فبلغ ذلك الحسين ع فكتب إلى معاوية أما بعد فإنك غررت غلاما من بني هاشم فابتعت منه أرضا لا يملكها فاقبض من الغلام ما دفعته إليه واردد إلينا أرضنا . فبعث معاوية إلى مسلم فأخبره ذلك وأقرأه كتاب الحسين ع وقال اردد علينا مالنا وخذ أرضك فإنك بعت ما لا تملك فقال مسلم أما دون أن أضرب رأسك بالسيف فلا فاستلقى معاوية ضاحكا يضرب برجليه فقال يا بني هذا والله كلام قاله لي أبوك حين ابتعت له أمك . ثم كتب إلى الحسين إني قد رددت عليكم الأرض وسوغت مسلما ما أخذ فقال الحسين ع أبيتم يا آل أبي سفيان إلا كرما . وقال معاوية لعقيل يا أبا يزيد أين يكون عمك أبو لهب اليوم قال إذا دخلت جهنم فاطلبه تجده مضاجعا لعمتك أم جميل بنت حرب بن أمية . وقالت له زوجته ابنة عتبة بن ربيعة يا بني هاشم لا يحبكم قلبي أبدا أين عمي أين أخي كان أعناقهم أباريق الفضة ترى آنافهم الماء قبل شفاههم قال إذا دخلت جهنم فخذي على شمالك .
[ 253 ](1/3257)
سأل معاوية عقيلا عن قصة الحديدة المحماة المذكورة فبكى وقال أنا أحدثك يا معاوية عنه ثم أحدثك عما سألت نزل بالحسين ابنه ضيف فاستسلف درهما اشترى به خبزا واحتاج إلى الإدام فطلب من قنبر خادمهم أن يفتح له زقا من زقاق عسل جاءتهم من اليمن فأخذ منه رطلا فلما طلبها ع ليقسمها قال يا قنبر أظن أنه حدث بهذا الزق حدث فأخبره فغضب ع وقال علي بحسين فرفع عليه الدرة فقال بحق عمي جعفر وكان إذا سئل بحق جعفر سكن فقال له ما حملك أن أخذت منه قبل القسمة قال إن لنا فيه حقا فإذا أعطيناه رددناه قال فداك أبوك وإن كان لك فيه حق فليس لك أن تنتفع بحقك قبل أن ينتفع المسلمون بحقوقهم أما لو لا أني رأيت رسول الله ص يقبل ثنيتك لأوجعتك ضربا ثم دفع إلى قنبر درهما كان مصرورا في ردائه وقال اشتر به خير عسل تقدر عليه قال عقيل والله لكأني أنظر إلى يدي علي وهي على فم الزق وقنبر يقلب العسل فيه ثم شده وجعل يبكي ويقول اللهم اغفر لحسين فإنه لم يعلم . فقال معاوية ذكرت من لا ينكر فضله رحم الله أبا حسن فلقد سبق من كان قبله وأعجز من يأتي بعده هلم حديث الحديدة .
قال نعم أقويت وأصابتني مخمصة شديدة فسألته فلم تند صفاته فجمعت صبياني وجئته بهم والبؤس والضر ظاهران عليهم فقال ائتني عشية لأدفع إليك شيئا فجئته يقودني أحد ولدي فأمره بالتنحي ثم قال أ لا فدونك فأهويت حريصا قد غلبني الجشع أظنها صرة فوضعت يدي على حديدة تلتهب نارا فلما قبضتها نبذتها وخرت كما يخور الثور تحت يد جازره فقال لي ثكلتك أمك هذا من حديدة
[ 254 ]
أوقدت لها نار الدنيا فكيف بك وبي غدا إن سلكنا في سلاسل جهنم ثم قرأ إِذِ اَلْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَ اَلسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ . ثم قال ليس لك عندي فوق حقك الذي فرضه الله لك إلا ما ترى فانصرف إلى أهلك . فجعل معاوية يتعجب ويقول هيهات هيهات عقمت النساء أن يلدن مثله
[ 255 ](1/3258)
220 ومن دعاء له ع
اَللَّهُمَّ صُنْ وَجْهِي بِالْيَسَارِ وَ لاَ تَبْذُلْ جَاهِي بِالْإِقْتَارِ فَأَسْتَرْزِقَ طَالِبِي رِزْقِكَ وَ أَسْتَعْطِفَ شِرَارَ خَلْقِكَ وَ أُبْتَلَى بِحَمْدِ مَنْ أَعْطَانِي وَ أُفْتَتَنَ بِذَمِّ مَنْ مَنَعَنِي وَ أَنْتَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ كُلِّهِ وَلِيُّ اَلْإِعْطَاءِ وَ اَلْمَنْعِ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ صن وجهي باليسار أي استره بأن ترزقني يسارا وثروة أستغني بهما عن مسألة الناس . ولا تبذل جاهي بالإقتار أي لا تسقط مروءتي وحرمتي بين الناس بالفقر الذي أحتاج معه إلى تكفف الناس . وروي أن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الجواد رقت حاله في آخر عمره لأن عبد الملك جفاه فراح يوما إلى الجمعة فدعا فقال اللهم إنك عودتني عادة جريت عليها فإن كان ذلك قد انقضى فاقبضني إليك فلم يلحق الجمعة الأخرى . و
كان الحسن بن علي ع يدعو فيقول اللهم وسع علي فإنه لا يسعني إلا الكثير .
[ 256 ]
قوله فأسترزق منصوب لأنه جواب الدعاء كقولهم ارزقني بعيرا فأحج عليه بين ع كيفية تبذل جاهه بالإقتار وفسره فقال بأن أطلب الرزق ممن يطلب منك الرزق . وأستعطف الأشرار من الناس أي أطلب عاطفتهم وإفضالهم ويلزم من ذلك أمران محذوران أحدهما أن أبتلى بحمد المعطي . والآخر أن أفتتن بذم المانع . قوله ع وأنت من وراء ذلك كله مثل يقال للمحيط بالأمر القاهر له القادر عليه كما نقول للملك العظيم هو من وراء وزرائه وكتابه أي مستعد متهيئ لتتبعهم وتعقبهم واعتبار حركاتهم لإحاطته بها وإشرافه عليها . وولي مرفوع بأنه خبر المبتدإ ويكون خبرا بعد خبر ويجوز أن يكون ولي هو الخبر ويكون من وراء ذلك جملة مركبة من جار ومجرور منصوبة الموضع لأنه حال
[ 257 ](1/3259)
221 ومن خطبة له ع
دَارٌ بِالْبَلاَءِ مَحْفُوفَةٌ وَ بِالْغَدْرِ مَعْرُوفَةٌ لاَ تَدُومُ أَحْوَالُهَا وَ لاَ يَسْلَمُ نُزَّالُهَا أَحْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ وَ تَارَاتٌ مُتَصَرِّفَةٌ اَلْعَيْشُ فِيهَا مَذْمُومٌ وَ اَلْأَمَانُ مِنْهَا مَعْدُومٌ وَ إِنَّمَا أَهْلُهَا فِيهَا أَغْرَاضٌ مُسْتَهْدِفَةٌ تَرْمِيهِمْ بِسِهَامِهَا وَ تُفْنِيهِمْ بِحِمَامِهَا وَ اِعْلَمُوا عِبَادَ اَللَّهِ أَنَّكُمْ وَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ هَذِهِ اَلدُّنْيَا عَلَى سَبِيلِ مَنْ قَدْ مَضَى قَبْلَكُمْ مِمَّنْ كَانَ أَطْوَلَ مِنْكُمْ أَعْمَاراً وَ أَعْمَرَ دِيَاراً وَ أَبْعَدَ آثَاراً أَصْبَحَتْ أَصْوَاتُهُمْ هَامِدَةً وَ رِيَاحُهُمْ رَاكِدَةً وَ أَجْسَادُهُمْ بَالِيَةً وَ دِيَارُهُمْ خَالِيَةً وَ آثَارُهُمْ عَافِيَةً فَاسْتَبْدَلُوا بِالْقُصُورِ اَلْمَشَيَّدَةِ وَ اَلنَّمَارِقِ اَلْمُمَهَّدَةِ اَلصُّخُورَ وَ اَلْأَحْجَارَ اَلْمُسْنَدَةَ اَلْمُسَنَّدَةَ وَ اَلْقُبُورَ اَللاَّطِئَةَ اَلْمُلْحَدَةَ اَلَّتِي قَدْ بُنِيَ عَلَى اَلْخَرَابِ فِنَاؤُهَا وَ شُيِّدَ بِالتُّرَابِ بِنَاؤُهَا فَمَحَلُّهَا مُقْتَرِبٌ وَ سَاكِنُهَا مُغْتَرِبٌ بَيْنَ أَهْلِ مَحَلَّةٍ مُوحِشِينَ وَ أَهْلِ فَرَاغٍ مُتَشَاغِلِينَ لاَ يَسْتَأْنِسُونَ بِالْأَوْطَانِ وَ لاَ يَتَوَاصَلُونَ تَوَاصُلَ اَلْجِيرَانِ عَلَى مَا بَيْنَهُمْ مِنْ قُرْبِ اَلْجِوَارِ وَ دُنُوِّ اَلدَّارِ وَ كَيْفَ يَكُونُ بَيْنَهُمْ تَزَاوُرٌ وَ قَدْ طَحَنَهُمْ بِكَلْكَلِهِ اَلْبِلَى وَ أَكَلَتْهُمُ اَلْجَنَادِلُ وَ اَلثَّرَى وَ كَأَنْ قَدْ صِرْتُمْ إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ وَ اِرْتَهَنَكُمْ ذَلِكَ اَلْمَضْجَعُ وَ ضَمَّكُمْ ذَلِكَ اَلْمُسْتَوْدَعُ فَكَيْفَ بِكُمْ لَوْ تَنَاهَتْ بِكُمُ اَلْأَمُورُ وَ بُعْثِرَتِ اَلْقُبُورُ هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ
[ 258 ](1/3260)
نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَ رُدُّوا إِلَى اَللَّهِ مَوْلاهُمُ اَلْحَقِّ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ بالبلاء محفوفة قد أحاط بها من كل جانب . وتارات جمع تارة وهي المرة الواحدة ومتصرفة منتقلة متحولة . ومستهدفة بكسر الدال منتصبة مهيأة للرمي وروي مستهدفة بفتح الدال على المفعولية كأنها قد استهدفها غيرها أي جعلها أهدافا . ورياحهم راكدة ساكنة وآثارهم عافية مندرسة . والقصور المشيدة العالية ومن روى المشيدة بالتخفيف وكسر الشين فمعناه المعمولة بالشيد وهو الجص . والنمارق الوسائد . والقبور الملحدة ذوات اللحود . وروي والأحجار المسندة بالتشديد . قوله ع قد بني على الخراب فناؤها أي بنيت لا لتسكن الأحياء فيها كما تبنى منازل أهل الدنيا . والكلكل الصدر وهو هاهنا استعارة . والجنادل الحجارة وبعثرت القبور أثيرت . وتبلو كل نفس ما أسلفت تخبر وتعلم جزاء أعمالها وفيه حذف مضاف ومن
[ 259 ]
قرأ تتلو بالتاء بنقطتين أي تقرأ كل نفس كتابها وضل عنهم ما كانوا يفترون بطل عنهم ما كانوا يدعونه ويكذبون فيه من القول بالشركاء وأنهم شفعاء(1/3261)
ذكر بعض الآثار والأشعار الواردة في ذم الدنيا
و من كلام بعض البلغاء في ذم الدنيا أما بعد فإن الدنيا قد عاتبت نفسها بما أبدت من تصرفها وإنبات عن مساوئها بما أظهرت عن مصارع أهلها ودلت على عوراتها بتغير حالاتها ونطقت ألسنة العبر فيها بزوالها وشهد اختلاف شئونها على فنائها ولم يبق لمرتاب فيها ريب ولا ناظر في عواقبها شك بل عرفها جل من عرفها معرفة يقين وكشفوها أوضح تكشيف ثم اختلجتهم الأهواء عن منافع العلم ودلتهم الآمال بغرور فلججت بهم في غمرات العجز فسبحوا في بحورها موقنين بالهلكة ورتعوا في عراصها عارفين بالخدعة فكان يقينهم شكا وعلمهم جهلا لا بالعلم انتفعوا ولا بما عاينوا اعتبروا قلوبهم عالمة جاهلة وأبدانهم شاهدة غائبة حتى طرقتهم المنية فأعجلتهم عن الأمنية فبغتتهم القيامة وأورثتهم الندامة وكذلك الهوى حلت مذاقته وسمت عاقبته والأمل ينسى طويلا ويأخذ وشيكا فانتفع امرؤ بعلمه وجاهد هواه أن يضله وجانب أمله أن يغره وقوي يقينه على العمل ونفى عنه الشك بقطع الأمل فإن الهوى والأمل إذا استضعفا اليقين صرعاه وإذا تعاونا على ذي غفلة خدعاه فصريعهما لا ينهض سالما وخديعهما لا يزال نادما والقوي من قوي عليهما والحازم من احترس منهما ألبسنا الله وإياكم جنة السلامة ووقانا وإياكم سوء العذاب .
[ 260 ](1/3262)
كان عمر بن عبد العزيز إذا جلس للقضاء قرأ أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ . قال منصور بن عمار لأهل مجلسه ما أرى إساءة تكبر على عفو الله فلا تيأس وربما آخذ الله على الصغير فلا تأمن وقد علمت أنك بطول عفو الله عنك عمرت مجالس الاغترار به ورضيت لنفسك المقام على سخطه ولو كنت تعاقب نفسك بقدر تجاوزه عن سيئاتك ما استمر بك لجاج فيما نهيت عنه ولا قصرت دون المبالغة فيه ولكنك رهين غفلتك وأسير حيرتك . قال إسماعيل بن زياد أبو يعقوب قدم علينا بعبادان راهب من الشام ونزل دير ابن أبي كبشة فذكروا حكمة كلامه فحملني ذلك على لقائه فأتيته وهو يقول إن لله عبادا سمت بهم هممهم فهووا عظيم الذخائر فالتمسوا من فضل سيدهم توفيقا يبلغهم سمو الهمم فإن استطعتم أيها المرتحلون عن قريب أن تأخذوا ببعض أمرهم فإنهم قوم قد ملكت الآخرة قلوبهم فلم تجد الدنيا فيها ملبسا فالحزن بثهم والدمع راحتهم والدءوب وسيلتهم وحسن الظن قربانهم يحزنون بطول المكث في الدنيا إذا فرح أهلها فهم فيها مسجونون وإلى الآخرة منطلقون . فما سمعت موعظة كانت أنفع لي منها . ومن جيد شعر أبي نواس في الزهد
يا بني النقص والغير
و بني الضعف والخور
و بني البعد في الطباع
على القرب في الصور
[ 261 ]
و الشكول التي تباين
في الطول والقصر
أين من كان قبلكم
من ذوي البأس والخطر
سائلوا عنهم المدائن
و استبحثوا الخبر
سبقونا إلى الرحيل
و إنا لبالأثر
من مضى عبرة لنا
و غدا نحن معتبر
أن للموت أخذة
تسبق اللمح بالبصر
فكأني بكم غدا
في ثياب من المدر
قد نقلتم من القصور
إلى ظلمة الحفر
حيث لا تضرب القباب
عليكم ولا الحجر
حيث لا تطربون منه
للهو ولا سمر
رحم الله مسلما
ذكر الموت فازدجر
رحم الله مؤمنا
خاف فاستشعر الحذر(1/3263)
و من جيد شعر الرضي أبي الحسن رحمه الله في ذكر الدنيا وتقلبها بأهلها
و هل نحن إلا مرامي السهام
يحفزها نابل دائب
نسر إذا جازنا طائش
و نجزع إن مسنا صائب
ففي يومنا قدر لا بد
و عند غد قدر واثب
[ 262 ]
طرائد تطردها النائبات
و لا بد أن يدرك الطالب
أرى المرء يفعل فعل الحديد
و هو غدا حمأ لازب
عواري من سلب الهالكين
يمد يدا نحوها السالب
لنا بالردى موعد صادق
و نيل المنى موعد كاذب
حبائل للدهر مبثوثه
يرد إلى جذبها الهارب
و كيف نجاوز غاياتنا
و قد بلغ المورد القارب
نصبح بالكأس مجدحة
ذعافا ولا يعلم الشارب
و قال أيضا وهي من محاسن شعره
ما أقل اعتبارنا بالزمان
و أشد اغترارنا بالأماني
وقفات على غرور وإقدام
على مزلق من الحدثان
في حروب مع الردى فكانا اليوم
في هدنة مع الأزمان
و كفانا مذكرا بالمنايا
علمنا أننا من الحيوان
كل يوم رزية بفلان
و وقوع من الردى بفلان
كم تراني أضل نفسا وألهو
فكأني وثقت بالوجدان
قل لهذي الهوامل استوقفي السير
أو استنشدي عن الأعطان
و استقيمي قد ضمك اللقم النهج
و غني وراءك الحاديان
[ 263 ]
كم محيدا عن الطريق وقد ضرح
خلج البرى وجذب العران
ننثني جازعين من عدوة الدهر
و نرتاع للمنايا الرواني
جفلة السرب في الظلام وقد ذعذع
روعا من عدوة الذؤبان
ثم ننسى جرح الحمام وإن كان
رغيبا يا قرب ذا النسيان
كل يوم تزايل من خليط
بالردى أو تباعد من دان
و سواء مضى بنا القدر الجد
عجولا أو ماطل العصران
و أيضا من هذه القصيدة
قد مررنا على الديار خشوعا
و رأينا البنا فأين الباني
و جهلنا الرسوم ثم علمنا
فذكرنا الأوطار بالأوطان
التفاتا إلى القرون الخوالي
هل ترى اليوم غير قرن فان
أين رب السدير فالحيرة البيضاء
أم أين صاحب الإيوان
و السيوف الحداد من آل بدر
و القنا الصم من بني الريان
طردتهم وقائع الدهر عن لعلع
طرد السفاف عن نجران
و المواضي من آل جفنة أرسى
طنبا ملكهم على الجولان(1/3264)
يكرعون العقار في فلق الإبريز
كرع الظماء في الغدران
من أباة اللعن الذين يحيون
بها في معاقد التيجان
تتراءاهم الوفود بعيدا
ضاربين الصدور بالأذقان
[ 264 ]
في رياض من السماح حوال
و جبال من الحلوم رزان
و هم الماء لذ للناهل الظمآن
بردا والنار للحيران
كل مستيقظ الجنان إذا أظلم
ليل النوامة المبطان
يغتدي في السباب غير شجاع
و يرى في النزال غير جبان
ما ثنت عنهم المنون يدا شوكاء
أطرافها من المران
عطف الدهر فرعهم فرءاه
بعد بعد الذرى قريب المجاني
وثنتهم بعد الجماح المنايا
في عنان التسليم والإذعان
عطلت منهم المقاري وباخت
في حماهم مواقد النيران
ليس يبقى على الزمان جري ء
في إباء أو عاجز في هوان
لا شبوب من الصوار ولا أعنق
يرعى منابت العلجان
لا ولا خاضب من الربد يختال
بريط أحم غير يمان
يرتمي وجهة الرئال إذا آنس
لون الإظلام والإدجان
و عقاب الملاع تلحم فرخيها
بإزليقة زلول القنان
نائلا في مطامح الجو هاتيك
و ذا في مهابط الغيطان
و هذا شعر فصيح نادر معرق في العربية .
[ 265 ]
و من شعره الجيد أيضا في ذكر الدنيا ومصائبها
أ وما رأيت وقائع الدهر
أ فلا تسي ء الظن بالعمر
بينا الفتى كالطود تكنفه
هضباته والعضب ذي الأثر
يأبى الدنية في عشيرته
و يجاذب الأيدي على الفخر
و إذا أشار إلى قبائله
حشدت عليه بأوجه غر
يترادفون على الرماح فهم
سيل يعب وعارض يسري
إن نهنهوا زادوا مقاربة
فكأنما يدعون بالزجر
عدد النجوم إذا دعي بهم
يتزاحمون تزاحم الشعر
عقدوا على الجلى مآزرهم
سبطي الأنامل طيبي النشر
زل الزمان بوطء أخمصه
و مواطئ الأقدام للعثر
نزع الإباء وكان شملته
و أقر إقرارا على صغر
صدع الردى أعيا تلاحمه
من ألحم الصدفين بالقطر
جر الجياد على الوجى ومضى
أمما يدق السهل بالوعر
حتى التقى بالشمس مغمدة
في قعر منقطع من البحر
ثم انثنت كف المنون به
كالضغث بين الناب والظفر
لم تشتجر عنه الرماح ولا
رد القضاء بماله الدثر(1/3265)
جمع الجنود وراءه فكأنما
لاقته وهو مضيع الظهر
و بنى الحصون تمنعا فكأنما
أمسى بمضيعة وما يدري
و بري المعابل للعدا فكأنما
لحمامه كان الذي يبري
[ 266 ]
إن التوقي فرط معجزة
فدع القضاء يقد أو يفري
و حمى المطاعم للبقا وذي الآجال
مل ء فروجها تجري
لو كان حفظ النفس ينفعنا
كان الطبيب أحق بالعمر
الموت داء لا دواء له
سيان ما يوبي وما يمري
و هذا من حر الكلام وفصيحه ونادره ولا عجب فهذه الورقة من تلك الشجرة وهذا القبس من تلك النار
[ 267 ](1/3266)
222 ومن دعاء له ع
اَللَّهُمَّ إِنَّكَ آنَسُ اَلآْنِسِينَ لِأَوْلِيَائِكَ وَ أَحْضَرُهُمْ بِالْكِفَايَةِ لِلْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْكَ تُشَاهِدُهُمْ فِي سَرَائِرِهِمْ وَ تَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ فِي ضَمَائِرِهِمْ وَ تَعْلَمُ مَبْلَغَ بَصَائِرِهِمْ فَأَسْرَارُهُمْ لَكَ مَكْشُوفَةٌ وَ قُلُوبُهُمْ إِلَيْكَ مَلْهُوفَةٌ إِنْ أَوْحَشَتْهُمُ اَلْغُرْبَةُ آنَسَهُمْ ذِكْرُكَ وَ إِنْ صُبَّتْ عَلَيْهِمُ اَلْمَصَائِبُ لَجَئُوا إِلَى اَلاِسْتِجَارَةِ بِكَ عِلْماً بِأَنَّ أَزِمَّةَ اَلْأُمُورِ بِيَدِكَ وَ مَصَادِرَهَا عَنْ قَضَائِكَ اَللَّهُمَّ إِنْ فَهِهْتُ عَنْ مَسْأَلَتِي أَوْ عَمِيتُ عَنْ طِلْبَتِي فَدُلَّنِي عَلَى مَصَالِحِي وَ خُذْ بِقَلْبِي إِلَى مَرَاشِدِي فَلَيْسَ ذَلِكَ بِنُكْرٍ مِنْ هِدَايَاتِكَ وَ لاَ بِبِدْعٍ مِنْ كِفَايَاتِكَ اَللَّهُمَّ اِحْمِلْنِي عَلَى عَفْوِكَ وَ لاَ تَحْمِلْنِي عَلَى عَدْلِكَ أنست ضد وحشت والإيناس ضد الإيحاش وكان القياس أن يقول إنك آنس المؤنسين لأن الماضي أفعل وإنما الآنسون جمع آنس وهو الفاعل من أنست بكذا لا من آنست فالرواية الصحيحة إذن بأوليائك أي أنت أكثرهم أنسا بأوليائك وعطفا وتحننا عليهم . وأحضرهم بالكفاية أي أبلغهم إحضارا لكفاية المتوكلين عليهم وأقومهم بذلك
[ 268 ]
تشاهدهم في سرائرهم أي تطلع على غيبهم والبصائر العزائم نفذت بصيرته في كذا أي حق عزمه . وقلوبهم إليك ملهوفة أي صارخة مستغيثه . وفههت عن مسألتي بالكسر عييت والفهة والفهاهة العي رجل أفه ورجل فه أيضا وامرأة فههة قال الشاعر
فلم تلفني فها ولم تلف حاجتي
ملجلجة أبغي لها من يقيمها(1/3267)
و قد فههت يا رجل فهها أي عييت ويقال سفيه فهيه وفههه الله وخرجت لحاجة فأفهني عنها فلان أي أنسانيها . ويروى أو عمهت بالهاء والميم المكسورة والعمه التحير والتردد عمه الرجل فهو عمه وعامه والجمع عمه وأرض عمهاء لا أعلام بها . والنكر العجب والبدع المبتدع ومنه قوله تعالى قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ اَلرُّسُلِ أي لم آت بما لم أسبق إليه . ومثل قوله ع اللهم احملني على عفوك ولا تحملني على عدلك قول المروانية للهاشمية لما قتل مروان في خبر قد اقتصصناه قديما ليسعنا عدلكم قالت الهاشمية إذن لا نبقي منكم أحدا لأنكم حاربتم عليا ع وسممتم الحسن ع وقتلتم الحسين وزيدا وابنه وضربتم علي بن عبد الله وخنقتم إبراهيم الإمام في جراب النورة . قالت قد يسعنا عفوكم قالت أما هذا فنعم
[ 269 ](1/3268)
أدعية فصيحة من كلام أبي حيان التوحيدي
و من الدعوات الفصيحة المستحسنة فصول من كلام أبي حيان التوحيدي نقلتها . فمنها اللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك ومن الأمل إلا فيك ومن التسليم إلا لك ومن التفويض إلا إليك ومن التوكل إلا عليك ومن الطلب إلا منك ومن الرضا إلا عنك ومن الذل إلا في طاعتك ومن الصبر إلا على بلائك وأسألك أن تجعل الإخلاص قرين عقيدتي والشكر على نعمك شعاري ودثاري والنظر إلى ملكوتك دأبي وديدني والانقياد لك شأني وشغلي والخوف منك أمني وإيماني واللياذ بذكرك بهجتي وسروري . اللهم تتابع برك واتصل خيرك وعظم رفدك وتناهى إحسانك وصدق وعدك وبر قسمك وعمت فواضلك وتمت نوافلك ولم تبق حاجة إلا وقد قضيتها أو تكلفت بقضائها فاختم ذلك كله بالرضا والمغفرة إنك أهل ذلك والقادر عليه والملي به . ومنها اللهم إني أسألك خفايا لطفك وفواتح توفيقك ومألوف برك وعوائد إحسانك وجاه المقدسين من ملائكتك ومنزلة المصطفين من رسلك ومكاثرة الأولياء من خلقك وعاقبة المتقين من عبادك . وأسألك القناعة برزقك والرضا بحكمك والنزاهة عن محظورك والورع في شبهاتك والقيام بحجتك والاعتبار بما أبديت والتسليم لما أخفيت والإقبال على ما أمرت والوقوف عما زجرت حتى أتخذ الحق حجة عند ما خف وثقل والصدق سنة فيما عسر وسهل وحتى أرى أن شعار الزهد أعز شعار ومنظر الباطل أشوه منظر
[ 270 ](1/3269)
فأتبختر في ملكوتك بفضفاض الرداء بالدعاء إليك وأبلغ الغاية القصوى بين خلقك بالثناء عليك . ومنها اللهم إليك أرفع عجري وبجري وبك أستعين في عسري ويسري وإياك أدعو رغبا ورهبا فإنك العالم بتسويل النفس وفتنة الشيطان وزينة الهوى وصرف الدهر وتلون الصديق وبائقة الثقة وقنوط القلب وضعف المنة وسوء الجزع . فقني اللهم ذلك كله واجمع من أمري شمله وانظم من شأني شتيته واحرسني عند الغنى من البطر وعند الفقر من الضجر وعند الكفاية من الغفلة وعند الحاجة من الحسرة وعند الراحة من الفسولة وعند الطلب من الخيبة وعند المنازلة من الطغيان وعند البحث من الاعتراض عليك وعند التسليم من التهمة لك . وأسألك أن تجعل صدري خزانة توحيدك ولساني مفتاح تمجيدك وجوارحي خدم طاعتك فإنه لا عز إلا في الذل لك ولا غنى إلا في الفقر إليك ولا أمن إلا في الخوف منك ولا قرار إلى في القلق نحوك ولا روح إلا في الكرب لوجهك ولا ثقة إلا في تهمة خلقك ولا راحة إلا في الرضا بقسمك ولا عيش إلا في جوار المقربين عندك . ومنها اللهم ببرهانك الصادع وبنور وجهك الساطع صل على محمد نبيك نبي الرحمة وقائد الأمة وإمام الأئمة واحرس علي إيماني بك بالتسليم لك وخفف عني مئونة الصبر على امتحانك وواصل لي أسباب المزيد عند الشكر على نعمتك واجعل بقية عمري في غنى عن خلقك ورضا بالمقدم من رزقك .
[ 271 ](1/3270)
اللهم إنك إن آخذتنا بذنوبنا خسفت الأرض بنا وإن جازيتنا على ظلمنا قطعت دوابرنا فإنك قلت فَقُطِعَ دابِرُ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا وَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ اللهم إليك نشكو قسوة قلوبنا وغل صدورنا وفتنة أنفسنا وطموح أبصارنا ورفث ألسنتنا وسخف أحلامنا وسوء أعمالنا وفحش لجاجنا وقبح دعوانا ونتن أشرارنا وخبث أخيارنا وتلزق ظاهرنا وتمزق باطننا . اللهم فارحمنا وارأف بنا واعطف علينا وأحسن إلينا وتجاوز عنا واقبل الميسور منا فإننا أهل عقوبة وأنت أهل مغفرة وأنت بما وصفت به نفسك أحق منا بما وسمنا به أنفسنا فإن في ذلك ما اقترن بكرمك وأدى إلى عفوك ومن قبل ذلك وبعده فألب عيشنا بنعمتك وأرح أرواحنا من كد الأمل في خلقك وخذ بأزمتنا إلى بابك وأله قلوبنا عن هذه الدار الفانية وازرع فيها محبة الدار الباقية وقلبنا على بساط لطفك وحثنا بالإحسان إلى كنفك ورفهنا عن التماس ما عند غيرك واغضض عيوننا من ملاحظة ما حجب من غيرك وصل بيننا وبين الرضا عنك وارفع عنا مئونة العرض عليك وخفف علينا كل ما أوصلنا إليك وأذقنا حلاوة قربك واكشف عن سرائرنا سواتر حجبك ووكل بنا الحفظة وارزقنا اليقظة حتى لا نقترف سيئة ولا نفارق حسنة إنك قائم على كل نفس بما كسبت وأنت بما نخفي وما نعلن خبير بصير . ومنها اللهم أنت الحي القيوم والأول الدائم والإله القديم والبارئ المصور والخالق المقدس والجبار الرفيع والقهار المنيع والملك الصفوح والوهاب المنوح
[ 272 ](1/3271)
و الرحمن الرءوف والحنان العطوف والمنان اللطيف مالك الذوائب والنواصي وحافظ الأداني والأقاصي ومصرف المطيع والعاصي . اللهم أنت الظاهر الذي لا يجحدك جاحد إلا زايلته الطمأنينة وأسلمه اليأس وأوحشه القنوط ورحلت عنه العصمة وتردد بين رجاء قد نأى عنه التوفيق وأمل قد حفت به الخيبة وطمع يحوم على أرجاء التكذيب وسر قد أطاف به الشقاء وعلانية قد أناف عليها البلاء موهون المنة منسوخ العقدة مسلوب العدة تشنؤه العين وتقليه النفس عقله عقل طائر ولبه لب حائر وحكمه حكم جائر لا يروم قرارا إلا أزعج عنه ولا يستفتح بابا إلا أرتج دونه ولا يقتبس ضرما إلا أجج عليه عثرته موصولة بالعثرة وحسرته مقرونة إلى حسرة إن سمع زيف وإن قال حرف وإن قضى خرف وإن احتج زخرف ولو فاء إلى الحق لوجد ظله ظليلا وأصاب تحته مثوى ومقيلا وأنت الباطن الذي لا يرومك رائم ولا يحوم على حقيقتك حائم إلا غشيه من نور إلهيتك وعز سلطانك وعجيب قدرتك وباهر برهانك وغرائب غيوبك وخفي شأنك ومخوف سطوتك ومرجو إحسانك ما يرده خاسئا من مزحزحه عن الغاية خجلا مبهورا ويرده إلى عجزه ملتحفا بالندم مرتديا بالاستكانة راجعا إلى الصغار موقوفا مع الذلة فظاهرك يدعو إليك بلسان الاضطرار وباطنك يحير فيك لسعة قضاء الاعتبار وفعلك يدل عليك الأسماع والأبصار وحكمتك تعجب منك الألباب والأسرار لك السلطان والملكة وبيدك النجاة والهلكة فإليك المفر ومعك المقر ومنك صنوف الإحسان والبر أسألك بأصح سر وأكرم لفظ وأفصح لغة وأتم إخلاص وأشرف همة وأفضل نية وأطهر عقيدة وأثبت يقين أن تصد عني
[ 273 ](1/3272)
كل ما يصد عنك وتصلني بكل ما يصل بك وتحبب إلي كل ما يحبب إليك فإنك الأول والثاني والمشار إليه في جميع المعاني لا إله إلا أنت . ومنها اللهم إني أسألك جدا مقرونا بالتوفيق وعلما بريئا من الجهل وعملا عريا من الرياء وقولا موشحا بالصواب وحالا دائرة مع الحق وفطنة عقل مضروبة في سلامة صدور وراحة جسم راجعة إلى روح بال وسكون نفس موصولا بثبات يقين وصحة حجة بعيدة من مرض شبهة حتى تكون غايتي في هذه الدنيا موصولة بالأمثل فالأمثل وعاقبتي عندك محمودة بالأفضل فالأفضل من حياة طيبة أنت الواعد بها ونعيم دائم أنت المبلغ إليه . اللهم لا تخيب رجاء هو منوط بك ولا تصفر كفا هي ممدودة إليك ولا تعذب عينا فتحتها بنعمتك ولا تذل نفسا هي عزيزه بمعرفتك ولا تسلب عقلا هو مستضي ء بنور هدايتك ولا تخرس لسانا عودته الثناء عليك فكما كنت أولا بالتفضل فكن آخرا بالإحسان . الناصية بيدك والوجه عان لك والخير متوقع منك والمصير على كل حال إليك . ألبسني في هذه الحياة البائدة ثوب العصمة وحلني في تلك الدار الباقية بزينة الأمن وأفطم نفسي عن طلب العاجلة الزائدة وأجرني على العادة الفاضلة ولا تجعلني ممن سها عن باطن ما لك عليه بظاهر ما لك عنده فالشقي من لم تأخذ بيده ولم تؤمنه من غده والسعيد من آويته إلى كنف نعمتك ونقلته حميدا إلى منازل رحمتك غير مناقش في الحساب ولا سائق له إلى العذاب فإنك على ذلك قدير . ومنها اللهم اجعل غدونا إليك مقرونا بالتوكل عليك ورواحنا عنك موصولا
[ 274 ](1/3273)
بالنجاح منك وإجابتنا لك راجعة إلى التهالك فيك وذكرنا إياك منوطا بالسكون معك وثقتنا بك هادئة إلى التفويض إليك ولا تخلنا من يد تستوعب الشكر ومن شكر يمتري خلف المزيد ومن مزيد يسبق اقتراح المقترحين وصنع يفوق ذرع الطالبين حتى نلقاك مبشرين بالرضا محكمين في المنى غير مناقشين ولا مطرودين . اللهم أعذنا من جشع الفقير وريبة المنافق وتجليح المعاند وطيشة العجول وفترة الكسلان وحيلة المستبد وفتور العقل وحيرة المخرج وحسرة المحوج وفلتة الذهول وحرقة النكول ورقة الخائف وطمأنينة المغرور وغفلة الغرور . واكفنا مئونة أخ يرصد مسكونا إليه ويمكر موثوقا به ويخيس معتمدا عليه . وصل الكفاية بالسلوة عن هذه الدنيا واجعل التهافنا عليها حنينا إلى دار السلام ومحل القرار وغلب إيماننا بالغيب على يقيننا بالعيان واحرسنا من أنفسنا فإنها ينابير الشهوة ومفاتيح البلوى . وأرنا من قدرتك ما يحفظ علينا هيبتك وأوضح لنا من حكمتك ما يقلبنا في ملكوتك وأسبغ علينا من نعمتك ما يكون لنا عونا على طاعتك وأشع في صدورنا من نورك ما تتجلى به حقائق توحيدك واجعل ديدننا ذكرك وعادتنا الشوق إليك وعلمنا النصح لخلقك واجعل غايتنا الاتصال بك واحجبنا عن قول يبرئ من رضاك وعمل يعمى صاحبه عن هداك وألف بيننا وبين الحق وقربنا من معادن الصدق واعصمنا من بوائق الخلق وانقلنا من مضايق الرق واهدنا إلى فوائد العتق . اللهم إنك بدأت بالصنع وأنت أهله فعد بالتوفيق فإنك أهله .
[ 275 ](1/3274)
اللهم إنا نتضاءل لك عند مشاهدة عظمتك وندل عليك عند تواتر برك ونذل لك عند ظهور آياتك ونلح عليك عند علمنا بجودك . ونسألك من فضلك ما لا يرزؤك ولا ينكؤك ونتوسل إليك بتوحيد لا ينتمي إليه خلق ولا يفارقه حق . ومنها اللهم عليك أتوكل وبك أستعين وفيك أوالي وبك أنتسب ومنك أفرق ومعك أستأنس ولك أمجد وإياك أسأل لسانا سمحا بالصدق وصدرا قد ملئ من الحق وأملا منقطعا عن الخلق وحالا مكنونها يبوئ الجنة وظاهرها يحقق المنة وعاقبة تنسي ما سلف وتتصل بما يتمنى ويتوكف . وأسألك اللهم كبدا رجوفا خئوفا ودمعا نطوفا شوقا إليك ونفسا عزوفا إذعانا لك وسرا ناقعا ببرد الإيمان بك ونهارا مشتملا على ما كسب من مرضاتك وليلا مالئا بما أزلف لديك . أشكو إليك اللهم تلهفي على ما يفوتني من الدنيا وإنني في طاعة الهوى جاهلا بحقك ساهيا عن واجبك ناسيا ما تكرره من وعظك وإرشادك وبيانك وتنبيهك حتى كان حلاوة وعدك لم تلج أذني ولم تباشر فؤادي وحتى كأني مرارة عتابك ولائمتك لم تهتك حجابي ولم تعرض علي أوصابي . اللهم إليك المفر من دار منهومها لا يشبع وحائمها لا ينقع وطالبها لا يربع وواجدها لا يقنع والعيش عنك رقيق وللأمل فيك تحقيق . اللهم كما ابتليت بحكمتك الخفية التي أشكلت على العقول وحارت معها البصائر فعاف برحمتك اللطيفة التي تطاولت إليها الأعناق وتشوفت نحوها السرائر وخذ معنا بالفضل الذي إليك هو منسوب وعنك هو مطلوب وأفطم نفوسنا من رضاع الدنيا
[ 276 ](1/3275)
و الطف بما أنت له أهل إنك على كل شي ء قدير . اللهم قدنا بأزمة التوحيد إلى محاضر طاعتك واخلطنا في زمرة المخلصين لذكرك واجعل إجابتك من قبيل ما يتصل بكرم عفوك ولا تجعل خيبتنا من قبل جهلنا بقدرك وإضرابنا عن أمرك فلا سائل أحوج منا ولا مسئول أجود منك . اللهم احجر بيننا وبين كل ما دل على غيرك ببيانك ودعا إلى سواك ببرهانك وانقلنا عن مواطن العجز مرتقيا بنا إلى شرفات العز فقد استحوذ الشيطان وخبثت النفس وساءت العادة وكثر الصادون عنك وقل الداعون إليك وذهب المراعون لأمرك وفقد الواقفون عند حدودك وخلت ديار الحق من سكانها وبيع دينك بيع الخلق واستهزئ بناشر مجدك وأقصي المتوسل بك . اللهم فأعد نضارة دينك وأفض بين خلقك بركات إحسانك وامدد عليهم ظل توفيقك واقمع ذوي الاعتراض عليك واخسف بالمقتحمين في دقائق غيبك واهتك أستار الهاتكين لستر دينك والقارعين أبواب سرك القائسين بينك وبين خلقك اللهم إني أسألك أن تخصني بإلهام اقتبس الحق منه وتوفيق يصحبني وأصحبه ولطف لا يغيب عني ولا أغيب عنه حتى أقول إذا قلت لوجهك وأسكت إذا سكت بإذنك وأسأل إذا سألت بأمرك وأبين إذا أبنت بحجتك وأبعد إذا بعدت بإجلالك وأقرب إذا قربت برحمتك وأعبد إذا عبدت مخلصا لك وأموت إذا مت منتقلا إليك اللهم فلا تكلني إلى غيرك ولا تؤيسني من خيرك . ومنها اللهم إنا بك نعز كما إنا بغيرك نذل وإياك نرجو كما إنا من غيرك نيأس وإليك نفوض كما إنا من غيرك نعرض أذنت لنا في دعائك وأدنيتنا إلى فنائك وهيأتنا لعطائك وخصصتنا بحبائك ووسمتنا بولائك وعممتنا بآلائك وغمستنا في نعمائك وناغيتنا بألسن ملكوتك عن دفائن ما في عالمك ولاطفتنا بظاهر قولك
[ 277 ](1/3276)
و توليتنا بباطن فعلك فسمت نحوك أبصارنا وشامت بروق جودك بصائرنا فلما استقر ما بيننا وبينك أرسلت علينا سماء فضلك مدرارا وفتحت لنا منا أسماعا وأبصارا فرأينا ما طاح معه تحصيلنا وسمعنا ما فارقنا عنده تفضيلنا فلما سرنا إلى خلقك من ذلك ذروا اتخذونا من أجله لعبا وهزوا فبقدرتك على بلوانا بهم أرنا بك الغنى عنهم اللهم قيض لنا فرجا من عندك وأنح لنا مخلصا إليك فإنا قد تعبنا بخلقك وعجزنا عن تقويمهم لك ونحن إلى مقاربتهم في مخالفتك أقرب منا إلى منابذتهم في موافقتك لأنه لا طاقة لنا بدهمائهم ولا صبر لنا على بلوائهم ولا حيلة لنا في شفائهم فنسألك بالضراعة التامة وبالإخلاص المرفود إلا أخذت بأيدينا وأرسلت رحمتك علينا فما أقدرك على الإجابة وما أجودك بكل مصون يا ذا الجلال والإكرام . ومنها اللهم إنا قربنا بك فلا تنئنا عنك وظهرنا لك فلا تبطنا دونك ووجدناك بما ألقيت إلينا من غيب ملكوتك وعزفنا عن كل ما لوانا عن بابك ووثقنا بكل ما وعدتنا في كتابك وتوكلنا بالسر والعلن على لطيف صنعك . اللهم إليك نظرت العيون فعادت خاسئة عبرى وفيك تقسمت الظنون فانقلبت يائسة حسرى وفي قدرتك حارت الأبصار وفي حكمتك طاحت البصائر وفي آلائك غرقت الأرواح وعلى ما كان منك تقطعت الأنفاس ومن أجل إعراضك التهبت الصدور ولذكر ما مضى منك هملت الدموع اللهم تولنا فيما وليتنا حتى لا نتولى عنك وأمنا مما خوفتنا حتى نقر معك وأوسعنا رحمتك حتى نطمئن إلى ما وعدتنا في كتابك وفرق بيننا وبين الغل حتى لا نعامل به خلقك وأغننا بك حتى لا نفتقر إلى عبادك فإنك إذا يسرت أمرا تيسر ومهما بلوتنا فلا تبلنا بهجرك ولا تجرعنا مرارة سخطك لا قد اعترفنا بربوبيتك
[ 278 ](1/3277)
عبودية لك فعرفنا حقيقتها بالعفو عنا والإقبال علينا والرفق بنا يا رحيم . ومنها اللهم إن الرغبات بك منوطة والوسائل إليك متداركة والحاجات ببابك مرفوعة والثقة بك مستحصفة أي مستحكمة والأخبار بجودك شائعة والآمال نحوك نازعة والأماني وراءك منقطعة والثناء عليك متصل ووصفك بالكرم معروف والخلائق إلى لطفك محتاجة والرجاء فيك قوي والظنون بك جميلة والأعناق لعزك خاضعة والنفوس إلى مواصلتك مشتاقة والأرواح لعظمتك مبهوته لأنك لإله العظيم والرب الرحيم والجواد الكريم والسميع العليم تملك العالم كله وما بعده وما قبله ولك فيه تصاريف القدرة وخفيات الحكمة ونوافذ الإرادة ولك فيه ما لا ندريه مما تخفيه ولا تبديه جللت عن الإجلال وعظمت عن التعظيم وقد أزف ورودنا عليك ووقوفنا بين يديك وظننا ما قد علمت ورجاؤنا ما قد عرفت فكن عند ظننا بك وحقق رجاءنا فيك فما خالفناك جرأة عليك ولا عصيناك تقحما في سخطك ولا اتبعنا هوانا استهزاء بأمرك ونهيك ولكن غلبت علينا جواذب الطينة التي عجنتنا بها وبذور الفطرة التي أنبتنا منها فاسترخت قيودنا عن ضبط أنفسنا وعزبت ألبابنا عن تحصيل حظوظنا ولسنا ندعي حجة ولكن نسألك رأفة فبسترك السابغ الذيال وفضلك الذي يستوعب كل مقال إلا تممت ما سلف منك إلينا وعطفت بجودك الفياض علينا وجذبت بأضباعنا وأقررت عيوننا وحققت آمالنا إنك أهل ذلك وأنت على كل شي ء قدير(1/3278)
? الجزء الحادي عشر
? تتمة باب الخطب والأوامر
? 196 ومن كلام له ع
? 197 ومن كلام له ع كان كثيرا ما ينادي به أصحابه
? 198 ومن كلام له ع كلم به طلحة والزبير بعد بيعته بالخلافة
? من أخبار طلحة والزبير
? 199 ومن كلام له ع وقد سمع قوما من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين
? 200 ومن كلام له ع في بعض أيام صفين وقد رأى الحسن ابنه ع يتسرع إلى الحرب
? 201 ومن كلام له ع قاله لما اضطرب عليه أصحابه في أمر الحكومة
? 202 ومن كلام له ع بالبصرة وقد دخل على العلاء بن زياد الحارثي
? ذكر بعض مقامات العارفين والزهاد
? 203 ومن كلام له ع وقد سأله سائل عن أحاديث البدع وعما في أيدي الناس من اختلاف الخبر
? ذكر بعض أحوال المنافقين بعد وفاة محمد ع
? ذكر بعض ما مني به آل البيت من الأذى والاضطهاد
? فصل فيما وضع الشيعة والبكرية من الأحاديث
? 204 ومن خطبة له ع
? 205 ومن خطبة له ع
? 206 ومن خطبة له ع
? 207 ومن خطبة له ع
? ذكر بعض المطاعن في النسب وكلام للجاحظ في ذلك
? ذكر بعض أحوال العارفين والأولياء
? 208 ومن دعاء كان يدعو به ع كثيرا
? 209 ومن خطبة له ع خطبها بصفين
? فصل فيما ورد من الآثار فيما يصلح الملك
? الآثار الواردة في العدل والإنصاف
? 210
? 211 ومن كلام له ع
? فصل في أن جعفرا وحمزة لو كان حيين لبايعا عليا
? 212 ومن كلام له ع في ذكر السائرين إلى البصرة لحربه ع
? 213 ومن كلام له ع لما مر بطلحة بن عبيد الله وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد وهما قتيلان يوم الجمل
? عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد
? بنو جمح
? 214 ومن كلام له ع
? فصل في مجاهدة النفوس وما ورد في ذلك من الآثار
? فصل في الرياضة النفسية وأقسامها
? فصل في أن الجوع يؤثر في صفاء النفس
? كلام للفلاسفة والحكماء في المكاشفات الناشئة عن الرياضة
? 215 ومن كلام له ع يحث فيه أصحابه على الجهاد(1/3279)
? 216 ومن كلام له ع قاله بعد تلاوته
? بعض الأشعار والحكايات في وصف القبور والموتى
? إيراد أشعار وحكايات في وصف الموت وأحوال الموتى
? 217 ومن كلام له ع قاله عند تلاوته
? بيان أحوال العارفين
? 218 ومن كلام له ع قاله عند تلاوته
? 219 ومن كلام له ع
? نبذ من أخبار عقيل بن أبي طالب
? 220 ومن دعاء له ع
? 221 ومن خطبة له ع
? ذكر بعض الآثار والأشعار الواردة في ذم الدنيا
? 222 ومن دعاء له ع
? أدعية فصيحة من كلام أبي حيان التوحيدي(1/3280)
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد المعتزلي
الجزء الثاني عشر(1/3281)
تتمة باب الخطب والأوامر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل(1/3282)
223 ومن كلام له ع
لِلَّهِ بَلاَءُ بِلاَدُ فُلاَنٍ فَلَقَدْ قَوَّمَ اَلْأَوَدَ وَ دَاوَى اَلْعَمَدَ وَ أَقَامَ اَلسُّنَّةَ وَ خَلَّفَ اَلْفِتْنَةَ ذَهَبَ نَقِيُّ اَلثَّوْبِ قَلِيلَ اَلْعَيْبِ أَصَابَ خَيْرَهَا وَ سَبَقَ شَرَّهَا . أَدَّى إِلَى اَللَّهِ طَاعَتَهُ وَ اِتَّقَاهُ بِحَقِّهِ رَحَلَ وَ تَرَكَهُمْ فِي طُرُقِ مُتَشَعِّبَةٍ لاَ يَهْتَدِي بِهَا اَلضَّالُّ وَ لاَ يَسْتَيْقِنُ اَلْمُهْتَدِي العرب تقول لله بلاد فلان ولله در فلان ولله نادي فلان ولله نائح فلان والمراد بالأول لله البلاد التي أنشأته وأنبتته وبالثاني لله الثدي الذي أرضعه وبالثالث لله المجلس الذي ربي فيه وبالرابع لله النائحة التي تنوح عليه وتندبه ما ذا تعهد من محاسنه . ويروى لله بلاء فلان أي لله ما صنع وفلان المكنى عنه عمر بن الخطاب وقد وجدت النسخة التي بخط الرضي أبي الحسن جامع نهج البلاغة وتحت فلان عمر
[ 4 ](1/3283)
حدثني بذلك فخار بن معد الموسوي الأودي الشاعر وسألت عنه النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد العلوي فقال لي هو عمر فقلت له أ يثني عليه أمير المؤمنين ع هذا الثناء فقال نعم أما الإمامية فيقولون إن ذلك من التقية واستصلاح أصحابه وأما الصالحيون من الزيدية فيقولون إنه أثنى عليه حق الثناء ولم يضع المدح إلا في موضعه ونصابه وأما الجارودية من الزيدية فيقولون إنه كلام قاله في أمر عثمان أخرجه مخرج الذم له والتنقص لأعماله كما يمدح الآن الأمير الميت في أيام الأمير الحي بعده فيكون ذلك تعريضا به . فقلت له إلا أنه لا يجوز التعريض والاستزادة للحاضر بمدح الماضي إلا إذا كان ذلك المدح صدقا لا يخالطه ريب ولا شبهة فإذا اعترف أمير المؤمنين بأنه أقام السنة وذهب نقي الثوب قليل العيب وأنه أدى إلى الله طاعته واتقاه بحقه فهذا غاية ما يكون من المدح وفيه إبطال قول من طعن على عثمان بن عفان . فلم يجبني بشي ء وقال هو ما قلت لك . فأما الراوندي فإنه قال في الشرح إنه ع مدح بعض أصحابه بحسن السيرة وإن الفتنة هي التي وقعت بعد رسول الله ص من الاختيار والأثرة . وهذا بعيد لأن لفظ أمير المؤمنين يشعر إشعارا ظاهرا بأنه يمدح واليا ذا رعية وسيرة أ لا تراه كيف يقول فلقد قوم الأود وداوى العمد وأقام السنة وخلف الفتنة وكيف يقول أصاب خيرها وسبق شرها وكيف يقول أدى إلى الله طاعته وكيف يقول رحل وتركهم في طرق متشعبة .
[ 5 ](1/3284)
و هذا الضمير وهو الهاء والميم في قوله ع وتركهم هل يصح أن يعود إلا إلى الرعايا وهل يسوغ أن يقال هذا الكلام لسوقة من عرض الناس وكل من مات قبل وفاة النبي ص كان سوقة لا سلطان له فلا يصح أن يحمل هذا الكلام على إرادة أحد من الذين قتلوا أو ماتوا قبل وفاة النبي ص كعثمان بن مظعون أو مصعب بن عمير أو حمزة بن عبد المطلب أو عبيدة بن الحارث وغيرهم من الناس والتأويلات الباردة الغثة لا تعجبني على أن أبا جعفر محمد بن جرير الطبري قد صرح أو كاد يصرح بأن المعني بهذا الكلام عمر قال الطبري لما مات عمر بكته النساء فقالت إحدى نوادبه وا حزناه على عمر حزنا انتشر حتى ملأ البشر وقالت ابنة أبي حثمة وا عمراه أقام الأود وأبرأ العمد وأمات الفتن وأحيا السنن خرج نقي الثوب بريئا من العيب .
قال الطبري فروى صالح بن كيسان عن المغيرة بن شعبة قال لما دفن عمر أتيت عليا ع وأنا أحب أن أسمع منه في عمر شيئا فخرج ينفض رأسه ولحيته وقد اغتسل وهو ملتحف بثوب لا يشك أن الأمر يصير إليه فقال رحم الله ابن الخطاب لقد صدقت ابنة أبي حثمة ذهب بخيرها ونجا من شرها أما والله ما قالت ولكن قولت . وهذا كما ترى يقوي الظن أن المراد والمعني بالكلام إنما هو عمر بن الخطاب .
[ 6 ](1/3285)
قوله فلقد قوم الأود أي العوج أود الشي ء بالكسر يأود أودا أي أعوج وتأود العود يتأود . والعمد انفضاخ سنام البعير ومنه يقال للعاشق عميد القلب ومعموده . قوله أصاب خيرها أي خير الولاية وجاء بضميرها ولم يجر ذكرها لعادة العرب في أمثال ذلك كقوله تعالى حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ . وسبق شرها أي مات أو قتل قبل الأحداث والاختلاط الذي جرى بين المسلمين . قوله واتقاه بحقه أي بأداء حقه والقيام به . فإن قلت وأي معنى في قوله واتقاه بأداء حقه وهل يتقى الإنسان الله بأداء الحق إنما قد تكون التقوى علة في أداء الحق فأما أن يتقي بأدائه فهو غير معقول . قلت أراد ع أنه اتقى الله ودلنا على أنه اتقى الله بأدائه حقه فأداء الحق علة في علمنا بأنه قد اتقى الله سبحانه . ثم ذكر أنه رحل وترك الناس في طرق متشعبة متفرقة فالضال لا يهتدي فيها والمهتدي لا يعلم أنه على المنهج القويم وهذه الصفات إذا تأملها المنصف وأماط عن نفسه الهوى علم أن أمير المؤمنين ع لم يعن بها إلا عمر لو لم يكن قد روي لنا توقيفا ونقلا أن المعني بها عمر فكيف وقد رويناه عمن لا يتهم في هذا الباب(1/3286)
نكت من كلام عمر وسيرته وأخلاقه
و نحن نذكر في هذا الموضع نكتا من كلام عمر وسيرته وأخلاقه .
[ 7 ]
أتي عمر بمال فقال له عبد الرحمن بن عوف يا أمير المؤمنين لو حبست من هذا المال في بيت المال لنائبة تكون أو أمر يحدث فقال كلمة ما عرض بها إلا شيطان كفاني حجتها ووقاني فتنتها أعصي الله العام مخافة قابل أعد لهم تقوى الله قال الله سبحانه وَ مَنْ يَتَّقِ اَللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ . استكتب أبو موسى الأشعري نصرانيا فكتب إليه عمر اعزله واستعمل بدله حنيفيا فكتب له أبو موسى إن من غنائه وخيره وخبرته كيت وكيت فكتب له عمر ليس لنا أن نأتمنهم وقد خونهم الله ولا أن نرفعهم وقد وضعهم الله ولا أن نستنصحهم في الدين وقد وترهم الإسلام ولا أن نعزهم وقد أمرنا بأن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون . فكتب أبو موسى أن البلد لا يصلح إلا به فكتب إليه عمر مات النصراني والسلام . وكتب إلى معاوية إياك والاحتجاب دون الناس وائذن للضعيف وأدنه حتى ينبسط لسانه ويجترئ قلبه وتعهد الغريب فإنه إذا طال حبسه ودام إذنه ضعف قلبه وترك حقه عزل عمر زيادا عن كتابة أبي موسى الأشعري في بعض قدماته عليه فقال له عن عجز أم عن خيانة فقال لا عن واحدة منهما ولكني أكره أن أحمل على العامة فضل عقلك .
[ 8 ](1/3287)
و قال إني والله لا أدع حقا لله لشكاية تظهر ولا لضب يحتمل ولا محاباة لبشر وإنك والله ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه . وكتب إلى سعد بن أبي وقاص يا سعد سعد بني أهيب إن الله إذا أحب عبدا حببه إلى خلقه فاعتبر منزلتك من الله بمنزلتك من الناس واعلم أن ما لك عند الله مثل ما لله عندك . وسأل رجلا عن شي ء فقال الله أعلم فقال قد شقينا إن كنا لا نعلم أن الله أعلم إذا سئل أحدكم عما لا يعلم فليقل لا أدري . وقال عبد الملك على المنبر أنصفونا يا معشر الرعية تريدون منا سيرة أبي بكر وعمر ولم تسيروا في أنفسكم ولا فينا سيرة أبي بكر وعمر نسأل الله أن يعين كلا على كل . ودخل عمر على ابنه عبد الله فوجد عنده لحما عبيطا معلقا فقال ما هذا اللحم قال اشتهيت فاشتريت فقال أ وكلما اشتهيت شيئا أكلته كفى بالمرء سرفا أن أكل كل ما اشتهاه . مر عمر على مزبلة فتأذى بريحها أصحابه فقال هذه دنياكم التي تحرصون عليها .
[ 9 ](1/3288)
و من كلامه للأحنف يا أحنف من كثر ضحكه قلت هيبته ومن مزح استخف به ومن أكثر من شي ء عرف به ومن كثر كلامه كثر سقطه ومن كثر سقطه قل حياؤه ومن قل حياؤه قل ورعه ومن قل ورعه مات قلبه . وقال لابنه عبد الله يا بني اتق الله يقك وأقرض الله يجزك واشكره يزدك واعلم أنه لا مال لمن لا رفق له ولا جديد لمن لا خلق له ولا عمل لمن لا نية له . وخطب يوم استخلف فقال أيها الناس إنه ليس فيكم أحد أقوى عندي من الضعيف حتى آخذ الحق له ولا أضعف من القوي حتى آخذ الحق منه . وقال لابن عباس يا عبد الله أنتم أهل رسول الله وآله وبنو عمه فما تقول منع قومكم منكم قال لا أدري علتها والله ما أضمرنا لهم إلا خيرا قال اللهم غفرا إن قومكم كرهوا أن يجتمع لكم النبوة والخلافة فتذهبوا في السماء شمخا وبذخا ولعلكم تقولون إن أبا بكر أول من أخركم أما إنه لم يقصد ذلك ولكن حضر أمر لم يكن بحضرته أحزم مما فعل ولو لا رأي أبي بكر في لجعل لكم من الأمر نصيبا ولو فعل ما هنأكم مع قومكم إنهم ينظرون إليكم نظر الثور إلى جازره . وكان يقول ليت شعري متى أشفى من غيظي أ حين أقدر فيقال لي لو عفوت أم حين أعجل فيقال لو صبرت . ورأى أعرابيا يصلي صلاة خفيفة فلما قضاها قال اللهم زوجني الحور العين فقال له لقد أسأت النقد وأعظمت الخطبة . وقيل له كان الناس في الجاهلية يدعون على من ظلمهم فيستجاب لهم ولسنا نرى
[ 10 ](1/3289)
ذلك الآن قال لأن ذلك كان الحاجز بينهم وبين الظلم وأما الآن فالساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر . ومن كلامه من عرض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن ومن كتم سره كانت الخيرة بيده . ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك ولا تظن بكلمة خرجت من أخيك المسلم شرا وأنت تجد لها في الخير محملا أو عليك بإخوان الصدق وكيس أكياسهم فإنهم زينة في الرخاء وعدة عند البلاء ولا تتهاونن بالخلق فيهينك الله ولا تعترض بما لا يعنيك واعتزل عدوك وتحفظ من خليلك إلا الأمين فإن الأمين من الناس لا يعادله شي ء ولا تصحب الفاجر فيعلمك من فجوره ولا تفش إليه سرك واستشر في أمرك أهل التقوى وكفى بك عيبا أن يبدو لك من أخيك ما يخفى عليك من نفسك وأن تؤذي جليسك بما تأتي مثله . وقال ثلاث يصفين لك الود في قلب أخيك أن تبدأه بالسلام إذا لقيته وأن تدعوه بأحب أسمائه إليه وأن توسع له في المجلس . وقال أحب أن يكون الرجل في أهله كالصبي وإذا أصيخ إليه كان رجلا . بينا عمر ذات يوم إذا رأى شابا يخطر بيديه فيقول أنا ابن بطحاء مكة كديها وكداها فناداه عمر فجاء فقال إن يكن لك دين فلك كرم وإن يكن لك عقل فلك مروءة وإن يكن لك مال فلك شرف وإلا فأنت والحمار سواء .
[ 11 ](1/3290)
و قال يا معشر المهاجرين لا تكثروا الدخول على أهل الدنيا وأرباب الإمرة والولاية فإنه مسخطة للرب وإياكم والبطنة فإنها مكسلة عن الصلاة ومفسدة للجسد مورثة للسقم وإن الله يبغض الحبر السمين ولكن عليكم بالقصد في قوتكم فإنه أدنى من الإصلاح وأبعد من السرف وأقوى على عبادة الله ولن يهلك عبد حتى يؤثر شهوته على دينه . وقال تعلموا أن الطمع فقر وأن اليأس غنى ومن يئس من شي ء استغنى عنه والتؤدة في كل شي ء خير إلا ما كان من أمر الآخرة . وقال من اتقى الله لم يشف الله غيظه ومن خاف الله لم يفعل ما يريد ولو لا يوم القيامة لكان غير ما ترون . وقال إني لأعلم أجود الناس وأحلم الناس أجودهم من أعطى من حرمه وأحلمهم من عفا عمن ظلمه . وكتب إلى ساكني الأمصار أما بعد فعلموا أولادكم العوم والفروسية رووهم ما سار من المثل وحسن من الشعر . وقال لا تزال العرب أعزة ما نزعت في القوس ونزت في ظهور الخيل وقال وهو يذكر النساء أكثروا لهن من قول لا فإن نعم مفسدة تغريهن على المسألة . وقال ما بال أحدكم يثني الوسادة عند امرأة معزبة إن المرأة لحم على وضم إلا ما ذب عنه .
[ 12 ](1/3291)
و كتب إلى أبي موسى أما بعد فإن للناس نفرة عن سلطانهم فأعوذ بالله أن يدركني وإياك عمياء مجهولة وضغائن محمولة وأهواء متبعة ودنيا مؤثرة أقم الحدود واجلس للمظالم ولو ساعة من نهار وإذا عرض لك أمران أحدهما لله والآخر للدنيا فابدأ بعمل الآخرة فإن الدنيا تفنى والآخرة تبقى وكن من مال الله عز وجل على حذر واجف الفساق واجعلهم يدا ويدا ورجلا ورجلا وإذا كانت بين القبائل نائرة يا لفلان يا لفلان فإنما تلك نجوى الشيطان فاضربهم بالسيف حتى يفيئوا إلى أمر الله وتكون دعواهم إلى الله وإلى الإسلام وقد بلغني أن ضبة تدعو يا لضبة وإني والله أعلم أن ضبة ما ساق الله بها خيرا قط ولا منع بها من سوء قط فإذا جاءك كتابي هذا فأنهكهم ضربا وعقوبة حتى يفرقوا إن لم يفقهوا والصق بغيلان بن خرشة من بينهم وعد مرضى المسلمين واشهد جنائزهم وافتح لهم بابك وباشر أمورهم بنفسك فإنما أنت رجل منهم غير إن الله قد جعلك أثقلهم حملا وقد بلغني أنه فشا لك ولأهل بيتك هيئة في لباسك ومطعمك ومركبك ليس للمسلمين مثلها فإياك يا عبد الله بن قيس أن تكون بمنزلة البهيمة التي مرت بواد خصيب فلم يكن لها همة إلا السمن وإنما حظها من السمن لغيرها واعلم أن للعامل مردا إلى الله فإذا زاغ العامل زاغت رعيته وإن أشقى الناس من شقيت به نفسه ورعيته والسلام وخطب عمر فقال أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله الذي يبقى ويفنى ما سواه والذي بطاعته ينفع أولياءه وبمعصيته يضر أعداءه إنه ليس لهالك هلك عذر في تعمد ضلالة حسبها هدى ولا ترك حق حسبه ضلالة قد ثبتت الحجة ووضحت الطرق وانقطع العذر ولا حجة لأحد على الله عز وجل ألا إن أحق ما تعاهد به الراعي
[ 13 ](1/3292)
رعيته أن يتعاهدهم بالذي لله تعالى عليهم في وظائف دينهم الذي هداهم به وإنما علينا أن نأمركم بالذي أمركم الله به من طاعته وننهاكم عما نهاكم الله عنه من معصيته وأن نقيم أمر الله في قريب الناس وبعيدهم ولا نبالى على من قال الحق ليتعلم الجاهل ويتعظ المفرط ويقتدي المقتدي وقد علمت أن أقواما يتمنون في أنفسهم ويقولون نحن نصلي مع المصلين ونجاهد مع المجاهدين إلا أن الإيمان ليس بالتمني ولكنه بالحقائق إلا من قام على الفرائض وسدد نيته واتقى الله فذلكم الناجي ومن زاد اجتهادا وجد عند الله مزيدا . وإنما المجاهدون الذين جاهدوا أهواءهم والجهاد اجتناب المحارم ألا إن الأمر جد وقد يقاتل أقوام لا يريدون إلا الذكر وقد يقاتل أقوام لا يريدون إلا الأجر وإن الله يرضى منكم باليسير وأثابكم على اليسير الكثير . الوظائف الوظائف أدوها تؤدكم إلى الجنة والسنة السنة الزموها تنجكم من البدعة . تعلموا ولا تعجزوا فإن من عجز تكلف وإن شرار الأمور محدثاتها وإن الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في الضلالة فافهموا ما توعظون به فإن الحريب من حرب دينه وإن السعيد من وعظ بغيره . وقال وعليكم بالسمع والطاعة فإن الله قضى لهما بالعزة وإياكم والتفرق والمعصية فإن الله قضى لهما بالذلة . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم . بعث سعد بن أبي وقاص أيام القادسية إلى عمر قباء كسرى وسيفه ومنطقته
[ 14 ](1/3293)
و سراويله وتاجه وقميصه وخفيه فنظر عمر في وجوه القوم عنده فكان أجسمهم وأمدهم قامة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي فقال يا سراق قم فالبس قال سراقة طمعت فيه فقمت فلبست فقال أدبر فأدبرت وقال أقبل فأقبلت فقال بخ بخ أعرابي من بني مدلج عليه قباء كسرى وسراويله وسيفه ومنطقته وتاجه وخفاه رب يوم يا سراق لو كان فيه دون هذا من متاع كسرى وآل كسرى لكان شرفا لك ولقومك انزع فنزعت فقال اللهم إنك منعت هذا نبيك ورسولك وكان أحب إليك مني وأكرم ومنعته أبا بكر وكان أحب إليك مني وأكرم ثم أعطيتنيه فأعوذ بك أن تكون أعطيتنيه لتمكر بي ثم بكى حتى رحمه من كان عنده . وقال لعبد الرحمن بن عوف أقسمت عليك لما بعته ثم قسمته قبل أن تمسي فما أدركه المساء إلا وقد بيع وقسم ثمنه على المسلمين . جي ء بتاج كسرى إلى عمر فاستعظم الناس قيمته للجواهر التي كانت عليه فقال إن قوما أدوا هذا لأمناء فقال علي ع إنك عففت فعفوا ولو رتعت لرتعوا . كان عمر يعس ليلا فنزلت رفقة من التجار بالمصلى فقال لعبد الرحمن بن عوف هل لك أن تحرسهم الليلة من السرق فباتا يحرسانهم ويصليان ما كتب الله لهما فسمع عمر بكاء صبي فأصغى نحوه فطال بكاؤه فتوجه إليه فقال لأمه اتقي الله وأحسني إلى صبيك ثم عاد إلى مكانه فسمع بكاءه فعاد إلى أمه فقال لها مثل ذلك ثم عاد إلى مكانه فسمع بكاءه فأتى أمه فقال ويحك إني لأراك أم سوء لا أرى ابنك يقر منذ الليلة فقالت يا عبد الله لقد آذيتني منذ الليلة إني أريغه
[ 15 ](1/3294)
على الفطام فيأبى قال ولم قالت لأن عمر لا يفرض لرضيع وإنما يفرض للفطيم قال وكم له قالت اثنا عشر شهرا قال ويحك لا تعجليه فصلى الفجر وما يستبين الناس قراءته من غلبة البكاء عليه فلما سلم قال يا بؤسا لعمركم كم قتل من أولاد المسلمين فطلب مناديا فنادى ألا لا تعجلوا صبيانكم عن الرضاع ولا تفطموا قبل أوان الفطام فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام . وكتب بذلك إلى سائر الآفاق . مر عمر بشاب من الأنصار وهو ظمآن فاستسقاه فخاض له عسلا فرده ولم يشرب وقال إني سمعت الله سبحانه يقول أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ اَلدُّنْيا وَ اِسْتَمْتَعْتُمْ بِها فقال الفتى إنها والله ليست لك فاقرأ يا أمير المؤمنين ما قبلها وَ يَوْمَ يُعْرَضُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى اَلنَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ اَلدُّنْيا أ فنحن منهم فشرب وقال كل الناس أفقه من عمر . وأوصى عمر حين طعنه أبو لؤلؤة من يستخلفه المسلمون بعده من أهل الشورى فقال أوصيك بتقوى الله لا شريك له وأوصيك بالمهاجرين الأولين خيرا أن تعرف لهم سابقتهم وأوصيك بالأنصار خيرا أقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم وأوصيك بأهل الأمصار خيرا فإنهم ردء العدو وجباة الفي ء لا تحمل فيئهم إلى غيرهم إلا عن فضل منهم وأوصيك بأهل البادية خيرا فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام أن يؤخذ من حواشي أموالهم فيرد على فقرائهم وأوصيك بأهل الذمة خيرا أن تقاتل
[ 16 ](1/3295)
من ورائهم ولا تكلفهم فوق طاقتهم إذا أدوا ما عليهم للمسلمين طوعا أو عن يد وهم صاغرون . وأوصيك بتقوى الله وشدة الحذر منه ومخافة مقته أن يطلع منك على ريبة وأوصيك أن تخشى الله في الناس ولا تخشى الناس في الله وأوصيك بالعدل في الرعية والتفرغ لحوائجهم وثغورهم وألا تعين غنيهم على فقيرهم فإن في ذلك بإذن الله سلامة لقلبك وحطا لذنوبك وخيرا في عاقبة أمرك وأوصيك أن تشتد في أمر الله وفي حدوده والزجر عن معاصيه على قريب الناس وبعيدهم ولا تأخذك الرأفة والرحمة في أحد منهم حتى تنتهك منه مثل جرمه واجعل الناس عندك سواء لا تبال على من وجب الحق لا تأخذك في الله لومة لائم وإياك والأثرة والمحاباة فيما ولاك الله مما أفاء الله على المسلمين فتجور وتظلم وتحرم نفسك من ذلك ما قد وسعه الله عليك فإنك في منزلة من منازل الدنيا وأنت إلى الآخرة جد قريب فإن صدقت في دنياك عفة وعدلا فيما بسط لك اقترفت رضوانا وإيمانا وإن غلبك الهوى اقترفت فيه سخط الله ومقته . وأوصيك ألا ترخص لنفسك ولا لغيرك في ظلم أهل الذمة . واعلم أني قد أوصيتك وخصصتك ونصحت لك أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة ودللتك على ما كنت دالا عليه نفسي فإن عملت بالذي وعظتك وانتهيت إلى الذي أمرتك أخذت منه نصيبا وافرا وحظا وافيا وإن لم تقبل ذلك ولم تعمل ولم تترك معاظم الأمور عند الذي يرضي الله به سبحانه عنك يكن ذاك بك انتقاصا ويكن رأيك فيه مدخولا فالأهواء مشتركة ورأس الخطيئة إبليس الداعي إلى كل هلكة قد أضل القرون السالفة قبلك وأوردهم النار ولبئس الثمن أن يكون حظ امرئ من دنياه موالاة عدو الله الداعي إلى معاصيه اركب الحق وخض إليه الغمرات وكن واعظا لنفسك .
[ 17 ](1/3296)
و أنشدك لما ترحمت إلى جماعة المسلمين وأجللت كبيرهم ورحمت صغيرهم وقربت عالمهم لا تضربهم فيذلوا ولا تستأثر عليهم بالفي ء فتغضبهم ولا تحرمهم عطاياهم عند محلها فتفقرهم ولا تجمرهم في البعوث فتقطع نسلهم ولا تجعل الأموال دولة بين الأغنياء منهم ولا تغلق بابك دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم . هذه وصيتي إياك وأشهد الله عليك وأقرأ عليك السلام والله على كل شي ء شهيد . وخطب عمر فقال لا يبلغني أن امرأة تجاوز صداقها صداق زوجات رسول الله ص إلا ارتجعت ذلك منها فقامت إليه امرأة فقالت والله ما جعل الله ذلك لك إنه تعالى يقول وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً فقال عمر أ لا تعجبون من إمام أخطأ وامرأة أصابت ناضلت إمامكم فنضلته . وكان يعس ليلة فمر بدار سمع فيها صوتا فارتاب وتسور فرأى رجلا عند امرأة وزق خمر فقال يا عدو الله أ ظننت أن الله يسترك وأنت على معصيته فقال لا تعجل يا أمير المؤمنين إن كنت أخطأت في واحدة فقد أخطأت في ثلاث قال الله تعالى وَ لا تَجَسَّسُوا وقد تجسست وقال وَ أْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها
[ 18 ](1/3297)
و قد تسورت وقال فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا وما سلمت فقال هل عندك من خير إن عفوت عنك قال نعم والله لا أعود فقال اذهب فقد عفوت عنك . وخطب يوما فقال أيها الناس ما الجزع مما لا بد منه وما الطمع فيما لا يرجى وما الحيلة فيما سيزول وإنما الشي ء من أصله وقد مضت قبلكم الأصول ونحن فروعها فما بقاء الفرع بعد ذهاب أصله . إنما الناس في هذه الدنيا أغراض تنتبل فيهم المنايا نصب المصائب في كل جرعة شرق وفي كل أكلة غصص لا تنالون نعمة إلا بفراق أخرى ولا يستقبل معمر من عمره يوما إلا بهدم آخر من أجله وهم أعوان الحتوف على أنفسهم فأين المهرب مما هو كائن ما أصغر المصيبة اليوم مع عظم الفائدة غدا وما أعظم خيبة الخائب وخسران الخاسر يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اَللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ . وأكثر الناس روى هذا الكلام لعلي ع وقد ذكره صاحب نهج البلاغة وشرحناه فيما سبق . حمل من العراق إلى عمر مال فخرج هو ومولى له فنظر إلى الإبل فاستكثرها فجعل يقول الحمد لله يكررها ويرددها وجعل مولاه يقول هذا من فضل الله ورحمته ويكررها ويرددها . فقال عمر كذبت لا أم لك أظنك ذهبت إلى أن هذا هو ما عناه سبحانه
[ 19 ](1/3298)
بقوله قُلْ بِفَضْلِ اَللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا وإنما ذلك الهدى أ ما تسمعه يقول هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ وهذا مما يجمعون . وروى الأحنف بن قيس قال قدمنا على عمر بفتح عظيم نبشره به فقال أين نزلتم قلنا في مكان كذا فقام معنا حتى انتهينا إلى مناخ ركابنا وقد أضعفها الكلال وجهدها السير فقال هلا اتقيتم الله في ركابكم هذه أ ما علمتم أن لها عليكم حقا هلا احترموها هلا حللتم بها فأكلت من نبات الأرض فقلنا يا أمير المؤمنين إنا قدمنا بفتح عظيم فأحببنا التسرع إليك وإلى المسلمين بما يسرهم . فانصرف راجعا ونحن معه فأتى رجل فقال يا أمير المؤمنين إن فلانا ظلمني فأعدني عليه فرفع في السماء درته وضرب بها رأسه وقال تدعون عمر وهو معرض لكم حتى إذا شغل في أمر المسلمين أتيتموه أعدني أعدني فانصرف الرجل يتذمر فقال عمر علي بالرجل فجي ء به فألقى إليه المخفقة فقال اقتص قال بل أدعه لله ولك قال ليس كذلك بل تدعه إما لله وإرادة ما عنده وإما تدعه لي قال أدعه لله قال انصرف ثم جاء حتى دخل منزله ونحن معه فصلى ركعتين خفيفتين ثم جلس فقال يا ابن الخطاب كنت وضيعا فرفعك الله وكنت ضالا فهداك الله وكنت ذليلا فأعزك الله ثم حملك على رقاب الناس فجاء رجل يستعديك على من ظلمه فضربته ما ذا تقول لربك غدا فجعل يعاتب نفسه معاتبة ظننت أنه من خير أهل الأرض .
[ 20 ](1/3299)
و ذكر أبو عبيد القاسم بن سلام في غريب الحديث أن رجلا أتى عمر يسأله ويشكو إليه الفقر فقال هلكت يا أمير المؤمنين فقال أ هلكت وأنت تنث نثيث الحميت أعطوه فأعطوه ربعة من مال الصدقة تبعها ظئراها ثم أنشأ يحدث عن نفسه فقال لقد رأيتني وأختا لي نرعى على أبوينا ناضحا لنا قد ألبستنا أمنا نقبتها وزودتنا يمنتيها هبيدا فنخرج بناضحنا فإذا طلعت الشمس ألقيت النقبة إلى أختي وخرجت أسعى عريان فنرجع إلى أمنا وقد جعلت لنا لفيته من ذلك الهبيد فيا خصباه . وروى ابن عباس رضي الله عنه قال دخلت على عمر في أول خلافته وقد ألقي له صاع من تمر على خصفة فدعاني إلى الأكل فأكلت تمرة واحدة وأقبل يأكل حتى أتى عليه ثم شرب من جر كان عنده واستلقى على مرفقه له وطفق يحمد الله يكرر ذلك ثم قال من أين جئت يا عبد الله قلت من المسجد قال كيف خلفت ابن عمك فظننته يعنى عبد الله بن جعفر قلت خلفته يلعب مع أترابه قال لم أعن ذلك إنما عنيت عظيمكم أهل البيت قلت خلفته يمتح بالغرب على نخيلات من فلان وهو يقرأ القرآن قال يا عبد الله عليك دماء البدن إن كتمتنيها هل بقي في نفسه
[ 21 ](1/3300)
شي ء من أمر الخلافة قلت نعم قال أ يزعم أن رسول الله ص نص عليه قلت نعم وأزيدك سألت أبي عما يدعيه فقال صدق فقال عمر لقد كان من رسول الله ص في أمره ذرو من قول لا يثبت حجة ولا يقطع عذرا ولقد كان يربع في أمره وقتا ما ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقا وحيطة على الإسلام لا ورب هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبدا ولو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها فعلم رسول الله ص أني علمت ما في نفسه فأمسك وأبى الله إلا إمضاء ما حتم . ذكر هذا الخبر أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب تاريخ بغداد في كتابه مسندا . ابتنى أبو سفيان دارا بمكة فأتى أهلها عمر فقالوا إنه قد ضيق علينا الوادي وأسال علينا الماء فأتاه عمر فقال خذ هذا الحجر فضعه هناك وارفع هذا واخفض هذا ففعل فقال الحمد لله الذي أذل أبا سفيان بأبطح مكة . وقال عمر والله لقد لان قلبي في الله حتى لهو ألين من الزبد ولقد اشتد قلبي في الله حتى لهو أشد من الحجر . كان عمر إذا أتاه الخصمان برك على ركبتيه وقال اللهم أعني عليهما فإن كلا منهما يريدني عن ديني .
[ 22 ](1/3301)
و خطب عمر فقال أيها الناس إنما كنا نعرفكم والنبي ص بين أظهرنا إذ ينزل الوحي وإذ ينبئنا الله من أخباركم ألا وإن النبي ص قد انطلق والوحي قد انقطع وإنما نعرفكم بما يبدو منكم من أظهر خيرا ظننا به خيرا وأحببناه عليه ومن أظهر شرا ظننا به شرا وأبغضناه عليه سرائركم بينكم وبين ربكم ألا إنه قد أتى علي حين وأنا أحسب أنه لا يقرأ القرآن أحد إلا يريد به وجه الله وما عند الله وقد خيل إلي بأخرة أن رجالا قد قرءوه يريدون به ما عند الناس فأريدوا الله بقراءتكم وأريدوا الله بأعمالكم . ألا وإني لا أرسل عمالي إليكم أيها الناس ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم ولكن أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنتكم فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إلي لأقتص له فقد رأيت رسول الله ص يقتص من نفسه . ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم ولا تمنعوهم حقوقهم فتفقروهم ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم . وقال مرة قد أعياني أهل الكوفة إن استعملت عليهم لينا استضعفوه وإن استعملت عليهم شديدا شكوه ولوددت أني وجدت رجلا قويا أمينا استعمله عليهم فقال له رجل أنا أدلك يا أمير المؤمنين على الرجل القوي الأمين قال من هو قال عبد الله بن عمر قال قاتلك الله والله ما أردت الله بها لاها الله لا أستعمله عليها ولا على غيرها وأنت فقم فاخرج فمذ الآن لا أسميك إلا المنافق فقام الرجل وخرج . وكتب إلى سعد بن أبي وقاص أن شاور طليحة بن خويلد وعمرو بن معديكرب فإن كل صانع أعلم بصنعته ولا تولهما من أمر المسلمين شيئا
[ 23 ](1/3302)
و غضب عمر على بعض عماله فكلم امرأة من نساء عمر في أن تسترضيه له فكلمته فيه فغضب وقال وفيم أنت من هذا يا عدوة الله إنما أنت لعبة نلعب بك وتفركين . ومن كلامه أشكو إلى الله جلد الخائن وعجز الثقة . قال عمرو بن ميمون لقد رأيت عمر بن الخطاب قبل أن يصاب بأيام واقفا على حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف وهو يقول لهما أ تخافان أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيقه فقالا لا إنما حملناها أمرا هي له مطيقة فأعاد عليهما القول انظرا أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيقه فقالا لا فقال عمر إن عشت لأدعن أرامل العراق لا يحتجن بعدي إلى رجل أبدا فما أتت عليه رابعة حتى أصيب . كان عمر إذا استعمل عاملا كتب عليه كتابا وأشهد عليه رهطا من المسلمين ألا يركب برذونا ولا يأكل نقيا ولا يلبس رقيقا ولا يغلق بابه دون حاجات المسلمين ثم يقول اللهم اشهد . واستعمل عمر النعمان بن عدي بن نضلة على ميسان فبلغه عنه الشعر الذي قاله وهو
و من مبلغ الحسناء أن حليلها
بميسان يسقى من زجاج وحنتم
إذا شئت غنتني دهاقين قرية
و صناجة تحدو على كل منسم
[ 24 ]
فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني
و لا تسقني بالأصغر المتثلم
لعل أمير المؤمنين يسوءه
تنادمنا بالجوسق المتهدم
فكتب إليه بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ حم تَنْزِيلُ اَلْكِتابِ مِنَ اَللَّهِ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ غافِرِ اَلذَّنْبِ وَ قابِلِ اَلتَّوْبِ شَدِيدِ اَلْعِقابِ ذِي اَلطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ اَلْمَصِيرُ أما بعد فقد بلغني قولك
لعل أمير المؤمنين يسوءه
البيت وايم الله إنه ليسوءني فاقدم فقد عزلتك . فلما قدم عليه قال يا أمير المؤمنين والله ما شربتها قط وإنما هو شعر طفح على لساني وإني لشاعر . فقال عمر أظن ذاك ولكن لا تعمل لي على عمل أبدا . استعمل عمر رجلا من قريش على عمل فبلغه عنه أنه قال
اسقني شربة تروي عظامي
و اسق بالله مثلها ابن هشام(1/3303)
فأشخصه إليه وفطن القرشي فضم إليه بيتا آخر فلما مثل بين يديه قال له أنت القائل
اسقني شربة تروي عظامي
قال نعم يا أمير المؤمنين فهلا أبلغك الواشي ما بعده قال ما الذي بعده قال
عسلا باردا بماء غمام
إنني لا أحب شرب المدام
قال آلله آلله ثم قال ارجع إلى عملك .
[ 25 ]
قال عمر أيما عامل من عمالي ظلم أحدا ثم بلغتني مظلمته فلم أغيرها فأنا الذي ظلمته . وقال للأحنف بن قيس وقد قدم عليه فاحتبسه عنده حولا يا أحنف إني قد خبرتك وبلوتك فرأيت علانيتك حسنة وأنا أرجو أن تكون سريرتك مثل علانيتك وإن كنا لنحدث أنه إنما يهلك هذه الأمة كل منافق عليم . وكتب عمر إلى سعد بن أبي وقاص أن مترس بالفارسية هو الأمان فمن قلتم له ذلك ممن لا يفقه لسانكم فقد أمنتموه . وقال لأمير من أمراء الشام كيف سيرتك كيف تصنع في القرآن والأحكام فأخبره فقال أحسنت اذهب فقد أقررتك على عملك فلما ولي رجع فقال يا أمير المؤمنين إني رأيت البارحة رؤيا أقصها عليك رأيت الشمس والقمر يقتتلان ومع كل واحد منهما جنود من الكواكب فقال فمع أيهما كنت قال مع القمر فقال قد عزلتك قال الله تعالى وَ جَعَلْنَا اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اَللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ اَلنَّهارِ مُبْصِرَةً . كان عمر جالسا في المسجد فمر به رجل فقال ويل لك يا عمر من النار فقال قربوه إلي فدنا منه فقال لم قلت لي ما قلت قال تستعمل عمالك وتشترط عليهم
[ 26 ](1/3304)
ثم لا تنظر هل وفوا لك بشروط أم لا قال وما ذاك قال عاملك على مصر اشترطت عليه فترك ما أمرته به وارتكب ما نهيته عنه ثم شرح له كثيرا من أمره فأرسل عمر رجلين من الأنصار فقال لهما انتهيا إليه فاسألا عنه فإن كان كذب عليه فأعلماني وإن رأيتما ما يسوءكما فلا تملكاه من أمره شيئا حتى تأتيا به فذهبا فسألا عنه فوجداه قد صدق عليه فجاءا إلى بابه فاستأذنا عليه فقال حاجبه إنه ليس عليه اليوم إذن قالا ليخرجن إلينا أو لنحرقن عليه بابه وجاء أحدهما بشعلة من نار فدخل الآذن فأخبره فخرج إليهما قالا إنا رسولا عمر إليك لتأتيه قال إن لنا حاجة تمهلانني لأتزود قالا إنه عزم علينا ألا نمهلك فاحتملاه فأتيا به عمر فلما أتاه سلم عليه فلم يعرفه وقال من أنت وكان رجلا أسمر فلما أصاب من ريف مصر ابيض وسمن فقال أنا عاملك على مصر أنا فلان قال ويحك ركبت ما نهيت عنه وتركت ما أمرت به والله لأعاقبنك عقوبة أبلغ إليك فيها ائتوني بكساء من صوف وعصا وثلاثمائة شاة من غنم الصدقة فقال البس هذه الدراعة فقد رأيت أباك وهذه خير من دراعته وخذ هذه العصا فهي خير من عصا أبيك واذهب بهذه الشياه فارعها في مكان كذا وذلك في يوم صائف ولا تمنع السابلة من ألبانها شيئا إلا آل عمر فإني لا أعلم أحدا من آل عمر أصاب من ألبان غنم الصدقة ولحومها شيئا . فلما ذهب رده وقال أ فهمت ما قلت فضرب بنفسه الأرض وقال يا أمير المؤمنين لا أستطيع هذا فإن شئت فاضرب عنقي قال فإن رددتك فأي رجل تكون قال والله لا يبلغك بعدها إلا ما تحب فرده فكان نعم الرجل وقال عمر والله
[ 27 ]
لا أنزعن فلانا من القضاء حتى أستعمل عوضه رجلا إذا رآه الفاجر فرق . وروى عبد الله بن بريدة قال بينا عمر يعس ذات ليلة انتهى إلى باب متجاف وامرأة تغني نسوة
هل من سبيل إلى خمر فأشربها
أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج(1/3305)
فقال عمر أما ما عشت فلا . فلما أصبح دعا نصر بن حجاج وهو نصر بن الحجاج بن علابط البهزي السلمي فأبصره وهو من أحسن الناس وجها وأصبحهم وأملحهم حسنا فأمر أن يطم شعره فخرجت جبهته فازداد حسنا فقال له عمر اذهب فاعتم فاعتم فبدت وفرته فأمر بحلقها فازداد حسنا فقال له فتنت نساء المدينة يا ابن حجاج لا تجاورني في بلدة أنا مقيم بها ثم سيره إلى البصرة . فروى الأصمعي قال أبرد عمر بريدا إلى عتبة بن أبي سفيان بالبصرة فأقام بها أياما ثم نادى منادي عتبة من أراد أن يكتب إلى أهله بالمدينة أو إلى أمير المؤمنين شيئا فليكتب فإن بريد المسلمين خارج . فكتب الناس ودس نصر بن حجاج كتابا فيه لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصر بن حجاج سلام عليك أما بعد يا أمير المؤمنين
لعمري لئن سيرتني أو حرمتني
لما نلت من عرضي عليك حرام
أ إن غنت الذلفاء يوما بمنية
و بعض أماني النساء غرام
[ 28 ]
ظننت بي الظن الذي ليس بعده
بقاء فما لي في الندي كلام
و أصبحت منفيا في غير ريبة
و قد كان لي بالمكتين مقام
سيمنعني مما تظن تكرمي
و آباء صدق سالفون كرام
و يمنعها مما تمنت صلاتها
و حال لها في دينها وصيام
فهاتان حالانا فهل أنت راجع
فقد جب مني كاهل وسنام
فقال عمر أما ولي ولاية فلا وأقطعه أرضا بالبصرة ودارا . فلما قتل عمر ركب راحلته ولحق بالمدينة . وذكر المبرد محمد بن يزيد الثمالي قال كان عمر أصلع فلما حلق وفرة نصر بن حجاج قال نصر وكان شاعرا
تضن ابن خطاب علي بجمة
إذا رجلت تهتز هز السلاسل
فصلع رأسا لم يصلعه ربه
يرف رفيفا بعد أسود جائل
لقد حسد الفرعان أصلع لم يكن
إذا ما مشى بالفرع بالمتخايل
محمد بن سعيد قال بينا يطوف عمر في بعض سكك المدينة إذ سمع امرأة تهتف من خدرها
هل من سبيل إلى خمر فأشربها
أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج
[ 29 ]
إلى فتى ماجد الأعراق مقتبل
سهل المحيا كريم غير ملجاج
تنميه أعراق صدق حين تنسبه
أخي قداح عن المكروب فراج(1/3306)
سامي النواظر من بهز له قدم
تضي ء صورته في الحالك الداجي
فقال عمر ألا لا أدري معي رجلا يهتف به العواتق في خدورهن علي بنصر بن حجاج فأتي به فإذا هو أحسن الناس وجها وعينا وشعرا فأمر بشعره فجز فخرجت له وجنتان كأنه قمر فأمره أن يعتم فاعتم ففتن النساء بعينيه فقال عمر لا والله لا تساكنني بأرض أنا بها قال ولم يا أمير المؤمنين قال هو ما أقول لك فسيره إلى البصرة . وخافت المرأة التي سمع عمر منها ما سمع أن يبدر إليها منه شي ء فدست إليه أبياتا
قل للأمير الذي تخشى بوادره
ما لي وللخمر أو نصر بن حجاج
إني بليت أبا حفص بغيرهما
شرب الحليب وطرف فاتر ساج
لا تجعل الظن حقا أو تبينه
إن السبيل سبيل الخائف الراجي
ما منية قلتها عرضا بضائرة
و الناس من هالك قدما ومن ناج
إن الهوى رعية التقوى تقيده
حتى أقر بإلجام وإسراج
فبكى عمر وقال الحمد لله الذي قيد الهوى بالتقوى . وأتته يوما أم نصر حين اشتدت عليها غيبة ابنها فتعرضت لعمر بين الأذان والإقامة فقعدت له على الطريق فلما خرج يريد الصلاة هتفت به وقالت يا أمير المؤمنين لأجاثينك غدا بين يدي الله عز وجل ولأخاصمنك إليه يبيت عاصم وعبد الله إلى
[ 30 ](1/3307)
جانبيك وبيني وبين ابني الفيافي والقفار والمفاوز والجبال قال من هذه قيل أم نصر بن حجاج فقال يا أم نصر إن عاصما وعبد الله لم تهتف بهما العواتق من وراء الخدور . ويروى أن نصر بن الحجاج لما سيره عمر إلى البصرة نزل بها على مجاشع بن مسعود السلمي وكان خليفة أبي موسى عليها وكانت له امرأة شابة جميلة فهويت نصرا وهويها فبينا الشيخ جالس ونصر عنده إذ كتب في الأرض شيئا فقرأته المرأة فقالت أنا والله فقال مجاشع ما قال لك قالت إنه قال ما أصفى لقحتكم هذه فقال مجاشع إن الكلمة التي قلت ليست أختا لهذا الكلام عزمت عليك لما أخبرتني قالت إنه قال ما أحسن سوار ابنتكم هذه قال ولا هذه فإنه كتب في الأرض فرأى الخط فدعا بإناء فوضعه عليه ثم أحضر غلاما من غلمانه فقال اقرأ فقرأه وإذا هو أنا والله أحبك فقال هذه لهذه اعتدي أيتها المرأة وتزوجها يا ابن أخي إن أردت . ثم غدا على أبي موسى فأخبره فقال أبو موسى أقسم ما أخرجه عمر عن المدينة من خير ثم طرده إلى فارس وعليها عثمان بن أبي العاص الثقفي فنزل على دهقانة فأعجبها فأرسلت إليه فبلغ خبرها عثمان فبعث إليه أن اخرج عن أرض فارس فإنك لم تخرج عن المدينة والبصرة من خير فقال والله لئن أخرجتموني لألحقن ببلاد الشرك فكتب بذلك إلى عمر فكتب أن جزوا شعره وشمروا قميصه وألزموه المساجد . وروى عبد الله بن بريدة أن عمر خرج ليلا يعس فإذا نسوة يتحدثن وإذا هن
[ 31 ](1/3308)
يقلن أي فتيان المدينة أصبح فقالت امرأة منهن أبو ذؤيب والله فلما أصبح عمر سأل عنه فإذا هو من بني سليم وإذا هو ابن عم نصر بن حجاج فأرسل إليه فحضر فإذا هو أجمل الناس وأملحهم فلما نظر إليه قال أنت والله ذئبها يكررها ويرددها لا والذي نفسي بيده لا تجامعني بأرض أبدا . فقال يا أمير المؤمنين إن كنت لا بد مسيري فسيرني حيث سيرت ابن عمي نصر بن حجاج فأمر بتسييره إلى البصرة فأشخص إليها . خطب عمر في الليلة التي دفن فيها أبو بكر فقال إن الله تعالى نهج سبيله وكفانا برسوله فلم يبق إلا الدعاء والاقتداء الحمد لله الذي ابتلاني بكم وابتلاكم بي وأبقاني فيكم بعد صاحبي وأعوذ بالله أن أزل أو أضل فأعادي له وليا أو أوالي له عدوا ألا إني وصاحبي كنفر ثلاثة قفلوا من طيبة فأخذ أحدهم مهلة إلى داره وقراره فسلك أرضا مضيئة متشابهة الأعلام فلم يزل عن الطريق ولم يحرم السبيل حتى أسلمه إلى أهله ثم تلاه الآخر فسلك سبيله واتبع أثره فأفضى إليه ولقي صاحبه ثم تلاهما الثالث فإن سلك سبيلهما واتبع أثرهما أفضى إليهما ولاقاهما وإن زل يمينا أو شمالا لم يجامعهما أبدا . ألا وإن العرب جمل أنف قد أعطيت خطامه ألا وإني حامله على المحجة ومستعين بالله عليه . ألا وإني داع فأمنوا اللهم إني شحيح فسخني اللهم إني غليظ فليني اللهم إني ضعيف فقوني اللهم أوجب لي بموالاتك وموالاة أوليائك ولايتك ومعونتك وأبرئني
[ 32 ](1/3309)
من الآفات بمعاداة أعدائك وتوفني مع الأبرار ولا تحشرني في زمرة الأشقياء اللهم لا تكثر لي من الدنيا فأطغى ولا تقلل لي فأشقى فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى . وفد على عمر قوم من أهل العراق منهم جرير بن عبد الله فأتاهم بجفنة قد صبغت بخل وزيت وقال خذوا فأخذوا أخذا ضفيفا فقال ما بالكم تقرمون قرم الشاة الكسيرة أظنكم تريدون حلوا وحامضا وحارا وباردا ثم قذفا في البطون لو شئت أن أدهمق لكم لفعلت ولكنا نستبقي من دنيانا ما نجده في آخرتنا ولو شئنا أن نأمر بصغار الضأن فتسمط ولبأت الخبز فيخبز ونأمر بالزبيب فينبذ لنا في الأسعان حتى إذا صار مثل عين اليعقوب أكلنا هذا وشربنا هذا لفعلت والله إني ما أعجز عن كراكر وأسنمة وصلائق وصناب لكن الله تعالى قال لقوم عيرهم أمرا فعلوه أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ اَلدُّنْيا وإني نظرت في هذا الأمر
[ 33 ](1/3310)
فجعلت إن أردت الدنيا أضررت بالآخرة وإن أردت الآخرة أضررت بالدنيا وإذا كان الأمر هكذا فأضروا بالفانية . خرج عمر يوما إلى المسجد وعليه قميص في ظهره أربع رقاع فقرأ حتى انتهى إلى قوله وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا فقال ما الأب ثم قال إن هذا لهو التكلف وما عليك يا ابن الخطاب ألا تدري ما الأب . وجاء قوم من الصحابة إلى حفصة فقالوا لو كلمت أباك في أن يلين من عيشه لعله أقوى له على النظر في أمور المسلمين فجاءته فقالت إن ناسا من قومك كلموني في أن أكلمك في أن تلين من عيشك فقال يا بنية غششت أباك ونصحت لقومك . وروى سالم بن عبد الله بن عمر قال لما ولي عمر قعد على رزق أبي بكر الذي كان فرضه لنفسه فاشتدت حاجته فاجتمع نفر من المهاجرين منهم علي وعثمان وطلحة والزبير وقالوا لو قلنا لعمر يزيد في رزقه فقال عثمان إنه عمر فهلموا فلنستبن ما عنده من وراء وراء نأتي حفصة فنكلمها ونستكتمها أسماءنا فدخلوا عليها وسألوها أن تكلمه ولا تخبره بأسماء من أتاها إلا أن يقبل فلقيت عمر في ذلك فرأت الغضب في وجهه وقال من أتاك قالت لا سبيل إلى ذلك فقال لو علمت من هم لسؤت أوجههم أنت بيني وبينهم نشدتك الله ما أفضل ما اقتنى رسول الله ص في بيتك من الملبس قالت ثوبان ممشقان كان يلبسهما للوفد ويخطب
[ 34 ](1/3311)
فيهما في الجمع قال فأي طعام ناله عندك أرفع قالت خبزنا مرة خبزة شعير فصببت عليها وهي حارة أسفلها عكة لنا كان فيها سمن وعسل فجعلتها هشة حلوة دسمة فأكل منها فاستطابها قال فأي مبسط كان يبسط عندك أوطأ قالت كساء ثخين كنا نرقعه في الصيف فنجعله ثخينا فإذا كان الشتاء بسطنا نصفه وتدثرنا بنصفه قال فأبلغيهم أن رسول الله ص قدر فوضع الفضول مواضعها وتبلغ ما أبر وإني قدرت فو الله لأضعن الفضول مواضعها ولأتبلغن ما أبر حبة وفد على عمر وفد فيه رجال الناس من الآفاق فوضع لهم بسطا من عباء وقدم إليهم طعاما غليظا فقالت له ابنته حفصة أم المؤمنين إنهم وجوه الناس وكرام العرب فأحسن كرامتهم فقال يا حفصة أخبريني بألين فراش فرشته لرسول الله ص وأطيب طعام أكله عندك قالت أصبنا كساء ملبدا عام خيبر فكنت أفرشه له فينام عليه وإني رفعته ليلة فلما أصبح قال ما كان فراشي الليلة قلت فراشك كل ليلة إلا أني الليلة رفعته لك ليكون أوطأ فقال أعيديه لحالته الأولى فإن وطاءته منعتني الليلة من الصلاة . وكان لنا صاع من دقيق سلت فنخلته يوما وطبخته له وكان لنا قعب من سمن فصببته عليه فبينا هو ع يأكل إذ دخل أبو الدرداء فقال أرى سمنكم قليلا وإن لنا لقعبا من سمن قال ع فأرسل فأت به فجاء به فصبه عليه فأكل فهذا أطيب طعام أكله عندي رسول الله ص . فأرسل عمر عينيه بالبكاء وقال لها والله لا أزيدهم على ذلك العباء وذلك الطعام
[ 35 ](1/3312)
شيئا وهذا فراش رسول الله ص وهذا طعامه . لما قدم عتبة بن مرثد أذربيجان أتي بالخبيص فلما أكله وجد شيئا حلوا طيبا فقال لو صنعت من هذا لأمير المؤمنين فجعل له خبيصا في منقلين عظيمين وحملهما على بعيرين إلى المدينة فقال عمر ما هذا قالوا الخبيص فذاقه فوجده حلوا فقال للرسول ويحك أ كل المسلمين عندكم يشبع من هذا قال لا قال فارددهما ثم كتب إلى عتبة أما بعد فإن خبيصك الذي بعثته ليس من كد أبيك ولا من كد أمك أشبع المسلمين مما تشبع منه في رحلك ولا تستأثر فإن الأثرة شر والسلام . وروى عتبة بن مرثد أيضا قال قدمت على عمر بحلواء من بلاد فارس في سلال عظام فقال ما هذه قلت طعام طيب أتيتك به قال ويحك ولم خصصتني به قلت أنت رجل تقضي حاجات الناس أول النهار فأحببت إذا رجعت إلى منزلك أن ترجع إلى طعام طيب فتصيب منه فتقوى على القيام بأمرك فكشف عن سلة منها فذاق فاستطاب فقال عزمت عليك يا عتبة إذا رجعت إلا رزقت كل رجل من المسلمين مثله قلت والذي يصلحك يا أمير المؤمنين لو أنفقت عليه أموال قيس كلها لما وسع ذلك قال فلا حاجة لي فيه إذا ثم دعا بقصعة من ثريد ولحم غليظ وخبز خشن فقال كل ثم جعل يأكل أكلا شهيا وجعلت أهوى إلى البضعة البيضاء أحسبها سناما وإذا هي عصبة وأهوى إلى البضعة من اللحم أمضغها
[ 36 ](1/3313)
فلا أسيغها وإذا هي من علباء العنق فإذا غفل عني جعلتها بين الخوان والقصعة فدعا بعس من نبيذ كاد يكون خلا فقال اشرب فلم أستطعه ولم أسغه أن أشرب فشرب ثم نظر إلي وقال ويحك إنه ليس بدرمك العراق وودكه ولكن ما تأكله أنت وأصحابك . ثم قال اسمع إنا ننحر كل يوم جزورا فأما أوراكها وودكها وأطائبها فلمن حضرنا من المهاجرين والأنصار وأما عنقها فلآل عمر وأما عظامها وأضلاعها فلفقراء المدينة نأكل من هذا اللحم الغث ونشرب من هذا النبيذ الخاثر وندع لين الطعام ليوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها . حضر عند عمر قوم من الصحابة فأثنوا عليه وقالوا والله ما رأينا يا أمير المؤمنين رجلا أقضى منك بالقسط ولا أقول بالحق ولا أشد على المنافقين منك إنك لخير الناس بعد رسول الله ص . فقال عوف بن مالك كذبتم والله أبو بكر بعد رسول الله خير أمته رأينا أبا بكر . فقال عمر صدق عوف والله وكذبتم لقد كان أبو بكر والله أطيب من ريح المسك وأنا أضل من بعير أهلي . لما أتى عمر الخبر بنزول رستم القادسية كان يخرج فيستخبر الركبان كل يوم عن أهل القادسية من حين يصبح إلى انتصاف النهار ثم يرجع إلى أهله فلما جاء البشير بالفتح
[ 37 ](1/3314)
لقيه كما يلقى الركبان من قبل فسأله فأخبره فجعل يقول يا عبد الله إيه حدثني فيقول له هزم الله العدو وعمر يحث معه ويسأله وهو راجل والبشير يسير على ناقته ولا يعرفه فلما دخل المدينة إذا الناس يسلمون عليه باسمه بإمرة المؤمنين ويهنئونه فنزل الرجل وقال هلا أخبرتني يا أمير المؤمنين رحمك الله وجعل عمر يقول لا عليك يا ابن أخي لا عليك يا ابن أخي . وروى أبو العالية الشامي قال قدم عمر الجابية على جمل أورق تلوح صلعته ليس عليه قلنسوة تصل رجلاه بين شعبتي رحله بغير ركاب وطاؤه كساء أنبجاني كثير الصوف وهو وطاؤه إذا ركب وفراشه إذا نزل وحقيبته نمرة محشوة ليفا هي حقيبته إذا ركب ووسادته إذا نزل وعليه قميص من كرابيس قد دسم وتخرق جيبه فقال ادعوا إلي رأس القرية فدعوه له فقال اغسلوا قميصي هذا وخيطوه وأعيروني قميصا ريثما يجف قميصي فأتوه بقميص كتان فعجب منه فقال ما هذا قالوا كتان قال وما الكتان فأخبروه فلبسه ثم غسل قميصه وأتي به فنزع قميصهم ولبس قميصه فقال له رأس القرية أنت ملك العرب وهذه بلاد لا يصلح بها ركوب الإبل فأتي ببرذون فطرحت عليه قطيفة بغير سرج فركبه فهملج تحته فقال للناس احبسوا فحبسوه فقال ما كنت أظن الناس يركبون الشيطان قبل هذا قدموا لي جملي فجي ء به فنزل عن البرذون وركبه .
[ 38 ](1/3315)
قدم عمر الشام فلقيه أمراء الأجناد وعظماء تلك الأرض فقال وأين أخي قالوا من هو قال أبو عبيدة قالوا سيأتيك الآن فجاء أبو عبيدة على ناقة مخطومة بحبل فسلم عليه ورد له ثم قال للناس انصرفوا عنا فسار معه حتى أتى منزله فنزل عليه فلم ير فيه إلا سيفا وترسا فقال له لو اتخذت متاع البيت قال حسبي هذا يبلغني المقيل . وروى طارق بن شهاب أن عمر لما قدم الشام عرضت له مخاضة فنزل عن بعيره ونزع جرموقيه فأمسكهما بيده وخاض الماء وزمام بعيره في يده الأخرى فقال له أبو عبيدة لقد صنعت اليوم صنيعا عظيما عند أهل هذه الأرض فصك في صدره وقال لو غيرك قالها يا أبا عبيدة إنكم كنتم أذل الناس وأحقر الناس وأقل الناس فأعزكم الله بالإسلام فمهما تطلبوا العز بغيره يرجعكم إلى الذل . وروى محمد بن سعد صاحب الواقدي أن عمر قال يوما على المنبر لقد رأيتني وما لي من أكال يأكله الناس إلا أن لي خالات من بني مخزوم فكنت أستعذب لهن الماء فيقبضن لي القبضات من الزبيب فلما نزل قيل له ما أردت بهذا قال وجدت في نفسي بأوا فأردت أن أطأطئ منها .
[ 39 ](1/3316)
و من كلام عمر رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي . قدم عمرو بن العاص على عمر وكان واليا لمصر فقال له في كم سرت قال في عشرين قال عمر لقد سرت سير عاشق فقال عمرو إني والله ما تأبطتنى الإماء ولا حملتني في غبرات المآلي فقال عمر والله ما هذا بجواب الكلام الذي سألتك عنه وأن الدجاجة لتفحص في الرماد فتضع لغير الفحل وإنما تنسب البيضة إلى طرقها فقام عمرو مربد الوجه . قلت المآلي خرق سود يحملها النوائح ويسرن بها بأيديهن عند اللطم وأراد خرق الحيص هاهنا وشبهها بتلك وأنكر عمر فخره بالأمهات وقال إن الفخر للأب الذي إليه النسب وسألت النقيب أبا جعفر عن هذا الحديث في عمر فقال إن عمرا فخر على عمر لأن أم الخطاب زنجية وتعرف بباطحلي تسمى صهاك فقلت له وأم عمرو النابغة أمه من سبايا العرب فقال أمه عربية من عنزة سبيت في بعض الغارات فليس يلحقها من النقص عندهم ما يلحق الإماء الزنجيات فقلت له أ كان عمرو يقدم على عمر بمثل ما قلت قال قد يكون بلغه عنه قول قدح في نفسه فلم يحتمله له ونفث بما في صدره منه وإن لم يكن جوابا مطابقا للسؤال وقد كان عمر مع خشونته يحتمل نحو هذا فقد جبهه الزبير مرة وجعل يحكي كلامه يمططه وجبهه سعد بن أبي وقاص أيضا فأغضى عنه ومر يوما في السوق على ناقة له فوثب غلام من بني ضبة فإذا هو خلفه فالتفت إليه فقال فممن أنت قال ضبي قال جسور والله فقال الغلام على العدو قال عمر وعلى الصديق أيضا ما حاجتك فقضى حاجته ثم قال دع الآن لنا ظهر راحلتنا .
[ 40 ](1/3317)
و من كلام عمر اخشع عند القبور إذا نظرت إليها واستعص عند المعصية وذل عند الطاعة ولا تبذلن كلامك إلا عند من يشتهيه ويتخذه غنما ولا تستعن على حاجتك إلا بمن يحب نجاحها لك وآخ الإخوان على التقوى وشاور في أمرك كله وإذا اشترى أحدكم بعيرا فليشتره جسيما فإن أخطأته النجابة لم يخطئه السوق . أوفد بشر بن مروان وهو على العراق رجلا إلى عبد الملك فسأله عن بشر فقال يا أمير المؤمنين هو اللين في غير ضعف الشديد في غير عنف فقال عبد الملك ذاك الأحوذي ابن حنتمة الذي كان يأمن عنده البري ء ويخافه السقيم ويعاقب على الذنب ويعرف موضع العقوبة لا بشر بن مروان . أذن عمر يوما للناس فدخل شيخ كبير يعرج وهو يقود ناقة رجيعا يجاذبها حتى وقف بين ظهراني الناس ثم قال
و إنك مسترعى وإنا رعية
و إنك مدعو بسيماك يا عمر
لدى يوم شر شره لشراره
و خير لمن كانت مؤانسه الخير
فقال عمر لا حول ولا قوة إلا بالله من أنت قال عمرو بن براقة قال ويحك فما منعك أن تقول وَ اِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ ثم قرأها إلى آخرها وأمر بناقته فقبضت وحمله على غيرها وكساه وزوده .
[ 41 ]
بينا عمر يسير في طريق مكة يوما إذا بالشيخ بين يديه يرتجز ويقول
ما إن رأيت كفتى الخطاب
أبر بالدين وبالأحساب
بعد النبي صاحب الكتاب
فطعنه عمر بالسوط في ظهره فقال ويلك وأين الصديق قال ما لي بأمره علم يا أمير المؤمنين قال أما إنك لو كنت عالما ثم قلت هذا لأوجعت ظهرك . قال زيد بن أسلم كنت عند عمر وقد كلمه عمرو بن العاص في الحطيئة وكان محبوسا فأخرجه من السجن ثم أنشده
ما ذا تقول لأفراخ بذي مرخ
زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة
فاغفر عليك سلام الله يا عمر
أنت الإمام الذي من بعد صاحبه
ألقت إليه مقاليد النهى البشر
ما آثروك بها إذ قدموك لها
لكن لأنفسهم كانت بك الأثر(1/3318)
فبكى عمر لما قال له ما ذا تقول لأفراخ فكان عمرو بن العاص بعد ذلك يقول ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أتقي من رجل يبكي خوفا من حبس الحطيئة ثم قال عمر لغلامه يرفأ علي بالكرسي فجلس عليه ثم قال علي بالطست فأتي بها ثم قال علي بالمخصف لا بل علي بالسكين فأتي بها فقال لا بل علي بالموسى فإنها أوجي فأتي بموسى ثم قال أشيروا علي في الشاعر فإنه يقول الهجر وينسب بالحرم ويمدح الناس ويذمهم بغير ما فيهم وما أراني إلا قاطعا لسانه فجعل الحطيئة يزيد خوفا فقال من حضر أنه لا يعود يا أمير المؤمنين وأشاروا إليه قل لا أعود يا أمير المؤمنين فقال النجاء النجاء فلما ولى ناداه يا حطيئة فرجع مرعوبا فقال كأني بك يا حطيئة
[ 42 ](1/3319)
عند فتى من قريش قد بسط لك نمرقة وكسر لك أخرى ثم قال غننا يا حطيئة فطفقت تغنيه بأعراض الناس قال يا أمير المؤمنين لا أعود ولا يكون ذلك . قال زيد بن أسلم ثم رأيت الحطيئة يوما بعد ذلك عند عبيد الله بن عمر قد بسط له نمرقة وكسر له أخرى ثم قال تغنينا يا حطيئة وهو يغنيه فقلت يا حطيئة أ ما تذكر قول عمر لك ففزع وقال رحم الله ذلك المرء أما لو كان حيا ما فعلنا هذا قال فقلت لعبيد الله بن عمر سمعت أباك يذكر كذا فكنت أنت ذلك الفتى . كان عمر يصادر خونة العمال فصادر أبا موسى الأشعري وكان عامله على البصرة وقال له بلغني أن لك جاريتين وأنك تطعم الناس من جفنتين وأعاده بعد المصادرة إلى عمله . وصادر أبا هريرة وأغلظ عليه وكان عامله على البحرين فقال له أ لا تعلم أني استعملتك على البحرين وأنت حاف لا نعل في رجلك وقد بلغني أنك بعت أفراسا بألف وستمائة دينار قال أبو هريرة كانت لنا أفراس فتناتجت فقال قد حبست لك رزقك ومئونتك وهذا فضل قال أبو هريرة ليس ذلك لك قال بلى والله وأوجع ظهرك ثم قام إليه بالدرة فضرب ظهره حتى أدماه ثم قال ائت بها فلما أحضرها قال أبو هريرة سوف أحتسبها عند الله قال عمر ذاك لو أخذتها من حل وأديتها طائعا أما والله ما رجت فيك أميمة أن تجبي أموال هجر واليمامة وأقصى البحرين لنفسك لا لله ولا للمسلمين ولم ترج فيك أكثر من رعية الحمر وعزله . وصادر الحارث بن وهب أحد بني ليث بكر بن كنانة وقال له ما قلاص وأعبد بعتها بمائه دينار قال خرجت بنفقة لي فاتجرت فيها قال وإنا والله ما بعثناك للتجارة
[ 43 ](1/3320)
أدها قال أما والله لا أعمل لك بعدها قال إنا والله لا أستعملك بعدها ثم صعد المنبر فقال يا معشر الأمراء إن هذا المال لو رأينا أنه يحل لنا لأحللناه لكم فأما إذ لم نره يحل لنا وظلفنا أنفسنا عنه فاظلفوا عنه أنفسكم فإني والله ما وجدت لكم مثلا إلا عطشان ورد اللجة ولم ينظر الماتح فلما روي غرق . وكتب عمر إلى عمرو بن العاص وهو عامله في مصر أما بعد فقد بلغني أنه قد ظهر لك مال من إبل وغنم وخدم وغلمان ولم يكن لك قبله مال ولا ذلك من رزقك فإني لك هذا ولقد كان لي من السابقين الأولين من هو خير منك ولكني استعملتك لغنائك فإذا كان عملك لك وعلينا بم نؤثرك على أنفسنا فاكتب إلي من أين مالك وعجل والسلام . فكتب إليه عمرو بن العاص قرأت كتاب أمير المؤمنين ولقد صدق فأما ما ذكره من مالي فإني قدمت بلدة الأسعار فيها رخيصه والغزو فيها كثير فجعلت فضول ما حصل لي من ذلك فيما ذكره أمير المؤمنين والله يا أمير المؤمنين لو كانت خيانتك لنا حلالا ما خناك حيث ائتمنتنا فأقصر عنا عناك فإن لنا أحسابا إذا رجعنا إليها أغنتنا عن العمل لك وأما من كان لك من السابقين الأولين فهلا استعملتهم فو الله ما دققت لك بابا . فكتب إليه عمر أما بعد فإني لست من تسطيرك وتشقيقك الكلام في شي ء إنكم معشر الأمراء أكلتم الأموال وأخلدتم إلى الأعذار فإنما تأكلون النار وتورثون العار وقد وجهت إليك محمد بن مسلمة ليشاطرك على ما في يديك والسلام .
[ 44 ](1/3321)
فلما قدم إليه محمد اتخذ له طعاما وقدمه إليه فأبى أن يأكل فقال ما لك لا تأكل طعامنا قال إنك عملت لي طعاما هو تقدمة للشر ولو كنت عملت لي طعام الضيف لأكلته فأبعد عني طعامك وأحضر لي مالك فلما كان الغد وأحضر ماله جعل محمد يأخذ شطرا ويعطي عمرا شطرا فما رأى عمرو ما حاز محمد من المال قال يا محمد أقول قال قل ما تشاء قال لعن الله يوما كنت فيه واليا لابن الخطاب والله لقد رأيته ورأيت أباه وإن على كل واحد منهما عباءة قطوانية مؤتزرا بها ما تبلغ مأبض ركبتيه وعلى عنق كل واحد منهما حزمة من حطب وإن العاص بن وائل لفي مزررات الديباج فقال محمد إيها يا عمرو فعمر والله خير منك وأما أبوك وأبوه ففي النار وو الله لو لا ما دخلت فيه من الإسلام لألفيت معتلفا شاة يسرك غزرها ويسوءك بكؤها قال صدقت فاكتم علي قال أفعل . جاءت سرية لعبيد الله بن عمر إلى عمر تشكوه فقالت يا أمير المؤمنين أ لا تعذرني من أبي عيسى قال ومن أبو عيسى قالت ابنك عبيد الله قال ويحك وقد تكني بأبي عيسى ودعاه وقال إيها اكتنيت بأبي عيسى فحذر وفزع فأخذ يده فعضها حتى صاح ثم ضربه وقال ويلك هل لعيسى أب أ ما تدري ما كنى العرب أبو سلمة أبو حنظلة أبو عرفطة أبو مرة . كان عمر إذا غضب على بعض أهله لم يشتف حتى يعض يده وكان عبد الله بن الزبير كذلك يقال إنه لم يل ولاية من ولد عمر وال عادل
[ 45 ]
و قال مالك بن أنس إن عمر بن الخطاب استفرغ كل عدل في ولده فلم يعدل بعده أحد منهم في ولاية وليها . كان عمر ومن بعده من الولاة إذا أخذوا العصاة نزعوا عمائمهم وأقاموهم للناس حتى جاء زياد فضربهم بالسياط فجاء مصعب فحلق مع الضرب فجاء بشر بن مروان فكان يصلب تحت الإبطين ويضرب الأكف بالمسامير فكتب إلى بعض الجند قوم من أهله يستزيرونه ويتشوقونه وقد أخرجه بشر إلى الري فكتب إليهم
لو لا مخافة بشر أو عقوبته
أو أن يرى شأني كفي بمسمار(1/3322)
إذا لعطلت ثغري ثم زرتكم
إن المحب المعنى جد زوار
فلما جاء الحجاج قال كل هذا لعب فقتل العصاة بالسيف . زيد بن أسلم عن أبيه قال خلا عمر لبعض شأنه وقال أمسك علي الباب فطلع الزبير فكرهته حين رأيته فأراد أن يدخل فقلت هو على حاجة فلم يلتفت إلي وأهوى ليدخل فوضعت يدي في صدره فضرب أنفي فأدماه ثم رجع فدخلت على عمر فقال ما بك قلت الزبير . فأرسل إلى الزبير فلما دخل جئت فقمت لأنظر ما يقول له فقال ما حملك على ما صنعت أدميتني للناس فقال الزبير يحكيه ويمطط في كلامه أدميتني أ تحتجب عنا يا ابن الخطاب فو الله ما احتجب مني رسول الله ولا أبو بكر فقال عمر كالمعتذر إني كنت في بعض شأني . قال أسلم فلما سمعته يعتذر إليه يئست من أن يأخذ لي بحقي منه .
[ 46 ]
فخرج الزبير فقال عمر إنه الزبير وآثاره ما تعلم فقلت حقي حقك . وروى الزبير بن بكار في كتاب الموفقيات عن عبد الله بن عباس قال إني لأماشي عمر بن الخطاب في سكة من سكك المدينة إذ قال لي يا ابن عباس ما أرى صاحبك إلا مظلوما فقلت في نفسي والله لا يسبقني بها فقلت يا أمير المؤمنين فاردد إليه ظلامته فانتزع يده من يدي ومضى يهمهم ساعة ثم وقف فلحقته فقال يا ابن عباس ما أظنهم منعهم عنه إلا أنه استصغره قومه فقلت في نفسي هذه شر من الأولى فقلت والله ما استصغره الله ورسوله حين أمراه أن يأخذ براءة من صاحبك . فأعرض عني وأسرع فرجعت عنه . وقال ابن عباس قلت لعمر لقد أكثرت التمني للموت حتى خشيت أن يكون عليك غير سهل عند أوانه فما ذا سئمت من رعيتك أن تعين صالحا أو تقوم فاسدا . قال يا ابن عباس إني قائل قولا فخذه إليك كيف لا أحب فراقهم وفيهم من هو فاتح فاه للشهوة من الدنيا إما لحق لا ينوء به وإما لباطل لا يناله والله لو لا أن أسأل عنكم لبرئت منكم فأصبحت الأرض مني بلاقع ولم أقل ما فعل فلان وفلان . جاءت امرأة إلى عمر بن الخطاب فقالت يا أمير المؤمنين إن زوجي يصوم(1/3323)
[ 47 ]
النهار ويقوم الليل وإني أكره أن أشكوه وهو يعمل بطاعة الله فقال نعم الزوج زوجك فجعلت تكرر عليه القول وهو يكرر عليها الجواب . فقال له كعب بن سور يا أمير المؤمنين إنها تشكو زوجها في مباعدته إياها عن فراشه ففطن عمر حينئذ وقال له قد وليتك الحكم بينهما . فقال كعب علي بزوجها فأتي به فقال إن زوجتك هذه تشكوك قال في طعام أو شراب قال لا قالت المرأة
أيها القاضي الحكيم رشده
ألهى خليلي عن فراشي مسجده
زهده في مضجعي تعبده
نهاره وليله ما يرقده
فلست في أمر النساء أحمده
فقال زوجها
زهدني في فرشها وفي الحجل
أني امرؤ أذهلني ما قد نزل
في سورة النمل وفي السبع الطول
و في كتاب الله تخويف جلل
قال كعب
إن لها حقا عليك يا رجل
تصيبها من أربع لمن عقل
فأعطها ذاك ودع عنك العلل
فقال لعمر يا أمير المؤمنين إن الله أحل له من النساء مثنى وثلاث ورباع فله ثلاثة أيام ولياليهن يعبد فيها ربه ولها يوم وليلة . فقال عمر والله ما أعلم من أي أمريك أعجب أ من فهمك أمرهما أم من حكمك بينهما اذهب فقد وليتك قضاء البصرة . وروى زيد بن أسلم عن أبيه قال خرجت مع عمر بن الخطاب وهو يطوف بالليل
[ 48 ](1/3324)
فنظر إلى نار شرقي حرة المدينة فقال إن هؤلاء الركب لم ينزلوا هاهنا إلا الليلة ثم أهوى لهم فخرجت معه حتى دنونا فسمعنا تضاغي الصبيان وبكاءهم . فقال السلام عليكم يا أصحاب الضوء هل ندنو منكم واحتبسنا قليلا فقالت امرأة منهم ادنوا بسلام فأقبلنا حتى وقفنا عليها فقال ما يبكي هؤلاء الصبيان قالت الجوع قال فما هذا القدر على النار قالت ماء أعللهم به قال انتظريني فإني بالغك إن شاء الله ثم خرج يهرول وأنا معه حتى جئنا دار الدقيق وكانت دارا يطرح فيها ما يجي ء من دقيق العراق ومصر وقد كان كتب إلى عمرو بن العاص وأبي موسى حين أمحلت السنة الغوث الغوث احملوا إلى أحمال الدقيق واجعلوا فيها جمائد الشحم فجاء إلى عدل منها فطأطأ ظهره ثم قال احمله على ظهري يا أسلم فقلت أنا أحمله عنك فنظر إلي وقال أنت تحمل عني وزري يوم القيامة لا أبا لك قلت لا قال فاحمله على ظهري إذا ففعلت وخرج به يدلج وأنا معه حتى ألقاه عند المرأة . ثم قال لي ذر علي ذرور الدقيق لا يتعرد وأنا أخزر ثم أخذ المسواط يخزر ثم جعل ينفخ تحت البرمة وأنا أنظر إلى الدخان يخرج من خلل لحيته ويقول لا تعجل حتى ينضج ثم قال ألق علي من الشحم فإن القفار يوجع البطن .
[ 49 ](1/3325)
ثم أنزل القدر وقال للمرأة لا تعجلي لا تعطيهم حارا وأنا أسطح لك فجعل يسطح بالمسواط ويبرد طعامهم حتى إذا شبعوا ترك عندها الفضل ثم قال لها ائتي أمير المؤمنين غدا فإنك عسيت أن تجديني قريبا منه فأشفع لك بخير وهي تقول من أنت يرحمك الله وتدعو له وتقول أنت أولى بالخلافة من أمير المؤمنين فيقول قولي خيرا يرحمك الله لا يزيد على هذا . ثم انصرف حتى إذا كان قريبا جلس فأقعى وجعل يسمع طويلا حتى سمع التضاحك منها ومن الصبيان وأنا أقول يا أمير المؤمنين قد فرغت من هذه ولك شغل في غيرها ويقول لا تكلمني حتى إذا هدأ حسهم قام فتمطى وقال ويحك إني سمعت الجوع أسهرهم فأحببت ألا أبرح حتى أسمع الشبع أنامهم . ومن كلامه الرجال ثلاثة الكامل ودون الكامل ولا شي ء فالكامل ذو الرأي يستشير الناس فيأخذ من آراء الرجال إلى رأيه ودون الكامل من يستبد به ولا يستشير ولا شي ء من لا رأى له ولا يستشير . والنساء ثلاث تعين أهلها على الدهر ولا تعين الدهر على أهلها وقلما تجدها وامرأة وعاء للولد ليس فيها غيره والثالثة غل قمل يجعله الله في رقبة من يشاء ويفكه إذا شاء . لما أخرج عمر الحطيئة من حبسه قال له إياك والشعر قال لا أقدر على تركه يا أمير المؤمنين مأكلة عيالي ونملة تدب على لساني قال فشبب بأهلك وإياك
[ 50 ](1/3326)
و كل مدحة مجحفه قال وما المجحفة قال تقول إن بني فلان خير من بني فلان امدح ولا تفضل أحدا قال أنت والله يا أمير المؤمنين أشعر مني . وروى الزبير في الموفقيات عن عبد الله بن عباس قال خرجت أريد عمر بن الخطاب فلقيته راكبا حمارا وقد ارتسنه بحبل أسود في رجليه نعلان مخصوفتان وعليه إزار وقميص صغير وقد انكشفت منه رجلاه إلى ركبتيه فمشيت إلى جانبه وجعلت أجذب الإزار وأسويه عليه كلما سترت جانبا انكشف جانب فيضحك ويقول إنه لا يطيعك حتى جئنا العالية فصلينا ثم قدم بعض القوم إلينا طعاما من خبز ولحم وإذا عمر صائم فجعل ينبذ إلي طيب اللحم ويقول كل لي ولك ثم دخلنا حائطا فألقى إلي رداءه وقال اكفنيه وألقى قميصه بين يديه وجلس يغسله وأنا أغسل رداءه ثم جففناهما وصلينا العصر فركب ومشيت إلى جانبه ولا ثالث لنا . فقلت يا أمير المؤمنين إني في خطبة فأشر علي قال ومن خطبت قلت فلانة ابنة فلان قال النسب كما تحب وكما قد علمت ولكن في أخلاق أهلها دقة لا تعدمك أن تجدها في ولدك قلت فلا حاجة لي إذا فيها قال فلم لا تخطب إلى ابن عمك يعني عليا قلت أ لم تسبقني إليه قال فالأخرى قلت هي لابن أخيه قال يا ابن عباس إن صاحبكم إن ولي هذا الأمر أخشى عجبه بنفسه أن يذهب به فليتني أراكم بعدي قلت يا أمير المؤمنين إن صاحبنا ما قد علمت أنه ما غير ولا بدل ولا أسخط رسول الله ص أيام صحبته له .
[ 51 ](1/3327)
قال فقطع علي الكلام فقال ولا في ابنة أبي جهل لما أراد أن يخطبها على فاطمة . قلت قال الله تعالى وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً وصاحبنا لم يعزم على سخط رسول الله ص ولكن الخواطر التي لا يقدر أحد على دفعها عن نفسه وربما كان من الفقيه في دين الله العالم العامل بأمر الله . فقال يا ابن عباس من ظن أنه يرد بحوركم فيغوص فيها معكم حتى يبلغ قعرها فقد ظن عجزا أستغفر الله لي ولك خذ في غيرها . ثم أنشأ يسألني عن شي ء من أمور الفتيا وأجيبه فيقول أصبت أصاب الله بك أنت والله أحق أن تتبع . أشرف عبد الملك على أصحابه وهم يتذاكرون سيرة عمر فغاظه ذلك وقال إيها عن ذكر سيرة عمر فإنها مزراة على الولاة مفسدة للرعية . قال ابن عباس كنت عند عمر فتنفس نفسا ظننت أن أضلاعه قد انفرجت فقلت ما أخرج هذا النفس منك يا أمير المؤمنين إلا هم شديد قال إي والله يا ابن عباس إني فكرت فلم أدر فيمن أجعل هذا الأمر بعدي ثم قال لعلك ترى صاحبك لها أهلا قلت وما يمنعه من ذلك مع جهاده وسابقته وقرابته وعلمه قال صدقت ولكنه امرؤ فيه دعابة قلت فأين أنت عن طلحة قال ذو البأو وبإصبعه المقطوعة قلت فعبد الرحمن قال رجل ضعيف لو صار الأمر إليه لوضع خاتمه في يد امرأته قلت فالزبير قال شكس لقس يلاطم في النقيع في صاع
[ 52 ](1/3328)
من بر قلت فسعد بن أبي وقاص قال صاحب سلاح ومقنب قلت فعثمان قال أوه ثلاثا والله لئن وليها ليحملن بني أبي معيط على رقاب الناس ثم لتنهض العرب إليه . ثم قال يا ابن عباس إنه لا يصلح لهذا الأمر إلا خصيف العقدة قليل الغرة لا تأخذه في الله لومة لائم ثم يكون شديدا من غير عنف لينا من غير ضعف سخيا من غير سرف ممسكا من غير وكف قال ابن عباس وكانت والله هي صفات عمر . قال ثم أقبل علي بعد أن سكت هنيهة وقال أجرؤهم والله إن وليها أن يحملهم على كتاب ربهم وسنة نبيهم لصاحبك أما إن ولى أمرهم حملهم على المحجة البيضاء والصراط المستقيم . وروى عبد الله بن عمر قال كنت عند أبي يوما وعنده نفر من الناس فجرى ذكر الشعر فقال من أشعر العرب فقالوا فلان وفلان فطلع عبد الله بن عباس فسلم وجلس فقال عمر قد جاءكم الخبير من أشعر الناس يا عبد الله قال زهير بن أبي سلمى قال فأنشدني مما تستجيده له فقال يا أمير المؤمنين إنه مدح قوما من غطفان يقال لهم بنو سنان فقال
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم
قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا
قوم أبوهم سنان حين تنسبهم
طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
أنس إذا أمنوا جن إذا فزعوا
مرزءون بها ليل إذا جهدوا
[ 53 ]
محسدون على ما كان من نعم
لا بنزع الله منهم ماله حسدوا(1/3329)
فقال عمر والله لقد أحسن وما أرى هذا المدح يصلح إلا لهذا البيت من هاشم لقرابتهم من رسول الله ص فقال ابن عباس وفقك الله يا أمير المؤمنين فلم تزل موفقا فقال يا ابن عباس أ تدري ما منع الناس منكم قال لا يا أمير المؤمنين قال لكني أدري قال ما هو يا أمير المؤمنين قال كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة والخلافة فيجخفوا جخفا فنظرت قريش لنفسها فاختارت ووفقت فأصابت . فقال ابن عباس أ يميط أمير المؤمنين عني غضبه فيسمع قال قل ما تشاء قال أما قول أمير المؤمنين إن قريشا كرهت فإن الله تعالى قال لقوم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اَللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ . وأما قولك إنا كنا نجخف فلو جخفنا بالخلافة جخفنا بالقرابة ولكنا قوم أخلاقنا مشتقة من خلق رسول الله ص الذي قال الله تعالى وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ وقال له وَ اِخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ . وأما قولك فإن قريشا اختارت فإن الله تعالى يقول وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ وقد علمت يا أمير المؤمنين أن الله اختار من خلقه لذلك من اختار فلو نظرت قريش من حيث نظر الله لها لوفقت وأصابت قريش . فقال عمر على رسلك يا ابن عباس أبت قلوبكم يا بني هاشم إلا غشا في أمر قريش لا يزول وحقدا عليها لا يحول فقال ابن عباس مهلا يا أمير المؤمنين
[ 54 ](1/3330)
لا تنسب هاشما إلى الغش فإن قلوبهم من قلب رسول الله الذي طهره الله وزكاه وهم أهل البيت الذين قال الله تعالى لهم إِنَّما يُرِيدُ اَللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً وأما قولك حقدا فكيف لا يحقد من غصب شيئه ويراه في يد غيره . فقال عمر أما أنت يا ابن عباس فقد بلغني عنك كلام أكره أن أخبرك به فتزول منزلتك عندي قال وما هو يا أمير المؤمنين أخبرني به فإن يك باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه وإن يك حقا فإن منزلتي عندك لا تزول به . قال بلغني أنك لا تزال تقول أخذ هذا الأمر منك حسدا وظلما قال أما قولك يا أمير المؤمنين حسدا فقد حسد إبليس آدم فأخرجه من الجنة فنحن بنو آدم المحسود . وأما قولك ظلما فأمير المؤمنين يعلم صاحب الحق من هو . ثم قال يا أمير المؤمنين أ لم تحتج العرب على العجم بحق رسول الله واحتجت قريش على سائر العرب بحق رسول الله ص فنحن أحق برسول الله من سائر قريش . فقال له عمر قم الآن فارجع إلى منزلك فقام فلما ولى هتف به عمر أيها المنصرف إني على ما كان منك لراع حقك . فالتفت ابن عباس فقال إن لي عليك يا أمير المؤمنين وعلى كل المسلمين حقا برسول الله ص فمن حفظه فحق نفسه حفظ ومن أضاعه فحق نفسه أضاع ثم مضى .
[ 55 ](1/3331)
فقال عمر لجلسائه واها لابن عباس ما رأيته لاحى أحدا قط إلا خصمه . لما توفي عبد الله بن أبي رأس المنافقين في حياة رسول الله ص جاء ابنه وأهله فسألوا رسول الله ص أن يصلي عليه فقام بين يدي الصف يريد ذلك فجاء عمر فجذبه من خلفه وقال أ لم ينهك الله أن تصلي على المنافقين فقال إني خيرت فاخترت فقيل لي اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اَللَّهُ لَهُمْ ولو أني أعلم أني إذا زدت على السبعين غفر له لزدت ثم صلى رسول الله عليه ومشى معه وقام على قبره . فعجب الناس من جرأة عمر على رسول الله ص فلم يلبث الناس إلا أن نزل قوله تعالى وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ فلم يصل ع بعدها على أحد من المنافقين . و
روى أبو هريرة قال كنا قعودا حول رسول الله ص في نفر فقام من بين أظهرنا فأبطأ علينا وخشينا أن يقطع دوننا فقمنا وكنت أول من فزع فخرجت أبتغيه حتى أتيت حائطا للأنصار لقوم من بني النجار فلم أجد له بابا إلا ربيعا فدخلت في جوف الحائط والربيع الجدول فدخلت منه بعد أن احتفرته فإذا رسول الله ص فقال أبو هريرة قلت نعم قال ما شأنك قلت كنت بين أظهرنا فقمت فأبطأت عنا فخشينا أن تقتطع دوننا ففزعنا وكنت أول من فزع فأتيت هذا الحائط فاحتفرته كما يحتفر الثعلب والناس من ورائي .
[ 56 ](1/3332)
فقال يا أبا هريرة اذهب بنعلي هاتين فمن لقيته وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة فخرجت فكان أول من لقيت عمر فقال ما هذان النعلان قلت نعلا رسول الله ص بعثني بهما وقال من لقيته يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة . فضرب عمر في صدري فخررت لاستي وقال ارجع إلى رسول الله ص . فأجهشت بالبكاء راجعا فقال رسول الله ما بالك قلت لقيت عمر فأخبرته بالذي بعثتني به فضرب صدري ضربة خررت لاستي وقال ارجع إلى رسول الله . فخرج رسول الله فإذا عمر فقال ما حملك يا عمر على ما فعلت فقال عمر أنت بعثت أبا هريرة بكذا قال نعم قال فلا تفعل فإني أخشى أن يتكل الناس عليها فيتركوا العمل خلهم يعملون فقال رسول الله ص خلهم يعملون و
روى أبو سعيد الخدري قال أصابت الناس مجاعة في غزاة تبوك فقالوا يا رسول الله لو أذنت لنا فذبحنا نواضحنا وأكلنا شحمها ولحمها فقال افعلوا فجاء عمر فقال يا رسول الله إنهم إن فعلوا قل الظهر ولكن ادعهم بفضلات أزوادهم فاجمعها ثم ادع لهم عليها بالبركة لعل الله يجعل في ذلك خيرا
[ 57 ]
ففعل رسول الله ص ذلك فأكل الخلق الكثير من طعام قليل ولم تذبح النواضح و(1/3333)
روى ابن عباس رضي الله عنه أن رجلا أتى رسول الله ص يذكر له ذنبا أذنبه فانزل الله تعالى في أمره وَ أَقِمِ اَلصَّلاةَ طَرَفَيِ اَلنَّهارِ وَ زُلَفاً مِنَ اَللَّيْلِ إِنَّ اَلْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ فقال يا رسول الله لي خاصة أم للناس عامة . فضرب عمر صدره بيده وقال لا ولا نعمى عين بل للناس عامة فقال رسول الله ص بل للناس عامة . وكان عمر يقول وافقني ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى . وقلت يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب . وتمالأ عليه نساؤه غيرة فقلت له عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن فنزلت بهذا اللفظ . وقال عبد الله بن مسعود فضل عمر الناس بأربع برأيه في أسارى بدر فنزل القرآن بموافقته ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي اَلْأَرْضِ وبرأيه في حجاب نساء النبي ص فنزل قوله تعالى وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ
[ 58 ](1/3334)
مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ وبدعوة النبي ص اللهم أيد الإسلام بأحد الرجلين وبرأيه في أبي بكر كان أول من بايعه . وروت عائشة قالت كنت آكل مع رسول الله ص حيسا قبل أن تنزل آية الحجاب ومر عمر فدعاه فأكل فأصابت يده إصبعي فقال حس لو أطاع فيكن ما رأتكن عين فنزلت آية الحجاب . جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس إلى أبي بكر فقالا يا خليفة رسول الله إن عندنا أرضا سبخة ليس فيها كلأ ولا منفعة فإن رأيت أن تقطعناها لعلنا نحرثها أو نزرعها ولعل الله أن ينفع بها بعد اليوم فقال أبو بكر لمن حوله من الناس المسلمين ما ترون قالوا لا بأس فكتب لهما بها كتابا وأشهد فيه شهودا وعمر ما كان حاضرا فانطلقا إليه ليشهد في الكتاب فوجداه قائما يهنأ بعيرا فقالا إن خليفة رسول الله ص كتب لنا هذا الكتاب وجئناك لتشهد على ما فيه أ فتقرؤه أم نقرؤه عليك قال أ على الحال التي تريان إن شئتما فاقرآه وإن شئتما فانتظرا حتى أفرغ . قالا بل نقرؤه عليك فلما سمع ما فيه أخذه منهما ثم تفل فيه فمحاه فتذامرا وقالا مقالة سيئة .
[ 59 ](1/3335)
فقال إن رسول الله ص كان يتألفكما والإسلام يومئذ ذليل وإن الله تعالى قد أعز الإسلام فاذهبا فاجهدا جهدكما لا رعى الله عليكما إن رعيتما . فذهبا إلى أبي بكر وهما يتذمران فقالا والله ما ندري أنت أمير أم عمر فقال بل هو لو شاء كان . وجاء عمر وهو مغضب حتى وقف على أبي بكر فقال أخبرني عن هذه الأرض التي أقطعتها هذين الرجلين أ هي لك خاصة أم بين المسلمين عامة فقال بين المسلمين عامة قال فما حملك على أن تخص بها هذين دون جماعة المسلمين قال استشرت الذين حولي فأشاروا بذلك فقال أ فكل المسلمين أوسعتهم مشورة ورضا فقال أبو بكر فلقد كنت قلت لك إنك أقوى على هذا الأمر مني لكنك غلبتني . لما كتب النبي ص كتاب الصلح في الحديبية بينه وبين سهيل بن عمرو كان في الكتاب أن من خرج من المسلمين إلى قريش لا يرد ومن خرج من المشركين إلى النبي ص يرد عليهم فغضب عمر وقال لأبي بكر ما هذا يا أبا بكر أ يرد المسلمون إلى المشركين ثم جاء إلى رسول الله ص فجلس بين يديه وقال يا رسول الله أ لست رسول الله حقا قال بلى قال ونحن المسلمون حقا قال نعم قال وهم الكافرون حقا قال نعم قال فعلام نعطي الدنية في ديننا فقال رسول الله أنا رسول الله أفعل ما يأمرني به ولن يضيعني . فقام عمر مغضبا وقال لو أجد أعوانا ما أعطيت الدنية أبدا وجاء إلى أبي بكر
[ 60 ](1/3336)
فقال له يا أبا بكر أ لم يكن وعدنا أننا سندخل مكة فأين ما وعدنا به فقال أبو بكر أ قال لك إنه العام يدخلها قال لا قال فسيدخلها فقال فما هذه الصحيفة التي كتبت وكيف نعطي الدنية من أنفسنا فقال أبو بكر يا هذا الزم غرزه فو الله إنه لرسول الله وإن الله لا يضيعه . فلما كان يوم الفتح وأخذ رسول الله ص مفتاح الكعبة قال ادعوا لي عمر فجاء فقال هذا الذي كنت وعدتكم به . لما قتل المشركون يوم بدر أسر منهم سبعون أسيرا فاستشار رسول الله ص فيهم أبا بكر وعمر فقال أبو بكر يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان وأرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على المشركين وعسى أن يهديهم الله بعد اليوم فيكونوا لنا عذرا فقال رسول الله ص ما تقول أنت يا عمر قال أرى أن تمكنني من فلان قريب لعمر فأضرب عنقه وتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه وتمكن حمزة من أخيه فيضرب عنقه حتى يعلم الله أنه ليس في قلوبنا هوادة للمشركين اقتلهم يا رسول الله فإنهم صناديدهم وقادتهم فلم يهو رسول الله ما قاله عمر . قال عمر فجئت رسول الله ص فوجدته قاعدا وأبو بكر وهما يبكيان فقلت ما يبكيكما حدثاني فإن وجدت بكاء بكيت وإلا تباكيت فقال رسول الله ص أبكي لأخذ الفداء لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة منه .
[ 61 ](1/3337)
قال عبد الله بن عمر فكان رسول الله ص يقول كدنا أن يصيبنا شر في مخالفة عمر . وقال عمر في خلافته لئن عشت إن شاء الله لأسيرن في الرعية حولا فإني أعلم أن للناس حوائج تقتطع دوني أما عمالهم فلا يرفعونها إلي وأما هم فلا يصلون إلي أسير إلى الشام فأقيم بها شهرين ثم أسير إلى الجزيرة فأقيم بها شهرين ثم أسير إلى مصر فأقيم بها شهرين ثم أسير إلى البحرين فأقيم بها شهرين ثم أسير إلى الكوفة فأقيم بها شهرين ثم إلى البصرة فأقيم بها شهرين والله لنعم الحول هذا . وقال أسلم بعثني عمر بإبل من إبل الصدقة إلى الحمى فوضعت جهازي على ناقة منها كريمة فلما أردت أن أصدرها قال أعرضها علي فعرضتها عليه فرأى متاعي على ناقة حسناء فقال لا أم لك عمدت إلى ناقة تغني أهل بيت من المسلمين فهلا ابن لبون بوال أو ناقة شصوص . وقيل لعمر إن هاهنا رجلا من الأحبار نصرانيا له بصر بالديوان لو اتخذته كاتبا فقال لقد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين . قال وقد خطب الناس والذي بعث محمدا بالحق لو أن جملا هلك ضياعا بشط الفرات خشيت أن يسأل الله عنه آل الخطاب .
[ 62 ]
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يعني بآل الخطاب نفسه ما يعني غيرها . وكتب إلى أبي موسى أنه لم يزل للناس وجوه من الأمر فأكرم من قبلك من وجوه الناس وبحسب المسلم الضعيف من بين القوم أن ينصف في الحكم وفي القسم . أتى أعرابي عمر فقال إن ناقتي بها نقبا ودبرا فاحملني فقال له والله ما ببعيرك من نقب ولا دبر فقال
أقسم بالله أبو حفص عمر
ما مسها من نقب ولا دبر
فاغفر له اللهم إن كان فجر
فقال عمر اللهم اغفر لي ثم دعاه فحمله . جاء رجل إلى عمر وكانت بينهما قرابة يسأله فزبره وأخرجه فكلم فيه وقيل يا أمير المؤمنين زبرته وأخرجته قال إنه سألني من مال الله فما معذرتي إذا لقيته ملكا خائنا فلو سألني من مالي ثم بعث إليه ألف درهم من ماله .
[ 63 ](1/3338)
و كان يقول في عماله اللهم إني لم أبعثهم ليأخذوا أموال المسلمين ولا ليضربوا أبشارهم من ظلمه أميره فلا إمرة عليه دوني بينا عمر ذات ليلة يعس سمع صوت امرأة من سطح وهي تنشد
تطاول هذا الليل وأزور جانبه
و ليس إلى جنبي خليل ألاعبه
فو الله لو لا الله تخشى عواقبه
لزعزع من هذا السرير جوانبه
مخافة ربي والحياء يصدني
و أكرم بعلي أن تنال مراكبه
و لكنني أخشى رقيبا موكلا
بأنفسنا لا يفتر الدهر كاتبه
فقال عمر لا حول ولا قوة إلا بالله ما ذا صنعت يا عمر بنساء المدينة ثم جاء فضرب على حفصة ابنته فقالت ما جاء بك في هذه الساعة قال أخبريني كم تصبر المرأة المغيبة عن بعلها قالت أقصاه أربعة أشهر . فلما أصبح كتب إلى أمرائه في جميع النواحي ألا تجمر البعوث وألا يغيب رجل عن أهله أكثر من أربعة أشهر . وروى أسلم قال كنت مع عمر وهو يعس بالمدينة إذ سمع امرأة تقول لبنتها قومي يا بنية إلى ذلك اللبن بعد المشرقين فامذقيه قالت أ وما علمت ما كان من عزمة أمير المؤمنين بالأمس قالت وما هو قالت إنه أمر مناديا فنادى ألا يشاب اللبن بالماء قالت فإنك بموضع لا يراك أمير المؤمنين ولا منادي أمير المؤمنين قالت
[ 64 ](1/3339)
و الله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء وعمر يسمع ذلك فقال يا أسلم اعرف الباب ثم مضى في عسه فلما أصبح قال يا أسلم امض إلى الموضع فانظر من القائلة ومن المقول لها وهل لهما من بعل قال أسلم فأتيت الموضع فنظرت فإذا الجارية أيم وإذا المتكلمة بنت لها ليس لهما رجل . فجئت فأخبرته فجمع عمر ولده وقال هل يريد أحد أن يتزوج فأزوجه امرأة صالحة فتاة ولو كان في أبيكم حركة إلى النساء لم يسبقه أحد إليها فقال عاصم ابنه أنا فبعث إلى الجارية فزوجها ابنه عاصما فولدت له بنتا هي المكناة أم عاصم وهي أم عمر بن عبد العزيز بن مروان . حج عمر فلما كان بضجنان قال لا إله إلا الله العلي العظيم المعطي ما يشاء لمن يشاء أذكر وأنا أرعى إبل الخطاب بهذا الوادي في مدرعة صوف وكان فظا يتعبني إذا عملت ويضربني إذا قصرت وقد أمسيت اليوم وليس بيني وبين الله أحد ثم تمثل
لا شي ء مما يرى تبقى بشاشته
يبقى الإله ويودي المال والولد
لم تغن عن هرمز يوما خزائنه
و الخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
و لا سليمان إذ تجري الرياح له
و الإنس والجن فيما بينها يرد
أين الملوك التي كانت منازلها
من كل أوب إليها راكب يفد
حوض هنالك مورود بلا كذب
لا بد من ورده يوما كما وردوا
[ 65 ]
و روى محمد بن سيرين أن عمر في آخر أيامه اعتراه نسيان حتى كان ينسى عدد ركعات الصلاة فجعل أمامه رجلا يلقنه فإذا أومى إليه أن يقوم أو يركع فعل . وسمع عمر منشدا ينشد قول طرفه
فلو لا ثلاث هن من عيشه الفتى
و جدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبقي العاذلات بشربه
كميت متى ما تعل بالماء تزبد
و كري إذا نادى المضاف محنبا
كسيد الغضا نبهته المتوسد
و تقصير يوم الدجن والدجن معجب
ببهكنة تحت الطراف الممدد(1/3340)
فقال وأنا لو لا ثلاث هن من عيشه الفتى لم أحفل متى قام عودي أن أجاهد في سبيل الله وأن أضع وجهي في التراب لله وأن أجالس قوما يلتقطون طيب القول كما يلتقط طيب التمر . وروى عبد الله بن بريدة قال كان عمر ربما يأخذ بيد الصبي فيقول ادع لي فإنك لم تذنب بعد وكان عمر كثير المشاورة كان يشاور في أمور المسلمين حتى المرأة . وروى يحيى بن سعيد قال أمر عمر الحسين بن علي ع أن يأتيه
[ 66 ]
في بعض الحاجة فلقي الحسين ع عبد الله بن عمر فسأله من أين جاء قال استأذنت على أبي فلم يأذن لي فرجع الحسين ولقيه عمر من الغد فقال ما منعك يا حسين أن تأتيني قال قد أتيتك ولكن أخبرني ابنك عبد الله أنه لم يؤذن له عليك فرجعت فقال عمر وأنت عندي مثله وهل أنبت الشعر على الرأس غيركم . قال عمر يوما والناس حوله والله ما أدري أ خليفة أنا أم ملك فإن كنت ملكا فقد ورطت في أمر عظيم فقال له قائل يا أمير المؤمنين إن بينهما فرقا وإنك إن شاء الله لعلى خير قال كيف قال إن الخليفة لا يأخذ إلا حقا ولا يضعه إلا في حق وأنت بحمد الله كذلك والملك يعسف الناس ويأخذ مال هذا فيعطيه هذا فسكت عمر وقال أرجو أن أكونه . وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أن عمر تعلم سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة فلما ختمها نحر جزورا . وروى أنس قال كان يطرح لعمر كل يوم صاع من تمر فيأكله حتى حشفه . وروى يوسف بن يعقوب الماجشون قال قال لي ابن شهاب ولأخ لي وابن عم لنا ونحن صبيان أحداث لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم فإن عمر كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الصبيان فاستشارهم يبتغي حدة عقولهم .
[ 67 ]
و روى الحسن قال كان رجل لا يزال يأخذ من لحية عمر شيئا فأخذ يوما من لحيته فقبض على يده فإذا فيها بشي ء فقال إن الملق من الكذب ثم علاه بالدرة . انقطع شسع نعل عمر فاسترجع وقال كل ما ساءك فهو مصيبة . وقف أعرابي على عمر فقال له
يا ابن خطاب جزيت الجنة(1/3341)
اكس بنياتي وأمهنه
أقسم بالله لتفعلنه
فقال عمر إن لم أفعل يكون ما ذا قال
إذا أبا حفص لأمضينه
فقال إذا مضيت يكون ما ذا قال
تكون عن حالي لتسألنه
يوم تكون الأعطيات جنة
و الواقف المسئول يبهتنه
إما إلى نار وإما جنة
فبكى عمر ثم قال لغلامه أعطه قميصي هذا لذلك اليوم لا لشعره والله ما أملك ثوبا غيره . وروى ابن عباس قال قال لي عمر ليلة أنشدني لشاعر الشعراء قلت ومن هو قال زهير الذي يقول
[ 68 ]
إذا ابتدرت قيس بن عيلان غاية
من المجد من يسبق إليها يسود
فأنشدته حتى برق الفجر فقال إيها الآن اقرأ يا عبد الله قلت ما أقرأ قال سورة الواقعة . سمع عمر صوت بكاء في بيت فدخل وبيده الدرة فمال عليهم ضربا حتى بلغ النائحة فضربها حتى سقط خمارها ثم قال لغلامه اضرب النائحة ويلك اضربها فإنها نائحة لا حرمة لها لأنها لا تبكي بشجوكم إنها تهريق دموعها على أخذ دراهمكم إنها تؤذي أمواتكم في قبورهم وأحياءكم في دورهم إنها تنهى عن الصبر وقد أمر الله به وتأمر بالجزع وقد نهى الله عنه . ومن كلامه من اتجر في شي ء ثلاث مرات فلم يصب فيه فليتحول عنه إلى غيره . ومن كلامه لو كنت تاجرا لما اخترت على العطر شيئا إن فاتني ربحه لم يفتني ريحه . ومن كلامه تفقهوا قبل أن تسودوا . ومن كلامه تعلموا المهنة فإنه يوشك أحدكم أن يحتاج إلى مهنته . ومن كلامه مكسبة فيها بعض الدناءة خير من مسألة الناس . ومن كلامه أعقل الناس أعذرهم لهم . رأى عمر ناسا يتبعون أبي بن كعب فرفع عليه الدرة فقال يا أمير المؤمنين اتق الله قال فما هذه الجموع خلفك يا ابن كعب أ ما علمت أنها فتنة للمتبوع مذلة للتابع . جاء رجل إلى عمر فقال إن بنتا لي واريتها في الجاهلية فاستخرجناها قبل أن
[ 69 ](1/3342)
تموت فأدركت معنا الإسلام فأسلمت ثم قارفت حدا من حدود الله فأخذت الشفرة لتذبح نفسها فأدركناها وقد قطعت بعض أوداجها فداويناها حتى برئت وتابت توبة حسنة وقد خطبها قوم أ فأخبرهم بالذي كان من شأنها فقال عمر أ تعمد إلى ما ستره الله فتبديه والله لئن أخبرت بشأنها أحدا لأجعلنك نكالا لأهل الأمصار أنكحها نكاح العفيفة السليمة .
أسلم غيلان بن سلمة الثقفي من عشر نسوة فقال له النبي ص اختر منهن أربعا وطلق ستا فلما كان على عهد عمر طلق نساءه الأربع وقسم ماله بين بنيه فبلغ ذلك عمر فأحضره فقال له إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك فقذفه في نفسك ولعلك لا تمكث إلا قليلا وايم الله لتراجعن نساءك ولترجعن في مالك أو لأورثنهن منك ولآمرن بقبرك فيرجم كما رجم قبر أبي رغال وقال عمر إن الجزف في المعيشة أخوف عندي عليكم من العيال أنه لا يبقى مع الفساد شي ء ولا يقل مع الإصلاح شي ء . وكان عمر يقول أدبوا الخيل وانتضلوا واقعدوا في الشمس ولا يجاورنكم الخنازير ولا تقعدوا على مائدة يشرب عليها الخمر أو يرفع عليها الصليب وإياكم وأخلاق العجم ولا يحل لمؤمن أن يدخل الحمام إلا مؤتزرا ولا لامرأة أن تدخل الحمام إلا من سقم فإذا وضعت المرأة خمارها في غير بيت زوجها فقد هتكت الستر بينها وبين الله تعالى .
[ 70 ](1/3343)
و كان يكره أن يتزيا الرجال بزي النساء وألا يزال الرجل يرى مكتحلا مدهنا وأن يحف لحيته وشاربه كما تحف المرأة . سمع عمر سائلا يقول من يعشي السائل فقال عشوا سائلكم ثم جاء إلى دار إبل الصدقة يعشيها فسمع صوته مرة أخرى من يعشي السائل فقال أ لم آمركم أن تعشوه فقالوا قد عشيناه فأرسل إليه عمر وإذا معه جراب مملوء خبزا فقال إنك لست سائلا إنما أنت تاجر تجمع لأهلك فأخذ بطرف الجراب فنبذه بين يدي الإبل . وقال عمر من مزح استخف به وقال أ تدرون لم سمي المزاح مزاحا لأنه أزاح الناس عن الحق . ومن كلامه لن يعطى أحد بعد الكفر بالله شرا من زوجة حديدة اللسان سيئة الخلق عقيم ولن يعطى أحد بعد الإيمان بالله خيرا من زوجة كريمة ودود ولود حسنة الخلق . وكان يقول إن شقاشق الكلام من شقاشق اللسان فأقلوا ما استطعتم . ونظر إلى شاب قد نكس رأسه خشوعا فقال يا هذا ارفع رأسك فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب فمن أظهر للخلق خشوعا فوق ما في قلبه فإنما أظهر نفاقا . ومن كلامه إن أحبكم إلينا ما لم نركم أحسنكم أسماء فإذا رأيناكم فأحبكم إلينا أحسنكم أخلاقا فإذا بلوناكم فأحبكم إلينا أعظمكم أمانة وأصدقكم حديثا . وكان يقول لا تنظروا إلى صلاة امرئ ولا صيامه ولكن انظروا إلى عقله وصدقه .
[ 71 ](1/3344)
و من كلامه إن العبد إذا تواضع لله رفع حكمته وقال له انتعش نعشك الله فهو في نفسه صغير وفي أعين الناس عظيم وإذا تكبر وعتا وهضه الله إلى الأرض وقال اخسأ خسأك الله فهو في نفسه عظيم وفي أعين الناس حقير حتى يكون عندهم أحقر من الخنزير . وقال الإنسان لا يتعلم العلم لثلاث ولا يتركه لثلاث لا يتعلمه ليماري به ولا ليباهي به ولا ليرائي به ولا يتركه حياء من طلبه ولا زهادة فيه ولا رضا بالجهل بدلا منه . وقال تعلموا أنسابكم تصلوا أرحامكم . وقال إني لا أخاف عليكم أحد الرجلين مؤمنا قد تبين إيمانه وكافرا قد تبين كفره ولكن أخاف عليكم منافقا يتعوذ بالإيمان ويعمل بغيره . ومن كلامه إن الرجف من كثرة الزناء وإن قحوط المطر من قضاه السوء وأئمة الجور . وقال في النساء استعينوا عليهن بالعري فإن إحداهن إذا كثرت ثيابها وحسنت زينتها أعجبها الخروج . ومن كلامه إن الجبت السحر وإن الطاغوت الشيطان وإن الجبن والشجاعة غرائز تكون في الرجال يقاتل الشجاع عمن لا يعرف ويفر الجبان عن أمه وإن كرم الرجل دينه وحسب الرجل خلقه وإن كان فارسيا أو نبطيا . وقال تفهموا العربية فإنها تشحذ العقل وتزيد في المروءة . وقال النساء ثلاث امرأة هينة لينة عفيفة ودود ولود تعين بعلها على الدهر ولا تعين الدهر على بعلها وقلما تجدها وأخرى وعاء للولد لا تزيد على ذلك شيئا والثالثة غل قمل يجعله الله في عنق من يشاء وينزعه إذا شاء .
[ 72 ](1/3345)
و الرجال ثلاثة رجل عاقل يورد الأمور ويصدرها فيحسن إيرادا وإصدارا وآخر يشاور الرجال ويقف عند آرائهم والثالث حائر بائر لا يأتمر رشدا ولا يطيع مرشدا . وقال ما يمنعكم إذا رأيتم السفيه يخرق أعراض النساء أن تعربوا عليه قالوا نخاف لسانه قال ذاك أدنى ألا تكونوا شهداء . ورأى رجلا عظيم البطن فقال ما هذا قال بركة من الله . وقال إذا رزقت مودة من أخيك فتشبث بها ما استطعت . وقال لقوم يحصدون الزرع إن الله جعل ما أخطأت أيديكم رحمة لفقرائكم فلا تعودوا فيه . وقال ما ظهرت قط نعمه على أحد إلا وجدت له حاسدا ولو أن أمرا كان أقوم من قدح لوجدت له غامزا . وقال إياكم والمدح فإنه الذبح . وقال لقبيصه بن ذؤيب أنت رجل حديث السن فصيح اللسان وإنه يكون في الرجل تسعة أخلاق حسنة وخلق واحد سيئ فيغلب الواحد التسعة فتوق عثرات السيئات . وقال بحسب امرئ من الغي أن يؤذي جليسه أو يتكلف ما لا يعنيه أو يعيب الناس بما يأتي مثله ويظهر له منهم ما يخفى عليهم من نفسه . وقال احترسوا من الناس بسوء الظن . وقال في خطبة له لا يعجبنكم من الرجل طنطنته ولكن من أدى الأمانة وكف عن أعراض الناس فهو الرجل . وقال الراحة في مهاجرة خلطاء السوء .
[ 73 ](1/3346)
و قال إن لؤما بالرجل أن يرفع يديه من الطعام قبل أصحابه . وأثنى رجل على رجل عند عمر فقال له أ عاملته قال لا قال أ صحبته في السفر قال لا قال فأنت إذا القائل ما لا يعلم . وقال لأن أموت بين شعبتي رحلي أسعى في الأرض أبتغي من فضل الله كفاف وجهي أحب إلي من أن أموت غازيا . وكان عمر قاعدا والدرة معه والناس حوله إذ أقبل الجارود العامري فقال رجل هذا سيد ربيعة فسمعها عمر ومن حوله وسمعها الجارود فلما دنا منه خفقه بالدرة فقال ما لي ولك يا أمير المؤمنين قال ويلك سمعتها قال وسمعتها فمه قال خشيت أن تخالط القوم ويقال هذا أمير فأحببت أن أطأطئ منك . وقال من أحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه من بعده . وقال إن أخوف ما أخاف أن يكون إعجاب المرء برأيه فمن قال إني عالم فهو جاهل ومن قال إني في الجنة فهو في النار . وخرج للحج فسمع غناء راكب يغني وهو محرم فقيل يا أمير المؤمنين أ لا تنهاه عن الغناء وهو محرم فقال دعوه فإن الغناء زاد الراكب . وقال يثغر الغلام لسبع ويحتلم لأربع عشرة وينتهي طوله لإحدى وعشرين ويكمل عقله لثمان وعشرين ويصير رجلا كاملا لأربعين .
[ 74 ](1/3347)
و روى سعيد بن المسيب أن عمر لما صدر من الحج في الشهر الذي قتل فيه كوم كومة من بطحاء وألقى عليها طرف ثوبه ثم استلقى عليها ورفع يديه إلى السماء وقال اللهم كبرت سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط . ثم قدم المدينة فخطب الناس فقال أيها الناس قد فرضت لكم الفرائض وسننت لكم السنن وتركتكم على الواضحة إلا أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا إياكم أن تنتهوا عن آية الرجم وأن يقول قائل لا نجد ذلك حدا في كتاب الله فقد رأيت رسول الله رجم ورجمنا بعده ولو لا أن يقول الناس إن ابن الخطاب أحدث آية في كتاب الله لكتبتها ولقد كنا نقرؤها والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة فما انسلخ ذو الحجة حتى طعن دفع إلى عمر صك محله في شعبان فقال أي شعبان الذي مضى أم الذي نحن فيه ثم جمع أصحاب رسول الله ص وقال ضعوا للناس تاريخا يرجعون إليه فقال قائل منهم اكتبوا على تاريخ الروم فقيل إنه يطول وإنه مكتوب من عهد ذي القرنين وقال قائل بل اكتبوا على تاريخ الفرس فقيل إن الفرس كلما قام ملك طرحوا ما كان قبله
فقال علي ع اكتبوا تاريخكم منذ خرج رسول الله ص من دار الشرك إلى دار النصرة وهي دار الهجرة فقال عمر نعم ما أشرت به فكتب للهجرة بعد مضي سنتين ونصف من خلافة عمر .
