُضِيَ فَانْقَضَى عَلَى لِسَانِ اَلنَّبِيِّ اَلْأُمِّيِّ ص أَنَّهُ قَالَ يَا عَلِيُّ لاَ يُبْغِضُكَ مُؤْمِنٌ وَ لاَ يُحِبُّكَ مُنَافِقٌ جماتها بالفتح جمع جمة وهي المكان يجتمع فيه الماء وهذه استعارة والخيشوم أقصى الأنف . ومراده ع من هذا الفصل إذكار الناس ما قاله فيه رسول الله ص وهو لا يبغضك مؤمن ولا يحبك منافق وهي كلمة حق وذلك لأن الإيمان وبغضه ع لا يجتمعان لأن بغضه كبيرة وصاحب الكبيرة عندنا لا يسمى مؤمنا وأما المنافق فهو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر والكافر بعقيدته لا يحب عليا ع لأن المراد من الخبر المحبة الدينية ومن لا يعتقد الإسلام لا يحب أحدا من أهل الإسلام لإسلامه وجهاده في الدين فقد بان أن الكلمة حق وهذا الخبر مروي في الصحاح بغير هذا اللفظ
لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق وقد فسرناه فيما سبق
[ 174 ](1/5132)
44
وَ قَالَ ع سَيِّئَةٌ تَسُوءُكَ خَيْرٌ عِنْدَ اَللَّهِ مِنْ حَسَنَةٍ تُعْجِبُكَ هذا حق لأن الإنسان إذا وقع منه القبيح ثم ساءه ذلك وندم عليه وتاب حقيقة التوبة كفرت توبته معصيته فسقط ما كان يستحقه من العقاب وحصل له ثواب التوبة وأما من فعل واجبا واستحق به ثوابا ثم خامره الإعجاب بنفسه والإدلال على الله تعالى بعلمه والتيه على الناس بعبادته واجتهاده فإنه يكون قد أحبط ثواب عبادته بما شفعها من القبيح الذي أتاه وهو العجب والتيه والإدلال على الله تعالى فيعود لا مثابا ولا معاقبا لأنه يتكافأ الاستحقاقان . ولا ريب أن من حصل له ثواب التوبة وسقط عنه عقاب المعصية خير ممن خرج من الأمرين كفافا لا عليه ولا له
[ 175 ](1/5133)
45
وَ قَالَ ع قَدْرُ اَلرَّجُلِ عَلَى قَدْرِ هِمَّتِهِ وَ صِدْقُهُ عَلَى قَدْرِ مُرُوءَتِهِ وَ شَجَاعَتُهُ عَلَى قَدْرِ أَنَفَتِهِ وَ عِفَّتُهُ عَلَى قَدْرِ غَيْرَتِهِ قد تقدم الكلام في كل هذه الشيم والخصال ثم نقول هاهنا إن كبر الهمة خلق مختص بالإنسان فقط وأما سائر الحيوانات فليس يوجد فيها ذلك وإنما يتجرأ كل نوع منها الفعل بقدر ما في طبعه وعلو الهمة حال متوسطة محمودة بين حالتين طرفي رذيلتين وهما الندح وتسمية الحكماء التفتح وصغر الهمة وتسمية الناس الدناءة فالتفتح تأهل الإنسان لما لا يستحقه وصغر الهمة تركه لما يستحقه لضعف في نفسه فهذان مذمومان والعدالة وهي الوسط بينهما محمودة وهي علو الهمة وينبغي أن يعلم أن المتفتح جاهل أحمق وصغير الهمة ليس بجاهل ولا أحمق ولكنه دني ء ضعيف قاصر وإذا أردت التحقيق فالكبير الهمة من لا يرضى بالهمم الحيوانية ولا يقنع لنفسه أن يكون عند رعاية بطنه وفرجه بل يجتهد في معرفة صانع العالم ومصنوعاته وفي اكتساب المكارم الشرعية ليكون من خلفاء الله وأوليائه في الدنيا ومجاوريه في الآخرة ولذلك قيل من عظمت همته لم يرض بقنية مستردة وحياة مستعارة فإن أمكنك
[ 176 ]
أن تقتني قنية مؤبدة وحياة مخلدة فافعل غير مكترث بقلة من يصحبك ويعينك على ذلك فإنه كما قيل
إذا عظم المطلوب قل المساعد
و كما قيل
طرق العلاء قليلة الإيناس
و أما الكلام في الصدق والمروءة والشجاعة والأنفة والعفة والغيرة فقد تقدم كثير منه وسيأتي ما هو أكثر فيما بعد إن شاء الله تعالى
[ 177 ](1/5134)
46
وَ قَالَ ع اَلظَّفَرُ بِالْحَزْمِ وَ اَلْحَزْمُ بِإِجَالَةِ اَلرَّأْيِ وَ اَلرَّأْيُ بِتَحْصِينِ اَلْأَسْرَارِ قد تقدم القول في كتمان السر وإذاعته . وقال الحكماء السر ضربان أحدهما ما يلقى إلى الإنسان من حديث ليستكتم وذلك إما لفظا كقول القائل اكتم ما أقوله لك وإما حالا وهو أن يجهر بالقول حال انفراد صاحبه أو يخفض صوته حيث يخاطبه أو يخفيه عن مجالسيه ولهذا قيل إذا حدثك إنسان والتفت إليه فهو أمانة . والضرب الثاني نوعان أحدهما أن يكون حديثا في نفسك تستقبح إشاعته والثاني أن يكون أمرا تريد أن تفعله . وإلى الأول
أشار النبي ص بقوله من أتى منكم شيئا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله عز وجل وإلى الثاني أشار من قال من الوهن والضعف إعلان الأمر قبل إحكامه وكتمان الضرب الأول من الوفاء وهو مخصوص بعوام الناس وكتمان الضرب الثاني من المروءة والحزم والنوع الثاني من نوعيه أخص بالملوك وأصحاب السياسات . قالوا وإذاعة السر من قلة الصبر وضيق الصدر ويوصف به ضعفة الرجال
[ 178 ]
و النساء والصبيان والسبب في أنه يصعب كتمان السر أن للإنسان قوتين إحداهما آخذة والأخرى معطية وكل واحدة منهما تتشوق إلى فعلها الخاص بها ولو لا أن الله تعالى وكل المعطية بإظهار ما عندها لما أتاك بالأخبار من لم تزود فعلى الإنسان أن يمسك هذه القوة ولا يطلقها إلا حيث يجب إطلاقها فإنها إن لم تزم وتخطم تقحمت بصاحبها في كل مهلكة
[ 179 ](1/5135)
47
وَ قَالَ ع اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ ليس يعني بالجوع والشبع ما يتعارفه الناس وإنما المراد احذروا صولة الكريم إذا ضيم وامتهن واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم ومثل المعنى الأول قول الشاعر
لا يصبر الحر تحت ضيم
و إنما يصبر الحمار
و مثل المعنى الثاني قول أبي الطيب
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
و إن أنت أكرمت اللئيم تمردا
[ 180 ](1/5136)
48
وَ قَالَ ع قُلُوبُ اَلرِّجَالِ وَحْشِيَّةٌ فَمَنْ تَأَلَّفَهَا أَقْبَلَتْ عَلَيْهِ هذا مثل قولهم من لان استمال ومن قسا نفر وما استعبد الحر بمثل الإحسان إليه وقال الشاعر
و إني لوحشي إذا ما زجرتني
و إني إذا ألفتني لألوف
فأما قول عمارة بن عقيل
تبحثتم سخطي فكدر بحثكم
نخيلة نفس كان صفوا ضميرها
و لم يلبث التخشين نفسا كريمة
على قومها أن يستمر مريرها
و ما النفس إلا نطفة بقرارة
إذا لم تكدر كان صفوا غديرها
فيكاد يخالف قول أمير المؤمنين ع في الأصل لأن أمير المؤمنين ع جعل أصل طبيعة القلوب التوحش وإنما تستمال لأمر خارج وهو التألف والإحسان وعمارة جعل أصل طبيعة النفس الصفو والسلامة وإنما تتكدر وتجمح لأمر خارج وهو الإساءة والإيحاش
[ 181 ](1/5137)
49
وَ قَالَ ع عَيْبُكَ مَسْتُورٌ مَا أَسْعَدَكَ جَدُّكَ قد قال الناس في الجد فأكثروا وإلى الآن لم يتحقق معناه ومن كلام بعضهم إذا أقبل البخت باضت الدجاجة على الوتد وإذا أدبر البخت أسعر الهاون في الشمس . ومن كلام الحكماء إن السعادة لتلحظ الحجر فيدعى ربا . وقال أبو حيان نوادر ابن الجصاص الدالة على تغفله وبلهه كثيرة جدا قد صنف فيها الكتب من جملتها أنه سمع إنسانا ينشد نسيبا فيه ذكر هند فأنكر ذلك وقال لا تذكروا حماة النبي ص إلا بخير وأشياء عجيبة أظرف من هذا وكانت سعادته تضرب بها الأمثال وكثرة أمواله التي لم يجتمع لقارون مثلها قال أبو حيان فكان الناس يعجبون من ذلك حتى أن جماعة من شيوخ بغداد كانوا يقولون إن ابن الجصاص أعقل الناس وأحزم الناس وأنه هو الذي ألحم الحال بين المعتضد وبين خمارويه بن أحمد بن طولون وسفر بينهما سفارة عجيبة وبلغ من الجهتين أحسن مبلغ وخطب قطر الندى بنت خمارويه للمعتضد وجهزها من مصر
[ 182 ](1/5138)
على أجمل وجه وأعلى ترتيب ولكنه كان يقصد أن يتغافل ويتجاهل ويظهر البله والنقص يستبقي بذلك ماله ويحرس به نعمته ويدفع عنه عين الكمال وحسد الأعداء . قال أبو حيان قلت لأبي غسان البصري أظن ما قاله هؤلاء صحيحا فإن المعتضد مع حزمه وعقله وكماله وإصابة رأيه ما اختاره للسفارة والصلح إلا والمرجو منه فيما يأتيه ويستقبله من أيامه نظير ما قد شوهد منه فيما مضى من زمانه وهل كان يجوز أن يصلح أمر قد تفاقم فساده وتعاظم واشتد برسالة أحمق وسفارة أخرق فقال أبو غسان إن الجد ينسخ حال الأخرق ويستر عيب الأحمق ويذب عن عرض المتلطخ ويقرب الصواب بمنطقه والصحة برأيه والنجاح بسعيه والجد يستخدم العقلاء لصاحبه ويستعمل آراءهم وأفكارهم في مطالبه وابن الجصاص على ما قيل وروي وحدث وحكي ولكن جده كفاه غائلة الحمق وحماه عواقب الخرق ولو عرفت خبط العاقل وتعسفه وسوء تأتيه وانقطاعه إذا فارقه الجد لعلمت أن الجاهل قد يصيب بجهله ما لا يصيب العالم بعلمه مع حرمانه . قال أبو حيان فقلت له فما الجد وما هذا المعنى الذي علقت عليه هذه الأحكام كلها فقال ليس لي عنه عبارة معينة ولكن لي به علم شاف استفدته بالاعتبار والتجربة والسماع العريض من الصغير والكبير ولهذا سمع من امرأة من الأعراب ترقص ابنا لها فتقول له رزقك الله جدا يخدمك عليه ذوو العقول ولا رزقك عقلا تخدم به ذوي الجدود
[ 183 ](1/5139)
50
وَ قَالَ ع أَوْلَى اَلنَّاسِ بِالْعَفْوِ أَقْدَرُهُمْ عَلَى اَلْعُقُوبَةِ قد تقدم لنا قول مقنع في العفو والحلم . وقال الأحنف ما شي ء أشد اتصالا بشي ء من الحلم بالعز . وقالت الحكماء ينبغي للإنسان إذا عاقب من يستحق العقوبة ألا يكون سبعا في انتقامه وألا يعاقب حتى يزول سلطان غضبه لئلا يقدم على ما لا يجوز ولذلك جرت سنة السلطان بحبس المجرم حتى ينظر في جرمه ويعيد النظر فيه . وأتي الإسكندر بمذنب فصفح عنه فقال له بعض جلسائه لو كنت إياك أيها الملك لقتلته قال فإذا لم تكن إياي ولا كنت إياك لم يقتل . وانتهى إليه أن بعض أصحابه يعيبه فقيل له أيها الملك لو نهكته عقوبة فقال يكون حينئذ أبسط لسانا وعذرا في اجتنابي . وقالت الحكماء أيضا لذة العفو أطيب من لذة التشفي والانتقام لأن لذة العفو يشفعها حميد العاقبة ولذة الانتقام يلحقها ألم الندم وقالوا العقوبة ألأم حالات ذي القدرة وأدناها وهي طرف من الجزع ومن رضي ألا يكون بينه وبين الظالم إلا ستر رقيق فلينتصف
[ 184 ](1/5140)
51
وَ قَالَ ع اَلسَّخَاءُ مَا كَانَ اِبْتِدَاءً فَإِذَا كَانَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَحَيَاءٌ وَ تَذَمُّمٌ يعجبني في هذا المعنى قول ابن حيوس
إني دعوت ندى الكرام فلم يجب
فلأشكرن ندى أجاب وما دعي
و من العجائب والعجائب جمة
شكر بطي ء عن ندى المتسرع
و قال آخر
ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله
عوضا ولو نال الغنى بسؤال
و إذا النوال إلى السؤال قرنته
رجح السؤال وخف كل نوال
[ 185 ](1/5141)
52
وَ قَالَ ع لاَ غِنَى كَالْعَقْلِ وَ لاَ فَقْرَ كَالْجَهْلِ وَ لاَ مِيرَاثَ كَالْأَدَبِ وَ لاَ ظَهِيرَ كَالْمُشَاوَرَةِ
روى أبو العباس في الكامل عن أبي عبد الله ع أنه قال خمس من لم يكن فيه لم يكن فيه كثير مستمتع العقل والدين والأدب والحياء وحسن الخلق و
قال أيضا لم يقسم بين الناس شي ء أقل من خمس اليقين والقناعة والصبر والشكر والخامسة التي يكمل بها هذا كله العقل و
عنه ع أول ما خلق الله العقل قال له أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر فقال ما خلقت خلقا أحب إلي منك لك الثواب وعليك العقاب و
عنه ع قال قال رسول الله ص إن الله ليبغض الضعيف الذي لا زبر له قال الزبر العقل و
عنه ع عن رسول الله ص ما قسم الله للعباد أفضل من العقل فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل وفطر العاقل أفضل من صوم الجاهل وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل وما بعث الله رسولا حتى يستكمل العقل
[ 186 ]
و حتى يكون عقله أفضل من عقول جميع أمته وما يضمره في نفسه أفضل من اجتهاد جميع المجتهدين وما أدى العبد فرائض الله تعالى حتى عقل عنه ولا يبلغ جميع العابدين في عباداتهم ما يبلغه العاقل والعقلاء هم أولو الألباب الذين قال الله تعالى عنهم وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا اَلْأَلْبابِ
قال أبو العباس وقال رجل من أصحاب أبي عبد الله ع له وقد سمعه يقول بل يروى مرفوعا إذا بلغكم عن رجل حسن الحال فانظروا في حسن عقله فإنما يجازى بعقله يا ابن رسول الله إن لي جارا كثير الصدقة كثير الصلاة كثير الحج لا بأس به فقال كيف عقله فقال ليس له عقل فقال لا يرتفع بذاك منه و
عنه ع ما بعث الله نبيا إلا عاقلا وبعض النبيين أرجح من بعض وما استخلف داود سليمان ع حتى اختبر عقله وهو ابن ثلاث عشرة سنة فمكث في ملكه ثلاثين سنة و
عنه مرفوعا صديق كل امرئ عقله وعدوه جهله و(1/5142)
عنه مرفوعا أنا معاشر الأنبياء نكلم الناس على قدر عقولهم
قال أبو العباس وسئل أبو عبد الله ع ما العقل فقال ما عبد به الرحمن واكتسبت به الجنان
قال وقال أبو عبد الله سئل الحسن بن علي ع عن العقل فقال التجرع للغصة ومداهنة الأعداء . قلت هذا كلام الحسن ع وأنا أقطع بذلك .
[ 187 ]
قال أبو العباس وقال أبو عبد الله العاقل لا يحدث من يخاف تكذيبه ولا يسأل من يخاف منعه ولا يثق بمن يخاف عذره ولا يرجو من لا يوثق برجائه
قال أبو العباس وروي عن أبي جعفر ع قال كان موسى ع يدني رجلا من بني إسرائيل لطول سجوده وطول صمته فلا يكاد يذهب إلى موضع إلا وهو معه فبينا هو يوما من الأيام إذ مر على أرض معشبة تهتز فتأوه الرجل فقال له موسى على ما ذا تأوهت قال تمنيت أن يكون لربي حمار وأرعاه هاهنا فأكب موسى طويلا ببصره إلى الأرض اغتماما بما سمع منه فانحط عليه الوحي فقال ما الذي أنكرت من مقالة عبدي إنما آخذ عبادي على قدر ما آتيتهم
قال أبو العباس وروي عن علي ع هبط جبرائيل ع على آدم ع بثلاث ليختار منها واحدة ويدع اثنتين وهي العقل والحياء والدين فاختار العقل فقال جبرائيل للحياء والدين انصرفا فقالا إنا أمرنا أن نكون مع العقل حيث كان فقال فشأنكما ففاز بالثلاث . فأما قوله ع ولا ميراث كالأدب فإني قرأت في حكم الفرس عن بزرجمهر ما ورثت الآباء أبناءها شيئا أفضل من الأدب لأنها إذا ورثتها الأدب اكتسبت بالأدب المال فإذا ورثتها المال بلا أدب أتلفته بالجهل وقعدت صفرا من المال والأدب . قال بعض الحكماء من أدب ولده صغيرا سر به كبيرا . وكان يقال من أدب ولده أرغم حاسده . وكان يقال ثلاثة لا غربة معهن مجانبة الريب وحسن الأدب وكف الأذى .
[ 188 ](1/5143)
و كان يقال عليكم بالأدب فإنه صاحب في السفر ومؤنس في الوحدة وجمال في المحفل وسبب إلى طلب الحاجة . وقال بزرجمهر من كثر أدبه كثر شرفه وإن كان قبل وضيعا وبعد صيته وإن كان خاملا وساد وإن كان غريبا وكثرت الحاجة إليه وإن كان مقلا . وقال بعض الملوك لبعض وزرائه ما خير ما يرزقه العبد قال عقل يعيش به قال فإن عدمه قال أدب يتحلى به قال فإن عدمه قال مال يستتر به قال فإن عدمه قال صاعقة تحرقه فتريح منه العباد والبلاد . وقيل لبعض الحكماء متى يكون العلم شرا من عدمه قال إذا كثر الأدب ونقصت القريحة يعني بالقريحة العقل . فأما القول في المشورة فقد تقدم وربما ذكرنا منه نبذا فيما بعد
[ 189 ](1/5144)
53
اَلصَّبْرُ صَبْرَانِ صَبْرٌ عَلَى مَا تَكْرَهُ وَ صَبْرٌ عَمَّا تُحِبُّ النوع الأول أشق من النوع الثاني لأن الأول صبر على مضرة نازلة والثاني صبر على محبوب متوقع لم يحصل وقد تقدم لنا قول طويل في الصبر . سئل بزرجمهر في بليته عن حاله فقال هون علي ما أنا فيه فكري في أربعة أشياء أولها أني قلت القضاء والقدر لا بد من جريانهما والثاني أني قلت إن لم أصبر فما أصنع والثالث أني قلت قد كان يجوز أن تكون المحنة أشد من هذه والرابع أني قلت لعل الفرج قريب . وقال أنو شروان جميع أمر الدنيا منقسم إلى ضربين لا ثالث لهما أما ما في دفعه حيلة فالاضطراب دواؤه وأما ما لا حيلة فيه فالصبر شفاؤه
[ 190 ](1/5145)
54
وَ قَالَ ع اَلْغِنَى فِي اَلْغُرْبَةِ وَطَنٌ وَ اَلْفَقْرُ فِي اَلْوَطَنِ غُرْبَةٌ قد تقدم لنا قول مقنع في الفقر والغنى ومدحهما وذمهما على عادتنا في ذكر الشي ء ونقيضه ونحن نذكر هاهنا زيادة على ذلك . قال رجل لبقراط ما أشد فقرك أيها الحكيم قال لو عرفت راحة الفقر لشغلك التوجع لنفسك عن التوجع لي الفقر ملك ليس عليه محاسبة . وكان يقال أضعف الناس من لا يحتمل الغنى . وقيل للكندي فلان غني فقال أنا أعلم أن له مالا ولكني لا أعلم أ غني هو أم لا لأنني لا أدري كيف يعمل في ماله . قيل لابن عمر توفي زيد بن ثابت وترك مائة ألف درهم قال هو تركها لكنها لم تتركه . وقالوا حسبك من شرف الفقر أنك لا ترى أحدا يعصي الله ليفتقر أخذه الشاعر فقال
يا عائب الفقر ألا تزدجر
عيب الغنى أكبر لو تعتبر
إنك تعصي الله تبغي الغنى
و ليس تعصي الله كي تفتقر
و كان يقال الحلال يقطر والحرام يسيل
[ 191 ]
و قال بعض الحكماء أ لا ترون ذا الغنى ما أدوم نصبه وأقل راحته وأخس من ماله حظه وأشد من الأيام حذره وأغرى الدهر بنقصه وثلمه ثم هو بين سلطان يرعاه وحقوق تسترعيه وأكفاء ينافسونه وولد يودون موته قد بعث الغنى عليه من سلطانه العناء ومن أكفائه الحسد ومن أعدائه البغي ومن ذوي الحقوق الذم ومن الولد الملالة وتمني الفقد لا كذي البلغة قنع فدام له السرور ورفض الدنيا فسلم من الحسد ورضي بالكفاف فكفي الحقوق
[ 192 ](1/5146)
55
وَ قَالَ ع اَلْقَنَاعَةُ مَالٌ لاَ يَنْفَدُ قال الرضي رحمه الله تعالى وقد روي هذا الكلام عن النبي ص قد ذكرنا نكتا جليلة الموقع في القناعة فيما تقدم ونذكر هاهنا زيادة على ذلك . فمن كلام الحكماء قاوم الفقر بالقناعة وقاهر الغنى بالتعفف وطاول عناء الحاسد بحسن الصنع وغالب الموت بالذكر الجميل . وكان يقال الناس رجلان واجد لا يكتفي وطالب لا يجد أخذه الشاعر فقال
و ما الناس إلا واجد غير قانع
بأرزاقه أو طالب غير واجد
قال رجل لبقراط ورآه يأكل العشب لو خدمت الملك لم تحتج إلى أن تأكل الحشيش فقال له وأنت إن أكلت الحشيش لم تحتج أن تخدم الملك
[ 193 ](1/5147)
56
وَ قَالَ ع اَلْمَالُ مَادَّةُ اَلشَّهَوَاتِ قد تقدم لنا كلام في المال مدحا وذما . وقال أعرابي لبنيه اجمعوا الدراهم فإنها تلبس اليلمق وتطعم الجردق . وقال أعرابي وقد نظر إلى دينار قاتلك الله ما أصغر قمتك وأكبر همتك . ومن كلام الحكماء ما اخترت أن تحيا به فمت دونه . سئل أفلاطون عن المال فقال ما أقول في شي ء يعطيه الحظ ويحفظه اللؤم ويبلعه الكرم . وكان يقال ثلاثة يؤثرون المال على أنفسهم تاجر البحر والمقاتل بالأجرة والمرتشي في الحكم وهو شرهم لأن الأولين ربما سلما ولا سلامة للثالث من الإثم . ثم قالوا وقد سمى الله تعالى المال خيرا في قوله إِنْ تَرَكَ خَيْراً وفي قوله وَ إِنَّهُ لِحُبِّ اَلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ . كان عبد الرحمن بن عوف يقول حبذا المال أصون به عرضي وأقرضه ربي
[ 194 ]
فيضاعفه لي وقالوا في ذم المال المال مثل الماء غاد ورائح طبعه كطبع الصبي لا يوقف على سبب رضاه ولا سخطه المال لا ينفعك ما لم تفارقه . وفيه قال الشاعر
و صاحب صدق ليس ينفع قربه
و لا وده حتى تفارقه عمدا
و أخذ هذا المعنى الحريري فقال
و ليس يغني عنك في المضايق
إلا إذا فر فرار الآبق
و قال الشاعر
أ لم تر أن المال يهلك ربه
إذا جم آتيه وسد طريقه
و من جاوز البحر الغزير بقحمة
و سد طريق الماء فهو غريقه
[ 195 ](1/5148)
57
وَ قَالَ ع مَنْ حَذَّرَكَ كَمَنْ بَشَّرَكَ هذا مثل قولهم اتبع أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك ومثله صديقك من نهاك لا من أغراك ومثله رحم الله أمرا أهدى إلي عيوبي . والتحذير هو النصح والنصح واجب وهو تعريف الإنسان ما فيه صلاحه ودفع المضرة عنه و
قد جاء في الخبر الصحيح الدين النصيحة فقيل يا رسول الله لمن فقال لعامة المسلمين وأول ما يجب على الإنسان أن يحذر نفسه وينصحها فمن غش نفسه فقلما يحذر غيره وينصحه وحق من استنصح أن يبذل غاية النصح ولو كان في أمر يضره وإلى ذلك وقعت الإشارة في الكتاب العزيز بقوله سبحانه يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ وقال سبحانه وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى . ومعنى قوله ع كمن بشرك أي ينبغي لك أن تسر بتحذيره لك كما تسر لو بشرك بأمر تحبه وأن تشكره على ذلك كما تشكره لو بشرك بأمر تحبه لأنه لو لم يكن يريد بك الخير لما حذرك من الوقوع في الشر
[ 196 ](1/5149)
58
وَ قَالَ ع اَللِّسَانُ سَبُعٌ إِنْ خُلِّيَ عَنْهُ عَقَرَ قد تقدم لنا كلام طويل في هذا المعنى . وكان يقال إن كان في الكلام درك ففي الصمت عافية . وقالت الحكماء النطق أشرف ما خص به الإنسان لأنه صورته المعقولة التي باين بها سائر الحيوانات ولذلك قال سبحانه خَلَقَ اَلْإِنْسانَ عَلَّمَهُ اَلْبَيانَ ولم يقل وعلمه بالواو لأنه سبحانه جعل قوله عَلَّمَهُ اَلْبَيانَ تفسيرا لقوله خَلَقَ اَلْإِنْسانَ لا عطفا عليه تنبيها على أن خلقه له وتخصيصه بالبيان الذي لو توهم مرتفعا لارتفعت إنسانيته ولذلك قيل ما الإنسان لو لا اللسان إلا بهيمة مهملة أو صورة ممثلة . وقال الشاعر
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
قالوا والصمت من حيث هو صمت مذموم وهو من صفات الجمادات فضلا
[ 197 ]
عن الحيوانات وكلام أمير المؤمنين ع وغيره من العلماء في مدح الصمت محمول على من يسي ء الكلام فيقع منه جنايات عظيمة في أمور الدين والدنيا كما روي
في الخبر أن الإنسان إذا أصبح قالت أعضاؤه للسانه اتق الله فينا فإنك إن استقمت نجونا وإن زغت هلكنا فأما إذا اعتبر النطق والصمت بذاتيهما فقط فمحال أن يقال في الصمت فضل فضلا عن أن يخاير ويقايس بينه وبين الكلام
[ 198 ](1/5150)
59
وَ قَالَ ع اَلْمَرْأَةُ عَقْرَبٌ حُلْوَةُ اَللَّسْبَةِ اللسبة اللسعة لسبته العقرب بالفتح لسعته ولسبت العسل بالكسر أي لعقته . وقيل لسقراط أي السباع أجسر قال المرأة . ونظر حكيم إلى امرأة مصلوبة على شجرة فقال ليت كل شجرة تحمل مثل هذه الثمرة . مرت بسقراط امرأة وهي تتشوف فقالت يا شيخ ما أقبحك فقال لو لا أنك من المرايا الصدئة لغمني ما بان من قبح صورتي فيك . ورأى بعضهم مؤدبا يعلم جارية الكتابة فقال لا تزد الشر شرا إنما تسقى سهما سما لترمي به يوما ما . ورأى بعضهم جارية تحمل نارا فقال نار على نار والحامل شر من المحمول . وتزوج بعضهم امرأة نحيفة فقيل له في ذلك فقال اخترت من الشر أقله . كتب فيلسوف على بابه ما دخل هذا المنزل شر قط فقال له بعضهم اكتب إلا المرأة .
[ 199 ]
و رأى بعضهم امرأة غريقة في الماء فقال زادت الكدر كدرا والشر بالشر يهلك . و
في الحديث المرفوع استعيذوا بالله من شرار النساء وكونوا من خيارهن على حذر وفي كلام الحكماء أعص هواك والنساء وافعل ما شئت . دعا بعضهم لصاحبه فقال أمات الله عدوك فقال لو قلت زوج الله عدوك لكان أبلغ في الانتقام . ومن الكنايات المشهورة عنهن سلاح إبليس . و
في الحديث المرفوع أنهن ناقصات عقل ودين . وقد تقدم من كلام أمير المؤمنين ع في هذا الكتاب ما هو شرح وإيضاح لهذا المعنى . و
جاء في الحديث أيضا شاوروهن وخالفوهن و
في الحديث أيضا النساء حبائل الشيطان و
في الحديث أيضا ما تركت بعدي فتنة أضر من النساء على الرجال و
في الحديث أيضا المرأة ضلع عوجاء إن داريتها استمتعت بها وإن رمت تقويمها كسرتها وقال الشاعر في هذا المعنى
هي الضلع العوجاء لست تقيمها
ألا إن تقويم الضلوع انكسارها
أ يجمعن ضعفا واقتدارا على الفتى
أ ليس عجيبا ضعفها واقتدارها(1/5151)
و من كلام بعض الحكماء ليس ينبغي للعاقل أن يمدح امرأة إلا بعد موتها . وفي الأمثال لا تحمدن أمة عام شرائها ولا حرة عام بنائها .
[ 200 ]
و من كلام عبد الله المأمون أنهن شر كلهن وشر ما فيهن ألا غنى عنهن . وقال بعض السلف إن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان لأن الله تعالى ذكر الشيطان فقال إِنَّ كَيْدَ اَلشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً . وذكر النساء فقال إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ . وكان يقال من الفواقر امرأة سوء إن حضرتها لسبتك وإن غبت عنها لم تأمنها . وقال حكيم أضر الأشياء بالمال والنفس والدين والعقل والعرض شدة الإغرام بالنساء ومن أعظم ما يبتلى به المغرم بهن أنه لا يقتصر على ما عنده منهن ولو كن ألفا ويطمح إلى ما ليس له منهن . وقال بعض الحكماء من يحصي مساوئ النساء اجتمع فيهن نجاسة الحيض والاستحاضة ودم النفاس ونقص العقل والدين وترك الصوم والصلاة في كثير من أيام العمر ليست عليهن جماعة ولا جمعة ولا يسلم عليهن ولا يكون منهن إمام ولا قاض ولا أمير ولا يسافرن إلا بولي . وكان يقال ما نهيت امرأة عن أمر إلا أتته . وفي هذا المعنى يقول طفيل الغنوي
إن النساء كأشجار نبتن معا
هن المرار وبعض المر مأكول
إن النساء متى ينهين عن خلق
فإنه واجب لا بد مفعول
[ 201 ](1/5152)
60
وَ قَالَ ع إِذَا حُيِّيتَ بِتَحِيَّةٍ فَحَيِّ بِأَحْسَنَ مِنْهَا وَ إِذَا أُسْدِيَتْ إِلَيْكَ يَدٌ فكَاَفِئْهَا بِمَا يُرْبِي عَلَيْهَا وَ اَلْفَضْلُ مَعَ ذَلِكَ لِلْبَادِئِ اللفظة الأولى من القرآن العزيز والثانية تتضمن معنى مشهورا . وقوله والفضل مع ذلك للبادئ يقال في الكرم والحث على فعل الخير . وروى المدائني قال قدم على أسد بن عبد الله القشيري بخراسان رجل فدخل مع الناس فقال أصلح الله الأمير إن لي عندك يدا قال وما يدك قال أخذت بركابك يوم كذا قال صدقت حاجتك قال توليني أبيورد قال لم قال لأكسب مائة ألف درهم قال فإنا قد أمرنا لك بها الساعة فنكون قد بلغناك ما تحب وأقررنا صاحبنا على عمله قال أصلح الله الأمير إنك لم تقض ذمامي قال ولم وقد أعطيتك ما أملت قال فأين الإمارة وأين حب الأمر والنهي قال قد وليتك أبيورد وسوغت لك ما أمرت لك به وأعفيتك من المحاسبة إن صرفتك عنها قال ولم تصرفني عنها ولا يكون الصرف إلا من عجز أو خيانة
[ 202 ](1/5153)
و أنا بري ء منهما قال اذهب فأنت أميرها ما دامت لنا خراسان فلم يزل أميرا على أبيورد حتى عزل أسد . قال المدائني وجاء رجل إلى نصر بن سيار يذكر قرابة قال وما قرابتك قال ولدتني وإياك فلانة قال نصر قرابة عورة قال إن العورة كالشن البالي يرقعه أهله فينتفعون به قال حاجتك قال مائة ناقة لاقح ومائة نعجة ربى أي معها أولادها قال أما النعاج فخذها وأما النوق فنأمر لك بأثمانها . وروى الشعبي قال حضرت مجلس زياد وحضره رجل فقال أيها الأمير إن لي حرمة أ فأذكرها قال هاتها قال رأيتك بالطائف وأنت غليم ذو ذؤابة وقد أحاطت بك جماعة من الغلمان وأنت تركض هذا مرة برجلك وتنطح هذا مرة برأسك وتكدم مرة بأنيابك فكانوا مرة ينثالون عليك وهذه حالهم ومرة يندون عنك وأنت تتبعهم حتى كاثروك واستقووا عليك فجئت حتى أخرجتك من بينهم وأنت سليم وكلهم جريح قال صدقت أنت ذاك الرجل قال أنا ذاك قال حاجتك قال الغنى عن الطلب قال يا غلام أعطه كل صفراء وبيضاء عندك فنظر فإذا قيمة كل ما يملك ذلك اليوم من الذهب والفضة أربعة وخمسون ألف درهم فأخذها وانصرف فقيل له بعد ذلك أنت رأيت زيادا وهو غلام بذلك الحال قال إي والله لقد رأيته وقد اكتنفه صبيان صغيران كأنهما من سخال المعز فلو لا أني أدركته لظننت أنهما يأتيان على نفسه . وجاء رجل إلى معاوية وهو في مجلس العامة فقال يا أمير المؤمنين إن لي حرمة قال وما هي قال دنوت من ركابك يوم صفين وقد قربت فرسك لتفر وأهل
[ 203 ]
العراق قد رأوا الفتح والظفر فقلت لك والله لو كانت هند بنت عتبة مكانك ما فرت ولا اختارت إلا أن تموت كريمة أو تعيش حميدة أين تفر وقد قلدتك العرب أزمة أمورها وأعطتك قياد أعنتها فقلت لي اخفض صوتك لا أم لك ثم تماسكت وثبت وثابت إليك حماتك وتمثلت حينئذ بشعر أحفظ منه
و قولي كلما جشأت وجاشت
مكانك تحمدي أو تستريحي(1/5154)
فقال معاوية صدقت وددت أنك الآن أيضا خفضت من صوتك يا غلام أعطه خمسين ألف درهم فلو كنت أحسنت في الأدب لأحسنا لك في الزيادة
[ 204 ](1/5155)
61
وَ قَالَ ع اَلشَّفِيعُ جَنَاحُ اَلطَّالِبِ
جاء في الحديث مرفوعا اشفعوا إلي تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء . وقال المأمون لإبراهيم بن المهدي لما عفا عنه إن أعظم يدا عندك من عفوي عنك أني لم أجرعك مرارة امتنان الشافعين . ومن كلام قابوس بن وشمكير بزند الشفيع تورى نار النجاح ومن كف المفيض ينتظر فوز القداح . قال المبرد أتاني رجل يستشفع بي في حاجة فأنشدني لنفسه
إني قصدتك لا أدلى بمعرفة
و لا بقربى ولكن قد فشت نعمك
فبت حيران مكروبا يؤرقني
ذل الغريب ويغشيني الكرى كرمك
و لو هممت بغير العرف ما علقت
به يداك ولا انقادت له شيمك
ما زلت أنكب حتى زلزلت قدمي
فاحتل لتثبيتها لا زلزلت قدمك
قال فشفعت له وقمت بأمره حتى بلغت له ما أحب . بزرجمهر من لم يستغن بنفسه عن شفيعه ووسائله وهت قوى أسبابه وكان إلى
[ 205 ]
الحرمان أقرب منه إلى بلوغ المراد ومثله من لم يرغب أوداؤه في اجتنابه لم يحظ بمدح شفعائه ومثله إذا زرت الملوك فإن حسبي شفيعا عندهم أن يعرفوني . كلم الأحنف مصعب بن الزبير في قوم حبسهم فقال أصلح الله الأمير إن كان هؤلاء حبسوا في باطل فالحق يخرجهم وإن كانوا حبسوا في حق فالعفو يسعهم فأمر بإخراجهم . آخر
إذا أنت لم تعطفك إلا شفاعة
فلا خير في ود يكون بشافع
خرج العطاء في أيام المنصور وأقام الشقراني من ولد شقران مولى رسول الله ص ببابه أياما لا يصل إليه عطاؤه فخرج جعفر بن محمد من عند المنصور فقام الشقراني إليه فذكر له حاجته فرحب به ثم دخل ثانيا إلى المنصور وخرج وعطاء الشقراني في كمه فصبه في كمه ثم(1/5156)
قال يا شقران إن الحسن من كل أحد حسن وإنه منك أحسن لمكانك منا وإن القبيح من كل أحد قبيح وهو منك أقبح لمكانك منا فاستحسن الناس ما قاله وذلك لأن الشقراني كان صاحب شراب قالوا فانظر كيف أحسن السعي في استنجاز طلبته وكيف رحب به وأكرمه مع معرفته بحاله وكيف وعظه ونهاه عن المنكر على وجه التعريض قال الزمخشري وما هو إلا من أخلاق الأنبياء . كتب سعيد بن حميد شفاعة لرجل كتابي هذا كتاب معتن بمن كتب له واثق بمن كتب إليه ولن يضيع حامله بين الثقة والعناية إن شاء الله . أبو الطيب
إذا عرضت حاج إليه فنفسه
إلى نفسه فيها شفيع مشفع
[ 206 ](1/5157)
محمد بن جعفر والمنصور
كان المنصور معجبا بمحادثة محمد بن جعفر بن عبيد الله بن العباس وكان الناس لعظم قدره عند المنصور يفزعون إليه في الشفاعات وقضاء الحاجات فثقل ذلك على المنصور فحجبه مدة ثم تتبعته نفسه فحادث الربيع فيه وقال إنه لا صبر لي عنه لكني قد ذكرت شفاعاته فقال الربيع أنا أشترط ألا يعود فكلمه الربيع فقال نعم فمكث أياما لا يشفع ثم وقف له قوم من قريش وغيرهم برقاع وهو يريد دار المنصور فسألوه أن يأخذ رقاعهم فقص عليهم القصة فضرعوا إليه وسألوه فقال أما إذ أبيتم قبول العذر فإني لا أقبضها منكم ولكن هلموا فاجعلوها في كمي فقذفوها في كمه ودخل على المنصور وهو في الخضراء يشرف على مدينة السلام وما حولها بين البساتين والضياع فقال له أ ما ترى إلى حسنها قال بلى يا أمير المؤمنين فبارك الله لك فيما آتاك وهنأك بإتمام نعمته عليك فيما أعطاك فما بنت العرب في دولة الإسلام ولا العجم في سالف الأيام أحصن ولا أحسن من مدينتك ولكن سمجتها في عيني خصلة قال ما هي قال ليس لي فيها ضيعة فضحك وقال نحسنها في عينك ثلاث ضياع قد أقطعتكها فقال أنت والله يا أمير المؤمنين شريف الموارد كريم المصادر فجعل الله باقي عمرك أكثر من ماضيه وجعلت الرقاع تبدر من كميه في أثناء كلامه وخطابه للمنصور وهو يلتفت إليها ويقول ارجعن خاسئات ثم يعود إلى حديثه فقال المنصور ما هذه بحقي عليك أ لا أعلمتني خبرها فأعلمه فضحك فقال أبيت يا ابن معلم الخير إلا كرما ثم تمثل بقول عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب
[ 207 ]
لسنا وإن أحسابنا كملت
يوما على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا
تبني ونفعل مثل ما فعلوا(1/5158)
ثم أخذها وتصفحها ووقع فيها كلها بما طلب أصحابها . قال محمد بن جعفر فخرجت من عنده وقد ربحت وأربحت . قال المبرد لعبد الله بن يحيى بن خاقان أنا أشفع إليك أصلحك الله في أمر فلان فقال له قد سمعت وأطعت وسأفعل في أمره كذا فما كان من نقص فعلي وما كان من زيادة فله قال المبرد أنت أطال الله بقاءك كما قال زهير
و جار سار معتمدا إلينا
أجاءته المخافة والرجاء
ضمنا ماله فغدا سليما
علينا نقصه وله النماء
و قال دعبل
و إن امرأ أسدى إلي بشافع
إليه ويرجو الشكر مني لأحمق
شفيعك يا شكر الحوائج إنه
يصونك عن مكروهها وهو يخلق
آخر
مضى زمنى والناس يستشفعون بي
فهل لي إلى ليلى الغداة شفيع
آخر
و نبئت ليلى أرسلت بشفاعة
إلي فهلا نفس ليلى شفيعها
أ أكرم من ليلى علي فتبتغي
به الجاه أم كنت امرأ لا أطيعها
[ 208 ]
آخر
و من يكن الفضل بن يحيى بن خالد
شفيعا له عند الخليفة ينجح
آخر
و إذا امرؤ أسدى إليك صنيعة
من جاهه فكأنها من ماله
و هذا مثل قول الآخر
و عطاء غيرك إن بذلت
عناية فيه عطاؤك
ابن الرومي
ينام الذي استسعاك في الأمر إنه
إذا أيقظ الملهوف مثلك ناما
كفى العود منك البدء في كل موقف
و جردت للجلى فكنت حساما
فما لك تنبو في يدي عن ضريبتي
و لم أرث من هز وكنت كهاما
[ 209 ](1/5159)
62
وَ قَالَ ع أَهْلُ اَلدُّنْيَا كَرَكْبٍ يُسَارُ بِهِمْ وَ هُمْ نِيَامٌ هذا التشبيه واقع وهو صورة الحال لا محالة . وقد أتيت بهذا المعنى في رسالة لي كتبتها إلى بعض الأصدقاء تعزية فقلت ولو تأمل الناس أحوالهم وتبينوا مآلهم لعلموا أن المقيم منهم بوطنه والساكن إلى سكنه أخو سفر يسرى به وهو لا يسري وراكب بحر يجرى به وهو لا يدري
[ 210 ](1/5160)
63
وَ قَالَ ع فَقْدُ اَلْأَحِبَّةِ غُرْبَةٌ مثل هذا قول الشاعر
فلا تحسبي أن الغريب الذي نأى
و لكن من تنأين عنه غريب
و مثله
قوله ع الغريب من ليس له حبيب وقال الشاعر
أسرة المرء والداه وفيما
بين حضنيهما الحياة تطيب
و إذا وليا عن المرء يوما
فهو في الناس أجنبي غريب
و قال آخر
إذا ما مضى القرن الذي كنت فيهم
و خلفت في قرن فأنت غريب
[ 211 ](1/5161)
64
وَ قَالَ ع فَوْتُ اَلْحَاجَةِ أَهْوَنُ مِنْ طَلَبِهَا إِلَى غَيْرِ أَهْلِهَا قد سبق هذا المعنى وذكرنا كثيرا مما قيل فيه . وكان يقال لا تطلبوا الحوائج إلى ثلاثة إلى عبد يقول الأمر إلى غيري وإلى رجل حديث الغنى وإلى تاجر همته أن يستربح في كل عشرين دينارا حبة واحدة
[ 212 ](1/5162)
65
وَ قَالَ ع لاَ تَسْتَحِ مِنْ إِعْطَاءِ اَلْقَلِيلِ فَإِنَّ اَلْحِرْمَانَ أَقَلُّ مِنْهُ هذا نوع من الحث على الإفضال والجود لطيف وقد استعمل كثيرا في الهدية والاعتذار لقلتها وقد تقدم منا قول شاف في مدح السخاء والجود . وكان يقال أفضل على من شئت تكن أميره واحتج إلى من شئت تكن أسيره واستغن عمن شئت تكن نظيره . وسئل أرسطو هل من جود يستطاع أن يتناول به كل أحد قال نعم أن تنوي الخير لكل أحد
[ 213 ](1/5163)
66
وَ قَالَ ع اَلْعَفَافُ زِينَةُ اَلْفَقْرِ وَ اَلشُّكْرُ زِينَةُ اَلْغِنَى من الأبيات المشهورة
فإذا افتقرت فلا تكن
متخشعا وتجمل
و من أمثالهم المشهورة تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها . وأنشد الأصمعي لبعضهم
أقسم بالله لمص النوى
و شرب ماء القلب المالحه
أحسن بالإنسان من ذله
و من سؤال الأوجه الكالحه
فاستغن بالله تكن ذا غنى
مغتبطا بالصفقة الرابحه
طوبى لمن تصبح ميزانه
يوم يلاقي ربه راجحه
و قال بعضهم وقفت على كنيف وفي أسفله كناف وهو ينشد
و أكرم نفسي عن أمور كثيرة
ألا إن إكرام النفوس من العقل
[ 214 ]
و أبخل بالفضل المبين على الألى
رأيتهم لا يكرمون ذوي الفضل
و ما شانني كنس الكنيف وإنما
يشين الفتى أن يجتدي نائل النذل
و أقبح مما بي وقوفي مؤملا
نوال فتى مثلي وأي فتى مثلي
و أما كون الشكر زينة الغنى فقد تقدم من القول ما هو كاف . وكان يقال العلم بغير عمل قول باطل والنعمة بغير شكر جيد عاطل
[ 215 ](1/5164)
67
وَ قَالَ ع إِذَا لَمْ يَكُنْ مَا تُرِيدُ فَلاَ تُبَلْ كَيْفَ مَا كُنْتَ قد أعجم تفسير هذه الكلمة على جماعة من الناس وقالوا المشهور في كلام الحكماء إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون ولا معنى لقوله فلا تبل كيف كنت وجهلوا مراده ع . ومراده إذا لم يكن ما تريد فلا تبل بذلك أي لا تكترث بفوت مرادك ولا تبتئس بالحرمان ولو وقف على هذا لتم الكلام وكمل المعنى وصار هذا مثل
قوله فلا تكثر على ما فاتك منها أسفا ومثل قول الله تعالى لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ لكنه تمم وأكد فقال كيف كنت أي لا تبل بفوت ما كنت أملته ولا تحمل لذلك هما كيف كنت وعلى أي حال كنت من حبس أو مرض أو فقر أو فقد حبيب وعلى الجملة لا تبال الدهر ولا تكترث بما يعكس عليك من غرضك ويحرمك من أملك وليكن هذا الإهوان به والاحتقار له مما تعتمده دائما على أي حال أفضى بك الدهر إليها وهذا واضح
[ 216 ](1/5165)
68
وَ قَالَ ع لاَ يُرَى اَلْجَاهِلُ تَرَى اَلْجَاهِلَ إِلاَّ مُفْرِطاً أَوْ مُفَرِّطاً العدالة هي الخلق المتوسط وهو محمود بين مذمومين فالشجاعة محفوفة بالتهور والجبن والذكاء بالغباوة والجربزة والجود بالشح والتبذير والحلم بالجمادية والاستشاطة وعلى هذا كل ضدين من الأخلاق فبينهما خلق متوسط وهو المسمى بالعدالة فلذلك لا يرى الجاهل إلا مفرطا أو مفرطا كصاحب الغيرة فهو إما أن يفرط فيها فيخرج عن القانون الصحيح فيغار لا من موجب بل بالوهم وبالخيال وبالوسواس وإما أن يفرط فلا يبحث عن حال نسائه ولا يبالي ما صنعن وكلا الأمرين مذموم والمحمود الاعتدال . ومن كلام بعض الحكماء إذا صح العقل التحم بالأدب كالتحام الطعام بالجسد الصحيح وإذا مرض العقل نبا عنه ما يستمع من الأدب كما يقي ء الممعود ما أكل من الطعام فلو آثر الجاهل أن يتعلم شيئا من الأدب لتحول ذلك الأدب جهلا كما يتحول ما خالط جوف المريض من طيب الطعام داء
[ 217 ](1/5166)
69
وَ قَالَ ع إِذَا تَمَّ اَلْعَقْلُ نَقَصَ اَلْكَلاَمُ قد سبق القول في هذا المعنى . وكان يقال إذا رأيتم الرجل يطيل الصمت ويهرب من الناس فاقربوا منه فإنه يلقى الحكمة
[ 218 ](1/5167)
70
وَ قَالَ ع اَلدَّهْرُ يُخْلِقُ اَلْأَبْدَانَ وَ يُجَدِّدُ اَلآْمَالَ وَ يُقَرِّبُ اَلْمَنِيَّةَ وَ يُبَاعِدُ اَلْأُمْنِيَّةَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ نَصِبَ وَ مَنْ فَاتَهُ تَعِبَ قد سبق لنا قول طويل عريض في ذكر الدهر والدنيا ونذكر الآن شيئا آخر قال بعض الحكماء الدنيا تسر لتغر وتفيد لتكيد كم راقد في ظلها قد أيقظته وواثق بها قد خذلته بهذا الخلق عرفت وعلى هذا الشرط صوحبت . وكتب الإسكندر إلى أرسطوطاليس عظني فكتب إليه إذا صفت لك السلامة فجدد ذكر العطب وإذا اطمأن بك الأمن فاستشعر الخوف وإذا بلغت نهاية الأمل فاذكر الموت وإذا أحببت نفسك فلا تجعل لها نصيبا في الإساءة وقال شاعر فأحسن
كأنك لم تسمع بأخبار من مضى
و لم تر بالباقين ما صنع الدهر
فإن كنت لا تدري فتلك ديارهم
عفاها محال الريح بعدك والقطر
و هل أبصرت عيناك حيا بمنزل
على الدهر إلا بالعراء له قبر
فلا تحسبن الوفر مالا جمعته
و لكن ما قدمت من صالح وفر
[ 219 ]
مضى جامعوا الأموال لم يتزودوا
سوى الفقر يا بؤسى لمن زاده الفقر
فحتام لا تصحو وقد قرب المدى
و حتام لا ينجاب عن قلبك السكر
بلى سوف تصحو حين ينكشف الغطا
و تذكر قولي حين لا ينفع الذكر
و ما بين ميلاد الفتى ووفاته
إذا انتصح الأقوام أنفسهم عمر
لأن الذي يأتيه شبه الذي مضى
و ما هو إلا وقتك الضيق النزر
فصبرا على الأيام حتى تجوزها
فعما قليل بعدها يحمد الصبر
[ 220 ](1/5168)
71
وَ قَالَ ع مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ فَلْيَبْدَأْ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ وَ لْيَكُنْ تَأْدِيبُهُ بِسِيرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِيبِهِ بِلِسَانِهِ وَ مُعَلِّمُ نَفْسِهِ وَ مُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالْإِجْلاَلِ مِنْ مُعَلِّمِ اَلنَّاسِ وَ مُؤَدِّبِهِمْ الفروع تابعة للأصول فإذا كان الأصل معوجا استحال أن يكون الفرع مستقيما كما قال صاحب المثل وهل يستقيم الظل والعود أعوج فمن نصب نفسه للناس إماما ولم يكن قد علم نفسه ما انتصب ليعلمه الناس كان مثل من نصب نفسه ليعلم الناس الصياغة والنجارة وهو لا يحسن أن يصوغ خاتما ولا ينجر لوحا وهذا نوع من السفه بل هو السفه كله ثم قال ع وينبغي أن يكون تأديبه لهم بفعله وسيرته قبل تأديبه لهم بلسانه وذلك لأن الفعل أدل على حال الإنسان من القول . ثم قال ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم وهذا حق لأن من علم نفسه محاسن الأخلاق أعظم قدرا ممن تعاطى تعليم الناس ذلك وهو غير عامل بشي ء منه فأما من علم نفسه وعلم الناس فهو أفضل وأجل ممن اقتصر على تعليم نفسه فقط لا شبهة في ذلك
[ 221 ](1/5169)
72
وَ قَالَ ع نَفَسُ اَلْمَرْءِ خُطَاهُ إِلَى أَجَلِهِ وجدت هذه الكلمة منسوبة إلى عبد الله بن المعتز في فصل أوله الناس وفد البلاء وسكان الثرى وأنفاس الحي خطاه إلى أجله وأمله خادع له عن عمله والدنيا أكذب واعديه والنفس أقرب أعاديه والموت ناظر إليه ومنتظر فيه أمرا يمضيه فلا أدري هل هي لابن المعتز أم أخذها من أمير المؤمنين ع . والظاهر أنها لأمير المؤمنين ع فإنها بكلامه أشبه ولأن الرضي قد رواها عنه وخبر العدل معمول به
[ 222 ](1/5170)
73
وَ قَالَ ع كُلُّ مَعْدُودٍ مُنْقَضٍ وَ كُلُّ مُتَوَقَّعٍ آتٍ الكلمة الأولى تؤكد مذهب جمهور المتكلمين في أن العالم كله لا بد أن ينقضي ويفنى ولكن المتكلمين الذاهبين إلى هذا القول لا يقولون يجب أن يكون فانيا ومنقضيا لأنه معدود فإن ذلك لا يلزم ومن الجائز أن يكون معدودا ولا يجب فناؤه ولهذا قال أصحابنا إنما علمنا أن العالم يفنى عن طريق السمع لا من طريق العقل فيجب أن يحمل كلام أمير المؤمنين ع على ما يطابق ذلك وهو أنه ليس يعني أن العدد علة في وجوب الانقضاء كما يشعر به ظاهر لفظه وهو الذي يسميه أصحاب أصول الفقه إيماء وإنما مراده كل معدود فاعلموا أنه فان ومنقض فقد حكم على كل معدود بالانقضاء حكما مجردا عن العلة كما لو قيل زيد قائم ليس يعنى أنه قائم لأنه يسمى زيدا . فأما قوله وكل متوقع آت فيماثله قول العامة في أمثالها لو انتظرت القيامة لقامت والقول في نفسه حق لأن العقلاء لا ينتظرون ما يستحيل وقوعه وإنما ينتظرون ما يمكن وقوعه وما لا بد من وقوعه فقد صح أن كل منتظر سيأتي
[ 223 ](1/5171)
74
وَ قَالَ ع إِنَّ اَلْأُمُورَ إِذَا اِشْتَبَهَتْ اُعْتُبِرَ آخِرُهَا بِأَوَّلِهَا روي إذا استبهمت والمعنى واحد وهو حق وذلك أن المقدمات تدل على النتائج والأسباب تدل على المسببات وطالما كان الشيئان ليسا علة ومعلولا وإنما بينهما أدنى تناسب فيستدل بحال أحدهما على حال الآخر وإذا كان كذلك واشتبهت أمور على العاقل الفطن ولم يعلم إلى ما ذا تئول فإنه يستدل على عواقبها بأوائلها وعلى خواتمها بفواتحها كالرعية ذات السلطان الركيك الضعيف السياسة إذا ابتدأت أمور مملكته تضطرب واستبهم على العاقل كيف يكون الحال في المستقبل فإنه يجب عليه أن يعتبر أواخرها بأوائلها ويعلم أنه سيفضي أمر ذلك الملك إلى انتشار وانحلال في مستقبل الوقت لأن الحركات الأولى منذرة بذلك وواعدة بوقوعه وهذا واضح
[ 224 ](1/5172)
75
وَ مِنْ خَبَرِ ضِرَارِ بْنِ ضَمْرَةَ اَلضَّابِيِّ حَمْزَةَ اَلضَّبَائِيِّ عِنْدَ دُخُولِهِ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَ مَسْأَلَتِهِ لَهُ عَنْ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ ع قَالَ فَأَشْهَدُ لَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي بَعْضِ مَوَاقِفِهِ وَ قَدْ أَرْخَى اَللَّيْلُ سُدُولَهُ وَ هُوَ قَائِمٌ فِي مِحْرَابِهِ قَابِضٌ عَلَى لِحْيَتِهِ يَتَمَلْمَلُ تَمَلْمُلَ اَلسَّلِيمِ وَ يَبْكِي بُكَاءَ اَلْحَزِينِ وَ هُوَ يَقُولُ يَا دُنْيَا يَا دُنْيَا إِلَيْكِ عَنِّي أَ بِي تَعَرَّضْتِ أَمْ إِلَيَّ تَشَوَّفْتِ تَشَوَّقْتِ لاَ حَانَ حِينُكِ هَيْهَاتَ غُرِّي غَيْرِي لاَ حَاجَةَ لِي فِيكِ قَدْ طَلَّقْتُكِ ثَلاَثاً لاَ رَجْعَةَ فِيهَا فَعَيْشُكِ قَصِيرٌ وَ خَطَرُكِ يَسِيرٌ وَ أَمَلُكِ حَقِيرٌ آهِ مِنْ قِلَّةِ اَلزَّادِ وَ طُولِ اَلطَّرِيقِ وَ بُعْدِ اَلسَّفَرِ وَ عَظِيمِ اَلْمَوْرِدِ السدول جمع سديل وهو ما أسدل على الهودج ويجوز في جمعه أيضا أسدال وسدائل وهو هاهنا استعارة والتململ والتملل أيضا عدم الاستقرار من المرض كأنه على ملة وهي الرماد الحار . والسليم الملسوع . ويروى تشوقت بالقاف . وقوله لا حان حينك دعاء عليها أي لا حضر وقتك كما تقول لا كنت
[ 225 ](1/5173)
فأما ضرار بن ضمرة فإن الرياشي روى خبره ونقلته أنا من كتاب عبد الله بن إسماعيل بن أحمد الحلبي في التذييل على نهج البلاغة قال دخل ضرار على معاوية وكان ضرار من صحابة علي ع فقال له معاوية يا ضرار صف لي عليا قال أ وتعفيني قال لا أعفيك قال ما أصف منه كان والله شديد القوى بعيد المدى يتفجر العلم من أنحائه والحكمة من أرجائه حسن المعاشرة سهل المباشرة خشن المأكل قصير الملبس غزير العبرة طويل الفكرة يقلب كفه ويخاطب نفسه وكان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألنا ويبتدئنا إذا سكتنا ونحن مع تقريبه لنا أشد ما يكون صاحب لصاحب هيبة لا نبتدئه الكلام لعظمته يحب المساكين ويقرب أهل الدين وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه . . . وتمام الكلام مذكور في الكتاب . و
ذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب هذا الخبر فقال حدثنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال حدثنا يحيى بن مالك بن عائد قال حدثنا أبو الحسن محمد بن محمد بن مقلة البغدادي بمصر وحدثنا أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا العكلي عن الحرمازي عن رجل من همدان قال قال معاوية لضرار الضبابي يا ضرار صف لي عليا قال اعفني يا أمير المؤمنين قال لتصفنه قال أما إذ لا بد من وصفه فكان والله بعيد المدى شديد القوى يقول فصلا ويحكم عدلا يتفجر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه يستوحش من الدنيا وزهرتها ويأنس بالليل ووحشته وكان غزير العبرة طويل الفكرة يعجبه من اللباس ما قصر ومن الطعام ما خشن كان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه وينبئنا إذا استفتيناه ونحن والله
[ 226 ](1/5174)
مع تقريبه إيانا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له يعظم أهل الدين ويقرب المساكين لا يطمع القوي في باطله ولا ييئس الضعيف من عدله وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين ويقول يا دنيا غري غيري أ بي تعرضت أم إلي تشوقت هيهات هيهات قد باينتك ثلاثا لا رجعة لي فيها فعمرك قصير وخطرك حقير آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق فبكى معاوية وقال رحم الله أبا حسن كان والله كذلك فكيف حزنك عليه يا ضرار قال حزن من ذبح ولدها في حجرها
[ 227 ](1/5175)
76
وَ مِنْ كَلاَمِهِ كَلاَمٍ لَهُ ع لِلسَّائِلِ اَلشَّامِيِّ لَمَّا سَأَلَهُ أَ كَانَ مَسِيرُنَا إِلَى اَلشَّامِ بِقَضَاءٍ مِنَ اَللَّهِ وَ قَدَرِهِ قَدَرٍ بَعْدَ كَلاَمٍ طَوِيلٍ هَذَا مُخْتَارُهُ وَيْحَكَ لَعَلَّكَ ظَنَنْتَ قَضَاءً لاَزِماً وَ قَدَراً حَاتِماً لَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَبَطَلَ اَلثَّوَابُ وَ اَلْعِقَابُ وَ سَقَطَ اَلْوَعْدُ وَ اَلْوَعِيدُ إِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ عِبَادَهُ تَخْيِيراً وَ نَهَاهُمْ تَحْذِيراً وَ كَلَّفَ يَسِيراً وَ لَمْ يُكَلِّفْ عَسِيراً وَ أَعْطَى عَلَى اَلْقَلِيلِ كَثِيراً وَ لَمْ يُعْصَ مَغْلُوباً وَ لَمْ يُطَعْ مُكْرِهاً وَ لَمْ يُرْسِلِ اَلْأَنْبِيَاءَ لَعِباً وَ لَمْ يُنْزِلِ اَلْكُتُبَ لِلْعِبَادِ عَبَثاً وَ لاَ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذلِكَ ظَنُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ اَلنَّارِ
قد ذكر شيخنا أبو الحسين رحمه الله هذا الخبر في كتاب الغرر ورواه عن الأصبغ بن نباتة قال قام شيخ إلى علي ع فقال أخبرنا عن مسيرنا إلى الشام أ كان بقضاء الله وقدره فقال والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما وطئنا موطئا ولا هبطنا واديا إلا بقضاء الله وقدره فقال الشيخ فعند الله أحتسب عنائي ما أرى لي من الأجر شيئا فقال مه أيها الشيخ لقد عظم الله أجركم في مسيركم وأنتم سائرون وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ولم تكونوا في شي ء من حالاتكم مكرهين
[ 228 ](1/5176)
و لا إليها مضطرين فقال الشيخ وكيف القضاء والقدر ساقانا فقال ويحك لعلك ظننت قضاء لازما وقدرا حتما لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب والوعد والوعيد والأمر والنهي ولم تأت لائمة من الله لمذنب ولا محمدة لمحسن ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسي ء ولا المسي ء أولى بالذم من المحسن تلك مقالة عباد الأوثان وجنود الشيطان وشهود الزور وأهل العمى عن الصواب وهم قدرية هذه الأمة ومجوسها إن الله سبحانه أمر تخييرا ونهى تحذيرا وكلف يسيرا ولم يعص مغلوبا ولم يطع مكرها ولم يرسل الرسل إلى خلقه عبثا ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار فقال الشيخ فما القضاء والقدر اللذان ما سرنا إلا بهما فقال هو الأمر من الله والحكم ثم تلا قوله سبحانه وَ قَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ فنهض الشيخ مسرورا وهو يقول
أنت الإمام الذي نرجو بطاعته
يوم النشور من الرحمن رضوانا
أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا
جزاك ربك عنا فيه إحسانا
ذكر ذلك أبو الحسين في بيان أن القضاء والقدر قد يكون بمعنى الحكم والأمر وأنه من الألفاظ المشتركة
[ 229 ](1/5177)
77
وَ قَالَ ع خُذِ اَلْحِكْمَةَ أَنَّى كَانَتْ فَإِنَّ اَلْحِكْمَةَ تَكُونُ فِي صَدْرِ اَلْمُنَافِقِ فَتَلَجْلَجُ فِي صَدْرِهِ حَتَّى تَخْرُجَ فَتَسْكُنَ إِلَى صَوَاحِبِهَا فِي صَدْرِ اَلْمُؤْمِنِ : قَالَ اَلرَّضِيُّ رَحِمَهُ اَللَّهِ تَعَالَى وَ قَدْ قَالَ عَلِيٌّ ع فِي مِثْلِ ذَلِكَ : اَلْحِكْمَةُ ضَالَّةُ اَلْمُؤْمِنِ فَخُذِ اَلْحِكْمَةَ وَ لَوْ مِنْ أَهْلِ اَلنِّفَاقِ 80 وَ قَالَ ع اَلْحِكْمَةُ ضَالَّةُ اَلْمُؤْمِنِ فَخُذِ اَلْحِكْمَةَ وَ لَوْ مِنْ أَهْلِ اَلنِّفَاقِ خطب الحجاج فقال إن الله أمرنا بطلب الآخرة وكفانا مئونة الدنيا فليتنا كفينا مئونة الآخرة وأمرنا بطلب الدنيا . فسمعها الحسن فقال هذه ضالة المؤمن خرجت من قلب المنافق . وكان سفيان الثوري يعجبه كلام أبي حمزة الخارجي ويقول ضالة المؤمن على لسان المنافق تقوى الله أكرم سريرة وأفضل ذخيرة منها ثقة الواثق وعليها مقة الوامق ليعمل كل امرئ في مكان نفسه وهو رخي اللبب طويل السبب ليعرف ممد يده وموضع قدمه وليحذر الزلل والعلل المانعة من العمل رحم الله عبدا آثر التقوى واستشعر شعارها واجتنى ثمارها باع دار البقاء بدار الآباد الدنيا كروضة يونق مرعاها وتعجب من رآها تمج عروقها الثرى وتنطف فروعها بالندى حتى إذا بلغ العشب إناه وانتهى الزبرج منتهاه ضعف العمود وذوي العود وتولى من الزمان ما لا يعود فحتت الرياح الورق وفرقت ما كان اتسق فأصبحت هشيما وأمست رميما
[ 230 ](1/5178)
78
وَ قَالَ ع قِيمَةُ كُلِّ اِمْرِئٍ مَا يُحْسِنُهُ قال الرضي رحمه الله تعالى وهذه الكلمة التي لا تصاب لها قيمة ولا توزن بها حكمة ولا تقرن إليها كلمة قد سلف لنا في فضل العلم أقوال شافية ونحن نذكر هاهنا نكتا أخرى . يقال إن من كلام أردشير بن بابك في رسالته إلى أبناء الملوك بحسبكم دلالة على فضل العلم أنه ممدوح بكل لسان يتزين به غير أهله ويدعيه من لا يلصق به قال وبحسبكم دلالة على عيب الجهل أن كل أحد ينتفي منه ويغضب أن يسمى به . وقيل لأنوشروان ما بالكم لا تستفيدون من العلم شيئا إلا زادكم ذلك عليه حرصا قال لأنا لا نستفيد منه شيئا إلا ازددنا به رفعة وعزا وقيل له ما بالكم لا تأنفون من التعلم من كل أحد قال لعلمنا بأن العلم نافع من حيث أخذ . وقيل لبزرجمهر بم أدركت ما أدركت من العلم قال ببكور كبكور الغراب وحرص كحرص الخنزير وصبر كصبر الحمار . وقيل له العلم أفضل أم المال فقال العلم قيل فما بالنا نرى أهل العلم على
[ 231 ]
أبواب أهل المال أكثر مما نرى أصحاب الأموال على أبواب العلماء قال ذاك أيضا عائد إلى العلم والجهل وإنما كان كما رأيتم لعلم العلماء بالحاجة إلى المال وجهل أصحاب المال بفضيلة العلم . وقال الشاعر
تعلم فليس المرء يخلق عالما
و ليس أخو علم كمن هو جاهل
و إن كبير القوم لا علم عنده
صغير إذا التفت عليه المحافل
[ 232 ](1/5179)
79
وَ قَالَ ع أُوصِيكُمْ بِخَمْسٍ لَوْ ضَرَبْتُمْ إِلَيْهَا آبَاطَ اَلْإِبِلِ لَكَانَتْ لِذَلِكَ أَهْلاً لاَ يَرْجُوَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلاَّ رَبَّهُ وَ لاَ يَخَافَنَّ إِلاَّ ذَنْبَهُ وَ لاَ يَسْتَحِيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِذَا سُئِلَ عَمَّا لاَ يَعْلَمُ أَنْ يَقُولَ لاَ أَعْلَمُ وَ لاَ يَسْتَحِيَنَّ أَحَدٌ إِذَا لَمْ يَعْلَمِ اَلشَّيْ ءَ أَنْ يَتَعَلَّمَهُ وَ عَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ فَإِنَّ اَلصَّبْرَ مِنَ اَلْإِيمَانِ كَالرَّأْسِ مِنَ اَلْجَسَدِ وَ لاَ خَيْرَ فِي جَسَدٍ لاَ رَأْسَ مَعَهُ وَ لاَ خَيْرَ فِي إِيمَانٍ لاَ صَبْرَ مَعَهُ قد تقدم الكلام في جميع الحكم المنطوي عليها هذا الفصل وقال أبو العتاهية
و الله لا أرجو سواك
و لا أخاف سوى ذنوبي
فاغفر ذنوبي يا رحيم
فأنت ستار العيوب
و كان يقال من استحيا من قول لا أدري كان كمن يستحيي من كشف ركبته ثم يكشف سوءته وذلك لأن من امتنع من قول لا أدري وأجاب بالجهل والخطإ فقد واقع ما يجب في الحقيقة أن يستحيا منه وكف عما ليس بواجب أن يستحيا منه فكان شبيها بما ذكرناه في الركبة والعورة . وكان يقال يحسن بالإنسان التعلم ما دام يقبح منه الجهل وكما يقبح منه الجهل ما دام حيا كذلك يحسن به التعلم ما دام حيا . وأما الصبر فقد سبق فيه كلام مقنع وسيأتي فيما بعد جملة من ذلك
[ 233 ](1/5180)
80
وَ قَالَ ع لِرَجُلٍ أَفْرَطَ فِي اَلثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَ كَانَ لَهُ مُتَّهِماً أَنَا دُونَ مَا تَقُولُ وَ فَوْقَ مَا فِي نَفْسِكَ قد سبق منا قول مقنع في كراهية مدح الإنسان في وجهه . وكان عمر جالسا وعنده الدرة إذ أقبل الجارود العبدي فقال رجل هذا الجارود سيد ربيعة فسمعها عمر ومن حوله وسمعها الجارود فلما دنا منه خفقه بالدرة فقال ما لي ولك يا أمير المؤمنين قال ما لي ولك أما لقد سمعتها قال وما سمعتها فمه قال ليخالطن قلبك منها شي ء وأنا أحب أن أطأطئ منك . وقالت الحكماء إنه يحدث للممدوح في وجهه أمران مهلكان أحدهما الإعجاب بنفسه والثاني إذا أثني عليه بالدين أو العلم فتر وقل اجتهاده ورضي عن نفسه ونقص تشميره وجده في طلب العلم والدين فإنه إنما يتشمر من رأى نفسه مقصرا فأما من أطلقت الألسن بالثناء عليه فإنه يظن أنه قد وصل وأدرك فيقل اجتهاده ويتكل على ما قد حصل له عند الناس ولهذا
قال النبي ص لمن مدح
[ 234 ]
إنسانا كاد يسمعه ويحك قطعت عنق صاحبك لو سمعها لما أفلح . فأما قوله ع له وفوق ما في نفسك فإنه إنما أراد أن ينبهه على أنه قد عرف أنه كان يقع فيه وينحرف عنه وإنما أراد تعريفه ذلك لما رآه من المصلحة إما لظنه أنه يقلع عما كان يذمه به أو ليعلمه بتعريفه أنه قد عرف ذلك أو ليخوفه ويزجره أو لغير ذلك
[ 235 ](1/5181)
81
وَ قَالَ ع بَقِيَّةُ اَلسَّيْفِ أَنْمَى أَبْقَى عَدَداً وَ أَكْثَرُ وَلَداً قال شيخنا أبو عثمان ليته لما ذكر الحكم ذكر العلة . ثم قال قد وجدنا مصداق قوله في أولاده وأولاد الزبير وبنى المهلب وأمثالهم ممن أسرع القتل فيهم . وأتي زياد بامرأة من الخوارج فقال لها أما والله لأحصدنكم حصدا ولأفنينكم عدا فقالت كلا إن القتل ليزرعنا فلما هم بقتلها تسترت بثوبها فقال اهتكوا سترها لحاها الله فقالت إن الله لا يهتك ستر أوليائه ولكن التي هتك سترها على يد ابنها سمية فقال عجلوا قتلها أبعدها الله فقتلت
[ 236 ](1/5182)
82
وَ قَالَ ع مَنْ تَرَكَ قَوْلَ لاَ أَدْرِي أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ جاءت امرأة إلى بزرجمهر فسألته عن مسألة فقال لا أدري فقالت أ يعطيك الملك كل سنة كذا كذا وتقول لا أدري فقال إنما يعطيني الملك على ما أدري ولو أعطاني على ما لا أدري لما كفاني بيت ماله . وكان يقول قول لا أعلم نصف العلم . وقال بعض الفضلاء إذا قال لنا إنسان لا أدري علمناه حتى يدري وإن قال أدري امتحناه حتى لا يدري
[ 237 ](1/5183)
83
وَ قَالَ ع رَأْيُ اَلشَّيْخِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ جَلَدِ اَلْغُلاَمِ وَ يُرْوَى رُوِيَ مِنْ مَشْهَدِ اَلْغُلاَمِ إنما قال كذلك لأن الشيخ كثير التجربة فيبلغ من العدو برأيه ما لا يبلغ بشجاعته الغلام الحدث غير المجرب لأنه قد يغرر بنفسه فيهلك ويهلك أصحابه ولا ريب أن الرأي مقدم على الشجاعة ولذلك قال أبو الطيب
الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أول وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس مرة
بلغت من العلياء كل مكان
و لربما طعن الفتى أقرانه
بالرأي قبل تطاعن الأقران
لو لا العقول لكان أدنى ضيغم
أدنى إلى شرف من الإنسان
و لما تفاضلت الرجال ودبرت
أيدي الكماة عوالي المران
و من وصايا أبرويز إلى ابنه شيرويه لا تستعمل على جيشك غلاما غمرا ترفا قد كثر إعجابه بنفسه وقلت تجاربه في غيره ولا هرما كبيرا مدبرا قد أخذ الدهر من عقله كما أخذت السن من جسمه وعليك بالكهول ذوي الرأي .
[ 238 ]
و قال لقيط بن يعمر الإيادي في هذا المعنى
و قلدوا أمركم لله دركم
رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
لا مترفا إن رخاء العيش ساعده
و لا إذا عض مكروه به خشعا
ما زال يحلب هذا الدهر أشطره
يكون متبعا طورا ومتبعا
حتى استمر على شزر مريرته
مستحكم الرأي لا قحما ولا ضرعا
[ 239 ](1/5184)
84
وَ قَالَ ع عَجِبْتُ لِمَنْ يَقْنَطُ وَ مَعَهُ اَلاِسْتِغْفَارُ قالوا الاستغفار حوارس الذنوب . وقال بعضهم العبد بين ذنب ونعمة لا يصلحهما إلا الشكر والاستغفار . وقال الربيع بن خثعم لا يقولن أحدكم أستغفر الله وأتوب إليه فيكون ذنبا وكذبا إن لم يفعل ولكن ليقل اللهم اغفر لي وتب علي . وقال الفضيل الاستغفار بلا إقلاع توبة الكذابين . وقيل من قدم الاستغفار على الندم كان مستهزئا بالله وهو لا يعلم
[ 240 ](1/5185)
85
وَ حَكَى عَنْهُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ اَلْبَاقِرُ ع أَنَّهُ كَانَ ع قَالَ كَانَ فِي اَلْأَرْضِ أَمَانَانِ مِنْ عَذَابِ اَللَّهِ وَ قَدْ رُفِعَ أَحَدُهُمَا فَدُونَكُمُ اَلْآخَرَ فَتَمَسَّكُوا بِهِ أَمَّا اَلْأَمَانُ اَلَّذِي رُفِعَ فَهُوَ رَسُولُ اَللَّهِ ص وَ أَمَّا اَلْأَمَانُ اَلْبَاقِي فَالاِسْتِغْفَارُ قَالَ اَللَّهُ تَعَالَى وَ ما كانَ اَللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ ما كانَ اَللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ قال الرضي رحمه الله تعالى وهذا من محاسن الاستخراج ولطائف الاستنباط قال قوم من المفسرين وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ في موضع الحال والمراد نفي الاستغفار عنهم أي لو كانوا ممن يستغفرون لما عذبهم وهذا مثل قوله تعالى وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ اَلْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ فكأنه قال لكنهم لا يستغفرون فلا انتفاء للعذاب عنهم . وقال قوم معناه وما كان الله معذبهم وفيهم من يستغفروهم المسلمون بين أظهرهم ممن تخلف عن رسول الله ص من المستضعفين .
[ 241 ]
ثم قال وَ ما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اَللَّهُ أي ولأي سبب لا يعذبهم الله مع وجود ما يقتضي العذاب وهو صدهم المسلمين والرسول عن البيت في عام الحديبية وهذا يدل على أن ترتيب القرآن ليس على ترتيب الوقائع والحوادث لأن سورة الأنفال نزلت عقيب وقعة بدر في السنة الثانية من الهجرة وصد الرسول ص عن البيت كان في السنة السادسة فكيف يجعل آية نزلت في السنة السادسة في سورة نزلت في السنة الثانية . وفي القرآن كثير من ذلك وإنما رتبه قوم من الصحابة في أيام عثمان
[ 242 ](1/5186)
86
وَ قَالَ ع مَنْ أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ اَللَّهِ أَصْلَحَ اَللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ اَلنَّاسِ وَ مَنْ أَصْلَحَ أَمْرَ آخِرَتِهِ أَصْلَحَ اَللَّهُ أَمْرَ دُنْيَاهُ وَ مَنْ كَانَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ وَاعِظٌ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ اَللَّهِ حَافِظٌ مثل الكلمة الأولى قولهم رضا المخلوقين عنوان رضا الخالق و
جاء في الحديث المرفوع ما من وال رضي الله عنه إلا أرضى عنه رعيته . ومثل الكلمة الثانية دعاء بعضهم في قوله
أنا شاكر أنا مادح أنا حامد
أنا خائف أنا جائع أنا عار
هي ستة وأنا الضمين بنصفها
فكن الضمين بنصفها يا باري
و مثل الكلمة الثالثة قوله تعالى إِنَّ اَللَّهَ مَعَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ اَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ
[ 243 ](1/5187)
87
وَ قَالَ ع اَلْفَقِيهُ كُلُّ اَلْفَقِيهِ مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ اَلنَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اَللَّهِ وَ لَمْ يُؤْيِسْهُمْ مِنْ رَوْحِ اَللَّهِ وَ لَمْ يُؤْمِنْهُمْ مِنْ مَكْرِ اَللَّهِ قل موضع من الكتاب العزيز يذكر فيه الوعيد إلا ويمزجه بالوعد مثل أن يقول إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ اَلْعِقابِ ثم يقول وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ والحكمة تقتضي هذا ليكون المكلف مترددا بين الرغبة والرهبة . ويقولون في الأمثال المرموزة لقي موسى وهو ضاحك مستبشر عيسى وهو كالح قاطب فقال عيسى ما لك كأنك آمن من عذاب الله فقال موسى ع ما لك كأنك آيس من روح الله فأوحى الله إليهما موسى أحبكما إلي شعارا فإني عند حسن ظن عبدي بي . واعلم أن أصحابنا وإن قالوا بالوعيد فإنهم لا يؤيسون أحدا ولا يقنطونه من رحمة الله وإنما يحثونه على التوبة ويخوفونه إن مات من غير توبة وبحق ما قال شيخنا أبو الهذيل لو لا مذهب الإرجاء لما عصي الله في الأرض وهذا لا ريب فيه فإن أكثر العصاة إنما يعولون على الرحمة وقد اشتهر
[ 244 ]
و استفاض بين الناس أن الله تعالى يرحم المذنبين فإنه وإن كان هناك عقاب فأوقاتا معدودة ثم يخرجون إلى الجنة والنفوس تحب الشهوات العاجلة فتهافت الناس على المعاصي وبلوغ الشهوات والمآرب معولين على ذلك فلو لا قول المرجئة وظهوره بين الناس لكان العصيان إما معدوما أو قليلا جدا
[ 245 ](1/5188)
88
وَ قَالَ ع أَوْضَعُ اَلْعِلْمِ مَا وُقِفَ عَلَى اَللِّسَانِ وَ أَرْفَعُهُ مَا ظَهَرَ فِي اَلْجَوَارِحِ وَ اَلْأَرْكَانِ هذا حق لأن العالم إذا لم يظهر من علمه إلا لقلقة لسانه من غير أن تظهر منه العبادات كان عالما ناقصا فأما إذا كان يفيد الناس بألفاظه ومنطقه ثم يشاهده الناس على قدم عظيمة من العبادة فإن النفع يكون به عاما تاما وذلك لأن الناس يقولون لو لم يكن يعتقد حقيقة ما يقوله لما أدأب نفسه هذا الدأب . وأما الأول فيقولون فيه كل ما يقوله نفاق وباطل لأنه لو كان يعتقد حقيقة ما يقول لأخذ به ولظهر ذلك في حركاته فيقتدون بفعله لا بقوله فلا يشتغل أحد منهم بالعبادة ولا يهتم بها
[ 246 ](1/5189)
89
وَ قَالَ ع إِنَّ هَذِهِ اَلْقُلُوبَ تَمَلُّ كَمَا تَمَلُّ اَلْأَبْدَانُ فَابْتَغُوا لَهَا طَرَائِفَ اَلْحِكْمَةِ اَلْحِكَمِ لو قال إنها تمل كما تمل الأبدان فأحمضوا كما نقل عن غيره لحمل ذلك على أنه أراد نقلها إلى الفكاهات والأخبار والأشعار ولكنه لم يقل ذلك ولكن قال فابتغوا لها طرائف الحكمة فوجب أن يحمل كلامه ع على أنه أراد أن القلوب تمل من الأنظار العقلية في البراهين الكلامية على التوحيد والعدل فابتغوا لها عند ملالها طرائف الحكمة أي الأمثال الحكمية الراجعة إلى الحكمة الخلقية كما نحن ذاكروه في كثير من فصول هذا الباب مثل مدح الصبر والشجاعة والزهد والعفة وذم الغضب والشهوة والهوى وما يرجع إلى سياسة الإنسان نفسه وولده ومنزله وصديقه وسلطانه ونحو ذلك فإن هذا علم آخر وفن آخر لا تحتاج القلوب فيه إلى فكر واستنباط فتتعب وتكل بترادف النظر والتأمل عليها وفيه أيضا لذة عظيمة للنفس . وقد جاء في إجمام النفس كثير . قال بعضهم روحوا القلوب برواتع الذكر .
[ 247 ]
و
عن سلمان الفارسي أنا أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي وقال عمر بن عبد العزيز إن نفسي راحلتي إن كلفتها فوق طاقتها انقطعت بي . وقال بعضهم روحوا الأذهان كما تروحوا الأبدان . وقال أردشير بن بابك إن للآذان مجة وللقلوب ملة ففرقوا بين الحكمتين بلهو يكن ذلك استجماما
[ 248 ](1/5190)
90
وَ قَالَ ع لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ اَللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ اَلْفِتْنَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ إِلاَّ وَ هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى فِتْنَةٍ وَ لَكِنْ مَنِ اِسْتَعَاذَ فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ مُضِلاَّتِ [ مَضَلاَّتِ ] اَلْفِتَنِ فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ وَ اِعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِالْأَمْوَالِ وَ اَلْأَوْلاَدِ لِيَتَبَيَّنَ اَلسَّاخِطَ لِرِزْقِهِ وَ اَلرَّاضِيَ بِقِسْمِهِ وَ إِنْ كَانَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمَ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ لَكِنْ لِتَظْهَرَ اَلْأَفْعَالُ اَلَّتِي بِهَا يُسْتَحَقُّ اَلثَّوَابُ وَ اَلْعِقَابُ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يُحِبُّ اَلذُّكُورَ وَ يَكْرَهُ اَلْإِنَاثَ وَ بَعْضَهُمْ يُحِبُّ تَثْمِيَر اَلْمَالِ وَ يَكْرَهُ اِنْثِلاَمَ اَلْحَالِ قال الرضي رحمه الله تعالى وهذا من غريب ما سمع منه ع في التفسير الفتنة لفظ مشترك فتارة تطلق على الجائحة والبلية تصيب الإنسان تقول قد افتتن زيد وفتن فهو مفتون إذا أصابته مصيبة فذهب ماله أو عقله أو نحو ذلك قال تعالى إِنَّ اَلَّذِينَ فَتَنُوا اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِناتِ يعني الذين عذبوهم بمكة ليرتدوا عن الإسلام وتارة تطلق على الاختبار والامتحان يقال فتنت الذهب إذا أدخلته النار لتنظر ما جودته ودينار مفتون وتارة تطلق على الإحراق قال تعالى
[ 249 ](1/5191)
يَوْمَ هُمْ عَلَى اَلنَّارِ يُفْتَنُونَ وورق مفتون أي فضة محرقة ويقال للحرة فتين كأن حجارتها محرقة وتارة تطلق على الضلال يقال رجل فاتن ومفتن أي مضل عن الحق جاء ثلاثيا ورباعيا قال تعالى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ اَلْجَحِيمِ أي بمضلين وقرأ قوم مفتنين فمن قال إني أعوذ بك من الفتنة وأراد الجائحة أو الإحراق أو الضلال فلا بأس بذلك وإن أراد الاختبار والامتحان فغير جائز لأن الله تعالى أعلم بالمصلحة وله أن يختبر عباده لا ليعلم حالهم بل ليعلم بعض عباده حال بعض وعندي أن أصل اللفظة هو الاختبار والامتحان وأن الاعتبارات الأخرى راجعة إليها وإذا تأملت علمت صحة ما ذكرناه
[ 250 ](1/5192)
91
وَ سُئِلَ عَنِ اَلْخَيْرِ مَا هُوَ فَقَالَ لَيْسَ اَلْخَيْرُ [ اَلْخَيْرَ ] أَنْ يَكْثُرَ مَالُكَ وَ وَلَدُكَ وَ لَكِنَّ اَلْخَيْرَ أَنْ يَكْثُرَ عِلْمُكَ وَ أَنْ يَعْظُمَ حِلْمُكَ وَ أَنْ تُبَاهِيَ اَلنَّاسَ بِعِبَادَةِ رَبِّكَ فَإِنْ أَحْسَنْتَ حَمِدْتَ اَللَّهَ وَ إِنْ أَسَأْتَ اِسْتَغْفَرْتَ اَللَّهَ وَ لاَ خَيْرَ فِي اَلدُّنْيَا إِلاَّ لِرَجُلَيْنِ رَجُلٍ أَذْنَبَ ذُنُوباً فَهُوَ يَتَدَارَكُهَا بِالتَّوْبَةِ وَ رَجُلٍ يُسَارِعُ فِي اَلْخَيْرَاتِ وَ لاَ يَقِلُّ عَمَلٌ مَعَ اَلتَّقْوَى وَ كَيْفَ يَقِلُّ مَا يُتَقَبَّلُ قد قال الشاعر لهذا المعنى
ليس السعيد الذي دنياه تسعده
بل السعيد الذي ينجو من النار
قوله ع ولا يقل عمل مع التقوى أي مع اجتناب الكبائر لأنه لو كان موقعا لكبيرة لما تقبل منه عمل أصلا على قول أصحابنا فوجب أن يكون المراد بالتقوى اجتناب الكبائر فأما مذهب المرجئة فإنهم يحملون التقوى هاهنا على الإسلام لأن المسلم عندهم تتقبل أعماله وإن كان مواقعا للكبائر . فإن قلت فهل يجوز حمل لفظة التقوى على حقيقتها وهي الخوف قلت لا أما على مذهبنا فلأن من يخاف الله ويواقع الكبائر لا تتقبل أعماله
[ 251 ]
و أما مذهب المرجئة فلأن من يخاف الله من مخالفي ملة الإسلام لا تتقبل أعماله فثبت أنه لا يجوز حمل التقوى هاهنا على الخوف . فإن قلت من هو مخالف لملة الإسلام لا يخاف الله لأنه لا يعرفه . قلت لا نسلم بل يجوز أن يعرف الله بذاته وصفاته كما نعرفه نحن ويجحد النبوة لشبهة وقعت له فيها فلا يلزم من جحد النبوة عدم معرفة الله تعالى
[ 252 ](1/5193)
92
وَ قَالَ ع إِنَّ أَوْلَى اَلنَّاسِ بِالْأَنْبِيَاءِ أَعْلَمُهُمْ بِمَا جَاءُوا بِهِ ثُمَّ تَلاَ ع إِنَّ أَوْلَى اَلنَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَ هذَا اَلنَّبِيُّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا اَلآْيَةَ ثُمَّ قَالَ ع إِنَّ وَلِيَّ مُحَمَّدٍ مَنْ أَطَاعَ اَللَّهَ وَ إِنْ بَعُدَتْ لُحْمَتُهُ وَ إِنَّ عَدُوَّ مُحَمَّدٍ مَنْ عَصَى اَللَّهَ وَ إِنْ قَرُبَتْ قَرَابَتُهُ هكذا الرواية أعلمهم والصحيح أعملهم لأن استدلاله بالآية يقتضي ذلك وكذا قوله فيما بعد إن ولي محمد من أطاع الله . . . إلى آخر الفصل فلم يذكر العلم وإنما ذكر العمل واللحمة بالضم النسب والقرابة وهذا مثل
الحديث المرفوع ايتوني بأعمالكم ولا تأتوني بأنسابكم إن أكرمكم عند الله أتقاكم و
في الحديث الصحيح يا فاطمة بنت محمد إني لا أغني عنك من الله شيئا و
قال رجل لجعفر بن محمد ع أ رأيت قوله ص إن فاطمة أحصنت فرجها فحرم الله ذريتها على النار أ ليس هذا أمانا لكل فاطمي في الدنيا فقال إنك لأحمق إنما أراد حسنا وحسينا لأنهما من لحمة أهل البيت فأما من عداهما فمن قعد به عمله لم ينهض به نسبه
[ 253 ](1/5194)
93
وَ سَمِعَ ع رَجُلاً مِنَ اَلْحَرُورِيَّةِ يَتَهَجَّدُ وَ يَقْرَأُ فَقَالَ نَوْمٌ عَلَى يَقِينٍ خَيْرٌ مِنْ صَلاَةٍ عَلَى شَكٍّ هذا نهي عن التعرض للعبادة مع الجهل بالمعبود كما يصنع اليوم كثير من الناس ويظنون أنهم خير الناس والعقلاء الألباء من الناس يضحكون منهم ويستهزءون بهم والحرورية الخوارج وقد سبق القول فيهم وفي نسبتهم إلى حروراء . يقول ع ترك التنفل بالعبادات مع سلامة العقيدة الأصلية خير من الاشتغال بالنوافل وأوراد الصلاة مع عدم العلم وهو المعني بقوله في شك فإذا كان عدم التنفل خيرا من التنفل مع الشك فهو مع الجهل المحض وهو الاعتقاد الفاسد أولى بأن يكون
[ 254 ](1/5195)
94
وَ قَالَ ع اِعْقِلُوا اَلْخَبَرَ إِذَا سَمِعْتُمُوهُ عَقْلَ رِعَايَةٍ لاَ عَقْلَ رِوَايَةٍ فَإِنَّ رُوَاةَ اَلْعِلْمِ كَثِيرٌ وَ رُعَاتَهُ قَلِيلٌ نهاهم ع عن أن يقتصروا إذا سمعوا منه أو من غيره أطرافا من العلم والحكمة على أن يرووا ذلك رواية كما يفعله اليوم المحدثون وكما يقرأ أكثر الناس القرآن دراسة ولا يدري من معانيه إلا اليسير . وأمرهم أن يعقلوا ما يسمعونه عقل رعاية أي معرفة وفهم . ثم قال لهم إن رواة العلم كثير ورعاته قليل أي من يراعيه ويتدبره وصدق ع
[ 255 ](1/5196)
95
وَ قَالَ ع وَ قَدْ سَمِعَ رَجُلاً يَقُولُ إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ فَقَالَ إِنَّ قَوْلَنَا إِنَّا لِلَّهِ إِقْرَارٌ عَلَى أَنْفُسِنَا بِالْمُلْكِ وَ قَوْلَنَا وَ إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ إِقْرَارٌ عَلَى أَنْفُسِنَا بِالْهُلْكِ قوله إنا لله اعتراف بأنا مملوكون لله وعبيد له لأن هذه اللام لام التمليك كما تقول الدار لزيد فأما قوله وإنا إليه راجعون فهو إقرار واعتراف بالنشور والقيامة لأن هذا هو معنى الرجوع إليه سبحانه واقتنع أمير المؤمنين عن التصريح بذلك فذكر الهلك فقال إنه إقرار على أنفسنا بالهلك لأن هلكنا مفض إلى رجوعنا يوم القيامة إليه سبحانه فعبر بمقدمة الشي ء عن الشي ء نفسه كما يقال الفقر الموت والحمى الموت ونحو ذلك . ويمكن أن يفسر ذلك على قول مثبتي النفس الناطقة بتفسير آخر فيقال إن النفس ما دامت في أسر تدابير البدن فهي بمعزل عن مبادئها لأنها مشتغلة مستغرقة بغير ذلك فإذا مات البدن رجعت النفس إلى مبادئها فقوله وإنا إليه راجعون إقرار بما لا يصح الرجوع بهذا التفسير إلا معه وهو الموت المعبر عنه بالهلك
[ 256 ](1/5197)
96
وَ قَالَ ع وَ مَدَحَهُ قَوْمٌ فِي وَجْهِهِ اَللَّهُمَّ إِنَّكَ أَعْلَمُ بِي مِنْ نَفْسِي وَ أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْهُمْ اَللَّهُمَّ اِجْعَلْنِي اِجْعَلْنَا خَيْراً مِمَّا يَظُنُّونَ وَ اِغْفِرْ لِي لَنَا مَا لاَ يَعْلَمُونَ قد تقدم القول في كراهية مدح الإنسان في وجهه و
في الحديث المرفوع إذا مدحت أخاك في وجهه فكأنما أمررت على حلقه موسى وميضة و
قال أيضا لرجل مدح رجلا في وجهه عقرت الرجل عقرك الله و
قال أيضا لو مشى رجل إلى رجل بسيف مرهف كان خيرا له من أن يثني عليه في وجهه ومن كلام عمر المدح هو الذبح قالوا لأن المذبوح ينقطع عن الحركة والأعمال وكذلك الممدوح يفتر عن العمل . ويقول قد حصل في القلوب والنفوس ما استغنى به عن الحركة والجد . ومن أمثال الفلاحين إذا طار لك صيت بين الحصادة فاكسر منجلك .
[ 257 ]
و قال مطرف بن الشخير ما سمعت من ثناء أحد علي أو مدحة أحد لي إلا وتصاغرت إلي نفسي وقال زياد بن أبي مسلم ليس أحد سمع ثناء أحد عليه إلا وتراءى له شيطان ولكن المؤمن يراجع . فلما ذكر كلامهما لابن المبارك قال صدقا أما قول زياد فتلك قلوب العوام وأما قول مطرف فتلك قلوب الخواص
[ 258 ](1/5198)
97
وَ قَالَ ع : لاَ يَسْتَقِيمُ قَضَاءُ اَلْحَوَائِجِ إِلاَّ بِثَلاَثٍ بِاسْتِصْغَارِهَا لِتَعْظُمَ وَ بِاسْتِكْتَامِهَا لِتَظْهَرَ وَ بِتَعْجِيلِهَا لِتَهْنُؤَ قد تقدم لنا قول مستقصى في هذا النحو وفي الحوائج وقضائها واستنجاحها . و
قد جاء في الحديث المرفوع استعينوا على حاجاتكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود . وقال خالد بن صفوان لا تطلبوا الحوائج في غير حينها ولا تطلبوها إلى غير أهلها ولا تطلبوا ما لستم له بأهل فتكونوا للمنع خلقاء . وكان يقال لكل شي ء أس وأس الحاجة تعجيل أروح من التأخير . وقال رجل لمحمد بن الحنفية جئتك في حويجة قال فاطلب لها رجيلا . وقال شبيب بن شبة بن عقال أمران لا يجتمعان إلا وجب النجح وهما العاقل لا يسأل إلا ما يجوز والعاقل لا يرد سائله عما يمكن . وكان يقال من استعظم حاجة أخيه إليه بعد قضائها امتنانا بها فقد استصغر نفسه .
[ 259 ]
و قال أبو تمام في المطل
و كان المطل في بدء وعود
دخانا للصنيعة وهي نار
نسيب البخل مذ كانا وإلا
يكن نسب فبينهما جوار
لذلك قيل بعض المنع أدنى
إلى جود وبعض الجود عار
[ 260 ](1/5199)
98
وَ قَالَ ع يَأْتِي عَلَى اَلنَّاسِ زَمَانٌ لاَ يُقَرَّبُ فِيهِ إِلاَّ اَلْمَاحِلُ وَ لاَ يُظَرَّفُ فِيهِ إِلاَّ اَلْفَاجِرُ وَ لاَ يُضَعَّفُ فِيهِ إِلاَّ اَلْمُنْصِفُ يَعُدُّونَ اَلصَّدَقَةَ فِيهِ غُرْماً وَ صِلَةَ اَلرَّحِمِ مَنّاً وَ اَلْعِبَادَةَ اِسْتِطَالَةً عَلَى اَلنَّاسِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ اَلسُّلْطَانُ بِمَشُورَةِ اَلْإِمَاءِ اَلنِّسَاءِ وَ إِمَارَةِ اَلصِّبْيَانِ وَ تَدْبِيرِ اَلْخِصْيَانِ المحل المكر والكيد يقال محل به إذا سعى به إلى السلطان فهو ماحل ومحول والمماحلة المماكرة والمكايدة . قوله ولا يظرف فيه إلا الفاجر لا يعد الناس الإنسان ظريفا إلا إذا كان خليعا ماجنا متظاهرا بالفسق . وقوله ولا يضعف فيه إلا المنصف أي إذا رأوا إنسانا عنده ورع وإنصاف في معاملته الناس عدوه ضعيفا ونسبوه إلى الركة والرخاوة وليس الشهم عندهم إلا الظالم . ثم قال يعدون الصدقة غرما أي خسارة ويمنون إذا وصلوا الرحم
[ 261 ]
و إذا كانوا ذوي عبادة استطالوا بها على الناس وتبجحوا بها وأعجبتهم أنفسهم واحتقروا غيرهم . قال فعند ذلك يكون السلطان والحكم بين الرعايا بمشورة الإماء إلى آخر الفصل وهو من باب الإخبار عن الغيوب وهي إحدى آياته والمعجزات المختص بها دون الصحابة
[ 262 ](1/5200)
99
وَ قَالَ ع : وَ قَدْ رُئِيَ عَلَيْهِ إِزَارٌ خَلَقٌ مَرْقُوعٌ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ يَخْشَعُ لَهُ اَلْقَلْبُ وَ تَذِلُّ بِهِ اَلنَّفْسُ وَ يَقْتَدِي بِهِ اَلْمُؤْمِنُونَ إِنَّ اَلدُّنْيَا وَ اَلآْخِرَةَ عَدُوَّانِ مُتَفَاوِتَانِ وَ سَبِيلاَنِ مُخْتَلِفَانِ فَمَنْ أَحَبَّ اَلدُّنْيَا وَ تَوَلاَّهَا أَبْغَضَ اَلآْخِرَةَ وَ عَادَاهَا وَ هُمَا بِمَنْزِلَةِ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ وَ مَاشٍ بَيْنَهُمَا كُلَّمَا قَرُبَ مِنْ وَاحِدٍ بَعُدَ مِنَ اَلآْخَرِ وَ هُمَا بَعْدُ ضَرَّتَانِ قد تقدم القول في هذا الباب وذكرنا أن الحكماء والعارفين فيه على قسمين منهم من آثر لبس الأدنى على الأعلى ومنهم من عكس الحال وكان عمر بن الخطاب من أصحاب المذهب الأول وكذلك أمير المؤمنين وهو شعار عيسى ابن مريم ع كان يلبس الصوف وغليظ الثياب وكان رسول الله ص يلبس النوعين جميعا وأكثر لبسه كان الجيد من الثياب مثل أبراد اليمن وما شاكل ذلك وكانت ملحفته مورسة حتى أنها لتردع على جلده كما جاء في الحديث . ورئي محمد بن الحنفية ع واقفا بعرفات على برذون أصفر وعليه مطرف خز أصفر و
جاء فرقد السبخي إلى الحسن وعلى الحسن مطرف خز فجعل ينظر إليه وعلى فرقد ثياب صوف فقال الحسن ما بالك تنظر إلي وعلي ثياب أهل الجنة
[ 263 ](1/5201)
و عليك ثياب أهل النار إن أحدكم ليجعل الزهد في ثيابه والكبر في صدره فلهو أشد عجبا بصوفه من صاحب المطرف . وقال ابن السماك لأصحاب الصوف إن كان لباسكم هذا موافقا لسرائركم فلقد أحببتم أن يطلع الناس عليها ولئن كان مخالفا لها لقد هلكتم . وكان عمر بن عبد العزيز على قاعدة عمر بن الخطاب في ملبوسه وكان قبل الخلافة يلبس الثياب المثمنة جدا كان يقول لقد خفت أن يعجز ما قسم الله لي من الرزق عما أريده من الكسوة وما لبست ثوبا جديدا قط إلا وخيل لي حين يراه الناس أنه سمل أو بال فلما ولي الخلافة ترك ذلك كله . وروى سعيد بن سويد قال صلى بنا عمر بن عبد العزيز الجمعة ثم جلس وعليه قميص مرقوع الجيب من بين يديه ومن خلفه فقال له رجل إن الله أعطاك يا أمير المؤمنين فلو لبست فنكس مليا ثم رفع رأسه فقال إن أفضل القصد ما كان عند الجدة وأفضل العفو ما كان عند المقدرة . وروى عاصم بن معدلة كنت أرى عمر بن عبد العزيز قبل الخلافة فأعجب من حسن لونه وجودة ثيابه وبزته ثم دخلت عليه بعد أن ولي وإذا هو قد احترق واسود ولصق جلده بعظمه حتى ليس بين الجلد والعظم لحم وإذا عليه قلنسوة بيضاء قد اجتمع قطنها ويعلم أنها قد غسلت وعليه سحق أنبجانية قد خرج سداها وهو على شاذكونة قد لصقت بالأرض تحت الشاذكونة عباءة قطوانية من مشاقة الصوف وعنده رجل يتكلم فرفع صوته فقال له عمر اخفض قليلا من صوتك فإنما يكفي الرجل من الكلام قدر ما يسمع صاحبه . وروى عبيد بن يعقوب أن عمر بن عبد العزيز كان يلبس الفرو الغليظ من الثياب وكان سراجه على ثلاث قصبات فوقهن طين
[ 264 ](1/5202)
100
إِنَّ اَلدُّنْيَا وَ اَلآْخِرَةَ عَدُوَّانِ مُتَفَاوِتَانِ وَ سَبِيلاَنِ مُخْتَلِفَانِ فَمَنْ أَحَبَّ اَلدُّنْيَا وَ تَوَلاَّهَا أَبْغَضَ اَلآْخِرَةَ وَ عَادَاهَا وَ هُمَا بِمَنْزِلَةِ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ وَ مَاشٍ بَيْنَهُمَا كُلَّمَا قَرُبَ مِنْ وَاحِدٍ بَعُدَ مِنَ اَلآْخَرِ وَ هُمَا بَعْدُ ضَرَّتَانِ هذا الفصل بين في نفسه لا يحتاج إلى شرح وذلك لأن عمل كل واحد من الدارين مضاد لعمل الأخرى فعمل هذه الاكتساب والاضطراب في الرزق والاهتمام بأمر المعاش والولد والزوجة وما ناسب ذلك وعمل هذه قطع العلائق ورفض الشهوات والانتصاب للعبادة وصرف الوجه عن كل ما يصد عن ذكر الله تعالى ومعلوم أن هذين العملين متضادان فلا جرم كانت الدنيا والآخرة ضرتين لا يجتمعان
[ 265 ](1/5203)
101
وَ عَنْ نَوْفٍ اَلْبَكَّائِيِّ وَ قِيلَ اَلْبَكَالِيِّ بِاللاَّمِ وَ هُوَ اَلْأَصَحُّ اَلْبَكَالِيِّ قَالَ : رَأَيْتُ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ ع ذَاتَ لَيْلَةٍ وَ قَدْ خَرَجَ مِنْ فِرَاشِهِ فَنَظَرَ إِلَى فِي اَلنُّجُومِ فَقَالَ يَا نَوْفُ أَ رَاقِدٌ أَنْتَ أَمْ رَامِقٌ قُلْتُ فَقُلْتُ بَلْ رَامِقٌ يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ قَالَ يَا نَوْفُ طُوبَى لِلزَّاهِدِينَ فِي اَلدُّنْيَا اَلرَّاغِبِينَ فِي اَلآْخِرَةِ أُولَئِكَ قَوْمٌ اِتَّخَذُوا اَلْأَرْضَ بِسَاطاً وَ تُرَابَهَا فِرَاشاً وَ مَاءَهَا طِيباً وَ اَلْقُرْآنَ شِعَاراً وَ اَلدُّعَاءَ دِثَاراً ثُمَّ قَرَضُوا اَلدُّنْيَا قَرْضاً عَلَى مِنْهَاجِ اَلْمَسِيحِ يَا نَوْفُ إِنَّ دَاوُدَ ع قَامَ فِي مِثْلِ هَذِهِ اَلسَّاعَةِ مِنَ اَللَّيْلِ فَقَالَ إِنَّهَا لَسَاعَةٌ لاَ يَدْعُو فِيهَا عَبْدٌ إِلاَّ اُسْتُجِيبَ لَهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَشَّاراً أَوْ عَرِيفاً أَوْ شُرْطِيّاً أَوْ صَاحِبَ عَرْطَبَةٍ وَ هِيَ اَلطُّنْبُورُ أَوْ صَاحِبَ كُوبَةٍ وَ هِيَ اَلطَّبْلُ وَ قَدْ قِيلَ أَيْضاً إِنَّ اَلْعَرْطَبَةَ اَلطَّبْلُ وَ اَلْكُوبَةَ اَلطُّنْبُورُ قال صاحب الصحاح نوف البكالي كان صاحب علي ع . وقال ثعلب هو منسوب إلى قبيلة تدعى بكالة ولم يذكر من أي العرب هي والظاهر أنها من اليمن وأما بكيل فحي من همدان وإليهم أشار الكميت بقوله
فقد شركت فيه بكيل وأرحب
[ 266 ]
فأما البكالي في نسب نوف فلا أعرفه . قوله أم رامق أي أم مستيقظ ترمق السماء والنجوم ببصرك . قوله قرضوا الدنيا أي تركوها وخلفوها وراء ظهورهم قال تعالى وَ إِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ اَلشِّمالِ أي تتركهم وتخلفهم شمالا ويقول الرجل لصاحبه هل مررت بمكان كذا يقول نعم قرضته ليلا ذات اليمين وأنشد لذي الرمة
إلى ظعن يقرضن أجواز مشرف(1/5204)
شمالا وعن أيمانهن الفوارس
قالوا مشرف والفوارس موضعان يقول نظرت إلى ظعن يجزن بين هذين الموضعين
[ 267 ](1/5205)
102
وَ قَالَ ع إِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى اِفْتَرَضَ عَلَيْكُمْ فَرَائِضَ فَلاَ تُضَيِّعُوهَا وَ حَدَّ لَكُمْ حُدُوداً فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَ نَهَاكُمْ عَنْ أَشْيَاءَ فَلاَ تَنْتَهِكُوهَا وَ سَكَتَ لَكُمْ عَنْ أَشْيَاءَ وَ لَمْ يَدَعْهَا نِسْيَاناً فَلاَ تَتَكَلَّفُوهَا قال الله تعالى لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ و
جاء في الأثر أبهموا ما أبهم الله . وقال بعض الصالحين لبعض الفقهاء لم تفرض مسائل لم تقع وأتعبت فيها فكرك حسبك بالمتداول بين الناس . قالوا هذا مثل قولهم في باب المسح على الخفين فإن مسح على خف من زجاج ونحو ذلك من النوادر الغريبة . وقال شريك في أبي حنيفة أجهل الناس بما كان وأعلمهم بما لم يكن . وقال عمر لا تتنازعوا فيما لم يكن فتختلفوا فإن الأمر إذا كان أعان الله عليه . وانتهاك الحرمة تناولها بما لا يحل إما بارتكاب ما نهى عنه أو بالإخلال بما أمر به
[ 268 ](1/5206)
103
وَ قَالَ ع لاَ يَتْرُكُ اَلنَّاسُ شَيْئاً مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ لاِسْتِصْلاَحِ دُنْيَاهُمْ إِلاَّ فَتَحَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُوَ أَضَرُّ مِنْهُ مثال ذلك إنسان يضيع وقت صلاة الفريضة عليه وهو مشتغل بمحاسبة وكيله ومخافته على ماله خوفا أن يكون خانه في شي ء منه فهو يحرص على مناقشته عليه فتفوته الصلاة . قال ع من فعل مثل هذا فتح الله عليه في أمر دنياه وماله ما هو أضر عليه مما رام أن يستدركه بإهماله الفريضة
[ 269 ](1/5207)
104
وَ قَالَ ع رُبَّ عَالِمٍ قَدْ قَتَلَهُ جَهْلُهُ وَ عِلْمُهُ مَعَهُ لَمْ يَنْفَعْهُ قد وقع مثل هذا كثيرا كما جرى لعبد الله بن المقفع وفضله مشهور وحكمته أشهر من أن تذكر ولو لم يكن له إلا كتاب اليتيمة لكفى(1/5208)
محنة المقفع
و اجتمع ابن المقفع بالخليل بن أحمد وسمع كل منهما كلام الآخر فسئل الخليل عنه فقال وجدت علمه أكثر من عقله وهكذا كان فإنه كان مع حكمته متهورا لا جرم تهوره قتله كتب كتاب أمان لعبد الله بن علي عم المنصور ويوجد فيه خطه فكان من جملته ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عبد الله أو أبطن غير ما أظهر أو تأول في شي ء من شروط هذا الأمان فنساؤه طوالق ودوابه حبس وعبيده وإماؤه أحرار والمسلمون في حل من بيعته فاشتد ذلك على المنصور لما وقف عليه وسأل من الذي كتب له الأمان فقيل له عبد الله بن المقفع كاتب عميك عيسى وسليمان ابني علي بالبصرة فكتب المنصور إلى عامله بالبصرة سفيان بن معاوية يأمره بقتله وقيل بل قال أ ما أحد يكفيني ابن المقفع فكتب أبو الخصيب بها إلى
[ 270 ](1/5209)
سفيان بن معاوية المهلبي أمير البصرة يومئذ وكان سفيان واجدا على ابن المقفع لأنه كان يعبث به ويضحك منه دائما فغضب سفيان يوما من كلامه وافترى عليه فرد ابن المقفع عليه ردا فاحشا وقال له يا ابن المغتلمة وكان يمتنع ويعتصم بعيسى وسليمان ابني علي بن عبد الله بن العباس فحقدها سفيان عليه فلما كوتب في أمره بما كوتب اعتزم قتله فاستأذن عليه جماعة من أهل البصرة منهم ابن المقفع فأدخل ابن المقفع قبلهم وعدل به إلى حجرة في دهليزه وجلس غلامه بدابته ينتظره على باب سفيان فصادف ابن المقفع في تلك الحجرة سفيان بن معاوية وعنده غلمانه وتنور نار يسجر فقال له سفيان أ تذكر يوم قلت لي كذا أمي مغتلمة إن لم أقتلك قتله لم يقتل بها أحد ثم قطع أعضاءه عضوا عضوا وألقاها في النار وهو ينظر إليها حتى أتى على جميع جسده ثم أطبق التنور عليه وخرج إلى الناس فكلمهم فلما خرجوا من عنده تخلف غلام ابن المقفع ينتظره فلم يخرج فمضى وأخبر عيسى بن علي وأخاه سليمان بحاله فخاصما سفيان بن معاوية في أمره فجحد دخوله إليه فأشخصاه إلى المنصور وقامت البينة العادلة أن ابن المقفع دخل دار سفيان حيا سليما ولم يخرج منها فقال المنصور أنا أنظر في هذا الأمر إن شاء الله غدا فجاء سفيان ليلا إلى المنصور فقال يا أمير المؤمنين اتق الله في صنيعتك ومتبع أمرك قال لا ترع وأحضرهم في غد وقامت الشهادة وطلب سليمان وعيسى القصاص فقال المنصور أ رأيتم إن قتلت سفيان بابن المقفع ثم خرج ابن المقفع عليكم من هذا الباب وأومأ إلى باب خلفه من ينصب لي نفسه حتى أقتله بسفيان فسكتوا واندفع الأمر وأضرب عيسى وسليمان عن ذكر ابن المقفع بعدها وذهب دمه هدرا . قيل للأصمعي أيما كان أعظم ذكاء وفطنة الخليل أم ابن المقفع فقال كان ابن المقفع أفصح وأحكم والخليل آدب وأعقل ثم قال شتان ما بين فطنة أفضت بصاحبها إلى القتل وفطنة أفضت بصاحبها إلى النسك و(1/5210)
الزهد في الدنيا وكان الخليل قد نسك قبل أن يموت
[ 271 ](1/5211)
105
وَ قَالَ ع لَقَدْ عُلِّقَ بِنِيَاطِ هَذَا اَلْإِنْسَانِ بَضْعَةٌ هِيَ أَعْجَبُ مَا فِيهِ وَ هُوَ ذَلِكَ اَلْقَلْبُ وَ ذَلِكَ أَنَّ لَهُ مَوَادَّ مِنَ اَلْحِكْمَةِ وَ أَضْدَاداً مِنْ خِلاَفِهَا فَإِنْ سَنَحَ لَهُ اَلرَّجَاءُ أَذَلَّهُ اَلطَّمَعُ وَ إِنْ هَاجَ بِهِ اَلطَّمَعُ أَهْلَكَهُ اَلْحِرْصُ وَ إِنْ مَلَكَهُ اَلْيَأْسُ قَتَلَهُ اَلْأَسَفُ وَ إِنْ عَرَضَ لَهُ اَلْغَضَبُ اِشْتَدَّ بِهِ اَلْغَيْظُ وَ إِنْ أَسْعَدَهُ اَلرِّضَا اَلرِّضَى نَسِيَ اَلتَّحَفُّظَ وَ إِنْ غَالَهُ اَلْخَوْفُ شَغَلَهُ اَلْحَذَرُ وَ إِنِ اِتَّسَعَ لَهُ اَلْأَمْرُ اِسْتَلَبَتْهُ اَلْغِرَّةُ وَ إِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فَضَحَهُ اَلْجَزَعُ وَ إِنْ أَفَادَ مَالاً أَطْغَاهُ اَلْغِنَى إِنْ أَفَادَ مَالاً أَطْغَاهُ اَلْغِنَى وَ إِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فَضَحَهُ اَلْجَزَعُ وَ إِنْ عَضَّتْهُ اَلْفَاقَةُ شَغَلَهُ اَلْبَلاَءُ وَ إِنْ جَهَدَهُ اَلْجُوعُ قَعَدَتْ بِهِ اَلضَّعَةُ قَعَدَ بِهِ اَلضَّعْفُ وَ إِنْ أَفْرَطَ بِهِ اَلشِّبَعُ كَظَّتْهُ اَلْبِطْنَةُ فَكُلُّ تَقْصِيرٍ بِهِ مُضِرٌّ وَ كُلُّ إِفْرَاطٍ لَهُ مُفْسِدٌ روي قعد به الضعف والنياط عرق علق به القلب من الوتين فإذا قطع مات صاحبه ويقال له النيط أيضا والبضعة بفتح الباء القطعة من اللحم والمراد بها هاهنا القلب وقال يعتور القلب حالات مختلفات متضادات فبعضها من الحكمة وبعضها وهو المضاد لها مناف للحكمة ولم يذكرها ع وليست الأمور التي عددها شرحا لما قدمه من هذا الكلام المجمل وإن ظن قوم أنه أراد ذلك أ لا ترى أن الأمور التي عددها ليس فيها شي ء من باب الحكمة وخلافها .
[ 272 ](1/5212)
فإن قلت فما مثال الحكمة وخلافها وإن لم يذكر ع مثاله . قلت كالشجاعة في القلب وضدها الجبن وكالجود وضده البخل وكالعفة وضدها الفجور ونحو ذلك . فأما الأمور التي عددها ع فكلام مستأنف إنما هو بيان أن كل شي ء مما يتعلق بالقلب يلزمه لازم آخر نحو الرجاء فإن الإنسان إذا اشتد رجاؤه أذله الطمع والطمع يتبع الرجاء والفرق بين الطمع والرجاء أن الرجاء توقع منفعة ممن سبيله أن تصدر تلك المنفعة عنه والطمع توقع منفعة ممن يستبعد وقوع تلك المنفعة منه ثم قال وإن هاج به الطمع قتله الحرص وذلك لأن الحرص يتبع الطمع إذا لم يعلم الطامع أنه طامع وإنما يظن أنه راج . ثم قال وإن ملكه اليأس قتله الأسف أكثر الناس إذا يئسوا أسفوا . ثم عدد الأخلاق وغيرها من الأمور الواردة في الفصل إلى آخره ثم ختمه بأن قال فكل تقصير به مضر وكل إفراط له مفسد وقد سبق كلامنا في العدالة وأنها الدرجة الوسطى بين طرفين هما رذيلتان والعدالة هي الفضيلة كالجود الذي يكتنفه التبذير والإمساك والذكاء الذي يكتنفه الغباوة والجربزة والشجاعة التي يكتنفها الهوج والجبن وشرحنا ما قاله الحكماء في ذلك شرحا كافيا فلا معنى لإعادته
[ 273 ](1/5213)
106
وَ قَالَ ع نَحْنُ اَلنُّمْرُقَةُ اَلْوُسْطَى اَلَّتِي يَلْحَقُ بِهَا اَلتَّالِي بِهَا يَلْحَقُ اَلتَّالِي وَ إِلَيْهَا يَرْجِعُ اَلْغَالِي النمرق والنمرقة بالضم فيهما وسادة صغيرة ويجوز النمرقة بالكسر فيهما ويقال للطنفسة فوق الرحل نمرقة والمعنى أن كل فضيلة فإنها مجنحة بطرفين معدودين من الرذائل كما أوضحناه آنفا والمراد أن آل محمد ع هم الأمر المتوسط بين الطرفين المذمومين فكل من جاوزهم فالواجب أن يرجع إليهم وكل من قصر عنهم فالواجب أن يلحق بهم . فإن قلت فلم استعار لفظ النمرقة لهذا المعنى قلت لما كانوا يقولون قد ركب فلان من الأمر منكرا وقد ارتكب الرأي الفلاني وكانت الطنفسة فوق الرحل مما يركب استعار لفظ النمرقة لما يراه الإنسان مذهبا يرجع إليه ويكون كالراكب له والجالس عليه والمتورك فوقه . ويجوز أيضا أن تكون لفظة الوسطى يراد بها الفضلى يقال هذه هي الطريقة الوسطى والخليقة الوسطى أي الفضلى ومنه قوله تعالى قالَ أَوْسَطُهُمْ أي أفضلهم ومنه جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً
[ 274 ](1/5214)
107
وَ قَالَ ع لاَ يُقِيمُ أَمْرَ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ إِلاَّ مَنْ لاَ يُصَانِعُ وَ لاَ يُضَارِعُ وَ لاَ يَتَّبِعُ اَلْمَطَامِعَ قد سبق من كلام عمر شي ء يناسب هذا إن لم يكن هو بعينه والمصانعة بذل الرشوة وفي المثل من صانع بالمال لم يحتشم من طلب الحاجة . فإن قلت كان ينبغي أن يقول من لا يصانع بالفتح قلت المفاعلة تدل على كون الفعل بين الاثنين كالمضاربة والمقاتلة . ويضارع يتعرض لطلب الحاجة ويجوز أن يكون من الضراعة وهي الخضوع أي يخضع لزيد ليخضع زيد له ويجوز أن يكون من المضارعة بمعنى المشابهة أي لا يتشبه بأئمة الحق أو ولاة الحق وليس منهم . وأما اتباع المطامع فمعروف
[ 275 ](1/5215)
108
وَ قَالَ ع : وَ قَدْ تُوُفِّيَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ اَلْأَنْصَارِيُّ بِالْكُوفَةِ بَعْدَ مَرْجِعِهِ مِنْ صِفِّينَ مَعَهُ مَعَهُ مِنْ صِفِّينَ وَ كَانَ مِنْ أَحَبِّ أَحَبَّ اَلنَّاسِ إِلَيْهِ لَوْ أَحَبَّنِي جَبَلٌ لَتَهَافَتَ قال الرضي رحمه الله تعالى ومعنى ذلك أن المحنة تغلظ عليه فتسرع المصائب إليه ولا يفعل ذلك إلا بالأتقياء الأبرار المصطفين الأخيار : وهذا مثل قوله ع : من أحبنا أهل البيت فليستعد للفقر جلبابا وقد يؤول ذلك على معنى آخر ليس هذا موضع ذكره قد ثبت
أن النبي ص قال له لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق . وقد ثبت
أن النبي ص قال إن البلوى أسرع إلى المؤمن من الماء إلى الحدور و
في حديث آخر المؤمن ملقى والكافي موقى و
في حديث آخر خيركم عند الله أعظمكم مصائب في نفسه وماله وولده . وهاتان المقدمتان يلزمهما نتيجة صادقة وهي أنه ع لو أحبه جبل لتهافت ولعل هذا هو مراد الرضي بقوله وقد يئول ذلك على معنى آخر ليس هذا موضع ذكره
[ 276 ](1/5216)
109
وَ قَالَ ع لاَ مَالَ أَعْوَدُ مِنَ اَلْعَقْلِ وَ لاَ وَحْدَةَ أَوْحَشُ مِنَ اَلْعُجْبِ وَ لاَ عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ وَ لاَ كَرَمَ كَالتَّقْوَى وَ لاَ قَرِينَ كَحُسْنِ اَلْخُلْقِ وَ لاَ مِيرَاثَ كَالْأَدَبِ وَ لاَ قَائِدَ كَالتَّوْفِيقِ وَ لاَ تِجَارَةَ كَالْعَمَلِ اَلصَّالِحِ وَ لاَ زَرْعَ رِبْحَ كَالثَّوَابِ وَ لاَ وَرَعَ كَالْوُقُوفِ عِنْدَ اَلشُّبْهَةِ وَ لاَ زُهْدَ كَالزُّهْدِ فِي اَلْحَرَامِ وَ لاَ عِلْمَ كَالتَّفَكُّرِ وَ لاَ عِبَادَةَ كَأَدَاءِ اَلْفَرَائِضِ وَ لاَ إِيمَانَ كَالْحَيَاءِ وَ اَلصَّبْرِ وَ لاَ حَسَبَ كَالتَّوَاضُعِ وَ لاَ شَرَفَ كَالْعِلْمِ وَ لاَ عِزَّ كَالْحِلْمِ وَ لاَ مُظَاهَرَةَ أَوْثَقُ مِنَ اَلْمُشَاوَرَةِ قد تقدم الكلام في جميع هذه الحكم . أما المال فإن العقل أعود منه لأن الأحمق ذا المال طالما ذهب ماله بحمقه فعاد أحمق فقيرا والعاقل الذي لا مال له طالما اكتسب المال بعقله وبقي عقله عليه . وأما العجب فيوجب المقت ومن مقت أفرد عن المخالطة واستوحش منه ولا ريب أن التدبير هو أفضل العقل لأن العيش كله في التدبير . وأما التقوى فقد قال الله إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللَّهِ أَتْقاكُمْ .
[ 277 ](1/5217)
و أما الأدب فقالت الحكماء ما ورثت الآباء أبناءها كالأدب . وأما التوفيق فمن لم يكن قائده ضل . وأما العمل الصالح فإنه أشرف التجارات فقد قال الله تعالى هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ . ثم عد الأعمال الصالحة . وأما الثواب فهو الربح الحقيقي وأما ربح الدنيا فشبيه بحلم النائم . وأما الوقوف عند الشبهات فهو حقيقة الورع ولا ريب أن من يزهد في الحرام أفضل ممن يزهد في المباحات كالمآكل اللذيذة والملابس الناعمة وقد وصف الله تعالى أرباب التفكر فقال وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وقال أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا ولا ريب أن العبادة بأداء الفرائض فوق العبادة بالنوافل والحياء مخ الإيمان وكذلك الصبر والتواضع مصيدة الشرف وذلك هو الحسب وأشرف الأشياء العلم لأنه خاصة الإنسان وبه يقع الفضل بينه وبين سائر الحيوان . والمشورة من الحزم فإن عقل غيرك تستضيفه إلى عقلك ومن كلام بعض الحكماء إذا استشارك عدوك في الأمر فامحضه النصيحة في الرأي فإنه إن عمل برأيك وانتفع ندم على إفراطه في مناواتك وأفضت عداوته إلى المودة وإن خالفك واستضر عرف قدر أمانتك بنصحه وبلغت مناك في مكروهه
[ 278 ](1/5218)
110
وَ قَالَ ع إِذَا اِسْتَوْلَى اَلصَّلاَحُ عَلَى اَلزَّمَانِ وَ أَهْلِهِ ثُمَّ أَسَاءَ رَجُلٌ اَلظَّنَّ بِرَجُلٍ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ حَوْبَةٌ فَقَدْ ظَلَمَ وَ إِذَا اِسْتَوْلَى اَلْفَسَادُ عَلَى اَلزَّمَانِ وَ أَهْلِهِ فَأَحْسَنَ رَجُلٌ اَلظَّنَّ بِرَجُلٍ فَقَدْ غَرَّرَ يريد أن يتعين على العاقل سوء الظن حيث الزمان فاسد ولا ينبغي له سوء الظن حيث الزمان صالح وقد جاء في الخبر المرفوع النهي عن أن يظن المسلم بالمسلم ظن السوء وذلك محمول على المسلم الذي لم تظهر منه حوبة كما أشار إليه علي ع والحوبة المعصية و
الخبر هو ما رواه جابر قال نظر رسول الله ص إلى الكعبة فقال مرحبا بك من بيت ما أعظمك وأعظم حرمتك والله إن المؤمن أعظم حرمة منك عند الله عز وجل لأن الله حرم منك واحدة ومن المؤمن ثلاثة دمه وماله وأن يظن به ظن السوء ومن كلام عمر ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يجي ء ما يغلبك منه ولا تظنن بكلمة خرجت من في أخيك المسلم سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا ومن عرض نفسه للتهم فلا يلومن من أساء به الظن . شاعر
أسأت إذ أحسنت ظني بكم
و الحزم سوء الظن بالناس
[ 279 ]
قيل لعالم من أسوأ الناس حالا قال من لا يثق بأحد لسوء ظنه ولا يثق به أحد لسوء فعله . شاعر
و قد كان حسن الظن بعض مذاهبي
فأدبني هذا الزمان وأهله
قيل لصوفي ما صناعتك قال حسن الظن بالله وسوء الظن بالناس . وكان يقال ما أحسن حسن الظن إلا أن فيه العجز وما أقبح سوء الظن إلا أن فيه الحزم . ابن المعتز
تفقد مساقط لحظ المريب
فإن العيون وجوه القلوب
و طالع بوادره في الكلام
فإنك تجني ثمار العيوب
[ 280 ](1/5219)
111
وَ قِيلَ لَهُ ع كَيْفَ تَجِدُكَ نَجِدُكَ يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ كَيْفَ يَكُونُ حَالُ مَنْ يَفْنَى بِبَقَائِهِ وَ يَسْقَمُ بِصِحَّتِهِ وَ يُؤْتَى مِنْ مَأْمَنِهِ هذا مثل قول عبدة بن الطبيب
أرى بصري قد رابني بعد صحة
و حسبك داء أن تصح وتسلما
و لن يلبث العصران يوم وليلة
إذا طلبا أن يدركا من تيمما
و قال آخر
كانت قناتي لا تلين لغامز
فألانها الإصباح والإمساء
و دعوت ربي بالسلامة جاهدا
ليصحني فإذا السلامة داء
[ 281 ](1/5220)
112
وَ قَالَ ع كَمْ مِنْ مُسْتَدْرَجٍ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ وَ مَغْرُورٍ بِالسَّتْرِ عَلَيْهِ وَ مَفْتُونٍ بِحُسْنِ اَلْقَوْلِ فِيهِ وَ مَا اِبْتَلَى اَللَّهُ أَحَداً بِمِثْلِ اَلْإِمْلاَءِ لَهُ قد تقدم القول في الاستدراج والإملاء . فأما القول في فتنة الإنسان بحسن القول فيه فقد ذكرنا أيضا طرفا صالحا يتعلق بها .
