الحارث بن عامر قال يوم بدر من ظفر به منكم فليتركه لأيتام بني نوفل فقتل في المعركة(1/4058)
القول فيمن استشهد من المسلمين ببدر
قال الواقدي حدثني عبد الله بن جعفر قال سألت الزهري كم استشهد من المسلمين ببدر قال أربعة عشر ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار . قال فمن بني المطلب بن عبد مناف عبيدة بن الحارث قتله شيبة بن ربيعة . وفي رواية الواقدي قتله عتبة فدفنه النبي ص بالصفراء . ومن بني زهرة عمير بن أبي وقاص قتله عمرو بن عبد ود فارس الأحزاب وعمير بن عبد ود ذو الشمالين حليف لبني زهرة بن خزاعة قتله أبو أسامة الجشمي . ومن بني عدي بن كعب عاقل بن أبي البكير حليف لهم من بني سعد بن بكر قتله مالك بن زهير الجشمي ومهجع مولى عمر بن الخطاب قتله عامر بن الحضرمي ويقال إن مهجعا أول من قتل من المهاجرين . ومن بني الحارث بن فهر صفوان بن بيضاء قتله طعيمة بن عدي . وهؤلاء الستة من المهاجرين . ومن الأنصار ثم من بني عمرو بن عوف مبشر بن عبد المنذر قتله أبو ثور وسعد بن خيثمة قتله عمرو بن عبد ود ويقال طعيمة بن عدي ومن بني عدي بن النجار حارثة بن سراقة رماه حبان بن العرقة بسهم فأصاب حنجرته فقتله . ومن بني مالك بن النجار عوف ومعوذ ابنا عفراء قتلهما أبو جهل .
[ 208 ]
و من بني سلمة بن حرام عمير بن الحمام بن الجموح قتله خالد بن الأعلم العقيلي ويقال إن عمير بن الحمام أول قتيل قتل من الأنصار وقد روي أن أول قتيل منهم حارث بن سراقة . ومن بني زريق رافع بن المعلى قتله عكرمة بن أبي جهل . ومن بني الحارث بن الخزرج يزيد بن الحارث بن قسحم قتله نوفل بن معاوية الديلي . فهؤلاء الثمانية من الأنصار . قال الواقدي وقد روي عن عكرمة عن ابن عباس أن أنسة مولى النبي ص قتل ببدر . وروي أن معاذ بن ماعص جرح ببدر فمات من جراحته بالمدينة وأن عبيد بن السكن جرح فاشتكى جرحه فمات منه حين قدم(1/4059)
القول فيمن قتل ببدر من المشركين وأسماء قاتليهم
قال الواقدي فمن بني عبد شمس بن عبد مناف حنظلة بن أبي سفيان بن حرب قتله علي بن أبي طالب ع والحارث بن الحضرمي قتله عمار بن ياسر وعامر بن الحضرمي قتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح وعمير بن أبي عمير وابنه موليان لهم قتل سالم مولى أبي حذيفة منهم عمير بن أبي عمير ولم يذكر الواقدي من قتل ابنه وعبيدة بن سعيد بن العاص قتله الزبير بن العوام والعاص بن سعيد بن العاص قتله علي بن أبي طالب ع وعقبة بن أبي معيط قتله عاصم بن ثابت صبرا بالسيف بأمر رسول الله ص .
[ 209 ]
و روى البلاذري أن رسول الله ص صلبه بعد قتله فكان أول مصلوب في الإسلام قال وفيه يقول ضرار بن الخطاب
عين بكي لعقبة بن أبان
فرع فهر وفارس الفرسان
و عتبة بن ربيعة قتله حمزة بن عبد المطلب وشيبة بن ربيعة قتله عبيدة بن الحارث وحمزة وعلي الثلاثة اشتركوا في قتله والوليد بن عتبة بن ربيعة قتله علي بن أبي طالب ع وعامر بن عبد الله حليف لهم من أنمار قتله علي بن أبي طالب ع وقيل قتله سعد بن معاذ فهؤلاء اثنا عشر . ومن بني نوفل بن عبد مناف الحارث بن نوفل قتله خبيب بن يساف وطعيمة بن عدي ويكنى أبا الريان قتله حمزة بن عبد المطلب في رواية الواقدي وقتله علي بن أبي طالب ع في رواية محمد بن إسحاق وروى البلاذري رواية غريبة أن طعيمة بن عدي أسر يوم بدر فقتله النبي ص صبرا على يد حمزة فهؤلاء اثنان . ومن بني أسد بن عبد العزى زمعة بن الأسود قتله أبو دجانة وقيل قتله ثابت بن الجذع والحارث بن زمعة بن الأسود قتله علي بن أبي طالب ع وعقيل بن الأسود بن المطلب قتله علي وحمزة شركا في قتله . قال الواقدي وحدثني أبو معشر قال قتله علي بن أبي طالب ع وحده وقيل قتله أبو داود المازني وحده وأبو البختري وهو العاص بن هشام قتله المجذر بن
[ 210 ](1/4060)
زياد وقيل قتله أبو اليسر ونوفل بن خويلد بن أسد بن عبد العزى وهو ابن العدوية قتله علي ع فهؤلاء خمسة . ومن بني عبد الدار بن قصي النضر بن الحارث بن كلدة قتله علي بن أبي طالب ع صبرا بالسيف بأمر رسول الله ص وكان الذي أسره المقداد بن عمرو فوعد المقداد إن استنقذه بفداء جليل فلما قدم ليقتل قال المقداد يا رسول الله إني ذو عيال وأحب الدين فقال اللهم أغن المقداد من فضلك يا علي قم فاضرب عنقه وزيد بن مليص مولى عمرو بن هاشم بن عبد مناف من عبد الدار قتله علي بن أبي طالب ع وقيل قتله بلال فهؤلاء اثنان . ومن بني تيم بن مرة عمير بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة قتله علي بن أبي طالب ع وعثمان بن مالك بن عبيد الله بن عثمان قتله صهيب فهؤلاء اثنان ولم يذكر البلاذري عثمان بن مالك . ومن بني مخزوم بن يقظة ثم من بني المغيرة بن عبد الله بن عمير بن مخزوم أبو جهل عمرو بن هشام بن المغيرة ضربه معاذ بن عمرو بن الجموح ومعوذ وعوف ابنا عفراء وذفف عليه عبد الله بن مسعود والعاص بن هاشم بن المغيرة خال عمر بن الخطاب قتله عمرو بن يزيد بن تميم التميمي حليف لهم قتله عمار بن ياسر وقيل قتله علي ع . ومن بني الوليد بن المغيرة أبو قيس بن الوليد بن الوليد أخو خالد بن الوليد قتله علي بن أبي طالب ع . ومن بني الفاكه بن المغيرة أبو قيس بن الفاكه بن المغيرة قتله حمزة بن عبد المطلب وقيل قتله الحباب بن المنذر .
[ 211 ](1/4061)
و من بني أمية بن المغيرة مسعود بن أبي أمية قتله علي بن أبي طالب ع . ومن بني عائذ بن عبد الله بن عمير بن مخزوم ثم من بني رفاعة أمية بن عائذ بن رفاعة بن أبي رفاعة قتله سعد بن الربيع وأبو المنذر بن أبي رفاعة قتله معن بن عدي العجلاني وعبد الله بن أبي رفاعة قتله علي بن أبي طالب ع وزهير بن أبي رفاعة قتله أبو أسيد الساعدي والسائب بن أبي رفاعة قتله عبد الرحمن بن عوف . ومن بني أبي السائب المخزومي وهو صيفي بن عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم السائب بن السائب قتله الزبير بن العوام والأسود بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم قتله حمزة بن عبد المطلب وحليف لهم من طيئ وهو عمرو بن شيبان قتله يزيد بن قيس وحليف آخر وهو جبار بن سفيان أخو عمرو بن سفيان المقدم ذكره قتله أبو بردة بن نيار . ومن بني عمران بن مخزوم حاجز بن السائب بن عويمر بن عائذ قتله علي ع . وروى البلاذري أن حاجزا هذا وأخاه عويمر بن السائب بن عويمر قتلهما علي بن أبي طالب ع وعويمر بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم قتله النعمان بن أبي مالك فهؤلاء تسعة عشر . ومن بني جمح بن عمرو بن هصيص أمية بن خلف قتله خبيب بن يساف وبلال شركا فيه . قال الواقدي وكان معاذ بن رفاعة بن رافع يقول بل قتله أبو رفاعة بن رافع .
[ 212 ](1/4062)
و علي بن أمية بن خلف قتله عمار بن ياسر وأوس بن المغيرة بن لوذان قتله علي ع وعثمان بن مظعون شركا فيه فهؤلاء ثلاثة . ومن بني سهم منبه بن الحجاج قتله علي بن أبي طالب ع وقيل قتله أبو أسيد الساعدي ونبيه بن الحجاج قتله علي بن أبي طالب ع والعاص بن منبه بن الحجاج قتله علي ع وأبو العاص بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم قتله أبو دجانة قال الواقدي وحدثني أبو معشر عن أصحابه قالوا قتله علي ع وعاص بن أبي عوف بن صبيرة بن سعيد بن سعد قتله أبو دجانة فهؤلاء خمسة ومن بني عامر بن لؤي ثم من بني مالك بن حسل معاوية بن عبد قيس حليف لهم قتله عكاشة بن محصن ومعبد بن وهب حليف لهم من كلب قتله أبو دجانة فهؤلاء اثنان . فجميع من قتل ببدر في رواية الواقدي من المشركين في الحرب صبرا اثنان وخمسون رجلا قتل علي ع منهم مع الذين شرك في قتلهم أربعة وعشرين رجلا وقد كثرت الرواية أن المقتولين ببدر كانوا سبعين ولكن الذين عرفوا وحفظت أسماؤهم من ذكرناه وفي رواية الشيعة أن زمعة بن الأسود بن المطلب قتله علي والأشهر في الرواية أنه قتله الحارث بن زمعة وأن زمعة قتله أبو دجانة(1/4063)
القول فيمن شهد بدرا من المسلمين
قال الواقدي كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا مع القوم الذين ضرب لهم رسول الله ص بسهامهم وهم غائبون وعدتهم ثمانية قال وهذا هو الأغلب في الرواية
[ 213 ]
قال ولم يشهد بدرا من المسلمين إلا قرشي أو حليف لقرشي أو أنصاري أو حليف لأنصاري أو مولى واحد منهما وهكذا من جانب المشركين فإنه لم يشهدها إلا قرشي أو حليف لقرشي أو مولى لهم . قال فكانت قريش ومواليها وحلفاؤها ستة وثمانين رجلا وكانت الأنصار ومواليها وحلفاؤها مائتين وسبعة وعشرين رجلا . فأما تفصيل أسماء من شهدها من المسلمين فله موضع في كتب المحدثين أملك به من هذا الموضع(1/4064)
قصة غزوة أحد
الفصل الرابع في شرح قصة غزاة أحد ونحن نذكر ذلك من كتاب الواقدي رحمه الله على عاداتنا في ذكر غزاة بدر ونضيف إليه من الزيادات التي ذكرها ابن إسحاق والبلاذري ما يقتضي الحال ذكره . قال الواقدي لما رجع من حضر بدرا من المشركين إلى مكة وجدوا العير التي قدم بها أبو سفيان بن حرب من الشام موقوفة في دار الندوة وكذلك كانوا يصنعون فلم يحركها أبو سفيان ولم يفرقها لغيبة أهل العير ومشت أشراف قريش إلى أبي سفيان الأسود بن عبد المطلب بن أسد وجبير بن مطعم وصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل والحارث بن هشام وعبد الله بن أبي ربيعة وحويطب بن عبد العزى فقالوا يا أبا سفيان انظر هذه العير التي قدمت بها فاحتبستها فقد عرفت أنها أموال أهل مكة ولطيمة قريش وهم طيبوا الأنفس يجهزون بهذه العير جيشا كثيفا إلى محمد فقد
[ 214 ](1/4065)
ترى من قتل من آبائنا وأبنائنا وعشائرنا فقال أبو سفيان وقد طابت أنفس قريش بذلك قالوا نعم قال فأنا أول من أجاب إلى ذلك وبنو عبد مناف معي فأنا والله الموتور والثائر وقد قتل ابني حنظلة ببدر وأشراف قومي فلم تزل العير موقوفة حتى تجهزوا للخروج فباعوها فصارت ذهبا عينا ويقال إنما قالوا يا أبا سفيان بع العير ثم اعزل أرباحها فكانت العير ألف بعير وكان المال خمسين ألف دينار وكانوا يربحون في تجاراتهم للدينار دينارا وكان متجرهم من الشام غزة لا يعدونها إلى غيرها وكان أبو سفيان قد حبس عير بني زهرة لأنهم رجعوا من طريق بدر وسلم ما كان لمخرمة بن نوفل ولبني أبيه وبني عبد مناف بن زهرة فأبى مخرمة أن يقبل عيره حتى يسلم إلى بني زهرة جميعا وتكلم الأخنس فقال وما لعير بني زهرة من بين عيرات قريش قال أبو سفيان لأنهم رجعوا عن قريش قال الأخنس أنت أرسلت إلى قريش أن ارجعوا فقد أحرزنا العير لا تخرجوا في غير شي ء فرجعنا فأخذت بنو زهرة عيرها وأخذ أقوام من أهل مكة أهل ضعف لا عشائر لهم ولا منعة كل ما كان لهم في العير . قال الواقدي وهذا يبين أنه إنما أخرج القوم أرباح العير قال وفيهم أنزل إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ الآية . قال فلما أجمعوا على المسير قالوا نسير في العرب فنستنصرهم فإن عبد مناة غير متخلفين عنا هم أوصل العرب لأرحامنا ومن اتبعنا من الأحابيش فأجمعوا على أن يبعثوا أربعة من قريش يسيرون في العرب يدعونهم إلى نصرهم فبعثوا عمرو بن العاص وهبيرة بن وهب وابن الزبعرى وأبا عزة الجمحي فأبى أبو عزة أن يسير وقال من
[ 215 ](1/4066)
علي محمد يوم بدر وحلفت ألا أظاهر عليه عدوا أبدا فمشى إليه صفوان بن أمية فقال اخرج فأبى وقال عاهدت محمدا يوم بدر ألا أظاهر عليه عدوا أبدا وأنا أفي له بما عاهدته عليه من علي ولم يمن على غيري حتى قتله أو أخذ منه الفداء فقال صفوان اخرج معنا فإن تسلم أعطك من المال ما شئت وإن تقتل تكن عيالك مع عيالي فأبى أبو عزة حتى كان الغد وانصرف عنه صفوان بن أمية آيسا منه فلما كان الغد جاءه صفوان وجبير بن مطعم فقال له صفوان الكلام الأول فأبى فقال جبير ما كنت أظن أني أعيش حتى يمشي إليك أبو وهب في أمر تأبى عليه فأحفظه فقال أنا أخرج قال فخرج إلى العرب يجمعها ويقول
إيه بني عبد مناة الرزام
أنتم حماة وأبوكم حام
لا تسلموني لا يحل إسلام
لا يعدوني نصركم بعد العام
و خرج النفر مع أبي عزة فألبوا العرب وجمعوا وبلغوا ثقيفا فأوعبوا فلما أجمعوا المسير وتألب من كان معهم من العرب وحضروا واختلفت قريش في إخراج الظعن معهم قال صفوان بن أمية اخرجوا بالظعن فأنا أول من فعل فإنه أقمن أن يحفظنكم ويذكرنكم قتلى بدر فإن العهد حديث ونحن قوم موتورون مستميتون لا نريد أن نرجع إلى ديارنا حتى ندرك ثأرنا أو نموت دونه فقال عكرمة بن أبي جهل أنا أول من أجاب إلى ما دعوت إليه وقال عمرو بن العاص مثل ذلك فمشى في ذلك
[ 216 ](1/4067)
نوفل بن معاوية الديلي فقال يا معشر قريش هذا ليس برأي أن تعرضوا حرمكم لعدوكم ولا آمن أن تكون الدبرة لهم فتفتضحوا في نسائكم فقال صفوان لا كان غير هذا أبدا فجاء نوفل إلى أبي سفيان بن حرب فقال له تلك المقالة فصاحت هند بنت عتبة إنك والله سلمت يوم بدر فرجعت إلى نسائك نعم نخرج فنشهد القتال فقد ردت القيان من الجحفة في سفرهم إلى بدر فقتلت الأحبة يومئذ فقال أبو سفيان لست أخالف قريشا أنا رجل منها ما فعلت فعلت فخرجوا بالظعن فخرج أبو سفيان بن حرب بامرأتين هند بنت عتبة بن ربيعة وأميمة بنت سعد بن وهب بن أشيم بن كنانة وخرج صفوان بن أمية بامرأتين برزة بنت مسعود الثقفي وهي أم عبد الله الأكبر والبغوم بنت المعذل من كنانة وهي أم عبد الله الأصغر وخرج طلحة بن أبي طلحة بامرأته سلافة بنت سعد بن شهيد وهي من الأوس وهي أم بنيه مسافع والحارث وكلاب والجلاس بني طلحة بن أبي طلحة وخرج عكرمة بن أبي جهل بامرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام وخرج الحارث بن هشام بامرأته فاطمة بنت الوليد بن المغيرة وخرج عمرو بن العاص بامرأته هند بنت منبه بن الحجاج وهي أم عبد الله بن عمرو بن العاص وقال محمد بن إسحاق اسمها ريطة وخرجت خناس بنت مالك بن المضرب إحدى نساء بني مالك بن حسل مع ابنها أبي عزيز بن عمير أخي مصعب بن عمير من بني عبد الدار وخرج الحارث بن سفيان بن عبد الأسد بامرأته رملة بنت طارق بن علقمة الكنانية وخرج كنانة بن علي بن ربيعة بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف بامرأته أم حكيم بنت طارق وخرج سفيان بن عويف بامرأته قتيلة بنت عمرو بن هلال وخرج النعمان بن عمرو وجابر مسك الذئب أخوه بأمهما
[ 217 ]
الدغينة وخرج غراب بن سفيان بن عويف بامرأته عمرة بنت الحارث بن علقمة الكنانية وهي التي رفعت لواء قريش حين سقطت حتى تراجعت قريش إلى لوائها وفيها يقول حسان
و لو لا لواء الحارثية أصبحوا(1/4068)
يباعون في الأسواق بالثمن البخس
قالوا وخرج سفيان بن عويف بعشرة من ولده وحشدت بنو كنانة وكانت الألوية يوم خرجوا من مكة ثلاثة عقدوها في دار الندوة لواء يحمله سفيان بن عويف لبني كنانة ولواء الأحابيش يحمله رجل منهم ولواء لقريش يحمله طلحة بن أبي طلحة . قال الواقدي ويقال خرجت قريش ولفها كلهم من كنانة والأحابيش وغيرهم على لواء واحد يحمله طلحة بن أبي طلحة وهو الأثبت عندنا . قال وخرجت قريش وهم ثلاثة آلاف بمن ضوى إليها وكان فيهم من ثقيف مائة رجل وخرجوا بعدة وسلاح كثير وقادوا مائتي فرس وكان فيهم سبعمائة دراع وثلاثة آلاف بعير فلما أجمعوا على المسير كتب العباس بن عبد المطلب كتابا وختمه واستأجر رجلا من بني غفار وشرط عليه أن يسير ثلاثا إلى رسول الله ص يخبره أن قريشا قد اجتمعت للمسير إليك فما كنت صانعا إذا حلوا بك فاصنعه وقد وجهوا وهم ثلاثة آلاف وقادوا مائتي فرس وفيهم سبعمائة دراع وثلاثة آلاف بعير وقد أوعبوا من السلاح فقدم الغفاري فلم يجد رسول الله ص بالمدينة وجده بقباء فخرج حتى وجد رسول الله ص على باب مسجد قباء يركب
[ 218 ](1/4069)
حماره فدفع إليه الكتاب فقرأه عليه أبي بن كعب واستكتم أبيا ما فيه ودخل منزل سعد بن الربيع فقال أ في البيت أحد فقال سعد لا فتكلم بحاجتك فأخبره بكتاب العباس بن عبد المطلب فجعل سعد يقول يا رسول الله والله إني لأرجو أن يكون في ذلك خير وأرجعت يهود المدينة والمنافقون وقالوا ما جاء محمدا شي ء يحبه وانصرف رسول الله ص إلى المدينة وقد استكتم سعد بن الربيع الخبر فلما خرج رسول الله ص من منزله خرجت امرأة سعد بن الربيع إليه فقالت ما قال لك رسول الله ص قال ما لك ولذاك لا أم لك قالت كنت أستمع عليكم وأخبرت سعدا الخبر فاسترجع سعد وقال لا أراك تستمعين علينا وأنا أقول لرسول الله ص تكلم بحاجتك ثم أخذ بجمع لمتها ثم خرج يعدو بها حتى أدرك رسول الله ص بالجسر وقد بلحت فقال يا رسول الله إن امرأتي سألتني عما قلت فكتمتها فقالت قد سمعت قول رسول الله ص ثم جاءت بالحديث كله فخشيت يا رسول الله أن يظهر من ذلك شي ء فتظن أني أفشيت سرك فقال ص خل سبيلها وشاع الخبر بين الناس بمسير قريش وقدم عمرو بن سالم الخزاعي في نفر من خزاعة ساروا من مكة أربعا فوافوا قريشا وقد عسكروا بذي طوى فأخبروا رسول الله ص الخبر ثم انصرفوا ولقوا قريشا ببطن رابغ وهو أربع ليال من المدينة فنكبوا عن قريش . قال الواقدي فلما أصبح أبو سفيان بالأبواء أخبر أن عمرو بن سالم وأصحابه راحوا أمس ممسين إلى مكة فقال أبو سفيان أحلف بالله أنهم جاءوا محمدا فخبروه بمسيرنا وعددنا وحذروه منا فهم الآن يلزمون صياصيهم فما أرانا نصيب منهم شيئا في وجهنا فقال صفوان بن أمية إن لم يصحروا لنا عمدنا إلى نخل الأوس والخزرج فقطعناه
[ 219 ](1/4070)
فتركناهم ولا أموال لهم فلا يختارونها أبدا وإن أصحروا لنا فعددنا أكثر من عددهم وسلاحنا أكثر من سلاحهم ولنا خيل ولا خيل معهم ونحن نقاتل على وتر عندهم ولا وتر لهم عندنا قال الواقدي وكان أبو عامر الفاسق قد خرج في خمسين رجلا من الأوس حتى قدم بهم مكة حين قدم النبي ص يحرضها ويعلمها أنها على الحق وما جاء به محمد باطل فسارت قريش إلى بدر ولم يسر معها فلما خرجت قريش إلى أحد سار معها وكان يقول لقريش إني لو قدمت على قومي لم يختلف عليكم منهم اثنان وهؤلاء معي نفر منهم خمسون رجلا فصدقوه بما قال وطمعوا في نصره . قال الواقدي وخرج النساء معهن الدفوف يحرضن الرجال ويذكرنهم قتلى بدر في كل منزل وجعلت قريش تنزل كل منهل ينحرون ما نحروا من الجزر مما كانوا جمعوا من العين ويتقوون به في مسيرهم ويأكلون من أزوادهم مما جمعوا من الأموال . قال الواقدي وكانت قريش لما مرت بالأبواء قالت إنكم قد خرجتم بالظعن معكم ونحن نخاف على نسائنا فتعالوا ننبش قبر أم محمد فإن النساء عورة فإن يصب من نسائكم أحدا قلتم هذه رمة أمك فإن كان برا بأمه كما يزعم فلعمري لنفادينكم برمة أمه وإن لم يظفر بأحد من نسائكم فلعمري ليفدين رمة أمه بمال كثير إن كان بها برا فاستشار أبو سفيان بن حرب أهل الرأي من قريش في ذلك فقالوا لا تذكر من هذا شيئا فلو فعلنا نبشت بنو بكر وخزاعة موتانا . قال الواقدي وكانت قريش بذي الحليفة يوم الخميس صبيحة عشر من مخرجهم من مكة وذلك لخمس ليال مضين من شوال على رأس اثنين وثلاثين شهرا من الهجرة فلما
[ 220 ](1/4071)
أصبحوا بذي الحليفة خرج فرسان منهم فأنزلوهم الوطاء وبعث النبي ص عينين له آنسا ومؤنسا ابني فضالة ليلة الخميس فاعترضا لقريش بالعقيق فسارا معهم حتى نزلوا الوطاء وأتيا رسول الله ص فأخبراه وكان المسلمون قد ازدرعوا العرض والعرض ما بين الوطاء بأحد إلى الجرف إلى العرصة عرصة البقل اليوم وكان أهله بنو سلمة وحارثة وظفر وعبد الأشهل وكان الماء يومئذ بالجرف نشطة لا يرمم سابق الناضح مجلسا واحدا ينفتل الجمل في ساعته حتى ذهبت بمياهه عيون الغابة التي حفرها معاوية بن أبي سفيان وكان المسلمون قد أدخلوا آلة زرعهم ليلة الخميس المدينة فقدم المشركون على زرعهم فخلوا فيه إبلهم وخيولهم وكان لأسيد بن حضير في العرض عشرون ناضحا تسقي شعيرا وكان المسلمون قد حذروا على جمالهم وعمالهم وآلة حرثهم وكان المشركون يرعون يوم الخميس فلما أمسوا جمعوا الإبل وقصلوا عليها القصيل وقصلوا على خيولهم ليلة الجمعة فلما أصبحوا يوم الجمعة خلوا ظهرهم في الزرع وخيلهم حتى تركوا العرض ليس به خضراء .
قال الواقدي فلما نزلوا وحلوا العقد واطمأنوا بعث رسول الله ص الحباب بن المنذر بن الجموح إلى القوم فدخل فيهم وحزر ونظر إلى جميع ما يريد وكان قد بعثه سرا وقال له إذا رجعت فلا تخبرني بين أحد من المسلمين إلا أن ترى في القوم قلة فرجع إليه فأخبره خاليا وقال له رأيت عددا حزرتهم ثلاث آلاف يزيدون قليلا أو ينقصون قليلا والخيل مائتا فرس ورأيت دروعا ظاهرة حزرتها سبعمائة درع قال هل رأيت ظعنا قال نعم رأيت النساء معهن الدفاف والأكبار وهي الطبول فقال رسول الله ص أردن أن يحرضن القوم ويذكرنهم قتلى بدر هكذا
[ 221 ](1/4072)
جاءني خبرهم لا تذكر من شأنهم حرفا حسبنا الله ونعم الوكيل اللهم بك أحول وبك أصول . قال الواقدي وخرج سلمة بن سلامة بن وقش يوم الجمعة حتى إذا كان بأدنى العرض إذا طليعة خيل المشركين عشرة أفراس ركضوا في أثره فوقف لهم على نشز من الحرة فرشقهم بالنبل مرة وبالحجارة أخرى حتى انكشفوا عنه فلما ولوا جاء إلى مزرعته بأدنى العرض فاستخرج سيفا كان له ودرع حديد كان له دفنا في ناحية المزرعة وخرج بهما يعدو حتى أتى بني عبد الأشهل فخبر قومه بما لقي . قال الواقدي وكان مقدم قريش يوم الخميس لخمس خلون من شوال وكانت الوقعة يوم السبت لسبع خلون من شوال وباتت وجوه الأوس والخزرج سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وسعد بن عبادة في عدة منهم ليلة الجمعة عليهم السلاح في المسجد بباب النبي ص خوفا من تبييت المشركين وحرست المدينة تلك الليلة حتى أصبحوا ورأى رسول الله ص رؤيا ليلة الجمعة فلما أصبح واجتمع المسلمون خطبهم .
قال الواقدي فحدثني محمد بن صالح عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد قال ظهر النبي ص المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس إني رأيت في منامي رؤيا رأيت كأني في درع حصينة ورأيت كأن سيفي ذا الفقار انفصم من عند ظبته ورأيت بقرا تذبح ورأيت كأني مردف كبشا فقال الناس يا رسول الله فما أولتها قال أما الدرع الحصينة فالمدينة فامكثوا فيها وأما
[ 222 ]
انفصام سيفي عند ظبته فمصيبة في نفسي وأما البقر المذبح فقتلى في أصحابي وأما أني مردف كبشا فكبش الكتيبة نقتله إن شاء الله
قال الواقدي وروي عن ابن عباس أن رسول الله ص قال أما انفصام سيفي فقتل رجل من أهل بيتي(1/4073)
قال الواقدي وروى المسور بن مخرمة قال قال النبي ص ورأيت في سيفي فلا فكرهته هو الذي أصاب وجهه ع قال الواقدي وقال النبي ص أشيروا علي ورأى ص ألا يخرج من المدينة لهذه الرؤيا ورسول الله ص يحب أن يوافق على مثل ما رأى وعلى ما عبر عليه الرؤيا فقام عبد الله بن أبي فقال يا رسول الله كنا نقاتل في الجاهلية في هذه المدينة ونجعل النساء والذراري في هذه الصياصي ونجعل معهم الحجارة والله لربما مكث الولدان شهرا ينقلون الحجارة إعدادا لعدونا ونشبك المدينة بالبنيان فتكون كالحصن من كل ناحية وترمى المرأة والصبي من فوق الصياصي والآطام ونقاتل بأسيافنا في السكك يا رسول الله إن مدينتنا عذراء ما فضت علينا قط وما خرجنا إلى عدو قط منها إلا أصاب منا وما دخل علينا قط إلا أصبناه فدعهم يا رسول الله فإنهم إن أقاموا أقاموا بشر محبس وإن رجعوا رجعوا خاسرين مغلوبين لم ينالوا خيرا يا رسول الله أطعني في هذا الأمر واعلم أني ورثت هذا الرأي من أكابر قومي وأهل الرأي منهم فهم كانوا أهل الحرب والتجربة . قال الواقدي فكان رأي رسول الله ص مع رأي ابن أبي وكان ذلك رأي الأكابر من أصحاب رسول الله ص من المهاجرين والأنصار
[ 223 ](1/4074)
فقال رسول الله ص امكثوا في المدينة واجعلوا النساء والذراري في الآطام فإن دخل علينا قاتلناهم في الأزقة فنحن أعلم بها منهم ورموا من فوق الصياصي والآطام وكانوا قد شبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية فهي كالحصن فقال فتيان أحداث لم يشهدوا بدرا وطلبوا من رسول الله الخروج إلى عدوهم ورغبوا في الشهادة وأحبوا لقاء العدو وقالوا اخرج بنا إلى عدونا وقال رجال من أهل النبه وأهل السن منهم حمزة بن عبد المطلب وسعد بن عبادة والنعمان بن مالك بن ثعلبة وغيرهم من الأوس والخزرج إنا نخشى يا رسول الله أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج إليهم جبنا عن لقائهم فيكون هذا جرأة منهم علينا وقد كنت يوم بدر في ثلاثمائة رجل فظفرك الله بهم ونحن اليوم بشر كثير وكنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله به فقد ساقه الله إلينا في ساحتنا هذه ورسول الله ص لما رأى من إلحاحهم كاره وقد لبسوا السلاح يخطرون بسيوفهم يتساومون كأنهم الفحول وقال مالك بن سنان أبو أبي سعيد الخدري يا رسول الله نحن والله بين إحدى الحسنيين إما يظفرنا الله بهم فهذا الذي نريد فيذلهم الله لنا فتكون هذه وقعة مع وقعة بدر فلا يبقى منهم إلا الشريد والأخرى يا رسول الله يرزقنا الله الشهادة والله يا رسول الله ما نبالي أيهما كان إن كلا لفيه الخير فلم يبلغنا أن النبي ص رجع إليه قولا وسكت وقال حمزة بن عبد المطلب والذي أنزل عليه الكتاب لا أطعم اليوم طعاما حتى أجالدهم بسيفي خارجا من المدينة وكان يقال كان حمزة يوم الجمعة صائما ويوم السبت فلاقاهم وهو صائم وقال النعمان بن مالك بن ثعلبة أخو بني سالم يا رسول الله أنا أشهد أن البقر المذبح قتلى من أصحابك وأني منهم فلم تحرمنا الجنة فو الله الذي لا إله إلا هو
[ 224 ](1/4075)
لأدخلنها قال رسول الله بم قال إني أحب الله ورسوله ولا أفر يوم الزحف فقال صدقت فاستشهد يومئذ . وقال إياس بن أوس بن عتيك يا رسول الله نحن بنو عبد الأشهل من البقر المذبح نرجو يا رسول الله أن نذبح في القوم ويذبح فينا فنصير إلى الجنة ويصيرون إلى النار مع أني يا رسول الله لا أحب أن ترجع قريش إلى قومها فتقول حصرنا محمد في صياصي يثرب وآطامها فتكون هذه جرأة لقريش وقد وطئوا سعفنا فإذا لم نذب عن عرضنا فلم ندرع وقد كنا يا رسول في جاهليتنا والعرب يأتوننا فلا يطمعون بهذا منا حتى نخرج إليهم بأسيافنا فنذبهم عنا فنحن اليوم أحق إذ أمدنا الله بك وعرفنا مصيرنا لا نحصر أنفسنا في بيوتنا . وقام خيثمة أبو سعد بن خيثمة فقال يا رسول الله إن قريشا مكثت حولا تجمع الجموع وتستجلب العرب في بواديها ومن اتبعها من أحابيشها ثم جاءونا قد قادوا الخيل واعتلوا الإبل حتى نزلوا بساحتنا فيحصروننا في بيوتنا وصياصينا ثم يرجعون وافرين لم يكلموا فيجرئهم ذلك علينا حتى يشنوا الغارات علينا ويصيبوا أطلالنا ويضعوا العيون والأرصاد علينا مع ما قد صنعوا بحروثنا ويجترئ علينا العرب حولنا حتى يطمعوا فينا إذا رأونا لم نخرج إليهم فنذبهم عن حريمنا وعسى الله أن يظفرنا بهم فتلك عادة الله عندنا أو تكون الأخرى فهي الشهادة لقد أخطأتني وقعة بدر وقد كنت عليها حريصا لقد بلغ من حرصي أن ساهمت ابني في الخروج فخرج سهمه فرزق الشهادة وقد كنت حريصا على الشهادة وقد رأيت ابني البارحة في النوم في أحسن صوره يسرح في ثمار الجنة وأنهارها وهو يقول الحق بنا ترافقنا في الجنة فقد وجدت ما وعدني ربي حقا وقد والله يا رسول الله أصبحت مشتاقا إلى مرافقته في الجنة وقد كبرت سني ودق عظمي وأحببت
[ 225 ](1/4076)
لقاء ربي فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة ومرافقة سعد في الجنة فدعا له رسول الله بذلك فقتل بأحد شهيدا . قال أنس بن قتادة يا رسول الله هي إحدى الحسنيين إما الشهادة وإما الغنيمة والظفر بقتلهم فقال رسول الله ص إني أخاف عليكم الهزيمة . فلما أبوا إلا الخروج والجهاد صلى رسول الله يوم الجمعة بالناس ثم وعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد وأخبرهم أن لهم الصبر ما صبروا ففرح الناس حيث أعلمهم رسول الله ص بالشخوص إلى عدوهم وكره ذلك المخرج بشر كثير من أصحاب رسول الله وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم ثم صلى العصر بالناس وقد حشد الناس وحضر أهل العوالي ورفعوا النساء إلى الآطام فحضرت بنو عمرو بن عوف بلفها والنبيت ولفها وتلبسوا السلاح فدخل رسول الله ص بيته ودخل معه أبو بكر وعمر فعمماه ولبساه وصف الناس له ما بين حجرته إلى منبره ينتظرون خروجه فجاءهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير فقالا لهم قلتم لرسول الله ما قلتم واستكرهتموه على الخروج والأمر ينزل عليه من السماء فردوا الأمر إليه فما أمركم فافعلوه وما رأيتم فيه له هوى أو أدبا فأطيعوه فبينا القوم على ذلك من الأمر وبعض القوم يقول القول ما قال سعد وبعضهم على البصيرة على الشخوص وبعضهم للخروج كاره إذ خرج رسول الله ص قد لبس لأمته وقد لبس الدرع فأظهرها وحزم وسطها بمنطقة من حمائل سيف من أدم كانت بعد عند آل أبي رافع مولى رسول الله ص واعتم وتقلد السيف فلما خرج رسول الله ص ندموا جميعا
[ 226 ](1/4077)
على ما صنعوا وقال الذين يلحون على رسول الله ص ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما بدا لك وما كان لنا أن نستكرهك والأمر إلى الله ثم إليك فقال قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم ولا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه قال وكانت الأنبياء قبله إذا لبس النبي لأمته لم يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه ثم قال لهم انظروا ما أمرتكم به فاتبعوه امضوا على اسم الله فلكم النصر ما صبرتم . قلت فمن تأمل أحوال المسلمين في هذه الغزاة من فشلهم وخورهم واختلافهم في الخروج من المدينة والمقام بها وكراهة النبي ص للخروج ثم خروجه على مضض ثم ندم القوم الذين أشاروا بالخروج ثم انخزال طائفة كثيرة من الجيش عن الحرب ورجوعهم إلى المدينة علم أنه لا انتصار لهم على العدو أصلا فإن النصر معروف بالعزم والجد والبصيرة في الحرب واتفاق الكلمة ومن تأمل أيضا هذه الأحوال علم أنها ضد الأحوال التي كانت في غزاة بدر وأن أحوال قريش لما خرجت إلى بدر كانت مماثلة لأحوال المسلمين لما خرجوا إلى أحد ولذلك كانت الدبرة في بدر على قريش . قال الواقدي وكان مالك بن عمرو النجاري مات يوم الجمعة فلما دخل رسول الله ص فلبس لأمته وخرج وهو موضوع عند موضع الجنائز صلى عليه ثم دعا بدابته فركب إلى أحد . قال الواقدي وجاء جعيل بن سراقة إلى النبي ص وهو متوجه إلى أحد فقال يا رسول الله قيل لي إنك تقتل غدا وهو يتنفس مكروبا فضرب النبي ص بيده إلى صدره وقال أ ليس الدهر كله غدا قال ثم دعا بثلاثة أرماح فعقد ثلاثة ألوية فدفع لواء الأوس إلى أسيد بن حضير ودفع لواء الخزرج إلى الحباب بن المنذر بن الجموح ويقال إلى سعد بن عبادة ودفع لواء المهاجرين
[ 227 ](1/4078)
إلى علي بن أبي طالب ع ويقال إلى مصعب بن عمير ثم دعا بفرسه فركبه وتقلد القوس وأخذ بيده قناة زج الرمح يومئذ من شبه والمسلمون متلبسون السلاح قد أظهروا الدروع فهم مائة دارع فلما ركب ص خرج السعدان أمامه يعدوان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة كل واحد منهما دارع والناس عن يمينه وشماله حتى سلك على البدائع ثم زقاق الحسى حتى أتى الشيخين وهما أطمان كانا في الجاهلية فيهما شيخ أعمى وعجوز عمياء يتحدثان فسمي الأطمان الشيخين فلما انتهى إلى رأس الثنية التفت فنظر إلى كتيبة خشناء لها زجل خلفه فقال ما هذه قال هذه حلفاء ابن أبي من اليهود
فقال رسول الله ص لا نستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك ومضى رسول الله ص وعرض عسكره بالشيخين فعرض عليه غلمان منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت وأسامة بن زيد والنعمان بن بشير وزيد بن أرقم والبراء بن عازب وأسيد بن ظهير وعرابة بن أوس وأبو سعيد الخدري وسمرة بن جندب ورافع بن خديج . قال الواقدي فردهم رسول الله ص قال رافع بن خديج فقال ظهير بن رافع يا رسول الله إنه رام يعينني قال وجعلت أتطاول وعلي خفان لي فأجازني رسول الله ص فلما أجازني قال سمرة بن جندب لمري بن سنان الحارثي وهو زوج أمه يا أبيه أجاز رسول الله ص رافع بن خديج وردني وأنا أصرع رافعا فقال مري يا رسول الله رددت ابني وأجزت رافع بن خديج وابني يصرعه فقال رسول الله ص تصارعا فصرع سمرة رافعا فأجازه رسول الله ص قال الواقدي وأقبل ابن أبي فنزل ناحية العسكر فجعل حلفاؤه ومن معه من المنافقين يقولون لابن أبي أشرت عليه بالرأي ونصحته وأخبرته أن هذا رأي من
[ 228 ](1/4079)
مضى من آبائك وكان ذلك رأيه مع رأيك فأبى أن يقبله وأطاع هؤلاء الغلمان الذين معه قال فصادفوا من ابن أبي نفاقا وغشا فبات رسول الله ص بالشيخين وبات ابن أبي في أصحابه وفرغ رسول الله ص من عرض من عرض وغابت الشمس فأذن بلال بالمغرب فصلى رسول الله ص بأصحابه ثم أذن بالعشاء فصلى رسول الله ص بأصحابه ورسول الله ص نازل في بني النجار واستعمل على الحرس محمد بن مسلمة في خمسين رجلا يطيفون بالعسكر حتى ادلج رسول الله ص وكان المشركون قد رأوا رسول الله ص حيث ادلج ونزل بالشيخين فجمعوا خيلهم وظهرهم واستعملوا على حرسهم عكرمة بن أبي جهل في خيل من المشركين وباتت صاهلة خيلهم لا تهدأ تدنو طلائعهم حتى تلصق بالحرة فلا تصعد فيها حتى ترجع خيلهم ويهابون موضع الحرة ومحمد بن مسلمة . قال الواقدي وقد كان رسول الله ص قال حين صلى العشاء من يحفظنا الليلة فقال رجل أنا يا رسول الله فقال من أنت قال ذكوان بن عبد القيس فقال اجلس ثم قال ثانية من رجل يحفظنا الليلة فقام رجل فقال من أنت قال أبو سبع قال اجلس ثم قال ثالثة مثل ذلك فقام رجل فقال من أنت فقال أنا ابن عبد قيس فمكث رسول الله ص ساعة ثم قال قوموا ثلاثتكم فقام ذكوان بن عبد قيس فقال رسول الله وأين صاحباك فقال ذكوان أنا الذي كنت أجيبك الليلة قال فاذهب حفظك الله . قلت قد تقدم هذا الحديث بذاته في غزوة بدر وظاهر الحال أنه مكرر
[ 229 ](1/4080)
و أنه إنما كان في غزاة واحدة ويجوز أن يكون قد وقع في الغزاتين ولكن على بعد . قال الواقدي فلبس ذكوان درعه وأخذ درقته فكان يطوف على العسكر تلك الليلة ويقال كان يحرس رسول الله ص لم يفارقه . قال ونام رسول الله ص حتى ادلج فلما كان في السحر قال رسول الله أين الأدلاء من رجل يدلنا على الطريق ويخرجنا على القوم من كثب فقام أبو خثيمة الحارثي فقال أنا يا رسول الله ويقال أوس بن قيظي ويقال محيصة . قال الواقدي وأثبت ذلك عندنا أبو خثيمة خرج برسول الله ص وركب فرسه فسلك به في بني حارثة ثم أخذ في الأموال حتى مر بحائط مربع بن قيظي وكان أعمى البصر منافقا فلما دخل رسول الله ص حائطه قام يحثي التراب في وجوه المسلمين ويقول إن كنت رسول الله فلا تدخل حائطي فلا أحله لك . قال محمد بن إسحاق وقذ ذكر أنه أخذ حفنة من تراب وقال والله لو أعلم أني لا أصيب غيرك يا محمد لضربت بها وجهك . قال الواقدي فضربه سعد بن زيد الأشهلي بقوس في يده فشجه في رأسه فنزل الدم فغضب له بعض بني حارثة ممن هو على مثل رأيه فقال هي على عداوتكم يا بني عبد الأشهل لا تدعونها أبدا لنا فقال أسيد بن حضير لا والله ولكن نفاقكم والله لو لا أني لا أدري ما يوافق النبي ص لضربت عنقه وعنق من هو على مثل رأيه . قال ونهاهم النبي ص عن الكلام فأسكتوا .
[ 230 ](1/4081)
و قال محمد بن إسحاق قال رسول الله ص دعوه فإنه أعمى البصر أعمى القلب يعني مربع بن قيظي . قال الواقدي ومضى رسول الله ص فبينا هو في مسيره إذ ذب فرس أبي بردة بن نيار بذنبه فأصاب كلاب سيفه فسل سيفه فقال رسول الله ص يا صاحب السيف شم سيفك فإني أخال السيوف ستسل اليوم فيكثر سلها . قال وكان رسول الله ص يحب الفأل ويكره الطيرة قال ولبس رسول الله ص من الشيخين درعا واحدة حتى انتهى إلى أحد فلبس درعا أخرى ومغفرا وبيضة فوق المغفر فلما نهض رسول الله ص من الشيخين زحف المشركين على تعبئة حتى انتهوا إلى موضع أرض ابن عامر اليوم فلما انتهى رسول الله ص إلى موضع القنطرة اليوم جاءه وقد حانت الصلاة وهو يرى المشركين فأمر بلالا فأذن وأقام وصلى بأصحابه الصبح صفوفا وانخزل عبد الله بن أبي من ذلك المكان في كتيبته كأنه هيقه تقدمهم فأتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام فقال أذكركم الله ودينكم ونبيكم وما شرطتم له أن تمنعوه مما تمنعون منه أنفسكم وأولادكم ونساءكم فقال ابن أبي ما أرى أنه يكون بينهم قتال وإن أطعتني يا أبا جابر لترجعن فإن أهل الرأي والحجى قد رجعوا ونحن ناصروه في مدينتنا وقد خالفنا وأشرت عليه بالرأي فأبى إلا طواعية الغلمان فلما أبى على عبد الله بن عمرو أن يرجع ودخل هو وأصحابه أزقة المدينة قال لهم أبو جابر أبعدكم الله إن الله سيغني النبي والمؤمنين عن نصركم فانصرف ابن أبي وهو يقول أ يعصيني ويطيع الولدان وانصرف عبد الله بن عمرو يعدو حتى لحق رسول الله وهو يسوي الصفوف فلما أصيب أصحاب
[ 231 ](1/4082)
رسول الله ص سر ابن أبي وأظهر الشماتة وقال عصاني وأطاع من لا رأي له . قال الواقدي وجعل رسول الله ص يصف أصحابه وجعل الرماة خمسين رجلا على عينين عليهم عبد الله بن جبير ويقال سعد بن أبي وقاص والثبت أنه عبد الله بن جبير قال وجعل أحدا خلف ظهره واستقبل المدينة وجعل عينين عن يساره وأقبل المشركون واستدبروا المدينة في الوادي واستقبلوا أحدا ويقال جعل عينين خلف ظهره واستدبر الشمس واستقبلها المشركون . قال والقول الأول أثبت عندنا أن أحدا كان خلف ظهره وهو ع مستقبل المدينة قال ونهى أن يقاتل أحد حتى يأمرهم بالقتال فقال عمارة بن يزيد بن السكن أنى نغير على زرع بني قيلة ولما نضارب وأقبل المشركون قد صفوا صفوفهم واستعملوا على الميمنة خالد بن الوليد وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل ولهم مجنبتان مائتا فرس وجعلوا على الخيل صفوان بن أمية ويقال عمرو بن العاص وعلى الرماة عبد الله بن أبي ربيعة وكانوا مائة رام ودفعوا اللواء إلى طلحة بن أبي طلحة واسم أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي وصاح أبو سفيان يومئذ يا بني عبد الدار نحن نعرف أنكم أحق باللواء منا وأنا إنما أتينا يوم بدر من اللواء وإنما يؤتى القوم من قبل لوائهم فالزموا لواءكم وحافظوا عليه وخلوا بيننا وبينه فإنا قوم مستميتون موتورون نطلب ثأرا حديث العهد وجعل يقول إذا زالت الألوية فما قوام الناس وبقاؤهم بعدها فغضبت بنو عبد الدار وقالوا نحن نسلم لواءنا لا كان هذا أبدا وأما المحافظة عليه فسترى ثم أسندوا الرماح إليه وأحدقت به بنو عبد الدار
[ 232 ](1/4083)
و أغلظوا لأبي سفيان بعض الإغلاظ فقال أبو سفيان فنجعل لواء آخر قالوا نعم ولا يحمله إلا رجل من بني عبد الدار لا كان غير ذلك أبدا . قال الواقدي وجعل رسول الله ص يمشي على رجليه يسوي تلك الصفوف ويبوئ أصحابه مقاعد للقتال يقول تقدم يا فلان وتأخر يا فلان حتى إنه ليرى منكب الرجل خارجا فيؤخره فهو يقومهم كأنما يقوم القداح حتى إذا استوت الصفوف سأل من يحمل لواء المشركين قيل عبد الدار قال نحن أحق بالوفاء منهم أين مصعب بن عمير قال ها أنا ذا قال خذ اللواء فأخذه مصعب فتقدم به بين يدي رسول الله ص . قال البلاذري أخذه من علي ع فدفعه إلى مصعب بن عمير لأنه من بني عبد الدار . قال الواقدي ثم قام ع فخطب الناس
فقال ص أيها الناس أوصيكم بما أوصاني به الله في كتابه من العمل بطاعته والتناهي عن محارمه ثم إنكم اليوم بمنزل أجر وذخر لمن ذكر الذي عليه ثم وطن نفسه على الصبر واليقين والجد والنشاط فإن جهاد العدو شديد كريه قليل من يصبر عليه إلا من عزم له على رشده إن الله مع من أطاعه وإن الشيطان مع من عصاه فاستفتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد والتمسوا بذلك ما وعدكم الله وعليكم بالذي آمركم به فإني حريص على رشدكم إن الاختلاف والتنازع والتثبيط من أمر العجز والضعف وهو مما لا يحبه الله ولا يعطي عليه النصر والظفر أيها الناس إنه قذف في قلبي أن من كان على حرام فرغب عنه ابتغاء ما عند الله غفر الله له ذنبه ومن صلى على محمد صلى الله عليه وملائكته
[ 233 ](1/4084)
عشرا ومن أحسن من مسلم أو كافر وقع أجره على الله في عاجل دنياه أو في آجل آخرته ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا صبيا أو امرأة أو مريضا أو عبدا مملوكا ومن استغنى عنها استغنى الله عنه والله غني حميد ما أعلم من عمل يقربكم إلى الله إلا وقد أمرتكم به ولا أعلم من عمل يقربكم إلى النار إلا وقد نهيتكم عنه وإنه قد نفث الروح الأمين في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي أقصى رزقها لا ينقص منه شي ء وإن أبطأ عنها فاتقوا الله ربكم وأجملوا في طلب الرزق ولا يحملنكم استبطاؤه على أن تطلبوه بمعصية ربكم فإنه لا يقدر على ما عنده إلا بطاعته قد بين لكم الحلال والحرام غير أن بينهما شبها من الأمر لم يعلمها كثير من الناس إلا من عصم فمن تركها حفظ عرضه ودينه ومن وقع فيها كان كالراعي إلى جنب الحمى أوشك أن يقع فيه ويفعله وليس ملك إلا وله حمى ألا وإن حمى الله محارمه والمؤمن من المؤمنين كالرأس من الجسد إذا اشتكى تداعى إليه سائر جسده والسلام عليكم . قال الواقدي فحدثني ابن أبي سبرة عن خالد بن رباح عن المطلب بن عبد الله قال أول من أنشب الحرب بينهم أبو عامر طلع في خمسين من قومه معه عبيد قريش فنادى أبو عامر واسمه عبد عمرو يا للأوس أنا أبو عامر قالوا لا مرحبا بك ولا أهلا يا فاسق فقال لقد أصاب قومي بعدي شر قال ومعه عبيد أهل مكة فتراموا بالحجارة هم والمسلمون حتى تراضخوا بها ساعة إلى أن ولى أبو عامر وأصحابه ويقال إن العبيد لم يقاتلوا وإنهم أمروهم بحفظ عسكرهم . قال الواقدي وجعل نساء المشركين قبل أن يلتقي الجمعان أمام صفوف المشركين يضربن بالأكبار والدفاف والغرابيل ثم يرجعن فيكن إلى مؤخر الصف حتى
[ 234 ](1/4085)
إذا دنوا من المسلمين تأخر النساء فقمن خلف الصفوف وجعلن كلما ولى رجل حرضنه وذكرنه قتلى بدر . وقال الواقدي وكان قزمان من المنافقين وكان قد تخلف عن أحد فلما أصبح عيره نساء بني ظفر فقلن يا قزمان قد خرج الرجال وبقيت استحي يا قزمان أ لا تستحيي مما صنعت ما أنت إلا امرأة خرج قومك وبقيت في الدار فأحفظنه فدخل بيته فأخرج قوسه وجعبته وسيفه وكان يعرف بالشجاعة وخرج يعدو حتى انتهى إلى رسول الله ص وهو يسوي صفوف المسلمين فجاء من خلف الصف حتى انتهى إلى الصف الأول فكان فيه وكان أول من رمى بسهم من المسلمين جعل يرسل نبلا كأنها الرماح وإنه ليكت كتيت الجمل ثم صار إلى السيف ففعل الأفاعيل حتى إذا كان آخر ذلك قتل نفسه وكان رسول الله ص إذا ذكره قال من أهل النار قال فلما انكشف المسلمون كسر جفن سيفه وجعل يقول الموت أحسن من الفرار يا للأوس قاتلوا على الأحساب واصنعوا مثل ما أصنع قال فيدخل بالسيف وسط المشركين حتى يقال قد قتل ثم يطلع فيقول أنا الغلام الظفري حتى قتل منهم سبعة وأصابته الجراحة وكثرت فيه فوقع فمر به قتادة بن النعمان فقال له أبا الغيداق قال قزمان لبيك قال هنيئا لك الشهادة قال قزمان إني والله ما قاتلت يا أبا عمرو على دين ما قاتلت إلا على الحفاظ أن تسير قريش إلينا فتطأ سعفنا قال فآذته الجراحة فقتل نفسه
فقال النبي ص إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر
[ 235 ](1/4086)
قال الواقدي وتقدم رسول الله ص إلى الرماة فقال احموا لنا ظهورنا فإنا نخاف أن نؤتى من ورائنا والزموا مكانكم لا تبرحوا منه وإن رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل عسكرهم فلا تفارقوا مكانكم وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا ولا تدفعوا عنا اللهم إني أشهدك عليهم ارشقوا خيلهم بالنبل فإن الخيل لا تقدم على النبل وكان للمشركين مجنبتان ميمنة عليها خالد بن الوليد وميسرة عليها عكرمة بن أبي جهل قال الواقدي وعمل رسول الله ص لنفسه ميمنة وميسرة ودفع اللواء الأعظم إلى مصعب بن عمير ودفع لواء الأوس إلى أسيد بن حضير ولواء الخزرج إلى سعد بن عبادة وقيل إلى الحباب بن المنذر فجعلت الرماة تحمي ظهور المسلمين وترشق خيل المشركين بالنبل فولت هاربه قال بعض المسلمين والله لقد رمقت نبلنا يومئذ ما رأيت سهما واحدا مما يرمى به خيلهم يقع في الأرض إما في فرس أو في رجل ودنا القوم بعضهم من بعض وقدموا طلحة بن أبي طلحة صاحب لوائهم وصفوا صفوفهم وأقاموا النساء خلف الرجال يضربن بين أكتافهم بالأكبار والدفوف وهند وصواحبها يحرضن ويذمرن الرجال ويذكرن من أصيب ببدر ويقلن
نحن بنات طارق
نمشي على النمارق
إن تقبلوا نعانق
أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق
قال الواقدي وبرز طلحة فصاح من يبارز فقال علي ع له هل لك في مبارزتي قال نعم فبرزا بين الصفين ورسول الله ص جالس تحت
[ 236 ](1/4087)
الراية عليه درعان ومغفر وبيضته فالتقيا فبدره علي ع بضربة على رأسه فمضى السيف حتى فلق هامته إلى أن انتهى إلى لحيته فوقع وانصرف علي ع فقيل له هلا ذففت عليه قال إنه لما صرع استقبلني بعورته فعطفتني عليه الرحم وقد علمت أن الله سيقتله هو كبش الكتيبة . قال الواقدي وروي أن طلحة حمل على علي ع فضربه بالسيف فاتقاه بالدرقة فلم يصنع شيئا وحمل علي ع وعلى طلحة درع ومغفر فضربه بالسيف فقطع ساقيه ثم أراد أن يذفف عليه فسأله طلحة بالرحم ألا يفعل فتركه ولم يذفف عليه . قال الواقدي ويقال إن عليا ع دفف عليه ويقال إن بعض المسلمين مر به في المعركة فذفف عليه قال فلما قتل طلحة سر رسول الله ص وكبر تكبيرا عاليا وكبر المسلمون ثم شد أصحاب رسول الله ص على كتائب المشركين فجعلوا يضربون وجوههم حتى انتقضت صفوفهم ولم يقتل إلا طلحة بن أبي طلحة وحده . قال الواقدي ثم حمل لواء المشركين بعد طلحة أخوه عثمان بن أبي طلحة وهو أبو شيبة فارتجز وقال
إن علي رب اللواء حقا
أن تخصب الصعدة أو تندقا
فتقدم باللواء والنسوة خلفه يحرضن ويضربن بالدفوف فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب رحمه الله فضربه بالسيف على كاهله فقطع يده وكتفه حتى انتهى إلى
[ 237 ]
مؤتزره فبدا سحره ورجع فقال أنا ابن ساقي الحجيج ثم حمل اللواء أخوهما أبو سعد بن أبي طلحة فرماه سعد بن أبي وقاص فأصاب حنجرته وكان دراعا وعليه مغفر لا رفرف عليه وعلى رأسه بيضته فأدلع لسانه إدلاع الكلب . قال الواقدي وقد روي أن أبا سعد لما حمل اللواء قام النساء خلفه يقلن
ضربا بني عبد الدار
ضربا حماة الأدبار
ضربا بكل بتار(1/4088)
قال سعد بن أبي وقاص فأحمل عليه فأقطع يده اليمنى فأخذ اللواء باليد اليسرى فأضربه على يده اليسرى فقطعتها فأخذ اللواء بذراعيه جميعا وضمه إلى صدره وحنى عليه ظهره قال سعد فأدخل سية القوس بين الدرع والمغفر فأقلع المغفر فأرمي به وراء ظهره ثم ضربته حتى قتلته وأخذت أسلبه درعه فنهض إلي سبيع بن عبد عوف ونفر معه فمنعوني سلبه وكان سلبه أجود سلب رجل من المشركين درع فضفاضة ومغفر وسيف جيد ولكن حيل بيني وبينه . قال الواقدي وهذا أثبت القولين . قلت شتان بين علي وسعد هذا يجاحش على السلب ويتأسف على فواته وذلك يقتل عمرو بن عبد ود يوم الخندق وهو فارس قريش وصنديدها ومبارزه فيعرض عن سلبه فيقال له كيف تركت سلبه وهو أنفس سلب فيقول كرهت أن أبز السبي ثيابه فكأن حبيبا عناه بقوله
[ 238 ]
إن الأسود أسود الغاب همتها
يوم الكريهة في المسلوب لا السلب(1/4089)
قال الواقدي ثم حمل لواء المشركين بعد أبي سعد بن أبي طلحة مسافع بن أبي طلحة فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح فقتله فحمل إلى أمه سلافة بنت سعد بن الشهيد وهي مع النساء بأحد فقالت من أصابك قال لا أدري سمعته يقول خذها وأنا ابن الأقلح فقالت أقلحي والله أي هو من رهطي وكانت من الأوس . قال الواقدي وروي أن عاصما لما رماه قال له خذها وأنا ابن كسرة وكانوا يقال لهم في الجاهلية بنو كسر الذهب فقال لأمه لا أدري إلا أني سمعته يقول خذها وأنا ابن كسرة فقالت سلافة أوسي والله كسري أي أنه منا فيومئذ نذرت سلافة أن تشرب في قحف رأس عاصم بن ثابت الخمر وجعلت لمن جاءها به مائة من الإبل . قلت فلما قتله المشركون في يوم الرجيع أرادوا أن يأخذوا رأسه فيحملوه إلى سلافة فحمته الدبر يومه ذلك فلما جاء الليل فظنوا أن الدبر لا تحميه ليلا جاء الوادي بسيل عظيم فذهب برأسه وبدنه اتفق المؤرخون على ذلك . قال الواقدي ثم حمل اللواء بعد الحارث أخوه كلاب بن طلحة بن أبي طلحة فقتله الزبير بن العوام ثم حمله أخوه الجلاس بن طلحة بن أبي طلحة فقتله طلحة بن عبيد الله ثم حمله أرطاة بن عبد شرحبيل فقتله علي بن أبي طالب ع ثم حمله شريح بن
[ 239 ](1/4090)
قانط فقتل لا يدرى من قتله ثم حمله صواب غلام بني عبد الدار فاختلف في قاتله فقيل قتله علي بن أبي طالب ع وقيل سعد بن أبي وقاص وقيل قزمان وهو أثبت الأقوال . قال الواقدي انتهى قزمان إلى صواب فحمل عليه فقطع يده اليمنى فاحتمل اللواء باليسرى فقطع اليسرى فاحتضن اللواء بذراعيه وعضديه وحنى عليه ظهره وقال يا بني عبد الدار هل أعذرت فحمل عليه قزمان فقتله . قال الواقدي وقالوا ما ظفر الله تعالى نبيه في موطن قط ما ظفره وأصحابه يوم أحد حتى عصوا الرسول وتنازعوا في الأمر لقد قتل أصحاب اللواء وانكشف المشركون منهم لا يلوون ونساؤهم يدعون بالويل بعد ضرب الدفاف والفرح . قال الواقدي وقد روى كثير من الصحابة ممن شهد أحدا قال كل واحد منهم والله إني لأنظر إلى هند وصواحبها منهزمات ما دون أخذهن شي ء لمن أراده ولكن لا مرد لقضاء الله قالوا وكان خالد بن الوليد كلما أتى من قبل ميسرة النبي ص ليجوز حتى يأتيهم من قبل السفح ترده الرماة حتى فعل وفعلوا ذلك مرارا ولكن المسلمين أتوا من قبل الرماة أن رسول الله ص أوعز إليهم فقال قوموا على مصافكم هذه فاحموا ظهورنا فإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا فلما انهزم المشركون وتبعهم المسلمون يضعون السلاح فيهم حيث شاءوا حتى أجهزوهم عن المعسكر ووقعوا ينتهبونه قال بعض الرماة لبعض لم تقيمون هاهنا في غير شي ء قد هزم الله العدو وهؤلاء إخوانكم ينهبون عسكرهم فادخلوا عسكر المشركين فاغنموا مع إخوانكم فقال بعضهم أ لم تعلموا أن رسول الله ص قال لكم احموا ظهورنا وإن غنمنا فلا تشركونا
[ 240 ](1/4091)
فقال الآخرون لم يرد رسول الله ص هذا وقد أذل الله المشركين وهزمهم فادخلوا العسكر فانتهبوا مع إخوانكم فلما اختلفوا خطبهم أميرهم عبد الله بن جبير وكان يومئذ معلما بثياب بيض فحمد الله وأمرهم بطاعة رسوله وألا يخالف أمره فعصوه وانطلقوا فلم يبق معه إلا نفير ما يبلغون العشرة منهم الحارث بن أنس بن رافع يقول يا قوم اذكروا عهد نبيكم إليكم وأطيعوا أميركم فأبوا وذهبوا إلى عسكر المشركين ينتهبون وخلوا الجبل وانتقضت صفوف المشركين واستدارت رحالهم ودارت الريح وكانت إلى أن انتقض صفهم صبا فصارت دبورا فنظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل وقلة أهله فكر بالخيل وتبعه عكرمة بالخيل فانطلقا إلى موضع الرماة فحملوا عليهم فرماهم القوم حتى أصيبوا ورمى عبد الله بن جبير حتى فنيت نبله ثم طاعن بالرمح حتى انكسر ثم كسر جفن سيفه فقاتل حتى قتل وأفلت جعيل بن سراقة وأبو بردة بن نيار بعد أن شاهدا قتل عبد الله بن جبير وكان آخر من انصرف من الخيل فلحقا بالمسلمين قال الواقدي فروى رافع بن خديج قال لما قتل خالد الرماة أقبل بالخيل وعكرمة بن أبي جهل يتلوه فخالطنا وقد انتقضت صفوفنا ونادى إبليس وتصور في صورة جعيل بن سراقة أن محمدا قد قتل ثلاث صرخات فابتلي يومئذ جعيل بن سراقة ببلية عظيمة حين تصور إبليس في صورته وإن جعيلا ليقاتل مع المسلمين أشد القتال وإنه إلى جنب أبي بردة بن نيار وخوات بن جبير قال رافع بن خديج فو الله ما رأينا دولة كانت أسرع من دولة المشركين علينا وأقبل المسلمون على جعيل بن سراقة يريدون قتله يقولون هذا الذي صاح أن محمدا قد قتل فشهد له خوات بن جبير وأبو بردة أنه كان إلى جنبهما حين صاح الصائح وأن الصائح غيره .
[ 241 ](1/4092)
قال الواقدي فروى رافع قال أتينا من قبل أنفسنا ومعصية نبينا واختلط المسلمون وصاروا يقتلون ويضرب بعضهم بعضا وما يشعرون بما يصنعون من الدهش والعجل وقد جرح يومئذ أسيد بن حضير جرحين ضربه أحدهما أبو بردة بن نيار وما يدري يقول خذها وأنا الغلام الأنصاري وكر أبو زعنة في حومة القتال فضرب أبا بردة ضربتين ما يشعر أنه هو يقول خذها وأنا أبو زعنة حتى عرفه بعد فكان إذا لقيه قال انظر ما صنعت بي فيقول أبو زعنة وأنت فقد ضربت أسيد بن حضير ولا تشعر ولكن هذا الجرح في سبيل الله فذكر ذلك لرسول الله ص فقال هو في سبيل الله يا أبا بردة لك أجره حتى كأنك ضربك أحد المشركين ومن قتل فهو شهيد . قال الواقدي وكان الشيخان حسيل بن جابر ورفاعة بن وقش شيخين كبيرين قد رفعا في الآطام مع النساء فقال أحدهما لصاحبه لا أبا لك ما نستبقي من أنفسنا فو الله ما نحن إلا هامة اليوم أو غد وما بقي من أجلنا قدر ظم ء دابة فلو أخذنا أسيافنا فلحقنا برسول الله ص لعل الله يرزقنا الشهادة قال فلحقا برسول الله ص فأما رفاعة فقتله المشركون وأما حسيل بن جابر فالتفت عليه سيوف المسلمين وهم لا يعرفونه حين اختلطوا وابنه حذيفة يقول أبي أبي حتى قتل فقال حذيفة يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ما صنعتم فزاد به عند رسول الله ص خيرا وأمر رسول الله بديته أن تخرج ويقال إن الذي أصابه عتبة بن مسعود فتصدق حذيفة ابنه بدمه على المسلمين . قال الواقدي وأقبل يومئذ الحباب بن المنذر بن الجموح يصيح يا آل سلمة فأقبلوا
[ 242 ](1/4093)
عنقا واحدا لبيك داعي الله لبيك داعي الله فيضرب يومئذ جبار بن صخر ضربة في رأسه مثقلة وما يدري حتى أظهروا الشعار بينهم فجعلوا يصيحون أمت أمت فكف بعضهم عن بعض . قال الواقدي وكان نسطاس مولى ضرار بن أمية ممن حضر أحدا مع المشركين ثم أسلم بعد وحسن إسلامه فكان يحدث قال قد كنت ممن خلف في العسكر يومئذ ولم يقاتل معهم عبد إلا وحشي وصواب غلام بني عبد الدار فكان أبو سفيان صاح فيهم يا معشر قريش خلوا غلمانكم على متاعكم يكونوا هم الذين يقومون على رحالكم فجمعنا بعضها إلى بعض وعقلنا الإبل وانطلق القوم على تعبئتهم ميمنة وميسرة وألبسنا الرحال الأنطاع ودنا القوم بعضهم من بعض فاقتتلوا ساعة وإذا أصحابنا منهزمون فدخل المسلمون معسكرنا ونحن في الرحال فأحدقوا بنا فكنت فيمن أسروا وانتهبوا المعسكر أقبح انتهاب حتى إن رجلا منهم قال أين مال صفوان بن أمية فقلت ما حمل إلا نفقة في الرحل فخرج يسوقني حتى أخرجتها من العيبة خمسين ومائة مثقال ذهبا وقد ولى أصحابنا وأيسنا منهم وانحاش النساء فهن في حجرهن سلم لمن أرادهن فصار النهب في أيدي المسلمين . قال نسطاس فإنا لعلى ما نحن عليه من الاستسلام ونظرت إلى الجبل فإذا خيل مقبلة تركض فدخلوا العسكر فلم يكن أحد يردهم قد ضيعت الثغور التي كان بها الرماة وجاءوا إلى النهب والرماة ينتهبون وأنا أنظر إليهم متأبطي قسيهم وجعابهم كل واحد منهم في يديه أو حضنه شي ء قد أخذه فلما دخلت خيلنا دخلت على قوم غارين آمنين فوضعوا فيهم السيوف فقتلوهم قتلا ذريعا وتفرق المسلمون في كل وجه
[ 243 ](1/4094)
و تركوا ما انتهبوا وأجلوا عن عسكرنا فارتجعنا بعد لم نفقد منه شيئا وخلوا أسرانا ووجدنا الذهب في المعركة ولقد رأيت يومئذ رجلا من المسلمين ضم صفوان بن أمية إليه ضمة ظننت أنه سيموت حتى أدركته وبه رمق فوجأت ذلك المسلم بخنجر معي فوقع فسألت عنه فقيل رجل من بني ساعدة ثم هداني الله بعد للإسلام . قال الواقدي فحدثني ابن أبي سبرة عن إسحاق بن عبد الله عن عمر بن الحكم قال ما علمنا أحدا من أصحاب رسول الله ص الذين أغاروا على النهب فأخذوا ما أخذوا من الذهب بقي معه من ذلك شي ء يرجع به حيث غشينا المشركون واختلفوا إلا رجلين أحدهما عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح جاء بمنطقة وجدها في العسكر فيها خمسون دينارا فشدها على حقويه من تحت ثيابه وجاء عباد بن بشر بصرة فيها ثلاثة عشر مثقالا ألقاها في جيب قميصه وفوقها الدرع وقد حزم وسطه فأتيا بذلك رسول الله ص فلم يخمسه ونفلهما إياه . قال الواقدي وروى يعقوب بن أبي صعصعة عن موسى بن ضمرة عن أبيه قال لما صاح الشيطان أزب العقبة أن محمدا قد قتل لما أراد الله عز وجل من ذلك سقط في أيدي المسلمين وتفرقوا في كل وجه وأصعدوا في الجبل فكان أول من بشرهم بكون رسول الله ص سالما كعب بن مالك قال كعب عرفته فجعلت أصيح هذا رسول الله وهو يشير إلي بإصبعه على فيه أن اسكت . قال الواقدي وروت عميرة بنت عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيها قالت قال أبي لما انكشف الناس كنت أول من عرف رسول الله ص
[ 244 ](1/4095)
و بشرت به المسلمين حيا سويا عرفت عينيه من تحت المغفر فناديت يا معشر الأنصار أبشروا فهذا رسول الله ص فأشار إلي رسول الله ص أن اصمت قال ودعا رسول الله ص بكعب فلبس لأمته وألبس كعبا لأمة نفسه وقاتل كعب قتالا شديدا جرح سبعة عشر جرحا . قال الواقدي وحدثني ابن أبي سبرة عن خالد بن رباح عن الأعرج قال لما صاح الشيطان أن محمدا قد قتل قال أبو سفيان بن حرب يا معشر قريش أيكم قتل محمدا قال ابن قميئة أنا قتلته قال نسورك كما تفعل الأعاجم بأبطالها وجعل أبو سفيان يطوف بأبي عامر الفاسق في المعركة هل يرى محمدا بين القتلى فمر بخارجة بن زيد بن أبي زهير فقال يا أبا سفيان هل تدري من هذا قال لا قال هذا خارجة بن زيد هذا أسيد بني الحارث بن الخزرج ومر بعباس بن عبادة بن نضلة إلى جنبه قال أ تعرفه قال لا قال هذا ابن قوقل هذا الشريف في بيت الشرف ثم مر بذكوان بن عبد قيس فقال وهذا من ساداتهم ثم مر بابنه حنظلة بن أبي عامر فوقف عليه فقال أبو سفيان من هذا قال هذا أعز من هاهنا علي هذا ابني حنظلة قال أبو سفيان ما نرى مصرع محمد ولو كان قتل لرأيناه كذب ابن قميئة ولقي خالد بن الوليد فقال هل تبين عندك قتل محمد قال لا رأيته أقبل في نفر من أصحابه مصعدين في الجبل فقال أبو سفيان هذا حق كذب ابن قميئة زعم أنه قتله . قلت قرأت على النقيب أبي يزيد رحمه الله هذه الغزاة من كتاب الواقدي وقلت له كيف جرى لهؤلاء في هذه الوقعة فإني أستعظم ما جرى فقال وما في ذلك مما تستعظمه حمل قلب المسلمين من بعد قتل أصحاب الألوية على قلب المشركين فكسره
[ 245 ](1/4096)
فلو ثبتت مجنبتا رسول الله اللتان فيهما أسيد بن حضير والحباب بن المنذر بإزاء مجنبتي المشركين لم ينكسر عسكر الإسلام ولكن مجنبتا المسلمين أطبقت إطباقا واحدا على قلب المشركين مضافا إلى قلب المسلمين فصار عسكر رسول الله ص قلبا واحدا وكتيبة واحدة فحطمه قلب قريش حطمة شديدة فلما رأت مجنبتا قريش أنه ليس بإزائها أحد استدارت المجنبتان من وراء عسكر المسلمين وصمد كثير منهم للرماة الذين كانوا يحمون ظهر المسلمين فقتلوهم عن آخرهم لأنهم لم يكونوا ممن يقومون لخالد وعكرمة وهما في ألفي رجل وإنما كانوا خمسين رجلا لا سيما وقد ترك كثير منهم مركزه وشره إلى الغنيمة فأكب على النهب قال رحمه الله والذي كسر المسلمين يومئذ ونال كل منال خالد بن الوليد وكان فارسا شجاعا ومعه خيل كثيرة ورجال أبطال موتورون واستدار خلف الجبل فدخل من الثغرة التي كان الرماة عليها فأتاه من وراء المسلمين وتراجع قلب المشركين بعد الهزيمة فصار المسلمون بينهم في مثل الحلقة المستديرة واختلط الناس فلم يعرف المسلمون بعضهم بعضا وضرب الرجل منهم أخاه وأباه بالسيف وهو لا يعرفه لشدة النقع والغبار ولما اعتراهم من الدهش والعجلة والخوف فكانت الدبرة عليهم بعد أن كانت لهم ومثل هذا يجري دائما في الحرب . فقلت له رحمه الله فلما انكشف المسلمون وفر منهم من فر ما كانت حال رسول الله ص فقال ثبت في نفر يسير من أصحابه يحامون عنه . فقلت ثم ما ذا قال ثم ثابت إليه الأنصار وردت إليه عنقا واحدا بعد فرارهم وتفرقهم وامتاز المسلمون عن المشركين وكانوا ناحية ثم التحمت الحرب واصطدم الفيلقان .
[ 246 ](1/4097)
قلت ثم ما ذا قال لم يزل المسلمون يحامون عن رسول الله ص والمشركون يتكاثرون عليهم ويقتلون فيهم حتى لم يبق من النهار إلا القليل والدولة للمشركين . قلت ثم ما ذا قال ثم علم الذين بقوا من المسلمين أنه لا طاقة لهم بالمشركين فأصعدوا في الجبل فاعتصموا به . فقلت له فرسول الله ص ما الذي صنع فقال صعد في الجبال . قلت له أ فيجوز أن يقال إنه فر فقال إنما يكون الفرار ممن أمعن في الهرب في الصحراء والبيداء فأما من الجبل مطل عليه وهو في سفحه فلما رأى ما لا يعجبه أصعد في الجبل فإنه لا يسمى فارا ثم سكت رحمه الله ساعة ثم قال هكذا وقعت الحال فإن شئت أن تسمي ذلك فرارا فسمه فقد خرج من مكة يوم الهجرة فارا من المشركين ولا وصمة عليه في ذلك . فقلت له قد روى الواقدي عن بعض الصحابة قال لم يبرح رسول الله ص ذلك اليوم شبرا واحدا حتى تحاجزت الفئتان فقال دع صاحب هذه الرواية فليقل ما شاء فالصحيح ما ذكرته لك ثم قال كيف يقال لم يزل واقفا حتى تحاجزت الفئتان وإنما تحاجرا بعد أن ناداه أبو سفيان وهو في أعلى الجبل بما ناداه فلما عرف أنه حي وأنه في أعلى الجبل وأن الخيل لا تستطيع الصعود إليه وأن القوم إن صعدوا إليه رجالة لم يثقوا بالظفر به لأن معه أكثر أصحابه وهم مستميتون إن صعد القوم إليهم وأنهم لا يقتلون منهم واحدا حتى يقتلوا منهم اثنين أو ثلاثة لأنهم لا سبيل لهم إلى الهرب لكونهم محصورين في ذرو واحد فالرجل منهم يحامي عن خيط رقبته كفوا عن الصعود وقنعوا بما وصلوا إليه من قتل من قتلوه في الحرب وأملوا
[ 247 ](1/4098)
يوما ثانيا يكون لهم فيه الظفر الكلي بالنبي ص فرجعوا عنهم وطلبوا مكة . وروى الواقدي عن أبي سبرة عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن أبي الحويرث عن نافع بن جبير قال سمعت رجلا من المهاجرين يقول شهدت أحدا فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية ورسول الله ص في وسطها كل ذلك يصرف عنه ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا وإن رسول الله ص إلى جنبه ما معه أحد ثم جاوزه ولقي عبد الله بن شهاب صفوان بن أمية فقال له صفوان ترحت هلا ضربت محمدا فقطعت هذه الشأفة فقد أمكنك الله منه قال ابن شهاب وهل رأيته قال نعم أنت إلى جنبه قال والله ما رأيته أحلف بالله إنه منا لممنوع خرجنا أربعة تعاهدنا وتعاقدنا على قتله فلم نخلص إلى ذلك . قال الواقدي فروى نملة واسم أبي نملة عبد الله بن معاذ وكان أبوه معاذ أخا البراء بن معرور لأمه قال لما انكشف المسلمون ذلك اليوم نظرت إلى رسول الله ص وما معه أحد إلا نفير قد أحدقوا به من أصحابه من المهاجرين والأنصار فانطلقوا به إلى الشعب وما للمسلمين لواء قائم ولا فئة ولا جمع وإن كتائب المشركين لتحوشهم مقبلة ومدبرة في الوادي يلتقون ويفترقون ما يرون أحدا يردهم . قال الواقدي وحدثني إبراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدري عن أبيه قال حمل مصعب اللواء فلما جال المسلمون ثبت به مصعب قبل ابن قميئة وهو فارس فضرب يد مصعب فقطعها فقال مصعب وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ . وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنى عليه فضربه فقطع اليسرى فضمه بعضديه إلى صدره
[ 248 ](1/4099)
و هو يقول وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه واندق الرمح ووقع مصعب وسقط اللواء وابتدره رجلان من بني عبد الدار سويبط بن حرملة وأبو الروم فأخذه أبو الروم فلم يزل بيده حتى دخل به المدينة حين انصرف المسلمون . قال الواقدي وقالوا إن رسول الله لما لحمه القتال وخلص إليه وذب عنه مصعب بن عمير وأبو دجانة حتى كثرت به الجراحة جعل رسول الله ص يقول من رجل يشري نفسه فوثب فئة من الأنصار خمسة منهم عمارة بن زياد بن السكن فقاتل حتى أثبت وفاءت فئة من المسلمين حتى أجهضوا أعداء الله فقال رسول الله ص لعمارة بن زياد ادن مني حتى وسده رسول الله ص قدمه وإن به لأربعة عشر جرحا حتى مات وجعل رسول الله ص يذمر الناس ويحضهم على القتال وكان رجال من المشركين قد أذلقوا المسلمين بالرمي منهم حيان بن العرقة وأبو أسامة الجشمي فجعل النبي ص يقول لسعد ارم فداك أبي وأمي فرمى حيان بن العرقة بسهم فأصاب ذيل أم أيمن وكانت جاءت يومئذ تسقي الجرحى فقلبها وانكشف ذيلها عنها فاستغرب حيان بن العرقة ضحكا وشق ذلك على رسول الله ص فدفع إلى سعد بن أبي وقاص سهما لا نصل له وقال ارم به فرمى فوضع السهم في ثغرة نحر حيان فوقع مستلقيا وبدت عورته . قال سعد فرأيت النبي ص ضحك يومئذ حتى بدت نواجذه وقال استقاد لها سعد أجاب الله دعوتك وسدد رميتك ورمى يومئذ مالك بن زهير الجشمي أخو أبي أسامة الجشمي المسلمين رميا شديدا وكان هو وريان بن العرقة قد أسرعا في أصحاب رسول الله ص وأكثرا فيهم القتل يستتران بالصخر ويرميان
[ 249 ](1/4100)
فبينا هم على ذلك أبصر سعد بن أبي وقاص مالك بن زهير يرمي من وراء صخرة قد رمى وأطلع رأسه فيرميه سعد فأصاب السهم عينه حتى خرج من قفاه فترى في السماء قامة ثم رجع فسقط فقتله الله عز وجل . قال الواقدي ورمى رسول الله ص عن قوسه يومئذ حتى صارت شظايا فأخذها قتادة بن النعمان وكانت عنده وأصيبت يومئذ عين قتادة حتى وقعت على وجنته قال قتادة فجئت إلى رسول الله ص فقلت يا رسول الله إن تحتي امرأة شابة جميلة أحبها وتحبني وأنا أخشى أن تقذر مكان عيني فأخذها رسول الله ص فردها وانصرف بها وعادت كما كانت فلم تضرب عليه ساعة من ليل ونهار وكان يقول بعد أن أسن هي أقوى عيني وكانت أحسنهما . قال الواقدي وباشر رسول الله ص القتال بنفسه فرمى بالنبل حتى فنيت نبله وانكسرت سية قوسه وقبل ذلك انقطع وتره وبقيت في يده قطعة تكون شبرا في سية القوس فأخذ القوس عكاشة بن محصن يوتره له فقال يا رسول الله لا يبلغ الوتر فقال مده يبلغ قال عكاشة فو الذي بعثه بالحق لمددته حتى بلغ وطويت منه ليتين أو ثلاثة على سية القوس ثم أخذه رسول الله ص فما زال يرامي القوم وأبو طلحة أمامه يستره مترسا عنه حتى نظرت إلى سية قوسه قد تحطمت فأخذها قتادة بن النعمان قال الواقدي وكان أبو طلحة يوم أحد قد نثل كنانته بين يدي النبي ص وكان راميا وكان صيتا فقال رسول الله ص لصوت أبي طلحة في الجيش خير من أربعين رجلا وكان في كنانته خمسون سهما نثلها بين يدي
[ 250 ](1/4101)
رسول الله ص وجعل يصيح نفسي دون نفسك يا رسول الله فلم يزل يرمي بها سهما سهما وكان رسول الله ص يطلع رأسه من خلف أبي طلحة بين أذنه ومنكبه ينظر إلى مواقع النبل حتى فنيت نبله وهو يقول نحري دون نحرك جعلني الله فداك قالوا إنه كان رسول الله ص ليأخذ العود من الأرض فيقول ارم يا أبا طلحة فيرمي به سهما جيدا . قال الواقدي وكان الرماة المذكورون من أصحاب رسول الله ص جماعة منهم سعد بن أبي وقاص وأبو طلحة وعاصم بن ثابت والسائب بن عثمان بن مظعون والمقداد بن عمرو وزيد بن حارثة وحاطب بن أبي بلتعة وعتبة بن غزوان وخراش بن الصمة وقطبة بن عامر بن حديدة وبشر بن البراء بن معرور وأبو نائلة ملكان بن سلامة وقتادة بن النعمان . قال الواقدي ورمى أبو رهم الغفاري بسهم فأصاب نحره فجاء إلى رسول الله ص فبصق عليه فبرأ فكان أبو رهم بعد ذلك يسمى المنحور . وروى أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد اللغوي غلام ثعلب ورواه أيضا محمد بن حبيب في أماليه أن رسول الله ص لما فر معظم أصحابه عنه يوم أحد كثرت عليه كتائب المشركين وقصدته كتيبة من بني كنانة ثم من بني عبد مناة بن كنانة فيها بنو سفيان بن عويف وهم خالد بن سفيان وأبو الشعثاء بن سفيان وأبو الحمراء بن سفيان وغراب بن سفيان فقال رسول الله ص يا علي اكفني هذه الكتيبة فحمل عليها وإنها لتقارب خمسين فارسا وهو ع راجل فما زال يضربها بالسيف حتى تتفرق عنه ثم تجتمع عليه هكذا مرارا حتى قتل بني سفيان بن عويف الأربعة وتمام العشرة منها ممن لا يعرف بأسمائهم فقال جبرئيل
[ 251 ]
ع لرسول الله ص يا محمد إن هذه المواساة لقد عجبت الملائكة من مواساة هذا الفتى فقال رسول الله ص وما يمنعه وهو مني وأنا منه فقال جبرائيل ع وأنا منكما قال وسمع ذلك اليوم صوت من قبل السماء لا يرى شخص الصارخ به ينادي مرارا
لا سيف إلا ذو الفقار
و لا فتى إلا علي(1/4102)
فسئل رسول الله ص عنه فقال هذا جبرائيل . قلت وقد روى هذا الخبر جماعة من المحدثين وهو من الأخبار المشهورة ووقفت عليه في بعض نسخ مغازي محمد بن إسحاق ورأيت بعضها خاليا عنه وسألت شيخي عبد الوهاب بن سكينة رحمه الله عن هذا الخبر فقال خبر صحيح فقلت فما بال الصحاح لم تشتمل عليه قال أ وكلما كان صحيحا تشتمل عليه كتب الصحاح كم قد أهمل جامعوا الصحاح من الأخبار الصحيحة . قال الواقدي وأقبل عثمان بن عبد الله بن المغيرة المخزومي يحضر فرسا له أبلق يريد رسول الله ص عليه لأمة كاملة ورسول الله ص متوجه إلى الشعب وهو يصيح لا نجوت إن نجوت فيقف رسول الله ص ويعثر بعثمان فرسه في بعض تلك الحفر التي حفرها أبو عامر الفاسق للمسلمين فيقع الفرس لوجهه وسقط عثمان عنه وخرج الفرس غائرا فيأخذه بعض أصحاب رسول الله ص ويمشي إليه الحارث بن الصمة فاضطربا ساعة بالسيفين ثم يضرب الحارث رجله وكانت درعه مشمرة فبرك وذفف عليه وأخذ الحارث
[ 252 ](1/4103)
يومئذ سلبه درعا جيدا ومغفرا وسيفا جيدا ولم يسمع بأحد من المشركين سلب يومئذ غيره ورسول الله ص ينظر إلى قتالهما فسأل عن الرجل قيل عثمان بن عبد الله بن المغيرة قال الحمد لله الذي أحانه وقد كان عبد الله بن جحش أسره من قبل ببطن نخلة حتى قدم به على رسول الله ص فافتدى ورجع إلى قريش وغزا معهم أحدا فقتل هناك ويرى مصرع عثمان عبيد بن حاجز العامري أحد بني عامر بن لؤي فأقبل يعدو كأنه سبع فيضرب حارث بن الصمة ضربة على عاتقه فوقع الحارث جريحا حتى احتمله أصحابه ويقبل أبو دجانة على عبيد بن حاجز فتناوشا ساعة من نهار وكل واحد منهما يتقي بالدرقة سيف صاحبه ثم حمل عليه أبو دجانة فاحتضنه ثم جلد به الأرض وذبحه بالسيف كما تذبح الشاة ثم انصرف فلحق برسول الله ص . قال الواقدي ويروى أن سهل بن حنيف جعل ينضح بالنبل عن رسول الله ص فقال نبلوا سهلا فإنه سهل ونظر رسول الله ص إلى أبي الدرداء والناس منهزمون في كل وجه فقال نعم الفارس عويمر غير أنه لم يشهد أحدا . قال الواقدي وروى الحارث بن عبيد الله بن كعب بن مالك قال حدثني من نظر إلى أبي سبرة بن الحارث بن علقمة ولقي أحد المشركين فاختلفا ضربات كل ذلك يروغ أحدهما عن الآخر قال فنظر الناس إليهما كأنهما سبعان ضاريان يقفان مرة ويقتلان أخرى ثم تعانقا فوقعا إلى الأرض جميعا فعلاه أبو سبرة فذبحه بسيفه كما تذبح الشاة ونهض عنه فيقبل خالد بن الوليد وهو على فرس أدهم أغر محجل يجر قناة طويلة فطعن أبا سبرة من خلفه فنظرت إلى سنان الرمح خرج من صدره
[ 253 ](1/4104)
و وقع أبو سبرة ميتا وانصرف خالد بن الوليد يقول أنا أبو سليمان . قال الواقدي وقاتل طلحة بن عبيد الله يومئذ عن النبي ص قتالا شديدا وكان طلحة يقول لقد رأيت رسول الله ص حيث انهزم أصحابه وكثر المشركون فأحدقوا بالنبي ص من كل ناحية فما أدري أقوم من بين يديه أو من ورائه أم عن يمينه أم شماله فأذب بالسيف عنه هاهنا وهاهنا حتى انكشفوا فجعل رسول الله ص يومئذ يقول لطلحة لقد أوجب وروي لقد أنحب أي قضى نذره . قال الواقدي وروي أن سعد بن أبي وقاص ذكر طلحة فقال يرحمه الله إنه كان أعظمنا غناء عن رسول الله ص يوم أحد قيل كيف يا أبا إسحاق قال لزم النبي ص وكنا نتفرق عنه ثم نثوب إليه لقد رأيته يدور حول النبي ص يترس بنفسه . قال الواقدي وسئل طلحة يا أبا محمد ما أصاب إصبعك قال رمى مالك بن زهير الجشمي بسهم يريد رسول الله ص وكان لا تخطئ رميته فاتقيت بيدي عن وجه رسول الله ص فأصاب خنصري فشل . قال الواقدي وقالوا إن طلحة قال لما رمي حس فقال رسول الله ص لو قال بسم الله لدخل الجنة والناس ينظرون إليه من أحب أن ينظر إلى رجل يمشي في الدنيا وهو من أهل الجنة فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله طلحة ممن قضى نحبه .
[ 254 ](1/4105)
قال الواقدي وكان طلحة يحدث يقول لما جال المسلمون تلك الجولة ثم تراجعوا أقبل رجل من بني عامر بن لؤي يدعى شيبة بن مالك بن المضرب يجر رمحه وهو على فرس أغر كميت مدججا في الحديد يصيح أنا أبو ذات الوذع دلوني على محمد فأضرب عرقوب فرسه فاكتسعت به ثم أتناول رمحه فو الله ما أخطأت به عن حدقته فخار كما يخور الثور فما برحت به واضعا رجلي على خده حتى أزرته شعوب . قال الواقدي وكان طلحة قد أصابته في رأسه المصلبة ضربه رجل من المشركين ضربتين ضربة وهو مقبل وضربة وهو معرض عنه وكان نزف منها الدم قال أبو بكر جئت النبي ص يوم أحد فقال عليك بابن عمك فأتي طلحة بن عبيد الله وقد نزف الدم فجعلت أنضح في وجهه الماء وهو مغشي عليه ثم أفاق فقال ما فعل رسول الله ص فقلت خيرا هو أرسلني إليك فقال الحمد لله كل مصيبة بعده جلل . قال الواقدي وكان ضرار بن الخطاب الفهري يقول نظرت إلى طلحة بن عبيد الله قد حلق رأسه عند المروة في عمرة فنظرت إلى المصلبة في رأسه فكان ضرار يقول أنا والله ضربته هو استقبلني فضربته ثم أكر عليه وقد أعرض فأضربه ضربة أخرى
[ 255 ](1/4106)
قال الواقدي ولما كان يوم الجمل وقتل علي ع من قتل من الناس ودخل البصرة جاءه رجل من العرب فتكلم بين يديه ونال من طلحة فزبره علي ع وقال إنك لم تشهد يوم أحد وعظم غنائه عن الإسلام مع مكانه من رسول الله ص فانكسر الرجل وسكت فقال له قائل من القوم وما كان غناؤه وبلاؤه يرحمه الله يوم أحد فقال علي ع نعم يرحمه الله لقد رأيته وإنه ليترس بنفسه دون رسول الله ص وإن السيوف لتغشاه والنبل من كل ناحية وما هو إلا جنة لرسول الله ص يقيه بنفسه فقال رجل لقد كان يوم أحد يوما قتل فيه أصحاب رسول الله ص وأصابت رسول الله ص فيه الجراحة فقال علي ع أشهد لسمعت رسول الله ص يقول ليت أني غودرت مع أصحابي بنحص الجبل ثم قال علي ع لقد رأيتني يومئذ وإني لأذبهم في ناحية وإن أبا دجانة لفي ناحية يذب طائفة منهم حتى فرج الله ذلك كله ولقد رأيتني وانفردت منهم يومئذ فرقة خشناء فيها عكرمة بن أبي جهل فدخلت وسطهم بالسيف فضربت به واشتملوا علي حتى أفضيت إلى آخرهم ثم كررت فيهم الثانية حتى رجعت من حيث جئت ولكن الأجل استأخر ويقضي الله أمرا كان مفعولا . قال الواقدي وحدثني جابر بن سليم عن عثمان بن صفوان عن عمارة بن خزيمة قال حدثني من نظر إلى الحباب بن المنذر بن الجموح وإنه ليحوشهم يومئذ كما تحاش الغنم ولقد اشتملوا عليه حتى قيل قد قتل ثم برز والسيف في يده وافترقوا عنه وجعل يحمل على فرقة منهم وإنهم ليهربون منه إلى جمع منهم
[ 256 ](1/4107)
و صار الحباب إلى النبي ص وكان الحباب يومئذ معلما بعصابة خضراء في مغفره . قال الواقدي وطلع يومئذ عبد الرحمن بن أبي بكر على فرس مدججا لا يرى منه إلا عيناه فقال من يبارز أنا عبد الرحمن بن عتيق فنهض إليه أبو بكر وقال أنا أبارزه وجرد سيفه فقال له رسول الله ص شم سيفك وارجع إلى مكانك ومتعنا بنفسك . قال الواقدي وقال رسول الله ص ما وجدت لشماس بن عثمان شبها إلا الجنة يعني مما يقاتل عن رسول الله يومئذ وكان رسول الله ص لا يأخذ يمينا ولا شمالا إلا رأى شماس بن عثمان في ذلك الوجه يذب بسيفه عنه حتى غشي رسول الله ص فترس بنفسه دونه حتى قتل فذلك قول رسول الله ص ما وجدت لشماس شبها إلا الجنة . قال الواقدي ولما ولى المسلمون حين عطف عليهم خالد بن الوليد من خلفهم كان أول من أقبل من المسلمين بعد التولية قيس بن محرث مع طائفة من الأنصار وقد كانوا بلغوا بني حارثة فرجعوا سراعا فصادفوا المشركين في كثرتهم فدخلوا في حومتهم فما أفلت منهم رجل حتى قتلوا كلهم ولقد ضاربهم قيس بن محرث فامتنع بسيفه حتى قتل منهم نفرا فما قتلوه إلا بالرماح نظموه ولقد وجد به أربع عشرة طعنة جائفة وعشر ضربات بالسيف . قال الواقدي وكان عباس بن عبادة بن نظلة المعروف بابن قوقل وخارجة بن
[ 257 ](1/4108)
زيد بن أبي زهير وأوس بن أرقم بن زيد وعباس رافع صوته يقول يا معشر المسلمين الله ونبيكم هذا الذي أصابكم بمعصية نبيكم وعدكم النصر فما صبرتم ثم نزع مغفره عن رأسه وخلع درعه وقال لخارجة بن زيد هل لك في درعي ومغفري قال خارجة لا أنا أريد الذي تريد فخالطوا القوم جميعا وعباس يقول ما عذرنا عند ربنا إن أصيب نبينا ومنا عين تطرف قال فيقول خارجة لا عذر لنا والله عند ربنا ولا حجة فأما عباس فقتله سفيان بن عبد شمس السلمي ولقد ضربه عباس ضربتين فجرحه جرحين عظيمين فارتث يومئذ جريحا فمكث جريحا سنة ثم استبل وأخذت خارجة بن زيد الرماح فجرح بضعة عشر جرحا فمر به صفوان بن أمية فعرفه فقال هذا من أكابر أصحاب محمد وبه رمق فأجهز عليه وقتل أوس بن أرقم وقال صفوان من رأى خبيب بن يساف وهو يطلبه فلا يقدر عليه ومثل يومئذ بخارجة وقال هذا ممن أغري بأبي يوم بدر يعني أمية بن خلف وقال الآن شفيت نفسي حين قتلت الأماثل من أصحاب محمد قتلت ابن قوقل وقتلت ابن أبي زهير وقتلت أوس بن أرقم . قال الواقدي وقال رسول الله ص يومئذ من يأخذ هذا السيف بحقه قالوا وما حقه يا رسول الله قال يضرب به العدو فقال عمر أنا يا رسول الله فأعرض عنه ثم عرضه رسول الله ص بذلك الشرط فقام الزبير فقال أنا فأعرض عنه حتى وجد عمر والزبير في أنفسهما ثم عرضه الثالثة فقام أبو دجانة وقال أنا يا رسول الله آخذه بحقه فدفعه إليه فصدق حين لقي به العدو وأعطى السيف حقه فقال أحد الرجلين إما عمر بن الخطاب أو الزبير والله لأجعلن هذا الرجل الذي أعطاه السيف ومنعنيه من شأني قال فاتبعته فو الله ما رأيت أحدا قاتل أفضل
[ 258 ](1/4109)
من قتاله لقد رأيته يضرب به حتى إذا كل عليه وخاف ألا يحيك عمد به إلى الحجارة فشحذه ثم يضرب به العدو حتى يرده كأنه منجل وكان حين أعطاه رسول الله ص السيف مشى بين الصفين واختال في مشيته فقال رسول الله ص حين رآه يمشي تلك المشية إن هذه لمشية يبغضها الله تعالى إلا في مثل هذا الموطن قال وكان أربعة من أصحاب النبي ص يعلمون في الزحوف أحدهم أبو دجانة كان يعصب رأسه بعصابة حمراء وكان قومه يعلمون أنه إذا اعتصب بها أحسن القتال وكان علي ع يعلم بصوفة بيضاء وكان الزبير يعلم بعصابة صفراء وكان حمزة يعلم بريش نعامة . قال الواقدي وكان أبو دجانة يحدث يقول إني لأنظر يومئذ إلى امرأة تقذف الناس وتحوشهم حوشا منكرا فرفعت عليها السيف وما أحسبها إلا رجلا حتى علمت أنها امرأة وكرهت أن أضرب بسيف رسول الله ص امرأة والمرأة عمرة بنت الحارث . قال الواقدي وكان كعب بن مالك يقول أصابني الجراح يوم أحد فلما رأيت المشركين يمثلون بالمسلمين أشد المثل وأقبحها قمت فتنحيت عن القتلى فإني لفي موضعي أقبل خالد بن الأعلم العقيلي جامع اللأمة يحوش المسلمين يقول استوسقوا كما يستوسق جرب الغنم وهو مدجج في الحديد يصيح يا معشر قريش لا تقتلوا محمدا ائسروه أسرا حتى نعرفه ما صنع ويصمد له قزمان فيضربه بالسيف ضربة على عاتقه رأيت منها سحره ثم أخذ سيفه وانصرف فطلع عليه من المشركين فارس ما أرى منه إلا عينيه فحمل عليه قزمان فضربه ضربة جزله اثنين فإذا هو الوليد بن العاص بن هشام المخزومي ثم يقول كعب إني لأنظر يومئذ وأقول ما رأيت مثل هذا الرجل أشجع
[ 259 ](1/4110)
بالسيف ثم ختم له بما ختم له به فيقال له فما ختم له به فيقول من أهل النار قتل نفسه يومئذ . قال الواقدي وروى أبو النمر الكناني قال أقبلت يوم أحد وأنا من المشركين وقد انكشف المسلمون وقد حضرت في عشرة من إخوتي فقتل منهم أربعة وكان الريح للمسلمين أول ما التقينا فلقد رأيتني وانكشفنا مولين وأقبل أصحاب النبي ص على نهب العسكر حتى بلغت الجماء ثم كرت خيلنا فقلت والله ما كرت الخيل إلا عن أمر رأته فكررنا على أقدامنا كأننا الخيل فنجد القوم قد أخذ بعضهم بعضا يقاتلون على غير صفوف ما يدري بعضهم من يضرب وما للمسلمين لواء قائم ومع رجل من بني عبد الدار لواء المشركين وأنا أسمع شعار أصحاب محمد بينهم أمت أمت فأقول في نفسي ما أمت وإني لأنظر إلى رسول الله ص وإن أصحابه محدقون به وإن النبل ليمر عن يمينه ويساره ويقع بين يديه ويخرج من ورائه ولقد رميت يومئذ بخمسين مرماة فأصبت منها بأسهم بعض أصحابه ثم هداني الله إلى الإسلام . قال الواقدي وكان عمرو بن ثابت بن وقش شاكا في الإسلام وكان قومه يكلمونه في الإسلام فيقول لو أعلم ما تقولون حقا ما تأخرت عنه حتى إذا كان يوم أحد بدا له الإسلام ورسول الله ص بأحد وأخذ سيفه وأسلم وخرج حتى دخل في القوم فقاتل حتى أثبت فوجد في القتلى جريحا ميتا فدنوا منه وهو بآخر رمق فقالوا ما جاء بك يا عمرو قال الإسلام آمنت بالله وبرسوله وأخذت سيفي وحضرت فرزقني الله الشهادة ومات في أيديهم فقال رسول الله ص إنه لمن أهل الجنة
[ 260 ](1/4111)
قال الواقدي فكان أبو هريرة يقول والناس حوله أخبروني برجل يدخل الجنة لم يصل لله تعالى سجدة فيسكت الناس فيقول أبو هريرة هو أخو بني عبد الأشهل عمرو بن ثابت بن وقش . قال الواقدي وكان مخيرق اليهودي من أحبار يهود فقال يوم السبت ورسول الله ص بأحد يا معشر يهود والله إنكم لتعلمون أن محمدا نبي وأن نصره عليكم حق فقالوا ويحك اليوم يوم السبت فقال لا سبت ثم أخذ سلاحه وحضر مع النبي ص فأصيب فقال رسول الله ص مخيرق خير يهود . قال الواقدي وكان مخيرق قال حين خرج إلى أحد إن أصبت فأموالي لمحمد يضعها حيث أراه الله فيه فهي عامة صدقات النبي ص . قال الواقدي وكان حاطب بن أمية منافقا وكان ابنه يزيد بن حاطب رجل صدق شهد أحدا مع النبي ص فارتث جريحا فرجع به قومه إلى منزله قال يقول أبوه وهو يرى أهل الدار يبكون عنده أنتم والله صنعتم هذا به قالوا كيف قال أغررتموه من نفسه حتى خرج فقتل ثم صرتم معه إلى شي ء آخر تعدونه جنة يدخل فيها حبة من حرمل قالوا قاتلك الله قال هو ذاك ولم يقر بالإسلام . قال الواقدي وكان قزمان عسيفا من بني ظفر لا يدرى ممن هو وكان لهم محبا
[ 261 ](1/4112)
و كان مقلا ولا ولد له ولا زوجة وكان شجاعا يعرف بذلك في حروبهم التي كانت تكون بينهم فشهد أحدا وقاتل قتالا شديدا فقتل ستة أو سبعة فأصابته الجراح فقيل للنبي ص إن قزمان قد أصابته الجراح فهو شهيد فقال بل من أهل النار فجاءوا إلى قزمان فقالوا هنيئا لك أبا الغيداق الشهادة فقال بم تبشرونني والله ما قاتلنا إلا على الأحساب قالوا بشرناك بالجنة قال حبة والله من حرمل إنا والله ما قاتلنا على جنة ولا على نار إنما قاتلنا على أحسابنا ثم أخرج سهما من كنانته فجعل يتوجأ به نفسه فلما أبطأ عليه المشقص أخذ السيف فاتكأ عليه حتى خرج من ظهره فذكر ذلك للنبي ص فقال هو من أهل النار . قال الواقدي وكان عمرو بن الجموح رجلا أعرج فلما كان يوم أحد وكان له بنون أربعة يشهدون مع النبي ص المشاهد أمثال الأسد أراد قومه أن يحبسوه وقالوا أنت رجل أعرج ولا حرج عليك وقد ذهب بنوك مع النبي ص قال بخ يذهبون إلى الجنة وأجلس أنا عندكم فقالت هند بنت عمرو بن حزام امرأته كأني أنظر إليه موليا قد أخذ درقته وهو يقول اللهم لا تردني إلى أهلي فخرج ولحقه بعض قومه يكلمونه في القعود فأبى وجاء إلى رسول الله ص فقال يا رسول الله إن قومي يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة فقال له أما أنت فقد عذرك الله ولا جهاد عليك فأبى فقال النبي ص لقومه وبنيه لا عليكم أن تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة فخلوا عنه فقتل يومئذ شهيدا وكان أبو طلحة يحدث يقول نظرت إلى عمرو بن الجموح حين انكشف المسلمون ثم ثابوا وهو في الرعيل الأول لكأني أنظر إلى ضلعه وهو يعرج في مشيته وهو يقول أنا والله مشتاق إلى الجنة ثم أنظر إلى ابنه يعدو في أثره حتى قتلا جميعا .
[ 262 ](1/4113)
قال الواقدي وكانت عائشة خرجت في نسوة تستروح الخبر ولم يكن قد ضرب الحجاب يومئذ حتى كانت بمنقطع الحرة وهي هابطة من بني حارثة إلى الوادي لقيت هندا بنت عمرو بن حزام أخت عبد الله بن عمرو بن حزام تسوق بعيرا لها عليه زوجها عمرو بن الجموح وابنها خلاد بن عمرو بن الجموح وأخوها عبد الله بن عمرو بن حزام أبو جابر بن عبد الله فقالت لها عائشة عندك الخبر فما وراءك فقالت هند خير أما رسول الله ص فصالح وكل مصيبة بعده جلل واتخذ الله من المؤمنين شهداء وَ رَدَّ اَللَّهُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَ كَفَى اَللَّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلْقِتالَ وَ كانَ اَللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً . قلت هكذا وردت الرواية وعندي أنها لم تقل كل ذلك ولعلها قالت وَ رَدَّ اَللَّهُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لا غير وإلا فكيف يواطئ كلامها آية من كلام الله تعالى أنزلت بعد الخندق والخندق بعد أحد هذا من البعيد جدا . قال فقالت لها عائشة فمن هؤلاء قالت أخي وابني وزوجي قتلى قالت فأين تذهبين بهم قالت إلى المدينة أقبرهم بها حل حل تزجر بعيرها فبرك البعير فقالت عائشة لثقل ما حمل قالت هند ما ذاك به لربما حمل ما يحمله البعيران ولكني أراه لغير ذلك فزجرته فقام فلما وجهت به إلى المدينة برك فوجهته راجعة إلى أحد فأسرع فرجعت إلى النبي ص فأخبرته بذلك فقال إن الجمل لمأمور هل قال عمرو شيئا قالت نعم إنه لما وجه إلى أحد استقبل القبلة ثم قال اللهم لا تردني إلى أهلي وارزقني الشهادة فقال ص فلذلك الجمل لا يمضي إن منكم يا معشر الأنصار من لو أقسم على الله لأبره منهم عمرو بن الجموح يا هند ما زالت الملائكة مظلة على أخيك من لدن قتل إلى الساعة ينظرون أين يدفن ثم مكث رسول الله ص في قبرهم ثم قال يا هند قد ترافقوا في الجنة
[ 263 ](1/4114)
جميعا عمرو بن الجموح بعلك وخلاد ابنك وعبد الله أخوك فقالت هند يا رسول الله فادع الله لي عسى أن يجعلني معهم . قال الواقدي وكان جابر بن عبد الله يقول اصطبح ناس يوم أحد الخمر منهم أبي فقتلوا شهداء . قال الواقدي وكان جابر يقول أول قتيل من المسلمين يوم أحد أبي قتله سفيان بن عبد شمس أبو الأعور السلمي فصلى عليه رسول الله ص قبل الهزيمة . قال الواقدي وكان جابر يحدث ويقول استشهد أبي وجعلت عمتي تبكي فقال النبي ص ما يبكيها ما زالت الملائكة تظل عليه بأجنحتها حتى دفن . قال الواقدي وقال عبيد الله بن عمرو بن حزام رأيت في النوم قبل يوم أحد بأيام مبشر بن عبد المنذر أحد الشهداء ببدر يقول لي أنت قادم علينا في أيام فقلت فأين أنت قال في الجنة نسرح منها حيث نشاء فقلت له أ لم تقتل يوم بدر قال بلى ثم أحييت فذكر ذلك لرسول الله ص قال هذه الشهادة يا جابر . قال الواقدي وقال رسول الله ص يوم أحد ادفنوا عبد الله بن عمرو بن حزام وعمرو بن الجموح في قبر واحد ويقال إنهما وجدا وقد مثل بهما كل مثلة قطعت آرابهما عضوا عضوا فلا تعرف أبدانهما فقال النبي ص ادفنوهما في قبر واحد ويقال إنما أمر بدفنهما في قبر واحد لما كان بينهما
[ 264 ](1/4115)
من الصفاء فقال ادفنوا هذين المتحابين في الدنيا في قبر واحد . وكان عبد الله بن عمرو بن حزام رجلا أحمر أصلع ليس بالطويل وكان عمرو بن الجموح طويلا فعرفا ودخل السيل بعد عليهما وكان قبرهما مما يلي السيل فحفر عنهما وعليهما نمرتان وعبد الله قد أصابه جرح في وجهه فيده على وجهه فأميطت يده عن جرحه فثعب الدم فردت إلى مكانها فسكن الدم . قال الواقدي وكان جابر بن عبد الله يقول رأيت أبي في حفرته وكأنه نائم وما تغير من حاله قليل ولا كثير فقيل له أ فرأيت أكفانه قال إنما كفن في نمرة خمر بها وجهه وعلى رجليه الحرمل فوجدنا النمرة كما هي والحرمل على رجليه كهيئته وبين ذلك وبين وقت دفنه ست وأربعون سنة فشاورهم جابر في أن يطيبه بمسك فأبى ذلك أصحاب النبي ص وقالوا لا تحدثوا فيهم شيئا . قال ويقال إن معاوية لما أراد أن يجري العين التي أحدثها بالمدينة وهي كظلمة نادى مناديه بالمدينة من كان له قتيل بأحد فليشهد فخرج الناس إلى قتلاهم فوجدوهم رطابا يتثنون فأصابت المسحاة رجل رجل منهم فثعبت دما فقال أبو سعيد الخدري لا ينكر بعد هذا منكر أبدا . قال ووجد عبد الله بن عمرو بن حزام وعمرو بن الجموح في قبر واحد ووجد خارجة بن زيد بن أبي زهير وسعد بن الربيع في قبر واحد فأما قبر عبد الله وعمرو فحول وذلك أن القناة كانت تمر على قبرها وأما قبر خارجة وسعد فترك وذلك لأن مكانه كان معتزلا وسوي عليهما التراب ولقد كانوا يحفرون التراب فكلما حفروا قترة من تراب فاح عليهم المسك .
[ 265 ](1/4116)
قال وقالوا إن رسول الله ص قال لجابر يا جابر أ لا أبشرك فقال بلى بأبي وأمي قال فإن الله أحيا أباك ثم كلمه كلاما فقال له تمن على ربك ما شئت فقال أتمنى أن أرجع فأقتل مع نبيك ثم أحيا فأقتل مع نبيك فقال إني قد قضيت أنهم لا يرجعون قال الواقدي وكانت نسيبة بنت كعب أم عمارة بن غزية بن عمرو قد شهدت أحدا وزوجها غزية وابناها عمارة بن غزية وعبد الله بن زيد وخرجت ومعها شن لها في أول النهار تريد تسقي الجرحى فقاتلت يومئذ وأبلت بلاء حسنا فجرحت اثني عشر جرحا بين طعنة برمح أو ضربة بسيف فكانت أم سعد بنت سعد بن الربيع تحدث فتقول دخلت عليها فقالت لها يا خالة حدثيني خبرك فقالت خرجت أول النهار إلى أحد وأنا أنظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ماء فانتهيت إلى رسول الله ص وهو في الصحابة والدولة والريح للمسلمين فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله ص فجعلت أباشر القتال وأذب عن رسول الله ص بالسيف وأرمي بالقوس حتى خلصت إلى الجراح فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غور فقلت يا أم عمارة من أصابك بهذا قالت أقبل ابن قميئة وقد ولى الناس عن رسول الله ص يصيح دلوني على محمد لا نجوت إن نجا فاعترض له مصعب بن عمير وناس معه فكنت فيهم فضربني هذه الضربة ولقد ضربته على ذلك ضربات ولكن عدو الله كان عليه درعان فقالت لها يدك ما أصابها قالت أصيبت يوم اليمامة لما جعلت الأعراب تنهزم بالناس نادت الأنصار أخلصونا فأخلصت الأنصار فكنت معهم حتى انتهينا إلى حديقة الموت فاقتتلنا عليها ساعة حتى قتل أبو دجانة على باب الحديقة ودخلتها
[ 266 ](1/4117)
و أنا أريد عدو الله مسيلمة فيعرض لي رجل فضرب يدي فقطعها فو الله ما كانت ناهية ولا عرجت عليها حتى وقفت على الخبيث مقتولا وابني عبد الله بن يزيد المازني يمسح سيفه بثيابه فقلت أ قتلته قال نعم فسجدت شكرا لله عز وجل وانصرفت . قال الواقدي وكان ضمرة بن سعيد يحدث عن جدته وكانت قد شهدت أحدا تسقي الماء قال سمعت رسول الله ص يقول يومئذ لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان وكان يراها يومئذ تقاتل أشد القتال وإنها لحاجزة ثوبها على وسطها حتى جرحت ثلاثة عشر جرحا . قلت ليت الراوي لم يكن هذه الكناية وكان يذكرهما باسمهما حتى لا تترامى الظنون إلى أمور مشتبهة ومن أمانة المحدث أن يذكر الحديث على وجهه ولا يكتم منه شيئا فما باله كتم اسم هذين الرجلين . قال فلما حضرت نسيبة الوفاة كنت فيمن غسلها فعددت جراحها جرحا جرحا فوجدتها ثلاثة عشر وكانت تقول إني لأنظر إلى ابن قميئة وهو يضربها على عاتقها وكان أعظم جراحها لقد داوته سنة ثم نادى منادي النبي ص بعد انقضاء أحد إلى حمراء الأسد فشدت عليها ثيابها فما استطاعت من نزف الدم ولقد مكثنا ليلتنا نكمد الجراح حتى أصبحنا فلما رجع رسول الله من حمراء الأسد لم يصل إلى بيته حتى أرسل إليها عبد الله بن كعب المازني يسأل عنها فرجع إليه فأخبره بسلامتها فسر بذلك . قال الواقدي وحدثني عبد الجبار بن عمارة بن غزية قال قالت أم عمارة
[ 267 ](1/4118)
لقد رأيتني وانكشف الناس عن رسول الله ص فما بقي إلا نفير ما يتمون عشرة وأنا وأبنائي وزوجي بين يديه نذب عنه والناس يمرون عنه منهزمين فرآني ولا ترس معي ورأى رجلا موليا معه ترس فقال يا صاحب الترس ألق ترسك إلى من يقاتل فألقى ترسه فأخذته فجعلت أترس به على النبي ص وإنما فعل بنا الأفاعيل أصحاب الخيل ولو كانوا رجالة مثلنا أصبناهم فيقبل رجل على فرس فضربني وترست له فلم يصنع سيفه شيئا وولى وأضرب عرقوب فرسه فوقع على ظهره فجعل النبي ص يصيح يا ابن عمارة أمك أمك قالت فعاونني عليه حتى أوردته شعوب . قال الواقدي وحدثني ابن أبي سبرة عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن عبد الله بن زيد المازني قال جرحت جرحا في عضدي اليسرى ضربني رجل كأنه الرقل ولم يعرج علي ومضى عني وجعل الدم لا يرقأ فقال رسول الله ص اعصب جرحك فتقبل أمي إلي ومعها عصائب في حقويها قد أعدتها للجراح فربطت جرحي والنبي ص واقف ينظر ثم قالت انهض يا بني فضارب القوم فجعل رسول الله ص يقول ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة قالت وأقبل الرجل الذي ضربني فقال رسول الله ص هذا ضارب ابنك فاعترضت أمي له فضربت ساقه فبرك فرأيت النبي ص تبسم حتى بدت نواجذه ثم قال استقدت يا أم عمارة ثم أقبلنا نعلوه بالسلاح حتى أتينا على نفسه فقال النبي ص الحمد لله الذي ظفرك وأقر عينك من عدوك وأراك ثأرك بعينك .
[ 268 ](1/4119)
قال الواقدي وروى موسى بن ضمرة بن سعيد عن أبيه قال أتي عمر بن الخطاب في أيام خلافته بمروط كان فيها مرط واسع جيد فقال بعضهم إن هذا المرط بثمن كذا فلو أرسلت به إلى زوجة عبد الله بن عمر صفية بنت أبي عبيد وذلك حدثان ما دخلت على ابن عمر فقال بل أبعث به إلى من هو أحق منها أم عمارة نسيبة بنت كعب سمعت رسول الله ص يوم أحد يقول ما ألتفت يمينا وشمالا إلا وأنا أراها تقاتل دوني . قال الواقدي وروى مروان بن سعيد بن المعلى قال قيل لأم عمارة يا أم عمارة هل كن نساء قريش يومئذ يقاتلن مع أزواجهن فقالت أعوذ بالله لا والله ما رأيت امرأة منهن رمت بسهم ولا حجر ولكن رأيت معهن الدفاف والأكبار يضربن ويذكرن القوم قتلى بدر ومعهن مكاحل ومراود فكلما ولى رجل أو تكعكع ناولته إحداهن مرودا ومكحلة ويقلن إنما أنت امرأة ولقد رأيتهن ولين منهزمات مشمرات ولها عنهن الرجال أصحاب الخيل ونجوا على متون خيلهم وجعلن يتبعن الرجال على أقدامهن فجعلن يسقطن في الطريق ولقد رأيت هندا بنت عتبة وكانت امرأة ثقيلة ولها خلق قاعدة خاشية من الخيل ما بها مشي ومعها امرأة أخرى حتى كثر القوم علينا فأصابوا منا ما أصابوا فعند الله نحتسب ما أصابنا يومئذ من قبل الرماة ومعصيتهم لرسول الله ص . قال الواقدي وحدثني ابن أبي سبرة عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة عن الحارث بن عبد الله قال سمعت عبد الله بن زيد بن عاصم يقول شهدت أحدا
[ 269 ](1/4120)
مع رسول الله ص فلما تفرق الناس عنه دنوت منه وأمي تذب عنه فقال يا ابن عمارة قلت نعم قال ارم فرميت بين يديه رجلا من المشركين بحجر وهو على فرس فأصيبت عين الفرس فاضطرب الفرس حتى وقع هو وصاحبه وجعلت أعلوه بالحجارة حتى نضدت عليه منها وقرا والنبي ص ينظر إلي ويتبسم فنظر إلى جرح بأمي على عاتقها فقال أمك أمك اعصب جرحها بارك الله عليكم من أهل بيت لمقام أمك خير من مقام فلان وفلان ومقام ربيبك يعني زوج أمه خير من مقام فلان رحمكم الله من أهل بيت فقالت أمي ادع لنا الله يا رسول الله أن نرافقك في الجنة فقال اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة قالت فما أبالي ما أصابني من الدنيا قال الواقدي وكان حنظلة بن أبي عامر تزوج جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول فأدخلت عليه في الليلة التي في صبيحتها قتال أحد وكان قد استأذن رسول الله ص أن يبيت عندها فأذن له فلما صلى الصبح غدا يريد النبي ص فلزمته جميلة فعاد فكان معها فأجنب منها ثم أراد الخروج وقد أرسلت قبل ذلك إلى أربعة من قومها فأشهدتهم أنه قد دخل بها فقيل لها بعد لم أشهدت عليه قالت رأيت كأن السماء فرجت فدخل فيها ثم أطبقت فقلت هذه الشهادة فأشهدت عليه أنه قد دخل بي فعلقت منه بعبد الله بن حنظلة ثم تزوجها ثابت بن قيس بعد فولدت له محمد بن ثابت بن قيس وأخذ حنظلة بن أبي عامر سلاحه فلحق برسول الله ص بأحد وهو يسوي الصفوف فلما انكشف المشركون اعترض حنظلة لأبي سفيان بن حرب فضرب عرقوب فرسه فاكتسعت الفرس ويقع أبو سفيان إلى الأرض فجعل يصيح يا معشر قريش أنا أبو سفيان بن حرب وحنظلة يريد ذبحه بالسيف فأسمع الصوت رجالا لا يلتفتون إليه من الهزيمة حتى عاينه الأسود بن شعوب فحمل على حنظلة بالرمح
[ 270 ](1/4121)
فأنفذه ومشى حنظلة إليه في الرمح فضربه ثانية فقتله وهرب أبو سفيان يعدو على قدميه فلحق ببعض قريش فنزل عن صدر فرسه وردف وراءه أبا سفيان فذلك قول أبي سفيان يذكر صبره ووقوفه وأنه لم يفر وذكره محمد بن إسحاق
و لو شئت نجتني كميت طمرة
و لم أحمل النعماء لابن شعوب
و ما زال مهري مزجر الكلب فيهم
لدن غدوة حتى دنت لغروب
أقاتلهم وأدعي يال غالب
و أدفعهم عني بركن صليب
فبكي ولا ترعى مقالة عاذل
و لا تسأمي من عبرة ونحيب
أياك وإخوانا لنا قد تتابعوا
و حق لهم من حسرة بنصيب
و سلي الذي قد كان في النفس إنني
قتلت من النجار كل نجيب
و من هاشم قرما كريما ومصعبا
و كان لدى الهيجاء غير هيوب
و لو أنني لم أشف نفسي منهم
لكانت شجا في الصدر ذات ندوب
فآبوا وقد أودى الجلابيب منهم
بهم كمد من واجم وكئيب
أصابهم من لم يكن لدمائهم
كفاء ولا في سنخهم بضريب
قال الواقدي مر أبو عامر الراهب على حنظلة ابنه وهو مقتول إلى جنب
[ 271 ]
حمزة بن عبد المطلب وعبد الله بن جحش فقال إن كنت لأحدرك هذا الرجل يعني رسول الله ص من قبل هذا المصرع والله إن كنت لبرا بالوالد شريف الخلق في حياتك وإن مماتك لمع سراة أصحابك وأشرافهم إن جزى الله هذا القتيل يعني حمزة خيرا أو جزى أحدا من أصحاب محمد خيرا فليجزك ثم نادى يا معشر قريش حنظلة لا يمثل به وإن كان خالفني وخالفكم فلم يأل لنفسه فيما يرى خيرا فمثل بالناس وترك حنظلة فلم يمثل به . وكانت هند بنت عتبة أول من مثل بأصحاب النبي ص وأمرت النساء بالمثل وبجدع الأنوف والآذان فلم تبق امرأة إلا عليها معضدان ومسكتان وخدمتان إلا حنظلة لم يمثل به و(1/4122)
قال رسول الله ص إني رأيت الملائكة تغسل حنظلة بن أبي عامر بين السماء والأرض بماء المزن في صحاف الفضة قال أبو أسيد الساعدي فذهبنا فنظرنا إليه فإذا رأسه يقطر ماء فرجعت إلى رسول الله ص فأخبرته فأرسل إلى امرأته فسألها فأخبرته أنه خرج وهو جنب . قال الواقدي وأقبل وهب بن قابوس المزني ومعه ابن أخيه الحارث بن عقبة بن قابوس بغنم لهما من جبل مزينة فوجد المدينة خلوا فسألا أين الناس قالوا بأحد خرج رسول الله ص يقاتل المشركين من قريش فقال لا نبتغي أثرا بعد عين فخرجا حتى أتيا النبي ص بأحد فيجدان القوم يقتتلون والدولة لرسول الله ص وأصحابه فأغارا مع المسلمين في النهب وجاءت الخيل من ورائهم خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل فاختلط الناس فقاتلا أشد القتال فانفرقت فرقة من المشركين فقال رسول الله ص من لهذه الفرقة فقال وهب بن قابوس أنا يا رسول الله فقام فرماهم بالنبل حتى انصرفوا ثم رجع فانفرقت فرقة
[ 272 ](1/4123)
أخرى فقال رسول الله ص من لهذه الكتيبة فقال المزني أنا يا رسول الله فقام فذبها بالسيف حتى ولت ثم رجع فطلعت كتيبة أخرى فقال النبي ص من يقوم لهؤلاء فقال المزني أنا يا رسول الله فقال قم وأبشر بالجنة . فقال المزني مسرورا يقول والله لا أقيل ولا أستقيل فجعل يدخل فيهم فيضرب بالسيف ورسول الله ص ينظر إليه والمسلمون حتى خرج من أقصى الكتيبة ورسول الله ص يقول اللهم ارحمه ثم يرجع فيهم فما زال كذلك وهم محدقون به حتى اشتملت عليه أسيافهم ورماحهم فقتلوه فوجد به يومئذ عشرون طعنة بالرماح كلها قد خلصت إلى مقتلي ومثل به أقبح المثل يومئذ ثم قام ابن أخيه فقاتل كنحو قتاله حتى قتل فكان عمر بن الخطاب يقول إن أحب ميتة أموت عليها لما مات عليها المزني . قال الواقدي وكان بلال بن الحارث المزني يحدث يقول شهدنا القادسية مع سعد بن أبي وقاص فلما فتح الله علينا وقسمت بيننا غنائمنا أسقط فتى من آل قابوس من مزينة فجئت سعدا حين فزع من نومه فقال بلال قلت بلال قال مرحبا بك من هذا معك قلت رجل من قومي قال ما أنت يا فتى من المزني الذي قتل يوم أحد قال ابن أخيه قال سعد مرحبا وأهلا أنعم الله بك عينا لقد شهدت من ذلك الرجل يوم أحد مشهدا ما شهدت من أحد قط لقد رأيتنا وقد أحدق المشركون بنا من كل ناحية ورسول الله ص وسطنا والكتائب تطلع من كل ناحية وإن رسول الله ص يرمي ببصره في الناس يتوسمهم ويقول من لهذه الكتيبة كل ذلك يقول المزني أنا يا رسول الله كل ذلك يرد الكتيبة فما أنسى آخر مرة قالها فقال له رسول الله ص قم
[ 273 ](1/4124)
و أبشر بالجنة فقام وقمت على أثره يعلم الله أني أطلب مثل ما يطلب يومئذ من الشهادة فخضنا حومتهم حتى رجعنا فيهم الثانية فأصابوه رحمه الله ووددت والله أني كنت أصبت يومئذ معه ولكن أجل استأخر ثم دعا من ساعته بسهمه فأعطاه وفضله وقال اختر في المقام عندنا أو الرجوع إلى أهلك فقال بلال إنه يستحب الرجوع فرجع . فقال الواقدي وقال سعد بن أبي وقاص أشهد لرأيت رسول الله ص واقفا على المزني وهو مقتول وهو يقول رضي الله عنك فإني عنك راض ثم رأيت رسول الله ص قام على قدميه وقد ناله ع من ألم الجراح ما ناله وإني لأعلم أن القيام يشق عليه على قبره حتى وضع في لحده وعليه بردة لها أعلام حمر فمد رسول الله ص البردة على رأسه فخمره وأدرجه فيها طولا فبلغت نصف ساقيه فأمرنا فجمعنا الحرمل فجعلناه على رجليه وهو في لحده ثم انصرف فما حال أحب إلي من أن أموت عليها وألقى الله عليها من حال المزني قال الواقدي وكان رسول الله ص يوم أحد قد خاصم إليه يتيم من الأنصار أبا لبابة بن عبد المنذر فطلب بينهما فقضى رسول الله ص لأبي لبابة فجزع اليتيم على العذق فطلب رسول الله ص العذق إلى أبي لبابة لليتيم فأبى أن يدفعه إليه فجعل رسول الله ص يقول لأبي لبابة ادفعه إليه ولك عذق في الجنة فأبى أبو لبابة وقال ثابت بن أبي الدحداحة يا رسول الله أ رأيت إن أعطيت اليتيم عذقه من مالي قال لك به عذق في الجنة فذهب ثابت بن الدحداحة فاشترى من أبي لبابة ذلك العذق بحديقة نخل ثم رد العذق إلى الغلام
[ 274 ](1/4125)
فقال رسول الله ص رب عذق مذلل لابن الدحداحة في الجنة فكانت ترجى له الشهادة بذلك القول فقتل يوم أحد . قال الواقدي ويقبل ضرار بن الخطاب فارسا يجر قناة له طويلة فيطعن عمرو بن معاذ فأنفذه ويمشي عمرو إليه حتى غلب فوقع لوجهه قال يقول ضرار لا تعدمن رجلا زوجك من الحور العين وكان يقول زوجت يوم أحد عشرة من أصحاب محمد الحور العين . قال الواقدي فسألت شيوخ الحديث هل قتل عشرة قالوا ما بلغنا أنه قتل إلا ثلاثة ولقد ضرب يومئذ عمر بن الخطاب حين جال المسلمون تلك الجولة بالقناة وقال يا ابن الخطاب إنها نعمة مشكورة ما كنت لأقتلك . قال الواقدي وكان ضرار يحدث بعد ويذكر وقعة أحد ويذكر الأنصار فيترحم عليهم ويذكر غناءهم في الإسلام وشجاعتهم وإقدامهم على الموت ثم يقول لقد قتل أشراف قومي ببدر فأقول من قتل أبا الحكم فيقال ابن عفراء من قتل أمية بن خلف فيقال خبيب بن يساف من قتل عقبة بن أبي معيط فيقال عاصم بن ثابت من قتل فلان بن فلان فيسمي لي من الأنصار من أسر سهيل بن عمرو فيقال مالك بن الدخشم فلما خرجنا إلى أحد وأنا أقول إن قاموا في صياصيهم فهي منيعة لا سبيل لنا إليهم نقيم أياما ثم ننصرف وإن خرجوا إلينا من صياصيهم أصبنا منهم فإن معنا عددا أكثر من عددهم ونحن قوم موتورون خرجنا بالظعن يذكرننا قتلى بدر ومعنا كراع ولا كراع معهم وسلاحنا أكثر من سلاحهم فقضي لهم أن خرجوا فالتقينا فو الله ما قمنا لهم حتى هزمنا وانكشفنا مولين فقلت
[ 275 ](1/4126)
في نفسي هذه أشد من وقعة بدر وجعلت أقول لخالد بن الوليد كر على القوم فيقول وترى وجها نكر فيه حتى نظرت إلى الجبل الذي كان عليه الرماة خاليا فقلت يا أبا سليمان انظر وراءك فعطف عنان فرسه وكررنا معه فانتهينا إلى الجبل فلم نجد عليه أحدا له بال وجدنا نفيرا فأصبناهم ثم دخلنا العسكر والقوم غارون ينتبهون عسكرنا فأقحمنا الخيل عليهم فتطايروا في كل وجه ووضعنا السيوف فيهم حيث شئنا وجعلت أطلب الأكابر من الأوس والخزرج قتلة الأحبة فلا أرى أحدا هربوا فما كان حلب ناقة حتى تداعت الأنصار بينها فأقبلت فخالطونا ونحن فرسان فصبرنا لهم وصبروا لنا وبذلوا أنفسهم حتى عقروا فرسي وترجلت فقتلت منهم عشرة ولقيت من رجل منهم الموت الناقع حتى وجدت ريح الدم وهو معانقي ما يفارقني حتى أخذته الرماح من كل ناحية فوقع فالحمد لله الذي أكرمهم بيدي ولم يهني بأيديهم . قال الواقدي وقال رسول الله ص يوم أحد من له علم بذكوان بن عبد قيس فقال علي ع أنا رأيت يا رسول الله فارسا يركض في أثره حتى لحقه وهو يقول لا نجوت إن نجوت فحمل عليه فرسه وذكوان راجل فضربه وهو يقول خذها وأنا ابن علاج فقتله فأهويت إلى الفارس فضربت رجله بالسيف حتى قطعتها من نصف الفخذ ثم طرحته عن فرسه فذففت عليه وإذا هو أبو الحكم بن أخنس بن شريق بن علاج بن عمرو بن وهب الثقفي . قال الواقدي وقال علي ع لما كان يوم أحد وجال الناس تلك الجولة أقبل أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة وهو دارع مقنع في الحديد ما يرى منه إلا عيناه وهو يقول يوم بيوم بدر فيعرض له رجل من المسلمين فقتله أمية قال علي ع وأصمد له فأضربه بالسيف على هامته وعليه بيضة وتحت البيضة مغفر فنبا سيفي
[ 276 ](1/4127)
و كنت رجلا قصيرا ويضربني بسيفه فأتقي بالدرقة فلحج سيفه فأضربه وكانت درعه مشمرة فأقطع رجليه فوقع وجعل يعالج سيفه حتى خلصه من الدرقة وجعل يناوشني وهو بارك حتى نظرت إلى فتق تحت إبطه فأحش فيه بالسيف فمال فمات وانصرفت . قال الواقدي وفي يوم أحد انتمى رسول الله ص فقال أنا ابن العواتك وقال أيضا
أنا النبي لا كذب
أنا ابن عبد المطلب
قال الواقدي بينا عمر بن الخطاب يومئذ في رهط من المسلمين قعود مر بهم أنس بن النضر بن ضمضم عم أنس بن مالك فقال ما يقعدكم قالوا قتل رسول الله ص قال فما تصنعون بالحياة بعده قوموا فموتوا على ما مات عليه ثم قام فجالد بسيفه حتى قتل فقال عمر بن الخطاب إني لأرجو أن يبعثه الله أمة وحده يوم القيامة وجد به سبعون ضربة في وجهه ما عرف حتى عرفته أخته . قال الواقدي وقالوا إن مالك بن الدخشم مر على خارجة بن زيد بن زهير يومئذ وهو قاعد وفي حشوته ثلاثة عشر جرحا كلها قد خلصت إلى مقتل فقال له مالك أ ما علمت أن محمدا قد قتل قال خارجة فإن كان محمد قد قتل فإن الله حي لا يقتل ولا يموت وإن محمدا قد بلغ رسالة ربه فاذهب أنت فقاتل عن دينك . قال ومر مالك بن الدخشم أيضا على سعد بن الربيع وبه اثنا عشر جرحا كلها قد خلصت إلى مقتل فقال أ علمت أن محمدا قد قتل فقال سعد أشهد أن محمدا قد بلغ رسالة ربه فقاتل أنت عن دينك فإن الله حي لا يموت .
[ 277 ](1/4128)
قال محمد بن إسحاق وحدثني محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة المازني أخو بني النجار قال قال رسول الله ص يومئذ من رجل ينظر ما فعل سعد بن الربيع أ في الأحياء هو أم في الأموات فقال رجل من الأنصار أنا أنظر يا رسول الله ما فعل فنظر فوجده جريحا في القتلى وبه رمق فقال له إن رسول الله ص أمرني أن أنظر في الأحياء أنت أم في الأموات قال أنا في الأموات فأبلغ رسول الله مني السلام وقل له إن سعد بن الربيع يقول جزاك الله خيرا عنا ما جزى نبيا عن أمته وأبلغ قومك السلام عني وقل لهم إن سعد بن الربيع يقول لكم لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى نبيكم ومنكم عين تطرف قال فلم أبرح عنده حتى مات ثم جئت إلى رسول الله ص فأخبرته فقال اللهم ارض عن سعد بن الربيع قال الواقدي وحدثني عبد الله بن عمار عن الحارث بن الفضيل الخطمي قال أقبل ثابت بن الدحداحة يومئذ والمسلمون أوزاع قد سقط في أيديهم فجعل يصيح يا معشر الأنصار إلي إلي أنا ثابت بن الدحداحة إن كان محمد قد قتل فإن الله حي لا يموت قاتلوا عن دينكم فإن الله مظهركم وناصركم فنهض إليه نفر من الأنصار فجعل يحمل بمن معه من المسلمين وقد وقفت لهم كتيبة خشناء فيها رؤساؤهم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب وجعلوا يناوشونهم ثم حمل عليه خالد بن الوليد بالرمح فطعنه فأنفذه فوقع ميتا وقتل من كان معه من الأنصار فيقال إن هؤلاء آخر من قتل من المسلمين في ذلك اليوم وقال عبد الله بن الزبعرى يذكر يوم أحد
ألا ذرفت من مقلتيك دموع
و قد بان في حبل الشباب قطوع
[ 278 ]
و شط بمن تهوى المزار وفرقت
نوى الحي دار بالحبيب فجوع
و ليس لما ولى على ذي صبابة
و إن طال تذراف الدموع رجوع
فدع ذا ولكن هل أتى أم مالك
أحاديث قومي والحديث يشيع
و مجنبنا جردا إلى أهل يثرب
عناجيج فيها ضامر وبديع
عشية سرنا من كداء يقودها
ضرور الأعادي للصديق نفوع(1/4129)
يشد علينا كل زحف كأنها
غدير نضوح الجانبين نقيع
فلما رأونا خالطتهم مهابة
و خامرهم رعب هناك فظيع
فودوا لو أن الأرض ينشق ظهرها
بهم وصبور القوم ثم جزوع
و قد عريت بيض كأن وميضها
حريق وشيك في الآباء سريع
بأيماننا نعلو بها كل هامة
و فيها سمام للعدو ذريع
فغادرن قتلى الأوس عاصبة بهم
ضباع وطير فوقهن وقوع
و مر بنو النجار في كل تلعة
بأثوابهم من وقعهن نجيع
و لو لا علو الشعب غادرن أحمدا
و لكن علا والسمهري شروع
كما غادرت في الكر حمزة ثاويا
و في صدره ماضي الشباة وقيع
و قال ابن الزبعرى أيضا من قصيدة مشهورة وهي
[ 279 ]
يا غراب البين أ سمعت فقل
إنما تندب أمرا قد فعل
إن للخير وللشر مدى
و سواء قبر مثر ومقل
كل خير ونعيم زائل
و بنات الدهر يلعبن بكل
أبلغا حسان عني آية
فقريض الشعر يشفي ذا الغلل
كم ترى بالجسر من جمجمة
و أكفا قد أترت ورجل
و سرابيل حسان شققت
عن كماة غودروا في المنتزل
كم قتلنا من كريم سيد
ماجد الجدين مقدام بطل
صادق النجدة قرم بارع
غير ملطاط لدى وقع الأسل
فسل المهراس من ساكنه
من كراديس وهام كالحجل
ليت أشياخي ببدر شهدوا
جزع الخزرج من وقع الأسل
حين حطت بقباء بركها
و استحر القتل في عبد الأشل
ثم خفوا عند ذاكم رقصا
رقص الحفان تعدو في الجبل
[ 280 ]
فقتلنا النصف من ساداتهم
و عدلنا ميل بدر فاعتدل
لا ألوم النفس إلا أننا
لو كررنا لفعلنا المفتعل
بسيوف الهند تعلو هامهم
تبرد الغيظ ويشفين الغلل(1/4130)
قلت كثير من الناس يعتقدون أن هذا البيت ليزيد بن معاوية وهو قوله ليت أشياخي وقال من أكره التصريح باسمه هذا البيت ليزيد فقلت له إنما قاله يزيد متمثلا لما حمل إليه رأس الحسين ع وهو لابن الزبعرى فلم تسكن نفسه إلى ذلك حتى أوضحته له فقلت أ لا تراه يقول جزع الخزرج من وقع الأسل والحسين ع لم تحارب عنه الخزرج وكان يليق أن يقول جزع بني هاشم من وقع الأسل فقال بعض من كان حاضرا لعله قاله في يوم الحرة فقلت المنقول أنه أنشده لما حمل إليه رأس الحسين ع والمنقول أنه شعر ابن الزبعرى ولا يجوز أن يترك المنقول إلى ما ليس بمنقول . وعلى ذكر هذا الشعر فإني حضرت وأنا غلام بالنظامية ببغداد في بيت عبد القادر بن داود الواسطي المعروف بالمحب خازن دار الكتب بها وعنده في البيت باتكين الرومي الذي ولي إربل أخيرا وعنده أيضا جعفر بن مكي الحاجب فجرى ذكر يوم أحد وشعر ابن الزبعرى هذا وغيره وأن المسلمين اعتصموا بالجبل فأصعدوا فيه وأن الليل حال أيضا بين المشركين وبينهم فأنشد ابن مكي بيتين لأبي تمام متمثلا
لو لا الظلام وقلة علقوا بها
باتت رقابهم بغير قلال
[ 281 ]
فليشكروا جنح الظلام ودروذا
فهم لدروذ والظلام موالي
فقال باتكين لا تقل هذا ولكن قل وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اَللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَ تَنازَعْتُمْ فِي اَلْأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلدُّنْيا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَ اَللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وكان باتكين مسلما وكان جعفر سامحه الله مغموصا عليه في دينه(1/4131)
? الجزء الرابع عشر
? باب الكتب والرسائل
? 1 من كتاب له ع إلى أهل الكوفة عند مسيره من المدينة إلى البصرة
? أخبار علي عند مسيره إلى البصرة ورسله إلى أهل الكوفة
? فصل في نسب عائشة وأخبارها
? 2 ومن كتاب له ع إليهم بعد فتح البصرة
? 3 ومن كتاب له ع كتبه لشريح بن الحارث قاضيه
? نسب شريح وذكر بعض أخباره
? 4 ومن كتاب له كتبه ع إلى بعض أمراء جيشه
? 5 ومن كتاب له ع إلى الأشعث بن قيس وهو عامل أذربيجان
? 6 ومن كتاب له ع إلى معاوية
? جرير بن عبد الله البجلي عند معاوية
? 7 ومن كتاب منه ع إليه أيضا
? 8 ومن كتاب له ع إلى جرير بن عبد الله البجلي لما أرسله إلى معاوية
? 9 ومن كتاب له ع إلى معاوية
? الفصل الأول إجلاب قريش على بني هاشم وحصرهم في الشعب
? الفصل الثاني القول في المؤمنين والكافرين من بني هاشم
? اختلاف الرأي في إيمان أبي طالب
? الفصل الثالث قصة غزوة بدر
? القول في نزول الملائكة يوم بدر ومحاربتها المشركين
? القول فيما جرى في الغنيمة والأسارى بعد هزيمة قريش ورجوعها إلى مكة
? القول في تفصيل أسماء أسارى بدر ومن أسرهم
? القول في المطعمين في بدر من المشركين
? القول فيمن استشهد من المسلمين ببدر
? القول فيمن قتل ببدر من المشركين وأسماء قاتليهم
? القول فيمن شهد بدرا من المسلمين
? قصة غزوة أحد(1/4132)
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد المعتزلي
الجزء الخامس عشر(1/4133)
تتمة باب الكتب والرسائل(1/4134)
تتمة 9 ومن كتاب له ع إلى معاوية(1/4135)
تتمة الفصل الرابع في قصة غزوة أحد
[ 2 ]
[ 3 ]
بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي الحمد لله الواحد العدل
القول في أسماء الذين تعاقدوا من قريش على قتل رسول الله ص وما أصابوه به في المعركة يوم الحرب
قال الواقدي تعاقد من قريش على قتل رسول الله ص عبد الله بن شهاب الزهري وابن قميئة أحد بني الحارث بن فهر وعتبة بن أبي وقاص الزهري وأبي بن خلف الجمحي فلما أتى خالد بن الوليد من وراء المسلمين واختلطت الصفوف ووضع المشركون السيف في المسلمين رمى عتبة بن أبي وقاص رسول الله ص بأربعة أحجار فكسر رباعيته وشجه في وجهه حتى غاب حلق المغفر في وجنتيه وأدمى شفتيه . قال الواقدي وقد روي أن عتبة أشظى باطن رباعيته السفلى قال والثبت عندنا أن الذي رمى وجنتي رسول الله ص ابن قميئة والذي رمى شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص . قال الواقدي أقبل ابن قميئة يومئذ وهو يقول دلوني على محمد فو الذي يحلف به لئن رأيته لأقتلنه فوصل إلى رسول الله ص فعلاه بالسيف ورماه عتبة
[ 4 ](1/4136)
بن أبي وقاص في الحال التي جلله ابن قميئة فيها السيف وكان ع فارسا وهو لابس درعين مثقل بهما فوقع رسول الله ص عن الفرس في حفرة كانت أمامه . قال الواقدي أصيب ركبتاه جحشتا لما وقع في تلك الحفرة وكانت هناك حفر حفرها أبو عامر الفاسق كالخنادق للمسلمين وكان رسول الله ص واقفا على بعضها وهو لا يشعر فجحشت ركبتاه ولم يصنع سيف ابن قميئة شيئا إلا وهز الضربة بثقل السيف فقد وقع رسول الله ص ثم انتهض وطلحة يحمله من ورائه وعلي ع آخذ بيديه حتى استوى قائما . قال الواقدي فحدثني الضحاك بن عثمان عن حمزة بن سعيد عن أبي بشر المازني قال حضرت يوم أحد وأنا غلام فرأيت ابن قميئة علا رسول الله ص بالسيف ورأيت رسول الله ص وقع على ركبتيه في حفرة أمامه حتى توارى في الحفرة فجعلت أصيح وأنا غلام حتى رأيت الناس ثابوا إليه . قال فأنظر إلى طلحة بن عبيد الله آخذا بحضنه حتى قام . قال الواقدي ويقال إن الذي شج رسول الله ص في جبهته ابن شهاب والذي أشظى رباعيته وأدمى شفتيه عتبة بن أبي وقاص والذي أدمى وجنتيه حتى غاب الحلق فيهما ابن قميئة وإنه سال الدم من الشجة التي في جبهته حتى أخضل لحيته
و كان سالم مولى أبي حذيفة يغسل الدم عن وجهه ورسول الله ص يقول كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله تعالى فأنزل الله تعالى قوله لَيْسَ لَكَ مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ ءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ الآية
[ 5 ](1/4137)
قال الواقدي وروى سعد بن أبي وقاص قال قال رسول الله ص يومئذ اشتد غضب الله على قوم دموا فا رسول الله ص اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسول الله اشتد غضب الله على رجل قتله رسول الله ص قال سعد فلقد شفاني من عتبة أخي دعاء رسول الله ص ولقد حرصت على قتله حرصا ما حرصت على شي ء قط وإن كان ما علمت لعاقا بالوالد سيئ الخلق ولقد تخرقت صفوف المشركين مرتين أطلب أخي لأقتله ولكنه راغ مني روغان الثعلب فلما كان الثالثة قال رسول الله ص يا عبد الله ما تريد أ تريد أن تقتل نفسك فكففت فقال رسول الله ص اللهم لا تحولن الحول على أحد منهم قال سعد فو الله ما حال الحول على أحد ممن رماه أو جرحه مات عتبة وأما ابن قميئة فاختلف فيه فقائل يقول قتل في المعرك وقائل يقول إنه رمي بسهم في ذلك اليوم فأصاب مصعب بن عمير فقتله فقال خذها وأنا ابن قميئة فقال رسول الله ص أقمأه الله فعمد إلى شاة يحتلبها فتنطحه بقرنها وهو معتلقها فقتلته فوجد ميتا بين الجبال لدعوة رسول الله ص وكان عدو الله رجع إلى أصحابه فأخبرهم أنه قتل محمدا . قال وابن قميئة رجل من بني الأدرم من بني فهر . وزاد البلاذري في الجماعة التي تعاهدت وتعاقدت على قتل رسول الله ص يوم أحد عبد الله بن حميد بن زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن قصي . قال وابن شهاب الذي شج رسول الله ص في جبهته هو عبد الله
[ 6 ](1/4138)
بن شهاب الزهري جد الفقيه المحدث محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب وكان ابن قميئة أدرم ناقص الذقن ولم يذكر اسمه ولا ذكره الواقدي أيضا . قلت سألت النقيب أبا جعفر عن اسمه فقال عمرو فقلت له أ هو عمرو بن قميئة الشاعر قال لا هو غيره فقلت له ما بال بني زهرة في هذا اليوم فعلوا الأفاعيل برسول الله ص وهم أخواله ابن شهاب وعتبة بن أبي وقاص فقال يا ابن أخي حركهم أبو سفيان وهاجهم على الشر لأنهم رجعوا يوم بدر من الطريق إلى مكة فلم يشهدوها فاعترض عيرهم ومنعهم عنها وأغرى بها سفهاء أهل مكة فعيروهم برجوعهم ونسبوهم إلى الجبن وإلى الإدهان في أمر محمد ص واتفق أنه كان فيهم مثل هذين الرجلين فوقع منهما يوم أحد ما وقع . قال البلاذري مات عتبة يوم أحد من وجع أليم أصابه فتعذب به وأصيب ابن قميئة في المعركة وقيل نطحته عنز فمات . قال ولم يذكر الواقدي ابن شهاب كيف مات وأحسب ذلك بالوهم منه . قال وحدثني بعض قريش أن أفعى نهشت عبد الله بن شهاب في طريقه إلى مكة فمات قال وسألت بعض بني زهرة عن خبره فأنكروا أن يكون رسول الله ص دعا عليه أو يكون شج رسول الله ص وقالوا إن الذي شجه في وجهه عبد الله بن حميد الأسدي . فأما عبد الله بن حميد الفهري فإن الواقدي وإن لم يذكره في الجماعة الذين
[ 7 ]
تعاقدوا على قتل رسول الله ص إلا أنه قد ذكر كيفية قتله . قال الواقدي ويقبل عبد الله بن حميد بن زهير حين رأى رسول الله ص على تلك الحال يعني سقوطه من ضربة ابن قميئة يركض فرسه مقنعا في الحديد يقول أنا ابن زهير دلوني على محمد فو الله لأقتلنه أو لأموتن دونه فتعرض له أبو دجانة فقال هلم إلى من يقي نفس محمد ص بنفسه فضرب فرسه فعرقبها فاكتسعت ثم علاه بالسيف وهو يقول خذها وأنا ابن خرشة حتى قتله(1/4139)
و رسول الله ص ينظر إليه ويقول اللهم ارض عن ابن خرشة كما أنا عنه راض هذه رواية الواقدي وبها قال البلاذري إن عبد الله بن حميد قتله أبو دجانة . فأما محمد بن إسحاق فقال إن الذي قتل عبد الله بن حميد علي بن أبي طالب ع وبه قالت الشيعة . وروى الواقدي والبلاذري أن قوما قالوا إن عبد الله بن حميد هذا قتل يوم بدر . فالأول الصحيح أنه قتل يوم أحد وقد روى كثير من المحدثين أن رسول الله ص قال لعلي ع حين سقط ثم أقيم اكفني هؤلاء لجماعة قصدت نحوه فحمل عليهم فهزمهم وقتل منهم عبد الله بن حميد من بني أسد بن عبد العزى ثم حملت عليه طائفة أخرى فقال له اكفني هؤلاء فحمل عليهم فانهزموا من بين يديه وقتل منهم أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة المخزومي . قال فأما أبي بن خلف فروى الواقدي أنه أقبل يركض فرسه حتى إذا دنا من رسول الله ص اعترض له ناس من أصحابه ليقتلوه فقال لهم استأخروا
[ 8 ](1/4140)
عنه ثم قام إليه وحربته في يده فرماه بها بين سابغة البيضة والدرع فطعنه هناك فوقع عن فرسه فانكسر ضلع من أضلاعه واحتمله قوم من المشركين ثقيلا حتى ولوا قافلين فمات في الطريق وقال وفيه أنزلت وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اَللَّهَ رَمى قال يعني قذفه إياه بالحربة قال الواقدي وحدثني يونس بن محمد الظفري عن عاصم بن عمر عن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه قال كان أبي بن خلف قدم في فداء ابنه وكان أسر يوم بدر فقال يا محمد إن عندي فرسا لي أعلفها فرقا من ذرة كل يوم لأقتلك عليها فقال رسول الله ص بل أنا أقتلك عليها إن شاء الله تعالى . ويقال إن أبيا إنما قال ذلك بمكة فبلغ رسول الله ص بالمدينة كلمته فقال بل أنا أقتله عليها إن شاء الله قال وكان رسول الله ص في القتال لا يلتفت وراءه فكان يوم أحد يقول لأصحابه إني أخشى أن يأتي أبي بن خلف من خلفي فإذا رأيتموه فآذنوني وإذا بأبي يركض على فرسه وقد رأى رسول الله ص فعرفه فجعل يصيح بأعلى صوته يا محمد لا نجوت إن نجوت فقال القوم يا رسول الله ما كنت صانعا حين يغشاك أبي فاصنع فقد جاءك وإن شئت عطف عليه بعضنا فأبى رسول الله ص ودنا أبي فتناول رسول الله ص الحربة من الحارث بن الصمة ثم انتفض كما ينتفض البعير قال فتطايرنا
[ 9 ](1/4141)
عنه تطاير الشعارير ولم يكن أحد يشبه رسول الله ص إذا جد الجد ثم طعنه بالحربة في عنقه وهو على فرسه لم يسقط إلا أنه خار كما يخور الثور فقال له أصحابه أبا عامر والله ما بك بأس ولو كان هذا الذي بك بعين أحدنا ما ضره قال واللات والعزى لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا كلهم أجمعون أ ليس قال لأقتلنه فاحتملوه وشغلهم ذلك عن طلب رسول الله ص حتى التحق بعظم أصحابه في الشعب . قال الواقدي ويقال إنه تناول الحربة من الزبير بن العوام قال ويقال إنه لما تناول الحربة من الزبير حمل أبي على رسول الله ص ليضربه بالسيف فاستقبله مصعب بن عمير حائلا بنفسه بينهما وإن مصعبا ضرب بالسيف أبيا في وجهه وأبصر رسول الله ص فرجة من بين سابغة البيضة والدرع فطعنه هناك فوقع وهو يخور . قال الواقدي وكان عبد الله بن عمر يقول مات أبي بن خلف ببطن رابغ منصرفهم إلى مكة قال فإني لأسير ببطن رابغ بعد ذلك وقد مضى هوي من الليل إذا نار تأجج فهبتها وإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذبها يصيح العطش وإذا رجل يقول لا تسقه فإن هذا قتيل رسول الله ص هذا أبي بن خلف فقلت ألا سحقا ويقال إنه مات بسرف
[ 10 ](1/4142)
القول في الملائكة نزلت بأحد وقاتلت أم لا
قال الواقدي حدثني الزبير بن سعيد عن عبد الله بن الفضل قال أعطى رسول الله ص مصعب بن عمير اللواء فقتل فأخذه ملك في صورة مصعب فجعل رسول الله ص يقول له في آخر النهار تقدم يا مصعب فالتفت إليه الملك فقال لست بمصعب فعرف رسول الله ص أنه ملك أيد به . قال الواقدي سمعت أبا معشر يقول مثل ذلك . قال وحدثتني عبيدة بنت نائل عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص عنه قال لقد رأيتني أرمى بالسهم يومئذ فيرده عني رجل أبيض حسن الوجه لا أعرفه حتى كان بعد فظننت أنه ملك . قال الواقدي وحدثني إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده سعد بن أبي وقاص قال رأيت ذلك اليوم رجلين عليهما ثياب بيض أحدهما عن يمين رسول الله ص والآخر عن شماله يقاتلان أشد القتال ما رأيتهما قبل ولا بعد قال وحدثني عبد الملك بن سليمان عن قطن بن وهب عن عبيد بن عمير قال لما رجعت قريش من أحد جعلوا يتحدثون في أنديتهم بما ظفروا يقولون لم نر الخيل البلق ولا الرجال البيض الذين كنا نراهم يوم بدر . قال وقال عبيد بن عمير لم تقاتل الملائكة يوم أحد . قال الواقدي وحدثني ابن أبي سبرة عن عبد المجيد بن سهيل عن عمر بن الحكم قال لم يمد رسول الله ص يوم أحد بملك واحد وإنما كانوا يوم بدر قال ومثله عن عكرمة .
[ 11 ]
قال وقال مجاهد حضرت الملائكة يوم أحد ولم تقاتل وإنما قاتلت يوم بدر . قال وروي عن أبي هريرة أنه قال وعدهم الله أن يمدهم لو صبروا فلما انكشفوا لم تقاتل الملائكة يومئذ(1/4143)
القول في مقتل حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه
قال الواقدي كان وحشي عبدا لابنة الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف ويقال كان لجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف فقالت له ابنة الحارث إن أبي قتل يوم بدر فإن أنت قتلت أحد الثلاثة فأنت حر محمد وعلي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب فإني لا أرى في القوم كفؤا لأبي غيرهم فقال وحشي أما محمد فقد علمت أني لا أقدر عليه وأن أصحابه لن يسلموه وأما حمزة فو الله لو وجدته نائما ما أيقظته من هيبته وأما علي فألتمسه قال وحشي فكنت يوم أحد ألتمسه فبينا أنا في طلبه طلع علي فطلع رجل حذر مرس كثير الالتفات فقلت ما هذا بصاحبي الذي ألتمس إذ رأيت حمزة يفري الناس فريا فكمنت له إلى صخرة وهو مكبس له كتيت فاعترض له سباع ابن أم نيار وكانت أمه ختانة بمكة مولاة لشريف بن علاج بن عمرو بن وهب الثقفي وكان سباع يكنى أبا نيار فقال له حمزة وأنت أيضا يا ابن مقطعة البظور ممن يكثر علينا هلم إلي فاحتمله حتى إذا برقت قدماه رمى به فبرك عليه فشحطه شحط الشاة ثم أقبل علي مكبا حين رآني فلما
[ 12 ](1/4144)
بلغ المسيل وطئ على جرف فزلت قدمه فهززت حربتي حتى رضيت منها فأضرب بها في خاصرته حتى خرجت من مثانته وكر عليه طائفة من أصحابه فأسمعهم يقولون أبا عمارة فلا يجيب فقلت قد والله مات الرجل وذكرت هندا وما لقيت على أبيها وعمها وأخيها وانكشف عنه أصحابه حين أيقنوا بموته ولا يروني فأكر عليه فشققت بطنه فاستخرجت كبده فجئت بها إلى هند بنت عتبة فقلت ما ذا لي إن قتلت قاتل أبيك قالت سلني فقلت هذه كبد حمزة فمضغتها ثم لفظتها فلا أدري لم تسغها أو قذرتها فنزعت ثيابها وحليها فأعطتنيه ثم قالت إذا جئت مكة فلك عشرة دنانير ثم قالت أرني مصرعه فأريتها مصرعه فقطعت مذاكيره وجدعت أنفه وقطعت أذنيه ثم جعلت ذلك مسكتين ومعضدين وخدمتين حتى قدمت بذلك مكة وقدمت بكبده أيضا معها . قال الواقدي وحدثني عبد الله بن جعفر عن ابن أبي عون عن الزهري عن عبيد الله بن عدي بن الخيار قال غزونا الشام في زمن عثمان بن عفان فمررنا بحمص بعد العصر فقلنا وحشي فقيل لا تقدرون عليه هو الآن يشرب الخمر حتى يصبح فبتنا من أجله وإننا لثمانون رجلا فلما صلينا الصبح جئنا إلى منزله فإذا شيخ كبير قد طرحت له زربية قدر مجلسه فقلنا له أخبرنا عن قتل حمزة وعن قتل مسيلمة فكره ذلك وأعرض عنه فقلنا ما بتنا هذه الليلة إلا من أجلك فقال إني كنت عبدا لجبير بن مطعم بن عدي فلما خرج الناس إلى أحد دعاني فقال قد رأيت مقتل طعيمة بن عدي قتله حمزة بن عبد المطلب يوم بدر فلم تزل نساؤنا في حزن
[ 13 ](1/4145)
شديد إلى يومي هذا فإن قتلت حمزة فأنت حر فخرجت مع الناس ولي مزاريق كنت أمر بهند بنت عتبة فتقول إيه أبا دسمة اشف واشتف فلما وردنا أحدا نظرت إلى حمزة يقدم الناس يهدهم هدا فرآني وقد كمنت له تحت شجرة فأقبل نحوي وتعرض له سباع الخزاعي فأقبل إليه وقال وأنت أيضا يا ابن مقطعة البظور ممن يكثر علينا هلم إلي وأقبل نحوه حتى رأيت برقان رجليه ثم ضرب به الأرض وقتله وأقبل نحوي سريعا فيعترض له جرف فيقع فيه وأزرقه بمزراق فيقع في لبته حتى خرج من بين رجليه فقتله ومررت بهند بنت عتبة فآذنتها فأعطتني ثيابها وحليها وكان في ساقيها خدمتان من جزع ظفار ومسكتان من ورق وخواتيم من ورق كن في أصابع رجليها فأعطتني بكل ذلك وأما مسيلمة فإنا دخلنا حديقة الموت يوم اليمامة فلما رأيته زرقته بالمزراق وضربه رجل من الأنصار بالسيف فربك أعلم أينا قتله إلا أني سمعت امرأة تصيح فوق جدار قتله العبد الحبشي قال عبيد الله فقلت أ تعرفني فأكر بصره علي وقال ابن عدي لعاتكة بنت العيص قلت نعم قال أما والله ما لي بك عهد بعد أن دفعتك إلى أمك في محفتك التي كانت ترضعك فيها ونظرت إلى برقان قدميك حتى كأنه الآن . وروى محمد بن إسحاق في كتاب المغازي قال علت هند يومئذ صخرة مشرفة وصرخت بأعلى صوتها
نحن جزيناكم بيوم بدر
و الحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان عن عتبة لي من صبر
و لا أخي وعمه وبكري
شفيت نفسي وقضيت نذري
شفيت وحشي غليل صدري
[ 14 ]
فشكر وحشي على عمري
حتى ترم أعظمي في قبري
قال فأجابتها هند بنت أثاثة بن المطلب بن عبد مناف
خزيت في بدر وغير بدر
يا بنت غدار عظيم الكفر
أفحمك الله غداة الفجر
بالهاشميين الطوال الزهر
بكل قطاع حسام يفري
حمزة ليثي وعلي صقري
إذ رام شيب وأبوك قهري
فخضبا منه ضواحي النحر
قال محمد بن إسحاق ومن الشعر الذي ارتجزت به هند بنت عتبة يوم أحد
شفيت من حمزة نفسي بأحد
حين بقرت بطنه عن الكبد(1/4146)
أذهب عني ذاك ما كنت أجد
من لوعة الحزن الشديد المعتمد
و الحرب تعلوكم بشؤبوب برد
نقدم إقداما عليكم كالأسد
قال محمد بن إسحاق حدثني صالح بن كيسان قال حدثت أن عمر بن الخطاب قال لحسان يا أبا الفريعة لو سمعت ما تقول هند ولو رأيت شرها قائمة على صخرة ترتجز بنا وتذكر ما صنعت بحمزة فقال حسان والله إني لأنظر إلى الحربة تهوي وأنا على فارع يعني أطمة فقلت والله إن هذه لسلاح ليس بسلاح العرب وإذا بها تهوي إلى حمزة ولا أدري ولكن أسمعني بعض قولها أكفيكموها فأنشده عمر بعض ما قالت فقال حسان يهجوها
أشرت لكاع وكان عادتها
لؤما إذا أشرت مع الكفر
[ 15 ]
أخرجت مرقصة إلى أحد
في القوم مقتبة على بكر
بكر ثفال لا حراك به
لا عن معاتبة ولا زجر
أخرجت ثائرة محاربة
بأبيك وابنك بعد في بدر
و بعمك المتروك منجدلا
و أخيك منعفرين في الجفر
فرجعت صاغرة بلا ترة
منا ظفرت بها ولا وتر
و قال أيضا يهجوها
لمن سواقط ولدان مطرحة
باتت تفحص في بطحاء أجياد
باتت تمخض لم تشهد قوابلها
إلا الوحوش وإلا جنة الوادي
يظل يرجمه الصبيان منعفرا
و خاله وأبوه سيدا النادي
في أبيات كرهت ذكرها لفحشها . قال وروى الواقدي عن صفية بنت عبد المطلب قالت كنا قد رفعنا يوم أحد في الآطام ومعنا حسان بن ثابت وكان من أجبن الناس ونحن في فارع فجاء نفر من يهود يرومون الأطم فقلت دونك يا ابن الفريعة فقال لا والله لا أستطيع القتال ويصعد يهودي إلى الأطم فقلت شد على يدي السيف ثم برئت ففعل فضربت
[ 16 ](1/4147)
عنق اليهودي ورميت برأسه إليهم فلما رأوه انكشفوا قالت وإني لفي فارع أول النهار مشرفة على الأطم فرأيت المزراق فقلت أ ومن سلاحهم المزاريق أ فلا أراه هوى إلى أخي ولا أشعر ثم خرجت آخر النهار حتى جئت رسول الله ص وقد كنت أعرف انكشاف المسلمين وأنا على الأطم برجوع حسان إلى أقصى الأطم فلما رأى الدولة للمسلمين أقبل حتى وقف على جدار الأطم قال فلما انتهيت إلى رسول الله ص ومعي نسوة من الأنصار لقيته وأصحابه أوزاع فأول من لقيت علي ابن أخي فقال ارجعي يا عمة فإن في الناس تكشفا فقلت رسول الله ص قال صالح قلت ادللني عليه حتى أراه فأشار إليه إشارة خفية فانتهيت إليه وبه الجراحة .
قال الواقدي وكان رسول الله ص يقول يوم أحد ما فعل عمي ما فعل عمي فخرج الحارث بن الصمة يطلبه فأبطأ فخرج علي ع يطلبه فيقول
يا رب إن الحارث بن الصمة
كان رفيقا وبنا ذا ذمة
قد ضل في مهامة مهمة
يلتمس الجنة فيها ثمة
حتى انتهى إلى الحارث ووجد حمزة مقتولا فجاء فأخبر النبي ص فأقبل يمشي حتى وقف عليه فقال ما وقفت موقفا قط أغيظ إلي من هذا الموقف . فطلعت صفية فقال يا زبير أغن عني أمك وحمزة يحفر له فقال الزبير يا أمه إن في الناس تكشفا فارجعي فقالت ما أنا بفاعلة حتى أرى رسول الله ص فلما رأته قالت يا رسول الله أين ابن أمي حمزة فقال هو في الناس قالت لا أرجع حتى أنظر إليه قال الزبير فجعلت أطدها إلى الأرض حتى دفن و
قال رسول الله
[ 17 ]
ص لو لا أن تحزن نساؤنا لذلك لتركناه للعافية يعني السباع والطير حتى يحشر يوم القيامة من بطونها وحواصلها . قال الواقدي وروي أن صفية لما جاءت حالت الأنصار بينها وبين رسول الله ص فقال دعوها فجلست عنده فجعلت إذا بكت يبكي رسول الله ص وإذا نشجت ينشج رسول الله ص وجعلت فاطمة ع تبكي فلما بكت بكى رسول الله ص ثم قال لن أصاب بمثل حمزة أبدا(1/4148)
ثم قال ص لصفية وفاطمة أبشرا أتاني جبرائيل ع فأخبرني أن حمزة مكتوب في أهل السموات السبع حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله
قال الواقدي ورأى رسول الله ص بحمزة مثلا شديدا فحزنه ذلك وقال إن ظفرت بقريش لأمثلن بثلاثين منهم فأنزل الله عليه وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ فقال ص بل نصبر فلم يمثل بأحد من قريش
قال الواقدي وقام أبو قتادة الأنصاري فجعل ينال من قريش لما رأى من غم رسول الله ص وفي كل ذلك يشير إليه أن اجلس ثلاثا فقال رسول الله ص يا أبا قتادة إن قريشا أهل أمانة من بغاهم العواثر كبه الله لفيه وعسى إن طالت بك مدة أن تحقر عملك مع أعمالهم وفعالك مع فعالهم
[ 18 ](1/4149)
لو لا أن تبطر قريش لأخبرتها بما لها عند الله تعالى فقال أبو قتادة والله يا رسول الله ما غضبت إلا لله ورسوله حين نالوا منه ما نالوا فقال صدقت بئس القوم كانوا لنبيهم . قال الواقدي وكان عبد الله بن جحش قبل أن تقع الحرب قال يا رسول الله إن هؤلاء القوم قد نزلوا بحيث ترى فقد سألت الله فقلت اللهم أقسم عليك أن نلقى العدو غدا فيقتلوني ويبقروا بطني ويمثلوا بي فتقول لي فيم صنع بك هذا فأقول فيك قال وأنا أسألك يا رسول الله أخرى أن تلي تركتي من بعدي فقال له نعم فخرج عبد الله فقتل ومثل به كل المثل ودفن هو وحمزة في قبر واحد وولي تركته رسول الله ص فاشترى لأمه مالا بخيبر . قال الواقدي وأقبلت أخته حمنة بنت جحش فقال لها رسول الله ص يا حمن احتسبي قالت من يا رسول الله قال خالك حمزة قالت إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ غفر الله له ورحمه وهنيئا له الشهادة ثم قال لها احتسبي قالت من يا رسول الله قال أخوك عبد الله قالت إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ غفر الله له ورحمه وهنيئا له الشهادة ثم قال احتسبي قالت من يا رسول قال بعلك مصعب بن عمير فقالت وا حزناه ويقال إنها قالت وا عقراه . قال محمد بن إسحاق في كتابه فصرخت وولولت
قال الواقدي فقال رسول الله ص إن للزوج من المرأة مكانا ما هو لأحد وهكذا روى ابن إسحاق أيضا . قال الواقدي ثم قال لها رسول الله ص لم قلت هذا قالت ذكرت يتم بنيه فراعني فدعا رسول الله ص لولده أن يحسن الله عليهم الخلف
[ 19 ]
فتزوجت طلحة بن عبيد الله فولدت منه محمد بن طلحة فكان أوصل الناس لولد مصعب بن عمير(1/4150)
القول فيمن ثبت مع رسول الله ص يوم أحد
قال الواقدي حدثني موسى بن يعقوب عن عمته عن أمها عن المقداد قال لما تصاف القوم للقتال يوم أحد جلس رسول الله ص تحت راية مصعب بن عمير فلما قتل أصحاب اللواء وهزم المشركون الهزيمة الأولى وأغار المسلمون على معسكرهم ينهبونه ثم كر المشركون على المسلمين فأتوهم من خلفهم فتفرق الناس ونادى رسول الله ص في أصحاب الألوية فقتل مصعب بن عمير حامل لوائه ص وأخذ راية الخزرج سعد بن عبادة فقام رسول الله ص تحتها وأصحابه محدقون به ودفع لواء المهاجرين إلى أبي الردم أحد بني عبد الدار آخر نهار ذلك اليوم ونظرت إلى لواء الأوس مع أسيد بن حضير فناوشوا المشركين ساعة واقتتلوا على اختلاط من الصفوف ونادى المشركون بشعارهم يا للعزى يا لهبل فأوجعوا والله فينا قتلا ذريعا ونالوا من رسول الله ص ما نالوا لا والذي بعثه بالحق ما زال شبرا واحدا إنه لفي وجه العدو وتثوب إليه طائفة من أصحابه مرة وتتفرق عنه مرة فربما رأيته قائما يرمي عن قوسه أو يرمي بالحجر حتى تحاجزوا وكانت العصابة التي ثبتت مع رسول الله ص أربعة عشر رجلا سبعة من المهاجرين وسبعة من الأنصار أما المهاجرون فعلي ع وأبو بكر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله وأبو عبيدة بن الجراح والزبير بن العوام
[ 20 ](1/4151)
و أما الأنصار فالحباب بن المنذر وأبو دجانة وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح والحارث بن الصمة وسهل بن حنيف وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير . قال الواقدي وقد روي أن سعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة ثبتا يومئذ ولم يفرا ومن روى ذلك جعلهما مكان سعد بن معاذ وأسيد بن حضير . قال الواقدي وبايعه يومئذ على الموت ثمانية ثلاثة من المهاجرين وخمسة من الأنصار فأما المهاجرون فعلي ع وطلحة والزبير وأما الأنصار فأبو دجانة والحارث بن الصمة والحباب بن المنذر وعاصم بن ثابت وسهل بن حنيف ولم يقتل منهم ذلك اليوم أحد وأما باقي المسلمين ففروا ورسول الله ص يدعوهم في أخراهم حتى انتهى منهم إلى قريب من المهراس . قال الواقدي وحدثني عتبة بن جبير عن يعقوب بن عمير بن قتادة قال ثبت يومئذ بين يديه ثلاثون رجلا كلهم يقول وجهي دون وجهك ونفسي دون نفسك وعليك السلام غير مودع . قلت قد اختلف في عمر بن الخطاب هل ثبت يومئذ أم لا مع اتفاق الرواة كافة على أن عثمان لم يثبت فالواقدي ذكر أنه لم يثبت وأما محمد بن إسحاق والبلاذري فجعلاه مع من ثبت ولم يفر واتفقوا كلهم على أن ضرار بن الخطاب الفهري قرع رأسه بالرمح وقال إنها نعمة مشكورة يا ابن الخطاب إني آليت ألا أقتل رجلا من قريش . وروى ذلك محمد بن إسحاق وغيره ولم يختلفوا في ذلك وإنما اختلفوا هل قرعه بالرمح وهو فار هارب أم مقدم ثابت والذين رووا أنه قرعه بالرمح وهو هارب لم يقل
[ 21 ](1/4152)
أحد منهم إنه هرب حين هرب عثمان ولا إلى الجهة التي فر إليها عثمان وإنما هرب معتصما بالجبل وهذا ليس بعيب ولا ذنب لأن الذين ثبتوا مع رسول الله ص اعتصموا بالجبل كلهم وأصعدوا فيه ولكن يبقى الفرق بين من أصعد في الجبل في آخر الأمر ومن أصعد فيه والحرب لم تضع أوزارها فإن كان عمر أصعد فيه آخر الأمر فكل المسلمين هكذا صنعوا حتى رسول الله ص وإن كان ذلك والحرب قائمة بعد تفرق . ولم يختلف الرواة من أهل الحديث في أن أبا بكر لم يفر يومئذ وأنه ثبت فيمن ثبت وإن لم يكن نقل عنه قتل أو قتال والثبوت جهاد وفيه وحده كفاية . وأما رواة الشيعة فإنهم يروون أنه لم يثبت إلا علي وطلحة والزبير وأبو دجانة وسهل بن حنيف وعاصم بن ثابت ومنهم من روى أنه ثبت معه أربعة عشر رجلا من المهاجرين والأنصار ولا يعدون أبا بكر وعمر منهم روى كثير من أصحاب الحديث أن عثمان جاء بعد ثالثة إلى رسول الله ص فسأله إلى أين انتهيت فقال إلى الأعرض فقال لقد ذهبت فيها عريضة . روى الواقدي قال كان بين عثمان أيام خلافته وبين عبد الرحمن بن عوف كلام فأرسل عبد الرحمن إلى الوليد بن عقبة فدعاه فقال اذهب إلى أخيك فأبلغه عني ما أقول لك فإني لا أعلم أحدا يبلغه غيرك قال الوليد أفعل قال قل له يقول لك عبد الرحمن شهدت بدرا ولم تشهدها وثبت يوم أحد ووليت وشهدت بيعة الرضوان ولم تشهدها فلما أخبره قال عثمان صدق أخي تخلفت عن بدر على ابنة رسول الله ص وهي مريضة فضرب لي رسول الله ص بسهمي وأجري فكنت بمنزلة من
[ 22 ](1/4153)
حضر بدرا ووليت يوم أحد فعفا الله عني في محكم كتابه وأما بيعة الرضوان فإني خرجت إلي أهل مكة بعثني رسول الله ص وقال إن عثمان في طاعة الله وطاعة رسوله وبايع عني بإحدى يديه على الأخرى فكان شمال النبي خيرا من يميني فلما جاء الوليد إلى عبد الرحمن بما قال قال صدق أخي . قال الواقدي ونظر عمر إلى عثمان بن عفان فقال هذا ممن عفا الله عنه وهم الذين تولوا يوم التقى الجمعان والله ما عفا الله عن شي ء فرده قال وسأل رجل عبد الله بن عمر عن عثمان فقال أذنب يوم أحد ذنبا عظيما فعفا الله عنه وأذنب فيكم ذنبا صغيرا فقتلتموه واحتج من روى أن عمر فر يوم أحد بما روى أنه جاءته في أيام خلافته امرأة تطلب بردا من برود كانت بين يديه وجاءت معها بنت لعمر تطلب بردا أيضا فأعطى المرأة ورد ابنته فقيل له في ذلك فقال إن أبا هذه ثبت يوم أحد وأبا هذه فر يوم أحد ولم يثبت . وروى الواقدي أن عمر كان يحدث فيقول لما صاح الشيطان قتل محمد قلت أرقى في الجبل كأني أروية وجعل بعضهم هذا حجة في إثبات فرار عمر وعندي أنه ليس بحجة لأن تمام الخبر فانتهيت إلى رسول الله ص وهو يقول وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ الآية وأبو سفيان في سفح الجبل في كتيبته يرومون أن يعلوا الجبل فقال رسول الله ص اللهم إنه ليس لهم أن يعلونا فانكشفوا وهذا يدل على أن رقيه في الجبل قد كان بعد إصعاد رسول الله ص فيه وهذا بأن يكون منقبة له أشبه . وروى الواقدي قال حدثني ابن أبي سبرة عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي جهم اسم أبي جهم عبيد قال كان خالد بن الوليد يحدث وهو بالشام فيقول الحمد لله
[ 23 ](1/4154)
الذي هداني للإسلام لقد رأيتني ورأيت عمر بن الخطاب حين جال المسلمون وانهزموا يوم أحد وما معه أحد وإني لفي كتيبة خشناء فما عرفه منهم أحد غيري وخشيت إن أغريت به من معي أن يصمدوا له فنظرت إليه وهو متوجه إلى الشعب قلت يجوز أن يكون هذا حقا ولا خلاف أنه توجه إلى الشعب تاركا للحرب لكن يجوز أن يكون ذلك في آخر الأمر لما يئس المسلمون من النصرة فكلهم توجه نحو الشعب حينئذ وأيضا فإن خالدا متهم في حق عمر بن الخطاب لما كان بينه وبينه من الشحناء والشنئان فليس بمنكر من خالد أن ينعى عليه حركاته ويؤكد صحة هذا الخبر وكون خالد عف عن قتل عمر يومئذ ما هو معلوم من حال النسب بينهما من قبل الأم فإن أم عمر حنتمة بنت هاشم بن المغيرة وخالد هو ابن الوليد بن المغيرة فأم عمر ابنة عم خالد لحا والرحم تعطف . حضرت عند محمد بن معد العلوي الموسوي الفقيه على رأى الشيعة الإمامية رحمه الله في داره بدرب الدواب ببغداد في سنة ثمان وستمائة وقارئ يقرأ عنده مغازي الواقدي فقرأ حدثنا الواقدي قال حدثني ابن أبي سبرة عن خالد بن رياح عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد قال سمعت محمد بن مسلمة يقول سمعت أذناي وأبصرت عيناي رسول الله ص يقول يوم أحد وقد انكشف الناس إلى الجبل وهو يدعوهم وهم لا يلوون عليه سمعته يقول إلي يا فلان إلي يا فلان أنا رسول الله فما عرج عليه واحد منهما ومضيا فأشار ابن معد إلي أن اسمع فقلت وما في هذا قال هذه كناية عنهما فقلت ويجوز ألا يكون عنهما لعله عن غيرهما قال ليس في الصحابة من
[ 24 ](1/4155)
يحتشم ويستحيا من ذكره بالفرار وما شابهه من العيب فيضطر القائل إلى الكناية إلا هما قلت له هذا وهم فقال دعنا من جدلك ومنعك ثم حلف أنه ما عنى الواقدي غيرهما وأنه لو كان غيرهما لذكره صريحا وبان في وجهه التنكر من مخالفتي له . روى الواقدي قال لما صاح إبليس أن محمدا قد قتل تفرق الناس فمنهم من ورد المدينة فكان أول من وردها يخبر أن محمدا قد قتل سعد بن عثمان أبو عبادة ثم ورد بعده رجال حتى دخلوا على نسائهم حتى جعل النساء يقلن أ عن رسول الله تفرون ويقول لهم ابن أم مكتوم أ عن رسول الله تفرون يؤنب بهم وقد كان رسول الله ص خلفه بالمدينة يصلي بالناس ثم قال دلوني على الطريق يعني طريق أحد فدلوه فجعل يستخبر كل من لقي في الطريق حتى لحق القوم فعلم بسلامة النبي ص ثم رجع وكان ممن ولى عمر وعثمان والحارث بن حاطب وثعلبة بن حاطب وسواد بن غزية وسعد بن عثمان وعقبة بن عثمان وخارجة بن عمر بلغ ملل وأوس بن قيظى في نفر من بني حارثة بلغوا الشقرة ولقيتهم أم أيمن تحثي في وجوههم التراب وتقول لبعضهم هاك المغزل فاغزل به وهلم واحتج من قال بفرار عمر بما رواه الواقدي في كتاب المغازي في قصة الحديبية قال قال عمر يومئذ يا رسول الله أ لم تكن حدثتنا أنك ستدخل المسجد الحرام وتأخذ مفتاح الكعبة وتعرف مع المعرفين وهدينا لم يصل إلى البيت ولا نحر فقال رسول الله ص أ قلت لكم في سفركم هذا قال عمر لا قال أما إنكم ستدخلونه وآخذ مفتاح الكعبة وأحلق رأسي ورءوسكم ببطن مكة وأعرف مع المعرفين ثم أقبل على عمر وقال أ نسيتم يوم
[ 25 ](1/4156)
أحد إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وأنا أدعوكم في أخراكم أ نسيتم يوم الأحزاب إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زاغَتِ اَلْأَبْصارُ وَ بَلَغَتِ اَلْقُلُوبُ اَلْحَناجِرَ أ نسيتم يوم كذا وجعل يذكرهم أمورا أ نسيتم يوم كذا فقال المسلمون صدق الله وصدق رسوله أنت يا رسول الله أعلم بالله منا فلما دخل عام القضية وحلق رأسه قال هذا الذي كنت وعدتكم به فلما كان يوم الفتح وأخذ مفتاح الكعبة قال ادعوا إلي عمر بن الخطاب فجاء فقال هذا الذي كنت قلت لكم قالوا فلو لم يكن فر يوم أحد لما قال له أ نسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون(1/4157)
القول فيما جرى للمسلمين بعد إصعادهم في الجبل
قال الواقدي حدثني موسى بن محمد بن إبراهيم عن أبيه قال لما صاح الشيطان لعنه الله أن محمدا قد قتل يحزنهم بذلك تفرقوا في كل وجه وجعل الناس يمرون على النبي ص لا يلوي عليه أحد منهم ورسول الله يدعوهم في أخراهم حتى انتهت هزيمة قوم منهم إلى المهراس فتوجه رسول الله ص يريد أصحابه في الشعب فانتهى إلى الشعب وأصحابه في الجبل أوزاع يذكرون مقتل من قتل منهم ويذكرون ما جاءهم عن رسول الله ص قال كعب بن مالك فكنت أول من عرفه وعليه المغفر فجعلت أصيح وأنا في الشعب هذا رسول الله ص حي فجعل يومئ إلي بيده على فيه أي اسكت ثم دعا بلأمتي فلبسها ونزع لأمته . قال الواقدي طلع رسول الله ص على أصحابه في الشعب بين السعدين
[ 26 ](1/4158)
سعد بن عبادة وسعد بن معاذ يتكفأ في الدرع وكان إذا مشى تكفأ تكفؤا ويقال إنه كان يتوكأ على طلحة بن عبيد الله . قال الواقدي وما صلى يومئذ الظهر إلا جالسا للجرح الذي كان أصابه . قال الواقدي وقد كان طلحة قال له إن بي قوة فقم لأحملك فحمله حتى انتهى إلى الصخرة التي على فم شعب الجبل فلم يزل يحمله حتى رفعه عليها ثم مضى إلى أصحابه ومعه النفر الذين ثبتوا معه فلما نظر المسلمون إليهم ظنوهم قريشا فجعلوا يولون في الشعب هاربين منهم ثم جعل أبو دجانة يليح إليهم بعمامة حمراء على رأسه فعرفوه فرجعوا أو بعضهم . قال الواقدي روي أنه لما طلع عليهم في النفر الذين ثبتوا معه وهم أربعة عشر سبعة من المهاجرين وسبعة من الأنصار جعلوا يولون في الجبل خائفين منهم يظنونهم المشركين جعل رسول الله ص يتبسم إلى أبي بكر وهو على جنبه ويقول له ألح إليهم فجعل أبو بكر يليح إليهم وهم لا يعرجون حتى نزع أبو دجانة عصابة حمراء على رأسه فأوفى على الجبل فجعل يصيح ويليح فوقفوا حتى عرفوهم ولقد وضع أبو بردة بن نيار سهما على كبد قوسه فأراد أن يرمي به رسول الله ص وأصحابه فلما تكلموا وناداهم رسول الله ص أمسك وفرح المسلمون برؤيته حتى كأنهم لم تصبهم في أنفسهم مصيبة وسروا لسلامته وسلامتهم من المشركين . قال الواقدي ثم إن قوما من قريش صعدوا الجبل فعلوا على المسلمين وهم في الشعب قال فكان رافع بن خديج يحدث فيقول إني يومئذ إلى جنب أبي مسعود الأنصاري وهو يذكر من قتل من قومه ويسأل عنهم فيخبر برجال منهم سعد بن
[ 27 ](1/4159)
الربيع وخارجة بن زهير وهو يسترجع ويترحم عليهم وبعض المسلمين يسأل بعضا عن حميمه وذي رحمه فيهم يخبر بعضهم بعضا فبينا هم على ذلك رد الله المشركين ليذهب ذلك الحزن عنهم فإذا عدوهم فوقهم قد علوا وإذا كتائب المشركين بالجبل فنسوا ما كانوا يذكرون وندبنا رسول الله ص وحضنا على القتال والله لكأني أنظر إلى فلان وفلان في عرض الجبل يعدوان هاربين قال الواقدي فكان عمر يحدث يقول لما صاح الشيطان قتل محمد أقبلت أرقى إلى الجبل فكأني أروية فانتهيت إلى النبي ص وهو يقول وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ الآية وأبو سفيان في سفح الجبل فقال رسول الله ص يدعو ربه اللهم ليس لهم أن يعلوا فانكشفوا . قال الواقدي فكان أبو أسيد الساعدي يحدث فيقول لقد رأيتنا قبل أن يلقى النعاس علينا في الشعب وإنا لسلم لمن أرادنا لما بنا من الحزن فألقي علينا النعاس فنمنا حتى تناطح الحجف ثم فزعنا وكانا لم يصبنا قبل ذلك نكبة قال وقال الزبير بن العوام غشينا النعاس فما منا رجل إلا وذقنه في صدره من النوم فأسمع معتب بن قشير وكان من المنافقين يقول وإني لكالحالم لَوْ كانَ لَنا مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ ءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا فأنزل الله تعالى فيه ذلك . قال وقال أبو اليسر لقد رأيتني ذلك اليوم في رجال من قومي إلى جنب رسول الله ص وقد أنزل الله علينا النعاس أمنة منه ما منهم رجل إلا يغط غطيطا حتى إن الحجف لتناطح ولقد رأيت سيف بشر بن البراء بن معرور سقط من يده
[ 28 ](1/4160)
و ما يشعر به حتى أخذه بعد ما تثلم وإن المشركين لتحتنا وسقط سيف أبي طلحة أيضا ولم يصب أهل الشك والنفاق نعاس يومئذ وإنما أصاب النعاس أهل الإيمان واليقين فكان المنافقون يتكلم كل منهم بما في نفسه والمؤمنون ناعسون . قلت سألت ابن النجار المحدث عن هذا الموضع فقلت له من قصة أحد تدل على أن المسلمين كانت الدولة لهم بادئ الحال ثم صارت عليهم وصاح الشيطان قتل محمد فانهزم أكثرهم ثم ثاب أكثر المنهزمين إلى النبي ص فحاربوا دونه حربا كثيرة طالت مدتها حتى صار آخر النهار ثم أصعدوا في الجبل معتصمين به وأصعد رسول الله ص معهم فتحاجز الفريقان حينئذ وهذا هو الذي يدل عليه تأمل قصة أحد إلا أن بعض الروايات التي ذكرها الواقدي يقتضي غير ذلك نحو روايته في هذا الباب أن رسول الله ص لما صاح الشيطان إن محمدا قد قتل كان ينادي المسلمين فلا يعرجون عليه وإنما يصعدون في الجبل وإنه وجه نحو الجبل فانتهى إليهم وهم أوزاع يتذاكرون بقتل من قتل منهم وهذه الرواية تدل على أنه أصعد ص في الجبل من أول الحرب حيث صاح الشيطان وصياح الشيطان كان حال كون خالد بن الوليد بالجبل من وراء المسلمين لما غشيهم وهم مشتغلون بالنهب واختلط الناس فكيف هذا فقال إن الشيطان صاح قتل محمد دفعتين دفعة في أول الحرب ودفعة في آخر الحرب لما تصرم النهار وغشيت الكتائب رسول الله ص وقد قتل ناصروه وأكلتهم الحرب فلم يبق معه إلا نفر يسير لا يبلغون عشرة وهذه كانت أصعب وأشد من الأولى وفيها اعتصم وما اعتصم في صرخة الشيطان الأولى بالجبل بل ثبت وحامى عنه أصحابه ولقد لقي في الأولى مشقة عظيمة من ابن قميئة وعتبة بن أبي وقاص وغيرهما
[ 29 ](1/4161)
و لكنه لم يفارق عرصة الحرب وإنما فارقها وعلم أنه لم يبق له وجه مقام في صرخته الثانية . قلت له فكان القوم مختلطين في الصرخة الثانية حتى يصرخ الشيطان قتل محمد قال نعم المشركون قد أحاطوا بالنبي ص وبمن بقي معه من أصحابه فاختلط المسلمون بهم وصاروا مغمورين بينهم لقلتهم بالنسبة إليهم وظن قوم من المشركين أنهم قد قتلوا النبي ص لأنهم فقدوا وجهه وصورته فنادى الشيطان قتل محمد ولم يكن قتل ص ولكن اشتبهت صورته عليهم وظنوه غيره وأكثر من حامى عنه في تلك الحال علي ع وأبو دجانة وسهل بن حنيف وحامى هو عن نفسه وجرح قوما بيده تارة بالسهام وتارة بالسيف ولكن لم يعلموا بأعيانهم لاختلاط القوم وثوران النقع وكانت قريش تظنه واحدا من المسلمين ولو عرفوه بعينه في تلك الثورة لكان الأمر صعبا جدا ولكن الله تعالى عصمه منهم بأن أزاغ أبصارهم عنه فلم يزل هؤلاء الثلاثة يجالدون دونه وهو يقرب من الجبل حتى صار في أعلى الجبل أصعد من فم الشعب إلى تدريج هناك في الجبل ورقي في ذلك التدريج صاعدا حتى صار في أعلى الجبل وتبعه النفر الثلاثة فلحقوا به . قلت له فما بال القوم الذين صعدوا الجبل من المشركين وكيف كان إصعادهم وعودهم . قال أصعدوا لحرب المسلمين لا لطلب رسول الله ص لأنهم ظنوا أنه قد قتل وهذا هو كان السبب في عودهم من الجبل لأنهم قالوا قد بلغنا الغرض
[ 30 ](1/4162)
الأصلي وقتلنا محمدا فما لنا والتصميم على الأوس والخزرج وغيرهم من أصحابه مع ما في ذلك من عظم الخطر بالأنفس قلت له فإذا كان هذا قد خطر لهم فلما ذا صعدوا في الجبل . قال يخطر لك خاطر ويدعوك داع إلى بعض الحركات فإذا شرعت فيها خطر لك خاطر آخر يصرفك عنها فترجع ولا تتمها قلت نعم فما بالهم لم يقصدوا قصد المدينة وينهبوها . قال كان فيها عبد الله بن أبي في ثلاثمائة مقاتل وفيها خلق كثير من الأوس والخزرج لم يحضروا الحرب وهم مسلمون وطوائف أخر من المنافقين لم يخرجوا وطوائف أخرى من اليهود أولو بأس وقوة ولهم بالمدينة عيال وأهل ونساء وكل هؤلاء كانوا يحامون عن المدينة ولم تكن قريش تأمن مع ذلك أن يأتيها رسول الله ص من ورائها بمن يجامعه من أصحابه فيحصلوا بين الأعداء من خلفهم ومن أمامهم فكان الرأي الأصوب لهم العدول عن المدينة وترك قصدها . قال الواقدي حدثني الضحاك بن عثمان عن حمزة بن سعيد قال لما تحاجزوا وأراد أبو سفيان الانصراف أقبل يسير على فرس له حوراء فوقف على أصحاب النبي ص وهم في عرض الجبل فنادى بأعلى صوته أعل هبل ثم صاح أين ابن أبي كبشة يوم بيوم بدر ألا إن الأيام دول . وفي رواية أنه نادى أبا بكر وعمر أيضا فقال أين ابن أبي قحافة أين ابن الخطاب ثم قال الحرب سجال حنظلة بحنظلة يعنى حنظلة بن أبي عامر بحنظلة بن
[ 31 ](1/4163)
أبي سفيان فقال عمر بن الخطاب يا رسول الله أجيبه قال نعم فأجبه فلما قال أعل هبل قال عمر الله أعلى وأجل . ويروى أن رسول الله ص قال لعمر قل له الله أعلى وأجل فقال أبو سفيان إن لنا العزى ولا عزى لكم فقال عمر أو قال رسول الله ص قل له الله مولانا ولا مولى لكم فقال أبو سفيان إنها قد أنعمت فقال عنها يا ابن الخطاب فقال سعيد بن أبي سفيان ألا إن الأيام دول وإن الحرب سجال فقال عمر ولا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار فقال أبو سفيان إنكم لتقولون ذلك لقد جبنا إذا وخسرنا ثم قال يا ابن الخطاب قم إلي أكلمك فقام إليه فقال أنشدك بدينك هل قتلنا محمدا قال اللهم لا وإنه ليسمع كلامك الآن قال أنت عندي أصدق من ابن قميئة ثم صاح أبو سفيان ورفع صوته إنكم واجدون في قتلاكم عنتا ومثلا إلا أن ذلك لم يكن عن رأي سراتنا ثم أدركته حمية الجاهلية فقال وأما إذ كان ذلك فلم نكرهه ثم نادى ألا إن موعدكم بدر الصفراء على رأس الحول فوقف عمر وقفة ينتظر ما يقول رسول الله ص فقال له قل نعم فانصرف أبو سفيان إلى أصحابه وأخذوا في الرحيل فأشفق رسول الله ص والمسلمون من أن يغيروا على المدينة فيهلك الذراري والنساء فقال رسول الله ص لسعد بن أبي وقاص اذهب فأتنا بخبر القوم فإنهم إن ركبوا الإبل وجنبوا الخيل فهو الظعن إلى مكة وإن ركبوا الخيل وجنبوا الإبل فهو الغارة على المدينة والذي نفسي بيده إن ساروا إليها لأسيرن إليهم ثم لأناجزنهم قال سعد فتوجهت أسعى وأرصدت نفسي إن أفرعني شي ء رجعت إلى النبي ص وأنا أسعى فبدأت بالسعي حين ابتدأت فخرجت في آثارهم
[ 32 ](1/4164)
حتى إذا كانوا بالعقيق وأنا بحيث أراهم وأتأملهم ركبوا الإبل وجنبوا الخيل فقلت إنه الظعن إلى بلادهم ثم وقفوا وقفة بالعقيق وتشاوروا في دخول المدينة فقال لهم صفوان بن أمية قد أصبتم القوم فانصرفوا ولا تدخلوا عليهم وأنتم كالون ولكم الظفر فإنكم لا تدرون ما يغشاكم فقد وليتم يوم بدر لا والله ما تبعوكم وكان الظفر لهم فيقال إن رسول الله ص قال نهاهم صفوان فلما رآهم سعد على تلك الحال منطلقين وقد دخلوا في المكمن رجع إلى رسول الله ص وهو كالمنكسر فقال وجه القوم يا رسول الله إلى مكة امتطوا الإبل وجنبوا الخيل فقال ما تقول قلت ما قلت يا رسول الله فخلا بي فقال أ حقا ما تقول قلت نعم يا رسول الله قال فما بالي رأيتك منكسرا فقلت كرهت أن آتي المسلمين فرحا بقفولهم إلى بلادهم فقال ص إن سعدا لمجرب . قال الواقدي وقد روي خلاف هذا روي أن سعدا لما رجع رفع صوته بأن جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فجعل رسول الله ص يشير إلى سعد خفض صوتك فإن الحرب خدعة فلا ترى الناس مثل هذا الفرح بانصرافهم فإنما ردهم الله تعالى .