[ 75 ](1/3348)
قال المؤرخون إن عمر أول من سن قيام رمضان في جماعة وكتب به إلى البلدان وأقام الحد في الخمر ثمانين وأحرق بيت رويشد الثقفي وكان نباذا وأقام في عمله بنفسه وأول من حمل الدرة وأدب بها وقيل بعده كانت درة عمر أهيب من سيف الحجاج . وهو أول من فتح الفتوح فتح العراق كله السواد والجبال وأذربيجان وكور البصرة وكور الكوفة والأهواز وفارس وفتح الشام كلها ما خلا أجنادين فإنها فتحت في خلافة أبي بكر وفتح كور الجزيرة والموصل ومصر والإسكندرية وقتله أبو لؤلؤة وخيله على الري . وهو أول من مسح السواد ووضع الخراج على الأرض والجزية على جماجم أهل الذمة فيما فتحه من البلدان وبلغ خراج السواد في أيامه مائة ألف ألف درهم وعشرين ألف ألف درهم بالوافية وهي وزن الدينار من الذهب وهو أول من مصر الأمصار وكوف الكوفة وبصر البصرة وأنزلها العرب وأول من استقضى القضاة في الأمصار وأول من دون الدواوين وكتب الناس على قبائلهم وفرض لهم الأعطية وهو أول من قاسم العمال وشاطرهم أموالهم وكان يستعمل قوما ويدع أفضل منهم لبصرهم بالعمل وقال أكره أن أدنس هؤلاء بالعمل وهو الذي هدم مسجد رسول الله ص وزاد فيه وأدخل دار العباس فيما زاد وهو الذي أخرج اليهود من الحجاز وأجلاهم عن جزيرة العرب إلى الشام وهو الذي فتح البيت المقدس وحضر الفتح بنفسه وهو الذي أخر المقام إلى موضعه اليوم وكان ملصقا بالبيت وحج بنفسه خلافته كلها إلا السنة الأولى فإنه استخلف على الحج عبد الرحمن بن عوف وهو
[ 76 ](1/3349)
الذي جاء بالحصى من العقيق فبسطه في مسجد المدينة وكان الناس إذا رفعوا رءوسهم من السجود نفضوا أيديهم . وروى أبو هريرة قال قدمت على عمر من عند أبي موسى بثمانمائة ألف درهم فقال لي بما ذا قدمت قلت بثمانمائة ألف درهم فقال أ لم أقل لك إنك يمان أحمق ويحك إنما قدمت بثمانين ألف درهم فقلت يا أمير المؤمنين إنما قدمت بثمانمائة ألف درهم فجعل يعجب ويكررها فقال ويحك وكم ثمانمائة ألف درهم فعددت مائة ألف ومائة ألف حتى بلغت ثمانية فاستعظم ذلك وقال أ طيب هو ويحك قلت نعم فبات عمر ليلته تلك أرقا حتى إذا نودي لصلاة الصبح قالت له امرأته ما نمت هذه الليلة قال وكيف أنام وقد جاء الناس ما لم يأتهم مثله منذ قام الإسلام فظنت المرأة أنها داهية فسألته فقال مال جم حمله أبو موسى قالت فما بالك قال ما يؤمنني لو مت وهذا المال عندي لم أضعه في حقه فخرج يصلي الصبح واجتمع الناس إليه فقال لهم قد رأيت في هذا المال رأيا فأشيروا علي رأيت أن أكيله للناس بالمكيال قالوا لا يا أمير المؤمنين قال لا بل أبدأ برسول الله ص وبأهله ثم الأقرب فالأقرب فبدأ ببني هاشم ثم ببني المطلب ثم بعبد شمس ونوفل ثم بسائر بطون قريش . قسم عمر مروطا بين نساء المدينة فبقي مرط جيد له فقال بعض من عنده أعط هذا يا أمير المؤمنين ابنة رسول الله التي عندك يعنون أم كلثوم ابنة علي ع
[ 77 ](1/3350)
فقال أم سليط أحق به فإنها ممن بايع رسول الله ص وكانت تزفر لنا القرب يوم أحد . وروى زيد بن أسلم عن أبيه قال خرجت مع عمر إلى السوق فلحقته امرأة شابة فقالت يا أمير المؤمنين هلك زوجي وترك صبية صغارا لا ينضحون كراعا لا زرع لهم ولا ضرع وقد خشيت عليهم الضيعة وأنا ابنة خفاف بن أسماء الغفاري وقد شهد أبي الحديبية فوقف عمر معها ولم يمض وقال مرحبا بنسيب قريب ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطا في الدار فحمل عليه غرارتين ملأهما طعاما وجعل بينهما نفقة وثيابا ثم ناولها خطامه وقال اقتاديه فلن يفنى هذا حتى يأتيكم الله بخير فقال له رجل لقد أكثرت لها يا أمير المؤمنين فقال ثكلتك أمك والله لكأني أرى أبا هذه وأخاها وقد حاصرا حصنا فافتتحاه فافترقنا ثم أصبحنا نستقرئ سهماننا فيه . وروى الأوزاعي أن طلحة تبع عمر ليلة فرآه دخل بيتا ثم خرج فلما أصبح ذهب طلحة إلى ذلك البيت فرأى امرأة عمياء مقعده فقال لها ما بال رجل أتاك الليلة قالت إنه رجل يتعاهدني منذ كذا وكذا يأتيني بما يصلحني فقال طلحة ثكلتك أمك يا طلحة تريد تتبع عمر . خرج عمر إلى الشام حتى إذا كان ببعض الطريق لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام فقال لابن عباس ادع لي المهاجرين فدعاهم فسألهم فاختلفوا عليه فقال بعضهم خرجت لأمر ولا نرى أن
[ 78 ](1/3351)
ترجع عنه وقال بعضهم معك بقية الناس وأصحاب رسول الله ص ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء فقال ارتفعوا عني ثم قال لابن عباس ادع لي الأنصار فدعاهم فاستشارهم فاختلفوا عليه اختلاف المهاجرين فقال لابن عباس ادع لي من كان من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فدعاهم فقالوا بأجمعهم نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء فنادى عمر في الناس إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه فقال له أبو عبيدة بن الجراح أ فرارا من قدر الله تعالى فقال عمر لو غيرك قالها يا أبا عبيدة نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله أ رأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة أ ليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبا في بعض حاجته فقال إن عندي من هذا علما
سمعت رسول الله ص يقول إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه فحمد عمر الله عز وجل وانصرف إلى المدينة . وروى ابن عباس قال خرجت مع عمر إلى الشام في إحدى خرجاته فانفرد يوما يسير على بعيره فاتبعته فقال لي يا ابن عباس أشكو إليك ابن عمك سألته أن يخرج معي فلم يفعل ولم أزل أراه واجدا فيم تظن موجدته قلت يا أمير المؤمنين إنك لتعلم قال أظنه لا يزال كئيبا لفوت الخلافة قلت هو ذاك إنه يزعم أن رسول الله أراد الأمر له فقال يا ابن عباس وأراد رسول الله ص الأمر له فكان ما ذا إذا لم يرد الله تعالى ذلك إن رسول الله ص أراد أمرا وأراد
[ 79 ](1/3352)
الله غيره فنفذ مراد الله تعالى ولم ينفذ مراد رسوله أ وكلما أراد رسول الله ص كان إنه أراد إسلام عمه ولم يرده الله فلم يسلم . وقد روي معنى هذا الخبر بغير هذا اللفظ وهو قوله إن رسول الله ص أراد أن يذكره للأمر في مرضه فصددته عنه خوفا من الفتنة وانتشار أمر الإسلام فعلم رسول الله ما في نفسي وأمسك وأبى الله إلا إمضاء ما حتم وحدثني الحسين بن محمد السيني قال قرأت على ظهر كتاب أن عمر نزلت به نازلة فقام لها وقعد وترنح لها وتقطر وقال لمن عنده معشر الحاضرين ما تقولون في هذا الأمر فقالوا يا أمير المؤمنين أنت المفزع والمنزع فغضب وقال يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ثم قال أما والله إني وإياكم لنعلم ابن بجدتها والخبير بها قالوا كأنك أردت ابن أبي طالب قال وأنى يعدل بي عنه وهل طفحت حرة مثله قالوا فلو دعوت به يا أمير المؤمنين قال هيهات إن هناك شمخا من هاشم وأثرة من علم ولحمة من رسول الله ص يؤتى ولا يأتي فامضوا بنا إليه فانقصفوا نحوه وأفضوا إليه فألفوه في حائط له عليه تبان وهو يتركل على مسحاته ويقرأ أَ يَحْسَبُ اَلْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً إلى آخر السورة ودموعه تهمي على خديه فأجهش الناس لبكائه فبكوا ثم سكت وسكتوا فسأله عمر عن تلك الواقعة فأصدر جوابها فقال عمر أما
[ 80 ](1/3353)
و الله لقد أرادك الحق ولكن أبى قومك فقال يا أبا حفص خفض عليك من هنا ومن هنا إِنَّ يَوْمَ اَلْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً فوضع عمر إحدى يديه على الأخرى وأطرق إلى الأرض وخرج كأنما ينظر في رماد . قلت أجدر بهذا الخبر أن يكون موضوعا وفيه ما يدل على ذلك من كون عمر أتى عليا يستفتيه في المسألة والأخبار كثيرة بأنه ما زال يدعوه إلى منزله وإلى المسجد وأيضا فإن عليا لم يخاطب عمر منذ ولي الخلافة بالكنية وإنما كان يخاطبه بإمرة المؤمنين هكذا تنطق كتب الحديث وكتب السير والتواريخ كلها . وأيضا فإن هذا الخبر لم يسند إلى كتاب معين ولا إلى راو معين بل ذكر ذلك أنه قرأه على ظهر كتاب فيكون مجهولا والحديث المجهول غير الصحيح . فأما ثناء عمر على أمير المؤمنين فصحيح غير منكر وفي الروايات منه الكثير الواسع ولكنا أنكرنا هذا الخبر بعينه خاصة وقد روي عن ابن عباس أيضا قال دخلت على عمر يوما فقال يا ابن العباس لقد أجهد هذا الرجل نفسه في العبادة حتى نحلته رياء قلت من هو فقال هذا ابن عمك يعني عليا قلت وما يقصد بالرياء أمير المؤمنين قال يرشح نفسه بين الناس للخلافة قلت وما يصنع بالترشيح قد رشحه لها رسول الله ص فصرفت عنه قال إنه كان شابا حدثا فاستصغرت العرب سنه وقد كمل الآن أ لم تعلم أن الله تعالى لم يبعث نبيا إلا بعد الأربعين قلت يا أمير المؤمنين أما أهل الحجى والنهى فإنهم ما زالوا يعدونه كاملا منذ رفع الله منار الإسلام ولكنهم يعدونه محروما مجدودا فقال أما إنه سيليها بعد هياط ومياط ثم تزل فيها قدمه ولا يقضى منها أربه ولتكونن شاهدا ذلك يا عبد الله ثم يتبين الصبح لذي عينين وتعلم العرب صحة رأي المهاجرين الأولين
[ 81 ](1/3354)
الذين صرفوها عنه بادئ بدء فليتني أراكم بعدي يا عبد الله إن الحرص محرمة وإن دنياك كظلك كلما هممت به ازداد عنك بعدا . نقلت هذا الخبر من أمالي أبي جعفر محمد بن حبيب رحمه الله . ونقلت منه أيضا ما رواه عن ابن عباس قال تبرم عمر بالخلافة في آخر أيامه وخاف العجز وضجر من سياسة الرعية فكان لا يزال يدعو الله بأن يتوفاه فقال لكعب الأحبار يوما وأنا عنده إني قد أحببت أن أعهد إلى من يقوم بهذا الأمر وأظن وفاتي قد دنت فما تقول في علي أشر علي في رأيك وأذكرني ما تجدونه عندكم فإنكم تزعمون أن أمرنا هذا مسطور في كتبكم فقال أما من طريق الرأي فإنه لا يصلح إنه رجل متين الدين لا يغضي على عورة ولا يحلم عن زلة ولا يعمل باجتهاد رأيه وليس هذا من سياسة الرعية في شي ء وأما ما نجده في كتبنا فنجده لا يلي الأمر ولا ولده وإن وليه كان هرج شديد قال كيف ذاك قال لأنه أراق الدماء فحرمه الله الملك إن داود لما أراد أن يبني حيطان بيت المقدس أوحى الله إليه إنك لا تبنيه لأنك أرقت الدماء وإنما يبنيه سليمان فقال عمر أ ليس بحق أراقها قال كعب وداود بحق أراقها يا أمير المؤمنين قال فإلى من يفضي الأمر تجدونه عندكم قال نجده ينتقل بعد صاحب الشريعة والاثنين من أصحابه إلى أعدائه الذين حاربهم وحاربوه وحاربهم على الدين فاسترجع عمر مرارا وقال أ تستمع يا ابن عباس أما والله لقد سمعت من رسول الله ما يشابه هذا
سمعته يقول ليصعدن بنو أمية على منبري ولقد أريتهم في منامي ينزون عليه نزو القردة وفيهم أنزل وَ ما جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ اَلشَّجَرَةَ اَلْمَلْعُونَةَ فِي اَلْقُرْآنِ
[ 82 ](1/3355)
و قد روى الزبير بن بكار في الموفقيات ما يناسب هذا عن المغيرة بن شعبة قال قال لي عمر يوما يا مغيرة هل أبصرت بهذه عينك العوراء منذ أصيبت قلت لا قال أما والله ليعورن بنو أمية الإسلام كما أعورت عينك هذه ثم ليعمينه حتى لا يدري أين يذهب ولا أين يجي ء قلت ثم ما ذا يا أمير المؤمنين قال ثم يبعث الله تعالى بعد مائة وأربعين أو بعد مائة وثلاثين وفدا كوفد الملوك طيبة ريحهم يعيدون إلى الإسلام بصره وشتاته قلت من هم يا أمير المؤمنين قال حجازي وعراقي وقليلا ما كان وقليلا ما دام . وروى أبو بكر الأنباري في أماليه أن عليا ع جلس إلى عمر في المسجد وعنده ناس فلما قام عرض واحد بذكره ونسبه إلى التيه والعجب فقال عمر حق لمثله أن يتيه والله لو لا سيفه لما قام عمود الإسلام وهو بعد أقضى الأمة وذو سابقتها وذو شرفها فقال له ذلك القائل فما منعكم يا أمير المؤمنين عنه قال كرهناه على حداثة السن وحبه بني عبد المطلب . قلت سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن محمد بن أبي زيد وقد قرأت عليه هذه الأخبار فقلت له ما أراها إلا تكاد تكون دالة على النص ولكني أستبعد أن يجتمع الصحابة على دفع نص رسول الله ص على شخص بعينه كما استبعدنا من الصحابة على رد نصه على الكعبة وشهر رمضان وغيرهما من معالم الدين فقال لي رحمه الله أبيت إلا ميلا إلى المعتزلة ثم قال إن القوم لم يكونوا يذهبون في الخلافة إلى أنها من معالم الدين وأنها جارية مجرى العبادات الشرعية كالصلاة والصوم ولكنهم كانوا يجرونها مجرى الأمور الدنيوية ويذهبون لهذا مثل تأمير الأمراء وتدبير الحروب وسياسة الرعية وما كانوا يبالون في أمثال هذا من مخالفة نصوصه ص إذا رأوا المصلحة في
[ 83 ](1/3356)
غيرها أ لا تراه كيف نص على إخراج أبي بكر وعمر في جيش أسامة ولم يخرجا لما رأيا أن في مقامهما مصلحة للدولة وللملة وحفظا للبيضة ودفعا للفتنة وقد كان رسول الله ص يخالف وهو حي في أمثال ذلك فلا ينكره ولا يرى به بأسا أ لست تعلم أنه نزل في غزاة بدر منزلا على أن يحارب قريشا فيه فخالفته الأنصار وقالت له ليس الرأي في نزولك هذا المنزل فاتركه وانزل في منزل كذا فرجع إلى آرائهم وهو الذي قال للأنصار عام قدم إلى المدينة لا تؤبروا النخل فعملوا على قوله فحالت نخلهم في تلك السنة ولم تثمر حتى قال لهم أنتم أعرف بأمر دنياكم وأنا أعرف بأمر دينكم وهو الذي أخذ الفداء من أسارى بدر فخالفه عمر فرجع إلى تصويب رأيه بعد أن فات الأمر وخلص الأسرى ورجعوا إلى مكة وهو الذي أراد أن يصالح الأحزاب على ثلث تمر المدينة ليرجعوا عنه فأتى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فخالفاه فرجع إلى قولهما وقد كان قال لأبي هريرة اخرج فناد في الناس من قال لا إله إلا الله مخلصا بها قلبه دخل الجنة فخرج أبو هريرة فأخبر عمر بذلك فدفعه في صدره حتى وقع على الأرض فقال لا تقلها فإنك إن تقلها يتكلوا عليها ويدعوا العمل فأخبر أبو هريرة رسول الله ص بذلك فقال لا تقلها وخلهم يعملون فرجع إلى قول عمر وقد أطبقت الصحابة إطباقا واحدا على ترك كثير من النصوص لما رأوا المصلحة في ذلك كإسقاطهم سهم ذوي القربى وإسقاط سهم المؤلفة قلوبهم وهذان الأمران أدخل في باب الدين منهما في باب الدنيا وقد عملوا بآرائهم أمورا لم يكن لها ذكر في الكتاب والسنة كحد الخمر فإنهم عملوه اجتهادا ولم يحد رسول الله ص شاربي الخمر وقد شربها الجم الغفير في زمانه بعد نزول آية التحريم ولقد كان أوصاهم في مرضه
[ 84 ](1/3357)
أن أخرجوا نصارى نجران من جزيرة العرب فلم يخرجوهم حتى مضى صدر من خلافة عمر وعملوا في أيام أبي بكر برأيهم في ذلك باستصلاحهم وهم الذين هدموا المسجد بالمدينة وحولوا المقام بمكة وعملوا بمقتضى ما يغلب في ظنونهم من المصلحة ولم يقفوا مع موارد النصوص حتى اقتدى بهم الفقهاء من بعد فرجح كثير منهم القياس على النص حتى استحالت الشريعة وصار أصحاب القياس أصحاب شريعة جديدة . قال النقيب وأكثر ما يعملون بآرائهم فيما يجري مجرى الولايات والتأمير والتدبير وتقرير قواعد الدولة وما كانوا يقفون مع نصوص الرسول ص وتدبيراته إذا رأوا المصلحة في خلافها كأنهم كانوا يقيدون نصوصه المطلقة بقيد غير مذكور لفظا وكأنهم كانوا يفهمونه من قرائن أحواله وتقدير ذلك القيد افعلوا كذا إن رأيتموه مصلحة . قال وأما مخالفتهم له فيما هو محض الشرع والدين وليس بمتعلق بأمور الدنيا وتدبيراتها فإنه يقل جدا نحو أن يقول الوضوء شرط في الصلاة فيجمعوا على رد ذلك ويجيزوا الصلاة من غير وضوء أو يقول صوم شهر رمضان واجب فيطبقوا على مخالفة ذلك ويجعلوا شوالا عوضا عنه فإنه بعيد إذ لا غرض لهم فيه ولا يقدرون على إظهار مصلحة عثروا عليها خفيت عنه ص والقوم الذين كانوا قد غلب على ظنونهم أن العرب لا تطيع عليا ع فبعضها للحسد وبعضها للوتر والثأر وبعضها لاستحداثهم سنه وبعضها لاستطالته عليهم ورفعه عنهم وبعضها كراهة اجتماع النبوة والخلافة في بيت واحد وبعضها للخوف من شدة وطأته وشدته في دين الله وبعضها خوفا لرجاء تداول قبائل العرب الخلافة إذا لم يقتصر بها على بيت مخصوص عليه فيكون رجاء كل حي لوصولهم إليها ثابتا مستمرا وبعضها ببغضه لبغضهم من قرابته
[ 85 ](1/3358)
لرسول الله ص وهم المنافقون من الناس ومن في قلبه زيغ من أمر النبوة فأصفق الكل إصفاقا واحدا على صرف الأمر عنه لغيره وقال رؤساؤهم إنا خفنا الفتنة وعلمنا أن العرب لا تطيعه ولا تتركه وتأولوا عند أنفسهم النص ولا ينكر النص وقالوا إنه النص ولكن الحاضر يرى ما لا يرى الغائب والغائب قد يترك لأجل المصلحة الكلية وأعانهم على ذلك مسارعة الأنصار إلى ادعائهم الأمر وإخراجهم سعد بن عبادة من بيته وهو مريض لينصبوه خليفة فيما زعموا واختلط الناس وكثر الخبط وكادت الفتنة أن تشتعل نارها فوثب رؤساء المهاجرين فبايعوا أبا بكر وكانت فلتة كما قال قائلهم وزعموا أنهم أطفئوا بها نائرة الأنصار فمن سكت من المسلمين وأغضى ولم يتعرض فقد كفاهم أمر نفسه ومن قال سرا أو جهرا إن فلانا قد كان رسول الله ص ذكره أو نص عليه أو أشار إليه أسكتوه في الجواب بأنا بادرنا إلى عقد البيعة مخافة الفتنة واعتذروا عنده ببعض ما تقدم إما أنه حديث السن أو تبغضه العرب لأنه وترها وسفك دماءها أو لأنه صاحب زهو وتيه أو كيف تجتمع النبوة والخلافة في مغرس واحد بل قد قالوا في العذر ما هو أقوى من هذا وأوكد قالوا أبو بكر أقوى على هذا الأمر منه لا سيما وعمر يعضده ويساعده والعرب تحب أبا بكر ويعجبها لينه ورفقه وهو شيخ مجرب للأمور لا يحسده أحد ولا يحقد عليه أحد ولا يبغضه أحد وليس بذي شرف في النسب فيشمخ على الناس بشرفه ولا بذي قربى من الرسول ص فيدل بقربه ودع ذا كله فإنه فضل مستغنى عنه قالوا لو نصبنا عليا ع ارتد الناس عن الإسلام وعادت الجاهلية كما كانت فأيما أصلح في الدين الوقوف مع النص المفضي إلى ارتداد الخلق ورجوعهم إلى الأصنام والجاهلية أم العمل بمقتضى الأصلح واستبقاء الإسلام واستدامة العمل بالدين وإن كان فيه مخالفة النص .
[ 86 ](1/3359)
قال رحمه الله وسكت الناس عن الإنكار فإنهم كانوا متفرقين فمنهم من هو مبغض شانئ لعلي ع فالذي تم من صرف الأمر عنه هو قرة عينه وبرد فؤاده ومنهم ذو الدين وصحة اليقين إلا أنه لما رأى كبراء الصحابة قد اتفقوا على صرف الأمر عنه ظن أنهم إنما فعلوا ذلك لنص سمعوه من رسول الله ص ينسخ ما قد كان سمعه من النص على أمير المؤمنين ع لا سيما ما
رواه أبو بكر من قول النبي ص الأئمة من قريش فإن كثيرا من الناس توهموا أنه ناسخ للنص الخاص وإن معنى الخبر أنكم مباحون في نصب إمام من قريش من أي بطون قريش كان فإنه يكون إماما . وأكد أيضا في نفوسهم رفض النص الخاص ما سمعوه
من قول رسول الله ص ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن و
قوله ع سألت الله ألا يجمع أمتي على ضلال فأعطانيها فأحسنوا الظن بعاقدي البيعة . وقالوا هؤلاء أعرف بأغراض رسول الله ص من كل أحد فأمسكوا وكفوا عن الإنكار ومنهم فرقة أخرى وهم الأكثرون أعراب وجفاة وطغام أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح فهؤلاء مقلدون لا يسألون ولا ينكرون ولا يبحثون وهم مع أمرائهم وولاتهم لو أسقطوا عنهم الصلاة الواجبة لتركوها فلذلك أمحق النص وخفي ودرس وقويت كلمة العاقدين لبيعة أبي بكر وقواها زيادة على ذلك اشتغال علي وبني هاشم برسول الله ص وإغلاق بابهم عليهم وتخليتهم الناس يعملون ما شاءوا وأحبوا من غير مشاركة لهم فيما هم فيه لكنهم أرادوا استدراك ذلك بعد ما فات وهيهات الفائت لا رجعة له . وأراد علي ع بعد ذلك نقض البيعة فلم يتم له ذلك وكانت العرب لا ترى
[ 87 ](1/3360)
الغدر ولا تنقض البيعة صوابا كانت أو خطأ وقد قالت له الأنصار وغيرها أيها الرجل لو دعوتنا إلى نفسك قبل البيعة لما عدلنا بك أحدا ولكنا قد بايعنا فكيف السبيل إلى نقض البيعة بعد وقوعها . قال النقيب ومما جرأ عمر على بيعة أبي بكر والعدول عن علي مع ما كان يسمعه من الرسول ص في أمره أنه أنكر مرارا على الرسول ص أمورا اعتمدها فلم ينكر عليه رسول الله ص إنكاره بل رجع في كثير منها إليه وأشار عليه بأمور كثيرة نزل القرآن فيها بموافقته فأطمعه ذلك في الإقدام على اعتماد كثير من الأمور التي كان يرى فيها المصلحة مما هي خلاف النص وذلك نحو إنكاره عليه في الصلاة على عبد الله بن أبي المنافق وإنكاره فداء أسارى بدر وإنكاره عليه تبرج نسائه للناس وإنكاره قضية الحديبية وإنكاره أمان العباس لأبي سفيان بن حرب وإنكاره واقعة أبي حذيفة بن عتبة وإنكاره أمره بالنداء
من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإنكاره أمره بذبح النواضح وإنكاره على النساء بحضرة رسول الله ص هيبتهن له دون رسول الله ص إلى غير ذلك من أمور كثيرة تشتمل عليها كتب الحديث ولو لم يكن إلا إنكاره قول رسول الله ص في مرضه
ائتوني بدواة وكتف أكتب لكم ما لا تضلون بعدي وقوله ما قال وسكوت رسول الله ص عنه وأعجب الأشياء أنه قال ذلك اليوم حسبنا كتاب الله فافترق الحاضرون من المسلمين في الدار فبعضهم يقول القول ما قال رسول الله ص وبعضهم يقول القول ما قال عمر فقال رسول الله وقد كثر اللغط وعلت الأصوات
قوموا عني فما ينبغي لنبي أن يكون عنده هذا التنازع فهل بقي للنبوة مزية أو فضل إذا كان الاختلاف قد وقع بين القولين وميل
[ 88 ](1/3361)
المسلمون بينهما فرجح قوم هذا وقوم هذا فليس ذلك دالا على أن القوم سووا بينه وبين عمر وجعلوا القولين مسألة خلاف ذهب كل فريق إلى نصرة واحد منهما كما يختلف اثنان من عرض المسلمين في بعض الأحكام فينصر قوم هذا وينصر ذاك آخرون فمن بلغت قوته وهمته إلى هذا كيف ينكر منه أنه يبايع أبا بكر لمصلحة رآها ويعدل عن النص ومن الذي كان ينكر عليه ذلك وهو في القول الذي قاله للرسول ص في وجهه غير خائف من الأنصار ولا ينكر عليه أحد لا رسول الله ص ولا غيره وهو أشد من مخالفة النص في الخلافة وأفظع وأشنع قال النقيب على أن الرجل ما أهمل أمر نفسه بل أعد أعذارا وأجوبة وذلك لأنه قال لقوم عرضوا له بحديث النص أن رسول الله ص رجع عن ذلك بإقامته أبا بكر في الصلاة مقامه وأوهمهم أن ذلك جار مجرى النص عليه بالخلافة وقال يوم السقيفة أيكم يطيب نفسا أن يتقدم قدمين قدمهما رسول الله ص في الصلاة ثم أكد ذلك بأن قال لأبي بكر وقد عرض عليه البيعة أنت صاحب رسول الله ص في المواطن كلها شدتها ورخائها رضيك لديننا أ فلا نرضاك لدنيانا . ثم عاب عليا بخطبته بنت أبي جهل فأوهم أن رسول الله ص كرهه لذلك ووجد عليه وأرضاه عمرو بن العاص فروى حديثا افتعله واختلقه على رسول الله
قال سمعته يقول إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين فجعلوا ذلك كالناسخ
لقوله ص من كنت مولاه فهذا مولاه . قلت للنقيب أ يصح النسخ في مثل هذا أ ليس هذا نسخا للشي ء قبل تقضي وقت فعله فقال سبحان الله من أين تعرف العرب هذا وأنى لها أن تتصوره فضلا عن أن تحكم بعدم جوازه فهل يفهم حذاق الأصوليين هذه المسألة فضلا عن حمقى العرب هؤلاء قوم ينخدعون بأدنى شبهة ويستمالون بأضعف سبب وتبنى الأمور معهم على ظواهر
[ 89 ](1/3362)
النصوص وأوائل الأدلة وهم أصحاب جهل وتقليد لا أصحاب تفضيل ونظر . قال ثم أكد حسن ظن الناس بهم أنهم أطلقوا أنفسهم عن الأموال وزهدوا في متاع الدنيا وزخرفها وسلكوا مسلك الرفض لزينتها والرغبة عنها والقناعة بالطفيف النزر منها وأكلوا الخشن ولبسوا الكرابيس ولما ألقت إليهم الدنيا أفلاذ كبدها وفرقوا الأموال على الناس وقسموها بينهم ولم يتدنسوا منها بقليل ولا كثير فمالت إليهم القلوب وأحبتهم النفوس وحسنت فيهم الظنون وقال من كان في نفسه شبهة منهم أو وقفه في أمرهم لو كان هؤلاء قد خالفوا النص لهوى أنفسهم لكانوا أهل الدنيا ولظهر عليهم الميل إليها والرغبة فيها والاستئثار بها وكيف يجمعون على أنفسهم مخالفة النص وترك لذات الدنيا ومآربها فيخسروا الدنيا والآخرة وهذا لا يفعله عاقل والقوم عقلاء ذوو الباب وآراء صحيحة فلم يبق عند أحد شك في أمرهم ولا ارتياب لفعلهم وثبتت العقائد على ولايتهم وتصويب أفعالهم ونسوا لذة الرئاسة وأن أصحاب الهمم العالية لا يلتفون إلى المأكل والمشرب والمنكح وإنما يريدون الرئاسة ونفوذ الأمر كما قال الشاعر
و قد رغبت عن لذة المال أنفس
و ما رغبت عن لذة النهي والأمر
قال رحمه الله والفرق بين الرجلين وبين الثالث ما أصيب به الثالث وقتل تلك القتلة وخلعه الناس وحصروه وضيقوا عليه بعد أن توالى إنكارهم أفعاله وجبهوه في وجهه وفسقوه وذلك لأنه استأثر هو وأهله بالأموال وانغمسوا فيها واستبدوا بها فكانت طريقته وطريقتهم مخالفة لطريق الأولين فلم تصبر العرب على ذلك ولو كان عثمان سلك طريق عمر في الزهد وجمع الناس وردع الأمراء والولاة عن الأموال وتجنب استعمال أهل بيته ووفر أعراض الدنيا وملاذها وشهواتها على الناس زاهدا فيها تاركا لها معرضا عنها لما ضره شي ء قط ولا أنكر عليه أحد قط ولو حول الصلاة من
[ 90 ](1/3363)
الكعبة إلى بيت المقدس بل لو أسقط عن الناس إحدى الصلوات الخمس واقتنع منهم بأربع وذلك لأن همم الناس مصروفة إلى الدنيا والأموال فإذا وجدوها سكتوا وإذا فقدوها هاجوا واضطربوا أ لست ترى رسول الله ص كيف قسم غنائم هوازن على المنافقين وعلى أعدائه الذين يتمنون قتله وموته وزوال دولته فلما أعطاهم أحبوه إما كلهم أو أكثرهم ومن لم يحبه منهم بقلبه جامله وداراه وكف عن إظهار عداوته والإجلاب عليه ولو أن عليا صانع أصحابه بالمال وأعطاه الوجوه والرؤساء لكان أمره إلى الانتظام والاطراد أقرب ولكنه رفض جانب التدبير الدنيوي وآثر لزوم الدين وتمسك بأحكام الشريعة والملك أمر آخر غير الدين فاضطرب عليه أصحابه وهرب كثير منهم إلى عدوه . وقد ذكرت في هذا الفصل خلاصة ما حفظته عن النقيب أبي جعفر ولم يكن إمامي المذهب ولا كان يبرأ من السلف ولا يرتضي قول المسرفين من الشيعة ولكنه كلام أجراه على لسانه البحث والجدل بيني وبينه على أن العلوي لو كان كراميا لا بد أن يكون عنده نوع من تعصب وميل على الصحابة وإن قل . ولنرجع إلى ذكر كلام عمر من خطبته وسيرته . كتب عمر إلى أبي موسى لما استعمله قاضيا وبعثه إلى العراق من عبد الله أمير المؤمنين عمر إلى عبد الله بن قيس سلام عليك أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم إذا أدلي إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاد له آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في
[ 91 ](1/3364)
حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك البينة على من ادعى واليمين على من أنكر والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا لا يمنعنك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة ثم اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور عند ذلك واعمد إلى أقربها إلى الله عز وجل وأشبهها بالحق واجعل لمن ادعى حقا غائبا أو بينة أمدا ينتهي إليه فإن أحضر بينته أخذت له بحقه وإلا استحللت عليه القضية فإنه أنفى للشك وأجلى للعمى المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو مجربا عليه شهادة زور أو ظنينا في ولاء أو نسب فإن الله عز وجل تولى منكم السرائر ودرأ عنكم بالبينات والأيمان الشبهات إياك والغلق والضجر والتأذي بالخصوم والتنكر عند الخصومات فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن به الذخر فمن صحت نيته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس ومن تخلق للناس بما يعلم الله عز وجل منه إنه ليس من نفسه شانه الله فما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته والسلام . ذكر هذه الرسالة أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتاب الكامل وأطراها فقال إنه جمع فيها جمل الأحكام واختصرها بأجود الكلام وجعل الناس بعده يتخذونه إماما فلا يجد محق عنها معدلا ولا ظالم عن حدودها محيصا .
[ 92 ](1/3365)
و كتب عمر إلى عماله يوصيهم فقال في جملة الكتاب ارتدوا وائتزروا وانتعلوا وألقوا الخفاف والسراويلات وألقوا الركب وانزوا نزوا على الخيل واخشوشنوا وعليكم بالمعدية أو قال وتمعددوا وارموا الأغراض وعلموا فتيانكم العوم والرماية وذروا التنعم وزي العجم وإياكم والحرير فإن رسول الله ص نهى عنه وقال لا تلبسوا من الحرير إلا ما كان هكذا وأشار بإصبعه . وكتب إلى بعض عماله أن أسعد الرعاة من سعدت به رعيته وأن أشقى الرعاة من شقيت به رعيته فإياك أن تزيغ فتزيغ رعيتك فيكون مثلك عند الله مثل البهيمة رأت الخضرة في الأرض فرعت فيها تبغي السمن وحتفها في سمنها وكتب إلى أبي موسى وهو بالبصرة بلغني أنك تأذن للناس الجماء الغفير فإذا جاءك كتابي هذا فأذن لأهل الشرف وأهل القرآن والتقوى والدين فإذا أخذوا مجالسهم فأذن للعامة ولا تؤخر عمل اليوم لغد فتتداك عليك الأعمال فتضيع وإياك واتباع الهوى فإن للناس أهواء متبعة ودنيا مؤثرة وضغائن محمولة وحاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة فإنه من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة كان مرجعه إلى الرضا والغبطة ومن ألهته حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والحسرة إنه لا يقيم أمر الله في الناس إلا خصيف العقدة بعيد القرارة لا يحنق على جرة ولا يطلع الناس منه على عورة ولا يخاف في الحق لومة لائم الزم أربع خصال يسلم لك دينك وتحيط بأفضل حظك إذا حضر الخصمان فعليك بالبينات العدول والأيمان القاطعة ثم ائذن
[ 93 ](1/3366)
للضعيف حتى ينبسط لسانه ويجترئ قلبه وتعاهد الغريب فإنه إذا طال حبسه ترك حاجته وانصرف إلى أهله واحرص على الصلح ما لم يبن لك القضاء والسلام عليك . وكان رجل من الأنصار لا يزال يهدي لعمر فخذ جزور إلى أن جاء ذات يوم مع خصم له فجعل في أثناء الكلام يقول يا أمير المؤمنين افصل القضاء بيني وبينه كما يفصل فخذ الجزور . قال عمر فما زال يرددها حتى خفت على نفسي فقضيت عليه وكتبت إلى عمالي أما بعد فإياكم والهدايا فإنها من الرشا ثم لم أقبل له هدية فيما بعد ولا لغيره . وكان عمر يقول اكتبوا عن الزاهدين في الدنيا ما يقولون فإن الله عز وجل وكل بهم ملائكة واضعة أيديهم على أفواههم فلا يتكلمون إلا بما هيأه الله لهم . وروى أبو جعفر الطبري في تاريخه قال كان عمر يقول جردوا القرآن ولا تفسروه وأقلوا الرواية عن رسول الله ص وأنا شريككم . وقال أبو جعفر وكان عمر إذا أراد أن ينهى الناس عن شي ء جمع أهله فقال إني عسيت أن أنهى الناس عن كذا وأن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم وأقسم بالله لا أجد أحدا منكم يفعل إلا أضعفت عليه العقوبة . قال أبو جعفر وكان عمر شديدا على أهل الريب وفي حق الله صليبا حتى يستخرجه ولينا سهلا فيما يلزمه حتى يؤديه وبالضعيف رحيما .
[ 94 ](1/3367)
و روى زيد بن أسلم عن أبيه أن نفرا من المسلمين كلموا عبد الرحمن بن عوف فقالوا كلم لنا عمر بن الخطاب فقد والله أخشانا حتى لا نستطيع أن نديم إليه أبصارنا فذكر عبد الرحمن له ذلك فقال أ وقد قالوا ذلك والله لقد لنت لهم حتى تخوفت الله في أمرهم وقد تشددت عليهم حتى خفت الله في أمرهم وأنا والله أشد فرقا لله منهم لي . وروى جابر بن عبد الله قال قال رجل لعمر يا خليفة الله قال خالف الله بك قال جعلني الله فداك قال إذن يهينك الله . وروى أبو جعفر قال استشار عمر في أمر المال كيف يقسمه فقال له علي بن أبي طالب ع تقسم كل سنة ما اجتمع معك من المال ولا تمسك منه شيئا وقال عثمان بن عفان أرى مالا كثيرا يسع الناس وإن لم يحصوا حتى يعرف من أخذ ممن لم يأخذ خشيت أن ينتشر الأمر فقال الوليد بن هشام بن المغيرة يا أمير المؤمنين قد جئت الشام فرأيت ملوكها قد دونوا ديوانا وجندوا جنودا وفرضوا لهم أرزاقا فأخذ بقوله فدعا عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم وكانوا نساب قريش وقال اكتبوا الناس على منازلهم فكتبوا فبدءوا ببني هاشم ثم أتبعوهم أبا بكر وقومه ثم عمر وقومه على ترتيب الخلافة فلما نظر إليه قال وددت أنه كان هكذا لكن ابدأ بقرابة النبي ص الأقرب فالأقرب حتى تضعوا عمر حيث وضعه الله . قال أبو جعفر جاءت بنو عدي إلى عمر فقالوا له يا عمر أنت خليفة رسول الله
[ 95 ](1/3368)
ص قال أو خليفة أبي بكر وأبو بكر خليفة رسول الله ص قالوا وذاك فلو جعلت نفسك حيث جعلك هؤلاء القوم فقال بخ بخ يا بني عدي أردتم الأكل على ظهري وأن أذهب حسناتي لكم لا والله ولو كتبتم آخر الناس إن لي صاحبين سلكا طريقا فإن أنا خالفتهما خولف بي والله ما أدركنا الفضل في الدنيا إلا بمحمد ولا نرجو ما نرجو من الآخرة وثوابها إلا بمحمد ص فهو شرفنا وقومه أشرف العرب ثم الأقرب منه فالأقرب وما بيننا وبين أن نلقاه ثم لا نفارقه إلى آدم إلا آباء يسيرة والله لئن جاءت الأعاجم بالأعمال وجئنا بغير عمل فإنهم أولى بمحمد ص منا يوم القيامة لا ينظرن رجل إلى قرابته وليعمل بما عند الله فإن من قصر به عمله لم يسرع به نسبه . وروى السائب بن يزيد قال سمعت عمر بن الخطاب يقول والله ما من أحد إلا له في هذا المال حق أعطيه أو منعه وما أحد أحق به من أحد إلا عبد مملوك وما أنا فيه إلا كأحدكم ولكنا على منازلنا من كتاب الله وقسمنا من رسول الله ص فالرجل وبلاؤه في الإسلام والرجل وغناؤه والرجل وحاجته والله لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من المال وهو مكانه . وروى نافع مولى آل الزبير قال سمعت أبا هريرة يقول رحم الله ابن حنتمة لقد رأيته عام الرمادة وإنه ليحمل على ظهره جرابين وعكة زيت في يده وإنه ليعتقب هو وأسلم فلما رآني قال من أين يا أبا هريرة قلت قريبا فأخذت
[ 96 ](1/3369)
أعقبه فحملناه حتى انتهينا إلى ضرار فإذا صرم من نحو عشرين بيتا من محارب فقال عمر ما أقدمكم قالوا الجهد وأخرجوا لنا جلد الميتة مشويا كانوا يأكلونه ورمة العظام مسحوقة كانوا يستفونها فرأيت عمر طرح رداءه ثم برز فما زال يطبخ لهم حتى شبعوا وأرسل أسلم إلى المدينة فجاء بأبعرة فحملهم عليها ثم أنزلهم الجبانة ثم كساهم وكان يختلف إليهم وإلى غيرهم حتى كفى الله ذلك . وروى راشد بن سعد أن عمر أتي بمال فجعل يقسم بين الناس فازدحموا عليه فأقبل سعد بن أبي وقاص يزاحم الناس حتى خلص إليه فعلاه عمر بالدرة وقال إنك أقبلت لا تهابن سلطان الله في الأرض فأحببت بأن أعلمك أن سلطان الله لا يهابك . وقالت الشفاء ابنة عبد الله ورأت فتيانا من النساك يقتصدون في المشي ويتكلمون رويدا ما هؤلاء فقيل نساك فقالت كان عمر بن الخطاب هو الناسك حقا وكان إذا تكلم أسمع وإذا مشى أسرع وإذا ضرب أوجع . أعان عمر رجلا على حمل شي ء فدعا له الرجل وقال نفعك بنوك يا أمير المؤمنين قال بل أغناني الله عنهم . ومن كلامه القوة في العمل ألا يؤخر عمل اليوم لغد والأمانة ألا تخالف سريرتك علانيتك والتقوى بالتوقي ومن يتق الله يقه .
[ 97 ](1/3370)
و قال عمر كنا نعد المقرض بخيلا إنما كانت المواساة . أتى رهط إلى عمر فقالوا يا أمير المؤمنين كثر العيال واشتدت المئونة فزدنا في أعطياتنا فقال فعلتموها جمعتم بين الضرائر واتخذتم الخدم من مال الله أما لوددت أني وإياكم في سفينتين في لجة البحر تذهب بنا شرقا وغربا فلن يعجز الناس أن يولوا رجلا منهم فإن استقام اتبعوه وإن جنف قتلوه فقال طلحة وما عليك لو قلت وإن أعوج عزلوه فقال القتل أرهب لمن بعده احذروا فتى قريش فإنه كريمها الذي لا ينام إلا على الرضا ويضحك عند الغضب ويتناول ما فوقه من تحته . وكان يقول في آخر أيامه عند تبرمه بالأمر وضجره من الرعية اللهم ملوني ومللتهم وأحسست من نفسي وأحسوا مني ولا أدري بأينا يكون اللوت وقد أعلم أن لهم قتيلا منهم فاقبضني إليك . وذكر قوم من الصحابة لعمر رجلا فقالوا فاضل لا يعرف الشر قال ذاك أوقع له فيه وروى الطبري في التاريخ أن عمر استعمل عتبة بن أبي سفيان على عمل فقدم منه بمال فقال له ما هذا يا عتبة قال مال خرجت به معي وتجرت فيه قال وما لك تخرج المال معك إلى هذا الوجه فأخذ المال منه فصيره في بيت المال فلما قام عثمان قال لأبي سفيان
[ 98 ](1/3371)
إنك إن طلبت ما أخذه عمر من عتبة رددته عليك فقال له أبو سفيان إياك وما هممت به إنك إن خالفت صاحبك قبلك ساء رأي الناس فيك إياك أن ترد على من كان قبلك فيرد عليك من بعدك . وروى الطبري أيضا أن هندا بنت عتبة بن ربيعة قامت إلى عمر فسألته أن يقرضها من بيت المال أربعة آلاف درهم تتجر فيها وتضمنها فخرجت بها إلى بلاد كلب فباعت واشترت وبلغها أن أبا سفيان قد أتى معاوية يستميحه ومعه ابنه عمرو بن أبي سفيان فعدلت إليه من بلاد كلب وكان أبو سفيان قد طلقها فقال معاوية ما أقدمك يا أمه قالت النظر إليك يا بني إنه عمر وإنما يعمل لله وقد أتاك أبوك فخشيت أن تخرج إليه من كل شي ء وأهل ذلك هو ولكن لا يعلم عمر من أين أعطيته فيؤنبوك ويؤنبك ولا تستقبلها أبدا فبعث معاوية إلى أبيه وأخيه مائة دينار وكساهما وحملهما فسخطها عمر فقال أبو سفيان لا تسخطها فإنها عطاء لم تغب عنه هند ورجع هو وابنه إلى المدينة فسأله عمر بكم أجازك معاوية فقال بمائة دينار فسكت عمر . وروى الأحنف قال أتى عبد الله بن عمير عمر وهو يقرض الناس فقال يا أمير المؤمنين أقرض لي فلم يلتفت إليه فنخسه فقال عمر حس وأقبل عليه فقال من أنت فقال عبد الله بن عمير وكان أبوه استشهد يوم حنين فقال يا يرفأ أعطه ستمائة فأعطاه ستمائة فلم يقبلها ورجع إلى عمر فأخبره فقال يا يرفأ أعطه
[ 99 ](1/3372)
ستمائة حلة فأعطاه فلبس الحلة التي كساه عمر ورمى ما كان عليه فقال له خذ ثيابك هذه فلتكن في مهنة أهلك وهذه لزينتك . وروى إياس بن سلمة عن أبيه قال مر عمر في السوق ومعه الدرة فخفقني خفقة فأصاب طرف ثوبي وقال أمط عن الطريق فلما كان في العام المقبل لقيني فقال يا سلمة أ تريد الحج قلت نعم فأخذ بيدي وانطلق بي إلى منزله فأعطاني ستمائة درهم وقال استعن بها على حجك واعلم أنها بالخفقة التي خفقتك فقلت يا أمير المؤمنين ما ذكرتها قال وأنا ما نسيتها . وخطب عمر فقال أيتها الرعية إن لنا عليكم حقا النصيحة بالغيب والمعاونة على الخير إنه ليس من حلم أحب إلى الله ولا أعم نفعا من حلم إمام ورفقه وليس من جهل أبغض إلى الله من جهل إمام وخرفه أيها الرعية إنه من يأخذ بالعافية من بين ظهرانيه فوته الله العافية من فوقه . وروى الربيع بن زياد قال قدمت على عمر بمال من البحرين فصليت معه العشاء ثم سلمت عليه فقال ما قدمت به قلت خمسمائة ألف قال ويحك إنما قدمت بخمسين ألفا قلت بل خمسمائة ألف قال كم يكون ذلك قلت مائة ألف ومائة ألف ومائة ألف حتى عددت خمسا فقال إنك ناعس ارجع إلى بيتك ثم اغد علي فغدوت عليه فقال ما جئت به قلت ما قلته لك قال كم هو قلت خمسمائة ألف قال أ طيب هو قلت نعم لا أعلم إلا ذلك فاستشار الصحابة فيه فأشير عليه بنصب الديوان فنصبه وقسم المال بين المسلمين ففضلت عنده فضلة
[ 100 ](1/3373)
فأصبح فجمع المهاجرين والأنصار وفيهم علي بن أبي طالب وقال للناس ما ترون في فضل فضل عندنا من هذا المال فقال الناس يا أمير المؤمنين إنا شغلناك بولاية أمورنا عن أهلك وتجارتك وصنعتك فهو لك فالتفت إلى علي فقال ما تقول أنت قال قد أشاروا عليك قال فقل أنت فقال له لم تجعل يقينك ظنا فلم يفهم عمر قوله فقال لتخرجن مما قلت قال أجل والله لأخرجن منه أ تذكر حين بعثك رسول الله ص ساعيا فأتيت العباس بن عبد المطلب فمنعك صدقته فكان بينكما شي ء فجئتما إلي وقلتما انطلق معنا إلى رسول الله ص فجئنا إليه فوجدناه خاثرا فرجعنا ثم غدونا عليه فوجدناه طيب النفس فأخبرته بالذي صنع العباس فقال لك يا عمر أ ما علمت أن عم الرجل صنو أبيه فذكرنا له ما رأينا من خثوره في اليوم الأول وطيب نفسه في اليوم الثاني فقال إنكم أتيتم في اليوم الأول وقد بقي عندي من مال الصدقة ديناران فكان ما رأيتم من خثوري لذلك وأتيتم في اليوم الثاني وقد وجهتهما فذاك الذي رأيتم من طيب نفسي أشير عليك ألا تأخذ من هذا الفضل شيئا وأن تفضه على فقراء المسلمين فقال صدقت والله لأشكرن لك الأولى والأخيرة . وروى أبو سعيد الخدري قال حججنا مع عمر أول حجة حجها في خلافته فلما دخل المسجد الحرام دنا من الحجر الأسود فقبله واستلمه وقال إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولو لا أني رأيت رسول الله ص قبلك واستلمك لما قبلتك ولا استلمتك فقال له علي بلى يا أمير المؤمنين إنه ليضر وينفع ولو علمت تأويل ذلك من كتاب الله لعلمت أن الذي أقول لك كما أقول قال الله تعالى وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ
[ 101 ](1/3374)
بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى فلما أشهدهم وأقروا له أنه الرب عز وجل وأنهم العبيد كتب ميثاقهم في رق ثم ألقمه هذا الحجر وأن له لعينين ولسانا وشفتين تشهد لمن وافاه بالموافاة فهو أمين الله عز وجل في هذا المكان فقال عمر لا أبقاني الله بأرض لست بها يا أبا الحسن . قلت قد وجدنا في الآثار والأخبار في سيرة عمر أشياء تناسب قوله في هذا الحجر الأسود كما أمر بقطع الشجرة التي بويع رسول الله ص تحتها بيعة الرضوان في عمرة الحديبية لأن المسلمين بعد وفاة رسول الله ص كانوا يأتونها فيقيلون تحتها فلما تكرر ذلك أوعدهم عمر فيها ثم أمر بها فقطعت . وروى المغيرة بن سويد قال خرجنا مع عمر في حجة حجها فقرأ بنا في الفجر أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ اَلْفِيلِ ولِإِيلافِ قُرَيْشٍ فلما فرغ رأى الناس يبادرون إلى مسجد هناك فقال ما بالهم قالوا مسجد صلى فيه النبي ص والناس يبادرون إليه فناداهم فقال هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم اتخذوا آثار أنبيائهم بيعا من عرضت له صلاة في هذا المسجد فليصل ومن لم تعرض له صلاة فليمض . وأتى رجل من المسلمين إلى عمر فقال أنا لما فتحنا المدائن أصبنا كتابا فيه علم من علوم الفرس وكلام معجب فدعا بالدرة فجعل يضربه بها ثم قرأ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ اَلْقَصَصِ ويقول ويلك أ قصص أحسن من كتاب الله إنما هلك
[ 102 ](1/3375)
من كان قبلكم لأنهم أقبلوا على كتب علمائهم وأساقفتهم وتركوا التوراة والإنجيل حتى درسا وذهب ما فيهما من العلم . وجاء رجل إلى عمر فقال إن ضبيعا التميمي لقينا يا أمير المؤمنين فجعل يسألنا عن تفسير حروف من القرآن فقال اللهم أمكني منه فبينا عمر يوما جالس يغدي الناس إذ جاءه الضبيع وعليه ثياب وعمامة فتقدم فأكل حتى إذا فرغ قال يا أمير المؤمنين ما معنى قوله تعالى وَ اَلذَّارِياتِ ذَرْواً فَالْحامِلاتِ وِقْراً قال ويحك أنت هو فقام إليه فحسر عن ذراعيه فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته فإذا له ضفيرتان فقال والذي نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقا لضربت رأسك ثم أمر به فجعل في بيت ثم كان يخرجه كل يوم فيضربه مائة فإذا برأ أخرجه فضربه مائة أخرى ثم حمله على قتب وسيره إلى البصرة وكتب إلى أبي موسى يأمره أن يحرم على الناس مجالسته وأن يقوم في الناس خطيبا ثم يقول إن ضبيعا قد ابتغى العلم فأخطأه فلم يزل وضيعا في قومه وعند الناس حتى هلك وقد كان من قبل سيد قومه . وقال عمر على المنبر ألا إن أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فأفتوا بآرائهم فضلوا وأضلوا ألا إنا نقتدي ولا نبتدي ونتبع ولا نبتدع إنه ما ضل متمسك بالأثر وروى زيد بن أسلم عن أبيه قال سمعت عمر يقول في الحج فيم الرملان الآن والكشف عن المناكب وقد أظهر الله الإسلام ونفى الكفر وأهله ومع ذلك لا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله ص .
[ 103 ](1/3376)
مر عمر برجل فسلم عليه فرد عليه فقال ما اسمك قال جمرة قال أبو من قال أبو شهاب قال ممن قال من الحرقة قال وأين مسكنك قال بحرة النار قال بأيها قال بذات لظى فقال ويحك أدرك أهلك فقد احترقوا فمضى عليهم فوجدهم قد احترقوا . وروى الليث بن سعد قال أتي عمر بفتى أمرد قد وجد قتيلا ملقى على وجه الطريق فسأل عن أمره واجتهد فلم يقف له على خبر فشق عليه فكان يدعو ويقول اللهم أظفرني بقاتله حتى إذا كان رأس الحول أو قريبا من ذلك وجد طفل مولود ملقى في موضع ذلك القتيل فأتي به عمر فقال ظفرت بدم القتيل إن شاء الله تعالى فدفع الطفل إلى امرأة وقال لها قومي بشأنه وخذي منا نفقته وانظري من يأخذه منك فإذا وجدت امرأة تقبله وتضمه إلى صدرها فأعلميني مكانها فلما شب الصبي جاءت جارية فقالت للمرأة إن سيدتي بعثتني إليك لتبعثي إليها بهذا الصبي فتراه وترده إليك قالت نعم اذهبي به إليها وأنا معك فذهبت بالصبي حتى دخلت على امرأة شابة فأخذت الصبي فجعلت تقبله وتفديه وتضمه إليها وإذا هي بنت شيخ من الأنصار من أصحاب رسول الله ص فجاءت المرأة وأخبرت عمر فاشتمل على سيفه وأقبل إلى منزلها فوجد أباها متكئا على الباب فقال له ما الذي تعلم من حال ابنتك قال أعرف الناس بحق الله وحق أبيها مع حسن صلاتها وصيامها والقيام بدينها فقال إني أحب أن أدخل إليها وأزيدها رغبة في الخير فدخل الشيخ ثم خرج فقال ادخل يا أمير المؤمنين فدخل وأمر أن يخرج كل من في الدار إلا أباها ثم سألها عن الصبي فلجلجت فقال لتصدقيني ثم انتضى السيف فقالت على رسلك يا أمير المؤمنين فو الله لأصدقنك إن عجوزا كانت تدخل علي فاتخذتها أما وكانت تقوم في أمري بما تقوم به الوالدة وأنا لها بمنزلة البنت
[ 104 ](1/3377)
فمكثت كذلك حينا ثم قالت إنه قد عرض لي سفر ولي بنت أتخوف عليها بعدي الضيعة وأنا أحب أن أضمها إليك حتى أرجع من سفري ثم عمدت إلى ابن لها أمرد فهيأته وزينته كما تزين المرأة وأتتني به ولا أشك أنه جارية فكان يرى مني ما ترى المرأة من المرأة فاغتفلني يوما وأنا نائمة فما شعرت به حتى علاني وخالطني فمددت يدي إلى شفرة كانت عندي فقتلته ثم أمرت به فألقي حيث رأيت فاشتملت منه على هذا الصبي فلما وضعته ألقيته في موضع أبيه هذا والله خبرهما على ما أعلمتك فقال عمر صدقت بارك الله فيك ثم أوصاها ووعظها وخرج وكان عمر يقول لو أدركت عروة وعفراء لجمعت بينهما . ذكر عمرو بن العاص يوما عمر فترحم عليه وقال ما رأيت أحدا أتقي منه ولا أعمل بالحق منه لا يبالي على من وقع الحق من ولد أو والد إني لفي منزلي بمصر ضحى إذ أتاني آت فقال قدم عبد الله وعبد الرحمن ابنا عمر غازيين فقلت أين نزلا قال في موضع كذا لأقصى مصر وقد كان عمر كتب إلي إياك وأن يقدم عليك أحد من أهل بيتي فتجيزه أو تحبوه بأمر لا تصنعه بغيره فافعل بك ما أنت أهله فضقت ذرعا بقدومهما ولا أستطيع أن أهدي لهما ولا أن آتيهما في منزلهما خوفا من أبيهما فو الله إني لعلى ما أنا عليه وإذا قائل يقول هذا عبد الرحمن بن عمر بالباب وأبو سروعة يستأذنان عليك فقلت يدخلان فدخلا وهما منكسران فقالا أقم علينا حد الله فإنا أصبنا الليلة شرابا فسكرنا فزبرتهما وطردتهما وقلت ابن أمير المؤمنين وآخر معه من أهل بدر فقال عبد الرحمن إن لم تفعل أخبرت أبي إذا قدمت عليه أنك لم تفعل فعلمت أني إن لم أقم عليهما الحد غضب عمر وعزلني فنحن على ما نحن عليه
[ 105 ](1/3378)
إذ دخل عبد الله بن عمر فقمت إليه ورحبت به وأردت أن أجلسه في صدر مجلسي فأبى علي وقال إن أبي نهاني أن أدخل عليك إلا ألا أجد من الدخول بدا وإني لم أجد من الدخول عليك بدا إن أخي لا يحلق على رءوس الناس أبدا فأما الضرب فاصنع ما بدا لك قال وكانوا يحلقون مع الحد فأخرجتهما إلى صحن الدار وضربتهما الحد ودخل عبد الله بن عمر بأخيه عبد الرحمن إلى بيت من الدار فحلق رأسه وحلق أبا سروعة والله ما كتبت إلى عمر بحرف مما كان وإذا كتابه قد ورد من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى العاصي ابن العاصي عجبت لك يا ابن العاصي ولجرأتك علي ومخالفتك عهدي أما إني خالفت فيك أصحاب بدر ومن هو خير منك واخترتك وأنت الخامل وقدمتك وأنت المؤخر وأخبرني الناس بجرأتك وخلافك وأراك كما أخبروا وما أراني إلا عازلك فمسي ء عزلك ويحك تضرب عبد الرحمن بن عمر في داخل بيتك وتحلق رأسه في داخل بيتك وقد عرفت أن في هذا مخالفتي وإنما عبد الرحمن رجل من رعيتك تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين ولكن قلت هو ولد أمير المؤمنين وقد عرفت ألا هوادة لأحد من الناس عندي في حق يجب لله عز وجل فإذا جاءك كتابي هذا فابعث به في عباءة على قتب حتى يعرف سوء ما صنع قال فبعثت به كما قال أبوه وأقرأت أخاه عبد الله كتاب أبيهما وكتبت إلى عمر كتابا أعتذر فيه وأخبرته أني ضربته في صحن الدار وحلفت بالله الذي لا يحلف بأعظم منه أنه الموضع الذي أقيم فيه الحدود على المسلم والذمي وبعثت بالكتاب مع عبد الله بن عمر فذكر أسلم مولى عمر قال قدم عبد الله بأخيه عبد الرحمن على أبيهما فدخل عليه في عباءة وهو لا يقدر على المشي من مركبه فقال يا عبد الرحمن فعلت وفعلت السياط السياط فكلمه
[ 106 ](1/3379)
عبد الرحمن بن عوف وقال يا أمير المؤمنين قد أقيم عليه الحد مرة فلم يلتفت إليه وزبره فأخذته السياط وجعل يصيح أنا مريض وأنت والله قاتلي فلم يرق له حتى استوفى الحد وحبسه ثم مرض شهرا ومات . وروى الزبير بن بكار قال خطب عمر أم كلثوم بنت علي ع فقال له إنها صغيرة فقال زوجنيها يا أبا الحسن فإني أرصد من كرامتها ما لا يرصده أحد فقال أنا أبعثها إليك فإن رضيتها زوجتكها فبعثها إليه ببرد وقال لها قولي هذا البرد الذي ذكرته لك فقالت له ذلك فقال قولي له قد رضيته رضي الله عنك ووضع يده على ساقها فقالت له أ تفعل هذا لو لا أنك أمير المؤمنين لكسرت أنفك ثم جاءت أباها فأخبرته الخبر وقالت بعثتني إلى شيخ سوء قال مهلا يا بنية إنه زوجك فجاء عمر إلى مجلس المهاجرين في الروضة وكان يجلس فيها المهاجرون الأولون فقال رفئوني رفئوني قالوا بما ذا يا أمير المؤمنين قال تزوجت أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب
سمعت رسول الله ص يقول كل سبب ونسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي وصهري . وكتب عثمان إلى أبي موسى إذا جاءك كتابي هذا فأعط الناس أعطياتهم واحمل ما بقي إلي ففعل وجاء زيد بن ثابت بالمال فوضعه بين يدي عثمان فجاء ابن لعثمان فأخذ منه أستاندانة من فضة فمضى بها فبكى زيد قال عثمان ما يبكيك قال أتيت عمر مثل ما أتيتك به فجاء ابن له فأخذ درهما فأمر به فانتزع منه حتى أبكى
[ 107 ](1/3380)
الغلام وأن ابنك قد أخذ هذه فلم أر أحدا قال شيئا فقال عثمان إن عمر كان يمنع أهله وقرابته ابتغاء وجه الله وأنا أعطي أهلي وأقاربي ابتغاء وجه الله ولن تلقى مثل عمر وروى إسماعيل بن خالد قال قيل لعثمان أ لا تكون مثل عمر قال لا أستطيع أن أكون مثل لقمان الحكيم . ذكرت عائشة عمر فقالت كان أجودنا نسيج وحده قد أعد للأمور أقرانها . جاء عبد الله بن سلام بعد أن صلى الناس على عمر فقال إن كنتم سبقتموني بالصلاة عليه فلا تسبقوني بالثناء عليه ثم قال نعم أخو الإسلام كنت يا عمر جوادا بالحق بخيلا بالباطل ترضى حين الرضا وتسخط حين السخط لم تكن مداحا ولا معيابا طيب الطرف عفيف الطرف . وروى جويرية بن قدامة قال دخلت مع أهل العراق على عمر حين أصيب فرأيته قد عصب بطنه بعمامة سوداء والدم يسيل فقال له الناس أوصنا فقال عليكم بكتاب الله فإنكم لن تضلوا ما اتبعتموه فأعدنا القول عليه ثانية أوصنا قال أوصيكم بالمهاجرين فإن الناس سيكثرون ويقلون وأوصيكم بالأنصار فإنهم شعب الإسلام الذي لجأ إليه وأوصيكم بالأعراب فإنهم أصلكم الذي لجأتم إليه ومأواكم وأوصيكم بأهل الذمة فإنهم عهد نبيكم ورزق عيالكم قوموا عني .
[ 108 ]
فلم أحفظ من كلامه إلا هذه الكلمات . وروى عمرو بن ميمون قال سمعت عمر وهو يقول وقد أشار إلى الستة ولم يكلم أحدا منهم إلا علي بن أبي طالب وعثمان ثم أمرهم بالخروج فقال لمن كان عنده إذا اجتمعوا على رجل فمن خالف فلتضرب رقبته ثم قال إن يولوها الأجلح يسلك بهم الطريق فقال له قائل فما يمنعك من العهد إليه قال أكره أن أتحملها حيا وميتا(1/3381)
خطب عمر الطوال
و قال الجاحظ في كتاب البيان والتبيين لم يكن عمر من أهل الخطب الطوال وكان كلامه قصيرا وإنما صاحب الخطب الطوال علي بن أبي طالب ع . وقد وجدت أنا لعمر خطبا فيها بعض الطول ذكرها أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ . فمنها خطبة خطب بها حين ولي الخلافة وهي بعد حمد الله والثناء عليه وعلى رسوله أيها الناس إني وليت عليكم ولو لا رجاء أن أكون خيركم لكم وأقواكم عليكم وأشدكم استضلاعا بما ينوب من مهم أموركم ما توليت ذلك منكم ولكفى عمر فيها مجزى العطاء موافقة الحساب بأخذ حقوقكم كيف آخذها ووضعها أين أضعها
[ 109 ](1/3382)
و بالسير فيكم كيف أسير فربي المستعان فإن عمر لم يصبح يثق بقوة ولا حيلة إن لم يتداركه الله برحمته وعونه . أيها الناس إن الله قد ولاني أمركم وقد علمت أنفع ما لكم وأسأل الله أن يعينني عليه وأن يحرسني عنده كما حرسني عند غيره وأن يلهمني العدل في قسمكم كالذي أمر به فإني امرؤ مسلم وعبد ضعيف إلا ما أعان الله ولن يغير الذي وليت من خلافتكم من خلقي شيئا إن شاء الله إنما العظمة لله وليس للعباد منها شي ء فلا يقولن أحدكم إن عمر تغير منذ ولي وإني أعقل الحق من نفسي وأتقدم وأبين لكم أمري فأيما رجل كانت له حاجة أو ظلم مظلمة أو عتب علينا في خلق فليؤذني فإنما أنا رجل منكم فعليكم بتقوى الله في سركم وعلانيتكم وحرماتكم وأعراضكم وأعطوا الحق من أنفسكم ولا يحمل بعضكم بعضا على ألا تتحاكموا إلي فإنه ليس بيني وبين أحد هوادة وأنا حبيب إلى صلاحكم عزيز على عنتكم وأنتم أناس عامتكم حضر في بلاد الله وأهل بلد لا زرع فيه ولا ضرع إلا ما جاء الله به إليه وإن الله عز وجل قد وعدكم كرامة كبيرة وأنا مسئول عن أمانتي وما أنا فيه ومطلع على ما يحضرني بنفسي إن شاء الله لا أكله إلى أحد ولا أستطيع ما بعد منه إلا بالأمناء وأهل النصح منكم للعامة ولست أحمل أمانتي إلى أحد سواهم إن شاء الله . وخطب عمر مرة أخرى فقال بعد حمد الله والصلاة على رسول الله ص
[ 110 ](1/3383)
أيها الناس إن بعض الطمع فقر وإن بعض اليأس غنى وإنكم تجمعون ما لا تأكلون وتؤملون ما لا تدركون وأنتم مؤجلون في دار غرور وقد كنتم على عهد رسول الله ص تؤخذون بالوحي ومن أسر شيئا أخذ بسريرته ومن أعلن شيئا أخذ بعلانيته فأظهروا لنا حسن أخلاقكم والله أعلم بالسرائر فإنه من أظهر لنا قبيحا وزعم أن سريرته حسنة لم نصدقه ومن أظهر لنا علانية حسنة ظننا به حسنا واعلموا أن بعض الشح شعبة من النفاق فأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون . أيها الناس أطيبوا مثواكم وأصلحوا أموركم واتقوا الله ربكم ولا تلبسوا نساءكم القباطي فإنه إن لم يشف فإنه يصف . أيها الناس إني لوددت أن أنجو كفافا لا لي ولا علي إني لأرجو أن عمرت فيكم يسيرا أو كثيرا أن أعمل فيكم بالحق إن شاء الله وألا يبقى أحد من المسلمين وإن كان في بيته إلا أتاه حقه ونصيبه من مال الله وإن لم يعمل إليه نفسه ولم ينصب إليه بدنه فأصلحوا أموالكم التي رزقكم الله فقليل في رفق خير من كثير في عنف . واعلموا أن القتل حتف من الحتوف يصيب البر والفاجر والشهيد من احتسب نفسه وإذا أراد أحدكم بعيرا فليعمد إلى الطويل العظيم فليضربه بعصاه فإن وجده حديد الفؤاد فليشتره . وخطب عمر مرة أخرى فقال
[ 111 ](1/3384)
إن الله سبحانه قد استوجب عليكم الشكر واتخذ عليكم الحجج فيما آتاكم من كرامة الدنيا والآخرة من غير مسألة منكم ولا رغبة منكم فيه إليه فخلقكم تبارك وتعالى ولم تكونوا شيئا لنفسه وعبادته وكان قادرا أن يجعلكم لأهون خلقه عليه فجعلكم عامة خلقه ولم يجعلكم لشي ء غيره وسخر لكم ما في السموات والأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة وحملكم في البر والبحر ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون ثم جعل لكم سمعا وبصرا ومن نعم الله عليكم نعم عم بها بني آدم ومنها نعم اختص بها أهل دينكم ثم صارت تلك النعم خواصها في دولتكم وزمانكم وطبقتكم وليس من تلك النعم نعمة وصلت إلى امرئ خاصة إلا لو قسمتم ما وصل منها بين الناس كلهم أتعبهم شكرها وفدحهم حقها إلا بعون الله مع الإيمان بالله ورسوله فأنتم مستخلفون في الأرض قاهرون لأهلها قد نصر الله دينكم فلم تصبح أمة مخالفة لدينكم إلا أمتين أمة مستعبدة للإسلام وأهله يتجرون لكم تستصفون معايشهم وكدائحهم ورشح جباههم عليهم المئونة ولكم المنفعة وأمة تنتظر وقائع الله وسطواته في كل يوم وليلة قد ملأ الله قلوبهم رعبا فليس لهم معقل يلجئون إليه ولا مهرب يتقون به قد دهمتهم جنود الله ونزلت بساحتهم مع رفاغة العيش واستفاضة المال وتتابع البعوث وسد الثغور بإذن الله في العافية الجليلة العامة التي لم تكن الأمة على أحسن منها منذ كان الإسلام والله المحمود مع الفتوح العظام في كل بلد فما عسى أن يبلغ شكر الشاكرين وذكر الذاكرين واجتهاد المجتهدين مع هذه النعم التي لا يحصى عددها ولا يقدر قدرها ولا يستطاع أداء حقها إلا بعون الله ورحمته ولطفه فنسأل الله الذي أبلانا هذا أن يرزقنا العمل بطاعته والمسارعة إلى مرضاته واذكروا عباد الله بلاء الله عندكم واستتموا نعمة الله عليكم وفي مجالسكم مثنى وفرادى فإن الله تعالى قال لموسى
[ 112 ](1/3385)
أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اَللَّهِ وقال لمحمد ص وَ اُذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي اَلْأَرْضِ فلو كنتم إذ كنتم مستضعفين محرومين خير الدنيا على شعبة من الحق تؤمنون بها وتستريحون إليها مع المعرفة بالله وبدينه وترجون الخير فيما بعد الموت ولكنكم كنتم أشد الناس عيشة وأعظم الناس بالله جهالة فلو كان هذا الذي ابتلاكم به لم يكن معه حظ في دنياكم غير أنه ثقة لكم في آخرتكم التي إليها المعاد والمنقلب وأنتم من جهد المعيشة على ما كنتم عليه كنتم أحرياء إن تشحوا على نصيبكم منه وإن تظهروه على غيره فبله أما إنه قد جمع لكم فضيلة الدنيا وكرامة الآخرة أو لمن شاء أن يجمع ذلك منكم فأذكركم الله الحائل بينكم وبين قلوبكم إلا ما عرفتم حق الله وعملتم له وسيرتم أنفسكم على طاعته وجمعتم مع السرور بالنعم خوفا لزوالها وانتقالها ووجلا من تحويلها فإنه لا شي ء أسلب للنعمة من كفرانها وأن الشكر أمن للغير ونماء للنعمة واستجلاب للزيادة وهذا علي في أمركم ونهيكم واجب إن شاء الله وروى أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب مقاتل الفرسان قال كتب عمر إلى سلمان بن ربيعة الباهلي أو إلى النعمان بن مقرن أن في جندك رجلين من العرب عمرو بن معديكرب وطليحة بن خويلد فأحضرهما الناس وأدبهما وشاورهما في الحرب وابعثهما في الطلائع ولا تولهما عملا من أعمال المسلمين وإذا وضعت الحرب أوزارها فضعهما حيث وضعا أنفسهما قال وكان عمرو ارتد وطليحة تنبأ .
[ 113 ](1/3386)
و روى أبو عبيدة أيضا في هذا الكتاب قال قدم عمرو بن معديكرب والأجلح بن وقاص الفهمي على عمر فأتياه وبين يديه مال يوزن فقال متى قدمتما قالا يوم الخميس قال فما حبسكما عني قالا شغلنا المنزل يوم قدمنا ثم كانت الجمعة ثم غدونا عليك اليوم فلما فرغ من وزن المال نحاه وأقبل عليهما فقال هيه فقال عمرو بن معديكرب يا أمير المؤمنين هذا الأجلح بن وقاص الشديد المرة البعيد الغرة الوشيك الكرة والله ما رأيت مثله حين الرجال صارع ومصروع والله لكأنه لا يموت فقال عمر للأجلح وأقبل عليه وقد عرف الغضب في وجهه هيه يا أجلح فقال الأجلح يا أمير المؤمنين تركت الناس خلفي صالحين كثيرا نسلهم داره أرزاقهم خصبة بلادهم أجرياء على عدوهم فأكلا عدوهم عنهم فسيمتع الله بك فما رأينا مثلك إلا من سبقك فقال ما منعك أن تقول في صاحبك مثل ما قال فيك قال ما رأيت من وجهك قال أصبت أما إنك لو قلت فيه مثل الذي قال فيك لأوجعتكما ضربا وعقوبة فإذ تركتك لنفسك فسأتركه لك والله لوددت لو سلمت لكم حالكم ودامت عليكم أموركم أما إنه سيأتي عليك يوم تعضه وينهشك وتهره وينبحك ولست له يومئذ وليس لك فإن لا يكن بعدكم فما أقربه منكم . لما أسر الهرمزان صاحب الأهواز وتستر وحمل إلى عمر حمل ومعه رجال من المسلمين فيهم الأحنف بن قيس وأنس بن مالك فأدخلوه في المدينة في هيئته وعليه تاجه الذهب وكسوته فوجدوا عمر نائما في جانب المسجد فجلسوا عنده ينتظرون انتباهه فقال الهرمزان أين عمر فقالوا هو ذا قال وأين حراسه وحجابه قالوا لا حارس له ولا حاجب قال فينبغي أن يكون هذا نبيا قالوا إنه يعمل عمل الأنبياء .
[ 114 ](1/3387)
فاستيقظ عمر فقال الهرمزان قالوا نعم قال لا أكلمه حتى لا يبقى عليه من حليته شي ء فرموا بالحلية وألبسوه ثوبا ضعيفا فقال عمر يا هرمزان كيف رأيت وبال الغدر وقد كان صالح المسلمين مرة ثم نكث فقال يا عمر إنا وإياكم في الجاهلية كنا نغلبكم إذ لم يكن الله معكم ولا معنا فلما كان الله معكم غلبتمونا قال فما عذرك في انتقاضك مرة بعد مرة قال أخاف إن قلت أن تقتلني قال لا بأس عليك فأخبرني فاستسقى ماء فأخذه وجعلت يده ترعد قال ما لك قال أخاف أن تقتلني وأنا أشرب قال لا بأس عليك حتى تشربه فألقاه من يده فقال ما بالك أعيدوا عليه الماء ولا تجمعوا عليه بين القتل والعطش قال كيف تقتلني وقد أمنتني قال كذبت قال لم أكذب فقال أنس صدق يا أمير المؤمنين قال ويحك يا أنس أنا أؤمن قاتل مجزأة بن ثور والبراء بن مالك والله لتأتيني بالمخرج أو لأعاقبنك قال إنك قلت لا بأس عليك حتى تخبرني ولا بأس عليك حتى تشرب وقال له ناس من المسلمين مثل قول أنس فأقبل على الهرمزان فقال تخدعني والله لا تخدعني إلا أن تسلم فأسلم ففرض له ألفين وأنزله المدينة . بعث عمر عمير بن سعيد الأنصاري عاملا على حمص فمكث حولا لا يأتيه خبره ثم كتب إليه بعد حول إذا أتاك كتابي هذا فأقبل واحمل ما جبيت من مال المسلمين فأخذ عمير جرابه وجعل فيه زاده وقصعته وعلق أداته وأخذ عنزته وأقبل ماشيا من حمص حتى دخل المدينة وقد شحب لونه واغبر وجهه وطال شعره فدخل على عمر فسلم فقال عمر ما شأنك يا عمير قال ما ترى من شأني أ لست تراني صحيح البدن ظاهر الدم معي الدنيا أجرها بقرنيها قال وما معك فظن عمر أنه قد جاء
[ 115 ](1/3388)
بمال قال معي جرابي أجعل فيه زادي وقصعتي آكل فيها وأغسل منها رأسي وثيابي وأداتي أحمل فيها وضوئي وشرابي وعنزتي أتوكأ عليها وأجاهد بها عدوا إن عرض لي قال عمر أ فجئت ماشيا قال نعم لم يكن لي دابة قال أ فما كان في رعيتك أحد يتبرع لك بدابة تركبها قال ما فعلوا ولا سألتهم ذلك قال عمر بئس المسلمون خرجت من عندهم قال عمير اتق الله يا عمر ولا تقل إلا خيرا قد نهاك الله عن الغيبة وقد رأيتهم يصلون قال عمر فما ذا صنعت في إمارتك قال وما سؤالك قال سبحان الله قال أما إني لو لا أخشى أن أعمل ما أخبرتك أتيت البلد فجمعت صلحاء أهله فوليتهم جبايته ووضعه في مواضعه ولو أصابك منه شي ء لأتاك قال أ فما جئت بشي ء قال لا فقال جددوا لعمير عهدا قال إن ذلك لشي ء لا أعمله بعد لك ولا لأحد بعدك والله ما كدت أسلم بل لم أسلم قلت لنصراني معاهد أخزاك الله فهذا ما عرضتني له يا عمر إن أشقى أيامي ليوم صحبتك ثم استأذنه في الانصراف فأذن له ومنزله بقباء بعيدا عن المدينة فأمهله عمر أياما ثم بعث رجلا يقال له الحارث فقال انطلق إلى عمير بن سعد وهذه مائة دينار فإن وجدت عليه أثرا فأقبل علي بها وإن رأيت حالا شديدة فادفع إليه هذه المائة فانطلق الحارث فوجد عميرا جالسا يفلي قميصا له إلى جانب حائط فسلم عليه فقال عمير انزل رحمك الله فنزل فقال من أين جئت قال من المدينة قال كيف تركت أمير المؤمنين قال صالحا قال كيف تركت المسلمين قال صالحين قال أ ليس عمر يقيم الحدود قال بلى ضرب ابنا له على فاحشة فمات من ضربه فقال عمير اللهم أعن عمر فإني لا أعلمه إلا شديدا حبه لك قال فنزل به ثلاثة أيام وليس لهم إلا قرص من شعير كانوا يخصونه كل يوم به ويطوون حتى نالهم الجهد فقال له عمير إنك قد أجعتنا فإن رأيت أن تتحول عنا فافعل فأخرج الحارث الدنانير فدفعها إليه وقال بعث بها أمير المؤمنين فاستغن بها فصاح وقال ردها لا حاجة لي فيها فقالت(1/3389)
المرأة خذها
[ 116 ]
ثم ضعها في موضعها فقال ما لي شي ء أجعلها فيه فشقت أسفل درعها فأعطته خرقة فشدها فيها ثم خرج فقسمها كلها بين أبناء الشهداء والفقراء فجاء الحارث إلى عمر فأخبره فقال رحم الله عميرا ثم لم يلبث أن هلك فعظم مهلكه على عمر وخرج مع رهط من أصحابه ماشين إلى بقيع الغرقد فقال لأصحابه ليتمنين كل واحد منا أمنيته فكل واحد تمنى شيئا وانتهت الأمنية إلى عمر فقال وددت أن لي رجلا مثل عمير بن سعد أستعين به على أمور المسلمين(1/3390)
نبذ من كلام عمر
و من كلام عمر إياكم وهذه المجازر فإن لها ضراوة كضراوة الخمر . وقال إياكم والراحة فإنها غفلة . وقال السمن غفلة . وقال لا تسكنوا نساءكم الغرف ولا تعلموهن الكتابة واستعينوا عليهن بالعرى وعودوهن قول لا فإن نعم تجرئهن على المسألة . وقال تبين عقل المرء في كل شي ء حتى في علته فإذا رأيته يتوقى على نفسه الصبر عن شهوته ويحتمي من مطعمه ومشربه عرفت ذلك في عقله وما سألني رجل عن شي ء قط إلا تبين لي عقله في ذلك . وقال إن للناس حدودا ومنازل فأنزلوا كل رجل منزلته وضعوا كل إنسان في حده واحملوا كل امرئ بفعله على قدره . وقال اعتبروا عزيمة الرجل بحميته وعقله بمتاع بيته قال أبو عثمان الجاحظ لأنه
[ 117 ](1/3391)
ليس من العقل أن يكون فرشه لبدا ومرقعته طبرية . وقال من يئس من شي ء استغنى عنه وعز المؤمن استغناؤه عن الناس . وقال لا يقوم بأمر الله إلا من لا يصانع ولا يصارع ولا يتبع المطامع . وقال لا تضعفوا همتكم فإني لم أر شيئا أقعد برجل عن مكرمة من ضعف همته ووعظ رجلا فقال لا تلهك الناس عن نفسك فإن الأمور إليك تصل دونهم ولا تقطع النهار سادرا فإنه محفوظ عليك فإذا أسأت فأحسن فإني لم أر شيئا أشد طلبا ولا أسرع إدراكا من حسنة حديثة لذنب قديم . وقال احذر من فلتات السباب وكل ما أورثك النبز وأعلقك اللقب فإنه إن يعظم بعده شأنك يشتد على ذلك ندمك . وقال كل عمل كرهت من أجله الموت فاتركه ثم لا يضرك متى مت . وقال أقلل من الدين تعش حرا وأقلل من الذنوب يهن عليك الموت وانظر في أي نصاب تضع ولدك فإن العرق دساس . وقال ترك الخطيئة أسهل من معالجة التوبة . وقال احذروا النعمة حذركم المعصية وهي أخفهما عليكم عندي . وقال احذروا عاقبة الفراغ فإنه أجمع لأبواب المكروه من السكر . وقال أجود الناس من يجود على من لا يرجو ثوابه وأحلمهم من عفا بعد القدرة وأبخلهم من بخل بالسلام وأعجزهم من عجز في دعائه . وقال رب نظرة زرعت شهوة ورب شهوة أورثت حزنا دائما .
[ 118 ]
و قال ثلاث خصال من لم تكن فيه لم ينفعه الإيمان حلم يرد به جهل الجاهل وورع يحجزه عن المحارم وخلق يداري به الناس(1/3392)
أخبار عمر مع عمرو بن معديكرب
و ذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب مقاتل الفرسان أن سعد بن أبي وقاص أوفد عمرو بن معديكرب بعد فتح القادسية إلى عمر فسأله عمر عن سعد كيف تركته وكيف رضا الناس عنه فقال يا أمير المؤمنين هو لهم كالأب يجمع لهم جمع الذرة أعرابي في نمرته أسد في تامورته نبطي في جبايته يقسم بالسوية ويعدل في القضية وينفر في السرية . وكان سعد كتب يثني على عمرو فقال عمر لكأنما تعاوضتما الثناء كتب يثني عليك وقدمت تثني عليه فقال لم أثن إلا بما رأيت قال دع عنك سعدا وأخبرني عن مذحج قومك . قال في كل فضل وخير قال ما قولك في علة بن خالد قال أولئك فوارس أعراضنا أحثنا طلبا وأقلنا هربا قال فسعد العشيرة قال أعظمنا خميسا وأكبرنا رئيسا وأشدنا شريسا قال فالحارث بن كعب قال حكمة لا ترام قال فمراد قال الأتقياء البررة والمساعير الفجرة ألزمنا قرارا وأبعدنا آثارا .
[ 119 ]
قال فأخبرني عن الحرب قال مرة المذاق إذا قلصت عن ساق من صبر فيها عرف ومن ضعف عنها تلف وإنها لكما قال الشاعر
الحرب أول ما تكون فتية
تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا استعرت وشب ضرامها
عادت عجوزا غير ذات حليل
شمطاء جزت رأسها وتنكرت
مكروهة للشم والتقبيل(1/3393)
قال فأخبرني عن السلاح قال سل عما شئت منه قال الرمح قال أخوك وربما خانك قال النبل قال منايا تخطئ وتصيب قال الترس قال ذاك المجن وعليه تدور الدوائر قال الدرع قال مشغلة للراكب متعبة للراجل وإنها لحصن حصين قال السيف قال هناك قارعت أمك الهبل قال بل أمك قال بل أمي والحمى أضرعتني لك . عرض سليمان بن ربيعة الباهلي جنده بأرمينية فكان لا يقبل من الخيل إلا عتيقا فمر عمرو بن معديكرب بفرس غليظ فرده وقال هذا هجين قال عمرو إنه ليس بهجين ولكنه غليظ قال بل هو هجين فقال عمرو إن الهجين ليعرف الهجين فكتب بكلمته إلى عمر فكتب إليه أما بعد يا ابن معديكرب فإنك القائل لأميرك ما قلت فإنه بلغني أن عندك سيفا تسميه الصمصامة وأن عندي سيفا أسميه مصمما وأقسم بالله لئن وضعته بين أذنيك لا يقلع حتى يبلغ قحفك .
[ 120 ](1/3394)
و كتب إلى سليمان بن ربيعة يلومه في حلمه عنه فلما قرأ عمرو الكتاب قال من ترونه يعني قالوا أنت أعلم قال هددني بعلي والله وقد كان صلى بناره مرة في حياة رسول الله ص وأفلت من يده بجريعة الذقن وذلك حين ارتدت مذحج وكان رسول الله ص أمر عليها فروة بن مسيك المرادي فأساء السيرة ونابذ عمرو بن معديكرب ففارقه في كثير من قبائل مذحج فاستجاش فروة عليه وعليهم رسول الله ص فأرسل خالد بن سعيد بن العاص في سرية وخالد بن الوليد بعده في سرية ثانية وعلي بن أبي طالب ع في سرية ثالثة وكتب إليهم كل واحد منكم أمير من معه فإذا اجتمعتم فعلي أمير على الكل فاجتمعوا بموضع من أرض اليمن يقال له كسر فاقتتلوا هناك وصمد عمرو بن معديكرب لعلي ع وكان يظن أن لا يثبت له أحد من شجعان العرب فثبت له فعلا عليه وعاين منه ما لم يكن يحتسبه ففر من بين يديه هاربا ناجيا بحشاشة نفسه بعد أن كاد يقتله وفر معه رؤساء مذحج وفرسانهم وغنم المسلمون أموالهم وسبيت ذلك اليوم ريحانة بنت معديكرب أخت عمرو فأدى خالد بن سعيد بن العاص فداءها من ماله فأصابه عمرو أخوها الصمصامة فلم يزل ينتقل في بني أمية ويتداولونه واحدا بعد واحد حتى صار إلى بني العباس في أيام المهدي محمد بن المنصور أبي جعفر(1/3395)
فصل فيما نقل عن عمر من الكلمات الغريبة
فأما ما نقل عن عمر من الألفاظ الغريبة اللغوية التي شرحها المفسرون فنحن نذكر من ذلك ما يليق بهذا الكتاب .
[ 121 ]
قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه روى عبد الرحمن بن أبي زيد عن عمران بن سودة الليثي قال صليت الصبح مع عمر فقرأ سبحان وسورة معها ثم انصرف فقمت معه فقال أ حاجة قلت حاجة قال فالحق فلحقت فلما دخل أذن فإذا هو على رمال سرير ليس فوقه شي ء فقلت نصيحة قال مرحبا بالناصح غدوا وعشيا قلت عابت أمتك أو قال رعيتك عليك أربعا قال فوضع عود الدرة ثم ذقن عليها هكذا روى ابن قتيبة وقال أبو جعفر فوضع رأس درته في ذقنه ووضع أسفلها على فخذه وقال هات قال ذكروا أنك حرمت المتعة في أشهر الحج وزاد أبو جعفر وهي حلال ولم يحرمها رسول الله ص ولا أبو بكر فقال أجل إنكم إذا اعتمرتم في أشهر حجكم رأيتموها مجزئة عن حجكم فقرع حجكم وكانت قابية قوب عامها والحج بهاء من بهاء الله وقد أصبت قال وذكروا أنك حرمت متعة النساء وقد كان رخصة من الله نستمتع بقبضة ونفارق عن ثلاث قال إن رسول الله ص أحلها في زمان ضرورة ورجع الناس إلى السعة ثم لم أعلم أحدا من المسلمين عاد إليها ولا عمل بها فالآن من شاء نكح بقبضة وفارق عن ثلاث بطلاق وقد أصبت . وقال ذكروا أنك أعتقت الأمة إذا وضعت ذا بطنها بغير عتاقة سيدها قال ألحقت حرمة بحرمة وما أردت إلا الخير وأستغفر الله . قال وشكوا منك عنف السياق ونهر الرعية قال فنزع الدرة ثم مسحها حتى أتى على سيورها وقال وأنا زميل محمد رسول الله ص في غزاة قرقرة
[ 122 ](1/3396)
الكدر فو الله إني لأرتع فأشبع وأسقي فأروي وإني لأضرب العروض وأزجر العجول وأؤدب قدري وأسوق خطوتي وأرد اللفوت وأضم العنود وأكثر الضجر وأقل الضرب وأشهر بالعصا وأدفع باليد ولو لا ذلك لأعذرت . قال أبو جعفر فكان معاوية إذا حدث بهذا الحديث يقول كان والله عالما برعيته . قال ابن قتيبة رملت السرير وأرملته إذا نسجته بشريط من خوص أو ليف . وذقن عليها أي وضع عليها ذقنه يستمع الحديث . وقوله فقرع حجكم أي خلت أيام الحج من الناس وكانوا يتعوذون من قرع الفناء وذلك ألا يكون عليه غاشية وزوار ومن قرع المراح وذلك ألا يكون فيه إبل . والقابية قشر البيضة إذا خرج منها الفرخ . والقوب الفرخ قال الكميت
لهن وللمشيب ومن علاه
من الأمثال قابية وقوب
أراد أن النساء ينفرن من ذي الشيب ويفارقنه كما يفارق الفرخ البيضة فلا يعود إليها بعد خروجه منها أبدا وروي عن عمر أنكم إذا رأيتم العمرة في أشهر الحج كافية من الحج خلت مكة من الحجاج فكانت كبيضة فارقها فرخها قوله إني لأرتع فأشبع وأسقى فأروي مثل مستعار من رعيت الإبل أي إذا أرتعت الإبل أي أرسلتها ترعى تركتها حتى تشبع وإذا سقيتها تركتها حتى تروي . وقوله أضرب العروض العروض الناقة تأخذ يمينا وشمالا ولا تلزم المحجة يقول أضربها حتى تعود إلى الطريق ومثله قوله وأضم العنود . والعجول البعير يند عن الإبل يركب رأسه عجلا ويستقبلها .
[ 123 ](1/3397)
قوله وأؤدب قدري أي قدر طاقتي . وقوله وأسوق خطوتي أي قدر خطوتي . واللفوت البعير يلتفت يمينا وشمالا ويروغ . وقوله وأكثر الزجر وأقل الضرب أي أنه يقتصر من التأديب في السياسة على ما يكتفي به حتى يضطر إلى ما هو أشد منه وأغلظ . وقوله وأشهر بالعصا وأدفع باليد يريد أنه يرفع العصا يرهب بها ولا يستعملها ولكنه يدفع بيده . قوله ولو لا ذلك لأعذرت أي لو لا هذا التدبير وهذه السياسة لخلفت بعض ما أسوق ويقال أعذر الراعي الشاة والناقة إذا تركها والشاة العذيرة وعذرت هي إذا تخلفت عن الغنم . قال ابن قتيبة وهذه أمثال ضربها وأصلها في رعية الإبل وسوقها وإنما يريد بها حسن سياسته للناس في الغزاة التي ذكرها يقول فإذا كنت أفعل كذا في أيام رسول الله ص مع طاعة الناس له وتعظيمهم إياه فكيف لا أفعله بعده . وعندي أن ابن قتيبة غالط في هذا التأويل وليس في كلام عمر ما يدل على ذلك وليس عمر في غزاة قرقرة الكدر يسوس الناس ولا يأمرهم ولا ينهاهم وكيف ورسول الله ص حاضر بينهم ولا كان في غزاة قرقرة الكدر حرب ولا ما يحتاج فيه إلى السياسة وهل كان لعمر أو لغير عمر ورسول الله ص حي أن يرتع فيشبع ويسقي فيروي وهل تكون هذه الصفات وما بعدها إلا للرئيس الأعظم والذي اراده عمر ذكر حاله في خلافته رادا على عمران بن سوادة في قوله إن الرعية يشكون منك عنف السياق وشدة النهر فقال ليشكون فو الله إني لرفيق بهم ومستقص في سياستهم
[ 124 ](1/3398)
و لا ناهك لهم عقوبة وإني لأقنع بالهيبة والتهويل عليهم ولا أعمل العصا حيث يمكنني الاكتفاء باليد وإني أرد الشارد منهم وأعدل المائل إلى غير ذلك من الأمور التي عددها وأحسن في تعديدها . وإنما ذكر قوله أنا زميل رسول الله ص في غزاة قرقرة الكدر على عادة العرب في الافتخار وقت المنافرة وعند ما تجيش النفس ويحمى القلب كما كان علي ع يقول وقت الحاجة أنا عبد الله وأخو رسوله فيذكر أشرف أحواله والمزية التي اختص بها عن غيره وكان رسول الله ص في غزاة قرقرة الكدر أردف عمر معه على بعيره فكان عمر يفخر بها ويذكرها وقت الحاجة إليها . وفي حديث عمر أنه خرج من الخلاء فدعا بطعام فقيل له أ لا تتوضأ فقال لو لا التنطس ما باليت ألا أغسل يدي . قال أبو عبيد القاسم بن سلام قال ابن علية التنطس التقذر وقال الأصمعي هو المبالغة في التطهر فكل من أدق النظر في الأمور فاستقصى علمها فهو متنطس ومنه قيل للطبيب النطاسي والنطيس لدقة علمه بالطب . وفي حديث عمر حين سأل الأسقف عن الخلفاء فحدثه حتى إذا انتهى إلى الرابع فقال صدع من حديد وقال عمر وا دفراه . قال أبو عبيدة قال الأصمعي كان حماد بن سلمة يقول صدأ من حديد وهذا أشبه بالمعنى لأن الصدأ له دفر وهو النتن والصدع لا دفر له وقيل للدنيا أم دفر لما فيها من الدواهي والآفات فأما الذفر بالذال المعجمة وفتح الفاء فهو الريح الذكية من طيب أو نتن .
[ 125 ](1/3399)
و عندي في هذا الحديث كلام والأظهر أن الرواية المشهورة هي الصحيحة وهي قوله صدع من حديد ولكن بفتح الدال وهو ما كان من الوعول بين العظيم والشخت فإن ثبتت الرواية بتسكين الدال فغير ممتنع أيضا يقال رجل صدع إذا كان ضربا من الرجال ليس برهل ولا غليظ . ورابع الخلفاء هو علي بن أبي طالب ع وأراد بالأسقف مدحه . وقول عمر وا دفراه إشارة إلى نفسه كأنه استصغر نفسه وعابها بالنسبة إلى ما وصفه الأسقف من مدح الرابع وإطرائه . فأما تأويل أبي عبيدة فإنه ظن أن الرابع عثمان وجعل رسول الله ص معدودا من الجملة ليصح كون عثمان رابعا وجعل الدفر والنتن له وصرف اللفظ عن الرواية المشهورة إلى غيرها فقال صدأ حديد ليطابق لفظه النتن على ما يليق بها فغير خاف ما فيه من التعسف ورفض الرواية المشهورة . وأيضا فإن رسول الله ص لا يجوز إدخاله في لفظ الخلفاء لأنه ليس بخليفة لأن الخليفة من يخلف غيره ورسول الله ص مستخلف الناس كلهم وليس بخليفة لأحد . وفي حديث عمر قال عند موته لو أن لي ما في الأرض جميعا لافتديت به من هول المطلع . قال أبو عبيد هو موضع الاطلاع من إشراف إلى انحدار أو من انحدار إلى إشراف وهو من الأضداد فشبه ما أشرف عليه من أمر الآخرة .
[ 126 ](1/3400)
و في حديث عمر حين بعث حذيفة وابن حنيف إلى السواد ففلجا الجزية على أهله . قال أبو عبيد فلجا أي قسما بالفلج وأصله من الفلج وهو المكيال الذي يقال له الفلج لأن خراجهم كان طعاما . وفي حديث عمر حين قال له حذيفة إنك تستعين بالرجل الذي فيه وبعضهم يرويه بالرجل الفاجر فقال أستعمله لأستعين بقوته ثم أكون على قفانه . قال أبو عبيد عن الأصمعي قفان كل شي ء جماعه واستقصاء معرفته يقول أكون على تتبع أمره حتى أستقصي عمله وأعرفه . قال أبو عبيد ولا أحسب هذه الكلمة عربية وإنما أصلها قبان ومنه قول العامة فلان قبان على فلان إذا كان بمنزلة الأمين عليه والرئيس الذي يتتبع أمره ويحاسبه وبه سمي هذا الميزان الذي يقال له القبان . وفي حديث عمر حين قال لابن عباس وقد شاوره في شي ء فأعجبه كلامه نشنشة أعرفها من أخشن هكذا الرواية وأما أهل العلم فيقولون شنشنة أعرفها من أخزم . والشنشنة في بعض الأحوال قد تكون بمعنى المضغة أو القطعة تقطع من اللحم والقول المشهور أن الشنشنة مثل الطبيعة والسجية فأراد عمر أني أعرف فيك مشابه من أبيك في رأيه ويقال إنه لم يكن لقرشي مثل رأي العباس . قال وقد قال أبو عبيدة معمر بن المثنى يجوز شنشنة ونشنشة وغيره ينكر نشنشة .
[ 127 ](1/3401)
و في حديث عمر يوم السقيفة قال وقد كنت زورت في نفسي قاله أقوم بها بين يدي أبي بكر فلم يترك أبو بكر شيئا مما زورته إلا تكلم به . قال أبو عبيد التزوير إصلاح الكلام وتهيئته كالتزويق . وفي حديث عمر حين ضرب الرجل الذي أقسم على أم سلمة ثلاثين سوطا كلها تبضع وتحدر . قال أبو عبيد أي تشق وتورم حدر الجلد يحدره وأحدره غيره . وفي حديثه أنه قال لمؤذن بيت المقدس إذا أذنت فترسل وإذا أقمت فاحذم . قال أبو عبيدة الحذم بالحاء المهملة الحدر في الإقامة وقطع التطويل وأصله في المشي وهو الإسراع فيه وأن يكون مع هذا كأنه يهوي بيده إلى خلفه والجذم بالجيم أيضا القطع وكذلك الخذم بالخاء المعجمة . وفي حديثه أنه قال لا يقر رجل أنه كان يطأ جاريته إلا ألحقت به ولدها فمن شاء فليمسكها ومن شاء فليرسلها . قال أبو عبيد هكذا الرواية بالسين المهملة والمعروف أنه الإرشال بالشين المعجمة ولعله حول الشين إلى السين كما يقال سمت العاطش أي شمته وفي حديثه كذب عليكم الحج كذب عليكم العمرة كذب عليكم الجهاد ثلاثة أسفار كذبت عليكم .
[ 128 ]
قال أبو عبيد معنى كذب عليكم الإغراء أي عليكم به وكان الأصل في هذا أن يكون نصبا ولكنه جاء عنهم بالرفع شاذا على غير قياس ومما يحقق أنه مرفوع قول الشاعر
كذبت عليك لا تزال تقوفني
كما قاف آثار الوثيقة قائف
فقوله كذبت عليك إنما أغراه بنفسه أي عليك بي فجعل نفسه في موضع رفع أ لا تراه قد جاء بالباء فجعلها اسمه . وقال معقر بن حمار البارقي
و ذبيانية وصت بنيها
بأن كذب القراطف والقروف(1/3402)
فرفع والشعر مرفوع ومعناه عليكم بالقراطف والقروف والقراطف القطف واحدها قرطف والقروف الأوعية . ومما يحقق الرفع أيضا قول عمر كذبت عليكم قال أبو عبيد ولم أسمع النصب في هذا إلا حرفا كان أبو عبيد يحكيه عن أعرابي نظر إلى ناقة نضو لرجل فقال كذب عليك البزر والنوى لم أسمع في هذا نصبا غير هذا الحرف . قال والعرب تقول للمريض كذب عليك العسل بالرفع أي عليك به . وفي حديثه ما يمنعكم إذا رأيتم الرجل يخرق أعراض الناس ألا تعربوا عليه قالوا نخاف لسانه قال ذاك ألا تكونوا شهداء . قال أبو عبيد ألا تعربوا أي ألا تفسدوا عليه كلامه وتقبحوه له . وفي حديثه أنه نهى عن الفرس في الذبيحة .
[ 129 ](1/3403)
قال أبو عبيد قيل في تفسيره أن ينتهي بالذبح إلى النخاع وهو عظم في الرقبة وربما فسر النخاع بأنه المخ الذي في فقار الصلب متصلا بالقفا فنهى أن ينتهي بالذبح إلى ذلك . وقيل في تفسيره أيضا أن يكسر رقبة الذبيحة قبل أن تبرد ويؤكد هذا التفسير قوله في تمام الحديث ولا تعجلوا الأنفس حتى تزهق . وفي حديثه حين أتاه رجل يسأله أيام المحل فقال له هلكت وأهلكت فقال عمر أ هلكت وأنت تنث نثيث الحميت أعطوه ربعة من الصدقة فخرجت يتبعها ظئراها . قال أبو عبيد قد روي تمث بالميم والمحفوظ بالنون وتنث أي ترشح وتعرق من سمنك وكثرة لحمك . والحميت النحي وفيه الرب أو السمن أو نحوها والربعة ما ولد في أول النتاج والذكر ربع . وفي حديثه أنه خرج إلى المسجد للاستسقاء فصعد المنبر فلم يزد على الاستغفار حتى نزل فقيل إنك لم تستسق فقال لقد استسقيت بمجاديح السماء . قال أبو عبيد جعل الاستغفار استسقاء تأول فيه قوله تعالى اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ اَلسَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً والمجاديح جمع مجدح وهو النجم الذي كانت العرب تزعم أنها تمطر به ويقال مجدح بضم الميم وإنما قال عمر ذلك على أنها كلمة جارية على ألسنة العرب ليس على تحقيق الأنواء ولا التصديق بها
[ 130 ](1/3404)
و هذا شبيه بقول ابن عباس في رجل جعل أمر امرأته بيدها فقالت له أنت طالق ثلاثا فقال خطأ الله نوءها ألا طلقت نفسها ثلاثا ليس هذا دعاء منه ألا تمطر إنما ذلك على الكلام المقول . ومما يبين أن عمر أراد إبطال الأنواء والتكذيب بها قوله لقد استسقيت بمجاديح السماء التي يستسقى بها الغيث فجعل الاستغفار هو المجاديح لا الأنواء . وفي حديثه وهو يذكر حال صباه في الجاهلية لقد رأيتني مرة وأختا لي نرعى على أبوينا ناضحا لنا قد ألبستنا أمنا نقبتها وزودتنا يمينتيها من الهبيد فنخرج بناضحنا فإذا طلعت الشمس ألقيت النقبة إلى أختي وخرجت أسعى عريان فنرجع إلى أمنا وقد جعلت لنا لفينة من ذلك الهبيد فيا خصباه . قال أبو عبيد الناضح البعير الذي يسنى عليه فيسقى به الأرض والأنثى ناضحة وهي السانية أيضا والجمع سوان وقد سنت تسنو ولا يقال ناضح لغير المستسقى . والنقبة أن تؤخذ القطعة من الثوب قدر السراويل فيجعل لها حجزة مخيطة من غير نيفق وتشد كما تشد حجزة السراويل فإذا كان لها نيفق وساقان فهي سراويل . وقال والذي وردت به الرواية زودتنا يمينتيها والوجه في الكلام أن يكون يمينتيها بالتشديد لأنه تصغير يمين بلا هاء وإنما قال يمينتيها ولم يقل يديها ولا كفيها لأنه لم يرد أنها جمعت كفيها ثم أعطتنا بهما وإنما أراد أنها أعطت كل واحد كفا كفا بيمينها فهاتان يمينان . الهبيد حب الحنظل زعموا أنه يعالج حتى يمكن أكله ويطيب .
[ 131 ](1/3405)
و اللفيتة ضرب من الطبيخ كالحساء . وفي حديثه إذا مر أحدكم بحائط فليأكل منه ولا يتخذ ثبانا . قال أبو عبيد هو الوعاء الذي يحمل فيه الشي ء فإن حملته بين يديك فهو ثبان وأن جعلته في حضنك فهي خبنة . وفي حديثه لو أشاء لدعوت بصلاء وصناب وصلائق وكراكرة وأسنمة وأفلاذ . قال أبو عبيد الصلاء الشواء والصناب الخردل بالزبيب والصلائق الخبز الرقيق ومن رواه سلائق بالسين أراد ما يسلق من البقول وغيرها والكراكر كراكر الإبل والأفلاذ جمع فلذ وهو القطعة من الكبد . وفي حديثه لو شئت أن يدهمق لي لفعلت . قال أبو عبيد دهمقت الطعام إذا لينته ورققته وطيبته . وفي حديثه لئن بقيت لأسوين بين الناس حتى يأتي الراعي حقه في صفنه لم يعرق جبينه . الصفن خريطة للراعي فيها طعامه وما يحتاج إليه وروي بفتح الصاد ويقال أيضا في صفينه .
[ 132 ]
و في حديثه لئن بقيت إلى قابل ليأتين كل مسلم حقه حتى يأتي الراعي بسرو حمير لم يعرق جبينه . السرو مثل الخيف وهو ما انحدر عن الجبل وارتفع عن المسيل . وفي حديثه لئن عشت إلى قابل لألحقن آخر الناس بأولهم حتى يكونوا ببانا واحدا . قال أبو عبيد قال ابن مهدي يعني شيئا واحدا ولا أحسب هذه الكلمة عربية ولم أسمعها في غير هذا الحديث . وفي حديثه أنه خطب فقال ألا إن الأسيفع أسيفع جهينة رضي من دينه وأمانته بأن يقال سابق الحاج أو قال سبق الحاج فادان معرضا فأصبح قد رين به فمن كان له عليه دين فليغد بالغداة فلنقسم ماله بينهم بالحصص . قوله فادان معرضا أي استدان معرضا وهو الذي يعترض الناس فيستدين ممن أمكنه وكل شي ء أمكنك من عرضه فهو معرض لك كقوله والبحر معرضا والسدير . ورين بالرجل إذا وقع فيما لا يمكنه الخروج منه .
[ 133 ](1/3406)
و في حديثه أنه قال لمولاه أسلم ورآه يحمل متاعه على بعير من إبل الصدقة فقال فهلا ناقة شصوصا أو ابن لبون بوالا . الشصوص التي قد ذهب لبنها ووصف ابن اللبون بالبول وإن كانت كلها تبول إنما أراد ليس عنده سوى البول أي ليس عنده مما ينتفع به من ظهر ولا له ضرع فيحلب لا يزيد على أنه بوال فقط . وفي حديثه حين قيل له إن النساء قد اجتمعن يبكين على خالد بن الوليد فقال وما على نساء بني المغيرة أن يسفكن من دموعهن على أبي سليمان ما لم يكن نقع ولا لقلقة . قيل النقع هاهنا طعام المأتم والأشبه أن النقع رفع الصوت واللقلقة مثله . وفي حديثه أن سلمان بن ربيعة الباهلي شكا إليه عاملا من عماله فضربه بالدرة حتى أنهج . قال أبو عبيد أي أصابه النفس والبهر من الإعياء . وفي حديثه حين قدم عليه أحد بني ثور فقال له هل من مغربة خبر فقال نعم أخذنا رجلا من العرب كفر بعد إسلامه فقدمناه فضربنا عنقه فقال فهلا أدخلتموه جوف بيت فألقيتم إليه كل يوم رغيفا ثلاثة أيام لعله يتوب أو يراجع اللهم لم أشهد ولم آمر ولم أرض إذ بلغني .
[ 134 ](1/3407)
يقال هل من مغربة خبر بكسر الراء ويروى بفتحها وأصله البعد ومنه شأو مغرب . وفي حديثه أنه قال آلله ليضربن أحدكم أخاه بمثل آكلة اللحم ثم يرى أنه لا أقيده والله لأقيدنه . قال أبو عبيد آكلة اللحم عصا محددة . وفي حديثه أعضل بي أهل الكوفة ما يرضون بأمير ولا يرضاهم أمير هو من العضال وهو الداء والأمر الشديد الذي لا يقوم له صاحبه . وفي حديثه أنه خطب فذكر الربا فقال إن منه أبوابا لا تخفى على أحد منها السلم في السن وأن تباع الثمرة وهي مغضفة ولما تطب وأن يباع الذهب بالورق نساء . قال أبو عبيد السلم في السن أن يسلف الرجل في الرقيق والدواب وغيرها من الحيوان لأنه ليس له حد معلوم . والمغضفة المتدلية في شجرها وكل مسترخ أغضف أي تكون غير مدركة . وفي حديثه أنه خطب فقال ألا لا تغالوا في صداق النساء فإن الرجل يغالي بصداق المرأة حتى يكون ذلك لها في قلبه عداوة تقول جشمت إليك عرق القربة .
[ 135 ]
قال معناه تكلفت لك حتى عرقت عرق القربة وعرقها سيلان مائها وفي حديثه أنه رفع إليه غلام ابتهر جارية في شعره فقال انظروا إليه فلم يوجد أنبت فدرأ عنه الحد . قال أبو عبيد ابتهرها أي قذفها بنفسه فقال فعلت بها . وفي حديثه أنه قضى في الأرنب بحلان إذا قتلها المحرم . قال الحلان الجدي . وفي حديثه أنه قال حجة هاهنا ثم احدج هاهنا حتى تفنى . قال يأمر بحجة الإسلام لا غير ثم بعدها الغزو في سبيل الله . حتى تفنى أي حتى تهرم . وفي حديثه أنه سافر في عقب رمضان وقال إن الشهر قد تسعسع فلو صمنا بقيته . قال أبو عبيد السين مكررة مهملة والعين مهملة أي أدبر وفنى . وفي حديثه وقد سمع رجلا خطب فأكثر فقال إن كثيرا من الخطب من شقاشق الشيطان . الواحدة شقشقة وهو ما يخرج من شدق الفحل عند نزوانه شبيهة بالرئة والشيطان
[ 136 ](1/3408)
لا شقشقة له إنما هذا مثل لما يدخل في الخطب من الكلام المكذوب وتزوير الباطل . وفي حديثه أنه قدم مكة فأذن أبو محذورة فرفع صوته فقال له أ ما خشيت يا أبا محذورة أن ينشق مريطاؤك . قال المريطاء ما بين السرة إلى العانة ويروى بالقصر . وفي حديثه أنه سئل عن المذي فقال هو الفطر وفيه الوضوء . قال سماه فطرا من قولهم فطرت الناقة فطرا إذا حلبتها بأطراف الأصابع فلا يخرج اللبن إلا قليلا وكذلك المذي وليس المني كذلك لأنه يخرج منه مقدار كثير . وفي حديثه أنه سئل عن حد الأمة الزانية فقال إن الأمة ألقت فروة رأسها من وراء الدار . قال الفروة جلدة الرأس وهذا مثل إنما أراد أنها ألقت القناع وتركت الحجاب وخرجت إلى حيث لا يمكنها أن تمتنع من الفجور نحو رعاية الغنم فكأنه يرى أن لا حد عليها . وفي حديثه أنه أتي بشارب فقال لأبعثنك إلى رجل لا تأخذه فيك هوادة فبعث به إلى مطيع بن الأسود العدوي فقال إذا أصبحت غدا فاضربه الحد فجاء عمر
[ 137 ]
و هو يضربه ضربا شديدا فقال قتلت الرجل كم ضربته قال ستين قال أقص عنه بعشرين . قال معناه اجعل شدة هذا الضرب قصاصا بالعشرين التي بقيت من الحد فلا تضربه إياها . وفي حديثه أن رجلا أتاه فذكر له أن شهادة الزور قد كثرت في أرضهم فقال لا يؤسر أحد في الإسلام بشهادة الزور فإنا لا نقبل إلا العدول . قال لا يؤسر لا يحبس ومنه الأسير المسجون . وفي حديثه أنه جدب السمر بعد عتمة . جدبه أي عابه ووصمه . ومثل هذا الحديث في كراهيته السمر حديثه الآخر أنه كان ينش الناس بعد العشاء بالدرة ويقول انصرفوا إلى بيوتكم . قال هكذا روي بالشين المعجمة وقيل إن الصحيح ينس بالسين المهملة والأظهر أنه ينوش الناس بالواو من التناوش قال تعالى وَ أَنَّى لَهُمُ اَلتَّناوُشُ . وفي حديثه هاجروا ولا تهجروا واتقوا الأرنب إن يحذفها أحدكم بالعصا ولكن ليذك لكم الأسل الرماح والنبل .
[ 138 ](1/3409)
قال رواه زر بن حبيش قال قدمت المدينة فخرجت في يوم عيد فإذا رجل متلبب أعسر أيسر يمشي مع الناس كأنه راكب وهو يقول كذا وكذا فإذا هو عمر يقول هاجروا وأخلصوا الهجرة ولا تهجروا . ولا تشبهوا بالمهاجرين على غير صحة منكم كقولك تحلم الرجل وليس بحليم وتشجع وليس بشجاع . والذكاة الذبح والأسل أعم من الرماح وأكثر ما يستعمل في الرماح خاصة . والمتلبب المتحزم بثيابه . وفلان أعسر يسر يعمل بكلتا يديه والذي جاء في الرواية أيسر بالهمزة . وفي حديثه أنه أفطر في رمضان وهو يرى أن الشمس قد غربت ثم نظر فإذا الشمس طالعة فقال لا نقضيه ما تجانفنا فيه الإثم . يقول لم نتعمد فيه الإثم ولا ملنا إليه والجنف الميل . وفي حديثه أنه قال لما مات عثمان بن مظعون على فراشه هبنه الموت عندي منزلة حين لم يمت شهيدا فلما مات رسول الله ص على فراشه وأبو بكر علمت أن موت الأخيار على فرشهم . هبته أي طأطأه وحط من قدره . وفي حديثه أن رجلا من الجن لقيه فقال هل لك أن تصارعني فإن صرعتني
[ 139 ](1/3410)
علمتك آية إذا قرأتها حين تدخل بيتك لم يدخله شيطان فصارعه فصرعه عمر وقال له إني أراك ضئيلا شخيتا كان ذراعيك ذراعا كلب أ فهكذا أنتم كلكم أيها الجن أم أنت من بينهم فقال إني من بينهم لضليع فعاودني فصارعه فصرعه الإنسي فقال أ تقرأ آية الكرسي فإنه لا يقرؤها أحد إذا دخل بيته إلا خرج الشيطان منه وله خبج كخبج الحمار . قال رواه عبد الله بن مسعود وقال خرج رجل من الإنس فلقيه رجل من الجن ثم ذكر الحديث فقيل له هو عمر فقال ومن عسى أن يكون إلا عمر الشخيت النحيف الجسم ومثله الشخت . والضليع العظيم الخلق . والخبج الضراط . وفي حديثه أنه كان يطوف بالبيت وهو يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ما له هجيرى غيرها . قال هجيرى الرجل دأبه وديدنه وشأنه . ومثلها من قول عمر لو أطيق الأذان مع الخليقى لأذنت . ومثلها من قول عمر بن عبد العزيز لا رديدى في الصدقة أي لا ترد . ومثلها قول العرب كانت بينهم رميا أي مراماة ثم حجزت بينهم حجيزى أي محاجزة .
[ 140 ](1/3411)
و في حديثه حين قال للرجل الذي وجد منبوذا فأتاه به فقال عسى الغوير أبؤسا قال عريفه يا أمير المؤمنين إنه وإنه فأثنى عليه خيرا وقال فهو حر ولاؤه لك . الأبؤس جمع بأس والمثل قديم مشهور ومراد عمر لعلك أنت صاحب هذا المنبوذ كأنه اتهمه وساء ظنه فيه فلما أثنى عليه عريفه أي كفيله قال له هذا المنبوذ حر وولاؤه لك لأنه بإنقاذه إياه من الهلكة كأنه أعتقه . وفي حديثه أن قريشا تريد أن تكون مغويات لمال الله . هكذا يروى بالتخفيف والكسر والمعروف مغويات بتشديد الياء وفتحها واحدتها مغواة وهي حفرة كالزبية تحفر للذئب ويجعل فيها جدي فإذا نظر إليها الذئب سقط يريده فيصاد ولهذا قيل لكل مهلكة مغواة . وفي حديثه فرقوا عن المنية واجعلوا الرأس رأسين ولا تلثوا بدار معجزة وأصلحوا مثاويكم وأخيفوا الهوام قبل أن تخيفكم واخشوشنوا واخشوشبوا وتمعددوا .
[ 141 ](1/3412)
قال فرقوا عن المنية واجعلوا الرأس رأسين أي إذا أراد أحدكم أن يشتري شيئا من الحيوان كمملوك أو دابة فلا يغالين به فإنه لا يدري ما يحدث فيه ولكن ليجعل ثمنه في رأسين وإن كان كل واحد منهما دون الأول فإن مات أحدهما بقي الآخر . وقوله ولا تلثوا بدار معجزة فالإلثاث الإقامة أي لا تقيموا ببلد يعجزكم فيه الرزق ولكن اضطربوا في البلاد للكسب . وهذا شبيه بحديثه الآخر إذا اتجر أحدكم في شي ء ثلاث مرات فلم يرزق منه فليدعه . والمثاوي المنازل جمع مثوى . وأخيفوا الهوام أي اقتلوا ما يظهر في دوركم من الحيات والعقارب لتخافكم فلا تظهر . واخشوشنوا أمر بالخشونة في العيش ومثله اخشوشبوا بالباء أراد ابتذال النفس في العمل والاحتفاء في المشي ليغلظ الجلد ويجسو . وتمعددوا قيل إنه من الغلظ أيضا يقال للغلام إذا أنبت وغلظ قد تمعدد . وقيل أراد تشبهوا بمعد بن عدنان وكانوا أهل قشف وغلظ في المعاش أي دعوا التنعم وزي العجم . وقد جاء عنه في حديث آخر مثله عليكم باللبسة المعدية . وفي حديثه أنه كتب إلى خالد بن الوليد أنه بلغني أنك دخلت حماما بالشام وأن من بها من الأعاجم أعدوا لكم دلوكا عجن بخمر وإني أظنكم آل المغيرة ذرو النار .
[ 142 ](1/3413)
الدلوك ما يتدلك به كالسحور والفطور ونحوهما . وذرو النار خلق النار ويروى ذرء النار بالهمزة من ذرأ الله الناس أي صورهم وأوجدهم . وفي حديثه املكوا العجين فإنه أحد الريعين . ملكت العجين أجدت عجنه . والريع الزيادة والريع الثاني ما يزيد عند خبزه في التنور وفي حديثه حين طعن فدخل عليه ابن عباس فرآه مغتما بمن يستخلف بعده فذكر عثمان فقال كلف بأقاربه قال فعلي قال فيه دعابة قال فطلحة قال لو لا بأو فيه قال فالزبير قال وعقة لقس قال فعبد الرحمن قال أوه ذكرت رجلا صالحا ولكنه ضعيف وهذا الأمر لا يصلح له إلا اللين من غير ضعف والقوي من غير عنف قال فسعد قال ذاك يكون في مقنب من مقانبكم . قوله كلف بأقاربه أي شديد الحب لهم . والدعابة المزاح .
[ 143 ]
و البأو الكبر والعظمة . وقوله وعقة لقس ويروى ضبيس ومعناه كله الشراسة وشد الخلق وخبث النفس . والمقنب جماعة من الفرسان . وفي حديثه أنه قال عام الرمادة لقد هممت أن أجعل مع كل أهل بيت من المسلمين مثلهم فإن الإنسان لا يهلك على نصف شبعه فقال له رجل لو فعلت يا أمير المؤمنين ما كنت فيها ابن ثأداء . قال يريد أن الإنسان إذا اقتصر على نصف شبعه لم يهلك جوعا وابن ثأداء بفتح الهمزة ابن الأمة . وفي حديثه أنه قرأ في صلاة الفجر بالناس سورة يوسف فلما انتهى إلى قوله تعالى إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اَللَّهِ وَ أَعْلَمُ مِنَ اَللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ بكى حتى سمع نشيجه . النشيج صوت البكاء يردده الصبي في صدره ولا يخرجه . وفي حديثه أنه أتي في نساء أو إماء ساعيات في الجاهلية فأمر بأولادهن أن يقوموا على آبائهم فلا يسترقوا .
[ 144 ](1/3414)
المساعاة زنا الإماء خاصة قضى عمر في أولادهن في الجاهلية أن يسومن على آبائهم بدفع الآباء قيمتهم إلى سادات الإماء ويصير الأولاد أحرارا لاحقي النسب بآبائهم . وفي حديثه ليس على عربي ملك ولسنا بنازعين من يد رجل شيئا أسلم عليهم ولكنا نقومهم الملة خمسا من الإبل . قال كانت العرب تسبي بعضها بعضا في الجاهلية فيأتي الإسلام والمسبي في يد الإنسان كالمملوك له فقضى عمر في مثل هذا أن يرد حرا إلى نسبه وتكون قيمته على نفسه يؤديها إلى الذي سباه لأنه أسلم وهو في يده وقيمته كائنا ما كان خمس من الإبل . قوله والملة أي تقوم ملة الإنسان وشرعها . وفي حديثه لما ادعى الأشعث بن قيس رقاب أهل نجران لأنه كان سباهم في الجاهلية واستعبدهم تغلبا فصاروا كمماليكه فلما أسلموا أبوا عليه فخاصموه عند عمر في رقابهم فقالوا يا أمير المؤمنين إنما كنا له عبيد مملكة ولم نكن عبيد قن فتغيظ عمر عليه وقال أردت أن تتغفلني . يعني أردت غفلتي .
[ 145 ](1/3415)
و عبد قن ملك وملك أبواه وعبد مملكة بفتح اللام وضمها من غلب عليه واستعبد وكان في الأصل حرا فقضى عمر فيهم أن صيرهم أحرارا بلا عوض لأنه ليس بسباء على الحقيقة . وفي حديثه أنه قضى في ولد المغرور بغرة . قال هو الرجل يزوج رجلا آخر مملوكة لإنسان آخر على أنها حرة فقضى عمر أن يغرم الزوج لمولى الأمة غرة أي عبدا أو أمة ويكون ولده حرا ثم يرجع الرجل الزوج على من غره بما غرم . وفي حديثه أنه رأى جارية متكمكمة فسأل عنها فقالوا أمة آل فلان فضربها بالدرة ضربات وقال يا لكعاء أ تشبهين بالحرائر . قال متكمكمة لابسة قناع أصله من الكمة وهي كالقلنسوة والأصل مكممة فأعاد الكاف كما قالوا كفكف فلان عن كذا وتصرصر الباب . ولكعاء ولكاع بالكسر والبناء شتم للأمة وللرجل يقال يا لكع . وفي حديثه ورع اللص ولا تراعه . يقول ادفعه إذا رأيته في منزلك واكففه بما استطعت ولا تنتظر فيه شيئا وكل
[ 146 ](1/3416)
شي ء كففته فقد ورعته وكل ما تنتظره فأنت تراعيه والمعنى أنه رخص في الإقدام على اللص بالسلاح ونهى أن يمسك عنه نائما . وفي حديثه أن رجلا أتاه فقال إن ابن عمي شج موضحة فقال أ من أهل القرى أم من أهل البادية قال من أهل البادية فقال عمر إنا لا نتعاقل المضغ بيننا . قال سماها مضغا استصغارا لها ولأمثالها كالسن والإصبع . قال ومثل ذلك لا تحمله العاقلة عند كثير من الفقهاء وكذلك كل ما كان دون الثلث . وفي حديثه أنه لما حصب المسجد قال له فلان لم فعلت قال هو أغفر للنخامة وألين في الموطئ . أغفر لها أستر لها . وحصب المسجد فرشه بالحصباء وهي رمل فيه حصى صغار . وفي حديثه أن الحارث بن أوس سأله عن المرأة تطوف بالبيت ثم تنفر من غير أن تطوف طواف الصدر إذا كانت حائضا فنهاه عمر عن ذلك فقال الحارث كذلك أفتاني رسول الله ص فقال عمر أربت يداك أ تسألني وقد سمعت من رسول الله ص كي أخالفه قال دعا عليه بقطع اليدين من قولك قطعت الشاة إربا إربا .
[ 147 ](1/3417)
و في حديثه أنه سمع رجلا يتعوذ من الفتن فقال عمر اللهم إني أعوذ بك من الضفاطة أ تسأل ربك ألا يرزقك مالا وولدا . قال أراد قوله تعالى إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ والضفاطة الحمق وضعف العقل رجل ضفيط أي أحمق . وفي حديثه ما بال رجال لا يزال أحدهم كاسرا وسادة عند امرأة مغزية يتحدث إليها وتتحدث إليه عليكم بالجنبة فإنها عفاف إنما النساء لجم على وضم إلا ما ذب عنه . قال مغزية قد غزا زوجها فهو غائب عنها أغزت المرأة إذا كان بعلها غازيا وكذلك أغابت فهي مغيبة . وعليكم بالجنبة أي الناحية يقول تنحوا عنهن وكلموهن من خارج المنزل والوضم الخشبة أو البارية يجعل عليها اللحم . قال وهذا مثل حديثه الآخر ألا لا يدخلن رجل على امرأة وإن قيل حموها ألا حموها الموت . قال دعا عليها فإذا كان هذا رأيه في أبي الزوج وهو محرم لها فكيف بالغريب وفي حديثه أن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها فلا بيعة إلا عن مشورة وأيما رجل بايع رجلا عن غير مشورة فلا يؤمر واحد منهما تغرة أن يقتلا . قال التغرة التغرير غررت بالقوم تغريرا وتغرة كقولك حللت اليمين تحليلا
[ 148 ]
و تحلة ومثله في المضاعف كثير أي أن في ذلك تغريرا بأنفسهما وتعريضا لهما أن يقتلا . وفي حديثه أن العبد إذا تواضع لله رفع الله حكمته وقال انتعش نعشك الله وإذا تكبر وعدا طوره وهصه الله إلى الأرض . قال وهصه أي كسره وعدا طوره أي قدره . وفي حديثه حجوا بالذرية لا تأكلوا أرزاقها وتذروا أرباقها في أعناقها . قال أراد بالذرية هنا النساء ولم يرد الصبيان لأنه لا حج عليهم . والأرباق جمع ربق وهو الحبل . وفي حديثه أنه وقف بين الحرتين وهما داران لفلان فقال شوى أخوك حتى إذا انضج رمد . هذا مثل يضرب للرجل يصنع معروفا ثم يفسده . وفي حديثه السائبة والصدقة ليومهما . قال السائبة المعتق .
[ 149 ](1/3418)
و ليومهما ليوم القيامة الذي فعل ما فعله لأجله . وفي حديثه لا تشتروا رقيق أهل الذمة فإنهم أهل خراج يؤدي بعضهم عن بعض وأرضهم فلا تتنازعوها ولا يقرن أحدكم بالصغار بعد إذ نجاه الله . قال كره أن يشتري أرضهم المسلمون وعليها خراج فيصير الخراج منتقلا إلى المسلم وإنما منع من شراء رقيقهم لأن جزيتهم تكثر على حسب كثرة رقيقهم فإذا ابتيع رقيقهم قلت جزيتهم وإذا أقلت جزيتهم يقل بيت المال . وفي حديثه في قنوت الفجر وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك بالكفار ملحق . قال حفد العبد مولاه يحفد أي خدم ومنه قوله تعالى بَنِينَ وَ حَفَدَةً أي خدما . وملحق اسم فاعل بمعنى لاحق من الحق وهو لغة في لحق يقال لحقت زيدا وألحقته بمعنى . وفي حديثه لا تشتروا الذهب بالفضة إلا يدا بيد هاء وهاء إني أخاف عليكم الرماء . قال الرماء الزيادة وهو بمعنى الربا يقال أرميت على الخمسين أي زدت عليها .
[ 150 ]
و في حديثه من لبد أو عقص أو ضفر فعليه الحلق . قال التلبيد أن تجعل في رأسك شيئا من صمغ أو عسل يمنع من أن يقمل . والعقص والضفر فتل الشعر ونسجه وفي حديثه ما تصعدتني خطبة كما تصعدتني خطبة النكاح . قال معناه ما شق علي وأصله من الصعود وهي العقبة المنكرة قال تعالى سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً . وفي حديثه أنه قال لمالك بن أوس يا مالك أنه قد دفت علينا من قومك دافة وقد أمرنا لهم برضخ فاقسمه فيهم . قال الدافة جماعة تسير سيرا ليس بالشديد . وفي حديثه أنه سأل جيشا فقال هل ثبت لكم العدو قدر حلب شاة بكيئة . قال البكيئة القليلة اللبن . وفي حديثه أنه قال في متعة الحج قد علمت أن رسول الله ص فعلها وأصحابه ولكن كرهت أن يظلوا بهن معرسين تحت الأراك ثم يلبون بالحج تقطر رءوسهم .
[ 151 ](1/3419)
قال المعرس الذي يغشى امرأته قال كره أن يحل الرجل من عمرته ثم يأتي النساء ثم يهل بالحج . وفي حديثه نعم المرء صهيب لو لم يخف الله لم يعصه . قال المعنى أنه لا يترك المعصية خوف العقاب بل يتركها لقبحها فلو كان لا يخاف عقوبة الله لترك المعصية . وفي حديثه أنه أتي بسكران في شهر رمضان فقال للمنخرين للمنخرين أ صبياننا صيام وأنت مفطر . قال معناه الدعاء عليه كقولك كبه الله للمنخرين وكقولهم لليدين وللفم . وفي حديثه أنه قال لما توفي رسول الله ص قام أبو بكر فتلا هذه الآية في خطبته إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ قال عمر فعقرت حتى وقعت إلى الأرض . قال يقال للرجل إذا بهت وبقي متحيرا دهشا قد عقر ومثله بعل وخرق . وفي حديثه أنه كتب إلى أبي عبيدة وهو بالشام حين وقع بها الطاعون أن الأردن أرض غمقة وأن الجابية أرض نزهة فأظهر بمن معك من المسلمين إلى الجابية .
[ 152 ]
قال الغمقة الكثيرة الأنداء والوباء والنزهة البعيدة من ذلك . وفي حديثه أنه قال لبعضهم في كلام كلمه به بل تحوسك فتنة . قال معناه تخالطك وتحثك على ركوبها قال وتحوس مثل تجوس بالجيم قال تعالى فَجاسُوا خِلالَ اَلدِّيارِ . وفي حديثه حين ذكر الجراد فقال وددت أن عندنا منه قفعة أو قفعتين . قال القفعة شي ء شبيه بالزنبيل ليس بالكبير يعمل من خوص ليس له عرى وهو الذي يسمى القفة . وفي حديثه أن أذينة العبدي أتاه يسأله فقال إني حججت من رأس هزا وخازك أو بعض هذه المزالف فمن أين أعتمر فقال ائت عليا فاسأله فسألته فقال من حيث ابتدأت . قال رأس هزا وخازك موضعان من ساحل فارس والمزالف كل قرية تكون بين البر وبلاد الريف وهي المزارع أيضا كالأنبار وعين التمر والحيرة . وفي حديثه أنه نهى عن المكايلة . قال معناه مكافأة الفعل القبيح بمثله .
[ 153 ](1/3420)
و في حديثه ليس الفقير الذي لا مال له إنما الفقير الأخلق الكسب . قال أراد الرجل الذي لا يرزأ في ماله ولا يصاب بالمصائب وأصله أن يقال للجبل المصمت الذي لا يؤثر فيه شي ء أخلق وصخرة خلقاء إذا كانت كذلك فأراد عمر أن الفقر الأكبر إنما هو فقر الآخرة لمن لم يقدم من ماله لنفسه شيئا يثاب عليه هناك وهذا نحو
قول النبي ص ليس الرقوب الذي لا يبقى له ولد إنما الرقوب الذي لم يقدم من ولده أحدا . فهذا ما لخصته من غريب كلام عمر من كتاب أبي عبيد . فأما ما ذكره ابن قتيبة من غريب حديثه في كتابه فأنا ألخص منه ما أنا ذاكره . قال ابن قتيبة فمن غريب حديث عمر أنه خطب فقال إن أخوف ما أخاف عليكم أن يؤخذ الرجل المسلم البري ء عند الله فيدسر كما يدسر الجزور ويشاط لحمه كما يشاط لحم الجزور يقال عاص وليس بعاص
فقال علي ع فكيف ذاك ولما تشتد البلية وتظهر الحمية وتسبى الذرية وتدقهم الفتن دق الرحى بثفالها . قال ابن قتيبة يدسر أي يدفع و
منه حديث ابن عباس ليس في العنبر زكاه إنما هو شي ء يدسره البحر . ويشاط لحمه أي يقطع ويبضع والأصل في الإشاطة الإحراق فأستعير وفي الحديث أن زيد بن حارثة قاتل يوم مؤتة حتى شاط في رماح القوم . والثفال جلدة تبسط تحت الرحى فيقع عليها الدقيق .
[ 154 ]
و
في حديث عمر القسامة توجب العقل ولا تشيط الدم . قال ابن قتيبة العقل الدية يقول إذا حلفت فإنما تجب الدية لا القود وقد روي عن ابن الزبير وعمر بن عبد العزيز أنهما أقادا بالقسامة . و
في حديثه لا تفطروا حتى تروا الليل يغسق على الظراب . قال يغسق أي يظلم . والظراب جمع ظرب وهو ما كان دون الجبل وإنما خص الظراب بالذكر لقصرها أراد أن ظلمة الليل تقرب من الأرض . و(1/3421)
في حديثه أن رجلا كسر منه عظم فأتى عمر يطلب القود فأبى أن يقتص له فقال الرجل فكاسر عظمي إذن كالأرقم إن يقتل ينقم وإن يترك يلقم فقال عمر هو كالأرقم . قال كانت الجاهلية تزعم أن الجن يتصور بعضهم في صورة الحيات وأن من قتل حية منها طلبت الحية بالثأر فربما مات أو أصابه خبل فهذا معنى قوله إن يقتل ينقم ومعنى يلقم يقول إن تركته أكلك وهذا مثل يضرب للرجل يجتمع عليه أمران من الشر لا يدري كيف يصنع فيهما ونحوه قولهم هو كالأشقر إن تقدم عقر وإن تأخر نحر .
[ 155 ]
قال وإنما لم يقده لأنه يخاف من القصاص في العظم الموت ولكن فيه الدية . وفي حديثه أنه أتى مسجد قباء فرأى فيه شيئا من غبار وعنكبوت فقال لرجل ائتني بجريدة واتق العواهن قال فجئته بها فربط كميه بوذمة ثم أخذ الجريدة فجعل يتتبع بها الغبار . قال الجريدة السعفة وجمعها جريد . والعواهن السعفات التي يلين القلبة والقلبة جمع قلب وأهل نجد يسمون العواهن الحواني وإنما نهاه عنها إشفاقا على القلب أن يضر به قطعها . والوذمة سير من سيور الدلو يكون بين آذان الدلو والعراقي . و
في حديثه ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم ولا تجمروهم فتفتنوهم . قال التجمير ترك الجيش في مغازيهم لا يقفلون . وفي حديثه أنه أتي بمروط فقسمها بين نساء المسلمين ورفع مرطا بقي إلى أم سليط الأنصارية وقال إنها كانت تزفر القرب يوم أحد تسقى المسلمين . قال تزفرها تحملها ومنه زفر اسم رجل كان يحمل الأثقال .
[ 156 ]
و(1/3422)
في حديثه أنه قال أعطوا من الصدقة من أبقت له السنة غنما ولا تعطوا من أبقت له السنة غنمين . قال السنة هاهنا الأزمنة ومنه قوله تعالى وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ . قال وكان عمر لا يجيز نكاحا في عام سنة يقول لعل الضيعة تحملهم على أن ينكحوا غير الأكفاء . وكان أيضا لا يقطع سارقا في عام سنة . وقوله غنما أي قطعة من الغنم يقال لفلان غنمان أي قطعتان من الغنم وأراد عمر أن من له قطعتان غني لا يعطى من الصدقة شيئا لأنها لم تكن قطعتين إلا لكثرتها . وفي حديثه أنه انكفأ لونه في عام الرمادة حين قال لا آكل سمنا ولا سمينا وأنه اتخذ أيام كان يطعم الناس قدحا فيه فرض فكان يطوف على القصاع فيغمز القدح فإن لم تبلغ الثريدة الفرض قال فانظر ما ذا يفعل بصاحب الطعام . قال انكفأ تغير عن حاله وأصله الانقلاب من كفأت الإناء . وسمي عام الرمادة من قولهم أرمد الناس إذا جهدوا والرمد الهلاك . والقدح السهم والفرض الحز جعل عمر هذا الحز علامة لعمق الثريد في الصحفة .
[ 157 ](1/3423)
و في حديثه أن عطاء بن يسار قال قلت للوليد بن عبد الملك روي لي أن عمر بن الخطاب قال وددت أني سلمت من الخلافة كفافا لا علي ولا لي فقال كذبت الخليفة يقول هذا فقلت أ وكذبت فأفلت منه بجريعة الذقن . قال يقال خلص من خصمه كفافا أي كف كل واحد منهما على صاحبه فلم ينل أحدهما من الآخر شيئا . وأفلت فلان بجريعة ذقن أي أن نفسه قد صارت في فيه وجريعة تصغير جرعة . قلت وإنما استعظم الوليد ذلك لأن بني أمية كانوا يرون أن من ولي الخلافة فقد وجبت له الجنة ولهذا خطب هشام يوم ولي فقال الحمد لله الذي أنقذني من النار بهذا المقام وفي حديثه أن سماك بن حرب قال رأيت عمر فرأيت رجلا أروح كأنه راكب والناس يمشون كأنه من رجال بني سدوس . قال الأروح الذي تتدانى عقباه وتتباعد صدور قدميه يقال أروح بين الروح والأفحج الذي تتدانى صدور قدميه وتتباعد عقباه وتتفحج ساقاه والأوكع الذي يميل إبهام رجله على أصابعه حتى يزول فيرى شخص أصلها خارجا وهو الوكع ومنه أمة وكعاء وبنو سدوس فخذ من بني شيبان والطول أغلب عليهم .
[ 158 ]
و في حديثه عن ابن عباس قال دعاني فإذا حصير بين يديه عليه الذهب منثور نثر الحثا فأمرني بقسمة . قال الحثا التبن مقصور قال الراجز يهجو رجلا
و يأكل التمر ولا يلقي النوى
و لا يواري فرجه إذا اصطلى
كأنه غرارة ملأى حثا(1/3424)
و في حديثه أنه قال النساء ثلاث فهينة لينة عفيفة مسلمة تعين أهلها على العيش ولا تعين العيش على أهلها وأخرى وعاء للولد وأخرى غل قمل يضعه الله في عنق من يشاء ويفكه عمن يشاء والرجال ثلاثة رجل ذو رأي وعقل ورجل إذا حزبه أمر أتى ذا رأي فاستشاره ورجل حائر بائر لا يأتمر رشدا ولا يطيع مرشدا . قال البائر الهالك قال تعالى وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً والأصل في قوله غل قمل أنهم كانوا يغلون بالقد وعليه الشعر فيقمل على الرجال . ولا يأتمر رشدا أي لا يأتي برشد من ذات نفسه يقال لمن فعل الشي ء من غير مشاورة قد ائتمر وبئس ما ائتمرت لنفسك قال النمر بن تولب
و اعلمن أن كل مؤتمر
مخطئ في الرأي أحيانا
و في حديثه أنه خرج ليلة في شهر رمضان والناس أوزاع فقال إني لأظن لو جمعناهم على قارئ واحد كان أفضل فأمر أبي بن كعب فأمهم ثم خرج ليلة وهم
[ 159 ]
يصلون بصلاته فقال نعم البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون . قال الأوزاع الفرق يريد أنهم كانوا يصلون فرادى يقال وزعت المال بينهم أي فرقته . وقوله والتي ينامون عنها أفضل يريد صلاة آخر الليل فإنها خير من صلاة أوله . وفي حديثه أن أصحاب محمد ص تذاكروا الوتر فقال أبو بكر أما أنا فأبدأ بالوتر وقال عمر لكني أوتر حين ينام الضفطى . قال هو جمع ضفيط وهو الرجل الجاهل الضعيف الرأي . ومنه ما روي عن ابن عباس أنه قال لو لم يطلب الناس بدم عثمان لرموا بالحجارة من السماء فقيل أ تقول هذا وأنت عامل لفلان فقال إن في ضفطات وهذه إحدى ضفطاتي . وفي حديثه أنه قال في وصيته إن توفيت وفي يدي صرمة ابن الأكوع فسنتها سنة ثمغ .
[ 160 ](1/3425)
قال الصرمة هاهنا قطعة من النخل ويقال للقطعة الخفيفة من الإبل صرمة ويقال لصاحبها مصرم ولعله قيل للمقل مصرم من هذا . وثمغ مال كان لعمر ووقفه . وفي حديثه أنه لما قدم الشام تفحل له أمراء الشام قال أي اخشوشنوا له في الزي واللباس والمطعم تشبها به وأصله من الفحل لأن التصنع في اللباس والقيام على النفس إنما هو عندهم للإناث لا للفحول . وفي حديثه أنه قدم مكة فسأل من يعلم موضع المقام وكان السيل احتمله من مكانه فقال المطلب بن أبي وداعة السهمي يا أمير المؤمنين قد كنت قدرته وذرعته بمقاط عندي . قال المقاط الحبل وجمعه مقط . وفي حديثه أنه قال للذي قتل الظبي وهو محرم خذ شاة من الغنم فتصدق بلحمها واسق إهابها . قال الإهاب الجلد . واسقه أي اجعله سقاء لغيرك كما تقول اسقني عسلا أي اجعله لي سقاء وأقد بي خيلا أي أعطني خيلا أقودها واسقني إبلا أعطني إبلا أسوقها .
[ 161 ](1/3426)
و قالت بنو تميم للحجاج أقبرنا صالحا يعنون صالح بن عبد الرحمن وكان قتله وصلبه فسألوه أن يمكنهم من دفنه . وفي حديثه أنه ذكر عنده التمر والزبيب أيهما أفضل ويروى أنه قال لرجل من أهل الطائف الحبلة أفضل أم النخلة فأرسل إلى أبي حثمة الأنصاري فقال إن هؤلاء اختلفوا في التمر والزبيب أيهما أفضل . وفي رواية أخرى وجاء أبو عمرة عبد الرحمن بن محصن الأنصاري فقال أبو حثمة ليس الصقر في رءوس الرقل الراسخات في الوحل المطعمات في المحل تعلة الصبي وقرى الضيف وبه يحترش الضب في الأرض الصلعاء كزبيب إن أكلته ضرست وإن تركته غرثت . وفي الرواية الأخرى فقال أبو عمرة الزبيب إن آكله أضرس وإن أتركه أغرث ليس كالصقر في رءوس الرقل الراسخات في الوحل والمطعمات في المحل خرفة الصائم وتحفة الكبير وصمتة الصغير وخرسة مريم ويحترش به الضباب من الصلعاء . قال الحبلة بفتح الحاء وتسكين الباء الأصل من الكرم وفي الحديث أن نوحا لما خرج من السفينة غرس الحبلة وكانت لأنس بن مالك حبلة تحمل كذا وكان يسميها أم العيال فأما الحبلة بالضم فثمر العضاه . ومنه الحديث كنا نغزو مع رسول الله ص وما لنا طعام إلا الحبلة وورق السمر والحبلة بالضم أيضا ضرب من الحلي يجعل في القلائد شبه بورق العضاه لأنه يصاغ على صورته . وأغرث أجوع والغرث الجوع .
[ 162 ](1/3427)
و الصقر عسل الرطب . والرقل جمع رقلة وهي النخلة الطويلة . وقوله خرفة الصائم اسم لما يخترف أي يجتنى ونسبها إلى الصائم لأنهم كانوا يحبون أن يفطروا على التمر . وقوله وصمتة الصغير لأن الصغير كان إذا بكى عندهم سكتوه به وتعلة الصبي نحوه من التعليل . وخرسة مريم الخرسة ما تطعمه النفساء عند ولادتها أشار إلى قوله تعالى وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ اَلنَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا فأما الخرس بغير هاء فهو الطعام الذي يصنع لأجل الولادة كالإعذار للختان والنقيعة للقادم والوكيرة للبناء . ويحترش به الضب أي يصطاده يقال إن الضب يعجب بالتمر والحارش صائد الضباب . والصلعاء الصحراء التي لا نبات بها كرأس الأصلع . وفي حديثه أنه قال للسائب ورع عني بالدرهم والدرهمين . قال أي كف الخصوم عني في قدر الدرهم والدرهمين بأن تنظر في ذلك وتقضي فيه بينهم وتنوب عني وكل من كففته فقد ورعته ومنه الورع في الدين إنما هو الكف عن المعاصي ومنه حديث عمر لا تنظروا إلى صلاة الرجل وصيامه ولكن من إذا حدث صدق وإذا اؤتمن أدى وإذا أشفى ورع أي إذا أشرف على المعصية كف عنها .
[ 163 ]
و في حديثه أنه خطب الناس فقال أيها الناس لينكح الرجل منكم لمته من النساء ولتنكح المرأة لمتها من الرجال قال لمة الرجل من النساء مثله في السن ومنه ما روي أن فاطمة ع خرجت في لمة من نسائها تتوطأ ذيلها حتى دخلت على أبي بكر . وأراد عمر بن الخطاب لا تنكح الشابة الشيخ الكبير ولا ينكح الشاب العجوز وكان سبب هذه الخطبة أن شابة زوجها أهلها شيخا فقتلته . وفي حديثه أن رجلا أتاه يشكو إليه النقرس فقال كذبتك الظهائر . قال الظهائر جمع ظهيرة وهي الهاجرة ووقت زوال الشمس . وكذبتك أي عليك بها وهي كلمة معناها الإغراء يقولون كذبك كذا أي عليك به . و(1/3428)
منه الحديث المرفوع الحجامة على الريق فيها شفاء وبركة فمن احتجم في يوم الخميس ويوم الأحد كذباك . أي عليك بهما وإنما أمر عمر صاحب النقرس أن يبرز للحر في الهاجرة ويمشي حافيا ويبتذل نفسه لأن ذلك يذهب النقرس . وفي حديثه أنه قال من يدلني على نسيج وحده فقال أبو موسى ما نعلمه غيرك فقال ما هي إلا إبل موقع ظهورها . قال معنى قوله نسيج وحده أي لا عيب فيه ولا نظير له أصله من الثوب النفيس لا ينسج على منواله غيره .
[ 164 ]
و البعير الموقع الذي يكثر آثار الدبر بظهره لكثرة ما يركب وأراد عمر أنا كلنا مثل ذلك في العيب . وفي حديثه أن الطبيب الأنصاري سقاه لبنا حين طعن فخرج من الطعنة أبيض يصلد . قال أي يبرق ولم يتغير لونه وفي حديثه أن نادبة عمر قالت وا عمراه أقام الأود وشفى العمد فقال علي ع أما والله ما قالته ولكن قولته . والعمد ورم ودبر يكون في ظهر البعير وأراد علي ع أنه كأنما ألقي هذا الكلام على لسانها لصحته وصدقه . وفي حديثه أنه استعمل رجلا على اليمن فوفد إليه وعليه حلة مشتهرة وهو مرجل دهين فقال أ هكذا بعثناك ثم أمر بالحلة فنزعت عنه وألبس جبة صوف ثم سأل عن ولايته فلم يذكر إلا خيرا فرده على عمله ثم وفد إليه بعد ذلك فإذا أشعث مغبر عليه أطلاس فقال ولا كل هذا إن عاملنا ليس بالشعث ولا العافي كلوا واشربوا وادهنوا إنكم لتعلمون الذي أكره من أمركم . قال ثياب أطلاس أي وسخة ومنه قيل للذئب أطلس .
[ 165 ]
و العافي الطويل الشعر يقال عفى وبر البعير إذا طال و(1/3429)
منه الحديث المرفوع أمر أن تعفى اللحى وتحفى الشوارب . وفي حديثه أنه قال للرجل أ ما تراني لو شئت أمرت بشاة فتية سمينة أو قنية فألقي عنها صوفها ثم أمرت بدقيق فنخل في خرقة فجعل منه خبز مرقق وأمرت بصاع من زبيب فجعل في سعن حتى يكون كدم الغزال . قال السعن قربة أو إداوة ينتبذ فيها وتعلق بجذع . وفي حديثه أنه رأى رجلا يأنح ببطنه فقال ما هذا قال بركة من الله قال بل هو عذاب من الله يعذبك به . قال يأنح يصوت وهو ما يعتري الإنسان السمين من البهر إذا مشى أنح يأنح أنوحا . وفي حديثه أنه لما دنا من الشام ولقيه الناس جعلوا يتراطنون فأشكعه ذلك وقال لأسلم مولاه إنهم لم يروا على صاحبك بزة قوم غضب الله عليهم . قال أشكعه أغضبه قال أراد أنهم لم يتحاموا عنه اللغط والكلام بالفارسية والنبطية بحضرته لأنهم لم يروه بعين الإمارة والسلطان كما يرون أمراءهم لأنهم لم يروا عليه بزة الأمراء وزيهم .
[ 166 ](1/3430)
و في حديثه أن عاملا على الطائف كتب إليه أن رجالا منهم كلموني في خلايا لهم أسلموا عليها وسألوني أن أحميها لهم فكتب إليه عمر أنها ذباب غيث فإن أدوا زكاته فاحمه لهم . قال الخلايا موضع النحل التي تعسل الواحدة خلية وأراد بقوله إنها ذباب غيث أنها تعيش بالمطر لأنها تأكل ما ينبت عنه فإذا لم يكن غيث فقدت ما تأكل فشبهها بالسائم من النعم لا مئونة على صاحبها منها وأوجب فيها الزكاة . وفي حديثه أن سعد بن الأخرم قال كان بين الحي وبين عدي بن حاتم تشاجر فأرسلوني إلى عمر فأتيته وهو يطعم الناس من كسور إبل وهو قائم متوكئ على عصا مؤتزر إلى أنصاف ساقيه خدب من الرجال كأنه راعي غنم وعلي حلة ابتعتها بخمسمائة درهم فسلمت عليه فنظر إلي بذنب عينه وقال لي أ ما لك معوز قلت بلى قال فألقها فألقيتها وأخذت معوزا ثم لقيته فسلمت فرد علي السلام . قال كسور الإبل أعضاؤها . والخدب العظيم الجافي وكأنه راعي غنم يريد في الجفاء والبذاذة وخشونة الهيئة واللبسة . والمعوز الثوب الخلق والميم مكسورة وإنما ترك رد السلام عليه أولا لأنه أشهر الحلة فأدبه بترك رد السلام فلما خلعها ولبس المعوز رده عليه .
[ 167 ](1/3431)
و في حديثه أنه ذكر فتيان قريش وسرفهم في الإنفاق فقال لحرفة أحدهم أشد علي من عيلته . قال الحرفة هاهنا أن يكون الرجل لا يتجر ولا يلتمس الرزق فيكون محدودا لا يرزق إذا طلب ومنه قيل فلان محارف والعيلة الفقر . وفي حديثه أنه قال لرجل ما مالك قال أقرن لي وآدمة في المنيئة قال قومها وزكها . قال الأقرن جمع قرن وهي جعبة من جلود تكون للصيادين يشق منها جانب ليدخلها الريح فلا يفسد الريش . وآدمة جمع أديم كجريب وأجربة . والمنيئة الدباغ وإنما أمره بتزكيتها لأنها كانت للتجارة . وفي حديثه أن أبا وجزة السعدي قال شهدته يستقي فجعل يستغفر فأقول أ لا يأخذ فيما خرج له ولا أشعر أن الاستسقاء هو الاستغفار فقلدتنا السماء قلدا كل خمس عشرة ليلة حتى رأيت الأرنبة يأكلها صغار الإبل من وراء حقاق العرفط . قال فقلدتنا مطرتنا لوقت معين ومنه قلد الحمى وقلد الزرع سقيه لوقت وهو وقت الحاجة . وقال رأيت الأرنب يحتملها السيل حتى تتعلق بالعرفط وهو شجر ذو شوك وزاد في الأرنب هاء كما قالوا عقرب وعقربة وحقاق العرفط صغارها وقيل الأرنب
[ 168 ]
ضرب من النبت لا يكاد يطول فأراد أنه طال بهذا المطر حتى أكلته صغار الإبل من وراء شجر العرفط . وفي حديثه أنه قال ما ولي أحد إلا حامى على قرابته وقرى في عيبته ولن يلي الناس قرشي عض على ناجذه . قال حامى عليهم عطف عليهم وقرى في عيبته أي اختان وأصل قرى جمع . وفي حديثه لن تخور قوى ما كان صاحبها ينزع وينزو . يخور يضعف والنزع في القوس والنزو على الخيل . وروي أن عمر كان يأخذ بيده اليمنى أذنه اليسرى ثم يجمع جراميزه ويثب فكأنما خلق على ظهر فرسه . و(1/3432)
في حديثه تعلموا السنة والفرائض واللحن كما تتعلمون القرآن . قال اللحن هاهنا اللغة والنحو . وفي حديثه أنه مر على راع فقال يا راعي عليك بالظلف من الأرض لا ترمض فإنك راع وكل راع مسئول . قال الظلف المواضع الصلبة أمره أن يرعى غنمه فيها ونهاه أن يرمض وهو أن يرعى غنمه في الرمضاء وهي تشتد جدا في الدهاس والرمل وتخف في الأرض الصلبة .
[ 169 ]
و في حديثه أن رجلا قرأ عليه حرفا فأنكره فقال من أقرأك هذا قال أبو موسى فقال إن أبا موسى لم يكن من أهل البهش . قال البهش المقل الرطب فإذا يبس فهو الخشل وأراد أن أبا موسى ليس من أهل الحجاز لأن المقل بالحجاز نبت والقرآن نزل بلغة الحجاز . وفي حديثه أن عقبة بن أبي معيط لما قال للنبي ص أ أقتل من بين قريش فقال عمر حن قدح ليس منها . قال هذا مثل يضرب للرجل يدخل نفسه في القوم وليس منهم والقدح أحد قداح الميسر وكانوا يستعيرون القدح يدخلونه في قداحهم يتيمنون به ويثقون بفوزه . وفي حديثه أن أهل الكوفة لما أوفدوا العلباء بن الهيثم السدوسي إليه فرأى عمر هيئته رثة وأعجبه كلامه وعمله قال لكل أناس في حميلهم خير . قال هذا مثل والمراد أنهم سودوه على معرفة منهم بما فيه من الخلال المحمودة والمعنى أن خبره فوق منظره . وفي حديثه أنه أخذ من القطنية الزكاة . قال هي الحبوب كالعدس والحمص وفي أخذ الزكاة منها خلاف بين الفقهاء .
[ 170 ](1/3433)
و في حديثه أنه كان يقول للخارص إذا وجدت قوما قد خرفوا في حائطهم فانظر قدر ما ترى أنهم يأكلونه فلا تخرصه . قال خرفوا فيه أي نزلوا فيه أيام اختراف الثمرة . وفي حديثه إذا أجريت الماء على الماء جزى عنك . قال يريد صب الماء على البول في الأرض فإنه يطهر المكان ولا حاجة إلى غسله وجزى قضى وأغنى من قوله تعالى لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً فإن أدخلت الألف قلت أجزأك وهمزت ومعناه كفاك . وفي حديثه أنه قال لا يعطى من المغانم شي ء حتى تقسم إلا لراع والدليل غير موليه . قال الراعي هاهنا الطليعة لأنه يرعى القوم أي يحفظهم . وقوله غير موليه أي غير معطيه شيئا لا يستحقه . وفي حديثه أن من الناس من يقاتل رياء وسمعة ومنهم من يقاتل وهو ينوي الدنيا ومنهم من ألجمه القتال فلم يجد بدا ومنهم من يقاتل صابرا محتسبا أولئك هم الشهداء قال ألجمه القتال أي رهقه وغشيه فلم يجد مخلصا .
[ 171 ]
و في حديثه أنه أرسل إلى أبي عبيدة رسولا فقال له حين رجع فكيف رأيت أبا عبيدة قال رأيت بللا من عيش فقصر من رزقه ثم أرسل إليه وقال للرسول حين قدم كيف رأيته قال رأيته حفوفا قال رحم الله أبا عبيد بسطنا له فبسط وقبضنا له فقبض . قال الحفوف والحفف واحد وهو ضيق العيس وشدته يقال ما عليهم حفف ولا ضفف أي ما عليهم أثر عوز والشظف مثل الحفف . وفي حديثه أنه رئي في المنام فسئل عن حاله فقال ثل عرشي لو لا أني صادفت ربي رحيما . قال ثل عرشه أي هدم . وفي حديثه أنه قال لأبي مريم الحنفي لأنا أشد بغضا لك من الأرض للدم قالوا كان عمر عليه غليظا كان قاتل زيد بن الخطاب أخيه فقال أ ينقصني ذلك من حقي شيئا قال لا قال فلا ضير . قال هذا مثل لأن الأرض لا يغوص فيها الدم كما يغوص الماء فهذا بغض الأرض له ويقال إن دم البعير تنشفه الأرض وحده وفي حديثه أن اللبن يشبه عليه .
[ 172 ](1/3434)
قال معناه أن الطفل ربما نزع به الشبه إلى الظئر من أجل لبنها فلا تسترضعوا إلا من ترضون أخلاقها . وفي حديثه اغزوا والغزو حلو خضر قبل أن يكون ثماما ثم يكون رماما ثم يكون حطاما . قال هذا مثل والثمام نبت ضعيف . والرمام بالضم والرميم واحد مثل طوال وطويل . والحطام يبس النبت إذا تكسر ومعنى الكلام أنه أمرهم بالغزو حين عزائمهم قوية وبواعثهم إليه شديدة فإن مع ذلك يكون الظفر قبل أن يهي ويضعف فيكون كالثمام الضعيف ثم كالرميم ثم يكون حطاما فيذهب . وفي حديثه إذا انتاطت المغازي واشتدت العزائم ومنعت الغنائم أنفسها فخير غزوكم الرباط . قال انتاطت بعدت والنطي ء البعيد . واشتدت العزائم صعبت ومنعت الغنائم أنفسها فخير غزوكم الرباط في سبيل الله . وفي حديثه أنه وضع يده في كشية ضب وقال إن النبي ص لم يحرمه ولكن قذره . قال كشية الضب شحم بطنه .
[ 173 ]
و قوله وضع أي أكل منه . وفي حديثه لا أوتى بأحد انتقص من سبل المسلمين إلى مثاباته شيئا إلا فعلت به كذا . قال المثابات هاهنا المنازل يثوب أهلها إليها أي يرجعون والمراد من اقتطع شيئا من طريق المسلمين وأدخله في داره . وفي حديثه أنه كره النير . قال هو علم الثوب وأظنه كرهه إذا كان حريرا . وفي حديثه أنه انكسرت قلوص من إبل الصدقة فجفنها . قال اتخذ منها جفنة من طعام وأجمع عليه . وفي حديثه عجبت لتاجر هجر وراكب البحر . قال عجب كيف يختلف إلى هجر مع شدة وبائها وكيف يركب البحر مع الخطار بالنفس . وفي حديثه أنه قال ليلة لابن عباس في مسير له أنشدنا لشاعر الشعراء قال ومن
[ 174 ](1/3435)
هو قال الذي لم يعاظل بين القول ولم يتبع حوشي الكلام قال ومن هو قال زهير فجعل ينشد إلى أن برق الصبح . قال هو مأخوذ من تعاظل الجراد إذا ركب بعضه بعضا . وحوشي الكلام وحشيه . وفي حديثه أن نائلا مولى عثمان قال سافرت مع مولاي وعمر في حج أو عمرة فكان عمر وعثمان وابن عمر لفا وكنت أنا وابن الزبير في شببة معنا لفا فكنا نتمازح ونترامى بالحنظل فما يزيدنا عمر على أن يقول لنا كذاك لا تذعروا علينا فقلنا لرياح بن العترف لو نصبت لنا نصب العرب فقال أقول مع عمر فقلنا افعل وإن نهاك فانته ففعل ولم يقل عمر شيئا حتى إذا كان في وجه السحر ناداه يا رياح إنها اكفف فإنها ساعة ذكر . قال لفا أي حزبا وفرقة . وشببة جمع شاب مثل كاتب وكتبة وكاذب وكذبة وكافر وكفرة . وقوله كذاك أي حسبكم . وقوله لا تذعروا علينا أي لا تنفروا إبلنا . ونصب العرب غناء لهم يشبه الحداء إلا أنه أرق منه . وفي حديثه أنه كتب في الصدقة إلى بعض عماله كتابا فيه ولا تحبس الناس أولهم على آخرهم فإن الرجن للماشية عليها شديد ولها مهلك وإذا وقف الرجل عليك غنمه فلا تعتم من غنمه ولا تأخذ من أدناها وخذ الصدقة من أوسطها وإذا وجب على
[ 175 ](1/3436)
الرجل سن لم تجدها في إبله فلا تأخذ إلا تلك السن من شروى إبله أو قيمة عدل وانظر ذوات الدر والماخض فتنكب عنها فإنها ثمال حاضريهم . قال الرجن الحبس رجن بالمكان أقام به ومثله دجن بالدال . ولا تعتم لا تختر اعتام اعتياما أي اختار . من شروى إبله أي من مثلها . وذوات الدر ذوات اللبن . والماخض الحامل . وثمال حاضريهم عصمتهم وغياثهم وحاضريهم من يسكن الحضر . وفي حديثه أنه كان يلقط النوى من الطريق والنكث فإذا مر بدار قوم ألقاها فيها وقال ليأكل هذا داجنتكم وانتفعوا بباقيه . قال الداجنة ما يعلفه الناس في منازلهم من الشاة والدجاج والطير . والنكث الخيوط الخلق من صوف أو شعر أو وبر . وفي حديثه ثلاث من الفواقر جار مقامة إن رأى حسنة دفنها وإن رأى سيئة أذاعها وامرأة إن دخلت عليها لسنتك وإن غبت عنها لم تأمنها وإمام إن أحسنت لم يرض عنك وإن أسأت قتلك .
[ 176 ]
قال الفواقر الدواهي واحدتها فاقرة لأنها تكسر فقار الظهر . ولسنتك أخذتك بلسانها . وفي حديثه في خطبة له من أتى هذا البيت لا ينهره إليه غيره رجع وقد غفر له . قال ينهره يدفعه يريد من حج لا ينوي بالحج إلا الطاعة غفر له . و(1/3437)
في حديثه اللبن لا يموت . قال قيل في معناه أن اللبن إذا أخذ من ميتة لم يحرم وكل شي ء أخذ من الحي فلم يحرم فإنه إن أخذ من الميت لم يحرم . وقيل في معناه إن رضع الطفل من امرأة ميتة حرم عليه من أولادها وقرابتها من يحرم عليها منها لو كانت حية . وقيل معناه أن اللبن إذا انفصل من الضرع فأوجر به الصبي أو أدم به أو ديف له في دواء وسقيه فإنه إن لم يسم في اللغة رضاعا إلا أنه يحرم به ما يحرم بالرضاع فقال اللبن لا يموت أي لا يبطل عمله بمفارقة الثدي . وفي حديثه من حظ المرء نفاق أيمه وموضع خفه . قال الأيم التي لا بعل لها والخف الإبل كما تسمى الحمر والبغال حافرا والبقر والغنم ظلفا يريد من حظ الإنسان أن يخطب إليه ويتزوج بناته وأخواته وأشباههن فلا يبرن
[ 177 ]
و من حظه أيضا أن ينفق إبله حتى ينتابه التجار وغيرهم فيبتاعوها في مواضعها يستطرقونه لا يحتاج أن يعرضها عليهم . وفي حديثه أن العباس بن عبد المطلب سأله عن الشعراء فقال إمرؤ القيس سابقهم خسف لهم عين الشعر فافتقر عن معان عور أصح بصر . قال خسف لهم من الخسيف وهي البئر تحفر في حجارة فيخرج منها ماء كثير وجمعها خسف . وقوله افتقر أي فتح وهو من الفقير والفقير فم القناة . وقوله عن معان عور يريد أن إمرأ القيس من اليمن واليمن ليست لهم فصاحة نزار فجعل معانيهم عورا وفتح إمرؤ القيس عنها أصح بصر(1/3438)
ذكر الأحاديث الواردة في فضل عمر
فأما الحديث الوارد في فضل عمر فمنه ما هو مذكور في الصحاح ومنه ما هو غير مذكور فيها فمما ذكر في المسانيد الصحيحة من ذلك
ما روت عائشة أن رسول الله ص قال كان في الأمم محدثون فإن يكن في أمتي فعمر أخرجاه في الصحيحين و
روى سعد بن أبي وقاص قال استأذن عمر على رسول الله ص وعنده نساء من قريش يكلمنه عالية أصواتهن فلما استأذن قمن يبتدرن الحجاب فدخل ورسول الله ص يضحك قال أضحك الله سنك يا رسول الله قال عجبت من هؤلاء اللواتي كن عندي فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب فقال عمر أنت
[ 178 ]
أحق أن يهبن ثم قال أي عدوات أنفسهن أ تهبنني ولا تهبن رسول الله ص قلن نعم أنت أغلظ وأفظ فقال رسول الله ص والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك أخرجاه في الصحيحين وقد روي في فضله من غير الصحاح أحاديث
منها إن السكينة لتنطق على لسان عمر و
منها إن الله تعالى ضرب بالحق على لسان عمر وقلبه و
منها إن بين عيني عمر ملكا يسدده ويوفقه و
منها لو لم أبعث فيكم لبعث عمر و
منها لو كان بعدي نبي لكان عمر و
منها لو نزل إلى الأرض عذاب لما نجا منه إلا عمر و
منها ما أبطأ عني جبريل إلا ظننت أنه بعث إلى عمر و
منها سراج أهل الجنة عمر و
منها إن شاعرا أنشد النبي ص شعرا فدخل عمر فأشار النبي ص إلى الشاعر أن اسكت فلما خرج عمر قال له عد فعاد فدخل عمر فأشار النبي ص بالسكوت مرة ثانية فلما خرج عمر سأل الشاعر رسول الله ص عن الرجل فقال هذا عمر بن الخطاب وهو رجل لا يحب الباطل و
منها إن النبي ص قال وزنت بأمتي فرجحت ووزن أبو بكر بها فرجح ووزن عمر بها فرجح ثم رجح ثم رجح .
[ 179 ](1/3439)
و قد رووا في فضله حديثا كثيرا غير هذا ولكنا ذكرنا الأشهر وقد طعن أعداؤه ومبغضوه في هذه الأحاديث فقالوا لو كان محدثا وملهما لما اختار معاوية الفاسق لولاية الشام ولكن الله تعالى قد ألهمه وحدثه بما يواقع من القبائح والمنكرات والبغي والتغلب على الخلافة والاستئثار بمال الفي ء وغير ذلك من المعاصي الظاهرة قالوا وكيف لا يزال الشيطان يسلك فجا غير فجه وقد فر مرارا من الزحف في أحد وحنين وخيبر والفرار من الزحف من عمل الشيطان وإحدى الكبائر الموبقة . قالوا وكيف يدعى له أن السكينة تنطق على لسانه أ ترى كانت السكينة تلاحي رسول الله ص يوم الحديبية حتى أغضبه . قالوا ولو كان ينطق على لسانه ملك أو بين عينيه ملك يسدده ويوفقه أو ضرب الله بالحق على لسانه وقلبه لكان نظيرا لرسول الله ص بل كان أفضل منه لأنه ص كان يؤدي الرسالة إلى الأمة عن ملك من الملائكة وعمر قد كان ينطق على لسانه ملك وزيد ملكا آخر بين عينيه يسدده ويوفقه فهذا الملك الثاني مما قد فضل به على رسول الله ص وقد كان حكم في أشياء فيخطئ فيها حتى يفهمه إياها علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وغيرهما حتى قال لو لا علي لهلك عمر ولو لا معاذ لهلك عمر وكان يشكل عليه الحكم فيقول لابن عباس غص يا غواص فيفرج عنه فأين كان الملك الثاني المسدد له وأين الحق الذي ضرب به على لسان عمر ومعلوم أن رسول الله ص كان ينتظر في الوقائع نزول الوحي وعمر على مقتضى هذه الأخبار لا حاجة به إلى نزول ملك عليه لأن الملكين معه في كل وقت وكل حال ملك ينطق على لسانه وملك آخر بين عينيه يسدده ويوفقه وقد عززا بثالث وهي السكينة فهو إذا أفضل من رسول الله ص .
[ 180 ](1/3440)
و قالوا والحديث الذي مضمونه لو لم أبعث فيكم لبعث عمر فيلزم أن يكون رسول الله ص عذابا على عمر وأذى شديدا له لأنه لو لم يبعث لبعث عمر نبيا ورسولا ولم تعلم رتبة أجل من رتبة الرسالة فالمزيل لعمر عن هذه الرتبة التي ليس وراءها رتبة ينبغي ألا يكون في الأرض أحد أبغض إليه منه . قالوا وأما كونه سراج أهل الجنة فيقتضي أنه لو لم يكن تجلى عمر لكانت الجنة مظلمة لا سراج لها . قالوا وكيف يجوز أن يقال لو نزل العذاب لم ينج منه إلا عمر والله تعالى يقول وَ ما كانَ اَللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ . قالوا وكيف يجوز أن يقال إن النبي ص كان يسمع الباطل ويحبه ويشهده وعمر لا يسمع الباطل ولا يشهده ولا يحبه أ ليس هذا تنزيها لعمر عما لم ينزه عنه رسول الله ص . قالوا ومن العجب أن يكون النبي ص أرجح من الأمة يسيرا وكذلك أبو بكر ويكون عمر أرجح منهما كثيرا فإن هذا يقتضي أن يكون فضله أبين وأظهر من فضل أبي بكر ومن فضل رسول الله ص . والجواب أنه ليس يجب فيمن كان محدثا ملهما أن يكون محدثا ملهما في كل شي ء بل الاعتبار بأكثر أفعاله وظنونه وآرائه ولقد كان عمر كثير التوفيق مصيب الرأي في جمهور أمره ومن تأمل سيرته علم صحة ذلك ولا يقدح في ذلك أن يختلف ظنه في القليل من الأمور . وأما الفرار من الزحف فإنه لم يفر إلا متحيزا إلى فئة وقد استثنى الله تعالى ذلك فخرج به عن الإثم .
[ 181 ](1/3441)
و أما باقي الأخبار فالمراد بالملك فيها الأخبار عن صحة ظنه وصدق فراسته وهو كلام يجري مجرى المثل فلا يقدح فيه ما ذكروه . وأما قوله ص لو نزل إلى الأرض عذاب لما نجا منه إلا عمر فهو كلام قاله عقيب أخذ الفدية من أسارى بدر فإن عمر لم يشر عليه ونهاه عنه فأنزل الله تعالى لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اَللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وإذا كان القرآن قد نطق بذلك وشهد لم يلتفت إلى طعن من طعن في الخبر . وأما قوله ع سراج أهل الجنة عمر فمعناه سراج القوم الذين يستحقون الجنة من أهل الدنيا أيام كونهم في الدنيا مع عمر أي يستضيئون بعلمه كما يستضاء بالسراج . وأما حديث منع الشاعر فإن رسول الله ص خاف أن يذكر في شعره ما يقتضي الإنكار فيعنف به عمر وكان شديد الغلظة فأراد النبي ص أن ينكر هو على الشاعر أن قال في شعره ما يقتضي ذلك على وجه اللطف والرفق وكان ع رءوفا رحيما كما قال الله تعالى . وأما حديث الرجحان فالمراد به الفتوح وملك البلاد وتأويله أنه ع أري في منامه ما يدل على أنه يفتح الله عليه بلادا وعلى أبي بكر مثله ويفتح على عمر أضعاف ذلك وهكذا وقع . واعلم أن من تصدى للعيب وجده ومن قصر همته على الطعن على الناس انفتحت
[ 182 ]
له أبواب كثيرة والسعيد من أنصف من نفسه ورفض الهوى وتزود التقوى وبالله التوفيق(1/3442)
ذكر ما ورد من الخبر عن إسلام عمر
و أما إسلام عمر فإنه أسلم فكان تمام أربعين إنسانا في أظهر الروايات وذلك في السنة السادسة من النبوة وسنه إذ ذاك ست وعشرون سنة وكان عمر ابنه عبد الله يومئذ ست سنين وأصح ما روي في إسلامه رواية أنس بن مالك عنه قال خرجت متقلدا سيفي فلقيت رجلا من بني زهرة فقال أين تعمد قلت أقتل محمدا قال وكيف تأمن في بني هاشم وبني زهرة فقلت ما أراك إلا صبوت قال أ فلا أدلك على العجب أن أختك وزوجها قد صبوا فمشى عمر فدخل عليهما ذامرا وعندهما رجل من أصحاب رسول الله ص يقال له خباب بن الأرت فلما سمع خباب حس عمر توارى فقال عمر ما هذه الهينمة التي سمعتها عندكم وكانوا يقرءون طه على خباب فقال ما عندنا شي ء إنما هو حديث كنا نتحدثه بيننا قال فلعلكما قد صبوتما فقال له ختنه أ رأيت يا عمر إن كان الحق في غير دينك فوثب عمر على ختنه فوطئه وطئا شديدا فجاءت أخته فدفعته عن زوجها فنفحها بيده فأدمى وجهها فجاهرته فقالت إن الحق في غير دينك وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فاصنع ما بدا لك فلما يئس قال أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرءوه وكان عمر يقرأ الخط
[ 183 ](1/3443)
فقالت له أخته إنك رجس وإن هذا الكتاب لا يمسه إلا المطهرون فقم فتوضأ فقام فأصاب ماء ثم أخذ الكتاب فقرأ طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقى إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى إلى قوله إِنَّنِي أَنَا اَللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَ أَقِمِ اَلصَّلاةَ لِذِكْرِي فقال عمر دلوني على محمد فلما سمع خباب قول عمر ورأى منه الرقة خرج من البيت فقال أبشر يا عمر فإني لأرجو أن تكون دعوة رسول الله ص ليلة الخميس لك سمعته يقول اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام قال ورسول الله ص في الدار التي في أصل الصفا فانطلق عمر حتى أتى الدار وعلى الباب حمزة بن عبد المطلب وطلحة بن عبيد الله وناس من أهل رسول الله ص فلما رأى الناس عمر قد أقبل كأنهم وجدوا وقالوا قد جاء عمر فقال حمزة قد جاء عمر فإن يرد الله به خيرا يسلم وإن يرد غير ذلك كان قتله علينا هينا قال والنبي ص من داخل البيت يوحى إليه فسمع رسول الله ص كلام القوم فخرج مسرعا حتى انتهى إلى عمر فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل سيفه وقال ما أنت منتهيا يا عمر حتى ينزل الله بك يعني من الخزي والنكال ما أنزل بالوليد بن المغيرة ثم قال اللهم هذا عمر اللهم أعز الإسلام بعمر فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله فكبر أهل الدار ومن كان على الباب تكبيرة سمعها من كان في المسجد من المشركين . وقد روي أن عمر كان موعودا ومبشرا بما وصل إليه من قبل أن يظهر أمر الإسلام قرأت في كتاب من تصانيف أبي أحمد العسكري رحمه الله أن عمر خرج عسيفا مع الوليد بن المغيرة إلى الشام في تجارة للوليد وعمر يومئذ ابن ثماني عشرة سنة فكان يرعى
[ 184 ](1/3444)
للوليد إبله ويرفع أحماله ويحفظ متاعه فلما كان بالبلقاء لقيه رجل من علماء الروم فجعل ينظر إليه ويطيل النظر لعمر ثم قال أظن اسمك يا غلام عامرا أو عمران أو نحو ذلك قال اسمي عمر قال اكشف عن فخذيك فكشف فإذا على أحدهما شامة سوداء في قدر راحة الكف فسأله أن يكشف عن رأسه فكشف فإذا هو أصلع فسأله أن يعتمل بيده فاعتمل فإذا أعسر أيسر فقال له أنت ملك العرب وحق مريم البتول قال فضحك عمر مستهزئا قال أ وتضحك وحق مريم البتول أنك ملك العرب وملك الروم وملك الفرس فتركه عمر وانصرف مستهينا بكلامه وكان عمر يحدث بعد ذلك ويقول تبعني ذلك الرومي وهو راكب حمارا فلم يزل معي حتى باع الوليد متاعه وابتاع بثمنه عطرا وثيابا وقفل إلى الحجاز والرومي يتبعني لا يسألني حاجة ويقبل يدي كل يوم إذا أصبحت كما تقبل يد الملك حتى خرجنا من حدود الشام ودخلنا في أرض الحجاز راجعين إلى مكة فودعني ورجع وكان الوليد يسألني عنه فلا أخبره ولا أراه إلا هلك ولو كان حيا لشخص إلينا(1/3445)
تاريخ موت عمر والأخبار الواردة في ذلك
فأما تاريخ موته فإن أبا لؤلؤة طعنه يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة من سنة ثلاث وعشرين ودفن يوم الأحد صباح هلال المحرم سنة أربع وعشرين وكانت ولايته عشر سنين وستة أشهر وهو ابن ثلاث وستين في أظهر الأقوال وقد كان قال على المنبر يوم جمعة وقد ذكر رسول الله ص وأبا بكر أني قد رأيت رؤيا أظنها لحضور أجلي رأيت كأن ديكا نقرني نقرتين فقصصتها على أسماء
[ 185 ](1/3446)
بنت عميس فقالت يقتلك رجل من العجم وإني أفكرت فيمن أستخلف ثم رأيت أن الله لم يكن ليضيع دينه وخلافته التي بعث بها رسوله وروى ابن شهاب قال كان عمر لا يأذن لصبي قد احتلم في دخول المدينة حتى كتب المغيرة وهو على الكوفة يذكر له غلاما صنعا عنده ويستأذنه في دخول المدينة ويقول إن عنده أعمالا كثيرة فيها منافع للناس إنه حداد نقاش نجار فأذن له أن يرسل به إلى المدينة وضرب عليه المغيرة مائة درهم في كل شهر فجاء إلى عمر يوما يشتكي إليه الخراج فقال له عمر ما ذا تحسن من الأعمال فعد له الأعمال التي يحسن فقال له ليس خراجك بكثير في كنه عملك هذا هو الذي رواه أكثر الناس من قوله له ومن الناس من يقول إنه جهر بكلام غليظ واتفقوا كلهم على أن العبد انصرف ساخطا يتذمر فلبث أياما ثم مر بعمر فدعاه فقال قد حدثت أنك تقول لو أشاء لصنعت رحى تطحن بالريح فالتفت العبد عابسا ساخطا إلى عمر ومع عمر رهط من الناس فقال لأصنعن لك رحى يتحدث الناس بها فلما ولي أقبل عمر على الرهط فقال أ لا تسمعون إلى العبد ما أظنه إلا أوعدني آنفا فلبث ليالي ثم اشتمل أبو لؤلؤة على خنجر ذي رأسين نصابه في وسطه فكمن في زاوية من زوايا المسجد في غلس السحر فلم يزل هنالك حتى جاء عمر يوقظ الناس لصلاة الفجر كما كان يفعل فلما دنا منه وثب عليه فطعنه ثلاث طعنات إحداهن تحت السرة قد خرقت الصفاق وهي التي قتلته ثم انحاز إلى أهل المسجد فطعن فيهم من يليه حتى طعن أحد عشر رجلا سوى عمر ثم انتحر بخنجره فقال عمر حين أدركه النزف قولوا لعبد الرحمن بن عوف فليصل بالناس ثم غلبه النزف فأغمي عليه
[ 186 ](1/3447)
فأحتمل حتى أدخل بيته ثم صلى عبد الرحمن بالناس قال ابن عباس فلم أزل عند عمر وهو مغمى عليه لم يزل في غشية واحدة حتى أسفر فلما أسفر أفاق فنظر في وجوه من حوله وقال أ صلى الناس فقيل نعم فقال لا إسلام لمن ترك الصلاة ثم دعا بوضوء فتوضأ وصلى ثم قال اخرج يا ابن عباس فاسأل من قتلني فجئت حتى فتحت باب الدار فإذا الناس مجتمعون فقلت من طعن أمير المؤمنين قالوا طعنه أبو لؤلؤة غلام المغيرة قال ابن عباس فدخلت فإذا عمر ينظر إلى الباب يستأني خبر ما بعثني له فقلت يا أمير المؤمنين زعم الناس أنه عدو الله أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة وأنه طعن رهطا ثم قتل نفسه فقال الحمد لله الذي لم يجعل قاتلي يحاجني عند الله بسجدة سجدها له قط ما كانت العرب لتقتلني ثم قال أرسلوا إلى طبيب ينظر جرحي فأرسلوا إلى طبيب من العرب فسقاه نبيذا فخرج من الجرح فاشتبه عليهم الدم بالنبيذ ثم دعوا طبيبا آخر فسقاه لبنا فخرج اللبن من الطعنة صلدا أبيض فقال الطبيب اعهد يا أمير المؤمنين عهدك فقال لقد صدقني ولو قال غير ذلك لكذب فبكى عليه القوم حتى أسمعوا من خارج الدار فقال لا تبكوا علينا ألا ومن كان باكيا فليخرج
فإن النبي ص قال إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه . وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال سمعت أبي يقول لقد طعنني أبو لؤلؤة طعنتين وما أظنه إلا كلبا حتى طعنني الثالثة وروي أن عبد الرحمن بن عوف طرح على أبي لؤلؤة بعد أن طعن الناس خميصه كانت عليه فلما حصل فيها نحر نفسه فاحتز عبد الرحمن رأسه واجتمع البدريون وأعيان المهاجرين والأنصار بالباب فقال عمر لابن عباس اخرج إليهم فاسألهم أ عن ملإ منكم
[ 187 ](1/3448)
كان هذا الذي أصابني فخرج يسألهم فقال القوم لا والله ولوددنا أن الله زاد في عمره من أعمارنا . وروى عبد الله بن عمر قال كان أبي يكتب إلى أمراء الجيوش لا تجلبوا إلينا من العلوج أحدا جرت عليه المواسي فلما طعنه أبو لؤلؤة قال من بي قالوا غلام المغيرة قال أ لم أقل لكم لا تجلبوا إلينا من العلوج أحدا فغلبتموني . وروى محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون قال إني لقائم ما بيني وبين عمر إلا عبد الله بن عباس غداة أصيب وكان إذا مر بين الصفين قال استووا حتى إذا لم ير بيننا خللا تقدم فكبر وربما قرأ سورة يوسف أو النحل في الركعة الأولى أو نحو ذلك في الركعة الثانية حتى يجتمع الناس فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول قتلني أو أكلني الكلب وذلك حين طعنه العلج بسكين ذات طرفين لا يمر على أحد يمينا ولا شمالا إلا طعنه حتى طعن ثلاثة عشر رجلا مات منهم ستة فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسا فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه وتناول عمر بيده عبد الرحمن بن عوف فقدمه فمن يلي عمر فقد رأى الذي رأى وأما نواحي المسجد فإنهم لا يدرون غير أنهم فقدوا صوت عمر فهم يقولون سبحان الله فصلى عبد الرحمن صلاة خفيفة فلما انصرفوا قال يا ابن عباس انظر من قتلني فجال ساعة ثم جاء فقال غلام المغيرة قال الصنع قال نعم
[ 188 ](1/3449)
قال قاتله الله لقد أمرت به معروفا الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعي الإسلام وقد كنت أنت وأبوك تحبان أن يكثر العلوج وكان العباس أكثرهم رقيقا فقال إن شئت فعلنا أي قتلناهم قال كذبت بعد أن تكلموا بلسانكم وصلوا قبلتكم وحجوا حجكم فأحتمل إلى بيته وانطلقنا معه وكان الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ فقائل يقول لا بأس عليه وقائل يقول أخاف عليه فأتي بنبيذ فشربه فخرج من جوفه ثم أتي بلبن فشربه فخرج من جوفه فعلموا أنه ميت فدخل الناس يثنون عليه وجاء رجل شاب فقال أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك صحبة برسول الله وقدم في الإسلام ما قد علمت ثم وليت فعدلت ثم الشهادة فقال عمر وددت أن ذلك كله كان كفافا لا على ولا لي فلما أدبر إذا رداؤه يمس الأرض فقال ردوا على الغلام فردوه فقال يا ابن أخي ارفع ثوبك فإنه أبقى لثوبك وأتقى لربك يا عبد الله بن عمر انظر ما علي من دين فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفا أو نحوه فقال إن وفى به مال آل عمر فأده من أموالهم وإلا فسل في بني عدي بن كعب فإن لم تف به أموالهم فسل في قريش ولا تعدهم إلى غيرهم وأد عني هذا المال انطلق إلى عائشة فقل لها يقرأ عليك السلام عمر ولا تقل أمير المؤمنين فإني اليوم لست للمؤمنين أميرا وقل يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه فمضى وسلم واستأذن ودخل عليها فوجدها قاعدة تبكي فقال يقرأ عليك عمر السلام ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه فقالت كنت أريده لنفسي يعني الموضع ولأوثرنه اليوم على نفسي فلما أقبل قيل هذا عبد الله قد جاء قال ارفعوني فأسندوه إلى رجل منهم قال يا عبد الله ما لديك قال الذي تحب يا أمير المؤمنين قد أذنت قال الحمد لله ما كان شي ء أهم إلي من
[ 189 ](1/3450)
ذلك إذا أنا قبضت فاحملني ثم سلم عليها وقل يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذنت لي فأدخلوني وإن ردتني فردوني إلى مقابر المسلمين وادفنوني بين المسلمين وجاءت ابنته حفصة والنساء معها قال فلما رأيناها قمنا فولجت عليه فبكت عنده ساعة واستأذن الرجال فولجت بيتا داخلا لهم فسمعنا بكاءها من البيت الداخل فقال أوص يا أمير المؤمنين واستخلف فقال ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو قال الرهط الذين توفي رسول الله ص وهو عنهم راض فسمى عليا وعثمان والزبير وطلحة وسعدا وعبد الرحمن وقال يشهدكم عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شي ء كهيئة التعزية له فإن أصابت الإمارة سعدا فهو أهل لذلك وإلا فليستعن به أيكم أمر فإني لم أعزله عن عجز ولا عن خيانة ثم قال أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم حرمتهم وأوصيه بالأنصار خيرا الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم أن يقبل من محسنهم وأن يعفو عن مسيئهم وأوصيه بأهل الأمصار خيرا فإنهم ردء الإسلام وجباة الأموال وغيظ العدو ألا يأخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم وأوصيه بالأعراب خيرا فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام أن يؤخذ من حواشي أموالهم ويرد على فقرائهم وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله أن يوفي لهم بعهدهم وأن يقاتل من وراءهم وألا يكلفوا إلا طاقتهم . قال فلما قبض خرجنا به فانطلقنا نمشي فسلم عبد الله بن عمر وقال يستأذن عمر بن الخطاب فقالت أدخلوه فأدخل فوضع هنالك مع صاحبيه .