و قال رسول الله ص لرجل مدح رجلا وقد مر بمجلس رسول الله ص فلم يسمع ولكن قال ويحك لكدت تضرب عنقه لو سمعها لما أفلح
[ 282 ](1/5221)
113
وَ قَالَ ع هَلَكَ فِيَّ رَجُلاَنِ مُحِبٌّ غَالٍ وَ مُبْغِضٌ قَالٍ قد تقدم القول في مثل هذا و
قد قال رسول الله ص والله لو لا أني أشفق أن تقول طوائف من أمتي فيك ما قالت النصارى في ابن مريم لقلت فيك اليوم مقالا لا تمر بأحد من الناس إلا أخذوا التراب من تحت قدميك للبركة . ومع كونه ص لم يقل فيه ذلك المقال فقد غلت فيه غلاة كثيرة العدد منتشرة في الدنيا يعتقدون فيه ما يعتقد النصارى في ابن مريم وأشنع من ذلك الاعتقاد . فأما المبغض القالي فقد رأينا من يبغضه ولكن ما رأينا من يلعنه ويصرح بالبراءة منه ويقال إن في عمان وما والاها من صحار وما يجري مجراها قوما يعتقدون فيه ما كانت الخوارج تعتقده فيه وأنا أبرأ إلى الله منهما
[ 283 ](1/5222)
114
وَ قَالَ ع إِضَاعَةُ اَلْفُرْصَةِ غُصَّةٌ في المثل انتهزوا الفرص فإنها تمر مر السحاب . وقال الشاعر
و إن أمكنت فرصة في العدو
فلا يك همك إلا بها
فإن تك لم تأت من بابها
أتاك عدوك من بابها
و إياك من ندم بعدها
و تأميل أخرى وأنى بها
[ 284 ](1/5223)
115
وَ قَالَ ع مَثَلُ اَلدُّنْيَا كَمَثَلِ اَلْحَيَّةِ لَيِّنٌ مَسُّهَا وَ اَلسَّمُّ اَلنَّاقِعُ فِي جَوْفِهَا يَهْوِي إِلَيْهَا اَلْغِرُّ اَلْجَاهِلُ وَ يَحْذَرُهَا ذُو اَللُّبِّ اَلْعَاقِلُ قد تقدم القول في الدنيا مرارا وقد أخذ أبو العتاهية هذا المعنى فقال إنما الدهر أرقم لين المس وفي نابه السقام العقام
[ 285 ](1/5224)
116
وَ قَالَ ع : وَ قَدْ سُئِلَ عَنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ أَمَّا بَنُو مَخْزُومٍ فَرَيْحَانَةُ قُرَيْشٍ تُحِبُّ نُحِبُّ حَدِيثَ رِجَالِهِمْ وَ اَلنِّكَاحَ فِي نِسَائِهِمْ وَ أَمَّا بَنُو عَبْدِ شَمْسٍ فَأَبْعَدُهَا رَأْياً وَ أَمْنَعُهَا لِمَا وَرَاءَ ظُهُورِهَا وَ أَمَّا نَحْنُ فَأَبْذَلُ لِمَا فِي أَيْدِينَا وَ أَسْمَحُ عِنْدَ اَلْمَوْتِ بِنُفُوسِنَا وَ هُمْ أَكْثَرُ وَ أَمْكَرُ وَ أَنْكَرُ وَ نَحْنُ أَفْصَحُ وَ أَنْصَحُ وَ أَصْبَحُ(1/5225)
فصل في نسب بني مخزوم وطرف من أخبارهم
قد تقدم القول في مفاخرة هاشم وعبد شمس فأما بنو مخزوم فإنهم بعد هذين البيتين أفخر قريش وأعظمها شرفا . قال شيخنا أبو عثمان حظيت مخزوم بالأشعار فانتشر لهم صيت عظيم بها واتفق لهم فيها ما لم يتفق لأحد وذلك أنه يضرب بهم المثل في العز والمنعة والجود والشرف وأوضعوا في كل غاية فمن ذلك قول سيحان الجسري حليف بني أمية في كلمة له
و حين يناغي الركب موت هشام
فدل ذلك على أن ما تقوله مخزوم في التاريخ حق وذلك أنهم قالوا كانت قريش وكنانة ومن والاهم من الناس يؤرخون بثلاثة أشياء كانوا يقولون كان ذلك زمن
[ 286 ]
مبنى الكعبة وكان ذلك من مجي ء الفيل وكان ذلك عام مات هشام بن المغيرة كما كانت العرب تؤرخ فتقول كان ذلك زمن الفطحل وكان ذلك زمن الحيان وكان ذلك زمن الحجارة وكان ذلك عام الحجاف والرواة تجعل ضرب المثل من أعظم المفاخر وأظهر الدلائل والشعر كما علمت كما يرفع يضع كما رفع من بني أنف الناقة قول الحطيئة
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم
و من يسوي بأنف الناقة الذنبا
و كما وضع من بني نمير قول جرير
فعض الطرف إنك من نمير
فلا كعبا بلغت ولا كلابا
فلقيت نمير من هذا البيت ما لقيت . وجعلهم الشاعر مثلا فيمن وضعه الهجاء وهو يهجو قوما من العرب
و سوف يزيدكم ضعة هجائي
كما وضع الهجاء بني نمير
و نمير قبيل شريف وقد ثلم في شرفهم هذا البيت . وقال ابن غزالة الكندي وهو يمدح بني شيبان ولم يكن في موضع رغبة إلى بني مخزوم ولا في موضع رهبة
كأني إذ حططت الرحل فيهم
بمكة حين حل بها هشام
فضرب بهشام المثل . وقال رجل من بني حزم أحد بني سلمى وهو يمدح حرب بن معاوية الخفاجي وخفاجة من بني عقيل
إلى حزن الحزون سمت ركابي
بوابل خلفها عسلان جيش
[ 287 ]
فلما أن أنخت إلى ذراه
أمنت فراشني منه بريش
توسط بيته في آل كعب
كبيت بني مغيرة في قريش(1/5226)
فضرب المثل ببيتهم في قريش . وقال عبد الرحمن بن حسان لعبد الرحمن بن الحكم
ما رست أكيس من بني قحطان
صعب الذرا متمنع الأركان
إني طمعت بفخر من لو رامه
آل المغيرة أو بنو ذكوان
لملأتها خيلا تضب لثاتها
مثل الدبا وكواسر العقبان
منهم هشام والوليد وعدلهم
و أبو أمية مفزع الركبان
فضرب المثل بآل المغيرة . وأما بنو ذكوان فبنو بدر بن عمرو بن حوية بن ذكوان أحد بني عدي بن فزارة منهم حذيفة وحمل ورهطهما وقال مالك بن نويرة
أ لم ينه عنا فخر بكر بن وائل
هزيمتهم في كل يوم لزام
فمنهن يوم الشر أو يوم منعج
و بالجزع إذ قسمن حي عصام
أحاديث شاعت في معد وغيرها
و خبرها الركبان حي هشام
فجعل قريشا كلها حيا لهشام . وقال عبد الله بن ثور الخفاجي
و أصبح بطن مكة مقشعرا
كأن الأرض ليس بها هشام
و هذا مثل وفوق المثل . قالوا وقال الخروف الكلبي وقد مر به ناس من تجار قريش يريدون الشام بادين
[ 288 ]
قشفين ما لكم معاشر قريش هكذا أجدبتم أم مات هشام فجعل موت هشام بإزاء الجدب والمحل وفي هذا المعنى قال مسافر بن أبي عمرو
تقول لنا الركبان في كل منزل
أ مات هشام أم أصابكم جدب
فجعل موت هشام وفقد الغيث سواء . وقال عبد الله بن سلمة بن قشير
دعيني أصطبح يا بكر إني
رأيت الموت نقب عن هشام
و قال أبو الطمحان القيني أو أخوه
و كانت قريش لا تخون حريمها
من الخوف حتى ناهضت بهشام
و قال أبو بكر بن شعوب لقومه كنانة
يا قومنا لا تهلكوا إخفاتا
إن هشام القرشي ماتا
و قال خداش بن زهير
و قد كنت هجاء لهم ثم كفكفوا
نوافذ قولي بالهمام هشام
و قال علي بن هرمة عم إبراهيم بن هرمة
و من يرتئي مدحي فإن مدائحي
نوافق عند الأكرمين سوام
نوافق عند المشتري الحمد بالندى
نفاق بنات الحارث بن هشام
و قال الشاعر وهو يهجو رجلا
أ حسبت أن أباك يوم نسبتني
في المجد كان الحارث بن هشام
أولى قريش بالمكارم كلها
في الجاهلية كان والإسلام
[ 289 ](1/5227)
و قال الأسود بن يعفر النهشلي
إن الأكارم من قريش كلها
شهدوا فراموا الأمر كل مرام
حتى إذا كثر التجادل بينهم
حزم الأمور الحارث بن هشام
و قال ثابت قطنة أو كعب الأشقري لمحمد بن الأشعث بن قيس
أ توعدني بالأشعثي ومالك
و تفخر جهلا بالوسيط الطماطم
كأنك بالبطحاء تذمر حارثا
و خالد سيف الدين بين الملاحم
و قال الخزاعي في كلمته التي يذكر فيها أبا أحيحة
له سرة البطحاء والعد والثرى
و لا كهاشم الخير والقلب مردف
و سأل معاوية صعصعة بن صوحان العبدي عن قبائل قريش فقال إن قلنا غضبتم وإن سكتنا غضبتم فقال أقسمت عليك قال فيمن يقول شاعركم
و عشرة كلهم سيد
آباء سادات وأبناؤها
إن يسألوا يعطوا وإن يعدموا
يبيض من مكة بطحاؤها
و قال عبد الرحمن بن سيحان الجسري حليف بني أمية وهو يهجو عبد الله بن مطيع من بني عدي
حرام كنتي مني بسوء
و أذكر صاحبي أبدا بذام
لقد أصرمت ود بني مطيع
حرام الدهر للرجل الحرام
و إن خيف الزمان مددت حبلا
متينا من حبال بني هاشم
وريق عودهم أبدا رطيب
إذا ما اهتز عيدان الكرام
[ 290 ]
و قال أبو طالب بن عبد المطلب وهو يفخر بخاليه هشام والوليد على أبي سفيان بن حرب
و خالي هشام بن المغيرة ثاقب
إذا هم يوما كالحسام المهند
و خالي الوليد العدل عال مكانه
و خال أبي سفيان عمرو بن مرثد
و قال ابن الزبعرى فيهم
لهم مشية ليست تليق بغيرهم
إذا احدودب المثرون في السنة الجدب
و قال شاعر من بني هوازن أحد بني أنف الناقة حين سقى إبله عبد الله بن أبي أمية المخزومي بعد أن منعه الزبرقان بن بدر
أ تدري من منعت سيال حوض
سليل خضارم منعوا البطاحا
أ زاد الركب تمنع أم هشاما
و ذا الرمحين أمنعهم سلاحا
هم منعوا الأباطح دون فهر
و من بالخيف والبلد الكفاحا
بضرب دون بيضهم طلخف
إذا الملهوف لاذ بهم وصاحا
و ما تدري بأيهم تلاقي
صدور المشرفية والرماحا
فقال عبد الله بن أبي أمية مجيبا له
لعمري لأنت المرء يحسن باديا(1/5228)
و تحسن عودا شيمة وتصنعا
عرفت لقوم مجدهم وقديمهم
و كنت لما أسديت أهلا وموضعا
قالوا وكان الوليد بن المغيرة يجلس بذي المجاز فيحكم بين العرب أيام عكاظ وقد كان رجل من بني عامر بن لؤي رافق رجلا من بني عبد مناف بن قصي فجرى بينهما كلام في حبل فعلاه بالعصا حتى قتله فكاد دمه يطل فقام دونه أبو طالب
[ 291 ]
بن عبد المطلب وقدمه إلى الوليد فاستحلفه خمسين يمينا أنه ما قتله ففي ذلك يقول أبو طالب
أ من أجل حبل ذي رمام علوته
بمنسأة قد جاء حبل وأحبل
هلم إلى حكم ابن صخرة إنه
سيحكم فيما بيننا ثم يعدل
و قال أبو طالب أيضا في كلمة له
و حكمك يبقي الخير إن عز أمره
تخمط واستعلى على الأضعف الفرد
و قال أبو طالب أيضا يرثي أبا أمية زاد الركب وهو خاله
كأن على رضراض قص وجندل
من اليبس أو تحت الفراش المجامر
على خير حاف من معد وناعل
إذا الخير يرجي أو إذا الشر حاسر
ألا إن زاد الركب غير مدافع
بسرو سحيم غيبته المقابر
تنادوا بأن لا سيد اليوم فيهم
و قد فجع الحيان كعب وعامر
و كان إذا يأتي من الشام قافلا
تقدمه قبل الدنو البشائر
فيصبح آل الله بيضا ثيابهم
و قدما حباهم والعيون كواسر
أخو جفنة لا تبرح الدهر عندنا
مجعجعة تدمي وشاء وباقر
ضروب بنصل السيف سوق سمانها
إذا أرسلوا يوما فإنك عاقر
فيا لك من راع رميت بآلة
شراعية تخضر منه الأظافر
و قال أبو طالب أيضا يرثي خاله هشام بن المغيرة
[ 292 ]
فقدنا عميد الحي والركن خاشع
كفقد أبي عثمان والبيت والحجر
و كان هشام بن المغيرة عصمة
إذا عرك الناس المخاوف والفقر
بأبياته كانت أرامل قومه
تلوذ وأيتام العشيرة والسفر
فودت قريش لو فدته بشطرها
و قل لعمري لو فدوه له الشطر
نقول لعمرو أنت منه وإننا
لنرجوك في جل الملمات يا عمرو
عمرو هذا هو أبو جهل بن هشام وأبو عثمان هو هشام . وقالت ضباعة بنت عامر بن سلمة بن قرط ترثيه
إن أبا عثمان لم أنسه
و إن صبرا عن بكاه لحوب(1/5229)
تفاقدوا من معشر ما لهم
أي ذنوب صوبوا في القليب
و قال حسان بن ثابت وهو يهجو أبا جهل وكان يكنى أبا الحكم
الناس كنوه أبا حكم
و الله كناه أبا جهل
أبقت رئاسته لأسرته
لؤم الفروع ودقة الأصل
فاعترف له بالرئاسة والتقدم . وقال أبو عبيد معمر بن المثنى لما تنافر عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة إلى هرم بن قطبة وتوارى عنهما أرسل إليهما عليكما بالفتى الحديث السن الحديد الذهن فصارا إلى أبي جهل فقال له ابن الزبعرى
فلا تحكم فداك أبي وخالي
و كن كالمرء حاكم آل عمرو
[ 293 ]
فأبى أن يحكم فرجعا إلى هرم . وقال عبد الله بن ثور
هريقا من دموعكما سجاما
ضباع وحاربي نوحا قياما
فمن للركب إذ جاءوا طروقا
و غلقت البيوت فلا هشاما
و قال أيضا في كلمة له
و ما ولدت نساء بني نزار
و لا رشحن أكرم من هشام
هشام بن المغيرة خير فهر
و أفضل من سقى صوب الغمام
و قال عمارة بن أبي طرفة الهذلي سمعت ابن جريح يقول في كلام له هلك سيد البطحاء بالرعاف قلت ومن سيد البطحاء قال هشام بن المغيرة . و
قال النبي ص لو دخل أحد من مشركي قريش الجنة لدخلها هشام بن المغيرة كان أبذلهم للمعروف وأحملهم للكل وقال عمر بن الخطاب لا قليل في الله ولا كثير في غير الله ولو بالخلق الجزل والفعال الدثر تنال المثوبة لنالها هشام بن المغيرة ولكن بتوحيد الله والجهاد في سبيله . وقال خداش بن زهير في يوم شمطة وهو أحد أيام الفجار وهو عدو قريش وخصمها
و بلغ أن بلغت بنا هشاما
و ذا الرمحين بلغ والوليدا
أولئك إن يكن في الناس جود
فإن لديهم حسبا وجودا
هم خير المعاشر من قريش
و أوراها إذا قدحوا زنودا
[ 294 ]
و قال أيضا وذكرهما في تلك الحروب
يا شدة ما شددنا غير كاذبة
على سخينة لو لا الليل والحرم
إذا ثقفنا هشاما بالوليد ولو
أنا ثقفنا هشاما شالت الجذم
و ذكرهم ابن الزبعرى في تلك الحروب فقال
ألا لله قوم
ولدت أخت بني سهم
هشام وأبو عبد
مناف مدره الخصم(1/5230)
و ذو الرمحين أشباك
من القوة والحزم
فهذان يذودان
و ذا عن كثب يرمي
و هم يوم عكاظ
منعوا الناس من الهزم
بجأواء طحون فخمة
القونس كالنجم
أسود تزدهى الأقران
مناعون للهضم
فإن أحلف وبيت الله
لا أحلف على إثم
و ما من إخوة بين
دروب الشام والردم
بأزكى من بني ريطة
أو أرزن من حلم
ريطة هي أم ولد المغيرة وهي ريطة بنت سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب وأبو عبد مناف هو أبو أمية بن المغيرة ويعرف بزاد الركب واسمه حذيفة وإنما قيل له زاد الركب لأنه كان إذا خرج مسافرا لم يتزود معه أحد وكانت
[ 295 ]
عنده عاتكة بنت عبد المطلب بن هشام وأما ذو الرمحين فهو أبو ربيعة بن المغيرة واسمه عمرو وكان المغيرة يكنى باسم ابنه الأكبر وهو هاشم ولم يعقب إلا من حنتمة ابنته وهي أم عمر بن الخطاب . وقال ابن الزبعرى يمدح أبا جهل
رب نديم ماجد الأصل
مهذب الأعراق والنجل
منهم أبو عبد مناف وكم
سربت بالضخم على العدل
عمرو الندى ذاك وأشياعه
ما شئت من قول ومن فعل
و قال الورد بن خلاس السهمي سهم بأهله يمدح الوليد
إذا كنت في حيي جذيمة ثاويا
فعند عظيم القريتين وليد
فذاك وحيد الرأي مشترك الندى
و عصمة ملهوف الجنان عميد
و قال أيضا
إن الوليدين والأبناء ضاحية
ربا تهامة في الميسور والعسر
هم الغياث وبعض القوم قرقمة
عز الذليل وغيظ الحاسد الوغر
و قال
و رهطك يا ابن الغيث أكرم محتد
و امنع للجار اللهيف المهضم
قالوا الغيث لقب المغيرة وجعل الوليد وأخاه هشاما ربي تهامة كما قال لبيد بن ربيعة في حذيفة بن بدر
و أهلكن يوما رب كندة وابنه
و رب معد بين خبت وعرعر
فجعله رب معد .
[ 296 ](1/5231)
قالوا يدل على قدر مخزوم ما رأينا من تعظيم القرآن لشأنهم دون غيرهم من سائر قريش قال الله تعالى مخبرا عن العرب إنهم قالوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا اَلْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ اَلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ فأحد الرجلين العظيمين بلا شك الوليد بن المغيرة والآخر مختلف فيه أ هو عروة بن مسعود أم جد المختار بن أبي عبيد . وقال سبحانه في الوليد ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَ جَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً وَ بَنِينَ شُهُوداً الآيات . قالوا وفي الوليد نزلت أَمَّا مَنِ اِسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى . وفي أبي جهل نزلت ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْكَرِيمُ . وفيه نزلت فَلْيَدْعُ نادِيَهُ . وفي مخزوم وَ ذَرْنِي وَ اَلْمُكَذِّبِينَ أُولِي اَلنَّعْمَةِ . وفيهم نزلت ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ . وزعم اليقطري أبو اليقظان وأبو الحسن أن الحجاج سأل أعشى همدان عن بيوتات قريش في الجاهلية فقال إني قد آليت ألا أنفر أحدا على أحد ولكن أقول وتسمعون قالوا فقل قال من أيهم المحبب في أهله المؤرخ بذكره محلي الكعبة وضارب القبة والملقب بالخير وصاحب الخير والمير قالوا من بني مخزوم قال فمن أيهم ضجيع بسباسة والمنحور عنه ألف ناقة وزاد الركب ومبيض البطحاء قالوا من بني مخزوم قال فمن أيهم كان المقنع في حكمه والمنفذ وصيته على تهكمه وعدل الجميع في الرفادة وأول من وضع أساس الكعبة قالوا من بني مخزوم قال فمن
[ 297 ](1/5232)
أيهم صاحب الأريكة ومطعم الخزيرة قالوا من بني مخزوم قال فمن أيهم الإخوة العشرة الكرام البررة قالوا من بني مخزوم قال فهو ذاك فقال رجل من بني أمية أيها الأمير لو كان لهم مع قديمهم حديث إسلام فقال الحجاج أ وما علمت بأن منهم رداد الردة وقاتل مسيلمة وآسر طليحة والمدرك بالطائلة مع الفتوح العظام والأيادي الجسام فهذا آخر ما ذكره أبو عثمان . ويمكن أن يزاد عليه فيقال قالت مخزوم ما أنصفنا من اقتصر في ذكرنا على أن قال مخزوم ريحانة قريش تحب حديث رجالهم والنكاح في نسائهم ولنا في الجاهلية والإسلام أثر عظيم ورجال كثيرة ورؤساء شهيرة فمنا المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم كان سيد قريش في الجاهلية وهو الذي منع فزارة من الحج لما عير خشين بن لأي الفزاري ثم الشمخي قوما من قريش إنهم يأخذون ما ينحره العرب من الإبل في الموسم فقال خشين لما منع من الحج
يا رب هل عندك من عقيره
أصلح مالي وأدع تنحيره
فإن منا مانع المغيره
و مانعا بعد منى بثيره
و مانعا بيتك أن أزوره
منا بنو المغيرة العشرة أمهم ريطة وقد تقدم ذكر نسبها وأمها عاتكة بنت عبد العزى بن قصي وأمها الحظيا بنت كعب بن سعد بن تيم بن مرة أول امرأة من قريش ضربت قباب الأدم بذي المجاز ولها يقول الشاعر
مضى بالصالحات بنو الحظيا
و كان بسيفهم يغنى الفقير
فمن هؤلاء أعني الحظيا الوليد بن المغيرة أمه صخرة بنت الحارث بن عبد الله
[ 298 ]
بن عبد شمس القشيري كان أبو طالب بن عبد المطلب يفتخر بأنه خاله وكفاك من رجل يفتخر أبو طالب بخئولته أ لا ترى إلى قول أبي طالب
و خالي الوليد قد عرفتم مكانه
و خالي أبو العاصي إياس بن معبد
و منهم حفص بن المغيرة وكان شريفا وعثمان بن المغيرة وكان شريفا ومنهم السيد المطاع هشام بن المغيرة وكان سيد قريش غير مدافع له يقول أبو بكر بن الأسود بن شعوب يرثيه
ذريني أصطبح يا بكر إني
رأيت الموت نقب عن هشام(1/5233)
تخيره ولم يعدل سواه
و نعم المرء بالبلد الحرام
و كنت إذا ألاقيه كأني
إلى حرم وفي شهر حرام
فود بنو المغيرة لو فدوه
بألف مقاتل وبألف رام
و ود بنو المغيرة لو فدوه
بألف من رجال أو سوام
فبكيه ضباع ولا تملي
هشاما إنه غيث الأنام
و يقول له الحارث بن أمية الضمري
ألا هلك القناص والحامل الثقلا
و من لا يضن عن عشيرته فضلا
و حرب أبا عثمان أطفأت نارها
و لو لا هشام أوقدت حطبا جزلا
و عان تريك يستكين لعلة
فككت أبا عثمان عن يده الغلا
ألا لست كالهلكى فتبكى بكاءهم
و لكن أرى الهلاك في جنبه وغلا
غداة غدت تبكي ضباعة غيثنا
هشاما وقد أعلت بمهلكه ضحلا
أ لم تريا أن الأمانة أصعدت
مع النعش إذ ولى وكان لها أهلا
[ 299 ]
و قال أيضا يبكيه ويرثيه
و أصبح بطن مكة مقشعرا
شديد المحل ليس به هشام
يروح كأنه أشلاء سوط
و فوق جفانه شحم ركام
فللكبراء أكل كيف شاءوا
و للولدان لقم واغتنام
فبكيه ضباع ولا تملي
ثمال الناس إن قحط الغمام
و إن بني المغيرة من قريش
هم الرأس المقدم والسنام
و ضباعة التي تذكرها الشعراء زوجة هشام وهي من بني قشير . قال الزبير بن بكار فلما قال الحارث ألا لست كالهلكى البيت عظم ذلك على بني عبد مناف فأغروا به حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص السلمي حليف بني عبد شمس وكانت قريش رضيت به واستعملته على سقائها ففر منه الحارث وقال
أفر من الأباطح كل يوم
مخافة أن ينكل بي حكيم
فهدم حكيم داره فأعطاه بنو هشام داره التي بأجياد عوضا منها . وقال عبد الله بن ثور البكائي يرثيه
هريقي من دموعهما سجاما
ضباع وجاوبى نوحا قياما
على خير البرية لن تراه
و لن تلقى مواهبه العظاما
جواد مثل سيل الغيث يوما
إذا علجانه يعلو الإكاما
إذا ما كان عام ذو عرام
حسبت قدوره جبلا صياما
[ 300 ]
فمن للركب إذا مسوا طروقا
و غلقت البيوت فلا هشاما
و أوحش بطن مكة بعد أنس
و مجد كان فيها قد أقاما
فلم أر مثله في أهل نجد(1/5234)
و لا فيمن بغورك يا تهاما
قال الزبير وكان فارس قريش في الجاهلية هشام بن المغيرة وأبو لبيد بن عبدة بن حجرة بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي وكان يقال لهشام فارس البطحاء فلما هلكا كان فارسي قريش بعدهما عمرو بن عبد العامري المقتول يوم الخندق وضرار بن الخطاب المحاربي الفهري ثم هبيرة بن أبي وهب وعكرمة بن أبي جهل المخزوميان قالوا وكان عام مات هشام تاريخا كعام الفيل وعام الفجار وعام بنيان الكعبة وكان هشام رئيس بني مخزوم يوم الفجار . قالوا ومنا أبو جهل بن هشام واسمه عمرو وكنيته أبو الحكم وإنما كناه أبا جهل رسول الله ص كان سيدا أدخلته قريش دار الندوة فسودته وأجلسته فوق الجلة من شيوخ قريش وهو غلام لم يطر شاربه وهو أحد من ساد على الصبا والحارث بن هشام أخو أبي جهل كان شريفا مذكورا وله يقول كعب بن الأشرف اليهودي الطائي
نبئت أن الحارث بن هشام
في الناس يبني المكرمات ويجمع
ليزور يثرب بالجموع وإنما
يبني على الحسب القديم الأروع
و هو الذي هاجر من مكة إلى الشام بأهله وماله في خلافة عمر بن الخطاب فتبعه أهل مكة يبكون فرق وبكى وقال إنا لو كنا نستبدل دارا بدار وجارا
[ 301 ](1/5235)
بجار ما أردنا بكم بدلا ولكنها النقلة إلى الله عز وجل فلم يزل حابسا نفسه ومن معه بالشام مجاهدا حتى مات . قال الزبير جاء الحارث بن هشام وسهيل بن عمرو إلى عمر بن الخطاب فجلسا عنده وهو بينهما فجعل المهاجرون الأولون والأنصار يأتون عمر فينحيهما ويقول هاهنا يا سهيل هاهنا يا حارث حتى صارا في آخر الناس فقال الحارث لسهيل أ لم تر ما صنع بناء عمر اليوم فقال سهيل أيها الرجل إنه لا لوم عليه ينبغي أن نرجع باللوم على أنفسنا دعي القوم ودعينا فأسرعوا وأبطأنا فلما قاما من عند عمر أتياه في غد فقالا له قد رأينا ما صنعت بالأمس وعلمنا أنا أتينا من أنفسنا فهل من شي ء نستدرك به فقال لا أعلم إلا هذا الوجه وأشار لهما إلى ثغر الروم فخرجا إلى الشام فجاهدا بها حتى ماتا . قالوا ومنا عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أمه فاطمة بنت الوليد بن المغيرة وكان شريفا سيدا وهو الذي قال لمعاوية لما قتل حجر بن عدي وأصحابه أين عزب منك حلم أبي سفيان أ لا حبستهم في السجون وعرضتهم للطاعون فقال حين غاب عني مثلك من قومي وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام هو الذي رغب فيه عثمان بن عفان وهو خليفة فزوجه ابنته . قالوا ومنا أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام كان سيدا جوادا وفقيها عالما وهو الذي قدم عليه بنو أسد بن خزيمة يسألونه في دماء كانت بينهم فاحتمل عنهم أربعمائة بعير دية أربعة من القتلى ولم يكن بيده مال فقال لابنه عبد الله بن أبي بكر اذهب إلى عمك المغيرة بن عبد الرحمن فاسأله المعونة فذهب عبد الله إلى عمه فذكر له ذلك فقال المغيرة لقد أكبر علينا أبوك فانصرف عنه عبد الله وأقام أياما
[ 302 ](1/5236)
لا يذكر لأبيه شيئا وكان يقود أباه إلى المسجد وقد ذهب بصره فقال له أبوه يوما أ ذهبت إلى عمك قال نعم وسكت فعرف حين سكت أنه لن يجد عند عمه ما يحب فقال له يا بني أ لا تخبرني ما قال لك قال أ يفعل أبو هاشم وكانت كنية المغيرة فربما فعل ولكن اغد غدا إلى السوق فخذ لي عينة فغدا عبد الله فتعين عينة من السوق لأبيه وباعها فأقام أيام لا يبيع أحد في السوق طعاما ولا زيتا غير عبد الله بن أبي بكر من تلك العينة فلما فرغ أمره أبوه أن يدفعها إلى الأسديين فدفعها إليهم . وكان أبو بكر خصيصا بعبد الملك بن مروان وقال عبد الملك لابنه الوليد لما حضرته الوفاة إن لي بالمدينة صديقين فاحفظني فيهما عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام . وكان يقال ثلاثة أبيات من قريش توالت بالشرف خمسة خمسة وعدوا منها أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة . قالوا ومنا المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام كان أجود الناس بالمال وأطعمهم للطعام وكانت عينه أصيبت مع مسلمة بن عبد الملك في غزوة الروم وكان المغيرة ينحر الجزور ويطعم الطعام حيث نزل ولا يرد أحدا فجاء قوم من الأعراب فجلسوا على طعامه فجعل أحدهم يحد النظر إليه فقال له المغيرة ما لك تحد النظر إلي قال إني ليريبني عينك وسماحك بالطعام قال ومم ارتبت قال أظنك الدجال لأنا روينا أنه أعور وأنه أطعم الناس للطعام فقال المغيرة ويحك إن الدجال لا تصاب عينه في سبيل الله وللمغيرة يقول الأقيشر الأسدي لما قدم الكوفة فنحر الجزر وبسط الأنطاع وأطعم الناس وصار صيته في العرب
[ 303 ]
أتاك البحر طم على قريش
معيرتي فقد راع ابن بشر
و راع الجدي جدي التيم لما
رأى المعروف منه غير نزر
و من أوتار عقبة قد شفاني
و رهط الحاطبي ورهط صخر
فلا يغررك حسن الزي منهم
و لا سرح ببزيون ونمر(1/5237)
فابن بشر عبد الله بن بشر بن مروان بن الحكم وجدي التيم حماد بن عمران بن موسى بن طلحة بن عبيد الله وأوتار عقبة يعني أولاد عقبة بن أبي معيط والحاطبي لقمان بن محمد بن حاطب الجمحي ورهط صخر بنو أبي سفيان بن حرب بن أمية وكل هؤلاء كانوا مشهورين بالكوفة فلما قدمها المغيرة أخمل ذكرهم والمغيرة هذا هو الذي بلغه أن سليم بن أفلح مولى أبي أيوب الأنصاري أراد أن يبيع المنزل الذي نزل فيه رسول الله ص مقدمه المدينة على أبي أيوب بخمسمائة دينار فأرسل إليه ألف دينار وسأله أن يبيعه إياه فباعه فلما ملكه جعله صدقة في يومه . قال الزبير وكان يزيد بن المغيرة بن عبد الرحمن يطاف به بالكوفة على العجل وكان ينحر في كل يوم جزورا وفي كل جمعة جزورين ورأى يوما إحدى جفناته مكللة بالسنام تكليلا حسنا فأعجبه فسأل فقال من كللها قيل اليسع ابنك فسر وأعطاه ستين دينارا . ومر إبراهيم بن هشام على بردة المغيرة وقد أشرقت على الجفنة فقال لعبد من عبيد المغيرة يا غلام على أي شي ء نصبتم هذا الثريد على العمد قال لا ولكن على أعضاد الإبل فبلغ ذلك المغيرة فأعتق ذلك الغلام . والمغيرة هو الذي مر بحرة الأعراب فقاموا إليه فقالوا يا أبا هاشم قد فاض
[ 304 ](1/5238)
معروفك على الناس فما بالنا أشقى الخلق بك قال إنه لا مال معي ولكن خذوا هذا الغلام فهو لكم فأخذوه فبكى الغلام فقال يا مولاي خدمتي وحرمتي فقال أ تبيعوني إياه قالوا نعم فاشتراه منهم بمال ثم أعتقه وقال له والله لا أعرضك لمثلها أبدا اذهب فأنت حر فلما عاد إلى الكوفة حمل ذلك المال إليهم . وكان المغيرة يأمر بالسكر والجوز فيدقان ويطعمهما أصحاب الصفة المساكين ويقول إنهم يشتهون كما يشتهي غيرهم ولا يمكنهم فخرج المغيرة في سفر ومعه جماعة فوردوا غديرا ليس لهم ماء غيره وكان ملحا فأمر بقرب العسل فشقت في الغدير وخيضت بمائه فما شرب أحد منهم حتى راحوا إلا من قرب المغيرة . وذكر الزبير أن ابنا لهشام بن عبد الملك كان يسوم المغيرة ماله بالمكان المسمى بديعا فلا يبيعه فغزا ابن هشام أرض الروم ومعه المغيرة فأصابت الناس مجاعة في غزاتهم فجاء المغيرة إلى ابن هشام فقال إنك كنت تسومني مالي ببديع فآبى أن أبيعكه فاشتر الآن مني نصفه بعشرين ألف دينار فأطعم المغيرة بها الناس فلما رجع ابن هشام بالناس من غزوته تلك وقد بلغ هشاما الخبر قال لابنه قبح الله رأيك أنت أمير الجيش وابن أمير المؤمنين يصيب الناس معك مجاعة فلا تطعمهم حتى يبيعك رجل سوقة ماله ويطعم به الناس ويحك أ خشيت أن تفتقر إن أطعمت الناس . قالوا ولنا عكرمة بن أبي جهل الذي قام له رسول الله ص قائما وهو بعد مشرك لم يسلم ولم يقم رسول الله ص لرجل داخل عليه من الناس شريف ولا مشرف إلا عكرمة وعكرمة هو الذي اجتهد في نصرة الإسلام بعد أن كان شديد العداوة وهو الذي سأله أبو بكر أن يقبل منه معونة على الجهاد فأبى
[ 305 ](1/5239)
و قال لا آخذ على الجهاد أجرا ولا معونة وهو الشهيد يوم أجنادين وهو الذي قال رسول الله ص لا تسألني اليوم شيئا إلا أعطيتك فقال فإني أسألك أن تستغفر لي ولم يسأل غير ذلك وكل قريش غيره سألوا المال كسهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وغيرهما . قالوا ولنا الحارث بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة كان شاعرا مجيدا مكثرا وكان أمير مكة استعمله عليها يزيد بن معاوية ومن شعره
من كان يسأل عنا أين منزلنا
فالأقحوانة منا منزل قمن
إذ نلبس العيش غضا لا يكدره
قرب الوشاة ولا ينبو بنا الزمن
و أخوه عكرمة بن خالد كان من وجوه قريش وروى الحديث وروى عنه . ومن ولد خالد بن العاص بن هاشم بن المغيرة خالد بن إسماعيل بن عبد الرحمن كان جوادا متلافا وفيه قال الشاعر
لعمرك إن المجد ما عاش خالد
على العمر من ذي كبدة لمقيم
و تندى البطاح البيض من جود خالد
و يخصبن حتى نبتهن عميم
قالوا ولنا الأوقص وهو محمد بن عبد الرحمن بن هشام بن المغيرة كان قاضي مكة وكان فقيها . قالوا ومن قدماء المسلمين عبد الله بن أمية بن المغيرة أخو أم سلمة زوج رسول الله
[ 306 ](1/5240)
ص كان شديد الخلاف على المسلمين ثم خرج مهاجرا وشهد فتح مكة وحنين وقتل يوم الطائف شهيدا . والوليد بن أمية غير رسول الله ص اسمه فسماه المهاجر وكان من صلحاء المسلمين . قالوا ومنا زهير بن أبي أمية بن المغيرة وبجير بن أبي ربيعة بن المغيرة غير رسول الله ص اسمه فسماه عبد الله كانا من أشراف قريش وعباس بن أبي ربيعة كان شريفا قالوا ومنا الحارث القباع وهو الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة كان أمير البصرة وعمر بن عبد الله بن أبي ربيعة الشاعر المشهور ذي الغزل والتشبيب . قالوا ومن ولد الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة الفقيه المشهور وهو المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث كان فقيه المدينة بعد مالك بن أنس وعرض عليه الرشيد جائزة أربعة آلاف دينار فامتنع ولم يتقلد له القضاء . قالوا ومن يعد ما تعده مخزوم ولها خالد بن الوليد بن المغيرة سيف الله كان مباركا ميمون النقيبة شجاعا وكان إليه أعنة الخيل على عهد رسول الله ص وشهد معه فتح مكة وجرح يوم حنين فنفث رسول الله ص على جرحه فبرأ وهو الذي قتل مسيلمة وأسر طليحة ومهد خلافة أبي بكر وقال يوم موته لقد شهدت كذا وكذا زحفا وما في جسدي موضع إصبع إلا وفيه طعنة أو ضربه وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت العير فلا نامت أعين الجبناء ومر عمر بن الخطاب على دور بني مخزوم والنساء يندبن خالدا وقد وصل خبره إليهم
[ 307 ]
و كان مات بحمص فوقف وقال ما على النساء أن يندبن أبا سليمان وهل تقوم حرة عن مثله ثم أنشد
أ تبكي ما وصلت به الندامى
و لا تبكي فوارس كالجبال
أولئك إن بكيت أشد فقدا
من الأنعام والعكر الحلال
تمنى بعدهم قوم مداهم
فما بلغوا لغايات الكمال(1/5241)
و كان عمرو مبغضا لخالد ومنحرفا عنه ولم يمنعه ذلك من أن صدق فيه . قالوا ومنا الوليد بن الوليد بن المغيرة كان رجل صدق من صلحاء المسلمين . ومنا عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وكان عظيم القدر في أهل الشام وخاف معاوية منه أن يثب على الخلافة بعدهم فسمه أمر طبيبا له يدعى ابن أثال فسقاه فقتله . وخالد بن المهاجر بن خالد بن الوليد قاتل ابن أثال بعمه عبد الرحمن والمخالف على بني أمية والمنقطع إلى بني هاشم وإسماعيل بن هشام بن الوليد كان أمير المدينة وإبراهيم ومحمد ابنا هشام بن عبد الملك وأيوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن الوليد وكان من رجال قريش ومن ولده هشام بن إسماعيل بن أيوب وسلمة بن عبد الله بن الوليد بن الوليد ولي شرطة المدينة . قالوا ومن ولد حفص بن المغيرة عبد الله بن أبي عمر بن حفص بن المغيرة هو أول خلق الله حاج يزيد بن معاوية . قالوا ولنا الأزرق وهو عبد الله بن عبد الرحمن بن الوليد بن عبد شمس بن المغيرة والي اليمن لابن الزبير وكان من أجود العرب وهو ممدوح أبي دهبل الجمحي .
[ 308 ](1/5242)
قالوا ولنا شريك رسول الله ص وهو عبد الله بن السائب بن أبي السائب واسم أبي السائب صيفي بن عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم كان شريك النبي ص في الجاهلية فجاءه يوم الفتح فقال له أ تعرفني قال أ لست شريكي قال بلى قال لقد كنت خير شريك لا تشاري ولا تماري . قالوا ومنا الأرقم بن أبي الأرقم الذي استتر رسول الله في داره بمكة في أول الدعوة واسم أبي الأرقم عبد مناف بن أسد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم . ومنا أبو سلمة بن عبد الأسد واسمه عبد الله وهو زوج أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة قبل رسول الله ص شهد أبو سلمة بدرا وكان من صلحاء المسلمين . قالوا لنا هبيرة بن أبي وهب كان من الفرسان المذكورين وابنه جعدة بن هبيرة وهو ابن أخت علي بن أبي طالب ع أمه أم هانئ بنت أبي طالب وابنه عبد الله بن جعدة بن هبيرة هو الذي فتح القهندر وكثيرا من خراسان فقال فيه الشاعر
لو لا ابن جعدة لم تفتح قهندركم
و لا خراسان حتى ينفخ الصور
قالوا ولنا سعيد بن المسيب الفقيه المشهور وأما الجواد المشهور فهو الحكم بن المطلب بن حنطب بن الحارث بن عبيد بن عمر بن مخزوم . وقد اختصرنا واقتصرنا على من ذكرنا وتركنا كثيرا من رجال مخزوم خوف الإسهاب . وينبغي أن يقال في الجواب إن أمير المؤمنين ع لم يقل هذا الكلام احتقارا لهم ولا استصغارا لشأنهم ولكن أمير المؤمنين ع كان أكثر همة يوم المفاخرة أن يفاخر بني عبد شمس لما بينه وبينهم فلما ذكر مخزوما بالعرض قال فيهم ما قال ولو كان يريد مفاخرتهم لما اقتصر لهم على ما ذكره عنهم على أن أكثر هؤلاء الرجال إسلاميون بعد عصر علي ع وعلي ع إنما يذكر من قبله لا من يجي ء بعده .
[ 309 ](1/5243)
فإن قلت إذا كان قد قال في بني عبد شمس إنهم أمنع لما وراء ظهورهم ثم قال في بني هاشم إنهم أسمح عند الموت بنفوسهم فقد تناقض الوصفان . قلت لا مناقضة بينهما لأنه أراد كثرة بني عبد شمس فبالكثرة تمنع ما وراء ظهورها وكان بنو هاشم أقل عددا من بني عبد شمس إلا أن كل واحد منهم على انفراده أشجع وأسمح بنفسه عند الموت من كل واحد على انفراده من بني عبد شمس فقد بان أنه لا مناقضة بين القولين
[ 310 ](1/5244)
117
وَ قَالَ ع شَتَّانَ مَا بَيْنَ عَمَلَيْنِ عَمَلٍ تَذْهَبُ لَذَّتُهُ وَ تَبْقَى تَبِعَتُهُ وَ عَمَلٍ تَذْهَبُ مَئُونَتُهُ وَ يَبْقَى أَجْرُهُ أخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال
تفنى اللذاذة ممن نال بغيته
من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقي عواقب سوء في مغبتها
لا خير في لذة من بعدها النار
[ 311 ](1/5245)
118
وَ قَالَ ع وَ قَدْ تَبِعَ جِنَازَةً فَسَمِعَ رَجُلاً يَضْحَكُ فَقَالَ كَأَنَّ اَلْمَوْتَ فِيهَا عَلَى غَيْرِنَا كُتِبَ وَ كَأَنَّ اَلْحَقَّ فِيهَا عَلَى غَيْرِنَا وَجَبَ وَ كَأَنَّ اَلَّذِي نَرَى مِنَ اَلْأَمْوَاتِ سَفْرٌ عَمَّا قَلِيلٍ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ نُبَوِّئُهُمْ أَجْدَاثَهُمْ وَ نَأْكُلُ تُرَاثَهُمْ كَأَنَّا مُخَلَّدُونَ بَعْدَهُمْ ثُمَّ قَدْ نَسِينَا كُلَّ وَاعِظٍ وَ وَاعِظَةٍ وَ رُمِينَا بِكُلِّ فَادِحٍ وَ جَائِحَةٍ طُوبَى لِمَنْ ذَلَّ فِي نَفْسِهِ وَ طَابَ كَسْبُهُ وَ صَلَحَتْ سَرِيرَتُهُ وَ حَسُنَتْ خَلِيقَتُهُ وَ أَنْفَقَ اَلْفَضْلَ مِنْ مَالِهِ وَ أَمْسَكَ اَلْفَضْلَ مِنْ لِسَانِهِ وَ عَزَلَ عَنِ اَلنَّاسِ شَرَّهُ وَ وَسِعَتْهُ اَلسُّنَّةُ وَ لَمْ يُنْسَبْ إِلَى بِدْعَةٍ 123 طُوبَى لِمَنْ ذَلَّ فِي نَفْسِهِ وَ طَابَ كَسْبُهُ وَ صَلَحَتْ سَرِيرَتُهُ وَ حَسُنَتْ خَلِيقَتُهُ وَ أَنْفَقَ اَلْفَضْلَ مِنْ مَالِهِ وَ أَمْسَكَ اَلْفَضْلَ مِنْ لِسَانِهِ وَ عَزَلَ عَنِ اَلنَّاسِ شَرَّهُ وَ وَسِعَتْهُ اَلسُّنَّةُ وَ لَمْ يُنْسَبْ إلَى اَلْبِدْعَةِ قال الرضي أقول ومن الناس من ينسب هذا الكلام إلى رسول الله ص وكذلك الذي قبله قال الرضي رحمه الله تعالى أقول ومن الناس من ينسب هذا الكلام إلى رسول الله ص الأشهر الأكثر في الرواية أن هذا الكلام من كلام رسول الله ص ومثل قوله كأن الموت فيها على غيرنا كتب
قول الحسن ع ما رأيت حقا لا باطل فيه أشبه بباطل لا حق فيه من الموت والألفاظ التي بعده واضحة ليس فيها ما يشرح وقد تقدم ذكر نظائرها
[ 312 ](1/5246)
119
وَ قَالَ ع غَيْرَةُ اَلْمَرْأَةِ كُفْرٌ وَ غَيْرَةُ اَلرَّجُلِ إِيمَانٌ المرجع في هذا إلى العقل والتماسك فلما كان الرجل أعقل وأشد تماسكا كانت غيرته في موضعها وكانت واجبة عليه لأن النهي عن المنكر واجب وفعل الواجبات من الإيمان وأما المرأة فلما كانت انقص عقلا وأقل صبرا كانت غيرتها على الوهم الباطل والخيال غير المحقق فكانت قبيحة لوقوعها غير موقعها وسماها ع كفرا لمشاركتها الكفر في القبح فأجرى عليها اسمه . وأيضا فإن المرأة قد تؤدي بها الغيرة إلى ما يكون كفرا على الحقيقة كالسحر فقد ورد في الحديث المرفوع أنه كفر وقد يفضي بها الضجر والقلق إلى أن تتسخط وتشتم وتتلفظ بألفاظ تكون كفرا لا محالة
[ 313 ](1/5247)
120
وَ قَالَ ع لَأَنْسُبَنَّ اَلْإِسْلاَمَ نِسْبَةً لَمْ يَنْسُبْهَا أَحَدٌ قَبْلِي اَلْإِسْلاَمُ هُوَ اَلتَّسْلِيمُ وَ اَلتَّسْلِيمُ هُوَ اَلْيَقِينُ وَ اَلْيَقِينُ هُوَ اَلتَّصْدِيقُ وَ اَلتَّصْدِيقُ هُوَ اَلْإِقْرَارُ وَ اَلْإِقْرَارُ هُوَ اَلْأَدَاءُ وَ اَلْأَدَاءُ هُوَ اَلْعَمَلُ خلاصة هذا الفصل تقتضي صحة مذهب أصحابنا المعتزلة في أن الإسلام والإيمان عبارتان عن معبر واحد وأن العمل داخل في مفهوم هذه اللفظة أ لا تراه جعل كل واحدة من اللفظات قائمة مقام الأخرى في إفادة المفهوم كما تقول الليث هو الأسد والأسد هو السبع والسبع هو أبو الحارث فلا شبهة أن الليث يكون أبا الحارث أي أن الأسماء مترادفة فإذا كان أول اللفظات الإسلام وآخرها العمل دل على أن العمل هو الإسلام وهكذا يقول أصحابنا إن تارك العمل وتارك الواجب لا يسمى مسلما . فإن قلت هب أن كلامه ع يدل على ما قلت كيف يدل على أن الإسلام هو الإيمان قلت لأنه إذا دل على أن العمل هو الإسلام وجب أن يكون الإيمان هو الإسلام لأن كل من قال إن العمل داخل في مسمى الإسلام قال إن الإسلام هو الإيمان
[ 314 ](1/5248)
فالقول بأن العمل داخل في مسمى الإسلام وليس الإسلام هو الإيمان قول لم يقل به أحد فيكون الإجماع واقعا على بطلانه . فإن قلت إن أمير المؤمنين ع لم يقل كما تقوله المعتزلة لأن المعتزلة تقول الإسلام اسم واقع على العمل وغيره من الاعتقاد والنطق باللسان وأمير المؤمنين ع جعل الإسلام هو العمل فقط فكيف ادعيت أن قول أمير المؤمنين ع يطابق مذهبهم قلت لا يجوز أن يريد غيره لأن لفظ العمل يشمل الاعتقاد والنطق باللسان وحركات الأركان بالعبادات إذ كل ذلك عمل وفعل وإن كان بعضه من أفعال القلوب وبعضه من أفعال الجوارح ولو لم يرد أمير المؤمنين ع ما شرحناه لكان قد قال الإسلام هو العمل بالأركان خاصة ولم يعتبر فيه الاعتقاد القلبي ولا النطق اللفظي وذلك مما لا يقوله أحد
[ 315 ](1/5249)
121
وَ قَالَ ع عَجِبْتُ لِلْبَخِيلِ يَسْتَعْجِلُ اَلْفَقْرَ اَلَّذِي مِنْهُ هَرَبَ وَ يَفُوتُهُ اَلْغِنَى اَلَّذِي إِيَّاهُ طَلَبَ فَيَعِيشُ فِي اَلدُّنْيَا عَيْشَ اَلْفُقَرَاءِ وَ يُحَاسَبُ فِي اَلآْخِرَةِ حِسَابَ اَلْأَغْنِيَاءِ وَ عَجِبْتُ لِلْمُتَكَبِّرِ اَلَّذِي كَانَ بِالْأَمْسِ نُطْفَةً وَ يَكُونُ غَداً جِيفَةً وَ عَجِبْتُ لِمَنْ شَكَّ فِي اَللَّهِ وَ هُوَ يَرَى خَلْقَ اَللَّهِ وَ عَجِبْتُ لِمَنْ نَسِيَ اَلْمَوْتَ وَ هُوَ يَرَى مَنْ يَمُوتُ اَلْمَوْتَى وَ عَجِبْتُ لِمَنْ أَنْكَرَ اَلنَّشْأَةَ اَلْأُخْرَى وَ هُوَ يَرَى اَلنَّشْأَةَ اَلْأُولَى وَ عَجِبْتُ لِعَامِرٍ دَارَ اَلْفَنَاءِ وَ تَارِكٍ دَارَ اَلْبَقَاءِ قال أعرابي الرزق الواسع لمن لا يستمتع به بمنزلة الطعام الموضوع على قبر ورأى حكيم رجلا مثريا يأكل خبزا وملحا فقال لم تفعل هذا قال أخاف الفقر قال فقد تعجلته فأما القول في الكبر والتيه فقد تقدم منه ما فيه كفاية وقال ابن الأعرابي ما تاه على أحد قط أكثر من مرة واحدة أخذ هذا المعنى شاعر فقال وأحسن
هذه منك فإن عدت
إلى الباب فمني
و قد تقدم من كلامنا في نظائر هذه الألفاظ المذكورة ما يغني عن الإطالة هاهنا
[ 316 ](1/5250)
122
وَ قَالَ ع مَنْ قَصَّرَ فِي اَلْعَمَلِ اُبْتُلِيَ بِالْهَمِّ لاَ حَاجَةَ لِلَّهِ فِيمَنْ لَيْسَ لِلَّهِ فِي مَالِهِ وَ نَفْسِهِ نَصِيبٌ هذا مخصوص بأصحاب اليقين والاعتقاد الصحيح فإنهم الذين إذا قصروا في العمل ابتلوا بالهم فأما غيرهم من المسرفين على أنفسهم وذوي النقص في اليقين والاعتقاد فإنه لا هم يعروهم وإن قصروا في العمل وهذه الكلمة قد جربناها من أنفسنا فوجدنا مصداقها واضحا وذلك أن الواحد منا إذا أخل بفريضة الظهر مثلا حتى تغيب الشمس وإن كان أخل بها لعذر وجد ثقلا في نفسه وكسلا وقلة نشاط وكأنه مشكول بشكال أو مقيد بقيد حتى يقضي تلك الفريضة فكأنما أنشط من عقال
[ 317 ](1/5251)
123
لاَ حَاجَةَ لِلَّهِ فِيمَنْ لَيْسَ لِلَّهِ فِي مَالِهِ وَ نَفْسِهِ نَصِيبٌ
قد جاء في الخبر المرفوع إذا أحب الله عبدا ابتلاه في ماله أو في نفسه و
جاء في الحديث المرفوع اللهم أني أعوذ بك من جسد لا يمرض ومن مال لا يصاب و
روى عبد الله بن أنس عنه ص أنه قال أيكم يحب أن يصح فلا يسقم قالوا كلنا يا رسول الله قال أ تحبون أن تكونوا كالحمر الصائلة ألا تحبون أن تكونوا أصحاب بلايا وأصحاب كفارات والذي بعثني بالحق إن الرجل لتكون له الدرجة في الجنة فلا يبلغها بشي ء من عمله فيبتليه الله ليبلغه الله درجة لا يبلغها بعمله و
في الحديث أيضا ما من مسلم يمرض مرضا إلا حت الله به خطاياه كما تحت الشجرة ورقها و
روى أبو عثمان النهدي قال دخل رجل أعرابي على رسول الله ص ذو جسمان عظيم فقال له متى عهدك بالحمى قال ما أعرفها قال بالصداع
[ 318 ]
قال ما أدري ما هو قال فأصبت بمالك قال لا قال فرزئت بولدك قال لا فقال ع إن الله ليكره العفريت النفريت الذي لا يرزأ في ولده ولا يصاب في ماله و
جاء في بعض الآثار أشد الناس حسابا الصحيح الفارغ و
في حديث حذيفة رضي الله عنه إن أقر يوم لعيني ليوم لا أجد فيه طعاما سمعت رسول الله ص يقول إن الله ليتعاهد عبده المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الوالد ولده بالطعام وإن الله يحمي عبده المؤمن كما يحمي أحدكم المريض من الطعام و
في الحديث المرفوع أيضا إذا أحب الله عبدا ابتلاه فإذا أحبه الحب البالغ اقتناه قالوا وما اقتناؤه قال ألا يترك له مالا ولا ولدا
مر موسى ع برجل كان يعرفه مطيعا لله قد مزقت السباع لحمه وأضلاعه وكبده ملقاة فوقف متعجبا فقال أي رب عبدك المطيع لك ابتليته بما أرى فأوحى الله إليه أنه سألني درجة لم يبلغها بعمله فجعلت له بما ترى سبيلا إلى تلك الدرجة و(1/5252)
جاء في الحديث أن زكريا لم يزل يرى ولده يحيى مغموما باكيا مشغولا بنفسه فقال يا رب طلبت منك ولدا أنتفع به فرزقتنيه لا نفع لي فيه فقال له إنك طلبته وليا والولي لا يكون إلا هكذا مسقاما فقيرا مهموما . وقال سفيان الثوري كانوا لا يعدون الفقيه فقيها من لا يعد البلاء نعمة والرخاء مصيبة .
جابر بن عبد الله يرفعه يود أهل العافية يوم القيامة أن لحومهم كانت تقرض بالمقاريض لما يرون من ثواب أهل البلاء
[ 319 ](1/5253)
124
وَ قَالَ ع تَوَقَّوُا اَلْبَرْدَ فِي أَوَّلِهِ وَ تَلَقَّوْهُ فِي آخِرِهِ فَإِنَّهُ يَفْعَلُ فِي اَلْأَبْدَانِ كَفِعْلِهِ فِي اَلْأَشْجَارِ أَوَّلُهُ يُحْرِقُ وَ آخِرُهُ يُوِرُق هذه مسألة طبيعية قد ذكرها الحكماء قالوا لما كان تأثير الخريف في الأبدان وتوليده الأمراض كالزكام والسعال وغيرهما أكثر من تأثير الربيع مع أنهما جميعا فصلا اعتدال وأجابوا بأن برد الخريف يفجأ الإنسان وهو معتاد لحر الصيف فينكأ فيه ويسد مسام دماغه لأن البرد يكثف ويسد المسام فيكون كمن دخل من موضع شديد الحرارة إلى خيش بارد . فأما المنتقل من الشتاء إلى فصل الربيع فإنه لا يكاد برد الربيع يؤذيه ذلك الأذى لأنه قد اعتاد جسمه برد الشتاء فلا يصادف من برد الربيع إلا ما قد اعتاد ما هو أكثر منه فلا يظهر لبرد الربيع تأثير في مزاجه فأما لم أورقت الأشجار وأزهرت في الربيع دون الخريف فلما في الربيع من الكيفيتين اللتين هما منبع النمو والنفس النباتية وهما الحرارة والرطوبة وأما الخريف فخال من هاتين الكيفيتين ومستبدل بهما ضدهما
[ 320 ]
و هما البرودة واليبس المنافيان للنشوء وحياة الحيوان والنبات فأما لم كان الخريف باردا يابسا والربيع حارا رطبا مع أن نسبة كل واحد منهما إلى الفصلين الخارجين عن الاعتدال وهما الشتاء والصيف نسبة واحدة فإن تعليل ذلك مذكور في الأصول الطبية والكتب الطبيعية وليس هذا الموضع مما يحسن أن يشرح فيه مثل ذلك
[ 321 ](1/5254)
125
وَ قَالَ ع عِظَمُ اَلْخَالِقِ عِنْدَكَ يُصَغِّرُ اَلْمَخْلُوقَ فِي عَيْنِكَ لا نسبة للمخلوق إلى الخالق أصلا وخصوصا البشر لأنهم بالنسبة إلى فلك القمر كالذرة ونسبة فلك القمر كالذرة بالنسبة إلى قرص الشمس بل هم دون هذه النسبة مما يعجز الحاسب الحاذق عن حساب ذلك وفلك القمر بالنسبة إلى الفلك المحيط دون هذه النسبة ونسبة الفلك المحيط إلى الباري سبحانه كنسبة العدم المحض والنفي الصرف إلى الموجود البائن بل هذا القياس أيضا غير صحيح لأن المعدوم يمكن أن يصير موجودا بائنا والفلك لا يتصور أن يكون صانع العالم الواجب الوجود لذاته . وعلى الجملة فالأمر أعظم من كل عظيم وأجل من كل جليل ولا طاقة للعقول والأذهان أن تعبر عن جلالة ذلك الجناب وعظمته بل لو قيل إنها لا طاقة لها أن تعبر عن جلال مصنوعاته الأولى المتقدمة علينا بالرتبة العقلية والزمانية لكان ذلك القول حقا وصدقا فمن هو المخلوق ليقال إن عظم الخالق يصغره في العين ولكن كلامه ع محمول على مخاطبة العامة الذين تضيق أفهامهم عما ذكرناه
[ 322 ](1/5255)
126
وَ قَالَ ع : وَ قَدْ رَجَعَ مِنْ صِفِّينَ فَأَشْرَفَ عَلَى اَلْقُبُورِ بِظَاهِرِ اَلْكُوفَةِ يَا أَهْلَ اَلدِّيَارِ اَلْمُوحِشَةِ وَ اَلْمَحَالِّ اَلْمُقْفِرَةِ وَ اَلْقُبُورِ اَلْمُظْلِمَةِ يَا أَهْلَ اَلتُّرْبَةِ يَا أَهْلَ اَلْغُرْبَةِ يَا أَهْلَ اَلْوَحْدَةِ يَا أَهْلَ اَلْوَحْشَةِ أَنْتُمْ لَنَا فَرَطٌ سَابِقٌ وَ نَحْنُ لَكُمْ تَبَعٌ لاَحِقٌ أَمَّا اَلدُّورُ فَقَدْ سُكِنَتْ وَ أَمَّا اَلْأَزْوَاجُ فَقَدْ نُكِحَتْ وَ أَمَّا اَلْأَمْوَالُ فَقَدْ قُسِمَتْ هَذَا خَبَرُ مَا عِنْدَنَا فَمَا خَبَرُ مَا عِنْدَكُمْ ثُمَّ اِلْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ أَمَا وَ اَللَّهِ لَوْ أُذِنَ لَهُمْ فِي اَلْكَلاَمِ لَأَخْبَرُوكُمْ أَنَّ خَيْرَ اَلزَّادِ اَلتَّقْوَى الفرط المتقدمون وقد ذكرنا من كلام عمر ما يناسب هذا الكلام لما ظعن في القبور وعاد إلى أصحابه أحمر الوجه ظاهر العروق قال قد وقفت على قبور الأحبة فناديتها الحديث إلى آخره فقيل له فهل أجابتك قال نعم قالت إن خير الزاد التقوى . وقد جاء في حديث القبور ومخاطبتها وحديث الأموات وما يتعلق بذلك شي ء كثير يتجاوز الإحصاء .
[ 323 ]
و
في وصية النبي ص أبا ذر رضي الله عنه زر القبور تذكر بها الآخرة ولا تزرها ليلا وغسل الموتى يتحرك قلبك فإن الجسد الخاوي عظة بليغة وصل على الموتى فإن ذلك يحزنك فإن الحزين في ظل الله وجد على قبر مكتوبا
مقيم إلى أن يبعث الله خلقه
لقاؤك لا يرجى وأنت رقيب
تزيد بلى في كل يوم وليلة
و تنسى كما تبلى وأنت حبيب
و
قال الحسن ع مات صديق لنا صالح فدفناه ومددنا على القبر ثوبا فجاء صلة بن أشيم فرفع طرف الثوب ونادى يا فلان
إن تنج منها تنج من ذي عظيمة
و إلا فإني لا إخالك ناجيا
و(1/5256)
في الحديث المرفوع أنه ع كان إذا تبع الجنازة أكثر الصمات ورئي عليه كآبة ظاهرة وأكثر حديث النفس . سمع أبو الدرداء رجلا يقول في جنازة من هذا فقال أنت فإن كرهت فأنا .
سمع الحسن ع امرأة تبكي خلف جنازة وتقول يا أبتاه مثل يومك لم أره فقال بل أبوك مثل يومه لم يره . وكان مكحول إذا رأى جنازة قال اغد فإنا رائحون . وقال ابن شوذب اطلعت امرأة صالحة في لحد فقالت لامرأة معها هذا كندوج العمل يعني خزانته وكانت تعطيها الشي ء بعد الشي ء تأمرها أن تتصدق به فتقول اذهبي فضعي هذا في كندوج العمل .
[ 324 ]
شاعر
أ جازعة ردينة أن أتاها
نعيي أم يكون لها اصطبار
إذا ما أهل قبري ودعوني
و راحوا والأكف بها غبار
و غودر أعظمي في لحد قبر
تراوحه الجنائب والقطار
تهب الريح فوق محط قبري
و يرعى حوله اللهق النوار
مقيم لا يكلمني صديق
بقفر لا أزور ولا أزار
فذاك النأي لا الهجران حولا
و حولا ثم تجتمع الديار
و قال آخر
كأني بإخواني على حافتي قبري
يهيلونه فوقي وأدمعهم تجري
فيا أيها المذري علي دموعه
ستعرض في يومين عني وعن ذكري
عفا الله عني يوم أترك ثاويا
أزار فلا أدري وأجفي فلا أدري
و
جاء في الحديث المرفوع ما رأيت منظرا إلا والقبر أفظع منه و
في الحديث أيضا القبر أول منزل من منازل الآخرة فمن نجا منه فما بعده أيسر ومن لم ينج منه فما بعده شر منه
[ 325 ](1/5257)
127
وَ قَالَ ع وَ قَدْ سَمِعَ رَجُلاً يَذُمُّ اَلدُّنْيَا أَيُّهَا اَلذَّامُّ لِلدُّنْيَا اَلْمُغْتَرُّ بِغُرُورِهَا اَلْمُنْخَدِعُ اَلْمَخْدُوعُ بِأَبَاطِيلِهَا أَ تَفْتَتِنُ تَغْتَرُّ بِهَا ثُمَّ تَذُمُّهَا أَنْتَ اَلْمُتَجَرِّمُ عَلَيْهَا أَمْ هِيَ اَلْمُتَجَرِّمَةُ عَلَيْكَ مَتَى اِسْتَهْوَتْكَ أَمْ مَتَى غَرَّتْكَ أَ بِمَصَارِعِ آبَائِكَ مِنَ اَلْبِلَى أَمْ بِمَضَاجِعِ أُمَّهَاتِكَ تَحْتَ اَلثَّرَى كَمْ عَلَّلْتَ بِكَفَّيْكَ وَ كَمْ مَرَّضْتَ بِيَدَيْكَ تَبْتَغِي لَهُمُ اَلشِّفَاءَ وَ تَسْتَوْصِفُ لَهُمُ اَلْأَطِبَّاءَ غَدَاةَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ دَوَاؤُكَ وَ لاَ يُجْدِي عَلَيْهِمْ بُكَاؤُكَ لَمْ يَنْفَعْ أَحَدَهُمْ إِشْفَاقُكَ وَ لَمْ تُسْعَفْ فِيهِ بِطَلِبَتِكَ وَ لَمْ تَدْفَعْ عَنْهُ بِقُوَّتِكَ وَ قَدْ مَثَّلَتْ لَكَ بِهِ اَلدُّنْيَا نَفْسَكَ وَ بِمَصْرَعِهِ مَصْرَعَكَ إِنَّ اَلدُّنْيَا دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَهَا وَ دَارُ عَافِيَةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا وَ دَارُ غِنًى لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا وَ دَارُ مَوْعِظَةٍ لِمَنِ اِتَّعَظَ بِهَا مَسْجِدُ أَحِبَّاءِ اَللَّهِ وَ مُصَلَّى مَلاَئِكَةِ اَللَّهِ وَ مَهْبِطُ وَحْيِ اَللَّهِ وَ مَتْجَرُ أَوْلِيَاءِ اَللَّهِ اِكْتَسَبُوا فِيهَا اَلرَّحْمَةَ وَ رَبِحُوا فِيهَا اَلْجَنَّةَ فَمَنْ ذَا يَذُمُّهَا وَ قَدْ آذَنَتْ بِبَيْنِهَا وَ نَادَتْ بِفِرَاقِهَا وَ نَعَتْ نَفْسَهَا وَ أَهْلَهَا فَمَثَّلَتْ لَهُمْ بِبَلاَئِهَا اَلْبَلاَءَ وَ شَوَّقَتْهُمْ بِسُرُورِهَا إِلَى اَلسُّرُورِ رَاحَتْ بِعَافِيَةٍ وَ اِبْتَكَرَتْ بِفَجِيعَةٍ تَرْغِيباً وَ تَرْهِيباً وَ تَخْوِيفاً وَ تَحْذِيراً
[ 326 ](1/5258)
فَذَمَّهَا رِجَالٌ غَدَاةَ اَلنَّدَامَةِ وَ حَمِدَهَا آخَرُونَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ ذَكَّرَتْهُمُ اَلدُّنْيَا فَذَكَّرُوا فَتَذَكَّرُوا وَ حَدَّثَتْهُمْ فَصَدَّقُوا وَ وَعَظَتْهُمْ فَاتَّعَظُوا تجرمت على فلان ادعيت عليه جرما وذنبا واستهواه كذا استزله . وقوله ع فمثلت لهم ببلائها البلاء أي بلاء الآخرة وعذاب جهنم وشوقتهم بسرورها إلى السرور أي إلى سرور الآخرة ونعيم الجنة . وهذا الفصل كله لمدح الدنيا وهو ينبئ عن اقتداره ع على ما يريد من المعاني لأن كلامه كله في ذم الدنيا وهو الآن يمدحها وهو صادق في ذاك وفي هذا وقد جاء عن النبي ص كلام يتضمن مدح الدنيا أو قريبا من المدح وهو
قوله ع الدنيا حلوة خضرة فمن أخذها بحقها بورك له فيها . واحتذى عبد الله بن المعتز حذو أمير المؤمنين ع في مدح الدنيا فقال في كلام له الدنيا دار التأديب والتعريف التي بمكروهها توصل إلى محبوب الآخرة ومضمار الأعمال السابقة بأصحابها إلى الجنان ودرجة الفوز التي يرتقى عليها المتقون إلى دار الخلد وهي الواعظة لمن عقل والناصحة لمن قبل وبساط المهل وميدان العمل وقاصمة الجبارين وملحقة الرغم معاطس المتكبرين وكاسية التراب أبدان المختالين وصارعة المغترين ومفرقة أموال الباخلين وقاتلة القاتلين والعادلة بالموت على جميع العالمين وناصرة المؤمنين ومبيرة الكافرين الحسنات فيها مضاعفة والسيئات بآلامها ممحوة ومع عسرها يسران والله تعالى قد ضمن أرزاق أهلها وأقسم في كتابه بما فيها ورب طيبة
[ 327 ]
من نعيمها قد حمد الله عليها فتلقتها أيدي الكتبة ووجبت بها الجنة وكم نائبة من نوائبها وحادثة من حوادثها قد راضت الفهم ونبهت الفطنة وأذكت القريحة وأفادت فضيلة الصبر وكثرت ذخائر الأجر . و
من الكلام المنسوب إلى علي ع الناس أبناء الدنيا ولا يلام المرء على حب أمه أخذه محمد بن وهب الحميري فقال(1/5259)
و نحن بنو الدنيا خلقنا لغيرها
و ما كنت منه فهو شي ء محبب
[ 328 ](1/5260)
128
وَ قَالَ ع إِنَّ لِلَّهِ مَلَكاً يُنَادِي فِي كُلِّ يَوْمٍ لِدُوا لِلْمَوْتِ وَ اِجْمَعُوا لِلْفَنَاءِ وَ اِبْنُوا لِلْخَرَابِ هذه اللام عند أهل العربية تسمى لام العاقبة ومثل هذا قوله تعالى فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً ليس أنهم التقطوه لهذه العلة بل التقطوه فكان عاقبة التقاطهم إياه العداوة والحزن ومثله
فللموت ما تلد الوالدة
و مثله قوله تعالى وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ ليس أنه ذرأهم ليعذبهم في جهنم بل ذرأهم وكان عاقبة ذرئهم أن صاروا فيها وبهذا الحرف يحصل الجواب عن كثير من الآيات المتشابهة التي تتعلق بها المجبرة . وأما فحوى هذا القول وخلاصته فهو التنبيه على أن الدنيا دار فناء وعطب لا دار بقاء وسلامة وأن الولد يموت والدور تخرب وما يجمع من الأموال يفنى
[ 329 ](1/5261)
129
وَ قَالَ ع اَلدُّنْيَا دَارُ مَمَرٍّ لاَ دَارُ مَقَرٍّ وَ اَلنَّاسُ فِيهَا رَجُلاَنِ رَجُلٌ بَاعَ فِيهَا نَفْسَهُ فَأَوْبَقَهَا وَ رَجُلٌ اِبْتَاعَ نَفْسَهُ فَأَعْتَقَهَا قال عمر بن عبد العزيز يوما لجلسائه أخبروني من أحمق الناس قالوا رجل باع آخرته بدنياه فقال أ لا أنبئكم بأحمق منه قالوا بلى قال رجل باع آخرته بدنيا غيره . قلت لقائل أن يقول له ذاك باع آخرته بدنياه أيضا لأنه لو لم يكن له لذة في بيع آخرته بدنيا غيره لما باعها وإذا كان له في ذلك لذة فإذن إنما باع آخرته بدنياه لأن دنياه هي لذته
[ 330 ](1/5262)
130
وَ قَالَ ع لاَ يَكُونُ اَلصَّدِيقُ صَدِيقاً حَتَّى يَحْفَظَ أَخَاهُ فِي ثَلاَثٍ فِي نَكْبَتِهِ وَ غَيْبَتِهِ وَ وَفَاتِهِ قد تقدم لنا كلام في الصديق والصداقة وأما النكبة وحفظ الصديق فيها فإنه يقال في الحبوس مقابر الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء . وأما الغيبة فإنه قد قال الشاعر
و إذا الفتى حسنت مودته
في القرب ضاعفها على البعد
و أما الموت فقد قال الشاعر
و إني لأستحييه والترب بيننا
كما كنت أستحييه وهو يراني
و
من كلام علي ع الصديق من صدق في غيبته . قيل لحكيم من أبعد الناس سفرا قال من سافر في ابتغاء الأخ الصالح . أبو العلاء المعري
أزرت بكم يا ذوي الألباب أربعة
يتركن أحلامكم نهب الجهالات
ود الصديق وعلم الكيمياء وأحكام
النجوم وتفسير المنامات
قيل للثوري دلني على جليس أجلس إليه قال تلك ضالة لا توجد
[ 331 ](1/5263)
131
وَ قَالَ ع مَنْ أُعْطِيَ أَرْبَعاً لَمْ يُحْرَمْ أَرْبَعاً مَنْ أُعْطِيَ اَلدُّعَاءَ لَمْ يُحْرَمِ اَلْإِجَابَةَ وَ مَنْ أُعْطِيَ اَلتَّوْبَةَ لَمْ يُحْرَمِ اَلْقَبُولَ وَ مَنْ أُعْطِيَ اَلاِسْتِغْفَارَ لَمْ يُحْرَمِ اَلْمَغْفِرَةَ وَ مَنْ أُعْطِيَ اَلشُّكْرَ لَمْ يُحْرَمِ اَلزِّيَادَةَ قال الرضي رحمه الله تعالى وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى قال في الدعاء اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ وقال في الاستغفار وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللَّهَ يَجِدِ اَللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً وقال في الشكر لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وقال في التوبة إِنَّمَا اَلتَّوْبَةُ عَلَى اَللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اَللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً في بعض الروايات أن ما نسب إلى الرضي رحمه الله من استنباط هذه المعاني من الكتاب العزيز من متن كلام أمير المؤمنين ع وقد سبق القول في كل واحدة من هذه الأربع مستقصى
[ 332 ](1/5264)
132
وَ قَالَ ع اَلصَّلاَةُ قُرْبَانُ كُلِّ تَقِيٍّ وَ اَلْحَجُّ جِهَادُ كُلِّ ضَعِيفٍ وَ لِكُلِّ شَيْ ءٍ زَكَاةٌ وَ زَكَاةُ اَلْبَدَنِ اَلصَّوْمُ وَ جِهَادُ اَلْمَرْأَةِ حُسْنُ اَلتَّبَعُّلِ قد تقدم القول في الصلاة والحج والصيام فأما أن جهاد المرأة حسن التبعل فمعناه حسن معاشرة بعلها وحفظ ماله وعرضه وإطاعته فيما يأمر به وترك الغيرة فإنها باب الطلاق(1/5265)
نبذ من الوصايا الحكيمة
و أوصت امرأة من نساء العرب بنتها ليلة إهدائها فقالت لها لو تركت الوصية لأحد لحسن أدب وكرم حسب لتركتها لك ولكنها تذكرة للغافل ومئونة للعاقل إنك قد خلفت العش الذي فيه درجت والوكر الذي منه خرجت إلى منزل لم تعرفيه وقرين لم تألفيه فكوني له أمة يكن لك عبدا واحفظي عني خصالا عشرا .
[ 333 ]
أما الأولى والثانية فحسن الصحابة بالقناعة وجميل المعاشرة بالسمع والطاعة ففي حسن الصحابة راحة القلب وفي جميل المعاشرة رضا الرب . والثالثة والرابعة التفقد لمواقع عينه والتعهد لمواضع أنفه فلا تقع عينه منك على قبيح ولا يجد أنفه منك خبيث ريح واعلمي أن الكحل أحسن الحسن المفقود وأن الماء أطيب الطيب الموجود والخامسة والسادسة الحفظ لماله والإرعاء على حشمه وعياله واعلمي أن أصل الاحتفاظ بالمال حسن التقدير وأصل الإرعاء على الحشم والعيال حسن التدبير والسابعة والثامنة التعهد لوقت طعامه والهدو والسكون عند منامه فحرارة الجوع ملهبة وتنغيص النوم مغضبة والتاسعة والعاشرة لا تفشين له سرا ولا تعصين له أمرا فإنك إن أفشيت سره لم تأمني غدره وإن عصيت أمره أوغرت صدره . وأوصت امرأة ابنتها وقد أهدتها إلى بعلها فقالت كوني له فراشا يكن لك معاشا وكوني له وطاء يكن لك غطاء وإياك والاكتئاب إذا كان فرحا والفرح إذا كان كئيبا ولا يطلعن منك على قبيح ولا يشمن منك إلا طيب ريح . وزوج عامر بن الظرب ابنته من ابن أخيه فلما أراد تحويلها قال لأمها مري ابنتك ألا تنزل مفازة إلا ومعها ماء فإنه للأعلى جلاء وللأسفل نقاء ولا تكثر مضاجعته فإذا مل البدن مل القلب ولا تمنعه شهوته فإن الحظوة في المواقعة فلم يلبث إلا شهرا حتى جاءته مشجوجة فقال لابن أخيه يا بني ارفع عصاك عن بكرتك
[ 334 ](1/5266)
فإن كان من غير أن تنفر بك فهو الداء الذي ليس له دواء وإن لم يكن بينكما وفاق ففراق الخلع أحسن من الطلاق وأن تترك أهلك ومالك . فرد عليه صداقها وخلعها منه فهو أول خلع كان في العرب . وأوصى الفرافصة الكلبي ابنته نائلة حين أهداها إلى عثمان فقال يا بنية إنك تقدمين على نساء من نساء قريش هن أقدر على الطيب منك ولا تغلبين على خصلتين الكحل والماء تطهري حتى يكون ريح جلدك ريح شن أصابه مطر وإياك والغيرة على بعلك فإنها مفتاح الطلاق . وروى أبو عمرو بن العلاء قال أنكح ضرار بن عمرو الضبي ابنته من معبد بن زرارة فلما أخرجها إليه قال يا بنية أمسكي عليك الفضلين فضل الغلمة وفضل الكلام . قال أبو عمرو وضرار هذا هو الذي رفع عقيرته بعكاظ وقال ألا إن شر حائل أم فزوجوا الأمهات قال وذلك أنه صرع بين الرماح فأشبل عليه إخوته لأمه حتى استنقذوه . وأوصت أعرابية ابنتها عند إهدائها فقالت لها اقلعي زج رمحه فإن أقر فاقلعي سنانه فإن أقر فاكسري العظام بسيفه فإن أقر فاقطعي اللحم على ترسه فإن أقر فضعي الإكاف على ظهره فإنما هو حمار . وهذا هو قبح التبعل وذكرناه نحن في باب حسن التبعل لأن الضد يذكر بضده
[ 335 ](1/5267)
133
وَ قَالَ ع اِسْتَنْزِلُوا اَلرِّزْقَ بِالصَّدَقَةِ
جاء في الحديث المرفوع وقيل إنه موقوف على عثمان تاجروا الله بالصدقة تربحوا . وكان يقال الصدقة صداق الجنة . و
في الحديث المرفوع ما أحسن عبد الصدقة إلا أحسن الله الخلافة على مخلفيه و
عنه ص ما من مسلم يكسو مسلما ثوبا إلا كان في حفظ الله ما دام منه رقعة . وقال عمر بن عبد العزيز الصلاة تبلغك نصف الطريق والصوم يبلغك باب الملك والصدقة تدخلك عليه
[ 336 ](1/5268)
134
وَ قَالَ ع مَنْ أَيْقَنَ بِالْخَلَفِ جَادَ بِالْعَطِيَّةِ هذا حق لأن من لم يوقن بالخلف ويتخوف الفقر يضن بالعطية ويعلم أنه إذا أعطى ثم أعطى استنفد ماله واحتاج إلى الناس لانقطاع مادته وأما من يوقن بالخلف فإنه يعلم أن الجود شرف لصاحبه وأن الجواد ممدوح عند الناس فقد وجد الداعي إلى السماح ولا صارف له عنه لأنه يعلم أن مادته دائمة غير منقطعة فالصارف الذي يخافه من قدمناه ذكره مفقود في حقه فلا جرم أنه يجود بالعطية
[ 337 ](1/5269)
135
وَ قَالَ ع تَنْزِلُ اَلْمَعُونَةُ عَلَى قَدْرِ اَلْمَئُونَةِ
جاء في الحديث المرفوع من وسع وسع عليه وكلما كثر العيال كثر الرزق . وكان على بعض الموسرين رسوم لجماعة من الفقراء يدفعها إليهم كل سنة فاستكثرها فأمر كاتبه بقطعها فرأى في المنام كأن له أهواء كثيرة في داره وكأنها تصعدها أقوام من الأرض إلى السماء وهو يجزع من ذلك فيقول يا رب رزقي رزقي فقيل له إنما رزقناك هذه لتصرفها فيما كنت تصرفها فيه فإذ قطعت ذلك رفعناها منك وجعلناها لغيرك فلما أصبح أمر كاتبه بإعادة تلك الرسوم أجمع
[ 338 ](1/5270)
136
مَا عَالَ مَنِ اِقْتَصَدَ ما عال أي ما افتقر وقد تقدم لنا قول مقنع في مدح الاقتصاد . وقال أبو العلاء
و إن كنت تهوى العيش فابغ توسطا
فعند التناهي يقصر المتطاول
توقي البدور النقص وهي أهلة
و يدركها النقصان وهي كوامل
و هذا الشعر وإن كان في الاقتصاد في المراتب والولايات إلا أنه مدح للاقتصاد في الجملة فهو من هذا الباب . وسمع بعض الفضلاء قول الحكماء التدبير نصف العيش فقال بل العيش كله
[ 339 ](1/5271)
137
وَ قَالَ ع قِلَّةُ اَلْعِيَالِ أَحَدُ اَلْيَسَارَيْنِ اليسار الثاني كثرة المال يقول إن قلة العيال مع الفقر كاليسار الحقيقي مع كثرتهم . ومن أمثال الحكماء العيال أرضة المال
[ 340 ](1/5272)
138
وَ قَالَ ع اَلتَّوَدُّدُ نِصْفُ اَلْعَقْلِ دخل حبيب بن شوذب على جعفر بن سليمان بالبصرة فقال نعم المرء حبيب بن شوذب حسن التودد طيب الثناء يكره الزيارة المتصلة والقعدة المنسية . وكان يقال التودد ظاهر حسن والمعاملة بين الناس على الظاهر فأما البواطن فإلى عالم الخفيات . وكان يقال قل من تودد إلا صار محبوبا والمحبوب مستور العيوب
[ 341 ](1/5273)
139
وَ قَالَ ع اَلْهَمُّ نِصْفُ اَلْهَرَمِ من كلام بعض الحكماء الهم يشيب القلب ويعقم العقل فلا يتولد معه رأى ولا تصدق معه روية . وقال الشاعر
هموم قد أبت إلا التباسا
تبت الشيب في رأس الوليد
و تقعد قائما بشجا حشاه
و تطلق للقيام حبا القعود
و أضحت خشعا منها نزار
مركبة الرواجب في الخدود
و قال سفيان بن عيينة الدنيا كلها هموم وغموم فما كان منها سرور فهو ربح . ومن أمثالهم الهم كافور الغلمة . وقال أبو تمام
شاب رأسي وما رأيت مشيب الرأس
إلا من فضل شيب الفؤاد
و كذاك القلوب في كل بؤس
و نعيم طلائع الأجساد
طال إنكاري البياض ولو عمرت
شيئا أنكرت لون السواد
[ 342 ](1/5274)
140
وَ قَالَ ع يَنْزِلُ اَلصَّبْرُ عَلَى قَدْرِ اَلْمُصِيبَةِ وَ مَنْ ضَرَبَ يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ عِنْدَ مُصِيبَتِهِ حَبِطَ أَجْرُهُ عَمَلُهُ قد مضى لنا كلام شاف في الصبر وكان الحسن يقول في قصصه الحمد لله الذي كلفنا ما لو كلفنا غيره لصرنا فيه إلى معصيته وآجرنا على ما لا بد لنا منه يقول كلفنا الصبر ولو كلفنا الجزع لم يمكنا أن نقيم عليه وآجرنا على الصبر ولا بد لنا من الرجوع إليه . و
من كلام أمير المؤمنين ع كان يقول عند التعزية عليكم بالصبر فإن به يأخذ الحازم ويعود إليه الجازع . وقال أبو خراش الهذلي يذكر أخاه عروة
تقول أراه بعد عروة لاهيا
و ذلك رزء لو علمت جليل
فلا تحسبي أني تناسيت عهده
و لكن صبري يا أميم جميل
و قال عمرو بن معديكرب
كم من أخ لي صالح
بوأته بيدي لحدا
[ 343 ]
ألبسته أكفانه
و خلقت يوم خلقت جلدا
و كان يقال من حدث نفسه بالبقاء ولم يوطنها على المصائب فهو عاجز الرأي . وكان يقال كفى باليأس معزيا وبانقطاع الطمع زاجرا . وقال الشاعر
أيا عمرو لم أصبر ولي فيك حيلة
و لكن دعاني اليأس منك إلى الصبر
تصبرت مغلوبا وإني لموجع
كما صبر القطان في البلد القفر
[ 344 ](1/5275)
141
وَ قَالَ ع كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلاَّ اَلْجُوعُ وَ اَلظَّمَأُ وَ كَمْ مِنْ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلاَّ اَلسَّهَرُ وَ اَلْعَنَاءُ حَبَّذَا نَوْمُ اَلْأَكْيَاسِ وَ إِفْطَارُهُمْ الأكياس هاهنا العلماء العارفون وذلك لأن عباداتهم تقع مطابقة لعقائدهم الصحيحة فتكون فروعا راجعة إلى أصل ثابت وليس كذلك الجاهلون بالله تعالى لأنهم إذا لم يعرفوه ولم تكن عباداتهم متوجهة إليه فلم تكن مقبولة ولذلك فسدت عبادة النصارى واليهود . وفيهم ورد قوله تعالى عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى ناراً حامِيَةً
[ 345 ](1/5276)
142
وَ قَالَ ع سُوسُوا إِيمَانَكُمْ بِالصَّدَقَةِ وَ حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ وَ اِدْفَعُوا أَمْوَاجَ اَلْبَلاَءِ بِالدُّعَاءِ قد تقدم الكلام في الصدقة والزكاة والدعاء فلا معنى لإعادة القول في ذلك
[ 346 ](1/5277)
143
وَ مِنْ كَلاَمٍ لَهُ ع لِكُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ اَلنَّخَعِيِّ قَالَ كُمَيْلُ بْنُ زِيَادٍ أَخَذَ بِيَدِي أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ع فَأَخْرَجَنِي إِلَى اَلْجَبَّانِ فَلَمَّا أَصْحَرَ تَنَفَّسَ اَلصُّعَدَاءَ ثُمَّ قَالَ يَا كُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ إِنَّ هَذِهِ اَلْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا فَاحْفَظْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ اَلنَّاسُ ثَلاَثَةٌ فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ وَ مُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ وَ هَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ اَلْعِلْمِ وَ لَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ يَا كُمَيْلُ اَلْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ اَلْمَالِ اَلْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَ أَنْتَ تَحْرُسُ اَلْمَالَ وَ اَلْمَالُ تَنْقُصُهُ اَلنَّفَقَةُ وَ اَلْعِلْمُ يَزْكُوا عَلَى اَلْإِنْفَاقِ وَ صَنِيعُ اَلْمَالِ يَزُولُ بِزَوَالِهِ يَا كُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ مَعْرِفَةُ اَلْعِلْمِ دِينٌ يُدَانُ بِهِ بِهِ يَكْسِبُ اَلْإِنْسَانُ اَلطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ وَ جَمِيلَ اَلْأُحْدُوثَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَ اَلْعِلْمُ حَاكِمٌ وَ اَلْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ يَا كُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ هَلَكَ خُزَّانُ اَلْأَمْوَالِ وَ هُمْ أَحْيَاءٌ وَ اَلْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ اَلدَّهْرُ أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ وَ أَمْثَالُهُمْ فِي اَلْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ هَا إِنَّ هَاهُنَا لَعِلْماً جَمّاً وَ أَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ لَوْ أَصَبْتُ لَهُ حَمَلَةً بَلَى أُصِيبُ أَصَبْتُ لَقِناً غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ مُسْتَعْمِلاً آلَةَ اَلدِّينِ لِلدُّنْيَا وَ مُسْتَظْهِراً بِنِعَمِ اَللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَ بِحُجَجِهِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ
[ 347 ](1/5278)
أَوْ مُنْقَاداً لِحَمَلَةِ اَلْحَقِّ لاَ بَصِيرَةَ لَهُ فِي أَحْنَائِهِ يَنْقَدِحُ اَلشَّكُّ فِي قَلْبِهِ لِأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ أَلاَ لاَ ذَا وَ لاَ ذَاكَ أَوْ مَنْهُوماً بِاللَّذَّةِ سَلِسَ اَلْقِيَادِ لِلشَّهْوَةِ أَوْ مُغْرَماً بِالْجَمْعِ وَ اَلاِدِّخَارِ لَيْسَا مِنْ رُعَاةِ اَلدِّينِ فِي شَيْ ءٍ أَقْرَبُ شَيْ ءٍ شَبَهاً بِهِمَا اَلْأَنْعَامُ اَلسَّائِمَةُ كَذَلِكَ يَمُوتُ اَلْعِلْمُ بِمَوْتِ حَامِلِيهِ اَللَّهُمَّ بَلَى لاَ تَخْلُو اَلْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّةٍ إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً وَ إِمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً لِئَلاَّ تَبْطُلَ حُجَجُ اَللَّهِ وَ بَيِّنَاتُهُ وَ كَمْ ذَا وَ أَيْنَ أُولَئِكَ أُولَئِكَ وَ اَللَّهِ اَلْأَقَلُّونَ عَدَداً وَ اَلْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اَللَّهِ قَدْراً يَحْفَظُ اَللَّهُ بِهِمْ حُجَجَهُ وَ بَيِّنَاتِهِ حَتَّى يُودِعُوهَا نُظَرَاءَهُمْ وَ يَزْرَعُوهَا فِي قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ هَجَمَ بِهِمُ اَلْعِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ اَلْبَصِيرَةِ وَ بَاشَرُوا رُوحَ اَلْيَقِينِ وَ اِسْتَلاَنُوا مَا اِسْتَوْعَرَهُ اَلْمُتْرَفُونَ وَ أَنِسُوا بِمَا اِسْتَوْحَشَ مِنْهُ اَلْجَاهِلُونَ وَ صَحِبُوا اَلدُّنْيَا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَحَلِّ اَلْأَعْلَى أُولَئِكَ خُلَفَاءُ اَللَّهِ فِي أَرْضِهِ وَ اَلدُّعَاةُ إِلَى دِينِهِ آهِ آهِ شَوْقاً إِلَى رُؤْيَتِهِمْ اِنْصَرِفْ يَا كُمَيْلُ إِذَا شِئْتَ الجبان والجبانة الصحراء . وتنفس الصعداء أي تنفس تنفسا ممدودا طويلا . قوله ع ثلاثة قسمة صحيحة وذلك لأن البشر باعتبار الأمور الإلهية إما عالم على الحقيقة يعرف الله تعالى وإما شارع في ذلك فهو بعد في السفر إلى الله يطلبه بالتعلم والاستفادة من العالم وإما لا ذا ولا ذاك وهو العامي الساقط الذي
[ 348 ](1/5279)
لا يعبأ الله وصدق ع في أنهم همج رعاع أتباع كل ناعق أ لا تراهم ينتقلون من التقليد لشخص إلى تقليد الآخر لأدنى خيال وأضعف وهم . ثم شرع ع في ذكر العلم وتفضيله على المال فقال العلم يحرسك وأنت تحرس المال وهذا أحد وجوه التفضيل . ثم ابتدأ فذكر وجها ثانيا فقال المال ينقص بالإنفاق منه والعلم لا ينقص بالإنفاق بل يزكو وذلك لأن إفاضة العلم على التلامذة تفيد المعلم زيادة استعداد وتقرر في نفسه تلك العلوم التي أفاضها على تلامذته وتثبتها وتزيدها رسوخا . فأما قوله وصنيع المال يزول بزواله فتحته سر دقيق حكمي وذلك لأن المال إنما يظهر أثره ونفعه في الأمور الجسمانية والملاذ الشهوانية كالنساء والخيل والأبنية والمأكل والمشرب والملابس ونحو ذلك وهذه الآثار كلها تزول بزوال المال أو بزوال رب المال أ لا ترى أنه إذا زال المال اضطر صاحبه إلى بيع الأبنية والخيل والإماء ورفض تلك العادة من المآكل الشهية والملابس البهية وكذلك إذا زال رب المال بالموت فإنه تزول آثار المال عنده فإنه لا يبقى بعد الموت آكلا شاربا لابسا وأما آثار العلم فلا يمكن أن تزول أبدا والإنسان في الدنيا ولا بعد خروجه عن الدنيا أما في الدنيا فلأن العالم بالله تعالى لا يعود جاهلا به لأن انتفاء العلوم البديهية عن الذهن وما يلزمها من اللوازم بعد حصولها محال فإذا قد صدق قوله ع في الفرق بين المال والعلم أن صنيع المال يزول بزواله أي وصنيع المال لا يزول ولا يحتاج إلى أن يقول بزواله لأن تقدير الكلام وصنيع المال يزول لأن المال يزول وأما بعد خروج الإنسان من الدنيا فإن صنيع العلم لا يزول وذلك لأن صنيع العلم في النفس الناطقة اللذة العقلية الدائمة لدوام سببها وهو حصول العلم في جوهر النفس الذي هو ممشوق
[ 349 ](1/5280)
النفس مع انتفاء ما يشغلها عن التمتع به والتلذذ بمصاحبته والذي كان يشغلها عنه في الدنيا استغراقها في تدبير البدن وما تورده عليها الحواس من الأمور الخارجية ولا ريب أن العاشق إذا خلا بمعشوقه وانتفت عنه أسباب الكدر كان في لذة عظيمة فهذا هو سر قوله وصنيع المال يزول بزواله . فإن قلت ما معنى قوله ع معرفة العلم دين يدان به وهل هذا إلا بمنزلة قولك معرفة المعرفة أو علم العلم وهذا كلام مضطرب قلت تقديره معرفة فضل العلم أو شرف العلم أو وجوب العلم دين يدان به أي المعرفة بذلك من أمر الدين أي ركن من أركان الدين واجب مفروض . ثم شرح ع حال العلم الذي ذكر أن معرفة وجوبه أو شرفه دين يدان به فقال العلم يكسب الإنسان الطاعة في حياته أي من كان عالما كان لله تعالى مطيعا كما قال سبحانه إِنَّما يَخْشَى اَللَّهَ مِنْ عِبادِهِ اَلْعُلَماءُ . ثم قال وجميل الأحدوثة بعد وفاته أي الذكر الجميل بعد موته . ثم شرع في تفضيل العلم على المال من وجه آخر فقال العلم حاكم والمال محكوم عليه وذلك لعلمك أن مصلحتك في إنفاق هذا المال تنفقه ولعلمك بأن المصلحة في إمساكه تمسكه فالعلم بالمصلحة داع وبالمضرة صارف وهما الأمران الحاكمان بالحركات والتصرفات إقداما وإحجاما ولا يكون القادر قادرا مختارا إلا باعتبارهما وليسا إلا عبارة عن العلم أو ما يجرى مجرى العلم من الاعتقاد والظن فإذن قد بان وظهر أن العلم من حيث هو علم حاكم وأن المال ليس بحاكم بل محكوم عليه .
[ 350 ](1/5281)
ثم قال ع هلك خزان المال وهم أحياء وذلك لأن المال المخزون لا فرق بينه وبين الصخرة المدفونة تحت الأرض فخازنه هالك لا محالة لأنه لم يلتذ بإنفاقه ولم يصرفه في الوجوه التي ندب الله تعالى إليها وهذا هو الهلاك المعنوي وهو أعظم من الهلاك الحسي . ثم قال والعلماء باقون ما بقي الدهر هذا الكلام له ظاهر وباطن فظاهره قوله أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة أي آثارهم وما دونوه من العلوم فكأنهم موجودون وباطنه أنهم موجودون حقيقة لا مجازا على قول من قال ببقاء الأنفس وأمثالهم في القلوب كناية ولغز ومعناه ذواتهم في حظيرة القدوس والمشاركة بينها وبين القلوب ظاهرة لأن الأمر العام الذي يشملها هو الشرف فكما أن تلك أشرف عالمها كذا القلب أشرف عالمه فاستعير لفظ أحدهما وعبر به عن الآخر . قوله ع ها إن هاهنا لعلما جما وأشار بيده إلى صدره هذا عندي إشارة إلى العرفان والوصول إلى المقام الأشرف الذي لا يصل إليه إلا الواحد الفذ من العالم ممن لله تعالى فيه سر وله به اتصال ثم قال لو أصبت له حملة ومن الذي يطيق حملة بل من الذي يطيق فهمه فضلا عن حمله . ثم قال بلى أصيب . ثم قسم الذي يصيبهم خمسة أقسام أحدهم أهل الرياء والسمعة الذين يظهرون الدين والعلم ومقصودهم الدنيا فيجعلون الناموس الديني شبكة لاقتناص الدنيا . وثانيها قوم من أهل الخير والصلاح ليسوا بذوي بصيرة في الأمور الإلهية الغامضة
[ 351 ](1/5282)
فيخاف من إفشاء السر إليهم أن تنقدح في قلوبهم شبهة بأدنى خاطر فإن مقام المعرفة مقام خطر صعب لا يثبت تحته إلا الأفراد من الرجال الذين أيدوا بالتوفيق والعصمة . وثالثها رجل صاحب لذات وطرب مشتهر بقضاء الشهوة فليس من رجال هذا الباب . ورابعها رجل عرف بجمع المال وادخاره لا ينفقه في شهواته ولا في غير شهواته فحكمه حكم القسم الثالث . ثم قال ع كذلك يموت العلم بموت حامليه أي إذا مت مات العلم الذي في صدري لأني لم أجد أحدا أدفعه إليه وأورثه إياه ثم استدرك فقال اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم بحجة الله تعالى كيلا يخلو الزمان ممن هو مهيمن لله تعالى على عباده ومسيطر عليهم وهذا يكاد يكون تصريحا بمذهب الإمامية إلا أن أصحابنا يحملونه على أن المراد به الأبدال الذين وردت الأخبار النبوية عنهم أنهم في الأرض سائحون فمنهم من يعرف ومنهم من لا يعرف وأنهم لا يموتون حتى يودعوا السر وهو العرفان عند قوم آخرين يقومون مقامهم . ثم استنزر عددهم فقال وكم ذا أي كم ذا القبيل وكم ذا الفريق . ثم قال وأين أولئك استبهم مكانهم ومحلهم . ثم قال هم الأقلون عددا الأعظمون قدرا . ثم ذكر أن العلم هجم بهم على حقيقة الأمر وانكشف لهم المستور المغطى وباشروا راحة اليقين وبرد القلب وثلج العلم واستلانوا ما شق على المترفين من الناس ووعر عليهم نحو التوحد ورفض الشهوات وخشونة العيشة .
[ 352 ](1/5283)
قال وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون يعني العزلة ومجانبة الناس وطول الصمت وملازمة الخلوة ونحو ذلك مما هو شعار القوم . قال وصحبوا الدنيا بأرواح أبدانها معلقة بالمحل الأعلى هذا مما يقوله أصحاب الحكمة من تعلق النفوس المجردة بمبادئها من العقول المفارقة فمن كان أزكى كان تعلقه بها أتم . ثم قال أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه لا شبهة أن بالوصول يستحق الإنسان أن يسمى خليفة الله في أرضه وهو المعنى بقوله سبحانه للملائكة إِنِّي جاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً وبقوله هُوَ اَلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي اَلْأَرْضِ . ثم قال آه آه شوقا إلى رؤيتهم هو ع أحق الناس بأن يشتاق إلى رؤيتهم لأن الجنسية علة الضم والشي ء يشتاق إلى ما هو من سنخه وسوسته وطبيعته ولما كان هو ع شيخ العارفين وسيدهم لا جرم اشتاقت نفسه الشريفة إلى مشاهدة أبناء جنسه وإن كان كل واحد من الناس دون طبقته . ثم قال لكميل انصرف إذا شئت وهذه الكلمة من محاسن الآداب ومن لطائف الكلم لأنه لم يقتصر على أن قال انصرف كيلا يكون أمرا وحكما بالانصراف لا محالة فيكون فيه نوع علو عليه فاتبع ذلك بقوله إذا شئت ليخرجه من ذل الحكم وقهر الأمر إلى عزة المشيئة والاختيار
[ 353 ](1/5284)
144
وَ قَالَ ع اَلْمَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ قد تكرر هذا المعنى مرارا فأما هذه اللفظة فلا نظير لها في الإيجاز والدلالة على المعنى وهي من ألفاظه ع المعدودة . وقال الشاعر
و كائن ترى من صامت لك معجب
زيادته أو نقصه في التكلم
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
و تكلم عبد الملك بن عمير وأعرابي حاضر فقيل له كيف ترى هذا فقال لو كان كلام يؤتدم به لكان هذا الكلام مما يؤتدم به . وتكلم جماعة من الخطباء عند مسلمة بن عبد الملك فأسهبوا في القول ولم يصنعوا شيئا ثم أفرغ النطق رجل من أخرياتهم فجعل لا يخرج من فن إلا إلى أحسن منه فقال مسلمة ما شبهت كلام هذا بعقب كلام هؤلاء إلا بسحابة لبدت عجاجة . وسمع رجل منشدا ينشد
و كان أخلائي يقولون مرحبا
فلما رأوني مقترا مات مرحب
[ 354 ]
فقال أخطأ الشاعر إن مرحبا لم يمت وإنما قتله علي بن أبي طالب ع وقال رجل لأعرابي كيف أهلك قال صلبا إن شاء الله . وكان مسلمة بن عبد الملك يعرض الجند فقال لرجل ما اسمك فقال عبد الله وخفض فقال ابن من فقال ابن عبد الله وفتح فأمر بضربه فجعل يقول سبحان الله ويضم فقال مسلمة ويحكم دعوه فإنه مجبول على اللحن والخطإ لو كان تاركا للحن في وقت لتركه وهو تحت السياط
[ 355 ](1/5285)
145
وَ قَالَ ع هَلَكَ اِمْرُؤٌ لَمْ يَعْرِفْ قَدْرَهُ هذه الكلمة من كلماته المعدودة وكتب النعمان بن عبد الله إلى القاسم بن عبيد الله كتابا يدل فيه بخدمته ويستزيد في رزقه فوقع على ظهره رحم الله امرأ عرف قدره أنت رجل قد أعجبتك نفسك فلست تعرفها فإن أحببت أن أعرفكها عرفتك فكتب إليه النعمان كنت كتبت إلى الوزير أعزه الله كتابا أستزيده في رزقي فوقع على ظهره توقيع ضجر لم يخرج فيه مع ضجره عما ألفته من حياطته وحسن نظره فقال إنه قد حدث لعبده عجب بنفسه وقد صدق أعلى الله قدره لقد شرفني الوزير بخدمته وأعلى ذكري بجميل ذكره ونبه على كفايتي باستكفائه ورفعني وكثرني عند نفسي فإن أعجبت فبنعمته عندي وجميل تطوله علي ولا عجب وهل خلا الوزير من قوم يصطنعهم بعد ملة ويرفعهم بعد خمول ويحدث لهم همما رفيعة وأنفسا عليه وفيهم شاكر وكفور وأرجو أن أكون أشكرهم للنعمة وأقومهم بحقها وقد أطال الله بقاءه إن عرف نفسه وإلا عرفناه إياها فما أنكرها وهي نفس أنشأتها نعمة الوزير وأحدثت فيها ما لم تزل تحدثه في نظرائها من سائر عبيده وخدمه والله يعلم ما يأخذ به نفسه من خدمة مولاه وولي نعمته إما عادة ودربة وإما تأدبا وهيبة وإما شكرا واستدامة للنعمة . فلما قرأ القاسم بن عبيد الله كتابه استحسنه وزاد في رزقه
[ 356 ](1/5286)
146
وَ قَالَ ع لِرَجُلٍ سَأَلَهُ أَنْ يَعِظَهُ لاَ تَكُنْ مِمَّنْ يَرْجُو اَلآْخِرَةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ وَ يَرْجُو اَلتَّوْبَةَ بِطُولِ اَلْأَمَلِ يَقُولُ فِي اَلدُّنْيَا بِقَوْلِ اَلزَّاهِدِينَ وَ يَعْمَلُ فِيهَا بِعَمَلِ اَلرَّاغِبِينَ إِنْ أُعْطِيَ مِنْهَا لَمْ يَشْبَعْ وَ إِنْ مُنِعَ مِنْهَا لَمْ يَقْنَعْ يَعْجِزُ عَنْ شُكْرِ مَا أُوتِيَ وَ يَبْتَغِي اَلزِّيَادَةَ فِيمَا بَقِيَ يَنْهَى وَ لاَ يَنْتَهِي وَ يَأْمُرُ اَلنَّاسَ بِمَا لَمْ يَأْتِ بِمَا لاَ يَأْتِي يُحِبُّ اَلصَّالِحِينَ وَ لاَ يَعْمَلُ عَمَلَهُمْ وَ يُبْغِضُ اَلْمُذْنِبِينَ وَ هُوَ أَحَدُهُمْ يَكْرَهُ اَلْمَوْتَ لِكَثْرَةِ ذُنُوبِهِ وَ يُقِيمُ عَلَى مَا يَكْرَهُ اَلْمَوْتَ مِنْ أَجَلِهِ إِنْ سَقِمَ ظَلَّ نَادِماً وَ إِنْ صَحَّ أَمِنَ لاَهِياً يُعْجَبُ بِنَفْسِهِ إِذَا عُوفِيَ وَ يَقْنَطُ إِذَا اُبْتُلِيَ وَ إِنْ أَصَابَهُ بَلاَءٌ دَعَا مُضْطَرّاً وَ إِنْ نَالَهُ رَخَاءٌ أَعْرَضَ مُغْتَرّاً تَغْلِبُهُ نَفْسُهُ عَلَى مَا يَظُنُّ وَ لاَ يَغْلِبُهَا عَلَى مَا يَسْتَيْقِنُ يَخَافُ عَلَى غَيْرِهِ بِأَدْنَى مِنْ ذَنْبِهِ وَ يَرْجُو لِنَفْسِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ عَمَلِهِ إِنِ اِسْتَغْنَى بَطِرَ وَ فُتِنَ وَ إِنِ اِفْتَقَرَ قَنِطَ وَ وَهَنَ يُقَصِّرُ إِذَا عَمِلَ وَ يُبَالِغُ إِذَا سَأَلَ إِنْ عَرَضَتْ لَهُ شَهْوَةٌ أَسْلَفَ اَلْمَعْصِيَةَ وَ سَوَّفَ اَلتَّوْبَةَ وَ إِنْ عَرَتْهُ مِحْنَةٌ اِنْفَرَجَ عَنْ شَرَائِطِ اَلْمِلَّةِ يَصِفُ اَلْعِبْرَةَ وَ لاَ يَعْتَبِرُ وَ يُبَالِغُ فِي اَلْمَوْعِظَةِ وَ لاَ يَتَّعِظُ فَهُوَ بِالْقَوْلِ مُدِلٌّ وَ مِنَ اَلْعَمَلِ مُقِلٌّ يُنَافِسُ فِيمَا يَفْنَى وَ يُسَامِحُ فِيمَا يَبْقَى يَرَى اَلْغُنْمَ مَغْرَماً وَ اَلْغُرْمَ مَغْنَماً يَخْشَى اَلْمَوْتَ وَ لاَ يُبَادِرُ اَلْفَوْتَ(1/5287)
يَسْتَعْظِمُ مِنْ مَعْصِيَةِ غَيْرِهِ مَا يَسْتَقِلُّ أَكْثَرَ مِنْهُ
[ 357 ]
مِنْ نَفْسِهِ وَ يَسْتَكْثِرُ مِنْ طَاعَتِهِ مَا يَحْقِرُهُ مِنْ طَاعَةِ غَيْرِهِ فَهُوَ عَلَى اَلنَّاسِ طَاعِنٌ وَ لِنَفْسِهِ مُدَاهِنٌ اَللَّغْوُ اَللَّهْوُ مَعَ اَلْأَغْنِيَاءِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ اَلذِّكْرِ مَعَ اَلْفُقَرَاءِ يَحْكُمُ عَلَى غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ وَ لاَ يَحْكُمُ عَلَيْهَا لِغَيْرِهِ يُرْشِدُ نَفْسَهُ وَ يُغْوِي غَيْرَهُ يُرْشِدُ غَيْرَهُ وَ يُغْوِي نَفْسَهُ فَهُوَ يُطَاعُ وَ يَعْصِي وَ يَسْتَوْفِي وَ لاَ يُوفِي وَ يَخْشَى اَلْخَلْقَ فِي غَيْرِ رَبِّهِ وَ لاَ يَخْشَى رَبَّهُ فِي خَلْقِهِ قال الرضي رحمه الله تعالى ولو لم يكن في هذا الكتاب إلا هذا الكلام لكفى به موعظة ناجعة وحكمة بالغة وبصيرة لمبصر وعبرة لناظر مفكر كثير من الناس يرجون الآخرة بغير عمل ويقولون رحمة الله واسعة ومنهم من يظن أن التلفظ بكلمتي الشهادة كاف في دخول الجنة ومنهم من يسوف نفسه بالتوبة ويرجئ الأوقات من اليوم إلى غد وقد يخترم على غرة فيفوته ما كان أمله وأكثر هذا الفصل للنهي عن أن يقول الإنسان واعظا لغيره ما لم يعلم هو من نفسه كقوله تعالى أَ تَأْمُرُونَ اَلنَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ . فأول كلمة قالها ع في هذا المعنى من هذا الفصل قوله يقول في الدنيا بقول الزاهدين ويعمل فيها بعمل الراغبين .
[ 358 ](1/5288)
ثم وصف صاحب هذا المذهب وهذه الطريقة فقال إنه إن أعطي من الدنيا لم يشبع لأن الطبيعة البشرية مجبولة على حب الازدياد وإنما يقهرها أهل التوفيق وأرباب العزم القوي . قال وإن منع منها لم يقنع بما كان وصل إليه قبل المنع . ثم قال يعجز عن شكر ما كان أنعم به عليه ليس يعني العجز الحقيقي بل المراد ترك الشكر فسمى ترك الشكر عجزا ويجوز أن يحمل على حقيقته أي أن الشكر على ما أولى من النعم لا تنتهي قدرته إليه أي نعم الله عليه أجل وأعظم من أن يقام بواجب شكرها . قال ويبتغي الزيادة فيما بقي هذا راجع إلى النحو الأول . قال ينهى ولا ينتهي ويأمر الناس بما لا يأتي هذا كما تقدم . قال يحب الصالحين ولا يعمل عملهم إلى قوله وهو أحدهم وهو المعنى الأول بعينه . قال يكره الموت لكثرة ذنوبه ويقيم على الذنوب وهذا من العجائب أن يكره إنسان شيئا ثم يقيم عليه ولكنه الغرور وتسويف النفس بالأماني . ثم قال إن سقم ظل نادما وإن صح أمن لاهيا فَإِذا رَكِبُوا فِي اَلْفُلْكِ دَعَوُا اَللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ الآيات . قال يعجب بنفسه إذا عوفي ويقنط إذا ابتلي فَأَمَّا اَلْإِنْسانُ إِذا مَا اِبْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَ أَمَّا إِذا مَا اِبْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ ومثل الكلمة الأخرى إن أصابه بلاء وإن ناله رخاء .
[ 359 ](1/5289)
ثم قال تغلبه نفسه على ما يظن ولا يغلبها على ما يستيقن هذه كلمة جليلة عظيمة يقول هو يستيقن الحساب والثواب والعقاب ولا يغلب نفسه على مجانبة ومتاركة ما يفضي به إلى ذلك الخطر العظيم وتغلبه نفسه على السعي إلى ما يظن أن فيه لذة عاجلة فوا عجبا ممن يترجح عنده جانب الظن على جانب العلم وما ذاك إلا لضعف يقين الناس وحب العاجل . ثم قال يخاف على غيره بأدنى من ذنبه ويرجو لنفسه أكثر من عمله ما يزال يرى الواحد منا كذلك يقول إني لخائف على فلان من الذنب الفلاني وهو مقيم على أفحش من ذلك الذنب ويرجو لنفسه النجاة بما لا تقوم أعماله الصالحة بالمصير إلى النجاة به نحو أن يكون يصلي ركعات في الليل أو يصوم أياما يسيرة في الشهر ونحو ذلك . قال إن استغنى بطر وفتن وإن افتقر قنط ووهن قنط بالفتح يقنط بالكسر قنوطا مثل جلس يجلس جلوسا ويجوز قنط يقنط بالضم مثل قعد يقعد وفيه لغة ثالثة قنط يقنط قنطا مثل تعب يتعب تعبا وقناطة فهو قنط وبه قرئ فَلا تَكُنْ مِنَ اَلْقانِطِينَ والقنوط اليأس ووهن الرجل يهن أي ضعف وهذا المعنى قد تكرر . قال يقصر إذا عمل ويبالغ إذا سئل هذا مثل ما
مدح به النبي ص الأنصار إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع . قال إن عرضت له شهوة أسلف المعصية وسوف التوبة وإن عرته محنة انفرج عن شرائط الملة هذا كما قيل أمدحه نقدا ويثيبني نسيئة وانفرج عن شرائط الملة قال أو فعل ما يقتضي الخروج عن الدين وهذا موجود في كثير من الناس إذا عرته المحن كفروا أو قال ما يقارب الكفر من التسخط والتبرم والتأفف .
[ 360 ](1/5290)
قال يصف العبرة ولا يعتبر ويبالغ في الموعظة ولا يتعظ هذا هو المعنى الأول . قال فهو بالقول مدل ومن العمل مقل هذا هو المعنى أيضا . قال ينافس فيما يفنى أي في شهوات الدنيا ولذاتها ويسامح فيما يبقى أي في الثواب . قال يرى الغنم مغرما والغرم مغنما هذا هو المعنى الذي ذكرناه آنفا . قال يخشى الموت ولا يبادر الفوت قد تكرر هذا المعنى في هذا الفصل . وكذلك قوله يستعظم من معصية غيره ما يستقل أكثر منه من نفسه . . . وإلى آخر الفصل كل مكرر المعنى وإن اختلفت الألفاظ وذلك لاقتداره ع على العبارة وسعة مادة النطق عنده
[ 361 ](1/5291)
147
وَ قَالَ ع لِكُلِّ اِمْرِئٍ عَاقِبَةٌ حُلْوَةٌ أَوْ مُرَّةٌ هكذا قرأناه ووجدناه في كثير من النسخ ووجدناه في كثير منها لكل أمر عاقبة وهو الأليق ومثل هذا المعنى قولهم في المثل لكل سائل قرار وقد أخذه الطائي فقال
فكانت لوعة ثم استقرت
كذلك لكل سائلة قرار
و قال الكميت في مثل هذا
فالآن صرت إلى أمية
و الأمور إلى مصاير
فأما الرواية الأولى وهي لكل امرئ فنظائرها في القرآن كثيرة نحو قوله تعالى يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ وقوله يَوْمَ يَتَذَكَّرُ اَلْإِنْسانُ ما سَعى وَ بُرِّزَتِ اَلْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى فَأَمَّا مَنْ طَغى وَ آثَرَ اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا فَإِنَّ اَلْجَحِيمَ هِيَ اَلْمَأْوى وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَى اَلنَّفْسَ عَنِ اَلْهَوى فَإِنَّ اَلْجَنَّةَ هِيَ اَلْمَأْوى وغير ذلك من الآيات
[ 362 ](1/5292)
148
وَ قَالَ ع اَلرَّاضِي بِفِعْلِ قَوْمٍ كَالدَّاخِلِ فِيهِ مَعَهُمْ وَ عَلَى كُلِّ دَاخِلٍ فِي بَاطِلٍ إِثْمَانِ إِثْمُ اَلْعَمَلِ بِهِ وَ إِثْمُ اَلرِّضَا اَلرِّضَى بِهِ لا فرق بين الرضا بالفعل وبين المشاركة فيه أ لا ترى أنه إذا كان ذلك الفعل قبيحا استحق الراضي به الذم كما يستحقه الفاعل له والرضا يفسر على وجهين الإرادة وترك الاعتراض فإن كان الإرادة فلا ريب أنه يستحق الذم لأن مريد القبيح فاعل للقبيح وإن كان ترك الاعتراض مع القدرة على الاعتراض فلا ريب أنه يستحق الذم أيضا لأن تارك النهي عن المنكر مع ارتفاع الموانع يستحق الذم . فأما قوله ع وعلى كل داخل في باطل إثمان فإن أراد الداخل فيه بأن يفعله حقيقة فلا شبهة في أنه يأثم من جهتين إحداهما من حيث إنه أراد القبيح . والأخرى من حيث إنه فعله وإن كان قوم من أصحابنا قالوا إن عقاب المراد هو عقاب الإرادة . وإن أراد أن الراضي بالقبيح فقط يستحق إثمين أحدهما لأنه رضي به والآخر لأنه كالفاعل فليس الأمر على ذلك لأنه ليس بفاعل للقبيح حقيقة ليستحق الإثم من جهة الإرادة ومن جهة الفعلية جميعا فوجب إذن أن يحمل كلامه ع على الوجه الأول
[ 363 ](1/5293)
149
وَ قَالَ ع لِكُلِّ مُقْبِلٍ إِدْبَارٌ وَ مَا أَدْبَرَ فَكَأَنْ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ هذا معنى قد استعمل كثيرا جدا فمنه المثل
ما طار طير وارتفع
إلا كما طار وقع
و قول الشاعر
بقدر العلو يكون الهبوط
و إياك والرتب العالية
و قال بعض الحكماء حركة الإقبال بطيئة وحركة الإدبار سريعة لأن المقبل كالصاعد إلى مرقاة ومرقاة المدبر كالمقذوف به من علو إلى أسفل قال الشاعر
في هذه الدار في هذا الرواق على
هذي الوسادة كان العز فانقرضا
آخر
إن الأمور إذا دنت لزوالها
فعلامة الإدبار فيها تظهر
و
في الخبر المرفوع كانت ناقة رسول الله ص العضباء لا تسبق فجاء أعرابي على قعود له فسبقها فاشتد على الصحابة ذلك فقال رسول الله ص إن حقا على الله ألا يرفع شيئا من هذه الدنيا إلا وضعه . وقال شيخ من همدان بعثني أهلي في الجاهلية إلى ذي الكلاع بهدايا فمكثت
[ 364 ]
تحت قصره حولا لا أصل إليه ثم أشرف إشرافة من كوة له فخر له من حول العرش سجدا ثم رأيته بعد ذلك بحمص فقيرا يشتري اللحم ويسمطه خلف دابته وهو القائل
أف لدنيا إذا كانت كذا
أنا منها في هموم وأذى
إن صفا عيش امرئ في صبحها
جرعته ممسيا كأس القذى
و لقد كنت إذا ما قيل من
أنعم العالم عيشا قيل ذا
و قال بعض الأدباء في كلام له بينا هذه الدنيا ترضع بدرتها وتصرح بزبدتها وتلحف فضل جناحها وتغر بركود رياحها إذ عطفت عطف الضروس وصرخت صراخ الشموس وشنت غارة الهموم وأراقت ما حلبت من النعيم فالسعيد من لم يغتر بنكاحها واستعد لو شك طلاقها شاعر هو إهاب بن همام بن صعصعة المجاشعي وكان عثمانيا
لعمر أبيك فلا تكذبن
لقد ذهب الخير إلا قليلا
و قد فتن الناس في دينهم
و خلى ابن عفان شرا طويلا
و قال أبو العتاهية
يعمر بيت بخراب بيت
يعيش حي بتراث ميت
و(1/5294)
قال أنس بن مالك ما من يوم ولا ليلة ولا شهر ولا سنة إلا والذي قبله خير منه سمعت ذلك من نبيكم ع فقال شاعر
رب يوم بكيت منه فلما
صرت في غيره بكيت عليه
[ 365 ]
قيل لبعض عظماء الكتاب بعد ما صودر ما تفكر في زوال نعمتك فقال لا بد من الزوال فلان تزول وأبقى خير من أن أزول وتبقى . ومن كلام الجاهلية الأولى كل مقيم شاخص وكل زائد ناقص . شاعر
إنما الدنيا دول
فراحل قيل نزل
إذ نازل قيل رحل
لما فتح خالد بن الوليد عين التمر سأل عن الحرقة بنت النعمان بن المنذر فأتاها وسألها عن حالها فقالت لقد طلعت علينا الشمس وما من شي ء يدب تحت الخورنق إلا وهو تحت أيدينا ثم غربت وقد رحمنا كل من نلم به وما بيت دخلته حبرة إلا ستدخله عبرة ثم قالت
فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا
إذا نحن فيهم سوقة نتنصف
فأف لدنيا لا يدوم نعيمها
تقلب تارات بنا وتصرف
و جاءها سعد بن أبي وقاص مرة فلما رآها قال قاتل الله عدي بن زيد كأنه كان ينظر إليها حيث قال لأبيها
إن للدهر صرعة فاحذرنها
لا تبيتن قد أمنت الدهورا
قد يبيت الفتى معافى فيردى
و لقد كان آمنا مسرورا
و قال مطرف بن الشخير لا تنظروا إلى خفض عيش الملوك ولين رياشهم ولكن انظروا إلى سرعة ظعنهم وسوء منقلبهم وإن عمرا قصيرا يستوجب به صاحبه النار لعمر مشئوم على صاحبه . لما قتل عامر بن إسماعيل مروان بن محمد وقعد على فراشه قالت ابنة مروان له يا عامر إن دهرا أنزل مروان عن فرشه وأقعدك عليها لمبلغ في عظتك إن عقلت
[ 366 ](1/5295)
150
وَ قَالَ ع لاَ يَعْدَمُ اَلصَّبُورُ اَلظَّفَرَ وَ إِنْ طَالَ بِهِ اَلزَّمَانُ قد تقدم كلامنا في الصبر . وقالت الحكماء الصبر ضربان جسمي ونفسي فالجسمي تحمل المشاق بقدر القوة البدنية وليس ذلك بفضيلة تامة ولذلك قال الشاعر
و الصبر بالأرواح يعرف فضله
صبر الملوك وليس بالأجسام
و هذا النوع إما في الفعل كالمشي ورفع الحجر أو في رفع الانفعال كالصبر على المرض واحتمال الضرب المفظع وإما النفسي ففيه تتعلق الفضيلة وهو ضربان صبر عن مشتهى ويقال له عفة وصبر على تحمل مكروه أو محبوب وتختلف أسماؤه بحسب اختلاف مواقعة فإن كان في نزول مصيبة لم يتعد به اسم الصبر ويضاده الجزع والهلع والحزن وإن كان في احتمال الغنى سمي ضبط النفس ويضاده البطر والأشر والرفغ وإن كان في محاربة سمي شجاعة ويضاده الجبن وإن كان في إمساك النفس عن قضاء وطر الغضب سمي حلما ويضاده التذمر والاستشاطة وإن كان في نائبة مضجرة سمي سعة صدر ويضاده الضجر وضيق العطن والتبرم وإن كان في إمساك كلام في الضمير سمي كتمان السر ويضاده الإفشاء وإن كان عن فضول العيش سمي قناعة وزهدا ويضاده الحرص والشره فهذه كلها أنواع الصبر ولكن اللفظ العرفي واقع على الصبر الجسماني وعلى ما يكون في نزول المصائب وتنفرد باقي الأنواع بأسماء تخصها
[ 367 ](1/5296)
151
وَ قَالَ ع مَا اِخْتَلَفَتْ دَعْوَتَانِ إِلاَّ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا ضَلاَلَةً هذا عند أصحابنا مختص باختلاف الدعوة في أصول الدين ويدخل في ذلك الإمامة لأنها من أصول الدين ولا يجوز أن يختلف قولان متضادان في أصول الدين فيكونا صوابا لأنه إن عني بالصواب مطابقة الاعتقاد للخارج فمستحيل أن يكون الشي ء في نفسه ثابتا منفيا وإن أراد بالصواب سقوط الإثم كما يحكى عن عبيد بن الحسن العنبري فإنه جعل اجتهاد المجتهدين في الأصول عذرا فهو قول مسبوق بالإجماع . ولا يحمل أصحابنا كلام أمير المؤمنين ع على عمومه لأن المجتهدين في فروع الشريعة وإن اختلفوا وتضادت أقوالهم ليسوا ولا واحد منهم على ضلال وهذا مشروح في كتبنا الكلامية في أصول الفقه
[ 368 ](1/5297)
152
وَ قَالَ ع مَا كَذَبْتُ وَ لاَ كُذِبْتُ وَ لاَ ضَلَلْتُ وَ لاَ ضُلَّ بِي هذه كلمة قد قالها مرارا إحداهن في وقعة النهروان . وكذبت بالضم أخبرت بخبر كاذب أي لم يخبرني رسول الله ص عن المخدج خبرا كاذبا لأن أخباره ص كلها صادقة . وضل بي بالضم نحو ذلك أي لم يضللني مضلل عن الصدق والحق لأنه كان يستند في أخباره عن الغيوب إلى رسول الله ص وهو منزه عن إضلاله وإضلال أحد من المكلفين . فكأنه قال لما أخبرهم عن المخدج وإبطاء ظهوره لهم أنا لم أكذب على رسول الله ص ورسول الله ص لا يكذب فيما أخبرني بوقوعه فإذا لا بد من ظفركم بالمخدج فاطلبوه
[ 369 ](1/5298)
153
وَ قَالَ ع لِلظَّالِمِ اَلْبَادِي غَداً بِكَفِّهِ عَضَّةٌ هذا من قوله تعالى وَ يَوْمَ يَعَضُّ اَلظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ وإنما قال للبادي لأن من انتصر بعد ظلمه فلا سبيل عليه ومن أمثالهم البادي أظلم . فإن قلت فإذا لم يكن باديا لم يكن ظالما فأي حاجة له إلى الاحتراز بقوله البادي قلت لأن العرب تطلق على ما يقع في مقابلة الظلم اسم الظلم أيضا كقوله تعالى وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها
[ 370 ](1/5299)
154
وَ قَالَ ع اَلرَّحِيلُ وَشِيكٌ الوشيك السريع وأراد بالرحيل هاهنا الرحيل عن الدنيا وهو الموت . وقال بعض الحكماء قبل وجود الإنسان عدم لا أول له وبعده عدم لا آخر له وما شبهت وجوده القليل المتناهي بين العدمين غير المتناهيين إلا ببرق يخطف خطفة خفيفة في ظلام معتكر ثم يخمد ويعود الظلام كما كان
[ 371 ](1/5300)
155
وَ قَالَ ع مَنْ أَبْدَى صَفْحَتَهُ لِلْحَقِّ هَلَكَ قد تقدم تفسيرنا لهذه الكلمة في أول الكتاب ومعناها من نابذ الله وحاربه هلك يقال لمن خالف وكاشف قد أبدى صفحته
[ 372 ](1/5301)
156
وَ قَالَ ع اِعْتَصِمُوا اِسْتَعْصِمُوا بِالذِّمَمِ فِي أَوْتَارِهَا أَوْتَادِهَا أي في مظانها وفي مركزها أي لا تستندوا إلى ذمام الكافرين والمارقين فإنهم ليسوا أهلا للاستعصام بذممهم كما قال الله تعالى لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَ لا ذِمَّةً وقال إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ . وهذه كلمة قالها بعد انقضاء أمر الجمل وحضور قوم من الطلقاء بين يديه ليبايعوه منهم مروان بن الحكم فقال وما ذا أصنع ببيعتك أ لم تبايعني بالأمس يعني بعد قتل عثمان ثم أمر بإخراجهم ورفع نفسه عن مبايعة أمثالهم وتكلم بكلام ذكر فيه ذمام العربية وذمام الإسلام وذكر أن لا دين له فلا ذمام له . ثم قال في أثناء الكلام فاستعصموا بالذمم في أوتارها أي إذا صدرت عن ذوي الدين فمن لا دين له لا عهد له
[ 373 ](1/5302)
157
وَ قَالَ ع عَلَيْكُمْ بِطَاعَةِ مَنْ لاَ تُعْذَرُونَ فِي جَهَالَتِهِ بِجَهَالَتِهِ يعني نفسه ع وهو حق على المذهبين جميعا أما نحن فعندنا أنه إمام واجب الطاعة بالاختبار فلا يعذر أحد من المكلفين في الجهل بوجوب طاعته وأما على مذهب الشيعة فلأنه إمام واجب الطاعة بالنص فلا يعذر أحد من المكلفين في جهالة إمامته وعندهم أن معرفة إمامته تجري مجرى معرفة محمد ص ومجرى معرفة البارئ سبحانه ويقولون لا تصح لأحد صلاة ولا صوم ولا عبادة إلا بمعرفة الله والنبي والإمام . وعلى التحقيق فلا فرق بيننا وبينهم في هذا المعنى لأن من جهل إمامة علي ع وأنكر صحتها ولزومها فهو عند أصحابنا مخلد في النار لا ينفعه صوم ولا صلاة لأن المعرفة بذلك من الأصول الكلية التي هي أركان الدين ولكنا لا نسمي منكر إمامته كافرا بل نسميه فاسقا وخارجيا ومارقا ونحو ذلك والشيعة تسميه كافرا فهذا هو الفرق بيننا وبينهم وهو في اللفظ لا في المعنى
[ 374 ](1/5303)
158
وَ قَالَ ع مَا شَكَكْتُ فِي اَلْحَقِّ مُنْذُ مُذْ أُرِيتُهُ أي منذ أعلمته ويجب أن يقدر هاهنا مفعول محذوف أي منذ أريته حقا لأن أرى يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل تقول أرى الله زيدا عمرا خير الناس فإذا بنيته للمفعول به قام واحد من الثلاثة مقام الفاعل ووجب أن يؤتى بمفعولين غيره تقول أريت زيدا خير الناس وإن كان أشار بالحق إلى أمر مشاهد بالبصر لم يحتج إلى ذلك ويجوز أن يعني بالحق الله سبحانه وتعالى لأن الحق من أسمائه عز وجل فيقول منذ عرفت الله لم أشك فيه وتكون الرؤية بمعنى المعرفة فلا يحتاج إلى تقدير مفعول آخر وذلك مثل قوله تعالى وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اَللَّهُ يَعْلَمُهُمْ أي لا تعرفونهم الله يعرفهم والمراد من هذا الكلام ذكر نعمة الله عليه في أنه منذ عرف الله سبحانه لم يشك فيه أو منذ عرف الحق في العقائد الكلامية والأصولية والفقهية لم يشك في شي ء منها وهذه مزية له ظاهرة على غيره من الناس فإن أكثرهم أو كلهم يشك في الشي ء بعد أن عرفه وتعتوره الشبه والوساوس ويران على قلبه وتختلجه الشياطين عما أدى إليه نظره .