قال الواقدي وحدثني ابن أبي سبرة عن يحيى بن شبل عن أبي جعفر قال قال رسول الله ص لسعد بن أبي وقاص إن رأيت القوم يريدون المدينة فأخبرني فيما بيني وبينك ولا تفت في أعضاد المسلمين فذهب فرآهم قد امتطوا الإبل فرجع فما ملك أن جعل يصيح سرورا بانصرافهم . قال الواقدي وقيل لعمرو بن العاص كيف كان افتراق المسلمين والمشركين يوم
[ 33 ](1/4165)
أحد فقال ما تريدون إلى ذلك قد جاء الله بالإسلام ونفي الكفر وأهله ثم قال لما كررنا عليهم أصبنا من أصبنا منهم وتفرقوا في كل وجه وفاءت لهم فئة بعد فتشاورت قريش فقالوا لنا الغلبة فلو انصرفنا فإنه بلغنا أن ابن أبي انصرف بثلث الناس وقد تخلف الناس من الأوس والخزرج ولا نأمن أن يكروا علينا وفينا جراح وخيلنا عامتها قد عقرت من النبل فمضينا فما بلغنا الروحاء حتى قام علينا عدة منها وانصرفنا إلى مكة . قال الواقدي حدثني إسحاق بن يحيى بن طلحة عن عائشة قال سمعت أبا بكر يقول لما كان يوم أحد ورمي رسول الله ص في وجهه حتى دخلت في وجهه حلقتان من المغفر أقبلت أسعى إلى رسول الله ص وإنسان قد أقبل من قبل المشرق يطير طيرانا فقلت اللهم اجعله طلحة بن عبيد الله حتى توافينا إلى رسول الله ص فإذا أبو عبيدة بن الجراح فبدرني فقال أسألك بالله يا أبا بكر إلا تركتني فأنتزعه من وجه رسول الله ص قال أبو بكر فتركته وقال رسول الله ص عليكم صاحبكم يعني طلحة فأخذ أبو عبيدة بثنيته حلقة المغفر فنزعها وسقط على ظهره وسقطت ثنية أبي عبيدة ثم أخذ الحلقة بثنيته الأخرى فكان أبو عبيدة في الناس أثرم ويقال إن الذي نزع الحلقتين من وجه رسول الله ص عقبة بن وهب بن كلدة ويقال أبو اليسر . قال الواقدي وأثبت ذلك عندنا عقبة بن وهب بن كلدة . قال الواقدي وكان أبو سعيد الخدري يحدث أن رسول الله ص
[ 34 ]
أصيب وجهه يوم أحد فدخلت الحلقتان من المغفر في وجنتيه فلما نزعتا جعل الدم يسرب كما يسرب الشن فجعل مالك بن سنان يمج الدم بفيه ثم ازدرده
فقال رسول الله ص من أحب أن ينظر إلى من خالط دمه بدمي فلينظر إلى مالك بن سنان فقيل لمالك تشرب الدم فقال نعم أشرب دم رسول الله ص(1/4166)
فقال رسول الله ص من مس دمه دمي لم تصبه النار قال الواقدي وقال أبو سعيد كنا ممن رد من الشيخين لم نجئ مع المقاتلة فلما كان من النهار بلغنا مصاب رسول الله ص وتفرق الناس عنه جئت مع غلمان بني خدرة نعرض لرسول الله ص ننظر إلى سلامته فنرجع بذلك إلى أهلنا فلقينا الناس متفرقين ببطن قناة فلم يكن لنا همة إلا النبي ص ننظر إليه فلما رآني قال سعد بن مالك قلت نعم بأبي أنت وأمي ودنوت منه فقبلت ركبته وهو على فرسه فقال آجرك الله في أبيك ثم نظرت إلى وجهه فإذا في وجنتيه مثل موضع الدرهم في كل وجنة وإذا شجة في جبهته عند أصول الشعر وإذا شفته السفلى تدمى وإذا في رباعيته اليمنى شظية وإذا على جرحه شي ء أسود فسألت ما هذا على وجهه فقالوا حصير محرق وسألت من أدمى وجنتيه فقيل ابن قميئة فقلت فمن شجه في وجهه فقيل ابن شهاب فقلت من أصاب شفتيه قيل عتبة بن أبي وقاص فجعلت أعدو بين يديه حتى نزل ببابه ما نزل إلا محمولا وأرى ركبتيه مجحوشتين يتكئ على السعدين سعد بن معاذ وسعد بن عبادة حتى دخل بيته فلما غربت الشمس وأذن بلال بالصلاة خرج على تلك الحال
[ 35 ]
يتوكأ على السعدين سعد بن عبادة وسعد بن معاذ ثم انصرف إلى بيته والناس في المسجد يوقدون النيران يتمكدون بها من الجراح ثم أذن بلال بالعشاء حين غاب الشفق فلم يخرج رسول الله ص فجلس بلال عند بابه ص حتى ذهب ثلث الليل ثم ناداه الصلاة يا رسول الله فخرج وقد كان نائما قال فرمقته فإذا هو أخف في مشيته منه حين دخل بيته فصليت معه العشاء ثم رجع إلى بيته قد صفف له الرجال ما بين بيته إلى مصلاه يمشي وحده حتى دخل ورجعت إلى أهلي فخبرتهم بسلامته فحمدوا الله وناموا وكانت وجوه الأوس والخزرج في المسجد على النبي ص يحرسونه فرقا من قريش أن تكر . قال الواقدي وخرجت فاطمة ع في نساء وقد رأت الذي بوجه أبيها ص فاعتنقته وجعلت تمسح الدم عن وجهه و(1/4167)
رسول الله ص يقول اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسوله وذهب علي ع فأتى بماء من المهراس وقال لفاطمة أمسكي هذا السيف غير ذميم فنظر إليه رسول الله ص مختضبا بالدم فقال لئن كنت أحسنت القتال اليوم فلقد أحسن عاصم بن ثابت والحارث بن الصمة وسهل بن حنيف وسيف أبي دجانة غير مذموم هكذا روى الواقدي . و
روى محمد بن إسحاق أن عليا ع قال لفاطمة بيتي شعر وهما
أ فاطم هاء السيف غير ذميم
فلست برعد يد ولا بلئيم
لعمري لقد جاهدت في نصر أحمد
و طاعة رب بالعباد رحيم
فقال رسول الله ص لئن كنت صدقت القتال اليوم لقد صدق معك سماك بن خرشة وسهل بن حنيف .
[ 36 ](1/4168)
قال الواقدي فلما أحضر علي ع الماء أراد رسول الله ص أن يشرب منه فلم يستطع وقد كان عطشا ووجد ريحا من الماء كرهها فقال هذا ماء آجن فتمضمض منه للدم الذي كان بفيه ثم مجه وغسلت فاطمة به الدم عن أبيها ص فخرج محمد بن مسلمة يطب مع النساء وكن أربع عشرة امرأة قد جئن من المدينة يتلقين الناس منهن فاطمة ع يحملن الطعام والشراب على ظهورهن ويسقين الجرحى ويداوينهم . قال الواقدي قال كعب بن مالك رأيت عائشة وأم سليم على ظهورهما القرب تحملانها يوم أحد وكانت حمنة بنت جحش تسقي العطشى وتداوي الجرحى فلم يجد محمد بن مسلمة عندهن ماء ورسول الله ص قد اشتد عطشه فذهب محمد بن مسلمة إلى قناة ومعه سقاؤه حتى استقى من حسى قناة عند قصور التميميين اليوم فجاء بماء عذب فشرب منه رسول الله ص ودعا له بخير وجعل الدم لا ينقطع من وجهه ع وهو يقول لن ينالوا منا مثلها حتى نستلم الركن فلما رأت فاطمة الدم لا يرقأ وهي تغسل جراحه وعلي يصب الماء عليها بالمجن أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رمادا ثم ألصقته بالجرح فاستمسك الدم ويقال إنها داوته بصوفة محرقة وكان رسول الله ص بعد يداوي الجراح الذي في وجهه بعظم بال حتى ذهب أثره ولقد مكث يجد وهن ضربة ابن قميئة على عاتقه شهرا أو أكثر من شهر ويداوي الأثر الذي في وجهه بعظم . قال الواقدي وقال رسول الله ص قبل أن ينصرف إلى المدينة من يأتينا بخبر سعد بن الربيع فإني رأيته وأشار بيده إلى ناحية من الوادي قد شرع فيه اثنا عشر سنانا فخرج محمد بن مسلمة ويقال أبي بن كعب نحو تلك الناحية قال فأنا وسط القتلى لتعرفهم إذ مررت به صريعا في الوادي فناديته فلم يجب ثم قلت إن رسول الله ص أرسلني إليك قال فتنفس كما يتنفس الطير ثم قال
[ 37 ](1/4169)
و إن رسول الله ص لحي قلت نعم وقد أخبرنا أنه شرع لك اثنا عشر سنانا فقال طعنت اثنتي عشرة طعنة كلها أجافتني أبلغ قومك الأنصار السلام وقل لهم الله الله وما عاهدتم عليه رسول الله ص ليلة العقبة والله ما لكم عذر عند الله إن خلص إلى نبيكم ومنكم عين تطرف فلم أرم من عنده حتى مات فرجعت إلى النبي ص فأخبرته فرأيته استقبل القبلة رافعا يديه يقول اللهم الق سعد بن الربيع وأنت عنه راض . قال الواقدي وخرجت السمداء بنت قيس إحدى نساء بني دينار وقد أصيب ابناها مع النبي ص بأحد النعمان بن عبد عمر وسليم بن الحارث فلما نعيا لها قالت فما فعل رسول الله ص قالوا بخير هو بحمد الله صالح على ما تحبين فقالت أرونيه أنظر إليه فأشاروا لها إليه فقالت كل مصيبة بعدك يا رسول الله جلل وخرجت تسوق بابنيها بعيرا تردهما إلى المدينة فلقيتها عائشة فقالت ما وراءك فأخبرتها قالت فمن هؤلاء معك قالت ابناي حل حل تحملهما إلى القبر . قال الواقدي وكان حمزة بن عبد المطلب أول من جي ء به إلى النبي ص بعد انصراف قريش أو كان من أولهم فصلى عليه رسول الله ص ثم قال رأيت الملائكة تغسله قالوا لأن حمزة كان جنبا ذلك اليوم ولم يغسل رسول الله ص الشهداء يومئذ وقال لفوهم بدمائهم وجراحهم فإنه ليس أحد يجرح في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة لون جرحه لون الدم وريحه ريح المسك ثم
[ 38 ](1/4170)
قال ضعوهم فأنا الشهيد على هؤلاء يوم القيامة وكان حمزة أول من كبر عليه أربعا ثم جمع إليه الشهداء فكان كلما أتي بشهيد وضع إلى جنب حمزة فصلى عليه وعلى الشهيد حتى صلى عليه سبعين مرة لأن الشهداء سبعون . قال الواقدي ويقال كان يؤتى بتسعة وحمزة عاشرهم فيصلي عليهم وترفع التسعة ويترك حمزة مكانه ويؤتى بتسعة آخرين فيوضعون إلى جنب حمزة فيصلي عليه وعليهم حتى فعل ذلك سبع مرات ويقال إنه كبر عليه خمسا وسبعا وتسعا . قال الواقدي وقد اختلفت الرواية في هذا وكان طلحة بن عبيد الله وابن عباس وجابر بن عبد الله يقولون صلى رسول الله ص على قتلى أحد وقال أنا شهيد على هؤلاء فقال أبو بكر أ لسنا إخوانهم أسلمنا كما أسلموا وجاهدنا كما جاهدوا قال بلى ولكن هؤلاء لم يأكلوا من أجورهم شيئا ولا أدري ما تحدثون بعدي فبكى أبو بكر وقال إنا لكائنون بعدك . وقال أنس بن مالك وسعيد بن المسيب لم يصل رسول الله ص على قتلى أحد . قال الواقدي وقال لأهل القتلى احفروا وأوسعوا وأحسنوا وادفنوا الاثنين والثلاثة في القبر وقدموا أكثرهم قرآنا وأمر بحمزة أن تمد بردته عليه وهو في القبر وكانت قصيرة فكانوا إذا خمروا بها رأسه بدت رجلاه وإذا خمروا بها رجليه انكشف وجهه فبكى المسلمون يومئذ فقالوا يا رسول الله عم رسول الله يقتل فلا يوجد له ثوب فقال بلى إنكم بأرض جردية ذات أحجار وستفتح يعني الأرياف والأمصار فيخرج الناس إليها ثم يبعثون إلى أهليهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون
[ 39 ](1/4171)
و الذي نفسي بيده لا تصبر نفس على لأوائها وشدتها إلا كنت لها شفيعا أو قال شهيدا يوم القيامة . قال الواقدي وأتى عبد الرحمن بن عوف في خلافة عثمان بثياب وطعام فقال ولكن حمزة لم يوجد له كفن ومصعب بن عمير لم يوجد له كفن وكانا خيرا مني . قال الواقدي ومر رسول الله ص بمصعب بن عمير وهو مقتول مسجى ببردة خلق فقال لقد رأيتك بمكة وما بها أحد أرق حلة ولا أحسن لمة منك ثم أنت اليوم أشعث الرأس في هذه البردة ثم أمر به فقبر ونزل في قبره أخوه أبو الروم وعامر بن ربيعة وسويبطة بن عمرو بن حرملة ونزل في قبر حمزة علي ع والزبير وأبو بكر وعمر ورسول الله ص جالس على حفرته . قال الواقدي ثم إن الناس أو عامتهم حملوا قتلاهم إلى المدينة فدفن بالبقيع منهم عدة عند دار زيد بن ثابت ودفن بعضهم ببني سلمة فنادى منادي رسول الله ص ردوا القتلى إلى مضاجعهم وكان الناس قد دفنوا قتلاهم فلم يرد أحد أحدا منهم إلا رجلا واحدا أدركه المنادي ولم يدفن وهو شماس بن عثمان المخزومي كان قد حمل إلى المدينة وبه رمق فأدخل على عائشة فقالت أم سلمة ابن عمي يدخل إلى غيري فقال رسول الله ص احملوه إلى أم سلمة فحملوه إليها فمات عندها فأمر رسول الله ص أن يرد إلى أحد فيدفن هناك كما هو في ثيابه التي مات فيها وكان قد مكث يوما وليلة ولم يذق شيئا فلم يصل عليه رسول الله ص ولا غسله . قال الواقدي فأما القبور المجتمعة هناك فكثير من الناس يظنها قبور قتلى أحد وكان طلحة بن عبيد الله وعباد بن تميم المازني يقولان هي قبور قوم من الأعراب كانوا
[ 40 ](1/4172)
عام الرمادة في عهد عمر هناك فماتوا فتلك قبورهم وكان ابن أبي ذئب وعبد العزيز بن محمد يقولان لا نعرف تلك القبور المجتمعة إنما هي قبور ناس من أهل البادية قالوا إنا نعرف قبر حمزة وقبر عبد الله بن حزام وقبر سهل بن قيس ولا نعرف غير ذلك . قال الواقدي وكان رسول الله ص يزور قتلى أحد في كل حول وإذا لقوه بالشعب رفع صوته يقول السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار وكان أبو بكر يفعل مثل ذلك وكذلك عمر بن الخطاب ثم عثمان ثم معاوية حين يمر حاجا ومعتمرا . قال وكانت فاطمة بنت رسول الله ص تأتيهم بين اليومين والثلاثة فتبكي عندهم وتدعو وكان سعد بن أبي وقاص يذهب إلى ما له بالغابة فيأتي من خلف قبور الشهداء فيقول السلام عليكم ثلاثا ويقول لا يسلم عليهم أحد إلا ردوا عليه السلام إلى يوم القيامة قال ومر رسول الله ص على قبر مصعب بن عمير فوقف عليه ودعا وقرأ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اَللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ثم قال إن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة فأتوهم فزوروهم وسلموا عليهم والذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه وكان أبو سعيد الخدري يقف على قبر حمزة فيدعو ويقرأ ويقول مثل ذلك وكانت أم سلمة رحمها الله تذهب فتسلم عليهم في كل شهر فتظل يومها فجاءت يوما ومعها غلامها أنبهان فلم يسلم فقالت أي لكع أ لا تسلم عليهم والله لا يسلم عليهم أحد إلا ردوا عليه إلى يوم القيامة . قال وكان أبو هريرة وعبد الله بن عمر يذهبان فيسلمان عليهم قالت فاطمة
[ 41 ]
الخزاعية سلمت على قبر حمزة يوما ومعي أخت لي فسمعنا من القبر قائلا يقول وعليكما السلام ورحمه الله قالت ولم يكن قربنا أحد من الناس(1/4173)
قال الواقدي فلما فرغ رسول الله ص من دفنهم دعا بفرسه فركبه وخرج المسلمون حوله عامتهم جرحى ولا مثل بني سلمة وبني عبد الأشهل فلما كانوا بأصل الحرة قال اصطفوا فاصطفت الرجال صفين وخلفهم النساء وعدتهن أربع عشرة امرأة فرفع يديه فدعا فقال اللهم لك الحمد كله اللهم لا قابض لما بسطت ولا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا هادي لمن أضللت ولا مضل لمن هديت ولا مقرب لما باعدت ولا مباعد لما قربت اللهم إني أسألك من بركتك ورحمتك وفضلك وعافيتك اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول اللهم إني أسألك الأمن يوم الخوف والغناء يوم الفاقة عائذا بك اللهم من شر ما أعطيت ومن شر ما منعت اللهم توفنا مسلمين اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين اللهم عذب كفرة أهل الكتاب الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك اللهم أنزل عليهم رجسك وعذابك إله الحق آمين . قال الواقدي وأقبل حتى نزل ببني حارثة يمينا حتى طلع على بني عبد الأشهل وهم يبكون على قتلاهم فقال لكن حمزة لا بواكي له فخرج النساء ينظرن إلى سلامة رسول الله ص فخرجت إليه أم عامر الأشهلية وتركت النوح فنظرت إليه وعليه الدرع كما هي فقالت كل مصيبة بعدك جلل وخرجت كبشة بنت عتبة بن معاوية بن بلحارث بن الخزرج تعدو نحو رسول الله ص وهو واقف على فرسه وسعد بن معاذ آخذ بعنان فرسه فقال سعد يا رسول الله أمي فقال مرحبا بها فدنت حتى تأملته وقالت إذ رأيتك سالما فقد شفت المصيبة فعزاها بعمرو
[ 42 ](1/4174)
بن معاذ ثم قال يا أم سعد أبشري وبشري أهليهم أن قتلاهم قد ترافقوا في الجنة جميعا وهم اثنا عشر رجلا وقد شفعوا في أهليهم فقالت رضينا يا رسول الله ومن يبكي عليهم بعد هذا ثم قالت يا رسول الله ادع لمن خلفوا فقال اللهم أذهب حزن قلوبهم وآجر مصيبتهم وأحسن الخلف على من خلفوا ثم قال لسعد بن معاذ حل أبا عمرو الدابة فحل الفرس وتبعه الناس فقال يا أبا عمرو إن الجراح في أهل دارك فاشية وليس منهم مجروح إلا يأتي يوم القيامة جرحه كأغزر ما كان اللون لون دم والريح ريح مسك فمن كان مجروحا فليقر في داره وليداو جرحه ولا تبلغ معي بيتي عزمة مني فنادى فيهم سعد عزمة من رسول الله ص ألا يتبعه جريح من بني عبد الأشهل فتخلف كل مجروح وباتوا يوقدون النيران ويداوون الجراح وإن فيهم لثلاثين جريحا ومضى سعد بن معاذ مع رسول الله ص إلى بيته ثم رجع إلى نسائه فساقهن فلم تبق امرأة إلا جاء بها إلى بيت رسول الله ص فبكين بين المغرب والعشاء وقام رسول الله ص حين فرغ من النوم لثلث الليل فسمع البكاء فقال ما هذا قيل نساء الأنصار يبكين على حمزة فقال رضي الله تعالى عنكن وعن أولادكن وأمر النساء أن يرجعن إلى منازلهن قالت أم سعد بن معاذ فرجعنا إلى بيوتنا بعد ليل ومعنا رجالنا فما بكت منا امرأة قط إلا بدأت بحمزة إلى يومنا هذا ويقال إن معاذ بن جبل جاء بنساء بني سلمة وجاء عبد الله بن رواحة بنساء بلحارث بن الخزرج فقال رسول الله ص ما أردت هذا ونهاهن الغد عن النوح أشد النهي . قال الواقدي وجعل ابن أبي والمنافقون معه يشمتون ويسرون بما أصاب المسلمين ويظهرون أقبح القول ورجع عبد الله بن أبي إلى ابنه وهو جريح فبات يكوي الجراحة بالنار حتى ذهب عامة الليل وأبوه يقول ما كان خروجك مع محمد إلى هذا
[ 43 ](1/4175)
الوجه برأيي عصاني محمد وأطاع الولدان والله لكأني كنت أنظر إلى هذا فقال ابنه الذي صنع الله لرسوله وللمسلمين خير إن شاء الله قال وأظهرت اليهود القول السيئ وقالوا ما محمد إلا طالب ملك ما أصيب هكذا نبي قط في بدنه وأصيب في أصحابه وجعل المنافقون يخذلون عن رسول الله ص وأصحابه ويأمرونهم بالتفرق عنه وقالوا لأصحاب النبي ص لو كان من قتل منكم عندنا ما قتل حتى سمع عمر بن الخطاب ذلك في أماكن فمشى إلى رسول الله ص يستأذنه في قتل من سمع ذلك منهم من اليهود والمنافقين فقال له يا عمر إن الله مظهر دينه ومعز نبيه ولليهود ذمة فلا أقتلهم قال فهؤلاء المنافقون يا رسول الله يقولون فقال أ ليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله قال بلى وإنما يفعلون تعوذا من السيف وقد بان لنا أمرهم وأبدى الله أضغانهم عند هذه النكبة فقال إني نهيت عن قتل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله يا ابن الخطاب إن قريشا لن ينالوا ما نالوا منا مثل هذا اليوم حتى نستلم الركن . و
روى ابن عباس أن النبي ص قال إخوانكم لما أصيبوا بأحد جعلت أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة فتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش فلما وجدوا طيب مطعمهم ومشربهم ورأوا حسن منقلبهم قالوا ليت إخواننا يعلمون بما أكرمنا الله وبما نحن فيه لئلا يزهدوا في الجهاد ويكلوا عند الحرب فقال لهم الله تعالى أنا أبلغهم عنكم فأنزل وَ لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
[ 44 ](1/4176)
القول فيما جرى للمشركين بعد انصرافهم إلى مكة
قال الواقدي حدثني موسى بن شيبة عن قطن بن وهيب الليثي قال لما تحاجز الفريقان ووجه قريش إلى مكة وامتطوا الإبل وجنبوا الخيل سار وحشي عبد جبير بن مطعم على راحلته أربعا فقدم مكة يبشر قريشا بمصاب المسلمين فانتهى إلى الثنية التي تطلع على الحجون فنادى بأعلى صوته يا معشر قريش مرارا حتى ثاب الناس إليه وهم خائفون أن يأتيهم بما يكرهون فلما رضي منهم قال أبشروا فقد قتلنا من أصحاب محمد مقتلة لم نقتل مثلها في زحف قط وجرحنا محمدا فأثبتناه بالجراح وقتلنا رأس الكتيبة حمزة بن عبد المطلب فتفرق الناس عنه في كل وجه بالشماتة بقتل أصحاب النبي ص وإظهار السرور وخلا جبير بن مطعم بوحشي فقال أنظر ما تقول قال وحشي قد والله صدقت قال قتلت حمزة قال إي والله ولقد زرقته بالمزراق في بطنه فخرج من بين فخذيه ثم نودي فلم يجب فأخذت كبده وحملتها إليك لتراها فقال أذهبت حزن نسائنا وبردت حر قلوبنا فأمر يومئذ نساءه بمراجعة الطيب والدهن . قال الواقدي وقد كان عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي لما انكشف المشركون بأحد في أول الأمر خرج هاربا على وجهه وكره أن يقدم مكة فقدم الطائف فأخبر ثقيفا أن أصحاب محمد قد ظفروا وانهزمنا وكنت أول من قدم عليكم ثم جاءهم الخبر بعد أن قريشا ظفرت وعادت الدولة لها . قال الواقدي فسارت قريش قافلة إلى مكة فدخلتها ظافرة فكان ما دخل على قلوبهم من السرور يومئذ نظير ما دخل عليهم من الكئابة والحزن يوم بدر وكان ما دخل
[ 45 ](1/4177)
على قلوب المسلمين من الغيظ والحزن يومئذ نظير ما دخل عليهم من السرور والجذل يوم بدر كما قال الله تعالى وَ تِلْكَ اَلْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ اَلنَّاسِ وقال سبحانه أَ وَ لَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ قال يعني إنكم يوم بدر قتلتم من قريش سبعين وأسرتم سبعين وأما يوم أحد فقتل منكم سبعون ولم يؤسر منكم أحد فقد أصبتم قريشا بمثلي ما أصابوكم يوم أحد وقوله أَنَّى هذا أي كيف هذا ونحن موعودون بالنصر ونزول الملائكة وفينا نبي ينزل عليه الوحي من السماء فقال لهم في الجواب هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ يعني الرماة الذين خالفوا الأمر وعصوا الرسول وإنما كان النصر ونزول الملائكة مشروطا بالطاعة وإلا يعصى أمر الرسول أ لا ترى إلى قوله بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ اَلْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ فعلقه على الشرط(1/4178)
القول في مقتل أبي عزة الجمحي ومعاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس
قال الواقدي أما أبو عزة واسمه عمرو بن عبد الله بن عمير بن وهب بن حذافة بن جمح فإن رسول الله ص أخذه أسيرا يوم أحد ولم يؤخذ يوم أحد أسير غيره فقال يا محمد من علي
فقال رسول الله ص إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين لا ترجع إلى مكة تمسح عارضيك فتقول سخرت بمحمد مرتين ثم أمر عاصم بن ثابت فضرب عنقه .
[ 46 ]
قال الواقدي وقد سمعنا في أسره غير هذا حدثني بكير بن مسمار قال لما انصرف المشركون عن أحد نزلوا بحمراء الأسد في أول الليل ساعة ثم رحلوا وتركوا أبا عزة مكانه حتى ارتفع النهار فلحقه المسلمون وهو مستنبه يتلدد وكان الذي أخذه عاصم بن ثابت فأمره النبي ص فضرب عنقه . قلت وهذه الرواية هي الصحيحة عندي لأن المسلمين لم تكن حالهم يوم أحد حال من يتهيأ له أسر أحد من المشركين في المعركة لما أصابهم من الوهن . فأما معاوية بن المغيرة فروى البلاذري أنه هو الذي جدع أنف حمزة ومثل به وأنه انهزم يوم أحد فمضى على وجهه فبات قريبا من المدينة فلما أصبح دخل المدينة فأتى منزل عثمان بن عفان بن أبي العاص وهو ابن عمه لحا فضرب بابه فقالت أم كلثوم زوجته وهي ابنة رسول الله ص ليس هو هاهنا فقال ابعثي إليه فإن له عندي ثمن بعير ابتعته منه عام أول وقد جئته به فإن لم يجئ ذهبت فأرسلت إليه وهو عند رسول الله ص فلما جاء قال لمعاوية أهلكتني وأهلكت نفسك ما جاء بك قال يا ابن عم لم يكن أحد أقرب إلي ولا أمس رحما بي منك فجئتك لتجيرني فادخله عثمان داره وصيره في ناحية منها ثم خرج إلى النبي ص ليأخذ له منه أمانا فسمع رسول الله ص يقول إن معاوية في المدينة وقد أصبح بها فاطلبوه فقال بعضهم ما كان ليعدو منزل عثمان فاطلبوه به فدخلوا منزل عثمان فأشارت أم كلثوم إلى الموضع الذي صيره فيه فاستخرجوه من تحت خمارة لهم فانطلقوا به إلى النبي ص فقال عثمان(1/4179)
حين رآه والذي بعثك بالحق ما جئت إلا لأطلب له الأمان فهبه لي فوهبه له وأجله ثلاثا
[ 47 ]
و أقسم لئن وجده بعدها يمشي في أرض المدينة وما حولها ليقتلنه وخرج عثمان فجهزه واشترى له بعيرا ثم قال ارتحل وسار رسول الله ص إلى حمراء الأسد وأقام معاوية إلى اليوم الثالث ليعرف أخبار النبي ص ويأتي بها قريشا فلما كان في اليوم الرابع قال رسول الله ص إن معاوية أصبح قريبا لم ينفذ فاطلبوه فأصابوه وقد أخطأ الطريق فأدركوه وكان اللذان أسرعا في طلبه زيد بن حارثة وعمار بن ياسر فوجداه بالجماء فضربه زيد بالسيف وقال عمار إن لي فيه حقا فرمياه بسهم فقتلاه ثم انصرفا إلى المدينة بخبره ويقال إنه أدرك على ثمانية أميال من المدينة فلم يزل زيد وعمار يرميانه بالنبل حتى مات . قال ومعاوية هذا أبو عائشة بنت معاوية أم عبد الملك بن مروان . قال وذكر الواقدي في كتابه مثل هذه الرواية سواء . قال البلاذري وقال ابن الكلبي إن معاوية بن المغيرة جدع أنف حمزة يوم أحد وهو قتيل فأخذ بقرب أحد فقتل على أحد بعد انصراف قريش بثلاث ولا عقب له إلا عائشة أم عبد الملك بن مروان قال ويقال إن عليا ع هو الذي قتل معاوية بن المغيرة . قلت ورواية ابن الكلبي عندي أصح لأن هزيمة المشركين كانت في الصدمة الأولى عقيب قتل بني عبد الدار أصحاب الألوية وكان قتل حمزة بعد ذلك لما كر خالد بن الوليد الخيل من وراء المسلمين فاختلطوا وانتقض صفهم وقتل بعضهم بعضا فكيف يصح إن يجتمع لمعاوية كونه قد جدع أنف حمزة وكونه قد انهزم مع المشركين في الصدمة الأولى هذا متناقض لأنه إذا كان قد انهزم في أول الحرب استحال أن يكون
[ 48 ]
حاضرا عند حمزة حين قتل والصحيح ما ذكره ابن الكلبي من أنه شهد الحرب كلها وجدع أنف حمزة ثم حصل في أيدي المسلمين بعد انصراف قريش لأنه تأخر عنهم لعارض عرض له فأدركه حينه فقتل(1/4180)
القول في مقتل المجذر بن زياد البلوي والحارث بن يزيد بن الصامت
قال الواقدي كان المجذر بن زياد البلوي حليف بني عوف بن الخزرج ممن شهد بدرا مع رسول الله ص وكانت له قصة في الجاهلية قبل قدوم النبي ص المدينة وذلك أن حضير الكتائب والد أسيد بن حضير جاء إلى بني عمرو بن عوف فكلم سويد بن الصامت وخوات بن جبير وأبا لبابة بن عبد المنذر ويقال سهل بن حنيف فقال هل لكم إن تزوروني فأسقيكم شرابا وأنحر لكم وتقيمون عندي أياما قالوا نعم نحن نأتيك يوم كذا فلما كان ذلك اليوم جاءوه فنحر لهم جزورا وسقاهم خمرا وأقاموا عنده ثلاثة أيام حتى تغير اللحم وكان سويد بن الصامت يومئذ شيخا كبيرا فلما مضت الأيام الثلاثة قالوا ما نرانا إلا راجعين إلى أهلنا فقال حضير ما أحببتم إن أحببتم فأقيموا وإن أحببتم فانصرفوا فخرج الفتيان بسويد بن الصامت يحملانه على جمل من الثمل فمروا لاصقين بالحرة حتى كانوا قريبا من بني عيينة فجلس سويد يبول وهو ثمل سكرا فبصر به إنسان من الخزرج فخرج حتى أتى المجذر بن زياد فقال هل لك في الغنيمة الباردة قال ما هي قال سويد بن الصامت أعزل لا سلاح معه ثمل فخرج المجذر بن زياد بالسيف مصلتا فلما رآه الفتيان وهما أعزلان لا سلاح معهما وليا والعداوة بين الأوس
[ 49 ](1/4181)
و الخزرج شديدة فانصرفا مسرعين وثبت الشيخ ولا حراك به فوقف المجذر بن زياد فقال قد أمكن الله منك قال ما تريد بي قال قتلك قال فارفع عن الطعام واخفض عن الدماغ فإذا رجعت إلى أمك فقل إني قتلت سويد بن الصامت فقتله فكان قتله هو الذي هيج وقعة بعاث فلما قدم رسول الله ص المدينة أسلم الحارث بن سويد بن الصامت وأسلم المجذر فشهدا بدرا فجعل الحارث بن سويد يطلب المجذر في المعركة ليقتله بأبيه فلا يقدر عليه يومئذ فلما كان يوم أحد وجال المسلمون تلك الجولة أتاه الحارث من خلفه فضرب عنقه فرجع رسول الله ص إلى المدينة ثم خرج إلى حمراء الأسد فلما رجع من حمراء الأسد أتاه جبرائيل ع فأخبره أن الحارث بن سويد قتل المجذر غيلة وأمره بقتله فركب رسول الله ص إلى قباء في اليوم الذي أخبره جبرائيل في يوم حار وكان ذلك يوما لا يركب فيه رسول الله ص إلى قباء إنما كانت الأيام التي يأتي فيها رسول الله ص قباء يوم السبت ويوم الإثنين فلما دخل رسول الله ص مسجد قباء صلى فيه ما شاء الله أن يصلي وسمعت الأنصار فجاءوا يسلمون عليه وأنكروا إتيانه تلك الساعة في ذلك اليوم فجلس ع يتحدث ويتصفح الناس حتى طلع الحارث بن سويد في ملحفة مورسة فلما رآه رسول الله ص دعا عويم بن ساعدة فقال له قدم الحارث بن سويد إلى باب المسجد فاضرب عنقه بمجذر بن زياد فإنه قتله يوم أحد فأخذه عويم فقال الحارث دعني أكلم رسول الله ورسول الله ص يريد أن يركب ودعا بحماره إلى باب المسجد فجعل الحارث يقول قد والله قتلته يا رسول الله وما كان قتلي إياه رجوعا عن الإسلام
[ 50 ](1/4182)
و لا ارتيابا فيه ولكنه حمية الشيطان وأمر وكلت فيه إلى نفسي وإني أتوب إلى الله وإلى رسوله مما عملت وأخرج ديته وأصوم شهرين متتابعين وأعتق رقبة وأطعم ستين مسكينا إني أتوب إلى الله يا رسول الله وجعل يمسك بركاب رسول الله ص وبنو المجذر حضور لا يقول لهم رسول الله ص شيئا حتى إذا استوعب كلامه قال قدمه يا عويم فاضرب عنقه وركب رسول الله ص فقدمه عويم بن ساعدة على باب المسجد فضرب عنقه . قال الواقدي ويقال إن الذي أعلم رسول الله قتل الحارث المجذر يوم أحد حبيب بن يساف نظر إليه حين قتله فجاء إلى النبي ص فأخبره فركب رسول الله ص يتفحص عن هذا الأمر فبينا هو على حماره نزل جبرائيل ع فخبره بذلك فأمر رسول الله ص عويما فضرب عنقه ففي ذلك قال حسان
يا حار في سنة من نوم أولكم
أم كنت ويحك مغترا بجبريل
فأما البلاذري فإنه ذكر هذا وقال ويقال إن الجلاس بن سويد بن الصامت هو الذي قتل المجذر يوم أحد غيلة إلا أن شعر حسان يدل على أنه الحارث . قال الواقدي والبلاذري وكان سويد بن الصامت حين ضربه المجذر بقي قليلا ثم مات فقال قبل أن يموت يخاطب أولاده
أبلغ جلاسا وعبد الله مالكه
و إن دعيت فلا تخذلهما حار
[ 51 ]
اقتل جذارة إذ ما كنت لاقيهم
و الحي عوفا على عرف وإنكار
قال البلاذري جذرة وجذارة أخوان وهما ابنا عوف بن الحارث بن الخزرج . قلت هذه الروايات كما ترى وقد ذكر ابن ماكولا في الإكمال أن الحارث بن سويد قتل المجذر غيلة يوم أحد ثم التحق بمكة كافرا ذكره في حرف الميم من هذا الكتاب وهذا هو الأشبه عندي(1/4183)
القول فيمن مات من المسلمين بأحد جملة
قال الواقدي ذكر سعيد بن المسيب وأبو سعيد الخدري أنه قتل من الأنصار خاصة أحد وسبعون وبمثله قال مجاهد . قال فأربعة من قريش وهم حمزة بن عبد المطلب قتله وحشي وعبد الله بن جحش بن رئاب قتله أبو الحكم بن الأخنس بن شريق وشماس بن عثمان بن الشريد من بني مخزوم قتله أبي بن خلف ومصعب بن عمير قتله ابن قميئة . قال وقد زاد قوم خامسا وهو سعد مولى حاطب من بني أسد بن عبد العزى وقال قوم أيضا إن أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي جرح يوم أحد ومات من تلك الجراحة بعد أيام . قال الواقدي وقال قوم قتل ابنا الهبيب من بني سعد بن ليث وهما عبد الله
[ 52 ]
و عبد الرحمن ورجلان من بني مزينة وهما وهب بن قابوس وابن أخيه الحارث بن عتبة بن قابوس فيكون جميع من قتل من المسلمين ذلك اليوم نحو أحد وثمانين رجلا فأما تفصيل أسماء الأنصار فمذكور في كتب المحدثين وليس هذا الموضع مكان ذكره(1/4184)
القول فيمن قتل من المشركين بأحد
قال الواقدي قتل من بني عبد الدار طلحة بن أبي طلحة صاحب لواء قريش قتله علي بن أبي طالب ع مبارزة وعثمان بن أبي طلحة قتله حمزة بن عبد المطلب وأبو سعيد بن أبي طلحة قتله سعد بن أبي وقاص ومسافع بن طلحة بن أبي طلحة قتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح وكلاب بن طلحة بن أبي طلحة قتله الزبير بن العوام والحارث بن طلحة بن أبي طلحة قتله عاصم بن ثابت والجلاس بن طلحة بن أبي طلحة قتله طلحة بن عبيد الله وأرطاة بن عبد شرحبيل قتله علي بن أبي طالب ع وقارظ بن شريح بن عثمان بن عبد الدار ويروى قاسط بالسين والطاء المهملتين قال الواقدي لا يدرى من قتله وقال البلاذري قتله علي بن أبي طالب ع وصواب مولاهم قتله علي بن أبي طالب ع وقيل قتله قزمان وأبو عزيز بن عمير أخو مصعب بن عمير قتله قزمان فهؤلاء أحد عشر . ومن بني أسد بن عبد العزى عبد الله بن حميد بن زهير بن الحارث بن أسد قتله أبو دجانة في رواية الواقدي وفي رواية محمد بن إسحاق قتله علي بن أبي طالب ع وقال البلاذري قال ابن الكلبي إن عبد الله بن حميد قتل يوم بدر
[ 53 ](1/4185)
و من بني زهرة أبو الحكم بن الأخنس بن شريق قتله علي بن أبي طالب ع وسباع بن عبد العزى الخزاعي واسم عبد العزى عمر بن نضله بن عباس بن سليم وهو ابن أم أنمار الحجامة بمكة قتله حمزة بن عبد المطلب فهذان رجلان . ومن بني مخزوم أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة قتله علي ع وهشام بن أبي أمية بن المغيرة قتله قزمان والوليد بن العاص بن هشام قتله قزمان وخالد بن أعلم العقيلي قتله قزمان وعثمان بن عبد الله بن المغيرة قتله الحارث بن الصمة فهؤلاء خمسة . ومن بني عامر بن لؤي عبيد بن حاجز قتله أبو دجانة وشيبة بن مالك بن المضرب قتله طلحة بن عبيد الله وهذان اثنان . ومن بني جمح أبي بن خلف قتله رسول الله ص بيده وأبو عزة قتله عاصم بن ثابت صبرا بأمر رسول الله ص فهذان اثنان . ومن بني عبد مناة بن كنانة خالد بن سفيان بن عويف وأبو الشعثاء بن سفيان بن عويف وأبو الحمراء بن سفيان بن عويف وغراب بن سفيان بن عويف هؤلاء الإخوة الأربعة قتلهم علي بن أبي طالب ع في رواية محمد بن حبيب . فأما الواقدي فلم يذكر في باب من قتل من المشركين بأحد لهم قاتلا معينا ولكنه ذكر في كلام آخر قبل هذا الباب أن أبا سبرة بن الحارث بن علقمة قتل أحد بني سفيان بن عويف وأن رشيدا الفارسي مولى بني معاوية لقي آخر من بني سفيان بن عويف مقنعا في الحديد وهو يقول أنا ابن عويف فيعرض له سعد مولى حاطب فضربه ابن
[ 54 ](1/4186)
عويف ضربة جزله باثنتين فأقبل رشيد على ابن عويف فضربه على عاتقه فقطع الدرع حتى جزله اثنتين وقال خذها وأنا الغلام الفارسي فقال رسول الله ص وهو يراه ويسمعه أ لا قلت أنا الغلام الأنصاري قال فيعرض لرشيد أخ للمقتول أحد بني سفيان بن عويف أيضا وأقبل يعدو نحوه كأنه كلب يقول أنا ابن عويف ويضربه رشيد أيضا على رأسه وعليه المغفر ففلق رأسه وقال خذها وأنا الغلام الأنصاري فتبسم رسول الله ص وقال أحسنت يا أبا عبد الله فكناه رسول الله ص يومئذ ولا ولد له . قلت فأما البلاذري فلم يذكر لهم قاتلا ولكنه عدهم في جملة من قتل من المشركين بأحد وكذلك ابن إسحاق لم يذكر من قتلهم فإن صحت رواية الواقدي فعلي ع لم يكن قد قتل منهم إلا واحدا وإن كانت رواية ابن حبيب صحيحة فالأربعة من قتلاه ع وقد رأيت في بعض كتب أبي الحسن المدائني أيضا أن عليا ع هو الذي قتل بني سفيان بن عويف يوم أحد وروى له شعرا في ذلك . ومن بني عبد شمس معاوية بن المغيرة بن أبي العاص قتله علي ع في إحدى الروايات وقيل قتله زيد بن حارثة وعمار بن ياسر . فجميع من قتل من المشركين يوم أحد ثمانية وعشرون قتل علي ع منهم ما اتفق عليه وما اختلف فيه اثني عشر وهو إلى جملة القتلى كعدة من قتل يوم بدر إلى جملة القتلى يومئذ وهو قريب من النصف
[ 55 ](1/4187)
القول في خروج النبي ص وبعد انصرافه من أحد إلى المشركين ليوقع بهم على ما هو به من الوهن
قال الواقدي بلغ رسول الله ص أن المشركين قد عزموا أن يردوا إلى المدينة فينهبوها فأحب أن يريهم قوة فصلى الصبح يوم الأحد لثمان خلون من شوال ومعه وجوه الأوس والخزرج وكانوا باتوا تلك الليلة في بابه يحرسونه من البيات فيهم سعد بن عبادة وسعد بن معاذ والحباب بن المنذر وأوس بن خولي وقتادة بن النعمان في عدة منهم فلما انصرف من صلاة الصبح أمر بلالا أن ينادي في الناس أن رسول الله ص يأمركم بطلب عدوكم ولا يخرج معنا إلا من شهد القتال بالأمس فخرج سعد بن معاذ راجعا إلى قومه يأمرهم بالمسير والجراح في الناس فاشية عامة بني عبد الأشهل جريح بل كلها فجاء سعد بن معاذ فقال إن رسول الله ص يأمركم أن تطلبوا عدوكم قال يقول أسيد بن حضير وبه سبع جراحات وهو يريد أن يداويها سمعا وطاعة لله ولرسوله فأخذ سلاحه ولم يعرج على دواء جراحة ولحق برسول الله ص وجاء سعد بن عبادة قومه بني ساعدة فأمرهم بالمسير فلبسوا ولحقوا وجاء أبو قتادة أهل خربا وهم يداوون الجراح فقال هذا منادي رسول الله ص يأمركم بطلب العدو فوثبوا إلى سلاحهم ولم يعرجوا على جراحاتهم فخرج من بني سلمة أربعون جريحا بالطفيل بن النعمان ثلاثة عشر جرحا وبخراش بن الصمة عشر جراحات وبكعب بن مالك بضعة عشر جرحا وبقطبة بن عامر بن خديج بيده تسع جراحات حتى وافوا النبي ص بقبر أبي عتبة وعليهم السلاح
[ 56 ](1/4188)
و قد صفوا لرسول الله ص فلما نظر إليهم والجراح فيهم فاشية قال اللهم ارحم بني سلمة . قال الواقدي وحدثني عتبة بن جبيرة عن رجال من قومه أن عبد الله بن سهل ورافع بن سهل من بني عبد الأشهل رجعا من أحد وبهما جراح كثيرة وعبد الله أثقلهما جرحا فلما أصبحا وجاء سعد بن معاذ قومه يخبرهم أن رسول الله ص يأمرهم بطلب العدو قال أحدهما لصاحبه والله إن تركنا غزاة مع رسول الله ص لغبن والله ما عندنا دابة نركبها ولا ندري كيف نصنع قال عبد الله انطلق بنا قال رافع لا والله ما بي مشي قال أخوه انطلق بنا نقصد ونجوز وخرجا يزحفان فضعف رافع فكان عبد الله يحمله على ظهره عقبه ويمشي الآخر عقبه حتى أتوا رسول الله ص عند العشاء وهم يوقدون النيران فأتي بهما رسول الله ص وعلى حرسه تلك الليلة عباد بن بشر فقال رسول الله ص لهما ما حبسكما فأخبراه بعلتهما فدعا لهما بخير وقال إن طالت لكما مدة كانت لكما مراكب من خيل وبغال وإبل وليس ذلك بخير لكما . قال الواقدي وقال جابر بن عبد الله يا رسول الله إن مناديا نادى ألا يخرج معنا إلا من حضر القتال بالأمس وقد كنت حريصا بالأمس على الحضور ولكن أبي خلفني على أخوات لي وقال يا بني لا ينبغي لك أن تدعهن ولا رجل معهن وأخاف عليهن وهن نسيات ضعاف وأنا خارج مع رسول الله ص لعل الله يرزقني الشهادة فتخلفت عليهن فاستأثر علي بالشهادة وكنت رجوتها فأذن لي يا رسول الله أن أسير معك فأذن له رسول الله ص قال جابر فلم يخرج معه أحد لم يشهد القتال بالأمس غيري واستأذنه رجال لم يحضروا القتال فأبى ذلك
[ 57 ](1/4189)
عليهم فدعا رسول الله ص بلواءه وهو معقود لم يحل من أمس فدفعه إلى علي ع ويقال دفعه إلى أبي بكر فخرج رسول الله ص وهو مجروح في وجهه أثر الحلقتين ومشجوج في جبهته في أصول الشعر ورباعيته قد شظيت وشفته قد كلمت من باطنها ومنكبه الأيمن موهن بضربة ابن قميئة وركبتاه مجحوشتان فدخل المسجد فصلى ركعتين والناس قد حشدوا ونزل أهل العوالي حيث جاءهم الصريخ ودعا بفرسه على باب المسجد وتلقاه طلحة بن عبيد الله وقد سمع المنادي فخرج ينظر متى يسير رسول الله ص فإذا هو وعليه الدرع والمغفر لا يرى منه إلا عيناه فقال يا طلحة سلاحك قال قريبا قال طلحة فأخرج وأعدو فألبس درعي وآخذ سيفي وأطرح درقتي في صدري وإن بي لتسع جراحات ولأنا أهتم بجراح رسول الله ص مني بجراحي فأقبل رسول الله ص على طلحة فقال أين ترى القوم الآن قال هم بالسيالة فقال رسول الله ص ذلك الذي ظننت أما إنهم يا طلحة لن ينالوا منا مثل أمس حتى يفتح الله مكة علينا قال وبعث رسول الله ص ثلاثة نفر من أسلم طليعة في آثار القوم فانقطع أحدهم وانقطع قبال نعل الآخر ولحق الثالث بقريش وهم بحمراء الأسد ولهم زجل يأتمرون في الرجوع إلى المدينة وصفوان بن أمية ينهاهم عن ذلك ولحق الذي انقطع قبال نعله بصاحبه فبصرت قريش بالرجلين فعطفت عليهما فأصابوهما وانتهى المسلمون إلى مصرعهما بحمراء الأسد فقبرهما رسول الله ص في قبر واحد فهما القرينان .
[ 58 ](1/4190)
قال الواقدي اسماهما سليط ونعمان . قال الواقدي قال جابر بن عبد الله كانت عامة أزوادنا ذلك اليوم التمر وحمل سعد بن عبادة ثلاثين بعيرا تمرا حتى وافت حمراء الأسد وساق جزرا فنحروا في يوم ثنتين وفي يوم ثلاثا وأمرهم رسول الله ص بجمع الحطب فإذا أمسوا أمرهم أن يوقدوا النيران فيوقد كل رجل نارا فلقد كنا تلك الليلة نوقد خمسمائة نار حتى نرى من المكان البعيد وذهب ذكر معسكرنا ونيراننا في كل وجه وكان ذلك مما كبت الله به عدونا . قال الواقدي وجاء معبد بن أبي معبد الخزاعي وهو يومئذ مشرك إلى النبي ص وكانت خزاعة سلما للنبي ص فقال يا محمد عز علينا ما أصابك في نفسك وما أصابك في أصحابك ولوددنا أن الله تعالى أعلى كعبك وأن المصيبة كانت بغيرك ثم مضى معبد حتى يجد أبا سفيان وقريشا بالروحاء وهم يقولون لا محمدا أصبتم ولا الكواعب أردفتم فبئسما صنعتم وهم مجمعون على الرجوع إلى المدينة ويقول قائلهم فيما بينهم ما صنعنا شيئا أصبنا أشرافهم ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم وقبل أن يكون لهم وفر وكان المتكلم بهذا عكرمة بن أبي جهل فلما جاء معبد إلى أبي سفيان قال هذا معبد وعنده الخبر ما وراءك يا معبد قال تركت محمدا وأصحابه خلفي يتحرقون عليكم بمثل النيران وقد اجتمع معه من تخلف عنه بالأمس من الأوس والخزرج وتعاهدوا ألا يرجعوا حتى يلحقوكم فيثأروا منكم وقد غضبوا لقومهم غضبا شديدا ولمن أصبتم من أشرافهم قالوا ويحك ما تقول قال والله ما أرى
[ 59 ]
أن ترتحلوا حتى تروا نواصي الخيل ولقد حملني ما رأيت منهم أن قلت أبياتا قالوا وما هي فأنشدهم هذا الشعر
كادت تهد من الأصوات راحلتي
إذ سألت الأرض بالجرد الأبابيل
تعدو بأسد ضراء لا تنابلة
عند اللقاء ولا ميل معازيل
فقلت ويل ابن حرب من لقائهم
إذا تغطمطت البطحاء بالجيل(1/4191)
و قد كان صفوان بن أمية رد القوم بكلامه قبل أن يطلع معبد وقال لهم صفوان يا قوم لا تفعلوا فإن القوم قد حربوا وأخشى أن يجمعوا عليكم من تخلف من الخزرج فارجعوا والدولة لكم فإني لا آمن إن رجعتم إليهم أن تكون الدولة عليكم قال فلذلك
قال رسول الله ص أرشدهم صفوان وما كان برشيد ثم قال والذي نفسي بيده لقد سومت لهم الحجارة ولو رجعوا لكانوا كأمس الذاهب قال فانصرف القوم سراعا خائفين من الطلب لهم ومر بأبي سفيان قوم من عبد القيس يريدون المدينة فقال لهم هل أنتم مبلغو محمد وأصحابه ما أرسلكم به على أن أوقر لكم أباعركم زبيبا غدا بعكاظ إن أنتم جئتموني قالوا نعم قال حيثما
[ 60 ]
لقيتم محمدا وأصحابه فأخبروهم أنا قد أجمعنا الرجعة إليهم وأنا آثاركم وانطلق أبو سفيان إلى مكة وقدم الركب على النبي ص وأصحابه بالحمراء فأخبروهم بالذي أمرهم أبو سفيان فقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فأنزل ذلك في القرآن وأرسل معبد رجلا من خزاعة إلى رسول الله ص يعلمه أنه قد انصرف أبو سفيان وأصحابه خائفين وجلين فانصرف رسول الله ص بعد ثلاث إلى المدينة
[ 61 ](1/4192)
الفصل الخامس في شرح غزاة مؤتة
نذكرها من كتاب الواقدي ونزيد على ذلك ما رواه محمد بن إسحاق في كتابه على عادتنا فيما تقدم قال الواقدي حدثني ربيعة بن عثمان عن عمر بن الحكم قال بعث رسول الله ص الحارث بن عمير الأزدي في سنة ثمان إلى ملك بصرى بكتاب فلما نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني فقال أين تريد قال الشام قال لعلك من رسل محمد قال نعم فأمر به فأوثق رباطا ثم قدمه فضرب عنقه ولم يقتل لرسول الله ص رسول غيره وبلغ ذلك رسول الله ص فاشتد عليه وندب الناس وأخبرهم بمقتل الحارث فأسرعوا وخرجوا فعسكروا بالجرف فلما صلى رسول الله ص الظهر جلس وجلس أصحابه حوله وجاء النعمان بن مهض اليهودي فوقف مع الناس
فقال رسول الله ص زيد بن حارثة أمير الناس فإن قتل زيد بن حارثة فجعفر بن أبي طالب فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة فإن أصيب ابن رواحة فليرتض المسلمون من بينهم رجلا فليجعلوه عليهم فقال النعمان بن مهض يا أبا القاسم إن كنت نبيا فسيصاب من سميت قليلا كانوا أو كثيرا إن الأنبياء في بني إسرائيل كانوا إذا استعملوا الرجل على القوم ثم قالوا إن أصيب فلان فلو سمى مائة أصيبوا جميعا ثم جعل اليهودي يقول لزيد بن حارثة اعهد فلا ترجع إلى محمد أبدا إن كان نبيا قال زيد أشهد أنه نبي صادق فلما أجمعوا
[ 62 ]
المسير وعقد رسول الله ص لهم اللواء بيده دفعه إلى زيد بن حارثة وهو لواء أبيض ومشى الناس إلى أمراء رسول الله ص يودعونهم ويدعون لهم وكانوا ثلاثة آلاف فلما ساروا في معسكرهم ناداهم المسلمون دفع الله عنكم وردكم صالحين سالمين غانمين فقال عبد الله بن رواحة
لكنني أسأل الرحمن مغفرة
و ضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة
بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي
يا أرشد الله من غاز فقد رشدا(1/4193)
قلت اتفق المحدثون على أن زيد بن حارثة كان هو الأمير الأول وأنكرت الشيعة ذلك وقالوا كان جعفر بن أبي طالب هو الأمير الأول فإن قتل فزيد بن حارثة فإن قتل فعبد الله بن رواحة ورووا في ذلك روايات وقد وجدت في الأشعار التي ذكرها محمد بن إسحاق في كتاب المغازي ما يشهد لقولهم فمن ذلك ما رواه عن حسان بن ثابت وهو
تأوبني ليل بيثرب أعسر
و هم إذا ما نوم الناس مسهر
لذكرى حبيب هيجت لي عبرة
سفوحا وأسباب البكاء التذكر
بلى إن فقدان الحبيب بلية
و كم من كريم يبتلى ثم يصبر
فلا يبعدن الله قتلى تتابعوا
بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر
و زيد وعبد الله حين تتابعوا
جميعا وأسياف المنية تخطر
[ 63 ]
رأيت خيار المؤمنين تواردوا
شعوب وخلق بعدهم يتأخر
غداة غدوا بالمؤمنين يقودهم
إلى الموت ميمون النقيبة أزهر
أغر كضوء البدر من آل هاشم
أبي إذا سيم الظلامة أصعر
فطاعن حتى مال غير موسد
بمعترك فيه القنا متكسر
فصار مع المستشهدين ثوابه
جنان وملتف الحدائق أخضر
و كنا نرى في جعفر من محمد
وقارا وأمرا حازما حين يأمر
و ما زال في الإسلام من آل هاشم
دعائم صدق لا ترام ومفخر
هم جبل الإسلام والناس حولهم
رضام إلى طور يطول ويقهر
بهاليل منهم جعفر وابن أمه
علي ومنهم أحمد المتخير
و حمزة والعباس منهم ومنهم
عقيل وماء العود من حيث يعصر
بهم تفرج الغماء من كل مأزق
عماس إذا ما ضاق بالناس مصدر
هم أولياء الله أنزل حكمه
عليهم وفيهم والكتاب المطهر
و منها قول كعب بن مالك الأنصاري من قصيدة أولها
نام العيون ودمع عينك يهمل
سحا كما وكف الرباب المسبل
وجدا على النفر الذين تتابعوا
قتلى بمؤتة أسندوا لم ينقلوا
ساروا أمام المسلمين كأنهم
طود يقودهم الهزبر المشبل
إذ يهتدون بجعفر ولوائه
قدام أولهم ونعم الأول
حتى تقوضت الصفوف وجعفر
حيث التقى جمع الغواة مجدل
[ 64 ]
فتغير القمر المنير لفقده
و الشمس قد كسفت وكادت تأفل
قوم علا بنيانهم من هاشم(1/4194)
فرع أشم وسؤدد متأثل
قوم بهم عصم الإله عباده
و عليهم نزل الكتاب المنزل
فضلوا المعاشر عفة وتكرما
و تعمدت أخلاقهم من يجهل
قال الواقدي فحدثني ابن أبي سبرة عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن رافع بن إسحاق عن زيد بن أرقم أن رسول الله ص خطبهم فأوصاهم فقال أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيرا اغزوا باسم الله وفي سبيل الله قاتلوا من كفر بالله لا تغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم واكفف عنهم ادعهم إلى الدخول في الإسلام فإن فعلوا فاقبل واكفف ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى المهاجرين فإن فعلوا فأخبرهم أن لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين وإن دخلوا في الإسلام واختاروا دارهم فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله ولا يكون لهم في الفي ء ولا في الغنيمة شي ء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية فإن فعلوا فاقبل منهم واكفف عنهم فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم وإن أنت حاصرت أهل حصن أو مدينة فأرادوا أن تستنزلهم على حكم الله فلا تستنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أ تصيب حكم الله فيهم أم لا وإن حاصرت أهل حصن أو مدينة وأرادوا أن تجعل لهم ذمة الله وذمة رسول الله فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة رسول الله ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أبيك وأصحابك فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم آبائكم خير لكم من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله
[ 65 ](1/4195)
قال الواقدي وحدثني أبو صفوان عن خالد بن يزيد قال خرج النبي ص مشيعا لأهل مؤتة حتى بلغ ثنية الوداع فوقف ووقفوا حوله فقال اغزوا بسم الله فقاتلوا عدو الله وعدوكم بالشام وستجدون فيها رجالا في الصوامع معتزلين الناس فلا تعرضوا لهم وستجدون آخرين للشيطان في رءوسهم مفاحص فاقلعوها بالسيوف ولا تقتلن امرأة ولا صغيرا ضرعا ولا كبيرا فانيا ولا تقطعن نخلا ولا شجرا ولا تهدمن بناء
قال الواقدي فلما دعا ودع عبد الله بن رواحة رسول الله ص قال له مرني بشي ء أحفظه عنك قال إنك قادم غدا بلدا السجود فيه قليل فأكثروا السجود فقال عبد الله زدني يا رسول الله قال اذكر الله فإنه عون لك على ما تطلب فقام من عنده حتى إذا مضى ذاهبا رجع فقال يا رسول الله إن الله وتر يحب الوتر فقال يا ابن رواحة ما عجزت فلا تعجز إن أسأت عشرا أن تحسن واحدة فقال ابن رواحة لا أسألك عن شي ء بعدها . وروى محمد بن إسحاق أن عبد الله بن رواحة ودع رسول الله ص بشعر منه
فثبت الله ما آتاك من حسن
تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا
إني تفرست فيك الخير نافلة
فراسة خالفتهم في الذي نظروا
أنت الرسول فمن يحرم نوافله
و البشر منه فقد أودى به القدر
قال محمد بن إسحاق فلما ودع المسلمين بكى فقالوا له ما يبكيك يا عبد الله قال والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة إليها ولكني سمعت رسول الله ص
[ 66 ]
يقرأ وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود قال الواقدي وكان زيد بن أرقم يحدث قال كنت يتيما في حجر عبد الله بن رواحة فلم أر والي يتيم كان خيرا لي منه خرجت معه في وجهة إلى مؤتة وصب بي وصببت به فكان يردفني خلف رحله فقال ذات ليلة وهو على راحلته بين شعبتي رحله
إذا بلغتني وحملت رحلي
مسافة أربع بعد الحساء
فشأنك فانعمي وخلاك ذم
و لا أرجع إلى أهلي ورائي
و آب المسلمون وخلفوني
بأرض الشام مشتهر الثواء
و زودني الأقارب من دعاء(1/4196)
إلى الرحمن وانقطع الإخاء
هنالك لا أبالي طلع نخل
و لا نخل أسافلها رواء
فلما سمعت منه هذا الشعر بكيت فخفقني بالدرة وقال وما عليك يا لكع أن يرزقني الله الشهادة فأستريح من الدنيا ونصبها وهمومها وأحزانها وأحداثها وترجع أنت بين شعبتي الرحل . قال الواقدي ومضى المسلمون فنزلوا وادي القرى فأقاموا به أياما وساروا حتى نزلوا بمؤتة وبلغهم أن هرقل ملك الروم قد نزل ماء من مياه البلقاء في بكر وبهراء ولخم وجذام وغيرهم مائة ألف مقاتل وعليهم رجل من بلي فأقام المسلمون ليلتين ينظرون
[ 67 ](1/4197)
في أمرهم وقالوا نكتب إلى رسول الله ص فنخبره الخبر فإما أن يردنا أو يزيدنا رجالا فبينا الناس على ذلك من أمرهم جاءهم عبد الله بن رواحة فشجعهم وقال والله ما كنا نقاتل الناس بكثرة عدة ولا كثرة سلاح ولا كثرة خيل إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به انطلقوا فقاتلوا فقد والله رأينا يوم بدر وما معنا إلا فرسان إنما هي إحدى الحسنيين إما الظهور عليهم فذاك ما وعدنا الله ورسوله وليس لوعده خلف وإما الشهادة فنلحق بالإخوان نرافقهم في الجنان فشجع الناس على قول ابن رواحة . قال الواقدي وروى أبو هريرة قال شهدت مؤتة فلما رأينا المشركين رأينا ما لا قبل لنا به من العدد والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب فبرق بصري فقال لي ثابت بن أرقم ما لك يا أبا هريرة كأنك ترى جموعا كثيرة قلت نعم قال لم تشهدنا ببدر إنا لم ننصر بالكثرة . قال الواقدي فالتقى القوم فأخذ اللواء زيد بن حارثة فقاتل حتى قتل طعنوه بالرماح ثم أخذه جعفر فنزل عن فرس له شقراء فعرقبها ثم قاتل حتى قتل . قال الواقدي قيل إنه ضربه رجل من الروم فقطعه نصفين فوقع أحد نصفيه في كرم هناك فوجد فيه ثلاثون أو بضع وثلاثون جرحا . قال الواقدي وقد روى نافع عن ابن عمر أنه وجد في بدن جعفر بن أبي طالب اثنتان وسبعون ضربة وطعنة بالسيوف والرماح . قال البلاذري قطعت يداه ولذلك
قال رسول الله ص لقد أبدله الله بهما جناحين يطير بهما في الجنة ولذلك سمي الطيار . قال الواقدي ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فنكل يسيرا ثم حمل فقاتل
[ 68 ](1/4198)
حتى قتل فلما قتل انهزم المسلمون أسوأ هزيمة كانت في كل وجه ثم تراجعوا فأخذ اللواء ثابت بن أرقم وجعل يصيح بالأنصار فثاب إليه منهم قليل فقال لخالد بن الوليد خذ اللواء يا أبا سليمان قال خالد لا بل خذه أنت فلك سن وقد شهدت بدرا قال ثابت خذه أيها الرجل فو الله ما أخذته إلا لك فأخذه خالد وحمل به ساعة وجعل المشركون يحملون عليه حتى دهمه منهم بشر كثير فانحاز بالمسلمين وانكشفوا راجعين . قال الواقدي وقد روى أن خالدا ثبت بالناس فلم ينهزموا والصحيح أن خالدا انهزم بالناس . قال الواقدي حدثني محمد بن صالح عن عاصم بن عمر بن قتادة أن النبي ص لما التقى الناس بمؤتة جلس على المنبر وكشف له ما بينه وبين الشام فهو ينظر إلى معركتهم فقال أخذ الراية زيد بن حارثة فجاءه الشيطان فحبب إليه الحياة وكره إليه الموت وحبب إليه الدنيا فقال الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين تحبب إلي الدنيا فمضى قدما حتى استشهد ثم صلى عليه وقال استغفروا له فقد دخل الجنة وهو يسعى ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب فجاءه الشيطان فمناه الحياة وكره إليه الموت ومناه الدنيا فقال الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين تتمنى الدنيا ثم مضى قدما حتى استشهد فصلى عليه رسول الله ص ودعا له
ثم قال استغفروا لأخيكم فإنه شهيد قد دخل الجنة فهو يطير فيها بجناحين من ياقوت حيث شاء ثم قال أخذ الراية عبد الله بن رواحة ثم دخل معترضا فشق ذلك على الأنصار فقال رسول الله ص أصابته الجراح قيل يا رسول الله فما اعتراضه قال لما أصابته الجراح نكل فعاتب نفسه فشجع فاستشهد فدخل الجنة فسري عن قومه .
[ 69 ]
و(1/4199)
روى محمد بن إسحاق قال لما ذكر رسول الله ص زيدا وجعفرا سكت عن عبد الله بن رواحة حتى تغيرت وجوه الأنصار وظنوا أنه قد كان من عبد الله بعض ما يكرهون ثم قال أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل شهيدا ثم قال لقد رفعوا لي في الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب فرأيت في سرير ابن رواحة ازورارا عن سريري صاحبيه فقلت لم هذا فقيل لأنهما مضيا وتردد هذا بعض التردد ثم مضى . قال وروى محمد بن إسحاق أنه لما أخذ جعفر بن أبي طالب الراية قاتل قتالا شديدا حتى إذا لحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ثم قاتل القوم حتى قتل فكان جعفر رضي الله عنه أول رجل عقر فرسه في الإسلام . قال محمد بن إسحاق ولما أخذ ابن رواحة الراية جعل يتردد بعض التردد ويستقدم نفسه يستنزلها وقال
أقسمت يا نفس لتنزلنه
طوعا وإلا سوف تكرهنه
ما لي أراك تكرهين الجنة
إذ أجلب الناس وشدوا الرنه
قد طالما قد كنت مطمئنه
هل أنت إلا نطفة في شنه
ثم ارتجز أيضا فقال
يا نفس إلا تقتلي تموتي
هذا حمام الموت قد صليت
[ 70 ]
و ما تمنيت فقد أعطيت
إن تفعلي فعلهما هديت
و إن تأخرت فقد شقيت(1/4200)
ثم نزل عن فرسه فقاتل فأتاه ابن عم له ببضعة من لحم فقال اشدد بهذا صلبك فأخذها من يده فانتهش منها نهشة ثم سمع الحطمة في ناحية من الناس فقال وأنت يا ابن رواحة في الدنيا ثم ألقاها من يده وأخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قتل . قال الواقدي حدثني داود بن سنان قال سمعت ثعلبة بن أبي مالك يقول انكشف خالد بن الوليد يومئذ بالناس حتى عيروا بالفرار وتشاءم الناس به . قال وروى أبو سعيد الخدري قال أقبل خالد بالناس منهزمين فلما سمع أهل المدينة بهم تلقوهم بالجرف فجعلوا يحثون في وجوههم التراب ويقولون يا فرار أ فررتم في سبيل الله فقال رسول الله ص ليسوا بالفرار ولكنهم كرار إن شاء الله . قال الواقدي وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ما لقي جيش بعثوا مبعثا ما لقي أصحاب مؤتة من أهل المدينة لقوهم بالشر حتى إن الرجل ينصرف إلى بيته وأهله فيدق عليهم فيأبون أن يفتحوا له يقولون ألا تقدمت مع أصحابك فقتلت وجلس الكبراء منهم في بيوتهم استحياء من الناس حتى أرسل النبي ص رجلا يقول لهم أنتم الكرار في سبيل الله فخرجوا .
قال الواقدي فحدثني مالك بن أبي الرجال عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن أم جعفر بنت محمد بن جعفر عن جدتها أسماء بنت عميس قالت أصبحت في اليوم الذي أصيب فيه جعفر وأصحابه فأتاني رسول الله ص وقد منأت أربعين منا من أدم وعجنت عجيني وأخذت بني فغسلت وجوههم ودهنتهم فدخلت على
[ 71 ]
رسول الله ص فقال يا أسماء أين بنو جعفر فجئت بهم إليه فضمهم وشمهم ثم ذرفت عيناه فبكى فقلت يا رسول الله لعله بلغك عن جعفر شي ء قال نعم إنه قتل اليوم فقمت أصيح واجتمع إلى النساء فجعل رسول الله ص يقول يا أسماء لا تقولي هجرا ولا تضربي صدرا ثم خرج حتى دخل على ابنته فاطمة رضي الله عنها وهي تقول وا عماه فقال على مثل جعفر فلتبك الباكية ثم قال اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد شغلوا عن أنفسهم اليوم(1/4201)
قال الواقدي وحدثني محمد بن مسلم عن يحيى بن أبي يعلى قال سمعت عبد الله بن جعفر يقول أنا أحفظ حين دخل النبي ص على أمي فنعى إليها أبي فأنظر إليه وهو يمسح على رأسي ورأس أخي وعيناه تهراقان بالدمع حتى قطرت لحيته ثم قال اللهم إن جعفرا قدم إلي أحسن الثواب فاخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت أحدا من عبادك في ذريته ثم قال يا أسماء أ لا أبشرك قالت بلى بأبي وأمي قال فإن الله جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة قالت بأبي وأمي فأعلم الناس ذلك فقام رسول الله ص وأخذ بيدي يمسح بيده رأسي حتى رقي على المنبر وأجلسني أمامه على الدرجة السفلى وإن الحزن ليعرف عليه فتكلم فقال إن المرء كثير بأخيه وابن عمه ألا إن جعفرا قد استشهد وقد جعل الله له جناحين يطير بهما في الجنة ثم نزل فدخل بيته وأدخلني وأمر بطعام فصنع لنا وأرسل إلى أخي فتغدينا عنده غداء طيبا عمدت سلمى خادمته إلى شعير فطحنته ثم نشفته ثم أنضجته وآدمته بزيت وجعلت عليه فلفلا فتغديت أنا وأخي معه وأقمنا عنده ثلاثة أيام ندور معه في بيوت نسائه ثم أرجعنا إلى بيتنا وأتاني رسول الله ص بعد ذلك وأنا أساوم في شاة فقال اللهم بارك له في صفقته فو الله ما بعت شيئا ولا اشتريت إلا بورك فيه
[ 72 ](1/4202)
فصل في ذكر بعض مناقب جعفر بن أبي طالب
روى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب مقاتل الطالبيين أن كنية جعفر بن أبي طالب أبو المساكين وقال وكان ثالث الإخوة من ولد أبي طالب أكبرهم طالب وبعده عقيل وبعده جعفر وبعده علي وكل واحد منهم أكبر من الآخر بعشر سنين وعلي أصغرهم سنا وأمهم جميعا فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف وهي أول هاشمية ولدت لهاشمي وفضلها كثير وقربها من رسول الله ص وتعظيمه لها معلوم عند أهل الحديث . وروى أبو الفرج لجعفر رضي الله عنه فضل كثير وقد ورد فيه حديث كثير
من ذلك أن رسول الله ص لما فتح خيبر قدم جعفر بن أبي طالب من الحبشة فالتزمه رسول الله ص وجعل يقبل بين عينيه ويقول ما أدري بأيهما أنا أشد فرحا بقدوم جعفر أم بفتح خيبر . قال وقد روى خالد الحذاء عن عكرمة عن أبي هريرة أنه قال ما ركب المطايا ولا ركب الكور ولا انتعل ولا احتذى النعال أحد بعد رسول الله ص أفضل من جعفر بن أبي طالب .
قال وقد روى عطية عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ص خير الناس حمزة وجعفر وعلي و
قد روى جعفر بن محمد عن أبيه ع قال قال رسول الله ص خلق الناس من أشجار شتى وخلقت أنا وجعفر من شجرة واحدة أو قال من طينة واحدة
[ 73 ]
قال وبالإسناد قال رسول الله ص لجعفر أنت أشبهت خلقي وخلقي . وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب كانت سن جعفر ع يوم قتل إحدى وأربعين سنة .
قال أبو عمر وقد روى ابن المسيب أن رسول الله ص قال مثل لي جعفر وزيد وعبد الله في خيمة من در كل واحد منهم على سرير فرأيت زيدا وابن رواحة في أعناقهما صدودا ورأيت جعفرا مستقيما ليس فيه صدود فسألت فقيل لي إنهما حين غشيهما الموت أعرضا وصدا بوجهيهما وأما جعفر فلم يفعل قال أبو عمر أيضا وروي عن الشعبي قال سمعت عبد الله بن جعفر يقول كنت إذا سألت عمي عليا ع شيئا ويمنعني أقول له بحق جعفر فيعطيني . و(1/4203)
روى أبو عمر أيضا في حرف الزاي في باب زيد بن حارثة أن رسول الله ص لما أتاه قتل جعفر وزيد بمؤتة بكى وقال أخواي ومؤنساي ومحدثاي واعلم أن هذه الكلمات التي ذكرها الرضي رحمة الله عليه ملتقطة من كتابه ع الذي كتبه جوابا عن كتاب معاوية النافذ إليه مع أبي مسلم الخولاني وقد ذكره أهل السيرة في كتبهم روى نصر بن مزاحم في كتاب صفين عن عمر بن سعد عن أبي ورقاء قال جاء أبو مسلم الخولاني في ناس من قراء أهل الشام إلى معاوية قبل مسير أمير المؤمنين ع إلى صفين فقالوا له يا معاوية علام تقاتل عليا وليس لك
[ 74 ](1/4204)
مثل صحبته ولا هجرته ولا قرابته ولا سابقته فقال إني لا أدعي أن لي في الإسلام مثل صحبته ولا مثل هجرته ولا قرابته ولكن خبروني عنكم أ لستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما قالوا بلى قال فليدفع إلينا قتلته لنقتلهم به ولا قتال بيننا وبينه قالا فاكتب إليه كتابا يأته به بعضنا فكتب مع أبي مسلم الخولاني من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإن الله اصطفى محمدا بعلمه وجعله الأمين على وحيه والرسول إلى خلقه واجتبى له من المسلمين أعوانا أيده الله تعالى بهم فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام فكان أفضلهم في الإسلام وأنصحهم لله ورسوله الخليفة من بعده ثم خليفة خليفته من بعد خليفته ثم الثالث الخليفة المظلوم عثمان فكلهم حسدت وعلى كلهم بغيت عرفنا ذلك في نظرك الشزر وقولك الهجر وتنفسك الصعداء وإبطائك عن الخلفاء تقاد إلى كل منهم كما يقاد الفحل المخشوش حتى تبايع وأنت كاره ثم لم تكن لأحد منهم بأعظم حسدا منك لابن عمك عثمان وكان أحقهم ألا تفعل ذلك في قرابته وصهره فقطعت رحمه وقبحت محاسنه وألبت الناس عليه وبطنت وظهرت حتى ضربت إليه آباط الإبل وقيدت إليه الإبل العراب وحمل عليه السلاح في حرم رسول الله ص فقتل معك في المحلة وأنت تسمع في داره الهائعة لا تردع الظن والتهمة عن نفسك بقول ولا عمل وأقسم قسما صادقا لو قمت فيما كان من أمره مقاما واحدا تنهنه الناس
[ 75 ](1/4205)
عنه ما عدل بك من قبلنا من الناس أحدا ولمحا ذلك عندهم ما كانوا يعرفونك به من المجانبة لعثمان والبغي عليه وأخرى أنت بها عند أنصار عثمان ظنين إيواؤك قتلة عثمان فهم عضدك وأنصارك ويدك وبطانتك وقد ذكر لي أنك تتنصل من دمه فإن كنت صادقا فأمكنا من قتلته نقتلهم به ونحن أسرع الناس إليك وإلا فإنه ليس لك ولأصحابك إلا السيف والذي لا إله إلا هو لنطلبن قتلة عثمان في الجبال والرمال والبر والبحر حتى يقتلهم الله أو لتلحقن أرواحنا بالله والسلام . قال نصر فلما قدم أبو مسلم على علي ع بهذا الكتاب قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإنك قد قمت بأمر وليته وو الله ما أحب أنه لغيرك إن أعطيت الحق من نفسك إن عثمان قتل مسلما محرما مظلوما فادفع إلينا قتلته وأنت أميرنا فإن خالفك من الناس أحد كانت أيدينا لك ناصرة وألسنتنا لك شاهدة وكنت ذا عذر وحجة فقال له علي ع اغد علي غدا فخذ جواب كتابك فانصرف ثم رجع من غد ليأخذ جواب كتابه فوجد الناس قد بلغهم الذي جاء فيه قبل فلبست الشيعة أسلحتها ثم غدوا فملئوا المسجد فنادوا كلنا قتلة عثمان وأكثروا من النداء بذلك وأذن لأبي مسلم فدخل فدفع علي ع جواب كتاب معاوية فقال أبو مسلم لقد رأيت قوما ما لك معهم أمر قال وما ذاك قال بلغ القوم أنك تريد أن تدفع إلينا قتلة عثمان فضجوا واجتمعوا ولبسوا السلاح وزعموا أنهم قتلة عثمان فقال علي ع والله ما أردت أن أدفعهم إليكم طرفة عين قط لقد ضربت هذا الأمر أنفه وعينه فما رأيته ينبغي لي أن أدفعهم إليك ولا إلى غيرك فخرج أبو مسلم بالكتاب وهو يقول الآن طاب الضراب
[ 76 ]
و(1/4206)
كان جواب علي ع من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان أما بعد فإن أخا خولان قدم علي بكتاب منك تذكر فيه محمدا ص وما أنعم الله به عليه من الهدى والوحي فالحمد لله الذي صدقه الوعد وأيده بالنصر ومكن له في البلاد وأظهره على أهل العداوة والشنئان من قومه الذين وثبوا عليه وشنفوا له وأظهروا تكذيبه وبارزوه بالعداوة وظاهروا على إخراجه وعلى إخراج أصحابه وأهله وألبوا عليه العرب وجادلوهم على حربه وجهدوا في أمره كل الجهد وقلبوا له الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون وكان أشد الناس عليه تأليبا وتحريضا أسرته والأدنى فالأدنى من قومه إلا من عصم الله وذكرت أن الله تعالى اجتبى له من المسلمين أعوانا أيده الله بهم فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام فكان أفضلهم زعمت في الإسلام وأنصحهم لله ولرسوله الخليفة وخليفة الخليفة ولعمري إن مكانهما في الإسلام لعظيم وإن المصاب بهما لجرح في الإسلام شديد فرحمهما الله وجزاهما أحسن ما عملا وذكرت أن عثمان كان في الفضل تاليا فإن يك عثمان محسنا فسيجزيه الله بإحسانه وإن يك مسيئا فسيلقى ربا غفورا لا يتعاظمه ذنب أن يغفره ولعمري إني لأرجو إذا أعطى الله الناس على قدر فضائلهم في الإسلام ونصيحتهم لله ولرسوله أن يكون نصيبنا في ذلك الأوفر إن محمدا ص لما دعا إلى الإيمان بالله والتوحيد له كنا أهل البيت أول من آمن به وصدقه فيما جاء فبتنا أحوالا كاملة مجرمة تامة وما يعبد الله في ربع ساكن من
[ 77 ](1/4207)
العرب غيرنا فأراد قومنا قتل نبينا واجتياح أصلنا وهموا بنا الهموم وفعلوا بنا الأفاعيل ومنعونا الميرة وأمسكوا عنا العذب وأحلسونا الخوف وجعلوا علينا الأرصاد والعيون واضطرونا إلى جبل وعر وأوقدوا لنا نار الحرب وكتبوا بينهم كتابا لا يؤاكلوننا ولا يشاربوننا ولا يناكحوننا ولا يبايعوننا ولا نأمن منهم حتى ندفع إليهم محمدا فيقتلوه ويمثلوا به فلم نكن نأمن فيهم إلا من موسم إلى موسم فعزم الله لنا على منعه والذب عن حوزته والرمي من وراء حرمته والقيام بأسيافنا دونه في ساعات الخوف بالليل والنهار فمؤمننا يرجو بذلك الثواب وكافرنا يحامي عن الأصل وأما من أسلم من قريش فإنهم مما نحن فيه خلاء منهم الحليف الممنوع ومنهم ذو العشيرة التي تدافع عنه فلا يبغيه أحد مثل ما بغانا به قومنا من التلف فهم من القتل بمكان نجوة وأمن فكان ذلك ما شاء الله أن يكون ثم أمر الله تعالى رسوله بالهجرة وأذن له بعد ذلك في قتال المشركين فكان إذا احمر البأس ودعيت نزال أقام أهل بيته فاستقدموا فوقى أصحابه بهم حد الأسنة والسيوف فقتل عبيدة يوم بدر وحمزة يوم أحد وجعفر وزيد يوم مؤتة وأراد من لو شئت ذكرت اسمه مثل الذي أرادوا من الشهادة مع النبي ص غير مرة إلا أن آجالهم عجلت ومنيته أخرت والله ولى الإحسان إليهم والمنة عليهم بما أسلفوا من أمر الصالحات فما سمعت بأحد ولا رأيته هو أنصح في طاعة رسوله ولا لنبيه ولا أصبر على اللأواء والسراء والضراء وحين البأس ومواطن المكروه مع النبي ص من هؤلاء النفر الذين سميت لك وفي المهاجرين خير كثير يعرف جزاهم الله خيرا بأحسن
[ 78 ](1/4208)
أعمالهم وذكرت حسدي الخلفاء وإبطائي عنهم وبغيي عليهم فأما البغي فمعاذ الله أن يكون وأما الإبطاء عنهم والكراهية لأمرهم فلست أعتذر إلى الناس من ذلك إن الله تعالى ذكره لما قبض نبيه ص قالت قريش منا أمير وقالت الأنصار منا أمير فقالت قريش منا محمد نحن أحق بالأمر فعرفت ذلك الأنصار فسلمت لهم الولاية والسلطان فإذا استحقوها بمحمد ص دون الأنصار فإن أولى الناس بمحمد أحق به منهم وإلا فإن الأنصار أعظم العرب فيها نصيبا فلا أدري أصحابي سلموا من أن يكونوا حقي أخذوا أو الأنصار ظلموا بل عرفت إن حقي هو المأخوذ وقد تركته لهم تجاوزا لله عنهم وأما ما ذكرت من أمر عثمان وقطيعتي رحمه وتأليبي عليه فإن عثمان عمل ما قد بلغك فصنع الناس به ما رأيت وإنك لتعلم أني قد كنت في عزلة عنه إلا أن تتجني فتجن ما بدا لك وأما ما ذكرت من أمر قتله عثمان فإني نظرت في هذا الأمر وضربت أنفه وعينه فلم أر دفعهم إليك ولا إلى غيرك ولعمري لئن لم تنزع عن غيك وشقاقك لتعرفنهم عن قليل يطلبونك لا يكلفونك أن تطلبهم في بر ولا بحر ولا سهل ولا جبل وقد أتاني أبوك حين ولى الناس أبا بكر فقال أنت أحق بمقام محمد وأولى الناس بهذا الأمر وأنا زعيم لك بذلك على من خالف ابسط يدك أبايعك فلم أفعل وأنت تعلم أن أباك قد قال ذلك وأراده حتى كنت أنا الذي أبيت لقرب عهد الناس بالكفر مخافة الفرقة بين أهل الإسلام فأبوك كان أعرف بحقي منك فإن تعرف من حقي ما كان أبوك يعرف تصب رشدك وإن لم تفعل فسيغني الله عنك والسلام
[ 79 ](1/4209)
10 ومن كتاب له ع إلى معاوية أيضا
وَ كَيْفَ أَنْتَ صَانِعٌ إِذَا تَكَشَّفَتْ عَنْكَ جَلاَبِيبُ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ دُنْيَا قَدْ تَبَهَّجَتْ بِزِينَتِهَا وَ خَدَعَتْ بِلَذَّتِهَا دَعَتْكَ فَأَجَبْتَهَا وَ قَادَتْكَ فَاتَّبَعْتَهَا وَ أَمَرَتْكَ فَأَطَعْتَهَا وَ إِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَقِفَكَ وَاقِفٌ عَلَى مَا لاَ يُنْجِيكَ مِنْهُ مُنْجٍ مِجَنٌّ فَاقْعَسْ عَنْ هَذَا اَلْأَمْرِ وَ خُذْ أُهْبَةَ اَلْحِسَابِ وَ شَمِّرْ لِمَا قَدْ نَزَلَ بِكَ وَ لاَ تُمَكِّنِ اَلْغُوَاةَ مِنْ سَمْعِكَ وَ إِلاَّ تَفْعَلْ أُعْلِمْكَ مَا أَغْفَلْتَ مِنْ نَفْسِكَ فَإِنَّكَ مُتْرَفٌ قَدْ أَخَذَ اَلشَّيْطَانُ مِنْكَ مَأْخَذَهُ وَ بَلَغَ فِيكَ أَمَلَهُ وَ جَرَى مِنْكَ مَجْرَى اَلرُّوحِ وَ اَلدَّمِ وَ مَتَى كُنْتُمْ يَا مُعَاوِيَةُ سَاسَةَ اَلرَّعِيَّةِ وَ وُلاَةَ أَمْرِ اَلْأُمَّةِ بِغَيْرِ قَدَمٍ سَابِقٍ وَ لاَ شَرَفٍ بَاسِقٍ وَ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ لُزُومِ سَوَابِقِ اَلشَّقَاءِ وَ أُحَذِّرُكَ أَنْ تَكُونَ مُتَمَادِياً فِي غِرَّةِ اَلْأُمْنِيِّةِ مُخْتَلِفَ اَلْعَلاَنِيَةِ وَ اَلسَّرِيرَةِ وَ قَدْ دَعَوْتَ إِلَى اَلْحَرْبِ فَدَعِ اَلنَّاسَ جَانِباً وَ اُخْرُجْ إِلَيَّ وَ أَعْفِ اَلْفَرِيقَيْنِ مِنَ اَلْقِتَالِ لِتَعْلَمَ أَيُّنَا اَلْمَرِينُ عَلَى قَلْبِهِ وَ اَلْمُغَطَّى عَلَى بَصَرِهِ فَأَنَا أَبُو حَسَنٍ قَاتِلُ جَدِّكَ وَ أَخِيكَ وَ خَالِكَ شَدْخاً يَوْمَ بَدْرٍ وَ ذَلِكَ اَلسَّيْفُ مَعِي وَ بِذَلِكَ اَلْقَلْبِ أَلْقَى عَدُوِّي مَا اِسْتَبْدَلْتُ دِيناً وَ لاَ اِسْتَحْدَثْتُ نَبِيّاً وَ إِنِّي لَعَلَى اَلْمِنْهَاجِ اَلَّذِي تَرَكْتُمُوهُ طَائِعِينَ وَ دَخَلْتُمْ فِيهِ مُكْرَهِينَ وَ زَعَمْتَ أَنَّكَ جِئْتَ ثَائِراً بِدَمِ عُثْمَانَ وَ لَقَدْ عَلِمْتَ حَيْثُ وَقَعَ دَمُ عُثْمَانَ فَاطْلُبْهُ(1/4210)
[ 80 ]
مِنْ هُنَاكَ إِنْ كُنْتَ طَالِباً فَكَأَنِّي قَدْ رَأَيْتُكَ تَضِجُّ مِنَ اَلْحَرْبِ إِذَا عَضَّتْكَ ضَجِيجَ اَلْجِمَالِ بِالْأَثْقَالِ وَ كَأَنِّي بِجَمَاعَتِكَ تَدْعُونِي جَزَعاً مِنَ اَلضَّرْبِ اَلْمُتَتَابِعِ وَ اَلْقَضَاءِ اَلْوَاقِعِ وَ مَصَارِعَ بَعْدَ مَصَارِعَ إِلَى كِتَابِ اَللَّهِ وَ هِيَ كَافِرَةٌ جَاحِدَةٌ أَوْ مُبَايِعَةٌ حَائِدَةٌ الجلابيب جمع جلباب وهي الملحفة في الأصل واستعير لغيرها من الثياب وتجلبب الرجل جلببة ولم تدغم لأنها ملحقة بدحرجة . قوله وتبهجت بزينتها صارت ذات بهجة أي زينة وحسن وقد بهج الرجل بالضم ويوشك يسرع . ويقفك واقف يعني الموت ويروى ولا ينحيك مجن وهو الترس والرواية الأولى أصح . قوله فاقعس عن هذا الأمر أي تأخر عنه والماضي قعس بالفتح ومثله تقاعس واقعنسس . وأهبة الحساب عدته وتأهب استعد وجمع الأهبة أهب . وشمر لما قد نزل بك أي جد واجتهد وخف ومنه رجل شمري بفتح الشين وتكسر . والغواة جمع غاو وهو الضال . قوله وإلا تفعل يقول وإن كنت لا تفعل ما قد أمرتك ووعظتك به فإني أعرفك من نفسك ما أغفلت معرفته . إنك مترف والمترف الذي قد أترفته النعمة أي أطغته
[ 81 ]
قد أخذ الشيطان منك مأخذه ويروى مآخذه بالجمع أي تناول الشيطان منك لبك وعقلك ومأخذه مصدر أي تناولك الشيطان تناوله المعروف وحذف مفعول أخذ لدلالة الكلام عليه ولأن اللفظة تجري مجرى المثل . قوله وجرى منك مجرى الروح والدم هذه(1/4211)
كلمة رسول الله ص إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم . ثم خرج ع إلى أمر آخر فقال لمعاوية ومتى كنتم ساسة الرعية وولاة أمر الأمة ينبغي أن يحمل هذا الكلام على نفي كونهم سادة وولاة في الإسلام وإلا ففي الجاهلية لا ينكر رئاسة بني عبد شمس ولست أقول برياستهم على بني هاشم ولكنهم كانوا رؤساء على كثير من بطون قريش أ لا ترى أن بني نوفل بن عبد مناف ما زالوا أتباعا لهم وأن بني عبد شمس كانوا في يوم بدر قادة الجيش كان رئيس الجيش عتبة بن ربيعة وكانوا في يوم أحد ويوم الخندق قادة الجيش كان الرئيس في هذين اليومين أبا سفيان بن حرب وأيضا فإن في لفظة أمير المؤمنين ع ما يشعر بما قلناه وهو قوله وولاة أمر الأمة فإن الأمة في العرب هم المسلمون أمة محمد ص . قوله ع بغير قدم سابق يقال لفلان قدم صدق أي سابقة وأثرة حسنة . قوله ع ولا شرف باسق أي عال . وتمادى تفاعل من المدى وهو الغاية أي لم يقف بل مضى قدما . والغرة الغفلة والأمنية طمع النفس ومختلف السريرة والعلانية منافق . قوله ع فدع الناس جانبا منصوب على الظرف .
[ 82 ]
و المرين على قلبه المغلوب عليه من قوله تعالى كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ وقيل الرين الذنب على القريب . وإنما قال أمير المؤمنين ع لمعاوية هذه الكلمة لأن معاوية قالها في رسالة كتبها ووقفت عليها من كتاب أبي العباس يعقوب بن أبي أحمد الصيمري الذي جمعه من كلام علي ع وخطبه وأولها أما بعد فإنك المطبوع على قلبك المغطى على بصرك الشر من شيمتك والعتو من خليقتك فشمر للحرب واصبر للضرب فو الله ليرجعن الأمر إلى ما علمت والعاقبة للمتقين هيهات هيهات أخطأك ما تمنى وهوى قلبك فيما هوى فأربع على ظلعك وقس شبرك بفترك تعلم أين حالك من حال من يزن الجبال حلمه ويفصل بين أهل الشك علمه والسلام .(1/4212)
فكتب إليه أمير المؤمنين ع أما بعد يا ابن صخر يا ابن اللعين يزن الجبال فيما زعمت حلمك ويفصل بين أهل الشك علمك وأنت الجاهل القليل الفقه المتفاوت العقل الشارد عن الدين وقلت فشمر للحرب واصبر فإن كنت صادقا فيما تزعم ويعينك عليه ابن النابغة فدع الناس جانبا وأعف الفريقين من القتال وابرز إلي لتعلم أينا المرين على قلبه المغطى على بصره فأنا أبو الحسن حقا قاتل أخيك وخالك وجدك شدخا يوم بدر وذلك السيف معي وبذلك القلب ألقى عدوي .
[ 83 ]
قوله ع شدخا الشدخ كسر الشي ء الأجوف شدخت رأسه فانشدخ وهؤلاء الثلاثة حنظلة بن أبي سفيان والوليد بن عتبة وأبوه عتبة بن ربيعة فحنظلة أخوه والوليد خاله وعتبة جده وقد تقدم ذكر قتلة إياهم في غزاة بدر . والثائر طالب الثأر وقوله قد علمت حيث وقع دم عثمان فاطلبه من هناك يريد به إن كنت تطلب ثأرك من عند من أجلب وحاصر فالذي فعل ذلك طلحة والزبير فاطلب ثأرك من بني تميم ومن بني أسد بن عبد العزى وإن كنت تطلبه ممن خذل فاطلبه من نفسك فإنك خذلته وكنت قادرا على أن ترفده وتمده بالرجال فخذلته وقعدت عنه بعد أن استنجدك واستغاث بك . وتضج تصوت والجاحدة المنكرة والحائدة العادلة عن الحق . واعلم أن قوله وكأني بجماعتك يدعونني جزعا من السيف إلى كتاب الله تعالى إما أن يكون فراسة نبوية صادقة وهذا عظيم وإما أن يكون إخبارا عن غيب مفصل وهو أعظم وأعجب وعلى كلا الأمرين فهو غاية العجب وقد رأيت له ذكر هذا المعنى في كتاب غير هذا وهو أما بعد فما أعجب ما يأتيني منك وما أعلمني بمنزلتك التي أنت إليها صائر ونحوها سائر وليس إبطائي عنك إلا لوقت أنا به مصدق وأنت به مكذب وكأني أراك وأنت تضج من الحرب وإخوانك يدعونني خوفا من السيف إلى كتاب هم به كافرون وله جاحدون . ووقفت له ع على كتاب آخر إلى معاوية يذكر فيه هذا المعنى أوله(1/4213)
أما بعد فطالما دعوت أنت وأولياؤك أولياء الشيطان الحق أساطير ونبذتموه وراء
[ 84 ]
ظهوركم وحاولتم إطفاءه بأفواهكم وَ يَأْبَى اَللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكافِرُونَ ولعمري لينفذن العلم فيك وليتمن النور بصغرك وقماءتك ولتخسأن طريدا مدحورا أو قتيلا مثبورا ولتجزين بعملك حيث لا ناصر لك ولا مصرخ عندك وقد أسهبت في ذكر عثمان ولعمري ما قتله غيرك ولا خذله سواك ولقد تربصت به الدوائر وتمنيت له الأماني طمعا فيما ظهر منك ودل عليه فعلك وإني لأرجو أن ألحقك به على أعظم من ذنبه وأكبر من خطيئته فأنا ابن عبد المطلب صاحب السيف وإن قائمه لفي يدي وقد علمت من قتلت به من صناديد بني عبد شمس وفراعنة بني سهم وجمح وبني مخزوم وأيتمت أبناءهم وأيمت نساءهم وأذكرك ما لست له ناسيا يوم قتلت أخاك حنظلة وجررت برجله إلى القليب وأسرت أخاك عمرا فجعلت عنقه بين ساقيه رباطا وطلبتك ففررت ولك حصاص فلو لا أني لا أتبع فارا لجعلتك ثالثهما وأنا أولي لك بالله ألية برة غير فاجرة لئن جمعتني وإياك جوامع الأقدار لأتركنك مثلا يتمثل به الناس أبدا ولأجعجعن بك في مناخك حتى يحكم الله بيني وبينك وهو خير الحاكمين ولئن أنسأ الله في أجلي قليلا لأغزينك سرايا المسلمين ولأنهدن إليك في جحفل من المهاجرين والأنصار ثم لا أقبل لك معذرة ولا شفاعة ولا أجيبك إلى طلب وسؤال ولترجعن إلى تحيرك وترددك وتلددك فقد شاهدت وأبصرت ورأيت
[ 85 ](1/4214)
سحب الموت كيف هطلت عليك بصيبها حتى اعتصمت بكتاب أنت وأبوك أول من كفر وكذب بنزوله ولقد كنت تفرستها وآذنتك أنك فاعلها وقد مضى منها ما مضى وانقضى من كيدك فيها ما انقضى وأنا سائر نحوك على أثر هذا الكتاب فاختر لنفسك وانظر لها وتداركها فإنك إن فطرت واستمررت على غيك وغلوائك حتى ينهد إليك عباد الله أرتجت عليك الأمور ومنعت أمرا هو اليوم منك مقبول يا ابن حرب إن لجاجك في منازعة الأمر أهله من سفاه الرأي فلا يطمعنك أهل الضلال ولا يوبقنك سفه رأي الجهال فو الذي نفس علي بيده لئن برقت في وجهك بارقة من ذي الفقار لتصعقن صعقة لا تفيق منها حتى ينفخ في الصور النفخة التي يئست منها كَما يَئِسَ اَلْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ اَلْقُبُورِ . قلت سألت النقيب أبا زيد عن معاوية هل شهد بدرا مع المشركين فقال نعم شهدها ثلاثة من أولاد أبي سفيان حنظلة وعمرو ومعاوية قتل أحدهم وأسر الآخر وأفلت معاوية هاربا على رجليه فقدم مكة وقد انتفخ قدماه وورمت ساقاه فعالج نفسه شهرين حتى برأ . قال النقيب أبو زيد ولا خلاف عند أحد أن عليا ع قتل حنظلة وأسر عمرا أخاه ولقد شهد بدرا وهرب على رجليه من هو أعظم منهما ومن أخيهما عمرو بن عبد ود فارس يوم الأحزاب شهدها ونجا هاربا على قدميه وهو شيخ كبير
[ 86 ](1/4215)
و ارتث جريحا فوصل إلى مكة وهو وقيذ فلم يشهد أحدا فلما برأ شهد الخندق فقتله قاتل الأبطال والذي فاته يوم بدر استدركه يوم الخندق . ثم قال لي النقيب رحمه الله أ ما سمعت نادرة الأعمش ومناظره فقلت ما أعلم ما تريد فقال سأل رجل الأعمش وكان قد ناظر صاحبا له هل معاوية من أهل بدر أم لا فقال له أصلحك الله هل شهد معاوية بدرا فقال نعم من ذلك الجانب واعلم أن هذه الخطبة قد ذكرها نصر بن مزاحم في كتاب صفين على وجه يقتضي أن ما ذكره الرضي رحمه الله منها قد ضم إليه بعض خطبة أخرى وهذه عادته لأن غرضه التقاط الفصيح والبليغ من كلامه و
الذي ذكره نصر بن مزاحم هذه صورته من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان سلام على من اتبع الهدى فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإنك قد رأيت مرور الدنيا وانقضاءها وتصرمها وتصرفها بأهلها وخير ما اكتسب من الدنيا ما أصابه العباد الصالحون منها من التقوى ومن يقس الدنيا بالآخرة يجد بينهما بعيدا واعلم يا معاوية أنك قد ادعيت أمرا لست من أهله لا في القديم ولا في الحديث ولست تقول فيه بأمر بين يعرف له أثر ولا عليك منه شاهد من كتاب الله ولست متعلقا بآية من
[ 87 ](1/4216)
كتاب الله ولا عهد من رسول الله ص فكيف أنت صانع إذا تقشعت عنك غيابة ما أتت فيه من دنيا قد فتنت بزينتها وركنت إلى لذاتها وخلي بينك وبين عدوك فيها وهو عدو وكلب مضل جاهد مليح ملح مع ما قد ثبت في نفسك من جهتها دعتك فأجبتها وقادتك فاتبعتها وأمرتك فأطعتها فاقعس عن هذا الأمر وخذ أهبة الحساب فإنه يوشك أن يقفك واقف على ما لا يجنك مجن ومتى كنتم يا معاوية ساسة الرعية أو ولاة لأمر هذه الأمة بلا قدم حسن ولا شرف تليد على قومكم فاستيقظ من سنتك وارجع إلى خالقك وشمر لما سينزل بك ولا تمكن عدوك الشيطان من بغيته فيك مع أني أعرف أن الله ورسوله صادقان نعوذ بالله من لزوم سابق الشقاء وإلا تفعل فإني أعلمك ما أغفلت من نفسك إنك مترف قد أخذ منك الشيطان مأخذه فجرى منك مجرى الدم في العروق ولست من أئمة هذه الأمة ولا من رعاتها واعلم أن هذا الأمر لو كان إلى الناس أو بأيديهم لحسدوناه ولامتنوا علينا به ولكنه قضاء ممن منحناه واختصنا به على لسان نبيه الصادق المصدق لا أفلح من شك بعد العرفان والبينة رب احكم بيننا وبين عدونا بالحق وأنت خير الحاكمين . قال نصر فكتب معاوية إليه الجواب من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب أما بعد فدع الحسد فإنك طالما لم تنتفع به ولا تفسد سابقة
[ 88 ]
جهادك بشرة نخوتك فإن الأعمال بخواتيمها ولا تمحص سابقتك بقتال من لا حق لك في حقه فإنك إن تفعل لا تضر بذلك إلا نفسك ولا تمحق إلا عملك ولا تبطل إلا حجتك ولعمري إن ما مضى لك من السابقات لشبيه أن يكون ممحوقا لما اجترأت عليه من سفك الدماء وخلاف أهل الحق فاقرأ السورة التي يذكر فيها الفلق وتعوذ من نفسك فإنك الحاسد إذا حسد
[ 89 ](1/4217)
11 ومن وصية له ع وصى بها جيشا بعثه إلى العدو
فَإِذَا نَزَلْتُمْ بِعَدُوٍّ أَوْ نَزَلَ بِكُمْ فَلْيَكُنْ مُعَسْكَرُكُمْ فِي قُبُلِ اَلْأَشْرَافِ أَوْ سِفَاحِ اَلْجِبَالِ أَوْ أَثْنَاءِ اَلْأَنْهَارِ كَيْمَا يَكُونَ لَكُمْ رِدْءاً وَ دُونَكُمْ مَرَدّاً وَ لْتَكُنْ مُقَاتَلَتُكُمْ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ أَوِ اِثْنَيْنِ وَ اِجْعَلُوا لَكُمْ رُقَبَاءَ فِي صَيَاصِي اَلْجِبَالِ وَ مَنَاكِبِ اَلْهِضَابِ لِئَلاَّ يَأْتِيَكُمُ اَلْعَدُوُّ مِنْ مَكَانِ مَخَافَةٍ أَوْ أَمْنٍ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ مُقَدِّمَةَ اَلْقَوْمِ عُيُونُهُمْ وَ عُيُونَ اَلْمُقَدِّمَةِ طَلاَئِعُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ وَ اَلتَّفَرُّقَ فَإِذَا نَزَلْتُمْ فَانْزِلُوا جَمِيعاً وَ إِذَا اِرْتَحَلْتُمْ فَارْتَحِلُوا جَمِيعاً وَ إِذَا غَشِيكُمُ اَللَّيْلُ فَاجْعَلُوا اَلرِّمَاحَ كِفَّةً وَ لاَ تَذُوقُوا اَلنَّوْمَ إِلاَّ غِرَاراً أَوْ مَضْمَضَةً المعسكر بفتح الكاف موضع العسكر وحيث ينزل . الأشراف الأماكن العالية وقبلها ما استقبلك منها وضده الدبر . وسفاح الجبال أسافلها حيث يسفح منها الماء . وأثناء الأنهار ما انعطف منها واحدها ثني والمعنى أنه أمرهم أن ينزلوا مسندين ظهورهم إلى مكان عال كالهضاب العظيمة أو الجبال أو منعطف الأنهار التي تجري مجرى الخنادق على العسكر ليأمنوا بذلك من البيات وليأمنوا أيضا من إتيان العدو لهم
[ 90 ](1/4218)
من خلفهم وقد فسر ذلك بقوله كيما يكون لكم ردءا والردء العون قال الله تعالى فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي . ودونكم مردا أي حاجزا بينكم وبين العدو . ثم أمرهم بأن يكون مقاتلتهم بفتح التاء وهي مصدر قاتل من وجه واحد أو اثنين أي لا تتفرقوا ولا يكن قتالكم العدو في جهات متشعبة فإن ذلك أدعى إلى الوهن واجتماعكم أدعى إلى الظفر ثم أمرهم أن يجعلوا رقباء في صياصي الجبال وصياصي الجبال أعاليها وما جرى مجرى الحصون منها وأصل الصياصي القرون ثم استعير ذلك للحصون لأنه يمتنع بها كما يمتنع ذو القرن بقرنه ومناكب الهضاب أعاليها لئلا يأتيكم العدو إما من حيث تأمنون أو من حيث تخافون . قوله ع مقدمة القوم عيونهم المقدمة بكسر الدال وهم الذين يتقدمون الجيش أصله مقدمة القوم أي الفرقة المتقدمة والطلائع طائفة من الجيش تبعث ليعلم منها أحوال العدو وقال ع المقدمة عيون الجيش والطلائع عيون المقدمة فالطلائع إذا عيون الجيش . ثم نهاهم عن التفرق وأمرهم أن ينزلوا جميعا ويرحلوا جميعا لئلا يفجأهم العدو بغتة على غير تعبئة واجتماع فيستأصلهم ثم أمرهم أن يجعلوا الرماح كفة إذا غشيهم الليل والكاف مكسورة أي اجعلوها مستديرة حولكم كالدائرة وكل ما استدار كفة بالكسر نحو كفة الميزان وكل ما استطال كفة بالضم نحو كفة الثوب وهي حاشيته وكفة الرمل وهو ما كان منه كالحبل . ثم نهاهم عن النوم إلا غرارا أو مضمضة وكلا اللفظتين ما قل من النوم .
[ 91 ](1/4219)
و قال شبيب الخارجي الليل يكفيك الجبان ويصف الشجاع . وكان إذا أمسى قال لأصحابه أتاكم المدد يعني الليل . قيل لبعض الملوك بيت عدوك قال أكره أن أجعل غلبتي سرقة . ولما فصل قحطبة من خراسان وفي جملته خالد بن برمك بينا هو على سطح بيت في قرية نزلاها وهم يتغدون نظر إلى الصحراء فرأى أقاطيع ظباء قد أقبلت من جهة الصحاري حتى كادت تخالط العسكر فقال خالد لقحطبة أيها الأمير ناد في الناس يا خيل الله اركبي فإن العدو قد قرب منك وعامة أصحابك لن يسرجوا ويلجموا حتى يروا سرعان الخيل فقام قحطبة مذعورا فلم ير شيئا يروعه ولم يعاين غبارا فقال لخالد ما هذا الرأي فقال أيها الأمير لا تتشاغل بي وناد في الناس أ ما ترى أقاطيع الوحوش قد أقبلت وفارقت مواضعها حتى خالطت الناس وإن وراءها لجمعا كثيفا قال فو الله ما أسرجوا ولا ألجموا حتى رأوا النقع وساطع الغبار فسلموا ولو لا ذلك لكان الجيش قد اصطلم
[ 92 ](1/4220)
12 ومن وصية له ع وصى بها معقل بن قيس الرياحي حين أنفذه إلى الشام في ثلاثة آلاف مقدمة له
اِتَّقِ اَللَّهَ اَلَّذِي لاَ بُدَّ لَكَ مِنْ لِقَائِهِ وَ لاَ مُنْتَهَى لَكَ دُونَهُ وَ لاَ تُقَاتِلَنَّ إِلاَّ مَنْ قَاتَلَكَ وَ سِرِ اَلْبَرْدَيْنِ وَ غَوِّرْ بِالنَّاسِ وَ رَفِّهْ فِي اَلسَّيْرِ وَ لاَ تَسِرْ أَوَّلَ اَللَّيْلِ فَإِنَّ اَللَّهَ جَعَلَهُ سَكَناً وَ قَدَّرَهُ مُقَاماً لاَ ظَعْناً فَأَرِحْ فِيهِ بَدَنَكَ وَ رَوِّحْ ظَهْرَكَ فَإِذَا وَقَفْتَ حِينَ يَنْبَطِحُ اَلسَّحَرُ أَوْ حِينَ يَنْفَجِرُ اَلْفَجْرُ فَسِرْ عَلَى بَرَكَةِ اَللَّهِ فَإِذَا لَقِيتَ اَلْعَدُوَّ فَقِفْ مِنْ أَصْحَابِكَ وَسَطاً وَ لاَ تَدْنُ مِنَ اَلْقَوْمِ دُنُوَّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُنْشِبَ اَلْحَرْبَ وَ لاَ تَبَاعَدْ عَنْهُمْ تَبَاعُدَ مَنْ يَهَابُ اَلْبَأْسَ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي وَ لاَ يَحْمِلَنَّكُمُ شَنَآنُهُمْ عَلَى قِتَالِهِمْ قَبْلَ دُعَائِهِمْ وَ اَلْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ معقل بن قيس كان من رجال الكوفة وأبطالها وله رئاسة وقدم أوفده عمار بن ياسر إلى عمر بن الخطاب مع الهرمزان لفتح تستر وكان من شيعة علي ع وجهه إلى بني ساقة فقتل منهم وسبى وحارب المستورد بن علفة الخارجي
[ 93 ](1/4221)
من تميم الرباب فقتل كل واحد منهما صاحبه بدجلة وقد ذكرنا خبرهما فيما سبق ومعقل بن قيس رياحي من ولد رياح بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم . قوله ع ولا تقاتلن إلا من قاتلك نهى عن البغي . وسر البردين هما الغداة والعشي وهما الأبردان أيضا . ووصاه أن يرفق بالناس ولا يكلفهم السير في الحر . قوله ع وغور بالناس انزل بهم القائلة والمصدر التغوير ويقال للقائلة الغائرة . قوله ع ورفه في السير أي دع الإبل ترد رفها وهو أن ترد الماء كل يوم متى شاءت ولا ترهقها وتجشمها السير ويجوز أن يكون قوله ورفه في السير من قولك رفهت عن الغريم أي نفست عنه . قوله ع ولا تسر أول الليل قد ورد في ذلك خبر مرفوع وفي الخبر أنه حين تنشر الشياطين وقد علل أمير المؤمنين ع النهي بقوله فإن الله تعالى جعله سكنا وقدره مقاما لا ظعنا يقول لما امتن الله تعالى على عباده بأن جعل لهم الليل ليسكنوا فيه كره أن يخالفوا ذلك ولكن لقائل أن يقول فكيف لم يكره السير والحركة في آخره وهو من جملة الليل أيضا ويمكن أن يكون فهم من رسول الله ص أن الليل الذي جعل سكنا للبشر إنما هو من أوله إلى وقت السحر .
[ 94 ](1/4222)
ثم أمره ع بأن يريح في الليل بدنه وظهره وهي الإبل وبنو فلان مظهرون أي لهم ظهر ينقلون عليه كما تقول منجبون أي لهم نجائب . قال الراوندي الظهر الخيول وليس بصحيح والصحيح ما ذكرناه . قوله ع فإذا وقفت أي فإذا وقفت ثقلك ورحلك لتسير فليكن ذلك حين ينبطح السحر . قال الراوندي فإذا وقفت ثم قال وقد روي فإذا واقفت قال يعني إذا وقفت تجارب العدو وإذا واقفته وما ذكره ليس بصحيح ولا روي وإنما هو تصحيف أ لا تراه كيف قال بعده بقليل فإذا لقيت العدو وإنما مراده هاهنا الوصاة بأن يكون السير وقت السحر ووقت الفجر . قوله ع حين ينبطح السحر أي حين يتسع ويمتد أي لا يكون السحر الأول أي ما بين السحر الأول وبين الفجر الأول وأصل الانبطاح السعة ومنه الأبطح بمكة ومنه البطيحة وتبطح السيل أي اتسع في البطحاء والفجر انفجر انشق . ثم أمره ع إذا لقي العدو أن يقف بين أصحابه وسطا لأنه الرئيس والواجب أن يكون الرئيس في قلب الجيش كما أن قلب الإنسان في وسط جسده ولأنه إذا كان وسطا كانت نسبته إلى كل الجوانب واحدة وإذا كان في أحد الطرفين بعد من الطرف الآخر فربما يختل نظامه ويضطرب . ثم نهاه ع أن يدنو من العدو دنو من يريد أن ينشب الحرب ونهاه أن يبعد منهم بعد من يهاب الحرب وهي البأس قال الله تعالى وَ حِينَ اَلْبَأْسِ
[ 95 ]
أي حين الحرب بل يكون على حال متوسطة بين هذين حتى يأتيه الأمر من أمير المؤمنين ع لأنه أعرف بما تقتضيه المصلحة . ثم قال له لا يحملنكم بغضكم لهم على أن تبدءوهم بالقتال قبل أن تدعوهم إلى الطاعة وتعذروا إليهم أي تصيروا ذوي عذر في حربهم . والشنئان البغض بسكون النون وتحريكها(1/4223)
نبذ من الأقوال الحكيمة في الحروب
و في الحديث المرفوع لا تتمنوا العدو فعسى أن تبتلوا بهم ولكن قولوا اللهم اكفنا شرهم وكف عنا بأسهم وإذا جاءوك يعرفون أن يضجون فعليكم الأرض جلوسا وقولوا اللهم أنت ربنا وربهم وبيدك نواصينا ونواصيهم فإذا غشوكم فثوروا في وجوههم . وكان أبو الدرداء يقول أيها الناس اعملوا عملا صالحا قبل الغزو فإنما تقاتلون بأعمالكم . وأوصى أبو بكر يزيد بن أبي سفيان حين استعمله فقال سر على بركة الله فإذا دخلت بلاد العدو فكن بعيدا من الحملة فإني لا آمن عليك الجولة واستظهر بالزاد وسر بالأدلاء ولا تقاتل بمجروح فإن بعضه ليس منه واحترس من البيات فإن في العرب غرة وأقلل من الكلام فإن ما وعي عنك هو عليك وإذا أتاك كتابي فأمضه فإنما أعمل على حسب إنفاذه وإذا قدم عليك وفود العجم فأنزلهم معظم عسكرك وأسبغ عليهم من النفقة وامنع الناس من محادثتهم ليخرجوا جاهلين كما دخلوا جاهلين ولا
[ 96 ](1/4224)
تلحن في عقوبة فإن أدناها وجيعة ولا تسرعن إليها وأنت تكتفي بغيرها واقبل من الناس علانيتهم وكلهم إلى الله في سريرتهم ولا تعرض عسكرك فتفضحه وأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه . وأوصى أبو بكر أيضا عكرمة بن أبي جهل حين وجهه إلى عمان فقال سر على اسم الله ولا تنزلن على مستأمن وقدم النذير بين يديك ومهما قلت إني فاعل فافعله ولا تجعلن قولك لغوا في عقوبة ولا عفو فلا ترجى إذا أمنت ولا تخاف إذا خوفت وانظر متى تقول ومتى تفعل وما تقول وما تفعل ولا تتوعدن في معصية بأكثر من عقوبتها فإنك إن فعلت أثمت وإن تركت كذبت واتق الله وإذا لقيت فاصبر . ولما ولى يزيد بن معاوية سلم بن زياد خراسان قال له إن أباك كفى أخاه عظيما وقد استكفيتك صغيرا فلا تتكلن على عذر مني فقد اتكلت على كفاية منك وإياك مني من قبل أن أقول إياك منك واعلم أن الظن إذا أخلف منك أخلف فيك وأنت في أدنى حظك فاطلب أقصاه وقد تبعك أبوك فلا تريحن نفسك واذكر في يومك أحاديث غدك . وقال بعض الحكماء ينبغي للأمير أن يكون له ستة أشياء وزير يثق به ويفشي إليه سره وحصن إذا لجأ إليه عصمه يعني فرسا وسيف إذا نزل به الأقران لم يخف نبوته وذخيرة خفيفة المحمل إذا نابته نائبة وجدها يعني جوهرا وطباخ إذا أقرى من الطعام صنع له ما يهيج شهوته وامرأة جميلة إذا دخل أذهبت همه
في الحديث المرفوع خير الصحابة أربعة وخير السرايا أربعمائة وخير الجيوش أربعة آلاف
[ 97 ](1/4225)
و لن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة إذا اجتمعت كلمتهم . كان يقال ثلاثة من كن فيه لم يفلح في الحرب البغي قال الله تعالى إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ والمكر السيئ قال سبحانه وَ لا يَحِيقُ اَلْمَكْرُ اَلسَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ والنكث قال تعالى فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ . يقال خرجت خارجة بخراسان على قتيبة بن مسلم فأهمه ذلك فقيل ما يهمك منهم وجه إليهم وكيع بن أبي أسود يكفيك أمرهم فقال لا أوجهه وإن وكيعا رجل فيه كبر وعنده بغي يحقر أعداءه ومن كان هكذا قلت مبالاته بخصمه فلم يحترس فوجد عدوه فيه غرة فأوقع به . وفي بعض كتب الفرس إن بعض ملوكهم سأل أي مكايد الحرب أحزم فقال إذكاء العيون واستطلاع الأخبار وإظهار القوة والسرور والغلبة وإماتة الفرق والاحتراس من البطانة من غير إقصاء لمن ينصح ولا انتصاح لمن يغش وكتمان السر وإعطاء المبلغين على الصدق ومعاقبة المتوصلين بالكذب وألا تخرج هاربا فتحوجه إلى القتال ولا تضيق أمانا على مستأمن ولا تدهشنك الغنيمة عن المجاوزة . وفي بعض كتب الهند ينبغي للعاقل أن يحذر عدوه المحارب له على كل حال يرهب منه المواثبة إن قرب والغارة إن بعد والكمين إن انكشف والاستطراد إن ولي والمكر إن رآه وحيدا وينبغي أن يؤخر القتال ما وجد بدا فإن النفقة عليه من الأنفس وعلى غيره من المال
[ 98 ](1/4226)
13 ومن كتاب له ع إلى أميرين من أمراء جيشه
وَ قَدْ أَمَّرْتُ عَلَيْكُمَا وَ عَلَى مَنْ فِي حَيِّزِكُمَا مَالِكَ بْنَ اَلْحَارِثِ اَلْأَشْتَرَ فَاسْمَعَا لَهُ وَ أَطِيعَا وَ اِجْعَلاَهُ دِرْعاً وَ مِجَنّاً فَإِنَّهُ مِمَّنْ لاَ يُخَافُ وَهْنُهُ وَ لاَ سَقْطَتُهُ وَ لاَ بُطْؤُهُ عَمَّا اَلْإِسْرَاعُ إِلَيْهِ أَحْزَمُ وَ لاَ إِسْرَاعُهُ إِلَى مَا اَلْبُطْءُ عَنْهُ أَمْثَلُ(1/4227)
فصل في نسب الأشتر وذكر بعض فضائله
هو مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن مسلمة بن ربيعة بن خزيمة بن سعد بن مالك بن النخع بن عمرو بن علة بن خالد بن مالك بن أدد وكان فارسا شجاعا رئيسا من أكابر الشيعة وعظمائها شديد التحقق بولاء أمير المؤمنين ع ونصره و
قال فيه بعد موته رحم الله مالكا فلقد كان لي كما كنت لرسول الله ص . ولما قنت علي ع على خمسة ولعنهم وهم معاوية وعمرو بن العاص وأبو الأعور السلمي وحبيب بن مسلمة وبسر بن أرطاة قنت معاوية على خمسة وهم علي والحسن والحسين ع وعبد الله بن العباس والأشتر ولعنهم . وقد روي أنه قال لما ولى علي ع بني العباس على الحجاز واليمن والعراق فلما ذا قتلنا الشيخ بالأمس وإن عليا ع لما بلغته هذه الكلمة أحضره ولاطفه واعتذر إليه وقال له فهل وليت حسنا أو حسينا أو أحدا من ولد جعفر أخي أو عقيلا
[ 99 ]
أو واحدا من ولده وإنما وليت ولد عمي العباس
لأني سمعت العباس يطلب من رسول الله ص الإمارة مرارا فقال له رسول الله ص يا عم إن الإمارة إن طلبتها وكلت إليها وإن طلبتك أعنت عليها ورأيت بنيه في أيام عمر وعثمان يجدون في أنفسهم إذ ولى غيرهم من أبناء الطلقاء ولم يول أحدا منهم فأحببت أن أصل رحمهم وأزيل ما كان في أنفسهم وبعد فإن علمت أحدا من أبناء الطلقاء هو خير منهم فأتني به فخرج الأشتر وقد زال ما في نفسه . وقد روى المحدثون حديثا يدل على فضيلة عظيمة للأشتر رحمه الله وهي شهادة قاطعة من النبي ص بأنه مؤمن روى هذا الحديث أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب في حرف الجيم في باب جندب قال أبو عمر لما حضرت أبا ذر الوفاة وهو بالربذة بكت زوجته أم ذر فقال لها ما يبكيك فقالت ما لي لا أبكي وأنت تموت بفلاة من الأرض وليس عندي ثوب يسعك كفنا ولا بد لي من القيام بجهازك فقال أبشري ولا تبكي(1/4228)
فإني سمعت رسول الله ص يقول لا يموت بين امرءين مسلمين ولدان أو ثلاثة فيصبران ويحتسبان فيريان النار أبدا وقد مات لنا ثلاثة من الولد و
سمعت أيضا رسول الله ص يقول لنفر أنا فيهم ليموتن أحدكم بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد مات في قرية وجماعة فأنا لا أشك ذلك الرجل والله ما كذبت ولا كذبت فانظري الطريق قالت أم ذر فقلت أنى وقد ذهب الحاج وتقطعت الطرق فقال اذهبي فتبصري قالت فكنت
[ 100 ]
أشتد إلى الكثيب فأصعد فأنظر ثم أرجع إليه فأمرضه فبينا أنا وهو على هذه الحال إذ أنا برجال على ركابهم كأنهم الرخم تخب بهم رواحلهم فأسرعوا إلي حتى وقفوا علي وقالوا يا أمة الله ما لك فقلت امرؤ من المسلمين يموت تكفنونه قالوا ومن هو قلت أبو ذر قالوا صاحب رسول الله ص قلت نعم ففدوه بآبائهم وأمهاتهم وأسرعوا إليه حتى دخلوا عليه فقال لهم أبشروا(1/4229)
فأني سمعت رسول الله ص يقول لنفر أنا فيهم ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين وليس من أولئك النفر إلا وقد هلك في قرية وجماعة والله ما كذبت ولا كذبت ولو كان عندي ثوب يسعني كفنا لي أو لامرأتي لم أكفن إلا في ثوب لي أو لها وإني أنشدكم الله ألا يكفنني رجل منكم كان أميرا أو عريفا أو بريدا أو نقيبا قالت وليس في أولئك النفر أحد إلا وقد قارف بعض ما قال إلا فتى من الأنصار قال له أنا أكفنك يا عم في ردائي هذا وفي ثوبين معي في عيبتي من غزل أمي فقال أبو ذر أنت تكفنني فمات فكفنه الأنصاري وغسله النفر الذين حضروه وقاموا عليه ودفنوه في نفر كلهم يمان . روى أبو عمر بن عبد البر قبل أن يروي هذا الحديث في أول باب جندب كان النفر الذين حضروا موت أبي ذر بالربذة مصادفة جماعة منهم حجر بن الأدبر ومالك بن الحارث الأشتر . قلت حجر بن الأدبر هو حجر بن عدي الذي قتله معاوية وهو من أعلام الشيعة وعظمائها وأما الأشتر فهو أشهر في الشيعة من أبي الهذيل في المعتزلة .
[ 101 ]
قرئ كتاب الإستيعاب على شيخنا عبد الوهاب بن سكينة المحدث وأنا حاضر فلما انتهى القارئ إلى هذا الخبر قال أستاذي عمر بن عبد الله الدباس وكنت أحضر معه سماع الحديث لتقل الشيعة بعد هذا ما شاءت فما قال المرتضى والمفيد إلا بعض ما كان حجر والأشتر يعتقدانه في عثمان ومن تقدمه فأشار الشيخ إليه بالسكوت فسكت . وذكرنا آثار الأشتر ومقاماته بصفين فيما سبق . والأشتر هو الذي عانق عبد الله بن الزبير يوم الجمل فاصطرعا على ظهر فرسيهما حتى وقعا في الأرض فجعل عبد الله يصرخ من تحته اقتلوني ومالكا فلم يعلم من الذي يعنيه لشدة الاختلاط وثوران النقع فلو قال اقتلوني والأشتر لقتلا جميعا فلما افترقا قال الأشتر
أ عائش لو لا أنني كنت طاويا
ثلاثا لألفيت ابن أختك هالكا
غداة ينادي والرماح تنوشه
كوقع الصياصي اقتلوني ومالكا(1/4230)
فنجاه مني شبعه وشبابه
و أني شيخ لم أكن متماسكا
و يقال إن عائشة فقدت عبد الله فسألت عنه فقيل لها عهدنا به وهو معانق للأشتر فقالت وا ثكل أسماء ومات الأشتر في سنة تسع وثلاثين متوجها إلى مصر واليا عليها لعلي ع قيل سقي سما وقيل إنه لم يصح ذلك وإنما مات حتف أنفه . فأما ثناء أمير المؤمنين ع عليه في هذا الفصل فقد بلغ مع اختصاره ما لا يبلغ بالكلام الطويل ولعمري لقد كان الأشتر أهلا لذلك كان شديد البأس جوادا
[ 102 ]
رئيسا حليما فصيحا شاعرا وكان يجمع بين اللين والعنف فيسطو في موضع السطوة ويرفق في موضع الرفق(1/4231)
نبذ من الأقوال الحكيمة
و من كلام عمر إن هذا الأمر لا يصلح إلا لقوي في غير عنف ولين في غير ضعف . وكان أنو شروان إذا ولى رجلا أمر الكاتب أن يدع في العهد موضع ثلاثة أسطر ليوقع فيها بخطه فإذا أتى بالعهد وقع فيه سس خيار الناس بالمودة وسفلتهم بالإخافة وامزج العامة رهبة برغبة . وقال عمر بن عبد العزيز إني لأهم أن أخرج للناس أمرا من العدل فأخاف ألا تحتمله قلوبهم فأخرج معه طمعا من طمع الدنيا فإن نفرت القلوب من ذاك سكنت إلى هذا . وقال معاوية إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت فقيل له كيف قال إذا مدوها خليتها وإذا خلوها مددتها . وقال الشعبي في معاوية كان كالجمل الطب إذا سكت عنه تقدم وإذا رد تأخر . وقال ليزيد ابنه قد تبلغ بالوعيد ما لا تبلغ بالإيقاع وإياك والقتل فإن الله قاتل القتالين . وأغلظ له رجل فحلم عنه فقيل له أ تحلم عن هذا قال إنا لا نحول بين الناس وألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين سلطاننا .
[ 103 ]
و فخر سليم مولى زياد عند معاوية بن زياد فقال معاوية اسكت ويحك فما أدرك صاحبك بسيفه شيئا قط إلا وقد أدركت أكثر منه بلساني . وقال الوليد بن عبد الملك لأبيه ما السياسة يا أبت قال هيبة الخاصة لك مع صدق مودتها واقتيادك قلوب العامة بالإنصاف لها واحتمال هفوات الصنائع . وقد جمع أمير المؤمنين ع من أصناف الثناء والمدح ما فرقه هؤلاء في كلماتهم بكلمة واحدة قالها في الأشتر وهي
قوله لا يخاف بطؤه عما الإسراع إليه أحزم ولا إسراعه إلى ما البطء عنه أمثل . قوله ع وعلى من في حيزكما أي في ناحيتكما . والمجن الترس . والوهن الضعف . والسقطة الغلطة والخطأ . وهذا الرأي أحزم من هذا أي أدخل في باب الحزم والاحتياط وهذا أمثل من هذا أي أفضل
[ 104 ](1/4232)
14 ومن وصية له ع لعسكره بصفين قبل لقاء العدو
لاَ تُقَاتِلُونَهُمْ تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَبْدَءُوكُمْ فَإِنَّكُمْ بِحَمْدِ اَللَّهِ عَلَى حُجَّةٍ وَ تَرْكُكُمْ إِيَّاهُمْ حَتَّى يَبْدَءُوكُمْ حُجَّةٌ أُخْرَى لَكُمْ عَلَيْهِمْ فَإِذَا كَانَتِ اَلْهَزِيمَةُ بِإِذْنِ اَللَّهِ فَلاَ تَقْتُلُوا مُدْبِراً وَ لاَ تُصِيبُوا مُعْوِراً وَ لاَ تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ وَ لاَ تَهِيجُوا اَلنِّسَاءَ بِأَذًى وَ إِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ وَ سَبَبْنَ أُمَرَاءَكُمْ فَإِنَّهُنَّ ضَعِيفَاتُ اَلْقُوَى وَ اَلْأَنْفُسِ وَ اَلْعُقُولِ إِنْ كُنَّا لَنُؤْمَرُ بِالْكَفِّ عَنْهُنَّ وَ إِنَّهُنَّ لَمُشْرِكَاتٌ وَ إِنْ كَانَ اَلرَّجُلُ لَيَتَنَاوَلُ اَلْمَرْأَةَ فِي اَلْجَاهِلِيَّةِ بِالْفَهْرِ أَوِ اَلْهِرَاوَةِ فَيُعَيَّرُ بِهَا وَ عَقِبُهُ مِنْ بَعْدِهِ نهى أصحابه عن البغي والابتداء بالحرب و
قد روي عنه أنه قال ما نصرت على الأقران الذين قتلتهم إلا لأني ما ابتدأت بالمبارزة ونهى إذا وقعت الهزيمة عن قتل المدبر والإجهاز على الجريح وهو إتمام قتله . قوله ع ولا تصيبوا معورا هو من يعتصم منك في الحرب بإظهار عورته لتكف عنه ويجوز أن يكون المعور هاهنا المريب الذي يظن أنه من القوم وأنه حضر للحرب وليس منهم لأنه حضر لأمر آخر . قوله ع ولا تهيجوا النساء بأذى أي لا تحركوهن .
[ 105 ]
و الفهر الحجر والهراوة العصا . وعطف وعقبه على الضمير المستكن المرفوع في فيعير ولم يؤكد للفصل بقوله بها كقوله تعالى ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا لما فصل بلا عطف ولم يحتج إلى تأكيد(1/4233)
نبذ من الأقوال الحكيمة
و مما ورد في الشعر في هذا المعنى قول الشاعر
إن من أعظم الكبائر عندي
قتل بيضاء حرة عطبول
كتب القتل والقتال علينا
و على المحصنات جر الذيول
و قالت امرأة عبد الله بن خلف الخزاعي بالبصرة لعلي ع بعد ظفره وقد مر ببابها يا علي يا قاتل الأحبة لا مرحبا بك أيتم الله منك ولدك كما أيتمت بني عبد الله بن خلف فلم يرد عليها ولكنه وقف وأشار إلى ناحية من دارها ففهمت إشارته فسكتت وانصرفت وكانت قد سترت عندها عبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم فأشار إلى الموضع الذي كانا فيه أي لو شئت أخرجتهما فلما فهمت انصرفت وكان ع حليما كريما . وكان عمر بن الخطاب إذا بعث أمراء الجيوش يقول بسم الله وعلى عون الله
[ 106 ](1/4234)
و بركته فامضوا بتأييد الله ونصره أوصيكم بتقوى الله ولزوم الحق والصبر فقاتلوا في سبيل الله من كفر بالله ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ولا تجبنوا عند اللقاء ولا تمثلوا عند الغارة ولا تسرفوا عند الظهور ولا تقتلوا هرما ولا امرأة ولا وليدا وتوقوا أن تطئوا هؤلاء عند التقاء الزحفين وعند حمة النهضات وفي شن الغارات ولا تغلوا عند الغنائم ونزهوا الجهاد عن غرض الدنيا وأبشروا بالأرباح في البيع الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم . واستشار قوم أكثم بن صيفي في حرب قوم أرادوهم وسألوه أن يوصيهم فقال أقلوا الخلاف على أمرائكم واثبتوا فإن أحزم الفريقين الركين ورب عجلة تهب ريثا . وكان قيس بن عاصم المنقري إذا غزا شهد معه الحرب ثلاثون من ولده يقول لهم إياكم والبغي فإنه ما بغى قوم قط إلا ذلوا قالوا فكان الرجل من ولده يظلم فلا ينتصف مخافة الذل . قال أبو بكر يوم حنين لن نغلب اليوم من قلة وكانوا اثني عشر ألفا فهزموا يومئذ هزيمة قبيحة وأنزل الله تعالى قوله وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً . وكان يقال لا ظفر مع بغي ولا صحة مع نهم ولا ثناء مع كبر ولا سؤدد مع شح
[ 107 ](1/4235)
قصة فيروز بن يزدجرد حين غزا ملك الهياطلة
و من الكلمات المستحسنة في سوء عاقبة البغي ما ذكره ابن قتيبة في كتاب عيون الأخبار إن فيروز بن يزدجرد بن بهرام لما ملك سار بجنوده نحو بلاد الهياطلة فلما انتهى إليهم اشتد رعب ملكهم أخشنوار منه وحذره فناظر أصحابه ووزراءه في أمره فقال رجل منهم أعطني موثقا من الله وعهدا تطمئن إليه نفسي أن تكفيني الغم بأمر أهلي وولدي وأن تحسن إليهم وتخلفني فيهم ثم اقطع يدي ورجلي وألقني في طريق فيروز حتى يمر بي هو وأصحابه وأنا أكفيك أمرهم وأورطهم مورطا تكون فيه هلكتهم فقال له أخشنوار وما الذي تنتفع به من سلامتنا وصلاح حالنا إذا أنت هلكت ولم تشركنا في ذلك فقال إني قد بلغت ما كنت أحب أن أبلغ من الدنيا وأنا موقن أن الموت لا بد منه وإن تأخر أياما قليلة فأحب أن أختم عملي بأفضل ما يختم به الأعمال من النصيحة بسلطاني والنكاية في عدوي فيشرف بذلك عقبي وأصيب سعادة وحظوة فيما أمامي . ففعل أخشنوار به ذلك وحمله فألقاه في الموضع الذي أشار إليه فمر به فيروز في جنوده فسأله عن حاله فأخبره أن أخشنوار فعل به ما يراه وأنه شديد الأسف كيف لا يستطيع أن يكون أمام الجيش في غزو بلاده وتخريب مدينته ولكنه سيدل الملك على طريق هو أقرب من هذا الطريق الذي يريدون سلوكه وأخفى فلا يشعر أخشنوار حتى يهجم عليه فينتقم الله منه بكم وليس في هذا الطريق من المكروه إلا تغور يومين ثم تفضون إلى كل ما تحبون .
[ 108 ](1/4236)
فقبل فيروز قوله بعد أن أشار إليه وزراؤه بالاتهام له والحذر منه وبغير ذلك فخالفهم وسلك تلك الطريق فانتهوا بعد يومين إلى موضع من المفازة لا صدر لهم عنه ولا ماء معهم ولا بين أيديهم وتبين لهم أنهم قد خدعوا فتفرقوا في تلك المفازة يمينا وشمالا يلتمسون الماء فقتل العطش أكثرهم ولم يسلم مع فيروز إلا عدة يسيرة فانتهى إليهم أخشنوار بجيشه فواقعهم في تلك الحال التي هم فيها من القلة والضر والجهد فاستمكنوا منهم بعد أن أعظموا الكناية فيهم . وأسر فيروز فرغب أخشنوار أن يمن عليه وعلى من بقي من أصحابه على أن يجعل له عهد الله وميثاقه ألا يغزوهم أبدا ما بقي وعلى أن يحد فيما بينه وبين مملكتهم حدا لا يتجاوزه جنوده فرضي أخشنوار بذلك فخلى سبيله وجعلا بين المملكتين حجرا لا يتجاوزه كل واحد منهما . فمكث فيروز برهة من دهره ثم حمله الأنف على أن يعود لغزو الهياطلة ودعا أصحابه إلى ذلك فنهوه عنه وقالوا إنك قد عاهدته ونحن نتخوف عليك عاقبة البغي والغدر مع ما في ذلك من العار وسوء القالة . فقال لهم إنما اشترطت له ألا أجوز الحجر الذي جعلناه بيننا وأنا آمر بالحجر فيحمل أمامنا على عجل . فقالوا أيها الملك إن العهود والمواثيق التي يتعاطاها الناس بينهم لا تحمل على ما يسره المعطي لها ولكن على ما يعلن به المعطى إياها وإنما جعلت عهد الله وميثاقه على الأمر الذي عرفه لا على الأمر الذي لم يخطر له ببال فأبى فيروز ومضى في غزوته حتى انتهى إلى الهياطلة وتصاف الفريقان للقتال
[ 109 ](1/4237)
فأرسل أخشنوار إلى فيروز يسأله أن يبرز فيما بين صفيهم فخرج إليه فقال له أخشنوار إني قد ظننت أنه لم يدعك إلى مقامك هذا إلا الأنف مما أصابك ولعمري إن كنا قد احتلنا لك بما رأيت لقد كنت التمست منا أعظم منه وما ابتدأناك ببغي ولا ظلم وما أردنا إلا دفعك عن أنفسنا وحريمنا ولقد كنت جديرا أن تكون من سوء مكافاتنا بمننا عليك وعلى من معك ومن نقض العهد والميثاق الذي أكدته على نفسك أعظم أنفا وأشد امتعاضا مما نالك منا فإنا أطلقناكم وأنتم أسارى ومننا عليكم وأنتم على الهلكة مشرفون وحقنا دماءكم ولنا على سفكها قدرة وإنا لم نجبرك على ما شرطت لنا بل كنت أنت الراغب إلينا فيه والمريد لنا عليه ففكر في ذلك وميز بين هذين الأمرين فانظر أيهما أشد عارا وأقبح سماعا إن طلب رجل أمرا فلم يقدر له ولم ينجح في طلبته وسلك سبيلا فلم يظفر فيه ببغيته واستمكن منه عدوه على حال جهد وضيعة منه وممن هم معه . فمن عليهم وأطلقهم على شرط شرطوه وأمر اصطلحوا عليه فاصطبر بمكروه القضاء واستحيا من الغدر والنكث أن يقال نقض العهد وأخفر الميثاق مع أني قد ظننت أنه يزيدك لجاجة ما تثق به من كثرة جنودك وما ترى من حسن عدتهم وما أجدني أشك أنهم أو أكثرهم كارهون لما كان من شخوصك بهم عارفون بأنك قد حملتهم على غير الحق ودعوتهم إلى ما يسخط الله وأنهم في حربنا غير مستبصرين ونياتهم على مناصحتك مدخولة . فانظر ما قدر غناء من يقاتل على هذه الحال وما عسى أن يبلغ نكايته في عدوه إذا كان عارفا بأنه إن ظفر فمع عار وإن قتل فإلى النار وأنا أذكرك الله الذي جعلته
[ 110 ](1/4238)
على نفسك كفيلا وأذكرك نعمتي عليك وعلى من معك بعد يأسكم من الحياة وإشفائكم على الممات وأدعوك إلى ما فيه حظك ورشدك من الوفاء بالعهد والاقتداء بآبائك وأسلافك الذين مضوا على ذلك في كل ما أحبوه وكرهوه فأحمدوا عواقبه وحسن عليهم أثره . ومع ذلك فإنك لست على ثقة من الظفر بنا وبلوغ نهمتك فينا وإنما تلتمس أمرا يلتمس منك مثله وتنادي عدوا لعله يمنح النصر عليك فاقبل هذه النصيحة فقد بالغت في الاحتجاج عليك وتقدمت بالإعذار إليك ونحن نستظهر بالله الذي اعتذرنا إليه ووثقنا بما جعلت لنا من عهده إذا استظهرت بكثرة جنودك وازدهتك عدة أصحابك فدونك هذه النصيحة فبالله ما كان أحد من أصحابك يبالغ لك أكثر منها ولا يزيدك عليها ولا يحرمنك منفعتها مخرجها مني فإنه ليس يزرى بالمنافع والمصالح عند ذوي الآراء صدورها عن الأعداء كما لا تحسن المضار أن تكون على أيدي الأصدقاء . واعلم أنه ليس يدعوني إلى ما تسمع من مخاطبتي إياك ضعف من نفسي ولا من قلة جنودي ولكني أحببت أن ازداد بذلك حجة واستظهارا فأزداد به للنصر والمعونة من الله استيجابا ولا أوثر على العافية والسلامة شيئا ما وجدت إليهما سبيلا . فقال فيروز لست ممن يردعه عن الأمر يهم به الوعيد ولا يصده التهدد والترهيب ولو كنت أرى ما أطلب غدرا مني إذا ما كان أحد أنظر ولا أشد إبقاء مني على نفسي وقد يعلم الله أنى لم أجعل لك العهد والميثاق إلا بما أضمرت في نفسي فلا يغرنك الحال التي كنت صادفتنا عليها من القلة والجهد والضعف .
[ 111 ](1/4239)
فقال أخشنوار لا يغرنك ما تخدع به نفسك من حملك الحجر أمامك فإن الناس لو كانوا يعطون العهود على ما تصف من إسرار أمر وإعلان آخر إذا ما كان ينبغي لأحد أن يغتر بأمان أو يثق بعهد وإذا ما قبل الناس شيئا مما كانوا يعطون من ذلك ولكنه وضع على العلانية وعلى نية من تعقد له العهود والشروط ثم انصرف . فقال فيروز لأصحابه لقد كان أخشنوار حسن المحاورة وما رأيت للفرس الذي كان تحته نظيرا في الدواب فإنه لم يزل قوائمه ولم يرفع حوافره عن مواضعها ولا صهل ولا أحدث شيئا يقطع به المحاورة في طول ما تواقفنا . وقال أخشنوار لأصحابه لقد وافقت فيروز كما رأيتم وعليه السلاح كله فلم يتحرك ولم ينزع رجله من ركابه ولا حنى ظهره ولا التفت يمينا ولا شمالا ولقد توركت أنا مرارا وتمطيت على فرسي والتفت إلى من خلفي ومددت بصري فيما أمامي وهو منتصب ساكن على حاله ولو لا محاورته إياي لظننت أنه لا يبصرني وإنما أراد بما وصفا من ذلك أن ينشر هذان الحديثان في أهل عسكرهما فيشتغلوا بالإفاضة فيهما عن النظر فيما تذاكرا . فلما كان في اليوم الثاني أخرج أخشنوار الصحيفة التي كتبها لهم فيروز ونصبها على رمح ليراها أهل عسكر فيروز فيعرفوا غدره وبغيه ويخرجوا من متابعته على هواه فما هو إلا أن راوها حتى انتقض عسكرهم واختلفوا وما تلبثوا إلا يسيرا حتى انهزموا وقتل منهم خلق كثير وهلك فيروز فقال أخشنوار لقد صدق الذي قال لا مرد لما قدر ولا شي ء أشد إحالة لمنافع الرأي من الهوى واللجاج ولا أضيع من نصيحة يمنحها من لا يوطن نفسه على قبولها والصبر على مكروهها ولا أسرع عقوبة وأسوأ عاقبة من البغي والغدر ولا أجلب لعظيم العار والفضوح من الأنف وإفراط العجب
[ 112 ](1/4240)
15 وكان ع يقول إذا لقي العدو محاربا
اَللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَفْضَتِ اَلْقُلُوبُ وَ مُدَّتِ اَلْأَعْنَاقُ وَ شَخَصَتِ اَلْأَبْصَارُ وَ نُقِلَتِ اَلْأَقْدَامُ وَ أُنْضِيَتِ اَلْأَبْدَانُ اَللَّهُمَّ قَدْ صَرَّحَ مَكْنُونُ اَلشَّنَآنِ وَ جَاشَتْ مَرَاجِلُ اَلْأَضْغَانِ اَللَّهُمَّ إِنَّا نَشْكُو إِلَيْكَ غَيْبَةَ نَبِيِّنَا وَ كَثْرَةَ عَدُوِّنَا وَ تَشَتُّتَ أَهْوَائِنَا رَبَّنَا اِفْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْفاتِحِينَ أفضت القلوب أي دنت وقربت ومنه أفضى الرجل إلى امرأته أي غشيها ويجوز أن يكون أفضت أي بسرها فحذف المفعول . وأنضيت الأبدان هزلت ومنه النضو وهو البعير المهزول . وصرح انكشف والشنئان البغضة . وجاشت تحركت واضطربت . والمراجل جمع مرجل وهي القدر . والأضغان الأحقاد واحدها ضغن . وأخذ سديف مولى المنصور هذه اللفظة فكان يقول في دعائه اللهم إنا نشكو
[ 113 ](1/4241)
إليك غيبة نبينا وتشتت أهوائنا وما شملنا من زيغ الفتن واستولى علينا من غشوة الحيرة حتى عاد فينا دولة بعد القسمة وإمارتنا غلبة بعد المشورة وعدنا ميراثا بعد الاختيار للأمة واشتريت الملاهي والمعازف بمال اليتيم والأرملة ورعى في مال الله من لا يرعى له حرمة وحكم في أبشار المؤمنين أهل الذمة وتولى القيام بأمورهم فاسق كل محلة فلا ذائد يذودهم عن هلكة ولا راع ينظر إليهم بعين رحمة ولا ذو شفقة يشبع الكبد الحرى من مسغبة فهم أولو ضرع وفاقة وأسراء فقر ومسكنة وحلفاء كئابة وذلة اللهم وقد استحصد زرع الباطل وبلغ نهايته واستحكم عموده واستجمع طريده وحذف وليده وضرب بجرانه فأتح له من الحق يدا حاصدة تجذ سنامه وتهشم سوقه وتصرع قائمه ليستخفي الباطل بقبح حليته ويظهر الحق بحسن صورته . ووجدت هذه الألفاظ في دعاء منسوب إلى علي بن الحسين زين العابدين ع ولعله من كلامه وقد كان سديف يدعو به
[ 114 ](1/4242)
16 وكان يقول ع لأصحابه عند الحرب
لاَ تَشْتَدَّنَّ عَلَيْكُمْ فَرَّةٌ بَعْدَهَا كَرَّةٌ وَ لاَ جَوْلَةٌ بَعْدَهَا حَمْلَةٌ وَ أَعْطُوا اَلسُّيُوفَ حُقُوقَهَا وَ وَطِّنُوا وَطِّئُوا لِلْجُنُوبِ مَصَارِعَهَا وَ اُذْمُرُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى اَلطَّعْنِ اَلدَّعْسِيِّ وَ اَلضَّرْبِ اَلطِّلَحْفِيِّ وَ أَمِيتُوا اَلْأَصْوَاتَ فَإِنَّهُ أَطْرَدُ لِلْفَشَلِ وَ فَوَ اَلَّذِي فَلَقَ اَلْحَبَّةَ وَ بَرَأَ اَلنَّسَمَةَ مَا أَسْلَمُوا وَ لَكِنِ اِسْتَسْلَمُوا وَ أَسَرُّوا اَلْكُفْرَ فَلَمَّا وَجَدُوا أَعْوَاناً عَلَيْهِ أَظْهَرُوهُ قال لا تستصعبوا فرة تفرونها بعدها كرة تجبرون بها ما تكسر من حالكم وإنما الذي ينبغي لكم أن تستصعبوه فرة لا كرة بعدها وهذا حض لهم على أن يكروا ويعودوا إلى الحرب إن وقعت عليهم كسرة . ومثله قوله ولا جولة بعدها حملة والجولة هزيمة قريبة ليست بالممعنة . واذمروا أنفسكم من ذمره على كذا أي حضه عليه والطعن الدعسي الذي يحشى به أجواف الأعداء وأصل الدعس الحشو دعست الوعاء حشوته . وضرب طلحفي بكسر الطاء وفتح اللام أي شديد واللام زائدة .
[ 115 ]
ثم أمرهم بإماتة الأصوات لأن شدة الضوضاء في الحرب أمارة الخوف والوجل . ثم أقسم أن معاوية وعمرا ومن والاهما من قريش ما أسلموا ولكن استسلموا خوفا من السيف ونافقوا فلما قدروا على إظهار ما في أنفسهم أظهروه وهذا يدل على أنه ع جعل محاربتهم له كفرا . وقد تقدم في شرح حال معاوية وما يذكره كثير من أصحابنا من فساد عقيدته ما فيه كفاية(1/4243)
نبذ من الأقوال المتشابهة في الحرب
و أوصى أكثم بن صيفي قوما نهضوا إلى الحرب فقال ابرزوا للحرب وادرعوا الليل فإنه أخفى للويل ولا جماعة لمن اختلف واعلموا أن كثرة الصياح من الفشل والمرء يعجز لا محالة . وسمعت عائشة يوم الجمل أصحابها يكبرون فقالت لا تكبروا هاهنا فإن كثرة التكبير عند القتال من الفشل . وقال بعض السلف قد جمع الله أدب الحرب في قوله تعالى يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا الآيتين . وقال عتبة بن ربيعة لقريش يوم بدر أ لا ترونهم يعني أصحاب النبي ص جثيا على الركب يتلمظون تلمظ الحيات . وأوصى عبد الملك بن صالح أمير سرية بعثها فقال أنت تاجر الله لعباده فكن كالمضارب الكيس الذي إن وجد ربحا تجر وإلا احتفظ برأس المال ولا تطلب
[ 116 ]
الغنيمة حتى تحوز السلامة وكن من احتيالك على عدوك أشد حذرا من احتيال عدوك عليك . و
في الحديث المرفوع إنه ص قال لزيد بن حارثة لا تشق جيشك فإن الله تعالى ينصر القوم بأضعفهم و
قال ابن عباس وذكر عليا ع ما رأيت رئيسا يوزن به لقد رأيته يوم صفين وكأن عينيه سراجا سليط وهو يحمس أصحابه إلى أن انتهى إلي وأنا في كنف فقال يا معشر المسلمين استشعروا الخشية وتجلببوا السكينة وأكملوا اللأمة . . . الفصل المذكور فيما تقدم
[ 117 ](1/4244)
17 ومن كتاب له ع إلى معاوية جوابا عن كتاب منه إليه
وَ أَمَّا طَلَبُكَ إِلَى اَلشَّامِ فَإِنِّي لَمْ أَكُنْ لَأُعْطِيَكَ اَلْيَوْمَ مَا مَنَعْتُكَ أَمْسِ وَ أَمَّا قَوْلُكَ إِنَّ اَلْحَرْبَ قَدْ أَكَلْتِ اَلْعَرَبَ إِلاَّ حُشَاشَاتِ أَنْفُسٍ بَقِيَتْ أَلاَ وَ مَنْ أَكَلَهُ اَلْحَقُّ فَإِلَى اَلْجَنَّةِ وَ مَنْ أَكَلَهُ اَلْبَاطِلُ فَإِلَى اَلنَّارِ وَ أَمَّا اِسْتِوَاؤُنَا فِي اَلْحَرْبِ وَ اَلرِّجَالِ فَلَسْتَ بِأَمْضَى عَلَى اَلشَّكِّ مِنِّي عَلَى اَلْيَقِينِ وَ لَيْسَ أَهْلُ اَلشَّامِ بِأَحْرَصَ عَلَى اَلدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ اَلْعِرَاقِ عَلَى اَلآْخِرَةِ وَ أَمَّا قَوْلُكَ إِنَّا بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ فَكَذَلِكَ نَحْنُ وَ لَكِنْ لَيْسَ أُمَيَّةُ كَهَاشِمٍ وَ لاَ حَرْبٌ كَعَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ وَ لاَ أَبُو سُفْيَانَ كَأَبِي طَالِبٍ وَ لاَ اَلْمُهَاجِرُ كَالطَّلِيقِ وَ لاَ اَلصَّرِيحُ كَاللَّصِيقِ وَ لاَ اَلْمُحِقُّ كَالْمُبْطِلِ وَ لاَ اَلْمُؤْمِنُ كَالْمُدْغِلِ وَ لَبِئْسَ اَلْخَلْفُ خَلْفٌ يَتْبَعُ سَلَفاً هَوَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَ فِي أَيْدِينَا بَعْدُ فَضْلُ اَلنُّبُوَّةِ اَلَّتِي أَذْلَلْنَا بِهَا اَلْعَزِيزَ وَ نَعَشْنَا بِهَا اَلذَّلِيلَ وَ لَمَّا أَدْخَلَ اَللَّهُ اَلْعَرَبَ فِي دِينِهِ أَفْوَاجاً وَ أَسْلَمَتْ لَهُ هَذِهِ اَلْأُمَّةُ طَوْعاً وَ كَرْهاً كُنْتُمْ مِمَّنْ دَخَلَ فِي اَلدِّينِ إِمَّا رَغْبَةً وَ إِمَّا رَهْبَةً عَلَى حِينَ فَازَ أَهْلُ اَلسَّبْقِ بِسَبْقِهِمْ وَ ذَهَبَ اَلْمُهَاجِرُونَ اَلْأَوَّلُونَ بِفَضْلِهِمْ فَلاَ تَجْعَلَنَّ لِلشَّيْطَانِ فِيكَ نَصِيباً وَ لاَ عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلاً وَ اَلسَّلاَمُ
[ 118 ](1/4245)
يقال طلبت إلى فلان كذا والتقدير طلبت كذا راغبا إلى فلان كما قال تعالى فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ أي مرسلا . ويروى إلا حشاشة نفس بالإفراد وهو بقية الروح في بدن المريض . وروي ألا ومن أكله الحق فإلى النار وهذه الرواية أليق من الرواية المذكورة في أكثر الكتب لأن الحق يأكل أهل الباطل ومن روى تلك الرواية أضمر مضافا تقديره أعداء الحق ومضافا آخر تقديره أعداء الباطل ويجوز أن يكون من أكله الحق فإلى الجنة أي من أفضى به الحق ونصرته والقيام دونه إلى القتل فإن مصيره إلى الجنة فيسمى الحق لما كانت نصرته كالسبب إلى القتل أكلا لذلك المقتول وكذلك القول في الجانب الآخر . وكان الترتيب يقتضي أن يجعل هاشما بإزاء عبد شمس لأنه أخوه في قعدد وكلاهما ولد عبد مناف لصلبه وأن يكون أمية بإزاء عبد المطلب وأن يكون حرب بإزاء أبي طالب وأن يكون أبو سفيان بإزاء أمير المؤمنين ع لأن كل واحد من هؤلاء في قعدد صاحبه إلا أن أمير المؤمنين ع لما كان في صفين بإزاء معاوية اضطر إلى أن جعل هاشما بإزاء أمية بن عبد شمس . فإن قلت فهلا قال ولا أنا كانت قلت قبيح أن يقال ذلك كما لا يقال السيف أمضى من العصا بل قبيح به أن يقولها مع أحد من المسلمين كافة نعم قد يقولها لا تصريحا بل تعريضا لأنه يرفع نفسه على أن يقيسها بأحد . وهاهنا قد عرض بذلك في قوله ولا المهاجر كالطليق فإن قلت فهل معاوية
[ 119 ](1/4246)
من الطلقاء قلت نعم كل من دخل عليه رسول الله ص مكة عنوة بالسيف فملكه ثم من عليه عن إسلام أو غير إسلام فهو من الطلقاء ممن لم يسلم كصفوان بن أمية ومن أسلم كمعاوية بن أبي سفيان وكذلك كل من أسر في حرب رسول الله ص ثم امتن عليه بفداء أو بغير فداء فهو طليق فممن امتن عليه بفداء كسهيل بن عمرو وممن امتن عليه بغير فداء أبو عزة الجمحي وممن امتن عليه معاوضة أي أطلق لأنه بإزاء أسير من المسلمين عمرو بن أبي سفيان بن حرب كل هؤلاء معدودون من الطلقاء . فإن قلت فما معنى قوله ولا الصريح كاللصيق وهل كان في نسب معاوية شبهة ليقول له هذا . قلت كلا إنه لم يقصد ذلك وإنما أراد الصريح بالإسلام واللصيق في الإسلام فالصريح فيه هو من أسلم اعتقادا وإخلاصا واللصيق فيه من أسلم تحت السيف أو رغبة في الدنيا وقد صرح بذلك فقال كنتم ممن دخل في هذا الدين إما رغبة وإما رهبة . فإن قلت فما معنى قوله ولبئس الخلف خلفا يتبع سلفا هوى في نار جهنم وهل يعاب المسلم بأن سلفه كانوا كفارا . قلت نعم إذا تبع آثار سلفه واحتذى حذوهم وأمير المؤمنين ع ما عاب معاوية بأن سلفه كفار فقط بل بكونه متبعا لهم . قوله ع وفي أيدينا بعد فضل النبوة أي إذا فرضنا تساوي الأقدام في مآثر أسلافكم كان في أيدينا بعد الفضل عليكم بالنبوة التي نعشنا بها الخامل وأخملنا بها النبيه . قوله ع على حين فاز أهل السبق قال قوم من النحاة
[ 120 ]
حين مبني هاهنا على الفتح وقال قوم بل منصوب لإضافته إلى الفعل . قوله ع فلا تجعلن للشيطان فيك نصيبا أي لا تستلزم من أفعالك ما يدوم به كون الشيطان ضاربا فيك بنصيب لأنه ما كتب إليه هذه الرسالة إلا بعد أن صار للشيطان فيه أوفر نصيب وإنما المراد نهيه عن دوام ذلك واستمراره(1/4247)
ذكر بعض ما كان بين علي ومعاوية يوم صفين
و ذكر نصر بن مزاحم بن بشار العقيلي في كتاب صفين أن هذا الكتاب كتبه علي ع إلى معاوية قبل ليلة الهرير بيومين أو ثلاثة قال نصر أظهر علي ع أنه مصبح معاوية ومناجز له وشاع ذلك من قوله ففزع أهل الشام لذلك وانكسروا لقوله وكان معاوية بن الضحاك بن سفيان صاحب راية بني سليم مع معاوية مبغضا لمعاوية وأهل الشام وله هوى مع أهل العراق وعلي بن أبي طالب ع وكان يكتب بأخبار معاوية إلى عبد الله بن الطفيل العامري وهو مع أهل العراق فيخبر بها عليا ع فلما شاعت كلمة علي ع وجل لها أهل الشام وبعث ابن الضحاك إلى عبد الله بن الطفيل إني قائل شعرا أذعر به أهل الشام وأرغم به معاوية وكان معاوية لا يتهمه وكان له فضل ونجدة ولسان فقال ليلا ليستمع أصحابه
ألا ليت هذا الليل أطبق سرمدا
علينا وإنا لا نرى بعده غدا
و يا ليته إن جاءنا بصباحه
وجدنا إلى مجرى الكواكب مصعدا
حذار علي إنه غير مخلف
مدى الدهر ما لب الملبون موعدا
و أما قراري في البلاد فليس لي
مقام وإن جاوزت جابلق مصعدا
[ 121 ]
كأني به في الناس كاشف رأسه
على ظهر خوار الرحالة أجردا
يخوض غمار الموت في مرجحنة
ينادون في نقع العجاج محمدا
فوارس بدر والنضير وخيبر
و أحد يهزون الصفيح المهندا
و يوم حنين جالدوا عن نبيهم
فريقا من الأحزاب حتى تبددا
هنالك لا تلوي عجوز على ابنها
و إن أكثرت من قول نفسي لك الفدا
فقل لا بن حرب ما الذي أنت صانع
أ تثبت أم ندعوك في الحرب قعددا
فلا رأي إلا تركنا الشام جهرة
و إن أبرق الفجفاج فيها وأرعدا(1/4248)
فلما سمع أهل الشام شعره أتوا به معاوية فهم بقتله ثم راقب فيه قومه فطرده من الشام فلحق بمصر وندم معاوية على تسييره إياه وقال معاوية لشعر السلمي أشد على أهل الشام من لقاء علي ما له قاتله الله لو صار خلف جابلق مصعدا لم يأمن عليا أ لا تعلمون ما جابلق يقوله لأهل الشام قالوا لا قال مدينة في أقصى المشرق ليس بعدها شي ء . قال نصر وتناقل الناس كلمة علي ع لأناجزنهم مصبحا فقال الأشتر
قد دنا الفضل في الصباح وللسلم
رجال وللحروب رجال
[ 122 ]
فرجال الحروب كل خدب
مقحم لا تهده الأهوال
يضرب الفارس المدجج بالسيف
إذا فر في الوغا الأكفال
يا ابن هند شد الحيازيم للموت
و لا تذهبن بك الآمال
إن في الصبح إن بقيت لأمرا
تتفادى من هوله الأبطال
فيه عز العراق أو ظفر الشام
بأهل العراق والزلزال
فاصبروا للطعان بالأسل السمر
و ضرب تجري به الأمثال
إن تكونوا قتلتم النفر البيض
و غالت أولئك الآجال
فلنا مثلهم غداة التلاقي
و قليل من مثلهم أبدال
يخضبون الوشيج طعنا إذا
جرت من الموت بينهم أذيال
طلب الفوز في المعاد وفيه
تستهان النفوس والأموال
قال فلما انتهى إلى معاوية شعر الأشتر قال شعر منكر من شاعر منكر رأس أهل العراق وعظيمهم ومسعر حربهم وأول الفتنة وآخرها قد رأيت أن أعاود عليا وأسأله إقراري على الشام فقد كنت كتبت إليه ذلك فلم يجب إليه ولأكتبن ثانية فألقى في نفسه الشك والرقة فقال له عمرو بن العاص وضحك أين أنت يا معاوية من خدعة علي قال أ لسنا بني عبد مناف قال بلى ولكن لهم النبوة دونك وإن شئت أن تكتب فاكتب فكتب معاوية إلى علي ع مع رجل من السكاسك يقال له عبد الله بن عقبة وكان من نافلة أهل العراق أما بعد فإنك لو علمت أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت لم يجنها بعضنا على
[ 123 ](1/4249)
بعض ولئن كنا قد غلبنا على عقولنا لقد بقي لنا منها ما نندم به على ما مضى ونصلح به ما بقي وقد كنت سألتك الشام على أن تلزمني لك بيعة وطاعة فأبيت ذلك علي فأعطاني الله ما منعت وأنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس فإني لا أرجو من البقاء إلا ما ترجو ولا أخاف من الموت إلا ما تخاف وقد والله فارقت الأجناد وذهبت الرجال ونحن بنو عبد مناف ليس لبعضنا على بعض فضل إلا فضل لا يستذل به عزيز ولا يسترق به حر والسلام .
فلما انتهى كتاب معاوية إلى علي ع قرأه ثم قال العجب لمعاوية وكتابه ودعا عبيد بن أبي رافع كاتبه فقال اكتب جوابه أما بعد فقد جاءني كتابك تذكر أنك لو علمت وعلمنا أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض فإني لو قتلت في ذات الله وحييت ثم قتلت ثم حييت سبعين مرة لم أرجع عن الشدة في ذات الله والجهاد لأعداء الله وأما قولك إنه قد بقي من عقولنا ما نندم به على ما مضى فإني ما نقصت عقلي ولا ندمت على فعلي وأما طلبك الشام فإني لم أكن أعطيك اليوم ما منعتك أمس وأما استواؤنا في الخوف والرجاء فلست أمضى على الشك مني على اليقين وليس أهل الشام بأحرص على الدنيا من أهل العراق على الآخرة وأما قولك إنا بنو عبد مناف ليس لبعضنا فضل على بعض فلعمري إنا بنو أب واحد ولكن ليس أمية كهاشم ولا حرب كعبد المطلب ولا المهاجر كالطليق ولا المحق كالمبطل وفي أيدينا بعد فضل النبوة التي أذللنا بها العزيز وأعززنا بها الذليل والسلام . فلما أتى معاوية كتاب علي ع كتمه عن عمرو بن العاص أياما ثم دعاه
[ 124 ]
فاقرأه إياه فشمت به عمرو ولم يكن أحد من قريش أشد إعظاما لعلي من عمرو بن العاص منذ يوم لقيه وصفح عنه فقال عمرو فيما كان أشار به على معاوية
ألا لله درك يا ابن هند
و در الأمرين لك الشهود
أ تطمع لا أبا لك في علي
و قد قرع الحديد على الحديد
و ترجو أن تحيره بشك
و تأمل أن يهابك بالوعيد(1/4250)
و قد كشف القناع وجر حربا
يشيب لهولها رأس الوليد
له جأواء مظلمة طحون
فوارسها تلهب كالأسود
يقول لها إذا رجعت إليه
و قد ملت طعان القوم عودي
فإن وردت فأولها ورودا
و إن صدت فليس بذي صدود
و ما هي من أبي حسن بنكر
و لا هو من مسائك بالبعيد
و قلت له مقالة مستكين
ضعيف الركن منقطع الوريد
دعن لي الشام حسبك يا ابن هند
من السوآة والرأي الزهيد
و لو أعطاكها ما ازددت عزا
و لا لك لو أجابك من مزيد
فلم تكسر بذاك الرأي عودا
لركته ولا ما دون عود
فلما بلغ معاوية شعر عمرو دعاه فقال له العجب لك تفيل رأيي وتعظم عليا وقد فضحك فقال أما تفييلي رأيك فقد كان وأما إعظامي عليا فإنك بإعظامه أشد معرفة مني ولكنك تطويه وأنا أنشره وأما فضيحتي فلم يفتضح امرؤ لقي أبا حسن
[ 125 ](1/4251)
18 ومن كتاب له ع إلى عبد الله بن عباس وهو عامله على البصرة
وَ اِعْلَمْ أَنَّ اَلْبَصْرَةَ مَهْبِطُ إِبْلِيسَ وَ مَغْرِسُ اَلْفِتَنِ فَحَادِثْ أَهْلَهَا بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَ اُحْلُلْ عُقْدَةَ اَلْخَوْفِ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَ قَدْ بَلَغَنِي تَنَمُّرُكَ لِبَنِي تَمِيمٍ وَ غِلْظَتُك عَلَيْهِمْ وَ إِنَّ بَنِي تَمِيمٍ لَمْ يَغِبْ لَهُمْ نَجْمٌ إِلاَّ طَلَعَ لَهُمْ آخَرُ وَ إِنَّهُمْ لَمْ يُسْبَقُوا بِوَغْمٍ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَ لاَ إِسْلاَمٍ وَ إِنَّ لَهُمْ بِنَا رَحِماً مَاسَّةً وَ قَرَابَةً خَاصَّةً نَحْنُ مَأْجُورُونَ عَلَى صِلَتِهَا وَ مَأْزُورُونَ عَلَى قَطِيعَتِهَا فَارْبَعْ أَبَا اَلْعَبَّاسِ رَحِمَكَ اَللَّهُ فِيمَا جَرَى عَلَى يَدِكَ وَ لِسَانِكَ مِنْ خَيْرٍ وَ شَرٍّ فَإِنَّا شَرِيكَانِ فِي ذَلِكَ وَ كُنْ عِنْدَ صَالِحِ ظَنِّي بِكَ وَ لاَ يَفِيلَنَّ رَأْيِي فِيكَ وَ اَلسَّلاَمُ قوله ع مهبط إبليس موضع هبوطه . ومغرس الفتن موضع غرسها ويروى ومغرس الفتن وهو الموضع الذي ينزل فيه القوم آخر الليل للاستراحة يقال غرسوا وأغرسوا . وقوله ع فحادث أهلها أي تعهدهم بالإحسان من قولك حادثت السيف بالصقال .
[ 126 ](1/4252)
و التنمر للقوم الغلظة عليهم والمعاملة لهم بأخلاق النمر من الجرأة والوثوب وسنذكر تصديق قوله ع لم يغب لهم نجم إلا طلع لهم آخر . والوغم الترة والأوغام الترات أي لم يهدر لهم دم في جاهلية ولا إسلام يصفهم بالشجاعة والحمية . ومأزورون كان أصله موزورون ولكنه جاء بالألف ليحاذي به ألف مأجورون وقد قال النبي ص مثل ذلك . قوله ع فاربع أبا العباس أي قف وتثبت في جميع ما تعتمده فعلا وقولا من خير وشر ولا تعجل به فإني شريكك فيه إذ أنت عاملي والنائب عني . ويعني بالشر هاهنا الضرر فقط لا الظلم والفعل القبيح . قوله ع وكن عند صالح ظني فيك أي كن واقفا عنده كأنك تشاهده فتمنعك مشاهدته عن فعل ما لا يجوز . فال الرأي يفيل أي ضعف وأخطأ(1/4253)
فصل في بني تميم وذكر بعض فضائلهم
و قد ذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب التاج أن لبني تميم مآثر لم يشركهم فيها غيرهم أما بنو سعد بن زيد مناة فلها ثلاث خصال يعرفها العرب إحداها كثرة العدد فإنه أضعف عددها على بني تميم حتى ملأت السهل والجبل عدلت مضر كثرة وعامة العدد منها في كعب بن سعد بن زيد مناة ولذلك قال أوس بن مغراء
[ 127 ]
كعبي من خير الكعاب كعبا
من خيرها فوارسا وعقبا
تعدل جنبا وتميم جنبا
و قال الفرزدق أيضا فيهم هذه الأبيات
لو كنت تعلم ما برمل مويسل
فقري عمان إلى ذوات حجور
لعلمت أن قبائلا وقبائلا
من آل سعد لم تدن لأمير
و قال أيضا
تبكي على سعد وسعد مقيمة
بيبرين قد كادت على الناس تضعف
و لذلك كانت تسمى سعد الأكثرين وفي المثل في كل واد بنو سعد . والثانية الإفاضة في الجاهلية كان ذلك في بني عطارد وهم يتوارثون ذلك كابرا عن كابر حتى قام الإسلام وكانوا إذا اجتمع الناس أيام الحج بمنى لم يبرح أحد من الناس دينا وسنة حتى يجوز القائم بذلك من آل كرب بن صفوان وقال أوس بن مغراء
و لا يريمون في التعريف موقفهم
حتى يقال أجيزوا آل صفوانا
و قال الفرزدق
إذا ما التقينا بالمحصب من منى
صبيحة يوم النحر من حيث عرفوا
ترى الناس ما سرنا يسيرون حولنا
و إن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا
و الثالثة أن منهم أشرف بيت في العرب الذي شرفته ملوك لخم قال المنذر بن المنذر بن ماء السماء ذات يوم وعنده وفود العرب ودعا ببردي أبيه محرق بن المنذر فقال ليلبس هذين أعز العرب وأكرمهم حسبا فأحجم الناس فقال أحيمر بن
[ 128 ](1/4254)
خلف بن بهدلة بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم أنا لهما قال الملك بما ذا قال بأن مضر أكرم العرب وأعزها وأكثرها عديدا وأن تميما كاهلها وأكثرها وأن بيتها وعددها في بني بهدلة بن عوف وهو جدي فقال هذا أنت في أصلك وعشيرتك فكيف أنت في عترتك وأدانيك . قال أنا أبو عشرة وأخو عشرة وعم عشرة فدفعهما إليه وإلى هذا أشار الزبرقان بن بدر في قوله
و بردا ابن ماء المزن عمي اكتساهما
بفضل معد حيث عدت محاصله
قال أبو عبيدة ولهم في الإسلام خصلة قدم قيس بن عاصم المنقري على رسول الله ص في نفر من بني سعد فقال له رسول الله ص هذا سيد أهل الوبر فجعله سيد خندف وقيس ممن يسكن الوبر . قال وأما بنو حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم فلهم خصال كثيرة قال في بني دارم بن مالك بن حنظلة وهو بيت مضر فمن ذلك زرارة بن عدس بن زيد بن دارم يقال إنه أشرف البيوت في بني تميم ومن ذلك قوس حاجب بن زرارة المرهونة عند كسرى عن مضر كلها وفي ذلك قيل
و أقسم كسرى لا يصالح واحدا
من الناس حتى يرهن القوس حاجب
و من ذلك في بني مجاشع بن دارم صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع وهو أول من أحيا الوئيد قام الإسلام وقد اشترى ثلاثمائة موءودة فأعتقهن ورباهن وكانت العرب تئد البنات خوف الإملاق . ومن ذلك غالب بن صعصعة وهو أبو الفرزدق وغالب هو الذي قرى مائة ضيف واحتمل عشر ديات لقوم لا يعرفهم وكان من حديث ذلك أن بني كلب
[ 129 ](1/4255)
بن وبرة افتخرت بينها في أنديتها فقالت نحن لباب العرب وقلبها ونحن الذين لا ننازع حسبا وكرما فقال شيخ منهم إن العرب غير مقرة لكم بذلك إن لها أحسابا وإن منها لبابا وإن لها فعالا ولكن ابعثوا مائة منكم في أحسن هيئة وبزة ينفرون من مروا به في العرب ويسألونه عشر ديات ولا ينتسبون له فمن قرأهم وبذل لهم الديات فهو الكريم الذي لا ينازع فضلا فخرجوا حتى قدموا على أرض بني تميم وأسد فنفروا الأحياء حيا فحيا وماء فماء لا يجدون أحدا على ما يريدون حتى مروا على أكثم بن صيفي فسألوه ذلك فقال من هؤلاء القتلى ومن أنتم وما قصتكم فإن لكم لشأنا باختلافكم في كلامكم فعدلوا عنه ثم مروا بقتيبة بن الحارث بن شهاب اليربوعي فسألوه عن ذلك فقال من أنتم قالوا من كلب بن وبرة فقال إني لأبغي كلبا بدم فإن انسلخ الأشهر الحرم وأنتم بهذه الأرض وأدرككم الخيل نكلت بكم وأثكلتكم أمهاتكم فخرجوا من عنده مرعوبين فمروا بعطارد بن حاجب بن زرارة فسألوه ذلك فقال قولوا بيانا وخذوها فقالوا أما هذا فقد سألكم قبل أن يعطيكم فتركوه ومروا ببني مجاشع بن دارم فأتوا على واد قد امتلأ إبلا فيها غالب بن صعصعة يهنأ منها إبلا فسألوه القرى والديات فقال هاكم البزل قبل النزول فابتزوها من البرك وحوزوا دياتكم ثم انزلوا فتنزلوا وأخبروه بالحال وقالوا أرشدك الله من سيد قوم لقد أرحتنا من طول النصب ولو علمنا لقصدنا إليك فذلك قول الفرزدق
فلله عينا من رأى مثل غالب
قرى مائة ضيفا ولم يتكلم
و إذ نبحت كلب على الناس إنهم
أحق بتاج الماجد المتكرم
[ 130 ]
فلم يجل عن أحسابها غير غالب
جرى بعناني كل أبلج خضرم(1/4256)
قال فأما بنو يربوع بن حنظلة فمنهم ثم من بني رباح بن يربوع عتاب بن هرمي بن رياح كانت له ردافة الملوك ملوك آل المنذر وردافة الملك أن يثنى به في الشرب وإذا غاب الملك خلفه في مجلسه وورث ذلك بنوه كابرا عن كابر حتى قام الإسلام قال لبيد بن ربيعة
و شهدت أنجبة الأكارم غالبا
كعبي وأرداف الملوك شهود
و يربوع أول من قتل قتيلا من المشركين وهو واقد بن عبد الله بن ثعلبة بن يربوع حليف عمر بن الخطاب قتل عمرو بن الحضرمي في سرية نخلة فقال عمر بن الخطاب يفتخر بذلك
سقينا من ابن الحضرمي رماحنا
بنخلة لما أوقد الحرب واقد
و ظل ابن عبد الله عثمان بيننا
ينازعه غل من القد عاند
و لها جواد العرب كلها في الإسلام بدأ العرب كلها جودا خالد بن عتاب بن ورقاء الرياحي دخل الفرزدق على سليمان بن عبد الملك وكان يشنؤه لكثرة بأوه وفخره فتهجمه وتنكر له وأغلظ في خطابه حتى قال من أنت لا أم لك قال أ وما تعرفني يا أمير المؤمنين أنا من حي هم من أوفى العرب وأحلم العرب وأسود العرب وأجود العرب وأشجع العرب وأشعر العرب فقال سليمان والله لتحتجن لما ذكرت أو لأوجعن ظهرك ولأبعدن دارك قال أما أوفى العرب فحاجب بن زرارة رهن قوسه عن العرب كلها وأوفى وأما أحلم العرب فالأحنف بن قيس يضرب به المثل حلما وأما أسود العرب فقيس بن عاصم قال له رسول الله ص هذا سيد أهل الوبر
[ 131 ]
و أما أشجع العرب فالحريش بن هلال السعدي وأما أجود العرب فخالد بن عتاب بن ورقاء الرياحي وأما أشعر العرب فها أنا ذا عندك قال سليمان فما جاء بك لا شي ء لك عندنا فارجع على عقبك وغمه ما سمع من عزة ولم يستطع له ردا فقال الفرزدق في أبيات
أتيناك لا من حاجة عرضت لنا
إليك ولا من قلة في مجاشع(1/4257)
قلت ولو ذكر عتيبة بن الحارث بن شهاب اليربوعي وقال إنه أشجع العرب لكان غير مدافع قالوا كانت العرب تقول لو وقع القمر إلى الأرض لما التقفه إلا عتيبة بن الحارث لثقافته بالرمح وكان يقال له صياد الفوارس وسم الفوارس وهو الذي أسر بسطام بن قيس وهو فارس ربيعة وشجاعها ومكث عنده في القيد مدة حتى استوفى فداءه وجز ناصيته وخلى سبيله على ألا يغزو بني يربوع وعتيبة هذا هو المقدم على فرسان العرب كلها في كتاب طبقات الشجعان ومقاتل الفرسان ولكن الفرزدق لم يذكره وإن كان تميميا لأن جريرا يفتخر به لأنه من بني يربوع فحملته عداوة جرير على أن عدل عن ذكره . قال أبو عبيدة ولبني عمرو بن تميم خصال تعرفها لهم العرب ولا ينازعهم فيها أحد فمنها أكرم الناس عما وعمة وجدا وجدة وهو هند بن أبي هالة واسم أبي هالة نباش بن زرارة أحد بني عمرو بن تميم كانت خديجة بنت خويلد قبل
[ 132 ]
النبي ص تحت أبي هالة فولدت له هندا ثم تزوجها رسول الله ص وهند بن أبي هالة غلام صغير فتبناه النبي ص ثم ولدت خديجة من رسول الله ص القاسم والطاهر وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة فكان هند بن أبي هالة أخاهم لأمهم ثم أولد هند بن أبي هالة هند بن هند فهند الثاني أكرم الناس جدا وجدة يعني رسول الله ص وخديجة وأكرم الناس عما وعمة يعني بني النبي ص وبناته . ومنها أن لهم أحكم العرب في زمانه أكثم بن صيفي أحد بني أسد بن عمرو بن تميم كان أكثر أهل الجاهلية حكما ومثلا وموعظة سائرة . ومنها ذو الأعواز كان له خراج على مضر كافة تؤديه إليه فشاخ حتى كان يحمل على سرير يطاف به على مياه العرب فيؤدى إليه الخراج وقال الأسود بن يعفر النهشلي وكان ضريرا
و لقد علمت خلاف ما تناشي
أن السبيل سبيل ذي الأعواز(1/4258)
و منها هلال بن أحوز المازني الذي ساد تميما كلها في الإسلام ولم يسدها غيره . قال ودخل خالد بن عبد الرحمن بن الوليد بن المغيرة المخزومي مسجد الكوفة فانتهى إلى حلقة فيها أبو الصقعب التيمي من تيم الرباب والمخزومي لا يعرفه وكان أبو الصقعب من أعلم الناس فلما سمع علمه وحديثه حسده فقال له ممن الرجل قال من تيم الرباب فظن المخزومي أنه وجد فرصة فقال والله ما أنت من سعد الأكثرين ولا من حنظلة الأكرمين ولا من عمرو الأشدين فقال أبو الصقعب فممن أنت قال من بني مخزوم قال والله ما أنت من هاشم المنتخبين ولا من أمية المستخلفين
[ 133 ](1/4259)
و لا من عبد الدار المستحجبين فبم تفخر قال نحن ريحانة قريش قال أبو الصقعب قبحا لما جئت به وهل تدري لم سميت مخزوم ريحانة قريش سميت لحظوة نسائها عند الرجال فأفحمه روى أبو العباس المبرد في كتاب الكامل أن معاوية قال للأحنف بن قيس وجارية بن قدامة ورجال من بني سعد معهما كلاما أحفظهم فردوا عليه جوابا مقذعا وامرأته فاختة بنت قرظة في بيت يقرب منهم وهي أم عبد الله بن معاوية فسمعت ذلك فلما خرجوا قالت يا أمير المؤمنين لقد سمعت من هؤلاء الأجلاف كلاما تلقوك به فلم تنكر فكدت أن أخرج إليهم فأسطو بهم فقال معاوية إن مضر كأهل العرب وتميما كأهل مضر وسعدا كأهل تميم وهؤلاء كأهل سعد . وروى أبو العباس أيضا أن عبد الملك ذكر يوما بني دارم فقال أحد جلسائه يا أمير المؤمنين هؤلاء قوم محظوظون يعني في كثرة النسل ونماء الذرية فلذلك انتشر صيتهم فقال عبد الملك ما تقول هذا وقد مضى منهم لقيط بن زرارة ولم يخلف عقبا ومضى قعقاع بن معبد بن زرارة ولم يخلف عقبا ومضى محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة ولم يخلف عقبا والله لا تنسى العرب هذه الثلاثة أبدا . قال أبو العباس إن الأصمعي قال إن حربا كانت بالبادية ثم اتصلت بالبصرة فتفاقم الأمر فيها ثم مشي بين الناس بالصلح فاجتمعوا في المسجد الجامع قال فبعثت وأنا غلام إلى ضرار بن القعقاع من بني دارم فاستأذنت عليه فأذن لي فدخلت فإذا به في شملة يخلط بزرا لعنز له حلوب فخبرته بمجتمع القوم فأمهل حتى أكلت العنز ثم غسل الصحفة وصاح يا جارية غدينا فأتته بزيت وتمر فدعاني فقذرته
[ 134 ](1/4260)
أن آكل معه حتى إذا قضى من أكله وحاجته وطرا وثب إلى طين ملقى في الدار فغسل به يده ثم صاح يا جارية اسقيني ماء فأتته بماء فشربه ومسح فضله على وجهه ثم قال الحمد لله ماء الفرات بتمر البصرة بزيت الشام متى نؤدي شكر هذه النعم ثم قال علي بردائي فأتته برداء عدني فارتدى به على تلك الشملة قال الأصمعي فتجافيت عنه استقباحا لزيه فلما دخل المسجد صلى ركعتين ثم مشى إلى القوم فلم تبق حبوة إلا حلت إعظاما له ثم جلس فتحمل جميع ما كان بين الأحياء في ماله ثم انصرف . قال أبو العباس وحدثني أبو عثمان المازني عن أبي عبيدة قال لما أتى زياد بن عمرو المربد في عقب قتل مسعود بن عمرو العتكي وجاء زياد بن عمرو بن الأشرف العتكي ليثأر به من بني تميم صف أصحابه فجعل في الميمنة بكر بن وائل وفي الميسرة عبد القيس وهم لكيز بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة وكان زياد بن عمرو العتكي في القلب فبلغ ذلك الأحنف بن قيس فقال هذا غلام حدث شأنه الشهرة وليس يبالي أين قذف بنفسه فندب أصحابه فجاءه حارثة بن بدر الغداني وقد اجتمعت بنو تميم فلما أتى قال قوموا إلى سيدكم ثم أجلسه فناظره فجعلوا سعدا والرباب في القلب ورئيسهم عبس بن طلق الطعان المعروف بأخي كهمس وهو أحد بني صريم بن يربوع فكانوا بحذاء زياد بن عمرو ومن معه من الأزد وجعل حارثة بن بدر الغداني في بني حنظلة بحذاء بكر بن وائل وجعل عمرو بن تميم بحذاء عبد القيس فذلك حيث يقول حارثة بن بدر للأحنف
سيكفيك عبس أخو كهمس
مقارعة الأزد في المربد
و يكفيك عمرو على رسلها
لكيز بن أفصى وما عددوا
[ 135 ]
و نكفيك بكرا إذا أقبلت
بضرب يشيب له الأمرد(1/4261)
و لكيز بن أفصى تعم عبد القيس قال فلما تواقفوا بعث إليهم الأحنف يا معشر الأزد من اليمن وربيعة من أهل البصرة أنتم والله أحب إلينا من تميم الكوفة وأنتم جيراننا في الدار ويدنا على العدو وأنتم بدأتمونا بالأمس ووطئتم حريمنا وحرقتم علينا فدفعنا عن أنفسنا ولا حاجة لنا في الشر ما طلبنا في الخير مسلكا فتيمموا بنا طريقة مستقيمة فوجه إليه زياد بن عمرو تخير خلة من ثلاث إن شئت فانزل أنت وقومك على حكمنا وإن شئت فخل لنا عن البصرة وارحل أنت وقومك إلى حيث شئتم وإلا فدوا قتلانا وأهدروا دماءكم وليود مسعود دية المشعرة . قال أبو العباس وتأويل قوله دية المشعرة يريد أمر الملوك في الجاهلية وكان الرجل إذا قتل وهو من أهل بيت المملكة ودي عشر ديات فبعث إليه الأحنف سنختار فانصرفوا في يومكم فهز القوم راياتهم وانصرفوا فلما كان الغد بعث الأحنف إليهم إنكم خيرتمونا خلالا ليس لنا فيها خيار أما النزول على حكمكم فكيف يكون والكلم يقطر وأما ترك ديارنا فهو أخو القتل قال الله عز وجل وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اُقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اُخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ولكن الثالثة إنما هي حمل على المال فنحن نبطل دماءنا وندي قتلاكم وإنما مسعود رجل من المسلمين وقد أذهب الله عز وجل أمر الجاهلية فاجتمع القوم على أن يقفوا أمر مسعود ويغمدوا السيف وتودى سائر القتلى من الأزد وربيعة فضمن ذلك الأحنف ودفع إليهم إياس بن قتادة المجاشعي رهينة حتى يؤدي هذا المال فرضي به القوم ففخر بذلك الفرزدق فقال لجرير
[ 136 ]
و منا الذي أعطى يديه رهينة
لغاري معد يوم ضرب الجماجم
عشية سال المربدان كلاهما
عجاجة موت بالسيوف الصوارم
هنالك لو تبغي كليبا وجدتها
أذل من القردان تحت المناسم(1/4262)
و يقال إن تميما في ذلك الوقت مع باديتها وحلفائها من الأساورة والزط والسبابجة وغيرهم كانوا زهاء سبعين ألفا وفي ذلك يقول جرير
سائل ذوي يمن ورهط محرق
و الأزد إذ ندبوا لنا مسعودا
فأتاهم سبعون ألف مدجج
متسربلين يلامقا وحديدا
قال الأحنف بن قيس فكثرت على الديات فلم أجدها في حاضرة تميم فخرجت نحو يبرين إلى بادية تميم فسألت عن المقصود هناك فأرشدت إلى قبة فإذا شيخ جالس بفنائها مؤتزر بشملة محتب بحبل فسلمت عليه وانتسبت له فقال لي ما فعل رسول الله ص قلت توفي قال فما فعل عمر بن الخطاب الذي كان يحفظ العرب ويحوطها قلت توفي قال فأي خير في حاضرتكم بعدهما قال فذكرت له الديات التي لزمتنا للأزد وربيعة قال فقال لي أقم فإذا راع قد أراح عليه ألف بعير فقال خذها ثم أراح علينا آخر مثلها فقال خذها فقلت لا أحتاج إليها قال فانصرفت بالألف عنه وو الله ما أدري من هو إلى الساعة
[ 137 ](1/4263)
19 ومن كتاب له ع إلى بعض عماله
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ دَهَاقِينَ أَهْلِ بَلَدِكَ شَكَوْا مِنْكَ غِلْظَةً وَ قَسْوَةً وَ اِحْتِقَاراً وَ جَفْوَةً وَ نَظَرْتُ فَلَمْ أَرَهُمْ أَهْلاً لِأَنَّ يُدْنَوْا لِشِرْكِهِمْ وَ لاَ أَنْ يُقْصَوْا وَ يُجْفَوْا لِعَهْدِهِمْ فَالْبَسْ لَهُمْ جِلْبَاباً مِنَ اَللِّينِ تَشُوبُهُ بِطَرَفٍ مِنَ اَلشِّدَّةِ وَ دَاوِلْ لَهُمْ بَيْنَ اَلْقَسْوَةِ وَ اَلرَّأْفَةِ وَ اُمْزُجْ لَهُمْ بَيْنَ اَلتَّقْرِيبِ وَ اَلْإِدْنَاءِ وَ اَلْإِبْعَادِ وَ اَلْإِقْصَاءِ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ الدهاقين الزعماء أرباب الأملاك بالسواد واحدهم دهقان بكسر الدال ولفظه معرب . وداول بينهم أي مرة هكذا ومرة هكذا أمره أن يسلك معهم منهجا متوسطا لا يدنيهم كل الدنو لأنهم مشركون ولا يقصيهم كل الإقصاء لأنهم معاهدون فوجب أن يعاملهم معاملة آخذة من كل واحد من القسمين بنصيب
[ 138 ](1/4264)
20 ومن كتاب له ع إلى زياد ابن أبيه وهو خليفة عامله عبد الله بن عباس على البصرة وعبد الله عامل أمير المؤمنين ع يومئذ عليها وعلى كور الأهواز وفارس وكرمان وغيرها
وَ إِنِّي أُقْسِمُ بِاللَّهِ قَسَماً صَادِقاً لَئِنْ بَلَغَنِي أَنَّكَ خُنْتَ مِنْ فَيْ ءِ اَلْمُسْلِمِينَ شَيْئاً صَغِيراً أَوْ كَبِيراً لَأَشُدَّنَّ عَلَيْكَ شَدَّةً تَدَعُكَ قَلِيلَ اَلْوَفْرِ ثَقِيلَ اَلظَّهْرِ ضَئِيلَ اَلْأَمْرِ وَ اَلسَّلاَمُ سيأتي ذكر نسب زياد وكيفية استلحاق معاوية له فيما بعد إن شاء الله تعالى . قوله ع لأشدن عليك شدة مثل قوله لأحملن عليك حملة والمراد تهديده بالأخذ واستصفاء المال . ثم وصف تلك الشدة فقال إنها تتركك قليل الوفر أي أفقرك بأخذ ما احتجت من بيت مال المسلمين . وثقيل الظهر أي مسكين لا تقدر على مئونة عيالك . وضئيل الأمر أي حقير لأنك إنما كنت نبيها بين الناس بالغنى والثروة فإذا افتقرت صغرت عندهم واقتحمتك أعينهم
[ 139 ](1/4265)
21 ومن كتاب له ع إلى زياد أيضا
فَدَعِ اَلْإِسْرَافَ مُقْتَصِداً وَ اُذْكُرْ فِي اَلْيَوْمِ غَداً وَ أَمْسِكْ مِنَ اَلْمَالِ بِقَدْرِ ضَرُورَتِكَ وَ قَدِّمِ اَلْفَضْلَ لِيَوْمِ حَاجَتِكَ أَ تَرْجُو أَنْ يُعْطِيَكَ اَللَّهُ أَجْرَ اَلْمُتَوَاضِعِينَ وَ أَنْتَ عِنْدَهُ مِنَ اَلْمُتَكَبِّرِينَ وَ تَطْمَعُ وَ أَنْتَ مُتَمَرِّغٌ فِي اَلنَّعِيمِ أَنْ تَمْنَعَهُ تَمْنَعُهُ اَلضَّعِيفَ وَ اَلْأَرْمَلَةَ وَ أَنْ يُوجِبَ لَكَ ثَوَابَ اَلْمُتَصَدِّقِينَ وَ إِنَّمَا اَلْمَرْءُ مَجْزِيٌّ بِمَا أَسْلَفَ وَ قَادِمٌ عَلَى مَا قَدَّمَ وَ اَلسَّلاَمُ المتمرغ في النعيم المتقلب فيه ونهاه عن الإسراف وهو التبذير في الإنفاق وأمره أن يمسك من المال ما تدعو إليه الضرورة وأن يقدم فضول أمواله وما ليس له إليه حاجة ضرورية في الصدقة فيدخره ليوم حاجته وهو يوم البعث والنشور . قلت قبح الله زيادا فإنه كافأ إنعام علي ع وإحسانه إليه واصطناعه له بما لا حاجة إلى شرحه من أعماله القبيحة بشيعته ومحبيه والإسراف في لعنه وتهجين أفعاله والمبالغة في ذلك بما قد كان معاوية يرضى باليسير منه ولم يكن يفعل ذلك لطلب رضا معاوية كلا بل يفعله بطبعه ويعاديه بباطنه وظاهره وأبى الله إلا أن يرجع إلى أمه ويصحح نسبه وكل إناء ينضح بما فيه ثم جاء ابنه بعد فختم تلك الأعمال السيئة بما ختم وإلى الله ترجع الأمور
[ 140 ](1/4266)
22 ومن كتاب له ع إلى عبد الله بن العباس رحمه الله تعالى
و كان ابن عباس يقول ما انتفعت بكلام بعد كلام رسول الله ص كانتفاعي بهذا الكلام : أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اَلْمَرْءَ قَدْ يَسُرُّهُ دَرْكُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَفُوتَهُ وَ يَسُوؤُهُ فَوْتُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيُدْرِكَهُ فَلْيَكُنْ سُرُورُكَ بِمَا نِلْتَ مِنْ آخِرَتِكَ وَ لْيَكُنْ أَسَفُكَ عَلَى مَا فَاتَكَ مِنْهَا وَ مَا نِلْتَ مِنْ دُنْيَاكَ فَلاَ تُكْثِرْ بِهِ فَرَحاً وَ مَا فَاتَكَ مِنْهَا فَلاَ تَأْسَ عَلَيْهِ جَزَعاً وَ لْيَكُنْ هَمُّكَ فِيمَا بَعْدَ اَلْمَوْتِ يقول إن كل شي ء يصيب الإنسان في الدنيا من نفع وضر فبقضاء من الله وقدره تعالى لكن الناس لا ينظرون حق النظر في ذلك فيسر الواحد منهم بما يصيبه من النفع ويساء بفوت ما يفوته منه غير عالم بأن ذلك النفع الذي أصابه كان لا بد أن يصيبه وأن ما فاته منه كان لا بد أن يفوته ولو عرف ذلك حق المعرفة لم يفرح ولم يحزن . ولقائل أن يقول هب أن الأمور كلها بقضاء وقدر فلم لا ينبغي للإنسان أن يفرح بالنفع وإن وقع بالقدر ويساء بفوته أو بالضرر وإن وقعا بقدر أ ليس العريان يساء
[ 141 ](1/4267)
بقدوم الشتاء وإن كان لا بد من قدومه والمحموم غبا يساء بتجدد نوبة الحمى وإن كان لا بد من تجددها فليس سبب الاختيار في الأفعال مما يوجب أن لا يسر الإنسان ولا يساء بشي ء منها . والجواب ينبغي أن يحمل هذا الكلام على أن الإنسان ينبغي أن لا يعتقد في الرزق أنه أتاه بسعيه وحركته فيفرح معجبا بنفسه معتقدا أن ذلك الرزق ثمرة حركته واجتهاده وكذلك ينبغي ألا يساء بفوات ما يفوته من المنافع لائما نفسه في ذلك ناسبا لها إلى التقصير وفساد الحيلة والاجتهاد لأن الرزق هو من الله تعالى لا أثر للحركة فيه وإن وقع عندها وعلى هذا التأويل ينبغي أن يحمل قوله تعالى ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَ اَللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ . من النظم الجيد الروحاني في صفة الدنيا والتحذير منها والوصاة بترك الاغترار بها والعمل لما بعدها ما أورده أبو حيان في كتاب الإشارات الإلهية ولم يسم قائله
دار الفجائع والهموم ودار
البث والأحزان والبلوى
مر المذاقة غب ما احتلبت
منها يداك وبية المرعى
بينا الفتى منها بمنزلة
إذ صار تحت ترابها ملقى
تقفو مساويها محاسنها
لا شي ء بين النعي والبشرى
و لقل يوم ذر شارقه
إلا سمعت بهالك ينعى
لا تعتبن على الزمان لما
يأتي به فلقلما يرضى
[ 142 ]
للمرء رزق لا يفوت ولو
جهد الخلائق دون أن يفنى
يا عامر الدنيا المعد لها
ما ذا عملت لدارك الأخرى
و ممهد الفرش الوطيئة لا
تغفل فراش الرقدة الكبرى
لو قد دعيت لقد أجبت لما
تدعى له فانظر متى تدعى
أ تراك تحصي كم رأيت من
الأحياء ثم رأيتهم موتى
من أصبحت دنياه همته
فمتى ينال الغاية القصوى(1/4268)
سبحان من لا شي ء يعدله
كم من بصير قلبه أعمى
و الموت لا يخفى على أحد
ممن أرى وكأنه يخفى
و الليل يذهب والنهار
بأحبابي وليس عليهما عدوى
[ 143 ](1/4269)
23 ومن كلام له ع قاله قبل موته على سبيل الوصية لما ضربه ابن ملجم لعنه الله
وَصِيَّتِي لَكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئاً وَ مُحَمَّدٌ ص فَلاَ تُضَيِّعُوا سُنَّتَهُ أَقِيمُوا هَذَيْنِ اَلْعَمُودَيْنِ وَ أَوْقِدُوا هَذَيْنِ اَلْمِصْبَاحَيْنِ وَ خَلاَكُمْ ذَمٌّ أَنَا بِالْأَمْسِ صَاحِبُكُمْ وَ اَلْيَوْمَ عِبْرَةٌ لَكُمْ وَ غَداً مُفَارِقُكُمْ إِنْ أَبْقَ فَأَنَا وَلِيُّ دَمِي وَ إِنْ أَفْنَ فَالْفَنَاءُ مِيعَادِي وَ إِنْ أَعْفُ فَالْعَفْوُ لِي قُرْبَةٌ وَ هُوَ لَكُمْ حَسَنَةٌ فَاعْفُوا أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اَللَّهُ لَكُمْ وَ اَللَّهِ مَا فَجَأَنِي مِنَ اَلْمَوْتِ وَارِدٌ كَرِهْتُهُ وَ لاَ طَالِعٌ أَنْكَرْتُهُ وَ مَا كُنْتُ إِلاَّ كَقَارِبٍ وَرَدَ وَ طَالِبٍ وَجَدَ وَ ما عِنْدَ اَللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ قال الرضي رحمه الله تعالى أقول وقد مضى بعض هذا الكلام فيما تقدم من الخطب إلا أن فيه هاهنا زيادة أوجبت تكريره فإن قلت لقائل أن يقول إذا أوصاهم بالتوحيد واتباع سنة النبي ص
[ 144 ](1/4270)
فلم يبق شي ء بعد ذلك يقول فيه أقيموا هذين العمودين وخلاكم ذم لأن سنة النبي ص فعل كل واجب وتجنب كل قبيح فخلاهم ذم فما ذا يقال . والجواب أن كثيرا من الصحابة كلفوا أنفسهم أمورا من النوافل شاقة جدا فمنهم من كان يقوم الليل كله ومنهم من كان يصوم الدهر كله ومنهم المرابط في الثغور ومنهم المجاهد مع سقوط الجهاد عنه لقيام غيره به ومنهم تارك النكاح ومنهم تارك المطاعم والملابس وكانوا يتفاخرون بذلك ويتنافسون فيه فأراد ع أن يبين لأهله وشيعته وقت الوصية أن المهم الأعظم هو التوحيد والقيام بما يعلم من دين محمد ص أنه واجب ولا عليكم بالإخلال بما عدا ذلك فليت من المائة واحدا نهض بذلك والمراد ترغيبهم بتخفيف وظائف التكاليف عنهم فإن الله تعالى يقول يُرِيدُ اَللَّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ و
قال ص بعثت بالحنيفية السهلة السمحة . قوله وخلاكم ذم لفظة تقال على سبيل المثل أي قد أعذرتم وسقط عنكم الذم . ثم قسم أيامه الثلاثة أقساما فقال أنا بالأمس صاحبكم أي كنت أرجى وأخاف وأنا اليوم عبرة لكم أي عظة تعتبرون بها وأنا غدا مفارقكم أكون في دار أخرى غير داركم . ثم ذكر أنه إن بقي ولم يمت من هذه الضربة فهو ولي دمه إن شاء عفا وإن شاء اقتص وإن لم يبق فالفناء الموعد الذي لا بد منه . ثم عاد فقال وإن أعف والتقسيم ليس على قاعدة تقسيم المتكلمين والمعنى منه مفهوم وهو إما أن أسلم من هذه الضربة أو لا أسلم فإن سلمت منها فأنا ولي دمي إن شئت عفوت فلم أقتص وإن شئت اقتصصت ولا يعني بالقصاص هاهنا القتل بل ضربة بضربة فإن سرت إلى النفس كانت السراية مهدرة كقطع اليد .