[ 190 ](1/3451)
و قال ابن عباس أنا أول من أتى عمر حين طعن فقال احفظ عني ثلاثا فإني أخاف ألا يدركني الناس أما أنا فلم أقض في الكلالة ولم أستخلف على الناس وكل مملوك لي عتيق فقلت له أبشر بالجنة صاحبت رسول الله ص فأطلت صحبته ووليت أمر المسلمين فقويت عليه وأديت الأمانة قال أما تبشيرك لي بالجنة فو الله الذي لا إله إلا هو لو أن لي الدنيا بما فيها لافتديت به من هول ما أمامي قبل أن أعلم ما الخبر وأما ما ذكرت من أمر المسلمين فلوددت أن ذلك كان كفافا لا علي ولا لي وأما ما ذكرت من صحبة رسول الله ص فهو ذلك وروى معمر عن الزهري عن سالم عن عبد الله قال دخلت على أبي فقلت سمعت الناس يقولون مقالة وآليت أن أقولها لك زعموا أنك غير مستخلف وأنه لو كان لك راعي إبل أو غنم ثم جاءك وتركها رأيت أنه قد ضيع فرعاية الناس أشد فوضع رأسه ثم رفعه فقال إن الله تعالى يحفظ دينه إن لم أستخلف فإن رسول الله ص لم يستخلف وإن استخلفت فإن أبا بكر قد استخلف فو الله ما هو إلا أن ذكر رسول الله وأبا بكر فعلمت أنه لم يكن يعدل برسول الله ص أحدا وأنه غير مستخلف . وروي أنه قال وقد أذنت له عائشة في أن يدفن في بيتها إذا مت فاستأذنوها مرة ثانية فإن أذنت وإلا فاتركوها فإني أخشى أن تكون أذنت لي لسلطاني فاستأذنوها بعد موته فأذنت .
[ 191 ](1/3452)
و روى عمر بن ميمون قال لما طعن عمر دخل عليه كعب الأحبار فقال اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ قد أنبأتك أنك شهيد فقال من أين لي بالشهادة وأنا بجزيرة العرب . وروى ابن عباس قال لما طعن عمر وجئته بخبر أبي لؤلؤة أتيته والبيت ملآن فكرهت أن أتخطى رقابهم وكنت حديث السن فجلست وهو مسجى وجاء كعب الأحبار وقال لئن دعا أمير المؤمنين ليبقيه الله لهذه الأمة حتى يفعل فيها كذا وكذا حتى ذكر المنافقين فيمن ذكر فقلت أبلغه ما تقول قال ما قلت إلا وأنا أريد أن تبلغه فتشجعت وقمت فتخطيت رقابهم حتى جلست عند رأسه وقلت إنك أرسلتني بكذا إن عبد المغيرة قتلك وأصاب معك ثلاثة عشر إنسانا وإن كعبا هاهنا وهو يحلف بكذا فقال أدعو إلي كعبا فدعي فقال ما تقول قال أقول كذا قال لا والله لا أدعو ولكن شقي عمر إن لم يغفر الله له . وروى المسور بن مخرمة إن عمر لما طعن أغمي عليه طويلا فقيل إنكم لم توقظوه بشي ء مثل الصلاة إن كانت به حياة فقالوا الصلاة يا أمير المؤمنين الصلاة قد صليت فانتبه فقال الصلاة لاها الله لا أتركها لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة فصلى وإن جرحه لينثعب دما . وروى المسور بن مخرمة أيضا قال لما طعن عمر جعل يألم ويجزع فقال ابن عباس ولا وكل ذلك يا أمير المؤمنين لقد صحبت رسول الله ص فأحسنت صحبته ثم فارقته وهو عنك راض وصحبت أبا بكر وأحسنت صحبته وفارقك وهو عنك راض ثم صحبت المسلمين فأحسنت إليهم وفارقتهم وهم عنك راضون
[ 192 ](1/3453)
قال أما ما ذكرت من صحبة رسول الله ص وأبي بكر فذلك مما من الله به علي وأما ما ترى من جزعي فو الله لو أن لي بما في الأرض ذهبا لافتديت به من عذاب الله قبل أن أراه وفي رواية لافتديت به من هول المطلع وفي رواية المغرور من غررتموه لو أن لي ما على ظهرها من صفراء وبيضاء لافتديت به من هول المطلع وفي رواية في الإمارة على تثني يا ابن عباس قلت وفي غيرها قال والذي نفسي بيده لوددت أني خرجت منها كما دخلت فيها لا حرج ولا وزر وفي رواية لو كان لي ما طلعت عليه الشمس لافتديت به من كرب ساعة يعني الموت كيف ولم أرد الناس بعد وفي رواية لو أن لي الدنيا وما فيها لافتديت به من هول ما أمامي قبل أن أعلم ما الخبر . قال ابن عباس فسمعنا صوت أم كلثوم وا عمراه وكان معها نسوة يبكين فارتج البيت بكاء فقال عمر ويلم عمر إن الله لم يغفر له فقلت والله إني لأرجو إلا تراها إلا مقدار ما قال الله تعالى وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها إن كنت ما علمنا لأمير المؤمنين وسيد المسلمين تقضي بالكتاب وتقسم بالسوية . فأعجبه قولي فاستوى جالسا فقال أ تشهد لي بهذا يا ابن عباس فكععت أي جبنت فضرب علي ع بين كتفي وقال اشهد وفي رواية لم تجزع يا أمير المؤمنين فو الله لقد كان إسلامك عزا وإمارتك فتحا ولقد ملأت الأرض عدلا فقال أ تشهد لي بذلك يا ابن عباس قال فكأنه كره الشهادة فتوقف فقال له علي ع قل نعم وأنا معك فقال نعم . وفي رواية أنه قال مسست جلده وهو ملقى فقلت جلد لا تمسه النار أبدا فنظر إلي نظرة جعلت أرثي له منها قال وما علمك بذلك قلت صحبت رسول الله ص فأحسنت صحبته الحديث فقال لو أن لي ما في الأرض لافتديت
[ 193 ](1/3454)
به من عذاب الله قبل أن ألقاه أو أراه . وفي رواية قال فأنكرنا الصوت وإذا عبد الرحمن بن عوف وقيل طعن أمير المؤمنين فانصرف الناس وهو في دمه مسجى لم يصل الفجر بعد فقيل يا أمير المؤمنين الصلاة فرفع رأسه وقال لاها الله إذن لا حظ لامرئ في الإسلام ضيع صلاته ثم وثب ليقوم فانثعب جرحه دما فقال هاتوا لي عمامة فعصب بها جرحه ثم صلى وذكر ثم التفت إلى ابنه عبد الله وقال ضع خدي إلى الأرض يا عبد الله قال عبد الله فلم أعج بها وظننت أنها اختلاس من عقله فقالها مرة أخرى ضع خدي إلى الأرض يا بني فلم أفعل فقال الثالثة ضع خدي إلى الأرض لا أم لك فعرفت أنه مجتمع العقل ولم يمنعه أن يضعه هو إلا ما به من الغلبة فوضعت خده إلى الأرض حتى نظرت إلى أطراف شعر لحيته خارجة من أضعاف التراب وبكى حتى نظرت إلى الطين قد لصق بعينه فأصغيت أذني لأسمع ما يقول فسمعته يقول يا ويل عمر وويل أم عمر إن لم يتجاوز الله عنه و
قد جاء في رواية أن عليا ع جاء حتى وقف عليه فقال ما أحد أحب إلي أن ألقى الله بصحيفته من هذا المسجى وروي عن حفصة أم المؤمنين قالت سمعت أبي يقول في دعائه اللهم قتلا في سبيلك ووفاة في بلد نبيك قلت وأنى يكون هذا قال يأتي به الله إذا شاء ويروى أن كعبا كان يقول له نجدك في كتبنا تموت شهيدا فيقول كيف لي بالشهادة وأنا في جزيرة العرب . وروى المقدام بن معديكرب قال لما أصيب عمر دخلت عليه حفصة ابنته فنادت يا صاحب رسول الله ويا صهر رسول الله ويا أمير المؤمنين فقال لابنه عبد الله أجلسني فلا صبر لي على ما أسمع فأسنده إلى صدره فقال لها إني أحرج عليك
[ 194 ](1/3455)
بما لي عليك من الحق أن تندبيني بعد مجلسك هذا فأما عينك فلن أملكها إنه ليس من ميت يندب عليه بما ليس فيه إلا الملائكة تمقته . وروى الأحنف قال سمعت عمر يقول إن قريشا رءوس الناس ليس أحد منهم يدخل من باب إلا دخل معه طائفة من الناس فلما أصيب عمر أمر صهيبا أن يصلي بالناس ثلاثة أيام ويطعمهم حتى يجتمعوا على رجل فلما وضعت الموائد كف الناس عن الطعام فقال العباس بن عبد المطلب أيها الناس إن رسول الله ص مات فأكلنا بعده ومات أبو بكر فأكلنا بعده وأنه لا بد للناس من الأكل ثم مد يده فأكل من الطعام فعرفت قول عمر . ويروي كثير من الناس الشعر المذكور في الحماسة ويزعم أن هاتفا من الجن هتف به وهو
جزيت عن الإسلام خيرا وباركت
يد الله في ذاك الأديم الممزق
فمن يسع أو يركب جناحي نعامة
ليدرك ما قدمت بالأمس يسبق
قضيت أمورا ثم غادرت بعدها
بوائق في أكمامها لم تفتق
أ بعد قتيل بالمدينة أظلمت
له الأرض تهتز العضاه بأسؤق
و ما كنت أخشى أن تكون وفاته
بكفي سبنتي أزرق العين مطرق
تظل الحصان البكر يلقي جنينها
نثا خبر فوق المطي معلق
و الأكثرون يروونها لمزرد أخي الشماخ ومنهم من يرويها للشماخ نفسه
[ 195 ](1/3456)
فصل في ذكر ما طعن به على عمر والجواب عنه
و نذكر في هذا الموضع ما طعن به على عمر في المغني من المطاعن وما اعترض به الشريف المرتضى على قاضى القضاة وما أجاب به قاضى القضاة في كتابه المعروف بالشافي ونذكر ما عندنا في البعض من ذلك(1/3457)
الطعن الأول
قال قاضى القضاة أول ما طعن به عليه قول من قال إنه بلغ من قلة علمه أنه لم يعلم أن الموت يجوز على النبي ص وأنه أسوة الأنبياء في ذلك حتى قال والله ما مات محمد ولا يموت حتى تقطع أيدي رجال وأرجلهم فلما تلا عليه أبو بكر قوله تعالى إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ وقوله وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ الآية قال أيقنت بوفاته وكأني لم أسمع هذه الآية فلو كان يحفظ القرآن أو يفكر فيه لما قال ذلك وهذا يدل على بعده من حفظ القرآن وتلاوته ومن هذا حاله لا يجوز أن يكون إماما . قال قاضى القضاة وهذا لا يصح لأنه قد روي عنه أنه قال كيف يموت وقد قال الله تعالى لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ وقال وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ولذلك نفى موته ع لأنه حمل الآية على أنها خبر عنه في حال حياته
[ 196 ](1/3458)
حتى قال له أبو بكر إن الله وعده بذلك وسيفعله وتلا عليه ما تلا فأيقن عند ذلك بموته وإنما ظن أن موته يتأخر عن ذلك الوقت لا أنه منع من موته . ثم سأل قاضى القضاة نفسه فقال فإن قيل فلم قال لأبي بكر عند قراءة الآية كأني لم أسمعها ووصف نفسه بأنه أيقن بالوفاة . وأجاب بأن قال لما كان الوجه في ظنه ما أزال أبو بكر الشبهة فيه جاز أن يتيقن ثم سأل نفسه عن سبب يقينه فيما لا يعلم إلا بالمشاهدة . وأجاب بأن قرينة الحال عند سماع الخبر أفادته اليقين ولو لم يكن في ذلك إلا خبر أبي بكر وادعاؤه لذلك والناس مجتمعون لحصل اليقين . وقوله كأني لم أقرأ هذه الآية أو لم أسمعها تنبيه على ذهوله عن الاستدلال بها لا أنه على الحقيقة لم يقرأها ولم يسمعها ولا يجب فيمن ذهب عن بعض أحكام الكتاب ألا يعرف القرآن لأن ذلك لو دل لوجب ألا يحفظ القرآن إلا من يعرف جميع أحكامه ثم ذكر أن حفظ القرآن كله غير واجب ولا يقدح الإخلال به في الفضل . وحكي عن الشيخ أبي علي أن أمير المؤمنين ع لم يحط علمه بجميع الأحكام ولم يمنع ذلك من فضله واستدل بما روي من قوله كنت إذا سمعت من رسول الله ص حديثا نفعني الله به ما شاء أن ينفعني وإذا حدثني غيره أحلفته فإن حلف لي صدقته وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر وذكر أنه لم يعرف أي موضع يدفن فيه رسول الله ص حتى رجع إلى ما رواه أبو بكر وذكر قصة الزبير في موالي صفية وأن أمير المؤمنين ع أراد أن يأخذ ميراثهم كما أن عليه أن يحمل عقلهم حتى أخبره عمر بخلاف ذلك من أن الميراث للأب والعقل على العصبة .
[ 197 ](1/3459)
ثم سأل نفسه فقال كيف يجوز ما ذكرتم على أمير المؤمنين ع مع قوله سلوني قبل أن تفقدوني وقوله إن هاهنا علما جما يومئ إلى قلبه وقوله لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل الزبور بزبورهم وبين أهل القرآن بقرآنهم وقوله كنت إذا سئلت أجبت وإذا سكت ابتدئت . وأجاب عن ذلك بأن هذا إنما يدل على عظم المحل في العلم من غير أن يدل على الإحاطة بالجميع . وحكي عن أبي علي استبعاده ما روي من قوله لو ثنيت الوسادة قال لأنه لا يجوز أن يصف نفسه بأنه يحكم بما لا يجوز ومعلوم أنه ع لا يحكم بين الجميع إلا بالقرآن ثنيت له الوسادة أو لم تثن وهذا يدل على أن الخبر موضوع . فاعترض الشريف المرتضى فقال ليس يخلو خلاف عمر في وفاة رسول الله ص من أن يكون على سبيل الإنكار لموته على كل حال والاعتقاد بأن الموت لا يجوز عليه على كل وجه أو يكون منكرا لموته في تلك الحال من حيث لم يظهر دينه على الدين كله وما أشبه ذلك مما قال صاحب الكتاب أنها كانت شبهة في تأخر موته عن تلك الحال . فإن كان الوجه الأول فهو مما لا يجوز خلاف العقلاء في مثله والعلم بجواز الموت على سائر البشر لا يشك فيه عاقل والعلم من دينه ع بأنه سيموت كما مات من قبله ضروري وليس يحتاج في مثل هذا إلى الآيات التي تلاها أبو بكر من قوله تعالى إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ وما أشبهها وإن كان خلافه على الوجه الثاني تأول ما فيه أن هذا الخلاف لا يليق بما احتج به أبو بكر من قوله تعالى إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ لأنه لم ينكر على هذا جواز الموت وإنما خالف في تقدمه وقد كان يجب أن يقول له وأي حجة في هذه الآيات على
[ 198 ](1/3460)
من جوز عليه ص الموت في المستقبل وأنكره في هذه الحال وبعد فكيف دخلت الشبهة البعيدة على عمر من بين سائر الخلق ومن أين زعم أنه لا يموت حتى يقطع أيدي رجال وأرجلهم وكيف حمل معنى قوله تعالى لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ وقوله وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً على أن ذلك لا يكون في المستقبل بعد الوفاة وكيف لم يخطر هذا إلا لعمر وحده ومعلوم أن ضعف الشبهة إنما يكون من ضعف الفكرة وقلة التأمل والبصيرة وكيف لم يوقن بموته لما رأى ما عليه أهل الإسلام من اعتقاد موته وما ركبهم من الحزن والكآبة لفقده وهلا دفع بهذا اليقين ذلك التأويل البعيد فلم يحتج إلى موقف ومعرف وقد كان يجب إن كانت هذه شبهة أن يقول في حال مرض رسول الله ص وقد رأى جزع أهله وأصحابه وخوفهم عليه من الوفاة حتى يقول أسامة بن زيد معتذرا من تباطئه عن الخروج في الجيش الذي كان رسول الله ص يكرر ويردد الأمر حينئذ بتنفيذه لم أكن لأسأل عنك الركب ما هذا الجزع والهلع وقد أمنكم الله من موته بكذا في وجه كذا وليس هذا من أحكام الكتاب التي يعذر من لا يعرفها على ما ظنه صاحب الكتاب . قلت الذي قرأناه ورويناه من كتب التواريخ يدل على أن عمر أنكر موت رسول الله ص من الوجهين المذكورين أنكر أولا أن يموت إلى يوم القيامة واعتقد عمر أنه يعمر كما يعتقد كثير من الناس في الخضر فلما حاجه أبو بكر بقوله تعالى إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ وبقوله أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ رجع عن ذلك الاعتقاد . وليس يرد على هذا ما اعترض به المرتضى لأن عمر ما كان يعتقد استحالة الموت عليه كاستحالة الموت على البارئ تعالى أعني الاستحالة الذاتية بل اعتقد استمرار حياته إلى يوم
[ 199 ](1/3461)
القيامة مع كون الموت جائزا في العقل عليه ولا تناقض في ذلك فإن إبليس يبقى حيا إلى يوم القيامة مع كون موته جائزا في العقل وما أورده أبو بكر عليه لازم على أن يكون نفيه للموت على هذا أوجه . وأما الوجه الثاني فهو أنه لما دفعه أبو بكر عن ذلك الاعتقاد وقف مع شبهة أخرى اقتضت عنده أن موته يتأخر وإن لم يكن إلى يوم القيامة وذلك أنه تأول قوله تعالى هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ اَلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ فجعل الضمير عائدا على الرسول لا على الدين وقال إن رسول الله ص لم يظهر بعد على سائر الأديان فوجب أن تستمر حياته إلى أن يظهر على الأديان بمقتضى الوعد الذي لا يجوز عليه الخلف والكذب فحاجه أبو بكر من هذا المقام فقال له إنما أراد ليظهر دينه وسيظهره فيما بعد ولم يقل ليظهره الآن فمن ثم قال له ولو أراد ليظهر الرسول ص على الدين كله لكان الجواب واحدا لأنه إذا ظهر دينه فقد أظهره هو . فأما قول المرتضى رحمه الله وكيف دخلت هذه الشبهة على عمر من بين الخلق فهكذا تكون الخراطر والشبه والاعتقادات تسبق إلى ذهن واحد دون غيره وكيف دخلت الشبهة على جماعة منعوا الزكاة واحتجوا بقوله تعالى وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ دون غيرهم من قبائل العرب وكيف دخلت الشبهة على أصحاب الجمل وصفين دون غيرهم وكيف دخلت الشبهة على خوارج النهروان دون غيرهم وهذا باب واسع فأما قوله ومن أين زعم أنه لا يموت حتى تقطع أيدي رجال وأرجلهم فإن الذي
[ 200 ](1/3462)
ذكره المؤرخون أنه قال ما مات رسول الله ص وإنما غاب عنا كما غاب موسى عن قومه وسيعود فتقطع أيدي رجال وأرجلهم ممن أرجف بموته وهذه الرواية تخالف ما ذكره المرتضى . فأما قوله وكيف حمل معنى قوله لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ وقوله وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً على أن ذلك لا يكون في المستقبل فقد بينا الشبهة الداخلة عليه في ذلك وكونه ظن أن ذلك يكون معجلا على الفور وكذلك قوله وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ كَمَا اِسْتَخْلَفَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ . . . وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً فإنه ظن أن هذا العموم يدخل فيه رسول الله ص لأنه سيد المؤمنين وسيد الصالحين أو أنه لفظ عام والمراد به رسول الله وحده كما ورد في كثير من آيات القرآن مثل ذلك فظن أن هذا الاستخلاف في جميع الأرض وتبديل الخوف بالأمن إنما هو على الفور لا على التراخي وليست هذه الشبهة بضعيفة جدا كما ظن المرتضى بل هي موضع نظر . فأما قوله كيف لم يؤمن بموته لما رأى من كآبة الناس وحزنهم فلأن الناس يبنون الأمر على الظاهر وعمر نظر في أمر باطن دقيق فاعتقد أن الرسول لم يمت وإنما ألقي شبهه على غيره كما ألقي شبه عيسى على غيره فصلب وعيسى قد رفع ولم يصلب واعلم أن أول من سن لأهل الغيبة من الشيعة القول بأن الإمام لم يمت ولم يقتل وإن كان في الظاهر وفي مرأى العين قد قتل أو مات إنما هو عمر ولقد كان يجب على المرتضى وطائفته أن يشكروه على ما أسس لهم من هذا الاعتقاد .
[ 201 ](1/3463)
فأما قوله فهلا قال في مرض رسول الله ص لما رأى جزعهم لموته قد أمنكم الله من موته فغير لازم لأن الشبهة لا تجب أن تخطر بالبال في كل الأوقات فلعله قد كان في ذلك الوقت غافلا عنها مشغول الذهن بغيرها ولو صح للمرتضى هذا لوجب أن يدفع ويبطل كل ما يتجدد ويطرأ على الناس من الشبهة في المذاهب والآراء فنقول كيف طرأت عليهم هذه الشبهات الآن ولم تطرأ عليهم من قبل وهذا من اعتراضات المرتضى الضعيفة على أنا قد ذكرنا نحن في الجزء الأول من هذا الكتاب ما قصده عمر بقوله إن رسول الله لم يمت وقلنا فيه قولا شافيا لم نسبق إليه فليعاود ثم قال المرتضى فأما ما روي عن أمير المؤمنين ع من خبر الاستحلاف في الأخبار فلا يدل على عدم علم أمير المؤمنين بالحكم لأنه يجوز أن يكون استحلافه ليرهب المخبر ويخوفه من الكذب على النبي ص لأن العلم بصحة الحكم الذي يتضمنه الخبر لا يقتضي صدق المخبر وأيضا فلا تاريخ لهذا الحديث ويمكن أن يكون استحلافه ع للرواة إنما كان في حياة رسول الله ص وفي تلك الحال لم يكن محيطا بجميع الأحكام . فأما حديث الدفن وإدخاله في باب أحكام الدين التي يجب معرفتها فطريف وقد يجوز أن يكون أمير المؤمنين ع سمع من النبي ص في باب الدفن مثل ما سمعه أبو بكر وكان عازما على العمل به حتى روى أبو بكر ما رواه فعمل بما كان يعلمه لا من طريق أبي بكر وظن الناس أن العمل لأجله ويجوز أن يكون رسول الله ص خير وصيه ع في موضع دفنه ولم يعين له موضعا بعينه فلما روى أبو بكر ما رواه رأى موافقته فليس في هذا دلالة على أنه ع استفاد حكما لم يكن عنده .
[ 202 ](1/3464)
و أما موالي صفية فحكم الله فيهم ما أفتى به أمير المؤمنين ع وليس سكوته حيث سكت عند عمر رجوعا عما أفتى به ولكنه كسكوته عن كثير من الحق تقية ومداراة للقوم . وأما قوله ع سلوني قبل أن تفقدوني وقوله إن هاهنا لعلما جما إلى غير ذلك فإنه لا يدل على عظم المحل في العلم فقط على ما ظنه صاحب الكتاب بل هو قول واثق بنفسه آمن من أن يسأل عما لا يعلمه وكيف يجوز أن يقول مثله على رءوس الأشهاد وظهور المنابر سلوني قبل أن تفقدوني وهو يعلم أن كثيرا من أحكام الدين يعزب عنه وأين كان أعداؤه والمنتهزون لفرصته وزلته عن سؤاله عن مشكل المسائل وغوامض الأحكام والأمر في هذا ظاهر . فأما استبعاد أبي علي لما روي عنه ع من قوله لو ثنيت لي الوسادة للوجه الذي ظنه فهو البعيد فإنه لم يفطن لغرضه ع وإنما أراد أني كنت أقاضيهم إلى كتبهم الدالة على البشارة بنبينا ص وصحة شرعه فأكون حاكما حينئذ عليهم بما تقتضيه كتبهم من هذه الشريعة وأحكام هذا القرآن وهذا من جليل الأغراض وعظيمها(1/3465)
الطعن الثاني
أنه أمر برجم حامل حتى نبهه معاذ وقال إن يكن لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها فرجع عن حكمه وقال لو لا معاذ لهلك عمر ومن يجهل هذا القدر لا يجوز أن يكون إماما لأنه يجري مجرى أصول الشرع بل العقل يدل عليه لأن الرجم عقوبة ولا يجوز أن يعاقب من لا يستحق .
[ 203 ]
اعتذر قاضي القضاة عن هذا فقال إنه ليس في الخبر أنه أمر برجمها مع علمه بأنها حامل لأنه ليس ممن يخفى عليه هذا القدر وهو أن الحامل لا ترجم حتى تضع وإنما ثبت عنده زناها فأمر برجمها على الظاهر وإنما قال ما قال في معاذ لأنه نبهه على أنها حامل . ثم سأل نفسه فقال فإن قيل إذا لم تكن منه معصية فكيف يهلك لو لا معاذ وأجاب بأنه لم يرد لهلك من جهة العذاب وإنما أراد أنه كان يجري بقوله قتل من لا يستحق القتل ويجوز أن يريد بذلك تقصيره في تعرف حالها لأن ذلك لا يمتنع أن يكون بخطيئة وإن صغرت . اعترض المرتضى على هذا الاعتذار فقال لو كان الأمر على ما ظننته لم يكن تنبيه معاذ له على هذا الوجه بل كان يجب أن ينبهه بأن يقول له هي حامل ولا يقول له إن كان لك سبيل عليها فلا سبيل لك على ما في بطنها لأن هذا قول من عنده أنه أمر برجمها مع العلم بحملها وأقل ما يجب لو كان الأمر كما ظنه صاحب الكتاب أن يقول لمعاذ ما ذهب علي أن الحامل لا ترجم وإنما أمرت برجمها لفقد علمي بحملها فكان ينفي بهذا القول عن نفسه الشبهة وفي إمساكه عنه مع شدة الحاجة إليه دليل على صحة قولنا وقد كان يجب أيضا أن يسأل عن الحمل لأنه أحد الموانع من الرجم فإذا علم انتفاءه وارتفاعه أمر بالرجم وصاحب الكتاب قد اعترف بأن ترك المسألة عن ذلك تقصير وخطيئة وادعى أنها صغيرة ومن أين له ذلك ولا دليل يدل عنده في غير الأنبياء ع أن معصية بعينها صغيرة . فأما إقراره بالهلاك لو لا تنبيه معاذ فإنه يقتضي التعظيم والتفخيم لشأن الفعل ولا يليق ذلك إلا بالتقصير الواقع(1/3466)
إما في الأمر برجمها مع العلم بأنها حامل أو ترك البحث عن ذلك
[ 204 ]
و المسألة عنه وأي لوم عليه في أن يجري بقوله قتل من لا يستحق القتل إذا لم يكن ذلك عن تفريط منه ولا تقصير . قلت أما ظاهر لفظ معاذ فيشعر بما قاله المرتضى ولم يمتنع أن يكون عمر لم يعلم أنها حامل وأن معاذا قد كان من الأدب أن يقول له حامل يا أمير المؤمنين فعدل عن هذا اللفظ بمقتضى أخلاق العرب وخشونتهم فقال له إن كان لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها فنبهه على العلة والحكم معا وكان الأدب أن ينبهه على العلة فقط . وأما عدول عمر عن أن يقول أنا أعلم أن الحامل لا ترجم وإنما أمرت برجمها لأني لم أعلم أنها حامل فلأنه إنما يجب أن يقول مثل هذا من يخاف من اضطراب حاله أو نقصان ناموسه وقاعدته أن لم يقله وعمر كان أثبت قدما في ولايته وأشد تمكنا من أن يحتاج إلى الاعتذار بمثل هذا . وأما قول المرتضى كان يجب أن يسأل عن الحمل لأنه أحد الموانع من الرجم فكلام صحيح لازم ولا ريب إن ترك السؤال عن ذلك نوع من الخطإ ولكن المرتضى قد ظلم قاضي القضاة لأنه زعم أنه ادعى أن ذلك صغيرة ثم أنكر عليه ذلك ومن أين له ذلك وأي دليل دل على أن هذه المعصية صغيرة وقاضي القضاة ما ادعى أن ذلك صغيرة بل قال لا يمتنع أن يكون ذلك خطيئة وإن صغرت والعجب أنه حكى لفظ قاضي القضاة بهذه الصورة ثم قال إنه ادعى أنها صغيرة وبين قول القائل لا يمتنع أن يكون صغيرة وقوله هي صغيرة لا محالة فرق عظيم . وأما قول عمر لو لا معاذ لهلك عمر فإن ظاهر اللفظ يشعر بما يريده المرتضى وينحو إليه ولا يمتنع أن يكون المقصود به ما ذكره قاضي القضاة وإن كان مرجوحا فإن القائل خطأ
[ 205 ]
قد يقول هلكت ليس يعني به العقاب يوم القيامة بل لوم الناس وتعنيفهم إياه على ترك الاحتراس وإهمال التثبت(1/3467)
الطعن الثالث
خبر المجنونة التي أمر برجمها فنبهه أمير المؤمنين ع و
قال إن القلم مرفوع عن المجنون حتى يفيق فقال لو لا علي لهلك عمر وهذا يدل على أنه لم يكن يعرف الظاهر من الشريعة . أجاب قاضي القضاة فقال ليس في الخبر أنه عرف جنونها فيجوز أن يكون الذي نبه عليه هو جنونها دون الحكم لأنه كان يعلم أن الحد لا يقام في حال الجنون وإنما قال لو لا علي لهلك عمر لا من جهة المعصية والإثم لكن لأن حكمه لو نفذ لعظم غمه ويقال في شدة الغم إنه هلاك كما يقال في الفقر وغيره وذلك مبالغة منه لما كان يلحقه من الغم الذي زال بهذا التنبيه على أن هذا الوجه مما لا يمتنع في الشرع أن يكون صحيحا وأن يقال إذا كانت مستحقة للحد فإقامته عليها تصح وإن لم يكن لها عقل لأنه لا يخرج الحد من أن يكون واقعا موقعه ويكون قوله ع رفع القلم عن ثلاث يراد به زوال التكليف عنهم دون زوال إجراء الحكم عليهم ومن هذه حاله لا يمتنع أن يكون مشتبها فرجع فيه إلى غيره ولا يكون الخطأ فيه مما يعظم فيمنع من صحة الإمامة . اعترض الشريف المرتضى هذا فقال لو كان أمر برجم المجنونة من غير علم بجنونها لما قال له أمير المؤمنين أ ما علمت أن القلم مرفوع عن المجنون حتى يفيق بل كان يقول له بدلا من ذلك هي مجنونة وكان ينبغي أن يقول عمر متبرئا من الشبهة ما علمت بجنونها ولست ممن يذهب عليه أن المجنون لا يرجم فلما رأيناه استعظم ما أمر به وقال لو لا
[ 206 ](1/3468)
علي لهلك عمر دلنا على أنه كان تأثم وتحرج بوقوع الأمر بالرجم وأنه مما لا يجوز ولا يحل وإلا فلا معنى لهذا الكلام وأما ذكر الغم فأي غم كان يلحقه إذا فعل ما له أن يفعله ولم يكن منه تفريط ولا تقصير لأنه إذا كان جنونها لم يعلم به فكانت المسألة عن حالها والبحث لا يجبان عليه فأي وجه لتألمه وتوجعه واستعظامه لما فعله وهل هذا إلا كرجم المشهود عليه بالزناء في أنه لو ظهر للإمام بعد ذلك براءة ساحته لم يجب أن يندم على فعله ويستعظمه لأنه وقع صوابا مستحقا . وأما قوله إنه كان لا يمتنع في الشرع أن يقام الحد على المجنون وتأوله الخبر المروي على أنه يقتضي زوال التكليف دون الأحكام فإن أراد أنه لا يمتنع في العقل أن يقام على المجنون ما هو من جنس الحد بغير استخفاف ولا إهانة فذلك صحيح كما يقام على التائب وأما الحد في الحقيقة وهو الذي تضمنه الاستخفاف والإهانة فلا يجوز إلا على المكلفين ومستحقي العقاب وبالجنون قد أزيل التكليف فزال استحقاق العقاب الذي تبعه الحد . وقوله لا يمتنع أن يرجع فيما هذه حاله من المشتبه إلى غيره فليس هذا من المشتبه الغامض بل يجب أن يعرفه العوام فضلا عن العلماء على أنا قد بينا أنه لا يجوز أن يرجع الإمام في جلي ولا مشتبه من أحكام الدين إلى غيره . وقوله إن الخطأ في ذلك لا يعظم فيمنع من صحة الإمامة اقتراح بغير حجة لأنه إذا اعترف بالخطإ فلا سبيل للقطع على أنه صغير . قلت لو كان قد نقل أن أمير المؤمنين قال له أ ما علمت لكان قول المرتضى قويا ظاهرا إلا أنه لم ينقل هذه الصيغة بعينها والمعروف المنقول أنه قال له قال رسول الله ص رفع القلم عن ثلاث فرجع عن رجمها ويجوز أن يكون أشعره بالعلة
[ 207 ](1/3469)
و الحكم معا لأن هذا الموضع أكثر اشتباها من حديث رجم الحامل فغلب على ظن أمير المؤمنين أنه لو اقتصر على قوله أنها مجنونة لم يكن ذلك دافعا لرجمها فأكده برواية الحديث واعتذار قاضي القضاة بالغم جيد وقول المرتضى أي غم كان يلحقه إذا فعل ما له أن يفعله ليس بإنصاف ولا مثل هذا يقال فيه أنه فعل ما له أن يفعله ولا يقال في العرف لمن قتل إنسانا خطأ أنه فعل ما له أن يفعله والمرجوم في الزناء إذا ظهر للإمام بعد قتله براءة ساحته قد يغتم بقتله غما كثيرا بالطبع البشرى ويتألم وإن لم يكن آثما وليس من توابع الإثم ولوازمه . وقول المرتضى لم يجب أن يندم على ما فعله كلام خارج عما هو بصدده لأنه لم يجر ذكر للندم وإنما الكلام في الغم ولا يلزم أن يكون كل مغتم نادما . وأما اعتراضه على قاضي القضاة في قوله لا يمتنع في الشرع أن ترجم المجنونة فلما اشتبه على عمر الأمر سأل غيره عنه بقوله إن أردت الحد الحقيقي فمعلوم وإن أردت ما هو جنس الحد فمسلم فليس بجيد لأن هذا إنما يكون طعنا على عمر بتقدير ثلاثة أمور أحدها أن يكون
النبي ص قد قال أقيموا الحد على الزاني بهذا اللفظ أعني أن يكون في لفظ النص ذكر الحد وثانيها أن يكون الحد في اللغة العربية أو في عرف الشرع الذي يتفاهمه الصحابة هو العقوبة المخصوصة التي يقارنها الاستخفاف والإهانة وثالثها ألا يصح إهانة المجنون والاستخفاف به وأن يعلم عمر ذلك فإذا اجتمعت هذه الأمور الثلاثة ثم أمر عمر بأن يقام الحد على المجنونة فقد توجه الطعن ومعلوم أنه لم تجتمع هذه الأمور الثلاثة فإنه ليس في القرآن ولا في السنة ذكر الحد بهذا اللفظ ولا الحد في اللغة العربية هو العقوبة التي يقارنها الاستخفاف والإهانة ولا عرف الشرع ومواضعه الصحابة يشتمل على ذلك وإنما هذا شي ء استنبطه المتكلمون المتأخرون بأذهانهم وأفكارهم ثم بتقدير تسليم هذين المقامين لم قال إن المجنون
[ 208 ](1/3470)
لا يصح عليه الاستخفاف والإهانة فمن الجائز أن يصح ذلك عليه وإن لم يتألم بالاستخفاف والإهانة كما يتألم بالعقوبة وإذا صح عليه أن يألم بالعقوبة صح عليه أن يألم بالاستخفاف والإهانة لأن الجنون لا يبلغ وإن عظم مبلغا يبطل تصور الإنسان لإهانته ولاستخفافه وبتقدير ألا يصح على المجنون الاستخفاف والإهانة من أين لنا أن عمر علم أن ذلك لا يصح عليه فمن الممكن أن يكون ظن أن ذلك يصح عليه لأن هذا مقام اشتباه والتباس . فأما قوله قد بينا أنه لا يجوز أن يرجع الإمام أصلا إلى غيره فهو مبني على مذهبهم وقواعدهم وقوله معترضا على كلام قاضي القضاة أن الخطأ في ذلك قد لا يعظم ليمنع من صحة الإمامة أن هذا اقتراح بغير حجة لأنه إذا اعترف بالخطإ فلا سبيل إلى القطع على أنه صغير غير لازم لأن قاضي القضاة لم يقطع بأنه صغير بل قال لا يمتنع وإذا جاز أن يكون صغيرا لم نكن قاطعين على فساد الإمامة به . فإن قال المرتضى كما أنكم لا تقطعون على أنه صغير فتكون الإمامة مشكوكا فيها قيل له الأصل عدم الكبير فإذا حصل الشك في أمر هل هو صغير أم كبير تساقط التعارض ورجعنا إلى الأصل وهو عدم كون ذلك الخطإ كبيرا فلا يمنع ذلك من صحة الإمامة(1/3471)
الطعن الرابع
حديث أبي العجفاء وأن عمر منع من المغالاة في صدقات النساء اقتداء بما كان من النبي ص في صداق فاطمة حتى قامت المرأة ونبهته بقوله تعالى وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً على جواز ذلك فقال كل النساء أفقه من عمر
[ 209 ]
و بما روي أنه تسور على قوم ووجدهم على منكر فقالوا له إنك أخطأت من جهات تجسست وقال الله تعالى وَ لا تَجَسَّسُوا ودخلت بغير إذن ولم تسلم . أجاب قاضي القضاة فقال علمنا بتقدم عمر في العلم وفضله فيه ضروري فلا يجوز أن يقدح فيه بأخبار أحاديث غير مشهورة وإنما أراد في المشهور أن المستحب الاقتداء برسول الله ص وأن المغالاة فيها ليس بمكرمة ثم عند التنبيه علم أن ذلك مبني على طيب النفس فقال ما قاله على جهة التواضع لأن من أظهر الاستفادة من غيره وإن قل علمه فقد تعاطى الخضوع ونبه على أن طريقته أخذ الفائدة أينما وجدها وصير نفسه قدوة في ذلك وأسوة وذلك حسن من الفضلاء وأما حديث التجسس فإن كان فعله فقد كان له ذلك لأن للإمام أن يجتهد في إزالة المنكر بهذا الجنس من الفعل وإنما لحقه على ما يروى في الخبر الخجل لأنه لم يصادف الأمر على ما ألقي إليه في إقدامهم على المنكر اعترض المرتضى على هذا الجواب فقال له أما تعويلك على العلم الضروري بكونه من أهل العلم والاجتهاد فذلك إذا صح لم ينفعك لأنه قد يذهب على من هو بهذه الصفة كثير من الأحكام حتى ينبه عليها ويجتهد فيها وليس العلم الضروري ثابتا بأنه عالم بجميع أحكام الدين فيكون قاضيا على هذه الأخبار فأما تأوله الحديث وحمله على الاستحباب فهو دفع للعيان لأن المروي أنه منع من ذلك وحظره حتى قالت المرأة ما قالت ولو كان غير حاظر للمغالاة لما كان في الآية حجة ولا كان لكلام المرأة موقع ولا كان يعترف لها بأنها أفقه منه بل كان الواجب أن يرد عليها ويوبخها ويعرفها أنه ما حظر لذلك وإنما تكون
[ 210 ](1/3472)
الآية حجة عليه لو كان حاظر مانعا فأما التواضع فلا يقتضي إظهار القبيح وتصويب الخطإ ولو كان الأمر على ما توهمه صاحب الكتاب لكان هو المصيب والمرأة مخطئة فكيف يتواضع بكلام يوهم أنه المخطئ وهي المصيبة فأما التجسس فهو محظور بالقرآن والسنة وليس للإمام أن يجتهد فيما يؤدي إلى مخالفة الكتاب والسنة وقد كان يجب إن كان هذا عذرا صحيحا أن يعتذر به إلى من خطأه في وجهه وقال له إنك أخطأت السنة من وجوه فإنه بمعاذير نفسه أعلم من صاحب الكتاب وتلك الحال حال تدعو إلى الاحتجاج وإقامة العذر . قلت قصارى هذا الطعن أن عمر اجتهد في حكم أو أحكام فأخطأ فلما نبه عليها رجع وهذا عند المعتزلة وأكثر المسلمين غير منكر وإنما ينكر أمثال هذا من يبطل الاجتهاد ويوجب عصمة الإمام فإذا هذا البحث ساقط على أصول المعتزلة والجواب عنه غير لازم علينا(1/3473)
الطعن الخامس
أنه كان يعطي من بيت المال ما لا يجوز حتى أنه كان يعطي عائشة وحفصة عشرة آلاف درهم في كل سنة ومنع أهل البيت خمسهم الذي يجري مجرى الواصل إليهم من قبل رسول الله ص وأنه كان عليه ثمانون ألف درهم من بيت المال على سبيل القرض . أجاب قاضي القضاة بأن دفعه إلى الأزواج جائز من حيث إن لهن حقا في بيت
[ 211 ]
المال وللإمام أن يدفع ذلك على قدر ما يراه وهذا الفعل قد فعله من قبله ومن بعده ولو كان منكرا لما استمر عليه أمير المؤمنين ع وقد ثبت استمراره عليه ولو كان ذلك طعنا لوجب إذا كان يدفع إلى الحسن والحسين وإلى عبد الله بن جعفر وغيرهم من بيت المال شيئا أن يكون في حكم الخائن وكل ذلك يبطل ما قالوه لأن بيت المال إنما يراد لوضع الأموال في حقوقها ثم الاجتهاد وإلى المتولي للأمر في الكثرة والقلة . فأما أمر الخمس فمن باب الاجتهاد وقد اختلف الناس فيه فمنهم من جعله حقا لذوي القربى وسهما مفردا لهم على ما يقتضيه ظاهر الآية ومنهم من جعله حقا لهم من جهة الفقر وأجراهم مجرى غيرهم وإن كانوا قد خصوا بالذكر كما أجرى الأيتام وإن خصوا بالذكر مجرى غيرهم في أنهم يستحقون بالفقر والكلام في ذلك يطول فلم يخرج عمر بما حكم به عن طريقة الاجتهاد ومن قدح في ذلك فإنما يقدح في الاجتهاد الذي هو طريقة الصحابة . فأما اقتراضه من بيت المال فإن صح فهو غير محظور بل ربما كان أحوط إذا كان على ثقة من رده بمعرفة الوجه الذي يمكنه منه الرد وقد ذكر الفقهاء ذلك وقال أكثرهم أن الاحتياط في مال الأيتام وغيرهم أن يجعل في ذمة الغني المأمون لبعده عن الخطر ولا فرق بين أن يقرض الغير أو يقترضه لنفسه ومن بلغ في أمره أن يطعن على عمر بمثل هذه الأخبار مع ما يعلم من سريرته وتشدده في ذات الله واحتياطه فيما يتصل بملك الله وتنزهه عنه حتى فعل بالصبي الذي أكل من تمر الصدقة واحدة ما فعل وحتى كان يرفع نفسه عن الأمر(1/3474)
الحقير ويتشدد على كل أحد حتى على ولده فقد أبعد في القول . اعترض المرتضى فقال أما تفصيل الأزواج فإنه لا يجوز لأنه لا سبب فيهن
[ 212 ]
يقتضي ذلك وإنما يفضل الإمام في العطاء ذوي الأسباب المقتضية لذلك مثل الجهاد وغيره من الأمور العام نفعها للمسلمين . وقوله إن لهن حقا في بيت المال صحيح إلا أنه لا يقتضي تفضيلهن على غيرهن وما عيب بدفع حقهن إليهن وإنما عيب بالزيادة عليه وما يعلم أن أمير المؤمنين ع استمر على ذلك وإن كان صحيحا كما ادعى فالسبب الداعي إلى الاستمرار عليه هو السبب الداعي إلى الاستمرار على جميع الأحكام فأما تعلقه بدفع أمير المؤمنين إلى الحسن والحسين وغيرهما شيئا من بيت المال فعجب لأنه لم يفضل هؤلاء في العطية فيشبه ما ذكرناه في الأزواج وإنما أعطاهم حقوقهم وسوى بينهم وبين غيرهم . فأما الخمس فهو للرسول ولأقربائه على ما نطق به القرآن وإنما عنى تعالى بقوله وَ لِذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ من كان من آل الرسول خاصة لأدلة كثيرة لا حاجة بنا إلى ذكرها هاهنا و
قد روى سليم بن قيس الهلالي قال سمعت أمير المؤمنين ع يقول نحن والله الذين عنى الله بذي القربى قرنهم الله بنفسه ونبيه ص فقال ما أَفاءَ اَللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ اَلْقُرى فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ كل هؤلاء منا خاصة ولم يجعل لنا سهما في الصدقة أكرم الله تعالى نبيه وأكرمنا أن يطعمنا أوساخ ما في أيدي الناس وروى يزيد بن هرم قال كتب نجده إلى ابن عباس يسأله عن الخمس لمن هو فكتب إليه كتبت تسألني عن الخمس لمن هو وإنا كنا نزعم أنه لنا فأبى قومنا علينا ذلك فصبرنا عليه . قال وأما الاجتهاد الذي عول عليه فليس عذرا في إخراج الخمس عن أهله فقد أبطلناه .
[ 213 ](1/3475)
و أما الاقتراض من بيت المال فهو مما يدعو إلى الريبة ومن كان من التشدد والتحفظ والتقشف على الحد الذي ذكره كيف تطيب نفسه بالاقتراض من بيت المال وفيه حقوق وربما مست الحاجة إلى الإخراج منها وأي حاجة لمن كان جشب المأكل خشن الملبس يتبلغ بالقوت إلى اقتراض الأموال . فأما حكايته عن الفقهاء أن الاحتياط أن يحفظ مال الأيتام في ذمة الغني المأمون فذلك إذا صح لم يكن نافعا له لأن عمر لم يكن غنيا ولو كان غنيا لما اقترض فقد خرج اقتراضه عن أن يكون من باب الاحتياط وإنما اشترط الفقهاء مع الأمانة الغنى لئلا تمس الحاجة إليه فلا يمكن ارتجاعه ولهذا قلنا إن اقتراضه لحاجته إلى المال لم يكن صوابا وحسن نظر للمسلمين . قلت أما قوله لا يجوز للإمام أن يفضل في العطاء إلا لسبب يقتضي ذلك كالجهاد فليست أسباب التفضيل مقصورة على الجهاد وحده فقد يستحق الإنسان التفضيل في العطاء على غيره لكثرة عبادته أو لكثرة علمه أو انتفاع الناس به فلم لا يجوز أن يكون عمر فضل الزوجات لذلك . وأيضا فإن الله تعالى فرض لذوي القربى من رسول الله ص نصيبا في الفي ء والغنيمة ليس إلا لأنهم ذوو قرابته فقط فما المانع من أن يقيس عمر على ذلك ما فعله في العطاء فيفضل ذوي قرابة رسول في ذلك على غيرهم ليس إلا لأنهم ذوو قرابته والزوجات وإن لم يكن لهن قربى النسب فلهن قربى الزوجية وكيف يقول المرتضى ما جاز أن يفضل أحدا إلا بالجهاد وقد فضل الحسن والحسين على كثير من أكابر المهاجرين والأنصار وهما صبيان ما جاهدا ولا بلغا الحلم بعد وأبوهما أمير المؤمنين
[ 214 ](1/3476)
موافق على ذلك راض به غير منكر له وهل فعل عمر ذلك إلا لقربهما من رسول الله ص . ونحن نذكر ما فعله عمر في هذا الباب مختصرا نقلناه من كتاب أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي المحدث في أخبار عمر وسيرته . روى أبو الفرج عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال استشار عمر الصحابة بمن يبدأ في القسم والفريضة فقالوا ابدأ بنفسك فقال بل أبدأ بآل رسول الله ص وذوي قرابته فبدأ بالعباس قال ابن الجوزي وقد وقع الاتفاق على أنه لم يفرض لأحد أكثر مما فرض له . وروي أنه فرض له اثني عشر ألفا وهو الأصح ثم فرض لزوجات رسول الله ص لكل واحدة عشرة آلاف وفضل عائشة عليهن بألفين فأبت فقال ذلك بفضل منزلتك عند رسول الله ص فإذا أخذت فشأنك واستثنى من الزوجات جويرية وصفية وميمونة ففرض لكل واحدة منهن ستة آلاف فقالت عائشة إن رسول الله ص كان يعدل بيننا فعدل عمر بينهن وألحق هؤلاء الثلاث بسائرهن ثم فرض للمهاجرين الذين شهدوا بدرا لكل واحد خمسة آلاف ولمن شهدها من الأنصار لكل واحد أربعة آلاف . وقد روي أنه فرض لكل واحد ممن شهد بدرا من المهاجرين أو من الأنصار أو من غيرهم من القبائل خمسة آلاف ثم فرض لمن شهد أحدا وما بعدها إلى الحديبية أربعة آلاف ثم فرض لكل من شهد المشاهد بعد الحديبية ثلاثة آلاف ثم فرض لكل من شهد المشاهد بعد وفاة رسول الله ص ألفين وخمسمائة وألفين وألفا
[ 215 ](1/3477)
و خمسمائة وألفا واحدا إلى مائتين وهم أهل هجر ومات عمر على ذلك . قال ابن الجوزي وأدخل عمر في أهل بدر ممن لم يحضر بدرا أربعة وهم الحسن والحسين وأبو ذر وسلمان ففرض لكل واحد منهم خمسة آلاف . قال ابن الجوزي وروى السدي أن عمر كسا أصحاب النبي ص فلم يرتض في الكسوة ما يستصلحه للحسن والحسين ع فبعث إلى اليمن فأتي لهما بكسوة فاخرة فلما كساهما قال الآن طابت نفسي . قال ابن الجوزي فأما ما اعتمده في النساء فإنه جعل نساء أهل بدر على خمسمائة ونساء من بعد بدر إلى الحديبية على أربعمائة ونساء من بعد ذلك على ثلاثمائة وجعل نساء أهل القادسية على مائتين مائتين ثم سوى بين النساء بعد ذلك . ولو لم يدل على تصويب عمر فيما فعله إلا إجماع الصحابة واتفاقهم عليه وترك الإنكار لذلك كان كافيا . فأما الخمس والخلاف فيه فإنها مسألة اجتهادية والذي يظهر لنا فيه ويغلب عندنا من أمرها أن الخمس حق صحيح ثابت وأنه باق إلى الآن على ما يذهب إليه الشافعي وأنه لم يسقط بموت رسول الله ص ولكنا لا نرى ما يعتقده المرتضى من أن الخمس لآل الرسول ص وأن الأيتام أيتامهم والمساكين مساكينهم وابن السبيل منهم لأنه على خلاف ما يقتضيه ظاهر الآية والعطف ويمكن أن يحتج على ذلك بأن قوله تعالى في سورة الحشر لِلْفُقَراءِ اَلْمُهاجِرِينَ يبطل هذا القول لأن هذه اللام لا بد أن تتعلق بشي ء وليس قبلها ما تتعلق به أصلا إلا أن تجعل بدلا من اللام التي قبلها في قوله ما أَفاءَ اَللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ اَلْقُرى فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ
[ 216 ](1/3478)
وَ لِذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ وليس يجوز أن تكون بدلا من اللام في اَللَّهُ ولا من اللام في قوله وَ لِلرَّسُولِ فبقي أن تكون بدلا من اللام في قوله ولِذِي اَلْقُرْبى أما الأول فتعظيما له سبحانه وأما الثاني فلأنه تعالى قد أخرج رسوله من الفقراء بقوله وَ يَنْصُرُونَ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ ولأنه يجب أن يرفع رسول الله ص عن التسمية بالفقير وأما الثالث فإما أن يفسر هذا البدل وما عطف عليه المبدل منه أو يفسر هذا البدل وحده دون ما عطف عليه المبدل منه والأول لا يصح لأن المعطوف على هذا البدل ليس من أهل القرى وهم الأنصار أ لا ترى كيف قال سبحانه لِلْفُقَراءِ اَلْمُهاجِرِينَ اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ الآية ثم قال سبحانه وَ اَلَّذِينَ تَبَوَّؤُا اَلدَّارَ وَ اَلْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ وهم الأنصار وإن كان الثاني صار تقدير الآية أن الخمس لله وللرسول ولذي القربى الذين وصفهم الله ونعتهم بأنهم هاجروا وأخرجوا من ديارهم وللأنصار فيكون هذا مبطلا لما يذهب إليه المرتضى في قصر الخمس على ذوي القربى . ويمكن أن يعترض هذا الاحتجاج فيقال لم لا يجوز أن يكون قوله وَ اَلَّذِينَ تَبَوَّؤُا اَلدَّارَ وَ اَلْإِيمانَ ليس بعطف ولكنه كلام مبتدأ وموضع الذين رفع بالابتداء وخبره يحبون . وأيضا فإن هذه الحجة لا يمكن التمسك بها في آية الأنفال وهو قوله تعالى وَ اِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ . فأما رواية سليم بن قيس الهلالي فليست بشي ء وسليم معروف المذهب ويكفي في رد روايته كتابه المعروف بينهم المسمى كتاب سليم .
[ 217 ](1/3479)
على أني قد سمعت من بعضهم من يذكر أن هذا الاسم على غير مسمى وأنه لم يكن في الدنيا أحد يعرف بسليم بن قيس الهلالي وأن الكتاب المنسوب إليه منحول موضوع لا أصل له وإن كان بعضهم يذكره في اسم الرجال والرواية المذكورة عن ابن عباس في كتابه إلى نجدة الحروري صحيحة ثابتة وليس فيها ما يدل على مذهب المرتضى من أن الخمس كله لذوي القربى لأن نجدة إنما سأله عن خمس الخمس لا عن الخمس كله . وينبغي أن يذكر في هذا الموضع اختلاف الفقهاء في الخمس أما أبو حنيفة فعنده أن قسمة الخمس كانت في عهد رسول الله ص على خمسة أسهم سهم لرسول الله ص وسهم لذوي قرباه من بني هاشم وبني المطلب دون بني عبد شمس ونوفل استحقوه حينئذ بالنصرة والمظاهرة لما روي عن عثمان بن عفان وجبير بن مطعم أنهما قالا لرسول الله ص هؤلاء إخوتك من بني هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله منهم أ رأيت إخواننا بني المطلب أعطيتهم وحرمتنا وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة
فقال ص إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام إنما بنو هاشم وبنو المطلب شي ء واحد وشبك بين أصابعه وثلاثة أسهم ليتامى المسلمين ومساكينهم وأبناء السبيل منهم وأما بعد رسول الله ص فسهمه ساقط بموته وكذلك سهم ذوي القربى وإنما يعطون لفقرهم فهم أسوة سائر الفقراء ولا يعطى أغنياؤهم فيقسم الخمس إذن على ثلاثة أسهم اليتامى والمساكين وابن السبيل . وأما الشافعي فيقسم الخمس عنده بعد وفاة رسول الله ص على خمسة أسهم سهم لرسول الله ص يصرف إلى ما كان يصرفه إليه رسول الله ص أيام حياته من مصالح المسلمين كعدة الغزاة من الكراع والسلاح
[ 218 ](1/3480)
و نحو ذلك وسهم لذوي القربى من أغنيائهم وفقرائهم يقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين من بني هاشم وبني المطلب والباقي للفرق الثلاث . وأما مالك بن أنس فعنده أن الأمر في هذه المسألة مفوض إلى اجتهاد الإمام إن رأى قسمه بين هؤلاء وإن رأى أعطاه بعضهم دون بعض وإن رأى الإمام غيرهم أولى وأهم فغيرهم . وبقي الآن البحث عن معنى قوله سبحانه وتعالى فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ وما المراد بسهم الله سبحانه وكيف يقول الفقهاء الخمس مقسوم خمسة أقسام وظاهر الآية يدل على ستة أقسام فنقول يحتمل أن يكون معنى قوله سبحانه فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ لرسول الله كقوله وَ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ أي ورسول الله أحق ومذهب أبي حنيفة والشافعي يجي ء على هذا الاحتمال . ويحتمل أن يريد بذكره إيجاب سهم سادس يصرف إلى وجه من وجوه القرب ومذهب أبي العالية يجي ء على هذا الاحتمال لأنه يذهب إلى أن الخمس يقسم ستة أقسام أحدها سهمه تعالى يصرف إلى رتاج الكعبة وقد روي أن رسول الله ص كان يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه فيأخذ منه قبضة فيجعلها للكعبة ويقول سهم الله تعالى ثم يقسم ما بقي على خمسة أقسام . وقال قوم سهم الله لبيت الله . ويحتمل احتمالا ثالثا وهو أن يراد بقوله فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ أن من حق الخمس أن يكون متقربا به إليه سبحانه لا غير ثم خص من وجوه القرب هذه الخمسة تفضيلا لها
[ 219 ]
على غيرها كقوله وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ ومذهب مالك يجي ء على هذا الاحتمال و
قد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان على ستة لله وللرسول سهمان وسهم لأقاربه وثلاثة أسهم للثلاثة حتى قبض ع فأسقط أبو بكر ثلاثة أسهم وقسم الخمس كله على ثلاثة أسهم وكذلك فعل عمر و(1/3481)
روي أن أبا بكر منع بني هاشم الخمس وقال إنما لكم أن نعطي فقيركم ونزوج أيمكم ونخدم من لا خادم له منكم وأما الغني منكم فهو بمنزلة ابن سبيل غني لا يعطى شيئا ولا يتيم موسر وقد روي عن زيد بن علي ع مثل ذلك قال ليس لنا أن نبني منه القصور ولا أن نركب منه البراذين فأما مذهب الإمامية فإن الخمس كله للقرابة . و
يروون عن أمير المؤمنين ع أنه قال أيتامنا ومساكيننا فإن صح عنه ذلك فقوله عندنا أولى بالاتباع وإنما الكلام في صحته . فأما اقتراض عمر من بيت المال ثمانين ألفا فليس بمعروف والمعروف المشهور أنه كان يظلف نفسه عن الدرهم الواحد منه . وقد روى ابن سعد في كتاب الطبقات أن عمر خطب فقال إن قوما يقولون إن هذا المال حلال لعمر وليس كما قالوا لاها الله إذن أنا أخبركم بما أستحل منه يحل لي منه حلتان حلة في الشتاء وحلة في القيظ وما أحج عليه وأعتمر من الظهر وقوتي وقوت أهلي كقوت رجل من قريش ليس بأغناهم ولا أفقرهم ثم أنا بعد رجل من المسلمين يصيبني ما أصابهم .
[ 220 ]
و روى ابن سعد أيضا أن عمر كان إذا احتاج أتى إلى صاحب بيت المال فاستقرضه فربما عسر عليه القضاء فيأتيه صاحب بيت المال فيتقاضاه فيحتال له وربما خرج عطاؤه فقضاه ولقد اشتكى مرة فوصف له الطبيب العسل فخرج حتى صعد المنبر وفي بيت المال عكة فقال إن أذنتم لي فيها أخذتها وإلا فهي علي حرام فأذنوا له فيها ثم قال إن مثلي ومثلكم كقوم سافروا فدفعوا نفقاتهم إلى رجل منهم لينفق عليهم فهل يحل له أن يستأثر منها بشي ء . وروى ابن سعد أيضا قال مكث عمر زمانا لا يأكل من مال المسلمين شيئا حتى أصابته خصاصة فأرسل إلى أصحاب رسول الله ص فاستشارهم فقال لهم قد شغلت نفسي بأمركم فما الذي يصلح أن أصيبه من مالكم فقال عثمان كل وأطعم وكذلك قال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل فتركهما وأقبل على علي ع فقال ما تقول أنت قال غداء وعشاء قال أصبت وأخذ بقوله و(1/3482)
روى أبو الفرج بن الجوزي في كتاب سيرة عمر عن نائلة عن ابن عمر قال جمع عمر الناس لما انتهى إليه فتح القادسية ودمشق فقال إني كنت امرأ تاجرا يغني الله عيالي بتجارتي وقد شغلتموني عن التجارة بأمركم فما ترون أنه يحل لي من هذا المال فقال القوم فأكثروا وعلي ع ساكت فقال عمر ما تقول أنت يا أبا الحسن قال ما أصلحك وأصلح عيالك بالمعروف وليس لك من هذا المال غيره فقال القول ما قاله أبو الحسن وأخذ به . وروى عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده أن عبد الله وعبيد الله ابني عمر مرا بأبي موسى وهو على العراق وهما مقبلان من أرض فارس فقال مرحبا بابني أخي
[ 221 ](1/3483)
لو كان عندي شي ء وبلي قد اجتمع هذا المال عندي فخذاه واشتريا به متاعا فإذا قدمتما فبيعاه ولكما ربحه وأديا إلى أمير المؤمنين رأس المال ففعلا فلما قدما على عمر بالمدينة أخبراه فقال أ كل أولاد المهاجرين يصنع بهم أبو موسى مثل ذلك فقالا لا قال فإن عمر يأبى أن يجيز ذلك وجعل قرضا . وروي عن قتادة قال كان معيقيب على بيت المال لعمر فكسح عمر بيت المال يوما وأخرجه إلى المسلمين فوجد معيقيب فيه درهما فدفعه إلى ابن عمر قال معيقيب ثم انصرفت إلى بيتي فإذا رسول عمر قد جاء يدعوني فجئت فإذا الدرهم في يده فقال ويحك يا معيقيب أ وجدت علي في نفسك شيئا قلت وما ذاك قال أردت أن تخاصمني أمة محمد في هذا الدرهم يوم القيامة . وروى عمر بن شبة عن عبد الله بن الأرقم وكان خازن عمر فقال إن عندنا حلية من حلية جلولاء وآنية من فضة فانظر ما تأمر فيها قال إذا رأيتني فارغا فآذني فجاءه يوما فقال إني أراك اليوم فارغا فما تأمر بتلك الحلية قال ابسط لي نطعا فبسطه ثم أتى بذلك المال فصب عليه فرفع يديه وقال اللهم إنك ذكرت هذا المال فقلت زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ اَلشَّهَواتِ مِنَ اَلنِّساءِ وَ اَلْبَنِينَ وَ اَلْقَناطِيرِ اَلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ اَلذَّهَبِ وَ اَلْفِضَّةِ ثم قلت لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا اللهم إني أسألك أن تضعه في حقه وأعوذ بك من شره ثم ابتدأ فقسمه بين الناس فجاءه ابن بنت له فقال يا أبتاه هب لي منه خاتما فقال اذهب إلى أمك تسقك سويقا فلم يعطه شيئا . وروى الطبري في تاريخه أن عمر خطب أم كلثوم بنت أبي بكر فأرسل فيها إلى
[ 222 ](1/3484)
عائشة فقالت الأمر إليها فقالت أم كلثوم لا حاجة لي فيه قالت لها عائشة ويلك أ ترغبين عن أمير المؤمنين قالت نعم إنه يغلق بابه ويمنع خيره ويدخل عابسا ويخرج عابسا فأرسلت عائشة إلى عمرو بن العاص فأخبرته فقال أنا أكفيك فأتى عمر فقال يا أمير المؤمنين بلغني خبر أعيذك بالله منه قال ما هو قال خطبت أم كلثوم بنت أبي بكر قال نعم أ فترغب بي عنها أم ترغب بها عني قال لا واحدة ولكنها حدثة نشأت تحت كنف أم المؤمنين في لين ورفق وفيك غلظة ونحن نهابك ولا نستطيع أن نردك عن خلق من أخلاقك فكيف بها إن خالفتك في شي ء فسطوت بها كنت قد خلفت أبا بكر في ولده بغير ما يحق عليك قال فكيف لي بعائشة وقد كلمتها فيها قال أنا لك بها وأدلك على خير منها أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب تعلق منها بسبب من رسول الله فصرفه عنها إلى أم كلثوم بنت فاطمة . وروى عاصم بن عمر قال بعث إلى عمر عند الهاجرة أو قال عند صلاة الصبح فأتيته فوجدته جالسا في المسجد فقال يا بني إني لم أكن أرى شيئا من هذا المال يحل لي قبل أن ألي إلا بحقه وما كان أحرم علي منه حين وليته فعاد أمانتي وإني كنت أنفقت عليك من مال الله شهرا ولست بزائدك عليه وقد أعطيتك تمري بالعالية فبعه وخذ ثمنه ثم ائت رجلا من تجار قومك فكن إلى جانبه فإذا ابتاع شيئا فاستشركه وأنفق ما تربحه عليك وعلى أهلك قال فذهبت ففعلت . وروى الحسن البصري أن عمر كان يمشي يوما في سكة من سكك المدينة إذ صبية تطيش على وجه الأرض تقعد مرة وتقوم أخرى من الضعف والجهد فقال عمر ما بال هذه قال عبد الله ابنه أ ما تعرف هذه قال لا قال إنها إحدى بناتك
[ 223 ](1/3485)
فأنكر عمر ذلك فقال هذه ابنتي من فلانة قال ويحك وما صيرها إلى ما أرى قال منعك ما عندك قال أنا منعتك ما عندي فما الذي منعك أن تطلب لبناتك ما يكسب الأقوام لبناتهم أنه والله ما لك عندي غير سهمك في المسلمين وسعك أو عجز عنك وكتاب الله بيني وبينك . وروى سعيد بن المسيب قال كتب عمر لما قسم العطاء وفضل من فضل للمهاجرين الذين شهدوا بدرا خمسة آلاف وكتب لمن لم يشهد بدرا أربعة آلاف فكان منهم عمر بن أبي سلمة المخزومي وأسامة بن زيد بن حارثة ومحمد بن عبد الله بن جحش وعبد الله بن عمر بن الخطاب فقال عبد الرحمن بن عوف وهو الذي كان يكتب يا أمير المؤمنين أن عبد الله بن عمر ليس من هؤلاء أنه وأنه يطريه ويثني عليه فقال له عمر ليس له عندي إلا مثل واحد منهم فتكلم عبد الله وطلب الزيادة وعمر ساكت فلما قضى كلامه قال عمر لعبد الرحمن اكتبه على خمسة آلاف واكتبني على أربعة آلاف فقال عبد الله لا أريد هذا فقال عمر والله لا أجتمع أنا وأنت على خمسة آلاف قم إلى منزلك فقام عبد الله كئيبا وقال أبو وائل استعملني ابن زياد على بيت المال بالكوفة فأتاني رجل بصك يقول فيه أعط صاحب المطبخ ثمانمائة درهم فقلت له مكانك ودخلت على ابن زياد فقلت له إن عمر استعمل عبد الله بن مسعود بالكوفة على القضاء وبيت المال واستعمل عثمان بن حنيف على سقي الفرات واستعمل عمار بن ياسر على الصلاة والجند فرزقهم كل يوم شاة واحدة فجعل نصفها وسقطها وأكارعها لعمار لأنه كان على الصلاة والجند وجعل لابن مسعود ربعها ولابن حنيف ربعها ثم قال إن مالا يؤخذ منه كل يوم شاة أن ذلك فيه لسريع فقال ابن زياد ضع المفتاح فاذهب حيث شئت .
[ 224 ](1/3486)
و روى أبو جعفر الطبري في التاريخ أن عمر بعث سلمة بن قيس الأشجعي إلى طائفة من الأكراد كانوا على الشرك فخرج إليهم في جيش سرحه معه من المدينة فلما انتهى إليهم دعاهم إلى الإسلام أو إلى أداء الجزية فأبوا فقاتلهم فنصره الله عليهم فقتل المقاتلة وسبي الذرية وجمع الرثة ووجد حلية وفصوصا وجواهر فقال لأصحابه أ تطيب أنفسكم أن نبعث بهذا إلى أمير المؤمنين فإنه غير صالح لكم وإن على أمير المؤمنين لمئونة وأثقالا قالوا نعم قد طابت أنفسنا فجعل تلك الجواهر في سفط وبعث به مع واحد من أصحابه وقال له سر فإذا أتيت البصرة فاشتر راحلتين فأوقرهما زادا لك ولغلامك وسر إلى أمير المؤمنين قال ففعلت فأتيت عمر وهو يغدي الناس قائما متكئا على عصا كما يصنع الراعي وهو يدور على القصاع فيقول يا يرفأ زد هؤلاء لحما زد هؤلاء خبزا زد هؤلاء مرقة فجلست في أدنى الناس فإذا طعام فيه خشونة طعامي الذي معي أطيب منه فلما فرغ أدبر فاتبعته فدخل دارا فاستأذنت ولم أعلم حاجبه من أنا فأذن لي فوجدته في صفة جالسا على مسح متكئا على وسادتين من أدم محشوتين ليفا وفي الصفة عليه ستر من صوف فنبذ إلي إحدى الوسادتين فجلست عليها فقال يا أم كلثوم أ لا تغدوننا فأخرج إليه خبزة بزيت في عرضها ملح لم يدق فقال يا أم كلثوم أ لا تخرجين إلينا تأكلين معنا فقالت إني أسمع عندك حس رجل قال نعم ولا أراه من أهل هذا البلد قال فذاك حين عرفت أنه لم يعرفني فقالت لو أردت أن أخرج إلى الرجال لكسوتني كما كسا الزبير امرأته وكما كسا طلحة امرأته قال أ وما يكفيك أنك أم كلثوم ابنة علي بن أبي طالب وزوجة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قالت إن ذاك عني لقليل الغناء قال كل فلو كانت راضية لأطعمتك أطيب من هذا فأكلت قليلا وطعامي الذي معي أطيب منه
[ 225 ](1/3487)
و أكل فما رأيت أحدا أحسن أكلا منه ما يتلبس طعامه بيده ولا فمه ثم قال اسقونا فجاءوا بعس من سلت فقال أعط الرجل فشربت قليلا وإن سويقي الذي معي لأطيب منه ثم أخذه فشربه حتى قرع القدح جبهته ثم قال الحمد لله الذي أطعمنا فأشبعنا وسقانا فأروانا إنك يا هذا لضعيف الأكل ضعيف الشرب فقلت يا أمير المؤمنين إن لي حاجة قال ما حاجتك قلت أنا رسول سلمة بن قيس فقال مرحبا بسلمة ورسوله فكأنما خرجت من صلبه حدثني عن المهاجرين كيف هم قلت كما تحب يا أمير المؤمنين من السلامة والظفر والنصر على عدوهم قال كيف أسعارهم قلت أرخص أسعار قال كيف اللحم فيهم فإنه شجرة العرب ولا تصلح العرب إلا على شجرتها قلت البقرة فيهم بكذا والشاة فيهم بكذا ثم سرنا يا أمير المؤمنين حتى لقينا عدونا من المشركين فدعوناهم إلى الذي أمرت به من الإسلام فأبوا فدعوناهم إلى الخراج فأبوا فقاتلناهم فنصرنا الله عليهم فقتلنا المقاتلة وسبينا الذرية وجمعنا الرثة فرأى سلمة في الرثة حلية فقال للناس إن هذا لا يبلغ فيكم شيئا أ فتطيب أنفسكم أن أبعث به إلى أمير المؤمنين قالوا نعم ثم استخرجت سفطي ففتحته فلما نظر إلى تلك الفصوص من بين أحمر وأخضر وأصفر وثب وجعل يده في خاصرته يصيح صياحا عاليا ويقول لا أشبع الله إذن بطن عمر يكررها فظن النساء أني جئت لأغتاله فجئن إلى الستر فكشفنه فسمعنه يقول لف ما جئت به يا يرفأ جأ عنقه قال فأنا أصلح سفطي ويرفأ يجأ عنقي ثم قال النجاء النجاء قلت يا أمير المؤمنين انزع بي فاحلمني فقال يا يرفأ أعطه راحلتين من إبل الصدقة
[ 226 ](1/3488)
فإذا لقيت أفقر إليهما منك فادفعهما إليه وقال أظنك ستبطئ أما والله لئن تفرق المسلمون في مشاتيهم قبل أن يقسم هذا فيهم لأفعلن بك وبصاحبك الفاقرة . قال فارتحلت حتى أتيت إلى سلمة بن قيس فقلت ما بارك الله فيما اختصصتني به اقسم هذا في الناس قبل أن تصيبني وإياك فاقرة فقسمه فيهم فإن الفص ليباع بخمسة دراهم وبستة وهو خير من عشرين ألفا . وجملة الأمر أن عمر لا يجوز أن يطعن فيه بمثل هذا ولا ينسب إلى شره وحب للمال فإن طريقته في التعفف والتقشف وخشونة العيش والزهد أظهر من كل ظاهر وأوضح من كل واضح وحاله في ذلك معلومة وعلى كل تقدير سواء كان يفعل ذلك دينا أو ورعا كما هو الظاهر من حاله أو كان يفعل ذلك ناموسا وصناعة ورياء وحيلة كما تزعم الشيعة فإنه عظيم لأنه إما أن يكون على غاية الدين والتقى أو يكون أقوى الناس نفسا وأشدهم عزما وكلا الأمرين فضيلة . والذي ذكره المحدثون وأرباب السير أن عمر لما طعن واحتمل في دمه إلى بيته وأوصى بما أوصى قال لابنه عبد الله انظروا ما علي من دين فحسبوه فوجدوه ستمائة وثمانين ألف درهم هكذا ورد في الأخبار أنها كانت ديونا للمسلمين ولم تكن من بيت المال فقال عمر انظر يا عبد الله فإن وفى به مال آل عمر فأده من أموالهم وإلا فسل في بني عدي بن كعب فإن لم تف به أموالهم فسل في قريش ولا تعدهم إلى غيرهم فهكذا وردت الرواية فلذلك قال قاضي القضاة فإن صح فالعذر كذا وكذا لأنه لم يثبت عنده صحة اقتراضه هذا المقدار من بيت المال . وقد روي أن عمر كان له نخل بالحجاز غلته كل سنة أربعون ألفا يخرجها في
[ 227 ](1/3489)
النوائب والحقوق ويصرفها إلى بني عدي بن كعب إلى فقرائهم وأراملهم وأيتامهم روى ذلك ابن جرير الطبري في التاريخ . فأما قول المرتضى أي حاجة بخشن العيش وجشب المأكل إلى اقتراض الأموال فجوابه أن المتزهد المتقشف قد يضيق على نفسه ويوسع على غيره إما من باب التكرم والإحسان أو من باب الصدقة وابتغاء الثواب وقد يصل رحمه وإن قتر على نفسه . وقد روى الطبري أن عمر دفع إلى أم كلثوم بنت أمير المؤمنين ع صداقها يوم تزوجها أربعين ألف درهم فلعل هذا الاقتراض من الناس كان لهذا الوجه ولغيره من الوجوه التي قل أن يخلو أحد منها(1/3490)
الطعن السادس
أنه عطل حد الله في المغيرة بن شعبة لما شهد عليه بالزناء ولقن الشاهد الرابع الامتناع عن الشهادة اتباعا لهواه فلما فعل ذلك عاد إلى الشهود فحدهم وضربهم فتجنب أن يفضح المغيرة وهو واحد وفضح الثلاثة مع تعطيله لحكم الله ووضعه في غير موضعه . أجاب قاضي القضاة فقال إنه لم يعطل الحد إلا من حيث لم تكمل الشهادة وبإرادة الرابع لئلا يشهد لا تكمل البينة وإنما تكمل بالشهادة . وقال إن قوله أرى وجه رجل لا يفضح الله به رجلا من المسلمين يجري في أنه سائغ صحيح مجرى ما روي عن النبي ص من أنه أتي بسارق فقال لا تقر .
[ 228 ](1/3491)
و قال ع لصفوان بن أمية لما أتاه بالسارق وأمر بقطعه فقال هو له يعني ما سرق هلا قبل أن تأتيني به فلا يمتنع من عمر ألا يحب أن تكمل الشهادة وينبه الشاهد على ألا يشهد وقال إنه جلد الثلاثة من حيث صاروا قذفه وإنه ليس حالهم وقد شهدوا كحال من لم تتكامل الشهادة عليه لأن الحيلة في إزالة الحد عنه ولما تتكامل الشهادة عليه ممكنة بتلقين وتنبيه غيره ولا حيلة فيما قد وقع من الشهادة فلذلك حدهم . قال وليس في إقامة الحد عليهم من الفضيحة ما في تكامل الشهادة على المغيرة لأنه يتصور بأنه زان ويحكم بذلك وليس كذلك حال الشهود لأنهم لا يتصورون بذلك وإن وجب في الحكم أن يجعلوا في حكم القذفة . وحكي عن أبي علي أن الثلاثة كان القذف قد تقدم منهم للمغيرة بالبصرة لأنهم صاحوا به من نواحي المسجد بأنا نشهد أنك زان فلو لم يعيدوا الشهادة لكان يحدهم لا محالة فلم يمكن في إزالة الحد عنهم ما أمكن في المغيرة . وحكي عن أبي علي في جواب اعتراضه عن نفسه بما روي عن عمر أنه كان إذا رآه يقول لقد خفت أن يرميني الله عز وجل بحجارة من السماء أن هذا الخبر غير صحيح ولو كان حقا لكان تأويله التخويف وإظهار قوة الظن لصدق القوم الذين شهدوا عليه ليكون ردعا له وذكر أنه غير ممتنع أن يحب ألا يفتضح لما كان متوليا للبصرة من قبله . ثم أجاب عن سؤال من سأله عن امتناع زياد من الشهادة وهل يقتضي الفسق أم لا فإن قال لا نعلم أنه كان يتمم الشهادة ولو علمنا ذلك لكان حيث ثبت في الشرع أن له
[ 229 ](1/3492)
السكوت لا يكون طعنا ولو كان ذلك طعنا وقد ظهر أمره لأمير المؤمنين ع لما ولاه فارس ولما ائتمنه على أموال الناس ودمائهم . اعترض المرتضى فقال إنما نسب إلى تعطيل الحد من حيث كان في حكم الثابت وإنما بتلقينه لم تكمل الشهادة لأن زيادا ما حضر إلا ليشهد بما شهد به أصحابه وقد صرح بذلك كما صرحوا قبل حضورهم ولو لم يكن هذا لما شهد القوم قبله وهم لا يعلمون هل حاله في ذلك الحكم كحالهم لكنه أحجم في الشهادة لما رأى كراهية متولي الأمر لكمالها وتصريحه بأنه لا يريد أن يعمل بموجبها . ومن العجائب أن يطلب الحيلة في دفع الحد عن واحد وهو لا يندفع إلا بانصرافه إلى ثلاثة فإن كان درء الحد والاحتيال في دفعه من السنن المتبعة فدرؤه عن ثلاثة أولى من درئه عن واحد . وقوله إن دفع الحد عن المغيرة ممكن ودفعه عن ثلاثة وقد شهدوا غير ممكن طريف لأنه لو لم يلقن الشاهد الرابع الامتناع عن الشهادة لاندفع الحد عن الثلاثة وكيف لا تكون الحيلة ممكنة فيما ذكره . وقوله إن المغيرة يتصور بصورة زان لو تكاملت الشهادة وفي هذا من الفضيحة ما ليس في حد الثلاثة غير صحيح لأن الحكم في الأمرين واحد لأن الثلاثة إذا حدوا يظن بهم الكذب وإن جوز أن يكونوا صادقين والمغيرة لو تكاملت الشهادة عليه بالزناء لظن به ذلك مع التجويز لأن يكون الشهود كذبه وليس في أحد إلا ما في الآخر . وما روي عنه ع من أنه أتي بسارق فقال له لا تقر إن كان صحيحا لا يشبه ما نحن فيه لأنه ليس في دفع الحد عن السارق إيقاع غيره في المكروه . وقصة المغيرة تخالف هذا لما ذكرناه .
[ 230 ](1/3493)
فأما قوله ع هلا قبل أن تأتيني به فلا يشبه كل ما نحن فيه لأنه بين أن ذلك القول يسقط الحد لو تقدم وليس فيه تلقين يوجب إسقاط الحد . فأما ما حكاه عن أبي علي من أن القذف من الثلاثة كان قد تقدم وأنهم لو لم يعيدوا الشهادة لكان يحدهم لا محالة فغير معروف والظاهر المروي خلافه وهو أنه حدهم عند نكول زياد عن الشهادة وأن ذلك كان السبب في إيقاع الحد بهم وتأوله عليه لقد خفت أن يرميني الله بحجارة من السماء لا يليق بظاهر الكلام لأنه يقتضي التندم والتأسف على تفريط وقع ولم يخاف أن يرمى بالحجارة وهو لم يدرأ الحد عن مستحق له ولو أراد الردع والتخويف للمغيرة لأتي بكلام يليق بذلك ولا يقتضي إضافة التفريط إلى نفسه وكونه واليا من قبله لا يقتضي أن يدرأ عنه الحد ويعدل به إلى غيره . وأما قوله إنا ما كنا نعلم أن زيادا كان يتمم الشهادة فقد بينا أن ذلك كان معلوما بالظاهر ومن قرأ ما روي في هذه القصة علم بلا شك أن حال زياد كحال الثلاثة في أنه إنما حضر للشهادة وإنما عدل عنها لكلام عمر . وقوله إن الشرع يبيح السكوت ليس بصحيح لأن الشرع قد حظر كتمان الشهادة . فأما استدلاله على أن زيادا لم يفسق بالإمساك عن الشهادة بتوليه أمير المؤمنين ع له فارس فليس بشي ء يعتمد لأنه لا يمتنع أن يكون قد تاب بعد ذلك وأظهر توبته لأمير المؤمنين ع فجاز أن يوليه وقد كان بعض أصحابنا يقول في قصة المغيرة شيئا طيبا وإن كان معتملا في باب الحجة كان يقول إن زيادا إنما امتنع من التصريح بالشهادة المطلوبة في الزناء وقد شهد بأنه شاهده بين شعبها الأربع وسمع نفسا عاليا فقد صح على المغيرة بشهادة الأربع جلوسه منها مجلس الفاحشة إلى غير ذلك
[ 231 ](1/3494)
من مقدمات الزناء وأسبابه فهلا ضم عمر إلى جلد الثلاثة تعزير هذا الذي قد صح عنده بشهادة الأربعة ما صح من الفاحشة مثل تعريك أذنه أو ما يجري مجراه من خفيف التعزير ويسيره وهل في العدول عن ذلك حتى عن لومه وتوبيخه والاستخفاف به إلا ما ذكروه من السبب الذي يشهد الحال به قلت أما المغيرة فلا شك عندي أنه زنى بالمرأة ولكني لست أخطئ عمر في درء الحد عنه وإنما أذكر أولا قصته من كتابي أبي جعفر محمد بن جرير الطبري وأبي الفرج علي بن الحسن الأصفهاني ليعلم أن الرجل زنى بها لا محالة ثم أعتذر لعمر في درء الحد عنه . قال الطبري في تاريخه وفي هذه السنة يعني سنة سبع عشرة ولى عمر أبا موسى البصرة وأمره أن يشخص إليه المغيرة بن شعبة وذلك لأمر بلغه عنه قال الطبري حدثني محمد بن يعقوب بن عتبة قال حدثني أبي قال كان المغيرة يخالف إلى أم جميل امرأة من بني هلال بن عامر وكان لها زوج من ثقيف هلك قبل ذلك يقال له الحجاج بن عبيد وكان المغيرة وكان أمير البصرة يختلف إليها سرا فبلغ ذلك أهل البصرة فأعظموه فخرج المغيرة يوما من الأيام إلى المرأة فدخل عليها وقد وضعوا عليهما الرصد فانطلق القوم الذين شهدوا عند عمر فكشفوا الستر فرأوه قد واقعها فكتبوا بذلك إلى عمر وأوفدوا إليه بالكتاب أبا بكرة فانتهى أبو بكرة إلى المدينة وجاء إلى باب عمر فسمع صوته وبينه وبينه حجاب فقال أبو بكرة فقال نعم قال لقد جئت لشر قال إنما جاء به المغيرة ثم قص عليه القصة وعرض عليه الكتاب فبعث أبا موسى عاملا وأمره
[ 232 ](1/3495)
أن يبعث إليه المغيرة فلما دخل أبو موسى البصرة وقعد في الإمارة أهدى إليه المغيرة عقيلة وقال إنني قد رضيتها لك فبعث أبو موسى بالمغيرة إلى عمر . وقال الطبري وروى الواقدي قال حدثني عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم الأنصاري عن أبيه عن مالك بن أوس بن الحدثان قال قدم المغيرة على عمر فتزوج في طريقه امرأة من بني مرة فقال له عمر إنك لفارغ القلب شديد الشبق طويل الغرمول ثم سأل عن المرأة فقيل له يقال لها الرقطاء كان زوجها من ثقيف وهي من بني هلال . قال الطبري وكتب إلي السري عن شعيب عن سيف أن المغيرة كان يبغض أبا بكرة وكان أبو بكرة يبغضه ويناغي كل واحد منهما صاحبه وينافره عند كل ما يكون منه وكانا متجاورين بالبصرة بينهما طريق وهما في مشربتين متقابلتين فهما في داريهما في كل واحدة منهما كوة مقابلة الأخرى فاجتمع إلى أبي بكرة نفر يتحدثون في مشربته فهبت ريح ففتحت باب الكوة فقام أبو بكرة ليصفقه فبصر بالمغيرة وقد فتحت الريح باب الكوة التي في مشربته وهو بين رجلي امرأة فقال للنفر قوموا فانظروا فقاموا فنظروا ثم قال اشهدوا قالوا ومن هذه قال أم جميل إحدى نساء بني عامر بن صعصعة فقالوا إنما رأينا أعجازا ولا ندري الوجوه فلما قامت صمموا وخرج المغيرة إلى الصلاة فحال أبو بكرة بينه وبين الصلاة وقال لا تصل بنا وكتبوا إلى عمر بذلك وكتب المغيرة إليه أيضا فأرسل عمر إلى أبي موسى فقال يا أبا موسى إني مستعملك وإني باعثك إلى الأرض التي قد باض بها الشيطان وفرخ فالزم ما تعرف ولا تستبدل فيستبدل الله بك فقال يا أمير المؤمنين أعني بعدة من
[ 233 ](1/3496)
أصحاب رسول الله ص من المهاجرين والأنصار فإني وجدتهم في هذه الأمة وهذه الأعمال كالملح لا يصلح الطعام إلا به قال عمر فاستعن بمن أحببت فاستعان بتسعة وعشرين رجلا منهم أنس بن مالك وعمران بن حصين وهشام بن عامر وخرج أبو موسى بهم حتى أناخ بالبصرة في المربد وبلغ المغيرة أن أبا موسى قد أناخ بالمربد فقال والله ما جاء أبو موسى زائرا ولا تاجرا ولكنه جاء أميرا فإنهم لفي ذلك إذ جاء أبو موسى حتى دخل عليهم فدفع إلى المغيرة كتابا من عمر إنه لأوجز كتاب كتب به أحد من الناس أربع كلم عزل فيها وعاتب واستحث وأمر أما بعد فإنه بلغني نبأ عظيم فبعثت أبا موسى فسلم ما في يديك إليه والعجل . كتب إلى أهل البصرة أما بعد فإني قد بعثت أبا موسى أميرا عليكم ليأخذ لضعيفكم من قويكم وليقاتل بكم عدوكم وليدفع عن ذمتكم وليجبي لكم فيئكم وليقسم فيكم وليحمي لكم طرقكم . فأهدى إليه المغيرة وليدة من مولدات الطائف تدعى عقيلة وقال إني قد رضيتها لك وكانت فارهة وارتحل المغيرة وأبو بكرة ونافع بن كلدة وزياد وشبل بن معبد البجلي حتى قدموا على عمر فجمع بينهم وبين المغيرة فقال المغيرة يا أمير المؤمنين سل هؤلاء الأعبد كيف رأوني مستقبلهم أم مستدبرهم وكيف رأوا المرأة وعرفوها فإن كانوا مستقبلي فكيف لم أستتر وإن كانوا مستدبري فبأي شي ء استحلوا النظر إلي في منزلي على امرأتي والله ما أتيت إلا امرأتي فبدأ بأبي بكرة فشهد عليه أنه رآه بين رجلي أم جميل وهو يدخله ويخرجه قال عمر كيف رأيتهما قال مستدبرهما قال كيف استثبت رأسها قال تجافيت فدعا بشبل بن معبد فشهد مثل ذلك وقال استقبلتهما واستدبرتهما وشهد نافع بمثل شهادة أبي بكرة ولم يشهد زياد بمثل شهادتهم قال
[ 234 ](1/3497)
رأيته جالسا بين رجلي امرأة ورأيت قدمين مرفوعتين تخفقان واستين مكشوفتين وسمعت حفزا شديدا قال عمر فهل رأيته فيها كالميل في المكحلة قال لا قال فهل تعرف المرأة قال لا ولكن أشبهها فأمر عمر بالثلاثة فجلدوا الحد وقرأ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اَللَّهِ هُمُ اَلْكاذِبُونَ فقال المغيرة الحمد لله الذي أخزاكم فصاح به عمر اسكت أسكت الله نأمتك أما والله لو تمت الشهادة لرجمتك بأحجارك فهذا ما ذكره الطبري . وأما أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني فإنه ذكر في كتاب الأغاني أن أحمد بن عبد العزيز الجوهري حدثه عن عمر بن شبة عن علي بن محمد عن قتادة قال كان المغيرة بن شعبة وهو أمير البصرة يختلف سرا إلى امرأة من ثقيف يقال لها الرقطاء فلقيه أبو بكرة يوما فقال له أين تريد قال أزور آل فلان فأخذ بتلابيبه وقال إن الأمير يزار ولا يزور . قال أبو الفرج وحدثني بحديثه جماعة ذكر أسماءهم بأسانيد مختلفة لا نرى الإطالة بذكرها أن المغيرة كان يخرج من دار الإمارة وسط النهار فكان أبو بكرة يلقاه فيقول له أين يذهب الأمير فيقول له إلى حاجة فيقول حاجة ما ذا إن الأمير يزار ولا يزور . قالوا وكانت المرأة التي يأتيها جارة لأبي بكرة فقال فبينا أبو بكرة في غرفة له مع أخويه نافع وزياد ورجل آخر يقال له شبل بن معبد وكانت غرفة جارته تلك محاذية غرفة أبي بكرة فضربت الريح باب غرفة المرأة ففتحته فنظر القوم فإذا هم بالمغيرة ينكحها فقال أبو بكرة هذه بلية قد ابتليتم بها فانظروا فنظروا حتى أثبتوا
[ 235 ](1/3498)
فنزل أبو بكرة فجلس حتى خرج عليه المغيرة من بيت المرأة فقال له أبو بكرة إنه قد كان من أمرك ما قد علمت فاعتزلنا فذهب المغيرة وجاء ليصلي بالناس الظهر فمنعه أبو بكرة وقال لا والله لا تصلي بنا وقد فعلت ما فعلت فقال الناس دعوه فليصل إنه الأمير واكتبوا إلى عمر فكتبوا إليه فورد كتابه أن يقدموا عليه جميعا المغيرة والشهود . قال أبو الفرج وقال المدائني في حديثه فبعث عمر بأبي موسى وعزم عليه ألا يضع كتابه من يده حتى يرحل المغيرة . قال أبو الفرج وقال علي بن هاشم في حديثه إن أبا موسى قال لعمر لما أمره أن يرحل المغيرة من وقته أ وخير من ذلك يا أمير المؤمنين نتركه فيتجهز ثلاثا ثم يخرج . قالوا فخرج أبو موسى حتى صلى صلاة الغداة بظهر المربد وأقبل إنسان فدخل على المغيرة فقال إني رأيت أبا موسى قد دخل المسجد الغداة وعليه برنس وها هو في جانب المسجد فقال المغيرة إنه لم يأت زائرا ولا تاجرا قالوا وجاء أبو موسى حتى دخل على المغيرة ومعه صحيفة مل ء يده فلما رآه قال أمير فأعطاه أبو موسى الكتاب فلما ذهب يتحرك عن سريره قال له مكانك تجهز ثلاثا . قال أبو الفرج وقال آخرون إن أبا موسى أمره أن يرحل من وقته فقال المغيرة قد علمت ما وجهت له فألا تقدمت وصليت فقال ما أنا وأنت في هذا الأمر إلا سواء فقال المغيرة إني أحب أن أقيم ثلاثا لأتجهز فقال أبو موسى قد عزم علي أمير المؤمنين ألا أضع عهدي من يدي إذا قرأته حتى أرحلك إليه قال إن شئت شفعتني وأبررت قسم أمير المؤمنين بأن تؤجلني إلى الظهر وتمسك الكتاب في يدك . قالوا فلقد رئي أبو موسى مقبلا ومدبرا وأن الكتاب في يده معلق بخيط فتجهز المغيرة وبعث إلى أبي موسى بعقيلة جارية عربية من سبي اليمامة من
[ 236 ](1/3499)
بني حنيفة ويقال إنها مولدة الطائف ومعها خادم وسار المغيرة حين صلى الظهر حتى قدم على عمر . قال أبو الفرج فقال محمد بن عبد الله بن حزم في حديثه إن عمر قال له لما قدم عليه لقد شهد عليك بأمر إن كان حقا لأن تكون مت قبل ذلك كان خيرا لك . قال أبو الفرج قال أبو زيد عمر بن شبة فجلس له عمر ودعا به وبالشهود فتقدم أبو بكرة فقال أ رأيته بين فخذيها قال نعم والله لكأني أنظر إلى تشريم جدري بفخذيها قال المغيرة لقد ألطفت النظر قال أبو بكرة لم آل أن أثبت ما يخزيك الله به فقال عمر لا والله حتى تشهد لقد رأيته يلج فيها كما يلج المرود في المكحلة قال نعم أشهد على ذلك فقال عمر اذهب عنك مغيرة ذهب ربعك . قال أبو الفرج ويقال إن عليا ع هو قائل هذا القول ثم دعا نافعا فقال علام تشهد قال على مثل شهادة أبي بكرة فقال عمر لا حتى تشهد أنك رأيته يلج فيها ولوج المرود في المكحلة قال نعم حتى بلغ قذذه فقال اذهب عنك مغيرة ذهب نصفك ثم دعا الثالث وهو شبل بن معبد فقال علام تشهد قال على مثل شهادة صاحبي فقال اذهب عنك مغيرة ذهب ثلاثة أرباعك قال فجعل المغيرة يبكي إلى المهاجرين وبكى إلى أمهات المؤمنين حتى بكين معه قال ولم يكن زياد حضر ذلك المجلس فأمر عمر أن ينحى الشهود الثلاثة وألا يجالسهم أحد من أهل المدينة وانتظر قدوم زياد فلما قدم جلس في المسجد واجتمع رءوس المهاجرين والأنصار قال المغيرة وكنت قد أعددت كلمة أقولها فلما رأى عمر زيادا مقبلا قال إني لأرى رجلا لن يخزي الله على لسانه رجلا من المهاجرين .
[ 237 ](1/3500)
قال أبو الفرج وفي حديث أبي زيد بن عمر بن شبة عن السري عن عبد الكريم بن رشيد عن أبي عثمان النهدي أنه لما شهد الشاهد الأول عند عمر تغير الثالث لذلك لون عمر ثم جاء الثاني فشهد فانكسر لذلك انكسارا شديدا ثم جاء فشهد فكان الرماد نثر على وجه عمر فلما جاء زياد جاء شاب يخطر بيديه فرفع عمر رأسه إليه وقال ما عندك أنت يا سلح العقاب وصاح أبو عثمان النهدي صيحة تحكي صيحة عمر قال عبد الكريم بن رشيد لقد كدت أن يغشى علي لصيحته . قال أبو الفرج فكان المغيرة يحدث قال فقمت إلى زياد فقلت لا مخبأ لعطر بعد عروس يا زياد أذكرك الله وأذكرك موقف القيامة وكتابه ورسوله أن تتجاوز إلى ما لم تر ثم صحت يا أمير المؤمنين أن هؤلاء قد احتقروا دمي فالله الله في دمي قال فترنقت عينا زياد واحمر وجهه وقال يا أمير المؤمنين أما إن أحق ما حق القوم فليس عندي ولكني رأيت مجلسا قبيحا وسمعت نفسا حثيثا وانتهارا ورأيته متبطنها فقال عمر أ رأيته يدخل ويخرج كالميل في المكحلة قال لا . قال أبو الفرج وروى كثير من الرواة أنه قال رأيته رافعا برجليها ورأيت خصيتيه مترددتين بين فخذيها وسمعت حفزا شديدا وسمعت نفسا عاليا فقال عمر أ رأيته يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة قال لا فقال عمر الله أكبر قم يا مغيرة إليهم فاضربهم فجاء المغيرة إلى أبي بكرة فضربه ثمانين وضرب الباقين . وروى قوم أن الضارب لهم الحد لم يكن المغيرة وأعجب عمر قول زياد ودرأ الحد عن المغيرة فقال أبو بكرة بعد أن ضرب أشهد أن المغيرة فعل كذا وكذا فهم عمر بضربه فقال له علي ع إن ضربته رجمت صاحبك ونهاه عن ذلك .
[ 238 ](1/3501)
قال أبو الفرج يعني إن ضربه تصير شهادته شهادتين فيوجب بذلك الرجم على المغيرة . قال فاستتاب عمر أبا بكرة فقال إنما تستتيبني لتقبل شهادتي قال أجل قال فإني لا أشهد بين اثنين ما بقيت في الدنيا قال فلما ضربوا الحد قال المغيرة الله أكبر الحمد لله الذي أخزاكم فقال عمر اسكت أخزى الله مكانا رأوك فيه . قال وأقام أبو بكرة على قوله وكان يقول والله ما أنسي قط فخذيها وتاب الاثنان فقبل شهادتهما وكان أبو بكرة بعد ذلك إذا طلب إلى شهادة قال اطلبوا غيري فإن زيادا أفسد علي شهادتي . وقال أبو الفرج وروى إبراهيم بن سعيد عن أبيه عن جده قال لما ضرب أبو بكرة أمرت أمه بشاة فذبحت وجعل جلدها على ظهره قال إبراهيم فكان أبي يقول ما ذاك إلا من ضرب شديد . قال أبو الفرج فحدثنا الجوهري عن عمر بن شبة عن علي بن محمد عن يحيى بن زكريا عن مجالد عن الشعبي قال كانت الرقطاء التي رمي بها المغيرة تختلف إليه في أيام إمارته الكوفة في خلافة معاوية في حوائجها فيقضيها لها . قال أبو الفرج وحج عمر بعد ذلك مرة فوافق الرقطاء بالموسم فرآها وكان المغيرة يومئذ هناك فقال عمر للمغيرة ويحك أ تتجاهل علي والله ما أظن أبا بكرة كذب عليك وما رأيتك إلا خفت أن أرمي بحجارة من السماء . قال وكان علي ع بعد ذلك يقول إن ظفرت بالمغيرة لأتبعته الحجارة . قال أبو الفرج فقال حسان بن ثابت يهجو المغيرة ويذكر هذه القصة
لو أن اللؤم ينسب كان عبدا
قبيح الوجه أعور من ثقيف
[ 239 ]
تركت الدين والإسلام لما
بدت لك غدوة ذات النصيف
و راجعت الصبا وذكرت لهوا
مع القينات في العمر اللطيف(1/3502)
قال أبو الفرج وروى المدائني أن المغيرة لما شخص إلى عمر في هذه الوقعة رأى في طريقه جارية فأعجبته فخطبها إلى أبيها فقال له وأنت على هذه الحال قال وما عليك إن أبق فهو الذي تريد وإن أقتل ترثني فزوجه . وقال أبو الفرج قال الواقدي كانت امرأة من بني مرة تزوجها بالرقم فلما قدم بها على عمر قال إنك لفارغ القلب طويل الشبق . فهذه الأخبار كما تراها تدل متأملها على أن الرجل زنى بالمرأة لا محالة وكل كتب التواريخ والسير تشهد بذلك وإنما اقتصرنا نحن منها على ما في هذين الكتابين . وقد روى المدائني أن المغيرة كان أزنى الناس في الجاهلية فلما دخل في الإسلام قيده الإسلام وبقيت عنده منه بقية ظهرت في أيام ولايته البصرة . وروى أبو الفرج في كتاب الأغاني عن الجاحظ أبي عثمان عمرو بن بحر قال كان المغيرة بن شعبة والأشعث بن قيس وجرير بن عبد الله البجلي يوما متوافقين بالكناسة في نفر وطلع عليهم أعرابي فقال لهم المغيرة دعوني أحركه قالوا لا تفعل فإن للأعراب جوابا يؤثر قال لا بد قالوا فأنت أعلم فقال له يا أعرابي أ تعرف المغيرة بن شعبة قال نعم أعرفه أعور زانيا فوجم ثم تجلد فقال أ تعرف الأشعث بن قيس قال نعم ذاك رجل لا يعرى قومه قال وكيف ذاك قال لأنهم حاكة . قال فهل تعرف جرير بن عبد الله قال كيف لا أعرف رجلا لولاه ما عرفت عشيرته فقالوا قبحك الله فإنك شر جليس هل تحب أن يوقر لك بعيرك هذا مالا وتموت
[ 240 ](1/3503)
أكرم العرب موتة قال فمن يبلغه إذن أهلي فانصرفوا عنه فتركوه قال أبو الفرج وروى علي بن سليمان الأخفس قال خرج المغيرة بن شعبة وهو يومئذ على الكوفة ومعه الهيثم بن التيهان النخعي غب مطر يسير في ظهر الكوفة والنجف فلقي ابن لسان الحمرة أحد بني تيم الله بن ثعلبة وهو لا يعرف المغيرة ولا يعرفه المغيرة فقال له من أين أقبلت يا أعرابي قال من السماوة قال كيف تركت الأرض خلفك قال عريضة أريضة قال فكيف كان المطر قال عفى الأثر وملأ الحفر قال فمن أنت قال من بكر بن وائل قال كيف علمك بهم قال إن جهلتهم لم أعرف غيرهم قال فما تقول في بني شيبان قال سادتنا وسادة غيرنا قال فما تقول في بني ذهل قال سادة نوكى قال فقيس بن ثعلبة قال إن جاورتهم سرقوك وإن ائتمنتهم خانوك قال فبنو تيم الله بن ثعلبة قال رعاء النقد وعراقيب الكلاب قال فبني يشكر قال صريح تحسبه مولى . قال هشام بن الكلبي لأن في ألوانهم حمرة قال فعجل قال أحلاس الخيل قال فعبد القيس قال يطعمون الطعام ويضربون الهام قال فعنزة قال لا تلتقي بهم الشفتان لؤما قال فضبيعة أضجم قال جدعا وعقرا قال فأخبرني عن النساء قال النساء أربع ربيع مربع وجميع مجمع وشيطان سمعمع وغل لا يخلع قال فسر قال أما الربيع المربع فالتي إذا نظرت إليها سرتك وإذا أقسمت عليها برتك وأما التي هي جميع مجمع فالمرأة تتزوجها ولها نسب فيجتمع نسبها إلى نسبك وأما الشيطان السمعمع فالكالحة في وجهك إذا دخلت المولولة في أثرك
[ 241 ](1/3504)
إذا خرجت وأما الغل الذي لا يخلع فبنت عمك السوداء القصيرة الفوهاء الدميمة التي قد نثرت لك بطنها إن طلقتها ضاع ولدك وإن أمسكتها فعلى جدع أنفك قال المغيرة بل أنفك قال فما تقول في أميرك المغيرة بن شعبة قال أعور زان فقال الهيثم بن الأسود فض الله فاك ويلك إنه الأمير المغيرة قال إنها كلمة تقال فانطلق به المغيرة إلى منزله وعنده يومئذ أربع نسوة وستون أو سبعون أمه وقال ويحك هل يزني الحر وعنده مثل هؤلاء ثم قال لهن ارمين إليه بحليكن ففعلن فخرج بمل ء كسائه ذهبا وفضة . وإنما أوردنا هذين الخبرين ليعلم السامع أن الخبر بزناه كان شائعا مشهورا مستفيضا بين الناس ولأنهما يتضمنان أدبا وكتابنا هذا موضوع للأدب . وإنما قلنا إن عمر لم يخطئ في درء الحد عنه لأن الإمام يستحب له ذلك وإن غلب على ظنه أنه قد وجب الحد عليه
روى المدائني أن أمير المؤمنين عليا ع أتي برجل قد وجب عليه الحد فقال أ هاهنا شهود قالوا نعم قال فأتوني بهم إذا أمسيتم ولا تأتوني إلا معتمين فلما أعتموا جاءوه فقال لهم نشدت الله رجلا ما لي عنده مثل هذا الحد إلا انصرف قال فما بقي منهم أحد فدرأ عنه الحد : ذكر هذا الخبر أبو حيان في كتاب البصائر في الجزء السادس منه : والخبر المشهور الذي كاد يكون متواترا
أن رسول الله ص قال ادرءوا الحدود بالشبهات ومن تأمل المسائل الفقهية في باب الحدود علم أنها بنيت على الإسقاط عند أدنى سبب وأضعفه أ لا ترى أنه لو أقر بالزناء ثم رجع عن إقراره قبل إقامة الحد أو في وسطه قبل رجوعه وخلي سبيله .
[ 242 ](1/3505)
و قال أبو حنيفة وأصحابه يستحب للإمام أن يلقن المقر الرجوع ويقول له تأمل ما تقول لعلك مسستها أو قبلتها ويجب على الإمام أن يسأل الشهود ما الزناء وكيف هو وأين زنى وبمن زنى ومتى زنى وهل رأوه وطئها في فرجها كالميل في المكحلة فإذا ثبت كل ذلك سأل عنهم فلا يقيم الحد حتى يعدلهم القاضي في السر والعلانية ولا يقام الحد بإقرار الإنسان على نفسه حتى يقر أربع مرات في أربعة مجالس كلما أقر رده القاضي وإذا تم إقراره سأله القاضي عن الزناء ما هو وكيف هو وأين زنى وبمن زنى ومتى زنى . قال الفقهاء ويجب أن يبتدئ الشهود برجمه إذا تكاملت الشهادة فإن امتنعوا من الابتداء برجمه سقط الحد . قالوا ولا حد على من وطئ جارية ولده أو ولد ولده وإن قال علمت أنها على حرام وإن وطئ جارية أبيه أو أمه أو أخته وقال ظننت أنها تحل لي فلا حد عليه ومن أقر أربع مرات في مجالس مختلفة بالزناء بفلانة فقالت هي بل تزوجني فلا حد عليه وكذلك إن أقرت المرأة بأنه زنى بها فلان فقال الرجل بل تزوجتها فلا حد عليها قالوا وإذا شهد الشهود بحد متقادم من الزناء لم يمنعهم عن إقامته بعدهم عن الإمام لم تقبل شهادتهم إذا كان حد الزناء وإن شهدوا أنه زنى بامرأة ولا يعرفونها لم يحد لم تقبل شهادتهم إذا كان حد الزناء وإن شهدوا أنه زنى بامرأة ولا يعرفونها لم يحد وإن شهد اثنان أنه زنى بامرأة بالكوفة وآخران أنه زنى بالبصرة درئ الحد عنهما جميعا وإن شهد أربعة على رجل أنه زنى بامرأة بالنخيلة عند طلوع الشمس من يوم كذا وكذا وأربعة شهدوا بهذه المرأة عند طلوع الشمس ذلك اليوم بدير هند درئ الحد عنه وعنها وعنهم جميعا وإن شهد أربعة على شهادة أربعة بالزناء لم يحد المشهود عليه .
[ 243 ](1/3506)
و هذه المسائل كلها مذهب أبي حنيفة ويوافقه الشافعي في كثير منها ومن تأملها علم أن مبني الحدود على الإسقاط بالشبهات وإن ضعفت . فإن قلت كل هذا لا يلزم المرتضى لأن مذهبه في فروع الفقه مخالف لمذهب الفقهاء قلت ذكر محمد بن النعمان وهو شيخ المرتضى الذي قرأ عليه فقه الإمامية في كتاب المقنعة أن الشهود الأربعة إن تفرقوا في الشهادة بالزناء ولم يأتوا بها مجتمعين في وقت في مكان واحد سقط الحد عن المشهود عليه ووجب عليهم حد القذف . قال وإذا أقر الإنسان على نفسه بالزناء أربع مرات على اختيار منه للإقرار وجب عليه الحد وإن أقر مرة أو مرتين أو ثلاثا لم يجب عليه الحد بهذا الإقرار وللإمام أن يؤدبه بإقراره على نفسه حسب ما يراه فإن كان أقر على امرأة بعينها جلد حد القذف . قال وإن جعل في الحفرة ليرجم وهو مقر على نفسه بالزناء ففر منها ترك ولم يرد لأن فراره رجوع عن الإقرار وهو أعلم بنفسه . قال ولا يجب الرجم على المحصن الذي يعده الفقهاء محصنا وهو من وطئ امرأة في نكاح صحيح وإنما الإحصان عندنا من له زوجة أو ملك يمين يستغني بها عن غيرها ويتمكن من وطئها فإن كانت مريضة لا يصل إليها بنكاح أو صغيرة لا يوطأ مثلها أو غائبة عنه أو محبوسة لم يكن محصنا بها ولا يجب عليه الرجم . قال ونكاح المتعة لا يحصن عندنا وإذا كان هذا مذهب الإمامية فقد اتفق قولهم وأقوال الفقهاء في سقوط الرجم بأدنى سبب والذي رواه أبو الفرج الأصفهاني أن زيادا لم يحضر في المجلس الأول وأنه حضر في مجلس ثان فلعل إسقاط الحد كان لهذا . ثم نعود إلى تصفح ما اعترض به المرتضى كلام قاضي القضاة .
[ 244 ](1/3507)
أما قوله كان الحد في حكم الثابت فإن الله تعالى لم يوجب الحد إلا إذا كان ثابتا ولم يوجبه إذا كان في حكم الثابت ويسأل عن معنى قوله في حكم الثابت هل المراد بذلك أنه قريب من الثبوت وإن لم يثبت حقيقة أم المراد أنه قد ثبت وتحقق فإن أراد الثاني قيل له لا نسلم أنه ثبت لأن الشهادة لم تتم وقد اعترف المرتضى بذلك وأقر بأن الشهادة لم تكمل ولكنه نسب ذلك إلى تلقين عمر وإن أراد الأول قيل له ليس يكفي في وحوب الحد أن يكون قريبا إلى الثبوت لأنه لو كفى ذلك لحد الإنسان بشهادة ثلاثة من الشهود . وأما قوله إن عمر لقنه وكره أن يشهد فلا ريب أن الأمر وقع كذلك وقد قلنا إن هذا جائز بل مندوب إليه وروينا عن أمير المؤمنين ما رويناه وذكرنا قول الفقهاء في ذلك وإنهم استحبوا أن يقول القاضي للمقر بالزناء تأمل ما تقوله لعلك مسستها أو قبلتها . فأما قول المرتضى إنه درأ الحد عن واحد وكان درؤه عن ثلاثة أولى فقد أجاب قاضي القضاة عنه بأنه ما كان يمكن دفعه عنهم فأما قول المرتضى بل قد كان يمكن دفعه عنهم بألا يلقن الرابع الامتناع من الشهادة فقد أجاب قاضي القضاة عنه بأن الزناء ووسم الإنسان به أعظم وأشنع وأفحش من أن يوسم بالكذب والافتراء وعقوبة الزاني أعظم من عقوبة الكاذب القاذف عند الله تعالى في دار التكليف يبين ذلك أن الله تعالى أوجب جلد ثلاثة من المسلمين لتخليص واحد شهد الثلاثة عليه بالزناء فلو لم يكن هذا المعنى ملحوظا في نظر الشارع لما أوجبه فكيف يقول المرتضى ليس لأحد الأمرين إلا ما في الآخر . وأما خبر السارق الذي رواه قاضي القضاة وقول المرتضى في الاعتراض عليه ليس في دفع الحد عن السارق إيقاع غيره في المكروه وقصة المغيرة تخالف هذا فليس بجيد
[ 245 ](1/3508)
لأن في دفع الحد عن السارق إضاعة مال المسلم الذي سرق السارق في زمانه وفيه أيضا إغراء أهل الفساد بالسرقة لأنهم إذا لم يقم الحد عليهم لمكان الجحود أقدموا على سرقة الأموال فلو لم يكن عناية الشارع بالدماء أكثر من عنايته بغيره من الأموال والأبشار لما قال للمكلف لا تقر بالسرقة ولا بالزناء ولما رجح واحدا على ثلاثة وهان في نظره أن تضرب أبشارهم بالسياط وهم ثلاثة حفظا لدم واحد . وأما حديث صفوان وقول المرتضى فلا يشبه كل ما نحن فيه لأن الرسول ص بين أن ذلك القول يسقط الحد لو تقدم وليس فيه تلقين يوجب إسقاط الحد . فجوابه أن قاضي القضاة لم يقصد بإيراد هذا الخبر إلا تشييد قول عمر أرى وجه رجل لا يفضح الله به رجلا من المسلمين لأن عمر كره فضيحة المغيرة كما كره رسول الله ص فضيحة السارق الذي قال صفوان هو له وقال ع هلا قبل أن تأتيني به أي هلا قلت ذلك قبل أن تحضره فلم يفتضح بين الناس فإن قولك هو له وإن درأ الحد إلا أنه لا يدرأ الفضيحة . فأما ما حكاه قاضي القضاة عن أبي علي من أن القذف قد كان تقدم منهم وهم بالبصرة فقد ذكرنا في الخبر ما يدل على ذلك فبطل قول المرتضى أن ذلك غير معروف وأن الظاهر المروي خلافه . وأما قول عمر للمغيرة ما رأيتك إلا خفت أن يرميني الله بحجارة من السماء فالظاهر أن مراده ما ذكره قاضي القضاة من التخويف وإظهار قوة الظن بصدق الشهود ليكون ردعا له ولذلك ورد في الخبر ما أظن أبا بكرة كذب عليك تقديره أظنه لم يكذب ولو كان كما قال المرتضى ندما وتأسفا على تفريط وقع لأقام الحد عليه ولو بعد حين ومن الذي كان يمنعه من ذلك لو أراده .
[ 246 ](1/3509)
و قوله لم يخاف أن يرمى بالحجارة وهو لم يدرأ الحد عن مستحق له جوابه أن هذا القول يجري مجرى التهويل والتخويف للمغيرة كيلا يقدم على أن يعرض نفسه لشبهه فيما بعد . فأما قول قاضي القضاة أنه غير ممتنع أن يحب ألا يفتضح لما كان متوليا للبصرة من قبله وقول المرتضى معترضا عليه إن كونه واليا من قبله لا يقتضي أن يدرأ عنه الحد فغير لازم لأن قاضي القضاة ما جعل كونه واليا من قبله مقتضيا أن يدرأ عنه الحد وإنما قاله في جواب من أنكر على عمر محبته لدرء الحد عنه فقال إنه غير قبيح ولا يحرم محبة درء الحد عنه لأنه وال من قبله فجعل الولاية للبصرة مسوغة لمحبة عمر لدفع الحد عنه لا مسوغة لدفع الحد عنه وبين الأمرين فرق واضح . وأما قول المرتضى إن الشرع حظر كتمان الشهادة فصحيح فيما عدا الحدود فأما في الحدود فلا وقد ورد
في الخبر الصحيح من رأى على أخيه شيئا من هذه القاذورات وستر ستره الله يوم يفتضح المجرمون . فأما قول المرتضى هب أن الحد سقط أ ما اقتضت الحال تأديب المغيرة بنوع من أنواع التعزير وإن خف فكلام لازم لا جواب عنه ولو فعله عمر لبرئ من التهمة براءة الذئب من دم يوسف وما أدري كيف فاته ذلك مع تشدده في الدين وصلابته في السياسة ولعله كان له مانع عن اعتماد ذلك لا نعلمه(1/3510)
الطعن السابع
أنه كان يتلون في الأحكام حتى روي أنه قضى في الجد بسبعين قضية وروي
[ 247 ]
مائة قضية وأنه كان يفضل في القسمة والعطاء وقد سوى الله تعالى بين الجميع وأنه قال في الأحكام من جهة الرأي والحدس والظن . أجاب قاضي القضاة عن ذلك فقال مسائل الاجتهاد يسوغ فيها الاختلاف والرجوع عن رأي إلى رأي بحسب الأمارات وغالب الظن وقد ذكر أن ذلك طريقة أمير المؤمنين ع في أمهات الأولاد ومقاسمة الجد مع الإخوة ومسألة الحرام . قال وإنما الكلام في أصل القياس والاجتهاد فإذا ثبت ذلك خرج من أن يكون طعنا وقد ثبت أن أمير المؤمنين ع كان يولي من يرى خلاف رأيه كابن عباس وشريح ولا يمنع زيدا وابن مسعود من الفتيا مع الاختلاف بينه وبينهما . فأما ما روي من السبعين قضية فالمراد به في مسائل من الجد لأن مسألة واحدة لا يوجد فيها سبعون قضية مختلفة وليس في ذلك عيب بل يدل على سعة علمه . وقال قد صح في زمان الرسول ص مثل ذلك لأنه لما شاور في أمر الأسرى أبا بكر أشار ألا يقتلهم وأشار عمر بقتلهم فمدحهما جميعا فما الذي يمنع من كون القولين صوابا من المجتهدين ومن الواحد في حالين . وبعد فقد ثبت أن اجتهاد الحسن ع في طلب الإمامة كان بخلاف اجتهاد الحسين ع لأنه سلم الأمر وتمكنه أكثر من تمكن الحسين ع ولم يمنع ذلك من كونهما ع مصيبين .
[ 248 ](1/3511)
اعترض المرتضى هذا الجواب فقال لا شك أن التلون في الأحكام والرجوع من قضاء إلى قضاء إنما يكون عيبا وطعنا إذا أبطل الاجتهاد الذي يذهبون إليه فأما لو ثبت لم يكن ذلك عيبا فأما الدعوى على أمير المؤمنين ع أنه تنقل في الأحكام ورجع من مذهب إلى آخر فإنها غير صحيحة ولا نسلمه ونحن ننازعه فيها وهو لا ينازعنا في تلون صاحبه وتنقله فلم يشتبه الأمران . وأظهر ما روي في ذلك خبر أمهات الأولاد وقد بينا فيما سلف من الكتاب ما فيه وقلنا إن مذهبه في بيعهن كان واحدا غير مختلف وإن كان قد وافق عمر في بعض الأحوال لضرب من الرأي فأما توليته لمن يرى خلاف رأيه فليس ذلك لتسويغه الاجتهاد الذي يذهبون إليه بل لما بيناه من قبل أنه ع كان غير متمكن من اختياره وأنه يجري أكثر الأمور مجراها المتقدم للسياسة والتدبير وهذا السبب في أنه لم يمنع من خالفه في الفتيا . فأما قوله إن السبعين قضية لم تكن في مسألة واحدة وإنما كانت في مسائل من الجد فكلا الأمرين واحد فيما قصدناه لأن حكم الله تعالى لا يختلف في المسألة الواحدة والمسائل فأما أمر الأسارى فإن صح فإنه لا يشبه أحكام الدين المبنية على العلم واليقين لأنه لا سبيل لأبي بكر وعمر إلى المشورة في أمر الأسارى إلا من طريق الظن والحسبان وأحكام الدين معلومة وإلى العلم بها سبيل . وما ادعاه من اجتهاد الحسن بخلاف اجتهاد الحسين ليس على ما ظنه لأن ذلك لم يكن عن اجتهاد وظن بل كان عن علم ويقين فمن أين له أنهما عملا على الظن فما نراه اعتمد على حجة ومن أين له أن تمكن الحسن كان أكثر من تمكن الحسين
[ 249 ](1/3512)
على أن هذا لو كان على ما قاله لم يحسن من هذا التسليم ومن ذاك القتال لأن المقاتل قد يكون مغررا ملقيا بيديه إلى التهلكة والمسالم مضيعا للأمر مفرطا وإذا كان عند صاحب الكتاب التسليم والقتال إنما كانا عن ظن وأمارات فليس يجوز أن يغلب على الظن بأن الرأي في القتال مع ارتفاع أمارات التمكن ولا أن يغلب في الظن المسالمة مع قوة أمارات التمكن . قلت أما القول في صحة الاجتهاد وبطلانه فله مواضع غير هذا الموضع وكذلك القول في تقية الإمام واستصلاحه وفعله ما لا يسوغ لضرب من السياسة والتدبير . وأما مسائل الجد فلم يعترض المرتضى قول قاضي القضاة فيها وأما قاضي القضاة فقد استبعد بل أحال أن تكون مسألة واحدة بعينها تحتمل سبعين حكما مختلفة فحمل الحديث على أن عمر أفتى في باب ميراث الأجداد والجدات بسبعين فتيا في سبعين مسألة مختلفة الصور وذلك دليل على علمه وفقهه وتمكنه من البحث في تفاريع المسائل الشرعية هذا هو جواب قاضي القضاة فكيف يعترض بقوله كلا الأمرين واحد فيما قصدناه لأن حكم الله لا يختلف في المسألة الواحدة والمسائل المتعددة أ ليس هذا اعتراض من ظن أن قاضي القضاة قد اعترض بتناقض أحكامه ولكن لا في مسألة بعينها بل في مسائل من باب ميراث الجد ولم يقصد قاضي القضاة ما ظنه والوجه أن يعترض قاضي القضاة فيقال إن الرواة كلهم اتفقوا على أن عمر تلون تلونا شديدا في الجد مع الإخوة كيف يقاسمهم وهي مسألة واحدة فقضى فيها بسبعين قضية فأخرجوا الرواية مخرج التعجب من تناقض فتاويه ولم يخرج أحد من المحدثين الرواية مخرج المدح له بسعة تفريعه في الفقه والمسائل فلا يجوز صرف الرواية عن الوضع الذي وردت عليه .
[ 250 ](1/3513)
و قول قاضي القضاة كيف تحتمل مسألة واحدة سبعين وجها جوابه أنه لم يقع الأمر بموجب ما توهمه بل المراد أن قوما تحاكموا إليه في هذه المسألة مثلا اليوم فأفتى فيها بفتيا نحو أن يقول في جد وبنت وأخت للبنت النصف والباقي بين الجد والأخت للذكر مثل حظ الأنثيين وهو قول زيد بن ثابت ثم يتحاكم إليه بعد أيام في هذه المسألة بعينها قد وضعت لقوم آخرين فيقول للبنت النصف وللجد السدس والباقي للأخت وهو المذهب المحكي عن علي ع وذلك بأن يتغلب على ظنه ترجيح هذه الفتيا على ما كان أفتى به من قبل ثم تقع هذه المسألة بعينها بعد شهر آخر فيفتي فيها بفتيا أخرى فيقول للبنت النصف والباقي بين الجد والأخت نصفين وهو مذهب ابن مسعود ثم تقع المسألة بعينها بعد شهر آخر فيقضي فيها بالفتيا الأولى وهي مذهب زيد بأن يعود ظنه مترجحا متغلبا لمذهب زيد ثم تقع المسألة بعينها بعد وقت آخر فيفتي فيها بقول علي ع وهكذا لا تزال المسألة بعينها تقع وأقواله فيها تختلف وهي ثلاثة لا مزيد عليها إلا أنه لا يزال يفتي فيها فتاوى مختلفة إلى أن توفي فأحصيت فكانت سبعين فتيا . فأما احتجاج قاضي القضاة بقصة أسرى بدر فجيد وأما ما اعترض به المرتضى فليس بجيد لأن المسألة من باب الشرع وهو قتل الأسرى أو تخليتهم بالفداء والقتل وإراقة الدم من أهم المسائل الشرعية وقد علم من الشارع شدة العناية بأمر الدنيا فإن كانت أحكام الشرع لا يجوز أن تتلقى وأن يفتي فيها إلا بطريق معلومة وأن الظن والاجتهاد لا مدخل له في الشرع كما يذهب إليه المرتضى فكيف جاز من رسول الله ص أن يشاور في أحكام شرعية من لا طريق له إلى العلم وإنما قصارى أمره الظن والاجتهاد والحسبان وكيف مدحهما جميعا وقد اختلفا ولا بد أن يكون أحدهما مخطئا .
[ 251 ](1/3514)
و أما قول المرتضى من أين لقاضي القضاة أن ما اعتمده الحسن والحسين من الكف والإقدام كان عن الاجتهاد فجيد وجواب صحيح على أصول الإمامية لأنه ليس بمستحيل أن يعتمدا ذلك بوصية سابقة من أبيهما ع . وأما قوله لقاضي القضاة كلامك مضطرب لأنك أسندت ما اعتمداه إلى الاجتهاد ثم قلت وقد كان تمكن الحسن أكثر من تمكن الحسين ع وهذا يؤدي إلى أن أحدهما غرر بنفسه والآخر فرط في تسليم حقه فليس بجيد والذي أراده قاضي القضاة الدلالة على جواز الاجتهاد وأنه طريقة المسلمين كلهم وأهل البيت ع وأومأ إلى ما اعتمده الحسن من تسليم الأمر إلى معاوية وما اعتمده الحسين من منازعة يزيد الخلافة فعملا فيها بموجب اجتهادهما وما غلب على ظنونهما من المصلحة وقد كان تمكن الحسن ع في الحال الحاضرة أكثر من تمكن الحسين ع في حاله الحاضرة لأن جند الحسن كان حوله ومطيفا به وهم كما روي مائة ألف سيف ولم يكن مع الحسين ع ممن يحيط به ويسير بمسيره إلى العراق إلا دون مائة فارس ولكن ظنهما في عاقبة الأمر ومستقبل الحال كان مختلفا فكان الحسن يظن خذلان أصحابه عند اللقاء والحرب وكان الحسين ع يظن نصرة أصحابه عند اللقاء والحرب فلذلك أحجم أحدهما وأقدم الآخر فقد بان أن قول قاضي القضاة غير مضطرب ولا متناقض(1/3515)
الطعن الثامن
ما روي عن عمر من قوله متعتان كانتا على عهد رسول الله ص أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما وهذا اللفظ قبيح لو صح المعنى فكيف إذ فسد لأنه ليس ممن
[ 252 ]
يشرع فيقول هذا القول ولأنه يوهم مساواة الرسول ص في الأمر والنهي وأن اتباعه أولى من اتباع رسول الله ص . أجاب قاضي القضاة فقال أنه إنما عنى بقوله وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما كراهته لذلك وتشدده فيه من حيث نهى رسول الله ص عنهما بعد أن كانتا في أيامه منبها بذلك على حصول النسخ فيهما وتغير الحكم لأنا نعلم أنه كان متبعا للرسول متدينا بالإسلام فلا يجوز أن نحمل قوله على خلاف ما تواتر من حاله وحكي عن أبي علي أن ذلك بمنزلة أن يقول إني أعاقب من صلى إلى بيت المقدس وإن كان صلي إلى بيت المقدس في حياة رسول الله ص واعتمد في تصويبه على كف الصحابة عن النكير عنه وادعى أن أمير المؤمنين ع أنكر على ابن عباس إحلال المتعة وروى عن النبي ص تحريمهما فأما متعة الحج فإنما أراد ما كانوا يفعلون من فسخ الحج لأنه كان يحصل لهم عنده التمتع ولم يرد بذلك التمتع الذي يجري مجرى تقدم العمرة وإضافة الحج إليها بعد ذلك لأنه جائز لم يقع فيه قبح . اعترض المرتضى هذا الكلام فقال ظاهر الخبر المروي عن عمر في المتعتين يبطل هذا التأويل لأنه قال متعتان كانتا على عهد رسول الله ص أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما فأضاف النهي إلى نفسه ولو كان الرسول نهى عنهما لأضاف النهي إليه فكان آكد وأولى فكان يقول فنهى عنهما أو نسخهما وأنا من بعده أنهى عنهما وأعاقب عليهما وليس يشبه ما ذكره من الصلاة إلى بيت المقدس أن نسخ
[ 253 ](1/3516)
الصلاة إلى بيت المقدس معلوم ضرورة من دينه ص وليس كذلك المتعة على أنه لو قال إن الصلاة إلى بيت المقدس كانت في أيام النبي ص جائزة وأنا الآن أنهى عنها لكان قبيحا شنيعا مثل ما استقبحنا من القول الأول وليس هذا القول منه ردا على الرسول ص لأنه لا يمتنع أن يكون استحسن حظرها في أيامه لوجه لم يكن فيما تقدم واعتقد أن الإباحة في أيام رسول الله ص كان لها شرط لم يوجد في أيامه وقد روي عنه أنه صرح بهذا المعنى فقال إنما أحل الله المتعة للناس على عهد رسول الله ص والنساء يومئذ قليلة ولذلك روي عنه في متعة الحج أنه قال قد علمت أن رسول الله ص فعلها وأصحابه ولكن كرهت أن يظلوا بها معرسين تحت الأراك ثم يرجعوا بالحج تقطر رءوسهم . وأما اعتماده على الكف عن النكير فقد تقدم أنه ليس بحجة إلا على شرائط شرحناها على أنه قد روي أن عمر قال بعد نهيه عن المتعة لا أوتي بأحد تزوج متعة إلا عذبته بالحجارة ولو كنت تقدمت فيها لرجمت وما وجدنا أحدا أنكر عليه هذا القول لأن المتمتع عندهم لا يستحق الرجم ولم يدل ترك النكير على صوابه . فأما ادعاؤه على أمير المؤمنين ع أنه أنكر على ابن عباس إحلالها فالأمر بخلافه وعكسه فقد روي عنه ع من طرق كثيرة أنه كان يفتي بها وينكر على محرمها والناهي عنها و
روى عمر بن سعد الهمداني عن حبيش بن المعتمر قال سمعت عليا ع يقول لو لا ما سبق من ابن الخطاب في المتعة ما زنى إلا شقي و
روى أبو بصير قال سمعت أبا جعفر محمد بن علي الباقر ع يروي عن جده أمير المؤمنين ع لو لا ما سبقني به ابن الخطاب ما زنى إلا شقي وقد أفتى بالمتعة
[ 254 ](1/3517)
جماعة من الصحابة والتابعين كعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله الأنصاري وسلمة بن الأكوع وأبي سعيد الخدري وسعيد بن جبير ومجاهد وغير ما ذكرناه ممن يطول ذكره فأما سادة أهل البيت ع وعلماؤهم فأمرهم واضح في الفتيا بها كعلي بن الحسين زين العابدين وأبي جعفر الباقر ع وأبي عبد الله الصادق ع وأبي الحسن موسى الكاظم وعلي بن موسى الرضا ع وما ذكرنا من فتيا من أشرنا إليه من الصحابة بها يدل على أوضح بطلان ما ذكره صاحب الكتاب من ارتفاع النكير لتحريمها لأن مقامهم على الفتيا بها نكير فأما متعة الحج فقد فعلها النبي ص والناس أجمع من بعده والفقهاء في أعصارنا هذه لا يرونها خطأ بل صوابا . فأما قول صاحب الكتاب إن عمر إنما أنكر فسخ الحج فباطل لأن ذلك أولا لا يسمى متعة ولأن ذلك ما فعل في أيام النبي ص ولا فعله أحد من المسلمين بعده وإنما هو من سنن الجاهلية فكيف يقول عمر متعتان كانتا على عهد رسول الله ص وكيف يغلظ ويشدد فيما لم يفعل ولا فعل . قلت لا شبهة أن الظاهر من كلام عمر إضافة النهي إلى نفسه لكنا يجب علينا أن نترك ظاهر اللفظ إذا علمنا من قائله ما يوجب صرف اللفظ عن الظاهر كما يعتمده كل أحد في القرائن المقترنة بالألفاظ والمعلوم من حال عمر أنه لم يكن يدعي أنه ناسخ لشريعة
[ 255 ](1/3518)
الرسول ص وأنه كان متدينا بالإسلام وتابعا للرسول الذي جاء به فوجب أن يحمل كلامه على أنه أراد أنهما كانتا ثم حرمتا ثم أنا الآن أعاقب من فعلهما لأنه قد كان بلغه عن قوم من المسلمين بعد علمهم بالتحريم وقول المرتضى لعله كان اعتقد أن الإباحة أيام رسول الله ص كانت مشروطة بشرط لم يوجد في أيامه قول يبطل طعنه في عمر ويمهد له عذرا ويصير المسألة اجتهادية . وأما طعنه في الاحتجاج على تصويب عمر بترك الإنكار عليه وقوله فهلا أنكروا عليه قوله لا أرى أحدا يستمتع إلا رجمته فليس بطعن مستقيم وإنما يكون طعنا صحيحا لو كان أتى بمتمتع فأمر برجمه فأما أن ينكروا عليه وعيده وتهديده لا لإنسان معين بل كلاما مطلقا وقولا كليا يقصد به حسم المادة في المتعة وتخويف فاعلها فإنه ليس بمحل للإنكار عليه وما زالت الأئمة والصالحون يتوعدون بأمر ليس في نفوسهم فعله على طريق التأديب والتهذيب على أن قوما من الفقهاء قد أوجبوا إقامة الحد على المتمتع فلا يمتنع أن يكون عمر ذاهبا إلى هذا المذهب . فأما ما رواه عن أمير المؤمنين ع وعن الطاهرين من أولاده من تحليل المتعة فلسنا في هذا المقام نناكره في ذلك وننازعه فيها والمسألة فقهية من فروع الشريعة وليس كتابنا موضوعا لذكره ولا الموضع الذي نحن فيه يقتضي الحجاج فيها والبحث في تحليلها وتحريمها وإنما الموضع موضع الكلام في حال عمر وما نقل عنه من الكلمة هل يقتضي ذلك الطعن في دينه أم لا . فأما متعة الحج فقد اعتذر لنفسه وقال ما قدمنا ذكره من أن الحج بهاء من بهاء الله وأن التمتع يكسفه ويذهب نوره ورونقه وأنهم يظلون معرسين تحت الأراك ثم
[ 256 ]
يهلون بالحج ورءوسهم تقطر وإذا كان قد اعتذر لنفسه فقد كفانا مئونة الاعتذار(1/3519)
الطعن التاسع
ما روي عنه من قصة الشورى وكونه خرج بها عن الاختيار والنص جميعا وأنه ذم كل واحد بأن ذكر فيه طعنا ثم أهله للخلافة بعد أن طعن فيه وأنه جعل الأمر إلى ستة ثم إلى أربعة ثم إلى واحد قد وصفه بالضعف والقصور وقال إن اجتمع علي وعثمان فالقول ما قالاه وإن صاروا ثلاثة وثلاثة فالقول للذين فيهم عبد الرحمن وذلك لعلمه بأن عليا وعثمان لا يجتمعان وأن عبد الرحمن لا يكاد يعدل بالأمر عن ختنه وابن عمه وأنه أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة فوق ثلاثة أيام وأنه أمر بقتل من يخالف الأربعة منهم أو الذين فيهم عبد الرحمن . أجاب قاضي القضاة عن ذلك فقال الأمور الظاهرة لا يجوز أن يعترض عليها بأخبار غير صحيحة والأمر في الشورى ظاهر وأن الجماعة دخلت فيها بالرضا ولا فرق بين من قال في أحدهم أنه دخل فيها لا بالرضا وبين من قال ذلك في جميعهم ولذلك جعلنا دخول أمير المؤمنين ع في الشورى أحد ما يعتمد عليه في أن لا نص يدل عليه أنه المختص بالإمامة لأنه قد كان يجب عليه أن يصرح بالنص على نفسه بل يحتاج إلى ذكر فضائله ومناقبه لأن الحال حال مناظرة ولم يكن الأمر مستقرا لواحد فلا يمكن أن يتعلق بالتقية والمتعالم من حاله أنه لو امتنع من هذا الأمر في الشورى أصلا لم يلحقه الخوف فضلا عن غيره ومعلوم أن دلالة الفعل أحسن من دلالة القول من حيث كان الاحتمال فيه أقل والمروي أن عبد الرحمن أخذ الميثاق على الجماعة
[ 257 ](1/3520)
بالرضا بمن يختاره ولا يجب القدح في الأفعال بالظنون بل يجب حملها على ظاهر الصحة دون الاحتمال كما يجب مثله في غيرها ويجب إذا تقدمت للفاعل حالة تقتضي حسن الظن به أن يحمل فعله على ما يطابقها وقد علمنا أن حال عمر وما كان عليه من النصيحة للمسلمين منع من صرف أمره في الشورى إلى الأغراض التي يظنها أعداؤه فلا يصح لهم أن يقولوا كان مراده في الشورى بأن يجعل الأمر إلى الفرقة التي فيها عبد الرحمن عند الخلاف أن يتم الأمر لعثمان لأنه لو كان هذا مراده لم يكن هناك ما يمنعه من النص على عثمان كما لم يمنع ذلك أبا بكر لأن أمره إن لم يكن أقوى من أمر أبي بكر لم ينقص عنه وليس ذلك بدعة لأنه إذا جاز في غير الإمام إذا اختار أن يفعل ذلك بأن ينظر في أماثل القوم فيعلم أنهم عشرة ثم ينظر في العشرة فيعلم أن أمثلهم خمسة ثم ينظر في واحد من الخمسة فما الذي يمنع من مثله في الإمام وهو في هذا الباب أقوى اختيارا لأن له أن يختار واحدا بعينه . ثم ذكر أنه إنما حصره في الجماعة الذين انتهى إليهم الفضل وجعله شورى بينهم ثم بين أن الانتقال من الستة إلى الأربعة ومن الأربعة إلى الثلاثة لا يكون متناقضا لأن الأقوال مختلفة وليست واحدة ولو كانت أيضا واحدة لكان كالرجوع وللإمام أن يرجع في مثل ذلك لأنه في حكم الوصية . قال وقولهم أنه كان يعلم أن عثمان وعليا لا يجتمعان وأن عبد الرحمن يميل إلى عثمان قلة دين لأن الأمور المستقبلة لا تعلم وإنما يحصل فيها أمارة قال والأمارات توجب أنه لم يكن فيهم حرص شديد على الإمامة بل الغالب من حالهم طلب الاتفاق والائتلاف والاسترواح إلى قيام الغير بذلك وإنما جعل عمر الأمر إلى عبد الرحمن عند الاختلاف لعلمه بزهده في الأمر وأنه لأجل ذلك أقرب أن يتثبت لأن الراغب
[ 258 ](1/3521)
عن الشي ء يحصل له من التثبت ما لا يحصل للراغب فيه ومن كانت هذه حاله كان القوم إلى الرضا به أقرب . وحكي عن أبي علي أن المخادعة إنما تظن بمن قصده في الأمور طريق الفساد وعمر بري ء من ذلك . قال والضعف الذي وصف به عبد الرحمن إنما أراد به الضعف عن القيام بالإمامة لا ضعف الرأي ولذلك رد الاختيار والرأي إليه وحكي عن أبي علي ضعف ما روي من أمره بضرب أعناق القوم إذا تأخروا عن البيعة وأن ذلك لو صح لأنكره القوم ولم يدخلوا في الشورى بهذا الشرط ثم تأوله إذ سلم صحته على أنهم إن تأخروا عن البيعة على سبيل شق العصا وطلب الأمر من غير وجهه وقال ولا يمتنع أن يقول ذلك على طريق التهديد وإن بعد عنده أن يقدموا عليه كما قال تعالى لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ . اعترض المرتضى هذا الكلام فقال إن الذي رتبه عمر في قصة الشورى من ترتيب العدد واتفاقه واختلافه يدل أولا على بطلان مذهب أصحاب الاختيار في عدد العاقدين للإمامة وأنه يتم بعقد واحد لغيره برضا أربعة وأنه لا يتم بدون ذلك فإن قصة الشورى تصرح بخلاف هذا الاعتبار فهذا أحد وجوه المطاعن فيها . ومن جملتها أنه وصف كل واحد منهم بوصف زعم أنه يمنع من الإمامة ثم جعل الأمر فيمن له تلك الأوصاف وقد روى محمد بن سعد عن الواقدي عن محمد بن عبد الله الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال قال عمر لا أدري ما أصنع بأمة محمد ص وذلك قبل أن يطعن فقلت ولم تهتم وأنت تجد من تستخلفه
[ 259 ](1/3522)
عليهم قال أ صاحبكم يعني عليا قلت نعم هو لها أهل في قرابته من رسول الله ص وصهره وسابقته وبلائه قال إن فيه بطالة وفكاهة فقلت فأين أنت من طلحة قال فأين الزهو والنخوة قلت عبد الرحمن قال هو رجل صالح على ضعف فيه قلت فسعد قال ذاك صاحب مقنب وقتال لا يقوم بقرية لو حمل أمرها قلت فالزبير قال وعقة لقس مؤمن الرضا كافر الغضب شحيح وإن هذا الأمر لا يصلح إلا لقوي في غير عنف رفيق في غير ضعف وجواد في غير سرف قلت فأين أنت من عثمان قال لو وليها لحمل بني أبي معيط على رقاب الناس ولو فعلها لقتلوه . وقد يروى من غير هذا الطريق أن عمر قال لأصحاب الشورى روحوا إلي فلما نظر إليهم قال قد جاءني كل واحد منهم يهز عفريته يرجو أن يكون خليفة أما أنت يا طلحة أ فلست القائل إن قبض النبي ص أنكح أزواجه من بعده فما جعل الله محمدا أحق ببنات أعمامنا منا فأنزل الله تعالى فيك وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اَللَّهِ وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً وأما أنت يا زبير فو الله ما لان قلبك يوما ولا ليلة وما زلت جلفا جافيا وأما أنت يا عثمان فو الله لروثة خير منك وأما أنت يا عبد الرحمن فإنك رجل عاجز تحب قومك جميعا وأما أنت يا سعد فصاحب عصبية وفتنة وأما أنت يا علي فو الله لو وزن إيمانك بإيمان أهل الأرض لرجحهم فقام علي موليا يخرج فقال عمر والله إني لأعلم مكان رجل لو وليتموه
[ 260 ](1/3523)
أمركم لحملكم على المحجة البيضاء قالوا من هو قال هذا المولي من بينكم قالوا فما يمنعك من ذلك قال ليس إلى ذلك سبيل . وفي خبر آخر رواه البلاذري في تاريخه أن عمر لما خرج أهل الشورى من عنده قال إن ولوها الأجلح سلك بهم الطريق فقال عبد الله بن عمر فما يمنعك منه يا أمير المؤمنين قال أكره أن أتحملها حيا وميتا . فوصف كما ترى كل واحد من القوم بوصف قبيح يمنع من الإمامة ثم جعلها في جملتهم حتى كان تلك الأوصاف تزول في حال الاجتماع ونحن نعلم أن الذي ذكره إن كان مانعا من الإمامة في كل واحد على الانفراد فهو مانع من الاجتماع مع أنه وصف عليا ع بوصف لا يليق به ولا ادعاه عدو قط بل هو معروف بضده من الركانة والبعد عن المزاح والدعابة وهذا معلوم ضرورة لمن سمع أخباره ع وكيف يظن به ذلك وقد روي عن ابن عباس أنه قال كان أمير المؤمنين علي ع إذا أتى هبنا أن نبتدئه بالكلام وهذا لا يكون إلا من شدة التزمت والتوقر وما يخالف الدعابة والفكاهة . ومما تضمنته قصة الشورى من المطاعن أنه قال لا أتحملها حيا وميتا وهذا إن كان علة عدوله عن النص إلى واحد بعينه فهو قول متلمس متخلص لا يفتات على الناس في آرائهم ثم نقض هذا بأن نص على ستة من بين العالم كله ثم رتب العدد ترتيبا مخصوصا يؤول إلى أن اختيار عبد الرحمن هو المقدم وأي شي ء يكون من التحمل أكثر من هذا وأي فرق بين أن يتحملها بأن ينص على واحد بعينه وبين أن يفعل ما فعله من الحصر والترتيب .
[ 261 ](1/3524)
و من جملة المطاعن أنه أمر بضرب الأعناق إن تأخروا عن البيعة أكثر من ثلاثة أيام ومعلوم أنهم بذلك لا يستحقون القتل لأنهم إذا كانوا إنما كلفوا أن يجتهدوا آراءهم في اختيار الإمام فربما طال زمان الاجتهاد وربما قصر بحسب ما يعرض فيه من العوارض فأي معنى للأمر بالقتل إذا تجاوزوا الأيام الثلاثة ثم أنه أمر بقتل من يخالف الأربعة ومن يخالف العدد الذي فيه عبد الرحمن وكل ذلك مما لا يستحق به القتل . فأما تضعيف أبي علي لذكر القتل فليس بحجة مع أن جميع من روى قصة الشورى روى ذلك وقد روى الطبري ذلك في تاريخه وغيره . فأما تأوله الأمر بالقتل على أن المراد به إذا تأخروا على طريق شق العصا وطلب الأمر من غير وجهه فبعيد من الصواب لأنه ليس في ظاهر الخبر ذلك ولأنهم إذا شقوا العصا وطلبوا الأمر من غير وجهه من أول يوم وجب أن يمنعوا ويقاتلوا فأي معنى لضرب الأيام الثلاثة أجلا . فأما تعلقه بالتهديد فكيف يجوز أن يتهدد الإنسان على فعل بما لا يستحقه وإن علم أنه لا يعزم عليه . فأما قوله تعالى لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ فيخالف ما ذكر لأن الشرك يستحق به إحباط الأعمال وليس يستحق بالتأخير عن البيعة القتل . فأما ادعاء صاحب الكتاب أن الجماعة دخلوا في الشورى على سبيل الرضا وأن عبد الرحمن أخذ عليهم العهد أن يرضوا بما يفعله فمن قرأ قصة الشورى على وجهها وعدل عما تسوله النفس من بناء الأخبار على المذاهب علم أن الأمر بخلاف ما ذكر وقد روى الطبري في تاريخه عن أشياخه من طرق مختلفة أن أمير المؤمنين ع قال حين خرج من عند عمر بعد خطابه للجماعة بما تقدم ذكره لقوم كانوا معه من بني هاشم إن طمع فيكم قومكم لم تؤمروا أبدا وتلقاه العباس بن عبد المطلب
[ 262 ](1/3525)
فقال يا عم عدلت عنا قال وما علمك قال قرن بي عثمان وقال كونوا مع الأكثر وإن رضي رجلان رجلا ورجلان رجلا فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفان فيوليها عبد الرحمن عثمان أو يوليها عثمان عبد الرحمن فلو كان الآخران معي لم ينفعاني بله أني لا أرجو إلا أحدهما فقال له العباس لم أدفعك عن شي ء إلا رجعت إلى مستأخرا أشرت عليك عند وفاة رسول الله ص أن تسأله فيمن هذا الأمر فأبيت وأشرت عليك عند وفاته أن تعاجل الأمر فأبيت وأشرت عليك حين سماك عمر في الشورى ألا تدخل معهم فأبيت فاحفظ علي واحدة كلما عرض عليك القوم فقل لا إلا أن يولوك واحذر هؤلاء الرهط فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقوم لنا به غيرنا وغيرهم وايم الله لا تناله إلا بشر لا ينفع معه خير
فقال علي ع أما والله لئن بقي عمر لأذكرنه ما أتى إلينا ولئن مات ليتداولنها بينهم ولئن فعلوا ليجدنني حيث يكرهون ثم تمثل
حلفت برب الراقصات عشية
غدون خفافا فابتدرن المحصبا
ليحتلبن رهط ابن يعمر مارئا
نجيعا بنو الشداخ وردا مصلبا
فالتفت فرأى أبا طلحة الأنصاري فكره مكانه فقال أبو طلحة لا ترع أبا حسن . قال المرتضى فإن قال قائل أي معنى لقول العباس إني دعوتك إلى أن تسأل رسول الله ص فيمن هذا الأمر من قبل وفاته أ ليس هذا مبطلا لما تدعونه من النص . قلنا غير ممتنع أن يريد العباس سؤاله عمن يصير الأمر إليه وينتقل إلى يديه
[ 263 ](1/3526)
لأنه قد يستحقه من لا يصل إليه وقد يصل إلى من لا يستحقه وليس يمتنع أن يريد إنما كنا نسأله ص إعادة النص قبل الموت ليتجدد ويتأكد ويكون لقرب العهد إليه بعيدا من أن يطرح . فإن قيل أ ليس قد أنكرتم على صاحب الكتاب من التأويل بعينه فيما استعمله من الرواية عن أبي بكر من قوله ليتني كنت سألت رسول الله ص هل للأنصار في هذا الأمر حق . قلنا إنما أنكرناه في ذلك الخبر لأنه لا يليق به من حيث قال فكنا لا ننازعه أهله وهذا قول من لا علم له بأنه ليس للأنصار حق في الإمامة ومن كان يرجع في أن لهم حقا في الأمر أو لا حق لهم فيه إلى ما يسمعه مستأنفا وليس هذا في الخبر الذي ذكرناه . و
روى العباس بن هشام الكلبي عن أبيه عن جده في إسناده أن أمير المؤمنين ع شكا إلى العباس ما سمع من قول عمر كونوا مع الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف وقال والله لقد ذهب الأمر منا قال وكيف قلت ذلك يا ابن أخي قال إن سعدا لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن وعبد الرحمن نظير عثمان وصهره فأحدهما يختار لصاحبه لا محالة وإن كان الزبير وطلحة معي فلن أنتفع بذلك إذا كان ابن عوف في الثلاثة الآخرين . قال ابن الكلبي عبد الرحمن زوج أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وأمها أروى بنت كريز وأروى أم عثمان فلذلك قال صهره . وفي رواية الطبري أن عبد الرحمن دعا عليا ع فقال عليك عهد الله
[ 264 ]
و ميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين فقال أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي . و
في خبر آخر عن أبي الطفيل أن عبد الرحمن قال لعلي ع هلم يدك خذها بما فيها على أن تسير فينا بسيرة أبي بكر وعمر فقال آخذها بما فيها على أن أسير فيكم بكتاب الله وسنة نبيه جهدي فترك يده وقال هلم يدك يا عثمان أ تأخذها بما فيها على أن تسير فينا بسيرة أبي بكر وعمر قال نعم قال هي لك يا عثمان و(1/3527)
في رواية الطبري أنه قال لعثمان مثل قوله لعلي فقال نعم فبايعه فقال علي ع ختونة حنت دهرا و
في خبر آخر نفعت الختونة يا ابن عوف ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اَللَّهُ اَلْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ والله ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك والله كل يوم هو في شأن و
في غير رواية الطبري أن عبد الرحمن قال له لقد قلت ذلك لعمر فقال ع أ ولم يكن ذلك كما قلت و
روى الطبري أن عبد الرحمن قال لا تجعلن يا علي على نفسك سبيلا فإني نظرت وشاورت الناس فإذا هم لا يعدلون بعثمان فقام علي ع وهو يقول سيبلغ الكتاب أجله و
في رواية الطبري أن الناس لما بايعوا عثمان تلكأ علي ع فقال عثمان فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا
[ 265 ](1/3528)
عظيما فرجع علي ع حتى بايعه وهو يقول خدعة وأي خدعة . وروى البلاذري في كتابه عن ابن الكلبي عن أبيه عن أبي مخنف في إسناد له أن عليا ع لما بايع عبد الرحمن عثمان كان قائما فقال له عبد الرحمن بايع وإلا ضربت عنقك ولم يكن يومئذ مع أحد سيف غيره فخرج علي مغضبا فلحقه أصحاب الشورى فقالوا له بايع وإلا جاهدناك فأقبل معهم يمشي حتى بايع عثمان . قال المرتضى فأي رضا هاهنا وأي إجماع وكيف يكون مختارا من تهدد بالقتل وبالجهاد وهذا المعنى وهو حديث ضرب العنق لو روته الشيعة لتضاحك المخالفون منه وتغامزوا وقالوا هذا من جملة ما تدعونه من المحال وتروونه من الأحاديث وقد أنطق الله به رواتهم وأجراه على أفواه ثقاتهم ولقد تكلم المقداد في ذلك اليوم بكلام طويل يفند فيه ما فعلوه من بيعة عثمان وعدولهم بالأمر عن أمير المؤمنين إلى أن قال له عبد الرحمن يا مقداد اتق الله فإني خائف عليك الفتنة ثم إن المقداد قام فأتى عليا فقال أ تقاتل فنقاتل معك فقال علي فبمن أقاتل وتكلم أيضا عمار فيما رواه أبو مخنف فقال يا معشر قريش أين تصرفون هذا الأمر عن بيت نبيكم تحولونه هاهنا مرة وهاهنا مرة أما والله ما أنا بآمن أن ينزعه الله منكم فيضعه في غيركم كما انتزعتموه من أهله ووضعتموه في غير أهله فقال له هشام بن الوليد يا ابن سمية لقد عدوت طورك وما عرفت قدرك وما أنت وما رأته قريش لأنفسها إنك لست في شي ء من أمرها وإمارتها فتنح عنها وتكلمت قريش بأجمعها وصاحت بعمار وانتهرته فقال الحمد لله ما زال أعوان الحق قليلا .
روى أبو مخنف أيضا أن عمارا قال هذا البيت ذلك اليوم
[ 266 ]
يا ناعي الإسلام قم فانعه
قد مات عرف وأتى منكر
أما والله لو أن لي أعوانا لقاتلتهم وقال أمير المؤمنين ع لئن قاتلتهم بواحد لأكونن ثانيا فقال والله ما أجد عليهم أعوانا ولا أحب أن أعرضكم لما لا تطيقون و(1/3529)
روى أبو مخنف عن عبد الرحمن بن جندب عن أبيه قال دخلت على علي ع وكنت حاضرا بالمدينة يوم بويع عثمان فإذا هو واجم كئيب فقلت ما أصاب قوم صرفوا هذا الأمر عنكم فقال صبر جميل فقلت سبحان الله إنك لصبور قال فاصنع ما ذا قلت تقوم في الناس خطيبا فتدعوهم إلى نفسك وتخبرهم أنك أولى بالنبي ص بالعمل والسابقة وتسألهم النصر على هؤلاء المتظاهرين عليك فإن أجابك عشرة من مائة شددت بالعشرة على المائة فإن دانوا لك كان ما أحببت وإن أبوا قاتلتهم فإن ظهرت عليهم فهو سلطان الله آتاه نبيه ص وكنت أولى به منهم إذ ذهبوا بذلك فرده الله إليك وإن قتلت في طلبه فقتلت شهيدا وكنت أولى بالعذر عند الله تعالى في الدنيا والآخرة فقال ع أ وتراه كان تابعي من كل مائة عشرة قلت لأرجو ذلك قال لكني لا أرجو ولا والله من المائة اثنين وسأخبرك من أين ذلك إن الناس إنما ينظرون إلى قريش فيقولون هم قوم محمد ص وقبيلته وإن قريشا تنظر إلينا فتقول إن لهم بالنبوة فضلا على سائر قريش وإنهم أولياء هذا الأمر دون قريش والناس وإنهم إن ولوه لم يخرج هذا السلطان منهم إلى أحد أبدا ومتى كان في غيرهم تداولتموه بينكم فلا والله لا تدفع قريش إلينا هذا السلطان طائعة أبدا قلت أ فلا أرجع إلى المصر فأخبر الناس بمقالتك هذه وأدعو الناس إليك فقال يا جندب ليس هذا زمان ذلك فرجعت فكلما ذكرت للناس شيئا من فضل علي زبروني
[ 267 ](1/3530)
و نهروني حتى رفع ذلك من أمري للوليد بن عقبة فبعث إلي فحبسني . قال وهذه الجملة التي أوردناها قليل من كثير في أن الخلاف كان واقما والرضا كان مرتفعا والأمر إنما تم بالحيلة والمكر والخداع وأول شي ء مكر به عبد الرحمن أنه ابتدأ فأخرج نفسه من الأمر ليتمكن من صرفه إلى من يريد وليقال أنه لو لا إيثاره الحق وزهده في الولاية لما أخرج نفسه منها ثم عرض على أمير المؤمنين ع ما يعلم أنه لا يجيب إليه ولا تلزمه الإجابة إليه من السير فيهم بسيرة الرجلين وعلم أنه ع لا يتمكن من أن يقول إن سيرتهما لا تلزمني لئلا ينسب إلى الطعن عليهما وكيف يلزم سيرتهما وكل واحد منهما لم يسر بسيرة الآخر بل اختلفا وتباينا في كثير من الأحكام هذا بعد أن قال لأهل الشورى وثقوا إلي من أنفسكم بأنكم ترضون باختياري إذا أخرجت نفسي فأجابوه على ما رواه أبو مخنف بإسناده إلى ما عرض عليهم إلا أمير المؤمنين ع فإنه قال انظر لعلمه بما يجر هذا المكر حتى أتاهم أبو طلحة فأخبره عبد الرحمن بما عرض وما جاء به القوم إياه إلا عليا فأقبل أبو طلحة على علي ع فقال يا أبا الحسن إن أبا محمد ثقة لك وللمسلمين فما بالك تخافه وقد عدل بالأمر عن نفسه فلن يتحمل المأثم لغيره فأحلف علي ع عبد الرحمن بما عرض ألا يميل إلى الهوى وأن يؤثر الحق ويجتهد للأمة ولا يحابي ذا قرابة فحلف له وهذا غاية ما يتمكن منه أمير المؤمنين ع في الحال لأن عبد الرحمن لما أخرج نفسه من الأمر وظنت به الجماعة الخير وفوضت إليه الاختيار لم يقدر أمير المؤمنين ع على أن يخالفهم وينقض ما اجتمعوا عليه فكان أكثر ما تمكن منه أن أحلفه وصرح بما يخافه من جهته من الميل إلى الهوى وإيثار القرابة غير أن ذلك كله لم يغن شيئا .
[ 268 ](1/3531)
قال وأما قول صاحب الكتاب أن دخوله في الشورى دلالة على أنه لا نص عليه بالإمامة ولو كان عليه نص لصرح به في تلك الحال وكان ذكره أولى من ذكر الفضائل والمناقب فإن المانع من ذكر النص كونه يقتضي تضليل من تقدم عليه وتفسيقهم وليس كذلك تعديد المناقب والفضائل . وأما دخوله ع في الشورى فلو لم يدخل فيها إلا ليحتج بما احتج به من مقاماته وفضائله ودرايته ووسائله إلى الإمامة وبالأخبار الدالة عندنا عليها على النص والإشارة بالإمامة إليه لكان غرضا صحيحا وداعيا قويا وكيف لا يدخل في الشورى وعندهم أن واضعها قد أحسن النظر للمسلمين وفعل ما لم يسبق إليه من التحرز للدين . فأول ما كان يقال له لو امتنع منها إنك مصرح بالطعن على واضعها وعلى جماعة المسلمين بالرضا بها وليس طعنك إلا لأنك ترى أن الأمر لك وأنك أحق به فيعود الأمر إلى ما كان ع يخافه من تفرق الكلمة ووقوع الفتنة . قال وفي أصحابنا القائلين بالنص من يقول إنه ع إنما دخل في الشورى لتجويزه أن ينال الأمر منها وعليه أن يتوصل إلى ما يلزمه القيام به من كل وجه يظن أن يوصله إليه . قال وقول صاحب الكتاب إن التقية لا يمكن أن يتعلق بها لأن الأمر لم يكن استقر لواحد طريف لأن الأمر وإن لم يكن في تلك الحال مستقرا لأحد فمعلوم أن الإظهار بما يطعن في المتقدمين من ولاة الأمر لا يمكن منه ولا يرضى به وكذلك
[ 269 ](1/3532)
الخروج مما يتفق أكثرهم عليه ويرضى جمهورهم به ولا يقرون أحدا عليه بل يعدونه شذوذا عن الجماعة وخلافا على الأمة . فأما قوله إن الأفعال لا يقدح فيها بالظنون بل يجب أن تحمل على ظاهر الصحة وإن الفاعل إذا تقدمت له حالة تقتضي حسن الظن به يجب أن تحمل أفعاله على ما يطابقها فإنا متى سلمنا له بهذه المقدمة لم يتم قصده فيها لأن الفعل إذا كان له ظاهر وجب أن يحمل على ظاهره إلا بدليل يعدل بنا عن ظاهره كما يجب مثله في الألفاظ وقد بينا أن ظاهر الشورى وما جرى فيها يقتضي ما ذكرناه للأمارات اللائحة والوجوه الظاهرة فما عدلنا عن ظاهر إلى محتمل بل المخالف هو الذي يسومنا أن نعدل عن الظاهر فأما الفاعل وما تقدم له من الأحوال فمتى تقدم للفاعل حالة تقتضي أن يظن به الخير من غير علم ولا يقين فلا بد أن يؤثر فيها ويقدح أن يرى له حالة أخرى تقتضي ظن القبيح به لدلالة ظاهرها على ذلك وليس لنا أن نقضي بالأولى على الثانية وهما جميعا مظنونتان لأن ذلك بمنزلة أن يقول قائل اقضوا بالثانية على الأولى وليس كذلك إذا تقدمت للفاعل حالة تقتضي بالخير منه ثم تليها حالة تقتضي ظن القبيح به لأنا حينئذ نقتضي بالعلم على الظن ونبطل حكمه لمكان العلم وإذا صحت هذه الجملة فما تقدمت لمن ذكر حالة تقتضي العلم بالخير وإنما تقدم ما يقتضي حسن الظن فليس لنا إلا نسي ء الظن به عند ظهور أمارات سوء الظن لأن كل ذلك مظنون غير معلوم . وقوله لو أراد ذلك ما منعه من أن ينص على عثمان مانع كما لم يمنع ذلك أبا بكر من النص عليه فليس بشي ء لأنه قد فعل ما يقوم مقام النص على من أراد إيصاله إليه وصرفه عمن أراد أن يصرفه عنه من غير شناعة التصريح وحتى لا يقال فيه ما قيل في أبي بكر ويراجع في قصته كما روجع أبو بكر ولم يتعسف أبعد الطريقين وغرضه يتم من أقربهما .
[ 270 ](1/3533)
قال فأما بيان صاحب الكتاب أن الانتقال من الستة إلى الأربعة في الشورى ومن الأربعة إلى الثلاثة لا يكون تناقضا فهو رد على من زعم أن ذلك تناقض وليس من هذا الوجه طعنا بل قد بينا وجوه المطاعن وفصلناها . وأما قوله إن الأمور المستقبلة لا تعلم وإنما يحصل فيها أمارة ردا على من قال إن عمر كان يعلم أن عليا ع وعثمان لا يجتمعان وأن عبد الرحمن يميل إلى عثمان فكلام في غير موضعه لأن المراد بذلك الظن لا العلم وإن عبر عن الظن بالعلم على طريقه في الاستعمال معروفة لا يتناكرها المتكلمون ولعل صاحب الكتاب قد استعمل العلم في موضع الظن فيما لا يحصى كثرة من كتابه هذا وغيره وقد بينا فيما ذكرناه من رواية الكلبي عن أبي مخنف أن أمير المؤمنين ع أول من سبق إلى هذا المعنى في قوله للعباس شاكيا إليه ذهب والله الأمر منا لأن سعدا لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن وعبد الرحمن صهر عثمان فأحدهما مختار لصاحبه لا محالة وإن كان الزبير وطلحة معي فلن أنتفع بذلك إذا كان ابن عوف في الثلاثة الآخرين فأما قوله إن عبد الرحمن كان زاهدا في الأمر والزاهد أقرب إلى التثبت فقد بينا وجه إظهاره الزهد فيه وأنه جعله الذريعة إلى مراده . فأما قول صاحب الكتاب إن الضعف الذي وصفه به إنما أراد به الضعف عن القيام بالإمامة لا ضعف الرأي فهب أن الأمر كذلك أ ليس قد جعله أحد من يجوز أن يختار للإمامة ويفوض إليه مع ضعفه عنها وهذا بمنزلة أن يصفه بالفسق ثم يدخله في جملة القوم لأن الضعف عن الإمامة مانع منها كما أن الفسق كذلك .
[ 271 ](1/3534)
قلت الكلام في الشورى والمطاعن فيها طويل جدا وقد ذكرت من ذلك في كتبي الكلامية وتعليقاتي ما قاله الناس وما لم أسبق إليه ولا يحتمل هذا الكتاب الإطالة باستقصاء ذلك لأنه ليس بكتاب حجاج ونظر ولكني أذكر منه نكتا يسيرة فأقول إن كانت أفعال عمر وأقواله قد تناقضت في واقعة الشورى كما زعم المرتضى رحمه الله فكذلك أفعال أمير المؤمنين إن كان منصوصا عليه كما تقوله الإمامية قد تناقضت أيضا أما أولا فإن كان منصوصا عليه فكيف أدخل نفسه في الشورى المبنية على صحة الاختيار وعدم النص أ ليس هذا إيهاما ظاهرا لأكثر المسلمين خصوصا الضعفة منهم ومن لا نظر له في دقائق الأمور عنده أنه غير منصوص عليه فكيف يجوز له إضلال المكلفين وأن يوقع في نفوسهم عدم النص مع كون النص كان حاصلا . وأما عذر المرتضى عن هذا بأنه دخل في الشورى ليتمكن من الاحتجاج على أهل الشورى بمقاماته وفضائله فيقال له قد كان الدهر الأطول مخالطا لأهل الشورى وغيرهم مجتمعا معهم في المسجد وغيره من مواطن كل يوم بل كل ساعة فلا يجوز أن يقال دخل ليضمه وإياهم أو يظلهم سقف فيتمكن بذلك من ذكر مقاماته وفضائله بينهم لأن العاقل لا يجوز أن يرتكب أمرا يوهم القبيح ليفعل فعلا قد كان من قبله بثلاث عشرة سنة متمكنا من أن يفعله من غير أن يرتكب ذلك الأمر الموهم للقبيح وليت شعري من الذي كان يمنعه أيام أبي بكر وعمر من أن يذكر مقاماته وفضائله ويفتخر بها ولم أنفك ع من ذكر فضائله والفخر بمناقبه في تلك المدة الطويلة وقد كان عمر وهو المعروف المشهور بالغلظة والفظاظة يذكر فضائله ويعترف بها فلست أرى لعذر المرتضى أصلا بهذا الوجه أو معنى .