[ 375 ]
و
قد روي أن النبي ص لما بعثه إلى اليمن قاضيا ضرب على صدره وقال اللهم اهد قلبه وثبت لسانه فكان يقول ما شككت بعدها في قضاء بين اثنين و
روي أن رسول الله ص لما قرأ وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ قال اللهم اجعلها أذن علي وقيل له قد أجيبت دعوتك
[ 376 ](1/5304)
159
وَ قَالَ ع وَ قَدْ بُصِّرْتُمْ إِنْ أَبْصَرْتُمْ وَ قَدْ هُدِيتُمْ إِنِ اِهْتَدَيْتُمْ وَ أُسْمِعْتُمْ إِنِ اِسْتَمَعْتُمْ قال الله تعالى وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا اَلْعَمى عَلَى اَلْهُدى . وقال سبحانه وَ هَدَيْناهُ اَلنَّجْدَيْنِ . وقال بعض الصالحين ألا إنهما نجدا الخير والشر فجعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير . قلت النجد الطريق . واعلم أن الله تعالى قد نصب الأدلة ومكن المكلف بما أكمل له من العقل من الهداية فإذا ضل فمن قبل نفسه أتى . وقال بعض الحكماء الذي لا يقبل الحكمة هو الذي ضل عنها ليست هي الضالة عنه . وقال متى أحسست بأنك قد أخطأت وأردت ألا تعود أيضا فتخطئ فانظر إلى أصل في نفسك حدث عنه ذلك الخطأ فاحتل في قلعه وذلك أنك إن لم تفعل ذلك عاد فثبت خطأ آخر وكان يقال كما أن البدن الخالي من النفس تفوح منه رائحة النتن كذلك النفس الخالية من الحكمة وكما أن البدن الخالي من النفس ليس يحس ذلك بالبدن
[ 377 ]
بل الذين لهم حس يحسونه به كذلك النفس العديمة للحكمة ليس تحس به تلك النفس بل يحس به الحكماء وقيل لبعض الحكماء ما بال الناس ضلوا عن الحق أ تقول إنهم لم تخلق فيهم قوة معرفة فقال لا بل خلق لهم ذلك ولكنهم استعملوا تلك القوة على غير وجهها وفي غير ما خلقت له كالسم تدفعه إلى إنسان ليقتل به عدوه فيقتل به نفسه
[ 378 ](1/5305)
160
وَ قَالَ ع عَاتِبْ أَخَاكَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ وَ اُرْدُدْ شَرَّهُ بِالْإِنْعَامِ عَلَيْهِ الأصل في هذا قول الله تعالى اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا اَلَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وروى المبرد في الكامل عن ابن عائشة عن رجل من أهل الشام قال دخلت المدينة فرأيت رجلا راكبا على بغلة لم أر أحسن وجها ولا ثوبا ولا سمتا ولا دابة منه فمال قلبي إليه فسألت عنه فقيل هذا الحسن بن الحسن بن علي فامتلأ قلبي له بغضا وحسدت عليا أن يكون له ابن مثله فصرت إليه وقلت له أنت ابن أبي طالب فقال أنا ابن ابنه قلت فبك وبأبيك فلما انقضى كلامي قال أحسبك غريبا قلت أجل قال فمل بنا فإن احتجت إلى منزل أنزلناك أو إلى مال واسيناك أو إلى حاجة عاوناك . فانصرفت عنه وما على الأرض أحد أحب إلي منه . وقال محمود الوراق
إني شكرت لظالمي ظلمي
و غفرت ذاك له على علم
و رأيته أهدى إلي يدا
لما أبان بجهله حلمي
رجعت إساءته عليه و
إحساني فعاد مضاعف الجرم
[ 379 ]
و غدوت ذا أجر ومحمدة
و غدا بكسب الظلم والإثم
فكأنما الإحسان كان له
و أنا المسي ء إليه في الحكم
ما زال يظلمني وأرحمه
حتى بكيت له من الظلم
قال المبرد أخذ هذا المعنى من قول رجل من قريش قال له رجل منهم إني مررت بآل فلان وهم يشتمونك شتما رحمتك منه قال أ فسمعتني أقول إلا خيرا قال لا قال إياهم فارحم . وقال رجل لأبي بكر لأشتمنك شتما يدخل معك قبرك فقال معك والله يدخل لا معي
[ 380 ](1/5306)
161
وَ قَالَ ع مَنْ وَضَعَ نَفْسَهُ مَوَاضِعَ اَلتُّهَمَةِ فَلاَ يَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ بِهِ اَلظَّنَّ
رأى بعض الصحابة رسول الله ص واقفا في درب من دروب المدينة ومعه امرأة فسلم عليه فرد عليه فلما جاوزه ناداه فقال هذه زوجتي فلانة قال يا رسول الله أ وفيك يظن فقال إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم و
جاء في الحديث المرفوع دع ما يريبك إلى ما لا يريبك و
قال أيضا لا يكمل إيمان عبد حتى يترك ما لا بأس به . وقد أخذ هذا المعنى شاعر فقال
و زعمت أنك لا تلوط فقل لنا
هذا المقرطق واقفا ما يصنع
شهدت ملاحته عليك بريبة
و على المريب شواهد لا تدفع
[ 381 ](1/5307)
162
وَ قَالَ ع مَنْ مَلَكَ اِسْتَأْثَرَ المعنى أن الأغلب في كل ملك يستأثر على الرعية بالمال والعز والجاه . ونحو هذا المعنى قولهم من غلب سلب ومن عز بز . ونحوه قول أبي الطيب
و الظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذا عفة فلعلة لا يظلم
[ 382 ](1/5308)
163
وَ قَالَ ع مَنِ اِسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ هَلَكَ وَ مَنْ شَاوَرَ اَلرِّجَالَ شَارَكَهَا فِي عُقُولِهَا قد تقدم لنا قول كاف في المشورة مدحا وذما وكان عبد الملك بن صالح الهاشمي يذمها ويقول ما استشرت واحدا قط إلا تكبر علي وتصاغرت له ودخلته العزة ودخلتني الذلة فإياك والمشورة وإن ضاقت عليك المذاهب واشتبهت عليك المسائل وأداك الاستبداد إلى الخطإ الفادح . وكان عبد الله بن طاهر يذهب إلى هذا المذهب ويقول ما حك جلدك مثل ظفرك ولأن أخطئ مع الاستبداد ألف خطإ أحب إلي من أن أستشير وأرى بعين النقص والحاجة . وكان يقال الاستشارة إذاعة السر ومخاطرة بالأمر الذي ترومه بالمشاورة فرب مستشار أذاع عنك ما كان فيه فساد تدبيرك . وأما المادحون للمشورة فكثير جدا وقالوا خاطر من استبد برأيه . وقالوا المشورة راحة لك وتعب على غيرك . وقالوا من أكثر من المشورة لم يعدم عند الصواب مادحا وعند الخطإ عاذرا .
[ 383 ]
و قالوا المستشير على طرف النجاح والاستشارة من عزم الأمور . وقالوا المشورة لقاح العقول ورائد الصواب . ومن ألفاظهم البديعة ثمرة رأي المشير أحلى من الأري المشور . وقال بشار
إذا بلغ الرأي النصيحة فاستعن
بعزم نصيح أو مشورة حازم
و لا تجعل الشورى عليك غضاضة
فإن الخوافي عدة للقوادم
[ 384 ](1/5309)
164
وَ قَالَ ع مَنْ كَتَمَ سِرَّهُ كَانَتِ اَلْخِيَرَةُ فِي يَدِهِ بِيَدِهِ قد تقدم القول في السر والأمر بكتمانه ونذكر هاهنا أشياء أخر . من أمثالهم مقتل الرجل بين لحييه . دنا رجل من آخر فساره فقال إن من حق السر التداني . كان مالك بن مسمع إذا ساره إنسان قال له أظهره فلو كان فيه خير لما كان مكتوما . حكيم يوصي ابنه يا بني كن جوادا بالمال في موضع الحق ضنينا بالإسرار عن جميع الخلق فإن أحمد جود المرء الإنفاق في وجه البر . ومن كلامهم سرك من دمك فإذا تكلمت به فقد أرقته . وقال الشاعر
فلا تفش سرك إلا إليك
فإن لكل نصيح نصيحا
أ لم تر أن غواة الرجال
لا يتركون أديما صحيحا
و قال عمر بن عبد العزيز القلوب أوعية الأسرار والشفاه أقفالها والألسن مفاتيحها فليحفظ كل امرئ مفتاح سره .
[ 385 ]
و قال بعض الحكماء من أفشى سره كثر عليه المتآمرون . أسر رجل إلى صديق سرا ثم قال له أ فهمت قال له بل جهلت قال أ حفظت قال بل نسيت . وقيل لرجل كيف كتمانك السر قال أجحد المخبر وأحلف للمستخبر . أنشد الأصمعي قول الشاعر
إذا جاوز الاثنين سر فإنه
بنث وتكثير الوشاة قمين
فقال والله ما أراد بالاثنين إلا الشفتين
[ 386 ](1/5310)
165
وَ قَالَ ع اَلْفَقْرُ اَلْمَوْتُ اَلْأَكْبَرُ
في الحديث المرفوع أشقى الأشقياء من جمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة . وأتى بزرجمهر فقير جاهل فقال بئسما اجتمع على هذا البائس فقر ينقص دنياه وجهل يفسد آخرته . شاعر
خلق المال واليسار لقوم
و أراني خلقت للإملاق
أنا فيما أرى بقية قوم
خلقوا بعد قسمة الأرزاق
أخذ السيواسي هذا المعنى فقال في قصيدته الطويلة المعروفة بالساسانية
ليت شعري لما بدا يقسم
الأرزاق في أي مطبق كنت
قرئ على أحد جانبي دينار
قرنت بالنجح وبي كل ما
يراد من ممتنع يوجد
و على الجانب الآخر
و كل من كنت له آلفا
فالإنس والجن له أعبد
[ 387 ]
و قال أبو الدرداء من حفظ ماله فقد حفظ الأكثر من دينه وعرضه . بعضهم
و إذا رأيت صعوبة في مطلب
فاحمل صعوبته على الدينار
تردده كالظهر الذلول فإنه
حجر يلين قوة الأحجار
و من دعاء السلف اللهم إني أعوذ بك من ذل الفقر وبطر الغنى
[ 388 ](1/5311)
166
وَ قَالَ ع مَنْ قَضَى حَقَّ مَنْ لاَ يَقْضِي حَقَّهُ فَقَدْ عَبَّدَهُ عَبَدَهُ عبده بالتشديد أي اتخذه عبدا يقال عبده واستعبده بمعنى واحد والمعني بهذا الكلام مدح من لا يقضي حقه أي من فعل ذلك بإنسان فقد استعبد ذلك الإنسان لأنه لم يفعل معه ذلك مكافاة له عن حق قضاه إياه بل فعل ذلك إنعاما مبتدأ فقد استعبده بذلك . وقال الشاعر في نقيض هذه الحال يخاطب صاحبا له
كن كأن لم تلاقني قط في الناس
و لا تجعلن ذكراي شوقا
و تيقن بأنني غير راء
لك حقا حتى ترى لي حقا
و بأني مفوق ألف سهم
لك إن فوقت يمينك فوقا
[ 389 ](1/5312)
167
وَ قَالَ ع لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اَلْخَالِقِ هذه الكلمة قد رويت مرفوعة و
قد جاء في كلام أبي بكر أطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم وقال معاوية لشداد بن أوس قم فاذكر عليا فانتقصه فقام شداد فقال الحمد لله الذي افترض طاعته على عباده وجعل رضاه عند أهل التقوى آثر من رضا غيره على ذلك مضى أولهم وعليه مضى آخرهم أيها الناس إن الآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك قاهر وإن الدنيا أكل حاضر يأكل منها البر والفاجر وإن السامع المطيع لله لا حجة عليه وإن السامع العاصي لله لا حجة له وإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وإذا أراد الله بالناس خيرا استعمل عليهم صلحاءهم وقضى بينهم فقهاؤهم وجعل المال في سمحائهم وإذا أراد بالعباد شرا عمل عليهم سفهاؤهم وقضى بينهم جهلاؤهم وجعل المال عند بخلائهم وإن من إصلاح الولاة أن تصلح قرناءها ثم التفت إلى معاوية فقال نصحك يا معاوية من أسخطك بالحق وغشك من أرضاك بالباطل فقطع معاوية عليه كلامه وأمر بإنزاله ثم لاطفه وأمر له بمال فلما قبضه قال أ لست من السمحاء الذين ذكرت فقال إن كان لك مال غير مال المسلمين أصبته حلالا وأنفقته إفضالا فنعم وإن كان مال المسلمين احتجبته دونهم أصبته اقترافا وأنفقته إسرافا فإن الله يقول إِنَّ اَلْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ اَلشَّياطِينِ
[ 390 ](1/5313)
168
وَ قَالَ ع لاَ يُعَابُ اَلْمَرْءُ بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ إِنَّمَا يُعَابُ مَنْ أَخَذَ مَا لَيْسَ لَهُ لعل هذه الكلمة قالها في جواب سائل سأله لم أخرت المطالبة بحقك من الإمامة ولا بد من إضمار شي ء في الكلام على قولنا وقول الإمامية لأنا نحن نقول الأمر حقه بالأفضلية وهم يقولون إنه حقه بالنص وعلى كلا التقديرين فلا بد من إضمار شي ء في الكلام لأن لقائل أن يقول له ع لو كان حقك من غير أن يكون للمكلفين فيه نصيب لجاز ذلك أن يؤخر كالدين الذي يستحق على زيد يجوز لك أن تؤخره لأنه خالص لك وحدك فأما إذا كان للمكلفين فيه حاجة ماسة لم يكن حقك وحدك لأن مصالح المكلفين منوطة بإمامتك دون إمامة غيرك فكيف يجوز لك تأخير ما فيه مصلحة المكلفين فإذن لا بد من إضمار شي ء في الكلام وتقديره لا يعاب المرء بتأخير حقه إذا كان هناك مانع عن طلبه ويستقيم المعنى حينئذ على المذهبين جميعا لأنه إذا كان هناك مانع جاز تقديم غيره عليه وجاز له أن يؤخر طلب حقه خوف الفتنة والكلام في هذا الموضع مستقصى في تصانيفنا في علم الكلام
[ 391 ](1/5314)
169
وَ قَالَ ع اَلْإِعْجَابُ يَمْنَعُ مِنَ اَلاِزْدِيَادِ اَلاِزْدِيَادَ قد تقدم لنا قول مقنع في العجب وإنما قال ع يمنع من الازدياد لأن المعجب بنفسه ظان أنه قد بلغ الغرض وإنما يطلب الزيادة من يستشعر التقصير لا من يتخيل الكمال وحقيقة العجب ظن الإنسان بنفسه استحقاق منزلة هو غير مستحق لها ولهذا قال بعضهم لرجل رآه معجبا بنفسه يسرني أن أكون عند الناس مثلك في نفسك وأن أكون عند نفسي مثلك عند الناس فتمنى حقيقة ما يقدره ذلك الرجل ثم تمنى أن يكون عارفا بعيوب نفسه كما يعرف الناس عيوب ذلك الرجل المعجب بنفسه . و
قيل للحسن من شر الناس قال من يرى أنه خيرهم . وقال بعض الحكماء الكاذب في نهاية البعد من الفضل والمرائي أسوأ حالا من الكاذب لأنه يكذب فعلا وذاك يكذب قولا والفعل آكد من القول فأما المعجب بنفسه فأسوأ حالا منهما لأنهما يريان نقص أنفسهما ويريدان إخفاءه والمعجب بنفسه قد عمي عن عيوب نفسه فيراها محاسن ويبديها . وقال هذا الحكيم أيضا ثم إن المرائي والكاذب قد ينتفع بهما كملاح خاف
[ 392 ]
ركابه الغرق من مكان مخوف من البحر فبشرهم بتجاوزه قبل أن يتجاوزه لئلا يضطربوا فيتعجل غرقهم . وقد يحمد رياء الرئيس إذا قصد أن يقتدى به في فعل الخير والمعجب لا حظ له في سبب من أسباب المحمدة بحال . وأيضا فلأنك إذا وعظت الكاذب والمرائي فنفسهما تصدقك وتثلبهما لمعرفتهما بنفسهما والمعجب فلجهله بنفسه يظنك في وعظه لاغيا فلا ينتع بمقالك وإلى هذا المعنى أشار سبحانه بقوله أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً ثم قال سبحانه فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ تنبيها على أنهم لا يعقلون لإعجابهم . و(1/5315)
قال ع ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه . وفي المثل إن إبليس قال إذا ظفرت من ابن آدم بثلاث لم أطالبه بغيرها إذا أعجب بنفسه واستكثر عمله ونسي ذنوبه . وقالت الحكماء كما أن المعجب بفرسه لا يروم أن يستبدل به غيره كذلك المعجب بنفسه لا يريد بحاله بدلا وإن كانت رديئة . وأصل الإعجاب من حب الإنسان لنفسه و
قد قال ع حبك الشي ء يعمي ويصم ومن عمي وصم تعذر عليه رؤية عيوبه وسماعها فلذلك وجب على الإنسان أن يجعل على نفسه عيونا تعرفه عيوبه نحو ما قال عمر أحب الناس إلي امرؤ أهدى إلي عيوبي . ويجب على الإنسان إذا رأى من غيره سيئة أن يرجع إلى نفسه فإن رأى ذلك
[ 393 ]
موجودا فيها نزعها ولم يغفل عنها فما أحسن ما قال المتنبي
و من جهلت نفسه قدره
رأى غيره منه ما لا يرى
و أما التيه وماهيته فهو قريب من العجب لكن المعجب يصدق نفسه وهما فيما يظن بها والتياه يصدقها قطعا كأنه متحير في تيه ويمكن أن يفرق بينهما بأمر آخر ويقول إن المعجب قد يعجب بنفسه ولا يؤذي أحدا بذلك الإعجاب والتياه يضم إلى الإعجاب الغض من الناس والترفع عليهم فيستلزم ذلك الأذى لهم فكل تائه معجب وليس كل معجب تائها
[ 394 ](1/5316)
170
وَ قَالَ ع اَلْأَمْرُ قَرِيبٌ وَ اَلاِصْطِحَابُ قَلِيلٌ هذه الكلمة تذكر بالموت وسرعة زوال الدنيا وقال أبو العلاء
نفسي وجسمي لما استجمعا صنعا
شرا إلى فجل الواحد الصمد
فالجسم يعذل فيه النفس مجتهدا
و تلك تزعم أن الظالم الجسد
إذا هما بعد طول الصحبة افترقا
فإن ذاك لأحداث الزمان يد
و أصبح الجوهر الحساس في محن
موصولة واستراح الآخر الجمد
[ 395 ](1/5317)
171
وَ قَالَ ع قَدْ أَضَاءَ اَلصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ هذا الكلام جار مجرى المثل ومثله
و الشمس لا تخفى عن الأبصار
و مثله
إن الغزالة لا تخفى عن البصر
و قال ابن هانئ يمدح المعتز
فاستيقظوا من رقدة وتنبهوا
ما بالصباح عن العيون خفاء
ليست سماء الله ما ترونها
لكن أرضا تحتويه سماء
[ 396 ](1/5318)
172
وَ قَالَ ع تَرْكُ اَلذَّنْبِ أَهْوَنُ مِنْ طَلَبِ اَلتَّوْبَةِ اَلْمَعُونَةِ هذا حق لأن ترك الذنب هو الإحجام عنه وهذا سهل على من يعرف أثر الذنب على ما ذا يكون وهو أسهل من أن يواقع الإنسان الذنب ثم يطلب التوبة فقد لا يخلص داعيه إليها ثم لو خلص فكيف له بحصوله على شروطها وهي أن يندم على القبيح لأنه قبيح لا لخوف العقاب ولا لرجاء الثواب ثم لا يكفيه أن يتوب من الزنا وحده ولا من شرب الخمر وحده بل لا تصح توبته حتى تكون عامة شاملة لكل القبائح فيندم على ما قال ويود أنه لم يفعل ويعزم على ألا يعاود معصية أصلا وإن نقض التوبة عادت عليه الآثام القديمة والعقاب المستحق ولا الذي كان سقط بالتوبة على رأي كثير من أرباب علم الكلام ولا ريب أن ترك الذنب من الابتداء أسهل من طلب توبة هذه صفتها . وهذا الكلام جار مجرى المثل يضرب لمن يشرع في أمر يخاطر فيه ويرجو أن يتخلص منه فيما بعد بوجه من الوجوه
[ 397 ](1/5319)
173
وَ قَالَ ع كَمْ مِنْ أَكْلَةٍ تَمْنَعُ مَنَعَتْ أَكَلاَتٍ أخذ هذا المعنى بلفظه الحريري فقال في المقامات رب أكلة هاضت الآكل ومنعته مآكل وأخذه أبو العلاف الشاعر فقال في سنوره الذي يرثيه
أردت أن تأكل الفراخ ولا
يأكلك الدهر أكل مضطهد
يا من لذيذ الفراخ أوقعه
ويحك هلا قنعت بالقدد
كم أكلة خامرت حشا شره
فأخرجت روحه من الجسد(1/5320)
نوادر المكثرين من الأكل
و كان ابن عياش المنتوف يمازح المنصور أبا جعفر فيحتمله على أنه كان جدا كله فقدم المنصور لجلسائه يوما بطة كثيرة الدهن فأكلوا وجعل يأمرهم بالازدياد من الأكل لطيبها فقال ابن عياش قد علمت غرضك يا أمير المؤمنين إنما تريد أن ترميهم منها بالحجاب يعني الهيضة فلا يأكلوا إلى عشرة أيام شيئا . وفي المثل أكلة أبي خارجة وقال أعرابي وهو يدعو الله بباب الكعبة اللهم
[ 398 ]
ميتة كميتة أبي خارجة فسألوه فقال أكل بذجا وهو الحمل وشرب وطبا من اللبن ويروى من النبيذ وهو كالحوض من جلود ينبذ فيه ونام في الشمس فمات فلقي الله تعالى شبعان ريان دفيئا . والعرب تعير بكثرة الأكل وتعيب بالجشع والشره والنهم وقد كان فيهم قوم موصوفون بكثرة الأكل منهم معاوية قال أبو الحسن المدائني في كتاب الأكلة كان يأكل في اليوم أربع أكلات أخراهن عظماهن ثم يتعشى بعدها بثريدة عليها بصل كثير ودهن كثير قد شغلها وكان أكله فاحشا يأكل فيلطخ منديلين أو ثلاثة قبل أن يفرغ وكان يأكل حتى يستلقي ويقول يا غلام ارفع فلأني والله ما شبعت ولكن مللت . وكان عبيد الله بن زياد يأكل في اليوم خمس أكلات أخراهن خبية بعسل ويوضع بين يديه بعد أن يفرغ الطعام عناق أو جدي فيأتي عليه وحده . وكان سليمان بن عبد الملك المصيبة العظمى في الأكل دخل إلى الرافقة فقال لصاحب طعامه أطعمنا اليوم من خرفان الرافقة ودخل الحمام فأطال ثم خرج فأكل ثلاثين خروفا بثمانين رغيفا ثم قعد على المائدة فأكل مع الناس كأنه لم يأكل شيئا . وقال الشمردل وكيل آل عمرو بن العاص قدم سليمان الطائف وقد عرفت استجاعته فدخل هو وعمر بن عبد العزيز وأيوب ابنه إلى بستان لي هناك يعرف بالرهط فقال ناهيك بمالك هذا لو لا جرار فيه قلت يا أمير المؤمنين إنها ليست بجرار ولكنها جرار الزبيب فضحك ثم جاء حتى ألقى صدره على غصن شجرة هناك وقال يا شمردل أ ما عندك شي(1/5321)
ء تطعمني وقد كنت استعددت له فقلت بلى والله عندي جدي كانت تغدو عليه حافلة وتروح عليه أخرى فقال عجل به فجئته
[ 399 ]
به مشويا كأنه عكة سمن فأكله لا يدعو عليه عمر ولا ابنه حتى إذا بقي فخذ قال يا عمر هلم قال إني صائم ثم قال يا شمردل أ ما عندك شي ء قلت بلى دجاجات خمس كأنهن رئلان النعام فقال هات فأتيته بهن فكان يأخذ برجل الدجاجة حتى يعري عظامها ثم يلقيها حتى أتى عليهن ثم قال ويحك يا شمردل أ ما عندك شي ء قلت بلى سويق كأنه قراضة الذهب ملتوت بعسل وسمن قال هلم فجئته بعس تغيب فيه الرأس فأخذه فلطم به جبهته حتى أتى عليه فلما فرغ تجشأ كأنه صارخ في جب ثم التفت إلى طباخه فقال ويحك أ فرغت من طبيخك قال نعم قال وما هو قال نيف وثمانون قدرا قال فأتني بها قدرا قدرا فعرضها عليه وكان يأكل من كل قدر لقمتين أو ثلاثا ثم مسح يده واستلقى على قفاه وأذن للناس ووضعت الموائد فقعد فأكل مع الناس كأنه لم يطعم شيئا . قالوا وكان الطعام الذي مات منه سليمان أنه قال لديراني كان صديقه قبل الخلافة ويحك لا تقطعني ألطافك التي كنت تلطفني بها على عهد الوليد أخي قال فأتيته يوما بزنبيلين كبيرين أحدهما بيض مسلوق والآخر تين فقال لقمنيه فكنت أقشر البيضة وأقرنها بالتينة وألقمه حتى أتى على الزنبيلين فأصابته تخمة عظيمة ومات ويحكى أن عمرو بن معديكرب أكل عنزا رباعية وفرقا من ذرة والفرق ثلاثة آصع وقال لامرأته عالجي لنا هذا الكبش حتى أرجع فجعلت توقد تحته وتأخذ عضوا عضوا فتأكله فاطلعت فإذا ليس في القدر إلا المرق فقامت إلى كبش آخر فذبحته وطبخته ثم أقبل عمرو فثردت له في جفنة العجين وكفأت القدر عليها فمد يده وقال يا أم ثور دونك الغداء قالت قد أكلت فأكل الكبش كله ثم اضطجع ودعاها إلى الفراش فلم يستطع الفعل فقالت له كيف تستطيع وبيني وبينك كبشان .
[ 400 ](1/5322)
و قد روي هذا الخبر عن بعض العرب وقيل إنه أكل حوارا وأكلت امرأته حائلا فلما أراد أن يدنو منها وعجز قالت له كيف تصل إلي وبيني وبينك بعيران . وكان الحجاج عظيم الأكل قال مسلم بن قتيبة كنت في دار الحجاج مع ولده وأنا غلام فقيل قد جاء الأمير فدخل الحجاج فأمر بتنور فنصب وأمر رجلا أن يخبز له خبز الماء ودعا بسمك فأتوه به فجعل يأكل حتى أكل ثمانين جاما من السمك بثمانين رغيفا من خبز الملة . وكان هلال بن أشعر المازني موصوفا بكثرة الأكل أكل ثلاث جفان ثريد واستسقى فجاءوه بقربة مملوءة نبيذا فوضعوا فمها في فمه حتى شربها بأسرها . وكان هلال بن أبي بردة أكولا قال قصابه جاءني رسوله سحرة فأتيته وبين يديه كانون فيه جمر وتيس ضخم فقال دونك هذا التيس فاذبحه فذبحته وسلخته فقال أخرج هذا الكانون إلى الرواق وشرح اللحم وكبه على النار فجعلت كلما استوى شي ء قدمته إليه حتى لم يبق من التيس إلا العظام وقطعة لحم على الجمر فقال لي كلها فأكلتها ثم شرب خمسة أقداح وناولني قدحا فشربته فهزني وجاءته جارية ببرمة فيها ناهضان ودجاجتان وأرغفة فأكل ذلك كله ثم جاءته جارية أخرى بقصعة مغطاة لا أدري ما فيها فضحك إلى الجارية فقال ويحك لم يبق في بطني موضع لهذا فضحكت الجارية وانصرفت فقال لي الحق بأهلك .
[ 401 ](1/5323)
و كان عنبسة بن زياد أكولا نهما فحدث رجل من ثقيف قال دعاني عبيد الله الأحمر فقلت لعنبسة هل لك يا ذبحة وكان هذا لقبة في إتيان الأحمر فمضينا إليه فلما رآه عبيد الله رحب به وقال للخباز ضع بين يدي هذا مثل ما تضع بين يدي أهل المائدة كلهم فجعل يأتيه بقصعة وأهل المائدة بقصعة وهو يأتي عليها ثم أتاه بجدي فأكله كله ونهض القوم فأكل كل ما تخلف على المائدة وخرجنا فلقينا خلف بن عبد الله القطامي فقال له يا خلف أ ما تغديني يوما فقلت لخلف ويحك لا تجده مثل اليوم فقال له ما تشتهي قال تمرا وسمنا فانطلق به إلى منزله فجاء بخمس جلال تمرا وجرة سمنا فأكل الجميع وخرج فمر برجل يبني داره ومعه مائة رجل وقد قدم لهم سمنا وتمرا فدعاه إلى الأكل معهم فأكل حتى شكوه إلى صاحب الدار ثم خرج فمر برجل بين يديه زنبيل فيه خبز أرز يابس بسمسم وهو يبيعه فجعل يساومه ويأكل حتى أتى على الزنبيل فأعطيت صاحب الزنبيل ثمن خبزة . وكان ميسرة الرأس أكولا حكي عنه عند المهدي محمد بن المنصور أنه يأكل كثيرا فاستدعاه وأحضر فيلا وجعل يرمي لكل واحد منهما رغيفا حتى أكل كل واحد منهما تسعة وتسعين رغيفا وامتنع الفيل من تمام المائة وأكل ميسرة تمام المائة وزاد عليها . وكان أبو الحسن العلاف والد أبي بكر بن العلاف الشاعر المحدث أكولا دخل يوما على الوزير أبي بكر محمد المهلبي فأمر الوزير أن يؤخذ حماره فيذبح ويطبخ بماء وملح ثم قدم له على مائدة الوزير فأكل وهو يظنه لحم
[ 402 ]
البقر ويستطيبه حتى أتى عليه فلما خرج ليركب طلب الحمار فقيل له في جوفك . وكان أبو العالية أكولا نذرت امرأة حامل إن أتت بذكر تشبع أبا العالية خبيصا فولدت غلاما فأحضرته فأكل سبع جفان خبيصا ثم أمسك وخرج فقيل له إنها كانت نذرت أن تشبعك فقال والله لو علمت ما شبعت إلى الليل
[ 403 ](1/5324)
174
وَ قَالَ ع اَلنَّاسُ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُوا هذه الكلمة قد تقدمت وتقدم منا ذكر نظائرها والعلة في أن الإنسان عدو ما يجهله أنه يخاف من تقريعه بالنقص وبعدم العلم بذلك الشي ء خصوصا إذا ضمه ناد أو جمع من الناس فإنه تتصاغر نفسه عنده إذا خاضوا فيما لا يعرفه وينقص في أعين الحاضرين وكل شي ء آذاك ونال منك فهو عدوك
[ 404 ](1/5325)
175
وَ قَالَ ع مَنِ اِسْتَقْبَلَ وُجُوهَ اَلآْرَاءِ عَرَفَ مَوَاقِعَ اَلْخَطَإِ قد قالوا في المثل شر الرأي الدبري . وقال الشاعر
و خير الرأي ما استقبلت منه
و ليس بأن تتبعه اتباعا
و ليس المراد بهذا الأمر سرعة فضل الحال لأول خاطر ولأول رأي إن ذلك خطأ وقديما قيل دع الرأي يغب . وقيل كل رأي لم يخمر ويبيت فلا خير فيه . وإنما المنهي عنه تضييع الفرصة في الرأي ثم محاولة الاستدراك بعد أن فات وجه الرأي فذاك هو الرأي الدبري
[ 405 ](1/5326)
176
وَ قَالَ ع مَنْ أَحَدَّ سِنَانَ اَلْغَضَبِ لِلَّهِ قَوِيَ عَلَى قَتْلِ أَشِدَّاءِ اَلْبَاطِلِ هذا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والكلمة تتضمن استعارة تدل على الفصاحة والمعنى أن من أرهف عزمه على إنكار المنكر وقوي غضبه في ذات الله ولم يخف ولم يراقب مخلوقا أعانه الله على إزالة المنكر وإن كان قويا صادرا من جهة عزيزة الجانب وعنها وقعت الكناية بأشداء الباطل
[ 406 ](1/5327)
177
وَ قَالَ ع إِذَا هِبْتَ أَمْراً فَقَعْ فِيهِ فَإِنَّ شِدَّةَ تَوَقِّيهِ أَعْظَمُ مِمَّا تَخَافُ مِنْهُ ما أحسن ما قال المتنبي في هذا المعنى
و إذا لم يكن من الموت بد
فمن العجز أن تكون جبانا
كل ما لم يكن من الصعب في الأنفس
سهل فيها إذا هو كانا
و قال آخر
لعمرك ما المكروه إلا ارتقابه
و أعظم مما حل ما يتوقع
و قال آخر
صعوبة الرزء تلقى في توقعه
مستقبلا وانقضاء الرزء أن يقعا
و كان يقال توسط الخوف تأمن . ومن الأمثال العامية أم المقتول تنام وأم المهدد لا تنام . وكان يقال كل أمر من خير أو شر فسماعه أعظم من عيانه . وقال قوم من أهل الملة وليسوا عند أصحابنا مصيبين إن عذاب الآخرة المتوعد به إذا حل بمستحقيه وجدوه أهون مما كانوا يسمعونه في الدنيا والله أعلم بحقيقة ذلك
[ 407 ](1/5328)
178
وَ قَالَ ع آلَةُ اَلرِّئَاسَةِ سَعَةُ اَلصَّدْرِ الرئيس محتاج إلى أمور منها الجود ومنها الشجاعة ومنها وهو الأهم سعة الصدر فإنه لا تتم الرئاسة إلا بذلك . وكان معاوية واسع الصدر كثير الاحتمال وبذلك بلغ ما بلغ(1/5329)
سعة الصدر وما ورد في ذلك من حكايات
و نحن نذكر من سعة الصدر حكايتين دالتين على عظم محله في الرئاسة وإن كان مذموما في باب الدين وما أحسن قول الحسن فيه وقد ذكر عنده عقيب ذكر أبي بكر وعمر فقال كانا والله خيرا منه وكان أسود منهما . الحكاية الأولى وفد أهل الكوفة على معاوية حين خطب لابنه يزيد بالعهد بعده وفي أهل الكوفة هانئ بن عروة المرادي وكان سيدا في قومه فقال يوما في مسجد دمشق والناس حوله العجب لمعاوية يريد أن يقسرنا على بيعة يزيد وحاله حاله وما ذاك والله بكائن وكان
[ 408 ](1/5330)
في القوم غلام من قريش جالسا فتحمل الكلمة إلى معاوية فقال معاوية أنت سمعت هانئا يقولها قال نعم قال فاخرج فأت حلقته فإذا خف الناس عنه فقل له أيها الشيخ قد وصلت كلمتك إلى معاوية ولست في زمن أبي بكر وعمر ولا أحب أن تتكلم بهذا الكلام فإنهم بنو أمية وقد عرفت جرأتهم وإقدامهم ولم يدعني إلى هذا القول لك إلا النصيحة والإشفاق عليك فانظر ما يقول فأتني به . فأقبل الفتى إلى مجلس هانئ فلما خف من عنده دنا منه فقص عليه الكلام وأخرجه مخرج النصيحة له فقال هانئ والله يا ابن أخي ما بلغت نصيحتك كل ما أسمع وإن هذا الكلام لكلام معاوية أعرفه فقال الفتى وما أنا ومعاوية والله ما يعرفني قال فلا عليك إذا لقيته فقل له يقول لك هانئ والله ما إلى ذلك من سبيل انهض يا ابن أخي راشدا . فقام الفتى فدخل على معاوية فأعلمه فقال نستعين بالله عليه . ثم قال معاوية بعد أيام للوفد ارفعوا حوائجكم وهانئ فيهم فعرض عليه كتابه فيه ذكر حوائجه فقال يا هانئ ما أراك صنعت شيئا زد فقام هانئ فلم يدع حاجة عرضت له إلا وذكرها ثم عرض عليه الكتاب فقال أراك قصرت فيما طلبت زد فقام هانئ فلم يدع حاجة لقومه ولا لأهل مصره إلا ذكرها ثم عرض عليه الكتاب فقال ما صنعت شيئا زد فقال يا أمير المؤمنين حاجة بقيت قال ما هي قال أن أتولى أخذ البيعة ليزيد ابن أمير المؤمنين بالعراق قال افعل فما زلت لمثل ذلك أهلا فلما قدم هانئ العراق قام بأمر البيعة ليزيد بمعونة من المغيرة بن شعبة وهو الوالي بالعراق يومئذ .
[ 409 ]
و أما الحكاية الثانية(1/5331)
كان مال حمل من اليمن إلى معاوية فلما مر بالمدينة وثب عليه الحسين بن علي ع فأخذه وقسمه في أهل بيته ومواليه وكتب إلى معاوية من الحسين بن علي إلى معاوية بن أبي سفيان أما بعد فإن عيرا مرت بنا من اليمن تحمل مالا وحللا وعنبرا وطيبا إليك لتودعها خزائن دمشق وتعل بها بعد النهل بني أبيك وإني احتجت إليها فأخذتها والسلام . فكتب إليه معاوية من عند عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى الحسين بن علي سلام عليك أما بعد فإن كتابك ورد علي تذكر أن عيرا مرت بك من اليمن تحمل مالا وحللا وعنبرا وطيبا إلي لأودعها خزائن دمشق وأعل بها بعد النهل بني أبي وأنك احتجت إليها فأخذتها ولم تكن جديرا بأخذها إذ نسبتها إلي لأن الوالي أحق بالمال ثم عليه المخرج منه وايم الله لو ترك ذلك حتى صار إلي لم أبخسك حظك منه ولكني قد ظننت يا ابن أخي أن في رأسك نزوة وبودي أن يكون ذلك في زماني فأعرف لك قدرك وأتجاوز عن ذلك ولكني والله أتخوف أن تبتلي بمن لا ينظرك فواق ناقة وكتب في أسفل كتابه
يا حسين بن علي ليس ما
جئت بالسائغ يوما في العلل
أخذك المال ولم تؤمر به
إن هذا من حسين لعجل
قد أجزناها ولم نغضب لها
و احتملنا من حسين ما فعل
يا حسين بن علي ذا الأمل
لك بعدي وثبة لا تحتمل
و بودي أنني شاهدها
فإليها منك بالخلق الأجل
إنني أرهب أن تصلى بمن
عنده قد سبق السيف العذل
و هذه سعة صدر وفراسة صادقة
[ 410 ](1/5332)
179
وَ قَالَ ع اُزْجُرِ اَلْمُسِي ءَ بِثَوَابِ اَلْمُحْسِنِ قد قال ابن هانئ المغربي في هذا المعنى
لو لا انبعاث السيف وهو مسلط
في قتلهم قتلتهم النعماء
فأفصح به أبو العتاهية في قوله
إذا جازيت بالإحسان قوما
زجرت المذنبين عن الذنوب
فما لك والتناول من بعيد
و يمكنك التناول من قريب
[ 411 ](1/5333)
180
وَ قَالَ ع اُحْصُدِ اَلشَّرَّ مِنْ صَدْرِ غَيْرِكَ بِقَلْعِهِ مِنْ صَدْرِكَ هذا يفسر على وجهين أحدهما أنه يريد لا تضمر لأخيك سوءا فإنك لا تضمر ذاك إلا يضمر هو لك سوءا لأن القلوب يشعر بعضها ببعض فإذا صفوت لواحد صفا لك . والوجه الثاني أن يريد لا تعظ الناس ولا تنههم عن منكر إلا وأنت مقلع عنه فإن الواعظ الذي ليس بزكي لا ينجع وعظه ولا يؤثر نهيه . وقد سبق الكلام في كلا المعنيين
[ 412 ](1/5334)
181
وَ قَالَ ع اَللَّجَاجَةُ تَسُلُّ اَلرَّأْيَ هذا مشتق من قوله ع لا رأي لمن لا يطاع وذلك لأن عدم الطاعة هو اللجاجة وهو خلق يتركب من خلقين أحدهما الكبر والآخر الجهل بعواقب الأمور وأكثر ما يعتري الولاة لما يأخذهم من العزة بالإثم . ومن كلام بعض الحكماء إذا اضطررت إلى مصاحبة السلطان فابدأ بالفحص عن معتاد طبعه ومألوف خلقه ثم استحدث لنفسك طبعا ففرغه في قالب إرادته وخلقا تركبه مع موضع وفاقه حتى تسلم معه وإن رأيته يهوى فنا من فنون المحبوبات فأظهر هواك لضد ذلك الفن ليبعد عنك إرهابه بل ويكثر سكونه إليك وإذا بدا لك منه فعل ذميم فإياك أن تبدأه فيه بقول ما لم يستبذل فيه نصحك ويستدعي رأيك وإن استدعى ذاك فليكن ما تفاوضه فيه بالرفق والاستعطاف لا بالخشونة والاستنكاف فيحمله اللجاج المركب في طبع الولاة على ارتكابه فكل وال لجوج وإن علم ما يتعقبه لجاجه من الضرر وأن اجتنابه هو الحسن
[ 413 ](1/5335)
182
وَ قَالَ ع اَلطَّمَعُ رِقٌّ مُؤَبَّدٌ هذا المعنى مطروق جدا وقد سبق لنا فيه قول شاف . وقال الشاعر
تعفف وعش حرا ولا تك طامعا
فما قطع الأعناق إلا المطامع
و في المثل أطمع من أشعب رأي سلالا يصنع سلة فقال له أوسعها قال ما لك وذاك قال لعل صاحبها يهدي لي فيها شيئا . ومر بمكتب وغلام يقرأ على الأستاذ إن أبي يدعوك فقال قم بين يدي حفظك الله وحفظ أباك فقال إنما كنت أقرأ وردي فقال أنكرت أن تفلح أو يفلح أبوك . وقيل لم يكن أطمع من أشعب إلا كلبه رأى صورة القمر في البئر فظنه رغيفا فألقى نفسه في البئر يطلبه فمات
[ 414 ](1/5336)
183
وَ قَالَ ع ثَمَرَةُ اَلتَّفْرِيطِ اَلنَّدَامَةُ وَ ثَمَرَةُ اَلْحَزْمِ اَلسَّلاَمَةُ قد سبق من الكلام في الحزم والتفريط ما فيه كفاية وكان يقال الحزم ملكة يوجبها كثرة التجارب وأصله قوة العقل فإن العاقل خائف أبدا والأحمق لا يخاف وإن خاف كان قليل الخوف ومن خاف أمرا توقاه فهذا هو الحزم . وكان أبو الأسود الدؤلي من عقلاء الرجال وذوي الحزم والرأي وحكى أبو العباس المبرد قال قال زياد لأبي الأسود وقد أسن لو لا ضعفك لاستعملناك على بعض أعمالنا فقال أ للصراع يريدني الأمير قال زياد إن للعمل مئونة ولا أراك إلا تضعف عنه فقال أبو الأسود
زعم الأمير أبو المغيرة إنني
شيخ كبير قد دنوت من البلى
صدق الأمير لقد كبرت وإنما
نال المكارم من يدب على العصا
يا با المغيرة رب أمر مبهم
فرجته بالحزم مني والدها
و كان يقال من الحزم والتوقي ترك الإفراط في التوقي . لما نزل بمعاوية الموت وقدم عليه يزيد ابنه فرآه مسكتا لا يتكلم بكى وأنشد
لو فات شي ء يرى لفات أبو
حيان لا عاجز ولا وكل
الحول القلب الأريب ولا
تدفع يوم المنية الحيل
[ 415 ](1/5337)
184
مَنْ لَمْ يُنْجِهِ اَلصَّبْرُ أَهْلَكَهُ اَلْجَزَعُ قد تقدم لنا قول شاف في الصبر والجزع . وكان يقال ما أحسن الصبر لو لا أن النفقة عليه من العمر أخذه شاعر فقال
و إني لأدري أن في الصبر راحة
و لكن إنفاقي على الصبر من عمري
و قال ابن أبي العلاء يستبطئ بعض الرؤساء
فإن قيل لي صبرا فلا صبر للذي
غدا بيد الأيام تقتله صبرا
و إن قيل لي عذرا فو الله ما أرى
لمن ملك الدنيا إذا لم يجد عذرا
فإن قلت أي فائدة في قوله ع من لم ينجه الصبر أهلكه الجزع وهل هذا إلا كقول من قال من لم يجد ما يأكل ضرة الجوع . قلت لو كانت الجهة واحدة لكان الكلام عبثا إلا أن الجهة مختلفة لأن معنى كلامه ع من لم يخلصه الصبر من هموم الدنيا وغمومها هلك من الله تعالى في الآخرة بما يستبدله من الصبر بالجزع وذلك لأنه إذا لم يصبر فلا شك أنه يجزع وكل جازع آثم والإثم مهلكة فلما اختلفت الجهة وكانت تارة للدنيا وتارة للآخرة لم يكن الكلام عبثا بل كان مفيدا
[ 416 ](1/5338)
185
وَ قَالَ ع وَا عَجَبَا أَنْ تَكُونَ اَلْخِلاَفَةُ بِالصَّحَابَةِ وَ لاَ تَكُونَ وَا عَجَبَاهُ أَ تَكُونُ اَلْخِلاَفَةُ بِالصَّحَابَةِ وَ اَلْقَرَابَةِ قال الرضي رحمه الله تعالى وقد روي له شعر قريب من هذا المعنى وهو
فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم
فكيف بهذا والمشيرون غيب
و إن كنت بالقربى حججت خصيمهم
فغيرك أولى بالنبي وأقرب
حديثه ع في النثر والنظم المذكورين مع أبي بكر وعمر أما النثر فإلى عمر توجيهه لأن أبا بكر لما قال لعمر امدد يدك قال له عمر أنت صاحب رسول الله في المواطن كلها شدتها ورخائها فامدد أنت يدك
فقال علي ع إذا احتججت لاستحقاقه الأمر بصحبته إياه في المواطن كلها فهلا سلمت الأمر إلى من قد شركه في ذلك وزاد عليه بالقرابة وأما النظم فموجه إلى أبي بكر لأن أبا بكر حاج الأنصار في السقيفة
فقال نحن عترة رسول الله ص وبيضته التي تفقأت عنه فلما بويع احتج على الناس بالبيعة وأنها صدرت عن أهل الحل والعقد
فقال علي ع أما احتجاجك على الأنصار بأنك من بيضة رسول الله ص ومن قومه فغيرك أقرب نسبا منك إليه وأما احتجاجك بالاختيار ورضا الجماعة بك فقد كان قوم من جملة الصحابة غائبين لم يحضروا العقد فكيف يثبت . واعلم أن الكلام في هذا تتضمنه كتب أصحابنا في الإمامة ولهم عن هذا القول أجوبة ليس هذا موضع ذكرها(1/5339)
? الجزء الثامن عشر
? تتمة أبواب الكتب والرسائل
? تتمة 64 كتاب له ع إلى معاوية
? ذكر بقية الخبر عن فتح مكة
? 65 ومن كتاب له ع إليه أيضا
? 66 ومن كتاب له ع كتبه إلى عبد الله بن العباس
? نبذ من كلام الحكماء
? 67 ومن كتاب له ع كتبه إلى قثم بن العباس وهو عامله على مكة
? 68 ومن كتاب له ع كتبه إلى سلمان الفارسي رحمه الله قبل أيام خلافته
? سلمان الفارسي وخبر إسلامه
? 69 ومن كتاب له ع كتبه إلى الحارث الهمداني
? الحارث الأعور ونسبه
? نبذ من الأقوال الحكيمة
? 70 ومن كتاب له ع إلى سهل بن حنيف الأنصاري وهو عامله على المدينة في معنى قوم من أهلها لحقوا بمعاوية
? 71 ومن كتاب له ع إلى المنذر بن الجارود العبدي
? ذكر المنذر وأبيه الجارود
? 72 ومن كتاب له ع إلى عبد الله بن العباس رضي الله عنه
? 73 ومن كتاب له ع إلى معاوية
? 74 ومن حلف له ع كتبه بين ربيعة واليمن
? 75 ومن كتاب له ع إلى معاوية من المدينة في أول ما بويع له بالخلافة
? 76 ومن وصية له ع لعبد الله بن العباس عند استخلافه إياه على البصرة
? 77 ومن وصية له ع لعبد الله بن العباس أيضا لما بعثه للاحتجاج على الخوارج
? 78 ومن كتاب له ع أجاب به أبا موسى الأشعري
? 79 ومن كتاب كتبه ع لما استخلف إلى أمراء الأجناد
? باب الحكم والمواعظ
? 1
? 2
? 3
? 4
? 5
? 6
? 7
? 8
? 9
? 10
? 11
? 12
? 13
? 14
? 15
? 16
? 17
? 18
? نبذ مما قيل في الشيب والخضاب
? 19
? 20
? نبذ مما قيل في المروءة
? 21
? 22
? 23
? 24
? 25
? 26
? 27
? 28
? 29
? 30
? 31
? نبذ وحكايات مما وقع بين يدي الملوك
? 32
? 33
? 34
? 35
? 36
? 37
? 38
? 39
? 40
? أقوال وحكايات حول الحمقى
? 41
? 42
? خباب بن الأرت
? 43
? 44
? 45
? 46
? 47
? 48
? 49
? 50
? 51
? 52
? 53
? 54
? 55
? 56
? 57
? 58
? 59
? 60
? 61
? محمد بن جعفر والمنصور
? 62
? 63
? 64
? 65
? 66
? 67
? 68
? 69(1/5340)
? 70
? 71
? 72
? 73
? 74
? 75
? 76
? 77
? 78
? 79
? 80
? 81
? 82
? 83
? 84
? 85
? 86
? 87
? 88
? 89
? 90
? 91
? 92
? 93
? 94
? 95
? 96
? 97
? 98
? 99
? 100
? 101
? 102
? 103
? 104
? محنة المقفع
? 105
? 106
? 107
? 108
? 109
? 110
? 111
? 112
? 113
? 114
? 115
? 116
? فصل في نسب بني مخزوم وطرف من أخبارهم
? 117
? 118
? 119
? 120
? 121
? 122
? 123
? 124
? 125
? 126
? 127
? 128
? 129
? 130
? 131
? 132
? نبذ من الوصايا الحكيمة
? 133
? 134
? 135
? 136
? 137
? 138
? 139
? 140
? 141
? 142
? 143
? 144
? 145
? 146
? 147
? 148
? 149
? 150
? 151
? 152
? 153
? 154
? 155
? 156
? 157
? 158
? 159
? 160
? 161
? 162
? 163
? 164
? 165
? 166
? 167
? 168
? 169
? 170
? 171
? 172
? 173
? نوادر المكثرين من الأكل
? 174
? 175
? 176
? 177
? 178
? سعة الصدر وما ورد في ذلك من حكايات
? 179
? 180
? 181
? 182
? 183
? 184
? 185(1/5341)
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد المعتزلي
الجزء التاسع عشر(1/5342)
تتمة باب الحكم والمواعظ
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل(1/5343)
186
وَ قَالَ ع إِنَّمَا اَلْمَرْءُ فِي اَلدُّنْيَا غَرَضٌ تَنْتَضِلُ فِيهِ اَلْمَنَايَا وَ نَهْبٌ تُبَادِرُهُ اَلْمَصَائِبُ وَ مَعَ كُلِّ جُرْعَةٍ شَرَقٌ وَ فِي كُلِّ أَكْلَةٍ غَصَصٌ وَ لاَ يَنَالُ اَلْعَبْدُ نِعْمَةً إِلاَّ بِفِرَاقِ أُخْرَى وَ لاَ يَسْتَقْبِلُ يَوْماً مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ بِفِرَاقِ آخَرَ مِنْ أَجَلِهِ فَنَحْنُ أَعْوَانُ اَلْمَنُونِ وَ أَنْفُسُنَا نَصْبُ اَلْحُتُوفِ فَمِنْ أَيْنَ نَرْجُو اَلْبَقَاءَ وَ هَذَا اَللَّيْلُ وَ اَلنَّهَارُ لَمْ يَرْفَعَا منْ شَيْ ءٍ شَرَفاً إِلاَّ أَسْرَعَا اَلْكَرَّةَ فِي هَدْمِ مَا بَنَيَا وَ تَفْرِيقِ مَا جَمَعَا قد سبق ذرء من هذا الكلام في أثناء خطبته ع وقد ذكرنا نحن أشياء كثيرة في الدنيا وتقلبها بأهلها . ومن كلام بعض الحكماء طوبى للهارب من زخارف الدنيا والصاد عن زهرة دمنتها والخائف عند أمانها والمتهم لضمانها والباكي عند ضحكها إليه والمتواضع عند إعزازها له والناظر بعين عقله إلى فضائحها والمتأمل لقبح مصارعها والتارك
[ 8 ](1/5344)
لكلابها على جيفها والمكذب لمواعيدها والمتيقظ لخدعها والمعرض عن لمعها والعامل في إمهالها والمتزود قبل إعجالها . قوله تنتضل النضل شي ء يرمى ويروى تبادره أي تتبادره والغرض الهدف . والنهب المال المنهوب غنيمة وجمعه نهاب . وقد سبق تفسير قوله لا ينال العبد نعمة إلا بفراق أخرى وقلنا إن الذي حصلت له لذة الجماع حال ما هي حاصلة له لا بد أن يكون مفارقا لذة الأكل والشرب وكذلك من يأكل ويشرب يكون مفارقا حال أكله وشربه لذة الركض على الخيل في طلب الصيد ونحو ذلك . قوله فنحن أعوان المنون لأنا نأكل ونشرب ونجامع ونركب الخيل والإبل ونتصرف في الحاجات والمآرب والموت إنما يكون بأحد هذه الأسباب إما من أخلاط تحدثها المآكل والمشارب أو من سقطة يسقط الإنسان من دابة هو راكبها أو من ضعف يلحقه من الجماع المفرط أو لمصادمات واصطكاكات تصيبه عند تصرفه في مآربه وحركته وسعيه ونحو ذلك فكأنا نحن أعنا الموت على أنفسنا . قوله نصب الحتوف يروى بالرفع والنصب فمن رفع فهو خبر المبتدإ ومن نصبه جعله ظرفا
[ 9 ](1/5345)
187
وَ قَالَ ع لاَ خَيْرَ فِي اَلصَّمْتِ عَنِ اَلْحُكْمِ كَمَا أَنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي اَلْقَوْلِ بِالْجَهْلِ قد تكرر ذكر هذا القول وتكرر منا شرحه وشرح نظائره وكان يقال ما الإنسان لو لا اللسان إلا بهيمة مهملة أو صورة ممثلة . وكان يقال اللسان عضو إن مرنته مرن وإن تركته خزن
[ 10 ](1/5346)
188
وَ قَالَ ع يَا اِبْنَ آدَمَ مَا كَسَبْتَ فَوْقَ قُوتِكَ فَأَنْتَ فِيهِ خَازِنٌ لِغَيْرِكَ أخذ هذا المعنى بعضهم فقال
ما لي أراك الدهر تجمع دائبا
أ لبعل عرسك لا أبا لك تجمع
و عاد الحسن البصري عبد الله بن الأهتم في مرضه الذي مات فيه فأقبل عبد الله يصرف بصره إلى صندوق في جانب البيت ثم قال للحسن يا أبا سعيد فيه مائة ألف لم يؤد منها زكاة ولم توصل بها رحم قال الحسن ثكلتك أمك فلم أعددتها قال لروعة الزمان ومكاثرة الإخوان وجفوة السلطان ثم مات فحضر الحسن جنازته فلما دفن صفق بإحدى راحتيه الأخرى وقال إن هذا تاه شيطانه فحذره روعة زمانه وجفوة سلطانه ومكاثرة إخوانه فيما استودعه الله إياه فادخره ثم خرج منه كئيبا حزينا لم يؤد زكاة ولم يصل رحما ثم التفت فقال أيها الوارث كل هنيئا فقد أتاك هذا المال حلالا فلا يكن عليك وبالا أتاك ممن كان له جموعا منوعا يركب فيه لجج البحار ومفاوز القفار من باطل جمعه ومن حق منعه لم ينتفع به في حياته وضره بعد وفاته جمعه فأوعاه وشده فأوكاه إلى يوم القيامة يوم ذي حسرات وإن أعظم الحسرات أن ترى مالك في ميزان غيرك بخلت بمال أوتيته من رزق الله أن تنفقه في طاعة الله فخزنته لغيرك فأنفقه في مرضاة ربه يا لها حسرة لا تقال ورحمة لا تنال إنا لله وإنا إليه راجعون
[ 11 ](1/5347)
189
وَ قَالَ ع إِنَّ لِلْقُلُوبِ شَهْوَةً وَ إِقْبَالاً وَ إِدْبَاراً فَأْتُوهَا مِنْ قِبَلِ شَهْوَتِهَا وَ إِقْبَالِهَا فَإِنَّ اَلْقَلْبَ إِذَا أُكْرِهَ عَمِيَ قد تقدم القول في هذا المعنى . والعلة في كون القلب يعمى إذا أكره على ما لا يحبه أن القلب عضو من الأعضاء يتعب ويستريح كما تتعب الجثة عند استعمالها وأحمالها وتستريح عند ترك العمل كما يتعب اللسان عند الكلام الطويل ويستريح عند الإمساك وإذا تواصل إكراه القلب على أمر لا يحبه ولا يؤثره تعب لأن فعل غير المحبوب متعب أ لا ترى أن جماع غير المحبوب يحدث من الضعف أضعاف ما يحدثه جماع المحبوب والركوب إلى مكان غير محبوب متعب ولا يشتهى يتعب البدن أضعاف ما يتعبه الركوب إلى تلك المسافة إذا كان المكان محبوبا وإذا أتعب القلب وأعيا عجز عن إدراك ما نكلفه إدراكه لأن فعله هو الإدراك وكل عضو يتعب فإنه يعجز عن فعله الخاص به فإذا عجز القلب عن فعله الخاص به وهو العلم والإدراك فذاك هو عماه
[ 12 ](1/5348)
190
وَ كَانَ ع يَقُولُ : مَتَى أَشْفِي غَيْظِي إِذَا غَضِبْتُ أَ حِينَ أَعْجِزُ عَنِ اَلاِنْتِقَامِ فَيُقَالُ لِي لَوْ صَبَرْتَ أَمْ حِينَ أَقْدِرُ عَلَيْهِ فَيُقَالُ لِي لَوْ عَفَوْتَ قد تقدم القول في الغضب مرارا . وهذا الفصل فصيح لطيف المعنى قال لا سبيل لي إلى شفاء غيظي عند غضبي لأني إما أن أكون قادرا على الانتقام فيصدني عن تعجيله قول القائل لو غفرت لكان أولى وإما ألا أكون قادرا على الانتقام فيصدني عنه كوني غير قادر عليه فإذن لا سبيل لي إلى الانتقام عند الغضب . وكان يقال العقل كالمرآة المجلوة يصدئه الغضب كما تصدأ المرآة بالخل فلا يثبت فيها صورة القبح والحسن . واجتمع سفيان الثوري وفضيل بن عياض فتذاكرا الزهد فأجمعا على أن أفضل الأعمال الحلم عند الغضب والصبر عند الطمع
[ 13 ](1/5349)
191
وَ قَالَ ع وَ قَدْ مَرَّ بِقَذَرٍ عَلَى مَزْبَلَةٍ هَذَا مَا بَخِلَ بِهِ اَلْبَاخِلُونَ وَ رُوِيَ فِي خَبَرٍ آخَرَ أَنَّهُ قَالَ هَذَا مَا كُنْتُمْ تَتَنَافَسُونَ فِيهِ بِالْأَمْسِ قد سبق القول في مثل هذا وأن الحسن البصري مر على مزبلة فقال انظروا إلى بطهم ودجاجهم وحلوائهم وعسلهم وسمنهم والحسن إنما أخذه من كلام أمير المؤمنين ع وقال ابن وكيع في قول المتنبي
لو أفكر العاشق في منتهى
حسن الذي يسبيه لم يسبه
إنه أراد لو أفكر في حاله وهو في القبر وقد تغيرت محاسنه وسالت عيناه قال وهذا مثل قولهم لو أفكر الإنسان فيما يئول إليه الطعام لعافته نفسه . وقد ضرب العلماء مثلا للدنيا ومخالفة آخرها أولها ومضادة مباديها عواقبها فقالوا إن شهوات الدنيا في القلب لذيذة كشهوات الأطعمة في المعدة وسيجد الإنسان عند الموت لشهوات الدنيا في قلبه من الكراهة والنتن والقبح ما يجده للأطعمة اللذيذة إذا طبختها المعدة وبلغت غاية نضجها وكما أن الطعام كلما كان ألذ طعما وأظهر حلاوة كان رجيعه أقذر وأشد نتنا فكذلك كل شهوة في القلب أشهى وألذ وأقوى
[ 14 ]
فإن نتنها وكراهتها والتأذي بها عند الموت أشد بل هذه الحال في الدنيا مشاهدة فإن من نهبت داره وأخذ أهله وولده وماله تكون مصيبته وألمه وتفجعه في الذي فقد بمقدار لذته به وحبه له وحرصه عليه فكل ما كان في الوجود أشهى وألذ فهو عند الفقد أدهى وأمر ولا معنى للموت إلا فقد ما في الدنيا . و
قد روي أن النبي ص قال للضحاك بن سفيان الكلابي أ لست تؤتى بطعامك وقد قزح وملح ثم تشرب عليه اللبن والماء قال بلى قال فإلى ما ذا يصير قال إلى ما قد علمت يا رسول الله قال فإن الله عز وجل ضرب مثل الدنيا بما يصير إليه طعام ابن آدم و(1/5350)
روى أبي بن كعب أن رسول الله ص قال إن أنت ضربت مثلا لابن آدم فانظر ما يخرج من ابن آدم وإن كان قزحه وملحه إلى ما ذا صار وقال الحسن رحمه الله قد رأيتهم يطيبونه بالطيب والأفاويه ثم يرمونه حيث رأيتم قال الله عز وجل فَلْيَنْظُرِ اَلْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ قال ابن عباس إلى رجيعه . وقال رجل لابن عمر إني أريد أن أسألك وأستحيي فقال لا تستحي وسل قال إذا قضى أحدنا حاجته فقام هل ينظر إلى ذلك منه فقال نعم إن الملك يقول له انظر هذا ما بخلت به انظر إلى ما ذا صار
[ 15 ](1/5351)
192
وَ قَالَ ع لَمْ يَذْهَبْ مِنْ مَالِكَ مَا وَعَظَكَ مثل هذا قولهم إن المصائب أثمان التجارب . وقيل لعالم فقير بعد أن كان غنيا أين مالك قال تجرت فيه فابتعت به تجربة الناس والوقت فاستفدت أشرف العوضين
[ 16 ](1/5352)
193
وَ قَالَ ع إِنَّ هَذِهِ اَلْقُلُوبَ تَمَلُّ كَمَا تَمَلُّ اَلْأَبْدَانُ فَابْتَغُوا لَهَا طَرَائِفَ اَلْحِكْمَةِ هذا قد تكرر وتكرر منا ذكر ما قيل في إجمام النفس والتنفيس عنها من كرب الجد والإحماض وفسرنا معنى قوله ع فابتغوا لها طرائف الحكمة وقلنا المراد ألا يجعل الإنسان وقته كله مصروفا إلى الأنظار العقلية في البراهين الكلامية والحكمية بل ينقلها من ذلك أحيانا إلى النظر في الحكمة الخلقية فإنها حكمة لا تحتاج إلى إتعاب النفس والخاطر . فأما القول في الدعابة فقد ذكرناه أيضا فيما تقدم وأوضحنا أن كثيرا من أعيان الحكماء والعلماء كانوا ذوي دعابة مقتصدة لا مسرفة فإن الإسراف فيها يخرج صاحبه إلى الخلاعة ولقد أحسن من قال
أفد طبعك المكدود بالجد راحة
تجم وعلله بشي ء من المزح
و لكن إذا أعطيته ذاك فليكن
بمقدار ما يعطى الطعام من الملح
[ 17 ](1/5353)
194
وَ قَالَ ع لَمَّا سَمِعَ قَوْلَ اَلْخَوَارِجِ لاَ حُكْمَ إِلاَّ لِلَّهِ كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ معنى قوله سبحانه إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أي إذا أراد شيئا من أفعال نفسه فلا بد من وقوعه بخلاف غيره من القادرين بالقدرة فإنه لا يجب حصول مرادهم إذا أرادوه أ لا ترى ما قبل هذه الكلمة يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَ اُدْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَ ما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ خاف عليهم من الإصابة بالعين إذا دخلوا من باب واحد فأمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة ثم قال لهم وَ ما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ أي إذا أراد الله بكم سوءا لم يدفع عنكم ذلك السوء ما أشرت به عليكم من التفرق ثم قال إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أي ليس حي من الأحياء ينفذ حكمه لا محالة ومراده لما هو من أفعاله إلا الحي القديم وحده فهذا هو معنى هذه الكلمة وضلت الخوارج عندها فأنكروا على أمير المؤمنين ع موافقته على التحكيم وقالوا كيف يحكم وقد قال الله سبحانه إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ فغلطوا لموضع اللفظ المشترك وليس هذا الحكم هو ذلك الحكم فإذن هي كلمة حق يراد بها باطل لأنها حق على المفهوم الأول ويريد بها الخوارج نفي كل ما يسمى حكما إذا صدر عن غير الله تعالى وذلك باطل لأن الله تعالى قد أمضى حكم المخلوقين في كثير من الشرائع
[ 18 ](1/5354)
195
وَ قَالَ ع فِي صِفَةِ اَلْغَوْغَاءِ هُمُ اَلَّذِينَ إِذَا اِجْتَمَعُوا غَلَبُوا وَ إِذَا تَفَرَّقُوا لَمْ يُعْرَفُوا وَ قِيلَ بَلْ قَالَ ع هُمُ اَلَّذِينَ إِذَا اِجْتَمَعُوا ضَرُّوا وَ إِذَا تَفَرَّقُوا نَفَعُوا فَقِيلَ قَدْ عَرَفْنَا عَلِمْنَا مَضَرَّةَ اِجْتِمَاعِهِمْ فَمَا مَنْفَعَةُ اِفْتِرَاقِهِمْ فَقَالَ ع يَرْجِعُ أَصْحَابُ أَهْلُ اَلْمِهَنِ إِلَى مِهْنَتِهِمْ مِهَنِهِمْ فَيَنْتَفِعُ اَلنَّاسُ بِهِمْ كَرُجُوعِ اَلْبَنَّاءِ إِلَى بِنَائِهِ وَ اَلنَّسَّاجِ إِلَى مَنْسَجِهِ وَ اَلْخَبَّازِ إِلَى مَخْبَزِهِ كان الحسن إذا ذكر الغوغاء وأهل السوق قال قتلة الأنبياء وكان يقال العامة كالبحر إذا هاج أهلك راكبه وقال بعضهم لا تسبوا الغوغاء فإنهم يطفئون الحريق وينقذون الغريق ويسدون البثوق . وقال شيخنا أبو عثمان الغاغة والباغة والحاكة كأنهم أعذار عام واحد أ لا ترى أنك لا تجد أبدا في كل بلدة وفي كل عصر هؤلاء بمقدار واحد وجهة واحدة من السخف والنقص والخمول والغباوة وكان المأمون يقول كل شر وظلم في العالم
[ 19 ]
فهو صادر عن العامة والغوغاء لأنهم قتلة الأنبياء والمغرون بين العلماء والنمامون بين الأوداء ومنهم اللصوص وقطاع الطريق والطرارون والمحتالون والساعون إلى السلطان فإذا كان يوم القيامة حشروا على عادتهم في السعاية فقالوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا اَلسَّبِيلاَ رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ اَلْعَذابِ وَ اِلْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً
[ 20 ](1/5355)
196
وَ قَالَ ع وَ قَدْ أُتِيَ بِجَانٍ وَ مَعَهُ غَوْغَاءُ فَقَالَ لاَ مَرْحَباً بِوُجُوهٍ لاَ تُرَى إِلاَّ عِنْدَ كُلِّ سَوْأَةٍ أخذ هذا اللفظ المستعين بالله وقد أدخل عليه ابن أبي الشوارب القاضي ومعه الشهود ليشهدوا عليه أنه قد خلع نفسه من الخلافة وبايع للمعتز بالله فقال لا مرحبا بهذه الوجوه التي لا ترى إلا يوم سوء . وقال من مدح الغوغاء والعامة إن
في الحديث المرفوع أن الله ينصر هذا الدين بقوم لا خلاق لهم . وكان الأحنف يقول أكرموا سفهاءكم فإنهم يكفونكم النار والعار . وقال الشاعر
و إني لأستبقي امرأ السوء عدة
لعدوة عريض من الناس جائب
أخاف كلاب الأبعدين وهرشها
إذا لم تجاوبها كلاب الأقارب
[ 21 ](1/5356)
197
وَ قَالَ ع إِنَّ مَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ مَلَكَيْنِ يَحْفَظَانِهِ فَإِذَا جَاءَ اَلْقَدَرُ خَلَّيَا بَيْنَهُ وَ بَيْنَهُ وَ إِنَّ اَلْأَجَلَ جُنَّةٌ حَصِينَةٌ
قد تقدم هذا وقلنا إنه ذهب كثير من الحكماء هذا المذهب وإن لله تعالى ملائكة موكلة تحفظ البشر من التردي في بئر ومن إصابة سهم معترض في طريق ومن رفس دابة ومن نهش حية أو لسع عقرب ونحو ذلك والشرائع أيضا قد وردت بمثله وإن الأجل جنة أي درع ولهذا في علم الكلام مخرج صحيح وذلك لأن أصحابنا يقولون إن الله تعالى إذا علم أن في بقاء زيد إلى وقت كذا لطفا له أو لغيره من المكلفين صد من يهم بقتله عن قتله بألطاف يفعلها تصده عنه أو تصرفه عنه بصارف أو يمنعه عنه بمانع كي لا يقطع ذلك الإنسان بقتل زيد الألطاف التي يعلم الله أنها مقربة من الطاعة ومبعدة من المعصية لزيد أو لغيره فقد بان أن الأجل على هذا التقدير جنة حصينة لزيد من حيث كان الله تعالى باعتبار ذلك الأجل مانعا من قتله وإبطال حياته ولا جنة أحصن من ذلك
[ 22 ](1/5357)
198
وَ قَالَ ع وَ قَدْ قَالَ لَهُ طَلْحَةُ وَ اَلزُّبَيْرُ نُبَايِعُكَ عَلَى أَنَّا شُرَكَاؤُكَ فِي هَذَا اَلْأَمْرِ فَقَالَ لاَ وَ لَكِنَّكُمَا شَرِيكَانِ فِي اَلْقُوَّةِ وَ اَلاِسْتِعَانَةِ وَ عَوْنَانِ عَلَى اَلْعَجْرِ اَلْعَجْزِ وَ اَلْأَوَدِ قد ذكرنا هذا فيما تقدم حيث شرحنا بيعة المسلمين لعلي ع كيف وقعت بعد مقتل عثمان ولقد أحسن فيما قال لهما لما سألاه أن يشركاه في الأمر فقال أما المشاركة في الخلافة فكيف يكون ذلك وهل يصح أن يدبر أمر الرعية إمامان
و هل يجمع السيفان ويحك في غمد
و إنما تشركاني في القوة والاستعانة أي إذا قوي أمري وأمر الإسلام بي قويتما أنتما أيضا وإذا عجزت عن أمر أو تأود علي أمر أي اعوج كنتما عونين لي ومساعدين على إصلاحه . فإن قلت فما معنى قوله والاستعانة قلت الاستعانة هاهنا الفوز والظفر كانوا يقولون للقامر يفوز قدحه قد جرى ابنا عنان وهما خطان يخطان في الأرض يزجر بهما الطير واستعان الإنسان إذا قال وقت الظفر والغلبة هذه الكلمة
[ 23 ](1/5358)
199
وَ قَالَ ع أَيُّهَا اَلنَّاسُ اِتَّقُوا اَللَّهَ اَلَّذِي إِنْ قُلْتُمْ سَمِعَ وَ إِنْ أَضْمَرْتُمْ عَلِمَ وَ بَادِرُوا اَلْمَوْتَ اَلَّذِي إِنْ هَرَبْتُمْ مِنْهُ أَدْرَكَكُمْ وَ إِنْ أَقَمْتُمْ أَخَذَكُمْ وَ إِنْ نَسِيتُمُوهُ ذَكَرَكُمْ قد تقدم منا كلام كثير في ذكر الموت ورأى الحسن البصري رجلا يجود بنفسه فقال إن أمرا هذا آخره لجدير أن يزهد في أوله وإن أمرا هذا أوله لجدير أن يخاف من آخره . ومن كلامه فضح الموت الدنيا . وقال خالد بن صفوان لو قال قائل الحسن أفصح الناس لهذه الكلمة لما كان مخطئا وقال لرجل في جنازة أ ترى هذا الميت لو عاد إلى الدنيا لكان يعمل عملا صالحا قال نعم قال فإن لم يكن ذلك فكن أنت ذاك
[ 24 ](1/5359)
200
وَ قَالَ ع لاَ يُزَهِّدَنَّكَ فِي اَلْمَعْرُوفِ مَنْ لاَ يَشْكُرُهُ لَكَ فَقَدْ يَشْكُرُكَ عَلَيْهِ مَنْ لاَ يَسْتَمْتِعُ بِشَيْ ءٍ مِنْهُ وَ قَدْ تُدْرِكُ يُدْرَكُ مِنْ شُكْرِ اَلشَّاكِرِ أَكْثَرَ مِمَّا أَضَاعَ اَلْكَافِرُ وَ اَللَّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ قد أخذت أنا هذا المعنى فقلت من جملة قصيدة لي حكمية
لا تسدين إلى ذي اللؤم مكرمة
فإنه سبخ لا ينبت الشجرا
فإن زرعت فمحفوظ بمضيعة
و أكل زرعك شكر الغير إن كفرا
و قد سبق منا كلام طويل في الشكر . ورأى العباس بن المأمون يوما بحضرة المعتصم خاتما في يد إبراهيم بن المهدي فاستحسنه فقال له ما فص هذا الخاتم ومن أين حصلته فقال إبراهيم هذا خاتم رهنته في دولة أبيك وافتككته في دولة أمير المؤمنين فقال العباس فإن لم تشكر أبي على حقنه دمك فأنت لا تشكر أمير المؤمنين على فكه خاتمك . وقال الشاعر
لعمرك ما المعروف في غير أهله
و في أهله إلا كبعض الودائع
فمستودع ضاع الذي كان عنده
و مستودع ما عنده غير ضائع
و ما الناس في شكر الصنيعة عندهم
و في كفرها إلا كبعض المزارع
فمزرعة طابت وأضعف نبتها
و مزرعة أكدت على كل زارع
[ 25 ](1/5360)
201
وَ قَالَ ع كُلُّ وِعَاءٍ يَضِيقُ بِمَا جُعِلَ فِيهِ إِلاَّ وِعَاءَ اَلْعِلْمِ فَإِنَّهُ يَتَّسِعُ بِهِ هذا الكلام تحته سر عظيم ورمز إلى معنى شريف غامض ومنه أخذ مثبتو النفس الناطقة الحجة على قولهم ومحصول ذلك أن القوى الجسمانية يكلها ويتعبها تكرار أفاعيلها عليها كقوة البصر يتعبها تكرار إدراك المرئيات حتى ربما أذهبها وأبطلها أصلا وكذلك قوة السمع يتعبها تكرار الأصوات عليها وكذلك غيرها من القوى الجسمانية ولكنا وجدنا القوة العاقلة بالعكس من ذلك فإن الإنسان كلما تكررت عليه المعقولات ازدادت قوته العقلية سعة وانبساطا واستعدادا لإدراك أمور أخرى غير ما أدركته من قبل حتى كان تكرار المعقولات عليها يشحذها ويصقلها فهي إذن مخالفة في هذا الحكم للقوى الجسمانية فليست منها لأنها لو كانت منها لكان حكمها حكم واحد من أخواتها وإذا لم تكن جسمانية فهي مجردة وهي التي نسميها بالنفس الناطقة
[ 26 ](1/5361)
202
وَ قَالَ ع أَوَّلُ عِوَضِ اَلْحَلِيمِ مِنْ حِلْمِهِ أَنَّ اَلنَّاسَ أَنْصَارُهُ عَلَى اَلْجَاهِلِ قد تقدم من أقوالنا في الحلم ما في بعضه كفاية . وفي الحكم القديمة لا تشن حسن الظفر بقبح الانتقام . وكان يقال اعف عمن أبطأ عن الذنب وأسرع إلى الندم . وكان يقال شاور الأناة والتثبت وذاكر الحفيظة عند هيجانها ما في عواقب العقوبة من الندم وخاصمها بما يؤدى إليه الحلم من الاغتباط . وكان يقال ينبغي للحازم أن يقدم على عذابه وصفحه تعريف المذنب بما جناه وإلا نسب حلمه إلى الغفلة وكلال حد الفطنة و
قالت الأنصار للنبي ص يوم فتح مكة إنهم فعلوا بك ثم فعلوا يغرونه بقريش فقال إنما سميت محمدا لأحمد
[ 27 ](1/5362)
203
وَ قَالَ ع إِنْ لَمْ تَكُنْ حَلِيماً فَتَحَلَّمْ فَإِنَّهُ قَلَّ مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ إِلاَّ أَوْشَكَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ التحلم تكلف الحلم والذي قاله ع صحيح في مناهج الحكمة وذلك لأن من تشبه بقوم وتكلف التخلق بأخلاقهم والتأدب بآدابهم واستمر على ذلك ومرن عليه الزمان الطويل اكتسب رياضة قوية وملكة تامة وصار ذلك التكلف كالطبع له وانتقل عن الخلق الأول أ لا ترى أن الأعرابي الجلف الجافي إذا دخل المدن والقرى وخالط أهلها وطال مكثه فيهم انتقل عن خلق الأعراب الذي نشأ عليه وتلطف طبعه وصار شبيها بساكني المدن وكالأجنبي عن ساكني الوبر وهذا قد وجدناه في حيوانات أخرى غير البشر كالبازي والصقر والفهد التي تراض حتى تذل وتأنس وتترك طبعها القديم بل قد شاهدناه في الأسد وهو أبعد الحيوان من الإنس . وذكر ابن الصابي أن عضد الدولة بن بويه كانت له أسود يصطاد بها كالفهود فتمسكه عليه حتى يدركه فيذكيه وهذا من العجائب الطريفة
[ 28 ](1/5363)
204
وَ قَالَ ع مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ رَبِحَ وَ مَنْ غَفَلَ عَنْهَا خَسِرَ وَ مَنْ خَافَ أَمِنَ وَ مَنِ اِعْتَبَرَ أَبْصَرَ وَ مَنْ أَبْصَرَ فَهِمَ وَ مَنْ فَهِمَ عَلِمَ
قد جاء في الحديث المرفوع حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا . قوله ومن خاف أمن أي من اتقى الله أمن من عذابه يوم القيامة . ثم قال ومن اعتبر أبصر أي من قاس الأمور بعضها ببعض واتعظ بآيات الله وأيامه أضاءت بصيرته ومن أضاءت بصيرته فهم ومن فهم علم . فإن قلت الفهم هو العلم فأي حاجة له إلى أن يقول ومن فهم علم قلت الفهم هاهنا هو معرفة المقدمات ولا بد أن يستعقب معرفة المقدمات معرفة النتيجة فمعرفة النتيجة هو العلم فكأنه قال من اعتبر تنور قلبه بنور الله تعالى ومن تنور قلبه عقل المقدمات البرهانية ومن عقل المقدمات البرهانية علم النتيجة الواجبة عنها وتلك هي الثمرة الشريفة التي في مثلها يتنافس المتنافسون
[ 29 ](1/5364)
205
وَ قَالَ ع : لَتَعْطِفَنَّ اَلدُّنْيَا عَلَيْنَا بَعْدَ شِمَاسِهَا عَطْفَ اَلضَّرُوسِ عَلَى وَلَدِهَا وَ تَلاَ عَقِيبَ ذَلِكَ وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوارِثِينَ الشماس مصدر شمس الفرس إذا منع من ظهره . والضروس الناقة السيئة الخلق تعض حالبها والإمامية تزعم أن ذلك وعد منه بالإمام الغائب الذي يملك الأرض في آخر الزمان وأصحابنا يقولون إنه وعد بإمام يملك الأرض ويستولي على الممالك ولا يلزم من ذلك أنه لا بد أن يكون موجودا وإن كان غائبا إلى أن يظهر بل يكفي في صحة هذا الكلام أن يخلق في آخر الوقت . وبعض أصحابنا يقول إنه إشارة إلى ملك السفاح والمنصور وابني المنصور بعده فإنهم الذين أزالوا ملك بني أمية وهم بنو هاشم وبطريقهم عطفت الدنيا على بني عبد المطلب عطف الضروس . وتقول الزيدية إنه لا بد من أن يملك الأرض فاطمي يتلوه جماعة من الفاطميين على مذهب زيد وإن لم يكن أحد منهم الآن موجودا
[ 30 ](1/5365)
206
وَ قَالَ ع اِتَّقُوا اَللَّهَ تَقِيَّةَ تُقَاةَ مَنْ شَمَّرَ تَجْرِيداً وَ جَدَّ تَشْمِيراً وَ كَمَّشَ أَكْمَشَ فِي مَهَلٍ وَ بَادَرَ عَنْ وَجَلٍ وَ نَظَرَ فِي كَرَّةِ اَلْمَوْئِلِ وَ عَاقِبَةِ اَلْمَصْدَرِ وَ مَغَبَّةِ اَلْمَرْجِعِ لو قال وجرد تشميرا لكان قد أتى بنوع مشهور من أنواع البديع لكنه لم يحفل بذلك وجرى على مقتضي طبعه من البلاغة الخالية من التكلف والتصنع على أن ذلك قد روي والمشهور الرواية الأولى . وأكمش جد وأسرع ورجل كميش أي جاد وفي مهل أي في مهلة العمل قبل أن يضيق عليه وقته بدنو الأجل
[ 31 ](1/5366)
207
وَ قَالَ ع اَلْجُودُ حَارِسُ اَلْأَعْرَاضِ وَ اَلْحِلْمُ فِدَامُ اَلسَّفِيهِ وَ اَلْعَفْوُ زَكَاةُ اَلظَّفَرِ وَ اَلسُّلُوُّ عِوَضُكَ مِمَّنْ غَدَرَ وَ اَلاِسْتِشَارَةُ عَيْنُ اَلْهِدَايَةِ وَ قَدْ خَاطَرَ مَنِ اِسْتَغْنَى بِرَأْيِهِ وَ اَلصَّبْرُ يُنَاضِلُ اَلْحِدْثَانَ وَ اَلْجَزَعُ مِنْ أَعْوَانِ اَلزَّمَانِ وَ أَشْرَفُ اَلْغِنَى تَرْكُ اَلْمُنَى وَ كَمْ مِنْ عَقْلٍ أَسِيرٍ تَحْتَ عِنْدَ هَوَى أَمِيرٍ وَ مِنَ اَلتَّوْفِيقِ حِفْظُ اَلتَّجْرِبَةِ وَ اَلْمَوَدَّةُ قَرَابَةٌ مُسْتَفَادَةٌ وَ لاَ تَأْمَنَنَّ مَلُولاً مثل قوله الجود حارس الأعراض قولهم كل عيب فالكرم يغطيه والفدام خرقة تجعل على فم الإبريق فشبه الحلم بها فإنه يرد السفيه عن السفه كما يرد الفدام الخمر عن خروج القذى منها إلى الكأس . فأما والعفو زكاة الظفر فقد تقدم أن لكل شي ء زكاة وزكاة الجاه رفد المستعين وزكاة الظفر العفو . وأما السلو عوضك ممن غدر فمعناه أن من غدر بك من أحبائك وأصدقائك فاسل عنه وتناسه واذكر ما عاملك به من الغدر فإنك تسلو عنه ويكون ما استفدته من السلو عوضا عن وصاله الأول قال الشاعر
[ 32 ]
أعتقني سوء ما صنعت من الرق
فيا بردها على كبدي
فصرت عبدا للسوء فيك وما
أحسن سوء قبلي إلى أحد(1/5367)
و قد سبق القول في الاستشارة وإن المستغني برأيه مخاطر وكذلك القول في الصبر والمناضلة المراماة . وكذلك القول في الجزع وأن الإنسان إذا جزع عند المصيبة فقد أعان الزمان على نفسه وأضاف إلى نفسه مصيبة أخرى . وسبق أيضا القول في المنى وأنها من بضائع النوكى . وكذلك القول في الهوى وأنه يغلب الرأي ويأسره . وكذلك القول في التجربة وقولهم من حارب المجرب حلت به الندامة وإن من أضاع التجربة فقد أضاع عقله ورأيه . وقد سبق القول في المودة وذكرنا قولهم الصديق نسيب الروح والأخ نسيب الجسم وسبق القول في الملال . وقال العباس بن الأحنف
لو كنت عاتبة لسكن عبرتي
أملي رضاك وزرت غير مراقب
لكن مللت فلم يكن لي حيلة
صد الملول خلاف صد العاتب
[ 33 ](1/5368)
208
وَ قَالَ ع عُجْبُ اَلْمَرْءِ بِنَفْسِهِ أَحَدُ حُسَّادِ عَقْلِهِ قد تقدم القول في العجب ومعنى هذه الكلمة أن الحاسد لا يزال مجتهدا في إظهار معايب المحسود وإخفاء محاسنه فلما كان عجب الإنسان بنفسه كاشفا عن نقص عقله كان كالحاسد الذي دأبه إظهار عيب المحسود ونقصه . وكان يقال من رضي عن نفسه كثر الساخط عليه . وقال مطرف بن الشخير لأن أبيت نائما وأصبح نادما أحب إلي من أن أبيت قائما وأصبح نادما
[ 34 ](1/5369)
209
وَ قَالَ ع أَغْضِ عَلَى اَلْقَذَى وَ اَلْأَلَمِ تَرْضَ أَبَداً نظير هذا قول الشاعر
و من لم يغمض عينه عن صديقه
و عن بعض ما فيه يمت وهو عاتب
و من يتتبع جاهدا كل عثرة
يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب
و قال الشاعر
إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى
ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
و كان يقال أغض عن الدهر وإلا صرعك وكان يقال لا تحارب الأيام وإن جنحت دون مطلوبك منها واصحبها بسلاسة القياد فإنك إن تصحبها بذلك تعطك بعد المنع وتلن لك بعد القساوة وإن أبيت عليها قادتك إلى مكروه صروفها
[ 35 ](1/5370)
210
وَ قَالَ ع مَنْ لاَنَ عُودُهُ كَثُفَتْ أَغْصَانُهُ تكاد هذه الكلمة أن تكون إيماء إلى قوله تعالى وَ اَلْبَلَدُ اَلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ومعنى هذه الكلمة أن من حسن خلقه ولانت كلمته كثر محبوه وأعوانه وأتباعه . ونحوه قوله من لانت كلمته وجبت محبته . وقال تعالى وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ اَلْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ وأصل هذه الكلمة مطابق للقواعد الحكمية أعني الشجرة ذات الأغصان حقيقة وذلك لأن النبات كالحيوان في القوى النفسانية أعني الغاذية والمنمية وما يخدم الغاذية من القوى الأربع وهي الجاذبة والماسكة والدافعة والهاضمة فإذا كان اليبس غالبا على شجرة كانت أغصانها أخف وكان عودها أدق وإذا كانت الرطوبة غالبة كانت أغصانها أكثر وعودها أغلظ وذلك لاقتضاء اليبس الذبول واقتضاء الرطوبة الغلظ والعبالة والضخامة أ لا ترى أن الإنسان الذي غلب اليبس على مزاجه لا يزال مهلوسا نحيفا والذي غلبت الرطوبة عليه لا يزال ضخما عبلا
[ 36 ](1/5371)
211
وَ قَالَ ع اَلْخِلاَفُ يَهْدِمُ اَلرَّأْيَ هذا مثل
قوله ع في موضع آخر لا رأي لمن لا يطاع و
يروى لا إمرة لمن لا يطاع . وفي أخبار قصير وجذيمة لو كان يطاع لقصير أمر . وكان يقال اللجاج يشحذ الزجاج ويثير العجاج . وقال دريد بن الصمة
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى
فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد
فلما عصوني كنت منهم وقد أرى
غوايتهم وأنني غير مهتدي
و كان يقال أهدى رأي الرجل ما نفذ حكمه فإذا خولف فسد . ومن كلام أفلاطون اللجاج عسر انطباع المعقولات في النفس وذلك إما لفرط حدة تكون في الإنسان وإما لغلظ طبع فلا ينقاد للرأي
[ 37 ](1/5372)
212
وَ قَالَ ع مَنْ نَالَ اِسْتَطَالَ يجوز أن يريد به من أثرى ونال من الدنيا حظا استطال على الناس . ويجوز أن يريد به من جاد استطال بجوده . يقال نالني فلان بكذا أي جاد به علي ورجل نال أي جواد ذو نائل ومثله رجل طان أي ذو طين ورجل مال أي ذو مال
[ 38 ](1/5373)
213
وَ قَالَ ع فِي تَقَلُّبِ اَلْأَحْوَالِ عِلْمُ جَوَاهِرِ اَلرِّجَالِ معناه لا تعلم أخلاق الإنسان إلا بالتجربة واختلاف الأحوال عليه وقديما قيل ترى الفتيان كالنخل وما يدريك ما الدخل . وقال الشاعر
لا تحمدن امرأ حتى تجربه
و لا تذمنه إلا بتجريب
و قالوا التجربة محك وقالوا مثل الإنسان مثل البطيخة ظاهرها مونق وقد يكون في باطنها العيب والدود وقد يكون طعمها حامضا وتفها . وقالوا للرجل المجرب يمدحونه قد آل وائل عليه . وقال الشاعر يمدح
ما زال يحلب هذا الدهر أشطره
يكون متبعا طورا ومتبعا
حتى استمرت على شزر مريرته
مستحكم الرأي لا قحما ولا ضرعا
[ 39 ](1/5374)
214
وَ قَالَ ع حَسَدُ اَلصَّدِيقِ مِنْ سُقْمِ اَلْمَوَدَّةِ إذا حسدك صديقك على نعمة أعطيتها لم تكن صداقته صحيحة فإن الصديق حقا من يجري مجرى نفسك والإنسان لم يحسد نفسه . وقيل لحكيم ما الصديق فقال إنسان هو أنت إلا أنه غيرك . وأخذ هذا المعنى أبو الطيب فقال
ما الخل إلا من أود بقلبه
و أرى بطرف لا يرى بسوائه
و من أدعية الحكماء اللهم اكفني بوائق الثقات واحفظني من كيد الأصدقاء وقال الشاعر
احذر عدوك مرة
و احذر صديقك ألف مره
فلربما انقلب الصديق
فكان أعرف بالمضره
و قال آخر
احذر مودة ماذق
شاب المرارة بالحلاوة
[ 40 ]
يحصي الذنوب عليك
أيام الصداقة للعداوة
و ذكر خالد بن صفوان شبيب بن شيبة فقال ذاك رجل ليس له صديق في السر ولا عدو في العلانية . وقال الشاعر
إذا كان دواما أخوك مصارما
موجهة في كل أوب ركائبه
فخل له ظهر الطريق ولا تكن
مطية رحال كثير مذاهبه
[ 41 ](1/5375)
215
وَ قَالَ ع أَكْثَرُ مَصَارِعِ اَلْعُقُولِ تَحْتَ بُرُوقِ اَلْمَطَامِعِ قد تقدم منا قول في هذا المعنى ومنه قول الشاعر
طمعت بليلى أن تريع وإنما
تقطع أعناق الرجال المطامع
و قال آخر
إذا حدثتك النفس أنك قادر
على ما حوت أيدي الرجال فكذب
و إياك والأطماع إن وعودها
رقارق آل أو بوارق خلب
[ 42 ](1/5376)
216
وَ قَالَ ع لَيْسَ مِنَ اَلْعَدْلِ اَلْقَضَاءُ عَلَى اَلثِّقَةِ بِالظَّنِّ هذا مثل قول أصحاب أصول الفقه لا يجوز نسخ القرآن والسنة المتواترة بخبر الواحد لأن المظنون لا يرفع المعلوم . ولفظ الثقة هاهنا مرادف للفظ العلم فكأنه قال لا يجوز أن يزال ما علم بطريق قطعية لأمر ظني . فإن قلت أ ليس البراءة الأصلية معلومة بالعقل ومع ذلك ترفع بالأمارات الظنية كأخبار الآحاد . قلت ليست البراءة الأصلية معلومة بالعقل مطلقا بل مشروطة بعدم ما يرفعها من طريق علمي أو ظني أ لا ترى أن أكل الفاكهة وشرب الماء معلوم بالعقل حسنه ولكن لا مطلقا بل بشرط انتفاء ما يقتضي قبحه فإنا لو أخبرنا إنسان أن هذه الفاكهة أو هذا الماء مسموم لقبح منا الإقدام على تناولهما وإن كان قول ذلك المخبر الواحد لا يفيد العلم القطعي
[ 43 ](1/5377)
217
وَ قَالَ ع بِئْسَ اَلزَّادُ إِلَى اَلْمَعَادِ اَلْعُدْوَانُ عَلَى اَلْعِبَادِ قد تقدم من قولنا في الظلم والعدوان ما فيه كفاية . وكان يقال عجبا لمن عومل فأنصف إذا عامل كيف يظلم وأعجب منه من عومل فظلم إذا عامل كيف يظلم . وكان يقال العدو عدوان عدو ظلمته وعدو ظلمك فإن اضطرك الدهر إلى أحدهما فاستعن بالذي ظلمك فإن الآخر موتور
[ 44 ](1/5378)
218
وَ قَالَ ع مِنْ أَشْرَفِ أَفْعَالِ أَعْمَالِ اَلْكَرِيمِ غَفْلَتُهُ عَمَّا يَعْلَمُ كان يقال التغافل من السؤدد وقال أبو تمام
ليس الغبي بسيد في قومه
لكن سيد قومه المتغابي
و قال طاهر بن الحسين بن مصعب
و يكفيك من قوم شواهد أمرهم
فخذ صفوهم قبل امتحان الضمائر
فإن امتحان القوم يوحش منهم
و ما لك إلا ما ترى في الظواهر
و إنك إن كشفت لم تر مخلصا
و أبدى لك التجريب خبث السرائر
و كان يقال بعض التغافل فضيلة وتمام الجود الإمساك عن ذكر المواهب ومن الكرم أن تصفح عن التوبيخ وأن تلتمس ستر هتك الكريم
[ 45 ](1/5379)
219
وَ قَالَ ع مَنْ كَسَاهُ اَلْحَيَاءُ ثَوْبَهُ لَمْ يَرَ اَلنَّاسُ عَيْبَهُ قد سبق منا قول كثير في الحياء(1/5380)
فصل في الحياء وما قيل فيه
و كان يقال الحياء تمام الكرم والحلم تمام العقل . وقال بعض الحكماء الحياء انقباض النفس عن القبائح وهو من خصائص الإنسان لأنه لا يوجد في الفرس ولا في الغنم والبقر ونحو ذلك من أنواع الحيوانات فهو كالضحك الذي يختص به نوع الإنسان وأول ما يظهر من قوة الفهم في الصبيان الحياء وقد جعله الله تعالى في الإنسان ليرتدع به عما تنزع إليه نفسه من القبيح فلا يكون كالبهيمة وهو خلق مركب من جبن وعفة ولذلك لا يكون المستحي فاسقا ولا الفاسق مستحيا لتنافي اجتماع العفة والفسق وقلما يكون الشجاع مستحيا والمستحي شجاعا لتنافي اجتماع الجبن والشجاعة ولعزة وجود ذلك ما يجمع الشعراء بين المدح بالشجاعة والمدح بالحياء نحو قول القائل
يجري الحياء الغض من قسماتهم
في حين يجري من أكفهم الدم
[ 46 ]
و قال آخر
كريم يغض الطرف فضل حيائه
و يدنو وأطراف الرماح دوان
و متى قصد به الانقباض فهو مدح للصبيان دون المشايخ ومتى قصد به ترك القبيح فهو مدح لكل أحد وبالاعتبار الأول قيل الحياء بالأفاضل قبيح وبالاعتبار الثاني ورد إن الله ليستحيي من ذي شيبة في الإسلام أن يعذبه أي يترك تعذيبه ويستقبح لكرمه ذلك . فأما الخجل فحيرة تلحق النفس لفرط الحياء ويحمد في النساء والصبيان ويذم بالاتفاق في الرجال . فأما القحة فمذمومة بكل لسان إذ هي انسلاخ من الإنسانية وحقيقتها لجاج النفس في تعاطي القبيح واشتقاقها من حافر وقاح أي صلب ولهذه المناسبة قال الشاعر
يا ليت لي من جلد وجهك رقعة
فأعد منها حافرا للأشهب
و ما أصدق قول الشاعر
صلابة الوجه لم تغلب على أحد
إلا تكامل فيه الشر واجتمعا(1/5381)
فأما كيف يكتسب الحياء فمن حق الإنسان إذا هم بقبيح أن يتصور أجل من نفسه أنه يراه فإن الإنسان يستحيي ممن يكبر في نفسه أن يطلع على عيبه ولذلك لا يستحيي من الحيوان غير الناطق ولا من الأطفال الذين لا يميزون ويستحيي من العالم أكثر مما يستحيي من الجاهل ومن الجماعة أكثر مما يستحيي من الواحد والذين يستحيي الإنسان منهم ثلاثة البشر ونفسه والله تعالى أما البشر فهم أكثر
[ 47 ]
من يستحيي منه الإنسان في غالب الناس ثم نفسه ثم خالقه وذلك لقلة توفيقه وسوء اختياره . واعلم أن من استحيا من الناس ولم يستحي من نفسه فنفسه عنده أخس من غيره ومن استحيا منهما ولم يستحي من الله تعالى فليس عارفا لأنه لو كان عارفا بالله لما استحيا من المخلوق دون الخالق أ لا ترى أن الإنسان لا بد أن يستحيي من الذي يعظمه ويعلم أنه يراه أو يستمع بخبره فيبكته ومن لا يعرف الله تعالى كيف يستعظمه وكيف يعلم أنه يطلع عليه و
في قول رسول الله ص استحيوا من الله حق الحياء أمر في ضمن كلامه هذا بمعرفته سبحانه وحث عليها وقال سبحانه أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اَللَّهَ يَرى تنبيها على أن العبد إذا علم أن ربه يراه استحيا من ارتكاب الذنب . وسئل الجنيد رحمه الله عما يتولد منه الحياء من الله تعالى فقال أن يرى العبد آلاء الله سبحانه ونعمه عليه ويرى تقصيره في شكره . فإن قال قائل فما معنى
قول النبي ص من لا حياء له فلا إيمان له . قيل له لأن الحياء أول ما يظهر من أمارة العقل في الإنسان وأما الإيمان فهو آخر المراتب ومحال حصول المرتبة الآخرة لمن لم تحصل له المرتبة الأولى فالواجب إذن أن من لا حياء له فلا إيمان له . و
قال ع الحياء شعبة من الإيمان . و
قال الإيمان عريان ولباسه التقوى وزينته الحياء
[ 48 ](1/5382)
220
وَ قَالَ ع بِكَثْرَةِ اَلصَّمْتِ تَكُونُ اَلْهَيْبَةُ وَ بِالنَّصَفَةِ يَكْثُرُ اَلْمُوَاصِلُونَ وَ بِالْإِفْضَالِ تَعْظُمُ اَلْأَقْدَارُ وَ بِالتَّوَاضُعِ تَتِمُّ اَلنِّعْمَةُ وَ بِاحْتِمَالِ اَلْمُؤَنِ يَجِبُ اَلسُّودَدُ اَلسُّؤْدُدُ وَ بِالسِّيرَةِ اَلْعَادِلَةِ يُقْهَرُ اَلْمُنَاوِئُ وَ بِالْحِلْمِ عَنِ اَلسَّفِيهِ تَكْثُرُ اَلْأَنْصَارُ عَلَيْهِ قال يحيى بن خالد ما رأيت أحدا قط صامتا إلا هبته حتى يتكلم فإما أن تزداد تلك الهيبة أو تنقص ولا ريب أن الإنصاف سبب انعطاف القلوب إلى المنصف وأن الإفضال والجود يقتضي عظم القدر لأنه إنعام والمنعم مشكور والتواضع طريق إلى تمام النعمة ولا سؤدد إلا باحتمال المؤن كما قال أبو تمام
و الحمد شهد لا ترى مشتاره
يجنيه إلا من نقيع الحنظل
غل لحامله ويحسبه الذي
لم يوه عاتقه خفيف المحمل
و السيرة العادلة سبب لقهر الملك الذي يسير بها أعداءه ومن حلم عن سفيه وهو قادر على الانتقام منه نصره الناس كلهم عليه واتفقوا كلهم على ذم ذلك السفيه وتقبيح فعله والاستقراء واختبار العادات تشهد بجميع ذلك
[ 49 ](1/5383)
221
وَ قَالَ ع اَلْعَجَبُ لِغَفْلَةِ اَلْحُسَّادِ عَنْ سَلاَمَةِ اَلْأَجْسَادِ إنما لم يحسد الحاسد على صحة الجسد لأنه صحيح الجسد فقد شارك في الصحة وما يشارك الإنسان غيره فيه لا يحسده عليه ولهذا أرباب الحسد إذا مرضوا حسدوا الأصحاء على الصحة . فإن قلت فلما ذا تعجب أمير المؤمنين ع قلت لكلامه ع وجه وهو أن الحسد لما تمكن في أربابه وصار غريزة فيهم تعجب كيف لا يتعدى هذا الخلق الذميم إلى أن يحسد الإنسان غيره على ما يشاركه فيه فإن زيدا إذا أبغض عمرا بغضا شديدا ود أن تزول عنه نعمته إليه وإن كان ذا نعمة كنعمته بل ربما كان أقوى وأحسن حالا . ويجوز أن يريد معنى آخر وهو تعجبه من غفلة الحساد على أن الحسد مؤثر في سلامة أجسادهم ومقتض سقمهم وهذا أيضا واضح
[ 50 ](1/5384)
222
وَ قَالَ ع اَلطَّامِعُ فِي وِثَاقِ اَلذُّلِّ من أمثال البحتري قوله
و اليأس إحدى الراحتين ولن ترى
تعبا كظن الخائب المكدود
و كان يقال ما طمعت إلا وذلت يعنون النفس . وفي البيت المشهور
تقطع أعناق الرجال المطامع
و قالوا عز من قنع وذل من طمع . وقد تقدم القول في الطمع مرارا
[ 51 ](1/5385)
223
وَ قَالَ ع وَ قَدْ سُئِلَ عَنِ اَلْإِيمَانِ فَقَالَ اَلْإِيمَانُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ وَ إِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ وَ عَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ قد تقدم قولنا في هذه المسألة وهذا هو مذهب أصحابنا المعتزلة بعينه لأن العمل بالأركان عندنا داخل في مسمى الإيمان أعني فعل الواجبات فمن لم يعمل لم يسم مؤمنا وإن عرف بقلبه وأقر بلسانه وهذا خلاف قول المرجئة من الأشعرية والإمامية والحشوية . فإن قلت فما قولك في النوافل هل هي داخلة في مسمى الإيمان أم لا قلت في هذا خلاف بين أصحابنا وهو مستقصى في كتبي الكلامية
[ 52 ](1/5386)
224
وَ قَالَ ع مَنْ أَصْبَحَ عَلَى اَلدُّنْيَا حَزِيناً فَقَدْ أَصْبَحَ لِقَضَاءِ اَللَّهِ سَاخِطاً وَ مَنْ أَصْبَحَ يَشْكُو مُصِيبَةً نَزَلَتْ بِهِ فَقَدْ أَصْبَحَ فَإِنَّمَا يَشْكُو رَبَّهُ وَ مَنْ أَتَى غَنِيّاً فَتَوَاضَعَ لَهُ لِغِنَاهُ ذَهَبَ ثُلُثَا دِينِهِ وَ مَنْ قَرَأَ اَلْقُرْآنَ فَمَاتَ فَدَخَلَ اَلنَّارَ فَهُوَ مِمَّنْ كَانَ مِمَّنْ يَتَّخِذُ آيَاتِ اَللَّهِ هُزُواً وَ مَنْ لَهِجَ قَلْبُهُ بِحُبِّ اَلدُّنْيَا اِلْتَاطَ قَلْبُهُ مِنْهَا بِثَلاَثٍ هَمٍّ لاَ يُغِبُّهُ وَ حِرْصٍ لاَ يَتْرُكُهُ وَ أَمَلٍ لاَ يُدْرِكُهُ إذا كان الرزق بقضاء الله وقدره فمن حزن لفوات شي ء منه فقد سخط قضاء الله وذلك معصية لأن الرضا بقضاء الله واجب وكذلك من شكا مصيبة حلت به فإنما يشكو فاعلها لا هي لأنها لم تنزل به من تلقاء نفسها وفاعلها هو الله ومن اشتكى الله فقد عصاه والتواضع للأغنياء تعظيما لغناهم أو رجاء شي ء مما في أيديهم فسق . وكان يقال لا يحمد التيه إلا من فقير على غني فأما قوله ع ومن قرأ القرآن فمات فدخل النار فهو ممن كان يتخذ آيات الله هزوا . فلقائل أن يقول قد يكون مؤمنا بالقرآن ليس بمتخذ له هزوا ويقرؤه ثم
[ 53 ](1/5387)
يدخل النار لأنه أتى بكبيرة أخرى نحو القتل والزنا والفرار من الزحف وأمثال ذلك . والجواب أن معنى كلامه ع هو أن من قرأ القرآن فمات فدخل النار لأجل قراءته القرآن فهو ممن كان يتخذ آيات الله هزوا أي يقرؤه هازئا به ساخرا منه مستهينا بمواعظه وزواجره غير معتقد أنه من عند الله . فإن قلت إنما دخل من ذكرت النار لا لأجل قراءته القرآن بل لهزئه به وجحوده إياه وأنت قلت معنى كلامه أنه من دخل النار لأجل قراءته القرآن فهو ممن كان يستهزئ بالقرآن . قلت بل إنما دخل النار لأنه قرأه على صفة الاستهزاء والسخرية أ لا ترى أن الساجد للصنم يعاقب لسجوده له على جهة العبادة والتعظيم وإن كان لو لا ما يحدثه مضافا للسجود من أفعال القلوب لما عوقب . ويمكن أن يحمل كلامه ع على تفسير آخر فيقال إنه عنى بقوله إنه كما كان ممن يتخذ آيات الله هزوا أنه يعتقد أنها من عند الله ولكنه لا يعمل بموجبها كما يفعله الآن كثير من الناس . قوله ع التاط بقلبه أي لصق ولا يغبه أي لا يأخذه غبا بل يلازمه دائما وصدق ع فإن حب الدنيا رأس كل خطيئة وحب الدنيا هو الموجب للهم والغم والحرص والأمل والخوف على ما اكتسبه أن ينفد وللشح بما حوت يده وغير ذلك من الأخلاق الذميمة
[ 54 ](1/5388)
225
وَ قَالَ ع كَفَى بِالْقَنَاعَةِ مُلْكاً وَ بِحُسْنِ اَلْخُلُقِ نَعِيماً قد تقدم القول في هذين وهما القناعة وحسن الخلق . وكان يقال يستحق الإنسانية من حسن خلقه ويكاد السيئ الخلق يعد من السباع . وقال بعض الحكماء حد القناعة هو الرضا بما دون الكفاية والزهد الاقتصار على الزهيد أي القليل وهما متقاربان وفي الأغلب إنما الزهد هو رفض الأمور الدنيوية مع القدرة عليها وأما القناعة فهي إلزام النفس الصبر عن المشتهيات التي لا يقدر عليها وكل زهد حصل عن قناعة فهو تزهد وليس بزهد وكذلك قال بعض الصوفية القناعة أول الزهد تنبيها على أن الإنسان يحتاج أولا إلى قدع نفسه وتخصصه بالقناعة ليسهل عليه تعاطي الزهد والقناعة التي هي الغنى بالحقيقة لأن الناس كلهم فقراء من وجهين أحدهما لافتقارهم إلى الله تعالى كما قال يا أَيُّهَا اَلنَّاسُ أَنْتُمُ اَلْفُقَراءُ إِلَى اَللَّهِ وَ اَللَّهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ . والثاني لكثرة حاجاتهم فأغناهم لا محالة أقلهم حاجة ومن سد مفاقره بالمقتنيات فما في انسدادها مطمع وهو كمن يرقع الخرق بالخرق ومن يسدها بالاستغناء عنها بقدر وسعه والاقتصار على تناول ضرورياته فهو الغني المقرب من الله سبحانه كما أشار إليه في قصة طالوت إِنَّ اَللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اِغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ قال أصحاب المعاني والباطن هذا إشارة إلى الدنيا
[ 55 ](1/5389)
226
وَ سُئِلَ ع عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى قَوْلِ اَللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً فَقَالَ هِيَ اَلْقَنَاعَةُ لا ريب أن الحياة الطيبة هي حياة الغنى وقد بينا أن الغني هو القنوع لأنه إذا كان الغنى عدم الحاجة فأغنى الناس أقلهم حاجة إلى الناس ولذلك كان الله تعالى أغنى الأغنياء لأنه لا حاجة به إلى شي ء وعلى هذا
دل النبي بقوله ص ليس الغنى بكثرة العرض إنما الغنى غنى النفس . وقال الشاعر
فمن أشرب اليأس كان الغني
و من أشرب الحرص كان الفقيرا
و قال الشاعر
غنى النفس ما يكفيك من سد خلة
فإن زاد شيئا عاد ذاك الغنى فقرا
و قال بعض الحكماء المخير بين أن يستغني عن الدنيا وبين أن يستغني بالدنيا كالمخير بين أن يكون مالكا أو مملوكا . ولهذا
قال ع تعس عبد الدينار والدرهم تعس فلا انتعش وشيك فلا انتقش .
[ 56 ]
و قيل لحكيم لم لا تغتم قال لأني لم أتخذ ما يغمني فقده . وقال الشاعر
فمن سره ألا يرى ما يسوءه
فلا يتخذ شيئا يخاف له فقدا(1/5390)
و قال أصحاب هذا الشأن القناعة من وجه صبر ومن وجه جود لأن الجود ضربان جود بما في يدك منتزعا وجود عما في يد غيرك متورعا وذلك أشرفهما ولا يحصل الزهد في الحقيقة إلا لمن يعرف الدنيا ما هي ويعرف عيوبها وآفاتها ويعرف الآخرة وافتقاره إليها ولا بد في ذلك من العلم أ لا ترى إلى قوله تعالى قالَ اَلَّذِينَ يُرِيدُونَ اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَ قالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اَللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ لا يُلَقَّاها إِلاَّ اَلصَّابِرُونَ . ولأن الزاهد في الدنيا راغب في الآخرة وهو يبيعها بها كما قال الله تعالى إِنَّ اَللَّهَ اِشْتَرى مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ الآية . والكيس لا يبيع عينا بأثر إلا إذا عرفهما وعرف فضل ما يبتاع على ما يبيع
[ 57 ](1/5391)
227
وَ قَالَ ع شَارِكُوا اَلَّذِي اَلَّذِينَ قَدْ أَقْبَلَ عَلَيْهِمُ عَلَيْهِ اَلرِّزْقُ فَإِنَّهُ أَخْلَقُ لِلْغِنَى وَ أَجْدَرُ بِإِقْبَالِ اَلْحَظِّ عَلَيْهِ قد تقدم القول في الحظ والبخت . وكان يقال الحظ يعدي كما يعدي الجرب وهذا يطابق كلمة أمير المؤمنين ع لأن مخالطة المجدود ليست كمخالطة غير المجدود فإن الأولى تقتضي الاشتراك في الحظ والسعادة والثانية تقتضي الاشتراك في الشقاء والحرمان . والقول في الحظ وسيع جدا . وقال بعضهم البخت على صورة رجل أعمى أصم أخرس وبين يديه جواهر وحجارة وهو يرمي بكلتا يديه . وكان مالك بن أنس فقيه المدينة وأخذ الفقه عن الليث بن سعد وكانوا يزدحمون عليه والليث جالس لا يلتفتون إليه فقيل لليث إن مالكا إنما أخذ عنك فما لك خاملا وهو أنبه الناس ذكرا فقال دانق بخت خير من جمل بختي حمل علما . وقال الرضي
أسيغ الغيظ من نوب الليالي
و ما يحفلن بالحنق المغيظ
و أرجو الرزق من خرق دقيق
يسد بسلك حرمان غليظ
و أرجع ليس في كفي منه
سوى عض اليدين على الحظوظ
[ 58 ](1/5392)
228
وَ قَالَ ع : فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَزَّ وَ جَلَّ إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسانِ اَلْعَدْلُ اَلْإِنْصَافُ وَ اَلْإِحْسَانُ اَلتَّفَضُّلُ هذا تفسير صحيح اتفق عليه المفسرون كافة وإنما دخل الندب تحت الأمر لأن له صفة زائدة على حسنه وليس كالمباح الذي لا صفة له زائدة على حسنه . وقال الزمخشري العدل هو الواجب لأن الله عز وجل عدل فيه على عباده فجعل ما فرضه عليهم منه واقعا تحت طاقتهم والإحسان الندب وإنما علق أمره بهما جميعا لأن الفرض لا بد أن يقع فيه تفريط فيجبره الندب ولذلك
قال رسول الله ص لإنسان علمه الفرائض فقال والله لا زدت فيها ولا نقصت منها أفلح إن صدق فعقد الفلاح بشرط الصدق والسلامة من التفريط و
قال ص استقيموا ولن تحصوا فليس ينبغي أن يترك ما يجبر كسر التفريط من النوافل . ولقائل أن يقول إن كان إنما سمي الواجب عدلا لأنه داخل تحت طاقة المكلف فليسم الندب عدلا لأنه داخل تحت طاقة المكلف وأما قوله إنما أمر بالندب لأنه يجبر ما وقع فيه التفريط من الواجب فلا يصح على مذهبه وهو من أعيان المعتزلة لأنه لو جبرت النافلة بالتفريط في الواجب لكانت واجبة مثله وكيف يقول الزمخشري هذا ومن قول مشايخنا إن تارك صلاة واحدة من الفرائض لو صلى مائة ألف ركعة من النوافل لم يكفر ثوابها عقاب ترك تلك الصلاة
[ 59 ](1/5393)
229
وَ قَالَ ع : مَنْ يُعْطِ بِالْيَدِ اَلْقَصِيرَةِ يُعْطَ بِالْيَدِ اَلطَّوِيلَةِ قال الرضي رحمه الله تعالى ومعنى ذلك أن ما ينفقه المرء من ماله في سبيل الخير والبر وإن كان يسيرا فإن الله تعالى يجعل الجزاء عليه عظيما كثيرا واليدان هاهنا عبارة عن النعمتين ففرق ع بين نعمة العبد ونعمة الرب تعالى ذكره بالقصيرة والطويلة فجعل تلك قصيرة وهذه طويلة لأن نعم الله أبدا تضعف على نعم المخلوقين أضعافا كثيرة إذ كانت نعم الله أصل النعم كلها فكل نعمة إليها ترجع ومنها تنزع هذا الفصل قد شرحه الرضي رحمه الله فأغنى عن التعرض بشرحه
[ 60 ](1/5394)
230
وَ قَالَ ع لاِبْنِهِ اَلْحَسَنِ ع لاَ تَدْعُوَنَّ إِلَى مُبَارَزَةٍ وَ إِنْ فَإِنْ دُعِيتَ إِلَيْهَا فَأَجِبْ فَإِنَّ اَلدَّاعِيَ إِلَيْهَا بَاغٍ وَ اَلْبَاغِيَ مَصْرُوعٌ(1/5395)
مثل من شجاعة علي
قد ذكر ع الحكمة ثم ذكر العلة وما سمعنا أنه ع دعا إلى مبارزة قط وإنما كان يدعى هو بعينه أو يدعو من يبارز فيخرج إليه فيقتله دعا بنو ربيعة بن عبد بن شمس بني هاشم إلى البراز يوم بدر فخرج ع فقتل الوليد واشترك هو وحمزة ع في قتل عتبة ودعا طلحة بن أبي طلحة إلى البراز يوم أحد فخرج إليه فقتله ودعا مرحب إلى البراز يوم خيبر فخرج إليه فقتله . فأما الخرجة التي خرجها يوم الخندق إلى عمرو بن عبد ود فإنها أجل من أن يقال جليلة وأعظم من أن يقال عظيمة وما هي إلا كما قال شيخنا أبو الهذيل وقد سأله سائل أيما أعظم منزلة عند الله علي أم أبو بكر فقال يا ابن أخي والله لمبارزة علي عمرا يوم الخندق تعدل أعمال المهاجرين والأنصار وطاعاتهم كلها وتربي عليها فضلا عن أبي بكر وحده وقد روي عن حذيفة بن اليمان ما يناسب هذا بل ما هو أبلغ منه
روى قيس بن الربيع عن أبي هارون العبدي عن ربيعة بن مالك السعدي قال أتيت حذيفة بن اليمان فقلت يا أبا عبد الله إن الناس يتحدثون عن علي بن أبي طالب ومناقبه فيقول لهم أهل
[ 61 ]
البصيرة إنكم لتفرطون في تقريظ هذا الرجل فهل أنت محدثي بحديث عنه أذكره للناس فقال يا ربيعة وما الذي تسألني عن علي وما الذي أحدثك عنه والذي نفس حذيفة بيده لو وضع جميع أعمال أمة محمد ص في كفة الميزان منذ بعث الله تعالى محمدا إلى يوم الناس هذا ووضع عمل واحد من أعمال علي في الكفة الأخرى لرجح على أعمالهم كلها فقال ربيعة هذا المدح الذي لا يقام له ولا يقعد ولا يحمل إني لأظنه إسرافا يا أبا عبد الله فقال حذيفة يا لكع وكيف لا يحمل وأين كان المسلمون يوم الخندق وقد عبر إليهم عمرو وأصحابه فملكهم الهلع والجزع ودعا إلى المبارزة فأحجموا عنه حتى برز إليه علي فقتله والذي نفس حذيفة بيده لعمله ذلك اليوم أعظم أجرا من أعمال أمة محمد ص إلى هذا اليوم وإلى أن تقوم القيامة . و(1/5396)
جاء في الحديث المرفوع أن رسول الله ص قال ذلك اليوم حين برز إليه برز الإيمان كله إلى الشرك كله . وقال أبو بكر بن عياش لقد ضرب علي بن أبي طالب ع ضربة ما كان في الإسلام أيمن منها ضربته عمرا يوم الخندق ولقد ضرب علي ضربة ما كان في الإسلام أشأم منها يعني ضربة ابن ملجم لعنه الله . و
في الحديث المرفوع أن رسول الله ص لما بارز علي عمرا ما زال رافعا يديه مقمحا رأسه نحو السماء داعيا ربه قائلا اللهم إنك أخذت مني عبيدة يوم بدر وحمزة يوم أحد فاحفظ علي اليوم عليا رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْوارِثِينَ . و
قال جابر بن عبد الله الأنصاري والله ما شبهت يوم الأحزاب قتل علي عمرا
[ 62 ]
و تخاذل المشركين بعده إلا بما قصه الله تعالى من قصة طالوت وجالوت في قوله فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اَللَّهِ وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ . و
روى عمرو بن أزهر عن عمرو بن عبيد عن الحسن أن عليا ع لما قتل عمرا احتز رأسه وحمله فألقاه بين يدي رسول الله ص فقام أبو بكر وعمر فقبلا رأسه ووجه رسول الله ص يتهلل فقال هذا النصر أو قال هذا أول النصر . و
في الحديث المرفوع أن رسول الله ص قال يوم قتل عمرو ذهبت ريحهم ولا يغزوننا بعد اليوم ونحن نغزوهم إن شاء الله(1/5397)
قصة غزوة الخندق
و ينبغي أن نذكر ملخص هذه القصة من مغازي الواقدي وابن إسحاق قالا خرج عمرو بن عبد ود يوم الخندق وقد كان شهد بدرا فارتث جريحا ولم يشهد أحدا فحضر الخندق شاهرا سيفه معلما مدلا بشجاعته وبأسه وخرج معه ضرار بن الخطاب الفهري وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب ونوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزوميون فطافوا بخيولهم على الخندق إصعادا وانحدارا يطلبون موضعا ضيقا يعبرونه حتى وقفوا على أضيق موضع فيه في المكان المعروف بالمزار فأكرهوا خيولهم على العبور فعبرت وصاروا مع المسلمين على أرض واحدة ورسول الله ص جالس وأصحابه قيام على رأسه فتقدم عمرو بن عبد ود فدعا
[ 63 ]
إلى البراز مرارا فلم يقم إليه أحد فلما أكثر قام علي ع فقال أنا أبارزه يا رسول الله فأمره بالجلوس وأعاد عمرو النداء والناس سكوت كان على رءوسهم الطير فقال عمرو أيها الناس إنكم تزعمون أن قتلاكم في الجنة وقتلانا في النار أ فما يحب أحدكم أن يقدم على الجنة أو يقدم عدوا له إلى النار فلم يقم إليه أحد فقام علي ع دفعة ثانية وقال أنا له يا رسول الله فأمره بالجلوس فجال عمرو بفرسه مقبلا ومدبرا وجاءت عظماء الأحزاب فوقفت من وراء الخندق ومدت أعناقها تنظر فلما رأى عمرو أن أحدا لا يجيبه قال
و لقد بححت من الندا
بجمعهم هل من مبارز
و وقفت مذ جبن المشيع
موقف القرن المناجز
إني كذلك لم أزل
متسرعا قبل الهزاهز
أن الشجاعة في الفتى
و الجود من خير الغرائز
فقام علي ع فقال يا رسول الله ائذن لي في مبارزته فقال ادن فدنا فقلده سيفه وعممه بعمامته وقال امض لشأنك فلما انصرف قال اللهم أعنه عليه فلما قرب منه قال له مجيبا إياه عن شعره
لا تعجلن فقد أتاك
مجيب صوتك غير عاجز
ذو نية وبصيرة
يرجو بذاك نجاة فائز
إني لآمل أن أقيم
عليك نائحة الجنائز
من ضربة فوهاء يبقى
ذكرها عند الهزاهز(1/5398)
فقال عمرو من أنت وكان عمرو شيخا كبيرا قد جاوز الثمانين وكان نديم أبي طالب بن عبد المطلب في الجاهلية فانتسب علي ع له وقال أنا علي بن أبي طالب فقال أجل لقد كان أبوك نديما لي وصديقا فارجع فإني لا أحب أن
[ 64 ]
أقتلك كان شيخنا أبو الخير مصدق بن شبيب النحوي يقول إذا مررنا في القراءة عليه بهذا الموضع والله ما أمره بالرجوع إبقاء عليه بل خوفا منه فقد عرف قتلاه ببدر وأحد وعلم أنه إن ناهضه قتله فاستحيا أن يظهر الفشل فأظهر الإبقاء والإرعاء وإنه لكاذب فيهما قالوا فقال له علي ع لكني أحب أن أقتلك فقال يا ابن أخي إني لأكره أن أقتل الرجل الكريم مثلك فارجع وراءك خير لك فقال علي ع إن قريشا تتحدث عنك أنك قلت لا يدعوني أحد إلى ثلاث إلا أجبت ولو إلى واحدة منها قال أجل فقال علي ع فإني أدعوك إلى الإسلام قال دع عنك هذه قال فإني أدعوك إلى أن ترجع بمن تبعك من قريش إلى مكة قال إذن تتحدث نساء قريش عني أن غلاما خدعني قال فإني أدعوك إلى البراز فحمى عمرو وقال ما كنت أظن أن أحدا من العرب يرومها مني ثم نزل فعقر فرسه وقيل ضرب وجهه ففر وتجاولا فثارت لهما غبرة وارتهما عن العيون إلى أن سمع الناس التكبير عاليا من تحت الغبرة فعلموا أن عليا قتله وانجلت الغبرة عنهما وعلى راكب صدره يحز رأسه وفر أصحابه ليعبروا الخندق فظفرت بهم خيلهم إلا نوفل بن عبد الله فإنه قصر فرسه فوقع في الخندق فرماه المسلمون بالحجارة فقال يا معاشر الناس قتلة أكرم من هذه فنزل إليه علي ع فقتله وأدرك الزبير هبيرة بن أبي وهب فضربه فقطع ثفر فرسه وسقطت درع كان حملها من ورائه فأخذها الزبير وألقى عكرمة رمحه وناوش عمر بن الخطاب ضرار بن عمرو فحمل عليه ضرار حتى إذا وجد عمر مس الرمح رفعه عنه وقال إنها لنعمة مشكورة فاحفظها يا ابن الخطاب إني كنت آليت ألا تمكنني يداي من قتل قرشي فأقتله وانصرف ضرار راجعا إلى أصحابه وقد كان جرى له معه(1/5399)
مثل هذه في يوم أحد وقد ذكر هاتين القصتين معا محمد بن عمر الواقدي في كتاب المغازي
[ 65 ](1/5400)
231
وَ قَالَ ع خِيَارُ خِصَالِ اَلنِّسَاءِ شِرَارُ خِصَالِ اَلرِّجَالِ اَلزَّهْوُ وَ اَلْجُبْنُ وَ اَلْبُخْلُ فَإِذَا كَانَتِ اَلْمَرْأَةُ مَزْهُوَّةً لَمْ تُمَكِّنْ مِنْ نَفْسِهَا وَ إِذَا كَانَتْ بَخِيلَةً حَفِظَتْ مَالَهَا وَ مَالَ بَعْلِهَا وَ إِذَا كَانَتْ جَبَانَةً فَرِقَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ يَعْرِضُ لَهَا أخذ هذا المعنى الطغرائي شاعر العجم فقال
الجود والإقدام في فتيانهم
و البخل في الفتيات والإشفاق
و الطعن في الأحداق دأب رماتهم
و الراميات سهاما الأحداق
و له
قد زاد طيب أحاديث الكرام بها
ما بالكرائم من جبن ومن بخل
و في حكمة أفلاطون من أقوى الأسباب في محبة الرجل لامرأته واتفاق ما بينهما أن يكون صوتها دون صوته بالطبع وتميزها دون تميزه وقلبها أضعف من قلبه فإذا زاد من هذا عندها شي ء على ما عند الرجل تنافرا على مقداره . وتقول زهي الرجل علينا فهو مزهو إذا افتخر وكذلك نخي فهو منخو من النخوة ولا يجوز زها إلا في لغة ضعيفة . وفرقت خافت والفرق الخوف
[ 66 ](1/5401)
232
وَ قِيلَ لَهُ ع صِفْ لَنَا اَلْعَاقِلَ فَقَالَ ع هُوَ اَلَّذِي يَضَعُ اَلشَّيْ ءَ مَوَاضِعَهُ فَقِيلَ فَصِفْ لَنَا اَلْجَاهِلَ قَالَ قَدْ قُلْتُ فَعَلْتُ قال الرضي رحمه الله تعالى يعني أن الجاهل هو الذي لا يضع الشي ء مواضعه فكان ترك صفته صفة له إذ كان بخلاف وصف العاقل هذا مثل الكلام الذي تنسبه العرب إلى الضب قالوا اختصمت الضبع والثعلب إلى الضب فقالت الضبع يا أبا الحسل إني التقطت تمرة قال طيبا جنيت قالت وإن هذا أخذها مني قال حظ نفسه أحرز قالت فإني لطمته قال كريم حمى حقيقته قالت فلطمني قال حر انتصر قالت اقض بيننا قال قد فعلت
[ 67 ](1/5402)
233
وَ قَالَ ع وَ اَللَّهِ لَدُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَهْوَنُ فِي عَيْنِي مِنْ عِرَاقِ عُرَاقِ خِنْزِيرٍ فِي يَدِ مَجْذُومٍ العراق جمع عرق وهو العظم عليه شي ء من اللحم وهذا من الجموع النادرة نحو رخل ورخال وتوأم وتؤام ولا يكون شي ء أحقر ولا أبغض إلى الإنسان من عراق خنزير في يد مجذوم فإنه لم يرض بأن يجعله في يد مجذوم وهو غاية ما يكون من التنفير حتى جعله عراق خنزير . ولعمري لقد صدق وما زال صادقا ومن تأمل سيرته في حالتي خلوه من العمل وولايته الخلافة عرف صحة هذا القول
[ 68 ](1/5403)
234
وَ قَالَ ع إِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اَللَّهَ رَغْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ اَلتُّجَّارِ وَ إِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اَللَّهَ رَهْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ اَلْعَبِيدِ وَ إِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اَللَّهَ شُكْراً فَتِلْكَ عِبَادَةُ اَلْأَحْرَارِ هذا مقام جليل تتقاصر عنه قوى أكثر البشر وقد شرحناه فيما تقدم وقلنا إن العبادة لرجاء الثواب تجارة ومعاوضة وإن العبادة لخوف العقاب لمنزلة من يستجدي لسلطان قاهر يخاف سطوته . وهذا معنى قوله عبادة العبيد أي خوف السوط والعصا وتلك ليس عبادة نافعة وهي كمن يعتذر إلى إنسان خوف أذاه ونقمته لا لأن ما يعتذر منه قبيح لا ينبغي له فعله فأما العبادة لله تعالى شكرا لأنعمه فهي عبادة نافعة لأن العبادة شكر مخصوص فإذا أوقعها على هذا الوجه فقد أوقعها الموقع الذي وضعت عليه . فأما أصحابنا المتكلمون فيقولون ينبغي أن يفعل الإنسان الواجب لوجه وجوبه ويترك القبيح لوجه قبحه وربما قالوا يفعل الواجب لأنه واجب ويترك القبيح لأنه قبيح والكلام في هذا الباب مشروح مبسوط في الكتب الكلامية
[ 69 ](1/5404)
235
وَ قَالَ ع اَلْمَرْأَةُ شَرٌّ كُلُّهَا وَ شَرُّ مَا فِيهَا أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْهَا حلف إنسان عند بعض الحكماء أنه ما دخل بابي شر قط فقال الحكيم فمن أين دخلت امرأتك . وكان يقال أسباب فتنة النساء ثلاثة عين ناظرة وصورة مستحسنة وشهوة قادرة فالحكيم من لا يردد النظرة حتى يعرف حقائق الصورة ولو أن رجلا رأى امرأة فأعجبته ثم طالبها فامتنعت هل كان إلا تاركها فإن تأبى عقله عليه في مطالبتها كتأبيها عليه في مساعفتها قدع نفسه عن لذته قدع الغيور إياه عن حرمة مسلم . وكان يقال من أتعب نفسه في الحلال من النساء لم يتق إلى الحرام منهن كالطليح مناه أن يستريح
[ 70 ](1/5405)
236
وَ قَالَ ع مَنْ أَطَاعَ اَلتَّوَانِيَ ضَيَّعَ اَلْحُقُوقَ وَ مَنْ أَطَاعَ اَلْوَاشِيَ ضَيَّعَ اَلصَّدِيقَ قد تقدم الكلام في التواني والعجز وتقدم أيضا الكلام في الوشاية والسعاية . ورفع إلى كسرى أبرويز أن النصارى الذين يحضرون باب الملك يعرفون بالتجسس إلى ملك الروم فقال من لم يظهر له ذنب لم يظهر منا عقوبة له . ورفع إليه أن بعض الناس ينكر إصغاء الملك إلى أصحاب الأخبار فوقع هؤلاء بمنزلة مداخل الضياء إلى البيت المظلم وليس لقطع مواد النور مع الحاجة إليه وجه عند العقلاء . قال أبو حيان أما الأصل في التدبير فصحيح لأن الملك محتاج إلى الأخبار لكن الأخبار تنقسم إلى ثلاثة أوجه خبر يتصل بالدين فالواجب عليه أن يبالغ ويحتاط في حفظه وحراسته وتحقيقه ونفى القذى عن طريقه وساحته . وخبر يتصل بالدولة ورسومها فينبغي أن يتيقظ في ذلك خوفا من كيد ينفذ وبغي يسري . وخبر يدور بين الناس في منصرفهم وشأنهم وحالهم متى زاحمتهم فيه اضطغنوا
[ 71 ]
عليك وتمنوا زوالي ملكك وارصدوا العداوة لك وجهروا إلى عدوك وفتحوا له باب الحيلة إليك . وإنما لحق الناس من هذا الخبر هذا العارض لأن في منع الملك إياهم عن تصرفاتهم وتتبعه لهم في حركاتهم كربا على قلوبهم ولهيبا في صدورهم ولا بد لهم في الدهر الصالح والزمان المعتدل والخصب المتتابع والسبيل الآمن والخير المتصل من فكاهة وطيب واسترسال وأشر وبطر وكل ذلك من آثار النعمة الدارة والقلوب القارة فإن أغضى الملك بصره على هذا القسم عاش محبوبا وإن تنكر لهم فقد استأسدهم أعداء والسلام
[ 72 ](1/5406)
237
وَ قَالَ ع اَلْحَجَرُ اَلْغَصْبُ اَلْغَصِيُب فِي اَلدَّارِ رَهْنٌ عَلَى خَرَابِهَا قال الرضي رحمه الله تعالى وقد روي ما يناسب هذا الكلام عن النبي ص ولا عجب أن يشتبه الكلامان فإن مستقاهما من قليب ومفرغهما من ذنوب الذنوب الدلو الملأى ولا يقال لها وهي فارغة ذنوب ومعنى الكلمة أن الدار المبنية بالحجارة المغصوبة ولو بحجر واحد لا بد أن يتعجل خرابها وكأنما ذلك الحجر رهن على حصول التخرب أي كما أن الرهن لا بد أن يفتك كذلك لا بد لما جعل ذلك الحجر رهنا عليه أن يحصل . وقال ابن بسام لأبي علي بن مقلة لما بنى داره بالزاهر ببغداد من الغصب وظلم الرعية
بجنبك داران مهدومتان
و دارك ثالثة تهدم
فليت السلامة للمنصفين
دامت فكيف لمن يظلم
[ 73 ]
و الداران دار أبي الحسن بن الفرات ودار محمد بن داود بن الجراح وقال فيه أيضا
قل لابن مقلة مهلا لا تكن عجلا
فإنما أنت في أضغاث أحلام
تبني بأنقاض دور الناس مجتهدا
دارا ستنقض أيضا بعد أيام
و كان ما تفرسه ابن بسام فيه حقا فإن داره نقضت حتى سويت بالأرض في أيام الراضي بالله
[ 74 ](1/5407)
238
وَ قَالَ ع يَوْمُ اَلْمَظْلُومِ عَلَى اَلظَّالِمِ أَشَدُّ مِنْ يَوْمِ اَلظَّالِمِ عَلَى اَلْمَظْلُومِ قد تقدم الكلام في الظلم مرارا وكان يقال اذكر عند الظلم عدل الله تعالى فيك وعند القدرة قدرة الله تعالى عليك . وإنما كان يوم المظلوم على الظالم أشد من يومه على المظلوم لأن ذلك اليوم يوم الجزاء الكلي والانتقام الأعظم وقصارى أمر الظالم في الدنيا أن يقتل غيره فيميته ميتة واحدة ثم لا سبيل له بعد إماتته إلى أن يدخل عليه ألما آخر وأما يوم الجزاء فإنه يوم لا يموت الظالم فيه فيستريح بل عذابه دائم متجدد نعوذ بالله من سخطه وعقابه
[ 75 ](1/5408)
239
وَ قَالَ ع اِتَّقِ اَللَّهَ بَعْضَ اَلتُّقَى وَ إِنْ قَلَّ وَ اِجْعَلْ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اَللَّهِ سِتْراً وَ إِنْ رَقَّ يقال في المثل ما لا يدرك كله لا يترك كله . فالواجب على من عسرت عليه التقوى بأجمعها أن يتقي الله في البعض وأن يجعل بينه وبينه سترا وإن كان رقيقا . وفي أمثال العامة اجعل بينك وبين الله روزنة والروزنة لفظة صحيحة معربة أي لا تجعل ما بينك وبينه مسدودا مظلما بالكلية
[ 76 ](1/5409)
240
وَ قَالَ ع إِذَا اِزْدَحَمَ اَلْجَوَابُ خَفِيَ اَلصَّوَابُ هذا نحو أن يورد الإنسان إشكالا في بعض المسائل النظرية بحضرة جماعة من أهل النظر فيتغالب القوم ويتسابقون إلى الجواب عنه كل منهم يورد ما خطر له . فلا ريب أن الصواب يخفى حينئذ وهذه الكلمة في الحقيقة أمر للناظر البحاث أن يتحرى الإنصاف في بحثه ونظره مع رفيقه وألا يقصد المراء والمغالبة والقهر
[ 77 ](1/5410)
241
وَ قَالَ ع إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ نِعْمَةٍ حَقّاً فَمَنْ أَدَّاهُ زَادَهُ مِنْهَا وَ مَنْ قَصَّرَ فِيهِ خَاطَرَ بِزَوَالِ نِعْمَتِهِ قد تقدم الكلام في هذا المعنى و
جاء في الخبر من أوتي نعمة فأدى حق الله منها برد اللهفة وإجابة الدعوة وكشف المظلمة كان جديرا بدوامها ومن قصر قصر به
[ 78 ](1/5411)
242
وَ قَالَ ع إِذَا كَثُرَتِ اَلْمَقْدِرَةُ اَلْمَقْدُرَةُ قَلَّتِ اَلشَّهْوَةُ هذا مثل قولهم كل مقدور عليه مملول ومثل قول الشاعر
و كل كثير عدو الطبيعة
و مثل قول الآخر
و أخ كثرت عليه حتى ملني
و الشي ء مملول إذا هو يرخص
يا ليته إذ باع ودي باعه
ممن يزيد عليه لا من ينقص
و لهذا الحكم علة في العلم العقلي وذلك أن النفس عندهم غنية بذاتها مكتفية بنفسها غير محتاجة إلى شي ء خارج عنها وإنما عرضت لها الحاجة والفقر إلى ما هو خارج عنها لمقارنتها الهيولى وذلك أن أمر الهيولى بالضد من أمر النفس في الفقر والحاجة ولما كان الإنسان مركبا من النفس والهيولى عرض له الشوق إلى تحصيل العلوم والقنيات لانتفاعه بهما والتذاذه بحصولهما فأما العلوم فإنه يحصلها في شبيه بالخزانة له يرجع إليها متى شاء ويستخرج منها ما أراد أعني القوى النفسانية التي هي محل الصور والمعاني على ما هو مذكور في موضعه وأما القنيات والمحسوسات
[ 79 ](1/5412)
فإنه يروم منها مثل ما يروم من تلك وأن يودعها خزانة محسوسة خارجة عن ذاته لكنه يغلط في ذلك من حيث يستكثر منها إلى أن يتنبه بالحكمة على ما ينبغي أن يقتني منها وإنما حرص على ما منع لأن الإنسان إنما يطلب ما ليس عنده لأن تحصيل الحاصل محال والطلب إنما يتوجه إلى المعدوم لا إلى الموجود فإذا حصله سكن وعلم أنه قد ادخره ومتى رجع إليه وحده إن كان مما يبقى بالذات خزنه وتشوق إلى شي ء آخر منه ولا يزال كذلك إلى أن يعلم أن الجزئيات لا نهاية لها وما لا نهاية له فلا مطمع في تحصيله ولا فائدة في النزوع إليه ولا وجه لطلبه سواء كان معلوما أو محسوسا فوجب أن يقصد من المعلومات إلى الأهم ومن المقتنيات إلى ضرورات البدن ومقيماته ويعدل عن الاستكثار منها فإن حصولها كلها مع أنها لا نهاية لها غير ممكن وكلما فضل عن الحاجة وقدر الكفاية فهو مادة الأحزان والهموم وضروب المكاره والغلط في هذا الباب كثير وسبب ذلك طمع الإنسان في الغنى من معدن الفقر لأن الفقر هو الحاجة والغنى هو الاستقلال إلى أن يحتاج إليه ولذلك قيل إن الله تعالى غني مطلقا لأنه غير محتاج البتة فأما من كثرت قنياته فإنه يستكثر حاجاته بحسب كثرة قنياته وعلى قدرها رغبه إلى الاستكثار بكثرة وجوه فقره وقد بين ذلك في شرائع الأنبياء وأخلاق الحكماء فأما الشي ء الرخيص الموجود كثيرا فإنما يرغب عنه لأنه معلوم أنه إذا التمس وجد والغالي فإنما يقدر عليه في الأحيان ويصيبه الواحد بعد الواحد وكل إنسان يتمنى أن يكون ذلك الواحد ليصيبه وليحصل له ما لا يحصل لغيره
[ 80 ](1/5413)
243
وَ قَالَ ع اِحْذَرُوا نِفَارَ اَلنِّعَمِ فَمَا كُلُّ شَارِدٍ بِمَرْدُودٍ هذا أمر بالشكر على النعمة وترك المعاصي فإن المعاصي تزيل النعم كما قيل
إذا كنت في نعمة فارعها
فإن المعاصي تزيل النعم
و قال بعض السلف كفران النعمة بوار وقلما أقلعت نافرة فرجعت في نصابها فاستدع شاردها بالشكر واستدم راهنها بكرم الجوار ولا تحسب أن سبوغ ستر الله عليك غير متقلص عما قليل عنك إذا أنت لم ترج لله وقارا . وقال أبو عصمة شهدت سفيان وفضيلا فما سمعتهما يتذاكران إلا النعم يقولان أنعم الله سبحانه علينا بكذا وفعل بنا كذا . وقال الحسن إذا استوى يوماك فأنت ناقص قيل له كيف ذاك قال إن زادك الله اليوم نعما فعليك أن تزداد غدا له شكرا . وكان يقال الشكر جنة من الزوال وأمنة من الانتقال . وكان يقال إذا كانت النعمة وسيمة فاجعل الشكر لها تميمة
[ 81 ](1/5414)
244
وَ قَالَ ع اَلْكَرَمُ أَعْطَفُ مِنَ اَلرَّحِمِ مثل هذا المعنى قول أبي تمام لابن الجهم
إلا يكن نسب يؤلف بيننا
أدب أقمناه مقام الوالد
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا
عذب تحدر من غمام واحد
و من قصيدة لي في بعض أغراضي
و وشائج الآداب عاطفة
الفضلاء فوق وشائج النسب
[ 82 ](1/5415)
245
وَ قَالَ ع مَنْ ظَنَّ بِكَ خَيْراً فَصَدِّقْ ظَنَّهُ هذا قد تقدم في وصيته ع لولده الحسن . ومن كلام بعضهم إني لأستحيي أن يأتيني الرجل يحمر وجهه تارة من الخجل أو يصفر أخرى من خوف الرد قد ظن بي الخير وبات عليه وغدا علي أن أرده خائبا
[ 83 ](1/5416)
246
وَ قَالَ ع أَفْضَلُ اَلْأَعْمَالِ مَا أَكْرَهْتَ نَفْسَكَ عَلَيْهِ لا ريب أن الثواب على قدر المشقة لأنه كالعوض عنها كما أن العوض الحقيقي عوض عن الألم ولهذا
قال ص أفضل العبادة أحمزها أي أشقها
[ 84 ](1/5417)
247
وَ قَالَ ع عَرَفْتُ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ بِفَسْخِ اَلْعَزَائِمِ وَ حَلِّ اَلْعُقُودِ وَ نَقْضِ اَلْهِمَمِ هذا أحد الطرق إلى معرفة البارئ سبحانه وهو أن يعزم الإنسان على أمر ويصمم رأيه عليه ثم لا يلبث أن يخطر الله تعالى بباله خاطرا صارفا له عن ذلك الفعل ولم يكن في حسابه أي لو لا أن في الوجود ذاتا مدبرة لهذا العالم لما خطرت الخواطر التي لم تكن محتسبة وهذا فصل يتضمن كلاما دقيقا يذكره المتكلمون في الخاطر الذي يخطر من غير موجب لخطوره فإنه لا يجوز أن يكون الإنسان أخطره بباله وإلا لكان ترجيحا من غير مرجح لجانب الوجود على جانب العدم فلا بد أن يكون المخطر له بالبال شيئا خارجا عن ذات الإنسان وذاك هو الشي ء المسمى بصانع العالم . وليس هذا الموضع مما يحتمل استقصاء القول في هذا المبحث . ويقال إن عضد الدولة وقعت في يده قصة وهو يتصفح القصص فأمر بصلب صاحبها ثم أتبع الخادم خادما آخر يقول له قل للمطهر وكان وزيره لا يصلبه ولكن أخرجه من الحبس فاقطع يده اليمنى ثم أتبعه خادما ثالثا فقال بل تقول له يقطع أعصاب رجليه ثم أتبعه خادما آخر فقال له ينقله إلى القلعة بسيراف في قيوده فيجعله هناك فاختلفت دواعيه في ساعة واحدة أربع مرات
[ 85 ](1/5418)
248
وَ قَالَ ع مَرَارَةُ اَلدُّنْيَا حَلاَوَةُ اَلآْخِرَةِ وَ حَلاَوَةُ اَلدُّنْيَا مَرَارَةُ اَلآْخِرَةِ لما كانت الدنيا ضد الآخرة وجب أن يكون أحكام هذه ضد أحكام هذه كالسواد يجمع البصر والبياض يفرق البصر والحرارة توجب الخفة والبرودة توجب الثقل فإذا كان في الدنيا أعمال هي مرة المذاق على الإنسان قد ورد الشرع بإيجابها فتلك الأفعال تقتضي وتوجب لفاعلها ثوابا حلو المذاق في الآخرة . وكذاك بالعكس ما كان من المشتهيات الدنياوية التي قد نهى الشرع عنها توجب وإن كانت حلوة المذاق مرارة العقوبة في الآخرة
[ 86 ](1/5419)
249
وَ قَالَ ع فَرَضَ اَللَّهُ اَلْإِيمَانَ تَطْهِيراً مِنَ اَلشِّرْكِ وَ اَلصَّلاَةَ تَنْزِيهاً عَنِ اَلْكِبْرِ وَ اَلزَّكَاةَ تَسْبِيباً لِلرِّزْقِ وَ اَلصِّيَامَ اِبْتِلاَءً لِإِخْلاَصِ اَلْخَلْقِ وَ اَلْحَجَّ تَقْوِيَةً تَقْرِبَةً لِلدِّينِ وَ اَلْجِهَادَ عِزّاً لِلْإِسْلاَمِ وَ اَلْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ مَصْلَحَةً لِلْعَوَامِّ وَ اَلنَّهْيَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ رَدْعاً لِلسُّفَهَاءِ وَ صِلَةَ اَلرَّحِمِ مَنْمَاةً لِلْعَدَدِ وَ اَلْقِصَاصَ حَقْناً لِلدِّمَاءِ وَ إِقَامَةَ اَلْحُدُودِ إِعْظَاماً لِلْمَحَارِمِ وَ تَرْكَ شُرْبِ اَلْخَمْرِ تَحْصِيناً لِلْعَقْلِ وَ مُجَانَبَةَ اَلسَّرِقَةِ إِيجَاباً لِلْعِفَّةِ وَ تَرْكَ اَلزِّنَى اَلزِّنَا تَحْصِيناً لِلنَّسَبِ وَ تَرْكَ اَللِّوَاطِ تَكْثِيراً لِلنَّسْلِ وَ اَلشَّهَادَاتِ اِسْتِظْهَاراً عَلَى اَلْمُجَاحَدَاتِ وَ تَرْكَ اَلْكَذِبِ تَشْرِيفاً لِلصِّدْقِ وَ اَلسَّلاَمَ أَمَاناً مِنَ اَلْمَخَاوِفِ وَ اَلْإِمَامَةِ نِظَاماً لِلْأُمَّةِ وَ اَلطَّاعَةَ تَعْظِيماً لِلْإِمَامَةِ هذا الفصل يتضمن بيان تعليل العبادات إيجابا وسلبا . قال ع فرض الله الإيمان تطهيرا من الشرك وذلك لأن الشرك نجاسة حكمية لا عينية وأي شي ء يكون أنجس من الجهل أو أقبح فالإيمان هو تطهير القلب من نجاسة ذلك الجهل . وفرضت الصلاة تنزيها من الكبر لأن الإنسان يقوم فيها قائما والقيام مناف للتكبر وطارد له ثم يرفع يديه بالتكبير وقت الإحرام بالصلاة فيصير على هيئة من يمد عنقه ليوسطه السياف ثم يستكتف كما يفعله العبيد الأذلاء بين يدي
[ 87 ](1/5420)
السادة العظماء ثم يركع على هيئة من يمد عنقه ليضربها السياف ثم يسجد فيضع أشرف أعضائه وهو جبهته على أدون المواضع وهو التراب ثم تتضمن الصلاة من الخضوع والخشوع والامتناع من الكلام والحركة الموهمة لمن رآها أن صاحبها خارج عن الصلاة وما في غضون الصلاة من الأذكار المتضمنة الذل والتواضع لعظمة الله تعالى . وفرضت الزكاة تسبيبا للرزق كما قال الله تعالى وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وقال مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ . وفرض الصيام ابتلاء لإخلاص الخلق
قال النبي ص حاكيا عن الله تعالى الصوم لي وأنا أجزي به وذلك لأن الصوم أمر لا يطلع عليه أحد فلا يقوم به على وجهه إلا المخلصون . وفرض الحج تقوية للدين وذلك لما يحصل للحاج في ضمنه من المتاجر والمكاسب قال الله تعالى لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اِسْمَ اَللَّهِ . . . عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ اَلْأَنْعامِ وأيضا فإن المشركين كانوا يقولون لو لا أن أصحاب محمد كثير وأولو قوة لما حجوا فإن الجيش الضعيف يعجز عن الحج من المكان البعيد . وفرض الجهاد عزا للإسلام وذلك ظاهر قال الله تعالى وَ لَوْ لا دَفْعُ اَللَّهِ اَلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَواتٌ وَ مَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اِسْمُ اَللَّهِ كَثِيراً وقال سبحانه وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ اَلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اَللَّهِ وَ عَدُوَّكُمْ .