[ 145 ](1/4271)
ثم أومأ إلى أنه إن سلم عفا بقوله إن العفو لي إن عفوت قربة . ثم عدنا إلى القسم الثاني من القسمين الأولين وهو أنه ع لا يسلم من هذه فولاية الدم إلى الورثة إن شاءوا اقتصوا وإن شاءوا عفوا . ثم أومأ إلى أن العفو منهم أحسن بقوله وهو لكم حسنة بل أمرهم أمرا صريحا بالعفو فقال فاعفوا أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اَللَّهُ لَكُمْ وهذا لفظ الكتاب العزيز وينبغي أن يكون أمره بالعفو في هذا الكلام محمولا على الندب . ثم أقسم ع أنه ما فجأة من الموت أمر أنكره ولا كرهه فجأني الشي ء أتاني بغتة . ثم قال ما كنت إلا كقارب ورد والقارب الذي يسير إلى الماء وقد بقي بينه وبينه ليلة واحدة والاسم القرب فهم قاربون ولا يقال مقربون وهو حرف شاذ
[ 146 ](1/4272)
24 ومن وصية له ع بما يعمل في أمواله كتبها بعد منصرفه من صفين
هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اَللَّهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ فِي مَالِهِ اِبْتِغَاءَ وَجْهِ اَللَّهِ لِيُولِجَهُ بِهِ اَلْجَنَّةَ وَ يُعْطِيَهُ بِهِ اَلْأَمَنَةَ قد عاتبت العثمانية وقالت إن أبا بكر مات ولم يخلف دينارا ولا درهما وإن عليا ع مات وخلف عقارا كثيرا يعنون نخلا قيل لهم قد علم كل أحد أن عليا ع استخرج عيونا بكد يده بالمدينة وينبع وسويعة وأحيا بها مواتا كثيرا ثم أخرجها عن ملكه وتصدق بها على المسلمين ولم يمت وشي ء منها في ملكه أ لا ترى إلى ما تتضمنه كتب السير والأخبار من منازعة زيد بن علي وعبد الله بن الحسن في صدقات علي ع ولم يورث علي ع بنيه قليلا من المال ولا كثيرا إلا عبيده وإماءه وسبعمائة درهم من عطائه تركها ليشتري بها خادما لأهله قيمتها ثمانية وعشرون دينارا على حسب المائة أربعة دنانير وهكذا كانت المعاملة بالدراهم إذ ذاك وإنما لم يترك أبو بكر قليلا ولا كثيرا لأنه ما عاش ولو عاش لترك أ لا ترى أن عمر أصدق أم كلثوم أربعين ألف درهم ودفعها إليها وذلك لأن هؤلاء طالت أعمارهم فمنهم من درت عليه أخلاف التجارة ومنهم من كان يستعمر الأرض ويزرعها ومنهم من استفضل من رزقه من الفي ء .
[ 147 ](1/4273)
و فضلهم أمير المؤمنين ع بأنه كان يعمل بيده ويحرث الأرض ويستقي الماء ويغرس النخل كل ذلك يباشره بنفسه الشريفة ولم يستبق منه لوقته ولا لعقبه قليلا ولا كثيرا وإنما كان صدقة وقد مات رسول الله ص وله ضياع كثيرة جليلة جدا بخيبر وفدك وبني النضير وكان له وادي نخلة وضياع أخرى كثيرة بالطائف فصارت بعد موته صدقة بالخبر الذي رواه أبو بكر فإن كان علي ع معيبا بضياعه ونخله فكذلك رسول الله ص وهذا كفر وإلحاد وإن كان رسول الله ص إنما ترك ذلك صدقة فرسول الله ص ما روى عنه الخبر في ذلك إلا واحد من المسلمين وعلي ع كان في حياته قد أثبت عند جميع المسلمين بالمدينة أنها صدقة فالتهمة إليه في هذا الباب أبعد وروي ويعطيني به الأمنة وهي الأمن : مِنْهَا فَإِنَّهُ يَقُومُ بِذَلِكَ اَلْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ يَأْكُلُ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ وَ يُنْفِقُ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ حَدَثَ بِحَسَنٍ حَدَثٌ وَ حُسَيْنٌ حَيٌّ قَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ وَ أَصْدَرَهُ مَصْدَرَهُ وَ إِنَّ لاِبْنَيْ فَاطِمَةَ مِنْ صَدَقَةِ عَلِيٍّ مِثْلَ اَلَّذِي لِبَنِي عَلِيٍّ وَ إِنِّي إِنَّمَا جَعَلْتُ اَلْقِيَامَ بِذَلِكَ إِلَى اِبْنَيْ فَاطِمَةَ اِبْتِغَاءَ وَجْهِ اَللَّهِ وَ قُرْبَةً إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ ص وَ تَكْرِيماً لِحُرْمَتِهِ وَ تَشْرِيفاً لِوُصْلَتِهِ وَ يَشْتَرِطُ عَلَى اَلَّذِي يَجْعَلُهُ إِلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَ اَلْمَالَ عَلَى أُصُولِهِ وَ يُنْفِقَ مِنْ ثَمَرِهِ حَيْثُ أُمِرَ بِهِ وَ هُدِيَ لَهُ وَ أَلاَّ يَبِيعَ مِنْ أَوْلاَدِ نَخِيلِ هَذِهِ اَلْقُرَى وَدِيَّةً حَتَّى تُشْكِلَ أَرْضُهَا غِرَاساً
[ 148 ](1/4274)
وَ مَنْ كَانَ مِنْ إِمَائِي اَللاَّتِي أَطُوفُ عَلَيْهِنَّ لَهَا وَلَدٌ أَوْ هِيَ حَامِلٌ فَتُمْسَكُ عَلَى وَلَدِهَا وَ هِيَ مِنْ حَظِّهِ فَإِنْ مَاتَ وَلَدُهَا وَ هِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ عَتِيقَةٌ قَدْ أَفْرَجَ عَنْهَا اَلرِّقُّ وَ حَرَّرَهَا اَلْعِتْقُ قال السيد الرضي رحمه الله تعالى قوله ع في هذه الوصية وألا يبيع من نخلها ودية الودية الفسيلة وجمعها ودي . قوله ع حتى تشكل أرضها غراسا هو من أفصح الكلام والمراد به أن الأرض يكثر فيها غراس النخل حتى يراها الناظر على غير تلك الصفة التي عرفها بها فيشكل عليه أمرها ويحسبها غيرها جعل للحسن ابنه ع ولاية صدقات أمواله وأذن له أن يأكل منه بالمعروف أي لا يسرف وإنما يتناول منه مقدار الحاجة وما جرت بمثله عادة من يتولى الصدقات كما قال الله تعالى وَ اَلْعامِلِينَ عَلَيْها . ثم قال فإن مات الحسن والحسين بعده حي فالولاية للحسين والهاء في مصدره ترجع إلى الأمر أي يصرفه في مصارفه التي كان الحسن يصرفه فيها ثم ذكر أن لهذين الولدين حصة من صدقاته أسوة بسائر البنين وإنما قال ذلك لأنه قد يتوهم متوهم
[ 149 ](1/4275)
أنهما لكونهما قد فوض إليهما النظر في هذه الصدقات قد منعا أن يسهما فيها بشي ء وإن الصدقات إنما يتناولها غيرهما من بني علي ع ممن لا ولاية له مع وجودهما ثم بين لما ذا خصهما بالولاية فقال إنما فعلت ذلك لشرفهما برسول الله ص فتقربت إلى رسول الله ص بأن جعلت لسبطيه هذه الرئاسة وفي هذا رمز وإزراء بمن صرف الأمر عن أهل بيت رسول الله ص مع وجود من يصلح للأمر أي كان الأليق بالمسلمين والأولى أن يجعلوا الرئاسة بعده لأهله قربة إلى رسول الله ص وتكريما لحرمته وطاعة له وأنفة لقدره ص أن تكون ورثته سوقة يليهم الأجانب ومن ليس من شجرته وأصله أ لا ترى أن هيبة الرسالة والنبوة في صدور الناس أعظم إذا كان السلطان والحاكم في الخلق من بيت النبوة وليس يوجد مثل هذه الهيبة والجلال في نفوس الناس للنبوة إذا كان السلطان الأعظم بعيد النسب من صاحب الدعوة ع . ثم اشترط على من يلي هذه الأموال أن يتركها على أصولها وينفق من ثمرتها أي لا يقطع النخل والثمر ويبيعه خشبا وعيدانا فيفضي الأمر إلى خراب الضياع وعطلة العقار . قوله وألا يبيع من أولاد نخيل هذه القرى أي من الفسلان الصغار سماها أولادا وفي بعض النسخ ليست أولاد مذكورة والودية الفسيلة . تشكل أرضها تمتلي بالغراس حتى لا يبقى فيه طريقة واضحة . قوله أطوف عليهن كناية لطيفة عن غشيان النساء أي من السراري وكان ع يذهب إلى حل بيع أمهات الأولاد فقال من كان من إمائي لها ولد مني أو هي حامل مني وقسمتم تركتي فلتكن أم ذلك الولد مبيعة على ذلك الولد ويحاسب بالثمن من حصته من التركة فإذا بيعت عليه عتقت عليه لأن الولد إذا اشترى الوالد عتق الوالد
[ 150 ](1/4276)
عنه وهذا معنى قوله فتمسك على ولدها أي تقوم عليه بقيمة الوقت الحاضر وهي من حظه أي من نصيبه وقسطه من التركة . قال فإن مات ولدها وهي حية بعد أن تقوم عليه فلا يجوز بيعها لأنها خرجت عن الرق بانتقالها إلى ولدها فلا يجوز بيعها . فإن قلت فلما ذا قال فإن مات ولدها وهي حية وهلا قال فإذا قومت عليه عتقت . قلت لأن موضع الاشتباه هو موت الولد وهي حية لأنه قد يظن ظان أنه إنما حرم بيعها لمكان وجود ولدها فأراد ع أن يبين أنها قد صارت حرة مطلقا سواء كان ولدها حيا أو ميتا
[ 151 ](1/4277)
25 ومن وصية له ع كان يكتبها لمن يستعمله على الصدقات
و إنما ذكرنا هنا جملا منها ليعلم بها أنه ع كان يقيم عماد الحق ويشرع أمثلة العدل في صغير الأمور وكبيرها ودقيقها وجليلها : اِنْطَلِقْ عَلَى تَقْوَى اَللَّهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَ لاَ تُرَوِّعَنَّ مُسْلِماً وَ لاَ تَجْتَازَنَّ عَلَيْهِ كَارِهاً وَ لاَ تَأْخُذَنَّ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّ اَللَّهِ فِي مَالِهِ فَإِذَا قَدِمْتَ عَلَى اَلْحَيِّ فَانْزِلْ بِمَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخَالِطَ أَبْيَاتَهُمْ ثُمَّ اِمْضِ إِلَيْهِمْ بِالسَّكِينَةِ وَ اَلْوَقَارِ حَتَّى تَقُومَ بَيْنَهُمْ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ وَ لاَ تُخْدِجْ بِالتَّحِيَّةِ لَهُمْ ثُمَّ تَقُولَ عِبَادَ اَللَّهِ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ وَلِيُّ اَللَّهِ وَ خَلِيفَتُهُ لآِخُذَ مِنْكُمْ حَقَّ اَللَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ فَهَلْ لِلَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ مِنْ حَقٍّ فَتُؤَدُّوهُ إِلَى وَلِيِّهِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ لاَ فَلاَ تُرَاجِعْهُ وَ إِنْ أَنْعَمَ لَكَ مُنْعِمٌ فَانْطَلِقْ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخِيفَهُ أَوْ تُوعِدَهُ أَوْ تَعْسِفَهُ أَوْ تُرْهِقَهُ فَخُذْ مَا أَعْطَاكَ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَاشِيَةٌ أَوْ إِبِلٌ فَلاَ تَدْخُلْهَا إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَإِنَّ أَكْثَرَهَا لَهُ فَإِذَا أَتَيْتَهَا فَلاَ تَدْخُلْ عَلَيْهَا دُخُولَ مُتَسَلِّطٍ عَلَيْهِ وَ لاَ عَنِيفٍ بِهِ وَ لاَ تُنَفِّرَنَّ بَهِيمَةً وَ لاَ تُفْزِعَنَّهَا وَ لاَ تَسُوءَنَّ صَاحِبَهَا فِيهَا وَ اِصْدَعِ اَلْمَالَ صَدْعَيْنِ ثُمَّ خَيِّرْهُ فَإِذَا اِخْتَارَ فَلاَ تَعْرِضَنَّ لِمَا اِخْتَارَهُ ثُمَّ اِصْدَعِ اَلْبَاقِيَ صَدْعَيْنِ ثُمَّ خَيِّرْهُ فَإِذَا اِخْتَارَ فَلاَ تَعْرِضَنَّ لِمَا اِخْتَارَهُ فَلاَ تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَبْقَى مَا فِيهِ وَفَاءٌ لِحَقِّ(1/4278)
اَللَّهِ فِي مَالِهِ فَاقْبِضْ حَقَّ اَللَّهِ مِنْهُ
[ 152 ]
فَإِنِ اِسْتَقَالَكَ فَأَقِلْهُ ثُمَّ اِصْنَعْ مِثْلَ اَلَّذِي صَنَعْتَ أَوَّلاً حَتَّى تَأْخُذَ حَقَّ اَللَّهِ فِي مَالِهِ وَ لاَ تَأْخُذَنَّ عَوْداً وَ لاَ هَرِمَةً وَ لاَ مَكْسُورَةً وَ لاَ مَهْلُوسَةً وَ لاَ ذَاتَ عَوَارٍ وَ لاَ تَأْمَنَنَّ عَلَيْهَا إِلاَّ مَنْ تَثِقُ بِدِينِهِ رَافِقاً بِمَالِ اَلْمُسْلِمِينَ حَتَّى يُوَصِّلَهُ إِلَى وَلِيِّهِمْ فَيَقْسِمَهُ بَيْنَهُمْ وَ لاَ تُوَكِّلْ بِهَا إِلاَّ نَاصِحاً شَفِيقاً وَ أَمِيناً حَفِيظاً غَيْرَ مُعْنِفٍ وَ لاَ مُجْحِفٍ وَ لاَ مُلْغِبٍ وَ لاَ مُتْعِبٍ ثُمَّ اُحْدُرْ إِلَيْنَا مَا اِجْتَمَعَ عِنْدَكَ نُصَيِّرْهُ حَيْثُ أَمَرَ اَللَّهُ بِهِ فَإِذَا أَخَذَهَا أَمِينُكَ فَأَوْعِزْ إِلَيْهِ أَلاَّ يَحُولَ بَيْنَ نَاقَةٍ وَ بَيْنَ فَصِيلِهَا وَ لاَ يَمْصُرَ لَبَنَهَا فَيَضُرَّ [ فَيُضِرَّ ] ذَلِكَ بِوَلَدِهَا وَ لاَ يَجْهَدَنَّهَا رُكُوباً وَ لْيَعْدِلْ بَيْنَ صَوَاحِبَاتِهَا فِي ذَلِكَ وَ بَيْنَهَا وَ لْيُرَفِّهْ عَلَى اَللاَّغِبِ وَ لْيَسْتَأْنِ بِالنَّقِبِ وَ اَلظَّالِعِ وَ لْيُورِدْهَا مَا تَمُرُّ بِهِ مِنَ اَلْغُدُرِ وَ لاَ يَعْدِلْ بِهَا عَنْ نَبْتِ اَلْأَرْضِ إِلَى جَوَادِّ اَلطُّرُقِ وَ لْيُرَوِّحْهَا فِي اَلسَّاعَاتِ وَ لْيُمْهِلْهَا عِنْدَ اَلنِّطَافِ وَ اَلْأَعْشَابِ حَتَّى تَأْتِيَنَا بِإِذْنِ اَللَّهِ بُدَّناً مُنْقِيَاتٍ غَيْرَ مُتْعَبَاتٍ وَ لاَ مَجْهُودَاتٍ لِنَقْسِمَهَا عَلَى كِتَابِ اَللَّهِ وَ سُنَّةِ نَبِيِّهِ ص فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ لِأَجْرِكَ وَ أَقْرَبُ لِرُشْدِكَ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ وقد كرر ع قوله لنقسمها على كتاب الله وسنة نبيه ص في ثلاثة مواضع من هذا الفصل الأول قوله حتى يوصله إلى وليهم ليقسمه بينهم . الثاني قوله ع نصيره حيث أمر(1/4279)
الله به .
[ 153 ]
الثالث قوله لنقسمها على كتاب الله والبلاغة لا تقتضي ذلك ولكني أظنه أحب أن يحتاط وأن يدفع الظنة عن نفسه فإن الزمان كان في عهده قد فسد وساءت ظنون الناس لا سيما مع ما رآه من عثمان واستئثاره بمال الفي ء . ونعود إلى الشرح قوله ع على تقوى الله على ليست متعلقة بانطلق بل بمحذوف تقديره مواظبا . قوله ولا تروعن أي لا تفزعن والروع الفزع رعته أروعه ولا تروعن بتشديد الواو وضم حرف المضارعة من روعت للتكثير . قوله ع ولا تجتازن عليه كارها أي لا تمرن ببيوت أحد من المسلمين يكره مرورك وروي ولا تختارن عليه أي لا تقسم ماله وتختر أحد القسمين والهاء في عليه ترجع إلى مسلما وتفسير هذا سيأتي في وصيته له أن يصدع المال ثم يصدعه فهذا هو النهي عن أن يختار على المسلم والرواية الأولى هي المشهورة . قوله ع فانزل بمائهم وذلك لأن الغريب يحمد منه الانقباض ويستهجن في القادم أن يخالط بيوت الحي الذي قدم عليه فقد يكون من النساء من لا تليق رؤيته ولا يحسن سماع صوته ومن الأطفال من يستهجن أن يرى الغريب انبساطه على أبويه وأهله وقد يكره القوم أن يطلع الغريب على مأكلهم ومشربهم وملبسهم وبواطن أحوالهم وقد يكونون فقراء فيكرهون أن يعرف فقرهم فيحتقرهم أو أغنياء أرباب ثروة كثيرة فيكرهون أن يعلم الغريب ثروتهم فيحسدهم ثم أمره أن يمضي إليهم غير متسرع ولا عجل ولا طائش نزق حتى يقوم بينهم فيسلم عليهم
[ 154 ](1/4280)
و يحييهم تحية كاملة غير مخدجة أي غير ناقصة أخدجت الناقة إذا جاءت بولدها ناقص الخلق وإن كانت أيامه تامة وخدجت ألقت الولد قبل تمام أيامه وروي ولا تحدج بالتحية والباء زائدة . ثم أمره أن يسألهم هل في أموالهم حق لله تعالى يعني الزكاة فإن قالوا لا فلينصرف عنهم لأن القول قول رب المال فلعله قد أخرج الزكاة قبل وصول المصدق إليه . قوله وأنعم لك أي قال نعم . ولا تعسفه أي لا تطلب منه الصدقة عسفا وأصله الأخذ على غير الطريق . ولا ترهقه لا تكلفه العسر والمشقة . ثم أمره أن يقبض ما يدفع إليه من الذهب والفضة وهذا يدل على أن المصدق كان يأخذ العين والورق كما يأخذ الماشية وأن النصاب في العين والورق تدفع زكاته إلى الإمام ونوابه وفي هذه المسألة اختلاف بين الفقهاء . قوله فإن أكثرها له كلام لا مزيد عليه في الفصاحة والرئاسة والدين وذلك لأن الصدقة المستحقة جزء يسير من النصاب والشريك إذا كان له الأكثر حرم عليه أن يدخل ويتصرف إلا بإذن شريكه فكيف إذا كان له الأقل . قوله فلا تدخلها دخول متسلط عليه قد علم ع أن الظلم من طبع الولاة وخصوصا من يتولى قبض الماشية من أربابها على وجه الصدقة فإنهم يدخلونها دخول متسلط حاكم قاهر ولا يبقى لرب المال فيها تصرف فنهى ع عن مثل ذلك .
[ 155 ](1/4281)
قوله ولا تنفرن بهيمة ولا تفزعنها وذلك أنهم على عادة السوء يهجهجون بالقطيع حتى تنفر الإبل وكذلك بالشاء إظهارا للقوة والقهر وليتمكن أعوانهم من اختيار الجيد ورفض الردي ء . قوله ولا تسوءن صاحبها فيها أي لا تغموه ولا تحزنوه يقال سؤته في كذا سوائية ومسائية . قوله واصدع المال صدعين وخيره أي شقه نصفين ثم خيره فإذا اختار أحد النصفين فلا تعرضن لما اختار ثم اصدع النصف الذي ما ارتضاه لنفسه صدعين وخيره ثم لا تزال تفعل هكذا حتى تبقي من المال بمقدار الحق الذي عليه فأقبضه منه فإن استقالك فأقله ثم اخلط المال ثم عد لمثل ما صنعت حتى يرضى وينبغي أن يكون المعيبات الخمس وهي المهلوسة والمكسورة وأخواتهما يخرجها المصدق من أصل المال قبل قسمته ثم يقسم وإلا فربما وقعت في سهم المصدق إذا كان يعتمد ما أمره به من صدع المال مرة بعد مرة . والعود المسن من الإبل والهرمة المسنة أيضا والمكسورة التي أحد قوائمها مكسورة العظم أو ظهرها مكسور والمهلوسة المريضة قد هلسها المرض وأفنى لحمها والهلاس السل والعوار بفتح العين العيب وقد جاء بالضم . والمعنف ذو العنف بالضم وهو ضد الرفق والمجحف الذي يسوق المال سوقا عنيفا فيجحف به أي يهلكه أو يذهب كثيرا من لحمه ونقية . والملغب المتعب واللغوب الإعياء . وحدرت السفينة وغيرها بغير ألف أحدرها بالضم .
[ 156 ]
قوله بين ناقة وبين فصيلها الأفصح حذف بين الثانية لأن الاسمين ظاهران وإنما تكرر إذا جاءت بعد المضمر كقولك المال بيني وبين زيد وبين عمرو وذلك لأن المجرور لا يعطف عليه إلا بإعادة حرف الجر والاسم المضاف وقد جاء المال بين زيد وعمرو وأنشدوا
بين السحاب وبين الريح ملحمة
قعاقع وظبي في الجو تخترط
و أيضا
بين الندي وبين برقة ضاحك
غيث الضريك وفارس مقدام
و من شعر الحماسة
و إن الذي بيني وبين بني أبي(1/4282)
و بين بني عمي لمختلف جدا
و ليس قول من يقول إنه عطف بين الثالثة على الضمير المجرور بأولى من قول من يقول بل عطف بين الثالثة على بين الثانية لأن المعنى يتم بكل واحد منها . قوله ع ولا تمصر لبنها المصر حلب ما في الضرع جميعه نهاه من أن يحلب اللبن كله فيبقى الفصيل جائعا ثم نهاه أن يجهدها ركوبا أي يتعبها ويحملها مشقة ثم أمره أن يعدل بين الركاب في ذلك لا يخص بالركوب واحدة بعينها ليكون ذلك أروح لهن ليرفه على اللاغب أي ليتركه وليعفه عن الركوب ليستريح والرفاهية الدعة والراحة . والنقب ذو النقب وهو رقة خف البعير حتى تكاد الأرض تجرحه أمره أن يستأني بالبعير ذي النقب من الأناة وهي المهلة .
[ 157 ]
و الظالع الذي ظلع أي غمز في مشيه . والغدر جمع غدير الماء وجواد الطريق حيث لا ينبت المرعى . والنطاف جمع نطفة وهي الماء الصافي القليل . والبدن بالتشديد السمان واحدها بادن . ومنقيات ذوات نقي وهو المخ في العظم والشحم في العين من السمن وأنقت الإبل وغيرها سمنت وصار فيها نقي وناقة منقية وهذه الناقة لا تنقي
[ 158 ](1/4283)
26 ومن عهد له ع إلى بعض عماله وقد بعثه على الصدقة
آمُرُهُ أَمَرَهُ بِتَقْوَى اَللَّهِ فِي سَرَائِرِ أَمْرِهِ وَ خَفِيَّاتِ عَمَلِهِ حَيْثُ لاَ شَاهِدَ شَهِيدَ غَيْرُهُ وَ لاَ وَكِيلَ دُونَهُ وَ آمُرُهُ أَمَرَهُ أَلاَّ يَعْمَلَ بِشَيْ ءٍ مِنْ طَاعَةِ اَللَّهِ فِيمَا ظَهَرَ فَيُخَالِفَ إِلَى غَيْرِهِ فِيمَا أَسَرَّ وَ مَنْ لَمْ يَخْتَلِفْ سِرُّهُ وَ عَلاَنِيَتُهُ وَ فِعْلُهُ وَ مَقَالَتُهُ فَقَدْ أَدَّى اَلْأَمَانَةَ وَ أَخْلَصَ اَلْعِبَادَةَ وَ آمُرُهُ أَمَرَهُ أَلاَّ يَجْبَهَهُمْ وَ لاَ يَعْضَهَهُمْ وَ لاَ يَرْغَبَ عَنْهُمْ تَفَضُّلاً بِالْإِمَارَةِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُمُ اَلْإِخْوَانُ فِي اَلدِّينِ وَ اَلْأَعْوَانُ عَلَى اِسْتِخْرَاجِ اَلْحُقُوقِ وَ إِنَّ لَكَ فِي هَذِهِ اَلصَّدَقَةِ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَ حَقّاً مَعْلُوماً وَ شُرَكَاءَ أَهْلَ مَسْكَنَةٍ وَ ضُعَفَاءَ ذَوِي فَاقَةٍ وَ إِنَّا مُوَفُّوكَ حَقَّكَ فَوَفِّهِمْ حُقُوقَهُمْ وَ إِلاَّ تَفْعَلْ فَإِنَّكَ مِنْ أَكْثَرِ اَلنَّاسِ خُصُوماً يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَ بُؤْسَى لِمَنْ خَصْمُهُ عِنْدَ اَللَّهِ اَلْفُقَرَاءُ وَ اَلْمَسَاكِينُ وَ اَلسَّائِلُونَ وَ اَلْمَدْفُوعُونَ وَ اَلْغَارِمُونَ وَ اِبْنُ اَلسَّبِيلِ وَ مَنِ اِسْتَهَانَ بِالْأَمَانَةِ وَ رَتَعَ فِي اَلْخِيَانَةِ وَ لَمْ يُنَزِّهْ نَفْسَهُ وَ دِينَهُ عَنْهَا فَقَدْ أَحَلَّ بِنَفْسِهِ اَلذُّلَّ وَ اَلْخِزْيَ فِي اَلدُّنْيَا وَ هُوَ فِي اَلآْخِرَةِ أَذَلُّ وَ أَخْزَى وَ إِنَّ أَعْظَمَ اَلْخِيَانَةِ خِيَانَةُ اَلْأُمَّةِ وَ أَفْظَعَ اَلْغِشِّ غِشُّ اَلْأَئِمَّةِ وَ اَلسَّلاَمُ
[ 159 ](1/4284)
حيث لا شهيد ولا وكيل دونه يعني يوم القيامة . قوله ألا يعمل بشي ء من طاعة الله فيما ظهر أي لا ينافق فيعمل الطاعة في الظاهر والمعصية في الباطن . ثم ذكر أن الذين يتجنبون النفاق والرياء هم المخلصون . وألا يجبههم لا يواجههم بما يكرهونه وأصل الجبه لقاء الجبهة أو ضربها فلما كان المواجه غيره بالكلام القبيح كالضارب جبهته به سمي بذلك جبها . قوله ولا يعضههم أي لا يرميهم بالبهتان والكذب وهي العضيهة وعضهت فلانا عضها وقد عضهت يا فلان أي جئت بالبهتان قوله ولا يرغب عنهم تفضلا يقول لا يحقرهم ادعاء لفضله عليهم وتمييزه عنهم بالولاية والإمرة يقال فلان يرغب عن القوم أي يأنف من الانتماء إليهم أو من المخالطة لهم . وكان عمر بن عبد العزيز يدخل إليه سالم مولى بني مخزوم وعمر في صدر بيته فيتنحى عن الصدر وكان سالم رجلا صالحا وكان عمر أراد شراءه وعتقه فأعتقه مواليه فكان يسميه أخي في الله فقيل له أ تتنحى لسالم فقال إذا دخل عليك من لا ترى لك عليه فضلا فلا تأخذ عليه شرف المجلس وهم السراج ليلة بأن يخمد فوثب إليه رجاء بن حيوة ليصلحه فأقسم عليه عمر بن عبد العزيز فجلس ثم قام عمر فأصلحه فقال له رجاء أ تقوم أنت يا أمير المؤمنين قال نعم قمت وأنا عمر بن عبد العزيز ورجعت وأنا عمر بن عبد العزيز
[ 160 ](1/4285)
قال رسول الله ص لا ترفعوني فوق قدري فتقولوا في ما قالت النصارى في ابن مريم فإن الله عز وجل اتخذني عبدا قبل أن يتخذني رسولا . ثم قال إن أرباب الأموال الذين تجب الصدقة عليهم في أموالهم إخوانك في الدين وأعوانك على استخراج الحقوق لأن الحق إنما يمكن العامل استيفاؤه بمعاونة رب المال واعترافه به ودفعه إليه فإذا كانوا بهذه الصفة لم يجز لك عضههم وجبههم وادعاء الفضل عليهم . ثم ذكر أن لهذا العامل نصيبا مفروضا من الصدقة وذلك بنص الكتاب العزيز فكما نوفيك نحن حقك يجب عليك أن توفي شركاءك حقوقهم وهم الفقراء والمساكين والغارمون وسائر الأصناف المذكورة في القرآن وهذا يدل على أنه ع قد فوضه في صرف الصدقات إلى الأصناف المعلومة ولم يأمره بأن يحمل ما اجتمع إليه ليوزعه هو ع على مستحقيه كما في الوصية الأولى ويجوز للإمام أن يتولى ذلك بنفسه وأن يكله إلى من يثق به من عماله . وانتصب أهل مسكنة لأنه صفة شركاء وفي التحقيق أن شركاء صفة أيضا موصوفها محذوف فيكون صفة بعد صفة . وقال الراوندي انتصب أهل مسكنه لأنه بدل من شركاء وهذا غلط لأنه لا يعطي معناه ليكون بدلا منه . وقال أيضا بؤسى أي عذابا وشدة فظنه منونا وليس كذلك بل هو بؤسى على وزن فعلى كفضلى ونعمى وهي لفظة مؤنثة يقال بؤسى لفلان قال الشاعر
أرى الحلم بؤسى للفتى في حياته
و لا عيش إلا ما حباك به الجهل
[ 161 ](1/4286)
و السائلون هاهنا هم الرقاب المذكورون في الآية وهم المكاتبون يتعذر عليهم أداء مال الكتابة فيسألون الناس ليتخلصوا من ربقة الرق وقيل هم الأسارى يطلبون فكاك أنفسهم وقيل بل المراد بالرقاب في الآية الرقيق يسأل أن يبتاعه الأغنياء فيعتقوه والمدفوعون هاهنا هم الذين عناهم الله تعالى في الآية بقوله وَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وهم فقراء الغزاة سماهم مدفوعين لفقرهم والمدفوع والمدفع الفقير لأن كل أحد يكرهه ويدفعه عن نفسه وقيل هم الحجيج المنقطع بهم سماهم مدفوعين لأنهم دفعوا عن إتمام حجهم أو دفعوا عن العود إلى أهلهم . فإن قلت لم حملت كلام أمير المؤمنين ع على ما فسرته به قلت لأنه ع إنما أراد أن يذكر الأصناف المذكورة في الآية فترك ذكر المؤلفة قلوبهم لأن سهمهم سقط بعد موت رسول الله ص فقد كان يدفع إليهم حين الإسلام ضعيف وقد أعزه الله سبحانه فاستغنى عن تأليف قلوب المشركين وبقيت سبعة أصناف وهم الفقراء والمساكين والعاملون عليها والرقاب والغارمون وفي سبيل الله وابن السبيل . فأما العاملون عليها فقد ذكرهم ع في قوله وإن لك في هذه الصدقة نصيبا مفروضا فبقيت ستة أصناف أتى ع بألفاظ القرآن في أربعة أصناف منها وهي الفقراء والمساكين والغارم وابن السبيل وأبدل لفظتين وهما الرقاب وفي سبيل الله بلفظتين وهما السائلون والمدفوعون . فإن قلت ما يقوله الفقهاء في الصدقات هل تصرف إلى الأصناف كلها أم يجوز صرفها إلى واحد منها .
[ 162 ](1/4287)
قلت أما أبو حنيفة فإنه يقول الآية قصر لجنس الصدقات على الأصناف المعدودة فهي مختصة بها لا تتجاوزها إلى غيرها كأنه تعالى قال إنما هي لهم لا لغيرهم كقولك إنما الخلافة لقريش فيجوز أن تصرف الصدقة إلى الأصناف كلها ويجوز أن تصرف إلى بعضها وهو مذهب ابن عباس وحذيفة وجماعة من الصحابة والتابعين وأما الشافعي فلا يرى صرفها إلا إلى الأصناف المعدودة كلها وبه قال الزهري وعكرمة . فإن قلت فمن الغارم وابن السبيل . قلت الغارمون الذين ركبتهم الديون ولا يملكون بعدها ما يبلغ النصاب وقيل هم الذين يحملون الحمالات فدينوا فيها وغرموا وابن السبيل المسافر المنقطع عن ماله فهو وإن كان غنيا حيث ماله موجود فقير حيث هو بعيد . وقد سبق تفسير الفقير والمسكين فيما تقدم . قوله فقد أحل بنفسه الذل والخزي أي جعل نفسه محلا لهما ويروى فقد أخل بنفسه بالخاء المعجمة ولم يذكر الذل والخزي أي جعل نفسه مخلا ومعناه جعل نفسه فقيرا يقال خل الرجل إذا افتقر وأخل به غيره وبغيره أي جعل غيره فقيرا وروي أحل بنفسه بالحاء المهملة ولم يذكر الذل والخزي ومعنى أحل بنفسه أباح دمه والرواية الأولى أصح لأنه قال بعدها وهو في الآخرة أذل وأخزى . وخيانة الأمة مصدر مضاف إلى المفعول به لأن الساعي إذا خان فقد خان الأمة كلها وكذلك غش الأئمة مصدر مضاف إلى المفعول أيضا لأن الساعي إذا غش في الصدقة فقد غش الإمام
[ 163 ](1/4288)
27 ومن عهد له ع إلى محمد بن أبي بكر رضي الله عنه حين قلده مصر
فَاخْفِضْ لَهُمْ جَنَاحَكَ وَ أَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ وَ اُبْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ وَ آسِ بَيْنَهُمْ فِي اَللَّحْظَةِ وَ اَلنَّظْرَةِ حَتَّى لاَ يَطْمَعَ اَلْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ لَهُمْ وَ لاَ يَيْأَسَ اَلضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى يُسَائِلُكُمْ مَعْشَرَ عِبَادِهِ عَنِ اَلصَّغِيرَةِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ وَ اَلْكَبِيرَةِ وَ اَلظَّاهِرَةِ وَ اَلْمَسْتُورَةِ فَإِنْ يُعَذِّبْ فَأَنْتُمْ أَظْلَمُ وَ إِنْ يَعْفُ فَهُوَ أَكْرَمُ وَ اِعْلَمُوا عِبَادَ اَللَّهِ أَنَّ اَلْمُتَّقِينَ ذَهَبُوا بِعَاجِلِ اَلدُّنْيَا وَ آجِلِ اَلآْخِرَةِ فَشَارَكُوا أَهْلَ اَلدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ وَ لَمْ يُشَارِكْهُمْ أَهْلُ اَلدُّنْيَا فِي آخِرَتِهِمْ سَكَنُوا اَلدُّنْيَا بِأَفْضَلِ مَا سُكِنَتْ وَ أَكَلُوهَا بِأَفْضَلِ مَا أُكِلَتْ فَحَظُوا مِنَ اَلدُّنْيَا بِمَا حَظِيَ بِهِ اَلْمُتْرَفُونَ وَ أَخَذُوا مِنْهَا مَا أَخَذَهُ اَلْجَبَابِرَةُ اَلْمُتَكَبِّرُونَ ثُمَّ اِنْقَلَبُوا عَنْهَا بِالزَّادِ اَلْمُبَلِّغِ وَ اَلْمَتْجَرِ اَلرَّابِحِ أَصَابُوا لَذَّةَ زُهْدِ اَلدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ وَ تَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ جِيرَانُ اَللَّهِ غَداً فِي آخِرَتِهِمْ لاَ تُرَدُّ لَهُمْ دَعْوَةٌ وَ لاَ يَنْقُفُ يَنْقُصُ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ لَذَّةٍ فَاحْذَرُوا عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمَوْتَ وَ قُرْبَهُ وَ أَعِدُّوا لَهُ عُدَّتَهُ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِأَمْرٍ عَظِيمٍ وَ خَطْبٍ جَلِيلٍ بِخَيْرٍ لاَ يَكُونُ مَعَهُ شَرٌّ أَبَداً أَوْ شَرٍّ لاَ يَكُونُ مَعَهُ خَيْرٌ أَبَداً فَمَنْ أَقْرَبُ إِلَى اَلْجَنَّةِ مِنْ عَامِلِهَا وَ مَنْ أَقْرَبُ إِلَى اَلنَّارِ مِنْ عَامِلِهَا وَ أَنْتُمْ طُرَدَاءُ اَلْمَوْتِ إِنْ أَقَمْتُمْ لَهُ(1/4289)
أَخَذَكُمْ وَ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنْهُ أَدْرَكَكُمْ وَ هُوَ أَلْزَمُ لَكُمْ مِنْ ظِلِّكُمْ اَلْمَوْتُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيكُمْ وَ اَلدُّنْيَا تُطْوَى مِنْ خَلْفِكُمْ
[ 164 ]
فَاحْذَرُوا نَاراً قَعْرُهَا بَعِيدٌ وَ حَرُّهَا شَدِيدٌ وَ عَذَابُهَا جَدِيدٌ دَارٌ لَيْسَ فِيهَا رَحْمَةٌ وَ لاَ تَسْمَعُ فِيهَا دَعْوَةٌ وَ لاَ تُفَرَّجُ فِيهَا كُرْبَةٌ وَ إِنِ اِسْتَطَعْتُمْ أَنْ يَشْتَدَّ خَوْفُكُمْ مِنَ اَللَّهِ وَ أَنْ يَحْسُنَ ظَنُّكُمْ بِهِ فَاجْمَعُوا بَيْنَهُمَا فَإِنَّ اَلْعَبْدَ إِنَّمَا يَكُونُ حُسْنُ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ عَلَى قَدْرِ خَوْفِهِ مِنْ رَبِّهِ وَ إِنَّ أَحْسَنَ اَلنَّاسِ ظَنّاً بِاللَّهِ أَشَدُّهُمْ خَوْفاً لِلَّهِ وَ اِعْلَمْ يَا مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنِّي قَدْ وَلَّيْتُكَ أَعْظَمَ أَجْنَادِي فِي نَفْسِي أَهْلَ مِصْرَ فَأَنْتَ مَحْقُوقٌ أَنْ تُخَالِفَ عَلَى نَفْسِكَ وَ أَنْ تُنَافِحَ عَنْ دِينِكَ وَ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَكَ إِلاَّ سَاعَةٌ مِنَ اَلدَّهْرِ وَ لاَ تُسْخِطِ اَللَّهَ بِرِضَا أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ فَإِنَّ فِي اَللَّهِ خَلَفاً مِنْ غَيْرِهِ وَ لَيْسَ مِنَ اَللَّهِ خَلَفٌ فِي غَيْرِهِ صَلِّ اَلصَّلاَةَ لِوَقْتِهَا اَلْمُؤَقَّتِ لَهَا وَ لاَ تُعَجِّلْ وَقْتَهَا لِفَرَاغٍ وَ لاَ تُؤَخِّرْهَا عَنْ وَقْتِهَا لاِشْتِغَالٍ وَ اِعْلَمْ أَنَّ كُلَّ شَيْ ءٍ مِنْ عَمَلِكَ تَبَعٌ لِصَلاَتِكَ آس بينهم اجعلهم أسوة لا تفضل بعضهم على بعض في اللحظة والنظرة ونبه بذلك على وجوب أن يجعلهم أسوة في جميع ما عدا ذلك من العطاء والإنعام والتقريب كقوله تعالى فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ . قوله حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم الضمير في لهم راجع إلى الرعية لا إلى العظماء وقد كان سبق ذكرهم في أول الخطبة أي إذا سلكت هذا المسلك لم يطمع العظماء في أن تحيف على الرعية و(1/4290)
تظلمهم وتدفع أموالهم إليهم فإن ولاة الجور
[ 165 ]
هكذا يفعلون يأخذون مال هذا فيعطونه هذا ويجوز أن يرجع الضمير إلى العظماء أي حتى لا يطمع العظماء في جورك في القسم الذي إنما تفعله لهم ولأجلهم فإن ولاة الجور يطمع العظماء فيهم أن يحيفوا في القسمة في الفي ء ويخالفوا ما حده الله تعالى فيها حفظا لقلوبهم واستمالة لهم وهذا التفسير أليق بالخطابة لأن الضمير في عليهم في الفقرة الثالثة عائد إلى الضعفاء فيجب أن يكون الضمير في لهم في الفقرة الثانية عائدا إلى العظماء . قوله فإن يعذب فأنتم أظلم أفعل هاهنا بمعنى الصفة لا بمعنى التفضيل وإنما يراد فأنتم الظالمون كقوله تعالى وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وكقولهم الله أكبر . ثم ذكر حال الزهاد فقال أخذوا من الدنيا بنصيب قوي وجعلت لهم الآخرة ويروى أن الفضيل بن عياض كان هو ورفيق له في بعض الصحاري فأكلا كسرة يابسة واغترفا بأيديهما ماء من بعض الغدران وقام الفضيل فحط رجليه في الماء فوجد برده فالتذ به وبالحال التي هو فيها فقال لرفيقه لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من العيش واللذة لحسدونا . وروي والمتجر المربح فالرابح فاعل من ربح ربحا يقال بيع رابح أي يربح فيه والمربح اسم فاعل قد عدي ماضيه بالهمزة كقولك قام وأقمته . قوله جيران الله غدا في آخرتهم ظاهر اللفظ غير مراد لأن البارئ تعالى ليس في مكان وجهة ليكونوا جيرانه ولكن لما كان الجار يكرم جاره سماهم جيران الله لإكرامه إياهم وأيضا فإن الجنة إذا كانت في السماء والعرش هو السماء العليا كان في الكلام محذوف مقدر أي جيران عرش الله غدا .
[ 166 ](1/4291)
قوله فإنه يأتي بأمر عظيم وخطب جليل بخير لا يكون معه شر أبدا وشر لا يكون معه خير أبدا نص صريح في مذهب أصحابنا في الوعيد وأن من دخل النار من جميع المكلفين فليس بخارج لأنه لو خرج منها لكان الموت قد جاءه بشر معه خير وقد نفى نفيا عاما أن يكون مع الشر المعقب للموت خير البتة . قوله من عاملها أي من العامل لها . قوله طرداء الموت جمع طريد أي يطردكم عن أوطانكم ويخرجكم منها لا بد من ذلك إن أقمتم أخذكم وإن هربتم أدرككم . وقال الراوندي طرداء هاهنا جمع طريدة وهي ما طردت من الصيد أو الوسيقة وليس بصحيح لأن فعيلة بالتأنيث لا تجمع على فعلاء وقال النحويون إن قوله تعالى وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ اَلْأَرْضِ جاء على خليف لا على خليفة وأنشدوا لأوس بن حجر بيتا استعملها جميعا فيه وهو
إن من القوم موجودا خليفته
و ما خليف أبي ليلى بموجود
قوله ألزم لكم من ظلكم لأن الظل لا تصح مفارقته لذي الظل ما دام في الشمس وهذا من الأمثال المشهورة . قوله معقود بنواصيكم أي ملازم لكم كالشي ء المعقود بناصية الإنسان أين ذهب ذهب منه . وقال الراوندي أي الموت غالب عليكم قال تعالى فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَ اَلْأَقْدامِ فإن الإنسان إذا أخذ بناصيته لا يمكنه الخلاص وليس بصحيح لأنه لم يقل أخذ بنواصيكم . قوله والدنيا تطوى من خلفكم من كلام بعض الحكماء الموت والناس كسطور
[ 167 ]
في صحيفة يقرؤها قارئ ويطوي ما يقرأ فكلما ظهر سطر خفي سطر . ثم أمره ع بأن يجمع بين حسن الظن بالله وبين الخوف منه وهذا مقام جليل لا يصل إليه إلا كل ضامر مهزول وقد تقدم كلامنا فيه و(1/4292)
قال علي بن الحسين ع لو أنزل الله عز وجل كتابا أنه معذب رجلا واحدا لرجوت أن أكونه وأنه راحم رجلا واحدا لرجوت أن أكونه أو أنه معذبي لا محالة ما ازددت إلا اجتهادا لئلا أرجع إلى نفسي بلائمة . ثم قال وليتك أعظم أجنادي يقال للأقاليم والأطراف أجناد تقول ولي جند الشام وولي جند الأردن وولي جند مصر . قوله فأنت محقوق كقولك حقيق وجدير وخليق قال الشاعر
و إني لمحقوق بألا يطولني
نداه إذا طاولته بالقصائد
و تنافح تجالد نافحت بالسيف أي خاصمت به . قوله ولو لم يكن إلا ساعة من النهار المراد تأكيد الوصاة عليه أن يخالف على نفسه وألا يتبع هواها وأن يخاصم عن دينه وأن ذلك لازم له وواجب عليه ويلزم أن يفعله دائما فإن لم يستطع فليفعله ولو ساعة من النهار وينبغي أن يكون هذا التقييد مصروفا إلى المنافحة عن الدين لأن الخصام في الدين قد يمنعه عنه مانع فأما أمره إياه أن يخالف على نفسه فلا يجوز صرف التقييد إليه لأنه يشعر بأنه مفسوح له أن يتبع هوى نفسه في بعض الحالات وذلك غير جائز بخلاف المخاصمة والنضال عن المعتقد . قال ولا تسخط الله برضا أحد من خلقه فإن في الله خلفا من غيره وليس من الله خلف في غيره أخذه الحسن البصري فقال لعمر بن هبيرة
[ 168 ](1/4293)
أمير العراق إن الله مانعك من يزيد ولم يمنعك يزيد من الله يعني يزيد بن عبد الملك . ثم أمره بأن يصلي الصلاة لوقتها أي في وقتها ونهاه أن يحمله الفراغ من الشغل على أن يعجلها قبل وقتها فإنها تكون غير مقبولة أو أن يحمله الشغل على تأخيرها عن وقتها فيأثم . ومن كلام هشام بن عقبة أخي ذي الرمة وكان من عقلاء الرجال قال المبرد في الكامل حدثني العباس بن الفرج الرياشي بإسناده قال هشام لرجل أراد سفرا اعلم أن لكل رفقة كلبا يشركهم في فضل الزاد ويهر دونهم فإن قدرت ألا تكون كلب الرفقة فافعل وإياك وتأخير الصلاة عن وقتها فإنك مصليها لا محالة فصلها وهي تقبل منك . قوله واعلم أن كل شي ء من عملك تبع لصلاتك فيه شبه من
قول رسول الله ص الصلاة عماد الإيمان ومن تركها فقد هدم الإيمان و
قال ص أول ما يحاسب به العبد صلاته فإن سهل عليه كان ما بعده أسهل وإن اشتد عليه كان ما بعده أشد . ومثل قوله ولا تسخط الله برضا أحد من خلقه ما رواه المبرد في الكامل عن عائشة قالت من أرضى الله بإسخاط الناس كفاه الله ما بينه وبين الناس ومن أرضى الناس بإسخاط الله وكله الله إلى الناس . ومثل هذا ما رواه المبرد أيضا قال لما ولي الحسن بن زيد بن الحسن المدينة قال لابن هرمة إني لست كمن باع لك دينه رجاء مدحك أو خوف ذمك فقد رزقني
[ 169 ]
الله عز وجل بولادة نبيه ص الممادح وجنبني المقابح وإن من حقه علي ألا أغضي على تقصير في حق الله وأنا أقسم بالله لئن أتيت بك سكران لأضربنك حدا للخمر وحدا للسكر ولأزيدن لموضع حرمتك بي فليكن تركك لها لله عز وجل تعن عليه ولا تدعها للناس فتوكل إليهم فقال ابن هرمة
نهاني ابن الرسول عن المدام
و أدبني بآداب الكرام
و قال لي اصطبر عنها ودعها
لخوف الله لا خوف الأنام
و كيف تصبري عنها وحبي
لها حب تمكن في عظامي
أرى طيب الحلال علي خبثا
و طيب النفس في خبث الحرام(1/4294)
[ 170 ]
وَ مِنْ هَذَا اَلْعَهْدِ مِنْهُ فَإِنَّهُ لاَ سَوَاءَ إِمَامُ اَلْهُدَى وَ إِمَامُ اَلرَّدَى وَ وَلِيُّ اَلنَّبِيِّ وَ عَدُوُّ اَلنَّبِيِّ وَ لَقَدْ قَالَ لِي رَسُولُ اَللَّهِ ص إِنِّي لاَ أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مُؤْمِناً وَ لاَ مُشْرِكاً أَمَّا اَلْمُؤْمِنُ فَيَمْنَعُهُ اَللَّهُ بِإِيمَانِهِ وَ أَمَّا اَلْمُشْرِكُ فَيَقْمَعُهُ اَللَّهُ بِشِرْكِهِ وَ لَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ كُلَّ مُنَافِقِ اَلْجَنَانِ عَالِمِ اَللِّسَانِ يَقُولُ مَا تَعْرِفُونَ وَ يَفْعَلُ مَا تُنْكِرُونَ الإشارة بإمام الهدى إليه نفسه وبإمام الردى إلى معاوية وسماه إماما كما سمى الله تعالى أهل الضلال أئمة فقال وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى اَلنَّارِ ثم وصفه بصفة أخرى وهو أنه عدو النبي ص ليس يعني بذلك أنه كان عدوا أيام حرب النبي ص لقريش بل يريد أنه الآن عدو النبي ص
لقوله ص له ع وعدوك عدوي وعدوي عدو الله وأول الخبر وليك وليي ووليي ولي الله وتمامه مشهور ولأن دلائل النفاق كانت ظاهرة عليه من فلتات لسانه ومن أفعاله وقد قال أصحابنا في هذا المعنى أشياء كثيرة فلتطلب من كتبهم خصوصا
[ 171 ](1/4295)
من كتب شيخنا أبي عبد الله ومن كتب الشيخين أبي جعفر الإسكافي وأبي القاسم البلخي وقد ذكرنا بعض ذلك فيما تقدم . ثم قال ع إن رسول الله ص قال إني لا أخاف على أمتي مؤمنا ولا مشركا أي ولا مشركا يظهر الشرك قال لأن المؤمن يمنعه الله بإيمانه أن يضل الناس والمشرك مظهر الشرك يقمعه الله بإظهار شركه ويخذله ويصرف قلوب الناس عن اتباعه لأنهم ينفرون منه لإظهاره كلمة الكفر فلا تطمئن قلوبهم إليه ولا تسكن نفوسهم إلى مقالته ولكني أخاف على أمتي المنافق الذي يسر الكفر والضلال ويظهر الإيمان والأفعال الصالحة ويكون مع ذلك ذا لسن وفصاحة يقول بلسانه ما تعرفون صوابه ويفعل سرا ما تنكرونه لو اطلعتم عليه وذاك أن من هذه صفته تسكن نفوس الناس إليه لأن الإنسان إنما يحكم بالظاهر فيقلده الناس فيضلهم ويوقعهم في المفاسد(1/4296)
كتاب المعتضد بالله
و من الكتب المستحسنة الكتاب الذي كتبه المعتضد بالله أبو العباس أحمد بن الموفق أبي أحمد طلحة بن المتوكل على الله في سنة أربع وثمانين ومائتين ووزيره حينئذ عبيد الله بن سليمان وأنا أذكره مختصرا من تاريخ أبي جعفر محمد بن جرير الطبري . قال أبو جعفر وفي هذه السنة عزم المعتضد على لعن معاوية بن أبي سفيان على المنابر وأمر بإنشاء كتاب يقرأ على الناس فخوفه عبيد الله بن سليمان اضطراب العامة
[ 172 ](1/4297)
و أنه لا يأمن أن تكون فتنة فلم يلتفت إليه فكان أول شي ء بدأ به المعتضد من ذلك التقدم إلى العامة بلزوم أعمالهم وترك الاجتماع والعصبية والشهادات عند السلطان إلا أن يسألوا ومنع القصاص عن القعود على الطرقات وأنشأ هذا الكتاب وعملت به نسخ قرئت بالجانبين من مدينة السلام في الأرباع والمحال والأسواق يوم الأربعاء لست بقين من جمادى الأولى من هذه السنة ثم منع يوم الجمعة لأربع بقين منه ومنع القصاص من القعود في الجانبين ومنع أهل الحلق من القعود في المسجدين ونودي في المسجد الجامع بنهي الناس عن الاجتماع وغيره وبمنع القصاص وأهل الحلق من القعود ونودي إن الذمة قد برئت ممن اجتمع من الناس في مناظرة أو جدال وتقدم إلى الشراب الذين يسقون الماء في الجامعين ألا يترحموا على معاوية ولا يذكروه بخير وكانت عادتهم جارية بالترحم عليه وتحدث الناس أن الكتاب الذي قد أمر المعتضد بإنشائه بلعن معاوية يقرأ بعد صلاة الجمعة على المنبر فلما صلى الناس بادروا إلى المقصورة ليسمعوا قراءة الكتاب فلم يقرأ وقيل إن عبيد الله بن سليمان صرفه عن قراءته وأنه أحضر يوسف بن يعقوب القاضي وأمره أن يعمل الحيلة في إبطال ما عزم المعتضد عليه فمضى يوسف فكلم المعتضد في ذلك وقال له إني أخاف أن تضطرب العامة ويكون منها عند سماعها هذا الكتاب حركة فقال إن تحركت العامة أو نطقت وضعت السيف فيها فقال يا أمير المؤمنين فما تصنع بالطالبيين الذين يخرجون في كل ناحية ويميل إليهم خلق كثير لقربتهم من رسول الله ص وما في هذا الكتاب من إطرائهم أو كما قال وإذا سمع الناس هذا كانوا إليهم أميل وكانوا هم أبسط
[ 173 ](1/4298)
ألسنة وأثبت حجة منهم اليوم فأمسك المعتضد فلم يرد إليه جوابا ولم يأمر بعد ذلك في الكتاب بشي ء وكان من جملة الكتاب بعد أن قدم حمد الله والثناء عليه والصلاة على رسول الله ص أما بعد فقد انتهى إلى أمير المؤمنين ما عليه جماعة العامة من شبهة قد دخلتهم في أديانهم وفساد قد لحقهم في معتقدهم وعصبية قد غلبت عليها أهواؤهم ونطقت بها ألسنتهم على غير معرفة ولا روية قد قلدوا فيها قادة الضلالة بلا بينة ولا بصيرة وخالفوا السنن المتبعة إلى الأهواء المبتدعة قال الله تعالى وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اِتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ خروجا عن الجماعة ومسارعة إلى الفتنة وإيثارا للفرقة وتشتيتا للكلمة وإظهارا لموالاة من قطع الله عنه الموالاة وبتر منه العصمة وأخرجه من الملة وأوجب عليه اللعنة وتعظيما لمن صغر الله حقه وأوهن أمره وأضعف ركنه من بني أمية الشجرة الملعونة ومخالفة لمن استنقذهم الله به من الهلكة وأسبغ عليهم به النعمة من أهل بيت البركة والرحمة وَ اَللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَ اَللَّهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ . فأعظم أمير المؤمنين ما انتهى إليه من ذلك ورأى ترك إنكاره حرجا عليه في الدين وفسادا لمن قلده الله أمره من المسلمين وإهمالا لما أوجبه الله عليه من تقويم المخالفين وتبصير الجاهلين وإقامة الحجة على الشاكين وبسط اليد على المعاندين وأمير المؤمنين يخبركم معاشر المسلمين أن الله جل ثناؤه لما ابتعث محمدا ص بدينه وأمره أن يصدع بأمره بدأ بأهله وعشيرته فدعاهم إلى ربه وأنذرهم وبشرهم
[ 174 ](1/4299)
و نصح لهم وأرشدهم فكان من استجاب له وصدق قوله واتبع أمره نفير يسير من بني أبيه من بين مؤمن بما أتى به من ربه وناصر لكلمته وإن لم يتبع دينه إعزازا له وإشفاقا عليه فمؤمنهم مجاهد ببصيرته وكافرهم مجاهد بنصرته وحميته يدفعون من نابذه ويقهرون من عازه وعانده ويتوثقون له ممن كانفه وعاضده ويبايعون من سمح بنصرته ويتجسسون أخبار أعدائه ويكيدون له بظهر الغيب كما يكيدون له برأي العين حتى بلغ المدى وحان وقت الاهتداء فدخلوا في دين الله وطاعته وتصديق رسوله والإيمان به بأثبت بصيرة وأحسن هدى ورغبة فجعلهم الله أهل بيت الرحمة وأهل بيت الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا معدن الحكمة وورثة النبوة وموضع الخلافة أوجب الله لهم الفضيلة وألزم العباد لهم الطاعة . وكان ممن عانده وكذبه وحاربه من عشيرته العدد الكثير والسواد الأعظم يتلقونه بالضرر والتثريب ويقصدونه بالأذى والتخويف وينابذونه بالعداوة وينصبون له المحاربة ويصدون من قصده وينالون بالتعذيب من اتبعه وكان أشدهم في ذلك عداوة وأعظمهم له مخالفة أولهم في كل حرب ومناصبة ورأسهم في كل إجلاب وفتنة لا يرفع على الإسلام راية إلا كان صاحبها وقائدها ورئيسها أبا سفيان بن حرب صاحب أحد والخندق وغيرهما وأشياعه من بني أمية الملعونين في كتاب الله ثم الملعونين على لسان رسول الله ص في مواطن عدة لسابق علم الله فيهم وماضي حكمه في أمرهم وكفرهم ونفاقهم فلم يزل لعنه الله يحارب مجاهدا ويدافع مكايدا ويجلب منابذا حتى قهره السيف وعلا أمر الله وهم كارهون فتعوذ بالإسلام غير منطو عليه وأسر الكفر غير مقلع عنه فقبله وقبل ولده على علم منه بحاله وحالهم ثم أنزل الله
[ 175 ](1/4300)
تعالى كتابا فيما أنزله على رسوله يذكر فيه شأنهم وهو قوله تعالى وَ اَلشَّجَرَةَ اَلْمَلْعُونَةَ فِي اَلْقُرْآنِ ولا خلاف بين أحد في أنه تعالى وتبارك أراد بها بني أمية . ومما ورد من ذلك في السنة ورواه ثقات الأمة
قول رسول الله ص فيه وقد رآه مقبلا على حمار ومعاوية يقوده ويزيد يسوقه لعن الله الراكب والقائد والسائق . ومنه ما روته الرواة عنه من قوله يوم بيعة عثمان تلقفوها يا بني عبد شمس تلقف الكرة فو الله ما من جنة ولا نار وهذا كفر صراح يلحقه اللعنة من الله كما لحقت الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . ومنه ما يروى من وقوفه على ثنية أحد من بعد ذهاب بصره وقوله لقائده هاهنا رمينا محمدا وقتلنا أصحابه . ومنها الكلمة التي قالها للعباس قبل الفتح وقد عرضت عليه الجنود لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما فقال له العباس ويحك إنه ليس بملك إنها النبوة . ومنها قوله يوم الفتح وقد رأى بلالا على ظهر الكعبة يؤذن ويقول أشهد أن محمدا رسول الله لقد أسعد الله عتبة بن ربيعة إذ لم يشهد هذا المشهد . ومنه الرؤيا التي رآها رسول الله ص فوجم لها قالوا فما رئي بعدها ضاحكا رأى نفرا من بني أمية ينزون على منبره نزوة القردة . ومنها طرد رسول الله ص الحكم بن أبي العاص لمحاكاته إياه في
[ 176 ]
مشيته وألحقه الله بدعوة رسول الله ص آفة باقية حين التفت إليه فرآه يتخلج يحكيه فقال كن كما أنت فبقي على ذلك سائر عمره . هذا إلى ما كان من مروان ابنه في افتتاحه أول فتنة كانت في الإسلام واحتقابه كل حرام سفك فيها أو أريق بعدها . ومنها ما أنزل الله تعالى على نبيه ص لَيْلَةُ اَلْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ قالوا ملك بني أمية . ومنها(1/4301)
أن رسول الله ص دعا معاوية ليكتب بين يديه فدافع بأمره واعتل بطعامه فقال ص لا أشبع الله بطنه فبقي لا يشبع وهو يقول والله ما أترك الطعام شبعا ولكن إعياء . ومنها
أن رسول الله ص قال يطلع من هذا الفج رجل من أمتي يحشر على غير ملتي فطلع معاوية . ومنها
أن رسول الله ص قال إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه . ومنها
الحديث المشهور المرفوع أنه ص قال إن معاوية في تابوت من نار في أسفل درك من جهنم ينادي يا حنان يا منان فيقال له آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ . ومنها افتراؤه بالمحاربة لأفضل المسلمين في الإسلام مكانا وأقدمهم إليه سبقا وأحسنهم فيه أثرا وذكرا علي بن أبي طالب ينازعه حقه بباطله ويجاهد أنصاره بضلاله أعوانه ويحاول ما لم يزل هو وأبوه يحاولانه من إطفاء نور الله وجحود دينه
[ 177 ]
وَ يَأْبَى اَللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكافِرُونَ ويستهوي أهل الجهالة ويموه لأهل الغباوة بمكره وبغيه اللذين قدم رسول الله ص الخبر عنهما(1/4302)
فقال لعمار بن ياسر تقتلك الفئة الباغية تدعوهم إلى الجنة ويدعونك إلى النار مؤثرا للعاجلة كافرا بالآجلة خارجا من ربقة الإسلام مستحلا للدم الحرام حتى سفك في فتنته وعلى سبيل غوايته وضلالته ما لا يحصى عدده من أخيار المسلمين الذابين عن دين الله والناصرين لحقه مجاهدا في عداوة الله مجتهدا في أن يعصى الله فلا يطاع وتبطل أحكامه فلا تقام ويخالف دينه فلا بد وأن تعلو كلمة الضلال وترتفع دعوة الباطل وكلمة الله هي العليا ودينه المنصور وحكمه النافذ وأمره الغالب وكيد من عاداه وحاده المغلوب الداحض حتى احتمل أوزار تلك الحروب وما تبعها وتطوق تلك الدماء وما سفك بعدها وسن سنن الفساد التي عليه إثمها وإثم من عمل بها وأباح المحارم لمن ارتكبها ومنع الحقوق أهلها وغرته الآمال واستدرجه الإمهال وكان مما أوجب الله عليه به اللعنة قتله من قتل صبرا من خيار الصحابة والتابعين وأهل الفضل والدين مثل عمرو بن الحمق الخزاعي وحجر بن عدي الكندي فيمن قتل من أمثالهم على أن تكون له العزة والملك والغلبة ثم ادعاؤه زياد ابن سمية أخا ونسبته إياه إلى أبيه والله تعالى يقول اُدْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اَللَّهِ و
رسول الله ص يقول ملعون من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه و
قال الولد للفراش وللعاهر الحجر فخالف حكم الله تعالى ورسوله جهارا وجعل الولد لغير الفراش والحجر لغير العاهر فأحل بهذه الدعوة من محارم الله ورسوله في أم حبيبة أم المؤمنين وفي غيرها من النساء من شعور ووجوه قد
[ 178 ](1/4303)
حرمها الله وأثبت بها من قربى قد أبعدها الله ما لم يدخل الدين خلل مثله ولم ينل الإسلام تبديل يشبهه . ومن ذلك إيثاره لخلافة الله على عباده ابنه يزيد السكير الخمير صاحب الديكة والفهود والقردة وأخذ البيعة له على خيار المسلمين بالقهر والسطوة والتوعد والإخافة والتهديد والرهبة وهو يعلم سفهه ويطلع على رهقه وخبثه ويعاين سكراته وفعلاته وفجوره وكفره فلما تمكن قاتله الله فيما تمكن منه طلب بثارات المشركين وطوائلهم عند المسلمين فأوقع بأهل المدينة في وقعة الحرة الوقعة التي لم يكن في الإسلام أشنع منها ولا أفحش فشفى عند نفسه غليله وظن أنه قد انتقم من أولياء الله وبلغ الثأر لأعداء الله فقال مجاهرا بكفره ومظهرا لشركه
ليت أشياخي ببدر شهدوا
جزع الخزرج من وقع الأسل
قول من لا يرجع إلى الله ولا إلى دينه ولا إلى رسوله ولا إلى كتابه ولا يؤمن بالله وبما جاء من عنده . ثم أغلظ ما انتهك وأعظم ما اجترم سفكه دم الحسين بن علي ع مع موقعه من رسول الله ص ومكانه ومنزلته من الدين والفضل والشهادة له ولأخيه بسيادة شباب أهل الجنة اجتراء على الله وكفرا بدينه وعداوة لرسوله ومجاهرة لعترته واستهانة لحرمته كأنما يقتل منه ومن أهل بيته قوما من كفره الترك
[ 179 ](1/4304)
و الديلم ولا يخاف من الله نقمة ولا يراقب منه سطوة فبتر الله عمره أخبث أصله وفرعه وسلبه ما تحت يده وأعد له من عذابه وعقوبته ما استحقه من الله بمعصيته . هذا إلى ما كان من بني مروان من تبديل كتاب الله وتعطيل أحكام الله واتخاذ مال الله بينهم دولا وهدم بيت الله واستحلالهم حرمه ونصبهم المجانيق عليه ورميهم بالنيران إياه لا يألون له إحراقا وإخرابا ولما حرم الله منه استباحة وانتهاكا ولمن لجأ إليه قتلا وتنكيلا ولمن أمنه الله به إخفاقة وتشريدا حتى إذا حقت عليهم كلمة العذاب واستحقوا من الله الانتقام وملئوا الأرض بالجور والعدوان وعموا عباد بلاد الله بالظلم والاقتسار وحلت عليهم السخطة ونزلت بهم من الله السطوة أتاح الله لهم من عترة نبيه وأهل وراثته ومن استخلصه منهم لخلافته مثل ما أتاح من أسلافهم المؤمنين وآبائهم المجاهدين لأوائلهم الكافرين فسفك الله به دماءهم ودماء آبائهم مرتدين كما سفك بآبائهم مشركين وقطع الله دابر الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين . أيها الناس إن الله إنما أمر ليطاع ومثل ليتمثل وحكم ليفعل قال الله سبحانه وتعالى إِنَّ اَللَّهَ لَعَنَ اَلْكافِرِينَ وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً وقال أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اَللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اَللاَّعِنُونَ . فالعنوا أيها الناس من لعنه الله ورسوله وفارقوا من لا تنالون القربة من الله إلا بمفارقته اللهم العن أبا سفيان بن حرب بن أمية ومعاوية بن أبي سفيان ويزيد بن معاوية ومروان بن الحكم وولده وولد ولده اللهم العن أئمة الكفر وقادة الضلال وأعداء الدين ومجاهدي الرسول ومعطلي الأحكام ومبدلي الكتاب ومنتهكي الدم الحرام اللهم إنا نبرأ إليك من موالاة أعدائك ومن الإغماض لأهل معصيتك
[ 180 ](1/4305)
كما قلت لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ . أيها الناس اعرفوا الحق تعرفوا أهله وتأملوا سبل الضلالة تعرفوا سابلها فقفوا عند ما وقفكم الله عليه وانفذوا كما أمركم الله به وأمير المؤمنين يستعصم بالله لكم ويسأله توفيقكم ويرغب إليه في هدايتكم والله حسبه وعليه توكله ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . قلت هكذا ذكر الطبري الكتاب وعندي أنه الخطبة لأن كل ما يخطب به فهو خطبة وليس بكتاب والكتاب ما يكتب إلى عامل أو أمير ونحوهما وقد يقرأ الكتاب على المنبر فيكون كالخطبة ولكن ليس بخطبة ولكنه كتاب قرئ على الناس . ولعل هذا الكلام كان قد أنشئ ليكون كتابا ويكتب به إلى الآفاق ويؤمروا بقراءته على الناس وذلك بعد قراءته على أهل بغداد والذي يؤكد كونه كتابا وينصر ما قاله الطبري إن في آخره كتب عبيد الله بن سليمان في سنة أربع وثمانين ومائتين وهذا لا يكون في الخطب بل في الكتب ولكن الطبري لم يذكر أنه أمر بأن يكتب إلى الآفاق ولا قال وقع العزم على ذلك ولم يذكر إلا وقوع العزم على أن يقرأ في الجوامع ببغداد
[ 181 ](1/4306)
28 ومن كتاب له ع إلى معاوية جوابا
و هو من محاسن الكتب : أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ أَتَانِي كِتَابُكَ تَذْكُرُ فِيهِ اِصْطِفَاءَ اَللَّهِ مُحَمَّداً ص لِدِينِهِ وَ تَأْيِيدَهُ إِيَّاهُ لِمَنْ أَيَّدَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ فَلَقَدْ خَبَّأَ لَنَا اَلدَّهْرُ مِنْكَ عَجَباً إِذْ طَفِقْتَ تُخْبِرُنَا بِبَلاَءِ اَللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا وَ نِعْمَتِهِ عَلَيْنَا فِي نَبِيِّنَا فَكُنْتَ فِي ذَلِكَ كَنَاقِلِ اَلتَّمْرِ إِلَى هَجَرَ أَوْ دَاعِي مُسَدِّدِهِ إِلَى اَلنِّضَالِ وَ زَعَمْتَ أَنَّ أَفْضَلَ اَلنَّاسِ فِي اَلْإِسْلاَمِ فُلاَنٌ وَ فُلاَنٌ فَذَكَرْتَ أَمْراً إِنْ تَمَّ اِعْتَزَلَكَ كُلُّهُ وَ إِنْ نَقَصَ لَمْ يَلْحَقْكَ ثَلْمُهُ وَ مَا أَنْتَ وَ اَلْفَاضِلَ وَ اَلْمَفْضُولَ وَ اَلسَّائِسَ وَ اَلْمَسُوسَ وَ مَا لِلطُّلَقَاءِ وَ أَبْنَاءِ اَلطُّلَقَاءِ وَ اَلتَّمْيِيزَ بَيْنَ اَلْمُهَاجِرِينَ اَلْأَوَّلِينَ وَ تَرْتِيبَ دَرَجَاتِهِمْ وَ تَعْرِيفَ طَبَقَاتِهِمْ هَيْهَاتَ لَقَدْ حَنَّ قِدْحٌ لَيْسَ مِنْهَا وَ طَفِقَ يَحْكُمُ فِيهَا مَنْ عَلَيْهِ اَلْحُكْمُ لَهَا أَ لاَ تَرْبَعُ أَيُّهَا اَلْإِنْسَانُ عَلَى ظَلْعِكَ وَ تَعْرِفُ قُصُورَ ذَرْعِكَ وَ تَتَأَخَّرُ حَيْثُ أَخَّرَكَ اَلْقَدَرُ فَمَا عَلَيْكَ غَلَبَةُ اَلْمَغْلُوبِ وَ لاَ ظَفَرُ اَلظَّافِرِ فَإِنَّكَ وَ إِنَّكَ لَذَهَّابٌ فِي اَلتِّيهِ رَوَّاغٌ عَنِ اَلْقَصْدِ أَ لاَ تَرَى غَيْرَ مُخْبِرٍ لَكَ وَ لَكِنْ بِنِعْمَةِ اَللَّهِ أُحَدِّثُ أَنَّ قَوْماً اُسْتُشْهِدُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ تَعَالَى مِنَ اَلْمُهَاجِرِينَ وَ اَلْأَنْصَارِ وَ لِكُلٍّ فَضْلٌ حَتَّى إِذَا اُسْتُشْهِدَ شَهِيدُنَا قِيلَ سَيِّدُ اَلشُّهَدَاءِ وَ خَصَّهُ رَسُولُ اَللَّهِ ص بِسَبْعِينَ تَكْبِيرَةً عِنْدَ صَلاَتِهِ عَلَيْهِ
[ 182 ](1/4307)
أَ وَ لاَ تَرَى أَنَّ قَوْماً قُطِّعَتْ أَيْدِيهِمْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ لِكُلٍّ فَضْلٌ حَتَّى إِذَا فُعِلَ بِوَاحِدِنَا مَا فُعِلَ بِوَاحِدِهِمْ قِيلَ اَلطَّيَّارُ فِي اَلْجَنَّةِ وَ ذُو اَلْجَنَاحَيْنِ وَ لَوْ لاَ مَا نَهَى اَللَّهُ عَنْهُ مِنْ تَزْكِيَةِ اَلْمَرْءِ نَفْسَهُ لَذَكَرَ ذَاكِرٌ فَضَائِلَ جَمَّةً تَعْرِفُهَا قُلُوبُ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ لاَ تَمُجُّهَا آذَانُ اَلسَّامِعِينَ فَدَعْ عَنْكَ مَنْ مَالَتْ بِهِ اَلرَّمِيَّةُ فَإِنَّا صَنَائِعُ رَبِّنَا وَ اَلنَّاسُ بَعْدُ صَنَائِعُ لَنَا لَمْ يَمْنَعْنَا قَدِيمُ عِزِّنَا وَ لاَ عَادِيُّ طَوْلِنَا عَلَى قَوْمِكَ أَنْ خَلَطْنَاكُمْ بِأَنْفُسِنَا فَنَكَحْنَا وَ أَنْكَحْنَا فِعْلَ اَلْأَكْفَاءِ وَ لَسْتُمْ هُنَاكَ وَ أَنَّى يَكُونُ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَ مِنَّا اَلنَّبِيُّ وَ مِنْكُمُ اَلْمُكَذِّبُ وَ مِنَّا أَسَدُ اَللَّهِ وَ مِنْكُمْ أَسَدُ اَلْأَحْلاَفِ وَ مِنَّا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ اَلْجَنَّةِ وَ مِنْكُمْ صِبْيَةُ اَلنَّارِ وَ مِنَّا خَيْرُ نِسَاءِ اَلْعَالَمِينَ وَ مِنْكُمْ حَمَّالَةُ اَلْحَطَبِ فِي كَثِيرٍ مِمَّا لَنَا وَ عَلَيْكُمْ فَإِسْلاَمُنَا مَا قَدْ سُمِعَ وَ جَاهِلِيَّتُنَا لاَ تُدْفَعُ وَ كِتَابُ اَللَّهِ يَجْمَعُ لَنَا مَا شَذَّ عَنَّا وَ هُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اَللَّهِ وَ قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ أَوْلَى اَلنَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَ هذَا اَلنَّبِيُّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَللَّهُ وَلِيُّ اَلْمُؤْمِنِينَ فَنَحْنُ مَرَّةً أَوْلَى بِالْقَرَابَةِ وَ تَارَةً أَوْلَى بِالطَّاعَةِ وَ لَمَّا اِحْتَجَّ اَلْمُهَاجِرُونَ عَلَى اَلْأَنْصَارِ يَوْمَ اَلسَّقِيفَةِ بِرَسُولِ اَللَّهِ ص فَلَجُوا عَلَيْهِمْ فَإِنْ(1/4308)
يَكُنِ اَلْفَلَجُ بِهِ فَالْحَقُّ لَنَا دُونَكُمْ وَ إِنْ يَكُنْ بِغَيْرِهِ فَالْأَنْصَارُ عَلَى دَعْوَاهُمْ وَ زَعَمْتَ أَنِّي لِكُلِّ اَلْخُلَفَاءِ حَسَدْتُ وَ عَلَى كُلِّهِمْ بَغَيْتُ فَإِنْ يَكُنْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَيْسَتِ اَلْجِنَايَةُ عَلَيْكَ فَيَكُونَ اَلْعُذْرُ إِلَيْكَ
[ 183 ]
وَ تِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا
وَ قُلْتَ إِنِّي كُنْتُ أُقَادُ كَمَا يُقَادُ اَلْجَمَلُ اَلْمَخْشُوشُ حَتَّى أُبَايِعَ وَ لَعَمْرُ اَللَّهِ لَقَدْ أَرَدْتَ أَنْ تَذُمَّ فَمَدَحْتَ وَ أَنْ تَفْضَحَ فَافْتَضَحْتَ وَ مَا عَلَى اَلْمُسْلِمِ مِنْ غَضَاضَةٍ فِي أَنْ يَكُونَ مَظْلُوماً مَا لَمْ يَكُنْ شَاكّاً فِي دِينِهِ وَ لاَ مُرْتَاباً بِيَقِينِهِ وَ هَذِهِ حُجَّتِي إِلَى غَيْرِكَ قَصْدُهَا وَ لَكِنِّي أَطْلَقْتُ لَكَ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا سَنَحَ مِنْ ذِكْرِهَا ثُمَّ ذَكَرْتَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِي وَ أَمْرِ عُثْمَانَ فَلَكَ أَنْ تُجَابَ عَنْ هَذِهِ لِرَحِمِكَ مِنْهُ فَأَيُّنَا كَانَ أَعْدَى لَهُ وَ أَهْدَى إِلَى مَقَاتِلِهِ أَ مَنْ بَذَلَ لَهُ نُصْرَتَهُ فَاسْتَقْعَدَهُ وَ اِسْتَكَفَّهُ أَمَّنِ اِسْتَنْصَرَهُ فَتَرَاخَى عَنْهُ وَ بَثَّ اَلْمَنُونَ إِلَيْهِ حَتَّى أَتَى قَدَرُهُ عَلَيْهِ كَلاَّ وَ اَللَّهِ لَقَدْ يَعْلَمُ اَللَّهُ اَلْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَ اَلْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَ لاَ يَأْتُونَ اَلْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً . وَ مَا كُنْتُ لِأَعْتَذِرَ مِنْ أَنِّي كُنْتُ أَنْقِمُ عَلَيْهِ أَحْدَاثاً فَإِنْ كَانَ اَلذَّنْبُ إِلَيْهِ إِرْشَادِي وَ هِدَايَتِي لَهُ فَرُبَّ مَلُومٍ لاَ ذَنْبَ لَهُ
وَ قَدْ يَسْتَفِيدُ اَلظِّنَّةَ اَلْمُتَنَصِّحُ(1/4309)
وَ مَا أَرَدْتُ إِلاَّ اَلْإِصْلاَحَ مَا اِسْتَطَعْتُ وَ مَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيْبُ وَ ذَكَرْتَ أَنَّهُ لَيْسَ لِي وَ لِأَصْحَابِي عِنْدَكَ إِلاَّ اَلسَّيْفُ فَلَقَدْ أَضْحَكْتَ بَعْدَ اِسْتِعْبَارٍ مَتَى أَلْفَيْتَ بَنِي عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ عَنِ اَلْأَعْدَاءِ نَاكِلِينَ وَ بِالسَّيْفِ مُخَوَّفِينَ
[ 184 ]
فَلَبِّثْ قَلِيلاً يَلْحَقِ اَلْهَيْجَا حَمَلْ
فَسَيَطْلُبُكَ مَنْ تَطْلُبُ وَ يَقْرُبُ مِنْكَ مَا تَسْتَبْعِدُ وَ أَنَا مُرْقِلٌ نَحْوَكَ فِي جَحْفَلٍ مِنَ اَلْمُهَاجِرِينَ وَ اَلْأَنْصَارِ وَ اَلتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ شَدِيدٍ زِحَامُهُمْ سَاطِعٍ قَتَامُهُمْ مُتَسَرْبِلِينَ سَرَابِيلَ اَلْمَوْتِ أَحَبُّ اَللِّقَاءِ إِلَيْهِمْ لِقَاءُ رَبِّهِمْ وَ قَدْ صَحِبَتْهُمْ ذُرِّيَّةٌ بَدْرِيَّةٌ وَ سُيُوفٌ هَاشِمِيَّةٌ قَدْ عَرَفْتَ مَوَاقِعَ نِصَالِهَا فِي أَخِيكَ وَ خَالِكَ وَ جَدِّكَ وَ أَهْلِكَ وَ مَا هِيَ مِنَ اَلظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ(1/4310)
كتاب لمعاوية إلى علي
سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد فقلت أرى هذا الجواب منطبقا على كتاب معاوية الذي بعثه مع أبي مسلم الخولاني إلى علي ع فإن كان هذا هو الجواب فالجواب الذي ذكره أرباب السيرة وأورده نصر بن مزاحم في كتاب صفين إذن غير صحيح وإن كان ذلك الجواب فهذا الجواب إذن غير صحيح ولا ثابت فقال لي بل كلاهما ثابت مروي وكلاهما كلام أمير المؤمنين ع وألفاظه ثم أمرني أن أكتب ما عليه علي ع فكتبته قال رحمه الله كان معاوية يتسقط عليا وينعى عليه ما عساه يذكره من حال أبي بكر وعمر وأنهما غصباه حقه ولا يزال يكيده بالكتاب يكتبه والرسالة يبعثها يطلب غرته لينفث بما في صدره من حال أبي بكر وعمر إما مكاتبة أو مراسلة فيجعل ذلك حجة
[ 185 ](1/4311)
عليه عند أهل الشام ويضيفه إلى ما قرره في أنفسهم من ذنوبه كما زعم فقد كان غمصه عندهم بأنه قتل عثمان ومالأ على قتله وأنه قتل طلحة والزبير وأسر عائشة وأراق دماء أهل البصرة وبقيت خصلة واحدة وهو أن يثبت عندهم أنه يتبرأ من أبي بكر وعمر وينسبهما إلى الظلم ومخالفة الرسول في أمر الخلافة وأنهما وثبا عليها غلبة وغصباه إياها فكانت هذه الطامة الكبرى ليست مقتصرة على فساد أهل الشام عليه بل وأهل العراق الذين هم جنده وبطانته وأنصاره لأنهم كانوا يعتقدون إمامة الشيخين إلا القليل الشاذ من خواص الشيعة فلما كتب ذلك الكتاب مع أبي مسلم الخولاني قصد أن يغضب عليا ويحرجه ويحوجه إذا قرأ ذكر أبي بكر وأنه أفضل المسلمين إلى أن يخلط خطه في الجواب بكلمة تقتضي طعنا في أبي بكر فكان الجواب مجمجما غير بين ليس فيه تصريح بالتظليم لهما ولا التصريح ببراءتهما وتارة يترحم عليهما وتارة يقول أخذا حقي وقد تركته لهما فأشار عمرو بن العاص على معاوية أن يكتب كتابا ثانيا مناسبا للكتاب الأول ليستفزا فيه عليا ع ويستخفاه ويحمله الغضب منه أن يكتب كلاما يتعلقان به في تقبيح حاله وتهجين مذهبه وقال له عمرو إن عليا ع رجل نزق تياه وما استطعمت منه الكلام بمثل تقريظ أبي بكر وعمر فاكتب فكتب كتابا أنفذه إليه مع أبي أمامة الباهلي وهو من الصحابة بعد أن عزم على بعثته مع أبي الدرداء ونسخة الكتاب من عبد الله معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب أما بعد فإن الله تعالى جده اصطفى محمدا ع لرسالته واختصه بوحيه وتأدية شريعته فأنقذ به من العماية وهدى به من الغواية ثم قبضه إليه رشيدا حميدا قد بلغ الشرع ومحق الشرك وأخمد نار الإفك فأحسن الله جزاءه وضاعف عليه نعمه وآلاءه ثم إن الله سبحانه اختص محمدا ع بأصحاب أيدوه وآزروه ونصروه
[ 186 ](1/4312)
و كانوا كما قال الله سبحانه لهم أَشِدَّاءُ عَلَى اَلْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ فكان أفضلهم مرتبة وأعلاهم عند الله والمسلمين منزلة الخليفة الأول الذي جمع الكلمة ولم الدعوة وقاتل أهل الردة ثم الخليفة الثاني الذي فتح الفتوح ومصر الأمصار وأذل رقاب المشركين ثم الخليفة الثالث المظلوم الذي نشر الملة وطبق الآفاق بالكلمة الحنيفية . فلما استوثق الإسلام وضرب بجرانه عدوت عليه فبغيته الغوائل ونصبت له المكايد وضربت له بطن الأمر وظهره ودسست عليه وأغريت به وقعدت حيث استنصرك عن نصره وسألك أن تدركه قبل أن يمزق فما أدركته وما يوم المسلمين منك بواحد . لقد حسدت أبا بكر والتويت عليه ورمت إفساد أمره وقعدت في بيتك واستغويت عصابة من الناس حتى تأخروا عن بيعته ثم كرهت خلافة عمر وحسدته واستطلت مدته وسررت بقتله وأظهرت الشماتة بمصابه حتى إنك حاولت قتل ولده لأنه قتل قاتل أبيه ثم لم تكن أشد منك حسدا لابن عمك عثمان نشرت مقابحه وطويت محاسنه وطعنت في فقهه ثم في دينه ثم في سيرته ثم في عقله وأغريت به السفهاء من أصحابك وشيعتك حتى قتلوه بمحضر منك لا تدفع عنه بلسان ولا يد وما من هؤلاء إلا من بغيت عليه وتلكأت في بيعته حتى حملت إليه قهرا تساق بخزائم الاقتسار كما يساق الفحل المخشوش ثم نهضت الآن تطلب الخلافة وقتلة عثمان خلصاؤك وسجراؤك والمحدقون بك وتلك من أماني النفوس وضلالات الأهواء . فدع اللجاج والعبث جانبا وادفع إلينا قتلة عثمان وأعد الأمر شورى بين المسلمين ليتفقوا على من هو لله رضا فلا بيعة لك في أعناقنا ولا طاعة لك علينا ولا عتبى لك
[ 187 ](1/4313)
عندنا وليس لك ولأصحابك عندي إلا السيف والذي لا إله إلا هو لأطلبن قتلة عثمان أين كانوا وحيث كانوا حتى أقتلهم أو تلتحق روحي بالله . فأما ما لا تزال تمن به من سابقتك وجهادك فإني وجدت الله سبحانه يقول يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اَللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ولو نظرت في حال نفسك لوجدتها أشد الأنفس امتنانا على الله بعملها وإذا كان الامتنان على السائل يبطل أجر الصدقة فالامتنان على الله يبطل أجر الجهاد ويجعله ك صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَ اَللَّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكافِرِينَ . قال النقيب أبو جعفر فلما وصل هذا الكتاب إلى علي ع مع أبي أمامة الباهلي كلم أبا أمامة بنحو مما كلم به أبا مسلم الخولاني وكتب معه هذا الجواب . قال النقيب وفي كتاب معاوية هذا ذكر لفظ الجمل المخشوش أو الفحل المخشوش لا في الكتاب الواصل مع أبي مسلم وليس في ذلك هذه اللفظة وإنما فيه حسدت الخلفاء وبغيت عليهم عرفنا ذلك من نظرك الشزر وقولك الهجر وتنفسك الصعداء وإبطائك عن الخلفاء . قال وإنما كثير من الناس لا يعرفون الكتابين والمشهور عندهم كتاب أبي مسلم فيجعلون هذه اللفظة فيه والصحيح أنها في كتاب أبي أمامة أ لا تراها عادت
[ 188 ](1/4314)
في جوابه ولو كانت في كتاب أبي مسلم لعادت في جوابه . انتهى كلام النقيب أبي جعفر ونحن الآن مبتدءون في شرح ألفاظ الجواب المذكور . قوله فلقد خبأ لنا الدهر منك عجبا موضع التعجب إن معاوية يخبر عليا ع باصطفاء الله تعالى محمدا وتشريفه له وتأييده له وهذا ظريف لأنه يجري كإخبار زيد عمرا عن حال عمرو إذ كان النبي ص وعلي ع كالشي ء الواحد وخبأ مهموز والمصدر الخب ء ومنه الخابية وهي الخب ء إلا أنهم تركوا همزها والخب ء أيضا والخبي ء على فعيل ما خبئ . وبلاء الله تعالى إنعامه وإحسانه . وقوله ع كناقل التمر إلى هجر مثل قديم وهجر اسم مدينة لا ينصرف للتعريف والتأنيث وقيل هو اسم مذكر مصروف وأصل المثل كمستبضع تمر إلى هجر والنسبة إليه هاجري على غير قياس وهي بلدة كثيرة النخل يحمل منها التمر إلى غيرها قال الشاعر في هذا المعنى
أهدي له طرف الكلام كما
يهدى لوالي البصرة التمر
قوله وداعي مسدده إلى النضال أي معلمه الرمي وهذا إشارة إلى قول القائل الأول
[ 189 ]
أعلمه الرماية كل يوم
فلما استد ساعده رماني
هكذا الرواية الصحيحة بالسين المهملة أي استقام ساعده على الرمي وسددت فلانا علمته النضال وسهم سديد مصيب ورمح سديد أي قل أن تخطئ طعنته وقد ظرف القاضي الأرجاني في قوله لسديد الدولة محمد بن عبد الكريم الأنباري كاتب الإنشاء
إلى الذي نصب المكارم للورى
غرضا يلوح من المدى المتباعد
نثل الأماثل من كنانته فما
وجدت يداه سوى سديد واحد(1/4315)
و من الأمثال في هذا المعنى سمن كلبك يأكلك ومنها أحشك وتروثني . قوله ع وزعمت أن أفضل الناس في الإسلام فلان وفلان أي أبو بكر وعمر . قوله ع فذكرت أمرا إن تم اعتزلك كله وإن نقص لم يلحقك ثلمه من هذا المعنى قول الفرزدق لجرير وقد كان جرير في مهاجاته إياه يفخر عليه بقيس عيلان فقد كانت لجرير في قيس خئولة يعيره بأيامهم على بني تميم فلما قتل بنو تميم قتيبة بن مسلم الباهلي بخراسان قال الفرزدق يفتخر
أتاني وأهلي بالمدينة وقعة
لآل تميم أقعدت كل قائم
[ 190 ]
كان رءوس الناس إذ سمعوا بها
مشدخة هاماتها بالأمائم
و ما بين من لم يؤت سمعا وطاعة
و بين تميم غير جز الحلاقم
ثم خرج إلى خطاب جرير بعد أبيات تركنا ذكرها فقال
أ تغضب إن أذنا قتيبة جزتا
جهارا ولم تغضب لقتل ابن حازم
و ما منهما إلا نقلنا دماغه
إلى الشام فوق الشاحجات الرواسم
تذبذب في المخلاة تحت بطونها
محذفة الأذناب جلح المقادم
و ما أنت من قيس فتنبح دونها
و لا من تميم في الرءوس الأعاظم
تخوفنا أيام قيس ولم تدع
لعيلان أنفا مستقيم الخياشم
لقد شهدت قيس فما كان نصرها
قتيبة إلا عضها بالأباهم
فقوله
و ما أنت من قيس فتنبح دونها
هو معنى قول علي ع لمعاوية فذكرت أمرا إن تم اعتزلك كله وابن حازم المذكور في الشعر هو عبد الله بن حازم من بني سليم وسليم من قيس عيلان وقتلته تميم أيضا وكان والي خراسان . قوله ع وما أنت والفاضل والمفضول الرواية المشهورة بالرفع وقد رواها قوم بالنصب فمن رفع احتج بقوله وما أنت وبيت أبيك والفخر . وبقوله
فما القيسي بعدك والفخار
و من نصب فعلى تأويل مالك والفاضل وفي ذلك معنى الفعل أي ما تصنع لأن
[ 191 ]
هذا الباب لا بد أن يتضمن الكلام فيه فعلا أو معنى فعل وأنشدوا
فما أنت والسير في متلف(1/4316)
و الرفع عند النحويين أولى . ثم قال وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز النصب هاهنا لا غير لأجل اللام في الطلقاء . ثم قال ع بين المهاجرين الأولين وترتيب درجاتهم وتعريف طبقاتهم هذا الكلام ينقض ما يقول من يطعن في السلف فإن أمير المؤمنين ع أنكر على معاوية تعرضه بالمفاضلة بين أعلام المهاجرين ولم يذكر معاوية إلا للمفاضلة بينه ع وبين أبي بكر وعمر فشهادة أمير المؤمنين ع بأنهما من المهاجرين الأولين ومن ذوي الدرجات والطبقات التي اشتبه الحال بينهما وبينه ع في أي الرجال منهم أفضل وأن قدر معاوية يصغر أن يدخل نفسه في مثل ذلك شهادة قاطعة على علو شأنهما وعظم منزلتهما . قوله ع هيهات لقد حن قدح ليس منها هذا مثل يضرب لمن يدخل نفسه بين قوم ليس له أن يدخل بينهم وأصله القداح من عود واحد يجعل فيها قدح من غير ذلك الخشب فيصوت بينها إذا أرادها المفيض فذلك الصوت هو حنينه . قوله وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها أي وطفق يحكم في هذه القصة
[ 192 ](1/4317)
أو في هذه القضية من يجب أن يكون الحكم لها عليه لا له فيها ويجوز أن يكون الضمير يرجع إلى الطبقات . ثم قال أ لا تربع أيها الإنسان على ظلعك أي أ لا ترفق بنفسك وتكف ولا تحمل عليها ما لا تطيقه والظلع مصدر ظلع البعير يظلع أي غمز في مشيه . قوله وتعرف قصور ذرعك أصل الذرع بسط اليد يقال ضقت به ذرعا أي ضاق ذرعي به فنقلوا الاسم من الفاعلية فجعلوه منصوبا على التمييز كقولهم طبت به نفسا . قوله وتتأخر حيث أخرك القدر مثل قولك ضع نفسك حيث وضعها الله يقال ذلك لمن يرفع نفسه فوق استحقاقه . ثم قال فما عليك غلبة المغلوب ولا عليك ظفر الظافر يقول وما الذي أدخلك بيني وبين أبي بكر وعمر وأنت من بني أمية لست هاشميا ولا تيميا ولا عدويا هذا فيما يرجع إلى أنسابنا ولست مهاجرا ولا ذا قدم في الإسلام فتزاحم المهاجرين وأرباب السوابق بأعمالك واجتهادك فإذن لا يضرك غلبة الغالب منا ولا يسرك ظفر الظافر ويروى أن مروان بن الحكم كان ينشد يوم مرج راهط والرءوس تندر عن كواهلها بينه وبين الضحاك بن قيس الفهري
و ما ضرهم غير حين النفوس
أي غلامي قريش غلب
قوله ع وإنك لذهاب في التيه رواغ عن القصد يحتمل قوله ع في التيه معنيين أحدهما بمعنى الكبر والآخر التيه من قولك تاه فلان في البيداء ومنه قوله تعالى فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي اَلْأَرْضِ وهذا الثاني أحسن
[ 193 ](1/4318)
يقول إنك شديد الإيغال في الضلال وذهاب فعال للتكثير ويقال أرض متيهة مثل معيشة أي يتاه فيها . قال ع رواغ عن القصد أي تترك ما يلزمك فعله وتعدل عما يجب عليك أن تجيب عنه إلى حديث الصحابة وما جرى بعد موت النبي ص ونحن إلى الكلام في غير هذا أحوج إلى الكلام في البيعة وحقن الدماء والدخول تحت طاعة الإمام . ثم قال أ لا ترى غير مخبر لك ولكن بنعمة الله أحدث أي لست عندي أهلا لأن أخبرك بذلك أيضا فإنك تعلمه ومن يعلم الشي ء لا يجوز أن يخبر به ولكن أذكر ذلك لأنه تحدث بنعمة الله علينا وقد أمرنا بأن نحدث بنعمته سبحانه . قوله ع إن قوما استشهدوا في سبيل الله المراد هاهنا سيد الشهداء حمزة رضي الله عنه وينبغي أن يحمل قول النبي ص فيه إنه سيد الشهداء على أنه سيد الشهداء في حياة النبي ص لأن عليا ع مات شهيدا ولا يجوز أن يقال حمزة سيده بل هو سيد المسلمين كلهم ولا خلاف بين أصحابنا رحمهم الله أنه أفضل من حمزة وجعفر رضي الله عنهما وقد تقدم ذكر التكبير الذي كبره رسول الله ص على حمزة في قصة أحد . قوله ع ولكل فضل أي ولكل واحد من هؤلاء فضل لا يجحد . قوله أ ولا ترى أن قوما قطعت أيديهم هذا إشارة إلى جعفر وقد تقدم ذلك في قصة مؤتة . قوله ولو لا ما نهى الله عنه هذا إشارة إلى نفسه ع .
[ 194 ](1/4319)
قوله ولا تمجها آذان السامعين أي لا تقذفها يقال مج الرجل من فيه أي قذفه قوله ع فدع عنك من مالت به الرمية يقال للصيد يرمي هذه الرمية وهي فعيلة بمعنى مفعولة والأصل في مثلها ألا تلحقها الهاء نحو كف خضيب وعين كحيل إلا أنهم أجروها مجرى الأسماء لا النعوت كالقصيدة والقطيعة . والمعنى دع ذكر من مال إلى الدنيا ومالت به أي أمالته إليها . فإن قلت فهل هذا إشارة إلى أبي بكر وعمر قلت ينبغي أن ينزه أمير المؤمنين ع عن ذلك وأن تصرف هذه الكلمة إلى عثمان لأن معاوية ذكره في كتابه وقد أوردناه وإذا أنصف الإنسان من نفسه علم أنه ع لم يكن يذكرهما بما يذكر به عثمان فإن الحال بينه وبين عثمان كانت مضطربة جدا . قال ع فإن صنائع ربنا والناس بعد صنائع لنا هذا كلام عظيم عال على الكلام ومعناه عال على المعاني وصنيعة الملك من يصطنعه الملك ويرفع قدره . يقول ليس لأحد من البشر علينا نعمة بل الله تعالى هو الذي أنعم علينا فليس بيننا وبينه واسطة والناس بأسرهم صنائعنا فنحن الواسطة بينهم وبين الله تعالى وهذا مقام جليل ظاهره ما سمعت وباطنه أنهم عبيد الله وأن الناس عبيدهم . ثم قال لم يمنعنا قديم عزنا وعادي طولنا الطول الفضل وعادي أي قديم بئر عادية . قوله على قومك أن خلطناهم بأنفسنا فنكحنا وأنكحنا فعل الأكفاء ولستم هناك يقول تزوجنا فيكم وتزوجتم فينا كما يفعل الأكفاء ولستم أكفاءنا وينبغي أن يحمل قوله قديم وعادي على مجازه لا على حقيقته لأن بني هاشم وبني أمية لم يفترقا في الشرف إلا مذ نشأ هاشم بن عبد مناف وعرف بأفعاله ومكارمه ونشأ حينئذ أخوه عبد شمس وعرف بمثل ذلك وصار لهذا بنون ولهذا بنون وادعى كل من الفريقين
[ 195 ](1/4320)
أنه أشرف بالفعال من الآخر ثم لم تكن المدة بين نش ء هاشم وإظهار محمد ص الدعوة إلا نحو تسعين سنة ومثل هذه المدة القصيرة لا يقال فيها قديم عزنا وعادي طولنا فيجب أن يحمل اللفظ على مجازه لأن الأفعال الجميلة كما تكون عادية بطول المدة تكون بكثرة المناقب والمآثر والمفاخر وإن كانت المدة قصيرة ولفظة قديم ترد ولا يراد بها قدم الزمان بل من قولهم لفلان قدم صدق وقديم أثر أي سابقة حسنة(1/4321)
مناكحات بني هاشم وبني عبد شمس
و ينبغي أن نذكرها هاهنا مناكحات بني هاشم وبني عبد شمس زوج رسول الله ص ابنتيه رقية وأم كلثوم من عثمان بن عفان بن أبي العاص وزوج ابنته زينب من أبي العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس في الجاهلية وتزوج أبو لهب بن عبد المطلب أم جميل بنت حرب بن أمية في الجاهلية وتزوج رسول الله ص أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب وتزوج عبد الله بن عمرو بن عثمان فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب ع . وروى شيخنا أبو عثمان عن إسحاق بن عيسى بن علي بن عبد الله بن العباس قال قلت للمنصور أبي جعفر من أكفاؤنا فقال أعداؤنا فقلت من هم فقال بنو أمية . وقال إسحاق بن سليمان بن علي قلت للعباس بن محمد إذا اتسعنا من البنات وضقنا من البنين وخفنا بوار الأيامى فإلى من نخرجهن من قبائل قريش فأنشدني
عبد شمس كان يتلو هاشما
و هما بعد لأم ولأب
[ 196 ]
فعرفت ما أراد وسكتت . وروى أيوب بن جعفر بن سليمان قال سألت الرشيد عن ذلك فقال زوج النبي ص بني عبد شمس فأحمد صهرهم وقال ما ذممنا من صهرنا فإنا لا نذم صهر أبي العاص بن الربيع .(1/4322)
قال شيخنا أبو عثمان ولما ماتت الابنتان تحت عثمان قال النبي ص لأصحابه ما تنتظرون بعثمان أ لا أبو أيم أ لا أخو أيم زوجته ابنتين ولو أن عندي ثالثة لفعلت قال ولذلك سمي ذا النورين ثم قال ع وأنى يكون ذلك أي كيف يكون شرفكم كشرفنا ومنا النبي ومنكم المكذب يعني أبا سفيان بن حرب كان عدو رسول الله والمكذب له والمجلب عليه وهؤلاء ثلاثة بإزاء أبي سفيان رسول الله ص ومعاوية بإزاء علي ع ويزيد بإزاء الحسين ع بينهم من العداوة ما لا تبرك عليه الإبل . قال ومنا أسد الله يعني حمزة ومنكم أسد الأحلاف يعني عتبة بن ربيعة وقد تقدم شرح ذلك في قصة بدر . وقال الراوندي المكذب من كان يكذب رسول الله ص عنادا من قريش وأسد الأحلاف أسد بن عبد العزى قال لأن بني أسد بن عبد العزى كانوا أحد البطون الذين اجتمعوا في حلف المطيبين وهم بنو أسد بن عبد العزى وبنو عبد مناف وبنو تميم بن مرة وبنو زهرة وبنو الحارث بن فهر وهذا كلام طريف جدا لأنه لم يلحظ أنه يجب أن يجعل بإزاء النبي ص مكذب
[ 197 ](1/4323)
من بني عبد شمس فقال المكذب من كذب النبي ص من قريش عنادا وليس كل من كذبه ع من قريش يعير معاوية به ثم قال أسد الأحلاف أسد بن عبد العزى وأي عار يلزم معاوية من ذلك ثم إن بني عبد مناف كانوا في هذا الحلف وعلي ومعاوية من بني عبد مناف ولكن الراوندي يظلم نفسه بتعرضه لما لا يعلمه . قوله ومنا سيدا شباب أهل الجنة يعني حسنا وحسينا ع ومنكم صبية النار هي الكلمة التي قالها النبي ص لعقبة بن أبي معيط حين قتله صبرا يوم بدر وقد قال كالمستعطف له ع من للصبية يا محمد قال النار . وعقبة بن أبي معيط من بني عبد شمس ولم يعلم الراوندي ما المراد بهذه الكلمة فقال صبية النار أولاد مروان بن الحكم الذين صاروا من أهل النار عند البلوغ ولما أخبر النبي ص عنهم بهذه الكلمة كانوا صبية ثم ترعرعوا واختاروا الكفر ولا شبهة أن الراوندي قد كان يفسر من خاطره ما خطر له . قال قوله ع ومنا خير نساء العالمين يعني فاطمة ع نص رسول الله ص على ذلك لا خلاف فيه . ومنكم حمالة الحطب هي أم جميل بنت حرب بن أمية امرأة أبي لهب الذي ورد نص القرآن فيها بما ورد . قوله في كثير مما لنا وعليكم أي أنا قادر على أن أذكر من هذا شيئا كثيرا ولكني أكتفي بما ذكرت . فإن قلت فبما ذا يتعلق في في قوله في كثير قلت بمحذوف تقديره هذا الكلام داخل في جملة كلام كثير تتضمن ما لنا وعليكم . قوله ع فإسلامنا ما قد سمع وجاهليتنا لا تدفع كلام قد تعلق به
[ 198 ]
بعض من يتعصب للأموية وقال لو كانت جاهلية بني هاشم في الشرف كإسلامهم لعد من جاهليتهم حسب ما عد من فضيلتهم في الإسلام(1/4324)
فضل بني هاشم على بني عبد شمس
و ينبغي أن نذكر في هذا الموضع فضل هاشم على عبد شمس في الجاهلية وقد يمتزج بذلك بعض ما يمتازون به في الإسلام أيضا فإن استقصاءه في الإسلام كثير لأنه لا يمكن جحد ذلك وكيف والإسلام كله عبارة عن محمد ص وهو هاشمي ويدخل في ضمن ذلك ما يحتج به الأموية أيضا فنقول إن شيخنا أبا عثمان قال إن أشرف خصال قريش في الجاهلية اللواء والندوة والسقاية والرفادة وزمزم والحجابة وهذه الخصال مقسومة في الجاهلية لبني هاشم وعبد الدار وعبد العزى دون بني عبد شمس . قال على أن معظم ذلك صار شرفه في الإسلام إلى بني هاشم لأن النبي ص لما ملك مكة صار مفتاح الكعبة بيده فدفعه إلى عثمان بن طلحة فالشرف راجع إلى من ملك المفتاح لا إلى من دفع إليه وكذلك دفع ص اللواء إلى مصعب بن عمير فالذي دفع اللواء إليه وأخذه مصعب من يديه أحق بشرفه وأولى بمجده وشرفه راجع إلى رهطه من بني هاشم . قال وكان محمد بن عيسى المخزومي أميرا على اليمن فهجاه أبي بن مدلج فقال
قل لابن عيسى المستغيث
من السهولة بالوعورة
الناطق العوراء في
جل الأمور بلا بصيرة
ولد المغيرة تسعة
كانوا صناديد العشيرة
[ 199 ]
و أبوك عاشرهم كما
نبتت مع النخل الشعيرة
إن النبوة والخلافة
و السقاية والمشورة
في غيركم فاكفف إليك
يدا مجذمة قصيرة
قال فانبرى له شاعر من ولد كريز بن حبيب بن عبد شمس كان مع محمد بن عيسى باليمن يهجو عنه ابن مدلج في كلمة له طويلة قال فيها
لا لواء يعد يا ابن كريز
لا ولا رفد بيته ذي السناء
لا حجاب وليس فيكم سوى الكبر
و بغض النبي والشهداء
بين حاك ومخلج وطريد
و قتيل يلعنه أهل السماء
و لهم زمزم كذاك وجبريل
و مجد السقاية الغراء(1/4325)
قال شيخنا أبو عثمان فالشهداء علي وحمزة وجعفر والحاكي والمخلج هو الحكم بن أبي العاص كان يحكي مشية رسول الله ص فالتفت يوما فرآه فدعا عليه فلم يزل مخلج المشية عقوبة من الله تعالى والطريد اثنان الحكم بن أبي العاص ومعاوية بن المغيرة بن أبي العاص وهما جدا عبد الملك بن مروان من قبل أمه وأبيه . وكان النبي ص طرد معاوية بن المغيرة هذا من المدينة وأجله ثلاثا فحيره الله ولم يزل يتردد في ضلاله حتى بعث في أثره عليا ع وعمارا فقتلاه فأما القتلى فكثير نحو شيبة وعتبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة وحنظلة بن أبي سفيان وعقبة بن أبي معيط والعاص بن سعيد بن أمية ومعاوية بن المغيرة وغيرهم قال أبو عثمان وكان اسم هاشم عمرا وهاشم لقب وكان أيضا يقال له القمر وفي ذلك يقول مطرود الخزاعي
[ 200 ]
إلى القمر الساري المنير دعوته
و مطعمهم في الأزل من قمع الجزر
قال ذلك في شي ء كان بينه وبين بعض قريش فدعاه مطرود إلى المحاكمة إلى هاشم وقال ابن الزبعرى
كانت قريش بيضة فتفلقت
فالمخ خالصة لعبد مناف
الرائشون وليس يوجد رائش
و القائلون هلم للأضياف
عمرو العلي هشم الثريد لقومه
و رجال مكة مسنتون عجاف
فعم كما ترى أهل مكة بالأزل والعجف وجعله الذي هشم لهم الخبز ثريدا فغلب هذا اللقب على اسمه حتى صار لا يعرف إلا به وليس لعبد شمس لقب كريم ولا اشتق له من صالح أعماله اسم شريف ولم يكن لعبد شمس ابن يأخذ بضبعه ويرفع من قدره ويزيد في ذكره ولهاشم عبد المطلب سيد الوادي غير مدافع أجمل الناس جمالا وأظهرهم جودا وأكملهم كمالا وهو صاحب الفيل والطير الأبابيل وصاحب زمزم وساقي الحجيج وولد عبد شمس أمية بن عبد شمس وأمية في نفسه ليس هناك وإنما ذكر بأولاده ولا لقب له ولعبد المطلب لقب شهير واسم شريف شيبة الحمد قال مطرود الخزاعي في مدحه
يا شيبة الحمد الذي تثني له
أيامه من خير ذخر الذاخر(1/4326)
المجد ما حجت قريش بيته
و دعا هذيل فوق غصن ناضر
و الله لا أنساكم وفعالكم
حتى أغيب في سفاه القابر
و قال حذافة بن غانم العدوي وهو يمدح أبا لهب ويوصي ابنه خارجة بن حذافة بالانتماء إلى بني هاشم
أ خارج إما أهلكن فلا تزل
لهم شاكرا حتى تغيب في القبر
[ 201 ]
بني شيبة الحمد الكريم فعاله
يضي ء ظلام الليل كالقمر البدر
لساقي الحجيج ثم للشيخ هاشم
و عبد مناف ذلك السيد الغمر
أبو عتبة الملقى إلي جواره
أغر هجان اللون من نفر غر
أبوكم قصي كان يدعى مجمعا
به جمع الله القبائل من فهر
فأبو عتبة هو أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم وابناه عتبة وعتيبة وقال العبدي حين احتفل في الجاهلية فلم يترك
لا ترى في الناس حيا مثلنا
ما خلا أولاد عبد المطلب
و إنما شرف عبد شمس بأبيه عبد مناف بن قصي وبني ابنه أمية بن عبد شمس وهاشم شرف بنفسه وبأبيه عبد مناف وبابنه عبد المطلب والأمر في هذا بين وهو كما أوضحه الشاعر في قوله
إنما عبد مناف جوهر
زين الجوهر عبد المطلب
قال أبو عثمان ولسنا نقول إن عبد شمس لم يكن شريفا في نفسه ولكن الشرف يتفاضل وقد أعطى الله عبد المطلب في زمانه وأجرى على يديه وأظهر من كرامته ما لا يعرف مثله إلا لنبي مرسل وإن في كلامه لأبرهة صاحب الفيل وتوعده إياه برب الكعبة وتحقيق قوله من الله تعالى ونصره وعيده بحبس الفيل وقتل أصحابه بالطير الأبابيل وحجارة السجيل حتى تركوا كالعصف المأكول لأعجب البرهانات وأسنى الكرامات وإنما كان ذلك إرهاصا لنبوة النبي ص وتأسيسا لما يريده الله به من الكرامة وليجعل ذلك البهاء متقدما له ومردودا عليه وليكون أشهر في الآفاق وأجل في صدور الفراعنة والجبابرة والأكاسرة وأجدر أن يقهر المعاند ويكشف غباوة الجاهل وبعد فمن يناهض ويناضل رجالا ولدوا محمدا ص ولو عزلنا
[ 202 ](1/4327)
ما أكرمه الله به من النبوة حتى نقتصر على أخلاقه ومذاهبه وشيمه لما وفى به بشر ولا عدله شي ء ولو شئنا أن نذكر ما أعطى الله به عبد المطلب من تفجر العيون وينابيع الماء من تحت كلكل بعيره وأخفافه بالأرض القسي وبما أعطي من المساهمة وعند المقارعة من الأمور العجيبة والخصال البائنة لقلنا ولكنا أحببنا ألا نحتج عليكم إلا بالموجود في القرآن الحكيم والمشهور في الشعر القديم الظاهر على ألسنة الخاصة والعامة ورواة الأخبار وحمال الآثار . قال ومما هو مذكور في القرآن عدا حديث الفيل قوله تعالى لِإِيلافِ قُرَيْشٍ وقد اجتمعت الرواة على أن أول من أخذ الإيلاف لقريش هاشم بن عبد مناف فلما مات قام أخوه المطلب مقامه فلما مات قام عبد شمس مقامه فلما مات قام نوفل مقامه وكان أصغرهم والإيلاف هو أن هاشما كان رجلا كثير السفر والتجارة فكان يسافر في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام وشرك في تجارته رؤساء القبائل من العرب ومن ملوك اليمن والشام نحو العباهلة باليمن واليكسوم من بلاد الحبشة ونحو ملوك الروم بالشام فجعل لهم معه ربحا فيما يربح وساق لهم إبلا مع إبله فكفاهم مئونة الأسفار على أن يكفوه مئونة الأعداء في طريقه ومنصرفه فكان في ذلك صلاح عام للفريقين وكان المقيم رابحا والمسافر محفوظا فأخصبت قريش بذلك وحملت معه أموالها وأتاها الخير من البلاد السافلة والعالية وحسنت حالها وطاب عيشها قال وقد ذكر حديث الإيلاف الحارث بن الحنش السلمي وهو خال هاشم والمطلب وعبد شمس فقال
إن أخي هاشما
ليس أخا واحد
الآخذ الإيلاف و
القائم للقاعد
قال أبو عثمان وقيل إن تفسير قوله تعالى وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ هو خوف من كان هؤلاء الإخوة يمرون به من القبائل والأعداء وهم مغتربون ومعهم
[ 203 ](1/4328)
الأموال وهذا ما فسرنا به الإيلاف آنفا وقد فسره قوم بغير ذلك قالوا إن هاشما جعل على رؤساء القبائل ضرائب يؤدونها إليه ليحمي بها أهل مكة فإن ذؤبان العرب وصعاليك الأحياء وأصحاب الغارات وطلاب الطوائل كانوا لا يؤمنون على الحرم لا سيما وناس من العرب كانوا لا يرون للحرم حرمة ولا للشهر الحرام قدرا مثل طيئ وخثعم وقضاعة وبعض بلحارث بن كعب وكيفما كان الإيلاف فإن هاشما كان القائم به دون غيره من إخوته . قال أبو عثمان ثم حلف الفضول وجلالته وعظمته وهو أشرف حلف كان في العرب كلها وأكرم عقد عقدته قريش في قديمها وحديثها قبل الإسلام لم يكن لبني عبد شمس فيه نصيب
قال النبي ص وهو يذكر حلف الفضول لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت ويكفي في جلالته وشرفه أن رسول الله ص شهده وهو غلام وكان عتبة بن ربيعة يقول لو أن رجلا خرج مما عليه قومه لداخلت في حلف الفضول لما أرى من كماله وشرفه ولما أعلم من قدره وفضيلته . قال ولفضل ذلك الحلف وفضيلة أهله سمي حلف الفضول وسميت تلك القبائل الفضول فكان هذا الحلف في بني هاشم وبني المطلب وبني أسد بن عبد العزى وبني زهرة وبني تميم بن مرة تعاقدوا في دار ابن جدعان في شهر حرام قياما يتماسحون بأكفهم صعدا ليكونن مع المظلوم حتى يؤدوا إليه حقه ما بل بحر صوفة وفي التأسي في المعاش والتساهم بالمال وكانت النباهة في هذا الحلف للزبير بن عبد المطلب ولعبد الله بن جدعان أما ابن جدعان فلأن الحلف عقد في داره وأما الزبير فلأنه الذي نهض فيه ودعا إليه وحث عليه وهو الذي سماه حلف الفضول وذلك لأنه لما سمع الزبيدي المظلوم
[ 204 ]
ثمن سلعته قد أوفى على أبي قبيس قبل طلوع الشمس رافعا عقيرته وقريش في أنديتها قائلا
يا للرجال لمظلوم بضاعته
ببطن مكة نائي الحي والنفر
إن الحرام لمن تمت حرامته
و لا حرام لثوبي لابس الغدر(1/4329)
حمي وحلف ليعقدن حلفا بينه وبين بطون من قريش يمنعون القوي من ظلم الضعيف والقاطن من عنف الغريب ثم قال
حلفت لنعقدن حلفا عليهم
و إن كنا جميعا أهل دار
نسميه الفضول إذا عقدنا
يعز به الغريب لدى الجوار
و يعلم من حوالي البيت أنا
أباة الضيم نهجر كل عار
فبنو هاشم هم الذين سموا ذلك الحلف حلف الفضول وهم كانوا سببه والقائمين به دون جميع القبائل العاقدة له والشاهدة لأمره فما ظنك بمن شهده ولم يقم بأمره . قال أبو عثمان وكان الزبير بن عبد المطلب شجاعا أبيا وجميلا بهيا وكان خطيبا شاعرا وسيدا جوادا وهو الذي يقول
و لو لا الحمس لم يلبس رجال
ثياب أعزة حتى يموتوا
ثيابهم شمال أو عباء
بها دنس كما دنس الحميت
و لكنا خلقنا إذا خلقنا
لنا الحبرات والمسك الفتيت
و كأس لو تبين لهم كلاما
لقالت إنما لهم سبيت
تبين لنا القذى إن كان فيها
رضين الحلم يشربها هبيت
[ 205 ]
و يقطع نخوة المختال عنا
رقيق الحد ضربته صموت
بكف مجرب لا عيب فيه
إذا لقي الكريهة يستميت
قال والزبير هو الذي يقول
و أسحم من راح العراق مملا
محيط عليه الجيش جلد مرائره
صبحت به طلقا يراح إلى الندى
إذا ما انتشى لم يختصره معاقره
ضعيف بجنب الكأس قبض بنانه
كليل على جلد النديم أظافره
قال وبنو هاشم هم الذين ردوا على الزبيدي ثمن بضاعته وكانت عند العاص بن وائل وأخذوا للبارقي ثمن سلعته من أبي بن خلف الجمحي وفي ذلك يقول البارقي
و يأبى لكم حلف الفضول ظلامتي
بني جمح والحق يؤخذ بالغصب
و هم الذين انتزعوا من نبيه بن الحجاج قتول الحسناء بنت التاجر الخثعمي وكان كابره عليها حين رأى جمالها وفي ذلك يقول نبيه بن الحجاج
و خشيت الفضول حين أتوني
قد أراني ولا أخاف الفضولا
إني والذي يحج له شمط
إياد وهللوا تهليلا
لبراء مني قتيلة يا للناس
هل يتبعون إلا القتولا
و فيها أيضا يقول
لو لا الفضول وأنه
لا أمن من عروائها
لدنوت من أبياتها
و لطفت حول خبائها(1/4330)
[ 206 ]
في كلمته التي يقول فيها
حي النخيلة إذ نأت
منا على عدوائها
لا بالفراق تنيلنا
شيئا ولا بلقائها
حلت بمكة حلة
في مشيها ووطائها
في رجال كثير انتزعوا منهم الظلامات ولم يكن يظلم بمكة إلا رجال أقوياء ولهم العدد والعارضة منهم من ذكرنا قصته . قال أبو عثمان ولهاشم أخرى لا يعد أحد مثلها ولا يأتي بما يتعلق بها وذلك أن رؤساء قبائل قريش خرجوا إلى حرب بني عامر متساندين فكان حرب بن أمية على بني عبد شمس وكان الزبير بن عبد المطلب على بني هاشم وكان عبد الله بن جدعان على بني تيم وكان هشام بن المغيرة على بني مخزوم وكان على كل قبيلة رئيس منها فهم متكافئون في التساند ولم يحقق واحد منهم الرئاسة على الجميع ثم آب هاشم بما لا تبلغه يد متناول ولا يطمع فيه طامع وذلك
أن النبي ص قال شهدت الفجار وأنا غلام فكنت أنبل فيه على عمومتي فنفى مقامه ع أن تكون قريش هي التي فجرت فسميت تلك الحرب حرب الفجار وثبت أن الفجور إنما كان ممن حاربهم وصاروا بيمنه وبركته ولما يريد الله تعالى من إعزاز أمره وإعظامه الغالبين العالين ولم يكن الله ليشهده فجرة ولا غدرة فصار مشهده نصرا وموضعه فيهم حجة ودليلا . قال أبو عثمان وشرف هاشم متصل من حيث عددت كان الشرف معك كابرا عن كابر وليس بنو عبد شمس كذلك فإن الحكم بن أبي العاص كان عاديا في الأعلام ولم يكن له سناء في الجاهلية .
[ 207 ]
و أما أمية فلم يكن في نفسه هناك وإنما رفعه أبوه وكان مضعوفا وكان صاحب عهار يدل على ذلك قول نفيل بن عدي جد عمر بن الخطاب حين تنافر إليه حرب بن أمية وعبد المطلب بن هاشم فنفر عبد المطلب وتعجب من إقدام حرب عليه وقال له
أبوك معاهر وأبوه عف
و ذاد الفيل عن بلد حرام(1/4331)
و ذلك أن أمية كان تعرض لامرأة من بني زهرة فضربه رجل منهم بالسيف فأراد بنو أمية ومن تبعهم إخراج زهرة من مكة فقام دونهم قيس بن عدي السهمي وكانوا أخواله وكان منيع الجانب شديد العارضة حمي الأنفس أبي النفس فقام دونهم وصاح أصبح ليل فذهبت مثلا ونادى الآن الظاعن مقيم وفي هذه القصة يقول وهب بن عبد مناف بن زهرة جد رسول الله ص
مهلا أمي فإن البغي مهلكة
لا يكسبنك يوم شره ذكر
تبدو كواكبه والشمس طالعة
يصب في الكأس منه الصبر والمقر
قال أبو عثمان وصنع أمية في الجاهلية شيئا لم يصنعه أحد من العرب زوج ابنه أبا عمرو امرأته في حياته منه فأولدها أبا معيط بن أبي عمرو بن أمية والمقيتون في الإسلام هم الذين نكحوا نساء آبائهم بعد موتهم فإما أن يتزوجها في حياة الأب ويبني عليها وهو يراه فإنه شي ء لم يكن قط . قال أبو عثمان وقد أقر معاوية على نفسه ورهطه لبني هاشم حين قيل له أيهما كان أسود في الجاهلية أنتم أم بنو هاشم فقال كانوا أسود منا واحدا وكنا
[ 208 ](1/4332)
أكثر منهم سيدا فأقر وادعى فهو في إقراره بالنقص مخصوم وفي ادعائه الفضل خصيم . وقال جحش بن رئاب الأسدي حين نزل مكة بعد موت عبد المطلب والله لأتزوجن ابنة أكرم أهل هذا الوادي ولأحالفن أعزهم فتزوج أميمة بنت عبد المطلب وحالف أبا سفيان بن حرب وقد يمكن أن يكون أعزهم ليس بأكرمهم ولا يمكن أن يكون أكرمهم ليس بأكرمهم وقد أقر أبو جهل على نفسه ورهطه من بني مخزوم حين قال تحاربنا نحن وهم حتى إذا صرنا كهاتين قالوا منا نبي فأقر بالتقصير ثم ادعى المساواة أ لا تراه كيف أقر أنه لم يزل يطلب شأوهم ثم ادعى أنه لحقهم فهو مخصوم في إقراره خصيم في دعواه وقد حكم لهاشم دغفل بن حنظلة النسابة حين سأله معاوية عن بني هاشم فقال هم أطعم للطعام وأضرب للهام وهاتان خصلتان يجمعان أكثر الشرف . قال أبو عثمان والعجب من منافرة حرب بن أمية عبد المطلب بن هاشم وقد لطم حرب جارا لخلف بن أسعد جد طلحة الطلحات فجاء جاره فشكا ذلك إليه فمشى خلف إلى حرب وهو جالس عند الحجر فلطم وجهه عنوة من غير تحاكم ولا تراض فما انتطح فيه عنزان ثم قام أبو سفيان بن حرب مقام أبيه بعد موته فحالفه أبو الأزيهر الدوسي وكان عظيم الشأن في الأزد وكانت بينه وبين بني الوليد بن المغيرة محاكمة في مصاهرة كانت بين الوليد وبينه فجاءه هشام بن الوليد وأبو الأزيهر قاعد في مقعد أبي سفيان بذي المجاز فضرب عنقه فلم يدرك به أبو سفيان عقلا ولا قودا في بني المغيرة وقال حسان بن ثابت يذكر ذلك
[ 209 ]
غدا أهل حصني ذي المجاز بسحرة
و جار ابن حرب لا يروح ولا يغدو
كساك هشام بن الوليد ثيابه
فأبل وأخلق مثلها جددا بعد(1/4333)
فهذه جملة صالحة مما ذكره شيخنا أبو عثمان . ونحن نورد من كتاب أنساب قريش للزبير بن بكار ما يتضمن شرحا لما أجمله شيخنا أبو عثمان أو لبعضه فإن كلام أبي عثمان لمحة وإشارة وليس بالمشروح . قال الزبير حدثني عمر بن أبي بكر العدوي من بني عدي بن كعب قال حدثني يزيد بن عبد الملك بن المغيرة بن نوفل عن أبيه قال اصطلحت قريش على أن ولي هاشم بعد موت أبيه عبد مناف السقاية والرفادة وذلك أن عبد شمس كان يسافر قل أن يقيم بمكة وكان رجلا معيلا وكان له ولد كثير وكان هاشم رجلا موسرا فكان إذا حضر الحج قام في قريش فقال يا معشر قريش إنكم جيران الله وأهل بيته وإنه يأتيكم في هذا الموسم زوار الله يعظمون حرمة بيته فهم لذلك ضيف الله وأحق ضيف بالكرامة ضيف الله وقد خصكم الله بذلك وأكرمكم به ثم حفظ منكم أفضل ما حفظ جار من جاره فأكرموا ضيفه وزواره فإنهم يأتون شعثا غبرا من كل بلد ضوامر كالقداح وقد أرجفوا وتفلوا وقملوا وأرملوا فأقروهم وأعينوهم قال فكانت قريش تترافد على ذلك حتى إن كل أهل بيت ليرسلون بالشي ء اليسير على قدر حالهم وكان هاشم يخرج في كل سنة مالا كثيرا وكان قوم من قريش يترافدون وكانوا أهل يسار فكان كل إنسان ربما أرسل بمائة مثقال ذهب هرقلية
[ 210 ](1/4334)
و كان هاشم يأمر بحياض من أدم تجعل في مواضع زمزم من قبل أن تحفر يستقي فيها من البئار التي بمكة فيشرب الحاج وكان يطعمهم أول ما يطعم قبل يوم التروية بيوم بمكة وبمنى وبجمع وعرفة وكان يثرد لهم الخبز واللحم والسمن والسويق والتمر ويحمل لهم الماء فيسقون بمنى والماء يومئذ قليل إلى أن يصدر الحاج من منى ثم تنقطع الضيافة وتتفرق الناس إلى بلادهم . قال الزبير وإنما سمي هاشما لهشمه الثريد وكان اسمه عمرا ثم قالوا عمرو العلا لمعاليه وكان أول من سن الرحلتين رحلة إلى الحبشة ورحلة إلى الشام ثم خرج في أربعين من قريش فبلغ غزة فمرض بها فمات فدفنوه بها ورجعوا بتركته إلى ولده ويقال إن الذي رجع بتركته إلى ولده أبو رهم عبد العزى بن أبي قيس العامري من بني عامر بن لؤي . قال الزبير وكان يقال لهاشم والمطلب البدران ولعبد شمس ونوفل الأبهران . قال الزبير وقد اختلف في أي ولد عبد مناف أسن والثبت عندنا أن أسنهم هاشم وقال آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عمر بن عبد العزيز بن مروان
يا أمين الله إني قائل
قول ذي دين وبر وحسب
عبد شمس لا تهنها إنما
عبد شمس عم عبد المطلب
عبد شمس كان يتلو هاشما
و هما بعد لأم ولأب
قال الزبير وحدثني محمد بن حسن عن محمد بن طلحة عن عثمان بن عبد الرحمن قال قال عبد الله بن عباس والله لقد علمت قريش أن أول من أخذ الإيلاف وأجاز لها العيرات لهاشم والله ما شدت قريش رحالا ولا حبلا بسفر ولا أناخت بعيرا لحضر
[ 211 ](1/4335)
إلا بهاشم والله إنه أول من سقى بمكة ماء عذبا وجعل باب الكعبة ذهبا لعبد المطلب . قال الزبير وكانت قريش تجارا لا تعدو تجارتهم مكة إنما تقدم عليهم الأعاجم بالسلع فيشترونها منهم يتبايعون بها بينهم ويبيعون من حولهم من العرب حتى رحل هاشم بن عبد مناف إلى الشام فنزل بقيصر فكان يذبح كل يوم شاة ويصنع جفنة من ثريد ويدعو الناس فيأكلون وكان هاشم من أحسن الناس خلقا وتماما فذكر لقيصر وقيل له هاهنا شاب من قريش يهشم الخبز ثم يصب عليه المرق ويفرغ عليه اللحم ويدعو الناس قال وإنما كانت الأعاجم والروم تصنع المرق في الصحاف ثم تأتدم عليه بالخبز فدعا به قيصر فلما رآه وكلمه أعجب به وجعل يرسل إليه فيدخل عليه فلما رأى مكانه سأله أن يأذن لقريش في القدوم عليه بالمتاجر وأن يكتب لهم كتب الأمان فيما بينهم وبينه ففعل فبذلك ارتفع هاشم من قريش قال الزبير وكان هاشم يقوم أول نهار اليوم الأول من ذي الحجة فيسند ظهره إلى الكعبة من تلقاء بابها فيخطب قريشا فيقول يا معشر قريش أنتم سادة العرب أحسنها وجوها وأعظمها أحلاما وأوسطها أنسابا وأقربها أرحاما يا معشر قريش أنتم جيران بيت الله أكرمكم بولايته وخصكم بجواره دون بني إسماعيل وحفظ منكم أحسن ما حفظ منكم جار من جاره فأكرموا ضيفه وزوار بيته فإنهم يأتونكم شعثا غبرا من كل بلد فو رب هذه البنية لو كان لي مال يحمل ذلك لكفيتموه ألا وإني مخرج من طيب مالي وحلاله ما لم تقطع فيه رحم ولم يؤخذ بظلم ولم يدخل فيه حرام فواضعه فمن شاء منكم أن يفعل مثل ذلك فعل وأسألكم بحرمة هذا البيت ألا يخرج منكم رجل من ماله لكرامة زوار بيت الله ومعونتهم إلا طيبا لم يؤخذ ظلما ولم تقطع فيه رحم ولم يغتصب قال فكانت قريش تخرج من صفو أموالها ما تحتمله أحوالها وتأتي بها إلى هاشم فيضعه في دار الندوة لضيافة الحاج .
[ 212 ]
قال الزبير ومما رثى به مطرود الخزاعي هاشما قوله(1/4336)
مات الندى بالشام لما أن ثوى
أودى بغزة هاشم لا يبعد
فجفانه رذم لمن ينتابه
و النصر أدنى باللسان وباليد
و من مراثيه له
يا عين جودي وأذري الدمع واحتفلي
و ابكي خبيئة نفسي في الملمات
و ابكي على كل فياض أخي حسب
ضخم الدسيعة وهاب الجزيلات
ماضي الصريمة عالي الهم ذي شرف
جلد النحيزة حمال العظيمات
صعب المقادة لا نكس ولا وكل
ماض على الهول متلاف الكريمات
محض توسط من كعب إذا نسبوا
بحبوحة المجد في الشم الرفيعات
فابكي على هاشم في وسط بلقعة
تسقي الرياح عليه وسط غزات
يا عين بكي أبا الشعث الشجيات
يبكينه حسرا مثل البنيات
يبكين عمرو العلا إذ حان مصرعه
سمح السجية بسام العشيات
يبكينه معولات في معاوزها
يا طول ذلك من حزن وعولات
محزمات على أوساطهن لما
جر الزمان من أحداث المصيبات
أبيت أرعى نجوم الليل من ألم
أبكي وتبكي معي شجوا بنياتي
قال الزبير وحدثني إبراهيم بن المنذر عن الواقدي عن عبد الرحمن بن الحارث عن عكرمة عن ابن عباس قال أول من سن دية النفس مائة من الإبل عبد المطلب فجرت في قريش والعرب سنته وأقرها رسول الله ص قال وأم عبد المطلب سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد من بني النجار من الأنصار وكان سبب
[ 213 ](1/4337)
تزوج هاشم بها أنه قدم في تجارة له المدينة فنزل على عمرو بن زيد فجاءته سلمى بطعام فأعجبت هاشما فخطبها إلى أبيها فأنكحه إياها وشرط عليه أن تلد عند أهلها فبنى عليها بالمدينة وأقام معها سنتين ثم ارتحل بها إلى مكة فحملت وأثقلت فخرج بها إلى المدينة فوضعها عند أهلها ومضى إلى الشام فمات بغزة من وجهه ذلك وولدت عبد المطلب فسمته شيبة الحمد لشعرة بيضاء كانت في ذوائبه حين ولد فمكث بالمدينة ست سنين أو ثمانيا ثم إن رجلا من تهامة مر بالمدينة فإذا غلمان ينتضلون وغلام منهم يقول كلما أصاب أنا ابن هاشم بن عبد مناف سيد البطحاء فقال له الرجل من أنت يا غلام قال أنا ابن هاشم بن عبد مناف قال ما اسمك قال شيبة الحمد فانصرف الرجل حتى قدم مكة فيجد المطلب بن عبد مناف جالسا في الحجر فقال قم إلي يا أبا الحارث فقام إليه فقال تعلم أني جئت الآن من يثرب فوجدت بها غلمانا ينتضلون . . . وقص عليه ما رأى من عبد المطلب وقال إنه أضرب غلام رأيته قط فقال له المطلب أغفلته والله أما إني لا أرجع إلى أهلي ومالي حتى آتيه فخرج المطلب حتى أتى المدينة فأتاها عشاء ثم خرج براحلته حتى أتى بني عدي بن النجار فإذا الغلمان بين ظهراني المجلس فلما نظر إلى ابن أخيه قال للقوم هذا ابن هاشم قالوا نعم وعرفه القوم فقالوا هذا ابن أخيك فإن كنت تريد أخذه فالساعة لا نعلم أمه فإنها إن علمت حلنا بينك وبينه فأناخ راحلته ثم دعاه فقال يا ابن أخي أنا عمك وقد أردت الذهاب بك إلى قومك فاركب قال فو الله ما كذب أن جلس على عجز الراحلة وجلس المطلب على الراحلة ثم بعثها فانطلقت فلما علمت أمه قامت تدعو حزنها على ابنها فأخبرت أنه عمه وأنه ذهب به إلى قومه قال فانطلق به المطلب فدخل به مكة ضحوة مردفه خلفه والناس في أسواقهم ومجالسهم فقاموا يرحبون به ويقولون من هذا الغلام معك فيقول عبد لي ابتعته بيثرب ثم خرج به
[ 214 ](1/4338)
حتى جاء إلى الحزورة فابتاع له حلة ثم أدخله على امرأته خديجة بنت سعد بن سهم فرجلت شعره ثم ألبسه الحلة عشية فجاء به فأجلسه في مجلس بني عبد مناف وأخبرهم خبره فكان الناس بعد ذلك إذا رأوه يطوف في سكك مكة وهو أحسن الناس يقولون هذا عبد المطلب لقول المطلب هذا عبدي فلج به الاسم وترك به شيبة . وروى الزبير رواية أخرى أن سلمى أم عبد المطلب حالت بين المطلب وبين ابنها شيبة وكان بينها وبينه في أمره محاورة ثم غلبها عليه وقال
عرفت شيبة والنجار قد حلفت
أبناؤها حوله بالنبل تنتضل
فأما الشعر الذي لحذافة العذري والذي ذكره شيخنا أبو عثمان فقد ذكره الزبير بن بكار في كتاب النسب وزاد فيه
كهولهم خير الكهول ونسلهم
كنسل الملوك لا يبور ولا يجري
ملوك وأبناء الملوك وسادة
تفلق عنهم بيضة الطائر الصقر
متى تلق منهم طامحا في عنانه
تجده على أجراء والده يجري
هم ملكوا البطحاء مجدا وسؤددا
و هم نكلوا عنها غواة بني بكر
و هم يغفرون الذنب ينقم مثله
و هم تركوا رأي السفاهة والهجر
أ خارج إما أهلكن فلا تزل
لهم شاكرا حتى تغيب في القبر
قال الزبير وحدثني عن سبب هذا الشعر محمد بن حسن عن محمد بن طلحة عن أبيه قال إن ركبا من جذام خرجوا صادرين عن الحج من مكة ففقدوا رجلا منهم عالية بيوت مكة فيلقون حذافة العذري فربطوه وانطلقوا به فتلقاهم عبد المطلب مقبلا من الطائف ومعه ابنه أبو لهب يقود به وعبد المطلب حينئذ قد ذهب بصره فلما نظر إليه حذافة بن غانم هتف به فقال عبد المطلب لابنه
[ 215 ](1/4339)
ويلك من هذا قال هذا حذافة بن غانم مربوطا مع ركب قال فالحقهم فسلهم ما شأنهم وشأنه فلحقهم أبو لهب فأخبروه الخبر فرجع إلى أبيه فأخبره فقال ويحك ما معك قال لا والله ما معي شي ء قال فالحقهم لا أم لك فأعطهم بيدك وأطلق الرجل فلحقهم أبو لهب فقال قد عرفتم تجارتي ومالي وأنا أحلف لكم لأعطينكم عشرين أوقية ذهبا وعشرا من الإبل وفرسا وهذا ردائي رهن فقبلوا ذلك منه وأطلقوا حذافة فلما أقبل به وقربا من عبد المطلب سمع عبد المطلب صوت أبي لهب ولم يسمع صوت حذافة فصاح به وأبي إنك لعاص ارجع لا أم لك قال يا أبتا هذا الرجل معي فناداه عبد المطلب يا حذافة أسمعني صوتك قال ها أنا ذا بأبي أنت وأمي يا ساقى الحجيج أردفني فأردفه حتى دخل مكة فقال حذافة هذا الشعر . قال الزبير وحدثني عبد الله بن معاذ عن معمر عن ابن شهاب قال أول ما ذكر من عبد المطلب أن قريشا خرجت فارة من الحرم خوفا من أصحاب الفيل وعبد المطلب يومئذ غلام شاب فقال والله لا أخرج من حرم الله أبغي العز في غيره فجلس في البيت وأجلت قريش عنه فقال عبد المطلب
لا هم إن المرء يمنع
رحله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم
و محالهم أبدا محالك
فلم يزل ثابتا في الحرم حتى أهلك الله الفيل وأصحابه فرجعت قريش وقد عظم فيهم بصبره وتعظيمه محارم الله عز وجل فبينا هو على ذلك وكان أكبر ولده وهو الحارث بن عبد المطلب قد بلغ الحلم أري عبد المطلب في المنام فقيل له احفر زمزم خبيئة الشيخ الأعظم فاستيقظ فقال اللهم بين لي الشيخ فأري في المنام مرة أخرى
[ 216 ](1/4340)
احفر تكتم بين الفرث والدم في مبحث الغراب في قرية النمل مستقبلة الأنصاب الحمر فقام عبد المطلب فمشى حتى جلس في المسجد الحرام ينتظر ما سمي له من الآيات فنحر بقرة في الحزورة فأفلتت من جازرها بحشاشة نفسها حتى غلب عليها الموت في المسجد في موضع زمزم فاحتمل لحمها من مكانها وأقبل غراب يهوي حتى وقع في الفرث فبحث عن قرية النمل فقام عبد المطلب يحفرها فجاءته قريش فقالت له ما هذا الصنع إنا لم نكن نراك بالجهل لم تحفر في مسجدنا فقال عبد المطلب إني لحافر هذا البئر ومجاهد من صدني عنها فطفق يحفر هو وابنه الحارث وليس له يومئذ ولد غيره فيسفه عليهما الناس من قريش فينازعونهما ويقاتلونهما وتناهى عنه ناس من قريش لما يعلمون من زعيق نسبه وصدقه واجتهاده في دينهم يومئذ حتى إذا أتعبه الحفر واشتد عليه الأذى نذر إن وفى له عشرة من الولدان ينحر أحدهم ثم حفر فأدرك سيوفا دفنت في زمزم حين دفنت فلما رأت قريش أنه قد أدرك السيوف قالت يا عبد المطلب أحذنا مما وجدت فقال عبد المطلب بل هذه السيوف لبيت الله ثم حفر حتى أنبط الماء فحفرها في القرار ثم بحرها حتى لا تنزف ثم بنى عليها حوضا وطفق هو وابنه ينزعان فيملآن ذلك الحوض فيشرب منه الحاج ويكسره قوم حسدة له من قريش بالليل فيصلحه عبد المطلب حين يصبح فلما أكثروا فساده دعا عبد المطلب ربه فأري فقيل له قل اللهم إني لا أحلها لمغتسل وهي لشارب حل وبل ثم كفيتهم فقام عبد المطلب حين اختلف قريش في المسجد فنادى بالذي أري ثم انصرف فلم يكن يفسد حوضه عليه أحد من قريش إلا رمي في جسده بداء حتى تركوا حوضه ذلك وسقايته ثم تزوج عبد المطلب النساء فولد له عشرة رهط فقال اللهم إني
[ 217 ](1/4341)
كنت نذرت لك نحر أحدهم وإني أقرع بينهم فأصيب بذلك من شئت فأقرع بينهم فطارت القرعة على عبد الله بن عبد المطلب أبي رسول الله ص وكان أحب ولده إليه فقال عبد المطلب اللهم هو أحب إليك أم مائة من الإبل فنحرها عبد المطلب مكان عبد الله وكان عبد الله أحسن رجل رئي في قريش قط . وروى الزبير أيضا قال حدثني إبراهيم بن المنذر عن عبد العزيز بن عمران عن عبد الله بن عثمان بن سليمان قال سمعت أبي يقول لما حفرت زمزم وأدرك منها عبد المطلب ما أدرك وجدت قريش في أنفسها مما أعطي عبد المطلب فلقيه خويلد بن أسد بن عبد العزى فقال يا ابن سلمى لقد سقيت ماء رغدا ونثلت عادية حسدا فقال يا ابن أسد أما إنك تشرك في فضلها والله لا يساعدني أحد عليها ببر ولا يقوم معي بارزا إلا بذلت له خير الصهر فقال خويلد بن أسد
أقول وما قولي عليهم بسبة
إليك ابن سلمى أنت حافر زمزم
حفيرة إبراهيم يوم ابن هاجر
و ركضة جبريل على عهد آدم
فقال عبد المطلب ما وجدت أحدا ورث العلم الأقدم غير خويلد بن أسد . قال الزبير فأما ركضة جبريل فإن سعيد بن المسيب قال إن إبراهيم قدم بإسماعيل وأمه مكة فقال لهما كلا من الشجر واشربا من الشعاب وفارقهما فلما ضاقت الأرض تقطعت المياه فعطشا فقالت له أمه اصعد وانصب في هذا الوادي فلا أرى موتك ولا ترى موتي ففعل فأنزل الله تعالى ملكا من السماء على أم إسماعيل فأمرها فصرحت به فاستجاب لها وطار الملك فضرب بجناحيه مكان زمزم فقال اشربا فكان سيحا يسيح ولو تركاه ما زال كذلك أبدا لكنها فرقت عليه من العطش فقرت له في السقاء وحفرت في البطحاء فلما نضب الماء طوياه ثم
[ 218 ](1/4342)
هلك الناس ودفنته السيول ثم أري عبد المطلب في المنام أن احفر زمزم لا تثرب ولا تذم تروي الحجيج الأعظم ثم أري مرة أخرى أن احفر الرواء أعطيتها على رغم الأعداء ثم أري مرة أخرى أن احفر تكتم بين الأنصاب الحمر في قرية النمل فأصبح يحفر حيث أري فطفقت قريش يستهزءون به حتى إذا بدا عن الطي وجد فيها غزالا من ذهب وحلية سيف فضرب عليها بالسهام فخرج سهم البيت فكان أول حلي حلى به الكعبة . قال الزبير وكان حرب بن أمية بن عبد شمس نديم عبد المطلب وكان عبيد بن الأبرص تربه وبلغ عبيد مائة وعشرين سنة وبقي عبد المطلب بعده عشرين سنة . قال وقال بعض أهل العلم توفي عبد المطلب عن خمس وتسعين سنة ويقال كان يعرف في عبد المطلب نور النبوة وهيبة الملك وفيه يقول الشاعر
إنني واللات والبيت الذي
لز بالهبرز عبد المطلب
قال الزبير حدثني عمي مصعب بن عبد الله قال بينا عبد المطلب يطوف بالبيت بعد ما أسن وذهب بصره إذ زحمه رجل فقال من هذا فقيل رجل من بني بكر . قال فما منعه أن ينكب عني وقد رآني لا أستطيع لأن أنكب عنه فلما رأى بنيه قد توالوا عشرة قال لا بد لي من العصا فإن اتخذتها طويلة شقت علي وإن اتخذتها قصيرة قويت عليها ولكن ينحدب لها ظهري والحدبة ذل فقال بنوه أو غير ذلك يوافيك كل يوم منا رجل تتوكأ عليه فتطوف في حوائجك قال ولذلك قال الزبير ومكارم عبد المطلب أكثر من أن يحاط بها كان سيد قريش غير مدافع نفسا وأبا وبيتا وجمالا وبهاء وكمالا وفعالا قال أحد بني كنانة يمدحه
[ 219 ]
إني وما سترت قريش والذي
تعزو لآل كلهن ظباء
و وحق من رفع الجبال منيفة
و الأرض مدا فوقهن سماء
مثن ومهد لابن سلمى مدحة
فيها أداء ذمامه ووفاء(1/4343)
قال الزبير فأما أبو طالب بن عبد المطلب واسمه عبد مناف وهو كافل رسول الله ص وحاميه من قريش وناصره والرفيق به الشفيق عليه ووصي عبد المطلب فيه فكان سيد بني هاشم في زمانه ولم يكن أحد من قريش يسود في الجاهلية بمال إلا أبو طالب وعتبة بن ربيعة . قال الزبير أبو طالب أول من سن القسامة في الجاهلية في دم عمرو بن علقمة ثم أثبتتها السنة في الإسلام وكانت السقاية في الجاهلية بيد أبي طالب ثم سلمها إلى أخيه العباس بن عبد المطلب . قال الزبير وكان أبو طالب شاعرا مجيدا وكان نديمه في الجاهلية مسافر بن عمرو بن أمية بن عبد شمس وكان قد حبن فخرج ليتداوى بالحيرة فمات بهبالة فقال أبو طالب يرثيه
ليت شعري مسافر ابن أبي عمرو
و ليث يقولها المحزون
كيف كانت مذاقة الموت إذ مت
و ما ذا بعد الممات يكون
رحل الركب قافلين إلينا
و خليلي في مرمس مدفون
بورك الميت الغريب كما بورك
نضر الريحان والزيتون
[ 220 ]
رزء ميت على هبالة قد حالت
فياف من دونه وحزون
مدرة يدفع الخصوم بأيد
و بوجه يزينه العرنين
كم خليل وصاحب وابن عم
و حميم قفت عليه المنون
فتعزيت بالجلادة والصبر
و إني بصاحبي لضنين(1/4344)
قال الزبير فلما هلك مسافر نادم أبو طالب بعده عمرو بن عبد بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي ولذلك قال عمرو لعلي ع يوم الخندق حين بارزه إن أباك كان لي صديقا . قال الزبير وحدثني محمد بن حسن عن نصر بن مزاحم عن معروف بن خربوذ قال كان أبو طالب يحضر أيام الفجار ويحضر معه النبي ص وهو غلام فإذا جاء أبو طالب هزمت قيس وإذا لم يجي ء هزمت كنانة فقالوا لأبي طالب لا أبا لك لا تغب عنا ففعل . قال الزبير فأما الزبير بن عبد المطلب فكان من أشراف قريش ووجوهها وهو الذي استثنته بنو قصي على بني سهم حين هجا عبد الله بن الزبعرى بن قصي فأرسلت بنو قصي عتبة بن ربيعة بن عبد شمس إلى بني سهم فقال لهم إن قومكم قد كرهوا أن يعجلوا عليكم فأرسلوني إليكم في هذا السفيه الذي هجاهم في غير ذنب اجترموا إليه فإن كان ما صنع عن رأيكم فبئس الرأي رأيكم وإن كان عن غير رأيكم فادفعوه إليهم فقال القوم نبرأ إلى الله أن يكون عن رأينا قال فأسلموه إليهم فقال بعض بني سهم إن شئتم فعلنا على أن من هجانا منكم دفعتموه إلينا فقال عتبة ما يمنعني أن أقول ما تقول إلا أن الزبير بن عبد المطلب غائب بالطائف
[ 221 ]
و قد عرفت أنه سيفرغ لهذا الأمر فيقول ولم أكن أجعل الزبير خطرا لابن الزبعرى فقال قائل منهم أيها القوم ادفعوه إليهم فلعمري أن لكم مثل الذي عليكم فكثر في ذلك الكلام واللغط فلما رأى العاص بن وائل ذلك دعا برمة فأوثق بها عبد الله بن الزبعرى ودفعه إلى عتبة بن ربيعة فأقبل به مربوطا حتى أتى به قومه فأطلقه حمزة بن عبد المطلب وكساه فأغرى ابن الزبعرى أناس من قريش بقومه بني سهم وقالوا له اهجهم كما أسلموك فقال
لعمري ما جاءت بنكر عشيرتي
و إن صالحت إخوانها لا ألومها
فود جناة الشر أن سيوفنا
بأيماننا مسلولة لا نشيمها
فيقطع ذو الصهر القريب ويتركوا
غماغم منها إذ أجد يريمها
فإن قصيا أهل مجد وثروة(1/4345)
و أهل فعال لا يرام قديمها
هم منعوا يومي عكاظ نساءنا
كما منع الشول الهجان قرومها
و إن كان هيج قدموا فتقدموا
و هل يمنع المخزاة إلا حميمها
محاشيد للمقرى سراع إلى الندى
مرازبة غلب رزان حلومها
قال فقدم الزبير بن عبد المطلب من الطائف فقال قصيدته التي يقول فيها
فلو لا الحمس لم يلبس رجال
ثياب أعزة حتى يموتوا
و قد ذكرنا قطعة منها فيما تقدم . قال الزبير وقال الزبير بن عبد المطلب أيضا في هذا المعنى
[ 222 ]
قومي بنو عبد مناف إذا
أظلم من حولي بالجندل
لا أسد لن يسلموني ولا
تيم ولا زهرة للنيطل
و لا بنو الحارث إن مر بي
يوم من الأيام لا ينجلي
يا أيها الشاتم قومي ولا
حق له عندهم أقبل
إني لهم جار لئن أنت لم
تقصر عن الباطل أو تعدل
قال الزبير ومن شعر الزبير بن عبد المطلب
يا ليت شعري إذا ما حمتي وقعت
ما ذا تقول ابنتي في النوح تنعاني
تنعى أبا كان معروف الدفاع عن المولى
المضاف وفكاكا عن العاني
و نعم صاحب عان كان رافده
إذا تضجع عنه العاجز الواني
قال الزبير وكان الزبير بن عبد المطلب ذا نظر وفكر أتى فقيل له مات فلان لرجل من قريش كان ظلوما فقال بأي عقوبة مات قالوا مات حتف أنفه فقال لئن كان ما قلتموه حقا إن للناس معادا يؤخذ فيه للمظلوم من الظالم . قال وكان الزبير يكنى بأبي الطاهر وكانت صفية بنت عبد المطلب كنت ابنها الزبير بن العوام أبا الطاهر دهرا بكنية أخيها وكان للزبير بن عبد المطلب ابن يقال له الطاهر كان من أظرف فتيان مكة مات غلاما وبه سمى رسول الله ص ابنه الطاهر وباسم الزبير سمت أخته صفية ابنها الزبير وقالت صفية ترثي أخاها الزبير بن عبد المطلب
بكي زبير الخير إذ مات إن
كنت على ذي كرم باكيه
[ 223 ]
لو لفظته الأرض ما لمتها
أو أصبحت خاشعة عاريه
قد كان في نفسي أن أترك الموتى
و لا أتبعهم قافيه
فلم أطق صبرا على رزئه
وجدته أقرب إخوانيه
لو لم أقل من في قولا له
لقضت العبرة أضلاعيه(1/4346)
فهو الشآمي واليماني إذا
ما خضروا ذو الشفرة الداميه
و قال ضرار بن الخطاب يبكيه
بكي ضباع على أبيك
بكاء محزون أليم
قد كنت أنشده فلا
رث السلاح ولا سليم
كالكوكب الدري يعلو
ضوءه ضوء النجوم
زخرت به أعراقه
و نماه والده الكريم
بين الأغر وهاشم
فرعين قد فرعا القروم
فأما القتول الخثعمية التي اغتصبها نبيه بن الحجاج السهمي من أبيها فقد ذكر الزبير بن بكار قصتها في كتاب أنساب قريش . قال الزبير إن رجلا من خثعم قدم مكة تاجرا ومعه ابنة يقال لها القتول أوضأ نساء العالمين فعلقها نبيه بن الحجاج السهمي فلم يبرح حتى غلب أباها عليها ونقلها إليه فقيل لأبيها عليك بحلف الفضول فأتاهم فشكا إليهم ذلك فأتوا نبيه بن الحجاج فقالوا له أخرج ابنة هذا الرجل وهو يومئذ منتبذ بناحية مكة وهي معه وإلا فإنا من قد عرفت فقال يا قوم متعوني بها الليلة فقالوا قبحك الله
[ 224 ]
ما أجهلك لا والله ولا شخب لقحة فأخرجها إليهم فأعطوها أباها فقال نبيه بن الحجاج في ذلك قصيدة أولها
راح صحي ولم أحي القتولا
لم أودعهم وداعا جميلا
إذ أجد الفضول أن يمنعوها
قد أراني ولا أخاف الفضولا
في أبيات طويلة وأما قصة البارقي فقد ذكرها الزبير أيضا . قال قدم رجل من ثمالة من الأزد مكة فباع سلعة من أبي بن خلف الجمحي فمطله بالثمن وكان سيئ المخالطة فأتى الثمالي أهل حلف الفضول فأخبرهم فقالوا اذهب فأخبره أنك قد أتيتنا فإن أعطاك حقك وإلا فارجع إلينا فأتاه فأخبره بما قال أهل حلف الفضول فأخرج إليه حقه فأعطاه فقال الثمالي
أ يفجر بي ببطن مكة ظالما
أبي ولا قومي لدي ولا صحبي
و ناديت قومي بارقا لتجيبني
و كم دون قومي من فياف ومن سهب
و يأبى لكم حلف الفضول ظلامتي
بني جمح والحق يؤخذ بالغصب(1/4347)
و أما قصة حلف الفضول وشرفه فقد ذكرها الزبير في كتابه أيضا قال كان بنو سهم وبنو جمح أهل بغي وعدوان فأكثروا من ذلك فأجمع بنو هاشم وبنو المطلب وبنو أسد وبنو زهرة وبنو تيم على أن تحالفوا وتعاقدوا على رد الظلم بمكة وألا يظلم أحد
[ 225 ]
إلا منعوه وأخذوا له بحقه وكان حلفهم في دار عبد الله بن جدعان
قال رسول الله ص لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو دعيت به اليوم لأجبت لا يزيده الإسلام إلا شدة . قال الزبير كان رجل من بني أسد قد قدم مكة معتمرا ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل السهمي فآواها إلى بيته ثم تغيب فابتغى الأسدي متاعه فلم يقدر عليه فجاء إلى بني سهم يستعديهم عليه فأغلظوا له فعرف أن لا سبيل له إلى ماله وطوف في قبائل قريش يستنفر بهم فتخاذلت القبائل عنه فلما رأى ذلك أشرف على أبي قبيس حين أخذت قريش مجالسها ونادى بأعلى صوته
يا للرجال لمظلوم بضاعته
ببطن مكة نائي الأهل والنفر
و محرم أشعث لم يقض عمرته
يا آل فهر وبين الحجر والحجر
هل منصف من بني سهم فمرتجع
ما غيبوا أم حلال مال معتمر
فأعظمت ذلك قريش وتكلموا فيه فقال المطيبون والله إن قمنا في هذا ليغضبن الأحلاف وقالت الأحلاف والله إن قمنا في هذا ليغضبن المطيبون فقالت قبائل من قريش هلموا فلنحتلف حلفا جديدا لننصرن المظلوم على الظالم ما بل بحر صوفة فاجتمعت هاشم والمطلب وأسد وتيم وزهرة في دار عبد الله بن جدعان ورسول الله ص يومئذ معهم وهو شاب ابن خمس وعشرين سنة لم يوح إليه بعد فتحالفوا ألا يظلم بمكة غريب ولا قريب ولا حر ولا عبد إلا كانوا معه حتى يأخذوا له بحقه ويردوا إليه مظلمته من أنفسهم ومن غيرهم ثم عمدوا إلى ماء زمزم فجعلوه في جفنة ثم بعثوا به إلى البيت فغسلوا به أركانه ثم جمعوه وأتوهم به فشربوه ثم انطلقوا إلى العاص بن وائل
[ 226 ](1/4348)
فقالوا له أد إلى هذا حقه فأدى إليه حقه فمكثوا كذلك دهرا لا يظلم أحد بمكة إلا أخذوا له حقه فكان عتبة بن ربيعة بن عبد شمس يقول لو أن رجلا وحده خرج من قومه لخرجت من عبد شمس حتى أدخل في حلف الفضول . قال الزبير وحدثني محمد بن حسن عن محمد بن طلحة عن موسى بن محمد عن أبيه أن الحلف كان على ألا يدعوا بمكة كلها ولا في الأحابيش مظلوما يدعوهم إلى نصرته إلا أنجدوه حتى يردوا عليه ماله ومظلمته أو يبلوا في ذلك عذرا وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى التأسي في المعاش . قال الزبير ويقال إنه إنما سمي حلف الفضول لأن رجالا كانوا في وجوههم تحالفوا على رد المظالم يقال لهم فضيل وفضال وفضل ومفضل فسمي هذا الحلف حلف الفضول لأنه أحيا تلك السنة التي كانت ماتت . قال الزبير وقدم محمد بن جبير بن مطعم على عبد الملك بن مروان وكان من علماء قريش فقال له يا أبا سعيد أ لم نكن يعني بني عبد شمس وأنتم في حلف الفضول فقال أمير المؤمنين أعلم قال لتخبرني بالحق قال لا والله يا أمير المؤمنين لقد خرجنا نحن وأنتم منه وما كانت يدنا ويدكم إلا جميعا في الجاهلية والإسلام . قال الزبير وحدثني محمد بن حسن عن إبراهيم بن محمد عن يزيد بن عبد الله بن الهادي الليثي أن محمد بن الحارث أخبره قال كان بين الحسين بن علي ع وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان كلام في مال كان بينهما بذي المروءة والوليد يومئذ أمير المدينة في أيام معاوية فقال الحسين ع أ يستطيل الوليد علي بسلطانه
[ 227 ](1/4349)
أقسم بالله لينصفني من حقي أو لآخذن سيفي ثم أقوم في مسجد الله فأدعو بحلف الفضول فبلغت كلمته عبد الله بن الزبير فقال أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينتصف أو نموت جميعا فبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري فقال مثل ذلك فبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي فقال مثل ذلك فبلغ ذلك الوليد بن عتبة فأنصف الحسين ع من نفسه حتى رضي . قال الزبير وقد كان للحسين ع مع معاوية قصة مثل هذه كان بينهما كلام في أرض للحسين ع فقال له الحسين ع اختر مني ثلاث خصال إما أن تشتري مني حقي وإما أن ترده علي أو تجعل بيني وبينك ابن عمر أو ابن الزبير حكما وإلا فالرابعة وهي الصيلم قال معاوية وما هي قال أهتف بحلف الفضول ثم قام فخرج وهو مغضب فمر بعبد الله بن الزبير فأخبره فقال والله لئن هتفت به وأنا مضطجع لأقعدن أو قاعد لأقومن أو قائم لأمشين أو ماش لأسعين ثم لتنفدن روحي مع روحك أو لينصفنك فبلغت معاوية فقال لا حاجة لنا بالصيلم ثم أرسل إليه أن ابعث فانتقد مالك فقد ابتعناه منك . قال الزبير وحدثني بهذه القصة علي بن صالح عن جدي عبد الله بن مصعب عن أبيه قال خرج الحسين ع من عند معاوية وهو مغضب فلقي عبد الله بن الزبير فحدثه بما دار بينهما وقال لأخيرنه في خصال فقال له ابن الزبير ما قال ثم ذهب إلى معاوية فقال لقد لقيني الحسين فخيرك في ثلاث خصال والرابعة الصيلم قال معاوية فلا حاجة لنا بالصيلم أظنك لقيته مغضبا فهات الثلاث قال أن تجعلني
[ 228 ](1/4350)
أو ابن عمر بينك وبينه قال قد جعلتك بيني وبينه أو جعلت ابن عمر أو جعلتكما جميعا قال أو تقر له بحقه ثم تسأله إياه قال قد أقررت له بحقه وأنا أسأله إياه قال أو تشريه منه قال قد اشتريته منه فما الصيلم قال يهتف بحلف الفضول وأنا أول من يجيبه قال فلا حاجة لنا في ذلك . وبلغ الكلام عبد الله بن أبي بكر والمسور بن مخرمة فقالا للحسين مثل ما قاله ابن الزبير . فأما تفجر الماء من تحت أخفاف بعير عبد المطلب في الأرض الجرز فقد ذكره محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب السيرة قال لما أنبط عبد المطلب الماء في زمزم حسدته قريش فقالت له يا عبد المطلب إنها بئر أبينا إسماعيل وإن لنا فيها حقا فأشركنا معك قال ما أنا بفاعل إن هذا الأمر أمر خصصت به دونكم وأعطيته من بينكم قالوا له فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها قال فاجعلوا بيني وبينكم حكما أحاكمكم إليه قالوا كاهنة بني سعد بن هذيم قال نعم وكانت بأشراف الشام فركب عبد المطلب في نفر من بني عبد مناف وخرج من كل قبيلة من قبائل قريش قوم والأرض إذ ذاك مفاوز حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز والشام نفد ما كان مع عبد المطلب وبني أبيه من الماء فعطشوا عطشا شديدا فاستسقوا قومهم فأبوا أن يسقوهم وقالوا نحن بمفازة ونخشى على أنفسنا مثل الذي أصابكم فلما رأى عبد المطلب ما صنع القوم وخاف على نفسه وأصحابه الهلاك قال لأصحابه ما ترون قالوا ما رأينا إلا تبع لرأيك فمرنا بما أحببت قال فإني أرى أن يحفر كل رجل منا حفرة لنفسه بما معه الآن من القوة فكلما مات رجل دفنه أصحابه في حفرته حتى يكون رجل واحد فضيعة
[ 229 ](1/4351)
رجل واحد أيسر من ضيعة ركب قالوا نعم ما أشرت فقام كل رجل منهم فحفر حفيرة لنفسه وقعدوا ينتظرون الموت ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه والله إن إلقاءنا بأيدينا كذا للموت لا نضرب في الأرض فنطلب الماء لعجز قوموا فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض الأرض ارتحلوا فارتحلوا ومن معهم من قبائل قريش ينظرون إليهم ما هم صانعون فتقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها فلما انبعثت به انفجر من تحت خفها عين من ماء عذب فكبر عبد المطلب وكبر أصحابه ثم نزل فشرب وشرب أصحابه واستقوا حتى ملئوا أسقيتهم ثم دعا القبائل من قريش فقال لهم هلموا إلى الماء فقد أسقانا الله فاشربوا واستقوا فجاءوا فشربوا واستقوا ثم قالوا قد والله قضى الله لك علينا والله لا نخاصمك في زمزم أبدا إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة هو الذي سقاك زمزم فارجع إلى سقايتك راشدا فرجع ورجعوا معه لم يصلوا إلى الكاهنة وخلوا بينه وبين زمزم . وروى صاحب كتاب الواقدي أن عبد الله بن جعفر فاخر يزيد بن معاوية بين يدي معاوية فقال له بأي آبائك تفاخرني أ بحرب الذي أجرناه أم بأمية الذي ملكناه أم بعبد شمس الذي كفلناه فقال معاوية لحرب بن أمية يقال هذا ما كنت أحسب أن أحدا في عصر حرب يزعم أنه أشرف من حرب فقال عبد الله بلى أشرف منه من كفأ عليه إناءه وجلله بردائه فقال معاوية ليزيد رويدا يا بني إن عبد الله يفخر عليك بك لأنك منه وهو منك فاستحيا عبد الله وقال يا أمير المؤمنين يدان انتشطتا وأخوان اصطرعا فلما قام عبد الله قال معاوية ليزيد يا بني إياك ومنازعة
[ 230 ](1/4352)
بني هاشم فإنهم لا يجهلون ما علموا ولا يجد مبغضهم لهم سبا قال أما قوله أ بحرب الذي أجرناه فإن قريشا كانت إذا سافرت فصارت على العقبة لم يتجاوزها أحد حتى تجوز قريش فخرج حرب ليلة فلما صار على العقبة لقيه رجل من بني حاجب بن زرارة تميمي فتنحنح حرب بن أمية وقال أنا حرب بن أمية فتنحنح التميمي وقال أنا ابن حاجب بن زرارة ثم بدر فجاز العقبة فقال حرب لاها الله لا تدخل بعدها مكة وأنا حي فمكث التميمي حينا لا يدخل وكان متجره بمكة فاستشار بها بمن يستجير من حرب فأشير عليه بعبد المطلب أو بابنه الزبير بن عبد المطلب فركب ناقته وصار إلى مكة ليلا فدخلها وأناخ ناقته بباب الزبير بن عبد المطلب فرغت الناقة فخرج إليه الزبير فقال أ مستجير فتجار أم طالب قرى فتقرى فقال
لاقيت حربا بالثنية مقبلا
و الليل أبلج نوره للساري
فعلا بصوت واكتنى ليروعني
و دعا بدعوة معلن وشعار
فتركته خلفي وجزت أمامه
و كذاك كنت أكون في الأسفار
فمضى يهددني ويمنع مكة
إلا أحل بها بدار قرار
فتركته كالكلب ينبح وحده
و أتيت قرم مكارم وفخار
ليثا هزبرا يستجار بقربه
رحب المباءة مكرما للجار
و حلفت بالبيت العتيق وحجه
و بزمزم والحجر والأستار
إن الزبير لمانعي بمهند
صافي الحديدة صارم بتار
فقال الزبير اذهب إلى المنزل فقد أجرتك فلما أصبح نادى الزبير أخاه الغيداق
[ 231 ](1/4353)
فخرجا متقلدين سيفيهما وخرج التميمي معهما فقالا له إنا إذا أجرنا رجلا لم نمش أمامه فامش أمامنا ترمقك أبصارنا كي لا تختلس من خلفنا فجعل التميمي يشق مكة حتى دخل المسجد فلما بصر به حرب قال وإنك لهاهنا وسبق إليه فلطمه وصاح الزبير ثكلتك أمك أ تلطمه وقد أجرته فثنى عليه حرب فلطمه ثانية فانتضى الزبير سيفه فحمل على حرب بين يديه وسعى الزبير خلفه فلم يرجع عنه حتى هجم حرب على عبد المطلب داره فقال ما شأنك قال الزبير قال اجلس وكفأ عليه إناء كان هاشم يهشم فيه الثريد واجتمع الناس وانضم بنو عبد المطلب إلى الزبير ووقفوا على باب أبيهم بأيديهم سيوفهم فأزر عبد المطلب حربا بإزار كان له ورداه برداء له طرفان وأخرجه إليهم فعلموا أن أباهم قد أجاره . وأما معنى قوله أم بأمية الذي ملكناه فإن عبد المطلب راهن أمية بن عبد شمس على فرسين وجعل الخطر ممن سبقت فرسه مائة من الإبل وعشرة أعبد وعشر إماء واستعباد سنة وجز الناصية فسبق فرس عبد المطلب فأخذ الخطر فقسمه في قريش وأراد جز ناصيته فقال أو أفتدي منك باستعباد عشر سنين ففعل فكان أمية بعد في حشم عبد المطلب وعضاريطه عشر سنين . وأما قوله أم بعبد شمس الذي كفلناه فإن عبد شمس كان مملقا لا مال له فكان أخوه هاشم يكفله ويمونه إلى أن مات هاشم . وفي كتاب الأغاني لأبي الفرج إن معاوية قال لدغفل النسابة أ رأيت عبد المطلب قال نعم قال كيف رأيته قال رأيته رجلا نبيلا جميلا وضيئا كان على
[ 232 ](1/4354)
وجهه نور النبوة قال أ فرأيت أمية بن عبد شمس قال نعم قال كيف رأيته قال رأيته رجلا ضئيلا منحنيا أعمى يقوده عبده ذكوان فقال معاوية ذلك ابنه أبو عمرو قال أنتم تقولون ذلك فأما قريش فلم تكن تعرف إلا أنه عبده . ونقلت من كتاب هاشم وعبد شمس لابن أبي رؤبة الدباس . قال روى هشام بن الكلبي عن أبيه أن نوفل بن عبد مناف ظلم عبد المطلب ابن هاشم أركاحا له بمكة وهي الساحات وكان بنو نوفل يدا مع عبد شمس وعبد المطلب يدا مع هاشم فاستنصر عبد المطلب قوما من قومه فقصروا عن ذلك فاستنجد أخواله من بني النجار بيثرب فأقبل معه سبعون راكبا فقالوا لنوفل لا والله يا أبا عدي ما رأينا بهذا الغائط ناشئا أحسن وجها ولا أمد جسما ولا أعف نفسا ولا أبعد من كل سوء من هذا الفتى يعنون عبد المطلب وقد عرفت قرابته منا وقد منعته ساحات له ونحن نحب أن ترد عليه حقه فرده عليه فقال عبد المطلب
تأبى مازن وبنو عدي
و ذبيان بن تيم اللات ضيمي
و زادت مالك حتى تناهت
و نكب بعد نوفل عن حريمي
قال ويقال إن ذلك كان سبب مخالفة خزاعة عبد المطلب . قال وروى أبو اليقظان سحيم بن حفص أن عبد المطلب جمع بنيه عند وفاته وهم عشرة يومئذ فأمرهم ونهاهم وأوصاهم وقال إياكم والبغي فو الله ما خلق الله شيئا
[ 233 ](1/4355)
أعجل عقوبة من البغي وما رأيت أحدا بقي على البغي إلا إخوتكم من بني عبد شمس . وروى الوليد بن هشام بن قحذم قال قال عثمان يوما وددت أني رأيت رجلا قد أدرك الملوك يحدثني عما مضى فذكر له رجل بحضرموت فبعث إليه فحدثه حديثا طويلا تركنا ذكره إلى أن قال أ رأيت عبد المطلب بن هاشم قال نعم رأيت رجلا قعدا أبيض طويلا مقرون الحاجبين بين عينيه غرة يقال إن فيها بركة وإن فيه بركة قال أ فرأيت أمية بن عبد شمس قال نعم رأيت رجلا آدم دميما قصيرا أعمى يقال إنه نكد وإن فيه نكدا فقال عثمان يكفيك من شر سماعه وأمر بإخراج الرجل . وروى هشام بن الكلبي أن أمية بن عبد شمس لما كان غلاما كان يسرق الحاج فسمي حارسا . وروى ابن أبي رؤبة في هذا الكتاب أن أول قتيل قتله بنو هاشم من بني عبد شمس عفيف بن أبي العاص بن أمية قتله حمزة بن عبد المطلب ولم أقف على هذا الخبر إلا من كتاب ابن أبي رؤبة . قال ومما يصدق قول من روى أن أمية بن عبد شمس استعبده عبد المطلب شعر أبي طالب بن عبد المطلب حين تظاهرت عبد شمس ونوفل عليه وعلى رسول الله ص وحصروهما في الشعب فقال أبو طالب
توالى علينا موليانا كلاهما
إذا سئلا قالا إلى غيرنا الأمر
بلى لهما أمر ولكن تراجما
كما ارتجمت من رأس ذي القلع الصخر
أخص خصوصا عبد شمس ونوفلا
هما نبذانا مثل ما تنبذ الخمر
هما أغمضا للقوم في أخويهما
فقد أصبحت أيديهما وهما صفر
[ 234 ]
قديما أبوهم كان عبدا لجدنا
بني أمة شهلاء جاش بها البحر
لقد سفهوا أحلامهم في محمد
فكانوا كجعر بئس ما ضفطت جعر(1/4356)
ثم نرجع إلى حكاية شيخنا أبي عثمان وقد نمزجه بكلام آخر لنا أو لغيرنا ممن تعاطى الموازنة بين هذين البيتين . قال أبو عثمان فإن قالت أمية لنا الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي أربعة خلفاء في نسق قلنا لهم ولبني هاشم هارون الواثق بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن عبد الله المنصور بن محمد الكامل بن علي السجاد كان يصلي كل يوم وليلة ألف ركعة فكان يقال له السجاد لعبادته وفضله وكان أجمل قريش على وجه الأرض وأوسمها ولد ليلة قتل علي بن أبي طالب ع فسمي باسمه وكني بكنيته فقال عبد الملك لا والله لا أحتمل لك الاسم ولا الكنية فغير أحدهما فغير الكنية فصيرها أبا محمد بن عبد الله وهو البحر وهو حبر قريش وهو المفقه في الدين المعلم التأويل ابن العباس ذي الرأي وحليم قريش بن شيبة الحمد وهو عبد المطلب سيد الوادي بن عمرو وهو هاشم هشم الثريد وهو القمر سمي بذلك لجماله ولأنهم كانوا يقتدون ويهتدون برأيه ابن المغيرة وهو عبد مناف بن زيد وهو قصي وهو مجمع فهؤلاء ثلاثة عشر سيدا لم يحرم منهم واحد ولا قصر عن الغاية وليس منهم واحد إلا وهو ملقب بلقب اشتق له من فعله الكريم ومن خلقه الجميل وليس منهم إلا خليفة أو موضع للخلافة أو سيد في قديم الدهر منيع أو ناسك مقدم أو فقيه بارع أو حليم ظاهر الركانة وليس هذا لأحد سواهم ومنهم خمسة خلفاء في نسق وهم أكثر مما عدته الأموية ولم يكن
[ 235 ](1/4357)
مروان كالمنصور لأن المنصور ملك البلاد ودوخ الأقطار وضبط الأطراف اثنتين وعشرين سنة وكانت خلافة مروان على خلاف ذلك كله وإنما بقي في الخلافة تسعة أشهر حتى قتلته امرأته عاتكة بنت يزيد بن معاوية حين قال لابنها خالد من بعلها الأول يا ابن الرطبة ولئن كان مروان مستوجبا لاسم الخلافة مع قلة الأيام وكثرة الاختلاف واضطراب البلدان فضلا عن الأطراف فابن الزبير أولى بذلك منه فقد كان ملك الأرض إلا بعض الأردن ولكن سلطان عبد الملك وأولاده لما اتصل بسلطان مروان اتصل عند القوم ما انقطع منه وأخفى موضع الوهن عند من لا علم له وسنو المهدي كانت سني سلامة وما زال عبد الملك في انتقاض وانتكاث ولم يكن ملك يزيد كملك هارون ولا ملك الوليد كملك المعتصم . قلت رحم الله أبا عثمان لو كان اليوم لعد من خلفاء بني هاشم تسعة في نسق المستعصم بن المستنصر بن الطاهر بن المستضي ء بن المستنجد بن المقتفي بن المستظهر بن المقتدر والطالبيون بمصر يعدون عشرة في نسق الآمر بن المستعلي بن المستنصر بن الطاهر بن الحاكم بن العزيز بن المعتز بن المنصور بن القائم بن المهدي . قال أبو عثمان وتفخر عليهم بنو هاشم بأن سني ملكهم أكثر ومدته أطول فإنه قد بلغت مدة ملكهم إلى اليوم أربعا وتسعين سنة ويفخرون أيضا عليهم بأنهم ملكوا بالميراث وبحق العصبة والعمومة وإن ملكهم في مغرس نبوة وإن أسبابهم غير أسباب بني مروان بل ليس لبني مروان فيها سبب ولا بينهم وبينها نسب إلا أن يقولوا إنا من قريش فيساووا في هذا الاسم قريش الظواهر لأن رواية الراوي الأئمة من قريش واقعة على كل قرشي وأسباب الخلافة معروفة وما يدعيه كل جيل معلوم وإلى كل ذلك قد ذهب الناس فمنهم من ادعاه لعلي ع لاجتماع القرابة والسابقة والوصية فإن كان الأمر كذلك فليس لآل أبي سفيان وآل مروان فيها دعوى وإن كانت
[ 236 ](1/4358)
إنما تنال بالوراثة وتستحق بالعمومة وتستوجب بحق العصبة فليس لهم أيضا فيها دعوى وإن كانت لا تنال إلا بالسوابق والأعمال والجهاد فليس لهم في ذلك قدم مذكور ولا يوم مشهور بل كانوا إذ لم تكن لهم سابقة ولم يكن فيهم ما يستحقون به الخلافة ولم يكن فيهم ما يمنعهم منها أشد المنع لكان أهون ولكان الأمر عليهم أيسر قد عرفنا كيف كان أبو سفيان في عداوة النبي ص وفي محاربته له وإجلابه عليه وغزوة إياه وعرفنا إسلامه حيث أسلم وإخلاصه كيف أخلص ومعنى كلمته يوم الفتح حين رأى الجنود وكلامه يوم حنين وقوله يوم صعد بلال على الكعبة فأذن على أنه إنما أسلم على يدي العباس رحمه الله والعباس هو الذي منع الناس من قتله وجاء به رديفا إلى رسول الله ص وسأله فيه أن يشرفه وأن يكرمه وينوه به وتلك يد بيضاء ونعمة غراء ومقام مشهود ويوم حنين غير مجحود فكان جزاء بني هاشم من بنيه أن حاربوا عليا وسموا الحسن وقتلوا الحسين وحملوا النساء على الأقتاب حواسر وكشفوا عن عورة علي بن الحسين حين أشكل عليهم بلوغه كما يصنع بذراري المشركين إذا دخلت دورهم عنوة وبعث معاوية بسر بن أرطاة إلى اليمن فقتل ابني عبيد الله بن العباس وهما غلامان لم يبلغا الحلم وقتل عبيد الله بن زياد يوم الطف تسعة من صلب علي ع وسبعة من صلب عقيل ولذلك قال ناعيهم
عين جودي بعبرة وعويل
و اندبي إن ندبت آل الرسول
تسعة كلهم لصلب علي
قد أصيبوا وسبعة لعقيل
ثم إن أمية تزعم أن عقيلا أعان معاوية على علي ع فإن كانوا كاذبين فما أولاهم بالكذب وإن كانوا صادقين فما جازوا عقيلا بما صنع وضرب عنق مسلم
[ 237 ]
بن عقيل صبرا وغدرا بعد الأمان وقتلوا معه هانئ بن عروة لأنه آواه ونصره ولذلك قال الشاعر
فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري
إلى هانئ في السوق وابن عقيل
تري بطلا قد هشم السيف وجهه
و آخر يهوي من طمار قتيل(1/4359)
و أكلت هند كبد حمزة فمنهم آكلة الأكباد ومنهم كهف النفاق ومنهم من نقر بين ثنيتي الحسين ع بالقضيب ومنهم القاتل يوم الحرة عون بن عبد الله بن جعفر ويوم الطف أبا بكر بن عبد الله بن جعفر وقتل يوم الحرة أيضا من بني هاشم الفضل بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب والعباس بن عتبة بن أبي لهب بن عبد المطلب وعبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب . قلت إن أبا عثمان قايس بين مدتي ملكهما وهو حينئذ في أيام الواثق ففضل هؤلاء عليهم لأن ملكهم أطول من ملكهم بعشر سنين فكيف به لو كان اليوم حيا وقد امتد ملكهم خمسمائة وست عشرة سنة وهذا أكثر من ملك البيت الثالث من ملوك الفرس بنحو ثلاثين سنة وأيضا فإن كان الفخر بطول مدة الملك فبنو هاشم قد كان لهم أيضا ملك بمصر نحو مائتين وسبعين سنة مع ما ملكوه بالمغرب قبل أن ينتقلوا إلى مصر
[ 238 ]
قال أبو عثمان وقالت هاشم لأمية قد علم الناس ما صنعتم بنا من القتل والتشريد لا لذنب أتيناه إليكم ضربتم علي بن عبد الله بن عباس بالسياط مرتين على أن تزوج بنت عمه الجعفرية التي كانت عند عبد الملك وعلى أن نحلتموه قتل سليط وسممتم أبا هاشم عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب ع ونبشتم زيدا وصلبتموه وألقيتم رأسه في عرصة الدار توطأ بالأقدام وينقر دماغه الدجاج حتى قال القائل
اطرد الديك عن ذؤابة زيد
طالما كان لا تطأه الدجاج
و قال شاعركم أيضا
صلبنا لكم زيدا على جذع نخلة
و لم نر مهديا على الجذع يصلب
و قستم بعثمان عليا سفاهة
و عثمان خير من علي وأطيب(1/4360)
فروي أن بعض الصالحين من أهل البيت ع قال اللهم إن كان كاذبا فسلط عليه كلبا من كلابك فخرج يوما بسفر له فعرض له الأسد فافترسه وقتلتم الإمام جعفرا الصادق ع وقتلتم يحيى بن زيد وسميتم قاتله ثائر مروان وناصر الدين هذا إلى ما صنع سليمان بن حبيب بن المهلب عن أمركم وقولكم بعبد الله أبي جعفر المنصور قبل الخلافة وما صنع مروان بإبراهيم الإمام أدخل رأسه في جراب نورة حتى مات فإن أنشدتم
أفاض المدامع قتلى كدى
و قتلى بكثوة لم ترمس
و بالزابيين نفوس ثوت
و أخرى بنهر أبي فطرس
أنشدنا نحن
و اذكروا مصرع الحسين وزيدا
و قتيلا بجانب المهراس
[ 239 ]
و القتيل الذي بنجران أمسى
ثاويا بين غربة وتناس
و قد علمتم حال مروان أبيكم وضعفه وأنه كان رجلا لا فقه له ولا يعرف بالزهد ولا الصلاح ولا برواية الآثار ولا بصحبة ولا ببعد همة وإنما ولي رستاقا من رساتيق درابجرد لابن عامر ثم ولي البحرين لمعاوية وقد كان جمع أصحابه ومن تابعه ليبايع ابن الزبير حتى رده عبيد الله بن زياد وقال يوم مرج راهط والرءوس تندر عن كواهلها في طاعته
و ما ضرهم غير حين النفوس
و أي غلامي قريش غلب(1/4361)
هذا قول من لا يستحق أن يلي ربعا من الأرباع ولا خمسا من الأخماس وهو أحد من قتلته النساء لكلمة كان حتفه فيها . وأما أبوه الحكم بن العاص فهو طريد رسول الله ص ولعينه والمتخلج في مشيته الحاكي لرسول الله ص والمستمع عليه ساعة خلوته ثم صار طريدا لأبي بكر وعمر امتنعا عن إعادته إلى المدينة ولم يقبلا شفاعة عثمان فلما ولي أدخله فكان أعظم الناس شؤما عليه ومن أكبر الحجج في قتله وخلعه من الخلافة فعبد الملك أبو هؤلاء الملوك الذين تفتخر الأموية بهم أعرق الناس في الكفر لأن أحد أبويه الحكم هذا والآخر من قبل أمه معاوية بن المغيرة بن أبي العاص كان النبي ص طرده من المدينة وأجله ثلاثا فحيره الله تعالى حين خرج وبقي مترددا متلددا حولها لا يهتدي لسبيله حتى أرسل في أثره عليا ع وعمارا فقتلاه فأنتم أعرق الناس في الكفر ونحن أعرق الناس في الإيمان ولا يكون أمير المؤمنين إلا أولاهم بالإيمان وأقدمهم فيه . قال أبو عثمان وتفخر هاشم بأن أحدا لم يجد تسعين عاما لا طواعين فيها إلا منذ ملكوا قالوا لو لم يكن من بركة دعوتنا إلا أن تعذيب الأمراء بعمال الخراج
[ 240 ]
بالتعليق والزهق والتجريد والتسهير والمسالد والنورة والجورتين والعذراء والجامعة والتشطيب قد ارتفع لكان ذلك خيرا كثيرا وفي الطاعون يقول العماني الراجز يذكر دولتنا
قد رفع الله رماح الجن
و أذهب التعذيب والتجني
و العرب تسمي الطواعين رماح الجن وفي ذلك يقول الشاعر
لعمرك ما خشيت على أبي
رماح بني مقيدة الحمار
و لكني خشيت على أبي
رماح الجن أو إياك حار(1/4362)
يقول بعض بني أسد للحارث الغساني الملك . قال أبو عثمان وتفخر هاشم عليهم بأنهم لم يهدموا الكعبة ولم يحولوا القبلة ولم يجعلوا الرسول دون الخليفة ولم يختموا في أعناق الصحابة ولم يغيروا أوقات الصلاة ولم ينقشوا أكف المسلمين ولم يأكلوا الطعام ويشربوا على منبر رسول الله ص ولم ينهبوا الحرم ولم يطئوا المسلمات دار في الإسلام بالسباء . قلت نقلت من كتاب افتراق هاشم وعبد شمس لأبي الحسين محمد بن علي بن نصر المعروف بابن أبي رؤبة الدباس قال كان بنو أمية في ملكهم يؤذنون ويقيمون في العيد ويخطبون بعد الصلاة وكانوا في سائر صلاتهم لا يجهرون بالتكبير في الركوع والسجود وكان لهشام بن عبد الملك خصي إذا سجد هشام وهو يصلي في المقصورة قال لا إله إلا الله فيسمع الناس فيسجدون وكانوا يقعدون في إحدى خطبتي العيد والجمعة ويقومون في الأخرى قال ورأى كعب مروان بن الحكم يخطب قاعدا فقال انظروا
[ 241 ](1/4363)
إلى هذا يخطب قاعدا والله تعالى يقول لرسوله وَ تَرَكُوكَ قائِماً . قال وأول من قعد في الخطب معاوية وأول من أذن وأقام في صلاة العيد بشر بن مروان وكان عمال بني أمية يأخذون الجزية ممن أسلم من أهل الذمة ويقولون هؤلاء فروا من الجزية ويأخذون الصدقة من الخيل وربما دخلوا دار الرجل قد نفق فرسه أو باعه فإذا أبصروا الآخية قالوا قد كان هاهنا فرس فهات صدقتها وكانوا يؤخرون صلاة الجمعة تشاغلا عنها بالخطبة ويطيلون فيها إلى أن تتجاوز وقت العصر وتكاد الشمس تصفر فعل ذلك الوليد بن عبد الملك ويزيد أخوه والحجاج عاملهم ووكل بهم الحجاج المسالخ معه والسيوف على رءوسهم فلا يستطيعون أن يصلوا الجمعة في وقتها . وقال الحسن البصري وا عجبا من أخيفش أعيمش جاءنا ففتننا عن ديننا وصعد على منبرنا فيخطب والناس يلتفتون إلى الشمس فيقول ما بالكم تلتفتون إلى الشمس إنا والله ما نصلي للشمس إنما نصلي لرب الشمس أ فلا تقولون يا عدو الله إن لله حقا بالليل لا يقبله بالنهار وحقا بالنهار لا يقبله بالليل ثم يقول الحسن وكيف يقولون ذلك وعلى رأس كل واحد منهم علج قائم بالسيف قال وكانوا يسبون ذراري الخوارج من العرب وغيرهم لما قتل قريب وزحاف الخارجيان سبى زياد ذراريهما فأعطى شقيق بن ثور السدوسي إحدى بناتهما وأعطى عباد بن حصين الأخرى وسبيت بنت لعبيدة بن هلال اليشكري وبنت لقطري بن الفجاءة المازني فصارت هذه إلى العباس بن الوليد بن عبد الملك واسمها أم سلمة
[ 242 ](1/4364)
فوطئها بملك اليمين على رأيهم فولدت له المؤمل ومحمدا وإبراهيم وأحمد وحصينا بني عباس بن الوليد بن عبد الملك وسبي واصل بن عمرو القنا واسترق وسبي سعيد الصغير الحروري واسترق وأم يزيد بن عمر بن هبيرة وكانت من سبي عمان الذين سباهم مجاعة وكانت بنو أمية تبيع الرجل في الدين يلزمه وترى أنه يصير بذلك رقيقا . كان معن أبو عمير بن معن الكاتب حرا مولى لبني العنبر فبيع في دين عليه فاشتراه أبو سعيد بن زياد بن عمرو العتكي وباع الحجاج علي بن بشير بن الماحوز لكونه قتل رسول المهلب على رجل من الأزد . فأما الكعبة فإن الحجاج في أيام عبد الملك هدمها وكان الوليد بن يزيد يصلي إذا صلى أوقات إفاقته من السكر إلى غير القبلة فقيل له فقرأ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللَّهِ . وخطب الحجاج بالكوفة فذكر الذين يزورون قبر رسول الله ص بالمدينة فقال تبا لهم إنما يطوفون بأعواد ورمة بالية هلا طافوا بقصر أمير المؤمنين عبد الملك أ لا يعلمون أن خليفة المرء خير من رسوله . قال وكانت بنو أمية تختم في أعناق المسلمين كما توسم الخيل علامة لاستعبادهم . وبايع مسلم بن عقبة أهل المدينة كافة وفيها بقايا الصحابة وأولادها وصلحاء التابعين على أن كلا منهم عبد قن لأمير المؤمنين يزيد بن معاوية إلا علي بن الحسين ع فإنه بايعه على أنه أخوه وابن عمه . قال ونقشوا أكف المسلمين علامة لاسترقاقهم كما يصنع بالعلوج من الروم والحبشة وكانت خطباء بني أمية تأكل وتشرب على المنبر يوم الجمعة لإطالتهم
[ 243 ](1/4365)
في الخطبة وكان المسلمون تحت منبر الخطبة يأكلون ويشربون قال أبو عثمان ويفخر بنو العباس على بني مروان وهاشم على عبد شمس بأن الملك كان في أيديهم فانتزعوه منهم وغلبوهم بالبطش الشديد وبالحيلة اللطيفة ثم لم ينزعوه إلا من يد أشجعهم شجاعة وأشدهم تدبيرا وأبعدهم غورا ومن نشأ في الحروب وربي في الثغور ومن لا يعرف إلا الفتوح وسياسة الجنود ثم أعطى الوفاء من أصحابه والصبر من قواده فلم يغدر منهم غادر ولا قصر منهم مقصر كما قد بلغك عن حنظلة بن نباتة وعامر بن ضبارة ويزيد بن عمر بن هبيرة ولا أحد من سائر قواده حتى من أحبابه وكتابه كعبد الحميد الكاتب ثم لم يلقه ولا لقي تلك الحروب في عامة تلك الأيام إلا رجال ولد العباس بأنفسهم ولا قام بأكثر الدولة إلا مشايخهم كعبد الله بن علي وصالح بن علي وداود بن علي وعبد الصمد بن علي وقد لقيهم المنصور نفسه . قال وتفخر هاشم أيضا عليهم
بقول النبي ص وهو الصادق المصدق نقلت من الأصلاب الزاكية إلى الأرحام الطاهرة وما افترقت فرقتان إلا كنت في خيرهما و
قال أيضا بعثت من خيرة قريش . ومعلوم أن بني عبد مناف افترقوا فكانت هاشم والمطلب يدا وعبد شمس ونوفل يدا قال وإن كان الفخر بكثرة العدد فإنه من أعظم مفاخر العرب فولد علي بن عبد الله بن العباس اليوم مثل جميع بني عبد شمس وكذلك ولد الحسين بن علي ع هذا مع قرب ميلادهما و
قد قال النبي ص شوهاء ولود خير من حسناء عقيم و
قال أنا مكاثر بكم الأمم و
قد روى الشعبي عن جابر بن عبد الله أن النبي ص قدم من سفر
[ 244 ]
فأراد الرجال أن يطرقوا النساء ليلا فقال أمهلوا حتى تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة فإذا قدمتم فالكيس الكيس قالوا ذهب إلى طلب الولد وكانت العرب تفخر بكثرة الولد وتمدح الفحل القبيس وتذم العاقر والعقيم . وقال عامر بن الطفيل يعني نفسه
لبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا
جبانا فما عذري لدى كل محضر(1/4366)
و قال علقمة بن علاثة يفخر على عامر آمنت وكفر ووفيت وغدر وولدت وعقر . وقال الزبرقان
فاسأل بني سعد وغيرهم
يوم الفخار فعندهم خبري
أي امرئ أنا حين يحضرني
رفد العطاء وطالب النصر
و إذا هلكت تركت وسطهم
ولدي الكرام ونابه الذكر
و قال طرفة بن العبد
فلو شاء ربي كنت قيس بن خالد
و لو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد
فأصبحت ذا مال كثير وعادني
بنون كرام سادة لمسود
و مدح النابغة الذبياني ناسا فقال
لم يحرموا طيب النساء وأمهم
طفحت عليك بناتق مذكار
[ 245 ]
و قال نهشل بن حري
على بني يشد الله عظمهم
و النبع ينبت قضبانا فيكتهل
و مكث الفرزدق زمانا لا يولد له فعيرته امرأته فقال
قالت أراه واحدا لا أخا له
يؤمله في الوارثين الأباعد
لعلك يوما أن تريني كأنما
بني حوالي الليوث الحوارد
فإن تميما قبل أن يلد الحصى
أقام زمانا وهو في الناس واحد
و قال الآخر وقد مات إخوته وملأ حوضه ليسقي فجاء رجل صاحب عشيرة وعترة فأخذ بضبعه فنحاه ثم قال لراعيه اسق إبلك
لو كان حوض حمار ما شربت به
إلا بإذن حمار آخر الأبد
لكنه حوض من أودى بإخوته
ريب المنون فأمسى بيضة البلد
لو كان يشكي إلى الأموات ما لقي
الحياء بعدهم من قلة العدد
ثم اشتكيت لأشكاني وأنجدني
قبر بسنجار أو قبر على فحد
و قال الأعشى وهو يذكر الكثرة
و لست بالأكثر منهم حصى
و إنما العزة للكاثر
قال وقد ولد رجال من العرب كل منهم يلد لصلبه أكثر من مائة فصاروا بذلك مفخرا منهم عبد الله بن عمير الليثي وأنس بن مالك الأنصاري وخليفة بن بر السعدي أتى على عامتهم الموت الجارف ومات جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس عن ثلاثة وأربعين ذكرا وخمس وثلاثين امرأة كلهم لصلبه فما ظنك بمن مات من ولده في حياته وليس طبقة من طبقات الأسنان الموت إليها أسرع وفيها أعم
[ 246 ](1/4367)
و أفشى من سن الطفولية وأمر جعفر بن سليمان قد عاينه عالم من الناس وعامتهم أحياء وليس خبر جعفر كخبر غيره من الناس . قال الهيثم بن عدي أفضى الملك إلى ولد العباس وجميع ولد العباس يومئذ من الذكور ثلاثة وأربعون رجلا ومات جعفر بن سليمان وحده عن مثل ذلك العدد من الرجال وممن قرب ميلاده وكثر نسله حتى صار كبعض القبائل والعمائر أبو بكر صاحب رسول الله ص والمهلب بن أبي صفرة ومسلم بن عمرو الباهلي وزياد بن عبيد أمير العراق ومالك بن مسمع وولد جعفر بن سليمان اليوم أكثر عددا من أهل هذه القبائل وأربعة من قريش ترك كل واحد منهم عشرة بنين مذكورين معروفين وهم عبد المطلب بن هاشم والمطلب بن عبد مناف وأمية بن عبد شمس والمغيرة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وليس على ظهر الأرض هاشمي إلا من ولد عبد المطلب ولا يشك أحد أن عدد الهاشميين شبيه بعدد الجميع فهذا ما في الكثرة والقلة . قلت رحم الله أبا عثمان لو كان حيا اليوم لرأى ولد الحسن والحسين ع أكثر من جميع العرب الذين كانوا في الجاهلية على عصر النبي ص المسلمين منهم والكافرين لأنهم لو أحصوا لما نقص ديوانهم عن مائتي ألف إنسان . قال أبو عثمان وإن كان الفخر بنبل الرأي وصواب القول فمن مثل عباس بن عبد المطلب وعبد الله بن العباس وإن كان في الحكم والسؤدد وأصالة الرأي والغناء العظيم فمن مثل عبد المطلب وإن كان إلى الفقه والعلم بالتأويل ومعرفة التأويل وإلى القياس السديد وإلى الألسنة الحداد والخطب الطوال فمن مثل علي بن أبي طالب ع وعبد الله بن عباس .