[ 272 ](1/3535)
فأما عذره الثاني عن دخوله في الشورى بقوله لو لم يدخل فيها لقيل له إنك قد طعنت على واضع الشورى وليس ذلك إلا لأنك ترى الأمر لك فليس بعذر جيد لأنه لو امتنع من الدخول فيها على وجه الزهد وقلة الالتفات إلى الولاية والإعراض عن السلطان والإمرة لما نسبه أحد إلى ما ذكره المرتضى أصلا ولقال الناس رجل زاهد لا يريد الدنيا ولا يرغب في الرئاسة ثم ما المانع من أن يقول لعمر وهو حي نشدتك الله لا تدخلني فيها فإني لا أريدها ولا أوثرها أ تراه كان في جواب هذا الكلام يأمر بقتله ويقول له إنما امتناعك لأنك تدعي أن رسول الله ص نص عليك فلا ترى أخذ الأمر من جهتي وتوليه من طريقي وإنما تريده بمحض النص الأول لا غير ما أظن أن عاقلا يخطر له أن ذلك كان يكون فهذا العذر بارد لا معنى له كالعذر الأول . فأما عذره الثالث وهو قوله إنه كان يجب عليه أن يتوصل إلى القيام بالأمر بكل طريق لأنه يلزمه القيام به فعذر جيد لا بأس به . وأما ثانيا فيقال للمرتضى هب إنا نزلنا عن الدخول في الشورى هلا عرض للجماعة وهم مجتمعون وهو يعد لهم مناقبه وفضائله بذكر النص وذلك بأن يكنى عنه كناية لطيفة فيقول لهم قد كان من رسول الله ص بالأمس في حقي ما تعلمون أ تراهم كانوا في جواب هذه الكلمة يقتلونه ما أظن أنهم كانوا يجتمعون على ذلك ولا بد لو عرض بشي ء من ذلك كان من كلام يدور بينهم في المعنى نحو أن يقولوا إن ذلك النص رجع عنه رسول الله ص أو يقولوا رأى المسلمون تركه للمصلحة أو يجري بينه وبينهم جدال ونزاع ولم يكن هناك خليفة يخاف جانبه وإنما كان مجلس مناظرة وبحث ولم يستقر الأمر لأحد . وقول المرتضى إنه وإن كان كذلك إلا أنهم كانوا لا يرضون أن يطعن في المتقدمين
[ 273 ](1/3536)
منهم ويكرهون منه ذلك ولا يقرونه عليه ويعدونه شذوذا له عن الجماعة وخلافا للأمة قول صحيح إذا كان القائل يقوله على وجه شق العصا والمنابذة وكشف القناع وإذا قاله على وجه الاستعطاف لهم والإذكار بما عساهم نسوة وحسن التلطف والرفق بهم والاستمالة لهم وتذكيرهم حقوق رسول الله ص وميثاقه الذي واثقهم به فإنه لا يقع منهم في مقابلة ذلك قتله ولا قطع عضو من أعضائه ولا إقامة الحد عليه وأقصى ما في الباب أنهم كانوا يردون ذلك عليه بكلام مثل كلامه ويجيبونه بجواب يناسب جوابه ويدفعونه عما يرومه بوجه من وجوه الدفع إن كانوا مقيمين على الإصرار على غصب الحق منه . وأما ثالثا فإن كان ع كما تقوله الإمامية منصوصا عليه فما الذي منعه لما قال له عبد الرحمن أبايعك على أن تسير فينا بسيرة الشيخين أن يقول نعم فإنه لو قال نعم لبايعه عبد الرحمن ووصل إلى الأمر الذي يلزمه القيام به وإلى الحال التي كان يتوصل بكل طريق إلى الوصول إليها . وقول المرتضى إن سيرتهما كانت مختلفة لأن أحدهما حكم بكثير مما حكم الآخر بضده ليس بجيد لأن السيرة التي كان عبد الرحمن يطلبها ذلك اليوم هو الأمر الكلي في إيالة الرعية وسياستهم وجباية الفي ء وظلف الوالي نفسه وأهله عنه وصرفه إلى المسلمين ورم الأمور وجمع العمال وقهر الظلمة وإنصاف المظلومين وحماية البيضة وتسريب الجيوش إلى بلاد الشرك هذه هي السيرة التي كان عبد الرحمن يشترطها وهي التي طلبها الناس بعد ذلك فقالوا لمعاوية في آخر أيامه ولعبد الملك ولغيرهما وصاحوا بهم تحت المنابر نطلب سيرة العمرين ولم يريدوا في الأحكام والفتاوي الشرعية نحو القول في الجد مع الإخوة
[ 274 ](1/3537)
و القول في الكلالة والقول في أمهات الأولاد فما أعلم الذي منع أمير المؤمنين ع من أن يقول لعبد الرحمن نعم فيأخذها ثم كان إذا أخذها أقدر الناس على هذه السيرة وأقواهم عليها فوا عجبا بينا هو يطلب الخلافة أشد الطلب فإذا هو ناكص عنها وقد عرضت عليه على أمر هو قيم به ولهذا كان الرأي عندي أن يدخل فيها حينئذ ومن الذي كان يناظره بعد ذلك ويجادله فيقول قد أخللت بشي ء من سيرة أبي بكر وعمر كلا إن السيف لضاربه والأمر لمالكه والرعية أتباع والحكم لصاحب السلطان منهم . ومن العجب أن يقول المرتضى إنه لأجل التقية وافق على الرضا بالشورى فهلا اتقى القوم وقد ذكروا له سيرة الشيخين فأباها وكرهها ومن كان يخاف على نفسه أن لو أظهر الزهد في الخلافة والرغبة عن الدخول في أمر الشورى كيف لم يخف على نفسه وقد ذكرت له سيرة الشيخين فتركها ولم يوافق عليها وقال لا بل على أن أجتهد رأيي . وأما قول المرتضى إنه وصف القوم بصفات تمنع من الإمامة ثم عينهم للإمامة فنقول في جوابه أن تلك الصفات لا تمنع من الإمامة بالكلية بل هي صفات تنقص في الجملة أي لو لم تكن هذه الصفات فيهم لكانوا أكمل أ لا ترى أنه قال في عبد الرحمن رجل صالح على ضعف فيه فذكر أن فيه ضعفا يسيرا لأنه لو كان يرى ضعفه مانعا من الإمامة لقال ضعيف عنها جدا أو لا يصلح لها لضعفه وكذلك قوله في أمير المؤمنين فيه فكاهة لأن ذلك لا يمنع من الإمامة ولا زهو طلحة ونخوته ولا ما وصف به الزبير من أنه شديد السخط وقت غضبه وأنه بخيل ولا توليه الأقارب على رقاب الناس إذا لم يكونوا فساقا وأقوى عيب ذكره ما عاب به سعدا في قوله صاحب
[ 275 ](1/3538)
مقنب وقتال لا يقوم بقرية لو حمل أمرها ويجوز أن يكون قال ذلك على سبيل المبالغة في استصلاحه لأن يكون صاحب جيش يقاتل به بين يدي الإمام وأنه ليس له دربة ونظر في تدبير البلاد والأطراف وجباية أموالها أ لا تراه كيف قال لا يقوم بقرية ويجوز أن يلي الخلافة من هذه حاله ويستعين في أمر العباد والبلاد وجباية الأموال بالكفاة الأمناء فأما الرواية الأخرى التي قال فيها لعثمان لروثة خير منك فهي من روايات الشيعة ولسنا نعرفها من كتب غيرهم . فأما قوله كيف قال لا أتحملها حيا وميتا فحصر الخلافة في العدد المخصوص ثم رتبها ذلك الترتيب إلى أن آلت إلى اختيار عبد الرحمن وحده فنقول في جوابه أنه كان يحب إلا يستقل وحده بأمر الخلافة وأن يشاركه في ذلك غيره من صلحاء المهاجرين ليكون أعذر عند الله تعالى وعند الناس وإذا كان قد وضع الشورى على ذلك الوضع المخصوص فلم يتحملها استقلالا بل شركه فيها غيره فهو أقل لتحمله أمرها لو كان عين على واحد بعينه . وأما حديث القتل فليس مراده إلا شق العصا ومخالفة الجماعة والتوثب على الأمر مغالبة . وقول المرتضى لو كان ذلك من أول يوم لوجب أن يمنع فاعله ويقاتل فأي معنى لضرب الأيام الثلاثة أجلا فإنه يقال له إن الأجل المذكور لم يضرب لقتل من يشق العصا وإنما ضرب لإبرامهم الأمر وفصله قبل أن تتطاول الأيام بهم ويتسامع من بعد عن دار الهجرة أن الخليفة قد قتل وأنهم مضطربون إلى الآن لم يقيموا لأنفسهم خليفة بعده فيطمع أهل الفساد والدعارة ولا يؤمن وقوع الفتن
[ 276 ](1/3539)
و لا يؤمن أيضا أن يسترد الروم وفارس بلادا قد كان الإسلام استولى عليها لأن عدم الرئيس مطمع للعدو في ملكه ورعيته . فأما الأخبار والآثار التي ذكرها المرتضى في مبايعة علي ع لعثمان وأنه كان مكرها عليها أو كالمكره وأن الرضا كان مرتفعا والخلاف كان واقعا فكلام في غير موضعه لأن قاضي القضاة لم ينح بكلامه هذا النحو ولا قصد هذا القصد ليناقضه بما رواه وأسنده من الأخبار والآثار ولا هذا الموضع من كتاب المغني موضع الكلام في بيعة عثمان وصحتها ووقوع الرضا بها فيطعن المرتضى في ذلك بما رواه من الأخبار والآثار الدالة على تهضم القوم لأمير المؤمنين ع وأصحابه وشيعته وتهددهم وإنما الرضا الذي أشار إليه قاضي القضاة فهو رضا أمير المؤمنين ع بأن يكون في جملة أهل الشورى لأن هذا الباب من كتاب المغني هو باب نفي المطاعن عن عمر وقد تقدم ذكر كثير منها . ثم انتهى إلى هذا الطعن وهو حديث الشورى فذكر قاضي القضاة أن الشورى مما طعن بها عليه وادعى أنها كانت خطأ من أفعاله لأنها لا نص ولا اختيار أ لا تراه كيف قال في أول الطعن فخرج بها عن النص والاختيار فنقول في الجواب لو كانت خطأ لما دخل علي ع فيها ولا رضي بها فدخوله فيها ورضاه بها دليل على أنها لم تكن خطأ وأين هذا من بيعة عثمان حتى يخلط أحد البابين بالآخر . فأما دعواه أن عمر عمل هذا الفعل حيلة ليصرف الأمر عن علي ع من حيث علم أن عبد الرحمن صهر عثمان وأن سعدا ابن عم عبد الرحمن فلا يخالفه فجعل
[ 277 ](1/3540)
الصواب في الثلاثة الذين يكون فيهم عبد الرحمن فنقول في جوابه إن عمر لو فعل ذلك وقصده لكان أحمق الناس وأجهلهم لأنه من الجائز ألا يوافق سعد ابن عمه لعداوة تكون بينهما خصوصا من بني العم ويمكن أن يستميل علي ع سعدا إلى نفسه بطريق آمنة بنت وهب وبطريق حمزة بن عبد المطلب وبطريق الدين والإسلام وعهد الرسول ص ومن الجائز أن يعطف عبد الرحمن على علي ع لوجه من الوجوه ويعرض عن عثمان أو يبدو من عثمان في الأيام الثلاثة أمر يكرهه عبد الرحمن فيتركه ويميل إلى علي ع ومن الجائز أن يموت عبد الرحمن في تلك الأيام أو يموت سعد أو يموت عثمان أو يقتل واحد منهم فيخلص الأمر لعلي ع ومن الجائز أن يخالف أبو طلحة أمره له أن يعتمد على الفرقة التي فيها عبد الرحمن ولا يعمل بقوله ويميل إلى جهة علي ع فتبطل حيلته وتدبيره . ثم هب أن هذا كله قد أسقطناه من الذي أجبر عمر وأكرهه وقسره على إدخال علي ع في أهل الشورى وإن كان مراده كما زعم المرتضى صرف الأمر بالحيلة فقد كان يمكنه أن يجعل الشورى في خمسة ولا يذكر عليا ع فيهم أ تراه كان يخاف أحدا لو فعل ذلك ومن الذي كان يجسر أن يراجعه في هذا أو غيره وحيث أدخله من الذي أجبره على أن يقول إن وليها ذلك لحملهم على المحجة البيضاء وحملهم على الصراط المستقيم ونحو ذلك من المدح قد كان قادرا ألا يقول ذلك والكلام الغث البارد لا أحبه . فأما قوله إن عبد الرحمن فعل ما فعل من إخراج نفسه من الإمامة حيلة ليسلم الأمر إلى عثمان ويصرفه عن علي ع فكلام بعضه صحيح وبعضه غير صحيح أما الصحيح منه فميل عبد الرحمن إلى جهة عثمان وانحرافه عن علي ع قليلا
[ 278 ](1/3541)
و ليس هذا بمخصوص بعبد الرحمن بل قريش قاطبة كانت منحرفة عنه . وأما الذي هو غير صحيح فقوله أنه أخرج نفسه منها لذلك فإن هذا عندي غير صحيح لأنه قد كان يمكنه ألا يخرج نفسه منها ويبلغ غرضه بأن يتجاوز هو وابن عمه إلى عثمان ويدع عليا وطلحة والزبير طائفة أخرى فيولي المسلمون الأمر الطائفة التي فيها عبد الرحمن بمقتضى نص عمر على ذلك ثم يعتمد عبد الرحمن بعد ذلك ما يشاء إن شاء وليها هو أو أحد الرجلين فأي حاجة كانت به إلى أن يخرج نفسه منها ليبلغ غرضا قد كان يمكنه الوصول إليه بدون ذلك . وأيضا فإن كان غرضه ذلك فإنه من رجال الدنيا قد كان لا محالة ولم يكن من رجال الآخرة ومن هو من رجال الدنيا ومحبيها كيف تسمح نفسه بترك الخلافة ليعطيها غيره وهلا واطأ سعدا ابن عمه وطلحة صديقه على أن يولياه الخلافة وقد قال عمر كونوا مع الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن لا سيما وطلحة منحرف عن علي ع وعثمان لأنهما ابنا عبد مناف وكذلك سعد وعبد الرحمن منحرفان عنهما لذلك أيضا ولما اختصا به من صهر رسول الله ص والصحيح أن عبد الرحمن أخرج نفسه منها لأنه استضعف نفسه عن تحمل أثقالها وكلفها وكره أن يدخل فيها فيقصر عن عمر ويراه الناس بعين النقص ولا يستطيع أن يقوم بما كان عمر يقوم به وكان عبد الرحمن غنيا موسرا كثير المال وشيخا قد ذهب عنه ترف الشباب فنفض عنها يده استغناء عنها وكراهية لخلل يدخل عليه إن وليها . وأما ميله عن علي ع فقد كان منه بعض ذلك والطباع لا تملك والحسد مستقر في نفوس البشر لا سيما إذا انضاف إليه ما يقتضي الازدياد في الأمور . فأما تنزيه المرتضى لعلي ع عن الفكاهة والدعابة فحق ولقد كان
[ 279 ](1/3542)
ع على قدم عظيمة من الوقار والجد والسمت العظيم والهدى الرصين ولكنه كان طلق الوجه سمح الأخلاق وعمر كان يريد مثله من ذوي الفظاظة والخشونة لأن كل واحد يستحسن طبع نفسه ولا يستحسن طبع من يباينه في الخلق والطبع وأنا أعجب من لفظة عمر إن كان قالها إن فيه بطالة وحاش لله أن يوصف علي ع بذلك وإنما يوصف به أهل الدعابة واللهو وما أظن عمر إن شاء الله قالها وأظنها زيدت في كلامه وإن الكلمة هاهنا لدالة على انحراف شديد . فأما قول أمير المؤمنين ع للعباس ولغيره ذهب الأمر منا إن عبد الرحمن لا يخالف ابن عمه فليس معناه أن عمر قصد ذلك وإنما معناه أن من سوء الاتفاق أن وقع الأمر هكذا ويوشك ألا يصل إلينا حيث قد اتفق فيه هذه النكتة . فأما قول قاضي القضاة إذا تقدمت للفاعل حالة تقتضي حسن الظن وجب أن يحمل فعله على ما يطابقها واعتراض المرتضى عليه بقوله إن ذلك إنما يجب إذا كان الخير معلوما منه فيما تقدم لا مظنونا ومتى كان مظنونا ثم وجدنا له فعلا يظن به القبيح لم يكن لنا أن نقضي بالسابق على اللاحق فنقول في جوابه أن الإنسان إذا كان مشهورا بالصلاح والخير وتكرر منه فعل ذلك مدة طويلة ثم رأيناه قد وقعت منه حركة تنافي ذلك فيما بعد فإنه يجب علينا أن نحملها على ما يطابق أحواله الأولى ما وجدنا لها محملا لأن أحواله الأولى كثيرة وهذه حالة مفردة شاذة وإلحاق القليل بالكثير وحمله عليه أولى من نقض الكثير بالقليل وقد كانت أحوال عمر مدة عشرين سنة منتظمة في إصلاح الرعية ومناصحة الدين وهذا معلوم منه ضرورة أعني ظاهر أحواله فإذا وقعت عنه حالة واحدة وهي
[ 280 ](1/3543)
قصة الشورى فيها شبهة ما وجب أن نتأولها ما وجدنا لها في الخير محملا ونلحقها بتلك الأحوال الكثيرة التي تكررت منه في الأزمان الطويلة ولا يجوز أن نضع اليد عليها ونقول هذه لا غيرها ونقبحها ونهجنها ونسد أبواب هذه التأويلات عنها ثم نحمل أفعاله الكثيرة المتقدمة كلها عليها في التقبيح والتهجين فهذا خلاف الواجب فقد بان صحة ما ذكره قاضي القضاة لأنه لا حاجة بنا في القضاء بالسابق على اللاحق إلا أن يكون خيره معلوما وعلم علما يقينا فإن الظن الغالب كاف في هذا المقام على الوجه الذي ذكرناه . وأما قوله عن عمر أنه بلغ ما في نفسه من إيصال الأمر إلى من أراد وصرفه عمن أراد من غير شناعة بالتصريح وحتى لا يقال فيه ما قيل في أبي بكر أو يراجع في نصه كما روجع أبو بكر ولأي حال يتعسف أبعد الطريقين وغرضه يتم من أقربهما فقد قلنا في جوابه ما كفى وبينا أن عمر لو أراد ما ذكر لصرف الأمر عمن يريد صرفه عنه ونص على من يريد إيصال الأمر إليه ولم يبال بأحد فقد عرف الناس كلهم كيف كانت هيبته وسطوته وطاعة الرعية له حتى أن المسلمين أطاعوه أعظم من طاعتهم رسول الله ص في حياته ونفوذ أمره فيهم أعظم من نفوذ أمره ع فمن الذي كان يجسر أو يقدر أن يراجعه في نصه أو يراده أو يلفظ عنده أو غائبا عنه بكلمة تنافي مراده وأي شي ء ضر أبا بكر من مراجعة طلحة له حيث نص ليقول المرتضى خاف عمر من أن يراجع كما روجع أبو بكر وقد سمع الناس ما قال أبو بكر لطلحة لما راجعه فإنه أخزاه وجبهه حتى دخل في الأرض وقام من عنده وهو لا يهتدي إلى الطريق وأين كانت هيبة الناس لأبي بكر من هيبتهم لعمر فلقد كان أبو بكر وهو خليفة يهابه وهو رعية وسوقة بين يديه وكل أفاضل الصحابة كان يهابه وهو بعد لم يل الخلافة حتى أن الشيعة تقول إن النبي ص يهابه فمن
[ 281 ](1/3544)
كانت هذه حاله وهو رعية وسوقة فكيف يكون وهو خليفة قد ملك مشارق الأرض ومغاربها وخطب له على مائة ألف منبر ولو أراد عمر أن يخطب بالخلافة لأبي هريرة لما خالفه أحد من الناس أبدا فكيف يقول المرتضى لما ذا يتعسف عمر أبعد الطريقين وغرضه يتم من أقربهما . والعجب منه كيف يقول خاف شناعة التصريح فمن لم يخف عندهم شناعة المخالفة لرسول الله ص وهو يعلم أن المسلمين يعلمون أنه مخالف لله تعالى ولرسوله قائم في مقام لم يجعله الله تعالى له كيف يخاف شناعة التصريح باسم عثمان لو كان يريد استخلافه إن هذا لأعجب من العجب(1/3545)
الطعن العاشر
قولهم إنه أبدع في الدين ما لا يجوز كالتراويح وما عمله في الخراج الذي وضعه على السواد وفي ترتيب الجزية وكل ذلك مخالف للقرآن والسنة لأنه تعالى جعل الغنيمة للغانمين والخمس منها لأهل الخمس فخالف القرآن وكذلك السنة تنطق في الجزية أن على كل حالم دينارا فخالف في ذلك السنة وأن الجماعة لا تكون إلا في المكتوبات فخالف السنة . أجاب قاضي القضاة عن ذلك بأن قيام شهر رمضان قد روي عن النبي ص أنه عمله ثم تركه وإذا علم أن الترك ليس بنسخ صار سنة يجوز أن يعمل بها وإذا كان ما لأجله تركه من التنبيه بذلك على أنه ليس بفرض ومن تخفيف التعبد
[ 282 ]
ليس بقائم في فعل عمر لم يمتنع أن يدوم عليه وإذا كان فيه الدعاء إلى الصلاة والتشدد في حفظ القرآن فما الذي يمنع أن يعمل به . فأما أمر الخراج فأصله السنة لأن النبي ص بين أن لمن يتولى الأمر ضربا من الاختيار في الغنيمة ولذلك فصل بين الرجال والأموال فجعل الاختيار في الرجال إلى الإمام في القتل والاسترقاق والمفاداة وفصل بينه وبين المال وإن كان الجميع غنيمة . ثم ذكر أن الغنيمة لم تضف إلى الغانمين إضافة الملك وإنما المراد أن لهم في ذلك من الاختصاص والحق ما ليس لغيرهم فإذا عرض ما يقتضي تقديم أمر آخر جاز للإمام أن يفعله ورأى عمر في أمر السواد الاحتياط للإسلام بأن يقر في أيديهم على الخراج الذي وضعه وإن كان في الناس من يقول فعل ذلك برضا الغانمين وبأن عوض ويدل على صحة فعله إجماع الأمة ورضاهم به ولما أفضى الأمر إلى أمير المؤمنين ع تركه على جملته ولم يغيره . ثم ذكر في الجزية أن طريقها الاجتهاد فإن الخبر المروي في هذا الباب ليس بمقطوع به ولا معناه معلوم . اعترض المرتضى هذا الجواب فقال أما التراويح فلا شبهة أنها بدعة و(1/3546)
قد روي عن النبي ص أنه قال أيها الناس إن الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة جماعة بدعة وصلاة الضحى بدعة ألا فلا تجتمعوا ليلا في شهر رمضان في النافلة ولا تصلوا صلاة الضحى فإن قليلا في سنة خير من كثير في بدعة ألا وإن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة سبيلها في النار
[ 283 ]
و قد روي أن عمر خرج في شهر رمضان ليلا فرأى المصابيح في المسجد فقال ما هذا فقيل له إن الناس قد اجتمعوا لصلاة التطوع فقال بدعة فنعمت البدعة فاعترف كما ترى بأنها بدعة و
قد شهد الرسول ص أن كل بدعة ضلالة . وقد روي أن أمير المؤمنين ع لما اجتمعوا إليه بالكوفة فسألوه أن ينصب لهم إماما يصلي بهم نافلة شهر رمضان زجرهم وعرفهم أن ذلك خلاف السنة فتركوه واجتمعوا لأنفسهم وقدموا بعضهم فبعث إليهم ابنه الحسن ع فدخل عليهم المسجد ومعه الدرة فلما رأوه تبادروا الأبواب وصاحوا وا عمراه . قال فأما ادعاؤه أن قيام شهر رمضان كان في أيام الرسول ص ثم تركه فمغالطة منه لأنا لا ننكر قيام شهر رمضان بالنوافل على سبيل الانفراد وإنما أنكرنا الاجتماع على ذلك فإن ادعى أن الرسول ص صلاها جماعة في أيامه فإنها مكابرة ما أقدم عليها أحد ولو كان كذلك ما قال عمر إنها بدعة وإن أراد غير ذلك فهو مما لا ينفعه لأن الذي أنكرناه غيره . قال والذي ذكره من أن فيه التشدد في حفظ القرآن والمحافظة على الصلاة ليس بشي ء لأن الله تعالى ورسوله بذلك أعلم ولو كان كما قاله لكانا يسنان هذه الصلاة ويأمران بها وليس لنا أن نبدع في الدين بما نظن أن فيه مصلحة لأنه لا خلاف في أن ذلك لا يسوغ ولا يحل . وأما أمر الخراج فهو خلاف لنص القرآن لأن الله تعالى جعل الغنيمة في وجوه مخصوصة فمن خالفها فقد أبدع وليس للإمام ولا لغيره أن يجتهد فيخالف النص فبطل قوله أنه رأى من الاحتياط للإسلام أن يقر في أيديهم على الخراج لأن خلاف النص
[ 284 ](1/3547)
لا يكون من الاحتياط ورسوله أعلم بالاحتياط منه ولو كان لرضا الغانمين عن ذلك أو عوضهم منه على ما ادعاه صاحب الكتاب لوجب أن يظهر ذلك ويعلم وما عرفنا في ذلك شيئا ولا نقله الناقلون . وأما ما ادعاه من الإجماع فمعوله فيه على ترك النكير وقد تقدم الكلام عليه وتكرر وكذلك قد تقدم الكلام في وجه إقرار أمير المؤمنين ع ما أقره من أحكام القوم وما ادعاه أن خبر الجزية غير معلوم ولا مقطوع به فهب أن ذلك مسلم على ما فيه أ ليس من مذهبه أن أخبار الآحاد في الشريعة يعمل بها وإن لم تكن معلومة فهلا عمل عمر بالخبر المروي في هذا الباب وعدل عن اجتهاده الذي أداه إلى مخالفة الله تعالى . أما كون صلاة التراويح بدعة وإطلاق عمر عليها هذا اللفظ فإن لفظ البدعة يطلق على مفهومين أحدهما ما خولف به الكتاب والسنة مثل صوم يوم النحر وأيام التشريق فإنه وإن كان صوما إلا أنه منهي عنه . والثاني ما لم يرد فيه نص بل سكت عنه ففعله المسلمون بعد وفاة رسول الله ص فإن أريد بكون صلاة التراويح بدعة المفهوم الأول فلا نسلم أنها بدعة بهذا التفسير والخبر الذي رواه المرتضى غير معروف ولا يمكنه أن يسنده إلى كتاب من كتب المحدثين ولو قدر على ذلك لأسنده ولعله من أخبار أصحابه من محدثي الإمامية والأخباريين منهم والألفاظ التي في آخر الحديث وهي
كل بدعة ضلالة وكل ضلالة
[ 285 ](1/3548)
في النار مروية مشهورة ولكن على تفسير البدعة بالمفهوم الأول وقول عمر إنها لبدعة خبر مروي مشهور ولكن أراد به البدعة بالتفسير الثاني والخبر الذي رواه أمير المؤمنين ع ينفرد هو وطائفته بنقله والمحدثون لا يعرفون ذلك ولا يثبتونه . فأما إنكاره أن تكون نافلة شهر رمضان صلاها رسول الله ص في جماعة فإنكار لست أرتضيه لمثله فإن كتب المحدثين مشحونة برواية ذلك وقد ذكره أحمد بن حنبل في مسنده غير مرة بعدة طرق ورواه الفقهاء ذكره الطحاوي في كتاب إختلاف الفقهاء وذكره أبو الطيب الطبري الشافعي في شرحه كتاب المزني وقد ذكره المتأخرون أيضا ذكره الغزالي في كتاب إحياء علوم الدين وقال إن رسول الله ص صلى التراويح في شهر رمضان في جماعة ليلتين أو ثلاثا ثم ترك وقال أخاف أن يوجب عليكم وأجاز لي الشيخ أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي بروايته عن شيخه محمد بن ناصر عن شيوخه ورجاله أن رسول الله ص صلى نافلة شهر رمضان في جماعة يأتمون به ليالي ثم لم يخرج وقام في بيته وصلى الناس فرادى بقية أيامه وأيام أبي بكر وصدرا من خلافة عمر فخرج عمر ليلة فرأى الناس أوزاعا يصلون في المسجد فقال لو جمعتهم على إمام فأمر أبي بن كعب أن يصلي بهم فصلى بهم تلك الليلة ثم خرج فرآهم مجتمعين إلى أبي بن كعب يصلي بهم فقال بدعة ونعمة البدعة أما إنها لفضل والتي ينامون عنها أفضل . قال يعني قيام آخر الليل فإنه أفضل من قيام أوله . وأما قول قاضي القضاة أن في التراويح فائدة وهي التشدد في حفظ القرآن والدعاء إلى الصلاة واعتراض المرتضى إياه بقوله الله أعلم بالمصلحة وليس لنا أن نسن ما لم يسنه
[ 286 ](1/3549)
الله ورسوله فإنه يقال له أ ليس يجوز للإنسان أن يخترع من النوافل صلوات مخصوصة بكيفيات مخصوصة وأعداد ركعات مخصوصة ولا يكون ذلك مكروها ولا حراما نحو أن يصلي ثلاثين ركعة بتسليمة واحدة ويقرأ في كل ركعة منها سورة من قصار المفصل أ فيقول أحد إن هذا بدعة لأنه لم يرد فيه نص ولا سبق إليه المسلمون من قبل فإن قال هذا يسوغ فإنه داخل تحت عموم ما ورد في فضل صلاة النافلة قيل له والتراويح جائزة ومسنونة لأنها داخلة تحت عموم ما ورد في فضل صلاة الجماعة . فإن قال كيف تكون نافلة وهي جماعة قيل له قد رأينا كثيرا من النوافل تصلى جماعة نحو صلاة العيد وصلاة الكسوف وصلاة الاستسقاء وصلاة الجنازة إذا لم يتعين للمصلي بأن يقوم غيره مقامه فيها . فأما ما أشار إليه قاضي القضاة من التشدد في حفظ القرآن فهو أنه روي أن عمر أتي بسارق فأمر بقطعه فقال لم أعلم أن الله أوجب القطع في السرقة ولو علمت لم أسرق فأحلفه على ذلك وسن التراويح جماعة ليتكرر سماع القرآن على أسماع المسلمين . وقد اختلف الفقهاء أيما أفضل في نافلة شهر رمضان الاجتماع عليها أم صلاتها فرادى فقال قوم الجماعة أفضل لأن الاجتماع بركة وله فضيلة ولو لا فضيلته لم يسن في المكتوبة ولأنه ربما يكسل في الانفراد وينشط عند مشاهدة الجمع . وقال قوم الانفراد أفضل لأنها سنة ليست من الشعائر كالعيدين فإلحاقها بتحية المسجد أولى وقد جرت العادة بأن يدخل المسجد جمع معا ثم لم يصلوا التحية بالجماعة . وروى القائلون بهذا القول
عن النبي ص أنه قال فضل صلاة المتطوع في بيته على صلاة المتطوع في المسجد كفضل صلاة المكتوبة في المسجد على صلاته في البيت
[ 287 ]
و(1/3550)
قد روي عنه ع أن أفضل النوافل ركعتان يصليهما المسلم في زاوية بيته لا يعلمهما إلا الله وحده . قالوا ولأنها إذا صليت فرادى كانت الصلاة أبعد من الرياء والتصنع وبالجملة الاختلاف في أيهما أفضل فأما تحريم الصلاة ولزوم الإثم بفعلها فمما لم يذهب إليه إلا الإمامية وقد روى الرواة أن عليا ع خرج ليلا في شهر رمضان في خلافة عثمان بن عفان فرأى المصابيح في المساجد والمسلمون يصلون التراويح فقال نور الله قبر عمر كما نور مساجدنا والشيعة يروون هذا الخبر ولكن بحمل اللفظ على معنى آخر . فأما حديث الخراج فقد ذكره أرباب علم الخراج والكتاب وذكره الفقهاء أيضا في كتبهم وذكره أرباب السيرة وأصحاب التاريخ قال قدامة بن جعفر في كتاب الخراج اختلف الفقهاء في أرض العنوة فقال بعضهم تخمس ثم تقسم أربعة أخماس على الذين افتتحوها وقال بعضهم ذلك إلى الإمام إن رأى أن يجعلها غنيمة ليخمسها ويقسم الباقي كما فعل رسول الله ص بخيبر فذلك إليه وإن رأى أن يجعلها فيئا فلا يخمسها ولا يقسمها بل تكون موقوفة على سائر المسلمين كما فعل عمر بأرض السواد وأرض مصر وغيرهما مما افتتحه عنوة فعلى الوجهين جميعا فيهما قدوة ومتبع لأن النبي ص قسم خيبر وصيرها غنيمة وأشار الزبير بن العوام على عمر في مصر وبلاد الشام بمثل ذلك وهو مذهب مالك بن أنس وجعل عمر السواد وغيره فيئا موقوفا على المسلمين من كان منهم حاضرا في وقته ومن أتى بعده ولم يقسمه وهو رأي رآه علي بن أبي طالب ع ومعاذ بن جبل وأشارا عليه وبه كان يأخذ سفيان بن سعيد وذلك رأي من جعل الخيار إلى الإمام في تصيير أرض العنوة غنيمة أو فيئا راجعا للمسلمين في كل سنة .
[ 288 ](1/3551)
قال قدامة رحمه الله فأما ما فعله رسول الله ص من تصييره خيبر غنيمة فإنه ع اتبع فيه آية محكمة وهي قوله تعالى وَ اِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ فهذه آية الغنيمة وهي لأهلها دون الناس وبها عمل رسول الله ص وأما الآية التي عمل بها عمر وذهب إليها علي ع ومعاذ بن جبل فيما أشارا عليه به فهي قوله تعالى ما أَفاءَ اَللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ اَلْقُرى فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ إلى قوله لِلْفُقَراءِ اَلْمُهاجِرِينَ وَ اَلَّذِينَ تَبَوَّؤُا اَلدَّارَ وَ اَلْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ اَلَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ انتهت ألفاظ قدامة . وروى محمد بن جرير الطبري في تاريخه أن عمر هم أن يقسم أرض السواد بين الغانمين كما يقسم الغنائم ثم قال فكيف بالآجام ومناقع المياه والغياض والهضب المرتفع والغائط المنخفض وكيف يصنع هؤلاء بالماء وقسمته بينهم أخاف أن يضرب بعضهم وجوه بعض ثم جمع الغانمين فقال لهم ذلك فرضوا أن تقر الأرض حبيسا لهم يولونها من تراضوا عليه ثم يقتسمون غلتها كل عام فقال عمر اللهم إني قد اجتهدت وقد قضيت ما علي اللهم إني أشهدك عليهم فاشهد . فأما قول قاضي القضاة إن النبي ص جعل لمتولي أمر الأمة ضربا من الاختيار في الغنيمة وما ذكره من الفرق بين الرجال والأموال وما ذكره من أن الغانمين ليسوا مالكي الغنيمة ملكا صريحا وإنما هو ضرب من الاختصاص فكله جيد لا كلام عليه ولم يعترضه المرتضى بشي ء ولا تعرض له . وأما قول قاضي القضاة إنه روي أن عمر فعل ما فعل برضا الغانمين وبأن عوضهم
[ 289 ](1/3552)
عنه وإنكار المرتضى وقوع ذلك وقوله أنه لم ينقل فقد بينا أن الطبري ذكر في تاريخه أن عمر فعل ذلك برضا الغانمين وبعد أن جمعهم وقال لهم ما استصلحه وما أدى إليه اجتهاده فرضوا به وأشهدوا الله عليهم والحاضرين . وقد ذكر كثير من الفقهاء أن عمر عوض الغانمين عن أرض السواد ووقفه على مصالح المسلمين وهذا ما رواه الشافعي وذكر حديث التعريض أبو الحسن علي بن حبيب الماوردي في كتاب الحاوي في الفقه وذكره أيضا أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري في شرح المزني . وأما تعلق قاضي القضاة بإجماع المسلمين فتعلق صحيح وطعن المرتضى فيه بالتقية وموافقة الإمام المعصوم على الباطل طعن يسمج التعلق به وللبحث فيه سبح طويل . وأما أمر الجزية فطريقه الاجتهاد وللإمام أن يرى فيه رأيه بمشاورة الصلحاء والفقهاء وقد قال قاضي القضاة إن الخبر الذي ذكره المرتضى وذكر أنه مرفوع وهو
على كل حالم دينار خبر مظنون غير معلوم واعتراض المرتضى عليه بقوله هب أن الأمر كذلك أ لستم تزعمون أن خبر الواحد معمول عليه في الفروع فهلا عمل عمر بهذا الخبر وإن كان خبر واحد اعتراض ليس بلازم لأنه إذا كان خبر واحد عندنا لم يلزم أن يكون أيضا خبر واحد عند عمر بل من الجائز أن يكون مفتعلا بعد وفاة عمر ولو كان قد ثبت أن عمر سمع هذا الخبر من واحد أو اثنين من الصحابة ثم لم يعمل به كان الاعتراض لازما ولكن ذلك مما لم يثبت(1/3553)
? الجزء الثاني عشر
? تتمة باب الخطب والأوامر
? 223 ومن كلام له ع
? نكت من كلام عمر وسيرته وأخلاقه
? خطب عمر الطوال
? نبذ من كلام عمر
? أخبار عمر مع عمرو بن معديكرب
? فصل فيما نقل عن عمر من الكلمات الغريبة
? ذكر الأحاديث الواردة في فضل عمر
? ذكر ما ورد من الخبر عن إسلام عمر
? تاريخ موت عمر والأخبار الواردة في ذلك
? فصل في ذكر ما طعن به على عمر والجواب عنه
? الطعن الأول
? الطعن الثاني
? الطعن الثالث
? الطعن الرابع
? الطعن الخامس
? الطعن السادس
? الطعن السابع
? الطعن الثامن
? الطعن التاسع
? الطعن العاشر(1/3554)
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد المعتزلي
الجزء الثالث عشر(1/3555)
تتمة باب الخطب والأوامر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل(1/3556)
224 ومن كلام له ع في وصف بيعته بالخلافة
و قد تقدم مثله بألفاظ مختلفة : وَ بَسَطْتُمْ يَدِي فَكَفَفْتُهَا وَ مَدَدْتُمُوهَا فَقَبَضْتُهَا ثُمَّ تَدَاكَكْتُمْ عَلَيَّ تَدَاكَّ اَلْإِبِلِ اَلْهِيمِ عَلَى حِيَاضِهَا يَوْمَ وِرْدِهَا حَتَّى اِنْقَطَعَتِ اَلنَّعْلُ وَ سَقَطَ اَلرِّدَاءُ وَ وُطِئَ اَلضَّعِيفُ وَ بَلَغَ مِنْ سُرُورِ اَلنَّاسِ بِبَيْعَتِهِمْ إِيَّايَ أَنِ اِبْتَهَجَ بِهَا اَلصَّغِيرُ وَ هَدَجَ إِلَيْهَا اَلْكَبِيرُ وَ تَحَامَلَ نَحْوَهَا اَلْعَلِيلُ وَ حَسَرَتْ إِلَيْهَا اَلْكِعَابُ التداك الازدحام الشديد والإبل الهيم العطاش . وهدج إليها الكبير مشى مشيا ضعيفا مرتعشا والمضارع يهدج بالكسر . وتحامل نحوها العليل تكلف المشي على مشقة .
[ 4 ]
و حسرت إليها الكعاب كشفت عن وجهها حرصا على حضور البيعة والكعاب الجارية التي قد نهد ثديها كعبت تكعب بالضم . قوله حتى انقطع النعل وسقط الرداء شبيه
بقوله في الخطبة الشقشقية حتى لقد وطئ الحسنان وشق عطفاي . وقد تقدم ذكر بيعته ع بعد قتل عثمان وإطباق الناس عليها وكيفية الحال فيها وشرح شرحا يستغنى عن إعادته
[ 5 ](1/3557)
225 ومن خطبة له ع
فَإِنَّ تَقْوَى اَللَّهِ مِفْتَاحُ سَدَادٍ وَ ذَخِيرَةُ مَعَادٍ وَ عِتْقٌ مِنْ كُلِّ مَلَكَةٍ وَ نَجَاةٌ مِنْ كُلِّ هَلَكَةٍ بِهَا يَنْجَحُ اَلطَّالِبُ وَ يَنْجُو اَلْهَارِبُ وَ تُنَالُ اَلرَّغَائِبُ فَاعْمَلُوا وَ اَلْعَمَلُ يُرْفَعُ وَ اَلتَّوْبَةُ تَنْفَعُ وَ اَلدُّعَاءُ يُسْمَعُ وَ اَلْحَالُ هَادِئَةٌ وَ اَلْأَقْلاَمُ جَارِيَةٌ وَ بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ عُمُراً نَاكِساً أَوْ مَرَضاً حَابِساً أَوْ مَوْتاً خَالِساً فَإِنَّ اَلْمَوْتَ هَادِمُ لَذَّاتِكُمْ وَ مُكَدِّرُ شَهَوَاتِكُمْ وَ مُبَاعِدُ طِيَّاتِكُمْ زَائِرٌ غَيْرُ مَحْبُوبٍ وَ قِرْنٌ غَيْرُ مَغْلُوبٍ وَ وَاتِرٌ غَيْرُ مَطْلُوبٍ قَدْ أَعْلَقَتْكُمْ حَبَائِلُهُ وَ تَكَنَّفَتْكُمْ غَوَائِلُهُ وَ أَقْصَدَتْكُمْ مَعَابِلُهُ وَ عَظُمَتْ فِيكُمْ سَطْوَتُهُ وَ تَتَابَعَتْ عَلَيْكُمْ عَدْوَتُهُ وَ قَلَّتْ عَنْكُمْ نَبْوَتُهُ فَيُوشِكُ أَنْ تَغْشَاكُمْ دَوَاجِي ظُلَلِهِ وَ اِحْتِدَامُ عِلَلِهِ وَ حَنَادِسُ غَمَرَاتِهِ وَ غَوَاشِي سَكَرَاتِهِ وَ أَلِيمُ إِرْهَاقِهِ وَ دُجُوُّ أَطْبَاقِهِ وَ خُشُونَةُ جُشُوبَةُ مَذَاقِهِ فَكَأَنْ قَدْ أَتَاكُمْ بَغْتَةً فَأَسْكَتَ نَجِيَّكُمْ وَ فَرَّقَ نَدِيَّكُمْ وَ عَفَّى آثَارَكُمْ وَ عَطَّلَ دِيَارَكُمْ وَ بَعَثَ وُرَّاثَكُمْ يَقْتَسِمُونَ تُرَاثَكُمْ بَيْنَ حَمِيمٍ خَاصٍّ لَمْ يَنْفَعْ وَ قَرِيبٍ مَحْزُونٍ لَمْ يَمْنَعْ وَ آخَرَ شَامِتٍ لَمْ يَجْزَعْ فَعَلَيْكُمْ بِالْجَدِّ وَ اَلاِجْتِهَادِ وَ اَلتَّأَهُّبِ وَ اَلاِسْتِعْدَادِ وَ اَلتَّزَوُّدِ فِي مَنْزِلِ اَلزَّادِ وَ لاَ تَغُرَّنَّكُمُ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا كَمَا غَرَّتْ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ اَلْأُمَمِ اَلْمَاضِيَةِ وَ اَلْقُرُونِ اَلْخَالِيَةِ اَلَّذِينَ اِحْتَلَبُوا دِرَّتَهَا وَ أَصَابُوا غِرَّتَهَا(1/3558)
وَ أَفْنَوْا عِدَّتَهَا وَ أَخْلَقُوا جِدَّتَهَا
[ 6 ]
وَ أَصْبَحَتْ مَسَاكِنُهُمْ أَجْدَاثاً وَ أَمْوَالُهُمْ مِيرَاثاً لاَ يَعْرِفُونَ مَنْ أَتَاهُمْ وَ لاَ يَحْفِلُونَ مَنْ بَكَاهُمْ وَ لاَ يُجِيبُونَ مَنْ دَعَاهُمْ فَاحْذَرُوا اَلدُّنْيَا فَإِنَّهَا غَدَّارَةٌ غَرَّارَةٌ خَدُوعٌ مُعْطِيَةٌ مَنُوعٌ مُلْبِسَةٌ نَزُوعٌ لاَ يَدُومُ رَخَاؤُهَا وَ لاَ يَنْقَضِي عَنَاؤُهَا وَ لاَ يَرْكُدُ بَلاَؤُهَا عتق من كل ملكة هو مثل
قوله ع التوبة تجب ما قبلها أي كل ذنب موبق يملك الشيطان فاعله ويستحوذ عليه فإن تقوى الله تعتق منه وتكفر عقابه ومثله قوله ونجاة من كل هلكة . قوله ع والعمل ينفع أي اعملوا في دار التكليف فإن العمل يوم القيامة غير نافع . قوله ع والحال هادئة أي ساكنة ليس فيها ما في أحوال الموقف من تلك الحركات الفظيعة نحو تطاير الصحف ونطق الجوارح وعنف السياق إلى النار . قوله ع والأقلام جارية يعني أن التكليف باق وأن الملائكة الحفظة تكتب أعمال العباد بخلاف يوم القيامة فإنه يبطل ذلك ويستغنى عن الحفظة لسقوط التكليف . قوله عمرا ناكسا يعني الهرم من قوله تعالى وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي اَلْخَلْقِ لرجوع الشيخ الهرم إلى مثل حال الصبي الصغير في ضعف العقل والبنية
[ 7 ](1/3559)
و الموت الخالس المختطف والطيات جمع طية بالكسر وهي منزل السفر والواتر القاتل والوتر بالكسر الذحل . وأعلقتكم حبائله جعلتكم معتلقين فيها ويروى قد علقتكم بغير همز . وتكنفتكم غوائله أحاطت بكم دواهيه ومصائبه وأقصدتكم أصابتكم . والمعابل نصال عراض الواحدة معبلة بالكسر . وعدوته بالفتح ظلمه ونبوته مصدر نبا السيف إذا لم يؤثر في الضريبة . ويوشك بالكسر يقرب وتغشاكم تحيط بكم . والدواجي الظلم الواحدة داجية والظلل جمع ظلة وهي السحاب والاحتدام الاضطرام والحنادس الظلمات . وإرهاقه مصدر أرهقته أي أعجلته ويروى إزهاقه بالزاي . والأطباق جمع طبق وهذا من باب الاستعارة أي تكاثف ظلماتها طبق فوق طبق . ويروى وجشوبة مذاقه بالجيم والباء وهي غلظ الطعام . والنجي القوم يتناجون والندي القوم يجتمعون في النادي . واحتلبوا درتها فازوا بمنافعها كما يحتلب الإنسان اللبن . وهذه الخطبة من محاسن خطبه ع وفيها من صناعة البديع ما هو ظاهر للمتأمل : مِنْهَا فِي صِفَةِ اَلزُّهَّادِ كَانُوا قَوْماً مِنْ أَهْلِ اَلدُّنْيَا وَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهَا فَكَانُوا فِيهَا كَمَنْ لَيْسَ مِنْهَا
[ 8 ](1/3560)
عَمِلُوا فِيهَا بِمَا يُبْصِرُونَ وَ بَادَرُوا فِيهَا مَا يَحْذَرُونَ تَقَلُّبُ أَبْدَانِهِمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَهْلِ اَلآْخِرَةِ وَ يَرَوْنَ أَهْلَ اَلدُّنْيَا يُعَظِّمُونَ مَوْتَ أَجْسَادِهِمْ وَ هُمْ أَشَدُّ إِعْظَاماً لِمَوْتِ قُلُوبِ أَحْيَائِهِمْ بين ظهراني أهل الآخرة بفتح النون ولا يجوز كسرها ويجوز بين ظهري أهل الآخرة لو روي والمعنى في وسطهم . قوله ع كانوا قوما من أهل الدنيا وليسوا من أهلها أي هم من أهلها في ظاهر الأمر وفي مرأى العين وليسوا من أهلها لأنه لا رغبة عندهم في ملاذها ونعيمها فكأنهم خارجون عنها . قوله عملوا فيها بما يبصرون أي بما يرونه أصلح لهم ويجوز أن يريد أنهم لشدة اجتهادهم قد أبصروا المآل فعملوا فيها على حسب ما يشاهدونه من دار الجزاء وهذا
كقوله ع لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا . قوله ع وبادروا فيها ما يحذرون أي سابقوه يعني الموت . قوله ع تقلب أبدانهم هذا محمول تارة على الحقيقة وتارة على المجاز أما الأول فلأنهم لا يخالطون إلا أهل الدين ولا يجالسون أهل الدنيا وأما الثاني فلأنهم لما استحقوا الثواب كان الاستحقاق بمنزلة وصولهم إليه فأبدانهم تتقلب بين ظهراني أهل الآخرة أي بين ظهراني قوم هم بمنزلة أهل الآخرة لأن المستحق للشي ء نظير لمن فعل به ذلك الشي ء . ثم قال هؤلاء الزهاد يرون أهل الدنيا إنما يستعظمون موت الأبدان وهم أشد استعظاما لموت القلوب وقد تقدم من كلامنا في صفات الزهاد والعارفين ما فيه كفاية
[ 9 ](1/3561)
226 ومن خطبة له ع خطبها بذي قار وهو متوجه إلى البصرة
ذكرها الواقدي في كتاب الجمل : فَصَدَعَ بِمَا أُمِرَ بِهِ وَ بَلَّغَ رِسَالاَتِ رَبِّهِ فَلَمَّ اَللَّهُ بِهِ اَلصَّدْعَ وَ رَتَقَ بِهِ اَلْفَتْقَ وَ أَلَّفَ بِهِ اَلشَّمْلَ بَيْنَ ذَوِي اَلْأَرْحَامِ بَعْدَ اَلْعَدَاوَةِ اَلْوَاغِرَةِ فِي اَلصُّدُورِ وَ اَلضَّغَائِنِ اَلْقَادِحَةِ فِي اَلْقُلُوبِ ذو قار اسم موضع قريب من البصرة وفيه كانت وقعة للعرب مع الفرس قبل الإسلام . وصدع بما أمر به أي جهر وأصل الصدع الشق . ولم به جمع ورتق خاط وألحم . والعداوة الواغرة ذات الوغرة وهي شدة الحر . والضغائن الأحقاد . والقادحة في القلوب كأنها تقدح النار فيها كما تقدح النار بالمقدحة
[ 10 ](1/3562)
227 ومن كلام له ع كلم به عبد الله بن زمعة
و هو من شيعته وذلك أنه قدم عليه في خلافته يطلب منه مالا فَقَالَ ع : إِنَّ هَذَا اَلْمَالَ لَيْسَ لِي وَ لاَ لَكَ وَ إِنَّمَا هُوَ فَيْ ءٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَ جَلْبُ أَسْيَافِهِمْ فَإِنْ شَرِكْتَهُمْ فِي حَرْبِهِمْ كَانَ لَكَ مِثْلُ حَظِّهِمْ وَ إِلاَّ فَجَنَاةُ أَيْدِيهِمْ لاَ تَكُونُ لِغَيْرِ أَفْوَاهِهِمْ(1/3563)
عبد الله بن زمعة ونسبه
هو عبد الله بن زمعة بفتح الميم لا كما ذكره الراوندي وهو عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي . كان الأسود من المستهزءين الذين كفى الله رسوله أمرهم بالموت والقتل وابنه زمعة بن الأسود قتل يوم بدر كافرا وكان يدعى زاد الركب وقتل أخوه عقيل بن الأسود أيضا كافرا يوم بدر وقتل الحارث بن زمعة أيضا يوم بدر كافرا والأسود هو الذي سمع امرأة تبكي على بعير تضله بمكة بعد يوم بدر فقال
أ تبكي أن يضل لها بعير
و يمنعها من النوم الهجود
[ 11 ]
و لا تبكي على بدر ولكن
على بدر تقاصرت الجدود
ألا قد ساد بعدهم أناس
و لو لا يوم بدر لم يسودوا
و كان عبد الله بن زمعة شيعة لعلي ع ومن أصحابه ومن ولد عبد الله هذا أبو البختري القاضي وهو وهب بن وهب بن كبير بن عبد الله بن زمعة قاضي الرشيد هارون بن محمد المهدي وكان منحرفا عن علي ع وهو الذي أفتى الرشيد ببطلان الأمان الذي كتبه ليحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ع وأخذه بيده فمزقه . وقال أمية بن أبي الصلت يرثي قتلى بدر ويذكر زمعة بن الأسود
عين بكي لنوفل ولعمرو
ثم لا تبخلي على زمعه
نوفل بن خويلد من بني أسد بن عبد العزى ويعرف بابن العدوية قتله علي ع وعمرو أبو جهل بن هشام قتله عوف بن عفراء وأجهز عليه عبد الله بن مسعود قوله ع وجلب أسيافهم أي ما جلبته أسيافهم وساقته إليهم والجلب المال المجلوب وجناة الثمر ما يجنى منه وهذه استعارة فصيحة
[ 12 ](1/3564)
228 ومن كلام له ع
أَلاَ وَ إِنَّ اَللِّسَانَ بَضْعَةٌ مِنَ اَلْإِنْسَانِ فَلاَ يُسْعِدُهُ اَلْقَوْلُ إِذَا اِمْتَنَعَ وَ لاَ يُمْهِلُهُ اَلنُّطْقُ إِذَا اِتَّسَعَ وَ إِنَّا لَأُمَرَاءُ اَلْكَلاَمِ وَ فِينَا تَنَشَّبَتْ عُرُوقُهُ وَ عَلَيْنَا تَهَدَّلَتْ غُصُونُهُ وَ اِعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اَللَّهُ أَنَّكُمْ فِي زَمَانٍ اَلْقَائِلُ فِيهِ بِالْحَقِّ قَلِيلٌ وَ اَللِّسَانُ عَنِ اَلصِّدْقِ كَلِيلٌ وَ اَللاَّزِمُ لِلْحَقِّ ذَلِيلٌ أَهْلُهُ مُعْتَكِفُونَ عَلَى اَلْعِصْيَانِ مُصْطَلِحُونَ عَلَى اَلْإِدْهَانِ فَتَاهُمْ عَارِمٌ وَ شَائِبُهُمْ آثِمٌ وَ عَالِمُهُمْ مُنَافِقٌ وَ فَارِئُهُمْ قَارِنُهُمْ مُمَاذِقٌ لاَ يُعَظِّمُ صَغِيرُهُمْ كَبِيرَهُمْ وَ لاَ يَعُولُ غَنِيُّهُمْ فَقِيرَهُمْ بضعة من الإنسان قطعة منه والهاء في يسعده ترجع إلى اللسان . والضمير في امتنع يرجع إلى الإنسان وكذلك الهاء في لا يمهله يرجع إلى اللسان . والضمير في اتسع يرجع إلى الإنسان وتقديره فلا يسعد اللسان القول إذا امتنع الإنسان عن أن يقول ولا يمهل اللسان النطق إذا اتسع للإنسان القول والمعنى أن اللسان آلة للإنسان فإذا صرفه صارف عن الكلام لم يكن اللسان
[ 13 ]
ناطقا وإذا دعاه داع إلى الكلام نطق اللسان بما في ضمير صاحبه . وتنشبت عروقه أي علقت وروي انتشبت والرواية الأولى أدخل في صناعة الكلام لأنها بإزاء تهدلت والتهدل التدلي وقد أخذ هذه الألفاظ بعينها أبو مسلم الخراساني فخطب بها في خطبة مشهورة من خطبه(1/3565)
ذكر من أرتج عليهم أو حصروا عند الكلام
و اعلم أن هذا الكلام قاله أمير المؤمنين ع في واقعة اقتضت أن يقوله وذلك أنه أمر ابن أخته جعدة بن هبيرة المخزومي أن يخطب الناس يوما فصعد المنبر فحصر ولم يستطع الكلام فقام أمير المؤمنين ع فتسنم ذروة المنبر وخطب خطبة طويلة ذكر الرضي رحمه الله منها هذه الكلمات وروى شيخنا أبو عثمان في كتاب البيان والتبيين أن عثمان صعد المنبر فأرتج عليه فقال إن أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالا وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام خطيب وستأتيكم الخطبة على وجهها ثم نزل . قال أبو عثمان وروى أبو الحسن المدائني قال صعد ابن لعدي بن أرطاة المنبر فلما رأى الناس حصر فقال الحمد لله الذي يطعم هؤلاء ويسقيهم وصعد روح بن حاتم المنبر فلما رأى الناس قد رشقوه بأبصارهم وصرفوا أسماعهم
[ 14 ](1/3566)
نحوه قال نكسوا رءوسكم وغضوا أبصاركم فإن أول مركب صعب فإذا يسر الله عز وجل فتح قفل تيسر ثم نزل . وخطب مصعب بن حيان أخو مقاتل بن حيان خطبة نكاح فحصر فقال لقنوا موتاكم لا إله إلا الله فقالت أم الجارية عجل الله موتك أ لهذا دعوناك . وخطب مروان بن الحكم فحصر فقال اللهم إنا نحمدك ونستعينك ولا نشرك بك . ولما حصر عبد الله بن عامر بن كريز على المنبر بالبصرة وكان خطيبا شق عليه ذلك فقال له زياد ابن أبيه وكان خليفته أيها الأمير لا تجزع فلو أقمت على المنبر عامة من ترى أصابهم أكثر مما أصابك فلما كانت الجمعة تأخر عبد الله بن عامر وقال زياد للناس إن الأمير اليوم موعوك فقيل لرجل من وجوه أمراء القبائل قم فاصعد المنبر فلما صعد حصر فقال الحمد لله الذي يرزق هؤلاء وبقي ساكتا فأنزلوه وأصعدوا آخر من الوجوه فلما استوى قائما قابل بوجهه الناس فوقعت عينه على صلعة رجل فقال أيها الناس إن هذا الأصلع قد منعني الكلام اللهم فالعن هذه الصلعة فأنزلوه وقالوا لوازع اليشكري قم إلى المنبر فتكلم فلما صعد ورأى الناس قال أيها الناس إني كنت اليوم كارها لحضور الجمعة ولكن امرأتي حملتني على إتيانها وأنا أشهدكم أنها طالق ثلاثا فأنزلوه فقال زياد لعبد الله بن عامر كيف رأيت قم الآن فاخطب الناس .
[ 15 ](1/3567)
و قال سهل بن هارون دخل قطرب النحوي على المخلوع فقال يا أمير المؤمنين كانت عدتك أرفع من جائزتك وهو يتبسم فاغتاظ الفضل بن الربيع فقلت له إن هذا من الحصر والضعف وليس من الجلد والقوة أما تراه يفتل أصابعه ويرشح جبينه . ودخل معبد بن طوق العنبري على بعض الأمراء فتكلم وهو قائم فأحسن فلما جلس تلهيع في كلامه فقال له ما أظرفك قائما وأموقك قاعدا قال إني إذا قمت جددت وإذا قعدت هزلت فقال ما أحسن ما خرجت منها . وكان عمرو بن الأهتم المنقري والزبرقان بن بدر عند رسول الله ص فسأل ع عمرا عن الزبرقان فقال يا رسول الله إنه لمانع لحوزته مطاع في أدانيه فقال الزبرقان حسدني يا رسول الله فقال عمرو يا رسول الله إنه لزمر المروءة ضيق العطن لئيم الخال فنظر رسول الله ص إلى وجه عمرو فقال يا رسول الله رضيت فقلت أحسن ما علمت وغضبت فقلت أقبح ما علمت وما كذبت في الأولى ولقد صدقت في الأخرى
فقال ع إن من البيان لسحرا . وقال خالد بن صفوان ما الإنسان لو لا اللسان إلا صورة ممثلة أو بهيمة مهملة
[ 16 ](1/3568)
و قال ابن أبي الزناد كنت كاتبا لعمر بن عبد العزيز فكان يكتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب في المظالم فيراجعه فكتب إليه إنه يخيل إلي أني لو كتبت إليك أن تعطي رجلا شاة لكتبت إلي أ ضأنا أم معزا فإذا كتبت إليك بأحدهما كتبت إلي أ ذكرا أم أنثى وإذا كتبت إليك بأحدهما كتبت إلي صغيرا أم كبيرا فإذا كتبت إليك في مظلمة فلا تراجعني والسلام . وأخذ المنصور هذا فكتب إلى سلم بن قتيبة عامله بالبصرة يأمره بهدم دور من خرج مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن وعقر نخلهم فكتب إليه بأيهما أبدأ بالدور أم بالنخل يا أمير المؤمنين فكتب إليه لو قلت لك بالنخل لكتبت إلي بما ذا أبدأ بالشهريز أم بالبرني وعزله وولى محمد بن سليمان . وخطب عبد الله بن عامر مرة فأرتج عليه وكان ذلك اليوم يوم الأضحى فقال لا أجمع عليكم عيا ولؤما من أخذ شاة من السوق فهي له وثمنها علي . وخطب السفاح أول يوم صعد فيه المنبر فأرتج عليه فقام عمه داود بن علي فقال أيها الناس إن أمير المؤمنين يكره أن يتقدم قوله فيكم فعله ولأثر الأفعال أجدى عليكم من تشقيق المقال وحسبكم كتاب الله علما فيكم وابن عم رسول الله ص خليفة عليكم . قال الشاعر
[ 17 ]
و ما خير من لا ينفع الدهر عيشه
و إن مات لم يحزن عليه أقاربه
كهام على الأقصى كليل لسانه
و في بشر الأدنى حديد مخالبه
و قال أحيحة بن الجلاح
و الصمت أجمل بالفتى
ما لم يكن عي يشينه
و القول ذو خطل إذا
ما لم يكن لب يزينه
[ 18 ](1/3569)
229 ومن كلام له ع
رَوَى ذِعْلَبٌ اَلْيَمَامِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ قُتَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِحْيَةَ قَالَ : كُنَّا عِنْدَ أَمِيرِ اَلْمُؤْمنِيِنَ ع فَقَالَ وَ قَدْ ذُكِرَ عِنْدَهُ اِخْتِلاَفُ اَلنَّاسِ فَقَالَ إِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمْ مَبَادِئُ طِينِهِمْ وَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِلْقَةً مِنْ سَبَخِ أَرْضٍ وَ عَذْبِهَا وَ حَزْنِ تُرْبَةٍ وَ سَهْلِهَا فَهُمْ عَلَى حَسَبِ قُرْبِ أَرْضِهِمْ يَتَقَارَبُونَ وَ عَلَى قَدْرِ اِخْتِلاَفِهَا يَتَفَاوَتُونَ فَتَامُّ اَلرُّوَاءِ نَاقِصُ اَلْعَقْلِ وَ مَادُّ اَلْقَامَةِ قَصِيرُ اَلْهِمَّةِ وَ زَاكِي اَلْعَمَلِ قَبِيحُ اَلْمَنْظَرِ وَ قَرِيبُ اَلْقَعْرِ بَعِيدُ اَلسَّبْرِ وَ مَعْرُوفُ اَلضَّرِيبَةِ مُنْكَرُ اَلْجَلِيبَةِ وَ تَائِهُ اَلْقَلْبِ مُتَفَرِّقُ اَللُّبِّ وَ طَلِيقُ اَللِّسَانِ حَدِيدُ اَلْجَنَانِ ذعلب وأحمد وعبد الله ومالك رجال من رجال الشيعة ومحدثيهم وهذا الفصل عندي لا يجوز أن يحمل على ظاهره وما يتسارع إلى أفهام العامة منه وذلك لأن قوله إنهم كانوا فلقة من سبخ أرض وعذبها إما أن يريد به أن كل واحد من الناس ركب من طين وجعل صورة بشرية طينية برأس وبطن ويدين ورجلين ثم نفخت فيه الروح كما فعل بآدم أو يريد به أن الطين الذي ركبت منه صورة آدم فقط كان مختلطا من سبخ وعذب فإن أريد الأول فالواقع خلافه لأن البشر الذين نشاهدهم والذين بلغتنا أخبارهم لم يخلقوا من الطين كما خلق آدم وإنما خلقوا من نطف آبائهم وليس لقائل أن يقول لعل تلك النطف
[ 19 ](1/3570)
افترقت لأنها تولدت من أغذية مختلفة المنبت من العذوبة والملوحة وذلك لأن النطفة لا تتولد من غذاء بعينه بل من مجموع الأغذية وتلك الأغذية لا يمكن أن تكون كلها من أرض سبخة محضة في السبخية لأن هذا من الاتفاقات التي يعلم عدم وقوعها كما يعلم أنه لا يجوز أن يتفق أن يكون أهل بغداد في وقت بعينه على كثرتهم لا يأكلون ذلك اليوم إلا السكباج خاصة وأيضا فإن الأرض السبخة أو التي الغالب عليها السبخية لا تنبت الأقوات أصلا وإن أريد الثاني وهو أن يكون طين آدم ع مختلطا في جوهره مختلفا في طبائعه فلم كان زيد الأحمق يتولد من الجزء السبخي وعمرو العاقل يتولد من الجزء العذبي وكيف يؤثر اختلاف طين آدم من ستة آلاف سنة في أقوام يتوالدون الآن . والذي أراه أن لكلامه ع تأويلا باطنا وهو أن يريد به اختلاف النفوس المدبرة للأبدان وكنى عنها بقوله مبادئ طينهم وذلك أنها لما كانت الماسكة للبدن من الانحلال العاصمة له من تفرق العناصر صارت كالمبدإ وكالعلة له من حيث إنها كانت علة في بقاء امتزاجه واختلاط عناصره بعضها ببعض ولذلك إذا فارقت عند الموت افترقت العناصر وانحلت الأجزاء فرجع اللطيف منها إلى الهواء والكثيف إلى الأرض . وقوله كانوا فلقة من سبخ أرض وعذبها وحزن تربة وسهلها تفسيره أن البارئ جل جلاله لما خلق النفوس خلقها مختلفة في ماهيتها فمنها الزكية ومنها الخبيثة ومنها العفيفة ومنها الفاجرة ومنها القوية ومنها الضعيفة ومنها الجريئة المقدمة ومنها الفشلة الذليلة إلى غير ذلك من أخلاق النفوس المختلفة المتضادة . ثم فسر ع وعلل تساوي قوم في الأخلاق وتفاوت آخرين فيها فقال
[ 20 ](1/3571)
إن نفس زيد قد تكون مشابهة أو قريبة من المشابهة لنفس عمرو فإذا هما في الأخلاق متساويتان أو متقاربتان ونفس خالد قد تكون مضادة لنفس بكر أو قريبة من المضادة فإذا هما في الأخلاق متباينتان أو قريبتان من المباينة . والقول باختلاف النفوس في ماهياتها هو مذهب أفلاطون وقد اتبعه عليه جماعة من أعيان الحكماء وقال به كثير من مثبتي النفوس من متكلمي الإسلام . وأما أرسطو وأتباعه فإنهم لا يذهبون إلى اختلاف النفوس في ماهيتها والقول الأول عندي أمثل . ثم بين ع اختلاف آحاد الناس فقال منهم من هو تام الرواء لكنه ناقص العقل والرواء بالهمز والمد المنظر الجميل ومن أمثال العرب ترى الفتيان كالنخل وما يدريك ما الدخل . وقال الشاعر
عقله عقل طائر
و هو في خلقة الجمل
و قال أبو الطيب
و ما الحسن في وجه الفتى شرف له
إذا لم يكن في فعله والخلائق
و قال الآخر
و ما ينفع الفتيان حسن وجوههم
إذا كانت الأخلاق غير حسان
فلا يغررنك المرء راق رواؤه
فما كل مصقول الغرار يماني
[ 21 ]
و من شعر الحماسة
لقومي أرعى للعلا من عصابة
من الناس يا حار بن عمرو تسودها
و أنتم سماء يعجب الناس رزها
بآبدة تنحي شديد وئيدها
تقطع أطناب البيوت بحاصب
و أكذب شي ء برقها ورعودها
فويل أمها خيلا بهاء وشارة
إذا لاقت الأعداء لو لا صدودها
و منه أيضا
و كاثر بسعد إن سعدا كثيرة
و لا ترج من سعد وفاء ولا نصرا
يروعك من سعد بن زيد جسومها
و تزهد فيها حين تقتلها خبرا(1/3572)
قوله ع وماد القامة قصير الهمة قريب من المعنى الأول إلا أنه خالف بين الألفاظ فجعل الناقص بإزاء التام والقصير بإزاء الماد ويمكن أن يجعل المعنيان مختلفين وذلك لأنه قد يكون الإنسان تام العقل إلا أن همته قصيرة وقد رأينا كثيرا من الناس كذلك فإذن هذا قسم آخر من الاختلاف غير الأول . قوله ع وزاكي العمل قبيح المنظر يريد بزكاء أعماله حسنها وطهارتها فيكون قد أوقع الحسن بإزاء القبيح وهذا القسم موجود فاش بين الناس . قوله وقريب القعر بعيد السبر أي قد يكون الإنسان قصير القامة وهو مع ذلك داهية باقعة والمراد بقرب قعره تقارب ما بين طرفيه فليست بطنه بمديدة
[ 22 ]
و لا مستطيلة وإذا سبرته واختبرت ما عنده وجدته لبيبا فطنا لا يوقف على أسراره ولا يدرك باطنه ومن هذا المعنى قول الشاعر
ترى الرجل النحيف فتزدريه
و في أثوابه أسد مزير
و يعجبك الطرير فتبتليه
فيخلف ظنك الرجل الطرير
و قيل لبعض الحكماء ما بال القصار من الناس أدهى وأحذق قال لقرب قلوبهم من أدمغتهم . ومن شعر الحماسة
إلا يكن عظمي طويلا فإنني
له بالخصال الصالحات وصول
و لا خير في حسن الجسوم وطولها
إذا لم تزن حسن الجسوم عقول
و من شعر الحماسة أيضا وهو تمام البيتين المقدم ذكرهما
فما عظم الرجال لهم بفخر
و لكن فخرهم كرم وخير
ضعاف الطير أطولها جسوما
و لم تطل البزاة ولا الصقور
بغاث الطير أكثرها فراخا
و أم الصقر مقلات نزور
لقد عظم البعير بغير لب
فلم يستغن بالعظم البعير
قوله ع ومعروف الضريبة منكر الجليبة الجليبة هي الخلق الذي
[ 23 ](1/3573)
يتكلفه الإنسان ويستجلبه مثل أن يكون جبانا بالطبع فيتكلف الشجاعة أو شحيحا بالطبع فيتكلف الجود وهذا القسم أيضا عام في الناس . ثم لما فرغ من الأخلاق المتضادة ذكر بعدها ذوي الأخلاق والطباع المتناسبة المتلائمة فقال وتائه القلب متفرق اللب وهذان الوصفان متناسبان لا متضادان . ثم قال وطليق اللسان حديد الجنان وهذان الوصفان أيضا متناسبان وهما متضادان للوصفين قبلهما فالأولان ذم والآخران مدح
[ 24 ](1/3574)
230 ومن كلام له ع
قَالَهُ وَ هُوَ يَلِي غُسْلَ رَسُولِ اَللَّهِ ص وَ تَجْهِيزَهُ بِأَبِي أَنْتَ وَ أُمِّي يَا رَسُولَ اَللَّهِ لَقَدِ اِنْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَيْرِكَ مِنَ اَلنُّبُوَّةِ وَ اَلْإِنْبَاءِ وَ أَخْبَارِ اَلسَّمَاءِ خَصَّصْتَ حَتَّى صِرْتَ مُسَلِّياً عَمَّنْ سِوَاكَ وَ عَمَّمْتَ حَتَّى صَارَ اَلنَّاسُ فِيكَ سَوَاءً وَ لَوْ لاَ أَنَّكَ أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ وَ نَهَيْتَ عَنِ اَلْجَزَعِ لَأَنْفَدْنَا عَلَيْكَ مَاءَ اَلشُّئُونِ وَ لَكَانَ اَلدَّاءُ مُمَاطِلاً وَ اَلْكَمَدُ مُحَالِفاً وَ قَلاَّ لَكَ وَ لَكِنَّهُ مَا لاَ يُمْلَكُ رَدُّهُ وَ لاَ يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ بِأَبِي أَنْتَ وَ أُمِّي اُذْكُرْنَا عِنْدَ رَبِّكَ وَ اِجْعَلْنَا مِنْ بَالِكَ بأبي أنت وأمي أي بأبي أنت مفدي وأمي . والإنباء الإخبار مصدر أنبأ ينبئ وروي والأنباء بفتح الهمزة جمع نبأ وهو الخبر وأخبار السماء الوحي . قوله ع خصصت وعممت أي خصت مصيبتك أهل بيتك حتى أنهم لا يكترثون بما يصيبهم بعدك من المصائب ولا بما أصابهم من قبل وعمت هذه
[ 25 ]
المصيبة أيضا الناس حتى استوى الخلائق كلهم فيها فهي مصيبة خاصة بالنسبة وعامة بالنسبة . ومثل قوله حتى صرت مسليا عمن سواك قول الشاعر
رزئنا أبا عمر ولا حي مثله
فلله در الحادثات بمن تقع
فإن تك قد فارقتنا وتركتنا
ذوي خلة ما في انسداد لها طمع
لقد جر نفعا فقدنا لك أننا
أمنا على كل الرزايا من الجزع
و قال آخر
أقول للموت حين نازله
و الموت مقدامة على البهم
أظفر بمن شئت إذ ظفرت به
ما بعد يحيى للموت من ألم
و لي في هذا المعنى كتبته إلى صديق غاب عني من جملة أبيات
و قد كنت أخشى من خطوب غوائل
فلما نأى عني أمنت من الحذر
فأعجب لجسم عاش بعد حياته
و أعجب لنفع حاصل جره ضرر(1/3575)
و قال إسحاق بن خلف يرثي بنتا له
أمست أميمة معمورا بها الرجم
لقا صعيد عليها الترب مرتكم
يا شقة النفس إن النفس والهة
حرى عليك وإن الدمع منسجم
قد كنت أخشى عليها أن تقدمني
إلى الحمام فيبدي وجهها العدم
فالآن نمت فلا هم يؤرقني
تهدا العيون إذا ما أودت الحرم
[ 26 ]
للموت عندي أياد لست أكفرها
أحيا سرورا وبي مما أتى ألم
و قال آخر
فلو أنها إحدى يدي رزيتها
و لكن يدي بانت على إثرها يدي
فآليت لا آسى على إثر هالك
قدي الآن من حزن على هالك قدي
و قال آخر
أ جاري ما أزداد إلا صبابة
عليك وما تزداد إلا تنائيا
أ جاري لو نفس فدت نفس ميت
فديتك مسرورا بنفسي وماليا
و قد كنت أرجو أن أملاك حقبة
فحال قضاء الله دون رجائيا
ألا فليمت من شاء بعدك إنما
عليك من الأقدار كان حذاريا
و قال آخر
لتغد المنايا حيث شاءت فإنها
محللة بعد الفتى ابن عقيل
فتى كان مولاه يحل بنجوة
فحل الموالي بعده بمسيل
قوله ع ولكان الداء مماطلا أي مماطلا بالبرء أي لا يجيب إلى الإقلاع . والإبلال الإفاقة
[ 27 ](1/3576)
ذكر طرف من سيرة النبي ع عند موته
فأما وفاة رسول الله ص وما ذكره أرباب السيرة فيها فقد ذكرنا طرفا منه فيما تقدم ونذكر هاهنا طرفا آخر مما أورده أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه .
قال أبو جعفر روى أبو مويهبة مولى رسول الله ص قال أرسل إلي رسول الله ص في جوف الليل فقال يا أبا مويهبة إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي فانطلقت معه فلما وقف بين أظهرهم قال السلام عليكم يا أهل المقابر ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها الآخرة شر من الأولى ثم أقبل علي فقال يا أبا مويهبة إني قد أوهبت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها والجنة فخيرت بينها وبين الجنة فاخترت الجنة فقلت بأبي أنت وأمي فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها والجنة جميعا فقال لا يا أبا مويهبة اخترت لقاء ربي ثم استغفر لأهل البقيع وانصرف فبدأ بوجعه الذي قبضه الله فيه و
روى محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة قالت رجع رسول الله ص تلك الليلة من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعا في رأسي وأقول وا رأساه فقال بل أنا وا رأساه ثم قال ما ضرك لو مت قبلي فقمت عليك فكفنتك وصليت عليك ودفنتك فقلت والله لكأني
[ 28 ](1/3577)
بك لو كان ذلك رجعت إلى منزلي فأعرست ببعض نسائك فتبسم ع وتتام به وجعه وهو مع ذلك يدور على نسائه حتى استعز به وهو في بيت ميمونة فدعا نساءه فاستأذنهن أن يمرض في بيتي فأذن له فخرج بين رجلين من أهله أحدهما الفضل بن العباس ورجل آخر تخط قدماه في الأرض عاصبا رأسه حتى دخل بيته قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة فحدثت عبد الله بن العباس بهذا الحديث فقال أ تدري من الرجل الآخر قلت لا قال علي بن أبي طالب لكنها كانت لا تقدر أن تذكره بخير وهي تستطيع قالت ثم غمر رسول الله ص واشتد به الوجع فقال أهريقوا علي سبع قرب من آبار شتى حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم قالت فأقعدته في مخضب لحفصة بنت عمر وصببنا عليه الماء حتى طفق يقول بيده حسبكم حسبكم . قلت المخضب المركن . و
روى عطاء عن الفضل بن عباس رحمه الله قال جاءني رسول الله ص حين بدأ به مرضه فقال اخرج فخرجت إليه فوجدته موعوكا قد عصب رأسه فقال خذ بيدي فأخذت بيده حتى جلس على المنبر ثم قال ناد في الناس فصحت فيهم فاجتمعوا إليه فقال أيها الناس إني أحمد إليكم الله إنه قد دنا مني حقوق من بين أظهركم فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه ومن كنت أخذت له مالا فهذا مالي فليأخذ منه ولا يقل رجل إني أخاف الشحناء من قبل رسول الله ألا وإن الشحناء ليست من طبيعتي ولا من شأني ألا وإن أحبكم إلي من أخذ مني حقا
[ 29 ](1/3578)
إن كان له أو حللني فلقيت الله وأنا طيب النفس وقد أراني أن هذا غير مغن عني حتى أقوم فيكم به مرارا ثم نزل فصلى الظهر ثم رجع فجلس على المنبر فعاد لمقالته الأولى في الشحناء وغيرها فقام رجل فقال يا رسول الله إن لي عندك ثلاثة دراهم فقال إنا لا نكذب قائلا ولا نستحلفه على يمين فيم كانت لك عندي قال أ تذكر يا رسول الله يوم مر بك المسكين فأمرتني فأعطيته ثلاثة دراهم قال أعطه يا فضل فأمرته فجلس ثم قال أيها الناس من كان عنده شي ء فليؤده ولا يقل فضوح الدنيا فإن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة فقام رجل فقال يا رسول الله عندي ثلاثة دراهم غللتها في سبيل الله قال ولم غللتها قال كنت محتاجا إليها قال خذها منه يا فضل ثم قال أيها الناس من خشي من نفسه شيئا فليقم أدعو له فقام رجل فقال يا رسول الله إني لكذاب وإني لفاحش وإني لنئوم فقال اللهم ارزقه صدقا وصلاحا وأذهب عنه النوم إذا أراد ثم قام رجل فقال يا رسول الله إني لكذاب وإني لمنافق وما شي ء أو قال وإن من شي ء إلا وقد جئته فقام عمر بن الخطاب فقال فضحت نفسك أيها الرجل فقال النبي ص يا ابن الخطاب فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة اللهم ارزقه صدقا وإيمانا وصير أمره إلى خير و
روى عبد الله بن مسعود قال نعى إلينا نبينا وحبيبنا نفسه قبل موته بشهر جمعنا في بيت أمنا عائشة فنظر إلينا وشدد ودمعت عينه وقال مرحبا بكم حياكم الله رحمكم الله آواكم الله حفظكم الله رفعكم الله نفعكم الله
[ 30 ](1/3579)
وفقكم الله رزقكم الله هداكم الله نصركم الله سلمكم الله تقبلكم الله أوصيكم بتقوى الله وأوصى الله بكم واستخلفه عليكم إني لكم منه نذير وبشير ألا تعلوا على الله في عباده وبلاده فإنه قال لي ولكم تِلْكَ اَلدَّارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ اَلْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ فقلنا يا رسول الله فمتى أجلك قال قد دنا الفراق والمنقلب إلى الله وإلى سدرة المنتهى والرفيق الأعلى وجنة المأوى والعيش المهنا قلنا فمن يغسلك يا رسول الله قال أهلي الأدنى فالأدنى قلنا ففيم نكفنك قال في ثيابي هذه إن شئتم أو في بياض مصر أو حلة يمنية قلنا فمن يصلي عليك فقال إذا غسلتموني وكفنتموني فضعوني على سريري في بيتي هذا على شفير قبري ثم اخرجوا عني ساعة فإن أول من يصلي علي جليسي وحبيبي وخليلي جبرائيل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم ملك الموت مع جنوده من الملائكة ثم ادخلوا علي فوجا فوجا فصلوا علي وسلموا ولا تؤذوني بتزكية ولا ضجة ولا رنة وليبدأ بالصلاة علي رجال أهل بيتي ثم نساؤهم ثم أنتم بعد وأقرءوا أنفسكم مني السلام ومن غاب من أهلي فأقرءوه مني السلام ومن تابعكم بعدي على ديني فأقرءوه مني السلام فإني أشهدكم أني قد سلمت على من بايعني على ديني من اليوم إلى يوم القيامة قلنا فمن يدخلك قبرك يا رسول الله قال أهلي مع ملائكة كثيرة يرونكم ولا ترونهم . قلت العجب لهم كيف لم يقولوا له في تلك الساعة فمن يلي أمورنا بعدك لأن ولاية الأمر أهم من السؤال عن الدفن وعن كيفية الصلاة عليه وما أعلم ما أقول في هذا المقام
قال أبو جعفر الطبري وروى سعيد بن جبير قال كان ابن عباس رحمه الله يقول
[ 31 ](1/3580)
يوم الخميس وما يوم الخميس ثم يبكي حتى تبل دموعه الحصباء فقلنا له وما يوم الخميس قال يوم اشتد برسول الله ص وجعه فقال ائتوني باللوح والدواة أو قال بالكتف والدواة أكتب لكم ما لا تضلون بعدي فتنازعوا فقال اخرجوا ولا ينبغي عند نبي أن يتنازع قالوا ما شأنه أ هجر استفهموه فذهبوا يعيدون عليه فقال دعوني فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه ثم أوصى بثلاث قال أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو مما كنت أجيزهم وسكت عن الثالثة عمدا أو قالها ونسيتها و
روى أبو جعفر عن ابن عباس قال خرج علي بن أبي طالب ع من عند رسول الله ص في وجعه الذي توفي فيه فقال له الناس يا أبا الحسن كيف أصبح رسول الله ص قال أصبح بحمد الله بارئا فأخذ العباس بيده وقال أ لا ترى أنك بعد ثلاث عبد العصا إني لأعرف الموت في وجوه بني عبد المطلب فاذهب إلى رسول الله ص فسله فيمن يكن هذا الأمر فإن كان فينا علمنا ذلك وإن كان في غيرنا وصى بنا فقال علي أخشى أن أسأله فيمنعناها فلا يعطيناها الناس أبدا و
روت عائشة قالت أغمي على رسول الله ص والدار مملوءة من النساء أم سلمة وميمونة وأسماء بنت عميس وعندنا عمه العباس بن عبد المطلب فأجمعوا على أن يلدوه فقال العباس لا ألده فلدوه فلما أفاق قال من صنع بي هذا قالوا عمك قال لنا هذا دواء جاءنا من نحو هذه الأرض وأشار إلى أرض الحبشة قال فلم فعلتم ذلك فقال العباس خشينا يا رسول الله أن يكون بك ذات الجنب فقال إن ذلك
[ 32 ]
لداء ما كان الله ليقذفني به لا يبقى أحد في البيت إلا لد إلا عمي قال فلقد لدت ميمونة وإنها لصائمة لقسم رسول الله ص عقوبة لهم بما صنعوا(1/3581)
قال أبو جعفر وقد وردت رواية أخرى عن عائشة قالت لددنا رسول الله ص في مرضه فقال لا تلدوني فقلنا كراهية المريض للدواء فلما أفاق قال لا يبقى أحد إلا لد غير العباس عمي فإنه لم يشهدكم . قال أبو جعفر والذي تولى اللدود بيده أسماء بنت عميس . قلت العجب من تناقض هذه الروايات في إحداها أن العباس لم يشهد اللدود فلذلك أعفاه رسول الله ص من أن يلد ولد من كان حاضرا وفي إحداها أن العباس حضر لده ع وفي هذه الرواية التي تتضمن حضور العباس في لده كلام مختلف فيها أن العباس قال لا ألده ثم قال فلد فأفاق فقال من صنع بي هذا قالوا عمك إنه قال هذا دواء جاءنا من أرض الحبشة لذات الجنب فكيف يقول لا ألده ثم يكون هو الذي أشار بأن يلد وقال هذا دواء جاءنا من أرض الحبشة لكذا . وسألت النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد البصري عن حديث اللدود فقلت أ لد علي بن أبي طالب ذلك اليوم فقال معاذ الله لو كان لد لذكرت عائشة ذلك فيما تذكره وتنعاه عليه قال وقد كانت فاطمة حاضرة في الدار وابناها معها أ فتراها لدت أيضا ولد الحسن والحسين كلا وهذا أمر لم يكن وإنما هو حديث ولده من ولده تقربا إلى بعض الناس والذي كان أن أسماء بنت عميس أشارت بأن يلد وقالت هذا دواء جاءنا من أرض الحبشة جاء به جعفر بن أبي طالب وكان بعلها
[ 33 ]
و ساعدتها على تصويب ذلك والإشارة به ميمونة بنت الحارث فلد رسول الله ص فلما أفاق أنكره وسأل عنه فذكر له كلام أسماء وموافقة ميمونة لها فأمر أن تلد الامرأتان لا غير فلدتا ولم يجر غير ذلك والباطل لا يكاد يخفى على مستبصر . و
روت عائشة قالت كثيرا ما كنت أسمع رسول الله يقول إن الله لم يقبض نبيا حتى يخيره فلما احتضر رسول الله ص كان آخر كلمة سمعتها منه بل الرفيق الأعلى فقلت إذا والله لا يختارنا وعلمت أن ذلك ما كان يقوله من قبل و(1/3582)
روى الأرقم بن شرحبيل قال سألت ابن عباس رحمه الله هل أوصى رسول الله ص فقال لا قلت فكيف كان فقال إن رسول الله ص قال في مرضه ابعثوا إلى علي فادعوه فقالت عائشة لو بعثت إلى أبي بكر وقالت حفصة لو بعثت إلى عمر فاجتمعوا عنده جميعا هكذا لفظ الخبر على ما أورده الطبري في التاريخ ولم يقل فبعث رسول الله ص إليهما قال ابن عباس فقال رسول الله ص انصرفوا فإن تكن لي حاجة أبعث إليكم فانصرفوا وقيل لرسول الله الصلاة فقال مروا أبا بكر أن يصلي بالناس فقالت عائشة إن أبا بكر رجل رقيق فمر عمر فقال مروا عمر فقال عمر ما كنت لأتقدم وأبو بكر شاهد فتقدم أبو بكر فوجد رسول الله ص خفة فخرج فلما سمع أبو بكر حركته تأخر فجذب رسول الله ص ثوبه فأقامه مكانه وقعد رسول الله ص فقرأ من حيث انتهى أبو بكر . قلت عندي في هذه الواقعة كلام ويعترضني فيها شكوك واشتباه إذا كان قد
[ 34 ](1/3583)
أراد أن يبعث إلى علي ليوصي إليه فنفست عائشة عليه فسألت أن يحضر أبوها ونفست حفصة عليه فسألت أن يحضر أبوها ثم حضرا ولم يطلبا فلا شبهة أن ابنتيهما طلبتاهما هذا هو الظاهر وقول رسول الله ص وقد اجتمعوا كلهم عنده انصرفوا فإن تكن لي حاجة بعثت إليكم قول من عنده ضجر وغضب باطن لحضورهما وتهمة للنساء في استدعائهما فكيف يطابق هذا الفعل وهذا القول ما روي من أن عائشة قالت لما عين على أبيها في الصلاة أن أبي رجل رقيق فمر عمر وأين ذلك الحرص من هذا الاستعفاء والاستقالة وهذا يوهم صحة ما تقوله الشيعة من أن صلاة أبي بكر كانت عن أمر عائشة وإن كنت لا أقول بذلك ولا أذهب إليه إلا أن تأمل هذا الخبر ولمح مضمونه يوهم ذلك فلعل هذا الخبر غير صحيح وأيضا ففي الخبر ما لا يجيزه أهل العدل وهو أن يقول مروا أبا بكر ثم يقول عقيبه مروا عمر لأن هذا نسخ الشي ء قبل تقضي وقت فعله . فإن قلت قد مضى من الزمان مقدار ما يمكن الحاضرين فيه أن يأمروا أبا بكر وليس في الخبر إلا أنه أمرهم أن يأمروه ويكفي في صحة ذلك مضي زمان يسير جدا يمكن فيه أن يقال يا أبا بكر صل بالناس قلت الإشكال ما نشأ من هذا الأمر بل من كون أبي بكر مأمورا بالصلاة وإن كان بواسطة ثم نسخ عنه الأمر بالصلاة قبل مضي وقت يمكن فيه أن يفعل الصلاة فإن قلت لم قلت في صدر كلامك هذا إنه أراد أن يبعث إلى علي ليوصي إليه ولم لا يجوز أن يكون بعث إليه لحاجة له قلت لأن مخرج كلام ابن عباس هذا المخرج أ لا ترى أن الأرقم بن شرحبيل الراوي لهذا الخبر قال سألت ابن عباس هل أوصى رسول الله ص فقال لا فقلت فكيف كان فقال إن رسول الله ص قال في مرضه
[ 35 ]
ابعثوا إلى علي فادعوه فسألته المرأة أن يبعث إلى أبيها وسألته الأخرى أن يبعث إلى أبيها فلو لا أن ابن عباس فهم من قوله ص ابعثوا إلى علي فادعوه أنه يريد الوصية إليه لما كان لإخبار الأرقم بذلك متصلا بسؤاله عن الوصية معنى و(1/3584)
روى القاسم بن محمد بن أبي بكر عن عائشة قالت رأيت رسول الله ص يموت وعنده قدح فيه ماء يدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء ويقول اللهم أعني على سكرة الموت و
روى عروة عن عائشة قالت اضطجع رسول الله ص يوم موته في حجري فدخل على رجل من آل أبي بكر في يده مسواك أخضر فنظر رسول الله ص إليه نظرا عرفت أنه يريده فقلت له أ تحب أن أعطيك هذا المسواك قال نعم فأخذته فمضغته حتى ألنته ثم أعطيته إياه فاستن به كأشد ما رأيته يستن بسواك قبله ثم وضعه ووجدت رسول الله ص يثقل في حجري فذهبت أنظر في وجهه فإذا بصره قد شخص وهو يقول بل الرفيق الأعلى من الجنة فقلت لقد خيرت فاخترت والذي بعثك بالحق وقبض رسول الله ص . قال الطبري وقد وقع الاتفاق على أنه كان يوم الإثنين من شهر ربيع الأول واختلف في أي الأثانين كان فقيل لليلتين خلتا من الشهر وقيل لاثنتي عشرة خلت من الشهر واختلف في تجهيزه أي يوم كان فقيل يوم الثلاثاء الغد من وفاته وقيل إنما دفن بعد وفاته بثلاثة أيام اشتغل القوم عنه بأمر البيعة . وقد روى الطبري ما يدل على ذلك عن زياد بن كليب عن إبراهيم النخعي أن
[ 36 ](1/3585)
أبا بكر جاء بعد ثلاث إلى رسول الله ص وقد أربد بطنه فكشف عن وجهه وقبل عينيه وقال بأبي أنت وأمي طبت حيا وطبت ميتا قلت وأنا أعجب من هذا هب أن أبا بكر ومن معه اشتغلوا بأمر البيعة فعلي بن أبي طالب والعباس وأهل البيت بما ذا اشتغلوا حتى يبقى النبي ص مسجى بينهم ثلاثة أيام بلياليهن لا يغسلونه ولا يمسونه . فإن قلت الرواية التي رواها الطبري في حديث الأيام الثلاثة إنما كانت قبل البيعة لأن لفظ الخبر عن إبراهيم وأنه لما قبض النبي ص كان أبو بكر غائبا فجاء بعد ثلاث ولم يتجرأ أحد أن يكشف عن وجهه ع حتى أربد بطنه فكشف عن وجهه وقبل عينيه وقال بأبي أنت وأمي طبت حيا وطبت ميتا ثم خرج إلى الناس فقال من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات الحديث بطوله قلت لعمري إن الرواية هكذا أوردها ولكنها مستحيلة لأن أبا بكر فارق رسول الله ص وهو حي ومضى إلى منزله بالسنح في يوم الإثنين وهو اليوم الذي مات فيه رسول الله ص لأنه رآه بارئا صالح الحال هكذا روى الطبري في كتابه وبين السنح وبين المدينة نصف فرسخ بل هو طائفة من المدينة فكيف يبقى رسول الله ص ميتا يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء لا يعلم به أبو بكر وبينهما غلوة ثلاثة أسهم وكيف يبقى طريحا بين أهله ثلاثة أيام لا يجترئ أحد منهم أن يكشف عن وجهه وفيهم علي بن أبي طالب وهو روحه بين جنبيه والعباس عمه القائم مقام أبيه وابنا فاطمة وهما كولديه وفيهم فاطمة بضعة منه أ فما كان في هؤلاء من يكشف عن وجهه ولا من يفكر في جهازه ولا من يأنف له من
[ 37 ](1/3586)
انتفاخ بطنه واخضرارها وينتظر بذلك حضور أبي بكر ليكشف عن وجهه أنا لا أصدق ذلك ولا يسكن قلبي إليه والصحيح أن دخول أبي بكر إليه وكشفه عن وجهه وقوله ما قال إنما كان بعد الفراغ من البيعة وأنهم كانوا مشتغلين بها كما ذكر في الرواية الأخرى . وبقي الإشكال في قعود علي ع عن تجهيزه إذا كان أولئك مشتغلين بالبيعة فما الذي شغله هو فأقول يغلب على ظني إن صح ذلك أن يكون قد فعله شناعة على أبي بكر وأصحابه حيث فاته الأمر واستؤثر عليه به فأراد أن يتركه ص بحاله لا يحدث في جهازه أمرا ليثبت عند الناس أن الدنيا شغلتهم عن نبيهم ثلاثة أيام حتى آل أمره إلى ما ترون وقد كان ع يتطلب الحيلة في تهجين أمر أبي بكر حيث وقع في السقيفة ما وقع بكل طريق ويتعلق بأدنى سبب من أمور كان يعتمدها وأقوال كان يقولها فلعل هذا من جملة ذلك أو لعله إن صح ذلك فإنما تركه ص بوصية منه إليه وسر كانا يعلمانه في ذلك . فإن قلت فلم لا يجوز أن يقال إن صح ذلك إنه أخر جهازه ليجتمع رأيه ورأي المهاجرين على كيفية غسله وتكفينه ونحو ذلك من أموره قلت لأن الرواية الأولى تبطل هذا الاحتمال وهي
قوله ص لهم قبل موته يغسلني أهلي الأدنى منهم فالأدنى وأكفن في ثيابي أو في بياض مصر أو في حلة يمنية . قال أبو جعفر فأما الذين تولوا غسله فعلي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب والفضل بن العباس وقثم بن العباس وأسامة بن زيد وشقران مولى رسول الله ص
[ 38 ](1/3587)
و حضر أوس بن خولي أحد الخزرج فقال لعلي بن أبي طالب أنشدك الله يا علي وحظنا من رسول الله وكان أوس من أصحاب بدر فقال له ادخل فدخل فحضر غسله ع وصب الماء عليه أسامة وشقران وكان علي ع يغسله وقد أسنده إلى صدره وعليه قميصه يدلكه من ورائه لا يفضي بيده إلى بدن رسول الله ص وكان العباس وابناه الفضل وقثم يساعدونه على قلبه من جانب إلى جانب . قال أبو جعفر وروت عائشة أنهم اختلفوا في غسله هل يجرد أم لا فألقى الله عليهم السنة حتى ما منهم رجل إلا وذقنه على صدره ثم كلمهم متكلم من ناحية البيت لا يدرى من هو غسلوا النبي وعليه ثيابه فقاموا إليه فغسلوه وعليه قميصه فكانت عائشة تقول لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه . قلت حضرت عند محمد بن معد العلوي في داره ببغداد وعنده حسن بن معالي الحلي المعروف بابن الباقلاوي وهما يقرءان هذا الخبر وهذه الأحاديث من تاريخ الطبري فقال محمد بن معد لحسن بن معالي ما تراها قصدت بهذا القول قال حسدت أباك على ما كان يفتخر به من غسل رسول الله ص فضحك محمد فقال هبها استطاعت أن تزاحمه في الغسل هل تستطيع أن تزاحمه في غيره من خصائصه . قال أبو جعفر الطبري ثم كفن ص في ثلاثة أثواب ثوبين صحاريين وبرد حبرة أدرج فيها إدراجا ولحد له على عادة أهل المدينة فلما فرغوا منه وضعوه على سريره .
[ 39 ]
و اختلفوا في دفنه فقال قائل ندفنه في مسجده وقال قائل ندفنه في البقيع مع أصحابه و
قال أبو بكر سمعت رسول الله ص يقول ما قبض نبي إلا ودفن حيث قبض فرفع فراش رسول الله الذي توفي فيه فحفر له تحته . قلت كيف اختلفوا في موضع دفنه و(1/3588)
قد قال لهم فضعوني على سريري في بيتي هذا على شفير قبري وهذا تصريح بأنه يدفن في البيت الذي جمعهم فيه وهو بيت عائشة فإما أن يكون ذلك الخبر غير صحيح أو يكون الحديث الذي تضمن أنهم اختلفوا في موضع دفنه وأن أبا بكر روى لهم أنه قال الأنبياء يدفنون حيث يموتون غير صحيح لأن الجمع بين هذين الخبرين لا يمكن . وأيضا فهذا الخبر ينافي ما ورد في موت جماعة من الأنبياء نقلوا من موضع موتهم إلى مواضع أخر وقد ذكر الطبري بعضهم في أخبار أنبياء بني إسرائيل . وأيضا فلو صح هذا الخبر لم يكن مقتضيا إيجاب دفن النبي ص حيث قبض لأنه ليس بأمر بل هو إخبار محض اللهم إلا أن يكونوا فهموا من مخرج لفظه ع ومن مقصده أنه أراد الوصية لهم بذلك والأمر بدفنه حيث يقبض . قال أبو جعفر ثم دخل الناس فصلوا عليه أرسالا حتى إذا فرغ الرجال أدخل النساء حتى إذا فرغ النساء أدخل الصبيان ثم أدخل العبيد ولم يؤمهم إمام ثم دفن ع وسط الليل من ليلة الأربعاء .
قال أبو جعفر وقد روت عمرة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة عن عائشة قالت ما علمنا بدفن رسول الله ص حتى سمعنا صوت المساحي في جوف الليل ليلة الأربعاء .
[ 40 ](1/3589)
قلت وهذا أيضا من العجائب لأنه إذا مات يوم الإثنين وقت ارتفاع الضحى كما ذكر في الرواية ودفن ليلة الأربعاء وسط الليل فلم يمض عليه ثلاثة أيام كما ورد في تلك الرواية . وأيضا فمن العجب كون عائشة وهو في بيتها لا تعلم بدفنه حتى سمعت صوت المساحي أ تراها أين كانت وقد سألت عن هذا جماعة فقالوا لعلها كانت في بيت يجاور بيتها عندها نساء كما جرت عادة أهل الميت وتكون قد اعتزلت بيتها وسكنت ذلك البيت لأن بيتها مملوء بالرجال من أهل رسول الله ص وغيرهم من الصحابة وهذا قريب ويحتمل أن يكون . قال الطبري ونزل في قبر رسول الله ص علي بن أبي طالب ع والفضل بن عباس وقثم أخوه وشقران مولاهم وقال أوس بن خولي لعلي ع أنشدك الله يا علي وحظنا من رسول الله ص فقال له انزل فنزل مع القوم وأخذ شقران قطيفة كان رسول الله ص يلبسها فقذفها معه في القبر وقال لا يلبسها أحد بعده . قلت من تأمل هذه الأخبار علم أن عليا ع كان الأصل والجملة والتفصيل في أمر رسول الله ص وجهازه أ لا ترى أن أوس بن خولي لا يخاطب أحدا من الجماعة غيره ولا يسأل غيره في حضور الغسل والنزول في القبر ثم انظر إلى كرم علي ع وسجاحة أخلاقه وطهارة شيمته كيف لم يضن بمثل هذه المقامات الشريفة عن أوس وهو رجل غريب من الأنصار فعرف له حقه وأطلبه بما طلبه فكم بين هذه السجية الشريفة وبين قول من قال لو استقبلت من أمري ما استدبرت
[ 41 ](1/3590)
ما غسل رسول الله ص إلا نساؤه ولو كان في ذلك المقام غيره من أولي الطباع الخشنة وأرباب الفظاظة والغلظة وقد سأل أوس ذلك لزجر وانتهر ورجع خائبا . قال الطبري وكان المغيرة بن شعبة يدعي أنه أحدث الناس عهدا برسول الله ص ويقول للناس إنني أخذت خاتمي فألقيته في القبر وقلت إن خاتمي قد سقط مني وإنما طرحته عمدا لأمس رسول الله ص فأكون آخر الناس به عهدا . قال الطبري فروى عبد الله بن الحارث بن نوفل قال اعتمرت مع علي بن أبي طالب ع في زمان عمر أو عثمان فنزل على أخته أم هانئ بنت أبي طالب فلما فرغ من عمرته رجع وقد سكب له غسل فلما فرغ من غسله دخل عليه نفر من أهل العراق فقالوا يا أبا الحسن جئناك نسألك عن أمر نحب أن تخبرنا به فقال أظن المغيرة يحدثكم أنه أحدث الناس عهدا برسول الله ص قالوا أجل عن ذا جئنا نسألك قال كذب أحدث الناس عهدا برسول الله ص قثم بن العباس كان آخرنا خروجا من قبره . قلت بحق ما عاب أصحابنا رحمهم الله المغيرة وذموه وانتقصوه فإنه كان على طريقة غير محمودة وأبى الله إلا أن يكون كاذبا على كل حال لأنه إن لم يكن أحدثهم بالنبي عهدا فقد كذب في دعواه أنه أحدثهم به عهدا وإن كان أحدثهم به عهدا كما يزعم فقد اعترف بأنه كذب في قوله لهم سقط خاتمي مني وإنما ألقاه عمدا وأين المغيرة ورسول الله ص ليدعي القرب منه وأنه أحدث الناس عهدا به
[ 42 ]
و قد علم الله تعالى والمسلمون أنه لو لا الحدث الذي أحدث والقوم الذين صحبهم فقتلهم غدرا واتخذ أموالهم ثم التجأ إلى رسول الله ص ليعصمه لم يسلم ولا وطئ حصا المدينة . قال الطبري وقد اختلف في سن رسول الله ص فالأكثرون أنه كان ابن ثلاث وستين سنة وقال قوم ابن خمس وستين سنة وقال قوم ابن ستين . فهذا ما ذكره الطبري في تاريخه . وروى محمد بن حبيب في أماليه قال تولى غسل النبي ص علي ع والعباس رضي الله عنه . و(1/3591)
كان علي ع يقول بعد ذلك ما شممت أطيب من ريحه ولا رأيت أضوأ من وجهه حينئذ ولم أره يعتاد فاه ما يعتاد أفواه الموتى
قال محمد بن حبيب فلما كشف الإزار عن وجهه بعد غسله انحنى عليه فقبله مرارا وبكى طويلا وقال بأبي أنت وأمي طبت حيا وطبت ميتا انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد سواك من النبوة والأنباء وأخبار السماء خصصت حتى صرت مسليا عمن سواك وعممت حتى صارت المصيبة فيك سواء ولو لا أنك أمرت بالصبر ونهيت عن الجزع لأنفدنا عليك ماء الشئون ولكن أتى ما لا يدفع أشكو إليك كمدا وإدبارا مخالفين وداء الفتنة فإنها قد استعرت نارها وداؤها الداء الأعظم بأبي أنت وأمي اذكرنا عند ربك واجعلنا من بالك وهمك ثم نظر إلى قذاة في عينه فلفظها بلسانه ثم رد الإزار على وجهه .
[ 43 ]
و قد روى كثير من الناس ندبة فاطمة ع أباها يوم موته وبعد ذلك اليوم وهي ألفاظ معدودة مشهورة منها
يا أبتاه جنة الخلد مثواه يا أبتاه عند ذي العرش مأواه يا أبتاه كان جبرئيل يغشاه يا أبتاه لست بعد اليوم أراه . ومن الناس من يذكر أنها كانت تشوب هذه الندبة بنوع من التظلم والتألم لأمر يغلبها والله أعلم بصحة ذلك والشيعة تروي أن قوما من الصحابة أنكروا بكاءها الطويل ونهوها عنه وأمروها بالتنحي عن مجاورة المسجد إلى طرف من أطراف المدينة . وأنا أستبعد ذلك والحديث يدخله الزيادة والنقصان ويتطرق إليه التحريف والافتعال ولا أقول أنا في أعلام المهاجرين إلا خيرا
[ 44 ](1/3592)
231 ومن خطبة له ع
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي لاَ تُدْرِكُهُ اَلشَّوَاهِدُ وَ لاَ تَحْوِيهِ اَلْمَشَاهِدُ وَ لاَ تَرَاهُ اَلنَّوَاظِرُ وَ لاَ تَحْجُبُهُ اَلسَّوَاتِرُ اَلدَّالِّ عَلَى قِدَمِهِ بِحُدُوثِ خَلْقِهِ وَ بِحُدُوثِ خَلْقِهِ عَلَى وُجُودِهِ وَ بِاشْتِبَاهِهِمْ عَلَى أَنْ لاَ شَبَهَ لَهُ اَلَّذِي صَدَقَ فِي مِيعَادِهِ وَ اِرْتَفَعَ عَنْ ظُلْمِ عِبَادِهِ وَ قَامَ بِالْقِسْطِ فِي خَلْقِهِ وَ عَدَلَ عَلَيْهِمْ فِي حُكْمِهِ مُسْتَشْهِدٌ بِحُدُوثِ اَلْأَشْيَاءِ عَلَى أَزَلِيَّتِهِ وَ بِمَا وَسَمَهَا بِهِ مِنَ اَلْعَجْزِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَ بِمَا اِضْطَرَّهَا إِلَيْهِ مِنَ اَلْفَنَاءِ عَلَى دَوَامِهِ وَاحِدٌ لاَ بِعَدَدٍ وَ دَائِمٌ لاَ بِأَمَدٍ وَ قَائِمٌ لاَ بِعَمَدٍ تَتَلَقَّاهُ اَلْأَذْهَانُ لاَ بِمُشَاعَرَةٍ وَ تَشْهَدُ لَهُ اَلْمَرَائِي لاَ بِمُحَاضَرَةٍ لَمْ تُحِطْ بِهِ اَلْأَوْهَامُ بَلْ تَجَلَّى لَهَا بِهَا وَ بِهَا اِمْتَنَعَ مِنْهَا وَ إِلَيْهَا حَاكَمَهَا لَيْسَ بِذِي كِبَرٍ اِمْتَدَّتْ بِهِ اَلنِّهَايَاتُ فَكَبَّرَتْهُ تَجْسِيماً وَ لاَ بِذِي عِظَمٍ تَنَاهَتْ بِهِ اَلْغَايَاتُ فَعَظَّمَتْهُ تَجْسِيداً بَلْ كَبُرَ شَأْناً وَ عَظُمَ سُلْطَاناً وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ اَلصَّفِيُّ وَ أَمِينُهُ اَلرَّضِيُّ ص أَرْسَلَهُ بِوُجُوبِ اَلْحُجَجِ وَ ظُهُورِ اَلْفَلَجِ وَ إِيضَاحِ اَلْمَنْهَجِ فَبَلَّغَ اَلرِّسَالَةَ صَادِعاً بِهَا وَ حَمَلَ عَلَى اَلْمَحَجَّةِ دَالاًّ عَلَيْهَا وَ أَقَامَ أَعْلاَمَ اَلاِهْتِدَاءِ وَ مَنَارَ اَلضِّيَاءِ وَ جَعَلَ أَمْرَاسَ اَلْإِسْلاَمِ مَتِينَةً وَ عُرَا اَلْإِيمَانِ وَثِيقَةً
[ 45 ](1/3593)
الشواهد هاهنا يريد بها الحواس وسماها شواهد إما لحضورها شهد فلان كذا أي حضره أو لأنها تشهد على ما تدركه وتثبته عند العقل كما يشهد الشاهد بالشي ء ويثبته عند الحاكم . والمشاهد هاهنا المجالس والنوادي يقال حضرت مشهد بني فلان أي ناديهم ومجتمعهم . ثم فسر اللفظة الأولى وأبان عن مراده بها بقوله ولا تراه النواظر وفسر اللفظة الثانية وأبان عن مرادها فقال ولا تحجبه السواتر . ثم قال الدال على قدمه بحدوث خلقه وبحدوث خلقه على وجوده هذا مشكل لأن لقائل أن يقول إذا دل على قدمه بحدوث خلقه فقد دخل في جملة المدلول كونه موجودا لأن القديم هو الموجود ولم يزل فأي حاجه إلى أن يعود فيقول وبحدوث خلقه على وجوده . ولمجيب أن يجيب على طريقة شيوخنا أصحاب أبي هاشم فيقول لا يلزم من الاستدلال بحدوث الأجسام على أنه لا بد من محدث قديم كونه موجودا لأن عندهم أن الذات المعدومة قد تتصف بصفات ذاتية وهي معدومة فلا يلزم من كون صانع العالم عندهم عالما قادرا حيا أن يكون موجودا بل لا بد من دلالة زائدة على أن له صفة الوجود وهي والدلالة التي يذكرونها من أن كونه قادرا عالما تقتضي تعلقه بالمقدور والمعلوم وكل ذات متعلقة فإن عدمها يخرجها عن التعلق كالإرادة فلو كان تعالى معدوما لم يجز أن يكون متعلقا فحدوث الأجسام إذا قد دل على أمرين من وجهين مختلفين أحدهما أنه لا بد من صانع له وهذا هو المعني بقدمه .
[ 46 ](1/3594)
و الثاني أن هذا الصانع له صفة لأجلها يصح على ذاته أن تكون قادرة عالمة وهذا هو المعني بوجوده . فإن قلت أ يقول أصحاب شيخكم أبي هاشم إن الذات المعدومة التي لا أول لها تسمى قديمة قلت لا والبحث في هذا بحث في اللفظ لا في المعنى . والمراد بقوله ع الدال بحدوث الأشياء على قدمه أي على كونه ذاتا لم يجعلها جاعل وليس المراد بالقدم هاهنا الوجود لم يزل بل مجرد الذاتية لم يزل . ثم يستدل بعد ذلك بحدوث الأشياء على أن له صفة أخرى لم تزل زائدة على مجرد الذاتية وتلك الصفة هي وجوده فقد اتضح المراد الآن . فإن قلت فهل لهذا الكلام مساغ على مذهب البغداديين قلت نعم إذا حمل على منهج التأويل بأن يريد بقوله وبحدوث خلقه على وجوده أي على صحة إيجاده له فيما بعد أي إعادته بعد العدم يوم القيامة لأنه إذا صح منه تعالى إحداثه ابتداء صح منه إيجاده ثانيا على وجه الإعادة لأن الماهية قابلة للوجود والعدم والقادر قادر لذاته فأما من روى بحدوث خلقه على وجوده فإنه قد سقطت عنه هذه الكلف كلها والمعنى على هذا ظاهر لأنه تعالى دل المكلفين بحدوث خلقه على أنه جواد منعم ومذهب أكثر المتكلمين أنه خلق العالم جودا وإنعاما وإحسانا إليهم . قوله ع وباشتباههم على أن لا شبه له هذا دليل صحيح وذلك لأنه إذا ثبت أن جسما ما محدث ثبت أن سائر الأجسام محدثة لأن الأجسام متماثلة وكل ما صح على الشي ء صح على مثله وكذلك إذا ثبت أن سوادا ما أو بياضا ما محدث ثبت أن سائر السوادات والبياضات محدثة لأن حكم الشي ء حكم مثله والسواد في معنى
[ 47 ](1/3595)
كونه سوادا غير مختلف وكذلك البياض فصارت الدلالة هكذا الذوات التي عندنا يشبه بعضها بعضا وهي محدثة فلو كان الباري سبحانه يشبه شيئا منها لكان مثلها ولكان محدثا لأن حكم الشي ء حكم مثله لكنه تعالى ليس بمحدث فليس بمشابه لشي ء منها فقد صح إذا قوله ع وباشتباههم على أن لا شبه له . قوله ع الذي صدق في ميعاده لا يجوز ألا يصدق لأن الكذب قبيح عقلا والباري تعالى يستحيل منه من جهة الداعي والصارف أن يفعل القبيح . قوله ع وارتفع عن ظلم عباده هذا هو مذهب أصحابنا المعتزلة وعن أمير المؤمنين ع أخذوه وهو أستاذهم وشيخهم في العدل والتوحيد فأما الأشعرية فإنها وإن كانت تمتنع عن إطلاق القول بأن الله تعالى يظلم العباد إلا أنها تعطي المعنى في الحقيقة لأن الله عندهم يكلف العباد ما لا يطيقونه بل هو سبحانه عندهم لا يكلفهم إلا ما لا يطيقونه بل هو سبحانه عندهم لا يقدر على أن يكلفهم ما يطيقونه وذلك لأن القدرة عندهم مع الفعل فالقاعد غير قادر على القيام وإنما يكون قادرا على القيام عند حصول القيام ويستحيل عندهم أن يوصف الباري تعالى بإقدار العبد القاعد على القيام وهو مع ذلك مكلف له أن يقوم وهذا غاية ما يكون من الظلم سواء أطلقوا هذه اللفظة عليه أو لم يطلقوها . ثم أعاد الكلام الأول في التوحيد تأكيدا فقال حدوث الأشياء دليل على قدمه وكونها عاجزة عن كثير من الأفعال دليل على قدرته وكونها فانية دليل على بقائه . فإن قلت أما الاستدلال بحدوث الأشياء على قدمه فمعلوم فكيف يكون الاستدلال على الأمرين الأخيرين
[ 48 ](1/3596)
قلت إذا شاركه سبحانه بعض الموجودات في كونه موجودا وافترقا في أن أحدهما لا يصح منه فعل الجسم ولا الكون ولا الحياة ولا الوجود المحدث ويصح ذلك من الموجودات القديمة دل على افتراقهما في أمر لأجله صح من القديم ذلك وتعذر ذلك على المحدث وذلك الأمر هو الذي يسمى من كان عليه قادرا وينبغي أن تحمل لفظة العجز هاهنا على المفهوم اللغوي وهو تعذر الإيجاد لا على المفهوم الكلامي . وأما الاستدلال الثاني فينبغي أن يحمل الفناء هاهنا على المفهوم اللغوي وهو تغير الصفات وزوالها لا على المفهوم الكلامي فيصير تقدير الكلام لما كانت الأشياء التي بيننا تتغير وتتحول وتنتقل من حال إلى حال وعلمنا أن العلة المصححة لذلك كونها محدثة علمنا أنه سبحانه لا يصح عليه التنقل والتغير لأنه ليس بمحدث ثم قال واحد لا بعدد لأن وحدته ذاتية وليست صفة زائدة عليه وهذا من الأبحاث الدقيقة في علم الحكمة وليس هذا الكتاب موضوعا لبسط القول في أمثاله . ثم قال دائم لا بأمد لأنه تعالى ليس بزماني وداخل تحت الحركة والزمان وهذا أيضا من دقائق العلم الإلهي والعرب دون أن تفهم هذا أو تنطق به ولكن هذا الرجل كان ممنوحا من الله تعالى بالفيض المقدس والأنوار الربانية . ثم قال قائم لا بعمد لأنه لما كان في الشاهد كل قائم فله عماد يعتمد عليه أبان ع تنزيهه تعالى عن المكان وعما يتوهمه الجهلاء من أنه مستقر على عرشه بهذه اللفظة ومعنى القائم هاهنا ليس ما يسبق إلى الذهن من أنه المنتصب بل ما تفهمه من قولك فلان قائم بتدبير البلد وقائم بالقسط . ثم قال تتلقاه الأذهان لا بمشاعرة أي تتلقاه تلقيا عقليا ليس كما يتلقى الجسم الجسم بمشاعره وحواسه وجوارحه وذلك لأن تعقل الأشياء وهو حصول صورها
[ 49 ](1/3597)
في العقل بريئة من المادة والمراد بتلقيه سبحانه هاهنا تلقي صفاته لا تلقي ذاته تعالى لأن ذاته تعالى لا تتصورها العقول وسيأتي إيضاح أن هذا مذهبه ع . ثم قال وتشهد له المرائي لا بمحاضرة المرائي جمع مرئي وهو الشي ء المدرك بالبصر يقول المرئيات تشهد بوجود الباري لأنه لو لا وجوده لما وجدت ولو لم توجد لم تكن مرئيات وهي شاهدة بوجوده لا كشهادتها بوجود الأبصار لأنها شهدت بوجود الأبصار لحضورها فيها وأما شهادتها بوجود الباري فليست بهذه الطريق بل بما ذكرناه والأولى أن يكون المرائي هاهنا جمع مرآة بفتح الميم من قولهم هو حسن في مرآة عيني يقول إن جنس الرؤية يشهد بوجود الباري من غير محاضرة منه للحواس . قوله ع لم تحط به الأوهام إلى قوله ع وإليها حاكمها هذا الكلام دقيق ولطيف والأوهام هاهنا هي العقول يقول إنه سبحانه لم تحط به العقول أي لم تتصور كنه ذاته ولكنه تجلى للعقول بالعقول وتجليه هاهنا هو كشف ما يمكن أن تصل إليه العقول من صفاته الإضافية والسلبية لا غير وكشف ما يمكن أن تصل إليه العقول من أسرار مخلوقاته فأما غير ذلك فلا وذلك لأن البحث النظري قد دل على أنا لم نعلم منه سبحانه إلا الإضافة والسلب أما الإضافة فكقولنا عالم قادر وأما السلب فكقولنا ليس بجسم ولا عرض ولا يرى فأما حقيقة الذات المقدسة المخصوصة من حيث هي هي فإن العقل لا يتصورها وهذا مذهب الحكماء وبعض المتكلمين من أصحابنا ومن غيرهم . ثم قال وبالعقول امتنع من العقول أي وبالعقول وبالنظر علمنا أنه تعالى يمتنع أن تدركه العقول . ثم قال وإلى العقول حكم العقول أي جعل العقول المدعية أنها أحاطت
[ 50 ](1/3598)
به وأدركته كالخصم له سبحانه ثم حاكمها إلى العقول السليمة الصحيحة النظر فحكمت له سبحانه على العقول المدعية لما ليست أهلا له . واعلم أن القول بالحيرة في جلال ذات الباري والوقوف عند حد محدود لا يتجاوزه العقل قول ما زال فضلاء العقلاء قائلين به(1/3599)
من أشعار الشارح في المناجاة
و من شعري الذي أسلك فيه مسلك المناجاة عند خلواتي وانقطاعي بالقلب إليه سبحانه قولي
و الله لا موسى ولا عيسى
المسيح ولا محمد
علموا ولا جبريل وهو
إلى محل القدس يصعد
كلا ولا النفس البسيطة
لا ولا العقل المجرد
من كنه ذاتك غير أنك
واحدي الذات سرمد
وجدوا إضافات وسلبا
و الحقيقة ليس توجد
و رأوا وجودا واجبا
يفنى الزمان وليس ينفد
فلتخسأ الحكماء عن
جرم له الأفلاك تسجد
من أنت يا رسطو ومن
أفلاط قبلك يا مبلد
و من ابن سينا حين قرر
ما بنيت له وشيد
هل أنتم إلا الفراش
رأى الشهاب وقد توقد
فدنا فأحرق نفسه
و لو اهتدى رشدا لأبعد
[ 51 ]
و مما قلته أيضا في قصور العقل عن معرفته سبحانه وتعالى
فيك يا أعجوبة الكون
غدا الفكر كليلا
أنت حيرت ذوي اللب
و بلبلت العقولا
كلما أقدم فكري
فيك شبرا فر ميلا
ناكصا يخبط في عمياء
لا يهدى السبيلا
و لي في هذا المعنى
فيك يا أغلوطة الفكر
تاه عقلي وانقضى عمري
سافرت فيك العقول فما
ربحت إلا أذى السفر
رجعت حسرى وما وقفت
لا على عين ولا أثر
فلحى الله الألى زعموا
أنك المعلوم بالنظر
كذبوا إن الذي طلبوا
خارج عن قوة البشر
و قلت أيضا في المعنى
أفنيت خمسين عاما معملا نظري
فيه فلم أدر ما آتي وما أذر
من كان فوق عقول القائسين فما
ذا يدرك الفكر أو ما يبلغ النظر
و لي أيضا
حبيبي أنت لا زيد وعمرو
و إن حيرتني وفتنت ديني
طلبتك جاهدا خمسين عاما
فلم أحصل على برد اليقين
[ 52 ]
فهل بعد الممات بك اتصال
فأعلم غامض السر المصون
نوى قذف وكم قد مات قبلي
بحسرته عليك من القرون
و من شعري أيضا في المعنى وكنت أنادي به ليلا في مواضع مقفرة خالية من الناس بصوت رفيع وأجدح قلبي أيام كنت مالكا أمري مطلقا من قيود الأهل والولد وعلائق الدنيا
يا مدهش الألباب والفطن
و محير التقوالة اللسن
أفنيت فيك العمر أنفقه
و المال مجانا بلا ثمن
أتتبع العلماء أسألهم(1/3600)
و أجول في الآفاق والمدن
و أخالط الملل التي اختلفت
في الدين حتى عابد الوثن
و ظننت أني بالغ غرضي
لما اجتهدت ومبرئ شجني
و مطهر من كل رجس هوى
قلبي بذاك وغاسل درني
فإذا الذي استكثرت منه هو
الجاني علي عظائم المحن
فضللت في تيه بلا علم
و غرقت في يم بلا سفن
و رجعت صفر الكف مكتئبا
حيران ذا هم وذا حزن
أبكي وأنكت في الثرى بيدي
طورا وأدعم تارة ذقني
و أصيح يا من ليس يعرفه
أحد مدى الأحقاب والزمن
يا من له عنت الوجوه ومن
قرنت له الأعناق في قرن
آمنت يا جذر الأصم من الأعداد
بل يا فتنة الفتن
أن ليس تدركك العيون وأن
الرأي ذو أفن وذو غبن
[ 53 ]
و الكل أنت فكيف يدركه
بعض وأنت السر في العلن
و مما قلته في المعنى
ناجيته ودعوته اكشف عن عشا
قلبي وعن بصري وأنت النور
و ارفع حجابا قد سدلت ستوره
دوني وهل دون المحب ستور
فأجابني صه يا ضعيف فبعض ذا
قد رامه موسى فدك الطور
أعجبني هذا المعنى فنقلته إلى لفظ آخر فقلت
حبيبي أنت من دون البرايا
و إن لم أحظ منك بما أريد
قنعت من الوصال بكشف حال
فقيل ارجع فمطلبها بعيد
أ لم تسمع جواب سؤال موسى
و ليس على مكانته مزيد
تعرض للذي حاولت يوما
فدك الصخر واضطرم الصعيد
و لي في هذا المعنى أيضا
قد حار في النفس جميع الورى
و الفكر فيها قد غدا ضائعا
و برهن الكل على ما ادعوا
و ليس برهانهم قاطعا
من جهل الصنعة عجزا فما
أجدره أن يجهل الصانعا
و لي أيضا في الرد على الفلاسفة الذين عللوا حركة الفلك بأنه أراد استخراج الوضع أولا ليتشبه بالعقل المجرد في كماله وأن كل ما له بالقوة فهو خارج إلى الفعل
تحير أرباب النهى وتعجبوا
من الفلك الأقصى لما ذا تحركا
فقيل بطبع كالثقيل إذا هوى
و قيل اختيارا والمحقق شككا
فرد حديث الطبع إذ كان دائرا
و ليس على سمت قويم فيسلكا
[ 54 ]
و قيل لمن قال اختيارا فما الذي
دعاه إلى أن دار ركضا فأوشكا
فقالوا لوضع حادث يستجده
يعاقب منه مطلبا ثم متركا(1/3601)
فقيل لهم هذا الجنون بعينه
و لو رامه منا امرؤ كان أعفكا
و لو أن إنسانا غدا ليس قصده
سوى الوضع واستخراجه عد مضحكا
و لي أيضا في الرد على من زعم أن النبي ص رأى الله سبحانه بالعين وهو الذي أنكرته عائشة والعجب لقوم من أرباب النظر جهلوا ما أدركته امرأة من نساء العرب
عجبت لقوم يزعمون نبيهم
رأى ربه بالعين تبا لهم تبا
و هل تدرك الأبصار غير مكيف
و كيف تبيح العين ما يمنع القلبا
إذا كان طرف القلب عن كنهه نبا
حسيرا فطرف العين عن كنهه أنبى
و المقطعات التي نظمتها في إجلال الباري سبحانه عن أن تحيط به العقول كثيرة موجودة في كتبي ومصنفاتي فلتلمح من مظانها وغرضنا بإيراد بعضها أن لها هنا تشييدا لما قاله أمير المؤمنين ع علي في هذا الباب . قوله ع ليس بذي كبر إلى قوله وعظم سلطانا معناه أنه تعالى يطلق عليه من أسمائه الكبير والعظيم وقد ورد بهما القرآن العزيز وليس المراد بهما ما يستعمله الجمهور من قولهم هذا الجسم أعظم وأكبر مقدارا من هذا الجسم بل المراد عظم شأنه وجلالة سلطانه . والفلج النصرة وأصله سكون العين وإنما حركه ليوازن بين الألفاظ وذلك
[ 55 ](1/3602)
لأن الماضي منه فلج الرجل على خصمه بالفتح ومصدره الفلج بالسكون فأما من روى وظهور الفلج بضمتين فقد سقط عنه التأويل لأن الاسم من هذا اللفظ الفلج بضم أول الكلمة فإذا استعملها الكاتب أو الخطيب جاز له ضم الحرف الثاني . وصادعا بهما مظهرا مجاهدا وأصله الشق . والأمراس الحبال والواحد مرس بفتح الميم والراء مِنْهَا فِي صِفَةِ عَجِيبِ خَلْقِ أَصْنَافٍ مِنَ اَلْحَيَوَانِ : وَ لَوْ فَكَّرُوا فِي عَظِيمِ اَلْقُدْرَةِ وَ جَسِيمِ اَلنِّعْمَةِ لَرَجَعُوا إِلَى اَلطَّرِيقِ وَ خَافُوا عَذَابَ اَلْحَرِيقِ وَ لَكِنِ اَلْقُلُوبُ عَلِيلَةٌ وَ اَلْبَصَائِرُ مَدْخُولَةٌ أَ لاَ يَنْظُرُونَ إِلَى صَغِيرِ مَا خَلَقَ كَيْفَ أَحْكَمَ خَلْقَهُ وَ أَتْقَنَ تَرْكِيبَهُ وَ فَلَقَ لَهُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ سَوَّى لَهُ اَلْعَظْمَ وَ اَلْبَشَرَ اُنْظُرُوا إِلَى اَلنَّمْلَةِ فِي صِغَرِ جُثَّتِهَا وَ لَطَافَةِ هَيْئَتِهَا لاَ تَكَادُ تُنَالُ بِلَحْظِ اَلْبَصَرِ وَ لاَ بِمُسْتَدْرَكِ اَلْفِكَرِ كَيْفَ دَبَّتْ عَلَى أَرْضِهَا وَ صُبَّتْ عَلَى رِزْقِهَا تَنْقُلُ اَلْحَبَّةَ إِلَى جُحْرِهَا وَ تُعِدُّهَا فِي مُسْتَقَرِّهَا تَجْمَعُ فِي حَرِّهَا لِبَرْدِهَا وَ فِي وِرْدِهَا لِصَدَرِهَا مَكْفُولٌ بِرِزْقِهَا مَرْزُوقَةٌ بِوِفْقِهَا لاَ يُغْفِلُهَا اَلْمَنَّانُ وَ لاَ يَحْرِمُهَا اَلدَّيَّانُ وَ لَوْ فِي اَلصَّفَا اَلْيَابِسِ وَ اَلْحَجَرِ اَلْجَامِسِ وَ لَوْ فَكَّرْتَ فِي مَجَارِي أَكْلِهَا وَ فِي عُلْوِهَا وَ سُفْلِهَا وَ مَا فِي اَلْجَوْفِ مِنْ شَرَاسِيفِ بَطْنِهَا وَ مَا فِي اَلرَّأْسِ مِنْ عَيْنِهَا وَ أُذُنِهَا لَقَضَيْتَ مِنْ خَلْقِهَا عَجَباً وَ لَقِيتَ مِنْ وَصْفِهَا تَعَباً
[ 56 ](1/3603)
فَتَعَالَى اَلَّذِي أَقَامَهَا عَلَى قَوَائِمِهَا وَ بَنَاهَا عَلَى دَعَائِمِهَا لَمْ يَشْرَكْهُ فِي فِطْرَتِهَا فَاطِرٌ وَ لَمْ يُعِنْهُ عَلَى خَلْقِهَا قَادِرٌ وَ لَوْ ضَرَبْتَ فِي مَذَاهِبِ فِكْرِكَ لِتَبْلُغَ غَايَاتِهِ مَا دَلَّتْكَ اَلدَّلاَلَةُ إِلاَّ عَلَى أَنَّ فَاطِرَ اَلنَّمْلَةِ هُوَ فَاطِرُ اَلنَّخْلَةِ لِدَقِيقِ تَفْصِيلِ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ غَامِضِ اِخْتِلاَفِ كُلِّ حَيٍّ وَ مَا اَلْجَلِيلُ وَ اَللَّطِيفُ وَ اَلثَّقِيلُ وَ اَلْخَفِيفُ وَ اَلْقَوِيُّ وَ اَلضَّعِيفُ فِي خَلْقِهِ إِلاَّ سَوَاءٌ وَ كَذَلِكَ اَلسَّمَاءُ وَ اَلْهَوَاءُ وَ اَلرِّيَاحُ وَ اَلْمَاءُ فَانْظُرْ إِلَى اَلشَّمْسِ وَ اَلْقَمَرِ وَ اَلنَّبَاتِ وَ اَلشَّجَرِ وَ اَلْمَاءِ وَ اَلْحَجَرِ وَ اِخْتِلاَفِ هَذَا اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ وَ تَفَجُّرِ هَذِهِ اَلْبِحَارِ وَ كَثْرَةِ هَذِهِ اَلْجِبَالِ وَ طُولِ هَذِهِ اَلْقِلاَلِ وَ تَفَرُّقِ هَذِهِ اَللُّغَاتِ وَ اَلْأَلْسُنِ اَلْمُخْتَلِفَاتِ فَالْوَيْلُ لِمَنْ أَنْكَرَ اَلْمُقَدِّرَ وَ جَحَدَ اَلْمُدَبِّرَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ كَالنَّبَاتِ مَا لَهُمْ زَارِعٌ وَ لاَ لاِخْتِلاَفِ صُوَرِهِمْ صَانِعٌ وَ لَمْ يَلْجَئُوا إِلَى حُجَّةٍ فِيمَا اِدَّعَوْا وَ لاَ تَحْقِيقٍ لِمَا دَعَوْا أَوْعَوْا وَ هَلْ يَكُونُ بِنَاءٌ مِنْ غَيْرِ بَانٍ أَوْ جِنَايَةٌ مِنْ غَيْرِ جَانٍ مدخولة معيبة وفلق شق وخلق والبشر ظاهر الجلد . قوله ع وصبت على رزقها قيل هو على العكس أي وصب رزقها عليها والكلام صحيح ولا حاجة فيه إلى هذا والمراد كيف همت حتى انصبت على رزقها انصبابا أي انحطت عليه ويروى وضنت على رزقها بالضاد المعجمة والنون أي بخلت وجحرها بيتها .
[ 57 ](1/3604)
قوله ع وفي وردها لصدرها أي تجمع في أيام التمكن من الحركة لأيام العجز عنها وذلك لأن النمل يظهر صيفا ويخفى في شدة الشتاء لعجزه عن ملاقاة البرد . قوله ع رزقها وفقها أي بقدر كفايتها ويروى مكفول برزقها مرزوقة بوفقها . والمنان من أسماء الله تعالى العائد إلى صفاته الفعلية أي هو كثير المن والإنعام على عباده . والديان المجازي للعباد على أفعالهم قال تعالى إِنَّا لَمَدِينُونَ أي مجزيون والحجر الجامس الجامد والشراسيف أطراف الأضلاع المشرفة على البطن(1/3605)
فصل في ذكر أحوال الذرة وعجائب النملة
و اعلم أن شيخنا أبا عثمان قد أورد في كتاب الحيوان في باب النملة والذرة وهي الصغيرة جدا من النمل كلاما يصلح أن يكون كلام أمير المؤمنين ع أصله ولكن أبا عثمان قد فرع عليه قال الذرة تدخر في الصيف للشتاء وتتقدم في حال المهلة ولا تضيع أوقات إمكان الحزم ثم يبلغ من تفقدها وصحة تمييزها والنظر في عواقب أمورها أنها تخاف على الحبوب التي ادخرتها للشتاء في الصيف أن تعفن وتسوس في
[ 58 ](1/3606)
بطن الأرض فتخرجها إلى ظهرها لتنثرها وتعيد إليها جفوفها ويمر بها النسيم فينفي عنها اللخن والفساد . ثم ربما بل في الأكثر تختار ذلك العمل ليلا لأن ذلك أخفى وفي القمر لأنها فيه أبصر فإن كان مكانها نديا وخافت أن تنبت الحبة نقرت موضع القطمير من وسطها لعلمها أنها من ذلك الموضع تنبت وربما فلقت الحبة نصفين فأما إن كان الحب من حب الكزبرة فإنها تفلقه أرباعا لأن أنصاف حب الكزبرة تنبت من بين جميع الحبوب فهي من هذا الوجه مجاوزة لفطنة جميع الحيوانات حتى ربما كانت في ذلك أحزم من كثير من الناس ولها مع لطافة شخصها وخفة وزنها في الشم والاسترواح ما ليس لشي ء فربما أكل الإنسان الجراد أو بعض ما يشبه الجراد فيسقط من يده الواحدة أو صدر واحدة وليس بقربه ذرة ولا له عهد بالذر في ذلك المنزل فلا يلبث أن تقبل ذرة قاصدة إلى تلك الجرادة فترومها وتحاول نقلها وجرها إلى جحرها فإذا أعجزتها بعد أن تبلي عذرا مضت إلى جحرها راجعة فلا يلبث ذلك الإنسان أن يجدها قد أقبلت وخلفها كالخيط الأسود الممدود حتى يتعاون عليها فيحملنها فاعجب من صدق الشم لما لا يشمه الإنسان الجائع ثم انظر إلى بعد الهمة والجرأة على محاولة نقل شي ء في وزن جسمها مائة مرة وأكثر من مائة مرة بل أضعاف أضعاف المائة وليس شي ء من الحيوان يحمل ما يكون أضعاف وزنه مرارا كثيرة غيرها . فإن قال قائل فمن أين علمتم أن التي حاولت نقل الجرادة فعجزت هي التي أخبرت صواحباتها من الذر وأنها التي كانت على مقدمتهن قيل له لطول التجربة ولأنا لم نر قط ذرة حاولت جر جرادة فعجزت عنها ثم
[ 59 ](1/3607)
رأيناها راجعة إلا رأينا معها مثل ذلك وإن كنا لا نفصل في مرأى العين بينها وبين أخواتها فإنه ليس يقع في القلب غير الذي قلنا فدلنا ذلك على أنها في رجوعها عن الجرادة أنها إنما كانت لأشباهها كالرائد الذي لا يكذب أهله قال أبو عثمان ولا ينكر قولنا إن الذرة توحي إلى أخواتها بما أشرنا إليه إلا من يكذب القرآن فإنه تعالى قال في قصة سليمان قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا اَلنَّمْلُ اُدْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها فهل بعد هذا ريب أو شك في أن لها قولا وبيانا وتمييزا . فإن قلت فلعلها مكلفة ومأمورة ومنهية ومطيعة وعاصية قيل هذا سؤال جاهل وذلك أنه لا يلزم أن يكون كل ذي حس وتمييز مكلفا مأمورا منهيا مطيعا عاصيا لأن الإنسان غير البالغ الحلم قد يحفظ القرآن وكثيرا من الآثار وضروبا من الأخبار ويشتري ويبيع ويخدع الرجال ويسخر بالمعلمين وهو غير مكلف ولا مأمور ولا منهي ولا عاص ولا مطيع فلا يلزم مما قلناه في الذرة أن تكون مكلفة . قال أبو عثمان ومن عجيب ما سمعته من أمر النملة ما حدثني به بعض المهندسين عن رجل معروف بصنعة الأسطرلابات أنه أخرج طوقا من صفر أو قال من حديد من الكير وقد أحماه فرمى به على الأرض ليبرد فاشتمل الطوق على نملة فأرادت أن تنفر يمنة فلقيها وهج النار فأخذت يسرة فلقيها وهج النار فمضت قدما فكذاك فرجعت إلى خلفها فكذلك فرجعت إلى وسط الدائرة فوجدها قد ماتت في موضع رجل البركار من الدائرة وهذا من العجائب . قال أبو عثمان وحدثني أبو عبيد الله الأفوه وما كنت أقدم عليه في زمانه من مشايخ
[ 60 ](1/3608)
المعتزلة إلا القليل قال قد كنت ألقى من الذر والنمل في الرطب يكون عندي وفي الطعام عنتا كثيرا وذلك لأني كنت لا أستقذر النملة ولا الذرة ثم وجدت الواحدة منهما إذا وقعت في قارورة بان أو زئبق أو خيري فسد ذلك الدهن وزنخ فقذرتها ونفرت منها وقلت أخلق بطبيعتها أن تكون فاسدة خبيثة وكنت أرى لها عضا منكرا فأقول إنها من ذوات السموم ولو أن بدن النملة زيد في أجزائه حتى يلحق ببدن العقرب ثم عضت إنسانا لكانت عضتها أضر عليه من لسعة العقرب . قال فاتخذت عند ذلك لطعامي منملة وقيرتها وصببت في خندقها الماء ووضعت سلة الطعام على رأسها فغبرت أياما أكشف رأس السلة بعد ذلك وفيها ذر كثير ووجدت الماء في الخندق على حاله فقلت عسى أن يكون بعض الصبيان أنزلها وأكل مما فيها وطال مكثها في الأرض وقد دخلها الذر ثم أعيدت على تلك الحال وتكلمت في ذلك وتعرفت الحال فيه فعرفت البراءة في عذرهم والصدق في خبرهم فاشتد تعجبي وذهبت بي الظنون والخواطر كل مذهب فعزمت على أن أرصدها وأحرسها وأتثبت في أمري وأتعرف شأني فإذا هي بعد أن رامت الخندق فامتنع عليها تركته جانبا وصعدت في الحائط ثم مرت على جذع السقف فلما صارت محاذية للسلة أرسلت نفسها فقلت في نفسي انظر كيف اهتدت إلى هذه الحيلة ولم تعلم أنها تبقى محصورة . ثم قلت وما عليها أن تبقى محصورة بل أي حصار على ذرة وقد وجدت ما تشتهي . قال أبو عثمان ومن أعاجيب الذرة أنها لا تعرض لجعل ولا لجرادة ولا لخنفساء ولا لبنت وردان ما لم يكن بها حبل أو عقر أو قطع رجل أو يد فإن وجدت بها من ذلك أدنى علة وثبت عليها حتى لو أن حية بها ضربة أو خرق أو خدش ثم كانت من
[ 61 ](1/3609)
ثعابين مصر لوثب عليها الذر حتى يأكلها ولا تكاد الحية تسلم من الذر إذا كان بها أدنى عقر . قال أبو عثمان وقد عذب الله بالذر والنمل أمما وأمما وأخرج أهل قرى من قراهم وأهل دروب من دروبهم . وحدثني بعض من أصدق خبره قال سألت رجلا كان ينزل ببغداد في بعض الدروب التي في ناحية باب الكوفة التي جلا أهلها عنها لغلبة النمل والذر عليها فسألته عن ذلك فقال وما تصنع بالحديث امض معي إلى داري التي أخرجني منها النمل قال فدخلتها معه فبعث غلامه فاشترى رءوسا من الرأسين ليتغذى بها فانتقلنا هربا من النمل في أكثر من عشرين مكانا ثم دعا بطست ضخمة وصب فيها ماء صالحا ثم فرق عظام الرءوس في الدار ومعه غلمانه فكان كلما اسود منها عظم لكثرة النمل واجتماعه عليه وذلك في أسرع الأوقات أخذه الغلام ففرغه في الطست بعود ينثر به ما عليه في جوف الطست فما لبثنا مقدار ساعة من النهار حتى فاضت الطست نملا فقال كم تظن أني فعلت مثل هذا قبل الجلاء طمعا في أن أقطع أصلها فلما رأيت عددها إما زائدا وإما ثابتا وجاءنا ما لا يصبر عليه أحد ولا يمكن معه مقام خرجت عنها . قال أبو عثمان وعذب عمر بن هبيرة سعيد بن عمرو الحرشي بأنواع العذاب فقيل له إن أردت ألا يفلح أبدا فمرهم فلينفخوا في دبره النمل ففعلوا فلم يفلح بعدها .
[ 62 ](1/3610)
قال أبو عثمان ومن الحيوان أجناس يشبه الإنسان في العقل والروية والنظر في العواقب والفكر في الأمور مثل النمل والذر والفأر والجرذان والعنكبوت والنحل إلا أن النحل لا يدخر من الطعم إلا جنسا واحدا وهو العسل . قال وزعم البقطري أنك لو أدخلت نملة في جحر ذر لأكلتها حتى تأتي على عامتها وذكر أنه قد جرب ذلك . قال وزعم صاحب المنطق أن الضبع تأكل النمل أكلا ذريعا لأنها تأتي قرية النمل وقت اجتماع النمل على باب القرية فتلحس ذلك النمل كله بلسانها بشهوة شديدة وإرادة قوية . قال وربما أفسدت الأرضة على أهل القرى منازلهم وأكلت كل شي ء لهم فلا تزال كذلك حتى ينشأ في تلك القرى النمل فيسلط الله عز وجل ذلك النمل على تلك الأرضة حتى تأتي على آخرها على أن النمل بعد ذلك سيكون له أذى إلا أنه دون أذى الأرضة بعيدا وما أكثر ما يذهب النمل أيضا من تلك القرى حتى يتم لأهلها السلامة من النوعين جميعا . قال وقد زعم بعضهم أن تلك الأرضة بأعيانها تستحيل نملا وليس فناؤها لأكل النمل لها ولكن الأرضة نفسها تستحيل نملا فعلى قدر ما يستحيل منها يرى الناس النقصان في عددها ومضرتها على الأيام . قال أبو عثمان وكان ثمامة يرى أن الذر صغار النمل ونحن نراه نوعا آخر كالبقر والجواميس . قال ومن أسباب هلاك النمل نبات أجنحته وقال الشاعر
و إذا استوت للنمل أجنحة
حتى يطير فقد دنا عطبه
[ 63 ](1/3611)
و كان في كتاب عبد الحميد إلى أبي مسلم لو أراد الله بالنملة صلاحا لما أنبت لها جناحا فيقال إن أبا مسلم لما قرأ هذا الكلام في أول الكتاب لم يتم قراءته وألقاه في النار وقال أخاف إن قرأته أن ينخب قلبي . قال أبو عثمان ويقتل النمل بأن يصب في أفواه بيوتها القطران والكبريت الأصفر وأن يدس في أفواهها الشعر على أنا قد جربنا ذلك فوجدناه باطلا . فأما الحكماء فإنهم لا يثبتون للنمل شراسيف ولا أضلاعا ويجب إن صح قولهم أن يحمل كلام أمير المؤمنين ع على اعتقاد الجمهور ومخاطبة العرب بما تتخيله وتتوهمه حقا وكذلك لا يثبت الحكماء للنمل آذانا بارزة عن سطوح رءوسها ويجب إن صح ذلك أن نحمل كلام أمير المؤمنين ع على قوة الإحساس بالأصوات فإنه لا يمكن الحكماء إنكار وجود هذه القوة للنمل ولهذا إذا صيح عليهن هربن . ويذكر الحكماء من عجائب النمل أشياء منها أنه لا جلد له وكذلك كل الحيوان المخرز . ومنها أنه لا يوجد في صقلية نمل كبار أصلا . ومنها أن النمل بعضه ماش وبعضه طائر . ومنها أن حراقة النمل إذا أضيف إليها شي ء من قشور البيض وريش هدهد وعلقت على العضد منعت من النوم قوله ع ولو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته أي غايات فكرك وضربت بمعنى سرت والمذاهب الطرق قال تعالى وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي
[ 64 ](1/3612)
اَلْأَرْضِ وهذا الكلام استعارة . قال لو أمعنت النظر لعلمت أن خالق النملة الحقيرة هو خالق النخلة الطويلة لأن كل شي ء من الأشياء تفصيل جسمه وهيئته تفصيل دقيق واختلاف تلك الأجسام في أشكالها وألوانها ومقاديرها اختلاف غامض السبب فلا بد للكل من مدبر يحكم بذلك الاختلاف ويفعله على حسب ما يعلمه من المصلحة . ثم قال وما الجليل والدقيق في خلقه إلا سواء لأنه تعالى قادر لذاته لا يعجزه شي ء من الممكنات . ثم قال فانظر إلى الشمس والقمر إلى قوله والألسن المختلفات هذا هو الاستدلال بإمكان الأعراض على ثبوت الصانع والطرق إليه أربعة أحدها الاستدلال بحدوث الأجسام . والثاني الاستدلال بإمكان الأعراض والأجسام . والثالث الاستدلال بحدوث الأعراض . والرابع الاستدلال بإمكان الأعراض . وصورة الاستدلال هو أن كل جسم يقبل للجسمية المشتركة بينه وبين سائر الأجسام ما يقبله غيره من الأجسام فإذا اختلفت الأجسام في الأعراض فلا بد من مخصص خصص هذا الجسم بهذا العرض دون أن يكون هذا العرض لجسم آخر ويكون لهذا الجسم عرض غير هذا العرض لأن الممكنات لا بد لها من مرجح يرجح أحد طرفيها على الآخر فهذا هو معنى قوله فانظر إلى الشمس والقمر والنبات والشجر والماء والحجر واختلاف هذا الليل والنهار وتفجر هذه البحار وكثرة هذه الجبال وطول هذه القلال وتفرق هذه اللغات والألسن المختلفات أي أنه يمكن أن تكون هيئة
[ 65 ](1/3613)
الشمس وضوءها ومقدارها حاصلا لجرم القمر ويمكن أن يكون النبات الذي لا ساق له شجرا والشجر ذو الساق نباتا ويمكن أن يكون الماء صلبا والحجر مائعا ويمكن أن يكون زمان الليل مضيئا وزمان النهار مظلما ويمكن ألا تكون هذه البحار متفجرة بل تكون جبالا ويمكن ألا تكون هذه الجبال الكبيرة كبيرة ويمكن ألا تكون هذه القلال طويلة وكذلك القول في اللغات واختلافها وإذا كان كل هذا ممكنا فاختصاص الجسم المخصوص بالصفات والأعراض والصور المخصوصة لا يمكن أن يكون لمجرد الجسمية لتماثل الأجسام فيها فلا بد من أمر زائد وذلك الأمر الزائد هو المعني بقولنا صانع العالم . ثم سفه آراء المعطلة وقال إنهم لم يعتصموا بحجة ولم يحققوا ما وعوه أي لم يرتبوا العلوم الضرورية ترتيبا صحيحا يفضي بهم إلى النتيجة التي هي حق . ثم أخذ في الرد عليهم من طريق أخرى وهي دعوى الضرورة وقد اعتمد عليها كثير من المتكلمين فقال نعلم ضرورة أن البناء لا بد له من بان . ثم قال والجناية لا بد لها من جان وهذه كلمة ساقته إليها القرينة والمراد عموم الفعلية لا خصوص الجناية أي مستحيل أن يكون الفعل من غير فاعل والذين ادعوا الضرورة في هذه المسألة من المتكلمين استغنوا عن الطرق الأربع التي ذكرناها وأمير المؤمنين ع اعتمد أولا على طريق واحدة ثم جنح ثانيا إلى دعوى الضرورة وكلا الطريقين صحيح : وَ إِنْ شِئْتَ قُلْتَ فِي اَلْجَرَادَةِ إِذْ خَلَقَ لَهَا عَيْنَيْنِ حَمْرَاوَيْنِ وَ أَسْرَجَ لَهَا
[ 66 ](1/3614)
حَدَقَتَيْنِ قَمْرَاوَيْنِ وَ جَعَلَ لَهَا اَلسَّمْعَ اَلْخَفِيَّ وَ فَتَحَ لَهَا اَلْفَمَ اَلسَّوِيَّ وَ جَعَلَ لَهَا اَلْحِسَّ اَلْقَوِيَّ وَ نَابَيْنِ بِهِمَا تَقْرِضُ وَ مِنْجَلَيْنِ بِهِمَا تَقْبِضُ يَرْهَبُهَا اَلزُّرَّاعُ فِي زَرْعِهِمْ وَ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ذَبَّهَا وَ لَوْ أَجْلَبُوا بِجَمْعِهِمْ حَتَّى تَرِدَ اَلْحَرْثَ فِي نَزَوَاتِهَا وَ تَقْضِي مِنْهُ شَهَوَاتِهَا وَ خَلْقُهَا كُلُّهُ لاَ يُكَوِّنُ إِصْبَعاً مُسْتَدِقَّةً فَتَبَارَكَ اَللَّهُ اَلَّذِي يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمَوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ يُعَفِّرُ لَهُ خَدّاً وَ وَجْهاً وَ يُلْقِي إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ إِلَيْهِ سِلْماً وَ ضَعْفاً وَ يُعْطِي لَهُ اَلْقِيَادَ رَهْبَةً وَ خَوْفاً فَالطَّيْرُ مُسَخَّرَةٌ لِأَمْرِهِ أَحْصَى عَدَدَ اَلرِّيشِ مِنْهَا وَ اَلنَّفَسِ وَ أَرْسَى قَوَائِمَهَا عَلَى اَلنَّدَى وَ اَلْيَبَسِ وَ قَدَّرَ أَقْوَاتَهَا وَ أَحْصَى أَجْنَاسَهَا فَهَذَا غُرَابٌ وَ هَذَا عُقَابٌ وَ هَذَا حَمَامٌ وَ هَذَا نَعَامٌ دَعَا كُلَّ طَائِرٍ بِاسْمِهِ وَ كَفَلَ لَهُ بِرِزْقِهِ وَ أَنْشَأَ اَلسَّحَابَ اَلثِّقَالَ فَأَهْطَلَ دِيَمَهَا وَ عَدَّدَ قِسَمَهَا فَبَلَّ اَلْأَرْضُ بَعْدَ جُفُوفِهَا وَ أَخْرَجَ نَبْتَهَا بَعْدَ جُدُوبِهَا قوله وأسرج لها حدقتين أي جعلهما مضيئتين كما يضي ء السراج ويقال حدقة قمراء أي منيرة كما يقال ليلة قمراء أي نيرة بضوء القمر . وبهما تقرض أي تقطع والراء مكسورة . والمنجلان رجلاها شبههما بالمناجل لعوجهما وخشونتهما . ويرهبها يخافها ونزواتها وثباتها والجدب المحل
[ 67 ](1/3615)
ذكر غرائب الجراد وما احتوت عليه من صنوف الصنعة
قال شيخنا أبو عثمان في كتاب الحيوان من عجائب الجرادة التماسها لبيضها الموضع الصلد والصخور الملس ثقة منها أنها إذا ضربت بأذنابها فيها انفرجت لها ومعلوم أن ذنب الجرادة ليس في خلقة المنشار ولا طرف ذنبه كحد السنان ولا لها من قوة الأسر ولا لذنبها من الصلابة ما إذا اعتمدت به على الكدية خرج فيها كيف وهي تتعدى إلى ما هو أصلب من ذلك وليس في طرفها كإبرة العقرب وعلى أن العقرب ليس تخرق القمقم من جهد الأيد وقوة البدن بل إنما ينفرج لها بطبع مجعول هناك وكذاك انفراج الصخور لأذناب الجراد . ولو أن عقابا أرادت أن تخرق جلد الجاموس لما انخرق لها إلا بالتكلف الشديد والعقاب هي التي تنكدر على الذئب الأطلس فتقد بدابرتها ما بين صلاه إلى موضع الكاهل . فإذا غرزت الجرادة وألقت بيضها وانضمت عليها تلك الأخاديد التي هي أحدثها وصارت كالأفاحيص لها صارت حاضنة لها ومربية وحافظة وصائنة وواقية حتى إذا جاء وقت دبيب الروح فيها حدث عجب آخر وذلك لأنه يخرج من بيضه
[ 68 ](1/3616)
أصهب إلى البياض ثم يصفر وتتلون فيه خطوط إلى السواد ثم يصير فيه خطوط سود وبيض ثم يبدو حجم جناحه ثم يستقل فيموج بعضه في بعض . قال أبو عثمان ويزعم قوم أن الجراد قد يريد الخضرة ودونه النهر الجاري فيصير بعضه جسرا لبعض حتى يعبر إلى الخضرة وأن ذلك حيلة منها . وليس كما زعموا ولكن الزحف الأول من الدباء يريد الخضرة فلا يستطيعها إلا بالعبور إليها فإذا صارت تلك القطعة فوق الماء طافية صارت لعمري أرضا للزحف الثاني الذي يريد الخضرة فإن سموا ذلك جسرا استقام فأما أن يكون الزحف الأول مهد للثاني ومكن له وآثره بالكفاية فهذا ما لا يعرف ولو أن الزحفين جميعا أشرفا على النهر وأمسك أحدهما عن تكلف العبور حتى يمهد له الآخر لكان لما قالوه وجه . قال أبو عثمان ولعاب الجراد سم على الأشجار لا يقع على شي ء إلا أحرقه . فأما الحكماء فيذكرون في كتبهم أن أرجل الجراد تقلع الثآليل وأنه إذا أخذت منه اثنتا عشرة جرادة ونزعت رءوسها وأطرافها وجعل معها قليل آس يابس وشربت للاستسقاء كما هي نفعت نفعا بينا وأن التبخر بالجراد ينفع من عسر البول وخاصة في النساء وأن أكله ينفع من تقطيره وقد يبخر به للبواسير وينفع أكله من لسعة العقرب . ويقال إن الجراد الطوال إذا علق على من به حمى الربع نفعه
[ 69 ](1/3617)
232 ومن خطبة له ع في التوحيد
و تجمع هذه الخطبة من أصول العلم ما لا تجمعه خطبة غيرها : مَا وَحَّدَهُ مَنْ كَيَّفَهُ وَ لاَ حَقِيقَتَهُ أَصَابَ مَنْ مَثَّلَهُ وَ لاَ إِيَّاهُ عَنَى مَنْ شَبَّهَهُ وَ لاَ صَمَدَهُ مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ وَ تَوَهَّمَهُ كُلُّ مَعْرُوفٍ بِنَفْسِهِ مَصْنُوعٌ وَ كُلُّ قَائِمٍ فِي سِوَاهُ مَعْلُولٌ فَاعِلٌ لاَ بِاضْطِرَابِ آلَةٍ مُقَدِّرٌ لاَ بِجَوْلِ فِكْرَةٍ غَنِيٌّ لاَ بِاسْتِفَادَةٍ لاَ تَصْحَبُهُ اَلْأَوْقَاتُ وَ لاَ تَرْفِدُهُ اَلْأَدَوَاتُ سَبَقَ اَلْأَوْقَاتَ كَوْنُهُ وَ اَلْعَدَمَ وُجُودُهُ وَ اَلاِبْتِدَاءَ أَزَلُهُ أَوَّلُهُ هذا الفصل يشتمل على مباحث متعددة أولها قوله ما وحده من كيفه وهذا حق لأنه إذا جعله مكيفا جعله ذا هيئة وشكل أو ذا لون وضوء إلى غيرهما من أقسام الكيف ومتى كان كذلك كان جسما ولم يكن واحدا لأن كل جسم قابل للانقسام والواحد حقا لا يقبل الانقسام فقد ثبت أنه ما وحده من كيفه . وثانيها قوله ولا حقيقته أصاب من مثله وهذا حق لأنه تعالى لا مثل له وقد دلت الأدلة الكلامية والحكمية على ذلك فمن أثبت له مثلا فإنه لم يصب
[ 70 ](1/3618)
حقيقته تعالى والسجعة الأخرى تعطي هذا المعنى أيضا من غير زيادة عليه وهي قوله ع ولا إياه عنى من شبهه ولهذا قال شيوخنا إن المشبه لا يعرف الله ولا تتوجه عباداته وصلواته إلى الله تعالى لأنه يعبد شيئا يعتقده جسما أو يعتقده مشابها لبعض هذه الذوات المحدثة والعبادة تنصرف إلى المعبود بالقصد فإذا قصد بها غير الله تعالى لم يكن قد عبد الله سبحانه ولا عرفه وإنما يتخيل ويتوهم أنه قد عرفه وعبده وليس الأمر كما تخيل وتوهم . وثالثها قوله ع ولا صمده من أشار إليه أي أثبته في جهة كما تقول الكرامية الصمد في اللغة العربية السيد والصمد أيضا الذي لا جوف له وصار التصميد في الاصطلاح العرفي عبارة عن التنزيه والذي قال ع حق لأن من أشار إليه أي أثبته في جهة كما تقوله الكرامية فإنه ما صمده لأنه ما نزهه عن الجهات بل حكم عليه بما هو من خواص الأجسام وكذلك من توهمه سبحانه أي من تخيل له في نفسه صورة أو هيئة أو شكلا فإنه لم ينزهه عما يجب تنزيهه عنه . ورابعها قوله كل معروف بنفسه مصنوع هذا الكلام يجب أن يتأول ويحمل على أن كل معروف بالمشاهدة والحس فهو مصنوع وذلك لأن الباري سبحانه معروف من طريقين إحداهما من أفعاله والأخرى بنفسه وهي طريقة الحكماء الذين بحثوا في الوجود من حيث هو وجود فعلموا أنه لا بد من موجود واجب الوجود فلم يستدلوا عليه بأفعاله بل أخرج لهم البحث في الوجود أنه لا بد من ذات يستحيل عدمها من حيث هي هي . فإن قلت كيف يحمل كلامه على أن كل معروف بالمشاهدة والحس فهو مصنوع وهذا يدخل فيه كثير من الأعراض كالألوان وإذا دخل ذلك فسدت عليه الفقرة الثانية
[ 71 ](1/3619)
و هي قوله ع وكل قائم فيما سواه معلول لأنها للأعراض خاصة فيدخل أحد مدلول الفقرتين في الأخرى فيختل النظم قلت يريد ع بالفقرة الأولى كل معروف بنفسه من طريق المشاهدة مستقلا بذاته غير مفتقر في تقومه إلى غيره فهو مصنوع وهذا يختص بالأجسام خاصة ولا يدخل الألوان وغيرها من الأعراض فيه لأنها متقومة بمحالها . وخامسها قوله وكل قائم في سواه معلول أي وكل شي ء يتقوم بغيره فهو معلول وهذا حق لا محالة كالأعراض لأنها لو كانت واجبة لاستغنت في تقومها عن سواها لكنها مفتقرة إلى المحل الذي يتقوم به ذواتها فإذا هي معلولة لأن كل مفتقر إلى الغير فهو ممكن فلا بد له من مؤثر . وسادسها قوله فاعل لا باضطراب آلة هذا لبيان الفرق بينه وبيننا فإننا نفعل بالآلات وهو سبحانه قادر لذاته فاستغنى عن الآلة . وسابعها قوله مقدر لا بجول فكرة هذا أيضا للفرق بيننا وبينه لأنا إذا قدرنا أجلنا أفكارنا وترددت بنا الدواعي وهو سبحانه يقدر الأشياء على خلاف ذلك . وثامنها قوله غني لا باستفادة هذا أيضا للفرق بيننا وبينه لأن الغني منا من يستفيد الغنى بسبب خارجي وهو سبحانه غني بذاته من غير استفادة أمر يصير به غنيا والمراد بكونه غنيا أن كل شي ء من الأشياء يحتاج إليه وأنه سبحانه لا يحتاج إلى شي ء من الأشياء أصلا . وتاسعها قوله لا تصحبه الأوقات هذا بحث شريف جدا وذلك لأنه سبحانه ليس بزمان ولا قابل للحركة فذاته فوق الزمان والدهر أما المتكلمون فإنهم يقولون
[ 72 ](1/3620)
إنه تعالى كان ولا زمان ولا وقت وأما الحكماء فيقولون إن الزمان عرض قائم بعرض آخر وذلك العرض الآخر قائم بجسم معلول لبعض المعلولات الصادرة عنه سبحانه فالزمان عندهم وإن كان لم يزل إلا أن العلة الأولى ليست واقعة تحته وذلك هو المراد بقوله لا تصحبه الأوقات إن فسرناه على قولهم وتفسيره على قول المتكلمين أولى . وعاشرها قوله ولا ترفده الأدوات رفدت فلانا إذا أعنته والمراد الفرق بيننا وبينه لأننا مرفودون بالأدوات ولولاها لم يصح منا الفعل وهو سبحانه بخلاف ذلك . وحادي عشرها قوله سبق الأوقات كونه إلى آخر الفصل هذا تصريح بحدوث العالم . فإن قلت ما معنى قوله والعدم وجوده وهل يسبق وجوده العدم مع كون عدم العالم في الأزل لا أول له قلت ليس يعني بالعدم هاهنا عدم العالم بل عدم ذاته سبحانه أي غلب وجود ذاته عدمها وسبقها فوجب له وجود يستحيل تطرق العدم إليه أزلا وأبدا بخلاف الممكنات فإن عدمها سابق بالذات على وجودها وهذا دقيق : بِتَشْعِيرِهِ اَلْمَشَاعِرَ عُرِفَ أَنْ لاَ مَشْعَرَ لَهُ وَ بِمُضَادَّتِهِ بَيْنَ اَلْأُمُورِ عُرِفَ أَنْ لاَ ضِدَّ لَهُ وَ بِمُقَارَنَتِهِ بَيْنَ اَلْأَشْيَاءِ عُرِفَ أَنْ لاَ قَرِينَ لَهُ ضَادَّ اَلنُّورَ بِالظُّلْمَةِ وَ اَلْوُضُوحَ بِالْبُهْمَةِ وَ اَلْجُمُودَ بِالْبَلَلِ وَ اَلْحَرُورَ بِالصَّرَدِ بِالصَّرْدِ
[ 73 ]
مُؤَلِّفٌ بَيْنَ مُتَعَادِيَاتِهَا مُقَارِنٌ بَيْنَ مُتَبَايِنَاتِهَا مُقَرِّبٌ بَيْنَ مُتَبَاعِدَاتِهَا مُفَرِّقٌ بَيْنَ مُتَدَانِيَاتِهَا لاَ يُشْمَلُ بِحَدٍّ وَ لاَ يُحْسَبُ بِعَدٍّ وَ إِنَّمَا تَحُدُّ اَلْأَدَوَاتُ أَنْفُسَهَا وَ تُشِيرُ اَلآْلاَتُ إِلَى نَظَائِرِهَا المشاعر الحواس قال بلعاء بن قيس
و الرأس مرتفع فيه مشاعره
يهدي السبيل له سمع وعينان(1/3621)
قال بجعله تعالى المشاعر عرف أن لا مشعر له وذلك لأن الجسم لا يصح منه فعل الأجسام وهذا هو الدليل الذي يعول عليه المتكلمون في أنه تعالى ليس بجسم . ثم قال وبمضادته بين الأمور عرف أن لا ضد له وذلك لأنه تعالى لما دلنا بالعقل على أن الأمور المتضادة إنما تتضاد على موضوع تقوم به وتحله كان قد دلنا على أنه تعالى لا ضد له لأنه يستحيل أن يكون قائما بموضوع يحله كما تقوم المتضادات بموضوعاتها . ثم قال وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له وذلك لأنه تعالى قرن بين العرض والجوهر بمعنى استحالة انفكاك أحدهما عن الآخر وقرن بين كثير من الأعراض نحو ما يقوله أصحابنا في حياتي القلب والكبد ونحو الإضافات التي يذكرها الحكماء كالبنوة والأبوة والفوقية والتحتية ونحو كثير من العلل والمعلولات والأسباب والمسببات فيما ركبه في العقول من وجوب هذه المقارنة واستحالة انفكاك أحد الأمرين
[ 74 ](1/3622)
عن الآخر علمنا أنه لا قرين له سبحانه لأنه لو قارن شيئا على حسب هذه المقارنة لاستحال انفكاكه عنه فكان محتاجا في تحقق ذاته تعالى إليه وكل محتاج ممكن فواجب الوجود ممكن هذا محال . ثم شرع في تفصيل المتضادات فقال ضاد النور بالظلمة وهما عرضان عند كثير من الناس وفيهم من يجعل الظلمة عدمية . قال والوضوح بالبهمة يعني البياض والسواد . قال والجمود بالبلل يعني اليبوسة والرطوبة . قال والحرور بالصرد يعني الحرارة والبرودة والحرور هاهنا مفتوح الحاء يقال إني لأجد لهذا الطعام حرورا وحرورة في فمي أي حرارة ويجوز أن يكون في الكلام مضاف محذوف أي وحرارة الحرور بالصرد والحرور هاهنا يكون الريح الحارة وهي بالليل كالسموم بالنهار والصرد البرد . ثم قال وإنه تعالى مؤلف بين هذه المتباعدات المتعاديات المتباينات وليس المراد من تأليفه بينها جمعه إياها في مكان واحد كيف وذلك مستحيل في نفسه بل هو سبحانه مؤلف لها في الأجسام المركبة حتى خلع منها صورة مفردة هي المزاج ألا ترى أنه جمع الحار والبارد والرطب واليابس فمزجه مزجا مخصوصا حتى انتزع منه طبيعة مفردة ليست حارة مطلقة ولا باردة مطلقة ولا رطبة مطلقة ولا يابسة مطلقة وهي المزاج وهو محدود عند الحكماء بأنه كيفية حاصلة من كيفيات متضادة وهذا هو محصول كلامه ع بعينه . والعجب من فصاحته في ضمن حكمته كيف أعطى كل لفظة من هذه اللفظات ما يناسبها ويليق بها فأعطى المتباعدات لفظة مقرب لأن البعد بإزاء القرب
[ 75 ](1/3623)
و أعطى المتباينات لفظة مقارن لأن البينونة بإزاء المقارنة وأعطى المتعاديات لفظة مؤلف لأن الائتلاف بإزاء التعادي . ثم عاد ع فعكس المعنى فقال مفرق بين متدانياتها فجعل الفساد بإزاء الكون وهذا من دقيق حكمته ع وذلك لأن كل كائن فاسد فلما أوضح ما أوضح في الكون والتركيب والإيجاد أعقبه بذكر الفساد والعدم فقال مفرق بين متدانياتها وذلك لأن كل جسم مركب من العناصر المختلفة الكيفيات المتضادة الطبائع فإنه سيئول إلى الانحلال والتفرق . ثم قال لا يشمل بحد وذلك لأن الحد الشامل ما كان مركبا من جنس وفصل والباري تعالى منزه عن ذلك لأنه لو شمله الحد على هذا الوجه يكون مركبا فلم يكن واجب الوجود وقد ثبت أنه واجب الوجود ويجوز أن يعنى به أنه ليس بذي نهاية فتحويه الأقطار وتحده . ثم قال ولا يحسب بعد يحتمل أن يريد لا تحسب أزليته بعد أي لا يقال له منذ وجد كذا وكذا كما يقال للأشياء المتقاربة العهد ويحتمل أن يريد به أنه ليس مماثلا للأشياء فيدخل تحت العدد كما تعد الجواهر وكما تعد الأمور المحسوسة . ثم قال وإنما تحد الأدوات أنفسها وتشير الآلات إلى نظائرها هذا يؤكد معنى التفسير الثاني وذلك لأن الأدوات كالجوارح إنما تحد وتقدر ما كان مثلها من ذوات المقادير وكذلك إنما تشير الآلات وهي الحواس إلى ما كان نظيرا لها في الجسمية ولوازمها والباري تعالى ليس بذي مقدار ولا جسم ولا حال في جسم فاستحال أن تحده الأدوات وتشير إليه الآلات
[ 76 ](1/3624)
مَنَعَتْهَا مُنْذُ اَلْقِدْمَةَ وَ حَمَتْهَا قَدْ اَلْأَزَلِيَّةَ وَ جَنَّبَتْهَا لَوْلاَ اَلتَّكْمِلَةَ بِهَا تَجَلَّى صَانِعُهَا لِلْعُقُولِ وَ بِهَا اِمْتَنَعَ عَنْ نَظَرِ اَلْعُيُونِ وَ لاَ يَجْرِي تَجْرِي عَلَيْهِ اَلْحَرَكَةُ وَ اَلسُّكُونُ اَلسُّكُونُ وَ اَلْحَرَكَةُ وَ كَيْفَ يَجْرِي عَلَيْهِ مَا هُوَ أَجْرَاهُ وَ يَعُودُ فِيهِ مَا هُوَ أَبْدَاهُ وَ يَحْدُثُ فِيهِ مَا هُوَ أَحْدَثَهُ إِذاً لَتَفَاوَتَتْ ذَاتُهُ وَ لَتَجَزَّأَ كُنْهُهُ وَ لاَمْتَنَعَ مِنَ اَلْأَزَلِ مَعْنَاهُ وَ لَكَانَ لَهُ وَرَاءٌ إِذْ وُجِدَ لَهُ أَمَامٌ وَ لاَلْتَمَسَ اَلتَّمَامَ إِذْ لَزِمَهُ اَلنُّقْصَانُ وَ إِذاً لَقَامَتْ آيَةُ اَلْمَصْنُوعِ فِيهِ وَ لَتَحَوَّلَ دَلِيلاً بَعْدَ أَنْ كَانَ مَدْلُولاً عَلَيْهِ وَ خَرَجَ بِسُلْطَانِ اَلاِمْتِنَاعِ مِنْ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ مَا يُؤَثِّرُ فِي غَيْرِهِ قد اختلف الرواة في هذا الموضع من وجهين أحدهما قول من نصب القدمة والأزلية والتكملة فيكون نصبها عنده على أنها مفعول ثان والمفعول الأول الضمائر المتصلة بالأفعال وتكون منذ وقد ولو لا في موضع رفع بأنها فاعلة وتقدير الكلام أن إطلاق لفظة منذ على الآلات والأدوات يمنعها عن كونها قديمة لأن لفظة منذ وضعت لابتداء الزمان كلفظة من لابتداء المكان والقديم لا ابتداء له وكذلك إطلاق لفظة قد على الآلات والأدوات تحميها وتمنعها من كونها أزلية لأن قد لتقريب الماضي من الحال تقول قد قام زيد فقد دل على أن قيامه قريب من الحال التي أخبرت فيها
[ 77 ](1/3625)
بقيامه والأزلي لا يصح ذلك فيه وكذلك إطلاق لفظة لو لا على الأدوات والآلات يجنبها التكملة ويمنعها من التمام المطلق لأن لفظة لو لا وضعت لامتناع الشي ء لوجود غيره كقولك لو لا زيد لقام عمرو فامتناع قيام عمرو إنما هو لوجود زيد وأنت تقول في الأدوات والآلات وكل جسم ما أحسنه لو لا أنه فان وما أتمه لو لا كذا فيكون المقصد والمنحى بهذا الكلام على هذه الرواية بيان أن الأدوات والآلات محدثة ناقصة والمراد بالآلات والأدوات أربابها . الوجه الثاني قول من رفع القدمة والأزلية والتكملة فيكون كل واحد منها عنده فاعلا وتكون الضمائر المتصلة بالأفعال مفعولا أولا ومنذ وقد ولو لا مفعولا ثانيا ويكون المعنى أن قدم الباري وأزليته وكماله منعت الأدوات والآلات من إطلاق لفظة منذ وقد ولو لا عليه سبحانه لأنه تعالى قديم كامل ولفظتا منذ وقد لا يطلقان إلا على محدث لأن إحداهما لابتداء الزمان والأخرى لتقريب الماضي من الحال ولفظة لو لا لا تطلق إلا على ناقص فيكون المقصد والمنحى بهذا الكلام على هذه الرواية بيان قدم الباري تعالى وكماله وأنه لا يصح أن يطلق عليه ألفاظ تدل على الحدوث والنقص . قوله ع بها تجلى صانعها للعقول وبها امتنع عن نظر العيون أي بهذه الآلات والأدوات التي هي حواسنا ومشاعرنا وبخلقه إياها وتصويره لها تجلى للعقول وعرف لأنه لو لم يخلقها لم يعرف وبها امتنع عن نظر العيون أي بها استنبطنا استحالة كونه مرئيا بالعيون لأنا بالمشاعر والحواس كملت عقولنا وبعقولنا استخرجنا الدلالة على أنه لا تصح رؤيته فإذن بخلقه الآلات والأدوات لنا عرفناه عقلا وبذلك
[ 78 ](1/3626)
أيضا عرفنا أنه يستحيل أن يعرف بغير العقل وأن قول من قال إنا سنعرفه رؤية ومشافهة بالحاسة باطل . قوله ع لا تجري عليه الحركة والسكون هذا دليل أخذه المتكلمون عنه ع فنظموه في كتبهم وقرروه وهو أن الحركة والسكون معان محدثة فلو حلت فيه لم يخل منها وما لم يخل من المحدث فهو محدث . فإن قلت إنه ع لم يخرج كلامه هذا المخرج وإنما قال كيف يجري عليه ما هو أجراه وهذا نمط آخر غير ما يقرره المتكلمون قلت بل هو هو بعينه لأنه إذا ثبت أنه هو الذي أجرى الحركة والسكون أي أحدثهما لم يجز أن يجريا عليه لأنهما لو جريا عليه لم يخل إما أن يجريا عليه على التعاقب وليسا ولا واحد منهما بقديم أو يجريا عليه على أن أحدهما قديم ثم تلاه الآخر والأول باطل بما يبطل به حوادث لا أول لها والثاني باطل بكلامه ع وذلك لأنه لو كان أحدهما قديما معه سبحانه لما كان أجراه لكن قد قلنا أنه أجراه أي أحدثه وهذا خلف محال وأيضا فإذا كان أحدهما قديما معه لم يجز أن يتلوه الآخر لأن القديم لا يزول بالمحدث . ثم قال ع إذا لتفاوتت ذاته ولتجزأ كنهه ولامتنع من الأزل معناه هذا تأكيد لبيان استحالة جريان الحركة والسكون عليه تقول لو صح عليه ذلك لكان محدثا وهو معنى قوله لامتنع من الأزل معناه وأيضا كان ينبغي أن تكون ذاته منقسمة لأن المتحرك الساكن لا بد أن يكون متحيزا وكل متحيز جسم وكل جسم منقسم أبدا وفي هذا إشارة إلى نفي الجوهر الفرد .