[ 88 ](1/5421)
و فرض الأمر بالمعروف مصلحة للعوام لأن الأمر بالعدل والإنصاف ورد الودائع وأداء الأمانات إلى أهلها وقضاء الديون والصدق في القول وإيجاز الوعد وغير ذلك من محاسن الأخلاق مصلحة للبشر عظيمة لا محالة . وفرض النهي عن المنكر ردعا للسفهاء كالنهي عن الظلم والكذب والسفه وما يجري مجرى ذلك . وفرضت صلة الرحم منماة للعدد
قال النبي ص صلة الرحم تزيد في العمر وتنمي العدد . وفرض القصاص حقنا للدماء قال سبحانه وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ . وفرضت إقامة الحدود إعظاما للمحارم وذلك لأنه إذا أقيمت الحدود امتنع كثير من الناس عن المعاصي التي تجب الحدود فيها وظهر عظم تلك المعاصي عند العامة فكانوا إلى تركها أقرب . وحرم شرب الخمر تحصينا للعقل قال قوم لحكيم اشرب الليلة معنا فقال أنا لا أشرب ما يشرب عقلي و
في الحديث المرفوع أن ملكا ظالما خير إنسانا بين أن يجامع أمه أو يقتل نفسا مؤمنة أو يشرب الخمر حتى يسكر فرأى أن الخمر أهونها فشرب حتى سكر فلما غلبه قام إلى أمه فوطئها وقام إلى تلك النفس المؤمنة فقتلها ثم قال ع الخمر جماع الإثم الخمر أم المعاصي . وحرمت السرقة إيجابا للعفة وذلك لأن العفة خلق شريف والطمع خلق دني ء فحرمت السرقة ليتمرن الناس على ذلك الخلق الشريف ويجانبوا ذلك الخلق الذميم وأيضا حرمت لما في تحريمها من تحصين أموال الناس .
[ 89 ](1/5422)
و حرم الزنا تحصينا للنسب فإنه يفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب وألا ينسب أحد بتقدير ألا يشرع النكاح إلى أب بل يكون نسب الناس إلى أمهاتهم وفي ذلك قلب الحقيقة وعكس الواجب لأن الولد مخلوق من ماء الأب وإنما الأم وعاء وظرف . وحرم اللواط تكثيرا للنسل وذلك اللواط بتقدير استفاضته بين الناس والاستغناء به عن النساء يفضي إلى انقطاع النسل والذرية وذلك خلاف ما يريد الله تعالى من بقاء هذا النوع الشريف الذي ليس في الأنواع مثله في الشرف لمكان النفس الناطقة التي هي نسخة ومثال للحضرة الإلهية ولذلك سمت الحكماء الإنسان العالم الصغير . وحرم الاستمناء باليد وإتيان البهائم للمعنى الذي لأجله حرم اللواط وهو تقليل النسل ومن مستحسن الكلمات النبوية
قوله ع في الاستمناء باليد ذلك الوأد الخفي لأن الجاهلية كانت تئد البنات أي تقتلهن خنقا وقد قدمنا ذكر سبب ذلك فشبه ع إتلاف النطفة التي هي ولد بالقوة بإتلاف الولد بالفعل . وأوجبت الشهادات على الحقوق استظهارا على المجاحدات
قال النبي ص لو أعطي الناس بدعاويهم لاستحل قوم من قوم دماءهم وأموالهم ووجب ترك الكذب تشريفا للصدق وذلك لأن مصلحة العامة إنما تتم وتنتظم بالصدق فإن الناس يبنون أكثر أمورهم في معاملاتهم على الأخبار فإنها أعم من العيان والمشاهدة فإذا لم تكن صادقة وقع الخطأ في التدبيرات وفسدت أحوال الخلق . وشرع رد السلام أمانا من المخاوف لأن تفسير قول القائل سلام عليكم أي لا حرب بيني وبينكم بل بيني وبينكم السلام وهو الصلح .
[ 90 ](1/5423)
و فرضت الإمامة نظاما للأمة وذلك لأن الخلق لا يرتفع الهرج والعسف والظلم والغضب والسرقة عنهم إلا بوازع قوي وليس يكفي في امتناعهم قبح القبيح ولا وعيد الآخرة بل لا بد لهم من سلطان قاهر ينظم مصالحهم فيردع ظالمهم ويأخذ على أيدي سفهائهم . وفرضت الطاعة تعظيما للإمامة وذلك لأن أمر الإمامة لا يتم إلا بطاعة الرعية وإلا فلو عصت الرعية إمامها لم ينتفعوا بإمامته ورئاسته عليهم
[ 91 ](1/5424)
250
وَ كَانَ ع يَقُولُ : أَحْلِفُوا اَلظَّالِمَ إِذَا أَرَدْتُمْ يَمِينَهُ بِأَنَّهُ بَرِي ءٌ مِنْ حَوْلِ اَللَّهِ وَ قُوَّتِهِ فَإِنَّهُ إِذَا حَلَفَ بِهَا كَاذِباً عُوجِلَ اَلْعُقُوبَةَ وَ إِذَا حَلَفَ بِاللَّهِ اَلَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَمْ يُعَاجَلْ لِأَنَّهُ قَدْ وَحَّدَ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى(1/5425)
ما جرى بين يحيى بن عبد الله وبين ابن المصعب عند الرشيد
روى أبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني في كتاب مقاتل الطالبيين أن يحيى بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب ع لما أمنه الرشيد بعد خروجه بالديلم وصار إليه بالغ في إكرامه وبره فسعى به بعد مدة عبد الله بن مصعب الزبيري إلى الرشيد وكان يبغضه وقال له إنه قد عاد يدعو إلى نفسه سرا وحسن له نقض أمانه فأحضره وجمع بينه وبين عبد الله بن مصعب ليناظره فيما قذفه به ورفعه عليه فجبهه ابن مصعب بحضرة الرشيد وادعى عليه الحركة في الخروج وشق العصا فقال يحيى يا أمير المؤمنين أ تصدق هذا علي وتستنصحه وهو ابن عبد الله بن الزبير الذي أدخل أباك عبد الله وولده الشعب وأضرم عليهم النار حتى خلصه أبو عبد الله الجدلي صاحب علي بن أبي طالب ع منه عنوة وهو الذي ترك الصلاة على
[ 92 ](1/5426)
رسول الله ص وأربعين جمعة في خطبته فلما التاث عليه الناس قال إن له أهيل سوء إذا صليت عليه أو ذكرته أتلعوا أعناقهم واشرأبوا لذكره فأكره أن أسرهم أو أقر أعينهم وهو الذي كان يشتم أباك ويلصق به العيوب حتى ورم كبده ولقد ذبحت بقرة يوما لأبيك فوجدت كبدها سوداء قد نقبت فقال علي ابنه أ ما ترى كبد هذه البقرة يا أبت فقال يا بني هكذا ترك ابن الزبير كبد أبيك ثم نفاه إلى الطائف فلما حضرته الوفاة قال لابنه علي يا بني إذا مت فالحق بقومك من بني عبد مناف بالشام ولا تقم في بلد لابن الزبير فيه إمرة فاختار له صحبة يزيد بن معاوية على صحبة عبد الله بن الزبير وو الله إن عداوة هذا يا أمير المؤمنين لنا جميعا بمنزلة سواء ولكنه قوي علي بك وضعف عنك فتقرب بي إليك ليظفر منك بي بما يريد إذا لم يقدر على مثله منك وما ينبغي لك أن تسوغه ذلك في فإن معاوية بن أبي سفيان وهو أبعد نسبا منك إلينا ذكر الحسن بن علي يوما فسبه فساعده عبد الله بن الزبير على ذلك فزجره وانتهره فقال إنما ساعدتك يا أمير المؤمنين فقال إن الحسن لحمي آكله ولا أوكله ومع هذا فهو الخارج مع أخي محمد على أبيك المنصور أبي جعفر والقائل لأخي في قصيدة طويلة أولها
إن الحمامة يوم الشعب من وثن
هاجت فؤاد محب دائم الحزن
يحرض أخي فيها على الوثوب والنهوض إلى الخلافة ويمدحه ويقول له
لا عز ركنا نزار عند سطوتها
إن أسلمتك ولا ركنا ذوي يمن
أ لست أكرمهم عودا إذا انتسبوا
يوما وأطهرهم ثوبا من الدرن
[ 93 ]
و أعظم الناس عند الناس منزلة
و أبعد الناس من عيب ومن وهن
قوموا ببيعتكم ننهض بطاعتها
إن الخلافة فيكم يا بني حسن
إنا لنأمل أن ترتد ألفتنا
بعد التدابر والبغضاء والإحن
حتى يثاب على الإحسان محسننا
و يأمن الخائف المأخوذ بالدمن
و تنقضي دولة أحكام قادتها
فينا كأحكام قوم عابدي وثن
فطالما قد بروا بالجور أعظمنا
بري الصناع قداح النبع بالسفن(1/5427)
فتغير وجه الرشيد عند سماع هذا الشعر وتغيظ على ابن مصعب فابتدأ ابن مصعب يحلف بالله الذي لا إله إلا هو وبأيمان البيعة أن هذا الشعر ليس له وأنه لسديف فقال يحيى والله يا أمير المؤمنين ما قاله غيره وما حلفت كاذبا ولا صادقا بالله قبل هذا وإن الله عز وجل إذا مجده العبد في يمينه فقال والله الطالب الغالب الرحمن الرحيم استحيا أن يعاقبه فدعني أن أحلفه بيمين ما حلف بها أحد قط كاذبا إلا عوجل قال فحلفه قال قل برئت من حول الله وقوته واعتصمت بحولي وقوتي وتقلدت الحول والقوة من دون الله استكبارا على الله واستعلاء عليه واستغناء عنه إن كنت قلت هذا الشعر فامتنع عبد الله من الحلف بذلك فغضب الرشيد وقال للفضل بن الربيع يا عباسي ما له لا يحلف إن كان صادقا هذا طيلساني علي وهذه ثيابي لو حلفني بهذه اليمين أنها لي لحلفت فوكز الفضل عبد الله برجله وكان له فيه هوى وقال له احلف ويحك فجعل يحلف بهذه اليمين ووجهه متغير وهو يرعد فضرب يحيى بين كتفيه وقال يا ابن مصعب قطعت عمرك لا تفلح بعدها أبدا . قالوا فما برح من موضعه حتى عرض له أعراض الجذام استدارت عيناه
[ 94 ]
و تفقأ وجهه وقام إلى بيته فتقطع وتشقق لحمه وانتثر شعره ومات بعد ثلاثة أيام وحضر الفضل بن الربيع جنازته فلما جعل في القبر انخسف اللحد به حتى خرجت منه غبرة شديدة وجعل الفضل يقول التراب التراب فطرح التراب وهو يهوي فلم يستطيعوا سده حتى سقف بخشب وطم عليه فكان الرشيد يقول بعد ذلك للفضل أ رأيت يا عباسي ما أسرع ما أديل ليحيى من ابن مصعب
[ 95 ](1/5428)
251
وَ قَالَ ع يَا اِبْنَ آدَمَ كُنْ وَصِيَّ نَفْسِكَ فِي مَالِكَ وَ اِعْمَلْ فِي مَالِكَ فِيهِ مَا تُؤْثِرُ أَنْ يُعْمَلَ يَعْمَلَ فِيهِ مِنْ بَعْدِكَ مَنْ بَعْدَكَ لا ريب أن الإنسان يؤثر أن يخرج ماله بعد موته في وجوه البر والصدقات والقربات ليصل ثواب ذلك إليه لكنه يضن بإخراجه وهو حي في هذه الوجوه لحبه العاجلة وخوفه من الفقر والحاجة إلى الناس في آخر العمر فيقيم وصيا يعمل ذلك في ماله بعد موته . وأوصى أمير المؤمنين ع الإنسان أن يعمل في ماله وهو حي ما يؤثر أن يجعل فيه وصية بعد موته وهذه حالة لا يقدر عليها إلا من أخذ التوفيق بيده
[ 96 ](1/5429)
252
وَ قَالَ ع اَلْحِدَّةُ ضَرْبٌ مِنَ اَلْجُنُونِ لِأَنَّ صَاحِبَهَا يَنْدَمُ فَإِنْ لَمْ يَنْدَمْ فَجُنُونُهُ مُسْتَحْكِمٌ كان يقال الحدة كنية الجهل . وكان يقال لا يصح لحديد رأي لأن الحدة تصدئ العقل كما يصدئ الخل المرآة فلا يرى صاحبه فيه صورة حسن فيفعله ولا صورة قبيح فيجتنبه . وكان يقال أول الحدة جنون وآخرها ندم . وكان يقال لا تحملنك الحدة على اقتراف الإثم فتشفي غيظك وتسقم دينك
[ 97 ](1/5430)
253
وَ قَالَ ع صِحَّةُ اَلْجَسَدِ مِنْ قِلَّةِ اَلْحَسَدِ معناه أن القليل الحسد لا يزال معافى في بدنه والكثير الحسد يمرضه ما يجده في نفسه من مضاضة المنافسة وما يتجرعه من الغيظ ومزاج البدن يتبع أحوال النفس . قال المأمون ما حسدت أحدا قط إلا أبا دلف على قول الشاعر فيه
إنما الدنيا أبو دلف
بين باديه ومحتضره
فإذا ولى أبو دلف
ولت الدنيا على أثره
و روى أبو الفرج الأصبهاني عن عبدوس بن أبي دلف قال حدثني أبي قال قال لي المأمون يا قاسم أنت الذي يقول فيك علي بن جبله
إنما الدنيا أبو دلف
البيتين فقلت مسرعا وما ينفعني ذلك يا أمير المؤمنين مع قوله في
أبا دلف يا أكذب الناس كلهم
سواي فإني في مديحك أكذب
[ 98 ]
و مع قول بكر بن النطاح في
أبا دلف إن الفقير بعينه
لمن يرتجي جدوى يديك ويأمله
أرى لك بابا مغلقا متمنعا
إذا فتحوه عنك فالبؤس داخله
كأنك طبل هائل الصوت معجب
خلي من الخيرات تعس مداخله
و أعجب شي ء فيك تسليم إمرة
عليك على طنز وأنك قابله
قال فلما انصرفت قال المأمون لمن حوله لله دره حفظ هجاء نفسه حتى انتفع به عندي وأطفأ لهيب المنافسة
[ 99 ](1/5431)
254
وَ قَالَ ع لِكُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ اَلنَّخَعِيِّ يَا كُمَيْلُ مُرْ أَهْلَكَ أَنْ يَرُوحُوا فِي كَسْبِ اَلْمَكَارِمِ وَ يُدْلِجُوا فِي حَاجَةِ مَنْ هُوَ نَائِمٌ فَوَالَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ اَلْأَصْوَاتَ مَا مِنْ أَحَدٍ أَوْدَعَ قَلْباً سُرُوراً إِلاَّ وَ خَلَقَ اَللَّهُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ اَلسُّرُورِ لُطْفاً فَإِذَا نَزَلَتْ بِهِ نَائِبَةٌ جَرَى إِلَيْهَا كَالْمَاءِ فِي اِنْحِدَارِهِ حَتَّى يَطْرُدَهَا عَنْهُ كَمَا تُطْرَدُ غَرِيبَةُ اَلْإِبِلِ قال عمرو بن العاص لمعاوية ما بقي من لذتك فقال ما من شي ء يصيبه الناس من اللذة إلا وقد أصبته حتى مللته فليس شي ء عندي اليوم ألذ من شربة ماء بارد في يوم صائف ونظري إلى بني وبناتي يدرجون حولي فما بقي من لذتك أنت فقال أرض أغرسها وآكل ثمرتها لم يبق لي لذة غير ذلك فالتفت معاوية إلى وردان غلام عمرو فقال فما بقي من لذتك يا وريد فقال سرور أدخله قلوب الإخوان وصنائع أعتقدها في أعناق الكرام فقال معاوية لعمرو تبا لمجلسي ومجلسك لقد غلبني وغلبك هذا العبد ثم قال يا وردان أنا أحق بهذا منك قال قد أمكنتك فافعل .
[ 100 ]
فإن قلت السرور عرض فكيف يخلق الله تعالى منه لطفا قلت من هاهنا هي مثل من في قوله وَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي اَلْأَرْضِ يَخْلُفُونَ أي عوضا منكم . ومثله
فليت لنا من ماء زمزم شربة
مبردة باتت على طهيان
أي ليت لنا شربة مبردة باتت على طهيان وهو اسم جبل بدلا وعوضا من ماء زمزم
[ 101 ](1/5432)
255
وَ قَالَ ع إِذَا أَمْلَقْتُمْ فَتَاجِرُوا اَللَّهَ بِالصَّدَقَةِ قد تقدم القول في الصدقة . وقالت الحكماء أفضل العبادات الصدقة لأن نفعها يتعدى ونفع الصلاة والصوم لا يتعدى .
و جاء في الأثر أن عليا ع عمل ليهودي في سقي نخل له في حياة رسول الله ص بمد من شعير فخبزه قرصا فلما هم أن يفطر عليه أتاه سائل يستطعم فدفعه إليه وبات طاويا وتاجر الله تعالى بتلك الصدقة فعد الناس هذه الفعلة من أعظم السخاء وعدوها أيضا من أعظم العبادة . وقال بعض شعراء الشيعة يذكر إعادة الشمس عليه وأحسن فيما قال
جاد بالقرص والطوى مل ء جنبيه
و عاف الطعام وهو سغوب
فأعاد القرص المنير عليه القرص
و المقرض الكرام كسوب
[ 102 ](1/5433)
256
وَ قَالَ ع اَلْوَفَاءُ لِأَهْلِ اَلْغَدْرِ غَدْرٌ عِنْدَ اَللَّهِ وَ
اَلْغَدْرُ بِأَهْلِ اَلْغَدْرِ وَفَاءٌ عِنْدَ اَللَّهِ معناه أنه إذا اعتيد
من العدو أن يغدر ولا يفي بأقواله وأيمانه وعهوده لم يجز الوفاء له ووجب
أن ينقض عهوده ولا يوقف مع العهد المعقود بيننا وبينه فإن الوفاء لمن هذه
حاله ليس بوفاء عند الله تعالى بل هو كالغدر في قبحه والغدر بمن هذه حاله
ليس بقبيح بل هو في الحسن كالوفاء لمن يستحق الوفاء عند الله تعالى
[ 103 ](1/5434)
257
وَ قَالَ ع كَمْ مِنْ مُسْتَدْرَجٍ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ وَ مَغْرُورٍ بِالسَّتْرِ بِالسِّتْرِ عَلَيْهِ وَ مَفْتُونٍ بِحُسْنِ اَلْقَوْلِ فِيهِ وَ مَا اِبْتَلَى اَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَحَداً بِمِثْلِ اَلْإِمْلاَءِ لَهُ قال الرضي رحمه الله تعالى وقد مضى هذا الكلام فيما تقدم إلا أن فيه هاهنا زيادة جيدة قد تقدم الكلام في الاستدراج والإملاء وقال بعض الحكماء احذر النعم المتواصلة إليك أن تكون استدراجا كما يحذر المحارب من اتباع عدوه في الحرب إذا فر من بين يديه من الكمين وكم من عدو فر مستدرجا ثم إذ هو عاطف وكم من ضارع في يديك ثم إذ هو خاطف
[ 104 ](1/5435)
258
و من كلامه ع المتضمن ألفاظا من الغريب تحتاج إلى تفسير قوله ع في حديثه : فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ ضَرَبَ يَعْسُوبُ اَلدِّينِ بِذَنَبِهِ فَيَجْتَمِعُونَ إِلَيْهِ كَمَا يَجْتَمِعُ قَزَعُ اَلْخَرِيفِ قال الرضي رحمه الله تعالى يعسوب الدين السيد العظيم المالك لأمور الناس يومئذ والقزع قطع الغيم التي لا ماء فيها أصاب في اليعسوب فأما القزع فلا يشترط فيها أن تكون خالية من الماء بل القزع قطع من السحاب رقيقة سواء كان فيها ماء أو لم يكن الواحدة قزعة بالفتح وإنما غره قول الشاعر يصف جيشا بالقلة والخفة
كأن رعاله قزع الجهام
و ليس يدل ذلك على ما ذكره لأن الشاعر أراد المبالغة فإن الجهام الذي لا ماء فيه إذا كان أقطاعا متفرقة خفيفة كان ذكره أبلغ فيما يريده من التشبيه وهذا الخبر من أخبار الملاحم التي كان يخبر بها ع وهو يذكر فيه المهدي الذي يوجد عند أصحابنا في آخر الزمان ومعنى قوله ضرب بذنبه أقام وثبت بعد
[ 105 ]
اضطرابه وذلك لأن اليعسوب فحل النحل وسيدها وهو أكثر زمانه طائر بجناحيه فإذا ضرب بذنبه الأرض فقد أقام وترك الطيران والحركة . فإن قلت فهذا يشبه مذهب الإمامية في أن المهدي خائف مستتر ينتقل في الأرض وأنه يظهر آخر الزمان ويثبت ويقيم في دار ملكه . قلت لا يبعد على مذهبنا أن يكون الإمام المهدي الذي يظهر في آخر الزمان مضطرب الأمر منتشر الملك في أول أمره لمصلحة يعلمها الله تعالى ثم بعد ذلك يثبت ملكه وتنتظم أموره . وقد وردت لفظة اليعسوب عن أمير المؤمنين ع في غير هذا الموضع قال يوم الجمل لعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد وقد مر به قتيلا هذا يعسوب قريش أي سيدها
[ 106 ](1/5436)
259
وَ فِي حَدِيثِهِ ع : هَذَا اَلْخَطِيبُ اَلشَّحْشَحُ قال يريد الماهر بالخطبة الماضي فيها وكل ماض في كلام أو سير فهو شحشح والشحشع في غير هذا الموضع البخيل الممسك قد جاء الشحشح بمعنى الغيور والشحشح بمعنى الشجاع والشحشح بمعنى المواظب على الشي ء الملازم له والشحشح الحاوي ومثله الشحشحان . وهذه الكلمة قالها علي ع لصعصعة بن صوحان العبدي رحمه الله وكفى صعصعة بها فخرا أن يكون مثل علي ع يثني عليه بالمهارة وفصاحة اللسان وكان صعصعة من أفصح الناس ذكر ذلك شيخنا أبو عثمان الجاحظ
[ 107 ](1/5437)
260
و منه : إِنَّ لِلْخُصُومَةِ قُحَماً قال يريد بالقحم المهالك لأنها تقحم أصحابها في المهالك والمتالف في الأكثر فمن ذلك قحمة الأعراب وهو أن تصيبهم السنة فتتفرق أموالهم فذلك تقحمها فيهم وقيل فيه وجه آخر وهو أنها تقحمهم بلاد الريف أي تحوجهم إلى دخول الحضر عند محول البدو أصل هذا البناء للدخول في الأمر على غير روية ولا تثبت قحم الرجل في الأمر بالفتح قحوما وأقحم فلان فرسه البحر فانقحم واقتحمت أيضا البحر دخلته مكافحة وقحم الفرس فارسه تقحيما على وجهه إذا رماه وفحل مقحام أي يقتحم الشول من غير إرسال فيها . وهذه الكلمة قالها أمير المؤمنين حين وكل عبد الله بن جعفر في الخصومة عنه وهو شاهد . وأبو حنيفة لا يجيز الوكالة على هذه الصورة ويقول لا تجوز إلا من غائب أو مريض وأبو يوسف ومحمد يجيزانها أخذا بفعل أمير المؤمنين ع
[ 108 ](1/5438)
261
و منه : إِذَا بَلَغَ اَلنِّسَاءُ نَصَّ اَلْحِقَاقِ فَالْعَصَبَةُ أَوْلَى قال ويروى نص الحقائق والنص منتهى الأشياء ومبلغ أقصاها كالنص في السير لأنه أقصى ما تقدر عليه الدابة ويقال نصصت الرجل عن الأمر إذا استقصيت مسألته لتستخرج ما عنده فيه ونص الحقاق يريد به الإدراك لأنه منتهى الصغر والوقت الذي يخرج منه الصغير إلى حد الكبر وهو من أفصح الكنايات عن هذا الأمر وأغربها يقول فإذا بلغ النساء ذلك فالعصبة أولى بالمرأة من أمها إذا كانوا محرما مثل الإخوة والأعمام وبتزويجها إن أرادوا ذلك . والحقاق محاقة الأم للعصبة في المرأة وهو الجدال والخصومة وقول كل واحد منهما للآخر أنا أحق منك بهذا يقال منه حاققته حقاقا مثل جادلته جدالا قال وقد قيل إن نص الحقاق بلوغ العقل وهو الإدراك لأنه ع إنما أراد منتهى الأمر الذي تجب به الحقوق والأحكام . قال ومن رواه نص الحقائق فإنما أراد جمع حقيقة هذا معنى ما ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام . قال والذي عندي أن المراد بنص الحقاق هاهنا بلوغ المرأة إلى الحد الذي يجوز فيه تزويجها وتصرفها في حقوقها تشبيها بالحقاق من الإبل وهي جمع حقة وحق وهو الذي استكمل ثلاث سنين ودخل في الرابعة وعند ذلك يبلغ إلى الحد الذي يمكن فيه من ركوب ظهره ونصه في سيره والحقائق أيضا جمع حقة
[ 109 ](1/5439)
فالروايتان جميعا ترجعان إلى مسمى واحد وهذا أشبه بطريقة العرب من المعنى المذكور أولا أما ما ذكره أبو عبيد فإنه لا يشفي الغليل لأنه فسر معنى النص ولم يفسر معنى نص الحقائق بل قال هو عبارة عن الإدراك لأنه منتهى الصغر والوقت الذي يخرج منه الصغير إلى حد الكبر ولم يبين من أي وجه يدل لفظ نص الحقاق على ذلك ولا اشتقاق الحقاق وأصله ليظهر من ذلك مطابقة اللفظ للمعنى الذي أشير إليه . فأما قوله الحقاق هاهنا مصدر حاقه يحاقه فلقائل أن يقول إن كان هذا هو مقصوده ع فقبل الإدراك يكون الحقاق أيضا لأن كل واحدة من القرابات تقول للأخرى أنا أحق بها منك فلا معنى لتخصيص ذلك بحال البلوغ إلا أن يزعم زاعم أن الأم قبل البلوغ لها الحضانة فلا ينازعها قبل البلوغ في البنت أحد ولكن في ذلك خلاف كثير بين الفقهاء . وأما التفسير الثاني وهو أن المراد بنص الحقاق منتهى الأمر الذي تجب به الحقوق فإن أهل اللغة لم ينقلوا عن العرب أنها استعملت الحقاق في الحقوق ولا يعرف هذا في كلامهم . فأما قوله ومن رواه نص الحقائق فإنما أراد جمع حقيقة فلقائل أن يقول وما معنى الحقائق إذا كانت جمع حقيقة هاهنا وما معنى إضافة نص إلى الحقائق جمع حقيقة فإن أبا عبيدة لم يفسر ذلك مع شدة الحاجة إلى تفسيره . وأما تفسير الرضي رحمه الله فهو أشبه من تفسير أبي عبيدة إلا أنه قال في آخره
[ 110 ](1/5440)
و الحقائق أيضا جمع حقة فالروايتان ترجعان إلى معنى واحد وليس الأمر على ما ذكر من أن الحقائق جمع حقة ولكن الحقائق جمع حقاق والحقاق جمع حق وهو ما كان من الإبل ابن ثلاث سنين وقد دخل في الرابعة فاستحق أن يحمل عليه وينتفع به فالحقائق إذن جمع الجمع لحق لا لحقة ومثل إفال وأفائل قال ويمكن أن يقال الحقاق هاهنا الخصومة يقال ما له فيه حق ولا حقاق أي ولا خصومة ويقال لمن ينازع في صغار الأشياء إنه لبرق الحقاق أي خصومته في الدني ء من الأمر فيكون المعنى إذا بلغت المرأة الحد الذي يستطيع الإنسان فيه الخصومة والجدال فعصبتها أولى بها من أمها والحد الذي تكمل فيه المرأة والغلام للخصومة والحكومة والجدال والمناظرة هو سن البلوغ
[ 111 ](1/5441)
262
و منه : إِنَّ اَلْإِيمَانَ يَبْدُو لُمْظَةً فِي اَلْقَلْبِ كُلَّمَا اِزْدَادَ اَلْإِيمَانُ اِزْدَادَتِ اَللُّمْظَةُ قال اللمظة مثل النكتة أو نحوها من البياض ومنه قيل فرس ألمظ إذا كان بجحفلته شي ء من البياض قال أبو عبيدة هي لمظة بضم اللام والمحدثون يقولون لمظة بالفتح والمعروف من كلام العرب الضم مثل الدهمة والشهبة والحمرة قال وقد رواه بعضهم لمطة بالطاء المهملة وهذا لا نعرفه . قال وفي هذا الحديث حجة على من أنكر أن يكون الإيمان يزيد وينقص أ لا تراه يقول كلما ازداد الإيمان ازدادت اللمظة
[ 112 ](1/5442)
263
و منه : إِنَّ اَلرَّجُلَ إِذَا كَانَ لَهُ اَلدَّيْنُ اَلظَّنُونُ يَجِبُ
عَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَهُ لِمَا مَضَى إِذَا قَبَضَهُ قال الظنون الذي لا
يعلم صاحبه أ يقضيه من الذي هو عليه أم لا فكأنه الذي يظن به ذلك فمرة يرجوه
و مرة لا يرجوه وهو من أفصح الكلام وكذلك كل أمر تطلبه ولا تدري على أي
شي ء أنت منه فهو ظنون وعلى ذلك قول الأعشى
من يجعل الجد الظنون الذي
جنب صوب اللجب الماطر
مثل الفراتي إذا ما طما
يقذف بالبوصي والماهر
و الجد البئر العادية في الصحراء والظنون التي لا يعلم هل فيها ماء أم لا
قال أبو عبيدة في هذا الحديث من الفقه أن من كان له دين على الناس فليس عليه
أن يزكيه حتى يقبضه فإذا قبضه زكاه لما مضى وإن كان لا يرجوه قال وهذا يرده
قول من قال إنما زكاته على الذي عليه المال لأنه المنتفع به قال
[ 113 ]
و كما يروى عن إبراهيم والعمل عندنا على قول علي ع فأما ما ذكره الرضي من أن
الجد هي البئر العادية في الصحراء فالمعروف عند أهل اللغة أن الجد البئر التي
تكون في موضع كثير الكلإ ولا تسمى البئر العادية في الصحراء الموات جدا و
شعر الأعشى لا يدل على ما فسره الرضي لأنه إنما شبه علقمة بالبئر والكلإ يظن
أن فيها ماء لمكان الكلإ ولا يكون موضع الظن هذا هو مراده ومقصوده ولهذا
قال الظنون ولو كانت عادية في بيداء مقفرة لم تكن ظنونا بل كان يعلم أنه لا
ماء فيها فسقط عنها اسم الظنون
[ 114 ](1/5443)
264
و منه : أَنَّهُ شَيَّعَ جَيْشاً يُغْزِيهِ فَقَالَ اِعْذِبُوا اُعْزُبُوا
عَنِ اَلنِّسَاءِ مَا اِسْتَطَعْتُمْ ومعناه اصدفوا عن ذكر النساء وشغل
القلوب بهن وامتنعوا من المقاربة لهن لأن ذلك يفت في عضد الحمية ويقدح في
معاقد العزيمة ويكسر عن العدو ويلفت عن الإبعاد في الغزو فكل من امتنع من
شي ء فقد أعزب عنه والعازب والعزوب الممتنع من الأكل والشرب التفسير صحيح
لكن قوله من امتنع من شي ء فقد أعزب عنه ليس بجيد والصحيح فقد عزب عنه ثلاثي
و الصواب وكل من منعته من شي ء فقد أعزبته عنه تعديه بالهمزة كما تقول أقمته
و أقعدته والفعل ثلاثي قام وقعد والدليل على أن الماضي ثلاثي هاهنا قوله و
العازب والعزوب الممتنع من الأكل والشرب ولو كان رباعيا لكان المعزب وهو
واضح وعلى هذا تكون الهمزة في أول الحرف همزة وصل مكسورة كما في اضربوا لأن
المضارع يعزب بالكسر
[ 115 ](1/5444)
265
و منه : كَالْيَاسِرِ اَلْفَالِجِ يَنْتَظِرُ أَوَّلَ فَوْزَةٍ مِنْ
قِدَاحِهِ قال الياسرون هم الذين يتضاربون بالقداح على الجزور والفالج
القاهر الغالب يقال قد فلج عليهم وفلجهم قال الراجز
لما رأيت فالجا قد فلجا
أول الكلام أن المرء المسلم ما لم يغش دناءة يخشع لها إذا ذكرت ويغري به
لئام الناس كالياسر الفالج ينتظر أول فوزة من قداحه أو داعي الله فما عند
الله خير للأبرار يقول هو بين خيرتين إما أن يصير إلى ما يحب من الدنيا فهو
بمنزلة صاحب القدح المعلى وهو أوفرها نصيبا أو يموت فما عند الله خير له و
أبقى وليس يعني بقوله الفالج القامر الغالب كما فسره الرضي رحمه الله لأن
الياسر الغالب القامر لا ينتظر أول فوزة من قداحه وكيف ينتظر وقد غلب وأي
حاجة له إلى الانتظار ولكنه يعني بالفالج الميمون النقيبة الذي له عادة
مطردة أن يغلب وقل أن يكون مقهورا
[ 116 ](1/5445)
266
و منه : كُنَّا إِذَا اِحْمَرَّ اَلْبَأْسُ اِتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اَللَّهِ
ص فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَّا أَقْرَبَ إِلَى اَلْعَدُوِّ مِنْهُ قال معنى
ذلك أنه إذا عظم الخوف من العدو واشتد عضاض الحرب فزع المسلمون إلى قتال
رسول الله ص بنفسه فينزل الله تعالى النصر عليهم به ويأمنون ما كانوا
يخافونه بمكانه . وقوله إذا احمر البأس كناية عن اشتداد الأمر وقد قيل في
ذلك أقوال أحسنها أنه شبه حمي الحرب بالنار التي تجمع الحرارة والحمرة
بفعلها ولونها ومما يقوي ذلك قول الرسول ص وقد رأى مجتلد الناس يوم حنين و
هي حرب هوازن الآن حمي الوطيس والوطيس مستوقد النار فشبه رسول الله ص ما
استحر من جلاد القوم باحتدام النار وشدة التهابها الجيد في تفسير هذا اللفظ
أن يقال البأس الحرب نفسها قال الله تعالى وَ اَلصَّابِرِينَ فِي
اَلْبَأْساءِ وَ اَلضَّرَّاءِ وَ حِينَ اَلْبَأْسِ وفي الكلام حذف مضاف
تقديره
[ 117 ]
إذا احمر موضع البأس وهو الأرض التي عليها معركة القوم واحمرارها لما يسيل
عليها من الدم(1/5446)
من غريب كلام الإمام علي وشرحه
لأبي عبيد
و لما كان تفسير الرضي رحمه الله قد تعرض للغريب من كلامه ع ورأينا أنه لم
يذكر من ذلك إلا اليسير آثرنا أن نذكر جملة من غريب كلامه ع مما نقله أرباب
الكتب المصنفة في غريب الحديث عنه ع . فمن ذلك
ما ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله في كتابه لأن أطلي بجواء قدر أحب
إلي من أن أطلي بزعفران . قال أبو عبيد هكذا الرواية عنه بجواء قدر قال و
سمعت الأصمعي يقول إنما هي الجئاوة وهي الوعاء الذي يجعل القدر فيه وجمعها
جياء . قال وقال أبو عمرو يقال لذلك الوعاء جواء وجياء قال ويقال للخرقة
التي ينزل بها الوعاء عن الأثافي جعال . و
منها قوله ع حين أقبل يريد العراق فأشار إليه الحسن بن علي ع أن يرجع والله
لا أكون مثل الضبع تسمع اللدم حتى تخرج فتصاد . قال أبو عبيد قال الأصمعي
اللدم صوت الحجر أو الشي ء يقع على الأرض وليس بالصوت الشديد يقال منه لدم
ألدم بالكسر وإنما قيل ذلك للضبع لأنهم إذا أرادوا أن يصيدوها رموا في جحرها
بحجر خفيف أو ضربوا بأيديهم فتحسبه
[ 118 ]
شيئا تصيده فتخرج لتأخذه فتصاد وهي زعموا أنها من أحمق الدواب بلغ من حمقها
أن يدخل عليها فيقال أم عامر نائمة أو ليست هذه والضبع هذه أم عامر فتسكت
حتى تؤخذ فأراد علي ع أني لا أخدع كما تخدع الضبع باللدم . ومنها
قوله ع من وجد في بطنه رزا فلينصرف وليتوضأ . قال أبو عبيد قال أبو عمرو
إنما هو أرزا مثل أرز الحية وهو دورانها وحركتها فشبه دوران الريح في بطنه
بذلك . قال وقال الأصمعي هو الرز يعنى الصوت في البطن من القرقرة ونحوها
قال الراجز
كان في ربابه الكبار
رز عشار جلن في عشار
و قال أبو عبيد فقه هذا الحديث أن ينصرف فيتوضأ ويبني على صلاته ما لم يتكلم
و هذا إنما هو قبل أن يحدث . قلت والذي أعرفه من الأرز أنه الانقباض لا
الدوران والحركة يقال أرز فلان بالفتح وبالكسر إذ تضام وتقبض من بخله فهو(1/5447)
أروز والمصدر أرزا وأروزا قال رؤبة
فذاك يخال أروز الأرز
فأضاف الاسم إلى المصدر كما يقال عمر العدل وعمرو الدهاء لما كان العدل و
الدهاء أغلب أحوالهما وقال أبو الأسود الدؤلي يذم إنسانا إذا سئل أرز وإذا
دعي اهتز يعني إلى الطعام و
في الحديث أن الإسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها أي يجتمع
إليها وينضم بعضه إلى بعض فيها .
[ 119 ]
و منها
قوله لئن وليت بني أمية لأنفضنهم نفض القصاب التراب الوذمة وقد تقدم منا شرح
ذلك والكلام فيه . ومنها
قوله في ذي الثدية المقتول بالنهروان إنه مودن اليد أو مثدن اليد أو مخدع
اليد قال أبو عبيدة قال الكسائي وغيره المودن اليد القصير اليد ويقال أودنت
الشي ء أي قصرته وفيه لغة أخرى ودنته فهو مودون قال حسان يذم رجلا
و أملك سوداء مودونة
كأن أناملها الحنظب
و أما مثدن اليد بالثاء فإن بعض الناس قال نراه أخذه من الثندوة وهي أصل
الثدي فشبه يده في قصرها واجتماعها بذلك فإن كان من هذا فالقياس أن يقال
مثند لأن النون قبل الدال في الثندوة إلا أن يكون من المقلوب فذاك كثير في
كلامهم . وأما مخدع اليد فإنه القصير اليد أيضا أخذ من أخداج الناقة ولدها و
هو أن تضعه لغير تمام في خلقه قال وقال الفراء إنما قيل ذو الثدية فأدخلت
الهاء فيها وإنما هي تصغير ثدي والثدي مذكر لأنها كأنها بقية ثدي قد ذهب
أكثره فقللها كما تقول لحيمة وشحيمة فأنث على هذا التأويل قال وبعضهم يقول
ذو اليدية قال أبو عبيد ولا أرى الأصل كان إلا هذا ولكن الأحاديث كلها
تتابعت بالثاء ذو الثدية . ومنها
قوله ع لقوم وهو يعاتبهم ما لكم لا تنظفون عذراتكم قال العذرة فناء الدار و
إنما سميت تلك الحاجة عذرة لأنها بالأفنية كانت تلقى
[ 120 ]
فكنى عنها بالعذرة كما كنى عنها بالغائط وإنما الغائط الأرض المطمئنة وقال
الحطيئة يهجو قوما
لعمري لقد جربتكم فوجدتكم
فباح الوجوه سيئ العذرات
و منها(1/5448)
قوله ع لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع قال أبو عبيد التشريق هاهنا صلاة
العيد وسميت تشريقا لإضاءة وقتها فإن وقتها إشراق الشمس وصفاؤها وإضاءتها
و
في الحديث المرفوع من ذبح قبل التشريق فليعد أي قبل صلاة العيد . قال وكان
أبو حنيفة يقول التشريق هاهنا هو التكبير في دبر الصلاة يقول لا تكبير إلا
على أهل الأمصار تلك الأيام لا على المسافرين أو من هو في غير مصر . قال أبو
عبيد وهذا كلام لم نجدا أحدا يعرفه إن التكبير يقال له التشريق وليس يأخذ
به أحد من أصحابه لا أبو يوسف ولا محمد كلهم يرى التكبير على المسلمين جميعا
حيث كانوا في السفر والحضر وفي الأمصار وغيرها . ومنها
قوله ع استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يحال بينكم وبينه فكأني برجل
من الحبشة أصعل أصمع حمش الساقين قاعدا عليها وهي تقدم قال أبو عبيدة هكذا
يروى أصعل وكلام العرب المعروف صعل وهو الصغير الرأس وكذا رءوس الحبشة و
لهذا قيل للظليم صعل وقال عنترة يصف ظليما
صعل يلوذ بذي العشيرة بيضه
كالعبد ذي الفرو الطويل الأصلم
[ 121 ]
قال وقد أجاز بعضهم أصعل في الصعل وذكر أنها لغة لا أدري عمن هي والأصمع
الصغير الأذن وامرأة صمعاء . وفي حديث ابن عباس أنه كان لا يرى بأسا أن
يضحي بالصمعاء وحمش الساقين بالتسكين دقيقها . ومنها
أن قوما أتوه برجل فقالوا إن هذا يؤمنا ونحن له كارهون فقال له إنك لخروط أ
تؤم قوما هم لك كارهون قال أبو عبيد الخروط المتهور في الأمور الراكب برأسه
جهلا ومنه قيل انخرط علينا فلان أي اندرأ بالقول السيئ والفعل قال وفقه
هذا الحديث أنه ما أفتى ع بفساد صلاته لأنه لم يأمره بالإعادة ولكنه كره له
أن يؤم قوما هم له كارهون ومنها
أن رجلا أتاه وعليه ثوب من قهز فقال إن بني فلان ضربوا بني فلانة بالكناسة
فقال ع صدقني سن بكره قال أبو عبيد هذا مثل تضربه العرب للرجل يأتي بالخبر(1/5449)
على وجهه ويصدق فيه ويقال إن أصله أن الرجل ربما باع بعيره فيسأل المشتري
عن سنه فيكذبه فعرض رجل بكرا له فصدق في سنه فقال الآخر صدقني سن بكره فصار
مثلا . والقهز بكسر القاف ثياب بيض يخالطها حرير ولا أراها عربية وقد
استعملها العرب قال ذو الرمة يصف البزاة البيض
[ 122 ]
من الورق أو صق كأن رءوسها
من القهز والقوهي بيض المقانع
و منها
ذكر ع آخر الزمان والفتن فقال خير أهل ذلك الزمان كل نومة أولئك مصابيح
الهدى ليسوا بالمسابيح ولا المذاييع البذر وقد تقدم شرح ذلك . ومنها
أن رجلا سافر مع أصحاب له فلم يرجع حين رجعوا فاتهم أهله أصحابه ورفعوهم إلى
شريح فسألهم البينة على قتله فارتفعوا إلى علي ع فأخبروه بقول شريح فقال
أوردها سعد وسعد مشتمل
يا سعد لا تروى بهذاك الإبل
ثم قال إن أهون السقي التشريع ثم فرق بينهم وسألهم فاختلفوا ثم أقروا بقتلهم
فقتلهم به قال أبو عبيد هذا مثل أصله أن رجلا أورد إبله ماء لا تصل إليه
الإبل إلا بالاستقاء ثم اشتمل ونام وتركها لم يستسق لها والكلمة الثانية
مثل أيضا يقول إن أيسر ما كان ينبغي أن يفعل بالإبل أن يمكنها من الشريعة و
يعرض عليها الماء يقول أقل ما كان يجب على شريح أن يستقصي في المسألة والبحث
عن خبر الرجل ولا يقتصر على طلب البينة .
[ 123 ]
و منها
قوله وقد خرج على الناس وهم ينتظرونه للصلاة قياما ما لي أراكم سامدين قال
أبو عبيد أي قائمين وكل رافع رأسه فهو سامد وكانوا يكرهون أن ينتظروا
الإمام قياما ولكن قعودا والسامد في غير هذا الموضع اللاهي اللاعب ومنه
قوله تعالى وَ أَنْتُمْ سامِدُونَ وقيل السمود الغناء بلغة حمير . ومنها
أنه خرج فرأى قوما يصلون قد سدلوا ثيابهم فقال كأنهم اليهود خرجوا من فهرهم
قال أبو عبيد فهرهم بضم الفاء موضع مدراسهم الذي يجتمعون فيه كالعيد يصلون
فيه ويسدلون ثيابهم وهي كلمة نبطية أو عبرانية أصلها بهر بالباء فعربت(1/5450)
بالفاء . والسدل إسبال الرجل ثوبه من غير أن يضم جانبيه بين يديه فإن ضمه
فليس بسدل وقد رويت فيه الكراهة عن النبي ص . ومنها
أن رجلا أتاه في فريضة وعنده شريح فقال أ تقول أنت فيها أيها العبد الأبظر
قال أبو عبيد هو الذي في شفته العليا طول ونتوء في وسطها محاذي الأنف قال و
إنما نراه قال لشريح أيها العبد لأنه كان قد وقع عليه سبي في الجاهلية .
[ 124 ]
و منها
أن الأشعث قال له وهو على المنبر غلبتنا عليك هذه الحمراء فقال ع من يعذرني
من هؤلاء الضياطرة يتخلف أحدهم يتقلب على فراشه وحشاياه كالعير ويهجر هؤلاء
للذكر أ أطردهم إني إن طردتهم لمن الظالمين والله لقد سمعته يقول والله
ليضربنكم على الدين عودا كما ضربتموهم عليه بدءا قال أبو عبيد الحمراء العجم
و الموالي سموا بذلك لأن الغالب على ألوان العرب السمرة والغالب على ألوان
العجم البياض والحمرة والضياطرة الضخام الذين لا نفع عندهم ولا غناء
واحدهم ضيطار . ومنها
قوله ع اقتلوا الجان ذا الطفيتين والكلب الأسود ذا الغرتين قال أبو عبيد
الجان حية بيضاء والطفية في الأصل خوصة المقل وجمعها طفي ثم شبهت الخطتان
على ظهر الحية بطفيتين والغرة البياض في الوجه(1/5451)
نبذ من غريب كلام الإمام علي وشرحه
لابن قتيبة
و قد ذكر ابن قتيبة في غريب الحديث له ع كلمات أخرى فمنها
قوله من أراد البقاء ولا بقاء فليباكر الغداء وليخفف الرداء وليقل غشيان
النساء فقيل له يا أمير المؤمنين وما خفة الرداء في البقاء فقال الدين
[ 125 ]
قال ابن قتيبة قوله الرداء الدين مذهب في اللغة حسن جيد ووجه صحيح لأن الدين
أمانة وأنت تقول هو لك علي وفي عنقي حتى أؤديه إليك فكأن الدين لازم للعنق
و الرداء موضعه صفحتا العنق فسمى الدين رداء وكنى عنه به وقال الشاعر
إن لي حاجة إليك فقالت
بين أذني وعاتقي ما تريد
يريد بقوله بين أذني وعاتقي ما تريد في عنقي والمعنى أني قد ضمنته فهو علي
و إنما قيل للسيف رداء لأن حمالته تقع موقع الرداء وهو في غير هذا الموضع
العطاء يقال فلان غمر الرداء أي واسع العطاء قال وقد يجوز أن يكون كنى
بالرداء عن الظهر لأنه يقع عليه يقول فليخفف ظهره ولا يثقله بالدين كما قال
الآخر خماص الأزر يريد خماص البطون . وقال وبلغني نحو هذا الكلام عن أبي
عبيد قال قال فقيه العرب من سره النساء ولا نساء فليبكر العشاء وليباكر
الغداء وليخفف الرداء وليقل غشيان النساء قال فالنس ء التأخير ومنه
إِنَّمَا اَلنَّسِي ءُ زِيادَةٌ فِي اَلْكُفْرِ . وقوله فليبكر العشاء أي
فليؤخره قال الشاعر
فأكريت العشاء إلى سهيل
و يجوز أن يريد فلينقص العشاء قال الشاعر
و الطل لم يفضل ولم يكر
[ 126 ]
و منها
أنه أتي ع بالمال فكوم كومة من ذهب وكومة من فضة فقال يا حمراء ويا بيضاء
احمري وابيضي وغري غيري
هذا جناي وخياره فيه
و كل جان يده إلى فيه
قال ابن قتيبة هذا مثل ضربه وكان الأصمعي يقوله وهجانه فيه أي خالصه وأصل
المثل لعمرو بن عدي ابن أخت جذيمة الأبرش كان يجني الكمأة مع أتراب له فكان
أترابه يأكلون ما يجدون وكان عمرو يأتي به خاله ويقول هذا القول . ومنها(1/5452)
حديث أبي جأب قال جاء عمي من البصرة يذهب بي وكنت عند أمي فقالت لا أتركك
تذهب به ثم أتت عليا ع فذكرت ذلك له فجاء عمي من البصرة فقال نعم والله
لأذهبن به وإن رغم أنفك فقال علي ع كذبت والله وولقت ثم ضرب بين يديه
بالدرة . قال ولقت مثل كذبت وكذلك ولعت بالعين وكانت عائشة تقرأ إِذْ
تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وقال الشاعر
و هن من الأحلاف والولعان
يعني النساء أي من أهل الأحلاف . ومنها
قوله ع إن من ورائكم أمورا متماحلة ردحا وبلاء مكلحا مبلحا
[ 127 ]
قال ابن قتيبة المتماحلة الطوال يعني فتنا يطول أمرها ويعظم ويقال رجل
متماحل وسبسب متماحل والردح جمع رداح وهي العظيمة يقال للكتيبة إذا عظمت
رداح ويقال للمرأة العظيمة العجيزة رداح . قال ومنه حديث أبي موسى وقيل له
زمن علي ومعاوية أ هي أ هي فقال إنما هذه الفتنة حيضة من حيضات الفتن وبقيت
الرداح المظلمة التي من أشرف أشرفت له . ومكلحا أي يكلح الناس بشدتها يقال
كلح الرجل وأكلحه الكلحة الهم والمبلح من قولهم بلح الرجل إذا انقطع من
الإعياء فلم يقدر على أن يتحرك وأبلحه السير وقال الأعشى
و اشتكى الأوصال منه وبلح
و منها
قوله ع يوم خيبر
أنا الذي سمتن أمي حيدرة
كليث غابات كريه المنظرة
أفيهم بالصاع كيل السندرة
قال ابن قتيبة كانت أم علي ع سمته وأبو طالب غائب حين ولدته أسدا باسم أبيها
أسد بن هاشم بن عبد مناف فلما قدم أبو طالب غير اسمه وسماه عليا وحيدرة اسم
من أسماء الأسد والسندرة شجرة يعمل منها القسي والنبل قال
حنوت لهم بالسندري المؤثر
فالسندرة في الرجز يحتمل أن تكون مكيالا يتخذ من هذه الشجرة سمي باسمها كما
يسمى القوس بنبعة قال وأحسب إن كان الأمر كذلك أن الكيل بها قد كان
[ 128 ]
جزافا فيه إفراط قال ويحتمل أن تكون السندرة هاهنا امرأة كانت تكيل كيلا
وافيا أو رجلا . ومنها(1/5453)
قوله ع من يطل أير أبيه يتمنطق به قال ابن قتيبة هذا مثل ضربه يريد من كثرت
إخوته عز واشتد ظهره وضرب المنطقة إذا كانت تشد الظهر مثلا لذلك قال الشاعر
فلو شاء ربي كان أير أبيكم
طويلا كأير الحارث بن سدوس
قيل كان للحارث بن سدوس أحد وعشرون ذكرا وكان ضرار بن عمرو الضبي يقول ألا
إن شر حائل أم فزوجوا الأمهات وذلك أنه صرع فأخذته الرماح فاشتبك عليه إخوته
لأمه حتى خلصوه . قال فأما المثل الآخر وهو قولهم من يطل ذيله يتمنطق به
فليس من المثل الأول في شي ء وإنما معناه من وجد سعة وضعها في غير موضعها و
أنفق في غير ما يلزمه الإنفاق فيه . ومنها
قوله خير بئر في الأرض زمزم وشر بئر في الأرض برهوت . قال ابن قتيبة هي بئر
بحضرموت يروى أن فيها أرواح الكفار . قال وقد ذكر أبو حاتم عن الأصمعي عن
رجل من أهل حضرموت قال نجد فيها الرائحة المنتنة الفظيعة جدا ثم نمكث حينا
فيأتينا الخبر بأن عظيما من عظماء الكفار قد مات فنرى أن تلك الرائحة منه قال
و ربما سمع منها مثل أصوت الحاج فلا يستطيع أحد أن يمشي بها
[ 129 ]
و منها
قوله ع أيما رجل تزوج امرأة مجنونة أو جذماء أو برصاء أو بها قرن فهي امرأته
إن شاء أمسك وإن شاء طلق قال ابن قتيبة القرن بالتسكين العفلة الصغيرة ومنه
حديث شريح أنه اختصم إليه في قرن بجارية فقال أقعدوها فإن أصاب الأرض فهو عيب
و إن لم يصب الأرض فليس بعيب . ومنها
قوله ع لود معاوية أنه ما بقي من بني هاشم نافخ ضرمة إلا طعن في نيطه قال ابن
قتيبة الضرمة النار وما بالدار نافخ ضرمة أي ما بها أحد . قال وقال أبو
حاتم عن أبي زيد طعن فلان في نيطه أي في جنازته ومن ابتدأ في شي ء أو دخل
فيه فقد طعن فيه قال ويقال النيط الموت رماه الله بالنيط قال وقد روي إلا
طعن بضم الطاء وهذا الراوي يذهب إلى أن النيط نياط القلب وهي علاقته التي
يتعلق بها فإذا طعن إنسان في ذلك المكان مات . ومنها(1/5454)
قوله ع إن الله أوحى إلى إبراهيم ع أن ابن لي بيتا في الأرض فضاق بذلك ذرعا
فأرسل الله إليه السكينة وهي ريح خجوج فتطوقت حول البيت كالحجفة وقال ابن
قتيبة الخجوج من الرياح السريعة المرور ويقال أيضا خجوجاء قال ابن أحمر
[ 130 ]
هوجاء رعبلة الرواح خجوجاة
الغدو رواحها شهر
قال وهذا مثل حديث علي ع الآخر وهو
أنه قال السكينة لها وجه كوجه الإنسان وهي بعد ريح هفافة أي خفيفة سريعة و
الحجفة الترس . ومنها
أن مكاتبا لبعض بني أسد قال جئت بنقد أجلبه إلى الكوفة فانتهيت به إلى الجسر
فإني لأسربه عليه إذا أقبل مولى لبكر بن وائل يتخلل الغنم ليقطعها فنفرت نقدة
فقطرت الرجل في الفرات فغرق فأخذت فارتفعنا إلى علي ع فقصصنا عليه القصة فقال
انطلقوا فإن عرفتم النقدة بعينها فادفعوها إليهم وإن اختلطت عليكم فادفعوا
شرواها من الغنم إليهم قال ابن قتيبة النقد غنم صغار الواحدة نقدة ومنه
قولهم في المثل أذل من النقد . وقوله أسربه أي أرسله قطعة قطعة وشرواها
مثلها . ومنها
قوله ع في ذكر المهدي من ولد الحسين ع قال إنه رجل أجلى الجبين أقنى الأنف
ضخم البطن أربل الفخذين أفلج الثنايا بفخذه اليمنى شامة . قال ابن قتيبة
الأجلى والأجلح شي ء واحد والقنا في الأنف طوله ودقة أرنبته
[ 131 ]
و حدب في وسطه والأربل الفخذين المتباعد ما بينهما وهو كالأفحج تربل الشي ء
أي انفرج والفلج صفرة في الأسنان . ومنها
قوله ع إن بني أمية لا يزالون يطعنون في مسجل ضلالة ولهم في الأرض أجل حتى
يهريقوا الدم الحرام في الشهر الحرام والله لكأني أنظر إلى غرنوق من قريش
يتخبط في دمه فإذا فعلوا ذلك لم يبق لهم في الأرض عاذر ولم يبق لهم ملك على
وجه الأرض قال ابن قتيبة هو من قولك ركب فلان مسجله إذا جد في أمر هو فيه
كلاما كان أو غيره وهو من السجل وهو الصب والغرنوق الشاب . قلت والغرنوق(1/5455)
القرشي الذي قتلوه ثم انقضى أمرهم عقيب قتله إبراهيم الإمام وقد اختلفت
الرواية في كيفية قتله فقيل قتل بالسيف وقيل خنق في جراب فيه نورة وحديث
أمير المؤمنين ع يسند الرواية الأولى . ومنها
ما روي أنه اشترى قميصا بثلاثة دراهم ثم قال الحمد لله الذي هذا من رياشه قال
ابن قتيبة الريش والرياش واحد وهو الكسوة قال عز وجل قَدْ أَنْزَلْنا
عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وقرئ ورياشا . ومنها
قوله ع لا قود إلا بالأسل قال ابن قتيبة هو ما أرهف وأرق من الحديد كالسنان
و السيف والسكين ومنه قيل أسلة الذراع لما استدق منه قال وأكثر الناس على
هذا المذهب
[ 132 ]
و قوم من الناس يقولون قد يجوز أن القود بغير الحديد كالحجر والعصا إن كان
المقتول قتل بغير ذلك . ومنها
أنه ع رأى رجلا في الشمس فقال قم عنها فإنها مبخرة مجفرة وتثقل الريح وتبلي
الثوب وتظهر الداء الدفين قال ابن قتيبة مبخرة تورث البخر في الفم ومجفرة
تقطع عن النكاح وتذهب شهوة الجماع يقال جفر الفحل عن الإبل إذا أكثر الضراب
حتى يمل وينقطع ومثله قذر وتقذر قذورا ومثله أقطع فهو مقطع . وجاء
في الحديث أن عثمان بن مظعون قال يا رسول الله إني رجل تشق علي العزبة في
المغازي أ فتأذن لي في الخصاء قال لا ولكن عليك بالصوم فإنه مجفر قال وقد
روى عبد الرحمن عن الأصمعي عمه قال تكلم أعرابي فقال لا تنكحن واحدة فتحيض
إذا حاضت وتمرض إذا مرضت ولا تنكحن اثنتين فتكون بين ضرتين ولا تنكحن
ثلاثا فتكون بين أثاف ولا تنكحن أربعا فيفلسنك ويهرمنك وينحلنك ويجفرنك
فقيل له لقد حرمت ما أحل الله فقال سبحان الله كوزان وقرصان وطمران وعبادة
الرحمن وقوله تثفل الريح أي تنتنها والاسم الثفل ومنه الحديث وليخرجن
ثفلات والداء الدفين المستتر الذي قد قهرته الطبيعة فالشمس تعينه على
الطبيعة وتظهره . ومنها(1/5456)
قوله ع وهو يذكر مسجد الكوفة في زاويته فار التنور وفيه هلك يغوث ويعوق و
هو الفاروق ومنه يستتر جبل الأهواز ووسطه على روضة من
[ 133 ]
رياض الجنة وفيه ثلاث أعين أنبتت بالضغث تذهب الرجس وتطهر المؤمنين عين من
لبن وعين من دهن وعين من ماء جانبه الأيمن ذكر وفي جانبه الأيسر مكر ولو
يعلم الناس ما فيه من الفضل لأتوه ولو حبوا . قال ابن قتيبة قوله أنبتت
بالضغث أحسبه الضغث الذي ضرب أيوب أهله والعين التي ظهرت لما ركض الماء
برجله قال والباء في بالضغث زائدة تقديره أنبتت الضغث كقوله تعالى تَنْبُتُ
بِالدُّهْنِ وكقوله يَشْرَبُ بِها عِبادُ اَللَّهِ . وأما قوله في جانبه
الأيمن ذكر فإنه يعني الصلاة وفي جانبه الأيسر مكر أراد به المكر به حتى قتل
ع في مسجد الكوفة . ومنها
أن رسول الله ص بعث أبا رافع مولاه يتلقى جعفر بن أبي طالب لما قدم من الحبشة
فأعطاه علي ع حتيا وعكة سمن وقال له أنا أعلم بجعفر أنه إن علم ثراه مرة
واحدة ثم أطعمه فادفع هذا السمن إلى أسماء بنت عميس تدهن به بني أخي من صمر
البحر وتطعمهم من الحتي . قال ابن قتيبة الحتي سويق يتخذ من المقل قال
الهذلي يذكر أضيافه
لا در دري أن أطعمت نازلكم
قرف الحتي وعندي البر مكنوز
[ 134 ]
و قوله ثراه مرة أي بلة دفعة واحدة وأطعمه الناس والثرى الندا وصمر البحر
نتنه وغمقه ومنه قيل للدبر الصمارى . ومنها
قوله ع يوم الشورى لما تكلم الحمد لله الذي اتخذ محمدا منا نبيا وابتعثه
إلينا رسولا فنحن أهل بيت النبوة ومعدن الحكمة أمان لأهل الأرض ونجاة لمن
طلب إن لنا حقا إن نعطه نأخذه وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل وإن طال السرى لو
عهد إلينا رسول الله ص عهدا لجالدنا عليه حتى نموت أو قال لنا قولا لأنفذنا
قوله على رغمنا لن يسرع أحد قبلي إلى صلة رحم ودعوة حق والأمر إليك يا ابن
عوف على صدق النية وجهد النصح وأستغفر الله لي ولكم قال ابن قتيبة أي أن(1/5457)
معناه ركبنا مركب الضيم والذل لأن راكب عجز البعير يجد مشقة لا سيما إذا
تطاول به الركوب على تلك الحال ويجوز أن يكون أراد نصبر على أن نكون أتباعا
لغيرنا لأن راكب عجز البعير يكون ردفا لغيره . ومنها
قوله ع لما قتل ابن آدم أخاه غمص الله الخلق ونقص الأشياء قال ابن قتيبة
يقال غمصت فلانا أغمصه واغتمصته إذا استصغرته واحتقرته قال ومعنى الحديث
أن الله تعالى نقص الخلق من عظم الأبدان وطولها من القوة والبطش وطول
العمر ونحو ذلك ومنها أن سلامة الكندي
قال كان علي ع يعلمنا الصلاة على
[ 135 ]
رسول الله ص فيقول اللهم داحي المدحوات وبارئ المسموكات وجبار القلوب على
فطراتها شقيها وسعيدها اجعل شرائف صلواتك ونوامي بركاتك ورأفة تحياتك على
محمد عبدك ورسولك الفاتح لما أغلق والخاتم لما سبق والمعلن الحق بالحق و
الدامغ جيشات الأباطيل كما حملته فاضطلع بأمرك لطاعتك مستوفزا في مرضاتك لغير
نكل في قدم ولا وهن في عزم داعيا لوحيك حافظا لعهدك ماضيا على نفاذ أمرك حتى
أورى قبسا لقابس آلاء الله تصل بأهله أسبابه به هديت القلوب بعد خوضات الفتن
و الإثم موضحات الأعلام ونائرات الأحكام ومنيرات الإسلام فهو أمينك المأمون
و خازن علمك المخزون وشهيدك يوم الدين وبعيثك نعمة ورسولك بالحق رحمة
اللهم افسح له مفسحا في عدلك واجزه مضاعفات الخير من فضلك مهنآت غير مكدرات
من فوز ثوابك المحلول وجزل عطائك المعلول اللهم أعل على بناء البانين بناءه
و أكرم مثواه لديك ونزله وأتمم له نوره واجزه من ابتعاثك له مقبول الشهادة
مرضي المقالة ذا منطق عدل وخطة فصل وبرهان عظيم . قال ابن قتيبة داحي
المدحوات أي باسط الأرضين وكان الله تعالى خلقها ربوة ثم بسطها قال سبحانه
وَ اَلْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها وكل شي ء بسطته فقد دحوته ومنه قيل
لموضع بيض النعامة أدحي لأنها تدحوه للبيض أي توسعه ووزنه أفعول وبارئ(1/5458)
المسموكات خالق السموات وكل شي ء رفعته وأعليته فقد سمكته وسمك البيت و
الحائط ارتفاعه قال الفرزدق
إن الذي سمك السماء بنى لنا
بيتا دعائمه أعز وأطول
[ 136 ]
و قوله جبار القلوب على فطراتها من قولك جبرت العظم فجبر إذا كان مكسورا
فلأمته وأقمته كأنه أقام القلوب وأثبتها على ما فطرها عليه من معرفته و
الإقرار به شقيها وسعيدها قال ولم أجعل إجبارا هاهنا من أجبرت فلانا على
الأمر إذا أدخلته فيه كرها وقسرته لأنه لا يقال من أفعل فعال لا أعلم ذلك
إلا أن بعض القراء قرأ أهديكم سبيل الرشاد بتشديد الشين وقال الرشاد الله
فهذا فعال من أفعل وهي قراءة شاذة غير مستعملة فأما قول الله عز وجل وَ ما
أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فإنه أراد وما أنت عليهم بمسلط تسليط الملوك و
الجبابرة الملوك واعتبار ذلك قوله لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ أي بمتسلط
تسلط الملوك فإن كان يجوز أن يقال من أجبرت فلانا على الأمر أنا جبار له و
كان هذا محفوظا فقد يجوز أن يجعل قول علي ع جبار القلوب من ذلك وهو أحسن في
المعنى . وقوله الدامغ جيشات الأباطيل أي مهلك ما نجم وارتفع من الأباطيل و
أصل الدمغ من الدماغ كأنه الذي يضرب وسط الرأس فيدمغه أي يصيب الدماغ منه و
منه قول الله عز وجل بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى اَلْباطِلِ
فَيَدْمَغُهُ أي يبطله والدماغ مقتل فإذا أصيب هلك صاحبه . وجيشات مأخوذ من
جاش الشي ء أي ارتفع وجاش الماء إذا طمى وجاشت النفس . وقوله كما حمل
فاضطلع افتعل من الضلاعة وهي القوة .
[ 137 ]
و قوله لغير نكل في قدم النكل مصدر وهو النكول يقال نكل فلان عن الأمر ينكل
نكولا فهذا المشهور ونكل بالكسر ينكل نكلا قليلة . والقدم التقدم قال أبو
زيد رجل مقدام إذا كان شجاعا فالقدم يجوز أن يكون بمعنى التقدم وبمعنى
المتقدم . قوله ولا وهن في عزم أي ولا ضعف في رأي . وقوله حتى أورى قبسا(1/5459)
لقابس أي أظهر نورا من الحق يقال أوريت النار إذا قدحت ما ظهر بها قال سبحانه
أَ فَرَأَيْتُمُ اَلنَّارَ اَلَّتِي تُورُونَ . وقوله آلاء الله تصل بأهله
أسبابه يريد نعم الله تصل بأهل ذلك القبس وهو الإسلام والحق سبحانه أسبابه
و أهله المؤمنون به . قلت تقدير الكلام حتى أورى قبسا لقابس تصل أسباب ذلك
القبس آلاء الله ونعمه بأهله المؤمنين به واعلم أن اللام في لغير نكل
متعلقة بقوله مستوفزا أي هو مستوفز لغير نكول بل للخوف منك والخضوع لك . قال
ابن قتيبة قوله ع به هديت القلوب بعد الكفر والفتن موضحات الأعلام أي هديته
لموضحات الأعلام يقال هديت الطريق وللطريق وإلى الطريق . وقوله نائرات
الأحكام ومنيرات الإسلام يريد الواضحات البينات يقال نار الشي ء وأنار إذا
وضح . وقوله شهيدك يوم الدين أي الشاهد على الناس يوم القيامة وبعيثك رحمة
أي مبعوثك فعيل في معنى مفعول .
[ 138 ]
و قوله افسح له مفسحا أي أوسع له سعة وروي مفتسحا بالتاء قوله في عدلك أي في
دار عدلك يعني يوم القيامة ومن رواه عدنك بالنون أراد جنة عدن . وقوله من
جزل عطائك المعلول من العلل وهو الشرب بعد الشرب فالشرب الأول نهل والثاني
علل يريد أن عطاءه عز وجل مضاعف كأنه يعل عباده أي يعطيهم عطاء بعد عطاء . و
قوله أعل على بناء البانين بناءه أي ارفع فوق أعمال العاملين عمله وأكرم
مثواه أي منزلته من قولك ثويت بالمكان أي نزلته وأقمت به ونزله رزقه . و
نحن قد ذكرنا بعض هذه الكلمات فيما تقدم على رواية الرضي رحمه الله وهي
مخالفة لهذه الرواية وشرحنا ما رواه الرضي وذكرنا الآن ما رواه ابن قتيبة و
شرحه لأنه لا يخلو من فائدة جديدة . ومنها
قوله ع خذ الحكمة أنى أتتك فإن الكلمة من الحكمة تكون في صدر المنافق فتلجلج
في صدره حتى تسكن إلى صاحبها . قال ابن قتيبة يريد الكلمة قد يعلمها المنافق(1/5460)
فلا تزال تتحرك في صدره ولا تسكن حتى يسمعها منه المؤمن أو العالم فيعيها و
يثقفها ويفقهها منه فتسكن في صدره إلى أخواتها من كلم الحكمة . ومنها
قوله ع البيت المعمور نتاق الكعبة من فوقها . قال ابن قتيبة نتاق الكعبة أي
مظل عليها من فوقها من قول الله سبحانه
[ 139 ]
وَ إِذْ نَتَقْنَا اَلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ أي زعزع فأظل
عليهم . ومنها
قوله ع أنا قسيم النار قال ابن قتيبة أراد أن الناس فريقان فريق معي فهم على
هدى وفريق علي فهم على ضلالة كالخوارج ولم يجسر ابن قتيبة أن يقول وكأهل
الشام يتورع يزعم ثم إن الله أنطقه بما تورع عن ذكره فقال متمما للكلام بقوله
فأنا قسيم النار نصف في الجنة معي ونصف في النار قال وقسيم في معنى مقاسم
مثل جليس وأكيل وشريب . قلت قد ذكر أبو عبيد الهروي هذه الكلمة في الجمع
بين الغريبين قال وقال قوم إنه لم يرد ما ذكره وإنما أراد هو قسيم النار و
الجنة يوم القيامة حقيقة يقسم الأمة فيقول هذا للجنة وهذا للنار
[ 140 ](1/5461)
خطبة منسوبة للإمام علي خالية من حرف
الألف
و أنا الآن أذكر من كلامه الغريب ما لم يورده أبو عبيد وابن قتيبة في
كلامهما وأشرحه أيضا وهي خطبة رواها كثير من الناس له ع خالية من حرف الألف
قالوا تذاكر قوم من أصحاب رسول الله ص أي حروف الهجاء أدخل في الكلام فأجمعوا
على الألف فقال علي ع حمدت من عظمت منته وسبغت نعمته وسبقت غضبه رحمته و
تمت كلمته ونفذت مشيئته وبلغت قضيته حمدته حمد مقر بربوبيته متخضع لعبوديته
متنصل من خطيئته متفرد بتوحيده مؤمل منه مغفرة تنجيه يوم يشغل عن فصيلته و
بنيه ونستعينه ونسترشده ونستهديه ونؤمن به ونتوكل عليه وشهدت له شهود
مخلص موقن وفردته تفريد مؤمن متيقن ووحدته توحيد عبد مذعن ليس له شريك في
ملكه ولم يكن له ولي في صنعه جل عن مشير ووزير وعن عون معين ونصير ونظير
علم فستر وبطن فخبر وملك فقهر وعصي فغفر وحكم فعدل لم يزل ولن يزول
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وهو بعد كل شي ء رب متعزز بعزته متمكن بقوته
متقدس بعلوه متكبر بسموه ليس يدركه بصر ولم يحط به نظر قوي منيع بصير سميع
رءوف رحيم عجز عن وصفه من يصفه وضل عن نعته من يعرفه
[ 141 ]
قرب فبعد وبعد فقرب يجيب دعوة من يدعوه ويرزقه ويحبوه ذو لطف خفي وبطش
قوي ورحمة موسعة وعقوبة موجعة رحمته جنة عريضة مونقة وعقوبته جحيم ممدودة
موبقة وشهدت ببعث محمد رسوله وعبده وصفيه ونبيه ونجيه وحبيبه وخليله
بعثه في خير عصر وحين فترة وكفر رحمة لعبيده ومنة لمزيده ختم به نبوته و
شيد به حجته فوعظ ونصح وبلغ وكدح رءوف بكل مؤمن رحيم سخي رضي ولي زكي عليه
رحمة وتسليم وبركة وتكريم من رب غفور رحيم قريب مجيب وصيتكم معشر من حضرني
بوصية ربك وذكرتكم بسنة نبيكم فعليكم برهبة تسكن قلوبكم وخشية تذري دموعكم
و تقية تنجيكم قبل يوم تبليكم وتذهلكم يوم يفوز فيه من ثقل وزن حسنته وخف(1/5462)
وزن سيئته ولتكن مسألتكم وتملقكم مسألة ذل وخضوع وشكر وخشوع بتوبة و
تورع وندم ورجوع وليغتنم كل مغتنم منكم صحته قبل سقمه وشبيبته قبل هرمه و
سعته قبل فقره وفرغته قبل شغله وحضره قبل سفره قبل تكبر وتهرم وتسقم يمله
طبيبه ويعرض عنه حبيبه وينقطع غمده ويتغير عقله ثم قيل هو موعوك وجسمه
منهوك ثم جد في نزع شديد وحضره كل قريب وبعيد فشخص بصره وطمح نظره ورشح
جبينه وعطف عرينه وسكن حنينه وحزنته نفسه وبكته عرسه وحفر رمسه ويتم
منه ولده وتفرق منه عدده وقسم جمعه وذهب بصره وسمعه ومدد وجرد وعري و
غسل ونشف وسجي وبسط له وهيئ ونشر عليه كفنه وشد منه ذقنه وقمص وعمم و
ودع وسلم وحمل فوق سرير وصلي عليه بتكبير ونقل من دور مزخرفة وقصور
مشيدة وحجر منجدة وجعل في ضريح ملحود
[ 142 ]
و ضيق مرصود بلبن منضود مسقف بجلمود وهيل عليه حفره وحثي عليه مدره وتحقق
حذره ونسي خبره ورجع عنه وليه وصفيه ونديمه ونسيبه وتبدل به قرينه و
حبيبه فهو حشو قبر ورهين قفر يسعى بجسمه دود قبره ويسيل صديده من منخره
يسحق تربه لحمه وينشف دمه ويرم عظمه حتى يوم حشره فنشر من قبره حين ينفخ في
صور ويدعى بحشر ونشور فثم بعثرت قبور وحصلت سريرة صدور وجي ء بكل نبي و
صديق وشهيد وتوحد للفصل قدير بعبده خبير بصير فكم من زفرة تضنيه وحسرة
تنضيه في موقف مهول ومشهد جليل بين يدي ملك عظيم وبكل صغير وكبير عليم
فحينئذ يلجمه عرقه ويحصره قلقه عبرته غير مرحومة وصرخته غير مسموعة وحجته
غير مقولة زالت جريدته ونشرت صحيفته نظر في سوء عمله وشهدت عليه عينه بنظره
و يده ببطشه ورجله بخطوه وفرجه بلمسه وجلده بمسه فسلسل جيده وغلت يده و
سيق فسحب وحده فورد جهنم بكرب وشدة فظل يعذب في جحيم ويسقى شربة من حميم
تشوي وجهه وتسلخ جلده وتضربه زبنية بمقمع من حديد ويعود جلده بعد نضجه(1/5463)
كجلد جديد يستغيث فتعرض عنه خزنة جهنم ويستصرخ فيلبث حقبة يندم . نعوذ برب
قدير من شر كل مصير ونسأله عفو من رضي عنه ومغفرة من قبله فهو ولي مسألتي و
منجح طلبتي فمن زحزح عن تعذيب ربه جعل في جنته بقربه وخلد في قصور مشيدة و
ملك بحور عين وحفدة وطيف عليه بكئوس أسكن في حظيرة قدوس وتقلب في نعيم و
سقي من تسنيم وشرب من عين سلسبيل ومزج له بزنجبيل مختم بمسك وعبير مستديم
للملك مستشعر للسرر يشرب من خمور في روض مغدق ليس يصدع من شربه وليس ينزف .
[ 143 ]
هذه منزلة من خشي ربه وحذر نفسه معصيته وتلك عقوبة من جحد مشيئته وسولت له
نفسه معصيته فهو قول فصل وحكم عدل وخبر قصص قص ووعظ نص تَنْزِيلٌ مِنْ
حَكِيمٍ حَمِيدٍ نزل به روح قدس مبين على قلب نبي مهتد رشيد صلت عليه رسل
سفرة مكرمون بررة عذت برب عليم رحيم كريم من شر كل عدو لعين رجيم فليتضرع
متضرعكم وليبتهل مبتهلكم وليستغفر كل مربوب منكم لي ولكم وحسبي ربي وحده
فصيلة الرجل رهطه الأدنون وكدح سعى سعيا فيه تعب وفرغته الواحدة من الفراغ
تقول فرغت فرغة كقولك ضربت ضربة وسجى الميت بسط عليه رداء ونشر الميت من
قبره بفتح النون والشين وأنشره الله تعالى . وبعثرت قبور انتثرت ونبشت .
قوله وسيق بسحب وحده لأنه إذا كان معه غيره كان كالمتأسي بغيره فكان أخف
لألمه وعذابه وإذا كان وحده كان أشد ألما وأهول وروي فسيق يسحب وحده و
هذا أقرب إلى تناسب الفقرتين وذاك أفخم معنى . وزبنية على وزن عفرية واحد
الزبانية وهم عند العرب الشرط وسمي بذلك بعض الملائكة لدفعهم أهل النار
إليها كما يفعل الشرط في الدنيا ومن أهل اللغة من يجعل واحد الزبانية زباني
و قال بعضهم زابن ومنهم من قال هو جمع لا واحد له نحو أبابيل وعباديد وأصل
الزبن في اللغة الدفع ومنه ناقة زبون تضرب حالبها وتدفعه .
[ 144 ](1/5464)
و تقول ملك زيد بفلانة بغير ألف والباء هاهنا زائدة كما زيدت في كَفى
بِاللَّهِ حَسِيباً وإنما حكمنا بزيادتها لأن العرب تقول ملكت أنا فلانة أي
تزوجتها وأملكت فلانة بزيد أي زوجتها به فلما جاءت الباء هاهنا ولم يكن بد
من إثبات الألف لأجل مجيئها جعلناها زائدة وصار تقديره وملك حورا عينا . و
قال المفسرون في تسنيم إنه اسم ماء في الجنة سمي بذلك لأنه يجري من فوق الغرف
و القصور . وقالوا في سلسبيل إنه اسم عين في الجنة ليس ينزف ولا يخمر كما
يخمر شارب الخمر في الدنيا . انقضى هذا الفصل ثم رجعنا إلى سنن الغرض الأول
[ 145 ](1/5465)
267
وَ قَالَ ع لَمَّا بَلَغَهُ إِغَارَةُ أَصْحَابِ مُعَاوِيَةَ عَلَى
اَلْأَنْبَارِ فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ مَاشِياً حَتَّى أَتَى اَلنُّخَيْلَةَ وَ
أَدْرَكَهُ اَلنَّاسُ وَ قَالُوا يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ نَحْنُ
نَكْفِيكَهُمْ فَقَالَ ع وَ اَللَّهِ مَا تَكْفُونَنِي أَنْفُسَكُمْ فَكَيْفَ
تَكْفُونَنِي غَيْرَكُمْ إِنْ كَانَتِ اَلرَّعَايَا قَبْلِي لَتَشْكُو حَيْفَ
رُعَاتِهَا وَ إِنَّنِي فَإِنِّي اَلْيَوْمَ لَأَشْكُو حَيْفَ رَعِيَّتِي
كَأَنَّنِي اَلْمَقُودُ وَ هُمُ اَلْقَادَةُ أَوِ اَلْمَوْزُوعُ وَ هُمُ
اَلْوَزَعَةُ قال فلما قال هذا القول في كلام طويل قد ذكرنا مختاره في جملة
الخطب تقدم إليه رجلان من أصحابه فقال أحدهما إني لا أملك إلا نفسي وأخي
فمرنا بأمرك يا أمير المؤمنين ننفذ فقال وأين تقعان مما أريد السنن الطريقة
يقال تنح عن السنن أي عن وجه الطريق والنخيلة بظاهر الكوفة وروي ما تكفوني
بحذف النون والحيف الظلم والوزعة جمع وازع وهو الدافع الكاف . ومعنى قوله
ما تكفونني أنفسكم أي أفعالكم رديئة قبيحة تحتاج إلى جند غيركم
[ 146 ]
أستعين بهم على تثقيفكم وتهذيبكم فمن هذه حاله كيف أثقف به غيره وأهذب به
سواه . وإن كانت الرعايا إن هاهنا مخففة من الثقيلة ولذلك دخلت اللام في
جوابها وقد تقدم ذكرنا هذين الرجلين وإن أحدهما قال يا أمير المؤمنين أقول
لك ما قاله العبد الصالح رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَ أَخِي
فشكر لهما وقال وأين تقعان مما أريد
[ 147 ](1/5466)
268
وَ قِيلَ إِنَّ اَلْحَارِثَ بْنَ حَوْطٍ أَتَاهُ ع فَقَالَ لَهُ أَ تَرَانِي أَظُنُّ أَنَّ أَصْحَابَ اَلْجَمَلِ كَانُوا عَلَى ضَلاَلَةٍ فَقَالَ ع يَا حَارِثُ حَارِ إِنَّكَ نَظَرْتَ تَحْتَكَ وَ لَمْ تَنْظُرْ فَوْقَكَ فَحِرْتَ إِنَّكَ لَمْ تَعْرِفِ اَلْحَقَّ فَتَعْرِفَ مَنْ أَتَاهُ أَهْلَهُ وَ لَمْ تَعْرِفِ اَلْبَاطِلَ فَتَعْرِفَ مَنْ أَتَاهُ فَقَالَ اَلْحَارِثُ فَإِنِّي أَعْتَزِلُ مَعَ سَعْدِ سَعِيدِ بْنِ مَالِكٍ وَ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَقَالَ ع إِنَّ سَعْداً سَعِيداً وَ عَبْدَ اَللَّهِ بْنَ عُمَرَ لَمْ يَنْصُرَا اَلْحَقَّ وَ لَمْ يَخْذُلاَ اَلْبَاطِلَ اللفظة التي وردت قبل أحسن من هذه اللفظة وهي أولئك قوم خذلوا الحق ولم ينصروا الباطل وتلك كانت حالهم فإنهم خذلوا عليا ولم ينصروا معاوية ولا أصحاب الجمل . فأما هذه اللفظة ففيها إشكال لأن سعدا وعبد الله لعمري إنهما لم ينصرا الحق وهو جانب علي ع لكنهما خذلا الباطل وهو جانب معاوية وأصحاب الجمل فإنهم لم ينصروهم في حرب قط لا بأنفسهم ولا بأموالهم ولا بأولادهم فينبغي
[ 148 ]
أن نتأول كلامه فنقول إنه ليس يعني بالخذلان عدم المساعدة في الحرب بل يعني بالخذلان هاهنا كل ما أثر في محق الباطل وإزالته قال الشاعر يصف فرسا
و هو كالدلو بكف المستقي
خذلت عنه العراقي فانجذم(1/5467)
أي باينته العراقي فلما كان كل مؤثر في إزالة شي ء مباينا له نقل اللفظ بالاشتراك في الأمر العام إليه ولما كان سعد وعبد الله لم يقوما خطيبين في الناس يعلمانهم باطل معاوية وأصحاب الجمل ولم يكشفا اللبس والشبهة الداخلة على الناس في حرب هذين الفريقين ولم يوضحا وجوب طاعة علي ع فيرد الناس عن اتباع صاحب الجمل وأهل الشام صدق عليهما أنهما لم يخذلا الباطل ويمكن أن يتأول على وجه آخر وذلك أنه قد جاء خذلت الوحشية إذا قامت على ولدها فيكون معنى قوله ولم يخذلا الباطل أي لم يقيما عليه وينصراه فترجع هذه اللفظة إلى اللفظة الأولى وهي قوله أولئك قوم خذلوا الحق ولم ينصروا الباطل . والحارث بن حوط بالحاء المهملة ويقال إن الموجود في خط الرضي ابن خوط بالخاء المعجمة المضمومة
[ 149 ](1/5468)
269
وَ قَالَ ع صَاحِبُ اَلسُّلْطَانِ كَرَاكِبِ اَلْأَسَدِ يُغْبَطُ
بِمَوْقِعِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَوْضِعِهِ(1/5469)
نبذ مما قيل في السلطان
قد جاء في صحبة السلطان أمثال حكمية مستحسنة تناسب هذا المعنى أو تجري مجراه
في شرح حال السلطان نحو قولهم صاحب السلطان كراكب الأسد يهابه الناس وهو
لمركوبه أهيب . وكان يقال إذا صحبت السلطان فلتكن مداراتك له مداراة المرأة
القبيحة لبعلها المبغض لها فإنها لا تدع التصنع له على حال . قيل للعتابي لم
لا تقصد الأمير قال لأني أراه يعطي واحدا لغير حسنة ولا يد ويقتل آخر بلا
سيئة ولا ذنب ولست أدري أي الرجلين أكون ولا أرجو منه مقدار ما أخاطر به .
و كان يقال العاقل من طلب السلامة من عمل السلطان لأنه إن عف جنى عليه العفاف
عداوة الخاصة وإن بسط يده جنى عليه البسط ألسنة الرعية . وكان سعيد بن حميد
يقول عمل السلطان كالحمام الخارج يؤثر الدخول والداخل يؤثر الخروج . ابن
المقفع إقبال السلطان على أصحابه تعب وإعراضه عنهم مذلة .
[ 150 ]
و قال آخر السلطان إن أرضيته أتعبك وإن أغضبته أعطبك . وكان يقال إذا كنت
مع السلطان فكن حذرا منه عند تقريبه كاتما لسره إذا استسرك وأمينا على ما
ائتمنك تشكر له ولا تكلفه الشكر لك وتعلمه وكأنك تتعلم منه وتؤدبه وكأنه
يؤدبك بصيرا بهواه مؤثرا لمنفعته ذليلا إن ضامك راضيا إن أعطاك قانعا إن حرمك
و إلا فابعد منه كل البعد . وقيل لبعض من يخدم السلطان لا تصحبهم فإن مثلهم
مثل قدر التنور كلما مسه الإنسان اسود منه فقال إن كان خارج تلك القدر أسود
فداخلها أبيض . وكان يقال أفضل ما عوشر به الملوك قلة الخلاف وتخفيف
المئونة . وكان يقال لا يقدر على صحبة السلطان إلا من يستقل بما حملوه ولا
يلحف إذا سألهم ولا يغتر بهم إذا رضوا عنه ولا يتغير لهم إذا سخطوا عليه و
لا يطغى إذا سلطوه ولا يبطر إذا أكرموه . وكان يقال إذا جعلك السلطان أخا
فاجعله ربا وإن زادك فزده . وقال أبو حازم للسلطان كحل يكحل به من يوليه(1/5470)
فلا يبصر حتى يعزل . وكان يقال لا ينبغي لصاحب السلطان أن يبتدئه بالمسألة
عن حاله فإن ذلك من كلام النوكى وإذا أردت أن تقول كيف أصبح الأمير فقل صبح
الله الأمير بالكرامة وإن أردت أن تقول كيف يجد الأمير نفسه فقل وهب الله
الأمير العافية ونحو هذا فإن المسألة توجب الجواب فإن لم يجبك اشتد عليك و
إن أجابك اشتد عليه . وكان يقال صحبة الملوك بغير أدب كركوب الفلاة بغير ماء
.
[ 151 ]
و كان يقال ينبغي لمن صحب السلطان أن يستعد للعذر عن ذنب لم يجنه وأن يكون
آنس ما يكون به أوحش ما يكون منه . وكان يقال شدة الانقباض من السلطان تورث
التهمة وسهولة الانبساط إليه تورث الملالة . وكان يقال اصحب السلطان بإعمال
الحذر ورفض الدالة والاجتهاد في النصيحة وليكن رأس مالك عنده ثلاث الرضا و
الصبر والصدق . واعلم أن لكل شي ء حدا فما جاوزه كان سرفا وما قصر عنه كان
عجزا فلا تبلغ بك نصيحة السلطان أن تعادي حاشيته وخاصته وأهله فإن ذلك ليس
من حقه عليك وليكن أقضى لحقه عنك وأدعى لاستمرار السلامة لك أن تستصلح
أولئك جهدك فإنك إذا فعلت ذلك شكرت نعمته وأمنت سطوته وقللت عدوك عنده و
إذا جاريت عند السلطان كفؤا من أكفائك فلتكن مجاراتك ومباراتك إياه بالحجة و
إن عضهك وبالرفق وإن خرف بك واحذر أن يستحلك فتحمى فإن الغضب يعمي عن
الفرصة ويقطع عن الحجة ويظهر عليك الخصم ولا تتوردن على السلطان بالدالة و
إن كان أخاك ولا بالحجة وإن وثقت أنها لك ولا بالنصيحة وإن كانت له دونك
فإن السلطان يعرض له ثلاث دون ثلاث القدرة دون الكرم والحمية دون النصفة و
اللجاج دون الحظ
[ 152 ](1/5471)
270
وَ قَالَ ع أَحْسِنُوا فِي عَقِبِ غَيْرِكُمْ تُحْفَظُوا فِي عَقِبِكُمْ أكثر ما في هذه الدنيا يقع على سبيل القرض والمكافأة فقد رأينا عيانا من ظلم الناس فظلم عقبه وولده ورأينا من قتل الناس فقتل عقبه وولده ورأينا من أخرب دورا فأخربت داره ورأينا من أحسن إلى أعقاب أهل النعم فأحسن الله إلى عقبه وولده . وقرأت في تاريخ أحمد بن طاهر أن الرشيد أرسل إلى يحيى بن خالد وهو في محبسه يقرعه بذنوبه ويقول له كيف رأيت أ لم أخرب دارك أ لم أقتل ولدك جعفرا أ لم أنهب مالك فقال يحيى للرسول قل له أما إخرابك داري فستخرب دارك وأما قتلك ولدي جعفر فسيقتل ولدك محمد وأما نهبك مالي فسينهب مالك وخزانتك فلما عاد الرسول إليه بالجواب وجم طويلا وحزن وقال والله ليكونن ما قال فإنه لم يقل لي شيئا قط إلا وكان كما قال فأخربت داره وهي الخلد في حصار بغداد وقتل ولده محمد ونهب ماله وخزانته نهبها طاهر بن الحسين
[ 153 ](1/5472)
271
وَ قَالَ ع إِنَّ كَلاَمَ اَلْحُكَمَاءِ إِذَا كَانَ صَوَاباً كَانَ دَوَاءً وَ إِذَا كَانَ خَطَأً كَانَ دَاءً كل كلام يقلد المتكلم به لحسن عقيدة الناس فيه نحو كلام الحكماء وكلام الفضلاء والعلماء من الناس إذا كان صوابا كان دواء وإذا كان خطأ كان داء لأن الناس يحذون حذو المتكلم به ويقلدونه فيما يتضمنه ذلك الكلام من الآداب والأوامر والنواهي فإذا كان حقا أفلحوا وحصل لهم الثواب واتباع الحق وكانوا كالدواء المبرئ للسقم وإذا كان ذلك الكلام خطأ واتبعوه خسروا ولم يفلحوا فكان بمنزلة الداء والمرض
[ 154 ](1/5473)
272
وَ قَالَ ع حِينَ سَأَلَهُ رَجُلٌ أَنْ يُعَرِّفَهُ مَا اَلْإِيمَانُ فَقَالَ ع إِذَا كَانَ غَدٌ فَأْتِنِي حَتَّى أُخْبِرَكَ عَلَى أَسْمَاعِ اَلنَّاسِ فَإِنْ نَسِيتَ مَقَالَتِي حَفِظَهَا عَلَيْكَ غَيْرُكَ فَإِنَّ اَلْكَلاَمَ كَالشَّارِدَةِ يَنْقُفُهَا يَثْقَفُهَا هَذَا وَ يُخْطِئُهَا هَذَا قال وقد ذكرنا ما أجابه به ع فيما تقدم من هذا الباب وهو قوله الإيمان على أربع شعب يقول إذ كان غد فأتني فتكون كان هاهنا تامة أي إذا حدث ووجد وتقول إذا كان غدا فأتني فيكون النصب باعتبار آخر أي إذا كان الزمان غدا أي موصوفا بأنه من الغد ومن النحويين من يقدره إذا كان الكون غدا لأن الفعل يدل على المصدر والكون هو التجدد والحدوث . وقائل هذا القول يرجحه على القول الآخر لأن الفاعل عندهم لا يحذف إلا إذا كان في الكلام دليل عليه . ويثقفها يجدها ثقفت كذا بالكسر أي وجدته وصادفته والشاردة الضالة
[ 155 ](1/5474)
273
يَا اِبْنَ آدَمَ لاَ تَحْمِلْ هَمَّ يَوْمِكَ اَلَّذِي لَمْ يَأْتِكَ عَلَى يَوْمِكَ اَلَّذِي قَدْ أَتَاكَ فَإِنَّهُ إِنْ يَكُ يَكُنْ مِنْ عُمُرِكَ يَأْتِ اَللَّهُ فِيهِ بِرِزْقِكَ قد تقدم هذا الفصل بتمامه واعلم أن كل ما ادخرته مما هو فاضل عن قوتك فإنما أنت فيه خازن لغيرك . وخلاصة هذا الفصل النهي عن الحرص على الدنيا والاهتمام لها وإعلام الناس أن الله تعالى قد قسم الرزق لكل حي من خلقه فلو لم يتكلف الإنسان فيه لأتاه رزقه من حيث لا يحتسب . وفي المثل يا رزاق البغاث في عشه وإذا نظر الإنسان إلى الدودة المكنونة داخل الصخرة كيف ترزق علم أن صانع العالم قد تكفل لكل ذي حياة بمادة تقيم حياته إلى انقضاء عمره
[ 156 ](1/5475)
274
وَ قَالَ ع أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْناً مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْماً مَا وَ أَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْناً مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْماً مَا الهون بالفتح التأني والبغيض المبغض وخلاصة هذه الكلمة النهي عن الإسراف في المودة والبغضة فربما انقلب من تود فصار عدوا وربما انقلب من تعاديه فصار صديقا . وقد تقدم القول في ذلك على أتم ما يكون وقال بعض الحكماء توق الإفراط في المحبة فإن الإفراط فيها داع إلى التقصير منها ولأن تكون الحال بينك وبين حبيبك نامية أولى من أن تكون متناهية . ومن كلام عمر لا يكن حبك كلفا ولا بغضك تلفا . وقال الشاعر
و أحبب إذا أحببت حبا مقاربا
فإنك لا تدري متى أنت نازع
و أبغض إذا أبغضت غير مباين
فإنك لا تدري متى أنت راجع
و قال عدي بن زيد
و لا تأمنن من مبغض قرب داره
و لا من محب أن يمل فيبعدا
[ 157 ](1/5476)
275
وَ قَالَ ع اَلنَّاسُ فِي اَلدُّنْيَا عَامِلاَنِ عَامِلٌ عَمِلَ فِي اَلدُّنْيَا لِلدُّنْيَا قَدْ شَغَلَتْهُ دُنْيَاهُ عَنْ آخِرَتِهِ يَخْشَى عَلَى مَنْ يَخْلُفُ هُ يُخَلِّفُ اَلْفَقْرَ وَ يَأْمَنُهُ عَلَى نَفْسِهِ فَيُفْنِي عُمُرَهُ فِي مَنْفَعَةِ غَيْرِهِ وَ عَامِلٌ عَمِلَ فِي اَلدُّنْيَا لِمَا بَعْدَهَا فَجَاءَهُ اَلَّذِي لَهُ مِنَ اَلدُّنْيَا بِغَيْرِ عَمَلٍ فَأَحْرَزَ اَلْحَظَّيْنِ مَعاً وَ مَلَكَ اَلدَّارَيْنِ جَمِيعاً فَأَصْبَحَ وَجِيهاً عِنْدَ اَللَّهِ لاَ يَسْأَلُ اَللَّهَ حَاجَةً فَيَمْنَعُهُ فَيَمْنَعَهُ معنى قوله ويأمنه على نفسه أي ولا يبالي أن يكون هو فقيرا لأنه يعيش عيش الفقراء وإن كان ذا مال لكنه يدخر المال لولده فيفني عمره في منفعة غيره . ويجوز أن يكون معناه أنه لكثرة ماله قد أمن الفقر على نفسه ما دام حيا ولكنه لا يأمن الفقر على ولده لأنه لا يثق من ولده بحسن الاكتساب كما وثق من نفسه فلا يزال في الاكتساب والازدياد منه لمنفعة ولده الذي يخاف عليه الفقر بعد موته . فأما العامل في الدنيا لما بعدها فهم أصحاب العبادة يأتيهم رزقهم بغير اكتساب ولا كد وقد حصلت لهم الآخرة فقد حصل لهم الحظان جميعا
[ 158 ](1/5477)
276
وَ رُوِيَ : أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ اَلْخَطَّابِ فِي أَيَّامِهِ حَلْيُ اَلْكَعْبَةِ وَ كَثْرَتُهُ فَقَالَ قَوْمٌ لَوْ أَخَذْتَهُ فَجَهَّزْتَ بِهِ جُيُوشَ اَلْمُسْلِمِينَ كَانَ أَعْظَمَ لِلْأَجْرِ وَ مَا تَصْنَعُ اَلْكَعْبَةُ بِالْحَلْيِ فَهَمَّ عُمَرُ بِذَلِكَ وَ سَأَلَ عَنْهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ ع فَقَالَ ع إِنَّ هَذَا اَلْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى اَلنَّبِيِّ ص مُحَمَّدٍ ص وَ اَلْأَمْوَالُ أَرْبَعَةٌ أَمْوَالُ اَلْمُسْلِمِينَ فَقَسَّمَهَا بَيْنَ اَلْوَرَثَةِ فِي اَلْفَرَائِضِ وَ اَلْفَيْ ءُ فَقَسَّمَهُ عَلَى مُسْتَحِقِّيهِ وَ اَلْخُمُسُ اَلْخُمْسُ فَوَضَعَهُ اَللَّهُ حَيْثُ وَضَعَهُ وَ اَلصَّدَقَاتُ فَجَعَلَهَا اَللَّهُ حَيْثُ جَعَلَهَا وَ كَانَ حَلْيُ اَلْكَعْبَةِ فِيهَا يَوْمَئِذٍ فَتَرَكَهُ اَللَّهُ عَلَى حَالِهِ وَ لَمْ يَتْرُكْهُ نِسْيَاناً وَ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ عَنْهُ مَكَاناً فَأَقِرَّهُ حَيْثُ أَقَرَّهُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ لَوْلاَكَ لاَفْتَضَحْنَا وَ تَرَكَ اَلْحَلْيَ بِحَالِهِ هذا استدلال صحيح ويمكن أن يورد على وجهين أحدهما أن يقال أصل الأشياء الحظر والتحريم كما هو مذهب كثير من أصحابنا البغداديين فلا يجوز التصرف في شي ء من الأموال والمنافع إلا بإذن شرعي ولم يوجد إذن شرعي في حلي الكعبة فبقينا فيه على حكم الأصل . والوجه الثاني أن يقال حلي الكعبة مال مختص بالكعبة هو جار مجرى ستور الكعبة ومجرى باب الكعبة فكما لا يجوز التصرف في ستور الكعبة وبابها
[ 159 ](1/5478)
إلا بنص فكذلك حلي الكعبة والجامع بينهما الاختصاص الجاعل كل واحد من ذلك كالجزء من الكعبة فعلى هذا الوجه ينبغي أن يكون الاستدلال . ويجب أن يحمل كلام أمير المؤمنين ع عليه وإلا يحمل على ظاهره لأن لمعترض أن يعترض استدلاله إذا حمل على ظاهره بأن يقول الأموال الأربعة التي عددها إنما قسمها الله تعالى حيث قسمها لأنها أموال متكررة بتكرر الأوقات على مر الزمان يذهب الموجود منها ويخلفه غيره فكان الاعتناء بها أكثر والاهتمام بوجوه متصرفها أشد لأن حاجات الفقراء والمساكين وأمثالهم من ذوي الاستحقاق كثيرة ومتجددة بتجدد الأوقات وليس كذلك حلي الكعبة لأنه مال واحد باق غير متكرر وأيضا فهو شي ء قليل يسير ليس مثله مما يقال ينبغي أن يكون الشارع قد تعرض لوجوه مصرفه حيث تعرض لوجوه مصرف الأموال فافترق الموضعان
[ 160 ](1/5479)
277
رُوِيَ : أَنَّهُ ع رُفِعَ إِلَيْهِ رَجُلاَنِ سَرَقَا مِنْ مَالِ اَللَّهِ أَحَدُهُمَا عَبْدٌ مِنْ مَالِ اَللَّهِ وَ اَلآْخَرُ مِنْ عُرُوضِ عُرْضِ اَلنَّاسِ فَقَالَ ع أَمَّا هَذَا فَهُوَ مِنْ مَالِ اَللَّهِ فَلاَ وَ لاَ حَدَّ عَلَيْهِ مَالُ اَللَّهِ أَكَلَ بَعْضُهُ بَعْضاً وَ أَمَّا اَلآْخَرُ فَعَلَيْهِ اَلْحَدُّ اَلشَّدِيدُ فَقَطَعَ يَدَهُ هذا مذهب الشيعة أن عبد المغنم إذا سرق من المغنم لم يقطع فأما العبد الغريب إذا سرق من المغنم فإنه يقطع إذا كان ما سرقه زائدا عما يستحقه من الغنيمة بمقدار النصاب الذي يجب فيه القطع وهو ربع دينار وكذلك الحر إذا سرق من المغنم حكمه هذا الحكم بعينه فوجب أن يحمل كلام أمير المؤمنين على أن العبد المقطوع قد كان سرق من المغنم ما هو أزيد من حقه من الغنيمة بمقدار النصاب المذكور أو أكثر . فأما الفقهاء فإنهم لا يوجبون القطع على من سرق من مال الغنيمة قبل قسمتها سواء كان ما سرقه أكثر من حقه أو لم يكن لأن مخالطة حقه وممازجته للمسروق شبهة في الجملة تمنع من وجوب القطع هذا إن كان له حق في الغنيمة بأن يكون شهد القتال بإذن سيده فإن لم يكن ذلك وكان لسيده فيها حق لم يقطع أيضا لأن حصة سيده المشاعة شبهة تمنع من قطعه فإن لم يشهد القتال ولا شهده سيده وسرق من الغنيمة قبل القسمة ما يجب في مثله القطع وجب عليه القطع
[ 161 ](1/5480)
278
وَ قَالَ ع لَوْ قَدِ اِسْتَوَتْ قَدَمَايَ مِنْ هَذِهِ اَلْمَدَاحِضِ لَغَيَّرْتُ أَشْيَاءَ لسنا نشك أنه كان يذهب في الأحكام الشرعية والقضايا إلى أشياء يخالف فيها أقوال الصحابة نحو قطعه يد السارق من رءوس الأصابع وبيعه أمهات الأولاد وغير ذلك وإنما كان يمنعه من تغير أحكام من تقدمه اشتغاله بحرب البغاة والخوارج وإلى ذلك يشير بالمداحض التي كان يؤمل استواء قدميه منها ولهذا
قال لقضاته اقضوا كما كنتم تقضون حتى يكون للناس جماعة فلفظة حتى هاهنا مؤذنة بأنه فسح لهم في اتباع عادتهم في القضايا والأحكام التي يعهدونها إلى أن يصير للناس جماعة وما بعد إلى وحتى ينبغي أن يكون مخالفا لما قبلهما . فأما أصحابنا فيقولون إنه كان فيما يحاول أن يحكم بين الناس مجتهدا ويجوز لغيره من المجتهدين مخالفته . والإمامية تقول ما كان يحكم إلا عن نص وتوقيف ولا يجوز لأحد من الناس مخالفته . والقول في صحة ذلك وفساده فرع من فروع مسألة الإمامة
[ 162 ](1/5481)
279
اِعْلَمُوا عِلْماً يَقِيناً أَنَّ اَللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِلْعَبْدِ وَ إِنْ عَظُمَتْ حِيلَتُهُ وَ اِشْتَدَّتْ طَلِبَتُهُ وَ قَوِيَتْ مَكِيدَتُهُ أَكْثَرَ مِمَّا سُمِّيَ لَهُ فِي اَلذِّكْرِ اَلْحَكِيمِ وَ لَمْ يَحُلْ بَيْنَ اَلْعَبْدِ فِي ضَعْفِهِ وَ قِلَّةِ حِيلَتِهِ وَ بَيْنَ أَنْ يَبْلُغَ مَا سُمِّيَ لَهُ فِي اَلذِّكْرِ اَلْحَكِيمِ وَ اَلْعَارِفُ لِهَذَا اَلْعَامِلُ بِهِ أَعْظَمُ اَلنَّاسِ رَاحَةً رَحْمَةً فِي مَنْفَعَةٍ وَ اَلتَّارِكُ لَهُ اَلشَّاكُّ فِيهِ أَعْظَمُ اَلنَّاسِ شُغُلاً شُغْلاً فِي مَضَرَّةٍ وَ رُبَّ مُنْعَمٍ عَلَيْهِ مُسْتَدْرَجٌ بِالنُّعْمَى وَ رُبَّ مُبْتَلًى مَصْنُوعٌ لَهُ بِالْبَلْوَى فَزِدْ أَيُّهَا اَلْمُسْتَنْفِعُ اَلْمُسْتَمِعُ فِي شُكْرِكَ وَ قَصِّرْ مِنْ عَجَلَتِكَ وَ قِفْ عِنْدَ مُنْتَهَى رِزْقِكَ قد تقدم القول في الحرص والجشع وذمهما وذم الكادح في طلب الرزق ومدح القناعة والاقتصار ونذكر هنا طرفا آخر من ذلك قال بعض الحكماء وجدت أطول الناس غما الحسود وأهنأهم عيشا القنوع وأصبرهم على الأذى الحريص وأخفضهم عيشا أرفضهم للدنيا وأعظمهم ندامة العالم المفرط . وقال عمر الطمع فقر واليأس غنى ومن يئس مما عند الناس استغنى عنهم .
[ 163 ]
و قيل لبعض الحكماء ما الغنى قال قلة تمنيك ورضاك بما يكفيك ولذلك قيل العيش ساعات تمر وخطوب تكر . وقال الشاعر
اقنع بعيشك ترضه
و اترك هواك وأنت حر
فلرب حتف فوقه
ذهب وياقوت ودر
و قال آخر
إلى متى أنا في حل وترحال
من طول سعي وإدبار وإقبال
و نازح الدار لا أنفك مغتربا
عن الأحبة لا يدرون ما حالي
بمشرق الأرض طورا ثم مغربها
لا يخطر الموت من حرص على بالي
و لو قنعت أتاني الرزق في دعة
إن القنوع الغنى لا كثرة المال
و جاء(1/5482)
في الخبر المرفوع أجملوا في الطلب فإنه ليس لعبد إلا ما كتب له ولن يخرج عبد من الدنيا حتى يأتيه ما كتب له في الدنيا وهي راغمة
[ 164 ](1/5483)
280
وَ قَالَ ع لاَ تَجْعَلُوا عِلْمَكُمْ جَهْلاً وَ يَقِينَكُمْ شَكّاً إِذَا عَلِمْتُمْ فَاعْمَلُوا وَ إِذَا تَيَقَّنْتُمْ فَأَقْدِمُوا هذا نهي للعلماء عن ترك العمل يقول لا تجعلوا علمكم كالجهل فإن الجاهل قد يقول جهلت فلم أعمل وأنتم فلا عذر لكم لأنكم قد علمتم وانكشف لكم سر الأمر فوجب عليكم أن تعملوا ولا تجعلوا علمكم جهلا فإن من علم المنفعة في أمر ولا حائل بينه وبينه ثم لم يأته كان سفيها
[ 165 ](1/5484)
281
وَ قَالَ ع إِنَّ اَلطَّمَعَ مُورِدُ غَيْرُ مُصْدِرٍ وَ ضَامِنٌ غَيْرُ وَفِيٍّ وَ رُبَّمَا شَرِقَ شَارِبُ اَلْمَاءِ قَبْلَ رِيِّهِ وَ كُلَّمَا عَظُمَ قَدْرُ اَلشَّيْ ءِ اَلْمُتَنَافَسِ فِيهِ عَظُمَتِ اَلرَّزِيَّةُ لِفَقْدِهِ وَ اَلْأَمَانِيُّ تُعْمِي أَعْيُنَ اَلْبَصَائِرِ وَ اَلْحَظُّ يَأْتِي مَنْ لاَ يَأْتِيهِ قد تقدم القول في هذه المعاني كلها وقد ضرب الحكماء مثالا لفرط الطمع فقالوا إن رجلا صاد قبرة فقالت ما تريد أن تصنع بي قال أذبحك وآكلك قالت والله ما أشفي من قرم ولا أشبع من جوع ولكني أعلمك ثلاث خصال هن خير لك من أكلي أما واحدة فأعلمك إياها وأنا في يدك وأما الثانية فإذا صرت على الشجرة أما الثالثة فإذا صرت على الجبل فقال هاتي الأولى قالت لا تلهفن على ما فات فخلاها فلما صارت على الشجرة قال هاتي الثانية قالت لا تصدقن بما لا يكون أنه يكون ثم طارت فصارت على الجبل فقالت يا شقي لو ذبحتني لأخرجت من حوصلتي درتين وزن كل واحدة ثلاثون مثقالا فعض على يديه وتلهف تلهفا شديدا وقال هاتي الثالثة فقالت أنت قد أنسيت الاثنتين فما تصنع بالثالثة أ لم أقل لك لا تلهفن على
[ 166 ]
ما فات وقد تلهفت وأ لم أقل لك لا تصدقن بما لا يكون أنه يكون وأنا ولحمي ودمي وريشي لا يكون عشرين مثقالا فكيف صدقت أن في حوصلتي درتين كل واحدة منهما ثلاثون مثقالا ثم طارت وذهبت . وقوله وربما شرق شارب الماء قبل ريه كلام فصيح وهو مثل لمن يخترم بغتة أو تطرقه الحوادث والخطوب وهو في تلهية من عيشه . ومثل الكلمة الأخرى قولهم على قدر العطية تكون الرزية . والقول في الأماني قد أوسعنا القول فيه من قبل وكذلك في الحظوظ
[ 167 ](1/5485)
282
وَ قَالَ ع اَللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ تُحَسِّنَ تَحْسُنَ فِي لاَمِعَةِ اَلْعُيُونِ عَلاَنِيَتِي وَ تُقَبِّحَ تَقْبُحَ فِيمَا أُبْطِنُ لَكَ سَرِيرَتِي مُحَافِظاً عَلَى رِثَاءِ رِيَاءِ اَلنَّاسِ مِنْ نَفْسِي بِجَمِيعِ مَا أَنْتَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ مِنِّي فَأُبْدِيَ لِلنَّاسِ حُسْنَ ظَاهِرِي وَ أُفْضِيَ إِلَيْكَ بِسُوءِ عَمَلِي تَقَرُّباً إِلَى عِبَادِكَ وَ تَبَاعُداً مِنْ مَرْضَاتِكَ قد تقدم القول في الرياء وأن يظهر الإنسان من العبادة والفعل الجميل ما يبطن غيره ويقصد بذلك السمعة والصيت لا وجه الله تعالى . وقد جاء
في الخبر المرفوع أخوف ما أخاف على أمتي الرياء والشهوة الخفية قال المفسرون والرياء من الشهوة الخفية لأنه شهوة الصيت والجاه بين الناس بأنه متين الدين مواظب على نوافل العبادات وهذه هي الشهوة الخفية أي ليست كشهوة الطعام والنكاح وغيرهما من الملاذ الحسية . و
في الخبر المرفوع أيضا أن اليسير من الرياء شرك وأن الله يحب الأتقياء الأخفياء الذين هم في بيوتهم إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا حضروا لم يعرفوا قلوبهم مصابيح الهدى ينجون من كل غبراء مظلمة
[ 168 ](1/5486)
283
وَ قَالَ ع : لاَ وَ اَلَّذِي أَمْسَيْنَا مِنْهُ فِي غُبْرِ غُبَّرِ لَيْلَةٍ دَهْمَاءَ تَكْشِرُ عَنْ يَوْمٍ أَغَرَّ مَا كَانَ كَذَا وَ كَذَا
قد روي تفتر عن يوم أغر والغبر البقايا وكذلك الأغبار وكشر أي بسم وأصله الكشف . وهذا الكلام إما أن يكون قاله على جهة التفاؤل أو أن يكون إخبارا بغيب والأول أوجه
[ 169 ](1/5487)
284
وَ قَالَ ع قَلِيلٌ تَدُومُ عَلَيْهِ أَرْجَى مِنْ كَثِيرٍ مَمْلُولٍ مِنْهُ لا ريب أن من أراد حفظ كتاب من الكتب العلمية فحفظ منه قليلا قليلا ودام على ذلك فإن ذلك أنفع له وأرجى لفلاحه من أن يحفظ كثيرا ولا يدوم عليه لملاله إياه وضجره منه والتجربة تشهد بذلك . والقول في غير الحفظ كالقول في الحفظ نحو الزيارة القليلة للصديق ونحو العطاء اليسير الدائم الذي هو خير من الكثير المنقطع ونحو ذلك
[ 170 ](1/5488)
285
وَ قَالَ ع إِذَا أَضَرَّتِ اَلنَّوَافِلُ بِالْفَرَائِضِ فَارْفُضُوهَا قد تقدم القول في النافلة هل تصح ممن عليه فريضة لم يؤدها وذكرنا مذاهب الفقهاء في ذلك . ولا ريب أن من استغرق الوقت بالنوافل حتى آن أوقات الفرائض لم يفعل الفرائض فيها وشغلها بالعبادة النفلية فقد أخطأ والواجب أن يرفض النافلة حيث يتضيق وقت الفريضة لا خلاف بين المسلمين في ذلك ويصلح أن يكون هذا مثلا ظاهره ما ذكرنا وباطنه أمر آخر
[ 171 ](1/5489)
286
وَ قَالَ ع مَنْ تَذَكَّرَ بُعْدَ اَلسَّفَرِ اِسْتَعَدَّ هذا مثل قولهم في المثل الليل طويل وأنت مقمر وقال أيضا عش ولا تغتر . وقال أصحاب المعاني مثل الدنيا كركب في فلاة وردوا ماء طيبا فمنهم من شرب من ذلك الماء شربا يسيرا ثم أفكر في بعد المسافة التي يقصدونها وأنه ليس بعد ذلك الماء ماء آخر فتزود منه ماء أوصله إلى مقصده ومنهم من شرب من ذلك الماء شرب عظيما ولها عن التزود والاستعداد وظن أن ما شرب كاف له ومغن عن ادخار شي ء آخر فقطع به وأخلفه ظنه فعطش في تلك الفلاة ومات . و
قد روي عن النبي ص أنه قال لأصحابه إنما مثلي ومثلكم ومثل الدنيا كقوم سلكوا مفازة غبراء حتى إذا لم يدروا ما سلكوا منها أكثر أم ما بقي أنفدوا الزاد وحسروا الظهر وبقوا بين ظهراني المفازة لا زاد ولا حمولة فأيقنوا بالهلكة فبينما هم كذلك خرج عليهم رجل في حلة يقطر رأسه ماء فقالوا هذا قريب عهد بريف وما جاءكم هذا إلا من قريب فلما انتهى إليهم وشاهد حالهم قال أ رأيتم إن هديتكم إلى ماء رواء ورياض خضر ما تعملون قالوا لا نعصيك شيئا
[ 172 ]
قال عهودكم ومواثيقكم بالله فأعطوه ذلك فأوردهم ماء رواء ورياضا خضرا ومكث بينهم ما شاء الله ثم قال إني مفارقكم قالوا إلى أين قال إلى ماء ليس كمائكم ورياض ليست كرياضكم فقال الأكثرون منهم والله ما وجدنا ما نحن فيه حتى ظننا أنا لا نجده وما نصنع بمنزل خير من هذا وقال الأقلون منهم أ لم تعطوا هذا الرجل مواثيقكم وعهودكم بالله لا تعصونه شيئا وقد صدقكم في أول حديثه والله ليصدقنكم في آخره فراح فيمن تبعه منهم وتخلف الباقون فدهمهم عدو شديد البأس عظيم الجيش فأصبحوا ما بين أسير وقتيل
[ 173 ](1/5490)
287
وَ قَالَ ع لَيْسَتِ اَلرُّؤْيَةُ كَالْمُعَايَنَةِ مَعَ اَلْإِبْصَارِ فَقَدْ تَكْذِبُ اَلْعُيُونُ أَهْلَهَا وَ لاَ يَغُشُّ اَلْعَقْلُ مَنِ اِسْتَنْصَحَهُ هذا مثل قوله تعالى فَإِنَّها لا تَعْمَى اَلْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى اَلْقُلُوبُ اَلَّتِي فِي اَلصُّدُورِ أي ليس العمى عمى العين بل عمى القلب . كذلك
قول أمير المؤمنين ع ليست الرؤية مع العيون وإنما الرؤية الحقيقية مع العقول وقد ذهب أكابر الحكماء إلى أن اليقينيات هي المعقولات لا المحسوسات قالوا لأن حكم الحس في مظنة الغلط وطال ما كذب الحس واعتقدنا بطريقة اعتقادات باطلة كما نرى الكبير صغيرا والصغير كبيرا والمتحرك ساكنا والساكن متحركا فأما العقل فإذا كان المعقول به بديهيا أو مستندا إلى مقدمات بديهية فإنه لا يقع فيه غلط أصلا
[ 174 ](1/5491)
288
وَ قَالَ ع بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ اَلْمَوْعِظَةِ حِجَابٌ مِنَ اَلْغِرَّةِ قد تقدم ذكر الدنيا وغرورها وأنها بشهواتها ولذاتها حجاب بين العبد وبين الموعظة لأن الإنسان يغتر بالعاجلة ويتوهم دوام ما هو فيه وإذا خطر بباله الموت والفناء وعد نفسه رحمة الله تعالى وعفوه هذا إن كان ممن يعترف بالمعاد فإن كثيرا ممن يظهر القول بالمعاد هو في الحقيقة غير مستيقن له والإخلاد إلى عفو الله تعالى والاتكال على المغفرة مع الإقامة على المعصية غرور لا محالة والحازم من عمل لما بعد الموت ولم يمن نفسه الأماني التي لا حقيقة لها
[ 175 ](1/5492)
289
وَ قَالَ ع جَاهِلُكُمْ مُزْدَادٌ وَ عَالِمُكُمْ مُسَوِّفٌ هذا قريب مما سلف يقول إن الجاهل من الناس مزداد من جهله مصر على خطيئته مسوف من توهماته وعقيدته الباطلة بالعفو عن ذنبه وليس الأمر كما توهمه . لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ اَلْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَ لا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً
[ 176 ](1/5493)
290
وَ قَالَ ع قَطَعَ اَلْعِلْمُ عُذْرَ اَلْمُتَعَلِّلِينَ هذا أيضا قريب مما تقدم يقول قطع العلم عذر الذين يعللون أنفسهم بالباطل ويقولون إن الرب كريم رحيم فلا حاجة لنا إلى إتعاب أنفسنا بالعبادة كما قال الشاعر
قدمت على الكريم بغير زاد
من الأعمال ذا ذنب عظيم
و سوء الظن أن تعتد زادا
إذا كان القدوم على الكريم
و هذا هو التعليل بالباطل فإن الله تعالى وإن كان كريما رحيما عفوا غفورا إلا أنه صادق القول وقد توعد العصاة وقال وَ إِنَّ اَلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَها يَوْمَ اَلدِّينِ وَ ما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ وقال لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ما يُبَدَّلُ اَلْقَوْلُ لَدَيَّ وَ ما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ويكفي في رحمته وعفوه وكرمه أن يغفر للتائب أو لمن ثوابه أكثر مما يستحقه من العقاب فالقول بالوعيد معلوم بأدلة السمع المتظاهرة المتناصرة التي قد أطنب أصحابنا في تعدادها وإيضاحها وإذا كان الشي ء معلوما فقد قطع العلم به عذر أصحاب التعلل والتمني ووجب العمل بالمعلوم ورفض ما يخالفه
[ 177 ](1/5494)
291
وَ قَالَ ع كُلُّ مُعَاجَلٍ يَسْأَلُ اَلْإِنْظَارَ وَ كُلُّ مُؤَجَّلٍ يَتَعَلَّلُ بِالتَّسْوِيفِ قال الله سبحانه حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ قالَ رَبِّ اِرْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فهذا هو سؤال الإنظار لمن عوجل فأما من أجل فإنه يعلل نفسه بالتسويف ويقول سوف أتوب سوف أقلع عما أنا عليه فأكثرهم يخترم من غير أن يبلغ هذا الأمل وتأتيه المنية وهو على أقبح حال وأسوئها ومنهم من تشمله السعادة فيتوب قبل الموت وأولئك الذين ختمت أعمالهم بخاتمة الخير وهم في العالم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود
[ 178 ](1/5495)
292
وَ قَالَ ع مَا قَالَ اَلنَّاسُ لِشَيْ ءٍ طُوبَى لَهُ إِلاَّ وَ قَدْ خَبَّأَ لَهُ اَلدَّهْرُ يَوْمَ سَوْءٍ قد تقدم هذا المعنى وذكرنا فيه نكتا جيدة حميدة(1/5496)
نبذ من الأقوال الحكمية في تقلبات الدهر وتصرفاته
كان محمد بن عبد الله بن طاهر أمير بغداد في قصره على دجلة يوما وإذا بحشيش على وجه الماء في وسطه قصبة عليها رقعة فأمر بأخذها فإذا فيها
تاه الأعيرج واستولى به البطر
فقل له خير ما استعملته الحذر
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت
و لم تخف سوء ما يأتي به القدر
و سالمتك الليالي فاغتررت بها
و عند صفو الليالي يحدث الكدر
فما انتفع بنفسه مدة . وفي المثل الدهر إذا أتى بسحواء سحسح يعقبها بنكباء زعزع وكذاك شرب العيش فيه تلون بيناه عذبا إذ تحول آجنا .