[ 247 ]
قالوا خطبنا عبد الله بن عباس خطبة بمكة أيام حصار عثمان لو شهدها الترك والديلم لأسلموا . وفي عبد الله بن العباس يقول حسان بن ثابت
إذا قال لم يترك مقالا لقائل
بملتقطات لا ترى بينها فضلا
شفى وكفى ما في النفوس فلم يدع
لذي إربة في القول جدا ولا هزلا(1/4368)
و هو البحر وهو الحبر وكان عمر يقول له في حداثته عند إجالة الرأي غص يا غواص وكان يقدمه على جلة السلف . قلت أبى أبو عثمان إلا إعراضا عن علي ع هلا قال فيه كما قال في عبد الله فلعمري لو أراد لوجد مجالا ولألفى قولا وسيعا وهل تعلم الناس الخطب والعهود والفصاحة إلا من كلام علي ع وهل أخذ عبد الله رحمه الله الفقه وتفسير القرآن إلا عنه فرحم الله أبا عثمان لقد غلبت البصرة وطينتها على إصابة رأيه . قال أبو عثمان وإن كان الفخر في البسالة والنجدة وقتل الأقران وجزر الفرسان فمن كحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وكان الأحنف إذا ذكر حمزة قال أكيس وكان لا يرضى أن يقول شجاع لأن العرب كانت تجعل ذلك أربع طبقات فتقول شجاع فإذا كان فوق ذلك قالت بطل فإذا كان فوق ذلك قالت بهمة فإذا كان فوق ذلك قالت أكيس وقال العجاج
أكيس عن حوبائه سخي
و هل أكثر ما يعد الناس من جرحاهما وصرعاهما إلا سادتكم وأعلامكم قتل حمزة وعلي ع عتبة والوليد وقتلا شيبة أيضا شركا عبيدة بن الحارث فيه وقتل علي ع حنظلة بن أبي سفيان فأما آباء ملوككم من بني مروان فإنهم كما قال
[ 248 ](1/4369)
عبد الله بن الزبير لما أتاه خبر المصعب إنا والله ما نموت حبجا كما يموت آل أبي العاص والله ما قتل منهم قتيل في جاهلية ولا إسلام وما نموت إلا قتلا قعصا بالرماح وموتا تحت ظلال السيوف . قال أبو عثمان كأنه لم يعد قتل معاوية بن المغيرة بن أبي العاص قتلا إذ كان إنما قتل في غير معركة وكذلك قتل عثمان بن عفان إذ كان إنما قتل محاصرا ولا قتل مروان بن الحكم لأنه قتل خنقا خنقته النساء قال وإنما فخر عبد الله بن الزبير بما في بني أسد بن عبد العزى من القتلى لأن من شأن العرب أن يفخروا بذلك كيف كانوا قاتلين أو مقتولين أ لا ترى أنك لا تصيب كثرة القتلى إلا في القوم المعروفين بالبأس والنجدة وبكثرة اللقاء والمحاربة كآل أبي طالب وآل الزبير وآل المهلب . قال وفي آل الزبير خاصة سبعة مقتولون في نسق ولم يوجد ذلك في غيرهم قتل عمارة وحمزة ابنا عبد الله بن الزبير يوم قديد في المعركة قتلهما الإباضية وقتل عبد الله بن الزبير في محاربة الحجاج وقتل مصعب بن الزبير بدير الجاثليق في المعركة أكرم قتل وبإزائه عبد الملك بن مروان وقتل الزبير بوادي السباع منصرفه عن وقعة الجمل وقتل العوام بن خويلد في حرب الفجار وقتل خويلد بن أسد بن عبد العزى في حرب خزاعة فهؤلاء سبعة في نسق . قال وفي بني أسد بن عبد العزى قتلى كثيرون غير هؤلاء قتل المنذر بن الزبير بمكة قتله أهل الشام في حرب الحجاج وهو على بغل ورد كان نفر به فأصعد به في الجبل
[ 249 ]
و إياه يعني يزيد بن مفرغ الحميري وهو يهجو صاحبكم عبيد الله بن زياد ويعيره بفراره يوم البصرة
لابن الزبير غداة تدمر منذرا
أولى بكل حفيظة ودفاع
و قتل عمرو بن الزبير قتله أخوه عبد الله بن الزبير وكان في جوار أخيه عبيدة بن الزبير فلم يغن عنه فقال الشاعر يحرض عبيدة على قتل أخيه عبد الله بن الزبير ويعيره بإخفاره جوار عمرو أخيهما
أ عبيد لو كان المجير لولولت(1/4370)
بعد الهدو برنة أسماء
أ عبيد إنك قد أجرت وجاركم
تحت الصفيح تنوبه الأصداء
اضرب بسيفك ضربة مذكورة
فيها أداء أمانه ووفاء
و قتل بجير بن العوام أخو الزبير بن العوام قتله سعد بن صفح الدوسي جد أبي هريرة من قبل أمه قتله بناحية اليمامة وقتل معه أصرم وبعلك أخويه ابني العوام بن خويلد وقد قتل منهم في محاربة النبي ص قوم مشهورون منهم زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى كان شريفا قتل يوم بدر وأبوه الأسود كان المثل يضرب بعزته بمكة وفيه قال رسول الله ص وهو يذكر عاقر الناقة كان عزيزا منيعا كأبي زمعة ويكنى زمعة بن الأسود أبا حكيمة وقتل الحارث بن الأسود بن المطلب يوم بدر أيضا وقتل عبد الله بن حميد بن زهير بن الحارث بن الأسود بن المطلب بن أسد يوم بدر أيضا وقتل نوفل بن خويلد يوم بدر أيضا قتله علي بن أبي طالب ع وقتل يوم الحرة يزيد بن عبد الله بن زمعة بن الأسود ضرب عنقه مسرف بن عقبة صبرا قال له بايع لأمير المؤمنين يزيد
[ 250 ]
بن معاوية على أنك عبد قن له قال بل أبايعه على أني أخوه وابن عمه فضرب عنقه وقتل إسماعيل بن هبار بن الأسود ليلا وكان ادعى حيلة فخرج مصرخا لمن استصرخه فقتل فاتهم به مصعب بن عبد الله بن عبد الرحمن فأحلفه معاوية خمسين يمينا وخلى سبيله فقال الشاعر
و لا أجيب بليل داعيا أبدا
أخشى الغرور كما غر ابن هبار
باتوا يجرونه في الحش منعقرا
بئس الهدية لابن العم والجار
و قتل عبد الرحمن بن العوام بن خويلد في خلافة عمر بن الخطاب في بعض المغازي وقتل ابنه عبد الرحمن يوم الدار مع عثمان فعبد الله بن عبد الرحمن بن العوام بن خويلد قتيل ابن قتيل ابن قتيل ابن قتيل أربعة ومن قتلاهم عيسى بن مصعب بن الزبير قتل بين يدي أبيه بمسكن في حرب عبد الملك وكان مصعب يكنى أبا عيسى وأبا عبد الله وفيه يقول الشاعر
لتبك أبا عيسى وعيسى كلاهما
موالي قريش كهلها وصميمها(1/4371)
و منهم مصعب بن عكاشة بن مصعب بن الزبير قتل يوم قديد في حرب الخوارج وقد ذكره الشاعر فقال
قمن فاندبن رجالا قتلوا
بقديد ولنقصان العدد
ثم لا تعدلن فيها مصعبا
حين يبكى من قتيل بأحد
إنه قد كان فيها باسلا
صارما يقدم إقدام الأسد
و منهم خالد بن عثمان بن خالد بن الزبير خرج مع محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن فقتله أبو جعفر وصلبه ومنهم عتيق بن عامر بن عبد الله بن الزبير قتل بقديد أيضا وسمي عتيقا باسم جده أبي بكر الصديق .
[ 251 ]
قلت هذا أيضا من تحامل أبي عثمان هلا ذكر قتلى الطف وهم عشرون سيدا من بيت واحد قتلوا في ساعة واحدة وهذا ما لم يقع مثله في الدنيا لا في العرب ولا في العجم . ولما قتل حذيفة بن بدر يوم الهباءة وقتل معه ثلاثة أو أربعة من أهل بيته ضربت العرب بذلك الأمثال واستعظموه فجاء يوم الطف جرى الوادي فطم على القري . وهلا عدد القتلى من آل أبي طالب فإنهم إذا عدوا إلى أيام أبي عثمان كانوا عددا كثيرا أضعاف ما ذكره من قتلى الأسديين قال أبو عثمان وإن كان الفخر والفضل في الجود والسماح فمن مثل عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ومن مثل عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب . وقد اعترضت الأموية هذا الموضع فقالت إنما كان عبد الله بن جعفر يهب ما كان معاوية ويزيد يهبان له فمن فضل جودنا جاد . قالوا ومعاوية أول رجل في الأرض وهب ألف ألف درهم وابنه أول من ضاعف ذلك فإنه كان يجيز الحسن والحسين ابني علي ع في كل عام لكل واحد منهما بألف ألف درهم وكذلك كان يجيز عبد الله بن العباس وعبد الله بن جعفر فلما مات وقام يزيد وفد عليه عبد الله بن جعفر فقال له إن أمير المؤمنين معاوية كان يصل رحمي في كل سنة بألف ألف درهم قال فلك ألفا ألف درهم فقال بأبي أنت وأمي أما إني ما قلتها لابن أنثى قبلك قال فلك أربعة آلاف ألف درهم . وهذا الاعتراض ساقط لأن ذلك إن صح لم يعد جودا ولا جائزة ولا صلة رحم هؤلاء(1/4372)
[ 252 ]
قوم كان يخافهم على ملكه ويعرف حقهم فيه وموقعهم من قلوب الأمة فكان يدبر في ذلك تدبيرا ويريع أمورا ويصانع عن دولته وملكه ونحن لم نعد قط ما أعطى خلفاء بني هاشم قوادهم وكتابهم وبني عمهم جودا فقد وهب المأمون للحسن بن سهل غلة عشرة آلاف ألف فما عد ذلك منه مكرمة وكذلك كل ما يكون داخلا في باب التجارة واستمالة القلوب وتدبير الدولة وإنما يكون الجود ما يدفعه الملوك في الوفود والخطباء والشعراء والأشراف والأدباء والسمار ونحوهم ولو لا ذلك لكان الخليفة إذا وفى الجند أعطياتهم احتسب ذلك في جوده فالعمالات شي ء والإعطاء على دفع المكروه شي ء والتفضل والجود شي ء ثم إن الذين أعطاهم معاوية ويزيد هو بعض حقهم والذي فضل عليهما أكثر مما خرج منهما . وإن أريد الموازنة بين ملوك بني العباس وملوك بني أمية في العطاء افتضح بنو أمية وناصروهم فضيحة ظاهرة فإن نساء خلفاء بني عباس أكثر معروفا من رجال بني أمية ولو ذكرت معروف أم جعفر وحدها لأتى ذلك على جميع صنائع بني مروان وذلك معروف ولو ذكر معروف الخيزران وسلسبيل لملئت الطوامير الكثيرة به وما نظن خالصة مولاتهم إلا فوق أجواد أجوادهم وإن شئت أن تذكر مواليهم وكتابهم فاذكر عيسى بن ماهان وابنه عليا وخالد بن برمك وابنه يحيى وابنه جعفرا والفضل وكاتبهم منصور بن زياد ومحمد بن منصور وفتى العسكر فإنك تجد لكل واحد من هؤلاء ما يحيط بجميع صنائع بني عبد شمس . فأما ملوك الأموية فليس منهم إلا من كان يبخل على الطعام وكان جعفر بن سليمان كثيرا ما يذكر ذلك وكان معاوية يبغض الرجل النهم على مائدته وكان
[ 253 ](1/4373)
المنصور إذا ذكرهم يقول كان عبد الملك جبارا لا يبالي ما صنع وكان الوليد مجنونا وكان سليمان همه بطنه وفرجه وكان عمر أعور بين عميان وكان هشام رجل القوم وكان لا يذكر ابن عاتكة ولقد كان هشام مع ما استثناه به يقول هو الأحول السراق ما زال يدخل إعطاء الجند شهرا في شهر وشهرا في شهر حتى أخذ لنفسه مقدار رزق سنة وأنشده أبو النجم العجلي أرجوزته التي أولها
ألحد لله الوهوب المجزل
فما زال يصفق بيديه استحسانا لها حتى صار إلى ذكر الشمس فقال
و الشمس في الأفق كعين الأحول
فأمر بوج ء عنقه وإخراجه وهذا ضعف شديد وجهل عظيم . وقال خاله إبراهيم بن هشام المخزومي ما رأيت من هشام خطأ قط إلا مرتين حدا به الحادي مرة فقال
إن عليك أيها البختي
أكرم من تمشي به المطي
فقال صدقت وقال مرة والله لأشكون سليمان يوم القيامة إلى أمير المؤمنين عبد الملك وهذا ضعف شديد وجهل مفرط . وقال أبو عثمان وكان هشام يقول والله إني لأستحيي أن أعطي رجلا أكثر من أربعة آلاف درهم ثم أعطى عبد الله بن الحسن أربعة آلاف دينار فاعتدها في جوده وتوسعه وإنما اشترى بها ملكه وحصن بها عن نفسه وما في يديه قال له أخوه مسلمة أ تطمع أن تلي الخلافة وأنت بخيل جبان فقال ولكني حليم عفيف فاعترف بالجبن والبخل وهل تقوم الخلافة مع واحد منهما وإن قامت فلا تقوم إلا مع الخطر العظيم والتغرير الشديد ولو سلمت من الفساد لم تسلم من العيب .
[ 254 ](1/4374)
و لقد قدم المنصور عليهم عمر بن عبد العزيز بقوله أعور بين عميان وزعمتم أنه كان ناسكا ورعا تقيا فكيف وقد جلد خبيب بن عبد الله بن الزبير مائة جلدة وصب على رأسه جرة من ماء بارد في يوم شات حتى كز فمات فما أقر بدمه ولا خرج إلى وليه من حقه ولا أعطى عقلا ولا قودا ولا كان خبيب ممن أتت عليه حدود الله وأحكامه وقصاصه فيقال كان مطيعا بإقامتها وأنه أزهق الحد نفسه واحتسبوا الضرب كان أدبا وتعزيرا فما عذره في الماء البارد في الشتاء على أثر جلد شديد ولقد بلغه أن سليمان بن عبد الملك يوصي فجاء حتى جلس على طريق من يجلس عنده أو يدخل إليه فقال رجاء بن حيوة في بعض من يدخل ومن يخرج نشدتك الله أن تذكرني لهذا الأمر أو تشير بي في هذا الشأن فو الله ما لي عليه من طاقة فقال له رجاء قاتلك الله ما أحرصك عليها . ولما جاء الوليد بن عبد الملك بنعي الحجاج قال له الوليد مات الحجاج يا أبا حفص فقال وهل كان الحجاج إلا رجلا منا أهل البيت وقال في خلافته لو لا بيعة في أعناق الناس ليزيد بن عاتكة لجعلت هذا الأمر شورى بين صاحب الأعوص إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد الأشدق وبين أحمس قريش القاسم بن محمد بن أبي بكر وبين سالم بن عبد الله بن عمر فما كان عليه من الضرر والحرج وما كان عليه من الوكف والنقص أن لو قال بين علي بن العباس وعلي بن الحسين بن علي وعلى أنه لم يرد التيمي ولا العدوي وإنما دبر الأمر للأموي ولم يكن عنده أحد من هاشم يصلح للشورى ثم دبر الأمر ليبايع لأخيه أبي بكر بن عبد العزيز من بعده حتى عوجل بالسم . وقدم عليه عبد الله بن حسن بن حسن فلما رأى كماله وبيانه وعرف نسبه ومركبه
[ 255 ](1/4375)
و موضعه وكيف ذلك من قلوب المسلمين وفي صدور المؤمنين لم يدعه يبيت بالشام ليلة واحدة وقال له الحق بأهلك فإنك لم تغنهم شيئا هو أنفس منك ولا أرد عليهم من حياتك أخاف عليك طواعين الشام وستلحقك الحوائج على ما تشتهي وتحب . وإنما كره أن يروه ويسمعوا كلامه فلعله يبذر في قلوبهم بذرا ويغرس في صدورهم غرسا وكان أعظم خلق قولا بالجبر حتى يتجاوز الجهمية ويربي على كل ذي غاية صاحب شنعة وكان يصنع ذلك الكتب مع جهله بالكلام وقلة اختلافه إلى أهل النظر وقال له شوذب الخارجي لم لا تلعن رهطك وتذكر أباك إن كانوا عندك ظلمة فجرة فقال عمر متى عهدك بلعن فرعون قال ما لي به عهد قال أ فيسعك أن تمسك عن لعن فرعون ولا يسعني أن أمسك عن لعن آبائي فرأى أنه قد خصمه وقطع حجته وكذلك يظنه كل من قصر عن مقدار العالم وجاوز مقدار الجاهل وأي شبه لفرعون بآل مروان وآل أبي سفيان هؤلاء قوم لهم حزب وشيعة وناس كثير يدينون بتفضيلهم وقد اعتورتهم الشبه في أمرهم وفرعون على خلاف ذلك وضده لا شيعة له ولا حزب ولا نسل ولا موالي ولا صنائع ولا في أمره شبهة ثم إن عمر ظنين في أمر أهله فيحتاج إلى غسل ذلك عنه بالبراءة منهم وشوذب ليس بظنين في أمر فرعون وليس الإمساك عن لعن فرعون والبراءة منه مما يعرفه الخوارج فكيف استويا عنده . وشكا إليه رجل من رهطه دينا فادحا وعيالا كثيرا فاعتل عليه فقال له فهلا اعتللت على عبد الله بن الحسن قال ومتى شاورتك في أمري قال أو مشيرا
[ 256 ](1/4376)
تراني قال أو هل أعطيته إلا بعض حقه قال ولم قصرت عن كله فأمر بإخراجه وما زال إلى أن مات محروما منه . وكان عمال أهله على البلاد عماله وأصحابه والذي حسن أمره وشبه على الأغنياء حاله أنه قام بعقب قوم قد بدلوا عامة شرائع الدين وسنن النبي ص وكان الناس قبله من الظلم والجور والتهاون بالإسلام في أمر صغر في جنبه عاينوا منه وألفوه عليه فجعلوه بما نقص من تلك الأمور الفظيعة في عداد الأئمة الراشدين وحسبك من ذلك أنهم كانوا يلعنون عليا ع على منابرهم فلما نهى عمر عن ذلك عد محسنا ويشهد لذلك قول كثير فيه
و ليت فلم تشتم عليا ولم تخف
بريا ولم تتبع مقالة مجرم
و هذا الشعر يدل على أن شتم علي ع قد كان لهم عادة حتى مدح من كف عنه ولما ولي خالد بن عبد الله القسري مكة وكان إذا خطب بها لعن عليا والحسن والحسين ع قال عبيد الله بن كثير السهمي
لعن الله من يسب عليا
و حسينا من سوقة وإمام
أ يسب المطهرون جدودا
و الكرام الآباء والأعمام
يأمن الطير والحمام ولا يأمن
آل الرسول عند المقام
طبت بيتا وطاب أهلك أهلا
أهل بيت النبي والإسلام
رحمة الله والسلام عليهم
كلما قام قائم بسلام
و قام عبد الله بن الوليد بن عثمان بن عفان وكان ممن يناله بزعمهم إلى هشام بن عبد الملك وهو يخطب على المنبر بعرفة فقال يا أمير المؤمنين هذا يوم كانت
[ 257 ](1/4377)
الخلفاء تستحب فيه لعن أبي تراب فقال هشام ليس لهذا جئنا أ لا ترى أن ذلك يدل على أنه قد كان لعنه فيهم فاشيا ظاهرا وكان عبد الله بن الوليد هذا يلعن عليا ع ويقول قتل جدي جميعا الزبير وعثمان . وقال المغيرة وهو عامل معاوية يومئذ لصعصعة بن صوحان قم فالعن عليا فقام فقال إن أميركم هذا أمرني أن ألعن عليا فالعنوه لعنه الله وهو يضمر المغيرة . وأما عبد الملك فحسبك من جهله تبديله شرائع الدين والإسلام وهو يريد أن يلي أمور أصحابها بذلك الدين بعينه وحسبك من جهله أنه رأى من أبلغ التدبير في منع بنى هاشم الخلافة أن يلعن علي بن أبي طالب ع على منابره ويرمي بالفجور في مجالسه وهذا قرة عين عدوه وعير وليه وحسبك من جهله قيامه على منبر الخلافة قائلا إني والله ما أنا بالخليفة المستضعف ولا بالخليفة المداهن ولا بالخليفة المأفون وهؤلاء سلفه وأئمته وبشفعتهم قام ذلك المقام وبتقدمهم وتأسيسهم نال تلك الرئاسة ولو لا العادة المتقدمة والأجناد المجندة والصنائع القائمة لكان أبعد خلق الله من ذلك المقام وأقربهم إلى المهلكة إن رام ذلك الشرف وعنى بالمستضعف عثمان وبالمداهن معاوية وبالمأفون يزيد بن معاوية وهذا الكلام نقض لسلطانه وعداوة لأهله وإفساد لقلوب شيعته ولو لم يكن من عجز رأيه إلا أنه لم يقدر على إظهار قوته إلا بأن يظهر عجز أئمته لكفاك ذلك منه فهذا ما ذكرته هاشم لأنفسها(1/4378)
مفاخر بني أمية
قالت أمية لنا من نوادر الرجال في العقل والدهاء والأدب والمكر ما ليس لأحد
[ 258 ]
و لنا من الأجواد وأصحاب الصنائع ما ليس لأحد زعم الناس أن الدهاة أربعة معاوية بن أبي سفيان وزياد وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة فمنا رجلان ومن سائر الناس رجلان ولنا في الأجواد سعيد بن العاص وعبد الله بن عامر لم يوجد لهما نظير إلى الساعة وأما نوادر الرجال في الرأي والتدبير فأبو سفيان بن حرب وعبد الملك بن مروان ومسلمة بن عبد الملك وعلى أنهم يعدون في الحلماء والرؤساء فأهل الحجاز يضربون المثل في الحلم بمعاوية كما يضرب أهل العراق المثل فيه بالأحنف . فأما الفتوح والتدبير في الحرب فلمعاوية غير مدافع وكان خطيبا مصقعا ومجربا مظفرا وكان يجيد قول الشعر إذا آثر أن يقوله وكان عبد الملك خطيبا حازما مجربا مظفرا وكان مسلمة شجاعا مدبرا وسائسا مقدما وكثير الفتوح كثير الأدب وكان يزيد بن معاوية خطيبا شاعرا وكان الوليد بن يزيد خطيبا شاعرا وكان مروان بن الحكم وعبد الرحمن بن الحكم شاعرين وكان بشر بن مروان شاعرا ناسبا وأديبا عالما وكان خالد بن يزيد بن معاوية خطيبا شاعرا جيد الرأي أديبا كثير الأدب حكيما وكان أول من أعطى التراجمة والفلاسفة وقرب أهل الحكمة ورؤساء أهل كل صناعة وترجم كتب النجوم والطب والكيمياء والحروب والآداب والآلات والصناعات . قالوا وإن ذكرت البأس والشجاعة فالعباس بن الوليد بن عبد الملك ومروان بن محمد وأبوه محمد بن مروان بن الحكم وهو صاحب مصعب وهؤلاء قوم لهم آثار بالروم لا تجهل وآثار بإرمينية لا تنكر ولهم يوم العقر شهده مسلمة والعباس بن الوليد . قالوا ولنا الفتوح العظام ولنا فارس وخراسان وإرمينية وسجستان وإفريقية وجميع فتوح عثمان فأما فتوح بني مروان فأكثر وأعم وأشهر من أن
[ 259 ](1/4379)
تحتاج إلى عدد أو إلى شاهد والذين بلغوا في ذلك الزمان أقصى ما يمكن صاحب خف وحافر أن يبلغه حتى لم يحتجز منهم إلا ببحر أو خليج بحر أو غياض أو عقاب أو حصون وصياصي ثلاثة رجال قتيبة بن مسلم بخراسان وموسى بن نصير بإفريقية والقاسم بن محمد بن القاسم الثقفي بالسند والهند وهؤلاء كلهم عمالنا وصنائعنا ويقال إن البصرة كانت صنائع ثلاثة رجال عبد الله بن عامر وزياد والحجاج فرجلان من أنفسنا والثالث صنيعنا . قالوا ولنا في الأجواد وأهل الأقدار بنو عبد الله بن خالد بن أسيد بن أمية وأخوه خالد وفي خالد يقول الشاعر
إلى خالد حتى أنخنا بخالد
فنعم الفتى يرجى ونعم المؤمل
و لنا سعيد بن خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد وهو عقيد الندى كان يسبت ستة أشهر ويفيق ستة أشهر ويرى كحيلا من غير اكتحال ودهينا من غير تدهين وله يقول موسى شهوات
أبا خالد أعني سعيد بن خالد
أخا العرف لا أعني ابن بنت سعيد
و لكنني أعني ابن عائشة الذي
أبو أبويه خالد بن أسيد
عقيد الندى ما عاش يرضى به الندى
فإن مات لم يرض الندى بعقيد
قالوا وإنما تمكن فينا الشعر وجاد ليس من قبل أن الذين مدحونا ما كانوا غير من مدح الناس ولكن لما وجدوا فينا مما يتسع لأجله القول ويصدق فيه القائل قد مدح عبد الله بن قيس الرقيات من الناس آل الزبير عبد الله ومصعبا وغيرهما فكان يقول كما يقول غيره فلما صار إلينا قال
ما نقموا من بني أمية إلا
أنهم يحلمون أن غضبوا
[ 260 ]
و أنهم معدن الملوك فما
تصلح إلا عليهم العرب
و قال نصيب
من النفر الشم الذين إذا انتجوا
أقرت لنجواهم لؤي بن غالب
يحيون بسامين طورا وتارة
يحيون عباسين شوس الحواجب
و قال الأخطل
شمس العداوة حتى يستقاد لهم
و أعظم الناس أحلاما إذا قدروا
قالوا وفينا يقول شاعركم والمتشيع لكم الكميت بن زيد
فالآن صرت إلى أمية
و الأمور لها مصائر
و في معاوية يقول أبو الجهم العدوي
نقلبه لنخبر حالتيه(1/4380)
فنخبر منهما كرما ولينا
نميل على جوانبه كأنا
إذا ملنا نميل على أبينا
و فيه يقول
تريع إليه هوادي الكلام
إذا ضل خطبته المهذر
قالوا وإذا نظرتم في امتداح الشعراء عبد العزيز بن مروان عرفتم صدق ما نقوله . قالوا وفي إرسال النبي ص إلى أهل مكة عثمان واستعماله عليها عتاب بن أسيد وهو ابن اثنتين وعشرين سنة دليل على موضع المنعة أن تهاب العرب وتعز قريش و
قال النبي ص قبل الفتح فتيان أضن بهما على النار عتاب بن أسيد وجبير بن مطعم فولى عتابا وترك جبير بن مطعم .
[ 261 ](1/4381)
و قال الشعبي لو ولد لي مائة ابن لسميتهم كلهم عبد الرحمن للذي رأيت في قريش من أصحاب هذا الاسم ثم عد عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص فأما عبد الرحمن بن عتاب فإنه صاحب الخيل يوم الجمل وهو صاحب الكف والخاتم وهو الذي مر به علي وهو قتيل فقال لهفي عليك يعسوب قريش هذا اللباب المحض من بني عبد مناف فقال له قائل لشد ما أتيته اليوم يا أمير المؤمنين قال إنه قام عني وعنه نسوة لم يقمن عنك . قالوا ولنا من الخطباء معاوية بن أبي سفيان أخطب الناس قائما وقاعدا وعلى منبر وفي خطبة نكاح وقال عمر بن الخطاب ما يتصعدني شي ء من الكلام كما يتصعدني خطبة النكاح وقد يكون خطيبا من ليس عنده في حديثه ووصفه للشي ء احتجاجه في الأمر لسان بارع وكان معاوية يجري مع ذلك كله . قالوا ومن خطبائنا يزيد بن معاوية كان أعرابي اللسان بدوي اللهجة قال معاوية وخطب عنده خطيب فأجاد لأرمينه بالخطيب الأشدق يريد يزيد بن معاوية . ومن خطبائنا سعيد بن العاص لم يوجد كتحبيره تحبير ولا كارتجاله ارتجال . ومنا عمرو بن سعيد الأشدق لقب بذلك لأنه حيث دخل على معاوية وهو غلام بعد وفاة أبيه فسمع كلامه فقال إن ابن سعيد هذا الأشدق . وقال له معاوية إلى من أوصى بك أبوك قال إن أبي أوصى إلي ولم يوص بي قال فبم أوصى إليك قال ألا يفقد إخوانه منه إلا وجهه . قالوا ومنا سعيد بن عمرو بن سعيد خطيب ابن خطيب ابن خطيب تكلم الناس عند عبد الملك قياما وتكلم قاعدا قال عبد الملك فتكلم وأنا والله أحب عثرته وإسكاته فأحسن حتى استنطقته واستزدته وكان عبد الملك خطيبا خطب
[ 262 ](1/4382)
الناس مرة فقال ما أنصفتمونا معشر رعيتنا طلبتم منا أن نسير فيكم وفي أنفسنا سيرة أبي بكر وعمر في أنفسهما ورعيتهما ولم تسيروا فينا ولا في أنفسكم سيرة رعية أبي بكر وعمر فيهما وفي أنفسهما ولكل من النصفة نصيب قالوا فكانت خطبته نافعة . قالوا ولنا زياد وعبيد الله بن زياد وكانا غنيين في صحة المعاني وجودة اللفظ ولهما كلام كثير محفوظ قالوا ومن خطبائنا سليمان بن عبد الملك والوليد بن يزيد بن عبد الملك . ومن خطبائنا ونساكنا يزيد بن الوليد الناقص قال عيسى بن حاضر قلت لعمرو بن عبيد ما قولك في عمر بن عبد العزيز فكلح ثم صرف وجهه عني قلت فما قولك في يزيد الناقص فقال أو الكامل قال بالعدل وعمل بالعدل وبذل نفسه وقتل ابن عمه في طاعة ربه وكان نكالا لأهله ونقص من أعطياتهم ما زادته الجبابرة وأظهر البراءة من آبائه وجعل في عهده شرطا ولم يجعله جزما لا والله لكأنه ينطق عن لسان أبي سعيد يريد الحسن البصري قال وكان الحسن من أنطق الناس . قالوا وقد قرئ في الكتب القديمة يا مبذر الكنوز يا ساجدا بالأسحار كانت ولايتك رحمة بهم وحجة عليهم قالوا هو يزيد بن الوليد . ومن خطبائنا ثم من ولد سعيد بن العاص عمرو بن خولة كان ناسبا فصيحا خطيبا . وقال ابن عائشة الأكبر ما شهد خطيبا قط إلا ولجلج هيبة له ومعرفة بانتقاده . ومن خطبائنا عبد الله بن عامر وعبد الأعلى بن عبد الله بن عامر وكانا من أكرم الناس وأبين الناس كان مسلمة بن عبد الملك يقول إني لأنحي كور عمامتي على أذني لأسمع كلام عبد الأعلى .
[ 263 ](1/4383)
و كانوا يقولون أشبه قريش نعمة وجهارة واقتدارا وبيانا بعمرو بن سعيد عبد الأعلى بن عبد الله . قالوا ومن خطبائنا ورجالنا الوليد بن عبد الملك وهو الذي كان يقال له فحل بني مروان كان يركب معه ستون رجلا لصلبه . ومن ذوي آدابنا وعلمائنا وأصحاب الأخبار ورواية الأشعار والأنساب بشر بن مروان أمير العراق . قالوا ونحن أكثر نساكا منكم منا معاوية بن يزيد بن معاوية وهو الذي قيل له في مرضه الذي مات فيه لو أقمت للناس ولي عهد قال ومن جعل لي هذا العهد في أعناق الناس والله لو لا خوفي الفتنة لما أقمت عليها طرفة عين والله لا أذهب بمرارتها وتذهبون بحلاوتها فقالت له أمه لوددت أنك حيضة قال أنا والله وددت ذلك . قالوا ومنا سليمان بن عبد الملك الذي هدم الديماس ورد المسيرين وأخرج المسجونين وترك القريب واختار عمر بن عبد العزيز وكان سليمان جوادا خطيبا جميلا صاحب سلامة ودعة وحب للعافية وقرب من الناس حتى سمي المهدي وقيلت الأشعار في ذلك . قالوا ولنا عمر بن عبد العزيز شبه عمر بن الخطاب قد ولده عمر وباسمه سمي وهو أشج قريش المذكور في الآثار المنقولة في الكتب العدل في أشد الزمان وظلف نفسه بعد اعتياد النعم حتى صار مثلا ومفخرا وقيل للحسن أ ما رويت
أن رسول الله ص قال لا يزداد الزمان إلا شدة والناس إلا شحا ولا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق قال بلى قيل فما بال عمر بن عبد العزيز وعدله
[ 264 ](1/4384)
و سيرته فقال لا بد للناس من متنفس وكان مذكورا مع الخطباء ومع النساك ومع الفقهاء قالوا ولنا ابنه عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز كان ناسكا زكيا طاهرا وكان من أتقى الناس وأحسنهم معونة لأبيه وكان كثيرا ما يعظ أباه وينهاه . قالوا ولنا من لا نظير له في جميع أموره وهو صاحب الأعوص إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد بن العاص وهو الذي قال فيه عمر بن عبد العزيز لو كان إلي من الأمر شي ء لجعلتها شورى بين القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وصاحب الأعوص . قالوا ومن نساكنا أبو حراب من بني أمية الصغرى أ داود بن علي ومن نساكنا يزيد بن محمد بن مروان كان لا يهدب ثوبا ولا يصبغه ولا يتخلق بخلوق ولا اختار طعاما على طعام ما أطعم أكله وكان يكره التكلف وينهى عنه . قالوا ومن نساكنا أبو بكر بن عبد العزيز بن مروان أراد عمر أخوه أن يجعله ولي عهده لما رأى من فضله وزهده فسما فيهما جميعا . ومن نساكنا عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان كان يصلي كل يوم ألف ركعة وكان كثير الصدقة وكان إذا تصدق بصدقة قال اللهم إن هذا لوجهك فخفف عني الموت فانطلق حاجا ثم تصبح بالنوم فذهبوا ينبهونه للرحيل فوجدوه ميتا فأقاموا عليه المأتم بالمدينة وجاء أشعب فدخل إلى المأتم وعلى رأسه كبة من طين فالتدم مع النساء وكان إليه محسنا . ومن نساكنا عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان .
[ 265 ](1/4385)
قالوا فنحن نعد من الصلاح والفضل ما سمعتموه وما لم نذكره أكثر وأنتم تقولون أمية هي الشجرة الملعونة في القرآن وزعمتم أن الشجرة الخبيثة لا تثمر الطيب كما أن الطيب لا يثمر الخبيث فإن كان الأمر كما تقولون فعثمان بن عفان ثمرة خبيثة . وينبغي أن يكون النبي ص دفع ابنتيه إلى خبيث وكذلك يزيد بن أبي سفيان صاحب مقدمة أبي بكر الصديق على جيوش الشام وينبغي لأبي العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله ص أن يكون كذلك وينبغي لمحمد بن عبد الله المدبج أن يكون كذلك وإن ولدته فاطمة ع لأنه من بني أمية وكذلك عبد الله بن عثمان بن عفان سبط رسول الله ص الذي مات بعد أن شدن ونقر الديك عينه فمات لأنه من بني أمية وكذلك ينبغي أن يكون عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية وإن كان النبي ص ولاه مكة أم القرى وقبلة الإسلام مع
قوله ع فتيان أضن بهما عن النار عتاب ابن أسيد وجبير بن مطعم وكذلك ينبغي أن يكون عمر بن عبد العزيز شبيه عمر بن الخطاب كذلك وكذلك معاوية بن يزيد بن معاوية وكذلك يزيد الناقص وينبغي ألا يكون النبي ص عد عثمان في العشرة الذين بشرهم بالجنة وينبغي أن يكون خالد بن سعيد بن العاص شهيد يوم مرج الصفر والحبيس في سبيل الله ووالي النبي ص على اليمن ووالي أبي بكر على جميع أجناد الشام ورابع أربعة في الإسلام والمهاجر إلى أرض الحبشة كذلك وكذلك أبان بن سعيد بن العاص المهاجر إلى المدينة والقديم في الإسلام والحبيس على الجهاد ويجب أن يكون ملعونا خبيثا وكذلك أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وهو بدري من المهاجرين الأولين وكذلك أمامة بنت أبي العاص بن الربيع وأمها زينب بنت
[ 266 ](1/4386)
رسول الله ص وكذلك أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكان النبي ص يخرجها من المغازي ويضرب لها بسهم ويصافحها وكذلك فاطمة بنت أبي معيط وهي من مهاجرة الحبشة . قالوا ومما نفخر به وليس لبني هاشم مثله إن منا رجلا ولي أربعين سنة منها عشرون سنة خليفة وهو معاوية بن أبي سفيان ولنا أربعة إخوة خلفاء الوليد وسليمان وهشام بنو عبد الملك وليس لكم ويزيد إلا ثلاثة إخوة محمد وعبد الله وأبي إسحاق أولاد هارون . قالوا ومنا رجل ولد سبعة من الخلفاء وهو عبد الله بن يزيد بن عبد الملك بن مروان أبوه يزيد بن عاتكة خليفة وجده عبد الملك خليفة وأبو جده مروان الحكم خليفة وجده من قبل عاتكة ابنة يزيد بن معاوية أبوها يزيد بن معاوية وهو خليفة ومعاوية بن أبي سفيان وهو خليفة فهؤلاء خمسة وأم عبد الله هذا عاتكة بنت عبد الله بن عثمان بن عفان وحفصة بنت عبد الله بن عمر بن الخطاب فهذان خليفتان فهذه سبعة من الخلفاء ولدوا هذا الرجل . قالوا ومنا امرأة أبوها خليفة وجدها خليفة وابنها خليفة وأخوها خليفة وبعلها خليفة فهؤلاء خمسة وهي عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان أبوها يزيد بن معاوية خليفة وجدها معاوية بن أبي سفيان خليفة وابنها يزيد بن عبد الملك بن مروان خليفة وأخوها معاوية بن يزيد خليفة وبعلها عبد الملك بن مروان خليفة . قالوا ومن ولد المدبج محمد بن عبد الله الأصغر امرأة ولدها النبي ص وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وهي عائشة بنت محمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان بن عفان وأمها خديجة بنت عثمان بن عروة بن الزبير وأم عروة أسماء ذات النطاقين بنت أبي بكر الصديق وأم محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان وهو
[ 267 ](1/4387)
المدبج فاطمة بنت الحسين بن علي ع وأم الحسين بن علي ع فاطمة بنت رسول الله ص وأم فاطمة بنت الحسين بن علي ع أم إسحاق بنت طلحة بن عبد الله وأم عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان ابنة عبد الله بن عمر بن الخطاب . قالوا ولنا في الجمال والحسن ما ليس لكم منا المدبج والديباج قيل ذلك لجماله . ومنا المطرف ومنا الأرجوان فالمطرف وهو عبد الله بن عمرو بن عثمان سمي المطرف لجماله وفيه يقول الفرزدق
نما الفاروق أنك وابن أروى
أبوك فأنت منصدع النهار
و المدبج هو الديباج كان أطول الناس قياما في الصلاة وهلك في سجن المنصور . قالوا ومنا ابن الخلائف الأربعة دعي بذلك وشهر به وهو المؤمل بن العباس بن الوليد بن عبد الملك كان هو وأخوه الحارث ابني العباس بن الوليد من الفجاءة بنت قطري بن الفجاءة إمام الخوارج وكانت سبيت فوقعت إليه فلما قام عمر بن عبد العزيز أتت وجوه بني مازن وفيهم حاجب بن ذبيان المازني الشاعر فقال حاجب
أتيناك زوارا ووفدا إلى التي
أضاءت فلا يخفى على الناس نورها
أبوها عميد الحي جمعا وأمها
من الحنظليات الكرام حجورها
فإن تك صارت حين صارت فإنها
إلى نسب زاك كرام نفيرها
فبعث عمر بن عبد العزيز إلى العباس بن الوليد إما أن تردها إلى أهلها وإما أن تزوجها فقال قائل ذات يوم للمؤمل يا ابن الخلائف الأربعة قال ويلك من الرابع
[ 268 ]
قال قطري فأما الثلاثة فالوليد وعبد الملك ومروان وأما قطري فبويع بالخلافة وفيه يقول الشاعر
و أبو نعامة سيد الكفار(1/4388)
قالوا ومن أين صار محمد بن علي بن عبد الله بن العباس أحق بالدعوة والخلافة من سائر إخوته ومن أين كان له أن يضعها في بيته دون إخوته وكيف صار بنو الأخ أحق بها من الأعمام . وقالوا إن يكن هذا الأمر إنما يستحق بالميراث فالأقرب إلى العباس أحق وإن كان بالسن والتجربة فالعمومة بذلك أولى . قالوا فقد ذكرنا جملا من حال رجالنا في الإسلام وأما الجاهلية فلنا الأعياص والعنابس . ولنا ذو العصابة أبو أحيحة سعيد بن العاص كان إذا اعتم لم يعتم بمكة أحد ولنا حرب بن أمية رئيس يوم الفجار ولنا أبو سفيان بن حرب رئيس أحد والخندق وسيد قريش كلها في زمانه . وقال أبو الجهم بن حذيفة العدوي لعمر حين رأى العباس وأبا سفيان على فراشه دون الناس ما نرانا نستريح من بني عبد مناف على حال قال عمر بئس أخو العشيرة أنت هذا عم رسول الله ص وهذا سيد قريش .
[ 269 ]
قالوا ولنا عتبة بن ربيعة ساد مملقا ولا يكون السيد إلا مترفا لو لا ما رأوا عنده من البراعة والنبل والكمال وهو الذي لما تحاكمت بجيلة وكلب في منافرة جرير والفرافصة وتراهنوا بسوق عكاظ وصنعوا الرهن على يده دون جميع من شهد على ذلك المشهد و
قال رسول الله ص ونظر إلى قريش مقبلة يوم بدر إن يكن منهم عند أحد خير فعند صاحب الجمل الأحمر وما ظنك بشيخ طلبوا له من جميع العسكر عند المبارزة بيضة فلم يقدروا على بيضة يدخل رأسه فيها وقد قال الشاعر
و إنا أناس يملأ البيض هامنا
قالوا وأمية الأكبر صنفان الأعياص والعنابس قال الشاعر
من الأعياص أو من آل حرب
أغر كغرة الفرس الجواد(1/4389)
سموا بذلك في حرب الفجار حين حفروا لأرجلهم الحفائر وثبتوا فيها وقالوا نموت جميعا أو نظفر وإنما سموا بالعنابس لأنها أسماء الأسود وإنما سموا الأعياص لأنها أسماء الأصول فالعنابس حرب وسفيان وأبو سفيان وعمرو والأعياص العيص وأبو العيص والعاص وأبو العاص وأبو عمرو ولم يعقب من العنابس إلا حرب وما عقب الأعياص إلا العيص ولذلك كان معاوية يشكو القلة . قالوا وليس لبني هاشم والمطلب مثل هذه القسمة ولا مثل هذا اللقب المشهور وهذا ما قالته أمية عن نفسها
[ 270 ](1/4390)
ذكر الجواب عما فخرت به بنو أمية
و نحن نذكر ما أجاب به أبو عثمان عن كلامهم ونضيف إليه من قبلنا أمورا لم يذكرها فنقول قالت هاشم أما ذكرتم من الدهاء والمكر فإن ذلك من أسماء فجار العقلاء وليس من أسماء أهل الصواب في الرأي من العقلاء والأبرار وقد بلغ أبو بكر وعمر من التدبير وصواب الرأي والخبرة بالأمور العامة وليس من أوصافهما ولا من أسمائهما أن يقال كانا داهيين ولا كانا مكيرين وما عامل معاوية وعمرو بن العاص عليا ع قط بمعاملة إلا وكان علي ع أعلم بها منهما ولكن الرجل الذي يحارب ولا يستعمل إلا ما يجل له أقل مذاهب في وجوه الحيل والتدبير من الرجل الذي يستعمل ما يحل وما لا يحل وكذلك من حدث وأخبر أ لا ترى أن الكذاب ليس لكذبه غاية ولا لما يولد ويصنع نهاية والصدوق إنما يحدث عن شي ء معروف ومعنى محدود ويدل على ما قلنا أنكم عددتم أربعة في الدهاء وليس واحد منهم عند المسلمين في طريق المتقين ولو كان الدهاء مرتبة والمكر منزلة لكان تقدم هؤلاء الجميع السابقين الأولين عيبا شديدا في السابقين الأولين ولو أن إنسانا أراد أن يمدح أبا بكر وعمر وعثمان وعليا ثم قال الدهاة أربعة وعدهم لكان قد قال قولا مرغوبا عنه لأن الدهاء والمكر ليس من صفات الصالحين وإن علموا من غامض الأمور ما يجهله جميع العقلاء أ لا ترى أنه قد يحسن أن يقال كان رسول الله ص أكرم الناس وأحلم الناس وأجود الناس وأشجع الناس ولا يجوز أن يقال كان أمكر الناس وأدهى الناس وإن علمنا أن علمه قد أحاط بكل مكر وخديعة وبكل أدب ومكيدة . وأما ما ذكرتم من جود سعيد بن العاص وعبد الله بن عامر فأين أنتم من عبد الله بن جعفر وعبيد الله بن العباس والحسن بن علي وأين أنتم من جود خلفاء بني
[ 271 ](1/4391)
العباس كمحمد المهدي وهارون ومحمد بن زبيدة وعبد الله المأمون وجعفر المقتدر بل لعل جود بعض صنائع هؤلاء كبني برمك وبني الفرات أعظم من جود الرجلين اللذين ذكرتموهما بل من جميع ما جاء به خلفاء بني أمية . وأما ما ذكرتم من حلم معاوية فلو شئنا أن نجعل جميع ساداتنا حلماء لكانوا محتملين لذلك ولكن الوجه في هذا ألا يشتق للرجل اسم إلا من أشرف أعماله وأكرم أخلاقه وإلا أن يتبين بذلك عند أصحابه حتى يصير بذلك اسما يسمى ويصير معروفا به كما عرف الأحنف بالحلم وكما عرف حاتم بالجود وكذلك هرم قالوا هرم الجواد ولو قلتم كان أبو العاص بن أمية أحلم الناس لقلنا ولعله يكون قد كان حليما ولكن ليس كل حلم يكون صاحبه به مذكورا ومن إشكاله بائنا وإنكم لتظلمون خصومكم في تسميتكم معاوية بالحلم فكيف من دونه لأن العرب تقول أحلم الحلمين ألا يتعرض ثم يحلم ولم يكن في الأرض رجل أكثر تعرضا من معاوية والتعرض هو السفه فإن ادعيتم أن الأخبار التي جاءت في تعرضه كلها باطلة فإن لقائل أن يقول وكل خبر رويتموه في حلمه باطل ولقد شهر الأحنف بالحلم ولكنه تكلم بكلام كثير يجرح في الحلم ويثلم في العرض ولا يستطيع أحد أن يحكي عن العباس بن عبد المطلب ولا عن الحسن بن علي بن أبي طالب لفظا فاحشا ولا كلمة ساقطة ولا حرفا واحدا مما يحكى عن الأحنف ومعاوية . وكان المأمون أحلم الناس وكان عبد الله السفاح أحلم الناس وبعد فمن يستطيع أن يصف هاشما أو عبد المطلب بالحلم دون غيره من الأخلاق والأفعال حتى يسميه بذلك ويخص به دون كل شي ء فيه من الفضل وكيف وأخلاقهم متساوية وكلها في الغاية ولو أن رجلا كان أظهر الناس زهدا وأصدقهم للعدو لقاء وأصدق الناس لسانا
[ 272 ](1/4392)
و أجود الناس كفا وأفصحهم منطقا وكان بكل ذلك مشهورا لمنع بعض ذلك من بعض ولما كان له اسم السيد المقدم والكامل المعظم ولم يكن الجواد أغلب على اسمه ولا البيان ولا النجدة . وأما ما ذكرتم من الخطابة والفصاحة والسؤدد والعلم بالأدب والنسب فقد علم الناس أن بني هاشم في الجملة أرق ألسنة من بني أمية كان أبو طالب والزبير شاعرين وكان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب شاعرا ولم يكن من أولاد أمية بن عبد شمس لصلبه شاعر ولم يكن في أولاد أمية إلا أن تعدوا في الإسلام العرجي من ولد عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن الحكم فنعد نحن الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب وعبد الله بن معاوية بن جعفر ولنا من المتأخرين محمد بن الحسين بن موسى المعروف بالرضي وأخوه أبو القاسم ولنا الحماني وعلي بن محمد صاحب الزنج وكان إبراهيم بن الحسن صاحب باخمرى أديبا شاعرا فاضلا ولنا محمد بن علي بن صالح الذي خرج في أيام المتوكل . قال أبو الفرج الأصفهاني كان من فتيان آل أبي طالب وفتاكهم وشجعانهم وظرافهم وشعرائهم وإن عددتم الخطابة والبيان والفصاحة لم تعدوا كعلي بن أبي طالب ع ولا كعبد الله بن العباس ولنا من الخطباء زيد بن علي بن الحسين وعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر وجعفر بن الحسين بن الحسن وداود بن علي بن عبد الله بن العباس وداود وسليمان ابنا جعفر بن سليمان . قالوا كان جعفر بن الحسين بن الحسن ينازع زيد بن علي بن الحسين في الوصية
[ 273 ](1/4393)
و كان الناس يجتمعون ليستمعوا محاورتهما وكان سليمان بن جعفر بن سليمان بن علي والي مكة فكان أهل مكة يقولون لم يرد علينا أمير إلا وسليمان أبين منه قاعدا وأخطب منه قائما وكان داود إذا خطب اسحنفر فلم يرده شي ء . قالوا ولنا عبد الملك بن صالح بن علي كان خطيبا بليغا وسأله الرشيد وسليمان بن أبي جعفر وعيسى بن جعفر حاضران فقال له كيف رأيت أرض كذا قال مسافي ريح ومنابت شيح قال فأرض كذا قال هضبات حمر وربوات عفر حتى أتى على جميع ما سأله عنه فقال عيسى لسليمان والله ما ينبغي لنا أن نرضى لأنفسنا بالدون من الكلام . قالوا وأما ما ذكرتم من نساك الملوك فلنا علي بن أبي طالب ع وبزهده وبدينه يضرب المثل ولنا محمد بن الواثق من خلفاء بني العباس وهو الملقب بالمهتدي كان يقول إني لآنف لبني العباس ألا يكون منهم مثل عمر بن عبد العزيز فكان مثله وفوقه ولنا القادر أبو العباس بن إسحاق بن المقتدر ولنا القائم عبد الله بن القادر كانا على قدم عظيمة من الزهد والدين والنسك وإن عددتم النساك من غير الملوك فأين أنتم عن علي بن الحسين زين العابدين وأين أنتم عن علي بن عبد الله بن العباس وأين أنتم عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ع الذي كان يقال له علي الخير وعلي الأغر وعلي العابد وما أقسم على الله بشي ء إلا وأبر قسمه وأين أنتم عن موسى بن جعفر بن محمد وأين أنتم عن علي بن محمد الرضا لابس الصوف طول عمره مع سعة أمواله وكثرة ضياعه وغلاته .
[ 274 ](1/4394)
و أما ما ذكرتم من الفتوح فلنا الفتوح المعتصمية التي سارت بها الركبان وضربت بها الأمثال ولنا فتوح الرشيد ولنا الآثار الشريفة في قتل بابك الخرمي بعد أن دامت فتنته في دار الإسلام نحو ثلاثين سنة وإن شئت أن تعد فتوح الطالبيين بإفريقية ومصر وما ملكوه من مدن الروم والفرنج والجلالقة في سني ملكهم عددت الكثير الجم الذي يخرج عن الحصر ويحتاج إلى تاريخ مفرد يشتمل على جلود كثيرة . فأما الفقه والعلم والتفسير والتأويل فإن ذكرتموه لم يكن لكم فيه أحد وكان لنا فيه مثل علي بن أبي طالب ع وعبد الله بن العباس وزيد بن علي ومحمد بن علي ابني علي بن الحسين بن علي وجعفر بن محمد الذي ملأ الدنيا علمه وفقهه ويقال إن أبا حنيفة من تلامذته وكذلك سفيان الثوري وحسبك بهما في هذا الباب ولذلك نسب سفيان إلى أنه زيدي المذهب وكذلك أبو حنيفة . ومن مثل علي بن الحسين زين العابدين وقال الشافعي في الرسالة في إثبات خبر الواحد وجدت علي بن الحسين وهو أفقه أهل المدينة يعول على أخبار الآحاد . ومن مثل محمد بن الحنفية وابنه أبي هاشم الذي قرر علوم التوحيد والعدل وقالت المعتزلة غلبنا الناس كلهم بأبي هاشم الأول وأبي هاشم الثاني . وإن ذكرتم النجدة والبسالة والشجاعة فمن مثل علي بن أبي طالب ع وقد وقع اتفاق أوليائه وأعدائه على أنه أشجع البشر . ومن مثل حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله ومن مثل الحسين بن علي ع قالوا يوم الطف ما رأينا مكثورا قد أفرد من إخوته وأهله وأنصاره أشجع منه كان كالليث المحرب يحطم الفرسان حطما وما ظنك برجل أبت نفسه الدنية وأن يعطي
[ 275 ](1/4395)
بيده فقاتل حتى قتل هو وبنوه وإخوته وبنو عمه بعد بذل الأمان لهم والتوثقة بالأيمان المغلظة وهو الذي سن للعرب الإباء واقتدى بعده أبناء الزبير وبنو المهلب وغيرهم . ومن لكم مثل محمد وإبراهيم بن عبد الله ومن لكم كزيد بن علي وقد علمتم كلمته التي قالها حيث خرج من عند هشام ما أحب الحياة إلا من ذل فلما بلغت هشاما قال خارج ورب الكعبة فخرج بالسيف ونهى عن المنكر ودعا إلى إقامة شعائر الله حتى قتل صابرا محتسبا . وقد بلغتكم شجاعة أبي إسحاق المعتصم ووقوفه في مشاهد الحرب بنفسه حتى فتح الفتوح الجليلة وبلغتكم شجاعة عبد الله بن علي وهو الذي أزال ملك بني مروان وشهد الحروب بنفسه وكذلك صالح بن علي وهو الذي اتبع مروان بن محمد إلى مصر حتى قتله . قالوا وإن كان الفضل والفخر في تواضع الشريف وإنصاف السيد وسجاحة الخلق ولين الجانب للعشيرة والموالي فليس لأحد من ذلك ما لبني العباس ولقد سألنا طارق بن المبارك وهو مولى لبني أمية وصنيعة من صنائعهم فقلنا أي القبيلتين أشد نخوة وأعظم كبرياء وجبرية أ بنو مروان أم بنو العباس فقال والله لبنو مروان في غير دولتهم أعظم كبرياء من بني العباس في دولتهم وقد كان أدرك الدولتين ولذلك قال شاعرهم
إذا نابه من عبد شمس رأيته
يتيه فرشحه لكل عظيم
[ 276 ]
و إن تاه تياه سواهم فإنما
يتيه لنوك أو يتيه للوم(1/4396)
و من كلامهم من لم يكن من بني أمية تياها فهو دعي قالوا وإن كان الكبر مفخرا يمدح به الرجال ويعد من خصال الشرف والفضل فمولانا عمارة بن حمزة أعظم كبرا من كل أموي كان ويكون في الدنيا وأخباره في كبره وتيهه مشهورة متعالمة . قالوا وإن كان الشرف والفخر في الجمال وفي الكمال وفي البسطة في الجسم وتمام القوام فمن كان كالعباس بن عبد المطلب . قالوا رأينا العباس يطوف بالبيت وكأنه فسطاط أبيض . ومن مثل علي بن عبد الله بن العباس وولده وكان كل واحد منهم إذا قام إلى جنب أبيه كان رأسه عند شحمة أذنه وكانوا من أطول الناس وإنك لتجد ميراث ذلك اليوم في أولادهم . ثم الذي رواه أصحاب الأخبار وحمال الآثار في عبد المطلب من التمام والقوام والجمال والبهاء وما كان من لقب هاشم بالقمر لجماله ولأنهم يستضيئون برأيه وكما رواه الناس أن عبد المطلب ولد عشرة كان الرجل منهم يأكل في المجلس الجذعة ويشرب الفرق وترد آنفهم قبل شفاههم وإن عامر بن مالك لما رآهم يطوفون بالبيت كأنهم جمال جون قال بهؤلاء تمنع مكة وتشرف مكة . وقد سمعتم ما ذكره الناس من جمال السفاح وحسنه وكذلك المهدي وابنه هارون الرشيد وابنه محمد بن زبيدة وكذلك هارون الواثق ومحمد المنتصر والزبير المعتز .
[ 277 ]
قالوا ما رئي في العرب ولا في العجم أحسن صورة منه وكان المكتفي علي بن المعتضد بارع الجمال ولذلك قال الشاعر يضرب المثل به
و الله لا كلمته ولو أنه
كالشمس أو كالبدر أو كالمكتفي(1/4397)
فجعله ثالث القمرين وكان الحسن بن علي ع أصبح الناس وجها كان يشبه برسول الله ص وكذلك عبد الله بن الحسن المحض . قالوا ولنا ثلاثة في عصر بنو عم كلهم يسمى عليا وكلهم كان يصلح للخلافة بالفقه والنسك والمركب والرأي والتجربة والحال الرفيعة بين الناس علي بن الحسين بن علي وعلي بن عبد الله بن العباس وعلي بن عبد الله بن جعفر كل هؤلاء كان تاما كاملا بارعا جامعا وكانت لبابة بنت عبد الله بن العباس عند علي بن عبد الله بن جعفر قالت ما رأيته ضاحكا قط ولا قاطبا ولا قال شيئا احتاج إلى أن يعتذر منه ولا ضرب عبدا قط ولا ملكه أكثر من سنة . قالوا وبعد هؤلاء ثلاثة بنو عم وهم بنو هؤلاء الثلاثة وكلهم يسمى محمدا كما أن كل واحد من أولئك يسمى عليا وكلهم يصلح للخلافة بكرم النسب وشرف الخصال محمد بن علي بن الحسين بن علي ومحمد بن علي بن عبد الله بن العباس ومحمد بن علي بن عبد الله بن جعفر . قالوا كان محمد بن علي بن الحسين لا يسمع المبتلى الاستعاذة وكان ينهى الجارية والغلام أن يقولا للمسكين يا سائل وهو سيد فقهاء الحجاز ومنه ومن ابنه جعفر تعلم الناس الفقه وهو الملقب بالباقر باقر العلم لقبه به رسول الله ص ولم يخلق بعد وبشر به ووعد جابر بن عبد الله برؤيته وقال ستراه طفلا فإذا رأيته فأبلغه عني السلام فعاش جابر حتى رآه وقال له ما وصى به .
[ 278 ](1/4398)
و توعد خالد بن عبد الله القسري هشام بن عبد الملك في رسالة له إليه وقال والله إني لأعرف رجلا حجازي الأصل شامي الدار عراقي الهوى يريد محمد بن علي بن عبد الله بن العباس . قالوا وأما ما ذكرتم من أمر عاتكة بنت يزيد بن معاوية فإنا نذكر فاطمة بنت رسول الله ص وهي سيدة نساء العالمين وأمها خديجة سيدة نساء العالمين وبعلها علي بن أبي طالب سيد المسلمين كافة وابن عمها جعفر ذو الجناحين وذو الهجرتين وابناها الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وجدهما أبو طالب بن عبد المطلب أشد الناس عارضة وشكيمة وأجودهم رأيا وأشهمهم نفسا وأمنعهم لما وراء ظهره منع النبي ص من جميع قريش ثم بني هاشم وبني المطلب ثم منع بني إخوانه من بني أخواته من بني مخزوم الذين أسلموا وهو أحد الذين سادوا مع الإقلال وهو مع هذا شاعر خطيب ومن يطيق أن يفاخر بني أبي طالب وأمهم فاطمة بنت أسد بن هاشم وهي أول هاشمية ولدت لهاشمي وهي التي ربي رسول الله في حجرها وكان يدعوها أمي ونزل في قبرها وكان يوجب حقها كما يوجب حق الأم من يستطيع أن يسامي رجالا ولدهم هاشم مرتين من قبل أبيهم ومن قبل أمهم قالوا ومن العجائب أنها ولدت أربعة كل منهم أسن من الآخر بعشر سنين طالب وعقيل وجعفر وعلي . ومن الذي يعد من قريش أو من غيرهم ما يعده الطالبيون عشرة في نسق كل واحد منهم عالم زاهد ناسك شجاع جواد طاهر زاك فمنهم خلفاء ومنهم مرشحون ابن ابن ابن ابن هكذا إلى عشرة وهم الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ع وهذا لم يتفق لبيت من بيوت العرب ولا من بيوت العجم .
[ 279 ](1/4399)
قالوا فإن فخرتم بأن منكم اثنتين من أمهات المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان وزينب بنت جحش وفزينب امرأة من بني أسد بن خزيمة ادعيتموه بالحلف لا بالولادة وفينا رجل ولدته أمان من أمهات المؤمنين محمد بن عبد الله بن الحسن المحض ولدته خديجة أم المؤمنين وأم سلمة أم المؤمنين وولدته مع ذلك فاطمة بنت الحسين بن علي وفاطمة سيدة نساء العالمين ابنة رسول الله ص وفاطمة بنت أسد بن هاشم وكان يقال خير النساء الفواطم والعواتك وهن أمهاته . قالوا ونحن إذا ذكرنا إنسانا فقبل أن نعد من ولده نأتي به شريفا في نفسه مذكورا بما فيه دون ما في غيره قلتم لنا عاتكة بنت يزيد وعاتكة في نفسها كامرأة من عرض قريش ليس فيها في نفسها خاصة أمر تستوجب به المفاخرة ونحن نقول منا فاطمة وفاطمة سيدة نساء العالمين وكذلك أمها خديجة الكبرى وإنما تذكران مع مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم اللتين ذكرهما النبي ص وذكر إحداهما القرآن وهن المذكورات من جميع نساء العالم من العرب والعجم . وقلتم لنا عبد الله بن يزيد بن عبد الملك بن مروان ولده سبعة من الخلفاء وعبد الله هذا في نفسه ليس هناك ونحن نقول منا محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم كلهم سيد وأمه العالية بنت عبيد الله بن العباس وإخوته داود وصالح وسليمان وعبد الله رجال كلهم أغر محجل ثم ولدت الرؤساء إبراهيم الإمام وأخويه أبا العباس وأبا جعفر ومن جاء بعدهما من خلفاء بني العباس . وقلتم منا عبد الله بن يزيد وقلنا منا الحسين بن علي سيد شباب أهل الجنة
[ 280 ](1/4400)
و أولى الناس بكل مكرمة وأطهرهم طهارة مع النجدة والبصيرة والفقه والصبر والحلم والأنف وأخوه الحسن سيد شباب أهل الجنة وأرفع الناس درجة وأشبههم برسول الله خلقا وخلقا وأبوهما علي بن أبي طالب قال شيخنا أبو عثمان وهو الذي ترك وصفه أبلغ في وصفه إذ كان هذا الكتاب يعجز عنه ويحتاج إلى كتاب يفرد له وعمهما ذو الجناحين وأمهما فاطمة وجدتهما خديجة وأخوالهما القاسم وعبد الله وإبراهيم وخالاتهما زينب ورقية وأم كلثوم وجدتاهما آمنة بنت وهب والدة رسول الله ص وفاطمة بنت أسد بن هاشم وجدهما رسول الله ص المخرس لكل فاخر والغالب لكل منافر قل ما شئت واذكر أي باب شئت من الفضل فإنك تجدهم قد حووه . وقالت أمية نحن لا ننكر فخر بني هاشم وفضلهم في الإسلام ولكن لا فرق بيننا في الجاهلية إذ كان الناس في ذلك الدهر لا يقولون هاشم وعبد شمس ولا هاشم وأمية بل يقولون كانوا لا يزيدون في الجميع على عبد مناف حتى كان أيام تميزهم في أمر علي وعثمان في الشورى ثم ما كان في أيام تحزبهم وحربهم مع علي ومعاوية . ومن تأمل الأخبار والآثار علم أنه ما كان يذكر فرق بين البيتين وإنما يقال بنو عبد مناف أ لا ترى أن أبا قحافة سمع رجة شديدة وأصواتا مرتفعة وهو يومئذ شيخ كبير مكفوف فقال ما هذا قالوا قبض رسول الله ص قال فما صنعت قريش قالوا ولوا الأمر ابنك قال ورضيت بذلك بنو عبد مناف قالوا نعم قال ورضي بذلك بنو المغيرة قالوا نعم قال فلا مانع لما أعطى الله ولا معطي
[ 281 ](1/4401)
لما منع ولم يقل أ رضي بذلك بنو عبد شمس وإنما جمعهم على عبد مناف لأنه كذلك كان يقال . وهكذا قال أبو سفيان بن حرب لعلي ع وقد سخط إمارة أبي بكر أ رضيتم يا بني عبد مناف أن تلي عليكم تيم ولم يقل أ رضيتم يا بني هاشم وكذلك قال خالد بن سعيد بن العاص حين قدم من اليمن وقد استخلف أبو بكر أ رضيتم معشر بني عبد مناف أن تلي عليكم تيم قالوا وكيف يفرقون بين هاشم وعبد شمس وهما أخوان لأب وأم ويدل على أن أمرهما كان واحدا وأن اسمهم كان جامعا
قول النبي ص وصنيعه حين قال منا خير فارس في العرب عكاشة بن محصن وكان أسديا وكان حليفا لبني عبد شمس وكل من شهد بدرا من بني كبير بن داود كانوا حلفاء بني عبد شمس فقال ضرار بن الأزور الأسدي ذاك منا يا رسول الله فقال ع بل هو منا بالحلف فجعل حليف بني عبد شمس حليف بني هاشم وهذا بين لا يحتاج صاحب هذه الصفة إلى أكثر منه . قالوا ولهذا نكح هذا البيت في هذا البيت فكيف صرنا نتزوج بنات النبي وبنات بني هاشم على وجه الدهر إلا ونحن أكفاء وأمرنا واحد وقد سمعتم إسحاق بن عيسى يقول لمحمد بن الحارث أحد بني عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد لو لا حي أكرمهم الله بالرسالة لزعمت أنك أشرف الناس أ فلا ترى أنه لم يقدم علينا رهطه إلا بالرسالة . قالت هاشم قلتم لو لا أنا كنا أكفاءكم لما أنكحتمونا نساءكم فقد نجد القوم يستوون في حسب الأب ويفترقون في حسب الأنفس وربما استووا في حسب أبي
[ 282 ](1/4402)
القبيلة كاستواء قريش في النضر بن كنانة ويختلفون كاختلاف كعب بن لؤي وعامر بن لؤي وكاختلاف ابن قصي وعبد مناف وعبد الدار وعبد العزى والقوم قد يساوي بعضهم بعضا في وجوه ويفارقونهم في وجوه ويستجيزون بذلك القدر مناكحتهم وإن كانت معاني الشرف لم تتكامل فيهم كما تكاملت فيمن زوجهم وقد يزوج السيد ابن أخيه وهو حارض ابن حارض على وجه صلة الرحم فيكون ذلك جائزا عندهم ولوجوه في هذا الباب كثيرة فليس لكم أن تزعموا أنكم أكفاؤنا من كل وجه وإن كنا قد زوجناكم وساويناكم في بعض الآباء والأجداد وبعد فأنتم في الجاهلية والإسلام قد أخرجتم بناتكم إلى سائر قريش وإلى سائر العرب أ فتزعمون أنهم أكفاؤكم عينا بعين وأما قولكم إن الحيين كان يقال لهما عبد مناف فقد كان يقال لهما أيضا مع غيرهما من قريش وبنيها بنو النضر وقال الله تعالى وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ فلم يدع النبي ص أحدا من بني عبد شمس وكانت عشيرته الأقربون بني هاشم وبني المطلب وعشيرته فوق ذاك عبد مناف وفوق ذلك قصي ومن ذلك أن النبي ص لما أتي بعبد الله بن عامر بن كريز بن حبيب بن عبد شمس وأم عامر بن كريز أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم قال ع هذا أشبه بنا منه بكم ثم تفل في فيه فازدرده فقال أرجو أن تكون مشفيا فكان كما قال ففي قوله هو أشبه بنا منه بكم خصلتان إحداهما أن عبد شمس وهاشما لو كانا شيئا واحدا كما أن عبد المطلب شي ء واحد لما قال هو بنا أشبه به منكم والأخرى أن في هذا القول تفضيلا لبني هاشم على بني عبد شمس أ لا ترون أنه خرج خطيبا جوادا نبيلا وسيدا مشفيا له مصانع وآثار كريمة لأنه قال وهو بنا أشبه به منكم وأتي عبد المطلب
[ 283 ](1/4403)
بعامر بن كريز وهو ابن ابنته أم حكيم البيضاء فتأمله وقال وعظام هاشم ما ولدنا ولدا أحرض منه فكان كما قال عبد الله يحمق ولم يقل وعظام عبد مناف لأن شرف جده عبد مناف له فيه شركاء وشرف هاشم أبيه خالص له . فأما ما ذكرتم من قول أبي سفيان وخالد بن سعيد أ رضيتم معشر بني عبد مناف أن تلي عليكم تيم فإن هذه الكلمة كلمة تحريض وتهييج فكان الأبلغ فيما يريد من اجتماع قلوب الفريقين أن يدعوهم لأب وأن يجمعهم على واحد وإن كانا مفترقين وهذا المذهب سديد وهذا التدبير صحيح . قال معاوية بن صعصعة للأشهب بن رميلة وهو نهشلي وللفرزدق بن غالب وهو مجاشعي ولمسكن بن أنيف وهو عبدلي أ رضيتم معشر بني دارم أن يسب آباءكم ويشتم أعراضكم كلب بني كليب وإنما نسبهم إلى دارم الأب الأكبر المشتمل على آباء قبائلهم ليستووا في الحمية ويتفقوا على الأنف وهذا في مثل هذا الموضع تدبير صحيح . قالوا ويدل على ما قلنا ما قاله الشعراء في هذا الباب قبل مقتل عثمان وقبل صفين قال حسان بن ثابت لأبي سفيان الحارث بن عبد المطلب
و أنت منوط نيط في آل هاشم
كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
لم يقل نيط في آل عبد مناف . وقال
ما أنت من هاشم في بيت مكرمة
و لا بني جمح الخضر الجلاعيد
[ 284 ](1/4404)
و لم يقل ما أنت من آل عبد مناف وكيف يقول هذا وقد علم الناس أن عبد مناف ولد أربعة هاشما والمطلب وعبد شمس ونوفلا وأن هاشما والمطلب كانا يدا واحدة وأن عبد شمس ونوفلا كانا يدا واحدة وكان مما بطأ ببني نوفل عن الإسلام إبطاء إخوتهم من بني عبد شمس وكان مما حث بني المطلب على الإسلام فضل محبتهم لبني هاشم لأن أمر النبي ص كان بينا وإنما كانوا يمتنعون منه من طريق الحسد والبغضة فمن لم يكن فيه هذه العلة لم يكن له دون الإسلام مانع ولذلك لم يصحب النبي ص من بني نوفل أحد فضلا أن يشهدوا معه المشاهد الكريمة وإنما صحبه حلفاؤهم كيعلى بن منبه وعتبة بن غزوان وغيرهما وبنو الحارث بن المطلب كلهم بدري عبيد وطفيل وحصين ومن بني المطلب مسطح بن أثاثة بدري . وكيف يكون الأمر كما قلتم وأبو طالب يقول لمطعم بن عدي بن نوفل في أمر النبي ص لما تمالأت قريش عليه
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا
جزاء مسي ء عاجلا غير آجل
أ مطعم إما سامني القوم خطة
فأنى متى أوكل فلست بأكل
أ مطعم لم أخذلك في يوم شدة
و لا مشهد عند الأمور الجلائل
و لقد قسم النبي ص قسمة فجعلها في بني هاشم وبني المطلب فأتاه عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف وجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف فقالا له يا رسول الله إن قرابتنا منك وقرابة بني المطلب واحدة فكيف أعطيتهم دوننا فقال النبي ص إنا لم نزل وبني المطلب كهاتين وشبك بين أصابعه فكيف تقولون كنا شيئا واحدا وكان الاسم الذي يجمعنا واحدا
[ 285 ](1/4405)
ثم نرجع إلى افتخار بني هاشم قالوا وإن كان الفخر بالأيد والقوة واهتصار الأقران ومباطشة الرجال فمن أين لكم كمحمد بن الحنفية وقد سمعتم أخباره وأنه قبض على درع فاضلة فجذبها فقطع ذيلها ما استدار منه كله وسمعتم أيضا حديث الأيد القوي الذي أرسله ملك الروم إلى معاوية يفخر به على العرب وأن محمدا قعد له ليقيمه فلم يستطع فكأنما يحرك جبلا وأن الرومي قعد ليقيمه محمد فرفعه إلى فوق رأسه ثم جلد به الأرض هذا مع الشجاعة المشهورة والفقه في الدين والحلم والصبر والفصاحة والعلم بالملاحم والأخبار عن الغيوب حتى ادعي له أنه المهدي وقد سمعتم أحاديث أبي إسحاق المعتصم وأن أحمد بن أبي دواد عض ساعده بأسنانه أشد العض فلم يؤثر فيه وأنه قال ما أظن الأسنة ولا السهام تؤثر في جسده وسمعتم ما قيل في عبد الكريم المطيع وأنه جذب ذنب ثور فاستله من بين وركيه . وإن كان الفخر بالبشر وطلاقة الأوجه وسجاحة الأخلاق فمن مثل علي بن أبي طالب ع وقد بلغ من سجاحة خلقه وطلاقة وجهه أن عيب بالدعابة ومن الذي يسوي بين عبد شمس وبين هاشم في ذلك كان الوليد جبارا وكان هشام شرس الأخلاق وكان مروان بن محمد لا يزال قاطبا عابسا وكذلك كان يزيد بن الوليد الناقص وكان المهدي المنصور أسرى خلق الله وألطفهم خلقا وكذلك محمد الأمين وأخوه المأمون وكان السفاح يضرب به المثل في السرو وسجاحة الخلق . قالوا ونحن نعد من رهطنا رجالا لا تعدون أمثالهم أبدا فمنا الأمراء بالديلم الناصر الكبير وهو الحسن الأطروش بن علي بن الحسن بن عمر بن علي بن عمر الأشرف
[ 286 ](1/4406)
بن زين العابدين وهو الذي أسلمت الديلم على يده والناصر الأصغر وهو أحمد بن يحيى بن الحسن بن القاسم بن إبراهيم بن طباطبا وأخوه محمد بن يحيى وهو الملقب بالمرتضى وأبوه يحيى بن الحسن وهو الملقب بالهادي ومن ولد الناصر الكبير الثائر وهو جعفر بن محمد بن الحسن الناصر الكبير وهم الأمراء بطبرستان وجيلان وجرجان ومازندران وسائر ممالك الديلم ملكوا تلك الأصقاع مائة وثلاثين سنة وضربوا الدنانير والدراهم بأسمائهم وخطب لهم على المنابر وحاربوا الملوك السامانية وكسروا جيوشهم وقتلوا أمراءهم فهؤلاء واحدهم أعظم كثيرا من ملوك بني أمية وأطول مدة وأعدل وأنصف وأكثر نسكا وأشد حضا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وممن يجري مجراهم الداعي الأكبر والداعي الأصغر ملكا الديلم قادا الجيوش واصطنعا الصنائع . قالوا ولنا ملوك مصر وإفريقية ملكوا مائتين وسبعين سنة فتحوا الفتوح واستردوا ما تغلب عليه الروم من مملكة الإسلام واصطنعوا الصنائع الجليلة . ولهم الكتاب والشعراء والأمراء والقواد فأولهم المهدي عبيد الله بن ميمون بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وآخرهم العاضد وهو عبد الله بن الأمير أبي القاسم بن الحافظ أبي الميمون بن المستعلي بن المستنصر بن الطاهر بن الحاكم بن عبد العزيز بن المعز بن المنصور بن القائم بن المهدي فإن افتخرت الأموية بملوكها في الأندلس من ولد هشام بن عبد الملك واتصال ملكهم وجعلوهم بإزاء ملوكنا بمصر وإفريقية قلنا لهم إلا أنا نحن أزلنا ملككم بالأندلس كما أزلنا ملككم بالشام والمشرق كله لأنه لما ملك قرطبة
[ 287 ](1/4407)
الظافر من بني أمية وهو سليمان بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الملقب بالناصر خرج عليه علي بن حميد بن ميمون بن أحمد بن علي بن عبد الله بن عمر بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ع فقتله وأزال ملكه . وملك قرطبة دار ملك بني أمية ويلقب بالناصر ثم قام بعده أخوه القاسم بن حمود ويلقب بالمعتلي فنحن قتلناكم وأزلنا ملككم في المشرق والمغرب ونحن لكم على الرصد حيث كنتم اتبعناكم فقتلناكم وشردناكم كل مشرد والفخر للغالب على المغلوب بهذا قضت الأمم قاطبة قالوا ولنا من أفراد الرجال من ليس لكم مثله منا يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس كان شجاعا جريئا وهو الذي ولي الموصل لأخيه السفاح فاستعرض أهلها حتى ساخت الأقدام في الدم . ومنا يعقوب بن إبراهيم بن عيسى بن أبي جعفر المنصور كان شاعرا فصيحا وهو المعروف بأبي الأسباط ومنا محمد وجعفر ابنا سليمان بن علي كانا أعظم من ملوك بني أمية وأجل قدرا وأكثر أموالا ومكانا عند الناس وأهدى محمد بن سليمان من البصرة إلى الخيزران مائة وصيفة في يد كل واحدة منهن جام من ذهب وزنه ألف مثقال مملوء مسكا وكان لجعفر بن سليمان ألفا عبد من السودان خاصة فكم يكون ليت شعري غيرهم من البيض ومن الإماء وما رئي جعفر بن سليمان راكبا قط إلا ظن أنه الخليفة . ومن رجالنا محمد بن السفاح كان جوادا أيدا شديد البطش قالوا ما رئي أخوان
[ 288 ](1/4408)
أشد قوة من محمد وريطة أخته ولدي أبي العباس السفاح كان محمد يأخذ الحديد فيلويه فتأخذه هي فترده . ومن رجالنا محمد بن إبراهيم طباطبا صاحب أبي السرايا كان ناسكا عابدا فقيها عظيم القدر عند أهل بيته وعند الزيدية . ومن رجالنا عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس وهو الذي شيد ملك المنصور وحارب ابني عبد الله بن حسن وأقام عمود الخلافة بعد اضطرابه وكان فصيحا أديبا شاعرا . ومن رجالنا عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام حج بالناس وولي الشام وكان فصيحا خطيبا . ومن رجالنا عبد الله بن موسى الهادي كان أكرم الناس وجوادا ممدوحا أديبا شاعرا وأخوه عيسى بن موسى الهادي كان أكرم الناس وأجود الناس كان يلبس الثياب وقد حدد ظفره فيخرقها بظفره لئلا تعاد إليه وعبد الله بن أحمد بن عبد الله بن موسى الهادي وكان أديبا ظريفا . ومن رجالنا عبد الله بن المعتز بالله كان أوحد الدنيا في الشعر والأدب والأمثال الحكمية والسؤدد والرئاسة كان كما قيل فيه لما قتل
لله درك من ميت بمضيعة
ناهيك في العلم والأشعار والخطب
ما فيه لو ولا لو لا فتنقصه
و إنما أدركته حرفة الأدب
و من رجالنا النقيب أبو أحمد الحسين بن موسى شيخ بني هاشم الطالبيين والعباسيين في عصره ومن أطاعه الخلفاء والملوك في أقطار الأرض ورجعوا إلى قوله وابناه علي ومحمد وهما المرتضى والرضي وهما فريدا العصر في الأدب والشعر والفقه والكلام وكان الرضي شجاعا أديبا شديد الأنف
[ 289 ](1/4409)
و من رجالنا القاسم بن عبد الرحيم بن عيسى بن موسى الهادي كان شاعرا ظريفا . ومن رجالنا القاسم بن إبراهيم طباطبا صاحب المصنفات والورع والدعاء إلى الله وإلى التوحيد والعدل ومنابذة الظالمين ومن أولاده أمراء اليمن . ومن رجالنا محمد الفأفاء بن إبراهيم الإمام كان سيدا مقدما ولي الموسم وحج بالناس وكان الرشيد يسايره وهو مقنع بطيلسانه . ومن رجالنا محمد بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين صاحب أبي السرايا ساد حدثا وكان شاعرا أديبا فقيها يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ولما أسر وحمل إلى المأمون أكرمه وأفضل عليه ورعى له فضله ونسبه . ومن رجالنا موسى بن عيسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس كنيته أبو عيسى وهو أجل ولد عيسى وأنبلهم ولي الكوفة وسوادها زمانا طويلا للمهدي ثم الهادي وولي المدينة وإفريقية ومصر للرشيد قال له ابن السماك لما رأى تواضعه إن تواضعك في شرفك لأحب إلي من شرفك فقال موسى إن قومنا يعني بني هاشم يقولون إن التواضع أحد مصائد الشرف . ومن رجالنا موسى بن محمد أخو السفاح والمنصور كان نبيلا عندهم هو وإبراهيم الإمام لأم واحدة رأى في منامه قبل أن يصير من أمرهم ما صار أنه دخل بستانا فلم يأخذ إلا عنقودا واحدا عليه من الحب المتراص ما ربك به عليم فلم يولد له إلا عيسى ثم ولد لعيسى من ظهره أحد وثلاثون ذكرا وعشرون أنثى . ومن رجالنا عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ع وهو عبد الله المحض وأبوه الحسن بن الحسن وأمه فاطمة بنت الحسين وكان إذا قيل من
[ 290 ](1/4410)
أجمل الناس قالوا عبد الله بن الحسن فإذا قيل من أكرم الناس قالوا عبد الله بن الحسن فإذا قالوا من أشرف الناس قالوا عبد الله بن الحسن . ومن رجالنا أخوه الحسن بن الحسن وعمه زيد بن الحسن وبنوه محمد وإبراهيم وموسى ويحيى أما محمد وإبراهيم فأمرهما مشهور وفضلهما غير مجحود في الفقه والأدب والنسك والشجاعة والسؤدد وأما يحيى صاحب الديلم فكان حسن المذهب والهدي مقدما في أهل بيته بعيدا مما يعاب على مثله وقد روى الحديث وأكثر الرواية عن جعفر بن محمد وروى عن أكابر المحدثين وأوصى جعفر بن محمد إليه لما حضرته الوفاة وإلى ولده موسى بن جعفر وأما موسى بن عبد الله بن الحسن فكان شابا نجيبا صبورا شجاعا سخيا شاعرا . ومن رجالنا الحسن المثلث وهو الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ع كان متألها فاضلا ورعا يذهب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مذهب أهله وإبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ع كان مقدما في أهله يقال إنه أشبه أهل زمانه برسول الله ص . ومن رجالنا عيسى بن زيد ويحيى بن زيد أخوه وكانا أفضل أهل زمانهما شجاعة وزهدا وفقها ونسكا . ومن رجالنا يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد صاحب الدعوة كان فقيها فاضلا شجاعا فصيحا شاعرا ويقال إن الناس ما أحبوا طالبيا قط دعا إلى نفسه حبهم يحيى ولا رثي أحد منهم بمثل ما رثي به .
[ 291 ](1/4411)
قال أبو الفرج الأصفهاني كان يحيى فارسا شجاعا شديد البدن مجتمع القلب بعيدا عن زهو الشباب وما يعاب به مثله كان له عمود حديد ثقيل يصحبه في منزله فإذا سخط على عبد أو أمة من حشمه لواه في عنقه فلا يقدر أحد أن يحله عنه حتى يحله هو . ومن رجالنا محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن الحسين بن علي بن أبي طالب ع صاحب الطالقان لقب بالصوفي لأنه لم يكن يلبس إلا الصوف الأبيض وكان عالما فقيها دينا زاهدا حسن المذهب يقول بالعدل والتوحيد . ومن رجالنا محمد بن علي بن صالح بن عبد الله بن موسى بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب ع كان من فتيان آل أبي طالب وفتاكهم وشجعانهم وظرفائهم وشعرائهم وله شعر لطيف محفوظ . ومنهم أحمد بن عيسى بن زيد كان فاضلا عالما مقدما في عشيرته معروفا بالفضل وقد روى الحديث وروي عنه . ومن رجالنا موسى بن جعفر بن محمد وهو العبد الصالح جمع من الفقه والدين والنسك والحلم والصبر وابنه علي بن موسى المرشح للخلافة والمخطوب له بالعهد كان أعلم الناس وأسخى الناس وأكرم الناس أخلاقا . قالوا وأما ما ذكرتم من أمر الشجرة الملعونة فإن المفسرين كلهم قالوا ذلك ورووا فيه أخبارا كثيرة عن النبي ص ولستم قادرين على جحد ذلك وقد عرفتم تأخركم عن الإسلام وشدة عداوتكم للرسول الداعي إليه ومحاربتكم في بدر وأحد والخندق وصدكم الهدي عن البيت وليس ذلك مما يوجب أن يعمكم اللعن حتى
[ 292 ](1/4412)
لا يغادر واحدا فإن زعم ذلك زاعم فقد تعدى وأما اختصاص محمد بن علي بالوصية والخلافة دون إخوته فقد علمتم أن وراثة السيادة والمرتبة ليس من جنس وراثة الأموال أ لا ترى أن المرأة والصبي والمجنون يرثون الأموال ولا يرثون المراتب وسواء في الأموال كان الابن حارضا بائرا أو بارعا جامعا . وقيل وراثة المقام سبيل وراثة اللواء دفع رسول الله ص لواء بني عبد الدار إلى مصعب بن عمير ودفع عمر بن الخطاب لواء بني تميم إلى وكيع بن بشر ثم دفعه إلى الأحنف حين لم يوجد في بني زرارة من يستحق وراثة اللواء فإن كان الأمر بالسن فإنما كان بين محمد بن علي وأبيه علي بن عبد الله أربع عشرة سنة كان علي يخضب بالسواد ومحمد يخضب بالحمرة فكان القادم يقدم عليهما والزائر يأتيهما فيظن أكثرهم أن محمدا هو علي وأن عليا هو محمد حتى ربما قيل لعلي كيف أصبح الشيخ من علته ومتى رجع الشيخ إلى منزله وأخرى أن أمه كانت العالية بنت عبد الله بن العباس فقد ولده العباس مرتين وولده جواد بني العباس كما والده خيرهم وحبرهم ولم يكن لأحد من إخوته مثل ذلك وكان بعض ولد محمد أسن من عامة ولد علي وولد محمد المهدي بن عبد الله المنصور والعباس بن محمد بن علي في عام واحد وكذلك محمد بن سليمان بن علي ولم يكن لأحد من ولد علي بن عبد الله بن العباس وإن كانوا فضلاء نجباء كرماء نبلاء مثل عقله ولا كجماله كان إذا دخل المدينة ومكة جلس الناس على أبواب دورهم والنساء على سطوحهن للنظر إليه والتعجب من كماله وبهائه وقد قاتل إخوته أعداءه في دفع الملك إلى ولده غير مكرهين ولا مجبرين على أن محمدا إنما أخذ الأمر عن أساس مؤسس وقاعدة مقررة ووصية انتقلت إليه من أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية وأخذها أبو هاشم عن أبيه محمد وأخذها محمد عن علي بن أبي طالب أبيه .
[ 293 ](1/4413)
قالوا لما سمت بنو أمية أبا هاشم مرض فخرج من الشام وقيذا يؤم المدينة فمر بالحميمة وقد أشفى فاستدعى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس فدفع الوصية إليه وعرفه ما يصنع وأخبره بما سيكون من الأمر وقال له إني لم أدفعها إليك من تلقاء نفسي ولكن أبي أخبرني عن أبيه علي بن أبي طالب ع بذلك وأمرني به وأعلمني بلقائي إياك في هذا المكان ثم مات فتولى محمد بن علي تجهيزه ودفنه وبث الدعاة حينئذ في طلب الأمر وهو الذي قال لرجال الدعوة والقائمين بأمر الدولة حين اختارهم للتوجه وانتخبهم للدعاء وحين قال بعضهم ندعو بالكوفة وقال بعضهم بالبصرة وقال بعضهم بالجزيرة وقال بعضهم بالشام وقال بعضهم بمكة وقال بعضهم بالمدينة واحتج كل إنسان لرأيه واعتل لقوله فقال محمد أما الكوفة وسوادها فشيعة علي وولده وأما البصرة فعثمانية تدين بالكف وقبيل عبد الله المقتول يدينون بجميع الفرق ولا يعينون أحدا وأما الجزيرة فحرورية مارقة والخارجية فيهم فاشية وأعراب كأعلاج ومسلمون في أخلاق النصارى وأما الشام فلا يعرفون إلا آل أبي سفيان وطاعة بني مروان عداوة راسخة وجهلا متراكما وأما مكة والمدينة فقد غلب عليهما أبو بكر وعمر وليس يتحرك معنا في أمرنا هذا منهم أحد ولا يقوم بنصرنا إلا شيعتنا أهل البيت ولكن عليكم بخراسان فإن هناك العدد الكثير والجلد الظاهر وصدورا سليمة وقلوبا مجتمعة لم تتقسمها الأهواء ولم تتوزعها النحل ولم تشغلها ديانة ولا هدم فيها فساد وليس لهم اليوم همم العرب ولا فيهم تجارب كتجارب الأتباع مع السادات ولا تحالف كتحالف القبائل ولا عصبية كعصبية العشائر وما زالوا ينالون ويمتهون ويظلمون فيكظمون وينتظرون الفرج ويؤملون
[ 294 ](1/4414)
دولة وهم جند لهم أبدان وأجسام ومناكب وكواهل وهامات ولحي وشوارب وأصوات هائلة ولغات فخمة تخرج من أجواف منكرة . وبعد فكأني أتفاءل جانب المشرق فإن مطلع الشمس سراج الدنيا ومصباح هذا الخلق فجاء الأمر كما دبر وكما قدر فإن كان الرأي الذي رأى صوابا فقد وافق الرشاد وطبق المفصل وإن كان ذلك عن رواية متقدمة فلم يتلق تلك الرواية إلا عن نبوة . قالوا وأما قولكم إن منا رجلا مكث أربعين سنة أميرا وخليفة فإن الإمارة لا تعد فخرا مع الخلافة ولا تضم إليها ونحن نقول إن منا رجلا مكث سبعا وأربعين سنة خليفة وهو أحمد الناصر بن الحسن المستضي ء ومنا رجل مكث خمسا وأربعين سنة خليفة وهو عبد الله القائم ومكث أبوه أحمد القادر ثلاثا وأربعين سنة خليفة فملكهما أكثر من ملك بني أمية كلهم وهم أربعة عشر خليفة . ويقول الطالبيون منا رجل مكث ستين سنة خليفة وهو معد بن الطاهر صاحب مصر وهذه مدة لم يبلغها خليفة ولا ملك من ملوك العرب في قديم الدهر ولا في حديثه . وقلتم لنا عاتكة بنت يزيد يكتنفها خمسة من الخلفاء ونحن نقول لنا زبيدة بنت جعفر يكتنفها ثمانية من الخلفاء جدها المنصور خليفة وعم أبيها السفاح خليفة وعمها المهدي خليفة وابن عمها الهادي خليفة وبعلها الرشيد خليفة وابنها الأمين خليفة وابنا بعلها المأمون والمعتصم خليفتان . قالوا وأما ما ذكرتموه من الأعياص والعنابس فلسنا نصدقكم فيما زعمتموه أصلا بهذه التسمية وإنما سموا الأعياص لمكان العيص وأبي العيص والعاص وأبي العاص وهذه أسماؤهم الأعلام ليست مشتقة من أفعال لهم كريمة ولا خسيسة وأما العنابس
[ 295 ](1/4415)
فإنما سموا بذلك لأن حرب بن أمية كان اسمه عنبسة وأما حرب فلقبه ذكر ذلك النسابون ولما كان حرب أمثلهم سموا جماعتهم باسمه فقيل العنابس كما يقال المهالبة والمناذرة ولهذا المعنى سمي أبو سفيان بن حرب بن عنبسة وسمي سعيد بن العاص بن عنبسة(1/4416)
? الجزء الخامس عشر
? تتمة باب الكتب والرسائل
? تتمة 9 ومن كتاب له ع إلى معاوية
? تتمة الفصل الرابع في قصة غزوة أحد
? القول في أسماء الذين تعاقدوا من قريش على قتل رسول الله ص وما أصابوه به في المعركة يوم الحرب
? القول في الملائكة نزلت بأحد وقاتلت أم لا
? القول في مقتل حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه
? القول فيمن ثبت مع رسول الله ص يوم أحد
? القول فيما جرى للمسلمين بعد إصعادهم في الجبل
? القول فيما جرى للمشركين بعد انصرافهم إلى مكة
? القول في مقتل أبي عزة الجمحي ومعاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس
? القول في مقتل المجذر بن زياد البلوي والحارث بن يزيد بن الصامت
? القول فيمن مات من المسلمين بأحد جملة
? القول فيمن قتل من المشركين بأحد
? القول في خروج النبي ص وبعد انصرافه من أحد إلى المشركين ليوقع بهم على ما هو به من الوهن
? الفصل الخامس في شرح غزاة مؤتة
? فصل في ذكر بعض مناقب جعفر بن أبي طالب
? 10 ومن كتاب له ع إلى معاوية أيضا
? 11 ومن وصية له ع وصى بها جيشا بعثه إلى العدو
? 12 ومن وصية له ع وصى بها معقل بن قيس الرياحي حين أنفذه إلى الشام في ثلاثة آلاف مقدمة له
? نبذ من الأقوال الحكيمة في الحروب
? 13 ومن كتاب له ع إلى أميرين من أمراء جيشه
? فصل في نسب الأشتر وذكر بعض فضائله
? نبذ من الأقوال الحكيمة
? 14 ومن وصية له ع لعسكره بصفين قبل لقاء العدو
? نبذ من الأقوال الحكيمة
? قصة فيروز بن يزدجرد حين غزا ملك الهياطلة
? 15 وكان ع يقول إذا لقي العدو محاربا
? 16 وكان يقول ع لأصحابه عند الحرب
? نبذ من الأقوال المتشابهة في الحرب
? 17 ومن كتاب له ع إلى معاوية جوابا عن كتاب منه إليه
? ذكر بعض ما كان بين علي ومعاوية يوم صفين
? 18 ومن كتاب له ع إلى عبد الله بن عباس وهو عامله على البصرة
? فصل في بني تميم وذكر بعض فضائلهم
? 19 ومن كتاب له ع إلى بعض عماله(1/4417)
? 20 ومن كتاب له ع إلى زياد ابن أبيه وهو خليفة عامله عبد الله بن عباس على البصرة وعبد الله عامل أمير المؤمنين ع يومئذ عليها وعلى كور الأهواز وفارس وكرمان وغيرها
? 21 ومن كتاب له ع إلى زياد أيضا
? 22 ومن كتاب له ع إلى عبد الله بن العباس رحمه الله تعالى
? 23 ومن كلام له ع قاله قبل موته على سبيل الوصية لما ضربه ابن ملجم لعنه الله
? 24 ومن وصية له ع بما يعمل في أمواله كتبها بعد منصرفه من صفين
? 25 ومن وصية له ع كان يكتبها لمن يستعمله على الصدقات
? 26 ومن عهد له ع إلى بعض عماله وقد بعثه على الصدقة
? 27 ومن عهد له ع إلى محمد بن أبي بكر رضي الله عنه حين قلده مصر
? كتاب المعتضد بالله
? 28 ومن كتاب له ع إلى معاوية جوابا
? كتاب لمعاوية إلى علي
? مناكحات بني هاشم وبني عبد شمس
? فضل بني هاشم على بني عبد شمس
? مفاخر بني أمية
? ذكر الجواب عما فخرت به بنو أمية(1/4418)
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد المعتزلي
الجزء السادس عشر(1/4419)
تتمة باب الكتب والرسائل
[ 2 ]
[ 3 ]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل(1/4420)
29 ومن كتاب له ع إلى أهل البصرة
وَ قَدْ كَانَ مِنِ اِنْتِشَارِ حَبْلِكُمْ وَ شِقَاقِكُمْ مَا لَمْ تَغْبَوْا عَنْهُ فَعَفَوْتُ عَنْ مُجْرِمِكُمْ وَ رَفَعْتُ اَلسَّيْفَ عَنْ مُدْبِرِكُمْ وَ قَبِلْتُ مِنْ مُقْبِلِكُمْ فَإِنْ خَطَتْ بِكُمُ اَلْأُمُورُ اَلْمُرْدِيَةُ وَ سَفَهُ اَلآْرَاءِ اَلْجَائِرَةِ إِلَى مُنَابَذَتِي وَ خِلاَفِي فَهَأَنَذَا قَدْ قَرَّبْتُ جِيَادِي وَ رَحَلُتْ رِكَابِي وَ لَئِنْ أَلْجَأْتُمُونِي إِلَى اَلْمَسِيرِ إِلَيْكُمْ لَأُوقِعَنَّ بِكُمْ وَقْعَةً لاَ يَكُونُ يَوْمُ اَلْجَمَلِ إِلَيْهَا إِلاَّ كَلَعْقَةِ لاَعِقٍ مَعَ أَنِّي عَارِفٌ لِذِي اَلطَّاعَةِ مِنْكُمْ فَضْلَهُ وَ لِذِي اَلنَّصِيحَةِ حَقَّهُ غَيْرُ مُتَجَاوِزٍ مُتَّهَماً إِلَى بَرِيٍّ وَ لاَ نَاكِثاً إِلَى وَفِيٍّ ما لم تغبوا عنه أي لم تسهوا عنه ولم تغفلوا يقال غبيت عن الشي ء أغبي غباوة إذا لم يفطن وغبي الشي ء علي كذلك إذا لم تعرفه وفلان غبي على فعيل أي قليل الفطنة وقد تغابى أي تغافل يقول لهم قد كان من خروجكم يوم الجمل عن الطاعة
[ 4 ]
و نشركم حبل الجماعة وشقاقكم لي ما لستم أغبياء عنه فغفرت ورفعت السيف وقبلت التوبة والإنابة . والمدبر هاهنا الهارب والمقبل الذي لم يفر لكن جاءنا فاعتذر وتنصل . ثم قال فإن خطت بكم الأمور خطا فلان خطوة يخطو وهو مقدار ما بين القدمين فهذا لازم فإن عديته قلت أخطيت بفلان وخطوت به وهاهنا قد عداه بالباء . والمردية المهلكة والجائرة العادلة عن الصواب والمنابذة مفاعلة من نبذت إليه عهده أي ألقيته وعدلت عن السلم إلى الحرب أو من نبذت زيدا أي أطرحته ولم أحفل به . قوله قربت جيادي أي أمرت بتقريب خيلي إلى لأركب وأسير إليكم . ورحلت ركابي الركاب الإبل ورحلتها شددت على ظهورها الرحل قال
رحلت سمية غدوة أجمالها
غضبى عليك فما تقول بدا لها(1/4421)
كلعقة لاعق مثل يضرب للشي ء الحقير التافه ويروى بضم اللام وهي ما تأخذه الملعقة . ثم عاد فقال مازجا الخشونة باللين مع أني عارف فضل ذي الطاعة منكم وحق ذي النصيحة ولو عاقبت لما عاقبت البري ء بالسقيم ولا أخذت الوفي بالناكث . خطب زياد بالبصرة الخطبة الغراء المشهورة وقال فيها والله لآخذن البري ء بالسقيم والبر باللئيم والوالد بالولد والجار بالجار أو تستقيم إلي قناتكم فقام أبو بلال مرداس
[ 5 ]
ابن أدية يهمس وهو حينئذ شيخ كبير فقال أيها الأمير أنبأنا الله بخلاف ما قلت وحكم بغير ما حكمت قال سبحانه وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى فقال زياد يا أبا بلال إني لم أجهل ما علمت ولكنا لا نخلص إلى الحق منكم حتى نخوض إليه الباطل خوضا . وفي رواية الرياشي لآخذن الولي بالولي والمقيم بالظاعن والمقبل بالمدبر والصحيح بالسقيم حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول انج سعد فقد هلك سعيد أو تستقيم لي قناتكم
[ 6 ](1/4422)
30 ومن كتاب له ع إلى معاوية
فَاتَّقِ اَللَّهَ فِيمَا لَدَيْكَ وَ اُنْظُرْ فِي حَقِّهِ عَلَيْكَ وَ اِرْجِعْ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا لاَ تُعْذَرُ بِجَهَالَتِهِ فَإِنَّ لِلطَّاعَةِ أَعْلاَماً وَاضِحَةً وَ سُبُلاً نَيِّرَةً وَ مَحَجَّةً نَهْجَةً وَ غَايَةً مُطَّلَبَةً يَرِدُهَا اَلْأَكْيَاسُ وَ يُخَالِفُهَا اَلْأَنْكَاسُ مَنْ نَكَبَ عَنْهَا جَارَ عَنِ اَلْحَقِّ وَ خَبَطَ فِي اَلتِّيهِ وَ غَيَّرَ اَللَّهُ نِعْمَتَهُ وَ أَحَلَّ بِهِ نِقْمَتَهُ فَنَفْسَكَ نَفْسَكَ فَقَدْ بَيَّنَ اَللَّهُ لَكَ سَبِيلَكَ وَ حَيْثُ تَنَاهَتْ بِكَ أُمُورُكَ فَقَدْ أَجْرَيْتَ إِلَى غَايَةِ خُسْرٍ وَ مَحَلَّةِ كُفْرٍ فَإِنَّ نَفْسَكَ قَدْ أَوْلَجَتْكَ شَرّاً وَ أَقْحَمَتْكَ غَيّاً وَ أَوْرَدَتْكَ اَلْمَهَالِكَ وَ أَوْعَرَتْ عَلَيْكَ اَلْمَسَالِكَ قوله وغاية مطلبة أي مساعفة لطالبها بما يطلبه تقول طلب فلان مني كذا فأطلبته أي أسعفت به قال الراوندي مطلبة بمعنى متطلبة يقال طلبت كذا وتطلبته وهذا ليس بشي ء ويخرج الكلام عن أن يكون له معنى . والأكياس العقلاء والأنكاس جمع نكس وهو الدني ء من الرجال ونكب عنها عدل . قوله وحيث تناهت بك أمورك الأولى ألا يكون هذا معطوفا ولا متصلا
[ 7 ]
بقوله فقد بين الله لك سبيلك بل يكون كقولهم لمن يأمرونه بالوقوف حيث أنت أي قف حيث أنت فلا يذكرون الفعل ومثله قولهم مكانك أي قف مكانك . قوله فقد أجريت يقال فلان قد أجرى بكلامه إلى كذا أي الغاية التي يقصدها هي كذا مأخوذ من إجراء الخيل للمسابقة وكذلك قد أجرى بفعله إلى كذا أي انتهى به إلى كذا ويروى قد أوحلتك شرا أو أورطتك في الوحل والغي ضد الرشاد . وأقحمتك غيا جعلتك مقتحما له . وأوعرت عليك المسالك جعلتها وعرة . و(1/4423)
أول هذا الكتاب أما بعد فقد بلغني كتابك تذكر مشاغبتي وتستقبح موازرتي وتزعمني متحيرا وعن الحق مقصرا فسبحان الله كيف تستجيز الغيبة وتستحسن العضيهة أي لم أشاغب إلا في أمر بمعروف أو نهي عن منكر ولم أتجبر إلا على باغ مارق أو ملحد منافق ولم آخذ في ذلك إلا بقول الله سبحانه لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ وأما التقصير في حق الله تعالى فمعاذ الله وإنما المقصر في حق الله جل ثناؤه من عطل الحقوق المؤكدة وركن إلى الأهواء المبتدعة وأخلد إلى الضلالة المحيرة ومن العجب أن تصف يا معاوية الإحسان وتخالف البرهان وتنكث الوثائق التي هي لله عز وجل طلبة وعلى عباده حجة مع نبذ الإسلام وتضييع الأحكام وطمس الأعلام
[ 8 ]
و الجري في الهوى والتهوس في الردى فاتق الله فيما لديك وانظر في حقه عليك الفصل المذكور في الكتاب . وفي الخطبة زيادات يسيرة لم يذكرها الرضي رحمه الله منها
و إن للناس جماعة يد الله عليها وغضب الله على من خالفها فنفسك نفسك قبل حلول رمسك فإنك إلى الله راجع وإلى حشره مهطع وسيبهظك كربه ويحل بك غمه في يوم لا يغني النادم ندمه ولا يبل من المعتذر عذره يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ
[ 9 ](1/4424)
31 ومن وصيته ع للحسن ع كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين
مِنَ اَلْوَالِدِ اَلْفَانِ اَلْمُقِرِّ لِلزَّمَانِ اَلْمُدْبِرِ اَلْعُمُرِ اَلْمُسْتَسْلِمِ لِلدَّهْرِ اَلذَّامِّ لِلدُّنْيَا اَلسَّاكِنِ مَسَاكِنَ اَلْمَوْتَى اَلظَّاعِنِ عَنْهَا غَداً إِلَى اَلْمَوْلُودِ اَلْمُؤَمِّلِ مَا لاَ يُدْرِكُ اَلسَّالِكِ سَبِيلَ مَنْ قَدْ هَلَكَ غَرَضِ اَلْأَسْقَامِ وَ رَهِينَةِ اَلْأَيَّامِ وَ رَمِيَّةِ اَلْمَصَائِبِ وَ عَبْدِ اَلدُّنْيَا وَ تَاجِرِ اَلْغُرُورِ وَ غَرِيمِ اَلْمَنَايَا وَ أَسِيرِ اَلْمَوْتِ وَ حَلِيفِ اَلْهُمُومِ وَ قَرِينِ اَلْأَحْزَانِ وَ نُصُبِ اَلآْفَاتِ وَ صَرِيعِ اَلشَّهَوَاتِ وَ خَلِيفَةِ اَلْأَمْوَاتِ(1/4425)
ترجمة الحسن بن علي وذكر بعض أخباره
قال الزبير بن بكار في كتاب أنساب قريش ولد الحسن بن علي ع للنصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة وسماه رسول الله ص حسنا وتوفي لليال خلون من شهر ربيع الأول سنة خمسين . قال والمروي أن رسول الله ص سمى حسنا وحسينا رضي الله عنهما يوم سابعهما واشتق اسم حسين من اسم حسن .
[ 10 ]
قال وروى جعفر بن محمد ع أن فاطمة ع حلقت حسنا وحسينا يوم سابعهما ووزنت شعرهما فتصدقت بوزنه فضة
قال الزبير وروت زينب بنت أبي رافع قالت أتت فاطمة ع بابنيها إلى رسول الله ص في شكوه الذي توفي فيه فقالت يا رسول الله هذان ابناك فورثهما شيئا فقال أما حسن فإن له هيبتي وسوددي وأما حسين فإن له جرأتي وجودي . وروى محمد بن حبيب في أماليه أن الحسن ع حج خمس عشرة حجة ماشيا تقاد الجنائب معه وخرج من ماله مرتين وقاسم الله عز وجل ثلاث مرات ماله حتى أنه كان يعطي نعلا ويمسك نعلا ويعطي خفا ويمسك خفا . و
روى أبو جعفر محمد بن حبيب أيضا أن الحسن ع أعطى شاعرا فقال له رجل من جلسائه سبحان الله أ تعطي شاعرا يعصي الرحمن ويقول البهتان فقال يا عبد الله إن خير ما بذلت من مالك ما وقيت به عرضك وإن من ابتغاء الخير اتقاء الشر . وروى أبو جعفر قال قال ابن عباس رحمه الله أول ذل دخل على العرب موت الحسن ع . و
روى أبو الحسن المدائني قال سقي الحسن ع السم أربع مرات فقال لقد سقيته مرارا فما شق علي مثل مشقته هذه المرة فقال له الحسين ع أخبرني من سقاك قال لتقتله قال نعم قال ما أنا بمخبرك إن يكن صاحبي الذي أظن فالله أشد نقمة وإلا فما أحب أن يقتل بي بري ء .
[ 11 ](1/4426)
و روى أبو الحسن قال قال معاوية لابن عباس ولقيه بمكة يا عجبا من وفاة الحسن شرب علة بماء رومة فقضى نحبة فوجم ابن عباس فقال معاوية لا يحزنك الله ولا يسوءك فقال لا يسوءني ما أبقاك الله فأمر له بمائة ألف درهم . وروى أبو الحسن قال أول من نعى الحسن ع بالبصرة عبد الله بن سلمة نعاه لزياد فخرج الحكم بن أبي العاص الثقفي فنعاه فبكى الناس وأبو بكرة يومئذ مريض فسمع الضجة فقال ما هذا فقالت امرأته ميسة بنت سخام الثقفية مات الحسن بن علي فالحمد لله الذي أراح الناس منه فقال اسكتي ويحك فقد أراحه الله من شر كثير وفقد الناس بموته خيرا كثيرا يرحم الله حسنا . قال أبو الحسن المدائني وكانت وفاته في سنة تسع وأربعين وكان مرضه أربعين يوما وكانت سنه سبعا وأربعين سنة دس إليه معاوية سما على يد جعدة بنت الأشعث بن قيس زوجة الحسن وقال لها إن قتلتيه بالسم فلك مائة ألف وأزوجك يزيد ابني فلما مات وفى لها بالمال ولم يزوجها من يزيد قال أخشى أن تصنع بابني كما صنعت بابن رسول الله ص . و
روى أبو جعفر محمد بن حبيب عن المسيب بن نجبة قال سمعت أمير المؤمنين ع يقول أنا أحدثكم عني وعن أهل بيتي أما عبد الله ابن أخي فصاحب لهو وسماح وأما الحسن فصاحب جفنة وخوان فتى من فتيان قريش ولو قد التقت حلقتا البطان لم يغن عنكم شيئا في الحرب وأما أنا وحسين فنحن منكم وأنتم منا
[ 12 ](1/4427)
قال أبو جعفر وروى ابن عباس قال دخل الحسن بن علي ع على معاوية بعد عام الجماعة وهو جالس في مجلس ضيق فجلس عند رجليه فتحدث معاوية بما شاء أن يتحدث ثم قال عجبا لعائشة تزعم أني في غير ما أنا أهله وأن الذي أصبحت فيه ليس لي بحق ما لها ولهذا يغفر الله لها إنما كان ينازعني في هذا الأمر أبو هذا الجالس وقد استأثر الله به فقال الحسن أ وعجب ذلك يا معاوية قال إي والله قال أ فلا أخبرك بما هو أعجب من هذا قال ما هو قال جلوسك في صدر المجلس وأنا عند رجليك فضحك معاوية وقال يا ابن أخي بلغني أن عليك دينا قال إن لعلي دينا قال كم هو قال مائة ألف فقال قد أمرنا لك بثلاثمائة ألف مائة منها لدينك ومائة تقسمها في أهل بيتك ومائة لخاصة نفسك فقم مكرما واقبض صلتك فلما خرج الحسن ع قال يزيد بن معاوية لأبيه تالله ما رأيت رجلا استقبلك بما استقبلك به ثم أمرت له بثلاثمائة ألف قال يا بني إن الحق حقهم فمن أتاك منهم فاحث له و
روى أبو جعفر محمد بن حبيب قال قال علي ع لقد تزوج الحسن وطلق حتى خفت أن يثير عداوة قال أبو جعفر وكان الحسن إذا أراد أن يطلق امرأة جلس إليها فقال أ يسرك أن أهب لك كذا وكذا فتقول له ما شاءت أو نعم فيقول هو لك فإذا قام أرسل إليها بالطلاق وبما سمى لها . وروى أبو الحسن المدائني قال تزوج الحسن بن علي ع هندا بنت سهيل ابن عمرو وكانت عند عبد الله بن عامر بن كريز فطلقها فكتب معاوية إلى أبي هريرة أن يخطبها على يزيد بن معاوية فلقيه الحسن ع فقال أين تريد قال أخطب هندا بنت سهيل بن عمرو على يزيد بن معاوية قال الحسن ع
[ 13 ](1/4428)
فاذكرني لها فأتاها أبو هريرة فأخبرها الخبر فقالت اختر لي فقال أختار لك الحسن فتزوجته فقدم عبد الله بن عامر المدينة فقال للحسن إن لي عند هند وديعة فدخل إليها والحسن معه فخرجت حتى جلست بين يدي عبد الله بن عامر فرق لها رقة عظيمة فقال الحسن أ لا أنزل لك عنها فلا أراك تجد محللا خيرا لكما مني قال لا ثم قال لها وديعتي فأخرجت سفطين فيهما جوهر ففتحهما وأخذ من أحدهما قبضة وترك الآخر عليها وكانت قبل ابن عامر عند عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد فكانت تقول سيدهم جميعا الحسن وأسخاهم ابن عامر وأحبهم إلي عبد الرحمن بن عتاب . وروى أبو الحسن المدائني قال تزوج الحسن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر وكان المنذر بن الزبير يهواها فأبلغ الحسن عنها شيئا فطلقها فخطبها المنذر فأبت أن تتزوجه وقالت شهر بي فخطبها عاصم بن عمر بن الخطاب فتزوجها فأبلغه المنذر عنها شيئا فطلقها فخطبها المنذر فقيل لها تزوجيه فقالت لا والله ما أفعل وقد فعل بي ما قد فعل مرتين لا والله لا يراني في منزله أبدا . وروى المدائني عن جويرية بن أسماء قال لما مات الحسن ع أخرجوا جنازته فحمل مروان بن الحكم سريره فقال له الحسين ع تحمل اليوم جنازته وكنت بالأمس تجرعه الغيظ قال مروان نعم كنت أفعل ذلك بمن يوازن حلمه الجبال . و
روى المدائني عن يحيى بن زكريا عن هشام بن عروة قال قال الحسن عند وفاته ادفنوني عند قبر رسول الله ص إلا أن تخافوا أن يكون في ذلك شر فلما أرادوا دفنه قال مروان بن الحكم لا يدفن عثمان في حش كوكب ويدفن الحسن هاهنا
[ 14 ]
فاجتمع بنو هاشم وبنو أمية وأعان هؤلاء قوم وهؤلاء قوم وجاءوا بالسلاح فقال أبو هريرة لمروان أ تمنع الحسن أن يدفن في هذا الموضع و(1/4429)
قد سمعت رسول الله ص يقول الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة قال مروان دعنا منك لقد ضاع حديث رسول الله ص إذ كان لا يحفظه غيرك وغير أبي سعيد الخدري وإنما أسلمت أيام خيبر قال أبو هريرة صدقت أسلمت أيام خيبر ولكنني لزمت رسول الله ص ولم أكن أفارقه وكنت أسأله وعنيت بذلك حتى علمت من أحب ومن أبغض ومن قرب ومن أبعد ومن أقر ومن نفى ومن لعن ومن دعا له فلما رأت عائشة السلاح والرجال وخافت أن يعظم الشر بينهم وتسفك الدماء قالت البيت بيتي ولا آذن لأحد أن يدفن فيه وأبى الحسين ع أن يدفنه إلا مع جده فقال له محمد بن الحنفية يا أخي إنه لو أوصى أن ندفنه لدفناه أو نموت قبل ذلك ولكنه قد استثنى وقال إلا أن تخافوا الشر فأي شر يرى أشد مما نحن فيه فدفنوه في البقيع . قال أبو الحسن المدائني وصل نعي الحسن ع إلى البصرة في يومين وليلتين فقال الجارود بن أبي سبرة
إذا كان شر سار يوما وليلة
و إن كان خير أخر السير أربعا
إذا ما بريد الشر أقبل نحونا
بإحدى الدواهي الربد سار وأسرعا
و روى أبو الحسن المدائني قال خرج على معاوية قوم من الخوارج بعد دخوله الكوفة وصلح الحسن ع له فأرسل معاوية إلى الحسن ع يسأله أن يخرج فيقاتل الخوارج فقال الحسن سبحان الله تركت قتالك وهو لي حلال لصلاح الأمة وألفتهم أ فتراني أقاتل معك فخطب معاوية أهل الكوفة فقال يا أهل الكوفة
[ 15 ]
أ تروني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون ولكنني قاتلتكم لأتأمر عليكم وعلى رقابكم وقد آتاني الله ذلك وأنتم كارهون ألا إن كل مال أو دم أصيب في هذه الفتنة فمطلول وكل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين ولا يصلح الناس إلا ثلاث إخراج العطاء عند محله وإقفال الجنود لوقتها وغزو العدو في داره فإنهم إن لم تغزوهم غزوكم ثم نزل .(1/4430)
قال المدائني فقال المسيب بن نجبة للحسن ع ما ينقضي عجبي منك بايعت معاوية ومعك أربعون ألفا ولم تأخذ لنفسك وثيقة وعقدا ظاهرا أعطاك أمرا فيما بينك وبينه ثم قال ما قد سمعت والله ما أراد بها غيرك قال فما ترى قال أرى أن ترجع إلى ما كنت عليه فقد نقض ما كان بينه وبينك فقال يا مسيب إني لو أردت بما فعلت الدنيا لم يكن معاوية بأصبر عند اللقاء ولا أثبت عند الحرب مني ولكني أردت صلاحكم وكف بعضكم عن بعض فارضوا بقدر الله وقضائه حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر . قال المدائني ودخل عبيدة بن عمرو الكندي على الحسن ع وكان ضرب على وجهه ضربة وهو مع قيس بن سعد بن عبادة فقال ما الذي أرى بوجهك قال أصابني مع قيس فالتفت حجر بن عدي إلى الحسن فقال لوددت أنك كنت مت قبل هذا اليوم ولم يكن ما كان إنا رجعنا راغمين بما كرهنا ورجعوا مسرورين بما أحبوا فتغير وجه الحسن وغمز الحسين ع حجرا فسكت فقال الحسن ع يا حجر ليس كل الناس يحب ما تحب ولا رأيه كرأيك وما فعلت إلا إبقاء عليك والله كل يوم في شأن .
[ 16 ]
قال المدائني ودخل عليه سفيان بن أبي ليلى النهدي فقال له السلام عليك يا مذل المؤمنين فقال الحسن اجلس يرحمك الله إن رسول الله ص رفع له ملك بني أمية فنظر إليهم يعلون منبره واحدا فواحدا فشق ذلك عليه فأنزل الله تعالى في ذلك قرآنا قال له وَ ما جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ اَلشَّجَرَةَ اَلْمَلْعُونَةَ فِي اَلْقُرْآنِ وسمعت عليا أبي رحمه الله يقول سيلي أمر هذه الأمة رجل واسع البلعوم كبير البطن فسألته من هو فقال معاوية وقال لي إن القرآن قد نطق بملك بني أمية ومدتهم قال تعالى لَيْلَةُ اَلْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ قال أبي هذه ملك بني أمية .(1/4431)
قال المدائني فلما كان عام الصلح أقام الحسن ع بالكوفة أياما ثم تجهز للشخوص إلى المدينة فدخل عليه المسيب بن نجبة الفزاري وظبيان بن عمارة التيمي ليودعاه فقال الحسن : الحمد لله الغالب على أمره لو أجمع الخلق جميعا على ألا يكون ما هو كائن ما استطاعوا فقال أخوه الحسين ع : لقد كنت كارها لما كان طيب النفس على سبيل أبي حتى عزم علي أخي فأطعته وكأنما يجذ أنفي بالمواسي فقال المسيب إنه والله ما يكبر علينا هذا الأمر إلا أن تضاموا وتنتقصوا فأما نحن فإنهم سيطلبون مودتنا بكل ما قدروا عليه فقال الحسين يا مسيب نحن نعلم أنك تحبنا فقال الحسن ع سمعت أبي يقول سمعت رسول الله ص يقول من أحب قوما كان معهم فعرض له المسيب وظبيان بالرجوع فقال ليس لي إلى ذلك سبيل فلما كان من غد خرج فلما صار بدير هند نظر إلى الكوفة وقال
و لا عن قلى فارقت دار معاشري
هم المانعون حوزتي وذماري
[ 17 ]
ثم سار إلى المدينة . قال المدائني فقال معاوية يومئذ للوليد بن عقبة بن أبي معيط بعد شخوص الحسن ع يا أبا وهب هل رمت قال نعم وسموت . قال المدائني أراد معاوية قول الوليد بن عقبة يحرضه على الطلب بدم عثمان
ألا أبلغ معاوية بن حرب
فإنك من أخي ثقة مليم
قطعت الدهر كالسدم المعنى
تهدر في دمشق ولا تريم
فلو كنت القتيل وكان حيا
لشمر لا ألف ولا سئوم
و إنك والكتاب إلى علي
كدابغة وقد حلم الأديم
و(1/4432)
روى المدائني عن إبراهيم بن محمد عن زيد بن أسلم قال دخل رجل على الحسن ع بالمدينة وفي يده صحيفة فقال له الرجل ما هذه قال هذا كتاب معاوية يتوعد فيه على أمر كذا فقال الرجل لقد كنت على النصف فما فعلت فقال له الحسن ع أجل ولكني خشيت أن يأتي يوم القيامة سبعون ألفا أو ثمانون ألفا تشخب أوداجهم دما كلهم يستعدي الله فيم هريق دمه . قال أبو الحسن وكان الحصين بن المنذر الرقاشي يقول والله ما وفى معاوية للحسن بشي ء مما أعطاه قتل حجرا وأصحاب حجر وبايع لابنه يزيد وسم الحسن .
[ 18 ]
قال المدائني وروى أبو الطفيل قال قال الحسن ع لمولى له أ تعرف معاوية بن خديج قال نعم قال إذا رأيته فأعلمني فرآه خارجا من دار عمرو ابن حريث فقال هو هذا فدعاه فقال له أنت الشاتم عليا عند ابن آكلة الأكباد أما والله لئن وردت الحوض ولم ترده لترينه مشمرا عن ساقيه حاسرا عن ذراعيه يذود عنه المنافقين قال أبو الحسن وروى هذا الخبر أيضا قيس بن الربيع عن بدر بن الخليل عن مولى الحسن ع .
قال أبو الحسن وحدثنا سليمان بن أيوب عن الأسود بن قيس العبدي إن الحسن ع لقي يوما حبيب بن مسلمة فقال له يا حبيب رب مسير لك في غير طاعة الله فقال أما مسيري إلى أبيك فليس من ذلك قال بلى والله ولكنك أطعت معاوية على دنيا قليلة زائلة فلئن قام بك في دنياك لقد قعد بك في آخرتك ولو كنت إذ فعلت شرا قلت خيرا كان ذلك كما قال عز وجل خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً ولكنك كما قال سبحانه كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ
قال أبو الحسن طلب زياد رجلا من أصحاب الحسن ممن كان في كتاب الأمان فكتب إليه الحسن من الحسن بن علي إلى زياد أما بعد فقد علمت ما كنا أخذنا من الأمان لأصحابنا وقد ذكر لي فلان أنك تعرضت له فأحب ألا تعرض له إلا بخير والسلام .
[ 19 ](1/4433)
فلما أتاه الكتاب وذلك بعد ادعاء معاوية إياه غضب حيث لم ينسبه إلى أبي سفيان فكتب إليه من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن أما بعد فإنه أتاني كتابك في فاسق تؤويه الفساق من شيعتك وشيعة أبيك وايم الله لأطلبنه بين جلدك ولحمك وإن أحب الناس إلي لحما أن آكله للحم أنت منه والسلام . فلما قرأ الحسن ع الكتاب بعث به إلى معاوية فلما قرأه غضب وكتب من معاوية بن أبي سفيان إلى زياد أما بعد فإن لك رأيين رأيا من أبي سفيان ورأيا من سمية فأما رأيك من أبي سفيان فحلم وحزم وأما رأيك من سمية فما يكون من مثلها إن الحسن بن علي ع كتب إلي بأنك عرضت لصاحبه فلا تعرض له فإني لم أجعل لك عليه سبيلا وإن الحسن ليس ممن يرمى به الرجوان والعجب من كتابك إليه لا تنسبه إلى أبيه أو إلى أمه فالآن حين اخترت له والسلام . قلت جرى في مجلس بعض الأكابر وأنا حاضر القول في أن عليا ع شرف بفاطمة ع فقال إنسان كان حاضر المجلس بل فاطمة ع شرفت به وخاض الحاضرون في ذلك بعد إنكارهم تلك اللفظة وسألني صاحب المجلس أن أذكر ما عندي في المعنى وأن أوضح أيما أفضل علي أم فاطمة فقلت أما أيهما أفضل فإن أريد بالأفضل الأجمع للمناقب التي تتفاضل بها الناس نحو العلم والشجاعة ونحو ذلك فعلي أفضل وإن أريد بالأفضل الأرفع منزلة عند الله فالذي
[ 20 ](1/4434)
استقر عليه رأي المتأخرين من أصحابنا أن عليا أرفع المسلمين كافة عند الله تعالى بعد رسول الله ص من الذكور والإناث وفاطمة امرأة من المسلمين وإن كانت سيدة نساء العالمين ويدل على ذلك أنه قد ثبت أنه أحب الخلق إلى الله تعالى بحديث الطائر وفاطمة من الخلق وأحب الخلق إليه سبحانه أعظمهم ثوابا يوم القيامة على ما فسره المحققون من أهل الكلام وإن أريد بالأفضل الأشرف نسبا ففاطمة أفضل لأن أباها سيد ولد آدم من الأولين والآخرين فليس في آباء علي ع مثله ولا مقارنه وإن أريد بالأفضل من كان رسول الله ص أشد عليه حنوا وأمس به رحما ففاطمة أفضل لأنها ابنته وكان شديد الحب لها والحنو عليها جدا وهي أقرب إليه نسبا من ابن العم لا شبهة في ذلك . فأما القول في أن عليا شرف بها أو شرفت به فإن عليا ع كانت أسباب شرفه وتميزه على الناس متنوعة فمنها ما هو متعلق بفاطمة ع ومنها ما هو متعلق بأبيها ص ومنها ما هو مستقل بنفسه . فأما الذي هو مستقل بنفسه فنحو شجاعته وعفته وحلمه وقناعته وسجاحة أخلاقه وسماحة نفسه وأما الذي هو متعلق برسول الله ص فنحو علمه ودينه وزهده وعبادته وسبقه إلى الإسلام وإخباره بالغيوب . وأما الذي يتعلق بفاطمة ع فنكاحه لها حتى صار بينه وبين رسول الله ص الصهر المضاف إلى النسب والسبب وحتى إن ذريته منها صارت ذرية لرسول الله ص وأجزاء من ذاته ع وذلك لأن الولد إنما يكون من مني الرجل ودم المرأة وهما جزءان من ذاتي الأب والأم ثم هكذا أبدا في ولد الولد ومن بعده من البطون دائما فهذا هو القول في شرف علي ع بفاطمة .
[ 21 ](1/4435)
فأما شرفها به فإنها وإن كانت ابنة سيد العالمين إلا أن كونها زوجة علي أفادها نوعا من شرف آخر زائدا على ذلك الشرف الأول أ لا ترى أن أباها لو زوجها أبا هريرة أو أنس بن مالك لم يكن حالها في العظمة والجلالة كحالها الآن وكذلك لو كان بنوها وذريتها من أبي هريرة وأنس بن مالك لم يكن حالهم في أنفسهم كحالهم الآن . قال أبو الحسن المدائني وكان الحسن كثير التزوج تزوج خولة بنت منظور بن زبان الفزارية وأمها مليكة بنت خارجة بن سنان فولدت له الحسن بن الحسن وتزوج أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله فولدت له ابنا سماه طلحة وتزوج أم بشر بنت أبي مسعود الأنصاري واسم أبي مسعود عقبة بن عمر فولدت له زيد بن الحسن وتزوج جعدة بنت الأشعث بن قيس وهي التي سقته السم وتزوج هند ابنة سهيل بن عمرو وحفصة ابنة عبد الرحمن بن أبي بكر وتزوج امرأة من كلب وتزوج امرأة من بنات عمرو بن أهتم المنقري وامرأة من ثقيف فولدت له عمرا وتزوج امرأة من بنات علقمة ابن زرارة وامرأة من بني شيبان من آل همام بن مرة فقيل له إنها ترى رأي الخوارج فطلقها وقال إني أكره أن أضم إلى نحري جمرة من جمر جهنم . وقال المدائني وخطب إلى رجل فزوجه وقال له إني مزوجك وأعلم أنك ملق طلق غلق ولكنك خير الناس نسبا وأرفعهم جدا وأبا . قلت أما قوله ملق طلق فقد صدق وأما قوله غلق فلا فإن الغلق الكثير الضجر وكان الحسن ع أوسع الناس صدرا وأسجحهم خلقا .
[ 22 ]
قال المدائني أحصيت زوجات الحسن بن علي فكن سبعين امرأة . قال المدائني ولما توفي علي ع خرج عبد الله بن العباس بن عبد المطلب إلى الناس فقال إن أمير المؤمنين ع توفي وقد ترك خلفا فإن أحببتم خرج إليكم وإن كرهتم فلا أحد على أحد فبكى الناس وقالوا بل يخرج إلينا(1/4436)
فخرج الحسن ع فخطبهم فقال أيها الناس اتقوا الله فإنا أمراؤكم وأولياؤكم وإنا أهل البيت الذين قال الله تعالى فينا إِنَّما يُرِيدُ اَللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً فبايعه الناس . وكان خرج إليهم وعليه ثياب سود ثم وجه عبد الله بن عباس ومعه قيس بن سعد بن عبادة مقدمة له في اثني عشر ألفا إلى الشام وخرج وهو يريد المدائن فطعن بساباط وانتهب متاعه ودخل المدائن وبلغ ذلك معاوية فأشاعه وجعل أصحاب الحسن الذين وجههم مع عبد الله يتسللون إلى معاوية الوجوه وأهل البيوتات فكتب عبد الله بن العباس بذلك إلى الحسن ع فخطب الناس ووبخهم وقال خالفتم أبي حتى حكم وهو كاره ثم دعاكم إلى قتال أهل الشام بعد التحكيم فأبيتم حتى صار إلى كرامة الله ثم بايعتموني على أن تسالموا من سالمني وتحاربوا من حاربني وقد أتاني أن أهل الشرف منكم قد أتوا معاوية وبايعوه فحسبي منكم لا تغروني من ديني ونفسي . وأرسل عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وأمه هند بنت أبي سفيان بن حرب إلى معاوية يسأله المسالمة واشترط عليه العمل بكتاب الله وسنة نبيه وألا يبايع لأحد من بعده وأن يكون الأمر شورى وأن يكون الناس أجمعون آمنين .
[ 23 ](1/4437)
و كتب بذلك كتابا فأبى الحسين ع وامتنع فكلمه الحسن حتى رضي وقدم معاوية إلى الكوفة . قال أبو الحسن وحدثنا أبو بكر بن الأسود قال كتب ابن العباس إلى الحسن أما بعد فإن المسلمين ولوك أمرهم بعد علي ع فشمر للحرب وجاهد عدوك وقارب أصحابك واشتر من الظنين دينه بما لا يثلم لك دينا ووال أهل البيوتات والشرف تستصلح به عشائرهم حتى يكون الناس جماعة فإن بعض ما يكره الناس ما لم يتعد الحق وكانت عواقبه تؤدي إلى ظهور العدل وعز الدين خير من كثير مما يحبه الناس إذا كانت عواقبه تدعو إلى ظهور الجور وذل المؤمنين وعز الفاجرين واقتد بما جاء عن أئمة العدل فقد جاء عنهم أنه لا يصلح الكذب إلا في حرب أو إصلاح بين الناس فإن الحرب خدعة ولك في ذلك سعة إذا كنت محاربا ما لم تبطل حقا . واعلم أن عليا أباك إنما رغب الناس عنه إلى معاوية أنه أساء بينهم في الفي ء وسوى بينهم في العطاء فثقل عليهم واعلم أنك تحارب من حارب الله ورسوله في ابتداء الإسلام حتى ظهر أمر الله فلما وحد الرب ومحق الشرك وعز الدين أظهروا الإيمان وقرءوا القرآن مستهزءين بآياته وقاموا إلى الصلاة وهم كسالى وأدوا الفرائض
[ 24 ]
و هم لها كارهون فلما رأوا أنه لا يعز في الدين إلا الأتقياء الأبرار توسموا بسيما الصالحين ليظن المسلمون بهم خيرا فما زالوا بذلك حتى شركوهم في أماناتهم وقالوا حسابهم على الله فإن كانوا صادقين فإخواننا في الدين وإن كانوا كاذبين كانوا بما اقترفوا هم الأخسرين وقد منيت بأولئك وبأبنائهم وأشباههم والله ما زادهم طول العمر إلا غيا ولا زادهم ذلك لأهل الدين إلا مقتا فجاهدهم ولا ترض دنية ولا تقبل خسفا فإن عليا لم يجب إلى الحكومة حتى غلب على أمره فأجاب وإنهم يعلمون أنه أولى بالأمر إن حكموا بالعدل فلما حكموا بالهوى رجع إلى ما كان عليه حتى أتى عليه أجله ولا تخرجن من حق أنت أولى به حتى يحول الموت دون ذلك والسلام(1/4438)
قال المدائني وكتب الحسن ع إلى معاوية من عبد الله الحسن بن علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان أما بعد فإن الله بعث محمدا ص رحمة للعالمين فأظهر به الحق وقمع به الشرك وأعز به العرب عامة وشرف به قريشا خاصة فقال وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ فلما توفاه الله تنازعت العرب في الأمر بعده فقالت قريش نحن عشيرته وأولياؤه فلا تنازعونا سلطانه فعرفت العرب لقريش ذلك وجاحدتنا قريش ما عرفت لها العرب فهيهات ما أنصفتنا قريش وقد كانوا ذوي فضيلة في الدين وسابقة في الإسلام ولا غرو إلا منازعته إيانا الأمر بغير حق في الدنيا معروف ولا أثر في الإسلام محمود فالله الموعد نسأل الله ألا يؤتينا في هذه الدنيا شيئا ينقصنا عنده في الآخرة إن عليا لما توفاه الله ولاني المسلمون الأمر بعده فاتق الله يا معاوية وانظر لأمة محمد
[ 25 ](1/4439)
ص ما تحقن به دماءها وتصلح به أمرها والسلام . وبعث بالكتاب مع الحارث بن سويد التيمي تيم الرباب وجندب الأزدي فقدما على معاوية فدعواه إلى بيعة الحسن ع فلم يجبهما وكتب جوابه أما بعد فقد فهمت ما ذكرت به رسول الله وهو أحق الأولين والآخرين بالفضل كله وذكرت تنازع المسلمين الأمر بعده فصرحت بتهمة أبي بكر الصديق وعمر وأبي عبيدة الأمين وصلحاء المهاجرين فكرهت لك ذلك إن الأمة لما تنازعت الأمر بينها رأت قريشا أخلقها به فرأت قريش والأنصار وذوو الفضل والدين من المسلمين أن يولوا من قريش أعلمها بالله وأخشاها له وأقواها على الأمر فاختاروا أبا بكر ولم يألوا ولو علموا مكان رجل غير أبي بكر يقوم مقامه ويذب عن حرم الإسلام ذبه ما عدلوا بالأمر إلى أبي بكر والحال اليوم بيني وبينك على ما كانوا عليه فلو علمت أنك أضبط لأمر الرعية وأحوط على هذه الأمة وأحسن سياسة وأكيد للعدو وأقوى على جمع الفي ء لسلمت لك الأمر بعد أبيك فإن أباك سعى على عثمان حتى قتل مظلوما فطالب الله بدمه ومن يطلبه الله فلن يفوته ثم ابتز الأمة أمرها وفرق جماعتها فخالفه نظراؤه من أهل السابقة والجهاد والقدم في الإسلام وادعى أنهم نكثوا بيعته فقاتلهم فسفكت الدماء واستحلت الحرم ثم أقبل إلينا لا يدعي علينا بيعة ولكنه يريد أن يملكنا اغترارا فحاربناه وحاربنا ثم صارت الحرب إلى أن اختار رجلا واخترنا رجلا ليحكما بما تصلح عليه الأمة وتعود به الجماعة والألفة وأخذنا بذلك عليهما ميثاقا وعليه مثله وعلينا مثله على الرضا بما حكما فأمضى الحكمان عليه الحكم بما علمت وخلعاه فو الله ما رضي بالحكم ولا صبر لأمر الله فكيف تدعوني إلى أمر إنما تطلبه بحق أبيك وقد خرج منه فانظر لنفسك ولدينك والسلام .
[ 26 ](1/4440)
قال ثم قال للحارث وجندب ارجعا فليس بيني وبينكم إلا السيف فرجعا وأقبل إلى العراق في ستين ألفا واستخلف على الشام الضحاك بن قيس الفهري والحسن مقيم بالكوفة لم يشخص حتى بلغه أن معاوية قد عبر جسر منبج فوجه حجر بن عدي يأمر العمال بالاحتراس ويذب الناس فسارعوا فعقد لقيس بن سعد بن عبادة على اثني عشر ألفا فنزل دير عبد الرحمن واستخلف على الكوفة المغيرة بن نوفل بن الحارث ابن عبد المطلب وأمر قيس بن سعد بالمسير وودعه وأوصاه فأخذ على الفرات وقرى الفلوجة ثم إلى مسكن
و ارتحل الحسن ع متوجها نحو المدائن فأتى ساباط فأقام بها أياما فلما أراد أن يرحل إلى المدائن قام فخطب الناس فقال أيها الناس إنكم بايعتموني على أن تسالموا من سالمت وتحاربوا من حاربت وإني والله ما أصبحت محتملا على أحد من هذه الأمة ضغينة في شرق ولا غرب ولما تكرهون في الجماعة والألفة والأمن وصلاح ذات البين خير مما تحبون في الفرقة والخوف والتباغض والعداوة وإن عليا أبي كان يقول لا تكرهوا إمارة معاوية فإنكم لو فارقتموه لرأيتم الرءوس تندر عن كواهلها كالحنظل ثم نزل . فقال الناس ما قال هذا القول إلا وهو خالع نفسه ومسلم الأمر لمعاوية فثاروا به فقطعوا كلامه وانتهبوا متاعه وانتزعوا مطرفا كان عليه وأخذوا جارية كانت معه واختلف الناس فصارت طائفة معه وأكثرهم عليه فقال اللهم أنت المستعان وأمر بالرحيل فارتحل الناس وأتاه رجل بفرس فركبه وأطاف به بعض أصحابه فمنعوا الناس عنه وساروا فقدمه سنان بن الجراح الأسدي إلى مظلم ساباط فأقام به فلما دنا منه تقدم إليه يكلمه وطعنه في فخذه بالمعول طعنة كادت تصل إلى العظم فغشي عليه وابتدره أصحابه فسبق إليه عبيد الله الطائي فصرع سنانا وأخذ ظبيان بن عمارة المعول
[ 27 ](1/4441)
من يده فضربه به فقطع أنفه ثم ضربه بصخرة على رأسه فقتله وأفاق الحسن ع من غشيته فعصبوا جرحه وقد نزف وضعف فقدموا به المدائن وعليها سعد بن مسعود عم المختار بن أبي عبيد وأقام بالمدائن حتى برأ من جرحه . قال المدائني وكان الحسن ع أكبر ولد علي وكان سيدا سخيا حليما خطيبا وكان رسول الله ص يحبه سابق يوما بين الحسين وبينه فسبق الحسن فأجلسه على فخذه اليمنى ثم أجلس الحسين على الفخذ اليسرى فقيل له يا رسول الله أيهما أحب إليك فقال أقول كما قال إبراهيم أبونا وقيل له أي ابنيك أحب إليك قال أكبرهما وهو الذي يلد ابني محمدا ص . و
روى المدائني عن زيد بن أرقم قال خرج الحسن ع وهو صغير وعليه بردة ورسول الله ص يخطب فعثر فسقط فقطع رسول الله ص الخطبة ونزل مسرعا إليه وقد حمله الناس فتسلمه وأخذه على كتفه وقال إن الولد لفتنة لقد نزلت إليه وما أدري ثم صعد فأتم الخطبة و
روى المدائني قال لقي عمرو بن العاص الحسن ع في الطواف فقال له يا حسن زعمت أن الدين لا يقوم إلا بك وبأبيك فقد رأيت الله أقامه بمعاوية فجعله راسيا بعد ميله وبينا بعد خفائه أ فرضي الله بقتل عثمان أ ومن الحق أن تطوف بالبيت كما يدور الجمل بالطحين عليك ثياب كغرقئ البيض وأنت قاتل عثمان والله إنه لألم للشعث وأسهل للوعث أن يوردك معاوية حياض أبيك فقال الحسن ع إن لأهل النار علامات يعرفون بها إلحادا لأولياء الله وموالاة لأعداء الله والله إنك
[ 28 ](1/4442)
لتعلم أن عليا لم يرتب في الدين ولا يشك في الله ساعة ولا طرفة عين قط وايم الله لتنتهين يا ابن أم عمرو أو لأنفذن حضنيك بنوافذ أشد من القعضبية فإياك والتهجم علي فإني من قد عرفت لست بضعيف الغمزة ولا هش المشاشة ولا مري ء المأكلة وإني من قريش كواسطة القلادة يعرف حسبي ولا أدعى لغير أبي وأنت من تعلم ويعلم الناس تحاكمت فيك رجال قريش فغلب عليك جزاروها ألأمهم حسبا وأعظمهم لؤما فإياك عني فإنك رجس ونحن أهل بيت الطهارة أذهب الله عنا الرجس وطهرنا تطهيرا فأفحم عمرو وانصرف كئيبا و
روى أبو الحسن المدائني قال سأل معاوية الحسن بن علي بعد الصلح أن يخطب الناس فامتنع فناشده أن يفعل فوضع له كرسي فجلس عليه ثم قال الحمد لله الذي توحد في ملكه وتفرد في ربوبيته يؤتي الملك من يشاء وينزعه عمن يشاء والحمد لله الذي أكرم بنا مؤمنكم وأخرج من الشرك أولكم وحقن دماء آخركم فبلاؤنا عندكم قديما وحديثا أحسن البلاء إن شكرتم أو كفرتم أيها الناس إن رب علي كان أعلم بعلي حين قبضه إليه ولقد اختصه بفضل لم تعتادوا مثله ولم تجدوا مثل سابقته فهيهات هيهات طالما قلبتم له الأمور حتى أعلاه الله عليكم وهو صاحبكم وعدوكم في بدر وأخواتها جرعكم رنقا وسقاكم علقا وأذل رقابكم وأشرقكم بريقكم فلستم بملومين على بغضه وايم الله لا ترى أمة محمد خفضا ما كانت سادتهم وقادتهم في بني أمية ولقد وجه الله إليكم فتنة لن تصدروا عنها حتى تهلكوا لطاعتكم طواغيتكم وانضوائكم إلى شياطينكم فعند الله أحتسب ما مضى وما ينتظر من سوء دعتكم وحيف حكمكم ثم قال يا أهل الكوفة لقد فارقكم بالأمس سهم من مرامي الله صائب
[ 29 ](1/4443)
على أعداء الله نكال على فجار قريش لم يزل آخذا بحناجرها جاثما على أنفاسها ليس بالملومة في أمر الله ولا بالسروقة لمال الله ولا بالفروقة في حرب أعداء الله أعطى الكتاب خواتمه وعزائمه دعاه فأجابه وقاده فاتبعه لا تأخذه في الله لومة لائم فصلوات الله عليه ورحمته ثم نزل فقال معاوية أخطأ عجل أو كاد وأصاب مثبت أو كاد ما ذا أردت من خطبة الحسن . فأما أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني فإنه قال كان في لسان أبي محمد الحسن ع ثقل كالفأفأة حدثني بذلك محمد بن الحسين الأشناني قال حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسي عن مفضل بن صالح عن جابر قال كان في لسان الحسن ع رتة فكان سلمان الفارسي رحمه الله يقول أتته من قبل عمه موسى بن عمران ع . قال أبو الفرج ومات شهيدا مسموما دس معاوية إليه وإلى سعد بن أبي وقاص حين أراد أن يعهد إلى يزيد ابنه بالأمر بعده سما فماتا منه في أيام متقاربة وكان الذي تولى ذلك من الحسن ع زوجته جعدة بنت الأشعث بن قيس بمال بذله لها معاوية ويقال إن اسمها سكينة ويقال عائشة ويقال شعثاء والصحيح أن اسمها جعدة . قال أبو الفرج فروى عمرو بن ثابت قال كنت أختلف إلى أبي إسحاق
[ 30 ]
السبيعي سنة أسأله عن الخطبة التي خطب بها الحسن بن علي ع عقيب وفاة أبيه ولا يحدثني بها فدخلت إليه في يوم شات وهو في الشمس وعليه برنسه فكأنه غول فقال لي من أنت فأخبرته فبكى وقال كيف أبوك وكيف أهلك قلت صالحون قال في أي شي ء تتردد منذ سنة قلت في خطبة الحسن بن علي بعد وفاه أبيه .(1/4444)
حدثني هبيرة ابن مريم قال خطب الحسن ع بعد وفاة أمير المؤمنين ع فقال قد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون ولا يدركه الآخرون بعمل لقد كان يجاهد مع رسول الله ص فيسبقه بنفسه ولقد كان يوجهه برايته فيكنفه جبرائيل عن يمينه وميكائيل عن يساره فلا يرجع حتى يفتح الله عليه ولقد توفي في الليلة التي عرج فيها بعيسى ابن مريم والتي توفي فيها يوشع بن نوح وما خلف صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم من عطائه أراد أن يبتاع بها خادما لأهله ثم خنقته العبرة فبكى وبكى الناس معه ثم قال أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن محمد رسول الله ص أنا ابن البشير أنا ابن النذير أنا ابن الداعي إلى الله بإذنه والسراج المنير أنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا والذين افترض الله مودتهم في كتابه إذ يقول وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت . قال أبو الفرج فلما انتهى إلى هذا الموضع من الخطبة قام عبد الله بن العباس بين
[ 31 ]
يديه فدعا الناس إلى بيعته فاستجابوا وقالوا ما أحبه إلينا وأحقه بالخلافة فبايعوه ثم نزل من المنبر . قال أبو الفرج ودس معاوية رجلا من حمير إلى الكوفة ورجلا من بني القين إلى البصرة يكتبان إليه بالأخبار فدل على الحميري وعلى القيني فأخذا وقتلا . و
كتب الحسن ع إلى معاوية أما بعد فإنك دسست إلي الرجال كأنك تحب اللقاء لا أشك في ذلك فتوقعه إن شاء الله وبلغني أنك شمت بما لم يشمت به ذو الحجى وإنما مثلك في ذلك كما قال الأول
فإنا ومن قد مات منا لكالذي
يروح فيمسي في المبيت ليغتدي
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى
تجهز لأخرى مثلها فكأن قد
فأجابه معاوية أما بعد فقد وصل كتابك وفهمت ما ذكرت فيه ولقد علمت بما حدث فلم أفرح ولم أحزن ولم أشمت ولم آس وإن عليا أباك لكما قال أعشى بني قيس ابن ثعلبة(1/4445)
فأنت الجواد وأنت الذي
إذا ما القلوب ملأن الصدورا
جدير بطعنة يوم اللقاء
يضرب منها النساء النحورا
و ما مزيد من خليج البحار
يعلو الإكام ويعلو الجسورا
بأجود منه بما عنده
فيعطي الألوف ويعطي البدورا
[ 32 ]
قال أبو الفرج وكتب عبد الله بن العباس من البصرة إلى معاوية أما بعد فإنك ودسك أخا بني القين إلى البصرة تلتمس من غفلات قريش بمثل ما ظفرت به من يمانيتك لكما قال أمية بن أبي الأسكر
لعمرك إني والخزاعي طارقا
كنعجة عاد حتفها تتحفر
أثارت عليها شفرة بكراعها
فظلت بها من آخر الليل تنحر
شمت بقوم من صديقك أهلكوا
أصابهم يوم من الدهر أصفر
فأجابه معاوية أما بعد فإن الحسن بن علي قد كتب إلي بنحو مما كتبت به وأنبأني بما لم يحقق سوء ظن ورأي في وإنك لم تصب مثلي ومثلكم وإنما مثلنا كما قال طارق الخزاعي يجيب أمية عن هذا الشعر
فو الله ما أدري وإني لصادق
إلى أي من يظنني أتعذر
أعنف إن كانت زبينة أهلكت
و نال بني لحيان شر فأنفروا
[ 33 ]
قال أبو الفرج وكان أول شي ء أحدثه الحسن ع أنه زاد المقاتلة مائة مائة وقد كان علي ع فعل ذلك يوم الجمل وفعله الحسن حال الاستخلاف فتبعه الخلفاء من بعده في ذلك .(1/4446)
قال وكتب الحسن ع إلى معاوية مع حرب بن عبد الله الأزدي من الحسن بن علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإن الله جل جلاله بعث محمدا رحمة للعالمين ومنة للمؤمنين وكافة للناس أجمعين لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَ يَحِقَّ اَلْقَوْلُ عَلَى اَلْكافِرِينَ فبلغ رسالات الله وقام بأمر الله حتى توفاه الله غير مقصر ولا وان وبعد أن أظهر الله به الحق ومحق به الشرك وخص به قريشا خاصة فقال له وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ فلما توفي تنازعت سلطانه العرب فقالت قريش نحن قبيلته وأسرته وأولياؤه ولا يحل لكم أن تنازعونا سلطان محمد وحقه فرأت العرب أن القول ما قالت قريش وأن الحجة في ذلك لهم على من نازعهم أمر محمد فأنعمت لهم وسلمت إليهم ثم حاججنا نحن قريشا بمثل ما حاججت به العرب فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها إنهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالانتصاف والاحتجاج فلما صرنا أهل بيت محمد وأولياءه إلى محاجتهم وطلب النصف منهم باعدونا واستولوا بالإجماع على ظلمنا ومراغمتنا والعنت منهم لنا فالموعد الله وهو الولي النصير
[ 34 ](1/4447)
و لقد كنا تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا في حقنا وسلطان نبينا وإن كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الإسلام وأمسكنا عن منازعتهم مخافة على الدين أن يجد المنافقون والأحزاب في ذلك مغمزا يثلمونه به أو يكون لهم بذلك سبب إلى ما أرادوا من إفساده فاليوم فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية على أمر لست من أهله لا بفضل في الدين معروف ولا أثر في الإسلام محمود وأنت ابن حزب من الأحزاب وابن أعدى قريش لرسول الله ص ولكتابه والله حسيبك فسترد فتعلم لمن عقبى الدار وبالله لتلقين عن قليل ربك ثم ليجزينك بما قدمت يداك وما الله بظلام للعبيد إن عليا لما مضى لسبيله رحمة الله عليه يوم قبض ويوم من الله عليه بالإسلام ويوم يبعث حيا ولاني المسلمون الأمر بعده فأسأل الله ألا يؤتينا في الدنيا الزائلة شيئا ينقصنا به في الآخرة مما عنده من كرامة وإنما حملني على الكتاب إليك الإعذار فيما بيني وبين الله عز وجل في أمرك ولك في ذلك إن فعلته الحظ الجسيم والصلاح للمسلمين فدع التمادي في الباطل وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي فإنك تعلم أني أحق بهذا الأمر منك عند الله وعند كل أواب حفيظ ومن له قلب منيب واتق الله ودع البغي واحقن دماء المسلمين فو الله ما لك خير في أن تلقى الله من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به وادخل في السلم والطاعة ولا تنازع الأمر أهله ومن هو أحق به منك ليطفئ الله النائرة بذلك ويجمع الكلمة ويصلح ذات البين وإن أنت أبيت إلا التمادي في غيك سرت إليك بالمسلمين فحاكمتك حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين . فكتب معاوية إليه
[ 35 ](1/4448)
من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى الحسن بن علي سلام الله عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت به محمدا رسول الله من الفضل وهو أحق الأولين والآخرين بالفضل كله قديمه وحديثه وصغيره وكبيره وقد والله بلغ وأدى ونصح وهدى حتى أنقذ الله به من الهلكة وأنار به من العمى وهدى به من الجهالة والضلالة فجزاه الله أفضل ما جزى نبيا عن أمته وصلوات الله عليه يوم ولد ويوم بعث ويوم قبض ويوم يبعث حيا . وذكرت وفاة النبي ص وتنازع المسلمين الأمر بعده وتغلبهم على أبيك فصرحت بتهمة أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وأبي عبيدة الأمين وحواري رسول الله ص وصلحاء المهاجرين والأنصار فكرهت ذلك لك إنك امرؤ عندنا وعند الناس غير الظنين ولا المسي ء ولا اللئيم وأنا أحب لك القول السديد والذكر الجميل إن هذه الأمة لما اختلفت بعد نبيها لم تجهل فضلكم ولا سابقتكم ولا قرابتكم من نبيكم ولا مكانكم في الإسلام وأهله فرأت الأمة أن تخرج من هذا الأمر لقريش لمكانها من نبيها ورأى صلحاء الناس من قريش والأنصار وغيرهم من سائر الناس وعوامهم أن يولوا هذا الأمر من قريش أقدمها إسلاما وأعلمها بالله وأحبها له وأقواها على أمر الله فاختاروا أبا بكر وكان ذلك رأي ذوي الدين والفضل والناظرين للأمة فأوقع ذلك في صدوركم لهم التهمة ولم يكونوا متهمين ولا فيما أتوا بالمخطئين ولو رأى المسلمون أن فيكم من يغني غناءه ويقوم مقامه ويذب عن حريم الإسلام ذبه
[ 36 ](1/4449)
ما عدلوا بالأمر إلى غيره رغبة عنه ولكنهم علموا في ذلك بما رأوه صلاحا للإسلام وأهله والله يجزيهم عن الإسلام وأهله خيرا . وقد فهمت الذي دعوتني إليه من الصلح والحال فيما بيني وبينك اليوم مثل الحال التي كنتم عليها أنتم وأبو بكر بعد وفاة النبي ص فلو علمت أنك أضبط مني للرعية وأحوط على هذه الأمة وأحسن سياسة وأقوى على جمع الأموال وأكيد للعدو لأجبتك إلى ما دعوتني إليه ورأيتك لذلك أهلا ولكن قد علمت أني أطول منك ولاية وأقدم منك بهذه الأمة تجربة وأكبر منك سنا فأنت أحق أن تجيبني إلى هذه المنزلة التي سألتني فادخل في طاعتي ولك الأمر من بعدي ولك ما في بيت مال العراق من مال بالغا ما يبلغ تحمله إلى حيث أحببت ولك خراج أي كور العراق شئت معونة لك على نفقتك يجيبها أمينك ويحملها إليك في كل سنة ولك ألا نستولي عليك بالإساءة ولا نقضي دونك الأمور ولا نعصي في أمر أردت به طاعة الله أعاننا الله وإياك على طاعته إنه سميع مجيب الدعاء والسلام . قال جندب فلما أتيت الحسن بكتاب معاوية قلت له إن الرجل سائر إليك فابدأه بالمسير حتى تقاتله في أرضه وبلاده وعمله فإما أن تقدر أنه ينقاد لك فلا والله حتى يرى منا أعظم من يوم صفين فقال افعل ثم قعد عن مشورتي وتناسى قولي . قالوا وكتب معاوية إلى الحسن
[ 37 ]
أما بعد فإن الله يفعل في عباده ما يشاء لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب فاحذر أن تكون منيتك على أيدي رعاع من الناس وايئس من أن تجد فينا غميزة وإن أنت أعرضت عما أنت فيه وبايعتني وفيت لك بما وعدت وأجريت لك ما شرطت وأكون في ذلك كما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة
و إن أحد أسدى إليك أمانة
فأوف بها تدعى إذا مت وافيا
و لا تحسد المولى إذا كان ذا غنى
و لا تجفه إن كان في المال فانيا
ثم الخلافة لك من بعدي فأنت أولى الناس بها والسلام .(1/4450)
فأجابه الحسن أما بعد فقد وصل إلي كتابك تذكر فيه ما ذكرت فتركت جوابك خشية البغي مني عليك وبالله أعوذ من ذلك فاتبع الحق تعلم أني من أهله وعلي إثم أن أقول فأكذب والسلام . فلما وصل كتاب الحسن إلى معاوية قرأه ثم كتب إلى عماله على النواحي بنسخة واحدة من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى فلان بن فلان ومن قبله من المسلمين سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فالحمد لله الذي كفاكم مؤنة عدوكم وقتل خليفتكم إن الله بلطفه وحسن صنعه أتاح لعلي بن أبي طالب رجلا من عباده
[ 38 ]
فاغتاله فقتله فترك أصحابه متفرقين مختلفين وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم فاقبلوا إلى حين يأتيكم كتابي هذا بجهدكم وجندكم وحسن عدتكم فقد أصبتم بحمد الله الثأر وبلغتم الأمل وأهلك الله أهل البغي والعدوان والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . قال فاجتمعت العساكر إلى معاوية فسار بها قاصدا إلى العراق وبلغ الحسن خبره ومسيره نحوه وإنه قد بلغ جسر منبج فتحرك عند ذلك وبعث حجر بن عدي فأمر العمال والناس بالتهيؤ للمسير ونادى المنادي الصلاة جامعة فأقبل الناس يثوبون ويجتمعون وقال الحسن إذا رضيت جماعة الناس فأعلمني وجاءه سعيد بن قيس الهمداني فقال له اخرج(1/4451)
فخرج الحسن ع وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن الله كتب الجهاد على خلقه وسماه كرها ثم قال لأهل الجهاد من المؤمنين اِصْبِرُوا إِنَّ اَللَّهَ مَعَ اَلصَّابِرِينَ فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون بلغني أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا على المسير إليه فتحرك لذلك اخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم بالنخيلة حتى ننظر وتنظروا ونرى وتروا . قال وإنه في كلامه ليتخوف خذلان الناس له قال فسكتوا فما تكلم منهم أحد ولا أجابه بحرف فلما رأى ذلك عدي بن حاتم قام فقال أنا ابن حاتم سبحان الله ما أقبح هذا المقام أ لا تجيبون إمامكم وابن بنت نبيكم أين خطباء مضر أين المسلمون أين
[ 39 ]
الخواضون من أهل المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة فإذا جد الجد فرواغون كالثعالب أ ما تخافون مقت الله ولا عيبها وعارها . ثم استقبل الحسن بوجهه فقال أصاب الله بك المراشد وجنبك المكاره ووفقك لما يحمد ورده وصدره قد سمعنا مقالتك وانتهينا إلى أمرك وسمعنا لك وأطعناك فيما قلت وما رأيت وهذا وجهي إلى معسكري فمن أحب أن يوافيني فليواف . ثم مضى لوجهه فخرج من المسجد ودابته بالباب فركبها ومضى إلى النخيلة وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه وكان عدي بن حاتم أول الناس عسكرا . وقام قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري ومعقل بن قيس الرياحي وزياد بن صعصعة التيمي فأنبوا الناس ولاموهم وحرضوهم وكلموا الحسن ع بمثل كلام عدي بن حاتم في الإجابة والقبول فقال لهم الحسن ع صدقتم رحمكم الله ما زلت أعرفكم بصدق النية والوفاء والقبول والمودة الصحيحة فجزاكم الله خيرا ثم نزل . وخرج الناس فعسكروا ونشطوا للخروج وخرج الحسن إلى العسكر واستخلف على الكوفة المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وأمره باستحثاث الناس وأشخاصهم إليه فجعل يستحثهم ويستخرجهم حتى يلتئم العسكر .(1/4452)
و سار الحسن ع في عسكر عظيم وعدة حسنة حتى نزل دير عبد الرحمن
[ 40 ]
فأقام به ثلاثا حتى اجتمع الناس ثم دعا عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب فقال له يا ابن عم إني باعث إليك اثني عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر الرجل منهم يزيد الكتيبة فسر بهم وألن لهم جانبك وابسط لهم وجهك وافرش لهم جناحك وأدنهم من مجلسك فإنهم بقية ثقات أمير المؤمنين وسر بهم على شط الفرات حتى تقطع بهم الفرات ثم تصير إلى مسكن ثم امض حتى تستقبل بهم معاوية فإن أنت لقيته فاحبسه حتى آتيك فإني على أثرك وشيكا وليكن خبرك عندي كل يوم وشاور هذين يعني قيس بن سعد وسعيد بن قيس وإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك فإن فعل فقاتله وإن أصبت فقيس بن سعد على الناس وإن أصيب قيس بن سعد فسعيد بن قيس على الناس . فسار عبيد الله حتى انتهى إلى شينور حتى خرج إلى شاهي ثم لزم الفرات والفلوجة حتى أتى مسكن وأخذ الحسن على حمام عمر حتى أتى دير كعب ثم بكر فنزل ساباط دون القنطرة فلما أصبح نادى في الناس الصلاة جامعة فاجتمعوا
فصعد المنبر فخطبهم فقال الحمد لله كلما حمده حامد وأشهد أن لا إله إلا الله كلما شهد له شاهد وأشهد أن محمدا رسول الله أرسله بالحق وائتمنه على الوحي ص أما بعد فو الله إني لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله ومنه وأنا أنصح خلقه لخلقه وما أصبحت محتملا على مسلم ضغينة ولا مريد له بسوء ولا غائلة ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة ألا وإني ناظر لكم خيرا
[ 41 ](1/4453)
من نظركم لأنفسكم فلا تخالفوا أمري ولا تردوا على رأيي غفر الله لي ولكم وأرشدني وإياكم لما فيه محبته ورضاه إن شاء الله ثم نزل . قال فنظر الناس بعضهم إلى بعض وقالوا ما ترونه يريد بما قال قالوا نظنه يريد أن يصالح معاوية ويكل الأمر إليه كفر والله الرجل ثم شدوا على فسطاطه فانتهبوه حتى أخذوا مصلاه من تحته ثم شد عليه عبد الرحمن بن عبد الله بن جعال الأزدي فنزع مطرفه عن عاتقه فبقي جالسا متقلدا سيفا بغير رداء فدعا بفرسه فركبه وأحدق به طوائف من خاصته وشيعته ومنعوا منه من أراده ولاموه وضعفوه لما تكلم به فقال ادعوا إلي ربيعة وهمدان فدعوا له فأطافوا به ودفعوا الناس عنه ومعهم شوب من غيرهم فلما مر في مظلم ساباط قام إليه رجل من بني أسد ثم من بني نصر بن قعين يقال له جراح بن سنان وبيده معول فأخذ بلجام فرسه وقال الله أكبر يا حسن أشرك أبوك ثم أشركت أنت وطعنه بالمعول فوقعت في فخذه فشقته حتى بلغت أربيته وسقط الحسن ع إلى الأرض بعد أن ضرب الذي طعنه بسيف كان بيده واعتنقه فخرا جميعا إلى الأرض فوثب عبد الله بن الأخطل الطائي ونزع المعول من يد جراح بن سنان فخضخضه به وأكب ظبيان بن عمارة عليه فقطع أنفه ثم أخذا له الآجر فشدخا رأسه ووجهه حتى قتلوه .
[ 42 ](1/4454)
و حمل الحسن ع على سرير إلى المدائن وبها سعيد بن مسعود الثقفي واليا عليها من قبله وقد كان علي ع ولاه المدائن فأقره الحسن ع عليها فأقام عنده يعالج نفسه فأما معاوية فإنه وافى حتى نزل قرية يقال لها الحلوبية بمسكن وأقبل عبيد الله بن عباس حتى نزل بإزائه فلما كان من غد وجه معاوية بخيله إليه فخرج إليهم عبيد الله فيمن معه فضربهم حتى ردهم إلى معسكرهم فلما كان الليل أرسل معاوية إلى عبيد الله بن عباس أن الحسن قد راسلني في الصلح وهو مسلم الأمر إلي فإن دخلت في طاعتي الآن كنت متبوعا وإلا دخلت وأنت تابع ولك إن أجبتني الآن أن أعطيك ألف ألف درهم أعجل لك في هذا الوقت نصفها وإذا دخلت الكوفة النصف الآخر فانسل عبيد الله إليه ليلا فدخل عسكر معاوية فوفى له بما وعده وأصبح الناس ينتظرون عبيد الله أن يخرج فيصلي بهم فلم يخرج حتى أصبحوا فطلبوه فلم يجدوه فصلى بهم قيس بن سعد بن عبادة ثم خطبهم فثبتهم وذكر عبيد الله فنال منه ثم أمرهم بالصبر والنهوض إلى العدو فأجابوه بالطاعة وقالوا له انهض بنا إلى عدونا على اسم الله فنزل فنهض بهم . وخرج إليه بسر بن أرطاة فصاح إلى أهل العراق ويحكم هذا أميركم عندنا قد بايع وإمامكم الحسن قد صالح فعلام تقتلون أنفسكم .
[ 43 ](1/4455)
فقال لهم قيس بن سعد اختاروا إحدى اثنتين إما القتال مع غير إمام وإما أن تبايعوا بيعة ضلال فقالوا بل نقاتل بلا إمام فخرجوا فضربوا أهل الشام حتى ردوهم إلى مصافهم . فكتب معاوية إلى قيس بن سعد يدعوه ويمنيه فكتب إليه قيس لا والله لا تلقاني أبدا إلا بيني وبينك الرمح فكتب إليه معاوية حينئذ لما يئس منه أما بعد فإنك يهودي ابن يهودي تشقي نفسك وتقتلها فيما ليس لك فإن ظهر أحب الفريقين إليك نبذك وغدرك وإن ظهر أبغضهم إليك نكل بك وقتلك وقد كان أبوك أوتر غير قوسه ورمى غير غرضه فأكثر الحز وأخطأ المفصل فخذله قومه وأدركه يومه فمات بحوران طريدا غريبا والسلام . فكتب إليه قيس بن سعد أما بعد فإنما أنت وثن ابن وثن دخلت في الإسلام كرها وأقمت فيه فرقا وخرجت منه طوعا ولم يجعل الله لك فيه نصيبا لم يقدم إسلامك ولم يحدث نفاقك ولم تزل حربا لله ولرسوله وحزبا من أحزاب المشركين وعدوا لله ولنبيه وللمؤمنين من عباده وذكرت أبي فلعمري ما أوتر إلا قوسه ولا رمى إلا غرضه فشغب عليه من لا يشق غباره ولا يبلغ كعبه وزعمت أني يهودي ابن يهودي وقد علمت وعلم الناس أني وأبي أعداء الدين الذي خرجت منه وأنصار الدين الذي دخلت فيه وصرت إليه والسلام . فلما قرأ معاوية كتابه غاظه وأراد إجابته فقال له عمرو مهلا فإنك إن كاتبته أجابك بأشد من هذا وإن تركته دخل فيما دخل فيه الناس فأمسك عنه . قال وبعث معاوية عبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة إلى الحسن للصلح فدعواه
[ 44 ](1/4456)
إليه فزهداه في الأمر وأعطياه ما شرط له معاوية وألا يتبع أحد بما مضى ولا ينال أحد من شيعة علي بمكروه ولا يذكر علي إلا بخير وأشياء شرطها الحسن فأجاب إلى ذلك وانصرف قيس بن سعد فيمن معه إلى الكوفة وانصرف الحسن أيضا إليها وأقبل معاوية قاصدا نحو الكوفة واجتمع إلى الحسن ع وجوه الشيعة وأكابر أصحاب أمير المؤمنين ع يلومونه ويبكون إليه جزعا مما فعله
قال أبو الفرج فحدثني محمد بن أحمد بن عبيد قال حدثنا الفضل بن الحسن البصري قال حدثنا ابن عمرو قال حدثنا مكي بن إبراهيم قال حدثنا السري بن إسماعيل عن الشعبي عن سفيان بن أبي ليلى قال أبو الفرج وحدثني به أيضا محمد بن الحسين الأشنانداني وعلي بن العباس المقانعي عن عباد بن يعقوب عن عمرو بن ثابت عن الحسن بن الحكم عن عدي بن ثابت عن سفيان بن أبي ليلى قال أتيت الحسن بن علي حين بايع معاوية فوجدته بفناء داره وعنده رهط فقلت السلام عليك يا مذل المؤمنين قال وعليك السلام يا سفيان ونزلت فعقلت راحلتي ثم أتيته فجلست إليه فقال كيف قلت يا سفيان قلت السلام عليك يا مذل المؤمنين فقال لم جرى هذا منك إلينا قلت أنت والله بأبي وأمي أذللت رقابنا حيث أعطيت هذا الطاغية البيعة وسلمت الأمر إلى اللعين ابن آكلة الأكباد ومعك مائة ألف كلهم يموت دونك فقد جمع الله عليك أمر الناس فقال يا سفيان إنا أهل بيت إذا علمنا الحق تمسكنا به وإني سمعت عليا يقول سمعت رسول الله ص يقول لا تذهب الليالي والأيام حتى يجتمع أمر هذه الأمة على رجل واسع السرم
[ 45 ](1/4457)
ضخم البلعوم يأكل ولا يشبع لا ينظر الله إليه ولا يموت حتى لا يكون له في السماء عاذر ولا في الأرض ناصر وإنه لمعاوية وإني عرفت أن الله بالغ أمره ثم أذن المؤذن فقمنا على حالب نحلب ناقته فتناول الإناء فشرب قائما ثم سقاني وخرجنا نمشي إلى المسجد فقال لي ما جاء بك يا سفيان قلت حبكم والذي بعث محمدا بالهدى ودين الحق قال فأبشر يا سفيان فإني سمعت عليا يقول سمعت رسول الله ص يقول يرد علي الحوض أهل بيتي ومن أحبهم من أمتي كهاتين يعني السبابتين أو كهاتين يعني السبابة والوسطى إحداهما تفضل على الأخرى أبشر يا سفيان فإن الدنيا تسع البر والفاجر حتى يبعث الله إمام الحق من آل محمد ص . قلت قوله ولا في الأرض ناصر أي ناصر ديني أي لا يمكن أحدا أن ينتصر له بتأويل ديني يتكلف به عذرا لأفعاله القبيحة . فإن قلت قوله وإنه لمعاوية من الحديث المرفوع أو من كلام علي ع أو من كلام الحسن ع قلت الظاهر أنه من كلام الحسن ع فإنه قد غلب على ظنه أن معاوية صاحب هذه الصفات وإن كان القسمان الأولان غير ممتنعين . فإن قلت فمن هو إمام الحق من آل محمد قلت أما الإمامية فتزعم أنه صاحبهم الذي يعتقدون أنه الآن حي في الأرض وأما أصحابنا فيزعمون أنه فاطمي يخلقه الله في آخر الزمان .
[ 46 ](1/4458)
قال أبو الفرج وسار معاوية حتى نزل النخيلة وجمع الناس بها فخطبهم قبل أن يدخل الكوفة خطبة طويلة لم ينقلها أحد من الرواة تامة وجاءت منقطعة في الحديث وسنذكر ما انتهى إلينا منها . فأما الشعبي فإنه روى أنه قال في الخطبة ما اختلف أمر أمة بعد نبيها إلا وظهر أهل باطلها على أهل حقها ثم انتبه فندم فقال إلا هذه الأمة فإنها وإنها وأما أبو إسحاق السبيعي فقال إن معاوية قال في خطبته بالنخيلة ألا إن كل شي ء أعطيته الحسن بن علي تحت قدمي هاتين لا أفي به . قال أبو إسحاق وكان والله غدارا . وروى الأعمش عن عمرو بن مرة عن سعيد بن سويد قال صلى بنا معاوية بالنخيلة الجمعة ثم خطبنا فقال والله إني ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا إنكم لتفعلون ذلك وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون . قال وكان عبد الرحمن بن شريك إذا حدث بذلك يقول هذا والله هو التهتك .
قال أبو الفرج وحدثني أبو عبيد محمد بن أحمد قال حدثني الفضل بن الحسن البصري قال حدثني يحيى بن معين قال حدثني أبو حفص اللبان عن عبد الرحمن بن شريك عن إسماعيل بن أبي خالد عن حبيب بن أبي ثابت قال خطب معاوية بالكوفة حين دخلها والحسن والحسين ع جالسان تحت المنبر فذكر عليا ع
[ 47 ](1/4459)
فنال منه ثم نال من الحسن فقام الحسين ع ليرد عليه فأخذه الحسن بيده فأجلسه ثم قام فقال أيها الذاكر عليا أنا الحسن وأبي علي وأنت معاوية وأبوك صخر وأمي فاطمة وأمك هند وجدي رسول الله وجدك عتبة بن ربيعة وجدتي خديجة وجدتك قتيلة فلعن الله أخملنا ذكرا وألأمنا حسبا وشرنا قديما وحديثا وأقدمنا كفرا ونفاقا فقال طوائف من أهل المسجد آمين قال الفضل قال يحيى بن معين وأنا أقول آمين . قال أبو الفرج قال أبو عبيد قال الفضل وأنا أقول آمين ويقول علي بن الحسين الأصفهاني آمين . قلت ويقول عبد الحميد بن أبي الحديد مصنف هذا الكتاب آمين . قال أبو الفرج ودخل معاوية الكوفة بعد فراغه من خطبته بالنخيلة وبين يديه خالد ابن عرفطة ومعه حبيب بن حماد يحمل رايته فلما صار بالكوفة دخل المسجد من باب الفيل واجتمع الناس إليه .
قال أبو الفرج فحدثني أبو عبيد الصيرفي وأحمد بن عبيد الله بن عمار عن محمد بن علي بن خلف عن محمد بن عمرو الرازي عن مالك بن سعيد عن محمد بن عبد الله الليثي عن عطاء بن السائب عن أبيه قال بينما علي بن أبي طالب ع على منبر الكوفة إذ دخل رجل فقال يا أمير المؤمنين مات خالد بن عرفطة فقال لا والله ما مات ولا يموت حتى يدخل من باب المسجد وأشار إلى باب الفيل ومعه راية ضلالة يحملها حبيب بن حماد قال فوثب رجل فقال يا أمير المؤمنين أنا حبيب بن حماد وأنا لك شيعة فقال
[ 48 ](1/4460)
فإنه كما أقول فو الله لقد قدم خالد بن عرفطة على مقدمة معاوية يحمل رايته حبيب بن حماد : قال أبو الفرج وقال مالك بن سعيد وحدثني الأعمش بهذا الحديث قال حدثني صاحب هذه الدار وأشار إلى دار السائب أبي عطاء إنه سمع عليا ع يقول هذا . قال أبو الفرج فلما تم الصلح بين الحسن ومعاوية أرسل إلى قيس بن سعد يدعوه إلى البيعة فجاءه وكان رجلا طوالا يركب الفرس المشرف ورجلاه تخطان في الأرض وما في وجهه طاقة شعر وكان يسمى خصي الأنصار فلما أرادوا إدخاله إليه قال إني حلفت ألا ألقاه إلا وبيني وبينه الرمح أو السيف فأمر معاوية برمح وسيف فوضعا بينه وبينه ليبر يمينه . قال أبو الفرج وقد روي أن الحسن لما صالح معاوية اعتزل قيس بن سعد في أربعة آلاف فارس فأبى أن يبايع فلما بايع الحسن أدخل قيس ليبايع فأقبل على الحسن فقال أ في حل أنا من بيعتك فقال نعم فألقي له كرسي وجلس معاوية على سرير والحسن معه فقال له معاوية أ تبايع يا قيس قال نعم ووضع يده على فخذه ولم يمدها إلى معاوية فجاء معاوية من سريره وأكب على قيس حتى مسح يده على يده وما رفع إليه قيس يده .
[ 49 ]
قال أبو الفرج ثم إن معاوية أمر الحسن أن يخطب فظن أنه سيحصر فقام فخطب(1/4461)
فقال في خطبته إنما الخليفة من سار بكتاب الله وسنة نبيه وليس الخليفة من سار بالجور ذاك رجل ملك ملكا تمتع به قليلا ثم تنخمه تنقطع لذته وتبقى تبعته وَ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ قال وانصرف الحسن إلى المدينة فأقام بها وأراد معاوية البيعة لابنه يزيد فلم يكن عليه شي ء أثقل من أمر الحسن بن علي وسعد بن أبي وقاص فدس إليهما سما فماتا منه . قال أبو الفرج فحدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار عن عيسى بن مهران عن عبيد بن الصباح الخراز عن جرير عن مغيرة قال أرسل معاوية إلى بنت الأشعث بن قيس وهي تحت الحسن فقال لها إني مزوجك يزيد ابني على أن تسمي الحسن وبعث إليها بمائة ألف درهم ففعلت وسمت الحسن فسوغها المال ولم يزوجها منه فخلف عليها رجل من آل طلحة فأولدها فكان إذا وقع بينهم وبين بطون قريش كلام عيروهم وقالوا يا بني مسمة الأزواج . قال حدثني أحمد قال حدثني يحيى بن بكير عن شعبة عن أبي بكر بن حفص قال توفي الحسن بن علي وسعد بن أبي وقاص في أيام متقاربة وذلك بعد ما مضى من ولاية إمارة معاوية عشر سنين وكانوا يروون أنه سقاهما السم
قال أبو الفرج وحدثني أحمد بن عون عن عمران بن إسحاق قال كنت مع الحسن والحسين ع في الدار فدخل الحسن المخرج ثم خرج فقال لقد سقيت السم مرارا ما سقيت مثل هذه المرة لقد لفظت قطعة من كبدي فجعلت
[ 50 ]
أقلبها بعود معي فقال الحسين ومن سقاك قال وما تريد منه أ تريد أن تقتله إن يكن هو هو فالله أشد نقمة منك وإن لم يكن هو فما أحب أن يؤخذ بي بري ء . قال أبو الفرج دفن الحسن ع في قبر فاطمة بنت رسول الله ص في البقيع وقد كان أوصى أن يدفن مع النبي ص فمنع مروان بن الحكم من ذلك وركبت بنو أمية في السلاح وجعل مروان يقول
يا رب هيجا هي خير من دعه(1/4462)
يدفن عثمان في البقيع ويدفن الحسن في بيت النبي ص والله لا يكون ذلك أبدا وأنا أحمل السيف وكادت الفتنة تقع وأبى الحسين ع أن يدفنه إلا مع النبي ص فقال له عبد الله بن جعفر عزمت عليك يا أبا عبد الله بحقي ألا تكلم بكلمة فمضوا به إلى البقيع وانصرف مروان .
قال أبو الفرج وقد روى الزبير بن بكار أن الحسن ع أرسل إلى عائشة أن تأذن له أن يدفن مع النبي ص فقالت نعم فلما سمعت بنو أمية بذلك استلأموا في السلاح وتنادوا هم وبنو هاشم في القتال فبلغ ذلك الحسن فأرسل إلى بني هاشم أما إذا كان هذا فلا حاجة لي فيه ادفنوني إلى جنب أمي فدفن إلى جنب فاطمة ع . قال أبو الفرج فأما يحيى بن الحسن صاحب كتاب النسب فإنه روى أن عائشة
[ 51 ]
ركبت ذلك اليوم بغلا واستنفرت بنو أمية مروان بن الحكم ومن كان هناك منهم ومن حشمهم وهو قول القائل
فيوما على بغل ويوما على جمل
قلت وليس في رواية يحيى بن الحسن ما يؤخذ على عائشة لأنه لم يرو أنها استنفرت الناس لما ركبت البغل وإنما المستنفرون هم بنو أمية ويجوز أن تكون عائشة ركبت لتسكين الفتنة لا سيما وقد روي عنها أنه لما طلب منها الدفن قالت نعم فهذه الحال والقصة منقبة من مناقب عائشة .(1/4463)
قال أبو الفرج وقال جويرية بن أسماء لما مات الحسن وأخرجوا جنازته جاء مروان حتى دخل تحته فحمل سريره فقال له الحسين ع أ تحمل اليوم سريره وبالأمس كنت تجرعه الغيظ قال مروان كنت أفعل ذلك بمن يوازن حلمه الجبال . قال وقدم الحسين ع للصلاة عليه سعيد بن العاص وهو يومئذ أمير المدينة وقال تقدم فلو لا أنها سنة لما قدمتك . قال قيل لأبي إسحاق السبيعي متى ذل الناس فقال حين مات الحسن وادعي زياد وقتل حجر بن عدي . قال اختلف الناس في سن الحسن ع وقت وفاته فقيل ابن ثمان وأربعين وهو المروي عن جعفر بن محمد ع في رواية هشام بن سالم وقيل ابن ست وأربعين وهو المروي أيضا عن جعفر بن محمد ع في رواية أبي بصير .
[ 52 ]
قال وفي الحسن ع يقول سليمان بن قتة يرثيه وكان محبا له
يا كذب الله من نعى حسنا
ليس لتكذيب نعيه ثمن
كنت خليلي وكنت خالصتي
لكل حي من أهله سكن
أجول في الدار لا أراك وفي
الدار أناس جوارهم غبن
بدلتهم منك ليت أنهم
أضحوا وبيني وبينهم عدن(1/4464)
ثم نرجع إلى تفسير ألفاظ الفصل أما قوله كتبها إليه بحاضرين فالذي كنا نقرؤه قديما كتبها إليه بالحاضرين على صيغة التثنية يعني حاضر حلب وحاضر قنسرين وهي الأرباض والضواحي المحيطة بهذه البلاد ثم قرأناه بعد ذلك على جماعة من الشيوخ بغير لام ولم يفسروه ومنهم من يذكره بصيغة الجمع لا بصيغة التثنية ومنهم من يقول بخناصرين يظنونه تثنية خناصرة أو جمعها وقد طلبت هذه الكلمة في الكتب المصنفة سيما في البلاد والأرضين فلم أجدها ولعلي أظفر بها فيما بعد فألحقها في هذا الموضع . قوله من الوالد الفان حذف الياء ها هنا للازدواج بين الفان والزمان ولأنه وقف وفي الوقف على المنقوص يجوز مع اللام حذف الياء وإثباتها والإثبات هو الوجه ومع عدم اللام يجوز الأمران وإسقاط الياء هو الوجه . قوله المقر للزمان أي المقر له بالغلبة كأنه جعل نفسه فيما مضى خصما للزمان بالقهر . قوله المدبر العمر لأنه كان قد جاوز الستين ولم يبق بعد مجاوزة الستين إلا إدبار العمر لأنها نصف العمر الطبيعي الذي قل أن يبلغه أحد فعلى تقدير أنه
[ 53 ](1/4465)
يبلغه فكل ما بعد الستين أقل مما مضى فلا جرم يكون العمر قد أدبر . قوله المستسلم للدهر هذا آكد من قوله المقر للزمان لأنه قد يقر الإنسان لخصمه ولا يستسلم . قوله الذام للدنيا هذا وصف لم يستحدثه عند الكبر بل لم يزل عليه ولكن يجوز أن يزيد ذمه لها لأن الشيخ تنقص قواه التي يستعين بها على الدنيا والدين جميعا ولا يزال يتأفف من الدنيا . قوله الساكن مساكن الموتى إشعار بأنه سيموت وهذا من قوله تعالى وَ سَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ . قوله الظاعن عنها غدا لا يريد الغد بعينه بل يريد قرب الرحيل والظعن . وهذا الكلام من أمير المؤمنين ع كلام من قد أيقن بالفراق ولا ريب في ظهور الاستكانة والخضوع عليه ويدل أيضا على كرب وضيق عطن لكونه لم يبلغ أربه من حرب أهل الشام وانعكس ما قدره بتخاذل أصحابه عنه ونفوذ حكم عمرو بن العاص فيه لحمق أبي موسى وغباوته وانحرافه أيضا . قوله إلى المولود هذه اللفظة بإزاء الوالد . قوله المؤمل ما لا يدرك لو قال قائل إنه كنى بذلك عن أنه لا ينال الخلافة بعد موتي وإن كان مؤملا لها لم يبعد ويكون ذلك إخبارا عن غيب ولكن الأظهر أنه لم يرد ذلك إنما أراد جنس البشر لا خصوص الحسن وكذلك سائر الأوصاف التي تلي هذه اللفظة لا تخص الحسن ع بعينه بل هي وإن كانت له في الظاهر بل هي للناس كلهم في الحقيقة أ لا ترى إلى قوله بعدها السالك سبيل من قد هلك فإن كل واحد من الناس يؤمل أمورا لا يدركها وكل واحد من الناس سألك سبيل من هلك قبله .