[ 79 ](1/3627)
ثم قال ع ولكان له وراء إذا وجد له أمام هذا يؤكد ما قلناه إنه إشارة إلى نفي الجوهر الفرد يقول لو حلته الحركة لكان جرما وحجما ولكان أحد وجهيه غير الوجه الآخر لا محالة فكان منقسما وهذا الكلام لا يستقيم إلا مع نفي الجوهر الفرد لأن من أثبته يقول يصح أن تحله الحركة ولا يكون أحد وجهيه غير الآخر فلا يلزم أن يكون له وراء وأمام . ثم قال ع ولا التمس التمام إذ لزمه النقصان هذا إشارة إلى ما يقوله الحكماء من أن الكون عدم ونقص والحركة وجود وكمال فلو كان سبحانه يتحرك ويسكن لكان حال السكون ناقصا قد عدم عنه كماله فكان ملتمسا كماله بالحركة الطارئة على السكون وواجب الوجود يستحيل أن يكون له حالة نقصان وأن يكون له حالة بالقوة وأخرى بالفعل . قوله ع إذا لقامت آية المصنوع فيه وذلك لأن آية المصنوع كونه متغيرا منتقلا من حال إلى حال لأنا بذلك استدللنا على حدوث الأجسام فلو كان تعالى متغيرا متحركا منتقلا من حال إلى حال لتحقق فيه دليل الحدوث فكان مصنوعا وقد ثبت أنه الصانع المطلق سبحانه . قوله ع ولتحول دليلا بعد أن كان مدلولا عليه يقول إنا وجدنا دليلنا على الباري سبحانه أنما هو الأجسام المتحركة فلو كان الباري متحركا لكان دليلا على غيره وكان فوقه صانع آخر صنعه وأحدثه لكنه سبحانه لا صانع له ولا ذات فوق ذاته فهو المدلول عليه والمنتهى إليه . قوله ع وخرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه ما أثر في غيره في هذا الكلام يتوهم سامعه أنه عطف على قوله لتفاوتت ولتجزأ ولامتنع
[ 80 ](1/3628)
و لكان له ولالتمس ولقامت ولتحول وليس كذلك لأنه لو كان معطوفا عليها لاختل الكلام وفسد لأنها كلها مستحيلات عليه تعالى والمراد لو تحرك لزم هذه المحالات كلها . وقوله وخرج بسلطان الامتناع ليس من المستحيلات عليه بل هو واجب له ومن الأمور الصادقة عليه فإذا فسد أن يكون معطوفا عليها وجب أن يكون معطوفا على ما كان مدلولا عليه وتقدير الكلام كان يلزم أن يتحول الباري دليلا على غيره بعد أن كان مدلولا عليه وبعد أن خرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه ما أثر في غيره وخروجه بسلطان الامتناع المراد به وجوب الوجود والتجريد وكونه ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز فهذا هو سلطان الامتناع الذي به خرج عن أن يؤثر فيه ما أثر في غيره من الأجسام والممكنات : اَلَّذِي لاَ يَحُولُ وَ لاَ يَزُولُ وَ لاَ يَجُوزُ عَلَيْهِ اَلْأُفُولُ لَمْ يَلِدْ فَيَكُونَ مَوْلُوداً وَ لَمْ يُولَدْ فَيَصِيرَ مَحْدُوداً جَلَّ عَنِ اِتِّخَاذِ اَلْأَبْنَاءِ وَ طَهُرَ عَنْ مُلاَمَسَةِ اَلنِّسَاءِ لاَ تَنَالُهُ اَلْأَوْهَامُ فَتُقَدِّرَهُ وَ لاَ تَتَوَهَّمُهُ اَلْفِطَنُ فَتُصَوِّرَهُ وَ لاَ تُدْرِكُهُ اَلْحَوَاسُّ فَتُحِسَّهُ وَ لاَ تَلْمِسُهُ اَلْأَيْدِي فَتَمَسَّهُ وَ لاَ يَتَغَيَّرُ بِحَالٍ وَ لاَ يَتَبَدَّلُ فِي اَلْأَحْوَالِ وَ لاَ تُبْلِيهِ اَللَّيَالِي وَ اَلْأَيَّامُ وَ لاَ يُغَيِّرُهُ اَلضِّيَاءُ وَ اَلظَّلاَمُ هذا الفصل كله واضح مستغن عن الشرح إلا قوله ع لم يلد
[ 81 ](1/3629)
فيكون مولودا لأن لقائل أن يقول كيف يلزم من فرض كونه والدا أن يكون مولودا في جوابه أنه ليس معنى الكلام أنه يلزم من فرض وقوع أحدهما وقوع الآخر وكيف وآدم والد وليس بمولود وإنما المراد أنه يلزم من فرض صحة كونه والدا صحة كونه مولودا والتالي محال والمقدم محال وإنما قلنا إنه يلزم من فرض صحة كونه والدا صحة كونه مولودا لأنه لو صح أن يكون والدا على التفسير المفهوم من الوالدية وهو أن يتصور من بعض أجزائه حي آخر من نوعه على سبيل الاستحالة لذلك الجزء كما نعقله في النطفة المنفصلة من الإنسان المستحيلة إلى صورة أخرى حتى يكون منها بشر آخر من نوع الأول لصح عليه أن يكون هو مولودا من والد آخر قبله وذلك لأن الأجسام متماثلة في الجسمية وقد ثبت ذلك بدليل عقلي واضح في مواضعه التي هي أملك به وكل مثلين فإن أحدهما يصح عليه ما يصح على الآخر فلو صح كونه والدا يصح كونه مولودا . وأما بيان أنه لا يصح كونه مولودا فلأن كل مولود متأخر عن والده بالزمان وكل متأخر عن غيره بالزمان محدث فالمولود محدث والباري تعالى قد ثبت أنه قديم وأن الحدوث عليه محال فاستحال أن يكون مولودا وتم الدليل : وَ لاَ يُوصَفُ بِشَيْ ءٍ مِنَ اَلْأَجْزَاءِ وَ لاَ بِالْجَوَارِحِ وَ اَلْأَعْضَاءِ وَ لاَ بِعَرَضٍ مِنَ اَلْأَعْرَاضِ وَ لاَ بِالْغَيْرِيَّةِ وَ اَلْأَبْعَاضِ وَ لاَ يُقَالُ لَهُ حَدٌّ وَ لاَ نِهَايَةٌ وَ لاَ اِنْقِطَاعٌ وَ لاَ غَايَةٌ وَ لاَ أَنَّ اَلْأَشْيَاءَ تَحْوِيهِ فَتُقِلَّهُ أَوْ تُهْوِيَهُ أَوْ أَنَّ شَيْئاً يَحْمِلُهُ فَيُمِيلَهُ
[ 82 ](1/3630)
أَوْ يُعَدِّلَهُ يَعْدِلَهُ لَيْسَ فِي اَلْأَشْيَاءِ بِوَالِجٍ وَ لاَ عَنْهَا بِخَارِجٍ يُخْبِرُ لاَ بِلِسَانٍ وَ لَهَوَاتٍ وَ يَسْمَعُ لاَ بِخُرُوقٍ وَ أَدَوَاتٍ يَقُولُ وَ لاَ يَلْفِظُ وَ يَحْفَظُ وَ لاَ يَتَحَفَّظُ وَ يُرِيدُ وَ لاَ يُضْمِرُ يُحِبُّ وَ يَرْضَى مِنْ غَيْرِ رِقَّةٍ وَ يُبْغِضُ وَ يَغْضَبُ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ يَقُولُ لِمَنْ أَرَادَ كَوْنَهُ كُنْ فَيَكُونُ لاَ بِصَوْتٍ يَقْرَعُ وَ لاَ بِنِدَاءٍ يُسْمَعُ وَ إِنَّمَا كَلاَمُهُ سُبْحَانَهُ فِعْلٌ مِنْهُ أَنْشَأَهُ وَ مَثَّلَهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ كَائِناً وَ لَوْ كَانَ قَدِيماً لَكَانَ إِلَهاً ثَانِياً في هذا الفصل مباحث أولها أن الباري سبحانه لا يوصف بشي ء من الأجزاء أي ليس بمركب لأنه لو كان مركبا لافتقر إلى أجزائه وأجزاؤه ليست نفس هويته وكل ذات تفتقر هويتها إلى أمر من الأمور فهي ممكنة لكنه واجب الوجود فاستحال أن يوصف بشي ء من الأجزاء . وثانيها أنه لا يوصف بالجوارح والأعضاء كما يقول مثبتو الصورة وذلك لأنه لو كان كذلك لكان جسما وكل جسم ممكن وواجب الوجود غير ممكن . وثالثها أنه لا يوصف بعرض من الأعراض كما يقوله الكرامية لأنه لو حله العرض لكان ذلك العرض ليس بأن يحل فيه أولى من أن يحل هو في العرض لأن معنى
[ 83 ](1/3631)
الحلول حصول العرض في حيز المحل تبعا لحصول المحل فيه فما ليس بمتحيز لا يتحقق فيه معنى الحلول وليس بأن يجعل محلا أولى من أن يجعل حالا . ورابعها أنه لا يوصف بالغيرية والأبعاض أي ليس له بعض ولا هو ذو أقسام بعضها غيرا للبعض الآخر وهذا يرجع إلى البحث الأول . وخامسها أنه لا حد له ولا نهاية أي ليس ذا مقدار ولذلك المقدار طرف ونهاية لأنه لو كان ذا مقدار لكان جسما لأن المقدار من لوازم الجسمية وقد ثبت أنه تعالى ليس بجسم . وسادسها أنه لا انقطاع لوجوده ولا غاية لأنه لو جاز عليه العدم في المستقبل لكان وجوده الآن متوقفا على عدم سبب عدمه وكل متوقف على الغير فهو ممكن في ذاته والباري تعالى واجب الوجوب فاستحال عليه العدم وأن يكون لوجوده انقطاع أو ينتهي إلى غاية يعدم عندها . وسابعها أن الأشياء لا تحويه فتقله أي ترفعه أو تهويه أي تجعله هاويا إلى جهة تحت لأنه لو كان كذلك لكان ذا مقدار أصغر من مقدار الشي ء الحاوي له لكن قد بينا أنه يستحيل عليه المقادير فاستحال كونه محويا . وثامنها أنه ليس يحمله شي ء فيميله إلى جانب أو يعدله بالنسبة إلى جميع الجوانب لأن كل محمول مقدر وكل مقدر جسم وقد ثبت أنه ليس بجسم . وتاسعها أنه ليس في الأشياء بوالج أي داخل ولا عنها بخارج هذا مذهب الموحدين والخلاف فيه مع الكرامية والمجسمة وينبغي أن يفهم قوله ع ولا عنها بخارج أنه لا يريد سلب الولوج فيكون قد خلا من النقيضين لأن ذلك محال بل المراد بكونه ليس خارجا عنها أنه ليس كما يعتقده كثير من الناس أن الفلك الأعلى المحيط لا يحتوي عليه ولكنه ذات موجودة متميزة بنفسها قائمة
[ 84 ](1/3632)
بذاتها خارجة عن الفلك في الجهة العليا بينها وبين الفلك بعد إما غير متناه على ما يحكى عن ابن الهيصم أو متناه على ما يذهب إليه أصحابه وذلك أن هذه القضية وهي قولنا الباري خارج عن الموجودات كلها على هذا التفسير ليست مناقضة للقضية الأولى وهي قولنا الباري داخل العالم ليكون القول بخلوه عنهما قولا بخلوه عن النقيضين أ لا ترى أنه يجوز أن تكون القضيتان كاذبتين معا بألا يكون الفلك المحيط محتويا عليه ولا يكون حاصلا في جهة خارج الفلك ولو كانت القضيتان متناقضتين لما استقام ذلك وهذا كما تقول زيد في الدار زيد في المسجد فإن هاتين القضيتين ليستا متناقضتين لجواز ألا يكون زيد في الدار ولا في المسجد فإن هاتين لو تناقضتا لاستحال الخروج عن النقيضين لكن المتناقض زيد في الدار زيد ليس في الدار والذي يستشنعه العوام من قولنا الباري لا داخل العالم ولا خارج العالم غلط مبني على اعتقادهم وتصورهم أن القضيتين تتناقضان وإذا فهم ما ذكرناه بان أنه ليس هذا القول بشنيع بل هو سهل وحق أيضا فإنه تعالى لا متحيز ولا حال في المتحيز وما كان كذلك استحال أن يحصل في جهة لا داخل العالم ولا خارج العالم وقد ثبت كونه غير متحيز ولا حال في المتحيز من حيث كان واجب الوجود فإذن القول بأنه ليس في الأشياء بوالج ولا عنها بخارج صواب وحق . وعاشرها أنه تعالى يخبر بلا لسان ولهوات وذلك لأن كونه تعالى مخبرا هو كونه فاعلا للخبر كما أن كونه ضاربا هو كونه فاعلا للضرب فكما لا يحتاج في كونه ضاربا إلى أداة وجارحة يضرب بها كذلك لا يحتاج في كونه مخبرا إلى لسان ولهوات يخبر بها . وحادي عشرها أنه تعالى يسمع بلا حروف وأدوات وذلك لأن الباري سبحانه حي لا آفة به وكل حي لا آفة به فواجب أن يسمع المسموعات ويبصر المبصرات
[ 85 ](1/3633)
و لا حاجة به سبحانه إلى حروف وأدوات كما نحتاج نحن إلى ذلك لأنا أحياء بحياة تحلنا والباري تعالى حي لذاته فلما افترقنا فيما به كان سامعا ومبصرا افترقنا في الحاجة إلى الأدوات والجوارح . وثاني عشرها أنه يقول ولا يتلفظ هذا بحث لفظي وذلك لأنه قد ورد السمع بتسميته قائلا وقد تكرر في الكتاب العزيز ذكر هذه اللفظة نحو قوله إِذْ قالَ اَللَّهُ يا عِيسى وَ قالَ اَللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ ولم يرد في السمع إطلاق كونه متلفظا عليه وفي إطلاقه إيهام كونه ذا جارحة فوجب الاقتصار على ما ورد وترك ما لم يرد . وثالث عشرها أنه تعالى يحفظ ولا يتحفظ أما كونه يحفظ فيطلق على وجهين أحدهما أنه يحفظ بمعنى أنه يحصي أعمال عباده ويعلمها والثاني كونه يحفظهم ويحرسهم من الآفات والدواهي وأما كونه لا يتحفظ فيحتمل معنيين أحدهما أنه لا يجوز أن يطلق عليه أنه يتحفظ الكلام أي يتكلف كونه حافظا له ومحيطا وعالما به كالواحد منا يتحفظ الدرس ليحفظه فهو سبحانه حافظ غير متحفظ والثاني أنه ليس بمتحرز ولا مشفق على نفسه خوفا أن تبدر إليه بادرة من غيره . ورابع عشرها أنه يريد ولا يضمر أما كونه مريدا فقد ثبت بالسمع نحو قوله تعالى يُرِيدُ اَللَّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وبالعقل لاختصاص أفعاله بأوقات مخصوصة وكيفيات مخصوصة جاز أن تقع على خلافها فلا بد من مخصص لها بما اختصت به وذلك كونه مريدا وأما كونه لا يضمر فهو إطلاق لفظي لم يأذن فيه الشرع وفيه إيهام كونه ذا قلب لأن الضمير في العرف اللغوي ما استكن في القلب والباري ليس بجسم .
[ 86 ](1/3634)
و خامس عشرها أنه يحب ويرضى من غير رقة ويبغض ويغضب من غير مشقة وذلك لأن محبته للعبد إرادته أن يثيبه ورضاه عنه أن يحمد فعله وهذا يصح ويطلق على الباري لا كإطلاقه علينا لأن هذه الأوصاف يقتضي إطلاقها علينا رقة القلب والباري ليس بجسم وأما بغضه للعبد فإرادة عقابه وغضبه كراهية فعله ووعيده بإنزال العقاب به وفي الأغلب إنما يطلق ذلك علينا ويصح منا مع مشقة تنالنا من إزعاج القلب وغليان دمه والباري ليس بجسم . وسادس عشرها أنه يقول لما أراد كونه كن فيكون من غير صوت يقرع ونداء يسمع هذا مذهب شيخنا أبي الهذيل وإليه يذهب الكرامية وأتباعها من الحنابلة وغيرهم والظاهر أن أمير المؤمنين ع أطلقه حملا على ظاهر لفظ القرآن في مخاطبة الناس بما قد سمعوه وأنسوا به وتكرر على أسماعهم وأذهانهم فأما باطن الآية وتأويلها الحقيقي فغير ما يسبق إلى أذهان العوام فليطلب من موضعه . وسابع عشرها أن كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثله لم يكن من قبل ذلك كائنا ولو كان قديما لكان إلها ثانيا هذا هو دليل المعتزلة على نفي المعاني القديمة التي منها القرآن وذلك لأن القدم عندهم أخص صفات الباري تعالى أو موجب عن الأخص فلو أن في الوجود معنى قديما قائما بذات الباري لكان ذلك المعنى مشاركا للباري في أخص صفاته وكان يجب لذلك المعنى جميع ما وجب للباري من الصفات نحو العالمية والقادرية وغيرهما فكان إلها ثانيا . فإن قلت ما معنى قوله ع ومثله قلت يقال مثلت له كذا تمثيلا إذا صورت له مثاله بالكتابة أو بغيرها فالباري مثل القرآن لجبريل ع بالكتابة في اللوح المحفوظ فأنزله على محمد ص .
[ 87 ](1/3635)
و أيضا يقال مثل زيد بحضرتي إذا حضر قائما ومثلته بين يدي زيد أي أحضرته منتصبا فلما كان الله تعالى فعل القرآن واضحا بينا كان قد مثله للمكلفين : لاَ يُقَالُ كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَتَجْرِيَ عَلَيْهِ اَلصِّفَاتُ اَلْمُحْدَثَاتُ وَ لاَ يَكُونُ بَيْنَهَا وَ بَيْنَهُ فَصْلٌ وَ لاَ لَهُ عَلَيْهَا فَضْلٌ فَيَسْتَوِيَ اَلصَّانِعُ وَ اَلْمَصْنُوعُ وَ يَتَكَافَأَ اَلْمُبْتَدَعُ وَ اَلْبَدِيعُ خَلَقَ اَلْخَلاَئِقَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ خَلاَ مِنْ غَيْرِهِ وَ لَمْ يَسْتَعِنْ عَلَى خَلْقِهَا بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ وَ أَنْشَأَ اَلْأَرْضَ فَأَمْسَكَهَا مِنْ غَيْرِ اِشْتِغَالٍ وَ أَرْسَاهَا عَلَى غَيْرِ قَرَارٍ وَ أَقَامَهَا بِغَيْرِ قَوَائِمَ وَ رَفَعَهَا بِغَيْرِ دَعَائِمَ وَ حَصَّنَهَا مِنَ اَلْأَوَدِ وَ اَلاِعْوِجَاجِ وَ مَنَعَهَا مِنَ اَلتَّهَافُتِ وَ اَلاِنْفِرَاجِ أَرْسَى أَوْتَادَهَا وَ ضَرَبَ أَسْدَادَهَا وَ اِسْتَفَاضَ عُيُونَهَا وَ خَدَّ أَوْدِيَتَهَا فَلَمْ يَهِنْ مَا بَنَاهُ وَ لاَ ضَعُفَ مَا قَوَّاهُ عاد ع إلى تنزيه الباري تعالى عن الحدوث فقال لا يجوز أن يوصف به فتجري عليه الصفات المحدثات كما تجري على كل محدث وروي : فتجري عليه صفات المحدثات وهو أليق ليعود إلى المحدثات ذوات الصفات ما بعده وهو قوله ع ولا يكون بينه وبينها فصل لأنه لا يحسن أن يعود الضمير في قوله وبينها إلى الصفات بل إلى ذوات الصفات .
[ 88 ](1/3636)
قال لو كان محدثا لجرت عليه صفات الأجسام المحدثة فلم يكن بينه وبين الأجسام المحدثة فرق فكان يستوي الصانع والمصنوع وهذا محال . ثم ذكر أنه خلق الخلق غير محتذ لمثال ولا مستفيد من غيره كيفية الصنعة بخلاف الواحد منا فإن الواحد منا لا بد أن يحتذي في الصنعة كالبناء والنجار والصانع وغيرها . قال ع ولم يستعن على خلقها بأحد من خلقه لأنه تعالى قادر لذاته لا يعجزه شي ء . ثم ذكر إنشاءه تعالى الأرض وأنه أمسكها من غير اشتغال منه بإمساكها وغير ذلك من أفعاله ومخلوقاته ليس كالواحد منا يمسك الثقيل فيشتغل بإمساكه عن كثير من أموره . قال وأرساها جعلها راسية على غير قرار تتمكن عليه بل واقفة بإرادته التي اقتضت وقوفها ولأن الفلك يجذبها من جميع جهاتها كما قيل أو لأنه يدفعها من جميع جهاتها أو لأن أحد نصفيها صاعد بالطبع والآخر هابط بالطبع فاقتضى التعادل وقوفها أو لأنها طالبة للمركز فوقفت . والأود الاعوجاج وكرر لاختلاف اللفظ . والتهافت التساقط والأسداد جمع سد وهو الجبل ويجوز ضم السين . واستفاض عيونها بمعنى أفاض أي جعلها فائضة . وخد أوديتها أي شقها فلم يهن ما بناه أي لم يضعف
[ 89 ](1/3637)
هُوَ اَلظَّاهِرُ عَلَيْهَا بِسُلْطَانِهِ وَ عَظَمَتِهِ وَ هُوَ اَلْبَاطِنُ لَهَا بِعِلْمِهِ وَ مَعْرِفَتِهِ وَ اَلْعَالِي عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ مِنْهَا بِجَلاَلِهِ وَ عِزَّتِهِ لاَ يُعْجِزُهُ شَيْ ءٌ مِنْهَا طَلَبَهُ وَ لاَ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ فَيَغْلِبَهُ وَ لاَ يَفُوتُهُ اَلسَّرِيعُ مِنْهَا فَيَسْبِقَهُ وَ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى ذِي مَالٍ فَيَرْزُقَهُ خَضَعَتِ اَلْأَشْيَاءُ لَهُ وَ ذَلَّتْ مُسْتَكِينَةً لِعَظَمَتِهِ لاَ تَسْتَطِيعُ اَلْهَرَبَ مِنْ سُلْطَانِهِ إِلَى غَيْرِهِ فَتَمْتَنِعَ مِنْ نَفْعِهِ وَ ضَرِّهِ وَ لاَ كُفْ ءَ لَهُ فَيُكَافِئَهُ وَ لاَ نَظِيرَ لَهُ فَيُسَاوِيَهُ هُوَ اَلْمُفْنِي لَهَا بَعْدَ وُجُودِهَا حَتَّى يَصِيرَ مَوْجُودُهَا كَمَفْقُودِهَا وَ لَيْسَ فَنَاءُ اَلدُّنْيَا بَعْدَ اِبْتِدَاعِهَا بِأَعْجَبَ مِنْ إِنْشَائِهَا وَ اِخْتِرَاعِهَا وَ كَيْفَ وَ لَوِ اِجْتَمَعَ جَمِيعُ حَيَوَانِهَا مِنْ طَيْرِهَا وَ بَهَائِمِهَا وَ مَا كَانَ مِنْ مُرَاحِهَا وَ سَائِمِهَا وَ أَصْنَافِ أَسْنَاخِهَا وَ أَجْنَاسِهَا وَ مُتَبَلِّدَةِ أُمَمِهَا وَ أَكْيَاسِهَا عَلَى إِحْدَاثِ بَعُوضَةٍ مَا قَدَرَتْ عَلَى إِحْدَاثِهَا وَ لاَ عَرَفَتْ كَيْفَ اَلسَّبِيلُ إِلَى إِيجَادِهَا وَ لَتَحَيَّرَتْ عُقُولُهَا فِي عِلْمِ ذَلِكَ وَ تَاهَتْ وَ عَجَزَتْ قُوَاهَا وَ تَنَاهَتْ وَ رَجَعَتْ خَاسِئَةً حَسِيرَةً عَارِفَةً بِأَنَّهَا مَقْهُورَةٌ مُقِرَّةً بِالْعَجْزِ عَنْ إِنْشَائِهَا مُذْعِنَةً بِالضَّعْفِ عَنْ إِفْنَائِهَا الظاهر الغالب القاهر والباطن العالم الخبير . والمراح بضم الميم النعم ترد إلى المراح بالضم أيضا وهو الموضع الذي تأوي إليه النعم وليس المراح ضد السائم على ما يظنه بعضهم ويقول إن عطف أحدهما على الآخر عطف
[ 90 ](1/3638)
على المختلف والمتضاد بل أحدهما هو الآخر وضدهما المعلوفة وإنما عطف أحدهما على الآخر على طريقة العرب في الخطابة ومثله في القرآن كثير نحو قوله سبحانه لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ . وأسناخها جمع سنخ بالكسر وهو الأصل وقوله لو اجتمع جميع الحيوان على إحداث بعوضة هو معنى قوله سبحانه إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اِجْتَمَعُوا لَهُ . فإن قلت ما معنى قوله لا تستطيع الهرب من سلطانه إلى غيره فتمتنع من نفعه وضره وهلا قال من ضره ولم يذكر النفع فإنه لا معنى لذكره هاهنا قلت هذا كما يقول المعتصم بمعقل حصين عن غيره ما يقدر اليوم فلان لي على نفع ولا ضر وليس غرضه إلا ذكر الضرر وإنما يأتي بذكر النفع على سبيل سلب القدرة عن فلان على كل ما يتعلق بذلك المعتصم وأيضا فإن العفو عن المجرم نفع له فهو ع يقول إنه ليس شي ء من الأشياء يستطيع أن يخرج إذا أجرم من سلطان الله تعالى إلى غيره فيمتنع من بأس الله تعالى ويستغني عن أن يعفو عنه لعدم اقتداره عليه : وَ إِنَّهُ إِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ يَعُودُ بَعْدَ فَنَاءِ اَلدُّنْيَا وَحْدَهُ لاَ شَيْ ءَ مَعَهُ كَمَا كَانَ قَبْلَ اِبْتِدَائِهَا كَذَلِكَ يَكُونُ بَعْدَ فَنَائِهَا بِلاَ وَقْتٍ وَ لاَ مَكَانٍ وَ لاَ حِينٍ وَ لاَ زَمَانٍ عُدِمَتْ عِنْدَ ذَلِكَ اَلآْجَالُ وَ اَلْأَوْقَاتُ وَ زَالَتِ اَلسِّنُونَ وَ اَلسَّاعَاتُ فَلاَ شَيْ ءَ
[ 91 ](1/3639)
إِلاَّ اَللَّهُ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ اَلَّذِي إِلَيْهِ مَصِيرُ جَمِيعِ اَلْأُمُورِ بِلاَ قُدْرَةٍ مِنْهَا كَانَ اِبْتِدَاءُ خَلْقِهَا وَ بِغَيْرِ اِمْتِنَاعٍ مِنْهَا كَانَ فَنَاؤُهَا وَ لَوْ قَدَرَتْ عَلَى اَلاِمْتِنَاعِ لَدَامَ بَقَاؤُهَا لَمْ يَتَكَاءَدْهُ صُنْعُ شَيْ ءٍ مِنْهَا إِذْ صَنَعَهُ وَ لَمْ يَؤُدْهُ مِنْهَا خَلْقُ مَا خَلَقَهُ وَ بَرَأَهُ بَرَأَهُ وَ خَلَقَهُ وَ لَمْ يُكَوِّنْهَا لِتَشْدِيدِ سُلْطَانٍ وَ لاَ لِخَوْفٍ مِنْ زَوَالٍ وَ نُقْصَانٍ وَ لاَ لِلاِسْتِعَانَةِ بِهَا عَلَى نِدٍّ مُكَاثِرٍ وَ لاَ لِلاِحْتِرَازِ بِهَا مِنْ ضِدٍّ مُثَاوِرٍ وَ لاَ لِلاِزْدِيَادِ بِهَا فِي مُلْكِهِ وَ لاَ لِمُكَاثَرَةِ شَرِيكٍ فِي شِرْكِهِ وَ لاَ لِوَحْشَةٍ كَانَتْ مِنْهُ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَأْنِسَ إِلَيْهَا ثُمَّ هُوَ يُفْنِيهَا بَعْدَ تَكْوِينِهَا لاَ لِسَأَمٍ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي تَصْرِيفِهَا وَ تَدْبِيرِهَا وَ لاَ لِرَاحَةٍ وَاصِلَةٍ إِلَيْهِ وَ لاَ لِثِقَلِ شَيْ ءٍ مِنْهَا عَلَيْهِ لاَ يُمِلُّهُ طُولُ بَقَائِهَا فَيَدْعُوَهُ إِلَى سُرْعَةِ إِفْنَائِهَا وَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ دَبَّرَهَا بِلُطْفِهِ وَ أَمْسَكَهَا بِأَمْرِهِ وَ أَتْقَنَهَا بِقُدْرَتِهِ ثُمَّ يُعِيدُهَا بَعْدَ اَلْفَنَاءِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَيْهَا وَ لاَ اِسْتِعَانَةٍ بِشَيْ ءٍ مِنْهَا عَلَيْهَا وَ لاَ لاِنْصِرَافٍ مِنْ حَالِ وَحْشَةٍ إِلَى حَالِ اِسْتِئْنَاسٍ وَ لاَ مِنْ حَالِ جَهْلٍ وَ عَمًى إِلَى حَالِ عِلْمٍ وَ اِلْتِمَاسٍ وَ لاَ مِنْ فَقْرٍ وَ حَاجَةٍ إِلَى غِنًى وَ كَثْرَةٍ وَ لاَ مِنْ ذُلٍّ وَ ضَعَةٍ إِلَى عِزٍّ وَ قُدْرَةٍ شرع أولا في ذكر إعدام الله سبحانه الجواهر وما يتبعها ويقوم بها من الأعراض قبل القيامة وذلك لأن الكتاب العزيز قد ورد به نحو قوله تعالى كَما بَدَأْنا أَوَّلَ(1/3640)
خَلْقٍ نُعِيدُهُ ومعلوم أنه بدأه عن عدم فوجب أن تكون الإعادة عن عدم أيضا وقال تعالى هُوَ اَلْأَوَّلُ وَ اَلْآخِرُ وإنما كان أولا لأنه كان موجودا ولا شي ء من
[ 92 ]
الأشياء بموجود فوجب أن يكون آخرا كذلك هذا هو مذهب جمهور أصحابنا وجمهور المسلمين . ثم ذكر أنه يكون وحده سبحانه بلا وقت ولا مكان ولا حين ولا زمان وذلك لأن المكان أما الجسم الذي يتمكن عليه جسم آخر أو الجهة وكلاهما لا وجود له بتقدير عدم الأفلاك وما في حشوها من الأجسام أما الأول فظاهر وأما الثاني فلأن الجهة لا تتحقق إلا بتقدير وجود الفلك لأنها أمر إضافي بالنسبة إليه فبتقدير عدمه لا يبقى للجهة تحقق أصلا وهذا هو القول في عدم المكان حينئذ وأما الزمان والوقت والحين فكل هذه الألفاظ تعطي معنى واحدا ولا وجود لذلك المعنى بتقدير عدم الفلك لأن الزمان هو مقدار حركة الفلك فإذا قدرنا عدم الفلك فلا حركة ولا زمان . ثم أوضح ع ذلك وأكده فقال عدمت عند ذلك الآجال والأوقات وزالت السنون والساعات لأن الأجل هو الوقت الذي يحل فيه الدين أو تبطل فيه الحياة وإذا ثبت أنه لا وقت ثبت أنه لا أجل وكذلك لا سنة ولا ساعة لأنها أوقات مخصوصة . ثم عاد ع إلى ذكر الدنيا فقال بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها وبغير امتناع منها كان فناؤها يعني أنها مسخرة تحت الأمر الإلهي . قال ولو قدرت على الامتناع لدام بقاؤها لأنها كانت تكون ممانعة للقديم سبحانه في مراده وإنما تمانعه في مراده لو كانت قادرة لذاتها ولو كانت قادرة لذاتها وأرادت البقاء لبقيت . قوله ع لم يتكاءده بالمد أي لم يشق عليه ويجوز لم يتكأده بالتشديد والهمزة وأصله من العقبة الكئود وهي الشاقة .
[ 93 ](1/3641)
قال ولم يؤده أي لم يثقله . ثم ذكر أنه تعالى لم يخلق الدنيا ليشد بها سلطانه ولا لخوفه من زوال أو نقص يلحقه ولا ليستعين بها على ند مماثل له أو يحترز بها عن ضد محارب له أو ليزداد بها ملكه ملكا أو ليكاثر بها شريكا في شركته له أو لأنه كان قبل خلقها مستوحشا فأراد أن يستأنس بمن خلق . ثم ذكر أنه تعالى سيفنيها بعد إيجادها لا لضجر لحقه في تدبيرها ولا لراحة تصله في إعدامها ولا لثقل شي ء منها عليه حال وجودها ولا لملل أصابه فبعثه على إعدامها . ثم عاد ع فقال إنه سبحانه سيعيدها إلى الوجود بعد الفناء لا لحاجة إليها ولا ليستعين ببعضها على بعض ولا لأنه استوحش حال عدمها فأحب أن يستأنس بإعادتها ولا لأنه فقد علما عند إعدامها فأراد بإعادتها استجداد ذلك العلم ولا لأنه صار فقيرا عند إعدامها فأحب أن يتكثر ويثري بإعادتها ولا لذل أصابه بإفنائها فأراد العز بإعادتها . فإن قلت إذا كان يفنيها لا لكذا ولا لكذا وكان من قبل أوجدها لا لكذا ولا لكذا ثم قلتم إنه يعيدها لا لكذا ولا لكذا فلأي حال أوجدها أولا ولأي حال أفناها ثانيا ولأي حال أعادها ثالثا خبرونا عن ذلك فإنكم قد حكيتم عنه عليه السلام الحكم ولم تحكوا عنه العلة قلت إنما أوجدها أولا للإحسان إلى البشر ليعرفوه فإنه لو لم يوجدهم لبقي مجهولا لا يعرف ثم كلف البشر ليعرضهم للمنزلة الجليلة التي لا يمكن وصولهم إليها إلا بالتكليف وهي الثواب ثم يفنيهم لأنه لا بد من انقطاع التكليف ليخلص الثواب من مشاق التكاليف وإذا كان لا بد من انقطاعه فلا فرق بين انقطاعه بالعدم المطلق
[ 94 ](1/3642)
أو بتفريق الأجزاء وانقطاعه بالعدم المطلق قد ورد به الشرع وفيه لطف زائد للمكلفين لأنه أردع وأهيب في صدورهم من بقاء أجزائهم واستمرار وجودها غير معدومة . ثم إنه سبحانه يبعثهم ويعيدهم ليوصل إلى كل إنسان ما يستحقه من ثواب أو عقاب ولا يمكن إيصال هذا المستحق إلا بالإعادة وإنما لم يذكر أمير المؤمنين ع هذه التعليلات لأنه قد أشار إليها فيما تقدم من كلامه وهي موجودة في فرش خطبه ولأن مقام الموعظة غير مقام التعليل وأمير المؤمنين ع في هذه الخطبة يسلك مسلك الموعظة في ضمن تمجيد الباري سبحانه وتعظيمه وليس ذلك بمظنة التعليل والحجاج
[ 95 ](1/3643)
233 ومن خطبة له ع تختص بذكر الملاحم
أَلاَ بِأَبِي وَ أُمِّي هُمْ مِنْ عِدَّةٍ أَسْمَاؤُهُمْ فِي اَلسَّمَاءِ مَعْرُوفَةٌ وَ فِي اَلْأَرْضِ مَجْهُولَةٌ أَلاَ فَتَوَقَّعُوا مَا يَكُونُ مِنْ إِدْبَارِ أُمُورِكُمْ وَ اِنْقِطَاعِ وُصَلِكُمْ وَ اِسْتِعْمَالِ صِغَارِكُمْ ذَاكَ حَيْثُ تَكُونُ ضَرْبَةُ اَلسَّيْفِ عَلَى اَلْمُؤْمِنِ أَهْوَنَ مِنَ اَلدِّرْهَمِ مِنْ حِلَّهِ ذَاكَ حَيْثُ يَكُونُ اَلْمُعْطَى أَعْظَمَ أَجْراً مِنَ اَلْمُعْطِي ذَاكَ حَيْثُ تَسْكَرُونَ مِنْ غَيْرِ شَرَابٍ بَلْ مِنَ اَلنِّعْمَةِ وَ اَلنَّعِيمِ وَ تَحْلِفُونَ مِنْ غَيْرِ اِضْطِرَارٍ وَ تَكْذِبُونَ مِنْ غَيْرِ إِحْرَاجٍ ذَاكَ إِذَا عَضَّكُمُ اَلْبَلاَءُ كَمَا يَعَضُّ اَلْقَتَبُ غَارِبَ اَلْبَعِيرِ مَا أَطْوَلَ هَذَا اَلْعَنَاءَ وَ أَبْعَدَ هَذَا اَلرَّجَاءَ أَيُّهَا اَلنَّاسُ أَلْقُوا هَذِهِ اَلْأَزِمَّةَ اَلَّتِي تَحْمِلُ ظُهُورُهَا اَلْأَثْقَالَ مِنْ أَيْدِيكُمْ وَ لاَ تَصَدَّعُوا عَلَى سُلْطَانِكُمْ فَتَذُمُّوا غِبَّ فِعَالِكُمْ وَ لاَ تَقْتَحِمُوا مَا اِسْتَقْبَلْتُمْ مِنْ فَوْرِ نَارِ اَلْفِتْنَةِ وَ أَمِيطُوا عَنْ سَنَنِهَا وَ خَلُّوا قَصْدَ اَلسَّبِيلِ لَهَا فَقَدْ لَعَمْرِي يَهْلِكُ فِي لَهَبِهَا اَلْمُؤْمِنُ وَ يَسْلَمُ فِيهَا غَيْرُ اَلْمُسْلِمِ إِنَّمَا مَثَلِي بَيْنَكُمْ كَمَثَلِ اَلسِّرَاجِ فِي اَلظُّلْمَةِ يَسْتَضِي ءُ بِهِ مَنْ وَلَجَهَا فَاسْمَعُوا أَيُّهَا اَلنَّاسُ وَ عُوا وَ أَحْضِرُوا آذَانَ قُلُوبِكُمْ تَفْهَمُوا
[ 96 ](1/3644)
الإمامية تقول هذه العدة هم الأئمة الأحد عشر من ولده ع وغيرهم يقول إنه عنى الأبدال الذين هم أولياء الله في الأرض وقد تقدم منا ذكر القطب والأبدال وأوضحنا ذلك إيضاحا جليا . قوله ع أسماؤهم في السماء معروفة أي تعرفها الملائكة المعصومون أعلمهم الله تعالى بأسمائهم . وفي الأرض مجهولة أي عند الأكثرين لاستيلاء الضلال على أكثر البشر . ثم خرج إلى مخاطبة أصحابه على عادته في ذكر الملاحم والفتن الكائنة في آخر زمان الدنيا فقال لهم توقعوا ما يكون من إدبار أموركم وانقطاع وصلكم جمع وصلة . واستعمال صغاركم أي يتقدم الصغار على الكبار وهو من علامات الساعة . قال ذاك حيث يكون احتمال ضربة السيف على المؤمن أقل مشقة من احتمال المشقة في اكتساب درهم حلال وذلك لأن المكاسب تكون قد فسدت واختلطت وغلب الحرام الحلال فيها . قوله ذاك حيث يكون المعطى أعظم أجرا من المعطي معناه أن أكثر من يعطي ويتصدق في ذلك الزمان يكون ماله حراما فلا أجر له في التصدق به ثم أكثرهم يقصد الرياء والسمعة بالصدقة أو لهوى نفسه أو لخطرة من خطراته ولا يفعل الحسن لأنه حسن ولا الواجب لوجوبه فتكون اليد السفلى خيرا من اليد العليا عكس ما ورد في الأثر وأما المعطى فإنه يكون فقيرا ذا عيال لا يلزمه أن يبحث عن المال أ حرام هو أم حلال فإذا أخذه ليسد به خلته ويصرفه في قوت عياله كان أعظم أجرا ممن أعطاه .
[ 97 ]
و قد خطر لي فيه معنى آخر وهو أن صاحب المال الحرام إنما يصرفه في أكثر الأحوال وأغلبها في الفساد وارتكاب المحظور كما(1/3645)
قال من اكتسب مالا من نهاوش أذهبه الله في نهابر فإذا أخذه الفقير منه على وجه الصدقة فقد فوت عليه صرفه في تلك القبائح والمحضورات التي كان بعرضته صرف ذلك القدر فيها لو لم يأخذه الفقير فإذا قد أحسن الفقير إليه بكفه عن ارتكاب القبيح ومن العصمة ألا يقدر فكان المعطى أعظم أجرا من المعطي . قوله ع ذاك حيث تسكرون من غير شراب بل من النعمة بفتح النون وهي غضارة العيش وقد قيل في المثل سكر الهوى أشد من سكر الخمر . قال تحلفون من غير اضطرار أي تتهاونون باليمين وبذكر الله عز وجل . قال وتكذبون من غير إحراج أي يصير الكذب لكم عادة ودربة لا تفعلونه لأن آخر منكم قد أحرجكم واضطركم بالغيظ إلى الحلف وروي من غير إحواج بالواو أي من غير أن يحوجكم إليه أحد قال ذلك إذا عضكم البلاء كما يعض القتب غارب البعير هذا الكلام غير متصل بما قبله وهذه عادة الرضي رحمه الله يلتقط الكلام التقاطا ولا يتلو بعضه بعضا وقد ذكرنا هذه الخطبة أو أكثرها فيما تقدم من الأجزاء الأول وقبل هذا الكلام ذكر ما يناله شيعته من البؤس والقنوط ومشقة انتظار الفرج . قوله ع ما أطول هذا العناء وأبعد هذا الرجاء هذا حكاية كلام شيعته وأصحابه .
[ 98 ](1/3646)
ثم قال مخاطبا أصحابه الموجودين حوله أيها الناس ألقوا هذه الأزمة التي تحمل ظهورها الأثقال عن أيديكم هذه كناية عن النهي عن ارتكاب القبيح وما يوجب الإثم والعقاب والظهور هاهنا هي الإبل أنفسها والأثقال المآثم وإلقاء الأزمة ترك اعتماد القبيح فهذا عمومه وأما خصوصه فتعريض بما كان عليه أصحابه من الغدر ومخامرة العدو عليه وإضمار الغل والغش له وعصيانه والتلوي عليه وقد فسره بما بعده فقال ولا تصدعوا عن سلطانكم أي لا تفرقوا فتذموا غب فعالكم أي عاقبته . ثم نهاهم عن اقتحام ما استقبلوه من فور نار الفتنة وفور النار غليانها واحتدامها ويروى ما استقبلكم . ثم قال وأميطوا عن سننها أي تنحوا عن طريقها وخلوا قصد السبيل لها أي دعوها تسلك طريقها ولا تقفوا لها فيه فتكونوا حطبا لنارها . ثم ذكر أنه قد يهلك المؤمن في لهبها ويسلم فيه الكافر كما قيل المؤمن ملقى والكافر موقى . ثم ذكر أن مثله فيهم كالسرج يستضي ء بها من ولجها أي دخل في ضوئها . وآذان قلوبكم كلمة مستعارة جعل للقلب آذانا كما جعل الشاعر للقلوب أبصارا فقال
يدق على النواظر ما أتاه
فتبصره بأبصار القلوب
[ 99 ](1/3647)
234 ومن خطبة له ع
أُوصِيكُمْ أَيُّهَا اَلنَّاسُ بِتَقْوَى اَللَّهِ وَ كَثْرَةِ حَمْدِهِ عَلَى آلاَئِهِ إِلَيْكُمْ وَ نَعْمَائِهِ عَلَيْكُمْ وَ بَلاَئِهِ لَدَيْكُمْ فَكَمْ خَصَّكُمْ بِنِعْمَةٍ وَ تَدَارَكَكُمْ بِرَحْمَةٍ أَعْوَرْتُمْ لَهُ فَسَتَرَكُمْ وَ تَعَرَّضْتُمْ لِأَخْذِهِ فَأَمْهَلَكُمْ وَ أُوصِيكُمْ بِذِكْرِ اَلْمَوْتِ وَ إِقْلاَلِ اَلْغَفْلَةِ عَنْهُ وَ كَيْفَ غَفْلَتُكُمْ عَمَّا لَيْسَ يُغْفِلُكُمْ وَ طَمَعُكُمْ فِيمَنْ لَيْسَ يُمْهِلُكُمْ فَكَفَى وَاعِظاً بِمَوْتَى عَايَنْتُمُوهُمْ حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِمْ غَيْرَ رَاكِبينَ وَ أُنْزِلُوا فِيهَا غَيْرَ نَازِلِينَ فَكَأَنَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا لِلدُّنْيَا عُمَّاراً وَ كَأَنَّ اَلآْخِرَةَ لَمْ تَزَلْ لَهُمْ دَاراً أَوْحَشُوا مَا كَانُوا يُوطِنُونَ وَ أَوْطَنُوا مَا كَانُوا يُوحِشُونَ وَ اِشْتَغَلُوا بِمَا فَارَقُوا وَ أَضَاعُوا مَا إِلَيْهِ اِنْتَقَلُوا لاَ عَنْ قَبِيحٍ يَسْتَطِيعُونَ اِنْتِقَالاً وَ لاَ فِي حَسَنٍ يَسْتَطِيعُونَ اِزْدِيَاداً أَنِسُوا بِالدُّنْيَا فَغَرَّتْهُمْ وَ وَثِقُوا بِهَا فَصَرَعَتْهُمْ فَسَابِقُوا رَحِمَكُمُ اَللَّهُ إِلَى مَنَازِلِكُمُ اَلَّتِي أُمِرْتُمْ أَنْ تَعْمُرُوهَا وَ اَلَّتِي رَغِبْتُمْ فِيهَا وَ دُعِيتُمْ إِلَيْهَا وَ اِسْتَتِمُّوا نِعَمَ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَتِهِ وَ اَلْمُجَانَبَةِ لِمَعْصِيَتِهِ فَإِنَّ غَداً مِنَ اَلْيَوْمِ قَرِيبٌ مَا أَسْرَعَ اَلسَّاعَاتِ فِي اَلْيَوْمِ وَ أَسْرَعَ اَلْأَيَّامَ فِي اَلشَّهْرِ وَ أَسْرَعَ اَلشُّهُورَ فِي اَلسَّنَةِ وَ أَسْرَعَ اَلسِّنِينَ فِي اَلْعُمُرِ
[ 100 ](1/3648)
أعورتم أي انكشفتم وبدت عوراتكم وهي المقاتل تقول أعور الفارس إذا بدت مقاتله وأعورك الصيد إذا أمكنك منه . قوله ع أوحشوا ما كانوا يوطنون أي أوطنوا قبورهم التي كانوا يوحشونها . قوله ع واشتغلوا بما فارقوا أي اشتغلوا وهم في القبور بما فارقوه من الأموال والقينات لأنها أذى وعقاب عليهم في قبورهم ولولاها لكانوا في راحة ويجوز أن يكون حكاية حالهم وهم بعد في الدنيا أي اشتغلوا أيام حياتهم من الأموال والمنازل بما فارقوه وأضاعوا من أمر آخرتهم ما انتقلوا إليه . ثم ذكر أنهم لا يستطيعون فعل حسنة ولا توبة من قبيح لأن التكليف سقط والمنازل التي أمروا بعمارتها والمقابر وعمارتها الأعمال الصالحة وقوله ع إن غدا من اليوم قريب كلام يجري مجرى المثل قال غد ما غد ما أقرب اليوم من غد والأصل فيه قول الله تعالى إِنَّ مَوْعِدَهُمُ اَلصُّبْحُ أَ لَيْسَ اَلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ . وقوله ع ما أسرع الساعات في اليوم إلى آخر الفصل كلام شريف وجيز بالغ في معناه والفصل كله نادر لا نظير له
[ 101 ](1/3649)
235 ومن خطبة له ع
فَمِنَ اَلْإِيمَانِ مَا يَكُونُ ثَابِتاً مُسْتَقِرّاً فِي اَلْقُلُوبِ وَ مِنْهُ مَا يَكُونُ عَوَارِيَّ بَيْنَ اَلْقُلُوبِ وَ اَلصُّدُورِ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ فَإِذَا كَانَتْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ مِنْ أَحَدٍ فَقِفُوهُ حَتَّى يَحْضُرَهُ اَلْمَوْتُ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقَعُ حَدُّ اَلْبَرَاءَةِ وَ اَلْهِجْرَةُ قَائِمَةٌ عَلَى حَدِّهَا اَلْأَوَّلِ مَا كَانَ لِلَّهِ فِي أَهْلِ اَلْأَرْضِ حَاجَةٌ مِنْ مُسْتَسِرِّ اَلْأُمَّةِ وَ مُعْلِنِهَا لاَ يَقَعُ اِسْمُ اَلْهِجْرَةِ عَلَى أَحَدٍ إِلاَّ بِمَعْرِفَةِ اَلْحُجَّةِ فِي اَلْأَرْضِ فَمَنْ عَرَفَهَا وَ أَقَرَّ بِهَا فَهُوَ مُهَاجِرٌ وَ لاَ يَقَعُ اِسْمُ اَلاِسْتِضْعَافِ عَلَى مَنْ بَلَغَتْهُ اَلْحُجَّةُ فَسَمِعَتْهَا أُذُنُهُ وَ وَعَاهَا قَلْبُهُ إِنَّ أَمْرَنَا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ لاَ يَحْمِلُهُ إِلاَّ عَبْدٌ مُؤْمِنٌ اِمْتَحَنَ اَللَّهُ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ وَ لاَ يَعِي حَدِيثَنَا إِلاَّ صُدُورٌ أَمِينَةٌ وَ أَحْلاَمٌ رَزِينَةٌ أَيُّهَا اَلنَّاسُ سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي فَلَأَنَا بِطُرُقِ اَلسَّمَاءِ أَعْلَمُ مِنِّي بِطُرُقِ اَلْأَرْضِ قَبْلَ أَنْ تَشْغَرَ بِرِجْلِهَا فِتْنَةٌ تَطَأُ فِي خِطَامِهَا وَ تَذْهَبُ بِأَحْلاَمِ قَوْمِهَا هذا الفصل يحمل على عدة مباحث أولها قولها ع فمن الإيمان ما يكون كذا فنقول إنه قسم الإيمان إلى ثلاثة أقسام
[ 102 ](1/3650)
أحدها الإيمان الحقيقي وهو الثابت المستقر في القلوب بالبرهان اليقيني . الثاني ما ليس ثابتا بالبرهان اليقيني بل بالدليل الجدلي كإيمان كثير ممن لم يحقق العلوم العقلية ويعتقد ما يعتقده عن أقيسة جدلية لا تبلغ إلى درجة البرهان وقد سمى ع هذا القسم باسم مفرد فقال إنه عواري في القلوب والعواري جمع عارية أي هو وإن كان في القلب وفي محل الإيمان الحقيقي إلا أن حكمه حكم العارية في البيت فإنها بعرضة الخروج منه لأنها ليست أصلية كائنة في بيت صاحبها . والثالث ما ليس مستندا إلى برهان ولا إلى قياس جدلي بل على سبيل التقليد وحسن الظن بالأسلاف وبمن يحسن ظن الإنسان فيه من عابد أو زاهد أو ذي ورع وقد جعله ع عواري بين القلوب والصدور لأنه دون الثاني فلم يجعله حالا في القلب وجعله مع كونه عارية حالا بين القلب والصدر فيكون أضعف مما قبله . فإن قلت فما معنى قوله إلى أجل معلوم قلت إنه يرجع إلى القسمين الأخيرين لأن من لا يكون إيمانه ثابتا بالبرهان القطعي قد ينتقل إيمانه إلى أن يصير قطعيا بأن يمعن النظر ويرتب البرهان ترتيبا مخصوصا فينتج له النتيجة اليقينية وقد يصير إيمان المقلد إيمانا جدليا فيرتقي إلى ما فوقه مرتبته وقد يصير إيمان الجدلي إيمانا تقليديا بأن يضعف في نظره ذلك القياس الجدلي ولا يكون عالما بالبرهان فيئول حال إيمانه إلى أن يصير تقليديا فهذا هو فائدة قوله إلى أجل معلوم في هذين القسمين . فأما صاحب القسم الأول فلا يمكن أن يكون إيمانه إلى أجل معلوم لأن من ظفر بالبرهان استحال أن ينتقل عن اعتقاده لا صاعدا ولا هابطا أما لا صاعدا فلأنه ليس فوق البرهان مقام آخر وأما لا هابطا فلأن مادة البرهان هي المقدمات البديهية
[ 103 ](1/3651)
و المقدمات البديهية يستحيل أن تضعف عند الإنسان حتى يصير إيمانه جدليا أو تقليديا . وثانيها قوله ع فإذا كانت لكم براءة فنقول إنه ع نهى عن البراءة من أحد ما دام حيا لأنه وإن كان مخطئا في اعتقاده لكن يجوز أن يعتقد الحق فيما بعد وإن كان مخطئا في أفعاله لكن يجوز أن يتوب فلا تحل البراءة من أحد حتى يموت على أمر فإذا مات على اعتقاد قبيح أو فعل قبيح جازت البراءة منه لأنه لم يبق له بعد الموت حالة تنتظر وينبغي أن تحمل هذه البراءة التي أشار إليها ع على البراءة المطلقة لا على كل براءة لأنا يجوز لنا أن نبرأ من الفاسق وهو حي ومن الكافر وهو حي لكن بشرط كونه فاسقا وبشرط كونه كافرا فأما من مات ونعلم ما مات عليه فإنا نبرأ منه براءة مطلقة غير مشروطة . وثالثها قوله والهجرة قائمة على حدها الأول فنقول هذا كلام يختص به أمير المؤمنين ع وهو من أسرار الوصية لأن الناس يروون عن النبي ص أنه قال لا هجرة بعد الفتح فشفع عمه العباس في نعيم بن مسعود الأشجعي أن يستثنيه فاستثناه وهذه الهجرة التي يشير إليها أمير المؤمنين ع ليست تلك الهجرة بل هي الهجرة إلى الإمام قال إنها قائمة على حدها الأول ما دام التكليف باقيا وهو معنى قوله ما كان لله تعالى في أهل الأرض حاجة . وقال الراوندي ما هاهنا نافية أي لم يكن لله في أهل الأرض من حاجة وهذا ليس بصحيح لأنه إدخال كلام منقطع بين كلامين متصل أحدهما بالآخر . ثم ذكر أنه لا يصح أن يعد الإنسان من المهاجرين إلا بمعرفة إمام زمانه وهو
[ 104 ](1/3652)
معنى قوله إلا بمعرفة الحجة في الأرض قال فمن عرف الإمام وأقر به فهو مهاجر . قال ولا يجوز أن يسمى من عرف الإمام مستضعفا يمكن أن يشير به إلى آيتين في القرآن أحدهما قوله تعالى إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ اَلْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي اَلْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اَللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ فالمراد على هذا أنه ليس من عرف الإمام وبلغه خبره بمستضعف كما كان هؤلاء مستضعفين وإن كان في بلده وأهله لم يخرج ولم يتجشم مشقة السفر . ثانيهما قوله تعالى في الآية التي تلي الآية المذكورة إِلاَّ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجالِ وَ اَلنِّساءِ وَ اَلْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولئِكَ عَسَى اَللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ فالمراد على هذا أنه ليس من عرف الإمام وبلغه خبره بمستضعف كهؤلاء الذين استثناهم الله تعالى من الظالمين لأن أولئك كانت الهجرة بالبدن مفروضة عليهم وعفي عن ذوي العجز عن الحركة منهم وشيعة الإمام ع ليست الهجرة بالبدن مفروضة عليهم بل تكفي معرفتهم به وإقرارهم بإمامته فلا يقع اسم الاستضعاف عليهم . فإن قلت فما معنى قوله من مستسر الأمة ومعلنها وبما ذا يتعلق حرف الجر قلت معناه ما دام لله في أهل الأرض المستسر منهم باعتقاده والمعلن حاجة فمن على هذا زائدة فلو حذفت لجر المستسر بدلا من أهل الأرض ومن إذا كانت زائدة لا تتعلق نحو قولك ما جاءني من أحد .
[ 105 ](1/3653)
و رابعها قوله ع إن أمرنا هذا صعب مستصعب ويروى مستصعب بكسر العين لا يحتمله إلا عبد امتحن الله تعالى قلبه للإيمان هذه من ألفاظ القرآن العزيز قال الله تعالى أُولئِكَ اَلَّذِينَ اِمْتَحَنَ اَللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى وهو من قولك امتحن فلان لأمر كذا وجرب ودرب للنهوض به فهو مضطلع به غير وان عنه والمعنى أنهم صبر على التقوى أقوياء على احتمال مشاقها ويجوز أن يكون وضع الامتحان موضع المعرفة لأن تحققك الشي ء إنما يكون باختباره كما يوضع الخبر موضع المعرفة فكأنه قيل عرف الله قلوبهم للتقوى فتتعلق اللام بمحذوف أي كائنة له وهي اللام التي في قولك أنت لهذا الأمر أي مختص به كقوله
أعداء من لليعملات على الوجا
و تكون مع معمولها منصوبة على الحال ويجوز أن يكون المعنى ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف الصعبة لأجل التقوى أي لتثبت فيظهر تقواها ويعلم أنهم متقون لأن حقيقة التقوى لا تعلم إلا عند المحن والشدائد والاصطبار عليها . ويجوز أن يكون المعنى أنه أخلص قلوبهم للتقوى من قولهم امتحن الذهب إذا أذابه فخلص إبريزه من خبثه ونقاه . وهذه الكلمة قد قالها ع مرارا ووقفت في بعض الكتب على خطبة من جملتها
إن قريشا طلبت السعادة فشقيت وطلبت النجاة فهلكت وطلبت الهدى فضلت أ لم يسمعوا ويحهم قوله تعالى وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اِتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ فأين المعدل والمنزع عن ذرية الرسول الذين شيد الله بنيانهم فوق بنيانهم وأعلى رءوسهم فوق رءوسهم واختارهم عليهم ألا إن الذرية أفنان أنا شجرتها ودوحة أنا ساقها وإني من أحمد بمنزلة الضوء من الضوء كنا
[ 106 ](1/3654)
ظلالا تحت العرش قبل خلق البشر وقبل خلق الطينة التي كان منها البشر أشباحا عالية لا أجساما نامية إن أمرنا صعب مستصعب لا يعرف كنهه إلا ثلاثة ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان فإذا انكشف لكم سر أو وضح لكم أمر فاقبلوه وإلا فاسكتوا تسلموا وردوا علمنا إلى الله فإنكم في أوسع مما بين السماء والأرض . وخامسها
قوله سلوني قبل أن تفقدوني أجمع الناس كلهم على أنه لم يقل أحد من الصحابة ولا أحد من العلماء سلوني غير علي بن أبي طالب ع ذكر ذلك ابن عبد البر المحدث في كتاب الاستيعاب . والمراد بقوله فلأنا أعلم بطرق السماء مني بطرق الأرض ما اختص به من العلم بمستقبل الأمور ولا سيما في الملاحم والدول وقد صدق هذا القول عنه ما تواتر عنه من الأخبار بالغيوب المتكررة لا مرة ولا مائة مرة حتى زال الشك والريب في أنه إخبار عن علم وأنه ليس على طريق الاتفاق وقد ذكرنا كثيرا من ذلك فيما تقدم من هذا الكتاب . وقد تأوله قوم على وجه آخر قالوا أراد أنا بالأحكام الشرعية والفتاوي الفقهية أعلم مني بالأمور الدنيوية فعبر عن تلك بطرق السماء لأنها أحكام إلهية وعبر عن هذه بطرق الأرض لأنها من الأمور الأرضية والأول أظهر لأن فحوى الكلام وأوله يدل على أنه المراد
[ 107 ](1/3655)
قصة وقعت لأحد الوعاظ ببغداد
و على ذكر قوله ع سلوني حدثني من أثق به من أهل العلم حديثا وإن كان فيه بعض الكلمات العامية إلا أنه يتضمن ظرفا ولطفا ويتضمن أيضا أدبا . قال كان ببغداد في صدر أيام الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن المستضي ء بالله واعظ مشهور بالحذق ومعرفة الحديث والرجال وكان يجتمع إليه تحت منبره خلق عظيم من عوام بغداد ومن فضلائها أيضا وكان مشتهرا بذم أهل الكلام وخصوصا المعتزلة وأهل النظر على قاعدة الحشوية ومبغضي أرباب العلوم العقلية وكان أيضا منحرفا عن الشيعة برضا العامة بالميل عليهم فاتفق قوم من رؤساء الشيعة على أن يضعوا عليه من يبكته ويسأله تحت منبره ويخجله ويفضحه بين الناس في المجلس وهذه عادة الوعاظ يقوم إليهم قوم فيسألونهم مسائل يتكلفون الجواب عنها وسألوا عمن ينتدب لهذا فأشير عليهم بشخص كان ببغداد يعرف بأحمد بن عبد العزيز الكزي كان له لسن ويشتغل بشي ء يسير من كلام المعتزلة ويتشيع وعنده قحة وقد شدا أطرافا من الأدب وقد رأيت أنا هذا الشخص في آخر عمره وهو يومئذ شيخ والناس يختلفون إليه في تعبير الرؤيا فأحضروه وطلبوا إليه أن يعتمد ذلك فأجابهم وجلس ذلك الواعظ في يومه الذي جرت عادته بالجلوس فيه واجتمع الناس عنده على طبقاتهم حتى امتلأت الدنيا بهم وتكلم على عادته فأطال فلما مر في ذكر صفات الباري سبحانه في أثناء الوعظ قام إليه الكزي فسأله أسئلة عقلية على منهاج كلام المتكلمين من المعتزلة فلم يكن للواعظ عنها جواب نظري وإنما دفعه بالخطابة والجدل وسجع الألفاظ وتردد الكلام بينهما طويلا وقال الواعظ في آخر الكلام أعين المعتزلة حول وصوتي
[ 108 ](1/3656)
في مسامعهم طبول وكلامي في أفئدتهم نصول يا من بالاعتزال يصول ويحك كم تحوم وتجول حول من لا تدركه العقول كم أقول كم أقول خلوا هذا الفضول . فارتج المجلس وصرخ الناس وعلت الأصوات وطاب الواعظ وطرب وخرج من هذا الفصل إلى غيره فشطح شطح الصوفية وقال سلوني قبل أن تفقدوني وكررها فقام إليه الكزي فقال يا سيدي ما سمعنا أنه قال هذه الكلمة إلا علي بن أبي طالب ع وتمام الخبر معلوم وأراد الكزي بتمام الخبر قوله ع لا يقولها بعدي إلا مدع . فقال الواعظ وهو في نشوة طربه وأراد إظهار فضله ومعرفته برجال الحديث والرواة من علي بن أبي طالب أ هو علي بن أبي طالب بن المبارك النيسابوري أم علي بن أبي طالب بن إسحاق المروزي أم علي بن أبي طالب بن عثمان القيرواني أم علي بن أبي طالب بن سليمان الرازي وعد سبعة أو ثمانية من أصحاب الحديث كلهم علي بن أبي طالب فقام الكزي وقام من يمين المجلس آخر ومن يسار المجلس ثالث انتدبوا له وبذلوا أنفسهم للحمية ووطنوها على القتل . فقال الكزي أشا يا سيدي فلان الدين أشا صاحب هذا القول هو علي بن أبي طالب زوج فاطمة سيدة نساء العالمين ع وإن كنت ما عرفته بعد بعينه فهو الشخص الذي لما آخى رسول الله ص بين الأتباع والأذناب آخى بينه وبين نفسه وأسجل على أنه نظيره ومماثله فهل نقل في جهازكم أنتم من هذا شي ء أو نبت تحت خبكم من هذا شي ء . فأراد الواعظ أن يكلمه فصاح عليه القائم من الجانب الأيمن وقال يا سيدي فلان الدين محمد بن عبد الله كثير في الأسماء ولكن ليس فيهم من قال له رب العزة
[ 109 ]
ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوى وَ ما يَنْطِقُ عَنِ اَلْهَوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى وكذلك علي بن أبي طالب كثير في الأسماء ولكن ليس فيهم من
قال له صاحب الشريعة أنت مني بمنزلة هرون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي
و قد تلتقي الأسماء في الناس والكنى
كثيرا ولكن ميزوا في الخلائق(1/3657)
فالتفت إليه الواعظ ليكلمه فصاح عليه القائم من الجانب الأيسر وقال يا سيدي فلان الدين حقك تجهله أنت معذور في كونك لا تعرفه
و إذا خفيت على الغبي فعاذر
ألا تراني مقلة عمياء
فاضطرب المجلس وماج كما يموج البحر وافتتن الناس وتواثبت العامة بعضها إلى بعض وتكشفت الرءوس ومزقت الثياب ونزل الواعظ واحتمل حتى أدخل دارا أغلق عليه بابها وحضر أعوان السلطان فسكنوا الفتنة وصرفوا الناس إلى منازلهم وأشغالهم وأنفذ الناصر لدين الله في آخر نهار ذلك اليوم فأخذ أحمد بن عبد العزيز الكزي والرجلين اللذين قاما معه فحبسهم أياما لتطفأ نائرة الفتنة ثم أطلقهم
[ 110 ](1/3658)
236 ومن خطبة له ع
أَحْمَدُهُ شُكْراً لِإِنْعَامِهِ وَ أَسْتَعِينُهُ عَلَى وَظَائِفِ حُقُوقِهِ عَزِيزَ اَلْجُنْدِ عَظِيمَ اَلْمَجْدِ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ دَعَا إِلَى طَاعَتِهِ وَ قَاهَرَ أَعْدَاءَهُ جِهَاداً عَنْ دِينِهِ لاَ يَثْنِيهِ عَنْ ذَلِكَ اِجْتِمَاعٌ عَلَى تَكْذِيبِهِ وَ اِلْتِمَاسٌ لِإِطْفَاءِ نُورِهِ فَاعْتَصِمُوا بِتَقْوَى اَللَّهِ فَإِنَّ لَهَا حَبْلاً وَثِيقاً عُرْوَتُهُ وَ مَعْقِلاً مَنِيعاً ذِرْوَتُهُ وَ بَادِرُوا اَلْمَوْتَ وَ غَمَرَاتِهِ وَ اِمْهَدُوا لَهُ قَبْلَ حُلُولِهِ وَ أَعِدُّوا لَهُ قَبْلَ نُزُولِهِ فَإِنَّ اَلْغَايَةَ اَلْقِيَامَةُ وَ كَفَى بِذَلِكَ وَاعِظاً لِمَنْ عَقَلَ وَ مُعْتَبَراً لِمَنْ جَهِلَ وَ قَبْلَ بُلُوغِ اَلْغَايَةِ مَا تَعْلَمُونَ مِنْ ضِيقِ اَلْأَرْمَاسِ وَ شِدَّةِ اَلْإِبْلاَسِ وَ هَوْلِ اَلْمُطَّلَعِ وَ رَوْعَاتِ اَلْفَزَعِ وَ اِخْتِلاَفِ اَلْأَضْلاَعِ وَ اِسْتِكَاكِ اَلْأَسْمَاعِ وَ ظُلْمَةِ اَللَّحْدِ وَ خِيفَةِ اَلْوَعْدِ وَ غَمِّ اَلضَّرِيحِ وَ رَدْمِ اَلصَّفِيحِ فَاللَّهَ اَللَّهَ عِبَادَ اَللَّهِ فَإِنَّ اَلدُّنْيَا مَاضِيَةٌ بِكُمْ عَلَى سَنَنٍ وَ أَنْتُمْ وَ اَلسَّاعَةُ اَلسَّاعَةَ فِي قَرَنٍ وَ كَأَنَّهَا قَدْ جَاءَتْ بِأَشْرَاطِهَا وَ أَزِفَتْ بِأَفْرَاطِهَا وَ وَقَفَتْ بِكُمْ عَلَى صِرَاطِهَا وَ كَأَنَّهَا قَدْ أَشْرَفَتْ بِزَلاَزِلِهَا وَ أَنَاخَتْ بِكَلاَكِلِهَا وَ اِنْصَرَفَتِ اَلدُّنْيَا بِأَهْلِهَا وَ أَخْرَجَتْهُمْ مِنْ حِضْنِهَا فَكَانَتْ كَيَوْمَ مَضَى وَ شَهْرٍ اِنْقَضَى وَ صَارَ جَدِيدُهَا رَثّاً وَ سَمِينُهَا غَثّاً فِي مَوْقِفٍ ضَنْكِ اَلْمَقَامِ وَ أُمُورٍ مُشْتَبِهَةٍ عِظَامٍ وَ نَارٍ شَدِيدٍ كَلَبُهَا عَالٍ لَجَبُهَا سَاطِعٍ لَهَبُهَا مُتَغَيِّظٍ زَفِيرُهَا مُتَأَجِّجٍ(1/3659)
سَعِيرُهَا بَعِيدٍ خُمُودُهَا ذَاكٍ وُقُودُهَا مَخُوفٍ
[ 111 ]
وَعِيدُهَا عَمٍ قَرَارُهَا مُظْلِمَةٍ أَقْطَارُهَا حَامِيَةٍ قُدُورُهَا فَظِيعَةٍ أُمُورُهَا وَ سِيقَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى اَلْجَنَّةِ زُمَراً قَدْ أُمِنَ اَلْعَذَابُ وَ اِنْقَطَعَ اَلْعِتَابُ وَ زُحْزِحُوا عَنِ اَلنَّارِ وَ اِطْمَأَنَّتْ بِهِمُ اَلدَّارُ وَ رَضُوا اَلْمَثْوَى وَ اَلْقَرَارَ اَلَّذِينَ كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي اَلدُّنْيَا زَاكِيَةً وَ أَعْيُنُهُمْ بَاكِيَةً وَ كَانَ لَيْلُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ نَهَاراً تَخَشُّعاً وَ اِسْتِغْفَارًا وَ كَانَ نَهَارُهُمْ لَيْلاً تَوَحُّشاً وَ اِنْقِطَاعاً فَجَعَلَ اَللَّهُ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ مَآباً وَ اَلْجَزَاءَ ثَوَاباً وَ كَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَ أَهْلَهَا فِي مُلْكٍ دَائِمٍ وَ نَعِيمٍ قَائِمٍ فَارْعَوْا عِبَادَ اَللَّهِ مَا بِرِعَايَتِهِ يَفُوزُ فَائِزُكُمْ وَ بِإِضَاعَتِهِ يَخْسَرُ مُبْطِلُكُمْ وَ بَادِرُوا آجَالَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ فَإِنَّكُمْ مُرْتَهَنُونَ بِمَا أَسْلَفْتُمْ وَ مَدِينُونَ بِمَا قَدَّمْتُمْ وَ كَأَنْ قَدْ نَزَلَ بِكُمُ اَلْمَخُوفُ فَلاَ رَجْعَةً تَنَالُونَ تُنَالُونَ وَ لاَ عَثْرَةً تُقَالُونَ اِسْتَعْمَلَنَا اَللَّهُ وَ إِيَّاكُمْ بِطَاعَتِهِ وَ طَاعَةِ رَسُولِهِ وَ عَفَا عَنَّا وَ عَنْكُمْ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ اِلْزَمُوا اَلْأَرْضَ وَ اِصْبِرُوا عَلَى اَلْبَلاَءِ وَ لاَ تُحَرِّكُوا بِأَيْدِيكُمْ وَ سُيُوفِكُمْ فِي هَوَى أَلْسِنَتِكُمْ وَ لاَ تَسْتَعْجِلُوا بِمَا لَمْ يُعَجِّلْهُ اَللَّهُ لَكُمْ فَإِنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ عَلَى فِرَاشِهِ وَ هُوَ عَلَى مَعْرِفَةِ حَقِّ رَبِّهِ وَ حَقِّ رَسُولِهِ وَ أَهْلِ بَيْتِهِ مَاتَ شَهِيداً وَ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اَللَّهِ وَ اِسْتَوْجَبَ ثَوَابَ مَا نَوَى مِنْ صَالِحِ(1/3660)
عَمَلِهِ وَ قَامَتِ اَلنِّيَّةُ مَقَامَ إِصْلاَتِهِ لِسَيْفِهِ فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْ ءٍ مُدَّةً وَ أَجَلاً وظائف حقوقه الواجبات المؤقتة كالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان والوظيفة ما يجعل للإنسان في كل يوم أو في كل شهر أو في كل سنة من طعام أو رزق
[ 112 ]
و عزيز منصوب لأنه حال من الضمير في أستعينه ويجوز أن يكون حالا من الضمير المجرور في حقوقه وإضافة عزيز إلى الجند إضافة في تقدير الانفصال لا توجب تعريفه ليمتنع من كونه حالا . وقاهر أعداءه حاربهم وروي وقهر أعداءه . والمعقل ما يعتصم به وذروته أعلاه . وامهدوا له اتخذوا مهادا وهو الفراش وهذه استعارة . قوله ع فإن الغاية القيامة أي فإن منتهى كل البشر إليها ولا بد منها . والأرماس جمع رمس وهو القبر والإبلاس مصدر أبلس أي خاب ويئس والإبلاس أيضا الانكسار والحزن . واستكاك الأسماع صممها . وغم الضريح ضيق القبر وكربه والصفيح الحجر وردمه سده . والسنن الطريق والقرن الحبل . وأشراط الساعة علاماتها وأزفت قربت وأفراطها جمع فرط وهم المتقدمون السابقون من الموتى ومن روى بإفراطها فهو مصدر أفرط في الشي ء أي قربت الساعة بشدة غلوائها وبلوغها غاية الهول والفظاعة ويجوز أن تفسر الرواية الأولى بمقدماتها وما يظهر قبلها من خوارق العادات المزعجة كالدجال ودابة الأرض ونحوهما ويرجع ذلك إلى اللفظة الأولى وهي أشراطها وإنما يختلف اللفظ . والكلاكل جمع كلكل وهو الصدر ويقال للأمر الثقيل قد أناخ عليهم بكلكله أي هدهم ورضهم كما يهد البعير البارك من تحته إذا أنحى عليه بصدره . قوله ع وانصرفت الدنيا بأهلها أي ولت ويروى وانصرمت أي انقضت .
[ 113 ](1/3661)
و الحضن بكسر الحاء ما دون الإبط إلى الكشح . والرث الخلق والغث الهزيل . ومقام ضنك أي ضيق . وشديد كلبها أي شرها وأذاها واللجب الصوت ووقودها هاهنا بضم الواو وهو الحدث ولا يجوز الفتح لأنه ما يوقد به كالحطب ونحوه وذاك لا يوصف بأنه ذاك . قوله ع عم قرارها أي لا يهتدى فيه لظلمته ولأنه عميق جدا ويروى وكأن ليلهم نهار وكذلك أختها على التشبيه . والمآب المرجع ومدينون مجزيون . قوله ع فلا رجعة تنالون الرواية بضم التاء أي تعطون يقال أنلت فلانا مالا أي منحته وقد روي تنالون بفتح التاء . ثم أمر أصحابه أن يثبتوا ولا يعجلوا في محاربة من كان مخالطا لهم من ذوي العقائد الفاسدة كالخوارج ومن كان يبطن هوى معاوية وليس خطابه هذا تثبيطا لهم عن حرب أهل الشام كيف وهو لا يزال يقرعهم ويوبخهم عن التقاعد والإبطاء في ذلك ولكن قوما من خاصته كانوا يطلعون على ما عند قوم من أهل الكوفة ويعرفون نفاقهم وفسادهم ويرومون قتلهم وقتالهم فنهاهم عن ذلك وكان يخاف فرقة جنده وانتثار حبل عسكره فأمرهم بلزوم الأرض والصبر على البلاء . وروي بإسقاط الباء من قوله بأيديكم ومن روى الكلمة بالباء جعلها زائدة ويجوز ألا تكون زائدة ويكون المعنى ولا تحركوا الفتنة بأيديكم وسيوفكم في هوى ألسنتكم فحذف المفعول . والإصلات بالسيف مصدر أصلت أي سل .
[ 114 ](1/3662)
و اعلم أن هذه الخطبة من أعيان خطبه ع ومن ناصع كلامه ونادره وفيها من صناعة البديع الرائقة المستحسنة البريئة من التكلف ما لا يخفى وقد أخذ ابن نباتة الخطيب كثيرا من ألفاظها فأودعها خطبه مثل قوله شديد كلبها عال لجبها ساطع لهبها متغيظ زفيرها متأجج سعيرها بعيد خمودها ذاك وقودها مخوف وعيدها عم قرارها مظلمة أقطارها حامية قدورها فظيعة أمورها فإن هذه الألفاظ كلها اختطفها وأغار عليها واغتصبها وسمط بها خطبه وشذر بها كلامه . ومثل قوله هول المطلع وروعات الفزع واختلاف الأضلاع واستكاك الأسماع وظلمة اللحد وخيفة الوعد وغم الضريح وردم الصفيح فإن هذه الألفاظ أيضا تمضي في أثناء خطبه وفي غضون مواعظه
[ 115 ](1/3663)
237 ومن خطبة له ع
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلْفَاشِي فِي اَلْخَلْقِ حَمْدُهُ وَ اَلْغَالِبِ جُنْدُهُ وَ اَلْمُتَعَالِي جَدُّهُ أَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ اَلتُّؤَامِ وَ آلاَئِهِ اَلْعِظَامِ اَلَّذِي عَظُمَ حِلْمُهُ فَعَفَا وَ عَدَلَ فِي كُلِّ مَا قَضَى وَ عَلِمَ مَا بِمَا يَمْضِي وَ مَا مَضَى مُبْتَدِعِ اَلْخَلاَئِقِ بِعِلْمِهِ وَ مُنْشِئِهِمْ بِحُكْمِهِ بِلاَ اِقْتِدَاءٍ وَ لاَ تَعْلِيمٍ وَ لاَ اِحْتِذَاءٍ لِمِثَالِ صَانِعٍ حَكِيمٍ وَ لاَ إِصَابَةِ خَطَإٍ وَ لاَ حَضْرَةِ مَلاٍ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ اِبْتَعَثَهُ وَ اَلنَّاسُ يَضْرِبُونَ فِي غَمْرَةٍ وَ يَمُوجُونَ فِي حَيْرَةٍ قَدْ قَادَتْهُمْ أَزِمَّةُ اَلْحَيْنِ وَ اِسْتَغْلَقَتْ عَلَى أَفْئِدَتِهِمْ أَقْفَالُ اَلرَّيْنِ عِبَادَ اَللَّهِ أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اَللَّهِ فَإِنَّهَا حَقُّ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ اَلْمُوجِبَةُ عَلَى اَللَّهِ حَقَّكُمْ وَ أَنْ تَسْتَعِينُوا عَلَيْهَا بِاللَّهِ وَ تَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى اَللَّهِ فَإِنَّ اَلتَّقْوَى فِي اَلْيَوْمِ اَلْحِرْزُ وَ اَلْجُنَّةُ وَ فِي غَدٍ اَلطَّرِيقُ إِلَى اَلْجَنَّةِ مَسْلَكُهَا وَاضِحٌ وَ سَالِكُهَا رَابِحٌ وَ مُسْتَوْدَعُهَا حَافِظٌ لَمْ تَبْرَحْ عَارِضَةً نَفْسَهَا عَلَى اَلْأُمَمِ اَلْمَاضِينَ مِنْكُمْ وَ اَلْغَابِرِينَ لِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا غَداً إِذَا أَعَادَ اَللَّهُ مَا أَبْدَى وَ أَخَذَ مَا أَعْطَى وَ سَأَلَ عَمَّا أَسْدَى فَمَا أَقَلَّ مَنْ قَبِلَهَا وَ حَمَلَهَا حَقَّ حَمْلِهَا أُولَئِكَ اَلْأَقَلُّونَ عَدَداً وَ هُمْ أَهْلُ صِفَةِ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ إِذْ يَقُولُ وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ اَلشَّكُورُ فَأَهْطِعُوا بِأَسْمَاعِكُمْ إِلَيْهَا وَ أَلِظُّوا بِجِدِّكُمْ عَلَيْهَا وَ اِعْتَاضُوهَا مِنْ كُلِّ سَلَفٍ خَلَفاً وَ مِنْ(1/3664)
كُلِّ مُخَالِفٍ مُوَافِقاً
[ 116 ]
أَيْقِظُوا بِهَا نَوْمَكُمْ وَ اِقْطَعُوا بِهَا يَوْمَكُمْ وَ أَشْعِرُوهَا قُلُوبَكُمْ وَ اِرْحَضُوا بِهَا ذُنُوبَكُمْ وَ دَاوُوا بِهَا اَلْأَسْقَامَ وَ بَادِرُوا بِهَا اَلْحِمَامَ وَ اِعْتَبِرُوا بِمَنْ أَضَاعَهَا وَ لاَ يَعْتَبِرَنَّ بِكُمْ مَنْ أَطَاعَهَا أَلاَ فَصُونُوهَا وَ تَصَوَّنُوا بِهَا وَ كُونُوا عَنِ اَلدُّنْيَا نُزَّاهاً وَ إِلَى اَلآْخِرَةِ وُلاَّهاً وَ لاَ تَضَعُوا مَنْ رَفَعَتْهُ اَلتَّقْوَى وَ لاَ تَرْفَعُوا مَنْ رَفَعَتْهُ اَلدُّنْيَا وَ لاَ تَشِيمُوا بَارِقَهَا وَ لاَ تَسْمَعُوا نَاطِقَهَا وَ لاَ تُجِيبُوا نَاعِقَهَا وَ لاَ تَسْتَضِيئُوا بِإِشْرَاقِهَا وَ لاَ تُفْتَنُوا بِأَعْلاَقِهَا فَإِنَّ بَرْقَهَا خَالِبٌ وَ نُطْقَهَا كَاذِبٌ وَ أَمْوَالَهَا مَحْرُوبَةٌ وَ أَعْلاَقَهَا مَسْلُوبَةٌ أَلاَ وَ هِيَ اَلْمُتَصَدِّيَةُ اَلْعَنُونُ وَ اَلْجَامِحَةُ اَلْحَرُونُ وَ اَلْمَائِنَةُ اَلْخَئُونُ وَ اَلْجَحُودُ اَلْكَنُودُ وَ اَلْعَنُودُ اَلصَّدُودُ وَ اَلْحَيُودُ اَلْمَيُودُ حَالُهَا اِنْتِقَالٌ وَ وَطْأَتُهَا زِلْزَالٌ وَ عِزُّهَا ذُلٌّ وَ جِدُّهَا هَزْلٌ وَ عُلْوُهَا سُفْلٌ دَارُ حَرْبٍ حَرَبٍ وَ سَلَبٍ وَ نَهْبٍ وَ عَطَبٍ أَهْلُهَا عَلَى سَاقٍ وَ سِيَاقٍ وَ لَحَاقٍ وَ فِرَاقٍ قَدْ تَحَيَّرَتْ مَذَاهِبُهَا وَ أَعْجَزَتْ مَهَارِبُهَا وَ خَابَتْ مَطَالِبُهَا فَأَسْلَمَتْهُمُ اَلْمَعَاقِلُ وَ لَفَظَتْهُمُ اَلْمَنَازِلُ وَ أَعْيَتْهُمُ اَلْمَحَاوِلُ فَمِنْ نَاجٍ مَعْقُورٍ وَ لَحْمٍ مَجْزُورٍ وَ شِلْوٍ مَذْبُوحٍ وَ دَمٍ مَسْفُوحٍ وَ عَاضٍّ عَلَى يَدَيْهِ وَ صَافِقٍ بِكَفَّيْهِ وَ مُرْتَفِقٍ بِخَدَّيْهِ وَ زَارٍ عَلَى رَأْيِهِ وَ رَاجِعٍ عَنْ عَزْمِهِ وَ قَدْ أَدْبَرَتِ اَلْحِيلَةُ وَ أَقْبَلَتِ اَلْغِيلَةُ وَ لاَتَ حِينَ(1/3665)
مَنَاصٍ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ قَدْ فَاتَ مَا فَاتَ وَ ذَهَبَ مَا ذَهَبَ وَ مَضَتِ اَلدُّنْيَا لِحَالِ بَالِهَا فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ اَلسَّمَاءُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَا كَانُوا مُنْظَرِينَ
[ 117 ]
الفاشي الذائع فشا الخبر يفشو فشوا أي ذاع وأفشاه غيره وتفشى الشي ء أي اتسع والفواشي كل منتشر من المال مثل الغنم السائمة والإبل وغيرهما ومنه الحديث
ضموا فواشيكم حتى تذهب فحمة العشاء فيجوز أن يكون عنى بفشو حمده إطباق الأمم قاطبة على الاعتراف بنعمته ويجوز أن يريد بالفاشي سبب حمده وهو النعم التي لا يقدر قدرها فحذف المضاف . قوله والغالب جنده فيه معنى قوله تعالى فَإِنَّ حِزْبَ اَللَّهِ هُمُ اَلْغالِبُونَ . قوله والمتعالي جده فيه معنى قوله تعالى وَ أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا والجد في هذا الموضع وفي الآية العظمة . والتؤام جمع توأم على فوعل وهو الولد المقارن أخاه في بطن واحد وقد أتأمت المرأة إذا وضعت اثنين كذلك فهي متئم فإن كان ذلك عادتها فهي متآم وكل واحد من الولدين توأم وهما توأمان وهذا توأم هذا وهذه توأمته والجمع توائم مثل قشعم وقشاعم وجاء في جمعه تؤام على فعال وهي اللفظة التي وردت في هذه الخطبة وهو جمع غريب لم يأت نظيره إلا في مواضع معدودة وهي عرق العظم يؤخذ عنه اللحم وعراق وشاة ربى للحديثة العهد بالولادة وغنم رباب وظئر للمرضعة غير ولدها وظؤار ورخل للأنثى من أولاد الضأن ورخال وفرير لولد البقرة الوحشية وفرار . والآلاء النعم .
[ 118 ]
قوله ع مبدع الخلائق بعلمه ليس يريد أن العلم علة في الإبداع كما تقول هوى الحجر بثقله بل المراد أبدع الخلق وهو عالم كما تقول خرج زيد بسلاحه أي خرج متسلحا فموضع الجار والمجرور على هذا نصب بالحالية وكذلك القول في ومنشئهم بحكمه والحكم هاهنا الحكمة . ومنه(1/3666)
قوله ع إن من الشعر لحكمة . قوله بلا اقتداء ولا تعليم ولا احتذاء قد تكرر منه ع أمثاله مرارا . قوله ولا إصابة خطأ تحته معنى لطيف وذلك لأن المتكلمين يوردون على أنفسهم سؤالا في باب كونه عالما بكل معلوم إذا استدلوا على ذلك فإنه علم بعض الأشياء لا من طريق أصلا لا من إحساس ولا من نظر واستدلال فوجب أن يعلم سائرها لأنه لا مخصص فقالوا لأنفسهم لم زعمتم ذلك ولم لا يجوز أن يكون فعل أفعاله مضطربة فلما أدركها علم كيفية صنعها بطريق كونه مدركا لها فأحكمها بعد اختلالها واضطرابها وأجابوا عن ذلك بأنه لا بد أن يكون قبل أن فعلها عالما بمفرداتها من غير إحساس ويكفي ذلك في كونه عالما بما لم يتطرق إليه ثم يعود الاستدلال المذكور أولا . قوله ع ولا حضره ملأ الملأ الجماعة من الناس وفيه معنى قوله تعالى ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ . قوله يضربون في غمرة أي يسيرون في جهل وضلالة والضرب السير السريع . والحين الهلاك والرين الذنب على الذنب حتى يسود القلب وقيل الرين
[ 119 ](1/3667)
الطبع والدنس يقال ران على قلبه ذنبه يرين رينا أي دنسه ووسخه واستغلقت أقفال الرين على قلوبهم تعسر فتحها . قوله فإنها حق الله عليكم والموجبة على الله حقكم يريد أنها واجبة عليكم فإن فعلتموها وجب على الله أن يجازيكم عنها بالثواب وهذا تصريح بمذهب المعتزلة في العدل وأن من الأشياء ما يجب على الله تعالى من باب الحكمة . قوله وأن تستعينوا عليها بالله وتستعينوا بها على الله يريد أوصيكم بأن تستعينوا بالله على التقوى بأن تدعوه وتبتهلوا إليه أن يعينكم عليها ويوفقكم لها وييسرها ويقوي دواعيكم إلى القيام بها وأوصيكم أن تستعينوا بالتقوى على لقاء الله ومحاكمته وحسابه فإنه تعالى يوم البعث والحساب كالحاكم بين المتخاصمين وَ تَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا فالسعيد من استعان على ذلك الحساب وتلك الحكومة والخصومة بالتقوى في دار التكليف فإنها نعم المعونة وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ اَلزَّادِ اَلتَّقْوى . والجنة ما يستتر به . قوله ومستودعها حافظ يعني الله سبحانه لأنه مستودع الأعمال ويدل عليه قوله تعالى إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً وليس ما قاله الراوندي من أنه أراد بالمستودع قلب الإنسان بشي ء . قوله لم تبرح عارضة نفسها كلام فصيح لطيف يقول إن التقوى لم تزل عارضة نفسها على من سلف من القرون فقبلها القليل منهم شبهها بالمرأة العارضة نفسها نكاحا على قوم فرغب فيها من رغب وزهد من زهد وعلى الحقيقة ليست
[ 120 ](1/3668)
هي العارضة نفسها ولكن المكلفين ممكنون من فعلها ومرغبون فيها فصارت كالعارضة . والغابر هاهنا الباقي وهو من الأضداد يستعمل بمعنى الباقي وبمعنى الماضي . قوله ع إذا أعاد الله ما أبدى يعني أنشر الموتى وأخذ ما أعطى وورث الأرض مالك الملوك فلم يبق في الوجود من له تصرف في شي ء غيره كما قال لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ لِلَّهِ اَلْواحِدِ اَلْقَهَّارِ وقيل في الأخبار و
الحديث إن الله تعالى يجمع الذهب والفضة كل ما كان منه في الدنيا فيجعله أمثال الجبال ثم يقول هذا فتنة بني آدم ثم يسوقه إلى جهنم فيجعله مكاوي لجباه المجرمين . وسأل عما أسدى أي سأل أرباب الثروة عما أسدى إليهم من النعم فيم صرفوها وفيم أنفقوها . قوله ع فما أقل من قبلها يعني ما أقل من قبل التقوى العارضة نفسها على الناس . وإذا في قوله إذا أعاد الله ظرف لحاجتهم إليها لأن المعنى يقتضيه أي لأنهم يحتاجون إليها وقت إعادة الله الخلق وليس كما ظنه الراوندي أنه ظرف لقوله فما أقل من قبلها لأن المعنى على ما قلناه ولأن ما بعد الفاء لا يجوز أن يكون عاملا فيما قبلها . قوله فأهطعوا بأسماعكم أي أسرعوا أهطع في عدوه أي أسرع ويروى فانقطعوا بأسماعكم إليها أي فانقطعوا إليها مصغين بأسماعكم . قوله وألظوا بجدكم أي ألحوا والإلظاظ الإلحاح في الأمر ومنه
قول
[ 121 ](1/3669)
ابن مسعود ألظوا في الدعاء بيا ذا الجلال والإكرام ومنه الملاظة في الحرب ويقال رجل ملظ وملظاظ أي ملحاح وألظ المطر أي دام . وقوله بجدكم أي باجتهادكم جددت في الأمر جدا بالغت واجتهدت ويروى وواكظوا بحدكم والمواكظة المداومة على الأمر وقال مجاهد في قوله تعالى إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً قال أي مواكظا . قوله وأشعروا بها قلوبكم يجوز أن يريد اجعلوها شعارا لقلوبكم وهو ما دون الدثار وألصق بالجسد منه ويجوز أن يريد اجعلوها علامة يعرف بها القلب التقي من القلب المذنب كالشعار في الحرب يعرف به قوم من قوم ويجوز أن يريد أخرجوا قلوبكم بها من أشعار البدن أي طهروا القلوب بها وصفوها من دنس الذنوب كما يصفى البدن بالفصاد من غلبة الدم الفاسد ويجوز أن يريد الإشعار بمعنى الإعلام من أشعرت زيدا بكذا أي عرفته إياه أي اجعلوها عالمة بجلالة موقعها وشرف محلها . قوله وارحضوا بها أي اغسلوا وثوب رحيض ومرحوض أي مغسول . قال وداووا بها الأسقام يعني أسقام الذنوب . وبادروا بها الحمام عجلوا واسبقوا الموت أن يدرككم وأنتم غير متقين . واعتبروا بمن أضاع التقوى فهلك شقيا ولا يعتبرن بكم أهل التقوى أي لا تكونوا أنتم لهم معتبرا بشقاوتكم وسعادتهم . ثم قال وصونوا التقوى عن أن تمازجها المعاصي وتصونوا أنتم بها عن الدناءة وما ينافي العدالة . والنزه جمع نزيه وهو المتباعد عما يوجب الذم والولاه جمع واله وهو المشتاق ذو الوجد حتى يكاد يذهب عقله .
[ 122 ](1/3670)
ثم شرع في ذكر الدنيا فقال لا تشيموا بارقها الشيم النظر إلى البرق انتظارا للمطر . ولا تسمعوا ناطقها لا تصغوا إليها سامعين ولا تجيبوا مناديها . والأعلاق جمع علق وهو الشي ء النفيس وبرق خالب وخلب لا مطر فيه . وأموالها محروبة أي مسلوبة . قوله ع ألا وهي المتصدية العنون شبهها بالمرأة المومس تتصدى للرجال تريد الفجور وتتصدى لهم تتعرض والعنون المتعرضة أيضا عن لي كذا أي عرض . ثم قال والجامحة الحرون شبهها بالدابة ذات الجماح وهي التي لا يستطاع ركوبها لأنها تعثر بفارسها وتغلبه وجعلها مع ذلك حرونا وهي التي لا تنقاد . ثم قال والمائنة الخئون مان أي كذب شبهها بامرأة كاذبة خائنة . والجحود الكنود جحد الشي ء أنكره وكند النعمة كفرها جعلها كامرأة تجحد الصنيعة ولا تعترف بها وتكفر النعمة ويجوز أن يكون الجحود من قولك رجل جحد وجحد أي قليل الخير وعام جحد أي قليل المطر وقد جحد النبت إذا لم يطل . قال والعنود الصدود العنود الناقة تعدل عن مرعى الإبل وترعى ناحية . والصدود المعرضة صد عنه أي أعرض شبهها في انحرافها وميلها عن القصد بتلك . قال والحيود الميود حادث الناقة عن كذا تحيد فهي حيود إذا مالت عنه . ومادت تميد فهي ميود أي مالت فإن كانت عادتها ذلك سميت الحيود الميود في كل حال .
[ 123 ]
قال حالها انتقال يجوز أن يعني به أن شيمتها وسجيتها الانتقال والتغير ويجوز أن يريد به معنى أدق وهو أن الزمان على ثلاثة أقسام ماض وحاضر ومستقبل فالماضي والمستقبل لا وجود لهما الآن وإنما الموجود أبدا هو الحاضر فلما أراد المبالغة في وصف الدنيا بالتغير والزوال قال حالها انتقال أي أن الآن الذي يحكم العقلاء عليه بالحضور منها ليس بحاضر على الحقيقة بل هو سيال متغير فلا ثبوت إذا لشي ء منها مطلقا ويروى وحالها افتعال أي كذب وزور وهي رواية شاذة . قال ووطئتها زلزال الوطأة كالضغطة ومنه(1/3671)
قوله ص اللهم اشدد وطأتك على مضر وأصلها موضع القدم والزلزال الشدة العظيمة والجمع زلازل . وقال الراوندي في شرحه يريد أن سكونها حركة من قولك وطؤ الشي ء أي صار وطيئا ذا حال لينة وموضع وطي ء أي وثير وهذا خطأ لأن المصدر من ذلك وطاءة بالمد وهاهنا وطأة ساكن الطاء فأين أحدهما من الآخر . قال وعلوها سفل يجوز ضم أولهما وكسره . قال دار حرب الأحسن في صناعة البديع أن تكون الراء هاهنا ساكنة ليوازي السكون هاء نهب ومن فتح الراء أراد السلب حربته أي سلبت ماله . قال أهلها على ساق وسياق يقال قامت الحرب على ساق أي على شدة ومنه قوله سبحانه يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ والسياق نزع الروح يقال رأيت فلانا يسوق أي ينزع عند الموت أو يكون مصدر ساق الماشية سوقا وسياقا . وقال الراوندي في شرحه يريد أن بعض أهلها في أثر بعض كقولهم ولدت فلانة
[ 124 ]
ثلاثة بنين على ساق وليس ما قاله بشي ء لأنهم يقولون ذلك للمرأة إذا لم يكن بين البنين أنثى ولا يقال ذلك في مطلع التتابع أين كان . قال ع ولحاق وفراق اللام مفتوحة مصدر لحق به وهذا كقولهم الدنيا مولود يولد ومفقود يفقد . قال ع قد تحيرت مذاهبها أي تحير أهلها في مذاهبهم وليس يعني بالمذاهب هاهنا الاعتقادات بل المسالك . وأعجزت مهاربها أي أعجزتهم جعلتهم عاجزين فحذف المفعول . وأسلمتهم المعاقل لم تحصنهم . ولفظتهم بفتح الفاء رمت بهم وقذفتهم . وأعيتهم المحاول أي المطالب . ثم وصف أحوال الدنيا فقال هم فمن ناج معقور أي مجروح كالهارب من الحرب بحشاشة نفسه وقد جرح بدنه . ولحم مجزور أي قتيل قد صار جزرا للسباع . وشلو مذبوح الشلو العضو من أعضاء الحيوان المذبوح أو الميت و(1/3672)
في الحديث ائتوني بشلوها الأيمن . ودم مفسوح أي مسفوك وعاض على يديه أي ندما . وصافق بكفيه أي تعسفا أو تعجبا . ومرتفق بخديه جاعل لهما على مرفقيه فكرا وهما . وزار على رأيه أي عائب أي يرى الواحد منهم رأيا ويرجع عنه ويعيبه وهو البداء الذي يذكره المتكلمون ثم فسره بقوله وراجع عن عزمه .
[ 125 ]
فإن قلت فهل يمكن أن يفرق بينهما ليكون الكلام أكثر فائدة قلت نعم بأن يريد بالأول من رأى رأيا وكشفه لغيره وجامعه عليه ثم بدا له وعابه ويريد بالثاني من عزم نفسه عزما ولم يظهر لغيره ثم رجع عنه ويمكن أيضا بأن يفرق بينهما بأن يعني بالرأي الاعتقاد كما يقال هذا رأي أبي حنيفة والعزم أمر مفرد خارج عن ذلك وهو ما يعزم عليه الإنسان من أمور نفسه ولا يقال عزم في الاعتقادات ثم قال ع وقد أدبرت الحيلة أي ولت وأقبلت الغيلة أي الشر ومنه قولهم فلان قليل الغائلة أو يكون بمعنى الاغتيال يقال قتله غيلة أي خديعة يذهب به إلى مكان يوهمه أنه لحاجة ثم يقتله . قال ع ولات حين مناص هذه من ألفاظ الكتاب العزيز قال الأخفش شبهوا لات بليس وأضمروا فيها اسم الفاعل قال ولا تكون لات إلا مع حين وقد جاء حذف حين في الشعر ومنه المثل حنت ولات هنت أي ولات حين حنت والهاء بدل من الحاء فحذف الحين وهو يريده قال وقرأ بعضهم وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ بالرفع وأضمر الخبر وقال أبو عبيد هي لا والتاء إنما زيدت في حين لا في لا وإن كتبت مفردة والأصل تحين كما قال في ألان تلان فزادوا التاء وأنشد لأبي وجزة
العاطفون تحين ما من عاطف
و المطعمون زمان أين المطعم
و قال المؤرج زيدت التاء في لات كما زيدت في ربت وثمت . والمناص المهرب ناص عن قرنه ينوص نوصا ومناصا أي ليس هذا وقت الهرب والفرار .
[ 126 ](1/3673)
و يكون المناص أيضا بمعنى الملجأ والمفزع أي ليس هذا حين تجد مفزعا ومعقلا تعتصم به . هيهات اسم للفعل ومعناه بعد يقال هيهات زيد فهو مبتدأ وخبر والمعنى يعطي الفعلية والتاء في هيهات مفتوحة مثل كيف وأصلها هاء وناس يكسرونها على كل حال بمنزلة نون التثنية وقال الراجز
هيهات من مصبحها هيهات
هيهات حجر من صنيعات
و قد تبدل الهاء همزة فيقال أيهات مثل هراق وأراق قال
أيهات منك الحياة أيهاتا
قال الكسائي فمن كسر التاء وقف عليها بالهاء فقال هيهاه ومن فتحها وقف إن شاء بالتاء وإن شاء بالهاء . قوله ع ومضت الدنيا لحال بالها كلمة تقال فيما انقضى وفرط أمره ومعناها مضى بما فيه إن كان خيرا وإن كان شرا . قوله ع فما بكت عليهم السماء هو من كلام الله تعالى والمراد أهل السماء وهم الملائكة وأهل الأرض وهم البشر والمعنى أنهم لا يستحقون أن يتأسف عليهم وقيل أراد المبالغة في تحقير شأنهم لأن العرب كانت تقول في العظيم القدر يموت بكته السماء وبكته النجوم قال الشاعر
فالشمس طالعة ليست بكاسفة
تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
فنفى عنهم ذلك وقال ليسوا من يقال فيه مثل هذا القول وتأولها ابن عباس رضي الله عنه لما قيل له أ تبكي السماء والأرض على أحد فقال نعم يبكيه مصلاه في الأرض ومصعد عمله في السماء فيكون نفي البكاء عنهما كناية عن أنه لم يكن لهم في الأرض عمل صالح يرفع منهما إلى السماء
[ 127 ](1/3674)
238 ومن خطبة له ع ومن الناس من يسمي هذه الخطبة بالقاصعة
و هي تتضمن ذم إبليس لعنه الله على استكباره وتركه السجود لآدم ع وأنه أول من أظهر العصبية وتبع الحمية وتحذير الناس من سلوك طريقته : اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي لَبِسَ اَلْعِزَّ وَ اَلْكِبْرِيَاءَ وَ اِخْتَارَهُمَا لِنَفْسِهِ دُونَ خَلْقِهِ وَ جَعَلَهُمَا حِمًى وَ حَرَماً عَلَى غَيْرِهِ وَ اِصْطَفَاهُمَا لِجَلاَلِهِ وَ جَعَلَ اَللَّعْنَةَ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِيهِمَا مِنْ عِبَادِهِ ثُمَّ اِخْتَبَرَ بِذَلِكَ مَلاَئِكَتَهُ اَلْمُقَرَّبِينَ لِيَمِيزَ اَلْمُتَوَاضِعِينَ مِنْهُمْ مِنَ اَلْمُسْتَكْبِرِينَ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ هُوَ اَلْعَالِمُ بِمُضْمَرَاتِ اَلْقُلُوبِ وَ مَحْجُوبَاتِ اَلْغُيُوبِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ اَلْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ اِعْتَرَضَتْهُ اَلْحَمِيَّةُ فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بِخَلْقِهِ وَ تَعَصَّبَ عَلَيْهِ لِأَصْلِهِ فَعَدُوُّ اَللَّهِ إِمَامُ اَلْمُتَعَصِّبِينَ وَ سَلَفُ اَلْمُسْتَكْبِرِينَ اَلَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ اَلْعَصَبِيَّةِ وَ نَازَعَ اَللَّهَ رِدَاءَ اَلْجَبَرِيَّةِ وَ اِدَّرَعَ لِبَاسَ اَلتَّعَزُّزِ وَ خَلَعَ قِنَاعَ اَلتَّذَلُّلِ أَلاَ يَرَوْنَ تَرَوْنَ كَيْفَ صَغَّرَهُ اَللَّهُ بِتَكَبُّرِهِ وَ وَضَعَهُ بِتَرَفُّعِهِ فَجَعَلَهُ فِي اَلدُّنْيَا مَدْحُوراً وَ أَعَدَّ لَهُ فِي اَلآْخِرَةِ سَعِيراً
[ 128 ](1/3675)
يجوز أن تسمى هذه الخطبة القاصعة من قولهم قصعت الناقة بجرتها وهو أن تردها إلى جوفها أو تخرجها من جوفها فتملأ فاها فلما كانت الزواجر والمواعظ في هذه الخطبة مرددة من أولها إلى آخرها شبهها بالناقة التي تقصع الجرة ويجوز أن تسمى القاصعة لأنها كالقاتلة لإبليس وأتباعه من أهل العصبية من قولهم قصعت القملة إذا هشمتها وقتلتها ويجوز أن تسمى القاصعة لأن المستمع لها المعتبر بها يذهب كبره ونخوته فيكون من قولهم قصع الماء عطشه أي أذهبه وسكنه قال ذو الرمة بيتا في هذا المعنى
فانصاعت الحقب لم تقصع صرائرها
و قد تشح فلا ري ولا هيم
الصرائر جمع صريرة وهي العطش ويجوز أن تسمى القاصعة لأنها تتضمن تحقير إبليس وأتباعه وتصغيرهم من قولهم قصعت الرجل إذا امتهنته وحقرته وغلام مقصوع أي قمي ء لا يشب ولا يزداد . والعصبية على قسمين عصبية في الله وهي محمودة وعصبية في الباطل وهي مذمومة وهي التي نهى أمير المؤمنين ع عنها وكذلك الحمية و
جاء في الخبر العصبية في الله تورث الجنة والعصبية في الشيطان تورث النار . و
جاء في الخبر العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني فيهما قصمته وهذا معنى قوله ع اختارهما لنفسه دون خلقه إلى آخر قوله من عباده . قال ع ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين مع علمه بمضمراتهم وذلك لأن اختباره سبحانه ليس ليعلم بل ليعلم غيره من خلقه طاعة من يطيع وعصيان من يعصي وكذلك قوله سبحانه وَ ما جَعَلْنَا اَلْقِبْلَةَ اَلَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ
[ 129 ](1/3676)
اَلرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ النون في لنعلم نون الجمع لا نون العظمة أي لتصير أنت وغيرك من المكلفين عالمين لمن يطيع ومن يعصي كما أنا عالم بذلك فتكونوا كلكم مشاركين لي في العلم بذلك . فإن قلت وما فائدة وقوفهم على ذلك وعلمهم به قلت ليس بممتنع أن يكون ظهور حال العاصي والمطيع وعلم المكلفين أو أكثرهم أو بعضهم به يتضمن لطفا في التكليف . فإن قلت إن الملائكة لم تكن تعلم ما البشر ولا تتصور ماهيته فكيف قال لهم إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ قلت قد كان قال لهم إني خالق جسما من صفته كيت وكيت فلما حكاه اقتصر على الاسم ويجوز أن يكون عرفهم من قبل أن لفظة بشر على ما ذا تقع ثم قال لهم إني خالق هذا الجسم المخصوص الذي أعلمتكم أن لفظة بشر واقعة عليه من طين . قوله تعالى فَإِذا سَوَّيْتُهُ أي إذا أكملت خلقه . فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ أمرهم بالسجود له وقد اختلف في ذلك فقال قوم كان قبلة كما الكعبة اليوم قبلة ولا يجوز السجود إلا لله وقال آخرون بل كان السجود له تكرمة ومحنة والسجود لغير الله غير قبيح في العقل إذا لم يكن عبادة ولم يكن فيه مفسدة . وقوله تعالى وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي أي أحللت فيه الحياة وأجريت الروح إليه في عروقه وأضاف الروح إليه تبجيلا لها وسمى ذلك نفخا على وجه الاستعارة لأن العرب تتصور من الروح معنى الريح والنفخ يصدق على الريح فاستعار لفظة النفخ توسعا .
[ 130 ](1/3677)
و قالت الحكماء هذا عبارة عن النفس الناطقة . فإن قلت هل كان إبليس من الملائكة أم لا قلت قد اختلف في ذلك فمن جعله منهم احتج بالاستثناء ومن جعله من غيرهم احتج بقوله تعالى كانَ مِنَ اَلْجِنِّ وجعل الاستثناء منقطعا وبأن له نسلا وذرية قال تعالى أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي والملائكة لا نسل لهم ولا ذرية وبأن أصله نار والملائكة أصلها نور وقد مر لنا كلام في هذا في أول الكتاب . قوله فافتخر على آدم بخلقه وتعصب عليه لأصله كانت خلقته أهون من خلقة آدم ع وكان أصله من نار وأصل آدم ع من طين . فإن قلت كيف حكم على إبليس بالكفر ولم يكن منه إلا مخالفة الأمر ومعلوم أن تارك الأمر فاسق لا كافر قلت إنه اعتقد أن الله أمره بالقبيح ولم ير أمره بالسجود لآدم ع حكمة وامتنع من السجود تكبرا ورد على الله أمره واستخف بمن أوجب الله إجلاله وظهر أن هذه المخالفة عن فساد عقيدة فكان كافرا . فإن قلت هل كان كافرا في الأصل أم كان مؤمنا ثم كفر قلت أما المرجئة فأكثرهم يقول كان في الأصل كافرا لأن المؤمن عندهم لا يجوز أن يكفر وأما أصحابنا فلما كان هذا الأصل عندهم باطلا توقفوا في حال إبليس وجوزوا كلا الأمرين .
[ 131 ]
قوله ع رداء الجبرية الباء مفتوحة يقال فيه جبرية وجبروة وجبروت وجبورة كفروجة أي كبر وأنشدوا
فإنك إن عاديتني غضب الحصا
عليك وذو الجبورة المتغطرف(1/3678)
و جعله مدحورا أي مطرودا مبعدا دحره الله دحورا أي أقصاه وطرده : وَ لَوْ أَرَادَ اَللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ مِنْ نُورٍ يَخْطَفُ اَلْأَبْصَارَ ضِيَاؤُهُ وَ يَبْهَرُ اَلْعُقُولَ رُوَاؤُهُ وَ طِيبٍ يَأْخُذُ اَلْأَنْفَاسَ عَرْفُهُ لَفَعَلَ وَ لَوْ فَعَلَ لَظَلَّتْ لَهُ اَلْأَعْنَاقُ خَاضِعَةً وَ لَخَفَّتِ اَلْبَلْوَى فِيهِ عَلَى اَلْمَلاَئِكَةِ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ يَبْتَلِي خَلْقَهُ بِبَعْضِ مَا يَجْهَلُونَ أَصْلَهُ تَمْيِيزاً بِالاِخْتِبَارِ لَهُمْ وَ نَفْياً لِلاِسْتِكْبَارِ عَنْهُمْ وَ إِبْعَاداً لِلْخُيَلاَءِ مِنْهُمْ فَاعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اَللَّهِ بِإِبْلِيسَ إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ اَلطَّوِيلَ وَ جَهْدَهُ اَلْجَهِيدَ وَ كَانَ قَدْ عَبَدَ اَللَّهَ سِتَّةَ آلاَفِ سَنَةٍ لاَ يُدْرَى أَ مِنْ سِنِي اَلدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي اَلآْخِرَةِ عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فَمَنْ ذَا بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى اَللَّهِ بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ كَلاَّ مَا كَانَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ لِيُدْخِلَ اَلْجَنَّةَ بَشَراً بِأَمْرٍ أَخْرَجَ بِهِ مِنْهَا مَلَكاً إِنْ حُكْمَهُ فِي أَهْلِ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ لَوَاحِدٌ وَ مَا بَيْنَ اَللَّهِ وَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ هَوَادَةٌ فِي إِبَاحَةِ حِمًى حَرَّمَهُ عَلَى اَلْعَالَمِينَ خطفت الشي ء بكسر الطاء أخطفه إذا أخذته بسرعة استلابا وفيه لغة أخرى
[ 132 ](1/3679)
خطف بالفتح ويخطف بالفتح ويخطف بالكسر وهي لغة رديئة قليلة لا تكاد تعرف وقد قرأ بها يونس في قوله تعالى يَكادُ اَلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ . والرواء بالهمزة والمد المنظر الحسن والعرف الريح الطيبة . والخيلاء بضم الخاء وكسرها الكبر وكذلك الخال والمخيلة تقول اختال الرجل وخال أيضا أي تكبر . وأحبط عمله أبطل ثوابه وقد حبط العمل حبطا بالتسكين وحبوطا والمتكلمون يسمون إبطال الثواب إحباطا وإبطال العقاب تكفيرا . وجهده بفتح الجيم اجتهاده وجده ووصفه بقوله الجهيد أي المستقصى من قولهم مرعى جهيد أي قد جهده المال الراعي واستقصى رعية . وكلامه ع يدل على أنه كان يذهب إلى أن إبليس من الملائكة لقوله أخرج منها ملكا والهوادة الموادعة والمصالحة يقول إن الله تعالى خلق آدم من طين ولو شاء أن يخلقه من النور الذي يخطف أو من الطيب الذي يعبق لفعل ولو فعل لهال الملائكة أمره وخضعوا له فصار الابتلاء والامتحان والتكليف بالسجود له خفيفا عليهم لعظمته في نفوسهم فلم يستحقوا ثواب العمل الشاق وهذا يدل على أن الملائكة تشم الرائحة كما نشمها نحن ولكن الله تعالى يبتلي عباده بأمور يجهلون أصلها اختبارا لهم . فإن قلت ما معنى قوله ع تمييزا بالاختبار لهم قلت لأنه ميزهم عن غيرهم من مخلوقاته كالحيوانات العجم وأبانهم عنهم وفضلهم عليهم بالتكليف والامتحان .
[ 133 ](1/3680)
قال ونفيا للاستكبار عنهم لأن العبادات خضوع وخشوع وذلة ففيها نفي الخيلاء والتكبر عن فاعليها فأمرهم بالاعتبار بحال إبليس الذي عبد الله ستة آلاف سنة لا يدرى أ من سني الدنيا أم من سني الآخرة وهذا يدل على أنه قد سمع فيه نصا من رسول الله ص مجملا لم يفسره له أو فسره له خاصة ولم يفسره أمير المؤمنين ع للناس لما يعلمه في كتمانه عنهم من المصلحة . فإن قلت قوله لا يدرى على ما لم يسم فاعله يقتضي أنه هو لا يدري قلت إنه لا يقتضي ذلك ويكفي في صدق الخبر إذا ورد بهذه الصيغة أن يجهله الأكثرون . فأما القول في سني الآخرة كم هي فاعلم أنه قد ورد في الكتاب العزيز آيات مختلفات إحداهن قوله تَعْرُجُ اَلْمَلائِكَةُ وَ اَلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ . والأخرى قوله يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ مِنَ اَلسَّماءِ إِلَى اَلْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ . والثالثة قوله وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ . وأولى ما قيل فيها أن المراد بالآية الأولى مدة عمر الدنيا وسمي ذلك يوما وقال إن الملائكة لا تزال تعرج إليه بأعمال البشر طول هذه المدة حتى ينقضي التكليف وينتقل الأمر إلى دار أخرى وأما الآيتان الأخيرتان فمضمونهما بيان كمية أيام الآخرة وهو أن كل يوم منها مثل ألف سنة من سني الدنيا .
[ 134 ](1/3681)
فإن قلت فعلى هذا كم تكون مدة عبادة إبليس إذا كانت ستة آلاف سنة من سني الآخرة قلت يكون ما يرتفع من ضرب أحد المضروبين في الآخرة وهو ألفا ألف ألف ثلاث لفظات الأولى منهم مثناة ومائة ألف ألف لفظتان وستون ألف ألف سنة لفظتان أيضا من سني الدنيا ولما رأى أمير المؤمنين ع هذا المبلغ عظيما جدا علم أن أذهان السامعين لا تحتمله فلذلك أبهم القول عليهم وقال لا يدرى أ من سني الدنيا أم من سني الآخرة . فإن قلت فإذا كنتم قد رجحتم قول من يقول إن عمر الدنيا خمسون ألف سنة فكم يكون عمرها إن كان الله تعالى أراد خمسين ألف سنة من سني الآخرة لأنه لا يؤمن أن يكون أراد ذلك إذا كانت السنة عنده عبارة عن مدة غير هذه المدة التي قد اصطلح عليها الناس قلت يكون ما يرتفع من ضرب خمسين ألفا في ثلاثمائة وستين ألف من سني الدنيا ومبلغ ذلك ثمانية عشر ألف ألف ألف سنة من سني الدنيا ثلاث لفظات وهذا القول قريب من القول المحكي عن الهند . وروى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه روايات كثيرة بأسانيد أوردها عن جماعة من الصحابة أن إبليس كان إليه ملك السماء وملك الأرض وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن وإنما سموا الجن لأنهم كانوا خزان الجنان وكان إبليس رئيسهم ومقدمهم وكان أصل خلقهم من نار السموم وكان اسمه الحارث قال وقد روي أن الجن كانت في الأرض وأنهم أفسدوا فيها فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة فقتلهم وطردهم إلى جزائر البحار ثم تكبر في نفسه ورأى أنه قد صنع شيئا عظيما لم يصنعه غيره قال وكان شديد الاجتهاد في العبادة .
[ 135 ](1/3682)
و قيل كان اسمه عزازيل وأن الله تعالى جعله حكما وقاضيا بين سكان الأرض قبل خلق آدم فدخله الكبر والعجب لعبادته واجتهاده وحكمه في سكان الأرض وقضائه بينهم فانطوى على المعصية حتى كان من أمره مع آدم ع ما كان قلت ولا ينبغي أن نصدق من هذه الأخبار وأمثالها إلا ما ورد في القرآن العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أو في السنة أو نقل عمن يجب الرجوع إلى قوله وكل ما عدا ذلك فالكذب فيه أكثر من الصدق والباب مفتوح فليقل كل أحد في أمثال هذه القصص ما شاء واعلم أن كلام أمير المؤمنين في هذا الفصل يطابق مذهب أصحابنا في أن الجنة لا يدخلها ذو معصية أ لا تسمع قوله فمن بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته كلا ما كان الله ليدخل الجنة بشرا بأمر أخرج به منها ملكا إن حكمه في أهل السماء والأرض لواحد . فإن قلت أ ليس من قولكم إن صاحب الكبيرة إذا تاب دخل الجنة فهذا صاحب معصية وقد حكمتم له بالجنة قلت إن التوبة أحبطت معصيته فصار كأنه لم يعص . فإن قلت إن أمير المؤمنين ع إنما قال فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته ولم يقل بالمعصية المطلقة والمرجئة لا تخالف في أن من وافى القيامة بمثل معصية إبليس لم يكن من أهل الجنة قلت كل معصية كبيرة فهي مثل معصيته ولم يكن إخراجه من الجنة لأنه كافر بل لأنه عاص مخالف للأمر أ لا ترى أنه قال سبحانه قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فعلل إخراجه من الجنة بتكبره لا بكفره . فإن قلت هذا مناقض لما قدمت في شرح الفصل الأول
[ 136 ](1/3683)
قلت كلا لأني في الفصل الأول عللت استحقاقه اسم الكفر بأمر زائد على المعصية المطلقة وهو فساد اعتقاده ولم أجعل ذلك علة في خروجه من الجنة وهاهنا عللت خروجه من الجنة بنفس المعصية فلا تناقض . فإن قلت ما معنى قول أمير المؤمنين ع ما كان الله ليدخل الجنة بشرا بأمر أخرج به منها ملكا وهل يظن أحد أو يقول إن الله تعالى يدخل الجنة أحدا من البشر بالأمر الذي أخرج به هاهنا إبليس كلا هذا ما لا يقوله أحد وإنما الذي يقوله المرجئة إنه يدخل الجنة من قد عصى وخالف الأمر كما خالف الأمر إبليس برحمته وعفوه وكما يشاء لا أنه يدخله الجنة بالمعصية وكلام أمير المؤمنين ع يقتضي نفي دخول أحد الجنة بالمعصية لأن الباء للسببية قلت الباء هاهنا ليست للسببية كما يتوهمه هذا المعترض بل هي كالباء في قولهم خرج زيد بثيابه ودخل زيد بسلاحه أي خرج لابسا ودخل متسلحا أي يصحبه الثياب ويصحبه السلاح فكذلك قوله ع بأمر أخرج به منها ملكا معناه أن الله تعالى لا يدخل الجنة بشرا يصحبه أمر أخرج الله به ملكا منها : فَاحْذَرُوا عِبَادَ اَللَّهِ عَدُوَّ اَللَّهِ أَنْ يُعْدِيَكُمْ بِدَائِهِ وَ أَنْ يَسْتَفِزَّكُمْ بِنِدَائِهِ وَ أَنْ يُجْلِبَ عَلَيْكُمْ بِخَيْلِهِ وَ رَجِلِهِ رَجْلِهِ فَلَعَمْرِي لَقَدْ فَوَّقَ لَكُمْ سَهْمَ اَلْوَعِيدِ وَ أَغْرَقَ إِلَيْكُمْ بِالنَّزْعِ اَلشَّدِيدِ وَ رَمَاكُمْ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ فَقَالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ قَذْفاً بِغَيْبٍ بَعِيدٍ وَ رَجْماً بِظَنٍّ
[ 137 ](1/3684)
غَيْرِ مُصِيبٍ صَدَّقَهُ بِهِ أَبْنَاءُ اَلْحَمِيَّةِ وَ إِخْوَانُ اَلْعَصَبِيَّةِ وَ فُرْسَانُ اَلْكِبْرِ وَ اَلْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى إِذَا اِنْقَادَتْ لَهُ اَلْجَامِحَةُ مِنْكُمْ وَ اِسْتَحْكَمَتِ اَلطَّمَاعِيَةُ مِنْهُ فِيكُمْ فَنَجَمَتِ فَنَجَمَتْ فِيهِ اَلْحَالُ مِنَ اَلسِّرِّ اَلْخَفِيِّ إِلَى اَلْأَمْرِ اَلْجَلِيِّ اِسْتَفْحَلَ سُلْطَانُهُ عَلَيْكُمْ وَ دَلَفَ بِجُنُودِهِ نَحْوَكُمْ فَأَقْحَمُوكُمْ وَلَجَاتِ اَلذُّلِّ وَ أَحَلُّوكُمْ وَرَطَاتِ اَلْقَتْلِ وَ أَوْطَئُوكُمْ إِثْخَانَ اَلْجِرَاحَةِ طَعْناً فِي عُيُونِكُمْ وَ حَزّاً فِي حُلُوقِكُمْ وَ دَقّاً لِمَنَاخِرِكُمْ وَ قَصْداً لِمَقَاتِلِكُمْ وَ سَوْقاً بِخَزَائِمِ اَلْقَهْرِ إِلَى اَلنَّارِ اَلْمُعَدَّةِ لَكُمْ فَأَصْبَحَ أَعْظَمَ فِي دِينِكُمْ حَرْجاً وَ أَوْرَى فِي دُنْيَاكُمْ قَدْحاً مِنَ اَلَّذِينَ أَصْبَحْتُمْ لَهُمْ مُنَاصِبِينَ وَ عَلَيْهِمْ مُتَأَلِّبِينَ فَاجْعَلُوا عَلَيْهِ حَدَّكُمْ وَ لَهُ جِدَّكُمْ فَلَعَمْرُ اَللَّهِ لَقَدْ فَخَرَ عَلَى أَصْلِكُمْ وَ وَقَعَ فِي حَسَبِكُمْ وَ دَفَعَ فِي نَسَبِكُمْ وَ أَجْلَبَ بِخَيْلِهِ عَلَيْكُمْ وَ قَصَدَ بِرَجْلِهِ سَبِيلَكُمْ يَقْتَنِصُونَكُمْ بِكُلِّ مَكَانٍ وَ يَضْرِبُونَ مِنْكُمْ كُلَّ بَنَانٍ لاَ تَمْتَنِعُونَ بِحِيلَةٍ وَ لاَ تَدْفَعُونَ بِعَزِيمَةٍ فِي حَوْمَةِ ذُلٍّ وَ حَلْقَةِ ضِيقٍ وَ عَرْصَةِ مَوْتٍ وَ جَوْلَةِ بَلاَءٍ فَأَطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ نِيرَانِ اَلْعَصَبِيَّةِ وَ أَحْقَادِ اَلْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّمَا تِلْكَ اَلْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي اَلْمُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ اَلشَّيْطَانِ وَ نَخَوَاتِهِ وَ نَزَغَاتِهِ وَ نَفَثَاتِهِ وَ اِعْتَمِدُوا وَضْعَ اَلتَّذَلُّلِ عَلَى رُءُوسِكُمْ وَ إِلْقَاءَ اَلتَّعَزُّزِ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ وَ(1/3685)
خَلْعَ اَلتَّكَبُّرِ مِنْ أَعْنَاقِكُمْ وَ اِتَّخِذُوا اَلتَّوَاضُعَ مَسْلَحَةً بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ عَدُوِّكُمْ إِبْلِيسَ وَ جُنُودِهِ فَإِنَّ لَهُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ جُنُوداً وَ أَعْوَاناً وَ رَجِلاً رَجْلاً وَ فُرْسَاناً وَ لاَ تَكُونُوا كَالْمُتَكَبِّرِ عَلَى اِبْنِ أُمِّهِ مِنْ غَيْرِ مَا فَضْلٍ جَعَلَهُ اَللَّهُ فِيهِ سِوَى مَا أَلْحَقَتِ اَلْعَظَمَةُ بِنَفْسِهِ مِنْ عَدَاوَةِ اَلْحَسَدِ اَلْحَسَبِ وَ قَدَحَتِ اَلْحَمِيَّةُ فِي قَلْبِهِ مِنْ نَارِ اَلْغَضَبِ وَ نَفَخَ اَلشَّيْطَانُ فِي أَنْفِهِ مِنْ رِيحِ اَلْكِبْرِ اَلَّذِي أَعْقَبَهُ اَللَّهُ بِهِ اَلنَّدَامَةَ وَ أَلْزَمَهُ آثَامَ اَلْقَاتِلِينَ إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ
[ 138 ]
موضع أن يعديكم نصب على البدل من عدو الله وقال الراوندي يجوز أن يكون مفعولا ثانيا وهذا ليس بصحيح لأن حذر لا يتعدى إلى المفعولين والعدوى ما يعدي من جرب أو غيره أعدى فلان فلانا من خلقه أو من علته وهو مجاوزته من صاحبه إلى غيره و
في الحديث لا عدوى في الإسلام . فإن قلت فإذا كان النبي ص قد أبطل أمر العدوى فكيف قال أمير المؤمنين فاحذروه أن يعديكم قلت إن النبي ص أبطل ما كانت العرب تزعمه من عدوى الجرب في الإبل وغيرها وأمير المؤمنين ع حذر المكلفين من أن يتعلموا من إبليس الكبر والحمية وشبه تعلمهم ذلك منه بالعدوى لاشتراك الأمرين في الانتقال من أحد الشخصين إلى الآخر . قوله ع يستفزكم أي يستخفكم وهو من ألفاظ القرآن وَ اِسْتَفْزِزْ مَنِ اِسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ أي أزعجه واستخفه وأطر قلبه والخيل الخيالة ومنه(1/3686)
الحديث يا خيل الله اركبي . والرجل اسم جمع لراجل كركب اسم جمع لراكب وصحب اسم جمع لصاحب وهذه أيضا من ألفاظ القرآن العزيز وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ وقرئ ورجلك بكسر الجيم على أن فعلا بالكسر بمعنى فاعل نحو تعب وتاعب
[ 139 ]
و معناه وقد تضم الجيم أيضا فيكون مثل قولك رجل حدث وحدث وندس وندس . فإن قلت فهل لإبليس خيل تركبها جنده قلت يجوز أن يكون ذلك وقد فسره قوم بهذا والصحيح أنه كلام خرج مخرج المثل شبهت حاله في تسلطه على بني آدم بمن يغير على قوم بخيله فيستأصلهم وقيل بصوتك أي بدعائك إلى القبيح وخيله ورجله كل ماش وراكب من أهل الفساد من بني آدم قوله وفوقت السهم جعلت له فوقا وهو موضع الوتر وهذا كناية عن الاستعداد ولا يجوز أن يفسر قوله فقد فوق لكم سهم الوعيد بأنه وضع الفوق في الوتر ليرمي به لأن ذلك لا يقال فيه قد فوق بل يقال أفقت السهم وأوفقته أيضا ولا يقال أفوقته وهو من النوادر . وقوله وأغرق إليكم بالنزع أي استوفى مد القوس وبالغ في نزعها ليكون مرماه أبعد ووقع سهامه أشد . قوله ورماكم من مكان قريب لأنه كما جاء
في الحديث يجري من ابن آدم مجرى الدم ويخالط القلب ولا شي ء أقرب من ذلك . والباء في قوله بِما أَغْوَيْتَنِي متعلق بفعل محذوف تقديره أجازيك بما أغويتني تزييني لهم القبيح فما على هذا مصدرية أي أجازيك بإغوائك لي تزييني لهم القبيح فحذف المفعول ويجوز أن تكون الباء قسما كأنه أقسم بإغوائه إياه ليزينن لهم . فإن قلت وأي معنى في أن يقسم بإغوائه وهل هذا مما يقسم به قلت نعم لأنه ليس إغواء الله تعالى إياه خلق الغي والضلال في قلبه بل تكليفه
[ 140 ](1/3687)
إياه السجود الذي وقع الغي عنده من الشيطان لا من الله فصار حيث وقع عنده كأنه موجب عنه فنسب إلى الباري والتكليف تعريض للثواب ولذة الأبد فكان جديرا أن يقسم به وقد أقسم في موضع آخر فقال فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ فأقسم بالعزة وهاهنا أقسم بالأمر والتكليف ويجوز فيه وجه ثالث وهو ألا تكون الباء قسما ويقدر قسم محذوف ويكون المعنى بسبب ما كلفتني فأفضى إلى غوايتي أقسم لأفعلن بهم نحو ما فعلت بي وهو أن أزين لهم المعاصي التي تكون سبب هلاكهم . فإن قلت ليس هذا نحو ما فعله الباري به لأن الباري أمره بالحسن فأباه وعدل عنه إلى القبيح والشيطان لا يأمرنا بالحسن فنكرهه ونعدل عنه إلى القبيح فكيف يكون ذلك نحو واقعته مع الباري قلت المشابهة بين الواقعتين في أن كل واحدة منهما تقع عندها المعصية لا على وجه الإجبار والقسر بل على قصد الاختيار لأن معصية إبليس كانت من نفسه ووقعت عند الأمر بالسجود اختيارا منه لا فعلا من الباري ومعصيتنا نحن عند التزيين والوسوسة تقع اختيارا منا لا اضطرارا يضطرنا إبليس إليه فلما تشابهت الصورتان في هذا المعنى حسن قوله بما فعلت بي كذا لأفعلن بهم نحوه . فإن قلت ما معنى قوله فِي اَلْأَرْضِ ومن أين كان يعلم إبليس أن آدم سيصير له ذرية في الأرض قلت أما علمه بذلك فمن قول الله تعالى له وللملائكة إِنِّي جاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً وأما لفظة الأرض فالمراد بها هاهنا الدنيا التي هي دار التكليف كقوله تعالى
[ 141 ](1/3688)
وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى اَلْأَرْضِ ليس يريد به الأرض بعينها بل الدنيا وما فيها من الملاذ وهوى الأنفس . قوله ع قذفا بغيب بعيد أي قال إبليس هذا القول قذفا بغيب بعيد والعرب تقول للشي ء المتوهم على بعد هذا قذف بغيب بعيد والقذف في الأصل رمي الحجر وأشباهه والغيب الأمر الغائب وهذه اللفظة من الألفاظ القرآنية قال الله تعالى في كفار قريش وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أي يقولون هذا سحر أو هذا من تعليم أهل الكتاب أو هذه كهانة وغير ذلك مما كانوا يرمونه ع به وانتصب قذفا على المصدر الواقع موقع الحال وكذلك رجما وقال الراوندي انتصبا لأنهما مفعول له وليس بصحيح لأن المفعول له ما يكون عذرا وعلة لوقوع الفعل وإبليس ما قال ذلك الكلام لأجل القذف والرجم فلا يكون مفعولا له . فإن قلت كيف قال ع قذفا من مكان بعيد ورجما بظن غير مصيب وقد صح ما توهمه وأصاب في ظنه فإن إغواءه وتزيينه تم على الناس كلهم إلا على المخلصين قلت أما أولا فقد روي ورجما بظن مصيب بحذف غير ويؤكد هذه الرواية قوله تعالى وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً وأما ثانيا على الرواية التي هي أشهر فنقول أما قذفا من مكان بعيد فإنه قال ما قال على سبيل التوهم والحسبان لأمر مستبعد لا يعلم صحته ولا يظنها وليس وقوع ما وقع من المعاصي وصحة ما توهمه بمخرج لكون قوله الأول قذفا بغيب بعيد وأما رجما بظن غير مصيب
[ 142 ](1/3689)
فيجب أن يحمل قوله لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ على الغواية بمعنى الشرك أو الكفر ويكون الاستثناء وهو قوله إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ معناه إلا المعصومين من كل معصية وهذا ظن غير مصيب لأنه ما أغوى كل البشر الغواية التي هي الكفر والشرك إلا المعصومين العصمة المطلقة بل أغوى بعضهم كذلك وبعضهم بأن زين له الفسق دون الكفر فيكون ظنه أنه قادر على إغواء البشر كافة بمعنى الضلال بالكفر ظنا غير مصيب . قوله صدقه به أبناء الحمية موضع صدقه جر لأنه صفة ظن وقد روي صدقه أبناء الحمية من غير ذكر الجار والمجرور ومن رواه بالجار والمجرور كان معناه صدقه في ذلك الظن أبناء الحمية فأقام الباء مقام في . قوله حتى إذا انقادت له الجامحة منكم أي الأنفس الجامحة أو الأخلاق الجامحة . قوله فنجمت فيه الحال أي ظهرت وقد روي فنجمت الحال من السر الخفي من غير ذكر الجار والمجرور ومن رواه بالجار والمجرور فالمعنى فنجمت الحال في هذا الشأن المذكور بينه وبينكم من الخفاء إلى الجلاء . واستفحل سلطانه قوي واشتد وصار فحلا واستفحل جواب قوله حتى إذا . دلف بجنوده تقدم بهم . والولجات جمع ولجة بالتحريك وهي موضع أو كهف يستتر فيه المارة من مطر أو غيره . وأقحموكم أدخلوكم والورطة الهلكة . قوله وأوطئوكم إثخان الجراحة أي جعلوكم واطئين لذلك والإثخان مصدر أثخن في القتل أي أكثر منه وبالغ حتى كثف شأنه وصار كالشي ء الثخين ومعنى
[ 143 ](1/3690)
إيطاء الشيطان ببني آدم ذلك إلقاؤه إياهم فيه وتوريطهم وحمله لهم عليه فالإثخان على هذا منصوب لأنه مفعول ثان لا كما زعم الراوندي أنه انتصب بحذف حرف الخفض . قوله ع طعنا في عيونكم انتصب طعنا على المصدر وفعله محذوف أي فعلوا بكم هذه الأفعال فطعنوكم في عيونكم طعنا فأما من روى وأوطئوكم لإثخان الجراحة باللام فإنه يجعل طعنا منصوبا على أنه مفعول به أي أوطئوكم طعنا وحزا كقولك أوطأته نارا وأوطأته عشوة ويكون لإثخان الجراحة مفعولا له أي أوطئوكم الطعن ليثخنوا جراحكم وينبغي أن يكون قصدا وسوقا خالصين للمصدرية لأنه يبعد أن يكون مفعولا به . واعلم أنه لما ذكر الطعن نسبه إلى العيون ولما ذكر الحز وهو الذبح نسبه إلى الحلوق ولما ذكر الدق وهو الصدم الشديد أضافه إلى المناخر وهذا من صناعة الخطابة التي علمه الله إياها بلا تعليم وتعلمها الناس كلهم بعده منه . والخزائم جمع خزامة وهي حلقة من شعر تجعل في وتره أنف البعير فيشد فيها الزمام . وتقول قد ورى الزند أي خرجت ناره وهذا الزند أورى من هذا أي أكثر إخراجا للنار يقول فأصبح الشيطان أضر عليكم وأفسد لحالكم من أعدائكم الذين أصبحتم مناصبين لهم أي معادين وعليهم متألبين أي مجتمعين . فإن قلت أما أعظم في الدين حرجا فمعلوم فأي معنى لقوله وأورى في دنياكم قدحا وهل يفسد إبليس أمر الدنيا كما يفسد أمر الدين قلت نعم لأن أكثر القبائح الدينية مرتبطة بالمصالح والمفاسد الدنيوية أ لا ترى أنه إذا أغرى السارق بالسرقة أفسد حال السارق من جهة الدين وحال المسروق منه من جهة الدنيا
[ 144 ](1/3691)
و كذلك القول في الغصب والقتل وما يحدث من مضار الشرور الدنيوية من اختلاط الأنساب واشتباه النسل وما يتولد من شرب الخمر والسكر الحاصل عنها من أمور يحدثها السكران خبطا بيده وقذفا بلسانه إلى غير ذلك من أمثال هذه الأمور وأشباهها . قوله ع فاجعلوا عليه حدكم أي شباتكم وبأسكم . وله جدكم من جددت في الأمر جدا أي اجتهدت فيه وبالغت . ثم ذكر أنه فخر على أصل بني آدم يعني أباهم آدم ع حيث امتنع من السجود له وقال أنا خير منه . ووقع في حسبكم أي عاب حسبكم وهو الطين فقال إن النار أفضل منه ودفع في نسبكم مثله وأجلب بخيله عليكم أي جمع خيالته وفرسانه وألبها . ويقتنصونكم يتصيدونكم والبنان أطراف الأصابع وهو جمع واحدته بنانة ويجمع في القلة على بنانات ويقال بنان مخضب لأن كل جمع ليس بينه وبين واحدة إلا الهاء فإنه يذكر ويوحد . والحومة معظم الماء والحرب وغيرهما وموضع هذا الجار والمجرور نصب على الحال أي يقتنصونكم في حومة ذل . والجولة الموضع الذي تجول فيه . وكمن في قلوبكم استتر ومنه الكمين في الحرب . ونزغات الشيطان وساوسه التي يفسد بها ونفثاته مثله . قوله واعتمدوا وضع التذلل على رءوسكم وإلقاء التعزز تحت أقدامكم كلام شريف جليل المحل وكذلك قوله ع واتخذوا التواضع مسلحة بينكم وبين عدوكم إبليس وجنوده والمسلحة خيل معدة للحماية والدفاع .
[ 145 ](1/3692)
ثم نهاهم أن يكونوا كقابيل الذي حسد أخاه هابيل فقتله وهما أخوان لأب وأم وإنما قال ابن أمه فذكر الأم دون الأب لأن الأخوين من الأم أشد حنوا ومحبة والتصاقا من الأخوين من الأب لأن الأم هي ذات الحضانة والتربية . وقوله من غير ما فضل ما هاهنا زائدة وتعطي معنى التأكيد نهاهم ع أن يحسدوا النعم وأن يبغوا ويفسدوا في الأرض فإن آدم لما أمر ولده بالقربان قرب قابيل شر ماله وكان كافرا وقرب هابيل خير ماله وكان مؤمنا فتقبل الله تعالى من هابيل وأهبط من السماء نارا فأكلته قالوا لأنه لم يكن في الأرض حينئذ فقير يصل القربان إليه فحسده قابيل وكان أكبر منه سنا فقال لأقتلنك قال هابيل إنما يتقبل الله من المتقين أي بذنبك وجرمك كان عدم قبول قربانك لانسلاخك من التقوى فقتله فأصبح نادما لا ندم التوبة بل ندم الحير ورقة الطبع البشري ولأنه تعب في حمله كما ورد في التنزيل أنه لم يفهم ما ذا يصنع به حتى بعث الله الغراب . قوله ع وألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة لأنه كان ابتدأ بالقتل ومن سن سنة شر كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة كما أن من سن سنة خير كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة وروى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه أن الروايات اختلفت في هذه الواقعة فروى قوم أن الرجلين كانا من بني إسرائيل وليسا من ولد آدم لصلبه والأكثرون خالفوا في ذلك . ثم اختلف الأكثرون فروى قوم أن القربان من قابيل وهابيل كان ابتداء والأكثرون قالوا بل أراد آدم ع أن يزوج هابيل أخت قابيل توأمته ويزوج
[ 146 ]
قابيل أخت هابيل توأمته فأبى قابيل لأن توأمته كانت أحسن فأمرهما أبوهما بالقربان فمن تقبل قربانه نكح الحسناء فتقبل قربان هابيل فقتله أخوه كما ورد في الكتاب العزيز . و(1/3693)
روى الطبري مرفوعا أنه ص قال ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم ع الأول كفل منها وذلك بأنه أول من سن القتل وهذا يشيد قول أمير المؤمنين ع : أَلاَ وَ قَدْ أَمْعَنْتُمْ فِي اَلْبَغْيِ وَ أَفْسَدْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُصَارَحَةً لِلَّهِ بِالْمُنَاصَبَةِ وَ مُبَارَزَةً لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْمُحَارَبَةِ فَاللَّهَ اَللَّهَ فِي كِبْرِ اَلْحَمِيَّةِ وَ فَخْرِ اَلْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مَلاَقِحُ اَلشَّنَئَانِ وَ مَنَافِخُ اَلشَّيْطَانِ اَلَّتِي خَدَعَ بِهَا اَلْأُمَمَ اَلْمَاضِيَةَ وَ اَلْقُرُونَ اَلْخَالِيَةَ حَتَّى أَعْنَقُوا فِي حَنَادِسِ جَهَالَتِهِ وَ مَهَاوِي ضَلاَلَتِهِ ذُلُلاً عَنْ سِيَاقِهِ سُلُساً فِي قِيَادِهِ أَمْراً تَشَابَهَتِ اَلْقُلُوبُ فِيهِ وَ تَتَابَعَتِ اَلْقُرُونُ عَلَيْهِ وَ كِبْراً تَضَايَقَتِ اَلصُّدُورُ بِهِ أَلاَ فَالْحَذَرَ اَلْحَذَرَ مِنْ طَاعَةِ سَادَاتِكُمْ وَ كُبَرَائِكُمْ اَلَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ وَ تَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ وَ أَلْقَوُا اَلْهَجِينَةَ عَلَى رَبِّهِمْ وَ جَاحَدُوا اَللَّهَ عَلَى مَا صَنَعَ بِهِمْ مُكَابَرَةً لِقَضَائِهِ وَ مُغَالَبَةً لآِلاَئِهِ فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ أَسَاسِ آسَاسِ اَلْعَصَبِيَّةِ وَ دَعَائِمُ أَرْكَانِ اَلْفِتْنَةِ وَ سُيُوفُ اِعْتِزَاءِ اَلْجَاهِلِيَّةِ فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَ لاَ تَكُونُوا لِنِعَمِهِ عَلَيْكُمْ أَضْدَاداً وَ لاَ لِفَضْلِهِ عِنْدَكُمْ حُسَّاداً
[ 147 ](1/3694)
وَ لاَ تُطِيعُوا اَلْأَدْعِيَاءَ اَلَّذِينَ شَرِبْتُمْ بِصَفْوِكُمْ كَدَرَهُمْ وَ خَلَطْتُمْ بِصِحَّتِكُمْ مَرَضَهُمْ وَ أَدْخَلْتُمْ فِي حَقِّكُمْ بَاطِلَهُمْ وَ هُمْ أَسَاسُ آسَاسُ اَلْفُسُوقِ وَ أَحْلاَسُ اَلْعُقُوقِ اِتَّخَذَهُمْ إِبْلِيسُ مَطَايَا ضَلاَلٍ وَ جُنْداً بِهِمْ يَصُولُ عَلَى اَلنَّاسِ وَ تَرَاجِمَةً يَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ اِسْتِرَاقاً لِعُقُولِكُمْ وَ دُخُولاً فِي عُيُونِكُمْ وَ نَفْثاً فِي أَسْمَاعِكُمْ فَجَعَلَكُمْ مَرْمَى نَبْلِهِ وَ مَوْطِئَ قَدَمِهِ وَ مَأْخَذَ يَدِهِ فَاعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَ اَلْأُمَمَ اَلْمُسْتَكْبِرِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ بَأْسِ اَللَّهِ وَ صَوْلاَتِهِ وَ وَقَائِعِهِ وَ مَثُلاَتِهِ وَ اِتَّعِظُوا بِمَثَاوِي خُدُودِهِمْ وَ مَصَارِعُ جُنُوبِهِمْ وَ اِسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ لَوَاقِحِ اَلْكِبْرِ كَمَا تَسْتَعِيذُونَهُ مِنْ طَوَارِقِ اَلدَّهْرِ أمعنتم في البغي بالغتم فيه من أمعن في الأرض أي ذهب فيها بعيدا ومصارحة لله أي مكاشفة . والمناصبة المعاداة . وملاقح الشنئان قال الراوندي الملاقح هي الفحول التي تلقح وليس بصحيح نص الجوهري على أن الوجه لواقح كما جاء في القرآن وَ أَرْسَلْنَا اَلرِّياحَ لَواقِحَ وقال هو من النوادر لأن الماضي رباعي والصحيح أن ملاقح هاهنا جمع ملقح وهو المصدر من لقحت كضربت مضربا وشربت مشربا ويجوز فتح النون من الشنئان وتسكينها وهو البغض . ومنافخ الشيطان جمع منفخ وهو مصدر أيضا من نفخ ونفخ الشيطان ونفثه
[ 148 ]
واحد وهو وسوسته وتسويله ويقال للمتطاول إلى ما ليس له قد نفخ الشيطان في أنفه . و
في كلامه ع يقوله لطلحة وهو صريع وقد وقف عليه وأخذ سيفه سيف طالما جلى به الكرب عن وجه رسول الله ص ولكن الشيطان نفخ في أنفه . قوله وأعنقوا أصرعوا وفرس معناق والسير العنق قال الراجز(1/3695)
يا ناق سيري عنقا فسيحا
إلى سليمان فنستريحا
و الحنادس الظلم . والمهاوي جمع مهواة بالفتح وهي الهوة يتردى الصيد فيها وقد تهاوى الصيد في المهواة إذا سقط بعضه في أثر بعض . قوله ع ذللا عن سياقه انتصب على الحال جمع ذلول وهو السهل المقادة وهو حال من الضمير في أعنقوا أي أسرعوا منقادين لسوقه إياهم . وسلسا جمع سلس وهو السهل أيضا وإنما قسم ذللا وسلسا بين سياقه وقياده لأن المستعمل في كلامهم قدت الفرس فوجدته سلسا أو صعبا ولا يستحسنون سقته فوجدته سلسا أو صعبا وإنما المستحسن عندهم سقته فوجدته ذلولا أو شموسا . قوله ع أمرا منصوب بتقدير فعل أي اعتمدوا أمرا وكبرا معطوف عليه أو ينصب كبرا على المصدر بأن يكون اسما واقعا موقعه كالعطاء موضع الإعطاء . وقال الراوندي أمرا منصوب هاهنا لأنه مفعول به وناصبه المصدر الذي هو سياقه وقياده تقول سقت وقدت قيادا وهذا غير صحيح لأن مفعول هذين المصدرين محذوف تقديره عن سياقه إياهم وقياده إياهم وهذا هو معنى الكلام ولو فرضنا مفعول
[ 149 ]
أحد هذين المصدرين أمرا لفسد معنى الكلام وقال الراوندي أيضا ويجوز أن يكون أمرا حالا وهذا أيضا ليس بشي ء لأن الحال وصف هيئة الفاعل أو المفعول وأمرا ليس كذلك . قوله ع تشابهت القلوب فيه أي أن الحمية والفخر والكبر والعصبية ما زالت القلوب متشابهة متماثلة فيها . وتتابعت القرون عليه جمع قرن بالفتح وهي الأمة من الناس . وكبرا تضايقت الصدور به أي كبر في الصدور حتى امتلأت به وضاقت عنه لكثرته . ثم أمر بالحذر من طاعة الرؤساء أرباب الحمية وفيه إشارة إلى قوله تعالى إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا اَلسَّبِيلاَ . وقد كان أمر في الفصل الأول بالتواضع لله ونهى هاهنا عن التواضع للرؤساء وقد جاء(1/3696)
في الخبر المرفوع ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء وأحسن منه تكبر الفقراء على الأغنياء . الذين تكبروا عن حسبهم أي جهلوا أنفسهم ولم يفكروا في أصلهم من النطف المستقذرة من الطين المنتن قال الشاعر
ما بال من أوله نطفة
و جيفة آخره يفخر
يصبح لا يملك تقديم ما
يرجو ولا تأخير ما يحذر
قوله ع وألقوا الهجينة على ربهم روي الهجينة على فعيلة كالطبيعة والخليقة وروي الهجنة على فعلة كالمضغة واللقمة والمراد بهما الاستهجان من قولك هو يهجن كذا أي يقبحه ويستهجنه أي يستقبحه أي نسبوا ما في الأنساب
[ 150 ]
من القبح بزعمهم إلى ربهم مثل أن يقولوا للرجل أنت عجمي ونحن عرب فإن هذا ليس إلى الإنسان بل هو إلى الله تعالى فأي ذنب له فيه . قوله وجاحدوا الله أي كابروه وأنكروا صنعه إليهم . وآساس بالمد جمع أساس . واعتزاء الجاهلية قولهم يا لفلان وسمع أبي بن كعب رجلا يقول يا لفلان فقال عضضت بهن أبيك فقيل له يا أبا المنذر ما كنت فحاشا
قال سمعت رسول الله ص يقول من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا . قوله فلا تكونوا لنعمة الله أضدادا لأن البغي والكبر يقتضيان زوال النعمة وتبدلها بالنقمة . قوله ولا تطيعوا الأدعياء مراده هاهنا بالأدعياء الذين ينتحلون الإسلام ويبطنون النفاق . ثم وصفهم فقال الذين شربتم بصفوكم كدرهم أي شربتم كدرهم مستبدلين ذلك بصفوكم ويروى الذين ضربتم أي مزجتم ويروى شريتم أي بعتم واستبدلتم . والأحلاس جمع حلس وهو كساء رقيق يكون على ظهر البعير ملازما له فقيل لكل ملازم أمر هو حلس ذلك الأمر . والترجمان بفتح التاء هو الذي يفسر لسانا بلسان غيره وقد تضم التاء ويروى ونثا في أسماعكم من نث الحديث أي أفشاه
[ 151 ](1/3697)
فَلَوْ رَخَّصَ اَللَّهُ فِي اَلْكِبْرِ لِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ لَرَخَّصَ فِيهِ لِخَاصَّةِ أَنْبِيَائِهِ وَ أَوْلِيَائِهِ وَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَرَّهَ إِلَيْهِمُ اَلتَّكَابُرَ وَ رَضِيَ لَهُمُ اَلتَّوَاضُعَ فَأَلْصَقُوا بِالْأَرْضِ خُدُودَهُمْ وَ عَفَّرُوا فِي اَلتُّرَابِ وُجُوهَهُمْ وَ خَفَضُوا أَجْنِحَتَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ كَانُوا قَوْماً مُسْتَضْعَفِينَ قَدِ اِخْتَبَرَهُمُ اَللَّهُ بِالْمَخْمَصَةِ وَ اِبْتَلاَهُمْ بِالْمَجْهَدَةِ وَ اِمْتَحَنَهُمْ بِالْمَخَاوِفِ وَ مَخَضَهُمْ مَحَّصَهُمْ بِالْمَكَارِهِ فَلاَ تَعْتَبِرُوا اَلرِّضَا اَلرِّضَى وَ اَلسُّخْطَ بِالْمَالِ وَ اَلْوَلَدِ جَهْلاً بِمَوَاقِعِ اَلْفِتْنَةِ وَ اَلاِخْتِبَارِ فِي مَوْضِعِ اَلْغِنَى وَ اَلْإِقْتِدَارِ اَلْإِقْتَارِ فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي اَلْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ التكابر التعاظم والغرض مقابلة لفظة التواضع لتكون الألفاظ مزدوجة . وعفر وجهه ألصقه بالعفر . وخفضوا أجنحتهم ألانوا جانبهم . والمخمصة الجوع والمجهدة المشقة وأمير المؤمنين ع كثير الاستعمال لمفعل ومفعلة بمعنى المصدر إذا تصفحت كلامه عرفت ذلك . ومحصهم أي طهرهم وروي مخضهم بالخاء والضاد المعجمة أي حركهم وزلزلهم .
[ 152 ](1/3698)
ثم نهى أن يعتبر رضا الله وسخطه بما نراه من إعطائه الإنسان مالا وولدا فإن ذلك جهل بمواقع الفتنة والاختبار . وقوله تعالى أَ يَحْسَبُونَ الآية دليل على ما قاله ع والأدلة العقلية أيضا دلت على أن كثيرا من الآلام والغموم والبلوى إنما يفعله الله تعالى للألطاف والمصالح وما الموصولة في الآية يعود إليها محذوف ومقدر لا بد منه وإلا كان الكلام غير منتظم وغير مرتبط بعضه ببعض وتقديره نسارع لهم في الخيرات : فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ اَلْمُسْتَكْبِرِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ بِأَوْلِيَائِهِ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ فِي أَعْيُنِهِمْ وَ لَقَدْ دَخَلَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ وَ مَعَهُ أَخُوهُ هَارُونُ ع عَلَى فِرْعَوْنَ وَ عَلَيْهِمَا مَدَارِعُ اَلصُّوفِ وَ بِأَيْدِيهِمَا اَلْعِصِيُّ فَشَرَطَا لَهُ إِنْ أَسْلَمَ بَقَاءَ مُلْكِهِ وَ دَوَامِ عِزِّهِ فَقَالَ أَ لاَ تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَيْنِ يَشْرِطَانِ لِي دَوَامَ اَلْعِزِّ وَ بَقَاءَ اَلْمُلْكِ وَ هُمَا بِمَا تَرَوْنَ مِنْ حَالِ اَلْفَقْرِ وَ اَلذُّلِّ فَهَلاَّ أُلْقِيَ عَلَيْهِمَا أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ إِعْظَاماً لِلذَّهَبِ وَ جَمْعِهِ وَ اِحْتِقَاراً لِلصُّوفِ وَ لُبْسِهِ وَ لَوْ أَرَادَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ لِأَنْبِيَائِهِ حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ كُنُوزَ اَلذِّهْبَانِ وَ مَعَادِنَ اَلْعِقْيَانِ وَ مَغَارِسَ اَلْجِنَانِ وَ أَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طُيُورَ اَلسَّمَاءِ وَ وُحُوشَ اَلْأَرَضِينَ لَفَعَلَ وَ لَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ اَلْبَلاَءُ وَ بَطَلَ اَلْجَزَاءُ وَ اِضْمَحَلَّتِ اَلْأَنْبَاءُ وَ لَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِينَ أُجُورُ اَلْمُبْتَلَيْنَ وَ لاَ اِسْتَحَقَّ اَلْمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ اَلْمُحْسِنِينَ وَ لاَ لَزِمَتِ اَلْأَسْمَاءُ مَعَانِيَهَا وَ لَكِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِي(1/3699)
قُوَّةٍ فِي عَزَائِمِهِمْ وَ ضَعَفَةً فِيمَا
[ 153 ]
تَرَى اَلْأَعْيُنُ مِنْ حَالاَتِهِمْ مَعَ قَنَاعَةٍ تَمْلَأُ اَلْقُلُوبَ وَ اَلْعُيُونَ غِنًى وَ خَصَاصَةٍ تَمْلَأُ اَلْأَبْصَارَ وَ اَلْأَسْمَاعَ أَذًى مدارع الصوف جمع مدرعة بكسر الميم وهي كالكساء وتدرع الرجل وتمدرع إذا لبسها والعصي جمع عصا . وتقول هذا سوار المرأة والجمع أسورة وجمع الجمع أساورة وقرئ فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ وقد يكون جمع أساور قال سبحانه يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ قال أبو عمرو بن العلاء أساور هاهنا جمع إسوار وهو السوار . والذهبان بكسر الذال جمع ذهب كخرب لذكر الحبارى وخربان والعقيان الذهب أيضا قوله ع واضمحلت الأنباء أي تلاشت وفنيت والأنباء جمع نبأ وهو الخبر أي لسقط الوعد والوعيد وبطلا . قوله ع ولا لزمت الأسماء معانيها أي من يسمى مؤمنا أو مسلما حينئذ فإن تسميته مجاز لا حقيقة لأنه ليس بمؤمن إيمانا من فعله وكسبه بل يكون ملجأ إلى الإيمان بما يشاهده من الآيات العظيمة . والمبتلين بفتح اللام جمع مبتلى كالمعطين والمرتضين جمع معطى ومرتضى . والخصاصة الفقر .
[ 154 ](1/3700)
و هذا الكلام هو ما يقوله أصحابنا بعينه في تعليل أفعال الباري سبحانه بالحكمة والمصلحة وأن الغرض بالتكليف هو التعريض للثواب وأنه يجب أن يكون خالصا من الإلجاء ومن أن يفعل الواجب بوجه غير وجه وجوبه يرتدع عن القبيح لوجه غير وجه قبحه . وروى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ أن موسى قدم هو وأخوه هارون مصر على فرعون لما بعثهما الله تعالى إليه حتى وقفا على بابه يلتمسان الإذن عليه فمكثا سنين يغدوان على بابه ويروحان لا يعلم بهما ولا يجترئ أحد على أن يخبره بشأنهما وقد كانا قالا لمن بالباب إنا رسولا رب العالمين إلى فرعون حتى دخل عليه بطال له يلاعبه ويضحكه فقال له أيها الملك إن على الباب رجلا يقول قولا عجيبا عظيما ويزعم أن له إلها غيرك قال ببابي قال نعم قال أدخلوه فدخل وبيده عصاه ومعه هارون أخوه فقال أنا رسول رب العالمين إليك وذكر تمام الخبر . فإن قلت أي خاصية في الصوف ولبسه ولم اختاره الصالحون على غيره قلت ورد في الخبر أن أول لباس لبسه آدم لما هبط إلى الأرض صوف كبش قيضه الله له وأمره أن يذبحه فيأكل لحمه ويلبس صوفه لأنه أهبط عريان من الجنة فذبحه وغزلت حواء صوفه فلبس آدم منه ثوبا وألبس حواء ثوبا آخر فلذلك صار شعار الأولياء وانتسبت إليه الصوفية
[ 155 ](1/3701)
وَ لَوْ كَانَتِ اَلْأَنْبِيَاءُ أَهْلَ قُوَّةٍ لاَ تُرَامُ وَ عِزَّةٍ لاَ تُضَامُ وَ مُلْكٍ تُمَدُّ نَحْوَهُ أَعْنَاقُ اَلرِّجَالِ وَ تُشَدُّ إِلَيْهِ عُقَدُ اَلرِّحَالِ لَكَانَ ذَلِكَ أَهْوَنَ عَلَى اَلْخَلْقِ فِي اَلاِعْتِبَارِ وَ أَبْعَدَ لَهُمْ مِنَ فِي اَلاِسْتِكْبَارِ وَ لآَمَنُوا عَنْ رَهْبَةٍ قَاهِرَةٍ لَهُمْ أَوْ رَغْبَةٍ مَائِلَةٍ بِهِمْ فَكَانَتِ اَلنِّيَّاتُ مُشْتَرَكَةً وَ اَلْحَسَنَاتُ مُقْتَسَمَةً وَ لَكِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ اَلاِتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ وَ اَلتَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ وَ اَلْخُشُوعُ لِوَجْهِهِ وَ اَلاِسْتِكَانَةُ لِأَمْرِهِ وَ اَلاِسْتِسْلاَمُ لِطَاعَتِهِ أُمُوراً لَهُ خَاصَّةً لاَ تَشُوبُهَا يَشُوبُهَا مِنْ غَيْرِهَا شَائِبَةٌ تمد نحوه أعناق الرجال أي لعظمته أي يؤمله المؤملون ويرجوه الراجون وكل من أمل شيئا فقد طمح ببصره إليه معنى لا صورة فكنى عن ذلك بمد العنق . وتشد إليه عقد الرحال يسافر أرباب الرغبات إليه يقول لو كان الأنبياء ملوكا ذوي بأس وقهر لم يمكن إيمان الخلق وانقيادهم إليهم لأن الإيمان في نفسه واجب عقلا بل كان لرهبة لهم أو رغبة فيهم فكانت النيات مشتركة هذا فرض سؤال وجواب عنه كأنه قال لنفسه لم لا يجوز أن يكون إيمانهم على هذا التقدير لوجوبه ولخوف ذلك النبي أو لرجاء نفع ذلك النبي ص فقال لأن النيات تكون حينئذ مشتركة أي يكون المكلف قد فعل الإيمان لكلا الأمرين وكذلك تفسير قوله والحسنات مقتسمة قال ولا يجوز أن تكون طاعة الله تعالى تعلو إلا لكونها طاعة له لا غير ولا يجوز أن يشوبها ويخالطها من غيرها شائبة .
[ 156 ](1/3702)
فإن قلت ما معنى قوله لكان ذلك أهون على الخلق في الاعتبار وأبعد لهم من الاستكبار قلت أي لو كان الأنبياء كالملوك في السطوة والبطش لكان المكلف لا يشق عليه الاعتبار والانزجار عن القبائح مشقته عليه إذا تركه لقبحه لا لخوف السيف وكان بعد المكلفين عن الاستكبار والبغي لخوف السيف والتأديب أعظم من بعدهم عنهما إذا تركوهما لوجه قبحهما فكان يكون ثواب المكلف إما ساقطا وإما ناقصا : وَ كُلَّمَا كَانَتِ اَلْبَلْوَى وَ اَلاِخْتِبَارُ أَعْظَمَ كَانَتِ اَلْمَثُوبَةُ وَ اَلْجَزَاءُ أَجْزَلَ أَ لاَ تَرَوْنَ أَنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ اِخْتَبَرَ اَلْأَوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ ص إِلَى اَلآْخِرِينَ مِنْ هَذَا اَلْعَالَمِ بِأَحْجَارٍ لاَ تَضُرُّ وَ لاَ تَنْفَعُ وَ لاَ تُبْصِرُ وَ لاَ تَسْمَعُ فَجَعَلَهَا بَيْتَهُ اَلْحَرَامَ اَلَّذِي جَعَلَهُ اَللَّهُ لِلنَّاسِ قِيَاماً ثُمَّ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ اَلْأَرْضِ حَجَراً وَ أَقَلِّ نَتَائِقِ اَلدُّنْيَا مَدَراً وَ أَضْيَقِ بُطُونِ اَلْأَوْدِيَةِ قُطْراً بَيْنَ جِبَالٍ خَشِنَةٍ وَ رِمَالٍ دَمِثَةٍ وَ عُيُونٍ وَشِلَةٍ وَ قُرًى مُنْقَطِعَةٍ لاَ يَزْكُو بِهَا خُفٌّ وَ لاَ حَافِرٌ وَ لاَ ظِلْفٌ ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ ع وَ وَلَدَهُ أَنْ يَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ نَحْوَهُ فَصَارَ مَثَابَةً لِمُنْتَجَعِ أَسْفَارِهِمْ وَ غَايَةً لِمُلْقَى رِحَالِهِمْ تَهْوِي إِلَيْهِ ثِمَارُ اَلْأَفْئِدَةِ مِنْ مَفَاوِزِ قِفَارٍ سَحِيقَةٍ وَ مَهَاوِي فِجَاجٍ عَمِيقَةٍ وَ جَزَائِرِ بِحَارٍ مُنْقَطِعَةٍ حَتَّى يَهُزُّوا مَنَاكِبَهُمْ ذُلُلاً يُهَلِّلُونَ لِلَّهِ حَوْلَهُ وَ يَرْمُلُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ شُعْثاً غُبْراً لَهُ قَدْ نَبَذُوا اَلسَّرَابِيلَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَ شَوَّهُوا بِإِعْفَاءِ اَلشُّعُورِ مَحَاسِنَ خَلْقِهِمُ اِبْتِلاَءً عَظِيماً وَ اِمْتِحَاناً(1/3703)
شَدِيداً وَ اِخْتِبَاراً مُبِيناً وَ تَمْحِيصاً بَلِيغاً جَعَلَهُ اَللَّهُ سَبَباً لِرَحْمَتِهِ وَ وُصْلَةً إِلَى جَنَّتِهِ
[ 157 ]
وَ لَوْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَضَعَ بَيْتَهُ اَلْحَرَامَ وَ مَشَاعِرَهُ اَلْعِظَامَ بَيْنَ جَنَّاتٍ وَ أَنْهَارٍ وَ سَهْلٍ وَ قَرَارٍ جَمَّ اَلْأَشْجَارِ دَانِيَ اَلثِّمَارِ مُلْتَفَّ اَلْبُنَى مُتَّصِلَ اَلْقُرَى بَيْنَ بُرَّةٍ سَمْرَاءَ وَ رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ وَ أَرْيَافٍ مُحْدِقَةٍ وَ عِرَاصٍ مُغْدِقَةٍ وَ زُرُوعٍ رِيَاضٍ نَاضِرَةٍ وَ طُرُقٍ عَامِرَةٍ لَكَانَ قَدْ صَغُرَ قَدْرُ اَلْجَزَاءِ عَلَى حَسَبِ ضَعْفِ اَلْبَلاَءِ وَ لَوْ كَانَ اَلْأَسَاسُ اَلْإِسَاسُ اَلْمَحْمُولُ عَلَيْهَا وَ اَلْأَحْجَارُ اَلْمَرْفُوعُ بِهَا مِنْ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ وَ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ وَ نُورٍ وَ ضِيَاءٍ لَخَفَّفَ ذَلِكَ مُصَارَعَةَ اَلشَّكِّ فِي اَلصُّدُورِ وَ لَوَضَعَ مُجَاهَدَةَ إِبْلِيسَ عَنِ اَلْقُلُوبِ وَ لَنَفَى مُعْتَلَجَ اَلرَّيْبِ مِنَ اَلنَّاسِ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعِ اَلشَّدَائِدِ وَ يَتَعَبَّدُهُمْ بِأَنْوَاعِ اَلْمَجَاهِدِ وَ يَبْتَلِيهِمْ بِضُرُوبِ اَلْمَكَارِهِ إِخْرَاجاً لِلتَّكَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَ إِسْكَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِي نُفُوسِهِمْ وَ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ أَبْوَاباً فُتُحاً إِلَى فَضْلِهِ وَ أَسْبَاباً ذُلُلاً لِعَفْوِهِ كانت المثوبة أي الثواب . وأجزل أكثر والجزيل العظيم وعطاء جزل وجزيل والجمع جزال وقد أجزلت له من العطاء أي أكثرت . وجعله للناس قياما أي عمادا وفلان قيام أهله أي يقيم شئونهم ومنه قوله تعالى وَ لا تُؤْتُوا اَلسُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ اَلَّتِي جَعَلَ اَللَّهُ لَكُمْ قِياماً . وأوعر بقاع الأرض حجرا أي أصعبها ومكان وعر بالتسكين صعب المسلك أو المقام .
[ 158 ](1/3704)
و أقل نتائق الدنيا مدرا أصل هذه اللفظة من قولهم امرأة منتاق أي كثيرة الحبل والولادة ويقال ضيعة منتاق أي كثيرة الريع فجعل ع الضياع ذوات المدر التي تثار للحرث نتائق وقال إن مكة أقلها صلاحا للزرع لأن أرضها حجرية . والقطر الجانب ورمال دمثة سهلة وكلما كان الرمل أسهل كان أبعد عن أن ينبت . وعيون وشلة أي قليلة الماء والوشل بفتح الشين الماء القليل ويقال وشل الماء وشلانا أي قطر . قوله لا يزكو بها خف أي لا تزيد الإبل فيها أي لا تسمن والخف هاهنا هو الإبل والحافر الخيل والحمير والظلف الشاة أي ليس حولها مرعى يرعاه الغنم فتسمن . وأن يثنوا أعطافهم نحوه أي يقصدوه ويحجوه وعطفا الرجل جانباه . وصار مثابة أي يثاب إليه ويرجع نحوه مرة بعد أخرى وهذه من ألفاظ الكتاب العزيز . قوله ع لمنتجع أسفارهم أي لنجعتها والنجعة طلب الكلأ في الأصل ثم سمي كل من قصد أمرا يروم النفع منه منتجعا . قوله وغاية لملقى رحالهم أي صار البيت هو الغاية التي هي الغرض والمقصد وعنده تلقى الرحال أي تحط رحال الإبل عن ظهورها ويبطل السفر لأنهم قد انتهوا إلى الغاية المقصودة .
[ 159 ](1/3705)
قوله تهوي إليه ثمار الأفئدة ثمرة الفؤاد هو سويداء القلب ومنه قولهم للولد هو ثمرة الفؤاد ومعنى تهوي إليه أي تتشوقه وتحن نحوه . والمفاوز هي جمع مفازة الفلاة سميت مفازة إما لأنها مهلكة من قولهم فوز الرجل أي هلك وأما تفاؤلا بالسلامة والفوز والرواية المشهورة من مفاوز قفار بالإضافة وقد روى قوم من مفاوز بفتح الزاء لأنه لا ينصرف ولم يضيفوا جعلوا قفار صفة . والسحيقة البعيدة . والمهاوي المساقط . والفجاج جمع فج وهو الطريق بين الجبلين . قوله ع حتى يهزوا مناكبهم أي يحركهم الشوق نحوه إلى أن يسافروا إليه فكنى عن السفر بهز المناكب . وذللا حال إما منهم وإما من المناكب وواحد المناكب منكب بكسر الكاف وهو مجمع عظم العضد والكتف . قوله ويهللون يقولون لا إله إلا الله وروي يهلون لله أي يرفعون أصواتهم بالتلبية ونحوها . ويرملون الرمل السعي فوق المشي قليلا . شعثا غبرا لا يتعهدون شعورهم ولا ثيابهم ولا أبدانهم قد نبذوا السرابيل ورموا ثيابهم وقمصانهم المخيطة . وشوهوا بإعفاء الشعور أي غيروا وقبحوا محاسن صورهم بأن أعفوا شعورهم فلم يحلقوا ما فضل منها وسقط على الوجه ونبت في غيره من الأعضاء التي جرت العادة بإزالتها عنها .
[ 160 ](1/3706)
و التمحيص التطهير من محصت الذهب بالنار إذا صفيته مما يشوبه والتمحيص أيضا الامتحان والاختبار والمشاعر معالم النسك . قوله وسهل وقرار أي في مكان سهل يستقر فيه الناس ولا ينالهم من المقام به مشقة . وجم الأشجار كثيرها وداني الثمار قريبها . وملتف البنى مشتبك العمارة . والبرة الواحدة من البر وهو الحنطة . والأرياف جمع ريف وهو الخصب والمرعى في الأصل وهو هاهنا السواد والمزارع ومحدقة محيطة ومغدقة غزيرة والغدق الماء الكثير . وناضرة ذات نضارة ورونق وحسن . قوله ولو كانت الإساس يقول لو كانت إساس البيت التي حمل البيت عليها وأحجاره التي رفع بها من زمردة وياقوتة فالمحمول والمرفوع كلاهما مرفوعان لأنهما صفة اسم كان والخبر من زمردة وروي بين زمردة ويجوز أن تحمل لفظتا المفعول وهما المحمول والمرفوع ضمير البيت فيكون قائما مقام اسم الفاعل ويكون موضع الجار والمجرور نصبا ويجوز ألا تحملهما ذلك الضمير ويجعل الجار والمجرور هو الساد مسد الفاعل فيكون موضعه رفعا . وروي مضارعة الشك بالضاد المعجمة ومعناه مقارنة الشك ودنوه من النفس وأصله من مضارعة القدر إذا حان إدراكها ومن مضارعة الشمس إذا دنت للمغيب . وقال الراوندي في تفسير هذه الكلمة من مضارعة الشك أي مماثلته ومشابهته وهذا بعيد لأنه لا معنى للمماثلة والمشابهة هاهنا والرواية الصحيحة بالصاد المهملة . قوله ع ولنفى متعلج الريب أي اعتلاجه أي ولنفى اضطراب الشك في القلوب وروي يستعبدهم ويتعبدهم والثانية أحسن .