[ 179 ]
يحيى بن خالد أعطانا الدهر فأسرف ثم مال علينا فأجحف . وقال الشاعر
فيا لنعيم ساعدتنا رقابه
و خاست بنا أكفاله والروادف
إسحاق بن إبراهيم الموصلي
هي المقادير تجري في أعنتها
فاصبر فليس لها صبر على حال
يوما تريش خسيس الحال ترفعه
إلى السماء ويوما تخفض العالي
إذا أدبر الأمر أتى الشر من حيث كان يأتي الخير . هانئ بن مسعود
إن كسرى أبى على الملك النعمان
حتى سقاه أم الرقوب
كل ملك وإن تصعد يوما
بأناس يعود للتصويب
أحيحة بن الجلاح
و ما يدري الفقير متى غناه
و ما يدري الغني متى يعيل
و ما تدري إذا أضربت شولا
أ تلقح بعد ذلك أم تحيل
و ما تدري إذا أزمعت سيرا
بأي الأرض يدركك المقيل
آخر
فما درن الدنيا بباق لأهله
و لا شرة الدنيا بضربة لازم
آخر
رب قوم غبروا من عيشهم
في سرور ونعيم وغدق
[ 180 ]
سكت الدهر زمانا عنهم
ثم أبكاهم دما حين نطق
و من الشعر المنسوب إلى محمد الأمين بن زبيدة
يا نفس قد حق الحذر
أين الفرار من القدر
كل امرئ مما يخاف
و يرتجيه على خطر
من يرتشف صفو الزمان
يغص يوما بالكدر
[ 181 ](1/5497)
293
وَ قَالَ ع وَ قَدْ وَ سُئِلَ عَنِ اَلْقَدَرِ فَقَالَ طَرِيقٌ مُظْلِمٌ فَلاَ تَسْلُكُوهُ ثُمَّ سُئِلَ ثَانِياً فَقَالَ وَ بَحْرٌ عَمِيقٌ فَلاَ تَلِجُوهُ ثُمَّ سُئِلَ ثَالِثاً فَقَالَ وَ سِرُّ اَللَّهِ فَلاَ تَتَكَلَّفُوهُ قد جاء
في الخبر المرفوع القدر سر الله في الأرض و
روي سر الله في عباده والمراد نهي المستضعفين عن الخوض في إرادة الكائنات وفي خلق أعمال العباد فإنه ربما أفضى بهم القول بالجبر لما في ذلك من الغموض وذلك أن العامي إذا سمع قول القائل كيف يجوز أن يقع في عالمه ما يكرهه وكيف يجوز أن تغلب إرادة المخلوق إرادة الخالق . ويقول أيضا إذا علم في القدم أن زيدا يكفر فكيف لزيد أن لا يكفر وهل يمكن أن يقع خلاف ما علمه الله تعالى في القدم اشتبه عليه الأمر وصار شبهة في نفسه وقوي في ظنه مذهب المجبرة فنهى ع هؤلاء عن الخوض في هذا النحو من البحث ولم ينه غيرهم من ذوي العقول الكاملة والرياضة القوية والملكة التامة ومن له قدرة على حل الشبه والتفصي عن المشكلات . فإن قلت فإنكم تقولون إن العامي والمستضعف يجب عليهما النظر قلت نعم إلا أنه لا بد لهما من موقف بعد أعمالها ما ينتهي إليه جهدهما من النظر بحيث يرشدهما إلى الصواب والنهي إنما هو لمن يستبد من ضعفاء العامة بنفسه في النظر ولا يبحث مع غيره ليرشده
[ 182 ](1/5498)
294
إِذَا أَرْذَلَ اَللَّهُ عَبْداً حَظَرَ عَلَيْهِ اَلْعِلْمَ أرذله جعله رذلا وكان يقال من علامة بغض الله تعالى للعبد أن يبغض إليه العلم . وقال الشاعر
شكوت إلى وكيع سوء حفظي
فأرشدني إلى ترك المعاصي
و قال لأن حفظ العلم فضل
و فضل الله لا يؤتيه عاصي
و قال رجل لحكيم ما خير الأشياء لي قال أن تكون عالما قال فإن لم أكن قال أن تكون مثريا قال فإن لم أكن قال أن تكون شاريا قال فإن لم أكن قال فأن تكون ميتا . أخذ هذا المعنى بعض المحدثين فقال
إذا فاتك العلم جد بالقرى
و إن فاتك المال سد بالقراع
فإن فات هذا وهذا وذاك
فمت فحياتك شر المتاع
و قال أيضا في المعنى بعينه
و لو لا الحجا والقرى والقراع
لما فضل الآخر الأولا
ثلاث متى يخل منها الفتى
يكن كالبهيمة أو أرذلا
[ 183 ](1/5499)
295
وَ قَالَ ع : كَانَ لِي فِيمَا مَضَى أَخٌ فِي اَللَّهِ وَ كَانَ يُعَظِّمُهُ فِي عَيْنِي صِغَرُ اَلدُّنْيَا فِي عَيْنِهِ وَ كَانَ خَارِجاً مِنْ سُلْطَانِ بَطْنِهِ فَلاَ يَشْتَهِي يَتَشَهَّى مَا لاَ يَجِدُ وَ لاَ يُكْثِرُ إِذَا وَجَدَ وَ كَانَ أَكْثَرَ دَهْرِهِ صَامِتاً فَإِنْ قَالَ بَذَّ اَلْقَائِلِينَ وَ نَقَعَ غَلِيلَ اَلسَّائِلِينَ وَ كَانَ ضَعِيفاً مُسْتَضْعَفاً فَإِنْ جَاءَ اَلْجِدُّ فَهُوَ لَيْثُ غَابٍ لَيْثٌ عَادٍ وَ صِلُّ وَادٍ لاَ يُدْلِي بِحُجَّةٍ حَتَّى يَأْتِيَ قَاضِياً وَ كَانَ لاَ يَلُومُ أَحَداً عَلَى مَا لاَ يَجِدُ اَلْعُذْرَ فِي مِثْلِهِ حَتَّى يَسْمَعَ اِعْتِذَارَهُ وَ كَانَ لاَ يَشْكُو وَجَعاً إِلاَّ عِنْدَ بُرْئِهِ وَ كَانَ يَقُولُ مَا يَفْعَلُ مَا يَقُولُ وَ لاَ يَقُولُ مَا لاَ يَفْعَلُ وَ كَانَ إِذَا إِنْ غُلِبَ عَلَى اَلْكَلاَمِ لَمْ يُغْلَبْ عَلَى اَلسُّكُوتِ وَ كَانَ عَلَى أَنْ يَسْمَعَ مَا يَسْمَعُ أَحْرَصَ مِنْهُ عَلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ وَ كَانَ إِذَا بَدَهَهُ أَمْرَانِ يَنْظُرُ نَظَرَ أَيُّهُمَا أَقْرَبُ إِلَى اَلْهَوَى فَخَالَفَهُ فَيُخَالِفُهُ فَعَلَيْكُمْ بِهَذِهِ اَلْخَلاَئِقِ فَالْزَمُوهَا وَ تَنَافَسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوهَا فَاعْلَمُوا أَنَّ أَخْذَ اَلْقَلِيلِ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِ اَلْكَثِيرِ قد اختلف الناس في المعني بهذا الكلام ومن هو هذا الأخ المشار إليه فقال قوم هو رسول الله ص واستبعده قوم لقوله وكان ضعيفا مستضعفا فإن النبي ص لا يقال في صفاته مثل هذه الكلمة
[ 184 ](1/5500)
و إن أمكن تأويلها على لين كلامه وسماحة أخلاقه إلا أنها غير لائقة به ع . وقال قوم هو أبو ذر الغفاري واستبعده قوم لقوله فإن جاء الجد فهو ليث عاد وصل واد فإن أبا ذر لم يكن من الموصوفين بالشجاعة والمعروفين بالبسالة . وقال قوم هو المقداد بن عمرو المعروف بالمقداد بن الأسود وكان من شيعة علي ع المخلصين وكان شجاعا مجاهدا حسن الطريقة وقد ورد في فضله حديث صحيح مرفوع . وقال قوم أنه ليس بإشارة إلى أخ معين ولكنه كلام خارج مخرج المثل وعادة العرب جارية بمثل ذلك مثل قولهم في الشعر فقلت لصاحبي ويا صاحبي وهذا عندي أقوى الوجوه(1/5501)
نبذ من الأقوال الحكمية في حمد القناعة وقلة الأكل
و قد مضى القول في صغر الدنيا في عين أهل التحقيق فأما سلطان البطن ومدح الإنسان بأنه لا يكثر من الأكل إذا وجد أكلا ولا يشتهي من الأكل ما لا يجده فقد قال الناس فيه فأكثروا . قال أعشى باهلة يرثي المنتشر بن وهب
طاوي المصير على العزاء منصلت
بالقوم ليلة لا ماء ولا شجر
تكفيه فلذة لحم إن ألم بها
من الشواء ويروي شربه الغمر
و لا يباري لما في القدر يرقبه
و لا تراه أمام القوم يفتقر
[ 185 ]
لا يغمز الساق من أين ولا وصب
و لا يعض على شرسوفه الصفر
و قال الشنفري
و أطوي على الخمص الحوايا كما انطوت
خيوطة ماري تغار وتفتل
و إن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن
بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل
و ما ذاك إلا بسطة عن تفضل
عليهم وكان الأفضل المتفضل
و قال بعضهم لابنه يا بني عود نفسك الأثرة ومجاهدة الهوى والشهوة ولا تنهش نهش السباع ولا تقضم قضم البراذين ولا تدمن الأكل إدمان النعاج ولا تلقم لقم الجمال إن الله جعلك إنسانا فلا تجعل نفسك بهيمة ولا سبعا واحذر سرعة الكظة وداء البطنة فقد قال الحكيم إذا كنت بطنا فعد نفسك من الزمنى . وقال الأعشى
و البطنة يوما تسفه الأحلاما
و اعلم أن الشبع داعية البشم والبشم داعية السقم والسقم داعية الموت ومن مات هذه الميتة فقد مات موتة لئيمة وهو مع هذا قاتل نفسه وقاتل نفسه ألوم من قاتل غيره يا بني والله ما أدى حق السجود والركوع ذو كظة ولا خشع لله ذو بطنة والصوم مصحة ولربما طالت أعمار الهند وصحت أبدان العرب ولله در الحارث بن كلدة حيث زعم أن الدواء هو الأزم وأن الداء إدخال الطعام في أثر الطعام يا بني لم صفت أذهان الأعراب وصحت أذهان الرهبان مع طول الإقامة في الصوامع حتى لم تعرف وجع المفاصل ولا الأورام إلا لقلة الرزء ووقاحة الأكل وكيف لا ترغب في تدبير يجمع لك بين صحة البدن وذكاء الذهن وصلاح المعاد
[ 186 ](1/5502)
و القرب وعيش الملائكة يا بني لم صار الضب أطول شي ء ذماء إلا لأنه يتبلغ بالنسيم ولم زعم رسول الله ص أن الصوم وجاء إلا ليجعله حجابا دون الشهوات فافهم تأديب الله ورسوله فإنهما لا يقصدان إلا مثلك يا بني إني قد بلغت تسعين عاما ما نقص لي سن ولا انتشر لي عصب ولا عرفت دنين أنف ولا سيلان عين ولا تقطير بول ما لذلك علة إلا التخفيف من الزاد فإن كنت تحب الحياة فهذه سبيل الحياة وإن كنت تريد الموت فلا يبعد الله إلا من ظلم . وكان يقال البطنة تذهب الفطنة . وقال عمرو بن العاص لأصحابه يوم حكم الحكمان أكثروا لأبي موسى من الطعام الطيب فو الله ما بطن قوم قط إلا فقدوا عقولهم أو بعضها وما مضى عزم رجل بات بطينا . وكان يقال أقلل طعاما تحمد مناما ودعا عبد الملك بن مروان رجلا إلى الغداء فقال ما في فضل فقال إني أحب الرجل يأكل حتى لا يكون فيه فضل فقال يا أمير المؤمنين عندي مستزاد ولكني أكره أن أصير إلى الحال التي استقبحها أمير المؤمنين . وكان يقال مسكين ابن آدم أسير الجوع صريع الشبع . وسأل عبد الملك أبا الزعيرعة فقال هل أتخمت قط قال لا قال وكيف قال لأنا إذا طبخنا أنضجنا وإذا مضغنا دققنا ولا نكظ المعدة ولا نخليها . وكان يقال من المروءة أن يترك الإنسان الطعام وهو بعد يشتهيه . وقال الشاعر
فإن قراب البطن يكفيك ملؤه
و يكفيك سوآت الأمور اجتنابها
و قال عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي كان عمي يقول لي لا تخرج يا بني من منزلك
[ 187 ]
حتى تأخذ حلمك يعني تتغذى فإذا أخذت حلمك فلا تزدد إليه حلما فإن الكثرة تئول إلى قلة و
في الحديث المرفوع ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطن بحسب الرجل من طعامه ما أقام صلبه وأما إذا أبيت فثلث طعام وثلث شراب وثلث نفس و
روى حذيفة عن النبي ص من قل طعمه صح بطنه وصفا قلبه ومن كثر طعمه سقم بطنه وقسا قلبه و(1/5503)
عنه ص لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب فإن القلب يموت بهما كالزرع يموت إذا أكثر عليه الماء و
روى عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال أكلت يوما ثريدا ولحما سمينا ثم أتيت رسول الله وأنا أتجشأ فقال احبس جشأك أبا جحيفة إن أكثركم شبعا في الدنيا أكثركم جوعا في الآخرة قال فما أكل أبو جحيفة بعدها مل ء بطنه إلى أن قبضه الله و
أكل علي ع قليلا من تمر دقل وشرب عليه ماء وأمر يده على بطنه وقال من أدخله بطنه النار فأبعده الله ثم تمثل
فإنك مهما تعط بطنك سؤله
و فرجك نالا منتهى الذم أجمعا
و كان ع يفطر في رمضان الذي قتل فيه عند الحسن ليلة وعند الحسين ليلة وعند عبد الله بن جعفر ليلة لا يزيد على اللقمتين أو الثلاث فيقال له فيقول إنما هي ليال قلائل حتى يأتي أمر الله وأنا خميص البطن فضربه ابن ملجم لعنه الله تلك الليلة . وقال الحسن لقد أدركت أقواما ما يأكل أحدهم إلا في ناحية بطنه ما شبع رجل منهم من طعام حتى فارق الدنيا كان يأكل فإذا قارب الشبع أمسك . وأنشد المبرد
[ 188 ]
فإن امتلاء البطن في حسب الفتى
قليل الغناء وهو في الجسم صالح
و
قال عيسى ع يا بني إسرائيل لا تكثروا الأكل فإنه من أكثر من الأكل أكثر من النوم ومن أكثر النوم أقل الصلاة ومن أقل الصلاة كتب من الغافلين و
قيل ليوسف ع ما لك لا تشبع وفي يديك خزائن مصر قال إني إذا شبعت نسيت الجائعين . وقال الشاعر
و أكلة أوقعت في الهلك صاحبها
كحبة القمح دقت عنق عصفور
لكسرة بجريش الملح آكلها
ألذ من تمرة تحشى بزنبور(1/5504)
و وصف لسابور ذي الأكتاف رجل من إصطخر للقضاء فاستقدمه فدعاه إلى الطعام فأخذ الملك دجاجة من بين يديه فنصفها وجعل نصفها بين يدي ذلك الرجل فأتى عليه قبل أن يفرغ الملك من أكل النصف الآخر فصرفه إلى بلده وقال إن سلفنا كانوا يقولون من شره إلى طعام الملك كان إلى أموال الرعية أشره . قيل لسميرة بن حبيب إن ابنك أكل طعاما فأتخم وكاد يموت فقال والله لو مات منه ما صليت عليه
أنس يرفعه إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت . دخل عمر على عاصم ابنه وهو يأكل لحما فقال ما هذا قال قرمنا إليه قال أ وكلما قرمت إلى اللحم أكلته كفى بالمرء شرها أن يأكل كل ما يشتهي .
أبو سعيد يرفعه استعينوا بالله من الرعب قالوا هو الشره ويقال الرعب شؤم
أنس يرفعه أصل كل داء البردة قالوا هي التخمة وقال أبو دريد العرب تعير بكثرة الأكل وأنشد
لست بأكال كأكل العبد
و لا بنوام كنوم الفهد
[ 189 ]
و قال الشاعر
إذا لم أزر إلا لآكل أكلة
فلا رفعت كفي إلي طعامي
فما أكلة إن نلتها بغنيمة
و لا جوعة إن جعتها بغرام
ابن عباس كان رسول الله ص يبيت طاويا ليالي ما له ولأهله عشاء وكان عامة طعامه الشعير و
قالت عائشة والذي بعث محمدا بالحق ما كان لنا منخل ولا أكل رسول الله ص خبزا منخولا منذ بعثه الله إلى أن قبض قالوا فكيف كنتم تأكلون دقيق الشعير قالت كنا نقول أف أف
أنس ما أكل رسول الله ص رغيفا محورا إلى أن لقي ربه عز وجل
أبو هريرة ما شبع رسول الله ص وأهله ثلاثة أيام متوالية من خبز حنطة حتى فارق الدنيا وروى مسروق قال دخلت على عائشة وهي تبكي فقلت ما يبكيك قالت ما أشاء أن أبكي إلا بكيت مات رسول الله ص ولم يشبع من خبز البر في يوم مرتين ثم انهارت علينا الدنيا . حاتم الطائي
و إني لأستحيي صحابي أن يروا
مكان يدي من جانب الزاد أقرعا
أقصر كفي أن تنال أكفهم
إذا نحن أهوينا وحاجاتنا معا
أبيت خميص البطن مضطمر الحشا
حياء أخاف الضيم أن أتضلعا(1/5505)
[ 190 ]
فإنك إن أعطيت نفسك سؤلها
و فرجك نالا منتهى الذم أجمعا
فأما قوله ع كان لا يتشهى ما لا يجد فإنه قد نهى أن يتشهى الإنسان ما لا يجد وقالوا إنه دليل على سقوط المروءة . وقال الأحنف جنبوا مجالسنا ذكر تشهي الأطعمة وحديث النكاح . وقال الجاحظ جلسنا في دار فجعلنا نتشهى الأطعمة فقال واحد وأنا أشتهي سكباجا كثيرة الزعفران وقال آخر أنا أشتهي طباهجة ناشفة وقال آخر أنا أشتهي هريسة كثيرة الدارصيني وإلى جانبنا امرأة بيننا وبينها بئر الدار فضربت الحائط وقالت أنا حامل فأعطوني مل ء هذه الغضارة من طبيخكم فقال ثمامة جارتنا تشم رائحة الأماني
[ 191 ](1/5506)
296
وَ قَالَ ع لَوْ لَمْ يَتَوَعَّدِ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ لَكَانَ يَجِبُ أَلاَّ يُعْصَى شُكْراً لِنِعَمِهِ قالت المعتزلة إنا لو قدرنا أن الوعيد السمعي لم يرد لما أخل ذلك بكون الواجب واجبا في العقل نحو العدل والصدق والعلم ورد الوديعة هذا في جانب الإثبات وأما في جانب السلب فيجب في العقل ألا يظلم وألا يكذب وألا يجهل وألا يخون الأمانة ثم اختلفوا فيما بينهم فقالت معتزلة بغداد ليس الثواب واجبا على الله تعالى بالعقل لأن الواجبات إنما تجب على المكلف لأن أداءها كالشكر لله تعالى وشكر المنعم واجب لأنه شكر منعم فلم يبق وجه يقتضي وجوب الثواب على الله سبحانه وهذا قريب من قول أمير المؤمنين ع . وقال البصريون بل الثواب واجب على الله تعالى عقلا كما يجب عليه العوض عن إيلام الحي لأن التكليف إلزام بما فيه مضرة كما أن الإيلام إنزال مضرة والإلزام كالإنزال
[ 192 ](1/5507)
297
وَ قَالَ ع لِلْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ وَ قَدْ عَزَّاهُ عَنِ اِبْنٍ لَهُ وَ قَدْ عَزَّى اَلْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ عَنِ اِبْنٍ لَهُ يَا أَشْعَثُ إِنْ تَحْزَنْ عَلَى اِبْنِكَ فَقَدِ اِسْتَحَقَّتْ ذَلِكَ مِنْكَ مِنْكَ ذَلِكَ اَلرَّحِمُ وَ إِنْ تَصْبِرْ فَفِي اَللَّهِ مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ خَلَفٌ يَا أَشْعَثُ إِنْ صَبَرْتَ جَرَى عَلَيْكَ اَلْقَدَرُ وَ أَنْتَ مَأْجُورٌ وَ إِنْ جَزِعْتَ جَرَى عَلَيْكَ اَلْقَدَرُ وَ أَنْتَ مَأْزُورٌ يَا أَشْعَثُ اِبْنُكَ سَرَّكَ وَ هُوَ بَلاَءٌ وَ فِتْنَةٌ وَ حَزَنَكَ وَ هُوَ ثَوَابٌ وَ رَحْمَةٌ قد روي هذا الكلام عنه ع على وجوه مختلفة وروايات متنوعة هذا الوجه أحدها وأخذ أبو العتاهية ألفاظه ع فقال لمن يعزيه عن ولد
و لا بد من جريان القضاء
إما مثابا وإما أثيما
و من كلامهم في التعازي إذا استأثر الله بشي ء فاله عنه وتنسب هذه الكلمة إلى عمر بن عبد العزيز . وذكر أبو العباس في الكامل أن عقبة بن عياض بن تميم أحد بني عامر بن لؤي استشهد فعزى أباه معز فقال احتسبه ولا تجزع عليه فقد مات شهيدا فقال عياض أ تراني كنت أسر به وهو من زينة الحياة الدنيا وأساء به وهو من الباقيات الصالحات .
[ 193 ]
و هذا الكلام مأخوذ من كلام أمير المؤمنين ع . ومن التعازي الجيدة قول القائل
و من لم يزل غرضا للمنون
يتركه كل يوم عميدا
فإن هن أخطأنه مرة
فيوشك مخطئها أن يعودا
فبينا يحيد وأخطأنه
قصدن فأعجلنه أن يحيدا
و قال آخر
هو الدهر قد جربته وعرفته
فصبرا على مكروهه وتجلدا
و ما الناس إلا سابق ثم لاحق
و فائت موت سوف يلحقه غدا
و قال آخر
أينا قدمت صروف الليالي
فالذي أخرت سريع اللحاق
غدرات الأيام منتزعات
عنقينا من أنس هذا العناق
ابن نباتة السعدي
نعلل بالدواء إذا مرضنا
و هل يشفي من الموت الدواء
و نختار الطبيب وهل طبيب
يؤخر ما يقدمه القضاء
و ما أنفاسنا إلا حساب
و ما حركاتنا إلا فناء(1/5508)
البحتري
إن الرزية في الفقيد فإن هفا
جزع بلبك فالرزية فيكا
و متى وجدت الناس إلا تاركا
لحميمه في الترب أو متروكا
لو ينجلي لك ذخرها من نكبة
جلل لأضحكك الذي يبكيكا
[ 194 ]
و كتب بعضهم إلى صديق له مات ابنه كيف شكرك لله تعالى على ما أخذ من وديعته وعوض من مثوبته . وعزى عمر بن الخطاب أبا بكر عن طفل فقال عوضك الله منه ما عوضه منك فإن الطفل يعوض من أبويه الجنة . و
في الحديث المرفوع من عزى مصابا كان له مثل أجره و
قال ع من كنوز السر كتمان المصائب وكتمان الأمراض وكتمان الصدقة وقال شاعر في رثاء ولده
و سميته يحيى ليحيا ولم يكن
إلى رد أمر الله فيه سبيل
تخيرت فيه الفأل حين رزقته
و لم أدر أن الفأل فيه يفيل
و قال آخر
و هون وجدي بعد فقدك أنني
إذا شئت لاقيت امرأ مات صاحبه
آخر
و قد كنت أرجو لو تمليت عيشة
عليك الليالي مرها وانتقالها
فأما وقد أصبحت في قبضة الردى
فقل لليالي فلتصب من بدا لها
أخذه المتنبئ فقال
قد كنت أشفق من دمعي على بصري
فاليوم كل عزيز بعدكم هانا
و مثله لغيره
فراقك كنت أخشى فافترقنا
فمن فارقت بعدك لا أبالي
[ 195 ](1/5509)
298
وَ قَالَ ع عِنْدَ وقُوُفِهِ عَلَى قَبْرِ رَسُولِ اَللَّهِ ص سَاعَةَ دَفْنِهِ دُفِنَ رَسُولُ اَللَّهِ ص إِنَّ اَلصَّبْرَ لَجَمِيلٌ إِلاَّ عَنْكَ وَ إِنَّ اَلْجَزَعَ لَقَبِيحٌ إِلاَّ عَلَيْكَ وَ إِنَّ اَلْمُصَابَ بِكَ لَجَلِيلٌ وَ إِنَّهُ قَبْلَكَ وَ بَعْدَكَ لَجَلَلٌ لَقَلِيلٌ قد أخذت هذا المعنى الشعراء فقال بعضهم
أمست بجفني للدموع كلوم
حزنا عليك وفي الخدود رسوم
و الصبر يحمد في المواطن كلها
إلا عليك فإنه مذموم
و قال أبو تمام
و قد كان يدعى لابس الصبر حازما
فقد صار يدعى حازما حين يجزع
و قال أبو الطيب
أجد الجفاء على سواك مروءة
و الصبر إلا في نواك جميلا
و قال أبو تمام أيضا
الصبر أجمل غير أن تلذذا
في الحب أولى أن يكون جميلا
[ 196 ]
و قالت خنساء أخت عمرو بن الشريد
أ لا يا صخر إن أبكيت عيني
لقد أضحكتني دهرا طويلا
بكيتك في نساء معولات
و كنت أحق من أبدى العويلا
دفعت بك الجليل وأنت حي
فمن ذا يدفع الخطب الجليلا
إذا قبح البكاء على قتيل
رأيت بكاءك الحسن الجميلا
و مثل قوله ع وإنه بعدك لقليل يعني المصاب أي لا مبالاة بالمصائب بعد المصيبة بك قول بعضهم
قد قلت للموت حين نازله
و الموت مقدامة على البهم
اذهب بمن شئت إذ ظفرت به
ما بعد يحيى للموت من ألم
و قال الشمردل اليروعي يرثي أخاه
إذا ما أتى يوم من الدهر بيننا
فحياك عنا شرقه وأصائله
أبى الصبر أن العين بعدك لم تزل
يحالف جفنيها قذى ما تزايله
و كنت أعير الدمع قبلك من بكى
فأنت على من مات بعدك شاغله
أ عيني إذ أبكاكما الدهر فابكيا
لمن نصره قد بان عنا ونائله
و كنت به أغشى القتال فعزني
عليه من المقدار من لا أقاتله
لعمرك إن الموت منا لمولع
بمن كان يرجى نفعه وفواضله
قوله فأنت على من مات بعدك شاغله هو المعنى الذي نحن فيه وذكرنا سائر الأبيات لأنها فائقة بعيدة النظير .
[ 197 ]
و قال آخر يرثي رجلا اسمه جارية
أ جاري ما أزداد إلا صبابة(1/5510)
عليك وما تزداد إلا تنائيا
أ جاري لو نفس فدت نفس ميت
فديتك مسرورا بنفسي وماليا
و قد كنت أرجو أن أراك حقيقة
فحال قضاء الله دون قضائيا
ألا فليمت من شاء بعدك إنما
عليك من الأقدار كان حذاريا
و
من الشعر المنسوب إلى علي ع ويقال إنه قاله يوم مات رسول الله ص
كنت السواد لناظري
فبكى عليك الناظر
من شاء بعدك فليمت
فعليك كنت أحاذر
و من شعر الحماسة
سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغض
فحسبك مني ما تجن الجوانح
كأن لم يمت حي سواك ولم تقم
على أحد إلا عليك النوائح
لئن حسنت فيك المراثي بوصفها
لقد حسنت من قبل فيك المدائح
فما أنا من رزء وإن جل جازع
و لا بسرور بعد موتك فارح
[ 198 ](1/5511)
299
وَ قَالَ ع لاَ تَصْحَبِ اَلْمَائِقَ فَإِنَّهُ يُزَيِّنُ لَكَ فِعْلَهُ وَ يَوَدُّ أَنْ تَكُونَ مِثْلَهُ المائق الشديد الحمق والموق شدة الحمق وإنما يزين لك فعله لأنه يعتقد فعله صوابا بحمقه فيزينه لك كما يزين العاقل لصاحبه فعله لاعتقاد كونه صوابا ولكن هذا صواب في نفس الأمر وذلك صواب في اعتقاد المائق لا في نفس الأمر وأما كونه يود أن تكون مثله فليس معناه أنه يود أن تكون أحمق مثله وكيف وهو لا يعلم من نفسه أنه أحمق ولو علم أنه أحمق لما كان أحمق وإنما معناه أنه لحبه لك وصحبته إياك يود أن تكون مثله لأن كل أحد يود أن يكون صديقه مثل نفسه في أخلاقه وأفعاله إذ كل أحد يعتقد صواب أفعاله وطهارة أخلاقه ولا يشعر بعيب نفسه لأنه يهوى نفسه فعيب نفسه مطوى مستور عن نفسه كما تخفى عن العاشق عيوب المعشوق
[ 199 ](1/5512)
300
وَ قَالَ ع وَ قَدْ سُئِلَ عَنْ مَسَافَةِ مَا بَيْنَ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ فَقَالَ ع مَسِيرَةُ يَوْمٍ لِلشَّمْسِ هكذا تقول العرب بينهما مسيرة يوم بالهاء ولا يقولون مسير يوم لأن المسير المصدر والمسيرة الاسم . وهذا الجواب تسميه الحكماء جوابا إقناعيا لأن السائل أراد أن يذكر له كمية المسافة مفصلة نحو أن يقول بينهما ألف فرسخ أو أكثر أو أقل فعدل ع عن ذلك وأجابه بغيره وهو جواب صحيح لا ريب فيه لكنه غير شاف لغليل السائل وتحته غرض صحيح وذلك لأنه سأله بحضور العامة تحت المنبر فلو قال له بينهما ألف فرسخ مثلا لكان للسائل أن يطالبه بالدلالة على ذلك والدلالة على ذلك يشق حصولها على البديهة ولو حصلت لشق عليه أن يوصلها إلى فهم السائل ولو فهمها السائل لما فهمتها العامة الحاضرون ولصار فيها قول وخلاف وكانت تكون فتنة أو شبيها بالفتنة فعدل إلى جواب صحيح إجمالي أسكت السائل به وقنع به السامعون أيضا واستحسنوه وهذا من نتائج حكمته ع
[ 200 ](1/5513)
301
وَ قَالَ ع أَصْدِقَاؤُكَ ثَلاَثَةٌ وَ أَعْدَاؤُكَ ثَلاَثَةٌ فَأَصْدِقَاؤُكَ صَدِيقُكَ وَ صَدِيقُ صَدِيقِكَ وَ عَدُوُّ عَدُوِّكَ وَ أَعْدَاؤُكَ عَدُوُّكَ وَ عَدُوُّ صَدِيقِكَ وَ صَدِيقُ عَدُوِّكَ قد تقدم القول في هذا المعنى والأصل في هذا أن صديقك جار مجرى نفسك فاحكم عليه بما تحكم به على نفسك وعدوك ضدك فاحكم عليه بما تحكم به على الضد فكما أن من عاداك عدو لك وكذلك من عادى صديقك عدو لك وكذلك من صادق صديقك فكأنما صادق نفسك فكان صديقا لك أيضا وأما عدو عدوك فضد ضدك وضد ضدك ملائم لك لأنك أنت ضد لذلك الضد فقد اشتركتما في ضديه ذلك الشخص فكنتما متناسبين وأما من صادق عدوك فقد ماثل ضدك فكان ضدا لك أيضا ومثل ذلك بياض مخصوص يعادي سوادا مخصوصا ويضاده . وهناك بياض ثان هو مثل البياض الأول وصديقه وهناك بياض ثالث مثل البياض الثاني فيكون أيضا مثل البياض الأول وصديقه وهناك بياض
[ 201 ]
رابع تأخذه باعتبار ضدا للسواد المخصوص المفروض فإنه يكون مماثلا وصديقا للبياض الأول لأنه عدو عدوه ثم نفرض سوادا ثانيا مضادا للبياض الثاني فهو عدو للبياض الأول لأنه عدو صديقه ثم نفرض سوادا ثالثا هو مماثل السواد المخصوص المفروض فإنه يكون ضدا للبياض المفروض المخصوص لأنه مثل ضده وإن مثلت ذلك بالحروف كان أظهر وأكشف
[ 202 ](1/5514)
302
وَ قَالَ ع لِرَجُلٍ رَآهُ يَسْعَى عَلَى عَدُوٍّ لَهُ بِمَا فِيهِ إِضْرَارٌ بِنَفْسِهِ إِنَّمَا أَنْتَ كَالطَّاعِنِ نَفْسَهُ لِيَقْتُلَ رِدْفَهُ هذا يختلف باختلاف حال الساعي فإنه إن كان يضر نفسه أولا ثم يضر عدوه تبعا لإضراره بنفسه كان كما قال أمير المؤمنين ع كالطاعن نفسه ليقتل ردفه والردف الرجل الذي ترتدفه خلفك على فرس أو ناقة أو غيرهما وفاعل ذلك يكون أسفه الخلق وأقلهم عقلا لأنه يبدأ بقتل نفسه وإن كان يضر عدوه أولا يحصل في ضمن إضراره بعدوه إضراره بنفسه فليس يكون مثال أمير المؤمنين ع منطبقا على ذلك ولكن يكون كقولي في غزل من قصيدة لي
إن ترم قلبي تصم نفسك إنه
لك موطن تأوي إليه ومنزل
[ 203 ](1/5515)
303
وَ قَالَ ع مَا أَكْثَرَ اَلْعِبَرَ وَ أَقَلَّ اَلاِعْتِبَارَ ما أوجز هذه الكلمة وما أعظم فائدتها ولا ريب أن العبر كثيرة جدا بل كل شي ء في الوجود ففيه عبرة ولا ريب أن المعتبرين بها قليلون وأن الناس قد غلب عليهم الجهل والهوى وأرداهم حب الدنيا وأسكرهم خمرها وإن اليقين في الأصل ضعيف عندهم ولو لا ضعفه لكانت أحوالهم غير هذه الأحوال
[ 204 ](1/5516)
304
وَ قَالَ ع مَنْ بَالَغَ فِي اَلْخُصُومَةِ أَثِمَ وَ مَنْ قَصَّرَ فِيهَا ظَلَمَ وَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَّقِيَ اَللَّهَ مَنْ خَاصَمَ هذا مثل
قوله ع في موضع آخر الغالب بالشر مغلوب وكان يقال ما تساب اثنان إلا غلب ألأمهما . وقد نهى العلماء عن الجدل والخصومة في الكلام والفقه وقالوا إنهما مظنة المباهاة وطلب الرئاسة والغلبة والمجادل يكره أن يقهره خصمه فلا يستطيع أن يتقي الله وهذا هو كلام أمير المؤمنين ع بعينه . وأما الخصومة في غير العلم كمنازعة الناس بعضهم بعضا في أمورهم الدنياوية فقد جاء في ذمها والنهي عنها شي ء كثير وقد ذكرنا منه فيما تقدم قولا كافيا على أن منهم من مدح الجهل والشر في موضعهما . وقال الأحنف ما قل سفهاء قوم إلا ذلوا . وقال بعض الحكماء لا يخرجن أحد من بيته إلا وقد أخذ في حجزته قيراطين من جهل فإن الجاهل لا يدفعه إلا الجهل وقالوا الجاهل من لا جاهل له . وقال الشاعر
إذا كنت بين الجهل والحلم قاعدا
و خيرت أنى شئت فالعلم أفضل
و لكن إذا أنصفت من ليس منصفا
و لم يرض منك الحلم فالجهل أمثل
إذا جاءني من يطلب الجهل عامدا
فإني سأعطيه الذي هو سائل
[ 205 ](1/5517)
305
وَ قَالَ ع مَا أَهَمَّنِي أَمْرٌ ذَنْبٌ أُمْهِلْتُ بَعْدَهُ حَتَّى أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَ أَسْأَلَ اَللَّهَ اَلْعَافِيَةَ هذا فتح لباب التوبة وتطريق إلى طريقها وتعليم للنهضة إليها والاهتمام بها ومعنى الكلام أن الذنب الذي لا يعاجل الإنسان عقيبه بالموت ينبغي للإنسان ألا يهتم به أي لا ينقطع رجاؤه عن العفو وتأميله الغفران وذلك بأن يقوم إلى الصلاة عاجلا ويستغفر الله ويندم ويعزم على ترك المعاودة ويسأل الله العافية من الذنوب والعصمة من المعاصي والعون على الطاعة فإنه إذا فعل ذلك بنية صحيحة واستوفى شرائط التوبة سقط عنه عقاب ذلك الذنب . وفي هذا الكلام تحذير عظيم من مواقعة الذنوب لأنه إذا كان هذا هو محصول الكلام فكأنه قد قال الحذر الحذر من الموت المفاجئ قبل التوبة ولا ريب أن الإنسان ليس على ثقة من الموت المفاجئ قبل التوبة إنه لا يفاجئه ولا يأخذه بغتة فالإنسان إذا كان عاقلا بصيرا يتوقى الذنوب والمعاصي التوقي
[ 206 ](1/5518)
306
وَ سُئِلَ ع كَيْفَ يُحَاسِبُ اَللَّهُ اَلْخَلْقَ عَلَى كَثْرَتِهِمْ فَقَالَ ع كَمَا يَرْزُقُهُمْ عَلَى كَثْرَتِهِمْ فَقِيلَ كَيْفَ يُحَاسِبُهُمْ وَ لاَ يَرَوْنَهُ فَقَالَ ع كَمَا يَرْزُقُهُمْ وَ لاَ يَرَوْنَهُ هذا جواب صحيح لأنه تعالى لا يرزقهم على الترتيب أعني واحدا بعد واحد وإنما يرزقهم جميعهم دفعة واحدة وكذلك تكون محاسبتهم يوم القيامة . والجواب الثاني صحيح أيضا لأنه إذا صح أن يرزقنا ولا نرى الرازق صح أن يحاسبنا ولا نرى المحاسب . فإن قلت فقد ورد أنهم يمكثون في الحساب ألف سنة وقيل أكثر من ذلك فكيف يجمع بين ما ورد في الخبر وبين قولكم إن حسابهم يكون ضربة واحدة ولا ريب أن الأخبار تدل على أن الحساب يكون لواحد بعد واحد . قلت إن أخبار الآحاد لا يعمل عليها لا سيما الأخبار الواردة في حديث الحساب والنار والجنة فإن المحدثين طعنوا في أكثرها وقالوا إنها موضوعة وجملة الأمر أنه ليس هناك تكليف فيقال إن ترتيب المحاسبة في زمان طويل جدا يتضمن لطفا في التكليف فيفعله الباري تعالى لذلك وإنما الغرض من المحاسبة صدق الوعد وما سبق من القول والكتاب العزيز لم ينطق إلا بالمحاسبة مجملة فوجب القول بالمتيقن المعلوم فيها ورفض ما لم يثبت
[ 207 ](1/5519)
307
وَ قَالَ ع رَسُولُكَ تَرْجُمَانُ عَقْلِكَ وَ كِتَابُكَ أَبْلَغُ مَا يَنْطِقُ عَنْكَ قالوا في المثل الرسول على قدر المرسل وقيل أيضا رسولك أنت إلا أنه إنسان آخر وقال الشاعر
تخير إذا ما كنت في الأمر مرسلا
فمبلغ آراء الرجال رسولها
و رو وفكر في الكتاب فإنما
بأطراف أقلام الرجال عقولها
[ 208 ](1/5520)
308
وَ قَالَ ع مَا اَلْمُبْتَلَى اَلَّذِي قَدِ اِشْتَدَّ بِهِ اَلْبَلاَءُ بِأَحْوَجَ إِلَى اَلدُّعَاءِ مِنَ اَلْمُعَافَى اَلَّذِي لاَ يَأْمَنُ اَلْبَلاَءَ هذا ترغيب في الدعاء والذي قاله ع حق لأن المعافى في الصورة مبتلى في المعنى وما دام الإنسان في قيد هذه الحياة الدنيا فهو من أهل البلاء على الحقيقة ثم لا يأمن البلاء الحسي فوجب أن يتضرع إلى الله تعالى أنه ينقذه من بلاء الدنيا المعنوي ومن بلائها الحسي في كل حال ولا ريب أن الأدعية مؤثرة وأن لها أوقات إجابة ولم يختلف المليون والحكماء في ذلك
[ 209 ](1/5521)
309
وَ قَالَ ع اَلنَّاسُ أَبْنَاءُ اَلدُّنْيَا وَ لاَ يُلاَمُ اَلرَّجُلُ عَلَى حُبِّ أُمِّهِ قد
قال ع في موضع آخر الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم وقال الشاعر
و نحن بني الدنيا غذينا بدرها
و ما كنت منه فهو شي ء محبب
[ 210 ](1/5522)
310
وَ قَالَ ع إِنَّ اَلْمِسْكِينَ رَسُولُ اَللَّهِ فَمَنْ مَنَعَهُ فَقَدْ مَنَعَ اَللَّهَ وَ مَنْ أَعْطَاهُ فَقَدْ أَعْطَى اَللَّهَ هذا حض على الصدقة وقد تقدم لنا قول مقنع فيها . و
في الحديث المرفوع اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة
وقال ص لو صدق السائل لما أفلح من رده
و قال أيضا من رد سائلا خائبا لم تغش الملائكة ذلك البيت سبعة أيام . وكان ص لا يكل خصلتين إلى غيره كان يصنع طهوره بالليل ويخمره وكان يناول المسكين بيده . وقال بعض الصالحين من لم تكن نفسه إلى ثواب الصدقة أحوج من الفقير إلى صدقته فقد أبطل صدقته وضرب بها وجهه . وقال بعضهم الصلاة تبلغك نصف الطريق والصوم يبلغك باب الملك والصدقة تدخلك عليه
[ 211 ](1/5523)
311
وَ قَالَ ع مَا زَنَى غَيُورٌ قَطُّ
قد جاء في الأثر من زنى زني به ولو في عقب عقبه . وهذا قد جرب فوجد حقا وقل من ترى مقداما على الزنا إلا والقول في حرمه وأهله وذوي محارمه كثير فاش . والكلمة التي قالها ع حق لأن من اعتاد الزنا حتى صار دربته وعادته وألفته نفسه لا بد أن يهون عليه حتى يظنه مباحا أو كالمباح لأن من تدرب بشي ء ومرن عليه زال قبحه من نفسه وإذا زال قبح الزنا من نفسه لم يعظم عليه ما يقال في أهله وإذا لم يعظم عليه ما يقال في أهله فقد سقطت غيرته
[ 212 ](1/5524)
312
وَ قَالَ ع كَفَى بِالْأَجَلِ حَارِساً قد تقدم القول في هذا المعنى و
كان ع يقول إن علي من الله جنة حصينة فإذا جاء يومي أسلمتني فحينئذ لا يطيش السهم ولا يبرأ الكلم والقول في الأجل وكونه حارسا شعبة من شعب القول في القضاء والقدر وله موضع هو أملك به
[ 213 ](1/5525)
313
وَ قَالَ ع يَنَامُ اَلرَّجُلُ عَلَى اَلثُّكْلِ وَ لاَ يَنَامُ عَلَى اَلْحَرَبِ قال السيد ومعنى ذلك أنه يصبر على قتل الأولاد ولا يصبر على سلب الأموال كان يقال المال عدل النفس . و
في الأثر أن من قتل من دون ماله فهو شهيد وقال الشاعر
لنا إبل غر يضيق فضاؤها
و يغبر عنها أرضها وسماؤها
فمن دونها أن تستباح دماؤنا
و من دوننا أن تستباح دماؤها
حمى وقرى فالموت دون مرامها
و أيسر أمر يوم حق فناؤها
[ 214 ](1/5526)
314
وَ قَالَ ع مَوَدَّةُ اَلآْبَاءِ قَرَابَةٌ بَيْنَ اَلْأَبْنَاءِ وَ اَلْقَرَابَةُ إِلَى اَلْمَوَدَّةِ أَحْوَجُ إِلَى اَلْمَوَدَّةِ مِنَ اَلْمَوَدَّةِ إِلَى اَلْقَرَابَةِ كان يقال الحب يتوارث والبغض يتوارث وقال الشاعر
أبقى الضغائن آباء لنا سلفوا
فلن تبيد وللآباء أبناء
و لا خير في القرابة من دون مودة وقد قال القائل لما قيل له أيما أحب إليك أخوك أم صديقك فقال إنما أحب أخي إذا كان صديقا فالقربى محتاجة إلى المودة والمودة مستغنية عن القربى
[ 215 ](1/5527)
315
وَ قَالَ ع اِتَّقُوا ظُنُونَ اَلْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ اَلْحَقَّ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ كان يقال ظن المؤمن كهانة وهو أثر جاء عن بعض السلف قال أوس بن حجر
الألمعي الذي يظن بك الظن
كأن قد رأى وقد سمعا
و قال أبو الطيب
ذكي تظنيه طليعة عينه
يرى قلبه في يومه ما يرى غدا
[ 216 ](1/5528)
316
وَ قَالَ ع لاَ يَصْدُقُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَكُونَ بِمَا فِي يَدِ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ أَوْثَقَ مِنْهُ بِمَا فِي يَدِهِ هذا كلام في التوكل وقد سبق القول فيه وقال بعض العلماء لا يشغلك المضمون لك من الرزق عن المفروض عليك من العمل فتضيع أمر آخرتك ولا تنال من الدنيا إلا ما كتب الله لك . وقال يحيى بن معاذ في جود العبد الرزق عن غير طلب دلالة على أن الرزق مأمور بطلب العبد . وقال بعضهم متى رضيت بالله وكيلا وجدت إلى كل خير سبيلا
[ 217 ](1/5529)
317
وَ قَالَ ع لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَ قَدْ كَانَ بَعَثَهُ إِلَى طَلْحَةَ وَ اَلزُّبَيْرِ لَمَّا جَاءَ إِلَى اَلْبَصْرَةِ يُذَكِّرُهُمَا شَيْئاً مِمَّا قَدْ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اَللَّهِ ص فِي مَعْنَاهُمَا فَلَوَى عَنْ ذَلِكَ فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ إِنِّي أُنْسِيتُ ذَلِكَ اَلْأَمْرَ فَقَالَ ع إِنْ كُنْتَ كَاذِباً فَضَرَبَكَ اَللَّهُ بِهَا بَيْضَاءَ لاَمِعَةً لاَ تُوَارِيهَا اَلْعِمَامَةُ قال يعني البرص فأصاب أنسا هذا الداء فيما بعد في وجهه فكان لا يرى إلا متبرقعا المشهور
أن عليا ع ناشد الناس الله في الرحبة بالكوفة فقال أنشدكم الله رجلا سمع رسول الله ص يقول لي وهو منصرف من حجة الوداع من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه فقام رجال فشهدوا بذلك فقال ع لأنس بن مالك لقد حضرتها فما بالك فقال يا أمير المؤمنين كبرت سني وصار ما أنساه أكثر مما أذكره فقال له إن كنت كاذبا فضربك الله بها بيضاء لا تواريها العمامة فما مات حتى أصابه البرص فأما ما ذكره الرضي من أنه بعث أنسا إلى طلحة والزبير فغير معروف ولو كان قد بعثه ليذكرهما بكلام يختص بهما من رسول الله ص لما أمكنه أن
[ 218 ]
يرجع فيقول إني أنسيته لأنه ما فارقه متوجها نحوهما إلا وقد أقر بمعرفته وذكره فكيف يرجع بعد ساعة أو يوم فيقول إني أنسيته فينكر بعد الإقرار هذا مما لا يقع . وقد ذكر ابن قتيبة حديث البرص والدعوة التي دعا بها أمير المؤمنين ع على أنس بن مالك في كتاب المعارف في باب البرص من أعيان الرجال وابن قتيبة غير متهم في حق علي ع على المشهور من انحرافه عنه
[ 219 ](1/5530)
318
وَ قَالَ ع إِنَّ لِلْقُلُوبِ إِقْبَالاً وَ إِدْبَاراً فَإِذَا أَقْبَلَتْ فَاحْمِلُوهَا عَلَى اَلنَّوَافِلِ وَ إِذَا أَدْبَرَتْ فَاقْتَصِرُوا بِهَا عَلَى اَلْفَرَائِضِ لا ريب أن القلوب تمل كما تمل الأبدان وتقبل تارة على العلم وعلى العمل وتدبر تارة عنهما . قال علي ع فإذا رأيتموها مقبلة أي قد نشطت وارتاحت للعمل فاحملوها على النوافل ليس يعني اقتصروا بها على النافلة بل أدوا الفريضة وتنفلوا بعد ذلك وإذا رأيتموها قد ملت العمل وسئمت فاقتصروا بها على الفرائض فإنه لا انتفاع بعمل لا يحضر القلب فيه
[ 220 ](1/5531)
319
وَ قَالَ ع فِي اَلْقُرْآنِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ وَ خَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ وَ حُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ هذا حق لأن فيه أخبار القرون الماضية وفيه أخبار كثيرة عن أمور مستقبلة وفيه أخبار كثيرة شرعية فالأقسام الثلاثة كلها موجودة فيه
[ 221 ](1/5532)
320
وَ قَالَ ع رُدُّوا اَلْحَجَرَ مِنْ حَيْثُ جَاءَ فَإِنَّ اَلشَّرَّ لاَ يَدْفَعُهُ إِلاَّ اَلشَّرُّ هذا مثل قولهم في المثل إن الحديد بالحديد يفلح وقال عمرو بن كلثوم
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
و قال الفند الزماني
فلما صرح الشر
فأمسى وهو عريان
و لم يبق سوى العدوان
دناهم كما دانوا
و بعض الحلم عند الجهل
للذلة إذعان
و في الشر نجاة حين
لا ينجيك إحسان
و قال الأحنف
و ذي ضعن أمت القول عنه
بحلمي فاستمر على المقال
و من يحلم وليس له سفيه
يلاق المعضلات من الرجال
[ 222 ]
و قال الراجز
لا بد للسؤدد من أرماح
و من عديد يتقي بالراح
و من سفيه دائم النباح
و قال آخر
و لا يلبث الجهال أن يتهضموا
أخا الحلم ما لم يستعن بجهول
و قال آخر
و لا أتمنى الشر والشر تاركي
و لكن متى أحمل على الشر أركب
[ 223 ](1/5533)
321
وَ قَالَ ع لِكَاتِبِهِ عُبَيْدِ اَللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ أَلِقْ دَوَاتَكَ وَ أَطِلْ جِلْفَةَ قَلَمِكَ وَ فَرِّجْ بَيْنَ اَلسُّطُورِ وَ قَرْمِطْ بَيْنَ اَلْحُرُوفِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَجْدَرُ بِصَبَاحَةِ اَلْخَطِّ لاق الحبر بالكاغد يليق أي التصق ولقته أنا يتعدى ولا يتعدى وهذه دواة مليقة أي قد أصلح مدادها وجاء ألق الدواة إلاقة فهي مليقة وهي لغة قليلة وعليها وردت كلمة أمير المؤمنين ع . ويقال للمرأة إذا لم تحظ عند زوجها ما عاقت عند زوجها ولا لاقت أي ما التصقت بقلبه . وتقول هي جلفة القلم بالكسر وأصل الجلف القشر جلفت الطين من رأس الدن والجلفة هيئة فتحة القلم التي يستمد بها المداد كما تقول هو حسن الركبة والجلسة ونحو ذلك من الهيئات . وتقول قد قرمط فلان خطوه إذا مشى مشيا فيه ضيق وتقارب وكذلك القول في تضييق الحروف . فأما التفريج بين السطور فيكسب الخط بهاء ووضوحا
[ 224 ](1/5534)
322
وَ قَالَ ع أَنَا يَعْسُوبُ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمَالُ يَعْسُوبُ اَلْفُجَّارِ قال معنى ذلك أن المؤمنين يتبعونني والفجار يتبعون المال كما تتبع النحل يعسوبها وهو رئيسها هذه كلمة قالها رسول الله ص بلفظين مختلفين تارة أنت يعسوب الدين وتارة أنت يعسوب المؤمنين والكل راجع إلى معنى واحد كأنه جعله رئيس المؤمنين وسيدهم أو جعل الدين يتبعه ويقفو أثره حيث سلك كما يتبع النحل اليعسوب وهذا نحو قوله وأدر الحق معه كيف دار
[ 225 ](1/5535)
323
وَ قَالَ لَهُ بَعْضُ اَلْيَهُودِ لِبَعْضِ اَلْيَهُودِ حِينَ قَالَ لَهُ مَا دَفَنْتُمْ نَبِيَّكُمْ حَتَّى اِخْتَلَفْتُمْ فِيهِ فَقَالَ ع لَهُ إِنَّمَا اِخْتَلَفْنَا عَنْهُ لاَ فِيهِ وَ لَكِنَّكُمْ مَا جَفَّتْ أَرْجُلُكُمْ مِنَ اَلْبَحْرِ حَتَّى قُلْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ اِجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ما أحسن قوله اختلفنا عنه لا فيه وذلك لأن الاختلاف لم يكن في التوحيد والنبوة بل في فروع خارجة عن ذلك نحو الإمامة والميراث والخلاف في الزكاة هل هي واجبة أم لا واليهود لم يختلفوا كذلك بل في التوحيد الذي هو الأصل . قال المفسرون مروا على قوم يعبدون أصناما لهم على هيئة البقر فسألوا موسى أن يجعل لهم إلها كواحد منها بعد مشاهدتهم الآيات والأعلام وخلاصهم من رق العبودية وعبورهم البحر ومشاهدة غرق فرعون وهذه غاية الجهل وقد روي حديث اليهودي على وجه آخر
قيل قال يهودي لعلي ع اختلفتم بعد نبيكم ولم يجف ماؤه يعني غسله ص فقال ع وأنتم قلتم اِجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ ولما يجف ماؤكم
[ 226 ](1/5536)
324
وَ قِيلَ لَهُ ع بِأَيِّ شَيْ ءٍ غَلَبْتَ اَلْأَقْرَانَ فَقَالَ ع قَالَ مَا لَقِيتُ رَجُلاً أَحَداً إِلاَّ أَعَانَنِي عَلَى نَفْسِهِ قال الرضي رحمه الله تعالى يومئ بذلك إلى تمكن هيبته في القلوب قالت الحكماء الوهم مؤثر وهذا حق لأن المريض إذا تقرر في وهمه أن مرضه قاتل له ربما هلك بالوهم وكذلك من تلسبه الحية ويقع في خياله أنها قاتلته فإنه لا يكاد يسلم منها وقد ضربوا لذلك مثالا الماشي على جذع معترض على مهواة فإن وهمه وتخيله السقوط يقتضي سقوطه وإلا فمشيه عليه وهو منصوب على المهواة كمشيه عليه وهو ملقى على الأرض لا فرق بينهما إلا الوهم والخوف والإشفاق والحذر فكذلك الذين بارزوا عليا ع من الأقران لما كان قد طار صيته واجتمعت الكلمة أنه ما بارزه أحد إلا كان المقتول غلب الوهم عليهم فقصرت أنفسهم عن مقاومته وانخذلت أيديهم وجوارحهم عن مناهضته وكان هو في الغاية القصوى من الشجاعة والإقدام فيقتحم عليهم ويقتلهم
[ 227 ](1/5537)
325
وَ قَالَ ع لاِبنْهِ مُحَمَّدِ بْنِ اَلْحَنَفِيَّةِ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ اَلْفَقْرَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْهُ فَإِنَّ اَلْفَقْرَ مَنْقَصَةٌ لِلدِّينِ مَدْهَشَةٌ لِلْعَقْلِ دَاعِيَةٌ لِلْمَقْتِ(1/5538)
نبذ من الأقوال الحكيمة في الفقر والغنى
هذا موضع قد اختلف الناس فيه كثيرا ففضل قوم الغنى وفضل قوم الفقر فقال أصحاب الغنى قد وصف الله تعالى المال فسماه خيرا فقال إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ اَلْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي وقال ممتنا على عباده واعدا لهم بالإنعام والإحسان وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وقال وَ جَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً . و
قال النبي ص المال الحسب إن أحساب أهل الدنيا هذا المال و
قال ع نعم العون على تقوى الله المال .
[ 228 ]
قالوا ولا ريب أن الأعمال الجليلة العظيمة الثواب لا يتهيأ حصولها إلا بالمال كالحج والوقوف والصدقات والزكوات والجهاد . و
قد جاء في الخبر خير المال سكة مأبورة أو مهرة مأمورة . وقالت الحكماء المال يرفع صاحبه وإن كان وضيع النسب قليل الأدب وينصره وإن كان جبانا ويبسط لسانه وإن كان عيا به توصل الأرحام وتصان الأعراض وتظهر المروءة وتتم الرئاسة ويعمر العالم وتبلغ الأغراض وتدرك المطالب وتنال المآرب يصلك إذا قطعك الناس وينصرك إذا خذلوك ويستعبد لك الأحرار ولو لا المال لما بان كرم الكريم ولا ظهر لؤم اللئيم ولا شكر جواد ولا ذم بخيل ولا صين حريم ولا أدرك نعيم . وقال الشاعر
المال أنفع للفتى من علمه
و الفقر أقتل للفتى من جهله
ما ضر من رفع الدراهم قدره
جهل يناط إلى دناءة أصله
و قال آخر
دعوت أخي فولى مشمئزا
و لبى درهمي لما دعوت
و قال آخر
و لم أر أوفى ذمة من دراهمي
و أصدق عهدا في الأمور العظائم
فكم خانني خل وثقت بعهده
و كان صديقا لي زمان الدراهم
و قال آخر
أبو الأصفر المنقوش أنفع للفتى
من الأصل والعلم الخطير المقدم
[ 229 ]
و ما مدح العلم امرؤ ظفرت به
يداه ولكن كل مقو ومعدم
و قال الشاعر
و لم أر بعد الدين خيرا من الغنى
و لم أر بعد الكفر شرا من الفقر(1/5539)
و قال العتابي الناس لصاحب المال ألزم من الشعاع للشمس وهو عندهم أرفع من السماء وأعذب من الماء وأحلى من الشهد وأزكى من الورد خطؤه صواب وسيئته حسنة وقوله مقبول يغشى مجلسه ولا يمل حديثه والمفلس عندهم أكذب من لمعان السراب ومن رؤيا الكظة ومن مرآة اللقوة ومن سحاب تموز لا يسأل عنه إن غاب ولا يسلم عليه إذا قدم إن غاب شتموه وإن حضر طردوه مصافحته تنقض الوضوء وقراءته تقطع الصلاة أثقل من الأمانة وأبغض من السائل المبرم . وقال بعض الشعراء الظرفاء وأحسن كل الإحسان مع خلاعته
أصون دراهمي وأذب عنها
لعلمي أنها سيفي وترسي
و أذخرها وأجمعها بجهدي
و يأخذ وارثي منها وعرسي
فيأكلها ويشربها هنيئا
على النغمات من نقر وجس
و يقعد فوق قبري بعد موتي
و لا يتصدقن عني بفلس
أحب إلي من قصدي عظيما
كبيرا أصله من عبد شمس
أمد إليه كفي مستميحا
و أصبح عبد خدمته وأمسي
و يتركني أجر الرجل مني
و قد صارت كنفس الكلب نفسي
[ 230 ]
و قال أصحاب الفقر الغنى سبب الطغيان قال الله تعالى كَلاَّ إِنَّ اَلْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اِسْتَغْنى وقال تعالى وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى اَلْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَ نَأى بِجانِبِهِ وكان يقال الغنى يورث البطر وغنى النفس خير من غنى المال . وقال محمود البقال
الفقر خير فاتسع واقتصد
إن من العصمة ألا تجد
كم واجد أطلق وجدانه
عنانه في بعض ما لم يرد
و مدمن للخمر غاد على
سماع عود وغناء غرد
لو لم يجد خمرا ولا مسمعا
يرد بالماء غليل الكبد
كم من يد للفقر عند امرئ
طأطأ منه الفقر حتى اقتصد
و كان يقال الفقر شعار الصالحين والفقر لباس الأنبياء ولذلك قال البحتري
فقر كفقر الأنبياء وغربة
و صبابة ليس البلاء بواحد
و كان يقال الفقر مخف والغني مثقل . و
في الخبر نجا المخفون وما أحسن قول أبي العتاهية
أ لم تر أن الفقر يرجى له الغنى
و أن الغنى يخشى عليه من الفقر(1/5540)
و قد ذم الله تعالى المال فقال إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ .
[ 231 ]
و كان يقال المال ملول المال ميال المال غاد ورائح طبع المال كطبع الصبي لا يوقف على وقت رضاه ولا وقت سخطه المال لا ينفعك حتى يفارقك وإلى هذا المعنى نظر القائل
و صاحب صدق ليس ينفع قربه
و لا وده حتى تفارقه عمدا
يعني الدينار . وما أحسن ما قاله الأول
و قد يهلك الإنسان حسن رياشه
كما يذبح الطاوس من أجل ريشه
و قال آخر
رويدك إن المال يهلك ربه
إذا جم واستعلى وسد طريقه
و من جاوز الماء الغزير فمجه
و سد طريق الماء فهو غريقه
[ 232 ](1/5541)
326
وَ قَالَ ع لِسَائِلٍ سَأَلَهُ عَنْ مُعْضِلَةٍ مَسْأَلَةٍ سَلْ تَفَقُّهاً وَ لاَ تَسْأَلْ تَعَنُّتاً فَإِنَّ اَلْجَاهِلَ اَلْمُتَعَلِّمَ شَبِيهٌ بِالْعَالِمِ وَ إِنَّ اَلْعَالِمَ اَلْمُتَعَسِّفَ اَلْمُتَعَنِّتَ شَبِيهٌ بِالْجَاهِلِ اَلْمُتَعَنِّتِ قد ورد نهي كثير عن السؤال على طريق الإعنات . و
قال أمير المؤمنين ع في كلام له من حق العالم ألا تكثر عليه بالسؤال ولا تعنته في الجواب ولا تضع له غامضات المسائل ولا تلح عليه إذا كسل ولا تأخذ بثوبه إذا نهض ولا تفش له سرا ولا تغتابن عنده أحدا ولا تنقلن إليه حديثا ولا تطلبن عثرته وإن زل قبلت معذرته وعليك أن توقره وتعظمه لله ما دام حافظا أمر الله ولا تجلس أمامه وإذا كانت له حاجة فاسبق أصحابك إلى خدمته . وقال ابن سيرين لسائل سأله سل أخاك إبليس إنك لن تسأل وأنت طالب رشد . وقالوا اللهم إنا نعوذ بك أن تعنت كما نعوذ بك أن نعنت ونستكفيك أن تفضح كما نستكفيك أن نفضح . وقالوا إذا آنس المعلم من التلميذ سؤال التعنت حرم عليه تعليمه
[ 233 ](1/5542)
327
وَ قَالَ ع لِعَبْدِ اَللَّهِ بْنِ اَلْعَبَّاسِ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُ وَ قَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي شَيْ ءٍ لَمْ يُوَافِقْ رَأْيَهُ لَكَ أَنْ تُشِيرَ عَلَيَّ وَ أَرَى فَإِنْ فَإِذَا عَصَيْتُكَ فَأَطِعْنِي الإمام أفضل من الرعية رأيا وتدبيرا فالواجب على من يشير عليه بأمر فلا يقبل أن يطيع ويسلم ويعلم أن الإمام قد عرف من المصلحة ما لم يعرف . ولقد أحسن الصابي في قوله في بعض رسائله ولو لا فضل الرعاة على الرعايا في بعد مطرح النظرة واستشفاف عيب العاقبة لتساوت الأقدام وتقاربت الأفهام واستغنى المأموم عن الإمام
[ 234 ](1/5543)
328
وَ رُوِيَ : أَنَّهُ ع لَمَّا وَرَدَ اَلْكُوفَةَ قَادِماً مِنْ صِفِّينَ مَرَّ بِالشِّبَامِيِّينَ فَسَمِعَ بُكَاءَ اَلنِّسَاءِ عَلَى قَتْلَى صِفِّينَ وَ خَرَجَ إِلَيْهِ حَرْبُ بْنُ شُرَحْبِيلَ الشِّبَامِيِّ وَ كَانَ مِنْ وُجُوهِ قَوْمِهِ فَقَالَ ع لَهُ أَ تَغْلِبُكُمْ يَغْلِبُكُمْ نِسَاؤُكُمْ عَلَى مَا أَسْمَعُ أَ لاَ تَنْهَوْنَهُنَّ عَنْ هَذَا اَلرَّنِينِ وَ أَقْبَلَ حَرْبٌ يَمْشِي مَعَهُ وَ هُوَ ع رَاكِبٌ فَقَالَ لَهُ اِرْجِعْ فَإِنَّ مَشْيَ مِثْلِكَ مَعَ مِثْلِي فِتْنَةٌ لِلْوَالِي وَ مَذَلَّةٌ لِلْمُؤْمِنِ قد ذكرنا نسب الشباميين فيما اقتصصناه من أخبار صفين في أول الكتاب . والرنين الصوت وإنما جعله فتنة للوالي لما يتداخله من العجب بنفسه والزهو ولا ريب أيضا في أنه مذلة للمؤمن فإن الرجل الماشي إلى ركاب الفارس أذل الناس
[ 235 ](1/5544)
329
وَ قَالَ ع وَ قَدْ مَرَّ بِقَتْلَى اَلْخَوَارِجِ يَوْمَ اَلنَّهْرَوَانِ بُؤْساً لَكُمْ لَقَدْ ضَرَّكُمْ مَنْ غَرَّكُمْ فَقِيلَ لَهُ مَنْ غَرَّهُمْ يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ اَلشَّيْطَانُ اَلْمُضِلُّ وَ اَلْأَنْفُسُ اَلنَّفْسُ اَلْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ غَرَّتْهُمْ بِالْأَمَانِيِّ وَ فَسَحَتْ لَهُمْ بِالْمَعَاصِي فِي اَلْمَعَاصِي وَ وَعَدَتْهُمُ اَلْإِظْهَارَ فَاقْتَحَمَتْ بِهِمُ اَلنَّارَ يقال بؤسى لزيد وبؤسا بالتنوين لزيد فبؤسى نظيره نعمى وبؤسا نظيره نعمة ينتصب على المصدر . وهذا الكلام رد على المجبرة وتصريح بأن النفس الأمارة بالسوء هي الفاعلة . والإظهار مصدر أظهرته على زيد أي جعلته ظاهرا عليه غالبا له أي وعدتهم الانتصار والظفر
[ 236 ](1/5545)
330
وَ قَالَ ع اِتَّقُوا مَعَاصِيَ اَللَّهِ فِي اَلْخَلَوَاتِ فَإِنَّ اَلشَّاهِدَ هُوَ اَلْحَاكِمُ إذا كان الشاهد هو الحاكم استغنى عمن يشهد عنده فالإنسان إذن جدير أن يتقى الله حق تقاته لأنه تعالى الحاكم فيه وهو الشاهد عليه
[ 237 ](1/5546)
331
وَ قَالَ ع لَمَّا بَلَغَهُ قَتْلُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُ إِنَّ حُزْنَنَا عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ سُرُورِهِمْ بِهِ إِلاَّ أَنَّهُمْ نَقَصُوا نُقِصُوا بَغِيضاً وَ نَقَصْنَا نُقِصْنَا حَبِيباً قد تقدم ذكر مقتل محمد بن أبي بكر رضي الله عنه وقال ع إن حزننا به في العظم على قدر فرحهم به ولكن وقع التفاوت بيننا وبينهم من وجه آخر وهو أنا نقصنا حبيبا إلينا وأما هم فنقصوا بغيضا إليهم . فإن قلت كيف نقصوا ومعلوم أن أهل الشام ما نقصوا بقتل محمد شيئا لأنه ليس في عددهم . قلت لما كان أهل الشام يعدون في كل وقت أعداءهم وبغضاءهم من أهل العراق وصار ذلك العدد معلوما عندهم محصور الكمية نقصوا بقتل محمد من ذلك العدد واحدا فإن النقص ليس من عدد أصحابهم بل من عدد أعدائهم الذين كانوا يتربصون بهم الدوائر ويتمنون لهم الخطوب والأحداث كأنه يقول استراحوا من واحد من جملة جماعة كانوا ينتظرون موتهم
[ 238 ](1/5547)
332
وَ قَالَ ع : اَلْعُمُرُ اَلَّذِي أَعْذَرَ اَللَّهُ فِيهِ إِلَى اِبْنِ آدَمَ سِتُّونَ سَنَةً أعذر الله فيه أي سوغ لابن آدم أن يعتذر يعني أن ما قبل الستين هي أيام الصبا والشبيبة والكهولة وقد يمكن أن يعذر الإنسان فيه على اتباع هوى النفس لغلبة الشهوة وشرة الحداثة فإذا تجاوز الستين دخل في سن الشيخوخة وذهبت عنه غلواء شرته فلا عذر له في الجهل . وقد قالت الشعراء نحو هذا المعنى في دون هذه السن التي عينها ع . وقال بعضهم
إذا ما المرء قصر ثم مرت
عليه الأربعون عن الرجال
و لم يلحق بصالحهم فدعه
فليس بلاحق أخرى الليالي
[ 239 ](1/5548)
333
وَ قَالَ ع مَا ظَفِرَ مَنْ ظَفِرَ اَلْإِثْمُ بِهِ وَ اَلْغَالِبُ بِالشَّرِّ مَغْلُوبٌ قد قال ع نحو هذا وذكرناه في هذا الكتاب
من قصر في الخصومة ظلم ومن بالغ فيها أثم
[ 240 ](1/5549)
334
وَ قَالَ ع إِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ فَرَضَ فِي أَمْوَالِ اَلْأَغْنِيَاءِ أَقْوَاتَ اَلْفُقَرَاءِ فَمَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلاَّ بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِيٌّ وَ اَللَّهُ تَعَالَى جَدُّهُ سَائِلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ قد تقدم القول في الصدقة وفضلها وما جاء فيها وقد ورد
في الأخبار الصحيحة أن أبا ذر قال انتهيت إلى رسول الله ص وهو جالس في ظل الكعبة فلما رآني قال هم الأخسرون ورب الكعبة فقلت من هم قال هم الأكثرون أموالا إلا من قال هكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه تنطحه بقرونها وتطأه بأظلافها كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها حتى يقضي الله بين الناس . . .
[ 241 ](1/5550)
335
وَ قَالَ ع اَلاِسْتِغْنَاءُ عَنِ اَلْعُذْرِ أَعَزُّ مِنَ اَلصِّدْقِ بِهِ روي خير من الصدق والمعنى لا تفعل شيئا تعتذر عنه وإن كنت صادقا في العذر فألا تفعل خير لك وأعز لك من أن تفعل ثم تعتذر وإن كنت صادقا . ومن حكم ابن المعتز لا يقوم عز الغضب بذل الاعتذار . وكان يقال إياك أن تقوم في مقام معذرة فرب عذر أسجل بذنب صاحبه . اعتذر رجل إلى يحيى بن خالد فقال له ذنبك يستغيث من عذرك . ومن كلامهم ما رأيت عذرا أشبه بذنب من هذا . ومن كلامهم أضربه على ذنبه مائة وأضربه على عذره مائتين . قال شاعرهم
إذا كان وجه العذر ليس بواضح
فإن اطراح العذر خير من العذر
كان النخعي يكره أن يعتذر إليه ويقول اسكت معذورا فإن المعاذير يحضرها الكذب
[ 242 ](1/5551)
336
وَ قَالَ ع أَقَلُّ مَا يَلْزَمُكُمْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ أَلاَّ تَسْتَعِينُوا بِنِعَمِهِ عَلَى مَعَاصِيهِ لا شبهة أن من القبيح الفاحش أن ينعم الملك على بعض رعيته بمال وعبيد وسلاح فيجعل ذلك المال مادة لعصيانه والخروج عليه ثم يحاربه بأولئك العبيد وبذلك السلاح بعينه . وما أحسن ما قال الصابي في رسالته إلى سبكتكين من عز الدولة بختيار وليت شعري بأي قدم تواقفنا وراياتنا خافقة على رأسك ومماليكنا عن يمينك وشمالك وخيلنا موسومة بأسمائنا تحتك وثيابنا محوكة في طرازنا على جسدك وسلاحنا المشحوذ لأعدائنا في يدك
[ 243 ](1/5552)
337
وَ قَالَ ع إِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ اَلطَّاعَةَ غَنِيمَةَ اَلْأَكْيَاسِ عِنْدَ تَفْرِيطِ اَلْعَجَزَةِ الأكياس العقلاء أولو الألباب قال ع جعل الله طاعته غنيمة هؤلاء إذا فرط فيها العجزة المخذلون من الناس كصيد استذف لرجلين أحدهما جلد والآخر عاجز فقعد عنه العاجز لعجزه وحرمانه واقتنصه الجلد لشهامته وقوة جده
[ 244 ](1/5553)
338
وَ قَالَ ع اَلسُّلْطَانُ وَزَعَةُ اَللَّهِ فِي أَرْضِهِ الوازع عن الشي ء الكاف عنه والمانع منه والجمع وزعة مثل قاتل وقتلة وقد قيل هذا المعنى كثيرا قالوا لا بد للناس من وزعة . وقيل ما يزع الله عن الدين بالسلطان أكثر مما يزع عنه بالقرآن وتنسب هذه اللفظة إلى عثمان بن عفان . قال الشاعر
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
و لا سراة إذا جهالهم سادوا
و كان يقال السلطان القاهر وإن كان ظالما خير للرعية وللملك من السلطان الضعيف وإن كان عادلا . وقال الله سبحانه وَ لَوْ لا دَفْعُ اَللَّهِ اَلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ اَلْأَرْضُ قالوا في تفسيره أراد السلطان
[ 245 ](1/5554)
339
وَ قَالَ ع فِي صِفَةِ اَلْمُؤْمِنِ اَلْمُؤْمِنُ بِشْرُهُ فِي وَجْهِهِ وَ حُزْنُهُ فِي قَلْبِهِ أَوْسَعُ شَيْ ءٍ صَدْراً وَ أَذَلُّ شَيْ ءٍ نَفْساً يَكْرَهُ اَلرِّفْعَةَ وَ يَشْنَأُ اَلسُّمْعَةَ طَوِيلٌ غَمُّهُ بَعِيدٌ هَمُّهُ كَثِيرٌ صَمْتُهُ مَشْغُولٌ وَقْتُهُ شَكُورٌ صَبُورٌ مَغْمُورٌ بِفِكْرَتِهِ ضَنِينٌ بِخَلَّتِهِ سَهْلُ اَلْخَلِيقَةِ لَيِّنُ اَلْعَرِيكَةِ نَفْسُهُ أَصْلَبُ مِنَ اَلصَّلْدِ وَ هُوَ أَذَلُّ مِنَ اَلْعَبْدِ هذه صفات العارفين وقد تقدم كثير من القول في ذلك وكان يقال البشر عنوان النجاح والأمر الذي يختص به العارف أن يكون بشره في وجهه وهو حزين وحزنه في قلبه وإلا فالبشر قد يوجد في كثير من الناس . ثم ذكر أنه أوسع الناس صدرا وأذلهم نفسا وأنه يكره الرفعة والصيت وجاء في الخبر في وصفهم كل خامل نومة . وطول الغم وبعد الهم من صفاتهم وكذلك كثرة الصمت وشغل الوقت بالذكر والعبادة وكذلك الشكر والصبر والاستغراق في الفكر وتدبر آيات الله تعالى في خلقه والضن بالخلة وقلة المخالطة والتوفر على العزلة وحسن الخلق ولين الجانب وأن يكون قوي النفس جدا مع ذل للناس وتواضع بينهم وهذه الأمور كلها قد أتي عليها الشرح فيما تقدم
[ 246 ](1/5555)
340
وَ قَالَ ع اَلْغِنَى اَلْأَكْبَرُ اَلْيَأْسُ عَمَّا فِي أَيْدِي اَلنَّاسِ هذه الكلمة قد رويت مرفوعة وقد تقدم القول في الطمع وذمه واليأس ومدحه . و
في الحديث المرفوع ازهد في الناس يحبك الله وازهد فيما أيدي الناس يحبك الناس . ومن كلام بعضهم ما أكلت طعام واحد إلا هنت عليه . وكان يقال نعوذ بالله من طمع يدني إلى طبع . وقال الشاعر
أرحت روحي من عذاب الملاح
لليأس روح مثل روح النجاح
و قال بعض الأدباء هذا المعنى الذي قد أطنب فيه الناس ليس كما يزعمونه لعمري إن لليأس راحة ولكن لا كراحة النجاح وما هو إلا كقول من قال لا أدري نصف العلم فقيل له ولكنه النصف الذي لا ينفع . وقال ابن الفضل
لا أمدح اليأس ولكنه
أروح للقلب من المطمع
[ 247 ]
أفلح من أبصر روض المنى
يرعى فلم يرع ولم يرتع
و مما يروى لعبد الله بن المبارك الزاهد
قد أرحنا واسترحنا
من غدو ورواح
و اتصال بأمير
و وزير ذي سماح
بعفاف وكفاف
و قنوع وصلاح
و جعلنا اليأس مفتاحا
لأبواب النجاح
[ 248 ](1/5556)
341
وَ قَالَ ع اَلْمَسْئُولُ حُرٌّ حَتَّى يَعِدَ(1/5557)
نبذ من الأقوال الحكيمة في الوعد والمطل
قد سبق القول في الوعد والمطل ونحن نذكر هاهنا نكتا أخرى .
في الحديث المرفوع من وعد وعدا فكأنما عهد عهدا وكان يقال الوعد دين الكرام والمطل دين اللئام . وكان يقال الوعد شبكة من شباك الأحرار يتصيدون بها المحامد . وقال بعضهم الوعد مرض المعروف والإنجاز برؤه . وقال يحيى بن خالد الوعد سحاب والإنجاز مطره . و
في الحديث المرفوع عدة المؤمن عطية و
عنه ع لا تواعد أخاك موعدا لتخلفه وقال يحيى بن خالد لبنيه يا بني كونوا أسدا في الأقوال نجازا في الأفعال ولا تعدوا إلا وتنجزوا فإن الحر يثق بوعد الكريم وربما ادان عليه . وكان جعفر بن يحيى يكره الوعد ويقول الوعد من العاجز فأما القادر فالنقد .
[ 249 ]
و في الحديث المرفوع مطل الغني ظلم وقال ابن الفضل
أثروا ولم يقضوا ديون غريمهم
و اللؤم كل اللؤم مطل الموسر
و قال الآخر
إذا أتت العطية بعد مطل
فلا كانت وإن كانت سنيه
و كان يقال المطل يسد على صاحبه باب العذر ويوجب عليه الأحسن والأكثر والتعجيل يحسن سيئه ويبسط عذره في التقليل . وقال يحيى بن خالد لبنيه يا بني لا تمطلوا معروفكم فإن كثير العطاء بعد المطل قليل وعجلوا فإن عذركم مقبول مع التعجيل . ومن كلام الحسن بن سهل المطل يذهب رونق البر ويكدر صفو المعروف ويحبط أجر الصدقة ويعقل اللسان عن الشكر وللتعجيل حلاوة وإن قلت العارفة ولذة وإن صغرت الصنيعة وربما عرض ما يمنع الإنجاز من تعذر الإمكان وتغير الزمان فبادر المكنة وعاجل القدرة وانتهز الفرصة . وقال الشاعر
تحيل على الفراغ قضاء شغلي
و أنت إذا فرغت تكون مثلي
فلا أدعى بخادمك المرجى
و لا تدعى بسيدنا الأجل
و قال آخر
لو علم الماطل أن المطال
فقد به يذهب طعم النوال
و أن أعلى البر ما ناله
طالبه نقدا عقيب السؤال
عجل للسائل معروفه
مهنا من طول قيل وقال
[ 250 ](1/5558)
342
وَ قَالَ ع لَوْ رَأَى اَلْعَبْدُ اَلْأَجَلَ وَ مَصِيرَهُ لَأَبْغَضَ اَلْأَمَلَ وَ غُرُورَهُ قد تقدم من الكلام في الأمل ما فيه كفاية وكان يقال وا عجبا لصاحب الأمل الطويل وربما يكون كفنه في يد النساج وهو لا يعلم
[ 251 ](1/5559)
343
وَ قَالَ ع لِكُلِّ اِمْرِئٍ فِي مَالِهِ شَرِيكَانِ اَلْوَارِثُ وَ اَلْحَوَادِثُ أخذه الرضي فقال
خذ من تراثك ما استطعت فإنما
شركاؤك الأيام والوراث
لم يقض حق المال إلا معشر
نظروا الزمان يعيث فيه فعاثوا
و قد قال ع في موضع آخر بشر مال البخيل بحادث أو وارث ورأيت بخط ابن الخشاب رحمه الله على ظهر كتاب لعبد الله بن أحمد بن أحمد بن أحمد ثم لحادث أو وارث كأنه يعني ضنه به أي لا أخرجه عن يدي اختيارا
[ 252 ](1/5560)
344
وَ قَالَ ع اَلدَّاعِي بِلاَ عَمَلٍ كَالرَّامِي بِلاَ وَتَرٍ من خلا من العمل فقد أخل بالواجبات ومن أخل بالواجبات فقد فسق والله تعالى لا يقبل دعاء الفاسق وشبهه ع بالرامي بلا وتر فإن سهمه لا ينفذ
[ 253 ](1/5561)
345
وَ قَالَ ع اَلْعِلْمُ عِلْمَانِ مَطْبُوعٌ وَ مَسْمُوعٌ وَ لاَ يَنْفَعُ اَلْمَسْمُوعُ إِذَا لَمْ يَكُنِ اَلْمَطْبُوعُ هذه قاعدة كلية مذكورة في الكتب الحكمية إن العلوم منها ما هو غريزي ومنها ما هو تكليفي ثم كل واحد من القسمين يختلف بالأشد والأضعف أما الأول فقد يكون في الناس من لا يحتاج في النظر إلى ترتيب المقدمات بل تنساق النتيجة النظرية إليه سوقا من غير احتياج منه إلى التأمل والتدبر وقد يكون فيهم من هو دون ذلك وقد يكون من هو دون الدون وأما الثاني فقد يكون في الناس من لا يجدي فيه التعليم بل يكون كالصخرة الجامدة بلادة وغباوة ومنهم من يكون أقل تبلدا وجنوح ذهن من ذلك ومنهم من يكون الوقفة عنده أقل فيكون ذا حال متوسطة وبالجملة فاستقراء أحوال الناس يشهد بصحة ذلك . وقال ع ليس ينفع المسموع إذا لم يكن المطبوع يقول إذا لم يكن هناك أحوال استعداد لم ينفع الدرس والتكرار وقد شاهدنا مثل هذا في حق أشخاص كثيرة اشتغلوا بالعلم الدهر الأطول فلم ينجع معهم العلاج وفارقوا الدنيا وهم على الغريزة الأولى في الساذجية وعدم الفهم
[ 254 ](1/5562)
346
وَ قَالَ ع صَوَابُ اَلرَّأْيِ بِالدُّوَلِ يُقْبِلُ بِإِقْبَالِهَا وَ يَذْهَبُ بِذَهَابِهَا يُدْبِرُ بِإِدْبَارِهَا قال الصولي اجتمع بنو برمك عند يحيى بن خالد في آخر دولتهم وهم يومئذ عشرة فأداروا بينهم الرأي في أمر فلم يصلح لهم فقال يحيى أنا لله ذهبت والله دولتنا كنا في إقبالنا يبرم الواحد منا عشرة آراء مشكلة في وقت واحد واليوم نحن عشرة في أمر غير مشكل ولا يصح لنا فيه رأي الله نسأل حسن الخاتمة . أرسل المنصور لما هاضه أمر إبراهيم إلى عمه عبد الله بن علي وهو في السجن يستشيره ما يصنع وكان إبراهيم قد ظهر بالبصرة فقال عبد الله أنا محبوس والمحبوس محبوس الرأي قال له فعلى ذاك قال يفرق الأموال كلها على الرجال ويلقاه فإن ظفر فذاك وإلا يتوجه إلى أبيه محمد بجرجان ويتركه يقدم على بيوت أموال فارغة فهو خير له من أن تكون الدبرة عليه ويقدم عدوه على بيوت أموال مملوءة . قال سليمان بن عبد الملك ليزيد بن أبي مسلم صاحب شرطة الحجاج يوما لعن الله رجلا أجرك رسنه وخرب لك آخرته قال يا أمير المؤمنين رأيتني والأمر عني مدبر ولو رأيتني والأمر علي مقبل لاستكبرت مني ما استصغرت ولاستعظمت مني ما استحقرت
[ 255 ](1/5563)
347
وَ قَالَ ع اَلْعَفَافُ زِينَةُ اَلْفَقْرِ وَ اَلشُّكْرُ زِينَةُ اَلْغِنَى قد سبق القول في أن الأجمل بالفقير أن يكون عفيفا وألا يكون جشعا حريصا ولا جادا في الطلب متهالكا وأنه ينبغي أنه إذا افتقر أن يتيه على الوقت وأبناء الوقت فإن التيه في مثل ذلك المقام لا بأس به ليبعد جدا عن مظنة الحرص والطمع . وقد سبق أيضا القول في الشكر عند النعمة ووجوبه وأنه سبب لاستدامتها وأن الإخلال به داعية إلى زوالها وانتقالها وذكرنا في هذا الباب أمورا مستحسنة فلتراجع وقال عبد الصمد بن المعذل في العفاف
سأقنى العفاف وأرضى الكفاف
و ليس غنى النفس حوز الجزيل
و لا أتصدى لشكر الجواد
و لا أستعد لذم البخيل
و أعلم أن بنات الرجاء
تحل العزيز محل الذليل
و أن ليس مستغنيا بالكثير
من ليس مستغنيا بالقليل
[ 256 ](1/5564)
348
وَ قَالَ ع يَوْمُ اَلْعَدْلِ عَلَى اَلظَّالِمِ أَشَدُّ مِنْ يَوْمِ اَلْجَوْرِ عَلَى اَلْمَظْلُومِ شيئان مؤلمان أحدهما ينقضي سريعا والآخر يدوم أبدا فلا جرم كان اليوم المذكور على الظالم أشد من يوم الجور على المظلوم
[ 257 ](1/5565)
349
وَ قَالَ ع اَلْأَقَاوِيلُ مَحْفُوظَةٌ وَ اَلسَّرَائِرُ مَبْلُوَّةٌ وَ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ وَ اَلنَّاسُ مَنْقُوصُونَ مَدْخُولُونَ إِلاَّ مَنْ عَصَمَ اَللَّهُ سَائِلُهُمْ مُتَعَنِّتٌ وَ مُجِيبُهُمْ مُتَكَلِّفٌ يَكَادُ أَفْضَلُهُمْ رَأْياً يَرُدُّهُ عَنْ فَضْلِ رَأْيِهِ اَلرِّضَا اَلرِّضَى وَ اَلسُّخْطُ وَ يَكَادُ أَصْلَبُهُمْ عُوداً تَنْكَؤُهُ اَللَّحْظَةُ وَ تَسْتَحِيلُهُ اَلْكَلِمَةُ اَلْوَاحِدَةُ السرائر هاهنا ما أسر في القلوب من النيات والعقائد وغيرها وما يخفى من أعمال الجوارح أيضا وبلاؤها تعرفها وتصفحها والتمييز بين ما طاب منها وما خبث . وقال عمر بن عبد العزيز للأحوص لما قال
ستبلى لها في مضمر القلب والحشا
سريرة حب يوم تبلى السرائر
إنك يومئذ عنها لمشغول . ذكر ع الناس فقال قد عمهم النقص إلا المعصومين ثم قال سائلهم يسأل تعنتا والسؤال على هذا الوجه مذموم ومجيبهم متكلف للجواب وأفضلهم رأيا يكاد رضاه تارة وسخطه أخرى يرده عن فضل رأيه أي يتبعون الهوى
[ 258 ]
و يكاد أصلبهم عودا أي أشدهم احتمالا . وتنكؤه اللحظة نكأت القرحة إذا صدمتها بشي ء فتقشرها . قال وتستحيله الكلمة الواحدة أي تحيله وتغيره عن مقتضى طبعه يصفهم بسرعة التقلب والتلون وأنهم مطيعون دواعي الشهوة والغضب واستفعل بمعنى فعل قد جاء كثيرا استغلظ العسل أي غلظ
[ 259 ](1/5566)
350
وَ قَالَ ع : مَعَاشِرَ اَلنَّاسِ اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ قَالَ ع فَكَمْ مِنْ مُؤَمِّلٍ مَا لاَ يَبْلُغُهُ وَ بَانٍ مَا لاَ يَسْكُنُهُ وَ جَامِعٍ مَا سَوْفَ يَتْرُكُهُ وَ لَعَلَّهُ مِنْ بَاطِلٍ جَمَعَهُ وَ مِنْ حَقٍّ مَنَعَهُ أَصَابَهُ حَرَاماً وَ اِحْتَمَلَ بِهِ آثَاماً فَبَاءَ بِوِزْرِهِ وَ قَدِمَ عَلَى رَبِّهِ آسِفاً لاَهِفاً قَدْ خَسِرَ اَلدُّنْيَا وَ اَلآْخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ اَلْخُسْرَانُ اَلْمُبِينُ قد تقدم شرح هذه المعاني والكلام عليها أما الآمال التي لا تبلغ فأكثر من أن تحصى بل لا نهاية لها . وما أحسن قول القائل
وا حسرتى مات حظي من وصالكم
و للحظوظ كما للناس آجال
إن مت شوقا ولم أبلغ مدى أملي
كم تحت هذي القبور الخرس آمال
و أما بناء ما لا يسكن فنحو ذلك وقال الشاعر
أ لم تر حوشبا بالأمس يبني
بناء نفعه لبني نفيله
يؤمل أن يعمر عمر نوح
و أمر الله يطرق كل ليله
و أما جامع ما سوف يتركه فأكثر الناس قال الشاعر
و ذي إبل يسعى ويحسبها له
أخو تعب في رعيها ودءوب
غدت وغدا رب سواه يسوقها
و بدل أحجارا وجال قليب
[ 260 ](1/5567)
351
وَ قَالَ ع مِنَ اَلْعِصْمَةِ تَعَذُّرُ اَلْمَعَاصِي قد وردت هذه الكلمة على صيغ مختلفة من العصمة ألا تقدر وأيضا من العصمة ألا تجد وقد رويت مرفوعة أيضا . وليس المراد بالعصمة هاهنا العصمة التي ذكرها المتكلمون لأن العصمة عند المتكلمين من شرطها القدرة وحقيقتها راجعة إلى لطف يمنع القادر على المعصية من المعصية وإنما المراد أن غير القادر في اندفاع العقوبة عنه كالقادر الذي لا يفعل
[ 261 ](1/5568)
352
وَ قَالَ ع مَاءُ وَجْهِكَ جَامِدٌ يُقْطِرُهُ اَلسُّؤَالُ فَانْظُرْ عِنْدَ مَنْ تُقْطِرُهُ هذا حسن وقد أخذه شاعر فقال
إذا أظمأتك أكف اللئام
كفتك القناعة شبعا وريا
فكن رجلا رجله في الثرى
و هامة همته في الثريا
فإن إراقة ماء الحياة
دون إراقة ماء المحيا
و قال آخر
رددت لي ماء وجهي في صفيحته
رد الصقال بهاء الصارم الجذم
و ما أبالي وخير القول أصدقه
حقنت لي ماء وجهي أو حقنت دمي
و قال مصعب بن الزبير إني لأستحيي من رجل وجه إلي رغبته فبات ليلته يتململ ويتقلقل على فراشه ينتظر الصبح قد جعلني أهلا لأن يقطر ماء وجهه لدي إن أرده خائبا . وقال آخر
ما ماء كفيك إن أرسلت مزنته
من ماء وجهي إذا استقطرته عوض
[ 262 ](1/5569)
353
وَ قَالَ ع اَلثَّنَاءُ بِأَكْثَرَ مِنَ اَلاِسْتِحْقَاقِ مَلَقٌ وَ اَلتَّقْصِيرُ عَنِ اَلاِسْتِحْقَاقِ عِيٌّ أَوْ حَسَدٌ كانوا يكرهون أن يثنى الشاعر في شعره على الممدوح الثناء المفرط ويقولون خير المدح ما قارب فيه الشاعر واقتصد وهذا هو المذهب الصحيح وإن كان قوم يقولون إن خير الشعر المنظوم في المدح ما كان أشد مغالاة وأكثر تبجيلا وتعظيما ووصفا ونعتا . وينبغي أن يكون قوله ع محمولا على الثناء في وجه الإنسان لأنه هو الموصوف بالملق إذا أفرط فأما من يثنى بظهر الغيب فلا يوصف ثناؤه بالملق سواء كان مقتصدا أو مسرفا . وقوله ع والتقصير عن الاستحقاق عي أو حسد لا مزيد عليه في الحسن لأنه إذا قصر به عن استحقاقه كان المانع إما من جانب المثني فقط من غير تعلق له بالمثنى عليه أو مع تعلق به فالأول هو العي والحصر والثاني هو الحسد والمنافسة
[ 263 ](1/5570)
354
وَ قَالَ ع أَشَدُّ اَلذُّنُوبِ مَا اِسْتَهَانَ بِهِ صَاحِبُهَا صَاحِبُهُ قد ذكرنا هذا فيما تقدم وذكرنا العلة فيه وهي أن فاعل ذلك الذنب قد جمع بين فعل الذنب وفعل ذنب آخر وهو الاستهانة بما لا يستهان به لأن المعاصي لا هين فيها والصغير منها كبير والحقير منها عظيم وذلك لجلالة شأن المعصي سبحانه . فأما من يذنب ويستعظم ما أتاه فحاله أخف من حال الأول لأنه يكاد يكون نادما
[ 264 ](1/5571)
355
وَ قَالَ ع مَنْ نَظَرَ فِي عَيْبِ نَفْسِهِ اِشْتَغَلَ عَنْ عَيْبِ غَيْرِهِ وَ مَنْ رَضِيَ بِرِزْقِ اَللَّهِ لَمْ يَحْزَنْ عَلَى مَا فَاتَهُ وَ مَنْ سَلَّ سَيْفَ اَلْبَغْيِ قُتِلَ بِهِ وَ مَنْ كَابَدَ اَلْأُمُورَ عَطِبَ وَ مَنِ اِقْتَحَمَ اَللُّجَجَ غَرِقَ وَ مَنْ دَخَلَ مَدَاخِلَ اَلسُّوءِ اُتُّهِمَ وَ مَنْ كَثُرَ كَلاَمُهُ كَثُرَ خَطَؤُهُ وَ مَنْ كَثُرَ خَطَؤُهُ قَلَّ حَيَاؤُهُ وَ مَنْ قَلَّ حَيَاؤُهُ قَلَّ وَرَعُهُ وَ مَنْ قَلَّ وَرَعُهُ مَاتَ قَلْبُهُ وَ مَنْ مَاتَ قَلْبُهُ دَخَلَ اَلنَّارَ وَ مَنْ نَظَرَ فِي عُيُوبِ غَيْرِهِ فَأَنْكَرَهَا ثُمَّ رَضِيَهَا لِنَفْسِهِ فَذَلِكَ اَلْأَحْمَقُ بِعَيْنِهِ وَ اَلْقَنَاعَةُ مَالٌ لاَ يَنْفَدُ وَ مَنْ أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ اَلْمَوْتِ رَضِيَ مِنَ اَلدُّنْيَا بِالْيَسِيرِ وَ مَنْ عَلِمَ أَنَّ كَلاَمَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلاَمُهُ إِلاَّ فِيمَا يَعْنِيهِ كل هذه الفصول قد تقدم الكلام فيها وهي عشرة أولها من نظر في عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره كان يقال أصلح نفسك أولا ثم أصلح غيرك . وثانيها من رضي برزق الله لم يحزن على ما فاته كان يقال الحزن على المنافع الدنيوية سم ترياقه الرضا بالقضاء
[ 265 ]
و ثالثها من سل سيف البغي قتل به كان يقال الباغي مصروع وإن كثر جنوده . ورابعها من كابد الأمور عطب ومن اقتحم اللجج غرق مثل هذا قول القائل
من حارب الأيام أصبح رمحه
قصدا وأصبح سيفه مفلولا(1/5572)
و خامسها من دخل مداخل السوء اتهم هذا مثل قولهم من عرض نفسه للشبهات فلا يلومن من أساء به الظن . وسادسها من كثر كلامه إلى قوله دخل النار قد تقدم القول في المنطق الزائد وما فيه من المحذور وكان يقال قلما سلم مكثار أو أمن من عثار . وسابعها من نظر في عيوب غيره فأنكرها ثم رضيها لنفسه فذاك هو الأحمق بعينه وكان يقال أجهل الناس من يرضى لنفسه بما يسخطه من غيره . وثامنها القناعة مال لا ينفد قد سبق القول في هذا وسيأتي أيضا . وتاسعها من ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير كان يقال إذا أحببت ألا تحسد أحدا فأكثر ذكر الموت واعلم أنك ومن تحسده عن قليل من عديد الهلكى . وعاشرها من علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه لا ريب أن الكلام عمل من الأعمال وفعل من الأفعال فكما يستهجن من الإنسان ألا يزال يحرك يده وإن كان عابثا كذلك يستهجن ألا يزال يحرك لسانه فيما هو عبث أو يجري مجرى العبث . وقال الشاعر
يخوض أناس في الكلام ليوجزوا
و للصمت في بعض الأحايين أوجز
إذا كنت عن أن تحسن الصمت عاجزا
فأنت عن الإبلاغ في القول أعجز
[ 266 ](1/5573)
356
وَ قَالَ ع لِلظَّالِمِ مِنَ اَلرِّجَالِ ثَلاَثُ عَلاَمَاتٍ يَظْلِمُ مَنْ فَوْقَهُ بِالْمَعْصِيَةِ وَ مَنْ دُونَهُ بِالْغَلَبَةِ وَ يُظَاهِرُ اَلْقَوْمَ اَلظَّلَمَةَ يمكن أن يفسر هذا الكلام على وجهين أحدهما أن كل من وجدت فيه إحدى هذه الثلاث فهو ظالم إما أن يكون قد وجبت عليه طاعة من فوقه فعصاه فهو بعصيانه ظالم له لأنه قد وضعه في غير موضعه والظلم في أصل اللغة هو هذا المعنى ولذلك سموا اللبن يشرب قبل أن يبلغ الروب مظلوما لأن الشرب منه كان في غير موضعه إذا لم يرب ولم يخرج زبده فكذلك من عصى من فوقه فقد زحزحه عن مقامه إذ لم يطعه وإما أن يكون قد قهر من دونه وغلبه وإما أن يكون قد ظاهر الظلمة . والوجه الثاني أن كل ظالم فلا بد من اجتماع هذه العلامات الثلاث فيه وهذا هو الأظهر
[ 267 ](1/5574)
357
وَ قَالَ ع عِنْدَ تَنَاهِي اَلشِّدَّةِ تَكُونُ اَلْفَرْجَةُ وَ عِنْدَ تَضَايُقِ حَلَقِ اَلْبَلاَءِ يَكُونُ اَلرَّخَاءُ كان يقال إذا اشتد المضيق اتسعت الطريق وكان يقال توقعوا الفرج عند ارتتاج المخرج وقال الشاعر
إذا بلغ الحوادث منتهاها
فرج بعيدها الفرج المطلا
فكم كرب تولى إذ توالى
و كم خطب تجلى حين جلى
و في الأثر تضايقي تنفرجي سيجعل الله بعد العسر يسرا . والفرجة بفتح الفاء التفصي من الهم قال الشاعر
ربما تجزع النفوس من الأمر
له فرجة كحل العقال
فأما الفرجة بالضم ففرجة الحائط وما أشبهه
[ 268 ](1/5575)
358
وَ قَالَ ع لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ لاَ تَجْعَلَنَّ أَكْثَرَ شُغُلِكَ بِأَهْلِكَ وَ وَلَدِكَ فَإِنْ يَكُنْ أَهْلُكَ وَ وَلَدُكَ أَوْلِيَاءَ اَللَّهِ فَإِنَّ اَللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَوْلِيَاءَهُ وَ إِنْ يَكُونُوا أَعْدَاءَ اَللَّهِ فَمَا هَمُّكَ وَ شُغُلُكَ بِأَعْدَاءِ اَللَّهِ قد تقدم القول نحو هذا المعنى وهو أمر بالتفويض والتوكل على الله تعالى فيمن يخلفه الإنسان من ولده وأهله فإن الله تعالى أعلم بالمصلحة وأرأف بالإنسان من أبيه وأمه ثم إن كان الولد في علم الله تعالى وليا من أولياء الله سبحانه فإن الله تعالى لا يضيعه قال سبحانه وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ وكل ولي لله فهو متوكل عليه لا محالة وإن كان عدوا لله لم يجز الاهتمام له والاعتناء بأمره لأن أعداء الله تجب مقاطعتهم ويحرم توليهم فعلى كل حال لا ينبغي للإنسان أن يحفل بأهله وولده بعد موته . واعلم أن هذا كلام العارفين الصديقين لا كلام أهل هذه الطبقات التي نعرفها فإن هذه الطبقات تقصر أقدامهم عن الوصول إلى هذا المقام . ويعجبني قول الشاعر
أيا جامع المال وفرته
لغيرك إذ لم تكن خالدا
فإن قلت أجمعه للبنين
فقد يسبق الولد الوالدا
و إن قلت أخشى صروف الزمان
فكن من تصاريفه واحدا
[ 269 ](1/5576)
359
وَ قَالَ ع أَكْبَرُ اَلْعَيْبِ أَنْ تَعِيبَ مَا فِيكَ مِثْلُهُ قد تقدم هذا المعنى مرارا وقال الشاعر
إذا أنت عبت الأمر ثم أتيته
فأنت ومن تزري عليه سواء
[ 270 ](1/5577)
360
وَ هَنَّأَ بِحَضْرَتِهِ رَجُلٌ رَجُلاً آخَرَ بِغُلاَمٍ وُلِدَ لَهُ فَقَالَ لَهُ لِيَهْنِئْكَ اَلْفَارِسُ فَقَالَ ع لاَ تَقُلْ ذَلِكَ وَ لَكِنْ قُلْ شَكَرْتَ اَلْوَاهِبَ وَ بُورِكَ لَكَ فِي اَلْمَوْهُوبِ وَ بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ رُزِقْتَ بِرَّهُ هذه كلمة كانت من شعار الجاهلية فنهي عنها كما نهي عن تحية الجاهلية أبيت اللعن وجعل عوضها سلام عليكم . وقال رجل للحسن البصري وقد بشره بغلام ليهنئك الفارس فقال بل الراجل ثم قال لا مرحبا بمن إن عاش كدني وإن مات هدني وإن كنت مقلا أنصبني وإن كنت غنيا أذهلني ثم لا أرضى بسعيي له سعيا ولا بكدي عليه في الحياة كدا حتى أشفق عليه بعد موتي من الفاقة وأنا في حال لا يصل إلي من فرحه سرور ولا من همه حزن
[ 271 ](1/5578)
361
وَ بَنَى رَجُلٌ مِنْ عُمَّالِهِ بِنَاءً فَخْماً فَقَالَ ع أَطْلَعَتِ اَلْوَرِقُ رُءُوسَهَا إِنَّ اَلْبِنَاءَ يَصِفُ لَكَ اَلْغِنَى قد رويت هذه الكلمة عن عمر رضي الله عنه ذكر ذلك ابن قتيبة في عيون الأخبار . وروي عنه أيضا لي على كل خائن أمينان الماء والطين . قال يحيى بن خالد لابنه جعفر حين اختط داره ببغداد ليبنيها هي قميصك فإن شئت فوسعه وإن شئت فضيقه . ورآه وهو يجصص حيطان داره المبنية بالآجر فقال له إنك تغطي الذهب بالفضة فقال جعفر ليس في كل مكان يكون الذهب خيرا من الفضة ولكن هل ترى عيبا قال نعم مخالطتها دور السوقة . وقيل ليزيد بن المهلب أ لا يبني الأمير دارا فقال منزلي دار الإمارة أو الحبس . وكان يقال في الدار لتكن أول ما يبتاع وآخر ما تباع . ومر رجل من الخوارج بآخر من أصحابهم وهو يبني دارا فقال من ذا الذي يقيم كفيلا وقالوا كل ما يخرج بخروجك ويرجع برجوعك كالدار والنخل ونحوهما فهو كفيل
[ 272 ](1/5579)
362
وَ قِيلَ لَهُ ع لَوْ سُدَّ عَلَى رَجُلٍ بَابُ بَيْتٍ وَ تُرِكَ فِيهِ مِنْ أَيْنَ كَانَ يَأْتِيهِ رِزْقُهُ فَقَالَ ع مِنْ حَيْثُ يَأْتِيهِ أَجَلُهُ ليس يعني ع أن كل من يسد عليه باب بيت فإنه لا بد أن يرزقه الله تعالى لأن العيان والمشاهدة تقتضي خلاف ذلك وما رأينا من سد عليه باب بيت مدة طويلة فعاش ولا ريب أن من شق أسطوانة وجعل فيها حيا ثم بنيت الأسطوانة عليه فإنه يموت مختنقا ولا يأتيه رزقه ولا حياته ولأن للحكماء أن يقولوا في الفرق بين الموضعين إن أجله إنما يأتيه لأن الأجل عدم الحياة والحياة تعدم لعدم ما يوجبها والذي يوجب استمرارها الغذاء فلما انقطع الغذاء حضر الأجل فهذا هو الوجه الذي يأتيه منه أجله ولا سبيل إلى ذكر مثله في حضور الرزق لمن يسد عليه الباب . فإذا معنى كلامه ع أن الله تعالى إذا علم فيمن يجعل في دار ويسد عليه بابها أن في بقاء حياته لطفا لبعض المكلفين فإنه يجب على الله تعالى أن يديم حياته كما يشاء سبحانه إما بغذاء يقيم به مادة حياته أو
[ 273 ]
يديم حياته بغير سبب وهذا هو الوجه الذي منه يأتيه أجله أيضا لأن إماتة الله المكلف أمر تابع للمصلحة لأنه لا بد من انقطاع التكليف على كل حال للوجه الذي يذكره أصحابنا في كتبهم فإذا كان الموت تابعا للمصلحة وكان الإحياء تابعا للمصلحة فقد أتى الإنسان رزقه يعني حياته من حيث يأتيه أجله وانتظم الكلام
[ 274 ](1/5580)
363
وَ عَزَّى قَوْماً عَنْ مَيِّتٍ مَاتَ لَهُمْ فَقَالَ ع إِنَّ هَذَا اَلْأَمْرَ لَيْسَ بِكُمْ لَكُمْ بَدَأَ وَ لاَ إِلَيْكُمُ اِنْتَهَى وَ قَدْ كَانَ صَاحِبُكُمْ هَذَا يُسَافِرُ فَقَالُوا نَعَمْ قَالَ فَعُدُّوهُ فِي بَعْضِ سَفَرَاتِهِ أَسْفَارِهِ فَإِنْ قَدِمَ عَلَيْكُمْ وَ إِلاَّ قَدِمْتُمْ عَلَيْهِ قد ألم إبراهيم بن المهدي ببعض هذا في شعره الذي رثى به ولده فقال
يئوب إلى أوطانه كل غائب
و أحمد في الغياب ليس يئوب
تبدل دارا غير داري وجيرة
سواي وأحداث الزمان تنوب
أقام بها مستوطنا غير أنه
على طول أيام المقام غريب
و إني وإن قدمت قبلي لعالم
بأني وإن أبطأت عنك قريب
و إن صباحا نلتقي في مسائه
صباح إلى قلبي الغداة حبيب
[ 275 ](1/5581)
364
وَ قَالَ ع أَيُّهَا اَلنَّاسُ لِيَرَاكُمُ لِيَرَكُمُ اَللَّهُ مِنَ اَلنِّعْمَةِ وَجِلِينَ كَمَا يَرَاكُمْ مِنَ اَلنِّقْمَةِ فَرِقِينَ إِنَّهُ مَنْ وُسِّعَ عَلَيْهِ فِي ذَاتِ يَدِهِ فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ اِسْتِدْرَاجاً فَقَدْ أَمِنَ مَخُوفاً وَ مَنْ ضُيِّقَ عَلَيْهِ فِي ذَاتِ يَدِهِ فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ اِخْتِبَاراً فَقَدْ ضَيَّعَ مَأْمُولاً قد تقدم القول في استدراج المترف الغني واختبار الفقير الشقي وأنه يجب على الإنسان وإن كان مشمولا بالنعمة أن يكون وجلا كما يجب عليه إذا كان فقيرا أن يكون شكورا صبورا
[ 276 ](1/5582)
365
وَ قَالَ ع يَا أَسْرَى اَلرَّغْبَةِ اُقْصُرُوا أَقْصِرُوا فَإِنَّ اَلْمُعَرِّجَ عَلَى اَلدُّنْيَا لاَ يَرُوعُهُ مِنْهَا إِلاَّ صَرِيفُ أَنْيَابِ اَلْحِدْثَانِ أَيُّهَا اَلنَّاسُ تَوَلَّوْا عَنْ أَنْفُسِكُمْ تَأْدِيبَهَا وَ اِعْدِلُوا بِهَا عَنْ ضِرَايَةِ ضَرَاوَةِ عَادَاتِهَا ضرى يضري ضراية مثل رمى يرمي رماية أي جرى وسال ذكره ابن الأعرابي وعليه ينبغي أن يحمل كلام أمير المؤمنين ع أي اعدلوا بها عن عاداتها الجارية من باب إضافة الصفة إلى الموصوف وهذا خير من تفسير الراوندي وقوله إنه من ضري الكلب بالصيد لأن المصدر من ذلك الضراوة بالواو وفتح الضاد ولم يأت فيه ضراية . وقوله يا أسرى الرغبة كلمة فصيحة وكذلك قوله لا يروعه منها إلا صريف أنياب الحدثان وذلك لأن الفهد إذا وثب والذئب إذا حمل يصرف نابه ويقولون لكل خطب وداهية جاءت تصرف نابها والصريف صوت الأسنان إما عند رعدة أو عند شدة الغضب والحنق والحرص على الانتقام أو نحو ذلك . وقد تقدم الكلام في الدنيا والرغبة فيها وغدرها وحوادثها ووجوب العدول عنها وكسر عادية عادات السوء المكتسبة فيها
[ 277 ](1/5583)
366
وَ قَالَ ع لاَ تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَحَدٍ سُوءاً وَ أَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي اَلْخَيْرِ مُحْتَمَلاً هذه الكلمة يرويها كثير من الناس لعمر بن الخطاب ويرويها بعضهم لأمير المؤمنين ع وكان ثمامة يحدث بسؤدد يحيى بن خالد وابنه جعفر ويقول إن الرشيد نكب علي بن عيسى بن ماهان وألزمه مائة ألف دينار أدى منها خمسين ألفا ويلح بالباقي فأقسم الرشيد إن لم يؤد المال في بقية هذا اليوم وإلا قتله وكان علي بن عيسى عدوا للبرامكة مكاشفا فلما علم أنه مقتول سأل أن يمكن من السعي إلى الناس يستنجدهم ففسح له في ذلك فمضى ومعه وكيل الرشيد وأعوانه إلى باب يحيى وجعفر فأشبلا عليه وصححا من صلب أموالهما خمسين ألف دينار في باقي نهار ذلك اليوم بديوان الرشيد باسم علي بن عيسى واستخلصاه فنقل بعض المتنصحين لهما إليهما أن علي بن عيسى قال في آخر نهار ذلك اليوم متمثلا
فما بقيا علي تركتماني
و لكن خفتما صرد النبال
[ 278 ]
فقال يحيى للناقل إليه ذلك يا هذا إن المرعوب ليسبق لسانه إلى ما لم يخطر بقلبه . وقال جعفر ومن أين لنا أنه تمثل بذلك وعنانا ولعله أراد أمرا آخر فكان ثمامة يقول ما في الأرض أسود من رجل يتأول كلام عدوه فيه ويحمله على أحسن محامله . وقال الشاعر
إذا ما أتت من صاحب لك زلة
فكن أنت محتالا لزلته عذرا
[ 279 ](1/5584)
367
وَ قَالَ ع إِذَا كَانَتْ لَكَ إِلَى اَللَّهِ سُبْحَانَهُ حَاجَةٌ فَابْدَأْ بِمَسْأَلَةِ اَلصَّلاَةِ عَلَى رَسُولِهِ ص ثُمَّ سَلْ حَاجَتَكَ فَإِنَّ اَللَّهَ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ حَاجَتَيْنِ فَيَقْضِيَ إِحْدَاهُمَا وَ يَمْنَعَ اَلْأُخْرَى هذا الكلام على حسب الظاهر الذي يتعارفه الناس بينهم وهو ع يسلك هذا المسلك كثيرا ويخاطب الناس على قدر عقولهم وأما باطن الأمر فإن الله تعالى لا يصلي على النبي ص لأجل دعائنا إياه أن يصلي عليه لأن معنى قولنا اللهم صل على محمد أي أكرمه وارفع درجته والله سبحانه قد قضى له بالإكرام التام ورفعة الدرجة من دون دعائنا وإنما تعبدنا نحن بأن نصلي عليه لأن لنا ثوابا في ذلك لا لأن إكرام الله تعالى له أمر يستعقبه ويستتبعه دعاؤنا . وأيضا فأي غضاضة على الكريم إذا سئل حاجتين فقضى إحداهما دون الأخرى إن كان عليه في ذلك غضاضة فعليه في رد الحاجة الواحدة غضاضة أيضا
[ 280 ](1/5585)
368
وَ قَالَ ع مَنْ ضَنَّ بِعِرْضِهِ فَلْيَدَعِ اَلْمِرَاءَ قد تقدم من القول في المراء ما فيه كفاية وحد المراء الجدال المتصل لا يقصد به الحق . وقيل لميمون بن مهران ما لك لا تفارق أخا لك عن قلى قال لأني لا أشاريه ولا أماريه . وكان يقال ما ضل قوم بعد إذ هداهم الله تعالى إلا بالمراء والإصرار في الجدال على نصرة الباطل . وقال سفيان الثوري إذا رأيتم الرجل لجوجا مماريا معجبا بنفسه فقد تمت خسارته
[ 281 ](1/5586)
369
وَ قَالَ ع مِنَ اَلْخُرْقِ اَلْمُعَاجَلَةُ قَبْلَ اَلْإِمْكَانِ وَ اَلْأَنَاةُ بَعْدَ اَلْفُرْصَةِ قد تقدم القول في هذين المعنيين . ومن كلام ابن المعتز إهمال الفرصة حتى تفوت عجز والعجلة قبل التمكن خرق . وقد جعل أمير المؤمنين ع كلتا الحالتين خرقا وهو صحيح لأن الخرق الحمق وقلة العقل وكلتا الحالتين دليل على الحمق والنقص
[ 282 ](1/5587)
370
وَ قَالَ ع لاَ تَسْأَلْ عَمَّا لَمْ يَكُنْ لاَ يَكُونُ فَفِي اَلَّذِي قَدْ كَانَ لَكَ شُغُلٌ من هذا الباب قول أبي الطيب في سيف الدولة
ليس المدائح تستوفي مناقبه
فمن كليب وأهل الأعصر الأول
خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به
في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل
[ 283 ](1/5588)
371
وَ قَالَ ع اَلْفِكْرُ مِرْآةٌ صَافِيَةٌ وَ اَلاِعْتِبَارُ مُنْذِرٌ نَاصِحٌ وَ كَفَى أَدَباً لِنَفْسِكَ تَجَنُّبُكَ مَا كَرِهْتَهُ لِغَيْرِكَ قد تقدم القول في نحو هذا وفي المثل كفى بالاعتبار منذرا وكفى بالشيب زاجرا وكفى بالموت واعظا وقد سبق القول في وجوب تجنب الإنسان ما يكرهه من غيره . وقال بعض الحكماء إذا أحببت أخلاق امرئ فكنه وإن أبغضتها فلا تكنه أخذه شاعرهم فقال
إذا أعجبتك خصال امرئ
فكنه يكن منك ما يعجبك
فليس على المجد والمكرمات
إذا جئتها حاجب يحجبك
[ 284 ](1/5589)
372
وَ قَالَ ع اَلْعِلْمُ مَقْرُونٌ بِالْعَمَلِ فَمَنْ عَلِمَ عَمِلَ وَ اَلْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ فَإِنْ أَجَابَ أَجَابَهُ وَ إِلاَّ اِرْتَحَلَ عَنْهُ لا خير في علم بلا عمل والعلم بغير العمل حجة على صاحبه وكلام أمير المؤمنين ع يشعر بأنه لا عالم إلا وهو عامل ومراده بالعلم هاهنا العرفان ولا ريب أن العارف لا بد أن يكون عاملا . ثم استأنف فقال العلم يهتف بالعمل أي يناديه وهذه اللفظة استعارة . قال فإن أجابه وإلا ارتحل أي إن كان الإنسان عالما بالأمور الدينية ثم لم يعمل بها سلبه الله تعالى علمه ولم يمت إلا وهو معدود في زمرة الجاهلين ويمكن أن يفسر على أنه أراد بقوله ارتحل ارتحلت ثمرته ونتيجته وهي الثواب فإن الله تعالى لا يثيب المكلف على علمه بالشرائع إذا لم يعمل بها لأن إخلاله بالعمل يحبط ما يستحقه من ثواب العلم لو قدرنا أنه استحق على العلم ثوابا وأتى به على الشرائط التي معها يستحق الثواب
[ 285 ](1/5590)
373
وَ قَالَ ع يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ مَتَاعُ اَلدُّنْيَا حُطَامٌ مُوبِئٌ فَتَجَنَّبُوا مَرْعَاةً مَرْعَاهُ قُلْعَتُهَا أَحْظَى مِنْ طُمَأْنِينَتِهَا وَ بُلْغَتُهَا أَزْكَى مِنْ ثَرْوَتِهَا حُكِمَ عَلَى مُكْثِرِيهَا مُكْثِرٍ مِنْهَا بِالْفَاقَةِ وَ أُغْنِيَ أُعِينَ مَنْ غَنِيَ عَنْهَا بِالرَّاحَةِ مَنْ رَاقَهُ زِبْرِجُهَا أَعْقَبَتْ نَاظِرَيْهِ كَمَهاً وَ مَنِ اِسْتَشْعَرَ اَلشَّغَفَ بِهَا مَلَأَتْ ضَمِيرَهُ أَشْجَاناً لَهُنَّ رَقْصٌ عَلَى سُوَيْدَاءِ قَلْبِهِ هَمٌّ يَشْغَلُهُ وَ غَمٌّ يَحْزُنُهُ كَذَلِكَ حَتَّى يُؤْخَذَ بِكَظَمِهِ فَيُلْقَى بِالْفَضَاءِ مُنْقَطِعاً أَبْهَرَاهُ هَيِّناً عَلَى اَللَّهِ فَنَاؤُهُ وَ عَلَى اَلْإِخْوَانِ إِلْقَاؤُهُ وَ إِنَّمَا يَنْظُرُ اَلْمُؤْمِنُ إِلَى اَلدُّنْيَا بِعَيْنِ اَلاِعْتِبَارِ وَ يَقْتَاتُ مِنْهَا بِبَطْنِ اَلاِضْطِرَارِ وَ يَسْمَعُ فِيهَا بِأُذُنِ اَلْمَقْتِ وَ اَلْإِبْغَاضِ إِنْ قِيلَ أَثْرَى قِيلَ أَكْدَى وَ إِنْ فُرِحَ لَهُ بِالْبَقَاءِ حُزِنَ لَهُ بِالْفَنَاءِ هَذَا وَ لَمْ يَأْتِهِمْ يَوْمٌ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ يُبْلِسُونَ متاع الدنيا أموالها وقنيانها . والحطام ما تكسر من الحشيش واليبس وشبه متاع الدنيا بذلك لحقارته . وموبئ محدث للوباء وهو المرض العام . ومرعاة بقعة ترعى كقولك مأسدة فيها الأسد ومحياة فيها الحيات . وقلعتها بسكون اللام خير من طمأنينتها أي كون الإنسان فيها منزعجا متهيئا
[ 286 ](1/5591)
للرحيل عنها خير له من أن يكون ساكنا إليها مطمئنا بالمقام فيها . والبلغة ما يتبلغ به والثروة اليسار والغنى وإنما حكم على مكثريها بالفاقة والفقر لأنهم لا ينتهون إلى حد من الثروة والمال إلا وجدوا واجتهدوا وحرصوا في طلب الزيادة عليه فهم في كل أحوالهم فقراء إلى تحصيل المال كما أن من لا مال له أصلا يجد ويجتهد في تحصيل المال بل ربما كان جدهم وحرصهم على ذلك أعظم من كدح الفقير وحرصه وروي وأعين من غني عنها ومن رواه أغنى أي أغنى الله من غني عنها وزهد فيها بالراحة وخلو البال وعدم الهم والغم . والزبرج الزينة وراقه أعجبه . والكمه العمى الشديد وقيل هو أن يولد أعمى . والأشجان الأحزان . والرقص بفتح القاف الاضطراب والغليان والحركة . والكظم بفتح الظاء مجرى النفس . والأبهران عرقان متصلان بالقلب ويقال للميت قد انقطع أبهراه . قوله وإنما ينظر المؤمن إخبار في الصورة وأمر في المعنى أي لينظر المؤمن إلى الدنيا بعين الاعتبار وليأكل منها ببطن الاضطرار أي قدر الضرورة لا احتكار أو استكثار وليسمع حديثها بأذن المقت والبغض أي ليتخذها عدوا قد صاحبه في طريق فليأخذ حذره منه جهده وطاقته وليسمع كلامه وحديثه لا استماع مصغ ومحب وامق بل استماع مبغض محترز من غائلته .
[ 287 ]
ثم عاد إلى وصف الدنيا وطالبها فقال إن قيل أثرى قيل أكدى وفاعل أثرى هو الضمير العائد إلى من استشعر الشغف بها يقول بينا يقال أثرى قيل افتقر لأن هذه صفة الدنيا في تقلبها بأهلها وإن فرح له بالحياة ودوامها قيل مات وعدم هذا ولم يأتهم يوم القيامة يوم هم فيه مبلسون أبلس الرجل يبلس إبلاسا أي قنط ويئس واللفظ من لفظات الكتاب العزيز(1/5592)
نبذ من الأقوال الحكيمة في وصف حال الدنيا وصروفها
و قد ذكرنا من حال الدنيا وصروفها وغدرها بأهلها فيما تقدم أبوابا كثيرة نافعة . ونحن نذكر هاهنا زيادة على ذلك . فمن كلام بعض الحكماء ويل لصاحب الدنيا كيف يموت ويتركها وتغره ويأمنها وتخذله ويثق بها ويل للمغترين كيف أرتهم ما يكرهون وفاتهم ما يحبون وجاءهم ما يوعدون ويل لمن الدنيا همه والخطايا عمله كيف يفتضح غدا بذنبه . و
روى أنس قال كانت ناقة رسول الله ص العضباء لا تسبق فجاء أعرابي بناقة له فسبقها فشق ذلك على المسلمين فقال رسول الله ص حق على الله ألا يرفع في الدنيا شيئا إلا وضعه . وقال بعض الحكماء من ذا الذي يبني على موج البحر دارا تلكم الدنيا فلا تتخذوها قرارا .