[ 54 ]
قوله ع غرض الأسقام لأن الإنسان كالهدف لآفات الدنيا وأعراضها . قوله ع ورهينة الأيام الرهينة هاهنا المهزول يقال إنه لرهن وإنه لرهينة إذا كان مهزولا بالياء قال الراجز
أما ترى جسمي خلاء قد رهن
هزلا وما مجد الرجال في السمن(1/4466)
و يجوز أن يريد بالرهينة واحدة الرهائن يقال للأسير أو للزمن أو للعاجز عند الرحيل أنه لرهينة وذلك لأن الرهائن محتبسة عند مرتهنها . قوله ورمية المصائب الرمية ما يرمى . قوله وعبد الدنيا وتاجر الغرور وغريم المنايا لأن الإنسان طوع شهواته فهو عبد الدنيا وحركاته فيها مبنية على غرور لا أصل له فهو تاجر الغرور لا محالة ولما كانت المنايا تطالبه بالرحيل عن هذه الدار كانت غريما له يقتضيه ما لا بد له من أدائه . قوله وأسير الموت وحليف الهموم وقرين الأحزان ونصب الآفات وسريع الشهوات لما كان الإنسان مع الموت كما قال طرفة
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى
لكالطول المرخى وثنياه باليد
كان أسيرا له لا محالة ولما كان لا بد لكل إنسان من الهم كان حليف الهموم وكذلك لا يخلو ولا ينفك من الحزن فكان قرينا له ولما كان معرضا للآفات كان نصبا لها ولما كان إنما يهلك بشهواته كان صريعا لها . قوله وخليفة الأموات قد أخذه من قال إن أمرا ليس بينه وبين آدم إلا أب ميت لمعرق في الموت . واعلم أنه عد من صفات نفسه سبعا وعد من صفات ولده أربع عشرة صفة فجعل
[ 55 ]
بإزاء كل واحدة مما له اثنتين فليلمح ذلك(1/4467)
بعض ما قيل من الشعر في الدهر وفعله بالإنسان
و من جيد ما نعى به شاعر نفسه ووصف ما نقص الدهر من قواه قول عوف بن محلم الشيباني في عبد الله بن طاهر أمير خراسان
يا ابن الذي دان له المشرقان
و ألبس الأمن به المغربان
إن الثمانين وبلغتها
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
و بدلتني بالشطاط انحنا
و كنت كالصعدة تحت السنان
و قاربت مني خطا لم تكن
مقاربات وثنت من عنان
و عوضتني من زماع الفتى
و همه هم الجبان الهدان
و أنشأت بيني وبين الورى
عنانة من غير نسج العنان
و لم تدع في لمستمتع
إلا لساني وكفاني لسان
أدعو به الله وأثني به
على الأمير المصعبي الهجان
[ 56 ]
و من الشعر القديم الجيد في هذا المعنى قول سالم بن عونة الضبي
لا يبعدن عصر الشباب ولا
لذاته ونباته النضر
و المشرفات من الخدور كإيماض
الغمام يجوز بالقطر
و طراد خيل مثلها التقتا
لحفيظة ومقاعد الخمر
لو لا أولئك ما حلفت متى
عوليت في خرج إلى قبري
هربت زبيبة أن رأت ثرمي
و أن انحنى لتقادم ظهري
من بعد ما عهدت فأدلفني
يوم يمر وليلة تسري
حتى كأني خاتل قنصا
و المرء بعد تمامه يجري
لا تهزئي مني زبيب فما
في ذاك من عجب ولا سخر
أ ولم تري لقمان أهلكه
ما اقتات من سنة ومن شهر
و بقاء نسر كلما انقرضت
أيامه عادت إلى نسر
ما طال من أمد على لبد
رجعت محارته إلى قصر
و لقد حلبت الدهر أشطره
و علمت ما آتي من الأمر
أنا أستفصح قوله ما اقتات من سنة ومن شهر جعل الزمان كالقوت له ومن اقتات الشي ء فقد أكله والأكل سبب المرض والمرض سبب الهلاك
[ 57 ](1/4468)
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ فِيمَا تَبَيَّنْتُ مِنْ إِدْبَارِ اَلدُّنْيَا عَنِّي وَ جُمُوحِ اَلدَّهْرِ عَلَيَّ وَ إِقْبَالِ اَلآْخِرَةِ إِلَيَّ مَا يَزَعُنِي عَنْ ذِكْرِ مَنْ سِوَايَ وَ اَلاِهْتِمَامِ بِمَا وَرَائِي غَيْرَ أَنِّي حَيْثُ تَفَرَّدَ بِي دُونَ هُمُومِ اَلنَّاسِ هَمُّ نَفْسِي فَصَدَّقَنِي فَصَدَفَنِي رَأْيِي وَ صَرَفَنِي عَنْ هَوَايَ وَ صَرَّحَ لِي مَحْضُ أَمْرِي فَأَفْضَى بِي إِلَى جَدٍّ لاَ يَكُونُ فِيهِ لَعِبٌ وَ صِدْقٍ لاَ يَشُوبُهُ كَذِبٌ وَجَدْتُكَ بَعْضِي بَلْ وَجَدْتُكَ كُلِّي حَتَّى كَأَنَّ شَيْئاً لَوْ أَصَابَكَ أَصَابَنِي وَ كَأَنَّ اَلْمَوْتَ لَوْ أَتَاكَ أَتَانِي فَعَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِينِي مِنْ أَمْرِ نَفْسِي فَكَتَبْتُ إِلَيْكَ كِتَابِي هَذَا مُسْتَظْهِراً بِهِ إِنْ أَنَا بَقِيتُ لَكَ أَوْ فَنِيتُ يزعني يكفني ويصدني وزعت فلانا ولا بد للناس من وزعة . وسوى لفظة تقصر إذا كسرت سينها وتمد إذا فتحتها وهي هاهنا بمعنى غير ومن قبلها بمعنى شي ء منكر كقوله
رب من أنضجت غيظا قلبه
و التقدير غير ذكر إنسان سواي ويجوز أن تكون من موصولة وقد حذف أحد جزأي الصلة والتقدير عن ذكر الذي هو غيري كما قالوا في لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ أي هو أشد يقول ع إن فيما قد بان لي من تنكر الوقت وإدبار الدنيا وإقبال الآخرة شاغلا لي عن الاهتمام بأحد غيري والاهتمام والفكر في أمر الولد وغيره ممن أخلفه ورائي .
[ 58 ](1/4469)
ثم عاد فقال ألا إن همي بنفسي يقتضي اهتمامي بك لأنك بعضي بل كلي فإن كان اهتمامي بنفسي يصرفني عن غيري لم تكن أنت داخلا في جملة من يصرفني همي بنفسي عنهم لأنك لست غيري . فإن قلت أ فهذا الهم حدث لأمير المؤمنين ع الآن أو من قبل لم يكن عالما بأن الدنيا مدبرة والآخرة مقبلة . قلت كلا بل لم يزل عالما عارفا بذلك ولكنه الآن تأكد وقوي بطريق علو السن وضعف القوى وهذا أمر يحصل للإنسان على سبيل الإيجاب لا بد من حصوله لكل أحد وإن كان عالما بالحال من قبل ولكن ليس العيان كالخبر . ومن مستحسن ما قيل في هذا المعنى قول أبي إسحاق الصابئ
أقيك الردى إني تنبهت من كرى
و سهو على طول المدى اعترياني
فأثبت شخصا دانيا كان خافيا
على البعد حتى صار نصب عياني
هو الأجل المحتوم لي جد جده
و كان يريني غفلة المتواني
له نذر قد آذنتني بهجمة
له لست منها آخذا بأمان
و لا بد منه ممهلا أو معاجلا
سيأتي فلا يثنيه عني ثان
و أول هذه القصيدة وهو داخل له في هذا المعنى أيضا
إذا ما تعدت بي وسارت محفة
لها أرجل يسعى بها رجلان
و ما كنت من فرسانها غير أنها
وفت لي لما خانت القدمان
نزلت إليها عن سراة حصاني
بحكم مشيب أو فراش حصان
فقد حملت مني ابن سبعين سالكا
سبيلا عليها يسلك الثقلان
[ 59 ]
كما حمل المهد الصبي وقبلها
ذعرت أسود الغيل بالنزوان
و لي بعدها أخرى تسمى جنازة
جنيبة يوم للمنية دان
تسير على أقدام أربعة إلى
ديار البلى معدودهن ثمان
و إني على عيث الردى في جوارحي
و ما كف من خطوي وبطش بناني
و إن لم يدع إلا فؤادا مروعا
به غير باق من الحدثان
تلوم تحت الحجب ينفث حكمه
إلى أذن تصغي لنطق لسان
لأعلم أني ميت عاق دفنه
ذماء قليل في غد هو فان
و إن فما للأرض غرثان حائما
يراصد من أكلي حضور أوان
به شره عم الورى بفجائع
تركن فلانا ثاكلا لفلان
غدا فاغرا يشكو الطوى وهو راتع
فما تلتقي يوما له الشفتان
إذا عاضنا بالنسل ممن نعوله(1/4470)
تلا أولا منه بمهلك ثان
إلى ذات يوم لا ترى الأرض وارثا
سوى الله من إنس تراه وجان
قوله تفرد بي دون هموم الناس هم نفسي أي دون الهموم التي قد كانت تعتريني لأجل أحوال الناس . فصدقني رأيي يقال صدقته كذا أي عن كذا وفي المثل صدقني سن بكره لأنه لما نفر قال له هدع وهي كلمة تسكن بها صغار الإبل إذا نفرت والمعنى أن هذا الهم صدقني عن الصفة التي يجب أن يكون رأيي عليها وتلك الصفة هي ألا يفكر في
[ 60 ]
أمر شي ء من الموجودات أصلا إلا الله تعالى ونفسه وفوق هذه الطبقة طبقة أخرى جدا وهي ألا تفكر في شي ء قط إلا في الله وحده وفوق هذه الطبقة طبقة أخرى تجل عن الذكر والتفسير ولا تصلح لأحد من المخلوقين إلا النادر الشاذ وقد ذكرها هو فيما سبق وهو ألا يفكر في شي ء أصلا لا في المخلوق ولا في الخالق لأنه قد قارب أن يتحد بالخالق ويستغني عن الفكر فيه . قوله وصرفني عن هواي أي عن هواي وفكري في تدبير الخلافة وسياسة الرعية والقيام بما يقوم به الأئمة . قوله ع وصرح لي محض أمري يروى بنصب محض ورفعه فمن نصب فتقديره عن محض أمري فلما حذف الجار نصب ومن رفع جعله فاعلا وصرح كشف أو انكشف . قوله فأفضى بي إلى كذا ليس بمعنى أنه قد كان من قبل يمازج جده باللعب بل المعنى أن همومه الأولى قد كانت بحيث يمكن أن يتخللها وقت راحة أو دعابة لا يخرج بها عن الحق كما كان رسول الله ص يمزح ولا يقول إلا حقا فالآن قد حدث عنده هم لا يمكن أن يتخلله من ذلك شي ء أصلا ومدار الفرق بين الحالتين أعني الأولى والثانية على إمكان اللعب لا نفس اللعب وما يلزم من قوله أفضى لك بي هذا الهم إلى انتفاء إمكان اللعب أن تكون همومه الأولى قد كان يمازجها اللعب ولكن يلزم من ذلك أنها قد كانت يمكن ذلك فيها إمكانا محضا على أن اللعب غير منكر إذا لم يكن باطلا أ لا ترى إلى
قول النبي ص المؤمن دعب لعب وكذلك القول في(1/4471)
قوله وصدق لا يشوبه كذب أي لا يمكن أن يشوبه كذب وليس المراد بالصدق والكذب هاهنا مفهومهما المشهورين بل هو من قولهم صدقونا اللقاء ومن قولهم حمل عليهم فما كذب قال زهير
[ 61 ]
ليث بعثر يصطاد الليوث إذا
ما كذب الليث عن أقرانه صدقا
أي أفضى بي هذا الهم إلى أن صدقتني الدنيا حربها كأنه جعل نفسه محاربا للدنيا أي صدقتني الدنيا حربها ولم تكذب أي لم تجبن ولم تخن . أخبر عن شدة اتحاد ولده به فقال وجدتك بعضي قال الشاعر
و إنما أولادنا بيننا
أكبادنا تمشي على الأرض
لو هبت الريح على بعضهم
لامتنعت عيني من الغمض
و غضب معاوية على ابنه يزيد فهجره فاستعطفه له الأحنف قال له يا أمير المؤمنين أولادنا ثمار قلوبنا وعماد ظهورنا ونحن لهم سماء ظليلة وأرض ذليلة فإن غضبوا فأرضهم وإن سألوا فأعطهم فلا تكن عليهم قفلا فيملوا حياتك ويتمنوا موتك . وقيل لابنة الخس أي ولديك أحب إليك قالت الصغير حتى يكبر والمريض حتى يبرأ والغائب حتى يقدم . غضب الطرماح على امرأته فشفع فيها ولده منها صمصام وهو غلام لم يبلغ عشرا فقال الطرماح
أ صمصام إن تشفع لأمك تلقها
لها شافع في الصدر لم يتزحزح
هل الحب إلا أنها لو تعرضت
لذبحك يا صمصام قلت لها اذبحي
أحاذر يا صمصام إن مت أن يلي
تراثي وإياك امرؤ غير مصلح
إذا صك وسط القوم رأسك صكة
يقول له الناهي ملكت فأسجح
و
في الحديث المرفوع إن ريح الولد من ريح الجنة
[ 62 ]
و
في الحديث الصحيح أنه قال لحسن وحسين ع إنكم لتجبنون وإنكم لتبخلون وإنكم لمن ريحان الله . ومن ترقيص الأعراب قول أعرابية لولدها
يا حبذا ريح الولد
ريح الخزامى في البلد
أ هكذا كل ولد
أم لم يلد قبلي أحد
و
في الحديث المرفوع من كان له صبي فليستصب له . وأنشد الرياشي
من سره الدهر أن يرى الكبدا
يمشي على الأرض فلير الولدا(1/4472)
فَإِنِّي أُوصِيكَ بِتَقْوَى اَللَّهِ أَيُّ بُنَيَّ وَ لُزُومِ أَمْرِهِ وَ عِمَارَةِ قَلْبِكَ بِذِكْرِهِ وَ اَلاِعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ وَ أَيُّ سَبَبٍ أَوْثَقُ مِنْ سَبَبٍ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اَللَّهِ إِنْ أَنْتَ أَخَذْتَ بِهِ أَحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ وَ أَمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ وَ قَوِّهِ بِالْيَقِينِ وَ نَوِّرْهُ بِالْحِكْمَةِ وَ ذَلِّلْهُ بِذِكْرِ اَلْمَوْتِ وَ قَرِّرْهُ بِالْفَنَاءِ وَ بَصِّرْهُ فَجَائِعَ اَلدُّنْيَا وَ حَذِّرْهُ صَوْلَةَ اَلدَّهْرِ وَ فُحْشَ تَقَلُّبِ اَللَّيَالِي وَ اَلْأَيَّامِ وَ اِعْرِضْ عَلَيْهِ أَخْبَارَ اَلْمَاضِينَ وَ ذَكِّرْهُ بِمَا أَصَابَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ اَلْأَوَّلِينَ وَ سِرْ فِي دِيَارِهِمْ وَ آثَارِهِمْ فَانْظُرْ فِيمَا فَعَلُوا وَ عَمَّا اِنْتَقَلُوا وَ أَيْنَ حَلُّوا وَ نَزَلُوا فَإِنَّكَ تَجِدُهُمْ قَدِ اِنْتَقَلُوا عَنِ اَلْأَحِبَّةِ وَ حَلُّوا دَارَ دِيَارَ اَلْغُرْبَةِ وَ كَأَنَّكَ عَنْ قَلِيلٍ قَدْ صِرْتَ كَأَحَدِهِمْ
[ 63 ]
فَأَصْلِحْ مَثْوَاكَ وَ لاَ تَبِعْ آخِرَتَكَ بِدُنْيَاكَ وَ دَعِ اَلْقَوْلَ فِيمَا لاَ تَعْرِفُ وَ اَلْخِطَابَ فِيمَا لَمْ تُكَلَّفْ وَ أَمْسِكْ عَنْ طَرِيقٍ إِذَا خِفْتَ ضَلاَلَتَهُ فَإِنَّ اَلْكَفَّ عِنْدَ حَيْرَةِ اَلضَّلاَلِ خَيْرٌ مِنْ رُكُوبِ اَلْأَهْوَالِ قوله ع وأي سبب أوثق إشارة إلى القرآن لأنه هو المعبر عنه بقوله تعالى وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا . ثم أتى بلفظتين متقابلتين وذلك من لطيف الصنعة فقال أحي قلبك بالموعظة وأمته بالزهادة والمراد إحياء دواعيه إلى الطاعة وإماتة الشهوات عنه . قوله ع واعرض عليه أخبار الماضين معنى قد تداوله الناس قال الشاعر
سل عن الماضين إن نطقت
عنهم الأجداث والترك
أي دار للبلى نزلوا
و سبيل للردي سلكوا(1/4473)
قوله ع ودع القول فيما لا تعرف
من قول رسول الله ص لعبد الله بن عمرو بن العاص يا عبد الله كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس مرجت عهودهم وأماناتهم وصار الناس هكذا وشبك بين أصابعه قال عبد الله فقلت مرني يا رسول الله فقال خذ ما تعرف ودع ما لا تعرف وعليك بخويصة نفسك .
[ 64 ]
قوله والخطاب فيما لم تكلف
من قول رسول الله ص من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه وقال معاوية في عبد الملك بن مروان وهو حينئذ غلام إن لهذا الغلام لهمة وإنه مع ذلك تارك لثلاث آخذ بثلاث تارك مساءة الصديق جدا وهزلا تارك ما لا يعنيه تارك ما لا يعتذر منه آخذ بأحسن الحديث إذا حدث وبأحسن الاستماع إذا حدث وبأهون الأمرين إذا خولف . قوله ع وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته مأخوذ من
قول النبي ص دع ما يريبك إلى ما لا يريبك و
في خبر آخر إذا رابك أمر فدعه : وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ تَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ وَ أَنْكِرِ اَلْمُنْكَرَ بِيَدِكَ وَ لِسَانِكَ وَ بَايِنْ مَنْ فَعَلَهُ بِجُهْدِكَ وَ جَاهِدْ فِي اَللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ وَ لاَ تَأْخُذْكَ فِي اَللَّهِ لَوْمَةُ لاَئِمٍ وَ خُضِ اَلْغَمَرَاتِ إِلَى اَلْحَقِّ لِلْحَقِّ حَيْثُ كَانَ وَ تَفَقَّهْ فِي اَلدِّينِ وَ عَوِّدْ نَفْسَكَ اَلصَّبْرَ اَلتَّصَبُّرَ عَلَى اَلْمَكْرُوهِ وَ نِعْمَ اَلْخُلُقُ اَلتَّصَبُرُ فِي اَلْحَقِّ وَ أَلْجِئْ نَفْسَكَ فِي أُمُورِكَ كُلِّهَا إِلَى إِلَهِكَ فَإِنَّكَ تُلْجِئُهَا إِلَى كَهْفٍ حَرِيزٍ وَ مَانِعٍ عَزِيزٍ وَ أَخْلِصْ فِي اَلْمَسْأَلَةِ لِرَبِّكَ فَإِنَّ بِيَدِهِ اَلْعَطَاءَ وَ اَلْحِرْمَانَ وَ أَكْثِرِ اَلاِسْتِخَارَةَ وَ تَفَهَّمْ وَصِيَّتِي وَ لاَ تَذْهَبَنَّ عَنْكَ صَفْحاً فَإِنَّ خَيْرَ اَلْقَوْلِ مَا نَفَعَ وَ اِعْلَمْ أَنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ وَ لاَ يُنْتَفَعُ بِعِلْمٍ لاَ يَحِقُّ تَعَلُّمُهُ
[ 65 ](1/4474)
أمره يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهما واجبان عندنا وأحد الأصول الخمسة التي هي أصول الدين . ومعنى قوله تكن من أهله لأن أهل المعروف هم الأبرار الصالحون ويجب إنكار المنكر باللسان فإن لم ينجع فباليد وتفصيل ذلك وترتيبه مذكور في كتبي الكلامية . قوله وخض الغمرات إلى الحق لا شبهة أن الحسن ع لو تمكن لخاضها إلا أن من فقد الأنصار لا حيلة له .
و هل ينهض البازي بغير جناح
و الذي خاضها مع عدم الأنصار هو الحسين ع ولهذا عظم عند الناس قدره فقدمه قوم كثير على الحسن ع فإن قلت فما قول أصحابكم في ذلك قلت هما عندنا في الفضيلة سيان أما الحسن فلوقوفه مع قوله تعالى إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا وأما الحسين فلإعزاز الدين . قوله فنعم التصبر قد تقدم منا كلام شاف في الصبر . وقوله وأكثر الاستخارة ليس يعني بها ما يفعله اليوم قوم من الناس من سطر رقاع وجعلها في بنادق وإنما المراد أمره إياه بأن يطلب الخيرة من الله فيما يأتي ويذر . قوله لا خير في علم لا ينفع قول حق لأنه إذا لم ينفع كان عبثا .
[ 66 ](1/4475)
قوله ولا ينتفع بعلم لا يحق تعلمه أي لا يجب ولا يندب إليه وذلك لأن النفع إنما هو نفع الآخرة فما لم يكن من العلوم مرغبا فيه إما بإيجاب أو ندب فلا انتفاع به في الآخرة وذلك كعلم الهندسة والأرثماطيقي ونحوهما : أَيْ بُنَيَّ إِنِّي لَمَّا رَأَيْتُنِي قَدْ بَلَغْتُ سِنّاً وَ رَأَيْتُنِي أَزْدَادُ وَهْناً بَادَرْتُ بِوَصِيَّتِي إِلَيْكَ وَ أَوْرَدْتُ خِصَالاً مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يَعْجَلَ بِي أَجَلِي دُونَ أَنْ أُفْضِيَ إِلَيْكَ بِمَا فِي نَفْسِي أَوْ أَنْ أُنْقَصَ فِي رَأْيِي كَمَا نُقِصْتُ فِي جِسْمِي أَوْ يَسْبِقَنِي إِلَيْكَ بَعْضُ غَلَبَاتِ اَلْهَوَى وَ فِتَنِ اَلدُّنْيَا فَتَكُونَ كَالصَّعْبِ اَلنَّفُورِ وَ إِنَّمَا قَلْبُ اَلْحَدَثِ كَالْأَرْضِ اَلْخَالِيَةِ مَا أُلْقِيَ فِيهَا مِنْ شَيْ ءٍ قَبِلَتْهُ فَبَادَرْتُكَ بِالْأَدَبِ قَبْلَ أَنْ يَقْسُوَ قَلْبُكَ وَ يَشْتَغِلَ لُبُّكَ لِتَسْتَقْبِلَ بِجِدِّ رَأْيِكَ مِنَ اَلْأَمْرِ مَا قَدْ كَفَاكَ أَهْلُ اَلتَّجَارِبِ بُغْيَتَهُ وَ تَجْرِبَتَهُ فَتَكُونَ قَدْ كُفِيتَ مَئُونَةَ اَلطَّلَبِ وَ عُوفِيتَ مِنْ عِلاَجِ اَلتَّجْرِبَةِ فَأَتَاكَ مِنْ ذَلِكَ مَا قَدْ كُنَّا نَأْتِيهِ وَ اِسْتَبَانَ لَكَ مَا رُبَّمَا أَظْلَمَ عَلَيْنَا مِنْهُ هذه الوصية كتبها ع للحسن بعد أن تجاوز الستين وروي أنه ذكر عند رسول الله ص ما بين الستين والسبعين فقال معترك المنايا . قوله ع أو أن أنقص في رأيي هذا يدل على بطلان قول من قال إنه لا يجوز أن ينقص في رأيه وأن الإمام معصوم عن أمثال ذلك وكذلك قوله
[ 67 ](1/4476)
للحسن أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى وفتن الدنيا يدل على أن الإمام لا يجب أن يعصم عن غلبات الهوى ولا عن فتن الدنيا . قوله فتكون كالصعب النفور أي كالبعير الصعب الذي لا يمكن راكبا وهو مع ذلك نفور عن الأنس . ثم ذكر أن التعلم إنما هو في الصبا وفي المثل الغلام كالطين يقبل الختم ما دام رطبا . وقال الشاعر
اختم وطينك رطب إن قدرت فكم
قد أمكن الختم أقواما فما ختموا
و مثل هو ع قلب الحدث بالأرض الخالية ما ألقي فيها من شي ء قبلته وكان يقال التعلم في الصغر كالنقش في الحجر والتعلم في الكبر كالخط على الماء . قوله فأتاك من ذلك ما كنا نأتيه أي الذي كنا نحن نتجشم المشقة في اكتسابه ونتكلف طلبه يأتيك أنت الآن صفوا عفوا : أَيْ بُنَيَّ إِنِّي وَ إِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ وَ فَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ وَ سِرْتُ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ بَلْ كَأَنِّي بِمَا اِنْتَهَى إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذَلِكَ مِنْ كَدَرِهِ وَ نَفْعَهُ مِنْ ضَرَرِهِ فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ جَلِيلَهُ نَخِيلَهُ وَ تَوَخَّيْتُ لَكَ
[ 68 ](1/4477)
جَمِيلَهُ وَ صَرَفْتُ عَنْكَ مَجْهُولَهُ وَ رَأَيْتُ حَيْثُ عَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِي اَلْوَالِدَ اَلشَّفِيقَ وَ أَجْمَعْتُ عَلَيْهِ مِنْ أَدَبِكَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَ أَنْتَ مُقْبِلُ اَلْعُمُرِ وَ مُقْتَبَلُ اَلدَّهْرِ ذُو نِيَّةٍ سَلِيمَةٍ وَ نَفْسٍ صَافِيَةٍ وَ أَنْ أَبْتَدِئَكَ بِتَعْلِيمِ كِتَابِ اَللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَ تَأْوِيلِهِ وَ شَرَائِعِ اَلْإِسْلاَمِ وَ أَحْكَامِهِ وَ حَلاَلِهِ وَ حَرَامِهِ لاَ أُجَاوِزُ ذَلِكَ بِكَ إِلَى غَيْرِهِ ثُمَّ أَشْفَقْتُ أَنْ يَلْتَبِسَ عَلَيْكَ مَا اِخْتَلَفَ اَلنَّاسُ فِيهِ مِنْ أَهْوَائِهِمْ وَ آرَائِهِمْ مِثْلَ اَلَّذِي اِلْتَبَسَ عَلَيْهِمْ فَكَانَ إِحْكَامُ ذَلِكَ عَلَى مَا كَرِهْتُ مِنْ تَنْبِيهِكَ لَهُ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ إِسْلاَمِكَ إِلَى أَمْرٍ لاَ آمَنُ عَلَيْكَ فِيهِ بِهِ اَلْهَلَكَةَ وَ رَجَوْتُ أَنْ يُوَفِّقَكَ اَللَّهُ فِيهِ لِرُشْدِكَ وَ أَنْ يَهْدِيَكَ لِقَصْدِكَ فَعَهِدْتُ إِلَيْكَ وَصِيَّتِي هَذِهِ هذا الفصل وما بعده يشعر بالنهي عن علم الكلام حسب ما يقتضيه ظاهر لفظه أ لا تراه قال له كنت عازما على أن أعلمك القرآن وتفسيره والفقه وهو المعرفة بأحكام الشريعة ولا أجاوز ذلك بك إلى غيره ثم خفت أن تدخل عليك شبهة في أصول الدين فيلتبس عليك في عقيدتك الأصلية ما التبس على غيرك من الناس فعدلت عن العزم الأول إلى أن أوصيك بوصايا تتعلق بأصول الدين . ومعنى قوله ع وكان إحكام ذلك إلى قوله لا آمن عليك به الهلكة أي فكان إحكامي الأمور الأصلية عندك وتقرير الوصية التي أوصيك بها في ذهنك فيما رجع إلى النظر في العلوم الإلهية وإن كنت كارها للخوض معك
[ 69 ](1/4478)
فيه وتنبيهك عليه أحب إلي من أن أتركك سدى مهملا تتلاعب بك الشبه وتعتورك الشكوك في أصول دينك فربما أفضى ذلك بك إلى الهلكة . فإن قلت فلما ذا كان كارها تنبيه ولده على ذلك وأنتم تقولون إن معرفة الله واجبة على المكلفين وليس يليق بأمير المؤمنين أن يكره ما أوجبه الله تعالى قلت لعله علم إما من طريق وصية رسول الله ص أو من طريق معرفته بما يصلح أن يكون لطفا لولده ومعرفته بما يكون مفسدة له لكثرة التجربة له وطول الممارسة لأخلاقه وطباعه أن الأصلح له ألا يخوض في علم الكلام الخوض الكلي وأن يقتنع بالمبادئ والجمل فمصالح البشر تختلف فرب إنسان مصلحته في أمر ذلك الأمر بعينه مفسدة لغيره ونحن وإن أوجبنا المعرفة فلم نوجب منها إلا الأمور المجملة وأما التفصيلات الدقيقة الغامضة فلا تجب إلا عند ورود الشبهة فإذا لم تقع الشبهة في نفس المكلف لم يجب عليه الخوض في التفصيلات . قوله ع قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم العين مفتوحة والميم مكسورة مخففة تقول عمر الرجل يعمر عمرا وعمرا على غير قياس لأن قياس مصدره التحريك أي عاش زمانا طويلا واستعمل في القسم أحدهما فقط وهو المفتوح . قوله ع حيث عناني من أمرك أي أهمني قال
عناني من صدودك ما عنا
قوله وأجمعت عليه أي عزمت . ومقتبل الدهر يقال اقتبل الغلام فهو مقتبل بالفتح وهو من الشواذ ومثله أحصن الرجل إذا تزوج فهو محصن وإذا عف فمحصن أيضا وأسهب إذا أطال الحديث فهو مسهب وألفج إذا افتقر فهو ملفج وينبغي أن يكون له من قوله تنبيهك له بمعنى
[ 70 ](1/4479)
عليه أو تكون على أصلها أي ما كرهت تنبيهك لأجله . فإن قلت إلى الآن ما فسرت لما ذا كره تنبيهه على هذا الفن قلت بلى قد أشرت إليه وهو أنه كره أن يعدل به عن تفسير القرآن وعلم الفقه إلى الخوض في الأمور الأصولية فنبهه على أمور يجره النظر وتأمل الأدلة والشبهات إليها دقيقة يخاف على الإنسان من الخوض فيها أن تضطرب عقيدته إلا أنه لم يجد به بدا من تنبيهه على أصول الديانة وإن كان كارها لتعريضه لخطر الشبهة فنبهه على أمور جملية غير مفصلة وأمره أن يلزم ذلك ولا يتجاوزه إلى غيره وأن يمسك عما يشتبه عليه وسيأتي ذكر ذلك : وَ اِعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ أَحَبَّ مَا أَنْتَ آخِذٌ بِهِ إِلَيَّ مِنْ وَصِيَّتِي تَقْوَى اَللَّهِ وَ اَلاِقْتِصَارُ عَلَى مَا فَرَضَهُ اَللَّهُ عَلَيْكَ وَ اَلْأَخْذُ بِمَا مَضَى عَلَيْهِ اَلْأَوَّلُونَ مِنْ آبَائِكَ وَ اَلصَّالِحُونَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَدَعُوا أَنْ نَظَرُوا لِأَنْفُسِهِمْ كَمَا أَنْتَ نَاظِرٌ وَ فَكَّرُوا كَمَا أَنْتَ مُفَكِّرٌ ثُمَّ رَدَّهُمْ آخِرُ ذَلِكَ إِلَى اَلْأَخْذِ بِمَا عَرَفُوا وَ اَلْإِمْسَاكِ عَمَّا لَمْ يُكَلَّفُوا فَإِنْ أَبَتْ نَفْسُكَ أَنْ تَقْبَلَ ذَلِكَ دُونَ أَنْ تَعْلَمَ كَمَا عَلِمُوا فَلْيَكُنْ طَلَبُكَ ذَلِكَ بِتَفَهُّمٍ وَ تَعَلُّمٍ لاَ بِتَوَرُّطِ اَلشُّبُهَاتِ وَ عُلَقِ اَلْخُصُومَاتِ وَ اِبْدَأْ قَبْلَ نَظَرِكَ فِي ذَلِكَ بِالاِسْتِعَانَةِ بِإِلَهِكَ وَ اَلرَّغْبَةِ إِلَيْهِ فِي تَوْفِيقِكَ وَ تَرْكِ كُلِّ شَائِبَةٍ أَوْلَجَتْكَ فِي شُبْهَةٍ أَوْ أَسْلَمَتْكَ إِلَى ضَلاَلَةٍ فَإِنْ أَيْقَنْتَ أَنْ قَدْ صَفَا قَلْبُكَ فَخَشَعَ وَ تَمَّ رَأْيُكَ فَاجْتَمَعَ وَ كَانَ هَمُّكَ فِي ذَلِكَ هَمّاً وَاحِداً فَانْظُرْ فِيمَا فَسَّرْتُ لَكَ وَ إِنْ أَنْتَ لَمْ يَجْتَمِعْ لَكَ مَا تُحِبُّ مِنْ نَفْسِكَ وَ فَرَاغِ(1/4480)
نَظَرِكَ وَ فِكْرِكَ
[ 71 ]
فَاعْلَمْ أَنَّكَ إِنَّمَا تَخْبِطُ اَلْعَشْوَاءَ وَ تَتَوَرَّطُ اَلظَّلْمَاءَ وَ لَيْسَ طَالِبُ اَلدِّينِ مَنْ خَبَطَ أَوْ خَلَطَ وَ اَلْإِمْسَاكُ عَنْ ذَلِكَ أَمْثَلُ أمره أن يقتصر على القيام بالفرائض وأن يأخذ بسنة السلف الصالح من آبائه وأهل بيته فإنهم لم يقتصروا على التقليد بل نظروا لأنفسهم وتأملوا الأدلة ثم رجعوا آخر الأمر إلى الأخذ بما عرفوا والإمساك عما لم يكلفوا . فإن قلت من سلفه هؤلاء الذين أشار إليهم قلت المهاجرون الأولون من بني هاشم وبني المطلب كحمزة وجعفر والعباس وعبيدة بن الحارث وكأبي طالب في قول الشيعة وكثير من أصحابنا وكعبد المطلب في قول الشيعة خاصة . فإن قلت فهل يكون أمير المؤمنين ع نفسه معدودا من جملة هؤلاء قلت لا فإنه لم يكن من أهل المبادئ والجمل المقتصر بهم في تكليفهم العقليات على أوائل الأدلة بل كان سيد أهل النظر كافة وإمامهم . فإن قلت ما معنى قوله لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم قلت لأنهم إذا تأملوا الأدلة وفكروا فيها فقد نظروا لأنفسهم كما ينظر الإنسان لنفسه ليخلصها من مضرة عظيمة سبيلها أن تقع به إن لم ينظر في الخلاص منها وهذا هو الوجه في وجوب النظر في طريق معرفة الله والخوف من إهمال النظر . فإن قلت ما معنى قوله إلى الأخذ بما عرفوا والإمساك عما لم يكلفوا
[ 72 ](1/4481)
قلت الأخذ بما عرفوا مثل أدلة حدوث الأجسام وتوحيد البارئ وعدله والإمساك عما لم يكلفوا مثل النظر في إثبات الجزء الذي لا يتجزأ ونفيه ومثل الكلام في الخلإ والملإ والكلام في أن هل بين كل حركتين مستقيمتين سكون أم لا وأمثال ذلك مما لا يتوقف أصول التوحيد والعدل عليه فإنه لا يلزم أصحاب الجمل والمبادئ أن يخوضوا في ذلك لأنهم لم يكلفوا الخوض فيه وهو من وظيفة قوم آخرين . قوله ع فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا هذا الموضع فيه نظر لأنا قد قلنا إنهم لم يعلموا التفاصيل الدقيقة فكيف يجعلهم عالمين بها ويقول أن تعلم كما علموا وينبغي أن يقال إن الكاف وما عملت فيه في موضع نصب لأنه صفة مصدر محذوف وتقديره فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك علما كما علموا دون أن تعلم التفاصيل الدقيقة وجاز انتصاب علما والعامل فيه تقبل لأن القبول من جنس العلم لأن القبول اعتقاد والعلم اعتقاد وليس لقائل أن يقول فإذن يكون قد فصل بين الصفة والموصوف بأجنبي لأن الفصل بينهما قد جاء كثيرا قال الشاعر
جزى الله كفا ملئها من سعادة
سرت في هلاك المال والمال نائم
و يجوز أن يقال كما علموا الآن بعد موتهم فإنهم بعد الموت يكونون عالمين بجميع ما يشتبه علمه على الناس في الحياة الدنيا لأن المعارف ضرورية بعد الموت والنفوس باقية على قول كثير من المسلمين وغيرهم . واعلم أن الذي يدعو إلى تكلف هذه التأويلات أن ظاهر الكلام كونه يأمر بتقليد النبي ص والأخذ بما في القرآن وترك النظر العقلي هذا هو ظاهر الكلام أ لا تراه كيف يقول له الاقتصار على ما فرضه الله عليك والأخذ بما مضى عليه أهل
[ 73 ](1/4482)
بيتك وسلفك فإنهم لما حاولوا النظر رجعوا بأخرة إلى السمعيات وتركوا العقليات لأنها أفضت بهم إلى ما لا يعرفونه ولا هو من تكليفهم . ثم قال له فإن كرهت التقليد المحض وأحببت أن تسلك مسلكهم في النظر وإن أفضى بك الأمر بأخرة إلى تركه والعود إلى المعروف من الشرعيات وما ورد به الكتاب والسنة فينبغي أن تنظر وأنت مجتمع الهم خال من الشبهة وتكون طالبا للحق غير قاصد إلى الجدل والمراء فلما وجدنا ظاهر اللفظ يقتضي هذه المعاني ولم يجز عندنا أن يأمر أمير المؤمنين ع ولده مع حكمته وأهلية ولده بالتقليد وترك النظر رجعنا إلى تأويل كلامه على وجه يخرج به ع من أن يأمر بما لا يجوز لمثله أن يأمر به . واعلم أنه قد أوصاه إذا هم بالشروع في النظر بمحض ما ذكره المتكلمون وذلك أمور منها أن يرغب إلى الله في توفيقه وتسديده . ومنها أن يطلب المطلوب النظري بتفهم وتعلم لا بجدال ومغالبة ومراء ومخاصمة . ومنها إطراح العصبية لمذهب بعينه والتورط في الشبهات التي يحاول بها نصره ذلك المذهب . ومنها ترك الإلف والعادة ونصرة أمر يطلب به الرئاسة وهو المعني بالشوائب التي تولج في الضلال . ومنها أن يكون صافي القلب مجتمع الفكر غير مشغول السر بأمر من جوع
[ 74 ](1/4483)
أو شبع أو شبق أو غضب ولا يكون ذا هموم كثيرة وأفكار موزعة مقسمة بل يكون فكره وهمه هما واحدا . قال فإذا اجتمع لك كل ذلك فانظر وإن لم يجتمع لك ذلك ونظرت كنت كالناقة العشواء الخابطة لا تهتدي وكمن يتورط في الظلماء لا يعلم أين يضع قدمه وليس طالب الدين من كان خابطا أو خالطا والإمساك عن ذلك أمثل وأفضل : فَتَفَهَّمْ يَا بُنَيَّ وَصِيَّتِي وَ اِعْلَمْ أَنَّ مَالِكَ اَلْمَوْتِ هُوَ مَالِكُ اَلْحَيَاةِ وَ أَنَّ اَلْخَالِقَ هُوَ اَلْمُمِيتُ وَ أَنَّ اَلْمُفْنِيَ هُوَ اَلْمُعِيدُ وَ أَنَّ اَلْمُبْتَلِيَ هُوَ اَلْمُعَافِي وَ أَنَّ اَلدُّنْيَا لَمْ تَكُنْ لِتَسْتَقِرَّ إِلاَّ عَلَى مَا جَعَلَهَا اَللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ اَلنَّعْمَاءِ وَ اَلاِبْتِلاَءِ وَ اَلْجَزَاءِ فِي اَلْمَعَادِ أَوْ مَا شَاءَ مِمَّا لاَ تَعْلَمُ فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْكَ شَيْ ءٌ مِنْ ذَلِكَ فَاحْمِلْهُ عَلَى جَهَالَتِكَ فَإِنَّكَ أَوَّلُ مَا خُلِقْتَ بِهِ جَاهِلاً ثُمَّ عُلِّمْتَ وَ مَا أَكْثَرَ مَا تَجْهَلُ مِنَ اَلْأَمْرِ وَ يَتَحَيَّرُ فِيهِ رَأْيُكَ وَ يَضِلُّ فِيهِ بَصَرُكَ ثُمَّ تُبْصِرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قد تعلق بهذه اللفظة وهو قوله أو ما شاء مما لا تعلم قوم من التناسخية وقالوا المعني بها الجزاء في الهياكل التي تنتقل النفوس إليها وليس ما قالوه بظاهر ويجوز أن يريد ع أن الله تعالى قد يجازي المذنب في الدنيا بنوع من العقوبة كالأسقام والفقر وغيرهما والعقاب وإن كان مفعولا على وجه الاستحقاق والإهانة فيجوز لمستحقه وهو الباري
[ 75 ](1/4484)
أن يقتصر منه على الإيلام فقط لأن الجميع حقه فله أن يستوفي البعض ويسقط البعض وقد روي أو بما شاء بالباء الزائدة وروي بما لا يعلم وأما الثواب فلا يجوز أن يجازى به المحسن في الدنيا لأنه على صفة لا يمكن أن تجامع التكليف فيحمل لفظ الجزاء على جزاء العقاب خاصة . ثم أعاد ع وصيته الأولى فقال وإن أشكل عليك شي ء من أمر القضاء والقدر وهو كون الكافر مخصوصا بالنعماء والمؤمن مخصوصا بضرب من الابتلاء وكون الجزاء قد يكون في المعاد وقد يكون في غير المعاد فلا تقدحن جهالتك به في سكون قلبك إلى ما عرفتك جملته وهو أن الله تعالى هو المحيي المميت المفني المعيد المبتلي المعافي وأن الدنيا بنيت على الابتلاء والأنعام وأنهما لمصالح وأمور يستأثر الله تعالى بعلمها وأنه يجازي عباده إما في الآخرة أو غير الآخرة على حسب ما يريده ويختاره . ثم قال له إنما خلقت في مبدإ خلقتك جاهلا فلا تطلبن نفسك غاية من العلم لا وصول لها إليها أو لها إليها وصول بعد أمور صعبة ومتاعب شديدة فمن خلق جاهلا حقيق أن يكون جهله مدة عمره أكثر من علمه استصحابا للأصل . ثم أراد أن يؤنسه بكلمة استدرك بها إيحاشه فقال له وعساك إذا جهلت شيئا من ذلك أن تعلمه فيما بعد فما أكثر ما تجهل من الأمور وتتحير فيه ثم تبصره وتعرفه وهذا من الطب اللطيف والرقى الناجعة والسحر الحلال
[ 76 ](1/4485)
فَاعْتَصِمْ بِالَّذِي خَلَقَكَ وَ رَزَقَكَ وَ سَوَّاكَ فَلْيَكُنْ وَ لْيَكُنْ لَهُ تَعَبُّدُكَ وَ إِلَيْهِ رَغْبَتُكَ وَ مِنْهُ شَفَقَتُكَ وَ اِعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ أَحَداً لَمْ يُنْبِئْ عَنِ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ كَمَا أَنْبَأَ عَلَيْهِ نَبِيُّنَا ص فَارْضَ بِهِ رَائِداً وَ إِلَى اَلنَّجَاةِ قَائِداً فَإِنِّي لَمْ آلُكَ نَصِيحَةً وَ إِنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ فِي اَلنَّظَرِ لِنَفْسِكَ وَ إِنِ اِجْتَهَدْتَ مَبْلَغَ نَظَرِي لَكَ عاد إلى أمره باتباع الرسول ص وأن يعتمد على السمع وما وردت به الشريعة ونطق به الكتاب وقال له إن أحدا لم يخبر عن الله تعالى كما أخبر عنه نبينا ص وصدق ع فإن التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب أنبياء بني إسرائيل لم تتضمن من الأمور الإلهية ما تضمنه القرآن وخصوصا في أمر المعاد فإنه في أحد الكتابين مسكوت عنه وفي الآخر مذكور ذكرا مضطربا والذي كشف هذا القناع في هذا المعنى وصرح بالأمر هو القرآن ثم ذكر له أنه أنصح له من كل أحد وأنه ليس يبلغ وإن اجتهد في النظر لنفسه ما يبلغه هو ع له لشدة حبه له وإيثاره مصلحته وقوله لم آلك نصحا لم أقصر في نصحك ألى الرجل في كذا يألو أي قصر فهو آل والفعل لازم ولكنه حذف اللام فوصل الفعل إلى الضمير فنسبه وكان أصله لا آلو لك نصحا ونصحا منصوب على التمييز وليس كما قاله الراوندي إن انتصابه على أنه مفعول ثان فإنه إلى مفعول واحد لا يتعدى فكيف إلى اثنين
[ 77 ](1/4486)
و يقول هذه امرأة آلية أي مقصرة وجمعها أوال وفي المثل إلا حظية فلا ألية أصله في المرأة تصلف عند بعلها فتوصي حيث فاتتها الحظوة ألا تألوه في التودد إليه والتحبب إلى قلبه . قوله ومنه شفقتك أي خوفك . ورائد أصله الرجل يتقدم القوم فيرتاد بهم المرعى : وَ اِعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِرَبِّكَ شَرِيكٌ لَأَتَتْكَ رُسُلُهُ وَ لَرَأَيْتَ آثَارَ مِلْكِهِ وَ سُلْطَانِهِ وَ لَعَرَفْتَ أَفْعَالَهُ وَ صِفَاتَهُ وَ لَكِنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ لاَ يُضَادُّهُ فِي مُلْكِهِ أَحَدٌ وَ لاَ يَزُولُ أَبَداً وَ لَمْ يَزَلْ أَوَّلٌ قَبْلَ اَلْأَشْيَاءِ بِلاَ أَوَّلِيَّةٍ وَ آخِرٌ بَعْدَ اَلْأَشْيَاءِ بِلاَ نِهَايَةٍ عَظُمَ أَنْ تُثْبَتَ عَنْ أَنْ تَثْبُتَ رُبُوبِيَّتُهُ بِإِحَاطَةِ قَلْبٍ أَوْ بَصَرٍ فَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَافْعَلْ كَمَا يَنْبَغِي لِمِثْلِكَ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي صِغَرِ خَطَرِهِ وَ قِلَّةِ مَقْدِرَتِهِ وَ كَثْرَةِ عَجْزِهِ وعَظِيمِ حَاجَتِهِ إِلَى رَبِّهِ فِي طَلَبِ طَاعَتِهِ وَ اَلرَّهِينَةِ مِنْ عُقُوبَتِهِ وَ اَلْخَشْيَةِ مِنْ عُقُوبَتِهِ وَ اَلشَّفَقَةِ مِنْ سُخْطِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْكَ إِلاَّ بِحَسَنٍ وَ لَمْ يَنْهَكَ إِلاَّ عَنْ قَبِيحٍ يمكن أن يستدل بهذا الكلام على نفي الثاني من وجهين أحدهما أنه لو كان في الوجود ثان للبارئ تعالى لما كان القول بالوحدانية حقا بل كان الحق هو القول بالتثنية ومحال ألا يكون ذلك الثاني حكيما ولو كان الحق هو
[ 78 ](1/4487)
إثبات ثان حكيم لوجب أن يبعث رسولا يدعو المكلفين إلى التثنية لأن الأنبياء كلهم دعوا إلى التوحيد لكن التوحيد على هذا الفرض ضلال فيجب على الثاني الحكيم أن يبعث من ينبه المكلفين على ذلك الضلال ويرشدهم إلى الحق وهو إثبات الثاني وإلا كان منسوبا في إهمال ذلك إلى السفه واستفساد المكلفين وذلك لا يجوز ولكنا ما أتانا رسول يدعو إلى إثبات ثان في الإلهية فبطل كون القول بالتوحيد ضلالا وإذا لم يكن ضلالا كان حقا فنقيضه وهو القول بإثبات الثاني باطل الوجه الثاني أنه لو كان في الوجود ثان للقديم تعالى لوجب أن يكون لنا طريق إلى إثباته إما من مجرد أفعاله أو من صفات أفعاله أو من صفات نفسه أو لا من هذا ولا من هذا فمن التوقيف . وهذه هي الأقسام التي ذكرها أمير المؤمنين ع لأن قوله أتتك رسله هو التوقيف وقوله ولرأيت آثار ملكه وسلطانه هي صفات أفعاله وقوله ولعرفت أفعاله وصفاته هما القسمان الآخران . أما إثبات الثاني من مجرد الفعل فباطل لأن الفعل إنما يدل على فاعل ولا يدل على التعدد وأما صفات أفعاله وهي كون أفعاله محكمة متقنة فإن الأحكام الذي نشاهده إنما يدل على عالم ولا يدل على التعدد وأما صفات ذات البارئ فالعلم بها فرع على العلم بذاته فلو أثبتنا ذاته بها لزم الدور . وأما التوقيف فلم يأتنا رسول ذو معجزة صحيحة يدعونا إلى الثاني وإذا بطلت الأقسام كلها وقد ثبت أن ما لا طريق إلى إثباته لا يجوز إثباته بطل القول بإثبات الثاني . ثم قال لا يضاده في ملكه أحد ليس يريد بالضد ما يريده المتكلمون من نفي ذات هي معاكسة لذات البارئ تعالى في صفاتها كمضادة السواد للبياض بل مراده نفي الثاني لا غير فإن نفي الضد بحث آخر لا دخول له بين هذا الكلام .
[ 79 ](1/4488)
ثم ذكر له أن البارئ تعالى قديم سابق للأشياء لا سبقا له حد محدود وأول معين بل لا أول له مطلقا . ثم قال وهو مع هذا آخر الأشياء آخرية مطلقة ليس تنتهي إلى غاية معينة . ثم ذكر أن له ربوبية جلت عن أن تحيط بها الأبصار والعقول . وقد سبق منا خوض في هذا المعنى وذكرنا من نظمنا في هذا النمط أشياء لطيفة ونحن نذكر هاهنا من نظمنا أيضا في هذا المعنى وفي فننا الذي اشتهرنا به وهو المناجاة والمخاطبة على طريقة أرباب الطريقة ما لم نذكره هناك فمن ذاك قولي
فلا والله ما وصل ابن سينا
و لا أغنى ذكاء أبي الحسين
و لا رجعا بشي ء بعد بحث
و تدقيق سوى خفي حنين
لقد طوفت أطلبكم ولكن
يحول الوقت بينكم وبيني
فهل بعد انقضاء الوقت أحظى
بوصلكم غدا وتقر عيني
منى عشنا بها زمنا وكانت
تسوفنا بصدق أو بمين
فإن أكدت فذاك ضياع ديني
و إن أجدت فذاك حلول ديني
و منها
أ مولاي قد أحرقت قلبي فلا تكن
غدا محرقا بالنار من كان يهواكا
أ تجمع لي نارين نار محبة
و نار عذاب أنت أرحم من ذاكا
و منها
قوم موسى تاهوا سنين كما قد
جاء في النص قدرها أربعونا
و لي اليوم تائها في جوى من
لا أسمي وحبه خمسونا
قل لأحبابنا إلام نروم
الوصل منكم وأنتم تمنعونا
[ 80 ]
كم نناجيكم فلا ترشدونا
و نناديكم فلا تسمعونا
حسبنا علمكم بأنا مواليكم
و إن كنتم لنا كارهينا
فعسى تدرك السعادة أرباب
المعاصي فيصبحوا فائزينا
و منها
و الله ما آسى من الدنيا على
مال ولا ولد ولا سلطان
بل في صميم القلب مني حسرة
تبقى معي وتلف في أكفاني
إني أراك بباطني لا ظاهري
فالحسن مشغلة عن العرفان
يا من سهرت مفكرا في أمره
خمسين حولا دائم الجولان
فرجعت أحمق من نعامة بيهس
و أضل سعيا من أبي غبشان
و منها
و حقك إن أدخلتني النار قلت
للذين بها قد كنت ممن أحبه
و أفنيت عمري في علوم دقيقة
و ما بغيتي إلا رضاه وقربه
هبوني مسيئا أوتغ الحلم جهله
و أوبقه بين البرية ذنبه(1/4489)
أ ما يقتضي شرع التكرم عتقه
أ يحسن أن ينسى هواه وحبه
أ ما كان ينوي الحق فيما يقوله
أ لم تنصر التوحيد والعدل كتبه
أ ما رد زيغ ابن الخطيب وشكه
و إلحاده إذ جل في الدين خطبه
أ ما قلتم من كان فينا مجاهدا
سيكرم مثواه ويعذب شربه
و نهديه سبلا من هدانا جهاده
و يدخله خير المداخل كسبه
فأي اجتهاد فوق ما كان صانعا
و قد أحرقت زرق الشياطين شهبه
و ما نال قلب الجيش جيش محمد
كما نال من أهل الضلالة قلبه
[ 81 ]
فإن تصفحوا يغنم وإن تتجرموا
فتعذيبكم حلو المذاقة عذبه
و آية صدق الصب أن يعذب الأذى
إذ كان من يهوى عليه يصبه
و منها
إذا فكرت فيك يحار عقلي
و ألحق بالمجانين الكبار
و أصحو تارة فيشوب ذهني
و يقدح خاطري كشواظ نار
فيا من تاهت العقلاء فيه
فأمسوا كلهم صرعى عقار
و يا من كاعت الأفكار عنه
فآبت بالمتاعب والخسار
و يا من ليس يعلمه نبي
و لا ملك ولا يدريه دار
و يا من ليس قداما وخلفا
و لا جهة اليمين ولا اليسار
و لا فوق السماء ولا تدلى
من الأرضين في لجج البحار
و يا من أمره من ذاك أجلى
من ابن ذكاء أو صبح النهار
سألتك باسمك المكتوم إلا
فككت النفس من رق الإسار
وجدت لها بما تهوى فأنت
العليم بباطن اللغز الضمار
و منها
يا رب إنك عالم
بمحبتي لك واجتهادي
و تجردي للذب عنك
على مراغمة الأعادي
بالعدل والتوحيد أصدع
معلنا في كل نادي
و كشفت زيغ ابن الخطيب
و لبسه بين العباد
و نقضت سائر ما بناه
من الضلالة والفساد
[ 82 ]
و أبنت عن إغوائه
في دين أحمد ذي الرشاد
و جعلت أوجه ناصريه
محممات بالسواد
و كففت من غلوائهم
بعد التمرد والعناد
فكأنما نخل الرماد
عليهم بعد الرماد
و قصدت وجهك أبتغي
حسن المثوبة في المعاد
فأفض على العبد الفقير
إليكم نور السداد
و ارزقه قبل الموت
معرفة المصائر والمبادي
و افكك أسير الحرص
باللأصفاد من أسر الصفاد
و اغسل بصفو القرب من
أبوابكم كدر البعاد
و أعضه من حر الغليل
بوصلكم برد الفؤاد(1/4490)
و ارحم عيونا فيك
هامية وقلبا فيك صاد
يا ساطح الأرض المهاد
و ممسك السبع الشداد
يَا بُنَيَّ إِنِّي قَدْ أَنْبَأْتُكَ عَنِ اَلدُّنْيَا وَ حَالِهَا وَ زَوَالِهَا وَ اِنْتِقَالِهَا وَ أَنْبَأْتُكَ عَنِ اَلآْخِرَةِ وَ مَا أُعِدَّ لِأَهْلِهَا وَ ضَرَبْتُ لَكَ فِيهِمَا اَلْأَمْثَالَ لِتَعْتَبِرَ بِهَا وَ تَحْذُوَ عَلَيْهَا إِنَّمَا مَثَلُ مَنْ خَبَرَ اَلدُّنْيَا كَمَثَلِ قَوْمٍ سَفْرٍ نَبَا بِهِمْ مَنْزِلٌ جَدِيبٌ فَأَمُّوا مَنْزِلاً خَصِيباً وَ جَنَاباً مَرِيعاً فَاحْتَمَلُوا وَعْثَاءَ اَلطَّرِيقِ وَ فِرَاقَ اَلصَّدِيقِ وَ خُشُونَةَ اَلسَّفَرِ وَ جُشُوبَةَ اَلمَطْعَمِ لِيَأْتُوا سَعَةَ دَارِهِمْ وَ مَنْزِلَ قَرَارِهِمْ فَلَيْسَ يَجِدُونَ لِشَيْ ءٍ مِنْ ذَلِكَ أَلَماً وَ لاَ يَرَوْنَ نَفَقَةً فِيهِ مَغْرَماً وَ لاَ شَيْ ءَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِمَّا قَرَّبَهُمْ مِنْ مَنْزِلِهِمْ
[ 83 ](1/4491)
وَ أَدْنَاهُمْ إِلَى مِنْ مَحَلَّتِهِمْ وَ مَثَلُ مَنِ اِغْتَرَّ بِهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ كَانُوا بِمَنْزِلٍ خَصِيبٍ فَنَبَا بِهِمْ إِلَى مَنْزِلٍ جَدِيبٍ فَلَيْسَ شَيْ ءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِمْ وَ لاَ أَفْظَعَ عِنْدَهُمْ مِنْ مُفَارَقَةِ مَا كَانُوا فِيهِ إِلَى مَا يَهْجُمُونَ عَلَيْهِ وَ يَصِيرُونَ إِلَيْهِ حذا عليه يحذو واحتذى مثاله يحتذي أي اقتدى به وقوم سفر بالتسكين أي مسافرون . وأموا قصدوا والمنزل الجديب ضد المنزل الخصيب . والجناب المريع بفتح الميم ذو الكلإ والعشب وقد مرع الوادي بالضم . والجناب الفناء ووعثاء الطريق مشقتها . وجشوبة المطعم غلظه طعام جشيب ومجشوب ويقال إنه الذي لا أدم معه . يقول مثل من عرف الدنيا وعمل فيها للآخرة كمن سافر من منزل جدب إلى منزل خصيب فلقي في طريقه مشقة فإنه لا يكترث بذلك في جنب ما يطلب وبالعكس من عمل للدنيا وأهمل أمر الآخرة فإنه كمن يسافر إلى منزل ضنك ويهجر منزلا رحيبا طيبا وهذا من
قول رسول الله ص الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر
[ 84 ]
يَا بُنَيَّ اِجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيمَا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ غَيْرِكَ فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ وَ اِكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا وَ لاَ تَظْلِمْ كَمَا لاَ تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ وَ أَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ وَ اِسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُهُ مِنْ غَيْرِكَ وَ اِرْضَ مِنَ اَلنَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ وَ لاَ تَقُلْ مَا لاَ تَعْلَمُ وَ إِنْ قَلَّ مَا تَعْلَمُ وَ لاَ تَقُلْ مَا لاَ تُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لَكَ وَ اِعْلَمْ أَنَّ اَلْإِعْجَابَ ضِدُّ اَلصَّوَابِ وَ آفَةُ اَلْأَلْبَابِ فَاسْعَ فِي كَدْحِكَ وَ لاَ تَكُنْ خَازِناً لِغَيْرِكَ وَ إِذَا أَنْتَ هُدِيتَ لِقَصْدِكَ فَكُنْ أَخْشَعَ مَا تَكُونُ لِرَبِّكَ(1/4492)
جاء في الحديث المرفوع لا يكمل إيمان عبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ويكره لأخيه ما يكره لنفسه وقال بعض الأسارى لبعض الملوك افعل معي ما تحب أن يفعل الله معك فأطلقه وهذا هو معنى قوله ع ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم . وقوله وأحسن من قول الله تعالى وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اَللَّهُ إِلَيْكَ . وقوله واستقبح من نفسك سئل الأحنف عن المروءة فقال أن تستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك وروي وارض من الناس لك وهي أحسن . وأما العجب وما ورد في ذمة فقد قدمنا فيه قولا مقنعا .
[ 85 ](1/4493)
قوله ع واسع في كدحك أي أذهب ما اكتسبت بالإنفاق والكدح هاهنا هو المال الذي كدح في حصوله والسعي فيه إنفاقه وهذه كلمة فصيحة وقد تقدم نظائر قوله ولا تكن خازنا لغيرك . ثم أمره أن يكون أخشع ما يكون لله إذ هداه لرشده وذلك لأن هدايته إياه إلى رشده نعمة عظيمة منه فوجب أن يقابل بالخشوع لأنه ضرب من الشكر : وَ اِعْلَمْ أَنَّ أَمَامَكَ طَرِيقاً ذَا مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ وَ مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ وَ أَنَّهُ لاَ غِنَى بِكَ فِيهِ عَنْ حُسْنِ اَلاِرْتِيَادِ وَ قَدْرِ بَلاَغِكَ مِنَ اَلزَّادِ مَعَ خِفَّةِ اَلظَّهْرِ فَلاَ تَحْمِلَنَّ عَلَى ظَهْرِكَ فَوْقَ طَاقَتِكَ فَيَكُونَ ثِقْلُ ذَلِكَ وَبَالاً عَلَيْكَ وَ إِذَا وَجَدْتَ مِنْ أَهْلِ اَلْفَاقَةِ مَنْ يَحْمِلُ لَكَ زَادَكَ إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ فَيُوَافِيكَ بِهِ غَداً حَيْثُ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَاغْتَنِمْهُ وَ حَمِّلْهُ إِيَّاهُ وَ أَكْثِرْ مِنْ تَزْوِيدِهِ وَ أَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَلَعَلَّكَ تَطْلُبُهُ فَلاَ تَجِدُهُ وَ اِغْتَنِمْ مَنِ اِسْتَقْرَضَكَ فِي حَالِ غِنَاكَ لِيَجْعَلَ قَضَاءَهُ لَكَ فِي يَوْمِ عُسْرَتِكَ وَ اِعْلَمْ أَنَّ أَمَامَكَ عَقَبَةً كَئُوداً اَلْمُخِفُّ فِيهَا أَحْسَنُ حَالاً مِنَ اَلْمُثْقِلِ وَ اَلْمُبْطِئُ عَلَيْهَا أَقْبَحُ أَمْراً حَالاً مِنَ اَلْمُسْرِعِ وَ أَنَّ مَهْبِطَهَا بِكَ مَهْبِطَكَ بِهَا لاَ مَحَالَةَ إِمَّا عَلَى جَنَّةٍ أَوْ عَلَى نَارٍ فَارْتَدْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ نُزُولِكَ وَ وَطِّئِ اَلْمَنْزِلَ قَبْلَ حُلُولِكَ فَلَيْسَ بَعْدَ اَلْمَوْتِ مُسْتَعْتَبٌ وَ لاَ إِلَى اَلدُّنْيَا مُنْصَرَفٌ
[ 86 ](1/4494)
أمره في هذا الفصل بإنفاق المال والصدقة والمعروف فقال إن بين يديك طريقا بعيد المسافة شديد المشقة ومن سلك طريقا فلا غنى له عن أن يرتاد لنفسه ويتزود من الزاد قدر ما يبلغه الغاية وأن يكون خفيف الظهر في سفره ذلك فإياك أن تحمل من المال ما يثقلك ويكون وبالا عليك وإذا وجدت من الفقراء والمساكين من يحمل ذلك الثقل عنك فيوافيك به غدا وقت الحاجة فحمله إياه فلعلك تطلب مالك فلا تجده
جاء في الحديث المرفوع خمس من أتى الله بهن أو بواحدة منهن أوجب له الجنة من سقى هامة صادية أو أطعم كبدا هافية أو كسا جلدة عارية أو حمل قدما حافية أو أعتق رقبة عانية قيل لحاتم الأصم لو قرأت لنا شيئا من القرآن قال نعم فاندفع فقرأ الم ذلِكَ اَلْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ يكنزون فقالوا أيها الشيخ ما هكذا أنزل قال صدقتم ولكن هكذا أنتم : وَ اِعْلَمْ أَنَّ اَلَّذِي بِيَدِهِ خَزَائِنُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ قَدْ أَذِنَ لَكَ فِي اَلدُّعَاءِ وَ تَكَفَّلَ لَكَ بِالْإِجَابَةِ وَ أَمَرَكَ أَنْ تَسْأَلَهُ لِيُعْطِيَكَ وَ تَسْتَرْحِمَهُ لِيَرْحَمَكَ وَ لَمْ يَجْعَلْ بَيْنَهُ وَ بَيْنَكَ بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ مَنْ يَحْجُبُكَ عَنْهُ وَ لَمْ يُلْجِئْكَ إِلَى مَنْ يَشْفَعُ لَكَ إِلَيْهِ
[ 87 ](1/4495)
وَ لَمْ يَمْنَعْكَ إِنْ أَسَأْتَ مِنَ اَلتَّوْبَةِ وَ لَمْ يُعَاجِلْكَ بِالنِّقْمَةِ وَ لَمْ يُعَيِّرْكَ بِالْإِنَابَةِ وَ لَمْ يَفْضَحْكَ حَيْثُ تَعَرَّضْتَ لِلْفَضِيحَةِ اَلْفَضِيحَةُ بِكَ أَوْلَى وَ لَمْ يُشَدِّدْ عَلَيْكَ فِي قَبُولِ اَلْإِنَابَةِ وَ لَمْ يُنَاقِشْكَ بِالْجَرِيمَةِ وَ لَمْ يُؤْيِسْكَ مِنَ اَلرَّحْمَةِ بَلْ جَعَلَ نُزُوعَكَ عَنِ اَلذَّنْبِ حَسَنَةً وَ حَسَبَ سَيِّئَتَكَ وَاحِدَةً وَ حَسَبَ حَسَنَتَكَ عَشْراً وَ فَتَحَ لَكَ بَابَ اَلْمَتَابِ وَ بَابَ اَلاِسْتِعْتَابِ فَإِذَا نَادَيْتَهُ سَمِعَ نِدَاكَ وَ إِذَا نَاجَيْتَهُ عَلِمَ نَجْوَاكَ فَأَفْضَيْتَ إِلَيْهِ بِحَاجَتِكَ وَ أَبْثَثْتَهُ ذَاتَ نَفْسِكَ وَ شَكَوْتَ إِلَيْهِ هُمُومَكَ وَ اِسْتَكْشَفْتَهُ كُرُوبَكَ وَ اِسْتَعَنْتَهُ عَلَى أُمُورِكَ وَ سَأَلْتَهُ مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِهِ مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى إِعْطَائِهِ غَيْرُهُ مِنْ زِيَادَةِ اَلْأَعْمَارِ وَ صِحَّةِ اَلْأَبْدَانِ وَ سَعَةِ اَلْأَرْزَاقِ ثُمَّ جَعَلَ فِي يَدَيْكَ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِهِ بِمَا أَذِنَ لَكَ فِيهِ مِنْ مَسْأَلَتِهِ فَمَتَى شِئْتَ اِسْتَفْتَحْتَ بِالدُّعَاءِ أَبْوَابَ نِعْمَتِهِ وَ اِسْتَمْطَرْتَ شَآبِيبَ رَحْمَتِهِ فَلاَ يُقْنِطَنَّكَ يُقَنِّطَنَّكَ إِبْطَاءُ إِجَابَتِهِ فَإِنَّ اَلْعَطِيَّةَ عَلَى قَدْرِ اَلنِّيَّةِ وَ رُبَّمَا أُخِّرَتْ عَنْكَ اَلْإِجَابَةُ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَعْظَمَ لِأَجْرِ اَلسَّائِلِ وَ أَجْزَلَ لِعَطَاءِ اَلآْمِلِ وَ رُبَّمَا سَأَلْتَ اَلشَّيْ ءَ فَلاَ تُعْطَاهُ تُؤْتَاهُ وَ أُوتِيتَ خَيْراً مِنْهُ عَاجِلاً أَوْ آجِلاً أَوْ صُرِفَ عَنْكَ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ فَلَرُبَّ أَمْرٍ قَدْ طَلَبْتَهُ فِيهِ هَلاَكُ دِينِكَ لَوْ أُوتِيتَهُ فَلْتَكُنْ مَسْأَلَتُكَ فِيمَا يَبْقَى لَكَ جَمَالُهُ وَ يُنْفَى عَنْكَ(1/4496)
وَبَالُهُ فَالْمَالُ لاَ يَبْقَى لَكَ وَ لاَ تَبْقَى لَهُ قد تقدم القول في الدعاء . قوله بل جعل نزوعك عن الذنب حسنة هذا متفق عليه بين أصحابنا وهو أن تارك القبيح لأنه قبيح يستحق الثواب .
[ 88 ]
قوله حسب سيئتك واحدة وحسب حسنتك عشرا هذا إشارة إلى قوله تعالى مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها . قوله وأبثثته ذات نفسك أي حاجتك . ثم ذكر له وجوها في سبب إبطاء الإجابة منها أن ذلك أمر عائد إلى النية فلعلها لم تكن خالصة . ومنها أنه ربما أخرت ليكون أعظم لأجر السائل لأن الثواب على قدر المشقة . ومنها أنه ربما أخرت ليعطي السائل خيرا مما سائل إما عاجلا أو آجلا أو في الحالين . ومنها أنه ربما صرف ذلك عن السائل لأن في إعطائه إياه مفسدة في الدين . قوله فالمال لا يبقى لك ولا تبقى له لفظ شريف فصيح ومعنى صادق محقق فيه عظة بالغة وقال أبو الطيب
أين الجبابرة الأكاسرة الألى
كنزوا الكنوز فما بقين ولا بقوا
و يروى من يحجبه عنك . وروى حيث الفضيحة أي حيث الفضيحة موجودة منك . واعلم أن في قوله قد أذن لك في الدعاء وتكفل لك بالإجابة إشارة إلى قوله تعالى اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ . وفي قوله وأمر أن تسأله ليعطيك إشارة إلى قوله وَ سْئَلُوا اَللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ .
[ 89 ](1/4497)
و في قوله وتسترحمه ليرحمك إشارة إلى قوله وَ ما كانَ اَللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ . وفي قوله ولم يمنعك إن أسأت من التوبة إشارة إلى قوله إِلاَّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اَللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اَللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً : وَ اِعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّكَ إِنَّمَا خُلِقْتَ لِلآْخِرَةِ لاَ لِلدُّنْيَا وَ لِلْفَنَاءِ لاَ لِلْبَقَاءِ وَ لِلْمَوْتِ لاَ لِلْحَيَاةِ وَ أَنَّكَ فِي مَنْزِلِ قُلْعَةٍ وَ دَارِ بُلْغَةٍ وَ طَرِيقٍ إِلَى اَلآْخِرَةِ وَ أَنَّكَ طَرِيدُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي لاَ يَنْجُو مِنْهُ هَارِبُهُ وَ لاَ يَفُوتُهُ طَالِبُهُ وَ لاَ بُدَّ أَنَّهُ مُدْرِكُهُ فَكُنْ مِنْهُ عَلَى حَذَرٍ أَنْ يُدْرِكَكَ وَ أَنْتَ عَلَى حَالِ سَيِّئَةٍ قَدْ كُنْتَ تُحَدِّثُ نَفْسَكَ مِنْهَا بِالتَّوْبَةِ فَيَحُولَ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ ذَلِكَ فَإِذَا أَنْتَ قَدْ أَهْلَكْتَ نَفْسَكَ يَا بُنَيَّ أَكْثِرْ مِنْ ذِكْرِ اَلْمَوْتِ وَ ذِكْرِ مَا تَهْجُمُ عَلَيْهِ وَ تُفْضِي بَعْدَ اَلْمَوْتِ إِلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَكَ وَ قَدْ أَخَذْتَ مِنْهُ حِذْرَكَ وَ شَدَدْتَ لَهُ أَزْرَكَ وَ لاَ يَأْتِيَكَ بَغْتَةً فَيَبْهَرَكَ وَ إِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ بِمَا تَرَى مِنْ إِخْلاَدِ أَهْلِ اَلدُّنْيَا إِلَيْهَا وَ تَكَالُبِهِمْ عَلَيْهَا فَقَدْ نَبَّأَكَ اَللَّهُ عَنْهَا وَ نَعَتَتْ لَكَ نَفْسَهَا نَعَتْ هِيَ لَكَ عَنْ نَفْسِهَا وَ تَكَشَّفَتْ لَكَ عَنْ مَسَاوِيهَا فَإِنَّمَا أَهْلُهَا كِلاَبٌ عَاوِيَةٌ وَ سِبَاعٌ ضَارِيَةٌ يَهِرُّ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضِ وَ يَأْكُلُ عَزِيزُهَا ذَلِيلَهَا وَ يَقْهَرُ كَبِيرُهَا صَغِيرَهَا
[ 90 ](1/4498)
نَعَمٌ مُعَقَّلَةٌ وَ أُخْرَى مُهْمَلَةٌ قَدْ أَضَلَّتْ عُقُولَهَا وَ رَكِبَتْ مَجْهُولَهَا سُرُوحُ عَاهَةٍ بِوَادٍ وَعْثٍ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ يُقِيمُهَا وَ لاَ مُسِيمٌ يُسِيمُهَا سَلَكَتْ بِهِمُ اَلدُّنْيَا طَرِيقَ اَلْعَمَى وَ أَخَذَتْ بِأَبْصَارِهِمْ عَنْ مَنَارِ اَلْهُدَى فَتَاهُوا فِي حَيْرَتِهَا وَ غَرِقُوا فِي نِعْمَتِهَا وَ اِتَّخَذُوهَا رَبّاً فَلَعِبَتْ بِهِمْ وَ لَعِبُوا بِهَا وَ نَسُوا مَا وَرَاءَهَا رُوَيْداً يُسْفِرُ اَلظَّلاَمُ كَأَنْ قَدْ وَرَدَتِ اَلْأَظْعَانُ يُوشِكُ مَنْ أَسْرَعَ أَنْ يَلْحَقَ يقول هذا منزل قلعة بضم القاف وسكون اللام أي ليس بمستوطن ويقال هذا مجلس قلعة إذا كان صاحبه يحتاج إلى أن يقوم مرة بعد مرة ويقال أيضا هم على قلعة أي على رحلة والقلعة أيضا هو المال العارية و
في الحديث بئس المال القلعة وكله يرجع إلى معنى واحد . قوله ودار بلغة والبلغة ما يتبلغ به من العيش . قوله سروح عاهة والسروح جمع سرح وهو المال السارح والعاهة الآفة أعاه القوم أصابت ماشيتهم العاهة . وواد وعث لا يثبت الحافر والخف فيه بل يغيب فيه ويشق على من يمشي فيه . وأوعث القوم وقعوا في الوعث . ومسيم يسيمها راع يرعاها . قوله رويدا يسفر الظلام إلى آخر الفصل ثلاثة أمثال محركة لمن عنده
[ 91 ]
استعداد واستقرأني أبو الفرج محمد بن عباد رحمه الله وأنا يومئذ حدث هذه الوصية فقرأتها عليه من حفظي فلما وصلت إلى هذا الموضع صاح صيحة شديدة وسقط وكان جبارا قاسي القلب(1/4499)
أقوال حكيمة في وصف الدنيا وفناء الخلق
و اعلم أنا قدمنا في وصف الدنيا والفناء والموت من محاسن كلام الصالحين والحكماء ما فيه الشفاء ونذكر الآن أشياء آخر . فمن كلام الحسن البصري يا ابن آدم إنما أنت أيام مجموعة فإذا مضى يوم مضى بعضك . عن بعض الحكماء رحم الله امرأ لا يغره ما يرى من كثرة الناس فإنه يموت وحده ويقبر وحده ويحاسب وحده . وقال بعضهم لا وجه لمقاساة الهموم لأجل الدنيا ولا الاعتداد بشي ء من متاعها ولا التخلي منها أما ترك الاهتمام لها فمن جهة أنه لا سبيل إلى دفع الكائن من مقدورها وأما ترك الاعتداد بها فإن مرجع كل أحد إلى تركها وأما ترك التخلي عنها فإن الآخرة لا تدرك إلا بها . ومن كلام بعض الحكماء أفضل اختيار الإنسان ما توجه به إلى الآخرة وأعرض به عن الدنيا وقد تقدمت الحجة وأذنا بالرحيل ولنا من الدنيا على الدنيا دليل وإنما أحدنا في مدة بقائه صريع لمرض أو مكتئب بهم أو مطروق بمصيبة أو مترقب لمخوف لا يأمن المرء أصناف لذته من المطعوم والمشروب أن يكون موته فيه ولا يأمن مملوكه
[ 92 ]
و جاريته أن يقتلاه بحديد أو سم وهو مع ذلك عاجز عن استدامة سلامة عقله من زوال وسمعه من صمم وبصره من عمى ولسانه من خرس وسائر جوارحه من زمانة ونفسه من تلف وماله من بوار وحبيبه من فراق وكل ذلك يشهد شهادة قطعية أنه فقير إلى ربه ذليل في قبضته محتاج إليه لا يزال المرء بخير ما حاسب نفسه وعمر آخرته بتخريب دنياه وإذا اعترضته بحار المكاره جعل معابرها الصبر والتأسي ولم يغتر بتتابع النعم وإبطاء حلول النقم وأدام صحبة التقي وفطم النفس عن الهوى فإنما حياته كبضاعة ينفق من رأس المال منها ولا يمكنه أن يزيد فيها ومثل ذلك يوشك فناؤه وسرعة زواله . وقال أبو العتاهية في ذكر الموت
ستباشر الترباء خدك
و سيضحك الباكون بعدك
و لينزلن بك البلى
و ليخلفن الموت عهدك
و ليفنينك مثل ما(1/4500)
أفنى أباك بلى وجدك
لو قد رحلت عن القصور
و طيبها وسكنت لحدك
لم تنتفع إلا بفعل
صالح قد كان عندك
[ 93 ]
و ترى الذين قسمت مالك
بينهم حصصا وكدك
يتلذذون بما جمعت
لهم ولا يجدون فقدك
وَ اِعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ مَنْ كَانَتْ مَطِيَّتُهُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ فَإِنَّهُ يُسَارُ بِهِ وَ إِنْ كَانَ وَاقِفاً وَ يَقْطَعُ اَلْمَسَافَةَ وَ إِنْ كَانَ مُقِيماً وَادِعاً وَ اِعْلَمْ يَقِيناً أَنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ أَمَلَكَ وَ لَنْ تَعْدُوَ أَجَلَكَ وَ أَنَّكَ فِي سَبِيلِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ فَخَفِّضْ فِي اَلطَّلَبِ وَ أَجْمِلْ فِي اَلْمُكْتَسَبِ فَإِنَّهُ رُبَّ طَلَبٍ قَدْ جَرَّ إِلَى حَرَبٍ وَ لَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ بِمَرْزُوقٍ وَ لاَ كُلُّ مُجْمِلٍ بِمَحْرُومٍ وَ أَكْرِمْ نَفْسَكَ عَنْ كُلِّ دَنِيَّةٍ وَ إِنْ سَاقَتْكَ إِلَى اَلرَّغَائِبِ فَإِنَّكَ لَنْ تَعْتَاضَ بِمَا تَبْذُلُ مِنْ نَفْسِكَ عِوَضاً وَ لاَ تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَ قَدْ جَعَلَكَ اَللَّهُ حُرّاً وَ مَا خَيْرُ خَيْرٍ لاَ يُنَالُ إِلاَّ بِشَرٍّ وَ يُسْرٍ لاَ يُنَالُ إِلاَّ بِعُسْرٍ وَ إِيَّاكَ أَنْ تُوجِفَ بِكَ مَطَايَا اَلطَّمَعِ فَتُورِدَكَ مَنَاهِلَ اَلْهَلَكَةِ وَ إِنِ اِسْتَطَعْتَ أَلاَّ يَكُونَ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اَللَّهِ ذُو نِعْمَةٍ فَافْعَلْ فَإِنَّكَ مُدْرِكٌ قَسْمَكَ وَ آخِذٌ سَهْمَكَ وَ إِنَّ اَلْيَسِيرَ مِنَ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ أَكْرَمُ وَ أَعْظَمُ أَعْظَمُ وَ أَكْرَمُ مِنَ اَلْكَثِيرِ مِنْ خَلْقِهِ وَ إِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُ
[ 94 ]
مثل الكلمة الأولى قول بعض الحكماء و
قد نسب أيضا إلى أمير المؤمنين ع أهل الدنيا كركب يسار بهم وهم نيام . قوله فخفضن في الطلب من
قول رسول الله ص إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فأجملوا في الطلب . وقال الشاعر
ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله(1/4501)
عوضا ولو نال الغنى بسؤال
و إذا النوال إلى السؤال قرنته
رجح السؤال وخف كل نوال
و قال آخر
رددت رونق وجهي عن صحيفته
رد الصقال بهاء الصارم الخذم
و ما أبالي وخير القول أصدقه
حقنت لي ماء وجهي أم حقنت دمي
و قال آخر
و إني لأختار الزهيد على الغنى
و أجزأ بالمال القراح عن المحض
و أدرع الإملاق صبرا وقد أرى
مكان الغنى كي لا أهين له عرضي
و قال أبو محمد اليزيدي في المأمون
أبقى لنا الله الإمام وزاده
شرفا إلى الشرف الذي أعطاه
و الله أكرمنا بأنا معشر
عتقاء من نعم العباد سواه
و قال آخر
كيف النهوض بما أوليت من حسن
أم كيف أشكر ما طوقت من نعم
[ 95 ]
ملكتني ماء وجه كاد يسكبه
ذل السؤال ولم تفجع به هممي
و قال آخر
لا تحرصن على الحطام فإنما
يأتيك رزقك حين يؤذن فيه
سبق القضاء بقدره وزمانه
و بأنه يأتيك أو يأتيه
و كان يقال ما استغنى أحد بالله إلا افتقر الناس إليه . وقال رجل في مجلس فيه قوم من أهل العلم لا أدري ما يحمل من يوقن بالقدر على الحرص على طلب الرزق فقال له أحد الحاضرين يحمله القدر فسكت . أقول لو كنت حاضرا لقلت لو حمله القدر لما نهاه العقلاء عن الحرص ولما مدحوه على العفة والقناعة فإن عاد وقال وأولئك ألجأهم القدر إلى المدح والذم والأمر والنهي فقد جعل نفسه وغيره من الناس بل من جميع الحيوانات بمنزلة الجمادات التي يحركها غيرها ومن بلغ إلى هذا الحد لا يكلم . وقال الشاعر
أراك تزيدك الأيام حرصا
على الدنيا كأنك لا تموت
فهل لك غاية إن صرت يوما
إليها قلت حسبي قد رضيت
أبو العتاهية
أي عيش يكون أطيب من عيش
كفاف قوت بقدر البلاغ
قمرتني الأيام عقلي ومالي
و شبابي وصحتي وفراغي
و أوصى بعض الأدباء ابنه فكتب إليه
[ 96 ]
كن حسن الظن برب خلقك
بني واحمده على ما رزقك
و اعلم بأن الحرص يطفي رونقك
فجانب الحرص وحسن خلقك
و اصدق وصادق أبدا من صدقك
دار معاديك ومق من ومقك
و اجعل لأعدائك حزما ملقك(1/4502)
و جنبن حشو الكلام منطقك
هذي وصاة والد قد عشقك
وصاة من يقلقه ما أقلقك
أرشدك الله لها ووفقك
أبو العتاهية
أجل الغنى مما يؤمل أسرع
و أراك تجمع دائما لا تشبع
قل لي لمن أصبحت تجمع دائبا
أ لبعل عرسك لا أبا لك تجمع
و أوصى زياد ابنه عبيد الله عند موته فقال لا تدنسن عرضك ولا تبذلن وجهك ولا تخلقن جدتك بالطلب إلى من إن ردك كان رده عليك عيبا وإن قضى حاجتك جعلها عليك منا واحتمل الفقر بالتنزه عما في أيدي الناس والزم القناعة بما قسم لك فإن سوء عمل الفقير يضع الشريف ويخمل الذكر ويوجب الحرمان : وَ تَلاَفِيكَ مَا فَرَطَ مِنْ صَمْتِكَ أَيْسَرُ مِنْ إِدْرَاكِكَ مَا فَاتَ مِنْ مَنْطِقِكَ وَ حِفْظُ مَا فِي اَلْوِعَاءِ بِشَدِّ اَلْوِكَاءِ وَ حِفْظُ مَا فِي يَدَيْكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ طَلَبِ مَا فِي يَدَيْ غَيْرِكَ وَ مَرَارَةُ اَلْيَأْسِ خَيْرٌ مِنَ اَلطَّلَبِ إِلَى اَلنَّاسِ وَ اَلْحِرْفَةُ مَعَ اَلْعِفَّةَ خَيْرٌ مِنَ اَلْغِنَى مَعَ اَلْفُجُورِ وَ اَلْمَرْءُ أَحْفَظُ لِسِرِّهِ وَ رُبَّ سَاعٍ فِيمَا يَضُرُّهُ
[ 97 ](1/4503)
مَنْ أَكْثَرَ أَهْجَرَ وَ مَنْ تَفَكَّرَ أَبْصَرَ قَارِنْ أَهْلَ اَلْخَيْرِ تَكُنْ مِنْهُمْ وَ بَايِنْ أَهْلَ اَلشَّرِّ تَبِنْ عَنْهُمْ بِئْسَ اَلطَّعَامُ اَلْحَرَامُ وَ ظُلْمُ اَلضَّعِيفِ أَفْحَشُ اَلظُّلْمِ إِذَا كَانَ اَلرِّفْقُ خُرْقاً كَانَ اَلْخُرْقُ رِفْقاً رُبَّمَا كَانَ اَلدَّوَاءُ دَاءً وَ اَلدَّاءُ دَوَاءً وَ رُبَّمَا نَصَحَ غَيْرُ اَلنَّاصِحِ وَ غَشَّ اَلْمُسْتَنْصَحُ وَ إِيَّاكَ وَ اَلاِتِّكَالَ عَلَى اَلْمُنَى فَإِنَّهَا بَضَائِعُ اَلنَّوْكَى وَ اَلْعَقْلُ حِفْظُ اَلتَّجَارِبِ وَ خَيْرُ مَا جَرَّبْتَ مَا وَعَظَكَ بَادِرِ اَلْفُرْصَةَ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ غُصَّةً لَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ يُصِيبُ وَ لاَ كُلُّ غَائِبٍ يَئُوبُ وَ مِنَ اَلْفَسَادِ إِضَاعَةُ اَلزَّادِ وَ مَفْسَدَةُ اَلْمَعَادِ وَ لِكُلِّ أَمْرٍ عَاقِبَةٌ سَوْفَ يَأْتِيكَ مَا قُدِّرَ لَكَ اَلتَّاجِرُ مُخَاطِرٌ وَ رُبَّ يَسِيرٍ أَنْمَى مِنْ كَثِيرٍ هذا الكلام قد اشتمل على أمثال كثيرة حكمية . أولها قوله تلافيك ما فرط من صمتك أيسر من إدراكك ما فات من منطقك وهذا مثل قولهم أنت قادر على أن تجعل صمتك كلاما ولست بقادر على أن تجعل كلامك صمتا وهذا حق لأن الكلام يسمع وينقل فلا يستطاع إعادته صمتا والصمت عدم الكلام فالقادر على الكلام قادر على أن يبدله بالكلام وليس الصمت بمنقول ولا مسموع فيتعذر استدراكه .
[ 98 ]
و ثانيها قوله حفظ ما في يديك أحب إلي من طلب ما في أيدي غيرك هذا مثل قولهم في المثل البخل خير من سؤال البخيل وليس مراد أمير المؤمنين ع وصايته بالإمساك والبخل بل نهيه عن التفريط والتبذير قال الله تعالى وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ اَلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً وأحمق الناس من أضاع ماله اتكالا على مال الناس وظنا أنه يقدر على الاستخلاف قال الشاعر
إذا حدثتك النفس أنك قادر(1/4504)
على ما حوت أيدي الرجال فكذب
و ثالثها قوله مرارة اليأس خير من الطلب إلى الناس من هذا أخذ الشاعر قوله
و إن كان طعم اليأس مرا فإنه
ألذ وأحلى من سؤال الأراذل
و قال البحتري
و اليأس إحدى الراحتين ولن ترى
تعبا كظن الخائب المغرور
و رابعها قوله الحرفة مع العفة خير من الغنى مع الفجور والحرفة بالكسر مثل الحرف بالضم وهو نقصان الحظ وعدم المال ومنه قوله رجل محارف بفتح الراء يقول لأن يكون المرء هكذا وهو عفيف الفرج واليد خير من الغنى مع الفجور وذلك لأن ألم الحرفة مع العفة ومشقتها إنما هي في أيام قليلة وهي أيام العمر ولذة الغنى إذا كان مع الفجور ففي مثل تلك الأيام يكون ولكن يستعقب عذابا طويلا فالحال الأولى خير لا محالة وأيضا ففي الدنيا خير أيضا للذكر الجميل فيها والذكر القبيح في الثانية وللمحافظة على المروءة في الأولى وسقوط المروءة في الثانية .
[ 99 ]
و خامسها قوله المرء أحفظ لسره أي الأولى ألا تبوح بسرك إلى أحد فأنت أحفظ له من غيرك فإن أذعته فانتشر فلا تلم إلا نفسك لأنك كنت عاجزا عن حفظ سر نفسك فغيرك عن حفظ سرك وهو أجنبي أعجز قال الشاعر
إذا ضاق أصدر المرء عن حفظ سره
فصدر الذي يستودع السر أضيق
و سادسها قوله رب ساع فيما يضره قال عبد الحميد الكاتب في كتابه إلى أبي مسلم لو أراد الله بالنملة صلاحا لما أنبت لها جناحا . وسابعها قوله من أكثر أهجر يقال أهجر الرجل إذا أفحش في المنطق السوء والخنى قال الشماخ
كماجدة الأعراق قال ابن ضرة
عليها كلاما جار فيه وأهجرا(1/4505)
و هذا مثل قولهم من كثر كلامه كثر سقطه وقالوا أيضا قلما سلم مكثار أو أمن من عثار . وثامنها قوله من تفكر أبصر قالت الحكماء الفكر تحديق العقل نحو المعقول كما أن النظر البصري تحديق البصر نحو المحسوس وكما أن من حدق نحو المبصر وحدقته صحيحة والموانع مرتفعة لا بد أن يبصره كذلك من نظر بعين عقله وأفكر فكرا صحيحا لا بد أن يدرك الأمر الذي فكر فيه ويناله . وتاسعها قوله قارن أهل الخير تكن معهم وباين أهل الشر تبن عنهم كأن يقال حاجبك وجهك وكاتبك لسانك وجليسك كلك وقال الشاعر
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن مقتد
[ 100 ]
و عاشرها قوله بئس الطعام الحرام هذا من قوله تعالى إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ اَلْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً . وحادي عشرها قوله ظلم الضعيف أفحش الظلم رأى معاوية ابنه يزيد يضرب غلاما فقال يا بني كيف لا يسع حلمك من تضربه فلا يمتنع منك وأمر المأمون بإشخاص الخطابي القاص من البصرة فلما مثل بين يديه قال له يا سليمان أنت القائل العراق عين الدنيا والبصرة عين العراق والمربد عين البصرة ومسجدي عين المربد وأنا عين مسجدي وأنت أعور فإن عين الدنيا عوراء قال يا أمير المؤمنين لم أقل ذاك ولا أظن أمير المؤمنين أحضرني لذلك قال بلغني أنك أصبحت فوجدت على سارية من سواري مسجدك
رحم الله عليا
إنه كان تقيا
فأمرت بمحوه قال يا أمير المؤمنين كان ولقد كان نبيا فأمرت بإزالته فقال كذبت كانت القاف أصح من عينك الصحيحة ثم قال والله لو لا أن أقيم لك عند العامة سوقا لأحسنت تأديبك قال يا أمير المؤمنين قد ترى ما أنا عليه من الضعف والزمانة والهرم وقلة البصر فإن عاقبتني مظلوما فاذكر
قول ابن عمك علي ع ظلم الضعيف أفحش الظلم وإن عاقبتني بحق فاذكر أيضا(1/4506)
قوله لكل شي ء رأس والحلم رأس السؤدد فنهض المأمون من مجلسه وأمر برده إلى البصرة ولم يصله بشي ء ولم يحضر أحد قط مجلس المأمون إلا وصله عدا الخطابي وليس هذا هو المحدث الحافظ المشهور ذاك أبو سليمان أحمد بن محمد بن أحمد البستي كان في أيام المطيع والطائع وهذا قاص بالبصرة كان يقال له أبو زكريا سليمان بن محمد البصري . وثاني عاشرها قوله إذا كان الرفق خرقا كان الخرق رفقا يقول إذا كان استعمال
[ 101 ]
الرفق مفسدة وزيادة في الشر فلا تستعمله فإنه حينئذ ليس برفق بل هو خرق ولكن استعمل الخرق فإنه يكون رفقا والحالة هذه لأن الشر لا يلقى إلا بشر مثله قال عمرو ابن كلثوم
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
و في المثل إن الحديد بالحديد يفلج . وقال زهير
و من لا يذد عن حوضه بسلاحه
يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
و قال أبو الطيب
و وضع الندى في موضع السيف بالعلى
مضر كوضع السيف في موضع الندى
و ثالث عشرها قوله وربما كان الدواء داء والداء دواء هذا مثل قول أبي الطيب
ربما صحت الأجسام بالعلل
و مثله قول أبي نواس
و داوني بالتي كانت هي الداء
و مثل قول الشاعر
تداويت من ليلى بليلى فلم يكن
دواء ولكن كان سقما مخالفا
و رابع عشرها قوله ربما نصح غير الناصح وغش المستنصح كان المغيرة بن شعبة يبغض عليا ع منذ أيام رسول الله ص وتأكدت
[ 102 ](1/4507)
بغضته إلى أيام أبي بكر وعثمان وعمر وأشار عليه يوم بويع بالخلافة أن يقر معاوية على الشام مدة يسيرة فإذا خطب له بالشام وتوطأت دعوته دعاه إليه كما كان عمر وعثمان يدعوانه إليهما وصرفه فلم يقبل وكان ذلك نصيحة من عدو كاشح . واستشار الحسين ع عبد الله بن الزبير وهما بمكة في الخروج عنها وقصد العراق ظانا أنه ينصحه فغشه وقال له لا تقم بمكة فليس بها من يبايعك ولكن دونك العراق فإنهم متى رأوك لم يعدلوا بك أحدا فخرج إلى العراق حتى كان من أمره ما كان . وخامس عشرها قوله إياك والاتكال على المنى فإنها بضائع النوكى جمع أنوك وهو الأحمق من هذا أخذ أبو تمام قوله
من كان مرعى عزمه وهمومه
روض الأماني لم يزل مهزولا
و من كلامهم ثلاثة تخلق العقل وهو أوضح دليل على الضعف طول التمني وسرعة الجواب والاستغراب في الضحك وكان يقال التمني والحلم سيان وقال آخر شرف الفتى ترك المنى . وسادس عشرها قوله العقل حفظ التجارب من هذا أخذ المتكلمون قولهم العقل نوعان غريزي ومكتسب فالغريزي العلوم البديهية والمكتسب ما أفادته التجربة وحفظته النفس . وسابع عشرها قوله خير ما جربت ما وعظك مثل هذا قول أفلاطون إذا لم تعظك التجربة فلم تجرب بل أنت ساذج كما كنت . وثامن عشرها قوله بادر الفرصة قبل أن تكون غصة حضر عبيد الله بن زياد عند هانئ بن عروة عائدا وقد كمن له مسلم بن عقيل وأمره أن يقتله إذا جلس
[ 103 ]
و استقر فلما جلس جعل مسلم يؤامر نفسه ويريدها على الوثوب به فلم تطعه وجعل هانئ ينشد كأنه يترنم بالشعر
ما الانتظار بسلمى لا تحييها
و يكرر ذلك فأوجس عبيد الله خيفة ونهض فعاد إلى قصر الإمارة وفات مسلما منه ما كان يؤمله بإضاعة الفرصة حتى صار أمره إلى ما صار وتاسع عشرها قوله ليس كل طالب يصيب ولا كل غائب يثوب الأولى كقول القائل
ما كل وقت ينال المرء ما طلبا
و لا يسوغه المقدار ما وهبا
و الثانية كقول عبيد(1/4508)
و كل ذي غيبة يئوب
و غائب الموت لا يئوب
العشرون قوله من الفساد إضاعة الزاد ومفسدة المعاد ولا ريب أن من كان في سفر وأضاع زاده وأفسد الحال التي يعود إليها فإنه أحمق وهذا مثل ضربه للإنسان في حالتي دنياه وآخرته . الحادي والعشرون قوله ولكل أمر عاقبة هذا مثل المثل المشهور لكل سائلة قرار . الثاني والعشرون قوله سوف يأتيك ما قدر لك هذا من
قول رسول الله ص وإن يقدر لأحدكم رزق في قبة جبل أو حضيض بقاع يأته . الثالث والعشرون قوله التاجر مخاطر هذا حق لأنه يتعجل بإخراج الثمن ولا يعلم هل يعود أم لا وهذا الكلام ليس على ظاهره بل له باطن وهو أن من مزج الأعمال الصالحة بالأعمال السيئة مثل قوله خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً
[ 104 ]
فإنه مخاطر لأنه لا يأمن أن يكون بعض تلك السيئات تحبط أعماله الصالحة كما لا يأمن أن يكون بعض أعماله الصالحة يكفر تلك السيئات والمراد أنه لا يجوز للمكلف أن يفعل إلا الطاعة أو المباح . الرابع والعشرون قوله رب يسير أنمى من كثير قد جاء في الأثر قد يجعل الله من القليل الكثير ويجعل من الكثير البركة وقال الفرزدق
فإن تميما قبل أن يلد الحصى
أقام زمانا وهو في الناس واحد(1/4509)
و قال أبو عثمان الجاحظ رأينا بالبصرة أخوين كان أبوهما يحب أحدهما ويبغض الآخر فأعطى محبوبه يوم موته كل ماله وكان أكثر من مائتي ألف درهم ولم يعط الآخر شيئا وكان يتجر في الزيت ويكتسب منه ما يصرفه في نفقة عياله ثم رأينا أولاد الأخ الموسر بعد موت الأخوين من عائلة ولد الأخ المعسر يتصدقون عليهم من فواضل أرزاقهم : لاَ خَيْرَ فِي مُعِينٍ مُهِينٍ مَهِينٍ وَ لاَ فِي صَدِيقٍ ظَنِينٍ سَاهِلِ اَلدَّهْرَ مَا ذَلَّ لَكَ قَعُودُهُ وَ لاَ تُخَاطِرْ بِشَيْ ءٍ رَجَاءَ أَكْثَرَ مِنْهُ وَ إِيَّاكَ أَنْ تَجْمَحَ بِكَ مَطِيَّةُ اَللَّجَاجِ اِحْمِلْ نَفْسَكَ مِنْ أَخِيكَ عِنْدَ صَرْمِهِ عَلَى اَلصِّلَةِ وَ عِنْدَ صُدُودِهِ عَلَى اَللُّطْفِ وَ اَلْمُقَارَبَةِ وَ عِنْدَ جُمُودِهِ عَلَى اَلْبَذْلِ وَ عِنْدَ تَبَاعُدِهِ عَلَى اَلدُّنُوِّ وَ عِنْدَ شِدَّتِهِ عَلَى اَللِّينِ وَ عِنْدَ جُرْمِهِ عَلَى اَلْعُذْرِ حَتَّى كَأَنَّكَ لَهُ عَبْدٌ وَ كَأَنَّهُ ذُو نِعْمَةٍ عَلَيْكَ
[ 105 ](1/4510)
وَ إِيَّاكَ أَنْ تَضَعَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ أَوْ أَنْ تَفْعَلَهُ بِغَيْرِ أَهْلِهِ لاَ تَتَّخِذَنَّ عَدُوَّ صَدِيقِكَ صَدِيقاً فَتُعَادِيَ صَدِيقَكَ وَ اِمْحَضْ أَخَاكَ اَلنَّصِيحَةَ حَسَنَةً كَانَتْ أَوْ قَبِيحَةً وَ تَجَرَّعِ اَلْغَيْظَ فَإِنِّي لَمْ أَرَ جُرْعَةً أَحْلَى مِنْهَا عَاقِبَةً وَ لاَ أَلَذَّ مَغَبَّةً وَ لِنْ لِمَنْ غَالَظَكَ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَلِينَ لَكَ وَ خُذْ عَلَى عَدُوِّكَ بِالْفَضْلِ فَإِنَّهُ أَحَدُ أَحْلَى اَلظَّفَرَيْنِ وَ إِنْ أَرَدْتَ قَطِيعَةَ أَخِيكَ فَاسْتَبِقْ لَهُ مِنْ نَفْسِكَ بَقِيَّةً يَرْجِعُ إِلَيْهَا إِنْ بَدَا لَهُ ذَلِكَ يَوْماً مَا وَ مَنْ ظَنَّ بِكَ خَيْراً فَصَدِّقْ ظَنَّهُ وَ لاَ تُضِيعَنَّ حَقَّ أَخِيكَ اِتِّكَالاً عَلَى مَا بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكَ بِأَخٍ مَنْ أَضَعْتَ حَقَّهُ وَ لاَ يَكُنْ أَهْلُكَ أَشْقَى اَلْخَلْقِ بِكَ وَ لاَ تَرْغَبَنَّ فِيمَنْ زَهِدَ عَنْكَ وَ لاَ يَكُونَنَّ أَخُوكَ أَقْوَى عَلَى قَطِيعَتِكَ مِنْكَ عَلَى صِلَتِهِ وَ لاَ تَكُونَنَّ عَلَى اَلْإِسَاءَةِ أَقْوَى مِنْكَ عَلَى اَلْإِحْسَانِ وَ لاَ يَكْبُرَنَّ عَلَيْكَ ظُلْمُ مَنْ ظَلَمَكَ فَإِنَّهُ يَسْعَى فِي مَضَرَّتِهِ وَ نَفْعِكَ وَ لَيْسَ جَزَاءُ مَنْ سَرَّكَ أَنْ تَسُوءَهُ هذا الفصل قد اشتمل على كثير من الأمثال الحكمية . فأولها قوله لا خير في معين مهين ولا في صديق ظنين مثل الكلمة الأولى قولهم
إذا تكفيت بغير كاف
وجدته للهم غير شاف
و من الكلمة الثانية أخذ الشاعر قوله
فإن من الإخوان من شحط النوى
به وهو راع للوصال أمين
و منهم صديق العين أما لقاؤه
فحلو وأما غيبه فظنين
[ 106 ](1/4511)
و ثانيها قوله ساهل الدهر ما ذلك لك قعوده هذا استعارة والقعود البكر حين يمكن ظهره من الركوب إلى أن يثني ومثل هذا المعنى قولهم في المثل من ناطح الدهر أصبح أجم . ومثله
و در مع الدهر كيفما دارا
و مثله
و من قامر الأيام عن ثمراتها
فأحر بها أن تنجلي ولها القمر
و مثله
إذا الدهر أعطاك العنان فسر به
رويدا ولا تعنف فيصبح شامسا
و ثالثها قوله لا تخاطر بشي ء رجاء أكثر منه هذا مثل قولهم من طلب الفضل حرم الأصل . ورابعها قوله إياك وأن تجمح بك مطية اللجاج هذا استعارة وفي المثل ألج من خنفساء وألج من زنبور وكان يقال اللجاج من القحة والقحة من قلة الحياء وقلة الحياء من قلة المروءة وفي المثل لج صاحبك فحج . وخامسها قوله احمل نفسك من أخيك إلى قوله أو تفعله بغير أهله اللطف بفتح اللام والطاء الاسم من ألطفه بكذا أي بره به وجاءتنا لطفة من فلان أي هدية والملاطفة المبارة وروي عن اللطف وهو الرفق للأمر والمعنى أنه أوصاه إذا قطعه أخوه أن يصله وإذا جفاه أن يبره وإذا بخل عليه أن يجود عليه إلى آخر الوصاة . ثم قال له لا تفعل ذلك مع غير أهله قال الشاعر
[ 107 ]
و أن الذي بيني وبين بني أبي
و بين بني أمي لمختلف جدا
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم
و إن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
و إن زجروا طيرا بنحس تمر بي
زجرت لهم طيرا تمر بهم سعدا
و لا أحمل الحقد القديم عليهم
و ليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
و قال الشاعر
إني وإن كان ابن عمي كاشحا
لمقاذف من خلفه وورائه
و مفيده نصري وإن كان امرأ
متزحزحا في أرضه وسمائه
و أكون والي سره وأصونه
حتى يحق علي وقت أدائه
و إذا الحوادث أجحفت بسوامه
قرنت صحيحتنا إلى جربائه
و إذا دعا باسمي ليركب مركبا
صعبا قعدت له على سيسائه
و إذا أجن فليقة في خدره
لم أطلع مما وراء خبائه
و إذا ارتدى ثوبا جميلا لم أقل
يا ليت أن علي فضل ردائه(1/4512)
و سادسها قوله لا تتخذن عدو صديقك صديقا فتعادي صديقك قد قال الناس في هذا المعنى فأكثروا قال بعضهم
إذا صافى صديقك من تعادي
فقد عاداك وانقطع الكلام
و قال آخر
صديق صديقي داخل في صداقتي
و خصم صديقي ليس لي بصديق
و قال آخر
تود عدوي ثم تزعم أنني
صديقك إن الرأي عنك لعازب
[ 108 ]
و سابعها قوله وامحض أخاك النصيحة حسنة كانت أو قبيحة ليس يعني ع بقبيحة هاهنا القبيح الذي يستحق به الذم والعقاب وإنما يريد نافعة له في العاجل كانت أو ضارة له في الأجل فعبر عن النفع والضرر بالحسن والقبيح كقوله تعالى وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ . وقد فسره قوم فقالوا أراد كانت نافعة لك أو ضارة لك ويحتمل تفسير آخر وهو وصيته إياه أن يمحض أخاه النصيحة سواء كانت مما لا يستحيا من ذكرها وشياعها أو كانت مما يستحيا من ذكرها واستفاضتها بين الناس كمن ينصح صديقه في أهله ويشير عليه بفراقهم لفجور اطلع عليه منهم فإن الناس يسمون مثل هذا إذا شاع قبيحا . وثامنها قوله تجرع الغيظ فإني لم أر جرعة أحلى منها عاقبة ولا ألذ مغبة هذا مثل قولهم الحلم مرارة ساعة وحلاوة الدهر كله وكان يقال التذلل للناس مصايد الشرف .
قال المبرد في الكامل أوصى علي بن الحسين ابنه محمد بن علي ع فقال يا بني عليك بتجرع الغيظ من الرجال فإن أباك لا يسره بنصيبه من تجرع الغيظ من الرجال حمر النعم والحلم أعز ناصرا وأكثر عددا . وتاسعها قوله لن لمن غالظك فإنه يوشك أن يلين لك هذا مثل المثل المشهور إذا عز أخوك فهن والأصل في هذا قوله تعالى اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا اَلَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ . وعاشرها قوله خذ على عدوك بالفضل فإنه أحد الظفرين هذا معنى مليح ومنه قول ابن هانئ في المعز
[ 109 ]
ضراب هام الروم منتقما وفي
أعناقهم من جوده أعباء(1/4513)
لو لا انبعاث السيف وهو مسلط
في قتلهم قتلتهم النعماء
و كنت كاتبا بديوان الخلافة والوزير حينئذ نصير الدين أبو الأزهر أحمد بن الناقد رحمه الله فوصل إلى حضرة الديوان في سنة اثنتين وثلاثين وستمائة محمد بن محمد أمير البحرين على البر ثم وصل بعده الهرمزي صاحب هرمز في دجلة بالمراكب البحرية وهرمز هذه فرضة في البحر نحو عمان وامتلأت بغداد من عرب محمد بن محمد وأصحاب الهرمزي وكانت تلك الأيام أياما غراء زاهرة لما أفاض المستنصر على الناس من عطاياه والوفود تزدحم من أقطار الأرض على أبواب ديوانه فكتبت يوم دخول الهرمزي إلى الوزير أبياتا سنحت على البديهة وأنا متشاغل بما كنت فيه من مهام الخدمة وكان رحمه الله لا يزال يذكرها وينشدها ويستحسنها
يا أحمد بن محمد أنت الذي
علقت يداه بأنفس الأعلاق
ما أملت بغداد قبلك أن ترى
أبدا ملوك البحر في الأسواق
ولهوا عليها غيرة وتنافسوا
شغفا بها كتنافس العشاق
و غدت صلاتك في رقاب سراتهم
و نداك كالأطواق في الأعناق
بسديد رأيك أصلحت جمحاتهم
و تألفوا من بعد طول شقاق
لله همه ماجد لم تعتلق
بسحيل آراء ولا أحذاق
جلب السلاهب من أراك وبعدها
جلب المراكب من جزيرة واق
هذا العداء هو العداء فعد عن
قول ابن حجر في لأى وعناق
و أظنه والظن علم أنه
سيجيئنا بممالك الآفاق
إما أسير صنيعة في جيده
بالجود غل أو أسير وثاق
[ 110 ]
لا زال في ظل الخليفة ما له
فان وسودده المعظم باق(1/4514)
و حادي عشرها قوله إن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقية يرجع إليها إن بدا ذلك له يوما هذا مثل قولهم أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما وما كان يقال إذا هويت فلا تكن غاليا وإذا تركت فلا تكن قاليا . وثاني عشرها قوله من ظن خيرا فصدق ظنه كثير من أرباب الهمم يفعلون هذا يقال لمن قد شدا طرفا من العلم هذا عالم هذا فاضل فيدعوه ما ظن فيه من ذلك إلى تحقيقه فيواظب على الاشتغال بالعلم حتى يصير عالما فاضلا حقيقة وكذلك يقول الناس هذا كثير العبادة هذا كثير الزهد لمن قد شرع في شي ء من ذلك فتحمله أقوال الناس على الالتزام بالزهد والعبادة . وثالث عشرها قوله ولا تضيعن حق أخيك اتكالا على ما بينك وبينه فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه من هذا النحو قول الشاعر .
إذا خنتم بالغيب عهدي فما لكم
تدلون إدلال المقيم على العهد
صلوا وافعلوا فعل المدل بوصله
و إلا فصدوا وافعلوا فعل ذي الصدى
و كان يقال إضاعة الحقوق داعية العقوق . ورابع عشرها قوله لا ترغبن فيمن زهد فيك الرغبة في الزاهد هي الداء العياء قال العباس بن الأحنف
ما زلت أزهد في مودة راغب
حتى ابتليت برغبة في زاهد
هذا هو الداء الذي ضاقت به
حيل الطبيب وطال يأس العائد
[ 111 ]
و قد قال الشعراء المتقدمون والمتأخرون فأكثروا نحو قولهم
و في الناس إن رثت حبالك واصل
و في الأرض عن دار القلى متحول
و قول تأبط شرا
إني إذا خلة ضنت بنائلها
و أمسكت بضعيف الحبل أحذاقي
نجوت منها نجائي من بجيلة إذ
ألقيت ليلة خبت الرهط أرواقي(1/4515)
و خامس عشرها قوله لا يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته ولا تكونن على الإساءة أقوى منك على الإحسان هذا أمر له بأن يصل من قطعه وأن يحسن إلى من أساء إليه . ظفر المأمون عبد الله بن هارون الرشيد بكتب قد كتبها محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق ع إلى أهل الكرخ وغيرهم من أعمال أصفهان يدعوهم فيها إلى نفسه فأحضرها بين يديه ودفعها إليه وقال له أ تعرف هذه فأطرق خجلا فقال له أنت آمن وقد وهبت هذا الذنب لعلي وفاطمة ع فقم إلى منزلك وتخير ما شئت من الذنوب فإنا نتخير لك مثل ذلك من العفو . وسادس عشرها قوله لا يكبرن عليك ظلم من ظلمك فإنه يسعى في مضرته ونفعك وليس جزاء من سرك أن تسوءه
جاء في الخبر المرفوع إنه ص سمع عائشة تدعو على من سرق عقدا لها فقال لها لا تمسحي عنه بدعائك أي لا تخففي عذابه وقوله ع وليس جزاء من سرك أن تسوءه يقول لا تنتقم ممن ظلمك فإنه قد نفعك في الآخرة بظلمه لك وليس جزاء من ينفع إنسانا أن يسي ء إليه وهذا مقام جليل
[ 112 ](1/4516)
لا يقدر عليه إلا الأفراد من الأولياء الأبرار وقبض بعض الجبابرة على قوم صالحين فحبسهم وقيدهم فلما طال عليهم الأمر زفر بعضهم زفرة شديدة ودعا على ذلك الجبار فقال له بعض أولاده وكان أفضل أهل زمانه في العبادة وكان مستجاب الدعوة لا تدع عليه فتخفف عن عذابه قالوا يا فلان أ لا ترى ما بنا وبك لا يأنف ربك لنا قال إن لفلان مهبطا في النار لم يكن ليبلغه إلا بما ترون وإن لكم لمصعدا في الجنة لم تكونوا لتبلغوه إلا بما ترون قالوا فقد نال منا العذاب والحديد فادع الله لنا أن يخلصنا وينقذنا مما نحن فيه قال إني لأظن أني لو فعلت لفعل ولكن والله لا أفعل حتى أموت هكذا فألقى الله فأقول له أي رب سل فلانا لم فعل بي هذا ومن الناس من يجعل قوله ع وليس جزاء من سرك أن تسوءه كلمة مفردة مستقلة بنفسها ليست من تمام الكلام الأول والصحيح ما ذكرناه . وسابع عشرها ومن حقه أن يقدم ذكره قوله ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك هذا كما يقال في المثل من شؤم الساحرة أنها أول ما تبدأ بأهلها والمراد من هذه الكلمة النهي عن قطيعة الرحم وإقصاء الأهل وحرمانهم و
في الخبر المرفوع صلوا أرحامكم ولو بالسلام : وَ اِعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ اَلرِّزْقَ رِزْقَانِ رِزْقٌ تَطْلُبُهُ وَ رِزْقٌ يَطْلُبُكَ فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَأْتِهِ أَتَاكَ مَا أَقْبَحَ اَلْخُضُوعَ عِنْدَ اَلْحَاجَةِ وَ اَلْجَفَاءَ عِنْدَ اَلْغِنَى إِنَّمَا لَكَ مِنْ دُنْيَاكَ مَا أَصْلَحْتَ بِهِ مَثْوَاكَ وَ إِنْ كُنْتَ جَازِعاً عَلَى مَا تَفَلَّتَ مِنْ يَدَيْكَ فَاجْزَعْ عَلَى كُلِّ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْكَ
[ 113 ](1/4517)
اِسْتَدِلَّ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ بِمَا قَدْ كَانَ فَإِنَّ اَلْأُمُورَ أَشْبَاهٌ وَ لاَ تَكُونَنَّ مِمَّنْ لاَ تَنْفَعُهُ اَلْعِظَةُ إِلاَّ إِذَا بَالَغْتَ فِي إِيلاَمِهِ فَإِنَّ اَلْعَاقِلَ يَتَّعِظُ بِالآْدَابِ وَ اَلْبَهَائِمَ لاَ تَتَّعِظُ إِلاَّ بِالضَّرْبِ . اِطْرَحْ عَنْكَ وَارِدَاتِ اَلْهُمُومِ بِعَزَائِمِ اَلصَّبْرِ وَ حُسْنِ اَلْيَقِينِ مَنْ تَرَكَ اَلْقَصْدَ جَارَ وَ اَلصَّاحِبُ مُنَاسِبٌ وَ اَلصَّدِيقُ مَنْ صَدَقَ غَيْبُهُ وَ اَلْهَوَى شَرِيكُ اَلْعَمَى وَ رُبَّ بَعِيدٍ أَقْرَبُ مِنْ قَرِيبٍ وَ قَرِيبٍ أَبْعَدُ مِنْ بَعِيدٍ وَ اَلْغَرِيبُ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبِيبٌ مَنْ تَعَدَّى اَلْحَقَّ ضَاقَ مَذْهَبُهُ وَ مَنِ اِقْتَصَرَ عَلَى قَدْرِهِ كَانَ أَبْقَى لَهُ وَ أَوْثَقُ سَبَبٍ أَخَذْتَ بِهِ سَبَبٌ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ مَنْ لَمْ يُبَالِكَ فَهُوَ عَدُوُّكَ قَدْ يَكُونُ اَلْيَأْسُ إِدْرَاكاً إِذَا كَانَ اَلطَّمَعُ هَلاَكاً لَيْسَ كُلُّ عَوْرَةٍ تَظْهَرُ وَ لاَ كُلُّ فُرْصَةٍ تُصَابُ وَ رُبَّمَا أَخْطَأَ اَلْبَصِيرُ قَصْدَهُ وَ أَصَابَ اَلْأَعْمَى رُشْدَهُ أَخِّرِ اَلشَّرَّ فَإِنَّكَ إِذَا شِئْتَ تَعَجَّلْتَهُ وَ قَطِيعَةُ اَلْجَاهِلِ تَعْدِلُ صِلَةَ اَلْعَاقِلِ مَنْ أَمِنَ اَلزَّمَانَ خَانَهُ وَ مَنْ أَعْظَمَهُ أَهَانَهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ رَمَى أَصَابَ إِذَا تَغَيَّرَ اَلسُّلْطَانُ تَغَيَّرَ اَلزَّمَانُ سَلْ عَنِ اَلرَّفِيقِ قَبْلَ اَلطَّرِيقِ وَ عَنِ اَلْجَارِ قَبْلَ اَلدَّارِ
[ 114 ](1/4518)
في بعض الروايات اطرح عنك واردات الهموم بحسن الصبر وكرم العزاء قد مضى لنا كلام شاف في الرزق . وروى أبو حيان قال رفع الواقدي إلى المأمون رقعة يذكر فيها غلبة الدين عليه وكثرة العيال وقلة الصبر فوقع المأمون عليها أنت رجل فيك خلتان السخاء والحياء فأما السخاء فهو الذي أطلق ما في يديك وأما الحياء فهو الذي بلغ بك إلى ما ذكرت وقد أمرنا لك بمائة ألف درهم فإن كنا أصبنا إرادتك فازدد في بسط يدك وإن كنا لم نصب إرادتك فبجنايتك على نفسك وأنت كنت حدثتني وأنت على قضاء الرشيد
عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن أنس بن مالك إن رسول الله ص قال للزبير يا زبير إن مفاتيح الرزق بإزاء العرش ينزل الله تعالى للعباد أرزاقهم على قدر نفقاتهم فمن كثر كثر له ومن قلل قلل له قال الواقدي وكنت أنسيت هذا الحديث وكانت مذاكرته إياي به أحب من صلته . واعلم أن هذا الفصل يشتمل على نكت كثيرة حكمية منها قوله الرزق رزقان رزق تطلبه ورزق يطلبك وهذا حق لأن ذلك إنما يكون على حسب ما يعلمه الله تعالى من مصلحة المكلف فتارة يأتيه الرزق بغير اكتساب ولا تكلف حركة ولا تجشم سعي وتارة يكون الأمر بالعكس . دخل عماد الدولة أبو الحسن بن بويه شيراز بعد أن هزم ابن ياقوت عنها وهو فقير
[ 115 ](1/4519)
لا مال له فساخت إحدى قوائم فرسه في الصحراء في الأرض فنزل عنها وابتدرها غلمانه فخلصوها فظهر لهم في ذلك الموضع نقب وسيع فأمرهم بحفرة فوجدوا فيه أموالا عظيمة وذخائر لابن ياقوت ثم استلقى يوما آخر على ظهره في داره بشيراز التي كان ابن ياقوت يسكنها فرأى حية في السقف فأمر غلمانه بالصعود إليها وقتلها فهربت منهم ودخلت في خشب الكنيسة فأمر أن يقلع الخشب وتستخرج وتقتل فلما قلعوا الخشب وجدوا فيه أكثر من خمسين ألف دينار ذخيرة لابن ياقوت . واحتاج أن يفصل ويخيط ثيابا له ولأهله فقيل هاهنا خياط حاذق كان يخيط لابن ياقوت وهو رجل منسوب إلى الدين والخير إلا أنه أصم لا يسمع شيئا أصلا فأمر بإحضاره فأحضر وعنده رعب وهلع فلما أدخله إليه كلمه وقال أريد أن تخيط لنا كذا وكذا قطعة من الثياب فارتعد الخياط واضطرب كلامه وقال والله يا مولانا ما له عندي إلا أربعة صناديق ليس غيرها فلا تسمع قول الأعداء في فتعجب عماد الدولة وأمر بإحضار الصناديق فوجدها كلها ذهبا وحليا وجواهر مملوءة وديعة لابن ياقوت . وأما الرزق الذي يطلبه الإنسان ويسعى إليه فهو كثير جدا لا يحصى ومنها قوله ما أقبح الخضوع عند الحاجة والجفاء عند الغنى هذا من قول الله تعالى حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي اَلْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَ جاءَهُمُ اَلْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اَللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ . ومن الشعر الحكمي في هذا الباب قول الشاعر
خلقان لا أرضاهما لفتى
تيه الغنى ومذلة الفقر
[ 116 ]
فإذا غنيت فلا تكن بطرا
و إذا افتقرت فته على الدهر(1/4520)
و منها قوله إنما لك من دنياك ما أصلحت به مثواك هذا من
كلام رسول الله ص يا ابن آدم ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت . وقال أبو العتاهية
ليس للمتعب المكادح من دنياه
إلا الرغيف والطمران
و منها قوله وإن كنت جازعا على ما تفلت من يديك فاجزع على كل ما لم يصل إليك يقول لا ينبغي أن تجزع على ما ذهب من مالك كما لا ينبغي أن تجزع على ما فاتك من المنافع والمكاسب فإنه لا فرق بينهما إلا أن هذا حصل وذاك لم يحصل بعد وهذا فرق غير مؤثر لأن الذي تظن أنه حاصل لك غير حاصل في الحقيقة وإنما الحاصل على الحقيقة ما أكلته ولبسته وأما القنيات والمدخرات فلعلها ليست لك كما قال الشاعر
و ذي إبل يسقي ويحسبها له
أخي تعب في رعيها ودءوب
غدت وغدا رب سواه يسوقها
و بدل أحجارا وجال قليب
و منها قوله استدل على ما لم يكن بما كان فإن للأمور أشباها يقال إذا شئت أن تنظر للدنيا بعدك فانظرها بعد غيرك . وقال أبو الطيب في سيف الدولة
ذكي تظنيه طليعة عينه
يرى قلبه في يومه ما يرى غدا
و منها قوله ولا تكونن ممن لا تنفعه العظة . . . إلى قوله إلا بالضرب هو قول الشاعر
[ 117 ]
العبد يقرع بالعصا
و الحر تكفيه الملامة(1/4521)
و كان يقال اللئيم كالعبد والعبد كالبهيمة عتبها ضربها . ومنها قوله اطرح عنك واردات الهموم بحسن الصبر وكرم العزاء هذا كلام شريف فصيح عظيم النفع والفائدة وقد أخذ عبد الله بن الزبير بعض هذه الألفاظ فقال في خطبته لما ورد عليه الخبر بقتل مصعب أخيه لقد جاءنا من العراق خبر أحزننا وسرنا جاءنا خبر قتل مصعب فأما سرورنا فلأن ذلك كان له شهادة وكان لنا إن شاء الله خيرة وأما الحزن فلوعة يجدها الحميم عند فراق حميمه ثم يرعوي بعدها ذو الرأي إلى حسن الصبر وكرم العزاء . ومنها قوله من ترك القصد جار القصد الطريق المعتدل يعني أن خير الأمور أوسطها فإن الفضائل تحيط بها الرذائل فمن تعدى هذه يسيرا وقع في هذه . ومنها قوله الصاحب مناسب كان يقال الصديق نسيب الروح والأخ نسيب البدن قال أبو الطيب
ما الخل إلا من أود بقلبه
و أرى بطرف لا يرى بسوائه
و منها قوله الصديق من صدق غيبه من هاهنا أخذ أبو نواس قوله في المنهوكة
هل لك والهل خبر
فيمن إذا غبت حضر
أو ما لك اليوم أثر
فإن رأى خيرا شكر
أو كان تقصير عذر
و منها قوله الهوى شريك العمى هذا مثل قولهم حبك الشي ء يعمي ويصم قال الشاعر
[ 118 ]
و عين الرضا عن كل عيب كليلة
كما أن عين السخط تبدي المساويا
و منها قوله رب بعيد أقرب من قريب وقريب أبعد من بعيد هذا معنى مطروق قال الشاعر
لعمرك ما يضر البعد يوما
إذا دنت القلوب من القلوب
و قال الأحوص
إني لأمنحك الصدود وإنني
قسما إليك مع الصدود لأميل
و قال البحتري
و نازحة والدار منها قريبة
و ما قرب ثاو في التراب مغيب
و منها قوله والغريب من لم يكن له حبيب يريد بالحبيب هاهنا المحب لا المحبوب قال الشاعر
أسرة المرء والداه وفيما
بين جنبيهما الحياة تطيب
و إذا وليا عن المرء يوما
فهو في الناس أجنبي غريب(1/4522)
و منها قوله من تعدى الحق ضاق بمذهبه يريد بمذهبه هاهنا طريقته وهذه استعارة ومعناه أن طريق الحق لا مشقة فيها لسالكها وطرق الباطل فيها المشاق والمضار وكان سالكها سالك طريقة ضيقة يتعثر فيها ويتخبط في سلوكها . ومنها قوله من اقتصر على قدره كان أبقى له هذا مثل
قوله رحم الله امرأ عرف قدره ولم يتعد طوره و
قال من جهل قدره قتل نفسه وقال أبو الطيب
و من جهلت نفسه قدره
رأى غيره منه ما لا يرى
[ 119 ]
و منها قوله أوثق سبب أخذت به سبب بينك وبين الله سبحانه هذا من قول الله تعالى فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اِسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ اَلْوُثْقى لاَ اِنْفِصامَ لَها . ومنها قوله فمن لم يبالك فهو عدوك أي لم يكترث بك وهذه الوصاة خاصة بالحسن ع وأمثاله من الولاة وأرباب الرعايا وليست عامة للسوقة من أفناء الناس وذلك لأن الوالي إذا أنس من بعض رعيته أنه لا يباليه ولا يكترث به فقد أبدى صفحته ومن أبدى لك صفحته فهو عدوك وأما غير الوالي من أفناء الناس فليس أحدهم إذا لم يبال الآخر بعدو له . ومنها قوله قد يكون اليأس إدراكا إذا كان الطمع هلاكا هذا مثل قول القائل
من عاش لاقى ما يسوء
من الأمور وما يسر
و لرب حتف فوقه
ذهب وياقوت ودر
و المعنى ربما كان بلوغ الأمل في الدنيا والفوز بالمطلوب منها سببا للهلاك فيها وإذا كان كذلك كان الحرمان خيرا من الظفر . ومنها قوله ليس كل عورة تظهر ولا كل فرصة تصاب يقول قد تكون عورة العدو مستترة عنك فلا تظهر وقد تظهر لك ولا يمكنك إصابتها . وقال بعض الحكماء الفرصة نوعان فرصة من عدوك وفرصة في غير عدوك فالفرصة من عدوك ما إذا بلغتها نفعتك وإن فاتتك ضرتك وفي غير عدوك ما إذا أخطأك نفعه لم يصل إليك ضره .
[ 120 ](1/4523)
و منها قوله فربما أخطأ البصير قصده وأصاب الأعمى رشده من هذا النحو قولهم في المثل مع الخواطئ سهم صائب وقولهم رمية من غير رام وقالوا في مثل اللفظة الأولى الجواد يكبو والحسام قد ينبو وقالوا قد يهفو الحليم ويجهل العليم . ومنها قوله أخر الشر فإنك إذا شئت تعجلته مثل هذا قولهم في الأمثال الطفيلية كل إذا وجدت فإنك على الجوع قادر ومن الأمثال الحكمية ابدأ بالحسنة قبل السيئة فلست بمستطيع للحسنة في كل وقت وأنت على الإساءة متى شئت قادر . ومنها قوله قطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل هذا حق لأن الجاهل إذا قطعك انتفعت ببعده عنك كما تنتفع بمواصلة الصديق العاقل لك وهذا كما يقول المتكلمون عدم المضرة كوجود المنفعة ويكاد أن يبتني على هذا قولهم كما أن فعل المفسدة قبيح من البارئ فالإخلال باللطف منه أيضا يجب أن يكون قبيحا . ومنها قوله من أمن الزمان خانه ومن أعظمه أهانه مثل الكلمة الأولى قول الشاعر
و من يأمن الدنيا يكن مثل قابض
على الماء خانته فروج الأنامل
و قالوا احذر الدنيا ما استقامت لك ومن الأمثال الحكمية من أمن الزمان ضيع ثغرا مخوفا ومثل الكلمة الثانية قولهم الدنيا كالأمة اللئيمة المعشوقة كلما ازددت لها عشقا وعليها تهالكا ازدادت إذلالا وعليك شطاطا . وقال أبو الطيب
و هي معشوقة على الغدر لا تحفظ
عهدا ولا تتمم وصلا
[ 121 ]
شيم الغانيات فيها فلا أدري
لذا أنث اسمها الناس أم لا
و منها قوله ليس كل من رمى أصاب هذا معنى مشهور قال أبو الطيب
ما كل من طلب المعالي نافذا
فيها ولا كل الرجال فحولا(1/4524)
و منها قوله إذا تغير السلطان تغير الزمان في كتب الفرس أن أنوشروان جمع عمال السواد وبيده درة يقلبها فقال أي شي ء أضر بارتفاع السواد وأدعى إلى محقه أيكم قال ما في نفسي جعلت هذه الدرة في فيه فقال بعضهم انقطاع الشرب وقال بعضهم احتباس المطر وقال بعضهم استيلاء الجنوب وعدم الشمال فقال لوزيره قل أنت فإني أظن عقلك يعادل عقول الرعية كلها أو يزيد عليها قال تغير رأي السلطان في رعيته وإضمار الحيف لهم والجور عليهم فقال لله أبوك بهذا العقل أهلك آبائي وأجدادي لما أهلوك له ودفع إليه الدرة فجعلها في فيه . ومنها قوله سل عن الرفيق قبل الطريق وعن الجار قبل الدار وقد روي هذا الكلام مرفوعا وفي المثل جار السوء كلب هارش وأفعى ناهش . وفي المثل الرفيق إما رحيق أو حريق : إِيَّاكَ أَنْ تَذْكُرَ مِنَ اَلْكَلاَمِ مَا يَكُونُ مُضْحِكاً وَ إِنْ حَكَيْتَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِكَ
[ 122 ](1/4525)
وَ إِيَّاكَ وَ مُشَاوَرَةَ اَلنِّسَاءِ فَإِنَّ رَأْيَهُنَّ إِلَى أَفْنٍ وَ عَزْمَهُنَّ إِلَى وَهْنٍ وَ اُكْفُفْ عَلَيْهِنَّ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ بِحِجَابِكَ إِيَّاهُنَّ فَإِنَّ شِدَّةَ اَلْحِجَابِ أَبْقَى عَلَيْهِنَّ وَ لَيْسَ خُرُوجُهُنَّ بِأَشَدَّ مِنْ إِدْخَالِكَ مَنْ لاَ يُوثَقُ بِهِ عَلَيْهِنَّ وَ إِنِ اِسْتَطَعْتَ أَلاَّ يَعْرِفْنَ غَيْرَكَ فَافْعَلْ وَ لاَ تُمَلِّكِ اَلْمَرْأَةَ مِنْ أَمْرِهَا مَا جَاوَزَ نَفْسَهَا فَإِنَّ اَلْمَرْأَةَ رَيْحَانَةٌ وَ لَيْسَتْ بِقَهْرَمَانَةٍ وَ لاَ تَعْدُ بِكَرَامَتِهَا نَفْسَهَا وَ لاَ تُطْمِعْهَا فِي أَنْ تَشْفَعَ لِغَيْرِهَا وَ إِيَّاكَ وَ اَلتَّغَايُرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ غَيْرَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْعُو اَلصَّحِيحَةَ إِلَى اَلسَّقَمِ وَ اَلْبَرِيئَةَ إِلَى اَلرِّيَبِ وَ اِجْعَلْ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ خَدَمِكَ عَمَلاً تَأْخُذُهُ بِهِ فَإِنَّهُ أَحْرَى أَلاَّ يَتَوَاكَلُوا فِي خِدْمَتِكَ وَ أَكْرِمْ عَشِيرَتَكَ فَإِنَّهُمْ جَنَاحُكَ اَلَّذِي بِهِ تَطِيرُ وَ أَصْلُكَ اَلَّذِي إِلَيْهِ تَصِيرُ وَ يَدُكَ اَلَّتِي بِهَا تَصُولُ اِسْتَوْدِعِ اَللَّهَ دِينَكَ وَ دُنْيَاكَ وَ اِسْأَلْهُ خَيْرَ اَلْقَضَاءِ لَكَ فِي اَلْعَاجِلَةِ وَ اَلآْجِلَةِ وَ اَلدُّنْيَا وَ اَلآْخِرَةِ وَ اَلسَّلاَمُ نهاه أن يذكر من الكلام ما كان مضحكا لأن ذلك من شغل أرباب الهزل والبطالة وقل أن يخلو ذلك من غيبة أو سخرية ثم قال وإن حكيت ذلك عن غيرك فإنه كما يستهجن الابتداء بذلك يستهجن حكايته عن الغير وذلك كلام فصيح أ لا ترى أنه لا يجوز الابتداء بكلمة الكفر ويكره أيضا حكايتها وقال عمر لما نهاه
[ 123 ](1/4526)
رسول الله ص أن يحلف بالله فما حلفت به ذاكرا ولا آثرا ولا حاكيا . وكان يقال من مازح استخف به ومن كثر ضحكه قلت هيبته . فأما مشاورة النساء فإنه من فعل عجزة الرجال قال الفضل بن الربيع أيام الحرب بين الأمين والمأمون في كلام يذكر فيه الأمين ويصفه بالعجز ينام نوم الظربان وينتبه انتباهة الذئب همه بطنه ولذته فرجه لا يفكر في زوال نعمة ولا يروي في إمضاء رأي ولا مكيدة قد شمر له عبد الله عن ساقه وفوق له أشد سهامه يرميه على بعد الدار بالحتف النافذ والموت القاصد قد عبى له المنايا على متون الخيل وناط له البلايا بأسنة الرماح وشفار السيوف فكأنه هو قال هذا الشعر ووصف به نفسه وأخاه
يقارع أتراك ابن خاقان ليله
إلى أن يرى الإصباح لا يتلعثم
فيصبح من طول الطراد وجسمه
نحيل وأضحي في النعيم أصمم
و همي كأس من عقار وقينة
و همته درع ورمح ومخذم
فشتان ما بيني وبين ابن خالد
أمية في الرزق الذي الله يقسم
و نحن معه نجري إلى غاية إن قصرنا عنها ذممنا وإن اجتهدنا في بلوغها انقطعنا وإنما نحن شعب من أصل إن قوي قوينا وإن ضعف ضعفنا إن هذا الرجل قد ألقى بيده إلقاء الأمة الوكعاء يشاور النساء ويعتزم على الرؤيا قد أمكن أهل الخسارة واللهو من سمعه فهم يمنونه الظفر ويعدونه عقب الأيام والهلاك أسرع إليه من السيل إلى قيعان الرمل . قوله ع فإن رأيهن إلى أفن الأفن بالسكون النقص والمتأفن
[ 124 ](1/4527)
المتنقص يقال فلان يتأفن فلانا أي يتنقصه ويعيبه ومن رواه إلى أفن بالتحريك فهو ضعف الرأي أفن الرجل يأفن أفنا أي ضعف رأيه وفي المثل إن الرقين تغطي أفن الأفين والوهن الضعف . قوله واكفف عليهن من أبصارهن من هاهنا زائدة وهو مذهب أبي الحسن الأخفش في زيادة من في الموجب ويجوز أن يحمل على مذهب سيبويه فيعنى به فاكفف عليهن بعض أبصارهن . ثم ذكر فائدة الحجاب ونهاه أن يدخل عليهن من لا يوثق به وقال إن خروجهن أهون من ذلك وذلك لأن من تلك صفته يتمكن من الخلوة ما لا يتمكن منه من يراهن في الطرقات . ثم قال إن استطعت ألا يعرفن غيرك فافعل كان لبعضهم بنت حسناء فحج بها وكان يعصب عينيها ويكشف للناس وجهها فقيل له في ذلك فقال إنما الحذر من رؤيتها الناس لا من رؤية الناس لها . قال ولا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها أي لا تدخلها معك في تدبير ولا مشورة ولا تتعدين حال نفسها وما يصلح شأنها . فإن المرأة ريحانة وليست بقهرمانة أي إنما تصلح للمتعة واللذة وليست وكيلا في مال ولا وزيرا في رأي . ثم أكد الوصية الأولى فقال لا تعد بكرامتها نفسها هذا هو قوله ولا تملكها من أمرها ما جاوز نفسها . ثم نهاه أن يطمعها في الشفاعات .
[ 125 ](1/4528)
و روى الزبير بن بكار قال كانت الخيزران كثيرا ما تكلم موسى ابنها لما استخلف في الحوائج وكان يجيبها إلى كل ما تسأل حتى مضت أربعة أشهر من خلافته وتتألى الناس عليها وطمعوا فيها فكانت المواكب تغدو إلى بابها وكلمته يوما في أمر فلم يجد إلى إجابتها سبيلا واحتج عليها بحجة فقالت لا بد من إجابتي فقال لا أفعل قالت إني قد ضمنت هذه الحاجة لعبد الله بن مالك فغضب موسى وقال ويلي على ابن الفاعلة قد علمت أنه صاحبها والله لا قضيتها لك ولا له قالت والله لا أسألك حاجة أبدا قال إذن والله لا أبالي فقامت مغضبة فقال مكانك تستوعبي كلامي وأنا والله بري ء من قرابتي من رسول الله ص لئن بلغني أنه وقف أحد من قوادي وخاصتي وخدمي وكتابي على بابك لأضربن عنقه وأقبضن ماله فمن شاء فليلزم ذلك ما هذه المواكب التي تغدو إلى بابك كل يوم أ ما لك مغزل يشغلك أو مصحف يذكرك أو بيت يصونك إياك ثم إياك أن تفتحي فاك في حاجة لملي أو ذمي فانصرفت وما تعقل ما تطأ عليه ولم تنطق عنده بحلوة ولا مرة بعدها حتى هلك . وأخذ هذه اللفظة منه وهي قوله إن المرأة ريحانة وليست بقهرمانة الحجاج فقالها للوليد بن عبد الملك روى ابن قتيبة في كتاب عيون الأخبار قال دخل الحجاج على الوليد بن عبد الملك وعليه درع وعمامة سوداء وفرس عربية وكنانة وذلك في أول قدمة قدمها عليه من العراق فبعثت أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان وهي تحت الوليد إليه من هذا الأعرابي المستلئم في السلاح عندك وأنت في غلالة فأرسل إليها هذا الحجاج فأعادت إليه الرسول فقال تقول لك والله لأن يخلو بك ملك الموت في اليوم أحيانا أحب
[ 126 ](1/4529)
إلي من أن يخلو بك الحجاج فأخبره الوليد بذلك وهو يمازحه فقال يا أمير المؤمنين دع عنك مفاكهة النساء بزخرف القول فإنما المرأة ريحانة وليست بقهرمانة فلا تطلعها على سرك ومكايدة عدوك فلما دخل الوليد عليها أخبرها وهو يمازحها بمقالة الحجاج فقالت يا أمير المؤمنين حاجتي أن تأمره غدا أن يأتيني مسلما ففعل ذلك فأتاها الحجاج فحجبته فلم يزل قائما ثم أذنت له فقالت يا حجاج أنت الممتن على أمير المؤمنين بقتلك ابن الزبير وابن الأشعث أما والله لو لا أن الله علم أنك شر خلقه ما ابتلاك برمي الكعبة الحرام ولا بقتل ابن ذات النطاقين أول مولود في دار هجرة الإسلام وأما نهيك أمير المؤمنين عن مفاكهة النساء وبلوغ لذاته وأوطاره فإن كن ينفرجن عن مثلك فما أحقه بالأخذ منك وإن كن ينفرجن عن مثله فهو غير قابل لقولك أما والله لقد نقص نساء أمير المؤمنين الطيب من غدائرهن فبعنه في أعطية أهل الشام حين كنت في أضيق من قرن قد أظلتك رماحهم وأثخنك كفاحهم وحين كان أمير المؤمنين أحب إليهم من أبنائهم وآبائهم فأنجاك الله من عدو أمير المؤمنين بحبهم إياه قاتل الله القائل حين ينظر إليك وسنان غزالة بين كتفيك
أسد علي وفي الحروب نعامة
ربداء تنفر من صفير الصافر
هلا برزت إلى غزالة في الوغى
بل كان قلبك في جناحي طائر
قم فاخرج فقام فخرج
[ 127 ](1/4530)
بعض ما قيل في الغيرة من الشعر
فأما قوله ع إياك والتغاير في غير موضع غيرة فقد قيل هذا المعنى قال بعض المحدثين
يا أيها الغائر مه لا تغر
إلا لما تدركه بالبصر
ما أنت في ذلك إلا كمن
بيته الدب لرمي الحجر
و كان مسكين الدارمي أحد من يستهجن الغيرة ويستقبح وقوعها في غير محلها فمن شعره في هذا المعنى
ما أحسن الغيرة في حينها
و أقبح الغيرة في غير حين
من لم يزل متهما عرسه
مناصبا فيها لرجم الظنون
يوشك أن يغريها بالذي
يخاف أو ينصبها للعيون
حسبك من تحصينها ضمها
منك إلى خيم كريم ودين
لا تظهرن يوما على عورة
فيتبع المقرون حبل القرين
و قال أيضا
ألا أيها الغائر المستشيط
علام تغار إذ لم تغر
فما خير عرس إذا خفتها
و ما خير بيت إذا لم يزر
تغار من الناس أن ينظروا
و هل يفتن الصالحات النظر
فإني سأخلي لها بيتها
فتحفظ لي نفسها أو تذر
[ 128 ]
إذا الله لم يعطه ودها
فلن يعطي الود سوط ممر
و من ذا يراعي له عرسه
إذا ضمه والركاب السقر
و قال أيضا
و لست امرأ لا أبرح الدهر قاعدا
إلى جنب عرسي لا أفارقها شبرا
و لا مقسما لا أبرح الدهر بيتها
لأجعله قبل الممات لها قبرا
و لا حاملا ظني ولا قول قائل
على غيره حتى أحيط به خبرا
و هبني امرأ راعيت ما دمت شاهدا
فكيف إذا ما سرت من بيتها شهرا
إذا هي لم تحصن لما في فنائها
فليس بمنجيها بنائي لها قصرا
فأما قوله واجعل لكل إنسان من خدمك عملا تأخذه به فقد قالت الحكماء هذا المعنى قال أبرويز في وصيته لولده شيرويه وانظر إلى كتابك فمن كان منهم ذا ضياع قد أحسن عمارتها فوله الخراج ومن كان منهم ذا عبيد قد أحسن سياستهم وتثقيفهم فوله الجند ومن كان منهم ذا سراري وضرائر قد أحسن القيام عليهن فوله النفقات والقهرمة وهكذا فاصنع في خدم دارك ولا تجعل أمرك فوضى بين خدمك فيفسد عليك ملكك . وأما قوله فأكرم عشيرتك فإنهم جناحك فقد تقدم منا كلام في وجوب الاعتضاد بالعشائر(1/4531)
اعتزاز الفرزدق بقومه
روى أبو عبيدة قال كان الفرزدق لا ينشد بين يدي الخلفاء والأمراء إلا قاعدا
[ 129 ]
فدخل على سليمان بن عبد الملك يوما فأنشده شعرا فخر فيه بآبائه وقال من جملته
تالله ما حملت من ناقة رجلا
مثلي إذا الريح لفتني على الكور
فقال سليمان هذا المدح لي أم لك قال لي ولك يا أمير المؤمنين فغضب سليمان وقال قم فأتمم ولا تنشد بعده إلا قائما فقال الفرزدق لا والله أو يسقط إلى الأرض أكثري شعرا فقال سليمان ويلي على الأحمق ابن الفاعلة لا يكنى وارتفع صوته فسمع الضوضاء بالباب فقال سليمان ما هذا قيل بنو تميم على الباب قالوا لا ينشد الفرزدق قائما وأيدينا في مقابض سيوفنا قال فلينشد قاعدا(1/4532)
وفود الوليد بن جابر على معاوية
و روى أبو عبيد الله محمد بن موسى بن عمران المرزباني قال كان الوليد بن جابر بن ظالم الطائي ممن وفد على رسول الله ص فأسلم ثم صحب عليا ع وشهد معه صفين وكان من رجاله المشهورين ثم وفد على معاوية في الاستقامة وكان معاوية لا يثبته معرفة بعينه فدخل عليه في جملة الناس فلما انتهى إليه استنسبه فانتسب له فقال أنت صاحب ليلة الهرير قال نعم قال والله ما تخلو مسامعي من رجزك تلك الليلة وقد علا صوتك أصوات الناس وأنت تقول
شدوا فداء لكم أمي وأب
فإنما الأمر غدا لمن غلب
هذا ابن عم المصطفى والمنتجب
تنمه للعلياء سادات العرب
ليس بموصوم إذا نص النسب
أول من صلى وصام واقترب
قال نعم أنا قائلها قال فلما ذا قلتها قال لأنا كنا مع رجل لا نعلم خصلة
[ 130 ](1/4533)
توجب الخلافة ولا فضيلة تصير إلى التقدمة إلا وهي مجموعة له كان أول الناس سلما وأكثرهم علما وأرجحهم حلما فات الجياد فلا يشق غباره يستولي على الأمد فلا يخاف عثاره وأوضح منهج الهدى فلا يبيد مناره وسلك القصد فلا تدرس آثاره فلما ابتلانا الله تعالى بافتقاده وحول الأمر إلى من يشاء من عباده دخلنا في جملة المسلمين فلم ننزع يدا عن طاعة ولم نصدع صفاة جماعة على أن لك منا ما ظهر وقلوبنا بيد الله وهو أملك بها منك فاقبل صفونا وأعرض عن كدرنا ولا تثر كوامن الأحقاد فإن النار تقدح بالزناد قال معاوية وإنك لتهددني يا أخا طيئ بأوباش العراق أهل النفاق ومعدن الشقاق فقال يا معاوية هم الذين أشرقوك بالريق وحبسوك في المضيق وذادوك عن سنن الطريق حتى لذت منهم بالمصاحف ودعوت إليها من صدق بها وكذبت وآمن بمنزلها وكفرت وعرف من تأويلها ما أنكرت فغضب معاوية وأدار طرفه فيمن حوله فإذا جلهم من مضر ونفر قليل من اليمن فقال أيها الشقي الخائن إني لإخال أن هذا آخر كلام تفوه به وكان عفير بن سيف بن ذي يزن بباب معاوية حينئذ فعرف موقف الطائي ومراد معاوية فخافه عليه فهجم عليهم الدار وأقبل على اليمانية فقال شاهت الوجوه ذلا وقلا وجدعا وفلا كشم الله هذه الأنف كشما مرعبا ثم التفت إلى معاوية فقال إني والله يا معاوية ما أقول قولي هذا حبا لأهل العراق ولا جنوحا إليهم ولكن الحفيظة تذهب الغضب لقد رأيتك بالأمس خاطبت أخا ربيعة يعني صعصعة بن صوحان وهو أعظم جرما عندك من هذا وأنكأ لقلبك وأقدح في صفاتك وأجد في عداوتك وأشد انتصارا في حربك ثم أثبته وسرحته وأنت الآن مجمع على قتل هذا زعمت استصغارا لجماعتنا فإنا لا نمر ولا نحلي ولعمري لو وكلتك أبناء قحطان إلى قومك لكان جدك العاثر وذكرك الداثر
[ 131 ](1/4534)
و حدك المفلول وعرشك المثلول فاربع على ظلعك واطونا على بلالتنا ليسهل لك حزننا ويتطامن لك شاردنا فإنا لا نرام بوقع الضيم ولا نتلمظ جرع الخسف ولا نغمز بغماز الفتن ولا نذر على الغضب فقال معاوية الغضب شيطان فاربع نفسك أيها الإنسان فإنا لم نأت إلى صاحبك مكروها ولم نرتكب منه مغضبا ولم ننتهك منه محرما فدونكه فإنه لم يضق عنه حلمنا ويسع غيره فأخذ عفير بيد الوليد وخرج به إلى منزله وقال له والله لتئوبن بأكثر مما آب به معدي من معاوية وجمع من بدمشق من اليمانية وفرض على كل رجل دينارين في عطائه فبلغت أربعين ألفا فتعجلها من بيت المال ودفعها إلى الوليد ورده إلى العراق
[ 132 ](1/4535)
32 ومن كتاب له ع إلى معاوية
وَ أَرْدَيْتَ جِيلاً مِنَ اَلنَّاسِ كَثِيراً خَدَعْتَهُمْ بِغَيِّكَ وَ أَلْقَيْتَهُمْ فِي مَوْجِ بَحْرِكَ تَغْشَاهُمُ اَلظُّلُمَاتُ وَ تَتَلاَطَمُ بِهِمُ اَلشُّبُهَاتُ فَجَارُوا فَجَازُوا عَنْ وِجْهَتِهِمْ وَ نَكَصُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ وَ تَوَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ وَ عَوَّلُوا عَلَى أَحْسَابِهِمْ إِلاَّ مَنْ فَاءَ مِنْ أَهْلِ اَلْبَصَائِرِ فَإِنَّهُمْ فَارَقُوكَ بَعْدَ مَعْرِفَتِكَ وَ هَرَبُوا إِلَى اَللَّهِ مِنْ مُوَازَرَتِكَ إِذْ حَمَلْتَهُمْ عَلَى اَلصَّعْبِ وَ عَدَلْتَ بِهِمْ عَنِ اَلْقَصْدِ فَاتَّقِ اَللَّهَ يَا مُعَاوِيَةُ فِي نَفْسِكَ وَ جَاذِبِ اَلشَّيْطَانَ قِيَادَكَ فَإِنَّ اَلدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ عَنْكَ وَ اَلآْخِرَةَ قَرِيبَةٌ مِنْكَ وَ اَلسَّلاَمُ أرديتهم أهلكتهم وجيلا من الناس أي صنفا من الناس والغي الضلال وجاروا عدلوا عن القصد ووجهتهم بكسر الواو يقال هذا وجه الرأي أي هو الرأي بنفسه والاسم الوجه بالكسر ويجوز بالضم . قوله وعولوا على أحسابهم أي لم يعتمدوا على الدين وإنما أردتهم الحمية ونخوة الجاهلية فأخلدوا إليها وتركوا الدين والإشارة إلى بني أمية وخلفائهم الذين اتهموه ع بدم عثمان فحاموا عن الحسب ولم يأخذوا بموجب الشرع في تلك الواقعة
[ 133 ]
ثم استثنى قوما فاءوا أي رجعوا عن نصرة معاوية وقد ذكرنا في أخبار صفين من فارق معاوية ورجع إلى أمير المؤمنين ع أو فارقه واعتزل الطائفتين . قوله حملتهم على الصعب أي على الأمر الشاق والأصل في ذلك البعير المستصعب يركبه الإنسان فيغرر بنفسه(1/4536)
ذكر بعض ما دار بين علي ومعاوية من الكتب
و أول هذا الكتاب من عبد الله علي أمير المؤمنين ع إلى معاوية بن أبي سفيان أما بعد فإن الدنيا دار تجارة وربحها أو خسرها الآخرة فالسعيد من كانت بضاعته فيها الأعمال الصالحة ومن رأى الدنيا بعينها وقدرها بقدرها وإني لأعظك مع علمي بسابق العلم فيك مما لا مرد له دون نفاذه ولكن الله تعالى أخذ على العلماء أن يؤدوا الأمانة وأن ينصحوا الغوي والرشيد فاتق الله ولا تكن ممن لا يرجو لله وقارا ومن حقت عليه كلمة العذاب فإن الله بالمرصاد وإن دنياك ستدبر عنك وستعود حسرة عليك فاقلع عما أنت عليه من الغي والضلال على كبر سنك وفناء عمرك فإن حالك اليوم كحال الثوب المهيل الذي لا يصلح من جانب إلا فسد من آخر وقد أرديت جيلا من الناس كثيرا خدعتهم بغيك إلى آخر الكتاب . قال أبو الحسن علي بن محمد المدائني فكتب إليه معاوية من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب أما بعد فقد وقفت على كتابك وقد أبيت على الفتن إلا تماديا وإني لعالم أن الذي يدعوك إلى ذلك مصرعك الذي
[ 134 ]
لا بد لك منه وإن كنت موائلا فازدد غيا إلى غيك فطالما خف عقلك ومنيت نفسك ما ليس لك والتويت على من هو خير منك ثم كانت العاقبة لغيرك واحتملت الوزر بما أحاط بك من خطيئتك والسلام .(1/4537)
فكتب علي ع إليه أما بعد فإن ما أتيت به من ضلالك ليس ببعيد الشبه مما أتى به أهلك وقومك الذين حملهم الكفر وتمني الأباطيل على حسد محمد ص حتى صرعوا مصارعهم حيث علمت لم يمنعوا حريما ولم يدفعوا عظيما وأنا صاحبهم في تلك المواطن الصالي بحربهم والفال لحدهم والقاتل لرءوسهم ورءوس الضلالة والمتبع إن شاء الله خلفهم بسلفهم فبئس الخلف خلف أتبع سلفا محله ومحطه النار والسلام . قال فكتب إليه معاوية أما بعد فقد طال في الغي ما استمررت أدراجك كما طالما تمادي عن الحرب نكوصك وإبطاؤك فتوعد وعيد الأسد وتروغ روغان الثعلب فحتام تحيد عن لقاء مباشرة الليوث الضارية والأفاعي القاتلة ولا تستبعدنها فكل ما هو آت قريب إن شاء الله والسلام .
قال فكتب إليه علي ع أما بعد فما أعجب ما يأتيني منك وما أعلمني بما أنت إليه صائر وليس إبطائي عنك إلا ترقبا لما أنت له مكذب وأنا به مصدق وكأني بك غدا وأنت تضج من الحرب ضجيج الجمال من الأثقال وستدعوني أنت وأصحابك إلى كتاب تعظمونه بألسنتكم وتجحدونه بقلوبكم والسلام . قال فكتب إليه معاوية
[ 135 ]
أما بعد فدعني من أساطيرك واكفف عني من أحاديثك واقصر عن تقولك على رسول الله ص وافترائك من الكذب ما لم يقل وغرور من معك والخداع لهم فقد استغويتهم ويوشك أمرك أن ينكشف لهم فيعتزلوك ويعلموا أن ما جئت به باطل مضمحل والسلام .(1/4538)
قال فكتب إليه علي ع أما بعد فطالما دعوت أنت وأولياؤك أولياء الشيطان الرجيم الحق أساطير الأولين ونبذتموه وراء ظهوركم وجهدتم بإطفاء نور الله بأيديكم وأفواهكم وَ اَللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكافِرُونَ ولعمري ليتمن النور على كرهك ولينفذن العلم بصغارك ولتجازين بعملك فعث في دنياك المنقطعة عنك ما طاب لك فكأنك بباطلك وقد انقضى وبعملك وقد هوى ثم تصير إلى لظى لم يظلمك الله شيئا وَ ما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ . قال فكتب إليه معاوية أما بعد فما أعظم الرين على قلبك والغطاء على بصرك الشره من شيمتك والحسد من خليقتك فشمر للحرب واصبر للضرب فو الله ليرجعن الأمر إلى ما علمت والعاقبة للمتقين هيهات هيهات أخطأك ما تمنى وهوى قلبك مع من هوى فاربع على ظلعك وقس شبرك بفترك لتعلم أين حالك من حال من يزن الجبال حلمه ويفصل بين أهل الشك علمه والسلام .
قال فكتب إليه علي ع أما بعد فإن مساوئك مع علم الله تعالى فيك حالت بينك وبين أن يصلح لك أمرك وأن يرعوي قلبك يا ابن الصخر اللعين زعمت أن يزن الجبال حلمك ويفصل بين أهل الشك علمك وأنت الجلف المنافق الأغلف القلب القليل العقل الجبان الرذل فإن كنت صادقا فيما تسطر ويعينك عليه أخو بني سهم فدع الناس جانبا وتيسر لما دعوتني إليه من الحرب والصبر على
[ 136 ](1/4539)
الضرب وأعف الفريقين من القتال ليعلم أينا المرين على قلبه المغطى على بصره فأنا أبو الحسن قاتل جدك وأخيك وخالك وما أنت منهم ببعيد والسلام . قلت وأعجب وأطرب ما جاء به الدهر وإن كانت عجائبه وبدائعه جمة أن يفضى أمر علي ع إلى أن يصير معاوية ندا له ونظيرا مماثلا يتعارضان الكتاب والجواب ويتساويان فيما يواجه به أحدهما صاحبه ولا يقول له علي ع كلمة إلا قال مثلها وأخشن مسا منها فليت محمدا ص كان شاهد ذلك ليرى عيانا لا خبرا أن الدعوة التي قام بها وقاسى أعظم المشاق في تحملها وكابد الأهوال في الذب عنها وضرب بالسيوف عليها لتأييد دولتها وشيد أركانها وملأ الآفاق بها خلصت صفوا عفوا لأعدائه الذين كذبوه لما دعا إليها وأخرجوه عن أوطانه لما حض عليها وأدموا وجهه وقتلوا عمه وأهله فكأنه كان يسعى لهم ويدأب لراحتهم كما قال أبو سفيان في أيام عثمان وقد مر بقبر حمزة وضربه برجله وقال يا أبا عمارة إن الأمر الذي اجتلدنا عليه بالسيف أمسى في يد غلماننا اليوم يتلعبون به ثم آل الأمر إلى أن يفاخر معاوية عليا كما يتفاخر الأكفاء والنظراء .
إذا عير الطائي بالبخل مادر
و قرع قسا بالفهاهة باقل
و قال السها للشمس أنت خفية
و قال الدجى يا صبح لونك حائل
و فاخرت الأرض السماء سفاهة
و كاثرت الشهب الحصى والجنادل
فيا موت زر إن الحياة ذميمة
و يا نفس جدي إن دهرك هازل
ثم أقول ثانيا لأمير المؤمنين ع ليت شعري لما ذا فتح باب الكتاب
[ 137 ](1/4540)
و الجواب بينه وبين معاوية وإذا كانت الضرورة قد قادت إلى ذلك فهلا اقتصر في الكتاب إليه على الموعظة من غير تعرض للمفاخرة والمنافرة وإذا كان لا بد منهما فهلا اكتفى بهما من غير تعرض لأمر آخر يوجب المقابلة والمعارضة بمثله وبأشد منه وَ لا تَسُبُّوا اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ فَيَسُبُّوا اَللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ وهلا دفع هذا الرجل العظيم الجليل نفسه عن سباب هذا السفيه الأحمق هذا مع أنه القائل من واجه الناس بما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون أي افتروا عليه وقالوا فيه الباطل .
أيها الشاتمي لتحسب مثلي
إنما أنت في الضلال تهيم
لا تسبنني فلست بسبي
إن سبي من الرجال الكريم
و هكذا جرى في القنوت واللعن قنت بالكوفة على معاوية ولعنه في الصلاة وخطبة الجمعة وأضاف إليه عمرو بن العاص وأبا موسى وأبا الأعور السلمي وحبيب بن مسلمة فبلغ ذلك معاوية بالشام فقنت عليه ولعنه بالصلاة وخطبة الجمعة وأضاف إليه الحسن والحسين وابن عباس والأشتر النخعي ولعله ع قد كان يظهر له من المصلحة حينئذ ما يغيب عنا الآن ولله أمر هو بالغه
[ 138 ](1/4541)
33 ومن كتاب له ع إلى قثم بن العباس وهو عامله على مكة
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ عَيْنِي بِالْمَغْرِبِ كَتَبَ إِلَيَّ يُعْلِمُنِي أَنَّهُ وُجِّهَ إِلَى اَلْمَوْسِمِ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ اَلشَّامِ اَلْعُمْيِ اَلْقُلُوبِ اَلصُّمِّ اَلْأَسْمَاعِ اَلْكُمْهِ اَلْأَبْصَارِ اَلَّذِينَ يَلْبِسُونَ اَلْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَ يُطِيعُونَ اَلْمَخْلُوقَ فِي مَعْصِيَةِ اَلْخَالِقِ وَ يَحْتَلِبُونَ اَلدُّنْيَا دَرَّهَا بِالدِّينِ وَ يَشْتَرُونَ عَاجِلَهَا بِآجِلِ اَلْأَبْرَارِ اَلْمُتَّقِينَ وَ لَنْ يَفُوزَ بِالْخَيْرِ إِلاَّ عَامِلُهُ وَ لاَ يُجْزَى جَزَاءَ اَلشَّرِّ إِلاَّ فَاعِلُهُ فَأَقِمْ عَلَى مَا فِي يَدَيْكَ قِيَامَ اَلْحَازِمِ اَلطَّبِيبِ اَلصَّلِيبِ وَ اَلنَّاصِحِ اَللَّبِيبِ اَلتَّابِعِ لِسُلْطَانِهِ اَلْمُطِيعِ لِإِمَامِهِ وَ إِيَّاكَ وَ مَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ وَ لاَ تَكُنْ عِنْدَ اَلنَّعْمَاءِ بَطِراً وَ لاَ عِنْدَ اَلْبَأْسَاءِ فَشِلاً وَ اَلسَّلاَمُ كان معاوية قد بعث إلى مكة دعاة في السر يدعون إلى طاعته ويثبطون العرب عن نصرة أمير المؤمنين ويوقعون في أنفسهم أنه إما قاتل لعثمان أو خاذل وإن الخلافة
[ 139 ](1/4542)
لا تصلح فيمن قتل أو خذل وينشرون عندهم محاسن معاوية بزعمهم وأخلاقه وسيرته فكتب أمير المؤمنين ع هذا الكتاب إلى عامله بمكة ينبهه على ذلك ليعتمد فيه بما تقتضيه السياسة ولم يصرح في هذا الكتاب بما ذا يأمره أن يفعل إذا ظفر بهم . قوله عيني بالمغرب أي أصحاب أخباره عند معاوية وسمى الشام مغربا لأنه من الأقاليم المغربية . والموسم الأيام التي يقام فيها الحج . وقوله ويحتلبون الدنيا درها بالدين دلالة على ما قلنا إنهم كانوا دعاة يظهرون سمت الدين وناموس العبادة وفيه إبطال قول من ظن أن المراد بذلك السرايا التي كان معاوية يبعثها فتغير على أعمال علي ع ودرها منصوب بالبدل من الدنيا وروي الذين يلتمسون الحق بالباطل أي يطلبونه أي يتبعون معاوية وهو على الباطل التماسا وطلبا للحق ولا يعلمون أنهم قد ضلوا . قوله وإياك وما يعتذر منه من الكلمات الشريفة الجليلة الموقع وقد رويت مرفوعة وكان يقال ما شي ء أشد على الإنسان من حمل المروءة والمروءة ألا يعمل الإنسان في غيبة صاحبه ما يعتذر منه عند حضوره . قوله ولا تكن عند النعماء بطرا ولا عند البأساء فشلا معنى مستعمل قال الشاعر
فلست بمفراح إذا الدهر سرني
و لا جازع من صرفه المتقلب
و لا أتمنى الشر والشر تاركي
و لكن متى أحمل على الشر أركب
[ 140 ](1/4543)
قثم بن عباس وبعض أخباره
فأما قثم بن العباس فأمه أم إخوته وروى ابن عبد البر في كتاب الاستيعاب
عن عبد الله بن جعفر قال كنت أنا وعبيد الله وقثم ابنا العباس نلعب فمر بنا رسول الله ص راكبا فقال ارفعوا إلي هذا الفتى يعني قثم فرفع إليه فأردفه خلفه ثم جعلني بين يديه ودعا لنا فاستشهد قثم بسمرقند . قال ابن عبد البر وروى عبد الله بن عباس قال كان قثم آخر الناس عهدا برسول الله ص أي آخر من خرج من قبره ممن نزل فيه قال وكان المغيرة بن شعبة يدعي ذلك لنفسه فأنكر علي بن أبي طالب ع ذلك وقال بل آخر من خرج من القبر قثم بن العباس . قال ابن عبد البر وكان قثم واليا لعلي ع على مكة عزل علي ع خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي وكان واليها لعثمان وولاها أبا قتادة الأنصاري ثم عزله عنها وولى مكانه قثم بن العباس فلم يزل واليه عليها حتى قتل علي ع قال هذا قول خليفة وقال الزبير بن بكار استعمل علي ع قثم بن العباس على المدينة . قال ابن عبد البر واستشهد قثم بسمرقند كان خرج إليها مع سعيد بن عثمان بن عفان زمن معاوية فقتل هناك . قال وكان قثم يشبه رسول الله ص وفيه يقول داود بن مسلم
[ 141 ]
عتقت من حل ومن رحلة
يا ناق إن أدنيتني من قثم
إنك إن أدنيت منه غدا
حالفني اليسر ومات العدم
في كفه بحر وفي وجهه
بدر وفي العرنين منه شمم
أصم عن قيل الخنا سمعه
و ما على الخير به من صمم
لم يدر ما لا وبلا قد درى
فعافها واعتاض منها نعم
[ 142 ](1/4544)
34 ومن كتاب له ع إلى محمد بن أبي بكر
لما بلغه توجده من عزله بالأشتر عن مصر ثم توفي الأشتر في توجهه إلى هناك قبل وصوله إليها : أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِي مَوْجِدَتُكَ مِنْ تَسْرِيحِ اَلْأَشْتَرِ إِلَى عَمَلِكَ وَ إِنِّي لَمْ أَفْعَلْ ذَلِكَ اِسْتِبْطَاءً لَكَ فِي اَلْجَهْدَ وَ لاَ اِزْدِيَاداً لَكَ فِي اَلْجِدِّ وَ لَوْ نَزَعْتُ مَا تَحْتَ يَدِكَ مِنْ سُلْطَانِكَ لَوَلَّيْتُكَ مَا هُوَ أَيْسَرُ عَلَيْكَ مَئُونَةً وَ أَعْجَبُ إِلَيْكَ وِلاَيَةً إِنَّ اَلرَّجُلَ اَلَّذِي كُنْتُ وَلَّيْتُهُ أَمْرَ مِصْرَ كَانَ رَجُلاً لَنَا نَاصِحاً وَ عَلَى عَدُوِّنَا شَدِيداً نَاقِماً فَرَحِمَهُ اَللَّهُ فَلَقَدِ اِسْتَكْمَلَ أَيَّامَهُ وَ لاَقَى حِمَامَهُ وَ نَحْنُ عَنْهُ رَاضُونَ أَوْلاَهُ اَللَّهُ رِضْوَانَهُ وَ ضَاعَفَ اَلثَّوَابَ لَهُ فَأَصْحِرْ لِعَدُوِّكَ وَ اِمْضِ عَلَى بَصِيرَتِكَ وَ شَمِّرْ لِحَرْبِ مَنْ حَارَبَكَ وَ اُدْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ وَ أَكْثِرِ اَلاِسْتِعَانَةَ بِاللَّهِ يَكْفِكَ مَا أَهَمَّكَ وَ يُعِنْكَ عَلَى مَا يُنْزِلُ بِكَ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ(1/4545)
محمد بن أبي بكر وبعض أخباره
أم محمد رحمه الله أسماء بنت عميس الخثعمية وهي أخت ميمونة زوج النبي ص
[ 143 ]
و أخت لبابة أم الفضل وعبد الله زوج العباس بن عبد المطلب وكانت من المهاجرات إلى أرض الحبشة وهي إذ ذاك تحت جعفر بن أبي طالب ع فولدت له هناك محمد بن جعفر وعبد الله وعونا ثم هاجرت معه إلى المدينة فلما قتل جعفر يوم مؤتة تزوجها أبو بكر فولدت له محمد بن أبي بكر هذا ثم مات عنها فتزوجها علي ع وولدت له يحيى بن علي لا خلاف في ذلك . وقال ابن عبد البر في الإستيعاب ذكر ابن الكلبي أن عون بن علي اسم أمه أسماء بنت عميس ولم يقل ذلك أحد غيره . وقد روي أن أسماء كانت تحت حمزة بن عبد المطلب فولدت له بنتا تسمى أمة الله وقيل أمامة ومحمد بن أبي بكر ممن ولد في عصر رسول الله ص . قال ابن عبد البر في كتاب الإستيعاب ولد عام حجة الوداع في عقب ذي القعدة بذي الحليفة حين توجه رسول الله ص إلى الحج فسمته عائشة محمدا وكنته أبا القاسم بعد ذلك لما ولد له ولد سماه القاسم ولم تكن الصحابة ترى بذلك بأسا ثم كان في حجر علي ع وقتل بمصر وكان علي ع يثني عليه ويقرظه ويفضله وكان لمحمد رحمه الله عبادة واجتهاد وكان ممن حضر عثمان ودخل عليه فقال له لو رآك أبوك لم يسره هذا المقام منك فخرج وتركه ودخل عليه بعده من قتله ويقال إنه أشار إلى من كان معه فقتلوه . قوله وبلغني موجدتك أي غضبك وجدت على فلان موجدة ووجدانا لغة قليلة وأنشدوا
كلانا رد صاحبه بغيظ
على حنق ووجدان شديد
[ 144 ](1/4546)
فأما في الحزن فلا يقال إلا وجدت أنا بالفتح لا غير . والجهد الطاقة أي لم أستبطئك في بذل طاقتك ووسعك ومن رواها الجهد بالفتح فهو من قولهم اجهد جهدك في كذا أي أبلغ الغاية ولا يقال هذا الحرف هاهنا إلا مفتوحا . ثم طيب ع نفسه بأن قال له لو تم الأمر الذي شرعت فيه من ولاية الأشتر مصر لعوضتك بما هو أخف عليك مئونة وثقلا وأقل نصبا من ولاية مصر لأنه كان في مصر بإزاء معاوية من الشام وهو مدفوع إلى حربه . ثم أكد ع ترغيبه بقوله وأعجب إليك ولاية . فإن قلت ما الذي بيده مما هو أخف على محمد مئونة وأعجب إليه من ولاية مصر قلت ملك الإسلام كله كان بيد علي ع إلا الشام فيجوز أن يكون قد كان في عزمه أن يوليه اليمن أو خراسان أو أرمينية أو فارس . ثم أخذ في الثناء على الأشتر وكان علي ع شديد الاعتضاد به كما كان هو شديد التحقق بولايته وطاعته . وناقما من نقمت على فلان كذا إذا أنكرته عليه وكرهته منه . ثم دعا له بالرضوان ولست أشك بأن الأشتر بهذه الدعوة يغفر الله له ويكفر ذنوبه ويدخله الجنة ولا فرق عندي بينها وبين دعوة رسول الله ص ويا طوبى لمن حصل له من علي ع بعض هذا . قوله وأصحر لعدوك أي ابرز له ولا تستتر عنه بالمدينة التي أنت فيها أصحر الأسد من خيسه إذا خرج إلى الصحراء . وشمر فلان للحرب إذا أخذ لها أهبتها
[ 145 ](1/4547)
35 ومن كتاب له ع إلى عبد الله بن العباس بعد مقتل محمد بن أبي بكر
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مِصْرَ قَدِ اِفْتُتِحَتْ وَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ رَحِمَهُ اَللَّهُ قَدِ اُسْتُشْهِدَ فَعِنْدَ اَللَّهِ نَحْتَسِبُهُ وَلَداً نَاصِحاً وَ عَامِلاً كَادِحاً وَ سَيْفاً قَاطِعاً وَ رُكْناً دَافِعاً وَ قَدْ كُنْتُ حَثَثْتُ اَلنَّاسَ عَلَى لَحَاقِهِ وَ أَمَرْتُهُمْ بِغِيَاثِهِ قَبْلَ اَلْوَقْعَةِ وَ دَعَوْتُهُمْ سِرّاً وَ جَهْراً وَ عَوْداً وَ بَدْءاً فَمِنْهُمُ اَلآْتِي كَارِهاً وَ مِنْهُمُ اَلْمُعْتَلُّ كَاذِباً وَ مِنْهُمُ اَلْقَاعِدُ خَاذِلاً أَسْأَلُ اَللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ لِي مِنْهُمْ فَرَجاً عَاجِلاً فَوَاللَّهِ لَوْ لاَ طَمَعِي عِنْدَ لِقَائِي عَدُوِّي فِي اَلشَّهَادَةِ وَ تَوْطِينِي نَفْسِي عَلَى اَلْمَنِيَّةِ لَأَحْبَبْتُ أَلاَّ أَبْقَى أَلْقَى مَعَ هَؤُلاَءِ يَوْماً وَاحِداً وَ لاَ أَلْتَقِيَ بِهِمْ أَبَداً انظر إلى الفصاحة كيف تعطي هذا الرجل قيادها وتملكه زمامها واعجب لهذه الألفاظ المنصوبة يتلو بعضها بعضا كيف تواتيه وتطاوعه سلسة سهلة تتدفق من غير تعسف ولا تكلف حتى انتهى إلى آخر الفصل فقال يوما واحدا ولا ألتقي بهم أبدا وأنت وغيرك من الفصحاء إذا شرعوا في كتاب أو خطبة جاءت القرائن والفواصل
[ 146 ](1/4548)
تارة مرفوعة وتارة مجرورة وتارة منصوبة فإن أرادوا قسرها بإعراب واحد ظهر منها في التكلف أثر بين وعلامة واضحة وهذا الصنف من البيان أحد أنواع الإعجاز في القرآن ذكره عبد القاهر قال انظر إلى سورة النساء وبعدها سورة المائدة الأولى منصوبة الفواصل والثانية ليس فيها منصوب أصلا ولو مزجت إحدى السورتين بالأخرى لم تمتزجا وظهر أثر التركيب والتأليف بينهما . ثم إن فواصل كل واحد منهما تنساق سياقة بمقتضى البيان الطبيعي لا الصناعة التكلفية ثم انظر إلى الصفات والموصوفات في هذا الفصل كيف قال ولدا ناصحا وعاملا كادحا وسيفا قاطعا وركنا دافعا لو قال ولدا كادحا وعاملا ناصحا وكذلك ما بعده لما كان صوابا ولا في الموقع واقعا فسبحان من منح هذا الرجل هذه المزايا النفيسة والخصائص الشريفة أن يكون غلام من أبناء عرب مكة ينشأ بين أهله لم يخالط الحكماء وخرج أعرف بالحكمة ودقائق العلوم الإلهية من أفلاطون وأرسطو ولم يعاشر أرباب الحكم الخلقية والآداب النفسانية لأن قريشا لم يكن أحد منهم مشهورا بمثل ذلك وخرج أعرف بهذا الباب من سقراط ولم يرب بين الشجعان لأن أهل مكة كانوا ذوي تجارة ولم يكونوا ذوي حرب وخرج أشجع من كل بشر مشى على الأرض قيل لخلف الأحمر أيما أشجع عنبسة وبسطام أم علي بن أبي طالب فقال إنما يذكر عنبسة وبسطام مع البشر والناس لا مع من يرتفع عن هذه الطبقة فقيل له فعلى كل حال قال والله لو صاح في وجوههما لماتا قبل أن يحمل عليهما وخرج أفصح من سحبان وقس ولم تكن قريش بأفصح العرب كان غيرها أفصح منها قالوا أفصح العرب جرهم وإن لم تكن لهم نباهة وخرج أزهد الناس في الدنيا وأعفهم مع أن قريشا ذوو حرص ومحبة للدنيا ولا غرو فيمن كان
[ 147 ](1/4549)
محمد ص مربيه ومخرجه والعناية الإلهية تمده وترفده أن يكون منه ما كان . يقال احتسب ولده إذا مات كبيرا وافترط ولده إذا مات صغيرا قوله فمنهم الآتي قسم جنده أقساما فمنهم من أجابه وخرج كارها للخروج كما قال تعالى كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى اَلْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ ومنهم من قعد واعتل بعلة كاذبة كما قال تعالى يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً ومنهم من تأخر وصرح بالقعود والخذلان كما قال تعالى فَرِحَ اَلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اَللَّهِ وَ كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ والمعنى أن حاله كانت مناسبة لحال النبي ص ومن تذكر أحوالهما وسيرتهما وما جرى لهما إلى أن قبضا علم تحقيق ذلك . ثم أقسم أنه لو لا طمعه في الشهادة لما أقام مع أهل العراق ولا صحبهم . فإن قلت فهلا خرج إلى معاوية وحده من غير جيش إن كان يريد الشهادة قلت ذلك لا يجوز لأنه إلقاء النفس إلى التهلكة وللشهادة شروط متى فقدت فلا يجوز أن تحمل إحدى الحالتين على الأخرى
[ 148 ](1/4550)
36 ومن كتاب له ع إلى أخيه عقيل بن أبي طالب في ذكر جيش أنفذه إلى بعض الأعداء
و هو جواب كتاب كتبه إليه عقيل : فَسَرَّحْتُ إِلَيْهِ جَيْشاً كَثِيفاً مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ شَمَّرَ هَارِباً وَ نَكَصَ نَادِماً فَلَحِقُوهُ بِبَعْضِ اَلطَّرِيقِ وَ قَدْ طَفَّلَتِ اَلشَّمْسُ لِلْإِيَابِ فَاقْتَتَلُوا شَيْئاً كَلاَ وَ لاَ فَمَا كَانَ إِلاَّ كَمَوْقِفِ سَاعَةٍ حَتَّى نَجَا جَرِيضاً بَعْدَ مَا أُخِذَ مِنْهُ بِالْمُخَنَّقِ وَ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ مِنْهُ غَيْرُ اَلرَّمَقِ فَلَأْياً بِلَأْيٍ مَا نَجَا فَدَعْ عَنْكَ قُرَيْشاً وَ تَرْكَاضَهُمْ فِي اَلضَّلاَلِ وَ تَجْوَالَهُمْ فِي اَلشِّقَاقِ وَ جِمَاحَهُمْ فِي اَلتِّيهِ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى حَرْبِي كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى حَرْبِ رَسُولِ اَللَّهِ ص قَبْلِي فَجَزَتْ قُرَيْشاً عَنِّي اَلْجَوَازِي فَقَدْ قَطَعُوا رَحِمِي وَ سَلَبُونِي سُلْطَانَ اِبْنِ أُمِّي وَ أَمَّا مَا سَأَلْتَ عَنْهُ مِنْ رَأْيِي فِي اَلْقِتَالِ فَإِنَّ رَأْيِي قِتَالُ اَلْمُحِلِّينَ حَتَّى أَلْقَى اَللَّهَ لاَ يَزِيدُنِي كَثْرَةُ اَلنَّاسِ حَوْلِي عِزَّةً وَ لاَ تَفَرُّقُهُمْ عَنِّي وَحْشَةً وَ لاَ تَحْسَبَنَّ اِبْنَ أَبِيكَ وَ لَوْ أَسْلَمَهُ اَلنَّاسُ مُتَضَرِّعاً مُتَخَشِّعاً وَ لاَ مُقِرّاً لِلضَّيْمِ وَاهِناً وَ لاَ سَلِسَ اَلزِّمَامِ لِلْقَائِدِ وَ لاَ وَطِئَ اَلظَّهْرِ لِلرَّاكِبِ اَلْمُقْتَعِدِ اَلْمُتَقَعِّدِ وَ لَكِنَّهُ كَمَا قَالَ أَخُو بَنِي سَلِيمٍ
فَإِنْ تَسْأَلِينِي كَيْفَ أَنْتَ فَإِنَّنِي
صَبُورٌ عَلَى رَيْبِ اَلزَّمَانِ صَلِيبُ
يَعِزُّ عَلَيَّ أَنْ تُرَى بِي كَآبَةٌ
فَيَشْمَتَ عَادٍ أَوْ يُسَاءَ حَبِيبُ
[ 149 ](1/4551)
قد تقدم ذكر هذا الكتاب في اقتصاصنا ذكر حال بسر بن أرطاة وغارته على اليمن في أول الكتاب . ويقال طفلت الشمس بالتشديد إذا مالت للغروب وطفل الليل مشددا أيضا إذا أقبل ظلامه والطفل بالتحريك بعد العصر حين تطفل الشمس للغروب ويقال أتيته طفلي أي في ذلك الوقت . وقوله ع للإياب أي للرجوع أي ما كانت عليه في الليلة التي قبلها يعني غيبوبتها تحت الأرض وهذا الخطاب إنما هو على قدر أفهام العرب كانوا يعتقدون أن الشمس منزلها ومقرها تحت الأرض وأنها تخرج كل يوم فتسير على العالم ثم تعود إلى منزلها فتأوي إليه كما يأوي الناس ليلا إلى منازلهم . وقال الراوندي عند الإياب عند الزوال وهذا غير صحيح لأن ذلك الوقت لا يسمى طفلا ليقال إن الشمس قد طفلت فيه . قوله ع فاقتتلوا شيئا كلا ولا أي شيئا قليلا وموضع كلا ولا نصب لأنه صفة شيئا وهي كلمة تقال لما يستقصر وقته جدا والمعروف عند أهل اللغة كلا وذا قال ابن هانئ المغربي
و أسرع في العين من لحظة
و أقصر في السمع من لا وذا
و في شعر الكميت كلا وكذا تغميضة . وقد رويت في نهج البلاغة كذلك إلا أن في أكثر النسخ كلا ولا ومن الناس من يرويها كلا ولات وهي حرف أجري مجرى ليس ولا تجي ء
[ 150 ]
حين إلا أن تحذف في شعر ومن الرواة من يرويها كلا ولأي ولأي فعل معناه أبطأ . قوله ع نجا جريضا أي قد غص بالريق من شدة الجهد والكرب يقال جرض بريقه يجرض بالكسر مثال كسر يكسر ورجل جريض مثل قدر يقدر فهو قدير ويجوز أن يريد بقوله فنجا جريضا أي ذا جريض والجريض الغصة نفسها وفي المثل حال الجريض دون القريض قال الشاعر
كان الفتى لم يغن في الناس ليلة
إذا اختلف اللحيان عند الجريض
قال الأصمعي ويقال هو يجرض بنفسه أي يكاد يموت ومنه قول إمرئ القيس
و أفلتهن علباء جريضا
و لو أدركنه صفر الوطاب(1/4552)
و أجرضه الله بريقه أغصه . قوله ع بعد ما أخذ منه بالمخنق هو موضع الخنق من الحيوان وكذلك الخناق بالضم يقال أخذ بخناقه فأما الخناق بالكسر فالحبل تخنق به الشاة والرمق بقية الروح . قوله ع فلأيا بلأي ما نجا أي بعد بطء وشدة وما زائدة أو مصدرية وانتصب لأيا على المصدر القائم مقام الحال أي نجا مبطئا والعامل في المصدر محذوف أي أبطأ بطئا والفائدة في تكرير اللفظة المبالغة في وصف البطء الذي نجا موصوفة به أي لأيا مقرونا بلأي
[ 151 ](1/4553)
و قال الراوندي هذه القصة وهذا الهارب جريضا وبعد لأي ما نجا هو معاوية قال وقد قيل إن معاوية بعث أمويا فهرب على هذه الحال والأول أصح وهذا عجيب مضحك وددت له ألا يكون شرح هذا الكتاب . قوله فدع عنك قريشا إلى قوله على حرب رسول الله ص هذا الكلام حق فإن قريشا اجتمعت على حربه منذ يوم بويع بغضا له وحسدا وحقدا عليه فأصفقوا كلهم يدا واحدة على شقاقه وحربه كما كانت حالهم في ابتداء الإسلام مع رسول الله ص لم تخرم حاله من حاله أبدا إلا أن ذاك عصمه الله من القتل فمات موتا طبيعيا وهذا اغتاله إنسان فقتله . قوله فجزت قريشا عني الجوازي فقد قطعوا رحمي وسلبوني سلطان ابن أمي هذه كلمة تجري مجرى المثل تقول لمن يسي ء إليك وتدعو عليه جزتك عني الجوازي يقال جزاه الله بما صنع وجازاه الله بما صنع ومصدر الأول جزاء والثاني مجازاة وأصل الكلمة أن الجوازي جمع جازية كالجواري جمع جارية فكأنه يقول جزت قريشا عني بما صنعت لي كل خصلة من نكبة أو شدة أو مصيبة أو جائحة أي جعل الله هذه الدواهي كلها جزاء قريش بما صنعت بي وسلطان ابن أمي يعني به الخلافة وابن أمه هو رسول الله ص لأنهما ابنا فاطمة بنت عمرو بن عمران بن عائذ بن مخزوم أم عبد الله وأبي طالب ولم يقل سلطان ابن أبي لأن غير أبي طالب من الأعمام يشركه في النسب إلى عبد المطلب . قال الراوندي الجوازي جمع جازية وهي النفس التي تجزي أي جزاهم وفعل بهم ما يستحقون عساكر لأجلي وفي نيابتي وكافأهم سرية تنهض إليهم وهذا إشارة إلى بني أمية يهلكون من بعده وهذا تفسير غريب طريف .
[ 152 ](1/4554)
و قال أيضا قوله سلطان ابن أمي يعني نفسه أي سلطانه لأنه ابن أم نفسه قال وهذا من أحسن الكلام ولا شبهة أنه على تفسير الراوندي لو قال وسلبوني سلطان ابن أخت خالتي أو ابن أخت عمتي لكان أحسن وأحسن وهذا الرجل قد كان يجب أن يحجر عليه ولا يمكن من تفسير هذا الكتاب ويؤخذ عليه أيمان البيعة ألا يتعرض له . قوله فإن رأيي قتال المحلين أي الخارجين من الميثاق والبيعة يعني البغاة ومخالفي الإمام ويقال لكل من خرج من إسلام أو حارب في الحرم أو في الأشهر الحرم محل وعلى هذا فسر قول زهير
و كم بالقنان من محل ومحرم
أي من لا ذمة له ومن له ذمة وكذلك قول خالد بن يزيد بن معاوية في زوجته رملة بنت الزبير بن العوام
ألا من لقلب معنى غزل
يحب المحلة أخت المحل
أي ناقضة العهد أخت المحارب في الحرم أو أخت ناقض بيعة بني أمية وروي متخضعا متضرعا بالضاد . ومقرا للضيم وبالضيم أي هو راض به صابر عليه وواهنا أي ضعيفا . السلس السهل ومقتعد البعير راكبه . والشعر ينسب إلى العباس بن مرداس السلمي ولم أجده في ديوانه ومعناه ظاهر وفي الأمثال الحكمية لا تشكون حالك إلى مخلوق مثلك فإنه إن كان صديقا أحزنته وإن كان عدوا أشمته ولا خير في واحد من الأمرين
[ 153 ](1/4555)
37 ومن كتاب له ع إلى معاوية
فَسُبْحَانَ اَللَّهِ مَا أَشَدَّ لُزُومَكَ لِلْأَهْوَاءَ اَلْمُبْتَدَعَةِ وَ اَلْحَيْرَةِ اَلْمُتَّبَعَةِ مَعَ تَضْيِيعِ اَلْحَقَائِقِ وَ اِطِّرَاحِ اَلْوَثَائِقِ اَلَّتِي هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى طِلْبَةٌ وَ عَلَى عِبَادِهِ حُجَّةٌ فَأَمَّا إِكْثَارُكَ اَلْحِجَاجَ عَلَى عُثْمَانَ وَ قَتَلَتِهِ فَإِنَّكَ إِنَّمَا نَصَرْتَ عُثْمَانَ حَيْثُ كَانَ اَلنَّصْرُ لَكَ وَ خَذَلْتَهُ حَيْثُ كَانَ اَلنَّصْرُ لَهُ وَ اَلسَّلاَمُ أول هذا الكتاب
قوله أما بعد فإن الدنيا حلوة خضرة ذات زينة وبهجة لم يصب إليها أحد إلا وشغلته بزينتها عما هو أنفع له منها وبالآخرة أمرنا وعليها حثثنا فدع يا معاوية ما يفنى واعمل لما يبقى واحذر الموت الذي إليه مصيرك والحساب الذي إليه عاقبتك واعلم أن الله تعالى إذا أراد بعبد خيرا حال بينه وبين ما يكره ووفقه لطاعته وإذا أراد الله بعبد سوءا أغراه بالدنيا وأنساه الآخرة وبسط له أمله وعاقه عما فيه صلاحه وقد وصلني كتابك فوجدتك ترمي غير غرضك وتنشد غير ضالتك وتخبط في عماية
[ 154 ](1/4556)
و تتيه في ضلالة وتعتصم بغير حجة وتلوذ بأضعف شبهة فأما سؤالك المتاركة والإقرار لك على الشام فلو كنت فاعلا ذلك اليوم لفعلته أمس وأما قولك إن عمر ولاكه فقد عزل من كان ولاه صاحبه وعزل عثمان من كان عمر ولاه ولم ينصب للناس إمام إلا ليرى من صلاح الأمة إماما قد كان ظهر لمن قبله أو أخفى عنهم عيبه والأمر يحدث بعده الأمر ولكل وال رأي واجتهاد فسبحان الله ما أشد لزومك للأهواء المبتدعة والحيرة المتبعة إلى آخر الفصل . وأما قوله ع إنما نصرت عثمان حيث كان النصر لك إلى آخره فقد روى البلاذري قال لما أرسل عثمان إلى معاوية يستمده بعث يزيد بن أسد القسري جد خالد بن عبد الله بن يزيد أمير العراق وقال له إذا أتيت ذا خشب فأقم بها ولا تتجاوزها ولا تقل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب فإنني أنا الشاهد وأنت الغائب . قال فأقام بذي خشب حتى قتل عثمان فاستقدمه حينئذ معاوية فعاد إلى الشام بالجيش الذي كان أرسل معه وإنما صنع ذلك معاوية ليقتل عثمان فيدعو إلى نفسه . وكتب معاوية إلى ابن عباس عند صلح الحسن ع له كتابا يدعوه فيه إلى بيعته ويقول له فيه ولعمري لو قتلتك بعثمان رجوت أن يكون ذلك لله رضا وأن يكون رأيا صوابا فإنك من الساعين عليه والخاذلين له والسافكين دمه وما جرى بيني وبينك صلح فيمنعك مني ولا بيدك أمان . فكتب إليه ابن عباس جوابا طويلا يقول فيه وأما قولك إني من الساعين على عثمان والخاذلين له والسافكين دمه وما جرى بيني وبينك صلح فيمنعك مني
[ 155 ](1/4557)
فأقسم بالله لأنت المتربص بقتله والمحب لهلاكه والحابس الناس قبلك عنه على بصيرة من أمره ولقد أتاك كتابه وصريخه يستغيث بك ويستصرخ فما حفلت به حتى بعثت إليه معذرا بأجرة أنت تعلم إنهم لن يتركوه حتى يقتل فقتل كما كنت أردت ثم علمت عند ذلك أن الناس لن يعدلوا بيننا وبينك فطفقت تنعى عثمان وتلزمنا دمه وتقول قتل مظلوما فإن يك قتل مظلوما فأنت أظلم الظالمين ثم لم تزل مصوبا ومصعدا وجاثما ورابضا تستغوي الجهال وتنازعنا حقنا بالسفهاء حتى أدركت ما طلبت وَ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ
[ 156 ](1/4558)
38 ومن كتاب له ع إلى أهل مصر لما ولى عليهم الأشتر
مِنْ عَبْدِ اَللَّهِ عَلِيٍّ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ إِلَى اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ غَضِبُوا لِلَّهِ حِينَ عُصِيَ فِي أَرْضِهِ وَ ذُهِبَ بِحَقِّهِ فَضَرَبَ اَلْجَوْرُ سُرَادِقَهُ عَلَى اَلْبَرِّ وَ اَلْفَاجِرِ وَ اَلْمُقِيمِ وَ اَلظَّاعِنِ فَلاَ مَعْرُوفٌ يُسْتَرَاحُ إِلَيْهِ وَ لاَ مُنْكَرٌ يُتَنَاهَى عَنْهُ أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ عَبْداً مِنْ عِبَادِ اَللَّهِ لاَ يَنَامُ أَيَّامَ اَلْخَوْفِ وَ لاَ يَنْكُلُ عَنِ اَلْأَعْدَاءِ سَاعَاتِ اَلرَّوْعِ أَشَدَّ عَلَى اَلْفُجَّارِ مِنْ حَرِيقِ اَلنَّارِ وَ هُوَ مَالِكُ بْنُ اَلْحَارِثِ أَخُو مَذْحِجٍ فَاسْمَعُوا لَهُ وَ أَطِيعُوا أَمْرَهُ فِيمَا طَابَقَ اَلْحَقَّ فَإِنَّهُ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اَللَّهِ لاَ كَلِيلُ اَلظُّبَةِ وَ لاَ نَابِي اَلضَّرِيبَةَ فَإِنْ أَمَرَكُمْ أَنْ تَنْفِرُوا فَانْفِرُوا وَ إِنْ أَمَرَكُمْ أَنْ تُقِيمُوا فَأَقِيمُوا فَإِنَّهُ لاَ يُقْدِمُ وَ لاَ يُحْجِمُ وَ لاَ يُؤَخِّرُ وَ لاَ يُقَدِّمُ إِلاَّ عَنْ أَمْرِي وَ قَدْ آثَرْتُكُمْ بِهِ عَلَى نَفْسِي لِنَصِيحَتِهِ لَكُمْ وَ شِدَّةِ شَكِيمَتِهِ عَلَى عَدُوِّكُمْ هذا الفصل يشكل علي تأويله لأن أهل مصر هم الذين قتلوا عثمان وإذا شهد أمير المؤمنين ع أنهم غضبوا لله حين عصي في الأرض فهذه شهادة قاطعة على عثمان بالعصيان وإتيان المنكر ويمكن أن يقال وإن كان متعسفا إن الله تعالى
[ 157 ](1/4559)
عصي في الأرض لا من عثمان بل من ولاته وأمرائه وأهله وذهب بينهم بحق الله وضرب الجور سرادقه بولايتهم وأمرهم على البر والفاجر والمقيم والظاعن فشاع المنكر وفقد المعروف يبقى أن يقال هب أن الأمر كما تأولت فهؤلاء الذين غضبوا لله إلى ما ذا آل أمرهم أ ليس الأمر آل إلى أنهم قطعوا المسافة من مصر إلى المدينة فقتلوا عثمان فلا تعدو حالهم أمرين إلا أن يكونوا أطاعوا الله بقتله فيكون عثمان عاصيا مستحقا للقتل أو يكونوا أسخطوا الله تعالى بقتله فعثمان إذا على حق وهم الفساق العصاة فكيف يجوز أن يبجلهم أو يخاطبهم خطاب الصالحين ويمكن أن يجاب عن ذلك بأنهم غضبوا لله وجاءوا من مصر وأنكروا على عثمان تأميره الأمراء الفساق وحصروه في داره طلبا أن يدفع إليهم مروان ليحبسوه أو يؤدبوه على ما كتبه في أمرهم فلما حصر طمع فيه مبغضوه وأعداؤه من أهل المدينة وغيرها وصار معظم الناس إلبا عليه وقل عدد المصريين بالنسبة إلى ما اجتمع من الناس على حصره ومطالبته بخلع نفسه وتسليم مروان وغيره من بني أمية إليهم وعزل عماله والاستبدال بهم ولم يكونوا حينئذ يطلبون نفسه ولكن قوما منهم ومن غيرهم تسوروا داره فرماهم بعض عبيده بالسهام فجرح بعضهم فقادت الضرورة إلى النزول والإحاطة به وتسرع إليه واحد منهم فقتله ثم إن ذلك القاتل قتل في الوقت وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم وشرحناه فلا يلزم من فسق ذلك القاتل وعصيانه أن يفسق الباقون لأنهم ما أنكروا إلا المنكر وأما القتل فلم يقع منهم ولا راموه ولا أرادوه فجاز أن يقال إنهم غضبوا لله وأن يثنى عليهم ويمدحهم . ثم وصف الأشتر بما وصفه به ومثل قوله لا ينام أيام الخوف قولهم لا ينام ليلة يخاف ولا يشبع ليلة يضاف وقال
[ 158 ]
فأتت به حوش الفؤاد مبطنا
سهدا إذا ما نام ليل الهوجل(1/4560)
ثم أمرهم أن يطيعوه فيما يأمرهم به مما يطابق الحق وهذا من شدة دينه وصلابته ع لم يسامح نفسه في حق أحب الخلق إليه أن يهمل هذا القيد
قال رسول الله ص لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . وقال أبو حنيفة قال لي الربيع في دهليز المنصور إن أمير المؤمنين يأمرني بالشي ء بعد الشي ء من أمور ملكه فأنفذه وأنا خائف على ديني فما تقول في ذلك قال ولم يقل لي ذلك إلا في ملإ الناس فقلت له أ فيأمر أمير المؤمنين بغير الحق قال لا قلت فلا بأس عليك أن تفعل بالحق قال أبو حنيفة فأراد أن يصطادني فاصطدته . والذي صدع بالحق في هذا المقام الحسن البصري قال له عمر بن هبيرة أمير العراق في خلافة يزيد بن عبد الملك في ملإ من الناس منهم الشعبي وابن سيرين يا أبا سعيد إن أمير المؤمنين يأمرني بالشي ء اعلم أن في تنفيذه الهلكة في الدين فما تقول في ذلك قال الحسن ما ذا أقول إن الله مانعك من يزيد ولن يمنعك يزيد من الله يا عمر خف الله واذكر يوما يأتيك تتمخض ليلته عن القيامة أنه سينزل عليك ملك من السماء فيحطك عن سريرك إلى قصرك ويضطرك من قصرك إلى لزوم فراشك ثم ينقلك عن فراشك إلى قبرك ثم لا يغني عنك إلا عملك فقام عمر بن هبيرة باكيا يصطك لسانه . قوله فإنه سيف من سيوف الله هذا لقب خالد بن الوليد واختلف فيمن
[ 159 ](1/4561)
لقبه به فقيل لقبه به رسول الله ص والصحيح أنه لقبه به أبو بكر لقتاله أهل الردة وقتله مسيلمة . والظبة بالتخفيف حد السيف والنابي من السيوف الذي لا يقطع وأصله نبا أي ارتفع فلما لم يقطع كان مرتفعا فسمي نابيا وفي الكلام حذف تقديره ولا ناب ضارب الضريبة وضارب الضريبة هو حد السيف فأما الضريبة نفسها فهو الشي ء المضروب بالسيف وإنما دخلته الهاء وإن كان بمعنى مفعول لأنه صار في عداد الأسماء كالنطيحة والأكيلة . ثم أمرهم بأن يطيعوه في جميع ما يأمرهم به من الإقدام والإحجام وقال إنه لا يقدم ولا يؤخر إلا عن أمري وهذا إن كان قاله مع أنه قد سنح له أن يعمل برأيه في أمور الحرب من غير مراجعته فهو عظيم جدا لأنه يكون قد أقامه مقام نفسه وجاز أن يقول إنه لا يفعل شيئا إلا عن أمري وإن كان لا يراجعه في الجزئيات على عادة العرب في مثل ذلك لأنهم يقولون فيمن يثقون به نحو ذلك وقد ذهب كثير من الأصوليين إلى أن الله تعالى قال لمحمد ص احكم بما شئت في الشريعة فإنك لا تحكم إلا بالحق وإنه كان يحكم من غير مراجعته لجبرائيل وإن الله تعالى قد قال في حقه وَ ما يَنْطِقُ عَنِ اَلْهَوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى وإن كان ع قال هذا القول عن الأشتر لأنه قد قرر معه بينه وبينه ألا يعمل شيئا قليلا ولا كثيرا إلا بعد مراجعته فيجوز ولكن هذا بعيد لأن المسافة طويلة بين العراق ومصر وكانت الأمور هناك تقف وتفسد . ثم ذكر أنه آثرهم به على نفسه وهكذا قال عمر لما أنفذ عبد الله بن مسعود إلى الكوفة في كتابه إليهم قد آثرتكم به على نفسي وذلك أن عمر كان يستفتيه في الأحكام وعلي ع كان يصول على الأعداء بالأشتر ويقوي أنفس جيوشه بمقامه بينهم فلما بعثه إلى مصر كان مؤثرا لأهل مصر به على نفسه
[ 160 ](1/4562)
39 ومن كتاب له ع إلى عمرو بن العاص
فَإِنَّكَ قَدْ جَعَلْتَ دِينَكَ تَبَعاً لِدُنْيَا اِمْرِئٍ ظَاهِرٍ غَيُّهُ مَهْتُوكٍ سِتْرُهُ يَشِينُ اَلْكَرِيمَ بِمَجْلِسِهِ وَ يُسَفِّهُ اَلْحَلِيمَ بِخِلْطَتِهِ فَاتَّبَعْتَ أَثَرَهُ وَ طَلَبْتَ فَضْلَهُ اِتِّبَاعَ اَلْكَلْبِ لِلضِّرْغَامِ يَلُوذُ بِمَخَالِبِهِ وَ يَنْتَظِرُ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ مِنْ فَضْلِ فَرِيسَتِهِ فَأَذْهَبْتَ دُنْيَاكَ وَ آخِرَتَكَ وَ لَوْ بِالْحَقِّ أَخَذْتَ أَدْرَكْتَ مَا طَلَبْتَ فَإِنْ يُمَكِّنِ يُمَكِّنِّي اَللَّهُ مِنْكَ وَ مِنِ اِبْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَجْزِكُمَا بِمَا قَدَّمْتُمَا وَ إِنْ تُعْجِزَا وَ تَبْقَيَا فَمَا أَمَامَكُمَا شَرٌّ لَكُمَا وَ اَلسَّلاَمُ كل ما قاله فيهما هو الحق الصريح بعينه لم يحمله بغضه لهما وغيظه منهما إلى أن بالغ في ذمهما به كما يبالغ الفصحاء عند سورة الغضب وتدفق الألفاظ على الألسنة ولا ريب عند أحد من العقلاء ذوي الإنصاف أن عمرا جعل دينه تبعا لدنيا معاوية وأنه ما بايعه وتابعه إلا على جعالة جعلها له وضمان تكفل له بإيصاله وهي ولاية مصر مؤجلة وقطعة وافرة من المال معجلة ولولديه وغلمانه ما ملأ أعينهم . فأما قوله ع في معاوية ظاهر غيه فلا ريب في ظهور ضلاله وبغيه وكل باغ غاو .