[ 161 ](1/3707)
و المجاهد جمع مجهدة وهي المشقة . وأبوابا فتحا أي مفتوحة وأسبابا ذللا أي سهلة . واعلم أن محصول هذا الفصل أنه كلما كانت العبادة أشق كان الثواب عليها أعظم ولو أن الله تعالى جعل العبادات سهلة على المكلفين لما استحقوا عليها من الثواب إلا قدرا يسيرا بحسب ما يكون فيها من المشقة اليسيرة . فإن قلت فهل كان البيت الحرام موجودا أيام آدم ع ثم أمر آدم وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه قلت نعم هكذا روى أرباب السير وأصحاب التواريخ
روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه عن ابن عباس أن الله تعالى أوحى إلى آدم لما أهبطه إلى الأرض أن لي حرما حيال عرشي فانطلق فابن لي بيتا فيه ثم طف به كما رأيت ملائكتي تحف بعرشي فهنالك أستجيب دعاءك ودعاء من يحف به من ذريتك فقال آدم إني لست أقوى على بنائه ولا أهتدي إليه فقيض الله تعالى له ملكا فانطلق به نحو مكة وكان آدم في طريقه كلما رأى روضة أو مكانا يعجبه سأل الملك أن ينزل به هناك ليبني فيه فيقول الملك إنه ليس هاهنا حتى أقدمه مكة فبنى البيت من خمسة جبال طور سيناء وطور زيتون ولبنان والجودي وبنى قواعده من حراء فلما فرغ خرج به الملك إلى عرفات فأراه المناسك كلها التي يفعلها الناس اليوم ثم قدم به مكة وطاف بالبيت أسبوعا ثم رجع إلى أرض الهند فمات . وروى الطبري في التاريخ أن آدم حج من أرض الهند إلى الكعبة أربعين حجة على رجليه .
[ 162 ]
و
قد روي أن الكعبة أنزلت من السماء وهي ياقوتة أو لؤلؤة على اختلاف الروايات وأنها بقيت على تلك الصورة إلى أن فسدت الأرض بالمعاصي أيام نوح وجاء الطوفان فرفع البيت وبنى إبراهيم هذه البنية على قواعده القديمة و(1/3708)
روى أبو جعفر عن وهب بن منبه أن آدم دعا ربه فقال يا رب أ ما لأرضك هذه عامر يسبحك ويقدسك فيها غيري فقال الله إني سأجعل فيها من ولدك من يسبح بحمدي ويقدسني وسأجعل فيها بيوتا ترفع لذكري يسبحني فيها خلقي ويذكر فيها اسمي وسأجعل من تلك البيوت بيتا أختصه بكرامتي وأوثره باسمي فأسميه بيتي وعليه وضعت جلالتي وخصصته بعظمتي وأنا مع ذلك في كل شي ء أجعل ذلك البيت حرما آمنا يحرم بحرمته من حوله ومن تحته ومن فوقه فمن حرمه بحرمتي استوجب كرامتي ومن أخاف أهله فقد أباح حرمتي واستحق سخطي وأجعله بيتا مباركا يأتيه بنوك شعثا غبرا على كل ضامر من كل فج عميق يرجون بالتلبية رجيجا ويعجون بالتكبير عجيجا من اعتمده لا يريد غيره ووفد إلي وزارني واستضاف بي أسعفته بحاجته وحق على الكريم أن يكرم وفده وأضيافه تعمره يا آدم ما دمت حيا ثم تعمره الأمم والقرون والأنبياء من ولدك أمة بعد أمة وقرنا بعد قرن . قال ثم أمر آدم أن يأتي إلى البيت الحرام الذي أهبط له إلى الأرض فيطوف به كما كان يرى الملائكة تطوف حول العرش وكان البيت حينئذ من درة أو من ياقوتة فلما أغرق الله تعالى قوم نوح رفعه وبقي أساسه فبوأه الله لإبراهيم فبناه
[ 163 ](1/3709)
فَاللَّهَ اَللَّهَ فِي عَاجِلِ اَلْبَغْيِ وَ آجِلِ وَخَامَةِ اَلظُّلْمِ وَ سُوءِ عَاقِبَةِ اَلْكِبْرِ فَإِنَّهَا مَصْيَدَةُ إِبْلِيسَ اَلْعُظْمَى وَ مَكِيدَتُهُ اَلْكُبْرَى اَلَّتِي تُسَاوِرُ قُلُوبَ اَلرِّجَالِ مُسَاوَرَةَ اَلسُّمُومِ اَلْقَاتِلَةِ فَمَا تُكْدِي أَبَداً وَ لاَ تُشْوِي أَحَداً لاَ عَالِماً لِعِلْمِهِ وَ لاَ مُقِلاًّ فِي طِمْرِهِ وَ عَنْ ذَلِكَ مَا حَرَسَ اَللَّهُ عِبَادَهُ اَلْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ وَ اَلزَّكَوَاتِ وَ مُجَاهَدَةِ اَلصِّيَامِ فِي اَلْأَيَّامِ اَلْمَفْرُوضَاتِ تَسْكِيناً لِأَطْرَافِهِمْ وَ تَخْشِيعاً لِأَبْصَارِهِمْ وَ تَذْلِيلاً لِنُفُوسِهِمْ وَ تَخْفِيضاً لِقُلُوبِهِمْ وَ إِذْهَاباً لِلْخُيَلاَءِ عَنْهُمْ وَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْفِيرِ عِتَاقِ اَلْوُجُوهِ بِالتُّرَابِ تَوَاضُعاً وَ اِلْتِصَاقِ كَرَائِمِ اَلْجَوَارِحِ بِالْأَرْضِ تَصَاغُراً وَ لُحُوقِ اَلْبُطُونِ بِالْمُتُونِ مِنَ اَلصِّيَامِ تَذَلُّلاً مَعَ مَا فِي اَلزَّكَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ اَلْأَرْضِ وَ غَيْرِ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ اَلْمَسْكَنَةِ وَ اَلْفَقْرِ اُنْظُرُوا إِلَى مَا فِي هَذِهِ اَلْأَفْعَالِ مِنْ قَمْعِ نَوَاجِمِ اَلْفَخْرِ وَ قَدْعِ طَوَالِعِ اَلْكِبْرِ بلدة وخمة ووخيمة بينة الوخامة أي وبيئة . مصيدة إبليس بسكون الصاد وفتح الياء آلته التي يصطاد بها . وتساور قلوب الرجال تواثبها وسار إليه يسور أي وثب والمصدر السور ومصدر تساور المساورة ويقال إن لغضبه سورة وهو سوار أي وثاب معربد .
[ 164 ](1/3710)
و سورة الشراب وثوبه في الرأس وكذلك مساورة السموم التي ذكرها أمير المؤمنين ع . وما تكدي ما ترد عن تأثيرها من قولك أكدى حافر الفرس إذا بلغ الكدية وهي الأرض الصلبة فلا يمكنه أن يحفر . ولا تشوي أحدا لا تخطئ المقتل وتصيب غيره وهو الشوى والشوى الأطراف كاليد والرجل . قال لا ترد مكيدته عن أحد لا عن عالم لأجل علمه ولا عن فقير لطمره والطمر الثوب الخلق . وما في قوله وعن ذلك ما حرس الله زائدة مؤكدة أي عن هذه المكايد التي هي البغي والظلم والكبر حرس الله عباده فعن متعلقة بحرس وقال الراوندي يجوز أن تكون مصدرية فيكون موضعها رفعا بالابتداء وخبر المبتدأ قوله لما في ذلك وقال أيضا يجوز أن تكون نافية أي لم يحرس الله عباده عن ذلك إلجاء وقهرا بل فعلوه اختيارا من أنفسهم والوجه الأول باطل لأن عن على هذا التقدير تكون من صلة المصدر فلا يجوز تقديمها عليه وأيضا فإن لما في ذلك لو كان هو الخبر لتعلق لام الجر بمحذوف فيكون التقدير حراسة الله لعباده عن ذلك كائنة لما في ذلك من تعفير الوجوه بالتراب وهذا كلام غير مفيد ولا منتظم إلا على تأويل بعيد لا حاجة إلى تعسفه والوجه الثاني باطل لأن سياقة الكلام تدل على فساده أ لا ترى قوله تسكينا وتخشيعا وقوله لما في ذلك من كذا وهذا كله تعليل الحاصل الثابت لا تعليل المنفي المعدوم . ثم بين ع الحكمة في العبادات فقال إنه تعالى حرس عباده بالصلوات
[ 165 ](1/3711)
التي افترضها عليهم من تلك المكايد وكذلك بالزكاة والصوم ليسكن أطرافهم ويخشع أبصارهم فجعل التسكين والتخشيع عذرا وعلة للحراسة ونصب اللفظات على أنها مفعول له . ثم علل السكون والخشوع الذي هو علة الحراسة لما في الصلاة من تعفير الوجه على التراب فصار ذلك علة العلة قال وذلك لأن تعفير عتاق الوجوه بالتراب تواضعا يوجب هضم النفس وكسرها وتذليلها . وعتاق الوجوه كرائمها . وإلصاق كرائم الجوارح بالأرض كاليدين والساقين تصاغرا يوجب الخشوع والاستسلام والجوع في الصوم الذي يلحق البطن في المتن يقتضي زوال الأشر والبطر ويوجب مذلة النفس وقمعها عن الانهماك في الشهوات وما في الزكاة من صرف فواضل المكاسب إلى أهل الفقر والمسكنة يوجب تطهير النفوس والأموال ومواساة أرباب الحاجات بما تسمح به النفوس من الأموال وعاصم لهم من السرقات وارتكاب المنكرات ففي ذلك كله دفع مكايد الشيطان . وتخفيض القلوب حطها عن الاعتلاء والتيه . والخيلاء التكبر والمسكنة أشد الفقر في أظهر الرأيين . والقمع القهر . والنواجم جمع ناجمة وهي ما يظهر ويطلع من الكبر وغيره . والقدع بالدال المهملة الكف قدعت الفرس وكبحته باللجام أي كففته . والطوالع كالنواجم
[ 166 ](1/3712)
وَ لَقَدْ نَظَرْتُ فَمَا وَجَدْتُ أَحَداً مِنَ اَلْعَالَمِينَ يَتَعَصَّبُ لِشَيْ ءٍ مِنَ اَلْأَشْيَاءِ إِلاَّ عَنْ عِلَّةٍ تَحْتَمِلُ تَمْوِيهَ اَلْجُهَلاَءِ أَوْ حُجَّةٍ تَلِيطُ بِعُقُولِ اَلسُّفَهَاءِ غَيْرَكُمْ فَإِنَّكُمْ تَتَعَصَّبُونَ لِأَمْرٍ مَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ وَ لاَ عِلَّةٌ أَمَّا إِبْلِيسُ فَتَعَصَّبَ عَلَى آدَمَ لِأَصْلِهِ وَ طَعَنَ عَلَيْهِ فِي خِلْقَتِهِ فَقَالَ أَنَا نَارِيٌّ وَ أَنْتَ طِينِيٌّ وَ أَمَّا اَلْأَغْنِيَاءُ مِنْ مُتْرَفَةِ اَلْأُمَمِ فَتَعَصَّبُوا لآِثَارِ مَوَاقِعِ اَلنِّعَمِ فَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَ أَوْلاَداً وَ مَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ مِنَ اَلْعَصَبِيَّةِ فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكُمْ لِمَكَارِمِ اَلْخِصَالِ وَ مَحَامِدِ اَلْأَفْعَالِ وَ مَحَاسِنِ اَلْأُمُورِ اَلَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا اَلْمُجَدَاءُ وَ اَلنُّجَدَاءُ مِنْ بُيُوتَاتِ اَلْعَرَبِ وَ يَعَاسِيبِ اَلقَبَائِلِ بِالْأَخْلاَقِ اَلرَّغِيبَةِ وَ اَلْأَحْلاَمِ اَلْعَظِيمَةِ وَ اَلْأَخْطَارِ اَلْجَلِيلَةِ وَ اَلآْثَارِ اَلْمَحْمُودَةِ فَتَعَصَّبُوا لِخِلاَلِ اَلْحَمْدِ مِنَ اَلْحِفْظِ لِلْجِوَارِ وَ اَلْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ وَ اَلطَّاعَةِ لِلْبِرِّ وَ اَلْمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ وَ اَلْأَخْذِ بِالْفَضْلِ وَ اَلْكَفِّ عَنِ اَلْبَغْيِ وَ اَلْإِعْظَامِ لِلْقَتْلِ وَ اَلْإِنْصَافِ لِلْخَلْقِ وَ اَلْكَظْمِ لِلْغَيْظِ وَ اِجْتِنَابِ اَلْفَسَادِ فِي اَلْأَرْضِ قد روي تحتمل بالتاء وروي تحمل والمعنى واحد . والتمويه التلبيس من موهت النحاس إذا طليته بالذهب ليخفى . ولاط الشي ء بقلبي يلوط ويليط أي التصق . والمترف الذي أطغته النعمة .
[ 167 ](1/3713)
و تفاضلت فيها أي تزايدت . والمجداء جمع ماجد والمجد الشرف في الآباء والحسب والكرم يكونان في الرجل وإن لم يكونا في آبائه هكذا قال ابن السكيت وقد اعترض عليه بأن المجيد من صفات الله تعالى قال سبحانه ذُو اَلْعَرْشِ اَلْمَجِيدُ على قراءة من رفع والله سبحانه يتعالى عن الآباء وقد جاء في وصف القرآن المجيد قال سبحانه بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ . والنجداء الشجعان واحدهم نجيد وأما نجد ونجد بالكسر والضم فجمعه أنجاد مثل يقظ وأيقاظ . وبيوتات العرب قبائلها ويعاسيب القبائل رؤساؤها واليعسوب في الأصل ذكر النحل وأميرها . والرغيبة الخصلة يرغب فيها . والأحلام العقول والأخطار الأقدار . ثم أمرهم بأن يتعصبوا لخلال الحمد وعددها وينبغي أن يحمل قوله ع فإنكم تتعصبون لأمر ما يعرف له سبب ولا علة على أنه لا يعرف له سبب مناسب فكيف يمكن أن يتعصبوا لغير سبب أصلا . وقيل إن أصل هذه العصبية وهذه الخطبة أن أهل الكوفة كانوا قد فسدوا في آخر خلافة أمير المؤمنين وكانوا قبائل في الكوفة فكان الرجل يخرج من منازل قبيلته فيمر بمنازل قبيلة أخرى فينادي باسم قبيلته يا للنخع مثلا أو يا لكندة نداء عاليا يقصد به الفتنة وإثارة الشر فيتألب عليه فتيان القبيلة التي مر بها فينادون يا لتميم
[ 168 ](1/3714)
و يا لربيعة ويقبلون إلى ذلك الصائح فيضربونه فيمضي إلى قبيلته فيستصرخها فتسل السيوف وتثور الفتن ولا يكون لها أصل في الحقيقة إلا تعرض الفتيان بعضهم ببعض : وَ اِحْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مِنَ اَلْمَثُلاَتِ بِسُوءِ اَلْأَفْعَالِ وَ ذَمِيمِ اَلْأَعْمَالِ فَتَذَكَّرُوا فِي اَلْخَيْرِ وَ اَلشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ وَ اِحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ فَإِذَا تَفَكَّرْتُمْ فِي تَفَاوُتِ حَالَيْهِمْ فَالْزَمُوا كُلَّ أَمْرٍ لَزِمَتِ اَلْعِزَّةُ بِهِ شَأْنَهُمْ حَالَهُمْ وَ زَاحَتِ اَلْأَعْدَاءُ لَهُ عَنْهُمْ وَ مُدَّتِ اَلْعَافِيَةُ بِهِ عَلَيْهِمْ وَ اِنْقَادَتِ اَلنِّعْمَةُ لَهُ مَعَهُمْ وَ وَصَلَتِ اَلْكَرَامَةُ عَلَيْهِ حَبْلَهُمْ مِنَ اَلاِجْتِنَابِ لِلْفُرْقَةِ وَ اَللُّزُومِ لِلْأُلْفَةِ وَ اَلتَّحَاضِّ عَلَيْهَا وَ اَلتَّوَاصِي بِهَا وَ اِجْتَنِبُوا كُلَّ أَمْرٍ كَسَرَ فِقْرَتَهُمْ وَ أَوْهَنَ مُنَّتَهُمْ مِنْ تَضَاغُنِ اَلْقُلُوبِ وَ تَشَاحُنِ اَلصُّدُورِ وَ تَدَابُرِ اَلنُّفُوسِ وَ تَخَاذُلِ اَلْأَيْدِي المثلات العقوبات . وذميم الأفعال ما يذم منها . وتفاوت حاليهم اختلافهما وزاحت الأعداء بعدت وله أي لأجله . والتحاض عليها تفاعل يستدعي وقوع الحض وهو الحث من الجهتين أي يحث بعضهم بعضا . والفقرة واحدة فقر الظهر ويقال لمن قد أصابته مصيبة شديدة قد كسرت فقرته .
[ 169 ](1/3715)
و المنة القوة . وتضاغن القلوب وتشاحنها واحد وتخاذل الأيدي ألا ينصر الناس بعضهم بعضا : وَ تَدَبَّرُوا أَحْوَالَ اَلْمَاضِينَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ قَبْلَكُمْ كَيْفَ كَانُوا فِي حَالِ اَلتَّمْحِيصِ وَ اَلْبَلاَءِ أَ لَمْ يَكُونُوا أَثْقَلَ اَلْخَلاَئِقِ أَعْبَاءً وَ أَجْهَدَ اَلْعِبَادِ بَلاَءً وَ أَضْيَقَ أَهْلِ اَلدُّنْيَا حَالاً اِتَّخَذَتْهُمُ اَلْفَرَاعِنَةُ عَبِيداً فَسَامُوهُمْ سُوءَ اَلْعَذَابِ وَ جَرَّعُوهُمْ جُرَعَ اَلْمُرَارِ جَرَّعُوهُمُ اَلْمُرَارَ فَلَمْ تَبْرَحِ اَلْحَالُ بِهِمْ فِي ذُلِّ اَلْهَلَكَةِ وَ قَهْرِ اَلْغَلَبَةِ لاَ يَجِدُونَ حِيلَةً فِي اِمْتِنَاعٍ وَ لاَ سَبِيلاً إِلَى دِفَاعٍ حَتَّى إِذَا رَأَى اَللَّهُ سُبْحَانَهُ جِدَّ اَلصَّبْرِ مِنْهُمْ عَلَى اَلْأَذَى فِي مَحَبَّتِهِ وَ اَلاِحْتِمَالَ لِلْمَكْرُوهِ مِنْ خَوْفِهِ جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَايِقِ اَلْبَلاَءِ فَرَجاً فَأَبْدَلَهُمُ اَلْعِزَّ مَكَانَ اَلذُّلِّ وَ اَلْأَمْنَ مَكَانَ اَلْخَوْفِ فَصَارُوا مُلُوكاً حُكَّاماً وَ أَئِمَّةً أَعْلاَماً وَ قَدْ بَلَغَتِ اَلْكَرَامَةُ مِنَ اَللَّهِ لَهُمْ مَا لَمْ تَذْهَبِ اَلآْمَالُ إِلَيْهِ بِهِمْ تدبروا أي تأملوا والتمحيص التطهير والتصفية . والأعباء الأثقال واحدها عب ء . وأجهد العباد أتعبهم . والفراعنة العتاة وكل عات فرعون . وساموهم سوء العذاب ألزموهم إياه وهذا إشارة إلى قوله تعالى يَسُومُونَكُمْ سُوءَ
[ 170 ](1/3716)
اَلْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ . والمرار بضم الميم شجر مر في الأصل واستعير شرب المرار لكل من يلقى شديد المشقة . ورأى الله منهم جد الصبر أي أشده . وأئمة أعلاما أي يهتدى بهم كالعلم في الفلاة : فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانُوا حَيْثُ كَانَتِ اَلْأَمْلاَءُ مُجْتَمِعَةً وَ اَلْأَهْوَاءُ مُؤْتَلِفَةً وَ اَلْقُلُوبُ مُعْتَدِلَةً وَ اَلْأَيْدِي مُتَرَادِفَةً وَ اَلسُّيُوفُ مُتَنَاصِرَةً وَ اَلْبَصَائِرُ نَافِذَةً وَ اَلْعَزَائِمُ وَاحِدَةً أَ لَمْ يَكُونُوا أَرْبَاباً فِي أَقْطَارِ اَلْأَرَضِينَ وَ مُلُوكاً عَلَى رِقَابِ اَلْعَالَمِينَ فَانْظُرُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ حِينَ وَقَعَتِ اَلْفُرْقَةُ وَ تَشَتَّتَتِ اَلْأُلْفَةُ وَ اِخْتَلَفَتِ اَلْكَلِمَةُ وَ اَلْأَفْئِدَةُ وَ تَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِينَ وَ تَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِينَ وَ قَدْ خَلَعَ اَللَّهُ عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِهِ وَ سَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِهِ وَ بَقِيَ قَصَصُ أَخْبَارِهِمْ فِيكُمْ عِبَراً عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ مِنْكُمْ الأملاء الجماعات الواحد ملأ .
[ 171 ](1/3717)
و مترادفة متعاونة البصائر نافذة يقال نفذت بصيرتي في هذا الخبر أي اجتمع همي عليه ولم يبق عندي تردد فيه لعلمي به وتحقيقي إياه . وأقطار الأرضين نواحيها وتشتتت تفرقت . وتشعبوا صاروا شعوبا وقبائل مختلفين . وتفرقوا متحزبين اختلفوا أحزابا وروي متحازبين . وغضارة النعمة الطيب اللين منها . والقصص الحديث . يقول انظروا في أخبار من قبلكم من الأمم كيف كانت حالهم في العز والملك لما كانت كلمتهم واحدة وإلى ما ذا آلت حالهم حين اختلفت كلمتهم فاحذروا أن تكونوا مثلهم وأن يحل بكم إن اختلفتم مثل ما حل بهم : فَاعْتَبِرُوا بِحَالِ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَ بَنِي إِسْحَاقَ وَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ع فَمَا أَشَدَّ اِعْتِدَالَ اَلْأَحْوَالِ وَ أَقْرَبَ اِشْتِبَاهَ اَلْأَمْثَالِ تَأَمَّلُوا أَمْرَهُمْ فِي حَالِ تَشَتُّتِهِمْ وَ تَفَرُّقِهِمْ لَيَالِيَ كَانَتِ اَلْأَكَاسِرَةُ وَ اَلْقَيَاصِرَةُ أَرْبَاباً لَهُمْ يَحْتَازُونَهُمْ عَنْ رِيفِ اَلآْفَاقِ وَ بَحْرِ اَلْعِرَاقِ وَ خُضْرَةِ اَلدُّنْيَا إِلَى مَنَابِتِ اَلشِّيحِ وَ مَهَافِي اَلرِّيحِ وَ نَكَدِ اَلْمَعَاشِ فَتَرَكُوهُمْ عَالَةً مَسَاكِينَ إِخْوَانَ دَبَرٍ وَ وَبَرٍ أَذَلَّ اَلْأُمَمِ دَاراً وَ أَجْدَبَهُمْ قَرَاراً لاَ يَأْوُونَ إِلَى جَنَاحِ دَعْوَةٍ يَعْتَصِمُونَ بِهَا وَ لاَ إِلَى ظِلِّ أُلْفَةٍ يَعْتَمِدُونَ عَلَى عِزِّهَا فَالْأَحْوَالُ مُضْطَرِبَةٌ وَ اَلْأَيْدِي مُخْتَلِفَةٌ وَ اَلْكَثْرَةُ مُتَفَرِّقَةٌ فِي بَلاَءِ أَزْلٍ وَ أَطْبَاقِ جَهْلٍ مِنْ بَنَاتٍ مَوْءُودَةٍ وَ أَصْنَامٍ مَعْبُودَةٍ وَ أَرْحَامٍ مَقْطُوعَةٍ وَ غَارَاتٍ مَشْنُونَةٍ
[ 172 ](1/3718)
لقائل أن يقول ما نعرف أحدا من بني إسحاق وبني إسرائيل احتازتهم الأكاسرة والقياصرة عن ريف الآفاق إلى البادية ومنابت الشيح إلا أن يقال يهود خيبر والنضير وبني قريظة وبني قينقاع وهؤلاء نفر قليل لا يعتد بهم ويعلم من فحوى الخطبة أنهم غير مرادين بالكلام ولأنه ع قال تركوهم إخوان دبر ووبر وهؤلاء لم يكونوا من أهل الوبر والدبر بل من أهل المدر لأنهم كانوا ذوي حصون وآطام والحاصل أن الذين احتازتهم الأكاسرة والقياصرة من الريف إلى البادية وصاروا أهل وبر ولد إسماعيل لا بنو إسحاق وبنو إسرائيل والجواب أنه ع ذكر في هذه الكلمات وهي قوله فاعتبروا بحال ولد إسماعيل وبني إسحاق وبني إسرائيل المقهورين والقاهرين جميعا أما المقهورون فبنو إسماعيل وأما القاهرون فبنو إسحاق وبنو إسرائيل لأن الأكاسرة من بني إسحاق ذكر كثير من أهل العلم أن فارس من ولد إسحاق والقياصرة من ولد إسحاق أيضا لأن الروم بنو العيص بن إسحاق وعلى هذا يكون الضمير في أمرهم وتشتتهم وتفرقهم يرجع إلى بني إسماعيل خاصة . فإن قلت فبنو إسرائيل أي مدخل لهم هاهنا قلت لأن بني إسرائيل لما كانوا ملوكا بالشام في أيام أجاب الملك وغيره حاربوا العرب من بني إسماعيل غير مرة وطردوهم عن الشام وألجئوهم على المقام ببادية الحجاز ويصير تقدير الكلام فاعتبروا بحال ولد إسماعيل مع بني إسحاق وبني إسرائيل فجاء بهم في صدر الكلام على العموم ثم خصص فقال الأكاسرة والقياصرة وهم داخلون في عموم ولد إسحاق وإنما لم يخصص عموم بني إسرائيل لأن العرب لم تكن تعرف ملوك
[ 173 ](1/3719)
ولد يعقوب فيذكر لهم أسماءهم في الخطبة بخلاف ولد إسحاق فإنهم كانوا يعرفون ملوكهم من بني ساسان ومن بني الأصفر . قوله ع فما أشد اعتدال الأحوال أي ما أشبه الأشياء بعضها ببعض وإن حالكم لشبيهة بحال أولئك فاعتبروا بهم . قوله يحتازونهم عن الريف يبعدونهم عنه والريف الأرض ذات الخصب والزرع والجمع أرياف ورافت الماشية أي رعت الريف وقد أرفنا أي صرنا إلى الريف وأرافت الأرض أي أخصبت وهي أرض ريفة بتشديد الياء . وبحر العراق دجلة والفرات أما الأكاسرة فطردوهم عن بحر العراق وأما القياصرة فطردوهم عن ريف الآفاق أي عن الشام وما فيه من المرعى والمنتجع . قوله ع أربابا لهم أي ملوكا وكانت العرب تسمى الأكاسرة أربابا ولما عظم أمر حذيفة بن بدر عندهم سموه رب معد . ومنابت الشيح أرض العرب والشيح نبت معروف . ومهافي الريح المواضع التي تهفو فيها أي تهب وهي الفيافي والصحاري . ونكد المعاش ضيقه وقلته . وتركوهم عالة أي فقراء جمع عائل والعائل ذو العيلة والعيلة الفقر قال تعالى وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اَللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ قال الشاعر
تعيرنا أننا عالة
صعاليك نحن وأنتم ملوك
[ 174 ]
نظيره قائد وقادة وسائس وساسة . وقوله إخوان دبر ووبر الدبر مصدر دبر البعير أي عقره القتب والوبر للبعير بمنزلة الصوف للضأن والشعر للمعز . قوله أذل الأمم دارا لعدم المعاقل والحصون المنيعة فيها . وأجدبهم قرارا لعدم الزرع والشجر والنخل بها والجدب المحل . ولا يأوون لا يلتجئون ولا ينضمون . والأزل الضيق وأطباق جهل جمع طبق أي جهل متراكم بعضه فوق بعض . وغارات مشنونة متفرقة وهي أصعب الغارات(1/3720)
فصل في ذكر الأسباب التي دعت العرب إلى وأد البنات
من بنات موءودة كان قوم من العرب يئدون البنات قيل إنهم بنو تميم خاصة وإنه استفاض منهم في جيرانهم وقيل بل كان ذلك في تميم وقيس وأسد وهذيل وبكر بن وائل قالوا وذلك أن رسول الله ص دعا عليهم
فقال اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعل عليهم سنين كسني يوسف فأجدبوا سبع سنين حتى أكلوا الوبر بالدم وكانوا يسمونه العلهز فوأدوا البنات لإملاقهم وفقرهم وقد دل على ذلك بقوله وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ قال وَ لا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ . وقال قوم بل وأدوا البنات أنفة وزعموا أن تميما منعت النعمان الإتاوة سنة من
[ 175 ]
السنين فوجه إليهم أخاه الريان بن المنذر وجل من معه من بكر بن وائل فاستاق النعم وسبى الذراري وفي ذلك يقول بعض بني يشكر
لما رأوا راية النعمان مقبلة
قالوا ألا ليت أدنى دارنا عدن
يا ليت أم تميم لم تكن عرفت
مرا وكانت كمن أودى به الزمن
إن تقتلونا فأعيار مخدعة
أو تنعموا فقديما منكم المنن
منكم زهير وعتاب ومحتضن
و ابنا لقيط وأودى في الوغى قطن
فوفدت بنو تميم إلى النعمان واستعطفوه فرق عليهم وأعاد عليهم السبي وقال كل امرأة اختارت أباها ردت إليه وإن اختارت صاحبها تركت عليه فكلهن اخترن آباءهن إلا ابنة قيس بن عاصم فإنها اختارت من سباها وهو عمرو بن المشمرخ اليشكري فنذر قيس بن عاصم المنقري التميمي ألا يولد له بنت إلا وأدها والوأد أن يخنقها في التراب ويثقل وجهها به حتى تموت ثم اقتدى به كثير من بني تميم قال سبحانه وَ إِذَا اَلْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ أي على طريق التبكيت والتوبيخ لمن فعل ذلك أو أجازه كما قال سبحانه يا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اِتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اَللَّهِ . ومن جيد شعر الفرزدق قوله في هجاء جرير
أ لم تر أنا بني دارم(1/3721)
زرارة منا أبو معبد
و منا الذي منع الوائدات
و أحيا الوليد فلم يوأد
أ لسنا بأصحاب يوم النسار
و أصحاب ألوية المربد
[ 176 ]
أ لسنا الذين تميم بهم
تسامى وتفخر في المشهد
و ناجية الخير والأقرعان
و قبر بكاظمة المورد
إذا ما أتى قبره عائذ
أناخ على القبر بالأسعد
أ يطلب مجد بني دارم
عطية كالجعل الأسود
قرنبى يحك قفا مقرف
لئيم مآثره قعدد
و مجد بني دارم فوقه
مكان السماكين والفرقد
و
في الحديث أن صعصعة بن ناجية بن عقال لما وفد على رسول الله ص قال يا رسول الله إني كنت أعمل في الجاهلية عملا صالحا فهل ينفعني ذلك اليوم قال ع وما عملت قال ضللت ناقتين عشراوين فركبت جملا ومضيت في بغائهما فرفع لي بيت حريد فقصدته فإذا شيخ جالس بفنائه فسألته عن الناقتين فقال ما نارهما قلت ميسم بني دارم قال هما عندي وقد أحيا الله بهما قوما من أهلك من مضر فجلست معه ليخرجهما إلى فإذا عجوز قد خرجت من كسر البيت فقال لها ما وضعت إن كان سقبا شاركنا في أموالنا وإن كان حائلا وأدناها فقالت العجوز وضعت أنثى فقلت له أ تبيعها قال وهل تبيع العرب أولادها قلت إنما أشتري حياتها ولا أشتري رقها قال فبكم قلت احتكم قال بالناقتين والجمل قلت أ ذاك لك على أن يبلغني الجمل وإياها قال بعتك فاستنقذتها
[ 177 ](1/3722)
منه بالجمل والناقتين وآمنت بك يا رسول الله وقد صارت لي سنة في العرب أن أشتري كل موءودة بناقتين عشراوين وجمل فعندي إلى هذه الغاية ثمانون ومائتا موءودة قد انقذتهن قال ع لا ينفعك ذاك لأنك لم تبتغ به وجه الله وأن تعمل في إسلامك عملا صالحا تثب عليه . وروى الزبير في الموفقيات أن أبا بكر قال في الجاهلية لقيس بن عاصم المنقري ما حملك على أن وأدت قال مخافة أن يخلف عليهن مثلك : فَانْظُرُوا إِلَى مَوَاقِعِ نِعَمِ اَللَّهِ عَلَيْهِمْ حِينَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولاً فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طَاعَتَهُمْ وَ جَمَعَ عَلَى دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ كَيْفَ نَشَرَتِ اَلنِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ جَنَاحَ كَرَامَتِهَا وَ أَسَالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِيمِهَا وَ اِلْتَفَّتِ اَلْمِلَّةُ بِهِمْ فِي عَوَائِدِ بَرَكَتِهَا فَأَصْبَحُوا فِي نِعْمَتِهَا غَرِقِينَ وَ فِي خُضْرَةِ عَيْشِهَا فَكِهِينَ فَاكِهِينَ قَدْ تَرَبَّعَتِ اَلْأُمُورُ بِهِمْ فِي ظِلِّ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ وَ آوَتْهُمُ اَلْحَالُ إِلَى كَنَفِ عِزٍّ غَالِبٍ وَ تَعَطَّفَتِ اَلْأُمُورُ عَلَيْهِمْ فِي ذُرَى مُلْكٍ ثَابِتٍ فَهُمْ حُكَّامٌ عَلَى اَلْعَالَمِينَ وَ مُلُوكٌ فِي أَطْرَافِ اَلْأَرَضِينَ يَمْلِكُونَ اَلْأُمُورَ عَلَى مَنْ كَانَ يَمْلِكُهَا عَلَيْهِمْ وَ يُمْضُونَ اَلْأَحْكَامَ فِيمَنْ كَانَ يُمْضِيهَا فِيهِمْ لاَ تُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاةٌ وَ لاَ تُقْرَعُ لَهُمْ صَفَاةٌ لما ذكر ما كانت العرب عليه من الذل والضيم والجهل عاد فذكر ما أبدل الله
[ 178 ](1/3723)
به حالهم حين بعث إليهم محمدا ص فعقد عليهم طاعتهم كالشي ء المنتشر المحلول فعقدها بملة محمد ص . والجداول الأنهر . والتفت الملة بهم أي كانوا متفرقين فالتفت ملة محمد بهم أي جمعتهم ويقال التف الحبل بالحطب أي جمعه والتف الحطب بالحبل أي اجتمع به . وفي في قوله في عوائد بركتها متعلقة بمحذوف وموضع الجار والمجرور نصب على الحال أي جمعتهم الملة كائنة في عوائد بركتها والعوائد جمع عائدة وهي المنفعة تقول هذا أعود عليك أي أنفع لك وروي والتقت الملة بالقاف أي اجتمعت بهم من اللقاء والرواية الأولى أصح . وأصبحوا في نعمتها غرقين مبالغة في وصف ما هم فيه من النعمة . وفاكهين ناعمين وروي فكهين أي أشرين وقد قرئ بهما في قوله تعالى وَ نَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ وقال الأصمعي فاكهين مازحين والمفاكهة الممازحة ومن أمثالهم لا تفاكه أمة ولا تبل على أكمة فأما قوله تعالى فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ فقيل تندمون وقيل تعجبون . وعن في قوله وعن خضرة عيشها متعلقة بمحذوف تقديره فأصبحوا فاكهين فكاهة صادرة عن خضرة عيشها أي خضرة عيش النعمة سبب لصدور الفكاهة والمزاح عنه . وتربعت الأمور بهم أي أقامت من قولك ربع بالمكان أي أقام به .
[ 179 ](1/3724)
و آوتهم الحال بالمد أي ضمتهم وأنزلتهم قال تعالى آوى إِلَيْهِ أَخاهُ أي ضمه إليه وأنزله ويجوز أوتهم بغير مد أفعلت في هذا المعنى وفعلت واحد عن أبي زيد . والكنف الجانب وتعطفت الأمور عليهم كناية عن السيادة والإقبال يقال قد تعطف الدهر على فلان أي أقبل حظه وسعادته بعد أن لم يكن كذلك . وفي ذرا ملك بضم الذال أي في أعاليه جمع ذروة ويكنى عن العزيز الذي لا يضام فيقال لا يغمز له قناة أي هو صلب والقناة إذا لم تلن في يد الغامز كانت أبعد عن الحطم والكسر . ولا تقرع لهم صفاة مثل يضرب لمن لا يطمع في جانبه لعزته وقوته : أَلاَ وَ إِنَّكُمْ قَدْ نَفَضْتُمْ أَيْدِيَكُمْ مِنْ حَبْلِ اَلطَّاعَةِ وَ ثَلَمْتُمْ حِصْنَ اَللَّهِ اَلْمَضْرُوبَ عَلَيْكُمْ بِأَحْكَامِ اَلْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدِ اِمْتَنَّ عَلَى جَمَاعَةِ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ فِيمَا عَقَدَ بَيْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هَذِهِ اَلْأُلْفَةِ اَلَّتِي يَتَقَلَّبُونَ يَنْتَقِلُونَ فِي ظِلِّهَا وَ يَأْوُونَ إِلَى كَنَفِهَا بِنِعْمَةٍ لاَ يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنَ اَلْمَخْلُوقِينَ لَهَا قِيمَةً لِأَنَّهَا أَرْجَحُ مِنْ كُلِّ ثَمَنٍ وَ أَجَلُّ مِنْ كُلِّ خَطَرٍ وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ اَلْهِجْرَةِ أَعْرَاباً وَ بَعْدَ اَلْمُوَالاَةِ أَحْزَاباً مَا تَتَعَلَّقُونَ مِنَ اَلْإِسْلاَمِ إِلاَّ بِاسْمِهِ وَ لاَ تَعْرِفُونَ مِنَ اَلْإِيمَانِ إِلاَّ رَسْمَهُ تَقُولُونَ اَلنَّارَ وَ لاَ اَلْعَارَ كَأَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُكْفِئُوا اَلْإِسْلاَمَ عَلَى وَجْهِهِ اِنْتِهَاكاً لِحَرِيمِهِ وَ نَقْضاً لِمِيثَاقِهِ اَلَّذِي وَضَعَهُ اَللَّهُ لَكُمْ حَرَماً فِي أَرْضِهِ وَ أَمْناً بَيْنَ خَلْقِهِ وَ إِنَّكُمْ إِنْ لَجَأْتُمْ إِلَى غَيْرِهِ حَارَبَكُمْ أَهْلُ اَلْكُفْرِ ثُمَّ لاَ جَبْرَائِيلَ جَبْرَائِيلُ
[ 180 ](1/3725)
وَ لاَ مِيكَائِيلَ وَ لاَ مُهَاجِرِينَ وَ لاَ أَنْصَارَ مِيكَائِيلُ وَ لاَ مُهَاجِرُونَ وَ لاَ أَنْصَارٌ يَنْصُرُونَكُمْ إِلاَّ اَلْمُقَارَعَةَ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَحْكُمَ اَللَّهُ بَيْنَكُمْ وَ إِنَّ عِنْدَكُمُ اَلْأَمْثَالَ مِنْ بَأْسِ اَللَّهِ وَ قَوَارِعِهِ وَ أَيَّامِهِ وَ وَقَائِعِهِ فَلاَ تَسْتَبْطِئُوا وَعِيدَهُ جَهْلاً بِأَخْذِهِ وَ تَهَاوُناً بِبَطْشِهِ وَ يَأْساً مِنْ بَأْسِهِ فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَلْعَنِ اَلْقَرْنَ اَلْمَاضِيَ اَلْقُرُونَ اَلْمَاضِيَةَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ إِلاَّ لِتَرْكِهِمُ اَلْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ اَلنَّهْيَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ فَلَعَنَ اَللَّهُ اَلسُّفَهَاءَ لِرُكُوبِ اَلْمَعَاصِي وَ اَلْحُلَمَاءَ لِتَرْكِ اَلتَّنَاهِي نفضتم أيديكم كلمة تقال في اطراح الشي ء وتركه وهي أبلغ من أن تقول تركتم حبل الطاعة لأن من يخلي الشي ء من يده ثم ينفض يده منه يكون أشد تخلية له ممن لا ينفضها بل يقتصر على تخليته فقط لأن نفضها إشعار وإيذان بشدة الاطراح والإعراض . والباء في قوله بأحكام الجاهلية متعلقة بثلمتم أي ثلمتم حصن الله بأحكام الجاهلية التي حكمتم بها في ملة الإسلام . والباء في قوله بنعمة لا يعرف متعلقة بامتن وفي من قوله فيما عقد متعلقة بمحذوف وموضعها نصب على الحال وهذا إشارة إلى قوله تعالى لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لكِنَّ اَللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ وقوله فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً . وروي تتقلبون في ظلها .
[ 181 ](1/3726)
قوله صرتم بعد الهجرة أعرابا الأعراب على عهد رسول الله ص من آمن به من أهل البادية ولم يهاجر إليه وهم ناقصو المرتبة عن المهاجرين لجفائهم وقسوتهم وتوحشهم ونشئهم في بعد من مخالطة العلماء وسماع كلام الرسول ص وفيهم أنزل اَلْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً وَ أَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اَللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وليست هذه الآية عامة في كل الأعراب بل خاصة ببعضهم وهم الذين كانوا حول المدينة وهم جهينة وأسلم وأشجع وغفار وإليهم أشار سبحانه بقوله وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ اَلْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وكيف يكون كل الأعراب مذموما وقد قال تعالى وَ مِنَ اَلْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اَللَّهِ وصارت هذه الكلمة جارية مجرى المثل . وأنشد الحجاج على منبر الكوفة
قد لفها الليل بعصلبي
أروع خراج من الدوي
مهاجر ليس بأعرابي
و قال عثمان لأبي ذر أخشى أن تصير بعد الهجرة أعرابيا . وروي ولا يعقلون من الإيمان . وقولهم النار ولا العار منصوبتان بإضمار فعل أي ادخلوا النار ولا تلتزموا العار وهي كلمة جارية مجرى المثل أيضا يقولها أرباب الحمية والإباء فإذا قيلت في حق كانت صوابا وإذا قيلت في باطل كانت خطأ . وأكفأت الإناء وكفأته لغتان أي كببته .
[ 182 ]
قوله ثم لا جبرائيل ولا ميكائيل ولا مهاجرين الرواية المشهورة هكذا بالنصب وهو جائز على التشبيه بالنكرة كقولهم معضلة ولا أبا حسن لها قال الراجز
لا هيثم الليلة للمطي(1/3727)
و قد روي بالرفع في الجميع . والمقارعة منصوبة على المصدر وقال الراوندي هي استثناء منقطع والصواب ما ذكرناه وقد روي إلا المقارعة بالرفع تقديره ولا نصير لكم بوجه من الوجوه إلا المقارعة . والأمثال التي أشار إليها أمير المؤمنين ع هي ما تضمنه القرآن من أيام الله ونقماته على أعدائه وقال تعالى وَ ضَرَبْنا لَكُمُ اَلْأَمْثالَ . والتناهي مصدر تناهى القوم عن كذا أي نهى بعضهم بعضا يقول لعن الله الماضين من قبلكم لأن سفهاءهم ارتكبوا المعصية وحلماءهم لم ينهوهم عنها وهذا من قوله تعالى كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ : أَلاَ وَ قَدْ قَطَعْتُمْ قَيْدَ اَلْإِسْلاَمِ وَ عَطَّلْتُمْ حُدُودَهُ وَ أَمَتُّمْ أَحْكَامَهُ أَلاَ وَ قَدْ أَمَرَنِيَ اَللَّهُ بِقِتَالِ أَهْلِ اَلْبَغْيِ وَ اَلنَّكْثِ وَ اَلْفَسَادِ فِي اَلْأَرْضِ فَأَمَّا اَلنَّاكِثُونَ فَقَدْ قَاتَلْتُ وَ أَمَّا اَلْقَاسِطُونَ فَقَدْ جَاهَدْتُ وَ أَمَّا اَلْمَارِقَةُ فَقَدْ دَوَّخْتُ وَ أَمَّا شَيْطَانُ اَلرَّدْهَةِ فَقَدْ كُفِيتُهُ بِصَعْقَةٍ سُمِعَتْ لَهَا وَجْبَةُ قَلْبِهِ وَ رَجَّةُ صَدْرِهِ
[ 183 ]
وَ بَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ اَلْبَغْيِ وَ لَئِنْ أَذِنَ اَللَّهُ فِي اَلْكَرَّةِ عَلَيْهِمْ لَأُدِيلَنَّ مِنْهُمْ إِلاَّ مَا يَتَشَذَّرُ فِي أَطْرَافِ اَلْبِلاَدِ تَشَذُّراً قد ثبت
عن النبي ص أنه قال له ع ستقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين فكان الناكثون أصحاب الجمل لأنهم نكثوا بيعته ع وكان القاسطون أهل الشام بصفين وكان المارقون الخوارج في النهروان وفي الفرق الثلاث قال الله تعالى فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وقال وَ أَمَّا اَلْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً و(1/3728)
قال النبي ص يخرج من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر أحدكم في النصل فلا يجد شيئا فينظر في الفوق فلا يجد شيئا سبق الفرث والدم وهذا الخبر من أعلام نبوته ص ومن أخباره المفصلة بالغيوب . وأما شيطان الردهة فقد قال قوم إنه ذو الثدية صاحب النهروان ورووا في ذلك خبرا عن النبي ص وممن ذكر ذلك واختاره الجوهري صاحب الصحاح وهؤلاء يقولون إن ذا الثدية لم يقتل بسيف ولكن الله رماه يوم النهروان بصاعقة وإليها أشار ع بقوله فقد كفيته بصعقة سمعت لها وجبة
[ 184 ]
قلبه وقال قوم شيطان الردهة أحد الأبالسة المردة من أعوان عدو الله إبليس ورووا في ذلك خبرا عن النبي ص وأنه كان يتعوذ منه والردهة شبه نقرة في الجبل يجتمع فيها الماء وهذا مثل قوله ع هذا أزب العقبة أي شيطانها ولعل أزب العقبة هو شيطان الردهة بعينه فتارة يرد بهذا اللفظ وتارة يرد بذلك اللفظ وقال قوم شيطان الردهة مارد يتصور في صورة حية ويكون على الردهة وإنما أخذوا هذا من لفظة الشيطان لأن الشيطان الحية ومنه قولهم شيطان الحماطة والحماطة شجرة مخصوصة ويقال إنها كثيرة الحيات . قوله ويتشذر في أطراف الأرض يتمزق ويتبدد ومنه قولهم ذهبوا شذر مذر . والبقية التي بقيت من أهل البغي معاوية وأصحابه لأنه ع لم يكن أتى عليهم بأجمعهم وإنما وقفت الحرب بينه وبينهم بمكيدة التحكيم . قوله ع ولئن أذن الله في الكرة عليهم أي إن مد لي في العمر لأديلن منهم أي لتكونن الدولة لي عليهم أدلت من فلان أي غلبته وقهرته وصرت ذا دولة عليه(1/3729)
استدلال قاضي القضاة على إمامة أبي بكر ورد المرتضى عليه
و اعلم أن أصحابنا قد استدلوا على صحة إمامة أبي بكر بقوله تعالى يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اَللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ
[ 185 ]
عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى اَلْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ثم قال قاضي القضاة في المعنى وهذا خبر من الله تعالى ولا بد أن يكون كائنا على ما أخبر به والذين قاتلوا المرتدين هم أبو بكر وأصحابه فوجب أن يكونوا هم الذين عناهم الله سبحانه بقوله يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ وذلك يوجب أن يكونوا على صواب . واعترض المرتضى رحمه الله على هذا الاحتجاج في الشافي فقال من أين قلت إن الآية نزلت في أبي بكر وأصحابه فإن قال لأنهم الذين قاتلوا المرتدين بعد رسول الله ص ولا أحد قاتلهم سواهم قيل له ومن الذي سلم لك ذلك أ وليس أمير المؤمنين ع قد قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين بعد الرسول ص وهؤلاء عندنا مرتدون عن الدين ويشهد بصحة التأويل زائدا على احتمال القول له ما روي عن أمير المؤمنين ع من قوله يوم البصرة والله ما قوتل أهل الآية حتى اليوم وتلاها وقد روي عن عمار وحذيفة وغيرهما مثل ذلك . فإن قال دليلي على أنها في أبي بكر وأصحابه قول أهل التفسير قيل له أ وكل أهل التفسير قال ذلك فإن قال نعم كابر لأنه قد روي عن جماعة التأويل الذي ذكرناه ولو لم يكن إلا ما روي عن أمير المؤمنين ع ووجوه أصحابه الذين ذكرناهم لكفى وإن قال حجتي قول بعض المفسرين قلنا وأي حجة في قول البعض ولم صار البعض الذي قال ما ذكرت أولى بالحق من البعض الذي قال ما ذكرنا . ثم يقال له قد وجدنا الله تعالى قد نعت المذكورين في الآية بنعوت يجب أن
[ 186 ](1/3730)
تراعيها لنعلم أ في صاحبنا هي أم في صاحبك وقد جعله الرسول ص في خيبر حين فر من فر من القوم عن العدو صاحب هذه الأوصاف
فقال لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرارا غير فرار فدفعها إلى أمير المؤمنين ع . ثم قوله تعالى أَذِلَّةٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى اَلْكافِرِينَ يقتضي ما ذكرنا لأنه من المعلوم بلا خلاف حال أمير المؤمنين ع في التخاشع والتواضع وذم نفسه وقمع غضبه وأنه ما رئي قط طائشا ولا متطيرا في حال من الأحوال ومعلوم حال صاحبيكم في هذا الباب أما أحدهما فإنه اعترف طوعا بأن له شيطانا يعتريه عند غضبه وأما الآخر فكان معروفا بالجد والعجلة مشهورا بالفظاظة والغلظة وأما العزة على الكافرين فإنما تكون بقتالهم وجهادهم والانتقام منهم وهذه حال لم يسبق أمير المؤمنين ع إليها سابق ولا لحقه فيها لاحق . ثم قال تعالى يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ وهذا وصف أمير المؤمنين المستحق له بالإجماع وهو منتف عن أبي بكر وصاحبه إجماعا لأنه لا قتيل لهما في الإسلام ولا جهاد بين يدي الرسول ص وإذا كانت الأوصاف المراعاة في الآية حاصلة لأمير المؤمنين ع وغير حاصلة لمن ادعيتم لأنها فيهم على ضربين ضرب معلوم انتفاؤه كالجهاد وضرب مختلف فيه كالأوصاف التي هي غير الجهاد وعلى من أثبتها لهم الدلالة على حصولها ولا بد أن يرجع في ذلك إلى غير ظاهر الآية لم يبق في يده من الآية دليل . هذه جملة ما ذكره المرتضى رحمه الله ولقد كان يمكنه التخلص من الاحتجاج بالآية
[ 187 ](1/3731)
على وجه ألطف وأحسن وأصح مما ذكره فيقول المراد بها من ارتد على عهد رسول الله ص في واقعة الأسود العنسي باليمن فإن كثيرا من المسلمين ضلوا به وارتدوا عن الإسلام وادعوا له النبوة واعتقدوا صدقه والقوم الذين يحبهم الله ويحبونه القوم الذين كاتبهم رسول الله ص وأغراهم بقتله والفتك به وهم فيروز الديلمي وأصحابه والقصة مشهورة وقد كان له أيضا أن يقول لم قلت إن الذين قاتلهم أبو بكر وأصحابه كانوا مرتدين فإن المرتد من ينكر دين الإسلام بعد أن كان قد تدين به والذين منعوا الزكاة لم ينكروا أصل دين الإسلام وإنما تأولوا فأخطئوا لأنهم تأولوا قول الله تعالى خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ فقالوا إنما ندفع زكاة أموالنا إلى من صلاته سكن لنا ولم يبق بعد وفاة النبي ص من هو بهذه الصفة فسقط عنا وجوب الزكاة ليس هذا من الردة في شي ء وإنما سماهم الصحابة أهل الردة على سبيل المجاز إعظاما لما قالوه وتأولوه . فإن قيل إنما الاعتماد على قتال أبي بكر وأصحابه لمسيلمة وطليحة اللذين ادعيا النبوة وارتد بطريقهما كثير من العرب لا على قتال مانعي الزكاة قيل إن مسيلمة وطليحة جاهدهما رسول الله ص قبل موته بالكتب والرسل وأنفذ لقتلهما جماعة من المسلمين وأمرهم أن يفتكوا بهما غيلة إن أمكنهم ذلك واستنفر عليهما قبائل من العرب وكل ذلك مفصل مذكور في كتب السيرة والتواريخ فلم لا يجوز أن يكون أولئك النفر الذين بعثهم رسول الله ص للفتك بهما هم المعنيون بقوله يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ إلى آخر الآية ولم يقل في الآية يجاهدون
[ 188 ](1/3732)
فيقتلون وإنما ذكر الجهاد فقط وقد كان الجهاد من أولئك النفر حاصلا وإن لم يبلغوا الغرض كما كان الجهاد حاصلا عند حصار الطائف وإن لم يبلغ فيه الغرض . وقد كان له أيضا أن يقول سياق الآية لا يدل على ما ظنه المستدل بها من أنه من يرتدد عن الدين فإن الله يأتي بقوم يحبهم ويحبونه يحاربونه لأجل ردته وإنما الذي يدل عليه سياق الآية أنه من يرتد منكم عن دينه بترك الجهاد مع رسول الله ص وسماه ارتدادا على سبيل المجاز فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه يجاهدون في سبيل الله معه عوضا عنكم وكذلك كان كل من خذل النبي ص وقعد عن النهوض معه في حروبه أغناه الله تعالى عنه بطائفة أخرى من المسلمين جاهدوا بين يديه . وأما قول المرتضى رحمه الله إنها أنزلت في الناكثين والقاسطين والمارقين الذين حاربهم أمير المؤمنين ع فبعيد لأنهم لا يطلق عليهم لفظ الردة عندنا ولا عند المرتضى وأصحابه أما اللفظ فبالاتفاق وإن سموهم كفارا وأما المعنى فلأن في مذهبهم أن من ارتد وكان قد ولد على فطرة الإسلام بانت امرأته منه وقسم ماله بين ورثته وكان على زوجته عدة المتوفى عنها زوجها ومعلوم أن أكثر محاربي أمير المؤمنين ع كانوا قد ولدوا في الإسلام ولم يحكم فيهم بهذه الأحكام . وقوله إن الصفات غير متحققة في صاحبكم فلعمري إن حظ أمير المؤمنين ع منها هو الحظ الأوفى ولكن الآية ما خصت الرئيس بالصفات المذكورة وإنما أطلقها على المجاهدين وهم الذين يباشرون الحرب فهب أن أبا بكر وعمر ما كانا بهذه الصفات لم لا يجوز أن يكون مدحا لمن جاهد بين أيديهما من المسلمين وباشر الحرب وهم شجعان المهاجرين والأنصار الذين فتحوا الفتوح ونشروا الدعوة وملكوا الأقاليم .
[ 189 ](1/3733)
و قد استدل قاضي القضاة أيضا عن صحة إمامة أبي بكر وأسند هذا الاستدلال إلى شيخنا أبي علي بقوله تعالى سَيَقُولُ لَكَ اَلْمُخَلَّفُونَ مِنَ اَلْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وقال تعالى فَإِنْ رَجَعَكَ اَللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ اَلْخالِفِينَ وقال تعالى سَيَقُولُ اَلْمُخَلَّفُونَ إِذَا اِنْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اَللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اَللَّهُ مِنْ قَبْلُ يعني قوله تعالى لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا ثم قال سبحانه قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ اَلْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اَللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً فبين أن الذي يدعو هؤلاء المخلفين من الأعراب إلى قتال قوم أولي بأس شديد غير النبي ص لأنه تعالى قد بين أنهم لا يخرجون معه ولا يقاتلون معه عدوا بآية متقدمة ولم يدعهم بعد النبي ص إلى قتال الكفار إلا أبو بكر وعمر وعثمان لأن أهل التأويل لم يقولوا في هذه الآية غير وجهين من التأويل فقال بعضهم عنى بقوله سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ بني حنيفة وقال بعضهم عنى فارس والروم وأبو بكر هو الذي دعا إلى قتال بني حنيفة وقتال آل فارس والروم ودعاهم بعده إلى قتال فارس والروم عمر فإذا كان الله تعالى قد بين أنهم بطاعتهم لهما(1/3734)
يؤتهم أجرا حسنا وإن تولوا عن طاعتهما يعذبهم عذابا أليما صح أنهما على حق وأن طاعتهما طاعة لله تعالى وهذا يوجب صحة إمامتهما .
[ 190 ]
فإن قيل إنما أراد الله بذلك أهل الجمل وصفين قيل هذا فاسد من وجهين أحدهما قوله تعالى تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ والذين حاربوا أمير المؤمنين كانوا على الإسلام ولم يقاتلوا على الكفر والوجه الثاني أنا لا نعرف من الذين عناهم الله تعالى بهذا من بقي إلى أيام أمير المؤمنين ع كما علمنا أنهم كانوا باقين في أيام أبي بكر . اعترض المرتضى رحمه الله على هذا الكلام من وجهين أحدهما أنه نازع في اقتضاء الآية داعيا يدعو هؤلاء المخلفين غير النبي ص وذلك لأن قوله تعالى سَيَقُولُ لَكَ اَلْمُخَلَّفُونَ مِنَ اَلْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اَللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اَللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ اَلرَّسُولُ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَ زُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ اَلسَّوْءِ وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً . إنما أراد به سبحانه الذين تخلفوا عن الحديبية بشهادة جميع أهل النقل وإطباق المفسرين . ثم قال تعالى سَيَقُولُ اَلْمُخَلَّفُونَ إِذَا اِنْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اَللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اَللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً وإنما التمس هؤلاء المخلفون أن يخرجوا إلى غنيمة خيبر فمنعهم الله تعالى من ذلك وأمر نبيه أن يقول لهم لن تتبعونا إلى هذه الغزاة لأن(1/3735)
الله تعالى كان حكم من قبل بأن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية وأنه لا حظ لمن لم يشهدها وهذا هو معنى قوله تعالى يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اَللَّهِ وقوله كَذلِكُمْ قالَ اَللَّهُ مِنْ قَبْلُ ثم قال تعالى قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ
[ 191 ]
مِنَ اَلْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ وإنما أراد أن الرسول سيدعوكم فيما بعد إلى قتال قوم أولي بأس شديد وقد دعاهم النبي ص بعد ذلك إلى غزوات كثيرة إلى قوم أولي بأس شديد كمؤتة وحنين وتبوك وغيرهما فمن أين يجب أن يكون الداعي لهؤلاء غير النبي ص مع ما ذكرناه من الحروب التي كانت بعد خيبر . وقوله إن معنى قوله تعالى كَذلِكُمْ قالَ اَللَّهُ مِنْ قَبْلُ إنما أراد به ما بينه في قوله فَإِنْ رَجَعَكَ اَللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا بتبوك سنة تسع وآية الفتح نزلت في سنة ست فكيف يكون قبلها . وليس يجب أن يقال في القرآن بالإرادة وبما يحتمل من الوجوه في كل موضع دون الرجوع إلى تاريخ نزول الآي والأسباب التي وردت عليها وتعلقت بها . ومما يبين لك أن هؤلاء المخلفين غير أولئك لو لم نرجع في ذلك إلى نقل وتاريخ قوله تعالى في هؤلاء فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اَللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً فلم يقطع منهم على طاعة ولا معصية بل ذكر الوعد والوعيد على ما يفعلونه من طاعة أو معصية وحكم المذكورين في آية سورة التوبة بخلاف هذه لأنه تعالى بعد قوله إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ اَلْخالِفِينَ وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ(1/3736)
رَسُولِهِ وَ ماتُوا وَ هُمْ فاسِقُونَ وَ لا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اَللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي اَلدُّنْيا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ واختلاف أحكامهم وصفاتهم يدل
[ 192 ]
على اختلافهم وأن المذكورين في آية سورة الفتح غير المذكورين في آية سورة التوبة . وأما قوله لأن أهل التأويل لم يقولوا في هذه الآية غير وجهين من التأويل فذكرهما باطل لأن أهل التأويل قد ذكروا شيئا آخر لم يذكره لأن المسيب روى عن أبي روق عن الضحاك في قوله تعالى سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ الآية قال هم ثقيف وروى هشيم عن أبي يسر سعيد بن جبير قال هم هوازن يوم حنين . وروى الواقدي عن معمر عن قتادة قال هم هوازن وثقيف فكيف ذكر من أقوال المفسرين ما يوافقه مع اختلاف الرواية عنهم على أنا لا نرجع في كل ما يحتمله تأويل القرآن إلى أقوال المفسرين فإنهم ربما تركوا مما يحتمله القول وجها صحيحا وكم استخرج جماعة من أهل العدل في متشابه القرآن من الوجوه الصحيحة التي ظاهر التنزيل بها أشبه ولها أشد احتمالا مما لم يسبق إليه المفسرون ولا دخل في جملة تفسيرهم وتأويلهم . والوجه الثاني سلم فيه أن الداعي هؤلاء المخلفين غير النبي ص وقال لا يمتنع أن يعنى بهذا الداعي أمير المؤمنين ع لأنه قاتل بعده الناكثين والقاسطين والمارقين وبشره النبي ص بأنه يقاتلهم وقد كانوا أولي بأس شديد بلا شبهة . قال فأما تعلق صاحب الكتاب بقوله أَوْ يُسْلِمُونَ وأن الذين حاربهم أمير المؤمنين ع كانوا مسلمين فأول ما فيه أنهم غير مسلمين عنده وعند أصحابه لأن الكبائر تخرج من الإسلام عندهم كما تخرج عن الإيمان إذ كان الإيمان هو الإسلام
[ 193 ](1/3737)
على مذهبهم ثم إن مذهبنا في محاربي أمير المؤمنين ع معروف لأنهم عندنا كانوا كفارا بمحاربته لوجوه الأول منها أن من حاربه كان مستحلا لقتاله مظهرا أنه في ارتكابه على حق ونحن نعلم أن من أظهر استحلال شرب جرعة خمر هو كافر بالإجماع واستحلال دماء المؤمنين فضلا عن أفاضلهم وأكابرهم أعظم من شرب الخمر واستحلاله فيجب أن يكونوا من هذا الوجه كفارا . الثاني
أنه ع قال له بلا خلاف بين أهل النقل حربك يا علي حربي وسلمك سلمي ونحن نعلم أنه لم يرد إلا التشبيه بينهما في الأحكام ومن أحكام محاربي النبي ص الكفر بلا خلاف . الثالث
أن النبي ص قال له بلا خلاف أيضا اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وقد ثبت عندنا أن العداوة من الله لا تكون إلا للكفار الذين يعادونه دون فساق أهل الملة . الرابع قوله إنا لا نعلم ببقاء هؤلاء المخلفين إلى أيام أمير المؤمنين ع فليس بشي ء لأنه إذا لم يكن ذلك معلوما ومقطوعا عليه فهو مجوز وغير معلوم خلافه والجواز كاف لنا في هذا الموضع . ولو قيل له من أين علمت بقاء المخلفين المذكورين في الآية على سبيل القطع إلى أيام أبي بكر لكان يفزع إلى أن يقول حكم الآية يقتضي بقاءهم حتى يتم كونهم مدعوين إلى قتال أولي البأس الشديد على وجه يلزمهم فيه الطاعة وهذا بعينه يمكن أن يقال له ويعتمد في بقائهم إلى أيام أمير المؤمنين ع على ما يوجبه حكم الآية . فإن قيل كيف يكون أهل الجمل وصفين كفارا ولم يسر أمير المؤمنين ع
[ 194 ](1/3738)
فيهم بسيرة الكفار لأنه ما سباهم ولا غنم أموالهم ولا تبع موليهم قلنا أحكام الكفر تختلف وإن شملهم اسم الكفر لأن في الكفار من يقتل ولا يستبقى وفيهم من يؤخذ منه الجزية ولا يحل قتله إلا بسبب طارئ غير الكفر ومنهم من لا يجوز نكاحه على مذهب أكثر المسلمين فعلى هذا يجوز أن يكون أكثر هؤلاء القوم كفارا وإن لم يسر فيهم بجميع سيرة أهل الكفر لأنا قد بينا اختلاف أحكام الكفار ويرجع في أن حكمهم مخالف لأحكام الكفار إلى فعله ع وسيرته فيهم على أنا لا نجد في الفساق من حكمه أن يقتل مقبلا ولا يقتل موليا ولا يجهز على جريحه إلى غير ذلك من الأحكام التي سيرها في أهل البصرة وصفين . فإذا قيل في جواب ذلك أحكام الفسق مختلفة وفعل أمير المؤمنين هو الحجة في أن حكم أهل البصرة وصفين ما فعله قلنا مثل ذلك حرفا بحرف ويمكن مع تسليم أن الداعي لهؤلاء المخلفين أبو بكر أن يقال ليس في الآية دلالة على مدح الداعي ولا على إمامته لأنه قد يجوز أن يدعو إلى الحق والصواب من ليس عليهما فيلزم ذلك الفعل من حيث كان واجبا في نفسه لا لدعاء الداعي إليه وأبو بكر إنما دعا إلى دفع أهل الردة عن الإسلام وهذا يجب على المسلمين بلا دعاء داع والطاعة فيه طاعة لله تعالى فمن أين له أن الداعي كان على حق وصواب وليس في كون ما دعا إليه طاعة ما يدل على ذلك . ويمكن أيضا أن يكون قوله تعالى سَتُدْعَوْنَ إنما أراد به دعاء الله تعالى لهم بإيجاب القتال عليهم لأنه إذا دلهم على وجوب قتال المرتدين ورفعهم عن بيضة الإسلام فقد دعاهم إلى القتال ووجبت عليهم الطاعة ووجب لهم الثواب إن أطاعوا وهذا أيضا تحتمله الآية .
[ 195 ](1/3739)
فهذه جملة ما ذكره المرتضى رحمه الله في هذا الموضع وأكثره جيد لا اعتراض عليه وقد كان يمكنه أن يقول لو سلمنا بكل هذا لكان ليس في قوله لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً الآية ما يدل على أن النبي ص لا يكون هو الداعي لهم إلى القوم أولي البأس الشديد لأنه ليس فيها إلا محض الإخبار عنهم بأنهم لا يخرجون معه ولا يقاتلون العدو معه وليس في هذا ما ينفي كونه داعيا لهم كما
أنه ع قال أبو لهب لا يؤمن بي لم يكن هذا القول نافيا لكونه يدعوه إلى الإسلام . وقوله فَاقْعُدُوا مَعَ اَلْخالِفِينَ ليس بأمر على الحقيقة وإنما هو تهديد كقوله اِعْمَلُوا ما شِئْتُمْ ولا بد للمرتضى ولقاضي القضاة جميعا من أن يحملا صيغة افعل على هذا المحمل لأنه ليس لأحدهما بمسوغ أن يحمل الأمر على حقيقته لأن الشارع لا يأمر بالقعود وترك الجهاد مع القدرة عليه وكونه قد تعين وجوبه . فإن قلت لو قدرنا أن هذه الآية وهي قوله تعالى قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ اَلْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أنزلت بعد غزوة تبوك وبعد نزول سورة براءة التي تتضمن قوله تعالى لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وقدرنا أن قوله تعالى لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً ليس إخبارا محضا كما تأولته أنت وحملت الآية عليه بل معناه لا أخرجكم معي ولا أشهدكم حرب العدو هل كان يتم الاستدلال قلت لا لأن للإمامية أن تقول يجوز أن يكون الداعي إلى حرب القوم أولي البأس الشديد مع تسليم هذه المقدمات كلها هو رسول الله ص لأنه دعاهم إلى حرب الروم في سرية أسامة بن زيد في صفر من سنة إحدى عشرة لما سيره إلى البلقاء وقال له سر إلى الروم مقتل أبيك فأوطئهم الخيول وحشد معه أكثر المسلمين فهذا الجيش قد دعي فيه المخلفون من الأعراب الذين قعدوا عن الجهاد
[ 196 ](1/3740)
في غزاة تبوك إلى قوم أولي بأس شديد ولم يخرجوا مع رسول الله ص ولا حاربوا معه عدوا . فإن قلت إذا خرجوا مع أسامة فكأنما خرجوا مع رسول الله وإذا حاربوا مع أسامة العدو فكأنما حاربوا مع رسول الله ص وقد كان سبق أنهم لا يخرجون مع رسول الله ص ولا يحاربون معه عدوا قلت وإذا خرجوا مع خالد بن الوليد وغيره في أيام أبي بكر ومع أبي عبيدة وسعد في أيام عمر فكأنما خرجوا مع رسول الله ص وحاربوا العدو معه أيضا . فإن اعتذرت بأنه وإن شابه الخروج معه والحرب معه إلا أنه على الحقيقة ليس معه وإنما هو مع امرئ من قبل خلفائه قيل لك وكذلك خروجهم مع أسامة ومحاربة العدو معه وإن شابه الخروج مع النبي ومحاربة العدو معه إلا أنه على الحقيقة ليس معه وإنما هو مع بعض أمرائه . ويمكن أن يعترض الاستدلال بالآية فيقال لا يجوز حملها على بني حنيفة لأنهم كانوا مسلمين وإنما منعوا الزكاة مع قولهم لا إله إلا الله محمد رسول الله ص ومنع الزكاة لا يخرج به الإنسان عن الإسلام عند المرجئة والإمامية مرجئة ولا يجوز حملها على فارس والروم لأنه تعالى أخبر أنه لا واسطة بين قتالهم وإسلامهم كما تقول إما كذا وإما كذا فيقتضي ذلك نفي الواسطة وقتال فارس والروم بينه وبين إسلامهم واسطة وهو دفع الجزية وإنما تنتفي هذه الواسطة في قتال العرب لأن مشركي العرب لا تؤخذ منهم الجزية فالآية إذن دالة على أن المخلفين سيدعون إلى قوم أولي بأس شديد الحكم فيهم إما قتالهم وإما إسلامهم وهؤلاء هم مشركو العرب ولم يحارب مشركي العرب إلا رسول الله ص فالداعي لهم إذا هو رسول الله وبطل الاستدلال بالآية
[ 197 ](1/3741)
أَنَا وَضَعْتُ فِي اَلصِّغَرِ بِكَلاَكِلِ اَلْعَرَبِ وَ كَسَرْتُ نَوَاجِمَ قُرُونِ رَبِيعَةَ وَ مُضَرَ وَ قَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اَللَّهِ ص بِالْقَرَابَةِ اَلْقَرِيبَةِ وَ اَلْمَنْزِلَةِ اَلْخَصِيصَةِ وَضَعَنِي فِي حَجْرِهِ حِجْرِهِ وَ أَنَا وَلَدٌ وَلِيدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ وَ يَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ وَ يُمِسُّنِي جَسَدَهُ وَ يُشِمُّنِي عَرْفَهُ وَ كَانَ يَمْضَغُ اَلشَّيْ ءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ وَ مَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ وَ لاَ خَطْلَةً فِي فِعْلٍ وَ لَقَدْ قَرَنَ اَللَّهُ بِهِ ص مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلاَئِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ اَلْمَكَارِمِ وَ مَحَاسِنَ أَخْلاَقِ اَلْعَالَمِ لَيْلَهُ وَ نَهَارَهُ وَ لَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اِتِّبَاعَ اَلْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلاَقِهِ عَلَماً وَ يَأْمُرُنِي بِالاِقْتِدَاءِ بِهِ وَ لَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ فَأَرَاهُ وَ لاَ يَرَاهُ غَيْرِي وَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي اَلْإِسْلاَمِ غَيْرَ رَسُولِ اَللَّهِ ص وَ خَدِيجَةَ وَ أَنَا ثَالِثُهُمَا أَرَى نُورَ اَلْوَحْيِ وَ اَلرِّسَالَةِ وَ أَشُمُّ رِيحَ اَلنُّبُوَّةِ وَ لَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ اَلشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ اَلْوَحْيُ عَلَيْهِ ص فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اَللَّهِ مَا هَذِهِ اَلرَّنَّةُ فَقَالَ هَذَا اَلشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وَ تَرَى مَا أَرَى إِلاَّ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ وَ لَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ وَ إِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ الباء في قوله بكلاكل العرب زائدة والكلاكل الصدور الواحد كلكل والمعنى أني أذللتهم وصرعتهم إلى الأرض .
[ 198 ](1/3742)
و نواجم قرون ربيعة ومضر من نجم منهم وظهر وعلا قدره وطار صيته . فإن قلت أما قهره لمضر فمعلوم فما حال ربيعة ولم نعرف أنه قتل منهم أحدا قلت بلى قد قتل بيده وبجيشه كثيرا من رؤسائهم في صفين والجمل فقد تقدم ذكر أسمائهم من قبل وهذه الخطبة خطب بها بعد انقضاء أمر النهروان . والعرف بالفتح الريح الطيبة ومضغ الشي ء يمضغه بفتح الضاد . والخطلة في الفعل الخطأ فيه وإيقاعه على غير وجهه . وحراء اسم جبل بمكة معروف . والرنة الصوت(1/3743)
ذكر ما كان من صلة علي برسول الله في صغره
و القرابة القريبة بينه وبين رسول الله ص دون غيره من الأعمام كونه رباه في حجره ثم حامى عنه ونصره عند إظهار الدعوة دون غيره من بني هاشم ثم ما كان بينهما من المصاهرة التي أفضت إلى النسل الأطهر دون غيره من الأصهار ونحن نذكر ما ذكره أرباب السير من معاني هذا الفصل . روى الطبري في تاريخه قال حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة قال حدثني محمد بن إسحاق قال حدثني عبد الله بن نجيح عن مجاهد قال كان من نعمة الله عز وجل على علي بن أبي طالب ع وما صنع الله له وأراده به من الخير أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة وكان أبو طالب ذا عيال كثير فقال رسول الله ص للعباس وكان من أيسر بني هاشم يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال وقد ترى ما أصاب الناس من هذه الأزمة فانطلق بنا فلنخفف عنه من عياله آخذ من بيته واحدا وتأخذ واحدا
[ 199 ](1/3744)
فنكفيهما عنه فقال العباس نعم فانطلقا حتى أتيا أبا طالب فقالا له إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه فقال لهما إن تركتما لي عقيلا فاصنعا ما شئتما فأخذ رسول الله ص عليا فضمه إليه وأخذ العباس جعفرا رضي الله عنه فضمه إليه فلم يزل علي بن أبي طالب ع مع رسول الله ص حتى بعثه الله نبيا فاتبعه علي ع فأقر به وصدقه ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه . قال الطبري وحدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة قال حدثنا محمد بن إسحاق قال كان رسول الله ص إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة وخرج معه علي بن أبي طالب ع مستخفيا من عمه أبي طالب ومن جميع أعمامه وسائر قومه فيصليان الصلوات فيها فإذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا . ثم إن أبا طالب عثر عليهما وهما يصليان فقال لرسول الله ص يا ابن أخي ما هذا الذي أراك تدين به قال يا عم هذا دين الله ودين ملائكته ودين رسله ودين أبينا إبراهيم أو كما قال بعثني الله به رسولا إلى العباد وأنت يا عم أحق من بذلت له النصيحة ودعوته إلى الهدى وأحق من أجابني إليه وأعانني عليه أو كما قال فقال أبو طالب يا ابن أخي إني لا أستطيع أن أفارق ديني ودين آبائي وما كانوا عليه ولكن والله لا يخلص إليك شي ء تكرهه ما بقيت . قال الطبري وقد روى هؤلاء المذكورون أن أبا طالب قال لعلي ع يا بني ما هذا الذي أنت عليه فقال يا أبت إني آمنت بالله وبرسوله وصدقته بما
[ 200 ]
جاء به وصليت لله معه قال فزعموا أنه قال له أما إنه لا يدعو إلا إلى خير فالزمه . و
روى الطبري في تاريخه أيضا قال حدثنا أحمد بن الحسين الترمذي قال حدثنا عبد الله بن موسى قال أخبرنا العلاء عن المنهال بن عمر وعن عبد الله بن عبد الله قال سمعت عليا ع يقول أنا عبد الله وأخو رسوله وأنا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي إلا كاذب مفتر صليت قبل الناس بسبع سنين . و(1/3745)
في غير رواية الطبري أنا الصديق الأكبر وأنا الفاروق الأول أسلمت قبل إسلام أبي بكر وصليت قبل صلاته بسبع سنين كأنه ع لم يرتض أن يذكر عمر ولا رآه أهلا للمقايسة بينه وبينه وذلك لأن إسلام عمر كان متأخرا . وروى الفضل بن عباس رحمه الله قال سألت أبي عن ولد رسول الله ص الذكور أيهم كان رسول الله ص له أشد حبا فقال علي بن أبي طالب ع فقلت له سألتك عن بنيه فقال إنه كان أحب إليه من بنيه جميعا وأرأف ما رأيناه زايله يوما من الدهر منذ كان طفلا إلا أن يكون في سفر لخديجة وما رأينا أبا أبر بابن منه لعلي ولا ابنا أطوع لأب من علي له . وروى الحسين بن زيد بن علي بن الحسين ع قال سمعت زيدا أبي ع يقول كان رسول الله يمضغ اللحمة والتمرة حتى تلين ويجعلهما في فم علي ع وهو صغير في حجره وكذلك كان أبي علي بن الحسين ع يفعل بي ولقد كان يأخذ الشي ء من الورك وهو شديد الحرارة فيبرده في الهواء أو ينفخ عليه حتى يبرد ثم يلقمنيه أ فيشفق علي من حرارة لقمة ولا يشفق علي من النار لو كان أخي إماما بالوصية كما يزعم هؤلاء لكان أبي أفضى بذلك إلي ووقاني من حر جهنم .
[ 201 ]
و روى جبير بن مطعم قال قال أبي مطعم بن عدي لنا ونحن صبيان بمكة أ لا ترون حب هذا الغلام يعني عليا لمحمد واتباعه له دون أبيه واللات والعزى لوددت أن ابني بفتيان بني نوفل جميعا . وروى سعيد بن جبير قال سألت أنس بن مالك فقلت أ رأيت قول عمر عن الستة إن رسول الله ص مات وهو عنهم راض أ لم يكن راضيا عن غيرهم من أصحابه فقال بلى مات رسول الله ص وهو راض عن كثير من المسلمين ولكن كان عن هؤلاء أكثر رضا فقلت له فأي الصحابة كان رسول الله ص له أحمد أو كما قال قال ما فيهم أحد إلا وقد سخط منه فعلا وأنكر عليه أمرا إلا اثنان علي بن أبي طالب وأبو بكر بن أبي قحافة فإنهما لم يقترفا منذ أتى الله بالإسلام أمرا أسخطا فيه رسول الله ص(1/3746)
ذكر حال رسول الله في نشوئه
و ينبغي أن نذكر الآن ما ورد في شأن رسول الله ص وعصمته بالملائكة ليكون ذلك تقريرا وإيضاحا لقوله ع ولقد قرن الله به من لدن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته وأن نذكر حديث مجاورته ع بحراء وكون علي ع معه هناك وأن نذكر ما ورد في أنه لم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله ص وعليا وخديجة وأن نذكر ما ورد في سماعه رنة الشيطان وأن نذكر ما ورد في كونه ع وزيرا للمصطفى ص أما المقام الأول فروى محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب السيرة النبوية ورواه أيضا محمد بن جرير الطبري في تاريخه قال كانت حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية
[ 202 ](1/3747)
أم رسول الله ص التي أرضعته تحدث أنها خرجت من بلدها ومعها زوجها وابن لها ترضعه في نسوة من بني سعد بن بكر يلتمسن الرضاع بمكة في سنة شهباء لم تبق شيئا قالت فخرجت على أتان لنا قمراء عجفاء ومعنا شارف لنا ما تبض بقطرة ولا ننام ليلنا أجمع من بكاء صبينا الذي معنا من الجوع ما في ثديي ما يغنيه ولا في شارفنا ما يغديه ولكنا نرجو الغيث والفرج فخرجت على أتاني تلك ولقد أراثت بالركب ضعفا وعجفا حتى شق ذلك عليهم حتى قدمنا مكة نلتمس الرضاع فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها محمد ص فتأباه إذا قيل لها إنه يتيم وذلك أنا إنما كنا نرجو المعروف من أبي الصبي فكنا نقول يتيم ما عسى أن تصنع أمه وجده فكنا نكرهه لذلك فما بقيت امرأة ذهبت معي إلا أخذت رضيعا غيري فلما اجتمعنا للانطلاق قلت لصاحبي والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي لم آخذ رضيعا والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه قال لا عليك أن تفعلي وعسى الله أن يجعل لنا فيه بركة فذهبت إليه فأخذته وما يحملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره قالت فلما أخذته رجعت إلى رحلي فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن فرضع حتى روي وشرب معه أخوه حتى روي وما كنا ننام قبل ذلك من بكاء صبينا جوعا فنام وقام زوجي إلى شارفنا تلك فنظر إليها فإذا أنها حافل فحلب منها ما شرب وشربت حتى انتهينا ريا وشبعا فبتنا بخير ليلة قالت يقول
[ 203 ](1/3748)
صاحبي حين أصبحنا أ تعلمين والله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة فقلت والله إني لأرجو ذلك ثم خرجنا وركبت أتاني تلك وحملته معي عليها فو الله لقطعت بالركب ما يقدر عليها شي ء من حميرهم حتى إن صواحبي ليقلن لي ويحك يا بنت أبي ذؤيب اربعي علينا أ ليس هذه أتانك التي كنت خرجت عليها فأقول لهن بلى والله إنها لهي فيقلن والله إن لها لشأنا . قالت ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد وما أعلم أرضا من أرض العرب أجدب منها فكانت غنمي تروح علي حين قدمنا به معنا شباعا ملأى لبنا فكنا نحتلب ونشرب وما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها في ضرع حتى إن الحاضر من قومنا ليقولون لرعاتهم ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي ابنة أبي ذؤيب فيفعلون فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة وتروح غنمي شباعا لبنا فلم نزل نعرف من الله الزيادة والخير به حتى مضت سنتاه وفصلته فكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما جفرا فقدمنا به على أمه آمنة بنت وهب ونحن أحرص شي ء على مكثه فينا لما كنا نرى من بركته فكلمنا أمه وقلنا لها لو تركته عندنا حتى يغلظ فإنا نخشى عليه وباء مكة فلم نزل بها حتى ردته معنا . فرجعنا به إلى بلاد بني سعد فو الله إنه لبعد ما قدمنا بأشهر مع أخيه في بهم لنا خلف بيوتنا إذ أتانا أخوه يشتد فقال لي ولأبيه ها هو ذاك أخي القرشي قد جاءه
[ 204 ](1/3749)
رجلان عليهما ثياب بياض فأضجعاه وشقا بطنه فهما يسوطانه قالت فخرجت أنا وأبوه نشتد نحوه فوجدناه قائما ممتقعا وجهه فالتزمته والتزمه أبوه وقلنا ما لك يا بني قال جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني ثم شقا بطني فالتمسا فيه شيئا لا أدري ما هو قالت فرجعنا به إلى خبائنا وقال لي أبوه يا حليمة لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب فألحقيه بأهله قالت فاحتملته حتى قدمت به على أمه فقالت ما أقدمك به يا ظئر وقد كنت حريصة عليه وعلى مكثه عندك فقلت لها قد بلغ الله بابني وقضيت الذي علي وتخوفت عليه الأحداث وأديته إليك كما تحبين قالت أ تخوفت عليه الشيطان قلت نعم قالت كلا والله ما للشيطان عليه من سبيل وإن لابني شأنا أ فلا أخبرك خبره قلت بلى قالت رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاءت له قصور بصرى من الشام ثم حملت به فو الله ما رأيت حملا قط كان أخف ولا أيسر منه ثم وقع حين ولدته وإنه لواضع يديه بالأرض ورافع رأسه إلى السماء دعيه عنك وانطلقي راشدة .
قال وروى الطبري في تاريخه عن شداد بن أوس قال سمعت رسول الله ص يحدث عن نفسه ويذكر ما جرى له وهو طفل في أرض بني سعد بن بكر قال لما ولدت استرضعت في بني سعد فبينا أنا ذات يوم منتبذ من
[ 205 ](1/3750)
أهلي في بطن واد مع أتراب لي من الصبيان نتقاذف بالجلة إذا أتاني رهط ثلاثة معهم طشت من ذهب مملوءة ثلجا فأخذوني من بين أصحابي فخرج أصحابي هرابا حتى انتهوا إلى شفير الوادي ثم عادوا إلى الرهط فقالوا ما أربكم إلى هذا الغلام فإنه ليس منا هذا ابن سيد قريش وهو مسترضع فينا غلام يتيم ليس له أب فما ذا يرد عليكم قتله وما ذا تصيبون من ذلك ولكن إن كنتم لا بد قاتليه فاختاروا منا أينا شئتم فاقتلوه مكانه ودعوا هذا الغلام فإنه يتيم . فلما رأى الصبيان أن القوم لا يحيرون لهم جوابا انطلقوا هرابا مسرعين إلى الحي يؤذنونهم ويستصرخونهم على القوم فعمد أحدهم فأضجعني إضجاعا لطيفا ثم شق ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي وأنا أنظر إليه فلم أجد لذلك حسا ثم أخرج بطني فغسلها بذلك الثلج فأنعم غسلها ثم أعادها مكانها ثم قام الثاني منهم فقال لصاحبه تنح فنحاه عني ثم أدخل يده في جوفي وأخرج قلبي وأنا أنظر إليه فصدعه ثم أخرج منه مضغة سوداء فرماها ثم قال بيده يمنة منه وكأنه يتناول شيئا فإذا في يده خاتم من نور تحار أبصار الناظرين دونه فختم به قلبي ثم أعاده مكانه فوجدت برد ذلك الخاتم في قلبي دهرا ثم قال الثالث لصاحبه تنح عنه فأمر يده ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي فالتأم ذلك الشق ثم أخذ بيدي فأنهضني من مكاني إنهاضا لطيفا وقال للأول الذي شق بطني زنه بعشرة من أمته فوزنني بهم فرجحتهم فقال دعوه فلو وزنتموه بأمته كلها لرجحهم ثم ضموني إلى صدرهم وقبلوا رأسي وما بين عيني وقالوا يا حبيب الله لا ترع إنك لو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عيناك فبينا أنا كذلك إذا أنا بالحي قد جاءوا بحذافيرهم وإذا أمي وهي
[ 206 ](1/3751)
ظئري أمام الحي تهتف بأعلى صوتها وتقول يا ضعيفاه فانكب علي أولئك الرهط فقبلوا رأسي وما بين عيني وقالوا حبذا أنت من ضعيف ثم قالت ظئري يا وحيداه فانكبوا علي وضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني ثم قالوا حبذا أنت من وحيد وما أنت بوحيد إن الله وملائكته معك والمؤمنين من أهل الأرض ثم قالت ظئري يا يتيماه استضعفت من بين أصحابك فقتلت لضعفك فانكبوا علي وضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني وقالوا حبذا أنت من يتيم ما أكرمك على الله لو تعلم ما يراد بك من الخير قال فوصل الحي إلى شفير الوادي فلما بصرت بي أمي وهي ظئري نادت يا بني أ لا أراك حيا بعد فجاءت حتى انكبت علي وضمتني إلى صدرها فو الذي نفسي بيده إني لفي حجرها قد ضمتني إليها وإن يدي لفي يد بعضهم فجعلت ألتفت إليهم وظننت أن القوم يبصرونهم فإذا هم لا يبصرونهم فيقول بعض القوم إن هذا الغلام قد أصابه لمم أو طائف من الجن فانطلقوا به إلى كاهن بني فلان حتى ينظر إليه ويداويه فقلت ما بي شي ء مما يذكرون نفسي سليمة وإن فؤادي صحيح ليست بي قلبة فقال أبي وهو زوج ظئري أ لا ترون كلامه صحيحا إني لأرجو ألا يكون على ابني بأس . فاتفق القوم على أن يذهبوا إلى الكاهن بي فاحتملوني حتى ذهبوا بي إليه فقصوا عليه قصتي فقال اسكتوا حتى أسمع من الغلام فهو أعلم بأمره منكم فسألني فقصصت عليه أمري وأنا يومئذ ابن خمس سنين فلما سمع قولي وثب وقال يا للعرب اقتلوا هذا الغلام فهو واللات والعزى لئن عاش ليبدلن دينكم وليخالفن أمركم وليأتينكم بما لم تسمعوا به قط فانتزعتني ظئري من حجره وقالت لو علمت أن هذا يكون من قولك ما أتيتك به
[ 207 ]
ثم احتملوني فأصبحت وقد صار في جسدي أثر الشق ما بين صدري إلى منتهى عانتي كأنه الشراك و(1/3752)
روي أن بعض أصحاب أبي جعفر محمد بن علي الباقر ع سأله عن قول الله عز وجل إِلاَّ مَنِ اِرْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً فقال ع يوكل الله تعالى بأنبيائه ملائكة يحصون أعمالهم ويؤدون إليه تبليغهم الرسالة ووكل بمحمد ص ملكا عظيما منذ فصل عن الرضاع يرشده إلى الخيرات ومكارم الأخلاق ويصده عن الشر ومساوئ الأخلاق وهو الذي كان يناديه السلام عليك يا محمد يا رسول الله وهو شاب لم يبلغ درجة الرسالة بعد فيظن أن ذلك من الحجر والأرض فيتأمل فلا يرى شيئا و
روى الطبري في التاريخ عن محمد بن الحنفية عن أبيه علي ع قال سمعت رسول الله ص يقول ما هممت بشي ء مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين كل ذلك يحول الله تعالى بيني وبين ما أريد من ذلك ثم ما هممت بسوء حتى أكرمني الله برسالته قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى معي بأعلى مكة لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر بها كما يسمر الشباب فخرجت أريد ذلك حتى إذا جئت أول دار من دور مكة سمعت عزفا بالدف والمزامير فقلت ما هذا قالوا هذا فلان تزوج ابنة فلان فجلست أنظر إليهم فضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا مس الشمس فرجعت إلى صاحبي فقال ما فعلت فقلت ما صنعت شيئا ثم أخبرته الخبر ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك فقال أفعل فخرجت فسمعت حين دخلت مكة مثل ما سمعت حين دخلتها تلك الليلة فجلست
[ 208 ]
أنظر فضرب الله على أذني فما أيقظني إلا مس الشمس فرجعت إلى صاحبي فأخبرته الخبر ثم ما هممت بعدها بسوء حتى أكرمني الله برسالته و(1/3753)
روى محمد بن حبيب في أماليه قال قال رسول الله ص أذكر وأنا غلام ابن سبع سنين وقد بنى ابن جدعان دارا له بمكة فجئت مع الغلمان نأخذ التراب والمدر في حجورنا فننقله فملأت حجري ترابا فانكشفت عورتي فسمعت نداء من فوق رأسي يا محمد أرخ إزارك فجعلت أرفع رأسي فلا أرى شيئا إلا أني أسمع الصوت فتماسكت ولم أرخه فكأن إنسانا ضربني على ظهري فخررت لوجهي وانحل إزاري فسترني وسقط التراب إلى الأرض فقمت إلى دار أبي طالب عمي ولم أعد . وأما حديث مجاورته ع بحراء فمشهور وقد ورد في الكتب الصحاح أنه كان يجاور في حراء من كل سنة شهرا وكان يطعم في ذلك الشهر من جاءه من المساكين فإذا قضى جواره من حراء كان أول ما يبدأ به إذا انصرف أن يأتي باب الكعبة قبل أن يدخل بيته فيطوف بها سبعا أو ما شاء الله من ذلك ثم يرجع إلى بيته حتى جاءت السنة التي أكرمه الله فيها بالرسالة فجاور في حراء شهر رمضان ومعه أهله خديجة وعلي بن أبي طالب وخادم لهم فجاءه جبريل بالرسالة و
قال ع جاءني وأنا نائم بنمط فيه كتاب فقال اقرأ قلت ما أقرأ فغتني حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ اَلَّذِي خَلَقَ إلى قوله عَلَّمَ اَلْإِنْسانَ
[ 209 ]
ما لَمْ يَعْلَمْ فقرأته ثم انصرف عني فانتبهت من نومي وكأنما كتب في قلبي كتاب وذكر تمام الحديث . وأما حديث أن الإسلام لم يجتمع عليه بيت واحد يومئذ إلا النبي وهو ع وخديجة فخبر عفيف الكندي مشهور وقد ذكرناه من قبل وأن أبا طالب قال له أ تدري من هذا قال لا قال هذا ابن أخي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب وهذا ابني علي بن أبي طالب وهذه المرأة خلفهما خديجة بنت خويلد زوجة محمد ابن أخي وايم الله ما أعلم على الأرض كلها أحدا على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة . وأما رنة الشيطان(1/3754)
فروى أبو عبد الله أحمد بن حنبل في مسنده عن علي بن أبي طالب ع قال كنت مع رسول الله ص صبيحة الليلة التي أسري به فيها وهو بالحجر يصلي فلما قضى صلاته وقضيت صلاتي سمعت رنة شديدة فقلت يا رسول الله ما هذه الرنة قال أ لا تعلم هذه رنة الشيطان علم أني أسري بي الليلة إلى السماء فأيس من أن يعبد في هذه الأرض . و
قد روي عن النبي ص ما يشابه هذا لما بايعه الأنصار السبعون ليلة العقبة سمع من العقبة صوت عال في جوف الليل يا أهل مكة هذا مذمم والصباة معه قد أجمعوا على حربكم فقال رسول الله ص للأنصار أ لا تسمعون ما يقول هذا أزب العقبة يعني شيطانها وقد روي أزبب العقبة ثم التفت إليه فقال استمع يا عدو الله أما والله لأفرغن لك
[ 210 ]
و
روي عن جعفر بن محمد الصادق ع قال كان علي ع يرى مع رسول الله ص قبل الرسالة الضوء ويسمع الصوت وقال له ص لو لا أني خاتم الأنبياء لكنت شريكا في النبوة فإن لا تكن نبيا فإنك وصي نبي ووارثه بل أنت سيد الأوصياء وإمام الأتقياء وأما خبر الوزارة(1/3755)
فقد ذكره الطبري في تاريخه عن عبد الله بن عباس عن علي بن أبي طالب ع قال لما أنزلت هذه الآية وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ على رسول الله ص دعاني فقال يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتك الأقربين فضقت بذلك ذرعا وعلمت أني متى أنادهم بهذا الأمر أر منهم ما أكره فصمت حتى جاءني جبريل ع فقال يا محمد إنك إن لم تفعل ما أمرت به يعذبك ربك فاصنع لنا صاعا من طعام واجعل عليه رجل شاة واملأ لنا عسا من لبن ثم اجمع بني عبد المطلب حتى أكلمهم وأبلغهم ما أمرت به ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه وفيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب فلما اجتمعوا إليه دعا بالطعام الذي صنعت لهم فجئت به فلما وضعته تناول رسول الله ص بضعة من اللحم فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة ثم قال كلوا باسم الله فأكلوا حتى ما لهم إلى شي ء من حاجة وايم الله الذي نفس علي بيده إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمته لجميعهم ثم قال اسق القوم يا علي فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتى رووا جميعا وايم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله فلما أراد رسول الله ص أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال لشد ما سحركم صاحبكم فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله ص فقال من الغد يا علي إن هذا الرجل قد سبقني
[ 211 ](1/3756)
إلى ما سمعت من القول فتفرق القوم قبل أن أكلمهم فعد لنا اليوم إلى مثل ما صنعت بالأمس ثم اجمعهم لي ففعلت ثم جمعتهم ثم دعاني بالطعام فقربته لهم ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا حتى ما لهم بشي ء حاجة ثم قال اسقهم فجئتهم بذلك العس فشربوا منه جميعا حتى رووا ثم تكلم رسول الله ص فقال يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم أن شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم فأحجم القوم عنها جميعا وقلت أنا وإني لأحدثهم سنا وأرمصهم عينا وأعظمهم بطنا وأحمشهم ساقا أنا يا رسول الله أكون وزيرك عليه فأعاد القول فأمسكوا وأعدت ما قلت فأخذ برقبتي ثم قال لهم هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع . ويدل على أنه وزير رسول الله ص من نص الكتاب والسنة قول الله تعالى وَ اِجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي و
قال النبي ص في الخبر المجمع على روايته بين سائر فرق الإسلام أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي فأثبت له جميع مراتب هارون عن موسى فإذن هو وزير رسول الله ص وشاد أزره ولو لا أنه خاتم النبيين لكان شريكا في أمره .
[ 212 ]
و(1/3757)
روى أبو جعفر الطبري أيضا في التاريخ أن رجلا قال لعلي ع يا أمير المؤمنين بم ورثت ابن عمك دون عمك فقال علي ع هاؤم ثلاث مرات حتى اشرأب الناس ونشروا آذانهم ثم قال جمع رسول الله ص بني عبد المطلب بمكة وهم رهطه كلهم يأكل الجذعة ويشرب الفرق فصنع مدا من طعام حتى أكلوا وشبعوا وبقي الطعام كما هو كأنه لم يمس ثم دعا بغمر فشربوا ورووا وبقي الشراب كأنه لم يشرب ثم قال يا بني عبد المطلب إني بعثت إليكم خاصة وإلى الناس عامة فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووارثي فلم يقم إليه أحد فقمت إليه وكنت من أصغر القوم فقال اجلس ثم قال ذلك ثلاث مرات كل ذلك أقوم إليه فيقول اجلس حتى كان في الثالثة فضرب بيده على يدي فعند ذلك ورثت ابن عمي دون عمي : وَ لَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ ص لَمَّا أَتَاهُ اَلْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالُوا لَهُ يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ قَدِ اِدَّعَيْتَ عَظِيماً لَمْ يَدَّعِهِ آبَاؤُكَ وَ لاَ أَحَدٌ مِنْ بَيْتِكَ وَ نَحْنُ نَسْأَلُكَ أَمْراً إِنْ أَنْتَ أَجَبْتَنَا إِلَيْهِ وَ أَرَيْتَنَاهُ عَلِمْنَا أَنَّكَ نَبِيٌّ وَ رَسُولٌ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ فَقَالَ ص وَ مَا تَسْأَلُونَ قَالُوا تَدْعُو لَنَا هَذِهِ اَلشَّجَرَةَ حَتَّى تَنْقَلِعَ بِعُرُوقِهَا وَ تَقِفَ بَيْنَ يَدَيْكَ فَقَالَ ص إِنَّ اَللَّهَ عَلَى كُلِّ
[ 213 ](1/3758)
شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فَإِنْ فَعَلَ اَللَّهُ لَكُمْ ذَلِكَ أَ تُؤْمِنُونَ وَ تَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ قَالُوا نَعَمْ قَالَ فَإِنِّي سَأُرِيكُمْ مَا تَطْلُبُونَ وَ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكُمْ لاَ تَفِيئُونَ إِلَى خَيْرٍ وَ أَنَّ فِيكُمْ مَنْ يُطْرَحُ فِي اَلْقَلِيبِ وَ مَنْ يُحَزِّبُ اَلْأَحْزَابَ ثُمَّ قَالَ ص يَا أَيَّتُهَا اَلشَّجَرَةُ إِنْ كُنْتِ تُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلآْخِرِ وَ تَعْلَمِينَ أَنِّي رَسُولُ اَللَّهِ فَانْقَلِعِي بِعُرُوقِكِ حَتَّى تَقِفِي بَيْنَ يَدَيَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ وَ اَلَّذِي فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لاَنْقَلَعَتْ بِعُرُوقِهَا وَ جَاءَتْ وَ لَهَا دَوِيٌّ شَدِيدٌ وَ قَصْفٌ كَقَصْفِ أَجْنِحَةِ اَلطَّيْرِ حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اَللَّهِ ص مُرَفْرِفَةً وَ أَلْقَتْ بِغُصْنِهَا اَلْأَعْلَى عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ ص وَ بِبَعْضِ أَغْصَانِهَا عَلَى مَنْكِبِي وَ كُنْتُ عَنْ يَمِينِهِ ص فَلَمَّا نَظَرَ اَلْقَوْمُ إِلَى ذَلِكَ قَالُوا عُلُوّاً وَ اِسْتِكْبَاراً فَمُرْهَا فَلْيَأْتِكَ نِصْفُهَا وَ يَبْقَى نِصْفُهَا فَأَمَرَهَا بِذَلِكَ فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ نِصْفُهَا كَأَعْجَبِ إِقْبَالٍ وَ أَشَدِّهِ دَوِيّاً فَكَادَتْ تَلْتَفُّ بِرَسُولِ اَللَّهِ ص فَقَالُوا كُفْراً وَ عُتُوّاً فَمُرْ هَذَا اَلنِّصْفَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى نِصْفِهِ كَمَا كَانَ فَأَمَرَهُ ص فَرَجَعَ فَقُلْتُ أَنَا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ إِنِّي أَوَّلُ مُؤْمِنٍ بِكَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ وَ أَوَّلُ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ اَلشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْرِ اَللَّهِ تَعَالَى تَصْدِيقاً بِنُبُوَّتِكَ وَ إِجْلاَلاً لِكَلِمَتِكَ فَقَالَ اَلْقَوْمُ كُلُّهُمْ بَلْ سَاحِرٌ كَذَّابٌ عَجِيبُ اَلسِّحْرِ خَفِيفٌ فِيهِ وَ هَلْ يُصَدِّقُكَ فِي أَمْرِكَ إِلاَّ مِثْلُ هَذَا(1/3759)
يَعْنُونَنِي وَ إِنِّي لَمِنْ قَوْمٍ لاَ تَأْخُذُهُمْ فِي اَللَّهِ لَوْمَةُ لاَئِمٍ سِيمَاهُمْ سِيمَا اَلصِّدِّيقِينَ وَ كَلاَمُهُمْ كَلاَمُ اَلْأَبْرَارِ عُمَّارُ اَللَّيْلِ وَ مَنَارُ اَلنَّهَارِ مُتَمَسِّكُونَ بِحَبْلِ اَلْقُرْآنِ يُحْيُونَ سُنَنَ اَللَّهِ وَ سُنَنَ رَسُولِهِ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وَ لاَ يَعْلُونَ وَ لاَ يَغُلُّونَ وَ لاَ يُفْسِدُونَ قُلُوبُهُمْ فِي اَلْجِنَانِ وَ أَجْسَادُهُمْ فِي اَلْعَمَلِ
[ 214 ](1/3760)
الملأ الجماعة ولا تفيئون لا ترجعون ومن يطرح في القليب كعتبة وشيبة ابني ربيعة بن عبد شمس وعمرو بن هشام بن المغيرة المكنى أبا جهل وغيرهم طرحوا في قليب بدر بعد انقضاء الحرب ومن يحزب الأحزاب أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية . والقصف والقصيف الصوت وسيماهم علامتهم ومثله سيمياء . ومعنى قوله ع قلوبهم في الجنان وأجسادهم في العمل أن قلوبهم ملتذة بمعرفة الله تعالى وأجسادهم نصبة بالعبادة . وأما أمر الشجرة التي دعاها رسول الله ص فالحديث الوارد فيها كثير مستفيض قد ذكره المحدثون في كتبهم وذكره المتكلمون في معجزات الرسول ص والأكثرون رووا الخبر فيها على الوضع الذي جاء في خطبة أمير المؤمنين ومنهم من يروي ذلك مختصرا أنه دعا شجرة فأقبلت تخد إليه الأرض خدا . وقد ذكر البيهقي في كتاب دلائل النبوة حديث الشجرة ورواه أيضا محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب السيرة والمغازي على وجه آخر قال محمد بن إسحاق كان ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف أشد قريش كلها فخلا يوما برسول الله ص في بعض شعاب مكة فقال له رسول الله ص يا ركانة أ لا تتقي الله وتقبل ما أدعوك إليه قال لو أعلم أن الذي تقول حق لاتبعتك قال أ فرأيت إن صرعتك أ تعلم أن ما أقول لك حق قال نعم قال فقم حتى أصارعك فقام ركانة فلما بطش به رسول الله ص أضجعه لا يملك من نفسه شيئا فقال عد يا محمد فعاد فصرعه فقال يا محمد إن هذا لعجب حين تصرعني فقال رسول الله ص وأعجب من ذلك إن شئت أريتكه إن اتقيت الله واتبعت أمري
[ 215 ]
قال ما هو قال أدعو لك هذه الشجرة التي تراها فتأتي قال فادعها فدعاها فأقبلت حتى وقفت بين يدي رسول الله ص ثم قال ارجعي إلى مكانك فرجعت إلى مكانها فرجع ركانة إلى قومه وقال يا بني عبد مناف ساحروا بصاحبكم أهل الأرض فما رأيت أسحر منه قط ثم أخبرهم بالذي رأى والذي صنع(1/3761)
القول في إسلام أبي بكر وعلي وخصائص كل منهما
و ينبغي أن نذكر في هذا الموضع ملخص ما ذكره الشيخ أبو عثمان الجاحظ في كتابه المعروف بكتاب العثمانية في تفضيل إسلام أبي بكر على إسلام علي ع لأن هذا الموضع يقتضيه لقوله ع حكاية عن قريش لما صدق رسول الله ص وهل يصدقك في أمرك إلا مثل هذا لأنهم استصغروا سنه فاستحقروا أمر محمد رسول الله ص حيث لم يصدقه في دعواه إلا غلام صغير السن وشبهة العثمانية التي قررها الجاحظ من هذه الشبهة نشأت ومن هذه الكلمة تفرعت لأن خلاصتها أن أبا بكر أسلم وهو ابن أربعين سنة وعلي أسلم ولم يبلغ الحلم فكان إسلام أبي بكر أفضل . ثم نذكر ما اعترض به شيخنا أبو جعفر الإسكافي على الجاحظ في كتابه المعروف بنقض العثمانية ويتشعب الكلام بينهما حتى يخرج عن البحث في الإسلامين إلى البحث في أفضلية الرجلين وخصائصهما فإن ذلك لا يخلو عن فائدة جليلة ونكتة
[ 216 ](1/3762)
لطيفة لا يليق أن يخلو كتابنا هذا عنها ولأن كلامهما بالرسائل والخطابة أشبه وفي الكتابة أقصد وأدخل وكتابنا هذا موضوع لذكر ذلك وأمثاله . قال أبو عثمان قالت العثمانية أفضل الأمة وأولاها بالإمامة أبو بكر بن أبي قحافة لإسلامه على الوجه الذي لم يسلم عليه أحد في عصره وذلك أن الناس اختلفوا في أول الناس إسلاما فقال قوم أبو بكر وقال قوم زيد بن حارثة وقال قوم خباب بن الأرت . وإذا تفقدنا أخبارهم وأحصينا أحاديثهم وعددنا رجالهم ونظرنا في صحة أسانيدهم كان الخبر في تقدم إسلام أبي بكر أعم ورجاله أكثر وأسانيده أصح وهو بذاك أشهر واللفظ فيه أظهر مع الأشعار الصحيحة والأخبار المستفيضة في حياة رسول الله ص وبعد وفاته وليس بين الأشعار والأخبار فرق إذا امتنع في مجيئها وأصل مخرجها التباعد والاتفاق والتواطؤ ولكن ندع هذا المذهب جانبا ونضرب عنه صفحا اقتدارا على الحجة ووثوقا بالفلج والقوة ونقتصر على أدنى نازل في أبي بكر وننزل على حكم الخصم فنقول إنا وجدنا من يزعم أنه أسلم قبل زيد وخباب ووجدنا من يزعم أنهما أسلما قبله وأوسط الأمور أعدلها وأقربها من محبة الجميع ورضا المخالف أن نجعل إسلامهم كان معا إذ الأخبار متكافئة والآثار متساوية على ما تزعمون وليست إحدى القضيتين أولى في صحة العقل من الأخرى ثم نستدل على إمامه أبي بكر بما ورد فيه من الحديث وبما أبانه به الرسول ص من غيره . قالوا فمما روي من تقدم إسلامه ما حدث به أبو داود وابن مهدي عن شعبة وابن عيينة عن الجريري عن أبي هريرة قال أبو بكر أنا أحقكم بهذا الأمر يعني الخلافة أ لست أول من صلى .
[ 217 ](1/3763)
روى عباد بن صهيب عن يحيى بن عمير عن محمد بن المنكدر أن رسول الله ص قال إن الله بعثني بالهدى ودين الحق إلى الناس كافة فقالوا كذبت وقال أبو بكر صدقت . وروى يعلى بن عبيد قال جاء رجل إلى ابن عباس فسأله من كان أول الناس إسلاما فقال أ ما سمعت قول حسان بن ثابت
إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة
فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
الثاني التالي المحمود مشهده
و أول الناس منهم صدق الرسلا
و قال أبو محجن
سبقت إلى الإسلام والله شاهد
و كنت حبيبا بالعريش المشهر
و قال كعب بن مالك
سبقت أخا تيم إلى دين أحمد
و كنت لدى الغيران في الكهف صاحبا
و روى ابن أبي شيبة عن عبد الله بن إدريس ووكيع عن شعبة عن عمرو بن مرة قال قال النخعي أبو بكر أول من أسلم . و
روى هيثم عن يعلى بن عطاء عن عمرو بن عنبسة قال أتيت النبي ص وهو بعكاظ فقلت من بايعك على هذا الأمر فقال بايعني حر وعبد فلقد رأيتني يومئذ وأنا رابع الإسلام .
[ 218 ]
قال بعض أصحاب الحديث يعني بالحر أبا بكر وبالعبد بلالا . و
روى الليث بن سعد عن معاوية بن صالح عن سليم بن عامر عن أبي أمامه قال حدثني عمرو بن عنبسة أنه سأل النبي ص وهو بعكاظ فقال له من تبعك قال تبعني حر وعبد أبو بكر وبلال و(1/3764)
روى عمرو بن إبراهيم الهاشمي عن عبد الملك بن عمير عن أسيد بن صفوان صاحب النبي ص قال لما قبض أبو بكر جاء علي بن أبي طالب ع فقال رحمك الله أبا بكر كنت أول الناس إسلاما . وروى عباد عن الحسن بن دينار عن بشر بن أبي زينب عن عكرمة مولى ابن عباس قال إذا لقيت الهاشميين قالوا علي بن أبي طالب أول من أسلم وإذا لقيت الذين يعلمون قالوا أبو بكر أول من أسلم . قال أبو عثمان الجاحظ قالت العثمانية فإن قال قائل فما بالكم لم تذكروا علي بن أبي طالب في هذه الطبقة وقد تعلمون كثرة مقدميه والرواية فيه قلنا قد علمنا الرواية الصحيحة والشهادة القائمة أنه أسلم وهو حدث غرير وطفل صغير فلم نكذب الناقلين ولم نستطع أن نلحق إسلامه بإسلام البالغين لأن المقلل زعم أنه أسلم وهو ابن خمس سنين والمكثر زعم أنه أسلم وهو ابن تسع سنين فالقياس أن يؤخذ بالأوسط بين الروايتين وبالأمر بين الأمرين وإنما يعرف حق ذلك من باطله بأن نحصي سنيه التي ولي فيها الخلافة وسني عمر وسني عثمان وسني أبي بكر ومقام النبي ص بالمدينة ومقامه بمكة عند إظهار الدعوة فإذا فعلنا ذلك صح أنه أسلم وهو ابن سبع سنين فالتاريخ المجمع عليه أنه قتل ع في شهر رمضان سنة أربعين .
[ 219 ](1/3765)
قال شيخنا أبو جعفر الإسكافي لو لا ما غلب على الناس من الجهل وحب التقليد لم نحتج إلى نقض ما احتجت به العثمانية فقد علم الناس كافة أن الدولة والسلطان لأرباب مقالتهم وعرف كل أحد علو أقدار شيوخهم وعلمائهم وأمرائهم وظهور كلمتهم وقهر سلطانهم وارتفاع التقية عنهم والكرامة والجائزة لمن روى الأخبار والأحاديث في فضل أبي بكر وما كان من تأكيد بني أمية لذلك وما ولده المحدثون من الأحاديث طلبا لما في أيديهم فكانوا لا يألون جهدا في طول ما ملكوا أن يخملوا ذكر علي ع وولده ويطفئوا نورهم ويكتموا فضائلهم ومناقبهم وسوابقهم ويحملوا على شتمهم وسبهم ولعنهم على المنابر فلم يزل السيف يقطر من دمائهم مع قلة عددهم وكثرة عدوهم فكانوا بين قتيل وأسير وشريد وهارب ومستخف ذليل وخائف مترقب حتى إن الفقيه والمحدث والقاضي والمتكلم ليتقدم إليه ويتوعد بغاية الإيعاد وأشد العقوبة ألا يذكروا شيئا من فضائلهم ولا يرخصوا لأحد أن يطيف بهم وحتى بلغ من تقية المحدث أنه إذا ذكر حديثا عن علي ع كنى عن ذكره فقال قال رجل من قريش وفعل رجل من قريش ولا يذكر عليا ع ولا يتفوه باسمه . ثم رأينا جميع المختلفين قد حاولوا نقض فضائله ووجهوا الحيل والتأويلات نحوها من خارجي مارق وناصب حنق وثابت مستبهم وناشئ معاند ومنافق مكذب وعثماني حسود يعترض فيها ويطعن ومعتزلي قد نقض في الكلام وأبصر علم الاختلاف
[ 220 ](1/3766)
و عرف الشبه ومواضع الطعن وضروب التأويل قد التمس الحيل في إبطال مناقبه وتأول مشهور فضائله فمرة يتأولها بما لا يحتمل ومرة يقصد أن يضع من قدرها بقياس منتقض ولا يزداد مع ذلك إلا قوة ورفعة ووضوحا واستنارة وقد علمت أن معاوية ويزيد ومن كان بعدهما من بني مروان أيام ملكهم وذلك نحو ثمانين سنة لم يدعوا جهدا في حمل الناس على شتمه ولعنه وإخفاء فضائله وستر مناقبه وسوابقه روى خالد بن عبد الله الواسطي عن حصين بن عبد الرحمن عن هلال بن يساف عن عبد الله بن ظالم قال لما بويع لمعاوية أقام المغيرة بن شعبة خطباء يلعنون عليا ع فقال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أ لا ترون إلى هذا الرجل الظالم يأمر بلعن رجل من أهل الجنة . روى سليمان بن داود عن شعبة عن الحر بن الصباح قال سمعت عبد الرحمن بن الأخنس يقول شهدت المغيرة بن شعبة خطب فذكر عليا ع فنال منه . روى أبو كريب قال حدثنا أبو أسامة قال حدثنا صدقة بن المثنى النخعي عن رياح بن الحارث قال بينما المغيرة بن شعبة بالمسجد الأكبر وعنده ناس إذ جاءه رجل يقال له قيس بن علقمة فاستقبل المغيرة فسب عليا ع . روى محمد بن سعيد الأصفهاني عن شريك عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن علي بن الحسين عن أبيه علي بن الحسين ع قال قال لي مروان ما كان في القوم أدفع عن صاحبنا من صاحبكم قلت فما بالكم تسبونه على المنابر قال إنه لا يستقيم لنا الأمر إلا بذلك . روى مالك بن إسماعيل أبو غسان النهدي عن ابن أبي سيف قال خطب مروان والحسن ع جالس فنال من علي ع فقال الحسن ويلك يا مروان أ هذا الذي تشتم شر الناس قال لا ولكنه خير الناس .
[ 221 ](1/3767)
و روى أبو غسان أيضا قال قال عمر بن عبد العزيز كان أبي يخطب فلا يزال مستمرا في خطبته حتى إذا صار إلى ذكر علي وسبه تقطع لسانه واصفر وجهه وتغيرت حاله فقلت له في ذلك فقال أ وقد فطنت لذلك إن هؤلاء لو يعلمون من علي ما يعلمه أبوك ما تبعنا منهم رجل . وروى أبو عثمان قال حدثنا أبو اليقظان قال قام رجل من ولد عثمان إلى هشام بن عبد الملك يوم عرفة فقال إن هذا يوم كانت الخلفاء تستحب فيه لعن أبي تراب . وروى عمرو بن الفناد عن محمد بن فضيل عن أشعث بن سوار قال سب عدي بن أرطاة عليا ع على المنبر فبكى الحسن البصري وقال لقد سب هذا اليوم رجل إنه لأخو رسول الله ص في الدنيا والآخرة . وروى عدي بن ثابت عن إسماعيل بن إبراهيم قال كنت أنا وإبراهيم بن يزيد جالسين في الجمعة مما يلي أبواب كندة فخرج المغيرة فخطب فحمد الله ثم ذكر ما شاء أن يذكر ثم وقع في علي ع فضرب إبراهيم على فخذي أو ركبتي ثم قال أقبل علي فحدثني فإنا لسنا في جمعة أ لا تسمع ما يقول هذا . وروى عبد الله بن عثمان الثقفي قال حدثنا ابن أبي سيف قال قال ابن لعامر بن عبد الله بن الزبير لولده لا تذكر يا بني عليا إلا بخير فإن بني أمية لعنوه على منابرهم ثمانين سنة فلم يزده الله بذلك إلا رفعة إن الدنيا لم تبن شيئا قط إلا رجعت على ما بنت فهدمته وإن الدين لم يبن شيئا قط وهدمه . وروى عثمان بن سعيد قال حدثنا مطلب بن زياد عن أبي بكر بن عبد الله الأصبهاني قال كان دعي لبني أمية يقال له خالد بن عبد الله لا يزال يشتم عليا ع
[ 222 ](1/3768)
فلما كان يوم جمعة وهو يخطب الناس قال والله إن كان رسول الله ليستعمله وإنه ليعلم ما هو ولكنه كان ختنه وقد نعس سعيد بن المسيب ففتح عينيه ثم قال ويحكم ما قال هذا الخبيث رأيت القبر انصدع ورسول الله ص يقول كذبت يا عدو الله . وروى القناد قال حدثنا أسباط بن نصر الهمداني عن السدي قال بينما أنا بالمدينة عند أحجار الزيت إذ أقبل راكب على بعير فوقف فسب عليا ع فخف به الناس ينظرون إليه فبينما هو كذلك إذ أقبل سعد بن أبي وقاص فقال اللهم إن كان سب عبدا لك صالحا فأر المسلمين خزيه فما لبث أن نفر به بعيره فسقط فاندقت عنقه . وروى عثمان بن أبي شيبة عن عبد الله بن موسى عن فطر بن خليفة عن أبي عبد الله الجدلي قال دخلت على أم سلمة رحمها الله فقالت لي أ يسب رسول الله ص فيكم وأنتم أحياء قلت وأنى يكون هذا قالت أ ليس يسب علي ع ومن يحبه . وروى العباس بن بكار الضبي قال حدثني أبو بكر الهذلي عن الزهري قال قال ابن عباس لمعاوية أ لا تكف عن شتم هذا الرجل قال ما كنت لأفعل حتى يربو عليه الصغير ويهرم فيه الكبير فلما ولي عمر بن عبد العزيز كف عن شتمه فقال الناس ترك السنة . قال وقد روي عن ابن مسعود إما موقوفا عليه أو مرفوعا كيف أنتم إذا شملتكم فتنة يربو عليها الصغير ويهرم فيها الكبير يجري عليها الناس فيتخذونها سنة فإذا غير منها شي ء قيل غيرت السنة .
[ 223 ](1/3769)
قال أبو جعفر وقد تعلمون أن بعض الملوك ربما أحدثوا قولا أو دينا لهوى فيحملون الناس على ذلك حتى لا يعرفوا غيره كنحو ما أخذ الناس الحجاج بن يوسف بقراءة عثمان وترك قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب وتوعد على ذلك بدون ما صنع هو وجبابرة بني أمية وطغاة مروان بولد علي ع وشيعته وإنما كان سلطانه نحو عشرين سنة فما مات الحجاج حتى اجتمع أهل العراق على قراءة عثمان ونشأ أبناؤهم ولا يعرفون غيرها لإمساك الآباء عنها وكف المعلمين عن تعليمها حتى لو قرأت عليهم قراءة عبد الله وأبي ما عرفوها ولظنوا بتأليفها الاستكراه والاستهجان لإلف العادة وطول الجهالة لأنه إذا استولت على الرعية الغلبة وطالت عليهم أيام التسلط وشاعت فيهم المخافة وشملتهم التقية اتفقوا على التخاذل والتساكت فلا تزال الأيام تأخذ من بصائرهم وتنقص من ضمائرهم وتنقض من مرائرهم حتى تصير البدعة التي أحدثوها غامرة للسنة التي كانوا يعرفونها ولقد كان الحجاج ومن ولاه كعبد الملك والوليد ومن كان قبلهما وبعدهما من فراعنة بني أمية على إخفاء محاسن علي ع وفضائله وفضائل ولده وشيعته وإسقاط أقدارهم أحرص منهم على إسقاط قراءة عبد الله وأبي لأن تلك القراءات لا تكون سببا لزوال ملكهم وفساد أمرهم وانكشاف حالهم وفي اشتهار فضل علي ع وولده وإظهار محاسنهم بوارهم وتسليط حكم الكتاب المنبوذ عليهم فحرصوا واجتهدوا في إخفاء فضائله وحملوا الناس على كتمانها وسترها وأبى الله أن يزيد أمره وأمر ولده إلا استنارة وإشراقا وحبهم إلا شغفا وشدة وذكرهم إلا انتشارا وكثرة وحجتهم إلا وضوحا وقوة وفضلهم إلا ظهورا وشأنهم إلا علوا وأقدارهم إلا إعظاما حتى أصبحوا بإهانتهم إياهم أعزاء وبإماتتهم ذكرهم أحياء وما أرادوا به وبهم من الشر تحول خيرا فانتهى إلينا من ذكر فضائله وخصائصه ومزاياه وسوابقه ما لم يتقدمه السابقون ولا ساواه فيه القاصدون(1/3770)
و لا يلحقه الطالبون ولو لا أنها كانت
[ 224 ]
كالقبلة المنصوبة في الشهرة وكالسنن المحفوظة في الكثرة لم يصل إلينا منها في دهرنا حرف واحد إذا كان الأمر كما وصفناه . قال فأما ما احتج به الجاحظ بإمامة أبي بكر بكونه أول الناس إسلاما فلو كان هذا احتجاجا صحيحا لاحتج به أبو بكر يوم السقيفة وما رأيناه صنع ذلك لأنه أخذ بيد عمر ويد أبي عبيدة بن الجراح وقال للناس قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا منهما من شئتم ولو كان هذا احتجاجا صحيحا لما قال عمر كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها ولو كان احتجاجا صحيحا لادعى واحد من الناس لأبي بكر الإمامة في عصره أو بعد عصره بكونه سبق إلى الإسلام وما عرفنا أحدا ادعى له ذلك على أن جمهور المحدثين لم يذكروا أن أبا بكر أسلم إلا بعد عدة من الرجال منهم علي بن أبي طالب وجعفر أخوه وزيد بن حارثة وأبو ذر الغفاري وعمرو بن عنبسة السلمي وخالد بن سعيد بن العاص وخباب بن الأرت وإذا تأملنا الروايات الصحيحة والأسانيد القوية والوثيقة وجدناها كلها ناطقة بأن عليا ع أول من أسلم . فأما الرواية عن ابن عباس أن أبا بكر أولهم إسلاما فقد روي عن ابن عباس خلاف ذلك بأكثر مما رووا وأشهر فمن ذلك ما رواه يحيى بن حماد عن أبي عوانة وسعيد بن عيسى عن أبي داود الطيالسي عن عمرو بن ميمون عن ابن عباس أنه قال أول من صلى من الرجال علي ع . و
روى الحسن البصري قال حدثنا عيسى بن راشد عن أبي بصير عن عكرمة عن ابن عباس قال فرض الله تعالى الاستغفار لعلي ع في القرآن
[ 225 ]
على كل مسلم بقوله تعالى رَبَّنَا اِغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا اَلَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ فكل من أسلم بعد علي فهو يستغفر لعلي ع و(1/3771)
روى سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال السباق ثلاثة سبق يوشع بن نون إلى موسى وسبق صاحب يس إلى عيسى وسبق علي بن أبي طالب إلى محمد عليه وعليهم السلام . فهذا قول ابن عباس في سبق علي ع إلى الإسلام وهو أثبت من حديث الشعبي وأشهر على أنه قد روي عن الشعبي خلاف ذلك من حديث
أبي بكر الهذلي وداود بن أبي هند عن الشعبي قال قال رسول الله ص لعلي ع هذا أول من آمن بي وصدقني وصلى معي . قال فأما الأخبار الواردة بسبقه إلى الإسلام المذكورة في الكتب الصحاح والأسانيد الموثوق بها فمنها ما روى شريك بن عبد الله عن سليمان بن المغيرة عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود أنه قال أول شي ء علمته من أمر رسول الله ص أني قدمت مكة مع عمومة لي وناس من قومي وكان من أنفسنا شراء عطر فأرشدنا إلى العباس بن عبد المطلب فانتهينا إليه وهو جالس إلى زمزم فبينا نحن عنده جلوسا إذ أقبل رجل من باب الصفا وعليه ثوبان أبيضان وله وفرة إلى أنصاف أذنيه جعدة أشم أقنى أدعج العينين كث اللحية براق الثنايا أبيض تعلوه حمرة كأنه القمر ليلة البدر وعلى يمينه غلام مراهق أو محتلم حسن الوجه تقفوهم امرأة قد سترت محاسنها حتى قصدوا نحو الحجر فاستلمه واستلمه الغلام ثم استلمته المرأة ثم طاف بالبيت سبعا والغلام والمرأة يطوفان معه ثم استقبل الحجر
[ 226 ](1/3772)
فقام ورفع يديه وكبر وقام الغلام إلى جانبه وقامت المرأة خلفها فرفعت يديها وكبرت فأطال القنوت ثم ركع وركع الغلام والمرأة ثم رفع رأسه فأطال ورفع الغلام والمرأة معه يصنعان مثل ما يصنع فلما رأينا شيئا ننكره لا نعرفه بمكة أقبلنا على العباس فقلنا يا أبا الفضل إن هذا الدين ما كنا نعرفه فيكم قال أجل والله قلنا فمن هذا قال هذا ابن أخي هذا محمد بن عبد الله وهذا الغلام ابن أخي أيضا هذا علي بن أبي طالب وهذه المرأة زوجة محمد هذه خديجة بنت خويلد والله ما على وجه الأرض أحد يدين بهذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة ومن حديث موسى بن داود عن خالد بن نافع عن عفيف بن قيس الكندي وقد رواه عن عفيف أيضا مالك بن إسماعيل النهدي والحسن بن عنبسة الوراق وإبراهيم بن محمد بن ميمونة قالوا جميعا حدثنا سعيد بن جشم عن أسد بن عبد الله البجلي عن يحيى بن عفيف بن قيس عن أبيه قال كنت في الجاهلية عطارا فقدمت مكة فنزلت على العباس بن عبد المطلب فبينا أنا جالس عنده أنظر إلى الكعبة وقد تحلقت الشمس في السماء أقبل شاب كان في وجهه القمر حتى رمى ببصره إلى السماء فنظر إلى الشمس ساعة ثم أقبل حتى دنا من الكعبة فصف قدميه يصلي فخرج على أثره فتى كأن وجهه صفيحة يمانية فقام عن يمينه فجاءت امرأة متلففة في ثيابها فقامت خلفهما فأهوى الشاب راكعا فركعا معه ثم أهوى إلى الأرض ساجدا فسجدا معه فقلت للعباس يا أبا الفضل أمر عظيم فقال أمر والله عظيم أ تدري من هذا الشاب قلت لا قال هذا ابن أخي هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أ تدري من هذا الفتى قلت لا قال هذا ابن أخي علي بن أبي طالب بن عبد المطلب أ تدري من المرأة قلت لا قال هذه ابنة خويلد بن أسد بن عبد العزى هذه خديجة زوج محمد هذا وإن محمدا هذا يذكر أن إلهه إله السماء والأرض وأمره بهذا الدين فهو عليه كما ترى
[ 227 ](1/3773)
و يزعم أنه نبي وقد صدقه على قوله علي ابن عمه هذا الفتى وزوجته خديجة هذه المرأة والله ما أعلم على وجه الأرض كلها أحدا على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة قال عفيف فقلت له فما تقولون أنتم قال ننتظر الشيخ ما يصنع يعني أبا طالب أخاه . و
روى عبد الله بن موسى والفضل بن دكين والحسن بن عطية قالوا حدثنا خالد بن طهمان عن نافع بن أبي نافع عن معقل بن يسار قال كنت أوصى النبي ص فقال لي هل لك أن نعود فاطمة قلت نعم يا رسول الله فقام يمشي متوكئا علي وقال أما إنه سيحمل ثقلها غيرك ويكون أجرها لك قال فو الله كأنه لم يكن علي من ثقل النبي ص شي ء فدخلنا على فاطمة ع فقال لها ص كيف تجدينك قالت لقد طال أسفي واشتد حزني وقال لي النساء زوجك أبوك فقيرا لا مال له فقال لها أ ما ترضين أني زوجتك أقدم أمتي سلما وأكثرهم علما وأفضلهم حلما قالت بلى رضيت يا رسول الله : وقد روى هذا الخبر يحيى بن عبد الحميد وعبد السلام بن صالح عن قيس بن الربيع عن أبي أيوب الأنصاري بألفاظه أو نحوها : . و
روى عبد السلام بن صالح عن إسحاق الأزرق عن جعفر بن محمد عن آبائه أن رسول الله ص لما زوج فاطمة دخل النساء عليها فقلن يا بنت رسول الله خطبك فلان وفلان فردهم عنك وزوجك فقيرا لا مال له فلما دخل عليها أبوها ص رأى ذلك في وجهها فسألها فذكرت له ذلك فقال يا فاطمة إن الله أمرني فأنكحتك أقدمهم سلما وأكثرهم علما وأعظمهم حلما وما زوجتك إلا بأمر من السماء أ ما علمت أنه أخي في الدنيا والآخرة
[ 228 ]
و
روى عثمان بن سعيد عن الحكم بن ظهير عن السدي أن أبا بكر وعمر خطبا فاطمة ع فردهما رسول الله ص وقال لم أومر بذلك فخطبها علي ع فزوجه إياها وقال لها زوجتك أقدم الأمة إسلاما وذكر تمام الحديث قال وقد روى هذا الخبر جماعة من الصحابة منهم أسماء بنت عميس وأم أيمن وابن عباس وجابر بن عبد الله .(1/3774)
قال وقد روى محمد بن عبد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده أبي رافع قال أتيت أبا ذر بالربذة أودعه فلما أردت الانصراف قال لي ولأناس معي ستكون فتنة فاتقوا الله وعليكم بالشيخ علي بن أبي طالب فاتبعوه فإني سمعت رسول الله ص يقول له أنت أول من آمن بي وأول من يصافحني يوم القيامة وأنت الصديق الأكبر وأنت الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل وأنت يعسوب المؤمنين والمال يعسوب الكافرين وأنت أخي ووزيري وخير من أترك بعدي تقضي ديني وتنجز موعدي قال وقد
روى ابن أبي شيبة عن عبد الله بن نمير عن العلاء بن صالح عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله الأسدي قال سمعت علي بن أبي طالب يقول أنا عبد الله وأخو رسوله وأنا الصديق الأكبر لا يقولها غيري إلا كذاب ولقد صليت قبل الناس سبع سنين . و
روت معاذة بنت عبد الله العدوية قالت سمعت عليا ع يخطب على منبر البصرة ويقول أنا الصديق الأكبر آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر وأسلمت قبل أن يسلم . و
روى حبة بن جوين العرني أنه سمع عليا ع يقول أنا أول رجل أسلم
[ 229 ]
مع رسول الله ص رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة عن سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن حبة بن جوين و
روى عثمان بن سعيد الخراز عن علي بن حرار عن علي بن عامر عن أبي الحجاف عن حكيم مولى زاذان قال سمعت عليا ع يقول صليت قبل الناس سبع سنين وكنا نسجد ولا نركع وأول صلاة ركعنا فيها صلاة العصر فقلت يا رسول الله ما هذا قال أمرت به و
روى إسماعيل بن عمرو عن قيس بن الربيع عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر بن عبد الله قال صلى رسول الله ص يوم الإثنين وصلى علي يوم الثلاثاء بعده وفي الرواية الأخرى
عن أنس بن مالك استنبئ النبي ص يوم الإثنين وأسلم علي يوم الثلاثاء بعده و(1/3775)
روى أبو رافع أن رسول الله ص صلى أول صلاة صلاها غداة الإثنين وصلت خديجة آخر نهار يومها ذلك وصلى علي ع يوم الثلاثاء غدا ذلك اليوم . قال وقد روي بروايات مختلفة كثيرة متعددة عن زيد بن أرقم وسلمان الفارسي وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك أن عليا ع أول من أسلم وذكر الروايات والرجال بأسمائهم و
روى سلمة بن كهيل عن رجاله الذين ذكرهم أبو جعفر في الكتاب أن رسول الله ص قال أولكم ورودا علي الحوض أولكم إسلاما علي بن أبي طالب و
روى ياسين بن محمد بن أيمن عن أبي حازم مولى ابن عباس عن ابن عباس
[ 230 ]
قال سمعت عمر بن الخطاب وهو يقول كفوا عن علي بن أبي طالب فإني سمعت من رسول الله ص يقول فيه خصالا لو أن خصلة منها في جميع آل الخطاب كان أحب لي مما طلعت عليه الشمس كنت ذات يوم وأبو بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة مع نفر من أصحاب رسول الله ص نطلبه فانتهينا إلى باب أم سلمة فوجدنا عليا متكئا على نجاف الباب فقلنا أردنا رسول الله ص فقال هو في البيت رويدكم فخرج رسول الله ص فسرنا حوله فاتكأ على علي ع وضرب بيده على منكبه فقال أبشر يا علي بن أبي طالب إنك مخاصم وإنك تخصم الناس بسبع لا يجاريك أحد في واحدة منهن أنت أول الناس إسلاما وأعلمهم بأيام الله وذكر الحديث . قال وقد روى أبو سعيد الخدري عن النبي ص مثل هذا الحديث . قال
روى أبو أيوب الأنصاري عن رسول الله ص أنه قال لقد صلت الملائكة علي وعلى علي ع سبع سنين وذلك أنه لم يصل معي رجل فيها غيره . قال أبو جعفر فأما ما رواه الجاحظ من
قوله ص إنما تبعني حر وعبد فإنه لم يسم في هذا الحديث أبا بكر وبلالا وكيف وأبو بكر لم يشتر بلالا إلا بعد ظهور الإسلام بمكة فلما أظهر بلال إسلامه عذبه أمية بن خلف ولم يكن ذلك حال إخفاء رسول الله ص الدعوة ولا في ابتداء أمر الإسلام .
[ 231 ](1/3776)
و قد قيل إنه ع إنما عنى بالحر علي بن أبي طالب وبالعبد زيد بن حارثة . وروى ذلك محمد بن إسحاق قال وقد روى إسماعيل بن نصر الصفار عن محمد بن ذكوان عن الشعبي قال قال الحجاج للحسن وعنده جماعة من التابعين وذكر علي بن أبي طالب ما تقول أنت يا حسن فقال ما أقول هو أول من صلى إلى القبلة وأجاب دعوة رسول الله ص وإن لعلي منزلة من ربه وقرابة من رسوله وقد سبقت له سوابق لا يستطيع ردها أحد فغضب الحجاج غضبا شديدا وقام عن سريره فدخل بعض البيوت وأمر بصرفنا . قال الشعبي وكنا جماعة ما منا إلا من نال من علي ع مقاربة للحجاج غير الحسن بن أبي الحسن رحمه الله . وروى محرز بن هشام عن إبراهيم بن سلمة عن محمد بن عبيد الله قال قال رجل للحسن ما لنا لا نراك تثني على علي وتقرظه قال كيف وسيف الحجاج يقطر دما إنه لأول من أسلم وحسبكم بذلك . قال فهذه الأخبار . وأما الأشعار المروية فمعروفة كثيرة منتشرة فمنها قول عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب مجيبا للوليد بن عقبة بن أبي معيط
و إن ولي الأمر بعد محمد
علي وفي كل المواطن صاحبه
وصي رسول الله حقا وصنوه
و أول من صلى ومن لان جانبه
و قال خزيمة بن ثابت في هذا
وصي رسول الله من دون أهله
و فارسه مذ كان في سالف الزمن
و أول من صلى من الناس كلهم
سوى خيرة النسوان والله ذو منن
[ 232 ]
و قال أبو سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس حين بويع أبو بكر
ما كنت أحسب أن الأمر منصرف
عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أ ليس أول من صلى لقبلتهم
و أعلم الناس بالأحكام والسنن
و قال أبو الأسود الدؤلي يهدد طلحة والزبير
و إن عليا لكم مصحر
يماثله الأسد الأسود
أما إنه أول العابدين
بمكة والله لا يعبد
و قال سعيد بن قيس الهمداني يرتجز بصفين
هذا علي وابن عم المصطفى
أول من أجابه فيما روى
هو الإمام لا يبالي من غوى
و قال زفر بن يزيد بن حذيفة الأسدي
فحوطوا عليا وانصروه فإنه(1/3777)
وصي وفي الإسلام أول أول
و إن تخذلوه والحوادث جمة
فليس لكم عن أرضكم متحول
قال والأشعار كالأخبار إذا امتنع في مجي ء القبيلين التواطؤ والاتفاق كان ورودهما حجة فأما قول الجاحظ فأوسط الأمور أن نجعل إسلامهما معا فقد أبطل بهذا ما احتج به لإمامة أبي بكر لأنه احتج بالسبق وقد عدل الآن عنه . قال أبو جعفر ويقال لهم لسنا نحتاج من ذكر سبق علي ع إلا مجامعتكم إيانا على أنه أسلم قبل الناس ودعواكم أنه أسلم وهو طفل دعوى غير مقبولة لا بحجة . فإن قلتم ودعوتكم أنه أسلم وهو بالغ دعوى غير مقبولة إلا بحجة
[ 233 ]
قلنا قد ثبت إسلامه بحكم إقراركم ولو كان طفلا لكان في الحقيقة غير مسلم لأن اسم الإيمان والإسلام والكفر والطاعة والمعصية إنما يقع على البالغين دون الأطفال والمجانين وإذا أطلقتم وأطلقنا اسم الإسلام فالأصل في الإطلاق الحقيقة كيف و
قد قال النبي ص أنت أول من آمن بي وأنت أول من صدقني و(1/3778)
قال لفاطمة زوجتك أقدمهم سلما أو قال إسلاما فإن قالوا إنما دعاه النبي ص إلى الإسلام على جهة العرض لا التكليف . قلنا قد وافقتمونا على الدعاء وحكم الدعاء حكم الأمر والتكليف ثم ادعيتم أن ذلك كان على وجه العرض وليس لكم أن تقبلوا معنى الدعاء عن وجهه إلا لحجة . فإن قالوا لعله كان على وجه التأديب والتعليم كما يعتمد مثل ذلك مع الأطفال قلنا إن ذلك إنما يكون إذا تمكن الإسلام بأهله أو عند النشوء عليه والولادة فيه فأما في دار الشرك فلا يقع مثل ذلك لا سيما إذا كان الإسلام غير معروف ولا معتاد بينهم على أنه ليس من سنة النبي ص دعاء أطفال المشركين إلى الإسلام والتفريق بينهم وبين آبائهم قبل أن يبلغوا الحلم . وأيضا فمن شأن الطفل اتباع أهله وتقليد أبيه والمضي على منشئه ومولده وقد كانت منزلة النبي ص حينئذ منزلة ضيق وشدة ووحدة وهذه منازل لا ينتقل إليها إلا من ثبت الإسلام عنده بحجة ودخل اليقين قلبه بعلم ومعرفة . فإن قالوا إن عليا ع كان يألف النبي ص فوافقه على طريق المساعدة له قلنا إنه وإن كان يألفه أكثر من أبويه وإخوته وعمومته وأهل بيته ولم يكن الإلف ليخرجه عما نشأ عليه ولم يكن الإسلام مما غذي به وكرر على سمعه
[ 234 ](1/3779)
لأن الإسلام هو خلع الأنداد والبراءة ممن أشرك بالله وهذا لا يجتمع في اعتقاد طفل . ومن العجب قول العباس لعفيف بن قيس ننتظر الشيخ وما يصنع فإذا كان العباس وحمزة ينتظران أبا طالب ويصدران عن رأيه فكيف يخالفه ابنه ويؤثر القلة على الكثرة ويفارق المحبوب إلى المكروه والعز إلى الذل والأمن إلى الخوف عن غير معرفة ولا علم بما فيه . فأما قوله إن المقلل يزعم أنه أسلم وهو ابن خمس سنين والمكثر يزعم أنه أسلم وهو ابن تسع سنين فأول ما يقال في ذلك إن الأخبار جاءت في سنه ع يوم أسلم على خمسة أقسام فجعلناه في قسمين القسم الأول الذين قالوا أسلم وهو ابن خمس عشرة سنة حدثنا بذلك أحمد بن سعيد الأسدي عن إسحاق بن بشر القرشي عن الأوزاعي عن حمزة بن حبيب عن شداد بن أوس قال سألت خباب بن الأرت عن إسلام علي فقال أسلم وهو ابن خمس عشرة سنة ولقد رأيته يصلي قبل الناس مع النبي ص وهو يومئذ بالغ مستحكم البلوغ وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الحسن أن أول من أسلم علي بن أبي طالب وهو ابن خمس عشرة سنة . القسم الثاني الذين قالوا إنه أسلم وهو ابن أربع عشرة سنة رواه أبو قتادة الحراني عن أبي حازم الأعرج عن حذيفة بن اليمان قال كنا نعبد الحجارة ونشرب الخمر وعلي من أبناء أربع عشرة سنة قائم يصلي مع النبي ص ليلا ونهارا وقريش يومئذ تسافه رسول الله ص ما يذب عنه إلا علي
[ 235 ]
ع وروى ابن أبي شيبة عن جرير بن عبد الحميد قال أسلم علي وهو ابن أربع عشرة سنة . القسم الثالث الذين قالوا أسلم وهو ابن إحدى عشرة سنة
رواه إسماعيل بن عبد الله الرقي عن محمد بن عمر عن عبد الله بن سمعان عن جعفر بن محمد ع عن أبيه عن محمد بن علي ع أن عليا حين أسلم كان ابن إحدى عشرة سنة و(1/3780)
روى عبد الله بن زياد المدني عن محمد بن علي الباقر ع قال أول من آمن بالله علي بن أبي طالب وهو ابن إحدى عشرة سنة وهاجر إلى المدينة وهو ابن أربع وعشرين سنة . القسم الرابع الذين قالوا إنه أسلم وهو ابن عشر سنين رواه نوح بن دراج عن محمد بن إسحاق قال أول ذكر آمن وصدق بالنبوة علي بن أبي طالب ع وهو ابن عشر سنين ثم أسلم زيد بن حارثة ثم أسلم أبو بكر وهو ابن ست وثلاثين سنة فيما بلغنا . القسم الخامس الذين قالوا إنه أسلم وهو ابن تسع سنين رواه الحسن بن عنبسة الوراق عن سليم مولى الشعبي عن الشعبي قال أول من أسلم من الرجال علي بن أبي طالب وهو ابن تسع سنين وكان له يوم قبض رسول الله ص تسع وعشرون سنة . قال شيخنا أبو جعفر فهذه الأخبار كما تراها فإما أن يكون الجاحظ جهلها أو قصد العناد . فأما قوله فالقياس أن نأخذ بأوسط الأمرين من الروايتين فنقول إنه أسلم وهو ابن سبع سنين فإن هذا تحكم منه ويلزمه مثله في رجل ادعى قبل رجل عشرة
[ 236 ](1/3781)
دراهم فأنكر ذلك وقال إنما يستحق قبلي أربعة دراهم فينبغي أن نأخذ الأمر المتوسط ويلزمه سبعة دراهم ويلزمه في أبي بكر حيث قال قوم كان كافرا وقال قوم كان إماما عادلا أن نقول أعدل الأقاويل أوسطها وهو منزلة بين المنزلتين فنقول كان فاسقا ظالما وكذلك في جميع الأمور المختلف فيها . فأما قوله وإنما يعرف حق ذلك من باطله بأن نحصي سني ولاية عثمان وعمر وأبي بكر وسني الهجرة ومقام النبي ص بمكة بعد الرسالة إلى أن هاجر فيقال له لو كانت الروايات متفقة على هذه التاريخات لكان لهذا القول مساغ ولكن الناس قد اختلفوا في ذلك فقيل إن رسول الله ص أقام بمكة بعد الرسالة خمس عشرة سنة رواه ابن عباس وقيل ثلاث عشرة سنة وروي عن ابن عباس أيضا وأكثر الناس يرونه وقيل عشر سنين رواه عرة بن الزبير وهو قول الحسن البصري وسعيد بن المسيب واختلفوا في سن رسول الله ص فقال قوم كان ابن خمس وستين وقيل كان ابن ثلاث وستين وقيل كان ابن ستين واختلفوا في سن علي ع فقيل كان ابن سبع وستين وقيل كان ابن خمس وستين وقيل ابن ثلاث وستين وقيل ابن ستين وقيل ابن تسع وخمسين . فكيف يمكن مع هذه الاختلافات تحقيق هذه الحال وإنما الواجب أن يرجع إلى إطلاق قولهم أسلم علي فإن هذا الاسم لا يكون مطلقا إلا على البالغ كما لا يطلق اسم الكافر إلا على البالغ على أن ابن إحدى عشرة سنة يكون بالغا ويولد له الأولاد فقد روت الرواة أن عمرو بن العاص لم يكن أسن من ابنه عبد الله
[ 237 ](1/3782)
إلا باثنتي عشرة سنة وهذا يوجب أنه احتلم وبلغ في أقل من إحدى عشرة سنة . وروي أيضا أن محمد بن عبد الله بن العباس كان أصغر من أبيه علي بن عبد الله بن العباس بإحدى عشرة سنة فيلزم الجاحظ أن يكون عبد الله بن العباس حين مات رسول الله ص غير مسلم على الحقيقة ولا مثاب ولا مطيع بالإسلام لأنه كان 0 يومئذ ابن عشر سنين رواه هشيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال توفي رسول الله ص وأنا ابن عشر سنين . قال الجاحظ فإن قالوا فلعله وهو ابن سبع سنين أو ثماني سنين قد بلغ من فطنته وذكائه وصحة لبه وصدق حدسه وانكشاف العواقب له وإن لم يكن جرب الأمور ولا فاتح الرجال ولا نازع الخصوم ما يعرف به جميع ما يحب على البالغ معرفته والإقرار به قيل لهم إنما نتكلم على ظواهر الأحوال وما شاهدنا عليه طبائع الأطفال فإنا وجدنا حكم ابن سبع سنين أو ثمان ما لم يعلم باطن أمره وخاصة طبعه حكم الأطفال وليس لنا أن نزيل ظاهر حكمه والذي نعرف من حال أفناء جنسه بلعل وعسى لأنا وإن كنا لا ندري لعله قد كان ذا فضيلة في الفطنة فلعله قد كان ذا نقص فيها . هذا على تجويز أن يكون علي ع في الغيب قد أسلم وهو ابن سبع أو ثمان إسلام البالغ غير أن الحكم على مجرى أمثاله وأشكاله الذين أسلموا وهم في مثل سنه إذ كان إسلام هؤلاء عن تربية الحاضن وتلقين القيم ورياضة السائس . فأما عند التحقيق فإنه لا تجويز لمثل ذلك لأنه لو كان أسلم وهو ابن سبع
[ 238 ](1/3783)
أو ثمان وعرف فضل ما بين الأنبياء والكهنة وفرق ما بين الرسل والسحرة وفرق ما بين خبر النبي والمنجم وحتى عرف كيد الأريب وموضع الحجة وبعد غور المتنبئ كيف يلبس على العقلاء وتستمال عقول الدهماء وعرف الممكن في الطبع من الممتنع وما يحدث بالاتفاق مما يحدث بالأسباب وعرف قدر القوى وغاية الحيلة ومنتهى التمويه والخديعة وما لا يحتمل أن يحدثه إلا الخالق سبحانه وما يجوز على الله في حكمته مما لا يجوز وكيف التحفظ من الهوى والاحتراس من الخداع لكان كونه على هذه الحال وهذه مع فرط الصبا والحداثة وقلة التجارب والممارسة خروجا من العادة ومن المعروف مما عليه تركيب هذه الخلقة وليس يصل أحد إلى معرفة نبي وكذب متنبئ حتى يجتمع فيه هذه المعارف التي ذكرناها والأسباب التي وصفناها وفصلناها ولو كان علي ع على هذه الصفة ومعه هذه الخاصية لكان حجة على العامة وآية تدل على النبوة ولم يكن الله عز وجل ليخصه بمثل هذه الأعجوبة إلا وهو يريد أن يحتج بها ويجعلها قاطعة لعذر الشاهد وحجة على الغائب ولو لا أن الله أخبر عن يحيى بن زكريا أنه آتاه الحكم صبيا وأنه أنطق عيسى في المهد ما كانا في الحكم ولا في المغيب إلا كسائر الرسل وما عليه جميع البشر فإذا لم ينطق لعلي ع بذلك قرآن ولا جاء الخبر به مجي ء الحجة القاطعة والمشاهدة القائمة فالمعلوم عندنا في الحكم أن طباعه كطباع عميه حمزة والعباس وهما أمس بمعدن جماع الخير منه أو كطباع جعفر وعقيل من رجال قومه وسادة رهطه ولو أن إنسانا ادعى مثل ذلك لأخيه جعفر أو لعميه حمزة والعباس ما كان عندنا في أمره إلا مثل ما عندنا فيه أجاب شيخنا أبو جعفر رحمه الله فقال هذا كله مبني على أنه أسلم وهو ابن سبع أو ثمان ونحن قد بينا أنه أسلم بالغا ابن خمس عشرة سنة أو ابن أربع عشرة سنة على
[ 239 ](1/3784)
أنا لو نزلنا على حكم الخصوم وقلنا ما هو الأشهر والأكثر من الرواية وهو أنه أسلم وهو ابن عشر لم يلزم ما قاله الجاحظ لأن ابن عشر قد يستجمع عقله ويعلم من مبادئ المعارف ما يستخرج به كثيرا من الأمور المعقولة ومتى كان الصبي عاقلا مميزا كان مكلفا بالعقليات وإن كان تكليفه بالشرعيات موقوفا على حد آخر وغاية أخرى فليس بمنكر أن يكون علي ع وهو ابن عشر قد عقل المعجزة فلزمه الإقرار بالنبوة وأسلم إسلام عالم عارف لا إسلام مقلد تابع وإن كان ما نسقه الجاحظ وعدده من معرفة السحر والنجوم والفصل بينهما وبين النبوة ومعرفة ما يجوز في الحكمة مما لا يجوز وما لا يحدثه إلا الخالق والفرق بينه وبين ما يقدر عليه القادرون بالقدرة ومعرفة التمويه والخديعة والتلبيس والمماكرة شرطا في صحة الإسلام لما صح إسلام أبي بكر ولا عمر ولا غيرهما من العرب وإنما التكليف لهؤلاء بالجمل ومبادئ المعارف لا بدقائقها والغامض منها وليس يفتقر الإسلام إلى أن يكون المسلم قد فاتح الرجال وجرب الأمور ونازع الخصوم وإنما يفتقر إلى صحة الغريزة وكمال العقل وسلامة الفطرة أ لا ترى أن طفلا لو نشأ في دار لم يعاشر الناس بها ولا فاتح الرجال ولا نازع الخصوم ثم كمل عقله وحصلت العلوم البديهية عنده لكان مكلفا بالعقليات . فأما توهمه أن عليا ع أسلم عن تربية الحاضن وتلقين القيم ورياضة السائس فلعمري إن محمدا ص كان حاضنه وقيمه وسائسه ولكن لم يكن منقطعا عن أبيه أبي طالب ولا عن إخوته طالب وعقيل وجعفر ولا عن عمومته وأهل بيته وما زال مخالطا لهم ممتزجا بهم مع خدمته لمحمد ص فما باله لم يمل إلى الشرك وعبادة الأصنام لمخالطته إخوته وأباه وعمومته وأهله وهم كثير ومحمد ص واحد وأنت تعلم أن الصبي إذا كان له أهل ذوو كثرة وفيهم واحد
[ 240 ](1/3785)
يذهب إلى رأي مفرد لا يوافقه عليه غيره منهم فإنه إلى ذوي الكثرة أميل وعن ذي الرأي الشاذ المنفرد أبعد وعلى أن عليا ع لم يولد في دار الإسلام وإنما ولد في دار الشرك وربي بين المشركين وشاهد الأصنام وعاين بعينه أهله ورهطه يعبدونها فلو كان في دار الإسلام لكان في القول مجال ولقيل إنه ولد بين المسلمين فإسلامه عن تلقين الظئر وعن سماع كلمة الإسلام ومشاهدة شعاره لأنه لم يسمع غيره ولا خطر بباله سواه فلما لم يكن ولد كذلك ثبت أن إسلامه إسلام المميز العارف بما دخل عليه ولو لا أنه كذلك لما مدحه رسول الله ص بذلك ولا أرضى ابنته فاطمة لما وجدت من تزويجه بقوله لها زوجتك أقدمهم سلما ولا قرن إلى قوله وأكثرهم علما وأعظمهم حلما والحلم العقل وهذان الأمران غاية الفضل فلو لا أنه أسلم إسلام عارف عالم مميز لما ضم إسلامه إلى العلم والحلم اللذين وصفه بهما وكيف يجوز أن يمدحه بأمر لم يكن مثابا عليه ولا معاقبا به لو تركه ولو كان إسلامه عن تلقين وتربية لما افتخر هو ع به على رءوس الأشهاد ولا خطب على المنبر وهو بين عدو ومحارب وخاذل منافق فقال أنا عبد الله وأخو رسوله وأنا الصديق الأكبر والفاروق الأعظم صليت قبل الناس سبع سنين وأسلمت قبل إسلام أبي بكر وآمنت قبل إيمانه فهل بلغكم أن أحدا من أهل ذلك العصر أنكر ذلك أو عابه أو ادعاه لغيره أو قال له إنما كنت طفلا أسلمت على تربية محمد ص ذلك وتلقينه إياك كما يعلم الطفل الفارسية والتركية منذ يكون رضيعا فلا فخر له في تعلم ذلك وخصوصا في عصر قد حارب فيه أهل البصرة والشام والنهروان وقد اعتورته الأعداء وهجته الشعراء فقال فيه النعمان بن بشير
[ 241 ]
لقد طلب الخلافة من بعيد
و سارع في الضلال أبو تراب
معاوية الإمام وأنت منها
على وتح بمنقطع السراب
و قال فيه أيضا بعض الخوارج
دسسنا له تحت الظلام ابن ملجم
جزاء إذا ما جاء نفسا كتابها(1/3786)
أبا حسن خذها على الرأس ضربة
بكف كريم بعد موت ثوابها
و قال عمران بن حطان يمدح قاتله
يا ضربة من تقي ما أراد بها
إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره حينا فأحسبه
أوفى البرية عند الله ميزانا
فلو وجد هؤلاء سبيلا إلى دحض حجة فيما كان يفخر به من تقدم إسلامه لبدءوا بذلك وتركوا ما لا معنى له . وقد أوردنا ما مدحه الشعراء به من سبقه إلى الإسلام فكيف لم يرد على هؤلاء الذين مدحوه بالسبق شاعر واحد من أهل حربه ولقد قال في أمهات الأولاد قولا خالف فيه عمر فذكروه بذلك وعابوه فكيف تركوا أن يعيبوه بما كان يفتخر به مما لا فخر فيه عندهم وعابوه بقوله في أمهات الأولاد . ثم يقال له خبرنا عن عبد الله بن عمر وقد أجازه النبي ص يوم الخندق ولم يجزه يوم أحد هل كان يميز ما ذكرته وهل كان يعلم فرق ما بين النبي والمتنبئ ويفصل بين السحر والمعجزة إلى غيره مما عددت وفصلت . فإن قال نعم وتجاسر على ذلك قيل له فعلي ع بذلك أولى من ابن عمر لأنه أذكى وأفطن بلا خلاف بين العقلاء وأنى يشك في ذلك وقد رويتم أنه
[ 242 ](1/3787)
لم يميز بين الميزان والعود بعد طول السن وكثرة التجارب ولم يميز أيضا بين إمام الرشد وإمام الغي فإنه امتنع من بيعة علي ع وطرق على الحجاج بابه ليلا ليبايع لعبد الملك كيلا يبيت تلك الليلة بلا إمام زعم لأنه روي عن النبي ص أنه قال من مات ولا إمام له مات ميتة جاهلية وحتى بلغ من احتقار الحجاج له واسترذاله حاله أن أخرج رجله من الفراش فقال أصفق بيدك عليها فذلك تمييزه بين الميزان والعود وهذا اختياره في الأئمة وحال علي ع في ذكائه وفطنته وتوقد حسه وصدق حدسه معلومة مشهورة فإذا جاز أن يصح إسلام ابن عمر ويقال عنه إنه عرف تلك الأمور التي سردها الجاحظ ونسقها وأظهر فصاحته وتشدقه فيها فعلي بمعرفة ذلك أحق وبصحة إسلامه أولى . وإن قال لم يكن ابن عمر يعلم ويعرف ذلك فقد أبطل إسلامه وطعن في رسول الله ص حيث حكم بصحة إسلامه وأجازه يوم الخندق لأنه ع كان قال لا أجيز إلا البالغ العاقل ولذلك لم يجزه يوم أحد . ثم يقال له إن ما نقوله في بلوغ علي ع الحد الذي يحسن فيه التكليف العقلي بل يجب وهو ابن عشر سنين ليس بأعجب من مجي ء الولد لستة أشهر وقد صحح ذلك أهل العلم واستنبطوه من الكتاب وإن كان خارجا من التعارف والتجارب والعادة وكذلك مجي ء الولد لسنتين خارج أيضا عن التعارف والعادة وقد صححه الفقهاء والناس . ويروى أن معاذا لما نهى عمر عن رجم الحامل تركها حتى ولدت غلاما قد نبتت ثنيتاه فقال أبوه ابني ورب الكعبة فثبت ذلك سنة يعمل بها الفقهاء وقد وجدنا العادة تقضي بأن الجارية تحيض لاثنتي عشرة سنة وأنه أقل سن تحيض فيه المرأة وقد
[ 243 ](1/3788)
يكون في الأقل نساء يحضن لعشر ولتسع وقد ذكر ذلك الفقهاء وقد قال الشافعي في اللعان لو جاءت المرأة بحمل وزوجها صبي له دون عشر سنين لم يكن ولدا له لأن من لم يبلغ عشر سنين من الصبيان لا يولد له وإن كان له عشر سنين جاز أن يكون الولد له وكان بينهما لعان إذا لم يقر به . وقال الفقهاء أيضا إن نساء تهامة يحضن لتسع سنين لشدة الحر ببلادهن . قال الجاحظ ولو لم يعرف باطل هذه الدعوى من آثر التقوى وتحفظ من الهوى إلا بترك علي ع ذكر ذلك لنفسه والاحتجاج به على خصمه وقد نازع الرجال وناوى الأكفاء وجامع أهل الشورى لكان كافيا ومتى لم تصح لعلي ع هذه الدعوى في أيامه ولم يذكرها أهل عصره فهي عن ولده أعجز ومنهم أضعف . ولم ينقل أن عليا ع احتج بذلك في موقف ولا ذكره في مجلس ولا قام به خطيبا ولا أدلى به واثقا لا سيما وقد رضيه الرسول ص عندكم مفزعا ومعلما وجعله للناس إماما ولا ادعى له أحد ذلك في عصره كما لم يدعه لنفسه حتى يقول إنسان واحد الدليل على إمامته أن النبي ص دعاه إلى الإسلام أو كلفه التصديق قبل بلوغه ليكون ذلك آية للناس في عصره وحجة له ولولده من بعده فهذا كان أشد على طلحة والزبير وعائشة من كل ما ادعاه من فضائله وسوابقه وذكر قرابته . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله إن مثل الجاحظ مع فضله وعلمه لا يخفى عليه كذب
[ 244 ](1/3789)
هذه الدعوى وفسادها ولكنه يقول ما يقوله تعصبا وعنادا وقد روى الناس كافة افتخار علي ع بالسبق إلى الإسلام وأن النبي ص استنبئ يوم الإثنين وأسلم علي يوم الثلاثاء وأنه كان يقول صليت قبل الناس سبع سنين وأنه ما زال يقول أنا أول من أسلم ويفتخر بذلك ويفتخر له به أولياؤه ومادحوه وشيعته في عصره وبعد وفاته والأمر في ذلك أشهر من كل شهير وقد قدمنا منه طرفا وما علمنا أحدا من الناس فيما خلا استخف بإسلام علي ع ولا تهاون به ولا زعم أنه أسلم إسلام حدث غرير وطفل صغير ومن العجب أن يكون مثل العباس وحمزة ينتظران أبا طالب وفعله ليصدرا عن رأيه ثم يخالفه علي ابنه لغير رغبة ولا رهبة يؤثر القلة على الكثرة والذل على العزة من غير علم ولا معرفة بالعاقبة وكيف ينكر الجاحظ والعثمانية أن رسول الله ص دعاه إلى الإسلام وكلفه التصديق . وقد روي في الخبر الصحيح أنه كلفه في مبدإ الدعوة قبل ظهور كلمة الإسلام وانتشارها بمكة أن يصنع له طعاما وأن يدعو له بني عبد المطلب فصنع له الطعام ودعاهم له فخرجوا ذلك اليوم ولم ينذرهم ص لكلمة قالها عمه أبو لهب فكلفه في اليوم الثاني أن يصنع مثل ذلك الطعام وأن يدعوهم ثانية فصنعه ودعاهم فأكلوا ثم كلمهم ص فدعاهم إلى الدين ودعاه معهم لأنه من بني عبد المطلب ثم ضمن لمن يوازره منهم وينصره على قوله أن يجعله أخاه في الدين ووصيه بعد موته وخليفته من بعده فأمسكوا كلهم وأجابه هو وحده وقال أنا أنصرك على ما جئت به وأوازرك وأبايعك فقال لهم لما رأى منهم الخذلان ومنه النصر وشاهد منهم المعصية ومنه الطاعة وعاين منهم الإباء ومنه الإجابة هذا أخي ووصيي وخليفتي من بعدي فقاموا يسخرون ويضحكون ويقولون لأبي طالب أطع ابنك فقد أمره عليك فهل يكلف عمل
[ 245 ](1/3790)
الطعام ودعاء القوم صغير مميز وغر غير عاقل وهل يؤتمن على سر النبوة طفل ابن خمس سنين أو ابن سبع وهل يدعى في جملة الشيوخ والكهول إلا عاقل لبيب وهل يضع رسول الله ص يده في يده ويعطيه صفقة يمينه بالأخوة والوصية والخلافة إلا وهو أهل لذلك بالغ حد التكليف محتمل لولاية الله وعداوة أعدائه وما بال هذا الطفل لم يأنس بأقرانه ولم يلصق بأشكاله ولم ير مع الصبيان في ملاعبهم بعد إسلامه وهو كأحدهم في طبقته كبعضهم في معرفته . وكيف لم ينزع إليهم في ساعة من ساعاته فيقال دعاه داعي الصبا وخاطر من خواطر الدنيا وحملته الغرة والحداثة على حضور لهوهم والدخول في حالهم بل ما رأيناه إلا ماضيا على إسلامه مصمما في أمره محققا لقوله بفعله قد صدق إسلامه بعفافه وزهده ولصق برسول الله ص من بين جميع من بحضرته فهو أمينه وأليفه في دنياه وآخرته وقد قهر شهوته وجاذب خواطره صابرا على ذلك نفسه لما يرجو من فوز العاقبة وثواب الآخرة وقد ذكر هو ع في كلامه وخطبه بدء حاله وافتتاح أمره حيث أسلم لما دعا رسول الله ص الشجرة فأقبلت تخد الأرض فقالت قريش ساحر خفيف السحر فقال علي ع يا رسول الله أنا أول من يؤمن بك آمنت بالله ورسوله وصدقتك فيما جئت به وأنا أشهد أن الشجرة فعلت ما فعلت بأمر الله تصديقا لنبوتك وبرهانا على صحة دعوتك فهل يكون إيمان قط أصح من هذا الإيمان وأوثق عقدة وأحكم مرة ولكن حنق العثمانية وغيظهم وعصبية الجاحظ وانحرافه مما لا حيلة فيه ثم لينظر المنصف وليدع الهوى جانبا ليعلم نعمة الله على علي ع بالإسلام حيث أسلم على الوضع الذي أسلم عليه فإنه لو لا الألطاف التي خص بها والهداية التي منحها لما كان إلا كبعض أقارب محمد ص وأهله فقد كان ممازجا له كممازجته ومخالطا له كمخالطة كثير من أهله ورهطه ولم يستجب منهم
[ 246 ](1/3791)
أحد له إلا بعد حين ومنهم من لم يستجب له أصلا فإن جعفرا ع كان ملتصقا به ولم يسلم حينئذ وكان عتبة بن أبي لهب ابن عمه وصهره زوج ابنته ولم يصدقه بل كان شديدا عليه وكان لخديجة بنون من غيره ولم يسلموا حينئذ وهم ربائبه ومعه في دار واحدة وكان أبو طالب أباه في الحقيقة وكافله وناصره والمحامي عنه ومن لولاه لم تقم له قائمة ومع ذلك لم يسلم في أغلب الروايات وكان العباس عمه وصنو أبيه وكالقرين له في الولادة والمنشإ والتربية ولم يستجب له إلا بعد حين طويل وكان أبو لهب عمه وكدمه ولحمه ولم يسلم وكان شديدا عليه فكيف ينسب إسلام علي ع إلى الإلف والتربية والقرابة واللحمة والتلقين والحضانة والدار الجامعة وطول العشرة والأنس والخلوة وقد كان كل ذلك حاصلا لهؤلاء أو لكثير منهم ولم يهتد أحد منهم إذ ذاك بل كانوا بين من جحد وكفر ومات على كفره ومن أبطأ وتأخر وسبق بالإسلام وجاء سكيتا وقد فاز بالمنزلة غيره . وهل يدل تأمل حال علي ع مع الإنصاف إلا على أنه أسلم لأنه شاهد الأعلام ورأى المعجزات وشم ريح النبوة ورأى نور الرسالة وثبت اليقين في قلبه بمعرفة وعلم ونظر صحيح لا بتقليد ولا حمية ولا رغبة ولا رهبة إلا فيما يتعلق بأمور الآخرة . قال الجاحظ فلو أن عليا ع كان بالغا حيث أسلم لكان إسلام أبي بكر وزيد بن حارثة وخباب بن الأرت أفضل من إسلامه لأن إسلام المقتضب الذي لم يعتد به ولم يعوده ولم يمرن عليه أفضل من إسلام الناشئ الذي ربي فيه ونشأ وحبب
[ 247 ](1/3792)
إليه وذلك لأن صاحب التربية يبلغ حيث يبلغ وقد أسقط إلفه عنه مؤنة الروية والخاطر وكفاه علاج القلب واضطراب النفس وزيد وخباب وأبو بكر يعانون من كلفة النظر ومؤنة التأمل ومشقة الانتقال من الدين الذي قد طال إلفهم له ما هو غير خاف ولو كان علي حيث أسلم بالغا مقتضبا كغيره ممن عددنا كان إسلامهم أفضل من إسلامه لأن من أسلم وهو يعلم أن له ظهرا كأبي طالب وردءا كبني هاشم وموضعا في بني عبد المطلب ليس كالحليف والمولى والتابع والعسيف وكالرجل من عرض قريش أ ولست تعلم أن قريشا خاصة وأهل مكة عامة لم يقدروا على أذى النبي ص ما كان أبو طالب حيا وأيضا فإن أولئك اجتمع عليهم مع فراق الإلف مشقة الخواطر وعلي ع كان بحضرة رسول الله ص يشاهد الأعلام في كل وقت ويحضر منزل الوحي فالبراهين له أشد انكشافا والخواطر على قلبه أقل اعتلاجا وعلى قدر الكلفة والمشقة يعظم الفضل ويكثر الأجر . قال أبو جعفر رحمه الله ينبغي أن ينظر أهل الإنصاف هذا الفصل ويقفوا على قول الجاحظ والأصم في نصرة العثمانية واجتهادهما في القصد إلى فضائل هذا الرجل وتهجينها فمرة يبطلان معناها ومرة يتوصلان إلى حط قدرها فلينظر في كل باب اعترضا فيه أين بلغت حيلتهما وما صنعا في احتيالهما في قصصهما وسجعهما أ ليس إذا تأملتها علمت أنها ألفاظ ملفقة بلا معنى وأنها عليها شجى وبلاء وإلا فما عسى أن تبلغ حيلة الحاسد ويغني كيد الكائد الشانئ لمن قد جل قدره عن النقص وأضاءت فضائله إضاءة الشمس وأين قول الجاحظ من دلائل السماء وبراهين الأنبياء وقد علم
[ 248 ](1/3793)
الصغير والكبير والعالم والجاهل ممن بلغه ذكر علي ع وعلم مبعث النبي ص أن عليا ع لم يولد في دار الإسلام ولا غذي في حجر الإيمان وإنما استضافه رسول الله ص إلى نفسه سنة القحط والمجاعة وعمره يومئذ ثماني سنين فمكث معه سبع سنين حتى أتاه جبرئيل بالرسالة فدعاه وهو بالغ كامل العقل إلى الإسلام فأسلم بعد مشاهدة المعجزة وبعد إعمال النظر والفكرة وإن كان قد ورد في كلامه أنه صلى سبع سنين قبل الناس كلهم فإنما يعني ما بين الثمان والخمس عشرة ولم يكن حينئذ دعوة ولا رسالة ولا ادعاء نبوة وإنما كان رسول الله ص يتعبد على ملة إبراهيم ودين الحنيفية ويتحنث ويجانب الناس ويعتزل ويطلب الخلوة وينقطع في جبل حراء وكان علي ع معه كالتابع والتلميذ فلما بلغ الحلم وجاءت النبي ص الملائكة وبشرته بالرسالة دعاه فأجابه عن نظر ومعرفة بالأعلام المعجزة فكيف يقول الجاحظ إن إسلامه لم يكن مقتضبا . وإن كان إسلامه ينقص عن إسلام غيره في الفضيلة لما كان يمرن عليه من التعبد مع رسول الله ص قبل الدعوة لتكونن طاعة كثير من المكلفين أفضل من طاعة رسول الله ص وأمثاله من المعصومين لأن العصمة عند أهل العدل لطف يمنع من اختص به من ارتكاب القبيح فمن اختص بذلك اللطف كانت الطاعة عليه أسهل فوجب أن يكون ثوابه أنقص من ثواب من أطاع مع تلك الألطاف . وكيف يقول الجاحظ إن إسلامه ناقص عن إسلام غيره وقد جاء في الخبر أنه أسلم يوم الثلاثاء واستنبئ النبي ص يوم الإثنين فمن هذه حاله لم تكثر حجج الرسالة على سمعه ولا تواترت أعلام النبوة على مشاهدته ولا تطاول الوقت عليه لتخف محنته ويسقط ثقل تكليفه بل بان فضله وظهر حسن اختياره لنفسه إذ أسلم في حال بلوغه وعانى نوازع طبعه ولم يؤخر ذلك بعد سماعه .