[ 288 ]
و قيل لحكيم علمنا عملا واحدا إذا عملناه أحبنا الله عليه فقال أبغضوا الدنيا يحببكم الله . و(1/5593)
قال أبو الدرداء قال رسول الله ص لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولهانت عليكم الدنيا ولآثرتم الآخرة . ثم قال أبو الدرداء من قبل نفسه أيها الناس لو تعلمون ما أعلم لخرجتم إلى الصعدات تبكون على أنفسكم ولتركتم أموالكم لا حارس لها ولا راجع إليها إلا ما لا بد لكم منه ولكن غاب عن قلوبكم ذكر الآخرة وحضرها الأمل فصارت الدنيا أملك بأعمالكم وصرتم كالذين لا يعلمون فبعضكم شر من البهائم التي لا تدع هواها ما لكم لا تحابون ولا تناصحون في أموركم وأنتم إخوان على دين واحد ما فرق بين أهوائكم إلا خبث سرائركم ولو اجتمعتم على البر لتحاببتم ما لكم لا تناصحون في أموركم ما هذا إلا من قلة الإيمان في قلوبكم ولو كنتم توقنون بأمر الآخرة كما توقنون بالدنيا لآثرتم طلب الآخرة فإن قلت حب العاجلة غالب فإنا نراكم تدعون العاجل من الدنيا للأجل منها ما لكم تفرحون باليسير من الدنيا وتحزنون على اليسير منها بفوتكم حتى يتبين ذلك في وجوهكم ويظهر على ألسنتكم وتسمونها المصائب وتقيمون فيها المآتم وعامتكم قد تركوا كثيرا من دينهم ثم لا يتبين ذلك في وجوههم ولا تتغير حال بهم يلقى بعضهم بعضا بالمسرة ويكره كل منكم أن يستقبل صاحبه بما يكره مخافة أن يستقبله صاحبه بمثله فاصطحبتم على الغل وبنيتم مراعيكم على الدمن وتصافيتم على رفض الأجل أراحني الله منكم وألحقني بمن أحب رؤيته . وقال حكيم لأصحابه ارضوا بدنئ الدنيا مع سلامة الدين كما رضي أهل الدنيا بدنئ الدين مع سلامة الدنيا .
[ 289 ]
و قيل في معناه
أرى رجالا بأدنى الدين قد قنعوا
و لا أراهم رضوا في العيش بالدون
فاستغن بالدين عن دنيا الملوك كما استغنى
الملوك بدنياهم عن الدين
و(1/5594)
في الحديث المرفوع لتأتينكم بعدي دنيا تأكل إيمانكم كما تأكل النار الحطب . وقال الحسن رحمه الله أدركت أقواما كانت الدنيا عندهم وديعة فأدوها إلى من ائتمنهم عليها ثم ركضوا خفافا . وقال أيضا من نافسك في دينك فنافسه ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره . وقال الفضيل طالت فكرتي في هذه الآية إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى اَلْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ إِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً . ومن كلام بعض الحكماء لن تصبح في شي ء من الدنيا إلا وقد كان له أهل قبلك ويكون له أهل من بعدك وليس لك من الدنيا إلا عشاء ليلة وغداء يوم فلا تهلك نفسك في أكلة وصم عن الدنيا وأفطر على الآخرة فإن رأس مال الدنيا الهوى وربحها النار . وقيل لبعض الرهبان كيف ترى الدهر قال يخلق الأبدان ويجدد الآمال ويقرب المنية ويباعد الأمنية قيل فما حال أهله قال من ظفر به تعب ومن فاته اكتأب . ومن هذا المعنى قول الشاعر
و من يحمد الدنيا لعيش يسره
فسوف لعمري عن قليل يلومها
[ 290 ]
إذا أدبرت كانت على المرء حسرة
و إن أقبلت كانت كثيرا همومها(1/5595)
و قال بعض الحكماء كانت الدنيا ولم أكن فيها وتذهب الدنيا ولا أكون فيها ولست أسكن إليها فإن عيشها نكد وصفوها كدر وأهلها منها على وجل إما بنعمة زائلة أو ببلية نازلة أو ميتة قاضية . وقال بعضهم من عيب الدنيا أنها لا تعطي أحدا ما يستحق إما أن تزيد له وإما أن تنقص . وقال سفيان الثوري أ ما ترون النعم كأنها مغضوب عليها قد وضعت في غير أهلها . وقال يحيى بن معاذ الدنيا حانوت الشيطان فلا تسرق من حانوته شيئا فإنه يجي ء في طلبك حتى يأخذك . وقال الفضيل لو كانت الدنيا من ذهب يفنى والآخرة من خزف يبقى لكان ينبغي لنا أن نختار خزفا يبقى على ذهب يفنى فكيف وقد اخترنا خزفا يفنى على ذهب يبقى . وقال بعضهم ما أصبح أحد في الدنيا إلا وهو ضيف ولا شبهة في أن الضيف مرتحل وما أصبح ذو مال فيها إلا وماله عارية عنده ولا ريب أن العارية مردودة . ومثل هذا قول الشاعر
و ما المال والأهلون إلا وديعة
و لا بد يوما أن ترد الودائع
و قيل لإبراهيم بن أدهم كيف أنت فأنشد
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا
فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
[ 291 ]
و زار رابعة العدوية أصحابها فذكروا الدنيا فأقبلوا على ذمها فقالت اسكتوا عن ذكرها وكفوا فلو لا موقعها في قلوبكم ما أكثرتم من ذكرها إن من أحب شيئا أكثر من ذكره . وقال مطرف بن الشخير لا تنظروا إلى خفض عيش الملوك ولين رياشهم ولكن انظروا إلى سرعة ظعنهم وسوء منقلبهم . قال الشاعر
أرى طالب الدنيا وإن طال عمره
و نال من الدنيا سرورا وأنعما
كبان بنى بنيانه فأقامه
فلما استوى ما قد بناه تهدما
و قال أبو العتاهية
تعالى الله يا سلم بن عمرو
أذل الحرص أعناق الرجال
هب الدنيا تساق إليك عفوا
أ ليس مصير ذلك إلى الزوال
و ما دنياك إلا مثل في ء
أظلك ثم آذن بانتقال(1/5596)
و قال بعضهم الدنيا جيفة فمن أراد منها شيئا فليصبر على معاشرة الكلاب . وقال أبو أمامة الباهلي لما بعث الله محمدا ص أتت إبليس جنوده وقالوا قد بعث نبي وجدت ملة وأمة فقال كيف حالهم أ يحبون الدنيا قالوا نعم قال إن كانوا يحبونها فلا أبالي ألا يعبدوا الأصنام فإنما أغدو عليهم وأروح بثلاث أخذ المال من غير حقه وإنفاقه في غير حقه وإمساكه عن حقه والشر كله لهذه الثلاث تبع . وكان مالك بن دينار يقول اتقوا السحارة فإنها تسحر قلوب العلماء يعني الدنيا .
[ 292 ]
و قال أبو سليمان الرازي إذا كانت الآخرة في القلب جاءت الدنيا فزاحمتها وإذا كانت الدنيا في القلب لم تزاحمها الآخرة لأن الآخرة كريمة والدنيا لئيمة . وقال مالك بن دينار بقدر ما تحزن للدنيا يخرج هم الآخرة من قلبك وبقدر ما تحزن للآخرة يخرج هم الدنيا من قلبك وهذا مقتبس
من قول أمير المؤمنين ع الدنيا والآخرة ضرتان فبقدر ما ترضي إحداهما تسخط الأخرى . وقال الشاعر
يا خاطب الدنيا إلى نفسها
تنح عن خطبتها تسلم
إن التي تخطب غدارة
قريبة العرس من المأتم
و قالوا لو وصفت الدنيا نفسها لما قالت أحسن من قول أبي نواس فيها
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت
له عن عدو في ثياب صديق(1/5597)
و من كلام الشافعي يعظ أخا له يا أخي إن الدنيا دحض مزلة ودار مذلة عمرانها إلى الخراب سائر وساكنها إلى القبور زائر شملها على الفرقة موقوف وغناها إلى الفقر مصروف الإكثار فيها إعسار والإعسار فيها يسار فافزع إلى الله وارض برزق الله ولا تستسلف من دار بقائك في دار فنائك فإن عيشك في ء زائل وجدار مائل أكثر من عملك وأقصر من أملك . وقال إبراهيم بن أدهم لرجل أ درهم في المنام أحب إليك أم دينار في اليقظة فقال دينار في اليقظة فقال كذبت إن الذي تحبه في الدنيا فكأنك تحبه في المنام والذي تحبه في الآخرة فكأنك تحبه في اليقظة . وقال بعض الحكماء من فرح قلبه بشي ء من الدنيا فقد أخطأ الحكمة ومن
[ 293 ](1/5598)
جعل شهوته تحت قدميه فرق الشيطان من ظله ومن غلب علمه هواه فهو الغالب . وقال بعضهم الدنيا تبغض إلينا نفسها ونحن نحبها فكيف لو تحببت إلينا . وقال بعضهم الدنيا دار خراب وأخرب منها قلب من يعمرها والجنة دار عمران وأعمر منها قلب من يطلبها . وقال يحيى بن معاذ العقلاء ثلاثة من ترك الدنيا قبل أن تتركه وبنى قبره قبل أن يدخله وأرضى خالقه قبل أن يلقاه . وقال بعضهم من أراد أن يستغني عن الدنيا بالدنيا كان كمطفئ النار بالتبن . ومن كلام بعض فصحاء الزهاد أيها الناس اعملوا في مهل وكونوا من الله على وجل ولا تغتروا بالأمل ونسيان الأجل ولا تركنوا إلى الدنيا فإنها غدارة غرارة خداعة قد تزخرفت لكم بغرورها وفتنتكم بأمانيها وتزينت لخطابها فأضحت كالعروس المتجلية العيون إليها ناظرة والقلوب عليها عاكفة والنفوس لها عاشقة فكم من عاشق لها قتلت ومطمئن إليها خذلت فانظروا إليها بعين الحقيقة فإنها دار كثرت بوائقها وذمها خالقها جديدها يبلى وملكها يفنى وعزيزها يذل وكثيرها يقل وحيها يموت وخيرها يفوت فاستيقظوا من غفلتكم وانتبهوا من رقدتكم قبل أن يقال فلان عليل ومدنف ثقيل فهل على الدواء من دليل وهل إلى الطبيب من سبيل فتدعى لك الأطباء ولا يرجى لك الشفاء ثم يقال فلان أوصى وماله أحصى ثم يقال قد ثقل لسانه فما يكلم إخوانه ولا يعرف جيرانه وعرق عند ذلك جبينك وتتابع أنينك وثبت يقينك وطمحت جفونك وصدقت ظنونك وتلجلج لسانك وبكى إخوانك وقيل لك هذا ابنك فلان وهذا أخوك
[ 294 ](1/5599)
فلان منعت من الكلام فلا تنطق وختم على لسانك فلا ينطبق ثم حل بك القضاء وانتزعت روحك من الأعضاء ثم عرج بها إلى السماء فاجتمع عند ذلك إخوانك وأحضرت أكفانك فغسلوك وكفنوك ثم حملوك فدفنوك فانقطع عوادك واستراح حسادك وانصرف أهلك إلى مالك وبقيت مرتهنا بأعمالك . وقال بعض الزهاد لبعض الملوك إن أحق الناس بذم الدنيا وقلاها من بسط له فيها وأعطي حاجته منها لأنه يتوقع آفة تغدو على ماله فتجتاحه وعلى جمعه فتفرقه أو تأتي على سلطانه فتهدمه من القواعد أو تدب إلى جسمه فتسقمه أو تفجعه بشي ء هو ضنين به من أحبابه فالدنيا الأحق بالذم وهي الآخذة ما تعطي الراجعة فيما تهب فبينا هي تضحك صاحبها إذ أضحكت منه غيره وبينا هي تبكي له إذ أبكت عليه وبينا هي تبسط كفه بالإعطاء إذ بسطت كفها إليه بالاسترجاع والاسترداد تعقد التاج على رأس صاحبها اليوم وتعفره في التراب غدا سواء عليها ذهاب من ذهب وبقاء من بقي تجد في الباقي من الذاهب خلفا وترضى بكل من كل بدلا . وكتب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز أما بعد فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة وإنما أنزل إليها عقوبة فاحذرها فإن الزاد منها ربحها والغنى منها فقرها لها في كل حين قتيل تذل من أعزها وتفقر من جمعها هي كالسم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه فكن فيها كالمداوي جراحه يحمي قليلا مخافة ما يكرهه طويلا ويصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء فاحذر هذه الدنيا الغدارة المكارة الختالة الخداعة التي قد تزينت بخدعها وفتنت بغرورها وتحلت بآمالها وتشرفت لخطابها فأصبحت بينهم كالعروس تجلى على بعلها العيون إليها ناظرة والقلوب عليها والهة والنفوس لها عاشقة وهي لأزواجها كلهم قاتلة فلا الباقي بالماضي معتبر ولا الآخر بالأول مزدجر ولا العارف بالله حين أخبره عنها مدكر فمن عاشق لها قد
[ 295 ](1/5600)
ظفر منها بحاجته فاغتر وطغي ونسي المعاد وشغل بها لبه حتى زلت عنها قدمه فعظمت ندامته وكثرت حسرته واجتمعت عليه سكرات الموت بألمه وحسرات الفوت بغصته ومن راغب فيها لم يدرك منها ما طلب ولم يرح نفسه من التعب خرج منها بغير زاد وقدم على غير مهاد فاحذرها ثم احذرها وكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها فإن صاحبها كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه والسار منها لأهلها غار والنافع منها في غد ضار قد وصل الرخاء منها بالبلاء وجعل البقاء فيها للفناء فسرورها مشوب بالأحزان ونعيمها مكدر بالأشجان لا يرجع ما ولى منها وأدبر ولا يدرى ما هو آت فينتظر أمانيها كاذبة وآمالها باطلة وصفوها كدر وعيشها نكد والإنسان فيها على خطر إن عقل ونظر وهو من النعماء على غرر ومن البلاء على حذر فلو كان الخالق لها لم يخبر عنها خبرا ولم يضرب لها مثلا لكانت هي نفسها قد أيقظت النائم ونبهت الغافل فكيف وقد جاء من الله عنها زاجر وبتصاريفها واعظ فما لها عند الله قدر ولا نظر إليها منذ خلقها ولقد عرضت على نبيك محمد ص بمفاتيحها وخزائنها لا ينقصه ذلك عند الله جناح بعوضة فأبى أن يقبلها كره أن يخالف على الله أمره أو يحب ما أبغضه خالقه أو يرفع ما وضعه مليكه زواها الرب سبحانه عن الصالحين اختبارا وبسطها لأعدائه اغترارا فيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أكرم بها وينسى ما صنع الله تعالى بمحمد ص من شده الحجر على بطنه و
قد جاءت الرواية عنه عن ربه سبحانه أنه قال لموسى إذا رأيت الغنى مقبلا فقل ذنب عجلت عقوبته وإذا رأيت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين وإن شئت اقتديت بصاحب الروح والكلمة عيسى كان يقول إدامي الجوع وشعاري الخوف ولباسي الصوف وصلائي في الشتاء مشارق الشمس وسراجي القمر ووسادي الحجر ودابتي رجلاي
[ 296 ](1/5601)
و فاكهتي وطعامي ما أنبتت الأرض أبيت وليس لي شي ء وليس على الأرض أحد أغنى مني و
في بعض الكتب القديمة أن الله تعالى لما بعث موسى وهارون ع إلى فرعون قال لا يروعنكما لباسه الذي لبس من الدنيا فإن ناصيته بيدي ليس ينطق ولا يطرف ولا يتنفس إلا بإذني ولا يعجبكما ما متع به منها فإن ذلك زهرة الحياة الدنيا وزينة المترفين ولو شئت أن أزينكما بزينة من الدنيا يعرف فرعون حين يراها أن مقدرته تعجز عما وهبتما لفعلت ولكني أرغب بكما عن ذلك وأزوي ذلك عنكما وكذلك أفعل بأوليائي إني لأذودهم عن نعيمها كما يذود الراعي الشفيق غنمه عن مراتع الهلكة وإني لأجنبهم حب المقام فيها كما يجنب الراعي الشفيق إبله عن مبارك العر وما ذاك لهوانهم علي ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالما موفورا إنما يتزين لي أوليائي بالذل والخضوع والخوف وإن التقوى لتثبت في قلوبهم فتظهر على وجوههم فهي ثيابهم التي يلبسونها ودثارهم الذي يظهرون وضميرهم الذي يستشعرون ونجاتهم التي بها يفوزون ورجاؤهم الذي إياه يأملون ومجدهم الذي به يفتخرون وسيماهم التي بها يعرفون فإذا لقيهم أحدكما فليخفض لهم جناحه وليذلل لهم قلبه ولسانه وليعلم أنه من أخاف لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ثم أنا الثائر به يوم القيامة . ومن كلام بعض الحكماء الأيام سهام والناس أغراض والدهر يرميك كل يوم بسهامه ويتخرمك بلياليه وأيامه حتى يستغرق جميع أجزائك ويصمي جميع أبعاضك فكيف بقاء سلامتك مع وقوع الأيام بك وسرعة الليالي في بدنك ولو كشف لك عما أحدثت الأيام فيك من النقص لاستوحشت من كل يوم يأتي عليك واستثقلت ممر الساعات بك ولكن تدبير الله تعالى فوق النظر والاعتبار .
[ 297 ](1/5602)
و قال بعض الحكماء وقد استوصف الدنيا وقدر بقائها الدنيا وقتك الذي يرجع إليه طرفك لأن ما مضى عنك فقد فاتك إدراكه وما لم يأت فلا علم لك به والدهر يوم مقبل تنعاه ليلته وتطويه ساعاته وأحداثه تتوالى على الإنسان بالتغيير والنقصان والدهر موكل بتشتيت الجماعات وانخرام الشمل وتنقل الدول والأمل طويل والعمر قصير وإلى الله تصير الأمور . وقال بعض الفضلاء الدنيا سريعة الفناء قريبة الانقضاء تعد بالبقاء وتخلف في الوفاء تنظر إليها فتراها ساكنة مستقرة وهي سائرة سيرا عنيفا ومرتحلة ارتحالا سريعا ولكن الناظر إليها قد لا يحس بحركتها فيطمئن إليها وإنما يحس بذلك بعد انقضائها ومثالها الظل فإنه متحرك ساكن متحرك في الحقيقة وساكن في الظاهر لا تدرك حركته بالبصر الظاهر بل بالبصيرة الباطنة
[ 298 ](1/5603)
374
وَ قَالَ ع إِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ وَضَعَ اَلثَّوَابَ عَلَى طَاعَتِهِ وَ اَلْعِقَابَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ ذِيَادَةً لِعِبَادِهِ عَنْ نِقْمَتِهِ وَ حِيَاشَةً لَهُمْ إِلَى جَنَّتِهِ ذيادة أي دفعا ذدته عن كذا أي دفعته ورددته وحياشة مصدر حشت الصيد بضم الحاء أحوشه إذا جئته من حواليه لتصرفه إلى الحبالة وكذلك أحشت الصيد وأحوشته وقد احتوش القوم الصيد إذا نفره بعضهم إلى بعض . وهذا هو مذهب أصحابنا إن الله تعالى لما كلف العباد التكاليف الشاقة وقد كان يمكنه أن يجعلها غير شاقة عليهم بأن يزيد في قدرهم وجب أن يكون في مقابلة تلك التكاليف ثواب لأن إلزام المشاق كإنزال المشاق فكما يتضمن ذلك عوضا وجب أن يتضمن هذا ثوابا ولا بد أن يكون في مقابلة فعل القبيح عقاب وإلا كان سبحانه ممكنا الإنسان من القبيح مغريا له بفعله إذ الطبع البشري يهوى العاجل ولا يحفل بالذم ولا يكون القبيح قبيحا حينئذ في العقل فلا بد من العقاب ليقع الانزجار
[ 299 ](1/5604)
375
وَ قَالَ ع يَأْتِي عَلَى اَلنَّاسِ زَمَانٌ لاَ يَبْقَى فِيهِمْ مِنَ اَلْقُرْآنِ إِلاَّ رَسْمُهُ وَ مِنَ اَلْإِسْلاَمِ إِلاَّ اِسْمُهُ مَسَاجِدُهُمْ يَوْمَئِذٍ عَامِرَةٌ مِنَ اَلْبِنَاءِ خَرَابٌ مِنَ اَلْهُدَى سُكَّانُهَا وَ عُمَّارُهَا شَرُّ أَهْلِ اَلْأَرْضِ مِنْهُمْ تَخْرُجُ اَلْفِتْنَةُ وَ إِلَيْهِمْ تَأْوِي اَلْخَطِيئَةُ يَرُدُّونَ مَنْ شَذَّ عَنْهَا فِيهَا وَ يَسُوقُونَ مَنْ تَأَخَّرَ عَنْهَا إِلَيْهَا يَقُولُ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ فَبِي حَلَفْتُ لَأَبْعَثَنَّ عَلَى أُولَئِكَ فِتْنَةً أَتْرُكُ تَتْرُكُ اَلْحَلِيمَ فِيهَا حَيْرَانَ وَ قَدْ فَعَلَ وَ نَحْنُ نَسْتَقِيلُ اَللَّهَ عَثْرَةَ اَلْغَفْلَةِ هذه صفة حال أهل الضلال والفسق والرياء من هذه الأمة أ لا تراه يقول سكانها وعمارها يعني سكان المساجد وعمار المساجد شر أهل الأرض لأنهم أهل ضلالة كمن يسكن المساجد الآن ممن يعتقد التجسم والتشبيه والصورة والنزول والصعود والأعضاء والجوارح ومن يقول بالقدر يضيف فعل الكفر والجهل والقبيح إلى الله تعالى فكل هؤلاء أهل فتنة يردون من خرج منها إليها ويسوقون من لم يدخل فيها إليها أيضا . ثم قال حاكيا عن الله تعالى إنه حلف بنفسه ليبعثن على أولئك فتنة يعني استئصالا وسيفا حاصدا يترك الحليم أي العاقل اللبيب فيها حيران لا يعلم كيف وجه خلاصه . ثم قال ع وقد فعل وينبغي أن يكون قد قال هذا الكلام في أيام خلافته لأنها كانت أيام السيف المسلط على أهل الضلال من المسلمين وكذلك ما بعثه الله تعالى على بني أمية وأتباعهم من سيوف بني هاشم بعد انتقاله ع
[ 300 ](1/5605)
376
وَ قَالَ ع وَ رُوِيَ أَنَّهُ ع قَلَّمَا اِعْتَدَلَ بِهِ اَلْمِنْبَرُ إِلاَّ قَالَ أَمَامَ خُطْبَتِهِ أَيُّهَا اَلنَّاسُ اِتَّقُوا اَللَّهَ فَمَا خُلِقَ اِمْرُؤٌ عَبَثاً فَيَلْهُوَ وَ لاَ تُرِكَ سُدًى فَيَلْغُوَ وَ مَا دُنْيَاهُ اَلَّتِي تَحَسَّنَتْ لَهُ بِخَلَفٍ مِنَ اَلآْخِرَةِ اَلَّتِي قَبَّحَهَا سُوءُ اَلنَّظَرِ عِنْدَهُ وَ مَا اَلْمَغْرُورُ اَلَّذِي ظَفِرَ مِنَ اَلدُّنْيَا بِأَعْلَى هِمَّتِهِ كَالآْخَرِ اَلَّذِي ظَفِرَ مِنَ اَلآْخِرَةِ بِأَدْنَى سُهْمَتِهِ قال تعالى أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ . و
من الكلمات النبوية أن المرء لم يترك سدى ولم يخلق عبثا . وقال أمير المؤمنين ع إن من ظفر من الدنيا بأعلى وأعظم أمنية ليس كآخر ظفر من الآخرة بأدون درجات أهل الثواب لا مناسبة ولا قياس بين نعيم الدنيا والآخرة . وفي قوله ع التي قبحها سوء المنظر عنده تصريح بمذهب أصحابنا أهل العدل رحمهم الله وهو أن الإنسان هو الذي أضل نفسه لسوء نظره ولو كان الله تعالى هو الذي أضله لما قال قبحها سوء النظر عنده
[ 301 ](1/5606)
377
وَ قَالَ ع لاَ شَرَفَ أَعْلَى مِنَ اَلْإِسْلاَمِ وَ لاَ عِزَّ أَعَزُّ مِنَ اَلتَّقْوَى وَ لاَ مَعْقِلَ أَحْسَنُ مِنَ اَلْوَرَعِ وَ لاَ شَفِيعَ أَنْجَحُ مِنَ اَلتَّوْبَةِ وَ لاَ كَنْزَ أَغْنَى مِنَ اَلْقَنَاعَةِ وَ لاَ مَالَ أَذْهَبُ لِلْفَاقَةِ مِنَ اَلرِّضَا اَلرِّضَى بِالْقُوتِ وَ مَنِ اِقْتَصَرَ عَلَى بُلْغَةِ اَلْكَفَافِ فَقَدِ اِنْتَظَمَ اَلرَّاحَةَ وَ تَبَوَّأَ خَفْضَ اَلدَّعَةِ وَ اَلدَّعَةُ اَلرَّغْبَةُ مِفْتَاحُ اَلنَّصَبِ وَ مَطِيَّةُ اَلتَّعَبِ وَ اَلْحِرْصُ وَ اَلْكِبْرُ وَ اَلْحَسَدُ دَوَاعٍ إِلَى اَلتَّقَحُّمِ فِي اَلذُّنُوبِ وَ اَلشَّرُّ جَامِعٌ لِمَسَاوِئِ جَامِعُ مَسَاوِئِ اَلْعُيُوبِ كل هذه المعاني قد سبق القول فيها مرارا شتى نأتي كل مرة بما لم نأت به فيما تقدم وإنما يكررها أمير المؤمنين ع لإقامة الحجة على المكلفين كما يكرر الله سبحانه في القرآن المواعظ والزواجر لذلك كان أبو ذر رضي الله عنه جالسا بين الناس فأتته امرأته فقالت أنت جالس بين هؤلاء ولا والله ما عندنا في البيت هفة ولا سفة فقال يا هذه إن بين أيدينا عقبة كئودا لا ينجو منها إلا كل مخف فرجعت وهي راضية .
[ 302 ]
و قيل لبعض الحكماء ما مالك قال التجمل في الظاهر والقصد في الباطن والغنى عما في أيدي الناس . وقال أبو سليمان الداراني تنفس فقير دون شهوة لا يقدر عليها أفضل من عبادة غني ألف عام . وقال رجل لبشر بن الحارث ادع لي فقد أضر الفقر بي وبعيالي فقال إذا قال لك عيالك ليس عندنا دقيق ولا خبز فادع لبشر بن الحارث في ذلك الوقت فإن دعاءك أفضل من دعائه . ومن دعاء بعض الصالحين اللهم إني أسألك ذل نفسي والزهد فيما جاوز الكفاف
[ 303 ](1/5607)
378
وَ قَالَ ع لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ اَلْأَنْصَارِيِّ يَا جَابِرُ قِوَامُ اَلدِّينِ وَ اَلدُّنْيَا بِأَرْبَعَةٍ عَالِمٍ يَسْتَعْمِلُ مُسْتَعْمِلٍ عِلْمَهُ وَ جَاهِلٍ لاَ يَسْتَنْكِفُ أَنْ يَتَعَلَّمَ وَ جَوَادٍ لاَ يَبْخَلُ بِمَعْرُوفِهِ وَ فَقِيرٍ لاَ يَبِيعُ آخِرَتَهُ بِدُنْيَاهُ فَإِذَا ضَيَّعَ اَلْعَالِمُ عِلْمَهُ اِسْتَنْكَفَ اَلْجَاهِلُ أَنْ يَتَعَلَّمَ وَ إِذَا بَخِلَ اَلْغَنِيُّ بِمَعْرُوفِهِ بَاعَ اَلْفَقِيرُ آخِرَتَهُ بِدُنْيَاهُ يَا جَابِرُ مَنْ كَثُرَتْ نِعْمَةُ نِعَمُ اَللَّهِ عَلَيْهِ كَثُرَتْ حَوَائِجُ اَلنَّاسِ إِلَيْهِ فَمَنْ قَامَ بِمَا يَجِبُ لِلَّهِ فِيهَا عَرَّضَ نِعْمَةَ اَللَّهِ لِدَوَامِهَا وَ مَنْ ضَيَّعَ مَا يَجِبُ لِلَّهِ فِيهَا عَرَّضَ نِعْمَتَهُ لِزَوَالِهَا لِلَّهِ فِيهَا بِمَا يَجِبُ فِيهَا عَرَّضَهَا لِلدَّوَامِ وَ اَلْبَقَاءِ وَ مَنْ لَمْ يَقُمْ فِيهَا بِمَا يَجِبُ عَرَّضَهَا لِلزَّوَالِ وَ اَلْفَنَاءِ قد تقدم القول في هذه المعاني والحاصل أنه ربط اثنتين من أربعة إحداهما بالأخرى وكذلك جعل في الاثنتين الأخريين فقال إن قوام الدين والدنيا بأربعة عالم يستعمل علمه يعني يعمل ولا يقتصر على أن يعلم فقط ولا يعمل وجاهل لا يستنكف أن يتعلم وأضر ما على الجهلاء الاستنكاف من التعلم فإنهم يستمرون على الجهالة إلى الموت والثالث جواد لا يبخل بالمعروف والرابع فقير لا يبيع آخرته بدنياه أي لا يسرق ولا يقطع الطريق أو يكتسب الرزق من حيث لا يحبه الله كالقمار والمواخير والمزاجر والمآصر ونحوها .
[ 304 ](1/5608)
ثم قال فالثانية مرتبطة بالأولى إذا لم يستعمل العالم علمه استنكف الجاهل من التعلم وذلك لأن الجاهل إذا رأى العالم يعصي ويجاهر الله بالفسق زهد في التعلم وقال لما ذا تعلم العلم إذا كانت ثمرته الفسق والمعصية . ثم قال والرابعة مرتبطة بالثالثة إذا بخل الغني بمعروفه باع الفقير آخرته بدنياه وذلك لأنه إذا عدم الفقير المواساة مع حاجته إلى القوت دعته الضرورة إلى الدخول في الحرام والاكتساب من حيث لا يحسن وينبغي أن يكون عوض لفظة جواد لفظة غني ليطابق أول الكلام آخره إلا أن الرواية هكذا وردت وجواد لا يبخل بمعروفه وفي ضمير اللفظ كون ذلك الجواد غنيا لأنه قد جعل له معروفا والمعروف لا يكون إلا عن ظهر غنى وباقي الفصل قد سبق شرح أمثاله
[ 305 ](1/5609)
379
وَ رَوَى اِبْنُ جَرِيرٍ اَلطَّبَرِيُّ فِي تَارِيخِهِ : عَنْ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى اَلْفَقِيهِ وَ كَانَ مِمَّنْ خَرَجَ لِقِتَالِ اَلْحَجَّاجِ مَعَ اِبْنِ اَلْأَشْعَثِ أَنَّهُ قَالَ فِيمَا كَانَ يَحُضُّ بِهِ اَلنَّاسَ عَلَى اَلْجِهَادِ إِنِّي سَمِعْتُ عَلِيّاً رَفَعَ اَللَّهُ دَرَجَتَهُ فِي اَلصَّالِحِينَ وَ أَثَابَهُ ثَوَابَ اَلشُّهَدَاءِ وَ اَلصِّدِّيقِينَ يَقُولُ يَوْمَ لَقِينَا أَهْلَ اَلشَّامِ أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ إِنَّهُ مَنْ رَأَى عُدْوَاناً يُعْمَلُ بِهِ وَ مُنْكَراً يُدْعَى إِلَيْهِ فَأَنْكَرَهُ بِقَلْبِهِ فَقَدْ سَلِمَ وَ بَرِئَ وَ مَنْ أَنْكَرَهُ بِلِسَانِهِ فَقَدْ أُجِرَ وَ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ صَاحِبِهِ وَ مَنْ أَنْكَرَهُ بِالسَّيْفِ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اَللَّهِ اَلْعُلْيَا وَ كَلِمَةُ اَلظَّالِمِينَ هِيَ اَلسُّفْلَى فَذَلِكَ اَلَّذِي أَصَابَ سَبِيلَ اَلْهُدَى وَ قَامَ عَلَى اَلطَّرِيقِ وَ نُوِّرَ نَوَّرَ فِي قَلْبِهِ اَلْيَقِينُ قد تقدم الكلام في النهي عن المنكر وكيفية ترتيبه وكلام أمير المؤمنين في هذا الفصل مطابق لما يقوله المتكلمون رحمهم الله . وقد ذكرنا فيما تقدم وسنذكر فيما بعد من هذا المعنى ما يجب وكان النهي عن المنكر معروفا في العرب في جاهليتها كان في قريش حلف الفضول تحالفت قبائل منها على أن يردعوا الظالم وينصروا المظلوم ويردوا عليه حقه ما بل بحر صوفة وقد ذكرنا فيما تقدم
[ 306 ](1/5610)
380
وَ قَالَ ع فِي كَلاَمٍ آخَرَ لَهُ غَيْرِ هَذَا يَجْرِي هَذَا اَلْمَجْرَى : فَمِنْهُمُ اَلْمُنْكِرُ لِلْمُنْكَرِ بِيَدِهِ وَ لِسَانِهِ وَ قَلْبِهِ فَذَلِكَ اَلْمُسْتَكْمِلُ لِخِصَالِ اَلْخَيْرِ وَ مِنْهُمُ اَلْمُنْكِرُ بِلِسَانِهِ وَ قَلْبِهِ وَ اَلتَّارِكُ بِيَدِهِ فَذَلِكَ مُتَمَسِّكٌ بِخَصْلَتَيْنِ مِنْ خِصَالِ اَلْخَيْرِ وَ مُضَيِّعٌ خَصْلَةً وَ مِنْهُمُ اَلْمُنْكِرُ بِقَلْبِهِ وَ اَلتَّارِكُ بِيَدِهِ وَ لِسَانِهِ فَذَاكَ فَذَالِكَ اَلَّذِي ضَيَّعَ أَشْرَفَ اَلْخَصْلَتَيْنِ مِنَ اَلثَّلاَثِ وَ تَمَسَّكَ بِوَاحِدَةٍ وَ مِنْهُمْ تَارِكٌ لِإِنْكَارِ اَلْمُنْكَرِ بِلِسَانِهِ وَ قَلْبِهِ وَ يَدِهِ فَذَلِكَ مَيِّتُ اَلْأَحْيَاءِ وَ مَا أَعْمَالُ اَلْبِرِّ كُلُّهَا وَ اَلْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ عِنْدَ اَلْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَ اَلنَّهْيِ عَنْ اَلْمُنْكَرِ إِلاَّ كَنَفْثَةٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ وَ إِنَّ اَلْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ اَلنَّهْيَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ لاَ يُقَرِّبَانِ مِنْ أَجَلٍ وَ لاَ يَنْقُصَانِ مِنْ رِزْقٍ وَ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ إِمَامٍ جَائِرٍ قد سبق قولنا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو أحد الأصول الخمسة عند أصحابنا ولجة الماء أعظمه وبحر لجي ذو ماء عظيم والنفثة الفعلة الواحدة من نفثت الماء من فمي أي قدفته بقوة . قال ع لا يعتقدن أحد أنه إن أمر ظالما بالمعروف أو نهى ظالما عن منكر أن ذلك يكون سببا لقتل ذلك الظالم المأمور أو المنهي إياه أو يكون سببا لقطع رزقه من جهته فإن الله تعالى قدر الأجل وقضى الرزق ولا سبيل لأحد أن يقطع على أحد عمره أو رزقه .
[ 307 ](1/5611)
و هذا الكلام ينبغي أن يحمل على أنه حث وحض وتحريض على النهي عن المنكر والأمر بالمعروف ولا يحمل على ظاهره لأن الإنسان لا يجوز أن يلقي بنفسه إلى التهلكة معتمدا على أن الأجل مقدر وأن الرزق مقسوم وأن الإنسان متى غلب على ظنه أن الظالم يقتله ويقيم على ذلك المنكر ويضيف إليه منكرا آخر لم يجز له الإنكار . فأما كلمة العدل عند الإمام الجائر فنحو ما روي أن زيد بن أرقم رأى عبيد الله بن زياد ويقال بل يزيد بن معاوية يضرب بقضيب في يده ثنايا الحسين ع حين حمل إليه رأسه فقال له إيها ارفع يدك فطالما رأيت رسول الله ص يقبلها(1/5612)
فصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
و نحن نذكر خلاصة ما يقوله أصحابنا في النهي عن المنكر ونترك الاستقصاء فيه للكتب الكلامية التي هي أولى ببسط القول فيها من هذا الكتاب . قال أصحابنا الكلام في ذلك يقع من وجوه منها وجوبه ومنها طريق وجوبه ومنها كيفية وجوبه ومنها شروط حسنه ومنها شروط وجوبه ومنها كيفية إيقاعه ومنها الكلام في الناهي عن المنكر ومنها الكلام في النهي عن المنكر . أما وجوبه فلا ريب فيه لأن المنكر قبيح كله والقبيح يجب تركه فيجب النهي عنه . وأما طريق وجوبه فقد قال الشيخ أبو هاشم رحمه الله إنه لا طريق إلى وجوبه إلا السمع وقد أجمع المسلمون على ذلك وورد به نص القرآن في غير موضع .
[ 308 ](1/5613)
قال الشيخ أبو علي رحمه الله العقل يدل على وجوبه وإلى هذا القول مال شيخنا أبو الحسين رحمه الله . وأما كيفية وجوبه فإنه واجب على الكفاية دون الأعيان لأن الغرض ألا يقع المنكر فإذا وقع لأجل إنكار طائفة لم يبق وجه لوجوب الإنكار على من سواها . وأما شروط حسنه فوجوه منها أن يكون ما ينكره قبيحا لأن إنكار الحسن وتحريمه قبيح والقبيح على ضروب فمنه ما يقبح من كل مكلف وعلى كل حال كالظلم ومنها ما يقبح من كل مكلف على وجه دون وجه كالرمي بالسهام وتصريف الحمام والعلاج بالسلاح لأن تعاطي ذلك لمعرفة الحرب والتقوى على العدو ولتعرف أحوال البلاد بالحمام حسن لا يجوز إنكاره وإن قصد بالاجتماع على ذلك الاجتماع على السخف واللهو ومعاشرة ذوي الريب والمعاصي فهو قبيح يجب إنكاره . ومنه ما يقبح من مكلف ويحسن من آخر على بعض الوجوه كشرب النبيذ والتشاغل بالشطرنج فأما من يرى حظرهما أو يختار تقليد من يفتي بحظرهما فحرام عليه تعاطيهما على كل حال ومتى فعلهما حسن الإنكار عليه وأما من يرى إباحتهما أو من يختار تقليد من يفتي بإباحتهما فإنه يجوز له تعاطيهما على وجه دون وجه وذلك أنه يحسن شرب النبيذ من غير سكر ولا معاقرة والاشتغال بالشطرنج للفرجة وتخريج الرأي والعقل ويقبح ذلك إذا قصد به السخف وقصد بالشرب المعاقرة والسكر فالثاني يحسن إنكاره ويجب والأول لا يحسن إنكاره لأنه حسن من فاعله . ومنها أن يعلم المنكر أن ما ينكره قبيح لأنه إذا جوز حسنه كان بإنكاره له وتحريمه إياه محرما لما لا يأمن أن يكون حسنا فلا يأمن أن يكون ما فعله من النهي
[ 309 ](1/5614)
نهيا عن حسن وكل فعل لا يأمن فاعله أن يكون مختصا بوجه قبيح فهو قبيح أ لا ترى أنه يقبح من الإنسان أن يخبر على القطع بأن زيدا في الدار إذا لم يأمن ألا يكون فيها لأنه لا يأمن أن يكون خبره كذبا ومنها أن يكون ما ينهى عنه واقعا لأن غير الواقع لا يحسن النهي عنه وإنما يحسن الذم عليه والنهي عن أمثاله . ومنها ألا يغلب على ظن المنكر أنه إن أنكر المنكر فعله المنكر عليه وضم إليه منكرا آخر ولو لم ينكر عليه لم يفعل المنكر الآخر فمتى غلب على ظنه ذلك قبح إنكاره لأنه يصير مفسدة نحو أن يغلب على ظننا أنا إن أنكرنا على شارب الخمر شربها شربها وقرن إلى شربها القتل وإن لم ننكر عليه شربها ولم يقتل أحدا . ومنها ألا يغلب على ظن الناهي عن المنكر أن نهيه لا يؤثر فإن غلب على ظنه ذلك قبح نهيه عند من يقول من أصحابنا إن التكليف من المعلوم منه أنه يكفر لا يحسن إلا أن يكون فيه لطف لغير ذلك المكلف وأما من يقول من أصحابنا إن التكليف من المعلوم منه أنه يكفر حسن وإن لم يكن فيه لطف لغير المكلف فإنه لا يصح منه القول بقبح هذا الإنكار . فأما شرائط وجوب النهي عن المنكر فأمور منها أن يغلب على الظن وقوع المعصية نحو أن يضيق وقت صلاة الظهر ويرى الإنسان لا يتهيأ للصلاة أو يراه تهيأ لشرب الخمر بإعداد آلته ومتى لم يكن كذلك حسن منا أن ندعوه إلى الصلاة وإن لم يجب علينا دعاؤه . ومنها ألا يغلب على ظن الناهي عن المنكر أنه إن أنكر المنكر لحقته في نفسه وأعضائه مضرة عظيمة فإن غلب ذلك على ظنه وأنه لا يمتنع من ينكر عليه من فعل
[ 310 ](1/5615)
ما ينكره عليه أيضا فإنه لا يجب عليه الإنكار بل ولا يحسن منه لأنه مفسدة . وإن غلب على ظنه أنه لا يفعل ما أنكره عليه ولكنه يضر به نظر فإن كان إضراره به أعظم قبحا مما يتركه إذا أنكر عليه فإنه لا يحسن الإنكار عليه لأن الإنكار عليه قد صار والحالة هذه مفسدة نحو أن ينكر الإنسان على غيره شرب الخمر فيترك شربها ويقتله وإن كان ما يتركه إذا أنكر عليه أعظم قبحا مما ينزل به من المضرة نحو أن يهم بالكفر فإذا أنكر عليه تركه وجرح المنكر عليه أو قتله فإنه لا يجب عليه الإنكار ويحسن منه الإنكار أما قولنا لا يجب عليه الإنكار فلأن الله تعالى قد أباحنا التكلم بكلمة الكفر عند الإكراه فبأن يبيحنا ترك غيرنا أن يتلفظ بذلك عند الخوف على النفس أولى وأما قولنا إنه يحسن الإنكار فلأن في الإنكار مع الظن لما ينزل بالنفس من المضرة إعزازا للدين كما أن في الامتناع من إظهار كلمة الكفر مع الصبر على قتل النفس إعزازا للدين لا فضل بينهما . فأما كيفية إنكار المنكر فهو أن يبتدئ بالسهل فإن نفع وإلا ترقى إلى الصعب لأن الغرض ألا يقع المنكر فإذا أمكن ألا يقع بالسهل فلا معنى لتكلف الصعب ولأنه تعالى أمر بالإصلاح قبل القتال في قوله فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى اَلْأُخْرى فَقاتِلُوا اَلَّتِي تَبْغِي . فأما الناهي عن المنكر من هو فهو كل مسلم تمكن منه واختص بشرائطه لأن الله تعالى قال وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ ولإجماع المسلمين على أن كل من شاهد غيره تاركا للصلاة غير محافظ عليها فله أن يأمره بها بل يجب عليه إلا أن الإمام وخلفاءه أولى بالإنكار بالقتال لأنه أعرف بسياسة الحرب وأشد استعدادا لآلاتها .
[ 311 ](1/5616)
فأما المنهي من هو فهو كل مكلف اختص بما ذكرناه من الشروط وغير المكلف إذا هم بالإضرار لغيره منه ويمنع الصبيان وينهون عن شرب الخمر حتى لا يتعودوه كما يؤاخذون بالصلاة حتى يمرنوا عليها وهذا ما ذكره أصحابنا . فأما قوله ع ومنهم المنكر بلسانه وقلبه والتارك بيده فذلك متمسك بخصلتين من خصال الخير ومضيع خصلة فإنه يعني به من يعجز عن الإنكار باليد لمانع لأنه لم يخرج هذا الكلام مخرج الذم ولو كان لم يعن العاجز لوجب أن يخرج الكلام مخرج الذم لأنه ليس بمعذور في أن ينكر بقلبه ولسانه إذا أخل بالإنكار باليد مع القدرة على ذلك وارتفاع الموانع . وأما قوله ضيع أشرف الخصلتين فاللام زائدة وأصله ضيع أشرف خصلتين من الثلاث لأنه لا وجه لتعريف المعهود هاهنا في الخصلتين بل تعريف الثلاث باللام أولى ويجوز حذفها من الثلاث ولكن إثباتها أحسن كما تقول قتلت أشرف رجلين من الرجال الثلاثة . وأما قوله فذلك ميت الأحياء فهو نهاية ما يكون من الذم . واعلم أن النهي عن المنكر والأمر بالمعروف عند أصحابنا أصل عظيم من أصول الدين وإليه تذهب الخوارج الذين خرجوا على السلطان متمسكين بالدين وشعار الإسلام مجتهدين في العبادة لأنهم إنما خرجوا لما غلب على ظنونهم أو علموا جور الولاة وظلمهم وأن أحكام الشريعة قد غيرت وحكم بما لم يحكم به الله وعلى هذا الأصل تبنى الإسماعيلية من الشيعة قتل ولاة الجور غيلة وعليه بناء أصحاب الزهد في الدنيا الإنكار على الأمراء والخلفاء ومواجهتهم بالكلام الغليظ لما عجزوا عن الإنكار باليد وبالجملة فهو أصل شريف أشرف من جميع أبواب البر والعبادة كما قال أمير المؤمنين ع
[ 312 ](1/5617)
381
وَ رَوَى أَبُو جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ ع يَقُولُ : إِنَّ أَوَّلَ أَوَّلُ مَا تُغْلَبُونَ عَلَيْهِ مِنَ اَلْجِهَادِ اَلْجِهَادُ بِأَيْدِيكُمْ ثُمَّ بِأَلْسِنَتِكُمْ ثُمَّ بِقُلُوبِكُمْ فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ بِقَلْبِهِ مَعْرُوفاً وَ لَمْ يُنْكِرْ مُنْكَراً قُلِبَ فَجُعِلَ أَعْلاَهُ أَسْفَلَهُ وَ أَسْفَلُهُ أَعْلاَهُ إنما قال ذلك لأن الإنكار بالقلب آخر المراتب وهو الذي لا بد منه على كل حال فأما الإنكار باللسان وباليد فقد يكون منهما بد وعنهما عذر فمن ترك النهي عن المنكر بقلبه والأمر بالمعروف بقلبه فقد سخط الله عليه لعصيانه فصار كالممسوخ الذي يجعل الله تعالى أعلاه أسفله وأسفله أعلاه تشويها لخلقته ومن يقول بالأنفس الجسمانية وإنها بعد المفارقة يصعد بعضها إلى العالم العلوي وهي نفوس الأبرار وبعضها ينزل إلى المركز وهي نفوس الأشرار يتأول هذا الكلام على مذهبه فيقول إن من لا يعرف بقلبه معروفا أي لا يعرف من نفسه باعثا عليه ولا متقاضيا بفعله ولا ينكر بقلبه منكرا أي لا يأنف منه ولا يستقبحه ويمتعض من فعله يقلب نفسه التي قد كان سبيلها أن تصعد إلى عالمها فتجعل هاوية في حضيض الأرض وذلك عندهم هو العذاب والعقاب
[ 313 ](1/5618)
382
وَ قَالَ ع إِنَّ اَلْحَقَّ ثَقِيلٌ مَرِي ءٌ وَ إِنَّ اَلْبَاطِلَ خَفِيفٌ وَبِي ءٌ تقول مرؤ الطعام بالضم يمرؤ مراءة فهو مري ء على فعيل مثل خفيف وثقيل وقد جاء مرئ الطعام بالكسر كما قالوا فقه الرجل وفقه ووبي ء البلد بالكسر يوبأ وباءة فهو وبي ء على فعيل أيضا ويجوز فهو وبئ على فعل مثل حذر وأشر . يقول ع الحق وإن كان ثقيلا إلا أن عاقبته محمودة ومغبته صالحة والباطل وإن كان خفيفا إلا أن عاقبته مذمومة ومغبته غير صالحة فلا يحملن أحدكم حلاوة عاجل الباطل على فعله فلا خير في لذة قليلة عاجلة يتعقبها مضار عظيمة آجلة ولا يصرفن أحدكم عن الحق ثقله فإنه سيحمد عقبى ذلك كما يحمد شارب الدواء المر شربه فيما بعد إذا وجد لذة العافية
[ 314 ](1/5619)
383
وَ قَالَ ع لاَ تَأْمَنَنَّ عَلَى خَيْرِ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ عَذَابَ اَللَّهِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اَللَّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْخاسِرُونَ وَ لاَ تَيْأَسَنَّ لِشَرِّ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ مِنْ رَوْحِ اَللَّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اَللَّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْكافِرُونَ هذا كلام ينبغي أن يحمل على أنه أراد ع النهي عن القطع على مغيب أحد من الناس وأنه لا يجوز لأحد أن يقول فلان قد نجا ووجبت له الجنة ولا فلان قد هلك ووجبت له النار وهذا القول حق لأن الأعمال الصالحة لا يحكم لصاحبها بالجنة إلا بسلامة العاقبة وكذلك الأعمال السيئة لا يحكم لصاحبها بالنار إلا أن مات عليها فأما الاحتجاج بالآية الأولى فلقائل أن يقول إنها لا تدل على ما أفتى ع به وذلك لأن معناها أنه لا يجوز للعاصي أن يأمن مكر الله على نفسه وهو مقيم على عصيانه أ لا ترى أن أولها أَ فَأَمِنَ أَهْلُ اَلْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَ هُمْ نائِمُونَ أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ اَلْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَ هُمْ يَلْعَبُونَ أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اَللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اَللَّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْخاسِرُونَ وليست دالة على ما نحن
[ 315 ]
فيه لأن الذي نحن فيه هل يجوز لأحد أن يأمن على الصالحين من هذه الأمة عذاب الله . فأما الآية الثانية فالاحتجاج بها جيد لا شبهة فيه لأنه يجوز أن يتوب العاصي والتوبة من روح الله . فإن قلت وكذاك يجوز أن يكفر المسلم المطيع قلت صدقت ولكن كفره ليس من مكر الله فدل على أن المراد بالآية أنه لا ينبغي للعاصي أن يأمن من عقوبة الله ما دام عاصيا وهذا غير مسألتنا
[ 316 ](1/5620)
384
وَ قَالَ ع اَلْبُخْلُ جَامِعٌ لِمَسَاوِئِ اَلْعُيُوبِ وَ هُوَ زِمَامٌ يُقَادُ بِهِ إِلَى كُلِّ سُوءٍ قد تقدم القول في البخل والشح ونحن نذكر هاهنا زيادات أخرى(1/5621)
أقوال مأثورة في الجود والبخل
قال بعض الحكماء السخاء هيئة للإنسان داعية إلى بذل المقتنيات حصل معه البذل لها أو لم يحصل وذلك خلق ويقابله الشح وأما الجود فهو بذل المقتنى ويقابله البخل هذا هو الأصل وإن كان كل واحد منها قد يستعمل في موضع الآخر والذي يدل على صحة هذا الفرق أنهم جعلوا اسم الفاعل من السخاء والشح على بناء الأفعال الغريزية فقالوا شحيح وسخي فبنوه على فعيل كما قالوا حليم وسفيه وعفيف وقالوا جائد وباخل فبنوهما على فاعل كضارب وقاتل فأما قولهم بخيل فمصروف عن لفظ فاعل للمبالغة كقولهم في راحم رحيم ويدل أيضا على أن السخاء غريزة وخلق أنهم لم يصفوا البارئ سبحانه به فيقولوا سخي فأما الشح فقد عظم أمره وخوف منه ولهذا
قال ع ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه فخص المطاع تنبيها على أن وجود الشح
[ 317 ]
في النفس فقط ليس مما يستحق به ذم لأنه ليس من فعله وإنما يذم بالانقياد له قال سبحانه وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ وقال وَ أُحْضِرَتِ اَلْأَنْفُسُ اَلشُّحَّ . و
قال ع لا يجتمع شح وإيمان في قلب أبدا . فأما الجود فإنه محمود على جميع ألسنة العالم ولهذا قيل كفى بالجود مدحا أن اسمه مطلقا لا يقع إلا في حمد وكفى بالبخل ذما أن اسمه مطلقا لا يقع إلا في ذم . وقيل لحكيم أي أفعال البشر أشبه بأفعال الباري سبحانه فقال الجود . و(1/5622)
قال النبي ص الجود شجرة من أشجار الجنة من أخذ بغصن من أغصانها أداه إلى الجنة والبخل شجرة من أشجار النار من أخذ بغصن من أغصانها أداه إلى النار . ومن شرف الجود أن الله سبحانه قرن ذكره بالإيمان ووصف أهله بالفلاح والفلاح اسم جامع لسعادة الدارين قال سبحانه اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ إلى قوله وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ وقال وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ . وحق للجود بأن يقرن بالإيمان فلا شي ء أخص به وأشد مجانسة له منه فإن من صفة المؤمن انشراح الصدر كما قال تعالى فَمَنْ يُرِدِ اَللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي اَلسَّماءِ وهذا من صفات الجواد والبخيل لأن الجواد واسع الصدر منشرح مستبشر للإنفاق والبذل والبخيل قنوط ضيق الصدر حرج القلب ممسك . و
قال النبي ص وأي داء أدوأ من البخل . والبخل على ثلاثة أضرب بخل الإنسان بماله على نفسه وبخله بماله على غيره وبخله
[ 318 ]
بمال غيره على نفسه أو على غيره وأفحشها بخله بمال غيره على نفسه وأهونها وإن كان لا هين فيها بخله بماله على غيره . و
قال ع اللهم اجعل لمنفق خلفا ولممسك تلفا . و
قال إن الله عز وجل ينزل المعونة على قدر المئونة . و(1/5623)
قال أيضا من وسع وسع عليه . وقالت الفلاسفة الجود على أقسام فمنها الجود الأعظم وهو الجود الإلهي وهو الفيض العام المطلق وإنما يختلف لاختلاف المواد واستعداداتها وإلا فالفيض في نفسه عام غير خاص وبعده جود الملوك وهو الجود بجزء من المال على من تدعوهم الدواعي والأغراض إلى الجود عليه ويتلوه جود السوقة وهو بذل المال للعفاة أو الندامى والشرب والمعاشرين والإحسان إلى الأقارب . قالوا واسم الجود مجاز إلا الجود الإلهي العام فإنه عار عن الغرض والداعي وأما من يعطي لغرض وداع نحو أن يحب الثناء والمحمدة فإنه مستعيض وتاجر يعطي شيئا ليأخذ شيئا قالوا قول أبي نواس
فتى يشتري حسن الثناء بماله
و يعلم أن الدائرات تدور
ليس بغاية في الوصف بالجود التام بل هو وصف بتجارة محمودة وأحسن منه قول ابن الرومي
و تاجر البر لا يزال له
ربحان في كل متجر تجره
أجر وحمد وإنما طلب الأجر
و لكن كلاهما اعتوره
و أحسن منهما قول بشار
ليس يعطيك للرجاء ولا الخوف
و لكن يلذ طعم العطاء
و نحن قد ذكرنا ما في هذا الموضع من البحث العقلي في كتبنا العقلية
[ 319 ](1/5624)
385
وَ قَالَ ع يَا اِبْنَ آدَمَ اَلرِّزْقُ رِزْقَانِ رِزْقٌ تَطْلُبُهُ وَ رِزْقٌ يَطْلُبُكَ فَإِنْ لَمْ تَأْتِهِ أَتَاكَ فَلاَ تَحْمِلْ هَمَّ سَنَتِكَ عَلَى هَمِّ يَوْمِكَ كَفَاكَ كُلَّ يَوْمٍ كُلُّ يَوْمٍ عَلَى مَا فِيهِ فَإِنْ تَكُنِ اَلسَّنَةُ مِنْ عُمُرِكَ فَإِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى سَيُؤْتِيكَ فِي كُلِّ غَدٍ جَدِيدٍ مَا قَسَمَ لَكَ وَ إِنْ لَمْ تَكُنِ اَلسَّنَةُ مِنْ عُمُرِكَ فَمَا تَصْنَعُ بِالْهَمِّ فِيمَا لَيْسَ لَكَ وَ لَمْ يَسْبِقْكَ لَنْ يَسْبِقَكَ إِلَى رِزْقِكَ طَالِبٌ وَ لَنْ يَغْلِبَكَ عَلَيْهِ غَالِبٌ وَ لَنْ يُبْطِئَ عَنْكَ مَا قَدْ قُدِّرَ لَكَ قال وقد مضى هذا الكلام فيما تقدم من هذا الباب إلا أنه هاهنا أوضح وأشرح فلذلك كررناه على القاعدة المقررة في أول هذا الكتاب قد تقدم القول في معاني هذا الفصل وروي أن جماعة دخلوا على الجنيد فاستأذنوه في طلب الرزق فقال إن علمتم في أي موضع هو فاطلبوه قالوا فنسأل الله تعالى ذلك قال إن علمتم أنه ينساكم فذكروه قالوا فندخل البيت ونتوكل وننتظر ما يكون فقال التوكل على التجربة شك قالوا فما الحيلة قال ترك الحيلة . وروي أن رجلا لازم باب عمر فضجر منه فقال له يا هذا هاجرت إلى الله تعالى أم إلى باب عمر اذهب فتعلم القرآن فإنه سيغنيك عن باب عمر فذهب الرجل
[ 320 ]
و غاب مدة حتى افتقده عمر فإذا هو معتزل مشتغل بالعبادة فأتاه عمر فقال له إني اشتقت إليك فما الذي شغلك عنا قال إني قرأت القرآن فأغناني عن عمر وآل عمر فقال رحمك الله فما وجدت فيه قال وجدت فيه وَ فِي اَلسَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ فقلت رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض إني لبئس الرجل فبكى عمر وقال صدقت وكان بعد ذلك ينتابه ويجلس إليه
[ 321 ](1/5625)
386
وَ قَالَ ع رُبَّ مُسْتَقْبِلٍ يَوْماً لَيْسَ بِمُسْتَدْبِرِهِ وَ مَغْبُوطٍ فِي أَوَّلِ لَيْلِهِ قَامَتْ بَوَاكِيهِ فِي آخِرِهِ مثل هذا قول الشاعر
يا راقد الليل مسرورا بأوله
إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
و مثله
لا يغرنك عشاء ساكن
قد يوافي بالمنيات السحر
[ 322 ](1/5626)
387
وَ قَالَ ع اَلْكَلاَمُ فِي وَثَاقِكَ مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ فَإِذَا تَكَلَّمْتَ بِهِ صِرْتَ فِي وَثَاقِهِ فَاخْزُنْ لِسَانَكَ كَمَا تَخْزُنُ ذَهَبَكَ وَ وَرِقَكَ فَرُبَّ كَلِمَةٍ سَلَبَتْ نِعْمَةً وَ جَلَبَتْ نِقْمَةً قد تقدم القول في مدح الصمت وذم الكلام الكثير . وكان يقال لا خير في الحياة إلا لصموت واع أو ناطق محسن . وقيل لحذيفة قد أطلت سجن لسانك فقال لأنه غير مأمون إذا أطلق . ومن أمثال العرب رب كلمة تقول دعني . وقالوا أصلها أن بعض ملوك الحيرة كان قد استراب ببعض خوله فنزل يوما وهو يتصيد على تلعة ونزل أصحابه حوله فأفاضوا في حديث كثير فقال ذلك الإنسان أ ترى لو أن رجلا ذبح على رأس هذه التلعة هل كان يسيل دمه إلى أول الغائط فقال الملك هلموا فاذبحوه لننظر فذبحوه فقال الملك رب كلمة تقول دعني . وقال أكثم بن صيفي من إكرام الرجل نفسه ألا يتكلم بكل ما يعلم . وتذاكر قوم من العرب وفيهم رجل باهلي ساكت فقيل له بحق ما سميتم خرس العرب فقال أ ما علمتم أن لسان المرء لغيره وسمعه لنفسه
[ 323 ](1/5627)
388
وَ قَالَ ع لاَ تَقُلْ مَا لاَ تَعْلَمُ بَلْ لاَ تَقُلْ كُلَّ مَا تَعْلَمُ فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ فَرَضَ عَلَى جَوَارِحِكَ كُلِّهَا فَرَائِضَ يَحْتَجُّ بِهَا عَلَيْكَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ هذا نهي عن الكذب وأن تقول ما لا تأمن من كونه كذبا فإن الأمرين كليهما قبيحان عقلا عند أصحابنا . فإن قلت كيف يقول أصحابكم أن الخبر الذي لا يأمن كونه كذبا قبيح والناس يستحسنون الأخبار عن المظنون قلت إذا قال الإنسان زيد في الدار وهو يظنه في الدار ولا يقطع عليه فإن الحسن منه أن يخبر عن ظنه كأن يقول أخبر عن أني أظن أن زيدا في الدار وإذا كان هذا هو تقديره فالخبر إذن خبر عن معلوم لا عن مظنون لأنه قاطع على أنه ظان أن زيدا في الدار . فأما إذا فرض الخبر لا على هذا الوجه بل على القطع بأن زيدا في الدار وهو لا يقطع على أن زيدا في الدار فقد أخبر بخبر ليس على ما أخبر به عنه لأنه أخبر عن أنه قاطع وليس بقاطع فكان قبيحا
[ 324 ](1/5628)
389
وَ قَالَ ع اِحْذَرْ أَنْ يَرَاكَ اَللَّهُ عِنْدَ مَعْصِيَتِهِ وَ يَفْقِدَكَ عِنْدَ طَاعَتِهِ فَتَكُونَ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ وَ إِذَا قَوِيتَ فَاقْوَ عَلَى طَاعَةِ اَللَّهِ وَ إِذَا ضَعُفْتَ فَاضْعُفْ عَنْ مَعْصِيَةِ اَللَّهِ من علم يقينا أن الله تعالى يراه عند معصيته كان أجد الناس أن يجتنبها كما إذا علمنا يقينا أن الملك يرى الواحد منا وهو يراود جاريته عن نفسها أو يحادث ولده ليفجر به ولكن اليقين في البشر ضعيف جدا أو أنهم أحمق الحيوان وأجهله وبحق أقول إنهم إن اعتقدوا ذلك اعتقادا لا يخالطه الشك ثم واقعوا المعصية وعندهم عقيدة أخرى ثابتة أن العقاب لاحق بمن عصى فإن الإبل والبقر أقرب إلى الرشاد منهم . وأقول إن الذي جرأ الناس على المعصية الطمع في المغفرة والعفو العام وقولهم الحلم والكرم والصفح من أخلاق ذوي النباهة والفضل من الناس فكيف لا يكون من الباري سبحانه عفو عن الذنوب . وما أحسن قول شيخنا أبي علي رحمه الله لو لا القول بالإرجاء لما عصي الله في الأرض
[ 325 ](1/5629)
390
وَ قَالَ ع اَلرُّكُونُ إِلَى اَلدُّنْيَا مَعَ مَا تُعَايِنَ مِنْهَا جَهْلٌ وَ اَلتَّقْصِيرُ فِي حُسْنِ اَلْعَمَلِ إِذَا وَثِقْتَ بِالثَّوَابِ عَلَيْهِ غَبْنٌ وَ اَلطُّمَأْنِينَةُ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ قَبْلَ اَلاِخْتِبَارِ لَهُ عَجْزٌ قد تقدم الكلام في الدنيا وحمق من يركن إليها مع معاينة غدرها وقلة وفائها ونقضها عهودها وقتلها عشاقها . ولا ريب أن الغبن وأعظم الغبن هو التقصير في الطاعة مع يقين الثواب عليها وأما الطمأنينة إلى من لم يعرف ولم يختبر فإنها عجز كما قال ع يعني عجزا في العقل والرأي فإن الوثوق مع التجربة فيه ما فيه فكيف قبل التجربة . وقال الشاعر
و كنت أرى أن التجارب عدة
فخانت ثقات الناس حين التجارب
[ 326 ](1/5630)
391
وَ قَالَ ع مِنْ هَوَانِ اَلدُّنْيَا عَلَى اَللَّهِ أَنَّهُ لاَ يُعْصَى إِلاَّ فِيهَا وَ لاَ يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلاَّ بِتَرْكِهَا هذا الكلام نسبه الغزالي في كتاب إحياء علوم الدين إلى أبي الدرداء والصحيح أنه من كلام علي ع ذكره شيخنا أبو عثمان الجاحظ في غير موضع من كتبه وهو أعرف بكلام الرجال(1/5631)
نبذ مما قيل في حال الدنيا وهوانها واغترار الناس بها
و قد تقدم من كلامنا في حال الدنيا وهوانها على الله واغترار الناس بها وغدرها بهم وذم العقلاء لها وتحذيرهم منها ما فيه كفاية . ونحن نذكر هاهنا زيادة على ذلك .
يقال إن في بعض كتب الله القديمة الدنيا غنيمة الأكياس وغفلة الجهال لم يعرفوها حتى خرجوا منها فسألوا الرجعة فلم يرجعوا . وقال بعض العارفين من سأل الله تعالى الدنيا فإنما سأله طول الوقوف بين يديه .
[ 327 ](1/5632)
و قال الحسن لا تخرج نفس ابن آدم من الدنيا إلا بحسرات ثلاث أنه لم يشبع مما جمع ولم يدرك ما أمل ولم يحسن الزاد لما يقدم عليه . ومن كلامه أهينوا الدنيا فو الله ما هي لأحد بأهنأ منها لمن أهانها . وقال محمد بن المنكدر أ رأيت لو أن رجلا صام الدهر لا يفطر وقام الليل لا يفتر وتصدق بماله وجاهد في سبيل الله واجتنب محارم الله تعالى غير أنه يؤتى به يوم القيامة فيقال إن هذا مع ما قد عمل كان يعظم في عينه ما صغر الله ويصغر في عينه ما عظم الله كيف ترى يكون حاله فمن منا ليس هكذا الدنيا عظيمة عنده مع ما اقترفنا من الذنوب والخطايا . وقد ضربت الحكماء مثلا للدنيا نحن نذكره هاهنا قالوا مثل الدنيا وأهلها كقوم ركبوا سفينة فانتهت بهم إلى جزيرة فأمرهم الملاح بالخروج لقضاء الحاجة وحذرهم المقام وخوفهم مرور السفينة واستعجالها فتفرقوا في نواحي الجزيرة فقضى بعضهم حاجته وبادر إلى السفينة فصادف المكان خاليا فأخذ أوسع المواضع وألينها وأوفقها لمراده وبعضهم توقف في الجزيرة ينظر إلى أزهارها وأنوارها العجيبة وغياضها الملتفة ونغمات طيورها الطيبة وألحانها الموزونة الغريبة ولحظ في تزيينها أحجارها وجواهرها ومعادنها المختلفة الألوان ذوات الأشكال الحسنة المنظر العجيبة النقش السالبة أعين الناظرين بحسن زبرجها وعجائب صورها ثم تنبه لخطر فوات السفينة فرجع إليها فلم يصادف إلا مكانا ضيقا حرجا فاستقر فيه وبعضهم أكب فيها على تلك الأصداف والأحجار وقد أعجبه حسنها ولم تسمح نفسه بإهمالها وتركها فاستصحب منها جملة فجاء إلى السفينة فلم يجد إلا مكانا ضيقا وزاده ما حمله ضيقا وصار ثقلا عليه ووبالا فندم على أخذه ولم تطعه نفسه على رميه ولم يجد موضعا له فحمله على عنقه
[ 328 ](1/5633)
و رأسه وجلس في المكان الضيق في السفينة وهو متأسف على أخذه ونادم وليس ينفعه ذلك وبعضهم تولج بتلك الأنوار والغياض ونسي السفينة وأبعد في متفرجه ومتنزهه حتى أن نداء الملاح لم يبلغه لاشتغاله بأكل تلك الثمار واشتمامه تلك الأنوار والتفرج بين تلك الأشجار وهو مع ذلك خائف على نفسه من السباع والسقطات والنكبات ونهش الحيات وليس ينفك عن شوك يتشبث بثيابه وغصن يجرح جسمه ومروة تدمي رجله وصوت هائل يفزع منه وعوسج يملأ طريقه ويمنعه عن الانصراف لو أراده وكان في جماعة ممن كان معه في السفينة حالهم حاله فلما بلغهم نداء السفينة راح بعضهم مثقلا بما معه فلم يجد في السفينة موضعا واسعا ولا ضيقا فبقي على الشط حتى مات جوعا وبعضهم بلغه النداء فلم يعرج عليه واستغرقته اللذة وسارت السفينة فمنهم من افترسته السباع ومنهم من تاه وهام على وجهه حتى هلك ومنهم من ارتطم في الأوحال ومنهم من نهشته الحيات فتفرقوا هلكى كالجيف المنتنة فأما من وصل إلى السفينة مثقلا بما أخذه من الأزهار والفاكهة اللذيذة والأحجار المعجبة فإنها استرقته وشغله الحزن بحفظها والخوف من ذهابها عن جميع أموره وضاق عليه بطريقها مكانه فلم تلبث أن ذبلت تلك الأزهار وفسدت تلك الفاكهة الغضة وكمدت ألوان الأحجار وحالت فظهر له نتن رائحتها فصارت مع كونها مضيقة عليه مؤذية له بنتنها ووحشتها فلم يجد حيلة إلا أن ألقاها في البحر هربا منها وقد أثر في مزاجه ما أكله منها فلم ينته إلى بلده إلا بعد أن ظهرت عليه الأسقام بما أكل وما شم من تلك الروائح فبلغ سقيما وقيذا مدبرا وأما من كان رجع عن قريب وما فاته إلا سعة المحل فإنه تأذى بضيق المكان مدة ولكن لما وصل إلى الوطن استراح وأما من رجع أولا فإنه وجد المكان الأوسع ووصل إلى الوطن سالما طيب القلب مسرورا .
[ 329 ](1/5634)
فهذا مثال أهل الدنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة ونسيانهم موردهم ومصدرهم وغفلتهم عن عاقبة أمرهم وما أقبح حال من يزعم أنه بصير عاقل وتغره حجارة الأرض وهي الذهب والفضة وهشيم النبت وهو زينة الدنيا وهو يعلم يقينا أن شيئا من ذلك لا يصحبه عند الموت بل يصير كله وبالا عليه وهو في الحال الحاضرة شاغل له بالخوف عليه والحزن والهم لحفظه وهذه حال الخلق كلهم إلا من عصمه الله . وقد ضرب أيضا لها مثال آخر في عبور الإنسان عليها قالوا الأحوال ثلاثة حال لم يكن الإنسان فيها شيئا وهي ما قبل وجوده إلى الأزل وحال لا يكون فيها موجودا مشاهدا للدنيا وهي بعد موته إلى الأبد وحالة متوسطة بين الأزل والأبد وهي أيام حياته في الدنيا فلينظر العاقل إلى الطرفين الطويلين ولينظر إلى الحالة المتوسطة هل يجد لها نسبة إليها وإذا رأى العاقل الدنيا بهذه العين لم يركن إليها ولم يبال كيف تقضت أيامه فيها في ضر وضيق أو في سعة ورفاهة بل لا يبني لبنة على لبنة
توفي رسول الله ص وما وضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة ورأى بعض الصحابة بنى بيتا من جص فقال أرى الأمر أعجل من هذا وأنكر ذلك ولهذا
قال النبي ص ما لي وللدنيا إنما مثلي ومثلها كراكب سار في يوم صائف فرفعت له شجرة فقام تحت ظلها ساعة ثم راح وتركها و
إلى هذا أشار عيسى ابن مريم حيث قال الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها وهو مثل صحيح فإن الحياة الدنيا قنطرة إلى الآخرة والمهد هو أحد جانبي القنطرة واللحد الجانب الآخر وبينهما مسافة محدودة فمن الناس من قطع نصف القنطرة ومنهم من قطع ثلثيها ومنهم من لم يبق له إلا خطوة واحدة وهو غافل عنها وكيفما كان فلا بد من العبور والانتهاء ولا ريب أن عمارة هذه القنطرة وتزيينها بأصناف الزينة لمن
[ 330 ]
هو محمول قسرا وقهرا على عبورها يسوقه سائق عنيف غاية الجهل والخذلان . و(1/5635)
في الحديث المرفوع أن رسول الله ص مر على شاة ميتة فقال أ ترون أن هذه الشاة هينة على أهلها قالوا نعم ومن هوانها ألقوها فقال والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه الشاة على أهلها ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة لما سقى كافرا منها شربة ماء . و
قال ص الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر . و
قال أيضا الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله منها . و
قال أيضا من أحب دنياه أضر بآخرته ومن أحب آخرته أضر بدنياه فآثروا ما يبقى على ما يفنى . و
قال أيضا حب الدنيا رأس كل خطيئة . و
روى زيد بن أرقم قال كنا مع أبي بكر فدعا بشراب فأتي بماء وعسل فلما أدناه من فيه بكى حتى أبكى أصحابه فسكتوا وما سكت ثم عاد ليشرب فبكى حتى ظنوا أنهم لا يقدرون على مسألته ثم مسح عينيه فقالوا يا خليفة رسول الله ما أبكاك قال كنت مع رسول الله ص فرأيته يدفع بيده عن نفسه شيئا ولم أر معه أحدا فقلت يا رسول الله ما الذي تدفع عن نفسك قال هذه الدنيا مثلت لي فقلت لها إليك عني فرجعت وقالت إنك إن أفلت مني لم يفلت مني من بعدك وقال ص يا عجبا كل العجب للمصدق بدار الخلود وهو يسعى لدار الغرور . و
من الكلام المأثور عن عيسى ع لا تتخذوا الدنيا ربا فتتخذكم الدنيا عبيدا فاكنزوا كنزكم عند من لا يضيعه فإن صاحب كنز الدنيا يخاف عليه الآفة وصاحب كنز الآخرة لا يخاف عليه
[ 331 ](1/5636)
392
وَ قَالَ ع مَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ : وَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى : مَنْ فَاتَهُ حَسَبُ نَفْسِهِ لَمْ يَنْفَعْهُ حَسَبُ آبَائِهِ قد تقدم مثل هذا وقد ذكرنا ما عندنا فيه وقال الشاعر
لئن فخرت بآباء ذوي حسب
لقد صدقت ولكن بئس ما ولدوا
و كان يقال أجهل الناس من افتخر بالعظام البالية وتبجح بالقرون الماضية واتكل على الأيام الخالية . وكان يقال من طريف الأمور حي يتكل على ميت . وكان يقال ضعة الدني ء في نفسه والرفيع في أصله أقبح من ضعة الوضيع في نفسه وأصله لأن هذا تشبه بآبائه وسلفه وذاك قصر عن أصله وسلفه فهو إلى الملامة أقرب وعن العذر أبعد . افتخر شريف بأبيه فقال خصمه لو وفقت لما ذكرت أباك لأنه حجة عليك تنادي بنقصك وتقر بتخلفك . كان جعفر بن يحيى يقول ليس من الكرام من افتخر بالعظام . وقال الفضل بن الربيع كفى بالمرء عارا أن يفتخر بغيره .
[ 332 ]
و قال الرشيد من افتخر بآبائه فقد نادى على نفسه بالعجز وأقر على همته بالدناءة . وقال ابن الرومي
و ما الحسب الموروث لا در دره
بمحتسب إلا بآخر مكتسب
إذا العود لم يثمر وإن كان شعبة
من الثمرات أعتده الناس في الحطب
و قال عبد الله بن جعفر
لسنا وإن أحسابنا كرمت
يوما على الآباء نتكل
نبني كما كانت أوائلنا
تبني ونفعل مثل ما فعلوا
و قال آخر
و ما فخري بمجد قام غيري
إليه إذا رقدت الليل عنه
إلى حسب الفتى في نفسه انظر
و لا تنظر هديت إلى ابن من هو
و قال آخر
إذا فخرت بآبائي وأجدادي
فقد حكمت على نفسي لأضدادي
هل نافعي إن سعى جدي لمكرمة
و نمت عن أختها في جانب الوادي
و قال آخر
أ يقنعني كوني بمن كوني ابنه
أبا لي أن أرضى لفخري بمجده
إذا المرء لم يحو العلاء بنفسه
فليس بحاو للعلاء بجده
و هل يقطع السيف الحسام بأصله
إذا هو لم يقطع بصارم حده
و قيل لرجل يدل بشرف آبائه لعمري لك أول ولكن ليس لأولك آخر .
[ 333 ](1/5637)
و مثله أن شريفا بآبائه فاخر شريفا بنفسه فقال الشريف بنفسه انتهى إليك شرف أهلك ومني ابتدأ شرف أهلي وشتان بين الابتداء والانتهاء . وقيل لشريف ناقص الأدب إن شرفك بأبيك لغيرك وشرفك بنفسك لك فافرق بين ما لك وما لغيرك ولا تفرح بشرف النسب فإنه دون شرف الأدب
[ 334 ](1/5638)
393
وَ قَالَ ع مَنْ طَلَبَ شَيْئاً نَالَهُ أَوْ بَعْضَهُ هذا مثل قولهم من طلب وجد وجد . وقال بعض الحكماء ما لازم أحد باب الملك فاحتمل الذل وكظم الغيظ ورفق بالبواب وخالط الحاشية إلا وصل إلى حاجته من الملك
[ 335 ](1/5639)
394
وَ قَالَ ع مَا خَيْرٌ بِخَيْرٍ بَعْدَهُ اَلنَّارُ وَ مَا شَرٌّ بِشَرٍّ بَعْدَهُ اَلْجَنَّةُ وَ كُلُّ نَعِيمٍ دُونَ اَلْجَنَّةِ فَهُوَ مَحْقُورٌ وَ كُلُّ بَلاَءٍ دُونَ اَلنَّارِ عَافِيَةٌ موضع بعده النار رفع لأنه صفة خير الذي بعد ما وخير يرفع لأنه اسم ما وموضع الجار والمجرور نصب لأنه خبر ما والباء زائدة مثلها في قولك ما أنت بزيد كما تزاد في خبر ليس والتقدير ما خير تتعقبه النار بخير كما تقول ما لذة تتلوها نغصة بلذة ولا ينقدح في ما الوجهان اللذان ذكرهما أرباب الصناعة النحوية في لا في قولهم لا خير بخير بعده النار أحدهما ما ذكرناه في ما والآخر أن يكون موضع بعده النار جرا لأنه صفة خير المجرور ويكون معنى الباء معنى في كقولك زيد بالدار وفي الدار ويصير تقدير الكلام لا خير في خير تعقبه النار وذلك أن ما تستدعي خبرا موجودا في الكلام بخلاف لا فإن خبرها محذوف في مثل قولك لا إله إلا الله ونحوه أي في الوجود أو لنا أو ما أشبه ذلك وإذا جعلت بعده صفة خير المجرور لم يبق معك ما تجعله خبر ما . وأيضا فإن معنى الكلام يفسد في ما بخلاف لا لأن لا لنفي الجنس فكأنه
[ 336 ]
نفى جنس الخير عن خير تتعقبه النار وهذا معنى صحيح وكلام منتظم وما هاهنا إن كانت نافية احتاجت إلى خبر ينتظم به الكلام وإن كانت استفهاما فسد المعنى لأن ما لفظ يطلب به معنى الاسم كقوله ما العنقاء أو يطلب به حقيقة الذات كقولك ما الملك ولست تطيق أن تدعي أن ما للاستفهام هاهنا عن أحد القسمين مدخلا لأنك تكون كأنك قد قلت أي شي ء هو خير في خير تتعقبه النار وهذا كلام لا معنى له
[ 337 ](1/5640)
395
وَ قَالَ ع أَلاَ وَ إِنَّ مِنَ اَلْبَلاَءِ اَلْفَاقَةَ وَ أَشَدُّ مِنَ اَلْفَاقَةِ مَرَضُ اَلْبَدَنِ وَ أَشَدُّ مِنْ مَرَضِ اَلْبَدَنِ مَرَضُ اَلْقَلْبِ أَلاَ وَ إِنَّ مِنَ اَلنِّعَمِ سَعَةَ اَلْمَالِ وَ أَفْضَلُ مِنْ سَعَةِ اَلْمَالِ صِحَّةُ اَلْبَدَنِ وَ أَفْضَلُ مِنْ صِحَّةِ اَلْبَدَنِ تَقْوَى اَلْقَلْبِ قد تقدم الكلام في الفاقة والغنى فأما المرض والعافية
ففي الحديث المرفوع إليك انتهت الأماني يا صاحب العافية فأما مرض القلب وصحته فالمراد به التقوى وضدها وقد سبق القول في ذلك . وقال أحمد بن يوسف الكاتب
المال للمرء في معيشته
خير من الوالدين والولد
و إن تدم نعمة عليك تجد
خيرا من المال صحة الجسد
و ما بمن نال فضل عافية
و قوت يوم فقر إلى أحد
[ 338 ](1/5641)
396
وَ قَالَ ع لِلْمُؤْمِنِ ثَلاَثُ سَاعَاتٍ فَسَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ وَ سَاعَةٌ يَرُمُّ فِيهَا مَعَايِشَهُ مَعَاشَهُ وَ سَاعَةٌ يُخَلِّي فِيهَا بَيْنَ نَفْسِهِ وَ بَيْنَ لَذَّتِهَا فِيمَا يَحِلُّ وَ يَجْمُلُ وَ لَيْسَ لِلْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ شَاخِصاً إِلاَّ فِي ثَلاَثٍ مَرَمَّةٍ لِمَعَاشٍ أَوْ خُطْوَةٍ فِي مَعَادٍ أَوْ لَذَّةٍ فِي غَيْرِ مُحَرَّمٍ تقدير الكلام ينبغي أن يكون زمان العاقل مقسوما ثلاثة أقسام . ويرم معاشه يصلحه وشاخصا راحلا وخطوة في معاد يعني في عمل المعاد وهو العبادة والطاعة . وكان شيخنا أبو علي رحمه الله يقسم زمانه على ما أصف لك كان يصلي الصبح والكواكب طالعة ويجلس في محرابه للذكر والتسبيح إلى بعد طلوع الشمس بقليل ثم يتكلم مع التلامذة وطلبة العلم إلى ارتفاع النهار ثم يقوم فيصلي الضحى ثم يجلس فيتمم البحث مع التلامذة إلى أن يؤذن للظهر فيصليها بنوافلها ثم يدخل إلى أهله فيصلح شأنه ويقضي حوائجه ثم يخرج للعصر فيصليها بنوافلها ويجلس مع التلامذة إلى المغرب فيصليها ويصلي العشاء ثم يشتغل بالقرآن إلى ثلث الليل ثم ينام الثلث الأوسط ثم يقعد فيصلي الثلث الأخير كله إلى الصبح
[ 339 ](1/5642)
397
وَ قَالَ ع اِزْهَدْ فِي اَلدُّنْيَا يُبَصِّرْكَ اَللَّهُ عَوْرَاتِهَا وَ لاَ تَغْفُلْ فَلَسْتَ بِمَغْفُولٍ عَنْكَ أمره بالزهد في الدنيا وجعل جزاء الشرط تبصير الله تعالى له عورات الدنيا وهذا حق لأن الراغب في الدنيا عاشق لها والعاشق لا يرى عيب معشوقه كما قال القائل
و عين الرضا عن كل عيب كليلة
و لكن عين السخط تبدي المساويا
فإذا زهد فيها فقد سخطها وإذا سخطها أبصر عيوبها مشاهدة لا رواية . ثم نهاه عن الغفلة وقال له إنك غير مغفول عنك فلا تغفل أنت عن نفسك فإن أحق الناس وأولاهم ألا يغفل عن نفسه من ليس بمغفول عنه ومن عليه رقيب شهيد يناقشه على الفتيل والنقير
[ 340 ](1/5643)
398
وَ قَالَ ع تَكَلَّمُوا تُعْرَفُوا فَإِنَّ اَلْمَرْءَ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ هذه إحدى كلماته ع التي لا قيمة لها ولا يقدر قدرها والمعنى قد تداوله الناس قال
و كائن ترى من صامت لك معجب
زيادته أو نقصه في التكلم
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
و كان يحيى بن خالد يقول ما جلس إلى أحد قط إلا هبته حتى يتكلم فإذا تكلم إما أن تزداد الهيبة أو تنقص
[ 341 ](1/5644)
399
وَ قَالَ ع نِعْمَ اَلطِّيبُ اَلْمِسْكُ خَفِيفٌ مَحْمِلُهُ عَطِرٌ رِيحُهُ(1/5645)
فصل فيما ورد في الطيب من الآثار
كان النبي ص كثير التطيب بالمسك وبغيره من أصناف الطيب . و
جاء الخبر الصحيح عنه حبب إلي من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة . وقد رويت لفظة أمير المؤمنين ع عنه مرفوعة ونحوها
لا تردوا الطيب فإنه طيب الريح خفيف المحمل . سرق أعرابي نافجة مسك فقيل له ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة قال إذن أحملها طيبة الريح خفيفة المحمل . و
في الحديث المرفوع أنه ع بايع قوما كان بيد رجل منهم ردع خلوق فبايعه بأطراف أصابعه وقال خير طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه وخير طيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه و
عنه ع في صفة أهل الجنة ومجامرهم الألوة وهي العود الهندي .
[ 342 ]
و
روى سهل بن سعد عنه ع أن في الجنة لمراغا من مسك مثل مراغ دوابكم هذه و
روي عنه ع أيضا في صفة الكوثر جاله المسك أي جانبه ورضراضة التوم وحصباؤه اللؤلؤ و
قالت عائشة كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفارق رسول الله ص وهو محرم و
كان ابن عمر يستجمر بعود غير مطرى ويجعل معه الكافور ويقول هكذا رأيت رسول الله ص يصنع و
روى أنس بن مالك قال دخل علينا رسول الله ص فقال عندنا والوقت صيف فعرق فجاءت أمي بقارورة فجعلت تسلت عرقه فاستيقظ وقال يا أم سليم ما تصنعين قالت هذا عرقك نجعله في طيبنا فإنه من أطيب الطيب ونرجو به بركة صبياننا فقال أصبت . ومن كلام عمر لو كنت تاجرا ما اخترت غير العطر إن فاتني ربحه لم يفتني ريحه . ناول المتوكل أحمد بن أبي فنن فأرة مسك فأنشده
لئن كان هذا طيبنا وهو طيب
لقد طيبته من يديك الأنامل
قالوا سميت الغالية غالية لأن عبد الله بن جعفر أهدى لمعاوية قارورة منها فسأله كم أنفق عليها فذكر مالا فقال هذه غالية فسميت غالية . شم مالك بن أسماء بن خارجة الفزاري من أخته هند بنت أسماء ريح غالية وكانت تحت الحجاج فقال علميني طيبك قالت لا أفعل أ تريد أن تعلمه
[ 343 ](1/5646)
جواريك هو لك عندي ما أردته ثم ضحكت وقالت والله ما تعلمته إلا من شعرك حيث قلت
أطيب الطيب طيب أم أبان
فأر مسك بعنبر مسحوق
خلطته بعودها وببان
فهو أحوى على اليدين شريق
و روى أبو قلابة قال كان ابن مسعود إذا خرج من بيته إلى المسجد عرف من في الطريق أنه قد مر من طيب ريحه . وروى الحسن بن زيد عن أبيه قال رأيت ابن عباس حين أحرم والغالية على صلعته كأنها الرب . أولم المتوكل في طهر بنيه فلما كثر اللعب قال ليحيي بن أكثم انصرف أيها القاضي قال ولم قال لأنهم يريدون أن يخلطوا قال أحوج ما يكونون إلى قاض إذا خلطوا فاستظرفه وأمر أن تغلف لحيته ففعل فقال يحيى إنا لله ضاعت الغالية كانت هذه تكفيني دهرا لو دفعت إلي فأمر له بزورق لطيف من ذهب مملوء من غالية ودرج بخور فأخذهما وانصرف . وروى عكرمة أن ابن عباس كان يطلي جسده بالمسك فإذا مر بالطريق قال الناس أ مر ابن عباس أم المسك وقال أبو الضحى رأيت على رأس ابن الزبير من المسك ما لو كان لي لكان رأس مالي . لما بنى عمر بن عبد العزيز على فاطمة بنت عبد الملك أسرج في مسارجه تلك الليلة الغالية إلى أن طلعت الشمس . كانت لابن عمر بندقة من مسك يبوكها بين راحتيه فتفوح رائحتها . كان عمر بن عبد العزيز في إمارته المدينة يجعل المسك بين قدميه ونعله فقال فيه الشاعر يمدحه
له نعل لا تطبي الكلب ريحها
و إن وضعت في مجلس القوم شمت
[ 344 ]
سمع عمر قول سحيم عبد بني الحسحاس
و هبت شمال آخر الليل قرة
و لا ثوب إلا درعها وردائيا
فما زال بردي طيبا من ثيابها
مدى الحول حتى أنهج البرد باليا(1/5647)
فقال له ويحك إنك مقتول فلم تمض عليه أيام حتى قتل . قال الشعبي الرائحة الطيبة تزيد في العقل . كان عبد الله بن زيد يتخلق بالخلوق ثم يجلس في المجلس . وكانوا يستحبون إذا قاموا من الليل أن يمسحوا مقاديم لحاهم بالطيب . واشترى تميم الداري حلة بثمانمائة درهم وهيأ طيبا فكان إذا قام من الليل تطيب ولبس حلته وقام في المحراب . وقال أنس يا جميلة هيئي لنا طيبا أمسح به يدي فإن ابن أم ثابت إذا جاء قبل يدي يعني ثابتا البناني . وقال سلم بن قتيبة لقد شممت من فلان رائحة أطيب من مشطة العروس الحسناء في أنف العاشق الشبق . ومن كلام بعض الصالحين الفاسق رجس ولو تضمخ بالغالية . عرضت مدنية لكثير فقالت له أنت القائل
فما روضة بالحزن طيبة الثرى
يمج الندى جثجاثها وعرارها
بأطيب من أردان عزة موهنا
و قد أوقدت بالمندل الرطب نارها
لو كانت هذه الصفة لزنجية تجتلي الحلة لطابت هلا قلت كما قال سيدك إمرؤ القيس
[ 345 ]
أ لم ترياني كلما جئت طارقا
وجدت بها طيبا وإن لم تطيب(1/5648)
و قال الزمخشري إن النوى المنقع بالمدينة ينتاب أشرافها المواضع التي يكون فيها التماسا لطيب ريحه وإذا وجدوا ريحه بالعراق هربوا منها لخبثها قال ومن اختلف في طرقات المدينة وجد رائحة طيبة وبنة عجيبة ولذلك سميت طيبة والزنجية بها تجعل في رأسها شيئا من بلح وما لا قيمة له فتجد له خمرة لا يعدلها بيت عروس من ذوات الأقدار . قال ولو دخلت كل غالية وعطر قصبة الأهواز وقصبة أنطاكية لوجدتها قد تغيرت وفسدت في مدة يسيرة . أراد الرشيد المقام في أنطاكية فقال له شيخ منها إنها ليست من بلادك فإن الطيب الفاخر يتغير فيها حتى لا ينتفع منه بشي ء والسلاح يصدأ فيها . سيراف من بلاد فارس لها فغمة طيبة . فأرة المسك دويبة شبيهة بالخشف تكون في ناحية تبت تصاد لأجل سرتها فإذا صادها الصائد عصب سرتها بعصاب شديد وهي مدلاة فيجتمع فيها دمها ثم يذبحها وما أكثر من يأكلها ثم يأخذ السرة فيدفنها في الشعر حتى يستحيل الدم المحتقن فيها مسكا ذكيا بعد أن كان لا يرام نتنا وقد يوجد في البيوت جرذان سود يقال لها فأر المسك ليس عندها إلا رائحة لازمة لها . وذكر شيخنا أبو عثمان الجاحظ قال سألت بعض أصحابنا المعتزلة عن شأن المسك فقال لو لا أن رسول الله ص تطيب بالمسك لما تطيبت به لأنه دم فأما
[ 346 ](1/5649)
الزباد فليس مما يقرب ثيابي فقلت له قد يرتضع الجدي من لبن خنزيرة فلا يحرم لحمه لأن ذلك اللبن استحال لحما وخرج من تلك الطبيعة وعن تلك الصورة وعن ذلك الاسم وكذا لحم الجلالة فالمسك غير الدم والخل غير الخمر والجوهر لا يحرم لذاته وعينه وإنما يحرم للأعراض والعلل فلا تقزز منه عند ذكرك الدم فليس به بأس . قال الزمخشري والزبادة هرة ويقال للزيلع وهم الذين يجتلبون الزباد يا زيلع الزبادة ماتت فيغضب . وقال ابن جزلة الطبيب في المنهاج الزباد طيب يؤخذ من حيوان كالسنور يقال إنه وسخ في رحمها . وقال الزمخشري العنبر يأتي طفاوة على الماء لا يدري أحد معدنه يقذفه البحر إلى البر فلا يأكل منه شي ء إلا مات ولا ينقره طائر إلا بقي منقاره فيه ولا يقع عليه إلا نصلت أظفاره والبحريون والعطارون ربما وجدوا فيه المنقار والظفر . قال والبال وهو سمكة طولها خمسون ذراعا يؤكل منه اليسير فيموت . قال وسمعت ناسا من أهل مكة يقولون هو ضفع ثور في بحر الهند وقيل هو من زبد بحر سرنديب وأجوده الأشهب ثم الأزرق وأدونه الأسود . و
في حديث ابن عباس ليس في العنبر زكاة إنما هو شي ء يدسره البحر أي يدفعه .
[ 347 ]
فأما صاحب المنهاج في الطب فقال العنبر من عين في البحر ويكون جماجم أكبرها وزنه ألف مثقال والأسود أردأ أصنافه وكثيرا ما يوجد في أجواف السمك التي تأكله وتموت وتوجد فيه سهوكة . وقال في المسك أنه سرة دابة كالظبي له نابان أبيضان معقفان إلى الجانب الإنسي كقرنين .
جاء في الحديث المرفوع لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن إذا خرجن ثفلات أي غير متطيبات . و
في الحديث أيضا إذا شهدت إحداكن العشاء فلا تمس طيبا والمراد من ذلك ألا تهيج عليهن شهوة الرجال . قال الشاعر
و المسك بينا تراه ممتهنا
بفهر عطاره وساحقه
حتى تراه في عارضي ملك
أو موضع التاج من مفارقه
الصنوبري في استهداء المسك(1/5650)
المسك أشبه شي ء بالشباب فهب
بعض الشباب لبعض العصبة الشيب
يقال إن رجلا وجد قرطاسا فيه اسم الله تعالى فرفعه وكان عنده دينار فاشترى به مسكا فطيبه فرأى في المنام قائلا يقول له كما طيبت اسمي لأطيبن ذكرك . قال خالد بن صفوان ليزيد بن المهلب ما رأيت صدا المغفر ولا عبق العنبر بأحد أليق منه بك فقال حاجتك قال ابن أخ لي في حبسك فقال يسبقك إلى المنزل .
[ 348 ]
شاعر
كأن دخان الند ما بين جمره
بقايا ضباب في رياض شقيق
قالوا خير العود المندلي وهو منسوب إلى مندل قرية من قرى الهند وأجوده أصلبه وامتحان رطبة أن ينطبع فيه نقش الخاتم واليابس تفصح عنه النار ومن خاصية المندلي أن رائحته تثبت في الثواب أسبوعا وأنه لا يقمل ما دامت فيه . قال صاحب المنهاج العود عروق أشجار تقلع وتدفن في الأرض حتى تتعفن منها الخشبية والقشرية ويبقى العود الخالص وأجوده المندلي ويجلب من وسط بلاد الهند ثم العود الهندي وهو يفضل على المندلي بأنه لا يولد القمل وهو أعبق بالثياب . قال وأفضل العود أرسبه في الماء والطافي ردي ء . قال أبو العباس الأعمى
ليت شعري من أين رائحة المسك
و ما إن أخال بالخيف أنسي
حين غابت بنو أمية عنه
و البهاليل من بني عبد شمس
خطباء على المنابر فرسان
على الخيل قالة غير خرس
بحلوم مثل الجبال رزان
و وجوه مثل الدنانير ملس
المسيب بن علس
تبيت الملوك على عتبها
و شيبان إن غضبت تعتب
و كالشهد بالراح ألفاظهم
و أخلاقهم منهما أعذب
[ 349 ]
و كالمسك ترب مقاماتهم
و ترب قبورهم أطيب
أخذه العباس بن الأحنف فقال
و أنت إذا ما وطئت التراب
كان ترابك للناس طيبا
و هجا بعض الشعراء العمال في أيام عمر ووقع عليهم فقال في بعض شعره
نئوب إذا آبوا ونغزو إذا غزوا
فأنى لهم وفر ولسنا ذوي وفر
إذا التاجر الداري جاء بفأرة
من المسك راحت في مفارقهم تجري(1/5651)
فقبض عمر على العمال وصادرهم . قالوا في الكافور إنه ماء في شجر مكفور فيه يغرزونه بالحديد فإذا خرج إلى ظاهر ذلك الشجر ضربه الهواء فانعقد كالصموغ الجامدة على الأشجار . وقال صاحب المنهاج هو أصناف منها الفنصوري والرباحي والأزاد والإسفرك الأزرق وهو المختط بخشبه وقيل إن شجرته عظيمة تظلل أكثر من مائة فارس وهي بحرية وخشب الكافور أبيض إلى الحمرة خفيف والرباحي يوجد في بدن شجرته قطع كالثلج فإذا شققت الشجرة تناثر منها الكافور الند هو الغالية وهو العود المطري بالمسك والعنبر ودهن البان ومن الناس من لا يضيف إليه دهن البان ويجعل عوضه الكافور ومنهم من لا يضيف إليه الكافور أيضا ومن الناس من يركب الغالية من المسك والعنبر والكافور ودهن النيلوفر . قال الأصمعي قلت لأبي المهدية الأعرابي كيف تقول ليس الطيب إلا المسك فلم يحفل الأعرابي وذهب إلى مذهب آخر فقال فأين أنت عن العنبر فقلت كيف تقول ليس الطيب إلا المسك والعنبر قال فأين أنت عن البان قلت فكيف
[ 350 ]
تقول ليس الطيب إلا المسك والعنبر والبان قال فأين أنت عن ادهان بحجر يعني اليمامة قلت فكيف تقول ليس الطيب إلا المسك والعنبر والبان وادهان بحجر قال فأين أنت عن فأرة الإبل صادرة فرأيت أني قد أكثرت عليه فتركته قال وفأرة الإبل ريحها حين تصدر عن الماء وقد أكلت العشب الطيب . وفي فأرة الإبل يقول الشاعر
كأن فأرة مسك في مباءتها
إذا بدا من ضياء الصبح تنتشر
كان لأبي أيوب المرزباني وزير المنصور دهن طيب يدهن به إذا ركب إلى المنصور فلما رأى الناس غلبته على المنصور وطاعته له فيما يريده حتى إنه ربما كان يستحضره ليوقع به فإذا رآه تبسم إليه وطابت نفسه قالوا دهن أبي أيوب من عمل السحرة وضربوا به المثل فقالوا لمن يغلب على الإنسان معه دهن أبي أيوب . أعرابي فيها مدر كف ومشم أنف . وقال عيينة بن أسماء بن خارجة الفزاري(1/5652)
لو كنت أحمل خمرا حين زرتكم
لم ينكر الكلب أني صاحب الدار
لكن أتيت وريح المسك يقدمني
و العنبر الورد مشبوبا على النار
فأنكر الكلب ريحي حين خالطني
و كان يألف ريح الزق والقار
قال الأصمعي ذكر لأبي أيوب هؤلاء الذين يتقشفون فقال ما علمت أن القذر والذفر من الدين . ريح الكلب مثل في النتن قال الشاعر
ريحها ريح كلاب
هارشت في يوم طل
و قال آخر
يزداد لؤما على المديح كما
يزداد نتن الكلاب في المطر
[ 351 ]
و قالت امرأة إمرئ القيس له وكان مفركا عند النساء إذا عرقت عرقت بريح كلب قال صدقت إن أهلي أرضعوني مرة بلبن كلبة . قال سلمة بن عياش يقول لجعفر بن سليمان
فما شم أنفي ريح كف رأيتها
من الناس إلا ريح كفك أطيب
فأمر له بألف دينار ومائة مثقال من المسك ومائة مثقال من العنبر .
وجه عمر إلى ملك الروم بريدا فاشترت أم كلثوم امرأة عمر طيبا بدنانير وجعلته في قارورتين وأهدتهما إلى امرأة ملك الروم فرجع البريد إليها ومعه مل ء القارورتين جواهر فدخل عليها عمر وقد صبت الجواهر في حجرها فقال من أين لك هذا فأخبرته فقبض عليه وقال هذا للمسلمين قالت كيف وهو عوض هديتي قال بيني وبينك أبوك فقال علي ع لك منه بقيمة دينارك والباقي للمسلمين جملة لأن بريد المسلمين حمله . قيل لخديجة بنت الرشيد رسل العباس بن محمد على الباب معهم زنبيل يحمله رجلان فقالت تراه بعث إلي باقلاء فكشف الزنبيل عن جرة مملوءة غالية فيها مسحاة من ذهب وإذا برقعة هذه جرة أصيبت هي وأختها في خزائن بني أمية فأما أختها فغلب عليها الخلفاء وأما هذه فلم أر أحدا أحق بها منك
[ 352 ](1/5653)
400
وَ قَالَ ع ضَعْ فَخْرَكَ وَ اُحْطُطْ كِبَرَكَ وَ اُذْكُرْ قَبْرَكَ قد تقدم القول في العجب والكبر والفخر(1/5654)
نبذ مما قيل في التيه والفخر
في الحديث المرفوع أن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء الناس لآدم وآدم من تراب مؤمن تقي وفاجر شقي لينتهين أقوام يتفاخرون برجال إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من جعلات تدفع النتن بأنفها و
من وصيته ص إلى علي ع لا فقر أشد من الجهل ولا وحشة أفحش من العجب . أتى وائل بن حجر النبي ص فأقطعه أرضا وأمر معاوية أن يمضي معه فيريه الأرض ويعرضها عليه ويكتبها له فخرج مع وائل في هاجرة
[ 353 ]
شاوية ومشى خلف ناقته فأحرقته الرمضاء فقال أردفني قال لست من أرداف الملوك قال فادفع إلي نعليك قال ما بخل يمنعني يا ابن أبي سفيان ولكن أكره أن يبلغ أقيال اليمن أنك لبست نعلي ولكن امش في ظل ناقتي فحسبك بذاك شرفا ويقال إنه عاش حتى أدرك زمن معاوية فأجلسه معه على سريره . قيل لحكيم ما الشي ء الذي لا يحسن أن يقال وإن كان حقا فقال الفخر . حبس هشام بن عبد الملك الفرزدق في سجن خالد بن عبد الله القسري فوفد جرير إلى خالد ليشفع فيه فقال له خالد أ لا يسرك أن الله قد أخزى الفرزدق فقال أيها الأمير والله ما أحب أن يخزيه الله إلا بشعري وإنما قدمت لأشفع فيه قال فاشفع فيه في ملإ ليكون أخزى له فشفع فيه فدعا به فقال إني مطلقك بشفاعة جرير فقال أسير قسري وطليق كلبي فبأي وجه أفاخر العرب بعدها ردني إلى السجن . ذكر أعرابي قوما فقال ما نالوا بأناملهم شيئا إلا وقد وطئناه بأخامص أقدامنا وإن أقصى مناهم لأدنى فعالنا . نظر رجل إلى بعض ولد أبي موسى يختال في مشيته فقال أ لا ترون مشيته كأن أباه خدع عمرو بن العاص . وسمع الفرزدق أبا بردة يقول كيف لا أتبختر وأنا ابن أحد الحكمين فقال أحدهما مائق والآخر فاسق فكن ابن أيهما شئت .
نظر رسول الله ص إلى أبي دجانة وهو يتبختر بين الصفين فقال إن هذه مشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن .
[ 354 ](1/5655)
لما بلغ الحسن بن علي ع قول معاوية إذا لم يكن الهاشمي جوادا والأموي حليما والعوامي شجاعا والمخزومي تياها لم يشبهوا آباءهم فقال إنه والله ما أراد بها النصيحة ولكن أراد أن يفنى بنو هاشم ما في أيديهم فيحتاجوا إليه وأن يشجع بنو العوام فيقتلوا وأن يتيه بنو مخزوم فيمقتوا وأن يحلم بنو أمية فيحبهم الناس . كان قاضي القضاة محمد بن أبي الشوارب الأموي تائها فهجاه عبد الأعلى البصري فقال
إني رأيت محمدا متشاوسا
مستصغرا لجميع هذي الناس
و يقول لما أن تنفس خاليا
نفسا له يعلو على الأنفاس
ويح الخلافة في جوانب لحيتي
تستن دون لحى بني العباس
بعض الأموية
إذا تائه من عبد شمس رأيته
يتيه فرشحه لكل عظيم
و إن تاه تياه سواه فإنه
يتيه لحمق أو يتيه للوم
لبعض الأموية أيضا
أ لسنا بني مروان كيف تبدلت
بنا الحال أو دارت علينا الدوائر
إذا ولد المولود منا تهللت
له الأرض واهتزت إليه المنابر
بعض التياهين
أتيه على إنس البلاد وجنها
و لو لم أجد خلقا أتيه على نفسي
أتيه فلا أدري من التيه من أنا
سوى ما يقول الناس في وفي جنسي
فإن زعموا أني من الإنس مثلهم
فما لي عيب غير أني من الإنس
[ 355 ]
بعض العلوية
لقد نازعتنا من قريش عصابة
بمط خدود وامتداد أصابع
فلما تنازعنا الفخار قضى لنا
عليهم بما نهوى نداء الصوامع
ترانا سكوتا والشهيد بفضلنا
عليهم أذان الناس في كل جامع
بأن رسول الله لا شك جدنا
و أن بنيه كالنجوم الطوالع(1/5656)
كان عمارة بن حمزة بن ميمون مولى بني العباس مثلا في التيه حتى قيل أتيه من عمارة وكان يتولى دواوين السفاح والمنصور وكان إذا أخطأ مضى على خطئه تكبرا عن الرجوع ويقول نقض وإبرام في حالة واحدة الإصرار على الخطإ أهون من ذلك وافتخرت أم سلمة المخزومية امرأة السفاح ذات ليلة بقومها على السفاح وبنو مخزوم يضرب بهم المثل في الكبر والتيه فقال أنا أحضرك الساعة على غير أهبة مولى من موالي ليس في أهلك مثله فأرسل إلى عمارة وأمر الرسول أن يعجله عن تغيير زيه فجاء على الحال التي وجده عليها الرسول في ثياب ممسكة مزررة بالذهب وقد غلف لحيته بالغالية حتى قامت فرمى إليه السفاح بمدهن ذهب مملوء غالية فلم يلتفت إليه وقال هل ترى لها في لحيته موضعا فأخرجت أم سلمة عقدا لها ثمينا وأمرت خادما أن يضعه بين يديه فقام وتركه فأمرت الخادم أن يتبعه به ويقول إنها تسألك قبوله فقال للخادم هو لك فانصرف بالعقد إليها فأعطت الخادم فكاكه عشرة آلاف دينار واسترجعته وعجبت من نفس عمارة وكان عمارة لا يذل للخلفاء وهم مواليه ويتيه عليهم . نظر رجل إلى المهدي ويده في يد عمارة وهما يمشيان فقال يا أمير المؤمنين
[ 356 ](1/5657)
من هذا قال هذا أخي وابن عمي عمارة بن حمزة فلما ولى الرجل ذكر المهدي الكلمة كالممازح لعمارة فقال عمارة والله لقد انتظرت أن تقول مولاي فأنفض يدي من يدك فتبسم المهدي . وكان أبو الربيع الغنوي أعرابيا جافيا تياها شديد الكبر قال أبو العباس المبرد في الكامل فذكر الجاحظ أنه أتاه ومعه رجل هاشمي قال فناديت أبو الربيع هنا فخرج إلي وهو يقول خرج إليك رجل أكرم الناس فلما رأى الهاشمي استحيا وقال أكرم الناس رديفا وأشرفهم حليفا أراد بذلك أبا مرثد الغنوي لأنه كان رديف رسول الله ص وحليف أبي بكر قال حدثنا ساعة ثم نهض الهاشمي فقلت له من خير الخلق قال الناس والله قلت من خير الناس قال العرب والله قلت فمن خير العرب قال مضر والله قلت فمن خير مضر قال قيس والله قلت فمن خير قيس قال يعصر والله قلت فمن خير يعصر قال غني والله قلت فمن خير غني قال المخاطب لك والله قلت أ فأنت خير الناس قال إي والله قلت أ يسرك أن تكون تحتك ابنة يزيد بن المهلب قال لا والله قلت ولك ألف دينار قال لا والله قلت فألفا دينار قال لا والله قلت ولك الجنة قال فأطرق ثم قال على ألا تلد مني ثم أنشد
تأبى ليعصر أعراق مهذبة
من أن تناسب قوما غير أكفاء
فإن يكن ذاك حتما لا مرد له
فاذكر حذيف فإني غير أباء
[ 357 ]
أراد حذيفة بن بدر الفزاري وكان سيد قيس في زمانه . رأى عمر رجلا يمشي مرخيا يديه طارحا رجليه يتبختر فقال له دع هذه المشية فقال ما أطيق فجلده ثم خلاه فترك التبختر فقال عمر إذا لم أجلد في هذا ففيم أجلد فجاءه الرجل بعد ذلك فقال جزاك الله يا أمير المؤمنين خيرا إن كان إلا شيطانا سلط علي فأذهبه الله بك
[ 358 ](1/5658)
401
وَ قَالَ ع خُذْ مِنَ اَلدُّنْيَا مَا أَتَاكَ وَ تَوَلَّ عَمَّا تَوَلَّى عَنْكَ فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَأَجْمِلْ فِي اَلطَّلَبِ كان يقال اجعل الدنيا كغريم السوء حصل منه ما يرضخ لك به ولا تأس على ما دفعك عنه ثم قال ع فإن لم تفعل فأجمل في الطلب وهي
من الألفاظ النبوية لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فأجملوا في الطلب . قيل لبعض الحكماء ما الغنى فقال قلة تمنيك ورضاك بما يكفيك
[ 359 ](1/5659)
402
وَ قَالَ ع رُبَّ قَوْلٍ أَنْفَذُ مِنْ صَوْلٍ قد قيل هذا المعنى كثيرا فمنه قولهم
و القول ينفذ ما لا تنفذ الإبر
و من ذلك القول لا تملكه إذا نما كالسهم لا تملكه إذا رمى وقال الشاعر
و قافية مثل حد السنان
تبقى ويذهب من قالها
تخيرتها ثم أرسلتها
و لم يطق الناس إرسالها
و قال محمود الوراق
أتاني منك ما ليس
على مكروهه صبر
فأغضيت على عمد
و كم يغضي الفتى الحر
و أدبتك بالهجر
فما أدبك الهجر
و لا ردك عما كان
منك الصفح والبر
فلما اضطرني المكروه
و اشتد بي الأمر
تناولتك من شعري
بما ليس له قدر
فحركت جناح الضر
لما مسك الضر
إذا لم يصلح الخير
امرأ أصلحه الشر
[ 360 ]
و قال الرضي رحمه الله
سأمضغ بالأقوال أعراض قومكم
و للقول أنياب لدي حداد
يرى للقوافي والسماء جلية
عليكم بروق جمة ورعاد
و قال أيضا
كعمت لساني أن يقول وإن يقل
فقل في الجراز العضب إن فارق الغمدا
و إن برودا للمخازي معدة
فمن شاء من ذا الحي أسحبته بردا
قلائد في الأعناق بالعار لا تهي
على مر أيام الزمان ولا تصدا
إذا صلصلت بين القنا قضت القنا
و إن زفرت في السر قطعت السردا
[ 361 ](1/5660)
403
وَ قَالَ ع كُلُّ مُقْتَصَرٍ عَلَيْهِ كَافٍ هذا من باب القناعة وإن من اقتصر على شي ء وقنعت به نفسه فقد كفاه وقام مقام الفضول التي يرغب فيها المترفون وقد تقدم القول في ذلك
[ 362 ](1/5661)
404
وَ قَالَ ع اَلْمَنِيَّةُ وَ لاَ اَلدَّنِيَّةُ وَ اَلتَّقَلُّلُ وَ لاَ اَلتَّوَسُّلُ قد تقدم من كلامنا في هذا الباب شي ء كثير وقال الشاعر
أقسم بالله لمص النوى
و شرب ماء القلب المالحه
أحسن بالإنسان من ذله
و من سؤال الأوجه الكالحه
فاستغن بالله تكن ذا غنى
مغتبطا بالصفقة الرابحه
فالزهد عز والتقى سؤدد
و ذلة النفس لها فاضحه
كم سالم صحيح به بغتة
و قائل عهدي به البارحه
أمسى وأمست عنده قينة
و أصبحت تندبه نائحه
طوبى لمن كانت موازينه
يوم يلاقي ربه راجحه
و قال أيضا
لمص الثماد وخرط القتاد
و شرب الأجاج أوان الظمإ
على المرء أهون من أن يرى
ذليلا لخلق إذا أعدما
و خير لعينيك من منظر
إلى ما بأيدي اللئام العمى
قلت لحاه الله هلا قال بأيدي الرجال
[ 363 ](1/5662)
405
وَ قَالَ ع مَنْ لَمْ يُعْطَ قَاعِداً لَمْ يُعْطَ قَائِماً مراده أن الرزق قد قسمه الله تعالى فمن لم يرزقه قاعدا لم يجب عليه القيام والحركة . وقد جاء
في الحديث أنه ص ناول أعرابيا تمرة وقال له خذها فلو لم تأتها لأتتك . وقال الشاعر
جرى قلم القضاء بما يكون
فسيان التحرك والسكون
جنون منك أن تسعى لرزق
و يرزق في غشاوته الجنين
[ 364 ](1/5663)
406
وَ قَالَ ع اَلدَّهْرُ يَوْمَانِ يَوْمٌ لَكَ وَ يَوْمٌ عَلَيْكَ فَإِذَا كَانَ لَكَ فَلاَ تَبْطَرْ وَ إِذَا كَانَ عَلَيْكَ فَاصْبِرْ قديما قيل هذا المعنى الدهر يومان يوم بلاء ويوم رخاء والدهر ضربان حبرة وعبرة والدهر وقتان وقت سرور ووقت ثبور . وقال أبو سفيان يوم أحد يوم بيوم بدر والدنيا دول . قال ع فإذا كان لك فلا تبطر وإذا كان عليك فاصبر . قد تقدم القول في ذم البطر ومدح الصبر ويحمل ذم البطر هاهنا على محملين أحدهما البطر بمعنى الأشر وشدة المرح بطر الرجل بالكسر يبطر وقد أبطره المال وقالوا بطر فلان معيشته كما قالوا رشد فلان أمره والثاني البطر بمعنى الحيرة والدهش أي إذا كان الوقت لك فلا تقطعن زمانك بالحيرة والدهش عن شكر الله ومكافأة النعمة بالطاعة والعبادة والمحمل الأول أوضح
[ 365 ](1/5664)
407
وَ قَالَ ع إِنَّ لِلْوَالِدِ عَلَى اَلْوَلَدِ حَقّاً وَ إِنَّ لِلْوَلَدِ عَلَى اَلْوَالِدِ حَقّاً فَحَقُّ اَلْوَالِدِ عَلَى اَلْوَلَدِ أَنْ يُطِيعَهُ فِي كُلِّ شَيْ ءٍ إِلاَّ فِي مَعْصِيَةِ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ حَقُّ اَلْوَلَدِ عَلَى اَلْوَالِدِ أَنْ يُحَسِّنَ اِسْمَهُ وَ يُحَسِّنَ أَدَبَهُ وَ يُعَلِّمَهُ اَلْقُرْآنَ أما صدر الكلام فمن قول الله سبحانه أَنِ اُشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ إِلَيَّ اَلْمَصِيرُ وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما(1/5665)
طرائف حول الأسماء والكنى
و أما تعليم الوالد الولد القرآن والأدب فمأمور به وكذلك القول في تسميته باسم حسن وقد جاء
في الحديث تسموا بأسماء الأنبياء وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن وأصدقها حارث وهمام وأقبحها حرب ومرة و
روى أبو الدرداء عن النبي ص أنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم
[ 366 ]
و قال ع إذا سميتم فعبدوا أي سموا بنيكم عبد الله ونحوه من أسماء الإضافة إليه عز اسمه وكان رسول الله ص يغير بعض الأسماء سمى أبا بكر عبد الله وكان اسمه في الجاهلية عبد الكعبة وسمى ابن عوف عبد الرحمن وكان اسمه عبد الحارث وسمى شعب الضلالة شعب الهدى وسمى يثرب طيبة وسمى بني الريبة بني الرشدة وبني معاوية بني مرشدة . كان سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي أحد الفقهاء المشهورين
أتى جده رسول الله ص فقال له ما اسمك قال حزن قال لا بل أنت سهل فقال لا بل أنا حزن عاوده فيها ثلاثا ثم قال لا أحب هذا الاسم السهل يوطأ ويمتهن فقال فأنت حزن فكان سعيد يقول فما زلت أعرف تلك الحزونة فينا و
روى جابر عنه ع ما من بيت فيه أحد اسمه محمد إلا وسع الله عليه الرزق فإذا سميتموهم به فلا تضربوهم ولا تشتموهم ومن ولد له ثلاثة ذكور ولم يسم أحدهم أحمد أو محمدا فقد جفاني
أبو هريرة عنه ع أنه نهى أن يجمع بين اسمه وكنيته لأحد و
روي أنه أذن لعلي بن أبي طالب ع في ذلك فسمى ابنه محمد بن الحنفية محمدا وكناه أبا القاسم وقد روي أن جماعة من أبناء الصحابة جمع لهم بين الاسم والكنية . وقال الزمخشري قد قدم الخلفاء وغيرهم من الملوك رجالا بحسن أسمائهم وأقصوا قوما لشناعة أسمائهم وتعلق المدح والذم بذلك في كثير من الأمور .
[ 367 ](1/5666)
و في رسالة الجاحظ إلى أبي الفرج نجاح بن سلمة قد أظهر الله في أسمائكم وأسماء آبائكم وكناكم وكنى أجدادكم من برهان الفأل الحسن ونفي طيرة السوء ما جمع لكم صنوف الأمل وصرف إليكم وجوه الطلب فأسماؤكم وكناكم بين فرج ونجاح وسلامة وفضل ووجوهكم وأخلاقكم ووفق أعراقكم وأفعالكم فلم يضرب التفاوت فيكم بنصيب . أراد عمر الاستعانة برجل فسأله عن اسمه واسم أبيه فقال سراق بن ظالم فقال تسرق أنت ويظلم أبوك فلم يستعن به . سأل رجل رجلا ما اسمك فقال بحر قال أبو من قال أبو الفيض قال ابن من قال ابن الفرات قال ما ينبغي لصديقك أن يلقاك إلا في زورق . وكان بعض الأعراب اسمه وثاب وله كلب اسمه عمرو فهجاه أعرابي آخر فقال
و لو هيأ له الله
من التوفيق أسبابا
لسمى نفسه عمرا
و سمى الكلب وثابا
قالوا وكلما كان الاسم غريبا كان أشهر لصاحبه وأمنع من تعلق النبز به قال رؤبة
قد رفع العجاج ذكري فادعني
باسمي إذا الأسماء طالت تكفني
و من هاهنا أخذ المعري قوله يمدح الرضي والمرتضى رحمهما الله
أنتم ذوو النسب القصير فطولكم
باد على الكبراء والأشراف
و الراح إن قيل ابنة العنب اكتفت
بأب عن الأسماء والأوصاف
[ 368 ](1/5667)
و سأل النسابة البكري رؤبة عن نسبه ولم يكن يعرفه قال أنا ابن العجاج قال قصرت وعرفت . صاح أعرابي بعبد الله بن جعفر يا أبا الفضل قيل ليست كنيته قال وإن لم تكن كنيته فإنها صفته نظر عمر إلى جارية له سوداء تبكي فقال ما شأنك قالت ضربني ابنك أبو عيسى قال أ وقد تكنى بأبي عيسى علي به فأحضروه فقال ويحك أ كان لعيسى أب فتكنى به أ تدري ما كنى العرب أبو سلمة أبو عرفطة أبو طلحة أبو حنظلة ثم أدبه . لما أقبل قحطبة بن شبيب نحو ابن هبيرة أراد ابن هبيرة أن يكتب إلى مروان بخبره وكره أن يسميه فقال اقلبوا اسمه فوجدوه هبط حق فقال دعوه على هيئته . قال برصوما الزامر لأمه ويحك أ ما وجدت لي اسما تسميني به غير هذا قالت لو علمت أنك تجالس الخلفاء والملوك سميتك يزيد بن مزيد . قيل لبعض صبيان الأعراب ما اسمك قال قراد قيل لقد ضيق أبوك عليك الاسم قال إن ضيق الاسم لقد أوسع الكنية قال ما كنيتك قال أبو الصحاري . نظر المأمون إلى غلام حسن الوجه في الموكب فقال له يا غلام ما اسمك قال لا أدري قال أ ويكون أحد لا يعرف اسمه فقال يا أمير المؤمنين اسمي الذي أعرف به لا أدري فقال المأمون
و سميت لا أدري لأنك لا تدري
بما فعل الحب المبرح في صدري
ولد لعبد الله بن جعفر بن أبي طالب ولد ذكر فبشر به وهو عند معاوية
[ 369 ]
بن أبي سفيان فقال له معاوية سمه باسمي ولك خمسمائة ألف درهم فسماه معاوية فدفعها إليه وقال اشتر بها لسميي ضيعة . و
من حديث علي ع عن النبي ص إذا سميتم الولد محمدا فأكرموه وأوسعوا له في المجلس ولا تقبحوا له وجها و
عنه ص ما من قوم كانت لهم مشورة فحضر معهم عليها من اسمه محمدا أو أحمد فأدخلوه في مشورتهم إلا خير لهم وما من مائدة وضعت فحضر عليها من اسمه محمدا أو أحمد إلا قدس ذلك المنزل في كل يوم مرتين . من أبيات المعاني
و حللت من مضر بأمنع ذروة
منعت بحد الشوك والأحجار(1/5668)
قالوا يريد بالشوك أخواله وهم قتادة وطلحة وعوسجة وبالأحجار أعمامه وهم صفوان وفهر وجندل وصخر وجرول . سمى عبد الملك ابنا له الحجاج لحبه الحجاج بن يوسف وقال فيه
سميته الحجاج بالحجاج
الناصح المكاشف المداجي
استأذن الجاحظ والشكاك وهو من المتكلمين على رئيس فقال الخادم لمولاه الجاحد والشكاك فقال هذان من الزنادقة لا محالة فصاح الجاحظ ويحك ارجع قل الحدقي بالباب وبه كان يعرف فقال الخادم الحلقي بالباب فصاح الجاحظ ويلك ارجع إلى الجاحد . جمع ابن دريد ثمانية أسماء في بيت واحد فقال
فنعم أخو الجلى ومستنبط الندى
و ملجأ مكروب ومفزع لاهث
عياذ بن عمرو بن الجليس بن جابر
بن زيد بن منظور بن زيد بن وارث
[ 370 ]
قال محمد بن صدقة المقرئ ليموت بن المزرع صدق الله فيك اسمك فقال له أحوجك الله إلى اسم أبيك . سأل رجل أبا عبيدة عن اسم رجل من العرب فلم يعرفه فقال كيسان غلامه أنا أعرف الناس به هو خراش أو خداش أو رياش أو شي ء آخر فقال أبو عبيدة ما أحسن ما عرفته يا كيسان قال إي والله وهو قرشي أيضا قال وما يدريك به قال أ ما ترى كيف احتوشته الشينات من كل جانب قال الفرزدق
و قد تلتقي الأسماء في الناس والكنى
كثيرا ولكن ميزوا في الخلائق(1/5669)
رأى الإسكندر في عسكره رجلا لا يزال ينهزم في الحرب فسأله عن اسمه فقال اسمي الإسكندر فقال يا هذا إما أن تغير اسمك وإما أن تغير فعلك . قال شيخنا أبو عثمان لو لا أن القدماء من الشعراء سمت الملوك وكنتها في أشعارها وأجازت واصطلحت عليه ما كان جزاء من فعل ذلك إلا العقوبة على أن ملوك بني سامان لم يكنها أحد من رعاياها قط ولا سماها في شعر ولا خطبة وإنما حدث هذا في ملوك الحيرة وكانت الجفاة من العرب لسوء أدبها وغلظ تركيبها إذا أتوا النبي ص خاطبوه باسمه وكنيته فأما أصحابه فكانت مخاطبتهم له يا رسول الله وهكذا يجب أن يقال للملك في المخاطبة يا خليفة الله ويا أمير المؤمنين . وينبغي للداخل على الملك أن يتلطف في مراعاة الأدب كما حكى سعيد بن مرة الكندي دخل على معاوية فقال أنت سعيد فقال أمير المؤمنين السعيد وأنا ابن مرة . وقال المأمون للسيد بن أنس الأزدي أنت السيد فقال أنت السيد يا أمير المؤمنين وأنا ابن أنس .
[ 371 ]
شاعر
لعمرك ما الأسماء إلا علامة
منار ومن خير المنار ارتفاعها
كان قوم من الصحابة يخاطبون رسول الله ص يا نبي ء الله بالهمزة فأنكر ذلك وقال لست بنبي ء الله ولكني نبي الله . وكان البحتري إذا ذكر الخثعمي الشاعر يقول ذاك الغث العمي . وكان صاحب ربيع يتشيع فارتفع إليه خصمان اسم أحدهما علي والآخر معاوية فانحنى على معاوية فضربه مائة سوط من غير أن اتجهت عليه حجة ففطن من أين أتي فقال أصلحك الله سل خصمي عن كنيته فإذا هو أبو عبد الرحمن وكانت كنية معاوية بن أبي سفيان فبطحه وضربه مائة سوط فقال لصاحبه ما أخذته مني بالاسم استرجعته منك بالكنية
[ 372 ](1/5670)
408
وَ قَالَ ع اَلْعَيْنُ حَقٌّ وَ اَلرُّقَى حَقٌّ وَ اَلسِّحْرُ حَقٌّ وَ اَلْفَأْلُ حَقٌّ وَ اَلطِّيَرَةُ لَيْسَتْ بِحَقٍّ وَ اَلْعَدْوَى لَيْسَتْ بِحَقٍّ وَ اَلطِّيبُ نُشْرَةٌ وَ اَلْعَسَلُ نُشْرَةٌ وَ اَلرُّكُوبُ نُشْرَةٌ وَ اَلنَّظَرُ إِلَى اَلْخُضْرَةِ نُشْرَةٌ ويروى والغسل نشرة بالغين المعجمة أي التطهير بالماء(1/5671)
أقوال في العين والسحر والفأل والعدوى والطيرة
و قد جاء في الحديث المرفوع العين حق ولو كان شي ء يسبق القدر لسبقته العين وإذا استغسلتم فاغسلوا قالوا في تفسيره إنهم كانوا يطلبون من العائن أن يتوضأ بماء ثم يسقي منه المعين ويغتسل بسائره . وفي حديث عائشة العين حق كما أن محمدا حق . وللحكماء في تعليل ذلك قول لا بأس به قالوا هذا عائد إلى نفس العائن وذلك لأن الهيولى مطيعة للأنفس متأثرة بها أ لا ترى أن نفوس الأفلاك تؤثر فيها بتعاقب الصور عليها والنفوس البشرية من جوهر نفوس الأفلاك وشديدة الشبه بها إلا أن نسبتها إليها نسبة السراج إلى الشمس فليست عامة التأثير بل تأثيرها في أغلب الأمر في بدنها خاصة ولهذا يحمى مزاج الإنسان عند الغضب
[ 373 ]
يستعد للجماع عند تصور النفس صورة المعشوق فإذن قد صار تصور النفس مؤثرا فيما هو خارج عنها لأنها ليست حالة في البدن فلا يستبعد وجود نفس لها جوهر مخصوص مخالف لغيره من جواهر النفوس تؤثر في غير بدنها ولهذا يقال إن قوما من الهند يقتلون بالوهم والإصابة بالعين من هذا الباب وهو أن تستحسن النفس صورة مخصوصة وتتعجب منها وتكون تلك النفس خبيثة جدا فينفعل جسم تلك الصورة مطيعا لتلك النفس كما ينفعل البدن للسم . و
في حديث أم سلمة أن رسول الله ص رأى في وجه جارية لها سعفة فقال إن بها نظرة فاسترقوا لها . و
قال عوف بن مالك الأشجعي كنا نرقي في الجاهلية فقلت يا رسول الله ما ترى في ذلك فقال أعرضوا على رقاكم فلا بأس بالرقى ما لم يكن فيها شرك(1/5672)
كان ناس من أصحاب رسول الله ص في سفر فمروا بحي من أحياء العرب فاستضافوهم فلم يضيفوهم وقالوا لهم هل فيكم من راق فإن سيد الحي لديغ فقال رجل منهم نعم فأتاه فرقاه بفاتحة الكتاب فبرأ فأعطي قطيعا من الغنم فأبى أن يقبلها حتى يأتي رسول الله ص فذكر ذلك لرسول الله ص وقال وعيشك ما رقيته إلا بفاتحة الكتاب فقال ما أدراكم إنها رقية خذوا منهم واضربوا لي معكم بسهم و
روى بريدة قال قال رسول الله ص وقد ذكرت عنده الطيرة من عرض له من هذه الطيرة شي ء فليقل اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك ولا حول ولا قوة إلا بالله و
عنه ع ليس منا من تطير أو تطير له أو تكهن أو تكهن له
[ 374 ]
أنس بن مالك يرفعه لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل الصالح قالوا فما الفأل الصالح قال الكلمة الطيبة و
عنه ع تفاءلوا ولا تطيروا و
روى عبد الله بن بريدة عن أبيه أن رسول الله ص كان لا يتطير من شي ء وكان إذا بعث عاملا سأل عن اسمه فإذا أعجبه سر به ورئي بشر ذلك في وجهه وإن كره اسمه رئيت الكراهة على وجهه وإذا دخل قرية سأل عن اسمها فإن أعجبه ظهر على وجهه . بنى عبيد الله بن زياد بالبصرة دارا عظيمة فمر بها بعض الأعراب فرأى في دهليزها صورة أسد وكلب وكبش فقال أسد كالح وكبش ناطح وكلب نابح والله لا يمتع بها فلم يلبث عبيد الله فيها إلا أياما يسيرة .
أبو هريرة يرفعه إذا ظننتم فلا تحققوا وإذا تطيرتم فامضوا وعلى الله فتوكلوا و
قال ع أحسنها الفأل ولا يرد قدرا ولكن إذا رأى أحدكم ما يكره فليقل اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك . وقال بعض الشعراء
لا يعلم المرء ليلا ما يصبحه
إلا كواذب ما يجري به الفأل
و الفأل والزجر والكهان كلهم
مضللون ودون الغيب أقفال
و
عن النبي ص القيافة والطرق والطيرة من الخبث
ابن عباس يرفعه من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر(1/5673)
أبو هريرة يرفعه من أتى كاهنا فصدقه فيما يقول فقد برئ مما أنزل الله على أبي القاسم .
[ 375 ]
شاعر
لعمرك ما تدري الطوارق بالحصى
و لا زاجرت الطير ما الله صانع
و قال آخر
لا يقعدنك عن بغاء
الخير تعقاد العزائم
فلقد غدوت وكنت لا
أغدو على راق وحائم
فإذا الأشائم كالأيامن
و الأيامن كالأشائم
و كذاك لا خير ولا
شر على أحد بدائم
تفاءل هشام بن عبد الملك بنصر بن سيار فقلده خراسان فبقي فيها عشر سنين . وتفاءل عامر بن إسماعيل قاتل مروان بن محمد باسم رجل لقيه فسأله عن اسمه فقال منصور بن سعد قال من أي العرب قال من سعد العشيرة فاستصحبه وطلب مروان فظفر به وقتله . وتفاءل المأمون بمنصور بن بسام فكان سبب مكانته عنده . قالوا إنما أصل اليد اليسرى العسرى إلا أنهم أبدلوا اليسرى من اليسر تفاؤلا . مزرد بن ضرار
و إني امرؤ لا تقشعر ذؤابتي
من الذئب يعوي والغراب المحجل
الكميت
و لا أنا ممن يزجر الطير همه
أ صاح غراب أم تعرض ثعلب
و قال بعض العرب خرجت في طلب ناقة ضلت لي فسمعت قائلا يقول
و لئن بعثت لها بغاة
فما البغاة بواجدينا
[ 376 ]
فلم أتطير ومضيت لوجهي فلقيني رجل قبيح الوجه به ما شئت من عاهة فلم أتطير وتقدمت فلاحت لي أكمة فسمعت منها صائحا
و الشر يلقى مطالع الأكم
فلم أكترث ولا انثنيت وعلوتها فوجدت ناقتي قد تفاجت للولادة فنتجتها وعدت إلى منزلي بها ومعها ولدها .