[ 161 ](1/4563)
أما مهتوك ستره فإنه كان كثير الهزل والخلاعة صاحب جلساء وسمار ومعاوية لم يتوقر ولم يلزم قانون الرئاسة إلا منذ خرج على أمير المؤمنين واحتاج إلى الناموس والسكينة وإلا فقد كان في أيام عثمان شديد التهتك موسوما بكل قبيح وكان في أيام عمر يستر نفسه قليلا خوفا منه إلا أنه كان يلبس الحرير والديباج ويشرب في آنية الذهب والفضة ويركب البغلات ذوات السروج المحلاة بها وعليها جلال الديباج والوشي وكان حينئذ شابا وعنده نزق الصبا وأثر الشبيبة وسكر السلطان والإمرة ونقل الناس عنه في كتب السيرة أنه كان يشرب الخمر في أيام عثمان في الشام وأما بعد وفاة أمير المؤمنين واستقرار الأمر له فقد اختلف فيه فقيل إنه شرب الخمر في ستر وقيل إنه لم يشربه ولا خلاف في أنه سمع الغناء وطرب عليه وأعطى ووصل عليه أيضا . وروى أبو الفرج الأصفهاني قال قال عمرو بن العاص لمعاوية في قدمة قدمها إلى المدينة أيام خلافته قم بنا إلى هذا الذي قد هدم شرفه وهتك ستره عبد الله بن جعفر نقف على بابه فنسمع غناء جواريه فقاما ليلا ومعهما وردان غلام عمرو ووقفا بباب عبد الله بن جعفر فاستمعا الغناء وأحس عبد الله بوقوفهما ففتح الباب وعزم على معاوية أن يدخل فدخل فجلس على سرير عبد الله فدعا عبد الله له وقدم إليه يسيرا من طعام فأكل فلما أنس قال يا أمير المؤمنين أ لا تأذن لجواريك أن يتممن أصواتهن فإنك قطعتها عليهن قال فليقلن فرفعن أصواتهن وجعل معاوية يتحرك قليلا قليلا حتى ضرب برجله السرير ضربا شديدا فقال عمرو قم أيها الرجل فإن الرجل الذي جئت لتلحاه أو لتعجب من امرئ أحسن حالا منك فقال مهلا فإن الكريم طروب .
[ 162 ](1/4564)
أما قوله يشين الكريم بمجلسه ويسفه الحليم بخلطته فالأمر كذلك فإنه لم يكن في مجلسه إلا شتم بني هاشم وقذفهم والتعرض بذكر الإسلام والطعن عليه وإن أظهر الانتماء إليه وأما طلب عمرو فضله واتباعه أثره اتباع الكلب للأسد فظاهر ولم يقل الثعلب غضا من قدر عمرو وتشبيها له بما هو أبلغ في الإهانة والاستخفاف . ثم قال ولو بالحق أخذت أدركت ما طلبت أي لو قعدت عن نصره ولم تشخص إليه ممالئا به على الحق لوصل إليك من بيت المال قدر كفايتك . ولقائل أن يقول إن عمرا ما كان يطلب قدر الكفاية وعلي ع ما كان يعطيه إلا حقه فقط ولا يعطيه بلدا ولا طرفا من الأطراف والذي كان يطلب ملك مصر لأنه فتحها أيام عمر ووليها برهة وكانت حسرة في قلبه وحزازة في صدره فباع آخرته بها فالأولى أن يقال معناه لو أخذت بالحق أدركت ما طلبت من الآخرة . فإن قلت إن عمرا لم يكن علي ع يعتقد أنه من أهل الآخرة فكيف يقول له هذا الكلام قلت لا خلل ولا زلل في كلامه ع لأنه لو أخذ بالحق لكان معتقدا كون علي ع على الحق باعتقاده صحة نبوة رسول الله ص وصحة التوحيد فيصير تقدير الكلام لو بايعتني معتقدا للزوم بيعتي لك لكنت في ضمن ذلك طالبا الثواب فكنت تدركه في الآخرة . ثم قال مهددا لهما ومتوعدا إياهما فإن يمكن الله منك ومن ابن أبي سفيان وأقول لو ظفر بهما لما كان في غالب ظني يقتلهما فإنه كان حليما كريما ولكن كان يحبسهما ليحسم بحبسهما مادة فسادهما .
[ 163 ]
ثم قال وإن تعجزا وتبقيا أي وإن لم أستطع أخذكما أو أمت قبل ذلك وبقيتما بعدي فما أمامكما شر لكما من عقوبة الدنيا لأن عذاب الدنيا منقطع وعذاب الآخرة غير منقطع . وذكر نصر بن مزاحم في كتاب صفين هذا الكتاب بزيادة لم يذكرها الرضي(1/4565)
قال نصر وكتب علي ع إلى عمرو بن العاص من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى الأبتر ابن الأبتر عمرو بن العاص بن وائل شانئ محمد وآل محمد في الجاهلية والإسلام سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإنك تركت مروءتك لامرئ فاسق مهتوك ستره يشين الكريم بمجلسه ويسفه الحليم بخلطته فصار قلبك لقلبه تبعا كما قيل وافق شن طبقة فسلبك دينك وأمانتك ودنياك وآخرتك وكان علم الله بالغا فيك فصرت كالذئب يتبع الضرغام إذا ما الليل دجى أو أتى الصبح يلتمس فاضل سؤره وحوايا فريسته ولكن لا نجاة من القدر ولو بالحق أخذت لأدركت ما رجوت وقد رشد من كان الحق قائده فإن يمكن الله منك ومن ابن آكلة الأكباد ألحقتكما بمن قتله الله من ظلمة قريش على عهد رسول الله ص وإن تعجزا وتبقيا بعد فالله حسبكما وكفى بانتقامه انتقاما وبعقابه عقابا والسلام
[ 164 ](1/4566)
40 ومن كتاب له ع إلى بعض عماله
أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ إِنْ كُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ رَبَّكَ وَ عَصَيْتَ إِمَامَكَ وَ أَخْزَيْتَ أَمَانَتَكَ بَلَغَنِي أَنَّكَ جَرَّدْتَ اَلْأَرْضَ فَأَخَذْتَ مَا تَحْتَ قَدَمَيْكَ وَ أَكَلْتَ مَا تَحْتَ يَدَيْكَ فَارْفَعْ إِلَيَّ حِسَابَكَ وَ اِعْلَمْ أَنَّ حِسَابَ اَللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ حِسَابِ اَلنَّاسِ وَ اَلسَّلاَمُ أخزيت أمانتك أذللتها وأهنتها وجردت الأرض قشرتها والمعنى أنه نسبه إلى الخيانة في المال وإلى إخراب الضياع وفي حكمة أبرويز أنه قال لخازن بيت المال إني لا أحتملك على خيانة درهم ولا أحمدك على حفظ عشرة آلاف ألف درهم لأنك إنما تحقن بذلك دمك وتعمر به أمانتك وإنك إن خنت قليلا خنت كثيرا فاحترس من خصلتين من النقصان فيما تأخذ ومن الزيادة فيما تعطي واعلم أني لم أجعلك على ذخائر الملك وعمارة المملكة والعدة على العدو إلا وأنت أمين عندي من الموضع الذي هي فيه ومن خواتمها التي هي عليها فحقق ظني في اختياري إياك أحقق ظنك في رجائك لي ولا تتعوض بخير شرا ولا برفعة ضعة ولا بسلامة ندامة ولا بأمانة خيانة .
[ 165 ](1/4567)
و في الحديث المرفوع من ولي لنا عملا فليتزوج وليتخذ مسكنا ومركبا وخادما فمن اتخذ سوى ذلك جاء يوم القيامة عادلا غالا سارقا وقال عمر في وصيته لابن مسعود إياك والهدية وليست بحرام ولكني أخاف عليك الدالة . وأهدى رجل لعمر فخذ جزور فقبله ثم ارتفع إليه بعد أيام مع خصم له فجعل في أثناء الكلام يقول يا أمير المؤمنين افصل القضاء بيني وبينه كما يفصل فخذ الجزور فقضى عمر عليه ثم قام فخطب الناس وحرم الهدايا على الولاة والقضاة . وأهدى إنسان إلى المغيرة سراجا من شبه وأهدى آخر إليه بغلا ثم اتفقت لهما خصومة في أمر فترافعا إليه فجعل صاحب السراج يقول إن أمري أضوأ من السراج فلما أكثر قال المغيرة ويحك إن البغل يرمح السراج فيكسره . ومر عمر ببناء يبنى بآجر وجص لبعض عماله فقال أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها وروي هذا الكلام عن علي ع وكان عمر يقول على كل عامل أمينان الماء والطين . ولما قدم أبو هريرة من البحرين قال له عمر يا عدو الله وعدو كتابه أ سرقت مال الله تعالى قال أبو هريرة لست بعدو الله ولا عدو كتابه ولكني عدو من عاداهما ولم أسرق مال الله فضربه بجريدة على رأسه ثم ثناه بالدرة وأغرمه عشرة آلاف درهم ثم أحضره فقال يا أبا هريرة من أين لك عشرة آلاف درهم قال خيلي تناسلت وعطائي تلاحق وسهامي تتابعت قال عمر كلا والله ثم تركه أياما ثم قال له أ لا تعمل قال لا قال قد عمل من هو خير منك يا أبا هريرة قال من هو قال يوسف الصديق فقال أبو هريرة إن يوسف عمل لمن لم يضرب رأسه
[ 166 ](1/4568)
و ظهره ولا شتم عرضه ولا نزع ماله لا والله لا أعمل لك أبدا . وكان زياد إذا ولى رجلا قال له خذ عهدك وسر إلى عملك واعلم أنك محاسب رأس سنتك وأنك ستصير إلى أربع خصال فاختر لنفسك إنا إن وجدناك أمينا ضعيفا استبدلنا بك لضعفك وسلمتك من معرتنا أمانتك وإن وجدناك خائنا قويا استعنا بقوتك وأحسنا أدبك على خيانتك وأوجعنا ظهرك وأثقلنا غرمك وإن جمعت علينا الجرمين جمعنا عليك المضرتين وإن وجدناك أمينا قويا زدنا رزقك ورفعنا ذكرك وكثرنا مالك وأوطأنا الرجال عقبك . ووصف أعرابي عاملا خائنا فقال الناس يأكلون أماناتهم لقما وهو يحسوها حسوا . قال أنس بن أبي إياس الدؤلي لحارثة بن بدر الغداني وقد ولي سرق ويقال إنها لأبي الأسود
أ حار بن بدر قد وليت ولاية
فكن جرذا فيها تخون وتسرق
و لا تحقرن يا حار شيئا أصبته
فحظك من ملك العراقين سرق
و باه تميما بالغنى إن للغني
لسانا به المرء الهيوبة ينطق
فإن جميع الناس إما مكذب
يقول بما تهوى وإما مصدق
يقولون أقوالا ولا يتبعونها
و إن قيل هاتوا حققوا لم يحققوا
فيقال إنها بلغت حارثة بن بدر فقال أصاب الله به الرشاد فلم يعد بإشارته ما في نفسي
[ 167 ](1/4569)
41 ومن كتاب له ع إلى بعض عماله
أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي كُنْتُ أَشْرَكْتُكَ فِي أَمَانَتِي وَ جَعَلْتُكَ شِعَارِي وَ بِطَانَتِي وَ لَمْ يَكُنْ فِي أَهْلِي رَجُلٌ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي أَوْثَقَ مِنْكَ فِي نَفْسِي لِمُوَاسَاتِي وَ مُوَازَرَتِي وَ أَدَاءِ اَلْأَمَانَةِ إِلَيَّ فَلَمَّا رَأَيْتَ اَلزَّمَانَ عَلَى اِبْنِ عَمِّكَ قَدْ كَلِبَ وَ اَلْعَدُوَّ قَدْ حَرِبَ وَ أَمَانَةَ اَلنَّاسِ قَدْ خَزِيَتْ وَ هَذِهِ اَلْأُمَّةُ قَدْ فَتَكَتْ فَنَكَتْ وَ شَغَرَتْ قَلَبْتَ لاِبْنِ عَمِّكَ ظَهْرَ اَلْمِجَنِّ فَفَارَقْتَهُ مَعَ اَلْمُفَارِقِينَ وَ خَذَلْتَهُ مَعَ اَلْخَاذِلِينَ وَ خُنْتَهُ مَعَ اَلْخَائِنِينَ فَلاَ اِبْنَ عَمِّكَ آسَيْتَ وَ لاَ اَلْأَمَانَةَ أَدَّيْتَ وَ كَأَنَّكَ لَمْ تَكُنِ اَللَّهَ تُرِيدُ بِجِهَادِكَ وَ كَأَنَّكَ لَمْ تَكُنْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَ كَأَنَّكَ إِنَّمَا كُنْتَ تَكِيدُ هَذِهِ اَلْأُمَّةَ عَنْ دُنْيَاهُمْ وَ تَنْوِي غِرَّتَهُمْ عَنْ فَيْئِهِمْ فَلَمَّا أَمْكَنَتْكَ اَلشِّدَّةُ فِي خِيَانَةِ اَلْأُمَّةِ أَسْرَعْتَ اَلْكَرَّةَ وَ عَاجَلْتَ اَلْوَثْبَةَ وَ اِخْتَطَفْتَ مَا قَدَرْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمُ اَلْمَصُونَةِ لِأَرَامِلِهِمْ وَ أَيْتَامِهِمُ اِخْتِطَافَ اَلذِّئْبِ اَلْأَزَلِّ دَامِيَةَ اَلْمِعْزَى اَلْكَسِيرَةَ فَحَمَلْتَهُ إِلَى اَلْحِجَازِ رَحِيبَ اَلصَّدْرِ بِحَمْلِهِ غَيْرَ مُتَأَثِّمٍ مِنْ أَخْذِهِ كَأَنَّكَ لاَ أَبَا لِغَيْرِكَ حَدَرْتَ إِلَى أَهْلِكَ تُرَاثَكَ مِنْ أَبِيكَ وَ أُمِّكَ فَسُبْحَانَ اَللَّهِ أَ مَا تُؤْمِنُ بِالْمَعَادِ أَ وَ مَا تَخَافُ نِقَاشَ اَلْحِسَابِ أَيُّهَا اَلْمَعْدُودُ كَانَ عِنْدَنَا مِنْ أُولِي اَلْأَلْبَابِ كَيْفَ تُسِيغُ شَرَاباً وَ طَعَاماً وَ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ تَأْكُلُ حَرَاماً وَ تَشْرَبُ(1/4570)
حَرَاماً وَ تَبْتَاعُ اَلْإِمَاءَ وَ تَنْكِحُ اَلنِّسَاءَ مِنْ أَمْوَالِ اَلْيَتَامَى وَ اَلْمَسَاكِينِ
[ 168 ]
وَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُجَاهِدِينَ اَلَّذِينَ أَفَاءَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ اَلْأَمْوَالَ وَ أَحْرَزَ بِهِمْ هَذِهِ اَلْبِلاَدَ فَاتَّقِ اَللَّهَ وَ اُرْدُدْ إِلَى هَؤُلاَءِ اَلْقَوْمِ أَمْوَالَهُمْ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ ثُمَّ أَمْكَنَنِي اَللَّهُ مِنْكَ لَأُعْذِرَنَّ إِلَى اَللَّهِ فِيكَ وَ لَأَضْرِبَنَّكَ بِسَيْفِي اَلَّذِي مَا ضَرَبْتُ بِهِ أَحَداً إِلاَّ دَخَلَ اَلنَّارَ وَ وَ اَللَّهِ لَوْ أَنَّ اَلْحَسَنَ وَ اَلْحُسَيْنَ فَعَلاَ مِثْلَ اَلَّذِي فَعَلْتَ مَا كَانَتْ لَهُمَا عِنْدِي هَوَادَةٌ وَ لاَ ظَفِرَا مِنِّي بِإِرَادَةٍ حَتَّى آخُذُ اَلْحَقَّ مِنْهُمَا وَ أُزِيحَ اَلْبَاطِلَ عَنْ مَظْلَمَتِهِمَا وَ أُقْسِمُ بِاللَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ مَا أَخَذْتَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ حَلاَلٌ لِي أَتْرُكُهُ مِيرَاثاً لِمَنْ بَعْدِي فَضَحِّ رُوَيْداً فَكَأَنَّكَ قَدْ بَلَغْتَ اَلْمَدَى وَ دُفِنْتَ تَحْتَ اَلثَّرَى وَ عُرِضَتْ عَلَيْكَ أَعْمَالُكَ بِالْمَحَلِّ اَلَّذِي يُنَادِي اَلظَّالِمُ فِيهِ بِالْحَسْرَةِ وَ يَتَمَنَّى اَلْمُضَيِّعُ فِيهِ اَلرَّجْعَةَ وَ لاَتَ حِينَ مَنَاصٍ أشركتك في أمانتي جعلتك شريكا فيما قمت فيه من الأمر وائتمنني الله عليه من سياسة الأمة وسمى الخلافة أمانة كما سمى الله تعالى التكليف أمانة في قوله إِنَّا عَرَضْنَا اَلْأَمانَةَ فأما قوله وأداء الأمانة إلي فأمر آخر ومراده بالأمانة الثانية ما يتعارفه الناس من قولهم فلان ذو أمانة أي لا يخون فيما أسند إليه . وكلب الزمان اشتد وكذلك كلب البرد .
[ 169 ](1/4571)
و حرب العدو استأسد وخزيت أمانة الناس ذلت وهانت . وشغرت الأمة خلت من الخير وشغر البلد خلا من الناس . وقلبت له ظهر المجن إذا كنت معه فصرت عليه وأصل ذلك أن الجيش إذا لقوا العدو وكانت ظهور مجانهم إلى وجه العدو وبطون مجانهم إلى وجه عسكرهم فإذا فارقوا رئيسهم وصاروا مع العدو كان وضع مجانهم بدلا من الوضع الذي كان من قبل وذلك أن ظهور الترسة لا يمكن أن تكون إلا في وجوه الأعداء لأنها مرمى سهامهم . وأمكنتك الشدة أي الحملة . قوله أسرعت الكرة لا يجوز أن يقال الكرة إلا بعد فرة فكأنه لما كان مقلعا في ابتداء الحال عن التعرض لأموالهم كان كالفار عنها فلذلك قال أسرعت الكرة . والذئب الأزل الخفيف الوركين وذلك أشد لعدوه وأسرع لوثبته وإن اتفق أن تكون شاة من المعزى كثيرة ودامية أيضا كان الذئب على اختطافها أقدر . ونقاش الحساب مناقشته . قوله فضح رويدا كلمة تقال لمن يؤمر بالتؤدة والأناة والسكون وأصلها الرجل يطعم إبله ضحى ويسيرها مسرعا ليسير فلا يشبعها فيقال له ضح رويدا(1/4572)
اختلاف الرأي فيمن كتب له هذا الكتاب
و قد اختلف الناس في المكتوب إليه هذا الكتاب فقال الأكثرون إنه عبد الله بن العباس رحمه الله ورووا في ذلك روايات واستدلوا عليه بألفاظ من ألفاظ الكتاب
[ 170 ]
كقوله أشركتك في أمانتي وجعلتك بطانتي وشعاري وأنه لم يكن في أهلي رجل أوثق منك وقوله على ابن عمك قد كلب ثم قال ثانيا قلبت لابن عمك ظهر المجن ثم قال ثالثا ولابن عمك آسيت وقوله لا أبا لغيرك وهذه كلمة لا تقال إلا لمثله فأما غيره من أفناء الناس فإن عليا ع كان يقول لا أبا لك . وقوله أيها المعدود كان عندنا من أولي الألباب وقوله لو أن الحسن والحسين ع وهذا يدل على أن المكتوب إليه هذا الكتاب قريب من أن يجري مجراهما عنده . وقد روى أرباب هذا القول أن عبد الله بن عباس كتب إلى علي ع جوابا من هذا الكتاب قالوا وكان جوابه أما بعد فقد أتاني كتابك تعظم علي ما أصبت من بيت مال البصرة ولعمري أن حقي في بيت المال أكثر مما أخذت والسلام . قالوا
فكتب إليه علي ع أما بعد فإن من العجب أن تزين لك نفسك أن لك في بيت مال المسلمين من الحق أكثر مما لرجل واحد من المسلمين فقد أفلحت إن كان تمنيك الباطل وادعاؤك ما لا يكون ينجيك من المأثم ويحل لك المحرم إنك لأنت المهتدي السعيد إذا وقد بلغني أنك اتخذت مكة وطنا وضربت بها عطنا تشتري بها مولدات مكة والمدينة والطائف تختارهن على عينك وتعطي فيهن مال غيرك فارجع هداك الله إلى رشدك وتب إلى الله ربك وأخرج إلى المسلمين من أموالهم فعما قليل تفارق من ألفت وتترك ما جمعت وتغيب في صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد قد فارقت الأحباب وسكنت التراب وواجهت الحساب غنيا عما خلفت فقيرا إلى ما قدمت والسلام .
[ 171 ](1/4573)
قالوا فكتب إليه ابن عباس أما بعد فإنك قد أكثرت علي وو الله لأن ألقى الله قد احتويت على كنوز الأرض كلها وذهبها وعقيانها ولجينها أحب إلي من أن ألقاه بدم امرئ مسلم والسلام . وقال آخرون وهم الأقلون هذا لم يكن ولا فارق عبد الله بن عباس عليا ع ولا باينه ولا خالفه ولم يزل أميرا على البصرة إلى أن قتل علي ع . قالوا ويدل على ذلك ما رواه أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني من كتابه الذي كتبه إلى معاوية من البصرة لما قتل علي ع وقد ذكرناه من قبل قالوا وكيف يكون ذلك ولم يخدعه معاوية ويجره إلى جهته فقد علمتم كيف اختدع كثيرا من عمال أمير المؤمنين ع واستمالهم إليه بالأموال فمالوا وتركوا أمير المؤمنين ع فما باله وقد علم النبوة التي حدثت بينهما لم يستمل ابن عباس ولا اجتذبه إلى نفسه وكل من قرأ السير وعرف التواريخ يعرف مشاقة ابن عباس لمعاوية بعد وفاة علي ع وما كان يلقاه به من قوارع الكلام وشديد الخصام وما كان يثني به على أمير المؤمنين ع ويذكر خصائصه وفضائله ويصدع به من مناقبه ومآثره فلو كان بينهما غبار أو كدر لما كان الأمر كذلك بل كانت الحال تكون بالضد لما اشتهر من أمرهما . وهذا عندي هو الأمثل والأصوب . وقد قال الراوندي المكتوب إليه هذا الكتاب هو عبيد الله بن العباس لا عبد الله
[ 172 ](1/4574)
و ليس ذلك بصحيح فإن عبيد الله كان عامل علي ع على اليمن وقد ذكرت قصته مع بسر بن أرطاة فيما تقدم ولم ينقل عنه أنه أخذ مالا ولا فارق طاعة . وقد أشكل علي أمر هذا الكتاب فإن أنا كذبت النقل وقلت هذا كلام موضوع على أمير المؤمنين ع خالفت الرواة فإنهم قد أطبقوا على رواية هذا الكلام عنه وقد ذكر في أكثر كتب السير وإن صرفته إلى عبد الله بن عباس صدني عنه ما أعلمه من ملازمته لطاعة أمير المؤمنين ع في حياته وبعد وفاته وإن صرفته إلى غيره لم أعلم إلى من أصرفه من أهل أمير المؤمنين ع والكلام يشعر بأن الرجل المخاطب من أهله وبني عمه فأنا في هذا الموضع من المتوقفين
[ 173 ](1/4575)
42 ومن كتاب له ع إلى عمر بن أبي سلمة المخزومي
و كان عامله على البحرين فعزله واستعمل النعمان بن عجلان الزرقي مكانه : أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي قَدْ وَلَّيْتُ اَلنُّعْمَانَ بْنِ عَجْلاَنَ اَلزُّرَقِيَّ عَلَى اَلْبَحْرَيْنِ وَ نَزَعْتُ يَدَكَ بِلاَ ذَمٍّ لَكَ وَ لاَ تَثْرِيبٍ عَلَيْكَ فَلَقَدْ أَحْسَنْتَ اَلْوِلاَيَةَ وَ أَدَّيْتَ اَلْأَمَانَةَ فَأَقْبِلْ غَيْرَ ظَنِينٍ وَ لاَ مَلُومٍ وَ لاَ مُتَّهَمٍ وَ لاَ مَأْثُومٍ فَقَدْ فَلَقَدْ أَرَدْتُ اَلْمَسِيرَ إِلَى ظَلَمَةِ أَهْلِ اَلشَّامِ وَ أَحْبَبْتُ أَنْ تَشْهَدَ مَعِي فَإِنَّكَ مِمَّنْ أَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَى جِهَادِ اَلْعَدُوِّ وَ إِقَامَةِ عَمُودِ اَلدِّينِ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ(1/4576)
عمر بن أبي سلمة ونسبه وبعض أخباره
أما عمر بن أبي سلمة فهو ربيب رسول الله ص وأبوه أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة يكنى أبا حفص ولد في السنة الثانية من الهجرة بأرض الحبشة وقيل إنه كان يوم قبض رسول الله ص ابن تسع سنين وتوفي في المدينة في خلافة عبد الملك سنة ثلاث وثمانين وقد حفظ عن رسول الله ص الحديث وروى عنه سعيد بن المسيب وغيره ذكر
[ 174 ]
ذلك كله ابن عبد البر في كتاب الإستيعاب(1/4577)
النعمان بن عجلان ونسبه وبعض أخباره
و أما النعمان بن عجلان الزرقي فمن الأنصار ثم من بني زريق وهو الذي خلف على خولة زوجة حمزة بن عبد المطلب رحمه الله بعد قتله قال ابن عبد البر في كتاب الإستيعاب كان النعمان هذا لسان الأنصار وشاعرهم ويقال إنه كان رجلا أحمر قصيرا تزدريه العين إلا أنه كان سيدا وهو القائل يوم السقيفة
و قلتم حرام نصب سعد ونصبكم
عتيق بن عثمان حلال أبا بكر
و أهل أبو بكر لها خير قائم
و إن عليا كان أخلق بالأمر
و إن هوانا في علي وإنه
لأهل لها من حيث يدرى ولا يدرى
قوله ولا تثريب عليك فالتثريب الاستقصاء في اللوم ويقال ثربت عليه وعربت عليه إذا قبحت عليه فعله . والظنين المتهم والظنة التهمة والجمع الظنن يقول قد أظن زيد عمرا والألف ألف وصل والظاء مشددة والنون مشددة أيضا وجاء بالطاء المهملة أيضا أي اتهمه وفي حديث ابن سيرين لم يكن علي ع يظن في قتل عثمان الحرفان مشددان وهو يفتعل من يظنن وأدغم قال الشاعر
و ما كل من يظنني أنا معتب
و ما كل ما يروى علي أقول
[ 175 ](1/4578)
43 ومن كتاب له ع إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني وكان عامله على أردشيرخرة
بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ إِنْ كُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ إِلَهَكَ وَ عَصَيْتَ إِمَامَكَ أَنَّكَ تَقْسِمُ فَيْ ءَ اَلْمُسْلِمِينَ اَلَّذِي حَازَتْهُ رِمَاحُهُمْ وَ خُيُولُهُمْ وَ أُرِيقَتْ عَلَيْهِ دِمَاؤُهُمْ فِيمَنِ اِعْتَامَكَ مِنْ أَعْرَابِ قَوْمِكَ فَوَالَّذِي فَلَقَ اَلْحَبَّةَ وَ بَرَأَ اَلنَّسَمَةَ لَئِنْ كَانَ ذَلِكَ حَقّاً لَتَجِدَنَّ لَكَ عَلَيَّ هَوَاناً وَ لَتَخِفَّنَّ عِنْدِي مِيزَاناً فَلاَ تَسْتَهِنْ بِحَقِّ رَبِّكَ وَ لاَ تُصْلِحْ دُنْيَاكَ بِمَحْقِ دِينِكَ فَتَكُونَ مِنَ اَلْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً أَلاَ وَ إِنَّ حَقَّ مَنْ قِبَلَكَ وَ قِبَلَنَا مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ فِي قِسْمَةِ هَذَا اَلْفَيْ ءِ سَوَاءٌ يَرِدُونَ عِنْدِي عَلَيْهِ وَ يَصْدُرُونَ عَنْهُ قد تقدم ذكر نسب مصقلة بن هبيرة وأردشيرخرة كورة من كور فارس . واعتامك اختارك من بين الناس أصله من العيمة بالكسر وهي خيار المال اعتام المصدق إذا أخذ العيمة وقد روي فيمن اعتماك بالقلب والصحيح
[ 176 ]
المشهور الأول وروي ولتجدن بك عندي هوانا بالباء ومعناها اللام ولتجدن بسبب فعلك هوانك عندي والباء ترد للسببية كقوله تعالى فَبِظُلْمٍ مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ . والمحق الإهلاك . والمعنى أنه نهى مصقلة عن أن يقسم الفي ء على أعراب قومه الذين اتخذوه سيدا ورئيسا ويحرم المسلمين الذين حازوه بأنفسهم وسلاحهم وهذا هو الأمر الذي كان ينكره على عثمان وهو إيثار أهله وأقاربه بمال الفي ء وقد سبق شرح مثل ذلك مستوفى
[ 177 ](1/4579)
44 ومن كتاب له ع إلى زياد ابن أبيه
و قد بلغه أن معاوية كتب إليه يريد خديعته باستلحاقه : وَ قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَيْكَ يَسْتَزِلُّ لُبَّكَ وَ يَسْتَفِلُّ غَرْبَكَ فَاحْذَرْهُ فَإِنَّمَا هُوَ اَلشَّيْطَانُ يَأْتِي اَلْمَرْءَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ وَ عَنْ يَمِينِهِ وَ عَنْ شِمَالِهِ لِيَقْتَحِمَ غَفْلَتَهُ وَ يَسْتَلِبَ غِرَّتَهُ وَ قَدْ كَانَ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ اَلْخَطَّابِ فَلْتَةٌ مِنْ حَدِيثِ اَلنَّفْسِ وَ نَزْغَةٌ مِنْ نَزَغَاتِ اَلشَّيْطَانِ لاَ يَثْبُتُ بِهَا نَسَبٌ وَ لاَ يُسْتَحَقُّ بِهَا إِرْثٌ وَ اَلْمُتَعَلِّقُ بِهَا كَالْوَاغِلِ اَلْمُدَفَّعِ وَ اَلنَّوْطِ اَلْمُذَبْذَبِ فَلَمَّا قَرَأَ زِيَادٌ اَلْكِتَابَ قَالَ شَهِدَ بِهَا وَ رَبِّ اَلْكَعْبَةِ وَ لَمْ تَزَلْ فِي نَفْسِهِ حَتَّى اِدَّعَاهُ مُعَاوِيَةُ قال الرضي رحمه الله تعالى قوله ع الواغل هو الذي يهجم على الشرب ليشرب معهم وليس منهم فلا يزال مدفعا محاجزا والنوط المذبذب هو ما يناط برحل الراكب من قعب أو قدح أو ما أشبه ذلك فهو أبدا يتقلقل إذا حث ظهره واستعجل سيره
[ 178 ](1/4580)
يستزل لبك يطلب زلله وخطأه أي يحاول أن تزل واللب العقل ويستفل غربك يحاول أن يفل حدك أي عزمك وهذا من باب المجاز ثم أمره أن يحذره وقال إنه يعني معاوية كالشيطان يأتي المرء من كذا ومن كذا وهو مأخوذ من قول الله تعالى ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ قالوا في تفسيره من بين أيديهم يطمعهم في العفو ويغريهم بالعصيان ومن خلفهم يذكرهم مخلفيهم ويحسن لهم جمع المال وتركه لهم وعن أيمانهم يحبب إليهم الرئاسة والثناء وعن شمائلهم يحبب إليهم اللهو واللذات . وقال شقيق البلخي ما من صباح إلا قعد لي الشيطان على أربعة مراصد من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي أما من بين يدي فيقول لا تخف فإن الله غفور رحيم فأقرأ وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اِهْتَدى وأما من خلفي فيخوفني الضيعة على مخلفي فأقرأ وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اَللَّهِ رِزْقُها وأما من قبل يميني فيأتيني من جهة الثناء فأقرأ وَ اَلْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ وأما من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ . فإن قلت لم لم يقل ومن فوقهم ومن تحتهم
[ 179 ](1/4581)
قلت لأن جهة فوق جهة نزول الرحمة ومستقر الملائكة ومكان العرش والأنوار الشريفة ولا سبيل له إليها وأما من جهة تحت فلأن الإتيان منها يوحش وينفر عنه لأنها الجهة المعروفة بالشياطين فعدل عنها إلى ما هو أدعى إلى قبول وساوسه وأضاليله . وقد فسر قوم المعنى الأول فقالوا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ من جهة الدنيا ومِنْ خَلْفِهِمْ من جهة الآخرة وعَنْ أَيْمانِهِمْ الحسنات وعَنْ شَمائِلِهِمْ أي يحثهم على طلب الدنيا ويؤيسهم من الآخرة ويثبطهم عن الحسنات ويغريهم بالسيئات . قوله ليقتحم غفلته أي ليلج ويهجم عليه وهو غافل جعل اقتحامه إياه اقتحاما للغرة نفسها لما كانت غالبة عليه . ويستلب غرته ليس المعنى باستلابه الغرة أن يرفعها ويأخذها لأنه لو كان كذلك لصار ذلك الغافل المغتر فاقدا للغفلة والغرة وكان لبيبا فطنا فلا يبقى له سبيل عليه وإنما المعنى بقوله ويستلب غرته ما يعنيه الناس بقولهم أخذ فلان غفلتي وفعل كذا . ومعنى أخذها هنا أخذ ما يستدل به على غفلتي . وفلتة أمر وقع من غير تثبت ولا روية . ونزغة كلمة فاسدة من نزغات الشيطان أي من حركاته القبيحة التي يستفسد بها مكلفين ولا يثبت بها نسب ولا يستحق بها إرث لأن المقر بالزناء لا يلحقه النسب ولا يرثه المولود
لقوله ص الولد للفراش وللعاهر الحجر(1/4582)
نسب زياد ابن أبيه وذكر بعض أخباره وكتبه وخطبه
فأما زياد فهو زياد بن عبيد ومن الناس من يقول عبيد بن فلان وينسبه إلى
[ 180 ]
ثقيف والأكثرون يقولون إن عبيدا كان عبدا وإنه بقي إلى أيام زياد فابتاعه وأعتقه وسنذكر ما ورد في ذلك ونسبة زياد لغير أبيه لخمول أبيه والدعوة التي استلحق بها فقيل تارة زياد ابن سمية وهي أمه وكانت أمة للحارث بن كلدة بن عمرو بن علاج الثقفي طبيب العرب وكانت تحت عبيد . وقيل تارة زياد ابن أبيه وقيل تارة زياد ابن أمه ولما استلحق قال له أكثر الناس زياد بن أبي سفيان لأن الناس مع الملوك الذين هم مظنة الرهبة والرغبة وليس أتباع الدين بالنسبة إلى أتباع الملوك إلا كالقطرة في البحر المحيط فأما ما كان يدعى به قبل الاستلحاق فزياد بن عبيد ولا يشك في ذلك أحد . وروى أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس أن عمر بعث زيادا في إصلاح فساد واقع باليمن فلما رجع من وجهه خطب عند عمر خطبة لم يسمع مثلها وأبو سفيان حاضر وعلي ع وعمرو بن العاص فقال عمرو بن العاص لله أبو هذا الغلام لو كان قرشيا لساق العرب بعصاه فقال أبو سفيان إنه لقرشي وإني لأعرف الذي وضعه في رحم أمه فقال علي ع ومن هو قال أنا فقال مهلا يا أبا سفيان فقال أبو سفيان
أما والله لو لا خوف شخص
يراني يا علي من الأعادي
لأظهر أمره صخر بن حرب
و لم يخف المقالة في زياد
و قد طالت مجاملتي ثقيفا
و تركي فيهم ثمر الفؤاد
عنى بقوله لو لا خوف شخص عمر بن الخطاب
[ 181 ](1/4583)
و روى أحمد بن يحيى البلاذري قال تكلم زياد وهو غلام حدث بحضرة عمر كلاما أعجب الحاضرين فقال عمرو بن العاص لله أبوه لو كان قرشيا لساق العرب بعصاه فقال أبو سفيان أما والله إنه لقرشي ولو عرفته لعرفت أنه خير من أهلك فقال ومن أبوه قال أنا والله وضعته في رحم أمه فقال فهلا تستلحقه قال أخاف هذا العير الجالس أن يخرق علي إهابي . وروى محمد بن عمر الواقدي قال قال أبو سفيان وهو جالس عند عمر وعلي هناك وقد تكلم زياد فأحسن أبت المناقب إلا أن تظهر في شمائل زياد فقال علي ع من أي بني عبد مناف هو قال ابني قال كيف قال أتيت أمه في الجاهلية سفاحا فقال علي ع مه يا أبا سفيان فإن عمر إلى المساءة سريع قال فعرف زياد ما دار بينهما فكانت في نفسه . وروى علي بن محمد المدائني قال لما كان زمن علي ع ولى زيادا فارس أو بعض أعمال فارس فضبطها ضبطا صالحا وجبى خراجها وحماها وعرف ذلك معاوية فكتب إليه أما بعد فإنه غرتك قلاع تأوي إليها ليلا كما تأوي الطير إلى وكرها وايم الله لو لا انتظاري بك ما الله أعلم به لكان لك مني ما قاله العبد الصالح فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَ هُمْ صاغِرُونَ وكتب في أسفل الكتاب شعرا من جملته
تنسى أباك وقد شالت نعامته
إذ يخطب الناس والوالي لهم عمر
فلما ورد الكتاب على زياد قام فخطب الناس وقال العجب من ابن آكلة الأكباد ورأس النفاق يهددني وبيني وبينه ابن عم رسول الله ص وزوج سيدة نساء العالمين وأبو السبطين وصاحب الولاية والمنزلة والإخاء في مائة ألف
[ 182 ]
من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان أما والله لو تخطى هؤلاء أجمعين إلي لوجدني أحمر مخشا ضرابا بالسيف ثم كتب إلى علي ع وبعث بكتاب معاوية في كتابه .(1/4584)
فكتب إليه علي ع وبعث بكتابه أما بعد فإني قد وليتك ما وليتك وأنا أراك لذلك أهلا وإنه قد كانت من أبي سفيان فلتة في أيام عمر من أماني التيه وكذب النفس لم تستوجب بها ميراثا ولم تستحق بها نسبا وإن معاوية كالشيطان الرجيم يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله فاحذره ثم احذره ثم احذره والسلام . وروى أبو جعفر محمد بن حبيب قال كان علي ع قد ولى زيادا قطعة من أعمال فارس واصطنعه لنفسه فلما قتل علي ع بقي زياد في عمله وخاف معاوية جانبه وعلم صعوبة ناحيته وأشفق من ممالأته الحسن بن علي ع فكتب إليه من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن عبيد أما بعد فإنك عبد قد كفرت النعمة واستدعيت النقمة ولقد كان الشكر أولى بك من الكفر وإن الشجرة لتضرب بعرقها وتتفرع من أصلها إنك لا أم لك بل لا أب لك قد هلكت وأهلكت وظننت أنك تخرج من قبضتي ولا ينالك سلطاني هيهات ما كل ذي لب يصيب رأيه ولا كل ذي رأي ينصح في مشورته أمس عبد واليوم أمير خطة ما ارتقاها مثلك يا ابن سمية وإذا أتاك كتابي هذا فخذ الناس بالطاعة والبيعة وأسرع الإجابة فإنك أن تفعل فدمك حقنت ونفسك تداركت وإلا اختطفتك
[ 183 ](1/4585)
بأضعف ريش ونلتك بأهون سعي وأقسم قسما مبرورا إلا أوتى بك إلا في زمارة تمشي حافيا من أرض فارس إلى الشام حتى أقيمك في السوق وأبيعك عبدا وأردك إلى حيث كنت فيه وخرجت منه والسلام . فلما ورد الكتاب على زياد غضب غضبا شديدا وجمع الناس وصعد المنبر فحمد الله ثم قال ابن آكلة الأكباد وقاتلة أسد الله ومظهر الخلاف ومسر النفاق ورئيس الأحزاب ومن أنفق ماله في إطفاء نور الله كتب إلي يرعد ويبرق عن سحابة جفل لا ماء فيها وعما قليل تصيرها الرياح قزعا والذي يدلني على ضعفه تهدده قبل القدرة أ فمن إشفاق علي تنذر وتعذر كلا ولكن ذهب إلى غير مذهب وقعقع لمن ربي بين صواعق تهامة كيف أرهبه وبيني وبينه ابن بنت رسول الله ص وابن ابن عمه في مائة ألف من المهاجرين والأنصار والله لو أذن لي فيه أو ندبني إليه لأريته الكواكب نهارا ولأسعطته ماء الخردل دونه الكلام اليوم والجمع غدا والمشورة بعد ذلك إن شاء الله ثم نزل . وكتب إلى معاوية أما بعد فقد وصل إلي كتابك يا معاوية وفهمت ما فيه فوجدتك كالغريق يغطيه الموج فيتشبث بالطحلب ويتعلق بأرجل الضفادع طمعا في الحياة إنما يكفر النعم ويستدعي النقم من حاد الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا فأما سبك لي فلو لا حلم ينهاني عنك وخوفي أن أدعى سفيها لأثرت لك مخازي لا يغسلها الماء وأما تعييرك لي بسمية فإن كنت ابن سمية فأنت ابن جماعة وأما زعمك أنك تختطفني بأضعف ريش وتتناولني بأهون سعي فهل رأيت بازيا يفزعه صغير
[ 184 ](1/4586)
القنابر أم هل سمعت بذئب أكله خروف فامض الآن لطيتك واجتهد جهدك فلست أنزل إلا بحيث تكره ولا أجتهد إلا فيما يسوؤك وستعلم أينا الخاضع لصاحبه الطالع إليه والسلام . فلما ورد كتاب زياد على معاوية غمه وأحزنه وبعث إلى المغيرة بن شعبة فخلا به وقال يا مغيرة إني أريد مشاورتك في أمر أهمني فانصحني فيه وأشر علي برأي المجتهد وكن لي أكن لك فقد خصصتك بسري وآثرتك على ولدي قال المغيرة فما ذاك والله لتجدني في طاعتك أمضى من الماء إلى الحدور ومن ذي الرونق في كف البطل الشجاع قال يا مغيرة إن زيادا قد أقام بفارس يكش لنا كشيش الأفاعي وهو رجل ثاقب الرأي ماضي العزيمة جوال الفكر مصيب إذا رمى وقد خفت منه الآن ما كنت آمنه إذ كان صاحبه حيا وأخشى ممالأته حسنا فكيف السبيل إليه وما الحيلة في إصلاح رأيه قال المغيرة أنا له إن لم أمت إن زيادا رجل يحب الشرف والذكر وصعود المنابر فلو لاطفته المسألة وألنت له الكتاب لكان لك أميل وبك أوثق فاكتب إليه وأنا الرسول فكتب معاوية إليه من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن أبي سفيان أما بعد فإن المرء ربما طرحه الهوى في مطارح العطب وإنك للمرء المضروب به المثل قاطع الرحم وواصل العدو وحملك سوء ظنك بي وبغضك لي على أن عققت قرابتي وقطعت رحمي وبتت نسبي وحرمتي حتى كأنك لست أخي وليس صخر بن حرب أباك وأبي وشتان ما بيني وبينك أطلب بدم ابن أبي العاص وأنت تقاتلني ولكن أدركك عرق الرخاوة من قبل النساء فكنت
[ 185 ]
كتاركة بيضها بالعراء
و ملحفة بيض أخرى جناحا(1/4587)
و قد رأيت أن أعطف عليك ولا أؤاخذك بسوء سعيك وأن أصل رحمك وأبتغي الثواب في أمرك فاعلم أبا المغيرة إنك لو خضت البحر في طاعة القوم فتضرب بالسيف حتى انقطع متنه لما ازددت منهم إلا بعدا فإن بني عبد شمس أبغض إلى بني هاشم من الشفرة إلى الثور الصريع وقد أوثق للذبح فارجع رحمك الله إلى أصلك واتصل بقومك ولا تكن كالموصول بريش غيره فقد أصبحت ضال النسب ولعمري ما فعل بك ذلك إلا اللجاج فدعه عنك فقد أصبحت على بينة من أمرك ووضوح من حجتك فإن أحببت جانبي ووثقت بي فأمره بأمره وإن كرهت جانبي ولم تثق بقولي ففعل جميل لا علي ولا لي والسلام . فرحل المغيرة بالكتاب حتى قدم فارس فلما رآه زياد قربه وأدناه ولطف به فدفع إليه الكتاب فجعل يتأمله ويضحك فلما فرغ من قراءته وضعه تحت قدمه ثم قال حسبك يا مغيرة فإني أطلع على ما في ضميرك وقد قدمت من سفرة بعيدة فقم وأرح ركابك قال أجل فدع عنك اللجاج يرحمك الله وارجع إلى قومك وصل أخاك وانظر لنفسك ولا تقطع رحمك قال زياد إني رجل صاحب أناة ولي في أمري روية فلا تعجل علي ولا تبدأني بشي ء حتى أبدأك ثم جمع الناس بعد يومين أو ثلاثة فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس ادفعوا البلاء ما اندفع عنكم وارغبوا إلى الله في دوام العافية لكم فقد نظرت في أمور الناس منذ قتل عثمان وفكرت فيهم فوجدتهم كالأضاحي في كل عيد يذبحون ولقد أفنى هذان اليومان يوم الجمل وصفين ما ينيف على مائة ألف كلهم يزعم أنه طالب حق وتابع إمام وعلى بصيرة من أمره فإن كان الأمر هكذا فالقاتل والمقتول في الجنة كلا
[ 186 ](1/4588)
ليس كذلك ولكن أشكل الأمر والتبس على القوم وإني لخائف أن يرجع الأمر كما بدأ فكيف لامرئ بسلامة دينه وقد نظرت في أمر الناس فوجدت أحد العاقبتين العافية وسأعمل في أموركم ما تحمدون عاقبته ومغبته فقد حمدت طاعتكم إن شاء الله ثم نزل وكتب جواب الكتاب أما بعد فقد وصل كتابك يا معاوية مع المغيرة بن شعبة وفهمت ما فيه فالحمد لله الذي عرفك الحق وردك إلى الصلة ولست ممن يجهل معروفا ولا يغفل حسبا ولو أردت أن أجيبك بما أوجبته الحجة واحتمله الجواب لطال الكتاب وكثر الخطاب ولكنك إن كنت كتبت كتابك هذا عن عقد صحيح ونية حسنة وأردت بذلك برا فستزرع في قلبي مودة وقبولا وإن كنت إنما أردت مكيدة ومكرا وفساد نية فإن النفس تأبى ما فيه العطب ولقد قمت يوم قرأت كتابك مقاما يعبأ به الخطيب المدره فتركت من حضر لا أهل ورد ولا صدر كالمتحيرين بمهمة ضل بهم الدليل وأنا على أمثال ذلك قدير وكتب في أسفل الكتاب
إذا معشري لم ينصفوني وجدتني
أدافع عني الضيم ما دمت باقيا
و كم معشر أعيت قناتي عليهم
فلاموا وألفوني لدى العزم ماضيا
و هم به ضاقت صدور فرجته
و كنت بطبي للرجال مداويا
أدافع بالحلم الجهول مكيدة
و أخفى له تحت العضاه الدواهيا
فإن تدن مني أدن منك وإن تبن
تجدني إذا لم تدن مني نائيا
فأعطاه معاوية جميع ما سأله وكتب إليه بخط يده ما وثق به فدخل إليه الشام فقربه وأدناه وأقره على ولايته ثم استعمله على العراق .
[ 187 ](1/4589)
و روى علي بن محمد المدائني قال لما أراد معاوية استلحاق زياد وقد قدم عليه الشام جمع الناس وصعد المنبر وأصعد زيادا معه فأجلسه بين يديه على المرقاة التي تحت مرقاته وحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس إني قد عرفت نسبنا أهل البيت في زياد فمن كان عنده شهادة فليقم بها فقام ناس فشهدوا أنه ابن أبي سفيان وأنهم سمعوا ما أقر به قبل موته فقام أبو مريم السلولي وكان خمارا في الجاهلية فقال أشهد يا أمير المؤمنين أن أبا سفيان قدم علينا بالطائف فأتاني فاشتريت له لحما وخمرا وطعاما فلما أكل قال يا أبا مريم أصب لي بغيا فخرجت فأتيت بسمية فقلت لها إن أبا سفيان ممن قد عرفت شرفه وجوده وقد أمرني أن أصيب له بغيا فهل لك فقالت نعم يجي ء الآن عبيد بغنمه وكان راعيا فإذا تعشى ووضع رأسه أتيته فرجعت إلى أبي سفيان فأعلمته فلم نلبث أن جاءت تجر ذيلها فدخلت معه فلم تزل عنده حتى أصبحت فقلت له لما انصرفت كيف رأيت صاحبتك قال خير صاحبة لو لا ذفر في إبطيها . فقال زياد من فوق المنبر يا أبا مريم لا تشتم أمهات الرجال فتشتم أمك . فلما انقضى كلام معاوية ومناشدته قام زياد وأنصت الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس إن معاوية والشهود قد قالوا ما سمعتم ولست أدري حق هذا من باطله وهو والشهود أعلم بما قالوا وإنما عبيد أب مبرور ووال مشكور ثم نزل . وروى شيخنا أبو عثمان أن زيادا مر وهو والي البصرة بأبي العريان العدوي وكان شيخا مكفوفا ذا لسن وعارضة شديدة فقال أبو العريان ما هذه الجلبة قالوا زياد بن أبي سفيان قال والله ما ترك أبو سفيان إلا يزيد ومعاوية وعتبة وعنبسة وحنظلة ومحمدا فمن أين جاء زياد فبلغ الكلام زيادا وقال له قائل لو سددت
[ 188 ](1/4590)
عنك فم هذا الكلب فأرسل إليه بمائتي دينار فقال له رسول زياد إن ابن عمك زيادا الأمير قد أرسل إليك مائتي دينار لتنفقها فقال وصلته رحم إي والله ابن عمي حقا ثم مر به زياد من الغد في موكبه فوقف عليه فسلم وبكى أبو العريان فقيل له ما يبكيك قال عرفت صوت أبي سفيان في صوت زياد فبلغ ذلك معاوية فكتب إلى أبي العريان
ما ألبثتك الدنانير التي بعثت
أن لونتك أبا العريان ألوانا
أمسى إليك زياد في أرومته
نكرا فأصبح ما أنكرت عرفانا
لله در زياد لو تعجلها
كانت له دون ما يخشاه قربانا
فلما قرئ كتاب معاوية على أبي العريان قال اكتب جوابه يا غلام
أحدث لنا صلة تحيا النفوس بها
قد كدت يا ابن أبي سفيان تنسانا
أما زياد فقد صحت مناسبه
عندي فلا أبتغي في الحق بهتانا
من يسد خيرا يصبه حين يفعله
أو يسد شرا يصبه حيثما كانا
و روى أبو عثمان أيضا قال كتب زياد إلى معاوية ليستأذنه في الحج فكتب إليه إني قد أذنت لك واستعملتك على الموسم وأجزتك بألف ألف درهم فبينا هو يتجهز إذ بلغ ذلك أبا بكرة أخاه وكان مصارما له منذ لجلج في الشهادة على المغيرة بن شعبة أيام عمر لا يكلمه قد لزمته أيمان عظيمة ألا يكلمه أبدا فأقبل أبو بكرة يدخل القصر يريد زيادا فبصر به الحاجب فأسرع إلى زياد قائلا أيها الأمير هذا أخوك أبو بكرة قد دخل القصر قال ويحك أنت رأيته قال ها هو ذا قد طلع وفي حجر زياد بني يلاعبه وجاء أبو بكرة حتى وقف عليه فقال للغلام كيف أنت يا غلام إن أباك ركب في الإسلام عظيما زنى أمه وانتفى من أبيه ولا والله ما علمت سمية رأت
[ 189 ](1/4591)
أبا سفيان قط ثم أبوك يريد أن يركب ما هو أعظم من ذلك يوافي الموسم غدا ويوافي أم حبيبة بنت أبي سفيان وهي من أمهات المؤمنين فإن جاء يستأذن عليها فأذنت له فأعظم بها فرية على رسول الله ص ومصيبة وإن هي منعته فأعظم بها على أبيك فضيحة ثم انصرف فقال جزاك الله يا أخي عن النصيحة خيرا ساخطا كنت أو راضيا ثم كتب إلى معاوية إني قد اعتللت عن الموسم فليوجه إليه أمير المؤمنين من أحب فوجه عتبة بن أبي سفيان . فأما أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب فإنه قال لما ادعى معاوية زيادا في سنة أربع وأربعين وألحقه به أخا زوج ابنته من ابنه محمد بن زياد ليؤكد بذلك صحة الاستلحاق وكان أبو بكرة أخا زياد لأمه أمهما جميعا سمية فحلف ألا يكلم زيادا أبدا وقال هذا زنى أمه وانتفى من أبيه ولا والله ما علمت سمية رأت أبا سفيان قبل ويله ما يصنع بأم حبيبة أ يريد أن يراها فإن حجبته فضحته وإن رآها فيا لها مصيبة يهتك من رسول الله ص حرمة عظيمة . وحج زياد مع معاوية ودخل المدينة فأراد الدخول على أم حبيبة ثم ذكر قول أبي بكرة فانصرف عن ذلك وقيل إن أم حبيبة حجبته ولم تأذن له في الدخول عليها وقيل إنه حج ولم يرد المدينة من أجل قول أبي بكرة وإنه قال جزى الله أبا بكرة خيرا فما يدع النصيحة في حال وروى أبو عمر بن عبد البر في هذا الكتاب قال دخل بنو أمية وفيهم عبد الرحمن بن الحكم على معاوية أيام ما استلحق زيادا فقال له عبد الرحمن يا معاوية لو لم تجد إلا الزنج لاستكثرت بهم علينا قلة وذلة يعني على بني أبي العاص فأقبل معاوية
[ 190 ]
على مروان وقال أخرج عنا هذا الخليع فقال مروان إي والله إنه لخليع ما يطاق فقال معاوية والله لو لا حلمي وتجاوزي لعلمت أنه يطاق أ لم يبلغني شعره في وفي زياد ثم قال مروان أسمعنيه فأنشد
ألا أبلغ معاوية بن حرب
لقد ضاقت بما يأتي اليدان
أ تغضب أن يقال أبوك عف
و ترضى أن يقال أبوك زان(1/4592)
فأشهد أن رحمك من زياد
كرحم الفيل من ولد الأتان
و أشهد أنها حملت زيادا
و صخر من سمية غير دان
ثم قال والله لا أرضى عنه حتى يأتي زيادا فيترضاه ويعتذر إليه فجاء عبد الرحمن إلى زياد معتذرا يستأذن عليه فلم يأذن له فأقبلت قريش إلى زياد تكلمه في أمر عبد الرحمن فلما دخل سلم فتشاوس له زياد بعينه وكان يكسر عينه فقال له زياد أنت القائل ما قلت قال عبد الرحمن ما الذي قلت قال قلت ما لا يقال قال أصلح الله الأمير إنه لا ذنب لمن أعتب وإنما الصفح عمن أذنب فاسمع مني ما أقول قال هات فأنشده
إليك أبا المغيرة تبت مما
جرى بالشام من خطل اللسان
و أغضبت الخليفة فيك حتى
دعاه فرط غيظ إن هجاني
و قلت لمن لحاني في اعتذاري
إليك اذهب فشأنك غير شأني
[ 191 ]
عرفت الحق بعد ضلال رأيي
و بعد الغي من زيغ الجنان
زياد من أبي سفيان غصن
تهادى ناضرا بين الجنان
أراك أخا وعما وابن عم
فما أدري بعيب ما تراني
و إن زيادة في آل حرب
أحب إلي من وسطي بناني
ألا أبلغ معاوية بن حرب
فقد ظفرت بما تأتي اليدان
فقال زياد أراك أحمق صرفا شاعرا ضيع اللسان يسوغ لك ريقك ساخطا ومسخوطا ولكنا قد سمعنا شعرك وقبلنا عذرك فهات حاجتك قال تكتب إلى أمير المؤمنين بالرضا عني قال نعم ثم دعا كاتبه فكتب له بالرضا عنه فأخذ كتابه ومضى حتى دخل على معاوية فلما قرأه قال لحا الله زيادا لم يتنبه لقوله
و إن زيادة في آل حرب
ثم رضي عن عبد الرحمن ورده إلى حالته . وأما أشعار يزيد بن مفرغ الحميري وهجاؤه عبيد الله وعبادا ابني زياد بالدعوة فكثيرة مشهورة نحو قوله
أ عباد ما للؤم عنك تحول
و لا لك أم من قريش ولا أب
و قل لعبيد الله ما لك والد
بحق ولا يدري امرؤ كيف تنسب
و نحو قوله
شهدت بأن أمك لم تباشر
أبا سفيان واضعة القناع
[ 192 ]
و لكن كان أمر فيه لبس
على حذر شديد وارتياع
إذا أودى معاوية بن حرب
فبشر شعب قعبك بانصداع
و نحو قوله
إن زيادا ونافعا وأبا بكرة(1/4593)
عندي من أعجب العجب
هم رجال ثلاثة خلقوا
في رحم أنثى وكلهم لأب
ذا قرشي كما تقول وذا
مولى وهذا بزعمه عربي
كان عبيد الله بن زياد يقول ما شجيت بشي ء أشد علي من قول ابن مفرغ
فكر ففي ذاك إن فكرت معتبر
هل نلت مكرمة إلا بتأمير
عاشت سمية ما عاشت وما علمت
أن ابنها من قريش في الجماهير
و يقال إن الأبيات النونية المنسوبة إلى عبد الرحمن ابن أم الحكم ليزيد بن مفرغ وإن أولها
أ لا أبلغ معاوية بن حرب
مغلغلة من الرجل اليماني
و نحو قوله وقد باع برد غلامه لما حبسه عباد بن زياد بسجستان
يا برد ما مسنا دهر أضر بنا
من قبل هذا ولا بعنا له ولدا
لامتني النفس في برد فقلت لها
لا تهلكي إثر برد هكذا كمدا
لو لا الدعي ولو لا ما تعرض بي
من الحوادث ما فارقته أبدا
و نحو قوله
أبلغ لديك بني قحطان مألكة
عضت بأير أبيها سادة اليمن
أضحى دعي زياد فقع قرقرة
يا للعجائب يلهو بابن ذي يزن
[ 193 ]
و روى ابن الكلبي أن عبادا استلحقه زياد كما استلحق معاوية زيادا كلاهما لدعوة قال لما أذن لزياد في الحج تجهز فبينا هو يتجهز وأصحاب القرب يعرضون عليه قربهم إذ تقدم عباد وكان خرازا فصار يعرض عليه ويحاوره ويجيبه فقال زياد ويحك من أنت قال أنا ابنك قال ويحك وأي بني قال قد وقعت على أمي فلانة وكانت من بني كذا فولدتني وكنت في بني قيس بن ثعلبة وأنا مملوك لهم فقال صدقت والله إني لأعرف ما تقول فبعث فاشتراه وادعاه وألحقه وكان يتعهد بني قيس بن ثعلبة بسببه ويصلهم وعظم أمر عباد حتى ولاه معاوية سجستان بعد موت زياد وولى أخاه عبيد الله البصرة فتزوج عباد الستيرة ابنة أنيف بن زياد الكلبي فقال الشاعر يخاطب أنيفا وكان سيد كلب في زمانه
أبلغ لديك أبا تركان مألكة
أ نائما كنت أم بالسمع من صمم
أنكحت عبد بني قيس مهذبة
آباؤها من عليم معدن الكرم
أ كنت تجهل عبادا ومحتده
لا در درك أم أنكحت من عدم
أ بعد آل أبي سفيان تجعله(1/4594)
صهرا وبعد بني مروان والحكم
أعظم عليك بذا عارا ومنقصة
ما دمت حيا وبعد الموت في الرحم
و قال الحسن البصري ثلاث كن في معاوية لو لم تكن فيه إلا واحدة منهن لكانت موبقة انتزاؤه على هذه الأمة بالسفهاء حتى ابتزها أمرها واستلحاقه زيادا مراغمة
لقول رسول الله الولد للفراش وللعاهر الحجر وقتله حجر بن عدي فيا ويله من حجر وأصحاب حجر .
[ 194 ]
و روى الشرقي بن القطامي قال كان سعيد بن سرح مولى حبيب بن عبد شمس شيعة لعلي بن أبي طالب ع فلما قدم زياد الكوفة طلبه وأخافه فأتى الحسن بن علي ع مستجيرا به فوثب زياد على أخيه وولده وامرأته فحبسهم وأخذ ماله ونقض داره
فكتب الحسن بن علي ع إلى زياد أما بعد فإنك عمدت إلى رجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم فهدمت داره وأخذت ماله وحبست أهله وعياله فإن أتاك كتابي هذا فابن له داره واردد عليه عياله وماله وشفعني فيه فقد أجرته والسلام . فكتب إليه زياد من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن بن فاطمة أما بعد فقد أتاني كتابك تبدأ فيه بنفسك قبلي وأنت طالب حاجة وأنا سلطان وأنت سوقة وتأمرني فيه بأمر المطاع المسلط على رعيته كتبت إلي في فاسق آويته إقامة منك على سوء الرأي ورضا منك بذلك وايم الله لا تسبقني به ولو كان بين جلدك ولحمك وإن نلت بعضك غير رفيق بك ولا مرع عليك فإن أحب لحم علي أن آكله للحم الذي أنت منه فسلمه بجريرته إلى من هو أولى به منك فإن عفوت عنه لم أكن شفعتك فيه وإن قتلته لم أقتله إلا لحبه أباك الفاسق والسلام . فلما ورد الكتاب على الحسن ع قرأه وتبسم وكتب بذلك إلى معاوية وجعل كتاب زياد عطفه وبعث به إلى الشام وكتب جواب كتابه كلمتين لا ثالثة لهما(1/4595)
من الحسن بن فاطمة إلى زياد ابن سمية أما بعد فإن رسول الله ص قال الولد للفراش وللعاهر الحجر والسلام . فلما قرأ معاوية كتاب زياد إلى الحسن ضاقت به الشام وكتب إلى زياد أما بعد فإن الحسن بن علي بعث إلي بكتابك إليه جوابا عن كتاب كتبه
[ 195 ]
إليك في ابن سرح فأكثرت العجب منك وعلمت أن لك رأيين أحدهما من أبي سفيان والآخر من سمية فأما الذي من أبي سفيان فحلم وحزم وأما الذي من سمية فما يكون من رأي مثلها من ذلك كتابك إلى الحسن تشتم أباه وتعرض له بالفسق ولعمري إنك الأولى بالفسق من أبيه فأما أن الحسن بدأ بنفسه ارتفاعا عليك فإن ذلك لا يضعك لو عقلت وأما تسلطه عليك بالأمر فحق لمثل الحسن أن يتسلط وأما تركك تشفيعه فيما شفع فيه إليك فحظ دفعته عن نفسك إلى من هو أولى به منك فإذا ورد عليك كتابي فخل ما في يديك لسعيد بن أبي سرح وابن له داره واردد عليه ماله ولا تعرض له فقد كتبت إلى الحسن أن يخيره إن شاء أقام عنده وإن شاء رجع إلى بلده ولا سلطان لك عليه لا بيد ولا لسان وأما كتابك إلى الحسن باسمه واسم أمه ولا تنسبه إلى أبيه فإن الحسن ويحك من لا يرمى به الرجوان وإلى أي أم وكلته لا أم لك أ ما علمت أنها فاطمة بنت رسول الله ص فذاك أفخر له لو كنت تعلمه وتعقله وكتب في أسفل الكتاب شعرا من جملته
أما حسن فابن الذي كان قبله
إذا سار سار الموت حيث يسير
و هل يلد الرئبال إلا نظيره
و ذا حسن شبه له ونظير
و لكنه لو يوزن الحلم والحجا
بأمر لقالوا يذبل وثبير
[ 196 ]
و روى الزبير بن بكار في الموفقيات أن عبد الملك أجرى خيلا فسبقه عباد بن زياد فأنشد عبد الملك
سبق عباد وصلت لحيته
و كان خرازا تجود قربته(1/4596)
فشكا عباد قول عبد الملك إلى خالد بن يزيد بن معاوية فقال له أما والله لأنصفنك منه بحيث يكره فزوجه أخته فكتب الحجاج إلى عبد الملك يا أمير المؤمنين إن مناكح آل أبي سفيان قد ضاعت فأخبر عبد الملك خالدا بما كتب به الحجاج فقال خالد يا أمير المؤمنين ما أعلم امرأة منا ضاعت ونزلت إلا عاتكة بنت يزيد بن معاوية فإنها عندك ولم يعن الحجاج غيرك قال عبد الملك بل عنى الدعي ابن الدعي عبادا قال خالد يا أمير المؤمنين ما أنصفتني أدعي رجلا ثم لا أزوجه إنما كنت ملوما لو زوجت دعيك فأما دعيي فلم لا أزوجه . فأما أول ما ارتفع به زياد فهو استخلاف ابن عباس له على البصرة في خلافة علي ع وبلغت عليا عنه هنات فكتب إليه يلومه ويؤنبه فمنها الكتاب الذي ذكر الرضي رحمه الله بعضه وقد شرحنا فيما تقدم ما ذكر الرضي منه وكان علي ع أخرج إليه سعدا مولاه يحثه على حمل مال البصرة إلى الكوفة وكان بين سعد وزياد ملاحاة ومنازعة وعاد سعد وشكاه إلى علي ع وعابه
فكتب علي ع إليه أما بعد فإن سعدا ذكر أنك شتمته ظلما وهددته وجبهته تجبرا وتكبرا فما دعاك إلى التكبر وقد قال رسول الله ص الكبر رداء الله فمن نازع الله رداءه قصمه وقد أخبرني أنك تكثر من الألوان المختلفة في الطعام في اليوم الواحد
[ 197 ](1/4597)
و تدهن كل يوم فما عليك لو صمت لله أياما وتصدقت ببعض ما عندك محتسبا وأكلت طعامك مرارا قفارا فإن ذلك شعار الصالحين أ فتطمع وأنت متمرغ في النعيم تستأثر به على الجار والمسكين والضعيف والفقير والأرملة واليتيم أن يحسب لك أجر المتصدقين وأخبرني أنك تتكلم بكلام الأبرار وتعمل عمل الخاطئين فإن كنت تفعل ذلك فنفسك ظلمت وعملك أحبطت فتب إلى ربك يصلح لك عملك واقتصد في أمرك وقدم إلى ربك الفضل ليوم حاجتك وادهن غبا فإني سمعت رسول الله ص يقول ادهنوا غبا ولا تدهنوا رفها . فكتب إليه زياد أما بعد يا أمير المؤمنين فإن سعدا قدم علي فأساء القول والعمل فانتهرته وزجرته وكان أهلا لأكثر من ذلك وأما ما ذكرت من الإسراف واتخاذ الألوان من الطعام والنعم فإن كان صادقا فأثابه الله ثواب الصالحين وإن كان كاذبا فوقاه الله أشد عقوبة الكاذبين وأما قوله إني أصف العدل وأخالفه إلى غيره فإني إذن من الأخسرين فخذ يا أمير المؤمنين بمقال قلته في مقام قمته الدعوى بلا بينة كالسهم بلا نصل فإن أتاك بشاهدي عدل وإلا تبين لك كذبه وظلمه . ومن كلام زياد تأخير جزاء المحسن لؤم وتعجيل عقوبة المسي ء طيش . وكتب إليه معاوية أما بعد فاعزل حريث بن جابر عن العمل فإني لا أذكر مقاماته بصفين إلا كانت حزازة في صدري فكتب إليه زياد أما بعد فخفض عليك يا أمير المؤمنين فإن حريثا قد سبق شرفا لا يرفعه معه عمل ولا يضعه معه عزل .
[ 198 ](1/4598)
و قال لابنه عبيد الله عليك بالحجاب وإنما اجترأت الرعاة على السباع بكثرة نظرها إليها . ومن كلامه أحسنوا إلى أهل الخراج فإنكم لا تزالون سمانا ما سمنوا . قدم رجل خصما له إلى زياد في حق له عليه وقال أيها الأمير إن هذا يدل بخاصة ذكر أنها له منك قال زياد صدق وسأخبرك بما ينفعه عندي من خاصته ومودته إن يكن له الحق عليك آخذك به أخذا عنيفا وإن يكن الحق لك قضيت عليه ثم قضيت عنه . وقال ليس العاقل من يحتال للأمر إذا وقع فيه لكن العاقل من يحتال للأمر ألا يقع فيه . وقال في خطبة له إلا رب مسرور بقدومنا لا نسره وخائف ضرنا لا نضره . كان مكتوبا في الحيطان الأربعة في قصر زياد كتابة بالجص أربعة أسطر أولها الشدة في غير عنف واللين في غير ضعف والثاني المحسن مجازى بإحسانه والمسي ء يكافأ بإساءته والثالث العطيات والأرزاق في إبانها وأوقاتها والرابع لا احتجاب عن صاحب ثغر ولا عن طارق ليل . وقال يوما على المنبر إن الرجل ليتكلم بالكلمة يشفي بها غيظه لا يقطع بها ذنب عنز فتضره لو بلغتنا عنه لسفكنا دمه . وقال ما قرأت كتاب رجل قط إلا عرفت عقله منه . وقال في خطبة استوصوا بثلاثة منكم خيرا الشريف والعالم والشيخ فو الله لا يأتيني وضيع بشريف يستخف به إلا انتقمت منه أو شاب بشيخ يستخف به إلا أوجعته ضربا ولا جاهل بعالم يستخف به إلا نكلت به .
[ 199 ](1/4599)
و قيل لزياد ما الحظ قال أن يطول عمرك وترى في عدوك ما يسرك . قيل كان زياد يقول هما طريقان للعامة الطاعة والسيف . وكان المغيرة يقول لا والله حتى يحملوا على سبعين طريقا غير السيف . وقال الحسن البصري لرجل أ لا تحدثني بخطبتي زياد والحجاج حين دخلا العراق قال بلى أما زياد فلما قدم البصرة حمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن معاوية غير مخوف على قومه ولم يكن ليلحق بنسبة من ليس منه وقد شهدت الشهود بما قد بلغكم والحق أحق أن يتبع والله حيث وضع البينات كان أعلم وقد رحلت عنكم وأنا أعرف صديقي من عدوي ثم قدمت عليكم وقد صار العدو صديقا مناصحا والصديق عدوا مكاشحا فليشتمل كل امرئ على ما في صدره ولا يكونن لسانه شفرة تجري على أوداجه وليعلم أحدكم إذا خلا بنفسه أني قد حملت سيفي بيدي فإن أشهره لم أغمده وإن أغمده لم أشهره ثم نزل وأما الحجاج فإنه قال من أعياه داؤه فعلي دواؤه ومن استبطأ أجله فعلي أن أعجله ألا إن الحزم والعزم استلبا مني سوطي وجعلا سوطي سيفي فنجاده في عنقي وقائمه بيدي وذبابه قلادة لمن اغتر بي . فقال الحسن البؤس لهما ما أغرهما بربهما اللهم اجعلنا ممن يعتبر بهما . وقال بعضهم ما رأيت زيادا كاسرا إحدى عينيه واضعا إحدى رجليه على الأخرى يخاطب رجلا إلا رحمت المخاطب . ومن كلامه نعم الشي ء الإمارة لو لا قعقعة لجام البريد وتسنم ذروة المنبر . قال لحاجبه يا عجلان إني قد وليتك هذا الباب وعزلتك عن أربعة المنادي إذا جاء يؤذن بالصلاة فإنها كانت كتابا موقوتا ورسول صاحب الثغر فإنه إن أبطأ
[ 200 ](1/4600)
ساعة فسد تدبير سنة وطارق الليل فشر ما جاء به والطباخ إذا فرغ من الطعام فإنه متى أعيد عليه التسخين فسد . وكان حارثة بن بدر الغداني قد غلب على زياد وكان حارثة مشتهرا بالشراب فقيل لزياد في ذلك فقال كيف بإطراح رجل هو يسايرني منذ قدمت العراق فلا يصل ركابه ركابي ولا تقدمني قط فنظرت إلى قفاه ولا تأخر عني فلويت عنقي إليه ولا أخذ علي الشمس في شتاء قط ولا الروح في صيف قط ولا سألته عن علم إلا ظننته لا يحسن غيره . ومن كلامه كفى بالبخل عارا أن اسمه لم يقع في حمد قط وكفى بالجود فخرا أن اسمه لم يقع في ذم قط . وقال ملاك السلطان الشدة على المريب واللين للمحسن وصدق الحديث والوفاء بالعهد . وقال ما أتيت مجلسا قط إلا تركت منه ما لو أخذته لكان لي وترك ما لي أحب إلي من أخذ ما ليس لي . وقال ما قرأت مثل كتب الربيع بن زياد الحارثي ما كتب إلي كتابا قط إلا في اجترار منفعة أو دفع مضرة ولا شاورته يوما قط في أمر مبهم إلا وسبق إلى الرأي . وقال يعجبني من الرجل إذا أتى مجلسا أن يعلم أين مكانه منه فلا يتعداه إلى غيره وإذا سيم خطة خسف أن يقول لا بمل ء فيه . فأما خطبة زياد المعروفة بالبتراء وإنما سميت بذلك لأنه لم يحمد الله فيها ولا صلى على رسوله فقد ذكرها علي بن محمد المدائني قال قدم زياد البصرة أميرا عليها أيام معاوية والفسق فيها فاش جدا وأموال الناس منتهبة والسياسة ضعيفة فصعد المنبر فقال
[ 201 ](1/4601)
أما بعد فإن الجاهلية الجهلاء والضلالة العمياء والغي الموفد لأهله على النار ما فيه سفهاؤكم ويشتمل عليه حلماؤكم من الأمور العظام ينبت فيها الصغير ولا يتحاشى منها الكبير كأنكم لم تقرءوا كتاب الله ولم تستمعوا ما أعد من الثواب الكثير لأهل طاعته والعذاب الأليم لأهل معصيته في الزمن السرمد الذي لا يزول . أ تكونون كمن طرفت عينه الدنيا وسدت مسامعه الشهوات واختار الفانية على الباقية لا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا به من ترككم الضعيف يقهر ويؤخذ ماله والضعيفة المسلوبة في النهار المبصر هذا والعدد غير قليل . أ لم يكن منكم نهاه تمنع الغواة عن دلج الليل وغارة النهار قربتم القرابة وباعدتم الذين يعتذرون بغير العذر ويعطون على المختلس كل امرئ منكم يذب عن سيفه صنيع من لا يخاف عاقبة ولا يرجو معادا ما أنتم بالحلماء وقد اتبعتم السفهاء فلم يزل بهم ما ترون من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حرمة الإسلام ثم أطرقوا وراءكم كنوسا في مكانس الريب حرم علي الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدما وإحراقا إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله لين في غير ضعف وشدة في غير عنف وأنا أقسم بالله لآخذن الولي بالولي والظاعن بالظاعن والمقبل بالمدبر والصحيح منكم في نفسه بالسقيم حتى يلقى الرجل أخاه
[ 202 ](1/4602)
فيقول انج سعد فقد هلك سعيد أو تستقيم لي قناتكم . إن كذبة المنبر تلفى مشهورة فإذا تعلقتم علي بكذبة فقد حلت لكم معصيتي من نقب عليه منكم فأنا ضامن لما ذهب منه فإياكم ودلج الليل فإني لا أوتى بمدلج إلا سفكت دمه وقد أجلتكم بقدر ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع إليكم . إياكم ودعوى الجاهلية فإني لا أجد أحدا دعا بها إلا قطعت لسانه وقد أحدثتم أحداثا وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة فمن غرق بيوت قوم غرقناه ومن حرق على قوم حرقناه ومن نقب على أحد بيتا نقبنا على قلبه ومن نبش قبرا دفناه فيه حيا . كفوا عني أيديكم وألسنتكم أكف عنكم يدي ولساني ولا يظهرن من أحدكم خلاف ما عليه عامتكم فأضرب عنقه وقد كانت بيني وبين أقوام إحن فقد جعلت ذلك وراء أذني وتحت قدمي فمن كان منكم محسنا فليزدد إحسانا ومن كان مسيئا فلينزع عن إساءته إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السلال من بغضي لم أكشف عنه قناعا ولم أهتك له سترا حتى يبدي لي صفحته فإذا فعل لم أناظره فاستأنفوا أموركم وأعينوا على أنفسكم فرب مبتئس بقدومنا سيسر ومسرور بقدومنا سيبأس أيها الناس إنا أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادة نسوسكم بسلطان الله الذي أعطاناه ونذود عنكم بفي ء الله الذي خولناه فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا ولكم علينا العدل والإنصاف فيما ولينا فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم لنا واعلموا أني مهما قصرت عنه فلن أقصر عن ثلاث لست محتجبا عن طالب حاجة منكم
[ 203 ](1/4603)
و لا حابسا عطاء ولا مجمرا بعثا فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم فإنهم ساستكم المؤدبون وكهفكم الذي إليه تأوون ومتى يصلحوا تصلحوا فلا تشربوا قلوبكم بغضهم فيشتد لذلك غيظكم ويطول لذلك حزنكم ولا تدركوا حاجتكم مع أنه لو استجيب لأحد منكم لكان شرا لكم أسأل الله أن يعين كلا على كل وإذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر فانفذوه على أذلاله وايم الله إن لي فيكم لصرعى كثيرة فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرعاي . فقام عبد الله بن الأهتم فقال أشهد أيها الأمير لقد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب . فقال كذبت ذاك نبي الله داود . فقام الأحنف فقال إنما الثناء بعد البلاء والحمد بعد العطاء وإنا لا نثني حتى نبتلى ولا نحمد حتى نعطى فقال زياد صدقت فقام أبو بلال مرداس بن أدية يهمس ويقول أنبأنا الله بغير ما قلت فقال وَ إِبْراهِيمَ اَلَّذِي وَفَّى أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى فسمعها زياد فقال يا أبا بلال إنا لا نبلغ ما نريد بأصحابك حتى نخوض إليهم الباطل خوضا . وروى الشعبي قال قدم زياد الكوفة لما جمعت له مع البصرة فدنوت من المنبر لأسمع كلامه فلم أر أحدا يتكلم فيحسن إلا تمنيت أن يسكت مخافة أن يسي ء إلا زيادا فإنه كان لا يزداد إكثارا إلا ازداد إحسانا فكنت أتمنى ألا يسكت .
[ 204 ](1/4604)
و روى الشعبي أيضا قال لما خطب زياد خطبته البتراء بالبصرة ونزل سمع تلك الليلة أصوات الناس يتحارسون فقال ما هذا قالوا إن البلد مفتونة وإن المرأة من أهل المصر لتأخذها الفتيان الفساق فيقال لها نادي ثلاث أصوات فإن أجابك أحد وإلا فلا لوم علينا فيما نصنع فغضب فقال ففيم أنا وفيم قدمت فلما أصبح أمر فنودي في الناس فاجتمعوا فقال أيها الناس إني قد نبئت بما أنتم فيه وسمعت ذروا منه وقد أنذرتكم وأجلتكم شهرا مسير الرجل إلى الشام ومسيره إلى خراسان ومسيره إلى الحجاز فمن وجدناه بعد شهر خارجا من منزله بعد العشاء الآخرة فدمه هدر فانصرف الناس يقولون هذا القول كقول من تقدمه من الأمراء فلما كمل الشهر دعا صاحب شرطته عبد الله بن حصين اليريوعي وكانت رجال الشرطة معه أربعة آلاف فقال له هيئ خيلك ورجلك فإذا صليت العشاء الآخرة وقرأ القارئ مقدار سبع من القرآن ورفع الطن القصب من القصر فسر ولا تلقين أحدا عبيد الله بن زياد فمن دونه إلا جئتني برأسه وإن راجعتني في أحد ضربت عنقك . قال فصبح على باب القصر تلك الليلة سبعمائة رأس ثم خرج الليلة الثانية فجاء بخمسين رأسا ثم خرج الليلة الثالثة فجاء برأس واحد ثم لم يجي ء بعدها بشي ء وكان الناس إذا صلوا العشاء الآخرة أحضروا إلى منازلهم شدا حثيثا وقد يترك بعضهم نعاله . كتبت عائشة إلى زياد كتابا فلم تدر ما تكتب عنوانه إن كتبت زياد بن عبيد أو ابن أبيه أغضبته وإن كتبت زياد بن أبي سفيان أثمت فكتبت من أم المؤمنين إلى ابنها زياد فلما قرأه ضحك وقال لقد لقيت أم المؤمنين من هذا العنوان نصبا
[ 205 ](1/4605)
45 ومن كتاب له ع إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وكان عامله على البصرة
و قد بلغه أنه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها قوله : أَمَّا بَعْدُ يَا اِبْنَ حُنَيْفٍ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلاً مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ اَلْبَصْرَةِ دَعَاكَ إِلَى مَأْدُبَةٍ فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا تُسْتَطَابُ لَكَ اَلْأَلْوَانُ وَ تُنْقَلُ إِلَيْكَ اَلْجِفَانُ وَ مَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيبُ إِلَى طَعَامِ قَوْمٍ عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ وَ غَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ فَانْظُرْ إِلَى مَا تَقْضَمُهُ مِنْ هَذَا اَلْمَقْضَمِ فَمَا اِشْتَبَهَ عَلَيْكَ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ وَ مَا أَيْقَنْتَ بِطِيبِ وَجْهِهِ وُجُوهِهِ فَنَلْ مِنْهُ أَلاَ وَ إِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ وَ يَسْتَضِي ءُ بِنُورِ عِلْمِهِ أَلاَ وَ إِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اِكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ وَ مِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ أَلاَ وَ إِنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَ لَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَ اِجْتِهَادٍ وَ عِفَّةٍ وَ سَدَادٍ فَوَاللَّهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْراً وَ لاَ اِدَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً وَ لاَ أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي طِمْراً وَ لاَ حُزْتُ مِنْ أَرْضِهَا شِبْراً وَ لاَ أَخَذْتُ مِنْهُ إِلاَّ كَقُوتِ أَتَانٍ دَبِرَةٍ وَ لَهِيَ فِي عَيْنِي أَوْهَى مِنْ عَفْصَةٍ مَقِرَةٍ(1/4606)
عثمان بن حنيف ونسبه
هو عثمان بن حنيف بضم الحاء بن واهب بن العكم بن ثعلبة بن الحارث الأنصاري
[ 206 ]
ثم الأوسي أخو سهل بن حنيف يكنى أبا عمرو وقيل أبا عبد الله عمل لعمر ثم لعلي ع وولاه عمر مساحة الأرض وجبايتها بالعراق وضرب الخراج والجزية على أهلها وولاه علي ع على البصرة فأخرجه طلحة والزبير منها حين قدماها وسكن عثمان الكوفة بعد وفاة علي ع ومات بها في زمن معاوية . قوله من فتية البصرة أي من فتيانها أي من شبابها أو من أسخيائها يقال للسخي هذا فتى والجمع فتية وفتيان وفتو ويروى أن رجلا من قطان البصرة أي سكانها . والمأدبة بضم الدال الطعام يدعى إليه القوم وقد جاءت بفتح الدال أيضا ويقال أدب فلان القوم يأدبهم بالكسر أي دعاهم إلى طعامه والآدب الداعي إليه قال طرفة
نحن في المشتاة ندعو الجفلى
لا ترى الآدب فينا ينتقر
و يقال أيضا آدبهم إلى طعامه يؤدبهم إيدابا ويروى وكثرت عليك الجفان فكرعت وأكلت أكل ذئب نهم أو ضبع قرم . وروي وما حسبتك تأكل طعام قوم . ثم ذم أهل البصرة فقال عائلهم مجفو وغنيهم مدعو والعائل الفقير وهذا كقول الشاعر
فإن تملق فأنت لنا عدو
فإن تثر فأنت لنا صديق
[ 207 ](1/4607)
ثم أمره بأن يترك ما فيه شبهة إلى ما لا شبهة فيه وسمي ذلك قضما ومقضما وإن كان مما لا يقضم لاحتقاره له وازدرائه إياه وأنه عنده ليس مما يستحق أن يسمى بأسماء المرغوب فيه المتنافس عليه وذلك لأن القضم يطلق على معنيين أحدهما على أكل الشي ء اليابس والثاني على ما يؤكل ببعض الفم وكلاهما يدلان على أن ذلك المقضم المرغوب عنه لا فيه . ثم ذكر ع حال نفسه فقال إن إمامكم قد قنع من الدنيا بطمريه والطمر الثوب الخلق البالي وإنما جعلهما اثنين لأنهما إزار ورداء لا بد منهما أي للجسد والرأس . قال ومن طعمه بقرصيه أي قرصان يفطر عليهما لا ثالث لهما وروي قد اكتفى من الدنيا بطمريه وسد فورة جوعه بقرصيه لا يطعم الفلذة في حوليه إلا في يوم أضحية . ثم قال إنكم لن تقدروا على ما أقدر عليه ولكني أسألكم أن تعينوني بالورع والاجتهاد . ثم أقسم أنه ما كنز ذهبا ولا ادخر مالا ولا أعد ثوبا باليا سملا لبالي ثوبيه فضلا عن أن يعد ثوبا قشيبا كما يفعله الناس في إعداد ثوب جديد ليلبسوه عوض الأسمال التي ينزعونها ولا حاز من أرضها شبرا والضمير في أرضها يرجع إلى دنياكم ولا أخذ منها إلا كقوت أتان دبرة وهي التي عقر ظهرها فقل أكلها . ثم قال ولهي في عيني أهون من عفصة مقرة أي مرة مقر الشي ء بالكسر أي صار مرا وأمقره بالهمز أيضا قال لبيد
ممقر مر على أعدائه
و على الأدنين حلو كالعسل
[ 208 ](1/4608)
بَلَى كَانَتْ فِي أَيْدِينَا فَدَكٌ مِنْ كُلِّ مَا أَظَلَّتْهُ اَلسَّمَاءُ فَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ وَ سَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ آخَرِينَ وَ نِعْمَ اَلْحَكَمُ اَللَّهُ وَ مَا أَصْنَعُ بِفَدَكٍ وَ غَيْرِ فَدَكٍ وَ اَلنَّفْسُ مَظَانُّهَا فِي غَدٍ جَدَثٌ تَنْقَطِعُ فِي ظُلْمَتِهِ آثَارُهَا وَ تَغِيبُ أَخْبَارُهَا وَ حُفْرَةٌ لَوْ زِيدَ فِي فُسْحَتِهَا وَ أَوْسَعَتْ يَدَا حَافِرِهَا لَأَضْغَطَهَا اَلْحَجَرُ وَ اَلْمَدَرُ وَ سَدَّ فُرَجَهَا اَلتُّرَابُ اَلْمُتَرَاكِمُ وَ إِنَّمَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَى لِتَأْتِيَ آمِنَةً يَوْمَ اَلْخَوْفِ اَلْأَكْبَرِ وَ تَثْبُتَ عَلَى جَوَانِبِ اَلْمَزْلَقِ الجدث القبر وأضغطها الحجر جعلها ضاغطة والهمزة للتعدية ويروى وضغطها . وقوله مظانها في غد جدث المظان جمع مظنة وهو موضع الشي ء ومألفه الذي يكون فيه قال
فإن يك عامر قد قال جهلا
فإن مظنة الجهل الشباب
يقول لا مال لي ولا اقتنيت فيما مضى مالا وإنما كانت في أيدينا فدك فشحت عليها نفوس قوم أي بخلت وسخت عنها نفوس آخرين سامحت وأغضت وليس يعني هاهنا بالسخاء إلا هذا لا السخاء الحقيقي لأنه ع وأهله لم يسمحوا بفدك إلا غصبا وقسرا وقد قال هذه الألفاظ في موضع آخر فيما تقدم وهو يعني الخلافة بعد وفاة رسول الله ص .
[ 209 ](1/4609)
ثم قال ونعم الحكم الله الحكم الحاكم وهذا الكلام كلام شاك متظلم ثم ذكر مال الإنسان وأنه لا ينبغي أن يكترث بالقينات والأموال فإنه يصير عن قريب إلى دار البلى ومنازل الموتى . ثم ذكر أن الحفرة ضيقة وأنه لو وسعها الحافر لألجأها الحجر المتداعي والمدر المتهافت إلى أن تضغط الميت وتزحمه وهذا كلام محمول على ظاهره لأنه خطاب للعامة وإلا فأي فرق بين سعة الحفرة وضيقها على الميت اللهم إلا أن يقول قائل إن الميت يحس في قبره فإذا قيل ذلك فالجاعل له حساسا بعد عدم الحس هو الذي يوسع الحفرة وإن كان الحافر قد جعلها ضيقة فإذن هذا الكلام جيد لخطاب العرب خاصة ومن يحمل الأمور على ظواهرها . ثم قال وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى يقول تقللي واقتصاري من المطعم والملبس على الجشب والخشن رياضة لنفسي لأن ذلك إنما أعمله خوفا من الله أن أنغمس في الدنيا فالرياضة بذلك هي رياضة في الحقيقة بالتقوى لا بنفس التقلل والتقشف لتأتي نفسي آمنة يوم الفزع الأكبر وتثبت في مداحض الزلق(1/4610)
ذكر ما ورد من السير والأخبار في أمر فدك
و اعلم أنا نتكلم في شرح هذه الكلمات بثلاثة فصول الفصل الأول فيما ورد في الحديث والسير من أمر فدك والفصل الثاني في هل النبي ص يورث أم لا والفصل الثالث في أن فدك هل صح كونها نحلة من رسول الله ص لفاطمة أم لا .
[ 210 ](1/4611)
الفصل الأول فيما ورد من الأخبار والسير المنقولة من أفواه أهل الحديث وكتبهم لا من كتب الشيعة ورجالهم
لأنا مشترطون على أنفسنا ألا نحفل بذلك جميع ما نورده في هذا الفصل من كتاب أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في السقيفة وفدك وما وقع من الاختلاف والاضطراب عقب وفاة النبي ص وأبو بكر الجوهري هذا عالم محدث كثير الأدب ثقة ورع أثنى عليه المحدثون ورووا عنه مصنفاته . قال أبو بكر حدثني أبو زيد عمر بن شبة قال حدثنا حيان بن بشر قال حدثنا يحيى بن آدم قال أخبرنا ابن أبي زائدة عن محمد بن إسحاق عن الزهري قال بقيت بقية من أهل خيبر تحصنوا فسألوا رسول الله ص أن يحقن دماءهم ويسيرهم ففعل فسمع ذلك أهل فدك فنزلوا على مثل ذلك وكانت للنبي ص خاصة لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب . قال أبو بكر وروى محمد بن إسحاق أيضا أن رسول الله ص لما فرغ من خيبر قذف الله الرعب في قلوب أهل فدك فبعثوا إلى رسول الله ص فصالحوه على النصف من فدك فقدمت عليه رسلهم بخيبر أو بالطريق أو بعد ما أقام بالمدينة فقبل ذلك منهم وكانت فدك لرسول الله ص خالصة له لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب . قال وقد روى أنه صالحهم عليها كلها الله أعلم أي الأمرين كان . قال وكان مالك بن أنس يحدث عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم أنه صالحهم على النصف فلم يزل الأمر كذلك حتى أخرجهم عمر بن الخطاب وأجلاهم بعد أن عوضهم عن النصف الذي كان لهم عوضا من إبل وغيرها .
[ 211 ]
و قال غير مالك بن أنس لما أجلاهم عمر بعث إليهم من يقوم الأموال بعث أبا الهيثم بن التيهان وفروة بن عمرو وحباب بن صخر وزيد بن ثابت فقوموا أرض فدك ونخلها فأخذها عمر ودفع إليهم قيمة النصف الذي لهم وكان مبلغ ذلك خمسين ألف درهم أعطاهم إياها من مال أتاه من العراق وأجلاهم إلى الشام .(1/4612)
قال أبو بكر فحدثني محمد بن زكريا قال حدثني جعفر بن محمد بن عمارة الكندي قال حدثني أبي عن الحسين بن صالح بن حي قال حدثني رجلان من بني هاشم عن زينب بنت علي بن أبي طالب ع قال وقال جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه قال أبو بكر وحدثني عثمان بن عمران العجيفي عن نائل بن نجيح بن عمير بن شمر عن جابر الجعفي عن أبي جعفر محمد بن علي ع قال أبو بكر وحدثني أحمد بن محمد بن يزيد عن عبد الله بن محمد بن سليمان عن أبيه عن عبد الله بن حسن بن الحسن قالوا جميعا لما بلغ فاطمة ع إجماع أبي بكر على منعها فدك لاثت خمارها وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها تطأ في ذيولها ما تخرم مشيتها مشية رسول الله ص حتى دخلت على أبي بكر وقد حشد الناس من المهاجرين والأنصار فضرب بينها وبينهم ريطة بيضاء وقال بعضهم قبطية وقالوا قبطية بالكسر والضم ثم أنت أنة أجهش لها القوم بالبكاء ثم أمهلت طويلا حتى سكنوا من فورتهم ثم قالت أبتدئ بحمد من هو أولى بالحمد والطول والمجد الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم وذكر خطبة طويلة جيدة قالت في آخرها فاتقوا الله حق تقاته وأطيعوه فيما أمركم به فإنما يخشى الله من عباده العلماء واحمدوا الله الذي لعظمته ونوره يبتغي من في السموات والأرض إليه الوسيلة ونحن وسيلته في خلقه ونحن خاصته ومحل قدسه ونحن حجته في غيبه ونحن ورثة
[ 212 ]
أنبيائه ثم قالت أنا فاطمة ابنة محمد أقول عودا على بدء وما أقول ذلك سرفا ولا شططا فاسمعوا بأسماع واعية وقلوب راعية ثم قالت لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم فإن تعزوه تجدوه أبي دون آبائكم وأخا ابن عمي دون رجالكم ثم ذكرت كلاما طويلا سنذكره فيما بعد في الفصل الثاني(1/4613)
تقول في آخره ثم أنتم الآن تزعمون أن لا إرث لي أَ فَحُكْمَ اَلْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اَللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ إيها معاشر المسلمين ابتز إرث أبي أبى الله أن ترث يا ابن أبي قحافة أباك ولا أرث أبي لقد جئت شيئا فريا فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك فنعم الحكم الله والزعيم محمد والموعد القيامة وعند الساعة يخسر المبطلون ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ثم التفتت إلى قبر أبيها فتمثلت بقول هند بنت أثاثة
قد كان بعدك أنباء وهينمة
لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
أبدت رجال لنا نجوى صدورهم
لما قضيت وحالت دونك الكتب
تجهمتنا رجال واستخف بنا
إذا غبت عنا فنحن اليوم نغتصب
قال ولم ير الناس أكثر باك ولا باكية منهم يومئذ ثم عدلت إلى مسجد الأنصار فقالت يا معشر البقية وأعضاد الملة وحضنة الإسلام ما هذه الفترة عن نصرتي والونية عن معونتي والغمزة في حقي والسنة عن ظلامتي أ ما كان رسول الله ص يقول المرء يحفظ في ولده سرعان ما أحدثتم وعجلان ما أتيتم أ لأن مات رسول الله ص أمتم دينه ها إن موته لعمري خطب جليل استوسع وهنه
[ 213 ](1/4614)
و استبهم فتقه وفقد راتقه وأظلمت الأرض له وخشعت الجبال وأكدت الآمال أضيع بعده الحريم وهتكت الحرمة وأذيلت المصونة وتلك نازلة أعلن بها كتاب الله قبل موته وأنبأكم بها قبل وفاته فقال وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اَللَّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اَللَّهُ اَلشَّاكِرِينَ إيها بني قيلة اهتضم تراث أبي وأنتم بمرأى ومسمع تبلغكم الدعوة ويشملكم الصوت وفيكم العدة والعدد ولكم الدار والجنن وأنتم نخبة الله التي انتخب وخيرته التي اختار باديتم العرب وبادهتم الأمور وكافحتم البهم حتى دارت بكم رحى الإسلام ودر حلبه وخبت نيران الحرب وسكنت فورة الشرك وهدأت دعوة الهرج واستوثق نظام الدين أ فتأخرتم بعد الإقدام ونكصتم بعد الشدة وجبنتم بعد الشجاعة عن قوم نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ألا وقد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض وركنتم إلى الدعة فجحدتم الذي وعيتم وسغتم الذي سوغتم وإن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ألا وقد قلت لكم ما قلت على معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم وخور القناة وضعف اليقين فدونكموها فاحتووها مدبرة الظهر ناقبة الخف باقية العار موسومة الشعار موصولة بنار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة فبعين الله ما تعملون وَ سَيَعْلَمُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ(1/4615)
قال وحدثني محمد بن زكريا قال حدثنا محمد بن الضحاك قال حدثنا هشام بن محمد عن عوانة بن الحكم قال لما كلمت فاطمة ع أبا بكر بما كلمته به حمد أبو بكر الله وأثنى عليه وصلى على رسوله ثم قال يا خيرة النساء وابنة خير الآباء والله ما عدوت رأي رسول الله ص وما عملت إلا بأمره وإن الرائد
[ 214 ]
لا يكذب أهله وقد قلت فأبلغت وأغلظت فأهجرت فغفر الله لنا ولك أما بعد فقد دفعت آلة رسول الله ودابته وحذاءه إلى علي ع وأما ما سوى ذلك فإني سمعت رسول الله ص يقول إنا معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا ولا فضة ولا أرضا ولا عقارا ولا دارا ولكنا نورث الإيمان والحكمة والعلم والسنة فقد عملت بما أمرني ونصحت له وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب . قال أبو بكر وروى هشام بن محمد عن أبيه قال قالت فاطمة لأبي بكر إن أم أيمن تشهد لي أن رسول الله ص أعطاني فدك فقال لها يا ابنة رسول الله والله ما خلق الله خلقا أحب إلي من رسول الله ص أبيك ولوددت أن السماء وقعت على الأرض يوم مات أبوك والله لأن تفتقر عائشة أحب إلي من أن تفتقري أ تراني أعطي الأحمر والأبيض حقه وأظلمك حقك وأنت بنت رسول الله ص إن هذا المال لم يكن للنبي ص وإنما كان مالا من أموال المسلمين يحمل النبي به الرجال وينفقه في سبيل الله فلما توفي رسول الله ص وليته كما كان يليه قالت والله لا كلمتك أبدا قال والله لا هجرتك أبدا قالت والله لأدعون الله عليك قال والله لأدعون الله لك فلما حضرتها الوفاة أوصت ألا يصلي عليها فدفنت ليلا وصلى عليها عباس بن عبد المطلب وكان بين وفاتها ووفاة أبيها اثنتان وسبعون ليلة .
قال أبو بكر وحدثني محمد بن زكريا قال حدثنا جعفر بن محمد بن عمارة بالإسناد الأول قال فلما سمع أبو بكر خطبتها شق عليه مقالتها فصعد المنبر وقال أيها الناس ما هذه الرعة إلى كل قالة أين كانت هذه الأماني في عهد رسول الله ص(1/4616)
[ 215 ]
ألا من سمع فليقل ومن شهد فليتكلم إنما هو ثعالة شهيده ذنبه مرب لكل فتنة هو الذي يقول كروها جذعة بعد ما هرمت يستعينون بالضعفة ويستنصرون بالنساء كأم طحال أحب أهلها إليها البغي ألا إني لو أشاء أن أقول لقلت ولو قلت لبحت إني ساكت ما تركت ثم التفت إلى الأنصار فقال قد بلغني يا معشر الأنصار مقالة سفهائكم وأحق من لزم عهد رسول الله ص أنتم فقد جاءكم فآويتم ونصرتم ألا إني لست باسطا يدا ولا لسانا على من لم يستحق ذلك منا . ثم نزل فانصرفت فاطمة ع إلى منزلها . قلت قرأت هذا الكلام على النقيب أبي يحيى جعفر بن يحيى بن أبي زيد البصري وقلت له بمن يعرض فقال بل يصرح قلت لو صرح لم أسألك فضحك وقال بعلي بن أبي طالب ع قلت هذا الكلام كله لعلي يقوله قال نعم إنه الملك يا بني قلت فما مقالة الأنصار قال هتفوا بذكر علي فخاف من اضطراب الأمر عليهم فنهاهم فسألته عن غريبه فقال أما الرعة بالتخفيف أي الاستماع والإصغاء والقالة القول وثعالة اسم الثعلب علم غير مصروف ومثل ذؤالة للذئب وشهيده ذنبه أي لا شاهد له على ما يدعي إلا بعضه وجزء منه وأصله مثل قالوا إن الثعلب أراد أن يغرى الأسد بالذئب فقال إنه قد أكل الشاة التي كنت قد أعددتها لنفسك وكنت حاضرا قال فمن يشهد لك بذلك فرفع ذنبه وعليه دم وكان الأسد قد افتقد الشاة فقبل شهادته وقتل الذئب ومرب ملازم أرب بالمكان وكروها جذعة أعيدوها إلى الحال الأولى يعني الفتنة والهرج وأم طحال امرأة بغي في الجاهلية ويضرب بها المثل فيقال أزنى من أم طحال .
[ 216 ](1/4617)
قال أبو بكر وحدثني محمد بن زكريا قال حدثني ابن عائشة قال حدثني أبي عن عمه قال لما كلمت فاطمة أبا بكر بكى ثم قال يا ابنة رسول الله والله ما ورث أبوك دينارا ولا درهما وإنه قال إن الأنبياء لا يورثون فقالت إن فدك وهبها لي رسول الله ص قال فمن يشهد بذلك فجاء علي بن أبي طالب ع فشهد وجاءت أم أيمن فشهدت أيضا فجاء عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف فشهد أن رسول الله ص كان يقسمها قال أبو بكر صدقت يا ابنة رسول الله ص وصدق علي وصدقت أم أيمن وصدق عمر وصدق عبد الرحمن بن عوف وذلك أن مالك لأبيك كان رسول الله ص يأخذ من فدك قوتكم ويقسم الباقي ويحمل منه في سبيل الله فما تصنعين بها قالت أصنع بها كما يصنع بها أبي قال فلك على الله أن أصنع فيها كما يصنع فيها أبوك قالت الله لتفعلن قال الله لأفعلن قالت اللهم اشهد وكان أبو بكر يأخذ غلتها فيدفع إليهم منها ما يكفيهم ويقسم الباقي وكان عمر كذلك ثم كان عثمان كذلك ثم كان علي كذلك فلما ولي الأمر معاوية بن أبي سفيان أقطع مروان بن الحكم ثلثها وأقطع عمرو بن عثمان بن عفان ثلثها وأقطع يزيد بن معاوية ثلثها وذلك بعد موت الحسن بن علي ع فلم يزالوا يتداولونها حتى خلصت كلها لمروان بن الحكم أيام خلافته فوهبها لعبد العزيز ابنه فوهبها عبد العزيز لابنه عمر بن عبد العزيز فلما ولي عمر بن العزيز الخلافة كانت أول ظلامة ردها دعا حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ع وقيل بل دعا علي بن الحسين ع فردها عليه وكانت بيد أولاد فاطمة ع مدة ولاية عمر بن عبد العزيز فلما ولي يزيد بن عاتكة قبضها منهم فصارت في أيدي بني مروان كما كانت يتداولونها حتى انتقلت الخلافة عنهم فلما ولي أبو العباس السفاح ردها على عبد الله
[ 217 ](1/4618)
بن الحسن بن الحسن ثم قبضها أبو جعفر لما حدث من بني حسن ما حدث ثم ردها المهدي ابنه على ولد فاطمة ع ثم قبضها موسى بن المهدي وهارون أخوه فلم تزل أيديهم حتى ولي المأمون فردها على الفاطميين قال أبو بكر حدثني محمد بن زكريا قال حدثني مهدي بن سابق قال جلس المأمون للمظالم فأول رقعة وقعت في يده نظر فيها وبكى وقال للذي على رأسه ناد أين وكيل فاطمة فقام شيخ عليه دراعة وعمامة وخف تعزى فتقدم فجعل يناظره في فدك والمأمون يحتج عليه وهو يحتج على المأمون ثم أمر أن يسجل لهم بها فكتب السجل وقرئ عليه فأنفذه فقام دعبل إلى المأمون فأنشده الأبيات التي أولها
أصبح وجه الزمان قد ضحكا
برد مأمون هاشم فدكا
فلم تزل في أيديهم حتى كان في أيام المتوكل فأقطعها عبد الله بن عمر البازيار وكان فيها إحدى عشرة نخلة غرسها رسول الله ص بيده فكان بنو فاطمة يأخذون ثمرها فإذا قدم الحجاج أهدوا لهم من ذلك التمر فيصلونهم فيصير إليهم من ذلك مال جزيل جليل فصرم عبد الله بن عمر البازيار ذلك التمر ووجه رجلا يقال له بشران بن أبي أمية الثقفي إلى المدينة فصرمه ثم عاد إلى البصرة ففلج . قال أبو بكر أخبرنا أبو زيد عمر بن شبة قال حدثنا سويد بن سعيد والحسن بن عثمان قالا حدثنا الوليد بن محمد عن الزهري عن عروة عن عائشة أن فاطمة ع أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله ص وهي حينئذ تطلب ما كان لرسول الله ص بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر فقال أبو بكر
[ 218 ](1/4619)
إن رسول الله ص قال لا نورث ما تركناه صدقة إنما يأكل آل محمد من هذا المال وإني والله لا أغير شيئا من صدقات رسول الله ص عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله ص ولأعملن فيها بما عمل فيها رسول الله ص فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا فوجدت من ذلك على أبي بكر وهجرته فلم تكلمه حتى توفيت وعاشت بعد أبيها ستة أشهر فلما توفيت دفنها علي ع ليلا ولم يؤذن بها أبا بكر . قال أبو بكر وأخبرنا أبو زيد قال حدثنا إسحاق بن إدريس قال حدثنا محمد بن أحمد عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله ص وهما حينئذ يطلبان أرضه بفدك وسهمه بخيبر فقال لهما أبو بكر إني سمعت رسول الله ص يقول لا نورث ما تركنا صدقة إنما يأكل آل محمد ص من هذا المال وإني والله لا أغير أمرا رأيت رسول الله ص يصنعه إلا صنعته قال فهجرته فاطمة فلم تكلمه حتى ماتت .
قال أبو بكر وأخبرنا أبو زيد قال حدثنا عمر بن عاصم وموسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد بن سلمة عن الكلبي عن أبي صالح عن أم هانئ أن فاطمة قالت لأبي بكر من يرثك إذا مت قال ولدي وأهلي قالت فما لك ترث رسول الله ص دوننا قال يا ابنة رسول الله ما ورث أبوك دارا ولا مالا ولا ذهبا ولا فضة قالت بلى سهم الله الذي جعله لنا وصار فيئنا الذي بيدك فقال لها سمعت رسول الله ص يقول إنما هي طعمة أطعمناها الله فإذا مت كانت بين المسلمين
قال أبو بكر وأخبرنا أبو زيد قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا محمد بن الفضل عن الوليد بن جميع عن أبي الطفيل قال أرسلت فاطمة إلى أبي بكر
[ 219 ](1/4620)
أنت ورثت رسول الله ص أم أهله قال بل أهله قالت فما بال سهم رسول الله ص قال إني سمعت رسول الله ص يقول إن الله أطعم نبيه طعمة ثم قبضه وجعله للذي يقوم بعده فوليت أنا بعده على أن أرده على المسلمين قالت أنت وما سمعت من رسول الله ص أعلم . قلت في هذا الحديث عجب لأنها قالت له أنت ورثت رسول الله ص أم أهله قال بل أهله وهذا تصريح بأنه ص موروث يرثه أهله وهو خلاف قوله لا نورث وأيضا فإنه يدل على أن أبا بكر استنبط من قول رسول الله ص أن الله أطعم نبيا طعمة أن يجري رسول الله ص عند وفاته مجرى ذلك النبي ص أو يكون قد فهم أنه عنى بذلك النبي المنكر لفظا نفسه كما فهم من قوله في خطبته إن عبدا خيره الله بين الدنيا وما عند ربه فاختار ما عند ربه فقال أبو بكر بل نفديك بأنفسنا .
قال أبو بكر وأخبرنا أبو زيد قال أخبرنا القعنبي قال حدثنا عبد العزيز بن محمد عن محمد بن عمر عن أبي سلمة أن فاطمة طلبت فدك من أبي بكر فقال إني سمعت رسول الله ص يقول إن النبي لا يورث من كان النبي يعوله فأنا أعوله ومن كان النبي ص ينفق عليه فأنا أنفق عليه فقالت يا أبا بكر أ يرثك بناتك ولا يرث رسول الله ص بناته فقال هو ذاك
قال أبو بكر وأخبرنا أبو زيد قال حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير قال حدثنا فضيل بن مرزوق قال حدثنا البحتري بن حسان قال قلت لزيد بن علي ع وأنا أريد أن أهجن أمر أبي بكر إن أبا بكر انتزع فدك من فاطمة ع فقال إن أبا بكر كان رجلا
[ 220 ](1/4621)
رحيما وكان يكره أن يغير شيئا فعله رسول الله ص فأتته فاطمة فقالت إن رسول الله ص أعطاني فدك فقال لها هل لك على هذا بينة فجاءت بعلي ع فشهد لها ثم جاءت أم أيمن فقالت أ لستما تشهدان أني من أهل الجنة قالا بلى قال أبو زيد يعني أنها قالت لأبي بكر وعمر قالت فأنا أشهد أن رسول الله ص أعطاها فدك فقال أبو بكر فرجل آخر أو امرأة أخرى لتستحقي بها القضية ثم قال أبو زيد وايم الله لو رجع الأمر إلي لقضيت فيها بقضاء أبي بكر
قال أبو بكر وأخبرنا أبو زيد قال حدثنا محمد بن الصباح قال حدثنا يحيى بن المتوكل أبو عقيل عن كثير النوال قال قلت لأبي جعفر محمد بن علي ع جعلني الله فداك أ رأيت أبا بكر وعمر هل ظلماكم من حقكم شيئا أو قال ذهبا من حقكم بشي ء فقال لا والذي أنزل القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيرا ما ظلمنا من حقنا مثقال حبة من خردل قلت جعلت فداك أ فأتولاهما قال نعم ويحك تولهما في الدنيا والآخرة وما أصابك ففي عنقي ثم قال فعل الله بالمغيرة وبنان فإنهما كذبا علينا أهل البيت
قال أبو بكر وأخبرنا أبو زيد قال حدثنا عبد الله بن نافع والقعنبي عن مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة أن أزواج النبي ص أردن لما توفي أن يبعثن عثمان بن عفان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن أو قال ثمنهن قالت فقلت لهن أ ليس قد قال النبي ص لا نورث ما تركنا صدقة
قال أبو بكر وأخبرنا أبو زيد قال حدثنا عبد الله بن نافع والقعنبي وبشر بن عمر عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي ص قال لا يقسم ورثتي دينارا ولا درهما ما تركت بعد نفقة نسائي ومئونة عيالي فهو صدقة
[ 221 ]
قلت هذا حديث غريب لأن المشهور أنه لم يرو حديث انتفاء الإرث إلا أبو بكر وحده . و(1/4622)
قال أبو بكر وحدثنا أبو زيد عن الحزامي عن ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن عبد الرحمن الأعرج أنه سمع أبا هريرة يقول سمعت رسول الله ص يقول والذي نفسي بيده لا يقسم ورثتي شيئا ما تركت صدقة قال وكانت هذه الصدقة بيد علي ع غلب عليها العباس وكانت فيها خصومتهما فأبى عمر أن يقسمها بينهما حتى أعرض عنها العباس وغلب عليها ع ثم كانت بيد حسن وحسين ابني علي ع ثم كانت بيد علي بن الحسين ع والحسن بن الحسن كلاهما يتداولانها ثم بيد زيد بن علي ع قال أبو بكر وأخبرنا أبو زيد قال حدثنا عثمان بن عمر بن فارس قال حدثنا يونس عن الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان أن عمر بن الخطاب دعاه يوما بعد ما ارتفع النهار قال فدخلت عليه وهو جالس على سرير رمال ليس بينه وبين الرمال فراش على وسادة أدم فقال يا مالك إنه قد قدم من قومك أهل أبيات حضروا المدينة وقد أمرت لهم برضخ فاقسمه بينهم فقلت يا أمير المؤمنين مر بذلك غيري قال اقسم أيها المرء قال فبينا نحن على ذلك إذ دخل يرفأ فقال هل لك في عثمان وسعد وعبد الرحمن والزبير يستأذنون عليك قال نعم فأذن لهم قال ثم لبث قليلا ثم جاء فقال هل لك في علي والعباس يستأذنان عليك قال ائذن لهما فلما دخلا قال عباس يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا يعني عليا وهما يختصمان في الصوافي التي أفاء الله على رسوله
[ 222 ](1/4623)
من أموال بني النضير قال فاستب علي والعباس عند عمر فقال عبد الرحمن يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر فقال عمر أنشدكم الله الذي تقوم بإذنه السماوات والأرض هل تعلمون أن رسول الله ص قال لا نورث ما تركناه صدقة يعني نفسه قالوا قد قال ذلك فأقبل على العباس وعلي فقال أنشدكما الله هل تعلمان ذلك قالا نعم قال عمر فإني أحدثكم عن هذا الأمر أن الله تبارك وتعالى خص رسوله ص في هذا الفي ء بشي ء لم يعطه غيره قال تعالى وَ ما أَفاءَ اَللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لا رِكابٍ وَ لكِنَّ اَللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَ اَللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ وكانت هذه خاصة لرسول الله ص فما اختارها دونكم ولا استأثر بها عليكم لقد أعطاكموها وثبتها فيكم حتى بقي منها هذا المال وكان ينفق منه على أهله سنتهم ثم يأخذ ما بقي فيجعله فيما يجعل مال الله عز وجل فعل ذلك في حياته ثم توفي فقال أبو بكر أنا ولي رسول الله ص فقبضه الله وقد عمل فيها بما عمل به رسول الله ص وأنتما حينئذ والتفت إلى علي والعباس تزعمان أن أبا بكر فيها ظالم فاجر والله يعلم أنه فيها لصادق بار راشد تابع للحق ثم توفى الله أبا بكر فقلت أنا أولى الناس بأبي بكر وبرسول الله ص فقبضتها سنتين أو قال سنين من إمارتي أعمل فيها مثل ما عمل به رسول الله ص وأبو بكر ثم قال وأنتما وأقبل على العباس وعلي تزعمان أني فيها ظالم فاجر والله يعلم أني فيها بار راشد تابع للحق ثم جئتماني وكلمتكما واحدة وأمركما جميع فجئتني يعني العباس تسألني نصيبك من ابن أخيك وجاءني هذا يعني عليا يسألني نصيب امرأته من أبيها فقلت لكما أن رسول الله ص قال لا نورث ما تركناه صدقة فلما بدا لي أن
[ 223 ](1/4624)
أدفعها إليكما قلت أدفعها على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيها بما عمل رسول الله ص وأبو بكر وبما عملت به فيها وإلا فلا تكلماني فقلتما ادفعها إلينا بذلك فدفعتها إليكما بذلك أ فتلتمسان مني قضاء غير ذلك والله الذي تقوم بإذنه السماوات والأرض لا أقضي بينكما بقضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة فإن عجزتما عنها فادفعاها إلي فأنا أكفيكماها .
قال أبو بكر وحدثنا أبو زيد قال حدثنا إسحاق بن إدريس قال حدثنا عبد الله بن المبارك قال حدثني يونس عن الزهري قال حدثني مالك بن أوس بن الحدثان بنحوه قال فذكرت ذلك لعروة فقال صدق مالك بن أوس أنا سمعت عائشة تقول أرسل أزواج النبي ص عثمان بن عفان إلى أبي بكر يسأل لهن ميراثهن من رسول الله ص مما أفاء الله عليه حتى كنت أردهن عن ذلك فقلت أ لا تتقين الله أ لم تعلمن أن رسول الله ص كان يقول لا نورث ما تركناه صدقة يريد بذلك نفسه إنما يأكل آل محمد من هذا المال فانتهى أزواج النبي ص إلى ما أمرتهن به قلت هذا مشكل لأن الحديث الأول يتضمن أن عمر أقسم على جماعة فيهم عثمان فقال نشدتكم الله أ لستم تعلمون أن رسول الله ص قال لا نورث ما تركناه صدقة يعني نفسه فقالوا نعم ومن جملتهم عثمان فكيف يعلم بذلك فيكون مترسلا لأزواج النبي ص يسأله أن يعطيهن الميراث اللهم إلا أن يكون عثمان وسعد وعبد الرحمن والزبير صدقوا عمر على سبيل التقليد لأبي بكر فيما رواه وحسن الظن وسموا ذلك علما لأنه قد يطلق على الظن اسم العلم .
[ 224 ](1/4625)
فإن قال قائل فهلا حسن ظن عثمان برواية أبي بكر في مبدإ الأمر فلم يكن رسولا لزوجات النبي ص في طلب الميراث قيل له يجوز أن يكون في مبدإ الأمر شاكا ثم يغلب على ظنه صدقه لأمارات اقتضت تصديقه وكل الناس يقع لهم مثل ذلك . وهاهنا إشكال آخر وهو أن عمر ناشد عليا والعباس هل تعلمان ذلك فقالا نعم فإذا كانا يعلمانه فكيف جاء العباس وفاطمة إلى أبي بكر يطلبان الميراث على ما ذكره في خبر سابق على هذا الخبر وقد أوردناه نحن وهل يجوز أن يقال كان العباس يعلم ذلك ثم يطلب الإرث الذي لا يستحقه وهل يجوز أن يقال أن عليا كان يعلم ذلك ويمكن زوجته أن تطلب ما لا تستحقه خرجت من دارها إلى المسجد ونازعت أبا بكر وكلمته بما كلمته إلا بقوله وإذنه ورأيه وأيضا فإنه إذا كان ص لا يورث فقد أشكل دفع آلته ودابته وحذائه إلى علي ع لأنه غير وارث في الأصل وإن كان أعطاه ذلك لأن زوجته بعرضه أن ترث لو لا الخبر فهو أيضا غير جائز لأن الخبر قد منع أن يرث منه شيئا قليلا كان أو كثيرا . فإن قال قائل نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا ولا فضة ولا أرضا ولا عقارا ولا دارا قيل هذا الكلام يفهم من مضمونه أنهم لا يورثون شيئا أصلا لأن عادة العرب جارية بمثل ذلك وليس يقصدون نفي ميراث هذه الأجناس المعدودة دون غيرها بل يجعلون ذلك كالتصريح بنفي أن يورثوا شيئا ما على الإطلاق . وأيضا فإنه جاء في خبر الدابة والآلة والحذاء أنه روي عن النبي ص لا نورث ما تركناه صدقة ولم يقل لا نورث كذا ولا كذا وذلك يقتضي عموم انتفاء الإرث عن كل شي ء
[ 225 ](1/4626)
و أما الخبر الثاني وهو الذي رواه هشام بن محمد الكلبي عن أبيه ففيه إشكال أيضا لأنه قال إنها طلبت فدك وقالت إن أبي أعطانيها وإن أم أيمن تشهد لي بذلك فقال لها أبو بكر في الجواب إن هذا المال لم يكن لرسول الله ص وإنما كان مالا من أموال المسلمين يحمل به الرجال وينفقه في سبيل الله فلقائل أن يقول له أ يجوز للنبي ص أن يملك ابنته أو غير ابنته من أفناء الناس ضيعة مخصوصة أو عقارا مخصوصا من مال المسلمين لوحي أوحى الله تعالى إليه أو لاجتهاد رأيه على قول من أجاز له أن يحكم بالاجتهاد أو لا يجوز للنبي ص ذلك فإن قال لا يجوز قال ما لا يوافقه العقل ولا المسلمون عليه وإن قال يجوز ذلك قيل فإن المرأة ما اقتصرت على الدعوى بل قالت أم أيمن تشهد لي فكان ينبغي أن يقول لها في الجواب شهادة أم أيمن وحدها غير مقبولة ولم يتضمن هذا الخبر ذلك بل قال لها لما ادعت وذكرت من يشهد لها هذا مال من مال الله لم يكن لرسول الله ص وهذا ليس بجواب صحيح . وأما الخبر الذي رواه محمد بن زكريا عن عائشة ففيه من الإشكال مثل ما في هذا الخبر لأنه إذا شهد لها علي ع وأم أيمن أن رسول الله ص وهب لها فدك لم يصح اجتماع صدقها وصدق عبد الرحمن وعمر ولا ما تكلفه أبو بكر من تأويل ذلك بمستقيم لأن كونها هبة من رسول الله ص لها يمنع من قوله كان يأخذ منها قوتكم ويقسم الباقي ويحمل منه في سبيل الله لأن هذا ينافي كونها هبة لها لأن معنى كونها لها انتقالها إلى ملكيتها وأن تتصرف فيها خاصة دون كل أحد من الناس وما هذه صفته كيف يقسم ويحمل منه في سبيل الله .
[ 226 ](1/4627)
فإن قال قائل هو ص أبوها وحكمه في مالها كحكمه في ماله وفي بيت مال المسلمين فلعله كان بحكم الأبوة يفعل ذلك قيل فإذا كان يتصرف فيها تصرف الأب في مال ولده لا يخرجه ذلك عن كونه مال ولده فإذا مات الأب لم يجز لأحد أن يتصرف في مال ذلك الولد لأنه ليس باب له فيتصرف في ماله تصرف الآباء في أموال أولادهم على أن الفقهاء أو معظمهم لا يجيزون للأب أن يتصرف في مال الابن . وهاهنا إشكال آخر وهو قول عمر لعلي ع والعباس وأنتما حينئذ تزعمان أن أبا بكر فيها ظالم فاجر ثم قال لما ذكر نفسه وأنتما تزعمان أني فيها ظالم فاجر فإذا كانا يزعمان ذلك فكيف يزعم هذا الزعم مع كونهما يعلمان أن رسول الله ص قال لا أورث إن هذا لمن أعجب العجائب ولو لا أن هذا الحديث أعني حديث خصومة العباس وعلي عند عمر مذكور في الصحاح المجمع عليها لما أطلت العجب من مضمونه إذ لو كان غير مذكور في الصحاح لكان بعض ما ذكرناه يطعن في صحته وإنما الحديث في الصحاح لا ريب في ذلك . قال أبو بكر وأخبرنا أبو زيد قال حدثنا ابن أبي شيبة قال حدثنا ابن علية عن أيوب عن عكرمة عن مالك بن أوس بن الحدثان قال جاء العباس وعلي إلى عمر فقال العباس اقض بيني وبين هذا الكذا وكذا أي يشتمه فقال الناس افصل بينهما فقال لا أفصل بينهما قد علما أن رسول الله ص قال لا نورث ما تركناه صدقة . قلت وهذا أيضا مشكل لأنهما حضرا يتنازعان لا في الميراث بل في ولاية صدقة رسول الله ص أيهما يتولاها ولاية لا إرثا وعلى هذا كانت الخصومة
[ 227 ](1/4628)
فهل يكون جواب ذلك قد علما أن رسول الله ص قال لا نورث . قال أبو بكر وأخبرنا أبو زيد قال حدثني يحيى بن كثير أبو غسان قال حدثنا شعبة عن عمر بن مرة عن أبي البختري قال جاء العباس وعلي إلى عمر وهما يختصمان فقال عمر لطلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد أنشدكم الله أ سمعتم رسول الله ص يقول كل مال نبي فهو صدقة إلا ما أطعمه أهله إنا لا نورث فقالوا نعم قال وكان رسول الله يتصدق به ويقسم فضله ثم توفي فوليه أبو بكر سنتين يصنع فيه ما كان يصنع رسول الله ص وأنتما تقولان أنه كان بذلك خاطئا وكان بذلك ظالما وما كان بذلك إلا راشدا ثم وليته بعد أبي بكر فقلت لكما إن شئتما قبلتماه على عمل رسول الله ص وعهده الذي عهد فيه فقلتما نعم وجئتماني الآن تختصمان يقول هذا أريد نصيبي من ابن أخي ويقول هذا أريد نصيبي من امرأتي والله لا أقضي بينكما إلا بذلك . قلت وهذا أيضا مشكل لأن أكثر الروايات أنه لم يرو هذا الخبر إلا أبو بكر وحده ذكر ذلك أعظم المحدثين حتى إن الفقهاء في أصول الفقه أطبقوا على ذلك في احتجاجهم في الخبر برواية الصحابي الواحد وقال شيخنا أبو علي لا تقبل في الرواية إلا رواية اثنين كالشهادة فخالفه المتكلمون والفقهاء كلهم واحتجوا عليه بقبول الصحابة رواية أبي بكر وحده نحن معاشر الأنبياء لا نورث حتى إن بعض أصحاب أبي علي تكلف لذلك جوابا فقال قد روي أن أبا بكر يوم حاج فاطمة ع قال أنشد الله امرأ سمع من رسول الله ص في هذا شيئا فروى مالك بن أوس بن الحدثان أنه سمعه من رسول الله ص وهذا الحديث ينطق
[ 228 ](1/4629)
بأنه استشهد عمر وطلحة والزبير وعبد الرحمن وسعدا فقالوا سمعناه من رسول الله ص فأين كانت هذه الروايات أيام أبي بكر ما نقل أن أحدا من هؤلاء يوم خصومة فاطمة ع وأبي بكر روى من هذا شيئا . قال أبو بكر وأخبرنا أبو زيد عمر بن شبة قال حدثنا محمد بن يحيى عن إبراهيم بن أبي يحيى عن الزهري عن عروة عن عائشة أن أزواج النبي ص أرسلن عثمان إلى أبي بكر فذكر الحديث قال عروة وكانت فاطمة قد سألت ميراثها من أبي بكر مما تركه النبي ص فقال لها بأبي أنت وأمي وبأبي أبوك وأمي ونفسي إن كنت سمعت من رسول الله ص شيئا أو أمرك بشي ء لم أتبع غير ما تقولين وأعطيتك ما تبتغين وإلا فإني أتبع ما أمرت به .
قال أبو بكر وحدثنا أبو زيد قال حدثنا عمرو بن مرزوق عن شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي البختري قال قال لها أبو بكر لما طلبت فدك بأبي أنت وأمي أنت عندي الصادقة الأمينة إن كان رسول الله ص عهد إليك في ذلك عهدا أو وعدك به وعدا صدقتك وسلمت إليك فقالت لم يعهد إلي في ذلك بشي ء ولكن الله تعالى يقول يُوصِيكُمُ اَللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ فقال أشهد لقد سمعت رسول الله ص يقول إنا معاشر الأنبياء لا نورث . قلت وفي هذا من الإشكال ما هو ظاهر لأنها قد ادعت أنه عهد إليها رسول الله ص في ذلك أعظم العهد وهو النحلة فكيف سكتت عن ذكر هذا لما سألها أبو بكر وهذا أعجب من العجب .
[ 229 ](1/4630)
قال أبو بكر وحدثنا أبو زيد قال حدثنا محمد بن يحيى قال حدثنا عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز بن عبد الله الأنصاري عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان قال سمعت عمر وهو يقول للعباس وعلي وعبد الرحمن بن عوف والزبير وطلحة أنشدكم الله هل تعلمون أن رسول الله ص قال إنا لا نورث معاشر الأنبياء ما تركنا صدقة قالوا اللهم نعم قال أنشدكم الله هل تعلمون أن رسول الله ص يدخل في فيئه أهله السنة من صدقاته ثم يجعل ما بقي في بيت المال قالوا اللهم نعم فلما توفي رسول الله ص قبضها أبو بكر فجئت يا عباس تطلب ميراثك من ابن أخيك وجئت يا علي تطلب ميراث زوجتك من أبيها وزعمتما أن أبا بكر كان فيها خائنا فاجرا والله لقد كان امرأ مطيعا تابعا للحق ثم توفي أبو بكر فقبضتها فجئتماني تطلبان ميراثكما أما أنت يا عباس فتطلب ميراثك من ابن أخيك وأما علي فيطلب ميراث زوجته من أبيها وزعمتما أني فيها خائن وفاجر والله يعلم أني فيها مطيع تابع للحق فأصلحا أمركما وإلا والله لم ترجع إليكما فقاما وتركا الخصومة وأمضيت صدقة . قال أبو زيد قال أبو غسان فحدثنا عبد الرزاق الصنعاني عن معمر بن شهاب عن مالك بنحوه وقال في آخره فغلب علي عباسا عليها فكانت بيد علي ثم كانت بيد الحسن ثم كانت بيد الحسين ثم علي بن الحسين ثم الحسن بن الحسن ثم زيد بن الحسن . قلت وهذا الحديث يدل صريحا على أنهما جاءا يطلبان الميراث لا الولاية وهذا من المشكلات لأن أبا بكر حسم المادة أولا وقرر عند العباس وعلي وغيرهما أن النبي ص لا يورث وكان عمر من المساعدين له على ذلك فكيف يعود
[ 230 ](1/4631)
العباس وعلي بعد وفاة أبي بكر يحاولان امرأ قد كان فرغ منه ويئس من حصوله اللهم إلا أن يكونا ظنا أن عمر ينقض قضاء أبي بكر في هذه المسألة وهذا بعيد لأن عليا والعباس كانا في هذه المسألة يتهمان عمر بممالأة أبي بكر على ذلك أ لا تراه يقول نسبتماني ونسبتما أبا بكر إلى الظلم والخيانة فكيف يظنان أنه ينقض قضاء أبي بكر ويورثهما واعلم أن الناس يظنون أن نزاع فاطمة أبا بكر كان في أمرين في الميراث والنحلة وقد وجدت في الحديث أنها نازعت في أمر ثالث ومنعها أبو بكر إياه أيضا وهو سهم ذوي القربى
قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري أخبرني أبو زيد عمر بن شبة قال حدثني هارون بن عمير قال حدثنا الوليد بن مسلم قال حدثني صدقة أبو معاوية عن محمد بن عبد الله عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك أن فاطمة ع أتت أبا بكر فقالت لقد علمت الذي ظلمتنا عنه أهل البيت من الصدقات وما أفاء الله علينا من الغنائم في القرآن من سهم ذوي القربى ثم قرأت عليه قوله تعالى وَ اِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى الآية فقال لها أبو بكر بأبي أنت وأمي ووالد ولدك السمع والطاعة لكتاب الله ولحق رسول الله ص وحق قرابته وأنا أقرأ من كتاب الله الذي تقرءين منه ولم يبلغ علمي منه أن هذا السهم من الخمس يسلم إليكم كاملا قالت أ فلك هو ولأقربائك قال لا بل أنفق عليكم منه وأصرف الباقي في مصالح المسلمين قالت ليس هذا حكم الله تعالى قال هذا حكم الله فإن كان رسول الله عهد إليك
[ 231 ](1/4632)
في هذا عهدا أو أوجبه لكم حقا صدقتك وسلمته كله إليك وإلى أهلك قالت إن رسول الله ص لم يعهد إلي في ذلك بشي ء إلا أني سمعته يقول لما أنزلت هذه الآية أبشروا آل محمد فقد جاءكم الغنى قال أبو بكر لم يبلغ علمي من هذه الآية أن أسلم إليكم هذا السهم كله كاملا ولكن لكم الغنى الذي يغنيكم ويفضل عنكم وهذا عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح فاسأليهم عن ذلك وانظري هل يوافقك على ما طلبت أحد منهم فانصرفت إلى عمر فقالت له مثل ما قالت لأبي بكر فقال لها مثل ما قاله لها أبو بكر فعجبت فاطمة ع من ذلك وتظنت أنهما كانا قد تذاكرا ذلك واجتمعا عليه . قال أبو بكر وأخبرنا أبو زيد قال حدثنا هارون بن عمير قال حدثنا الوليد عن ابن أبي لهيعة عن أبي الأسود عن عروة قال أرادت فاطمة أبا بكر على فدك وسهم ذوي القربى فأبى عليها وجعلهما في مال الله تعالى . قال أبو بكر وأخبرنا أبو زيد قال حدثنا أحمد بن معاوية عن هيثم عن جويبر عن أبي الضحاك عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب ع أن أبا بكر منع فاطمة وبني هاشم سهم ذوي القربى وجعله في سبيل الله في السلاح والكراع .
قال أبو بكر وأخبرنا أبو زيد قال حدثنا حيان بن هلال عن محمد بن يزيد بن ذريع عن محمد بن إسحاق قال سألت أبا جعفر محمد بن علي ع قلت أ رأيت عليا حين ولي العراق وما ولي من أمر الناس كيف صنع في سهم ذوي القربى قال سلك بهم طريق أبي بكر وعمر قلت وكيف ولم وأنتم تقولون ما تقولون قال أما والله ما كان أهله يصدرون إلا عن رأيه فقلت فما منعه قال كان يكره
[ 232 ](1/4633)
أن يدعى عليه مخالفة أبي بكر وعمر قال أبو بكر وحدثني المؤمل بن جعفر قال حدثني محمد بن ميمون عن داود بن المبارك قال أتينا عبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن بن الحسن ونحن راجعون من الحج في جماعة فسألناه عن مسائل وكنت أحد من سأله فسألته عن أبي بكر وعمر فقال سئل جدي عبد الله بن الحسن بن الحسن عن هذه المسألة فقال كانت أمي صديقة بنت نبي مرسل فماتت وهي غضبى على إنسان فنحن غضاب لغضبها وإذا رضيت رضينا . قال أبو بكر وحدثني أبو جعفر محمد بن القاسم قال حدثني علي بن الصباح قال أنشدنا أبو الحسن رواية المفضل للكميت
أهوى عليا أمير المؤمنين ولا
أرضى بشتم أبي بكر ولا عمرا
و لا أقول وإن لم يعطيا فدكا
بنت النبي ولا ميراثها كفرا
الله يعلم ما ذا يحضران به
يوم القيامة من عذر إذا اعتذرا
قال ابن الصباح فقال لي أبو الحسن أ تقول إنه قد أكفرهما في هذا الشعر قلت نعم قال كذاك هو .
قال أبو بكر حدثنا أبو زيد عن هارون بن عمير عن الوليد بن مسلم عن إسماعيل بن عباس عن محمد بن السائب عن أبي صالح عن مولى أم هانئ قال دخلت فاطمة على أبي بكر بعد ما استخلف فسألته ميراثها من أبيها فمنعها فقالت له لئن مت اليوم من كان يرثك قال ولدي وأهلي قالت فلم ورثت أنت رسول الله ص دون ولده وأهله قال فما فعلت يا بنت رسول الله ص قالت بلى إنك عمدت إلى فدك وكانت صافية لرسول الله ص فأخذتها وعمدت إلى ما أنزل الله من السماء فرفعته عنا فقال يا بنت رسول الله
[ 233 ]
ص لم أفعل حدثني رسول الله ص أن الله تعالى يطعم النبي ص الطعمة ما كان حيا فإذا قبضه الله إليه رفعت فقالت أنت ورسول الله أعلم ما أنا بسائلتك بعد مجلسي ثم انصرفت(1/4634)
قال أبو بكر وحدثنا محمد بن زكريا قال حدثنا محمد بن عبد الرحمن المهلبي عن عبد الله بن حماد بن سليمان عن أبيه عن عبد الله بن حسن بن حسن عن أمه فاطمة بنت الحسين ع قالت لما اشتد بفاطمة بنت رسول الله ص الوجع وثقلت في علتها اجتمع عندها نساء من نساء المهاجرين والأنصار فقلن لها كيف أصبحت يا ابنة رسول الله ص قالت والله أصبحت عائفة لدنياكم قالية لرجالكم لفظتهم بعد أن عجمتهم وشنئتهم بعد أن سبرتهم فقبحا لفلول الحد وخور القناة وخطل الرأي وبئسما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون لا جرم قد قلدتهم ربقتها وشنت عليهم غارتها فجدعا وعقرا وسحقا للقوم الظالمين ويحهم أين زحزحوها عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة ومهبط الروح الأمين والطيبين بأمر الدنيا والدين ألا ذلك هو الخسران المبين وما الذي نقموا من أبي حسن نقموا والله نكير سيفه وشدة وطأته ونكال وقعته وتنمره في ذات الله وتالله لو تكافوا عن زمام نبذه إليه رسول الله ص لاعتلقه ولسار إليهم سيرا سجحا لا تكلم حشاشته ولا يتعتع راكبه ولأوردهم منهلا نميرا فضفاضا يطفح ضفتاه ولأصدرهم بطانا قد تحير بهم الرأي غير متحل بطائل إلا بغمر الناهل وردعه سورة الساغب ولفتحت عليهم بركات من السماء والأرض وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون ألا هلم فاستمع وما عشت
[ 234 ](1/4635)
أراك الدهر عجبه وإن تعجب فقد أعجبك الحادث إلى أي لجإ استندوا وبأي عروة تمسكوا لبئس المولى ولبئس العشير ولبئس للظالمين بدلا استبدلوا والله الذنابى بالقوادم والعجز بالكاهل فرغما لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ويحهم أ فمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون أما لعمر الله لقد لقحت فنظرة ريثما تنتج ثم احتلبوها طلاع العقب دما عبيطا وذعاقا ممقرا هنالك يخسر المبطلون ويعرف التالون غب ما أسس الأولون ثم طيبوا عن أنفسكم نفسا واطمئنوا للفتنة جأشا وأبشروا بسيف صارم وهرج شامل واستبداد من الظالمين يدع فيئكم زهيدا وجمعكم حصيدا فيا حسرة عليكم وأنى لكم وقد عميت عليكم أ نلزمكموها وأنتم لها كارهون والحمد لله رب العالمين وصلاته على محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين . قلت هذا الكلام وإن لم يكن فيه ذكر فدك والميراث إلا أنه من تتمة ذلك وفيه إيضاح لما كان عندها وبيان لشدة غيظها وغضبها فإنه سيأتي فيما بعد ذكر ما يناقض به قاضي القضاة والمرتضى في أنها هل كانت غضبى أم لا ونحن لا ننصر مذهبا بعينه وإنما نذكر ما قيل وإذا جرى بحث نظري قلنا ما يقوى في أنفسنا منه . واعلم أنا إنما نذكر في هذا الفصل ما رواه رجال الحديث وثقاتهم وما أودعه أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتابه وهو من الثقات الأمناء عند أصحاب الحديث وأما ما يرويه رجال الشيعة والأخباريون منهم في كتبهم من قولهم إنهما أهاناها وأسمعاها كلاما غليظا وإن أبا بكر رق لها حيث لم يكن عمر حاضرا فكتب لها بفدك كتابا فلما خرجت به وجدها عمر فمد يده إليه ليأخذه مغالبة فمنعته فدفع بيده في صدرها
[ 235 ](1/4636)
و أخذ الصحيفة فخرقها بعد أن تفل فيها فمحاها وإنها دعت عليه فقالت بقر الله بطنك كما بقرت صحيفتي فشي ء لا يرويه أصحاب الحديث ولا ينقلونه وقدر الصحابة يجل عنه وكان عمر أتقى لله وأعرف لحقوق الله من ذلك وقد نظمت الشيعة بعض هذه الواقعة التي يذكرونها شعرا أوله أبيات لمهيار بن مرزويه الشاعر من قصيدته التي أولها
يا ابنة القوم تراك
بالغ قتلي رضاك
و قد ذيل عليها بعض الشيعة وأتمها والأبيات
يا ابنة الطاهر كم تقرع
بالظلم عصاك
غضب الله لخطب
ليلة الطف عراك
و رعى النار غدا قط
رعى أمس حماك
مر لم يعطفه شكوى
و لا استحيا بكاك
و اقتدى الناس به بعد
فأردى ولداك
يا ابنة الراقي إلى السدرة
في لوح السكاك
لهف نفسي وعلى مثلك
فلتبك البواكي
كيف لم تقطع يد مد
إليك ابن صحاك
فرحوا يوم أهانوك
بما ساء أباك
و لقد أخبرهم أن
رضاه في رضاك
دفعا النص على إرثك
لما دفعاك
و تعرضت لقدر
تافه وانتهراك
[ 236 ]
و ادعيت النحلة المشهود
فيها بالصكاك
فاستشاطا ثم ما إن
كذبا إن كذباك
فزوى الله عن الرحمة
زنديقا ذواك
و نفى عن بابه الواسع
شيطانا نفاك(1/4637)
فانظر إلى هذه البلية التي صبت من هؤلاء على سادات المسلمين وأعلام المهاجرين وليس ذلك بقادح في علو شأنهم وجلالة مكانهم كما أن مبغضي الأنبياء وحسدتهم ومصنفي الكتب في إلحاق العيب والتهجين لشرائعهم لم تزدد لأنبيائهم إلا رفعة ولا زادت شرائعهم إلا انتشارا في الأرض وقبولا في النفس وبهجة ونورا عند ذوي الألباب والعقول . وقال لي علوي في الحلة يعرف بعلي بن مهنإ ذكي ذو فضائل ما تظن قصد أبي بكر وعمر بمنع فاطمة فدك قلت ما قصدا قال أرادا ألا يظهرا لعلي وقد اغتصباه الخلافة رقة ولينا وخذلانا ولا يرى عندهما خورا فأتبعا القرح بالقرح . وقلت لمتكلم من متكلمي الإمامية يعرف بعلي بن تقي من بلدة النيل وهل كانت فدك إلا نخلا يسيرا وعقارا ليس بذلك الخطير فقال لي ليس الأمر كذلك بل كانت جليلة جدا وكان فيها من النخل نحو ما بالكوفة الآن من النخل وما قصد أبو بكر وعمر بمنع فاطمة عنها إلا ألا يتقوى علي بحاصلها وغلتها على المنازعة في الخلافة ولهذا أتبعا ذلك بمنع فاطمة وعلي وسائر بني هاشم وبني المطلب حقهم في الخمس فإن
[ 237 ]
الفقير الذي لا مال له تضعف همته ويتصاغر عند نفسه ويكون مشغولا بالاحتراف والاكتساب عن طلب الملك والرئاسة فانظر إلى ما قد وقر في صدور هؤلاء وهو داء لا دواء له وما أكثر ما تزول الأخلاق والشيم فأما العقائد الراسخة فلا سبيل إلى زوالها(1/4638)
الفصل الثاني في النظر في أن النبي ص هل يورث أم لا
نذكر في هذا الموضع ما حكاه المرتضى رحمه الله في الشافي عن قاضي القضاة في هذا المعنى وما اعترضه به وإن استضعفنا شيئا من ذلك قلنا ما عندنا وإلا تركناه على حاله . قال المرتضى أول ما ابتدأ به قاضي القضاة حكايته عنا استدلالنا على أنه ص مورث بقوله تعالى يُوصِيكُمُ اَللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ وهذا الخطاب عام يدخل فيه النبي وغيره . ثم أجاب يعني قاضي القضاة عن ذلك فقال إن الخبر الذي احتج به أبو بكر يعني
قوله نحن معاشر الأنبياء لا نورث لم يقتصر على روايته هو وحده حتى استشهد عليه عمر وعثمان وطلحة والزبير وسعدا وعبد الرحمن فشهدوا به فكان لا يحل لأبي بكر وقد صار الأمر إليه أن يقسم التركة ميراثا وقد خبر رسول الله ص بأنها صدقة وليست بميراث وأقل ما في هذا الباب أن يكون الخبر من أخبار الآحاد
[ 238 ](1/4639)
فلو أن شاهدين شهدا في التركة أن فيها حقا أ ليس كان يجب أن يصرف ذلك عن الإرث فعلمه بما قال رسول الله ص مع شهادة غيره أقوى ولسنا نجعله مدعيا لأنه لم يدع ذلك لنفسه وإنما بين أنه ليس بميراث وأنه صدقة ولا يمتنع تخصيص القرآن بذلك كما يخص في العبد والقاتل وغيرهما وليس ذلك بنقص في الأنبياء بل هو إجلال لهم يرفع الله به قدرهم عن أن يورثوا المال وصار ذلك من أوكد الدواعي ألا يتشاغلوا بجمعه لأن أحد الدواعي القوية إلى ذلك تركه على الأولاد والأهلين ولما سمعت فاطمة ع ذلك من أبي بكر كفت عن الطلب فيما ثبت من الأخبار الصحيحة فلا يمتنع أن تكون غير عارفة بذلك فطلبت الإرث فلما روى لها ما روى كفت فأصابت أولا وأصابت ثانيا . وليس لأحد أن يقول كيف يجوز أن يبين النبي ص ذلك للقوم ولا حق لهم في الإرث ويدع أن يبين ذلك لمن له حق في الإرث مع أن التكليف يتصل به وذلك لأن التكليف في ذلك يتعلق بالإمام فإذا بين له جاز ألا يبين لغيره ويصير البيان له بيانا لغيره وإن لم يسمعه من الرسول لأن هذا الجنس من البيان يجب أن يكون بحسب المصلحة . قال ثم حكى عن أبي علي أنه قال أ تعلمون كذب أبي بكر في هذه الرواية أم تجوزون أن يكون صادقا قال وقد علم أنه لا شي ء يقطع به على كذبه فلا بد من تجويز كونه صادقا وإذا صح ذلك قيل لهم فهل كان يحل له مخالفة الرسول فإن قالوا لو كان صدقا لظهر واشتهر قيل لهم إن ذلك من باب العمل ولا يمتنع أن ينفرد بروايته جماعة يسيرة بل الواحد والاثنان مثل سائر الأحكام ومثل الشهادات فإن قالوا نعلم أنه لا يصح لقوله تعالى في كتابه وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ قيل لهم
[ 239 ](1/4640)
و من أين أنه ورثه الأموال مع تجويز أن يكون ورثه العلم والحكمة فإن قالوا إطلاق الميراث لا يكون إلا في الأموال قيل لهم إن كتاب الله يبطل قولكم لأنه قال ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَلْكِتابَ اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا والكتاب ليس بمال ويقال في اللغة ما ورثت الأبناء عن الآباء شيئا أفضل من أدب حسن وقالوا العلماء ورثة الأنبياء وإنما ورثوا منهم العلم دون المال على أن في آخر الآية ما يدل على ما قلناه وهو قوله تعالى حاكيا عنه وَ قالَ يا أَيُّهَا اَلنَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ اَلطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ اَلْفَضْلُ اَلْمُبِينُ فنبه على أن الذي ورث هو هذا العلم وهذا الفضل وإلا لم يكن لهذا القول تعلق بالأول فإن قالوا فقد قال تعالى فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وذلك يبطل الخبر قيل لهم ليس في ذلك بيان المال أيضا وفي الآية ما يدل على أن المراد النبوة والعلم لأن زكريا خاف على العلم أن يندرس وقوله وَ إِنِّي خِفْتُ اَلْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي يدل على ذلك لأن الأنبياء لا تحرص على الأموال حرصا يتعلق خوفها بها وإنما أراد خوفه على العلم أن يضيع فسأل الله تعالى وليا يقوم بالدين مقامه وقوله وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ يدل على أن المراد العلم والحكمة لأنه لا يرث أموال يعقوب في الحقيقة وإنما يرث ذلك غيره قال فأما من يقول إن المراد أنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة أي ما جعلناه صدقة في حال حياتنا لا نورثه فركيك من القول لأن إجماع الصحابة يخالفه لأن أحدا لم يتأوله على هذا الوجه لأنه لا يكون في ذلك تخصيص الأنبياء ولا مزية لهم ولأن قوله ما تركناه صدقة جملة من الكلام مستقلة بنفسها كأنه
[ 240 ](1/4641)
ع مع بيانه أنهم لا يورثون المال يبين أنه صدقة لأنه كان يجوز ألا يكون ميراثا ويصرف إلى وجه آخر غير الصدقة . قال فأما خبر السيف والبغلة والعمامة وغير ذلك فقد قال أبو علي إنه لم يثبت أن أبا بكر دفع ذلك إلى أمير المؤمنين ع على جهة الإرث كيف يجوز ذلك مع الخبر الذي رواه وكيف يجوز لو كان وارثا أن يخصه بذلك ولا إرث له مع العم لأنه عصبة فإن كان وصل إلى فاطمة ع فقد كان ينبغي أن يكون العباس شريكا في ذلك وأزواج رسول الله ص ولوجب أن يكون ذلك ظاهرا مشهورا ليعرف أنهم أخذوا نصيبهم من ذلك أو بدله ولا يجب إذا لم يدفع أبو بكر ذلك إليه على جهة الإرث ألا يحصل ذلك في يده لأنه قد يجوز أن يكون النبي ص نحله ذلك ويجوز أيضا أن يكون أبو بكر رأى الصلاح في ذلك أن يكون بيده لما فيه من تقوية الدين وتصدق ببدله بعد التقويم لأن الإمام له أن يفعل ذلك . قال وحكى عن أبي علي في البرد والقضيب أنه لم يمتنع أن يكون جعله عدة في سبيل الله وتقوية على المشركين فتداولته الأئمة لما فيه من التقوية ورأى أن ذلك أولى من أن يتصدق به إن ثبت أنه ع لم يكن قد نحله غيره في حياته ثم عارض نفسه بطلب أزواج النبي ص الميراث وتنازع أمير المؤمنين ع والعباس بعد موت فاطمة ع وأجاب عن ذلك بأن قال يجوز أن يكونوا لم يعرفوا رواية أبي بكر وغيره للخبر . وقد روي أن عائشة لما عرفتهن الخبر أمسكن وقد بينا أنه لا يمتنع في مثل ذلك أن يخفى على من يستحق الإرث ويعرفه من يتقلد الأمر كما يعرف العلماء والحكام من أحكام المواريث ما لا يعلمه أرباب الإرث وقد بينا أن رواية أبي بكر مع الجماعة
[ 241 ](1/4642)
أقوى من شاهدين لو شهد أن بعض تركته ع دين وهو أقوى من رواية سلمان وابن مسعود لو رويا ذلك . قال ومتى تعلقوا بعموم القرآن أريناهم جواز التخصيص بهذا الخبر كما أن عموم القرآن يقتضي كون الصدقات للفقراء وقد ثبت أن آل محمد لا تحل لهم الصدقة . هذا آخر ما حكاه المرتضى من كلام قاضي القضاة . ثم قال نحن نبين أولا ما يدل على أنه ص يورث المال ونرتب الكلام في ذلك الترتيب الصحيح ثم نعطف على ما أورده ونتكلم عليه . قال رضي الله عنه والذي يدل على ما ذكرنا قوله تعالى مخبرا عن زكريا ع وَ إِنِّي خِفْتُ اَلْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَ كانَتِ اِمْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا فخبر أنه خاف من بني عمه لأن الموالي هاهنا هم بنو العم بلا شبهة وإنما خافهم أن يرثوا ماله فينفقوه في الفساد لأنه كان يعرف ذلك من خلائقهم وطرائقهم فسأل ربه ولدا يكون أحق بميراثه منهم والذي يدل على أن المراد بالميراث المذكور ميراث المال دون العلم والنبوة على ما يقولون إن لفظة الميراث في اللغة والشريعة لا يفيد إطلاقها إلا على ما يجوز أن ينتقل على الحقيقة من الموروث إلى الوارث كالأموال وما في معناها ولا يستعمل في غير المال إلا تجوزا واتساعا ولهذا لا يفهم من قول القائل لا وارث لفلان إلا فلان وفلان يرث مع فلان بالظاهر والإطلاق إلا ميراث الأموال والأعراض دون العلوم وغيرها وليس لنا أن نعدل عن ظاهر الكلام وحقيقته إلى مجازه بغير دلالة وأيضا فإنه تعالى خبر عن نبيه أنه اشترط في وارثه أن يكون رضيا ومتى لم يحمل الميراث في الآية على المال دون العلم
[ 242 ](1/4643)
و النبوة لم يكن للاشتراط معنى وكان لغوا وعبثا لأنه إذا كان إنما سأل من يقوم مقامه ويرث مكانه فقد دخل الرضا وما هو أعظم من الرضا في جملة كلامه وسؤاله فلا مقتضي لاشتراطه أ لا ترى أنه لا يحسن أن يقول اللهم ابعث إلينا نبيا واجعله عاقلا ومكلفا فإذا ثبتت هذه الجملة صح أن زكريا موروث ماله وصح أيضا لصحتها أن نبينا ص ممن يورث المال لأن الإجماع واقع على أن حال نبينا ع لا يخالف حال الأنبياء المتقدمين في ميراث المال فمن مثبت للأمرين وناف للأمرين . قلت إن شيخنا أبا الحسين قال في كتاب الغرر صورة الخبر الوارد في هذا الباب وهو الذي رواه أبو بكر لا نورث ولم يقل نحن معاشر الأنبياء لا نورث فلا يلزم من كون زكريا يورث الطعن في الخبر وتصفحت أنا كتب الصحاح في الحديث فوجدت صيغة الخبر كما قاله أبو الحسين وإن كان رسول الله ص عنى نفسه خاصة بذلك فقد سقط احتجاج الشيعة بقصة زكريا وغيره من الأنبياء إلا أنه يبعد عندي أن يكون أراد نفسه خاصة لأنه لم تجر عادته أن يخبر عن نفسه في شي ء بالنون . فإن قلت أ يصح من المرتضى أن يوافق على أن صورة الخبر هكذا ثم يحتج بقصة زكريا بأن يقول إذا ثبت أن زكريا موروث ثبت أن رسول الله ص يجوز أن يكون موروثا لإجماع الأمة على أن لا فرق بين الأنبياء كلهم في هذا الحكم . قلت وإن ثبت له هذا الإجماع صح احتجاجه ولكن ثبوته يبعد لأن من نفى كون زكريا ع موروثا من الأمة إنما نفاه لاعتقاده أن رسول الله ص قال نحن معاشر الأنبياء فإذا كان لم يقل هكذا لم يقل إن زكريا ع غير موروث
[ 243 ](1/4644)
قال المرتضى ومما يقوي ما قدمناه أن زكريا ع خاف بني عمه فطلب وارثا لأجل خوفه ولا يليق خوفه منهم إلا بالمال دون العلم والنبوة لأنه ع كان أعلم بالله تعالى من أن يخاف أن يبعث نبيا ليس بأهل للنبوة وأن يورث علمه وحكمه من ليس أهلا لهما ولأنه إنما بعث لإذاعة العلم ونشره في الناس فلا يجوز أن يخاف من الأمر الذي هو الغرض في البعثة فإن قيل هذا يرجع عليكم في الخوف عن إرث المال لأن ذلك غاية الضن والبخل قلنا معاذ الله أن يستوي الحال لأن المال قد يصح أن يرزقه الله تعالى المؤمن والكافر والعدو والولي ولا يصح ذلك في النبوة وعلومها وليس من الضن أن يأسى على بني عمه وهم من أهل الفساد أن يظفروا بماله فينفقوه على المعاصي ويصرفوه في غير وجوهه المحبوبة بل ذلك غاية الحكمة وحسن التدبير في الدين لأن الدين يحظر تقوية الفساق وإمدادهم بما يعينهم على طرائقهم المذمومة وما يعد ذلك شحا ولا بخلا إلا من لا تأمل له . فإن قيل أ فلا جاز أن يكون خاف من بني عمه أن يرثوا علمه وهم من أهل الفساد على ما ادعيتم فيستفسدوا به الناس ويموهوا به عليهم قلنا لا يخلو هذا العلم الذي أشرتم إليه من أن يكون هو كتب علمه وصحف حكمته لأن ذلك قد يسمى علما على طريق المجاز أو يكون هو العلم الذي يحل القلب فإن كان الأول فهو يرجع إلى معنى المال ويصحح أن الأنبياء يورثون أموالهم وما في معناها وإن كان الثاني لم يخل هذا من أن يكون هو العلم الذي بعث النبي لنشره وأدائه أو أن يكون علما مخصوصا لا يتعلق بالشريعة ولا يجب إطلاع جميع الأمة عليه كعلم العواقب وما يجري في مستقبل الأوقات وما جرى مجرى ذلك والقسم الأول لا يجوز على النبي أن يخاف من وصوله إلى بني عمه وهم من جملة أمته الذين بعث لإطلاعهم على ذلك وتأديته إليهم وكأنه على هذا الوجه يخاف مما هو الغرض من بعثته والقسم الثاني فاسد أيضا لأن
[ 244 ](1/4645)
هذا العلم المخصوص إنما يستفاد من جهته ويوقف عليه بإطلاعه وإعلامه وليس هو مما يجب نشره في جميع الناس فقد كان يجب إذا خاف من إلقائه إلى بعض الناس فسادا ألا يلقيه إليه فإن ذلك في يده ولا يحتاج إلى أكثر من ذلك . قلت لعاكس أن يعكس هذا على المرتضى رحمه الله حينئذ ويقول له وقد كان يجب إذا خاف من أن يرث بنو عمه أمواله فينفقوها في الفساد أن يتصدق بها على الفقراء والمساكين فإن ذلك في يده فيحصل له ثواب الصدقة ويحصل له غرضه من حرمان أولئك المفسدين ميراثه . قال المرتضى رضي الله عنه ومما يدل على أن الأنبياء يورثون قوله تعالى وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ والظاهر من إطلاق لفظة الميراث يقتضي الأموال وما في معناها على ما دللنا به من قبل . قال ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى يُوصِيكُمُ اَللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ الآية وقد أجمعت الأمة على عموم هذه اللفظة إلا من أخرجه الدليل فيجب أن يتمسك بعمومها لمكان هذه الدلالة ولا يخرج عن حكمها إلا من أخرجه دليل قاطع . قلت أما قوله تعالى وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ فظاهرها يقتضي وراثة النبوة أو الملك أو العلم الذي قال في أول الآية وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً لأنه لا معنى لذكر ميراث سليمان المال فإن غيره من أولاد داود قد ورث أيضا أباه داود وفي كتب اليهود والنصارى أن بني داود كانوا تسعة عشر وقد قال بعض المسلمين أيضا ذلك فأي معنى في تخصيص سليمان بالذكر إذا كان إرث المال وأما يُوصِيكُمُ اَللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ فالبحث في تخصيص ذلك بالخبر فرع من فروع مسألة خبر الواحد هل هو حجة في
[ 245 ](1/4646)
الشرعيات أم لا فإن ثبت مذهب المرتضى في كونه ليس بحجة فكلامه هنا جيد وإن لم يثبت فلا مانع من تخصيص العموم بالخبر فإن الصحابة قد خصصت عمومات الكتاب بالأخبار في مواضع كثيرة . قال المرتضى وأما تعلق صاحب الكتاب بالخبر الذي رواه أبو بكر وادعاؤه أنه استشهد عمر وعثمان وفلانا وفلانا فأول ما فيه أن الذي ادعاه من الاستشهاد غير معروف والذي روي أن عمر استشهد هؤلاء النفر لما تنازع أمير المؤمنين ع والعباس رضي الله عنه في الميراث فشهدوا بالخبر المتضمن لنفي الميراث وإنما مقول مخالفينا في صحة الخبر الذي رواه أبو بكر عند مطالبة فاطمة ع بالإرث على إمساك الأمة عن النكير عليه والرد لقضيته . قلت صدق المرتضى رحمه الله فيما قال أما عقيب وفاة النبي ص ومطالبة فاطمة ع بالإرث فلم يرو الخبر إلا أبو بكر وحده وقيل إنه رواه معه مالك بن أوس بن الحدثان وأما المهاجرون الذين ذكرهم قاضي القضاة فإنما شهدوا بالخبر في خلافة عمر وقد تقدم ذكر ذلك . قال المرتضى ثم لو سلمنا استشهاد من ذكر على الخبر لم يكن فيه حجة لأن الخبر على كل حال لا يخرج من أن يكون غير موجب للعلم وهو في حكم أخبار الآحاد وليس يجوز أن يرجع عن ظاهر القرآن بما يجرى هذا المجرى لأن المعلوم لا يخص إلا بمعلوم وإذا كانت دلالة الظاهر معلومة لم يجز أن يخرج عنها بأمر مظنون . قال وهذا الكلام مبني على أن التخصيص للكتاب والسنة المقطوع بها لا يقع
[ 246 ](1/4647)
بأخبار الآحاد وهو المذهب الصحيح وقد أشرنا إلى ما يمكن أن يعتمد في الدلالة عليه من أن الظن لا يقابل العلم ولا يرجع عن المعلوم بالمظنون قال وليس لهم أن يقولوا إن التخصيص بأخبار الآحاد يستند أيضا إلى علم وإن كان الطريق مظنونا ويشيروا إلى ما يدعونه من الدلالة على وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة وأنه حجة لأن ذلك مبني من قولهم على ما لا نسلمه وقد دل الدليل على فساده أعني قولهم خبر الواحد حجة في الشرع على أنهم لو سلم لهم ذلك لاحتاجوا إلى دليل مستأنف على أنه يقبل في تخصيص القرآن لأن ما دل على العمل به في الجملة لا يتناول هذا الموضع كما لا يتناول جواز النسخ به . قلت أما قول المرتضى لو سلمنا أن هؤلاء المهاجرين الستة رووه لما خرج عن كونه خبرا واحدا ولما جاز أن يرجع عن عموم الكتاب به لأنه معلوم والخبر مظنون . ولقائل أن يقول ليته حصل في كل واحد من آيات القرآن رواية مثل هذه الستة حيث جمع القرآن على عهد عثمان ومن قبله من الخلفاء فإنهم بدون هذا العدد كانوا يعملون في إثبات الآية في المصحف بل كانوا يحلفون من أتاهم بالآية ومن نظر في كتب التواريخ عرف ذلك فإن كان هذا العدد إنما يفيد الظن فالقول في آيات الكتاب كذلك وإن كانت آيات الكتاب أثبتت عن علم مستفاد من رواية هذا العدد ونحوه فالخبر مثل ذلك . فأما مذهب المرتضى في خبر الواحد فإنه قول انفرد به عن سائر الشيعة لأن من قبله من فقهائهم ما عولوا في الفقه إلا على أخبار الآحاد كزرارة ويونس وأبي بصير وابني بابويه والحلبي وأبي جعفر القمي وغيرهم ثم من كان في عصر المرتضى منهم
[ 247 ](1/4648)
كأبي جعفر الطوسي وغيره وقد تكلمت في اعتبار الذريعة على ما أعتمد عليه في هذه المسألة وأما تخصيص الكتاب بخبر الواحد فالظاهر أنه إذا صح كون خبر الواحد حجة في الشرع جاز تخصيص الكتاب به وهذا من فن أصول الفقه فلا معنى لذكره هنا . قال المرتضى رضي الله عنه وهذا يسقط قول صاحب الكتاب إن الشاهدين لو شهدا أن في التركة حقا لكان يجب أن ينصرف عن الإرث وذلك لأن الشهادة وإن كانت مظنونة فالعمل بها يستند إلى علم لأن الشريعة قد قررت العمل بالشهادة ولم تقرر العمل بخبر الواحد وليس له أن يقيس خبر الواحد على الشهادة من حيث اجتمعا في غلبة الظن لأنا لا نعمل على الشهادة من حيث غلبة الظن دون ما ذكرناه من تقرير الشريعة العمل بها أ لا ترى أنا قد نظن بصدق الفاسق والمرأة والصبي وكثير ممن لا يجوز العمل بقوله فبان أن المعول في هذا على المصلحة التي نستفيدها على طريق الجملة من دليل الشرع . قال وأبو بكر في حكم المدعي لنفسه والجار إليها بخلاف ما ظنه صاحب الكتاب وكذلك من شهد له إن كانت هناك شهادة وذلك أن أبا بكر وسائر المسلمين سوى أهل بيت الرسول ص يحل لهم الصدقة ويجوز أن يصيبوا فيها وهذه تهمة في الحكم والشهادة . قال وليس له أن يقول فهذا يقتضي ألا يقبل شهادة شاهدين في تركة فيها صدقة لمثل ما ذكرتم .
[ 248 ](1/4649)
قال وذلك لأن الشاهدين إذا شهدا في الصدقة فحظهما منها كحظ صاحب الميراث بل سائر المسلمين وليس كذلك حال تركة الرسول لأن كونها صدقة يحرمها على ورثته ويبيحها لسائر المسلمين . قلت هذا فرق غير مؤثر اللهم إلا أن يعني به تهمة أبي بكر والشهود الستة في جر النفع إلى أنفسهم يكون أكثر من تهمتهم لو شهدوا على أبي هريرة مثلا أن ما تركه صدقة لأن أهل أبي هريرة يشاركون في القسمة وأهل النبي ص لا يشاركون الشهود فيما يصيبهم إذ هم لا تحل لهم الصدقة فتكون حصة أبي بكر والشهود مما تركه رسول الله أكثر من حصتهم مما يتركه أبو هريرة فيكون تطرق التهمة إلى أبي بكر والشهود أكثر حسب زيادة حصتهم وما وقفت للمرتضى على شي ء أطرف من هذا لأن رسول الله ص مات والمسلمون أكثر من خمسين ألف إنسان لأنه قاد في غزاة تبوك عشرين ألفا ثم وفدت إليه الوفود كلها بعد ذلك فليت شعري كم مقدار ما يتوفر على أبي بكر وستة نفر معه وهم من جملة خمسين ألفا بين ما إذا كان بنو هاشم وبنو المطلب وهم حينئذ عشرة نفر لا يأخذون حصة وبين ما إذا كانوا يأخذون أ ترى أ يكون المتوفر على أبي بكر وشهوده من التركة عشر عشر درهم ما أظن أنه يبلغ ذلك وكم مقدار ما يقلل حصص الشهود على أبي هريرة إذا شركهم أهله في التركة لتكون هذه القلة موجبة رفع التهمة وتلك الزيادة والكثرة موجبة حصول التهمة وهذا الكلام لا أرتضيه للمرتضى . قال المرتضى رضي الله عنه وأما قوله يخص القرآن بالخبر كما خصصناه في العبد والقاتل فليس بشي ء لأنا إنما خصصنا من ذكر بدليل مقطوع عليه معلوم وليس هذا موجودا في الخبر الذي ادعاه فأما قوله وليس ذلك ينقص الأنبياء بل هو إجلال لهم
[ 249 ](1/4650)
فمن الذي قال له إن فيه نقصا وكما أنه لا نقص فيه فلا إجلال فيه ولا فضيلة لأن الداعي وإن كان قد يقوى على جمع المال ليخلف على الورثة فقد يقويه أيضا إرادة صرفه في وجوه الخير والبر وكلا الأمرين يكون داعيا إلى تحصيل المال بل الداعي الذي ذكرناه أقوى فيما يتعلق بالدين . قال وأما قوله إن فاطمة لما سمعت ذلك كفت عن الطلب فأصابت أولا وأصابت ثانيا فلعمري إنها كفت عن المنازعة والمشاحة لكنها انصرفت مغضبة متظلمة متألمة والأمر في غضبها وسخطها أظهر من أن يخفى على منصف فقد روى أكثر الرواة الذين لا يتهمون بتشيع ولا عصبية فيه من كلامها في تلك الحال وبعد انصرافها عن مقام المنازعة والمطالبة ما يدل على ما ذكرناه من سخطها وغضبها .
أخبرنا أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني قال حدثني محمد بن أحمد الكاتب قال حدثنا أحمد بن عبيد بن ناصح النحوي قال حدثني الزيادي قال حدثنا الشرقي بن القطامي عن محمد بن إسحاق قال حدثنا صالح بن كيسان عن عروة عن عائشة قالت لما بلغ فاطمة إجماع أبي بكر على منعها فدك لاثت خمارها على رأسها واشتملت بجلبابها وأقبلت في لمة من حفدتها . . .
قال المرتضى وأخبرنا المرزباني قال حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد المكي قال حدثنا أبو العيناء بن القاسم اليماني قال حدثنا ابن عائشة قال لما قبض رسول الله ص أقبلت فاطمة إلى أبي بكر في لمة من حفدتها ثم اجتمعت الروايتان من هاهنا . . . ونساء قومها تطأ ذيولها ما تخرم مشيتها مشية رسول الله ص
[ 250 ](1/4651)
حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم فنيطت دونها ملاءة ثم أنت أنة أجهش لها القوم بالبكاء وارتج المجلس ثم أمهلت هنيهة حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم افتتحت كلامها بالحمد لله عز وجل والثناء عليه والصلاة على رسول الله ص ثم قالت لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ فإن تعزوه تجدوه أبي دون آبائكم وأخا ابن عمي دون رجالكم فبلغ الرسالة صادعا بالنذارة مائلا عن سنن المشركين ضاربا ثبجهم يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة آخذا بأكظام المشركين يهشم الأصنام ويفلق الهام حتى انهزم الجمع وولوا الدبر وحتى تفرى الليل عن صبحه وأسفر الحق عن محضه ونطق زعيم الدين وخرست شقائق الشياطين وتمت كلمة الإخلاص وكنتم على شفا حفرة من النار نهزة الطامع ومذقة الشارب وقبسة العجلان وموطإ الأقدام تشربون الطرق وتقتاتون القد أذلة خاسئين يختطفكم الناس من حولكم حتى أنقذكم الله برسوله ص بعد اللتيا والتي وبعد أن مني بهم الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب وكلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله أو نجم قرن الشيطان أو فغرت فاغرة قذف أخاه في لهواتها ولا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه ويطفئ عادية لهبها بسيفه أو قالت يخمد لهبها بحده مكدودا في ذات الله وأنتم في رفاهية فكهون آمنون وادعون
[ 251 ]
إلى هنا انتهى خبر أبي العيناء عن ابن عائشة وأما(1/4652)
عروة عن عائشة فزاد بعد هذا حتى إذا اختار الله لنبيه دار أنبيائه ظهرت حسيكة النفاق وشمل جلباب الدين ونطق كاظم الغاوين ونبغ خامل الآفكين وهدر فنيق المبطلين فخطر في عرصاتكم وأطلع الشيطان رأسه صارخا بكم فدعاكم فألفاكم لدعوته مستجيبين ولقربه متلاحظين ثم استنهضكم فوجدكم خفافا وأحمشكم فألفاكم غضابا فوسمتم غير إبلكم ووردتم غير شربكم هذا والعهد قريب والكلم رحيب والجرح لما يندمل إنما زعمتم ذلك خوف الفتنة ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين فهيهات وأنى بكم وأنى تؤفكون وكتاب الله بين أظهركم زواجره بينة وشواهده لائحة وأوامره واضحة أ رغبة عنه تريدون أم لغيره تحكمون بئس للظالمين بدلا ومن يتبع غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها تسرون حسوا في ارتغاء ونحن نصبر منكم على مثل حز المدى وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا أ فحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون يا ابن أبي قحافة أ ترث أباك ولا أرث أبي لقد جئت شيئا فريا فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك فنعم الحكم الله والزعيم محمد والموعد القيامة وعند الساعة يخسر المبطلون ثم انكفأت إلى قبر أبيها ع فقالت
قد كان بعدك أنباء وهنبثة
لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
إذا فقدناك فقد الأرض وابلها
و اختل قومك فاشهدهم ولا تغب
و روى حرمي بن أبي العلاء مع هذين البيتين بيتا ثالثا
فليت بعدك كان الموت صادفنا
لما قضيت وحالت دونك الكتب
[ 252 ]
قال فحمد أبو بكر الله وأثنى عليه وصلى على رسوله ص وقال يا خير النساء وابنة خير الآباء والله ما عدوت رأي رسول الله ص ولا عملت إلا بإذنه وإن الرائد لا يكذب أهله وإني أشهد الله وكفى بالله شهيدا(1/4653)
أني سمعت رسول الله يقول إنا معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا ولا فضة ولا دارا ولا عقارا وإنما نورث الكتاب والحكمة والعلم والنبوة
قال فلما وصل الأمر إلى علي بن أبي طالب ع كلم في رد فدك فقال إني لأستحيي من الله أن أرد شيئا منع منه أبو بكر وأمضاه عمر
قال المرتضى وأخبرنا أبو عبد الله المرزباني قال حدثني علي بن هارون قال أخبرني عبيد الله بن أحمد بن أبي طاهر عن أبيه قال ذكرت لأبي الحسين زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ع كلام فاطمة ع عند منع أبي بكر إياها فدك وقلت له إن هؤلاء يزعمون أنه مصنوع وأنه من كلام أبي العيناء لأن الكلام منسوق البلاغة فقال لي رأيت مشايخ آل أبي طالب يروونه عن آبائهم ويعلمونه أولادهم وقد حدثني به أبي عن جدي يبلغ به فاطمة ع على هذه الحكاية وقد رواه مشايخ الشيعة وتدارسوه قبل أن يوجد جد أبي العيناء وقد حدث الحسين بن علوان عن عطية العوفي أنه سمع عبد الله بن الحسن بن الحسن يذكر عن أبيه هذا الكلام . ثم قال أبو الحسن زيد وكيف تنكرون هذا من كلام فاطمة ع وهم
[ 253 ]
يروون من كلام عائشة عند موت أبيها ما هو أعجب من كلام فاطمة ع ويحققونه لو لا عداوتهم لنا أهل البيت ثم ذكر الحديث بطوله على نسقه وزاد في الأبيات بعد البيتين الأولين
ضاقت علي بلادي بعد ما رحبت
وسم سبطاك خسفا فيه لي نصب
فليت قبلك كان الموت صادفنا
قوم تمنوا فأعطوا كل ما طلبوا
تجهمتنا رجال واستخف بنا
مذ غبت عنا وكل الإرث قد غصبوا(1/4654)
قال فما رأينا يوما أكثر باكيا أو باكية من ذلك اليوم . قال المرتضى وقد روى هذا الكلام على هذا الوجه من طرق مختلفة ووجوه كثيرة فمن أرادها أخذها من مواضعها فكيف يدعي أنها ع كفت راضية وأمسكت قانعة لو لا البهت وقلة الحياء . قلت ليس في هذا الخبر ما يدل على فساد ما ادعاه قاضي القضاة لأنه ادعى أنها نازعت وخاصمت ثم كفت لما سمعت الرواية وانصرفت تاركة للنزاع راضية بموجب الخبر المروي وما ذكره المرتضى من هذا الكلام لا يدل إلا على سخطها حال حضورها ولا يدل على أنها بعد رواية الخبر وبعد أن أقسم لها أبو بكر بالله تعالى أنه ما روى عن رسول الله ص إلا ما سمعه منه انصرفت ساخطة ولا في الحديث المذكور والكلام المروي ما يدل على ذلك ولست أعتقد أنها انصرفت راضية كما قال قاضي القضاة بل أعلم أنها انصرفت ساخطة وماتت وهي على أبي بكر واجدة ولكن لا من هذا الخبر بل من أخبار أخر كان الأولى بالمرتضى أن يحتج بها على
[ 254 ](1/4655)
ما يرويه في انصرافها ساخطة وموتها على ذلك السخط وأما هذا الخبر وهذا الكلام فلا يدل على هذا المطلوب . قال المرتضى رحمه الله فأما قوله إنه يجوز أن يبين ع أنه لا حق لميراثه في ورثته لغير الورثة ولا يمتنع أن يرد من جهة الآحاد لأنه من باب العمل وكل هذا بناء منه على أصوله الفاسدة في أن خبر الواحد حجة في الشرع وأن العمل به واجب ودون صحة ذلك خرط القتاد وإنما يجوز أن يبين من جهة أخرى إذا تساويا في الحجة ووقوع العمل فأما مع تباينهما فلا يجوز التخيير فيهما وإذا كان ورثة النبي ص متعبدين بألا يرثوه فلا بد من إزاحة علتهم في هذه العبادة بأن يوقفهم على الحكم ويشافههم به ويلقيه إلى من يقيم الحجة عليهم بنقله وكل ذلك لم يكن . فأما قوله أ تجوزون صدقه في الرواية أم لا تجوزون ذلك فالجواب إنا لا نجوزه لأن كتاب الله أصدق منه وهو يدفع روايته ويبطلها فأما اعتراضه على قولنا إن إطلاق الميراث لا يكون إلا في الأموال بقوله تعالى ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَلْكِتابَ اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا وقولهم ما ورثت الأبناء من الآباء شيئا أفضل من أدب حسن وقولهم العلماء ورثة الأنبياء فعجيب لأن كل ما ذكر مقيد غير مطلق وإنما قلنا إن مطلق لفظ الميراث من غير قرينة ولا تقييد يفيد بظاهره ميراث الأموال فبعد ما ذكره وعارض به لا يخفى على متأمل . فأما استدلاله على أن سليمان ورث داود علمه دون ماله بقوله يا أَيُّهَا اَلنَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ اَلطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ اَلْفَضْلُ اَلْمُبِينُ وأن المراد أنه
[ 255 ](1/4656)
ورث العلم والفضل وإلا لم يكن لهذا القول تعلق بالأول فليس بشي ء يعول عليه لأنه لا يمتنع أن يريد به أنه ورث المال بالظاهر والعلم بهذا المعنى من الاستدلال فليس يجب إذا دلت الدلالة في بعض الألفاظ على معنى المجاز أن يقتصر بها عليه بل يجب أن يحملها على الحقيقة التي هي الأصل إذا لم يمنع من ذلك مانع على أنه لا يمتنع أن يريد ميراث المال خاصة ثم يقول مع ذلك إنا عُلِّمْنا مَنْطِقَ اَلطَّيْرِ ويشير اَلْفَضْلُ اَلْمُبِينُ إلى العلم والمال جميعا فله بالأمرين جميعا فضل على من لم يكن عليهما وقوله وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ يحتمل المال كما يحتمل العلم فليس بخالص ما ظنه . فأما قوله في قصة زكريا إنه خاف على العلم أن يندرس لأن الأنبياء وإن كانوا لا يحرصون على الأموال وإنما خاف أن يضيع العلم فسأل الله تعالى وليا يقوم بالدين مقامه فقد بينا أن الأنبياء وإن كانوا لا يحرصون على الأموال ولا يبخلون بها فإنهم يجتهدون في منع المفسدين من الانتفاع بها على الفساد ولا يعد ذلك بخلا ولا حرصا بل فضلا ودينا وليس يجوز من زكريا أن يخاف على العلم الاندراس والضياع لأنه يعلم أن حكمة الله تعالى تقتضي حفظ العلم الذي هو الحجة على العباد وبه تنزاح عللهم في مصالحهم فكيف يخاف ما لا يخاف من مثله . فإن قيل فهبوا أن الأمر كما ذكرتم من أن زكريا كان يأمن على العلم أن يندرس أ ليس لا بد أن يكون مجوزا أن يحفظه الله تعالى بمن هو من أهله وأقاربه كما يجوز حفظه بغريب أجنبي فما أنكرتم أن يكون خوفه إنما كان من بني عمه ألا يتعلموا العلم ولا يقوموا فيه مقامه فسأل الله ولدا يجمع فيه هذه العلوم حتى لا يخرج العلم عن بيته ويتعدى إلى غير قومه فيلحقه بذلك وصمة .
[ 256 ](1/4657)
قلنا أما إذا رتب السؤال هذا الترتيب فالجواب عنه ما أجبنا به صاحب الكتاب وهو أن الخوف الذي أشاروا إليه ليس من ضرر ديني وإنما هو من ضرر دنياوي والأنبياء إنما بعثوا لتحمل المضار الدنياوية ومنازلهم في الثواب إنما زادت على كل المنازل لهذا الوجه ومن كانت حاله هذه الحال فالظاهر من خوفه إذا لم يعلم وجهه بعينه أن يكون محمولا على مضار الدين لأنها هي جهة خوفهم والغرض في بعثهم تحمل ما سواها من المضار فإذا قال النبي ص أنا خائف فلم يعلم جهة خوفه على التفصيل يجب أن يصرف خوفه بالظاهر إلى مضار الدين دون الدنيا لأن أحوالهم وبعثهم يقتضي ذلك فإذا كنا لو اعتدنا من بعضنا الزهد في الدنيا وأسبابها والتعفف عن منافعها والرغبة في الآخرة والتفرد بالعمل لها لكنا نحمل على ما يظهر لنا من خوفه الذي لا يعلم وجهه بعينه على ما هو أشبه وأليق بحاله ونضيفه إلى الآخرة دون الدنيا وإذا كان هذا واجبا فيمن ذكرناه فهو في الأنبياء ع أوجب . قلت ينبغي ألا يقول المعترض فيلحقه بذلك وصمة فيجعل الخوف من هذه الوصمة بل يقول إنه خاف ألا يفلح بنو عمه ولا يتعلموا العلم لما رأى من الأمارات الدالة على ذلك فالخوف على هذا الترتيب يتعلق بأمر ديني لا دنيوي فسأل الله تعالى أن يرزقه ولدا يرث عنه علمه أي يكون عالما بالدينيات كما أنا عالم بها وهذا السؤال متعلق بأمر ديني لا دنيوي وعلى هذا يندفع ما ذكره المرتضى على أنه لا يجوز إطلاق القول بأن الأنبياء بعثوا لتحمل المضار الدنياوية ولا القول الغرض في بعثتهم تحمل ما سوى المضار الدينية من المضار فإنهم ما بعثوا لذلك ولا الغرض في بعثتهم ذلك وإنما بعثوا لأمر آخر وقد تحصل المضار في أداء الشرع ضمنا وتبعا لا على أنها الغرض ولا داخلة
[ 257 ](1/4658)
في الغرض وعلى أن قول المرتضى لا يجوز أن يخاف زكريا من تبديل الدين وتغييره لأنه محفوظ من الله فكيف يخاف ما لا يخاف من مثله غير مستمر على أصوله لأن المكلفين الآن قد حرموا بغيبة الإمام عنده ألطافا كثيرة الوصلة بالشرعيات كالحدود وصلاة الجمعة والأعياد وهو وأصحابه يقولون في ذلك أن اللوم على المكلفين لأنهم قد حرموا أنفسهم اللطف فهلا جاز أن يخاف زكريا من تبديل الدين وتغييره وإفساد الأحكام الشرعية لأنه إنما يجب على الله تعالى التبليغ بالرسول إلى المكلفين فإذا أفسدوا هم الأديان وبدلوها لم يجب عليه أن يحفظها عليهم لأنهم هم الذين حرموا أنفسهم اللطف . واعلم أنه قد قرئ وَ إِنِّي خِفْتُ اَلْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وقيل إنها قراءة زين العابدين وابنه محمد بن علي الباقر ع وعثمان بن عفان وفسروه على وجهين أحدهما أن يكون ورائي بمعنى خلفي وبعدي أي قلت الموالي وعجزوا عن إقامة الدين تقول قد خف بنو فلان أي قل عددهم فسأل زكريا ربه تقويتهم ومظاهرتهم بولي يرزقه . وثانيهما أن يكون ورائي بمعنى قدامي أي خف الموالي وأنا حي ودرجوا وانقرضوا ولم يبق منهم من به اعتضاد وعلى هذه القراءة لا يبقى متعلق بلفظة الخوف . وقد فسر قوم قوله وَ إِنِّي خِفْتُ اَلْمَوالِيَ أي خفت الذين يلون الأمر من بعدي لأن الموالي يستعمل في الوالي وجمعه موال أي خفت أن يلي بعد موتي أمراء ورؤساء يفسدون شيئا من الدين فارزقني ولدا تنعم عليه بالنبوة والعلم كما أنعمت
[ 258 ](1/4659)
علي واجعل الدين محفوظا به وهذا التأويل غير منكر وفيه أيضا دفع لكلام المرتضى . قال المرتضى وأما تعلق صاحب الكتاب في أن الميراث محمول على العلم بقوله وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ لأنه لا يرث أموال آل يعقوب في الحقيقة وإنما يرث ذلك غيره فبعيد من الصواب لأن ولد زكريا يرث بالقرابة من آل يعقوب أموالهم على أنه لم يقل يرث آل يعقوب بل قال يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ تنبيها بذلك على أنه يرث من كان أحق بميراثه في القرابة . فأما طعنه على من تأول الخبر بأنه ع لا يورث ما تركه للصدقة بقوله إن أحدا من الصحابة لم يتأوله على هذا الوجه فهذا التأويل الذي ذكرناه أحد ما قاله أصحابنا في هذا الخبر فمن أين له إجماع الصحابة على خلافه وإن أحدا لم يتأوله على هذا الوجه . فإن قال لو كان ذلك لظهر واشتهر ولوقف أبو بكر عليه فقد مضى من الكلام فيما يمنع من الموافقة على هذا المعنى ما فيه كفاية . قلت لم يكن ذلك اليوم أعني يوم حضور فاطمة ع وقولها لأبي بكر ما قالت يوم تقية وخوف وكيف يكون يوم تقية وهي تقول له وهو الخليفة يا ابن أبي قحافة أ ترث أباك ولا أرث أبي وتقول له أيضا لقد جئت شيئا فريا فكان ينبغي إذا لم يؤثر أمير المؤمنين ع أن يفسر لأبي بكر معنى الخبر أن يعلم فاطمة ع
[ 259 ](1/4660)
تفسيره فتقول لأبي بكر أنت غالط فيما ظننت إنما قال أبي ما تركناه صدقة فإنه لا يورث . واعلم أن هذا التأويل كاد يكون مدفوعا بالضرورة لأن من نظر في الأحاديث التي ذكرناها وما جرت عليه الحال يعلم بطلانه علما قطعيا . قال المرتضى وقوله إنه لا يكون إذ ذلك تخصيص للأنبياء ولا مزية ليس بصحيح وقد قيل في الجواب عن هذا إن النبي ص يجوز أن يريد أن ما ننوي فيه الصدقة ونفرده لها من غير أن نخرجه عن أيدينا لا تناله ورثتنا وهذا تخصيص للأنبياء ومزية ظاهرة . قلت هذه مخالفة لظاهر الكلام وإحالة اللفظ عن وضعه وبين قوله ما ننوي فيه الصدقة وهو بعد في ملكنا ليس بموروث وقوله ما نخلفه صدقة ليس بموروث فرق عظيم فلا يجوز أن يراد أحد المعنيين باللفظ المفيد للمعنى الآخر لأنه إلباس وتعمية وأيضا فإن العلماء ذكروا خصائص الرسول في الشرعيات عن أمته وعددوها نحو حل الزيادة في النكاح على أربع ونحو النكاح بلفظ الهبة على قول فرقة من المسلمين ونحو تحريم أكل البصل والثوم عليه وإباحة شرب دمه وغير ذلك ولم يذكروا في خصائصه أنه إذا كان قد نوى أن يتصدق بشي ء فإنه لا يناله ورثته لو قدرنا أنه يورث الأموال ولا الشيعة قبل المرتضى ذكرت ذلك ولا رأينا في كتاب من كتبهم وهو مسبوق بإجماع طائفته عليه وإجماعهم عندهم حجة . قال المرتضى فأما قوله إن قوله ع ما تركناه صدقة جملة من الكلام
[ 260 ](1/4661)
مستقلة بنفسها فصحيح إذا كانت لفظة ما مرفوعة على الابتداء ولم تكن منصوبة بوقوع الفعل عليها وكانت لفظة صدقة أيضا مرفوعة غير منصوبة وفي هذا وقع النزاع فكيف يدعى أنها جملة مستقلة بنفسها وأقوى ما يمكن أن نذكره أن نقول الرواية جاءت بلفظ صدقة بالرفع وعلى ما تأولتموه لا تكون إلا منصوبة والجواب عن ذلك إنا لا نسلم الرواية بالرفع ولم تجر عادة الرواة بضبط ما جرى هذا المجرى من الإعراب والاشتباه يقع في مثله فمن حقق منهم وصرح بالرواية بالرفع يجوز أن يكون اشتبه عليه فظنها مرفوعة وهي منصوبة قلت وهذا أيضا خلاف الظاهر وفتح الباب فيه يؤدي إلى إفساد الاحتجاج بكثير من الأخبار . قال وأما حكايته عن أبي علي أن أبا بكر لم يدفع إلى أمير المؤمنين ع السيف والبغلة والعمامة على جهة الإرث وقوله كيف يجوز ذلك مع الخبر الذي رواه وكيف خصصه بذلك دون العم الذي هو العصبة فما نراه زاد على التعجب ومما عجب منه عجبنا ولم يثبت عصمة أبي بكر فينتفي عن أفعاله التناقض . قلت لا يشك أحد في أن أبا بكر كان عاقلا وإن شك قوم في ذلك فالعاقل في يوم واحد لا يدفع فاطمة ع عن الإرث ويقول إن أباك قال لي إنني لا أورث ثم يورث في ذلك اليوم شخصا آخر من مال ذلك المتوفى الذي حكى عنه أنه لا يورث وليس انتفاء هذا التناقض عن أفعاله موقوفا على العصمة بل على العقل .