[ 249 ](1/3794)
و قد غمر الجاحظ في كتابه هذا أن أبا بكر كان قبل إسلامه مذكورا ورئيسا معروفا يجتمع إليه كثير من أهل مكة فينشدون الأشعار ويتذاكرون الأخبار ويشربون الخمر وقد كان سمع دلائل النبوة وحجج الرسل وسافر إلى البلدان ووصلت إليه الأخبار وعرف دعوى الكهنة وحيل السحرة ومن كان كذلك كان انكشاف الأمور له أظهر والإسلام عليه أسهل والخواطر على قلبه أقل اعتلاجا وكل ذلك عون لأبي بكر على الإسلام ومسهل إليه سبيله ولذلك لما قال النبي ص أتيت بيت المقدس سأله أبو بكر عن المسجد ومواضعه فصدقه وبان له أمره وخفت مئونته لما تقدم من معرفته بالبيت فخرج إذا إسلام أبي بكر على قول الجاحظ من معنى المقتضب وفي ذلك رويتم
عنه ص أنه قال ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا وكان له تردد ونبوة إلا ما كان من أبي بكر فإنه لم يتلعثم حتى هجم به اليقين إلى المعرفة والإسلام فأين هذا وإسلام من خلي وعقله وألجئ إلى نظره مع صغر سنه واعتلاج الخواطر على قلبه ونشأته في ضد ما دخل فيه والغالب على أمثاله وأقرانه حب اللعب واللهو فلجأ إلى ما ظهر له من دلائل الدعوة ولم يتأخر إسلامه فيلزمه التقصير بالمعصية فقهر شهوته وغالب خواطره وخرج من عادته وما كان غذي به لصحة نظره ولطافة فكره وغامض فهمه فعظم استنباطه ورجح فضله وشرف قدر إسلامه ولم يأخذ من الدنيا بنصيب ولا تنعم فيها بنعيم حدثا ولا كبيرا وحمى نفسه عن الهوى وكسر شرة حداثته بالتقوى واشتغل بهم الدين عن نعيم الدنيا وأشغل هم الآخرة قلبه ووجه إليه رغبته فإسلامه هو السبيل الذي لم يسلم عليه أحد غيره وما سبيله في ذلك إلا كسبيل الأنبياء ليعلم أن منزلته من النبي ص كمنزلة هارون من موسى وأنه وإن لم يكن نبيا فقد كان في سبيل الأنبياء سالكا ولمنهاجهم متبعا وكانت حاله كحال إبراهيم ع فإن
[ 250 ](1/3795)
أهل العلم ذكروا أنه لما كان صغيرا جعلته أمه في سرب لم يطلع عليه أحد فلما نشأ ودرج وعقل قال لأمه من ربي قالت أبوك قال فمن رب أبي فزبرته ونهرته إلى أن طلع من شق السرب فرأى كوكبا فقال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بري ء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين وفي ذلك يقول الله جل ثناؤه وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ اَلْمُوقِنِينَ وعلى هذا كان إسلام الصديق الأكبر ع لسنا نقول إنه كان مساويا له في الفضيلة ولكن كان مقتديا بطريقه على ما قال الله تعالى إِنَّ أَوْلَى اَلنَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَ هذَا اَلنَّبِيُّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَللَّهُ وَلِيُّ اَلْمُؤْمِنِينَ وأما اعتلال الجاحظ بأن له ظهرا كأبي طالب وردءا كبني هاشم فإنه يوجب عليه أن تكون محنة أبي بكر وبلال وثوابهما وفضل إسلامهما أعظم مما لرسول الله ص لأن أبا طالب ظهره وبني هاشم ردؤه وحسبك جهلا من معاند لم يستطع حط قدر علي ع إلا بحطه من قدر رسول الله ص ولم يكن أحد أشد على رسول الله ص من قراباته الأدنى منهم فالأدنى كأبي لهب عمه وامرأة أبي لهب وهي أم جميل بنت حرب بن أمية وإحدى أولاد عبد مناف ثم ما كان من عقبة بن أبي معيط وهو ابن عمه وما كان من النضر بن الحارث وهو من بني عبد الدار بن قصي وهو ابن عمه أيضا وغير هؤلاء ممن يطول تعداده وكلهم كان يطرح الأذى في طريقه وينقل أخباره ويرميه بالحجارة ويرمي الكرش
[ 251 ](1/3796)
و الفرث عليه وكانوا يؤذون عليا ع كأذاه ويجتهدون في غمه ويستهزءون به وما كان لأبي بكر قرابة تؤذيه كقرابة علي ولما كان بين علي وبين النبي ص من الاتحاد والإلف والاتفاق أحجم المنافقون بالمدينة عن أذى رسول الله ص خوفا من سيفه ولأنه صاحب الدار والجيش وأمره مطاع وقوله نافذ فخافوا على دمائهم منه فاتقوه وأمسكوا عن إظهار بغضه وأظهروا بغض علي ع وشنآنه فقال رسول الله ص في حقه في
الخبر الذي روي في جميع الصحاح لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق وقال كثير من أعلام الصحابة كما
روي في الخبر المشهور بين المحدثين ما كنا نعرف المنافقين إلا ببغض علي بن أبي طالب وأين كان ظهر أبي طالب عن جعفر وقد أزعجه الأذى عن وطنه حتى هاجر إلى بلاد الحبشة وركب البحر أ يتوهم الجاحظ أن أبا طالب نصر عليا وخذل جعفرا . قال الجاحظ ولأبي بكر فضيلة في إسلامه أنه كان قبل إسلامه كثير الصديق عريض الجاه ذا يسار وغنى يعظم لماله ويستفاد من رأيه فخرج من عز الغنى وكثرة الصديق إلى ذل الفاقة وعجز الوحدة وهذا غير إسلام من لا حراك به ولا عز له تابع غير متبوع لأن من أشد ما يبتلى الكريم به السب بعد التحية والضرب بعد الهيبة والعسر بعد اليسر ثم كان أبو بكر دعية من دعاة الرسول وكان يتلوه في جميع أحواله فكان الخوف إليه أشد والمكروه نحوه أسرع وكان ممن تحسن مطالبته ولا يستحيا من إدراك الثأر عنده لنباهته وبعد ذكره والحدث الصغير يزدرى ويحتقر لصغر سنه وخمول ذكره .
[ 252 ](1/3797)
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله أما ما ذكر من كثرة المال والصديق واستفاضة الذكر وبعد الصيت وكبر السن فكله عليه لا له وذلك لأنه قد علم أن من سيرة العرب وأخلاقها حفظ الصديق والوفاء بالذمام والتهيب لذي الثروة واحترام ذي السن العالية وفي كل هذا ظهر شديد وسند وثقة يعتمد عليها عند المحن ولذلك كان المرء منهم إذا تمكن من صديقه أبقى عليه واستحيا منه وكان ذلك سببا لنجاته والعفو عنه على أن علي بن أبي طالب ع إن لم يكن شهره سنه فقد شهره نسبه وموضعه من بني هاشم وإن لم يستفض ذكره بلقاء الرجال وكثرة الأسفار استفاض بأبي طالب فأنتم تعلمون أنه ليس تيم في بعد الصيت كهاشم ولا أبو قحافة كأبي طالب وعلى حسب ذلك يعلو ذكر الفتى على ذي السن ويبعد صيت الحدث على الشيخ ومعلوم أيضا أن عليا على أعناق المشركين أثقل إذ كان هاشميا وإن كان أبوه حامى رسول الله ص والمانع لحوزته وعلي هو الذي فتح على العرب باب الخلاف واستهان بهم بما أظهر من الإسلام والصلاة وخالف رهطه وعشيرته وأطاع ابن عمه فيما لم يعرف من قبل ولا عهد له نظير كما قال تعالى لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ ثم كان بعد صاحب رسول الله ص ومشتكى حزنه وأنيسه في خلوته وجليسه وأليفه في أيامه كلها وكل هذا يوجب التحريض عليه ومعاداة العرب له ثم أنتم معاشر العثمانية تثبتون لأبي بكر فضيلة بصحبة الرسول ص من مكة إلى يثرب ودخوله معه في الغار فقلتم مرتبة شريفة وحالة جليلة إذ كان شريكه في الهجرة وأنيسه في الوحشة فأين هذه من صحبة علي ع له في خلوته وحيث لا يجد أنيسا غيره ليله ونهاره أيام مقامه بمكة يعبد الله
[ 253 ]
معه سرا ويتكلف له الحاجة جهرا ويخدمه كالعبد يخدم مولاه ويشفق عليه ويحوطه وكالولد يبر والده ويعطف عليه و(1/3798)
لما سئلت عائشة من كان أحب الناس إلى رسول الله ص قالت أما من الرجال فعلي وأما من النساء ففاطمة . قال الجاحظ وكان أبو بكر من المفتونين المعذبين بمكة قبل الهجرة فضربه نوفل بن خويلد المعروف بابن العدوية مرتين حتى أدماه وشده مع طلحة بن عبيد الله في قرن وجعلهما في الهاجرة عمير بن عثمان بن مرة بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة ولذلك كانا يدعيان القرينين ولو لم يكن له غير ذلك لكان لحاقه عسيرا وبلوغ منزلته شديدا ولو كان يوما واحدا لكان عظيما وعلي بن أبي طالب رافه وادع ليس بمطلوب ولا طالب وليس أنه لم يكن في طبعه الشهامة والنجدة وفي غريزته البسالة في الشجاعة لكنه لم يكن قد تمت أداته ولا استكملت آلته ورجال الطلب وأصحاب الثأر يغمصون ذا الحداثة ويزدرون بذي الصبا والغرارة إلى أن يلحق بالرجال ويخرج من طبع الأطفال . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله أما القول فممكن والدعوى سهلة سيما على مثل الجاحظ فإنه ليس على لسانه من دينه وعقله رقيب وهو من دعوى الباطل غير بعيد فمعناه نزر وقوله لغو ومطلبه سجع وكلامه لعب ولهو يقول الشي ء وخلافه ويحسن القول وضده ليس له من نفسه واعظ ولا لدعواه حد قائم وإلا فكيف تجاسر على القول بأن عليا حينئذ لم يكن مطلوبا ولا طالبا وقد بينا بالأخبار الصحيحة والحديث المرفوع المسند أنه كان يوم أسلم بالغا كاملا منابذا بلسانه وقلبه لمشركي قريش
[ 254 ](1/3799)
ثقيلا على قلوبهم وهو المخصوص دون أبي بكر بالحصار في الشعب وصاحب الخلوات برسول الله ص في تلك الظلمات المتجرع لغصص المرار من أبي لهب وأبي جهل وغيرهما والمصطلي لكل مكروه والشريك لنبيه في كل أذى قد نهض بالحمل الثقيل وبان بالأمر الجليل ومن الذي كان يخرج ليلا من الشعب على هيئة السارق ويخفي نفسه ويضائل شخصه حتى يأتي إلى من يبعثه إليه أبو طالب من كبراء قريش كمطعم بن عدي وغيره فيحمل لبني هاشم على ظهره أعدال الدقيق والقمح وهو على أشد خوف من أعدائهم كأبي جهل وغيره لو ظفروا به لأراقوا دمه أ علي كان يفعل ذلك أيام الحصار في الشعب أم أبو بكر وقد ذكر هو ع حاله يومئذ
فقال في خطبة له مشهورة فتعاقدوا ألا يعاملونا ولا يناكحونا وأوقدت الحرب علينا نيرانها واضطرونا إلى جبل وعر مؤمننا يرجو الثواب وكافرنا يحامي عن الأصل ولقد كانت القبائل كلها اجتمعت عليهم وقطعوا عنهم المارة والميرة فكانوا يتوقعون الموت جوعا صباحا ومساء لا يرون وجها ولا فرجا قد اضمحل عزمهم وانقطع رجاؤهم فمن الذي خلص إليه مكروه تلك المحن بعد محمد ص إلا علي ع وحده وما عسى أن يقول الواصف والمطنب في هذه الفضيلة من تقصي معانيها وبلوغ غاية كنهها وفضيلة الصابر عندها ودامت هذه المحنة عليهم ثلاث سنين حتى انفرجت عنهم بقصة الصحيفة والقصة مشهورة . وكيف يستحسن الجاحظ لنفسه أن يقول في علي ع إنه قبل الهجرة كان وادعا رافها لم يكن مطلوبا ولا طالبا وهو صاحب الفراش الذي فدى رسول الله ص بنفسه ووقاه بمهجته واحتمل السيوف ورضح الحجارة دونه وهل ينتهي الواصف وإن أطنب والمادح وإن أسهب إلى الإبانة عن مقدار هذه الفضيلة والإيضاح بمزية هذه الخصيصة .
[ 255 ](1/3800)
فأما قوله إن أبا بكر عذب بمكة فإنا لا نعلم أن العذاب كان واقعا إلا بعبد أو عسيف أو لمن لا عشيرة له تمنعه فأنتم في أبي بكر بين أمرين تارة تجعلونه دخيلا ساقطا وهجينا رذيلا مستضعفا ذليلا وتارة تجعلونه رئيسا متبعا وكبيرا مطاعا فاعتمدوا على أحد القولين لنكلمكم بحسب ما تختارونه لأنفسكم ولو كان الفضل في الفتنة والعذاب لكان عمار وخباب وبلال وكل معذب بمكة أفضل من أبي بكر لأنهم كانوا من العذاب في أكثر مما كان فيه ونزل فيهم من القرآن ما لم ينزل فيه كقوله تعالى وَ اَلَّذِينَ هاجَرُوا فِي اَللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا قالوا نزلت في خباب وبلال ونزل في عمار قوله إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وكان رسول الله ص يمر على عمار وأبيه وأمه وهم يعذبون يعذبهم بنو مخزوم لأنهم كانوا حلفاءهم
فيقول صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة وكان بلال يقلب على الرمضاء وهو يقول أحد أحد وما سمعنا لأبي بكر في شي ء من ذلك ذكرا ولقد كان لعلي ع عنده يد غراء إن صح ما رويتموه في تعذيبه لأنه قتل نوفل بن خويلد وعمير بن عثمان يوم بدر ضرب نوفلا فقطع ساقه فقال أذكرك الله والرحم فقال قد قطع الله كل رحم وصهر إلا من كان تابعا لمحمد ثم ضربه أخرى ففاضت نفسه وصمد لعمير بن عثمان التميمي فوجده يروم الهرب وقد ارتج عليه المسلك فضربه على شراسيف صدره فصار نصفه الأعلى بين رجليه وليس أن أبا بكر لم يطلب بثأره منهما ويجتهد لكنه لم يقدر على أن يفعل فعل علي ع فبان علي ع بفعله دونه قال الجاحظ ولأبي بكر مراتب لا يشركه فيها علي ولا غيره وذلك قبل الهجرة
[ 256 ](1/3801)
فقد علم الناس أن عليا ع إنما ظهر فضله وانتشر صيته وامتحن ولقي المشاق منذ يوم بدر وأنه إنما قاتل في الزمان الذي استوفى فيه أهل الإسلام وأهل الشرك وطمعوا في أن يكون الحرب بينهم سجالا وأعلمهم الله تعالى أن العاقبة للمتقين وأبو بكر كان قبل الهجرة معذبا ومطرودا مشردا في الزمان الذي ليس بالإسلام وأهله نهوض ولا حركة ولذلك قال أبو بكر في خلافته طوبى لمن مات في فأفأة الإسلام يقول في ضعفه . قال أبو جعفر رحمه الله لا أشك أن الباطل خان أبا عثمان والخطأ أقعده والخذلان أصاره إلى الحيرة فما علم وعرف حتى قال ما قال فزعم أن عليا ع قبل الهجرة لم يمتحن ولم يكابد المشاق وأنه إنما قاسى مشاق التكليف ومحن الابتلاء منذ يوم بدر ونسي الحصار في الشعب وما مني به منه وأبو بكر وادع رافه يأكل ما يريد ويجلس مع من يحب مخلى سربه طيبة نفسه ساكنا قلبه وعلي يقاسي الغمرات ويكابد الأهوال ويجوع ويظمأ ويتوقع القتل صباحا ومساء لأنه كان هو المتوصل المحتال في إحضار قوت زهيد من شيوخ قريش وعقلائها سرا ليقيم به رمق رسول الله ص وبني هاشم وهم في الحصار ولا يأمن في كل وقت مفاجأة أعداء رسول الله ص له بالقتل كأبي جهل بن هشام وعقبة بن أبي معيط والوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة وغيرهم من فراعنة قريش وجبابرتها ولقد كان يجيع نفسه ويطعم رسول الله ص زاده ويظمئ نفسه ويسقيه ماءه وهو كان المعلل له إذا مرض والمؤنس له إذا استوحش وأبو بكر بنجوة عن ذلك لا يمسه مما يمسهم ألم ولم يلحقه مما يلحقهم مشقة ولا يعلم بشي ء من أخبارهم وأحوالهم إلا على سبيل الإجمال دون التفصيل ثلاث سنين محرمة معاملتهم ومناكحتهم ومجالستهم محبوسين محصورين ممنوعين من الخروج
[ 257 ](1/3802)
و التصرف في أنفسهم فكيف أهمل الجاحظ هذه الفضيلة ونسي هذه الخصيصة ولا نظير لها ولكن لا يبالي الجاحظ بعد أن يسوغ له لفظه وتنسق له خطابته ما ضيع من المعنى ورجع عليه من الخطأ . فأما قوله واعلموا أن العاقبة للمتقين ففيه إشارة إلى معنى غامض قصده الجاحظ يعني أن لا فضيلة لعلي ع في الجهاد لأن الرسول كان أعلمه أنه منصور وأن العاقبة له وهذا من دسائس الجاحظ وهمزاته ولمزاته وليس بحق ما قاله لأن رسول الله ص أعلم أصحابه جملة أن العاقبة لهم ولم يعلم واحدا منهم بعينه أنه لا يقتل لا عليا ولا غيره وإن صح أنه كان أعلمه أنه لا يقتل فلم يعلمه أنه لا يقطع عضو من أعضائه ولم يعلمه أنه لا يمسه ألم جراح في جسده ولم يعلمه أنه لا يناله الضرب الشديد . وعلى أن رسول الله ص قد أعلم أصحابه قبل يوم بدر وهو يومئذ بمكة أن العاقبة لهم كما أعلم أصحابه بعد الهجرة ذلك فإن لم يكن لعلي والمجاهدين فضيلة في الجهاد بعد الهجرة لإعلامه إياهم ذلك فلا فضيلة لأبي بكر وغيره في احتمال المشاق قبل الهجرة لإعلامه إياهم بذلك فقد جاء في الخبر أنه وعد أبا بكر قبل الهجرة بالنصر وأنه قال له أرسلت إلى هؤلاء بالذبح وإن الله تعالى سيغنمنا أموالهم ويملكنا ديارهم فالقول في الموضعين متساو ومتفق . قال الجاحظ وإن بين المحنة في الدهر الذي صار فيه أصحاب النبي ص مقرنين لأهل مكة ومشركي قريش ومعهم أهل يثرب أصحاب النخيل والآطام والشجاعة والصبر والمواساة والإيثار والمحاماة والعدد الدثر والفعل الجزل وبين الدهر الذي كانوا فيه بمكة يفتنون ويشتمون ويضربون ويشردون ويجوعون ويعطشون
[ 258 ]
مقهورين لا حراك بهم وأذلاء لا عز لهم وفقراء لا مال عندهم ومستخفين لا يمكنهم إظهار دعوتهم لفرقا واضحا ولقد كانوا في حال أحوجت لوطا وهو نبي إلى أن قال لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ و(1/3803)
قال النبي ص عجبت من أخي لوط كيف قال أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ وهو يأوي إلى الله تعالى ثم لم يكن ذلك يوما ولا يومين ولا شهرا ولا شهرين ولا عاما ولا عامين ولكن السنين بعد السنين وكان أغلظ القوم وأشدهم محنة بعد رسول الله ص أبو بكر لأنه أقام بمكة ما أقام رسول الله ص ثلاث عشرة سنة وهو أوسط ما قالوا في مقام النبي ص . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله ما نرى الجاحظ احتج لكون أبي بكر أغلظهم وأشدهم محنة إلا بقوله لأنه أقام بمكة مدة مقام الرسول ص بها وهذه الحجة لا تخص أبا بكر وحده لأن عليا ع أقام معه هذه المدة وكذلك طلحة وزيد وعبد الرحمن وبلال وخباب وغيرهم وقد كان الواجب عليه أن يخص أبا بكر وحده بحجة تدل على أنه كان أغلظ الجماعة وأشدهم محنة بعد رسول الله ص فالاحتجاج في نفسه فاسد . ثم يقال له ما بالك أهملت أمر مبيت علي ع على الفراش بمكة ليلة الهجرة هل نسيته أم تناسيته فإنها المحنة العظيمة والفضيلة الشريفة التي متى امتحنها الناظر وأجال فكره فيها رأى تحتها فضائل متفرقة ومناقب متغايرة وذلك أنه لما استقر الخبر عند المشركين أن رسول الله ص مجمع على الخروج من بينهم للهجرة
[ 259 ]
إلى غيرهم قصدوا إلى معاجلته وتعاقدوا على أن يبيتوه في فراشه وأن يضربوه بأسياف كثيرة بيد كل صاحب قبيلة من قريش سيف منها ليضيع دمه بين الشعوب ويتفرق بين القبائل ولا يطلب بنو هاشم بدمه قبيلة واحدة بعينها من بطون قريش وتحالفوا على تلك الليلة واجتمعوا عليها فلما علم رسول ص ذلك من أمرهم دعا أوثق الناس عنده وأمثلهم في نفسه وأبذلهم في ذات الإله لمهجته وأسرعهم إجابة إلى طاعته(1/3804)
فقال له إن قريشا قد تحالفت على أن تبيتني هذه الليلة فامض إلى فراشي ونم في مضجعي والتف في بردي الحضرمي ليروا أني لم أخرج وإني خارج إن شاء الله فمنعه أولا من التحرز وإعمال الحيلة وصده عن الاستظهار لنفسه بنوع من أنواع المكايد والجهات التي يحتاط بها الناس لنفوسهم وألجأه إلى أن يعرض نفسه لظبات السيوف الشحيذة من أيدي أرباب الحنق والغيظة فأجاب إلى ذلك سامعا مطيعا طيبة بها نفسه ونام على فراشه صابرا محتسبا واقيا له بمهجته ينتظر القتل ولا نعلم فوق بذل النفس درجة يلتمسها صابر ولا يبلغها طالب والجود بالنفس أقصى غاية الجود ولو لا أن رسول الله ص علم أنه أهل لذلك لما أهله ولو كان عنده نقص في صبره أو في شجاعته أو في مناصحته لابن عمه واختير لذلك لكان من اختاره ص منقوضا في رأيه مضرا في اختياره ولا يجوز أن يقول هذا أحد من أهل الإسلام وكلهم مجمعون على أن الرسول ص عمل الصواب وأحسن في الاختيار . ثم في ذلك إذا تأمله المتأمل وجوه من الفضل منها أنه وإن كان عنده في موضع الثقة فإنه غير مأمون عليه ألا يضبط السر فيفسد التدبير بإفشائه تلك الليلة إلى من يلقيه إلى الأعداء . ومنها أنه وإن كان ضابطا للسر وثقة عند من اختاره فغير مأمون عليه الجبن عند
[ 260 ](1/3805)
مفاجأة المكروه ومباشرة الأهوال فيفر من الفراش فيفطن لموضع الحيلة ويطلب رسول الله ص فيظفر به . ومنها أنه وإن كان ضابطا للسر شجاعا نجدا فلعله غير محتمل للمبيت على الفراش لأن هذا أمر خارج عن الشجاعة إن كان قد قامه مقام المكتوف الممنوع بل هو أشد مشقة من المكتوف الممنوع لأن المكتوف الممنوع يعلم من نفسه أنه لا سبيل له إلى الهرب وهذا يجد السبيل إلى الهرب وإلى الدفع عن نفسه ولا يهرب ولا يدافع . ومنها أنه وإن كان ثقة عنده ضابطا للسر شجاعا محتملا للمبيت على الفراش فإنه غير مأمون أن يذهب صبره عند العقوبة الواقعة والعذاب النازل بساحته حتى يبوح بما عنده ويصير إلى الإقرار بما يعلمه وهو أنه أخذ طريق كذا فيطلب فيؤخذ فلهذا قال علماء المسلمين إن فضيلة علي ع تلك الليلة لا نعلم أحدا من البشر نال مثلها إلا ما كان من إسحاق وإبراهيم عند استسلامه للذبح ولو لا أن الأنبياء لا يفضلهم غيرهم لقلنا إن محنة علي أعظم لأنه قد روي أن إسحاق تلكأ لما أمره أن يضطجع وبكى على نفسه وقد كان أبوه يعلم أن عنده في ذلك وقفة ولذلك قال له فَانْظُرْ ما ذا تَرى وحال علي ع بخلاف ذلك لأنه ما تلكأ ولا تتعتع ولا تغير لونه ولا اضطربت أعضاؤه ولقد كان أصحاب النبي ص يشيرون عليه بالرأي المخالف لما كان أمر به وتقدم فيه فيتركه ويعمل بما أشاروا به كما جرى يوم الخندق في مصانعة الأحزاب بثلث تمر المدينة فإنهم أشاروا عليه بترك ذلك فتركه وهذه كانت قاعدته معهم وعادته بينهم وقد كان لعلي ع أن يعتل بعلة وأن يقف ويقول يا رسول الله أكون معك أحميك من العدو وأذب بسيفي عنك فلست
[ 261 ](1/3806)
مستغنيا في خروجك عن مثلي ونجعل عبدا من عبيدنا في فراشك قائما مقامك يتوهم القوم برؤيته نائما في بردك أنك لم تخرج ولم تفارق مركزك فلم يقل ذلك ولا تحبس ولا توقف ولا تلعثم وذلك لعلم كل واحد منهما ص أن أحدا لا يصبر على ثقل هذه المحنة ولا يتورط هذه الهلكة إلا من خصه الله تعالى بالصبر على مشقتها والفوز بفضيلتها وله من جنس ذلك أفعال كثيرة كيوم دعا عمرو بن عبد ود المسلمين إلى المبارزة فأحجم الناس كلهم عنه لما علموا من بأسه وشدته ثم كرر النداء فقام علي ع
فقال أنا أبرز إليه فقال له رسول الله ص إنه عمرو قال نعم وأنا علي فأمره بالخروج إليه فلما خرج
قال ص برز الإيمان كله إلى الشرك كله وكيوم أحد حيث حمى رسول الله ص من أبطال قريش وهم يقصدون قتله فقتلهم دونه حتى قال جبرئيل ع يا محمد إن هذه هي المواساة
فقال إنه مني وأنا منه فقال جبريل وأنا منكما ولو عددنا أيامه ومقاماته التي شرى فيها نفسه لله تعالى لأطلنا وأسهبنا قال الجاحظ فإن احتج محتج لعلي ع بالمبيت على الفراش فبين الغار والفراش فرق واضح لأن الغار وصحبة أبي بكر للنبي ص قد نطق به القرآن فصار كالصلاة والزكاة وغيرهما مما نطق به الكتاب وأمر علي ع ونومه على الفراش وإن كان ثابتا صحيحا إلا أنه لم يذكر في القرآن وإنما جاء مجي ء الروايات والسير وهذا لا يوازن هذا ولا يكايله . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله هذا فرق غير مؤثر لأنه قد ثبت بالتواتر حديث
[ 262 ](1/3807)
الفراش فلا فرق بينه وبين ما ذكر في نص الكتاب ولا يجحده إلا مجنون أو غير مخالط لأهل الملة أ رأيت كون الصلوات خمسا وكون زكاة الذهب ربع العشر وكون خروج الريح ناقضا للطهارة وأمثال ذلك مما هو معلوم بالتواتر حكمه هل هو مخالف لما نص في الكتاب عليه من الأحكام هذا مما لا يقوله رشيد ولا عاقل على أن الله تعالى لم يذكر اسم أبي بكر في الكتاب وإنما قال إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ وإنما علمنا أنه أبو بكر بالخبر وما ورد في السيرة وقد قال أهل التفسير إن قوله تعالى وَ يَمْكُرُ اَللَّهُ وَ اَللَّهُ خَيْرُ اَلْماكِرِينَ كناية عن علي ع لأنه مكر بهم وأول الآية وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اَللَّهُ وَ اَللَّهُ خَيْرُ اَلْماكِرِينَ أنزلت في ليلة الهجرة ومكرهم كان توزيع السيوف على بطون قريش ومكر الله تعالى هو منام علي ع على الفراش فلا فرق بين الموضعين في أنهما مذكوران كناية لا تصريحا وقد روى المفسرون كلهم أن قول الله تعالى وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اَللَّهِ أنزلت في علي ع ليلة المبيت على الفراش فهذه مثل قوله تعالى إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا فرق بينهما . قال الجاحظ وفرق آخر وهو أنه لو كان مبيت علي ع على الفراش جاء مجي ء كون أبي بكر في الغار لم يكن له في ذلك كبير طاعة لأن الناقلين
نقلوا أنه ص قال له نم فلن يخلص إليك شي ء تكرهه ولم ينقل ناقل أنه
[ 263 ]
قال لأبي بكر في صحبته إياه وكونه معه في الغار مثل ذلك ولا قال له أنفق وأعتق فإنك لن تفتقر ولن يصل إليك مكروه . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله هذا هو الكذب الصراح والتحريف والإدخال في الرواية ما ليس منها والمعروف المنقول(1/3808)
أنه ص قال له اذهب فاضطجع في مضجعي وتغش ببردي الحضرمي فإن القوم سيفقدونني ولا يشهدون مضجعي فلعلهم إذا رأوك يسكنهم ذلك حتى يصبحوا فإذا أصبحت فاغد في أداء أمانتي ولم ينقل ما ذكره الجاحظ وإنما ولده أبو بكر الأصم وأخذه الجاحظ ولا أصل له ولو كان هذا صحيحا لم يصل إليه منهم مكروه وقد وقع الاتفاق على أنه ضرب ورمي بالحجارة قبل أن يعلموا من هو حتى تضور وأنهم قالوا له رأينا تضورك فإنا كنا نرمي محمدا ولا يتضور ولأن لفظة المكروه إن كان قالها إنما يراد بها القتل فهب أنه أمن القتل كيف يأمن من الضرب والهوان ومن أن ينقطع بعض أعضائه وبأن سلمت نفسه أ ليس الله تعالى قال لنبيه بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنَّاسِ ومع ذلك فقد كسرت رباعيته وشج وجهه وأدميت ساقه وذلك لأنها عصمة من القتل خاصة وكذلك المكروه الذي أومن علي ع منه وإن كان صح ذلك في الحديث إنما هو مكروه القتل . ثم يقال له وأبو بكر لا فضيلة له أيضا في كونه في الغار لأن النبي ص قال له لا تَحْزَنْ إِنَّ اَللَّهَ مَعَنا ومن يكن الله معه فهو آمن لا محالة من كل سوء فكيف قلت ولم ينقل ناقل أنه قال لأبي بكر في الغار مثل ذلك فكل ما يجيب به عن هذا فهو جوابنا عما أورده فنقول له هذا ينقلب عليك في النبي ص
[ 264 ](1/3809)
لأن الله تعالى وعده بظهور دينه وعاقبة أمره فيجب على قولك ألا يكون مثابا عند الله تعالى على ما يحتمله من المكروه ولا ما يصيبه من الأذى إذ كان قد أيقن بالسلامة والفتح في عدته . قال الجاحظ ومن جحد كون أبي بكر صاحب رسول الله ص فقد كفر لأنه جحد نص الكتاب ثم انظر إلى قوله تعالى إِنَّ اَللَّهَ مَعَنا من الفضيلة لأبي بكر لأنه شريك رسول الله ص في كون الله تعالى معه وإنزال السكينة قال كثير من الناس إنه في الآية مخصوص بأبي بكر لأنه كان محتاجا إلى السكينة لما تداخله من رقة الطبع البشري والنبي ص كان غير محتاج إليها لأنه يعلم أنه محروس من الله تعالى فلا معنى لنزول السكينة عليه وهذه فضيلة ثالثة لأبي بكر . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله إن أبا عثمان يجر على نفسه ما لا طاقة له به من مطاعن الشيعة ولقد كان في غنية عن التعلق بما تعلق به لأن الشيعة تزعم أن هذه الآية بأن تكون طعنا وعيبا على أبي بكر أولى من أن تكون فضيلة ومنقبة له لأنه لما قال له لا تَحْزَنْ دل على أنه قد كان حزن وقنط وأشفق على نفسه وليس هذا من صفات المؤمنين الصابرين ولا يجوز أن يكون حزنه طاعة لأن الله تعالى لا ينهى عن الطاعة فلو لم يكن ذنبا لم ينه عنه وقوله إِنَّ اَللَّهَ مَعَنا أي إن الله عالم بحالنا وما نضمره من اليقين أو الشك كما يقول الرجل لصاحبه لا تضمرن سوءا ولا تنوين قبيحا فإن الله تعالى يعلم ما نسره وما نعلنه وهذا مثل قوله تعالى وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا أي هو عالم بهم وأما السكينة
[ 265 ](1/3810)
فكيف يقول إنها ليست راجعة إلى النبي ص وبعدها قوله وَ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها أ ترى المؤيد بالجنود كان أبا بكر أم رسول الله ص . وقوله إنه مستغن عنها ليس بصحيح ولا يستغني أحد عن ألطاف الله وتوفيقه وتأييده وتثبيت قلبه وقد قال الله تعالى في قصة حنين وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ اَلْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اَللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ ص . وأما الصحبة فلا تدل إلا على المرافقة والاصطحاب لا غير وقد يكون حيث لا إيمان كما قال تعالى قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ ونحن وإن كنا نعتقد إخلاص أبي بكر وإيمانه الصحيح السليم وفضيلته التامة إلا أنا لا نحتج له بمثل ما احتج به الجاحظ من الحجج الواهية ولا نتعلق بما يجر علينا دواهي الشيعة ومطاعنها . قال الجاحظ وإن كان المبيت على الفراش فضيلة فأين هي من فضائل أبي بكر أيام مكة من عتق المعذبين وإنفاق المال وكثرة المستجيبين مع فرق ما بين الطاعتين لأن طاعة الشاب الغرير والحدث الصغير الذي في عز صاحبه عزه ليست كطاعة الحليم الكبير الذي لا يرجع تسويد صاحبه إلى رهطه وعشيرته . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله أما كثرة المستجيبين فالفضل فيها راجع إلى المجيب
[ 266 ]
لا إلى المجاب على أنا قد علمنا أن من استجاب لموسى ع أكثر ممن استجاب لنوح ع وثواب نوح أكثر لصبره على الأعداء ومقاساة خلافهم وعنتهم وأما إنفاق المال فأين محنة الغني من محنة الفقير وأين يعتدل إسلام من أسلم وهو غني إن جاع أكل وإن أعيا ركب وإن عري لبس قد وثق بيساره واستغنى بماله واستعان على نوائب الدنيا بثروته ممن لا يجد قوت يومه وإن وجد لم يستأثر به فكان الفقر شعاره وفي ذلك قيل الفقر شعار المؤمن و
قال الله تعالى لموسى يا موسى إذا رأيت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين و(1/3811)
في الحديث أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام و
كان النبي ص يقول اللهم احشرني في زمرة الفقراء ولذلك أرسل الله محمدا ص فقيرا وكان بالفقر سعيدا فقاسى محنة الفقر ومكابدة الجوع حتى شد الحجر على بطنه وحسبك بالفقر فضيلة في دين الله لمن صبر عليه فإنك لا تجد صاحب الدنيا يتمناه لأنه مناف لحال الدنيا وأهلها وإنما هو شعار أهل الآخرة . وأما طاعة علي ع وكون الجاحظ زعم أنها كانت لأن في عز محمد عزه وعز رهطه بخلاف طاعة أبي بكر فهذا يفتح عليه أن يكون جهاد حمزة كذلك وجهاد عبيدة بن الحارث وهجرة جعفر إلى الحبشة بل لعل محاماة المهاجرين من قريش على رسول الله ص كانت لأن في دولته دولتهم وفي نصرته استجداد ملك لهم وهذا يجر إلى الإلحاد ويفتح باب الزندقة ويفضي إلى الطعن في الإسلام والنبوة . قال الجاحظ وعلى أنا لو نزلنا إلى ما يريدونه جعلنا الفراش كالغار وخلصت فضائل أبي بكر في غير ذلك عن معارض . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله قد بينا فضيلة المبيت على الفراش على فضيلة الصحبة
[ 267 ](1/3812)
في الغار بما هو واضح لمن أنصف ونزيد هاهنا تأكيدا بما لم نذكره فيما تقدم فنقول إن فضيلة المبيت على الفراش على الصحبة في الغار لوجهين أحدهما أن عليا ع قد كان أنس بالنبي ص وحصل له بمصاحبته قديما أنس عظيم وإلف شديد فلما فارقه عدم ذلك الأنس وحصل به أبو بكر فكان ما يجده علي ع من الوحشة وألم الفرقة موجبا زيادة ثوابه لأن الثواب على قدر المشقة . وثانيهما أن أبا بكر كان يؤثر الخروج من مكة وقد كان خرج من قبل فردا فازداد كراهية للمقام فلما خرج مع رسول الله ص وافق ذلك هوى قلبه ومحبوب نفسه فلم يكن له من الفضيلة ما يوازي فضيلة من احتمل المشقة العظيمة وعرض نفسه لوقع السيوف ورأسه لرضخ الحجارة لأنه على قدر سهولة العبادة يكون نقصان الثواب قال الجاحظ ثم الذي لقي أبو بكر في مسجده الذي بناه على بابه في بني جمح فقد كان بنى مسجدا يصلي فيه ويدعو الناس إلى الإسلام وكان له صوت رقيق ووجه عتيق وكان إذا قرأ بكى فيقف عليه المارة من الرجال والنساء والصبيان والعبيد فلما أوذي في الله ومنع من ذلك المسجد استأذن رسول الله ص في الهجرة فأذن له فأقبل يريد المدينة فتلقاه الكناني فعقد له جوارا وقال والله لا أدع مثلك يخرج من مكة فرجع إليها وعاد لصنيعه في المسجد فمشت قريش إلى جاره الكناني وأجلبوا عليه فقال له دع المسجد وادخل بيتك واصنع فيه ما بدا لك .
[ 268 ](1/3813)
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله كيف كانت بنو جمح تؤذي عثمان بن مظعون وتضربه وهو فيهم ذو سطوة وقدر وتترك أبا بكر يبني مسجدا يفعل فيه ما ذكرتم وأنتم الذين رويتم عن ابن مسعود أنه قال ما صلينا ظاهرين حتى أسلم عمر بن الخطاب والذي تذكرونه من بناء المسجد كان قبل إسلام عمر فكيف هذا . وأما ما ذكرتم من رقة صوته وعتاق وجهه فكيف يكون ذلك وقد روى الواقدي وغيره أن عائشة رأت رجلا من العرب خفيف العارضين معروق الخدين غائر العينين أجنأ لا يمسك إزاره فقالت ما رأيت أشبه بأبي بكر من هذا فلا نراها دلت على شي ء من الجمال في صفته . قال الجاحظ وحيث رد أبو بكر جوار الكناني وقال لا أريد جارا سوى الله لقي من الأذى والذل والاستخفاف والضرب ما بلغكم وهذا موجود في جميع السير وكان آخر ما لقي هو وأهله في أمر الغار وقد طلبته قريش وجعلت فيه مائة بعير كما جعلت في النبي ص فلقي أبو جهل أسماء بنت بكر فسألها فكتمته فلطمها حتى رمت قرطا كان في أذنها . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله هذا الكلام وهجر السكران سواء في تقارب المخرج واضطراب المعنى وذلك أن قريشا لم تقدر على أذى النبي ص وأبو طالب حي يمنعه فلما مات طلبته لتقتله فخرج تارة إلى بني عامر وتارة إلى ثقيف وتارة إلى بني شيبان ولم يكن يتجاسر على المقام بمكة إلا مستترا حتى أجاره مطعم بن عدي ثم خرج إلى المدينة فبذلت فيه مائة بعير لشدة حنقها عليه حين فاتها فلم تقدر عليه فما بالها بذلت في أبي بكر مائة بعير أخرى وقد كان رد الجوار وبقي بينهم فردا لا ناصر له
[ 269 ](1/3814)
و لا دافع عنده يصنعون به ما يريدون إما أن يكونوا أجهل البرية كلها أو يكون العثمانية أكذب جيل في الأرض وأوقحه وجها فهذا مما لم يذكر في سيرة ولا روي في أثر ولا سمع به بشر ولا سبق الجاحظ به أحد . قال الجاحظ ثم الذي كان من دعائه إلى الإسلام وحسن احتجاجه حتى أسلم على يديه طلحة والزبير وسعد وعثمان وعبد الرحمن لأنه ساعة أسلم دعا إلى الله وإلى رسوله . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله ما أعجب هذا القول إذ تدعي العثمانية لأبي بكر الرفق في الدعاء وحسن الاحتجاج وقد أسلم ومعه في منزله ابنه عبد الرحمن فما قدر أن يدخله في الإسلام طوعا برفقه ولطف احتجاجه ولا كرها بقطع النفقة عنه وإدخال المكروه عليه ولا كان لأبي بكر عند ابنه عبد الرحمن من القدر ما يطيعه فيما يأمره به ويدعوه إليه كما روي أن أبا طالب فقد النبي ص يوما وكان يخاف عليه من قريش أن يغتالوه فخرج ومعه ابنه جعفر يطلبان النبي ص فوجده قائما في بعض شعاب مكة يصلي وعلي ع معه عن يمينه فلما رآهما أبو طالب قال لجعفر تقدم وصل جناح ابن عمك فقام جعفر عن يسار محمد ص فلما صاروا ثلاثة تقدم رسول الله ص وتأخر الأخوان فبكى أبو طالب وقال
إن عليا وجعفرا ثقتي
عند ملم الخطوب والنوب
لا تخذلا وانصرا ابن عمكما
أخي لأمي من بينهم وأبي
و الله لا أخذل النبي ولا
يخذله من بني ذو حسب
[ 270 ](1/3815)
فتذكر الرواة أن جعفرا أسلم منذ ذلك اليوم لأن أباه أمره بذلك وأطاع أمره وأبو بكر لم يقدر على إدخال ابنه عبد الرحمن في الإسلام حتى أقام بمكة على كفره ثلاث عشرة سنة وخرج يوم أحد في عسكر المشركين ينادي أنا عبد الرحمن بن عتيق هل من مبارز ثم مكث بعد ذلك على كفره حتى أسلم عام الفتح وهو اليوم الذي دخلت فيه قريش في الإسلام طوعا وكرها ولم يجد أحد منها إلى ترك ذلك سبيلا وأين كان رفق أبي بكر وحسن احتجاجه عند أبيه أبي قحافة وهما في دار واحدة هلا رفق به ودعاه إلى الإسلام فأسلم وقد علمتم أنه بقي على الكفر إلى يوم الفتح فأحضره ابنه عند النبي ص وهو شيخ كبير رأسه كالثغامة فنفر رسول الله ص منه وقال غيروا هذا فخضبوه ثم جاءوا به مرة أخرى فأسلم وكان أبو قحافة فقيرا مدقعا سيئ الحال وأبو بكر عندهم كان مثريا فائض المال فلم يمكنه استمالته إلى الإسلام بالنفقة والإحسان وقد كانت امرأة أبي بكر أم عبد الله ابنه واسمها نملة بنت عبد العزى بن أسعد بن عبد بن ود العامرية لم تسلم وأقامت على شركها بمكة وهاجر أبو بكر وهي كافرة فلما نزل قوله تعالى وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ اَلْكَوافِرِ فطلقها أبو بكر فمن عجز عن ابنه وأبيه وامرأته فهو عن غيرهم من الغرماء أعجز ومن لم يقبل منه أبوه وابنه وامرأته لا برفق واحتجاج ولا خوفا من قطع النفقة عنهم وإدخال المكروه عليهم فغيرهم أقل قبولا منه وأكثر خلافا عليه . قال الجاحظ وقالت أسماء بنت أبي بكر ما عرفت أبي إلا وهو يدين بالدين ولقد رجع إلينا يوم أسلم فدعانا إلى الإسلام فما رمنا حتى أسلمنا وأسلم أكثر جلسائه ولذلك قالوا من أسلم بدعاء أبي بكر أكثر ممن أسلم بالسيف ولم يذهبوا في ذلك إلى العدد بل عنوا الكثرة في القدر لأنه أسلم على يديه خمسة من أهل الشورى
[ 271 ](1/3816)
كلهم يصلح للخلافة وهم أكفاء علي ع ومنازعوه الرئاسة والإمامة فهؤلاء أكثر من جميع الناس . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله أخبرونا من هذا الذي أسلم ذلك اليوم من أهل بيت أبي بكر إذا كانت امرأته لم تسلم وابنه عبد الرحمن لم يسلم وأبو قحافة لم يسلم وأخته أم فروة لم تسلم وعائشة لم تكن قد ولدت في ذلك الوقت لأنها ولدت بعد مبعث النبي ص بخمس سنين ومحمد بن أبي بكر ولد بعد مبعث رسول الله ص بثلاث وعشرين سنة لأنه ولد في حجة الوداع وأسماء بنت أبي بكر التي قد روى الجاحظ هذا الخبر عنها كانت يوم بعث رسول الله ص بنت أربع سنين وفي رواية من يقول بنت سنتين فمن الذي أسلم من أهل بيته يوم أسلم نعوذ بالله من الجهل والكذب والمكابرة وكيف أسلم سعد والزبير وعبد الرحمن بدعاء أبي بكر وليسوا من رهطه ولا من أترابه ولا من جلسائه ولا كانت بينهم قبل ذلك صداقة متقدمة ولا أنس وكيد وكيف ترك أبو بكر عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة لم يدخلهما في الإسلام برفقه وحسن دعائه وقد زعمتم أنهما كانا يجلسان إليه لعلمه وطريف حديثه وما باله لم يدخل جبير بن مطعم في الإسلام وقد ذكرتم أنه أدبه وخرجه ومنه أخذ جبير العلم بأنساب قريش ومآثرها فكيف عجز عن هؤلاء الذين عددناهم وهم منه بالحال التي وصفنا ودعا من لم يكن بينه وبينه أنس ولا معرفة إلا معرفة عيان وكيف لم يقبل منه عمر بن الخطاب وقد كان شكله وأقرب الناس شبها به في أغلب أخلاقه ولئن رجعتم إلى الإنصاف لتعلمن أن هؤلاء لم يكن إسلامهم إلا بدعاء الرسول ص لهم وعلى يديه أسلموا ولو فكرتم في حسن التأتي في الدعاء ليصحن لأبي طالب في ذلك
[ 272 ](1/3817)
على شركه أضعاف ما ذكرتموه لأبي بكر لأنكم رويتم أن أبا طالب قال لعلي ع يا بني الزمه فإنه لن يدعوك إلا إلى خير وقال لجعفر صل جناح ابن عمك فأسلم بقوله ولأجله أصفق بنو عبد مناف على نصرة رسول الله ص بمكة من بني مخزوم وبني سهم وبني جمح ولأجله صبر بنو هاشم على الحصار في الشعب وبدعائه وإقباله على محمد ص أسلمت امرأته فاطمة بنت أسد فهو أحسن رفقا وأيمن نقيبة من أبي بكر وغيره وإنما منعه عن الإسلام أن ثبت أنه لم يسلم إلا تقية وأبو بكر لم يكن له إلا ابن واحد وهو عبد الرحمن فلم يمكنه أن يدخله في الإسلام ولا أمكنه إذ لم يقبل منه الإسلام أن يجعله كبعض مشركي قريش في قلة الأذى لرسول الله ص وفيه أنزل وَ اَلَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَ قَدْ خَلَتِ اَلْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَ هُما يَسْتَغِيثانِ اَللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ وإنما يعرف حسن رفق الرجل وتأتيه بأن يصلح أولا أمر بيته وأهله ثم يدعو الأقرب فالأقرب فإن رسول الله ص لما بعث كان أول من دعا زوجته خديجة ثم مكفوله وابن عمه عليا ع ثم مولاه زيدا ثم أم أيمن خادمته فهل رأيتم أحدا ممن كان يأوي إلى رسول الله ص لم يسارع وهل التاث عليه أحد من هؤلاء فهكذا يكون حسن التأتي والرفق في الدعاء هذا ورسول الله مقل وهو من جملة عيال خديجة حين بعثه الله تعالى وأبو بكر عندكم كان موسرا وكان أبوه مقترا وكذلك ابنه وامرأته أم عبد الله والموسر في فطرة العقول أولى أن يتبع من المقتر وإنما حسن التأتي والرفق في الدعاء ما صنعه مصعب بن عمير لسعد بن معاذ لما دعاه وما صنع سعد بن معاذ ببني عبد الأشهل لما دعاهم وما صنع بريدة بن الحصيب بأسلم لما دعاهم قالوا أسلم بدعائه ثمانون بيتا من قومه
[ 273 ](1/3818)
و أسلم بنو عبد الأشهل بدعاء سعد في يوم واحد وأما من لم يسلم ابنه ولا امرأته ولا أبوه ولا أخته بدعائه فهيهات أن يوصف ويذكر بالرفق في الدعاء وحسن التأتي والأناة قال الجاحظ ثم أعتق أبو بكر بعد ذلك جماعة من المعذبين في الله وهم ست رقاب منهم بلال وعامر بن فهيرة وزنيرة النهدية وابنتها ومر بجارية يعذبها عمر بن الخطاب فابتاعها منه وأعتقها وأعتق أبا عيسى فأنزل الله فيه فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَ اِتَّقى وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى إلى آخر السورة . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله أما بلال وعامر بن فهيرة فإنما أعتقهما رسول الله ص روى ذلك الواقدي وابن إسحاق وغيرهما وأما باقي مواليهم الأربعة فإن سامحناكم في دعواكم لم يبلغ ثمنهم في تلك الحال لشدة بغض مواليهم لهم إلا مائة درهم أو نحوها فأي فخر في هذا وأما الآية فإن ابن عباس قال في تفسيرها فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَ اِتَّقى وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى أي لأن يعود . وقال غيره نزلت في مصعب بن عمير قال الجاحظ وقد علمتم ما صنع أبو بكر في ماله وكان ماله أربعين ألف درهم فأنفقه في نوائب الإسلام وحقوقه ولم يكن خفيف الظهر قليل العيال والنسل فيكون فاقد جميع اليسارين بل كان ذا بنين وبنات وزوجة وخدم وحشم ويعول والديه وما ولدا ولم يكن النبي ص قبل ذلك عنده مشهورا فيخاف العار في ترك مواساته فكان إنفاقه على الوجه الذي لا نجد في غاية الفضل مثله ولقد
قال النبي ص ما نفعني مال كما نفعني مال أبي بكر .
[ 274 ](1/3819)
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله أخبرونا على أي نوائب الإسلام أنفق هذا المال وفي أي وجه وضعه فإنه ليس بجائز أن يخفى ذلك ويدرس حتى يفوت حفظه وينسى ذكره وأنتم فلم تقفوا على شي ء أكثر من عتقه بزعمكم ست رقاب لعلها لا يبلغ ثمنها في ذلك العصر مائة درهم وكيف يدعي له الإنفاق الجليل وقد باع من رسول الله ص بعيرين عند خروجه إلى يثرب وأخذ منه الثمن في مثل تلك الحال وروى ذلك جميع المحدثين وقد رويتم أيضا أنه كان حيث كان بالمدينة غنيا موسرا ورويتم عن عائشة أنها قالت هاجر أبو بكر وعنده عشرة آلاف درهم وقلتم إن الله تعالى أنزل فيه وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا اَلْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ اَلسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي اَلْقُرْبى قلتم هي في أبي بكر ومسطح بن أثاثة فأين الفقر الذي زعمتم أنه أنفق حتى تخلل بالعباءة ورويتم أن لله تعالى في سمائه ملائكة قد تخللوا بالعباءة وأن النبي ص رآهم ليلة الإسراء فسأل جبرائيل عنهم فقال هؤلاء ملائكة تأسوا بأبي بكر بن أبي قحافة صديقك في الأرض فإنه سينفق عليك ماله حتى يخلل عباءه في عنقه وأنتم أيضا رويتم أن الله تعالى لما أنزل آية النجوى فقال يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ اَلرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ الآية لم يعمل بها إلا علي بن أبي طالب وحده مع إقراركم بفقره وقلة ذات يده وأبو بكر في الحال التي ذكرنا من السعة أمسك عن مناجاته فعاتب الله المؤمنين في ذلك فقال أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اَللَّهُ عَلَيْكُمْ فجعله سبحانه ذنبا يتوب عليهم منه وهو إمساكهم عن تقديم الصدقة فكيف سخت نفسه بإنفاق أربعين ألفا وأمسك عن مناجاة الرسول وإنما كان يحتاج فيها إلى إخراج درهمين . وأما ما ذكر من كثرة عياله ونفقته عليهم فليس في ذلك دليل على تفضيله(1/3820)
لأن
[ 275 ]
نفقته على عياله واجبة مع أن أرباب السيرة ذكروا أنه لم يكن ينفق على أبيه شيئا وأنه كان أجيرا لابن جدعان على مائدته يطرد عنها الذبان . قال الجاحظ وقد تعلمون ما كان يلقى أصحاب النبي ص ببطن مكة من المشركين وحسن صنيع كثير منهم كصنيع حمزة حين ضرب أبا جهل بقوسه ففلق هامته وأبو جهل يومئذ سيد البطحاء ورئيس الكفر وأمنع أهل مكة وقد عرفتم أن الزبير سل سيفه واستقبل به المشركين لما أرجف أن محمدا ص قد قتل وأن عمر بن الخطاب قال حين أسلم لا يعبد الله سرا بعد اليوم وأن سعدا ضرب بعض المشركين بلحي جمل فأراق دمه فكل هذه الفضائل لم يكن لعلي بن أبي طالب فيها ناقة ولا جمل وقد قال الله تعالى لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ اَلْفَتْحِ وَ قاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ اَلَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا فإذا كان الله تعالى قد فضل من أنفق قبل الفتح لأنه لا هجرة بعد الفتح على من أنفق بعد الفتح فما ظنكم بمن أنفق من قبل الهجرة ومن لدن مبعث النبي ص إلى الهجرة وإلى بعد الهجرة . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله إننا لا ننكر فضل الصحابة وسوابقهم ولسنا كالإمامية الذين يحملهم الهوى على جحد الأمور المعلومة ولكننا ننكر تفضيل أحد من الصحابة على علي بن أبي طالب ولسنا ننكر غير ذلك وننكر تعصب الجاحظ للعثمانية وقصده إلى فضائل هذا الرجل ومناقبه بالرد والإبطال وأما حمزة فهو عندنا ذو فضل عظيم ومقام جليل وهو سيد الشهداء الذين استشهدوا على عهد رسول الله
[ 276 ](1/3821)
ص وأما فضل عمر فغير منكر وكذلك الزبير وسعد وليس فيما ذكر ما يقتضي كون علي ع مفضولا لهم أو لغيرهم إلا قوله وكل هذه الفضائل لم يكن لعلي ع فيها ناقة ولا جمل فإن هذا من التعصب البارد والحيف الفاحش وقد قدمنا من آثار علي ع قبل الهجرة وما له إذ ذاك من المناقب والخصائص ما هو أفضل وأعظم وأشرف من جميع ما ذكر لهؤلاء على أن أرباب السيرة يقولون إن الشجة التي شجها سعد وإن السيف الذي سله الزبير هو الذي جلب الحصار في الشعب على النبي ص وبني هاشم وهو الذي سير جعفرا وأصحابه إلى الحبشة وسل السيف في الوقت الذي لم يؤمر المسلمون فيه بسل السيف غير جائز قال تعالى أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ اَلنَّاسَ كَخَشْيَةِ اَللَّهِ فتبين أن التكليف له أوقات فمنها وقت لا يصلح فيه سل السيف ومنها وقت يصلح فيه ويجب فأما قوله تعالى لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ فقد ذكرنا ما عندنا من دعواهم لأبي بكر إنفاق المال وأيضا فإن الله تعالى لم يذكر إنفاق المال مفردا وإنما قرن به القتال ولم يكن أبو بكر صاحب قتال وحرب فلا تشمله الآية وكان علي ع صاحب قتال وإنفاق قبل الفتح أما قتاله فمعلوم بالضرورة وأما إنفاقه فقد كان على حسب حاله وفقره وهو الذي أطعم الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا وأنزلت فيه وفي زوجته وابنيه سورة كاملة من القرآن وهو الذي ملك أربعة دراهم فأخرج منها درهما سرا ودرهما علانية ليلا ثم أخرج منها في النهار درهما سرا ودرهما علانية فأنزل فيه قوله تعالى اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً وهو الذي قدم بين يدي نجواه صدقة
[ 277 ](1/3822)
دون المسلمين كافة وهو الذي تصدق بخاتمه وهو راكع فأنزل الله فيه إِنَّما وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ . قال الجاحظ والحجة العظمى للقائلين بتفضيل علي ع قتله الأقران وخوضه الحرب وليس له في ذلك كبير فضيلة لأن كثرة القتل والمشي بالسيف إلى الأقران لو كان من أشد المحن وأعظم الفضائل وكان دليلا على الرئاسة والتقدم لوجب أن يكون للزبير وأبي دجانة ومحمد بن مسلمة وابن عفراء والبراء بن مالك من الفضل ما ليس لرسول الله ص لأنه لم يقتل بيده إلا رجلا واحدا ولم يحضر الحرب يوم بدر ولا خالط الصفوف وإنما كان معتزلا عنهم في العريش ومعه أبو بكر وأنت ترى الرجل الشجاع قد يقتل الأقران ويجندل الأبطال وفوقه من العسكر من لا يقتل ولا يبارز وهو الرئيس أو ذوي الرأي والمستشير في الحرب لأن للرؤساء من الاكتراث والاهتمام وشغل البال والعناية والتفقد ما ليس لغيرهم ولأن الرئيس هو المخصوص بالمطالبة وعليه مدار الأمور وبه يستبصر المقاتل ويستنصر وباسمه ينهزم العدو ولو لم يكن له إلا أن الجيش لو ثبت وفر هو لم يغن ثبوت الجيش كله وكانت الدبرة عليه ولو ضيع القوم جميعا وحفظ هو لانتصر وكانت الدولة له ولهذا لا يضاف النصر والهزيمة إلا إليه ففضل أبي بكر بمقامه في العريش مع رسول الله يوم بدر أعظم من جهاد علي ع ذلك اليوم وقتله أبطال قريش . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله لقد أعطي أبو عثمان مقولا وحرم معقولا إن كان
[ 278 ](1/3823)
يقول هذا على اعتقاد وجد ولم يذهب به مذهب اللعب والهزل أو على طريق التفاصح والتشادق وإظهار القوة والسلاطة وذلاقة اللسان وحدة الخاطر والقوة على جدال الخصوم أ لم يعلم أبو عثمان أن رسول الله ص كان أشجع البشر وأنه خاض الحروب وثبت في المواقف التي طاشت فيها الألباب وبلغت القلوب الحناجر فمنها يوم أحد ووقوفه بعد أن فر المسلمون بأجمعهم ولم يبق معه إلا أربعة علي والزبير وطلحة وأبو دجانة فقاتل ورمى بالنبل حتى فنيت نبله وانكسرت سية قوسه وانقطع وتره فأمر عكاشة بن محصن أن يوترها فقال يا رسول الله لا يبلغ الوتر فقال أوتر ما بلغ قال عكاشة فو الذي بعثه بالحق لقد أوترت حتى بلغ وطويت منه شبرا على سية القوس ثم أخذها فما زال يرميهم حتى نظرت إلى قوسه قد تحطمت وبارز أبي بن خلف فقال له أصحابه إن شئت عطف عليه بعضنا فأبى وتناول الحربة من الحارث بن الصمة ثم انتقض بأصحابه كما ينتقض البعير قالوا فتطايرنا عنه تطاير الشعارير فطعنه بالحربة فجعل يخور كما يخور الثور ولو لم يدل على ثباته حين انهزم أصحابه وتركوه إلا قوله تعالى إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ اَلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فكونه ع في أخراهم وهم يصعدون ولا يلوون هاربين دليل على أنه ثبت ولم يفر وثبت يوم حنين في تسعة من أهله ورهطه الأدنين وقد فر المسلمون كلهم والنفر التسعة محدقون به العباس آخذ بحكمة بغلته وعلي بين يديه مصلت سيفه والباقون حول بغلة رسول الله ص يمنة ويسرة وقد انهزم المهاجرون والأنصار وكلما فروا أقدم هو ص يمنة ويسرة وقد انهزم المهاجرون والأنصار وكلما فرو أقدم هو ص وصمم مستقدما يلقى السيوف والنبال بنحره وصدره ثم أخذ كفا من
[ 279 ]
البطحاء وحصب المشركين وقال شاهت الوجوه و(1/3824)
الخبر المشهور عن علي ع وهو أشجع البشر كنا إذا اشتد البأس وحمي الوطيس اتقينا برسول الله ص ولذنا به فكيف يقول الجاحظ إنه ما خاض الحرب ولا خالط الصفوف وأي فرية أعظم من فرية من نسب رسول الله ص إلى الإحجام واعتزال الحرب ثم أي مناسبة بين أبي بكر ورسول الله ص في هذا المعنى ليقيسه وينسبه إلى رسول الله ص صاحب الجيش والدعوة ورئيس الإسلام والملة والملحوظ بين أصحابه وأعدائه بالسيادة وإليه الإيماء والإشارة وهو الذي أحنق قريشا والعرب وورى أكبادهم بالبراءة من آلهتهم وعيب دينهم وتضليل أسلافهم ثم وترهم فيما بعد بقتل رؤسائهم وأكابرهم وحق لمثله إذا تنحى عن الحرب واعتزلها أن يتنحى ويعتزل لأن ذلك شأن الملوك والرؤساء إذا كان الجيش منوطا بهم وببقائهم فمتى هلك الملك هلك الجيش ومتى سلم الملك أمكن أن يبقى عليه ملكه وإن عطب جيشه فإنه يستجد جيشا آخر ولذلك نهى الحكماء أن يباشر الملك الحرب بنفسه وخطئوا الإسكندر لما بارز قوسرا ملك الهند ونسبوه إلى مجانبة الحكمة ومفارقة الصواب والحزم فليقل لنا الجاحظ أي مدخل لأبي بكر في هذا المعنى ومن الذي كان يعرفه من أعداء الإسلام ليقصده بالقتل وهل هو إلا واحد من عرض المهاجرين حكمه حكم عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وغيرهما بل كان عثمان أكثر منه صيتا وأشرف منه مركبا والعيون إليه أطمح والعدو إليه أحنق وأكلب ولو قتل أبو بكر في بعض تلك المعارك هل كان يؤثر قتله في الإسلام ضعفا أو يحدث فيه وهنا أو يخاف على الملة لو قتل أبو بكر في بعض تلك الحروب أن تندرس وتعفى آثارها وينطمس منارها ليقول الجاحظ إن أبا بكر كان حكمه حكم رسول الله ص في مجانبة الحروب واعتزالها نعوذ بالله من الخذلان وقد علم العقلاء كلهم ممن له
[ 280 ](1/3825)
بالسير معرفة وبالآثار والأخبار ممارسة حال حروب رسول الله ص كيف كانت وحاله ع فيها كيف كان ووقوفه حيث وقف وحربه حيث حارب وجلوسه في العريش يوم جلس وإن وقوفه ص وقوف رئاسة وتدبير ووقوف ظهر وسند يتعرف أمور أصحابه ويحرس صغيرهم وكبيرهم بوقوفه من ورائهم وتخلفه عن التقدم في أوائلهم لأنهم متى علموا أنه في أخراهم اطمأنت قلوبهم ولم تتعلق بأمره نفوسهم فيشتغلوا بالاهتمام به عن عدوهم ولا يكون لهم فئة يلجئون إليها وظهر يرجعون إليه ويعلمون أنه متى كان خلفهم تفقد أمورهم وعلم مواقفهم وآوى كل إنسان مكانه في الحماية والنكاية وعند المنازلة في الكر والحملة فكان وقوفه حيث وقف أصلح لأمرهم وأحمى وأحرس لبيضتهم ولأنه المطلوب من بينهم إذ هو مدبر أمورهم ووالي جماعتهم أ لا ترون أن موقف صاحب اللواء موقف شريف وأن صلاح الحرب في وقوفه وأن فضيلته في ترك التقدم في أكثر حالاته فللرئيس حالات الأولى حالة يتخلف ويقف آخرا ليكون سندا وقوة وردءا وعدة وليتولى تدبير الحرب ويعرف مواضع الخلل . والحالة الثانية يتقدم فيها في وسط الصف ليقوي الضعيف ويشجع الناكص . وحالة ثالثة وهي إذا اصطدم الفيلقان وتكافح السيفان اعتمد ما تقتضيه الحال من الوقوف حيث يستصلح أو من مباشرة الحرب بنفسه فإنها آخر المنازل وفيها تظهر شجاعة الشجاع النجد وفسالة الجبان المموه . فأين مقام الرئاسة العظمى لرسول الله ص وأين منزلة أبي بكر ليسوي بين المنزلتين ويناسب بين الحالتين . ولو كان أبو بكر شريكا لرسول الله ص في الرسالة وممنوحا من الله
[ 281 ](1/3826)
بفضيلة النبوة وكانت قريش والعرب تطلبه كما تطلب محمدا ص وكان يدبر من أمر الإسلام وتسريب العساكر وتجهيز السرايا وقتل الأعداء ما يدبره محمد ص لكان للجاحظ أن يقول ذلك فأما وحاله حاله وهو أضعف المسلمين جنانا وأقلهم عند العرب ترة لم يرم قط بسهم ولا سل سيفا ولا أراق دما وهو أحد الأتباع غير مشهور ولا معروف ولا طالب ولا مطلوب فكيف يجوز أن يجعل مقامه ومنزلته مقام رسول الله ص ومنزلته ولقد خرج ابنه عبد الرحمن مع المشركين يوم أحد فرآه أبو بكر فقام مغيظا عليه فسل من السيف مقدار إصبع يريد البروز إليه فقال له رسول الله ص يا أبا بكر شم سيفك وأمتعنا بنفسك ولم يقل له وأمتعنا بنفسك إلا لعلمه بأنه ليس أهلا للحرب وملاقاة الرجال وأنه لو بارز لقتل . وكيف يقول الجاحظ لا فضيلة لمباشرة الحرب ولقاء الأقران وقتل أبطال الشرك وهل قامت عمد الإسلام إلا على ذلك وهل ثبت الدين واستقر إلا بذلك أ تراه لم يسمع قول الله تعالى إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ والمحبة من الله تعالى هي إرادة الثواب فكل من كان أشد ثبوتا في هذا الصف وأعظم قتالا كان أحب إلى الله ومعنى الأفضل هو الأكثر ثوابا فعلي ع إذا هو أحب المسلمين إلى الله لأنه أثبتهم قدما في الصف المرصوص لم يفر قط بإجماع الأمة ولا بارزه قرن إلا قتله . أ تراه لم يسمع قول الله تعالى وَ فَضَّلَ اَللَّهُ اَلْمُجاهِدِينَ عَلَى اَلْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً وقوله إِنَّ اَللَّهَ اِشْتَرى مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ
[ 282 ](1/3827)
فِي سَبِيلِ اَللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي اَلتَّوْراةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ وَ اَلْقُرْآنِ ثم قال سبحانه مؤكدا لهذا البيع والشراء وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اَللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ اَلَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ وقال الله تعالى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لا نَصَبٌ وَ لا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ اَلْكُفَّارَ وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ . فمواقف الناس في الجهاد على أحوال وبعضهم في ذلك أفضل من بعض فمن دلف إلى الأقران واستقبل السيوف والأسنة كان أثقل على أكتاف الأعداء لشدة نكايته فيهم ممن وقف في المعركة وأعان ولم يقدم وكذلك من وقف في المعركة وأعان ولم يقدم إلا أنه بحيث تناله السهام والنبل أعظم غناء وأفضل ممن وقف حيث لا يناله ذلك ولو كان الضعيف والجبان يستحقان الرئاسة بقلة بسط الكف وترك الحرب وأن ذلك يشاكل فعل النبي ص لكان أوفر الناس حظا في الرئاسة وأشدهم لها استحقاقا حسان بن ثابت وإن بطل فضل علي ع في الجهاد لأن النبي ص كان أقلهم قتالا كما زعم الجاحظ ليبطلن على هذا القياس فضل أبي بكر في الإنفاق لأن رسول الله ص كان أقلهم مالا . وأنت إذا تأملت أمر العرب وقريش ونظرت السير وقرأت الأخبار عرفت أنها كانت تطلب محمدا ص وتقصد قصده وتروم قتله فإن أعجزها وفاتها طلبت عليا ع وأرادت قتله لأنه كان أشبههم بالرسول حالا وأقربهم منه قربا وأشدهم عنه دفعا وأنهم متى قصدوا عليا فقتلوه أضعفوا أمر محمد ص وكسروا شوكته إذ كان أعلى من ينصره في البأس والقوة والشجاعة
[ 283 ](1/3828)
و النجدة والإقدام والبسالة أ لا ترى إلى قول عتبة بن ربيعة يوم بدر وقد خرج هو وأخوه شيبة وابنه الوليد بن عتبة فأخرج إليه الرسول نفرا من الأنصار فاستنسبوهم فانتسبوا لهم فقالوا ارجعوا إلى قومكم ثم نادوا يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا فقال النبي ص لأهله الأدنين قوموا يا بني هاشم فانصروا حقكم الذي آتاكم الله على باطل هؤلاء قم يا علي قم يا حمزة قم يا عبيدة أ لا ترى ما جعلت هند بنت عتبة لمن قتله يوم أحد لأنه اشترك هو وحمزة في قتل أبيها يوم بدر أ لم تسمع قول هند ترثي أهلها
ما كان عن عتبة لي من صبر
أبي وعمي وشقيق صدري
أخي الذي كان كضوء البدر
بهم كسرت يا علي ظهري
و ذلك لأنه قتل أخاها الوليد بن عتبة وشرك في قتل أبيها عتبة وأما عمها شيبة فإن حمزة تفرد بقتله . وقال جبير بن مطعم لوحشي مولاه يوم أحد إن قتلت محمدا فأنت حر وإن قتلت عليا فأنت حر وإن قتلت حمزة فأنت حر فقال أما محمد فسيمنعه أصحابه وأما علي فرجل حذر كثير الالتفات في الحرب ولكني سأقتل حمزة فقعد له وزرقه بالحربة فقتله . ولما قلنا من مقاربة حال علي ع في هذا الباب لحال رسول الله ص ومناسبتها إياها ما وجدناه في السير والأخبار من إشفاق رسول الله ص وحذره عليه ودعائه له بالحفظ والسلامة
قال ص يوم الخندق وقد برز علي إلى عمرو ورفع يديه إلى السماء بمحضر من أصحابه اللهم إنك أخذت مني
[ 284 ](1/3829)
حمزة يوم أحد وعبيدة يوم بدر فاحفظ اليوم علي عليا رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْوارِثِينَ ولذلك ضن به عن مبارزة عمرو حين دعا عمرو الناس إلى نفسه مرارا في كلها يحجمون ويقدم علي فيسأل الإذن له في البراز حتى قال له رسول الله ص إنه عمرو فقال وأنا علي فأدناه وقبله وعممه بعمامته وخرج معه خطوات كالمودع له القلق لحاله المنتظر لما يكون منه ثم لم يزل ص رافعا يديه إلى السماء مستقبلا لها بوجهه والمسلمون صموت حوله كأنما على رءوسهم الطير حتى ثارت الغبرة وسمعوا التكبير من تحتها فعلموا أن عليا قتل عمرا فكبر رسول الله ص وكبر المسلمون تكبيرة سمعها من وراء الخندق من عساكر المشركين ولذلك قال حذيفة بن اليمان لو قسمت فضيلة علي ع بقتل عمرو يوم الخندق بين المسلمين بأجمعهم لوسعتهم وقال ابن عباس في قوله تعالى وَ كَفَى اَللَّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلْقِتالَ قال بعلي بن أبي طالب . قال الجاحظ على أن مشي الشجاع بالسيف إلى الأقران ليس على ما توهمه من لا يعلم باطن الأمر لأن معه في حال مشيه إلى الأقران بالسيف أمورا أخرى لا يبصرها الناس وإنما يقضون على ظاهر ما يرون من إقدامه وشجاعته فربما كان سبب ذلك الهوج وربما كان الغرارة والحداثة وربما كان الإحراج والحمية وربما كان لمحبة النفخ والأحدوثة وربما كان طباعا كطباع القاسي والرحيم والسخي والبخيل
[ 285 ](1/3830)
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله فيقال للجاحظ فعلى أيها كان مشي علي بن أبي طالب إلى الأقران بالسيف فأيما قلت من ذلك بانت عداوتك لله تعالى ولرسوله وإن كان مشيه ليس على وجه مما ذكرت وإنما كان على وجه النصرة والقصد إلى المسابقة إلى ثواب الآخرة والجهاد في سبيل الله وإعزاز الدين كنت بجميع ما قلت معاندا وعن سبيل الإنصاف خارجا وفي إمام المسلمين طاعنا وإن تطرق مثل هذا الوهم على علي ع ليتطرقن مثله على أعيان المهاجرين والأنصار أرباب الجهاد والقتال الذين نصروا رسول الله ص بأنفسهم ووقوه بمهجهم وفدوه بأبنائهم وآبائهم فلعل ذلك كان لعلة من العلل المذكورة وفي ذلك الطعن في الدين وفي جماعة المسلمين . ولو جاز أن يتوهم هذا في علي ع وفي غيره لما
قال رسول الله ص حكاية عن الله تعالى لأهل بدر اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ولا
قال لعلي ع برز الإيمان كله إلى الشرك كله ولا قال أوجب طلحة . وقد علمنا ضرورة من دين الرسول ص تعظيمه لعلي ع تعظيما دينيا لأجل جهاده ونصرته فالطاعن فيه طاعن في رسول الله ص إذ زعم أنه قد يمكن أن يكون جهاده لا لوجه الله تعالى بل لأمر آخر من الأمور التي عددها وبعثه على التفوه بها إغواء الشيطان وكيده والإفراط في عداوة من أمر الله بمحبته ونهى عن بغضه وعداوته .
[ 286 ](1/3831)
أ ترى رسول الله ص خفي عليه من أمر علي ع ما لاح للجاحظ والعثمانية فمدحه وهو غير مستحق للمدح . قال الجاحظ فصاحب النفس المختارة المعتدلة يكون قتاله طاعة وفراره معصية لأن نفسه معتدلة كالميزان في استقامة لسانه وكفتيه فإذا لم يكن كذلك كان إقدامه طباعا وفراره طباعا . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله فيقال له فلعل إنفاق أبي بكر على ما تزعم أربعين ألف درهم لا ثواب له لأن نفسه ربما تكون غير معتدلة لأنه يكون مطبوعا على الجود والسخاء ولعل خروجه مع النبي ص يوم الهجرة إلى الغار لا ثواب له فيه لأن أسبابه كانت له مهيجة ودواعيه غالبة محبة الخروج وبغض المقام ولعل رسول الله ص في دعائه إلى الإسلام وإكبابه على الصلوات الخمس في جوف الليل وتدبيره أمر الأمة لا ثواب له فيه لأنه قد تكون نفسه غير معتدلة بل يكون في طباعه الرئاسة وحبها والعبادة والالتذاذ بها ولقد كنا نعجب من مذهب أبي عثمان أن المعارف ضرورة وأنها تقع طباعا وفي قوله بالتولد وحركة الحجر بالطبع حتى رأينا من قوله ما هو أعجب منه فزعم أنه ربما يكون جهاد علي ع وقتله المشركين لا ثواب له فيه لأنه فعله طبعا وهذا أطرف من قوله في المعرفة وفي التولد . قال الجاحظ ووجه آخر أن عليا لو كان كما يزعم شيعته ما كان له بقتل الأقران كبير فضيلة ولا عظيم طاعة لأنه قد
روي عن النبي ص أنه قال له
[ 287 ]
ستقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين فإذا كان قد وعده بالبقاء بعده فقد وثق بالسلامة من الأقران وعلم أنه منصور عليهم وقاتلهم فعلى هذا يكون جهاد طلحة والزبير أعظم طاعة منه . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله هذا راجع على الجاحظ في النبي ص لأن الله تعالى قال له وَ اَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنَّاسِ فلم يكن له في جهاده كبير طاعة وكثير طاعة و
كثير من الناس يروي عنه ص اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر فوجب أن يبطل جهادهما و(1/3832)
قد قال للزبير ستقاتل عليا وأنت ظالم له فأشعره بذلك أنه لا يموت في حياة رسول الله ص وقال في الكتاب العزيز لطلحة وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اَللَّهِ وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ قالوا نزلت في طلحة فأعلمه بذلك أنه يبقى بعده فوجب ألا يكون لهما كبير ثواب في الجهاد والذي صح عندنا من الخبر وهو قوله ستقاتل بعدي الناكثين أنه قال لما وضعت الحرب أوزارها ودخل الناس في دين الله أفواجا ووضعت الجزية ودانت العرب قاطبة . قال الجاحظ ثم قصد الناصرون لعلي والقائلون بتفضيله إلى الأقران الذين قتلهم فأطروهم وغلوا فيهم وليسوا هناك فمنهم عمرو بن عبد ود تركتموه أشجع من عامر بن الطفيل وعتبة بن الحارث وبسطام بن قيس وقد سمعنا بأحاديث حروب الفجار وما كان بين قريش ودوس وحلف الفضول فما سمعت لعمرو بن عبد ود ذكرا في ذلك .
[ 288 ]
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله أمر عمرو بن عبد ود أشهر وأكثر من أن يحتج له فلنتلمح كتب المغازي والسير ولينظر ما رثته به شعراء قريش لما قتل فمن ذلك ما ذكره محمد بن إسحاق في مغازيه قال وقال مسافع بن عبد مناف بن زهرة بن حذافة بن جمح يبكي عمرو بن عبد الله بن عبد ود حين قتله علي بن أبي طالب ع مبارزة لما جزع المذاد أي قطع الخندق
عمرو بن عبد كان أول فارس
جزع المذاد وكان فارس مليل
سمح الخلائق ماجد ذو مرة
يبغي القتال بشكة لم ينكل
و لقد علمتم حين ولوا عنكم
أن ابن عبد منهم لم يعجل
حتى تكفنه الكماة وكلهم
يبغي القتال له وليس بمؤتل
و لقد تكنفت الفوارس فارسا
بجنوب سلع غير نكس أميل
سال النزال هناك فارس غالب
بجنوب سلع ليته لم ينزل
فاذهب علي ما ظفرت بمثلها
فخرا ولو لاقيت مثل المعضل
نفسي الفداء لفارس من غالب
لاقى حمام الموت لم يتحلحل
أعني الذي جزع المذاد ولم يكن
فشلا وليس لدى الحروب بزمل(1/3833)
و قال هبيرة بن أبي وهب المخزومي يعتذر من فراره عن علي بن أبي طالب وتركه عمرا يوم الخندق ويبكيه
[ 289 ]
لعمرك ما وليت ظهري محمدا
و أصحابه جبنا ولا خيفة القتل
و لكنني قلبت أمري فلم أجد
لسيفي غناء إن وقفت ولا نبلي
وقفت فلما لم أجد لي مقدما
صدرت كضرغام هزبر إلى شبل
ثنى عطفه عن قرنه حين لم يجد
مجالا وكان الحزم والرأي من فعلي
فلا تبعدن يا عمرو حيا وهالكا
فقد مت محمود الثنا ماجد الفعل
و لا تبعدن يا عمرو حيا وهالكا
فقد كنت في حرب العدا مرهف النصل
فمن لطراد الخيل تقدع بالقنا
و للبذل يوما عند قرقرة البزل
هنالك لو كان ابن عمرو لزارها
و فرجها عنهم فتى غير ما وغل
كفتك علي لن ترى مثل موقف
وقفت على شلو المقدم كالفحل
فما ظفرت كفاك يوما بمثلها
أمنت بها ما عشت من زلة النعل
و قال هبيرة بن أبي وهب أيضا يرثي عمرا ويبكيه
لقد علمت عليا لؤي بن غالب
لفارسها عمرو إذا ناب نائب
و فارسها عمرو إذا ما يسوقه
علي وإن الموت لا شك طالب
عشية يدعوه علي وإنه
لفارسها إذ خام عنه الكتائب
[ 290 ]
فيا لهف نفسي إن عمرا لكائن
بيثرب لا زالت هناك المصائب
لقد أحرز العليا علي بقتله
و للخير يوما لا محالة جالب
و قال حسان بن ثابت الأنصاري يذكر عمرا
أمسى الفتى عمرو بن عبد ناظرا
كيف العبور وليته لم ينظر
و لقد وجدت سيوفنا مشهورة
و لقد وجدت جيادنا لم تقصر
و لقد لقيت غداة بدر عصبة
ضربوك ضربا غير ضرب الحسر
أصبحت لا تدعى ليوم عظيمة
يا عمرو أو لجسيم أمر منكر
و قال حسان أيضا
لقد شقيت بنو جمح بن عمرو
و مخزوم وتيم ما نقيل
و عمرو كالحسام فتى قريش
كأن جبينه سيف صقيل
فتى من نسل عامر أريحي
تطاوله الأسنة والنصول
دعاه الفارس المقدام لما
تكشفت المقانب والخيول
أبو حسن فقنعه حساما
جرازا لا أفل ولا نكول
فغادره مكبا مسلحبا
على عفراء لا بعد القتيل(1/3834)
فهذه الأشعار فيه بل بعض ما قيل فيه . وأما الآثار والأخبار فموجودة في كتب السير وأيام الفرسان ووقائعهم وليس
[ 291 ]
أحد من أرباب هذا العلم يذكر عمرا إلا قال كان فارس قريش وشجاعها وإنما قال له حسان
و لقد لقيت غداة بدر عصبة
لأنه شهد مع المشركين بدرا وقتل قوما من المسلمين ثم فر مع من فر ولحق بمكة وهو الذي كان قال وعاهد الله عند الكعبة ألا يدعوه أحد إلى واحدة من ثلاث إلا أجابه وآثاره في أيام الفجار مشهورة تنطق بها كتب الأيام والوقائع ولكنه لم يذكر مع الفرسان الثلاثة وهم عتبة وبسطام وعامر لأنهم كانوا أصحاب غارات ونهب وأهل بادية وقريش أهل مدينة وساكنو مدر وحجر لا يرون الغارات ولا ينهبون غيرهم من العرب وهم مقتصرون على المقام ببلدتهم وحماية حرمهم فلذلك لم يشتهر اسمه كاشتهار هؤلاء . ويقال له إذا كان عمرو كما تذكر ليس هناك فما باله لما جزع الخندق في ستة فرسان هو أحدهم فصار مع أصحاب النبي ص على أرض واحدة وهم ثلاثة آلاف ودعاهم إلى البراز مرارا لم ينتدب أحد منهم للخروج إليه ولا سمح منهم أحد بنفسه حتى وبخهم وقرعهم وناداهم أ لستم تزعمون أنه من قتل منا فإلى النار ومن قتل منكم فإلى الجنة أ فلا يشتاق أحدكم إلى أن يذهب إلى الجنة أو يقدم عدوه إلى النار فجبنوا كلهم ونكلوا وملكهم الرعب والوهل فإما أن يكون هذا أشجع الناس كما قيل عنه أو يكون المسلمون كلهم أجبن العرب وأذلهم وأفشلهم وقد روى الناس كلهم الشعر الذي أنشده لما نكل القوم بجمعهم عنه وأنه جال بفرسه واستدار وذهب يمنة ثم ذهب يسرة ثم وقف تجاه القوم فقال
و لقد بححت من النداء
بجمعهم هل من مبارز
[ 292 ]
و وقفت إذ جبن المشيع
وقفة القرن المناجز
و كذاك أني لم أزل
متسرعا نحو الهزاهز
إن الشجاعة في الفتى
و الجود من خير الغرائز
فلما برز إليه علي أجابه فقال له
لا تعجلن فقد أتاك
مجيب صوتك غير عاجز
ذو نية وبصيرة(1/3835)
يرجو الغداة نجاة فائز
إني لأرجو أن أقيم
عليك نائحة الجنائز
من ضربة تفنى ويبقى
ذكرها عند الهزاهز
و لعمري لقد سبق الجاحظ بما قاله بعض جهال الأنصار لما رجع رسول الله من بدر وقال فتى من الأنصار شهد معه بدرا إن قتلنا إلا عجائز صلعا فقال له النبي ص لا تقل ذلك يا ابن أخ أولئك الملأ . قال الجاحظ وقد أكثروا في الوليد بن عتبة بن ربيعة قتيله يوم بدر وما علمنا الوليد حضر حربا قط قبلها ولا ذكر فيها . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله كل من دون أخبار قريش وآثار رجالها وصف الوليد بالشجاعة والبسالة وكان مع شجاعته أنه يصارع الفتيان فيصرعهم وليس لأنه لم يشهد حربا قبلها ما يجب أن يكون بطلا شجاعا فإن عليا ع لم يشهد قبل بدر حربا وقد رأى الناس آثاره فيها .
[ 293 ](1/3836)
قال الجاحظ وقد ثبت أبو بكر مع النبي ص يوم أحد كما ثبت علي فلا فخر لأحدهما على صاحبه في ذلك اليوم . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله أما ثباته يوم أحد فأكثر المؤرخين وأرباب السير ينكرونه وجمهورهم يروي أنه لم يبق مع النبي ص إلا علي وطلحة والزبير وأبو دجانة وقد روي عن ابن عباس أنه قال ولهم خامس وهو عبد الله بن مسعود ومنهم من أثبت سادسا وهو المقداد بن عمرو وروى يحيى بن سلمة بن كهيل قال قلت لأبي كم ثبت مع رسول الله ص يوم أحد فقال اثنان قلت من هما قال علي وأبو دجانة . وهب أن أبا بكر ثبت يوم أحد كما يدعيه الجاحظ أ يجوز له أن يقول ثبت كما ثبت علي فلا فخر لأحدهما على الآخر وهو يعلم آثار علي ع ذلك اليوم وأنه قتل أصحاب الألوية من بني عبد الدار منهم طلحة بن أبي طلحة الذي رأى رسول الله ص في منامه أنه مردف كبشا فأوله وقال كبش الكتيبة نقتله فلما قتله علي ع مبارزة وهو أول قتيل قتل من المشركين ذلك اليوم كبر رسول الله ص وقال هذا كبش الكتيبة . وما كان منه من المحاماة عن رسول الله ص وقد فر الناس وأسلموه فتصمد له كتيبة من قريش فيقول يا علي اكفني هذه فيحمل عليها فيهزمها ويقتل عميدها حتى سمع المسلمون والمشركون صوتا من قبل السماء
لا سيف إلا ذو الفقار
و لا فتى إلا علي
و حتى قال النبي ص عن جبرائيل ما قال . أ تكون هذه آثاره وأفعاله ثم يقول الجاحظ لا فخر لأحدهما على صاحبه .
[ 294 ](1/3837)
رَبَّنَا اِفْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْفاتِحِينَ . قال الجاحظ ولأبي بكر في ذلك اليوم مقام مشهور خرج ابنه عبد الرحمن فارسا مكفرا في الحديد يسأل المبارزة ويقول أنا عبد الرحمن بن عتيق فنهض إليه أبو بكر يسعى بسيفه فقال له النبي ص شم سيفك وارجع إلى مكانك ومتعنا بنفسك . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله ما كان أغناك يا أبا عثمان عن ذكر هذا المقام المشهور لأبي بكر فإنه لو تسمعه الإمامية لأضافته إلى ما عندها من المثالب لأن قول النبي ص ارجع دليل على أنه لا يحتمل مبارزة أحد لأنه إذا لم يحتمل مبارزة ابنه وأنت تعلم حنو الابن علي الأب وتبجيله له وإشفاقه عليه وكفه عنه لم يحتمل مبارزة الغريب الأجنبي . وقوله له ومتعنا بنفسك إيذان له بأنه كان يقتل لو خرج ورسول الله كان أعرف به من الجاحظ فأين حال هذا الرجل من حال الرجل الذي صلى بالحرب ومشى إلى السيف بالسيف فقتل السادة والقادة والفرسان والرجالة . قال الجاحظ على أن أبا بكر وإن لم تكن آثاره في الحرب كآثار غيره فقد بذل الجهد وفعل ما يستطيعه وتبلغه قوته وإذا بذل المجهود فلا حال أشرف من حاله .
[ 295 ]
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله أما قوله إنه بذل الجهد فقد صدق وأما قوله لا حال أشرف من حاله فخطأ لأن حال من بلغت قوته فأعملها في قتل المشركين أشرف من حال من نقصت قوته عن بلوغ الغاية أ لا ترى أن حال الرجل أشرف في الجهاد من حال المرأة وحال البالغ الأيد أشرف من حال الصبي الضعيف . فهذه جملة ما ذكره الشيخ أبو جعفر محمد بن عبد الله الإسكافي رحمه الله في نقض العثمانية اقتصرنا عليها هاهنا وسنعود فيما بعد إلى ذكر جملة أخرى من كلامه إذا اقتضت الحال ذكره
[ 296 ](1/3838)
239 ومن كلام له ع قاله لعبد الله بن عباس وقد جاءه برسالة من عثمان
و هو محصور يسأله فيها الخروج إلى ماله بينبع ليقل هتف الناس باسمه للخلافة بعد أن كان سأله مثل ذلك من قبل فقال ع يَا اِبْنَ عَبَّاسٍ مَا يُرِيدُ عُثْمَانُ إِلاَّ أَنْ يَجْعَلَنِي جَمَلاً نَاضِحاً بِالْغَرْبِ أَقْبِلْ وَ أَدْبِرْ بَعَثَ إِلَيَّ أَنْ أَخْرُجَ ثُمَّ بَعَثَ إِلَيَّ أَنْ أَقْدَمَ ثُمَّ هُوَ اَلآْنَ يَبْعَثُ إِلَيَّ أَنْ أَخْرُجَ وَ اَللَّهِ لَقَدْ دَفَعْتُ عَنْهُ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ آثِماً ينبع على يفعل مثل يحلم ويحكم اسم موضع كان فيه نخل لعلي بن أبي طالب ع وينبع الآن بلد صغير من أعمال المدينة . وهتف الناس باسمه نداؤهم ودعاؤهم وأصله الصوت يقال هتف الحمام يهتف هتفا وهتف زيد بعمرو هتافا أي صاح به وقوس هتافة وهتفى أي ذات صوت . والناضح البعير يستقى عليه وقال معاوية لقيس بن سعد وقد دخل عليه
[ 297 ]
في رهط من الأنصار ما فعلت نواضحكم يهزأ به فقال أنصبناها في طلب أبيك يوم بدر . والغرب الدلو العظيمة . قوله أقبل وأدبر أي يقول لي ذلك كما يقال للناضح وقد صرح العباس بن مرداس بهذه الألفاظ فقال
أراك إذا أصبحت للقوم ناضحا
يقال له بالغرب أدبر وأقبل
قوله لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثما يحتمل أن يريد بالغت واجتهدت في الدفاع عنه حتى خشيت أن أكون آثما في كثرة مبالغتي واجتهادي في ذلك وإنه لا يستحق الدفاع عنه لجرائمه وأحداثه وهذا تأويل من ينحرف عن عثمان ويحتمل أن يريد لقد دفعت عنه حتى كدت أن ألقي نفسي في الهلكة وأن يقتلني الناس الذين ثاروا به فخفت الإثم في تغريري بنفسي وتوريطها في تلك الورطة العظيمة ويحتمل أن يريد لقد جاهدت الناس دونه ودفعتهم عنه حتى خشيت أن أكون آثما بما نلت منهم من الضرب بالسوط والدفع باليد والإعانة بالقول أي فعلت من ذلك أكثر مما يحب(1/3839)
وصية العباس قبل موته لعلي
قرأت في كتاب صنفه أبو حيان التوحيدي في تقريظ الجاحظ قال نقلت من خط الصولي قال الجاحظ إن العباس بن عبد المطلب أوصى علي بن أبي طالب ع في علته التي مات فيها فقال أي بني إني مشف على الظعن عن الدنيا إلى الله الذي فاقتي إلى عفوه وتجوزه أكثر من حاجتي إلى ما أنصحك فيه وأشير عليك به
[ 298 ]
و لكن العرق نبوض والرحم عروض وإذا قضيت حق العمومة فلا أبالي بعد إن هذا الرجل يعني عثمان قد جاءني مرارا بحديثك وناظرني ملاينا ومخاشنا في أمرك ولم أجد عليك إلا مثل ما أجد منك عليه ولا رأيت منه لك إلا مثل ما أجد منك له ولست تؤتى من قلة علم ولكن من قلة قبول ومع هذا كله فالرأي الذي أودعك به أن تمسك عنه لسانك ويدك وهمزك وغمزك فإنه لا يبدؤك ما لم تبدأه ولا يجيبك عما لم يبلغه وأنت المتجني وهو المتأني وأنت العائب وهو الصامت فإن قلت كيف هذا وقد جلس مجلسا أنا به أحق فقد قاربت ولكن ذاك بما كسبت يداك ونكص عنه عقباك لأنك بالأمس الأدنى هرولت إليهم تظن أنهم يحلون جيدك ويختمون إصبعك ويطئون عقبك ويرون الرشد بك ويقولون لا بد لنا منك ولا معدل لنا عنك وكان هذا من هفواتك الكبر وهناتك التي ليس لك منها عذر والآن بعد ما ثللت عرشك بيدك ونبذت رأي عمك في البيداء يتدهده في السافياء خذ بأحزم مما يتوضح به وجه الأمر لا تشار هذا الرجل ولا تماره ولا يبلغنه عنك ما يحنقه عليك فإنه إن كاشفك أصاب أنصارا وإن كاشفته لم تر إلا ضرارا ولم تستلج إلا عثارا واعرف من هو بالشام له ومن هاهنا حوله من يطيع أمره ويمتثل قوله لا تغترر بناس يطيفون بك ويدعون الحنو عليك والحب لك فإنهم بين مولى جاهل وصاحب متمن وجليس يرعى العين ويبتدر المحضر ولو ظن الناس بك ما تظن بنفسك لكان الأمر لك والزمام في يدك ولكن هذا حديث يوم مرض رسول الله ص فات ثم حرم الكلام فيه حين مات فعليك الآن بالعزوف عن(1/3840)
شي ء عرضك
[ 299 ]
له رسول الله ص فلم يتم وتصديت له مرة بعد مرة فلم يستقم ومن ساور الدهر غلب ومن حرص على ممنوع تعب فعلى ذلك فقد أوصيت عبد الله بطاعتك وبعثته على متابعتك وأوجرته محبتك ووجدت عنده من ذلك ظني به لك لا توتر قوسك إلا بعد الثقة بها وإذا أعجبتك فانظر إلى سيتها ثم لا تفوق إلا بعد العلم ولا تغرق في النزع إلا لتصيب الرمية وانظر لا تطرف يمينك عينك ولا تجن شمالك شينك ودعني بآيات من آخر سورة الكهف وقم إذا بدا لك قلت الناس يستحسنون رأي العباس لعلي ع في ألا يدخل في أصحاب الشورى وأما أنا فإني أستحسنه إن قصد به معنى ولا أستحسنه إن قصد به معنى آخر وذلك لأنه إن أجرى بهذا الرأي إلى ترفعه عليهم وعلو قدره عن أن يكون مماثلا لهم أو أجرى به إلى زهده في الإمارة ورغبته عن الولاية فكل هذا رأي حسن وصواب وإن كان منزعه في ذلك إلى أنك إن تركت الدخول معهم وانفردت بنفسك في دارك أو خرجت عن المدينة إلى بعض أموالك فإنهم يطلبونك ويضربون إليك آباط الإبل حتى يولوك الخلافة وهذا هو الظاهر من كلامه فليس هذا الرأي عندي بمستحسن لأنه لو فعل ذلك لولوا عثمان أو واحدا منهم غيره ولم يكن عندهم من الرغبة فيه ع ما يبعثهم على طلبه بل كان تأخره عنهم قرة أعينهم وواقعا بإيثارهم فإن قريشا كلها كانت تبغضه أشد البغض ولو عمر عمر نوح وتوصل إلى الخلافة بجميع أنواع التوصل كالزهد فيها تارة والمناشدة بفضائله تارة وبما فعله في ابتداء الأمر من إخراج زوجته وأطفاله ليلا إلى بيوت الأنصار وبما اعتمده إذ ذاك من تخلفه في بيته وإظهار أنه قد انعكف على جمع القرآن وبسائر أنواع الحيل فيها لم تحصل له إلا بتجريد السيف كما فعل في آخر الأمر ولست ألوم العرب لا سيما قريشا في بغضها له وانحرافها عنه فإنه وترها وسفك دماءها وكشف القناع في منابذتها ونفوس العرب وأكبادهم كما تعلم
[ 300 ](1/3841)
و ليس الإسلام بمانع من بقاء الأحقاد في النفوس كما نشاهده اليوم عيانا والناس كالناس الأول والطبائع واحدة فأحسب أنك كنت من سنتين أو ثلاث جاهليا أو من بعض الروم وقد قتل واحد من المسلمين ابنك أو أخاك ثم أسلمت أ كان إسلامك يذهب عنك ما تجده من بغض ذلك القاتل وشنآنه كلا إن ذلك لغير ذاهب هذا إذا كان الإسلام صحيحا والعقيدة محققة لا كإسلام كثير من العرب فبعضهم تقليدا وبعضهم للطمع والكسب وبعضهم خوفا من السيف وبعضهم على طريق الحمية والانتصار أو لعداوة قوم آخرين من أضداد الإسلام وأعدائه . واعلم أن كل دم أراقه رسول الله ص بسيف علي ع وبسيف غيره فإن العرب بعد وفاته ع عصبت تلك الدماء بعلي بن أبي طالب ع وحده لأنه لم يكن في رهطه من يستحق في شرعهم وسنتهم وعادتهم أن يعصب به تلك الدماء إلا بعلي وحده وهذه عادة العرب إذا قتل منها قتلى طالبت بتلك الدماء القاتل فإن مات أو تعذرت عليها مطالبته طالبت بها أمثل الناس من أهله . لما قتل قوم من بني تميم أخا لعمرو بن هند قال بعض أعدائه يحرض عمرا عليهم
من مبلغ عمرا بأن
المرء لم يخلق صباره
و حوادث الأيام لا
يبقى لها إلا الحجاره
ها إن عجزة أمه
بالسفح أسفل من أواره
تسفي الرياح خلال
كشحيه وقد سلبوا إزاره
فاقتل زرارة لا أرى
في القوم أمثل من زراره
[ 301 ](1/3842)
فأمره أن يقتل زرارة بن عدس رئيس بني تميم ولم يكن قاتلا أخا الملك ولا حاضرا قتله . ومن نظر في أيام العرب ووقائعها ومقاتلها عرف ما ذكرناه . سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد رحمه الله فقلت له إني لأعجب من علي ع كيف بقي تلك المدة الطويلة بعد رسول الله ص وكيف ما اغتيل وفتك به في جوف منزله مع تلظي الأكباد عليه . فقال لو لا أنه أرغم أنفه بالتراب ووضع خده في حضيض الأرض لقتل ولكنه أخمل نفسه واشتغل بالعبادة والصلاة والنظر في القرآن وخرج عن ذلك الزي الأول وذلك الشعار ونسي السيف وصار كالفاتك يتوب ويصير سائحا في الأرض أو راهبا في الجبال ولما أطاع القوم الذين ولوا الأمر وصار أذل لهم من الحذاء تركوه وسكتوا عنه ولم تكن العرب لتقدم عليه إلا بمواطاة من متولي الأمر وباطن في السر منه فلما لم يكن لولاة الأمر باعث وداع إلى قتله وقع الإمساك عنه ولو لا ذلك لقتل ثم أجل بعد معقل حصين . فقلت له أ حق ما يقال في حديث خالد فقال إن قوما من العلوية يذكرون ذلك . ثم قال وقد روي أن رجلا جاء إلى زفر بن الهذيل صاحب أبي حنيفة فسأله عما يقول أبو حنيفة في جواز الخروج من الصلاة بأمر غير التسليم نحو الكلام والفعل الكثير أو الحدث فقال إنه جائز قد قال أبو بكر في تشهده ما قال فقال الرجل
[ 302 ](1/3843)
و ما الذي قاله أبو بكر قال لا عليك فأعاد عليه السؤال ثانية وثالثة فقال أخرجوه أخرجوه قد كنت أحدث أنه من أصحاب أبي الخطاب . قلت له فما الذي تقوله أنت قال أنا أستبعد ذلك وإن روته الإمامية . ثم قال أما خالد فلا أستبعد منه الإقدام عليه بشجاعته في نفسه ولبغضه إياه ولكني أستبعده من أبي بكر فإنه كان ذا ورع ولم يكن ليجمع بين أخذ الخلافة ومنع فدك وإغضاب فاطمة وقتل علي ع حاش لله من ذلك فقلت له أ كان خالد يقدر على قتله قال نعم ولم لا يقدر على ذلك والسيف في عنقه وعلي أعزل غافل عما يراد به قد قتله ابن ملجم غيلة وخالد أشجع من ابن ملجم . فسألته عما ترويه الإمامية في ذلك كيف ألفاظه فضحك وقال
كم عالم بالشي ء وهو يسائل
ثم قال دعنا من هذا ما الذي تحفظ في هذا المعنى قلت قول أبي الطيب
نحن أدرى وقد سألنا بنجد
أ طويل طريقنا أم يطول
و كثير من السؤال اشتياق
و كثير من رده تعليل
فاستحسن ذلك وقال لمن عجز البيت الذي استشهدت به قلت لمحمد بن هانئ المغربي وأوله
في كل يوم أستزيد تجاربا
كم عالم بالشي ء وهو يسائل
فبارك علي مرارا ثم قال نترك الآن هذا ونتمم ما كنا فيه وكنت أقرأ عليه في ذلك الوقت جمهرة النسب لابن الكلبي فعدنا إلى القراءة وعدلنا عن الخوض عما كان اعترض الحديث فيه
[ 303 ](1/3844)
240 ومن كلام له ع اقتص فيه ذكر ما كان منه بعد هجرة النبي ص ثم لحاقه به
فَجَعَلْتُ أَتْبَعُ مَأْخَذَ رَسُولِ اَللَّهِ ص فَأَطَأُ ذِكْرَهُ حَتَّى اِنْتَهَيْتُ إِلَى اَلْعَرْجِ فِي كَلاَمٍ طَوِيلٍ قال الرضي رحمه الله تعالى قوله ع فأطأ ذكره من الكلام الذي رمي به إلى غايتي الإيجاز والفصاحة أراد أني كنت أغطي خبره ص من بدء خروجي إلى أن انتهيت إلى هذا الموضع فكنى عن ذلك بهذه الكناية العجيبة العرج منزل بين مكة والمدينة إليه ينسب العرجي الشاعر وهو عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس . قال محمد بن إسحاق في كتاب المغازي لم يعلم رسول الله ص أحدا من المسلمين ما كان عزم عليه من الهجرة إلا علي بن أبي طالب وأبا بكر بن أبي قحافة أما علي فإن رسول الله ص أخبره بخروجه وأمره أن يبيت على
[ 304 ](1/3845)
فراشه يخادع المشركين عنه ليروا أنه لم يبرح فلا يطلبوه حتى تبعد المسافة بينهم وبينه وأن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدي عن رسول الله ص الودائع التي عنده للناس وكان رسول الله ص استودعه رجال من مكة ودائع لهم لما يعرفونه من أمانته وأما أبو بكر فخرج معه . وسألت النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد الحسني رحمه الله فقلت إذا كانت قريش قد محصت رأيها وألقى إليها إبليس كما روي ذلك الرأي وهو أن يضربوه بأسياف من أيدي جماعة من بطون مختلفة ليضيع دمه في بطون قريش فلا تطلبه بنو عبد مناف فلما ذا انتظروا به تلك الليلة الصبح فإن الرواية جاءت بأنهم كانوا تسوروا الدار فعاينوا فيها شخصا مسجى بالبرد الحضرمي الأخضر فلم يشكوا أنه هو فرصدوه إلى أن أصبحوا فوجدوه عليا وهذا طريف لأنهم كانوا قد أجمعوا على قتله تلك الليلة فما بالهم لم يقتلوا ذلك الشخص المسجى وانتظارهم به النهار دليل على أنهم لم يكونوا أرادوا قتله تلك الليلة فقال في الجواب لقد كانوا هموا من النهار بقتله تلك الليلة وكان إجماعهم على ذلك وعزمهم في حقنه من بني عبد مناف لأن الذين محصوا هذا الرأي واتفقوا عليه النضر بن الحارث من بني عبد الدار وأبو البختري بن هشام وحكيم بن حزام وزمعة بن الأسود بن المطلب هؤلاء الثلاثة من بني أسد بن عبد العزى وأبو جهل بن هشام وأخوه الحارث وخالد بن الوليد بن المغيرة هؤلاء الثلاثة من بني مخزوم ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وعمرو بن العاص هؤلاء الثلاثة من بني سهم وأمية بن خلف وأخوه أبي بن خلف هذان من بني جمح فنما هذا الخبر من الليل إلى عتبة بن ربيعة بن عبد شمس فلقي منهم قوما فنهاهم عنه وقال إن بني عبد مناف لا تمسك عن دمه ولكن صفدوه
[ 305 ](1/3846)
في الحديد واحبسوه في دار من دوركم وتربصوا به أن يصيبه من الموت ما أصاب أمثاله من الشعراء وكان عتبة بن ربيعة سيد بني عبد شمس ورئيسهم وهم من بني عبد مناف وبنو عم الرجل ورهطه فأحجم أبو جهل وأصحابه تلك الليلة عن قتله إحجاما ثم تسوروا عليه وهم يظنونه في الدار فلما رأوا إنسانا مسجى بالبرد الأخضر الحضرمي لم يشكوا أنه هو وائتمروا في قتله فكان أبو جهل يذمرهم عليه فيهمون ثم يحجمون ثم قال بعضهم لبعض ارموه بالحجارة فرموه فجعل علي يتضور منها ويتقلب ويتأوه تأوها خفيفا فلم يزالوا كذلك في إقدام عليه وإحجام عنه لما يريده الله تعالى من سلامته ونجاته حتى أصبح وهو وقيذ من رمي الحجارة ولو لم يخرج رسول الله ص إلى المدينة وأقام بينهم بمكة ولم يقتلوه تلك الليلة لقتلوه في الليلة التي تليها وإن شبت الحرب بينهم وبين عبد مناف فإن أبا جهل لم يكن بالذي ليمسك عن قتله وكان فاقد البصيرة شديد العزم على الولوغ في دمه . قلت للنقيب أ فعلم رسول الله ص وعلي ع بما كان من نهي عتبة لهم قال لا إنهما لم يعلما ذلك تلك الليلة وإنما عرفاه من بعد ولقد قال رسول الله ص يوم بدر لما رأى عتبة وما كان منه إن يكن في القوم خير ففي صاحب الجمل الأحمر ولو قدرنا أن عليا ع علم ما قال لهم عتبة لم يسقط ذلك فضيلته في المبيت لأنه لم يكن على ثقة من أنهم يقبلون قول عتبة بل كان ظن الهلاك والقتل أغلب . وأما حال علي ع فلما أدى الودائع خرج بعد ثلاث من هجرة النبي
[ 306 ]
ص فجاء إلى المدينة راجلا قد تورمت قدماه فصادف رسول الله ص نازلا بقباء على كلثوم بن الهدم فنزل معه في منزله وكان أبو بكر نازلا بقباء أيضا في منزل حبيب بن يساف ثم خرج رسول الله ص وهما معه من قباء حتى نزل بالمدينة على أبي أيوب خالد بن يزيد الأنصاري وابتنى المسجد
[ 307 ](1/3847)
241 ومن خطبة له ع
فَاعْمَلُوا وَ أَنْتُمْ فِي نَفَسِ اَلْبَقَاءِ وَ اَلصُّحُفُ مَنْشُورَةٌ وَ اَلتَّوْبَةُ مَبْسُوطَةٌ وَ اَلْمُدْبِرُ يُدْعَى وَ اَلْمُسِي ءُ يُرْجَى قَبْلَ أَنْ يَخْمُدَ اَلْعَمَلُ وَ يَنْقَطِعَ اَلْمَهَلُ وَ يَنْقَضِيَ اَلْأَجَلُ تَنْقَضِيَ اَلْمُدَّةُ وَ يُسَدَّ بَابُ اَلتَّوْبَةِ وَ تَصْعَدَ اَلْمَلاَئِكَةُ فَأَخَذَ اِمْرُؤٌ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ وَ أَخَذَ مِنْ حَيٍّ لِمَيِّتٍ وَ مِنْ فَانٍ لِبَاقٍ وَ مِنْ ذَاهِبٍ لِدَائِمٍ اِمْرُؤٌ خَافَ اَللَّهَ وَ هُوَ مُعَمَّرٌ إِلَى أَجَلِهِ وَ مَنْظُورٌ إِلَى عَمَلِهِ اِمْرُؤٌ أَلْجَمَ نَفْسَهُ بِلِجَامِهَا وَ زَمَّهَا بِزِمَامِهَا فَأَمْسَكَهَا بِلِجَامِهَا عَنْ مَعَاصِي اَللَّهِ وَ قَادَهَا بِزِمَامِهَا إِلَى طَاعَةِ اَللَّهِ في نفس البقاء بفتح الفاء أي في سعته تقول أنت في نفس من أمرك أي في سعة . والصحف منشورة أي وأنتم بعد أحياء لأنه لا تطوى صحيفة الإنسان إلا إذا مات والتوبة مبسوطة لكم غير مقبوضة عنكم ولا مردودة عليكم إن فعلتم كما ترد على الإنسان توبته إذا احتضر . والمدبر يدعى أي من يدبر منكم ويولي عن الخير يدعى إليه وينادى يا فلان أقبل على ما يصلحك .
[ 308 ](1/3848)
و المسي ء يرجى أي يرجى عوده وإقلاعه . قبل أن يجمد العمل استعارة مليحة لأن الميت يجمد عمله ويقف ويروى يخمد بالخاء من خمدت النار والأول أحسن . وينقطع المهل أي العمر الذي أمهلتم فيه . وتصعد الملائكة لأن الإنسان عند موته تصعد حفظته إلى السماء لأنه لم يبق لهم شغل في الأرض . قوله فأخذ امرؤ ماض يقوم مقام الأمر وقد تقدم شرح ذلك والمعنى أن من يصوم ويصلي فإنما يأخذ بعض قوة نفسه مما يلقى من المشقة لنفسه أي عدة وذخيرة لنفسه يوم القيامة وكذلك من يتصدق فإنه يأخذ من ماله وهو جار مجرى نفسه لنفسه . وأخذ من حي لميت أي من حال الحياة لحال الموت ولو قال من ميت لحي كان جيدا أيضا لأن الحي في الدنيا ليس بحي على الحقيقة وإنما الحياة حياة الآخرة كما قال الله تعالى وَ إِنَّ اَلدَّارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوانُ . وروي أمسكها بلجامها بغير فاء
[ 309 ](1/3849)
242 ومن خطبة له ع في شأن الحكمين وذم أهل الشام
جُفَاةٌ طَغَامٌ وَ عَبِيدٌ أَقْزَامٌ جُمِعُوا مِنْ كُلِّ أَوْبٍ وَ تُلُقِّطُوا مِنْ كُلِّ شَوْبٍ مِمَّنْ يَنْبَغِي أَنْ يُفَقَّهَ وَ يُؤَدَّبَ وَ يُعَلَّمَ وَ يُدَرَّبَ وَ يُوَلَّى عَلَيْهِ وَ يُؤْخَذَ عَلَى يَدَيْهِ لَيْسُوا مِنَ اَلْمُهَاجِرِينَ وَ اَلْأَنْصَارِ وَ لاَ مِنَ اَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا اَلدَّارَ وَ اَلْإِيمَانَ أَلاَ وَ إِنَّ اَلْقَوْمَ اِخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ أَقْرَبَ اَلْقَوْمِ مِمَّا تُحِبُّونَ يُحِبُّونَ وَ إِنَّكُمُ اِخْتَرْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ أَقْرَبَ اَلْقَوْمِ مِمَّا تَكْرَهُونَ وَ إِنَّمَا عَهْدُكُمْ بِعَبْدِ اَللَّهِ بْنِ قَيْسٍ بِالْأَمْسِ يَقُولُ إِنَّهَا فِتْنَةٌ فَقَطِّعُوا أَوْتَارَكُمْ وَ شِيمُوا سُيُوفَكُمْ فَإِنْ كَانَ صَادِقاً فَقَدْ أَخْطَأَ بِمَسِيرِهِ غَيْرَ مُسْتَكْرَهٍ وَ إِنْ كَانَ كَاذِباً فَقَدْ لَزِمَتْهُ اَلتُّهَمَةُ اَلتُّهْمَةُ فَادْفَعُوا فِي صَدْرِ عَمْرِو بْنِ اَلْعَاصِ بِعَبْدِ اَللَّهِ بْنِ اَلْعَبَّاسِ وَ خُذُوا مَهَلَ اَلْأَيَّامِ وَ حُوطُوا قَوَاصِيَ اَلْإِسْلاَمِ أَ لاَ تَرَوْنَ إِلَى بِلاَدِكُمْ تُغْزَى وَ إِلَى صَفَاتِكُمْ تُرْمَى جفاة جمع جاف أي هم أعراب أجلاف والطغام أوغاد الناس الواحد والجمع فيه سواء . ويقال للأشرار واللئام عبيد وإن كانوا أحرارا .
[ 310 ]
و الأقزام بالزاي رذال الناس وسفلتهم والمسموع قزم الذكر والأنثى والواحد والجمع فيه سواء لأنه في معنى المصدر قال الشاعر
و هم إذا الخيل جالوا في كتائبها
فوارس الخيل لا ميل ولا قزم
و لكنه ع قال أقزام ليوازن بها قوله طغام وقد روي قزام وهي رواية جيدة وقد نطقت العرب بهذه اللفظة وقال الشاعر
أحصنوا أمهم من عبدهم
تلك أفعال القزام الوكعه(1/3850)
و جمعوا من كل أوب أي من كل ناحية . وتلقطوا من كل شوب أي من فرق مختلطة . ثم وصف جهلهم وبعدهم عن العلم والدين فقال ممن ينبغي أن يفقه ويؤدب أي يعلم الفقه والأدب ويدرب أي يعود اعتماد الأفعال الحسنة والأخلاق الجميلة . ويولى عليه أي لا يستحقون أن يولوا أمرا بل ينبغي أن يحجر عليهم كما يحجر على الصبي والسفيه لعدم رشده وروي ويولى عليه بالتخفيف ويؤخذ على يديه أي يمنع من التصرف . قوله ع ولا الذين تبوءوا الدار والإيمان ظاهر اللفظ يشعر بأن الأقسام ثلاثة وليست إلا اثنين لأن الذين تبوءوا الدار والإيمان الأنصار ولكنه ع كرر ذكرهم تأكيدا وأيضا فإن لفظة الأنصار واقعة على كل من كان من الأوس والخزرج الذين أسلموا على عهد رسول الله ص والذين تبوءوا الدار
[ 311 ]
و الإيمان في الآية قوم مخصوصون منهم وهم أهل الإخلاص والإيمان التام فصار ذكر الخاص بعد العام كذكره تعالى جبريل وميكائيل ثم قال وَ اَلْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ وهما من الملائكة ومعنى قوله تبوءوا الدار والإيمان سكنوهما وإن كان الإيمان لا يسكن كما تسكن المنازل لكنهم لما ثبتوا عليه واطمأنوا سماه منزلا لهم ومتبوأ ويجوز أن يكون مثل قوله
و رأيت زوجك في الوغى
متقلدا سيفا ورمحا(1/3851)
ثم ذكر ع أن أهل الشام اختاروا لأنفسهم أقرب القوم مما يحبونه وهو عمرو بن العاص وكرر لفظة القوم وكان الأصل أن يقول ألا وإن القوم اختاروا لأنفسهم أقربهم مما يحبون فأخرجه مخرج قول الله تعالى وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ إِنَّ اَللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ والذي يحبه أهل الشام هو الانتصار على أهل العراق والظفر بهم وكان عمرو بن العاص أقربهم إلى بلوغ ذلك والوصول إليه بمكره وحيلته وخدائعه والقوم في قوله ثانيا أقرب القوم بمعنى الناس كأنه قال واخترتم لأنفسكم أقرب الناس مما تكرهونه وهو أبو موسى الأشعري واسمه عبد الله بن قيس والذي يكرهه أهل العراق هو ما يحبه أهل الشام وهو خذلان عسكر العراق وانكسارهم واستيلاء أهل الشام عليهم وكان أبو موسى أقرب الناس إلى وقوع ذلك وهكذا وقع لبلهه وغفلته وفساد رأيه وبغضه عليا ع من قبل . ثم قال أنتم بالأمس يعني في واقعة الجمل قد سمعتم أبا موسى ينهى أهل الكوفة
[ 312 ](1/3852)
عن نصرتي ويقول لهم هذه هي الفتنة التي وعدنا بها فقطعوا أوتار قسيكم وشيموا سيوفكم أي أغمدوها فإن كان صادقا فما باله سار إلي وصار معي في الصف وحضر حرب صفين وكثر سواد أهل العراق وإن لم يحارب ولم يسل السيف فإن من حضر في إحدى الجهتين وإن لم يحارب كمن حارب وإن كان كاذبا فيما رواه من خبر الفتنة فقد لزمته التهمة وقبح الاختلاف إليه في الحكومة وهذا يؤكد صحة إحدى الروايتين في أمر أبي موسى فإنه قد اختلفت الرواية هل حضر حرب صفين مع أهل العراق أم لا فمن قال حضر قال حضر ولم يحارب وما طلبه اليمانيون من أصحاب علي ع ليجعلوه حكما كالأشعث بن قيس وغيره إلا وهو حاضر معهم في الصف ولم يكن منهم على مسافة ولو كان على مسافة لما طلبوه ولكان لهم فيمن حضر غناء عنه ولو كان على مسافة لما وافق علي ع على تحكيمه ولا كان علي ع ممن يحكم من لم يحضر معه . وقال الأكثرون إنه كان معتزلا للحرب بعيدا عن أهل العراق وأهل الشام . فإن قلت فلم لا يحمل قوله ع فإن كان صادقا فقد أخطأ بسيره غير مستكره على مسيره إلى أمير المؤمنين ع وأهل العراق حيث طلبوه ليفوضوا إليه أمر الحكومة قلت لو حملنا كلامه ع على هذا لم يكن لازما لأبي موسى وكان الجواب عنه هينا وذلك لأن أبا موسى يقول إنما أنكرت الحرب وما سرت لأحارب ولا لأشهد الحرب ولا أغري بالحرب وإنما سرت للإصلاح بين الناس وإطفاء نائرة الفتنة فليس يناقض ذلك ما رويته عن الرسول من خبر الفتنة ولا ما قلته في الكوفة في واقعة الجمل قطعوا أوتار قسيكم .
[ 313 ](1/3853)
قوله ع فادفعوا في صدر عمرو بن العاص بعبد الله بن العباس يقال لمن يرام كفه عن أمر يتطاول له ادفع في صدره وذلك لأن من يقدم على أمر ببدنه فيدفع دافع في صدره حقيقة فإنه يرده أو يكاد فنقل ذلك إلى الدفع المعنوي . قوله ع وخذوا مهل الأيام أي اغتنموا سعة الوقت وخذوه مناهبة قبل أن يضيق بكم أو يفوت . قوله ع وحوطوا قواصي الإسلام ما بعد من الأطراف والنواحي . ثم قال لهم أ لا ترون إلى بلادكم تغزى هذا يدل على أن هذه الخطبة بعد انقضاء أمر التحكيم لأن معاوية بعد أن تم على أبي موسى من الخديعة ما تم استعجل أمره وبعث السرايا إلى أعمال أمير المؤمنين علي ع . وتقول قد رمى فلان صفاة فلان إذا دهاه بداهية قال الشاعر
و الدهر يوتر قوسه
يرمي صفاتك بالمعابل
و أصل ذلك الصخرة الملساء لا يؤثر فيها السهام ولا يرميها الرامي إلا بعد أن نبل غيرها يقول قد بلغت غارات أهل الشام حدود الكوفة التي هي دار الملك وسرير الخلافة وذلك لا يكون إلا بعد الإثخان في غيرها من الأطراف(1/3854)
فصل في نسب أبي موسى والرأي فيه عند المعتزلة
و نحن نذكر نسب أبي موسى وشيئا من سيرته وحاله نقلا من كتاب الإستيعاب لابن عبد البر المحدث ونتبع ذلك بما نقلناه من غير الكتاب المذكور قال ابن عبد البر هو عبد الله بن قيس بن سليم بن حضارة بن حرب بن عامر بن عنز بن بكر بن عامر
[ 314 ]
بن عذر بن وائل بن ناجية بن الجماهر بن الأشعر وهو نبت بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان وأمه امرأة من عك أسلمت وماتت بالمدينة واختلف في أنه هل هو من مهاجرة الحبشة أم لا والصحيح أنه ليس منهم ولكنه أسلم ثم رجع إلى بلاد قومه فلم يزل بها حتى قدم هو وناس من الأشعريين على رسول الله ص فوافق قدومهم قدوم أهل السفينتين جعفر بن أبي طالب وأصحابه من أرض الحبشة فوافوا رسول الله ص بخيبر فظن قوم أن أبا موسى قدم من الحبشة مع جعفر . وقيل إنه لم يهاجر إلى الحبشة وإنما أقبل في سفينة مع قوم من الأشعريين فرمت الريح سفينتهم إلى أرض الحبشة وخرجوا منها مع جعفر وأصحابه فكان قدومهم معا فظن قوم أنه كان من مهاجرة الحبشة . قال وولاه رسول الله ص من مخاليف اليمن زبيد وولاه عمر البصرة لما عزل المغيرة عنها فلم يزل عليها إلى صدر من خلافة عثمان فعزله عثمان عنها وولاها عبد الله بن عامر بن كريز فنزل أبو موسى الكوفة حينئذ وسكنها فلما كره أهل الكوفة سعيد بن العاص ودفعوه عنها ولوا أبا موسى وكتبوا إلى عثمان يسألونه أن يوليه فأقره على الكوفة فلما قتل عثمان عزله علي ع عنها فلم يزل واجدا لذلك على علي ع حتى جاء منه ما قال حذيفة فيه فقد روى حذيفة فيه كلاما كرهت ذكره والله يغفر له . قلت الكلام الذي أشار إليه أبو عمر بن عبد البر ولم يذكره قوله فيه وقد ذكر عنده بالدين أما أنتم فتقولون ذلك وأما أنا فأشهد أنه عدو لله ولرسوله وحرب لهما في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين(1/3855)
معذرتهم ولهم اللعنة ولهم
[ 315 ]
سوء الدار وكان حذيفة عارفا بالمنافقين أسر إليه رسول الله ص أمرهم وأعلمه أسماءهم . وروي أن عمارا سئل عن أبي موسى فقال لقد سمعت فيه من حذيفة قولا عظيما سمعته يقول صاحب البرنس الأسود ثم كلح كلوحا علمت منه أنه كان ليلة العقبة بين ذلك الرهط . وروي عن سويد بن غفلة قال كنت مع أبي موسى على شاطئ الفرات في خلافة عثمان فروى لي خبرا عن رسول الله ص
قال سمعته يقول إن بني إسرائيل اختلفوا فلم يزل الاختلاف بينهم حتى بعثوا حكمين ضالين ضلا وأضلا من اتبعهما ولا ينفك أمر أمتي حتى يبعثوا حكمين يضلان ويضلان من تبعهما فقلت له احذر يا أبا موسى أن تكون أحدهما قال فخلع قميصه وقال أبرأ إلى الله من ذلك كما أبرأ من قميصي هذا . فأما ما تعتقده المعتزلة فيه فأنا أذكر ما قاله أبو محمد بن متويه في كتاب الكفاية قال رحمه الله أما أبو موسى فإنه عظم جرمه بما فعله وأدى ذلك إلى الضرر الذي لم يخف حاله وكان علي ع يقنت عليه وعلى غيره
فيقول اللهم العن معاوية أولا وعمرا ثانيا وأبا الأعور السلمي ثالثا وأبا موسى الأشعري رابعا
روي عنه ع أنه كان يقول في أبي موسى صبغ بالعلم صبغا وسلخ منه سلخا . قال وأبو موسى هو الذي
روى عن النبي ص أنه قال كان في
[ 316 ](1/3856)
بني إسرائيل حكمان ضالان وسيكون في أمتي حكمان ضالان ضال من اتبعهما . وأنه قيل له أ لا يجوز أن تكون أحدهما فقال لا أو كلاما ما هذا معناه فلما بلي به قيل فيه البلاء موكل بالمنطق ولم يثبت في توبته ما ثبت في توبة غيره وإن كان الشيخ أبو علي قد ذكر في آخر كتاب الحكمين أنه جاء إلى أمير المؤمنين ع في مرض الحسن بن علي فقال له أ جئتنا عائدا أم شامتا فقال بل عائدا وحدث بحديث في فضل العيادة . قال ابن متويه وهذه أمارة ضعيفة في توبته . انتهى كلام ابن متويه وذكرته لك لتعلم أنه عند المعتزلة من أرباب الكبائر وحكمه حكم أمثاله ممن واقع كبيرة ومات عليها . قال أبو عمر بن عبد البر واختلف في تاريخ موته فقيل سنة اثنتين وأربعين وقيل سنة أربع وأربعين وقيل سنة خمسين وقيل سنة اثنتين وخمسين . واختلف في قبره فقيل مات بمكة ودفن بها وقيل مات بالكوفة ودفن بها
[ 317 ](1/3857)
243 ومن خطبة له ع يذكر فيها آل محمد ص
هُمْ عَيْشُ اَلْعِلْمِ وَ مَوْتُ اَلْجَهْلِ يُخْبِرُكُمْ حِلْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ وَ ظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ وَ صَمْتُهُمْ عَنْ حِكَمِ حُكْمِ مَنْطِقِهِمْ لاَ يُخَالِفُونَ اَلْحَقَّ وَ لاَ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَ هُمْ دَعَائِمُ اَلْإِسْلاَمِ وَ وَلاَئِجُ اَلاِعْتِصَامِ بِهِمْ عَادَ اَلْحَقُّ إِلَى نِصَابِهِ وَ اِنْزَاحَ اَلْبَاطِلُ عَنْ مُقَامِهِ مَقَامِهِ وَ اِنْقَطَعَ لِسَانُهُ عَنْ مَنْبِتِهِ عَقَلُوا اَلدِّينَ عَقْلَ وِعَايَةٍ وَ رِعَايَةٍ لاَ عَقْلَ سَمَاعٍ وَ رِوَايَةٍ فَإِنَّ رُوَاةَ اَلْعِلْمِ كَثِيرٌ وَ رُعَاتَهُ قَلِيلٌ يقول بهم يحيا العلم ويموت الجهل فسماهم حياة ذاك وموت هذا نظرا إلى السببية يدلكم حلمهم وصفحهم عن الذنوب على علمهم وفضائلهم ويدلكم ما ظهر منهم من الأفعال الحسنة على ما بطن من إخلاصهم ويدلكم صمتهم وسكوتهم عما لا يعنيهم عن حكمة منطقهم ويروى ويدلكم صمتهم على منطقهم وليس في هذه الرواية لفظة حكم . لا يخالفون الحق لا يعدلون عنه ولا يختلفون فيه كما يختلف غيرهم من الفرق وأرباب المذاهب فمنهم من له في المسألة قولان وأكثر ومنهم من يقول قولا ثم يرجع عنه ومنهم من يرى في أصول الدين رأيا ثم ينفيه ويتركه .
[ 318 ](1/3858)
و دعائم الإسلام أركانه . والولائج جمع وليجة وهي الموضع يدخل إليه ويستتر فيه ويعتصم به . وعاد الحق إلى نصابه رجع إلى مستقره وموضعه وانزاح الباطل زال وانقطع لسانه انقطع حجته . عقلوا الدين عقل رعاية أي عرفوا الدين وعلموه معرفة من وعى الشي ء وفهمه وأتقنه ووعاية أي وعوا الدين وحفظوه وحاطوه ليس كما يعقله غيرهم عن سماع ورواية فإن من يروي العلم ويسنده إلى الرجال ويأخذه من أفواه الناس كثير ومن يحفظ العلم حفظ فهم وإدراك أصالة لا تقليدا قليل تم الجزء الثالث عشر من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ويليه الجزء الرابع عشر(1/3859)
? الجزء الثالث عشر
? تتمة باب الخطب والأوامر
? 224 ومن كلام له ع في وصف بيعته بالخلافة
? 225 ومن خطبة له ع
? 226 ومن خطبة له ع خطبها بذي قار وهو متوجه إلى البصرة
? 227 ومن كلام له ع كلم به عبد الله بن زمعة
? عبد الله بن زمعة ونسبه
? 228 ومن كلام له ع
? ذكر من أرتج عليهم أو حصروا عند الكلام
? 229 ومن كلام له ع
? 230 ومن كلام له ع
? ذكر طرف من سيرة النبي ع عند موته
? 231 ومن خطبة له ع
? من أشعار الشارح في المناجاة
? فصل في ذكر أحوال الذرة وعجائب النملة
? ذكر غرائب الجراد وما احتوت عليه من صنوف الصنعة
? 232 ومن خطبة له ع في التوحيد
? 233 ومن خطبة له ع تختص بذكر الملاحم
? 234 ومن خطبة له ع
? 235 ومن خطبة له ع
? قصة وقعت لأحد الوعاظ ببغداد
? 236 ومن خطبة له ع
? 237 ومن خطبة له ع
? 238 ومن خطبة له ع ومن الناس من يسمي هذه الخطبة بالقاصعة
? فصل في ذكر الأسباب التي دعت العرب إلى وأد البنات
? استدلال قاضي القضاة على إمامة أبي بكر ورد المرتضى عليه
? ذكر ما كان من صلة علي برسول الله في صغره
? ذكر حال رسول الله في نشوئه
? القول في إسلام أبي بكر وعلي وخصائص كل منهما
? 239 ومن كلام له ع قاله لعبد الله بن عباس وقد جاءه برسالة من عثمان
? وصية العباس قبل موته لعلي
? 240 ومن كلام له ع اقتص فيه ذكر ما كان منه بعد هجرة النبي ص ثم لحاقه به
? 241 ومن خطبة له ع
? 242 ومن خطبة له ع في شأن الحكمين وذم أهل الشام
? فصل في نسب أبي موسى والرأي فيه عند المعتزلة
? 243 ومن خطبة له ع يذكر فيها آل محمد ص(1/3860)
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد المعتزلي
الجزء الرابع عشر(1/3861)
باب الكتب والرسائل
[ 4 ]
[ 5 ]
باب المختار من كتب مولانا أمير المؤمنين ع ورسائله إلى أعدائه وأولياء بلاده ويدخل في ذلك ما اختير من عهوده إلى عماله ووصاياه لأهله وأصحابه لما فرغ من إيراد المختار من خطب أمير المؤمنين ع وكلامه الجاري مجرى الخطب من المواعظ والزواجر شرع في إيراد باب من مختار كلامه ع وهو ما كان جاريا مجرى الرسائل والكتب ويدخل في ذلك العهود والوصايا وقد أورد في هذا الباب ما هو بالباب الأول أشبه نحو كلامه ع لشريح القاضي لما اشترى دارا وكلامه لشريح بن هانئ لما جعله على مقدمته إلى الشام . وسمى ما يكتب للولاة عهدا اشتقاقا من قولهم عهدت إلى فلان أي أوصيته
[ 6 ](1/3862)
1 من كتاب له ع إلى أهل الكوفة عند مسيره من المدينة إلى البصرة
مِنْ عَبْدِ اَللَّهِ عَلِيٍّ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَهْلِ اَلْكُوفَةِ جَبْهَةِ اَلْأَنْصَارِ وَ سَنَامِ اَلْعَرَبِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُخْبِرُكُمْ عَنْ أَمْرِ عُثْمَانَ حَتَّى يَكُونَ سَمْعُهُ كَعِيَانِهِ إِنَّ اَلنَّاسَ طَعَنُوا عَلَيْهِ فَكُنْتُ رَجُلاً مِنَ اَلْمُهَاجِرِينَ أُكْثِرُ اِسْتِعْتَابَهُ وَ أُقِلُّ عِتَابَهُ وَ كَانَ طَلْحَةُ وَ اَلزُّبَيْرُ أَهْوَنُ سَيْرِهِمَا فِيهِ اَلْوَجِيفُ وَ أَرْفَقُ حِدَائِهِمَا اَلْعَنِيفُ وَ كَانَ مِنْ عَائِشَةَ فِيهِ فَلْتَةُ غَضَبٍ فَأُتِيحَ لَهُ قَوْمٌ قَتَلُوهُ فَقَتَلُوهُ وَ بَايَعَنِي اَلنَّاسُ غَيْرَ مُسْتَكْرَهِينَ وَ لاَ مُجْبَرِينَ بَلْ طَائِعِينَ مُخَيَّرِينَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ دَارَ اَلْهِجْرَةِ قَدْ قَلَعَتْ بِأَهْلِهَا وَ قَلَعُوا بِهَا وَ جَاشَتْ جَيْشَ اَلْمِرْجَلِ وَ قَامَتِ اَلْفِتْنَةُ عَلَى اَلْقُطْبِ فَأَسْرِعُوا إِلَى أَمِيرِكُمْ وَ بَادِرُوا جِهَادَ عَدُوِّكُمْ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ قوله جبهة الأنصار يمكن أن يريد جماعة الأنصار فإن الجبهة في اللغة الجماعة ويمكن أن يريد به سادة الأنصار وأشرافهم لأن جبهة الإنسان أعلى أعضائه وليس يريد بالأنصار هاهنا بني قيلة بل الأنصار هاهنا الأعوان .
[ 7 ](1/3863)
قوله ع وسنام العرب أي أهل الرفعة والعلو منهم لأن السنام أعلى أعضاء البعير . قوله ع أكثر استعتابه وأقل عتابه الاستعتاب طلب العتبى وهي الرضا قال كنت أكثر طلب رضاه وأقل عتابه وتعنيفه على الأمور وأما طلحة والزبير فكانا شديدين عليه . والوجيف سير سريع وهذا مثل للمشمرين في الطعن عليه حتى إن السير السريع أبطأ ما يسيران في أمره والحداء العنيف أرفق ما يحرضان به عليه . ودار الهجرة المدينة . وقوله قد قلعت بأهلها وقلعوا بها الباء هاهنا زائدة في أحد الموضعين وهو الأول وبمعنى من في الثاني يقول فارقت أهلها وفارقوها ومنه قولهم هذا منزل قلعة أي ليس بمستوطن . وجاشت اضطربت والمرجل القدر . ومن لطيف الكلام قوله ع فكنت رجلا من المهاجرين فإن في ذلك من التخلص والتبري ما لا يخفى على المتأمل أ لا ترى أنه لم يبق عليه في ذلك حجة لطاعن حيث كان قد جعل نفسه كواحد من عرض المهاجرين الذين بنفر يسير منهم انعقدت خلافة أبي بكر وهم أهل الحل والعقد وإنما كان الإجماع حجة لدخولهم فيه . ومن لطيف الكلام أيضا قوله فأتيح له قوم قتلوه ولم يقل أتاح الله له قوما ولا قال أتاح له الشيطان قوما وجعل الأمر مبهما . وقد ذكر أن خط الرضي رحمه الله مستكرهين بكسر الراء والفتح أحسن وأصوب وإن كان قد جاء استكرهت الشي ء بمعنى كرهته .
[ 8 ]
و قال الراوندي المراد بدار الهجرة هاهنا الكوفة التي هاجر أمير المؤمنين ع إليها وليس بصحيح بل المراد المدينة وسياق الكلام يقتضي ذلك ولأنه كان حين كتب هذا الكتاب إلى أهل الكوفة بعيدا عنهم فكيف يكتب إليهم يخبرهم عن أنفسهم(1/3864)
أخبار علي عند مسيره إلى البصرة ورسله إلى أهل الكوفة
و روى محمد بن إسحاق عن عمه عبد الرحمن بن يسار القرشي قال لما نزل علي ع الربذة متوجها إلى البصرة بعث إلى الكوفة محمد بن جعفر بن أبي طالب ومحمد بن أبي بكر الصديق وكتب إليهم هذا الكتاب و
زاد في آخره فحسبي بكم إخوانا وللدين أنصارا ف اِنْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالاً وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ و
روى أبو مخنف قال حدثني الصقعب قال سمعت عبد الله بن جنادة يحدث أن عليا ع لما نزل الربذة بعث هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى أبي موسى الأشعري وهو الأمير يومئذ على الكوفة لينفر إليه الناس وكتب إليه معه من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس أما بعد فإني قد بعثت إليك هاشم بن عتبة لتشخص إلي من قبلك من المسلمين ليتوجهوا إلى قوم نكثوا بيعتي وقتلوا شيعتي وأحدثوا في الإسلام هذا الحدث العظيم فاشخص بالناس إلي معه حين يقدم عليك فإني لم أولك المصر الذي أنت فيه ولم أقرك عليه إلا لتكون من أعواني على الحق وأنصاري على هذا الأمر والسلام .
[ 9 ](1/3865)
فأما رواية محمد بن إسحاق فإنه قال لما قدم محمد بن جعفر ومحمد بن أبي بكر الكوفة استنفرا الناس فدخل قوم منهم على أبي موسى ليلا فقالوا له أشر علينا برأيك في الخروج مع هذين الرجلين إلى علي ع فقال أما سبيل الآخرة فالزموا بيوتكم وأما سبيل الدنيا فاشخصوا معهما فمنع بذلك أهل الكوفة من الخروج وبلغ ذلك المحمدين فأغلظا لأبي موسى فقال أبو موسى والله إن بيعة عثمان لفي عنق علي وعنقي وأعناقكما ولو أردنا قتالا ما كنا لنبدأ بأحد قبل قتلة عثمان فخرجا من عنده فلحقا بعلي ع فأخبراه الخبر . وأما رواية أبي مخنف فإنه قال إن هاشم بن عتبة لما قدم الكوفة دعا أبو موسى السائب بن مالك الأشعري فاستشاره فقال اتبع ما كتب به إليك فأبى ذلك وحبس الكتاب وبعث إلى هاشم يتوعده ويخوفه . قال السائب فأتيت هاشما فأخبرته برأي أبي موسى فكتب إلى علي ع لعبد الله علي أمير المؤمنين من هاشم بن عتبة أما بعد يا أمير المؤمنين فإني قدمت بكتابك على امرئ مشاق بعيد الود ظاهر الغل والشنآن فتهددني بالسجن وخوفني بالقتل وقد كتبت إليك هذا الكتاب مع المحل بن خليفة أخي طيئ وهو من شيعتك وأنصارك وعنده علم ما قبلنا فاسأله عما بدا لك واكتب إلي برأيك والسلام . قال فلما قدم المحل بكتاب هاشم على علي ع سلم عليه ثم قال الحمد لله الذي أدى الحق إلى أهله ووضعه موضعه فكره ذلك قوم قد والله كرهوا نبوة محمد ص ثم بارزوه وجاهدوه فرد الله عليهم كيدهم في نحورهم وجعل دائرة السوء عليهم والله يا أمير المؤمنين لنجاهدنهم معك في كل موطن حفظا لرسول الله ص في أهل بيته إذ صاروا أعداء لهم بعده .
[ 10 ](1/3866)
فرحب به علي ع وقال له خيرا ثم أجلسه إلى جانبه وقرأ كتاب هاشم وسأله عن الناس وعن أبي موسى فقال والله يا أمير المؤمنين ما أثق به ولا آمنه على خلافك إن وجد من يساعده على ذلك فقال علي ع والله ما كان عندي بمؤتمن ولا ناصح ولقد أردت عزله فأتاني الأشتر فسألني أن أقره وذكر أن أهل الكوفة به راضون فأقررته و
روى أبو مخنف قال وبعث علي ع من الربذة بعد وصول المحل بن خليفة أخي طيئ عبد الله بن عباس ومحمد بن أبي بكر إلى أبي موسى وكتب معهما من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس أما بعد يا ابن الحائك يا عاض أير أبيه فو الله إني كنت لأرى أن بعدك من هذا الأمر الذي لم يجعلك الله له أهلا ولا جعل لك فيه نصيبا سيمنعك من رد أمري والانتزاء علي وقد بعثت إليك ابن عباس وابن أبي بكر فخلهما والمصر وأهله واعتزل عملنا مذءوما مدحورا فإن فعلت وإلا فإني قد أمرتهما أن ينابذاك على سواء إن الله لا يهدي كيد الخائنين فإذا ظهرا عليك قطعاك إربا إربا والسلام على من شكر النعمة ووفى بالبيعة وعمل برجاء العاقبة . قال أبو مخنف فلما أبطأ ابن عباس وابن أبي بكر عن علي ع ولم يدر ما صنعا رحل عن الربذة إلى ذي قار فنزلها فلما نزل ذا قار بعث إلى الكوفة الحسن ابنه ع وعمار بن ياسر وزيد بن صوحان وقيس بن سعد بن عبادة ومعهم كتاب إلى أهل الكوفة فأقبلوا حتى كانوا بالقادسية فتلقاهم الناس فلما دخلوا الكوفة قرءوا
كتاب علي وهو من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من بالكوفة من المسلمين
[ 11 ](1/3867)
أما بعد فإني خرجت مخرجي هذا إما ظالما وإما مظلوما وإما باغيا وإما مبغيا علي فأنشد الله رجلا بلغه كتابي هذا إلا نفر إلي فإن كنت مظلوما أعانني وإن كنت ظالما استعتبني والسلام . قال أبو مخنف فحدثني موسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه قال أقبلنا مع الحسن وعمار بن ياسر من ذي قار حتى نزلنا القادسية فنزل الحسن وعمار ونزلنا معهما فاحتبى عمار بحمائل سيفه ثم جعل يسأل الناس عن أهل الكوفة وعن حالهم ثم سمعته يقول ما تركت في نفسي حزة أهم إلي من ألا نكون نبشنا عثمان من قبره ثم أحرقناه بالنار .
قال فلما دخل الحسن وعمار الكوفة اجتمع إليهما الناس فقام الحسن فاستنفر الناس فحمد الله وصلى على رسوله ثم قال أيها الناس إنا جئنا ندعوكم إلى الله وإلى كتابه وسنة رسوله وإلى أفقه من تفقه من المسلمين وأعدل من تعدلون وأفضل من تفضلون وأوفى من تبايعون من لم يعبه القرآن ولم تجهله السنة ولم تقعد به السابقة إلى من قربه الله تعالى إلى رسوله قرابتين قرابة الدين وقرابة الرحم إلى من سبق الناس إلى كل مأثرة إلى من كفى الله به رسوله والناس متخاذلون فقرب منه وهم متباعدون وصلى معه وهم مشركون وقاتل معه وهم منهزمون وبارز معهم وهم محجمون وصدقه وهم يكذبون إلى من لم ترد له رواية ولا تكافأ له سابقة وهو يسألكم النصر ويدعوكم إلى الحق ويأمركم بالمسير إليه لتوازروه وتنصروه على قوم نكثوا بيعته وقتلوا أهل الصلاح من أصحابه ومثلوا بعماله وانتهبوا بيت ماله فاشخصوا إليه رحمكم الله فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر واحضروا بما يحضر به الصالحون . قال أبو مخنف حدثني جابر بن يزيد قال حدثني تميم بن حذيم الناجي قال قدم علينا
[ 12 ](1/3868)
الحسن بن علي ع وعمار بن ياسر يستنفران الناس إلى علي ع ومعهما كتابه فلما فرغا من قراءة كتابه قام الحسن وهو فتى حدث والله إني لأرثي له من حداثة سنه وصعوبة مقامه فرماه الناس بأبصارهم وهم يقولون اللهم سدد منطق ابن بنت نبينا فوضع يده على عمود يتساند إليه وكان عليلا من شكوى به
فقال الحمد لله العزيز الجبار الواحد القهار الكبير المتعال سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار أحمده على حسن البلاء وتظاهر النعماء وعلى ما أحببنا وكرهنا من شدة ورخاء وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله امتن علينا بنبوته واختصه برسالته وأنزل عليه وحيه واصطفاه على جميع خلقه وأرسله إلى الإنس والجن حين عبدت الأوثان وأطيع الشيطان وجحد الرحمن فصلى الله عليه وعلى آله وجزاه أفضل ما جزى المسلمين أما بعد فإني لا أقول لكم إلا ما تعرفون إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أرشد الله أمره وأعز نصره بعثني إليكم يدعوكم إلى الصواب وإلى العمل بالكتاب والجهاد في سبيل الله وإن كان في عاجل ذلك ما تكرهون فإن في آجله ما تحبون إن شاء الله ولقد علمتم أن عليا صلى مع رسول الله ص وحده وإنه يوم صدق به لفي عاشرة من سنه ثم شهد مع رسول الله ص جميع مشاهده وكان من اجتهاده في مرضاة الله وطاعة رسوله وآثاره الحسنة في الإسلام ما قد بلغكم ولم يزل رسول الله ص راضيا عنه حتى غمضه بيده وغسله وحده والملائكة أعوانه والفضل ابن عمه ينقل إليه الماء ثم أدخله حفرته وأوصاه بقضاء دينه وعداته وغير ذلك من أموره كل ذلك من من الله عليه ثم والله ما دعا إلى نفسه ولقد تداك الناس عليه تداك الإبل الهيم عند ورودها فبايعوه طائعين ثم نكث منهم ناكثون بلا حدث أحدثه ولا خلاف أتاه حسدا له وبغيا عليه فعليكم عباد الله بتقوى الله وطاعته والجد والصبر والاستعانة بالله
[ 13 ](1/3869)
و الخفوف إلى ما دعاكم إليه أمير المؤمنين عصمنا الله وإياكم بما عصم به أولياءه وأهل طاعته وألهمنا وإياكم تقواه وأعاننا وإياكم على جهاد أعدائه وأستغفر الله العظيم لي ولكم ثم مضى إلى الرحبة فهيأ منزلا لأبيه أمير المؤمنين . قال جابر فقلت لتميم كيف أطاق هذا الغلام ما قد قصصته من كلامه فقال ولما سقط عني من قوله أكثر ولقد حفظت بعض ما سمعت . قال ولما نزل علي ع ذا قار كتبت عائشة إلى حفصة بنت عمر أما بعد فإني أخبرك أن عليا قد نزل ذا قار وأقام بها مرعوبا خائفا لما بلغه من عدتنا وجماعتنا فهو بمنزلة الأشقر إن تقدم عقر وإن تأخر نحر فدعت حفصة جواري لها يتغنين ويضربن بالدفوف فأمرتهن أن يقلن في غنائهن ما الخبر ما الخبر علي في السفر كالفرس الأشقر إن تقدم عقر وإن تأخر نحر . وجعلت بنات الطلقاء يدخلن على حفصة ويجتمعن لسماع ذلك الغناء . فبلغ أم كلثوم بنت علي ع فلبست جلابيبها ودخلت عليهن في نسوة متنكرات ثم أسفرت عن وجهها فلما عرفتها حفصة خجلت واسترجعت فقالت أم كلثوم لئن تظاهرتما عليه منذ اليوم لقد تظاهرتما على أخيه من قبل فأنزل الله فيكما ما أنزل فقالت حفصة كفى رحمك الله وأمرت بالكتاب فمزق واستغفرت الله . قال أبو مخنف روى هذا جرير بن يزيد عن الحكم ورواه الحسن بن دينار عن الحسن البصري وذكر الواقدي مثل ذلك وذكر المدائني أيضا مثله قال فقال سهل بن حنيف في ذلك هذه الأشعار
[ 14 ]
عذرنا الرجال بحرب الرجال
فما للنساء وما للسباب
أ ما حسبنا ما أتينا به
لك الخير من هتك ذاك الحجاب
و مخرجها اليوم من بيتها
يعرفها الذنب نبح الكلاب
إلى أن أتانا كتاب لها
مشوم فيا قبح ذاك الكتاب(1/3870)
قال فحدثنا الكلبي عن أبي صالح أن عليا ع لما نزل ذا قار في قلة من عسكره صعد الزبير منبر البصرة فقال أ لا ألف فارس أسير بهم إلى علي فأبيته بياتا وأصبحه صباحا قبل أن يأتيه المدد فلم يجبه أحد فنزل واجما وقال هذه والله الفتنة التي كنا نحدث بها فقال له بعض مواليه رحمك الله يا أبا عبد الله تسميها فتنة ثم نقاتل فيها فقال ويحك والله إنا لنبصر ثم لا نصبر فاسترجع المولى ثم خرج في الليل فارا إلى علي ع فأخبره فقال اللهم عليك به . قال أبو مخنف ولما فرغ الحسن بن علي ع من خطبته قام بعده عمار فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله ثم قال أيها الناس أخو نبيكم وابن عمه يستنفركم لنصر دين الله وقد بلاكم الله بحق دينكم وحرمة أمكم فحق دينكم أوجب وحرمته أعظم أيها الناس عليكم بإمام لا يؤدب وفقيه لا يعلم وصاحب بأس لا ينكل وذي سابقة في الإسلام ليست لأحد وإنكم لو قد حضرتموه بين لكم أمركم إن شاء الله . قال فلما سمع أبو موسى خطبة الحسن وعمار قام فصعد المنبر وقال الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد فجمعنا بعد الفرقة وجعلنا إخوانا متحابين بعد العداوة وحرم علينا دماءنا وأموالنا قال الله سبحانه وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ
[ 15 ](1/3871)
و قال تعالى وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها فاتقوا الله عباد الله وضعوا أسلحتكم وكفوا عن قتال إخوانكم . أما بعد يا أهل الكوفة إن تطيعوا الله باديا وتطيعوني ثانيا تكونوا جرثومة من جراثيم العرب يأوي إليكم المضطر ويأمن فيكم الخائف إن عليا إنما يستنفركم لجهاد أمكم عائشة وطلحة والزبير حواري رسول الله ومن معهم من المسلمين وأنا أعلم بهذه الفتن أنها إذا أقبلت شبهت وإذا أدبرت أسفرت إني أخاف عليكم أن يلتقي غاران منكم فيقتتلا ثم يتركا كالأحلاس الملقاة بنجوة من الأرض ثم يبقى رجرجة من الناس لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن منكر إنها قد جاءتكم فتنة كافرة لا يدرى من أين تؤتى تترك الحليم حيران كأني أسمع رسول الله ص بالأمس يذكر الفتن فيقول أنت فيها نائما خير منك قاعدا وأنت فيها جالسا خير منك قائما وأنت فيها قائما خير منك ساعيا فثلموا سيوفكم وقصفوا رماحكم وانصلوا سهامكم وقطعوا أوتاركم وخلوا قريشا ترتق فتقها وترأب صدعها فإن فعلت فلأنفسها ما فعلت وإن أبت فعلى أنفسها ما جنت سمنها في أديمها استنصحوني ولا تستغشوني وأطيعوني ولا تعصوني يتبين لكم رشدكم ويصلى هذه الفتنة من جناها فقام إليه عمار بن ياسر فقال أنت سمعت رسول الله ص يقول ذلك قال نعم هذه يدي بما قلت فقال إن كنت صادقا فإنما عناك بذلك وحدك واتخذ عليك الحجة فالزم بيتك ولا تدخلن في الفتنة أما إني أشهد أن رسول الله ص أمر عليا بقتال الناكثين وسمى له فيهم من سمى وأمره بقتال القاسطين وإن شئت لأقيمن لك شهودا يشهدون أن رسول الله ص
[ 16 ](1/3872)
إنما نهاك وحدك وحذرك من الدخول في الفتنة ثم قال له أعطني يدك على ما سمعت فمد إليه يده فقال له عمار غلب الله من غالبه وجاهده ثم جذبه فنزل عن المنبر . وروى محمد بن جرير الطبري في التاريخ قال لما أتى عليا ع الخبر وهو بالمدينة بأمر عائشة وطلحة والزبير وأنهم قد توجهوا نحو العراق خرج يبادر وهو يرجو أن يدركهم ويردهم فلما انتهى إلى الربذة أتاه عنهم أنهم قد أمعنوا فأقام بالربذة أياما وأتاه عنهم أنهم يريدون البصرة فسر بذلك وقال إن أهل الكوفة أشد لي حبا وفيهم رؤساء العرب وأعلامهم فكتب إليهم إني قد اخترتكم على الأمصار وإني بالأثر .
قال أبو جعفر محمد بن جرير رحمه الله كتب علي ع من الربذة إلى أهل الكوفة أما بعد فإني قد اخترتكم وآثرت النزول بين أظهركم لما أعرف من مودتكم وحبكم لله ورسوله فمن جاءني ونصرني فقد أجاب الحق وقضى الذي عليه . قال أبو جعفر فأول من بعثه علي ع من الربذة إلى الكوفة محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر فجاء أهل الكوفة إلى أبي موسى وهو الأمير عليهم ليستشيروه في الخروج إلى علي بن أبي طالب ع فقال لهم أما سبيل الآخرة فأن تقعدوا وأما سبيل الدنيا فأن تخرجوا . وبلغ المحمدين قول أبي موسى الأشعري فأتياه وأغلظا له فأغلظ لهما وقال
[ 17 ]
لا يحل لك القتال مع علي حتى لا يبقى أحد من قتلة عثمان إلا قتل حيث كان وقالت أخت علي بن عدي من بني عبد العزى بن عبد شمس وكان أخوها علي بن عدي من شيعة علي ع وفي جملة عسكره
لا هم فاعقر بعلي جمله
و لا تبارك في بعير حمله
ألا علي بن عدي ليس له(1/3873)
قال أبو جعفر ثم أجمع علي ع على المسير من الربذة إلى البصرة فقام إليه رفاعة بن رافع فقال يا أمير المؤمنين أي شي ء تريد وأين تذهب بنا قال أما الذي نريد وننوي فإصلاح إن قبلوا منا وأجابوا إليه قال فإن لم يقبلوا قال ندعوهم ونعطيهم من الحق ما نرجو أن يرضوا به قال فإن لم يرضوا قال ندعهم ما تركونا قال فإن لم يتركونا قال نمتنع منهم قال فنعم إذا . وقام الحجاج بن غزية الأنصاري فقال والله يا أمير المؤمنين لأرضينك بالفعل كما أرضيتني منذ اليوم بالقول ثم قال
دراكها دراكها قبل الفوت
و انفر بنا واسم بنا نحو الصوت
لا وألت نفسي إن خفت الموت
و لله لننصرن الله عز وجل كما سمانا أنصارا . قال أبو جعفر رحمه الله وسار علي ع نحو البصرة ورأيته مع ابنه محمد بن الحنفية وعلى ميمنته عبد الله بن عباس وعلى ميسرته عمر بن أبي سلمة وعلي ع في القلب على ناقة حمراء يقود فرسا كميتا فتلقاه بفيد غلام من
[ 18 ]
بني سعد بن ثعلبة يدعى مرة فقال من هؤلاء قيل هذا أمير المؤمنين فقال سفرة قانية فيها دماء من نفوس فانية فسمعها علي ع فدعاه فقال ما اسمك قال مرة قال أمر الله عيشك أ كاهن سائر اليوم قال بل عائف فخلى سبيله ونزل بفيد فأتته أسد وطيئ فعرضوا عليه أنفسهم فقال الزموا قراركم ففي المهاجرين كفاية . وقدم رجل من الكوفة فيدا فأتى عليا ع فقال له من الرجل قال عامر بن مطرف قال الليثي قال الشيباني قال أخبرني عما وراءك قال إن أردت الصلح فأبو موسى صاحبك وإن أردت القتال فأبو موسى ليس لك بصاحب فقال ع ما أريد إلا الصلح إلا أن يرد علينا(1/3874)
قال أبو جعفر وقدم عليه عثمان بن حنيف وقد نتف طلحة والزبير شعر رأسه ولحيته وحاجبيه فقال يا أمير المؤمنين بعثتني ذا لحية وجئتك أمرد فقال أصبت خيرا وأجرا ثم قال أيها الناس إن طلحة والزبير بايعاني ثم نكثاني بيعتي وألبا علي الناس ومن العجب انقيادهما لأبي بكر وعمر وخلافهما علي والله إنهما ليعلمان أني لست بدونهما اللهم فاحلل ما عقدا ولا تبرم ما قد أحكما في أنفسهما وأرهما المساءة فيما قد عملا . قال أبو جعفر وعاد محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر إلى علي ع فلقياه وقد انتهى إلى ذي قار فأخبراه الخبر فقال علي ع لعبد الله بن العباس اذهب أنت إلى الكوفة فادع أبا موسى إلى الطاعة وحذره من العصيان والخلاف واستنفر الناس فذهب عبد الله بن عباس حتى قدم الكوفة فلقي أبا موسى واجتمع الرؤساء من أهل الكوفة فقام أبو موسى فخطبهم وقال إن أصحاب رسول الله ص صحبوه في مواطن كثيرة فهم أعلم بالله ممن لم يصحبه وإن لكم علي حقا
[ 19 ](1/3875)
و أنا مؤديه إليكم أمر ألا تستخفوا بسلطان الله وألا تجترءوا على الله أن تأخذوا كل من قدم عليكم من أهل المدينة في هذا الأمر فتردوه إلى المدينة حتى تجتمع الأمة على إمام ترتضي به إنها فتنة صماء النائم فيها خير من اليقظان واليقظان خير من القاعد والقاعد خير من القائم والقائم خير من الراكب فكونوا جرثومة من جراثيم العرب أغمدوا سيوفكم وأنصلوا أسنتكم واقطعوا أوتار قسيكم حتى يلتئم هذا الأمر وتنجلي هذه الفتنة . قال أبو جعفر رحمه الله فرجع ابن عباس إلى علي ع فأخبره فدعا الحسن ابنه ع وعمار بن ياسر وأرسلهما إلى الكوفة فلما قدماها كان أول من أتاهما مسروق بن الأجدع فسلم عليهما وأقبل على عمار فقال يا أبا اليقظان علام قتلتم أمير المؤمنين قال على شتم أعراضنا وضرب أبشارنا قال فو الله ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لكان خيرا للصابرين ثم خرج أبو موسى فلقي الحسن ع فضمه إليه وقال لعمار يا أبا اليقظان أ غدوت فيمن غدا على أمير المؤمنين وأحللت نفسك مع الفجار قال لم أفعل ولم تسوءني فقطع عليهما الحسن وقال لأبي موسى يا أبا موسى لم تثبط الناس عنا فو الله ما أردنا إلا الإصلاح وما مثل أمير المؤمنين يخاف على شي ء قال أبو موسى صدقت بأبي وأمي ولكن المستشار مؤتمن سمعت رسول الله ص يقول ستكون فتنة وذكر تمام الحديث فغضب عمار وساءه ذلك وقال أيها الناس إنما قال رسول الله ص ذلك له خاصة وقام رجل من بني تميم فقال لعمار اسكت أيها العبد أنت أمس مع الغوغاء وتسافه أميرنا اليوم وثار زيد بن صوحان وطبقته فانتصروا لعمار وجعل أبو موسى يكف الناس ويردعهم عن الفتنة ثم انطلق حتى صعد المنبر وأقبل زيد بن صوحان ومعه كتاب من عائشة إليه خاصة وكتاب منها إلى أهل الكوفة عامة تثبطهم عن نصرة
[ 20 ](1/3876)
علي وتأمرهم بلزوم الأرض وقال أيها الناس انظروا إلى هذه أمرت أن تقر في بيتها وأمرنا نحن أن نقاتل حتى لا تكون فتنة فأمرتنا بما أمرت به وركبت ما أمرنا به فقام إليه شبث بن ربعي فقال له وما أنت وذاك أيها العماني الأحمق سرقت أمس بجلولاء فقطعك الله وتسب أم المؤمنين فقام زيد وشال يده المقطوعة وأومأ بيده إلى أبي موسى وهو على المنبر وقال له يا عبد الله بن قيس أ ترد الفرات عن أمواجه دع عنك ما لست تدركه ثم قرأ الم أَ حَسِبَ اَلنَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا . . . الآيتين ثم نادى سيروا إلى أمير المؤمنين وصراط سيد المرسلين وانفروا إليه أجمعين وقام الحسن بن علي ع فقال أيها الناس أجيبوا دعوة إمامكم وسيروا إلى إخوانكم فإنه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه والله لأن يليه أولو النهى أمثل في العاجلة وخير في العاقبة فأجيبوا دعوتنا وأعينونا على أمرنا أصلحكم الله . وقام عبد خير فقال يا أبا موسى أخبرني عن هذين الرجلين أ لم يبايعا عليا قال بلى قال أ فأحدث علي حدثا يحل به نقض بيعته قال لا أدري قال لا دريت ولا أتيت إذا كنت لا تدري فنحن تاركوك حتى تدري أخبرني هل تعلم أحدا خارجا عن هذه الفرق الأربع علي بظهر الكوفة وطلحة والزبير بالبصرة ومعاوية بالشام وفرقة رابعة بالحجاز قعود لا يجبى بهم في ء ولا يقاتل بهم عدو فقال أبو موسى أولئك خير الناس قال عبد خير اسكت يا أبا موسى فقد غلب عليك غشك . قال أبو جعفر وأتت الأخبار عليا ع باختلاف الناس بالكوفة فقال للأشتر أنت شفعت في أبي موسى أن أقره على الكوفة فاذهب فأصلح ما أفسدت
[ 21 ](1/3877)
فقام الأشتر فشخص نحو الكوفة فأقبل حتى دخلها والناس في المسجد الأعظم فجعل لا يمر بقبيلة إلا دعاهم وقال اتبعوني إلى القصر حتى وصل القصر فاقتحمه وأبو موسى يومئذ يخطب الناس على المنبر ويثبطهم وعمار يخاطبه والحسن ع يقول اعتزل عملنا وتنح عن منبرنا لا أم لك . قال أبو جعفر فروى أبو مريم الثقفي قال والله إني لفي المسجد يومئذ إذ دخل علينا غلمان أبي موسى يشتدون ويبادرون أبا موسى أيها الأمير هذا الأشتر قد جاء فدخل القصر فضربنا وأخرجنا فنزل أبو موسى من المنبر وجاء حتى دخل القصر فصاح به الأشتر اخرج من قصرنا لا أم لك أخرج الله نفسك فو الله إنك لمن المنافقين قديما قال أجلني هذه العشية قال قد أجلتك ولا تبيتن في القصر الليلة ودخل الناس ينتهبون متاع أبي موسى فمنعهم الأشتر وقال إني قد أخرجته وعزلته عنكم فكف الناس حينئذ عنه .
قال أبو جعفر فروى الشعبي عن أبي الطفيل قال قال علي ع يأتيكم من الكوفة اثنا عشر ألف رجل ورجل واحد فو الله لقعدت على نجفة ذي قار فأحصيتهم واحدا واحدا فما زادوا رجلا ولا نقصوا رجلا(1/3878)
فصل في نسب عائشة وأخبارها
و ينبغي أن نذكر في هذا الموضع طرفا من نسب عائشة وأخبارها وما يقوله أصحابنا المتكلمون فيها جريا على عادتنا في ذكر مثل ذلك كلما مررنا بذكر أحد من الصحابة
[ 22 ]
أما نسبها فإنها ابنة أبي بكر وقد ذكرنا نسبه فيما تقدم وأمها أم رومان ابنة عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتاب بن أذينة بن سبيع بن دهمان بن الحارث بن تميم بن مالك بن كنانة تزوجها رسول الله ص بمكة قبل الهجرة بسنتين وقيل بثلاث وهي بنت ست سنين وقيل بنت سبع سنين وبنى عليها بالمدينة وهي بنت تسع لم يختلفوا في ذلك . وكانت تذكر لجبير بن مطعم وتسمى له وورد في الأخبار الصحيحة أن رسول الله ص أري عائشة في المنام في سرقة حرير متوفى خديجة رضي الله عنها فقال إن يكن هذا من عند الله يمضه فتزوجها بعد موت خديجة بثلاث سنين وتزوجها في شوال وأعرس بها بالمدينة في شوال على رأس ثمانية عشر شهرا من مهاجره إلى المدينة . وقال ابن عبد البر في كتاب الإستيعاب كانت عائشة تحب أن تدخل النساء من أهلها وأحبتها في شوال على أزواجهن وتقول هل كان في نسائه أحظى عنده مني وقد نكحني وبنى علي في شوال . قلت قرئ هذا الكلام على بعض الناس فقال كيف رأت الحال بينها وبين أحمائها وأهل بيت زوجها . وروى أبو عمر بن عبد البر في الكتاب المذكور أن رسول الله ص توفي عنها وهي بنت ثمان عشرة سنة فكان سنها معه تسع سنين ولم ينكح بكرا غيرها واستأذنت رسول الله ص في الكنية فقال لها اكتني بابنك عبد الله بن الزبير يعني ابن أختها فكانت كنيتها أم عبد الله وكانت فقيهة عالمة بالفرائض والشعر والطب .
[ 23 ]
و
روي أن النبي ص قال فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام وأصحابنا يحملون لفظة النساء في هذا الخبر على زوجاته لأن فاطمة ع عندهم أفضل منها(1/3879)
لقوله ص إنها سيدة نساء العالمين . وقذفت بصفوان بن المعطل السلمي في سنة ست منصرف رسول الله ص من غزاة بني المصطلق وكانت معه فقال فيها أهل الإفك ما قالوا ونزل القرآن ببراءتها . وقوم من الشيعة زعموا أن الآيات التي في سورة النور لم تنزل فيها وإنما أنزلت في مارية القبطية وما قذفت به مع الأسود القبطي وجحدهم لإنزال ذلك في عائشة جحد لما يعلم ضرورة من الأخبار المتواترة ثم كان من أمرها وأمر حفصة وما جرى لهما مع رسول الله ص في الأمر الذي أسره على إحداهما ما قد نطق الكتاب العزيز به واعتزل رسول الله ص نساءه كلهن واعتزلهما معهن ثم صالحهن وطلق حفصة ثم راجعها وجرت بين عائشة وفاطمة إبلاغات وحديث يوغر الصدور فتولد بين عائشة وبين علي ع نوع ضغينة وانضم إلى ذلك إشارته على رسول الله ص في قصة الإفك بضرب الجارية وتقريرها وقوله إن النساء كثير . ثم جرى حديث صلاة أبي بكر بالناس فتزعم الشيعة أن رسول الله ص لم يأمر بذلك وأنه إنما صلى بالناس عن أمر عائشة ابنته وأن رسول الله ص خرج متحاملا وهو مثقل فنحاه عن المحراب وزعم معظم المحدثين أن ذلك كان عن أمر رسول الله ص وقوله ثم اختلفوا فمنهم من قال نحاه وصلى هو بالناس ومنهم من قال بل ائتم بأبي بكر كسائر الناس ومنهم
[ 24 ](1/3880)
من قال كان الناس يصلون بصلاة أبي بكر وأبو بكر يصلي بصلاة رسول الله ص . ثم كان منها في أمر عثمان وتضريب الناس عليه ما قد ذكرناه في مواضعه ثم تلا ذلك يوم الجمل . واختلف المتكلمون في حالها وحال من حضر واقعة الجمل فقالت الإمامية كفر أصحاب الجمل كلهم الرؤساء والأتباع وقال قوم من الحشوية والعامة اجتهدوا فلا إثم عليهم ولا نحكم بخطئهم ولا خطإ علي ع وأصحابه . وقال قوم من هؤلاء بل نقول أصحاب الجمل أخطئوا ولكنه خطأ مغفور وكخطإ المجتهد في بعض مسائل الفروع عند من قال بالأشبه وإلى هذا القول يذهب أكثر الأشعرية . وقال أصحابنا المعتزلة كل أهل الجمل هالكون إلا من ثبتت توبته منهم قالوا وعائشة ممن ثبتت توبتها وكذلك طلحة والزبير أما عائشة فإنها اعترفت لعلي ع يوم الجمل بالخطإ وسألته العفو وقد تواترت الرواية عنها بإظهار الندم وأنها كانت تقول ليته كان لي من رسول الله ص بنون عشرة كلهم مثل عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وثكلتهم ولم يكن يوم الجمل وأنها كانت تقول ليتني مت قبل يوم الجمل وأنها كانت إذا ذكرت ذلك اليوم تبكي حتى تبل خمارها وأما الزبير فرجع عن الحرب معترفا بالخطإ لما أذكره علي ع ما أذكره وأما طلحة فإنه مر به وهو صريع فارس فقال له قف فوقف قال من أي الفريقين أنت قال من أصحاب أمير المؤمنين قال أقعدني فأقعده فقال امدد يدك أبايعك لأمير المؤمنين فبايعه .