و قيل لعلي ع لا تحاربهم اليوم فإن القمر في العقرب فقال قمرنا أم قمرهم و(1/5674)
روي عنه ع أنه كان يكره أن يسافر أو يتزوج في محاق الشهر وإذا كان القمر في العقرب وروي أن ابن عباس قال على منبر البصرة إن الكلاب من الحن وإن الحن من ضعفاء الجن فإذ غشيكم منهم شي ء فألقوا إليه شيئا أو اطردوه فإن لها أنفس سوء . وقال أبو عثمان الجاحظ كان علماء الفرس والهند وأطباء اليونانيين ودهاة العرب وأهل التجربة من نازلة الأمصار وحذاق المتكلمين يكرهون الأكل بين يدي السباع يخافون عيونها للذي فيها من النهم والشره ولما ينحل عند ذلك من أجوافها من البخار الردي ء وينفصل من عيونها مما إذا خالط الإنسان نقض بنية قلبه وأفسده وكانوا يكرهون قيام الخدم بالمذاب والأشربة على رءوسهم خوفا من أعينهم وشدة ملاحظتهم إياهم وكانوا يأمرون بإشباعهم قبل أن يأكلوا وكانوا يقولون في الكلب والسنور إما أن يطرد أو يشغل بما يطرح له .
[ 377 ](1/5675)
و قالت الحكماء نفوس السباع أردأ النفوس وأخبثها لفرط شرهها وشرها قالوا وقد وجدنا الرجل يضرب الحية بعصا فيموت الضارب والحية لأن سم الحية فصل منها حتى خالط أحشاء الضارب وقلبه ونفذ في مسام جسده . وقد يديم الإنسان النظر إلى العين المحمرة فتعتري عينه حمرة والتثاؤب يعدي أعداء ظاهرا ويكره دنو الطامث من اللبن لتسوطه لأن لها رائحة وبخارا يفسد اللبن المسوط . وقال الأصمعي رأيت رجلا عيونا كان يذكر عن نفسه أنه إذا أعجبه الشي ء وجد حرارة تخرج من عينه . وقال أيضا كان عندنا عيونان فمر أحدهما بحوض من حجارة فقال تالله ما رأيت كاليوم حوضا فانصدع فلقتين فمر عليه الثاني فقال وأبيك لقلما ضررت أهلك فيك فتطاير أربع فلق . وسمع آخر صوت بول من وراء جدار حائط فقال إنك كثير الشخب فقالوا هو ابنك فقال أوه انقطع ظهره فقيل لا بأس عليه إن شاء الله فقال والله لا يبول بعدها أبدا فما بال حتى مات . وسمع آخر صوت شخب ناقة بقوة فأعجبه فقال أيتهن هذه فوروا بأخرى عنها فهلكتا جميعا المورى بها والمورى عنها قال رجل من خاصة المنصور له قبل أن يقتل أبا مسلم بيوم واحد إني رأيت اليوم لأبي مسلم ثلاثا تطيرت له منها قال ما هي قال ركب فوقعت قلنسوته
[ 378 ]
عن رأسه فقال المنصور الله أكبر تبعها والله رأسه فقال وكبا به فرسه فقال الله أكبر كبا والله جده وأصلد زنده فما الثالثة قال إنه قال لأصحابه أنا مقتول وإنما أخادع نفسي وإذا رجل ينادي آخر من الصحراء اليوم آخر الأجل يا فلان فقال الله أكبر انقضى أجله إن شاء الله وانقطع من الدنيا أثره فقتل في غد ذلك اليوم . تجهز النابغة الذبياني للغزو واسمه زياد بن عمرو مع زبان بن سيار الفزاري فلما أراد الرحيل سقطت عليه جرادة فتطير وقال ذات لونين تجرد غري من خرج فأقام ولم يلتفت زبان إلى طيرته فذهب ورجع غانما فقال
تطير طيرة يوما زياد
لتخبره وما فيها خبير(1/5676)
أقام كان لقمان بن عاد
أشار له بحكمته مشير
تعلم إنه لا طير إلا
على متطير وهو الثبور
بلى شي ء يوافق بعض شي ء
أحايينا وباطله كثير
حضر عمر بن الخطاب الموسم فصاح به صائح يا خليفة رسول الله فقال رجل من بني لهب وهم أهل عيافة وزجر دعاه باسم ميت مات والله أمير المؤمنين فلما وقف الناس للجمار إذا حصاة صكت صلعة عمر فأدمي منها فقال ذلك القائل أشعر والله أمير المؤمنين لا والله ما يقف هذا الموقف أبدا فقتل عمر قبل أن يحول الحول وقال كثير بن عبد الرحمن
تيممت لهبا أبتغي العلم عندها
و قد صار علم العائفين إلى لهب
[ 379 ]
كان للعرب كاهنان اسم أحدهما شق وكان نصف إنسان واسم الآخر سطيح وكان يطوى طي الحصير ويتكلمان بكل أعجوبة في الكهانة فقال ابن الرومي
لك رأي كأنه رأي شق
و سطيح قريعي الكهان
يستشف الغيوب عما تواري
بعيون جلية الإنسان
و قال أبو عثمان الجاحظ كان مسيلمة قبل أن يتنبأ يدور في الأسواق التي كانت بين دور العرب والعجم كسوق الأبلة وسوق بقة وسوق الأنبار وسوق الحيرة يلتمس تعلم الحيل والنيرنجيات واحتيالات أصحاب الرقى والعزائم والنجوم وقد كان أحكم علم الحزاة وأصحاب الزجر والخط فعمد إلى بيضة فصب إليها خلا حاذقا قاطعا فلانت حتى إذا مدها الإنسان استطالت ودقت كالعلك ثم أدخلها قارورة ضيقة الرأس وتركها حتى انضمت واستدارت وجمدت فعادت كهيئتها الأولى فأخرجها إلى قوم وهم أعراب واستغواهم بها وفيه قيل
ببيضة قارور وراية شادن
و توصيل مقطوع من الطير حاذق(1/5677)
قالوا أراد براية الشادن التي يعملها الصبي من القرطاس الرقيق ويجعل لها ذنبا وجناحين ويرسلها يوم الريح بخيط طويل . كان مسيلمة يعمل رايات من هذا الجنس ويعلق فيها الجلاجل ويرسلها ليلا في شدة الريح ويقول هذه الملائكة تنزل علي وهذه خشخشة الملائكة وزجلها وكان يصل جناح الطير المقصوص بريش معه فيطير ويستغوي به الأعراب . شاعر في الطيرة
[ 380 ]
و أمنع الياسمين الغض من حذري
عليك إذ قيل لي نصف اسمه ياس
و قال آخر
أهدت إليه سفرجلا فتطيرا
منه وظل مفكرا مستعبرا
خوف الفراق لأن شطر هجائه
سفر وحق له بأن يتطيرا
و قال آخر
يا ذا الذي أهدى لنا سوسنا
ما كنت في إهدائه محسنا
نصف اسمه سو فقد ساءني
يا ليت إني لم أر السوسنا
و مثله
لا تراني طوال دهري
أهوى الشقائقا
إن يكن يشبه الخدود
فنصف اسمه شقا
و كانوا يتفاءلون بالآس لدوامه ويتطيرون من النرجس لسرعة انقضائه ويسمونه الغدار . وقال العباس بن الأحنف
إن الذي سماك يا منيتي
بالنرجس الغدار ما أنصفا
لو أنه سماك بالآسة
وفيت إن الآس أهل الوفا
خرج كثير يريد عزة ومعه صاحب له من نهد فرأى غرابا ساقطا فوق بانة ينتف ريشه فقال له النهدي إن صدق الطير فقد ماتت عزة فوافى أهلها وقد أخرجوا جنازتها فقال
و ما أعيف النهدي لا در دره
و أزجره للطير لا عز ناصره
رأيت غرابا ساقطا فوق بانة
ينتف أعلى ريشه ويطايره
[ 381 ]
فقال غراب لاغتراب وبانة
لبين وفقد من حبيب تعاشره
و قال الشاعر
و سميته يحيى ليحيا ولم يكن
إلى رد حكم الله فيه سبيل
تيممت فيه الفأل حين رزقته
و لم أدر أن الفأل فيه يفيل
فأما القول في السحر فإن الفقهاء يثبتونه ويقولون فيه القود وقد جاء في الخبر أن رسول الله ص سحره لبيد بن أعصم اليهودي حتى كان يخيل إليه أنه عمل الشي ء ولم يعمله . و(1/5678)
روي أن امرأة من يهود سحرته بشعر وقصاص ظفر وجعلت السحر في بئر وأن الله تعالى دله على ذلك فبعث عليا ع فاستخرجه وقتل المرأة وقوم من المتكلمين ينفون هذا عنه ع ويقولون إنه معصوم من مثله . والفلاسفة تزعم أن السحر من آثار النفس الناطقة وأنه لا يبعد أن يكون في النفوس نفس تؤثر في غير بدنها المرض والحب والبغض ونحو ذلك وأصحاب الكواكب يجعلون للكواكب في ذلك تأثيرا وأصحاب خواص الأحجار والنبات وغيرها يسندون ذلك إلى الخواص وكلام أمير المؤمنين ع دال على تصحيح ما يدعى من السحر . وأما العدوى
فقد قال رسول الله ص لا عدوى في الإسلام و
قال لمن قال أعدى بعضها بعضا يعني الإبل فمن أعدى الأول و
قال لا عدوى ولا هامة ولا صفر فالعدوى معروفة والهامة ما كانت العرب تزعمه في المقتول
[ 382 ]
لا يؤخذ بثأره والصفر ما كانت العرب تزعمه من الحية في البطن تعض عند الجوع(1/5679)
نكت في مذاهب العرب وتخيلاتها
و سنذكر هاهنا نكتا ممتعة من مذاهب العرب وتخيلاتها لأن الموضع قد ساقنا إليه أنشد هشام بن الكلبي لأمية بن أبي الصلت
سنة أزمة تبرح بالناس
ترى للعضاة فيها صريرا
لا على كوكب تنوء ولا ريح
جنوب ولا ترى طحرورا
و يسقون باقر السهل للطود
مهازيل خشية أن تبورا
عاقدين النيران في ثكن الأذناب
منها لكي تهيج البحورا
سلع ما ومثله عشر ما
عامل ما وعالت البيقورا
يروى أن عيسى بن عمر قال ما أدري معنى هذا البيت ويقال إن الأصمعي صحف فيه فقال وغالت البيقورا بالغين المعجمة وفسره غيره فقال عالت بمعنى أثقلت البقر بما حملتها من السلع والعشر والبيقور البقر وعائل غالب أو مثقل وكانت العرب إذا أجدبت وأمسكت السماء عنهم وأرادوا أن يستمطروا عمدوا إلى السلع والعشر فحزموهما وعقدوهما في أذناب البقر وأضرموا فيها النيران وأصعدوها في جبل وعر واتبعوها يدعون الله ويستسقونه وإنما يضرمون النيران في أذناب البقر تفاؤلا للبرق بالنار وكانوا يسوقونها نحو المغرب من دون الجهات وقال أعرابي
شفعنا ببيقور إلى هاطل الحيا
فلم يغن عنا ذاك بل زادنا جدبا
فعدنا إلى رب الحيا فأجارنا
و صير جدب الأرض من عنده خصبا
[ 383 ]
و قال آخر
قل لبني نهشل أصحاب الحور
أ تطلبون الغيث جهلا بالبقر
و سلع من بعد ذاك وعشر
ليس بذا يجلل الأرض المطر
و يمكن أن يحمل تفسير الأصمعي على محمل صحيح فيقال غالت بمعنى أهلكت يقال غاله كذا واغتاله أي أهلكه وغالتهم غول يعني المنية ومنه الغضب غول الحلم . وقال آخر
لما كسونا الأرض أذناب البقر
بالسلع المعقود فيها والعشر
و قال آخر
يا كحل قد أثقلت أذناب البقر
بسلع يعقد فيها وعشر
فهل تجودين ببرق ومطر
و قال آخر يعيب العرب بفعلهم هذا
لا در در رجال خاب سعيهم
يستمطرون لدى الإعسار بالعشر
أ جاعل أنت بيقورا مسلعة
ذريعة لك بين الله والمطر(1/5680)
و قال بعض الأذكياء كل أمة قد تحذو في مذاهبها مذاهب ملة أخرى وقد كانت الهند تزعم أن البقر ملائكة سخط الله عليها فجعلها في الأرض وأن لها عنده حرمة وكانوا يلطخون الأبدان بأخثائها ويغسلون الوجوه ببولها ويجعلونها مهور نسائهم ويتبركون بها في جميع أحوالهم فلعل أوائل العرب حذوا هذا الحذو وانتهجوا هذا المسلك
[ 384 ]
و للعرب في البقر خيال آخر وذلك أنهم إذا أوردوها فلم ترد ضربوا الثور ليقتحم الماء فتقتحم البقر بعده ويقولون إن الجن تصد البقر عن الماء وإن الشيطان يركب قرني الثور وقال قائلهم
إني وقتلي سليكا حين أعقله
كالثور يضرب لما عافت البقر
و قال نهشل بن حري
كذاك الثور يضرب بالهراوى
إذا ما عافت البقر الظماء
و قال آخر
كالثور يضرب للورود
إذا تمنعت البقر
فإن كان ليس إلا هذا فليس ذاك بعجيب من البقر ولا بمذهب من مذاهب العرب لأنه قد يجوز أن تمتنع البقر من الورود حتى يرد الثور كما تمتنع الغنم من سلوك الطرق أو دخول الدور والأخبية حتى يتقدمها الكبش أو التيس وكالنحل تتبع اليعسوب والكراكي تتبع أميرها ولكن الذي تدل عليه أشعارها أن الثور يرد ويشرب ولا يمتنع ولكن البقر تمتنع وتعاف الماء وقد رأت الثور يشرب فحينئذ يضرب الثور مع إجابته إلى الورود فتشرب البقر عند شربه وهذا هو العجب قال الشاعر
فإني إذن كالثور يضرب جنبه
إذا لم يعف شربا وعافت صواحبه
و قال آخر
فلا تجعلوني كالبقير وفحلها
يكسر ضربا وهو للورد طائع
و ما ذنبه إن لم يرد بقراته
و قد فاجأتها عند ذاك الشرائع
[ 385 ]
و قال الأعشى
لكالثور والجني يضرب وجهه
و ما ذنبه إن عافت الماء مشربا
و ما ذنبه إن عافت الماء باقر
و ما إن يعاف الماء إلا ليضربا(1/5681)
قالوا في تفسيره لما كان امتناعها يتعقبه الضرب حسن أن يقال عافت الماء لتضرب وهذه اللام هي لام العاقبة كقوله لدوا للموت وعلى هذا فسر أصحابنا قوله سبحانه وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ . ومن مذاهب العرب أيضا تعليق الحلي والجلاجل على اللديغ يرون أنه يفيق بذلك ويقال إنه إنما يعلق عليه لأنهم يرون أنه إن نام يسري السم فيه فيهلك فشغلوه بالحلي والجلاجل وأصواتها عن النوم وهذا قول النضر بن شميل وبعضهم يقول إنه إذا علق عليه حلي الذهب برأ وإن علق الرصاص أو حلي الرصاص مات . وقيل لبعض الأعراب أ تريدون شهرة فقال إن الحلي لا تشهر ولكنها سنة ورثناها . وقال النابغة
فبت كأني ساورتني ضئيلة
من الرقش في أنيابها السم ناقع
يسهد من ليل التمام سليمها
لحلي النساء في يديه قعاقع
و قال بعض بني عذرة
كأني سليم ناله كلم حية
ترى حوله حلي النساء مرصعا
[ 386 ]
و قال آخر
و قد عللوا بالبطل في كل موضع
و غروا كما غر السليم الجلاجل
و قال جميل وظرف في قوله ولو قاله العباس بن الأحنف لكان ظريفا
إذا ما لديغ أبرأ الحلي داءه
فحليك أمسى يا بثينة دائيا
و قال عويمر النبهاني وهو يؤكد قول النضر بن شميل
فبت معنى بالهموم كأنني
سليم نفى عنه الرقاد الجلاجل
و مثله قول الآخر
كأني سليم سهد الحلي عينه
فراقب من ليل التمام الكواكبا
و يشبه مذهبهم في ضرب الثور مذهبهم في العر يصيب الإبل فيكوى الصحيح ليبرأ السقيم وقال النابغة
و كلفتني ذنب امرئ وتركته
كذي العر يكوى غيره وهو راتع
و قال بعض الأعراب
كمن يكوى الصحاح يروم برءا
به من كل جرباء الإهاب(1/5682)
و هذا البيت يبطل رواية من روى بيت النابغة كذي العر بضم العين لأن العر بالضم قرح في مشافر الإبل غير الجرب والعر بالفتح الجرب نفسه فإذا دل الشعر على أنه يكوى الصحيح ليبرأ الأجرب فالواجب أن يكون بيت النابغة كذي العر بالفتح . ومثل هذا البيت قول الآخر
فألزمتني ذنبا وغيري جره
حنانيك لا يكوى الصحيح بأجربا
إلا أن يكون إطلاق لفظ الجرب على هذا المرض المخصوص من باب المجاز لمشابهته له
[ 387 ]
و من تخيلات العرب ومذاهبها أنهم كانوا يفقئون عين الفحل من الإبل إذا بلغت ألفا كأنهم يدفعون العين عنها قال الشاعر
فقأنا عيونا من فحول بهازر
و أنتم برعي البهم أولى وأجدر
و قال آخر
وهبتها وكنت ذا امتنان
تفقأ فيها أعين البعران
و قال الآخر
أعطيتها ألفا ولم تبخل بها
ففقأت عين فحيلها معتافا
و قد ظن قوم أن بيت الفرزدق وهو
غلبتك بالمفقئ والمعنى
و بيت المحتبي والخافقات
من هذا الباب وليس الأمر على ذلك وإنما أراد بالفق ء قوله لجرير
و لست ولو فقأت عينيك واجدا
أخا كلقيط أو أبا مثل دارم
و أراد بالمعنى قوله لجرير أيضا
و إنك إذ تسعى لتدرك دارما
لأنت المعنى يا جرير المكلف
و أراد بقوله بيت المحتبي قوله
بيت زرارة محتب بفنائه
و مجاشع وأبو الفوارس نهشل
و بيت الخافقات قوله
و معصب بالتاج يخفق فوقه
خرق الملوك له خميس جحفل
[ 388 ]
فأما مذهبهم في البلية وهي ناقة تعقل عند القبر حتى تموت فمذهب مشهور والبلية أنهم إذا مات منهم كريم بلوا ناقته أو بعيره فعكسوا عنقها وأداروا رأسها إلى مؤخرها وتركوها في حفيرة لا تطعم ولا تسقى حتى تموت وربما أحرقت بعد موتها وربما سلخت وملئ جلدها ثماما وكانوا يزعمون أن من مات ولم يبل عليه حشر ماشيا ومن كانت له بلية حشر راكبا على بليته قال جريبة بن الأشيم الفقعسي لابنه
يا سعد إما أهلكن فإنني
أوصيك إن أخا الوصاة الأقرب
لا أعرفن أباك يحشر خلفكم
تعبا يجر على اليدين وينكب(1/5683)
و احمل أباك على بعير صالح
و تق الخطيئة إنه هو أصوب
و لعل لي مما جمعت مطية
في الحشر أركبها إذا قيل اركبوا
و قال جريبة أيضا
إذا مت فادفني بجداء ما بها
سوى الأصرخين أو يفوز راكب
فإن أنت لم تعقر علي مطيتي
فلا قام في مال لك الدهر جالب
و لا تدفنني في صوى وادفننني
بديمومة تنزو عليها الجنادب
و قد ذكرت في مجموعي المسمى بالعبقري الحسان أن أبا عبد الله الحسين بن محمد بن جعفر الخالع رحمه الله ذكر في كتابه في آراء العرب وأديانها هذه الأبيات واستشهد بها على ما كانوا يعتقدون في البلية وقلت إنه وهم في ذلك وإنه ليس في هذه الأبيات دلالة على هذا المعنى ولا لها به تعلق وإنما هي وصية لولده أن يعقر مطيته بعد موته إما لكيلا يركبها غيره بعده أو على هيئة القربان كالهدي المعقور
[ 389 ]
بمكة أو كما كانوا يعقرون عند القبور ومذهبهم في العقر على القبور كقول زياد الأعجم في المغيرة بن المهلب
إن السماحة والمروءة ضمنا
قبرا بمرو على الطريق الواضح
فإذا مررت بقبره فاعقر به
كوم الهجان وكل طرف سابح
و قال الآخر
نفرت قلوصي عن حجارة حرة
بنيت على طلق اليدين وهوب
لا تنفري يا ناق منه فإنه
شريب خمر مسعر لحروب
لو لا السفار وبعد خرق مهمه
لتركتها تحبو على العرقوب
و مذهبهم في العقر على القبور مشهور وليس في هذا الشعر ما يدل على مذهبهم في البلية فإن ظن ظان أن قوله أو يفوز راكب فيه إيماء إلى ذلك فليس الأمر كما ظنه ومعنى البيت ادفني بفلاة جداء مقطوعة عن الإنس ليس بها إلا الذئب والغراب أو أن يعتسف راكبها المفازة وهي المهلكة سموها مفازة على طريق الفأل وقيل إنها تسمى مفازة من فوز أي هلك فليس في هذا البيت ذكر البلية ولكن الخالع أخطأ في إيراده في هذا الباب كما أخطأ في هذا الباب أيضا في إيراده قول مالك بن الريب
و عطل قلوصي في الركاب فإنها
ستبرد أكبادا وتبكي بواكيا(1/5684)
فظن أن ذلك من هذا الباب الذي نحن فيه ولم يرد الشاعر ذلك وإنما أراد
[ 390 ]
لا تركبوا راحلتي بعدي وعطلوها بحيث لا يشاهدها أعادي وأصادقي ذاهبة جائية تحت راكبها فيشمت العدو ويساء الصديق وقد أخطأ الخالع في مواضع عده من هذا الكتاب وأورد أشعارا في غير موضعها وظنها مناسبة لما هو فيه فمنها ما ذكرناه ومنها أنه ذكر مذهب العرب في الحلي ووضعه على اللديغ واستشهد عليه بقول الشاعر
يلاقي من تذكر آل ليلى
كما يلقى السليم من العداد
و لا وجه لإيراد هذا البيت في هذا الموضع فالعداد معاودة السم الملسوع في كل سنة في الوقت الذي لدغ فيه وليس هذا من باب الحلي بسبيل . ومن ذلك إيراده قول الفرزدق غلبتك بالمفقئ في باب فق ء عيون الفحول إذا بلغت الإبل ألفا وقد تقدم شرحنا لموضع الوهم في ذلك وسنذكر هاهنا كثيرا من المواضع التي وهم فيها إن شاء الله . ومما ورد عن العرب في البلية قول بعضهم
أ بني زودني إذا فارقتني
في القبر راحلة برحل فاتر
للبعث أركبها إذا قيل اركبوا
مستوثقين معا لحشر الحاشر
و قال عويم النبهاني
أ بني لا تنسى البلية إنها
لأبيك يوم نشوره مركوب
[ 391 ]
و من تخيلات العرب ومذاهبها ما حكاه ابن الأعرابي قال كانت العرب إذا نفرت الناقة فسميت لها أمها سكنت من النفار قال الراجز
أقول والوجناء بي تقحم
ويلك قل ما اسم أمها يا علكم
علكم اسم عبد له وإنما سأل عبده ترفعا أن يعرف اسم أمها لأن العبيد بالإبل أعرف وهم رعاتها . وأنشد السكري
فقلت له ما اسم أمها هات فادعها
تجبك ويسكن روعها ونفارها(1/5685)
و مما كانت العرب كالمجتمعة عليه الهامة وذلك أنهم كانوا يقولون ليس من ميت يموت ولا يقتل إلا ويخرج من رأسه هامة فإن كان قتل ولم يؤخذ بثأره نادت الهامة على قبره اسقوني فإني صدية وعن هذا قال النبي ص لا هامة . وحكي أن أبا زيد كان يقول الهامة مشددة الميم إحدى هوام الأرض وأنها هي المتلونة المذكورة . وقيل إن أبا عبيد قال ما أرى أبا زيد حفظ هذا وقد يسمونها الصدى والجمع أصداء قال
و كيف حياة أصداء وهام
و قال أبو دواد الإيادي
سلط الموت والمنون عليهم
فلهم في صدى المقابر هام
[ 392 ]
و قال بعضهم لابنه
و لا تزقون لي هامة فوق مرقب
فإن زقاء الهام للمرء عائب
تنادي ألا اسقوني وكل صدى به
و تلك التي تبيض منها الذوائب
يقول له لا تترك ثأري إن قتلت فإنك إن تركته صاحت هامتي اسقوني فإن كل صدى وهو هاهنا العطش بأبيك وتلك التي تبيض منها الذوائب لصعوبتها وشدتها كما يقال أمر يشيب رأس الوليد ويحتمل أن يريد به صعوبة الأمر عليه وهو مقبور إذا لم يثأر به ويحتمل أن يريد به صعوبة الأمر على ابنه يعني أن ذلك عار عليك وقال ذو الإصبع
يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي
أضربك حيث تقول الهامة اسقوني
و قال آخر
فيا رب إن أهلك ولم ترو هامتي
بليلى أمت لا قبر أعطش من قبري
و يحتمل هذا البيت أن يكون خارجا عن هذا المعنى الذي نحن فيه وأن يكون ري هامته الذي طلبه من ربه هو وصال ليلى وهما في الدنيا وهم يكنون عما يشفيهم بأنه يروي هامتهم . وقال مغلس الفقسي
و إن أخاكم قد علمت مكانه
بسفح قبا تسفي عليه الأعاصر
له هامة تدعو إذا الليل جنها
بني عامر هل للهلالي ثائر
و قال توبة بن الحمير
و لو أن ليلى الأخيلية سلمت
علي ودوني جندل وصفائح
[ 393 ]
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا
إليها صدى من جانب القبر صائح
و قال قيس بن الملوح وهو المجنون
و لو تلتقي أصداؤنا بعد موتنا
و من دوننا رمس من الأرض أنكب
لظل صدى رمسي وإن كنت رمة(1/5686)
لصوت صدى ليلى يهش ويطرب
و قال حميد بن ثور
ألا هل صدى أم الوليد مكلم
صداي إذا ما كنت رمسا وأعظما
و مما أبطله الإسلام قول العرب بالصفر زعموا أن في البطن حية إذا جاع الإنسان عضت على شرسوفه وكبده وقيل هو الجوع بعينه ليس أنها تعض بعد حصول الجوع فأما لفظ الحديث
لا عدوى ولا هامة ولا صفر ولا غول فإن أبا عبيدة معمر بن المثنى قال هو صفر الشهر الذي بعد المحرم قال نهى ع عن تأخيرهم المحرم إلى صفر يعني ما كانوا يفعلونه من النسي ء ولم يوافق أحد من العلماء أبا عبيدة على هذا التفسير وقال الشاعر
لا يتأرى لما في القدر يرقبه
و لا يعض على شرسوفه الصفر
و قال بعض شعراء بني عبس يذكر قيس بن زهير لما هجر الناس وسكن الفيافي
[ 394 ]
و أنس بالوحش ثم رأى ليلة نارا فعشا إليها فشم عندها قتار اللحم فنازعته شهوته فغلبها وقهرها ومال إلى شجرة سلم فلم يزل يكدمها ويأكل من خبطها إلى أن مات
إن قيسا كان ميتته
كرم والحي منطلق
شام نارا بالهوى فهوى
و شجاع البطن يختفق
في دريس ليس يستره
رب حر ثوبه خلق
و قوله بالهوى اسم موضع بعينه وقال أبو النجم العجلي
إنك يا خير فتى نستعدي
على زمان مسنت بجهد
عضا كعض صفر بكبد
و قال آخر
أرد شجاع البطن قد تعلمينه
و أوثر غيري من عيالك بالطعم
و من خرافات العرب أن الرجل منهم كان إذا أراد دخول قرية فخاف وباءها أو جنها وقف على بابها قبل أن يدخلها فنهق نهيق الحمار ثم علق عليه كعب أرنب كان ذلك عوذة له ورقية من الوباء والجن ويسمون هذا النهيق التعشير قال شاعرهم
و لا ينفع التعشير أن حم واقع
و لا زعزع ولا كعب أرنب
و قال الهيثم بن عدي خرج عروة بن الورد إلى خيبر في رفقه ليمتاروا فلما قربوا منها عشروا وعاف عروة أن يفعل فعلهم وقال
[ 395 ]
لعمري لئن عشرت من خيفة الردى
نهاق حمير إنني لجزوع
فلا وألت تلك النفوس ولا أتت
قفولا إلى الأوطان وهي جميع
و قالوا إلا انهق لا تضرك خيبر(1/5687)
و ذلك من فعل اليهود ولوع
الولوع بالضم الكذب ولع الرجل إذا كذب فيقال إن رفقته مرضوا ومات بعضهم ونجا عروة من الموت والمرض . وقال آخر
لا ينجينك من حمام واقع
كعب تعلقه ولا تعشير
و يشابه هذا أن الرجل منهم كان إذا ضل في فلاة قلب قميصه وصفق بيديه كأنه يومئ بهما إلى إنسان فيهتدي قال أعرابي
قلبت ثيابي والظنون تجول بي
و ترمي برحلي نحو كل سبيل
فلأيا بلأي ما عرفت جليتي
و أبصرت قصدا لم يصب بدليل
و قال أبو العملس الطائي
فلو أبصرتني بلوى بطان
أصفق بالبنان على البنان
فأقلب تارة خوفا ردائي
و أصرخ تارة بأبي فلان
لقلت أبو العملس قد دهاه
من الجنان خالعة العنان
و الأصل في قلب الثياب التفاؤل بقلب الحال وقد جاء في الشريعة الإسلامية نحو ذلك في الاستسقاء
[ 396 ]
و من مذاهب العرب أن الرجل منهم كان إذا سافر عمد إلى خيط فعقده في غصن شجرة أو في ساقها فإذا عاد نظر إلى ذلك الخيط فإن وجده بحاله علم أن زوجته لم تخنه وإن لم يجده أو وجده محلولا قال قد خانتني وذلك العقد يسمى الرتم ويقال بل كانوا يعقدون طرفا من غصن الشجرة بطرف غصن آخر وقال الراجز
هل ينفعنك اليوم إن همت بهم
كثرة ما توصي وتعقاد الرتم
و قال آخر
خانته لما رأت شيبا بمفرقه
و غره حلفها والعقد للرتم
و قال آخر
لا تحسبن رتائما عقدتها
تنبيك عنها باليقين الصادق
و قال آخر
يعلل عمرو بالرتائم قلبه
و في الحي ظبي قد أحلت محارمه
فما نفعت تلك الوصايا ولا جنت
عليه سوى ما لا يحب رتائمه
و قال آخر
ما ذا الذي تنفعك الرتائم
إذ أصبحت وعشقها ملازم
و هي على لذاتها تداوم
يزورها طب الفؤاد عارم
بكل أدواء النساء عالم
و قد كانوا يعقدون الرتم للحمى ويرون أن من حلها انتقلت الحمى إليه وقال الشاعر
حللت رتيمة فمكثت شهرا
أكابد كل مكروه الدواء
[ 397 ](1/5688)
و قال ابن السكيت إن العرب كانت تقول إن المرأة المقلات وهي التي لا يعيش لها ولد إذا وطئت القتيل الشريف عاش ولدها قال بشر بن أبي خازم
تظل مقاليت النساء تطأنه
يقلن أ لا يلقى على المرء مئزر
و قال أبو عبيدة تتخطاه المقلات سبع مرات فذلك وطؤها له . وقال ابن الأعرابي يمرون به ويطئون حوله وقيل إنما كانوا يفعلون ذلك بالشريف يقتل غدرا أو قودا . وقال الكميت
و تطيل المرزآت المقاليت
إليه القعود بعد القيام
و قال الآخر
تركنا الشعثمين برمل خبت
تزورهما مقاليت النساء
و قال الآخر
بنفسي التي تمشي المقاليت حوله
يطاف له كشحا هضيما مهشما
و قال آخر
تباشرت المقالت حين قالوا
ثوى عمرو بن مرة بالحفير
و من تخيلات العرب وخرافاتها أن الغلام منهم كان إذا سقطت له سن أخذها بين السبابة والإبهام واستقبل الشمس إذا طلعت وقذف بها وقال يا شمس أبدليني بسن أحسن منها وليجر في ظلمها إياتك أو تقول إياؤك وهما جميعا شعاع الشمس قال طرفة
[ 398 ]
سقته إياة الشمس
و إلى هذا الخيال أشار شاعرهم بقوله
شادن يجلو إذا ما ابتسمت
عن أقاح كأقاح الرمل غر
بدلته الشمس من منبته
بردا أبيض مصقول الأشر
و قال آخر
و أشنب واضح عذب الثنايا
كأن رضابه صافي المدام
كسته الشمس لونا من سناها
فلاح كأنه برق الغمام
و قال آخر
بذي أشر عذب المذاق تفردت
به الشمس حتى عاد أبيض ناصعا
و الناس اليوم في صبيانهم على هذا المذهب . وكانت العرب تعتقد أن دم الرئيس يشفي من عضة الكلب الكلب . وقال الشاعر
بناة مكارم وأساة جرح
دماؤهم من الكلب الشفاء
و قال عبد الله بن الزبير الأسدي
من خير بيت علمناه وأكرمه
كانت دماؤهم تشفي من الكلب
و قال الكميت
أحلامكم لسقام الجهل شافية
كما دماؤكم تشفي من الكلب
و من تخيلات العرب أنهم كانوا إذا خافوا على الرجل الجنون وتعرض الأرواح
[ 399 ](1/5689)
الخبيثة له نجسوه بتعليق الأقذار عليه كخرقة الحيض وعظام الموتى قالوا وأنفع من ذلك أن تعلق عليه طامث عظام موتى ثم لا يراها يومه ذلك وأنشدوا للمزق العبدي
فلو أن عندي جارتين وراقيا
و علق أنجاسا على المعلق
قالوا والتنجيس يشفي إلا من العشق قال أعرابي
يقولون علق يا لك الخير رمة
و هل ينفع التنجيس من كان عاشقا
و قالت امرأة وقد نجست ولدها فلم ينفعه ومات
نجسته لو ينفع التنجيس
و الموت لا تفوته النفوس
و كان أبو مهدية يعلق في عنقه العظام والصوف حذر الموت وأنشدوا
أتوني بأنجاس لهم ومنجس
فقلت لهم ما قدر الله كائن
و من مذاهبهم أن الرجل منهم كان إذا خدرت رجله ذكر من يحب أو دعاه فيذهب خدرها . وروي أن عبد الله بن عمر خدرت رجله فقيل له ادع أحب الناس إليك فقال يا رسول الله . وقال الشاعر
على أن رجلي لا يزال امذلالها
مقيما بها حتى أجيلك في فكري
و قال كثير
إذا مذلت رجلي ذكرتك أشتفي
بدعواك من مذل بها فيهون
و قال جميل
و أنت لعيني قرة حين نلتقي
و ذكرك يشفيني إذا خدرت رجلي
[ 400 ]
و قالت امرأة
إذا خدرت رجلي دعوت ابن مصعب
فإن قلت عبد الله أجلى فتورها
و قال آخر
صب محب إذا ما رجله خدرت
نادى كبيشة حتى يذهب الخدر
و قال المؤمل
و الله ما خدرت رجلي ولا عثرت
إلا ذكرتك حتى يذهب الخدر
و قال الوليد بن يزيد
أثيبي هائما كلفا معنى
إذا خدرت له رجل دعاك
و نظير هذا الوهم أن الرجل منهم كان إذا اختلجت عينه قال أرى من أحبه فإن كان غائبا توقع قدومه وإن كان بعيدا توقع قربه . وقال بشر
إذا اختلجت عيني أقول لعلها
فتاة بني عمرو بها العين تلمع
و قال آخر
إذا اختلجت عيني تيقنت أنني
أراك وإن كان المزار بعيدا
و قال آخر
إذا اختلجت عيني أقول لعلها
لرؤيتها تهتاج عيني وتطرف
و هذا الوهم باق في الناس اليوم . ومن مذاهبهم أن الرجل منهم كان إذا عشق ولم يسل وأفرط عليه العشق حمله
[ 401 ](1/5690)
رجل على ظهره كما يحمل الصبي وقام آخر فأحمى حديدة أو ميلا وكوى به بين أليتيه فيذهب عشقه فيما يزعمون . وقال أعرابي
كويتم بين رانفتي جهلا
و نار القلب يضرمها الغرام
و قال آخر
شكوت إلى رفيقي اشتياقي
فجاءاني وقد جمعا دواء
و جاءا بالطبيب ليكوياني
و لا أبغي عدمتهما اكتواء
و ولو أتيا بسلمى حين جاءا
لعاضاني من السقم الشفاء
و استشهد الخالع على هذا المعنى بقول كثير
أ غاضر لو شهدت غداة بنتم
حنو العائدات على وسادي
أويت لعاشق لم ترحميه
بواقدة تلذع بالزناد
هذا البيت ليس بصريح في هذا الباب ويحتمل أن يكون مراده فيه المعنى المشهور المطروق بين الشعراء من ذكر حرارة الوجد ولذعه وتشبيهه بالنار إلا أنه قد روى في كتابه خبرا يؤكد المقصد الذي عزاه وادعاه وهو عن محمد بن سليمان بن فليح عن أبيه عن جده قال كنت عند عبد الله بن جعفر فدخل عليه كثير وعليه أثر علة فقال عبد الله ما هذا بك قال هذا ما فعلت بي أم الحويرث ثم كشف عن ثوبه وهو مكوي وأنشد
عفا الله عن أم الحويرث ذنبها
علام تعنيني وتكمي دوائيا
و لو آذنوني قبل أن يرقموا بها
لقلت لهم أم الحويرث دائيا
[ 402 ]
و من أوهامهم وتخيلاتهم أنهم كانوا يزعمون أن الرجل إذا أحب امرأة وأحبته فشق برقعها وشقت رداءه صلح حبهما ودام فإن لم يفعلا ذلك فسد حبهما قال سحيم عبد بني الحسحاس
و كم قد شفقنا من رداء محبر
و من برقع عن طفلة غير عابس
إذا شق برد شق بالبرد برقع
دواليك حتى كلنا غير لابس
نروم بهذا الفعل بقيا على الهوى
و إلف الهوى يغري بهذي الوساوس
و قال آخر
شققت ردائي يوم برقة عالج
و أمكنني من شق برقعك السحقا
فما بال هذا الود يفسد بيننا
و يمحق حبل الوصل ما بيننا محقا
و من مذاهبهم أنهم كانوا يرون أن أكل لحوم السباع تزيد في الشجاعة والقوة وهذا مذهب طبي والأطباء يعتقدونه قال بعضهم
أبا المعارك لا تتعب بأكلك ما
تظن أنك تلفى منه كرارا(1/5691)
فلو أكلت سباع الأرض قاطبة
ما كنت إلا جبان القلب خوارا
و قال بعض الأعراب وأكل فؤاد الأسد ليكون شجاعا فعدا عليه نمر فجرحه
أكلت من الليث الهصور فؤاده
لأصبح أجرى منه قلبا وأقدما
فأدرك مني ثأره بابن أخته
فيا لك ثأرا ما أشد وأعظما
و قال آخر
إذا لم يكن قلب الفتى غدوة الوغى
أصم فقلب الليث ليس بنافع
[ 403 ]
و ما نفع قلب الليث في حومة الوغى
إذا كان سيف المرء ليس بقاطع
و من مذاهبهم أن صاحب الفرس المهقوع إذا ركبه فعرق تحته اغتلمت امرأته وطمحت إلى غيره والهقعة دائرة تكون بالفرس وربما كانت على الكتف في الأكثر وهي مستقبحة عندهم قال بعضهم لصاحبه
إذا عرق المهقوع بالمرء أنعظت
حليلته وازداد حر عجانها
فأجابه صاحبه
قد يركب المهقوع من ليس مثله
و قد يركب المهقوع زوج حصان
و من مذاهبهم أنهم كانوا يوقدون النار خلف المسافر الذي لا يحبون رجوعه يقولون في دعائهم أبعده الله وأسحقه وأوقد نارا أثره قال بعضهم
صحوت وأوقدت للجهل نارا
و رد عليك الصبا ما استعارا
و كانوا إذا خرجوا إلى الأسفار أوقدوا نارا بينهم وبين المنزل الذي يريدونه ولم يوقدوها بينهم وبين المنزل الذي خرجوا منه تفاؤلا بالرجوع إليه . ومن مذاهبهم المشهورة تعليق كعب الأرنب قال ابن الأعرابي قلت لزيد بن كثوة أ تقولون إن من علق عليه كعب أرنب لم تقربه جنان الدار ولا عمار الحي قال إي والله ولا شيطان الخماطة ولا جار العشيرة ولا غول القفر وقال إمرؤ القيس
[ 404 ]
أ يا هند لا تنكحي بوهة
عليه عقيقته أحسبا
مرسعة بين أدباقه
به عسم يبتغي أرنبا
ليجعل في رجله كعبها
حذار المنية أن يعطبا
و الخماطة شجرة والعشيرة تصغير العشرة وهي شجرة أيضا . وقال أبو محلم كانت العرب تعلق على الصبي سن ثعلب وسن هرة خوفا من الخطفة والنظرة ويقولون إن جنية أرادت صبي قوم فلم تقدر عليه فلامها قومها من الجن في ذلك فقالت تعتذر إليهم
كأن عليه نفره
ثعالب وهرره(1/5692)
و الحيض حيض السمرة
و السمرة شي ء يسيل من السمر كدم الغزال وكانت العرب إذا ولدت المرأة أخذوا من دم السمر وهو صمغه الذي يسيل منه ينقطونه بين عيني النفساء وخطوا على وجه الصبي خطا ويسمى هذا الصمغ السائل من السمر الدودم ويقال بالذال المعجمة أيضا وتسمى هذه الأشياء التي تعلق على الصبي النفرات . قال عبد الرحمن بن أخي الأصمعي إن بعض العرب قال لأبي إذا ولد لك ولد فنفر عنه فقال له أبي وما التنفير قال غرب اسمه فولد له ولد فسماه قنفذا وكناه أبا العداء قال وأنشد أبي
كالخمر مزج دوائها منها بها
تشفي الصداع وتبرئ المنجودا
قال يريد أن القنفذ من مراكب الجن فداوى منهم ولده بمراكبهم .
[ 405 ]
و من مذاهبهم أن الرجل منهم كان إذا ركب مفازة وخاف على نفسه من طوارق الليل عمد إلى وادي شجر فأناخ راحلته في قرارته وعقلها وخط عليها خطا ثم قال أعوذ بصاحب هذا الوادي وربما قال بعظيم هذا الوادي وعن هذا قال الله سبحانه في القرآن وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ اَلْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ اَلْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً . واستعاذ رجل منهم ومعه ولد فأكله الأسد فقال
قد استعذنا بعظيم الوادي
من شر ما فيه من الأعادي
فلم يجرنا من هزبر عاد
و قال آخر
أعوذ من شر البلاد البيد
بسيد معظم مجيد
أصبح يأوي بلوى زرد
ذي عزة وكاهل شديد
و قال آخر
يا جن أجراع اللوى من عالج
عاذ بكم ساري الظلام الدالج
لا ترهقوه بغوي هائج
و قال آخر
قد بت ضيفا لعظيم الوادي
المانعي من سطوة الأعادي
راحلتي في جاره وزادي
و قال آخر
هيا صاحب الشجراء هل أنت مانعي
فإني ضيف نازل بفنائكا
[ 406 ]
و إنك للجنان في الأرض سيد
و مثلك آوى في الظلام الصعالكا
و من مذاهبهم أن المسافر إذا خرج من بلده إلى آخر فلا ينبغي له أن يلتفت فإنه إذا التفت عاد فلذلك لا يلتفت إلا العاشق الذي يريد العود قال بعضهم
دع التلفت يا مسعود وارم بها(1/5693)
وجه الهواجر تأمن رجعة البلد
و قال آخر أنشده الخالع
عيل صيري بالثعلبية لما
طال ليلي وملني قرنائي
كلما سارت المطايا بنا ميلا
تنفست والتفت ورائي
هذان البيتان ذكرهما الخالع في هذا الباب وعندي أنه لا دلالة فيهما على ما أراد لأن التلفت في أشعارهم كثير ومرادهم به الإبانة والإعراب عن كثرة الشوق والتأسف على المفارقة وكون الراحل عن المنزل حيث لم يمكنه المقام فيه بجثمانه يتبعه بصره ويتزود من رؤيته كقول الرضي رحمه الله
و لقد مررت على طلولهم
و رسومهم بيد البلى نهب
فوقفت حتى ضج من لغب
نضوي ولج بعذلي الركب
و تلفتت عيني فمذ خفيت
عني الطلول تلفت القلب
و ليس يقصد بالتلفت هاهنا التفاؤل بالرجوع إليها لأن رسومها قد صارت نهبا ليد البلى فأي فائدة في الرجوع إليها وإنما يريد ما قدمنا ذكره من الحنين والتذكر لما مضى من أيامه فيها وكذلك قول الأول
[ 407 ]
تلفت نحو الحي حتى وجدتني
وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا
و مثل ذلك كثير وقال بعضهم في المذهب الأول
تلفت أرجو رجعة بعد نية
فكان التفاتي زائدا في بلائيا
أ أرجو رجوعا بعد ما حال بيننا
و بينكم حزن الفلا والفيافيا
و قال آخر وقد طلق امرأته فتلفتت إليه
تلفت ترجو رجعة بعد فرقة
و هيهات مما ترتجي أم مازن
أ لم تعلمي أنى جموح عنانه
إذا كان من أهواه غير ملاين
و من مذاهبهم إذا بثرت شفة الصبي حمل منخلا على رأسه ونادى بين بيوت الحي الحلا الحلا الطعام الطعام فتلقي له النساء كسر الخبز وإقطاع التمر واللحم في المنخل ثم يلقي ذلك للكلاب فتأكله فيبرأ من المرض فإن أكل صبي من الصبيان من ذلك الذي ألقاه للكلاب تمرة أو لقمة أو لحمة أصبح وقد بثرت شفته وأنشد لامرأة
أ لا حلا في شفة مشقوقه
فقد قضى منخلنا حقوقه(1/5694)
و من مذاهبهم أن الرجل منهم كان إذا طرفت عينه بثوب آخر مسح الطارف عين المطروف سبع مرات يقول في الأولى بإحدى جاءت من المدينة وفي الثانية باثنتين جاءتا من المدينة وفي الثالثة بثلاث جئن من المدينة إلى أن يقول في السابعة بسبع جئن من المدينة فتبرأ عين المطروف .
[ 408 ]
و فيهم من يقول بإحدى من سبع جئن من المدينة باثنتين من سبع إلى أن يقول بسبع من سبع . ومن مذاهبهم أن المرأة منهم كان إذا عسر عليها خاطب النكاح نشرت جانبا من شعرها وكحلت إحدى عينيها مخالفة للشعر المنشور وحجلت على إحدى رجليها ويكون ذلك ليلا وتقول يا لكاح أبغي النكاح قبل الصباح فيسهل أمرها وتتزوج عن قرب قال رجل لصديقه وقد رأى امرأة تفعل ذلك
أ ما ترى أمك تبغي بعلا
قد نشرت من شعرها الأقلا
و لم توف مقلتيها كحلا
ترفع رجلا وتحط رجلا
هذا وقد شاب بنوها أصلا
و أصبح الأصغر منهم كهلا
خذ القطيع ثم سمها الذلا
ضربا به تترك هذا الفعلا
و قال آخر
قد كحلت عينا وأعفت عينا
و حجلت ونشرت قرينا
تظن زينا ما تراه شينا
و قال آخر
تصنعي ما شئت أن تصنعي
و كحلي عينيك أو لا فدعي
ثم احجلي في البيت أو في المجمع
ما لك في بعل أرى من مطمع
و من مذاهبهم كانوا إذا رحل الضيف أو غيره عنهم وأحبوا ألا يعود كسروا
[ 409 ]
شيئا من الأواني وراءه وهذا مما تعمله الناس اليوم أيضا قال بعضهم
كسرنا القدر بعد أبي سواح فعاد وقدرنا ذهبت ضياعا
و قال آخر
و لا نكسر الكيزان في أثر ضيفنا
و لكننا نقفيه زادا ليرجعا
و قال آخر
أما والله إن بني نفيل
لحلالون بالشرف اليفاع
أناس ليس تكسر خلف ضيف
أوانيهم ولا شعب القصاع
و من مذاهبهم قولهم إن من ولد في القمراء تقلصت غرلته فكان كالمختون ويجوز عندنا أن يكون ذلك من خواص القمر كما أن من خواصه إبلاء الكتان وإنتان اللحم و(1/5695)
قد روي عن أمير المؤمنين ع إذا رأيت الغلام طويل الغرلة فاقرب به من السؤدد وإذا رأيته قصير الغرلة كأنما ختنه القمر فابعد به . وقال إمرؤ القيس لقيصر وقد دخل معه الحمام فرآه أغلف
إني حلفت يمينا غير كاذبة
لأنت أغلف إلا ما جنى القمر
و من مذاهبهم التشاؤم بالعطاس قال إمرؤ القيس
و قد اغتدى قبل العطاس بهيكل
و قال آخر
[ 410 ]
و خرق إذا وجهت فيه لغزوة
مضيت ولم يحبسك عنه العواطس
و من مذاهبهم قولهم في الدعاء لا عشت إلا عيش القراد يضربونه مثلا في الشدة والصبر على المشقة ويزعمون أن القراد يعيش ببطنه عاما وبظهره عاما ويقولون إنه يترك في طينة ويرمى بها الحائط فيبقى سنة على بطنه وسنة على ظهره ولا يموت قال بعضهم
فلا عشت إلا كعيش القراد
عاما ببطن وعاما بظهر
و من مذاهبهم كانت النساء إذا غاب عنهن من يحببنه أخذن ترابا من موضع رجله كانت العرب تزعم أن ذلك أسرع لرجوعه . وقالت امرأة من العرب واقتبضت من أثره
يا رب أنت جاره في سفره
و جار خصييه وجار ذكره
و قالت امرأة
أخذت ترابا من مواطئ رجله
غداة غدا كيما يئوب مسلما
و من مذاهبهم أنهم كانوا يسمون العشا في العين الهدبد وأصل الهدبد اللبن الخاثر فإذا أصاب أحدهم ذلك عمد إلى سنام فقطع منه قطعة ومن الكبد قطعة وقلاهما وقال عند كل لقمة يأكلها بعد أن يمسح جفنه الأعلى بسبابته
فيا سناما وكبد
ألا اذهبا بالهدبد
ليس شفاء الهدبد
إلا السنام والكبد
[ 411 ](1/5696)
قال فيذهب العشا بذلك . ومن مذاهبهم اعتقادهم أن الورل والقنفذ والأرنب والظبي واليربوع والنعام مراكب الجن يمتطونها ولهم في ذلك أشعار مشهورة ويزعمون أنهم يرون الجن ويظاهرونهم ويخاطبونهم ويشاهدون الغول وربما جامعوها وتزوجوها وقالوا إن عمرو بن يربوع تزوج الغول وأولدها بنين ومكثت عنده دهرا فكانت تقول له إذا لاح البرق من جهة بلادي وهي جهة كذا فاستره عني فإني إن لم تستره عني تركت ولدك عليك وطرت إلى بلاد قومي فكان عمرو بن يربوع كلما برق البرق غطى وجهها بردائه فلا تبصره وإلى هذا المعنى أشار أبو العلاء المعري في قوله يذكر الإبل وحنينها إلى البرق
طربن لضوء البارق المتعالي
ببغداد وهنا ما لهن وما لي
سمت نحوه الأبصار حتى كأنها
بناريه من هنا وثم صوالي
إذا طال عنها سرها لو رءوسها
تمد إليه في صدور عوالي
تمنت قويقا والصراة أمامها
تراب لها من أينق وجمال
إذا لاح إيماض سترت وجوهها
كأني عمرو والمطي سعالي
و كم هم نضو أن يطير مع الصبا
إلى الشام لو لا حبسه بعقالي
قالوا فغفل عمرو بن يربوع عنها ليلة وقد لمع البرق فلم يستر وجهها فطارت وقالت له وهي تطير
أمسك بنيك عمرو إني آبق
برق على أرض السعالي آلق
[ 412 ]
و منهم من يقول ركبت بعيرا وطارت عليه أي أسرعت فلم يدركها وعن هذا قال الشاعر
رأى برقا فأوضع فوق بكر
فلا بك ما أسأل ولا أغاما
قال فبنو عمرو بن يربوع إلى اليوم يدعون بني السعلاة ولذلك قال الشاعر يهجوهم
يا قبح الله بني السعلاة
عمرو بن يربوع شرار النات
ليسوا بأبطال ولا أكيات
فأبدل السين تاء وهي لغة قوم من العرب . ومن مذاهبهم في الغول قولهم إنها إذا ضربت ضربة واحدة بالسيف هلكت فإن ضربت ثانية عاشت وإلى هذا المعنى أشار الشاعر بقوله
فقالت ثن قلت لها رويدا
مكانك إنني ثبت الجنان(1/5697)
و كانت العرب تسمي أصوات الجن العزيف وتقول إن الرجل إذا قتل قنفذا أو ورلا لم يأمن الجن على فحل إبله وإذا أصاب إبله خطب أو بلاء حمله على ذلك ويزعمون أنهم يسمعون الهاتف بذلك ويقولون مثله في الجان من الحيات وقتله عندهم عظيم ورأى رجل منهم جانا في قعر بئر لا يستطيع الخروج فنزل وأخرجه منها على خطر عظيم وغمض عينيه لئلا يرى أين يدخل كأنه يريد بذلك التقرب إلى الجن .
[ 413 ]
و قال أبو عثمان الجاحظ وكانوا يسمون من يجاور منهم الناس عامرا والجمع عمار فإن تعرض للصبيان فهو روح فإن خبث وتعرم فهو شيطان فإن زاد على ذلك فهو مارد فإن زاد على ذلك في القوة فهو عفريت فإن طهر ولطف وصار خيرا كله فهو ملك ويفاضلون بينهم ويعتقدون مع كل شاعر شيطانا ويسمونهم بأسماء مختلفة قال أبو عثمان وفي النهار ساعات يرى فيها الصغير كبيرا ويوجد لأوساط الفيافي والرمال والحرار مثل الدوي وهو طبع ذلك الوقت قال ذو الرمة
إذا قال حادينا لترنيم نبأة
صه لم يكن إلا دوي المسامع
و قال أبو عثمان أيضا في الذين يذكرون عزيف الجن وتغول الغيلان إن أثر هذا الأمر وابتداء هذا الخيال أن القوم لما نزلوا بلاد الوحش عملت فيهم الوحشة ومن انفرد وطال مقامه في البلاد الخلاء استوحش ولا سيما مع قلة الأشغال وفقد المذاكرين والوحدة لا تقطع أيامها إلا بالتمني والأفكار وذلك أحد أسباب الوسواس . ومن عجائب اعتقادات العرب ومذاهبها اعتقادهم في الديك والغراب والحمامة وساق حر وهو الهديل والحية فمنهم من يعتقد أن للجن بهذه الحيوانات تعلقات ومنهم من يزعم أنها نوع من الجن ويعتقدون أن سهيلا والزهرة الضب والذئب والضبع مسوخ ومن أشعارهم في مراكب الجن قول بعضهم في قنفذ رآه ليلا
فما يعجب الجنان منك عدمتهم
و في الأسد أفراس لهم ونجائب
أ يسرج يربوع ويلجم قنفذ
لقد أعوزتكم ما علمت النجائب
[ 414 ]
فإن كانت الجنان جنت فبالحرى(1/5698)
لا ذنب للأقوام والله غالب
و من الشعر المنسوب إلى الجن
و كل المطايا قد ركبنا فلم نجد
ألذ وأشهى من ركوب الأرانب
و من عضر فوط عن لي فركبته
أبادر سربا من عطاء قوارب
و قال أعرابي يكذب بذلك
أ يستمع الأسرار راكب قنفذ
لقد ضاع سر الله يا أم معبد
و من أشعارهم وأحاديثهم في رواية الجن وخطابهم وهتافهم ما رواه أبو عثمان الجاحظ لسمير بن الحارث الضبي
و نار قد حضأت بعيد وهن
بدار لا أريد بها مقاما
سوى تحليل راحلة وعين
أكالئها مخافة أن تناما
أتوا ناري فقلت منون أنتم
فقالوا الجن قلت عموا ظلاما
و يزعمون أن عمير بن ضبيعة رأى غلمانا ثلاثة يلعبون نهارا فوثب غلام منهم فقام على عاتقي صاحبه ووثب الآخر فقام على عاتقي الأعلى منهما فلما رآهم كذلك حمل عليهم فصدمهم فوقعوا على ظهورهم وهم يضحكون فقال عمير بن ضبيعة فما مررت يومئذ بشجرة إلا وسمعت من تحتها ضحكا فلما رجع إلى منزله مرض أربعة أشهر .
[ 415 ]
و حكى الأصمعي عن بعضهم أنه خرج هو وصاحب له يسيران فإذا غلام على الطريق فقالا له من أنت قال أنا مسكين قد قطع بي فقال أحدهما لصاحبه أردفه خلفك فأردفه فالتفت الآخر إليه فرأى فمه يتأجج نارا فشد عليه بالسيف فذهبت النار فرجع عنه ثم التفت فرأى فمه يتأجج نارا فشد عليه فذهبت النار ففعل ذلك مرار فقال ذلك الغلام قاتلكما الله ما أجلدكما والله ما فعلتها بآدمي إلا وانخلع فؤاده ثم غاب عنهما فلم يعلما خبره . وقال أبو البلاد الطهوي ويروى لتأبط شرا
لهان على جهينة ما ألاقي
من الروعات يوم رحى بطان
لقيت الغول تسري في ظلام
بسهب كالعباءة صحصحان
فقلت لها كلانا نقض أرض
أخو سفر فخلي لي مكاني
فشدت شدة نحوي فأهوى
لها كفى بمصقول يماني
فقالت زد فقلت رويد إني
على أمثالها ثبت الجنان
و الذين يروون هذا الشعر لتأبط شرا يروون أوله
ألا من مبلغ فتيات جهم
بما لاقيت عند رحى بطان
بأني قد لقيت الغول تلوي
بمرت كالصحيفة صحصحان(1/5699)
فصدت فانتحيت لها بعضب
حسام غير مؤتشب يماني
فقد سراتها والبرك منها
فخرت لليدين وللجران
فقالت ثن قلت لها رويدا
مكانك إنني ثبت الجنان
[ 416 ]
و لم أنفك مضطجعا لديها
لأنظر مصبحا ما ذا دهاني
إذا عينان في رأس دقيق
كرأس الهر مشقوق اللسان
و ساقا مخدج ولسان كلب
و ثوب من عباء أو شنان
و قال البهراني
و تزوجت في الشبيبة غولا
بغزال وصدقتي زق خمر
و قال الجاحظ أصدقها الخمر لطيب ريحها والغزال لأنه من مراكب الجن وقال أبو عبيد بن أيوب العنبري أحد لصوص العرب
تقول وقد ألممت بالإنس لمة
مخضبة الأطراف خرس الخلاخل
أ هذا خدين الغول والذئب والذي
يهيم بربات الحجال الهراكل
رأت خلق الدرسين أسود شاحبا
من القوم بساما كريم الشمائل
تعود من آبائه فتكاتهم
و إطعامهم في كل غبراء شامل
إذا صاد صيدا لفه بضرامه
وشيكا ولم ينظر لغلي المراجل
و نهسا كنهس الصقر ثم مراسه
بكفيه رأس الشيخة المتمايل
و من هذه الأبيات
إذا ما أراد الله ذل قبيلة
رماها بتشتيت الهوى والتخاذل
و أول عجز القوم عما ينوبهم
تقاعدهم عنه وطول التواكل
و أول خبث الماء خبث ترابه
و أول لؤم القوم لؤم الحلائل
[ 417 ]
و هذا الشعر من جيد شعر العرب وإنما كان غرضنا منه متعلقا بأوله وذكرنا سائره لما فيه من الأدب . وقال عبيد بن أيوب أيضا في المعنى الذي نحن بصدده
و صار خليل الغول بعد عداوة
صفيا وربته القفار البسابس
و قال أيضا
فلله در الغول أي رفيقة
لصاحب قفر في المهامة يذعر
أرنت بلحن بعد لحن وأوقدت
حوالي نيرانا تلوح وتزهر
و قال أيضا
و غولا قفرة ذكر وأنثى
كأن عليهما قطع البجاد
و قال أيضا
فقد لاقت الغزلان مني بلية
و قد لاقت الغيلان مني الدواهيا
و قال البهراني في قتل الغول
ضربت ضربة فصارت هباء
في محاق القمراء آخر شهر
و قال أيضا يزعم أنه لما ثنى عليها الضرب عاشت
فثنيت والمقدار يحرس أهله
فليت يميني يوم ذلك شلت(1/5700)
و قال تأبط شرا يصف الغول ويذكر أنه راودها عن نفسها فامتنعت عليه فقتلها
فأصبحت والغول لي جارة
فيا جارة أنت ما أغولا
[ 418 ]
و طالبتها بضعها فالتوت
فكان من الرأي أن تقتلا
فجللتها مرهفا صارما
أبان المرافق والمفصلا
فطار بقحف ابنة الجن ذا
شقاشق قد أخلق المحملا
فمن يك يسأل عن جارتي
فإن لها باللوى منزلا
عظاءة أرض لها حلتان
من ورق الطلح لم تغزلا
و كنت إذا ما هممت ابتهلت
و أحرى إذا قلت أن أفعلا
و من أعاجيبهم أنهم كانوا إذا طالت علة الواحد منهم وظنوا أن به مسا من الجن لأنه قتل حية أو يربوعا أو قنفذا عملوا جمالا من طين وجعلوا عليها جوالق وملئوها حنطة وشعيرا وتمرا وجعلوا تلك الجمال في باب جحر إلى جهة المغرب وقت غروب الشمس وباتوا ليلتهم تلك فإذا أصبحوا نظروا إلى تلك الجمال الطين فإن رأوا أنها بحالها قالوا لم تقبل الدية فزادوا فيها وإن رأوها قد تساقطت وتبدد ما عليها من الميرة قالوا قد قبلت الدية واستدلوا على شفاء المريض وضربوا بالدف قال بعضهم
قالوا وقد طال عنائي والسقم
احمل إلى الجن جمالات وضم
فقد فعلت والسقام لم يرم
فبالذي يملك برئي أعتصم
و قال آخر
فيا ليت إن الجن جازوا جمالتي
و زحزح عني ما عناني من السقم
و يا ليتهم قالوا انطنا كل ما حوت
يمينك في حرب عماس وفي سلم
أعلل قلبي بالذي يزعمونه
فيا ليتني عوفيت في ذلك الزعم
[ 419 ]
و قال آخر
أرى أن جنان النويرة أصبحوا
و هم بين غضبان علي وآسف
حملت ولم أقبل إليهم حمالة
تسكن عن قلب من السقم تالف
و لو أنصفوا لم يطلبوا غير حقهم
و من لي من أمثالهم بالتناصف
تغطوا بثوب الأرض عني ولو بدوا
لأصبحت منهم آمنا غير خائف(1/5701)
و كانوا إذا غم عليهم أمر الغائب ولم يعرفوا له خبرا جاءوا إلى بئر عادية أو جفر قديم ونادوا فيه يا فلان أو يا أبا فلان ثلاث مرات ويزعمون أنه إن كان ميتا لم يسمعوا صوتا وإن كان حيا سمعوا صوتا ربما توهموه وهما أو سمعوه من الصدى فبنوا عليه عقيدتهم قال بعضهم
دعوت أبا المغوار في الجفر دعوة
فما آض صوتي بالذي كنت داعيا
أظن أبا المغوار في قعر مظلم
تجر عليه الذاريات السوافيا
و قال
و كم ناديته والليل ساج
بعادي البئار فما أجابا
و قال آخر
غاب فلم أرج له إيابا
و الجفر لا يرجع لي جوابا
و ما قرأت مذ نأى كتابا
حتى متى أستنشد الركابا
عنه وكل يمنع الخطابا
[ 420 ]
و قال آخر
أ لم تعلمي أني دعوت مجاشعا
من الجفر والظلماء باد كسورها
فجاوبني حتى ظننت بأنه
سيطلع من جوفاء صعب خدورها
لقد سكنت نفسي وأيقنت أنه
سيقدم والدنيا عجاب أمورها
و قال آخر
دعوناه من عادية نضب ماؤها
و هدم جاليها اختلاف عصور
فرد جوابا ما شككت بأنه
قريب إلينا بالإياب يصير
أقوى في البيت الثاني وسكن نضب ضرورة كما قال
لو عصر منه البان والمسك انعصر
و من أعاجيبهم أنهم كانوا في الحرب ربما أخرجوا النساء فيبلن بين الصفين يرون أن ذلك يطفئ نار الحرب ويقودهم إلى السلم . قال بعضهم
لقونا بأبوال النساء جهالة
و نحن نلاقيهم ببيض قواضب
و قال آخر
بالت نساء بني خراشة خيفة
منا وأدبرت الرجال شلالا
و قال آخر
بالت نساؤهم والبيض قد أخذت
منهم مآخذ يستشفى بها الكلب
و هذان البيتان يمكن أن يراد بهما أن النساء يبلن خيفة وذعرا لا على المعنى الذي نحن في ذكره فإذن لا يكون فيهما دلالة على المراد .
[ 421 ]
و قال الآخر
هيهات رد الخيل بالأبوال
إذا غدت في صور السعالي
و قال آخر
جعلوا السيوف المشرفية منهم
بول النساء وقل ذاك غناء
فأما ذكرهم عزيف الجن في المفاوز والسباسب فكثير مشهور كقول بعضهم
و خرق تحدث غيطانه
حديث العذارى بأسرارها
و قال آخر(1/5702)
و دوية سبسب سملق
من البيد تعزف جنانها
و قال الأعشى
و بهماء تعزف جناتها
مناهلها آجنات سدم
و قال
و بلدة مثل ظهر الترس موحشة
للجن بالليل في حافاتها زجل
و قال آخر
ببيداء في أرجائها الجن تعزف
و قال الشرقي بن القطامي كان رجل من كلب يقال له عبيد بن الحمارس شجاعا وكان نازلا بالسماوة أيام الربيع فلما حسر الربيع وقل ماؤه وأقلعت أنواؤه تحمل إلى وادي تبل فرأى روضة وغديرا فقال روضة وغدير وخطب يسير وأنا لما
[ 422 ]
حويت مجير فنزل هناك وله امرأتان اسم إحداهما الرباب والأخرى خولة فقالت له خولة
أرى بلدة قفرا قليلا أنيسها
و إنا لنخشى إن دجا الليل أهلها
و قالت له الرباب
أرتك برأيي فاستمع عنك قولها
و لا تأمنن جن العزيف وجهلها
فقال مجيبا لهما
أ لست كميا في الحروب مجربا
شجاعا إذا شبت له الحرب محربا
سريعا إلى الهيجا إذا حمس الوغى
فأقسم لا أعدو الغدير منكبا
ثم صعد إلى جبل تبل فرأى شيهمة وهي الأنثى من القنافذ فرماها فأقعصها ومعها ولدها فارتبطه فلما كان الليل هتف به هاتف من الجن
يا ابن الحمارس قد أسأت جوارنا
و ركبت صاحبنا بأمر مفظع
و عقرت لقحته وقدت فصيلها
قودا عنيفا في المنيع الأرفع
و نزلت مرعى شائنا وظلمتنا
و الظلم فاعله وخيم المرتع
فلنطرقنك بالذي أوليتنا
شر يجيئك ما له من مدفع
فأجابه ابن الحمارس
يا مدعي ظلمي ولست بظالم
اسمع لديك مقالتي وتسمع
إن كنتم جنا ظلمتم قنفذا
عقرت فشر عقيرة في مصرع
لا تطمعوا فيما لدي فما لكم
فيما حويت وحزته من مطمع
فأجابه الجني
يا ضارب اللقحة بالعضب الأفل
قد جاءك الموت وأوفاك الأجل
[ 423 ]
و ساقك الحين إلى جن تبل
فاليوم أقويت وأعيتك الحيل
فأجابه ابن الحمارس
يا صاحب اللقحة هل أنت بجل
مستمع مني فقد قلت الخطل
و كثرة المنطق في الحرب فشل
هيجت قمقاما من القوم بطل
ليث ليوث وإذا هم فعل
لا يرهب الجن ولا الإنس أجل
من كان بالعقوة من جن تبل(1/5703)
قال فسمعهما شيخ من الجن فقال لا والله لا نرى قتل إنسان مثل هذا ثابت القلب ماضي العزيمة فقام ذلك الشيخ وحمد الله تعالى ثم أنشد
يا ابن الحمارس قد نزلت بلادنا
فأصبت منها مشربا ومناما
فبدأتنا ظلما بعقر لقوحنا
و أسأت لما أن نطقت كلاما
فاعمد لأمر الرشد واجتنب الردى
إنا نرى لك حرمة وذماما
و اغرم لصاحبنا لقوحا متبعا
فلقد أصبت بما فعلت أثاما
فأجابه ابن الحمارس
الله يعلم حيث يرفع عرشه
أني لأكره أن أصيب أثاما
أما ادعاؤك ما ادعيت فإنني
جئت البلاد ولا أريد مقاما
فأسمت فيها مالنا ونزلتها
لأريح فيها ظهرنا أياما
فليغد صاحبكم علينا نعطه
ما قد سألت ولا نراه غراما
ثم غرم للجن لقوحا متبعا للقنفذ وولدها . وهذه الحكاية وإن كانت كذبا إلا أنها تتضمن أدبا وهي من طرائف
[ 424 ]
أحاديث العرب فذكرناها لأدبها وإمتاعها ويقال إن الشرقي بن القطامي كان يصنع أشعارا وينحلها غيره . فأما مذهب العرب في أن لكل شاعر شيطانا يلقي إليه الشعر فمذهب مشهور والشعراء كافة عليه قال بعضهم
إني وإن كنت صغير السن
و كان في العين نبو عني
فإن شيطاني أمير الجن
يذهب بي في الشعر كل فن
و قال حسان بن ثابت
إذا ما ترعرع فينا الغلام
فما إن يقال له من هوه
إذا لم يسد قبل شد الإزار
فذلك فينا الذي لا هوه
و لي صاحب من بني الشيصبان
فطورا أقول وطوار هوه
و كانوا يزعمون أن اسم شيطان الأعشى مسحل واسم شيطان المخبل عمرو وقال الأعشى
دعوت خليلي مسحلا ودعوا له
جهنام جدعا للهجين المذمم
و قال آخر
لقد كان جني الفرزدق قدوة
و ما كان فينا مثل فحل المخبل
و لا في القوافي مثل عمرو وشيخه
و لا بعد عمرو شاعر مثل مسحل
و قال الفرزدق يصف قصيدته
كأنها الذهب العقيان حبرها
لسان أشعر خلق الله شيطانا
[ 425 ]
و قال أبو النجم
إني وكل شاعر من البشر
شيطانه أنثى وشيطاني ذكر
و أنشد الخالع فيما نحن فيه لبعض الرجاز
إن الشياطين أتوني أربعه(1/5704)
في غلس الليل وفيهم زوبعه
و هذا لا يدل على ما نحن بصدده من أمر الشعر وإلقائه إلى الإنسان فلا وجه لإدخاله في هذا الموضع . ومن مذاهبهم أنهم كانوا إذا قتلوا الثعبان خافوا من الجن أن يأخذوا بثأره فيأخذون روثة ويفتونها على رأسه ويقولون روثة راث ثائرك . وقال بعضهم
طرحنا عليه الروث والزجر صادق
فراث علينا ثأره والطوائل
و قد يذر على الحية المقتولة يسير رماد ويقال لها قتلك العين فلا ثأر لك وفي أمثالهم لمن ذهب دمه هدرا وهو قتيل العين قال الشاعر
و لا أكن كقتيل العين وسطكم
و لا ذبيحة تشريق وتنحار
فأما مذهبهم في الخرزات والأحجار والرقى والعزائم فمشهور فمنها السلوانة ويقال السلوة وهي خرزة يسقى العاشق منها فيسلو في زعمهم وهي بيضاء شفافة قال الراجز
لو أشرب السلوان ما سليت
ما بي غنى عنكم وإن غنيت
السلوان جمع سلوانة .
[ 426 ]
و قال اللحياني السلوانة تراب من قبر يسقى منه العاشق فيسلو وقال عروة بن حزام
جعلت لعراف اليمامة حكمه
و عراف نجد إن هما شفياني
فقالا نعم نشفي من الداء كله
و قاما مع العواد يبتدران
فما تركا من رقية يعرفانها
و لا سلوة إلا وقد سقياني
و قال آخر
سقوني سلوة فسلوت عنها
سقى الله المنية من سقاني
أي سلوت عن السلوة واشتد بي العشق ودام وقال الشمردل
و لقد سقيت بسلوة فكأنما
قال المداوي للخيال بها ازدد
و من خرزاتهم الهنمة تجتلب بها الرجال وتعطف بها قلوبهم ورقيتها أخذته بالهنمة بالليل زوج وبالنهار أمه . ومنها الفطسة والقبلة والدردبيس كلها لاجتلاب قلوب الرجال قال الشاعر
جمعن من قبل لهن وفطسة
و الدردبيس تمائما في منظم
فانقاد كل مشذب مرس القوى
لحبالهن وكل جلد شيظم
و قيل الدردبيس خرزة سوداء يتحبب بها النساء إلى بعولتهن توجد في القبور العادية ورقيتها أخذته بالدردبيس تدر العرق اليبيس وتذر الجديد كالدريس وأنشد
قطعت القيد والخرزات عني
فمن لي من علاج الدردبيس(1/5705)
[ 427 ]
و أصل الدردبيس الداهية ونقل إلى هذه لقوة تأثيرها . ومن خرزاتهم القرزحلة أنشد ابن الأعرابي
لا تنفع القرزحلة العجائزا
إذا قطعن دونها المفاوزا
و هي من خرز الضرائر إذا لبستها المرأة مال إليها بعلها دون ضرتها . ومنها خرزة العقرة تشدها المرأة على حقويها فتمنع الحبل ذكر ذلك ابن السكيت في إصلاح المنطق . ومنها الينجلب ورقيتها أخذته بالينجلب فلا يرم ولا يغب ولا يزل عند الطنب . ومنها كرار مبنية على الكسر ورقيتها يا كرار كريه إن أقبل فسريه وإن أدبر فضريه من فرجه إلى فيه . ومنها الهمرة ورقيتها يا همرة اهمريه من استه إلى فيه وماله وبنيه . ومنها الخصمة خرزة للدخول على السلطان والخصومة تجعل تحت فص الخاتم أو في زر القميص أو في حمائل السيف قال بعضهم
يعلق غيري خصمة في لقائهم
و ما لي عليكم خصمة غير منطقي
و منها الوجيهة وهي كالخصمة حمراء كالعقيق . ومنها العطفة خرزة العطف والكحلة خرزة سوداء تجعل على الصبيان لدفع العين عنهم والقبلة خرزة بيضاء تجعل في عنق الفرس من العين والفطسة خرزة يمرض بها العدو ويقتل ورقيتها أخذته بالفطسة بالثوباء والعطسة فلا يزال في تعسة من أمره ونكسة حتى يزور رمسه .
[ 428 ]
و من رقاهم للحب هوابه هوابه البرق والسحابه أخذته بمركن فحبه تمكن أخذته بإبره فلا يزل في عبره خليته بإشفى فقلبه لا يهدا خليته بمبرد فقلبه لا يبرد وترقي الفارك زوجها إذا سافر عنها فتقول بأفول القمر وظل الشجر شمال تشمله ودبوره تدبره ونكباء تنكبه شيك فلا انتعش ثم ترمي في أثره بحصاة ونواة وروثة وبعرة وتقول حصاة حصت أثره نواة أنأت داره روثة راث خبره لقعته ببعرة وقالت فارك في زوجها
أتبعته إذ رحل العيس ضحى
بعد النواة روثة حيث انتوى
الروث للرثى وللنأي النوى
و قال آخر
رمت خلفه لما رأت وشك بينه
نواة تلتها روثة وحصاة
و قالت نأت منك الديار فلا دنت(1/5706)
و راثت بك الأخبار والرجعات
و حصت لك الآثار بعد ظهورها
و لا فارق الترحال منك شتات
و قال آخر يخاطب امرأته
لا تقذفي خلفي إذا الركب اغتدى
روثة عير وحصاة ونوى
لن يدفع المقدار أسباب الرقى
و لا التهاويل على جن الفلا
هذا الرجز أورده الخالع في هذا المعرض وهو بأن يدل على عكس هذا المعنى أولى لأن قوله لن يدفع المقدار بالرقى ولا بالتهاويل على الجن كلام يشعر بأن قذف الحصاة والنواة خلفه كالعوذة له لا كما تفعله الفارك التي تتمنى الفراق .
[ 429 ]
فأما مذهبهم في القيافة والزجر والكهانة واختلافهم في السانح والبارح وتشاتمهم باللفظة والكلمة وتأويلهم لها وتيمنهم بكلمة أخرى وما كانوا يفعلونه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي فكله مشهور معروف لا حاجة لنا إلى ذكره هاهنا . فأما لفظ أمير المؤمنين ع في قوله نشرة فإن النشرة في اللغة كالعوذة والرقية قالوا نشرت فلانا تنشيرا أي رقيته وعوذته وقال الكلابي إذا نشر المسفوع فكأنما أنشط من عقال أي يذهب عنه ما به سريعا وفي الحديث أنه قال فلعل طبا أصابه يعني سحرا ثم عوذه بقل أعوذ برب الناس أي رقاه وكذلك إذا كتب له النشرة . وقد عد أمير المؤمنين ع أمورا أربعة ذكر منها النشرة ولم يكن ع ليقول ذلك إلا عن توقيف من رسول الله ص(1/5707)
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد المعتزلي
الجزء العشرون(1/5708)
تتمة باب الحكم والمواعظ
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل(1/5709)
409
وَ قَالَ ع : مُقَارَبَةُ اَلنَّاسِ فِي أَخْلاَقِهِمْ أَمْنٌ مِنْ غَوَائِلِهِمْ إلى هذا نظر المتنبي في قوله
و خلة في جليس أتقيه بها
كيما يرى أننا مثلان في الوهن
و كلمة في طريق خفت أعربها
فيهتدى لي فلم أقدر على اللحن
و قال الشاعر
و ما أنا إلا كالزمان إذا صحا
صحوت وإن ماق الزمان أموق
و كان يقال إذا نزلت على قوم فتشبه بأخلاقهم فإن الإنسان من حيث يوجد لا من حيث يولد وفي الأمثال القديمة من دخل ظفار حمر . شاعر
أحامقه حتى يقال سجية
و لو كان ذا عقل لكنت أعاقله
[ 4 ](1/5710)
410
وَ قَالَ ع لِبَعْضِ مُخَاطِبِيهِ وَ قَدْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ يُسْتَصْغَرُ مِثْلُهُ عَنْ قَوْلِ مِثْلِهَا لَقَدْ طِرْتَ شَكِيراً وَ هَدَرْتَ سَقْباً قال الشكير هاهنا أول ما ينبت من ريش الطائر قبل أن يقوى ويستحصف والسقب الصغير من الإبل ولا يهدر إلا بعد أن يستفحل هذا مثل قولهم قد زبب قبل أن يحصرم . ومن أمثال العامة يقرأ بالشواذ وما حفظ بعد جزء المفصل
[ 5 ](1/5711)
411
وَ قَالَ ع : مَنْ أَوْمَأَ إِلَى مُتَفَاوِتٍ خَذَلَتْهُ اَلْحِيَلُ قيل في تفسيره من استدل بالمتشابه من القرآن في التوحيد والعدل انكشفت حيلته فإن علماء التوحيد قد أوضحوا تأويل ذلك . وقيل من بنى عقيدة له مخصوصة على أمرين مختلفين حق وباطل كان مبطلا . وقيل من أومأ بطمعه وأمله إلى فائت قد مضى وانقضى لن تنفعه حيلة أي لا يتبعن أحدكم أمله ما قد فاته وهذا ضعيف لأن المتفاوت في اللغة غير الفائت
[ 6 ](1/5712)
412
وَ قَالَ ع وَ قَدْ سُئِلَ عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِمْ لاَ حَوْلَ وَ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنَّا لاَ نَمْلِكُ مَعَ اَللَّهِ شَيْئاً وَ لاَ نَمْلِكُ إِلاَّ مَا مَلَّكَنَا فَمَتَى مَلَّكَنَا مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنَّا كَلَّفَنَا وَ مَتَى أَخَذَهُ مِنَّا وَضَعَ تَكْلِيفَهُ عَنَّا معنى هذا الكلام أنه ع جعل الحول عبارة عن الملكية والتصرف وجعل القوة عبارة عن التكليف كأنه يقول لا تملك ولا تصرف إلا بالله ولا تكليف لأمر من الأمور إلا بالله فنحن لا نملك مع الله شيئا أي لا نستقل بأن نملك شيئا لأنه لو لا إقداره إيانا وخلقته لنا أحياء لم نكن مالكين ولا متصرفين فإذا ملكنا شيئا هو أملك به أي أقدر عليه منا صرنا مالكين له كالمال مثلا حقيقة وكالعقل والجوارح والأعضاء مجازا وحينئذ يكون مكلفا لنا أمرا يتعلق بما ملكنا إياه نحو أن يكلفنا الزكاة عند تمليكنا المال ويكلفنا النظر عند تمليكنا العقل ويكلفنا الجهاد والصلاة والحج وغير ذلك عند تمليكنا الأعضاء والجوارح ومتى أخذ منا المال وضع عنا تكليف الزكاة ومتى أخذ العقل سقط تكليف النظر ومتى أخذ الأعضاء والجوارح سقط تكليف الجهاد وما يجري مجراه . هذا هو تفسير قوله ع فأما غيره فقد فسره بشي ء آخر قال
[ 7 ](1/5713)
أبو عبد الله جعفر بن محمد ع فلا حول على الطاعة ولا قوة على ترك المعاصي إلا بالله وقال قوم وهم المجبرة لا فعل من الأفعال إلا وهو صادر من الله وليس في اللفظ ما يدل ما ادعوا وإنما فيه أنه لا اقتدار إلا بالله وليس يلزم من نفي الاقتدار إلا بالله صدق قولنا لا فعل من الأفعال إلا وهو صادر عن الله والأولى في تفسير هذه اللفظة أن تحمل على ظاهرها وذلك أن الحول هو القوة والقوة هي الحول كلاهما مترادفان ولا ريب أن القدرة من الله تعالى فهو الذي أقدر المؤمن على الإيمان والكافر على الكفر ولا يلزم من ذلك مخالفة القول بالعدل لأن القدرة ليست موجبة . فإن قلت فأي فائدة في ذكر ذلك وقد علم كل أحد أن الله تعالى خلق القدرة في جميع الحيوانات قلت المراد بذلك الرد على من أثبت صانعا غير الله كالمجوس والثنوية فإنهم قالوا بإلهين أحدهما يخلق قدرة الخير والآخر يخلق قدرة الشر
[ 8 ](1/5714)
413
وَ قَالَ ع لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَحِمَهُ اَللَّهُ تَعَالَى وَ قَدْ سَمِعَهُ يُرَاجِعُ اَلْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ كَلاَماً دَعْهُ يَا عَمَّارُ فَإِنَّهُ لَنْ يَأْخُذَ لَمْ يَأْخُذْ مِنَ اَلدِّينِ إِلاَّ مَا قَارَبَهُ مِنَ اَلدُّنْيَا وَ عَلَى عَمْدٍ لَبَّسَ لَبَسَ عَلَى نَفْسِهِ لِيَجْعَلَ اَلشُّبُهَاتِ عَاذِراً لِسَقَطَاتِهِ(1/5715)
المغيرة بن شعبة
أصحابنا غير متفقين على السكوت على المغيرة بل أكثر البغداديين يفسقونه ويقولون فيه ما يقال في الفاسق ولما جاء عروة بن مسعود الثقفي إلى رسول الله ص عام الحديبية نظر إليه قائما على رأس رسول الله ص مقلدا سيفا فقيل من هذا قيل ابن أخيك المغيرة قال وأنت هاهنا يا غدر والله إني إلى الآن ما غسلت سوءتك . وكان إسلام المغيرة من غير اعتقاد صحيح ولا إنابة ونية جميلة كان قد صحب قوما في بعض الطرق فاستغفلهم وهم نيام فقتلهم وأخذ أموالهم وهرب خوفا أن يلحق فيقتل أو يؤخذ ما فاز به من أموالهم فقدم المدينة فأظهر الإسلام وكان رسول الله
[ 9 ](1/5716)
ص لا يرد على أحد إسلامه أسلم عن علة أو عن إخلاص فامتنع بالإسلام واعتصم وحمي جانبه . ذكر حديثه أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني في كتاب الأغاني قال كان المغيرة يحدث حديث إسلامه قال خرجت مع قوم من بني مالك ونحن على دين الجاهلية إلى المقوقس ملك مصر فدخلنا إلى الإسكندرية وأهدينا للملك هدايا كانت معنا فكنت أهون أصحابي عليه وقبض هدايا القوم وأمر لهم بجوائز وفضل بعضهم على بعض وقصر بي فأعطاني شيئا قليلا لا ذكر له وخرجنا فأقبلت بنو مالك يشترون هدايا لأهلهم وهم مسرورون ولم يعرض أحد منهم علي مواساة فلما خرجوا حملوا معهم خمرا فكانوا يشربون منها فأشرب معهم ونفسي تأبى أن تدعني معهم وقلت ينصرفون إلى الطائف بما أصابوا وما حباهم به الملك ويخبرون قومي بتقصيره بي وازدرائه إياي فأجمعت على قتلهم فقلت إني أجد صداعا فوضعوا شرابهم ودعوني فقلت رأسي يصدع ولكن اجلسوا فأسقيكم فلم ينكروا من أمري شيئا فجلست أسقيهم وأشرب القدح بعد القدح فلما دبت الكأس فيهم اشتهوا الشراب فجعلت أصرف لهم وأترع الكأس فيشربون ولا يدرون فأهمدتهم الخمر حتى ناموا ما يعقلون فوثبت إليهم فقتلتهم جميعا وأخذت جميع ما كان معهم . وقدمت المدينة فوجدت النبي ص بالمسجد وعنده أبو بكر وكان بي عارفا فلما رآني قال ابن أخي عروة قلت نعم قد جئت أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فقال رسول الله ص الحمد لله فقال أبو بكر من مصر أقبلت قلت نعم قال فما فعل المالكيون الذين كانوا معك قلت كان
[ 10 ](1/5717)
بيني وبينهم بعض ما يكون بين العرب ونحن على دين الشرك فقتلتهم وأخذت أسلابهم وجئت بها إلى رسول الله ص ليخمسها ويرى فيها رأيه فإنها غنيمة من المشركين فقال رسول الله أما إسلامك فقد قبلته ولا نأخذ من أموالهم شيئا ولا نخمسها لأن هذا غدر والغدر لا خير فيه فأخذني ما قرب وما بعد فقلت يا رسول الله إنما قتلتهم وأنا على دين قومي ثم أسلمت حين دخلت إليك الساعة فقال ع الإسلام يجب ما قبله قال وكان قتل منهم ثلاثة عشر إنسانا واحتوى ما معهم فبلغ ذلك ثقيفا بالطائف فتداعوا للقتال ثم اصطلحوا على أن حمل عمي عروة بن مسعود ثلاث عشرة دية . قال فذلك معنى قول عروة يوم الحديبية يا غدر أنا إلى الأمس أغسل سوءتك فلا أستطيع أن أغسلها فلهذا قال أصحابنا البغداديون من كان إسلامه على هذا الوجه وكانت خاتمته ما قد تواتر الخبر به من لعن علي ع على المنابر إلى أن مات على هذا الفعل وكان المتوسط من عمره الفسق والفجور وإعطاء البطن والفرج سؤالهما وممالأة الفاسقين وصرف الوقت إلى غير طاعة الله كيف نتولاه وأي عذر لنا في الإمساك عنه وألا نكشف للناس فسقه(1/5718)
إيراد كلام لأبي المعالي الجويني في أمر الصحابة والرد عليه
و حضرت عند النقيب أبي جعفر يحيى بن محمد العلوي البصري في سنة إحدى عشرة وستمائة ببغداد وعنده جماعة وأحدهم يقرأ في الأغاني لأبي الفرج فمر ذكر المغيرة بن شعبة وخاض القوم فذمه بعضهم وأثنى عليه بعضهم وأمسك عنه آخرون فقال
[ 11 ]
بعض فقهاء الشيعة ممن كان يشتغل بطرف من علم الكلام على رأي الأشعري الواجب الكف والإمساك عن الصحابة وعما شجر بينهم فقد قال أبو المعالي الجويني إن رسول الله ص نهى عن ذلك و
قال إياكم وما شجر بين صحابتي و
قال دعوا لي أصحابي فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا لما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه و
قال أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم و
قال خيركم القرن الذي أنا فيه ثم الذي يليه ثم الذي يليه ثم الذي يليه وقد ورد في القرآن الثناء على الصحابة وعلى التابعين و(1/5719)
قال رسول الله ص وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وقد روي عن الحسن البصري أنه ذكر عنده الجمل وصفين فقال تلك دماء طهر الله منها أسيافنا فلا نلطخ بها ألسنتنا . ثم إن تلك الأحوال قد غابت عنا وبعدت أخبارها على حقائقها فلا يليق بنا أن نخوض فيها ولو كان واحد من هؤلاء قد أخطأ لوجب أن يحفظ رسول الله ص فيه ومن المروءة أن يحفظ رسول الله ص في عائشة زوجته وفي الزبير ابن عمته وفي طلحة الذي وقاه بيده ثم ما الذي ألزمنا وأوجب علينا أن نلعن أحدا من المسلمين أو نبرأ منه وأي ثواب في اللعنة والبراءة إن الله تعالى لا يقول يوم القيامة للمكلف لم لم تلعن بل قد يقول له لم لعنت ولو أن إنسانا عاش عمره كله لم يلعن إبليس لم يكن عاصيا ولا آثما وإذا جعل الإنسان عوض اللعنة أستغفر الله كان خيرا له ثم كيف يجوز للعامة أن تدخل أنفسها في أمور الخاصة وأولئك قوم كانوا أمراء هذه الأمة وقادتها ونحن اليوم في طبقة سافلة جدا عنهم فكيف يحسن بنا التعرض لذكرهم أ ليس يقبح من الرعية أن تخوض في دقائق أمور الملك وأحواله وشئونه التي تجري بينه وبين أهله وبني عمه ونسائه وسراريه وقد كان
[ 12 ](1/5720)
رسول الله ص صهرا لمعاوية وأخته أم حبيبة تحته فالأدب أن تحفظ أم حبيبة وهي أم المؤمنين في أخيها . وكيف يجوز أن يلعن من جعل الله تعالى بينه وبين رسوله مودة أ ليس المفسرون كلهم قالوا هذه الآية أنزلت في أبي سفيان وآله وهي قوله تعالى عَسَى اَللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ اَلَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً فكان ذلك مصاهرة رسول الله ص أبا سفيان وتزويجه ابنته على أن جميع ما تنقله الشيعة من الاختلاف بينهم والمشاجرة لم يثبت وما كان القوم إلا كبني أم واحدة ولم يتكدر باطن أحد منهم على صاحبه قط ولا وقع بينهم اختلاف ولا نزاع . فقال أبو جعفر رحمه الله قد كنت منذ أيام علقت بخطي كلاما وجدته لبعض الزيدية في هذا المعنى نقضا وردا على أبي المعالي الجويني فيما اختاره لنفسه من هذا الرأي وأنا أخرجه إليكم لأستغني بتأمله عن الحديث على ما قاله هذا الفقيه فإني أجد ألما يمنعني من الإطالة في الحديث لا سيما إذا خرج مخرج الجدل ومقاومة الخصوم ثم أخرج من بين كتبه كراسا قرأناه في ذلك المجلس واستحسنه الحاضرون وأنا أذكر هاهنا خلاصته . قال لو لا أن الله تعالى أوجب معاداة أعدائه كما أوجب موالاة أوليائه وضيق على المسلمين تركها إذا دل العقل عليها أو صح الخبر عنها بقوله سبحانه لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ وبقوله تعالى وَ لَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ اَلنَّبِيِّ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اِتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وبقوله سبحانه لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً
[ 13 ](1/5721)
غَضِبَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ ولإجماع المسلمين على أن الله تعالى فرض عداوة أعدائه وولاية أوليائه وعلى أن البغض في الله واجب والحب في الله واجب لما تعرضنا لمعاداة أحد من الناس في الدين ولا البراءة منه ولكانت عداوتنا للقوم تكلفا ولو ظننا أن الله عز وجل يعذرنا إذا قلنا يا رب غاب أمرهم عنا فلم يكن لخوضنا في أمر قد غاب عنا معنى لاعتمدنا على هذا العذر وواليناهم ولكنا نخاف أن يقول سبحانه لنا إن كان أمرهم قد غاب عن أبصاركم فلم يغب عن قلوبكم وأسماعكم قد أتتكم به الأخبار الصحيحة التي بمثلها ألزمتم أنفسكم الإقرار بالنبي ص وموالاة من صدقه ومعاداة من عصاه وجحده وأمرتم بتدبر القرآن وما جاء به الرسول فهلا حذرتم من أن تكونوا من أهل هذه الآية غدا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا اَلسَّبِيلاَ . فأما لفظة اللعن فقد أمر الله تعالى بها وأوجبها أ لا ترى إلى قوله أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اَللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اَللاَّعِنُونَ فهو إخبار معناه الأمر كقوله وَ اَلْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وقد لعن الله تعالى العاصين بقوله لُعِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وقوله إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اَللَّهُ فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً وقوله مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلاً وقال الله تعالى لإبليس وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ اَلدِّينِ وقال إِنَّ اَللَّهَ لَعَنَ اَلْكافِرِينَ وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً .
[ 14 ](1/5722)
فأما قول من يقول أي ثواب في اللعن وإن الله تعالى لا يقول للمكلف لم لم تلعن بل قد يقول له لم لعنت وأنه لو جعل مكان لعن الله فلانا اللهم اغفر لي لكان خيرا له ولو أن إنسانا عاش عمره كله لم يلعن إبليس لم يؤاخذ بذلك فكلام جاهل لا يدري ما يقول اللعن طاعة ويستحق عليها الثواب إذا فعلت على وجهها وهو أن يلعن مستحق اللعن لله وفي الله لا في العصبية والهوى أ لا ترى أن الشرع قد ورد بها في نفي الولد ونطق بها القرآن وهو أن يقول الزوج في الخامسة أَنَّ لَعْنَتَ اَللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ اَلْكاذِبِينَ فلو لم يكن الله تعالى يريد أن يتلفظ عباده بهذه اللفظة وأنه قد تعبدهم بها لما جعلها من معالم الشرع ولما كررها في كثير من كتابه العزيز ولما قال في حق القاتل وَ غَضِبَ اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وليس المراد من قوله وَ لَعَنَهُ إلا الأمر لنا بأن نلعنه ولو لم يكن المراد بها ذلك لكان لنا أن نلعنه لأن الله تعالى قد لعنه أ فيلعن الله تعالى إنسانا ولا يكون لنا أن نلعنه هذا ما لا يسوغ في العقل كما لا يجوز أن يمدح الله إنسانا إلا ولنا أن نمدحه ولا يذمه إلا ولنا أن نذمه وقال تعالى هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اَللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اَللَّهُ وقال رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ اَلْعَذابِ وَ اِلْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً وقال عز وجل وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ يَدُ اَللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا وكيف يقول القائل إن الله تعالى لا يقول للمكلف لم لم تلعن أ لا يعلم هذا القائل أن الله تعالى أمر بولاية أوليائه وأمر بعداوة أعدائه فكما يسأل عن التولي يسأل عن التبري أ لا ترى أن اليهودي إذا أسلم يطالب بأن يقال له تلفظ بكلمة الشهادتين ثم قل برئت
[ 15 ](1/5723)
من كل دين يخالف دين الإسلام فلا بد من البراءة لأن بها يتم العمل أ لم يسمع هذا القائل قول الشاعر
تود عدوي ثم تزعم أنني
صديقك إن الرأي عنك لعازب
فمودة العدو خروج عن ولاية الولي وإذا بطلت المودة لم يبق إلا البراءة لأنه لا يجوز أن يكون الإنسان في درجة متوسطة مع أعداء الله تعالى وعصاته بألا يودهم ولا يبرأ منهم بإجماع المسلمين على نفي هذه الواسطة . وأما قوله لو جعل عوض اللعنة أستغفر الله لكان خيرا له فإنه لو استغفر من غير أن يلعن أو يعتقد وجوب اللعن لما نفعه استغفاره ولا قبل منه لأنه يكون عاصيا لله تعالى مخالفا أمره في إمساكه عمن أوجب الله تعالى عليه البراءة منه وإظهار البراءة والمصر على بعض المعاصي لا تقبل توبته واستغفاره عن البعض الآخر وأما من يعيش عمره ولا يلعن إبليس فإن كان لا يعتقد وجوب لعنه فهو كافر وإن كان يعتقد وجوب لعنه ولا يلعنه فهو مخطئ على أن الفرق بينه وبين ترك لعنة رءوس الضلال في هذه الأمة كمعاوية والمغيرة وأمثالهما أن أحدا من المسلمين لا يورث عنده الإمساك عن لعن إبليس شبهه في أمر إبليس والإمساك عن لعن هؤلاء وأضرابهم يثير شبهة عند كثير من المسلمين في أمرهم وتجنب ما يورث الشبهة في الدين واجب فلهذا لم يكن الإمساك عن لعن إبليس نظيرا للإمساك عن أمر هؤلاء . قال ثم يقال للمخالفين أ رأيتم لو قال قائل قد غاب عنا أمر يزيد بن معاوية والحجاج بن يوسف فليس ينبغي أن نخوض في قصتهما ولا أن نلعنهما ونعاديهما ونبرأ منهما هل كان هذا إلا كقولكم قد غاب عنا أمر معاوية والمغيرة بن
[ 16 ](1/5724)
شعبة وأضرابهما فليس لخوضنا في قصتهم معنى . وبعد فكيف أدخلتم أيها العامة والحشوية وأهل الحديث أنفسكم في أمر عثمان وخضتم فيه وقد غاب عنكم وبرئتم من قتلته ولعنتموهم وكيف لم تحفظوا أبا بكر الصديق في محمد ابنه فإنكم لعنتموه وفسقتموه ولا حفظتم عائشة أم المؤمنين في أخيها محمد المذكور ومنعتمونا أن نخوض وندخل أنفسنا في أمر علي والحسن والحسين ومعاوية الظالم له ولهما المتغلب على حقه وحقوقهما وكيف صار لعن ظالم عثمان من السنة عندكم ولعن ظالم علي والحسن والحسين تكلفا وكيف أدخلت العامة أنفسها في أمر عائشة وبرئت ممن نظر إليها ومن القائل لها يا حميراء أو إنما هي حميراء ولعنته بكشفه سترها ومنعتنا نحن عن الحديث في أمر فاطمة وما جرى لها بعد وفاة أبيها . فإن قلتم إن بيت فاطمة إنما دخل وسترها إنما كشف حفظا لنظام الإسلام وكيلا ينتشر الأمر ويخرج قوم من المسلمين أعناقهم من ربقة الطاعة ولزوم الجماعة . قيل لكم وكذلك ستر عائشة إنما كشف وهودجها إنما هتك لأنها نشرت حبل الطاعة وشقت عصا المسلمين وأراقت دماء المسلمين من قبل وصول علي بن أبي طالب ع إلى البصرة وجرى لها مع عثمان بن حنيف وحكيم بن جبلة ومن كان معهما من المسلمين الصالحين من القتل وسفك الدماء ما تنطق به كتب التواريخ والسير فإذا جاز دخول بيت فاطمة لأمر لم يقع بعد جاز كشف ستر عائشة على ما قد وقع وتحقق فكيف صار هتك ستر عائشة من الكبائر التي يجب معها التخليد في النار
[ 17 ](1/5725)
و البراءة من فاعله ومن أوكد عرى الإيمان وصار كشف بيت فاطمة والدخول عليها منزلها وجمع حطب ببابها وتهددها بالتحريق من أوكد عرى الدين وأثبت دعائم الإسلام ومما أعز الله به المسلمين وأطفأ به نار الفتنة والحرمتان واحدة والستران واحد وما نحب أن نقول لكم أن حرمة فاطمة أعظم ومكانها أرفع وصيانتها لأجل رسول الله ص أولى فإنها بضعة منه وجزء من لحمه ودمه وليست كالزوجة الأجنبية التي لا نسب بينها وبين الزوج وإنما هي وصلة مستعارة وعقد يجري مجرى إجارة المنفعة وكما يملك رق الأمة بالبيع والشراء ولهذا قال الفرضيون أسباب التوارث ثلاثة سبب ونسب وولاء فالنسب القرابة والسبب النكاح والولاء ولاء العتق فجعلوا النكاح خارجا عن النسب ولو كانت الزوجة ذات نسب لجعلوا الأقسام الثلاثة قسمين . وكيف تكون عائشة أو غيرها في منزلة فاطمة وقد أجمع المسلمون كلهم من يحبها ومن لا يحبها منهم أنها سيدة نساء العالمين . قال وكيف يلزمنا اليوم حفظ رسول الله ص في زوجته وحفظ أم حبيبة في أخيها ولم تلزم الصحابة أنفسها حفظ رسول الله ص في أهل بيته ولا ألزمت الصحابة أنفسها حفظ رسول الله ص في صهره وابن عمه ابن عفان وقد قتلوهم ولعنوهم ولقد كان كثير من الصحابة يلعن عثمان وهو خليفة منهم عائشة كانت تقول اقتلوا نعثلا لعن الله نعثلا ومنهم عبد الله بن مسعود وقد لعن معاوية علي بن أبي طالب وابنيه حسنا وحسينا وهم أحياء يرزقون بالعراق وهو يلعنهم بالشام على المنابر ويقنت عليهم في الصلوات وقد لعن أبو بكر وعمر سعد بن عبادة وهو حي وبرءا منه وأخرجاه من المدينة إلى الشام ولعن عمر
[ 18 ](1/5726)
خالد بن الوليد لما قتل مالك بن نويرة وما زال اللعن فاشيا في المسلمين إذا عرفوا من الإنسان معصية تقتضي اللعن والبراءة . قال ولو كان هذا أمرا معتبرا وهو أن يحفظ زيد لأجل عمرو فلا يلعن لوجب أن تحفظ الصحابة في أولادهم فلا يلعنوا لأجل آبائهم فكان يجب أن يحفظ سعد بن أبي وقاص فلا يلعن ابنه عمر بن سعد قاتل الحسين وأن يحفظ معاوية فلا يلعن يزيد صاحب وقعة الحرة وقاتل الحسين ومخيف المسجد الحرام بمكة وأن يحفظ عمر بن الخطاب في عبيد الله ابنه قاتل الهرمزان والمحارب عليا ع في صفين . قال على أنه لو كان الإمساك عن عداوة من عادى الله من أصحاب رسول الله ص من حفظ رسول الله ص في أصحابه ورعاية عهده وعقده لم نعادهم ولو ضربت رقابنا بالسيوف ولكن محبة رسول الله ص لأصحابه ليست كمحبة الجهال الذين يصنع أحدهم محبته لصاحبه موضع العصبية وإنما أوجب الله رسول الله ص محبة أصحابه لطاعتهم لله فإذا عصوا الله وتركوا ما أوجب محبتهم فليس عند رسول الله ص محاباة في ترك لزوم ما كان عليه من محبتهم ولا تغطرس في العدول عن التمسك بموالاتهم فلقد كان ص يحب أن يعادي أعداء الله ولو كانوا عترته كما يحب أن يوالي أولياء الله ولو كانوا أبعد الخلق نسبا منه والشاهد على ذلك إجماع الأمة على أن الله تعالى قد أوجب عداوة من ارتد بعد الإسلام وعداوة من نافق وإن كان من أصحاب رسول الله ص وأن رسول الله ص هو الذي أمر بذلك ودعا إليه
[ 19 ]
و ذلك أنه ص قد أوجب قطع السارق وضرب القاذف وجلد البكر إذا زنى وإن كان من المهاجرين أو الأنصار أ لا ترى(1/5727)
أنه قال لو سرقت فاطمة لقطعتها فهذه ابنته الجارية مجرى نفسه لم يحابها في دين الله ولا راقبها في حدود الله وقد جلد أصحاب الإفك ومنهم مسطح بن أثاثة وكان من أهل بدر . قال وبعد فلو كان محل أصحاب رسول الله ص محل من لا يعادي إذا عصى الله سبحانه ولا يذكر بالقبيح بل يجب أن يراقب لأجل اسم الصحبة ويغضى عن عيوبه وذنوبه لكان كذلك صاحب موسى المسطور ثناؤه في القرآن لما اتبع هواه فانسلخ مما أوتي من الآيات وغوى قال سبحانه وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ اَلَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ اَلشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ اَلْغاوِينَ ولكان ينبغي أن يكون محل عبدة العجل من أصحاب موسى هذا المحل لأن هؤلاء كلهم قد صحبوا رسولا جليلا من رسل الله سبحانه . قال ولو كانت الصحابة عند أنفسها بهذه المنزلة لعلمت ذلك من حال أنفسها لأنهم أعرف بمحلهم من عوام أهل دهرنا وإذا قدرت أفعال بعضهم ببعض دلتك على أن القصة كانت على خلاف ما قد سبق إلى قلوب الناس اليوم هذا علي وعمار وأبو الهيثم بن التيهان وخزيمة بن ثابت وجميع من كان مع علي ع من المهاجرين والأنصار لم يروا أن يتغافلوا عن طلحة والزبير حتى فعلوا بهما وبمن معهما ما يفعل بالشراة في عصرنا وهذا طلحة والزبير وعائشة ومن كان معهم وفي جانبهم لم يروا أن يمسكوا عن علي حتى قصدوا له كما يقصد للمتغلبين في زماننا وهذا معاوية وعمرو لم يريا
[ 20 ](1/5728)
عليا بالعين التي يرى بها العامي صديقه أو جاره ولم يقصرا دون ضرب وجهه بالسيف ولعنه ولعن أولاده وكل من كان حيا من أهله وقتل أصحابه وقد لعنهما هو أيضا في الصلوات المفروضات ولعن معهما أبا الأعور السلمي وأبا موسى الأشعري وكلاهما من الصحابة وهذا سعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وعبد الله بن عمر وحسان بن ثابت وأنس بن مالك لم يروا أن يقلدوا عليا في حرب طلحة ولا طلحة في حرب علي وطلحة والزبير بإجماع المسلمين أفضل من هؤلاء المعدودين لأنهم زعموا أنهم قد خافوا أن يكون علي قد غلط وزل في حربهما وخافوا أن يكونا قد غلطا وزلا في حرب علي وهذا عثمان قد نفى أبا ذر إلى الربذة كما يفعل بأهل الخنا والريب وهذا عمار وابن مسعود تلقيا عثمان بما تلقياه به لما ظهر لهما بزعمهما منه ما وعظاه لأجله ثم فعل بهما عثمان ما تناهى إليكم ثم فعل القوم بعثمان ما قد علمتم وعلم الناس كلهم وهذا عمر يقول في قصة الزبير بن العوام لما استأذنه في الغزو ها إني ممسك بباب هذا الشعب أن يتفرق أصحاب محمد في الناس فيضلوهم وزعم أنه وأبو بكر كانا يقولان إن عليا والعباس في قصة الميراث زعماهما كاذبين ظالمين فاجرين وما رأينا عليا والعباس اعتذرا ولا تنصلا ولا نقل أحد من أصحاب الحديث ذلك ولا رأينا أصحاب رسول الله ص أنكروا عليهما ما حكاه عمر عنهما ونسبه إليهما ولا أنكروا أيضا على عمر قوله في أصحاب رسول الله ص إنهم يريدون إضلال الناس ويهمون به ولا أنكروا على عثمان دوس بطن عمار ولا كسر ضلع ابن مسعود ولا على عمار وابن مسعود ما تلقيا به عثمان كإنكار العامة اليوم الخوض في حديث الصحابة ولا اعتقدت الصحابة في أنفسها ما يعتقده العامة فيها اللهم إلا أن يزعموا أنهم أعرف بحق القوم منهم وهذا علي
[ 21 ](1/5729)
و فاطمة والعباس ما زالوا على كلمة واحدة يكذبون الرواية نحن معاشر الأنبياء لا نورث ويقولون إنها مختلفة . قالوا وكيف كان النبي ص يعرف هذا الحكم غيرنا ويكتمه عنا ونحن الورثة ونحن أولى الناس بأن يؤدى هذا الحكم إليه وهذا عمر بن الخطاب يشهد لأهل الشورى أنهم النفر الذين توفي رسول الله ص وهو عنهم راض ثم يأمر بضرب أعناقهم إن أخروا فصل حال الإمامة هذا بعد أن ثلبهم وقال في حقهم ما لو سمعته العامة اليوم من قائل لوضعت ثوبه في عنقه سحبا إلى السلطان ثم شهدت عليه بالرفض واستحلت دمه فإن كان الطعن على بعض الصحابة رفضا فعمر بن الخطاب أرفض الناس وإمام الروافض كلهم ثم ما شاع واشتهر من قول عمر كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه وهذا طعن في العقد وقدح في البيعة الأصلية . ثم ما نقل عنه من ذكر أبي بكر في صلاته وقوله عن عبد الرحمن ابنه دويبة سوء ولهو خير من أبيه ثم عمر القائل في سعد بن عبادة وهو رئيس الأنصار وسيدها اقتلوا سعدا قتل الله سعدا اقتلوه فإنه منافق وقد شتم أبا هريرة وطعن في روايته وشتم خالد بن الوليد وطعن في دينه وحكم بفسقه وبوجوب قتله وخون عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان ونسبهما إلى سرقة مال الفي ء واقتطاعه وكان سريعا إلى المساءة كثير الجبه والشتم والسب لكل أحد وقل أن يكون في الصحابة من سلم من معرة لسانه أو يده ولذلك أبغضوه وملوا أيامه مع كثرة الفتوح فيها فهلا احترم عمر الصحابة كما تحترمهم العامة إما أن يكون عمر مخطئا وإما أن تكون العامة على الخطإ .
[ 22 ](1/5730)
فإن قالوا عمر ما شتم ولا ضرب ولا أساء إلا إلى عاص مستحق لذلك قيل لهم فكأنا نحن نقول إنا نريد أن نبرأ ونعادي من لا يستحق البراءة والمعاداة كلا ما قلنا هذا ولا يقول هذا مسلم ولا عاقل وإنما غرضنا الذي إليه نجري بكلامنا هذا أن نوضح أن الصحابة قوم من الناس لهم ما للناس وعليهم ما عليهم من أساء منهم ذممناه ومن أحسن منهم حمدناه وليس لهم على غيرهم من المسلمين كبير فضل إلا بمشاهدة الرسول ومعاصرته لا غير بل ربما كانت ذنوبهم أفحش من ذنوب غيرهم لأنهم شاهدوا الأعلام والمعجزات فقربت اعتقاداتهم من الضرورة ونحن لم نشاهد ذلك فكانت عقائدنا محض النظر والفكر وبعرضية الشبه والشكوك فمعاصينا أخف لأنا أعذر . ثم نعود إلى ما كنا فيه فنقول وهذه عائشة أم المؤمنين خرجت بقميص رسول الله ص فقالت للناس هذا قميص رسول الله لم يبل وعثمان قد أبلى سنته ثم تقول اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا ثم لم ترض بذلك حتى قالت أشهد أن عثمان جيفة على الصراط غدا فمن الناس من يقول روت في ذلك خبرا ومن الناس من يقول هو موقوف عليها وبدون هذا لو قاله إنسان اليوم يكون عند العامة زنديقا ثم قد حصر عثمان حصرته أعيان الصحابة فما كان أحد ينكر ذلك ولا يعظمه ولا يسعى في إزالته وإنما أنكروا على من أنكر على المحاصرين له وهو رجل كما علمتم من وجوه أصحاب رسول الله ص ثم من أشرافهم ثم هو أقرب إليه من أبي بكر وعمر وهو مع ذلك إمام المسلمين والمختار منهم للخلافة وللإمام حق على رعيته عظيم فإن كان القوم قد أصابوا فإذن ليست الصحابة في الموضع الذي وضعتها به العامة وإن كانوا ما أصابوا فهذا هو الذي نقول من أن الخطأ جائز على
[ 23 ](1/5731)
آحاد الصحابة كما يجوز على آحادنا اليوم ولسنا نقدح في الإجماع ولا ندعي إجماعا حقيقيا على قتل عثمان وإنما نقول إن كثيرا من المسلمين فعلوا ذلك والخصم يسلم أن ذلك كان خطأ ومعصية فقد سلم أن الصحابي يجوز أن يخطئ ويعصي وهو المطلوب . وهذا المغيرة بن شعبة وهو من الصحابة ادعى عليه الزنا وشهد عليه قوم بذلك فلم ينكر ذلك عمر ولا قال هذا محال وباطل لأن هذا صحابي من صحابة رسول الله ص لا يجوز عليه الزنا وهلا أنكر عمر على الشهود وقال لهم ويحكم هلا تغافلتم عنه لما رأيتموه يفعل ذلك فإن الله تعالى قد أوجب الإمساك عن مساوئ أصحاب رسول الله ص وأوجب الستر عليهم وهلا تركتموه لرسول الله ص في قوله دعوا لي أصحابي ما رأينا عمر إلا قد انتصب لسماع الدعوى وإقامة الشهادة وأقبل يقول للمغيرة يا مغيرة ذهب ربعك يا مغيرة ذهب نصفك يا مغيرة ذهب ثلاثة أرباعك حتى اضطرب الرابع فجلد الثلاثة وهلا قال المغيرة لعمر كيف تسمع في قول هؤلاء وليسوا من الصحابة وأنا من الصحابة و
رسول الله ص قد قال أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ما رأيناه قال ذلك بل استسلم لحكم الله تعالى وهاهنا من هو أمثل من المغيرة وأفضل قدامة بن مظعون لما شرب الخمر في أيام عمر فأقام عليه الحد وهو رجل من علية الصحابة ومن أهل بدر والمشهود لهم بالجنة فلم يرد عمر الشهادة ولا درأ عنه الحد لعلة أنه بدري ولا قال قد نهى رسول الله ص عن ذكر مساوئ الصحابة وقد ضرب عمر أيضا ابنه حدا فمات وكان ممن عاصر رسول الله ص ولم تمنع معاصرته له من إقامة الحد عليه . وهذا
علي ع يقول ما حدثني أحد بحديث عن رسول الله ص
[ 24 ]
إلا استحلفته عليه أ ليس هذا اتهاما لهم بالكذب وما استثنى أحدا من المسلمين إلا أبا بكر على ما ورد في الخبر وقد صرح غير مرة بتكذيب أبي هريرة و(1/5732)
قال لا أحد أكذب من هذا الدوسي على رسول الله ص وقال أبو بكر في مرضه الذي مات فيه وددت أني لم أكشف بيت فاطمة ولو كان أغلق على حرب فندم والندم لا يكون إلا عن ذنب . ثم ينبغي للعاقل أن يفكر في تأخر علي ع عن بيعة أبي بكر ستة أشهر إلى أن ماتت فاطمة فإن كان مصيبا فأبو بكر على الخطإ في انتصابه في الخلافة وإن كان أبو بكر مصيبا فعلي على الخطإ في تأخره عن البيعة وحضور المسجد ثم قال أبو بكر في مرض موته أيضا للصحابة فلما استخلفت عليكم خيركم في نفسي يعني عمر فكلكم ورم لذلك أنفه يريد أن يكون الأمر له لما رأيتم الدنيا قد جاءت أما والله لتتخذن ستائر الديباج ونضائد الحرير أ ليس هذا طعنا في الصحابة وتصريحا بأنه قد نسبهم إلى الحسد لعمر لما نص عليه بالعهد ولقد قال له طلحة لما ذكر عمر للأمر ما ذا تقول لربك إذا سألك عن عباده وقد وليت عليهم فظا غليظا فقال أبو بكر أجلسوني أجلسوني بالله تخوفني إذا سألني قلت وليت عليهم خير أهلك ثم شتمه بكلام كثير منقول فهل قول طلحة إلا طعن في عمر وهل قول أبي بكر إلا طعن في طلحة . ثم الذي كان بين أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود من السباب حتى نفى كل واحد منهما الآخر عن أبيه وكلمة أبي بن كعب مشهورة منقولة ما زالت هذه الأمة مكبوبة على وجهها منذ فقدوا نبيهم وقوله ألا هلك أهل العقيدة والله ما آسى عليهم إنما آسى على من يضلون من الناس .
[ 25 ](1/5733)
ثم قول عبد الرحمن بن عوف ما كنت أرى أن أعيش حتى يقول لي عثمان يا منافق وقوله لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما وليت عثمان شسع نعلي وقوله اللهم إن عثمان قد أبى أن يقيم كتابك فافعل به وافعل . وقال عثمان لعلي ع في كلام دار بينهما أبو بكر وعمر خير منك فقال علي كذبت أنا خير منك ومنهما عبدت الله قبلهما وعبدته بعدهما . وروى سفيان بن عينية عن عمرو بن دينار قال كنت عند عروة بن الزبير فتذاكرناكم أقام النبي بمكة بعد الوحي فقال عروة أقام عشرا فقلت كان ابن عباس يقول ثلاث عشرة فقال كذب ابن عباس وقال ابن عباس المتعة حلال فقال له جبير بن مطعم كان عمر ينهى عنها فقال يا عدي نفسه من هاهنا ضللتم أحدثكم عن رسول الله ص وتحدثني عن عمر . و
جاء في الخبر عن علي ع لو لا ما فعل عمر بن الخطاب في المتعة ما زنى إلا شقي وقيل ما زنى إلا شفا أي قليلا فأما سبب بعضهم بعضا وقدح بعضهم في بعض في المسائل الفقهية فأكثر من أن يحصى مثل قول ابن عباس وهو يرد على زيد مذهبه القول في الفرائض إن شاء أو قال من شاء باهلته إن الذي أحصى رمل عالج عددا أعدل من أن يجعل في مال نصفا ونصفا وثلثا هذان النصفان قد ذهبا بالمال فأين موضع الثلث .
[ 26 ]
و مثل قول أبي بن كعب في القرآن لقد قرأت القرآن وزيد هذا غلام ذو ذؤابتين يلعب بين صبيان اليهود في المكتب . و(1/5734)
قال علي ع في أمهات الأولاد وهو على المنبر كان رأيي ورأي عمر ألا يبعن وأنا أرى الآن بيعهن فقام إليه عبيدة السلماني فقال رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك في الفرقة . وكان أبو بكر يرى التسوية في قسم الغنائم وخالفه عمر وأنكر فعله . وأنكرت عائشة على أبي سلمة بن عبد الرحمن خلافه على ابن عباس في عدة المتوفى عنها زوجها وهي حامل وقالت فروج يصقع مع الديكة . وأنكرت الصحابة على ابن عباس قوله في الصرف وسفهوا رأيه حتى قيل إنه تاب من ذلك عند موته . واختلفوا في حد شارب الخمر حتى خطأ بعضهم بعضا . و
روى بعض الصحابة عن النبي ص أنه قال الشؤم في ثلاثة المرأة والدار والفرس فأنكرت عائشة ذلك وكذبت الراوي وقالت إنه إنما قال ع ذلك حكاية عن غيره . و
روى بعض الصحابة عنه ع أنه قال التاجر فاجر فأنكرت عائشة ذلك وكذبت الراوي وقالت إنما قاله ع في تاجر دلس . وأنكر قوم من الأنصار
رواية أبي بكر الأئمة من قريش ونسبوه إلى افتعال هذه الكلمة .
[ 27 ]
و كان أبو بكر يقضي بالقضاء فينقضه عليه أصاغر الصحابة كبلال وصهيب ونحوهما قد روي ذلك في عدة قضايا . وقيل لابن عباس إن عبد الله بن الزبير يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى بني إسرائيل فقال كذب عدو الله أخبرني أبي بن كعب قال خطبنا رسول الله ص وذكر كذا بكلام يدل على أن موسى صاحب الخضر هو موسى بني إسرائيل . وباع معاوية أواني ذهب وفضة بأكثر من وزنها فقال له أبو الدرداء سمعت رسول الله ص ينهى عن ذلك فقال معاوية أما أنا فلا أرى به بأسا فقال أبو الدرداء من عذيري من معاوية أخبره عن الرسول ص وهو يخبرني عن رأيه والله لا أساكنك بأرض أبدا . وطعن ابن عباس في أبي هريرة
عن رسول الله ص إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخلن يده في الإناء حتى يتوضأ وقال فما نصنع بالمهراس . و(1/5735)
قال علي ع لعمر وقد أفتاه الصحابة في مسألة وأجمعوا عليها إن كانوا راقبوك فقد غشوك وإن كان هذا جهد رأيهم فقد أخطئوا . وقال ابن عباس أ لا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا . وقالت عائشة أخبروا زيد بن أرقم أنه قد أحبط جهاده مع رسول الله ص .
[ 28 ]
و أنكرت الصحابة على أبي موسى قوله إن النوم لا ينقض الوضوء ونسبته إلى الغفلة وقلة التحصيل وكذلك أنكرت على أبي طلحة الأنصاري قوله إن أكل البرد لا يفطر الصائم وهزئت به ونسبته إلى الجهل . وسمع عمر عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب يختلفان في صلاة الرجل في الثوب الواحد فصعد المنبر وقال إذا اختلف اثنان من أصحاب رسول الله ص فعن أي فتياكم يصدر المسلمون لا أسمع رجلين يختلفان بعد مقامي هذا إلا فعلت وصنعت . و
قال جرير بن كليب رأيت عمر ينهى عن المتعة وعلي ع يأمر بها فقلت إن بينكما لشرا فقال علي ع ليس بيننا إلا الخير ولكن خيرنا أتبعنا لهذا الدين . قال هذا المتكلم وكيف يصح أن يقول رسول الله ص أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم لا شبهة أن هذا يوجب أن يكون أهل الشام في صفين على هدى وأن يكون أهل العراق أيضا على هدى وأن يكون قاتل عمار بن ياسر مهتديا و(1/5736)
قد صح الخبر الصحيح أنه قال له تقتلك الفئة الباغية وقال في القرآن فَقاتِلُوا اَلَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اَللَّهِ فدل على أنها ما دامت موصوفة بالمقام على البغي مفارقة لأمر الله ومن يفارق أمر الله لا يكون مهتديا . وكان يجب أن يكون بسر بن أبي أرطاة الذي ذبح ولدي عبيد الله بن عباس الصغيرين مهتديا لأن بسرا من الصحابة أيضا وكان يجب أن يكون عمرو بن العاص ومعاوية اللذان كانا يلعنان عليا أدبار الصلاة وولديه مهتديين وقد كان في الصحابة من يزني ومن يشرب الخمر كأبي محجن الثقفي ومن يرتد عن الإسلام كطليحة بن خويلد فيجب أن يكون كل من اقتدى بهؤلاء في أفعالهم مهديا .
[ 29 ]
قال وإنما هذا من موضوعات متعصبة الأموية فإن لهم من ينصرهم بلسانه وبوضعه الأحاديث إذا عجز عن نصرهم بالسيف . وكذا القول في الحديث الآخر وهو قوله القرن الذي أنا فيه ومما يدل على بطلانه أن القرن الذي جاء بعده بخمسين سنة شر قرون الدنيا وهو أحد القرون التي ذكرها في النص وكان ذلك القرن هو القرن الذي قتل فيه الحسين وأوقع بالمدينة وحوصرت مكة ونقضت الكعبة وشربت خلفاؤه والقائمون مقامه والمنتصبون في منصب النبوة الخمور وارتكبوا الفجور كما جرى ليزيد بن معاوية وليزيد بن عاتكة وللوليد بن يزيد وأريقت الدماء الحرام وقتل المسلمون وسبي الحريم واستعبد أبناء المهاجرين والأنصار ونقش على أيديهم كما ينقش على أيدي الروم وذلك في خلافة عبد الملك وإمرة الحجاج وإذا تأملت كتب التواريخ وجدت الخمسين الثانية شرا كلها لا خير فيها ولا في رؤسائها وأمرائها والناس برؤسائهم وأمرائهم والقرن خمسون سنة فكيف يصح هذا الخبر . قال فأما ما ورد في القرآن من قوله تعالى لَقَدْ رَضِيَ اَللَّهُ عَنِ اَلْمُؤْمِنِينَ وقوله مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللَّهِ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ . و(1/5737)
قول النبي ص إن الله اطلع على أهل بدر إن كان الخبر صحيحا فكله مشروط بسلامة العاقبة ولا يجوز أن يخبر الحكيم مكلفا غير معصوم بأنه لا عقاب عليه فليفعل ما شاء . قال هذا المتكلم ومن أنصف وتأمل أحوال الصحابة وجدهم مثلنا يجوز عليهم ما يجوز علينا ولا فرق بيننا وبينهم إلا بالصحبة لا غير فإن لها منزلة وشرفا
[ 30 ]
و لكن لا إلى حد يمتنع على كل من رأى الرسول أو صحبه يوما أو شهرا أو أكثر من ذلك أن يخطئ ويزل ولو كان هذا صحيحا ما احتاجت عائشة إلى نزول براءتها من السماء بل كان رسول الله ص من أول يوم يعلم كذب أهل الإفك لأنها زوجته وصحبتها له آكد من صحبة غيرها وصفوان بن المعطل أيضا كان من الصحابة فكان ينبغي ألا يضيق صدر رسول الله ص ولا يحمل ذلك الهم والغم الشديدين اللذين حملهما ويقول صفوان من الصحابة وعائشة من الصحابة والمعصية عليهما ممتنعة . وأمثال هذا كثير وأكثر من الكثير لمن أراد أن يستقرئ أحوال القوم وقد كان التابعون يسلكون بالصحابة هذا المسلك ويقولون في العصاة منهم مثل هذا القول وإنما اتخذهم العامة أربابا بعد ذلك . قال ومن الذي يجترئ على القول بأن أصحاب محمد لا تجوز البراءة من أحد منهم وإن أساء وعصى بعد قول الله تعالى للذي شرفوا برؤيته لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْخاسِرِينَ بعد قوله قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وبعد قوله فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ اَلْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ إِنَّ اَلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ إلا من لا فهم له ولا نظر معه ولا تمييز عنده . قال ومن أحب أن ينظر إلى اختلاف الصحابة وطعن بعضهم في بعض ورد بعضهم على بعض وما رد به التابعون عليهم واعترضوا به أقوالهم واختلاف التابعين أيضا فيما بينهم و(1/5738)
قدح بعضهم في بعض فلينظر في كتاب النظام قال الجاحظ كان النظام
[ 31 ]
أشد الناس إنكارا على الرافضة لطعنهم على الصحابة حتى إذا ذكر الفتيا وتنقل الصحابة فيها وقضاياهم بالأمور المختلفة وقول من استعمل الرأي في دين الله انتظم مطاعن الرافضة وغيرها وزاد عليها وقال في الصحابة أضعاف قولها . قال وقال بعض رؤساء المعتزلة غلط أبي حنيفة في الأحكام عظيم لأنه أضل خلقا وغلط حماد أعظم من غلط أبي حنيفة لأن حمادا أصل أبي حنيفة الذي منه تفرع وغلط إبراهيم أغلظ وأعظم من غلط حماد لأنه أصل حماد وغلط علقمة والأسود أعظم من غلط إبراهيم لأنهما أصله الذي عليه اعتمد وغلط ابن مسعود أعظم من غلط هؤلاء جميعا لأنه أول من بدر إلى وضع الأديان برأيه وهو الذي قال أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني . قال واستأذن أصحاب الحديث على ثمامة بخراسان حيث كان مع الرشيد بن المهدي فسألوه كتابه الذي صنفه على أبي حنيفة في اجتهاد الرأي فقال لست على أبي حنيفة كتبت ذلك الكتاب وإنما كتبته على علقمة والأسود وعبد الله بن مسعود لأنهم الذين قالوا بالرأي قبل أبي حنيفة . قال وكان بعض المعتزلة أيضا إذا ذكر ابن عباس استصغره وقال صاحب الذؤابة يقول في دين الله برأيه . وذكر الجاحظ في كتابه المعروف بكتاب التوحيد أن أبا هريرة ليس بثقة في الرواية عن رسول الله ص قال ولم يكن علي ع يوثقه في الرواية بل يتهمه ويقدح فيه وكذلك عمر وعائشة .
[ 32 ](1/5739)
و كان الجاحظ يفسق عمر بن عبد العزيز ويستهزئ به ويكفره وعمر بن العزيز وإن لم يكن من الصحابة فأكثر العامة يرى له من الفضل ما يراه لواحد من الصحابة . وكيف يجوز أن نحكم حكما جزما أن كل واحد من الصحابة عدل ومن جملة الصحابة الحكم بن أبي العاص وكفاك به عدوا مبغضا لرسول الله ص ومن الصحابة الوليد بن عقبة الفاسق بنص الكتاب ومنهم حبيب بن مسلمة الذي فعل ما فعل بالمسلمين في دولة معاوية وبشر بن أبي أرطاة عدو الله وعدو رسوله وفي الصحابة كثير من المنافقين لا يعرفهم الناس وقال كثير من المسلمين مات رسول الله ص ولم يعرفه الله سبحانه كل المنافقين بأعيانهم وإنما كان يعرف قوما منهم ولم يعلم بهم أحدا إلا حذيفة فيما زعموا فكيف يجوز أن نحكم حكما جزما أن كل واحد ممن صحب رسول الله أو رآه أو عاصره عدل مأمون لا يقع منه خطأ ولا معصية ومن الذي يمكنه أن يتحجر واسعا كهذا التحجر أو يحكم هذا الحكم قال والعجب من الحشوية وأصحاب الحديث إذ يجادلون على معاصي الأنبياء ويثبتون أنهم عصوا الله تعالى وينكرون على من ينكر ذلك ويطعنون فيه ويقولون قدري معتزلي وربما قالوا ملحد مخالف لنص الكتاب وقد رأينا منهم الواحد والمائة والألف يجادل في هذا الباب فتارة يقولون إن يوسف قعد من امرأة العزيز مقعد الرجل من المرأة وتارة يقولون إن داود قتل أوريا لينكح امرأته وتارة يقولون إن رسول الله كان كافرا ضالا قبل النبوة وربما ذكروا زينب بنت جحش وقصة الفداء يوم بدر . فأما قدحهم في آدم ع وإثباتهم معصيته ومناظرتهم من يذكر ذلك
[ 33 ](1/5740)
فهو دأبهم وديدنهم فإذا تكلم واحد في عمرو بن العاص أو في معاوية وأمثالهما ونسبهم إلى المعصية وفعل القبيح احمرت وجوههم وطالت أعناقهم وتخازرت أعينهم وقالوا مبتدع رافضي يسب الصحابة ويشتم السلف فإن قالوا إنما اتبعنا في ذكر معاصي الأنبياء نصوص الكتاب قيل لهم فاتبعوا في البراءة من جميع العصاة نصوص الكتاب فإنه تعالى قال لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ وقال فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى اَلْأُخْرى فَقاتِلُوا اَلَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اَللَّهِ وقال أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ . ثم يسألون عن بيعة علي ع هل هي صحيحة لازمة لكل الناس فلا بد من بلى فيقال لهم فإذا خرج على الإمام الحق خارج أ ليس يجب على المسلمين قتاله حتى يعود إلى الطاعة فهل يكون هذا القتال إلا البراءة التي نذكرها لأنه لا فرق بين الأمرين وإنما برئنا منهم لأنا لسنا في زمانهم فيمكننا أن نقاتل بأيدينا فقصارى أمرنا الآن أن نبرأ منهم ونلعنهم وليكون ذلك عوضا عن القتال الذي لا سبيل لنا إليه . قال هذا المتكلم على أن النظام وأصحابه ذهبوا إلى أنه لا حجة في الإجماع وأنه يجوز أن تجتمع الأمة على الخطإ والمعصية وعلى الفسق بل على الردة وله كتاب موضوع في الإجماع يطعن فيه في أدلة الفقهاء ويقول إنها ألفاظ غير صريحة في كون الإجماع حجة نحو قوله جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً وقوله كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ وقوله وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اَلْمُؤْمِنِينَ .