[ 261 ](1/4662)
قال المرتضى وقوله يجوز أن يكون النبي ص نحله إياه وتركه أبو بكر في يده لما في ذلك من تقوية الدين وتصدق ببدله وكل ما ذكره جائز إلا أنه قد كان يجب أن يظهر أسباب النحلة والشهادة بها والحجة عليها ولم يظهر من ذلك شي ء فنعرفه ومن العجائب أن تدعي فاطمة فدك نحلة وتستشهد على قولها أمير المؤمنين ع وغيره فلا يصغى إلى قولها ويترك السيف والبغلة والعمامة في يد أمير المؤمنين على سبيل النحلة بغير بينة ظهرت ولا شهادة قامت . قلت لعل أبا بكر سمع الرسول ص وهو ينحل ذلك عليا ع فلذلك لم يحتج إلى البينة والشهادة فقد روى أنه أعطاه خاتمه وسيفه في مرضه وأبو بكر حاضر وأما البغلة فقد كان نحله إياها في حجة الوداع على ما وردت به الرواية وأما العمامة فسلب الميت وكذلك القميص والحجزة والحذاء فالعادة أن يأخذ ذلك ولد الميت ولا ينازع فيه لأنه خارج أو كالخارج عن التركة فلما غسل ع أخذت ابنته ثيابه التي مات فيها وهذه عادة الناس على أنا قد ذكرنا في الفصل الأول كيف دفع إليه آلة النبي ص وحذاءه ودابته والظاهر أنه فعل ذلك اجتهادا لمصلحة رآها وللإمام أن يفعل ذلك . قال المرتضى على أنه كان يجب على أبي بكر أن يبين ذلك ويذكر وجهه بعينه لما نازع العباس فيه فلا وقت لذكر الوجه في ذلك أولى من هذا الوقت . قلت لم ينازع العباس في أيام أبي بكر لا في البغلة والعمامة ونحوها ولا في غير
[ 262 ](1/4663)
ذلك وإنما نازع عليا في أيام عمر وقد ذكرنا كيفية المنازعة وفيما ذا كانت . قال المرتضى رضي الله عنه في البردة والقضيب إن كان نحلة أو على الوجه الآخر يجري مجرى ما ذكرناه في وجوب الظهور والاستشهاد ولسنا نرى أصحابنا يعني المعتزلة يطالبون أنفسهم في هذه المواضع بما يطالبوننا بمثله إذا ادعينا وجوها وأسبابا وعللا مجوزة لأنهم لا يقنعون منا بما يجوز ويمكن بل يوجبون فيما ندعيه الظهور والاستشهاد وإذا كان هذا عليهم نسوه أو تناسوه . قلت أما القضيب فهو السيف الذي نحله رسول الله ص عليا ع في مرضه وليس بذي الفقار بل هو سيف آخر وأما البردة فإنه وهبها كعب بن زهير ثم صار هذا السيف وهذه البردة إلى الخلفاء بعد تنقلات كثيرة مذكورة في كتب التواريخ . قال المرتضى فأما قوله فإن أزواج النبي ص إنما طلبن الميراث لأنهن لم يعرفن رواية أبي بكر للخبر وكذلك إنما نازع علي ع بعد موت فاطمة ع في الميراث لهذا الوجه فمن أقبح ما يقال في هذا الباب وأبعده عن الصواب وكيف لا يعرف أمير المؤمنين ع رواية أبي بكر وبها دفعت زوجته عن الميراث وهل مثل ذلك المقام الذي قامته وما رواه أبو بكر في دفعها يخفى على من هو في أقاصي البلاد فضلا عمن هو في المدينة حاضر شاهد يراعي الأخبار ويعني بها إن هذا لخروج في المكابرة عن الحد وكيف يخفى على الأزواج ذلك حتى يطلبنه مرة بعد أخرى ويكون عثمان الرسول لهن والمطالب عنهن وعثمان على زعمهم أحد من شهد
[ 263 ](1/4664)
أن النبي ص لا يورث وقد سمعن على كل حال أن بنت النبي ص لم تورث ماله ولا بد أن يكن قد سألن عن السبب في دفعها فذكر لهن الخبر فكيف يقال إنهن لم يعرفنه . قلت الصحيح أن أمير المؤمنين ع لم ينازع بعد موت فاطمة في الميراث وإنما نازع في الولاية لفدك وغيرها من صدقات رسول الله ص وجرى بينه وبين العباس في ذلك ما هو مشهور وأما أزواج النبي ص فما ثبت أنهن نازعن في ميراثه ولا أن عثمان كان المرسل لهن والمطالب عنهن إلا في رواية شاذة والأزواج لما عرفن أن فاطمة ع قد دفعت عن الميراث أمسكن ولم يكن قد نازعن وإنما اكتفين بغيرهن وحديث فدك وحضور فاطمة عند أبي بكر كان بعد عشرة أيام من وفاة رسول الله ص والصحيح أنه لم ينطق أحد بعد ذلك من الناس من ذكر أو أنثى بعد عود فاطمة ع من ذلك المجلس بكلمة واحدة في الميراث . قال المرتضى فإن قيل فإذا كان أبو بكر قد حكم بالخطإ في دفع فاطمة ع عن الميراث واحتج بخبر لا حجة فيه فما بال الأمة أقرته على هذا الحكم ولم تنكر عليه وفي رضاها وإمساكها دليل على صوابه . قلت قد مضى أن ترك النكير لا يكون دليل الرضا إلا في هذا الموضع الذي لا يكون له وجه سوى الرضا وذكرنا في ذلك قولا شافيا وقد أجاب أبو عثمان الجاحظ في كتاب العباسية عن هذا السؤال جوابا حسن المعنى واللفظ نحن
[ 264 ](1/4665)
نذكره على وجهه ليقابل بينه وبين كلامه في العثمانية وغيرها . قلت ما كناه المرتضى رحمه الله في غير هذا الموضع أصلا بل كان ساخطا عليه وكناه في هذا الموضع واستجاد قوله لأنه موافق غرضه فسبحان الله ما أشد حب الناس لعقائدهم . قال قال أبو عثمان وقد زعم أناس أن الدليل على صدق خبرهما يعني أبا بكر وعمر في منع الميراث وبراءة ساحتهما ترك أصحاب رسول الله ص النكير عليهما ثم قال قد يقال لهم لئن كان ترك النكير دليلا على صدقهما ليكونن ترك النكير على المتظلمين والمحتجين عليهما والمطالبين لهما دليلا على صدق دعواهم أو استحسان مقالتهم ولا سيما وقد طالت المناجاة وكثرت المراجعة والملاحاة وظهرت الشكية واشتدت الموجدة وقد بلغ ذلك من فاطمة ع حتى إنها أوصت ألا يصلي عليها أبو بكر ولقد كانت قالت له حين أتته طالبة بحقها ومحتجة لرهطها من يرثك يا أبا بكر إذا مت قال أهلي وولدي قالت فما بالنا لا نرث النبي ص فلما منعها ميراثها وبخسها حقها واعتل عليها وجلح في أمرها وعاينت التهضم وأيست من التورع ووجدت نشوة الضعف وقلة الناصر قالت والله لأدعون الله عليك قال والله لأدعون الله لك قالت والله لا أكلمك أبدا قال والله لا أهجرك أبدا فإن يكن ترك النكير على أبي بكر دليلا على صواب منعها إن في ترك النكير على فاطمة ع دليلا على صواب طلبها وأدنى ما كان يجب عليهم في ذلك تعريفها ما جهلت وتذكيرها ما نسيت وصرفها عن الخطإ ورفع قدرها عن البذاء وأن تقول هجرا أو تجور عادلا أو تقطع واصلا فإذا لم تجدهم أنكروا على الخصمين جميعا فقد تكافأت
[ 265 ](1/4666)
الأمور واستوت الأسباب والرجوع إلى أصل حكم الله من المواريث أولى بنا وبكم وأوجب علينا وعليكم . قال فإن قالوا كيف تظن به ظلمها والتعدي عليها وكلما ازدادت عليه غلظة ازداد لها لينا ورقة حيث تقول له والله لا أكلمك أبدا فيقول والله لا أهجرك أبدا ثم تقول والله لأدعون الله عليك فيقول والله لأدعون الله لك ثم يحتمل منها هذا الكلام الغليظ والقول الشديد في دار الخلافة وبحضرة قريش والصحابة مع حاجة الخلافة إلى البهاء والتنزيه وما يجب لها من الرفعة والهيبة ثم لم يمنعه ذلك أن قال معتذرا متقربا كلام المعظم لحقها المكبر لمقامها والصائن لوجهها المتحنن عليها ما أحد أعز علي منك فقرا ولا أحب إلي منك غنى ولكني سمعت رسول الله ص يقول إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة قيل لهم ليس ذلك بدليل على البراءة من الظلم والسلامة من الجور وقد يبلغ من مكر الظالم ودهاء الماكر إذا كان أريبا وللخصومة معتادا أن يظهر كلام المظلوم وذلة المنتصف وحدب الوامق ومقة المحق وكيف جعلتم ترك النكير حجة قاطعة ودلالة واضحة وقد زعمتم أن عمر قال على منبره متعتان كانتا على عهد رسول الله ص متعة النساء ومتعة الحج أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما فما وجدتم أحدا أنكر قوله ولا استشنع مخرج نهيه ولا خطأه في معناه ولا تعجب منه ولا استفهمه وكيف تقضون بترك النكير وقد شهد عمر يوم السقيفة وبعد ذلك
أن النبي ص قال الأئمة من قريش ثم قال في شكاته لو كان سالم حيا ما تخالجني فيه شك حين أظهر الشك في استحقاق كل واحد من الستة الذين
[ 266 ](1/4667)
جعلهم شورى وسالم عبد لامرأة من الأنصار وهي أعتقته وحازت ميراثه ثم لم ينكر ذلك من قوله منكر ولا قابل إنسان بين قوله ولا تعجب منه وإنما يكون ترك النكير على من لا رغبة ولا رهبة عنده دليلا على صدق قوله وصواب عمله فأما ترك النكير على من يملك الضعة والرفعة والأمر والنهي والقتل والاستحياء والحبس والإطلاق فليس بحجة تشفي ولا دلالة تضي ء . قال وقال آخرون بل الدليل على صدق قولهما وصواب عملهما إمساك الصحابة عن خلعهما والخروج عليهما وهم الذين وثبوا على عثمان في أيسر من جحد التنزيل ورد النصوص ولو كان كما تقولون وما تصفون ما كان سبيل الأمة فيهما إلا كسبيلهم فيه وعثمان كان أعز نفرا وأشرف رهطا وأكثر عددا وثروة وأقوى عدة . قلنا إنهما لم يجحدا التنزيل ولم ينكرا النصوص ولكنهما بعد إقرارهما بحكم الميراث وما عليه الظاهر من الشريعة ادعيا رواية وتحدثا بحديث لم يكن محالا كونه ولا ممتنعا في حجج العقول مجيئه وشهد لهما عليه من علته مثل علتهما فيه ولعل بعضهم كان يرى تصديق الرجل إذا كان عدلا في رهطه مأمونا في ظاهره ولم يكن قبل ذلك عرفه بفجرة ولا جرت عليه غدرة فيكون تصديقه له على جهة حسن الظن وتعديل الشاهد ولأنه لم يكن كثير منهم يعرف حقائق الحجج والذي يقطع بشهادته على الغيب وكان ذلك شبهة على أكثرهم فلذلك قل النكير وتواكل الناس فاشتبه الأمر فصار لا يتخلص إلى معرفة حق ذلك من باطله إلا العالم المتقدم أو المؤيد المرشد ولأنه لم يكن لعثمان في صدور العوام وقلوب السفلة والطغام ما كان لهما من المحبة والهيبة ولأنهما كانا أقل استئثارا بالفي ء وتفضلا بمال الله منه ومن شأن الناس إهمال السلطان ما وفر عليهم أموالهم ولم يستأثر بخراجهم ولم يعطل ثغورهم ولأن الذي صنع أبو بكر
[ 267 ](1/4668)
من منع العترة حقها والعمومة ميراثها قد كان موافقا لجلة قريش وكبراء العرب ولأن عثمان أيضا كان مضعوفا في نفسه مستخفا بقدره لا يمنع ضيما ولا يقمع عدوا ولقد وثب ناس على عثمان بالشتم والقذف والتشنيع والنكير لأمور لو أتى أضعافها وبلغ أقصاها لما اجترءوا على اغتيابه فضلا على مبادأته والإغراء به ومواجهته كما أغلظ عيينة بن حصن له فقال له أما إنه لو كان عمر لقمعك ومنعك فقال عيينة إن عمر كان خيرا لي منك أرهبني فاتقاني . ثم قال والعجب أنا وجدنا جميع من خالفنا في الميراث على اختلافهم في التشبيه والقدر والوعيد يرد كل صنف منهم من أحاديث مخالفيه وخصومه ما هو أقرب إسنادا وأصح رجالا وأحسن اتصالا حتى إذا صاروا إلى القول في ميراث النبي ص نسخوا الكتاب وخصوا الخبر العام بما لا يداني بعض ما ردوه وأكذبوا قائليه وذلك أن كل إنسان منهم إنما يجري إلى هواه ويصدق ما وافق رضاه . هذا آخر كلام الجاحظ ثم قال المرتضى رضي الله عنه فإن قيل ليس ما عارض به الجاحظ من الاستدلال بترك النكير وقوله كما لم ينكروا على أبي بكر فلم ينكروا أيضا على فاطمة ع ولا على غيرها من الطالبين بالإرث كالأزواج وغيرهن معارضة صحيحة وذلك أن نكير أبي بكر لذلك ودفعها والاحتجاج عليها ويكفيهم ويغنيهم عن تكلف نكير آخر ولم ينكر على أبي بكر ما رواه منكر فيستغنوا بإنكاره . قلنا أول ما يبطل هذا السؤال أن أبا بكر لم ينكر عليها ما أقامت عليه بعد
[ 268 ]
احتجاجها من التظلم والتألم والتعنيف والتبكيت وقولها على ما روي والله لأدعون الله عليك ولا أكلمك أبدا وما جرى هذا المجرى فقد كان يجب أن ينكره غيره ومن المنكر الغضب على المنصف وبعد فإن كان إنكار أبي بكر مقنعا ومغنيا عن إنكار غيره من المسلمين فإنكار فاطمة حكمه ومقامها على التظلم منه مغن عن نكير غيرها وهذا واضح(1/4669)
الفصل الثالث في أن فدك هل صح كونها نحلة رسول الله ص لفاطمة ع أم لا
نذكر في هذا الفصل ما حكاه المرتضى عن قاضي القضاة في المغني وما اعترض به عليه ثم نذكر ما عندنا في ذلك . قال المرتضى حاكيا عن قاضي القضاة ومما عظمت الشيعة القول في أمر فدك قالوا وقد روى أبو سعيد الخدري أنه لما أنزلت وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ أعطى رسول الله ص فاطمة ع فدك ثم فعل عمر بن عبد العزيز مثل ذلك فردها على ولدها قالوا ولا شك أن أبا بكر أغضبها إن لم يصح كل الذي روي في هذا الباب وقد كان الأجمل أن يمنعهم التكرم مما ارتكبوا منها فضلا عن الدين ثم ذكروا أنها استشهدت أمير المؤمنين ع وأم أيمن فلم يقبل شهادتهما هذا مع تركه أزواج النبي ص في حجرهن ولم يجعلها صدقة وصدقهن في ذلك أن ذلك لهن ولم يصدقها .
[ 269 ](1/4670)
قال والجواب عن ذلك أن أكثر ما يروون في هذا الباب غير صحيح ولسنا ننكر صحة ما روي من ادعائها فدك فأما أنها كانت في يدها فغير مسلم بل إن كانت في يدها لكان الظاهر أنها لها فإذا كانت في جملة التركة فالظاهر أنها ميراث وإذا كان كذلك فغير جائز لأبي بكر قبول دعواها لأنه لا خلاف في أن العمل على الدعوى لا يجوز وإنما يعمل على مثل ذلك إذا علمت صحته بمشاهدة أو ما جرى مجراها أو حصلت بينة أو إقرار ثم إن البينة لا بد منها وإن أمير المؤمنين ع لما خاصمه اليهودي حاكمه وأن أم سلمة التي يطبق على فضلها لو ادعت نحلا ما قبلت دعواها . ثم قال ولو كان أمير المؤمنين ع هو الوالي ولم يعلم صحة هذه الدعوى ما الذي كان يجب أن يعمل فإن قلتم يقبل الدعوى فالشرع بخلاف ذلك وإن قلتم يلتمس البينة فهو الذي فعله أبو بكر . ثم قال وأما قول أبي بكر رجل مع الرجل وامرأة مع المرأة فهو الذي يوجبه الدين ولم يثبت أن الشاهد في ذلك كان أمير المؤمنين ع بل الرواية المنقولة أنه شهد لها مولى لرسول الله ص مع أم أيمن . قال وليس لأحد أن يقول فلما ذا ادعت ولا بينة معها لأنه لا يمتنع أن تجوز أن يحكم أبو بكر بالشاهد واليمين أو تجوز عند شهادة من شهد لها أن تذكر غيره فيشهد لا وهذا هو الموجب على ملتمس الحق ولا عيب عليها في ذلك ولا على أبي بكر في التماس البينة وإن لم يحكم لها لما لم يتم ولم يكن لها خصم لأن التركة صدقة على ما ذكرنا وكان لا يمكن أن يعول في ذلك على يمين أو نكول ولم يكن في الأمر إلا ما فعله قال وقد أنكر أبو علي ما قاله السائل من أنها لما ردت في دعوى النحلة ادعته إرثا وقال بل كان طلبت الإرث قبل ذلك فلما سمعت منه الخبر كفت وادعت النحلة .
[ 270 ](1/4671)
قال فأما فعل عمر بن عبد العزيز فلم يثبت أنه رده على سبيل النحلة بل عمل في ذلك ما عمله عمر بن الخطاب بأن أقره في يد أمير المؤمنين ع ليصرف غلاتها في المواضع التي كان يجعلها رسول الله ص فيه فقام بذلك مدة ثم ردها إلى عمر في آخر سنته وكذلك فعل عمر بن عبد العزيز ولو ثبت أنه فعل بخلاف ما فعل السلف لكان هو المحجوج بفعلهم وقولهم وأحد ما يقوي ما ذكرناه أن الأمر لما انتهى إلى أمير المؤمنين ع ترك فدك على ما كان ولم يجعله ميراثا لولد فاطمة وهذا يبين أن الشاهد كان غيره لأنه لو كان هو الشاهد لكان الأقرب أن يحكم بعلمه على أن الناس اختلفوا في الهبة إذا لم تقبض فعند بعضهم تستحق بالعقد وعند بعضهم أنها إذا لم تقبض يصير وجودها كعدمها فلا يمتنع من هذا الوجه أن يمتنع أمير المؤمنين ع من ردها وإن صح عنده عقد الهبة وهذا هو الظاهر لأن التسليم لو كان وقع لظهر أنه كان في يدها ولكان ذلك كافيا في الاستحقاق فأما حجر أزواج النبي ص فإنما تركت في أيديهن لأنها كانت لهن ونص الكتاب يشهد بذلك وقوله وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وروي في الأخبار أن النبي ص قسم ما كان له من الحجر على نسائه وبناته ويبين صحة ذلك أنه لو كان ميراثا أو صدقة لكان أمير المؤمنين ع لما أفضى الأمر إليه يغيره . قال وليس لأحد أن يقول إنما لم يغير ذلك لأن الملك قد صار له فتبرع به وذلك أن الذي يحصل له ليس إلا ربع ميراث فاطمة ع وهو الثمن من ميراث رسول الله ص فقد كان يجب أن ينتصف لأولاد العباس وأولاد فاطمة منهن في باب الحجر ويأخذ هذا الحق منهن فتركه ذلك يدل على صحة ما قلناه وليس يمكنهم بعد ذلك إلا التعلق بالتقية وقد سبق الكلام فيها .
[ 271 ](1/4672)
قال ومما يذكرونه أن فاطمة ع لغضبها على أبي بكر وعمر أوصت ألا يصليا عليها وأن تدفن سرا منهما فدفنت ليلا وهذا كما ادعوا رواية رووها عن جعفر بن محمد ع وغيره أن عمر ضرب فاطمة ع بالسوط وضرب الزبير بالسيف وأن عمر قصد منزلها وفيه علي ع والزبير والمقداد وجماعة ممن تخلف عن أبي بكر وهم مجتمعون هناك فقال لها ما أحد بعد أبيك أحب إلينا منك وايم الله لئن اجتمع هؤلاء النفر عندك لنحرقن عليهم فمنعت القوم من الاجتماع . قال ونحن لا نصدق هذه الروايات ولا نجوزها وأما أمر الصلاة فقد روي أن أبا بكر هو الذي صلى على فاطمة ع وكبر عليها أربعا وهذا أحد ما استدل به كثير من الفقهاء في التكبير على الميت ولا يصح أيضا أنها دفنت ليلا وإن صح ذلك فقد دفن رسول الله ص ليلا ودفن عمر ابنه ليلا وقد كان أصحاب رسول الله ص يدفنون بالنهار ويدفنون بالليل فما في هذا مما يطعن به بل الأقرب في النساء أن دفنهن ليلا أستر وأولى بالسنة . ثم حكى عن أبي علي تكذيب ما روي من الضرب بالسوط قال والمروي عن جعفر بن محمد ع أنه كان يتولاهما ويأتي القبر فيسلم عليهما مع تسليمه على رسول الله ص روى ذلك عباد بن صهيب وشعبة بن الحجاج ومهدي بن هلال والدراوردي وغيرهم وقد روى عن أبيه محمد بن علي ع وعن علي بن الحسين مثل ذلك فكيف يصح ما ادعوه وهل هذه الرواية إلا كروايتهم على أن علي بن أبي طالب ع هو إسرافيل والحسن ميكائيل والحسين جبرائيل وفاطمة ملك الموت وآمنة أم النبي ص ليلة القدر فإن صدقوا ذلك أيضا قيل لهم فعمر بن الخطاب كيف يقدر على ضرب ملك الموت وإن قالوا لا نصدق ذلك فقد جوزوا رد هذه الروايات وصح أنه لا يجوز التعويل على هذا الخبر
[ 272 ]
و إنما يتعلق بذلك من غرضه الإلحاد كالوراق وابن الراوندي لأن غرضهم القدح في الإسلام . وحكى عن أبي علي أنه قال ولم صار غضبها إن ثبت كأنه غضب رسول الله ص من حيث(1/4673)
قال فمن أغضبها فقد أغضبني أولى من أن يقال فمن أغضب أبا بكر وعمر فقد نافق وفارق الدين لأنه روي عنه ع
قال حب أبي بكر وعمر إيمان وبغضهما نفاق ومن يورد مثل هذا فقصده الطعن في الإسلام وأن يتوهم الناس أن أصحاب النبي ص نافقوا مع مشاهدة الأعلام ليضعفوا دلالة العلم في النفوس . قال وأما حديث الإحراق فلو صح لم يكن طعنا على عمر لأن له أن يهدد من امتنع من المبايعة إرادة للخلاف على المسلمين لكنه غير ثابت انتهى كلام قاضي القضاة . قال المرتضى نحن نبتدئ فندل على أن فاطمة ع ما ادعت من نحل فدك إلا ما كانت مصيبة فيه وإن مانعها ومطالبها بالبينة متعنت عادل عن الصواب لأنها لا تحتاج إلى شهادة وبينة ثم نعطف على ما ذكره على التفصيل فنتكلم عليه . أما الذي يدل على ما ذكرناه فهو أنها كانت معصومة من الغلط مأمونا منها فعل القبيح ومن هذه صفته لا يحتاج فيما يدعيه إلى شهادة وبينة فإن قيل دللوا على الأمرين قلنا بيان الأول قوله تعالى إِنَّما يُرِيدُ اَللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً والآية تتناول جماعة منهم فاطمة
[ 273 ]
ع بما تواترت الأخبار في ذلك والإرادة هاهنا دلالة على وقوع الفعل للمراد وأيضا فيدل على ذلك(1/4674)
قوله ع فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله عز وجل وهذا يدل على عصمتها لأنها لو كانت ممن تقارف الذنوب لم يكن من يؤذيها مؤذيا له على كل حال بل كان متى فعل المستحق من ذمها أو إقامة الحد عليها إن كان الفعل يقتضيه سارا له ومطيعا على أنا لا نحتاج أن ننبه هذا الموضع على الدلالة على عصمتها بل يكفي في هذا الموضع العلم بصدقها فيما ادعته وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين لأن أحدا لا يشك أنها لم تدع ما ادعته كاذبة وليس بعد ألا تكون كاذبة إلا أن تكون صادقة وإنما اختلفوا في هل يجب مع العلم بصدقها تسلم ما ادعته بغير بينة أم لا يجب ذلك قال الذي يدل على الفصل الثاني أن البينة إنما تراد ليغلب في الظن صدق المدعي أ لا ترى أن العدالة معتبرة في الشهادات لما كانت مؤثرة في غلبة الظن لما ذكرناه ولهذا جاز أن يحكم الحاكم بعلمه من غير شهادة لأن علمه أقوى من الشهادة ولهذا كان الإقرار أقوى من البينة من حيث كان أغلب في تأثير غلبة الظن وإذا قدم الإقرار على الشهادة لقوة الظن عنده فأولى أن يقدم العلم على الجميع وإذا لم يحتج مع الإقرار إلى شهادة لسقوط حكم الضعيف مع القوي لا يحتاج أيضا مع العلم إلى ما يؤثر الظن من البينات والشهادات . والذي يدل على صحة ما ذكرناه أيضا أنه لا خلاف بين أهل النقل في أن أعرابيا نازع النبي ص في ناقة فقال ع هذه لي وقد خرجت إليك من ثمنها فقال الأعرابي من يشهد لك بذلك فقال خزيمة بن ثابت أنا أشهد بذلك فقال النبي ص من أين علمت وما حضرت ذلك قال لا ولكن علمت ذلك من حيث علمت أنك رسول الله فقال قد أجزت شهادتك وجعلتها شهادتين فسمي ذا الشهادتين .
[ 274 ](1/4675)
و هذه القصة شبيهة لقصة فاطمة ع لأن خزيمة اكتفى في العلم بأن الناقة له ص وشهد بذلك من حيث علم لأنه رسول الله ص ولا يقول إلا حقا وأمضى النبي ص ذلك له من حيث لم يحضر الابتياع وتسليم الثمن فقد كان يجب على من علم أن فاطمة ع لا تقول إلا حقا ألا يستظهر عليها بطلب شهادة أو بينة هذا وقد روي أن أبا بكر لما شهد أمير المؤمنين ع كتب بتسليم فدك إليها فاعترض عمر قضيته وخرق ما كتبه .
روى إبراهيم بن السعيد الثقفي عن إبراهيم بن ميمون قال حدثنا عيسى بن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب ع عن أبيه عن جده عن علي ع قال جاءت فاطمة ع إلى أبي بكر وقالت إن أبي أعطاني فدك وعلي وأم أيمن يشهدان فقال ما كنت لتقولي على أبيك إلا الحق قد أعطيتكها ودعا بصحيفة من أدم فكتب لها فيها فخرجت فلقيت عمر فقال من أين جئت يا فاطمة قالت جئت من عند أبي بكر أخبرته أن رسول الله ص أعطاني فدك وأن عليا وأم أيمن يشهدان لي بذلك فأعطانيها وكتب لي بها فأخذ عمر منها الكتاب ثم رجع إلى أبي بكر فقال أعطيت فاطمة فدك وكتبت بها لها قال نعم فقال إن عليا يجر إلى نفسه وأم أيمن امرأة وبصق في الكتاب فمحاه وخرقه . وقد روي هذا المعنى من طرق مختلفة على وجوه مختلفة فمن أراد الوقوف عليها واستقصاءها أخذها من مواضعها . وليس لهم أن يقولوا إنها أخبار آحاد لأنها وإن كانت كذلك فأقل أحوالها أن توجب الظن وتمنع من القطع على خلاف معناها وليس لهم أن يقولوا كيف يسلم إليها
[ 275 ](1/4676)
فدك وهو يروي عن الرسول أن ما خلفه صدقة وذلك لأنه لا تنافي بين الأمرين لأنه إنما سلمها على ما وردت به الرواية على سبيل النحل فلما وقعت المطالبة بالميراث روى الخبر في معنى الميراث فلا اختلاف بين الأمرين . فأما إنكار صاحب الكتاب لكون فدك في يدها فما رأيناه اعتمد في إنكار ذلك على حجة بل قال لو كان ذلك في يدها لكان الظاهر أنها لها والأمر على ما قال فمن أين أنه لم يخرج عن يدها على وجه يقتضي الظاهر خلافه وقد روي من طرق مختلفة غير طريق أبي سعيد الذي ذكره صاحب الكتاب أنه لما نزل قوله تعالى وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ دعا النبي ص فاطمة ع فأعطاها فدك وإذا كان ذلك مرويا فلا معنى لدفعه بغير حجة . وقوله لا خلاف أن العمل على الدعوى لا يجوز صحيح وقد بينا أن قولها كان معلوما صحته وإنما قوله إنما يعمل على ذلك متى علم صحته بشهادة أو ما يجري مجراها أو حصلت بينة أو إقرار فيقال له إما علمت بمشاهدة فلم يكن هناك وإما بينة فقد كانت على الحقيقة لأن شهادة أمير المؤمنين ع من أكبر البينات وأعدلها ولكن على مذهبك أنه لم تكن هناك بينة فمن أين زعمت أنه لم يكن هناك علم وإن لم يكن عن مشاهدة فقد أدخلت ذلك في جملة الأقسام . فإن قال لأن قولها بمجرده لا يكون جهة للعلم قيل له لم قلت ذلك أو ليس قد دللنا على أنها معصومة وأن الخطأ مأمون عليها ثم لو لم يكن كذلك لكان قولها في تلك القضية معلوما صحته على كل حال لأنها لو لم تكن مصيبة لكانت مبطلة عاصية فيما ادعته إذ الشبهة لا تدخل في مثله وقد أجمعت الأمة على أنها لم يظهر منها بعد
[ 276 ](1/4677)
رسول الله ص معصية بلا شك وارتياب بل أجمعوا على أنها لم تدع إلا الصحيح وإن اختلفوا فمن قائل يقول مانعها مخطئ وآخر يقول هو أيضا مصيب لفقد البينة وإن علم صدقها . وأما قوله إنه لو حاكم غيره لطولب بالبينة فقد تقدم في هذا المعنى ما يكفي وقصة خزيمة بن ثابت وقبول شهادته تبطل هذا الكلام . وأما قوله إن أمير المؤمنين ع حاكم يهوديا على الوجه الواجب في سائر الناس فقد روي ذلك إلا أن أمير المؤمنين لم يفعل من ذلك ما كان يجب عليه أن يفعله وإنما تبرع به واستظهر بإقامة الحجة فيه وقد أخطأ من طالبه ببينة كائنا من كان فأما اعتراضه بأم سلمة فلم يثبت من عصمتها ما ثبت من عصمة فاطمة ع فلذلك احتاجت في دعواها إلى بينة فأما إنكاره وادعاؤه أنه لم يثبت أن الشاهد في ذلك كان أمير المؤمنين فلم يزد في ذلك إلا مجرد الدعوى والإنكار والأخبار مستفيضة بأنه ع شهد لها فدفع ذلك بالزيغ لا يغني شيئا وقوله إن الشاهد لها مولى لرسول الله ص هو المنكر الذي ليس بمعروف . وأما قوله إنها جوزت أن يحكم أبو بكر بالشاهد واليمين فطريف مع قوله فيما بعد إن التركة صدقة ولا خصم فيها فتدخل اليمين في مثلها أ فترى أن فاطمة لم تكن تعلم من الشريعة هذا المقدار الذي نبه صاحب الكتاب عليه ولو لم تعلمه ما كان أمير المؤمنين ع وهو أعلم الناس بالشريعة يوافقها عليه . وقوله إنها جوزت عند شهادة من شهد لها أن يتذكر غيرهم فيشهد باطل لأن مثلها لا يتعرض للظنة والتهمة ويعرض قوله للرد وقد كان يجب أن تعلم من يشهد لها
[ 277 ](1/4678)
ممن لا يشهد حتى تكون دعواها على الوجه الذي يجب معه القبول والإمضاء ومن هو دونها في الرتبة والجلالة والصيانة من أفناء الناس لا يتعرض لمثل هذه الخطة ويتورطها للتجويز الذي لا أصل له ولا أمارة عليه . فأما إنكار أبي علي لأن يكون النحل قبل ادعاء الميراث وعكسه الأمر فيه فأول ما فيه أنا لا نعرف له غرضا صحيحا في إنكار ذلك لأن كون أحد الأمرين قبل الآخر لا يصحح له مذهبا فلا يفسد على مخالفه مذهبا . ثم إن الأمر في أن الكلام في النحل كان المتقدم ظاهرا والروايات كلها به واردة وكيف يجوز أن تبتدئ بطلب الميراث فيما تدعيه بعينه نحلا أ وليس هذا يوجب أن تكون قد طالبت بحقها من وجه لا تستحقه منه مع الاختيار وكيف يجوز ذلك والميراث يشركها فيه غيرها والنحل تنفرد به ولا ينقلب مثل ذلك علينا من حيث طالبت بالميراث بعد النحل لأنها في الابتداء طالبت بالنحل وهو الوجه الذي تستحق فدك منه فلما دفعت عنه طالبت ضرورة بالميراث لأن للمدفوع عن حقه أن يتوصل إلى تناوله بكل وجه وسبب وهذا بخلاف قول أبي علي لأنه أضاف إليها ادعاء الحق من وجه لا تستحقه منه وهي مختارة . وأما إنكاره أن يكون عمر بن عبد العزيز رد فدك على وجه النحل وادعاؤه أنه فعل في ذلك ما فعله عمر بن الخطاب من إقرارها في يد أمير المؤمنين ع ليصرف غلاتها في وجوهها فأول ما فيه أنا لا نحتج عليه بفعل عمر بن عبد العزيز على أي وجه وقع لأن فعله ليس بحجة ولو أردنا الاحتجاج بهذا الجنس من الحجج لذكرنا فعل المأمون فإنه رد فدك بعد أن جلس مجلسا مشهورا حكم فيه بين خصمين نصبهما أحدهما لفاطمة والآخر لأبي بكر وردها بعد قيام الحجة ووضوح الأمر
[ 278 ](1/4679)
و مع ذلك فإنه قد أنكر من فعل عمر بن عبد العزيز ما هو معروف مشهور بلا خلاف بين أهل النقل فيه وقد روى محمد بن زكريا الغلابي عن شيوخه عن أبي المقدام هشام بن زياد مولى آل عثمان قال لما ولي عمر بن عبد العزيز رد فدك على ولد فاطمة وكتب إلى واليه على المدينة أبي بكر بن عمرو بن حزم يأمره بذلك فكتب إليه إن فاطمة قد ولدت في آل عثمان وآل فلان وفلان فعلى من أرد منهم فكتب إليه أما بعد فإني لو كتبت إليك آمرك أن تذبح شاة لكتبت إلي أ جماء أم قرناء أو كتبت إليك أن تذبح بقرة لسألتني ما لونها فإذا ورد عليك كتابي هذا فاقسمها في ولد فاطمة ع من علي ع والسلام . قال أبو المقدام فنقمت بنو أمية ذلك على عمر بن عبد العزيز وعاتبوه فيه وقالوا له هجنت فعل الشيخين وخرج إليه عمر بن قيس في جماعة من أهل الكوفة فلما عاتبوه على فعله قال إنكم جهلتم وعلمت ونسيتم وذكرت إن أبا بكر محمد بن عمرو بن حزم حدثني عن أبيه عن جده
أن رسول الله ص قال فاطمة بضعة مني يسخطها ما يسخطني ويرضيني ما أرضاها وإن فدك كان صافية على عهد أبي بكر وعمر ثم صار أمرها إلى مروان فوهبها لعبد العزيز أبي فورثتها أنا وإخوتي عنه فسألتهم أن يبيعوني حصتهم منها فمن بائع وواهب حتى استجمعت لي فرأيت أن أردها على ولد فاطمة قالوا فإن أبيت إلا هذا فأمسك الأصل واقسم الغلة ففعل . وأما ما ذكره من ترك أمير المؤمنين ع فدك لما أفضى الأمر إليه واستدلاله بذلك على أنه لم يكن الشاهد فيها فالوجه في تركه ع رد فدك هو الوجه في إقراره
[ 279 ](1/4680)
أحكام القوم وكفه عن نقضها وتغييرها وقد بينا ذلك فيما سبق وذكرنا أنه كان في انتهاء الأمر إليه في بقية من التقية قوية . فأما استدلاله على أن حجر أزواج النبي ص كانت لهن بقوله تعالى وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ فمن عجيب الاستدلال لأن هذه الإضافة لا تقتضي الملك بل العادة جارية فيها أن تستعمل من جهة السكنى ولهذا يقال هذا بيت فلان ومسكنه ولا يراد بذلك الملك وقد قال تعالى لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ولا شبهة في أنه تعالى أراد منازل الرجال التي يسكنون فيها زوجاتهم ولم يرد بهذه الإضافة الملك . فأما ما رواه من أن رسول الله ص قسم حجره على نسائه وبناته فمن أين له إذا كان الخبر صحيحا أن هذه القسمة على وجه التمليك دون الإسكان والإنزال ولو كان قد ملكهن ذلك لوجب أن يكون ظاهرا مشهورا . فأما الوجه في ترك أمير المؤمنين لما صار الأمر إليه في يده منازعة الأزواج في هذه الحجر فهو ما تقدم وتكرر . وأما قوله إن أبا بكر هو الذي صلى على فاطمة وكبر أربعا وإن كثيرا من الفقهاء يستدلون به في التكبير على الميت وهو شي ء ما سمع إلا منه وإن كان تلقاه عن غيره فممن يجري مجراه في العصبية وإلا فالروايات المشهورة وكتب الآثار والسير خالية من ذلك ولم يختلف أهل النقل في أن عليا ع هو الذي صلى على فاطمة إلا رواية نادرة شاذة وردت بأن العباس رحمه الله صلى عليها . وروى الواقدي بإسناده في تاريخه عن الزهري قال سألت ابن عباس
[ 280 ](1/4681)
متى دفنتم فاطمة ع قال دفناها بليل بعد هدأة قال قلت فمن صلى عليها قال علي . وروى الطبري عن الحارث بن أبي أسامة عن المدائني عن أبي زكريا العجلاني أن فاطمة ع عمل لها نعش قبل وفاتها فنظرت إليه فقالت سترتموني ستركما الله . قال أبو جعفر محمد بن جرير والثبت في ذلك أنها زينب لأن فاطمة دفنت ليلا ولم يحضرها إلا علي والعباس والمقداد والزبير . وروى القاضي أبو بكر أحمد بن كامل بإسناده في تاريخه عن الزهري قال حدثني عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته أن فاطمة عاشت بعد رسول الله ص ستة أشهر فلما توفيت دفنها علي ليلا وصلى عليها وذكر في كتابه هذا أن عليا والحسن والحسين ع دفنوها ليلا وغيبوا قبرها . وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن عبيد عن الحسن بن محمد بن الحنفية أن فاطمة دفنت ليلا . وروى عبد الله بن أبي شيبة عن يحيى بن سعيد القطان عن معمر عن الزهري مثل ذلك . وقال البلاذري في تاريخه إن فاطمة ع لم تر متبسمة بعد وفاة النبي ص ولم يعلم أبو بكر وعمر بموتها . والأمر في هذا أوضح وأشهر من أن نطنب في الاستشهاد عليه ونذكر الروايات فيه
[ 281 ](1/4682)
فأما قوله ولا يصح أنها دفنت ليلا وإن صح فقد دفن فلان وفلان ليلا فقد بينا أن دفنها ليلا في الصحة أظهر من الشمس وأن منكر ذلك كالدافع للمشاهدات ولم يجعل دفنها ليلا بمجرده هو الحجة ليقال لقد دفن فلان وفلان ليلا بل يقع الاحتجاج بذلك على ما وردت به الروايات المستفيضة الظاهرة التي هي كالتواتر أنها أوصت بأن تدفن ليلا حتى لا يصلي الرجلان عليها وصرحت بذلك وعهدت فيه عهدا بعد أن كانا استأذنا عليها في مرضها ليعوداها فأبت أن تأذن لهما فلما طالت عليهما المدافعة رغبا إلى أمير المؤمنين ع في أن يستأذن لهما وجعلاها حاجة إليه وكلمها ع في ذلك وألح عليها فأذنت لهما في الدخول ثم أعرضت عنهما عند دخولهما ولم تكلمهما فلما خرجا قالت لأمير المؤمنين ع هل صنعت ما أردت قال نعم قالت فهل أنت صانع ما آمرك به قال نعم قالت فإني أنشدك الله ألا يصليا على جنازتي ولا يقوما على قبري . وروى أنه عفى قبرها وعلم عليه ورش أربعين قبرا في البقيع ولم يرش قبرها حتى لا يهتدى إليه وأنهما عاتباه على ترك إعلامهما بشأنها وإحضارهما الصلاة عليها فمن هاهنا احتججنا بالدفن ليلا ولو كان ليس غير الدفن بالليل من غير ما تقدم عليه وما تأخر عنه لم يكن فيه حجة . وأما حكايته عن أبي علي إنكار ضرب الرجل لها وقوله إن جعفر بن محمد وأباه وجده كانوا يتولونهما فكيف لا ينكر أبو علي ذلك واعتقاده فيهما اعتقاده وقد كنا نظن أن مخالفينا يقتنعون أن ينسبوا إلى أئمتنا الكف عن القوم والإمساك وما ظننا أنهم يحملون أنفسهم على أن ينسبوا إليهم الثناء والولاء
[ 282 ](1/4683)
و قد علم كل أحد أن أصحاب هؤلاء السادة المختصين بهم قد رووا عنهم ضد ما روى شعبة بن الحجاج وفلان وفلان وقولهم هما أول من ظلمنا حقنا وحمل الناس على رقابنا وقولهم أنهما أصفيا بإنائنا واضطجعا بسبلنا وجلسا مجلسا نحن أحق به منهما إلى غير ذلك من فنون التظلم والشكاية وهو طويل متسع ومن أراد استقصاء ذلك فلينظر في كتاب المعرفة لأبي إسحاق إبراهيم بن سعيد الثقفي فإنه قد ذكر عن رجل من أهل البيت بالأسانيد النيرة ما لا زيادة عليه ثم لو صح ما ذكره شعبة لجاز أن يحمل على التقية . وأما ذكره إسرافيل وميكائيل فما كنا نظن أن مثله يذكر ذلك وهذا من أقوال الغلاة الذين ضلوا في أمير المؤمنين ع وأهل البيت وليسوا من الشيعة ولا من المسلمين فأي عيب علينا فيما يقولونه ثم إن جماعة من مخالفينا قد غلوا في أبي بكر وعمر ورووا روايات مختلفة فيهما تجري مجرى ما ذكره في الشناعة ولا يلزم العقلاء وذوي الألباب من المخالفين عيب من ذلك . وأما معارضة ما روي في فاطمة ع بما روي في أن حبهما إيمان وبغضهما نفاق فالخبر الذي رويناه مجمع عليه والخبر الآخر مطعون فيه فكيف يعارض ذلك بهذا . وأما قوله إنما قصد من يورد هذه الأخبار تضعيف دلالة الأعلام في النفوس من حيث أضاف النفاق إلى من شاهدها فتشنيع في غير موضعه واستناد إلى ما لا يجدي نفعا لأن من شاهد الأعلام لا يضعفها ولا يوهن دليلها ولا يقدح في كونها حجة لأن الأعلام ليست ملجئة إلى العلم ولا موجبة لحصوله على كل حال وإنما تثمر العلم لمن أمعن النظر فيها من الوجه الذي تدل منه فمن عدل عن ذلك لسوء اختياره لا يكون
[ 283 ](1/4684)
عدوله مؤثرا في دلالتها فكم قد عدل من العقلاء وذوي الأحلام الراجحة والألباب الصحيحة عن تأمل هذه الأعلام وإصابة الحق منها ولم يكن ذلك عندنا وعند صاحب الكتاب قادحا في دلالة الأعلام على أن هذا القول يوجب أن ينفي الشك والنفاق عن كل من صحب النبي ص وعاصره وشاهد أعلامه كأبي سفيان وابنه وعمرو بن العاص وفلان وفلان ممن قد اشتهر نفاقهم وظهر شكهم في الدين وارتيابهم باتفاق بيننا وبينه وإن كانت إضافة النفاق إلى هؤلاء لا تقدح في دلالة الأعلام فكذلك القول في غيرهم . فأما قوله إن حديث الإحراق لم يصح ولو صح لساغ لعمر مثل ذلك فقد بينا أن خبر الإحراق قد رواه غير الشيعة . وقوله إنه يسوغ مثل ذلك فكيف يسوغ إحراق بيت علي وفاطمة ع وهل في ذلك عذر يصغى إليه أو يسمع وإنما يكون علي وأصحابه خارقين للإجماع ومخالفين للمسلمين لو كان الإجماع قد تقرر وثبت وليس بمتقرر ولا ثابت مع خلاف علي وحده فضلا عن أن يوافقه على ذلك غيره وبعد فلا فرق بين أن يهدد بالإحراق لهذه العلة وبين أن يضرب فاطمة ع لمثلها فإن إحراق المنازل أعظم من ضرب سوط أو سوطين فلا وجه لامتعاض المخالف من حديث الضرب إذا كان عنده مثل هذا الاعتذار قلت أما الكلام في عصمة فاطمة ع فهو بفن الكلام أشبه وللقول فيه موضع غير هذا . وأما قول المرتضى إذا كانت صادقة لم يبق حاجة إلى من يشهد لها فلقائل أن
[ 284 ](1/4685)
يقول لم قلت ذلك ولم زعمت أن الحاجة إلى البينة إنما كانت لزيادة غلبة الظن ولم لا يجوز أن يكون الله تعالى يعبد بالبينة لمصلحة يعلمها وإن كان المدعي لا يكذب أ ليس قد تعبد الله تعالى بالعدة في العجوز التي قد أيست من الحمل وإن كان أصل وضعها لاستبراء الرحم . وأما قصة خزيمة بن ثابت فيجوز أن يكون الله تعالى قد علم أن مصلحة المكلفين في تلك الصورة أن يكتفى بدعوى النبي ص وحدها ويستغنى فيها عن الشهادة . ولا يمتنع أن يكون غير تلك الصورة مخالفا لها وإن كان المدعي لا يكذب ويبين ذلك أن مذهب المرتضى جواز ظهور خوارق العادات على أيدي الأئمة والصالحين ولو قدرنا أن واحدا من أهل الصلاح والخير ادعى دعوى وقال بحضرة جماعة من الناس من جملتهم القاضي اللهم إن كنت صادقا فأظهر علي معجزة خارقة للعادة فظهرت عليه لعلمنا أنه صادق ومع ذلك لا تقبل دعواه إلا ببينة . وسألت علي بن الفارقي مدرس المدرسة الغربية ببغداد فقلت له أ كانت فاطمة صادقة قال نعم قلت فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة فتبسم ثم قال كلاما لطيفا مستحسنا مع ناموسه وحرمته وقلة دعابته قال لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها لجاءت إليه غدا وادعت لزوجها الخلافة وزحزحته عن مقامه ولم يكن يمكنه الاعتذار والموافقة بشي ء لأنه يكون قد أسجل على نفسه أنها صادقة فيها تدعي كائنا ما كان من غير حاجة إلى بينة ولا شهود وهذا كلام صحيح وإن كان أخرجه مخرج الدعابة والهزل . فأما قول قاضي القضاة لو كان في يدها لكان الظاهر أنها لها واعتراض المرتضى عليه بقوله إنه لم يعتمد في إنكار ذلك على حجة بل قال لو كانت في يدها لكان الظاهر إنها لها والأمر على ما قال فمن أين أنها لم تخرج عن يدها على وجه كما أن الظاهر
[ 285 ](1/4686)
يقتضي خلافه فإنه لم يجب عما ذكره قاضي القضاة لأن معنى قوله إنها لو كانت في يدها أي متصرفة فيها لكانت اليد حجة في الملكية لأن اليد والتصرف حجة لا محالة فلو كانت في يدها تتصرف فيها وفي ارتفاقها كما يتصرف الناس في ضياعهم وأملاكهم لما احتاجت إلى الاحتجاج بآية الميراث ولا بدعوى النحل لأن اليد حجة فهلا قالت لأبي بكر هذه الأرض في يدي ولا يجوز انتزاعها مني إلا بحجة وحينئذ كان يسقط احتجاج أبي بكر بقوله نحن معاشر الأنبياء لا نورث لأنها ما تكون قد ادعتها ميراثا ليحتج عليها بالخبر وخبر أبي سعيد في قوله فأعطاها فدك يدل على الهبة لا على القبض والتصرف ولأنه يقال أعطاني فلان كذا فلم أقبضه ولو كان الإعطاء هو القبض والتصرف لكان هذا الكلام متناقضا . فأما تعجب المرتضى من قول أبي علي إن دعوى الإرث كانت متقدمة على دعوى النحل وقوله إنا لا نعرف له غرضا في ذلك فإنه لا يصح له بذلك مذهب ولا يبطل على مخالفيه مذهب فإن المرتضى لم يقف على مراد الشيخ أبي علي في ذلك وهذا شي ء يرجع إلى أصول الفقه فإن أصحابنا استدلوا على جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد بإجماع الصحابة لأنهم أجمعوا على تخصيص قوله تعالى يُوصِيكُمُ اَللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ
برواية أبي بكر عن النبي ص لا نورث ما تركناه صدقة قالوا والصحيح في الخبر أن فاطمة ع طالبت بعد ذلك بالنحل لا بالميراث فلهذا قال الشيخ أبو علي إن دعوى الميراث تقدمت على دعوى النحل وذلك لأنه ثبت أن فاطمة انصرفت عن ذلك المجلس غير راضية ولا موافقة لأبي بكر فلو كانت دعوى الإرث متأخرة وانصرفت عن سخط لم يثبت الإجماع على تخصيص الكتاب بخبر الواحد أما إذا كانت دعوى الإرث متقدمة فلما روى لها الخبر أمسكت وانتقلت إلى النزاع من جهة أخرى فإنه يصح حينئذ الاستدلال بالإجماع على تخصيص الكتاب بخبر الواحد .
[ 286 ](1/4687)
فأما أنا فإن الأخبار عندي متعارضة يدل بعضها على أن دعوى الإرث متأخرة ويدل بعضها على أنها متقدمة وأنا في هذا الموضع متوقف . وما ذكره المرتضى من أن الحال تقتضي أن تكون البداية بدعوى النحل فصحيح وأما إخفاء القبر وكتمان الموت وعدم الصلاة وكل ما ذكره المرتضى فيه فهو الذي يظهر ويقوى عندي لأن الروايات به أكثر وأصح من غيرها وكذلك القول في موجدتها وغضبها فأما المنقول عن رجال أهل البيت فإنه يختلف فتارة وتارة وعلى كل حال فميل أهل البيت إلى ما فيه نصرة أبيهم وبيتهم . وقد أخل قاضي القضاة بلفظة حكاها عن الشيعة فلم يتكلم عليها وهي لفظة جيدة قال قد كان الأجمل أن يمنعهم التكرم مما ارتكبا منها فضلا عن الدين وهذا الكلام لا جواب عنه ولقد كان التكرم ورعاية حق رسول الله ص وحفظ عهده يقتضي أن تعوض ابنته بشي ء يرضيها إن لم يستنزل المسلمون عن فدك وتسلم إليها تطييبا لقلبها وقد يسوغ للإمام أن يفعل ذلك من غير مشاورة المسلمين إذا رأى المصلحة فيه وقد بعد العهد الآن بيننا وبينهم ولا نعلم حقيقة ما كان وإلى الله نرجع الأمور : وَ لَوْ شِئْتُ لاَهْتَدَيْتُ اَلطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا اَلْعَسَلِ وَ لُبَابِ هَذَا اَلْقَمْحِ وَ نَسَائِجِ هَذَا اَلْقَزِّ وَ لَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ وَ يَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ اَلْأَطْعِمَةِ وَ لَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ بِالْيَمَامَةِ مَنْ لاَ طَمَعَ لَهُ فِي اَلْقُرْصِ وَ لاَ عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَ حَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَ أَكْبَادٌ حَرَّى أَوْ أَكُونَ كَمَا قَالَ اَلْقَائِلُ
وَ حَسْبُكَ عَاراً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ
وَ حَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى اَلْقِدِّ
[ 287 ](1/4688)
أَ أَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ هَذَا أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ لاَ أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ اَلدَّهْرِ أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ اَلْعَيْشِ فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ اَلطَّيِّبَاتِ كَالْبَهِيمَةِ اَلْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا أَوِ اَلْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلاَفِهَا وَ تَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا أَوْ أُتْرَكَ سُدًى أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ اَلضَّلاَلَةِ أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِيقَ اَلْمَتَاهَةِ قد روي ولو شئت لاهتديت إلى هذا العسل المصفى ولباب هذا البر المنقى فضربت هذا بذاك حتى ينضج وقودا ويستحكم معقودا . و
روي ولعل بالمدينة يتيما تربا يتضور سغبا أ أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى إذن يحضرني يوم القيامة وهم من ذكر وأنثى . وروي بطون غرثى بإضافة بطون إلى غرثى . والقمح الحنطة . والجشع أشد الحرص . والمبطان الذي لا يزال عظيم البطن من كثرة الأكل فأما المبطن فالضامر البطن وأما البطين فالعظيم البطن لا من الأكل وأما البطن فهو الذي لا يهمه إلا بطنه وأما المبطون فالعليل البطن وبطون غرثى جائعة والبطنة الكظة وذلك أن يمتلئ الإنسان من الطعام امتلاء شديدا وكان يقال ينبغي للإنسان أن يجعل وعاء بطنه أثلاثا فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس .
[ 288 ](1/4689)
و التقمم أكل الشاة ما بين يديها بمقمتها أي بشفتها وكل ذي ظلف كالثور وغيره فهو ذو مقمة . وتكترش من أعلافها تملأ كرشها من العلف . قوله أو أجر حبل الضلالة منصوب بالعطف على يشغلني وكذلك أترك ويقال أجررته رسنه إذا أهملته . والاعتساف السلوك في غير طريق واضح . والمتاهة الأرض يتاه فيها أي يتحير . وفي قوله لو شئت لاهتديت شبه من قول عمر لو نشاء لملأنا هذا الرحاب من صلائق وصناب وقد ذكرناه فيما تقدم . وهذا البيت من أبيات منسوبة إلى حاتم بن عبد الله الطائي الجواد وأولها
أيا ابنة عبد الله وابنة مالك
و يا ابنة ذي الجدين والفرس الورد
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له
أكيلا فإني لست آكله وحدي
قصيا بعيدا أو قريبا فإنني
أخاف مذمات الأحاديث من بعدي
كفى بك عارا أن تبيت ببطنة
و حولك أكباد تحن إلى القد
و إني لعبد الضيف ما دام نازلا
و ما من خلالي غيرها شيمة العبد
[ 289 ](1/4690)
وَ كَأَنِّي بِقَائِلِكُمْ يَقُولُ إِذَا كَانَ هَذَا قُوتَ اِبْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَدْ قَعَدَ بِهِ اَلضَّعْفُ عَنْ قِتَالِ اَلْأَقْرَانِ وَ مُنَازَلَةِ اَلشُّجْعَانِ أَلاَ وَ إِنَّ اَلشَّجَرَةَ اَلْبَرِّيَّةَ أَصْلَبُ عُوداً وَ اَلرَّوَاتِعَ اَلْخَضِرَةَ أَرَقُّ جُلُوداً وَ اَلنَّابِتَاتِ اَلْعِذْيَةَ أَقْوَى وَقُوداً وَ أَبْطَأُ خُمُوداً . وَ أَنَا مِنْ رَسُولِ اَللَّهِ كَالضَّوْءِ مِنَ اَلضَّوْءِ وَ اَلذِّرَاعِ مِنَ اَلْعَضُدِ وَ اَللَّهِ لَوْ تَظَاهَرَتِ اَلْعَرَبُ عَلَى قِتَالِي لَمَا وَلَّيْتُ عَنْهَا وَ لَوْ أَمْكَنَتِ اَلْفُرَصُ مِنْ رِقَابِهَا لَسَارَعْتُ إِلَيْهَا وَ سَأَجْهَدُ فِي أَنْ أُطَهِّرَ اَلْأَرْضَ مِنْ هَذَا اَلشَّخْصِ اَلْمَعْكُوسِ وَ اَلْجِسْمِ اَلْمَرْكُوسِ حَتَّى تَخْرُجَ اَلْمَدَرَةُ مِنْ بَيْنِ حَبِّ اَلْحَصِيدِ الشجرة البرية التي تنبت في البر الذي لا ماء فيه فهي أصلب عودا من الشجرة التي تنبت في الأرض الندية وإليه وقعت الإشارة بقوله والرواتع الخضرة أرق جلودا . ثم قال والنابتات العذية التي تنبت عذيا والعذي بسكون الذال الزرع لا يسقيه إلا ماء المطر وهو يكون أقل أخذا من الماء من النبت سقيا قال ع إنها تكون أقوى وقودا مما يشرب الماء السائح أو ماء الناضح وأبطأ خمودا وذلك لصلابة جرمها . ثم قال وأنا من رسول الله ص كالضوء من الضوء والذراع من العضد
[ 290 ](1/4691)
و ذلك لأن الضوء الأول يكون علة في الضوء الثاني أ لا ترى أن الهواء المقابل للشمس يصير مضيئا من الشمس فهذا الضوء هو الضوء الأول ثم إنه يقابل وجه الأرض فيضي ء وجه الأرض منه فالضوء الذي على وجه الأرض هو الضوء الثاني وما دام الضوء الأول ضعيفا فالضوء الثاني ضعيف فإذا ازداد الجو إضاءة ازداد وجه الأرض إضاءة لأن المعلول يتبع العلة فشبه ع نفسه بالضوء الثاني وشبه رسول الله ص بالضوء الأول وشبه منبع الأضواء والأنوار سبحانه وجلت أسماؤه بالشمس التي توجب الضوء الأول ثم الضوء الأول يوجب الضوء الثاني وهاهنا نكتة وهي أن الضوء الثاني يكون أيضا علة لضوء ثالث وذلك أن الضوء الحاصل على وجه الأرض وهو الضوء الثاني إذا أشرق على جدار مقابل ذلك الجدار قريبا منه مكان مظلم فإن ذلك المكان يصير مضيئا بعد أن كان مظلما وإن كان لذلك المكان المظلم باب وكان داخل البيت مقابل ذلك الباب جدار كان ذلك الجدار أشد إضاءة من باقي البيت ثم ذلك الجدار إن كان فيه ثقب إلى موضع آخر كان ما يحاذي ذلك البيت أشد إضاءة مما حواليه وهكذا لا تزال الأضواء يوجب بعضها بعضا على وجه الانعكاس بطريق العلية وبشرط المقابلة ولا تزال تضعف درجة درجة إلى أن تضمحل ويعود الأمر إلى الظلمة وهكذا عالم العلوم والحكم المأخوذة من أمير المؤمنين ع لا تزال تضعف كما انتقلت من قوم إلى قوم إلى أن يعود الإسلام غريبا كما بدأ بموجب الخبر النبوي الوارد في الصحاح . وأما قوله والذراع من العضد فلأن الذراع فرع على العضد والعضد أصل أ لا ترى أنه لا يمكن أن يكون ذراع إلا إذا كان عضد ويمكن أن يكون عضد لا ذراع له ولهذا قال الراجز لولده
يا بكر بكرين ويا خلب الكبد
أصبحت مني كذراع من عضد
[ 291 ](1/4692)
فشبه ع بالنسبة إلى رسول الله ص بالذراع الذي العضد أصله وأسه والمراد من هذا التشبيه الإبابة عن شدة الامتزاج والاتحاد والقرب بينهما فإن الضوء الثاني شبيه بالضوء الأول والذراع متصل بالعضد اتصالا بينا وهذه المنزلة قد أعطاه إياها رسول الله ص في مقامات كثيرة نحو
قوله في قصة براءة قد أمرت أن لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني وقوله
لتنتهن يا بني وليعة أو لأبعثن إليكم رجلا مني أو قال عديل نفسي وقد سماه الكتاب العزيز نفسه فقال وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ و
قد قال له لحمك مختلط بلحمي ودمك مسوط بدمي وشبرك وشبري واحد . فإن قلت أما قوله لو تظاهرت العرب علي لما وليت عنها فمعلوم فما الفائدة في قوله ولو أمكنت الفرصة من رقابها لسارعت إليها وهل هذا مما يفخر به الرؤساء ويعدونه منقبة وإنما المنقبة أن لو أمكنته الفرصة تجاوز وعفا . قلت غرضه أن يقرر في نفوس أصحابه وغيرهم من العرب أنه يحارب على حق وأن حربه لأهل الشام كالجهاد أيام رسول الله ص وأن من يجاهد الكفار يجب عليه أن يغلظ عليهم ويستأصل شأفتهم أ لا ترى أن رسول الله ص لما جاهد بني قريظة وظفر لم يبق ولم يعف وحصد في يوم واحد رقاب ألف إنسان صبرا في مقام واحد لما علم في ذلك من إعزاز الدين وإذلال المشركين فالعفو له مقام والانتقام له مقام . قوله وسأجهد في أن أطهر الأرض الإشارة في هذا إلى معاوية سماه شخصا معكوسا وجسما مركوسا والمراد انعكاس عقيدته وأنها ليست عقيدة هدى بل هي معاكسة للحق والصواب وسماه مركوسا من قولهم ارتكس في الضلال والركس
[ 292 ](1/4693)
رد الشي ء مقلوبا قال تعالى وَ اَللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أي قلبهم وردهم إلى كفرهم فلما كان تاركا للفطرة التي كل مولود يولد عليها كان مرتكسا في ضلالة وأصحاب التناسخ يفسرون هذا بتفسير آخر قالوا الحيوان على ضربين منتصب ومنحن فالمنتصب الإنسان والمنحني ما كان رأسه منكوسا إلى جهة الأرض كالبهائم والسباع . قالوا وإلى ذلك وقعت الإشارة بقوله أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ . قالوا فأصحاب الشقاوة تنتقل أنفسهم عند الموت إلى الحيوان المكبوب وأصحاب السعادة تنتقل أنفسهم إلى الحيوان المنتصب ولما كان معاوية عنده ع من أهل الشقاوة سماه معكوسا ومركوسا رمزا إلى هذا المعنى . قوله حتى تخرج المدرة من بين حب الحصيد أي حتى يتطهر الدين وأهله منه وذلك لأن الزراع يجتهدون في إخراج المدر والحجر والشوك والعوسج ونحو ذلك من بين الزرع كي تفسد منابته فيفسد الحب الذي يخرج منه فشبه معاوية بالمدر ونحوه من مفسدات الحب وشبه الدين بالحب الذي هو ثمرة الزرع : وَ مِنْ هَذَا اَلْكِتَابِ وَ هُوَ آخِرُهُ إِلَيْكِ عَنِّي يَا دُنْيَا فَحَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ قَدِ اِنْسَلَلْتُ مِنْ مَخَالِبِكِ وَ أَفْلَتُّ مِنْ حَبَائِلِكِ وَ اِجْتَنَبْتُ اَلذَّهَابَ فِي مَدَاحِضِكِ
[ 293 ](1/4694)
أَيْنَ اَلْقُرُونُ اَلَّذِينَ غَرَرْتِهِمْ بِمَدَاعِبِكِ أَيْنَ اَلْأُمَمُ اَلَّذِينَ فَتَنْتِهِمْ بِزَخَارِفِكِ فَهَا هُمْ رَهَائِنُ اَلْقُبُورِ وَ مَضَامِينُ اَللُّحُودِ وَ اَللَّهِ لَوْ كُنْتِ شَخْصاً مَرْئِيّاً وَ قَالَباً حِسِّيّاً لَأَقَمْتُ عَلَيْكِ حُدُودَ اَللَّهِ فِي عِبَادٍ غَرَرْتِهِمْ بِالْأَمَانِيِّ وَ أُمَمٍ أَلْقَيْتِهِمْ فِي اَلْمَهَاوِي وَ مُلُوكٍ أَسْلَمْتِهِمْ إِلَى اَلتَّلَفِ وَ أَوْرَدْتِهِمْ مَوَارِدَ اَلْبَلاَءِ إِذْ لاَ وِرْدَ وَ لاَ صَدَرَ هَيْهَاتَ مَنْ وَطِئَ دَحْضَكِ زَلِقَ وَ مَنْ رَكِبَ لُجَجَكِ غَرِقَ وَ مَنِ اِزْوَرَّ عَنْ حَبَائِلِكِ وُفِّقَ وَ اَلسَّالِمُ مِنْكِ لاَ يُبَالِي إِنْ ضَاقَ بِهِ مُنَاخُهُ وَ اَلدُّنْيَا عِنْدَهُ كَيَوْمَ حَانَ اِنْسِلاَخُهُ إليك عني أي ابعدي وحبلك على غاربك كناية من كنايات الطلاق أي اذهبي حيث شئت لأن الناقة إذا ألقي حبلها على غاربها فقد فسح لها أن ترعى حيث شاءت وتذهب أين شاءت لأنه إنما يردها زمامها فإذا ألقي حبلها على غاربها فقد أهملت . والغارب ما بين السنام والعنق والمداحض المزالق . وقيل إن في النسخة التي بخط الرضي رضي الله عنه غررتيهم بالياء وكذلك فتنتيهم وألقيتيهم وأسلمتيهم وأوردتيهم والأحسن حذف الياء وإذا كانت الرواية وردت بها فهي من إشباع الكسرة كقوله
أ لم يأتيك والأنباء تنمي
بما فعلت لبون بني زياد
و مضامين اللحود أي الذين تضمنتهم وفي الحديث نهى عن بيع المضامين والملاقيح وهي ما في أصلاب الفحول وبطون الإناث .
[ 294 ](1/4695)
ثم قال لو كنت أيتها الدنيا إنسانا محسوسا كالواحد من البشر لأقمت عليك الحد كما فعلت بالناس . ثم شرح أفعالها فقال منهم من غررت ومنهم من ألقيت في مهاوي الضلال والكفر ومنهم من أتلفت وأهلكت . ثم قال ومن وطئ دحضك زلق مكان دحض أي مزلة . ثم قال لا يبالي من سلم منك إن ضاق مناخه لا يبالي بالفقر ولا بالمرض ولا بالحبوس والسجون وغير ذلك من أنواع المحن لأن هذا كله حقير لا اعتداد به في جنب السلامة من فتنة الدنيا . قال والدنيا عند من قد سلم منها كيوم قرب انقضاؤه وفناؤه : اُعْزُبِي عَنِّي فَوَاللَّهِ لاَ أَذِلُّ لَكِ فَتَسْتَذِلِّينِي وَ لاَ أَسْلَسُ لَكِ فَتَقُودِينِي وَ اَيْمُ اَللَّهِ يَمِيناً أَسْتَثْنِي فِيهَا بِمَشِيئَةِ اَللَّهِ لَأَرُوضَنَّ نَفْسِي رِيَاضَةً تَهِشُّ مَعَهَا إِلَى اَلْقُرْصِ إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهِ مَطْعُوماً وَ تَقْنَعُ بِالْمِلْحِ مَأْدُوماً وَ لَأَدَعَنَّ مُقْلَتِي كَعَيْنِ مَاءٍ نَضَبَ مَعِينُهَا مُسْتَفْرِغَةً دُمُوعَهَا أَ تَمْتَلِئُ اَلسَّائِمَةُ مِنْ رِعْيِهَا فَتَبْرُكَ وَ تَشْبَعُ اَلرَّبِيضَةُ مِنْ عُشْبِهَا فَتَرْبِضَ وَ يَأْكُلُ عَلِيٌّ مِنْ زَادِهِ فَيَهْجَعَ قَرَّتْ إِذاً عَيْنُهُ إِذَا اِقْتَدَى بَعْدَ اَلسِّنِينَ اَلْمُتَطَاوِلَةِ بِالْبَهِيمَةِ اَلْهَامِلَةِ وَ اَلسَّائِمَةِ اَلْمَرْعِيَّةِ طُوبَى لِنَفْسٍ أَدَّتْ إِلَى رَبِّهَا فَرْضَهَا وَ عَرَكَتْ بِجَنْبِهَا بُؤْسَهَا وَ هَجَرَتْ فِي
[ 295 ](1/4696)
اَللَّيْلِ غُمْضَهَا حَتَّى إِذَا غَلَبَ اَلْكَرَى عَلَيْهَا اِفْتَرَشَتْ أَرْضَهَا وَ تَوَسَّدَتْ كَفَّهَا فِي مَعْشَرٍ أَسْهَرَ عُيُونَهُمْ خَوْفُ مَعَادِهِمْ وَ تَجَافَتْ عَنْ مَضَاجِعِهِمْ جُنُوبُهُمْ وَ هَمْهَمَتْ بِذِكْرِ رَبِّهِمْ شِفَاهُهُمْ وَ تَقَشَّعَتْ بِطُولِ اِسْتِغْفَارِهِمْ ذُنُوبُهُمْ أُولئِكَ حِزْبُ اَللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اَللَّهِ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ فَاتَّقِ اَللَّهَ يَا اِبْنَ حُنَيْفٍ وَ لْتَكْفُفْ أَقْرَاصُكَ لِيَكُونَ مِنَ اَلنَّارِ خَلاَصُكَ اعزبي ابعدي يقال عزب الرجل بالفتح أي بعد ولا أسلس لك بفتح اللام أي لا أنقاد لك سلس الرجل بالكسر يسلس فهو بين السلس أي سهل قياده . ثم حلف واستثنى بالمشيئة أدبا كما أدب الله تعالى رسوله ص ليروضن نفسه أي يدربها بالجوع والجوع هو أصل الرياضة عند الحكماء وأرباب الطريقة . قال حتى أهش إلى القرص أي إلى الرغيف وأقنع من الإدام بالملح . ونضب معينها فني ماؤها . ثم أنكر على نفسه فقال أ تشبع السائمة من رعيها بكسر الراء وهو الكلأ والربيضة جماعة من الغنم أو البقر تربض في أماكنها وأنا أيضا مثلها أشبع وأنام . لقد قرت عيني إذا حيث أشابه البهائم بعد الجهاد والسبق والعبادة والعم والجد في السنين المتطاولة . قوله وعركت بجنبها بؤسها أي صبرت على بؤسها والمشقة التي تنالها يقال قد عرك فلان بجنبه الأذى أي أغضى عنه وصبر عليه .
[ 296 ](1/4697)
قوله افترشت أرضها أي لم يكن لها فراش إلا الأرض . وتوسدت كفها لم يكن لها وسادة إلا الكف . وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم لفظ الكتاب العزيز تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ اَلْمَضاجِعِ . وهمهمت تكلمت كلاما خفيا . وتقشعت ذنوبهم زالت وذهبت كما يتقشع السحاب . قوله ولتكفف أقراصك إنما هو نهي لابن حنيف أن يكف عن الأقراص وإن كان اللفظ يقتضي أن تكف الأقراص عن ابن حنيف وقد رواها قوم بالنصب قالوا فاتق الله يا ابن حنيف ولتكفف أقراصك لترجو بها من النار خلاصك والتاء هاهنا للأمر عوض الياء وهي لغة لا بأس بها وقد قيل إن رسول الله ص قرأ فبذلك فلتفرحوا بالتاء(1/4698)
? الجزء السادس عشر
? تتمة باب الكتب والرسائل
? 29 ومن كتاب له ع إلى أهل البصرة
? 30 ومن كتاب له ع إلى معاوية
? 31 ومن وصيته ع للحسن ع كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين
? ترجمة الحسن بن علي وذكر بعض أخباره
? بعض ما قيل من الشعر في الدهر وفعله بالإنسان
? أقوال حكيمة في وصف الدنيا وفناء الخلق
? بعض ما قيل في الغيرة من الشعر
? اعتزاز الفرزدق بقومه
? وفود الوليد بن جابر على معاوية
? 32 ومن كتاب له ع إلى معاوية
? ذكر بعض ما دار بين علي ومعاوية من الكتب
? 33 ومن كتاب له ع إلى قثم بن العباس وهو عامله على مكة
? قثم بن عباس وبعض أخباره
? 34 ومن كتاب له ع إلى محمد بن أبي بكر
? محمد بن أبي بكر وبعض أخباره
? 35 ومن كتاب له ع إلى عبد الله بن العباس بعد مقتل محمد بن أبي بكر
? 36 ومن كتاب له ع إلى أخيه عقيل بن أبي طالب في ذكر جيش أنفذه إلى بعض الأعداء
? 37 ومن كتاب له ع إلى معاوية
? 38 ومن كتاب له ع إلى أهل مصر لما ولى عليهم الأشتر
? 39 ومن كتاب له ع إلى عمرو بن العاص
? 40 ومن كتاب له ع إلى بعض عماله
? 41 ومن كتاب له ع إلى بعض عماله
? اختلاف الرأي فيمن كتب له هذا الكتاب
? 42 ومن كتاب له ع إلى عمر بن أبي سلمة المخزومي
? عمر بن أبي سلمة ونسبه وبعض أخباره
? النعمان بن عجلان ونسبه وبعض أخباره
? 43 ومن كتاب له ع إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني وكان عامله على أردشيرخرة
? 44 ومن كتاب له ع إلى زياد ابن أبيه
? نسب زياد ابن أبيه وذكر بعض أخباره وكتبه وخطبه
? 45 ومن كتاب له ع إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وكان عامله على البصرة
? عثمان بن حنيف ونسبه
? ذكر ما ورد من السير والأخبار في أمر فدك
? الفصل الأول فيما ورد من الأخبار والسير المنقولة من أفواه أهل الحديث وكتبهم لا من كتب الشيعة ورجالهم
? الفصل الثاني في النظر في أن النبي ص هل يورث أم لا(1/4699)
? الفصل الثالث في أن فدك هل صح كونها نحلة رسول الله ص لفاطمة ع أم لا(1/4700)
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد المعتزلي
الجزء السابع عشر(1/4701)
تتمة أبواب الكتب والرسائل
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل(1/4702)
46 ـ ومن كتاب له ع إلى بعض عماله
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكَ مِمَّنْ أَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَى إِقَامَةِ اَلدِّينِ وَ أَقْمَعُ بِهِ نَخْوَةَ اَلْأَثِيمِ وَ أَسُدُّ بِهِ لَهَاةَ اَلثَّغْرِ اَلْمَخُوفِ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ عَلَى مَا أَهَمَّكَ وَ اِخْلِطِ اَلشِّدَّةَ بِضِغْثٍ مِنَ اَللِّينِ وَ اُرْفُقْ مَا كَانَ اَلرِّفْقُ أَرْفَقَ وَ اِعْتَزِمْ بِالشِّدَّةِ حِينَ لاَ تُغْنِي عَنْكَ إِلاَّ اَلشِّدَّةُ وَ اِخْفِضْ لِلرَّعِيَّةِ جَنَاحَكَ وَ اُبْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ وَ أَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ وَ آسِ بَيْنَهُمْ فِي اَللَّحْظَةِ وَ اَلنَّظْرَةِ وَ اَلْإِشَارَةِ وَ اَلتَّحِيَّةِ حَتَّى لاَ يَطْمَعَ اَلْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ وَ لاَ يَيْأَسَ اَلضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ وَ اَلسَّلاَمُ قد أخذ الشاعر معنى قوله وآس بينهم في اللحظة والنظرة فقال
[ 4 ]
اقسم اللحظ بيننا إن في اللحظ
لعنوان ما تجن الصدور
إنما البر روضة فإذا ما
كان بشر فروضة وغدير
قوله وآس بينهم في اللحظة أي اجعلهم أسوة وروي وساو بينهم في اللحظة والمعنى واحد . وأستظهر به أجعله كالظهر . والنخوة الكبرياء والأثيم المخطئ المذنب . وقوله وأسد به لهاة الثغر استعارة حسنة . والضغث في الأصل قبضة حشيش مختلط يابسها بشي ء من الرطب ومنه أضغاث الأحلام للرؤيا المختلطة التي لا يصح تأويلها فاستعار اللفظة هاهنا والمراد امزج الشدة بشي ء من اللين فاجعلهما كالضغث وقال تعالى وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً . قوله فاعتزم بالشدة أي إذا جد بك الحد فدع اللين فإن في حال الشدة لا تغني إلا الشدة قال الفند الزماني
فلما صرح الشر
فأمسى وهو عريان
و لم يبق سوى العدوان
دناهم كما دانوا
قوله حتى لا يطمع العظماء في حيفك أي حتى لا يطمع العظماء في أن تمالئهم على حيف الضعفاء وقد تقدم مثل هذا فيما سبق
[ 5 ](1/4703)
47 ـ ومن وصية له ع للحسن والحسين ع لما ضربه ابن ملجم لعنه الله
أُوصِيكُمَا بِتَقْوَى اَللَّهِ وَ أَلاَّ تَبْغِيَا اَلدُّنْيَا وَ إِنْ بَغَتْكُمَا وَ لاَ تَأْسَفَا عَلَى شَيْ ءٍ مِنْهَا زُوِيَ عَنْكُمَا وَ قُولاَ بِالْحَقِّ وَ اِعْمَلاَ لِلْأَجْرِ وَ كُونَا لِلظَّالِمِ خَصْماً وَ لِلْمَظْلُومِ عَوْناً أُوصِيكُمَا وَ جَمِيعَ وَلَدِي وَ أَهْلِي وَ مَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي بِتَقْوَى اَللَّهِ وَ نَظْمِ أَمْرِكُمْ وَ صَلاَحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا ص يَقُولُ صَلاَحُ ذَاتِ اَلْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ اَلصَّلاَةِ وَ اَلصِّيَامِ اَللَّهَ اَللَّهَ فِي اَلْأَيْتَامِ فَلاَ تُغِبُّوا أَفْوَاهَهُمْ وَ لاَ يَضِيعُوا بِحَضْرَتِكُمْ وَ اَللَّهَ اَللَّهَ فِي جِيرَانِكُمْ فَإِنَّهُمْ وَصِيَّةُ نَبِيِّكُمْ مَا زَالَ يُوصِي بِهِمْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُمْ وَ اَللَّهَ اَللَّهَ فِي اَلْقُرْآنِ لاَ يَسْبِقُكُمْ بِالْعَمَلِ بِهِ غَيْرُكُمْ وَ اَللَّهَ اَللَّهَ فِي اَلصَّلاَةِ فَإِنَّهَا عَمُودُ دِينِكُمْ وَ اَللَّهَ اَللَّهَ فِي بَيْتِ رَبِّكُمْ لاَ تُخَلُّوهُ مَا بَقِيتُمْ فَإِنَّهُ إِنْ تُرِكَ لَمْ تُنَاظَرُوا وَ اَللَّهَ اَللَّهَ فِي اَلْجِهَادِ بِأَمْوَالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ وَ أَلْسِنَتِكُمْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ عَلَيْكُمْ بِالتَّوَاصُلِ وَ اَلتَّبَاذُلِ وَ إِيَّاكُمْ وَ اَلتَّدَابُرَ وَ اَلتَّقَاطُعَ لاَ تَتْرُكُوا
[ 6 ](1/4704)
اَلْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ اَلنَّهْيَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ فَيُوَلَّى عَلَيْكُمْ أَشْرَارُكُمْ شِرَارُكُمْ ثُمَّ تَدْعُونَ فَلاَ يُسْتَجَابُ لَكُمْ ثُمَّ قَالَ يَا بَنِي عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ لاَ أُلْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ اَلْمُسْلِمِينَ خَوْضاً تَقُولُونَ قُتِلَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ قُتِلَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ أَلاَ لاَ تَقْتُلُنَّ بِي إِلاَّ قَاتِلِي اُنْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هَذِهِ فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ وَ لاَ تُمَثِّلُوا بِالرَّجُلِ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ ص يَقُولُ إِيَّاكُمْ وَ اَلْمُثْلَةَ وَ لَوْ بِالْكَلْبِ اَلْعَقُورِ روي واعملا للآخرة وروي فلا تغيروا أفواهكم يقول لا تطلبا الدنيا وإن طلبتكما فإذا كان من تطلبه الدنيا منهيا عن طلبها فمن لا تطلبه يكون منهيا عن طلبها بالطريق الأولى . ثم قال ولا تأسفا على شي ء منها زوي عنكما أي قبض
قال رسول الله ص زويت لي الدنيا فأريت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها . وروي ولا تأسيا وكلاهما بمعنى واحد أي لا تحزنا وهذا من قوله تعالى لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ .
[ 7 ]
قوله صلاح ذات البين أخذه هذه اللفظة عبد الملك بن مروان فقال لبنيه وقد جمعوا عنده يوم موته
انفوا الضغائن بينكم وعليكم
عند المغيب وفي حضور المشهد
بصلاح ذات البين طول حياتكم
إن مد في عمري وإن لم يمدد
إن القداح إذا اجتمعن فرامها
بالكسر ذو بطش شديد أيد
عزت فلم تكسر وإن هي بددت
فالوهن والتكسير للمتبدد
و ذات هاهنا زائدة مقحمة . قوله فلا تغبوا أفواههم أي لا تجيعوهم بأن تطمعوهم غبا ومن روى فلا تغيروا أفواههم فذاك لأن الجائع يتغير فمه(1/4705)
قال ع لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك . قال ولا يضيعوا بحضرتكم أي لا تضيعوهم فالنهي في الظاهر للأيتام وفي المعنى للأوصياء والأولياء والظاهر أنه لا يعني الأيتام الذين لهم مال تحت أيدي أوصيائهم لأن أولئك الأوصياء محرم عليهم أن يصيبوا من أموال اليتامى إلا القدر النزر جدا عند الضرورة ثم يقضونه مع التمكن ومن هذه حاله لا يحسن أن يقال له لا تغيروا أفواه أيتامكم وإنما الأظهر أنه يعني الذين مات آباؤهم وهم فقراء يتعين مواساتهم ويقبح القعود عنهم كما قال تعالى وَ يُطْعِمُونَ اَلطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً واليتم في الناس من قبل الأب وفي البهائم من قبل الأم لأن الآباء من البهائم لا عناية لهم بالأولاد بل العناية للأم لأنها المرضعة المشفقة وأما الناس فإن الأب هو الكافل القيم بنفقة الولد فإذا مات وصل الضرر إليه لفقد كافله والأم بمعزل عن ذلك وجمع يتيم على أيتام كما قالوا شريف وأشراف وحكى أبو علي في التكملة كمي ء وأكماء ولا يسمى الصبي يتيما إلا إذا
[ 8 ]
كان دون البلوغ وإذا بلغ زال اسم اليتيم عنه واليتامى أحد الأصناف الذين عينوا في الخمس بنص الكتاب العزيز(1/4706)
فصل في الآثار الواردة في حقوق الجار
ثم أوصى بالجيران واللفظ الذي ذكره ع
قد ورد مرفوعا في رواية عبد الله بن عمر لما ذبح شاة فقال أهديتم لجارنا اليهودي فإني سمعت رسول الله ص يقول ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه و
في الحديث أنه ص قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره و
عنه ع جار السوء في دار المقامة قاصمة الظهر و
عنه ع من جهد البلاء جار سوء معك في دار مقامة إن رأى حسنة دفنها وإن رأى سيئة أذاعها وأفشاها
و من أدعيتهم اللهم إني أعوذ بك من مال يكون علي فتنة ومن ولد يكون علي كلا ومن حليلة تقرب الشيب ومن جار تراني عيناه وترعاني أذناه إن رأى خيرا دفنه وإن سمع شرا طار به
ابن مسعود يرفعه والذي نفسي بيده لا يسلم العبد حتى يسلم قلبه ولسانه ويأمن جاره بوائقه قالوا ما بوائقه قال غشمه وظلمه
لقمان يا بني حملت الحجارة والحديد فلم أر شيئا أثقل من جار السوء . وأنشدوا
ألا من يشتري دارا برخص
كراهة بعض جيرتها تباع
و قال الأصمعي جاور أهل الشام الروم فأخذوا عنهم خصلتين اللؤم وقلة الغيرة
[ 9 ](1/4707)
و جاور أهل البصرة الخزر فأخذوا عنهم خصلتين الزناء وقلة الوفاء وجاور أهل الكوفة السواد فأخذوا عنهم خصلتين السخاء والغيرة . وكان يقال من تطاول على جاره حرم بركة داره . وكان يقال من آذى جاره ورثه الله داره . باع أبو الجهم العدوي داره وكان في جوار سعيد بن العاص بمائة ألف درهم فلما أحضرها المشتري قال له هذا ثمن الدار فأعطني ثمن الجوار قال أي جوار قال جوار سعيد بن العاص قال وهل اشترى أحد جوارا قط فقال رد علي داري وخذ مالك لا أدع جوار رجل إن قعدت سأل عني وإن رآني رحب بي وإن غبت عنه حفظني وإن شهدت عنده قربني وإن سألته قضى حاجتي وإن لم أسأله بدأني وإن نابتني نائبة فرج عني فبلغ ذلك سعيدا فبعث إليه مائة ألف درهم وقال هذا ثمن دارك ودارك لك . الحسن ليس حسن الجوار كف الأذى ولكن حسن الجوار الصبر على الأذى . جاءت امرأة إلى الحسن فشكت إليه الخلة وقالت أنا جارتك قال كم بيني وبينك قالت سبع أدؤر فنظر الحسن فإذا تحت فراشه سبعة دراهم فأعطاها إياها وقال كدنا نهلك . وكان كعب بن مامة إذا جاوره رجل قام له بما يصلحه وحماه ممن يقصده وإن هلك له شي ء أخلفه عليه وإن مات وداه لأهله فجاوره أبو دواد الإيادي فزاره على العادة فبالغ في إكرامه وكانت العرب إذا حمدت جارا قالت جار كجار أبي دواد قال قيس بن زهير
[ 10 ]
أطوف ما أطوف ثم آوي
إلى جار كجار أبي دواد
ثم تعلم منه أبو دواد وكان يفعل لجاره فعل كعب به . وقال مسكين الدارمي
ما ضر جارا لي أجاوره
ألا يكون لبابه ستر
أعمى إذا ما إذا جارتي خرجت
حتى يواري جارتي الخدر
ناري ونار الجار واحدة
و إلبه قبلي ينزل القدر(1/4708)
استعرض أبو مسلم صاحب الدولة فرسا محضيرا فقال لأصحابه لما ذا يصلح هذا فذكروا سباق الخيل وصيد الحمر والنعام واتباع الفار من الحرب فقال لم تصنعوا شيئا يصلح للفرار من الجار السوء . سأل سليمان علي بن خالد بن صفوان عن ابنيه محمد وسليمان وكانا جاريه فقال كيف إحمادك جوارهما فتمثل بقول يزيد بن مفرغ الحميري
سقى الله دارا لي وأرضا تركتها
إلى جنب داري معقل بن يسار
أبو مالك جار لها وابن مرثد
فيا لك جاري ذلة وصغار
و في الحديث المرفوع أيضا من رواية جابر الجيران ثلاثة فجار له حق وجار له حقان وجار له ثلاثة حقوق فصاحب الحق الواحد جار مشرك لا رحم له فحقه
[ 11 ]
حق الجوار وصاحب الحقين جار مسلم لا رحم له وصاحب الثلاثة جار مسلم ذو رحم وأدنى حق الجوار ألا تؤذي جارك بقتار قدرك إلا أن تقتدح له منها . قلت تقتدح تغترف والمقدحة المغرفة . وكان يقال الجيران خمسة الجار الضار السيئ الجوار والجار الدمس الحسن الجوار والجار اليربوعي المنافق والجار البراقشي المتلون في أفعاله والجار الحسدلي الذي عينه تراك وقلبه يرعاك . و
روى أبو هريرة كان رسول الله ص يقول اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة فإن دار البادية تتحول قوله ع الله الله في القرآن أمرهما بالمسارعة إلى العمل به ونهاها أن يسبقهما غيرهما إلى ذلك ثم أمرهما بالصلاة والحج . وشدد الوصاة في الحج فقال فإنه إن ترك لم تناظروا أي يتعجل الانتقام منكم . فأما المثلة فمنهي عنها
أمر رسول الله ص أن يمثل بهبار بن الأسود لأنه روع زينب حتى أجهضت ثم نهى عن ذلك وقال لا مثلة المثلة حرام
[ 12 ](1/4709)
48 ـ ومن كتاب له ع إلى معاوية
فَإِنَّ اَلْبَغْيَ وَ اَلزُّورَ يُوتِغَانِ اَلْمَرْءَ فِي دِينِهِ وَ دُنْيَاهُ وَ يُبْدِيَانِ خَلَلَهُ عِنْدَ مَنْ يَعِيبُهُ وَ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ غَيْرُ مُدْرِكٍ مَا قُضِيَ فَوَاتُهُ وَ قَدْ رَامَ أَقْوَامٌ أَمْراً بِغَيْرِ اَلْحَقِّ فَتَأَلَّوْا عَلَى اَللَّهِ فَأَكْذَبَهُمْ فَاحْذَرْ يَوْماً يَغْتَبِطُ فِيهِ مَنْ أَحْمَدَ عَاقِبَةَ عَمَلِهِ وَ يَنْدَمُ مَنْ أَمْكَنَ اَلشَّيْطَانَ مِنْ قِيَادِهِ فَلَمْ يُجَاذِبْهُ وَ قَدْ دَعَوْتَنَا إِلَى حُكْمِ اَلْقُرْآنِ وَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِهِ وَ لَسْنَا إِيَّاكَ أَجَبْنَا وَ لَكِنَّا أَجَبْنَا اَلْقُرْآنَ فِي حُكْمِهِ وَ اَلسَّلاَمُ يوتغان يهلكان والوتغ بالتحريك الهلاك وقد وتغ يوتغ وتغا أي أثم وهلك وأوتغه الله أهلكه الله وأوتغ فلان دينه بالإثم . قوله فتألوا على الله أي حلفوا من الألية وهي اليمين و
في الحديث من تألى على الله أكذبه الله ومعناه من أقسم تجبرا واقتدارا لأفعلن كذا أكذبه الله ولم يبلغ أمله . وقد روي تأولوا على الله أي حرفوا الكلم عن مواضعه وتعلقوا بشبهة في تأويل القرآن انتصارا لمذاهبهم وآرائهم فأكذبهم الله بأن أظهر للعقلاء فساد تأويلاتهم والأول أصح .
[ 13 ]
و يغتبط فيه يفرح ويسر والغبطة السرور روي يغبط فيه أي يتمنى مثل حاله هذه . قوله ويندم من أمكن الشيطان من قياده فلم يجاذبه الياء التي هي حرف المضارعة عائدة على المكلف الذي أمكن الشيطان من قياده يقول إذا لم يجاذب الشيطان من قياده فإنه يندم فأما من جاذبه قياده فقد قام بما عليه . ومثله قوله ولسنا إياك أجبنا قوله والله ما حكمت مخلوقا وإنما حكمت القرآن ومعنى مخلوقا بشرا لا محدثا
[ 14 ](1/4710)
49 ـ ومن كتاب له ع إلى معاوية أيضا
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اَلدُّنْيَا مَشْغَلَةٌ عَنْ غَيْرِهَا وَ لَمْ يُصِبْ صَاحِبُهَا مِنْهَا شَيْئاً إِلاَّ فَتَحَتْ لَهُ حِرْصاً عَلَيْهَا وَ لَهَجاً بِهَا وَ لَنْ يَسْتَغْنِيَ صَاحِبُهَا بِمَا نَالَ فِيهَا عَمَّا لَمْ يَبْلُغْهُ مِنْهَا وَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ فِرَاقُ مَا جَمَعَ وَ نَقْضُ مَا أَبْرَمَ وَ لَوِ اِعْتَبَرْتَ بِمَا مَضَى حَفِظْتَ مَا بَقِيَ وَ اَلسَّلاَمُ هذا كما قيل في المثل صاحب الدنيا كشارب ماء البحر كلما ازداد شربا ازداد عطشا والأصل في هذا
قول الله تعالى لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب وهذا من القرآن الذي رفع ونسخت تلاوته . وقد ذكر نصر بن مزاحم هذا الكتاب وقال إن أمير المؤمنين ع كتبه إلى عمرو بن العاص وزاد فيه زيادة لم يذكرها الرضي
أما بعد فإن الدنيا مشغلة عن الآخرة وصاحبها منهوم عليها لم يصب شيئا منها قط إلا فتحت عليه حرصا وأدخلت عليه مئونة تزيده رغبة فيها
[ 15 ]
و لن يستغني صاحبها بما نال عما لم يدرك ومن وراء ذلك فراق ما جمع والسعيد من وعظ بغيره فلا تحبط أجرك أبا عبد الله ولا تشرك معاوية في باطله فإن معاوية غمص الناس وسفه الحق والسلام . قال نصر وهذا أول كتاب كتبه علي ع إلى عمرو بن العاص فكتب إليه عمرو جوابه أما بعد فإن الذي فيه صلاحنا وألفة ذات بيننا أن تنيب إلى الحق وأن تجيب إلى ما ندعوكم إليه من الشورى فصبر الرجل منا نفسه على الحق وعذره الناس بالمحاجزة والسلام . قال نصر فكتب علي ع إلى عمرو بن العاص بعد ذلك كتابا غليظا . وهو الذي ضرب مثله فيه بالكلب يتبع الرجل وهو مذكور في نهج البلاغة واللهج الحرص . ومعنى قوله ع لو اعتبرت بما مضى حفظت ما بقي أي لو اعتبرت بما مضى من عمرك لحفظت باقيه أن تنفقه في الضلال وطلب الدنيا وتضيعه(1/4711)
[ 16 ](1/4712)
50 ـ ومن كتاب له ع إلى أمرائه على الجيوش
مِنْ عَبْدِ اَللَّهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ رَفَعَهُ إِلَى أَصْحَابِ اَلْمَسَالِحِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ حَقّاً عَلَى اَلْوَالِي أَلاَّ يُغَيِّرَهُ عَلَى رَعِيَّتِهِ فَضْلٌ نَالَهُ وَ لاَ طَوْلٌ خُصَّ بِهِ وَ أَنْ يَزِيدَهُ مَا قَسَمَ اَللَّهُ لَهُ مِنْ نِعَمِهِ دُنُوّاً مِنْ عِبَادِهِ وَ عَطْفاً عَلَى إِخْوَانِهِ أَلاَ وَ إِنَّ لَكُمْ عِنْدِي أَلاَّ أَحْتَجِزَ دُونَكُمْ سِرّاً إِلاَّ فِي حَرْبٍ وَ لاَ أَطْوِيَ دُونَكُمْ أَمْراً إِلاَّ فِي حُكْمٍ وَ لاَ أُؤَخِّرَ لَكُمْ حَقّاً عَنْ مَحَلِّهِ وَ لاَ أَقِفَ بِهِ دُونَ مَقْطَعِهِ وَ أَنْ تَكُونُوا عِنْدِي فِي اَلْحَقِّ سَوَاءً فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ وَجَبَتْ لِلَّهِ عَلَيْكُمُ اَلنِّعْمَةُ وَ لِي عَلَيْكُمُ اَلطَّاعَةُ وَ أَلاَّ تَنْكُصُوا عَنْ دَعْوَةٍ وَ لاَ تُفَرِّطُوا فِي صَلاَحٍ وَ أَنْ تَخُوضُوا اَلْغَمَرَاتِ إِلَى اَلْحَقِّ فَإِنْ أَنْتُمْ لَمْ تَسْتَقِيمُوا لِي عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِمَّنِ اِعْوَجَّ مِنْكُمْ ثُمَّ أُعْظِمُ لَهُ اَلْعُقُوبَةَ وَ لاَ يَجِدُ عِنْدِي فِيهَا رُخْصَةً فَخُذُوا هَذَا مِنْ أُمَرَائِكُمْ وَ أَعْطُوهُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ مَا يُصْلِحُ اَللَّهُ بِهِ أَمْرَكُمْ وَ اَلسَّلاَمُ
[ 17 ]
أصحاب المسالح جماعات تكون بالثغر يحمون البيضة والمسلحة هي الثغر كالمرغبة و(1/4713)
في الحديث كان أدنى مسالح فارس إلى العرب العذيب قال يجب على الوالي ألا يتطاول على الرعية بولايته وما خص به عليهم من الطول وهو الفضل وأن تكون تلك الزيادة التي أعطيها سببا لزيادة دنوه من الرعية وحنوه عليهم . ثم قال لكم عندي ألا أحتجز دونكم بسر أي لا أستتر قال إلا في حرب وذلك لأن الحرب يحمد فيها طي الأسرار والحرب خدعة . ثم قال ولا أطوي دونكم أمرا إلا في حكم أي أظهركم على كل ما نفسي مما يحسن أن أظهركم عليه فأما أحكام الشريعة والقضاء على أحد الخصمين فإني لا أعلمكم به قبل وقوعه كيلا تفسد القضية بأن يحتال ذلك الشخص لصرف الحكم عنه . ثم ذكر أنه لا يؤخر لهم حقا عن محله يعني العطاء وأنه لا يقف دون مقطعه والحق هاهنا غير العطاء بل الحكم قال زهير
فإن الحق مقطعه ثلاث
يمين أو نفار أو جلاء
أي متى تعين الحكم حكمت به وقطعت ولا أقف ولا أتحبس . ولما استوفى ما شرط لهم قال فإذا أنا وفيت بما شرطت على نفسي وجبت لله عليكم النعمة ولي عليكم الطاعة . ثم أخذ في الاشتراط عليهم كما شرط لهم فقال ولي عليكم ألا تنكصوا عن
[ 18 ]
دعوة أي لا تتقاعسوا عن الجهاد إذا دعوتكم إليه ولا تفرطوا في صلاح أي إذا أمكنتكم فرصة أو رأيتم مصلحة في حرب العدو أو حماية الثغر فلا تفرطوا فيها فتفوت وأن تخوضوا الغمرات إلى الحق أي تكابدوا المشاق العظيمة ولا يهولنكم خوضها إلى الحق . ثم توعدهم إن لم يفعلوا ذلك ثم قال فخذوا هذا من أمرائكم ليس يعني به أن على هؤلاء أصحاب المسالح أمراء من قبله ع كالواسطة بينهم وبينه بل من أمرائكم يعني مني وممن يقوم في الخلافة مقامي بعدي لأنه لو كان الغرض هو الأول لما كان محلهم عنده أن يقول ألا أحتجز دونكم بسر ولا أطوي دونكم أمرا لأن محل من كان بتلك الصفة دون هذا
[ 19 ](1/4714)
51 ـ ومن كتاب له ع إلى عماله على الخراج
مِنْ عَبْدِ اَللَّهِ عَلِيٍّ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَصْحَابِ اَلْخَرَاجِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَحْذَرْ مَا هُوَ سَائِرٌ صَائِرٌ إِلَيْهِ لَمْ يُقَدِّمْ لِنَفْسِهِ مَا يُحْرِزُهَا وَ اِعْلَمُوا أَنَّ مَا كُلِّفْتُمْ بِهِ يَسِيرٌ وَ أَنَّ ثَوَابَهُ كَثِيرٌ وَ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا نَهَى اَللَّهُ عَنْهُ مِنَ اَلْبَغْيِ وَ اَلْعُدْوَانِ عِقَابٌ يُخَافُ لَكَانَ فِي ثَوَابِ اِجْتِنَابِهِ مَا لاَ عُذْرَ فِي تَرْكِ طَلَبِهِ فَأَنْصِفُوا اَلنَّاسَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ وَ اِصْبِرُوا لِحَوَائِجِهِمْ فَإِنَّكُمْ خُزَّانُ اَلرَّعِيَّةِ وَ وُكَلاَءُ اَلْأُمَّةِ وَ سُفَرَاءُ اَلْأَئِمَّةِ وَ لاَ تُحْشِمُوا أَحَداً عَنْ حَاجَتِهِ وَ لاَ تَحْبِسُوهُ عَنْ طَلِبَتِهِ وَ لاَ تَبِيعُنَّ اَلنَّاسَ لِلنَّاسِ فِي اَلْخَرَاجِ كِسْوَةَ شِتَاءٍ وَ لاَ صَيْفٍ وَ لاَ دَابَّةً يَعْتَمِلُونَ عَلَيْهَا وَ لاَ عَبْداً وَ لاَ تَضْرِبُنَّ أَحَداً سَوْطاً لِمَكَانِ دِرْهَمٍ وَ لاَ تَمَسُّنَّ مَالَ أَحَدٍ مِنَ اَلنَّاسِ مُصَلٍّ وَ لاَ مُعَاهَدٍ إِلاَّ أَنْ تَجِدُوا فَرَساً أَوْ سِلاَحاً يُعْدَى بِهِ عَلَى أَهْلِ اَلْإِسْلاَمِ فَإِنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَدَعَ ذَلِكَ فِي أَيْدِي أَعْدَاءِ اَلْإِسْلاَمِ فَيَكُونَ شَوْكَةً عَلَيْهِ وَ لاَ تَدَّخِرُوا أَنْفُسَكُمْ نَصِيحَةً وَ لاَ اَلْجُنْدَ حُسْنَ سِيرَةٍ وَ لاَ اَلرَّعِيَّةَ مَعُونَةً وَ لاَ دِينَ اَللَّهِ قُوَّةً وَ أَبْلُوهُ فِي سَبِيلِ أَبْلُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ مَا اِسْتَوْجَبَ عَلَيْكُمْ فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدِ اِصْطَنَعَ عِنْدَنَا
[ 20 ](1/4715)
وَ عِنْدَكُمْ أَنْ نَشْكُرَهُ بِجُهْدِنَا وَ أَنْ نَنْصُرَهُ بِمَا بَلَغَتْ قُوَّتُنَا وَ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ اَلْعَلِيِّ اَلْعَظِيمِ يقول لو قدرنا أن القبائح العقلية كالظلم والبغي لا عقاب على فعلها بل في تركها ثواب فقط لم يكن الإنسان معذورا إذا فرط في ذلك الترك لأنه يكون قد حرم نفسه نفعا هو قادر على إيصاله إليها . قوله ولا تحشموا أحدا أي لا تغضبوا طالب حاجة فتقطعوه عن طلبها أحشمت زيدا وجاء حشمته وهو أن يجلس إليك فتغضبه وتؤذيه وقال ابن الأعرابي حشمته أخجلته وأحشمته أغضبته والاسم الحشمة وهي الاستحياء والغضب . ثم نهاهم أن يبيعوا لأرباب الخراج ما هو من ضرورياتهم كثياب أبدانهم وكدابة يعتملون عليها نحو بقر الفلاحة وكعبد لا بد للإنسان منه يخدمه ويسعى بين يديه . ثم نهاهم عن ضرب الأبشار لاستيفاء الخراج . وكتب عدي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز يستأذنه في عذاب العمال فكتب إليه كأني لك جنة من عذاب الله وكأن رضاي ينجيك من سخط الله من قامت عليه بينة أو أقر بما لم يكن مضطهدا مضطرا إلا الإقرار به فخذه بأدائه فإن كان قادرا عليه فاستأد وإن أبى فاحبسه وإن لم يقدر فخل سبيله بعد أن تحلفه بالله أنه لا يقدر على شي ء فلأن يلقوا الله بجناياتهم أحب إلي من أن ألقاه بدمائهم .
[ 21 ](1/4716)
ثم نهاهم أن يعرضوا لمال أحد من المسلمين أو من المعاهدين المعاهد هاهنا هو الذمي أو من يدخل دار الإسلام من بلاد الشرك على عهد إما لأداء رسالة أو لتجارة ونحو ذلك ثم يعود إلى بلاده . ثم نهاهم عن الظلم وأخذ أموال الناس على طريق المصادرة والتأويل الباطل قال إلا أن تخافوا غائلة المعاهدين بأن تجدوا عندهم خيولا أو سلاحا وتظنوا منهم وثبة على بلد من بلاد المسلمين فإنه لا يجوز الإغضاء عن ذلك حينئذ . قوله وأبلوا في سبيل الله أي اصطنعوا من المعروف في سبيل الله ما استوجب عليكم يقال هو يبلوه معروفا أي يصنعه إليه قال زهير
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم
و أبلاهما خير البلاء الذي يبلو
قوله ع قد اصطنعا عندنا وعندكم أن نشكره أي لأن نشكره بلام التعليل وحذفها أي أحسن إلينا لنشكره وحذفها أكثر نحو قوله تعالى لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ
[ 22 ](1/4717)
52 ـ ومن كتاب له ع إلى أمراء البلاد في معنى الصلاة
أَمَّا بَعْدُ فَصَلُّوا بِالنَّاسِ اَلظُّهْرَ حَتَّى تَفِي ءَ اَلشَّمْسُ مِثْلَ مِنْ مَرْبِضِ اَلْعَنْزِ وَ صَلُّوا بِهِمُ اَلْعَصْرَ وَ اَلشَّمْسُ بَيْضَاءُ حَيَّةٌ فِي عُضْوٍ مِنَ اَلنَّهَارِ حِينَ يُسَارُ فِيهَا فَرْسَخَانِ وَ صَلُّوا بِهِمُ اَلْمَغْرِبَ حِينَ يُفْطِرُ اَلصَّائِمُ وَ يَدْفَعُ اَلْحَاجُّ إِلَى مِنًى وَ صَلُّوا بِهِمُ اَلْعِشَاءَ حِينَ يَتَوَارَى اَلشَّفَقُ إِلَى ثُلُثِ اَللَّيْلِ وَ صَلُّوا بِهِمُ اَلْغَدَاةَ وَ اَلرَّجُلُ يَعْرِفُ وَجْهَ صَاحِبِهِ وَ صَلُّوا بِهِمْ صَلاَةَ أَضْعَفِهِمْ وَ لاَ تَكُونُوا فَتَّانِينَ(1/4718)
بيان اختلاف الفقهاء في أوقات الصلاة
قد اختلف الفقهاء في أوقات الصلاة فقال أبو حنيفة أول وقت الفجر إذا طلع الفجر الثاني وهو المعترض في الأفق وآخر وقتها ما لم تطلع الشمس وأول وقت الظهر إذا زالت الشمس وآخر وقتها إذا صار ظل كل شي ء مثليه سوى الزوال وقال أبو يوسف ومحمد آخر وقتها إذا صار الظل مثله . قال أبو حنيفة وأول وقت العصر إذا خرج وقت الظهر وهذا على القولين وآخر وقتها ما لم تغرب الشمس وأول وقت المغرب إذا غربت الشمس وآخر وقتها
[ 23 ](1/4719)
ما لم يغب الشفق وهو البياض الذي في الأفق بعد الحمرة وقال أبو يوسف ومحمد هو الحمرة . قال أبو حنيفة وأول وقت العشاء إذا غاب الشفق وهذا على القولين وآخر وقتها ما لم يطلع الفجر . وقال الشافعي أول وقت الفجر إذا طلع الفجر الثاني ولا يزال وقتها المختار باقيا إلى أن يسفر ثم يبقى وقت الجواز إلى طلوع الشمس . وقال أبو سعيد الإصطخري من الشافعية لا يبقى وقت الجواز بل يخرج وقتها بعد الإسفار ويصلى قضاء ولم يتابعه على هذا القول أحد قال الشافعي وأول وقت الظهر إذا زالت الشمس وحكى أبو الطيب الطبري من الشافعية أن من الناس من قال لا تجوز الصلاة حتى يصير الفي ء بعد الزوال مثل الشراك . وقال مالك أحب أن يؤخر الظهر بعد الزوال بقدر ما يصير الظل ذراعا وهذا مطابق لما قال أمير المؤمنين ع حين تفي ء الشمس كمربض العنز أي كموضع تربض العنز وذلك نحو ذراع أو أكثر بزيادة يسيرة . قال الشافعي وآخر وقت الظهر إذا صار ظل كل شي ء مثله ويعتبر المثل من حد الزيادة على الظل الذي كان عند الزوال وبهذا القول قال أبو يوسف ومحمد وقد حكيناه من قبل وبه أيضا قال الثوري وأحمد وهو رواية الحسن بن زياد اللؤلؤي عن أبي حنيفة فأما الرواية المشهورة عنه وهي التي رواها أبو يوسف فهو أن آخر وقت الظهر صيرورة الظل مثليه وقد حكيناه عنه فيما تقدم . وقال ابن المنذر تفرد أبو حنيفة بهذا القول وعن أبي حنيفة رواية ثالثة أنه إذا صار ظل كل شي ء مثله خرج وقت الظهر ولم يدخل وقت العصر إلى أن يصير ظل كل شي ء مثليه .
[ 24 ](1/4720)
و قال أبو ثور ومحمد بن جرير الطبري قدر أربع ركعات بين المثل والمثلين يكون مشتركا بين الظهر والعصر . وحكي عن مالك أنه قال إذا صار ظل كل شي ء مثله فهو آخر وقت الظهر وأول وقت العصر فإذا زاد على المثل زيادة بينة خرج وقت الظهر واختص الوقت بالعصر . وحكى ابن الصباغ من الشافعية عن مالك أن وقت الظهر إلى أن يصير ظل كل شي ء مثله وقتا مختارا فأما وقت الجواز والأداء فآخره إلى أن يبقى إلى غروب الشمس قدر أربع ركعات وهذا القول مطابق لمذهب الإمامية . وقال ابن جريج وعطاء لا يكون مفرطا بتأخيرها حتى تكون في الشمس صفرة . وعن طاوس لا يفوت حتى الليل . فأما العصر فإن الشافعي يقول إذا زاد على المثل أدنى زيادة فقد دخل وقت العصر والخلاف في ذلك بينه وبين أبي حنيفة لأنه يقول أول وقت العصر إذا صار ظل كل شي ء مثليه وزاد عليه أدنى زيادة وقد حكيناه عنه فيما تقدم . وكلام أمير المؤمنين ع في العصر مطابق لمذهب أبي حنيفة لأن بعد صيرورة الظل مثليه هو الوقت الذي تكون فيه الشمس حية بيضاء في عضو من النهار حين يسار فيه فرسخان وأما قبل ذلك فإنه فوق ذلك يسار من الفراسخ أكثر من ذلك ولا يزال وقت الاختيار عند الشافعي للعصر باقيا حتى يصير ظل كل شي ء مثليه ثم يبقى وقت الجواز إلى غروب الشمس . وقال أبو سعيد الإصطخري من أصحابه يصير قضاء بمجاوزة المثلين فأما وقت المغرب فإذا غربت الشمس وغروبها سقوط القرص . وقال أبو الحسن علي بن حبيب الماوردي من الشافعية لا بد أن يسقط القرص ويغيب
[ 25 ](1/4721)
حاجب الشمس وهو الضياء المستعلي عليها كالمتصل بها ولم يذكر ذلك من الشافعية أحد غيره . وذكر الشاشي في كتاب حلية العلماء أن الشيعة قالت أول وقت المغرب إذا اشتبكت النجوم قال قد حكي هذا عنهم ولا يساوي الحكاية ولم تذهب الشيعة إلى هذا وسنذكر قولهم فيما بعد . وكلام أمير المؤمنين ع في المغرب لا ينص على وقت معين لأنه عرف ذلك بكونه وقت الإفطار ووقت ما يدفع الحاج وكلا الأمرين يحتاج إلى تعريف كما يحتاج وقت الصلاة اللهم إلا أن يكون قد عرف أمراء البلاد الذين يصلون بالناس من قبل هذا الكتاب متى هذا الوقت الذي يفطر فيه الصائم ثم يدفع فيه الحاج بعينه ثم يحيلهم في هذا الكتاب على ذلك التعريف المخصوص . قال الشافعي وللمغرب وقت واحد وهو قول مالك . وحكى أبو ثور عن الشافعي أن لها وقتين وآخر وقتها إذا غاب الشفق وليس بمشهور عنه والمشهور القول الأول وقد ذكرنا قول أبي حنيفة فيما تقدم وهو امتداد وقتها إلى أن يغيب الشفق وبه قال أحمد وداود . واختلف أصحاب الشافعي في مقدار الوقت الواحد فمنهم من قال هو مقدر بقدر الطهارة وستر العورة والأذان والإقامة وفعل ثلاث ركعات ومنهم من قدره بغير ذلك . وقال أبو إسحاق الشيرازي منهم التضييق إنما هو في الشروع فأما الاستدامة فتجوز إلى مغيب الشفق . فأما وقت العشاء فقال الشافعي هو أن يغيب الشفق وهو الحمرة وهو قول مالك وأحمد وداود وأبي يوسف ومحمد وقد حكينا مذهب أبي حنيفة فيما تقدم وهو أن يغيب الشفق الذي هو البياض وبه قال زفر والمزني .
[ 26 ](1/4722)
قال الشافعي وآخر وقتها المختار إلى نصف الليل هذا هو قوله القديم وهو مذهب أبي حنيفة وقال في الجديد إلى ثلث الليل ويجب أن يحمل قول أمير المؤمنين ع في العشاء إنها إلى ثلث الليل على وقت الاختيار ليكون مطابقا لهذا القول وبه قال مالك وإحدى الروايتين عن أحمد ثم يذهب وقت الاختيار ويبقى وقت الجواز إلى طلوع الفجر الثاني . وقال أبو سعيد الإصطخري لا يبقى وقت الجواز بعد نصف الليل بل يصير قضاء . فقد ذكرنا مذهبي أبي حنيفة والشافعي في الأوقات وهما الإمامان المعتبران في الفقه ودخل في ضمن حكاية مذهب الشافعي ما يقوله مالك وأحمد وغيرهما من الفقهاء . فأما مذهب الإمامية من الشيعة فنحن نذكره نقلا عن كتاب أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان رحمه الله المعروف بالرسالة المقنعة قال وقت الظهر من بعد زوال الشمس إلى أن يرجع الفي ء سبعي الشخص وعلامة الزوال رجوع الفي ء بعد انتهائه إلى النقصان وطريق معرفة ذلك بالأصطرلاب أو ميزان الشمس وهو معروف عند كثير من الناس أو بالعمود المنصوب في الدائرة الهندية أيضا فمن لم يعرف حقيقة العمل بذلك أو لم يجد آلته فلينصب عودا من خشب أو غيره في أرض مستوية السطح ويكون أصل العود غليظا ورأسه دقيقا شبه المذري الذي ينسج به التكك أو المسلة التي تخاط بها الأحمال فإن ظل هذا العود يكون بلا شك في أول النهار أطول من العود وكلما ارتفعت الشمس نقص من طوله حتى يقف القرص في وسط السماء فيقف الفي ء حينئذ فإذا زال القرص عن الوسط إلى جهة المغرب رجع الفي ء إلى الزيادة فليعتبر من أراد الوقوف على وقت الزوال ذلك بخطط وعلامات يجعلها على رأس ظل العود عند وضعه
[ 27 ](1/4723)
في صدر النهار وكلما نقص في الظل شي ء علم عليه فإذا رجع إلى الزيادة على موضع العلامة عرف حينئذ برجوعه أن الشمس قد زالت . وبذلك تعرف أيضا القبلة فإن قرص الشمس يقف فيها وسط النهار ويصير عن يسارها ويمين المتوجه إليها بعد وقوفها وزوالها عن القطب فإذا صارت مما يلي حاجبه الأيمن من بين عينيه علم أنها قد زالت وعرف أن القبلة تلقاء وجهه ومن سبقت معرفته بجهة القبلة فهو يعرف زوال الشمس إذا توجه إليها فرأى عين الشمس مما يلي حاجبه الأيمن إلا أن ذلك لا يبين إلا بعد زوالها بزمان ويبين الزوال من أول وقته بما ذكرناه من الأصطرلاب وميزان الشمس والدائرة الهندية والعمود الذي وصفناه ومن لم يحصل له معرفة ذلك أو فقد الآلة توجه إلى القبلة فاعتبر صيرورة الشمس على طرف حاجبه الأيمن وقت العصر من بعد الفراغ من الظهر إذا صليت الظهر في أول أوقاتها أعني بعد زوال الشمس بلا فصل ويمتد إلى أن يتغير لون الشمس باصفرارها للغروب وللمضطر والناسي إلى مغيبها بسقوط القرص عما تبلغه أبصارنا من السماء وأول وقت المغرب مغيب الشمس وعلامة مغيبها عدم الحمرة في المشرق المقابل للمغرب في السماء وذلك أن المشرق في السماء مطل على المغرب فما دامت الشمس ظاهرة فوق أرضنا فهي تلقى ضوءها على المشرق في السماء فيرى حمرتها فيه فإذا ذهبت الحمرة منه علم أن القرص قد سقط وغاب وآخره أول وقت العشاء الآخرة وأول وقتها مغيب الشمس وهو الحمرة في المغرب وآخره مضي الثلث الأول من الليل وأول وقت الغداة اعتراض الفجر وهو البياض في المشرق يعقبه الحمرة في مكانه ويكون مقدمة لطلوع الشمس على الأرض من السماء وذلك أن الفجر الأول وهو البياض الظاهر في المشرق يطلع طولا ثم ينعكس بعد مدة عرضا ثم يحمر الأفق بعده للشمس .
[ 28 ](1/4724)
و لا ينبغي للإنسان أن يصلي فريضة الغداة حتى يعترض البياض وينتشر صعدا في السماء كما ذكرنا وآخر وقت الغداة طلوع الشمس . هذا ما تقوله الفقهاء في مواقيت الصلاة فأما قوله ع والرجل يعرف وجه صاحبه فمعناه الإسفار وقد ذكرناه . وقوله ع وصلوا بهم صلاة أضعفهم أي لا تطيلوا بالقراءة الكثيرة والدعوات الطويلة . ثم قال ولا تكونوا فتانين أي لا تفتنوا الناس بإتعابهم وإدخال المشقة عليهم بإطالة الصلاة وإفساد صلاة المأمومين بما يفعلونه من أفعال مخصوصة نحو أن يحدث الإمام فيستخلف فيصلي الناس خلف خليفته فإن ذلك لا يجوز على أحد قولي الشافعي ونحو أن يطيل الإمام الركوع والسجود فيظن المأمومون أنه قد رفع فيرفعون أو يسبقونه بأركان كثيرة ونحو ذلك من مسائل يذكرها الفقهاء في كتبهم . واعلم أن أمير المؤمنين ع إنما بدأ بصلاة الظهر لأنها أول فريضة افترضت على المكلفين من الصلاة على ما كان يذهب إليه ع وإلى ذلك تذهب الإمامية وينصر قولهم تسميتها بالأولى ولهذا بدأ أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان بذكرها قبل غيرها فأما من عدا هؤلاء فأول الصلاة المفروضة عندهم الصبح وهي أول النهار . وأيضا يتفرع على هذا البحث القول في الصلاة الوسطى ما هي فذهب جمهور
[ 29 ](1/4725)
الناس إلى أنها العصر لأنها بين صلاتي نهار وصلاتي ليل وقد رووا أيضا في ذلك روايات بعضها في الصحاح وقياس مذهب الإمامية أنها المغرب لأن الظهر إذا كانت الأولى كانت المغرب الوسطى إلا أنهم يروون عن أئمتهم ع أنها الظهر ويفسرون الوسطى بمعنى الفضلى لأن الوسط في اللغة هو خيار كل شي ء ومنه قوله تعالى جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً وقد ذهب إلى أنها المغرب قوم من الفقهاء أيضا . وقال كثير من الناس أنها الصبح لأنها أيضا بين صلاتي ليل وصلاتي نهار ورووا أيضا فيها روايات وهو مذهب الشافعي ومن الناس من قال إنها الظهر كقول الإمامية ولم يسمع عن أحد معتبرا أنها العشاء إلا قولا شاذا ذكره بعضهم . وقال لأنها بين صلاتين لا تقصران
[ 30 ](1/4726)
53 ـ ومن كتاب له ع كتبه للأشتر النخعي رحمه الله لما ولاه على مصر وأعمالها
حين اضطرب أمر أميرها محمد بن أبي بكر وهو أطول عهد كتبه وأجمعه للمحاسن : بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اَللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ مَالِكَ بْنَ اَلْحَارِثِ اَلْأَشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ حِينَ وَلاَّهُ مِصْرَ جِبَايَةَ خَرَاجِهَا وَ جِهَادَ عَدُوِّهَا وَ اِسْتِصْلاَحَ أَهْلِهَا وَ عِمَارَةَ بِلاَدِهَا أَمَرَهُ بِتَقْوَى اَللَّهِ وَ إِيْثَارِ طَاعَتِهِ وَ اِتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ وَ سُنَنِهِ اَلَّتِي لاَ يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلاَّ بِاتِّبَاعِهَا وَ لاَ يَشْقَى إِلاَّ مَعَ جُحُودِهَا وَ إِضَاعَتِهَا وَ أَنْ يَنْصُرَ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ بِيَدِهِ وَ قَلْبِهِ بِقَلْبِهِ وَ يَدِهِ وَ لِسَانِهِ فَإِنَّهُ جَلَّ اِسْمُهُ قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ وَ إِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ وَ أَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ مِنْ نَفْسِهِ عِنْدَ نَفْسَهُ مِنَ اَلشَّهَوَاتِ وَ يَنْزَعَهَا يَزَعَهَا عِنْدَ اَلْجَمَحَاتِ فَإِنَّ اَلنَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ اَللَّهُ ثُمَّ اِعْلَمْ يَا مَالِكُ أَنِّي قَدْ وَجَّهْتُكَ إِلَى بِلاَدٍ قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ مِنْ عَدْلٍ وَ جَوْرٍ وَ أَنَّ اَلنَّاسَ يَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ فِي مِثْلِ مَا كُنْتَ تَنْظُرُ فِيهِ مِنْ أُمُورِ
[ 31 ](1/4727)
اَلْوُلاَةِ قَبْلَكَ وَ يَقُولُونَ فِيكَ مَا كُنْتَ تَقُولُهُ تَقُولُ فِيهِمْ وَ إِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى اَلصَّالِحِينَ بِمَا يُجْرِي اَللَّهُ لَهُمْ عَلَى أَلْسُنِ عِبَادِهِ فَلْيَكُنْ أَحَبَّ اَلذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةُ اَلْعَمَلِ اَلصَّالِحِ فَامْلِكْ هَوَاكَ وَ شُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لاَ يَحِلُّ لَكَ فَإِنَّ اَلشُّحَّ بِالنَّفْسِ اَلْإِنْصَافُ مِنْهَا فِيمَا أَحَبَّتْ أَوْ كَرِهَتْ نصرة الله باليد الجهاد بالسيف وبالقلب الاعتقاد للحق وباللسان قول الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد تكفل الله بنصرة من نصره لأنه تعالى قال وَ لَيَنْصُرَنَّ اَللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ . والجمحات منازعة النفس إلى شهواتها ومآربها ونزعها بكفها . ثم قال له قد كنت تسمع أخبار الولاة وتعيب قوما وتمدح قوما وسيقول الناس في إمارتك الآن نحو ما كنت تقول في الأمراء فاحذر أن تعاب وتذم كما كنت تعيب وتذم من يستحق الذم . ثم قال إنما يستدل على الصالحين بما يكثر سماعه من ألسنة الناس بمدحهم والثناء عليهم وكذلك يستدل على الفاسقين بمثل ذلك . وكان يقال ألسنة الرعية أقلام الحق سبحانه إلى الملوك . ثم أمره أن يشح بنفسه وفسر له الشح ما هو فقال إن تنتصف منها فيما أحبت
[ 32 ](1/4728)
و كرهت أي لا تمكنها من الاسترسال في الشهوات وكن أميرا عليها ومسيطرا وقامعا لها من التهور والانهماك . فإن قلت هذا معنى قوله فيما أحبت فما معنى قوله وكرهت قلت لأنها تكره الصلاة والصوم وغيرهما من العبادات الشرعية ومن الواجبات العقلية وكما يجب أن يكون الإنسان مهيمنا عليها في طرف الفعل يجب أن يكون مهيمنا عليها في طرف الترك : وَ أَشْعِرْ قَلْبَكَ اَلرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَ اَلْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَ اَللُّطْفَ بِهِمْ وَ لاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي اَلدِّينِ وَ إِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي اَلْخَلْقِ يَفْرُطُ مِنْهُمُ اَلزَّلَلُ وَ تَعْرِضُ لَهُمُ اَلْعِلَلُ وَ يُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي اَلْعَمْدِ وَ اَلْخَطَإِ فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَ صَفْحِكَ مِثْلِ اَلَّذِي تُحِبُّ وَ تَرْضَى أَنْ يُعْطِيَكَ اَللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَ صَفْحِهِ فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ وَ وَالِي اَلْأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ وَ اَللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلاَّكَ وَ قَدِ اِسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ وَ اِبْتَلاَكَ بِهِمْ وَ لاَ تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اَللَّهِ فَإِنَّهُ لاَ يَدَيْ يَدَ لَكَ بِنِقْمَتِهِ وَ لاَ غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَ رَحْمَتِهِ وَ لاَ تَنْدَمَنَّ عَلَى عَفْوٍ وَ لاَ تَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَةٍ وَ لاَ تُسْرِعَنَّ إِلَى بَادِرَةٍ وَجَدْتَ عَنْهَا مِنْهَا مَنْدُوحَةً وَ لاَ تَقُولَنَّ إِنِّي مُؤَمَّرٌ آمُرُ فَأُطَاعُ فَإِنَّ ذَلِكَ إِدْغَالٌ فِي اَلْقَلْبِ وَ مَنْهَكَةٌ لِلدِّينِ وَ تَقَرُّبٌ مِنَ اَلْغِيَرِ
[ 33 ](1/4729)
وَ إِذَا أَحْدَثَ لَكَ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ سُلْطَانِكَ أُبَّهَةً أَوْ مَخِيلَةً فَانْظُرْ إِلَى عِظَمِ مُلْكِ اَللَّهِ فَوْقَكَ وَ قُدْرَتِهِ مِنْكَ عَلَى مَا لاَ تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ يُطَامِنُ إِلَيْكَ مِنْ طِمَاحِكَ وَ يَكُفُّ عَنْكَ مِنْ غَرْبِكَ وَ يَفِي ءُ إِلَيْكَ بِمَا عَزَبَ عَنْكَ مِنْ عَقْلِكَ إِيَّاكَ وَ مُسَامَاةَ اَللَّهِ فِي عَظَمَتِهِ وَ اَلتَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ فَإِنَّ اَللَّهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّارٍ وَ يُهِينُ كُلَّ مُخْتَالٍ أشعر قلبك الرحمة أي اجعلها كالشعار له وهو الثوب الملاصق للجسد قال لأن الرعية إما أخوك في الدين أو إنسان مثلك تقتضي رقة الجنسية وطبع البشرية الرحمة له . قوله ويؤتى على أيديهم مثل قولك ويؤخذ على أيديهم أي يهذبون ويثقفون يقال خذ على يد هذا السفيه وقد حجر الحاكم على فلان وأخذ على يده . ثم قال فنسبتهم إليك كنسبتك إلى الله تعالى وكما تحب أن يصفح الله عنك ينبغي أن تصفح أنت عنهم . قوله لا تنصبن نفسك لحرب الله أي لا تبارزه بالمعاصي فإنه لا يدي لك بنقمته اللام مقحمة والمراد الإضافة ونحوه قولهم لا أبا لك . قوله ولا تقولن إني مؤمر أي لا تقل إني أمير ووال آمر بالشي ء فأطاع .
[ 34 ](1/4730)
و الإدغال الإفساد ومنهكة للدين ضعف وسقم . ثم أمره عند حدوث الأبهة والعظمة عنده لأجل الرئاسة والإمرة أن يذكر عظمة الله تعالى وقدرته على إعدامه وإيجاده وإماتته وإحيائه فإن تذكر ذلك يطامن من غلوائه أي يغض من تعظمه وتكبره ويطأطئ منه . والغرب حد السيف ويستعار للسطوة والسرعة في البطش والفتك . قوله ويفي ء أي يرجع إليك بما بعد عنك من عقلك وحرف المضارعة مضموم لأنه من أفاء . ومساماة الله تعالى مباراته في السمو وهو العلو : أَنْصِفِ اَللَّهَ وَ أَنْصِفِ اَلنَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ وَ مِنْ خَاصَّةً أَهْلِكَ وَ مَنْ لَكَ هَوًى فِيهِ فِيهِ هُدًى مِنْ رَعِيَّتِكَ فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ وَ مَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اَللَّهِ كَانَ اَللَّهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ وَ مَنْ خَاصَمَهُ اَللَّهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ وَ كَانَ لِلَّهِ حَرْباً حَتَّى يَنْزِعَ أَوْ يَتُوبَ وَ لَيْسَ شَيْ ءٌ أَدْعَى إِلَى تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اَللَّهِ وَ تَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إِقَامَةٍ عَلَى ظُلْمٍ فَإِنَّ اَللَّهَ يَسْمَعُ سَمِيعٌ دَعْوَةَ اَلْمُضْطَهَدِينَ وَ هُوَ لِلظَّالِمِينَ بِالْمِرْصَادِ وَ لْيَكُنْ أَحَبَّ اَلْأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي اَلْحَقِّ وَ أَعَمُّهَا فِي اَلْعَدْلِ وَ أَجْمَعُهَا لِرِضَا لِرِضَى اَلرَّعِيَّةِ فَإِنَّ سُخْطَ اَلْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَا بِرِضَى اَلْخَاصَّةِ وَ إِنَّ سُخْطَ اَلْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَا رِضَى اَلْعَامَّةِ
[ 35 ](1/4731)
وَ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ اَلرَّعِيَّةِ أَثْقَلَ عَلَى اَلْوَالِي مَئُونَةً فِي اَلرَّخَاءِ وَ أَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي اَلْبَلاَءِ وَ أَكْرَهَ لِلْإِنْصَافِ وَ أَسْأَلَ بِالْإِلْحَافِ وَ أَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ اَلْإِعْطَاءِ وَ أَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ اَلْمَنْعِ وَ أَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ اَلدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ اَلْخَاصَّةِ وَ إِنَّمَا عَمُودُ عِمَادُ اَلدِّينِ وَ جِمَاعُ اَلْمُسْلِمِينَ وَ اَلْعُدَّةُ لِلْأَعْدَاءِ اَلْعَامَّةُ مِنَ اَلْأُمَّةِ فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ وَ مَيْلُكَ مَعَهُمْ قال له أنصف الله أي قم له بما فرض عليك من العبادة والواجبات العقلية والسمعية . ثم قال وأنصف الناس من نفسك ومن ولدك وخاصة أهلك ومن تحبه وتميل إليه من رعيتك فمتى لم تفعل ذلك كنت ظالما . ثم نهاه عن الظلم وأكد الوصاية عليه في ذلك . ثم عرفه أن قانون الإمارة الاجتهاد في رضا العامة فإنه لا مبالاة بسخط خاصة الأمير مع رضا العامة فأما إذا سخطت العامة لم ينفعه رضا الخاصة وذلك مثل أن يكون في البلد عشرة أو عشرون من أغنيائه وذوي الثروة من أهله يلازمون الوالي ويخدمونه ويسامرونه وقد صار كالصديق لهم فإن هؤلاء ومن ضارعهم من حواشي الوالي وأرباب الشفاعات والقربات عنده لا يغنون عنه شيئا عند تنكر العامة له وكذاك لا يضر سخط هؤلاء إذا رضيت العامة وذلك لأن هؤلاء عنهم غنى ولهم بدل والعامة لا غنى عنهم ولا بدل منهم ولأنهم إذا شغبوا عليه كانوا كالبحر إذا هاج واضطرب فلا يقاومه أحد وليس الخاصة كذلك .
[ 36 ](1/4732)
ثم قال ع ونعم ما قال ليس شي ء أقل نفعا ولا أكثر ضررا على الوالي من خواصه أيام الولاية لأنهم يثقلون عليه بالحاجات والمسائل والشفاعات فإذا عزل هجروه ورفضوه حتى لو لقوه في الطريق لم يسلموا عليه . والصغو بالكسر والفتح والصغا مقصور الميل : وَ لْيَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ وَ أَشْنَأَهُمْ عِنْدَكَ أَطْلَبُهُمْ لِمَعَايِبِ اَلنَّاسِ فَإِنَّ فِي اَلنَّاسِ عُيُوباً اَلْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا فَلاَ تَكْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيرُ مَا ظَهَرَ لَكَ وَ اَللَّهُ يَحْكُمُ عَلَى مَا غَابَ عَنْكَ فَاسْتُرِ اَلْعَوْرَةَ مَا اِسْتَطَعْتَ يَسْتُرِ اَللَّهُ مِنْكَ مَا تُحِبُّ سَتْرَهُ مِنْ رَعِيَّتِكَ أَطْلِقْ عَنِ اَلنَّاسِ عُقْدَةَ كُلِّ حِقْدٍ وَ اِقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُلِّ وِتْرٍ وَ تَغَابَ عَنْ كُلِّ مَا لاَ يَضِحُ لَكَ وَ لاَ تَعْجَلَنَّ إِلَى تَصْدِيقِ سَاعٍ فَإِنَّ اَلسَّاعِيَ غَاشٌّ وَ إِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ وَ لاَ تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلاً يَعْدِلُ بِكَ عَنِ اَلْفَضْلِ وَ يَعِدُكَ اَلْفَقْرَ وَ لاَ جَبَاناً يُضْعِفُكَ عَنِ اَلْأُمُورِ وَ لاَ حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ اَلشَّرَهَ بِالْجَوْرِ فَإِنَّ اَلْبُخْلَ وَ اَلْجُبْنَ وَ اَلْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ اَلظَّنِّ بِاللَّهِ
[ 37 ]
أشناهم عندك أبغضهم إليك . وتغاب تغافل يقال تغابى فلان عن كذا . ويضح يظهر والماضي وضح(1/4733)
فصل في النهي عن ذكر عيوب الناس وما ورد في ذلك من الآثار
عاب رجل رجلا عند بعض الأشراف فقال له لقد استدللت على كثرة عيوبك بما تكثر فيه من عيوب الناس لأن طالب العيوب إنما يطلبها بقدر ما فيه منها . وقال الشاعر
و أجرأ من رأيت بظهر غيب
على عيب الرجال أولو العيوب
و قال آخر
يا من يعيب وعيبه متشعب
كم فيك من عيب وأنت تعيب
و
في الخبر المرفوع دعوا الناس بغفلاتهم يعيش بعضهم مع بعض . وقال الوليد بن عتبة بن أبي سفيان كنت أساير أبي ورجل معنا يقع في رجل فالتفت أبي إلي فقال يا بني نزه سمعك عن استماع الخنى كما تنزه لسانك عن الكلام به فإن المستمع شريك القائل إنما نظر إلى أخبث ما في وعائه فأفرغه في وعائك ولو ردت كلمة جاهل في فيه لسعد رادها كما شقي قائلها . و
قال ابن عباس الحدث حدثان حدث من فيك وحدث من فرجك .
[ 38 ]
و عاب رجل رجلا عند قتيبة بن مسلم فقال له قتيبة أمسك ويحك فقد تلمظت بمضغه طالما لفظها الكرام . ومر رجل بجارين له ومعه ريبة فقال أحدهما لصاحبه أ فهمت ما معه من الريبة قال وما معه قال كذا قال عبدي حر لوجه الله شكرا له تعالى إذ لم يعرفني من الشر ما عرفك . وقال الفضيل بن عياض إن الفاحشة لتشيع في كثير من المسلمين حتى إذا صارت إلى الصالحين كانوا لها خزانا . وقيل لبزرجمهر هل من أحد لا عيب فيه فقال الذي لا عيب فيه لا يموت . وقال الشاعر
و لست بذي نيرب في الرجا
ل مناع خير وسبابها
و لا من إذا كان في جانب
أضاع العشيرة واغتابها
و لكن أطاوع ساداتها
و لا أتعلم ألقابها
و قال آخر
لا تلتمس من مساوي الناس ما ستروا
فيكشف الله سترا من مساويكا
و اذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا
و لا تعب أحدا منهم بما فيكا
و قال آخر
ابدأ بنفسك فإنهما عن عيبها
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك تعذر إن وعظت ويقتدى
بالقول منك ويقبل التعليم
[ 39 ](1/4734)
فأما قوله ع أطلق عن الناس عقدة كل حقد فقد استوفى هذا المعنى زياد في خطبته البتراء فقال وقد كانت بيني وبين أقوام إحن وقد جعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي فمن كان منكم محسنا فليزدد إحسانا ومن كان منكم مسيئا فلينزع عن إساءته إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السلال من بغضي لم أكشف عنه قناعا ولم أهتك له سترا حتى يبدي لي صفحته فإذا فعل لم أناظره ألا فليشمل كل امرئ منكم على ما في صدره ولا يكونن لسانه شفرة تجري على ودجه(1/4735)
فصل في النهي عن سماع السعاية وما ورد ذلك من الآثار
فأما قوله ع ولا تعجلن إلى تصديق ساع فقد ورد في هذا المعنى كلام حسن قال ذو الرئاستين قبول السعاية شر من السعاية لأن السعاية دلالة والقبول إجازة وليس من دل على شي ء كمن قبله وأجازه فامقت الساعي على سعايته فإنه لو كان صادقا كان لئيما إذ هتك العورة وأضاع الحرمة . وعاتب مصعب بن الزبير الأحنف على أمر بلغه عنه فأنكره فقال مصعب أخبرني به الثقة قال كلا أيها الأمير إن الثقة لا يبلغ . وكان يقال لو لم يكن من عيب الساعي إلا أنه أصدق ما يكون أضر ما يكون على الناس لكان كافيا . كانت الأكاسرة لا تأذن لأحد أن يطبخ السكباج وكان ذلك مما يختص به الملك فرفع ساع إلى أنوشروان إن فلانا دعانا ونحن جماعة إلى طعام له وفيه
[ 40 ]
سكباج فوقع أنوشروان على رقعته قد حمدنا نصيحتك وذممنا صديقك على سوء اختياره للإخوان . جاء رجل إلى الوليد بن عبد الملك وهو خليفة عبد الملك على دمشق فقال أيها الأمير إن عندي نصيحة قال اذكرها قال جار لي رجع من بعثه سرا فقال أما أنت فقد أخبرتنا أنك جار سوء فإن شئت أرسلنا معك فإن كنت كاذبا عاقبناك وإن كنت صادقا مقتناك وإن تركتنا تركناك قال بل أتركك أيها الأمير قال فانصرف . ومثل هذا يحكى عن عبد الملك أن إنسانا سأله الخلوة فقال لجلسائه إذا شئتم فانصرفوا فلما تهيأ الرجل للكلام قال له اسمع ما أقول إياك أن تمدحني فأنا أعرف بنفسي منك أو تكذبني فإنه لا رأي لمكذوب أو تسعى بأحد إلي فإني لا أحب السعاية قال أ فيأذن أمير المؤمنين بالانصراف قال إذا شئت . وقال بعض الشعراء
لعمرك ما سب الأمير عدوه
و لكنما سب الأمير المبلغ
و قال آخر
حرمت منائي منك إن كان ذا الذي
أتاك به الواشون عني كما قالوا
و لكنهم لما رأوك شريعة
إلي تواصوا بالنميمة واحتالوا
فقد صرت أذنا للوشاة سميعة
ينالون من عرضي ولو شئت ما نالوا(1/4736)
و قال عبد الملك بن صالح لجعفر بن يحيى وقد خرج يودعه لما شخص إلى خراسان أيها الأمير أحب أن تكون لي كما قال الشاعر
[ 41 ]
فكوني على الواشين لداء شغبة
كما أنا للواشي ألد شغوب
قال بل أكون كما قال القائل
و إذا الواشي وشى يوما بها
نفع الواشي بما جاء يضر
و قال العباس بن الأحنف
ما حطك الواشون من رتبة
عندي ولا ضرك مغتاب
كأنهم أثنوا ولم يعلموا
عليك عندي بالذي عابوا
قوله ع ولا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر مأخوذ من قول الله تعالى اَلشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ اَلْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَ اَللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلاً قال المفسرون الفحشاء هاهنا البخل ومعنى يَعِدُكُمُ اَلْفَقْرَ يخيل إليكم أنكم إن سمحتم بأموالكم افتقرتم فيخوفكم فتخافون فتبخلون . قوله ع فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله كلام شريف عال على كلام الحكماء يقول إن بينها قدرا مشتركا وإن كانت غرائز وطبائع مختلفة وذلك القدر المشترك هو سوء الظن بالله لأن الجبان يقول في نفسه إن أقدمت قتلت والبخيل يقول إن سمحت وأنفقت افتقرت والحريص يقول إن لم أجد وأجتهد وأدأب فاتني ما أروم وكل هذه الأمور ترجع إلى سوء الظن بالله ولو أحسن الظن الإنسان بالله وكان يقينه صادقا لعلم أن الأجل مقدر وأن الرزق مقدر وأن الغنى والفقر مقدران وأنه لا يكون من ذلك إلا ما قضى الله تعالى كونه
[ 42 ](1/4737)
شَرُّ إِنَّ شَرَّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ لِلْأَشْرَارِ لِلْأَشْرَارِ قَبْلَكَ وَزِيراً وَ مَنْ شَرِكَهُمْ فِي اَلآْثَامِ فَلاَ يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ اَلْأَثَمَةِ وَ إِخْوَانُ اَلظَّلَمَةِ وَ أَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَيْرَ اَلْخَلَفِ مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ وَ نَفَاذِهِمْ وَ لَيْسَ عَلَيْهِ مِثْلُ آصَارِهِمْ وَ أَوْزَارِهِمْ وَ آثَامِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُعَاوِنْ ظَالِماً عَلَى ظُلْمِهِ وَ لاَ آثِماً عَلَى إِثْمِهِ أُولَئِكَ أَخَفُّ عَلَيْكَ مَئُونَةً وَ أَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً وَ أَحْنَى عَلَيْكَ عَطْفاً وَ أَقَلُّ لِغَيْرِكَ إِلْفاً فَاتَّخِذْ أُولَئِكَ خَاصَّةً لِخَلَوَاتِكَ وَ حَفَلاَتِكَ ثُمَّ لْيَكُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ اَلْحَقِّ لَكَ وَ أَقَلَّهُمْ مُسَاعَدَةً فِيمَا يَكُونُ مِنْكَ مِمَّا كَرِهَ اَللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ هَوَاكَ حَيْثُ وَقَعَ نهاه ع ألا يتخذ بطانة قد كانوا من قبل بطانة للظلمة وذلك لأن الظلم وتحسينه قد صار ملكة ثابتة في أنفسهم فبعيد أن يمكنهم الخلو منها إذ قد صارت كالخلق الغريزي اللازم لتكرارها وصيرورتها عادة فقد جاءت النصوص في الكتاب والسنة بتحريم معاونة الظلمة ومساعدتهم وتحريم الاستعانة بهم فإن من استعان بهم كان معينا لهم قال تعالى وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ اَلْمُضِلِّينَ عَضُداً وقال لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ و
جاء في الخبر المرفوع ينادى يوم القيامة أين من بري لهم أي الظالمين قلما .
[ 43 ](1/4738)
أتي الوليد بن عبد الملك برجل من الخوارج فقال له ما تقول في الحجاج قال وما عسيت أن أقول فيه هل هو إلا خطيئة من خطاياك وشرر من نارك فلعنك الله ولعن الحجاج معك وأقبل يشتمهما فالتفت الوليد إلى عمر بن عبد العزيز فقال ما تقول في هذا قال ما أقول فيه هذا رجل يشتمكم فإما أن تشتموه كما شتمكم وإما أن تعفوا عنه فغضب الوليد وقال لعمر ما أظنك إلا خارجيا فقال عمر وما أظنك إلا مجنونا وقام فخرج مغضبا ولحقه خالد بن الريان صاحب شرطة الوليد فقال له ما دعاك إلى ما كلمت به أمير المؤمنين لقد ضربت بيدي إلى قائم سيفي أنتظر متى يأمرني بضرب عنقك قال أ وكنت فاعلا لو أمرك قال نعم فلما استخلف عمر جاء خالد بن الريان فوقف على رأسه متقلدا سيفه فنظر إليه وقال يا خالد ضع سيفك فإنك مطيعنا في كل أمر نأمرك به وكان بين يديه كاتب للوليد فقال له ضع أنت قلمك فإنك كنت تضر به وتنفع اللهم إني قد وضعتهما فلا ترفعهما قال فو الله ما زالا وضيعين مهينين حتى ماتا . وروى الغزالي في كتاب إحياء علوم الدين قال لما خالط الزهري السلطان كتب أخ له في الدين إليه عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو الله لك ويرحمك فقد أصبحت شيخا كبيرا وقد أثقلتك نعم الله عليك بما فهمك من كتابه وعلمك من سنة نبيه وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء فإنه تعالى قال لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ واعلم أن أيسر ما ارتكبت وأخف ما احتملت أنك آنست وحشة الظالم وسهلت سبيل الغي بدنوك إلى من لم يؤد حقا ولم يترك باطلا حين أدناك اتخذوك أبا بكر قطبا تدور
[ 44 ](1/4739)
عليه رحى ظلمهم وجسرا يعبرون عليه إلى بلائهم ومعاصيهم وسلما يصعدون فيه إلى ضلالتهم يدخلون بك الشك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهلاء فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك وما أكثر ما أخذوا منك في جنب ما أفسدوا من حالك ودينك وما يؤمنك أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا اَلصَّلاةَ وَ اِتَّبَعُوا اَلشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا يا أبا بكر إنك تعامل من لا يجهل ويحفظ عليك من لا يغفل فداو دينك فقد دخله سقم وهيئ زادك فقد حضر سفر بعيد وما يخفى على الله من شي ء في الأرض ولا في السماء والسلام : وَ الْصَقْ بِأَهْلِ اَلْوَرَعِ وَ اَلصِّدْقِ ثُمَّ رُضْهُمْ عَلَى أَلاَّ يُطْرُوكَ وَ لاَ يَبْجَحُوكَ بِبَاطِلٍ لَمْ تَفْعَلْهُ فَإِنَّ كَثْرَةَ اَلْإِطْرَاءِ تُحْدِثُ اَلزَّهْوَ وَ تُدْنِي مِنَ اَلْعِزَّةِ وَ لاَ يَكُونَنَّ اَلْمُحْسِنُ وَ اَلْمُسِي ءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَزْهِيداً لِأَهْلِ اَلْإِحْسَانِ فِي اَلْإِحْسَانِ وَ تَدْرِيباً لِأَهْلِ اَلْإِسَاءَةِ وَ أَلْزِمْ كُلاًّ مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ
[ 45 ]
قوله والصق بأهل الورع كلمة فصيحة يقول اجعلهم خاصتك وخلصاءك . قال ثم رضهم على ألا يطروك أي عودهم ألا يمدحوك في وجهك ولا يبجحوك بباطل لا يجعلوك ممن يبجح أي يفخر بباطل لم يفعله كما يبجح أصحاب الأمراء الأمراء بأن يقولوا لهم ما رأينا أعدل منكم ولا أسمح ولا حمى هذا الثغر أمير أشد بأسا منكم ونحو ذلك وقد جاء(1/4740)
في الخبر احثوا في وجوه المداحين التراب . وقال عبد الملك لمن قام يساره ما تريد أ تريد أن تمدحني وتصفني أنا أعلم بنفسي منك . وقام خالد بن عبد الله القسري إلى عمر بن عبد العزيز يوم بيعته فقال يا أمير المؤمنين من كانت الخلافة زائنته فقد زينتها ومن كانت شرفته فقد شرفتها فإنك لكما قال القائل
و إذا الدر زان حسن وجوه
كان للدر حسن وجهك زينا
فقال عمر بن عبد العزيز لقد أعطي صاحبكم هذا مقولا وحرم معقولا وأمره أن يجلس . ولما عقد معاوية البيعة لابنه يزيد قام الناس يخطبون فقال معاوية لعمرو بن سعيد الأشدق قم فاخطب يا أبا أمية فقام فقال أما بعد فإن يزيد ابن أمير المؤمنين أمل تأملونه وأجل تأمنونه إن افتقرتم إلى حلمه وسعكم وإن احتجتم إلى رأيه أرشدكم وإن اجتديتم ذات يده أغناكم وشملكم جذع قارح سوبق فسبق وموجد فمجد
[ 46 ]
و قورع فقرع وهو خلف أمير المؤمنين ولا خلف منه فقال معاوية أوسعت يا أبا أمية فاجلس فإنما أردنا بعض هذا .
و أثنى رجل على علي ع في وجهه ثناء أوسع فيه وكان عنده متهما فقال له أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك وقال ابن عباس لعتبة بن أبي سفيان وقد أثنى عليه فأكثر رويدا فقد أمهيت يا أبا الوليد يعني بالغت يقال أمهى حافر البئر إذا استقصى حفرها . فأما قوله ع ولا يكونن المحسن والمسي ء عندك بمنزلة سواء فقد أخذه الصابي فقال وإذا لم يكن للمحسن ما يرفعه وللمسي ء ما يضعه زهد المحسن في الإحسان واستمر المسي ء على الطغيان وقال أبو الطيب
شر البلاد بلاد لا صديق بها
و شر ما يكسب الإنسان ما يصم
و شر ما قبضته راحتي قنص
شهب البزاة سواء فيه والرخم(1/4741)
و كان يقال قضاء حق المحسن أدب للمسي ء وعقوبة المسي ء جزاء للمحسن : وَ اِعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْ ءٌ بِأَدْعَى إِلَى حُسْنِ ظَنِّ وَالٍ رَاعٍ بِرَعِيَّتِهِ مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ وَ تَخْفِيفِهِ اَلْمَئُونَاتِ عَلَيْهِمْ وَ تَرْكِ اِسْتِكْرَاهِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى مَا لَيْسَ لَهُ قِبَلَهُمْ فَلْيَكُنْ مِنْكَ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ يَجْتَمِعُ لَكَ بِهِ حُسْنُ اَلظَّنِّ بِرَعِيَّتِكَ فَإِنَّ حُسْنَ اَلظَّنِّ يَقْطَعُ عَنْكَ نَصَباً طَوِيلاً وَ إِنَّ أَحَقَّ مَنْ حَسُنَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ حَسُنَ بَلاَؤُكَ عِنْدَهُ وَ إِنَّ أَحَقَّ مَنْ سَاءَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ سَاءَ بَلاَؤُكَ عِنْدَهُ
[ 47 ](1/4742)
وَ لاَ تَنْقُضْ سُنَّةً صَالِحَةً عَمِلَ بِهَا صُدُورُ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ وَ اِجْتَمَعَتْ بِهَا اَلْأُلْفَةُ وَ صَلَحَتْ عَلَيْهَا اَلرَّعِيَّةُ وَ لاَ تُحْدِثَنَّ سُنَّةً تَضُرُّ بِشَيْ ءٍ مِنْ مَاضِي تِلْكَ اَلسُّنَنِ فَيَكُونَ اَلْأَجْرُ لِمَنْ سَنَّهَا وَ اَلْوِزْرُ عَلَيْكَ بِمَا نَقَضْتَ مِنْهَا وَ أَكْثِرْ مُدَارَسَةَ اَلْعُلَمَاءِ وَ مُنَاقَشَةَ اَلْحُكَمَاءِ فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلاَدِكَ وَ إِقَامَةِ مَا اِسْتَقَامَ بِهِ اَلنَّاسُ قَبْلَكَ خلاصة صدر هذا الفصل أن من أحسن إليك حسن ظنه فيك ومن أساء إليك استوحش منك وذلك لأنك إذا أحسنت إلى إنسان وتكرر منك ذلك الإحسان تبع ذلك اعتقادك أنه قد أحبك ثم يتبع ذلك الاعتقاد أمر آخر وهو أنك تحبه لأن الإنسان مجبول على أن يحب من يحبه وإذا أحببته سكنت إليه وحسن ظنك فيه وبالعكس من ذلك إذا أسأت إلى زيد لأنك إذا أسأت إليه وتكررت الإساءة تبع ذلك اعتقادك أنه قد أبغضك ثم يتبع ذلك الاعتقاد أمر آخر وهو أن تبغضه أنت وإذا أبغضته انقبضت منه واستوحشت وساء ظنك به . قال المنصور للربيع سلني لنفسك قال يا أمير المؤمنين ملأت يدي فلم يبق عندي موضع للمسألة قال فسلني لولدك قال أسألك أن تحبه فقال المنصور يا ربيع إن الحب لا يسأل وإنما هو أمر تقتضيه الأسباب قال يا أمير المؤمنين وإنما أسألك أن تزيد من إحسانك فإذا تكرر أحبك وإذا أحبك أحببته فاستحسن
[ 48 ](1/4743)
المنصور ذلك ثم نهاه عن نقض السنن الصالحة التي قد عمل بها من قبله من صالحي الأمة فيكون الوزر عليه بما نقض والأجر لأولئك بما أسسوا ثم أمره بمطارحة العلماء والحكماء في مصالح عمله فإن المشورة بركة ومن استشار فقد أضاف عقلا إلى عقله . ومما جاء في معنى الأول قال رجل لإياس بن معاوية من أحب الناس إليك قال الذين يعطوني قال ثم من قال الذين أعطيهم . وقال رجل لهشام بن عبد الملك إن الله جعل العطاء محبة والمنع مبغضة فأعني على حبك ولا تعني في بغضك : وَ اِعْلَمْ أَنَّ اَلرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لاَ يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلاَّ بِبَعْضٍ وَ لاَ غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ فَمِنْهَا جُنُودُ اَللَّهِ وَ مِنْهَا كُتَّابُ اَلْعَامَّةِ وَ اَلْخَاصَّةِ وَ مِنْهَا قُضَاةُ اَلْعَدْلِ وَ مِنْهَا عُمَّالُ اَلْإِنْصَافِ وَ اَلرِّفْقِ وَ مِنْهَا أَهْلُ اَلْجِزْيَةِ وَ اَلْخَرَاجِ مِنْ أَهْلِ اَلذِّمَّةِ وَ مُسْلِمَةِ اَلنَّاسِ وَ مِنْهَا اَلتُّجَّارُ وَ أَهْلُ اَلصِّنَاعَاتِ وَ مِنْهَا اَلطَّبَقَةُ اَلسُّفْلَى مِنْ ذَوِي اَلْحَاجَاتِ وَ اَلْمَسْكَنَةِ وَ كُلٌّ قَدْ سَمَّى اَللَّهُ لَهُ سَهْمَهُ وَ وَضَعَ عَلَى حَدِّهِ وَ فَرِيضَتِهِ فَرِيضَةً فِي كِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ ص عَهْداً مِنْهُ عِنْدَنَا مَحْفُوظاً فَالْجُنُودُ بِإِذْنِ اَللَّهِ حُصُونُ اَلرَّعِيَّةِ وَ زَيْنُ اَلْوُلاَةِ وَ عِزُّ اَلدِّينِ وَ سُبُلُ اَلْأَمْنِ وَ لَيْسَ تَقُومُ اَلرَّعِيَّةُ إِلاَّ بِهِمْ ثُمَّ لاَ قِوَامَ لِلْجُنُودِ إِلاَّ بِمَا يُخْرِجُ اَللَّهُ لَهُمْ مِنَ اَلْخَرَاجِ اَلَّذِي يَقْوَوْنَ بِهِ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِمْ وَ يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فِيمَا يُصْلِحُهُمْ وَ يَكُونُ مِنْ وَرَاءِ حَاجَتِهِمْ ثُمَّ لاَ قِوَامَ لِهَذَيْنِ اَلصِّنْفَيْنِ إِلاَّ بِالصِّنْفِ اَلثَّالِثِ مِنَ اَلْقُضَاةِ وَ اَلْعُمَّالِ
[ 49 ](1/4744)
وَ اَلْكُتَّابِ لِمَا يُحْكِمُونَ مِنَ اَلْمَعَاقِدِ وَ يَجْمَعُونَ مِنَ اَلْمَنَافِعِ وَ يُؤْتَمَنُونَ عَلَيْهِ مِنْ خَوَاصِّ اَلْأُمُورِ وَ عَوَامِّهَا وَ لاَ قِوَامَ لَهُمْ جَمِيعاً إِلاَّ بِالتُّجَّارِ وَ ذَوِي اَلصِّنَاعَاتِ فِيمَا يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَرَافِقِهِمْ وَ يُقِيمُونَهُ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ وَ يَكْفُونَهُمْ مِنَ اَلتَّرَفُّقِ بِأَيْدِيهِمْ مِمَّا مَا لاَ يَبْلُغُهُ رِفْقُ غَيْرِهِمْ ثُمَّ اَلطَّبَقَةُ اَلسُّفْلَى مِنْ أَهْلِ اَلْحَاجَةِ وَ اَلْمَسْكَنَةِ اَلَّذِينَ يَحِقُّ رِفْدُهُمْ وَ مَعُونَتُهُمْ وَ فِي اَللَّهِ لِكُلٍّ سَعَةٌ وَ لِكُلٍّ عَلَى اَلْوَالِي حَقٌّ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهُ وَ لَيْسَ يَخْرُجُ اَلْوَالِي مِنْ حَقِيقَةِ مَا أَلْزَمَهُ اَللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ بِالاِهْتِمَامِ وَ اَلاِسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ وَ تَوْطِينِ نَفْسِهِ عَلَى لُزُومِ اَلْحَقِّ وَ اَلصَّبْرِ عَلَيْهِ فِيمَا خَفَّ عَلَيْهِ أَوْ ثَقُلَ قالت الحكماء الإنسان مدني بالطبع ومعناه أنه خلق خلقة لا بد معها من أن يكون منضما إلى أشخاص من بني جنسه ومتمدنا في مكان بعينه وليس المراد بالمتمدن ساكن المدينة ذات السور والسوق بل لا بد أن يقيم في موضع ما مع قوم من البشر وذلك لأن الإنسان مضطر إلى ما يأكله ويشربه ليقيم صورته ومضطر إلى ما يلبسه ليدفع عنه أذى الحر والبرد وإلى مسكن يسكنه ليرد عنه عادية غيره من الحيوانات وليكون منزلا له ليتمكن من التصرف والحركة عليه ومعلوم أن الإنسان وحده لا يستقل بالأمور التي عددناها بل لا بد من جماعة يحرث بعضهم لغيره الحرث وذلك الغير يحوك للحراث الثوب وذلك الحائك يبني له غيره المسكن وذلك البناء يحمل له
[ 50 ](1/4745)
غيره الماء وذلك السقاء يكفيه غيره أمر تحصيل الآلة التي يطحن بها الحب ويعجن بها الدقيق ويخبز بها العجين وذلك المحصل لهذه الأشياء يكفيه غيره الاهتمام بتحصيل الزوجة التي تدعو إليها داعية الشبق فيحصل مساعدة بعض الناس لبعض لو لا ذلك لما قامت الدنيا فلهذا معنى قوله ع إنهم طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض ولا غناء ببعضها عن بعض . ثم فصلهم وقسمهم فقال منهم الجند ومنهم الكتاب ومنهم القضاة ومنهم العمال ومنهم أرباب الجزية من أهل الذمة ومنهم أرباب الخراج من المسلمين ومنهم التجار ومنهم أرباب الصناعات ومنهم ذوو الحاجات والمسكنة وهم أدون الطبقات . ثم ذكر أعمال هذه الطبقات فقال الجند للحماية والخراج يصرف إلى الجند والقضاة والعمال والكتاب لما يحكمونه من المعاقد ويجمعونه من المنافع ولا بد لهؤلاء جميعا من التجار لأجل البيع والشراء الذي لا غناء عنه ولا بد لكل من أرباب الصناعات كالحداد والنجار والبناء وأمثالهم ثم تلي هؤلاء الطبقة السفلى وهم أهل الفقر والحاجة الذين تجب معونتهم والإحسان إليهم . وإنما قسمهم في هذا الفصل هذا التقسيم تمهيدا لما يذكره فيما بعد فإنه قد شرع بعد هذا الفصل فذكر طبقة طبقة وصنفا صنفا وأوصاه في كل طبقة وفي كل صنف منهم بما يليق بحاله وكأنه مهد هذا التمهيد كالفهرست لما يأتي بعده من التفصيل
[ 51 ](1/4746)
فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ لِلَّهِ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِإِمَامِكَ وَ أَطْهَرَهُمْ أَنْقَاهُمْ جَيْباً وَ أَفْضَلَهُمْ حِلْماً مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ اَلْغَضَبِ وَ يَسْتَرِيحُ إِلَى اَلْعُذْرِ وَ يَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ وَ يَنْبُو عَلَى اَلْأَقْوِيَاءِ وَ مِمَّنْ لاَ يُثِيرُهُ اَلْعُنْفُ وَ لاَ يَقْعُدُ بِهِ اَلضَّعْفُ ثُمَّ اِلْصَقْ بِذَوِي اَلْمُرُوءَاتِ وَ اَلْأَحْسَابِ وَ أَهْلِ اَلْبُيُوتَاتِ اَلصَّالِحَةِ وَ اَلسَّوَابِقِ اَلْحَسَنَةِ ثُمَّ أَهْلِ اَلنَّجْدَةِ وَ اَلشَّجَاعَةِ وَ اَلسَّخَاءِ وَ اَلسَّمَاحَةِ فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ اَلْكَرَمِ وَ شُعَبٌ مِنَ اَلْعُرْفِ ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُ اَلْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا وَ لاَ يَتَفَاقَمَنَّ فِي نَفْسِكَ شَيْ ءٌ قَوَّيْتَهُمْ بِهِ وَ لاَ تَحْقِرَنَّ لُطْفاً تَعَاهَدْتَهُمْ بِهِ وَ إِنْ قَلَّ فَإِنَّهُ دَاعِيَةٌ لَهُمْ إِلَى بَذْلِ اَلنَّصِيحَةِ لَكَ وَ حُسْنِ اَلظَّنِّ بِكَ وَ لاَ تَدَعْ تَفَقُّدَ لَطِيفِ أُمُورِهِمُ اِتِّكَالاً عَلَى جَسِيمِهَا فَإِنَّ لِلْيَسِيرِ مِنْ لُطْفِكَ مَوْضِعاً يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَ لِلْجَسِيمِ مَوْقِعاً لاَ يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ وَ لْيَكُنْ آثَرُ رُءُوسِ جُنْدِكَ عِنْدَكَ مَنْ وَاسَاهُمْ فِي مَعُونَتِهِ وَ أَفْضَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ جِدَتِهِ بِمَا يَسَعُهُمْ وَ يَسَعُ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ خُلُوفِ أَهْلِيهِمْ حَتَّى يَكُونَ هَمُّهُمْ هَمّاً وَاحِداً فِي جِهَادِ اَلْعَدُوِّ فَإِنَّ عَطْفَكَ عَلَيْهِمْ يَعْطِفُ قُلُوبَهُمْ عَلَيْكَ وَ إِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَيْنِ اَلْوُلاَةِ اِسْتِقَامَةُ اَلْعَدْلِ فِي اَلْبِلاَدِ وَ ظُهُورِ مَوَدَّةِ اَلرَّعِيَّةِ وإِنَّهُ لاَ تَظْهَرُ مَوَدَّتُهُمْ إِلاَّ بِسَلاَمَةِ صُدُورِهِمْ وَ لاَ تَصِحُّ نَصِيحَتُهُمْ(1/4747)
إِلاَّ بِحِيطَتِهِمْ عَلَى وُلاَةِ أُمُورِهِمْ اَلْأُمُورِ وَ قِلَّةِ اِسْتَثْقَالِ دُوَلِهِمْ وَ تَرْكِ اِسْتِبْطَاءِ اِنْقِطَاعِ مُدَّتِهِمْ فَافْسَحْ فِي آمَالِهِمْ وَ وَاصِلْ مِنْ فِي حُسْنِ اَلثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَ تَعْدِيدِ مَا أَبْلَى ذَوُو اَلْبَلاَءِ
[ 52 ]
مِنْهُمْ فَإِنَّ كَثْرَةَ اَلذِّكْرِ لِحُسْنِ فِعَالِهِمْ أَفْعَالِهِمْ تَهُزُّ اَلشُّجَاعَ وَ تُحَرِّضُ اَلنَّاكِلَ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ ثُمَّ اِعْرِفْ لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ مَا أَبْلَى وَ لاَ تَضُمَّنَّ بَلاَءَ اِمْرِئٍ إِلَى غَيْرِهِ وَ لاَ تُقَصِّرَنَّ بِهِ دُونَ غَايَةِ بَلاَئِهِ وَ لاَ يَدْعُوَنَّكَ شَرَفُ اِمْرِئٍ إِلَى أَنْ تُعْظِمَ مِنْ بَلاَئِهِ مَا كَانَ صَغِيراً وَ لاَ ضَعَةُ اِمْرِئٍ إِلَى أَنْ تَسْتَصْغِرَ مِنْ بَلاَئِهِ مَا كَانَ عَظِيماً وَ اُرْدُدْ إِلَى اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ مَا يُضْلِعُكَ مِنَ اَلْخُطُوبِ وَ يَشْتَبِهُ عَلَيْكَ مِنَ اَلْأُمُورِ فَقَدْ قَالَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ تَعَالَى لِقَوْمٍ أَحَبَّ إِرْشَادَهُمْ يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللَّهِ وَ اَلرَّسُولِ فَالرَّدُّ إِلَى اَللَّهِ اَلْأَخْذُ بِمُحْكَمِ كِتَابِهِ وَ اَلرَّدُّ إِلَى اَلرَّسُولِ اَلْأَخْذُ بِسُنَّتِهِ اَلْجَامِعَةِ غَيْرِ اَلْمُفَرِّقَةِ هذا الفصل مختص بالوصاة فيما يتعلق بأمراء الجيش أمره أن يولى أمر الجيش من جنوده من كان أنصحهم لله في ظنه وأطهرهم جيبا أي عفيفا أمينا ويكنى عن العفة والأمانة بطهارة الجيب لأن الذي يسرق يجعل المسروق في جيبه . فإن قلت وأي تعلق لهذا بولاة الجيش إنما ينبغي أن تكون هذه الوصية في ولاة الخراج قلت لا بد منها في أمراء الجيش لأجل الغنائم . ثم وصف ذلك الأمير فقال(1/4748)
ممن يبطئ عن الغضب ويستريح إلى العذر أي يقبل
[ 53 ]
أدنى عذر ويستريح إليه ويسكن عنده ويرؤف على الضعفاء يرفق بهم ويرحمهم والرأفة الرحمة وينبو عن الأقوياء يتجافى عنهم ويبعد أي لا يمكنهم من الظلم والتعدي على الضعفاء ولا يثيره العنف لا يهيج غضبه عنف وقسوة ولا يقعد به الضعف أي ليس عاجزا . ثم أمره أن يلصق بذوي الأحساب وأهل البيوتات أي يكرمهم ويجعل معوله في ذلك عليهم ولا يتعداهم إلى غيرهم وكان يقال عليكم بذوي الأحساب فإن هم لم يتكرموا استحيوا . ثم ذكر بعدهم أهل الشجاعة والسخاء ثم قال إنها جماع من الكرم وشعب من العرف من هاهنا زائدة وإن كانت في الإيجاب على مذهب أبي الحسن الأخفش أي جماع الكرم أي يجمعه
كقول النبي ص الخمر جماع الإثم والعرف المعروف . وكذلك من في قوله وشعب من العرف أي شعب العرف أي هي أقسامه وأجزاؤه ويجوز أن تكون من على حقيقتها للتبعيض أي هذه الخلال جملة من الكرم وأقسام المعروف وذلك لأن غيرها أيضا من الكرم والمعروف ونحو العدل والعفة . قوله ثم تفقد من أمورهم الضمير هاهنا يرجع إلى الأجناد لا إلى الأمراء لما سنذكره مما يدل الكلام عليه . فإن قلت إنه لم يجر للأجناد ذكر فيما سبق وإنما المذكور الأمراء قلت كلا بل سبق ذكر الأجناد وهو قوله الضعفاء والأقوياء .
[ 54 ](1/4749)
و أمره ع أن يتفقد من أمور الجيش ما يتفقد الوالدان من حال الولد وأمره ألا يعظم عنده ما يقويهم به وإن عظم وألا يستحقر شيئا تعهدهم به وإن قل وألا يمنعه تفقد جسيم أمورهم عن تفقد صغيرها وأمره أن يكون آثر رءوس جنوده عنده وأحظاهم عنده وأقربهم إليه من واساهم في معونته هذا هو الضمير الدال على أن الضمير المذكور أولا للجند لا لأمراء الجند لو لا ذلك لما انتظم الكلام . قوله من خلوف أهليهم أي ممن يخلفونه من أولادهم وأهليهم . ثم قال لا يصح نصيحة الجند لك إلا بحيطتهم على ولاتهم أي بتعطفهم عليهم وتحننهم وهي الحيطة على وزن الشيمة مصدر حاطه يحوطه حوطا وحياطا وحيطة أي كلأه ورعاه وأكثر الناس يروونها إلا بحيطتهم بتشديد الياء وكسرها والصحيح ما ذكرناه . قوله وقلة استثقال دولهم أي لا تصح نصيحة الجند لك إلا إذا أحبوا أمراءهم ثم لم يستثقلوا دولهم ولم يتمنوا زوالها . ثم أمره أن يذكر في المجالس والمحافل بلاء ذوي البلاء منهم فإن ذلك مما يرهف عزم الشجاع ويحرك الجبان . قوله ولا تضمن بلاء امرئ إلى غيره أي اذكر كل من أبلى منهم مفردا غير مضموم ذكر بلائه إلى غيره كي لا يكون مغمورا في جنب ذكر غيره . ثم قال له لا تعظم بلاء ذوي الشرف لأجل شرفهم ولا تحقر بلاء ذوي الضعة لضعة أنسابهم بل اذكر الأمور على حقائقها . ثم أمره أن يرد إلى الله ورسوله ما يضلعه من الخطوب أي ما يئوده ويميله
[ 55 ]
لثقله وهذه الرواية أصح من رواية من رواها بالظاء وإن كان لتلك وجه(1/4750)
رسالة الإسكندر إلى أرسطو ورد أرسطو عليه
و ينبغي أن نذكر في هذا الموضع رسالة أرسطو إلى الإسكندر في معنى المحافظة على أهل البيوتات وذوي الأحساب وأن يخصهم بالرئاسة والإمرة ولا يعدل عنهم إلى العامة والسفلة فإن في ذلك تشييدا لكلام أمير المؤمنين ع ووصيته . لما ملك الإسكندر ايرانشهر وهو العراق مملكة الأكاسرة وقتل دارا بن دارا كتب إلى أرسطو وهو ببلاد اليونان عليك أيها الحكيم منا السلام أما بعد فإن الأفلاك الدائرة والعلل السمائية وإن كانت أسعدتنا بالأمور التي أصبح الناس لنا بها دائبين فإنا جد واجدين لمس الاضطرار إلى حكمتك غير جاحدين لفضلك والإقرار بمنزلتك والاستنامة إلى مشورتك والاقتداء برأيك والاعتماد لأمرك ونهيك لما بلونا من جدا ذلك علينا وذقنا من جنا منفعته حتى صار ذلك بنجوعه فينا وترسخه في أذهاننا وعقولنا كالغذاء لنا فما ننفك نعول عليه ونستمد منه استمداد الجداول من البحور وتعويل الفروع على الأصول وقوة الأشكال بالأشكال وقد كان مما سيق إلينا من النصر والفلج وأتيح لنا من الظفر وبلغنا في العدو من النكاية والبطش ما يعجز القول عن وصفه ويقصر شكر المنعم عن موقع الإنعام به وكان من ذلك أنا جاوزنا أرض سورية والجزيرة إلى بابل وأرض فارس فلما حللنا بعقوة أهلها وساحة بلادهم لم يكن إلا ريثما تلقانا نفر منهم برأس ملكهم هدية إلينا وطلبا للحظوة عندنا فأمرنا بصلب من
[ 56 ](1/4751)
جاء به وشهرته لسوء بلائه وقلة ارعوائه ووفائه ثم أمرنا بجمع من كان هناك من أولاد ملوكهم وأحرارهم وذي الشرف منهم فرأينا رجالا عظيمة أجسامهم وأحلامهم حاضرة ألبابهم وأذهانهم رائعة مناظرهم ومناطقهم دليلا على أن ما يظهر من روائهم ومنطقهم أن وراءه من قوة أيديهم وشدة نجدتهم وبأسهم ما لم يكن ليكون لنا سبيل إلى غلبتهم وإعطائهم بأيديهم لو لا أن القضاء أدالنا منهم وأظفرنا بهم وأظهرنا عليهم ولم نر بعيدا من الرأي في أمرهم أن نستأصل شأفتهم ونجتث أصلهم ونلحقهم بمن مضى من أسلافهم لتسكن القلوب بذلك الأمن إلى جرائرهم وبوائقهم فرأينا ألا نجعل بإسعاف بادئ الرأي في قتلهم دون الاستظهار عليهم بمشورتك فيهم فارفع إلينا رأيك فيما استشرناك فيه بعد صحته عندك وتقليبك إياه بجلي نظرك وسلام أهل السلام فليكن علينا وعليك . فكتب إليه أرسطو لملك الملوك وعظيم العظماء الإسكندر المؤيد بالنصر على الأعداء المهدي له الظفر بالملوك من أصغر عبيده وأقل خوله أرسطوطاليس البخوع بالسجود والتذلل في السلام والإذعان في الطاعة أما بعد فإنه لا قوة بالمنطق وإن احتشد الناطق فيه واجتهد في تثقيف معانيه وتأليف حروفه ومبانيه على الإحاطة بأقل ما تناله القدرة من بسطة علو الملك وسمو ارتفاعه عن كل قول وإبرازه على كل وصف واغترافه بكل إطناب وقد كان تقرر عندي من مقدمات إعلام فضل الملك في صهلة سبقه وبروز شأوه ويمن نقيبته مذ أدت إلي حاسة بصري صورة شخصه واضطرب في حس سمعي صوت لفظه ووقع وهمي
[ 57 ](1/4752)
على تعقيب نجاح رأيه أيام كنت أؤدي إليه من تكلف تعليمي إياه ما أصبحت قاضيا على نفسي بالحاجة إلى تعلمه منه ومهما يكن مني إليه في ذلك فإنما هو عقل مردود إلى عقله مستنبطة أواليه وتواليه من علمه وحكمته وقد جلا إلى كتاب الملك ومخاطبته إياي ومسألته لي عما لا يتخالجني الشك في لقاح ذلك وإنتاجه من عنده فعنه صدر وعليه ورد وأنا فيما أشير به على الملك وإن اجتهدت فيه واحتشدت له وتجاوزت حد الوسع والطاقة مني في استنظافه واستقصائه كالعدم مع الوجود بل كما لا يتجزأ في جنب معظم الأشياء ولكني غير ممتنع من إجابة الملك إلى ما سأل مع علمي ويقيني بعظيم غناه عني وشدة فاقتي إليه وأنا راد إلى الملك ما اكتسبته منه ومشير عليه بما أخذته منه فقائل له إن لكل تربة لا محالة قسما من الفضائل وإن لفارس قسمها من النجدة والقوة وإنك إن تقتل أشرافهم تخلف الوضعاء علي أعقابهم وتورث سفلتهم على منازل عليتهم وتغلب أدنياءهم على مراتب ذوي أخطارهم ولم يبتل الملوك قط ببلاء هو أعظم عليهم وأشد توهينا لسلطانهم من غلبة السفلة وذل الوجوه فاحذر الحذر كله أن تمكن تلك الطبقة من الغلبة والحركة فإنه إن نجم منهم بعد اليوم على جندك وأهل بلادك ناجم دهمهم منه ما لا روية فيه ولا بقية معه فانصرف عن هذا الرأي إلى غيره واعمد إلى من قبلك من أولئك العظماء والأحرار فوزع بينهم مملكتهم وألزم اسم الملك كل من وليته منهم ناحيته واعقد التاج على رأسه وإن صغر ملكه فإن المتسمي بالملك لازم لاسمه والمعقود التاج على رأسه لا يخضع لغيره فليس ينشب ذلك أن يوقع كل ملك منهم بينه وبين صاحبه تدابرا وتقاطعا وتغالبا على الملك وتفاخرا بالمال والجند حتى ينسوا بذلك أضغانهم عليك وأوتارهم فيك ويعود حربهم لك حربا
[ 58 ](1/4753)
بينهم وحنقهم عليك حنقا منهم على أنفسهم ثم لا يزدادون في ذلك بصيرة إلا أحدثوا لك بها استقامة إن دنوت منهم دانوا لك وإن نأيت عنهم تعززوا بك حتى يثب من ملك منهم على جاره باسمك ويسترهبه بجندك وفي ذلك شاغل لهم عنك وأمان لأحداثهم بعدك وإن كان لا أمان للدهر ولا ثقة بالأيام . قد أديت إلى الملك ما رأيته لي حظا وعلي حقا من إجابتي إياه إلى ما سألني عنه ومحضته النصيحة فيه والملك أعلى عينا وأنفذ روية وأفضل رأيا وأبعد همة فيما استعان بي عليه وكلفني بتبيينه والمشورة عليه فيه لا زال الملك متعرفا من عوائد النعم وعواقب الصنع وتوطيد الملك وتنفيس الأجل ودرك الأمل ما تأتي فيه قدرته على غاية قصوى ما تناله قدرة البشر . والسلام الذي لا انقضاء له ولا انتهاء ولا غاية ولا فناء فليكن على الملك . قالوا فعمل الملك برأيه واستخلف على ايرانشهر أبناء الملوك والعظماء من أهل فارس فهم ملوك الطوائف الذين بقوا بعده والمملكة موزعة بينهم إلى أن جاء أردشير بن بابك فانتزع الملك منهم : ثُمَّ اِخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ اَلنَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ بِهِ اَلْأُمُورُ وَ لاَ تُمَحِّكُهُ اَلْخُصُومُ وَ لاَ يَتَمَادَى فِي اَلزَّلَّةِ وَ لاَ يَحْصَرُ مِنَ اَلْفَيْ ءِ إِلَى اَلْحَقِّ إِذَا عَرَفَهُ وَ لاَ تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَى طَمَعٍ وَ لاَ يَكْتَفِي بِأَدْنَى فَهْمٍ دُونَ أَقْصَاهُ وَ أَوْقَفَهُمْ فِي اَلشُّبُهَاتِ وَ آخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ وَ أَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ اَلْخَصْمِ وَ أَصْبَرَهُمْ
[ 59 ](1/4754)
عَلَى تَكَشُّفِ اَلْأُمُورِ وَ أَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اِتِّضَاحِ اَلْحُكْمِ مِمَّنْ لاَ يَزْدَهِيهِ إِطْرَاءٌ وَ لاَ يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ وَ أُولَئِكَ قَلِيلٌ ثُمَّ أَكْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ وَ أَفْسِحْ اِفْسَحْ لَهُ فِي اَلْبَذْلِ مَا يُزِيحُ يُزِيلُ عِلَّتَهُ وَ تَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَى اَلنَّاسِ وَ أَعْطِهِ مِنَ اَلْمَنْزِلَةِ لَدَيْكَ مَا لاَ يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ خَاصَّتِكَ لِيَأْمَنَ بِذَلِكَ اِغْتِيَالَ اَلرِّجَالِ لَهُ عِنْدَكَ فَانْظُرْ فِي ذَلِكَ نَظَراً بَلِيغاً فَإِنَّ هَذَا اَلدِّينَ قَدْ كَانَ أَسِيراً فِي أَيْدِي اَلْأَشْرَارِ يُعْمَلُ فِيهِ بِالْهَوَى وَ تُطْلَبُ بِهِ اَلدُّنْيَا تمحكه الخصوم تجعله ما حكا أي لجوجا محك الرجل أي لج وماحك زيد عمرا أي لاجه . قوله ولا يتمادى في الزلة أي إن زل رجع وأناب والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل . قوله ولا يحصر من الفي ء هو المعنى الأول بعينه والفي ء الرجوع إلا أن هاهنا زيادة وهو أنه لا يحصر أي لا يعيا في المنطق لأن من الناس من إذا زل حصر عن أن يرجع وأصابه كالفهاهة والعي خجلا . قوله ولا تشرف نفسه أي لا تشفق والإشراف الإشفاق والخوف وأنشد الليث
و من مضر الحمراء إسراف أنفس
علينا وحياها علينا تمضرا
[ 60 ]
و قال عروة بن أذينة
لقد علمت وما الإشراف من خلقي
أن الذي هو رزقي سوف يأتيني(1/4755)
و المعنى ولا تشفق نفسه وتخاف من فوت المنافع والمرافق . ثم قال ولا يكتفى بأدنى فهم أي لا يكون قانعا بما يخطر له بادئ الرأي من أمر الخصوم بل يستقصي ويبحث أشد البحث . قوله وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم أي تضجرا وهذه الخصلة من محاسن ما شرطه ع فإن القلق والضجر والتبرم قبيح وأقبح ما يكون من القاضي . قوله وأصرمهم أي أقطعهم وأمضاهم وازدهاه كذا أي استخفه والإطراء المدح والإغراء التحريض . ثم أمره أن يتطلع على أحكامه وأقضيته وأن يفرض له عطاء واسعا يملأ عينه ويتعفف به عن المرافق والرشوات وأن يكون قريب المكان منه كثير الاختصاص به ليمنع قربه من سعاية الرجال به وتقبيحهم ذكره عنده . ثم قال إن هذا الدين قد كان أسيرا هذه إشارة إلى قضاة عثمان وحكامه وأنهم لم يكونوا يقضون بالحق عنده بل بالهوى لطلب الدنيا . وأما أصحابنا فيقولون رحم الله عثمان فإنه كان ضعيفا واستولى عليه أهله قطعوا الأمور دونه فإثمهم عليهم وعثمان بري ء منهم
[ 61 ](1/4756)
فصل في القضاة وما يلزمهم وذكر بعض نوادرهم
قد جاء في الحديث المرفوع لا يقضي القاضي وهو غضبان و
جاء في الحديث المرفوع أيضا من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه وإشارته ومجلسه ومقعده . دخل ابن شهاب على الوليد أو سليمان فقال له يا ابن شهاب ما حديث يرويه أهل الشام قال ما هو يا أمير المؤمنين قال إنهم يروون أن الله تعالى إذا استرعى عبدا رعية كتب له الحسنات ولم يكتب عليه السيئات فقال كذبوا يا أمير المؤمنين أيما أقرب إلى الله نبي أم خليفة قال بل نبي قال فإنه تعالى يقول لنبيه داود يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ اَلْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ إِنَّ اَلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ فقال سليمان إن الناس ليغروننا عن ديننا . وقال بكر بن عبد الله العدوي لابن أرطاة وأراد أن يستقضيه والله ما أحسن القضاء فإن كنت صادقا لم يحل لك أن تستقضي من لا يحسن وإن كنت كاذبا فقد فسقت والله لا يحل أن تستقضي الفاسق . وقال الزهري ثلاث إذا كن في القاضي فليس بقاض أن يكره اللائمة ويحب المحمدة ويخاف العزل . وقال محارب بن زياد للأعمش وليت القضاء فبكى أهلي فلما عزلت بكى أهلي فما أدري مم ذلك قال لأنك وليت القضاء وأنت تكرهه وتجزع منه
[ 62 ](1/4757)
فبكى أهلك لجزعك وعزلت عنه فكرهت العزل وجزعت فبكى أهلك لجزعك قال صدقت . أتي ابن شبرمة بقوم يشهدون على قراح نخل فشهدوا وكانوا عدولا فامتحنهم فقال كم في القراح من نخلة قالوا لا نعلم فرد شهادتهم فقال له أحدهم أنت أيها القاضي تقضي في هذا المسجد منذ ثلاثين سنة فأعلمنا كم فيه من أسطوانة فسكت وأجازهم . خرج شريك وهو على قضاء الكوفة يتلقى الخيزران وقد أقبلت تريد الحج وقد كان استقضي وهو كاره فأتي شاهي فأقام بها ثلاثا فلم تواف فخف زاده وما كان معه فجعل يبله بالماء ويأكله بالملح فقال العلاء بن المنهال الغنوي
فإن كان الذي قد قلت حقا
بأن قد أكرهوك على القضاء
فما لك موضعا في كل يوم
تلقى من يحج من النساء
مقيما في قرى شاهي ثلاثا
بلا زاد سوى كسر وماء
و تقدمت كلثم بنت سريع مولى عمرو بن حريث وكانت جميلة وأخوها الوليد بن سريع إلى عبد الملك بن عمير وهو قاض بالكوفة فقضى لها على أخيها فقال هذيل الأشجعي
أتاه وليد بالشهود يسوقهم
على ما ادعى من صامت المال والخول
و جاءت إليه كلثم وكلامها
شفاء من الداء المخامر والخبل
فأدلى وليد عند ذاك بحقه
و كان وليد ذا مراء وذا جدل
فدلهت القبطي حتى قضى لها
بغير قضاء الله في محكم الطول
[ 63 ]
فلو كان من في القصر يعلم علمه
لما استعمل القبطي فينا على عمل
له حين يقضي للنساء تخاوص
و كان وما فيه التخاوص والحول
إذا ذات دل كلمته لحاجة
فهم بأن يقضي تنحنح أو سعل
و برق عينيه ولاك لسانه
يرى كل شي ء ما خلا وصلها جلل(1/4758)
و كان عبد الملك بن عمير يقول لعن الله الأشجعي والله لربما جاءتني السعلة والنحنحة وأنا في المتوضإ فأردهما لما شاع من شعره . كتب عمر بن الخطاب إلى معاوية أما بعد فقد كتبت إليك في القضاء بكتاب لم آلك ونفسي فيه خيرا الزم خمس خصال يسلم لك دينك وتأخذ بأفضل حظك إذا تقدم إليك الخصمان فعليك بالبينة العادلة أو اليمين القاطعة وادن الضعيف حتى يشتد قلبه وينبسط لسانه وتعهد الغريب فإنك إن لم تتعهده ترك حقه ورجع إلى أهله وإنما ضيع حقه من لم يرفق به وآس بين الخصوم في لحظك ولفظك وعليك بالصلح بين الناس ما لم يستبن لك فصل القضاء . وكتب عمر إلى شريح لا تسارر ولا تضارر ولا تبع ولا تبتع في مجلس القضاء ولا تقض وأنت غضبان ولا شديد الجوع ولا مشغول القلب . شهد رجل عند سوار القاضي فقال ما صناعتك فقال مؤدب قال أنا لا أجيز شهادتك قال ولم قال لأنك تأخذ على تعليم القرآن أجرا قال وأنت أيضا تأخذ على القضاء بين المسلمين أجرا قال إنهم أكرهوني قال نعم أكرهوك على القضاء فهل أكرهوك على أخذ الأجر قال هلم شهادتك . ودخل أبو دلامة ليشهد عند أبي ليلى فقال حين جلس بين يديه
إذا الناس غطوني تغطيت عنهم
و إن بحثوا عني ففيهم مباحث
[ 64 ]
و إن حفروا بئري حفرت بئارهم
ليعلم ما تخفيه تلك النبائث(1/4759)
فقال بل نغطيك يا أبا دلامة ولا نبحثك وصرفه راضيا وأعطى المشهود عليه من عنده قيمة ذلك الشي ء . كان عامر بن الظرب العدواني حاكم العرب وقاضيها فنزل به قوم يستفتونه في الخنثى وميراثه فلم يدر ما يقضي فيه وكان له جارية اسمها خصيلة ربما لامها في الإبطاء عن الرعي وفي الشي ء يجده عليها فقال لها يا خصيلة لقد أسرع هؤلاء القوم في غنمي وأطالوا المكث قالت وما يكبر عليك من ذلك اتبعه مباله وخلاك ذم فقال لها مسي خصيل بعدها أو روحي . وقال أعرابي لقوم يتنازعون هل لكم في الحق أو ما هو خير من الحق قيل وما الذي هو خير من الحق قال التحاط والهضم فإن أخذ الحق كله مر . وعزل عمر بن عبد العزيز بعض قضاته فقال لم عزلتني فقال بلغني أن كلامك أكثر من كلام الخصمين إذا تحاكما إليك . ودخل إياس بن معاوية الشام وهو غلام فقدم خصما إلى باب القاضي في أيام عبد الملك فقال القاضي أ ما تستحيي تخاصم وأنت غلام شيخا كبيرا فقال الحق أكبر منه فقال اسكت ويحك قال فمن ينطق بحجتي إذا قال ما أظنك تقول اليوم حقا حتى تقوم فقال لا إله إلا الله فقام القاضي ودخل على عبد الملك وأخبره فقال اقض حاجته وأخرجه من الشام كي لا يفسد علينا الناس . واختصم أعرابي وحضري إلى قاض فقال الأعرابي أيها القاضي إنه وإن هملج إلى الباطل فإنه عن الحق لعطوف . ورد رجل جارية على رجل اشتراها منه بالحمق فترافعا إلى إياس بن معاوية
[ 65 ]
فقال لها إياس أي رجليك أطول فقالت هذه فقال أ تذكرين ليلة ولدتك أمك قالت نعم فقال إياس رد رد . و
جاء في الخبر المرفوع من رواية عبد الله بن عمر لا قدست أمة لا يقضى فيها بالحق و
من الحديث المرفوع من رواية أبي هريرة ليس أحد يحكم بين الناس إلا جي ء به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه فكه العدل وأسلمه الجور و(1/4760)
استعدى رجل على علي بن أبي طالب ع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلي جالس فالتفت عمر إليه فقال قم يا أبا الحسن فاجلس مع خصمك فقام فجلس معه وتناظرا ثم انصرف الرجل ورجع علي ع إلى محله فتبين عمر التغير في وجهه فقال يا أبا الحسن ما لي أراك متغيرا أ كرهت ما كان قال نعم قال وما ذاك قال كنيتني بحضرة خصمي هلا قلت قم يا علي فاجلس مع خصمك فاعتنق عمر عليا وجعل يقبل وجهه وقال بأبي أنتم بكم هدانا الله وبكم أخرجنا من الظلمة إلى النور . أبان بن عبد الحميد اللاحقي في سوار بن عبد الله القاضي
لا تقدح الظنة في حكمه
شيمته عدل وإنصاف
يمضي إذا لم تلقه شبهة
و في اعتراض الشك وقاف
كان ببغداد رجل يذكر بالصلاح والزهد يقال له رويم فولي القضاء فقال الجنيد من أراد أن يستودع سره من لا يفشيه فعليه برويم فإنه كتم حب الدنيا أربعين سنة إلى أن قدر عليها . الأشهب الكوفي
يا أهل بغداد قد قامت قيامتكم
مذ صار قاضيكم نوح بن دراج
لو كان حيا له الحجاج ما سلمت
صحيحة يده من وسم حجاج
[ 66 ](1/4761)
و كان الحجاج يسم أيدي النبط بالمشراط والنيل . لما وقعت فتنة ابن الزبير اعتزل شريح القضاء وقال لا أقضي في الفتنة فبقي لا يقضي تسع سنين ثم عاد إلى القضاء وقد كبرت سنه فاعترضه رجل وقد انصرف من مجلس القضاء فقال له أ ما حان لك أن تخاف الله كبرت سنك وفسد ذهنك وصارت الأمور تجوز عليك فقال والله لا يقولها بعدك لي أحد فلزم بيته حتى مات . قيل لأبي قلابة وقد هرب من القضاء لو أجبت قال أخاف الهلاك قيل لو اجتهدت لم يكن عليك بأس قال ويحكم إذا وقع السابح في البحر كم عسى أن يسبح . دعا رجل لسليمان الشاذكوني فقال أرانيك الله يا أبا أيوب على قضاء أصبهان قال ويحك إن كان ولا بد فعلى خراجها فإن أخذ أموال الأغنياء أسهل من أخذ أموال الأيتام . ارتفعت جميلة بنت عيسى بن جراد وكانت جميلة كاسمها مع خصم لها إلى الشعبي وهو قاضي عبد الملك فقضى لها فقال هذيل الأشجعي
فتن الشعبي لما
رفع الطرف إليها
فتنته بثنايا
ها وقوسي حاجبيها
و مشت مشيا رويدا
ثم هزت منكبيها
فقضى جورا على الخصم
و لم يقض عليها
فقبض الشعبي عليه وضربه ثلاثين سوطا . قال ابن أبي ليلى ثم انصرف الشعبي يوما من مجلس القضاء وقد شاعت الأبيات
[ 67 ]
و تناشدها الناس ونحن معه فمررنا بخادم تغسل الثياب وتقول
فتن الشعبي لما
و لا تحفظ تتمة البيت فوقف عليها ولقنها وقال
رفع الطرف إليها(1/4762)
ثم ضحك وقال أبعده الله والله ما قضينا لها إلا بالحق . جاءت امرأة إلى قاض فقالت مات بعلي وترك أبوين وابنا وبني عم فقال القاضي لأبويه الثكل ولابنه اليتم ولك اللائمة ولبني عمه الذلة واحملي المال إلينا إلى أن ترتفع الخصوم . لقي سفيان الثوري شريكا بعد ما استقضي فقال له يا أبا عبد الله بعد الإسلام والفقه والصلاح تلي القضاء قال يا أبا عبد الله فهل للناس بد من قاض قال ولا بد يا أبا عبد الله للناس من شرطي . وكان الحسن بن صالح بن حي يقول لما ولي شريك القضاء أي شيخ أفسدوا .
قال أبو ذر رضي الله عنه قال لي رسول الله ص يا أبا ذر اعقل ما أقول لك جعل يرددها على ستة أيام ثم قال لي في اليوم السابع أوصيك بتقوى الله في سريرتك وعلانيتك وإذا أسأت فأحسن ولا تسألن أحدا شيئا ولو سقط سوطك ولا تتقلدن أمانة ولا تلين ولاية ولا تكفلن يتيما ولا تقضين بين اثنين . أراد عثمان بن عفان أن يستقضي عبد الله بن عمر فقال له أ لست قد
سمعت النبي ص يقول من استعاذ بالله فقد عاذ بمعاذ قال بلى قال فإني أعوذ بالله منك أن تستقضيني .