[ 34 ]
و أما الخبر الذي صورته(1/5741)
لا تجتمع أمتي على الخطإ فخبر واحد وأمثل دليل للفقهاء قولهم إن الهمم المختلفة والآراء المتباينة إذا كان أربابها كثيرة عظيمة فإنه يستحيل اجتماعهم على الخطإ وهذا باطل باليهود والنصارى وغيرهم من فرق الضلال . هذه خلاصة ما كان النقيب أبو جعفر علقه بخطه من الجزء الذي أقرأناه . ونحن نقول أما إجماع المسلمين فحجة ولسنا نرتضي ما ذكره عنا من أنه أمثل دليل لنا أن الهمم المختلفة والآراء المتباينة يستحيل أن تتفق على غير الصواب ومن نظر في كتبنا الأصولية علم وثاقة أدلتنا على صحة الإجماع وكونه صوابا وحجة تحريم مخالفته وقد تكلمت في اعتبار الذريعة للمرتضى على ما طعن به المرتضى في أدلة الإجماع . وأما ذكره من الهجوم على دار فاطمة وجمع الحطب لتحريقها فهو خبر واحد غير موثوق به ولا معول عليه في حق الصحابة بل ولا في حق أحد من المسلمين ممن ظهرت عدالته . وأما عائشة والزبير وطلحة فمذهبنا أنهم أخطئوا ثم تابوا وأنهم من أهل الجنة وأن عليا ع شهد لهم بالجنة بعد حرب الجمل . وأما طعن الصحابة بعضهم في بعض فإن الخلاف الذي كان بينهم في مسائل الاجتهاد لا يوجب إثما لأن كل مجتهد مصيب وهذا أمر مذكور في كتب أصول الفقه وما كان من الخلاف خارجا عن ذلك فالكثير من الأخبار الواردة فيه غير موثوق بها وما جاء من جهة صحيحة نظر فيه ورجح جانب أحد الصحابيين على قدر منزلته في الإسلام كما يروى عن عمر وأبي هريرة .
[ 35 ](1/5742)
فأما علي ع فإنه عندنا بمنزلة الرسول ص في تصويب قوله والاحتجاج بفعله ووجوب طاعته ومتى صح عنه أنه قد برئ من أحد من الناس برئنا منه كائنا من كان ولكن الشأن في تصحيح ما يروى عنه ع فقد أكثر الكذب عليه وولدت العصبية أحاديث لا أصل لها . فأما براءته ع من المغيرة وعمرو بن العاص ومعاوية فهو عندنا معلوم جار مجرى الأخبار المتواترة فلذلك لا يتولاهم أصحابنا ولا يثنون عليهم وهم عند المعتزلة في مقام غير محمود وحاش لله أن يكون ع ذكر من سلف من شيوخ المهاجرين إلا بالجميل والذكر الحسن بموجب ما تقتضيه رئاسته في الدين وإخلاصه في طاعة رب العالمين ومن أحب تتبع ما روي عنه مما يوهم في الظاهر خلاف ذلك فليراجع هذا الكتاب أعني شرح نهج البلاغة فأنا لم نترك موضعا يوهم خلاف مذهبنا إلا وأوضحناه وفسرناه على وجه يوافق الحق وبالله التوفيق(1/5743)
عمار بن ياسر وطرف من أخباره
فأما عمار بن ياسر رحمه الله فنحن نذكر نسبه وطرفا من حاله مما ذكره ابن عبد البر في كتاب الإستيعاب قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله هو عمار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس بن حصين بن لوذ بن ثعلبة بن عوف بن حارثة بن عامر بن نام بن عنس بالنون بن مالك بن أدد العنسي المذحجي يكنى أبا اليقظان حليف لبني مخزوم كذا قال ابن شهاب وغيره .
[ 36 ]
و قال موسى بن عقبة وممن شهد بدرا عمار بن ياسر حليف لبني مخزوم بن يقظة . وقال الواقدي وطائفة من أهل العلم إن ياسرا والد عمار بن ياسر عربي قحطاني من عنس من مذحج إلا أن ابنه عمارا مولى لبني مخزوم لأن أباه ياسرا تزوج أمه لبعض بني مخزوم فأولدها عمارا وذلك أن ياسر قدم مكة مع أخوين له يقال لهما الحارث ومالك في طلب أخ لهم رابع فرجع الحارث ومالك إلى اليمن وأقام ياسر بمكة فحالف أبا حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم فزوجه أبو حذيفة أمة له يقال لها سمية بنت خياط فولدت له عمارا فأعتقه أبو حذيفة فصار ولاؤه لبني مخزوم وللحلف والولاء الذي بين بني مخزوم وعمار بن ياسر كان اجتماع بني مخزوم إلى عثمان حين نال من عمار غلمان عثمان ما نالوا من الضرب حتى انفتق له فتق في بطنه وكسروا ضلعا من أضلاعه فاجتمعت بنو مخزوم وقالوا والله لئن مات لا قتلنا به أحدا غير عثمان . قال أبو عمر وأسلم عمار وعبد الله أخوه وياسر أبوهما وسمية أمهما وكان إسلامهم قديما في أول الإسلام فعذبوا في الله عذابا عظيما و
كان رسول الله ص يمر بهم وهم يعذبون فيقول صبرا يا آل ياسر فإن موعدكم الجنة ويقول لهم أيضا صبرا يا آل ياسر اللهم اغفر لآل ياسر وقد فعلت . قال أبو عمر ولم يزل عمار مع أبي حذيفة بن المغيرة حتى مات وجاء الله بالإسلام . فأما سمية فقتلها أبو جهل طعنها بحربة في قبلها فماتت وكانت من الخيرات
[ 37 ](1/5744)
الفاضلات وهي أول شهيدة في الإسلام وقد كانت قريش أخذت ياسرا وسمية وابنيهما وبلالا وخبابا وصهيبا فألبسوهم أدراع الحديد وصهروهم في الشمس حتى بلغ الجهد منهم كل مبلغ فأعطوهم ما سألوا من الكفر وسب النبي ص ثم جاء إلى كل واحد منهم قومه بأنطاع الأدم فيها الماء فألقوهم فيها ثم حملوا بجوانبها فلما كان العشي جاء أبو جهل فجعل يشتم سمية ويرفث ثم وجأها بحربة في قبلها فقتلها فهي أول من استشهد في الإسلام فقال عمار للنبي ص يا رسول الله بلغ العذاب من أمي كل مبلغ فقال صبرا يا أبا اليقظان اللهم لا تعذب أحدا من آل ياسر بالنار قال أبو عمر وفيهم أنزل إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ . قال وهاجر عمار إلى أرض الحبشة وصلى القبلتين وشهد بدرا والمشاهد كلها وأبلى بلاء حسنا ثم شهد اليمامة فأبلى فيها أيضا ويومئذ قطعت أذنه . قال وذكر الواقدي عن عبد الله بن نافع عن أبيه عن عبد الله بن عمر قال رأيت عمار بن ياسر يوم اليمامة على صخرة وقد أشرف يصيح يا معشر المسلمين أ من الجنة تفرون أنا عمار بن ياسر هلموا إلي وأنا أنظر إلى أذنه قد قطعت فهي تذبذب وهو يقاتل أشد القتال . قال أبو عمر وكان عمار طويلا أشهل بعيد ما بين المنكبين قال وقد قيل في صفته كان آدم طوالا مضطربا أشهل العينين بعيد ما بين المنكبين رجلا لا يغير شيبه .
[ 38 ]
قال وكان عمار يقول أنا ترب رسول الله ص لم يكن أحد أقرب إليه سنا مني . قال وقتل عمار وهو ابن ثلاث وتسعين سنة و
الخبر المرفوع مشهور في حقه تقتلك الفئة الباغية وهو من دلائل نبوة رسول الله ص لأنه إخبار عن غيب . و
قال رسول الله ص في عمار ملئ إيمانا إلى مشاشه ويروى إلى أخمص قدميه . وفضائل عمار كثيرة وقد تقدم القول في ذكر عمار وأخباره وما ورد في حقه
[ 39 ](1/5745)
414
وَ قَالَ ع : مَا أَحْسَنَ تَوَاضُعَ اَلْأَغْنِيَاءِ لِلْفُقَرَاءِ طَلَباً لِمَا عِنْدَ اَللَّهِ وَ أَحْسَنُ مِنْهُ تِيهُ اَلْفُقَرَاءِ عَلَى اَلْأَغْنِيَاءِ اِتِّكَالاً عَلَى اَللَّهِ سُبْحَانَهُ قد تقدم شرح مثل هذه الكلمة مرارا . وقال الشاعر
قنعت فأعتقت نفسي ولن
أملك ذا ثروة رقها
و نزهتها عن سؤال الرجال
و منة من لا يرى حقها
و إن القناعة كنز اللبيب
إذا ارتتقت فتقت رتقها
سيبعث رزق الشفاه الغراث
و خمص البطون الذي شقها
فما فارقت مهجة جسمها
لعمرك أو وفيت رزقها
مواعيد ربك مصدوقة
إذا غيرها ففقدت صدقها
[ 40 ](1/5746)
415
قَالَ ع : مَا اِسْتَوْدَعَ اَللَّهُ اِمْرَأً عَقْلاً إِلاَّ لِيَسْتَنْقِذَهُ اِسْتَنْقَذَهُ بِهِ يَوْماً مَا لا بد أن يكون للبارئ تعالى في إيداع العقل قلب زيد مثلا غرض ولا غرض إلا أن يستدل به على ما فيه نجاته وخلاصه وذلك هو التكليف فإن قصر في النظر وجهل وأخطأ الصواب فلا بد أن ينقذه عقله من ورطة من ورطات الدنيا وليس يخلو أحد عن ذلك أصلا لأن كل عاقل لا بد أن يتخلص من مضرة سبيلها أن تنال بإعمال فكرته وعقله في الخلاص منها فالحاصل أن العقل إما أن ينقذ الإنقاذ الديني وهو الفلاح والنجاح على الحقيقة أو ينقذ من بعض مهالك الدنيا وآفاتها وعلى كل حال فقد صح قول أمير المؤمنين ع وقد رويت هذه الكلمة مرفوعة ورويت إلا استنقذه به يوما ما . و
عنه ص العقل نور في القلب يفرق به بين الحق والباطل . و
عن أنس قال سئل رسول الله ص عن الرجل يكون حسن العقل كثير الذنوب فقال ما من بشر إلا وله ذنوب وخطايا يقترفها فمن كانت سجيته العقل وغريزته اليقين لم تضره ذنوبه قيل كيف ذلك يا رسول الله قال
[ 41 ]
كلما أخطأ لم يلبث أن يتدارك ذلك بتوبة وندامة على ما فرط منه فيمحو ذنوبه ويبقى له فضل يدخل به الجنة(1/5747)
نكت في مدح العقل وما قيل فيه
و قد تقدم من قولنا في العقل وما ذكر فيه ما فيه كفاية ونحن نذكر هاهنا شيئا آخر كان يقال العاقل يروي ثم يروي ويخبر ثم يخبر . وقال عبد الله بن المعتز ما أبين وجوه الخير والشر في مرآة العقل .
لقمان يا بني شاور من جرب الأمور فإنه يعطيك من رأيه ما قام عليه بالغلاء وتأخذه أنت بالمجان . أردشير بن بابك أربعة تحتاج إلى أربعة الحسب إلى الأدب والسرور إلى الأمن والقرابة إلى المودة والعقل إلى التجربة . الإسكندر لا تحتقر الرأي الجزيل من الحقير فإن الدرة لا يستهان بها لهوان غائصها . مسلمة بن عبد الملك ما ابتدأت أمرا قط بحزم فرجعت على نفسي بلائمة وإن كانت العاقبة علي ولا أضعت الحزم فسررت وإن كانت العاقبة لي . وصف رجل عضد الدولة بن بويه فقال لو رأيته لرأيت رجلا له وجه فيه ألف عين وفم فيه ألف لسان وصدر فيه ألف قلب . أثنى قوم من الصحابة على رجل عند رسول الله ص بالصلاة والعبادة وخصال الخير حتى بالغوا
فقال ص كيف عقله قالوا يا رسول الله
[ 42 ](1/5748)
نخبرك باجتهاده في العبادة وضروب الخير وتسأل عن عقله فقال إن الأحمق ليصيب بحمقه أعظم مما يصيبه الفاجر بفجوره وإنما ترتفع العباد غدا في درجاتهم وينالون من الزلفى من ربهم على قدر عقولهم . الريحاني العقل ملك والخصال رعيته فإذا ضعف عن القيام عليها وصل الخلل إليها وسمع هذا الكلام أعرابي فقال هذا كلام يقطر عسله . قال معن بن زائدة ما رأيت قفا رجل إلا عرفت عقله قيل فإن رأيت وجهه قال ذا كتاب يقرأ . بعض الفلاسفة عقل الغريزة مسلم إلى عقل التجربة . بعضهم كل شي ء إذا كثر رخص إلا العقل فإنه إذا كثر غلا . قالوا في قوله تعالى لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا أي من كان عاقلا . ومن كلامهم العاقل بخشونة العيش مع العقلاء آنس منه بلين العيش مع السفهاء . أعرابي لو صور العقل أظلمت معه الشمس ولو صور الحمق لأضاء معه الليل . قيل لحكيم متى عقلت قال حين ولدت فأنكروا ذلك فقال أما أنا فقد بكيت حين جعت وطلبت الثدي حين احتجت وسكت حين أعطيت يريد أن من عرف مقادير حاجته فهو عاقل . المأمون إذا أنكرت من عقلك شيئا فاقدحه بعاقل . بزرجمهر العاقل الحازم إذا أشكل عليه الرأي بمنزلة من أضل لؤلؤة فجمع ما حول مسقطها من التراب ثم التمسها حتى وجدها وكذلك العاقل يجمع وجوه
[ 43 ]
الرأي في الأمر المشكل ثم يضرب بعضها في بعض حتى يستخلص الرأي الأصوب . كان يقال هجين عاقل خير من هجان جاهل . كان بعضهم إذا استشير قال لمشاوره أنظرني حتى أصقل عقلي بنومة . إذا نزلت المقادير نزلت التدابير من نظر في المغاب ظفر بالمحاب من استدت عزائمه اشتدت دعائمه الرأي السديد أجدى من الأيد الشديد . بعضهم
و ما ألف مطرور السنان مشدد
يعارض يوم الروع رأيا مسددا
أبو الطيب
الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أول وهى المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس حرة
بلغت من العلياء كل مكان
و لربما طعن الفتى أقرانه
بالرأي قبل تطاعن الأقران
لو لا العقول لكان أدنى ضيغم(1/5749)
أدنى إلى شرف من الإنسان
و لما تفاضلت النفوس ودبرت
أيدي الكماة عوالي المران
ذكر المأمون ولد علي ع فقال خصوا بتدبير الآخرة وحرموا تدبير الدنيا . كان يقال إذا كان الهوى مقهورا تحت يد العقل والعقل مسلط عليه صرفت مساوئ صاحبه إلى المحاسن فعدت بلادته حلما وحدته ذكاء وحذره بلاغة وعية صمتا وجبنه حذرا وإسرافه جودا .
[ 44 ]
و ذكر هذا الكلام عند بعضهم فقال هذه خصيصة الحظ نقلها مرتب هذا الكلام إلى العقل . سمع محمد بن يزداد كاتب المأمون قول الشاعر
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة
فإن فساد الرأي أن تترددا
فأضاف إليه
و إن كنت ذا عزم فأنفذه عاجلا
فإن فساد العزم أن يتفندا
[ 45 ](1/5750)
416
وَ قَالَ ع : مَنْ صَارَعَ اَلْحَقَّ صَرَعَهُ هذا مثل قوله في موضع آخر من أبدى صفحته للحق هلك ونحو هذا قول الطائي
و من قامر الأيام عن ثمراتها
فأحج بها أن تنجلي ولها القمر
[ 46 ](1/5751)
417
وَ قَالَ ع : اَلْقَلْبُ مُصْحَفُ اَلْبَصَرِ هذا مثل قول الشاعر
تخبرني العينان ما القلب كاتم
و ما جن بالبغضاء والنظر الشزر
يقول ع كما أن الإنسان إذا نظر في المصحف قرأ ما فيه كذلك إذا أبصر الإنسان صاحبه فإنه يرى قلبه بوساطة رؤية وجهه ثم يعلم ما في قلبه من حب وبغض وغيرهما كما يعلم برؤية الخط الذي في المصحف ما يدل الخط عليه . وقال الشاعر
إن العيون لتبدي في تقلبها
ما في الضمائر من ود ومن حنق
[ 47 ](1/5752)
418
وَ قَالَ ع : اَلتُّقَى رَئِيسُ اَلْأَخْلاَقِ يعني رئيس الأخلاق الدينية لأن الأخلاق الحميدة كالجود والشجاعة والحلم والعفة وغير ذلك لو قدرنا انتفاء التكاليف العقلية والشرعية لم يكن التقى رئيسا لها وإنما رئاسة التقى لها مع ثبوت التكليف لا سيما الشرعي والتقى في الشرع هو الورع والخوف من الله وإذا حصل حصلت الطاعات كلها وانتفت القبائح كلها فصار الإنسان معصوما وتلك طبقة عالية وهي أشرف من جميع الطبقات التي يمدح بها الإنسان نحو قولنا جواد أو شجاع أو نحوهما لأنها طبقة ينتقل الإنسان منها إلى الجنة ودار الثواب الدائم وهذه مزية عظيمة يفضل بها على سائر طبقات الأخلاق
[ 48 ](1/5753)
419
وَ قَالَ ع : لاَ تَجْعَلَنَّ ذَرَبَ لِسَانِكَ عَلَى مَنْ أَنْطَقَكَ وَ بَلاَغَةَ قَوْلِكَ عَلَى مَنْ سَدَّدَكَ يقول لا شبهة أن الله تعالى هو الذي أنطقك وسدد لفظك وعلمك البيان كما قال سبحانه خَلَقَ اَلْإِنْسانَ عَلَّمَهُ اَلْبَيانَ فقبيح أن يجعل الإنسان ذرب لسانه وفصاحة منطقه على من أنطقه وأقدره على العبادة وقبيح أن يجعل الإنسان بلاغة قوله على من سدد قوله وجعله بليغا حسن التعبير على المعاني التي في نفسه وهذا كمن ينعم على إنسان بسيف فإنه يقبح منه أن يقتله بذلك السيف ظلما قبحا زائدا على ما لو قتله بغير ذلك السيف وما أحسن قول المتنبي في سيف الدولة
و لما كسا كعبا ثيابا طغوا بها
رمى كل ثوب من سنان بخارق
و ما يوجع الحرمان من كف حازم
كما يوجع الحرمان من كف رازق
[ 49 ](1/5754)
420
وَ قَالَ ع : كَفَاكَ أَدَباً لِنَفْسِكَ اِجْتِنَابُ مَا تَكْرَهُهُ مِنْ غَيْرِكَ قد قال ع هذا اللفظ أو نحوه مرارا وقد تكلمنا نحن عليه وذكرنا نظائر له كثيرة نثرا ونظما . وكتب بعض الكتاب إلى بعض الملوك في حال اقتضت ذلك
ما على ذا افترقنا بشبذان إذ كنا
و لا هكذا عهدنا الإخاء
تضرب الناس بالمهندة البيض
على غدرهم وتنسى الوفاء
[ 50 ](1/5755)
421
وَ قَالَ ع يُعَزِّي قَوْماً مَنْ صَبَرَ صَبْرَ اَلْأَحْرَارِ وَ إِلاَّ سَلاَ سُلُوَّ اَلْأَغْمَارِ وَ فِي خَبَرٍ آخَرَ أَنَّهُ ع قَالَ لِلْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ مُعَزِّياً عَنِ اِبْنٍ لَهُ إِنْ صَبَرْتَ صَبْرَ اَلْأَكَارِمِ وَ إِلاَّ سَلَوْتَ سُلُوَّ اَلْبَهَائِمِ أخذ هذا المعنى أبو تمام بل حكاه فقال
و قال علي في التعازي لأشعث
و خاف عليه بعض تلك المآثم
أ تصبر للبلوى عزاء وحسبة
فتؤجر أم تسلو سلو البهائم
[ 51 ](1/5756)
422
وَ قَالَ ع فِي صِفَةِ اَلدُّنْيَا اَلدُّنْيَا تَغُرُّ وَ تَضُرُّ وَ تَمُرُّ إِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ تَعَالَى لَمْ يَرْضَهَا ثَوَاباً لِأَوْلِيَائِهِ وَ لاَ عِقَاباً لِأَعْدَائِهِ قد تقدم لنا كلام طويل في ذم الدنيا ومن الكلام المستحسن قوله تغر وتضر وتمر والكلمة الثانية أحسن وأجمل . و
قرأت في بعض الآثار أن عيسى ع مر بقرية وإذا أهلها موتى في الطرق والأفنية فقال للتلامذة إن هؤلاء ماتوا عن سخطة ولو ماتوا عن غير ذلك لتدافنوا فقالوا يا سيدنا وددنا أنا علمنا خبرهم فسأل الله تعالى فقال له إذا كان الليل فنادهم يجيبوك فلما كان الليل أشرف على نشز ثم ناداهم فأجابه مجيب فقال ما حالكم وما قصتكم فقال بتنا في عافية وأصبحنا في الهاوية قال وكيف ذلك قال لحبنا الدنيا قال كيف كان حبكم لها قال حب الصبي لأمه إذا أقبلت فرح بها وإذا أدبرت حزن عليها وبكى قال فما بال أصحابك لم يجيبوني قال لأنهم ملجمون بلجم من نار بأيدي ملائكة غلاظ شداد قال فكيف أجبتني أنت من بينهم قال لأني كنت فيهم ولم أكن منهم فلما نزل بهم العذاب أصابني معهم فأنا معلق على شفير جهنم لا أدري أنجو منها أكبكب فيها فقال المسيح لتلامذته لأكل خبز الشعير بالملح الجريش ولبس المسوح والنوم على المزابل وسباخ الأرض في حر الصيف كثير مع العافية من عذاب الآخرة
[ 52 ](1/5757)
423
وَ إِنَّ أَهْلَ اَلدُّنْيَا كَرَكْبٍ بَيْنَا هُمْ حَلُّوا إِذْ صَاحَ بِهِمْ سَائِقُهُمْ فَارْتَحَلُوا روي بيناهم حلول وبينا هي بين نفسها ووزنها فعلى أشبعت فتحة النون فصارت ألفا ثم قالوا بينما فزادوا ما والمعنى واحد تقول بينا نحن نفعل كذا جاء زيد أي بين أوقات فعلنا كذا جاء زيد والجمل قد يضاف إليها أسماء الزمان نحو قولهم أتيتك زمن الحجاج أمير ثم حذفوا المضاف الذي هو أوقات وولي الظرف الذي هو بين الجملة التي أقيمت مقام المحذوف . وكان الأصمعي يخفض بعد بينا إذا صلح في موضعه بين وينشد قول أبي ذؤيب بالكسر
بينا تعنقه الكماة وروغه
يوما أتيح له جري سلفع
و غيره يرفع ما بعد بينا وبينما على الابتداء والخبر فأما إذ وإذا فإن أكثر أهل العربية يمنعون من مجيئهما بعد بينا وبينما ومنهم من يجيزه وعليه جاء كلام أمير المؤمنين وأنشدوا
بينما الناس على عليائها
إذ هووا في هوة منها فغاروا
[ 53 ]
و قالت الحرقة بنت النعمان بن المنذر
و بينا نسوس الناس والأمر أمرنا
إذا نحن فيهم سوقة نتنصف
و قال الشاعر
أستقدر الله خيرا وأرضين به
فبينما العسر إذ دارت مياسير
و بينما المرء في الأحياء مغتبط
إذ صار في اللحد تعفوه الأعاصير
و مما جاء في وصف الدنيا مما يناسب كلام أمير المؤمنين قول أبي العتاهية
إن دارا نحن فيها لدار
ليس فيها لمقيم قرار
كم وكم قد حلها من أناس
ذهب الليل بهم والنهار
فهم الركب قد أصابوا مناخا
فاسترحوا ساعة ثم ساروا
و كذا الدنيا على ما رأينا
يذهب الناس وتخلو الديار
[ 54 ](1/5758)
424
وَ قَالَ ع لاِبْنِهِ اَلْحَسَنِ ع يَا بُنَيَّ لاَ تُخَلِّفَنَّ وَرَاءَكَ شَيْئاً مِنَ اَلدُّنْيَا فَإِنَّكَ تَخَلِّفُهُ لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ إِمَّا رَجُلٌ عَمِلَ فِيهِ بِطَاعَةِ اَللَّهِ فَسَعِدَ بِمَا شَقِيتَ بِهِ وَ إِمَّا رَجُلٌ عَمِلَ فِيهِ بِمَعْصِيَةِ اَللَّهِ فَشَقِيَ بِمَا جَمَعْتَ لَهُ فَكُنْتَ عَوْناً لَهُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَ لَيْسَ أَحَدُ هَذَيْنِ حَقِيقاً أَنْ تُؤْثِرَهُ عَلَى نَفْسِكَ قَالَ اَلرَّضِيُّ وَ يُرْوَى هَذَا اَلْكَلاَمُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ وَ هُوَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اَلَّذِي فِي يَدَيْكَ يَدِكَ مِنَ اَلدُّنْيَا قَدْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ قَبْلَكَ وَ هُوَ صَائِرٌ إِلَى أَهْلٍ بَعْدَكَ وَ إِنَّمَا أَنْتَ جَامِعٌ لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ رَجُلٍ عَمِلَ فِيمَا جَمَعْتَهُ بِطَاعَةِ اَللَّهِ فَسَعِدَ بِمَا شَقِيتَ بِهِ أَوْ رَجُلٍ عَمِلَ فِيمَا جَمَعْتَهُ فِيهِ بِمَعْصِيَةِ اَللَّهِ فَشَقِيَ فَشَقِيتَ بِمَا جَمَعْتَ لَهُ وَ لَيْسَ أَحَدُ هَذَيْنِ أَهْلاً أَنْ تُؤْثِرَهُ عَلَى نَفْسِكَ أَوْ وَ لاَ أَنْ تَحْمِلَ لَهُ عَلَى ظَهْرِكَ فَارْجُ لِمَنْ مَضَى رَحْمَةَ اَللَّهِ وَ لِمَنْ بَقِيَ رِزْقَ اَللَّهِ تَعَالَى روي فإنك لا تخلفه إلا لأحد رجلين وهذا الفصل نهي عن الادخار وقد سبق لنا فيه كلام مقنع . وخلاصة هذا الفصل أنك إن خلفت مالا فإما أن تخلفه لمن يعمل فيه بطاعة الله أو لمن يعمل فيه بمعصيته فالأول يسعد بما شقيت به أنت والثاني يكون معانا
[ 55 ]
منك على المعصية بما تركته له من المال وكلا الأمرين مذموم وإنما قال له فارج لمن مضى رحمة الله ولمن بقي رزق الله لأنه قال في أول الكلام قد كان لهذا المال أهل قبلك وهو صائر إلى أهل بعدك . والكلام في ذم الادخار والجمع كثير وللشعراء فيه مذاهب واسعة ومعان حسنة وقال بعضهم
يا جامعا مانعا والدهر يرمقه(1/5759)
مدبرا أي باب عنه يغلقه
و ناسيا كيف تأتيه منيته
أ غاديا أم بها يسري فتطرقه
جمعت مالا فقل لي هل جمعت له
يا جامع المال أياما تفرقه
المال عندك مخزون لوارثه
ما المال مالك إلا يوم تنفقه
أرفه ببال فتى يغدو على ثقة
أن الذي قسم الأرزاق يرزقه
فالعرض منه مصون لا يدنسه
و الوجه منه جديد ليس يخلقه
إن القناعة من يحلل بساحتها
لم يلق في ظلها هما يؤرقه
[ 56 ](1/5760)
425
وَ قَالَ ع لِقَائِلٍ قَالَ بِحَضْرَتِهِ أَسْتَغْفِرُ اَللَّهَ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ أَ تَدْرِي مَا اَلاِسْتِغْفَارُ إِنَّ لِلاِسْتِغْفَارِ دَرَجَةَ اَلْعِلِّيِّينَ اَلاِسْتِغْفَارُ دَرَجَةُ اَلْعِلِّيِّينَ وَ هُوَ اِسْمٌ وَاقِعٌ عَلَى سِتَّةِ مَعَانٍ أَوَّلُهَا اَلنَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى وَ اَلثَّانِي اَلْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ اَلْعَوْدِ إِلَيْهِ أَبَداً وَ اَلثَّالِثُ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى اَلْمَخْلُوقِينَ حُقُوقَهُمْ حَتَّى تَلْقَى اَللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ أَمْلَسَ لَيْسَ عَلَيْكَ تَبِعَةٌ وَ اَلرَّابِعُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى كُلِّ فَرِيضَةٍ عَلَيْكَ ضَيَّعْتَهَا فَتُؤَدِّيَ حَقَّهَا وَ اَلْخَامِسُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى اَللَّحْمِ اَلَّذِي نَبَتَ عَلَى اَلسُّحْتِ فَتُذِيبَهُ بِالْأَحْزَانِ حَتَّى تُلْصِقَ اَلْجِلْدَ بِالْعَظْمِ وَ يَنْشَأَ بَيْنَهُمَا لَحْمٌ جَدِيدٌ وَ اَلسَّادِسُ أَنْ تُذِيقَ اَلْجِسْمَ أَلَمَ اَلطَّاعَةِ كَمَا أَذَقْتَهُ حَلاَوَةَ اَلْمَعْصِيَةِ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَقُولُ أَسْتَغْفِرُ اَللَّهَ
قد روي أن الاستغفار درجة العليين . فيكون على تقدير حذف مضاف أي أن درجة الاستغفار درجة العليين وعلى الرواية الأولى يكون على تقدير حذف مضاف أي أن لصاحب الاستغفار درجة العليين وهو هاهنا جمع على فعيل كضليل وخمير تقول هذا رجل علي أي كثير العلو ومنه العلية للغرفة على إحدى اللغتين ولا يجوز أن يفسر بما فسر به الراوندي من قوله إنه اسم السماء السابعة ونحو قوله هو سدرة المنتهى ونحو قوله هو موضع تحت قائمة العرش اليمنى لأنه لو كان كذلك لكان
[ 57 ](1/5761)
علما فلم تدخله اللام كما لا يقال الجهنم وكذلك أيضا لا يجوز تفسيره بما فسره الراوندي أيضا قال العليين جمع علي الأمكنة في السماء لأنه لو كان كذلك لم يجمع بالنون لأنها تختص بمن يعقل وتصلح أن تكون الوجوه الأولى تفسيرا لقوله تعالى كَلاَّ إِنَّ كِتابَ اَلْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ . قوله نبت على السحت أي على الحرام يقال سحت بالتسكين وسحت بالضم وأسحت الرجل في تجارته أي اكتسب السحت(1/5762)
فصل في الاستغفار والتوبة
و ينبغي أن نذكر في هذا الموضوع كلاما مختصرا مما يقوله أصحابنا في التوبة فإن كلام أمير المؤمنين هو الأصل الذي أخذ منه أصحابنا مقالتهم والذي يقولونه في التوبة فقد أتى على جوامعه ع في هذا الفصل على اختصاره . قال أصحابنا الكلام في التوبة يقع من وجوه منها الكلام في ماهية التوبة والكلام في إسقاطها الذم والعقاب والكلام في أنه يجب علينا فعلها والكلام في شرطها أما ماهية التوبة فهي الندم والعزم لأن التوبة هي الإنابة والرجوع وليس يمكن أن يرجع الإنسان عما فعله إلا بالندم عليه والعزم على ترك معاودته وما يتوب الإنسان منه إما أن يكون فعلا قبيحا وإما أن يكون إخلالا بواجب فالتوبة من الفعل القبيح هي أن يندم عليه ويعزم ألا يعود إلى مثله وعزمه على ذلك هو كراهيته لفعله والتوبة من الإخلال بالواجب هي أن يندم على إخلاله بالواجب
[ 58 ](1/5763)
و يعزم على أداء الواجب فيما بعد فأما القول في أن التوبة تسقط العذاب فعندنا أن العقل يقتضي قبح العقاب بعد التوبة وخالف أكثر المرجئة في ذلك من الإمامية وغيرهم واحتج أصحابنا بقبح عقوبة المسي ء إلينا بعد ندمه واعتذاره وتنصله والعلم بصدقه والعلم بأنه عازم على ألا يعود . فأما القول في وجوب التوبة على العصاة فلا ريب أن الشرع يوجب ذلك فأما العقل فالقول فيه أنه لا يخلو المكلف إما أن يعلم أن معصيته كبيرة أو يعلم أنها صغيرة أو يجوز فيها كلا الأمرين فإن علم كونها كبيرة وجب عليه في العقول التوبة منها لأن التوبة مزيلة لضرر الكبيرة وإزالة المضار واجبة في العقول وإن جوز كونها كبيرة وجوز كونها صغيرة لزمه أيضا في العقل التوبة منها لأنه يأمن بالتوبة من مضرة مخوفة وفعل ما يؤمن من المضار المخوفة واجب وإن علم أن معصيته صغيرة وذلك كمعاصي الأنبياء وكمن عصى ثم علم بإخبار نبي أن معصيته صغيرة محبطة فقد قال الشيخ أبو علي إن التوبة منها واجبة في العقول لأنه إن لم يتب كان مصرا والإصرار قبيح . وقال الشيخ أبو هاشم لا تجب التوبة منها في العقل بالشرع لأن فيها مصلحة يعلمها الله تعالى قال إنه يجوز أن يخلو الإنسان من التوبة عن الذنب ومن الإصرار عليه لأن الإصرار عليه هو العزم على معاودة مثله والتوبة منه أن يكره معاودة مثله مع الندم على ما مضى ويجوز أن يخلو الإنسان من العزم على الشي ء ومن كراهته . ومال شيخنا أبو الحسين رحمه الله إلى وجوب التوبة هاهنا عقلا لدليل غير دليل أبي علي رحمه الله .
[ 59 ](1/5764)
فأما القول في صفات التوبة وشروطها فإنها على ضربين أحدهما يعم كل توبة والآخر يختلف بحسب اختلاف ما يتاب منه فالأول هو الندم والعزم على ترك المعاودة . وأما الضرب الثاني فهو أن ما يتوب منه المكلف إما أن يكون فعلا أو إخلالا بواجب فإن كان فعلا قبيحا وجب عند الشيخ أبي هاشم رحمه الله أن يندم عليه لأنه فعل قبيح وأن يكره معاودة مثله لأنه قبيح وإن كان إخلالا بواجب وجب عليه عنده أن يندم عليه لأنه إخلال بواجب وأن يعزم على فعل مثل ما أخل به لأنه واجب فإن ندم خوف النار فقط أو شوقا إلى الجنة فقط أو لأن القبيح الذي فعله يضر ببدنه كانت توبته صحيحة وإن ندم على القبيح لقبحه ولخوف النار وكان لو انفرد قبحه ندم عليه فإن توبته تكون صحيحة وإن كان لو انفرد القبح لم يندم عليه فإنه لا تكون توبته صحيحة عنده والخلاف فيه مع الشيخ أبي علي وغيره من الشيوخ رحمهم الله وإنما اختار أبو هاشم هذا القول لأن التوبة تجري مجرى الاعتذار بيننا ومعلوم أن الواحد منا لو أساء إلى غيره ثم ندم على إساءته إليه واعتذر منها خوفا من معاقبته له عليها أو من معاقبة السلطان حتى لو أمن العقوبة لما اعتذر ولا ندم بل كان يواصل الإساءة فإنه لا يسقط ذمه فكذلك التوبة خوف النار لا لقبح الفعل . وقد نقل قاضي القضاة هذا المذهب عن أمير المؤمنين ع والحسن البصري وعلي بن موسى الرضا والقاسم بن إبراهيم الزينبي . قال أصحابنا وللتوبة شروط أخر تختلف بحسب اختلاف المعاصي وذلك أن
[ 60 ](1/5765)
ما يتوب منه المكلف إما أن يكون فيه لآدمي حق أو لا حق فيه لآدمي فما ليس للآدمي فيه حق فنحو ترك الصلاة فإنه لا يجب فيه إلا الندم والعزم على ما قدمنا وما لآدمي فيه حق على ضربين أحدهما أن يكون جناية عليه في نفسه أو أعضائه أو ماله أو دينه والآخر ألا يكون جناية عليه في شي ء من ذلك فما كان جناية عليه في نفسه أو أعضائه أو ماله فالواجب فيه الندم والعزم وأن يشرع في تسليم بدل ما أتلف فإن لم يتمكن من ذلك لفقر أو غيره عزم على ذلك إذا تمكن منه فإن مات قبل التمكن لم يكن من أهل العقاب وإن جنى عليه في دينه بأن يكون قد أضله بشبهة استزله بها فالواجب عليه مع الندم العزم والاجتهاد في حل شبهته من نفسه فإن لم يتمكن من الاجتماع به عزم على ذلك إذا تمكن فإن مات قبل التمكن أو تمكن منه واجتهد في حل الشبهة فلم تنحل من نفس ذلك الضال فلا عقاب عليه لأنه قد استفرغ جهده فإن كانت المعصية غير جناية نحو أن يغتابه أو يسمع غيبته فإنه يلزمه الندم والعزم ولا يلزمه أن يستحله أو يعتذر إليه لأنه ليس يلزمه أرش لمن اغتابه فيستحله ليسقط عنه الأرش ولا غمه فيزيل غمه بالاعتذار وفي ذكر الغيبة له ليستحله فيزيل غمه منها إدخال غم عليه فلم يجز ذلك فإن كان قد أسمع المغتاب غيبته فذلك جناية عليه لأنه قد أوصل إليه مضرة الغم فيلزمه إزالة ذلك بالاعتذار
[ 61 ](1/5766)
426
وَ قَالَ ع اَلْحِلْمُ عَشِيرَةٌ كان يقال الحلم جنود مجندة لا أرزاق لها . و
قال ع وجدت الاحتمال أنصر لي من الرجال . وقال الشاعر
و للكف عن شتم اللئيم تكرما
أضر له من شتمه حين يشتم
و كان يقال من غرس شجرة الحلم اجتنى ثمرة السلم . وقد تقدم من القول في الحلم ما فيه كفاية
[ 62 ](1/5767)
427
وَ قَالَ ع : مِسْكِينٌ اِبْنُ آدَمَ مَكْتُومُ اَلْأَجَلِ مَكْنُونُ اَلْعِلَلِ مَحْفُوظُ اَلْعَمَلِ تُؤْلِمُهُ اَلْبَقَّةُ وَ تَقْتُلُهُ اَلشَّرْقَةُ وَ تُنْتِنُهُ اَلْعَرْقَةُ قد تقدم هاهنا خبر المبتدإ عليه والتقدير ابن آدم مسكين ثم بين مسكنته من أين هي فقال إنها من ستة أوجه أجله مكتوم لا يدري متى يخترم وعلله باطنة لا يدري بها حتى تهيج عليه وعمله محفوظ ما لِهذَا اَلْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وقرص البقة يؤلمه والشرقة بالماء تقتله وإذا عرق أنتنته العرقة الواحدة وغيرت ريحه فمن هو على هذه الصفات فهو مسكين لا محالة لا ينبغي أن يأمن ولا أن يفخر
[ 63 ](1/5768)
428
وَ يُرْوَى رُوِيَ أَنَّهُ ع كَانَ جَالِساً فِي أَصْحَابِهِ إِذْ مَرَّتْ فَمَرَّتْ بِهِمُ اِمْرَأَةٌ جَمِيلَةٌ فَرَمَقَهَا اَلْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ فَقَالَ ع إِنَّ أَبْصَارَ هَذِهِ اَلْفُحُولِ طَوَامِحُ وَ إِنَّ ذَلِكَ سَبَبُ هِبَابِهَا فَإِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى اِمْرَأَةٍ تُعْجِبُهُ فَلْيُلاَمِسْ أَهْلَهُ فَإِنَّمَا هِيَ اِمْرَأَةٌ كَامْرَأَتِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ اَلْخَوَارِجِ قَاتَلَهُ اَللَّهُ كَافِراً مَا أَفْقَهَهُ قَالَ فَوَثَبَ اَلْقَوْمُ لِيَقْتُلُوهُ فَقَالَ ع رُوَيْداً إِنَّمَا هُوَ سَبٌّ بِسَبٍّ أَوْ عَفْوٌ عَنْ ذَنْبٍ تقول هب الفحل والتيس يهب بالكسر هبيبا أو هبابا إذا هاج للضراب أو للفساد والهباب أيضا صوت والتيس إذا هب فهو مهباب وقد هبهبته أي دعوته لينزو فتهبهب أي تزعزع . وسألني صديقنا علي بن البطريق عن هذه القصة فقال ما باله عفا عن الخارجي وقد طعن فيه بالكفر وأنكر على الأشعث قوله هذه عليك لا لك فقال
[ 64 ]
ما يدريك عليك لعنة الله ما علي مما لي حائك ابن حائك منافق ابن كافر وما واجهه به الخارجي أفظع مما واجهه الأشعث فقلت لا أدري . قال لأن كل صاحب فضيلة يعظم عليه أن يطعن في فضيلته تلك ويدعى عليه أنه فيها ناقص وكان علي ع بيت العلم فلما طعن فيه الأشعث طعن بأنك لا تدري ما عليك مما لك فشق ذلك عليه وامتعض منه وجبهه ولعنه وأما الخارجي فلم يطعن في علمه بل أثبته له واعترف به وتعجب منه فقال قاتله الله كافرا ما أفقهه فاغتفر له لفظة كافر بما اعترف له به من علو طبقته في الفقه ولم يخشن عليه خشونته على الأشعث وكان قد مرن على سماع قول الخوارج أنت كافر وقد كفرت يعنون التحكيم فلم يحفل بتلك اللفظة ونهى أصحابه عن قتله محافظة ورعاية له على ما مدحه به
[ 65 ](1/5769)
429
وَ قَالَ ع : كَفَاكَ مِنْ عَقْلِكَ مَا أَوْضَحَ لَكَ سُبُلَ غَيِّكَ مِنْ رُشْدِكَ يقول ع كفى الإنسان من عقله ما يفرق به بين الغي والرشاد وبين الحق من العقائد والباطل فإنه بذلك يتم تكليفه ولا حاجة في التكليف والفرق بين الغي والرشد إلى زيادة على ذلك نحو التجارب التي تفيده الحزم التام ومعرفة أحوال الدنيا وأهلها وأيضا لا حاجة له إلى أن يكون عنده من الفطنة الثاقبة والذكاء التام ما يستنبط به دقائق الكلام في الحكمة والهندسة والعلوم الغامضة فإن ذلك كله فضل مستغنى عنه فإن حصل للإنسان فقد كمل وإن لم يحصل للإنسان فقد كفاه في تكليفه ونجاته من معاطب العصيان ما يفرق به بين الغي والرشاد وهو حصول العلوم البديهية في القلب وما جرى مجراها من علوم العادات وما يذكره أصحابنا في باب التكليف
[ 66 ](1/5770)
430
وَ قَالَ ع : اِفْعَلُوا اَلْخَيْرَ وَ لاَ تَحْقِرُوا مِنْهُ شَيْئاً فَإِنَّ صَغِيرَهُ كَبِيرٌ وَ قَلِيلَهُ كَثِيرٌ وَ لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ إِنَّ أَحَداً أَوْلَى بِفِعْلِ اَلْخَيْرِ مِنِّي فَيَكُونَ وَ اَللَّهِ كَذَلِكَ القليل من الخير خير من عدم الخير أصلا . قال ع لا يقولن أحدكم إن فلانا أولى بفعل الخير مني فيكون والله كذلك مثاله قوم موسرون في محلة واحدة قصد واحدا منهم سائل فرده وقال له اذهب إلى فلان فهو أولى بأن يتصدق عليك مني فإن هذه الكلمة تقال دائما نهى ع عن قولها وقال فيكون والله كذلك أي إن الله تعالى يوفق ذلك الشخص الذي أحيل ذلك السائل عليه وييسر الصدقة عليه ويقوي دواعيه إليها فيفعلها فتكون كلمة ذلك الإنسان الأول قد صادفت قدرا وقضاء ووقع الأمر بموجبها
[ 67 ](1/5771)
431
إِنَّ لِلْخَيْرِ وَ لِلشَّرِّ أَهْلاً فَمَهْمَا تَرَكْتُمُوهُ مِنْهُمَا كَفَاكُمُوهُ أَهْلُهُ يقول ع إن عن لك باب من أبواب الخير وتركته فسوف يكفيكه بعض الناس ممن جعله الله تعالى أهلا للخير وإسداء المعروف إلى الناس وإن عن لك باب من أبواب الشر فتركته فسوف يكفيكه بعض الناس ممن جعلتهم أنفسهم وسوء اختيارهم أهلا للشر وأذى الناس فاختر لنفسك أيما أحب إليك أن تحظى بالمحمدة والثواب وتفعل ما إن تركته فعله غيرك وحظي بحمده وثوابه أو أن تتركه وأيما أحب إليك أن تشقى بالذم عاجلا والعقاب آجلا وتفعل ما إن تركته كفاكه غيرك وبلغت غرضك منه على يد غيرك أو أن تفعله ولا ريب أن العاقل يختار فعل الخير وترك الشر إذا أفكر حق الفكر فيما قد أوضحناه
[ 68 ](1/5772)
432
وَ قَالَ ع : مَنْ أَصْلَحَ سَرِيرَتَهُ أَصْلَحَ اَللَّهُ عَلاَنِيَتَهُ وَ مَنْ عَمِلَ لِدِينِهِ كَفَاهُ اَللَّهُ أَمْرَ دُنْيَاهُ وَ مَنْ أَحْسَنَ فِيمَا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ اَللَّهِ أَحْسَنَ اَللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ اَلنَّاسِ لا ريب أن الأعمال الظاهرة تبع للأعمال الباطنة فمن صلح باطنه صلح ظاهره وبالعكس وذلك لأن القلب أمير مسلط على الجوارح والرعية تتبع أميرها ولا ريب أن من عمل لدينه كفاه الله أمر دنياه وقد شهد بذلك الكتاب العزيز في قوله سبحانه وَ مَنْ يَتَّقِ اَللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ . ولهذا أيضا علة ظاهرة وذاك أن من عمل لله سبحانه وللدين فإنه لا يخفى حاله في أكثر الأمر عن الناس ولا شبهة أن الناس إذا حسنت عقيدتهم في إنسان وعلموا متانة دينه بوبوا له إلى الدنيا أبوابا لا يحتاج أن يتكلفها ولا يتعب فيها فيأتيه رزقه من غير كلفة ولا كد ولا ريب أن من أحسن فيما بينه وبين الله أحسن الله ما بينه وبين الناس وذلك لأن القلوب بالضرورة تميل إليه وتحبه وذلك لأنه إذا كان محسنا بينه وبين الناس عف عن أموال الناس ودمائهم وأعراضهم وترك الدخول فيما لا يعنيه ولا شبهة أن من كان بهذه الصفة فإنه يحسن ما بينه وبين الناس
[ 69 ](1/5773)
433
وَ قَالَ ع : اَلْحِلْمُ غِطَاءٌ سَاتِرٌ وَ اَلْعَقْلُ حُسَامٌ قَاطِعٌ فَاسْتُرْ خَلَلَ خُلُقِكَ بِحِلْمِكَ وَ قَاتِلْ هَوَاكَ بِعَقْلِكَ لما جعل الله الحلم غطاء والعقل حساما أمره أن يستر خلل خلقه بذلك الغطاء وأن يقاتل هواه بذلك الحسام وقد سبق القول في الحلم والعقل
[ 70 ](1/5774)
434
وَ قَالَ ع : إِنَّ لِلَّهِ عِبَاداً يَخْتَصُّهُمْ يَخْتَصُّهُمُ اَللَّهُ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ اَلْعِبَادِ فَيُقِرُّهَا فِي أَيْدِيهِمْ مَا بَذَلُوهَا فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا مِنْهُمْ ثُمَّ حَوَّلَهَا إِلَى غَيْرِهِمْ قد ذكرنا هذا المعنى فيما تقدم وقد قالت الشعراء فيه فأكثروا وقريب من ذلك قول الشاعر
و بالناس عاش الناس قدما ولم يزل
من الناس مرغوب إليه وراغب
و أشد تصريحا بالمعنى قول الشاعر
لم يعطك الله ما أعطاك من نعم
إلا لتوسع من يرجوك إحسانا
فإن منعت فأخلق أن تصادفها
تطير عنك زرافات ووحدانا
[ 71 ](1/5775)
435
وَ قَالَ ع : لاَ يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَثِقَ بِخَصْلَتَيْنِ اَلْعَافِيَةِ وَ اَلْغِنَى بَيْنَا تَرَاهُ مُعَافًى إِذْ سَقِمَ وَ بَيْنَا تَرَاهُ غَنِيّاً إِذِ اِفْتَقَرَ قد تقدم القول في هذا المعنى . وقال الشاعر
و بينما المرء في الأحياء مغتبط
إذ صار في اللحد تسفيه الأعاصير
و قال آخر
لا يغرنك عشاء ساكن
قد يوافي بالمنيات السحر
و قال عبيد الله بن طاهر
و إذا ما أعارك الدهر شيئا
فهو لا بد آخذ ما أعارا
آخر
يغر الفتى مر الليالي سليمة
و هن به عما قليل عواثر
و قال آخر
و رب غني عظيم الثراء
أمسى مقلا عديما فقيرا
و كم بات من مترف في القصور
فعوض في الصبح عنها القبورا
[ 72 ](1/5776)
436
وَ قَالَ ع : مَنْ شَكَا اَلْحَاجَةَ إِلَى مُؤْمِنٍ فَكَأَنَّمَا فَكَأَنَّهُ شَكَاهَا إِلَى اَللَّهِ وَ مَنْ شَكَاهَا إِلَى كَافِرٍ فَكَأَنَّمَا شَكَا اَللَّهَ قد تقدم القول في شكوى الحال وكراهيتها وكلام أمير المؤمنين ع يدل على أنه لا يكره شكوى الحال إلى المؤمن ويكرهها إلى غير المؤمن وهذا مذهب ديني غير المذهب العرفي . وأكثر مذاهبه ومقاصده ع في كلامه ينحو فيها نحو الدين والورع والإسلام وكأنه يجعل الشكوى إلى المؤمن كالشكوى إلى الخالق سبحانه لأنه لا يشكو إلى المؤمن إلا وقد خلت شكواه من التسخط والتأفف ولا يشكو إلى الكافر إلا وقد شاب شكواه بالاستزادة والتضجر فافترقت الحال في الموضعين . فأما المذهب المشهور في العرف والعادة فاستهجان الشكوى على الإطلاق لأنها دليل على ضعف النفس وخذلانها وقلة الصبر على حوادث الدهر وذلك عندهم غير محمود
[ 73 ](1/5777)
437
وَ قَالَ ع فِي بَعْضِ اَلْأَعْيَادِ إِنَّمَا هُوَ عِيدٌ لِمَنْ قَبِلَ اَللَّهُ صِيَامَهُ وَ شَكَرَ قِيَامَهُ وَ كُلُّ يَوْمٍ لاَ نَعْصِي اَللَّهَ يُعْصَى اَللَّهُ فِيهِ فَهُوَ يَوْمُ عِيدٍ عِيدٌ المعنى ظاهر وقد نقله بعض المحدثين إلى الغزل فقال
قالوا أتى العيد قلت أهلا
إن جاء بالوصل فهو عيد
من ظفرت بالمنى يداه
فكل أيامه سعود
و رأيت بعض الصوفية وقد سمع هذين البيتين من مغن حاذق فطرب وصفق وأخذهما لمعنى عنده . وقد قال بعض المحدثين في هذا المعنى أيضا
قالوا أتى العيد والأيام مشرقة
و أنت تبكي وكل الناس مسرور
فقلت إن واصل الأحباب كان لنا
عيدا وإلا فهذا اليوم عاشور
[ 74 ](1/5778)
438
وَ قَالَ ع : إِنَّ أَعْظَمَ اَلْحَسَرَاتِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ حَسْرَةُ رَجُلٍ كَسَبَ مَالاً فِي غَيْرِ طَاعَةِ اَللَّهِ فَوَرَّثَهُ رَجُلاً فَوَرِثَهُ رَجُلٌ فَأَنْفَقَهُ فِي طَاعَةِ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ فَدَخَلَ بِهِ اَلْجَنَّةَ وَ دَخَلَ اَلْأَوَّلُ بِهِ اَلنَّارَ كان يقال لعمر بن عبد العزيز بن مروان السعيد ابن الشقي وذلك أن عبد العزيز بن مروان ملك ضياعا كثيرة بمصر والشام والعراق والمدينة من غير طاعة الله بل بسلطان أخيه عبد الملك وبولاية عبد العزيز نفسه مصر وغيرها ثم تركها لابنه عمر فكان ينفقها في طاعة الله سبحانه وفي وجوه البر والقربات إلى أن أفضت الخلافة إليه فلما أفضت إليه أخرج سجلات عبد الملك بها لعبد العزيز فمزقها بمحضر من الناس وقال هذه كتبت من غير أصل شرعي وقد أعدتها إلى بيت المال
[ 75 ](1/5779)
439
وَ قَالَ ع : إِنَّ أَخْسَرَ اَلنَّاسِ صَفْقَةً وَ أَخْيَبَهُمْ سَعْياً رَجُلٌ أَخْلَقَ بَدَنَهُ فِي طَلَبِ آمَالِهِ مَالِهِ وَ لَمْ تُسَاعِدْهُ اَلْمَقَادِيرُ عَلَى إِرَادَتِهِ فَخَرَجَ مِنَ اَلدُّنْيَا بِحَسْرَتِهِ وَ قَدِمَ عَلَى اَلآْخِرَةِ بِتَبِعَتِهِ هذه صورة أكثر الناس وذلك لأن أكثرهم يكد بدنه ونفسه في بلوغ الآمال الدنيوية والقليل منهم من تساعد المقادير على إرادته وإن ساعدته على شي ء منها بقي في نفسه ما لا يبلغه كما قيل
نروح ونغدو لحاجاتنا
و حاجة من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته
و تبقى له حاجة ما بقي
فأكثرهم إذن يخرج من الدنيا بحسرته ويقدم على الآخرة بتبعته لأن تلك الآمال التي كانت الحركة والسعي فيها ليست متعلقة بأمور الدين والآخرة لا جرم أنها تبعات وعقوبات ونسأل الله عفوه
[ 76 ](1/5780)
440
وَ قَالَ ع : اَلرِّزْقُ رِزْقَانِ طَالِبٌ وَ مَطْلُوبٌ فَمَنْ طَلَبَ اَلدُّنْيَا طَلَبَهُ اَلْمَوْتُ حَتَّى يُخْرِجَهُ عَنْهَا وَ مَنْ طَلَبَ اَلآْخِرَةَ طَلَبَتْهُ اَلدُّنْيَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مِنْهَا رِزْقَهُ رِزْقَهُ مِنْهَا هذا تحريض على طلب الآخرة ووعد لمن طلبها بأنه سيكفي طلب الدنيا وإن الدنيا ستطلبه حتى يستوفي رزقه منها . وقد قيل مثل الدنيا مثل ظلك كلما طلبته بعد عنك فإن أدبرت عنه تبعك
[ 77 ](1/5781)
441
وَ قَالَ ع : إِنَّ أَوْلِيَاءَ اَللَّهِ هُمُ اَلَّذِينَ نَظَرُوا إِلَى بَاطِنِ اَلدُّنْيَا إِذَا نَظَرَ اَلنَّاسُ إِلَى ظَاهِرِهَا وَ اِشْتَغَلُوا بِآجِلِهَا إِذَا اِشْتَغَلَ اَلنَّاسُ بِعَاجِلِهَا فَأَمَاتُوا مِنْهَا مَا خَشُوا أَنْ يُمِيتَهُمْ وَ تَرَكُوا مِنْهَا مَا عَلِمُوا أَنَّهُ سَيَتْرُكُهُمْ وَ رَأَوُا اِسْتِكْثَارَ غَيْرِهِمْ مِنْهَا اِسْتِقْلاَلاً وَ دَرْكَهُمْ دَرَكَهُمْ لَهَا فَوَاتاً فَوْتاً أَعْدَاءٌ لِمَا أَعْدَاءُ مَا سَالَمَ اَلنَّاسُ وَ سَلْمٌ لِمَنْ سَلْمُ مَا عَادَى اَلنَّاسُ بِهِمْ عُلِمَ اَلْكِتَابُ وَ بِهِ عُلِمُوا عَلِمُوا وَ بِهِمْ قَامَ كِتَابُ اَللَّهِ تَعَالَى اَلْكِتَابُ وَ بِهِ قَامُوا لاَ يَرَوْنَ مَرْجُوّاً فَوْقَ مَا يَرْجُونَ وَ لاَ مَخُوفاً فَوْقَ مَا يَخَافُونَ هذا يصلح أن تجعله الإمامية شرح حال الأئمة المعصومين على مذاهبهم لقوله فوق ما يرجون بهم علم الكتاب وبه علموا وأما نحن فنجعله شرح حال العلماء العارفين وهم أولياء الله الذين ذكرهم ع لما نظر الناس إلى ظاهر الدنيا وزخرفها من المناكح والملابس والشهوات الحسية نظروا هم إلى باطن الدنيا فاشتغلوا بالعلوم والمعارف والعبادة والزهد في الملاذ الجسمانية فأماتوا من شهواتهم وقواهم المذمومة كقوة الغضب وقوة الحسد ما خافوا أن يميتهم وتركوا من الدنيا اقتناء الأموال لعلمهم أنها ستتركهم وأنه لا يمكن دوام الصحبة معها فكان استكثار الناس من تلك الصفات استقلالا عندهم وبلوغ الناس لها فوتا أيضا عندهم فهم خصم لما سالمه الناس
[ 78 ](1/5782)
من الشهوات وسلم لما عاداه الناس من العلوم والعبادات وبهم علم الكتاب لأنه لولاهم لما عرف تأويل الآيات المتشابهات ولأخذها الناس على ظواهرها فضلوا وبالكتاب علموا لأن الكتاب دل عليهم ونبه الناس على مواضعهم نحو قوله إِنَّما يَخْشَى اَللَّهَ مِنْ عِبادِهِ اَلْعُلَماءُ . وقوله هَلْ يَسْتَوِي اَلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ اَلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ . وقوله وَ مَنْ يُؤْتَ اَلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً . ونحو ذلك من الآيات التي تنادي عليهم وتخطب بفضلهم وبهم قام الكتاب لأنهم قرروا البراهين على صدقه وصحة وروده من الله تعالى على لسان جبريل ع ولولاهم لم يقم على ذلك دلالة للعوام وبالكتاب قاموا أي باتباع أوامر الكتاب وآدابه قاموا لأنه لو لا تأدبهم بآداب القرآن وامتثالهم أوامره لما أغنى عنهم علمهم شيئا بل كان وباله عليهم ثم قال إنهم لا يرون مرجوا فوق ما يرجون ولا مخوفا فوق ما يخافون وكيف لا يكونون كذلك ومرجوهم مجاورة الله تعالى في حظائر قدسه وهل فوق هذا مرجو لراج ومخوفهم سخط الله عليهم وإبعادهم عن جنابه وهل فوق هذا مخوف لخائف
[ 79 ](1/5783)
442
وَ قَالَ ع : اُذْكُرُوا اِنْقِطَاعَ اَللَّذَّاتِ وَ بَقَاءَ اَلتَّبِعَاتِ قد تقدم القول في نحو هذا مرارا وقال الشاعر
تفنى اللذاذة ممن نال بغيته
من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء في مغبتها
لا خير في لذة من بعدها النار
و راود رجل امرأة عن نفسها فقالت له إن امرأ يبيع جنة عرضها السموات والأرض بمقدار إصبعين لجاهل بالمساحة فاستحيا ورجع
[ 80 ](1/5784)
443
وَ قَالَ ع : اُخْبُرْ تَقْلِهِ قال الرضي رحمه الله تعالى ومن الناس من يروي هذا لرسول الله ص ومما يقوي أنه من كلام أمير المؤمنين ما حكاه ثعلب قال حدثنا ابن الأعرابي قال قال المأمون لو لا أن عليا ع قال اخبر تقله لقلت أنا اقله تخبر المعنى اختبر الناس وجربهم تبغضهم فإن التجربة تكشف لك مساويهم وسوء أخلاقهم فضرب مثلا لمن يظن به الخير وليس هناك فأما قول المأمون لو لا أن عليا قاله لقلت اقله تخبر فليس المراد حقيقة القلى وهو البغض بل المراد الهجر والقطيعة يقول قاطع أخاك مجربا له هل يبقى على عهدك أم ينقضه ويحوله عنك . ومن كلام عتبة بن أبي سفيان طيروا الدم في وجوه الشباب فإن حلموا وأحسنوا الجواب فهم هم وإلا فلا تطمعوا فيهم يقول أغضبوهم لأن الغضبان يحمر وجهه فإن ثبتوا لذلك الكلام المغضب وحلموا وأجابوا جواب الحليم العاقل فهم ممن يعقد عليه الخنصر ويرجى فلاحه وإن سفهوا وشتموا ولم يثبتوا لذلك الكلام فلا رجاء لفلاحهم ومن المعنى الأول قول أبي العلاء
[ 81 ]
جربت دهري وأهليه فما تركت
لي التجارب في ود امرئ غرضا
و قال آخر
و كنت أرى أن التجارب عدة
فخانت ثقات الناس حتى التجارب
و قال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب
رأيت فضيلا كان شيئا ملففا
فأبرزه التمحيص حتى بدا ليا
آخر
عتبت على سلم فلما فقدته
و جربت أقواما رجعت إلى سلم
مثله
ذممتك أولا حتى إذا ما
بلوت سواك عاد الذم حمدا
و لم أحمدك من خير ولكن
وجدت سواك شرا منك جدا
فعدت إليك مضطرا ذليلا
لأني لم أجد من ذاك بدا
كمجهود تحامى أكل ميت
فلما اضطر عاد إليه شدا
الذي يتعلق به غرضنا من الأبيات هو البيت الأول وذكرنا سائرها لحسنها
[ 82 ](1/5785)
444
وَ قَالَ ع : مَا كَانَ اَللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ لِيَفْتَحَ عَلَى عَبْدٍ بَابَ اَلشُّكْرِ وَ يُغْلِقَ عَنْهُ بَابَ اَلزِّيَادَةِ وَ لاَ لِيَفْتَحَ عَلَى عَبْدٍ بَابَ اَلدُّعَاءِ وَ يُغْلِقَ عَنْهُ بَابَ اَلْإِجَابَةِ وَ لاَ لِيَفْتَحَ عَلَيْهِ لِعَبْدٍ بَابَ اَلتَّوْبَةِ وَ يُغْلِقَ عَنْهُ بَابَ اَلْمَغْفِرَةِ قد تقدم القول في الشكر واقتضائه الزيادة واقتضاء الدعاء الإجابة والتوبة المغفرة على وجه الاستقصاء في الجميع
[ 83 ](1/5786)
445
وَ قَالَ ع : أَوْلَى اَلنَّاسِ بِالْكَرَمِ مَنْ عَرَّقَتْ عُرِفَتْ فِيهِ اَلْكِرَامُ أعرقت وعرقت في هذا الموضع بمعنى أي ضربت عروقه في الكرم أي له سلف وآباء كرام وقال المبرد أنشدني أبو محلم السعدي
إنا سألنا قومنا فخيارهم
من كان أفضلهم أبوه الأفضل
أعطى الذي أعطى أبوه قبله
و تبخلت أبناء من يتبخل
قال وأنشدني أيضا في المعنى
لطلحة بن خثيم حين تسأله
أندى وأكرم من فند بن هطال
و بيت طلحة في عز ومكرمة
و بيت فند إلى ربق وأحمال
أ لا فتى من بني ذبيان يحملني
و ليس يحملني إلا ابن حمال
فقلت طلحة أولى من عمدت له
و جئت أمشي إليه مشي مختال
مستيقنا أن حبلي سوف يعلقه
في رأس ذيالة أو رأس ذيال
[ 84 ]
و قال آخر
عند الملوك مضرة ومنافع
و أرى البرامك لا تضر وتنفع
إن العروق إذا استسر بها الثرى
أثرى النبات بها وطاب المزرع
و إذا جهلت من امرئ أعراقه
و قديمه فانظر إلى ما يصنع
و قال آخر
إن السري إذا سرى فبنفسه
و ابن السري إذا سرى أسراهما
و قال البحتري
و أرى النجابة لا يكون تمامها
لنجيب قوم ليس بابن نجيب
[ 85 ](1/5787)
446
وَ سُئِلَ ع أَيُّمَا أَيُّهُمَا أَفْضَلُ اَلْعَدْلُ أَوِ اَلْجُودُ فَقَالَ اَلْعَدْلُ يَضَعُ اَلْأُمُورَ مَوَاضِعَهَا وَ اَلْجُودُ يُخْرِجُهَا مِنْ جِهَتِهَا وَ اَلْعَدْلُ سَائِسٌ عَامٌّ وَ اَلْجُودُ عَارِضٌ خَاصٌّ فَالْعَدْلُ أَشْرَفُهُمَا وَ أَفْضَلُهُمَا هذا كلام شريف جليل القدر فضل ع العدل بأمرين أحدهما أن العدل وضع الأمور مواضعها وهكذا العدالة في الاصطلاح الحكمي لأنها المرتبة المتوسطة بين طرفي الإفراط والتفريط والجود يخرج الأمر من موضعه والمراد بالجود هاهنا هو الجود العرفي وهو بذل المقتنيات للغير لا الجود الحقيقي لأن الجود الحقيقي ليس يخرج الأمر من جهته نحو جود البارئ تعالى . والوجه الثاني أن العدل سائس عام في جميع الأمور الدينية والدنيوية وبه نظام العالم وقوام الوجود وأما الجود فأمر عارض خاص ليس عموم نفعه كعموم نفع العدل
[ 86 ](1/5788)
447
وَ قَالَ ع : اَلنَّاسُ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُوا هذه من ألفاظه الشريفة التي لا نظير لها وقد تقدم ذكرها وذكر ما يناسبها وكان يقال من جهل شيئا عاداه . وقال الشاعر
جهلت أمرا فأبديت النكير له
و الجاهلون لأهل العلم أعداء
و قيل لأفلاطون لم يبغض الجاهل العالم ولا يبغض العالم الجاهل فقال لأن الجاهل يستشعر النقص في نفسه ويظن أن العالم يحتقره ويزدريه فيبغضه والعالم لا نقص عنده ولا يظن أن الجاهل يحتقره فليس عنده سبب لبغض الجاهل
[ 87 ](1/5789)
448
وَ قَالَ ع : اَلزُّهْدُ كُلُّهُ بَيْنَ كَلِمَتَيْنِ مِنَ اَلْقُرْآنِ قَالَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَ مَنْ لَمْ يَأْسَ عَلَى اَلْمَاضِي وَ لَمْ يَفْرَحْ بِالآْتِي فَقَدْ أَخَذَ اَلزُّهْدَ بِطَرَفَيْهِ قد تقدم القول في هذين المعنيين بما فيه كفاية
[ 88 ](1/5790)
449
وَ قَالَ ع : اَلْوِلاَيَاتُ مَضَامِيرُ اَلرِّجَالِ أي تعرف الرجال بها كما تعرف الخيل بالمضمار وهو الموضع أو المدة التي تضمر فيها الخيل فمن الولاة من يظهر منه أخلاق حميدة ومنهم من يظهر منه أخلاق ذميمة وقال الشاعر
سكرات خمس إذا مني المرء
بها صار عرضة للزمان
سكرة المال والحداثة والعشق
و سكر الشراب والسلطان
و قال آخر
يا ابن وهب والمرء في دولة السلطان
أعمى ما دام يدعى أميرا
فإذا زالت الولاية عنه
و استوى بالرجال عاد بصيرا
و قال البحتري
و تاه سعيد أن أعير رئاسة
و قلد أمرا كان دون رجاله
و ضاق على حقي بعقب اتساعه
فأوسعته عذرا لضيق احتماله
فأدبر عني عند إقبال حظه
و غير حالي عنده حسن حاله
فليت أبا عثمان أمسك تيهه
كإمساكه عند الحقوق بماله
[ 89 ](1/5791)
450
وَ قَالَ ع : مَا أَنْقَضَ اَلنَّوْمَ لِعَزَائِمِ اَلْيَوْمِ هذه الكلمة قد سبقت وتكلمنا عليها وما أحسن قول المعري
ما قضى الحاجات إلا شمل
نومه فوق فراش من نمال
و قال الرضي رحمه الله
عليها أخامس مثل الصقور
طوال الرجاء جسام الأرب
و كل فتى حظ أجفانه
من النوم مضمضة يستلب
فبينا يقال كرى جفنه
بقطع من الليل إذ قيل هب
[ 90 ](1/5792)
451
وَ قَالَ ع : لَيْسَ بَلَدٌ بِأَحَقَّ بِكَ مِنْ بَلَدٍ خَيْرُ اَلْبِلاَدِ مَا حَمَلَكَ هذا المعنى قد قيل كثيرا ومن ذلك قول الشاعر
لا يصدفنك عن أمر تحاوله
فراق أهل وأحباب وجيران
تلقى بكل ديار ما حللت بها
أهلا بأهل وأوطانا بأوطان
و قال شيخي أبو جعفر يحيى بن أبي زيد نقيب البصرة
أنسيتني بلدي وأرض عشيرتي
و نزلت من نعماك أكرم منزل
و أخذت فيك مدائحي فكأنها
في آل شماس مدائح جرول
أبو عبادة البحتري
في نعمة أوطأتها وأقمت في
أكنافها فكأنني في منبج
و منبج هي مدينة البحتري أبو تمام
كل شعب كنتم به آل وهب
فهو شعبي وشعب كل أديب
[ 91 ]
إن قلبي لكم لكالكبد الحرى
و قلبي لغيركم كالقلوب
و قد ذهب كثير من الناس إلى غير هذا المذهب فجعلوا بعض البلاد أحق بالإنسان من بعض وهو الوطن الأول ومسقط الرأس قال الشاعر
أحب بلاد الله ما بين منبج
إلي وسلمى أن يصوب سحابها
بلاد بها نيطت علي تمائمي
و أول أرض مس جلدي ترابها
و كان يقال ميلك إلى مولدك من كرم محتدك . وقال ابن عباس لو قنع الناس بأرزاقهم قناعتهم بأوطانهم لما اشتكى أحد الرزق . وكان يقال كما أن لحاضنتك حق لبنها فلأرضك حرمة وطنها . وكانت العرب تقول حماك أحمى لك وأهلك أحفى بك . وقال الشاعر
و كنا ألفناها ولم تك مألفا
و قد يؤلف الشي ء الذي ليس بالحسن
كما تؤلف الأرض التي لم يطب بها
هواء ولا ماء ولكنها وطن
أعرابي رملة حضنتني أحشاؤها وأرضعتني أحساؤها . كانت العرب إذا سافرت حملت معها من تربة أرضها ما تستنشق ريحه وتطرحه في الماء إذا شربته وكذلك كانت فلاسفة يونان تفعل . وقال الشاعر في هذا المعنى
نسير على علم بكنه مسيرنا
بعفة زاد في بطون المزاود
[ 92 ]
و لا بد في أسفارنا من قبيصة
من الترب نسقاها لحب الموالد(1/5793)
و قالت الهند حرمة بلدك عليك كحرمة أبويك كان غذاؤك منهما وأنت جنين وكان غذاؤهما منك . ومن الكلام القديم لو لا الوطن وحبه لخرب بلد السوء . ابن الرومي
و حبب أوطان الرجال إليهم
مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم
عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
[ 93 ](1/5794)
452
وَ قَالَ ع وَ قَدْ جَاءَهُ نَعْيُ اَلْأَشْتَرِ رَحِمَهُ اَللَّهُ مَالِكٌ وَ مَا مَالِكٌ وَ اَللَّهِ لَوْ كَانَ جَبَلاً لَكَانَ فِنْداً أَوْ وَ لَوْ كَانَ حَجَراً لَكَانَ صَلْداً لاَ يَرْتَقِيهِ اَلْحَافِرُ وَ لاَ يُوفِي عَلَيْهِ اَلطَّائِرُ قال الرضي رحمه الله تعالى الفند المنفرد من الجبال يقال إن الرضي ختم كتاب نهج البلاغة بهذا الفصل وكتبت به نسخ متعددة ثم زاد عليه إلى أن وفى الزيادات التي نذكرها فيما بعد . وقد تقدم ذكر الأشتر وإنما قال لو كان جبلا لكان فندا لأن الفند قطعة الجبل طولا وليس الفند القطعة من الجبل كيفما كانت ولذلك قال لا يرتقيه الحافر لأن القطعة المأخوذة من الجبل طولا في دقة لا سبيل للحافر إلى صعودها ولو أخذت عرضا لأمكن صعودها . ثم وصف تلك القطعة بالعلو العظيم فقال ولا يوفي عليه الطائر أي لا يصعد عليه يقال أوفى فلان على الجبل أشرف
[ 94 ](1/5795)
453
وَ قَالَ ع : قَلِيلٌ مَدُومٌ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ مَمْلُولٍ مِنْهُ هذا كلام يخاطب به أهل العبادات والصلاة قال قليل من النوافل يدوم المرء عليه خير له من كثير منها يمله ويتركه . والجيد النادر في هذا
قول رسول الله ص إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى . وكان يقال كل كثير مملول . وقالوا كل كثير عدو للطبيعة . وقال الشاعر
إني كثرت عليه في زيارته
فمل والشي ء مملول إذا كثرا
و رابني أني لا أزال أرى
في طرفه قصرا عني إذا نظرا
[ 95 ](1/5796)
454
وَ قَالَ ع : إِذَا كَانَ فِي رَجُلٍ خَلَّةٌ رَائِعَةٌ رَائِقَةٌ فَانْتَظِرُوا مِنْهُ أَخَوَاتِهَا مثال ذلك إنسان مستور الحال عنا رأيناه وقد صدرت عنه حركة تروعك وتعجبك إما لحسنها أو لقبحها مثل أن يتصدق بشي ء له وقع ومقدار من ماله أو ينكر منكرا عجز غيره عن إنكاره أو يسرق أو يزني فينبغي أن ينتظر ويترقب منه أخوات ما وقع منه وذلك لأن العقل والطبيعة التي فيه المحركة له إلى فعل تلك الحركة لا بد أن تحركه إلى فعل ما يناسبها لأنها ما دعته إلى فعل تلك الحركة لخصوصية تلك الحركة بل لما فيها من المعنى المقتضي وقوعها وهذا يتعدى إلى غيرها مما يجانسها ولذلك لا ترى أحدا قد اطلعت من حاله يوما على أنه قد شرب الخمر إلا وسوف تطلع فيما بعد منه على أنه يشربها وبالعكس في الأمور الحسنة لا ترى أحدا قد صدر عنه فعل من أفعال الخير والمروءة إلا وستراه فيما بعد فاعلا نظيره أو ما يقاربه . وشتم بعض سفهاء البصرة الأحنف شتما قبيحا فحلم عنه فقيل له في ذلك فقال دعوه فإني قد قتلته بالحلم عنه وسيقتل نفسه بجراءته فلما كان بعد أيام جاء ذلك السفيه فشتم زيادا وهو أمير البصرة حينئذ وظن أنه كالأحنف فأمر به فقطع لسانه ويده
[ 96 ](1/5797)
455
وَ قَالَ ع لِغَالِبِ بْنِ صَعْصَعَةَ أَبِي اَلْفَرَزْدَقِ فِي كَلاَمٍ دَارَ بَيْنَهُمَا مَا فَعَلَتْ إِبِلُكَ اَلْكَثِيرَةُ قَالَ ذَعْذَعَتْهَا دَغْدَغَتْهَا اَلْحُقُوقُ يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ ع ذَلِكَ أَحْمَدُ سُبُلِهَا ذعذعتها بالذال المعجمة مكررة فرقتها ذعذعته فتذعذع وذعذعة السر أذاعته والذعاذع الفرق المتفرقة الواحدة ذعذعة وربما قالوا تفرقوا ذعاذع .
دخل غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال المجاشعي على أمير المؤمنين ع أيام خلافته وغالب شيخ كبير ومعه ابنه همام الفرزدق وهو غلام يومئذ فقال له أمير المؤمنين ع من الشيخ قال أنا غالب بن صعصعة قال ذو الإبل الكثيرة قال نعم قال ما فعلت إبلك قال ذعذعتها الحقوق وأذهبتها الحملات والنوائب قال ذاك أحمد سبلها من هذا الغلام معك قال هذا ابني قال ما اسمه قال همام وقد رويته الشعر يا أمير المؤمنين وكلام العرب ويوشك أن يكون شاعرا مجيدا فقال لو أقرأته القرآن فهو خير له فكان الفرزدق بعد يروي هذا الحديث ويقول ما زالت كلمته في نفسي حتى قيد نفسه بقيد وآلى ألا يفكه حتى يحفظ القرآن فما فكه حتى حفظه
[ 97 ](1/5798)
456
وَ قَالَ ع : مَنِ اِتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْهٍ فَقَدِ اِرْتَطَمَ فِي اَلرِّبَا يقول تجر فلان واتجر فهو تاجر والجمع تجر مثل صاحب وصحب والتجارة والتجر بمعنى واحد إذا أخذتهما مصدرين لتجر وأرض متجرة يتجر فيها . وارتطم فلان في الوحل والأمر إذا ارتبك فيه ولم يقدر على الخروج منه وإنما قال ع ذلك لأن مسائل الربا مشتبهة بمسائل البيع ولا يفرق بينهما إلا الفقيه حتى أن العظماء من الفقهاء قد اشتبه عليهم الأمر فيها فاختلفوا فيها أشد اختلاف كبيع لحم البقر بالغنم متفاضلا هل يجوز أم لا وكذلك لبن البقر بلبن الغنم وجلود البقر بجلود الغنم فقال أبو حنيفة اللحوم والألبان والجلود أجناس مختلفة فيجوز بيع بعضها ببعض متفاضلا نظرا إلى أن أصولها أجناس مختلفة والشافعي لا يجيز ذلك ويقول هو ربا وكذلك القول في مدى عجوة ودرهم بمد عجوة وكذلك بيع الرطب بالتمر متساويا كيلا كل ذلك يقول الشافعي إنه ربا وأبو حنيفة يخرجه عن كونه ربا ومسائل هذا الباب كثيرة
[ 98 ](1/5799)
457
وَ قَالَ ع : مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ اَلْمَصَائِبِ اِبْتَلاَهُ اَللَّهُ بِكِبَارِهَا إنما كان كذلك لأنه يشكو الله ويتسخط قضاءه ويجحد النعمة في التخفيف عنه ويدعي فيما ليس بمجحف به من حوادث الدهر أنه مجحف ويتألم بين الناس لذلك أكثر مما تقتضيه نكبته ومن فعل ذلك استوجب السخط من الله تعالى وابتلي بالكثير من النكبة وإنما الواجب على من وقع في أمر يشق عليه ويتألم منه وينال من نفسه أو من ماله نيلا ما إن يحمد الله تعالى على ذلك ويقول لعله قد دفع بهذا عني ما هو أعظم منه ولئن كان قد ذهب من مالي جزء فلقد بقي أجزاء كثيرة . وقال عروة بن الزبير لما وقعت الأكلة في رجله فقطعها ومات ابنه اللهم إنك أخذت عضوا وتركت أعضاء وأخذت ابنا وتركت أبناء فليهنك لئن كنت أخذت لقد أبقيت ولئن كنت ابتليت لقد عافيت
[ 99 ](1/5800)
458
وَ قَالَ ع : مَنْ كَرُمَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ هَانَتْ عَلَيْهِ شَهْوَتُهُ شَهَوَاتُهُ قد تقدم مثل هذا المعنى مرارا ومن الكلام المشهور بين العامة قبح الله أمرا تغلب شهوته على نخوته . والجيد النادر في هذا قول الشاعر
فإنك إن أعطيت بطنك سؤله
و فرجك نالا منتهى الذم أجمعا
[ 100 ](1/5801)
459
وَ قَالَ ع : مَا مَزَحَ اِمْرُؤٌ مَزْحَةً إِلاَّ مَجَّ مِنْ عَقْلِهِ مَجَّةً قد تقدم القول في المزاح . وكان يقال خير المزاح لا ينال وشره لا يستقال . وقيل إنما سمي المزاح مزاحا لأنه أزيح عن الحق
[ 101 ](1/5802)
460
وَ قَالَ ع : زُهْدُكَ فِي رَاغِبٍ فِيكَ نُقْصَانُ حَظٍّ وَ رَغْبَتُكَ فِي زَاهِدٍ فِيكَ ذُلُّ نَفْسٍ أي نقصان حظ لك وذلك لأنه ليس من حق من رغب فيك أن تزهد فيه لأن الإحسان لا يكافأ بالإساءة وللقصد حرمة وللآمل ذمام ومن طلب مودتك فقد قصدك وأملك فلا يجوز رفضه واطراحه والزهد فيه وإذا زهدت فيه فذلك لنقصان حظك لا لنقصان حظه فأما رغبتك في زاهد فيك فمذلة لأنك تطرح نفسك لمن لا يعبأ بك وهذا ذل وصغار . وقال العباس بن الأحنف في نسيبه وكان جيد النسيب
ما زلت أزهد في مودة راغب
حتى ابتليت برغبة في زاهد
هذا هو الداء الذي ضاقت به
حيل الطبيب وطال يأس العائد
أي ما زلت عزيزا حتى أذلني الحب
[ 102 ](1/5803)
461
وَ قَالَ ع : مَا زَالَ اَلزُّبَيْرُ رَجُلاً مِنَّا أَهْلَ اَلْبَيْتِ حَتَّى نَشَأَ اِبْنُهُ اَلْمَشْئُومُ عَبْدُ اَللَّهِ ذكر هذا الكلام أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب عن أمير المؤمنين ع في عبد الله بن الزبير إلا أنه لم يذكر لفظة المشئوم(1/5804)
عبد الله بن الزبير وذكر طرف من أخباره
و نحن نذكر ما ذكره ابن عبد البر في ترجمة عبد الله بن الزبير فإن هذا المصنف يذكر جمل أحوال الرجل دون تفاصيلها ثم نذكر تفصيل أحواله من مواضع أخرى . قال أبو عمر رحمه الله يكنى عبد الله بن الزبير أبا بكر وقال بعضهم أبا بكير ذكر ذلك أبو أحمد الحاكم الحافظ في كتابه في الكنى والجمهور من أهل السير وأهل الأثر على أن كنيته أبو بكر وله كنية أخرى أبو خبيب بابنه خبيب
[ 103 ]
و كان أسن ولده وخبيب هو صاحب عمر بن عبد العزيز الذي مات من ضربه إذ كان واليا على المدينة للوليد وكان الوليد أمره بضربه فمات من أذية ذلك فوداه عمر بعد . قال أبو عمر وسماه رسول الله ص باسم جده وكناه بكنية جده عبد الله أبي بكر وهاجرت أمه أسماء من مكة إلى المدينة وهي حامل به فولدته في سنة اثنتين من الهجرة لعشرين شهرا من التاريخ وقيل ولد في السنة الأولى وهو أول مولود ولد في الإسلام من المهاجرين بعد الهجرة . وروى هشام بن عروة عن أسماء قالت حملت بعبد الله بمكة فخرجت وأنا متم فأتيت المدينة فنزلت بقباء فولدته بقباء ثم أتيت رسول الله ص فوضعته في حجره فدعا بتمرة فمضغها ثم تفل في فيه فكان أول شي ء دخل جوفه ريق رسول الله ص ثم حنكه بالتمرة ثم دعا له وبارك عليه وهو أول مولود ولد في الإسلام للمهاجرين بالمدينة قال ففرحوا به فرحا شديدا وذلك أنهم قد كان قيل لهم إن اليهود قد سحرتكم فلا يولد لكم . قال أبو عمر وشهد عبد الله الجمل مع أبيه وخالته وكان شهما ذكرا ذا أنفة وكان له لسن وفصاحة وكان أطلس لا لحية له ولا شعر في وجهه وكان كثير الصلاة كثير الصيام شديد البأس كريم الجدات والأمهات والخالات إلا أنه كان فيه خلال لا يصلح معها للخلافة فإنه كان بخيلا ضيق العطن سيئ الخلق حسودا كثير الخلاف أخرج محمد بن الحنفية من مكة والمدينة ونفى عبد الله بن عباس إلى الطائف .
[ 104 ]
و(1/5805)
قال علي ع في أمره ما زال الزبير يعد منا أهل البيت حتى نشأ ابنه عبد الله قال أبو عمر وبويع له بالخلافة سنة أربع وستين في قول أبي معشر . وقال المدائني بويع له بالخلافة سنة خمس وستين . وكان قبل ذلك لا يدعى باسم الخلافة وكانت بيعته بعد موت معاوية بن يزيد بن معاوية على طاعته أهل الحجاز واليمن والعراق وخراسان وحج بالناس ثماني حجج وقتل في أيام عبد الملك بن مروان يوم الثلاثاء لثلاث عشرة بقين من جمادى الأولى وقيل من جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبعين وهو ابن اثنتين وسبعين سنة وصلب بمكة بعد قتله وكان الحجاج قد ابتدأ بحصاره من أول ليلة من ذي الحجة سنة اثنتين وسبعين وحج الحجاج بالناس في ذلك العام ووقف بعرفة وعليه درع ومغفر ولم يطوفوا بالبيت في تلك السنة فحاصره ستة أشهر وسبعة عشر يوما إلى أن قتله . قال أبو عمر فروى هشام بن عروة عن أبيه قال لما كان قبل قتل عبد الله بعشرة أيام دخل على أمه أسماء بنت أبي بكر وهي شاكية فقال كيف تجدينك يا أمه قالت ما أجدني إلا شاكية فقال لها إن في الموت لراحة فقالت لعلك تمنيته لي وما أحب أن أموت حتى يأتي على إحدى حالتيك إما قتلت فأحتسبك وإما ظفرت بعدوك فقرت عيني . قال عروة فالتفت عبد الله إلي وضحك فلما كان اليوم الذي قتل فيه دخل عليها في المسجد فقالت يا بني لا تقبل منهم خطة تخاف فيها على نفسك الذل مخافة القتل فو الله لضربة سيف في عز خير من ضربة سوط في مذلة قال فخرج
[ 105 ]
عبد الله وقد نصب له مصراع عند الكعبة فكان يكون تحته فأتاه رجل من قريش فقال له أ لا نفتح لك باب الكعبة فتدخلها فقال والله لو وجدوكم تحت أستار الكعبة لقتلوكم عن آخركم وهل حرمة البيت إلا كحرمة الحرم ثم أنشد
و لست بمبتاع الحياة بسبة
و لا مرتق من خشية الموت سلما(1/5806)
ثم شد عليه أصحاب الحجاج فسأل عنهم فقيل هؤلاء أهل مصر فقال لأصحابه اكسروا أغماد سيوفكم واحملوا معي فإنني في الرعيل الأول ففعلوا ثم حمل عليهم وحملوا عليه فكان يضرب بسيفين فلحق رجلا فضربه فقطع يده وانهزموا وجعل يضربهم حتى أخرجهم من باب المسجد وجعل رجل منهم أسود يسبه فقال له اصبر يا ابن حام ثم حمل عليه فصرعه ثم دخل عليه أهل حمص من باب بني شيبة فسأل عنهم فقيل هؤلاء أهل حمص فشد عليهم وجعل يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من المسجد ثم انصرف وهو يقول
لو كان قرني واحدا أرديته
أوردته الموت وقد ذكيته
ثم دخل عليه أهل الأردن من باب آخر فقال من هؤلاء قيل أهل الأردن فجعل يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من المسجد ثم انصرف وهو يقول
لا عهد لي بغارة مثل السيل
لا ينجلي قتامها حتى الليل
فأقبل عليه حجر من ناحية الصفا فأصابه بين عينيه فنكس رأسه وهو يقول
و لسنا على الأعقاب تدمى كلومنا
و لكن على أقدامنا تقطر الدما
[ 106 ]
أنشده متمثلا وحماه موليان له فكان أحدهما يرتجز فيقول
العبد يحمي ربه ويحتمي
قال ثم اجتمعوا عليه فلم يزالوا يضربونه ويضربهم حتى قتلوه ومولييه جميعا فلما قتل كبر أهل الشام فقال عبد الله بن عمر المكبرون يوم ولد خير من المكبرين يوم قتل . قال أبو عمر وقال يعلى بن حرملة دخلت مكة بعد ما قتل عبد الله بن الزبير بثلاثة أيام فإذا هو مصلوب فجاءت أمه أسماء وكانت امرأة عجوزا طويلة مكفوفة البصر تقاد فقالت للحجاج أ ما آن لهذا الراكب أن ينزل فقال لها المنافق قالت والله ما كان منافقا ولكنه كان صواما قواما برا قال انصرفي فإنك عجوز قد خرفت قالت لا والله ما خرفت و(1/5807)
إني سمعت رسول الله ص يقول يخرج من ثقيف كذاب ومبير أما الكذاب فقد رأيناه تعني المختار وأما المبير فأنت . قال أبو عمر وروى سعيد بن عامر الخراز عن ابن أبي مليكة قال كنت الآذن لمن بشر أسماء بنزول ابنها عبد الله من الخشبة فدعت بمركن وشب يمان فأمرتني بغسله فكنا لا نتناول منه عضوا إلا جاء معنا فكنا نغسل العضو وندعه في أكفانه ونتناول العضو الذي يليه فنغسله ثم نضعه في أكفانه حتى فرغنا منه ثم قامت فصلت عليه وقد كانت تقول اللهم لا تمتني حتى تقر عيني بجثته فلما دفنته لم يأت عليها جمعة حتى ماتت . قال أبو عمر وقد كان عروة بن الزبير رحل إلى عبد الملك فرغب إليه في إنزال عبد الله من الخشبة فأسعفه بذلك فأنزل .
[ 107 ](1/5808)
قال أبو عمر وقال علي بن مجاهد قتل مع ابن الزبير مائتان وأربعون رجلا إن منهم لمن سال دمه في جوف الكعبة . قال أبو عمر وروى عيسى عن أبي القاسم عن مالك بن أنس قال كان ابن الزبير أفضل من مروان وأولى بالأمر منه ومن أبيه قال وقد روى علي بن المدائني عن سفيان بن عيينة أن عامر بن عبد الله بن الزبير مكث بعد قتل أبيه حولا لا يسأل الله لنفسه شيئا إلا الدعاء لأبيه . قال أبو عمر وروى إسماعيل بن علية عن أبي سفيان بن العلاء عن ابن أبي عتيق قال قالت عائشة إذا مر ابن عمر فأرونيه فلما مر قالوا هذا ابن عمر فقالت يا أبا عبد الرحمن ما منعك أن تنهاني عن مسيري قال رأيت رجلا قد غلب عليك ورأيتك لا تخالفينه يعني عبد الله بن الزبير فقالت أما إنك لو نهيتني ما خرجت . فأما الزبير بن بكار فإنه ذكر في كتاب أنساب قريش من أخبار عبد الله وأحواله جملة طويلة نحن نختصرها ونذكر اللباب منها مع أنه قد أذنب في ذكر فضائله والثناء عليه وهو معذور في ذلك فإنه لا يلام الرجل على حب قومه والزبير بن بكار أحد أولاد عبد الله بن الزبير فهو أحق بتقريظه وتأبينه . قال الزبير بن بكار أمه أسماء ذات النطاقين ابنة أبي بكر الصديق وإنما سميت ذات النطاقين
لأن رسول الله ص لما تجهز مهاجرا إلى المدينة ومعه أبو بكر لم يكن لسفرتهما شناق فشقت أسماء نطاقها فشنقتها به فقال لها رسول الله
[ 108 ]
ص قد أبدلك الله تعالى بنطاقك هذا نطاقين في الجنة فسميت ذات النطاقين قال وقد روى محمد بن الضحاك عن أبيه أن أهل الشام كانوا وهم يقاتلون عبد الله بمكة يصيحون يا ابن ذات النطاقين يظنونه عيبا فيقول ابنها والإله ثم يقول إني وإياكم لكما قال أبو ذؤيب
و عيرني الواشون أني أحبها
و تلك شكاة ظاهر عنك عارها
فإن أعتذر عنها فإني مكذب
و إن تعتذر يردد عليك اعتذارها(1/5809)
ثم يقبل على ابن أبي عتيق وهو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر فيقول أ لا تسمع يا ابن أبي عتيق .
قال الزبير وزعموا أن عبد الله بن الزبير لما ولد أتي به رسول الله ص فنظر في وجهه وقال أ هو هو ليمنعن البيت أو ليموتن دونه . وقال العقيلي في ذلك
بر تبين ما قال الرسول له
و ذو صلاة بضاحي وجهه علم
حمامة من حمام البيت قاطنة
لا تتبع الناس إن جاروا وإن ظلموا
قال وقد روى نافع بن ثابت عن محمد بن كعب القرظي أن رسول الله ص دخل على أسماء حين ولد عبد الله فقال أ هو هو فتركت أسماء رضاعه فقيل لرسول الله ص إن أسماء تركت رضاع عبد الله لما سمعت كلمتك فقال لها أرضعيه ولو بماء عينيك كبش بين ذئاب عليها ثياب ليمنعن الحرم أو ليموتن دونه . قال وحدثني عمي مصعب بن عبد الله قال كان عبد الله بن الزبير يقول هاجرت بي أمي في بطنها فما أصابها شي ء من نصب أو مخمصة إلا وقد أصابني
[ 109 ]
قال وقالت عائشة يا رسول الله أ لا تكنيني فقال تكني باسم ابن أختك عبد الله فكانت تكنى أم عبد الله
قال وروى هند بن القاسم عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال احتجم رسول الله ص ثم دفع إلي دمه فقال اذهب به فواره حيث لا يراه أحد فذهبت به فشربته فلما رجعت قال ما صنعت قلت جعلته في مكان أظن أنه أخفى مكان عن الناس فقال فلعلك شربته فقلت نعم . قال وقال وهب بن كيسان أول من صف رجليه في الصلاة عبد الله بن الزبير فاقتدى به كثير من العباد وكان مجتهدا . قال وخطب الحجاج بعد قتله زجلة بنت منظور بن زبان بن سيار الفزارية وهي أم هاشم بن عبد الله بن الزبير فقلعت ثنيتها وردته وقالت ما ذا يريد إلى ذلفاء ثكلى حرى وقالت
أ بعد عائذ بيت الله تخطبني
جهلا جهلت وغب الجهل مذموم
فاذهب إليك فإني غير ناكحة
بعد ابن أسماء ما استن الدياميم
من يجعل العير مصفرا جحافله
مثل الجواد وفضل الله مقسوم(1/5810)
قال وحدثني عبد الملك بن عبد العزيز عن خاله يوسف بن الماجشون قال قسم عبد الله بن الزبير الدهر على ثلاث ليال فليلة هو قائم حتى الصباح وليلة هو راكع حتى الصباح وليلة هو ساجد حتى الصباح . قال وحدثنا سليمان بن حرب بإسناد ذكره ورفعه إلى مسلم المكي قال ركع عبد الله بن الزبير يوما ركعة فقرأت البقرة وآل عمران والنساء والمائدة وما رفع رأسه .
[ 110 ]
قال وقد حدث من لا أحصيه كثرة من أصحابنا أن عبد الله كان يواصل الصوم سبعا يصوم يوم الجمعة فلا يفطر إلا يوم الجمعة الآخر ويصوم بالمدينة فلا يفطر إلا بمكة ويصوم بمكة فلا يفطر إلا بالمدينة . قال وقال عبد الملك بن عبد العزيز وكان أول ما يفطر عليه إذا أفطر لبن لقحة بسمن بقر قال الزبير وزاد غيره وصبر . قال وحدثني يعقوب بن محمد بن عيسى بإسناد رفعه إلى عروة بن الزبير قال لم يكن أحد أحب إلى عائشة بعد رسول الله ص وبعد أبي بكر من عبد الله بن الزبير . قال وحدثني يعقوب بن محمد بإسناد يرفعه إلى عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال ما كان أحد أعلم بالمناسك من ابن الزبير . قال وحدثني مصعب بن عثمان قال أوصت عائشة إلى عبد الله بن الزبير وأوصى إليه حكيم بن حزام وعبد الله بن عامر بن كريز والأسود بن أبي البختري وشيبة بن عثمان والأسود بن عوف . قال الزبير وحدث عمر بن قيس عن أمه قالت دخلت على عبد الله بن الزبير بيته فإذا هو قائم يصلي فسقطت حية من البيت على ابنه هاشم بن عبد الله فتطوقت على بطنه وهو نائم فصاح أهل البيت الحية الحية ولم يزالوا بها حتى قتلوها وعبد الله قائم يصلي ما التفت ولا عجل ثم فرغ من صلاته بعد ما قتلت الحية فقال ما بالكم فقالت أم هاشم إي رحمك الله أ رأيت إن كنا هنا عليك أ يهون عليك ابنك قال ويحك وما كانت التفاتة لو التفتها مبقية من صلاتي .
[ 111 ](1/5811)
قال الزبير وعبد الله أول من كسا الكعبة الديباج وإن كان ليطيبها حتى يجد ريحها من دخل الحرم قال ولم تكن كسوة الكعبة من قبله إلا المسوح والأنطاع فلما جرد المهدي بن المنصور الكعبة كان فيما نزع عنها كسوة من ديباج مكتوب عليها لعبد الله أبي بكر أمير المؤمنين قال وحدثني يحيى بن معين بإسناد رفعه إلى هشام بن عروة أن عبد الله بن الزبير أخذ من بين القتلى يوم الجمل وبه بضع وأربعون طعنة وضربة قال الزبير واعتلت عائشة مرة فدخل عليها بنو أختها أسماء عبد الله وعروة والمنذر قال عروة فسألناها عن حالها فشكت إلينا نهكة من علتها فعزاها عبد الله عن ذلك فأجابته بنحو قولها فعاد لها بالكلام فعادت له بالجواب فصمت وبكى قال عروة فما رأينا متحاورين من خلق الله أبلغ منهما قال ثم رفعت رأسها تنظر إلى وجهه فأبهتت لبكائه فبكت ثم قالت ما أحقني منك يا بني ما أرى فلم أعلم بعد رسول الله ص وبعد أبوي أحدا أنزل عندي منزلتك قال عروة وما سمعت عائشة وأمي أسماء تدعون لأحد من الخلق دعاءهما لعبد الله قال وقال موسى بن عقبة أقرأني عامر بن عبد الله بن الزبير وصية عبد الله بن مسعود إلى الزبير بن العوام وإلى عبد الله بن الزبير من بعده وإنهما في وصيتي في حل وبل . قال وروى أبو الحسن المدائني عن أبي إسحاق التميمي أن معاوية سمع رجلا ينشد
ابن رقاش ماجد سميدع
يأبى فيعطي عن يد أو يمنع
[ 112 ](1/5812)
فقال ذلك عبد الله بن الزبير وكان عبد الله من جملة النفر الذين أمرهم عثمان بن عفان أن ينسخوا القرآن في المصاحف . قال وحدثنا محمد بن حسن عن نوفل بن عمارة قال سئل سعيد بن المسيب عن خطباء قريش في الجاهلية فقال الأسود بن المطلب بن أسد وسهيل بن عمرو وسئل عن خطبائهم في الإسلام فقال معاوية وابنه وسعيد بن العاص وابنه وعبد الله بن الزبير . قال وحدثنا إبراهيم بن المنذر عن عثمان بن طلحة قال كان عبد الله بن الزبير لا ينازع في ثلاث شجاعة وعبادة وبلاغة . قال الزبير وقال هشام بن عروة رأيت عبد الله أيام حصاره والحجر من المنجنيق يهوي حتى أقول كاد يأخذ بلحيته فقال له أبي أيا ابن أم والله إن كاد ليأخذ بلحيتك فقال عبد الله دعني يا ابن أم فو الله ما هي إلا هنة حتى كان الإنسان لم يكن فيقول أبي وهو يقبل علينا بوجهه والله ما أخشى عليك إلا من تلك الهنة . قال الزبير فذكر هشام قال والله لقد رأيته يرمى بالمنجنيق فلا يلتفت ولا يرعد صوته وربما مرت الشظية منه قريبا من نحره . وقال الزبير وحدثنا ابن الماجشون عن ابن أبي مليكة عن أبيه قال كنت أطوف بالبيت مع عمر بن عبد العزيز فلما بلغت الملتزم تخلفت عنده أدعو ثم لحقت عمر فقال لي ما خلفك قال كنت أدعو في موضع رأيت عبد الله بن الزبير فيه يدعو فقال ما تترك تحنناتك على ابن الزبير أبدا فقلت والله ما رأيت
[ 113 ](1/5813)
أحدا أشد جلدا على لحم ولحما على عظم من ابن الزبير ولا رأيت أحدا أثبت قائما ولا أحسن مصليا من ابن الزبير ولقد رأيت حجرا من المنجنيق جاءه فأصاب شرفة من المسجد فمرت قذاذة منها بين لحيته وحلقه فلم يزل من مقامه ولا عرفنا ذلك في صوته فقال عمر لا إله إلا الله لجاد ما وصفت . قال الزبير وسمعت إسماعيل بن يعقوب التيمي يحدث قال قال عمر بن عبد العزيز لابن أبي مليكة صف لنا عبد الله بن الزبير فإنه ترمرم على أصحابنا فتغشمروا عليه فقال عن أي حاليه تسأل أ عن دينه أم عن دنياه فقال عن كل قال والله ما رأيت جلدا قط ركب على لحم ولا لحما على عصب ولا عصبا على عظم مثل جلده على لحمه ولا مثل لحمه على عصبه ولا مثل عصبه على عظمه ولا رأيت نفسا ركبت بين جنبين مثل نفس له ركبت بين جنبين ولقد قام يوما إلى الصلاة فمر به حجر من حجارة المنجنيق بلبنة مطبوخة من شرفات المسجد فمرت بين لحييه وصدره فو الله ما خشع لها بصره ولا قطع لها قراءته ولا ركع دون الركوع الذي كان يركع ولقد كان إذا دخل في الصلاة خرج من كل شي ء إليها ولقد كان يركع في الصلاة فيقع الرخم على ظهره ويسجد فكأنه مطروح . قال الزبير وحدث هشام بن عروة قال سمعت عمي يقول ما أبالي إذا وجدت ثلاثمائة يصبرون صبري لو أجلب علي أهل الأرض . قال الزبير وقسم عبد الله بن الزبير ثلث ماله وهو حي وكان أبوه الزبير قد أوصى أيضا بثلث ماله قال وابن الزبير أحد الرهط الخمسة الذين وقع اتفاق أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص على إحضارهم والاستشارة بهم في يوم التحكيم
[ 114 ](1/5814)
و هم عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمرو وأبو الجهم بن حذيفة وجبير بن مطعم وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام . قال الزبير وعبد الله هو الذي صلى بالناس بالبصرة لما ظهر طلحة والزبير على عثمان بن حنيف بأمر منهما له قال وأعطت عائشة من بشرها بأن عبد الله لم يقتل يوم الجمل عشرة آلاف درهم . قلت الذي يغلب على ظني أن ذلك كان يوم إفريقية لأنها يوم الجمل كانت في شغل بنفسها عن عبد الله وغيره . قال الزبير وحدثني علي بن صالح مرفوعا أن رسول الله ص كلم في صبية ترعرعوا منهم عبد الله بن جعفر وعبد الله بن الزبير وعمر بن أبي سلمة فقيل يا رسول الله لو بايعتهم فتصيبهم بركتك ويكون لهم ذكر فأتي بهم فكأنهم تكعكعوا حين جي ء بهم إليه واقتحم ابن الزبير فتبسم رسول الله ص وقال إنه ابن أبيه وبايعهم . قال وسئل رأس الجالوت ما عندكم من الفراسة في الصبيان فقال ما عندنا فيهم شي ء لأنهم يخلقون خلقا من بعد خلق غير أنا نرمقهم فإن سمعناه منهم من يقول في لعبه من يكون معي رأيناها همة وخب ء صدق فيه وإن سمعناه يقول مع من أكون كرهناها منه قال فكان أول شي ء سمع من عبد الله بن الزبير أنه كان ذات يوم يلعب مع الصبيان فمر رجل فصاح عليهم ففروا منه ومشى ابن الزبير القهقرى ثم قال يا صبيان اجعلوني أميركم وشدوا بنا عليه قال ومر به عمر بن الخطاب وهو مع الصبيان ففروا ووقف فقال لم لم تفر مع أصحابك فقال لم أجرم فأخافك ولم تكن الطريق ضيقة فأوسع عليك . وروى الزبير بن بكار أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح غزا إفريقية في خلافة
[ 115 ](1/5815)
عثمان فقتل عبد الله بن الزبير جرجير أمير جيش الروم فقال ابن أبي سرح إني موجه بشيرا إلى أمير المؤمنين بما فتح علينا وأنت أولى من هاهنا فانطلق إلى أمير المؤمنين فأخبره الخبر قال عبد الله فلما قدمت على عثمان أخبرته بفتح الله وصنعه ونصره ووصفت له أمرنا كيف كان فلما فرغت من كلامي قال هل تستطيع أن تؤدي هذا إلى الناس قلت وما يمنعني من ذلك قال فاخرج إلى الناس فأخبرهم قال عبد الله فخرجت حتى جئت المنبر فاستقبلت الناس فتلقاني وجه أبي فدخلتني له هيبة عرفها أبي في وجهي فقبض قبضة من حصباء وجمع وجهه في وجهي وهم أن يحصبني فأحزمت فتكلمت . فزعموا أن الزبير لما فرغ عبد الله من كلامه قال والله لكأني أسمع كلام أبي بكر الصديق من أراد أن يتزوج امرأة فلينظر إلى أبيها وأخيها فإنها تأتيه بأحدهما . قال الزبير ويلقب عبد الله بعائذ البيت لاستعاذته به . قال وحدثني عمي مصعب بن عبد الله قال إن الذي دعا عبد الله إلى التعوذ بالبيت شي ء سمعه من أبيه حين سار من مكة إلى البصرة فإن الزبير التفت إلى الكعبة بعد أن ودع ووجه يريد الركوب فأقبل على ابنه عبد الله وقال تالله ما رأيت مثلها لطالب رغبة أو خائف رهبة . وروى الزبير بن بكار قال كان سبب تعوذ ابن الزبير بالكعبة أنه كان يمشي بعد عتمة في بعض شوارع المدينة إذ لقي عبد الله بن سعد بن أبي سرح متلثما لا يبدو منه إلا عيناه قال فأخذت بيده وقلت ابن أبي سرح كيف كنت بعدي وكيف تركت أمير المؤمنين يعني معاوية وقد كان ابن أبي سرح عنده بالشام فلم يكلمني فقلت ما لك أمات أمير المؤمنين فلم يكلمني فتركته وقد أثبت معرفته ثم خرجت حتى لقيت الحسين بن علي رضي الله عنه فأخبرته خبره وقلت ستأتيك رسل الوليد وكان الأمير على المدينة الوليد بن عتبة بن
[ 116 ](1/5816)
أبي سفيان فانظر ما أنت صانع واعلم أن رواحلي في الدار معدة والموعد بيني وبينك أن تغفل عنا عيونهم ثم فارقته فلم ألبث أن أتاني رسول الوليد فجئته فوجدت الحسين عنده ووجدت عنده مروان بن الحكم فنعى إلي معاوية فاسترجعت فأقبل علي وقال هلم إلى بيعة يزيد فقد كتب إلينا يأمرنا أن نأخذها عليك فقلت إني قد علمت أن في نفسه علي شيئا لتركي بيعته في حياة أبيه وإن بايعت له على هذه الحال توهم أني مكره على البيعة فلم يقع منه ذلك بحيث أريد ولكن أصبح ويجتمع الناس ويكون ذلك علانية إن شاء الله فنظر الوليد إلى مروان فقال مروان هو الذي قلت لك إن يخرج لم تره فأحببت أن ألقي بيني وبين مروان شرا نتشاغل به فقلت له وما أنت وذاك يا ابن الزرقاء فقال لي وقلت له حتى تواثبنا فتناصيت أنا وهو وقام الوليد فحجز بيننا فقال مروان أ تحجز بيننا بنفسك وتدع أن تأمر أعوانك فقال قد أرى ما تريد ولكن لا أتولى ذلك منه والله أبدا اذهب يا ابن الزبير حيث شئت قال فأخذت بيد الحسين وخرجنا من الباب حتى صرنا إلى المسجد وأنا أقول
و لا تحسبني يا مسافر شحمة
تعجلها من جانب القدر جائع
فلما دخل المسجد افترق هو والحسين وعمد كل واحد منهما إلى مصلاه يصلي فيه وجعلت الرسل تختلف إليهما يسمع وقع أقدامهم في الحصباء حتى هدأ عنهما الحس ثم انصرفا إلى منازلهما فأتى ابن الزبير رواحله فقعد عليها وخرج من أدبار داره ووافاه الحسين بن علي فخرجا جميعا من ليلتهم وسلكوا طريق الفرع حتى مروا بالجثجاثة وبها جعفر بن الزبير قد ازدرعها وغمز عليهم بعير من إبلهم فانتهوا إلى جعفر فلما رآهم قال مات معاوية فقال عبد الله نعم انطلق
[ 117 ]
معنا وأعطنا أحد جمليك وكان ينضح على جملين له فقال جعفر متمثلا
إخوتي لا تبعدوا أبدا
و بلى والله قد بعدوا
فقال عبد الله وتطير منها بفيك التراب فخرجوا جميعا حتى قدموا مكة قال الزبير(1/5817)
فأما الحسين ع فإنه خرج من مكة يوم التروية يطلب الكوفة والعراق وقد كان قال لعبد الله بن الزبير قد أتتني بيعة أربعين ألفا يحلفون لي بالطلاق والعتاق من أهل العراق فقال أ تخرج إلى قوم قتلوا أباك وخذلوا أخاك قال وبعض الناس يزعم أن عبد الله بن عباس هو الذي قال للحسين ذلك قال الزبير وقال هشام بن عروة كان أول ما أفصح به عمي عبد الله وهو صغير السيف فكان لا يضعه من فيه وكان أبوه الزبير إذا سمع منه ذلك يقول أما والله ليكونن لك منه يوم ويوم وأيام . فأما خبر مقتل عبد الله بن الزبير فنحن نورده من تاريخ أبي جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله قال أبو جعفر حصر الحجاج عبد الله بن الزبير ثمانية أشهر فروى إسحاق بن يحيى عن يوسف بن ماهك قال رأيت منجنيق أهل الشام يرمى به فرعدت السماء وبرقت وعلا صوت الرعد على صوت المنجنيق فأعظم أهل الشام ما سمعوه فأمسكوا أيديهم فرفع الحجاج بركة قبائه فغرزها في منطقته ورفع حجر المنجنيق فوضعه فيه ثم قال ارموا ورمى معهم قال ثم أصبحوا فجاءت
[ 118 ](1/5818)
صاعقة يتبعها أخرى فقتلت من أصحاب الحجاج أثنى عشر رجلا فأنكر أهل الشام فقال الحجاج يا أهل الشام لا تنكروا هذا فإني ابن تهامة هذه صواعق تهامة هذا الفتح قد حضر فأبشروا فإن القوم يصيبهم مثل ما أصابكم فصعقت من الغد فأصيب من أصحاب ابن الزبير عدة ما أصاب الحجاج فقال الحجاج أ لا ترون أنهم يصابون وأنتم على الطاعة وهم على خلاف الطاعة فلم تزل الحرب بين ابن الزبير والحجاج حتى تفرق عامة أصحاب ابن الزبير عنه وخرج عامة أهل مكة إلى الحجاج في الأمان . قال وروى إسحاق بن عبيد الله عن المنذر بن الجهم الأسلمي قال رأيت ابن الزبير وقد خذله من معه خذلانا شديدا وجعلوا يخرجون إلى الحجاج خرج إليه منهم نحو عشرة آلاف وذكر أنه كان ممن فارقه وخرج إلى الحجاج ابناه خبيب وحمزة فأخذا من الحجاج لأنفسهما أمانا . قال أبو جعفر فروى محمد بن عمر عن ابن أبي الزناد عن مخرمة بن سلمان الوالبي قال دخل عبد الله بن الزبير على أمه حين رأى من الناس ما رأى من خذلانه فقال يا أمه خذلني الناس حتى ولدي وأهلي ولم يبق معي إلا اليسير ممن ليس عنده من الدفع أكثر من صبر ساعة والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا فما رأيك فقالت أنت يا بني أعلم بنفسك إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له فقد قتل عليه أصحابك ولا تمكن من رقبتك يتلعب بك غلمان بني أمية وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت أهلكت نفسك وأهلكت من قتل معك وإن قلت قد كنت على حق فلما وهن أصحابي وهنت وضعفت فليس هذا فعل الأحرار ولا أهل
[ 119 ](1/5819)
الدين وكم خلودك في الدنيا القتل أحسن فدنا ابن الزبير فقبل رأسها وقال هذا والله رأيي الذي قمت به داعيا إلى يومي هذا وما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها ولم يدعني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل محارمه ولكني أحببت أن أعلم رأيك فزدتني بصيرة مع بصيرتي فانظري يا أمه فإني مقتول من يومي هذا فلا يشتد حزنك وسلمي لأمر الله فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر ولا عملا بفاحشة ولم يجر في حكم ولم يغدر في أمان ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به بل أنكرته ولم يكن شي ء آثر عندي من رضا ربي اللهم إني لا أقول هذا تزكية مني لنفسي أنت أعلم بي ولكنني أقوله تعزية لأمي لتسلو عني فقالت أمه إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسنا إن تقدمتني فلا أخرج من الدنيا حتى أنظر إلى ما يصير أمرك فقال جزاك الله يا أمه خيرا فلا تدعي الدعاء لي قبل وبعد قالت لا أدعه أبدا فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق ثم قالت اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل وذلك النحيب والظمأ في هواجر المدينة ومكة وبره بأبيه وبي اللهم إني قد سلمته لأمرك فيه ورضيت بما قضيت فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين . قال أبو جعفر وروى محمد بن عمر عن موسى بن يعقوب بن عبد الله عن عمه قال دخل ابن الزبير على أمه وعليه الدرع والمغفر فوقف فسلم ثم دنا فتناول يدها فقبلها فقالت هذا وداع فلا تبعد فقال نعم إني جئت مودعا إني لأرى أن هذا اليوم آخر يوم من الدنيا يمر بي واعلمي يا أمه إني إن قتلت فإنما أنا لحم لا يضره ما صنع به فقالت صدقت يا بني أتمم على بصيرتك ولا تمكن ابن
[ 120 ](1/5820)
أبي عقيل منك وادن مني أودعك فدنا منها فقبلها وعانقها فقالت حيث مست الدرع ما هذا صنيع من يريد ما تريد فقال ما لبستها إلا لأشد منك فقالت إنها لا تشد مني فنزعها ثم أخرج كميه وشد أسفل قميصه وعمد إلى جبة خز تحت القميص فأدخل أسفلها في المنطقة فقالت أمه شمر ثيابك فشمرها ثم انصرف وهو يقول
إني إذا أعرف يومي أصبر
إذ بعضهم يعرف ثم ينكر
فسمعت العجوز قوله فقالت تصبر والله ولم لا تصبر وأبوك أبو بكر والزبير وأمك صفية بنت عبد المطلب . قال وروى محمد بن عمر عن ثور بن يزيد عن رجل من أهل حمص قال شهدته والله ذلك اليوم ونحن خمسمائة من أهل حمص فدخل من باب المسجد لا يدخل منه غيرنا وهو يشد علينا ونحن منهزمون وهو يرتجز
إني إذا أعرف يومي اصبر
و إنما يعرف يوميه الحر
و بعضهم يعرف ثم ينكر
فأقول أنت والله الحر الشريف فلقد رأيته يقف بالأبطح لا يدنو منه أحد حتى ظننا أنه لا يقتل . قال وروى مصعب بن ثابت عن نافع مولى بني أسد قال رأيت الأبواب قد شحنت بأهل الشام وجعلوا على كل باب قائدا ورجالا وأهل بلد فكان لأهل حمص الباب الذي يواجه باب الكعبة ولأهل دمشق باب بني شيبة ولأهل الأردن باب الصفا ولأهل فلسطين باب بني جمح ولأهل قنسرين باب بني سهم وكان الحجاج وطارق بن عمرو في ناحية الأبطح إلى المروة فمرة يحمل ابن الزبير
[ 121 ]
في هذه الناحية ولكأنه أسد في أجمة ما يقدم عليه الرجال فيعدو في أثر الرجال وهم على الباب حتى يخرجهم ثم يصيح إلى عبد الله بن صفوان يا أبا صفوان ويل أمه فتحا لو كان له رجال ثم يقول
لو كان قرني واحدا كفيته(1/5821)
فيقول عبد الله بن صفوان إي والله وألفا . قال أبو جعفر فلما كان يوم الثلاثاء صبيحة سبع عشرة من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين وقد أخذ الحجاج على ابن الزبير بالأبواب بات ابن الزبير تلك الليلة يصلي عامة الليل ثم احتبى بحمائل سيفه فأغفى ثم انتبه بالفجر فقال أذن يا سعد فأذن عند المقام وتوضأ ابن الزبير وركع ركعتي الفجر ثم تقدم وأقام المؤذن فصلى ابن الزبير بأصحابه فقرأ ن والقلم حرفا حرفا ثم سلم ثم قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال اكشفوا وجوهكم حتى أنظر وعليها المغافر والعمائم فكشفوا وجوههم فقال يا آل الزبير لو طبتم لي نفسا عن أنفسكم كنا أهل بيت من العرب اصطلمنا لم تصبنا مذلة ولم نقر على ضيم أما بعد يا آل الزبير فلا يرعكم وقع السيوف فإني لم أحضر موطنا قط ارتثثت فيه بين القتلى وما أجد من دواء جراحها أشد مما أجد من ألم وقعها صونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم لا أعلم امرأ كسر سيفه واستبقى نفسه فإن الرجل إذا ذهب سلاحه فهو كالمرأة أعزل غضوا أبصاركم عن البارقة وليشغل كل امرئ قرنه ولا يلهينكم السؤال عني ولا تقولن أين عبد الله بن الزبير ألا من كان سائلا عني فإني في الرعيل الأول ثم قال
[ 122 ]
أبى لابن سلمى أنه غير خالد
يلاقي المنايا أي وجه تيمما
فلست بمبتاع الحياة بسبة
و لا مرتق من خشية الموت سلما
ثم قال احملوا على بركة الله ثم حمل حتى بلغ بهم إلى الحجون فرمي بحجر فأصاب وجهه فأرعش ودمي وجهه فلما وجد سخونة الدم تسيل على وجهه ولحيته قال
و لسنا على الأعقاب تدمى كلومنا
و لكن على أقدامنا تقطر الدما(1/5822)
قال وتقاووا عليه وصاحت مولاة له مجنونة وا أمير المؤمنيناه وقد كان هوى ورأته حين هوى فأشارت لهم إليه فقتل وإن عليه لثياب خز وجاء الخبر إلى الحجاج فسجد وسار هو وطارق بن عمرو فوقفا عليه فقال طارق ما ولدت النساء أذكر من هذا فقال الحجاج أ تمدح من يخالف طاعة أمير المؤمنين فقال طارق هو أعذر لنا ولو لا هذا ما كان لنا عذر إنا محاصروه وهو في غير خندق ولا حصن ولا منعة منذ ثمانية أشهر ينتصف منا بل يفضل علينا في كل ما التقينا نحن وهو قال فبلغ كلامهما عبد الملك فصوب طارقا . قال وبعث الحجاج برأس ابن الزبير ورأس عبد بن صفوان ورأس عمارة بن عمرو بن حزم إلى المدينة فنصبت الثلاثة بها ثم حملت إلى عبد الملك . ونحن الآن نذكر بقية أخبار عبد الله بن الزبير ملتقطة من مواضع متفرقة رئي عبد الله بن الزبير في أيام معاوية واقفا بباب مية مولاة معاوية فقيل له
[ 123 ]
يا أبا بكر مثلك يقف بباب هذه فقال إذا أعيتكم الأمور من رءوسها فخذوها من أذنابها . ذكر معاوية لعبد الله بن الزبير يزيد ابنه وأراد منه البيعة له فقال ابن الزبير أنا أناديك ولا أناجيك إن أخاك من صدقك فانظر قبل أن تقدم وتفكر قبل أن تندم فإن النظر قبل التقدم والتفكر قبل التندم فضحك معاوية وقال تعلمت يا أبا بكر الشجاعة عند الكبر . كان عبد الله بن الزبير شديد البخل كان يطعم جنده تمرا ويأمرهم بالحرب فإذا فروا من وقع السيوف لامهم وقال لهم أكلتم تمري وعصيتم أمري فقال بعضهم
أ لم تر عبد الله والله غالب
على أمره يبغي الخلافة بالتمر(1/5823)
و كسر بعض جنده خمسة أرماح في صدور أصحاب الحجاج وكلما كسر رمحا أعطاه رمحا فشق عليه ذلك وقال خمسة أرماح لا يحتمل بيت مال المسلمين هذا . قال وجاءه أعرابي سائل فرده فقال له لقد أحرقت الرمضاء قدمي فقال بل عليهما يبردان . جمع عبد الله بن الزبير محمد بن الحنفية وعبد الله بن عباس في سبعة عشر رجلا من بني هاشم منهم الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ع وحصرهم في شعب بمكة يعرف بشعب عارم وقال لا تمضي الجمعة حتى تبايعوا إلي أو أضرب أعناقكم أو أحرقكم بالنار ثم نهض إليهم قبل الجمعة يريد إحراقهم بالنار فالتزمه
[ 124 ]
ابن مسور بن مخرمة الزهري وناشده الله أن يؤخرهم إلى يوم الجمعة فلما كان يوم الجمعة دعا محمد بن الحنفية بغسول وثياب بيض فاغتسل وتلبس وتحنط لا يشك في القتل وقد بعث المختار بن أبي عبيد من الكوفة أبا عبد الله الجدلي في أربعة آلاف فلما نزلوا ذات عرق تعجل منهم سبعون على رواحلهم حتى وافوا مكة صبيحة الجمعة ينادون يا محمد يا محمد وقد شهروا السلاح حتى وافوا شعب عارم فاستخلصوا محمد بن الحنفية ومن كان معه وبعث محمد بن الحنفية الحسن بن الحسن ينادي من كان يرى أن الله عليه حقا فليشم سيفه فلا حاجة لي بأمر الناس إن أعطيتها عفوا قبلتها وإن كرهوا لم نبتزهم أمرهم . وفي شعب عارم وحصار ابن الحنفية فيه يقول كثير بن عبد الرحمن
و من ير هذا الشيخ بالخيف من منى
من الناس يعلم أنه غير ظالم
سمي النبي المصطفى وابن عمه
و حمال أثقال وفكاك غارم
تخبر من لاقيت أنك عائذ
بل العائذ المحبوس في سجن عارم(1/5824)
و روى المدائني قال لما أخرج ابن الزبير عبد الله بن عباس من مكة إلى الطائف مر بنعمان فنزل فصلى ركعتين ثم رفع يديه يدعو فقال اللهم إنك تعلم أنه لم يكن بلد أحب إلي من أن أعبدك فيه من البلد الحرام وإنني لا أحب أن تقبض روحي إلا فيه وأن ابن الزبير أخرجني منه ليكون الأقوى في سلطانه اللهم فأوهن كيده واجعل دائرة السوء عليه فلما دنا من الطائف تلقاه أهلها فقالوا مرحبا بابن عم رسول الله ص أنت والله أحب إلينا وأكرم علينا ممن أخرجك هذه منازلنا تخيرها فانزل منها حيث أحببت فنزل منزلا فكان
[ 125 ]
يجلس إليه أهل الطائف بعد الفجر وبعد العصر فيتكلم بينهم كان يحمد الله ويذكر النبي ص والخلفاء بعده ويقول ذهبوا فلم يدعوا أمثالهم ولا أشباههم ولا من يدانيهم ولكن بقي أقوام يطلبون الدنيا بعمل الآخرة ويلبسون جلود الضأن تحتها قلوب الذئاب والنمور ليظن الناس أنهم من الزاهدين في الدنيا يراءون الناس بأعمالهم ويسخطون الله بسرائرهم فادعوا الله أن يقضي لهذه الأمة بالخير والإحسان فيولي أمرها خيارها وأبرارها ويهلك فجارها وأشرارها ارفعوا أيديكم إلى ربكم وسلوه ذلك فيفعلون فبلغ ذلك ابن الزبير فكتب إليه أما بعد فقد بلغني أنك تجلس بالطائف العصرين فتفتيهم بالجهل تعيب أهل العقل والعلم وإن حلمي عليك واستدامتي فيئك جرأك علي فاكفف لا أبا لغيرك من غربك واربع على ظلعك واعقل إن كان لك معقول وأكرم نفسك فإنك إن تهنها تجدها على الناس أعظم هوانا أ لم تسمع قول الشاعر
فنفسك أكرمها فإنك إن تهن
عليك فلن تلقى لها الدهر مكرما(1/5825)
و إني أقسم بالله لئن لم تنته عما بلغني عنك لتجدن جانبي خشنا ولتجدنني إلى ما يردعك عني عجلا فر رأيك فإن أشفى بك شقاؤك على الردى فلا تلم إلا نفسك فكتب إليه ابن عباس أما بعد فقد بلغني كتابك قلت إني أفتي الناس بالجهل وإنما يفتي بالجهل من لم يعرف من العلم شيئا وقد آتاني الله من العلم ما لم يؤتك وذكرت أن حلمك عني واستدامتك فيئي جرأني عليك ثم قلت اكفف من غربك واربع على
[ 126 ]
ظلعك وضربت لي الأمثال أحاديث الضبع متى رأيتني لعرامك هائبا ومن حدك ناكلا وقلت لئن لم تكفف لتجدن جانبي خشنا فلا أبقى الله عليك إن أبقيت ولا أرعى عليك إن أرعيت فو الله أنتهي عن قول الحق وصفة أهل العدل والفضل وذم الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا والسلام . قدم معاوية المدينة راجعا من حجة حجها فكثر الناس عليه في حوائجهم فقال لصاحب إبله قدم إبلك ليلا حتى أرتحل ففعل ذلك وسار ولم يعلم بأمره إلا عبد الله بن الزبير فإنه ركب فرسه وقفا أثره ومعاوية نائم في هودجه فجعل يسير إلى جانبه فانتبه معاوية وقد سمع وقع حافر الفرس فقال من صاحب الفرس قال أنا أبو خبيب لو قد قتلتك منذ الليلة يمازحه فقال معاوية كلا لست من قتلة الملوك إنما يصيد كل طائر قدره فقال ابن الزبير إلي تقول هذا وقد وقفت في الصف بإزاء علي بن أبي طالب وهو من تعلم فقال معاوية لا جرم أنه قتلك وأباك بيسرى يديه وبقيت يده اليمنى فارغة يطلب من يقتله بها فقال ابن الزبير أما والله ما كان ذاك إلا في نصر عثمان فلم نجز به فقال معاوية خل هذا عنك فو الله لو لا شدة بغضك ابن أبي طالب لجررت برجل عثمان مع الضبع فقال ابن الزبير أ فعلتها يا معاوية أما إنا قد أعطيناك عهدا ونحن وافون لك به ما دمت حيا ولكن ليعلمن من بعدك فقال معاوية أما والله ما أخافك إلا على نفسك ولكأني بك وأنت مشدود مربوط في الأنشوطة وأنت تقول(1/5826)
ليت أبا عبد الرحمن كان حيا وليتني كنت حيا يومئذ فأحلك حلا رفيقا ولبئس المطلق والمعتق والمسنون عليه أنت يومئذ
[ 127 ]
دخل عبد الله بن الزبير على معاوية وعنده عمرو بن العاص فتكلم عمرو وأشار إلى ابن الزبير فقال هذا والله يا أمير المؤمنين الذي غرته أناتك وأبطره حلمك فهو ينزو في نشطته نزو العير في حبالته كلما قمصته الغلواء والشرة سكنت الأنشوطة منه النفرة وأحر به أن يئول إلى القلة أو الذلة فقال ابن الزبير أما والله يا ابن العاص لو لا أن الإيمان ألزمنا بالوفاء والطاعة للخلفاء فنحن لا نريد بذلك بدلا ولا عنه حولا لكان لنا وله ولك شأن ولو وكله القضاء إلى رأيك ومشورة نظرائك لدافعناه بمنكب لا تئوده المزاحمة ولقاذفناه بحجر لا تنكؤه المراجمة فقال معاوية أما والله يا ابن الزبير لو لا إيثاري الأناة على العجل والصفح على العقوبة وأني كما قال الأول
أجامل أقواما حياء وقد أرى
قلوبهم تغلي علي مراضها
إذا لقرنتك إلى سارية من سواري الحرم تسكن بها غلواءك وينقطع عندها طمعك وتنقص من أملك ما لعلك قد لويته فشزرته وفتلته فأبرمته وايم الله إنك من ذلك لعلى شرف جرف بعيد الهوة فكن على نفسك ولها فما توبق ولا تنفذ غيرها فشأنك وإياها . قطع عبد الله بن الزبير في الخطبة ذكر رسول الله ص جمعا كثيرة فاستعظم الناس ذلك فقال إني لا أرغب عن ذكره ولكن له أهيل سوء إذا ذكرته أتلعوا أعناقهم فأنا أحب أن أكبتهم . لما كاشف عبد الله بن الزبير بني هاشم وأظهر بغضهم وعابهم وهم بما هم به في
[ 128 ](1/5827)