[ 68 ](1/4763)
و قد ذكر الفقهاء في آداب القاضي أمورا قالوا لا يجوز أن يقبل هدية في أيام القضاء إلا ممن كانت له عادة يهدي إليه قبل أيام القضاء ولا يجوز قبولها في أيام القضاء ممن له حكومة وخصومة وإن كان ممن له عادة قديمة وكذلك إن كانت الهدية أنفس وأرفع مما كانت قبل أيام القضاء لا يجوز قبولها ويجوز أن يحضر القاضي الولائم ولا يحضر عند قوم دون قوم لأن التخصيص يشعر بالميل ويجوز أن يعود المرضى ويشهد الجنائز ويأتي مقدم الغائب ويكره له مباشرة البيع والشراء ولا يجوز أن يقضي وهو غضبان ولا جائع ولا عطشان ولا في حال الحزن الشديد ولا الفرح الشديد ولا يقضي والنعاس يغلبه والمرض يقلقه ولا وهو يدافع الأخبثين ولا في حر مزعج ولا في برد مزعج وينبغي أن يجلس للحكم في موضع بارز يصل إليه كل أحد ولا يحتجب إلا لعذر ويستحب أن يكون مجلسه فسيحا لا يتأذى بذلك هو أيضا ويكره الجلوس في المساجد للقضاء فإن احتاج إلى وكلاء جاز أن يتخذهم ويوصيهم بالرفق بالخصوم ويستحب أن يكون له حبس وأن يتخذ كاتبا إن احتاج إليه ومن شرط كاتبه أن يكون عارفا بما يكتب به عن القضاء . واختلف في جواز كونه ذميا والأظهر أنه لا يجوز ولا يجوز أن يكون كاتبه فاسقا ولا يجوز أن يكون الشهود عنده قوما معينين بل الشهادة عامة فيمن استكمل شروطها : ثُمَّ اُنْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ فَاسْتَعْمِلْهُمُ اِخْتِيَاراً اِخْتِبَاراً وَ لاَ تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وَ أَثَرَةً فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ اَلْجَوْرِ وَ اَلْخِيَانَةِ وَ تَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ اَلتَّجْرِبَةِ وَ اَلْحَيَاءِ مِنْ أَهْلِ اَلْبُيُوتَاتِ اَلصَّالِحَةِ وَ اَلْقَدَمِ فِي اَلْإِسْلاَمِ اَلْمُتَقَدِّمَةِ فَإِنَّهُمْ أَكْرَمُ أَخْلاَقاً وَ أَصَحُّ أَعْرَاضاً وَ أَقَلُّ فِي اَلْمَطَامِعِ إِشْرَافاً إِشْرَاقاً وَ أَبْلَغُ فِي عَوَاقِبِ اَلْأُمُورِ نَظَراً(1/4764)
[ 69 ]
ثُمَّ أَسْبِغْ عَلَيْهِمُ اَلْأَرْزَاقَ فَإِنَّ ذَلِكَ قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَى اِسْتِصْلاَحِ أَنْفُسِهِمْ وَ غِنًى لَهُمْ عَنْ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ وَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ إِنْ خَالَفُوا أَمْرَكَ أَوْ ثَلَمُوا أَمَانَتَكَ ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ وَ اِبْعَثِ اَلْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ اَلصِّدْقِ وَ اَلْوَفَاءِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي اَلسِّرِّ لِأُمُورِهِمْ حَدْوَةٌ لَهُمْ عَلَى اِسْتِعْمَالِ اَلْأَمَانَةِ وَ اَلرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ وَ تَحَفَّظْ مِنَ اَلْأَعْوَانِ فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَى خِيَانَةٍ اِجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْهِ عِنْدَكَ أَخْبَارُ عُيُونِكَ اِكْتَفَيْتَ بِذَلِكَ شَاهِداً فَبَسَطْتَ عَلَيْهِ اَلْعُقُوبَةَ فِي بَدَنِهِ وَ أَخَذْتَهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ عَمَلِهِ ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقَامِ اَلْمَذَلَّةِ وَ وَسَمْتَهُ بِالْخِيَانَةِ وَ قَلَّدْتَهُ عَارَ اَلتُّهَمَةِ لما فرغ ع من أمر القضاء شرع في أمر العمال وهم عمال السواد والصدقات والوقوف والمصالح وغيرها فأمره أن يستعملهم بعد اختبارهم وتجربتهم وألا يوليهم محاباة لهم ولمن يشفع فيهم ولا أثرة ولا إنعاما عليهم . كان أبو الحسن بن الفرات يقول الأعمال للكفاة من أصحابنا وقضاء الحقوق على خواص أموالنا . وكان يحيى بن خالد يقول من تسبب إلينا بشفاعة في عمل فقد حل عندنا محل من ينهض بغيره ومن لم ينهض بنفسه لم يكن للعمل أهلا . ووقع جعفر بن يحيى في رقعة متحرم به هذا فتى له حرمة الأمل فامتحنه بالعمل فإن كان كافيا فالسلطان له دوننا وإن لم يكن كافيا فنحن له دون السلطان . ثم قال ع فإنهما يعني استعمالهم للمحاباة والأثرة جماع من شعب الجور والخيانة وقد تقدم شرح مثل هذه اللفظة والمعنى أن ذلك يجمع ضروبا من الجور والخيانة أما الجور فإنه يكون قد عدل عن المستحق إلى غير المستحق(1/4765)
ففي ذلك جور على المستحق .
[ 70 ]
و أما الخيانة فلأن الأمانة تقتضي تقليد الأعمال الأكفاء فمن لم يعتمد ذلك فقد خان من ولاه . ثم أمره بتخير من قد جرب ومن هو من أهل البيوتات والأشراف لشدة الحرص على الشي ء والخوف من فواته . ثم أمره بإسباغ الأرزاق عليهم فإن الجائع لا أمانة له ولأن الحجة تكون لازمة لهم إن خانوا لأنهم قد كفوا مئونة أنفسهم وأهليهم بما فرض لهم من الأرزاق . ثم أمره بالتطلع عليهم وإذكاء العيون والأرصاد على حركاتهم . وحدوة باعث يقال حداني هذا الأمر حدوة على كذا وأصله سوق الإبل ويقال للشمال حدواء لأنها تسوق السحاب . ثم أمره بمؤاخذة من ثبتت خيانته واستعادة المال منه وقد صنع عمر كثيرا من ذلك وذكرناه فيما تقدم . قال بعض الأكاسرة لعامل من عماله كيف نومك بالليل قال أنامه كله قال أحسنت لو سرقت ما نمت هذا النوم : وَ تَفَقَّدْ أَمْرَ اَلْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ فَإِنَّ فِي صَلاَحِهِ وَ صَلاَحِهِمْ صَلاَحاً لِمَنْ سِوَاهُمْ وَ لاَ صَلاَحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلاَّ بِهِمْ لِأَنَّ اَلنَّاسَ كُلَّهُمْ عِيَالٌ عَلَى اَلْخَرَاجِ وَ أَهْلِهِ وَ لْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ اَلْأَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اِسْتِجْلاَبِ اَلْخَرَاجِ لِأَنَّ ذَلِكَ لاَ يُدْرَكُ إِلاَّ بِالْعِمَارَةِ وَ مَنْ طَلَبَ اَلْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَةٍ أَخْرَبَ اَلْبِلاَدَ وَ أَهْلَكَ
[ 71 ](1/4766)
اَلْعِبَادَ وَ لَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلاَّ قَلِيلاً فَإِنْ شَكَوْا ثِقَلاً أَوْ عِلَّةً أَوِ اِنْقِطَاعَ شِرْبٍ أَوْ بَالَّةٍ أَوْ إِحَالَةَ أَرْضٍ اِغْتَمَرَهَا غَرَقٌ أَوْ أَجْحَفَ بِهَا عَطَشٌ خَفَّفْتَ عَنْهُمْ بِمَا تَرْجُو أَنْ يَصْلُحَ بِهِ أَمْرُهُمْ وَ لاَ يَثْقُلَنَّ عَلَيْكَ شَيْ ءٌ خَفَّفْتَ بِهِ اَلْمَئُونَةَ عَنْهُمْ فَإِنَّهُ ذُخْرٌ يَعُودُونَ بِهِ عَلَيْكَ فِي عِمَارَةِ بِلاَدِكَ وَ تَزْيِينِ وِلاَيَتِكَ مَعَ اِسْتِجْلاَبِكَ حُسْنَ ثَنَائِهِمْ وَ تَبَجُّحِكَ بِاسْتِفَاضَةِ اَلْعَدْلِ فِيهِمْ مُعْتَمِداً فَضْلَ قُوَّتِهِمْ بِمَا ذَخَرْتَ عِنْدَهُمْ مِنْ إِجْمَامِكَ لَهُمْ وَ اَلثِّقَةَ مِنْهُمْ بِمَا عَوَّدْتَهُمْ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ وَ رِفْقِكَ بِهِمْ فَرُبَّمَا حَدَثَ مِنَ اَلْأُمُورِ مَا إِذَا عَوَّلْتَ فِيهِ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدُ اِحْتَمَلُوهُ طَيِّبَةً أَنْفُسُهُمْ بِهِ فَإِنَّ اَلْعُمْرَانَ مُحْتَمِلٌ مَا حَمَّلْتَهُ وَ إِنَّمَا يُؤْتَى خَرَابُ اَلْأَرْضِ مِنْ إِعْوَازِ أَهْلِهَا وَ إِنَّمَا يُعْوِزُ أَهْلُهَا لِإِشْرَافِ أَنْفُسِ اَلْوُلاَةِ عَلَى اَلْجَمْعِ وَ سُوءِ ظَنِّهِمْ بِالْبَقَاءِ وَ قِلَّةِ اِنْتِفَاعِهِمْ بِالْعِبَرِ انتقل ع من ذكر العمال إلى ذكر أرباب الخراج ودهاقين السواد فقال تفقد أمرهم فإن الناس عيال عليهم وكان يقال استوصوا بأهل الخراج فإنكم لا تزالون سمانا ما سمنوا . ورفع إلى أنوشروان أن عامل الأهواز قد حمل من مال الخراج ما يزيد على العادة وربما يكون ذلك قد أجحف بالرعية فوقع يرد هذا المال على من قد استوفى منه فإن تكثير الملك ماله بأموال رعيته بمنزلة من يحصن سطوحه بما يقتلعه من قواعد بنيانه .
[ 72 ](1/4767)
و كان على خاتم أنوشروان لا يكون عمران حيث يجور السلطان . وروي استحلاب الخراج بالحاء . ثم قال فإن شكوا ثقلا أي ثقل طسق الخراج المضروب عليهم أو ثقل وطأة العامل . قال أو علة نحو أن يصيب الغلة آفة كالجراد والبرق أو البرد . قال أو انقطاع شرب بأن ينقص الماء في النهر أو تتعلق أرض الشرب عنه لفقد الحفر . قال أو بالة يعني المطر . قال أو إحالة أرض اغتمرها غرق يعني أو كون الأرض قد حالت ولم يحصل منها ارتفاع لأن الغرق غمرها وأفسد زرعها . قال أو أجحف بها عطش أي أتلفها . فإن قلت فهذا هو انقطاع الشرب قلت لا قد يكون الشرب غير منقطع ومع ذلك يجحف بها العطش بأن لا يكفيها الماء الموجود في الشرب . ثم أمره أن يخفف عنهم متى لحقهم شي ء من ذلك فإن التخفيف يصلح أمورهم وهو وإن كان يدخل على المال نقصا في العاجل إلا أنه يقتضي توفير زيادة في الآجل فهو بمنزلة التجارة التي لا بد فيها من إخراج رأس المال وانتظار عوده وعود ربحه .
[ 73 ](1/4768)
قال ومع ذلك فإنه يفضي إلى تزين بلادك بعمارتها وإلى أنك تبجح بين الولاة بإفاضة العدل في رعيتك معتمدا فضل قوتهم ومعتمدا منصوب على الحال من الضمير في خففت الأولى أي خففت عنهم معتمدا بالتخفيف فضل قوتهم . والإجمام الترفيه . ثم قال له وربما احتجت فيما بعد إلى تكلفهم بحادث يحدث عندك المساعدة بمال يقسطونه عليهم قرضا أو معونة محضة فإذا كانت لهم ثروة نهضوا بمثل ذلك طيبة قلوبهم به . ثم قال ع فإن العمران محتمل ما حملته . سمعت أبا محمد بن خليد وكان صاحب ديوان الخراج في أيام الناصر لدين الله يقول لمن قال له قد قيل عنك إن واسط والبصرة قد خربت لشدة العنف بأهلها في تحصيل الأموال فقال أبو محمد ما دام هذا الشط بحاله والنخل نابتا في منابته بحاله ما تخرب واسط والبصرة أبدا . ثم قال ع إنما تؤتى الأرض أي إنما تدهى من إعواز أهلها أي من فقرهم . قال والموجب لإعوازهم طمع ولاتهم في الجباية وجمع الأموال لأنفسهم ولسلطانهم وسوء ظنهم بالبقاء يحتمل أن يريد به أنهم يظنون طول البقاء وينسون الموت والزوال . ويحتمل أن يريد به أنهم يتخيلون العزل والصرف فينتهزون الفرص ويقتطعون الأموال ولا ينظرون في عمارة البلاد
[ 74 ](1/4769)
عهد سابور بن أردشير لابنه
و قد وجدت في عهد سابور بن أردشير إلى ابنه كلاما يشابه كلام أمير المؤمنين ع في هذا العهد وهو قوله واعلم أن قوام أمرك بدرور الخراج ودرور الخراج بعمارة البلاد وبلوغ الغاية في ذلك استصلاح أهله بالعدل عليهم والمعونة لهم فإن بعض الأمور لبعض سبب وعوام الناس لخواصهم عدة وبكل صنف منهم إلى الآخر حاجة فاختر لذلك أفضل من تقدر عليه من كتابك وليكونوا من أهل البصر والعفاف والكفاية واسترسل إلى كل امرئ منهم شخصا يضطلع به ويمكنه تعجيل الفراغ منه فإن اطلعت على أن أحدا منهم خان أو تعدى فنكل به وبالغ في عقوبته واحذر أن تستعمل على الأرض الكثير خراجها إلا البعيد الصوت العظيم شرف المنزلة . ولا تولين أحدا من قواد جندك الذين هم عدة للحرب وجنة من الأعداء شيئا من أمر الخراج فلعلك تهجم من بعضهم على خيانة في المال أو تضييع للعمل فإن سوغته المال وأغضيت له على التضييع كان ذلك هلاكا وإضرارا بك وبرعيتك وداعية إلى فساد غيره وإن أنت كافأته فقد استفسدته وأضقت صدره وهذا أمر توقيه حزم والإقدام عليه خرق والتقصير فيه عجز . واعلم أن من أهل الخراج من يلجئ بعض أرضه وضياعه إلى خاصة الملك وبطانته لأحد أمرين أنت حري بكراهتهما إما لامتناع من جور العمال وظلم الولاة وتلك منزلة يظهر بها سوء أثر العمال وضعف الملك وإخلاله بما تحت يده وإما للدفع عما يلزمهم
[ 75 ](1/4770)
من الحق والتيسر له وهذه خلة تفسد بها آداب الرعية وتنتقص بها أموال الملك فاحذر ذلك وعاقب الملتجئين والملجأ إليهم ركب زياد يوما بالسوس يطوف بالضياع والزروع فرأى عمارة حسنة فتعجب منها فخاف أهلها أن يزيد في خراجهم فلما نزل دعا وجوه البلد وقال بارك الله عليكم فقد أحسنتم العمارة وقد وضعت عنكم مائة ألف درهم ثم قال ما توفر علي من تهالك غيرهم على العمارة وأمنهم جوري أضعاف ما وضعت عن هؤلاء الآن والذي وضعته بقدر ما يحصل من ذاك وثواب عموم العمارة وأمن الرعية أفضل ربح : ثُمَّ اُنْظُرْ فِي حَالِ كُتَّابِكَ فَوَلِّ عَلَى أُمُورِكَ خَيْرَهُمْ وَ اُخْصُصْ رَسَائِلَكَ اَلَّتِي تُدْخِلُ فِيهَا مَكَايِدَكَ وَ أَسْرَارَكَ بِأَجْمَعِهِمْ لِوُجُودِ لِوُجُوهِ صَالِحِ اَلْأَخْلاَقِ مِمَّنْ لاَ تُبْطِرُهُ اَلْكَرَامَةُ فَيَجْتَرِئَ بِهَا عَلَيْكَ فِي خِلاَفٍ لَكَ بِحَضْرَةِ مَلاٍ وَ لاَ تُقَصِّرُ تَقْصُرُ بِهِ اَلْغَفْلَةُ عَنْ إِيرَادِ مُكَاتَبَاتِ عُمِّالِكَ عَلَيْكَ وَ إِصْدَارِ جَوَابَاتِهَا عَلَى اَلصَّوَابِ عَنْكَ وَ فِيمَا يَأْخُذُ لَكَ وَ يُعْطِي مِنْكَ وَ لاَ يُضْعِفُ عَقْداً اِعْتَقَدَهُ لَكَ وَ لاَ يَعْجِزُ عَنْ إِطْلاَقِ مَا عُقِدَ عَلَيْكَ وَ لاَ يَجْهَلُ مَبْلَغَ قَدْرِ نَفْسِهِ فِي اَلْأُمُورِ فَإِنَّ اَلْجَاهِلَ بِقَدْرِ نَفْسِهِ يَكُونُ بِقَدْرِ غَيْرِهِ أَجْهَلَ ثُمَّ لاَ يَكُنِ اِخْتِيَارُكَ إِيَّاهُمْ عَلَى فِرَاسَتِكَ وَ اِسْتِنَامَتِكَ وَ حُسْنِ اَلظَّنِّ مِنْكَ
[ 76 ](1/4771)
فَإِنَّ اَلرِّجَالَ يَتَعَرَّضُونَ يَتَعَرَّفُونَ لِفِرَاسَاتِ اَلْوُلاَةِ بِتَصَنُّعِهِمْ وَ حُسْنِ حَدِيثِهِمْ خِدْمَتِهِمْ وَ لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ اَلنَّصِيحَةِ وَ اَلْأَمَانَةِ شَيْ ءٌ وَ لَكِنِ اِخْتَبِرْهُمْ بِمَا وُلُّوا لِلصَّالِحِينَ قَبْلَكَ فَاعْمِدْ لِأَحْسَنِهِمْ كَانَ فِي اَلْعَامَّةِ أَثَراً وَ أَعْرَفِهِمْ بِالْأَمَانَةِ وَجْهاً فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى نَصِيحَتِكَ لِلَّهِ وَ لِمَنْ وُلِّيتَ أَمْرَهُ وَ اِجْعَلْ لِرَأْسِ كُلِّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِكَ رَأْساً مِنْهُمْ لاَ يَقْهَرُهُ كَبِيرُهَا وَ لاَ يَتَشَتَّتُ عَلَيْهِ كَثِيرُهَا وَ مَهْمَا كَانَ فِي كُتَّابِكَ مِنْ عَيْبٍ فَتَغَابَيْتَ عَنْهُ أُلْزِمْتَهُ(1/4772)
فصل فيما يجب على مصاحب الملك
لما فرغ من أمر الخراج شرع في أمر الكتاب الذين يلون أمر الحضرة ويترسلون عنه إلى عماله وأمرائه وإليهم معاقد التدبير وأمر الديوان فأمره أن يتخير الصالح منهم ومن يوثق على الاطلاع على الأسرار والمكايد والحيل والتدبيرات ومن لا يبطره الإكرام والتقريب فيطمع فيجترئ على مخالفته في ملإ من الناس والرد عليه ففي ذلك من الوهن للأمير وسوء الأدب الذي انكشف الكاتب عنه ما لا خفاء به . قال الرشيد للكسائي يا علي بن حمزة قد أحللناك المحل الذي لم تكن تبلغه همتك فرونا من الأشعار أعفها ومن الأحاديث أجمعها لمحاسن الأخلاق وذاكرنا بآداب الفرس والهند ولا تسرع علينا الرد في ملإ ولا تترك تثقيفنا في خلإ . وفي آداب ابن المقفع لا تكونن صحبتك للسلطان إلا بعد رياضة منك لنفسك على
[ 77 ](1/4773)
طاعتهم في المكروه عندك وموافقتهم فيما خالفك وتقدير الأمور على أهوائهم دون هواك فإن كنت حافظا إذا ولوك حذرا إذا قربوك أمينا إذا ائتمنوك تعلمهم وكأنك تتعلم منهم وتأدبهم وكأنك تتأدب بهم وتشكر لهم ولا تكلفهم الشكر ذليلا إن صرموك راضيا إن أسخطوك وإلا فالبعد منهم كل البعد والحذر منهم كل الحذر وإن وجدت عن السلطان وصحبته غنى فاستغن عنه فإنه من يخدم السلطان حق خدمته يخلى بينه وبين لذة الدنيا وعمل الأخرى ومن يخدمه غير حق الخدمة فقد احتمل وزر الآخرة وعرض نفسه للهلكة والفضيحة في الدنيا فإذا صحبت السلطان فعليك بطول الملازمة من غير إملال وإذا نزلت منه بمنزلة الثقة فاعزل عنه كلام الملق ولا تكثر له من الدعاء ولا تردن عليه كلاما في حفل وإن أخطأ فإذا خلوت به فبصره في رفق ولا يكونن طلبك ما عنده بالمسألة ولا تستبطئه وإن أبطأ ولا تخبرنه أن لك عليه حقا وأنك تعتمد عليه ببلاء وإن استطعت ألا تنسى حقك وبلاءك بتجديد النصح والاجتهاد فافعل ولا تعطينه المجهود كله من نفسك في أول صحبتك له وأعد موضعا للمزيد وإذا سأل غيرك عن شي ء فلا تكن المجيب . واعلم أن استلابك الكلام خفة فيك واستخفاف منك بالسائل والمسئول فما أنت قائل إن قال لك السائل ما إياك سألت أو قال المسئول أجب بمجالسته ومحادثته أيها المعجب بنفسه والمستخف بسلطانه . وقال عبد الملك بن صالح لمؤدب ولده بعد أن اختصه بمجالسته ومحادثته يا عبد الله كن على التماس الحظ فيك بالسكوت أحرص منك على التماسه بالكلام فإنهم قالوا إذا أعجبك الكلام فاصمت وإذا أعجبك الصمت فتكلم واعلم أن أصعب الملوك معاملة الجبار الفطن المتفقد فإن ابتليت بصحبته فاحترس وإن عوفيت فاشكر الله على السلامة فإن السلامة أصل كل نعمة لا تساعدني على ما يقبح بي ولا تردن علي
[ 78 ](1/4774)
خطأ في مجلس ولا تكلفني جواب التشميت والتهنئة ودع عنك كيف أصبح الأمير وكيف أمسى وكلمني بقدر ما أستنطقك واجعل بدل التقريظ لي صواب الاستماع مني واعلم أن صواب الاستماع أحسن من صواب القول فإذا سمعتني أتحدث فلا يفوتنك منه شي ء وأرني فهمك إياه في طرفك ووجهك فما ظنك بالملك وقد أحلك محل المعجب بما يسمعك إياه وأحللته محل من لا يسمع منه وكل من هذا يحبط إحسانك ويسقط حق حرمتك ولا تستدع الزيادة من كلامي بما تظهر من استحسان ما يكون مني فمن أسوأ حالا ممن يستكد الملوك بالباطل وذلك يدل على تهاونه بقدر ما أوجب الله تعالى من حقهم واعلم أني جعلتك مؤدبا بعد أن كنت معلما وجعلتك جليسا مقربا بعد أن كنت مع الصبيان مباعدا فمتى لم تعرف نقصان ما خرجت منه لم تعرف رجحان ما دخلت فيه وقد قالوا من لم يعرف سوء ما أولى لم يعرف حسن ما أبلى ثم قال ع وليكن كاتبك غير مقصر عن عرض مكتوبات عمالك عليك والإجابة عنها حسن الوكالة والنيابة عنك فيما يحتج به لك عليهم من مكتوباتهم وما يصدره عنك إليهم من الأجوبة فإن عقد لك عقدا قواه وأحكمه وإن عقد عليك عقدا اجتهد في نقضه وحله قال وأن يكون عارفا بنفسه فمن لم يعرف قدر نفسه لم يعرف قدر غيره . ثم نهاه أن يكون مستند اختياره لهؤلاء فراسته فيهم وغلبة ظنه بأحوالهم فإن التدليس ينم في ذلك كثيرا وما زال الكتاب يتصنعون للأمراء بحسن الظاهر وليس وراء ذلك كثير طائل في النصيحة والمعرفة ولكن ينبغي أن يرجع في ذلك إلى ما حكمت
[ 79 ](1/4775)
به التجربة لهم وما ولوه من قبل فإن كانت ولايتهم وكتابتهم حسنة مشكورة فهم هم وإلا فلا ويتعرفون لفراسات الولاة يجعلون أنفسهم بحيث يعرف بضروب من التصنع وروي يتعرضون . ثم أمره أن يقسم فنون الكتابة وضروبها بينهم نحو أن يكون أحدهم للرسائل إلى الأطراف والأعداء والآخر لأجوبة عمال السواد والآخرة بحضرة الأمير في خاصته وداره وحاشيته وثقاته . ثم ذكر له أنه مأخوذ مع الله تعالى بما يتغابى عنه ويتغافل من عيوب كتابه فإن الدين لا يبيح الإغضاء والغفلة عن الأعوان والخول ويوجب التطلع عليهم(1/4776)
فصل في الكتاب وما يلزمهم من الآداب
و اعلم أن الكاتب الذي يشير أمير المؤمنين ع إليه هو الذي يسمى الآن في الاصطلاح العرفي وزيرا لأنه صاحب تدبير حضرة الأمير والنائب عنه في أموره وإليه تصل مكتوبات العمال وعنه تصدر الأجوبة وإليه العرض على الأمير وهو المستدرك على العمال والمهيمن عليهم وهو على الحقيقة كاتب الكتاب ولهذا يسمونه الكاتب المطلق . وكان يقال للكاتب على الملك ثلاث رفع الحجاب عنه واتهام الوشاة عليه وإفشاء السر إليه . وكان يقال صاحب السلطان نصفه وكاتبه كله وينبغي لصاحب الشرطة أن يطيل الجلوس ويديم العبوس ويستخف بالشفاعات .
[ 80 ]
و كان يقال إذا كان الملك ضعيفا والوزير شرها والقاضي جائرا فرقوا الملك شعاعا . وكان يقال لا تخف صولة الأمير مع رضا الكاتب ولا تثقن برضا الأمير مع سخط الكاتب وأخذ هذا المعنى أبو الفضل بن العميد فقال
و زعمت أنك لست تفكر بعد ما
علقت يداك بذمة الأمراء
هيهات قد كذبتك فكرتك التي
قد أوهمتك غنى عن الوزراء
لم تغن عن أحد سماء لم تجد
أرضا ولا أرض بغير سماء
و كان يقال إذا لم يشرف الملك على أموره صار أغش الناس إليه وزيره . وكان يقال ليس الحرب الغشوم بأسرع في اجتياح الملك من تضييع مراتب الكتاب حتى يصيبها أهل النذالة ويزهد فيها أولو الفضل(1/4777)
فصل في ذكر ما نصحت به الأوائل الوزراء
و كان يقال لا شي ء أذهب بالدول من استكفاء الملك الأسرار . وكان يقال من سعادة جد المرء ألا يكون في الزمان المختلط وزيرا للسلطان . وكان يقال كما أن أشجع الرجال يحتاج إلى السلاح وأسبق الخيل يحتاج إلى السوط وأحد الشفار يحتاج إلى المسن كذلك أحزم الملوك وأعقلهم يحتاج إلى الوزير الصالح . وكان يقال صلاح الدنيا بصلاح الملوك وصلاح الملوك بصلاح الوزراء
[ 81 ]
و كما لا يصلح الملك إلا بمن يستحق الملك كذلك لا تصلح الوزارة إلا بمن يستحق الوزارة . وكان يقال الوزير الصالح لا يرى أن صلاحه في نفسه كائن صلاحا حتى يتصل بصلاح الملك وصلاح رعيته وأن تكون عنايته فيما عطف الملك على رعيته وفيما استعطف قلوب الرعية والعامة على الطاعة للملك وفيما فيه قوام أمر الملك من التدبير الحسن حتى يجمع إلى أخذ الحق تقديم عموم الأمن وإذا طرقت الحوادث كان للملك عدة وعتادا وللرعية كافيا محتاطا ومن ورائها محاميا ذابا يعنيه من صلاحها ما لا يعنيه من صلاح نفسه دونها . وكان يقال مثل الملك الصالح إذا كان وزيره فاسدا مثل الماء العذب الصافي وفيه التمساح لا يستطيع الإنسان وإن كان سابحا وإلى الماء ظامئا دخوله حذرا على نفسه . قال عمر بن عبد العزيز لمحمد بن كعب القرظي حين استخلف لو كنت كاتبي وردءا لي على ما دفعت إليه قال لا أفعل ولكني سأرشدك أسرع الاستماع وأبطئ في التصديق حتى يأتيك واضح البرهان ولا تعملن ثبجتك فيما تكتفي فيه بلسانك ولا سوطك فيما تكتفي فيه بثبجتك ولا سيفك فيما تكتفي فيه بسوطك . وكان يقال التقاط الكاتب للرشا وضبط الملك لا يجتمعان . وقال أبرويز لكاتبه اكتم السر واصدق الحديث واجتهد في النصيحة وعليك بالحذر فإن لك علي ألا أعجل عليك حتى أستأني لك ولا أقبل فيك قولا حتى أستيقن ولا أطمع فيك أحدا فتغتال واعلم أنك بمنجاة رفعة فلا تحطنها وفي
[ 82 ](1/4778)
ظل مملكة فلا تستزيلنه قارب الناس مجاملة من نفسك وباعدهم مسامحة عن عدوك واقصد إلى الجميل ازدراعا لغدك وتنزه بالعفاف صونا لمروءتك وتحسن عندي بما قدرت عليه احذر لا تسرعن الألسنة عليك ولا تقبحن الأحدوثة عنك وصن نفسك صون الدرة الصافية وأخلصها إخلاص الفضة البيضاء وعاتبها معاتبة الحذر المشفق وحصنها تحصين المدينة المنيعة لا تدعن أن ترفع إلى الصغير فإنه يدل على الكبير ولا تكتمن عني الكبير فإنه ليس بشاغل عن الصغير هذب أمورك ثم القني بها واحكم أمرك ثم راجعني فيه ولا تجترئن علي فأمتعض ولا تنقبضن مني فأتهم ولا تمرضن ما تلقاني به ولا تخدجنه وإذا أفكرت فلا تجعل وإذا كتبت فلا تعذر ولا تستعن بالفضول فإنها علاوة على الكفاية ولا تقصرن عن التحقيق فإنها هجنة بالمقالة ولا تلبس كلاما بكلام ولا تبعدن معنى عن معنى وأكرم لي كتابك عن ثلاث خضوع يستخفه وانتشار يهجنه ومعان تعقد به واجمع الكثير مما تريد في القليل مما تقول وليكن بسطة كلامك على كلام السوقة كبسطة الملك الذي تحدثه على الملوك لا يكن ما نلته عظيما وما تتكلم به صغيرا فإنما كلام الكاتب على مقدار الملك فاجعله عاليا كعلوه وفائقا كتفوقه فإنما جماع الكلام كله خصال أربع سؤالك الشي ء وسؤالك عن الشي ء وأمرك بالشي ء وخبرك عن الشي ء فهذه الخصال دعائم المقالات إن التمس إليها خامس لم يوجد وإن نقص منها واحد لم يتم فإذا أمرت فاحكم وإذا سألت فأوضح وإذا طلبت فأسمح وإذا أخبرت فحقق فإنك إذا فعلت ذلك أخذت بجراثيم القول كله فلم يشتبه عليك واردة ولم تعجزك صادرة أثبت في دواوينك ما أخذت وأحص فيها ما أخرجت وتيقظ لما تعطي وتجرد لما تأخذ ولا يغلبنك النسيان عن الإحصاء ولا الأناة عن التقدم ولا تخرجن
[ 83 ](1/4779)
وزن قيراط في غير حق ولا تعظمن إخراج الألوف الكثيرة في الحق وليكن ذلك كله عن مؤامرتي : ثُمَّ اِسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَ ذَوِي اَلصِّنَاعَاتِ وَ أَوْصِ بِهِمْ خَيْراً اَلْمُقِيمِ مِنْهُمْ وَ اَلْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ وَ اَلْمُتَرَفِّقِ بِبَدَنِهِ فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ اَلْمَنَافِعِ وَ أَسْبَابُ اَلْمَرَافِقِ وَ جُلاَّبُهَا مِنَ اَلْمَبَاعِدِ وَ اَلْمَطَارِحِ فِي بَرِّكَ وَ بَحْرِكَ وَ سَهْلِكَ وَ جَبَلِكَ وَ حَيْثُ لاَ يَلْتَئِمُ اَلنَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا وَ لاَ يَجْتَرِءُونَ عَلَيْهَا فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لاَ تُخَافُ بَائِقَتُهُ وَ صُلْحٌ لاَ تُخْشَى غَائِلَتُهُ وَ تَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِكَ وَ فِي حَوَاشِي بِلاَدِكَ وَ اِعْلَمْ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ ضِيقاً فَاحِشاً وَ شُحّاً قَبِيحاً وَ اِحْتِكَاراً لِلْمَنَافِعِ وَ تَحَكُّماً فِي اَلْبِيَاعَاتِ وَ ذَلِكَ بَابُ مَضَرَّةٍ لِلْعَامَّةِ وَ عَيْبٌ عَلَى اَلْوُلاَةِ فَامْنَعْ مِنَ اَلاِحْتِكَارِ فَإِنَّ رَسُولَ اَللَّهِ ص مَنَعَ مِنْهُ وَ لْيَكُنِ اَلْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً بِمَوَازِينِ عَدْلٍ وَ أَسْعَارٍ لاَ تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ اَلْبَائِعِ وَ اَلْمُبْتَاعِ فَمَنْ قَارَفَ حُكْرَةً بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاهُ فَنَكِّلْ بِهِ وَ عَاقِبْهُ مِنْ فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ خرج ع الآن إلى ذكر التجار وذوي الصناعات وأمره بأن يعمل معهم الخير وأن يوصى غيره من أمرائه وعماله أن يعملوا معهم الخير واستوص بمعنى أوص
[ 84 ]
نحو قر في المكان واستقر وعلا قرنه واستعلاه . وقوله استوص بالتجار خيرا أي أوص نفسك بذلك ومنه(1/4780)
قول النبي ص استوصوا بالنساء خيرا ومفعولا استوص وأوص هاهنا محذوفان للعلم بهما ويجوز أن يكون استوص أي اقبل الوصية مني بهم وأوص بهم أنت غيرك . ثم قسم ع الموصى بهم ثلاثة أقسام اثنان منها للتجار وهما المقيم والمضطرب يعني المسافر والضرب السير في الأرض قال تعالى إِذا ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ وواحد لأرباب الصناعات وهو قوله والمترفق ببدنه وروي بيديه تثنية يد . والمطارح الأماكن البعيدة . وحيث لا يلتئم الناس لا يجتمعون وروي حيث لا يلتئم بحذف الواو ثم قال فإنهم أولو سلم يعني التجار والصناع استعطفه عليهم واستماله إليهم . وقال ليسوا كعمال الخراج وأمراء الأجناد فجانبهم ينبغي أن يراعى وحالهم يجب أن يحاط ويحمى إذ لا يتخوف منهم بائقة لا في مال يخونون فيه ولا في دولة يفسدونها وحواشي البلاد أطرافها . ثم قال له قد يكون في كثير منهم نوع من الشح والبخل فيدعوهم ذلك إلى الاحتكار في الأقوات والحيف في البياعات والاحتكار ابتياع الغلات في أيام
[ 85 ](1/4781)
رخصها وادخارها في المخازن إلى أيام الغلاء والقحط والحيف تطفيف في الوزن والكيل وزيادة في السعر وهو الذي عبر عنه بالتحكم وقد نهى رسول الله ص عن الاحتكار وأما التطفيف وزياد التسعير فمنهي عنهما في نص الكتاب . وقارف حكرة واقعها والحاء مضمومة وأمره أن يؤدب فاعل ذلك من غير إسراف وذلك أنه دون المعاصي التي توجب الحدود فغاية أمره من التعزير الإهانة والمنع : ثُمَّ اَللَّهَ اَللَّهَ فِي اَلطَّبَقَةِ اَلسُّفْلَى مِنَ اَلَّذِينَ لاَ حِيلَةَ لَهُمْ مِنَ اَلْمَسَاكِينِ وَ اَلْمُحْتَاجِينَ وَ أَهْلِ اَلْبُؤْسَى وَ اَلزَّمْنَى فَإِنَّ فِي هَذِهِ اَلطَّبَقَةِ قَانِعاً وَ مُعْتَرّاً وَ اِحْفَظِ اَللَّهَ لِلَّهِ مَا اِسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ وَ اِجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالِكِ وَ قِسْماً مِنْ غَلاَّتِ صَوَافِي اَلْإِسْلاَمِ فِي كُلِّ بَلَدٍ فَإِنَّ لِلْأَقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ اَلَّذِي لِلْأَدْنَى وَ كُلٌّ قَدِ اِسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ وَ لاَ يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ فَإِنَّكَ لاَ تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِ اَلتَّافِهِ بِتَضْيِيعِكَ اَلتَّافِهَ لِإِحْكَامِكَ اَلْكَثِيرَ اَلْمُهِمَّ فَلاَ تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ وَ لاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ وَ تَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لاَ يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ اَلْعُيُونُ وَ تَحْقِرُهُ اَلرِّجَالُ فَفَرِّغْ لِأُولَئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ اَلْخَشْيَةِ وَ اَلتَّوَاضُعِ فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ ثُمَّ اِعْمَلْ فِيهِمْ بِالْإِعْذَارِ إِلَى اَللَّهِ سُبْحَانَهُ يَوْمَ تَلْقَاهُ فَإِنَّ هَؤُلاَءِ مِنْ بَيْنِ اَلرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَى اَلْإِنْصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَ كُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَى اَللَّهِ فِي تَأْدِيَةِ حَقِّهِ إِلَيْهِ
[ 86 ](1/4782)
وَ تَعَهَّدْ أَهْلَ اَلْيُتْمِ وَ ذَوِي اَلرِّقَّةِ فِي اَلسِّنِّ مِمَّنْ لاَ حِيلَةَ لَهُ وَ لاَ يَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَهُ وَ ذَلِكَ عَلَى اَلْوُلاَةِ ثَقِيلٌ وَ اَلْحَقُّ كُلُّهُ ثَقِيلٌ وَ قَدْ يُخَفِّفُهُ اَللَّهُ عَلَى أَقْوَامٍ طَلَبُوا اَلْعَاقِبَةَ فَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ وَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اَللَّهِ لَهُمْ انتقل من التجار وأرباب الصناعات إلى ذكر فقراء الرعية ومغموريها فقال وأهل البؤسى وهي البؤس كالنعمى للنعيم والزمنى أولو الزمانة . والقانع السائل والمعتر الذي يعرض لك ولا يسألك وهما من ألفاظ الكتاب العزيز . وأمره أن يعطيهم من بيت مال المسلمين لأنهم من الأصناف المذكورين في قوله تعالى وَ اِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ وأن يعطيهم من غلات صوافي الإسلام وهي الأرضون التي لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب وكانت صافية لرسول الله ص فلما قبض صارت لفقراء المسلمين ولما يراه الإمام من مصالح الإسلام . ثم قال له فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى أي كل فقراء المسلمين سواء في سهامهم ليس فيها أقصى وأدنى أي لا تؤثر من هو قريب إليك أو إلى أحد من خاصتك على من هو بعيد ليس له سبب إليك ولا علقة بينه وبينك ويمكن أن يريد به لا تصرف غلات ما كان من الصوافي في بعض البلاد إلى مساكين ذلك
[ 87 ](1/4783)
البلد خاصة فإن حق البعيد عن ذلك البلد فيها كمثل حق المقيم في ذلك البلد . والتافه الحقير وأشخصت زيدا من موضع كذا أخرجته عنه وفلان يصعر خده للناس أي يتكبر عليهم . وتقتحمه العيون تزدريه وتحتقره والإعذار إلى الله الاجتهاد والمبالغة في تأدية حقه والقيام بفرائضه . كان بعض الأكاسرة يجلس للمظالم بنفسه ولا يثق إلى غيره ويقعد بحيث يسمع الصوت فإذا سمعه أدخل المتظلم فأصيب بصمم في سمعه فنادى مناديه أن الملك يقول أيها الرعية إني إن أصبت بصمم في سمعي فلم أصب في بصري كل ذي ظلامة فليلبس ثوبا أحمر ثم جلس لهم في مستشرف له . وكان لأمير المؤمنين ع بيت سماه بيت القصص يلقي الناس فيه رقاعهم وكذلك كان فعل المهدي محمد بن هارون الواثق من خلفاء بني العباس : وَ اِجْعَلْ لِذَوِي اَلْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ وَ تَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً فَتَتَوَاضَعُ فِيهِ لِلَّهِ اَلَّذِي خَلَقَكَ وَ تُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَ أَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وَ شُرَطِكَ حَتَّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ ص يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لاَ يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ اَلْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ
[ 88 ](1/4784)
ثُمَّ اِحْتَمِلِ اَلْخُرْقَ مِنْهُمْ وَ اَلْعِيَّ وَ نَحِّ عَنْهُمُ اَلضِّيقَ وَ اَلْأَنَفَ يَبْسُطِ اَللَّهُ عَلَيْكَ بِذَلِكَ أَكْنَافَ رَحْمَتِهِ وَ يُوجِبُ لَكَ ثَوَابَ طَاعَتِهِ وَ أَعْطِ مَا أَعْطَيْتَ هَنِيئاً وَ اِمْنَعْ فِي إِجْمَالٍ وَ إِعْذَارٍ ثُمَّ أُمُورٌ مِنْ أُمُورِكَ لاَ بُدَّ لَكَ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا مِنْهَا إِجَابَةُ عُمَّالِكَ بِمَا يَعْيَا عَنْهُ كُتَّابُكَ وَ مِنْهَا إِصْدَارُ حَاجَاتِ اَلنَّاسِ عِنْدَ يَوْمَ وُرُودِهَا عَلَيْكَ بِمَا تَحْرَجُ بِهِ صُدُورُ أَعْوَانِكَ وَ أَمْضِ لِكُلِّ يَوْمٍ عَمَلَهُ فَإِنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ مَا فِيهِ هذا الفصل من تتمة ما قبله وقد روي حتى يكلمك مكلمهم فاعل من كلم والرواية الأولى الأحسن . وغير متتعتع غير مزعج ولا مقلق والمتتعتع في الخبر النبوي المتردد المضطرب في كلامه عيا من خوف لحقه وهو راجع إلى المعنى الأول . والخرق الجهل وروي ثم احتمل الخرق منهم والغي والغي وهو الجهل أيضا والرواية الأولى أحسن . ثم بين له ع أنه لا بد له من هذا المجلس لأمر آخر غير ما قدمه ع وذلك لأنه لا بد من أن يكون في حاجات الناس ما يضيق به صدور أعوانه والنواب عنه فيتعين عليه أن يباشرها بنفسه ولا بد من أن يكون في كتب عماله الواردة عليه
[ 89 ](1/4785)
ما يعيا كتابه عن جوابه فيجيب عنه بعلمه ويدخل في ذلك أن يكون فيها ما لا يجوز في حكم السياسة ومصلحة الولاية أن يطلع الكتاب عليه فيجيب أيضا عن ذلك بعلمه . ثم قال له لا تدخل عمل يوم في عمل يوم آخر فيتعبك ويكدرك فإن لكل يوم ما فيه من العمل : وَ اِجْعَلْ لِنَفْسِكَ فِيمَا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اَللَّهِ تَعَالَى أَفْضَلَ تِلْكَ اَلْمَوَاقِيتِ وَ أَجْزَلَ تِلْكَ اَلْأَقْسَامِ وَ إِنْ كَانَتْ كُلُّهَا لِلَّهِ إِذَا صَلَحَتْ فِيهَا اَلنِّيَّةُ وَ سَلِمَتْ مِنْهَا اَلرَّعِيَّةُ وَ لْيَكُنْ فِي خَاصَّةِ مَا تُخْلِصُ بِهِ لِلَّهِ دِينَكَ إِقَامَةُ فَرَائِضِهِ اَلَّتِي هِيَ لَهُ خَاصَّةً فَأَعْطِ اَللَّهَ مِنْ بَدَنِكَ فِي لَيْلِكَ وَ نَهَارِكَ وَ وَفِّ مَا تَقَرَّبْتَ بِهِ إِلَى اَللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ ذَلِكَ كَامِلاً غَيْرَ مَثْلُومٍ وَ لاَ مَنْقُوصٍ بَالِغاً مِنْ بَدَنِكَ مَا بَلَغَ وَ إِذَا قُمْتَ فِي صَلاَتِكَ لِلنَّاسِ فَلاَ تَكُونَنَّ مُنَفِّراً وَ لاَ مُضَيِّعاً فَإِنَّ فِي اَلنَّاسِ مَنْ بِهِ اَلْعِلَّةُ وَ لَهُ اَلْحَاجَةُ وَ قَدْ سَأَلْتُ رَسُولَ اَللَّهِ ص حِينَ وَجَّهَنِي إِلَى اَلْيَمَنِ كَيْفَ أُصَلِّي بِهِمْ فَقَالَ صَلِّ بِهِمْ كَصَلاَةِ أَضْعَفِهِمْ وَ كُنْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً لما فرغ ع من وصيته بأمور رعيته شرع في وصيته بأداء الفرائض التي
[ 90 ](1/4786)
افترضها الله عليه من عبادته ولقد أحسن ع في قوله وإن كانت كلها لله أي أن النظر في أمور الرعية مع صحة النية وسلامة الناس من الظلم من جملة العبادات والفرائض أيضا . ثم قال له كاملا غير مثلوم أي لا يحملنك شغل السلطان على أن تختصر الصلاة اختصارا بل صلها بفرائضها وسننها وشعائرها في نهارك وليلك وإن أتعبك ذلك ونال من بدنك وقوتك . ثم أمره إذا صلى بالناس جماعة ألا يطيل فينفرهم عنها وألا يخدج الصلاة وينقصها فيضيعها . ثم روى خبرا عن النبي ص وهو قوله ع له صل بهم كصلاة أضعفهم وقوله وكن بالمؤمنين رحيما يحتمل أن يكون من تتمة الخبر النبوي ويحتمل أن يكون من كلام أمير المؤمنين ع والظاهر أنه من كلام أمير المؤمنين من الوصية للأشتر لأن اللفظة الأولى عند أرباب الحديث هي المشهور في الخبر : وَ أَمَّا بَعْدَ هَذَا بَعْدُ فَلاَ تُطَوِّلَنَّ اِحْتِجَابَكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ فَإِنَّ اِحْتِجَابَ اَلْوُلاَةِ عَنِ اَلرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ اَلضِّيقِ وَ قِلَّةُ عِلْمٍ بِالْأُمُورِ وَ اَلاِحْتِجَابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا اِحْتَجَبُوا دُونَهُ فَيَصْغُرُ عِنْدَهُمُ اَلْكَبِيرُ وَ يَعْظُمُ اَلصَّغِيرُ وَ يَقْبُحُ اَلْحَسَنُ وَ يَحْسُنُ اَلْقَبِيحُ وَ يُشَابُ اَلْحَقُّ بِالْبَاطِلِ وَ إِنَّمَا اَلْوَالِي بَشَرٌ لاَ يَعْرِفُ مَا تَوَارَى عَنْهُ اَلنَّاسُ بِهِ مِنَ اَلْأُمُورِ وَ لَيْسَتْ عَلَى اَلْحَقِّ سِمَاتٌ تُعْرَفُ بِهَا ضُرُوبُ اَلصِّدْقِ مِنَ
[ 91 ](1/4787)
اَلْكَذِبِ وَ إِنَّمَا أَنْتَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ إِمَّا اِمْرُؤٌ سَخَتْ نَفْسُكَ بِالْبَذْلِ فِي اَلْحَقِّ فَفِيمَ اِحْتِجَابُكَ مِنْ وَاجِبِ حَقٍّ تُعْطِيهِ أَوْ فِعْلٍ كَرِيمٍ تُسْدِيهِ أَوْ مُبْتَلًى بِالْمَنْعِ فَمَا أَسْرَعَ كَفَّ اَلنَّاسِ عَنْ مَسْأَلَتِكَ إِذَا أَيِسُوا مِنْ بَذْلِكَ مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ حَاجَاتِ اَلنَّاسِ إِلَيْكَ مَا مِمَّا لاَ مَئُونَةَ فِيهِ عَلَيْكَ مِنْ شَكَاةِ مَظْلِمَةٍ أَوْ طَلَبِ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ نهاه عن الاحتجاب فإنه مظنة انطواء الأمور عنه وإذا رفع الحجاب دخل عليه كل أحد فعرف الأخبار ولم يخف عليه شي ء من أحوال عمله . ثم قال لم تحتجب فإن أكثر الناس يحتجبون كيلا يطلب منهم الرفد . وأنت فإن كنت جوادا سمحا لم يكن لك إلى الحجاب داع وإن كنت ممسكا فسيعلم الناس ذلك منك فلا يسألك أحد شيئا . ثم قال على أن أكثر ما يسأل منك ما لا مئونة عليه في ماله كرد ظلامة أو إنصاف من خصم(1/4788)
ذكر الحجاب وما ورد فيه من الخبر والشعر
و القول في الحجاب كثير حضر باب عمر جماعة من الأشراف منهم سهيل بن عمرو وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس فحجبوا ثم خرج الآذن فنادى أين عمار أين سلمان أين صهيب
[ 92 ]
فأدخلهم فتمعرت وجوه القوم فقال سهيل بن عمرو لم تتمعر وجوهكم دعوا ودعينا فأسرعوا وأبطأنا ولئن حسدتموهم على باب عمر اليوم لأنتم غدا لهم أحسد . واستأذن أبو سفيان على عثمان فحجبه فقيل له حجبك فقال لا عدمت من أهلي من إذا شاء حجبني . وحجب معاوية أبا الدرداء فقيل لأبي الدرداء حجبك معاوية فقال من يغش أبواب الملوك يهن ويكرم ومن صادف بابا مغلقا عليه وجد إلى جانبه بابا مفتوحا إن سأل أعطي وإن دعا أجيب وإن يكن معاوية قد احتجب فرب معاوية لم يحتجب . وقال أبرويز لحاجبه لا تضعن شريفا بصعوبة حجاب ولا ترفعن وضيعا بسهولته ضع الرجال مواضع أخطارهم فمن كان قديما شرفه ثم ازدرعه ولم يهدمه بعد آبائه فقدمه على شرفه الأول وحسن رأيه الآخر ومن كان له شرف متقدم ولم يصن ذلك حياطة له ولم يزدرعه تثمير المغارسة فألحق بآبائه من رفعة حاله ما يقتضيه سابق شرفهم وألحق به في خاصته ما ألحق بنفسه ولا تأذن له إلا دبريا وإلا سرارا ولا تلحقه بطبقة الأولين وإذا ورد كتاب عامل من عمالي فلا تحبسه عني طرفة عين إلا أن أكون على حال لا تستطيع الوصول إلي فيها وإذا أتاك من يدعي النصيحة لنا فلتكتبها سرا ثم أدخله بعد أن تستأذن له حتى إذا كان مني بحيث أراه فادفع إلي كتابه فإن أحمدت قبلت وإن كرهت رفضت وإن أتاك عالم مشتهر بالعلم والفضل يستأذن فأذن له فإن العلم شريف وشريف صاحبه ولا تحجبن عني أحدا من أفناء الناس إذا أخذت مجلسي مجلس العامة فإن الملك لا يحجب إلا عن ثلاث عي يكره أن يطلع عليه منه أو بخل يكره أن يدخل عليه من يسأله أو ريبة هو مصر عليها فيشفق من إبدائها
[ 93 ](1/4789)
و وقوف الناس عليها ولا بد أن يحيطوا بها علما وإن اجتهد في سترها وقد أخذ هذا المعنى الأخير محمود الوراق فقال
إذا اعتصم الوالي بإغلاق بابه
و رد ذوي الحاجات دون حجابه
ظننت به إحدى ثلاث وربما
رجمت بظن واقع بصوابه
أقول به مس من العي ظاهر
ففي إذنه للناس إظهار ما به
فإن لم يكن عي اللسان فغالب
من البخل يحمى ماله عن طلابه
و إن لم يكن لا ذا ولا ذا فريبة
يكتمها مستورة بثيابه
أقام عبد العزيز بن زرارة الكلابي على باب معاوية سنة في شملة من صوف لا يأذن له ثم أذن له وقربه وأدناه ولطف محله عنده حتى ولاه مصر فكان يقال استأذن أقوام لعبد العزيز بن زرارة ثم صار يستأذن لهم وقال في ذلك
دخلت على معاوية بن حرب
و لكن بعد يأس من دخول
و ما نلت الدخول عليه حتى
حللت محلة الرجل الذليل
و أغضيت الجفون على قذاها
و لم أنظر إلى قال وقيل
و أدركت الذي أملت منه
و حرمان المنى زاد العجول
و يقال إنه قال له لما دخل عليه أمير المؤمنين دخلت إليك بالأمل واحتملت جفوتك بالصبر ورأيت ببابك أقواما قدمهم الحظ وآخرين أخرهم الحرمان فليس ينبغي للمقدم أن يأمن عواقب الأيام ولا للمؤخر أن ييأس من عطف الزمان . وأول المعرفة الاختبار فابل واختبر إن رأيت وكان يقال لم يلزم باب السلطان أحد فصبر على ذل الحجاب وكلام البواب وألقى الأنف وحمل الضيم وأدام الملازمة إلا وصل إلى حاجته أو إلى معظمها .
[ 94 ]
قال عبد الملك لحاجبه إنك عين أنظر بها وجنة أستلئم بها وقد وليتك ما وراء بابي فما ذا تراك صانعا برعيتي قال أنظر إليهم بعينك وأحملهم على قدر منازلهم عندك وأضعهم في إبطائهم عن بابك ولزوم خدمتك مواضع استحقاقهم وأرتبهم حيث وضعهم ترتيبك وأحسن إبلاغهم عنك وإبلاغك عنهم قال لقد وفيت بما عليك ولكن إن صدقت ذلك بفعلك وقال دعبل وقد حجب عن باب مالك بن طوق
لعمري لئن حجبتني العبيد
لما حجبت دونك القافيه
سأرمي بها من وراء الحجاب(1/4790)
شنعاء تأتيك بالداهيه
تصم السميع وتعمي البصير
و يسأل من مثلها العافيه
و قال آخر
سأترك هذا الباب ما دام إذنه
على ما أرى حتى يلين قليلا
فما خاب من لم يأته مترفعا
و لا فاز من قد رام فيه دخولا
إذا لم نجد للإذن عندك موضعا
وجدنا إلى ترك المجي ء سبيلا
و كتب أبو العتاهية إلى أحمد بن يوسف الكاتب وقد حجبه
و إن عدت بعد اليوم إني لظالم
سأصرف وجهي حيث تبغي المكارم
متى يفلح الغادي إليك لحاجة
و نصفك محجوب ونصفك نائم
يعني ليله ونهاره . استأذن رجلان على معاوية فأذن لأحدهما وكان أشرف منزلة من الآخر ثم أذن للآخر فدخل فجلس فوق الأول فقال معاوية إن الله قد ألزمنا تأديبكم
[ 95 ]
كما ألزمنا رعايتكم وأنا لم نأذن له قبلك ونحن نريد أن يكون مجلسه دونك فقم لا أقام الله لك وزنا وقال بشار
تأبى خلائق خالد وفعاله
إلا تجنب كل أمر عائب
و إذا أتينا الباب وقت غدائه
أدنى الغداء لنا برغم الحاجب
و قال آخر يهجو
يا أميرا على جريب من الأر
ض له تسعة من الحجاب
قاعد في الخراب يحجب عنا
ما سمعنا بحاجب في خراب
و كتب بعضهم إلى جعفر بن محمد بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب
أبا جعفر إن الولاية إن تكن
منبلة قوسا فأنت لها نبل
فلا ترتفع عنا لأمر وليته
كما لم يصغر عندنا شأنك العزل
و من جيد ما مدح به بشر بن مروان قول القائل
بعيد مراد الطرف ما رد طرفه
حذار الغواشي باب دار ولا ستر
و لو شاء بشر كان من دون بابه
طماطم سود أو صقالبة حمر
و لكن بشرا يستر الباب للتي
يكون لها في غبها الحمد والأجر
و قال بشار
خليلي من كعب أعينا أخاكما
على دهره إن الكريم يعين
و لا تبخلا بخل ابن قرعة إنه
مخافة أن يرجى نداه حزين
إذا جئته للعرف أغلق بابه
فلم تلقه إلا وأنت كمين
فقل لأبي يحيى متى تدرك العلا
و في كل معروف عليك يمين
[ 96 ]
و قال إبراهيم بن هرمة
هش إذا نزل الوفود ببابه
سهل الحجاب مؤدب الخدام
و إذا رأيت صديقه وشقيقه(1/4791)
لم تدر أيهما ذوي الأرحام
و قال آخر
و إني لأستحيي الكريم إذا أتى
على طمع عند اللئيم يطالبه
و أرثي له من مجلس عند بابه
كمرثيتي للطرف والعلج راكبه
و قال عبد الله بن محمد بن عيينة
أتيتك زائرا لقضاء حق
فحال الستر دونك والحجاب
و رأيي مذهب عن كل ناء
يجانبه إذا عز الذهاب
و لست بساقط في قدر قوم
و إن كرهوا كما يقع الذباب
و قال آخر
ما ضاقت الأرض على راغب
تطلب الرزق ولا راهب
بل ضاقت الأرض على شاعر
أصبح يشكو جفوة الحاجب
قد شتم الحاجب في شعره
و إنما يقصد للصاحب
ثُمَّ إِنَّ لِلْوَالِي خَاصَّةً وَ بِطَانَةً فِيهِمُ اِسْتِئْثَارٌ وَ تَطَاوُلٌ وَ قِلَّةُ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ فَاحْسِمْ مَئُونَةَ مَادَّةَ أُولَئِكَ بِقَطْعِ أَسْبَابِ تِلْكَ اَلْأَحْوَالِ وَ لاَ تُقْطِعَنَّ لِأَحَدٍ مِنْ حَاشِيَتِكَ وَ حَامَّتِكَ قَطِيعَةً وَ لاَ يَطْمَعَنَّ مِنْكَ فِي اِعْتِقَادِ عُقْدَةٍ تَضُرُّ بِمَنْ يَلِيهَا مِنَ اَلنَّاسِ فِي
[ 97 ](1/4792)
شِرْبٍ أَوْ عَمَلٍ مُشْتَرَكٍ يَحْمِلُونَ مَئُونَتَهُ عَلَى غَيْرِهِمْ فَيَكُونَ مَهْنَأُ ذَلِكَ لَهُمْ دُونَكَ وَ عَيْبُهُ عَلَيْكَ فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلآْخِرَةِ وَ أَلْزِمِ اَلْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ اَلْقَرِيبِ وَ اَلْبَعِيدِ وَ كُنْ فِي ذَلِكَ صَابِراً مُحْتَسِباً وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ قَرَابَتِكَ وَ خَوَاصِّكَ خَاصَّتِكَ حَيْثُ وَقَعَ وَ اِبْتَغِ عَاقِبَتَهُ بِمَا يَثْقُلُ عَلَيْكَ مِنْهُ فَإِنَّ مَغَبَّةَ ذَلِكَ مَحْمُودَةٌ وَ إِنْ ظَنَّتِ اَلرَّعِيَّةُ بِكَ حَيْفاً فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِكَ وَ اِعْدِلْ عَنْكَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِكَ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ رِيَاضَةً مِنْكَ لِنَفْسِكَ وَ رِفْقاً بِرَعِيَّتِكَ وَ إِعْذَاراً تَبْلُغُ بِهِ حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِيمِهِمْ عَلَى اَلْحَقِّ نهاه ع عن أن يحمل أقاربه وحاشيته وخواصه على رقاب الناس وأن يمكنهم من الاستئثار عليهم والتطاول والإذلال ونهاه من أن يقطع أحدا منهم قطيعة أو يملكه ضيعة تضر بمن يجاورها من السادة والدهاقين في شرب يتغلبون على الماء منه أو ضياع يضيفونها إلى ما ملكهم إياه وإعفاء لهم من مئونة أو حفر وغيره فيعفيهم الولاة منه مراقبة لهم فيكون مئونة ذلك الواجب عليهم قد أسقطت عنهم وحمل ثقلها على غيرهم . ثم قال ع لأن منفعة ذلك في الدنيا تكون لهم دونك والوزر في الآخرة عليك والعيب والذم في الدنيا أيضا لاحقان بك . ثم قال له إن اتهمتك الرعية بحيف عليهم أو ظنت بك جورا فاذكر لهم عذرك
[ 98 ]
في ذلك وما عندك ظاهرا غير مستور فإنه الأولى والأقرب إلى استقامتهم لك على الحق . وأصحرت بكذا أي كشفته مأخوذ من الإصحار وهو الخروج إلى الصحراء . وحامة الرجل أقاربه وبطانته واعتقدت عقدة أي ادخرت ذخيرة والمهنأ مصدر هنأه كذا ومغبة الشي ء عاقبته . واعدل عنك ظنونهم نحها والإعذار إقامة العذر(1/4793)
طرف من أخبار عمر بن عبد العزيز ونزاهته في خلافته
رد عمر بن عبد العزيز المظالم التي احتقبها بنو مروان فأبغضوه وذموه وقيل إنهم سموه فمات . وروى الزبير بن بكار في الموفقيات أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز دخل على أبيه يوما وهو في قائلته فأيقظه وقال له ما يؤمنك أن تؤتى في منامك وقد رفعت إليك مظالم لم تقض حق الله فيها فقال يا بني إن نفسي مطيتي إن لم أرفق بها لم تبلغني إني لو أتعبت نفسي وأعواني لم يكن ذلك إلا قليلا حتى أسقط ويسقطوا وإني لأحتسب في نومتي من الأجر مثل الذي أحتسب في يقظتي إن الله جل ثناؤه لو أراد أن ينزل القرآن جملة لأنزله ولكنه أنزل الآية والآيتين حتى استكثر الإيمان في قلوبهم . ثم قال يا بني مما أنا فيه آمر هو أهم إلى أهل بيتك هم أهل العدة والعدد وقبلهم ما قبلهم فلو جمعت ذلك في يوم واحد خشيت انتشارهم علي ولكني أنصف من الرجل
[ 99 ](1/4794)
و الاثنين فيبلغ ذلك من وراءهما فيكون أنجع له فإن يرد الله إتمام هذا الأمر أتمه وإن تكن الأخرى فحسب عبد أن يعلم الله منه أنه يحب أن ينصف جميع رعيته . وروى جويرية بن أسماء عن إسماعيل بن أبي حكيم قال كنا عند عمر بن عبد العزيز فلما تفرقنا نادى مناديه الصلاة جامعة فجئت المسجد فإذا عمر على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن هؤلاء يعني خلفاء بني أمية قبله قد كانوا أعطونا عطايا ما كان ينبغي لنا أن نأخذها منهم وما كان ينبغي لهم أن يعطوناها وإني قد رأيت الآن أنه ليس علي في ذلك دون الله حسيب وقد بدأت بنفسي والأقربين من أهل بيتي اقرأ يا مزاحم فجعل مزاحم يقرأ كتابا فيه الإقطاعات بالضياع والنواحي ثم يأخذه عمر بيده فيقصه بالجلم لم يزل كذلك حتى نودي بالظهر . وروى الفرات بن السائب قال كان عند فاطمة بنت عبد الملك بن مروان جوهر جليل وهبها أبوها ولم يكن لأحد مثله وكانت تحت عمر بن عبد العزيز فلما ولي الخلافة قال لها اختاري إما أن تردي جوهرك وحليك إلى بيت مال المسلمين وإما أن تأذني لي في فراقك فإني أكره أن اجتمع أنا وأنت وهو في بيت واحد فقالت بل أختارك عليه وعلى أضعافه لو كان لي وأمرت به فحمل إلى بيت المال فلما هلك عمر واستخلف يزيد بن عبد الملك قال لفاطمة أخته إن شئت رددته عليك قالت فإني لا أشاء ذلك طبت عنه نفسا في حياة عمر وأرجع فيه بعد موته لا والله أبدا فلما رأى يزيد ذلك قسمه بين ولده وأهله . وروى سهيل بن يحيى المروزي عن أبيه عن عبد العزيز عن عمر بن عبد العزيز قال لما دفن سليمان صعد عمر على المنبر فقال إني قد خلعت ما في رقبتي من بيعتكم فصاح الناس صيحة واحدة قد اخترناك فنزل ودخل وأمر بالستور فهتكت
[ 100 ](1/4795)
و الثياب التي كانت تبسط للخلفاء فحملت إلى بيت المال ثم خرج ونادى مناديه من كانت له مظلمة من بعيد أو قريب من أمير المؤمنين فليحضر فقام رجل ذمي من أهل حمص أبيض الرأس واللحية فقال أسألك كتاب الله قال ما شأنك قال العباس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبني ضيعتي والعباس جالس فقال عمر ما تقول يا عباس قال أقطعنيها أمير المؤمنين الوليد وكتب لي بها سجلا فقال عمر ما تقول أنت أيها الذمي قال يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله فقال عمر إيها لعمري إن كتاب الله لأحق أن يتبع من كتاب الوليد اردد عليه يا عباس ضيعته فجعل لا يدع شيئا مما كان في أيدي أهل بيته من المظالم إلا ردها مظلمة مظلمة . وروى ميمون بن مهران قال بعث إلي عمر بن عبد العزيز وإلى مكحول وأبي قلابة فقال ما ترون في هذه الأموال التي أخذها أهلي من الناس ظلما فقال مكحول قولا ضعيفا كرهه عمر فقال أرى أن تستأنف وتدع ما مضى فنظر إلي عمر كالمستغيث بي فقلت يا أمير المؤمنين أحضر ولدك عبد الملك لننظر ما يقول فحضر فقال ما تقول يا عبد الملك فقال ما ذا أقول أ لست تعرف مواضعها قال بلى والله قال فارددها فإن لم تفعل كنت شريكا لمن أخذها . وروى ابن درستويه عن يعقوب بن سفيان عن جويرية بن أسماء قال كان بيد عمر بن عبد العزيز قبل الخلافة ضيعته المعروفة بالسهلة وكانت باليمامة وكانت أمرا عظيما لها غلة عظيمة كثيرة إنما عيشه وعيش أهله منها فلما ولي الخلافة قال لمزاحم مولاه وكان فاضلا إني قد عزمت أن أرد السهلة إلى بيت مال المسلمين فقال مزاحم أ تدري كم ولدك إنهم كذا وكذا قال فذرفت عيناه فجعل يستدمع ويمسح الدمعة بإصبعه الوسطى ويقول أكلهم إلى الله أكلهم إلى الله فمضى مزاحم فدخل على عبد الملك بن عمر فقال له أ لا تعلم ما قد عزم عليه أبوك إنه يريد أن يرد السهلة قال فما قلت
[ 101 ](1/4796)
له قال ذكرت له ولده فجعل يستدمع ويقول أكلهم إلى الله فقال عبد الملك بئس وزير الدين أنت ثم وثب وانطلق إلى أبيه فقال للآذن استأذن لي عليه فقال إنه قد وضع رأسه الساعة للقائلة فقال استأذن لي عليه فقال أ ما ترحمونه ليس له من الليل والنهار إلا هذه الساعة قال استأذن لي عليه لا أم لك فسمع عمر كلامهما فقال ائذن لعبد الملك فدخل فقال على ما ذا عزمت قال أرد السهلة قال فلا تؤخر ذلك قم الآن قال فجعل عمر يرفع يديه ويقول الحمد لله الذي جعل لي من ذريتي من يعينني على أمر ديني قال نعم يا بني أصلي الظهر ثم أصعد المنبر فأردها علانية على رءوس الناس قال ومن لك أن تعيش إلى الظهر ثم من لك أن تسلم نيتك إلى الظهر إن عشت إليها فقام عمر فصعد المنبر فخطب الناس ورد السهلة . قال وكتب عمر بن الوليد بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز لما أخذ بني مروان برد المظالم كتابا أغلظ له فيه من جملته أنك أزريت على كل من كان قبلك من الخلفاء وعبتهم وسرت بغير سيرتهم بغضا لهم وشنآنا لمن بعدهم من أولادهم وقطعت ما أمر الله به أن يوصل وعمدت إلى أموال قريش ومواريثهم فأدخلتها بيت المال جورا وعدوانا فاتق الله يا ابن عبد العزيز وراقبه فإنك خصصت أهل بيتك بالظلم والجور وو الذي خص محمد ص بما خصه به لقد ازددت من الله بعدا بولايتك هذه التي زعمت أنها عليك بلاء فأقصر عن بعض ما صنعت واعلم أنك بعين جبار عزيز وفي قبضته ولن يتركك على ما أنت عليه . قالوا فكتب عمر جوابه أما بعد فقد قرأت كتابك وسوف أجيبك بنحو منه أما أول أمرك يا ابن الوليد فإن أمك نباتة أمة السكون كانت تطوف في أسواق حمص وتدخل حوانيتها ثم الله أعلم بها اشتراها ذبيان بن ذبيان من في ء المسلمين فأهداها
[ 102 ](1/4797)
لأبيك فحملت بك فبئس الحامل وبئس المحمول ثم نشأت فكنت جبارا عنيدا وتزعم أني من الظالمين لأني حرمتك وأهل بيتك في ء الله الذي هو حق القرابة والمساكين والأرامل وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من استعملك صبيا سفيها على جند المسلمين تحكم فيهم برأيك ولم يكن له في ذاك نية إلا حب الوالد ولده فويل لك وويل لأبيك ما أكثر خصماءكما يوم القيامة وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من استعمل الحجاج بن يوسف على خمسي العرب يسفك الدم الحرام ويأخذ المال الحرام وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من استعمل قرة بن شريك أعرابيا جافيا على مصر وأذن له في المعازف والخمر والشرب واللهو وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من استعمل عثمان بن حيان على الحجاز فينشد الأشعار على منبر رسول الله ص ومن جعل للعالية البربرية سهما في الخمس فرويدا يا ابن نباتة ولو التقت حلقتا البطان ورد الفي ء إلى أهله لتفرغت لك ولأهل بيتك فوضعتكم على المحجة البيضاء فطالما تركتم الحق وأخذتم في بنيات الطريق ومن وراء هذا من الفضل ما أرجو أن أعمله بيع رقبتك وقسم ثمنك بين الأرامل واليتامى والمساكين فإن لكل فيك حقا والسلام علينا ولا ينال سلام الله الظالمين . وروى الأوزاعي قال لما قطع عمر بن عبد العزيز عن أهل بيته ما كان من قبله يجرونه عليهم من أرزاق الخاصة فتكلم في ذلك عنبسة بن سعيد فقال يا أمير المؤمنين إن لنا قرابة فقال مالي إن يتسع لكم وأما هذا المال فحقكم فيه كحق رجل بأقصى برك الغماد ولا يمنعه من أخذه إلا بعد مكانه والله إني لأرى أن الأمور
[ 103 ](1/4798)
لو استحالت حتى يصبح أهل الأرض يرون مثل رأيكم لنزلت بهم بائقة من عذاب الله . وروى الأوزاعي أيضا قال قال عمر بن عبد العزيز يوما وقد بلغه عن بني أمية كلام أغضبه إن لله في بني أمية يوما أو قال ذبحا وايم الله لئن كان ذلك الذبح أو قال ذلك اليوم على يدي لأعذرن الله فيهم قال فلما بلغهم ذلك كفوا وكانوا يعلمون صرامته وإنه إذا وقع في أمر مضى فيه . وروى إسماعيل بن أبي حكيم قال قال عمر بن عبد العزيز يوما لحاجبه لا تدخلن علي اليوم إلا مروانيا فلما اجتمعوا قال يا بني مروان إنكم قد أعطيتم حظا وشرفا وأموالا إني لأحسب شطر أموال هذه الأمة أو ثلثيها في أيديكم فسكتوا فقال أ لا تجيبوني فقال رجل منهم فما بالك قال إني أريد أن أنتزعها منكم فأردها إلى بيت مال المسلمين فقال رجل منهم والله لا يكون ذلك حتى يحال بين رءوسنا وأجسادنا والله لا نكفر أسلافنا ولا نفقر أولادنا فقال عمر والله لو لا أن تستعينوا علي بمن أطلب هذا الحق له لأضرعت خدودكم قوموا عني . وروى مالك بن أنس قال ذكر عمر بن عبد العزيز من كان قبله من المروانية فعابهم وعنده هشام بن عبد الملك فقال يا أمير المؤمنين إنا والله نكره أن تعيب آباءنا وتضع شرفنا فقال عمر وأي عيب أعيب مما عابه القرآن . وروى نوفل بن الفرات قال شكا بنو مروان إلى عاتكة بنت مروان بن الحكم عمر فقالوا إنه يعيب أسلافنا ويأخذ أموالنا فذكرت ذلك له وكانت عظيمة عند بني مروان فقال لها يا عمة إن رسول الله ص قبض وترك
[ 104 ](1/4799)
الناس على نهر مورود فولي ذلك النهر بعده رجلان لم يستخصا أنفسهما وأهلهما منه بشي ء ثم وليه ثالث فكرى منه ساقية ثم لم تزل الناس يكرون منه السواقي حتى تركوه يابسا لا قطرة فيه وايم الله لئن أبقاني الله لأسكرن تلك السواقي حتى أعيد النهر إلى مجراه الأول قالت فلا يسبون إذا عندك قال ومن يسبهم إنما يرفع الرجل مظلمته فأردها عليه . وروى عبد الله بن محمد التيمي قال كان بنو أمية ينزلون عاتكة بنت مروان بن الحكم على أبواب قصورهم وكانت جليلة الموضع عندهم فلما ولي عمر قال لا يلي إنزالها أحد غيري فأدخلوها على دابتها إلى باب قبته فأنزلها ثم طبق لها وسادتين إحداهما على الأخرى ثم أنشأ يمازحها ولم يكن من شأنه ولا من شأنها المزاح فقال أ ما رأيت الحرس الذين على الباب فقالت بلى وربما رأيتهم عند من هو خير منك فلما رأى الغضب لا يتحلل عنها ترك المزاح وسألها أن تذكر حاجتها فقالت إن قرابتك يشكونك ويزعمون أنك أخذت منهم خير غيرك قال ما منعتهم شيئا هو لهم ولا أخذت منهم حقا يستحقونه قالت إني أخاف أن يهيجوا عليك يوما عصيبا وقال كل يوم أخافه دون يوم القيامة فلا وقاني الله شره ثم دعا بدينار ومجمرة وجلد فألقى الدينار في النار وجعل ينفخ حتى احمر ثم تناوله بشي ء فأخرجه فوضعه على الجلد فنش وفتر فقال يا عمة أ ما تأوين لابن أخيك من مثل هذا فقامت فخرجت إلى بني مروان فقالت تزوجون في آل عمر بن الخطاب فإذا نزعوا إلى الشبه جزعتم اصبروا له . وروى وهيب بن الورد قال اجتمع بنو مروان على باب عمر بن عبد العزيز فقالوا لولد له قل لأبيك يأذن لنا فإن لم يأذن فأبلغ إليه عنا وسأله فلم يأذن لهم وقال
[ 105 ](1/4800)
فليقولوا فقالوا قل له إن من كان قبلك من الخلفاء كان يعطينا ويعرف لنا مواضعنا وإن أباك قد حرمنا ما في يديه فدخل إلى أبيه فأبلغه عنهم فقال اخرج فقل لهم إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم وروى سعيد بن عمار عن أسماء بنت عبيد قال دخل عنبسة بن سعيد بن العاص على عمر بن عبد العزيز فقال يا أمير المؤمنين إن من كان قبلك من الخلفاء كانوا يعطوننا عطايا منعتناها ولي عيال وضيعة فأذن لي أخرج إلى ضيعتي وما يصلح عيالي فقال عمر إن أحبكم إلينا من كفانا مئونته فخرج عنبسة فلما صار إلى الباب ناداه أبا خالد أبا خالد فرجع فقال أكثر ذكر الموت فإن كنت في ضيق من العيش وسعه عليك وإن كنت في سعة من العيش ضيقه عليك . وروى عمر بن علي بن مقدم قال قال ابن صغير لسليمان بن عبد الملك لمزاحم إن لي حاجة إلى أمير المؤمنين عمر قال فاستأذنت له فأدخله فقال يا أمير المؤمنين لم أخذت قطيعتي قال معاذ الله إن آخذ قطيعة ثبتت في الإسلام قال فهذا كتابي بها وأخرج كتابا من كمه فقرأه عمر وقال لمن كانت هذه الأرض قال كانت للمسلمين قال فالمسلمون أولى بها قال فاردد علي كتابي قال إنك لو لم تأتني به لم أسألكه فأما إذ جئتني به فلست أدعك تطلب به ما ليس لك بحق فبكى ابن سليمان فقال مزاحم يا أمير المؤمنين ابن سليمان تصنع به هذا قال وذلك لأن سليمان عهد إلى عمر وقدمه على إخوته فقال عمر ويحك يا مزاحم إني لأجد له من اللوط ما أجد لولدي ولكنها نفسي أجادل عنها . وروى الأوزاعي قال قال هشام بن عبد الملك وسعيد بن خالد بن عمر بن عثمان
[ 106 ](1/4801)
بن عفان لعمر بن عبد العزيز يا أمير المؤمنين استأنف العمل برأيك فيما تحت يدك وخل بين من سبقك وبين ما ولوه عليهم كان أو لهم فإنك مستكف أن تدخل في خير ذلك وشره قال أنشدكما الله الذي إليه تعودان لو أن رجلا هلك وترك بنين أصاغر وأكابر فغر الأكابر الأصاغر بقوتهم فأكلوا أموالهم ثم بلغ الأصاغر الحلم فجاءوكما بهم وبما صنعوا في أموالهم ما كنتما صانعين قالا كنا نرد عليهم حقوقهم حتى يستوفوها قال فإني وجدت كثيرا ممن كان قبلي من الولاة غر الناس بسلطانه وقوته وآثر بأموالهم أتباعه وأهله ورهطه وخاصته فلما وليت أتوني بذلك فلم يسعني إلا الرد على الضعيف من القوي وعلى الدني ء من الشريف فقالا يوفق الله أمير المؤمنين : وَ لاَ تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ ولِلَّهِ فِيهِ رِضًا فَإِنَّ فِي اَلصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ وَ رَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ وَ أَمْناً لِبِلاَدِكَ وَ لَكِنِ اَلْحَذَرَ كُلَّ اَلْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكَ بَعْدَ صُلْحِهِ فَإِنَّ اَلْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّلَ فَخُذْ بِالْحَزْمِ وَ اِتَّهِمْ فِي ذَلِكَ حُسْنَ اَلظَّنِّ وَ إِنْ عَقَدْتَ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ عَدُوٍّ لَكَ عَدُوِّكَ عُقْدَةً أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْكَ ذِمَّةً فَحُطْ عَهْدَكَ بِالْوَفَاءِ وَ اِرْعَ ذِمَّتَكَ بِالْأَمَانَةِ وَ اِجْعَلْ نَفْسَكَ جُنَّةً دُونَ مَا أَعْطَيْتَ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فَرَائِضِ اَللَّهِ شَيْ ءٌ اَلنَّاسُ أَشَدُّ عَلَيْهِ اِجْتِمَاعاً مَعَ تَفَرُّقِ أَهْوَائِهِمْ وَ تَشَتُّتِ آرَائِهِمْ مِنْ تَعْظِيمِ اَلْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَ قَدْ لَزِمَ ذَلِكَ اَلْمُشْرِكُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ دُونَ اَلْمُسْلِمِينَ لِمَا اِسْتَوْبَلُوا مِنْ عَوَاقِبِ اَلْغَدْرِ فَلاَ تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ وَ لاَ تَخِيسَنَّ بِعَهْدِكَ وَ لاَ تَخْتِلَنَّ عَدُوَّكَ فَإِنَّهُ لاَ يَجْتَرِئُ(1/4802)
عَلَى اَللَّهِ إِلاَّ جَاهِلٌ شَقِيٌّ وَ قَدْ جَعَلَ اَللَّهُ عَهْدَهُ وَ ذِمَّتَهُ أَمْناً أَفْضَاهُ بَيْنَ اَلْعِبَادِ بِرَحْمَتِهِ
[ 107 ]
وَ حَرِيماً يَسْكُنُونَ إِلَى مَنَعَتِهِ وَ يَسْتَفِيضُونَ إِلَى جِوَارِهِ فَلاَ إِدْغَالَ وَ لاَ مُدَالَسَةَ وَ لاَ خِدَاعَ فِيهِ وَ لاَ تَعْقِدْهُ تَعْقِدْ عَقْداً تُجَوِّزُ فِيهِ اَلْعِلَلَ وَ لاَ تُعَوِّلَنَّ عَلَى لَحْنِ اَلْقَوْلِ قَوْلٍ بَعْدَ اَلتَّأْكِيدِ وَ اَلتَّوْثِقَةِ وَ لاَ يَدْعُوَنَّكَ ضِيقُ أَمْرٍ لَزِمَكَ فِيهِ عَهْدُ اَللَّهِ إِلَى طَلَبِ اِنْفِسَاخِهِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ فَإِنَّ صَبْرَكَ عَلَى ضِيقِ أَمْرٍ تَرْجُو اِنْفِرَاجَهُ وَ فَضْلَ عَاقِبَتِهِ خَيْرٌ مِنْ غَدْرٍ تَخَافُ تَبِعَتَهُ وَ أَنْ تُحِيطَ بِكَ مِنَ اَللَّهِ طِلْبَةٌ لاَ تَسْتَقِيلُ تَسْتَقْبِلُ فِيهَا دُنْيَاكَ وَ لاَ آخِرَتَكَ أمره أن يقبل السلم والصلح إذا دعي إليه لما فيه من دعة الجنود والراحة من الهم والأمن للبلاد ولكن ينبغي أن يحذر بعد الصلح من غائلة العدو وكيده فإنه ربما قارب بالصلح ليتغفل أي يطلب غفلتك فخذ بالحزم واتهم حسن ظنك لا تثق ولا تسكن إلى حسن ظنك بالعدو وكن كالطائر الحذر . ثم أمره بالوفاء بالعهود قال واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت أي ولو ذهبت نفسك فلا تغدر . وقال الراوندي الناس مبتدأ وأشد مبتدأ ثان ومن تعظيم الوفاء خبره وهذا المبتدأ الثاني مع خبره خبر المبتدإ الأول ومحل الجملة نصب لأنها خبر ليس ومحل ليس مع اسمه وخبره رفع لأنه خبر فإنه وشي ء اسم ليس ومن فرائض الله حال ولو تأخر لكان صفة لشي ء والصواب أن شي ء اسم ليس وجاز ذلك وإن كان نكرة لاعتماده على النفي ولأن الجار والمجرور قبله في موضع الحال كالصفة فتخصص بذلك وقرب من المعرفة والناس مبتدأ وأشد خبره وهذه الجملة المركبة من مبتدإ
[ 108 ](1/4803)
و خبر في موضع رفع لأنها صفة شي ء وأما خبر المبتدإ الذي هو شي ء فمحذوف وتقديره في الوجود كما حذف الخبر في قولنا لا إله إلا الله أي في الوجود وليس يصح ما قال الراوندي من أن أشد مبتدأ ثان ومن تعظيم الوفاء خبره لأن حرف الجر إذا كان خبرا لمبتدإ تعلق بمحذوف وهاهنا هو متعلق بأشد نفسه فكيف يكون خبرا عنه وأيضا فإنه لا يجوز أن يكون أشد من تعظيم الوفاء خبرا عن الناس كما زعم الراوندي لأن ذلك كلام غير مفيد أ لا ترى أنك إذا أردت أن تخبر بهذا الكلام عن المبتدإ الذي هو الناس لم يقم من ذلك صورة محصلة تفيدك شيئا بل يكون كلاما مضطربا . ويمكن أيضا أن يكون من فرائض الله في موضع رفع لأنه خبر المبتدإ وقد قدم عليه ويكون موضع الناس وما بعده رفع لأنه خبر المبتدإ الذي هو شي ء كما قلناه أولا وليس يمتنع أيضا أن يكون من فرائض الله منصوب الموضع لأنه حال ويكون موضع الناس أشد رفعا لأنه خبر المبتدإ الذي هو شي ء . ثم قال له ع وقد لزم المشركون مع شركهم الوفاء بالعهود وصار ذلك لهم شريعة وبينهم سنة فالإسلام أولى باللزوم والوفاء . واستوبلوا وجدوه وبيلا أي ثقيلا استوبلت البلد أي استوخمته واستثقلته ولم يوافق مزاجك . ولا تخيسن بعهدك أي لا تغدرن خاس فلان بذمته أي غدر ونكث . قوله ولا تختلن عدوك أي لا تمكرن به ختلته أي خدعته . وقوله أفضاه بين عباده جعله مشتركا بينهم لا يختص به فريق دون فريق .
[ 109 ](1/4804)
قال ويستفيضون إلى جواره أي ينتشرون في طلب حاجاتهم ومآربهم ساكنين إلى جواره فإلى هاهنا متعلقة بمحذوف مقدر كقوله تعالى فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ أي مرسلا قال فلا إدغال أي لا إفساد والدغل الفساد ولا مدالسة أي لا خديعة يقال فلان لا يوالس ولا يدالس أي لا يخادع ولا يخون وأصل الدلس الظلمة والتدليس في البيع كتمان عيب السلعة عن المشتري . ثم نهاه عن أن يعقد عقدا يمكن فيه التأويلات والعلل وطلب المخارج ونهاه إذا عقد العقد بينه وبين العدو أن ينقضه معولا على تأويل خفي أو فحوى قول أو يقول إنما عنيت كذا ولم أعن ظاهر اللفظة فإن العقود إنما تعقد على ما هو ظاهر في الاستعمال متداول في الاصطلاح والعرف لا على ما في الباطن . وروي انفساحه بالحاء المهملة أي سعته(1/4805)
فصل فيما جاء في الحذر من كيد العدو
قد جاء في الحذر من كيد العدو والنهي عن التفريط في الرأي السكون إلى ظاهر السلم أشياء كثيرة وكذا في النهي عن الغدر والنهي عن طلب تأويلات العهود وفسخها بغير الحق . فرط عبد الله بن طاهر في أيام أبيه في أمر أشرف فيه على العطب ونجا بعد لأي فكتب إليه أبوه أتاني يا بني من خبر تفريطك ما كان أكبر عندي من نعيك لو ورد لأني لم أرج قط ألا تموت وقد كنت أرجو ألا تفتضح بترك الحزم والتيقظ . وروى ابن الكلبي أن قيس بن زهير لما قتل حذيفة بن بدر ومن معه بجفر الهباءة
[ 110 ](1/4806)
خرج حتى لحق بالنمر بن قاسط وقال لا تنظر في وجهي غطفانية بعد اليوم فقال يا معاشر النمر أنا قيس بن زهير غريب حريب طريد شريد موتور فانظروا لي امرأة قد أدبها الغني وأذلها الفقر فزوجوه بامرأة منهم فقال لهم إني لا أقيم فيكم حتى أخبركم بأخلاقي أنا فخور غيور أنف ولست أفخر حتى أبتلى ولا أغار حتى أرى ولا آنف حتى أظلم فرضوا أخلاقه فأقام فيهم حتى ولد له ثم أراد أن يتحول عنهم فقال يا معشر النمر إن لكم حقا علي في مصاهرتي فيكم ومقامي بين أظهركم وإني موصيكم بخصال آمركم بها وأنهاكم عن خصال عليكم بالأناة فإن بها تدرك الحاجة وتنال الفرصة وتسويد من لا تعابون بتسويده والوفاء بالعهود فإن به يعيش الناس وإعطاء ما تريدون إعطاءه قبل المسألة ومنع ما تريدون منعه قبل الإنعام وإجارة الجار على الدهر وتنفيس البيوت عن منازل الأيامى وخلط الضيف بالعيال وأنهاكم عن الغدر فإنه عار الدهر وعن الرهان فإن به ثكلت مالكا أخي وعن البغي فإن به صرع زهير أبي وعن السرف في الدماء فإن قتلي أهل الهباءة أورثني العار ولا تعطوا في الفضول فتعجزوا عن الحقوق وأنكحوا الأيامى الأكفاء فإن لم تصيبوا بهن الأكفاء فخير بيوتهن القبور واعلموا أني أصبحت ظالما ومظلوما ظلمني بنو بدر بقتلهم مالكا وظلمتهم بقتلي من لا ذنب له ثم رحل عنهم إلى غمار فتنصر بها وعف عن المآكل حتى أكل الحنظل إلى أن مات : إِيَّاكَ وَ اَلدِّمَاءَ وَ سَفْكَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْ ءٌ أَدْعَى لِنِقْمَةٍ وَ لاَ أَعْظَمَ
[ 111 ](1/4807)
لِتَبِعَةٍ وَ لاَ أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَةٍ وَ اِنْقِطَاعِ مُدَّةٍ مِنْ سَفْكِ اَلدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا وَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ مُبْتَدِئٌ بِالْحُكْمِ بَيْنَ اَلْعِبَادِ فِيمَا تَسَافَكُوا مِنَ اَلدِّمَاءِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فَلاَ تُقَوِّيَنَّ سُلْطَانَكَ بِسَفْكِ دَمٍ حَرَامٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُضْعِفُهُ وَ يُوهِنُهُ بَلْ يُزِيلُهُ وَ يَنْقُلُهُ وَ لاَ عُذْرَ لَكَ عِنْدَ اَللَّهِ وَ لاَ عِنْدِي فِي قَتْلِ اَلْعَمْدِ لِأَنَّ فِيهِ قَوَدَ اَلْبَدَنِ وَ إِنِ اُبْتُلِيتَ بِخَطَإٍ وَ أَفْرَطَ عَلَيْكَ سَوْطُكَ أَوْ سَيْفُكَ أَوْ يَدُكَ بِالْعُقُوبَةِ فَإِنَّ فِي اَلْوَكْزَةِ فَمَا فَوْقَهَا مَقْتَلَةً فَلاَ تَطْمَحَنَّ بِكَ نَخْوَةُ سُلْطَانِكَ عَنْ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى أَوْلِيَاءِ اَلْمَقْتُولِ حَقَّهُمْ قد ذكرنا في وصية قيس بن زهير آنفا النهي عن الإسراف في الدماء وتلك وصية مبنية على شريعة الجاهلية مع حميتها وتهالكها على القتل والقتال ووصية أمير المؤمنين ع مبنية على الشريعة الإسلامية والنهي عن القتل والعدوان الذي لا يسيغه الدين و
قد ورد في الخبر المرفوع أن أول ما يقضي الله به يوم القيامة بين العباد أمر الدماء قال إنه ليس شي ء أدعى إلى حلول النقم وزوال النعم وانتقال الدول من سفك الدم الحرام وإنك إن ظننت أنك تقوي سلطانك بذلك فليس الأمر كما ظننت بل تضعفه بل تعدمه بالكلية . ثم عرفه أن قتل العمد يوجب القود وقال له قود البدن أي يجب عليك هدم صورتك كما هدمت صورة المقتول والمراد إرهابه بهذه اللفظة أنها أبلغ من أن يقول له فإن فيه القود . ثم قال إن قتلت خطأ أو شبه عمد كالضرب بالسوط فعليك الدية وقد اختلف
[ 112 ](1/4808)
الفقهاء في هذه المسألة فقال أبو حنيفة وأصحابه القتل على خمسة أوجه عمد وشبه عمد وخطأ وما أجري مجرى الخطإ وقتل بسبب . فالعمد ما تعمد به ضرب الإنسان بسلاح أو ما يجري مجرى السلاح كالمحدد من الخشب وليطة القصب والمروءة المحددة والنار وموجب ذلك المأثم والقود إلا أن يعفو الأولياء ولا كفارة فيه . وشبه العمد أن يتعمد الضرب بما ليس بسلاح ولا أجري مجرى السلاح كالحجر العظيم والخشبة العظيمة وموجب ذلك المأثم والكفارة ولا قود فيه وفيه الدية مغلظة على العاقلة . والخطأ على وجهين خطأ في القصد وهو أن يرمي شخصا يظنه صيدا فإذا هو آدمي وخطأ في الفعل وهو أن يرمي غرضا فيصيب آدميا وموجب النوعين جميعا الكفارة والدية على العاقلة ولا مأثم فيه . وما أجري مجرى الخطإ مثل النائم يتقلب على رجل فيقتله فحكمه حكم الخطإ وأما القتل بسبب فحافر البئر وواضع الحجر في غير ملكه وموجبه إذا تلف فيه إنسان الدية على العاقلة ولا كفارة فيه . فهذا قول أبي حنيفة ومن تابعه وقد خالفه صاحباه أبو يوسف ومحمد في شبه العمد وقالا إذا ضربه بحجر عظيم أو خشبة غليظة فهو عمد قال وشبه العمد أن يتعمد ضربه بما لا يقتل به غالبا كالعصا الصغيرة والسوط وبهذا القول قال الشافعي . وكلام أمير المؤمنين ع يدل على أن المؤدب من الولاة إذا تلف تحت
[ 113 ](1/4809)
يده إنسان في التأديب فعليه الدية وقال لي قوم من فقهاء الإمامية أن مذهبنا أن لا دية عليه وهو خلاف ما يقتضيه كلام أمير المؤمنين ع : وَ إِيَّاكَ وَ اَلْإِعْجَابَ بِنَفْسِكَ وَ اَلثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا وَ حُبَّ اَلْإِطْرَاءِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَوْثَقِ فُرَصِ اَلشَّيْطَانِ فِي نَفْسِهِ لِيَمْحَقَ مَا يَكُونُ مِنْ إِحْسَانِ اَلْمُحْسِنِينَ وَ إِيَّاكَ وَ اَلْمَنَّ عَلَى رَعِيَّتِكَ بِإِحْسَانِكَ أَوِ اَلتَّزَيُّدَ فِيمَا كَانَ مِنْ فِعْلِكَ أَوْ أَنْ تَعِدَهُمْ فَتُتْبِعَ مَوْعِدَكَ بِخُلْفِكَ فَإِنَّ اَلْمَنَّ يُبْطِلُ اَلْإِحْسَانَ وَ اَلتَّزَيُّدَ يَذْهَبُ بِنُورِ اَلْحَقِّ وَ اَلْخُلْفَ يُوجِبُ اَلْمَقْتَ عِنْدَ اَللَّهِ وَ اَلنَّاسِ قَالَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اَللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ وَ إِيَّاكَ وَ اَلْعَجَلَةَ بِالْأُمُورِ قَبْلَ أَوَانِهَا أَوِ اَلتَّسَاقُطَ اَلتَّسَقُّطَ فِيهَا عِنْدَ إِمْكَانِهَا أَوِ اَللَّجَاجَةَ فِيهَا إِذَا تَنَكَّرَتْ أَوِ اَلْوَهْنَ عَنْهَا إِذَا اِسْتَوْضَحَتْ فَضَعْ كُلَّ أَمْرٍ مَوْضِعَهُ وَ أَوْقِعْ كُلَّ عَمَلٍ أَمْرٍ مَوْقِعَهُ وَ إِيَّاكَ وَ اَلاِسْتِئْثَارَ بِمَا اَلنَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ وَ اَلتَّغَابِيَ عَمَّا تُعْنَى بِهِ مِمَّا قَدْ وَضَحَ لِلْعُيُونِ فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْكَ لِغَيْرِكَ وَ عَمَّا قَلِيلٍ تَنْكَشِفُ عَنْكَ أَغْطِيَةُ اَلْأُمُورِ وَ يُنْتَصَفُ مِنْكَ لِلْمَظْلُومِ اِمْلِكْ حَمِيَّةَ أَنْفِكَ وَ سَوْرَةَ حَدِّكَ وَ سَطْوَةَ يَدِكَ وَ غَرْبَ لِسَانِكَ وَ اِحْتَرِسْ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ بِكَفِّ اَلْبَادِرَةِ وَ تَأْخِيرِ اَلسَّطْوَةِ حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُكَ فَتَمْلِكَ اَلاِخْتِيَارَ وَ لَنْ تَحْكُمَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِكَ حَتَّى تُكْثِرَ هُمُومَكَ بِذِكْرِ(1/4810)
اَلْمَعَادِ إِلَى رَبِّكَ
[ 114 ]
وَ اَلْوَاجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَتَذَكَّرَ مَا مَضَى لِمَنْ تَقَدَّمَكَ مِنْ حُكُومَةٍ عَادِلَةٍ أَوْ سُنَّةٍ فَاضِلَةٍ أَوْ أَثَرٍ عَنْ نَبِيِّنَا ص أَوْ فَرِيضَةٍ فِي كِتَابِ اَللَّهِ فَتَقْتَدِيَ بِمَا شَاهَدْتَ مِمَّا عَمِلْنَا بِهِ فِيهَا وَ تَجْتَهِدَ لِنَفْسِكَ فِي اِتِّبَاعِ مَا عَهِدْتُ إِلَيْكَ فِي عَهْدِي هَذَا وَ اِسْتَوْثَقْتُ بِهِ مِنَ اَلْحُجَّةِ لِنَفْسِي عَلَيْكَ لِكَيْلاَ تَكُونَ لَكَ عِلَّةٌ عِنْدَ تَسَرُّعِ نَفْسِكَ إِلَى هَوَاهَا قد اشتمل هذا الفصل على وصايا نحن شارحوها منها قوله ع إياك وما يعجبك من نفسك والثقة بما يعجبك منها
قد ورد في الخبر ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه و
في الخبر أيضا لا وحشة أشد من العجب و
في الخبر الناس لآدم وآدم من تراب فما لابن آدم والفخر والعجب و
في الخبر الجار ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة و
في الخبر وقد رأى أبا دجانة يتبختر إنها لمشية يبغضها الله إلا بين الصفين . ومنها قوله وحب الإطراء ناظر المأمون محمد بن القاسم النوشجاني المتكلم فجعل يصدقه ويطريه ويستحسن قوله فقال المأمون يا محمد أراك تنقاد إلى ما تظن أنه يسرني قبل وجوب الحجة لي عليك وتطريني بما لست أحب أن أطري به وتستخذي لي في المقام الذي ينبغي أن تكون فيه مقاوما لي ومحتجا علي ولو شئت أن أقسر الأمور بفضل بيان وطول لسان وأغتصب الحجة بقوة الخلافة وأبهة الرئاسة لصدقت وإن كنت كاذبا وعدلت وإن كنت جائرا وصوبت وإن كنت مخطئا
[ 115 ](1/4811)
لكني لا أرضى إلا بغلبة الحجة ودفع الشبهة وإن أنقص الملوك عقلا وأسخفهم رأيا من رضي بقولهم صدق الأمير . وأثنى رجل على رجل فقال الحمد لله الذي سترني عنك وكان بعض الصالحين يقول إذا أطراه إنسان ليسألك الله عن حسن ظنك . ومنها قوله وإياك والمن قال الله تعالى يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ اَلْأَذى وكان يقال المن محبة للنفس مفسدة للصنع . ومنها نهيه إياه عن التزيد في فعله قال ع إنه يذهب بنور الحق وذلك لأنه محض الكذب مثل أن يسدي ثلاثة أجزاء من الجميل فيدعي في المجالس والمحافل أنه أسدى عشرة وإذا خالط الحق الكذب أذهب نوره . ومنها نهيه إياه عن خلف الوعد قد مدح الله نبيا من الأنبياء وهو إسماعيل بن إبراهيم ع بصدق الوعد وكان يقال وعد الكريم نقد وتعجيل ووعد اللئيم مطل وتعطيل وكتب بعض الكتاب وحق لمن أزهر بقول أن يثمر بفعل وقال أبو مقاتل الضرير قلت لأعرابي قد أكثر الناس في المواعيد فما قولك فيها فقال بئس الشي ء الوعد مشغلة للقلب الفارغ متعبة للبدن الخافض خيره غائب وشره حاضر و
في الحديث المرفوع عدة المؤمن كأخذ باليد فأما أمير المؤمنين ع فقال إنه يوجب المقت واستشهد عليه بالآية والمقت البغض . ومنها نهيه عن العجلة وكان يقال أصاب متثبت أو كاد وأخطأ عجل أو كاد وفي المثل رب عجلة تهب ريثا وذمها الله تعالى فقال خُلِقَ اَلْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ .
[ 116 ]
و منها نهيه عن التساقط في الشي ء الممكن عند حضوره وهذا عبارة عن النهي عن الحرص والجشع قال الشنفري
و إن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن
بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل
و منها نهيه عن اللجاجة في الحاجة إذا تعذرت كان يقال من لاج الله فقد جعله خصما ومن كان الله خصمه فهو مخصوم قال الغزي
دعها سماوية تجري على قدر
لا تفسدنها برأي منك معكوس(1/4812)
و منها نهيه له عن الوهن فيها إذا استوضحت أي وضحت وانكشفت ويروى واستوضحت فعل ما لم يسم فاعله والوهن فيها إهمالها وترك انتهاز الفرصة فيها قال الشاعر
فإذا أمكنت فبادر إليها
حذرا من تعذر الإمكان
و منها نهيه عن الاستئثار وهذا هو الخلق النبوي غنم رسول الله ص غنائم خيبر وكانت مل ء الأرض نعما فلما ركب راحلته وسار تبعه الناس يطلبون الغنائم وقسمها وهو ساكت لا يكلمهم وقد أكثروا عليه إلحاحا وسؤالا فمر بشجرة فخطفت رداءه فالتفت فقال ردوا علي ردائي فلو ملكت بعدد رمل تهامة مغنما لقسمته بينكم عن آخره ثم لا تجدونني بخيلا ولا جبانا ونزل وقسم ذلك المال عن آخره عليهم كله لم يأخذ لنفسه منه وبرة . ومنها نهيه له عن التغابي وصورة ذلك أن الأمير يومئ إليه أن فلانا من خاصته يفعل كذا ويفعل كذا من الأمور المنكرة ويرتكبها سرا فيتغابى عنه ويتغافل نهاه ع عن ذلك وقال إنك مأخوذ منك لغيرك أي معاقب تقول اللهم خذ لي من فلان بحقي أي اللهم انتقم لي منه .
[ 117 ]
و منها نهيه إياه عن الغضب وعن الحكم بما تقتضيه قوته الغضبية حتى يسكن غضبه قد جاء(1/4813)
في الخبر المرفوع لا يقضي القاضي وهو غضبان فإذا كان قد نهي أن يقضي القاضي وهو غضبان على غير صاحب الخصومة فبالأولى أن ينهى الأمير عن أن يسطو على إنسان وهو غضبان عليه . وكان لكسرى أنوشروان صاحب قد رتبه ونصبه لهذا المعنى يقف على رأس الملك يوم جلوسه فإذا غضب على إنسان وأمر به قرع سلسلة تاجه بقضيب في يده وقال له إنما أنت بشر فارحم من في الأرض يرحمك من في السماء : وَ مِنْ هَذَا اَلْعَهْدِ وَ هُوَ آخِرُهُ وَ أَنَا أَسْأَلُ اَللَّهَ بِسَعَةِ رَحْمَتِهِ وَ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ عَلَى إِعْطَاءِ كُلِّ رَغْبَةٍ أَنْ يُوَفِّقَنِي وَ إِيَّاكَ لِمَا فِيهِ رِضَاهُ مِنَ اَلْإِقَامَةِ عَلَى اَلْعُذْرِ اَلْوَاضِحِ إِلَيْهِ وَ إِلَى خَلْقِهِ مِنْ حُسْنِ اَلثَّنَاءِ فِي اَلْعِبَادِ وَ جَمِيلِ اَلْأَثَرِ فِي اَلْبِلاَدِ وَ تَمَامِ اَلنِّعْمَةِ وَ تَضْعِيفِ اَلْكَرَامَةِ وَ أَنْ يَخْتِمَ لِي وَ لَكَ بِالسَّعَادَةِ وَ اَلشَّهَادَةِ إِنَّا إِلَى اَللَّهِ رَاغِبُونَ وَ اَلسَّلاَمُ عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهِ عَلَيْهِ وَ عَلَى آلِهِ اَلطَّيِّبِينَ اَلطَّاهِرِينَ وَ سَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً وَ اَلسَّلاَمُ روي كل رغيبة والرغيبة ما يرغب فيه فأما الرغبة فمصدر رغب في كذا كأنه قال القادر على إعطاء كل سؤال أي إعطاء كل سائل ما سأله .
[ 118 ](1/4814)
و معنى قوله من الإقامة على العذر أي أسأل الله أن يوفقني للإقامة على الاجتهاد وبذل الوسع في الطاعة وذلك لأنه إذا بذل جهده فقد أعذر ثم فسر اجتهاده في ذلك في رضا الخلق ولم يفسر اجتهاده في رضا الخالق لأنه معلوم فقال هو حسن الثناء في العباد وجميل الأثر في البلاد . فإن قلت فقوله وتمام النعمة على ما ذا تعطفه قلت هو معطوف على ما من قوله لما فيه كأنه قال أسأل الله توفيقي لذا ولتمام النعمة أي ولتمام نعمته علي وتضاعف كرامته لدي وتوفيقه لهما هو توفيقه للأعمال الصالحة التي يستوجبهما بها(1/4815)
فصل في ذكر بعض وصايا العرب
و ينبغي أن يذكر في هذا الموضع وصايا من كلام قوم من رؤساء العرب أوصوا بها أولادهم ورهطهم فيها آداب حسان وكلام فصيح وهي مناسبة لعهد أمير المؤمنين ع هذا ووصاياه المودعة فيه وإن كان كلام أمير المؤمنين ع أجل وأعلى من أن يناسبه كلام لأنه قبس من نور الكلام الإلهي وفرع من دوحة المنطق النبوي . روى ابن الكلبي قال لما حضرت الوفاة أوس بن حارثة أخا الخزرج لم يكن له ولد غير مالك بن الأوس وكان لأخيه الخزرج خمسة قيل له كنا نأمرك بأن تتزوج في شبابك فلم تفعل حتى حضرك الموت ولا ولد لك إلا مالك فقال لم يهلك هالك ترك مثل مالك وإن كان الخزرج ذا عدد وليس لمالك ولد فلعل الذي استخرج
[ 119 ](1/4816)
العذق من الجريمة والنار من الوثيمة أن يجعل لمالك نسلا ورجالا بسلا وكلنا إلى الموت يا مالك المنية ولا الدنية والعتاب قبل العقاب والتجلد لا التبلد واعلم أن القبر خير من الفقر ومن لم يعط قاعدا حرم قائما وشر الشرب الاشتفاف وشر الطعم الاقتفاف وذهاب البصر خير من كثير من النظر ومن كرم الكريم الدفع عن الحريم ومن قل ذل وخير الغنى القناعة وشر الفقر الخضوع الدهر صرفان صرف رخاء وصرف بلاء واليوم يومان يوم لك ويوم عليك فإذا كان لك فلا تبطر وإذا كان عليك فاصطبر وكلاهما سينحسر وكيف بالسلامة لمن ليست له إقامة وحياك ربك . وأوصى الحارث بن كعب بنيه فقال يا بني قد أتت علي مائة وستون سنة ما صافحت يميني يمين غادر ولا قنعت لنفسي بخلة فاجر ولا صبوت بابنة عم ولا كنة ولا بحت لصديق بسر ولا طرحت عن مومسة قناعا ولا بقي على دين عيسى ابن مريم وقد روي على دين شعيب من العرب غيري وغير تميم بن مر بن أسد بن خزيمة فموتوا على شريعتي واحفظوا علي وصيتي وإلهكم فاتقوا يكفكم ما أهمكم ويصلح لكم حالكم وإياكم ومعصيته فيحل بكم الدمار ويوحش منكم الديار كونوا جميعا ولا تفرقوا فتكنوا شيعا وبزوا قبل أن تبزوا فموت
[ 120 ](1/4817)
في عز خير من حياة في ذل وعجز وكل ما هو كائن كائن وكل جمع إلى تباين والدهر صرفان صرف بلاء وصرف رخاء واليوم يومان يوم حبرة ويوم عبرة والناس رجلان رجل لك ورجل عليك زوجوا النساء الأكفاء وإلا فانتظروا بهن القضاء وليكن أطيب طيبهم الماء وإياكم والورهاء فإنها أدوأ الداء وإن ولدها إلى أفن يكون لا راحة لقاطع القرابة وإذا اختلف القوم أمكنوا عدوهم وآفة العدد اختلاف الكلمة والتفضل بالحسنة يقي السيئة والمكافأة بالسيئة دخول فيها وعمل السوء يزيل النعماء وقطيعة الرحم تورث الهم وانتهاك الحرمة يزيل النعمة وعقوق الوالدين يعقب النكد ويخرب البلد ويمحق العدد والإسراف في النصيحة هو الفضيحة والحقد منع الرفد ولزوم الخطيئة يعقب البلية وسوء الدعة يقطع أسباب المنفعة والضغائن تدعو إلى التباين يا بني إني قد أكلت مع أقوام وشربت فذهبوا وغبرت وكأني بهم قد لحقت ثم قال
أكلت شبابي فأفنيته
و أبليت بعد دهور دهورا
ثلاثة أهلين صاحبتهم
فبادروا وأصبحت شيخا كبيرا
قليل الطعام عسير القيام
قد ترك الدهر خطوي قصيرا
أبيت أراعي نجوم السماء
أقلب أمري بطونا ظهورا
وصى أكثم بن صيفي بنيه ورهطه فقال يا بني تميم لا يفوتنكم وعظي إن فاتكم الدهر بنفسي إن بين حيزومي وصدري لكلاما لا أجد له مواقع إلا أسماعكم ولا مقار إلا قلوبكم فتلقوه بأسماع مصغية وقلوب دواعية تحمدوا مغبته الهوى
[ 121 ](1/4818)
يقظان والعقل راقد والشهوات مطلقة والحزم معقول والنفس مهملة والروية مقيدة ومن جهة التواني وترك الروية يتلف الحزم ولن يعدم المشاور مرشدا والمستبد برأيه موقوف على مداحض الزلل ومن سمع سمع به ومصارع الرجال تحت بروق الطمع ولو اعتبرت مواقع المحن ما وجدت إلا في مقاتل الكرام وعلى الاعتبار طريق الرشاد ومن سلك الجدد أمن العثار ولن يعدم الحسود أن يتعب قلبه ويشغل فكره ويورث غيظه ولا تجاوز مضرته نفسه يا بني تميم الصبر على جرع الحلم أعذب من جنا ثمر الندامة ومن جعل عرضه دون ماله استهدف للذم وكلم اللسان أنكى من كلم السنان والكلمة مرهونة ما لم تنجم من الفم فإذا نجمت مزجت فهي أسد محرب أو نار تلهب ورأي الناصح اللبيب دليل لا يجوز ونفاذ الرأي في الحرب أجدى من الطعن والضرب . وأوصى يزيد بن المهلب ابنه مخلدا حين استخلفه على جرجان فقال له يا بني قد استخلفتك على هذه البلاد فانظر هذا الحي من اليمن فكن لهم كما قال الشاعر
إذا كنت مرتاد الرجال لنفعهم
فرش واصطنع عند الذين بهم ترمي
و انظر هذا الحي من ربيعة فإنهم شيعتك وأنصارك فاقض حقوقهم وانظر هذا الحي من تميم فأمطرهم ولا تزه لهم ولا تدنهم فيطمعوا ولا تقصهم فيقطعوا وانظر هذا الحي من قيس فإنهم أكفاء قومك في الجاهلية ومناصفوهم المآثر في الإسلام ورضاهم منك البشر يا بني إن لأبيك صنائع فلا تفسدها فإنه كفى بالمرء نقصا أن يهدم ما بنى أبوه وإياك والدماء فإنه لا تقية معها وإياك وشتم الأعراض فإن الحر
[ 122 ](1/4819)
لا يرضيه عن عرضه عوض وإياك وضرب الأبشار فإنه عار باق ووتر مطلوب واستعمل على النجدة والفضل دون الهوى ولا تعزل إلا عن عجز أو خيانة ولا يمنعك من اصطناع الرجل أن يكون غيرك قد سبقك إليه فإنك إنما تصطنع الرجال لفضلها وليكن صنيعك عند من يكافئك عنه العشائر احمل الناس على أحسن أدبك يكفوك أنفسهم وإذا كتبت كتابا فأكثر النظر فيه وليكن رسولك فيما بيني وبينك من يفقه عني وعنك فإن كتاب الرجل موضع عقله ورسوله موضع سره وأستودعك الله فلا بد للمودع أن يسكت وللمشيع أن يرجع وما عف من المنطق وقل من الخطيئة أحب إلى أبيك . وأوصى قيس بن عاصم المنقري بنيه فقال يا بني خذوا عني فلا أحد أنصح لكم مني إذا دفنتموني فانصرفوا إلى رحالكم فسودوا أكبركم فإن القوم إذا سودوا أكبرهم خلفوا أباهم وإذا سودوا أصغرهم أزرى ذلك بهم في أكفائهم وإياكم ومعصية الله وقطيعة الرحم وتمسكوا بطاعة أمرائكم فإنهم من رفعوا ارتفع ومن وضعوا اتضع وعليكم بهذا المال فأصلحوه فإنه منبهة للكريم وجنة لعرض اللئيم وإياكم والمسألة فإنها آخر كسب الرجل وإن أحدا لم يسأل إلا ترك الكسب وإياكم والنياحة فإني سمعت رسول الله ص ينهى عنها وادفنوني في ثيابي التي كنت أصلي فيها وأصوم ولا يعلم بكر بن وائل بمدفني فقد كانت بيني وبينهم مشاحنات في الجاهلية والإسلام وأخاف أن يدخلوا عليكم بي عارا وخذوا عني ثلاث خصال إياكم وكل عرق لئيم أن تلابسوه فإنه إن يسرركم اليوم يسؤكم غدا واكظموا الغيظ واحذروا بني أعداء آبائكم فإنهم على منهاج آبائهم ثم قال
[ 123 ]
أحيا الضغائن آباء لنا سلفوا
فلن تبيد وللآباء أبناء(1/4820)
قال ابن الكلبي فيحكي الناس هذا البيت سابقا للزبير وما هو إلا لقيس بن عاصم . وأوصى عمرو بن كلثوم التغلبي بنيه فقال يا بني إني قد بلغت من العمر ما لم يبلغ أحد من آبائي وأجدادي ولا بد من أمر مقتبل وأن ينزل بي ما نزل بالآباء والأجداد والأمهات والأولاد فاحفظوا عني ما أوصيكم به إني والله ما عيرت رجلا قط أمرا إلا عيرني مثله إن حقا فحق وإن باطلا فباطل ومن سب سب فكفوا عن الشتم فإنه أسلم لأعراضكم وصلوا أرحامكم تعمر داركم وأكرموا جاركم بحسن ثنائكم وزوجوا بنات العم بني العم فإن تعديتم بهن إلى الغرباء فلا تألوا بهن عن الأكفاء وأبعدوا بيوت النساء من بيوت الرجال فإنه أغض للبصر وأعف للذكر ومتى كانت المعاينة واللقاء ففي ذلك داء من الأدواء ولا خير فيمن لا يغار لغيره كما يغار لنفسه وقل من انتهك حرمة لغيره إلا انتهكت حرمته وامنعوا القريب من ظلم الغريب فإنك تدل على قريبك ولا يجمل بك ذل غريبك وإذا تنازعتم في الدماء فلا يكن حقكم الكفاء فرب رجل خير من ألف وود خير من خلف وإذا حدثتم فعوا وإذا حدثتم فأوجزوا فإن مع الإكثار يكون الإهذار وموت عاجل خير من ضنى آجل وما بكيت من زمان إلا دهاني بعده زمان وربما شجاني من لم يكن أمره
[ 124 ](1/4821)
عناني وما عجبت من أحدوثة إلا رأيت بعدها أعجوبة واعلموا أن أشجع القوم العطوف وخير الموت تحت ظلال السيوف ولا خير فيمن لا روية له عند الغضب ولا فيمن إذا عوتب لم يعتب ومن الناس من لا يرجى خيره ولا يخاف شره فبكوؤه خير من دره وعقوقه خير من بره ولا تبرحوا في حبكم فإن من أبرح في حب آل ذلك إلى قبيح بغض وكم قد زارني إنسان وزرته فانقلب الدهر بنا فقبرته واعلموا أن الحليم سليم وأن السفيه كليم أني لم أمت ولكن هرمت ودخلتني ذلة فسكت وضعف قلبي فأهترت سلمكم ربكم وحياكم . ومن كتاب أردشير بن بابك إلى بنيه والملوك من بعده رشاد الوالي خير للرعية من خصب الزمان الملك والدين توأمان لا قوام لأحدهما إلا بصاحبه فالدين أس الملك وعماده ثم صار الملك حارس الدين فلا بد للملك من أسه ولا بد للدين من حارسه فأما ما لا حارس له فضائع وما لا أس له فمهدوم إن رأس ما أخاف عليكم مبادرة السفلة إياكم إلى دراسة الدين وتأويله والتفقه فيه فتحملكم الثقة بقوة الملك على التهاون بهم فتحدث في الدين رئاسات منتشرات سرا فيمن قد وترتم وجفوتم وحرمتم وأخفتم وصغرتم من سفلة الناس والرعية وحشو العامة ثم لا تنشب تلك الرئاسات أن تحدث خرقا في الملك ووهنا في الدولة واعلموا أن سلطانكم إنما هو على أجسادكم الرعية لا على قلوبها وإن غلبتم الناس على ما في أيديهم فلن تغلبوهم على ما في عقولهم وآرائهم ومكايدهم واعلموا أن العاقل المحروم سال عليكم لسانه وهو أقطع سيفيه وإن أشد ما يضر بكم من لسانه ما صرف الحيلة فيه إلى الدين فكان للدنيا يحتج وللدين فيما يظهر يتعصب فيكون
[ 125 ](1/4822)
للدين بكاؤه وإليه دعاؤه ثم هو أوحد للتابعين والمصدقين والمناصحين والمؤازرين لأن تعصب الناس موكل بالملوك ورحمتهم ومحبتهم موكلة بالضعفاء المغلوبين فاحذروا هذا المعنى كل الحذر واعلموا أنه ليس ينبغي للملك أن يعرف للعباد والنساك بأن يكونوا أولى بالدين منه ولا أحدب عليه ولا أغضب له ولا ينبغي له أن يخلي النساك والعباد من الأمر والنهي في نسكهم ودينهم فإن خروج النساك وغيرهم من الأمر والنهي عيب على الملوك وعلى المملكة وثلمة بينة الضرر على الملك وعلى من بعده . واعلموا أنه قد مضى قبلنا من أسلافنا ملوك كان الملك منهم يتعهد الحماية بالتفتيش والجماعة بالتفضيل والفراغ بالاشتغال كتعهده جسده بقص فضول الشعر والظفر وغسل الدرن والغمر ومداواة ما ظهر من الأدواء وما بطن وقد كان من أولئك الملوك من صحة ملكه أحب إليه من صحة جسده فتتابعت تلك الأملاك بذلك كأنهم ملك واحد وكان أرواحهم روح واحدة يمكن أولهم لآخرهم ويصدق آخرهم أولهم يجتمع أبناء أسلافهم ومواريث آرائهم وثمرات عقولهم عند الباقي منهم بعدهم وكأنهم جلوس معه يحدثونه ويشاورونه حتى كأن على رأس دارا بن دارا ما كان من غلبة الإسكندر الرومي على ما غلب عليه من ملكه وكان إفساده أمرنا وتفرقته جماعتنا وتخريبه عمران مملكتنا أبلغ له فيما أراد من سفك دمائنا فلما أذن الله عز وجل في جمع مملكتنا وإعادة أمرنا كان من بعثه إيانا ما كان وبالاعتبار يتقى العثار والتجارب الماضية دستور يرجع إليه من الحوادث الآتية . واعلموا أن طباع الملوك على غير طباع الرعية والسوقة فإن الملك يطيف به العز والأمن والسرور والقدرة على ما يريد والأنفة والجرأة والعبث والبطر وكلما ازداد
[ 126 ](1/4823)
في العمر تنفسا وفي الملك سلامة ازداد من هذه الطبائع والأخلاق حتى يسلمه ذلك إلى سكر السلطان الذي هو أشد من سكر الشراب فينسى النكبات والعثرات والغير والدوائر وفحش تسلط الأيام ولؤم غلبة الدهر فيرسل يده بالفعل ولسانه بالقول وعند حسن الظن بالأيام تحدث الغير وتزول النعم وقد كان من أسلافنا وقدماء ملوكنا من يذكره عزه الذل وأمنه الخوف وسروره الكآبة وقدرته المعجزة وذلك هو الرجل الكامل قد جمع بهجة الملوك وفكرة السوقة ولا كمال إلا في جمعها . واعلموا أنكم ستبلون على الملك بالأزواج والأولاد والقرباء والوزراء والأخدان والأنصار والأعوان والمتقربين والندماء والمضحكين وكل هؤلاء إلا قليلا أن يأخذ لنفسه أحب إليه من أن يعطي منها عمله وإنما عمله سوق ليومه وذخيرة لغده فنصيحته للملوك فضل نصيحته لنفسه وغاية الصلاح عنده صلاح نفسه وغاية الفساد عنده فسادها يقيم للسلطان سوق المودة ما أقام له سوق الأرباح والمنافع إذا استوحش الملك من ثقاته أطبقت عليه ظلم الجهالة أخوف ما يكون العامة آمن ما يكون الوزراء وآمن ما يكون العامة أخوف ما يكون الوزراء . واعلموا أن كثيرا من وزراء الملوك من يحاول استبقاء دولته وأيامه بإيقاع الاضطراب والخبط في أطراف مملكة الملك ليحتاج الملك إلى رأيه وتدبيره فإذا عرفتم هذا من وزير من وزرائكم فاعزلوه فإنه يدخل الوهن والنقص على الملك والرعية لصلاح حال نفسه ولا تقوم نفسه بهذه النفوس كلها . واعلموا أن بدء ذهاب الدولة ينشأ من قبل إهمال الرعية بغير أشغال معروفة ولا أعمال معلومة فإذا نشأ الفراغ تولد منه النظر في الأمور والفكر في الفروع والأصول . فإذا نظروا في ذلك نظروا فيه بطبائع مختلفة فتختلف بهم المذاهب ويتولد من اختلاف مذاهبهم تعاديهم وتضاغنهم وهم مع اختلافهم هذا متفقون ومجتمعون على بغض الملوك فكل صنف منهم إنما يجري إلى فجيعة الملك بملكه(1/4824)
و لكنهم لا يجدون سلما إلى
[ 127 ]
ذلك أوثق من الدين والناموس ثم يتولد من تعاديهم أن الملك لا يستطيع جمعهم على هوى واحد فإن انفرد باختصاص بعضهم صار عدو بقيتهم ولى طباع العامة استثقال الولاة وملالهم والنفاسة عليهم والحسد لهم وفي الرعية المحروم والمضروب والمقام عليه الحدود ويتولد من كثرتهم مع عداوتهم أن يجبن الملك عن الإقدام عليهم فإن في إقدام الملك على الرعية كلها كافة تغريرا بملكه ويتولد من جبن الملك عن الرعية استعجالهم عليه وهم أقوى عدو له وأخلقه بالظفر لأنه حاضر مع الملك في دار ملكه فمن أفضى إليه الملك بعدي فلا يكونن بإصلاح جسده أشد اهتماما منه بهذه الحال ولا تكونن لشي ء من الأشياء أكره وأنكر لرأس صار ذنبا وذنب صار رأسا ويد مشغولة صارت فارغة أو غني صار فقيرا أو عامل مصروف أو أمير معزول . واعلموا أن سياسة الملك وحراسته ألا يكون ابن الكاتب إلا كاتبا وابن الجندي إلا جنديا وابن التاجر إلا تاجرا وهكذا في جميع الطبقات فإنه يتولد من تنقل الناس عن حالاتهم أن يلتمس كل امرئ منهم فوق مرتبته فإذا انتقل أوشك أن يرى شيئا أرفع مما انتقل إليه فيحسد أو ينافس وفي ذلك من الضرر المتولد ما لا خفاء به فإن عجز ملك منكم عن إصلاح رعيته كما أوصيناه فلا يكون للقميص القمل أصرع خلعا منه لما لبس من قميص ذلك الملك . واعلموا أنه ليس ملك إلا وهو كثير الذكر لمن يلي الأمر بعده ومن فساد أمر الملك نشر ذكره ولاة العهود فإن في ذلك ضروبا من الضرر وأن ذلك دخول عداوة بين الملك وولي عهده لأنه تطمح عينه إلى الملك ويصير له أحباب وأخدان يمنونه ذلك ويستبطئون موت الملك ثم إن الملك يستوحش منه وتنساق الأمور إلى هلاك أحدهما ولكن لينظر الوالي منكم لله تعالى ثم لنفسه ثم للرعية ولينتخب وليا للعهد من بعده
[ 128 ](1/4825)
و لا يعلمه ذلك ولا أحد من الخلق قريبا كان منه أو بعيدا ثم يكتب اسمه في أربع صحائف ويختمها بخاتمه ويضعها عند أربعة نفر من أعيان أهل المملكة ثم لا يكون منه في سره وعلانيته أمر يستدل به على ولي عهده من هؤلاء في إدناء وتقريب يعرف به ولا في إقصاء وأعراض يستراب له وليتق ذلك في اللحظة والكلمة فإذا هلك الملك جمعت تلك الصحائف إلى النسخة التي تكون في خزانة الملك فتفض جميعا ثم ينوه حينئذ باسم ذلك الرجل فيلقي الملك إذا لنية بحداثة عهده بحال السوقة ويلبسه إذا لبسه ببصر السوقة وسمعها فإن في معرفته بحاله قبل إفضاء الملك إليه سكرا تحدثه عنده ولاية العهد ثم يلقاه الملك فيزيده سكرا إلى سكره فيعمي ويصم هذا مع ما لا بد أن يلقاه أيام ولاية العهد من حيل العتاة وبغي الكذابين وترقية النمامين وإيغار صدره وإفساد قلبه على كثير من رعيته وخواص دولته وليس ذلك بمحمود ولا صالح . واعلموا أنه ليس للملك أن يحلف لأنه لا يقدر أحد استكراهه وليس له أن يغضب لأنه قادر والغضب لقاح الشر والندامة وليس له أن يعبث ويلعب لأن اللعب والعبث من عمل الفراغ وليس له أن يفرغ لأن الفراغ من أمر السوقة وليس للملك أن يحسد أحدا إلا على حسن التدبير وليس له أن يخاف لأنه لا يد فوق يده . واعلموا أنكم لن تقدروا على أن تختموا أفواه الناس من الطعن والإزراء عليكم ولا قدرة لكم على أن تجعلوا القبيح من أفعالكم حسنا فاجتهدوا في أن تحسن أفعالكم كلها وإلا تجعلوا للعامة إلى الطعن عليكم سبيلا . واعلموا أن لباس الملك ومطعمه ومشربه مقارب للباس السوقة ومطعمهم وليس
[ 129 ](1/4826)
فضل الملك على السوقة إلا بقدرته على اقتناء المحامد واستفادة المكارم فإن الملك إذا شاء أحسن وليس كذلك السوقة . واعلموا أن لكل ملك بطانة ولكل رجل من بطانته بطانة ثم إن لكل امرئ من بطانة البطانة بطانة حتى يجتمع من ذلك أهل المملكة فإذا أقام الملك بطانته على حال الصواب فيهم أقام كل امرئ منهم بطانته على مثل ذلك حتى يجتمع على الصلاح عامة الرعية . احذروا بابا واحدا طالما أمنته فضرني وحذرته فنفعني احذروا إفشاء السر بحضرة الصغار من أهليكم وخدمكم فإنه ليس يصغر واحد منهم عن حمل ذلك السر كاملا لا يترك منه شيئا حتى يضعه حيث تكرهون إما سقطا أو غشا . واعلموا أن في الرعية صنفا أتوا الملك من قبل النصائح له والتمسوا إصلاح منازلهم بإفساد منازل الناس فأولئك أعداء الناس وأعداء الملوك ومن عادى الملوك والناس كلهم فقد عادى نفسه . واعلموا أن الدهر حاملكم على طبقات فمنها حال السخاء حتى يدنو أحدكم من السرف ومنها حال التبذير حتى يدنو من البخل ومنها حال الأناة حتى يدنو من البلادة ومنها حال انتهاز الفرصة حتى يدنو من الخفة ومنها حال الطلاقة في اللسان حتى يدنو من الهذر ومنها حال الأخذ بحكمة الصمت حتى يدنو من العي فالملك منكم جدير أن يبلغ من كل طبقة في محاسنها حدها فإذا وقف عليه ألجم نفسه عما وراءها . واعلموا أن ابن الملك وأخاه وابن عمه يقول كدت أن أكون ملكا وبالحري ألا أموت حتى أكون ملكا فإذا قال ذلك قال ما لا يسر الملك وإن كتمه فالداء
[ 130 ](1/4827)
في كل مكتوم وإذا تمنى ذلك جعل الفساد سلما إلى الصلاح ولم يكن الفساد سلما إلى صلاح قط وقد رسمت لكم في ذلك مثالا اجعلوا الملك لا ينبغي إلا لأبناء الملوك من بنات عمومتهم ولا يصلح من أولاد بنات العم إلا كامل غير سخيف العقل ولا عازب الرأي ولا ناقص الجوارح ولا مطعون عليه في الدين فإنكم إذا فعلتم ذلك قل طلاب الملك وإذا قل طلابه استراح كل امرئ إلى ما يليه ونزع إلى حد يليه وعرف حاله ورضي معيشته واستطاب زمانه . فقد ذكرنا وصايا قوم من العرب ووصايا أكثر ملوك الفرس وأعظمهم حكمة لتضم إلى وصايا أمير المؤمنين فيحصل منها وصايا الدين والدنيا فإن وصايا أمير المؤمنين ع الدين عليها أغلب ووصايا هؤلاء الدنيا عليها أغلب فإذا أخذ من أخذ التوفيق بيده بمجموع ذلك فقد سعد ولا سعيد إلا من أسعده الله
[ 131 ](1/4828)
54 ـ ومن كتاب له ع إلى طلحة والزبير
مع عمران بن الحصين الخزاعي وذكر هذا الكتاب أبو جعفر الإسكافي في كتاب المقامات : أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ عَلِمْتُمَا وَ إِنْ كَتَمْتُمَا أَنِّي لَمْ أُرِدِ اَلنَّاسَ حَتَّى أَرَادُونِي وَ لَمْ أُبَايِعْهُمْ حَتَّى بَايَعُونِي وَ إِنَّكُمَا مِمَّنْ أَرَادَنِي وَ بَايَعَنِي وَ إِنَّ اَلْعَامَّةَ لَمْ تُبَايِعْنِي لِسُلْطَانٍ غَالِبٍ وَ لاَ لِحِرْصٍ لِعَرَضٍ حَاضِرٍ فَإِنْ كُنْتُمَا بَايَعْتُمَانِي طَائِعَيْنِ فَارْجِعَا وَ تُوبَا إِلَى اَللَّهِ مِنْ قَرِيبٍ وَ إِنْ كُنْتُمَا بَايَعْتُمَانِي كَارِهَيْنِ فَقَدْ جَعَلْتُمَا لِي عَلَيْكُمَا اَلسَّبِيلَ بِإِظْهَارِكُمَا اَلطَّاعَةَ وَ إِسْرَارِكُمَا اَلْمَعْصِيَةَ وَ لَعَمْرِي مَا كُنْتُمَا بِأَحَقَّ اَلْمُهَاجِرِينَ بِالتَّقِيَّةِ وَ اَلْكِتْمَانِ وَ إِنَّ دَفْعَكُمَا هَذَا اَلْأَمْرَ قَبْلَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَدْخُلاَ فِيهِ كَانَ أَوْسَعَ عَلَيْكُمَا مِنْ خُرُوجِكُمَا مِنْهُ بَعْدَ إِقْرَارِكُمَا بِهِ وَ قَدْ زَعَمْتُمَا أَنِّي قَتَلْتُ عُثْمَانَ فَبَيْنِي وَ بَيْنَكُمَا مَنْ تَخَلَّفَ عَنِّي وَ عَنْكُمَا مِنْ أَهْلِ اَلْمَدِينَةِ ثُمَّ يُلْزَمُ كُلُّ اِمْرِئٍ بِقَدْرِ مَا اِحْتَمَلَ فَارْجِعَا أَيُّهَا اَلشَّيْخَانِ عَنْ رَأْيِكُمَا فَإِنَّ اَلآْنَ أَعْظَمَ أَمْرِكُمَا اَلْعَارُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَجْتَمِعَ يَتَجَمَّعَ اَلْعَارُ وَ اَلنَّارُ وَ اَلسَّلاَمُ
[ 132 ](1/4829)
عمران بن الحصين
هو عمران بن الحصين بن عبيد بن خلف بن عبد بن نهم بن سالم بن غاضرة بن سلول بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعي يكنى أبا بجيد بابنه بجيد بن عمران أسلم هو وأبو هريرة عام خيبر وكان من فضلاء الصحابة وفقهائهم يقول أهل البصرة عنه إنه كان يرى الحفظة وكانت تكلمه حتى اكتوى . وقال محمد بن سيرين أفضل من نزل البصرة من أصحاب رسول الله ص عمران بن الحصين وأبو بكرة واستقضاه عبد الله بن عامر بن كريز على البصرة فعمل له أياما ثم استعفاه فأعفاه ومات بالبصرة سنة اثنتين وخمسين في أيام معاوية(1/4830)
أبو جعفر الإسكافي
و أما أبو جعفر الإسكافي وهو شيخنا محمد بن عبد الله الإسكافي عده قاضي القضاة في الطبقة السابعة من طبقات المعتزلة مع عباد بن سليمان الصيمري ومع زرقان ومع عيسى بن الهيثم الصوفي وجعل أول الطبقة ثمامة بن أشرس أبا معن ثم أبا عثمان الجاحظ ثم أبا موسى عيسى بن صبيح المردار ثم أبا عمران يونس بن عمران ثم محمد بن شبيب ثم محمد بن إسماعيل بن العسكري ثم عبد الكريم بن روح العسكري ثم أبا يعقوب يوسف بن عبد الله الشحام ثم أبا الحسين الصالحي
[ 133 ]
ثم الجعفران جعفر بن جرير وجعفر بن ميسر ثم أبا عمران بن النقاش ثم أبا سعيد أحمد بن سعيد الأسدي ثم عباد بن سليمان ثم أبا جعفر الإسكافي هذا وقال كان أبو جعفر فاضلا عالما وصنف سبعين كتابا في علم الكلام . وهو الذي نقض كتاب العثمانية على أبي عثمان الجاحظ في حياته ودخل الجاحظ الوراقين ببغداد فقال من هذا الغلام السوادي الذي بلغني أنه تعرض لنقض كتابي وأبو جعفر جالس فاختفى منه حتى لم يره . وكان أبو جعفر يقول بالتفضيل على قاعدة معتزلة بغداد ويبالغ في ذلك وكان علوي الرأي محققا منصفا قليل العصبية ثم نعود إلى شرح ألفاظ الفصل ومعانيه قوله ع لم أرد الناس أي لم أرد الولاية عليهم حتى أرادوا هم مني ذلك . قال ولم أبايعهم حتى بايعوني أي لم أمدد يدي إليهم مد الطلب والحرص على الأمر ولم أمددها إلا بعد أن خاطبوني بالإمرة والخلافة وقالوا بألسنتهم قد بايعناك فحينئذ مددت يدي إليهم . قال ولم يبايعني العامة والمسلمون لسلطان غصبهم وقهرهم على ذلك ولا لحرص حاضر أي مال موجود فرقته عليهم . ثم قسم عليهما الكلام فقال إن كنتما بايعتماني طوعا عن رضا فقد وجب عليكما الرجوع لأنه لا وجه لانتقاض تلك البيعة وإن كنتما بايعتماني مكرهين عليها فالإكراه
[ 134 ](1/4831)
له صورة وهي أن يجرد السيف ويمد العنق ولم يكن قد وقع ذلك ولا يمكنكما أن تدعياه وإن كنتما بايعتماني لا عن رضا ولا مكرهين بل كارهين وبين المكره والكاره فرق بين فالأمور الشرعية إنما تبني على الظاهر وقد جعلتما لي على أنفسكما السبيل بإظهاركما الطاعة والدخول فيما دخل فيه الناس ولا اعتبار بما أسررتما من كراهية ذلك على أنه لو كان عندي ما يكرهه المسلمون لكان المهاجرون في كراهية ذلك سواء فما الذي جعلكما أحق المهاجرين كلهم بالكتمان والتقية . ثم قال وقد كان امتناعكما عن البيعة في مبدإ الأمر أجمل من دخولكما فيها ثم نكثها . قال وقد زعمتما أن الشبهة التي دخلت عليكما في أمري أني قتلت عثمان وقد جعلت الحكم بيني وبينكما من تخلف عني وعنكما من أهل المدينة أي الجماعة التي لم تنصر عليا ولا طلحة كمحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وعبد الله بن عمر وغيرهم يعني أنهم غير متهمين عليه ولا على طلحة والزبير فإذا حكموا لزم كل امرئ منا بقدر ما تقتضيه الشهادات ولا شبهة أنهم لو حكموا وشهدوا بصورة الحال لحكموا ببراءة علي ع من دم عثمان وبأن طلحة كان هو الجملة والتفصيل في أمره وحصره وقتله وكان الزبير مساعدا له على ذلك وإن لم يكن مكاشفا مكاشفة طلحة . ثم نهاهما عن الإصرار على الخطيئة وقال لهما إنكما إنما تخافان العار في رجوعكما وانصرافكما عن الحرب فإن لم ترجعا اجتمع عليكما العار والنار أما العار فلأنكما تهزمان وتفران عند اللقاء فتعيران بذلك وأيضا سيكشف للناس أنكما كنتما على باطل فتعيران بذلك وأما النار فإليها مصير العصاة إذا ماتوا على غير توبة واحتمال العار وحده أهون من احتماله واحتمال النار معه
[ 135 ](1/4832)
55 ـ ومن كتاب له ع إلى معاوية
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَعَلَ اَلدُّنْيَا لِمَا بَعْدَهَا وَ اِبْتَلَى فِيهَا أَهْلَهَا لِيَعْلَمَ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ لَسْنَا لِلدُّنْيَا خُلِقْنَا وَ لاَ بِالسَّعْيِ فِيهَا أُمِرْنَا وَ إِنَّمَا وُضِعْنَا فِيهَا لِنُبْتَلَي بِهَا وَ قَدِ اِبْتَلاَنِي اَللَّهُ بِكَ وَ اِبْتَلاَكَ بِي فَجَعَلَ أَحَدُنَا حُجَّةً عَلَى اَلآْخَرِ فَعَدَوْتَ عَلَى طَلَبِ اَلدُّنْيَا بِتَأْوِيلِ اَلْقُرْآنِ وَ طَلَبْتَنِي فَطَلَبْتَنِي بِمَا لَمْ تَجْنِ يَدِي وَ لاَ لِسَانِي وَ عَصَبْتَهُ عَصَيْتَهُ أَنْتَ وَ أَهْلُ اَلشَّامِ بِي وَ أَلَّبَ عَالِمُكُمْ جَاهِلَكُمْ وَ قَائِمُكُمْ قَاعِدَكُمْ فَاتَّقِ اَللَّهَ فِي نَفْسِكَ وَ نَازِعِ اَلشَّيْطَانَ قِيَادَكَ وَ اِصْرِفْ إِلَى اَلآْخِرَةِ وَجْهَكَ فَهِيَ طَرِيقُنَا وَ طَرِيقُكَ وَ اِحْذَرْ أَنْ يُصِيبَكَ اَللَّهُ مِنْهُ بِعَاجِلِ قَارِعَةٍ تَمَسُّ اَلْأَصْلَ وَ تَقْطَعُ اَلدَّابِرَ فَإِنِّي أُولِي لَكَ بِاللَّهِ أَلِيَّهً غَيْرَ فَاجِرَةٍ لَئِنْ جَمَعَتْنِي وَ إِيَّاكَ جَوَامِعُ اَلْأَقْدَارِ لاَ أَزَالُ بِبَاحَتِكَ حَتَّى يَحْكُمَ اَللَّهُ بَيْنَنَا وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحَاكِمِينَ قال ع إن الله قد جعل الدنيا لما بعدها أي جعلها طريقا إلى الآخرة . ومن الكلمات الحكمية الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها وابتلي فيها أهلها أي اختبرهم ليعلم أيهم أحسن عملا وهذا من ألفاظ القرآن العزيز والمراد ليعلم خلقه
[ 136 ](1/4833)
أو ليعلم ملائكته ورسله فحذف المضاف وقد سبق ذكر شي ء يناسب ذلك فيما تقدم قال ولسنا للدنيا خلقنا أي لم نخلق للدنيا فقط . قال ولا بالسعي فيها أمرنا أي لم نؤمر بالسعي فيها لها بل أمرنا بالسعي فيها لغيرها . ثم ذكر أن كل واحد منه ومن معاوية مبتلى بصاحبه وذلك كابتلاء آدم بإبليس وإبليس بآدم . قال فغدوت على طلب الدنيا بتأويل القرآن أي تعديت وظلمت وعلى هاهنا متعلقة بمحذوف دل عليه الكلام تقديره مثابرا على طلب الدنيا أو مصرا على طلب الدنيا وتأويل القرآن ما كان معاوية يموه به على أهل الشام فيقول لهم أنا ولي عثمان وقد قال الله تعالى وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً . ثم يعدهم الظفر والدولة على أهل العراق بقوله تعالى فَلا يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً . قوله وعصبته أنت وأهل الشام أي ألزمتنيه كما تلزم العصابة الرأس وألب عالمكم جاهلكم أي حرض . والقياد حبل تقاد به الدابة . قوله واحذر أن يصيبك الله منه بعاجل قارعة الضمير في منه راجع إلى الله تعالى ومن لابتداء الغاية .
[ 137 ]
و قال الراوندي منه أي من البهتان الذي أتيته أي من أجله ومن للتعليل وهذا بعيد وخلاف الظاهر . قوله تمس الأصل أي تقطعه ومنه ماء ممسوس أي يقطع الغلة ويقطع الدابر أي العقب والنسل . والألية اليمين وباحة الدار وسطها وكذلك ساحتها وروي بناحيتك . قوله بعاجل قارعة وجوامع الأقدار من باب إضافة الصفة إلى الموصوف للتأكيد كقوله تعالى وَ إِنَّهُ لَحَقُّ اَلْيَقِينِ
[ 138 ](1/4834)
56 ـ ومن كلام له ع وصى به شريح بن هانئ لما جعله على مقدمته إلى الشام
اِتَّقِ اَللَّهَ فِي كُلِّ مَسَاءٍ وَ صَبَاحٍ صَبَاحٍ وَ مَسَاءٍ وَ خَفْ عَلَى نَفْسِكَ اَلدُّنْيَا اَلْغَرُورَ وَ لاَ تَأْمَنْهَا عَلَى حَالٍ وَ اِعْلَمْ أَنَّكَ إِنْ لَمْ تَرْدَعْ نَفْسَكَ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا تُحِبُّ مَخَافَةَ مَكْرُوهِهِ مَكْرُوهٍ سَمَتْ بِكَ اَلْأَهْوَاءُ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ اَلضَّرَرِ فَكُنْ لِنَفْسِكَ مَانِعاً رَادِعاً وَ لِنَزَوَاتِكَ لِنَزْوَتِكَ عِنْدَ اَلْحَفِيظَةِ وَاقِماً قَامِعاً(1/4835)
شريح بن هانئ
هو شريح بن هانئ بن يزيد بن نهيك بن دريد بن سفيان بن الضباب وهو سلمة بن الحارث بن ربيعة بن الحارث بن كعب المذحجي كان هانئ يكنى في الجاهلية أبا الحكم لأنه كان يحكم بينهم فكناه رسول الله ص بأبي شريح إذ وفد عليه وابنه شريح هذا من جلة أصحاب علي ع شهد معه المشاهد كلها وعاش حتى قتل بسجستان في زمن الحجاج وشريح جاهلي إسلامي يكنى أبا المقدام
[ 139 ]
ذكر ذلك كله أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب قوله ع وخف على نفسك الغرور يعني الشيطان فأما الغرور بالضم فمصدر والرادع الكاف المانع والنزوات الوثبات والحفيظة الغضب والواقم فاعل من وقمته أي رددته أقبح الرد وقهرته يقول ع إن لم تردع نفسك عن كثير من شهواتك أفضت بك إلى كثير من الضرر ومثل هذا قول الشاعر
فإنك إن أعطيت بطنك سؤلها
و فرجك نالا منتهى الذم أجمعا
[ 140 ](1/4836)
57 ـ ومن كتاب له ع إلى أهل الكوفة عند مسيره من المدينة إلى البصرة
أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي خَرَجْتُ عَنْ مِنْ حَيِّي هَذَا إِمَّا ظَالِماً وَ إِمَّا مَظْلُوماً وَ إِمَّا بَاغِياً وَ إِمَّا مَبْغِيّاً عَلَيْهِ وَ أَنَا إِنِّي أُذَكِّرُ اَللَّهَ مَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي هَذَا لَمَّا نَفَرَ إِلَيَّ فَإِنْ كُنْتُ مُحْسِناً أَعَانَنِي وَ إِنْ كُنْتُ مُسِيئاً اِسْتَعْتَبَنِي ما أحسن هذا التقسيم وما أبلغه في عطف القلوب عليه واستمالة النفوس إليه . قال لا يخلو حالي في خروجي من أحد أمرين إما أن أكون ظالما أو مظلوما وبدأ بالظالم هضما لنفسه ولئلا يقول عدوه بدأ بدعوى كونه مظلوما فأعطى عدوه من نفسه ما أراد . قال فلينفر المسلمون إلي فإن وجدوني مظلوما أعانوني وإن وجدوني ظالما نهوني عن ظلمي لأعتب وأنيب إلى الحق وهذا كلام حسن ومراده ع يحصل على كلا الوجهين لأنه إنما أراد أن يستنفرهم وهذان الوجهان يقتضيان نفيرهم إليه على كل حال والحي المنزل ولما هاهنا بمعنى إلا كقوله تعالى إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ في قراءة من قرأها بالتشديد
[ 141 ](1/4837)
58 ـ ومن كتاب له ع كتبه إلى أهل الأمصار يقص فيه ما جرى بينه وبين أهل صفين
وَ كَانَ بَدْءُ أَمْرِنَا أَنَّا اِلْتَقَيْنَا بِالْقَوْمِ وَ اَلْقَوْمُ مِنْ أَهْلِ اَلشَّامِ وَ اَلظَّاهِرُ أَنَّ رَبَّنَا وَاحِدٌ وَ نَبِيَّنَا وَاحِدٌ وَ دَعْوَتَنَا فِي اَلْإِسْلاَمِ وَاحِدَةٌ وَ لاَ نَسْتَزِيدُهُمْ فِي اَلْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَ اَلتَّصْدِيقِ بِرَسُولِهِ وَ لاَ يَسْتَزِيدُونَنَا وَ اَلْأَمْرُ وَاحِدٌ إِلاَّ مَا اِخْتَلَفْنَا فِيهِ مِنْ دَمِ عُثْمَانَ وَ نَحْنُ مِنْهُ بَرَاءٌ فَقُلْنَا تَعَالَوْا نُدَاوِي نُدَاوِ مَا لاَ يُدْرَكُ اَلْيَوْمَ بِإِطْفَاءِ اَلنَّائِرَةِ وَ تَسْكِينِ اَلْعَامَّةِ حَتَّى يَشْتَدَّ اَلْأَمْرُ وَ يَسْتَجْمِعَ فَنَقْوَى عَلَى وَضْعِ اَلْحَقِّ فِي مَوَاضِعِهِ مَوَاضِعَهُ فَقَالُوا بَلْ نُدَاوِيهِ بِالْمُكَابَرَةِ فَأَبَوْا حَتَّى جَنَحَتِ اَلْحَرْبُ وَ رَكَدَتْ وَ وَقَدَتْ نِيرَانُهَا وَ حَمِشَتْ فَلَمَّا ضَرَّسَتْنَا وَ إِيَّاهُمْ وَ وَضَعَتْ مَخَالِبَهَا فِينَا وَ فِيهِمْ أَجَابُوا عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى اَلَّذِي دَعَوْنَاهُمْ إِلَيْهِ فَأَجَبْنَاهُمْ إِلَى مَا دَعَوْا وَ سَارَعْنَاهُمْ إِلَى مَا طَلَبُوا حَتَّى اِسْتَبَانَتْ عَلَيْهِمُ اَلْحُجَّةُ وَ اِنْقَطَعَتْ مِنْهُمُ اَلْمَعْذِرَةُ فَمَنْ تَمَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُمْ فَهُوَ اَلَّذِي أَنْقَذَهُ اَللَّهُ مِنَ اَلْهَلَكَةِ وَ مَنْ لَجَّ وَ تَمَادَى فَهُوَ اَلرَّاكِسُ اَلَّذِي رَانَ اَللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ وَ صَارَتْ دَائِرَةُ اَلسَّوْءِ عَلَى رَأْسِهِ
[ 142 ]
روي التقينا والقوم بالواو كما قال
قلت إذ أقبلت وزهر تهادى(1/4838)
و من لم يروها بالواو فقد استراح من التكلف . قوله والظاهر أن ربنا واحد كلام من لم يحكم لأهل صفين من جانب معاوية حكما قاطعا بالإسلام بل قال ظاهرهم الإسلام ولا خلف بيننا وبينهم فيه بل الخلف في دم عثمان . قال ع قلنا لهم تعالوا فلنطفئ هذه النائرة الآن يوضع الحرب إلى أن تتمهد قاعدتي في الخلافة وتزول هذه الشوائب التي تكدر علي الأمر ويكون للناس جماعة ترجع إليها وبعد ذلك أتمكن من قتلة عثمان بأعيانهم فأقتص منهم فأبوا إلا المكابرة والمغالبة والحرب . قوله حتى جنحت الحرب وركدت جنحت أقبلت ومنه قد جنح الليل أي أقبل وركدت دامت وثبتت . قوله ووقدت نيرانها أي التهبت . قوله وحمشت أي استعرت وشبت وروي واستحشمت وهو أصح ومن رواها حمست بالسين المهملة أراد اشتدت وصلبت . قوله فلما ضرستنا وإياهم أي عضتنا بأضراسها ويقال ضرسهم الدهر أي اشتد عليهم .
[ 143 ](1/4839)
قال لما اشتدت الحرب علينا وعليهم وأكلت منا ومنهم عادوا إلى ما كنا سألناهم ابتداء وضرعوا إلينا في رفع الحرب ورفعوا المصاحف يسألون النزول على حكمها وإغماد السيف فأجبناهم إلى ذلك . قوله وسارعناهم إلى ما طلبوا كلمة فصيحة وهي تعدية الفعل اللازم كأنها لما كانت في معنى المسابقة والمسابقة متعدية عدي المسارعة . قوله حتى استبانت يقول استمررنا على كف الحرب ووضعها إجابة لسؤالهم إلى أن استبانت عليهم حجتنا وبطلت معاذيرهم وشبهتهم في الحرب وشق العصا فمن تم منهم على ذلك أي على انقياده إلى الحق بعد ظهوره له فذاك الذي خلصه الله من الهلاك وعذاب الآخرة ومن لج منهم على ذلك وتمادى في ضلاله فهو الراكس قال قوم الراكس هنا بمعنى المركوس فهو مقلوب فاعل بمعنى مفعول كقوله تعالى فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ أي مرضية وعندي أن اللفظة على بابها يعني أن من لج فقد ركس نفسه فهو الراكس وهو المركوس يقال ركسه وأركسه بمعنى والكتاب العزيز جاء بالهمز فقال وَ اَللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أي ردهم إلى كفرهم ويقول ارتكس فلان في أمر كان نجا منه وران على قلبه أي ران هو على قلبه كما قلنا في الراكس ولا يجوز أن يكون الفاعل وهو الله محذوفا لأن الفاعل لا يحذف بل يجوز أن يكون الفاعل كالمحذوف وليس بمحذوف ويكون المصدر وهو الرين ودل الفعل عليه كقوله تعالى ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا اَلْآياتِ أي بدا لهم البداء وران بمعنى غلب وغطى وروي فهو الراكس الذي رين على قلبه .
[ 144 ]
قال وصارت دائرة السوء على رأسه من ألفاظ القرآن العزيز قال الله تعالى عَلَيْهِمْ دائِرَةُ اَلسَّوْءِ والدوائر الدول .
و إن على الباغي تدور الدوائر
و الدائرة أيضا الهزيمة يقال على من الدائرة منهما والدوائر أيضا الدواهي
[ 145 ](1/4840)
59 ـ ومن كتاب له ع إلى الأسود بن قطبة صاحب جند حلوان
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اَلْوَالِيَ إِذَا اِخْتَلَفَ هَوَاهُ مَنَعَهُ ذَلِكَ كَثِيراً مِنَ اَلْعَدْلِ فَلْيَكُنْ أَمْرُ اَلنَّاسِ عِنْدَكَ فِي اَلْحَقِّ سَوَاءً فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي اَلْجَوْرِ عِوَضٌ مِنَ اَلْعَدْلِ فَاجْتَنِبْ مَا تُنْكِرُ أَمْثَالَهُ وَ اِبْتَذِلْ نَفْسَكَ فِيمَا اِفْتَرَضَ اَللَّهُ عَلَيْكَ رَاجِياً ثَوَابَهُ وَ مُتَخَوِّفاً عِقَابَهُ وَ اِعْلَمْ أَنَّ اَلدُّنْيَا دَارُ بَلِيَّةٍ لَمْ يَفْرُغْ صَاحِبُهَا فِيهَا قَطُّ سَاعَةً إِلاَّ كَانَتْ فَرْغَتُهُ عَلَيْهِ حَسْرَةً يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَ أَنَّهُ لَنْ يُغْنِيَكَ عَنِ اَلْحَقِّ شَيْ ءٌ أَبَداً وَ مِنَ اَلْحَقِّ عَلَيْكَ حِفْظُ نَفْسِكَ وَ اَلاِحْتِسَابُ عَلَى اَلرَّعِيَّةِ بِجُهْدِكَ فَإِنَّ اَلَّذِي يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْ ذَلِكَ أَفْضَلُ مِنَ اَلَّذِي يَصِلُ بِكَ وَ اَلسَّلاَمُ(1/4841)
الأسود بن قطبة
لم أقف إلى الآن على نسب الأسود بن قطبة وقرأت في كثير من النسخ أنه حارثي من بني الحارث بن كعب ولم أتحقق ذلك والذي يغلب على ظني أنه الأسود بن زيد بن قطبة بن غنم الأنصاري من بني عبيد بن عدي ذكره أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب وقال إن موسى بن عقبة عده فيمن شهد بدرا
[ 146 ]
قوله ع إذا اختلف هوى الوالي منعه كثيرا من الحق قول صدق لأنه متى لم يكن الخصمان عند الوالي سواء في الحق جار وظلم . ثم قال له فإنه ليس في الجور عوض من العدل وهذا أيضا حق وفي العدل كل العوض من الجور . ثم أمره باجتناب ما ينكر مثله من غيره وقد تقدم نحو هذا . وقوله إلا كانت فرغته كلمة فصيحة وهي المرة الواحدة من الفراغ و
قد روي عن النبي ص أن الله يبغض الصحيح الفارغ لا في شغل الدنيا ولا في شغل الآخرة ومراد أمير المؤمنين ع هاهنا الفراغ من عمل الآخرة خاصة . قوله فإن الذي يصل إليك من ذلك أفضل من الذي يصل بك معناه فإن الذي يصل إليك من ثواب الاحتساب على الرعية وحفظ نفسك من مظالمهم والحيف عليهم أفضل من الذي يصل بك من حراسة دمائهم وأعراضهم وأموالهم ولا شبهة في ذلك لأن إحدى المنفعتين دائمة والأخرى منقطعة والنفع الدائم أفضل من المنقطع
[ 147 ](1/4842)
60 ـ ومن كتاب له ع إلى العمال الذين يطأ عملهم الجيوش
مِنْ عَبْدِ اَللَّهِ عَلِيٍّ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَنْ مَرَّ بِهِ اَلْجَيْشُ مِنْ جُبَاةِ اَلْخَرَاجِ وَ عُمَّالِ اَلْبِلاَدِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي قَدْ سَيَّرْتُ جُنُوداً هِيَ مَارَّةٌ بِكُمْ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ وَ قَدْ أَوْصَيْتُهُمْ بِمَا يَجِبُ لِلَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ كَفِّ اَلْأَذَى وَ صَرْفِ اَلشَّذَا وَ أَنَا أَبْرَأُ إِلَيْكُمْ وَ إِلَى ذِمَّتِكُمْ مِنْ مَعَرَّةِ اَلْجَيْشِ إِلاَّ مِنْ جَوْعَةِ اَلْمُضْطَرِّ لاَ يَجِدُ عَنْهَا مَذْهَباً إِلَى شِبَعِهِ فَنَكِّلُوا مَنْ تَنَاوَلَ مِنْهُمْ شَيْئاً ظُلْماً عَنْ ظُلْمِهِمْ وَ كُفُّوا أَيْدِيَ سُفَهَائِكُمْ عَنْ مُضَادَّتِهِمْ مُضَارَّتِهِمْ وَ اَلتَّعَرُّضِ لَهُمْ فِيمَا اِسْتَثْنَيْنَاهُ مِنْهُمْ وَ أَنَا بَيْنَ أَظْهُرِ اَلْجَيْشِ فَارْفَعُوا إِلَيَّ مَظَالِمَكُمْ وَ مَا عَرَاكُمْ مِمَّا يَغْلِبُكُمْ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَا لاَ تُطِيقُونَ دَفَعَهُ إِلاَّ بِاللَّهِ وَ بِي أُغَيِّرُهُ بِمَعُونَةِ اَللَّهِ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ روي عن مضارتهم بالراء المشددة وجباة الخراج الذين يجمعونه جبيت الماء في الحوض أي جمعته والشذا والضر الشر تقول لقد أشذيت وآذيت وإلى ذمتكم أي إلى اليهود والنصارى الذين بينكم
قال ع من آذى ذميا فكأنما آذاني
[ 148 ](1/4843)
و قال إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا ويسمى هؤلاء ذمة أي أهل ذمة بحذف المضاف والمعرة المضرة قال الجيش ممنوع من أذى من يمر به من المسلمين وأهل الذمة إلا من سد جوعة المضطر منهم خاصة لأن المضطر تباح له الميتة فضلا عن غيرها . ثم قال فنكلوا من تناول وروي بمن تناول بالباء أي عاقبوه وعن في قوله عن ظلمهم يتعلق بنكلوا لأنها في معنى اردعوا لأن النكال يوجب الردع . ثم أمرهم أن يكفوا أيدي أحداثهم وسفهائهم عن منازعة الجيش ومصادمته والتعرض لمنعه عما استثناه وهو سد الجوعة عند الاضطرار فإن ذلك لا يجوز في الشرع وأيضا فإنه يفضي إلى فتنة وهرج . ثم قال وأنا بين أظهر الجيش أي أنا قريب منكم وسائر على أثر الجيش فارفعوا إلي مظالمكم وما عراكم منهم على وجه الغلبة والقهر فإني مغير ذلك ومنتصف لكم منهم
[ 149 ](1/4844)
61 ـ ومن كتاب له ع إلى كميل بن زياد النخعي
و هو عامله على هيت ينكر عليه تركه دفع من يجتاز به من جيش العدو طالبا للغارة : أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ تَضْيِيعَ اَلْمَرْءِ مَا وُلِّيَ وَ تَكَلُّفَهُ مَا كُفِيَ لَعَجْزٌ حَاضِرٌ وَ رَأْيٌ مُتَبَّرٌ وَ إِنَّ تَعَاطِيَكَ اَلْغَارَةَ عَلَى أَهْلِ قِرْقِيسِيَا وَ تَعْطِيلَكَ مَسَالِحَكَ اَلَّتِي وَلَّيْنَاكَ لَيْسَ لَهَا بِهَا مَنْ يَمْنَعُهَا وَ لاَ يَرُدُّ اَلْجَيْشَ عَنْهَا لَرَأْيٌ شَعَاعٌ فَقَدْ صِرْتَ جِسْراً لِمَنْ أَرَادَ اَلْغَارَةَ مِنْ أَعْدَائِكَ عَلَى أَوْلِيَائِكَ غَيْرَ شَدِيدِ اَلْمَنْكِبِ وَ لاَ مَهِيبِ اَلْجَانِبِ وَ لاَ سَادٍّ ثُغْرَةً وَ لاَ كَاسِرٍ لِعَدُوٍّ شَوْكَةً وَ لاَ مُغْنٍ عَنْ أَهْلِ مِصْرِهِ وَ لاَ مُجْزٍ عَنْ أَمِيرِهِ(1/4845)
كميل بن زياد ونسبه
هو كميل بن زياد بن سهيل بن هيثم بن سعد بن مالك بن الحارث بن صهبان بن سعد بن مالك بن النخع بن عمرو بن وعلة بن خالد بن مالك بن أدد كان من أصحاب علي ع وشيعته وخاصته وقتله الحجاج على المذهب فيمن قتل من الشيعة وكان كميل بن زياد عامل علي ع على هيت وكان ضعيفا يمر عليه سرايا معاوية تنهب أطراف العراق ولا يردها ويحاول أن يجبر ما عنده من الضعف بأن يغير
[ 150 ]
على أطراف أعمال معاوية مثل قرقيسيا وما يجري مجراها من القرى التي على الفرات فأنكر ع ذلك من فعله وقال إن من العجز الحاضر أن يهمل الوالي ما وليه ويتكلف ما ليس من تكليفه والمتبر الهالك قال تعالى إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ . والمسالح جمع مسلحة وهي المواضع التي يقام فيها طائفة من الجند لحمايتها . ورأي شعاع بالفتح أي متفرق . ثم قال له قد صرت جسرا أي يعبر عليك العدو كما يعبر الناس على الجسور وكما أن الجسر لا يمنع من يعبر به ويمر عليه فكذاك أنت . والثغرة الثلمة ومجز كاف ومغن والأصل مجزئ بالهمز فخفف
[ 151 ](1/4846)
62 ـ ومن كتاب له ع إلى أهل مصر مع مالك الأشتر رحمه الله لما ولاه إمارتها
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً ص نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ وَ مُهَيْمِناً عَلَى اَلْمُرْسَلِينَ فَلَمَّا مَضَى ص تَنَازَعَ اَلْمُسْلِمُونَ اَلْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ فَوَاللَّهِ مَا كَانَ يُلْقَى فِي رُوعِي وَ لاَ يَخْطُرُ بِبَالِي أَنَّ اَلْعَرَبَ تُزْعِجُ هَذَا اَلْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ ص عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَ لاَ أَنَّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنِّي مِنْ بَعْدِهِ فَمَا رَاعَنِي إِلاَّ اِنْثِيَالُ اَلنَّاسِ عَلَى فُلاَنٍ يُبَايِعُونَهُ فَأَمْسَكْتُ بِيَدِي يَدِي حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ اَلنَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ اَلْإِسْلاَمِ يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدٍ ص فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ اَلْإِسْلاَمَ وَ أَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً تَكُونُ اَلْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلاَيَتِكُمُ اَلَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلاَئِلَ يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ كَمَا يَزُولُ اَلسَّرَابُ وَ أَوْ كَمَا يَتَقَشَّعُ اَلسَّحَابُ فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ اَلْأَحْدَاثِ حَتَّى زَاحَ اَلْبَاطِلُ وَ زَهَقَ وَ اِطْمَأَنَّ اَلدِّينُ وَ تَنَهْنَهَ المهيمن الشاهد قال الله تعالى إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً أي تشهد بإيمان من آمن وكفر من كفر وقيل تشهد بصحة نبوة الأنبياء قبلك
[ 152 ]
و قوله على المرسلين يؤكد صحة هذا التفسير الثاني وأصل اللفظة من آمن غيره من الخوف لأن الشاهد يؤمن غيره من الخوف بشهادته ثم تصرفوا فيها فابدلوا إحدى همزتي مؤامن ياء فصار مؤيمن ثم قلبوا الهمزة هاء كأرقت وهرقت فصار مهيمن . والروع الخلد و(1/4847)
في الحديث أن روح القدس نفث في روعي قال ما يخطر لي ببال أن العرب تعدل بالأمر بعد وفاة محمد ص عن بني هاشم ثم من بني هاشم عني لأنه كان المتيقن بحكم الحال الحاضرة وهذا الكلام يدل على بطلان دعوى الإمامية النص وخصوصا الجلي . قال فما راعني إلا انثيال الناس تقول للشي ء يفجؤك بغتة ما راعني إلا كذا والروع بالفتح الفزع كأنه يقول ما أفزعني شي ء بعد ذلك السكون الذي كان عندي وتلك الثقة التي اطمأننت إليها إلا وقوع ما وقع من انثيال الناس أي انصبابهم من كل وجه كما ينثاب التراب على أبي بكر وهكذا لفظ الكتاب الذي كتبه للأشتر وإنما الناس يكتبونه الآن إلى فلان تذمما من ذكر الاسم كما يكتبون في أول الشقشقية أما والله لقد تقمصها فلان واللفظ أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة . قوله فأمسكت يدي أي امتنعت عن بيعته حتى رأيت راجعة الناس يعني أهل الردة كمسيلمة وسجاح وطليحة بن خويلد ومانعي الزكاة وإن كان مانعو الزكاة قد اختلف في أنهم أهل ردة أم لا . ومحق الدين إبطاله . وزهق خرج وزال تنهنه سكن وأصله الكف تقول نهنهت السبع فتنهنه
[ 153 ](1/4848)
أي كف عن حركته وإقدامه فكان الدين كان متحركا مضطربا فسكن وكف عن ذلك الاضطراب . روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ الكبير أن رسول الله ص لما مات اجتمعت أسد وغطفان وطي ء على طليحة بن خويلد إلا ما كان من خواص أقوام في الطوائف الثلاث فاجتمعت أسد بسميراء وغطفان بجنوب طيبة وطي ء في حدود أرضهم واجتمعت ثعلبة بن أسد ومن يليهم من قيس بالأبرق من الربذة وتأشب إليهم ناس من بني كنانة ولم تحملهم البلاد فافترقوا فرقتين أقامت إحداهما بالأبرق وسارت الأخرى إلى ذي القصة وبعثوا وفودا إلى أبي بكر يسألونه أن يقارهم على إقامة الصلاة ومنع الزكاة فعزم الله لأبي بكر على الحق فقال لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه ورجع الوفود إلى قومهم فأخبروهم بقلة من أهل المدينة فأطمعوهم فيها وعلم أبو بكر والمسلمون بذلك وقال لهم أبو بكر أيها المسلمون إن الأرض كافرة وقد رأى وفدهم منكم قلة وإنكم لا تدرون أ ليلا تؤتون أم نهارا وأدناهم منكم على بريد وقد كان القوم يأملون أن نقبل منهم ونوادعهم وقد أبينا عليهم ونبذنا إليهم فأعدوا واستعدوا فخرج علي ع بنفسه وكان على نقب من أنقاب المدينة وخرج الزبير وطلحة وعبد الله بن مسعود وغيرهم فكانوا على الأنقاب الثلاثة فلم يلبثوا إلا قليلا حتى طرق القوم المدينة غارة مع الليل وخلفوا بعضهم بذي حسى
[ 154 ](1/4849)
ليكونوا ردءا لهم فوافوا الأنقاب وعليها المسلمون فأرسلوا إلى أبي بكر بالخبر فأرسل إليهم أن الزموا مكانكم ففعلوا وخرج أبو بكر في جمع من أهل المدينة على النواضح فانتشر العدو بين أيديهم واتبعهم المسلمون على النواضح حتى بلغوا ذا حسى فخرج عليهم الكمين بأنحاء قد نفخوها وجعلوا فيها الحبال ثم دهدهوها بأرجلهم في وجوه الإبل فتدهده كل نحي منها في طوله فنفرت إبل المسلمين وهم عليها ولا تنفر الإبل من شي ء نفارها من الأنحاء فعاجت بهم لا يملكونها حتى دخلت بهم المدينة ولم يصرع منهم أحد ولم يصب فبات المسلمون تلك الليلة يتهيئون ثم خرجوا على تعبئة فما طلع الفجر إلا وهم والقوم على صعيد واحد فلم يسمعوا للمسلمين حسا ولا همسا حتى وضعوا فيهم السيف فاقتتلوا أعجاز ليلتهم فما ذر قرن الشمس إلا وقد ولوا الأدبار وغلبوهم على عامة ظهرهم ورجعوا إلى المدينة ظافرين . قلت هذا هو الحديث الذي أشار ع إلى أنه نهض فيه أيام أبي بكر وكأنه جواب عن قول قائل إنه عمل لأبي بكر وجاهد بين يدي أبي بكر فبين ع عذره في ذلك وقال إنه لم يكن كما ظنه القائل ولكنه من باب دفع الضرر عن النفس والدين فإنه واجب سواء كان للناس إمام أو لم يكن(1/4850)
ذكر ما طعن به الشيعة في إمامة أبي بكر والجواب عنها
و ينبغي حيث جرى ذكر أبي بكر في كلام أمير المؤمنين ع أن نذكر ما أورده قاضي القضاة في المغني من المطاعن التي طعن بها فيه وجواب قاضي القضاة
[ 155 ]
عنها واعتراض المرتضى في الشافي على قاضي القضاة ونذكر ما عندنا في ذلك ثم نذكر مطاعن أخرى لم يذكرها قاضي القضاة .(1/4851)
الطعن الأول
قال قاضي القضاة بعد أن ذكر ما طعن به فيه في أمر فدك وقد سبق القول فيه ومما طعن به عليه قولهم كيف يصلح للإمامة من يخبر عن نفسه أن له شيطانا يعتريه ومن يحذر الناس نفسه ومن يقول أقيلوني بعد دخوله في الإمامة مع أنه لا يحل للإمام أن يقول أقيلوني البيعة . أجاب قاضي القضاة فقال إن شيخنا أبا علي قال لو كان ذلك نقصا فيه لكان قول الله في آدم وحواء فَوَسْوَسَ لَهُمَا اَلشَّيْطانُ وقوله فَأَزَلَّهُمَا اَلشَّيْطانُ وقوله وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى اَلشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ يوجب النقص في الأنبياء وإذا لم يجب ذلك فكذلك ما وصف به أبو بكر نفسه وإنما أراد أنه عند الغضب يشفق من المعصية ويحذر منها ويخاف أن يكون الشيطان يعتريه في تلك الحال فيوسوس إليه وذلك منه على طريقة الزجر لنفسه عن المعاصي وقد روي عن أمير المؤمنين ع أنه ترك مخاصمة الناس في حقوقه إشفاقا من المعصية وكان يولي ذلك عقيلا فلما أسن عقيل كان يوليها عبد الله بن جعفر فأما ما روي في إقالة البيعة فهو خبر ضعيف وإن صح فالمراد به التنبيه على أنه لا يبالي لأمر يرجع إليه أن يقيله الناس البيعة وإنما يضرون بذلك أنفسهم وكأنه نبه بذلك
[ 156 ](1/4852)
على أنه غير مكره لهم وأنه قد خلاهم وما يريدون إلا أن يعرض ما يوجب خلافه وقد روي أن أمير المؤمنين ع أقال عبد الله بن عمر البيعة حين استقاله والمراد بذلك أنه تركه وما يختار . اعترض المرتضى رضي الله عنه فقال أما قول أبي بكر وليتكم ولست بخيركم فإن استقمت فاتبعوني وإن اعوججت فقوموني فإن لي شيطانا يعتريني عند غضبي فإذا رأيتموني مغضبا فاجتنبوني لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم فإنه يدل على أنه لا يصلح للإمامة من وجهين أحدهما أن هذا صفة من ليس بمعصوم ولا يأمن الغلط على نفسه من يحتاج إلى تقويم رعيته له إذا وقع في المعصية وقد بينا أن الإمام لا بد أن يكون معصوما موفقا مسددا والوجه الآخر أن هذه صفة من لا يملك نفسه ولا يضبط غضبه ومن هو في نهاية الطيش والحدة والخرق والعجلة ولا خلاف أن الإمام يجب أن يكون منزها عن هذه الأوصاف غير حاصل عليها وليس يشبه قول أبي بكر ما تلاه من الآيات كلها لأن أبا بكر خبر عن نفسه بطاعة الشيطان عند الغضب وأن عادته بذلك جارية وليس هذا بمنزلة من يوسوس إليه الشيطان ولا يطيعه ويزين له القبيح فلا يأتيه وليس وسوسة الشيطان بعيب على الموسوس له إذا لم يستزله ذلك عن الصواب بل هو زيادة في التكليف ووجه يتضاعف معه الثواب وقوله تعالى أَلْقَى اَلشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ قيل معناه في تلاوته وقيل في فكرته على سبيل الخاطر وأي الأمرين كان فلا عار في ذلك على النبي ص ولا نقص وإنما العار والنقص على من يطيع الشيطان ويتبع ما يدعو إليه وليس لأحد أن يقول هذا إن سلم لكم في جميع الآيات لم يسلم في قوله تعالى فَأَزَلَّهُمَا اَلشَّيْطانُ لأنه قد خبر عن تأثير غوايته ووسوسته بما كان منهما من الفعل وذلك أن المعنى الصحيح في هذه الآية أن آدم وحواء كانا مندوبين إلى اجتناب الشجرة وترك التناول منها ولم يكن ذلك عليهما واجبا لازما
[ 157 ](1/4853)
لأن الأنبياء لا يخلون بالواجب فوسوس لهما الشيطان حتى تناولا من الشجرة فتركا مندوبا إليه وحرما بذلك أنفسهما الثواب وسماه إزلالا لأنه حط لهما عن درجة الثواب وفعل الأفضل وقوله تعالى في موضع آخر وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى لا ينافي هذا المعنى لأن المعصية قد يسمى بها من أخل بالواجب والندب معا قوله فغوى أي خاب من حيث لم يستحق الثواب على ما ندب إليه على أن صاحب الكتاب يقول إن هذه المعصية من آدم كانت صغيرة لا يستحق بها عقابا ولا ذما فعلى مذهبه أيضا تكون المفارقة بينه وبين أبي بكر ظاهرة لأن أبا بكر خبر عن نفسه أن الشيطان يعتريه حتى يؤثر في الأشعار والأبشار ويأتي ما يستحق به التقويم فأين هذا من ذنب صغير لا ذم ولا عقاب عليه وهو يجري من وجه من الوجوه مجرى المباح لأنه لا يؤثر في أحوال فاعله وحط رتبته وليس يجوز أن يكون ذلك منه على سبيل الخشية والإشفاق على ما ظن لأن مفهوم خطابه يقتضي خلاف ذلك أ لا ترى أنه قال إن لي شيطانا يعتريني وهذا قول من قد عرف عادته ولو كان على سبيل الإشفاق والخوف لخرج عن هذا المخرج ولكان يقول فإني آمن من كذا وإني لمشفق منه فأما ترك أمير المؤمنين ع مخاصمة الناس في حقوقه فكأنه إنما كان تنزها وتكرما وأي نسبة بين ذلك وبين من صرح وشهد على نفسه بما لا يليق بالأئمة وأما خبر استقالة البيعة وتضعيف صاحب الكتاب له فهو أبدا يضعف ما لا يوافقه من غير حجة يعتمدها في تضعيفه وقوله إنه ما استقال على التحقيق وإنما نبه على أنه لا يبالي بخروج الأمر عنه وأنه غير مكره لهم عليه فبعيد من الصواب لأن ظاهر قوله أقيلوني أمر بالإقالة وأقل أحواله أن يكون عرضا لها وبذلا وكلا الأمرين قبيح ولو أراد ما ظنه لكان له
[ 158 ](1/4854)
في غير هذا القول مندوحة ولكان يقول إني ما أكرهتكم ولا حملتكم على مبايعتي وما كنت أبالي ألا يكون هذا الأمر في ولا إلي وإن مفارقته لتسرني لو لا ما ألزمنيه الدخول فيه من التمسك به ومتى عدلنا عن ظواهر الكلام بلا دليل جر ذلك علينا ما لا قبل لنا به وأما أمير المؤمنين ع فإنه لم يقل ابن عمر البيعة بعد دخولها فيها وإنما استعفاه من أن يلزمه البيعة ابتداء فأعفاه قلة فكر فيه وعلما بأن إمامته لا تثبت بمبايعة من يبايعه عليها فأين هذا من استقالة بيعة قد تقدمت واستقرت . قلت أما قول أبي بكر وليتكم ولست بخيركم فقد صدق عند كثير من أصحابنا لأن خيرهم علي بن أبي طالب ع ومن لا يقول بذلك يقول بما قاله الحسن البصري والله إنه ليعلم أنه خيرهم ولكن المؤمن يهضم نفسه ولم يطعن المرتضى فيه بهذه اللفظة لنطيل القول فيها وأما قول المرتضى عنه أنه قال فإن لي شيطانا يعتريني عند غضبى فالمشهور في الرواية فإن لي شيطانا يعتريني قال المفسرون أراد بالشيطان الغضب وسماه شيطانا على طريق الاستعارة وكذا ذكره شيخنا أبو الحسين في الغرر قال معاوية لإنسان غضب في حضرته فتكلم بما لا يتكلم بمثله في حضرة الخلفاء اربع على ظلعك أيها الإنسان فإنما الغضب شيطان وأنا لم نقل إلا خيرا . وقد ذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في كتاب التاريخ الكبير خطبتي أبي بكر عقيب بيعته بالسقيفة ونحن نذكرهما نقلا من كتابه أما الخطبة الأولى فهي
[ 159 ](1/4855)
أما بعد أيها الناس فإني وليتكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني لأن الصدق أمانة والكذب خيانة الضعيف منكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه والقوي منكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم قوموا إلى صلاتكم رحمكم الله وأما الخطبة الثانية فهي أيها الناس إنما أنا مثلكم وإني لا أدري لعلكم ستكلفونني ما كان رسول الله ص يطيقه إن الله اصطفى محمدا ص على العالمين وعصمه من الآفات وإنما أنا متبع ولست بمتبوع فإن استقمت فاتبعوني وإن زغت فقوموني وإن رسول الله ص قبض وليس أحد من هذه الأمة يطلبه بمظلمة ضربة سوط فما دونها ألا وإن لي شيطانا يعتريني فإذا غضبت فاجتنبوني لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم ألا وإنكم تغدون وتروحون في أجل قد غيب عنكم علمه فإن استطعتم ألا يمضي هذا الأجل إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله فسابقوا في مهل آجالكم من قبل أن تسلمكم آجالكم إلى انقطاع الأعمال فإن قوما نسوا آجالهم وجعلوا أعمالهم لغيرهم فأنهاكم أن تكونوا أمثالهم الجد الجد الوحا الوحا فإن وراءكم طالبا حثيثا أجل مره سريع احذروا الموت واعتبروا بالآباء والأبناء والإخوان ولا تغبطوا الأحياء إلا بما يغبط به الأموات . إن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما يراد به وجهه فأريدوا وجه الله بأعمالكم واعلموا
[ 160 ](1/4856)
أن ما أخلصتم لله من أعمالكم فلطاعة أتيتموها وحظ ظفرتم به وضرائب أديتموها وسلف قدمتموه من أيام فانية لأخرى باقية لحين فقركم وحاجتكم فاعتبروا عباد الله بمن مات منكم وتفكروا فيمن كان قبلكم أين كانوا أمس وأين هم اليوم أين الجبارون أين الذين كان لهم ذكر القتال والغلبة في مواطن الحرب قد تضعضع بهم الدهر وصاروا رميما قد تركت عليهم القالات الخبيثات وإنما الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات وأين الملوك الذين أثاروا الأرض وعمروها قد بعدوا بسيئ ذكرهم وبقي ذكرهم وصاروا كلا شي ء ألا إن الله قد أبقى عليهم التبعات وقطع عنهم الشهوات ومضوا والأعمال أعمالهم والدنيا دنيا غيرهم وبقينا خلفا من بعدهم فإن نحن اعتبرنا بهم نجونا وإن اغتررنا كنا مثلهم أين الوضاء الحسنة وجوههم المعجبون بشبابهم صاروا ترابا وصار ما فرطوا فيه حسرة عليهم أين الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط وجعلوا فيها العجائب وتركوها لمن خلفهم فتلك مساكنهم خاوية وهم في ظلم القبور هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا أين من تعرفون من آبائكم وإخوانكم قد انتهت بهم آجالهم فوردوا على ما قدموا عليه وأقاموا للشقوة وللسعادة إلا إن الله لا شريك له ليس بينه وبين أحد من خلقه سبب يعطيه به خيرا ولا يصرف عنه به شرا إلا بطاعته واتباع أمره واعلموا أنكم عباد مدينون وأن ما عنده لا يدرك إلا بتقواه وعبادته ألا وإنه لا خير بخير بعده النار ولا شر بشر بعد الجنة . فهذه خطبتا أبي بكر يوم السقيفة واليوم الذي يليه إنما قال إن لي شيطانا يعتريني وأراد بالشيطان الغضب ولم يرد أن له شيطانا من مردة الجن يعتريه إذا
[ 161 ](1/4857)
غضب فالزيادة فيما ذكره المرتضى في قوله إن لي شيطانا يعتريني عند غضبي تحريف لا محالة ولو كان له شيطان من الجن يعتاده وينوبه لكان في عداد المصروعين من المجانين وما ادعى أحد على أبي بكر هذا لا من أوليائه ولا من أعدائه وإنما ذكرنا خطبته على طولها والمراد منها كلمة واحدة لما فيها من الفصاحة والموعظة على عادتنا في الاعتناء بإيداع هذا الكتاب ما كان ذاهبا هذا المذهب وسالكا هذا السبيل . فأما قول المرتضى فهذه صفة من ليس بمعصوم فالأمر كذلك والعصمة عندنا ليست شرطا في الإمامة ولو لم يدل على عدم اشتراطها إلا أنه قال على المنبر بحضور الصحابة هذا القول وأقروه على الإمامة لكفى في عدم كون العصمة شرطا لأنه قد حصل الإجماع على عدم اشتراط ذلك إذ لو كان شرطا لأنكر منكر إمامته كما لو قال إني لا أصبر عن شرب الخمر وعن الزنا . فأما قوله هذه صفة طائش لا يملك نفسه فلعمري إن أبا بكر كان حديدا وقد ذكره عمر بذلك وذكره غيره من الصحابة بالحدة والسرعة ولكن لا بحيث أن تبطل به أهليته للإمامة لأن الذي يبطل الإمامة من ذلك وما يخرج الإنسان عن العقل وأما ما هو دون ذلك فلا وليس قوله فاجتنبوني لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم محمول على ظاهره وإنما أراد به المبالغة في وصف القوة الغضبية عنده وإلا فما سمعنا ولا نقل ناقل من الشيعة ولا من غير الشيعة أن أبا بكر في أيام رسول الله ص ولا في الجاهلية ولا في أيام خلافته احتد على إنسان فقام إليه فضربه بيده ومزق شعره . فأما ما حكاه قاضي القضاة عن الشيخ أبي علي من تشبيه هذه اللفظة بما ورد في القرآن فهو على تقدير أن يكون أبو بكر عنى الشيطان حقيقة وما اعترض به المرتضى ثانية عليه غير لازم لأن الله تعالى قال فَوَسْوَسَ لَهُمَا اَلشَّيْطانُ وتعقب ذلك قبولهما
[ 162 ](1/4858)
وسوسته وأكلهما من الشجرة فكيف يقول المرتضى ليس قول أبي بكر بمنزلة من وسوس له الشيطان فلم يطعه وكذلك قوله تعالى في قصة موسى لما قتل القبطي هذا مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ وكذلك قوله فَأَزَلَّهُمَا اَلشَّيْطانُ عَنْها وقوله أَلْقَى اَلشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ وما ذهب إليه المرتضى من التأويلات مبني على مذهبه في العصمة الكلية وهو مذهب يحتاج في نصرته إلى تكلف شديد وتعسف عظيم في تأويل الآيات على أنه إذا سلم أن الشيطان ألقى في تلاوة الرسول ص ما ليس من القرآن حتى ظنه السامعون كلاما من كلام الرسول فقد نقض دلالة التنفير المقتضية عنده في العصمة لأنه لا تنفير عنده أبلغ من تمكين الله الشيطان أن يخلط كلامه بكلامه ورسوله يؤديه إلى المكلفين حتى يعتقد السامعون كلهم أن الكلامين كلام واحد . وأما قوله إن آدم كان مندوبا إلى ألا يأكل من الشجرة لا محرم عليه أكلها ولفظة عصى إنما المراد بها خالف المندوب ولفظه غوى إنما المراد خاب من حيث لم يستحق الثواب على اعتماد ما ندب إليه فقول يدفعه ظاهر الآية لأن الصيغة صيغة النهي وهي قوله وَ لا تَقْرَبا هذِهِ اَلشَّجَرَةَ والنهي عند المرتضى يقتضي التحريم لا محالة وليس الأمر الذي قد يراد به الندب وقد يراد به الوجوب . وأما قول شيخنا أبي علي إن كلام أبي بكر خرج مخرج الإشفاق والحذر من المعصية عند الغضب فجيد . واعتراض المرتضى عليه بأنه ليس ظاهر اللفظ ذاك غير لازم لأن هذه عادة العرب يعبرون عن الأمر بما هو منه بسبب وسبيل كقولهم لا تدن من الأسد فيأكلك فليس أنهم قطعوا على الأكل عند الدنو وإنما المراد الحذر والخوف والتوقع للأكل عند الدنو .
[ 163 ]
و أما الكلام في قوله أقيلوني فلو صح الخبر لم يكن فيه مطعن عليه لأنه إنما أراد في اليوم الثاني اختبار حالهم في البيعة التي وقعت في اليوم الأول ليعلم وليه من عدوه منهم و(1/4859)
قد روى جميع أصحاب السير أن أمير المؤمنين خطب في اليوم الثاني من بيعته فقال أيها الناس إنكم بايعتموني على السمع والطاعة وأنا أعرض اليوم عليكم ما دعوتموني إليه أمس فإن أجبتم قعدت لكم وإلا فلا أجد على أحد وليس بجيد قول المرتضى إنه لو كان يريد العرض والبذل لكان قد قال كذا وكذا فإن هذه مضايقة منه شديدة للألفاظ ولو شرعنا في مثل هذا لفسد أكثر ما يتكلم به الناس على أنا لو سلمنا أنه استقالهم البيعة حقيقة فلم قال المرتضى إن ذلك لا يجوز أ ليس يجوز للقاضي أن يستقيل من القضاء بعد توليته إياه ودخوله فيه فكذلك يجوز للإمام أن يستقيل من الإمامة إذا أنس من نفسه ضعفا عنها أو أنس من رعيته نبوة عنه أو أحس بفساد ينشأ في الأرض من جهة ولايته على الناس ومن يذهب إلى أن الإمامة تكون بالاختيار كيف يمنع من جواز استقالة الإمام وطلبه إلى الأمة أن يختاروا غيره لعذر يعلمه من حال نفسه وإنما يمنع من ذلك المرتضى وأصحابه القائلون بأن الإمامة بالنص وإن الإمام محرم عليه ألا يقوم بالإمامة لأنه مأمور بالقيام بها لتعينه خاصة دون كل أحد من المكلفين وأصحاب الاختيار يقولون إذا لم يكن زيد إماما كان عمرو إماما عوضه لأنهم لا يعتبرون الشروط التي يعتبرها الإمامية من العصمة وأنه أفضل أهل عصره وأكثرهم ثوابا وأعلمهم وأشجعهم وغير ذلك من الشروط التي تقتضي تفرده وتوحده بالأمر على أنه إذا جاز عندهم أن يترك الإمام الإمامة في الظاهر كما فعله الحسن وكما فعله غيره من الأئمة بعد الحسين ع للتقية جاز للإمام
[ 164 ]
على مذهب أصحاب الاختيار أن يترك الإمامة ظاهرا وباطنا لعذر يعلمه من حال نفسه أو حال رعيته(1/4860)
الطعن الثاني
قال قاضي القضاة بعد أن ذكر قول عمر كانت بيعة أبي بكر فلتة وقد تقدم منا القول في ذلك في أول هذا الكتاب ومما طعنوا به على أبي بكر أنه قال عند موته ليتني كنت سألت رسول الله ص عن ثلاثة فذكر في أحدها ليتني كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر حق قالوا وذلك يدل على شكه في صحة بيعته وربما قالوا قد روي أنه قال في مرضه ليتني كنت تركت بيت فاطمة لم أكشفه وليتني في ظلة بني ساعدة كنت ضربت على يد أحد الرجلين فكان هو الأمير وكنت الوزير قالوا وذلك يدل على ما روي من إقدامه على بيت فاطمة ع عند اجتماع علي ع والزبير وغيرهما فيه ويدل على أنه كان يرى الفضل لغيره لا لنفسه . قال قاضي القضاة والجواب أن قوله ليتني لا يدل على الشك فيما تمناه وقول إبراهيم ع رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ اَلْمَوْتى قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي أقوى من ذلك في الشبهة ثم حمل تمنيه على أنه أراد سماع شي ء مفصل أو أراد ليتني سألته عند الموت لقرب العهد لأن ما قرب عهده لا ينسى ويكون أردع للأنصار على ما حاولوه ثم قال على أنه ليس في ظاهره أنه تمنى أن
[ 165 ](1/4861)
يسأل هل لهم حق في الإمامة أم لا لأن الإمامة قد يتعلق بها حقوق سواها ثم دفع الرواية المتعلقة ببيت فاطمة ع وقال فأما تمنيه أن يبايع غيره فلو ثبت لم يكن ذما لأن من اشتد التكليف عليه فهو يتمنى خلافه . اعترض المرتضى رحمه الله هذا الكلام فقال ليس يجوز أن يقول أبو بكر ليتني كنت سألت عن كذا إلا مع الشك والشبهة لأن مع العلم واليقين لا يجوز مثل هذا القول هكذا يقتضي الظاهر فأما قول إبراهيم ع فإنما ساغ أن يعدل عن ظاهره لأن الشك لا يجوز على الأنبياء ويجوز على غيرهم على أنه ع قد نفى عن نفسه الشك بقوله بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي وقد قيل إن نمرود قال له إذا كنت تزعم أن لك ربا يحيي الموتى فاسأله أن يحيي لنا ميتا إن كان على ذلك قادرا فإن لم تفعل ذلك قتلتك فأراد بقوله وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي أي لآمن توعد عدوك لي بالقتل وقد يجوز أن يكون طلب ذلك لقومه وقد سألوه أن يرغب إلى الله تعالى فيه فقال ليطمئن قلبي إلى إجابتك لي وإلى إزاحة علة قومي ولم يرد ليطمئن قلبي إلى أنك تقدر على أن تحيي الموتى لأن قلبه قد كان بذلك مطمئنا وأي شي ء يريد أبو بكر من التفضيل أكثر من قوله إن هذا الأمر لا يصلح إلا لهذا الحي من قريش وأي فرق بين ما يقال عند الموت وبين ما يقال قبله إذا كان محفوظا معلوما لم ترفع كلمة ولم تنسخ . وبعد فظاهر الكلام لا يقتضي هذا التخصيص ونحن مع الإطلاق والظاهر وأي حق يجوز أن يكون للأنصار في الإمامة غير أن يتولاها رجل منهم حتى يجوز أن يكون الحق الذي تمنى أن يسأل عنه غير الإمامة وهل هذا إلا تعسف وتكلف
[ 166 ](1/4862)
و أي شبهة تبقى بعد قول أبي بكر ليتني كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر حق فكنا لا ننازعه أهله ومعلوم أن التنازع لم يقع بينهم إلا في الإمامة نفسها لا في حق آخر من حقوقها . فأما قوله إنا قد بينا أنه لم يكن منه في بيت فاطمة ما يوجب أن يتمنى أنه لم يفعله فقد بينا فساد ما ظنه فيما تقدم . فأما قوله إن من اشتد التكليف عليه قد يتمنى خلافه فليس بصحيح لأن ولاية أبي بكر إذا كانت هي التي اقتضاها الدين والنظر للمسلمين في تلك الحال وما عداها كان مفسدة ومؤديا إلى الفتنة فالتمني لخلافها لا يكون إلا قبيحا . قلت أما قول قاضي القضاة إن هذا التمني لا يقتضي الشك في أن الإمامة لا تكون إلا في قريش كما أن قول إبراهيم وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي لا يقتضي الشك في أنه تعالى قادر على ذلك فجيد . فأما قول المرتضى إنما ساغ أن يعدل عن الظاهر في حق إبراهيم لأنه نبي معصوم لا يجوز عليه الشك فيقال له وكذلك ينبغي أن يعدل عن ظاهر كلام أبي بكر لأنه رجل مسلم عاقل فحسن الظن به يقتضي صيانة أفعاله وأقواله عن التناقض قوله إن إبراهيم قد نفى عن نفسه الشك بقوله بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قلنا إن أبا بكر قد نفى عن نفسه الشك بدفع الأنصار عن الإمامة وإثباتها في قريش خاصة فإن كانت لفظة بلى دافعة لشك إبراهيم الذي يقتضيه قوله وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ففعل أبي بكر وقوله يوم السقيفة
[ 167 ](1/4863)
يدفع الشك الذي يقتضيه قوله ليتني سألته ولا فرق في دفع الشك بين أن يتقدم الدافع أو يتأخر أو يقارن . ثم يقال للمرتضى أ لست في هذا الكتاب وهو الشافي بينت أن قصة السقيفة لم يجر فيها ذكر نص عن رسول الله ص بأن الأئمة من قريش وأنه لم يكن هناك إلا احتجاج أبي بكر وعمر بأن قريشا أهل النبي ص وعشيرته وأن العرب لا تطيع غير قريش وذكرت عن الزهري وغيره أن القول الصادر عن أبي بكر إن هذا الأمر لا يصلح إلا لهذا الحي من قريش ليس نصا مرويا عن رسول الله ص وإنما هو قول قاله أبو بكر من تلقاء نفسه ورويت في ذلك الروايات ونقلت من الكتب من تاريخ الطبري وغيره صورة الكلام والجدال الدائر بينه وبين الأنصار فإذا كان هذا قولك فلم تنكر على أبي بكر قوله ليتني كنت سألت رسول الله ص هل للأنصار في هذا الأمر حق لأنه لم يسمع النص ولا رواه ولا روي له وإنما دفع الأنصار بنوع من الجدل فلا جرم بقي في نفسه شي ء من ذلك وقال عند موته ليتني كنت سألت رسول الله ص وليس ذلك مما يقتضي شكه في بيعته كما زعم الطاعن لأنه إنما يشك في بيعته لو كان قال قائل أو ذهب ذاهب إلى أن الإمامة ليست إلا في الأنصار ولم يقل أحد ذلك بل النزاع كان في هل الإمامة مقصورة على قريش خاصة أم هي فوضى بين الناس كلهم وإذا كانت الحال هذه لم يكن شاكا في إمامته وبيعته بقوله ليتني سألت رسول الله ص هل للأنصار في هذا حق لأن بيعته على كلا التقديرين تكون صحيحة .
[ 168 ](1/4864)
فأما قول قاضي القضاة لعله أراد حقا للأنصار غير الإمامة نفسها فليس بجيد والذي اعترضه به المرتضى جيد فإن الكلام لا يدل إلا على الإمامة نفسها ولفظة المنازعة تؤكد ذلك . وأما حديث الهجوم على بيت فاطمة ع فقد تقدم الكلام فيه والظاهر عندي صحة ما يرويه المرتضى والشيعة ولكن لا كل ما يزعمونه بل كان بعض ذلك وحق لأبي بكر أن يندم ويتأسف على ذلك وهذا يدل على قوة دينه وخوفه من الله تعالى فهو بأن يكون منقبة له أولى من كونه طعنا عليه . فأما قول قاضي القضاة إن من اشتد التكليف عليه فقد يتمنى خلافه واعتراض المرتضى عليه فكلام قاضي القضاة أصح وأصوب لأن أبا بكر وإن كانت ولايته مصلحة وولاية غير مفسدة فإنه ما يتمنى أن يكون الإمام غيره مع استلزام ذلك للمفسدة بل تمنى أن يلي الأمر غيره وتكون المصلحة بحالها أ لا ترى أن خصال الكفارة في اليمين كل واحدة منها مصلحة وما عداها لا يقوم مقامها في المصلحة وأحدها يقوم مقام الأخرى في المصلحة فأبو بكر تمنى أن يلي الأمر عمر أو أبو عبيدة بشرط أن تكون المصلحة الدينية التي تحصل من بيعته حاصلة من بيعة كل واحد من الآخرين(1/4865)