[ 25 ]
و قال شيوخنا ليس لقائل أن يقول ما يروى من أخبار الآحاد بتوبتهم لا يعارض ما علم قطعا من معصيتهم قالوا لأن التوبة إنما يحكم بها للمكلف على غالب الظن في جميع المواضع لا على القطع أ لا ترى أنا نجوز أن يكون من أظهر التوبة منافقا وكاذبا فبان أن المرجع في قبولها في كل موضع إنما هو إلى الظن فجاز أن يعارض ما علم من معصيتهم بما يظن من توبتهم
[ 26 ](1/3881)
2 ومن كتاب له ع إليهم بعد فتح البصرة
وَ جَزَاكُمُ اَللَّهُ مِنْ أَهْلِ مِصْرٍ عَنْ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ أَحْسَنَ مَا يَجْزِي اَلْعَامِلِينَ بِطَاعَتِهِ وَ اَلشَّاكِرِينَ لِنِعْمَتِهِ فَقَدْ سَمِعْتُمْ وَ أَطَعْتُمْ وَ دُعِيتُمْ فَأَجَبْتُمْ موضع قوله من أهل مصر نصب على التمييز ويجوز أن يكون حالا . فإن قلت كيف يكون تمييزا وتقديره وجزاكم الله متمدنين أحسن ما يجزي المطيع والتمييز لا يكون إلا جامدا وهذا مشتق قلت إنهم أجازوا كون التمييز مشتقا في نحو قولهم ما أنت جارة وقولهم يا سيدا ما أنت من سيد . وما يجوز أن تكون مصدرية أي أحسن جزاء العاملين ويجوز أن تكون بمعنى الذي ويكون قد حذف العائد إلى الموصول وتقديره أحسن الذي يجزي به العاملين
[ 27 ](1/3882)
3 ومن كتاب له ع كتبه لشريح بن الحارث قاضيه
رُوِيَ أَنَّ شُرَيْحَ بْنَ اَلْحَارِثِ قَاضِيَ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ ع اِشْتَرَى عَلَى عَهْدِهِ دَاراً بِثَمَانِينَ دِينَاراً فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَاسْتَدْعَى شُرَيْحاً وَ قَالَ لَهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ اِبْتَعْتَ دَاراً بِثَمَانِينَ دِينَاراً وَ كَتَبْتَ لَهَا كِتَاباً وَ أَشْهَدْتَ فِيهِ شُهُوداً فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ قَدْ كَانَ ذَلِكَ يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ قَالَ فَنَظَرَ إِلَيْهِ نَظَرَ اَلْمُغْضَبِ ثُمَّ قَالَ لَهُ يَا شُرَيْحُ أَمَا إِنَّهُ سَيَأْتِيكَ مَنْ لاَ يَنْظُرُ فِي كِتَابِكَ وَ لاَ يَسْأَلُكَ عَنْ بَيِّنَتِكَ حَتَّى يُخْرِجَكَ مِنْهَا شَاخِصاً وَ يُسْلِمَكَ إِلَى قَبْرِكَ خَالِصاً فَانْظُرْ يَا شُرَيْحُ لاَ تَكُونُ اِبْتَعْتَ هَذِهِ اَلدَّارَ مِنْ غَيْرِ مَالِكَ أَوْ نَقَدْتَ اَلثَّمَنَ مِنْ غَيْرِ حَلاَلِكَ فَإِذَا أَنْتَ قَدْ خَسِرْتَ دَارَ اَلدُّنْيَا وَ دَارَ اَلآْخِرَةِ . أَمَا إِنَّكَ لَوْ كُنْتَ أَتَيْتَنِي عِنْدَ شِرَائِكَ مَا اِشْتَرَيْتَ لَكَتَبْتُ لَكَ كِتَاباً عَلَى هَذِهِ اَلنُّسْخَةِ فَلَمْ تَرْغَبْ فِي شِرَاءِ هَذِهِ اَلدَّارِ بِالدِّرْهَمِ بِدِرْهَمٍ فَمَا فَوْقُ وَ اَلنُّسْخَةُ هَذِهِ هَذَا مَا اِشْتَرَى عَبْدٌ ذَلِيلٌ مِنْ مَيِّتٍ قَدْ أُزْعِجَ لِلرَّحِيلِ اِشْتَرَى مِنْهُ دَاراً مِنْ دَارِ اَلْغُرُورِ مِنْ جَانِبِ اَلْفَانِينَ وَ خِطَّةِ اَلْهَالِكِينَ وَ تَجْمَعُ هَذِهِ اَلدَّارَ حُدُودٌ أَرْبَعَةٌ اَلْحَدُّ اَلْأَوَّلُ يَنْتَهِي إِلَى دَوَاعِي اَلآْفَاتِ وَ اَلْحَدُّ اَلثَّانِي يَنْتَهِي إِلَى دَوَاعِي اَلْمُصِيبَاتِ وَ اَلْحَدُّ اَلثَّالِثُ يَنْتَهِي إِلَى اَلْهَوَى اَلْمُرْدِي وَ اَلْحَدُّ اَلرَّابِعُ يَنْتَهِي إِلَى اَلشَّيْطَانِ اَلْمُغْوِي وَ فِيهِ يُشْرَعُ بَابُ هَذِهِ اَلدَّارِ(1/3883)
اِشْتَرَى هَذَا اَلْمُغْتَرُّ بِالْأَمَلِ مِنْ هَذَا
[ 28 ]
اَلْمُزْعَجِ بِالْأَجَلِ هَذِهِ اَلدَّارَ بِالْخُرُوجِ مِنْ عِزِّ اَلْقَنَاعَةِ وَ اَلدُّخُولِ فِي ذُلِّ اَلطَّلَبِ وَ اَلضَّرَاعَةِ فَمَا أَدْرَكَ هَذَا اَلْمُشْتَرِي فِيمَا اِشْتَرَى مِنْهُ مِنْ دَرَكٍ فَعَلَى مُبَلْبِلِ أَجْسَامِ اَلْمُلُوكِ وَ سَالِبِ نُفُوسِ اَلْجَبَابِرَةِ وَ مُزِيلِ مُلْكِ اَلْفَرَاعِنَةِ مِثْلِ كِسْرَى وَ قَيْصَرَ وَ تُبَّعٍ وَ حِمْيَرَ وَ مَنْ جَمَعَ اَلْمَالَ عَلَى اَلْمَالِ فَأَكْثَرَ وَ مَنْ بَنَى وَ شَيَّدَ وَ زَخْرَفَ وَ نَجَّدَ وَ اِدَّخَرَ وَ اِعْتَقَدَ وَ نَظَرَ بِزَعْمِهِ لِلْوَلَدِ إِشْخَاصُهُمْ جَمِيعاً إِلَى مَوْقِفِ اَلْعَرْضِ وَ اَلْحِسَابِ وَ مَوْضِعِ اَلثَّوَابِ وَ اَلْعِقَابِ إِذَا وَقَعَ اَلْأَمْرُ بِفَصْلِ اَلْقَضَاءِ وَ خَسِرَ هُنَالِكَ اَلْمُبْطِلُونَ شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ اَلْعَقْلُ إِذَا خَرَجَ مِنْ أَسْرِ اَلْهَوَى وَ سَلِمَ مِنْ عَلاَئِقِ اَلدُّنْيَا(1/3884)
نسب شريح وذكر بعض أخباره
هو شريح بن الحارث بن المنتجع بن معاوية بن جهم بن ثور بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد الكندي وقيل إنه حليف لكندة من بني الرائش . وقال ابن الكلبي ليس اسم أبيه الحارث وإنما هو شريح بن معاوية بن ثور . وقال قوم هو شريح بن هانئ . وقال قوم هو شريح بن شراحيل والصحيح أنه شريح بن الحارث ويكنى أبا أمية استعمله عمر بن الخطاب على القضاء بالكوفة فلم يزل قاضيا ستين سنة لم يتعطل فيها إلا ثلاث سنين في فتنة ابن الزبير امتنع فيها من القضاء ثم استعفى الحجاج من
[ 29 ]
العمل فأعفاه فلزم منزله إلى أن مات وعمر عمرا طويلا قيل إنه عاش مائة سنة وثمانيا وستين وقيل مائة سنة وتوفي سنة سبع وثمانين . وكان خفيف الروح مزاحا فقدم إليه رجلان فأقر أحدهما بما ادعى به خصمه وهو لا يعلم فقضى عليه فقال لشريح من شهد عندك بهذا قال ابن أخت خالك وقيل إنه جاءته امرأته تبكي وتتظلم على خصمها فما رق لها حتى قال له إنسان كان بحضرته أ لا تنظر أيها القاضي إلى بكائها فقال إن إخوة يوسف جاءوا أباهم عشاء يبكون . وأقر علي ع شريحا على القضاء مع مخالفته له في مسائل كثيرة من الفقه مذكورة في كتب الفقهاء . واستأذنه شريح وغيره من قضاة عثمان في القضاء أول ما وقعت الفرقة فقال اقضوا كما كنتم تقضون حتى تكون للناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي . وسخط علي ع مرة عليه فطرده عن الكوفة ولم يعزله عن القضاء وأمره بالمقام ببانقيا وكانت قرية قريبة من الكوفة أكثر ساكنها اليهود فأقام بها مدة حتى رضي عنه وأعاده إلى الكوفة . وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب أدرك شريح الجاهلية ولا يعد من الصحابة بل من التابعين وكان شاعرا محسنا وكان سناطا لا شعر في وجهه قوله ع وخطة الهالكين بكسر الخاء وهي الأرض التي يختطها الإنسان
[ 30 ](1/3885)
أي يعلم عليها علامة بالخط ليعمرها ومنه خطط الكوفة والبصرة . وزخرف البناء أي ذهب جدرانه بالزخرف وهو الذهب . ونجد فرش المنزل بالوسائد والنجاد الذي يعالج الفرش والوسائد ويخيطهما والتنجيد التزيين بذلك ويجوز أن يريد بقوله نجد رفع وعلا من النجد وهو المرتفع من الأرض . واعتقد جعل لنفسه عقدة كالضيعة أو الذخيرة من المال الصامت . وإشخاصهم مرفوع بالابتداء وخبره الجار المجرور المقدم وهو قوله فعلى مبلبل أجسام الملوك وموضع الاستحسان من هذا الفصل وإن كان كله حسنا أمران أحدهما أنه ع نظر إليه نظر مغضب إنكارا لابتياعه دارا بثمانين دينارا وهذا يدل على زهد شديد في الدنيا واستكثار للقليل منها ونسبه هذا المشتري إلى الإسراف وخوف من أن يكون ابتاعها بمال حرام . الثاني أنه أملى عليه كتابا زهديا وعظيا مماثلا لكتب الشروط التي تكتب في ابتياع الأملاك فإنهم يكتبون هذا ما اشترى فلان من فلان اشترى منه دارا من شارع كذا وخطة كذا ويجمع هذه الدار حدود أربعة فحد منها ينتهي إلى دار فلان وحد آخر ينتهي إلى ملك فلان وحد آخر ينتهي إلى ما كان يعرف بفلان وهو الآن معروف بفلان وحد آخر ينتهي إلى كذا ومنه شروع باب هذه الدار وطريقها اشترى هذا المشتري المذكور من البائع المذكور جميع الدار المذكورة بثمن مبلغه كذا وكذا دينارا أو درهما فما أدرك المشتري المذكور من درك فمرجوع به على من يوجب الشرع الرجوع به عليه ثم تكتب الشهود في آخر الكتاب شهد فلان ابن فلان بذلك وشهد فلان ابن فلان به أيضا وهذا يدل على أن الشروط المكتوبة الآن قد كانت
[ 31 ](1/3886)
في زمن الصحابة تكتب مثلها أو نحوها إلا أنا ما سمعنا عن أحد منهم نقل صيغة الشرط الفقهي إلى معنى آخر كما قد نظمه هو ع ولا غرو فما زال سباقا إلى العجائب والغرائب . فإن قلت لم جعل الشيطان المغوي في الحد الرابع قلت ليقول وفيه يشرع باب هذه الدار لأنه إذا كان الحد إليه ينتهي كان أسهل لدخوله إليها ودخول أتباعه وأوليائه من أهل الشيطنة والضلال
[ 32 ](1/3887)
4 ومن كتاب له كتبه ع إلى بعض أمراء جيشه
فَإِنْ عَادُوا إِلَى ظِلِّ اَلطَّاعَةِ فَذَاكَ اَلَّذِي نُحِبُّ وَ إِنْ تَوَافَتِ اَلْأُمُورُ بِالْقَوْمِ إِلَى اَلشِّقَاقِ وَ اَلْعِصْيَانِ فَانْهَدْ بِمَنْ أَطَاعَكَ إِلَى مَنْ عَصَاكَ وَ اِسْتَغْنِ بِمَنِ اِنْقَادَ مَعَكَ عَمَّنْ تَقَاعَسَ عَنْكَ فَإِنَّ اَلْمُتَكَارِهَ مَغِيبُهُ خَيْرٌ مِنْ مَشْهَدِهِ وَ قُعُودُهُ أَغْنَى مِنْ نُهُوضِهِ انهد أي انهض وتقاعس أي أبطأ وتأخر . والمتكاره الذي يخرج إلى الجهاد من غير نية وبصيرة وإنما يخرج كارها مرتابا ومثل قوله ع فإن المتكاره مغيبه خير من مشهده وقعوده أغنى من نهوضه قوله تعالى لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً
[ 33 ](1/3888)
5 ومن كتاب له ع إلى الأشعث بن قيس وهو عامل أذربيجان
وَ إِنَّ عَمَلَكَ لَيْسَ لَكَ بِطُعْمَةٍ وَ لَكِنَّهُ فِي عُنُقِكَ أَمَانَةٌ وَ أَنْتَ مُسْتَرْعًى لِمَنْ فَوْقَكَ لَيْسَ لَكَ أَنْ تَفْتَاتَ فِي رَعِيَّةٍ وَ لاَ تُخَاطِرَ إِلاَّ بِوَثِيقَةٍ وَ فِي يَدَيْكَ مَالٌ مِنْ مَالِ اَللَّهِ تَعَالَى وَ أَنْتَ مِنْ خُزَّانِهِ حَتَّى تُسَلِّمَهُ إِلَيَّ وَ لَعَلِّي أَلاَّ أَكُونَ شَرَّ وُلاَتِكَ لَكَ وَ اَلسَّلاَمُ قد ذكرنا نسب أشعث بن قيس فيما تقدم . وأذربيجان اسم أعجمي غير مصروف الألف مقصورة والذال ساكنة قال حبيب
و أذربيجان احتيال بعد ما
كانت معرس عبرة ونكال
و قال الشماخ
تذكرتها وهنا وقد حال دونها
قرى أذربيجان المسالح والجال
و النسبة إليه أذري بسكون الذال هكذا القياس ولكن المروي عن أبي بكر في الكلام الذي قاله عند موته ولتألمن النوم على الصوف الأذري بفتح الذال . والطعمة بضم الطاء المهملة المأكلة ويقال فلان خبيث الطعمة أي ردي ء الكسب . والطعمة بالكسر لهيئة التطعم يقول إن عملك لم يسوغه الشرع والوالي من قبلي إياه
[ 34 ](1/3889)
و لا جعله لك أكلا ولكنه أمانة في يدك وعنقك للمسلمين وفوقك سلطان أنت له رعية فليس لك أن تفتات في الرعية الذين تحت يدك يقال افتات فلان على فلان إذا فعل بغير إذنه ما سبيله أن يستأذنه فيه وأصله من الفوت وهو السبق كأنه سبقه إلى ذلك الأمر وقوله ولا تخاطر إلا بوثيقة أي لا تقدم على أمر مخوف فيما يتعلق بالمال الذي تتولاه إلا بعد أن تتوثق لنفسك يقال أخذ فلان بالوثيقة في أمره أي احتاط ثم قال له ولعلي لا أكون شر ولاتك وهو كلام يطيب به نفسه ويسكن به جأشه لأن في أول الكلام إيحاشا له إذ كانت ألفاظه تدل على أنه لم يره أمينا على المال فاستدرك ذلك بالكلمة الأخيرة أي ربما تحمد خلافتي وولايتي عليك وتصادف مني إحسانا إليك أي عسى ألا يكون شكرك لعثمان ومن قبله أكثر من شكرك لي وهذا من باب وعدك الخفي وتسميه العرب الملث . وأول هذا الكتاب
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى الأشعث بن قيس أما بعد فلو لا هنات وهنات كانت منك كنت المقدم في هذا الأمر قبل الناس ولعل أمرا كان يحمل بعضه بعضا إن اتقيت الله عز وجل وقد كان من بيعة الناس إياي ما قد علمت وكان من أمر طلحة والزبير ما قد بلغك فخرجت إليهما فأبلغت في الدعاء وأحسنت في البقية وإن عملك ليس لك بطعمة إلى آخر الكلام وهذا الكتاب كتبه إلى الأشعث بن قيس بعد انقضاء الجمل
[ 35 ](1/3890)
6 ومن كتاب له ع إلى معاوية
إِنَّهُ بَايَعَنِي اَلْقَوْمُ اَلَّذِينَ بَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ وَ عُمَرَ وَ عُثْمَانَ عَلَى مَا بَايَعُوهُمْ عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَخْتَارَ وَ لاَ لِلْغَائِبِ أَنْ يَرُدَّ وَ إِنَّمَا اَلشُّورَى لِلْمُهَاجِرِينَ وَ اَلْأَنْصَارِ فَإِنِ اِجْتَمَعُوا عَلَى رَجُلٍ وَ سَمَّوْهُ إِمَاماً كَانَ ذَلِكَ لِلَّهِ رِضًا فَإِنْ خَرَجَ عَنْ أَمْرِهِمْ خَارِجٌ بِطَعْنٍ أَوْ بِدْعَةٍ رَدُّوهُ إِلَى مَا خَرَجَ مِنْهُ فَإِنْ أَبَى قَاتَلُوهُ عَلَى اِتَّبَاعِهِ غَيْرَ سَبِيلِ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ وَلاَّهُ اَللَّهُ مَا تَوَلَّى وَ لَعَمْرِي يَا مُعَاوِيَةُ لَئِنْ نَظَرْتَ بِعَقْلِكَ دُونَ هَوَاكَ لَتَجِدَنِّي أَبْرَأَ اَلنَّاسِ مِنْ دَمِ عُثْمَانَ وَ لَتَعْلَمَنَّ أَنِّي كُنْتُ فِي عُزْلَةٍ عَنْهُ إِلاَّ أَنْ تَتَجَنَّى فَتَجَنَّ مَا بَدَا لَكَ وَ اَلسَّلاَمُ قد تقدم ذكر هذا الكلام في أثناء اقتصاص مراسلة أمير المؤمنين ع معاوية بجرير بن عبد الله البجلي وقد ذكره أرباب السيرة كلهم وأورده شيوخنا المتكلمون في كتبهم احتجاجا على صحة الاختيار وكونه طريقا إلى الإمامة وأول الكتاب
أما بعد فإن بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام لأنه بايعني القوم الذين بايعوا إلى آخر الفصل .
[ 36 ]
و المشهور المروي فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو رغبة أي رغبة عن ذلك الإمام الذي وقع الاختيار له . والمروي بعد قوله ولاه الله بعد ما تولى(1/3891)
و أصلاه جهنم وساءت مصيرا وإن طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي فكان نقضهما كردتهما فجاهدتهما على ذلك حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون فادخل فيما دخل فيه المسلمون فإن أحب الأمور إلي فيك العافية إلا أن تتعرض للبلاء فإن تعرضت له قاتلتك واستعنت بالله عليك وقد أكثرت في قتلة عثمان فادخل فيما دخل الناس فيه ثم حاكم القوم إلي أحملك وإياهم على كتاب الله فأما تلك التي تريدها فخدعة الصبي عن اللبن ولعمري يا معاوية إن نظرت بعقلك إلى آخر الكلام . وبعده واعلم أنك من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة ولا تعترض بهم الشورى وقد أرسلت إليك جرير بن عبد الله البجلي وهو من أهل الإيمان والهجرة فبايع ولا قوة إلا بالله . واعلم أن هذا الفصل دال بصريحه على كون الاختيار طريقا إلى الإمامة كما يذكره أصحابنا المتكلمون لأنه احتج على معاوية ببيعة أهل الحل والعقد له ولم يراع في ذلك إجماع المسلمين كلهم وقياسه على بيعة أهل الحل والعقد لأبي بكر فإنه ما روعي فيها إجماع المسلمين لأن سعد بن عبادة لم يبايع ولا أحد من أهل بيته وولده ولأن عليا وبني هاشم ومن انضوى إليهم لم يبايعوا في مبدإ الأمر وامتنعوا ولم يتوقف المسلمون في تصحيح إمامة أبي بكر وتنفيذ أحكامه على بيعتهم وهذا دليل على صحة الاختيار وكونه طريقا إلى الإمامة وأنه لا يقدح في إمامته ع امتناع معاوية من البيعة وأهل الشام فأما الإمامية فتحمل هذا الكتاب منه ع على التقية وتقول إنه ما كان يمكنه
[ 37 ](1/3892)
أن يصرح لمعاوية في مكتوبه بباطن الحال ويقول له أنا منصوص علي من رسول الله ص ومعهود إلى المسلمين أن أكون خليفة فيهم بلا فصل فيكون في ذلك طعن على الأئمة المتقدمين وتفسد حاله مع الذين بايعوه من أهل المدينة وهذا القول من الإمامية دعوى لو عضدها دليل لوجب أن يقال بها ويصار إليها ولكن لا دليل لهم على ما يذهبون إليه من الأصول التي تسوقهم إلى حمل هذا الكلام على التقية . فأما قوله ع وقد أكثرت في قتلة عثمان فادخل فيما دخل فيه المسلمون ثم حاكم القوم إلي أحملك وإياهم على كتاب الله فيجب أن يذكر في شرحه ما يقول المتكلمون في هذه الواقعة قال أصحابنا المعتزلة رحمهم الله هذا الكلام حق وصواب لأن أولياء الدم يجب أن يبايعوا الإمام ويدخلوا تحت طاعته ثم يرفعوا خصومهم إليه فإن حكم بالحق استديمت إمامته وإن حاد عن الحق انقضت خلافته وأولياء عثمان الذين هم بنوه لم يبايعوا عليا ع ولا دخلوا تحت طاعته ثم وكذلك معاوية ابن عم عثمان لم يبايع ولا أطاع فمطالبتهم له بأن يقتص لهم من قاتلي عثمان قبل بيعتهم إياه وطاعتهم له ظلم منهم وعدوان . فإن قلت هب أن القصاص من قتلة عثمان موقوف على ما ذكره ع أ ما كان يجب عليه لا من طريق القصاص أن ينهى عن المنكر وأنتم تذهبون إلى أن النهي عن المنكر واجب على من هو سوقة فكيف على الإمام الأعظم قلت هذا غير وارد هاهنا لأن النهي عن المنكر إنما يجب قبل وقوع المنكر لكيلا يقع فإذا وقع المنكر فأي نهي يكون عنه وقد نهى علي ع أهل مصر وغيرهم عن قتل عثمان قبل قتله مرارا ونابذهم بيده ولسانه وبأولاده فلم يغن
[ 38 ](1/3893)
شيئا وتفاقم الأمر حتى قتل ولا يجب بعد القتل إلا القصاص فإذا امتنع أولياء الدم من طاعة الإمام لم يجب عليه أن يقتص من القاتلين لأن القصاص حقهم وقد سقط ببغيهم على الإمام وخروجهم عن طاعته وقد قلنا نحن فيما تقدم أن القصاص إنما يجب على من باشر القتل والذين باشروا قتل عثمان قتلوا يوم قتل عثمان في دار عثمان والذين كان معاوية يطالبهم بدم عثمان لم يباشروا القتل وإنما كثروا السواد وحصروه عثمان في الدار وأجلبوا عليه وشتموه وتوعدوه ومنهم من تسور عليه داره ولم ينزل إليه ومنهم من نزل فحضر محضر قتله ولم يشرك فيه وكل هؤلاء لا يجب عليهم القصاص في الشرع(1/3894)
جرير بن عبد الله البجلي عند معاوية
و قد ذكرنا فيما تقدم شرح حال جرير بن عبد الله البجلي في إرسال علي ع إياه إلى معاوية مستقصى وذكر الزبير بن بكار في الموفقيات أن عليا ع لما بعث جريرا إلى معاوية خرج وهو لا يرى أحدا قد سبقه إليه قال فقدمت على معاوية فوجدته يخطب الناس وهم حوله يبكون حول قميص عثمان وهو معلق على رمح مخضوب بالدم وعليه أصابع زوجته نائلة بنت الفرافصة مقطوعة فدفعت إليه كتاب علي ع وكان معي في الطريق رجل يسير بسيري ويقيم بمقامي فمثل بين يديه في تلك الحال وأنشده
إن بني عمك عبد المطلب
هم قتلوا شيخكم غير كذب
و أنت أولى الناس بالوثب فثب
و قد ذكرنا تمام هذه الأبيات فيما تقدم .
[ 39 ]
قال ثم دفع إليه كتابا من الوليد بن عقبة بن أبي معيط وهو أخو عثمان لأمه كتبه مع هذا الرجل من الكوفة سرا أوله
معاوي إن الملك قد جب غاربه
الأبيات التي ذكرنا فيما تقدم . قال فقال لي معاوية أقم فإن الناس قد نفروا عند قتل عثمان حتى يسكنوا فأقمت أربعة أشهر ثم جاءه كتاب آخر من الوليد بن عقبة أوله
ألا أبلغ معاوية بن حرب
فإنك من أخي ثقة مليم
قطعت الدهر كالسدم المعنى
تهدر في دمشق ولا تريم
و إنك والكتاب إلى علي
كدابغة وقد حلم الأديم
فلو كنت القتيل وكان حيا
لشمر لا ألف ولا سئوم
قال فلما جاءه هذا الكتاب وصل بين طومارين أبيضين ثم طواهما وكتب عنوانهما
[ 40 ](1/3895)
من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب ودفعهما إلي لا أعلم ما فيهما ولا أظنهما إلا جوابا وبعث معي رجلا من بني عبس لا أدري ما معه فخرجنا حتى قدمنا إلى الكوفة واجتمع الناس في المسجد لا يشكون أنها بيعة أهل الشام فلما فتح علي ع الكتاب لم يجد شيئا وقام العبسي فقال من هاهنا من أحياء قيس وأخص من قيس غطفان وأخص من غطفان عبسا إني أحلف بالله لقد تركت تحت قميص عثمان أكثر من خمسين ألف شيخ خاضبي لحاهم بدموع أعينهم متعاقدين متحالفين ليقتلن قتلته في البر والبحر وإني أحلف بالله ليقتحمنها عليكم ابن أبي سفيان بأكثر من أربعين ألفا من خصيان الخيل فما ظنكم بعد بما فيها من الفحول ثم دفع إلى علي ع كتابا من معاوية ففتحه فوجد فيه
أتاني أمر فيه للنفس غمة
و فيه اجتداع للأنوف أصيل
مصاب أمير المؤمنين وهده
تكاد لها صم الجبال تزول
و قد ذكرنا هذا الشعر فيما تقدم
[ 41 ](1/3896)
7 ومن كتاب منه ع إليه أيضا
أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ أَتَتْنِي مِنْكَ مَوْعِظَةٌ مُوَصَّلَةٌ وَ رِسَالَةٌ مُحَبَّرَةٌ نَمَّقْتَهَا بِضَلاَلِكَ وَ أَمْضَيْتَهَا بِسُوءِ رَأْيِكَ وَ كِتَابُ اِمْرِئٍ لَيْسَ لَهُ بَصَرٌ يَهْدِيهِ وَ لاَ قَائِدٌ يُرْشِدُهُ قَدْ دَعَاهُ اَلْهَوَى فَأَجَابَهُ وَ قَادَهُ اَلضَّلاَلُ فَاتَّبَعَهُ فَهَجَرَ لاَغِطاً وَ ضَلَّ خَابِطاً موعظة موصلة أي مجموعة الألفاظ من هاهنا وهاهنا وذلك عيب في الكتابة والخطابة وإنما الكاتب من يرتجل فيقول قولا فصلا أو يروي فيأتي بالبديع المستحسن وهو في الحالين كليهما ينفق من كيسه ولا يستعير كلام غيره . والرسالة المحبرة المزينة الألفاظ كأنه ع يشير إلى أنه قد كان يظهر عليها أثر التكلف والتصنع . والتنميق التزيين أيضا . وهجر الرجل أي هذى ومنه قوله تعالى في أحد التفسيرين إِنَّ قَوْمِي اِتَّخَذُوا هذَا اَلْقُرْآنَ مَهْجُوراً . واللاغط ذو اللغط وهو الصوت والجلبة .
[ 42 ]
و خبط البعير فهو خابط إذا مشى ضالا فحبط بيديه كل ما يلقاه ولا يتوقى شيئا . وهذا الكتاب كتبه علي ع جوابا عن كتاب كتبه معاوية إليه في أثناء حرب صفين بل في أواخرها وكان كتاب معاوية من عبد الله معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب أما بعد فإن الله تعالى يقول في محكم كتابه وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْخاسِرِينَ وإني أحذرك الله أن تحبط عملك وسابقتك بشق عصا هذه الأمة وتفريق جماعتها فاتق الله واذكر موقف القيامة وأقلع عما أسرفت فيه من الخوض في دماء المسلمين و(1/3897)
إني سمعت رسول الله ص يقول لو تمالأ أهل صنعاء وعدن على قتل رجل واحد من المسلمين لأكبهم الله على مناخرهم في النار فكيف يكون حال من قتل أعلام المسلمين وسادات المهاجرين بله ما طحنت رحى حربه من أهل القرآن وذي العبادة والإيمان من شيخ كبير وشاب غرير كلهم بالله تعالى مؤمن وله مخلص وبرسوله مقر عارف فإن كنت أبا حسن إنما تحارب على الإمرة والخلافة فلعمري لو صحت خلافتك لكنت قريبا من أن تعذر في حرب المسلمين ولكنها ما صحت لك أنى بصحتها وأهل الشام لم يدخلوا فيها ولم يرتضوا بها وخف الله وسطواته واتق بأسه ونكاله وأغمد سيفك عن الناس فقد والله أكلتهم الحرب فلم يبق منهم إلا كالثمد في قرارة الغدير والله المستعان .
فكتب علي ع إليه جوابا عن كتابه
[ 43 ](1/3898)
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان أما بعد فقد أتتني منك موعظة موصلة ورسالة محبرة نمقتها بضلالك وأمضيتها بسوء رأيك وكتاب امرئ ليس له بصر يهديه ولا قائد يرشده دعاه الهوى فأجابه وقاده الضلال فاتبعه فهجر لاغطا وضل خابطا فأما أمرك لي بالتقوى فأرجو أن أكون من أهلها وأستعيذ بالله من أن أكون من الذين إذا أمروا بها أخذتهم العزة بالإثم وأما تحذيرك إياي أن يحبط عملي وسابقتي في الإسلام فلعمري لو كنت الباغي عليك لكان لك أن تحذرني ذلك ولكني وجدت الله تعالى يقول فَقاتِلُوا اَلَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اَللَّهِ فنظرنا إلى الفئتين أما الفئة الباغية فوجدناها الفئة التي أنت فيها لأن بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام كما لزمتك بيعة عثمان بالمدينة وأنت أمير لعمر على الشام وكما لزمت يزيد أخاك بيعة عمر وهو أمير لأبي بكر على الشام وأما شق عصا هذه الأمة فأنا أحق أن أنهاك عنه فأما تخويفك لي من قتل أهل البغي فإن رسول الله ص أمرني بقتالهم وقتلهم وقال لأصحابه إن فيكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله وأشار إلي وأنا أولى من اتبع أمره وأما قولك إن بيعتي لم تصح لأن أهل الشام لم يدخلوا فيها كيف وإنما هي بيعة واحدة تلزم الحاضر والغائب لا يثنى فيها النظر ولا يستأنف فيها الخيار الخارج منها طاعن والمروي فيها مداهن فاربع على ظلعك وانزع سربال غيك واترك ما لا جدوى له عليك فليس لك عندي إلا السيف حتى تفي ء إلى أمر الله صاغرا وتدخل في البيعة راغما والسلام
[ 44 ](1/3899)
وَ مِنْ هَذَا اَلْكِتَابِ مِنْهُ لِأَنَّهَا بَيْعَةٌ وَاحِدَةٌ لاَ يُثَنَّى فِيهَا اَلنَّظَرُ وَ لاَ يُسْتَأْنَفُ فِيهَا اَلْخِيَارُ اَلْخَارِجُ مِنْهَا طَاعِنٌ وَ اَلْمُرَوِّي فِيهَا مُدَاهِنٌ لا يثنى فيها النظر أي لا يعاود ولا يراجع ثانية ولا يستأنف فيها الخيار ليس بعد عقدها خيار لمن عقدها ولا لغيرهم لأنها تلزم غير العاقدين كما تلزم العاقدين فيسقط الخيار فيها الخارج منها طاعن على الأمة لأنهم أجمعوا على أن الاختيار طريق الإمامة . والمروي فيها مداهن أي الذي يرتئي ويبطئ عن الطاعة ويفكر وأصله من الروية والمداهن المنافق
[ 45 ](1/3900)
8 ومن كتاب له ع إلى جرير بن عبد الله البجلي لما أرسله إلى معاوية
أَمَّا بَعْدُ فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي فَاحْمِلْ مُعَاوِيَةَ عَلَى اَلْفَصْلِ وَ خُذْهُ بِالْأَمْرِ اَلْجَزْمِ ثُمَّ خَيِّرْهُ بَيْنَ حَرْبٍ مُجْلِيَةٍ أَوْ سِلْمٍ مُخْزِيَةٍ فَإِنِ اِخْتَارَ اَلْحَرْبَ فَانْبِذْ إِلَيْهِ وَ إِنِ اِخْتَارَ اَلسِّلْمَ فَخُذْ بَيْعَتَهُ وَ اَلسَّلاَمُ قد تقدم ذكر نسب جرير بن عبد الله البجلي . وقوله ع فاحمل معاوية على الفصل أي لا تتركه متلكئا مترددا يطمعك تارة ويؤيسك أخرى بل احمله على أمر فيصل إما البيعة أو أن يأذن بالحرب . وكذلك قوله وخذه بالأمر الجزم أي الأمر المقطوع به لا تكن ممن يقدم رجلا ويؤخر أخرى وأصل الجزم القطع . وحرب مجلية تجلي المقهورين فيها عن ديارهم أي تخرجهم . وسلم مخزية أي فاضحة وإنما جعلها مخزية لأن معاوية امتنع أولا من البيعة فإذا دخل في السلم فإنما يدخل فيها بالبيعة وإذا بايع بعد الامتناع فقد دخل تحت الهضم ورضي بالضيم وذلك هو الخزي .
[ 46 ]
قوله فانبذ إليه من قوله تعالى فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ وأصله العهد والهدنة وعقد الحلف يكون بين الرجلين أو بين القبيلتين ثم يبدو لهما في ذلك فينتقلان إلى الحرب فينبذ أحدهما إلى الآخر عهده كأنه كتاب مكتوب بينهما قد نبذه أحدهما يوم الحرب وأبطله فاستعير ذلك للمجاهرة بالعداوة والمكاشفة ونسخ شريعة السلام السابقة بالحرب المعاقبة لها
[ 47 ](1/3901)
9 ـ ومن كتاب له ع إلى معاوية
فَأَرَادَ قَوْمُنَا قَتْلَ نَبِيِّنَا وَ اِجْتِيَاحَ أَصْلِنَا وَ هَمُّوا بِنَا اَلْهُمُومَ وَ فَعَلُوا بِنَا اَلْأَفَاعِيلَ وَ مَنَعُونَا اَلْعَذْبَ وَ أَحْلَسُونَا اَلْخَوْفَ وَ اِضْطَرُّونَا إِلَى جَبَلٍ وَعْرٍ وَ أَوْقَدُوا لَنَا نَارَ اَلْحَرْبِ فَعَزَمَ اَللَّهُ لَنَا عَلَى اَلذَّبِّ عَنْ حَوْزَتِهِ وَ اَلرَّمْيِ مِنْ وَرَاءِ حَوْمَتِهِ حُرْمَتِهِ مُؤْمِنُنَا يَبْغِي بِذَلِكَ اَلْأَجْرِ وَ كَافِرُنَا يُحَامِي عَنِ اَلْأَصْلِ وَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قُرَيْشٍ خِلْوٌ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ بِحِلْفٍ يَمْنَعُهُ أَوْ عَشِيرَةٍ تَقُومُ دُونَهُ فَهُوَ مِنَ اَلْقَتْلِ بِمَكَانِ أَمْنٍ وَ كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ ص إِذَا اِحْمَرَّ اَلْبَأْسُ وَ أَحْجَمَ اَلنَّاسُ قَدَّمَ أَهْلَ بَيْتِهِ فَوَقَى بِهِمْ أَصْحَابَهُ حَرَّ اَلسُّيُوفِ وَ اَلْأَسِنَّةِ فَقُتِلَ عُبَيْدَةُ بْنُ اَلْحَارِثِ يَوْمَ بَدْرٍ وَ قُتِلَ حَمْزَةُ يَوْمَ أُحُدٍ وَ قُتِلَ جَعْفَرٌ يَوْمَ مُؤْتَةَ وَ أَرَادَ مَنْ لَوْ شِئْتُ ذَكَرْتُ اِسْمَهُ مِثْلَ اَلَّذِي أَرَادُوا مِنَ اَلشَّهَادَةِ وَ لَكِنَّ آجَالَهُمْ عُجِّلَتْ وَ مَنِيَّتَهُ أُخِّرَتْ أُجِّلَتْ فَيَا عَجَباً لِلدَّهْرِ إِذْ صِرْتُ يُقْرَنُ بِي مَنْ لَمْ يَسْعَ بِقَدَمِي وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ كَسَابِقَتِي اَلَّتِي لاَ يُدْلِي أَحَدٌ بِمِثْلِهَا إِلاَّ أَنْ يَدَّعِيَ مُدَّعٍ مَا لاَ أَعْرِفُهُ وَ لاَ أَظُنُّ اَللَّهَ يَعْرِفُهُ وَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَ أَمَّا مَا سَأَلْتَ مِنْ دَفْعِ قَتَلَةِ عُثْمَانَ إِلَيْكَ فَإِنِّي نَظَرْتُ فِي هَذَا اَلْأَمْرِ فَلَمْ أَرَهُ يَسَعُنِي دَفْعُهُمْ إِلَيْكَ وَ لاَ إِلَى غَيْرِكَ وَ لَعَمْرِي لَئِنْ لَمْ تَنْزِعْ عَنْ غَيِّكَ وَ شِقَاقِكَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ عَنْ قَلِيلٍ(1/3902)
يَطْلُبُونَكَ لاَ يُكَلِّفُونَكَ طَلَبَهُمْ فِي بَرٍّ وَ لاَ بَحْرٍ وَ لاَ جَبَلٍ
[ 48 ]
وَ لاَ سَهْلٍ إِلاَّ أَنَّهُ طَلَبٌ يَسُوءُكَ وِجْدَانُهُ وَ زَوْرٌ لاَ يَسُرُّكَ لُقْيَانُهُ وَ اَلسَّلاَمُ لِأَهْلِهِ قوله ع فأراد قومنا يعني قريشا . والاجتياح الاستئصال ومنه الجائحة وهي السنة أو الفتنة التي تجتاح المال أو الأنفس . قوله ومنعونا العذب أي العيش العذب لا أنهم منعوهم الماء العذب على أنه قد نقل أنهم منعوا أيام الحصار في شعب بني هاشم من الماء العذب وسنذكر ذلك . قوله وأحلسونا الخوف أي ألزموناه والحلس كساء رقيق يكون تحت برذعة البعير وأحلاس البيوت ما يبسط تحت حر الثياب و
في الحديث كن حلس بيتك أي لا تخالط الناس واعتزل عنهم فلما كان الحلس ملازما ظهر البعير وأحلاس البيوت ملازمة لها قال وأحلسونا الخوف أي جعلوه لنا كالحلس الملازم . قوله واضطرونا إلى جبل وعر مثل ضربه ع لخشونة مقامهم وشظف منزلهم أي كانت حالنا فيه كحال من اضطر إلى ركوب جبل وعر ويجوز أن يكون حقيقة لا مثلا لأن الشعب الذي حصروهم فيه مضيق بين جبلين . قوله فعزم الله لنا أي قضى الله لنا ووفقنا لذلك وجعلنا عازمين عليه . والحوزة الناحية وحوزة الملك بيضته .
[ 49 ](1/3903)
و حومة الماء والرمل معظمه . والرمي عنها المناضلة والمحاماة ويروى والرمي من وراء حرمته والضمير في حوزته وحومته راجع إلى النبي ص وقد سبق ذكره وهو قوله نبينا ويروى والرميا . وقال الراوندي وهموا بنا الهموم أي هموا نزول الهم بنا فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه وليس ما قاله بجيد بل الهموم منصوب هاهنا على المصدر أي هموا بنا هموما كثيرة وهموا بنا أي أرادوا نهبنا كقوله تعالى وَ هَمَّ بِها على تفسير أصحابنا وإنما أدخل لام التعريف في الهموم أي هموا بنا تلك الهموم التي تعرفونها فأتى باللام ليكون أعظم وأكبر في الصدور من تنكيرها أي تلك الهموم معروفة مشهورة بين الناس لتكرر عزم المشركين في أوقات كثيرة مختلفة على الإيقاع . وقوله وفعلوا بنا الأفاعيل يقال لمن أثروا آثارا منكرة فعلوا بنا الأفاعيل وقل أن يقال ذلك في غير الضرر والأذى ومنه قول أمية بن خلف لعبد الرحمن بن عوف وهو يذكر حمزة بن عبد المطلب يوم بدر ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل . قوله يحامي عن الأصل أي يدافع عن محمد ويذب عنه حمية ومحافظة على النسب . قوله خلو مما نحن فيه أي خال والحلف العهد . واحمر البأس كلمة مستعارة أي اشتدت الحرب حتى احمرت الأرض من الدم فجعل البأس هو الأحمر مجازا كقولهم الموت الأحمر .
[ 50 ](1/3904)
قوله وأحجم الناس أي كفوا عن الحرب وجبنوا عن الإقدام يقال حجمت فلانا عن كذا أحجمه بالضم فأحجم هو وهذه اللفظة من النوادر كقولهم كببته فأكب . ويوم مؤتة بالهمز ومؤتة أرض معروفة . وقوله وأراد من لو شئت لذكرت اسمه يعني به نفسه . قوله إذ صرت يقرن بي من لم يسع بقدمي إشارة إلى معاوية في الظاهر وإلى من تقدم عليه من الخلفاء في الباطن والدليل عليه قوله التي لا يدلي أحد بمثلها فأطلق القول إطلاقا عاما مستغرقا لكل الناس أجمعين . ثم قال إلا أن يدعي مدع ما لا أعرفه ولا أظن الله يعرفه أي كل من ادعى خلاف ما ذكرته فهو كاذب لأنه لو كان صادقا لكان علي ع يعرفه لا محالة فإذا قال عن نفسه إن كل دعوة تخالف ما ذكرت فإني لا أعرف صحتها فمعناه أنها باطلة . وقوله ولا أظن الله يعرفه فالظن هاهنا بمعنى العلم كقوله تعالى وَ رَأَى اَلْمُجْرِمُونَ اَلنَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وأخرج هذه الكلمة مخرج قوله تعالى قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اَللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي اَلسَّماواتِ وَ لا فِي اَلْأَرْضِ وليس المراد سلب العلم بل العلم بالسلب كذلك ليس مراده ع سلب الظن الذي هو بمعنى العلم بل ظن السلب أي علم السلب أي وأعلم أن الله سبحانه يعرف انتفاءه وكل ما يعلم الله انتفاءه فليس بثابت . وقال الراوندي قوله ع ولا أظن الله يعرفه مثل قوله تعالى وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ اَلْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ اَلصَّابِرِينَ .
[ 51 ](1/3905)
و الله يعلم كل شي ء قبل وجوده وإنما معناه حتى نعلم جهادهم موجودا وليست هذه الكلمة من الآية بسبيل لتجعل مثالا لها ولكن الراوندي يتكلم بكل ما يخطر له من غير أن يميز ما يقول . وتقول أدلى فلان بحجته أي احتج بها وفلان مدل برحمه أي مت بها وأدلى بماله إلى الحاكم دفعه إليه ليجعله وسيلة إلى قضاء حاجته منه فأما الشفاعة فلا يقال فيها أدليت ولكن دلوت بفلان أي استشفعت به وقال عمر لما استسقى بالعباس رحمه الله اللهم إنا نتقرب إليك بعم نبيك وقفية آبائه وكبر رجاله دلونا به إليك مستشفعين قوله ع فلم أره يسعني أي لم أر أنه يحل لي دفعهم إليك والضمير في أره ضمير الشأن والقصة وأره من الرأي لا من الرؤية كقولك لم أر الرأي الفلاني . ونزع فلان عن كذا أي فارقه وتركه ينزع بالكسر والغي الجهل والضلال . والشقاق الخلاف . الوجدان مصدر وجدت كذا أي أصبته والزور الزائر . واللقيان مصدر لقيت تقول لقيته لقاء ولقيانا . ثم قال والسلام لأهله لم يستجز في الدين أن يقول له والسلام عليك لأنه عنده فاسق لا يجوز إكرامه فقال والسلام لأهله أي على أهله . ويجب أن نتكلم في هذا الفصل في مواضع منها ذكر ما جاء في السيرة من إجلاب قريش على رسول الله ص وبني هاشم وحصرهم في الشعب .
[ 52 ]
و منها الكلام في المؤمنين والكافرين من بني هاشم الذين كانوا في الشعب محصورين معه ص من هم . ومنها شرح قصة بدر . ومنها شرح غزاة أحد . ومنها شرح غزاة مؤتة(1/3906)
الفصل الأول إجلاب قريش على بني هاشم وحصرهم في الشعب
فأما الكلام في الفصل الأول فنذكر منه ما ذكره محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب السيرة والمغازي فإنه كتاب معتمد عند أصحاب الحديث والمؤرخين ومصنفه شيخ الناس كلهم . قال محمد بن إسحاق رحمه الله لم يسبق عليا ع إلى الإيمان بالله ورسالة محمد ص أحد من الناس اللهم إلا أن تكون خديجة زوجة رسول الله ص قال وقد كان ص يخرج ومعه علي مستخفين من الناس فيصليان الصلوات في بعض شعاب مكة فإذا أمسيا رجعا فمكثا بذلك ما شاء الله أن يمكثا لا ثالث لهما ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوما وهما يصليان فقال لمحمد ص يا ابن أخي ما هذا الذي تفعله فقال أي عم هذا دين الله ودين ملائكته ورسله ودين أبينا إبراهيم أو كما قال ع بعثني الله به رسولا إلى العباد وأنت أي عم أحق من بذلت له النصيحة ودعوته إلى الهدى وأحق من أجابني إليه وأعانني عليه أو كما قال فقال أبو طالب إني لا أستطيع يا ابن أخي أن أفارق
[ 53 ](1/3907)
ديني ودين آبائي وما كانوا عليه ولكن والله لا يخلص إليك شي ء تكرهه ما بقيت فزعموا أنه قال لعلي أي بني ما هذا الذي تصنع قال يا أبتاه آمنت بالله ورسوله وصدقته فيما جاء به وصليت إليه واتبعت قول نبيه فزعموا أنه قال له أما إنه لا يدعوك أو لن يدعوك إلا إلى خير فالزمه . قال ابن إسحاق ثم أسلم زيد بن حارثة مولى رسول الله ص فكان أول من أسلم وصلى معه بعد علي بن أبي طالب ع . ثم أسلم أبو بكر بن أبي قحافة فكان ثالثا لهما ثم أسلم عثمان بن عفان وطلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد بن أبي وقاص فصاروا ثمانية فهم الثمانية الذين سبقوا الناس إلى الإسلام بمكة ثم أسلم بعد هؤلاء الثمانية أبو عبيدة بن الجراح وأبو سلمة بن عبد الأسد وأرقم بن أبي أرقم ثم انتشر الإسلام بمكة وفشا ذكره وتحدث الناس به وأمر الله رسوله أن يصدع بما أمر به فكانت مدة إخفاء رسول الله ص نفسه وشأنه إلى أن أمر بإظهار الدين ثلاث سنين فيما بلغني . قال محمد بن إسحاق ولم تكن قريش تنكر أمره حينئذ كل الإنكار حتى ذكر آلهتهم وعابها فأعظموا ذلك وأنكروه وأجمعوا على عداوته وخلافه وحدب عليه عمه أبو طالب فمنعه وقام دونه حتى مضى مظهرا لأمر الله لا يرده عنه شي ء قال فلما رأت قريش محاماة أبي طالب عنه وقيامه دونه وامتناعه من أن يسلمه مشى إليه رجال من أشراف قريش منهم عتبة بن ربيعة وشيبة أخوه وأبو سفيان بن حرب وأبو البختري بن هشام والأسود بن المطلب والوليد بن المغيرة وأبو جهل عمرو بن هشام
[ 54 ](1/3908)
و العاص بن وائل ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وأمثالهم من رؤساء قريش فقالوا يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آراءنا فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا وردهم ردا جميلا فانصرفوا عنه ومضى رسول الله ص على ما هو عليه يظهر دين الله ويدعو إليه ثم شرق الأمر بينه وبينهم تباعدا وتضاغنا حتى أكثرت قريش ذكر رسول الله ص بينها وتذامروا فيه وحض بعضهم بعضا عليه فمشوا إلى أبي طالب مرة ثانية فقالوا يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا وإنا والله لا نصبر على شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا فإما أن تكفه عنا أو ننازله وإياك حتى يهلك أحد الفريقين ثم انصرفوا فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ولم تطب نفسه بإسلام ابن أخيه لهم وخذلانه فبعث إليه فقال يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا للذي قالوا فأبق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيقه قال فظن رسول الله ص أنه قد بدا لعمه فيه بداء وأنه خاذله ومسلمه وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام دونه فقال يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك ثم استعبر باكيا وقام فلما ولى ناداه أبو طالب أقبل يا ابن أخي فأقبل راجعا فقال له اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فو الله لا أسلمك لشي ء أبدا .
[ 55 ]
قال ابن إسحاق وقال أبو طالب يذكر ما أجمعت عليه قريش من حربه لما قام بنصر محمد ص
و الله لن يصلوا إليك بجمعهم
حتى أوسد في التراب دفينا
فانفذ لأمرك ما عليك مخافة
و ابشر وقر بذاك منه عيونا
و دعوتني وزعمت أنك ناصحي
و لقد صدقت وكنت قبل أمينا
و عرضت دينا قد علمت بأنه
من خير أديان البرية دينا
لو لا الملامة أو حذاري سبة
لوجدتني سمحا بذاك مبينا(1/3909)
قال محمد بن إسحاق ثم إن قريشا حين عرفت أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله ص وإسلامه إليهم ورأوا إجماعه على مفارقتهم وعداوتهم مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي وكان أجمل فتى في قريش فقالوا له يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أبهى فتى في قريش وأجمله فخذه إليك فاتخذه ولدا فهو لك وأسلم لنا هذا ابن أخيك الذي قد خالف دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومك لنقتله فإنما هو رجل برجل فقال أبو طالب والله ما أنصفتموني تعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه هذا والله ما لا يكون أبدا فقال له المطعم بن عدي بن نوفل وكان له صديقا مصافيا والله يا أبا طالب ما أراك تريد أن تقبل من قومك شيئا لعمري قد جهدوا في التخلص مما تكره وأراك لا تنصفهم فقال أبو طالب والله ما أنصفوني ولا أنصفتني ولكنك قد أجمعت على خذلاني ومظاهرة القوم علي فاصنع ما بدا لك
[ 56 ]
قال فعند ذلك تنابذ القوم وصارت الأحقاد ونادى بعضهم بعضا وتذامروا بينهم على من في القبائل من المسلمين الذين اتبعوا محمدا ص فوثبت كل قبيلة على من فيها منهم يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم ومنع الله رسوله منهم بعمه أبي طالب وقام في بني هاشم وبني عبد المطلب حين رأى قريشا تصنع ما تصنع فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله ص والقيام دونه فاجتمعوا إليه وقاموا معه وأجابوه إلى ما دعاهم إليه من الدفاع عن رسول الله ص إلا ما كان من أبي لهب فإنه لم يجتمع معهم على ذلك فكان أبو طالب يرسل إليه الأشعار ويناشده النصر منها القطعة التي أولها
حديث عن أبي لهب أتانا
و كانفه على ذاكم رجال
و منها القطعة التي أولها
أ ظننت عني قد خذلت وغالني
منك الغوائل بعد شيب المكبر
و منها القطعة التي أولها
تستعرض الأقوام توسعهم
عذرا وما إن قلت من عذر(1/3910)
قال محمد بن إسحاق فلم يؤثر عن أبي لهب خير قط إلا ما يروى أن أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي لما وثب عليه قومه ليعذبوه ويفتنوه عن الإسلام هرب منهم فاستجار بأبي طالب وأم أبي طالب مخزومية وهي أم عبد الله والد رسول الله ص فأجاره فمشى إليه رجال من بني مخزوم وقالوا له يا أبا طالب هبك منعت منا ابن أخيك محمدا فما لك ولصاحبنا تمنعه منا قال إنه استجار بي وهو ابن أختي وإن أنا لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي فارتفعت أصواتهم وأصواته فقام أبو لهب ولم ينصر أبا طالب قبلها ولا بعدها فقال يا معشر قريش والله لقد أكثرتم على هذا
[ 57 ]
الشيخ لا تزالون تتوثبون عليه في جواره من بين قومه أما والله لتنتهن عنه أو لنقومن معه فيما قام فيه حتى يبلغ ما أراد فقالوا بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة فقاموا فانصرفوا وكان وليا لهم ومعينا على رسول الله ص وأبي طالب فاتقوه وخافوا أن تحمله الحمية على الإسلام فطمع فيه أبو طالب حيث سمعه قال ما قال وأمل أن يقوم معه في نصرة رسول الله ص فقال يحرضه على ذلك
و إن امرأ أبو عتيبة عمه
لفي معزل من أن يسام المظالما
و لا تقبلن الدهر ما عشت خطة
تسب بها أما هبطت المواسما
أقول له وأين منه نصيحتي
أبا عتبة ثبت سوادك قائما
و ول سبيل العجز غيرك منهم
فإنك لم تخلق على العجز لازما
و حارب فإن الحرب نصف ولن ترى
أخا الحرب يعطى الخسف حتى يسالما
كذبتم وبيت الله نبزى محمدا
و لما تروا يوما من الشعب قائما
و قال يخاطب أبا لهب أيضا
عجبت لحلم يا ابن شيبة عازب
و أحلام أقوام لديك سخاف
يقولون شايع من أراد محمدا
بظلم وقم في أمره بخلاف
أضاميم إما حاسد ذو خيانة
و إما قريب عنك غير مصاف
فلا تركبن الدهر منه ذمامة
و أنت امرؤ من خير عبد مناف
و لا تتركنه ما حييت لمعظم
و كن رجلا ذا نجدة وعفاف
يذود العدا عن ذروة هاشمية
إلافهم في الناس خير إلاف
فإن له قربى لديك قريبة
و ليس بذي حلف ولا بمضاف(1/3911)
و لكنه من هاشم ذي صميمها
إلى أبحر فوق البحور طواف
[ 58 ]
و زاحم جميع الناس عنه وكن له
وزيرا على الأعداء غير مجاف
و إن غضبت منه قريش فقل لها
بني عمنا ما قومكم بضعاف
و ما بالكم تغشون منه ظلامة
و ما بال أحقاد هناك خوافي
فما قومنا بالقوم يخشون ظلمنا
و ما نحن فيما ساءهم بخفاف
و لكننا أهل الحفائظ والنهى
و عز ببطحاء المشاعر واف
قال محمد بن إسحاق فلما طال البلاء على المسلمين والفتنة والعذاب وارتد كثير عن الدين باللسان لا بالقلب كانوا إذا عذبوهم يقولون نشهد أن هذا الله وأن اللات والعزى هي الآلهة فإذا خلوا عنهم عادوا إلى الإسلام فحبسوهم وأوثقوهم بالقد وجعلوهم في حر الشمس على الصخر والصفا وامتدت أيام الشقاء عليهم ولم يصلوا إلى محمد ص لقيام أبي طالب دونه فأجمعت قريش على أن يكتبوا بينهم وبين بني هاشم صحيفة يتعاقدون فيها ألا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يجالسوهم فكتبوها وعلقوها في جوف الكعبة تأكيدا على أنفسهم وكان كاتبها منصور بن عكرمة بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي فلما فعلوا ذلك انحازت هاشم والمطلب فدخلوا كلهم مع أبي طالب في الشعب فاجتمعوا إليه وخرج منهم أبو لهب إلى قريش فظاهرها على قومه . قال محمد بن إسحاق فضاق الأمر ببني هاشم وعدموا القوت إلا ما كان يحمل إليهم سرا وخفية وهو شي ء قليل لا يمسك أرماقهم وأخافتهم قريش فلم يكن يظهر منهم أحد ولا يدخل إليهم أحد وذلك أشد ما لقي رسول الله ص وأهل بيته بمكة . قال محمد بن إسحاق فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا حتى جهدوا ألا يصل إليهم
[ 59 ](1/3912)
شي ء إلا القليل سرا ممن يريد صلتهم من قريش وقد كان أبو جهل بن هشام لقي حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى معه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة بنت خويلد وهي عند رسول الله محاصرة في الشعب فتعلق به وقال أ تحمل الطعام إلى بني هاشم والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة فجاءه أبو البختري العاص بن هشام بن الحارث بن أسد بن عبد العزى فقال ما لك وله قال إنه يحمل الطعام إلى بني هاشم فقال أبو البختري يا هذا إن طعاما كان لعمته عنده بعثت إليه فيه أ فتمنعه أن يأتيها بطعامها خل سبيل الرجل فأبى أبو جهل حتى نال كل منهما من صاحبه فأخذ له أبو البختري لحي بعير فضربه به فشجه ووطئه وطئا شديدا فانصرف وهو يكره أن يعلم رسول الله ص وبنو هاشم بذلك فيشمتوا فلما أراد الله تعالى من إبطال الصحيفة والفرج عن بني هاشم من الضيق والأزل الذي كانوا فيه قام هشام بن عمرو بن الحارث بن حبيب بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي في ذلك أحسن قيام وذلك أن أباه عمرو بن الحارث كان أخا لنضلة بن هاشم بن عبد مناف بن قصي من أمه فكان هشام بن عمرو يحسب لذلك واصلا ببني هاشم وكان ذا شرف في قومه بني عامر بن لؤي فكان يأتي بالبعير ليلا وقد أوقره طعاما وبنو هاشم وبنو المطلب في الشعب حتى إذا أقبل به فم الشعب فمنع بخطامه من رأسه ثم يضربه على جنبه فيدخل الشعب عليهم ثم يأتي به مرة أخرى وقد أوقره تمرا فيصنع به مثل ذلك ثم إنه مشى إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي فقال يا زهير أ رضيت أن تأكل الطعام وتشرب الشراب وتلبس الثياب وتنكح النساء وأخوالك حيث قد علمت لا يبتاعون ولا يبتاع منهم ولا ينكحون ولا ينكح إليهم ولا يواصلون ولا يزارون أما إني أحلف لو كان أخوك أبو الحكم بن هشام ودعوته إلى مثل ما دعاك
[ 60 ](1/3913)
إليه منهم ما أجابك أبدا قال ويحك يا هشام فما ذا أصنع إنما أنا رجل واحد والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقض هذه الصحيفة القاطعة قال قد وجدت رجلا قال من هو قال أنا قال زهير أبغنا ثالثا فذهب إلى مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف فقال له يا مطعم أ رضيت أن يهلك بطنان من عبد مناف جوعا وجهدا وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه أما والله لئن أمكنتموهم من هذا لتجدن قريشا إلى مساءتكم في غيره سريعة قال ويحك ما ذا أصنع إنما أنا رجل واحد قال قد وجدت ثانيا قال من هو قال أنا قال أبغني ثالثا قال قد وجدت قال من هو قال زهير بن أمية قال أنا قال أبغنا رابعا فذهب إلى أبي البختري بن هشام فقال له نحو ما قال للمطعم قال وهل من أحد يعين على هذا قال نعم وذكرهم قال فأبغنا خامسا فمضى إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى فكلمه فقال وهل يعين على ذلك من أحد قال نعم ثم سمى له القوم فاتعدوا خطم الحجون ليلا بأعلى مكة فأجمعوا أمرهم وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها وقال زهير أنا أبدؤكم وأكون أولكم يتكلم فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم وغدا زهير بن أبي أمية عليه حلة له فطاف بالبيت سبعا ثم أقبل على الناس فقال يا أهل مكة أ نأكل الطعام ونشرب الشراب ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة وكان أبو جهل في ناحية المسجد فقال كذبت والله لا تشق فقال زمعة بن الأسود لأبي جهل والله أنت أكذب ما رضينا والله بها حين كتبت فقال أبو البختري معه صدق والله زمعة لا نرضى بها ولا نقر بما كتب فيها فقال المطعم بن عدي صدقا والله وكذب من قال غير ذلك نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها وقال هشام بن عمرو مثل قولهم فقال أبو جهل هذا أمر قضي بليل وقام مطعم بن عدي إلى الصحيفة فحطها وشقها فوجد الأرضة قد أكلتها إلا
[ 61 ](1/3914)
ما كان من باسمك اللهم قالوا وأما كاتبها منصور بن عكرمة فشلت يده فيما يذكرون فلما مزقت الصحيفة خرج بنو هاشم من حصار الشعب . قال محمد بن إسحاق فلم يزل أبو طالب ثابتا صابرا مستمرا على نصر رسول الله ص وحمايته والقيام دونه حتى مات في أول السنة الحادية العشرة من مبعث رسول الله ص فطمعت فيه قريش حينئذ ونالت منه فخرج عن مكة خائفا يطلب أحياء العرب يعرض عليهم نفسه فلم يزل كذلك حتى دخل مكة في جوار المطعم بن عدي ثم كان من أمره مع الخزرج ما كان ليلة العقبة . قال ومن شعر أبي طالب الذي يذكر فيه رسول الله ص وقيامه دونه
أرقت وقد تصوبت النجوم
و بت ولا تسالمك الهموم
لظلم عشيرة ظلموا وعقوا
و غب عقوقهم لهم وخيم
هم انتهكوا المحارم من أخيهم
و كل فعالهم دنس ذميم
و راموا خطة جورا وظلما
و بعض القول ذو جنف مليم
لتخرج هاشما فتكون منها
بلاقع بطن مكة فالحطيم
فمهلا قومنا لا تركبونا
بمظلمة لها خطب جسيم
فيندم بعضكم ويذل بعض
و ليس بمفلح أبدا ظلوم
أرادوا قتل أحمد زاعميه
و ليس بقتله منهم زعيم
و دون محمد منا ندي
هم العرنين والعضو الصميم
و من ذلك قوله
و قالوا لأحمد أنت امرؤ
خلوف الحديث ضعيف السبب
[ 62 ]
و إن كان أحمد قد جاءهم
بصدق ولم يأتهم بالكذب
فإنا ومن حج من راكب
و كعبة مكة ذات الحجب
تنالون أحمد أو تصطلوا
ظباة الرماح وحد القضب
و تغترفوا بين أبياتكم
صدور العوالي وخيلا شزب
تراهن من بين ضافي السبيب
قصير الحزام طويل اللبب
عليها صناديد من هاشم
هم الأنجبون مع المنتجب
و روى عبد الله بن مسعود قال لما فرغ رسول الله ص من قتلى بدر وأمر بطرحهم في القليب جعل يتذكر من شعر أبي طالب بيتا فلا يحضره فقال له أبو بكر لعله قوله يا رسول الله
و إنا لعمر الله إن جد جدنا
لتلتبسن أسيافنا بالأماثل
فسر بظفره بالبيت وقال إي لعمر الله لقد التبست . ومن شعر أبي طالب قوله
ألا أبلغا عني لؤيا رسالة
بحق وما تغني رسالة مرسل(1/3915)
بني عمنا الأدنين فيما يخصهم
و إخواننا من عبد شمس ونوفل
أ ظاهرتم قوما علينا سفاهة
و أمرا غويا من غواة وجهل
يقولون لو أنا قتلنا محمدا
أقرت نواصي هاشم بالتذلل
كذبتم ورب الهدي تدمى نحوره
بمكة والبيت العتيق المقبل
تنالونه أو تصطلوا دون نيله
صوارم تفري كل عضو ومفصل
فمهلا ولما تنتج الحرب بكرها
بخيل تمام أو بآخر معجل
[ 63 ]
و تلقوا بيع الأبطحين محمدا
على ربوة في رأس عنقاء عيطل
و تأوي إليه هاشم إن هاشما
عرانين كعب آخر بعد أول
فإن كنتم ترجون قتل محمد
فروموا بما جمعتم نقل يذبل
فإنا سنحميه بكل طمرة
و ذي ميعة نهد المراكل هيكل
و كل رديني ظماء كعوبه
و عضب كإيماض الغمامة مفصل
قلت كان صديقنا علي بن يحيى البطريق رحمه الله يقول لو لا خاصة النبوة وسرها لما كان مثل أبي طالب وهو شيخ قريش ورئيسها وذو شرفها يمدح ابن أخيه محمدا وهو شاب قد ربي في حجره وهو يتيمه ومكفوله وجار مجرى أولاده بمثل قوله
و تلقوا ربيع الأبطحين محمدا
على ربوة في رأس عنقاء عيطل
و تأوي إليه هاشم إن هاشما
عرانين كعب آخر بعد أول
و مثل قوله
و أبيض يستسقى الغمام بوجهه
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يطيف به الهلاك من آل هاشم
فهم عنده في نعمة وفواضل
فإن هذا الأسلوب من الشعر لا يمدح به التابع والذنابى من الناس وإنما هو من مديح الملوك والعظماء فإذا تصورت أنه شعر أبي طالب ذاك الشيخ المبجل العظيم في محمد ص وهو شاب مستجير به معتصم بظله من قريش قد رباه في حجره غلاما وعلى عاتقه طفلا وبين يديه شابا يأكل من زاده ويأوي إلى داره علمت موضع خاصية النبوة وسرها وأن أمره كان عظيما وأن الله تعالى أوقع في القلوب والأنفس له منزلة رفيعة ومكانا جليلا
[ 64 ](1/3916)
و قرأت في أمالي أبي جعفر بن حبيب رحمه الله قال كان أبو طالب إذا رأى رسول الله ص أحيانا يبكي ويقول إذا رأيته ذكرت أخي وكان عبد الله أخاه لأبويه وكان شديد الحب والحنو عليه وكذلك كان عبد المطلب شديد الحب له وكان أبو طالب كثيرا ما يخاف على رسول الله ص البيات إذا عرف مضجعه يقيمه ليلا من منامه ويضجع ابنه عليا مكانه فقال له علي ليلة يا أبت إني مقتول فقال له
اصبرن يا بني فالصبر أحجى
كل حي مصيره لشعوب
قدر الله والبلاء شديد
لفداء الحبيب وابن الحبيب
لفداء الأعز ذي الحسب الثاقب
و الباع والكريم النجيب
إن تصبك المنون فالنبل تبري
فمصيب منها وغير مصيب
كل حي وإن تملى بعمر
آخذ من مذاقها بنصيب
فأجاب علي ع فقال له
أ تأمرني بالصبر في نصر أحمد
و والله ما قلت الذي قلت جازعا
و لكنني أحببت أن ترى نصرتي
و تعلم أني لم أزل لك طائعا
سأسعى لوجه الله في نصر أحمد
نبي الهدى المحمود طفلا ويافعا(1/3917)
الفصل الثاني القول في المؤمنين والكافرين من بني هاشم
الفصل الثاني في تفسير قوله ع مؤمننا يبغي بذلك الأجر وكافرنا يحامي عن الأصل ومن أسلم من قريش خلو مما نحن فيه لحلف يمنعه أو عشيرة تقوم دونه
[ 65 ]
فهم من القتل بمكان أمن فنقول إن بني هاشم لما حصروا في الشعب بعد أن منعوا رسول الله ص من قريش كانوا صنفين مسلمين وكفارا فكان علي ع وحمزة بن عبد المطلب مسلمين . واختلف في جعفر بن أبي طالب هل حصر في الشعب معهم أم لا فقيل حصر في الشعب معهم وقيل بل كان قد هاجر إلى الحبشة ولم يشهد حصار الشعب وهذا هو القول الأصح وكان من المسلمين المحصورين في الشعب مع بني هاشم عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف وهو وإن لم يكن من بني هاشم إلا أنه يجري مجراهم لأن بني المطلب وبني هاشم كانوا يدا واحدة لم يفترقوا في جاهلية ولا إسلام . وكان العباس رحمه الله في حصار الشعب معهم إلا أنه كان على دين قومه وكذلك عقيل بن أبي طالب وطالب بن أبي طالب ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وابنه الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وكان شديدا على رسول الله ص يبغضه ويهجوه بالأشعار إلا أنه كان لا يرضى بقتله ولا يقار قريشا في دمه محافظة على النسب وكان سيد المحصورين في الشعب ورئيسهم وشيخهم أبو طالب بن عبد المطلب وهو الكافل والمحامي(1/3918)
اختلاف الرأي في إيمان أبي طالب
و اختلف الناس في إيمان أبي طالب فقالت الإمامية وأكثر الزيدية ما مات إلا مسلما .
[ 66 ]
و قال بعض شيوخنا المعتزلة بذلك منهم الشيخ أبو القاسم البلخي وأبو جعفر الإسكافي وغيرهما . وقال أكثر الناس من أهل الحديث والعامة من شيوخنا البصريين وغيرهم مات على دين قومه و
يروون في ذلك حديثا مشهورا أن رسول الله ص قال له عند موته قل يا عم كلمة أشهد لك بها غدا عند الله تعالى فقال لو لا أن تقول العرب إن أبا طالب جزع عند الموت لأقررت بها عينك . وروي أنه قال أنا على دين الأشياخ . وقيل إنه قال أنا على دين عبد المطلب وقيل غير ذلك . وروى كثير من المحدثين أن قوله تعالى ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ اَلْجَحِيمِ وَ ما كانَ اِسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ الآية أنزلت في أبي طالب لأن رسول الله استغفر له بعد موته . ورووا أن قوله تعالى إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ نزلت في أبي طالب . ورووا أن عليا ع جاء إلى رسول الله ص بعد موت أبي طالب فقال له إن عمك الضال قد قضى فما الذي تأمرني فيه . واحتجوا بأنه لم ينقل أحد عنه أنه رآه يصلي والصلاة هي المفرقة بين المسلم والكافر وأن عليا وجعفرا لم يأخذا من تركته شيئا و
رووا عن النبي ص أنه قال إن الله قد وعدني بتخفيف عذابه لما صنع في حقي وإنه في ضحضاح من نار و
رووا عنه أيضا أنه قيل له لو استغفرت لأبيك وأمك فقال لو استغفرت لهما لاستغفرت لأبي طالب فإنه صنع إلي ما لم يصنعا وإن عبد الله وآمنة وأبا طالب جمرات من جمرات جهنم .
[ 67 ]
فأما الذين زعموا أنه كان مسلما فقد رووا خلاف ذلك و(1/3919)
أسندوا خبرا إلى أمير المؤمنين ع أنه قال قال رسول الله ص قال لي جبرائيل إن الله مشفعك في ستة بطن حملتك آمنة بنت وهب وصلب أنزلك عبد الله بن عبد المطلب وحجر كفلك أبي طالب وبيت آواك عبد المطلب وأخ كان لك في الجاهلية قيل يا رسول الله وما كان فعله قال كان سخيا يطعم الطعام ويجود بالنوال وثدي أرضعتك حليمة بنت أبي ذؤيب . قلت سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد عن هذا الخبر وقد قرأته عليه هل كان لرسول الله ص أخ من أبيه أو من أمه أو منهما في الجاهلية فقال لا إنما يعني أخا له في المودة والصحبة قلت له فمن هو قال لا أدري . قالوا و
قد نقل الناس كافة عن رسول الله ص أنه قال نقلنا من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكية فوجب بهذا أن يكون آباؤه كلهم منزهين عن الشرك لأنهم لو كانوا عبدة أصنام لما كانوا طاهرين . قالوا وأما ما ذكر في القرآن من إبراهيم وأبيه آزر وكونه كان ضالا مشركا فلا يقدح في مذهبنا لأن آزر كان عم إبراهيم فأما أبوه فتارخ بن ناحور وسمي العم أبا كما قال أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ اَلْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ ثم عد فيهم إسماعيل وليس من آبائه ولكنه عمه . قلت وهذا الاحتجاج عندي ضعيف لأن المراد من قوله نقلنا من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكية تنزيه آبائه وأجداده وأمهاته عن السفاح لا غير هذا مقتضى
[ 68 ](1/3920)
سياقة الكلام لأن العرب كان يعيب بعضها بعضا باختلاط المياه واشتباه الأنساب ونكاح الشبهة . وقولهم لو كانوا عبدة أصنام لما كانوا طاهرين يقال لهم لم قلتم إنهم لو كانوا عبدة أصنام لما كانوا طاهري الأصلاب فإنه لا منافاة بين طهارة الأصلاب وعبادة الصنم أ لا ترى أنه لو أراد ما زعموه لما ذكر الأصلاب والأرحام بل جعل عوضها العقائد واعتذارهم عن إبراهيم وأبيه يقدح في قولهم في أبي طالب لأنه لم يكن أبا محمد ص بل كان عمه فإذا جاز عندهم أن يكون العم وهو آزر مشركا كما قد اقترحوه في تأويلهم لم يكن لهم حجة من هذا الوجه على إسلام أبي طالب . واحتجوا في إسلام الآباء
بما روي عن جعفر بن محمد ع أنه قال يبعث الله عبد المطلب يوم القيامة وعليه سيماء الأنبياء وبهاء الملوك و
روي أن العباس بن عبد المطلب قال لرسول الله ص بالمدينة يا رسول الله ما ترجو لأبي طالب فقال أرجو له كل خير من الله عز وجل و
روي أن رجلا من رجال الشيعة وهو أبان بن محمود كتب إلى علي بن موسى الرضا ع جعلت فداك إني قد شككت في إسلام أبي طالب فكتب إليه وَ مَنْ يُشاقِقِ اَلرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ اَلْهُدى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اَلْمُؤْمِنِينَ الآية وبعدها إنك إن لم تقر بإيمان أبي طالب كان مصيرك إلى النار و
قد روي عن علي بن محمد الباقر ع أنه سئل عما يقوله الناس إن أبا طالب في ضحضاح من نار فقال لو وضع إيمان أبي طالب في كفة ميزان وإيمان هذا الخلق في الكفة الأخرى لرجح إيمانه ثم قال أ لم تعلموا أن أمير المؤمنين عليا ع كان يأمر أن يحج عن عبد الله وأبيه أبي طالب في حياته ثم أوصى في وصيته بالحج عنهم . وروي أن أبا بكر جاء بأبي قحافة إلى النبي ص عام الفتح يقوده
[ 69 ](1/3921)
و هو شيخ كبير أعمى فقال رسول الله أ لا تركت الشيخ حتى نأتيه فقال أردت يا رسول الله أن يأجره الله أما والذي بعثك بالحق لأنا كنت أشد فرحا بإسلام عمك أبي طالب مني بإسلام أبي ألتمس بذلك قرة عينك فقال صدقت . و
روي أن علي بن الحسين ع سئل عن هذا فقال وا عجبا إن الله تعالى نهى رسوله أن يقر مسلمة على نكاح كافر وقد كانت فاطمة بنت أسد من السابقات إلى الإسلام ولم تزل تحت أبي طالب حتى مات . ويروي قوم من الزيدية أن أبا طالب أسند المحدثون عنه حديثا ينتهي إلى أبي رافع مولى رسول الله ص قال سمعت أبا طالب يقول بمكة حدثني محمد ابن أخي أن ربه بعثه بصلة الرحم وأن يعبده وحده لا يعبد معه غيره ومحمد عندي الصادق الأمين . وقال قوم إن
قول النبي ص أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة إنما عنى به أبا طالب . وقالت الإمامية إن ما يرويه العامة من أن عليا ع وجعفرا لم يأخذا من تركة أبي طالب شيئا حديث موضوع ومذهب أهل البيت بخلاف ذلك فإن المسلم عندهم يرث الكافر ولا يرث الكافر المسلم ولو كان أعلى درجة منه في النسب . قالوا و
قوله ص لا توارث بين أهل ملتين نقول بموجبه لأن التوارث تفاعل ولا تفاعل عندنا في ميراثهما واللفظ يستدعي الطرفين كالتضارب لا يكون إلا من اثنين قالوا وحب رسول الله ص
[ 70 ]
لأبي طالب معلوم مشهور ولو كان كافرا ما جاز له حبه لقوله تعالى لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ الآية . قالوا وقد اشتهر واستفاض الحديث وهو(1/3922)
قوله ص لعقيل أنا أحبك حبين حبا لك وحبا لحب أبي طالب فإنه كان يحبك . قالوا وخطبة النكاح مشهورة خطبها أبو طالب عند نكاح محمد ص خديجة وهي قوله الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وجعل لنا بلدا حراما وبيتا محجوجا وجعلنا الحكام على الناس ثم إن محمد بن عبد الله أخي من لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح عليه برا وفضلا وحزما وعقلا ورأيا ونبلا وإن كان في المال قل فإنما المال ظل زائل وعارية مسترجعة وله في خديجة بنت خويلد رغبة ولها فيه مثل ذلك وما أحببتم من الصداق فعلي وله والله بعد نبأ شائع وخطب جليل . قالوا أ فتراه يعلم نبأه الشائع وخطبه الجليل ثم يعانده ويكذبه وهو من أولي الألباب هذا غير سائغ في العقول . قالوا و
قد روي عن أبي عبد الله جعفر بن محمد ع أن رسول الله ص قال إن أصحاب الكهف أسروا الإيمان وأظهروا الكفر فآتاهم الله أجرهم مرتين وإن أبا طالب أسر الإيمان وأظهر الشرك فآتاه الله أجره مرتين و
في الحديث المشهور أن جبرائيل ع قال له ليلة مات أبو طالب اخرج منها فقد مات ناصرك . قالوا وأما حديث الضحضاح من النار فإنما يرويه الناس كلهم عن رجل واحد وهو المغيرة بن شعبة وبغضه لبني هاشم وعلى الخصوص لعلي ع مشهور معلوم وقصته وفسقه أمر غير خاف .
[ 71 ]
و قالوا وقد روي بأسانيد كثيرة بعضها عن العباس بن عبد المطلب وبعضها عن أبي بكر بن أبي قحافة أن أبا طالب ما مات حتى قال لا إله إلا الله محمد رسول الله والخبر مشهور أن أبا طالب عند الموت قال كلاما خفيا فأصغى إليه أخوه العباس ثم رفع رأسه إلى رسول الله ص فقال يا ابن أخي والله لقد قالها عمك ولكنه ضعف عن أن يبلغك صوته . و(1/3923)
روي عن علي ع أنه قال ما مات أبو طالب حتى أعطى رسول الله ص من نفسه الرضا . قالوا وأشعار أبي طالب تدل على أنه كان مسلما ولا فرق بين الكلام المنظوم والمنثور إذا تضمنا إقرارا بالإسلام أ لا ترى أن يهوديا لو توسط جماعة من المسلمين وأنشد شعرا قد ارتجله ونظمه يتضمن الإقرار بنبوة محمد ص لكنا نحكم بإسلامه كما لو قال أشهد أن محمدا رسول الله ص فمن تلك الأشعار قوله
يرجون منا خطة دون نيلها
ضراب وطعن بالوشيج المقوم
يرجون أن نسخى بقتل محمد
و لم تختضب سمر العوالي من الدم
كذبتم وبيت الله حتى تفلقوا
جماجم تلقى بالحطيم وزمزم
و تقطع أرحام وتنسى حليلة
حليلا ويغشى محرم بعد محرم
على ما مضى من مقتكم وعقوقكم
و غشيانكم في أمركم كل مأثم
و ظلم نبي جاء يدعو إلى الهدى
و أمر أتى من عند ذي العرش قيم
[ 72 ]
فلا تحسبونا مسلميه فمثله
إذا كان في قوم فليس بمسلم
و من شعر أبي طالب في أمر الصحيفة التي كتبتها قريش في قطيعة بني هاشم
ألا أبلغا عني على ذات بينها
لؤيا وخصا من لؤي بني كعب
أ لم تعلموا أنا وجدنا محمدا
رسولا كموسى خط في أول الكتب
و أن عليه في العباد محبة
و لا حيف فيمن خصه الله بالحب
و أن الذي رقشتم في كتابكم
يكون لكم يوما كراغية السقب
أفيقوا أفيقوا قبل أن تحفر الزبى
و يصبح من لم يجن ذنبا كذي ذنب
و لا تتبعوا أمر الغواة وتقطعوا
أواصرنا بعد المودة والقرب
و تستجلبوا حربا عوانا وربما
أمر على من ذاقه حلب الحرب
فلسنا وبيت الله نسلم أحمدا
لعزاء من عض الزمان ولا كرب
و لما تبن منا ومنكم سوالف
و أيد أترت بالمهندة الشهب
بمعترك ضيق ترى قصد القنا
به والضباع العرج تعكف كالشرب
كأن مجال الخيل في حجراته
و غمغمة الأبطال معركة الحرب
أ ليس أبونا هاشم شد أزره
و أوصى بنيه بالطعان وبالضرب
و لسنا نمل الحرب حتى تملنا
و لا نشتكي مما ينوب من النكب
[ 73 ]
و لكننا أهل الحفائظ والنهى
إذا طار أرواح الكماة من الرعب(1/3924)
و من ذلك قوله
فلا تسفهوا أحلامكم في محمد
و لا تتبعوا أمر الغواة الأشائم
تمنيتم أن تقتلوه وإنما
أمانيكم هذي كأحلام نائم
و إنكم والله لا تقتلونه
و لما تروا قطف اللحى والجماجم
زعمتم بأنا مسلمون محمدا
و لما نقاذف دونه ونزاحم
من القوم مفضال أبي على العدا
تمكن في الفرعين من آل هاشم
أمين حبيب في العباد مسوم
بخاتم رب قاهر في الخواتم
يرى الناس برهانا عليه وهيبة
و ما جاهل في قومه مثل عالم
نبي أتاه الوحي من عند ربه
و من قال لا يقرع بها سن نادم
و من ذلك قوله وقد غضب لعثمان بن مظعون الجمحي حين عذبته قريش ونالت منه
أ من تذكر دهر غير مأمون
أصبحت مكتئبا تبكي كمحزون
أم من تذكر أقوام ذوي سفه
يغشون بالظلم من يدعو إلى الدين
أ لا يرون أذل الله جمعهم
أنا غضبنا لعثمان بن مظعون
و نمنع الضيم من يبغي مضامتنا
بكل مطرد في الكف مسنون
و مرهفات كأن الملح خالطها
يشفى بها الداء من هام المجانين
حتى تقر رجال لا حلوم لها
بعد الصعوبة بالإسماح واللين
[ 74 ]
أو تؤمنوا بكتاب منزل عجب
على نبي موسى أو كذي النون
قالوا وقد جاء في الخبر أن أبا جهل بن هشام جاء مرة إلى رسول الله ص وهو ساجد وبيده حجر يريد أن يرضخ به رأسه فلصق الحجر بكفه فلم يستطع ما أراد فقال أبو طالب في ذلك من جملة أبيات
أفيقوا بني عمنا وانتهوا
عن الغي من بعض ذا المنطق
و إلا فإني إذا خائف
بوائق في داركم تلتقي
كما ذاق من كان من قبلكم
ثمود وعاد وما ذا بقي
و منها
و أعجب من ذاك في أمركم
عجائب في الحجر الملصق
بكف الذي قام من حينه
إلى الصابر الصادق المتقي
فأثبته الله في كفه
على رغمه الخائن الأحمق
قالوا وقد اشتهر عن عبد الله المأمون رحمه الله أنه كان يقول أسلم أبو طالب والله بقوله
نصرت الرسول رسول المليك
ببيض تلألأ كلمع البروق
أذب وأحمي رسول الإله
حماية حام عليه شفيق
و ما إن أدب لأعدائه
دبيب البكار حذار الفنيق
و لكن أزير لهم ساميا(1/3925)
كما زار ليث بغيل مضيق
[ 75 ]
قالوا وقد جاء في السيرة وذكره أكثر المؤرخين أن عمرو بن العاص لما خرج إلى بلاد الحبشة ليكيد جعفر بن أبي طالب وأصحابه عند النجاشي قال
تقول ابنتي أين أين الرحيل
و ما البين مني بمستنكر
فقلت دعيني فإني امرؤ
أريد النجاشي في جعفر
لأكويه عنده كية
أقيم بها نخوة الأصعر
و لن أنثني عن بني هاشم
بما اسطعت في الغيب والمحضر
و عن عائب اللات في قوله
و لو لا رضا اللات لم تمطر
و إني لأشنا قريش له
و إن كان كالذهب الأحمر
قالوا فكان عمرو يسمى الشانئ ابن الشانئ لأن أباه كان إذا مر عليه رسول الله ص بمكة يقول له والله إني لأشنؤك وفيه أنزل إِنَّ شانِئَكَ هُوَ اَلْأَبْتَرُ قالوا فكتب أبو طالب إلى النجاشي شعرا يحرضه فيه على إكرام جعفر وأصحابه والإعراض عما يقوله عمرو فيه وفيهم من جملته
ألا ليت شعري كيف في الناس جعفر
و عمرو وأعداء النبي الأقارب
و هل نال إحسان النجاشي جعفرا
و أصحابه أم عاق عن ذاك شاغب
في أبيات كثيرة . قالوا و
روي عن علي ع أنه قال قال لي أبي يا بني الزم ابن عمك فإنك تسلم به من كل بأس عاجل وآجل ثم قال لي
إن الوثيقة في لزوم محمد
فاشدد بصحبته على أيديكا
[ 76 ]
و من شعره المناسب لهذا المعنى قوله
إن عليا وجعفرا ثقتي
عند ملم الزمان والنوب
لا تخذلا وانصرا ابن عمكما
أخي لأمي من بينهم وأبي
و الله لا أخذل النبي ولا
يخذله من بني ذو حسب(1/3926)
قالوا وقد جاءت الرواية أن أبا طالب لما مات جاء علي ع إلى رسول الله ص فآذنه بموته فتوجع عظيما وحزن شديدا ثم قال له امض فتول غسله فإذا رفعته على سريره فأعلمني ففعل فاعترضه رسول الله ص وهو محمول على رءوس الرجال فقال وصلتك رحم يا عم وجزيت خيرا فلقد ربيت وكفلت صغيرا ونصرت وآزرت كبيرا ثم تبعه إلى حفرته فوقف عليه فقال أما والله لأستغفرن لك ولأشفعن فيك شفاعة يعجب لها الثقلان . قالوا والمسلم لا يجوز أن يتولى غسل الكافر ولا يجوز للنبي أن يرق لكافر ولا أن يدعو له بخير ولا أن يعده بالاستغفار والشفاعة وإنما تولى علي ع غسله لأن طالبا وعقيلا لم يكونا أسلما بعد وكان جعفر بالحبشة ولم تكن صلاة الجنائز شرعت بعد ولا صلى رسول الله ص على خديجة وإنما كان تشييع ورقة ودعاء . قالوا ومن شعر أبي طالب يخاطب أخاه حمزة وكان يكنى أبا يعلى
فصبرا أبا يعلى على دين أحمد
و كن مظهرا للدين وفقت صابرا
و حط من أتى بالحق من عند ربه
بصدق وعزم لا تكن حمز كافرا
فقد سرني إذ قلت إنك مؤمن
فكن لرسول الله في الله ناصرا
[ 77 ]
و باد قريشا بالذي قد أتيته
جهارا وقل ما كان أحمد ساحرا
قالوا ومن شعره المشهور
أنت النبي محمد
قرم أعز مسود
لمسودين أكارم
طابوا وطاب المولد
نعم الأرومة أصلها
عمرو الخضم الأوحد
هشم الربيكة في الجفان
و عيش مكة أنكد
فجرت بذلك سنة
فيها الخبيزة تثرد
و لنا السقاية للحجيج
بها يماث العنجد
و المأزمان وما حوت
عرفاتها والمسجد
أنى تضام ولم أمت
و أنا الشجاع العربد
و بطاح مكة لا يرى
فيها نجيع أسود
و بنو أبيك كأنهم
أسد العرين توقد
و لقد عهدتك صادقا
في القول لا تتزيد
ما زلت تنطق بالصواب
و أنت طفل أمرد
قالوا ومن شعره المشهور أيضا قوله يخاطب محمدا ويسكن جأشه ويأمره بإظهار الدعوة
لا يمنعنك من حق تقوم به
أيد تصول ولا سلق بأصوات
[ 78 ]
فإن كفك كفي إن بليت بهم
و دون نفسك نفسي في الملمات(1/3927)
و من ذلك قوله ويقال إنها لطالب بن أبي طالب
إذا قيل من خير هذا الورى
قبيلا وأكرمهم أسره
أناف لعبد مناف أب
و فضله هاشم العزه
لقد حل مجد بني هاشم
مكان النعائم والنثره
و خير بني هاشم أحمد
رسول الإله على فتره
و من ذلك قوله
لقد أكرم الله النبي محمدا
فأكرم خلق الله في الناس أحمد
و شق له من اسمه ليجله
فذو العرش محمود وهذا محمد
و قوله أيضا وقد يروى لعلي ع
يا شاهد الله علي فاشهد
أني على دين النبي أحمد
من ضل في الدين فإني مهتد
قالوا فكل هذه الأشعار قد جاءت مجي ء التواتر لأنه إن لم تكن آحادها متواترة فمجموعها يدل على أمر واحد مشترك وهو تصديق محمد ص ومجموعها متواتر كما أن كل واحدة من قتلات علي ع الفرسان منقولة آحادا ومجموعها متواتر يفيدنا العلم الضروري بشجاعته وكذلك القول فيما روي من سخاء حاتم وحلم الأحنف ومعاوية وذكاء إياس وخلاعة أبي نواس وغير ذلك قالوا واتركوا هذا كله جانبا ما قولكم في القصيدة اللامية التي شهرتها كشهرة قفا نبك وإن جاز الشك فيها أو في شي ء من أبياتها جاز الشك في قفا نبك وفي بعض أبياتها ونحن نذكر منها هاهنا قطعة وهي قوله
[ 79 ]
أعوذ برب البيت من كل طاعن
علينا بسوء أو يلوح بباطل
و من فاجر يغتابنا بمغيبة
و من ملحق في الدين ما لم نحاول
كذبتم وبيت الله يبزى محمد
و لما نطاعن دونه ونناضل
و ننصره حتى نصرع دونه
و نذهل عن أبنائنا والحلائل
و حتى نرى ذا الردع يركب ردعه
من الطعن فعل الأنكب المتحامل
و ينهض قوم في الحديد إليكم
نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل
و إنا وبيت الله من جد جدنا
لتلتبسن أسيافنا بالأماثل
بكل فتى مثل الشهاب سميدع
أخي ثقة عند الحفيظة باسل
و ما ترك قوم لا أبا لك سيدا
يحوط الذمار غير نكس مواكل
و أبيض يستسقى الغمام بوجهه
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم
فهم عنده في نعمة وفواضل
و ميزان صدق لا يخيس شعيرة
و وزان صدق وزنه غير عائل(1/3928)
أ لم تعلموا أن ابننا لا مكذب
لدينا ولا يعبأ بقول الأباطل
لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد
و أحببته حب الحبيب المواصل
و جدت بنفسي دونه فحميته
و دافعت عنه بالذرى والكواهل
فلا زال للدنيا جمالا لأهلها
و شينا لمن عادى وزين المحافل
و أيده رب العباد بنصره
و أظهر دينا حقه غير باطل
[ 80 ]
و ورد في السيرة والمغازي أن عتبة بن ربيعة أو شيبة لما قطع رجل عبيدة بن الحارث بن المطلب يوم بدر أشبل عليه علي وحمزة فاستنقذاه منه وخبطا عتبة بسيفيهما حتى قتلاه واحتملا صاحبهما من المعركة إلى العريش فألقياه بين يدي رسول الله ص وإن مخ ساقه ليسيل فقال يا رسول الله لو كان أبو طالب حيا لعلم أنه قد صدق في قوله
كذبتم وبيت الله نخلي محمدا
و لما نطاعن دونه ونناضل
و ننصره حتى نصرع حوله
و نذهل عن أبنائنا والحلائل
فقالوا إن رسول الله ص استغفر له ولأبي طالب يومئذ وبلغ عبيدة مع النبي ص إلى الصفراء فمات فدفن بها .
قالوا وقد روي أن أعرابيا جاء إلى رسول الله ص في عام جدب فقال أتيناك يا رسول الله ولم يبق لنا صبي يرتضع ولا شارف يجتر ثم أنشده
أتيناك والعذراء تدمى لبانها
و قد شغلت أم الرضيع عن الطفل
و ألقى بكفيه الفتى لاستكانة
من الجوع حتى ما يمر ولا يحلي
و لا شي ء مما يأكل الناس عندنا
سوى الحنظل العامي والعلهز الفسل
و ليس لنا إلا إليك فرارنا
و أين فرار الناس إلا إلى الرسل
فقام النبي ص يجر رداءه حتى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا هنيئا مريعا سحا سجالا غدقا طبقا قاطبا دائما درا تحيي به الأرض وتنبت به الزرع وتدر به الضرع واجعله سقيا نافعا عاجلا غير رائث فو الله ما رد رسول الله ص يده إلى نحره حتى ألقت السماء
[ 81 ](1/3929)
أرواقها وجاء الناس يضجون الغرق الغرق يا رسول الله فقال اللهم حوالينا ولا علينا فانجاب السحاب عن المدينة حتى استدار حولها كالإكليل فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه ثم قال لله در أبي طالب لو كان حيا لقرت عينه من ينشدنا قوله فقام علي فقال يا رسول الله لعلك أردت
و أبيض يستسقى الغمام بوجهه
قال أجل فأنشده أبياتا من هذه القصيدة ورسول الله يستغفر لأبي طالب على المنبر ثم قام رجل من كنانة فأنشده
لك الحمد والحمد ممن شكر
سقينا بوجه النبي المطر
دعا الله خالقه دعوة
إليه وأشخص منه البصر
فما كان إلا كما ساعة
أو أقصر حتى رأينا الدرر
دفاق العزالي وجم البعاق
أغاث به الله عليا مضر
فكان كما قاله عمه
أبو طالب ذو رواء غرر
به يسر الله صوب الغمام
فهذا العيان وذاك الخبر
فمن يشكر الله يلق المزيد
و من يكفر الله يلق الغير
فقال رسول الله إن يكن شاعر أحسن فقد أحسنت قالوا وإنما لم يظهر أبو طالب الإسلام ويجاهر به لأنه لو أظهره لم يتهيأ له من نصرة النبي ص ما تهيأ له وكان كواحد من المسلمين الذين اتبعوه نحو أبي بكر وعبد الرحمن بن عوف وغيرهما ممن أسلم ولم يتمكن من نصرته والقيام دونه
[ 82 ](1/3930)
حينئذ وإنما تمكن أبو طالب من المحاماة عنه بالثبات في الظاهر على دين قريش وإن أبطن الإسلام كما لو أن إنسانا كان يبطن التشيع مثلا وهو في بلد من بلاد الكرامية وله في ذلك البلد وجاهة وقدم وهو يظهر مذهب الكرامية ويحفظ ناموسه بينهم بذلك وكان في ذلك البلد نفر يسير من الشيعة لا يزالون ينالون بالأذى والضرر من أهل ذلك البلد ورؤسائه فإنه ما دام قادرا على إظهار مذهب أهل البلد يكون أشد تمكنا من المدافعة والمحاماة عن أولئك النفر فلو أظهر ما يجوز من التشيع وكاشف أهل البلد بذلك صار حكمه حكم واحد من أولئك النفر ولحقه من الأذى والضرر ما يلحقهم ولم يتمكن من الدفاع أحيانا عنهم كما كان أولا . قلت فأما أنا فإن الحال ملتبسة عندي والأخبار متعارضة والله أعلم بحقيقة حاله كيف كانت . ويقف في صدري رسالة النفس الزكية إلى المنصور وقوله فيها فأنا ابن خير الأخيار وأنا ابن شر الأشرار وأنا ابن سيد أهل الجنة وأنا ابن سيد أهل النار . فإن هذه شهادة منه على أبي طالب بالكفر وهو ابنه وغير متهم عليه وعهده قريب من عهد النبي ص لم يطل الزمان فيكون الخبر مفتعلا . وجملة الأمر أنه قد روي في إسلامه أخبار كثيرة وروي في موته على دين قومه أخبار كثيرة فتعارض الجرح والتعديل فكان كتعارض البينتين عند الحاكم وذلك يقتضي التوقف فأنا في أمره من المتوقفين .
[ 83 ](1/3931)
فأما الصلاة وكونه لم ينقل عنه أنه صلى فيجوز أن يكون لأن الصلاة لم تكن بعد قد فرضت وإنما كانت نفلا غير واجب فمن شاء صلى ومن شاء ترك ولم تفرض إلا بالمدينة ويمكن أن يقول أصحاب الحديث إذا تعارض الجرح والتعديل كما قد أشرتم إليه فالترجيح عند أصحاب أصول الفقه لجانب الجرح لأن الجارح قد اطلع على زيادة لم يطلع عليها المعدل . ولخصومهم أن يجيبوا عن هذا فنقول إن هذا إنما يقال ويذكر في أصول الفقه في طعن مفصل في مقابلة تعديل مجمل مثاله أن يروي شعبة مثلا حديثا عن رجل فهو بروايته عنه قد وثقه ويكفي في توثيقه له أن يكون مستور الحال ظاهره العدالة فيطعن فيه الدار قطني مثلا بأن يقول كان مدلسا أو كان يرتكب الذنب الفلاني فيكون قد طعن طعنا مفصلا في مقابلة تعديل مجمل وفيما نحن فيه وبصدده الروايتان متعارضتان تفصيلا لا إجمالا لأن هؤلاء يروون أنه تلفظ بكلمتي الشهادة عند الموت وهؤلاء يروون أنه قال عند الموت أنا على دين الأشياخ . وبمثل هذا يجاب على من يقول من الشيعة روايتنا في إسلامه أرجح لأنا نروي حكما إيجابيا ونشهد على إثبات وخصومنا يشهدون على النفي ولا شهادة على النفي وذلك أن الشهادة في الجانبين معا إنما هي على إثبات ولكنه إثبات متضاد . وصنف بعض الطالبيين في هذا العصر كتابا في إسلام أبي طالب وبعثه إلي وسألني أن أكتب عليه بخطي نظما أو نثرا أشهد فيه بصحة ذلك وبوثاقة الأدلة عليه فتحرجت أن أحكم بذلك حكما قاطعا لما عندي من التوقف فيه ولم أستجز أن أقعد عن تعظيم أبي طالب فإني أعلم أنه لولاه لما قامت للإسلام دعامة وأعلم أن حقه واجب على كل مسلم في الدنيا إلى أن تقوم الساعة فكتبت على ظاهر المجلد
[ 84 ]
و لو لا أبو طالب وابنه
لما مثل الدين شخصا فقاما
فذاك بمكة آوى وحامى
و هذا بيثرب جس الحماما
تكفل عبد مناف بأمر
و أودى فكان علي تماما
فقل في ثبير مضى بعد ما
قضى ما قضاه وأبقى شماما(1/3932)
فلله ذا فاتحا للهدى
و لله ذا للمعالي ختاما
و ما ضر مجد أبي طالب
جهول لغا أو بصير تعامى
كما لا يضر إياة الصباح
من ظن ضوء النهار الظلاما
فوفيته حقه من التعظيم والإجلال ولم أجزم بأمر عندي فيه وقفة(1/3933)
الفصل الثالث قصة غزوة بدر
الفصل الثالث في شرح القصة في غزاة بدر ونحن نذكر ذلك من كتاب المغازي لمحمد بن عمر الواقدي ونذكر ما عساه زاده محمد بن إسحاق في كتاب المغازي وما زاده أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري في تاريخ الأشراف . قال الواقدي بلغ رسول الله ص أن عير قريش قد فصلت من مكة تريد الشام وقد جمعت قريش فيها أموالها فندب لها أصحابه وخرج يعترضها على رأس ستة عشر شهرا من مهاجره ع فخرج في خمسين ومائة ويقال في مائتين فلم يلق العير وفاتته ذاهبة إلى الشام وهذه غزاة ذي العشيرة رجع منها إلى المدينة فلم يلق حربا فلما تحين انصراف العير من الشام قافلة ندب أصحابه لها وبعث طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل قبل خروجه من المدينة بعشر ليال
[ 85 ](1/3934)
يتجسسان خبر العير حتى نزلا على كشد الجهني بالموضع المعروف بالنخبار وهو من وراء ذي المروة على الساحل فأجارهما وأنزلهما فلم يزالا مقيمين في خباء وبر حتى مرت العير فرفعهما على نشز من الأرض فنظرا إلى القوم وإلى ما تحمل العير وجعل أهل العير يقولون لكشد يا كشد هل رأيت أحدا من عيون محمد فيقول أعوذ بالله وأنى لمحمد عيون بالنخبار فلما راحت العير باتا حتى أصبحا ثم خرجا وخرج معهما كشد خفيرا حتى أوردهما ذا المروة وساحلت العير فأسرعت وسار بها أصحابها ليلا ونهارا فرقا من الطلب وقدم طلحة وسعيد المدينة في اليوم الذي لقي رسول الله ص قريشا ببدر فخرجا يعترضان رسول الله ص فلقياه بتربان وتربان بين ملل والسالة على المحجة وكانت منزل عروة بن أذينة الشاعر وقدم كشد بعد ذلك على النبي ص وقد أخبر طلحة وسعيد رسول الله ص بما صنع بهما فحباه وأكرمه وقال أ لا أقطع لك ينبع قال إني كبير وقد نفد عمري ولكن أقطعها لابن أخي فأقطعها له قالوا وندب رسول الله ص المسلمين وقال هذه عير قريش فيها أموالهم لعل الله أن يغنمكموها فأسرع من أسرع حتى إن كان الرجل ليساهم أباه في الخروج فكان ممن ساهم أباه سعد بن خيثمة فقال سعد لأبيه إنه لو كان غير الجنة آثرتك به إني لأرجو الشهادة في وجهي هذا فقال خيثمة آثرني وقر مع نسائك فأبى سعد فقال خيثمة إنه لا بد لأحدنا من أن يقيم فاستهما فخرج سهم سعد فقتل ببدر وأبطأ عن النبي ص بشر كثير من أصحابه وكرهوا خروجه وكان في ذلك كلام كثير واختلاف وبعضهم تخلف من أهل النيات والبصائر لم يظنوا أنه يكون قتال إنما هو الخروج للغنيمة ولو ظنوا أنه يكون قتال لما تخلفوا منهم أسيد
[ 86 ](1/3935)
بن حضير فلما قدم رسول الله ص قال أسيد الحمد لله الذي سرك وأظهرك على عدوك والذي بعثك بالحق ما تخلفت عنك رغبة بنفسي عن نفسك ولا ظننت أنك تلاقي عدوا ولا ظننت إلا أنها العير فقال له رسول الله ص صدقت . قال وخرج رسول الله ص حتى انتهى إلى المكان المعروف بالبقع وهي بيوت السقيا وهي متصلة ببيوت المدينة فضرب عسكره هناك وعرض المقاتلة فعرض عبد الله بن عمر وأسامة بن زيد ورافع بن خديج والبراء بن عازب وأسيد بن ظهير وزيد بن أرقم وزيد بن ثابت فردهم ولم يجزهم . قال الواقدي فحدثني أبو بكر بن إسماعيل عن أبيه عن عامر بن سعد عن أبيه قال رأيت أخي عمير بن أبي وقاص قبل أن يعرضنا رسول الله ص يتوارى فقلت ما لك يا أخي قال إني أخاف أن يراني رسول الله ص فيستصغرني فيردني وأنا أحب الخروج لعل الله أن يرزقني الشهادة قال فعرض على رسول الله ص فاستصغره فقال ارجع فبكى عمير فأجازه . قال فكان سعد يقول كنت أعقد له حمائل سيفه من صغره فقتل ببدر وهو ابن ست عشرة سنة . قال فلما نزل ع بيوت السقيا أمر أصحابه أن يستقوا من بئرهم وشرب ع منها كان أول من شرب وصلى عندها ودعا يومئذ لأهل المدينة
فقال
[ 87 ](1/3936)
اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك دعاك لأهل مكة وإني محمد عبدك ونبيك أدعوك لأهل المدينة أن تبارك لهم في صاعهم ومدهم وثمارهم اللهم حبب إلينا المدينة واجعل ما بها من الوباء بخم اللهم إني حرمت ما بين لابتيها كما حرم إبراهيم خليلك مكة . قال الواقدي وخم على ميلين من الجحفة . وقدم رسول الله ص أمامه عدي بن أبي الزغباء وبسيس بن عمرو وجاء إليه عبد الله بن عمرو بن حرام فقال يا رسول الله لقد سرني منزلك هذا وعرضك فيه أصحابك وتفاءلت به إن هذا منزلنا في بني سلمة حيث كان بيننا وبين أهل حسيكة ما كان . قال الواقدي هي حسيكة الذباب والذباب جبل بناحية المدينة وكان بحسيكة يهود وكان لهم بها منازل . قال عبد الله بن عمرو بن حرام فعرضنا يا رسول الله هاهنا أصحابنا فأجزنا من كان يطيق السلاح ورددنا من صغر عن حمل السلاح ثم سرنا إلى يهود حسيكة وهم أعز يهود كانوا يومئذ فقتلناهم كيف شئنا فذلت لنا سائر يهود إلى اليوم وأنا أرجو يا رسول الله أن نلتقي نحن وقريش فيقر الله عينك منهم . قال الواقدي وكان خلاد بن عمرو بن الجموح لما كان من النهار رجع إلى أهله بخرباء فقال له أبوه عمرو بن الجموح ما ظننت إلا أنكم قد سرتم فقال إن رسول الله ص يعرض الناس بالبقيع فقال عمرو نعم الفأل والله إني لأرجو أن تغنموا وأن تظفروا بمشركي قريش إن هذا منزلنا يوم سرنا إلى حسيكة
[ 88 ](1/3937)
قال فإن رسول الله ص قد غير اسمه وسماه السقيا قال فكانت في نفسي أن أشتريها حتى اشتراها سعد بن أبي وقاص ببكرين ويقال بسبع أواق فذكر للنبي ص أن سعدا اشتراها فقال ربح البيع . قال الواقدي فراح رسول الله ص من بيوت السقيا لاثنتي عشرة ليلة مضت من رمضان وخرج المسلمون معه ثلاثمائة وخمسة وتخلف ثمانية ضرب لهم بسهامهم وأجورهم فكانت الإبل سبعين بعيرا وكانوا يتعاقبون الإبل الاثنين والثلاثة والأربعة فكان رسول الله ص وعلي بن أبي طالب ع ومرثد بن أبي مرثد ويقال زيد بن حارثة مكان مرثد يتعاقبون بعيرا واحدا وكان حمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة وأبو كبشة وأنسة موالي النبي ص على بعير وكان عبيدة بن الحارث والطفيل والحصين ابنا الحارث ومسطح بن أثاثة على بعير لعبيدة بن الحارث ناضح ابتاعه من أبي داود المازني وكان معاذ وعوف ومعوذ بنو عفراء ومولاهم أبو الحمراء على بعير وكان أبي بن كعب وعمارة بن حزام وحارثة بن النعمان على بعير وكان خراش بن الصمة وقطبة بن عامر بن حديدة وعبد الله بن عمرو بن حزام على بعير وكان عتبة بن غزوان وطليب بن عمير على جمل لعتبة بن غزوان يقال له العبس وكان مصعب بن عمير وسويبط بن حرملة ومسعود بن ربيع على جمل لمصعب وكان عمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود على بعير وكان عبد الله بن كعب وأبو داود المازني وسليط بن قيس على جمل لعبد الله بن كعب وكان عثمان بن عفان وقدامة بن مظعون وعبد الله بن مظعون والسائب بن عثمان على بعير يتعاقبون وكان أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف على بعير وكان سعد بن معاذ وأخوه وابن أخيه الحارث بن أوس والحارث بن أنس على جمل لسعد بن معاذ ناضح يقال له الذيال وكان سعيد بن زيد وسلمة بن
[ 89 ](1/3938)
سلامة بن وقش وعباد بن بشر ورافع بن يزيد على ناضح لسعيد بن زيد ما تزودوا إلا صاعا من تمر . قال الواقدي فروى معاذ بن رفاعة عن أبيه قال خرجت مع النبي ص إلى بدر وكان كل ثلاثة يتعاقبون بعيرا فكنت أنا وأخي خلاد بن رافع على بكر لنا ومعنا عبيدة بن يزيد بن عامر فكنا نتعاقب فسرنا حتى إذا كنا بالروحاء إذ مر بنا بكرنا وبرك علينا وأعيا فقال أخي اللهم إن لك علي نذرا لئن رددتنا إلى المدينة لأنحرنه فمر بنا النبي ص ونحن على تلك الحال فقلنا يا رسول الله برك علينا بكرنا فدعا بماء فتمضمض وتوضأ في إناء ثم قال افتحا فاه ففعلنا فصبه في فيه ثم على رأسه ثم على عنقه ثم على حاركه ثم على سنامه ثم على عجزه ثم على ذنبه ثم قال اركبا ومضى رسول الله ص فلحقناه أسفل من المنصرف وإن بكرنا لينفر بنا حتى إذا كنا بالمصلى راجعين من بدر برك علينا فنحره أخي فقسم لحمه وتصدق به . قال الواقدي وقد روي أن سعد بن عبادة حمل في بدر على عشرين جملا . قال وروي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال فخرجنا إلى بدر مع رسول الله ص ومعنا سبعون بعيرا فكانوا يتعاقبون الثلاثة والأربعة والاثنان على بعير وكنت أنا من أعظم أصحاب النبي ع عنه غناء وأرجلهم رجلة وأرماهم لسهم لم أركب خطوة ذاهبا ولا راجعا
قال الواقدي وقال رسول الله ص حين فصل من بيوت السقيا اللهم إنهم حفاة فاحملهم وعراة فاكسهم وجياع فأشبعهم وعالة فأغنهم من فضلك فما رجع أحد منهم يريد أن يركب إلا وجد ظهرا للرجل البعير والبعيران واكتسى
[ 90 ](1/3939)
من كان عاريا وأصابوا طعاما من أزوادهم وأصابوا فداء الأسرى فأغنى به كل عائل . قال واستعمل رسول الله ص على المشاة قيس بن أبي صعصعة واسم أبي صعصعة عمر بن يزيد بن عوف بن مبذول وأمره النبي ص حين فصل من بيوت السقيا أن يعد المسلمين فوقف لهم ببئر أبي عبيدة يعدهم ثم أخبر النبي ص وخرج من بيوت السقيا حتى سلك بطن العقيق ثم سلك طريق المكيمن حتى خرج على بطحاء بن أزهر فنزل تحت شجرة هناك فقام أبو بكر إلى حجارة هناك فبنى منها مسجدا فصلى فيه رسول الله وأصبح يوم الاثنين وهو هناك ثم صار إلى بطن ملل وتربان بين الحفيرة وملل . قال الواقدي فكان سعد بن أبي وقاص يقول لما كنا بتربان قال لي رسول الله ص يا سعد انظر إلى الظبي فأفوق له بسهم وقام رسول الله ص فوضع رأسه بين منكبي وأذني ثم قال اللهم سدد رميته قال فما أخطأ سهمي عن نحره فتبسم رسول الله ص وخرجت أعدو فأخذته وبه رمق فذكيته فحملناه حتى نزلنا قريبا وأمر به رسول الله ص فقسم بين أصحابه . قال الواقدي وكان معهم فرسان فرس لمرثد بن أبي مرثد الغنوي وفرس للمقداد بن عمرو البهراني حليف بني زهرة ويقال فرس للزبير ولم يكن إلا فرسان لاختلاف عندهم أن المقداد له فرس وقد روي عن ضباعة بنت الزبير عن المقداد
[ 91 ](1/3940)
قال كان معي يوم بدر فرس يقال له سبحة وقد روى سعد بن مالك الغنوي عن آبائه أن مرثد بن أبي مرثد الغنوي شهد بدرا على فرس له يقال له السيل . قال الواقدي ولحقت قريش بالشام في عيرها وكانت العير ألف بعير وكان فيها أموال عظام ولم يبق بمكة قرشي ولا قرشية له مثقال فصاعدا إلا بعث به في العير حتى إن المرأة لتبعث بالشي ء التافه وكان يقال إن فيها لخمسين ألف دينار وقالوا أقل وإن كان ليقال إن أكثر ما فيها من المال لآل سعيد بن العاص لأبي أحيحة إما مال لهم أو مال مع قوم قراض على النصف وكان عامة العير لهم ويقال بل كان لبني مخزوم فيها مائتا بعير وخمسة أو أربعة آلاف مثقال ذهبا وكان يقال للحارث بن عامر بن نوفل فيها ألفا مثقال . قال الواقدي وحدثني هشام بن عمارة بن أبي الحويرث قال كان لبني عبد مناف فيها عشرة آلاف مثقال وكان متجرهم إلى غزة من أرض الشام . قال الواقدي وحدثني عبد الله بن جعفر عن أبي عون مولى المسور عن مخرمة بن نوفل قال لما لحقنا بالشام أدركنا رجل من جذام فأخبرنا أن محمدا قد كان عرض لعيرنا في بدأتنا وأنه تركه مقيما ينتظر رجعتنا قد حالف علينا أهل الطريق ووادعهم قال مخرمة فخرجنا خائفين نخاف الرصد فبعثنا ضمضم بن عمرو حين فصلنا من الشام . قال الواقدي وكان عمرو بن العاص مع العير وكان يحدث بعد ذلك يقول لما كنا بالزرقاء والزرقاء بالشام من أذرعات على مرحلتين ونحن منحدرون إلى مكة لقينا رجلا من جذام فقال قد كان عرض محمد لكم في بدأتكم في أصحابه فقلنا ما شعرنا قال بلى فأقام شهرا ثم رجع إلى يثرب وأنتم يوم عرض محمد لكم مخفون فهو الآن أحرى أن يعرض لكم إنما يعد لكم الأيام عدا فاحذروا على عيركم
[ 92 ](1/3941)
و ارتئوا آراءكم فو الله ما أرى من عدد ولا كراع ولا حلقة فأجمع القوم أمرهم فبعثوا ضمضم بن عمرو وكان في العير وقد كانت قريش مرت به وهو بالساحل معه بكران فاستأجروه بعشرين مثقالا وأمره أبو سفيان أن يخبر قريشا أن محمدا قد عرض لعيرهم وأمره أن يجدع بعيره إذا دخل ويحول رحله ويشق قميصه من قبله ودبره ويصيح الغوث الغوث ويقال إنما بعثوه من تبوك وكان في العير ثلاثون رجلا من قريش فيهم عمرو بن العاص ومخرمة بن نوفل . قال الواقدي وقد كانت عاتكة بنت عبد المطلب رأت قبل مجي ء ضمضم بن عمرو رؤيا أفزعتها وعظمت في صدرها فأرسلت إلى أخيها العباس فقالت يا أخي لقد والله رأيت رؤيا أفزعتني وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة فاكتم علي ما أحدثك منها رأيت راكبا أقبل على بعير حتى وقف بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته يا آل غدر انفروا إلى مصارعكم في ثلاث فصرخ بها ثلاث مرات فأرى الناس اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه إذ مثل به بعيره على ظهر الكعبة فصرخ مثلها ثلاثا ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ بمثلها ثلاثا ثم أخذ صخرة من أبي قبيس فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت في أسفل الجبل ارفضت فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار من دورها إلا دخلته منها فلذة . قال الواقدي وكان عمرو بن العاص يحدث بعد ذلك فيقول لقد رأيت كل هذا ولقد رأيت في دارنا فلقة من الصخرة التي انفلقت من أبي قبيس ولقد كان ذلك عبرة ولكن الله لم يرد أن نسلم يومئذ لكنه أخر إسلامنا إلى ما أراد . قلت كان بعض أصحابنا يقول لم يكف عمرا أن يقول رأيت الصخرة في دور مكة عيانا فيخرج ذلك مخرج الاستهزاء باطنا على وجه النفاق واستخفافه بعقول المسلمين
[ 93 ](1/3942)
زعم حتى يضيف إلى ذلك القول بالخبر الصراح فيقول إن الله تعالى لم يكن أراد منه الإسلام يومئذ . قال الواقدي قالوا ولم يدخل دارا ولا بيتا من دور بني هاشم ولا بني زهرة من تلك الصخرة شي ء قال فقال العباس إن هذه لرؤيا فخرج مغتما حتى لقي الوليد بن عتبة بن ربيعة وكان له صديقا فذكرها له واستكتمه ففشا الحديث في الناس قال العباس فغدوت أطوف بالبيت وأبو جهل في رهط من قريش يتحدثون برؤيا عاتكة فقال أبو جهل ما رأت عاتكة هذه فقلت وما ذاك فقال يا بني عبد المطلب أ ما رضيتم بأن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساءكم زعمت عاتكة أنها رأت في المنام كذا وكذا للذي رأت فسنتربص بكم ثلاثا فإن يكن ما قالت حقا فسيكون وإن مضت الثلاث ولم يكن نكتب عليكم أنكم أكذب أهل بيت في العرب فقال له العباس يا مصفر استه أنت أولى بالكذب واللؤم منا فقال أبو جهل إنا استبقنا المجد وأنتم فقلتم فينا السقاية فقلنا لا نبالي تسقون الحجاج ثم قلتم فينا الحجابة فقلنا لا نبالي تحجبون البيت ثم قلتم فينا الندوة قلنا لا نبالي يكون الطعام فتطعمون الناس ثم قلتم فينا الرفادة فقلنا لا نبالي تجمعون عندكم ما ترفدون به الضعيف فلما أطعمنا الناس وأطعمتم وازدحمت الركب واستبقنا المجد فكنا كفرسي رهان قلتم منا نبي ثم قلتم منا نبية فلا واللات والعزى لا كان هذا أبدا . قلت لا أرى كلام أبي جهل منتظما لأنه إذا سلم للعباس أن هذه الخصال كلها فيهم وهي الخصال التي تشرف بها القبائل بعضها على بعض فكيف يقول لا نبالي لا نبالي وكيف يقول فلما أطعمنا للناس وأطعمتم وقد كان الكلام منتظما لو قال ولنا بإزاء هذه المفاخر كذا وكذا ثم يقول بعد ذلك استبقنا المجد فكنا كفرسي رهان وازدحمت الركب ولم يقل شيئا ولا عد مآثره ولعل أبا جهل قد قال ما لم ينقل
[ 94 ](1/3943)
قال الواقدي قال العباس فو الله ما كان مني غير أني جحدت ذلك وأنكرت أن تكون عاتكة رأت شيئا فلما أمسيت لم تبق امرأة أصابتها ولادة عبد المطلب إلا جاءت فقلن لي أ رضيتم بهذا الفاسق الخبيث يقع في رجالكم ثم قد تناول نساءكم ولم تكن لك عند ذلك غيرة فقلت والله ما قلت إلا لأني لا أبالي به ولايم الله لأعرضن له غدا فإن عاد كفيتكن إياه فلما أصبحوا من ذلك اليوم الذي رأت فيه عاتكة ما رأت قال أبو جهل هذه ثلاثة أيام ما بقي قال العباس وغدوت في اليوم الثالث وأنا حديد مغضب أرى أن قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه وأذكر ما أحفظني به النساء من مقالتهن فو الله إني لأمشي نحوه وكان رجلا خفيفا حديد الوجه حديد اللسان حديد النظر إذ خرج نحو باب بني سهم يشتد فقلت ما باله لعنه الله أ كل هذا فرقا من أن أشاتمه فإذا هو قد سمع صوت ضمضم بن عمرو وهو يقول يا معشر قريش يا آل لؤي بن غالب اللطيمة قد عرض لها محمد في أصحابه الغوث الغوث والله ما أرى أن تدركوها وضمضم ينادي بذلك في بطن الوادي وقد جدع أذني بعيره وشق قميصه قبلا ودبرا وحول رحله وكان يقول لقد رأيتني قبل أن أدخل مكة وإني لأرى في النوم وأنا على راحلتي كأن وادي مكة يسيل من أسفله إلى أعلاه دما فاستيقظت فزعا مذعورا فكرهتها لقريش ووقع في نفسي أنها مصيبة في أنفسهم . قال الواقدي وكان عمير بن وهب الجمحي يقول ما رأيت أعجب من أمر ضمضم قط وما صرح على لسانه إلا شيطان كأنه لم يملكنا من أمورنا شيئا حتى نفرنا على الصعب والذلول وكان حكيم بن حزام يقول ما كان الذي جاءنا فاستنفرنا إلى العير إنسانا إن هو إلا شيطان قيل كيف يا أبا خالد قال إني لأعجب منه ما ملكنا من أمرنا شيئا . قال الواقدي فجهز الناس وشغل بعضهم عن بعض وكان الناس بين رجلين إما خارج وإما باعث مكانه رجلا وأشفقت قريش لرؤيا عاتكة وسر بنو هاشم
[ 95 ](1/3944)
و قال قائلهم كلا زعمتم أنا كذبنا وكذبت عاتكة فأقامت قريش ثلاثا تتجهز ويقال يومين وأخرجت أسلحتها واشتروا سلاحا وأعان قويهم ضعيفهم وقام سهيل بن عمرو في رجال من قريش فقال يا معشر قريش هذا محمد والصباة معه من شبانكم وأهل يثرب قد عرضوا لعيركم ولطيمتكم فمن أراد ظهرا فهذا ظهر ومن أراد قوة فهذه قوة وقام زمعة بن الأسود فقال إنه واللات والعزى ما نزل بكم أمر أعظم من أن طمع محمد وأهل يثرب أن يعرضوا لعيركم فيها خزائنكم فأوعبوا ولا يتخلف منكم أحد ومن كان لا قوة له فهذه قوة والله لئن أصابها محمد وأصحابه لا يروعكم منهم إلا وقد دخلوا عليكم بيوتكم وقال طعيمة بن عدي يا معشر قريش والله ما نزل بكم أمر أجل من هذه أن يستباح عيركم ولطيمة قريش فيها أموالكم وخزائنكم والله ما أعرف رجلا ولا امرأة من بني عبد مناف له نش فصاعدا إلا وهو في هذه العير فمن كان لا قوة به فعندنا قوة نحمله ونقويه فحمل على عشرين بعيرا وقوي بهم وخلفهم في أهلهم بمعونة وقام حنظلة بن أبي سفيان وعمرو بن أبي سفيان فحضا الناس على الخروج ولم يدعوا إلى قوة ولا حملان فقيل لهما أ لا تدعوان إلى ما دعا إليه قومكما من الحملان قالا والله ما لنا مال وما المال إلا لأبي سفيان ومشى نوفل بن معاوية الديلمي إلى أهل القوة من قريش وكلمهم في بذل النفقة والحملان لمن خرج فكلم عبد الله بن أبي ربيعة فقال هذه خمسمائة دينار تضعها حيث رأيت وكلم حويطب بن عبد العزى فأخذ منه مائتي دينار أو ثلاثمائة ثم قوي بها في السلاح والظهر . قال الواقدي وذكروا أنه كان لا يتخلف أحد من قريش إلا بعث مكانه بعثا فمشت قريش إلى أبي لهب فقالوا له إنك سيد من سادات قريش وإنك إن تخلفت عن
[ 96 ](1/3945)
النفير يعتبر بك غيرك من قومك فاخرج أو ابعث رجلا فقال واللات والعزى لا أخرج ولا أبعث أحدا فجاءه أبو جهل فقال أقم يا أبا عتبة فو الله ما خرجنا إلا غضبا لدينك ودين آبائك وخاف أبو جهل أن يسلم أبو لهب فسكت أبو لهب ولم يخرج ولم يبعث وما منع أبا لهب أن يخرج إلا الإشفاق من رؤيا عاتكة كان يقول إنما رؤيا عاتكة أخذ باليد ويقال إنه بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة وكان له عليه دين فقال اخرج وديني عليك لك فخرج عنه . وقال محمد بن إسحاق في المغازي كان دين أبي لهب على العاص بن هشام أربعة آلاف درهم فمطله بها وأفلس فتركها له على أن يكون مكانه فخرج مكانه . قال الواقدي وأخرج عتبة وشيبة دروعا لهما فنظر إليهما مولاهما عداس وهما يصلحان دروعهما وآلة حربهما فقال ما تريدان فقالا أ لم تر إلى الرجل الذي أرسلناك إليه بالعنب في كرمنا بالطائف قال نعم قالا نخرج فنقاتله فبكى وقال لا تخرجا فو الله إنه لنبي فأبيا فخرجا وخرج معهما فقتل ببدر معهما . قلت حديث العنب في كرم ابني ربيعة بالطائف قد ذكره أرباب السيرة وشرحه الطبري في التاريخ قال لما مات أبو طالب بمكة طمعت قريش في رسول الله ص ونالت منه ما لم تكن تناله في حياة أبي طالب فخرج من مكة خائفا على نفسه مهاجرا إلى ربه يؤم الطائف راجيا أن يدعو أهلها إلى الإسلام فيجيبوه وذلك في شوال من سنة عشر من النبوة فأقام بالطائف عشرة أيام وقيل شهرا لا يدع أحدا من أشراف ثقيف إلا جاءه وكلمه فلم يجيبوه وأشاروا عليه أن يخرج عن أرضهم ويلحق بمجاهل الأرض وبحيث لا يعرف وأغروا به سفهاءهم فرموه بالحجارة حتى إن رجليه لتدميان فكان معه زيد بن حارثة فكان يقيه بنفسه حتى لقد شج في رأسه .
[ 97 ](1/3946)
و الشيعة تروي أن علي بن أبي طالب كان معه أيضا في هجرة الطائف فانصرف رسول الله ص عن ثقيف وهو محزون بعد أن مشى إلى عبد ياليل ومسعود وحبيب ابني عمرو بن عمير وهم يومئذ سادة ثقيف فجلس إليهم ودعاهم إلى الله وإلى نصرته والقيام معه على قومه فقال له أحدهم أنا أمرط بباب الكعبة إن كان الله أرسلك وقال الآخر أ ما وجد الله أحدا أرسله غيرك وقال الثالث والله لا أكلمك كلمة أبدا لئن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام ولئن كنت كاذبا على الله ما ينبغي أن أكلمك فقام رسول الله ص من عندهم وقد يئس من خير ثقيف واجتمع عليه صبيانهم وسفهاؤهم وصاحوا به وسبوه وطردوه حتى اجتمع عليه الناس يعجبون منه وألجئوه بالحجارة والطرد والشتم إلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما يومئذ في الحائط فلما دخل الحائط رجع عنه سفهاء ثقيف فعمد إلى ظل حبلة منه فجلس فيه وابنا ربيعة ينظران ويريان ما لقي من سفهاء ثقيف
قال الطبري فلما اطمأن به قال فيما ذكر لي اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد فيتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري فإن لم يكن منك غضب علي فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل علي سخطك لك العتبى حتى ترضى لا حول ولا قوة إلا بك . فلما رأى عتبة وشيبة ما لقي تحركت له رحمهما فدعوا غلاما نصرانيا لهما يقال له
[ 98 ](1/3947)
عداس فقالا له خذ قطفا من هذا العنب وضعه في ذلك الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل وقل له فليأكل منه ففعل وأقبل به حتى وضعه بين يديه فوضع يده فيه فقال بسم الله وأكل فقال عداس والله إن هذه الكلمة لا يقولها أهل هذه البلدة فقال له رسول الله ص من أي البلاد أنت وما دينك قال أنا نصراني من أهل نينوى قال أ من قرية الرجل الصالح يونس بن متى قال وما يدريك من يونس بن متى قال ذاك أخي كان نبيا وأنا نبي فأكب عداس على يديه ورجليه ورأسه يقبلها قال يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه أما غلامك فقد أفسده عليك فلما جاءهما قالا ويلك ويلك يا عداس ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه قال يا سيدي ما في الأرض خير من هذا فقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي . قال الواقدي واستقسمت قريش بالأزلام عند هبل للخروج واستقسم أمية بن خلف وعتبة وشيبة بالآمر والناهي فخرج القدح الناهي فأجمعوا المقام حتى أزعجهم أبو جهل فقال ما استقسمت ولا نتخلف عن عيرنا . قال الواقدي لما توجه زمعة بن الأسود خارجا فكان بذي طوى أخرج قداحه واستقسم بها فخرج الناهي عن الخروج فلقي غيظا ثم أعادها الثانية فخرج مثل ذلك فكسرها وقال ما رأيت كاليوم قدحا أكذب ومر به سهيل بن عمرو وهو على تلك الحال فقال ما لي أراك غضبان يا أبا حكيمة فأخبره زمعة فقال امض عنك أيها الرجل قد أخبرني عمير بن وهب أنه لقيه مثل الذي أخبرتني فمضوا على هذا الحديث .
[ 99 ](1/3948)
قال الواقدي وحدثني موسى بن ضمرة بن سعيد عن أبيه قال قال أبو سفيان بن حرب لضمضم إذا قدمت على قريش فقل لها لا تستقسم بالأزلام . قال الواقدي وحدثني محمد بن عبد الله عن الزهري عن أبي بكر بن سليم بن أبي خيثمة قال سمعت حكيم بن حزام يقول ما توجهت وجها قط كان أكره إلي من مسيري إلى بدر ولا بان لي في وجه قط ما بان لي قبل أن أخرج ثم قال قدم ضمضم فصاح بالنفير فاستقسمت بالأزلام كل ذلك يخرج الذي أكره ثم خرجت على ذلك حتى نزلنا مر الظهران فنحر ابن الحنظلية جزورا منها بها حياة فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه من دمها فكان هذا بين ثم هممت بالرجوع ثم أذكر ابن الحنظلية وشؤمه فيردني حتى مضيت لوجهي وكان حكيم يقول لقد رأينا حين بلغنا الثنية البيضاء وهي الثنية التي تهبطك على فخ وأنت مقبل من المدينة إذا عداس جالس عليها والناس يمرون إذ مر علينا ابنا ربيعة فوثب إليهما فأخذ بأرجلهما في غرزهما وهو يقول بأبي أنتما وأمي والله إنه لرسول الله ص وما تساقان إلا إلى مصارعكما وإن عينيه لتسيل دمعا على خديه فأردت أن أرجع أيضا ثم مضيت ومر به العاص بن منبه بن الحجاج فوقف عليه حين ولى عتبة وشيبة فقال ما يبكيك قال يبكيني سيدي أو سيدا أهل الوادي يخرجان إلى مصارعهما ويقاتلان رسول الله ص فقال العاص وإن محمدا لرسول الله فانتفض عداس انتفاضة واقشعر جلده ثم بكى وقال إي والله إنه لرسول الله إلى الناس كافة قال فأسلم العاص بن منبه ومضى وهو على الشك حتى قتل مع المشركين على شك وارتياب ويقال رجع عداس ولم يشهد بدرا ويقال شهد بدرا وقتل . قال الواقدي والقول الأول أثبت عندنا .
[ 100 ](1/3949)
قال الواقدي وخرج سعد بن معاذ معتمرا قبل بدر فنزل على أمية بن خلف فأتاه أبو جهل وقال أ تترك هذا وقد آوى محمدا وآذننا بالحرب فقال سعد بن معاذ قل ما شئت أما إن طريق عيركم علينا قال أمية بن خلف مه لا تقل هذا لأبي الحكم فإنه سيد أهل الوادي قال سعد بن معاذ وأنت تقول ذلك يا أمية أما والله لسمعت محمدا يقول لأقتلن أمية بن خلف قال أمية أنت سمعته قال سعد بن معاذ فقلت نعم قال فوقع في نفسه فلما جاء النفير أبى أمية أن يخرج معهم إلى بدر فأتاه عقبة بن أبي معيط وأبو جهل ومع عقبة مجمرة فيها بخور ومع أبي جهل مكحلة ومرود فأدخلها عقبة تحته فقال تبخر فإنما أنت امرأة وقال أبو جهل اكتحل فإنما أنت امرأة فقال أمية ابتاعوا لي أفضل بعير في الوادي فابتاعوا له جملا بثلاثمائة دينار من نعم بني قشير فغنمه المسلمون يوم بدر فصار في سهم خبيب بن يساف . قال الواقدي وقالوا ما كان أحد ممن خرج إلى العير أكره للخروج من الحارث بن عامر وقال ليت قريشا تعزم على القعود وأن مالي في العير تلف ومال بني عبد مناف أيضا فيقال له إنك سيد من ساداتها أ فلا تردعها عن الخروج قال إني أرى قريشا قد أزمعت على الخروج ولا أرى أحدا به طرق تخلف إلا من علة وأنا أكره خلافها وما أحب أن تعلم قريش ما أقول على أن ابن الحنظلية رجل مشئوم على قومه ما أعلمه إلا يحرز قومه أهل يثرب ولقد قسم الحارث مالا من ماله بين ولده ووقع في نفسه أنه لا يرجع إلى مكة وجاءه ضمضم بن عمرو وكانت للحارث عنده أياد فقال أبا عامر إني رأيت رؤيا كرهتها وإني لكاليقظان على راحلتي وأراكم أن واديكم يسيل دما من أسفله إلى أعلاه فقال الحارث ما خرج أحد وجها من الوجوه أكره له من وجهي هذا قال يقول ضمضم والله إني لأرى لك أن تجلس فقال لو سمعت
[ 101 ](1/3950)
هذا منك قبل أن أخرج ما سرت خطوة فاطو هذا الخبر أن تعلمه قريش فإنها تتهم كل من عوقها عن المسير وكان ضمضم قد ذكر هذا الحديث للحارث ببطن يأجج قالوا وكرهت قريش أهل الرأي منهم المسير ومشى بعضهم إلى بعض وكان ممن أبطأ بهم عن ذلك الحارث بن عامر وأمية بن خلف وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وحكيم بن حزام وأبو البختري وعلي بن أمية بن خلف والعاص بن منبه حتى بكتهم أبو جهل بالجبن وأعانه عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث بن كلدة وحضوهم على الخروج وقالوا هذا فعل النساء فأجمعوا المسير وقالت قريش لا تدعوا أحدا من عدوكم خلفكم . قال الواقدي ومما استدل به على كراهة الحارث بن عامر للخروج وعتبة وشيبة أنه ما عرض رجل منهم حملانا ولا حملوا أحدا من الناس وإن كان الرجل ليأتيهم حليفا أو عديدا ولا قوة له فيطلب الحملان منهم فيقولون إن كان لك مال وأحببت أن تخرج فافعل وإلا فأقم حتى كانت قريش تعرف ذلك منهم . قال الواقدي فلما اجتمعت قريش إلى الخروج والمسير ذكروا الذي بينهم وبين بني بكر من العداوة وخافوهم على من يخلفونه وكان أشدهم خوفا عتبة بن ربيعة وكان يقول يا معشر قريش إنكم وإن ظفرتم بالذي تريدون فإنا لا نأمن على من نخلف إنما نخلف نساء ولا ذرية ومن لا طعم به فارتئوا آراءكم فتصور لهم إبليس في صورة سراقة بن جعشم المدلجي فقال يا معشر قريش قد عرفتم شرفي ومكاني في قومي أنا لكم جار أن تأتيكم كنانة بشي ء تكرهونه فطابت نفس عتبة وقال له أبو جهل
[ 102 ](1/3951)
فما تريد هذا سيد كنانة هو لنا جار على من نخلف فقال عتبة لا شي ء أنا خارج قال الواقدي وكان الذي بين بني كنانة وقريش أن ابنا لحفص بن الأحنف أحد بني معيط بن عامر بن لؤي خرج يبغي ضالة وهو غلام في رأسه ذؤابة وعليه حلة وكان غلاما وضيئا فمر بعامر بن يزيد بن عامر بن الملوح بن يعمر أحد رؤساء بني كنانة وكان بضجنان فقال من أنت يا غلام قال ابن لحفص بن الأحنف فقال يا بني بكر أ لكم في قريش دم قالوا نعم قال ما كان رجل يقتل هذا برجله إلا استوفى فاتبعه رجل من بني بكر فقتله بدم له في قريش فتكلمت فيه قريش فقال عامر بن يزيد قد كانت لنا فيكم دماء فإن شئتم فأدوا ما لنا قبلكم ونؤدي إليكم ما كان فينا وإن شئتم فإنما هو الدم رجل برجل وإن شئتم فتجافوا عنا فيما قبلنا ونتجافى عنكم فيما قبلكم فهان ذلك الغلام على قريش وقالوا صدق رجل برجل فلهوا عنه أن يطلبوا بدمه فبينا أخوه مكرز بن حفص بمر الظهران إذ نظر عامر بن يزيد وهو سيد بني بكر على جمل له فلما رآه قال ما أطلب أثرا بعد عين وأناخ بعيره وهو متوشح سيفه فعلاه به حتى قتله ثم أتى مكة من الليل فعلق سيف عامر بن يزيد بأستار الكعبة فلما أصبحت قريش رأوا سيف عامر بن يزيد فعرفوا أن مكرز بن حفص قتله وقد كانت تسمع من مكرز في ذلك قولا وجزعت بنو بكر من قتل سيدها فكانت معدة لقتل رجلين من قريش سيدين أو ثلاثة من ساداتها فجاء النفير وهم على هذا الأمر فخافوهم على من تخلف بمكة من ذراريهم فلما قال سراقة ما قال وهو ينطق بلسان إبليس شجع القوم .
[ 103 ](1/3952)
قال الواقدي وخرجت قريش سراعا وخرجوا بالقيان والدفوف سارة مولاة عمرو بن هاشم بن عبد المطلب وعزة مولاة أسود بن المطلب وفلانة مولاة أمية بن خلف يغنين في كل منهل وينحرون الجزر وخرجوا بالجيش يتقاذفون بالحراب وخرجوا بتسعمائة وخمسين مقاتلا وقادوا مائة فرس بطرا ورئاء الناس كما ذكر الله تعالى في كتابه وأبو جهل يقول أ يظن محمد أن يصيب منا ما أصاب بنخلة وأصحابه سيعلم أ نمنع عيرنا أم لا . قلت سرية نخلة سرية قبل بدر وكان أميرها عبد الله بن جحش قتل فيها عمرو بن الحضرمي حليف بني عبد شمس قتله واقد بن عبد الله التميمي رماه بسهم فقتله وأسر الحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله بن المغيرة واستاق المسلمون العير وكانت خمسمائة بعير فخمسها رسول الله ص وقسم أربعمائة فيمن شهدها من المسلمين وهم مائتا رجل فأصاب كل رجل بعيران . قال الواقدي وكانت الخيل لأهل القوة منهم وكان في بني مخزوم منها ثلاثون فرسا وكانت الإبل سبعمائة بعير وكان أهل الخيل كلهم دارع وكانوا مائة وكان في الرجالة دروع سوى ذلك . قال الواقدي وأقبل أبو سفيان بالعير وخاف هو وأصحابه خوفا شديدا حين دنوا من المدينة واستبطئوا ضمضما والنفير فلما كانت الليلة التي يصبحون فيها على ماء بدر جعلت العير تقبل بوجوهها إلى ماء بدر وكانوا باتوا من وراء بدر آخر ليلتهم وهم على
[ 104 ](1/3953)
أن يصبحوا بدرا إن لم يعترض لهم فما أقرتهم العير حتى ضربوها بالعقل على أن بعضها ليثنى بعقالين وهي ترجع الحنين تواردا إلى ماء بدر وما إن بها إلى الماء من حاجة لقد شربت بالأمس وجعل أهل العير يقولون إن هذا شي ء ما صنعته الإبل منذ خرجنا قالوا وغشينا تلك الليلة ظلمة شديدة حتى ما نبصر شيئا . قال الواقدي وكان بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء وردا على مجدي بدرا يتجسسان الخبر فلما نزلا ماء بدر أناخا راحلتيهما إلى قريب من الماء ثم أخذ أسقيتهما يسقيان من الماء فسمعا جاريتين من جواري جهينة يقال لإحداهما برزة وهي تلزم صاحبتها في درهم كان لها عليها وصاحبتها تقول إنما العير غدا أو بعد غد قد نزلت ومجدي بن عمر يسمعها فقال صدقت فلما سمع ذلك بسبس وعدي انطلقا راجعين إلى النبي ص حتى أتياه بعرق الظبية فأخبراه الخبر .
قال الواقدي وحدثني كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده وكان أحد البكاءين قال قال رسول الله ص لقد سلك فج الروحاء موسى النبي ع في سبعين ألفا من بني إسرائيل وصلوا في المسجد الذي بعرق الظبية . قال الواقدي وهي من الروحاء على ميلين مما يلي المدينة إذا خرجت على يسارك . قال الواقدي وأصبح أبو سفيان ببدر قد تقدم العير وهو خائف من الرصد فقال يا مجدي هل أحسست أحدا تعلم والله ما بمكة قرشي ولا قرشية له نش
[ 105 ](1/3954)
فصاعدا والنش نصف أوقية وزن عشرين درهما إلا وقد بعث به معنا ولئن كتمتنا شأن عدونا لا يصالحك رجل من قريش ما بل بحر صوفة فقال مجدي والله ما رأيت أحدا أنكره ولا بينك وبين يثرب من عدو ولو كان بينك وبينها عدو لم يخف علينا وما كنت لأخفيه عنك إلا أني قد رأيت راكبين أتيا إلى هذا المكان وأشار إلى مناخ عدي وبسبس فأناخا به ثم استقيا بأسقيتهما ثم انصرفا فجاء أبو سفيان مناخهما فأخذ أبعارا من أبعار بعيريهما ففتها فإذا فيها نوى فقال هذه والله علائف يثرب هذه والله عيون محمد وأصحابه ما أرى القوم إلا قريبا فضرب وجه عيره فساحل بها وترك بدرا يسارا وانطلق سريعا وأقبلت قريش من مكة ينزلون كل منهل يطعمون الطعام من أتاهم وينحرون الجزور فبينا هم كذلك في مسيرهم إذ تخلف عتبة وشيبة وهما يترددان قال أحدهما لصاحبه أ لم تر إلى رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب لقد خشيت منها قال الآخر فاذكرها وذكرها فأدركهما أبو جهل فقال ما تتحادثون به قالا نذكر رؤيا عاتكة قال يا عجبا من بني عبد المطلب لم يرضوا أن تتنبأ علينا رجالهم حتى تنبأت علينا النساء أما والله لئن رجعنا إلى مكة لنفعلن بهم ولنفعلن قال عتبة إن لهم أرحاما وقرابة قريبة ثم قال أحدهما لصاحبه هل لك أن ترجع قال أبو جهل أ ترجعان بعد ما سرنا فتخذلان قومكما وتقطعان بهم بعد أن رأيتم ثأركم بأعينكم أ تظنان أن محمدا وأصحابه يلاقونكما كلا والله إن معي من قومي مائة وثمانين كلهم من أهل بيتي يحلون إذا أحللت ويرحلون إذا رحلت فارجعا إن شئتما قالا والله لقد هلكت وأهلكت قومك . ثم قال عتبة لأخيه شيبة إن هذا رجل مشئوم يعني أبا جهل وإنه لا يمسه من قرابة محمد ما يمسنا مع أن محمدا معه الولد فارجع بنا ودع قوله .
[ 106 ](1/3955)
قلت مراده بقوله مع أن محمدا معه الولد أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة كان أسلم وشهد بدرا مع رسول الله ص قال الواقدي فقال شيبة والله تكون علينا سبة يا أبا الوليد أن نرجع الآن بعد ما سرنا فمضينا ثم انتهى إلى الجحفة عشاء فنام جهيم بن الصلت بن مخرمة بن عبد المطلب بن عبد مناف فقال إني لأرى بين النائم واليقظان أنظر إلى رجل أقبل على فرس معه بعير له حتى وقف علي فقال قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وزمعة بن الأسود وأمية بن خلف وأبو البختري وأبو الحكم ونوفل بن خويلد في رجال سماهم من أشراف قريش وأسر سهيل بن عمرو وفر الحارث بن هشام عن أخيه قال وكأن قائلا يقول والله إني لأظنهم الذين يخرجون إلى مصارعهم ثم قال أراه ضرب في لبة بعيره فأرسله في العسكر فقال أبو جهل وهذا نبي آخر من بني عبد مناف ستعلم غدا من المقتول نحن أو محمد وأصحابه وقالت قريش لجهيم إنما يلعب بك الشيطان في منامك فسترى غدا خلاف ما رأيت يقتل أشراف محمد ويؤسرون قال فخلا عتبة بأخيه شيبة فقال له هل لك في الرجوع فهذه الرؤيا مثل رؤيا عاتكة ومثل قول عداس والله ما كذبنا عداس ولعمري لئن كان محمد كاذبا إن في العرب لمن يكفيناه ولئن كان صادقا إنا لأسعد العرب به للحمته فقال شيبة هو على ما تقول أ فنرجع من بين أهل العسكر فجاء أبو جهل وهما على ذلك فقال ما تريدان قالا الرجوع أ لا ترى إلى رؤيا عاتكة وإلى رؤيا جهيم بن الصلت مع قول عداس لنا فقال لا تخذلان والله قومكما وتقطعان بهم قالا هلكت والله وأهلكت قومك فمضيا على ذلك . قال الواقدي فلما أفلت أبو سفيان بالعير ورأى أن قد أحرزها وأمن عليها أرسل إلى قريش قيس بن إمرئ القيس وكان مع أصحاب العير خرج معهم من مكة فأرسله أبو سفيان يأمرهم بالرجوع ويقول قد نجت عيركم وأموالكم فلا تحرزوا أنفسكم
[ 107 ](1/3956)
أهل يثرب فلا حاجة لكم فيما وراء ذلك إنما خرجتم لتمنعوا عيركم وأموالكم وقد نجاها الله فإن أبوا عليك فلا يأبون خصلة واحدة يردون القيان فعالج قيس بن إمرئ القيس قريشا فأبت الرجوع قالوا أما القيان فسنردهن فردوهن من الجحفة . قلت لا أعلم مراد أبي سفيان برد القيان وهو الذي أخرجهن مع الجيش يوم أحد يحرضن قريشا على إدراك الثأر ويغنين ويضربن الدفوف فكيف نهى عن ذلك في بدر وفعله في أحد وأقول من تأمل الحال علم أن قريشا لم يمكن أن تنتصر يوم بدر لأن الذي خالطها من التخاذل والتواكل وكراهية الحرب وحب الرجوع وخوف اللقاء وخفوق الهمم وفتور العزائم ورجوع بني زهرة وغيرهم من الطريق واختلاف آرائهم في القتال يكفي بعضه في هلاكهم وعدم فلاحهم لو كانوا قد لقوا قوما جبناء فكيف وإنما لقوا الأوس والخزرج وهم أشجع العرب وفيهم علي بن أبي طالب ع وحمزة بن عبد المطلب وهما أشجع البشر وجماعة من المهاجرين أنجاد أبطال ورئيسهم محمد بن عبد الله رسول الله الداعي إلى الحق والعدل والتوحيد المؤيد بالقوة الإلهية دع ما أضيف إلى ذلك من ملائكة السماء كما نطق به الكتاب . قال الواقدي ولحق الرسول أبا سفيان بالهدة والهدة على سبعة أميال من عقبة عسفان على تسعة وثلاثين ميلا من مكة فأخبره بمضي قريش فقال وا قوماه هذا عمل عمرو بن هشام يكره أن يرجع لأنه قد ترأس على الناس وبغى والبغي منقصة وشؤم والله لئن أصاب أصحاب محمد النفير ذللنا إلى أن يدخل مكة علينا . قال الواقدي وقال أبو جهل والله لا نرجع حتى نرد بدرا وكانت بدر موسما
[ 108 ](1/3957)
من مواسم العرب في الجاهلية يجتمعون بها وفيها سوق تسمع بنا العرب وبمسيرنا فنقيم على بدر ثلاثا ننحر الجزر ونطعم الطعام ونشرب الخمر وتعزف علينا القيان فلن تزال العرب تهابنا أبدا . قال الواقدي وكان الفرات بن حيان العجلي أرسلته قريش حين فصلت من مكة إلى أبي سفيان بن حرب يخبره بمسيرها وفصولها وما قد حشدت فحالف أبا سفيان في الطريق وذلك أن أبا سفيان لصق بالبحر ولزم الفرات بن حيان المحجة فوافى المشركين بالجحفة فسمع كلام أبي جهل وهو يقول لا نرجع فقال ما بأنفسهم عن نفسك رغبة وإن الذي يرجع بعد أن رأى ثأره من كثب لضعيف فمضى مع قريش فترك أبا سفيان وجرح يوم بدر جراحات كثيرة وهرب على قدميه وهو يقول ما رأيت كاليوم أمرا أنكد إن ابن الحنظلية لغير مبارك الأمر . قال الواقدي وقال الأخنس بن شريق واسمه أبي وكان حليفا لبني زهرة يا بني زهرة قد نجى الله عيركم وخلص أموالكم ونجى صاحبكم مخرمة بن نوفل وإنما خرجتم لتمنعوه وماله وإنما محمد رجل منكم ابن أختكم فإن يك نبيا فأنتم أسعد به وإن يك كاذبا يلي قتله غيركم خير من أن تلوا قتل ابن أختكم فارجعوا واجعلوا خبثها لي فلا حاجة لكم أن تخرجوا في غير ما يهمكم ودعوا ما يقوله هذا الرجل يعني أبا جهل فإنه مهلك قومه سريع في فسادهم فأطاعته بنو زهرة وكان فيهم مطاعا وكانوا يتيمنون به فقالوا فكيف نصنع بالرجوع حتى نرجع فقال الأخنس نسير مع القوم فإذا أمسيت سقطت عن بعيري فيقولون نحل الأخنس فإذا أصبحوا فقالوا سيروا فقولوا لا نفارق صاحبنا حتى نعلم أ حي هو أم ميت
[ 109 ](1/3958)
فندفنه فإذا مضوا رجعنا إلى مكة ففعلت بنو زهرة ذلك فلما أصبحوا بالأبواء راجعين تبين للناس أن بني زهرة رجعوا فلم يشهدها زهري البتة وكانوا مائة وقيل أقل من مائة وهو أثبت وقال قوم كانوا ثلاثمائة ولم يثبت ذلك . قال الواقدي وقال عدي بن أبي الزغباء منحدره من بدر إلى المدينة وانتشرت الركاب عليه فجعل عدي يقول
أقم لها صدورها يا بسبس
إن مطايا القوم لا تحبس
و حملها على الطريق أكيس
قد نصر الله وفر الأخنس
قال الواقدي وذكر أبو بكر بن عمر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن الخطاب إن بني عدي خرجوا من النفير حتى كانوا بثنية لفت فلما كان في السحر عدلوا في الساحل منصرفين إلى مكة فصادفهم أبو سفيان فقال كيف رجعتم يا بني عدي ولا في العير ولا في النفير قالوا أنت أرسلت إلى قريش أن ترجع فرجع من رجع ومضى من مضى فلم يشهدها أحد من بني عدي ويقال إنه لاقاهم بمر الظهران فقال تلك المقالة لهم . قال الواقدي وأما رسول الله ص فكان صبيحة أربع عشرة من شهر رمضان بعرق الظبية فجاء أعرابي قد أقبل من تهامة فقال له أصحاب النبي ص هل لك علم بأبي سفيان بن حرب قال ما لي بأبي سفيان علم قالوا تعال فسلم على رسول الله ص قال أ وفيكم رسول الله قالوا نعم قال فأيكم رسول الله قالوا هذا فقال أنت رسول الله قال نعم قال فما في
[ 110 ]
بطن ناقتي هذه إن كنت صادقا فقال سلمة بن سلامة بن وقش نكحتها وهي حبلى منك فكره رسول الله ص مقالته وأعرض عنه . قال الواقدي وسار رسول الله ص حتى أتى الروحاء ليلة الأربعاء للنصف من شهر رمضان فقال لأصحابه هذا سجاسج يعني وادي الروحاء هذا أفضل أودية العرب .(1/3959)
قال الواقدي وصلى رسول الله ص بالروحاء فلما رفع رأسه من الركعة الأخيرة من وتره لعن الكفرة ودعا عليهم فقال اللهم لا تفلتن أبا جهل بن هشام فرعون هذه الأمة اللهم لا تفلتن زمعة بن الأسود اللهم أسخن عين أبي زمعة اللهم أعم بصر أبي دبيلة اللهم لا تفلتن سهيل بن عمرو ثم دعا لقوم من قريش فقال اللهم أنج سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين ولم يدع للوليد بن المغيرة يومئذ وأسر ببدر ولكنه لما رجع إلى مكة بعد بدر أسلم وأراد أن يخرج إلى المدينة فحبس فدعا له النبي ص بعد ذلك قال الواقدي وكان خبيب بن يساف رجلا شجاعا وكان يأبى الإسلام فلما خرج النبي ص إلى بدر خرج هو وقيس بن محرث ويقال ابن الحارث وهما على دين قومهما فأدركا رسول الله ص بالعقيق وخبيب مقنع في الحديد فعرفه رسول الله ص من تحت المغفر فالتفت إلى سعد بن معاذ وهو يسير إلى جنبه فقال أ ليس بخبيب بن يساف قال بلى فأقبل خبيب حتى أخذ
[ 111 ](1/3960)
ببطان ناقة رسول الله ص فقال له ولقيس بن محرث ما أخرجكما قال كنت ابن أختنا وجارنا وخرجنا مع قومنا للغنيمة فقال ص لا يخرجن معنا رجل ليس على ديننا فقال خبيب لقد علم قومي أني عظيم الغناء في الحرب شديد النكاية فأقاتل معك للغنيمة ولا أسلم فقال رسول الله ص لا ولكن أسلم ثم قاتل فلما كان بالروحاء جاء فقال يا رسول الله أسلمت لرب العالمين وشهدت أنك رسول الله فسر بذلك وقال امضه فكان عظيم الغناء في بدر وفي غير بدر وأما قيس بن الحارث فأبى أن يسلم فرجع إلى المدينة فلما قدم النبي ص من بدر أسلم وشهد أحدا فقتل . قال الواقدي ولما خرج رسول الله ص صام يوما أو يومين ثم نادى مناديه يا معشر العصاة إني مفطر فأفطروا وذلك أنه قد كان قال لهم قبل ذلك أفطروا فلم يفعلوا . قلت هذا هو سر النبوة وخاصيتها إذا تأمل المتأملون ذلك وهو أن يبلغ بهم حبه وطاعته وقبول قوله على أن يكلفهم ما يشق عليهم فيمتثلوه امتثالا صادرا عن حب شديد وحرص عظيم على الطاعة حتى إنه لينسخه عنهم ويسقط وجوبه عليهم فيكرهون ذلك ولا يسقطونه عن أنفسهم إلا بعد الإنكار التام وهذا أحسن من المعجزات الخارقة للعادات بل هذا بعينه معجزة خارقة للعادة أقوى وآكد من شق البحر وقلب العصا حية . قال الواقدي ومضى رسول الله ص حتى إذا كان دوين بدر أتاه الخبر بمسير قريش فأخبر رسول الله ص بمسيرهم واستشار الناس
[ 112 ](1/3961)
فقام أبو بكر فقال فأحسن ثم قام عمر فقال فأحسن ثم قال يا رسول الله إنها قريش وعزها والله ما ذلت منذ عزت ولا آمنت منذ كفرت والله لا تسلم عزها أبدا ولتقاتلنك فاتهب لذلك أهبته وأعد عدته ثم قام المقداد بن عمرو فقال يا رسول الله لأمر الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون والذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا . قال الواقدي برك الغماد من وراء مكة بخمس ليال من وراء الساحل مما يلي البحر وهو على ثمان ليال من مكة إلى اليمن . فقال له رسول الله ص خيرا ودعا له بخير ثم قال ص أشيروا علي أيها الناس وإنما يريد الأنصار وكان يظن أن الأنصار لا تنصره إلا في الدار وذلك أنهم شرطوا أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأولادهم فقال رسول الله ص أشيروا علي فقام سعد بن معاذ فقال أنا أجيب عن الأنصار كأنك يا رسول الله تريدنا قال أجل قال إنك عسى أن تكون خرجت عن أمر قد أوحي إليك وإنا قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به حق وأعطيناك مواثيقنا وعهودنا على السمع والطاعة فامض يا نبي الله لما أردت فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما بقي منا رجل وصل من شئت وخذ من أموالنا ما أردت فما أخذته من أموالنا أحب إلينا مما تركت والذي نفسي بيده ما سلكت هذه الطريق قط وما لي بها من علم وإنا لا نكره أن نلقى عدونا غدا إنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء لعل الله يريك منا بعض ما تقر به عينك .
[ 113 ](1/3962)
قال الواقدي وحدثني محمد بن صالح عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد قال قال سعد بن معاذ يومئذ يا رسول الله إنا قد خلفنا من قومنا قوما ما نحن بأشد حبا لك منهم ولا أطوع لهم رغبة ونية في الجهاد ولو ظنوا أنك يا رسول الله ملاق عدوا ما تخلفوا عنك ولكن إنما ظنوا أنها العير نبني لك عريشا فتكون فيه ونعد عندك رواحلك ثم نلقى عدونا فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا وإن تكن الأخرى جلست على رواحلك فلحقت من وراءنا فقال له النبي ص خيرا ثم قال أ ويقضي الله خيرا يا سعد . قال الواقدي فلما فرغ سعد من المشورة قال رسول الله ص سيروا على بركة الله فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم . قال الواقدي وقالوا لقد أرانا رسول الله ص مصارعهم يومئذ هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان فما عدا كل رجل منهم مصرعه قال فعلم القوم أنهم يلاقون القتال وأن العير تفلت ورجا القوم النصر لقول النبي ص . قال الواقدي فمن يومئذ عقد رسول الله ص الألوية وكانت ثلاثة وأظهر السلاح وكان خرج من المدينة على غير لواء معقود وسار فلقي سفيان الضمري ومع رسول الله ص قتادة بن النعمان ومعاذ بن جبل فقال رسول الله ص من الرجل فقال الضمري بل ومن أنتم فقال رسول الله ص تخبرنا ونخبرك فقال الضمري وذاك بذاك قال نعم قال الضمري فاسألوا عما شئتم فقال له ص أخبرنا عن قريش قال الضمري بلغني أنهم خرجوا يوم كذا من مكة فإن كان الخبر صادقا فإنهم بجنب هذا الوادي ثم قال
[ 114 ](1/3963)
الضمري فمن أنتم فقال النبي ص نحن من ماء وأشار بيده نحو العراق فجعل الضمري يقول من ماء من أي ماء من العراق أم من غيره ثم انصرف رسول الله ص إلى أصحابه . قال الواقدي فبات الفريقان كل منهم لا يعلم بمنزل صاحبه إنما بينهم قوز من رمل . قال الواقدي ومر رسول الله ص بجبلين فسأل عنهما فقالوا هذا مسلح ومخرئ فقال من ساكنهما فقيل بنو النار وبنو حراق فانصرف عنهما وجعلهما يسارا ولقيه بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء فأخبراه خبر قريش ونزل رسول الله ص وادي بدر عشاء ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان فبعث عليا ع والزبير وسعد بن أبي وقاص وبسبس بن عمرو يتحسسون على الماء وأشار لهم إلى ظريب وقال أرجو أن تجدوا الخير عند القليب الذي يلي هذا الظريب فاندفعوا تلقاءه فوجدوا على تلك القليب روايا قريش فيها سقاؤهم فأسروهم وأفلت بعضهم فكان ممن عرف أنه أفلت عجير فكان أول من جاء قريشا بخبر النبي ص وأصحابه فنادى يا آل غالب هذا ابن أبي كبشة وأصحابه وقد أخذوا سقاءكم فماج العسكر وكرهوا ما جاء به .
[ 115 ](1/3964)
قال الواقدي فكان حكيم بن حزام يحدث قال كنا يومئذ في خباء لنا على جزور نشوي من لحمها فما هو إلا أن سمعنا الخبر فامتنع الطعام منا ولقي بعضنا بعضا ولقيني عتبة بن ربيعة فقال يا أبا خالد ما أعلم أحدا يسير أعجب من مسيرنا إن عيرنا قد نجت وإنا جئنا إلى قوم في بلادهم بغيا عليهم فقلت أراه لأمر حم ولا رأي لمن لا يطاع هذا شؤم ابن الحنظلية فقال عتبة أبا خالد أ تخاف أن تبيتنا القوم قلت لأنت آمن من ذلك قال فما الرأي يا أبا خالد قلت نتحارس حتى نصبح وترون رأيكم قال عتبة هذا الرأي قال فتحارسنا حتى أصبحنا فقال أبو جهل هذا عن أمر عتبة كره قتال محمد وأصحابه إن هذا لهو العجب أ تظنون أن محمدا وأصحابه يعترضون لجمعكم والله لأنتحين ناحية بقومي فلا يحرسنا أحد فتنحى ناحية وإن السماء لتمطر عليه قال يقول عتبة إن هذا لهو النكد قال الواقدي أخذ من السقاء من على القليب يسار غلام سعيد بن العاص وأسلم غلام منبه بن الحجاج وأبو رافع غلام أمية بن خلف فأتي بهم النبي ص وهو قائم يصلي فسألهم المسلمون فقالوا نحن سقاء قريش بعثونا نسقيهم من الماء فكره القوم خبرهم ورجوا أن يكونوا لأبي سفيان وأصحاب العير فضربوهم فلما أذلقوهم بالضرب قالوا نحن لأبي سفيان ونحن في العير وهذا العير بهذا القوز فكانوا إذا قالوا ذلك يمسكون عن ضربهم فسلم رسول الله ص من صلاته ثم قال إن صدقوكم ضربتموهم وإن كذبوكم تركتموهم فقال أصحابه ع إنهم يا رسول الله يقولون إن قريشا قد جاءت فقال لقد صدقوكم خرجت قريش تمنع عيرها وخافوكم عليها ثم أقبل ص على السقاء فقال أين
[ 116 ](1/3965)
قريش فقالوا خلف هذا الكثيب الذي ترى قال كم هم قالوا كثير قال كم عددهم قالوا لا ندري قال كم ينحرون قالوا يوما عشرة ويوما تسعة فقال القوم ما بين الألف والتسعمائة ثم قال للسقاء كم خرج من أهل مكة قالوا لم يبق أحد به طعم إلا خرج فأقبل رسول الله ص على الناس فقال هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها ثم سألهم رسول الله ص هل رجع منهم أحد قالوا نعم رجع ابن أبي شريق ببني زهرة فقال ص راشدهم وما كان برشيد وإن كان ما علمت لمعاديا لله ولكتابه ثم قال فأحد غيرهم قالوا نعم بنو عدي بن كعب فتركهم رسول الله ص ثم قال لأصحابه أشيروا علي في المنزل فقال الحباب بن المنذر يا رسول الله أ رأيت منزلك هذا أ هو منزل أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة قال بل هو الرأي والحرب والمكيدة قال فإن هذا ليس بمنزل انطلق بنا إلى أدنى مياه القوم فإني عالم بها وبقلبها فإن بها قليبا قد عرفت عذوبة مائها وماؤها كثير لا ينزح نبني عليها حوضا ونقذف فيها بالآنية فنشرب ونقاتل ونعور ما سواها من القلب . قال الواقدي فكان ابن عباس يقول نزل جبريل على النبي ص فقال الرأي ما أشار به الحباب فقال يا حباب أشرت بالرأي ونهض وفعل كل ذلك . قال الواقدي وبعث الله السماء وكان الوادي دهسا أي كثير الرمل فأصاب المسلمين ما لبد الأرض ولم يمنعهم من المسير وأصاب قريشا ما لم يقدروا معه أن يرتحلوا منه وإنما بين الطائفتين قوز من رمل . قال الواقدي وأصاب المسلمين تلك الليلة النعاس ألقي عليهم فناموا ولم يصبهم من المطر ما يؤذيهم .
[ 117 ](1/3966)
قال الزبير بن العوام لقد سلط الله عليهم النعاس تلك الليلة حتى إني كنت لأتشدد والنعاس يجلد بي الأرض فما أطيق إلا ذلك فكان رسول الله ص وأصحابه على مثل ذلك الحال وقال سعد بن أبي وقاص لقد رأيتني وإن ذقني بين ثديي فما أشعر حتى أقع على جنبي . وقال رفاعة بن رافع بن مالك لقد غلبني النوم فاحتلمت حتى اغتسلت آخر الليل . قال الواقدي فلما تحول رسول الله ص إلى المنزل بعد أن أخذ السقاء أرسل عمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود فأطافا بالقوم ثم رجعا إليه فقالا له يا رسول الله القوم مذعورون فزعون إن الفرس ليريد أن يصهل فيضرب وجهه مع أن السماء تسح عليهم . قال الواقدي فلما أصبحوا قال منبه بن الحجاج وكان رجلا يبصر الأثر هذا والله أثر ابن سمية وابن أم عبد أعرفهما لقد جاءنا محمد بسفهائنا وسفهاء أهل يثرب ثم قال
لم يترك الجوع لنا مبيتا
لا بد أن نموت أو نميتا
يا معشر قريش انظروا غدا إن لقينا محمد وأصحابه فاتقوا على شبانكم وفتيانكم
[ 118 ](1/3967)
بأهل يثرب فإنا إن نرجع بهم إلى مكة يبصروا من ضلالتهم ما فارقوا من دين آبائهم . قال الواقدي ولما نزل رسول الله ص على القليب بني له عريش من جريد فقام سعد بن معاذ على باب العريش متوشحا سيفه فدخل النبي ص وأبو بكر . قلت لأعجب من أمر العريش من أين كان لهم أو معهم من سعف النخل ما يبنون به عريشا وليس تلك الأرض أعني أرض بدر أرض نخل والذي كان معهم من سعف النخل يجري مجرى السلاح كان يسيرا جدا قيل إنه كان بأيدي سبعة منهم سعاف عوض السيوف والباقون كانوا بالسيوف والقسي وهذا قول شاذ والصحيح أنه ما خلا أحد منهم عن سلاح اللهم إلا أن يكون معهم سعافات يسيرة وظلل عليها بثوب أو ستر وإلا فلا أرى لبناء عريش من جريد النخل هناك وجها . قال الواقدي وصف رسول الله ص أصحابه قبل أن تنزل قريش فطلعت قريش ورسول الله ص يصف أصحابه وقد أترعوا حوضا يفرطون فيه من السحر وقذفت فيه الآنية ودفع رسول الله ص رايته إلى مصعب بن عمير فتقدم بها إلى الموضع الذي أمره أن يضعها ووقف رسول الله ص ينظر إلى الصفوف فاستقبل المغارب وجعل الشمس خلفه وأقبل المشركون فاستقبلوا الشمس ونزل بالعدوة الدنيا من الوادي ونزلوا بالعدوة اليمانية وهي القصوى وجاءه رجل من أصحابه فقال يا رسول الله إن كان هذا عن وحي فامض له وإلا فإني
[ 119 ](1/3968)
أرى أن تعلوا الوادي فإني أرى ريحا قد هاجت من أعلاها وأراها بعثت بنصرك فقال رسول الله ص قد صففت صفوفي ووضعت رايتي فلا أغير ذلك ثم دعا رسول الله ص فأمده الله بالملائكة . قال الواقدي وروى عروة بن الزبير قال عدل رسول الله ص الصفوف يومئذ فتقدم سواد بن غزية أمام الصف فدفع النبي ص بقدح في بطنه وقال استو يا سواد فقال أوجعتني والذي بعثك بالحق أقدني فكشف ص عن بطنه وقال استقد فاعتنقه وقبله فقال ما حملك على ما صنعت قال حضر يا رسول الله من أمر الله ما قد ترى وخشيت القتل فأردت أن يكون آخر عهدي بك وأن أعتنقك .
قال الواقدي فحدثني موسى بن يعقوب عن أبي الحويرث عن محمد بن جبير بن مطعم عن رجل من بني أود قال سمعت عليا ع يخطب على منبر الكوفة ويقول بينا أنا أميح في قليب بدر جاءت ريح لم أر مثلها قط شدة ثم ذهبت فجاءت أخرى لم أر مثلها إلا التي كانت قبلها ثم جاءت ريح أخرى لم أر مثلها إلا الأوليين فكانت الأولى جبريل في ألف مع رسول الله ص والثانية ميكائيل في ألف عن ميمنته والثالثة إسرافيل في ألف عن ميسرته فلما هزم الله أعداءه حملني رسول الله ص على فرس فجرت بي فلما جرت بي خررت على عنقها فدعوت ربي فأمسكني حتى استويت وما لي وللخيل وإنما كنت صاحب الحشم فلما استويت طعنت فيهم بيدي هذه حتى اختضبت مني ذي يعني إبطه
[ 120 ](1/3969)
قلت أكثر الرواة يروونه فحملني رسول الله على فرسه والصحيح ما ذكرناه لأنه لم يكن لرسول الله ص فرس يوم بدر وإنما حضرها راكب بعير ولكنه لما اصطدم الصفان وقتل قوم من فرسان المشركين حمل رسول الله ص عليا ع على بعض الخيل المأخوذة منهم . قال الواقدي قالوا كان على ميمنة رسول الله ص أبو بكر وكان على ميسرته علي بن أبي طالب ع وكان على ميمنة قريش هبيرة بن أبي وهب المخزومي وعلى ميسرتهم عمرو بن عبد ود قيل كان زمعة بن الأسود على ميسرتهم وقيل بل كان على خيل المشركين وقيل الذي على الخيل الحارث بن هشام وقال قوم لم يكن هبيرة على الميمنة بل كان عليها الحارث بن عامر بن نوفل . قال الواقدي وحدثني محمد بن صالح عن يزيد بن رومان وابن أبي حبيبة قالا ما كان على ميمنة النبي ص يوم بدر ولا على ميسرته أحد يسمى وكذلك ميمنة المشركين وميسرتهم ما سمعنا فيها بأحد قال الواقدي وهذا هو الثبت عندنا قال وكان لواء رسول الله ص يومئذ الأعظم لواء المهاجرين مع مصعب بن عمير ولواء الخزرج مع الحباب بن المنذر ولواء الأوس مع سعد بن معاذ وكان مع قريش ثلاثة ألوية لواء مع أبي عزيز ولواء مع المنذر بن الحارث ولواء مع طلحة بن أبي طلحة .
قال الواقدي وخطب رسول الله ص المسلمين يومئذ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإني أحثكم على ما حثكم الله عليه وأنهاكم عما نهاكم الله عنه فإن الله عظيم شأنه يأمر بالحق ويحب الصدق ويعطي على الخير أهله على منازلهم عنده
[ 121 ](1/3970)
به يذكرون وبه يتفاضلون وإنكم أصبحتم بمنزل من منازل الحق لا يقبل الله فيه من أحد إلا ما ابتغى به وجهه وإن الصبر في البأس مما يفرج الله به الهم وينجي به من الغم تدركون به النجاة في الآخرة فيكم نبي الله يحذركم ويأمركم فاستحيوا اليوم أن يطلع الله على شي ء من أمركم يمقتكم عليه فإنه تعالى يقول لَمَقْتُ اَللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ انظروا إلى الذي أمركم به من كتابه وأراكم من آياته وما أعزكم به بعد الذلة فاستمسكوا به يرض ربكم عنكم وابلوا ربكم في هذه المواطن أمرا تستوجبون به الذي وعدكم من رحمته ومغفرته فإن وعده حق وقوله صدق وعقابه شديد وإنما أنا وأنتم بالله الحي القيوم إليه ألجأنا ظهورنا وبه اعتصمنا وعليه توكلنا وإليه المصير ويغفر الله لي وللمسلمين . قال الواقدي ولما رأى رسول الله ص قريشا تصوب من الوادي وكان أول من طلع زمعة بن الأسود على فرس له يتبعه ابنه فاستجال بفرسه يريد أن يبنوا للقوم منزلا
فقال رسول الله ص اللهم إنك أنزلت علي الكتاب وأمرتني بالقتال ووعدتني إحدى الطائفتين وأنت لا تخلف الميعاد اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تخاذل وتكذب رسولك اللهم نصرك الذي وعدتني اللهم أحنهم الغداة وطلع عتبة بن ربيعة على جمل أحمر فقال رسول الله ص إن يك في أحد من القوم خير ففي صاحب الجمل الأحمر إن يطيعوه يرشدوا . قال الواقدي وكان إيماء بن رحضة قد بعث إلى قريش ابنا له بعشر جزائر حين مروا به أهداها لهم وقال إن أحببتم أن يمدكم بسلاح ورجال فإنا معدون لذلك مؤدون فعلنا فأرسلوا أن وصلتك رحم قد قضيت الذي عليك ولعمري لئن
[ 122 ](1/3971)
كنا إنما نقاتل الناس ما بنا ضعف عنهم ولئن كنا نقاتل الله بزعم محمد فما لأحد بالله طاقة . قال الواقدي فروى خفاف بن إيماء بن رحضة قال كان أبي ليس شي ء أحب إليه من إصلاح بين الناس موكلا بذلك فلما مرت به قريش أرسلني بجزائر عشر هدية لها فأقبلت أسوقها وتبعني أبي فدفعتها إلى قريش فقبلوها ووزعوها في القبائل فمر أبي على عتبة بن ربيعة وهو سيد الناس يومئذ فقال يا أبا الوليد ما هذا المسير قال لا أدري والله غلبت قال فأنت سيد العشيرة فما يمنعك أن ترجع بالناس وتحمل دم حليفك وتحمل العير التي أصابوا بنخلة فتوزعها على قومك فو الله ما يطلبون قبل محمد إلا هذا والله يا أبا الوليد ما تقتلون بمحمد وأصحابه إلا أنفسكم . قال الواقدي وحدثني ابن أبي الزناد عن أبيه قال ما سمعنا بأحد سار بغير مال إلا عتبة بن ربيعة . قال الواقدي وروى محمد بن جبير بن مطعم قال لما نزل القوم أرسل رسول الله ص عمر بن الخطاب إلى قريش فقال ارجعوا فلأن يلي هذا الأمر مني غيركم أحب إلي من أن تلوه مني وأن أليه من غيركم أحب إلى من أن أليه منكم فقال حكيم بن حزام قد عرض نصفا فلبوه والله لا تنصرون عليه بعد أن عرض عليكم من النصف ما عرض وقال أبو جهل لا نرجع بعد أن أمكننا الله منهم ولا نطلب أثرا بعد عين ولا يعرض لعيرنا بعد هذا أبدا . قال الواقدي وأقبل نفر من قريش حتى وردوا الحوض منهم حكيم بن حزام فأراد المسلمون تنحيتهم عنه فقال النبي ص دعوهم فوردوا الماء
[ 123 ](1/3972)
فشربوا فلم يشرب منهم أحد إلا قتل إلا ما كان من حكيم بن حزام . قال الواقدي فكان سعيد بن المسيب يقول نجا حكيم من الدهر مرتين لما أراد الله تعالى به من الخير خرج رسول الله ص على نفر من المشركين وهم جلوس يريدونه فقرأ يس ونثر على رءوسهم التراب فما أفلت منهم أحد إلا قتل ما عدا حكيم بن حزام وورد الحوض يوم بدر مع من ورده مع المشركين فما ورده إلا من قتل إلا حكيم بن حزام . قال الواقدي فلما اطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحي وكان صاحب قداح فقالوا احزر لنا محمدا وأصحابه فاستجال بفرسه حول العسكر وصوب في الوادي وصعد يقول عسى أن يكون لهم مدد أو كمين ثم رجع فقال لا مدد ولا كمين والقوم ثلاثمائة إن زادوا قليلا ومعهم سبعون بعيرا ومعهم فرسان ثم قال يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا نواضح يثرب تحمل الموت الناقع قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم أ لا ترونهم خرسا لا يتكلمون يتلمظون تلمظ الأفاعي والله ما أرى أن يقتل منهم رجل حتى يقتل رجلا فإذا أصابوا منكم عددهم فما خير في العيش بعد ذلك فروا رأيكم . قال الواقدي وحدثني يونس بن محمد الظفري عن أبيه أنه قال لما قال لهم عمير بن وهب هذه المقالة أرسلوا أبا أسامة الجشمي وكان فارسا فأطاف بالنبي ص وأصحابه ثم رجع إليهم فقالوا له ما رأيت قال والله ما رأيت جلدا ولا عددا ولا حلقة ولا كراعا ولكني والله رأيت قوما لا يريدون أن يردوا إلى أهليهم رأيت قوما مستميتين ليست معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم زرق العيون
[ 124 ](1/3973)
كأنهم الحصا تحت الحجف ثم قال أخشى أن يكون لهم كمين أو مدد فصوب في الوادي ثم صعد ثم رجع إليهم فقال لا كمين ولا مدد فروا رأيكم . قال الواقدي ولما سمع حكيم بن حزام ما قال عمير بن وهب مشى في الناس فأتى عتبة بن ربيعة فقال يا أبا الوليد أنت كبير قريش وسيدها والمطاع فيها فهل لك ألا تزال تذكر فيها بخير آخر الدهر مع ما فعلت يوم عكاظ وعتبة يومئذ رئيس الناس فقال وما ذاك يا أبا خالد قال ترجع بالناس وتحمل دم حليفك وما أصابه محمد من تلك العير ببطن نخلة إنكم لا تطلبون من محمد شيئا غير هذا الدم والعير فقال عتبة قد فعلت وأنت علي بذلك ثم جلس عتبة على جمله فسار في المشركين من قريش يقول يا قوم أطيعوني ولا تقاتلوا هذا الرجل وأصحابه واعصبوا هذا الأمر برأسي واجعلوا جبنها في فإن منهم رجالا قرابتهم قريبة ولا يزال الرجل منكم ينظر إلى قاتل أبيه وأخيه فيورث ذلك بينكم شحناء وأضغانا ولن تخلصوا إلى قتلهم حتى يصيبوا منكم عددهم مع أنه لا آمن أن تكون الدائرة عليكم وأنتم لا تطلبون إلا دم القتيل منكم والعير التي أصيبت وأنا أحتمل ذلك وهو علي يا قوم إن يك محمد كاذبا يكفيكموه ذؤبان العرب وإن يك ملكا كنتم في ملك ابن أخيكم وإن يك نبيا كنتم أسعد الناس به يا قوم لا تردوا نصيحتي ولا تسفهوا رأيي فحسده أبو جهل حين سمع خطبته وقال إن يرجع الناس عن خطبة عتبة يكن سيد الجماعة وكان عتبة أنطق الناس وأطولهم لسانا وأجملهم جمالا ثم قال عتبة لهم أنشدكم الله في هذه الوجوه التي كأنها المصابيح أن تجعلوها أندادا لهذه الوجوه التي كأنها وجوه الحيات فلما فرغ عتبة من كلامه قال أبو جهل إن عتبة يشير عليكم بهذا
[ 125 ](1/3974)
لأن محمدا ابن عمه وهو يكره أن يقتل ابنه وابن عمه امتلأ والله سحرك يا عتبة وجبنت حين التقت حلقتا البطان الآن تخذل بيننا وتأمرنا بالرجوع لا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد فغضب عتبة فقال يا مصفرا استه ستعلم أينا أجبن وألأم وستعلم قريش من الجبان المفسد لقومه وأنشد
هذاي وأمرت أمري
فبشري بالثكل أم عمرو
قال الواقدي وذهب أبو جهل إلى عامر بن الحضرمي أخي عمرو بن الحضرمي المقتول بنخلة فقال له هذا حليفك يعني عتبة يريد أن يرجع بالناس وقد رأيت ثأرك بعينك وتخذل بين الناس أ قد تحمل دم أخيك وزعم أنك قابل الدية أ لا تستحي تقبل الدية وقد قدرت على قاتل أخيك قم فانشد خفرتك فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف ثم حثا على استه التراب وصرخ وا عمراه يخزي بذلك عتبة لأنه حليفه من بين قريش فأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة وحلف عامر لا يرجع حتى يقتل من أصحاب محمد وقال أبو جهل لعمير بن وهب حرش بين الناس فحمل عمير فناوش المسلمين لأن ينفض الصف فثبت المسلمون على صفهم ولم يزولوا وتقدم ابن الحضرمي فشد على القوم فنشبت الحرب . قال الواقدي فروى نافع بن جبير عن حكيم بن حزام قال لما أفسد الرأي أبو جهل على الناس وحرش بينهم عامر بن الحضرمي فأقحم فرسه كان أول من خرج إليه من المسلمين مهجع مولى عمر بن الخطاب فقتله عامر وكان أول قتيل قتل من الأنصار حارثة بن سراقة قتله حيان بن العرقة . قال الواقدي وقال عمر بن الخطاب في مجلس ولايته يا عمير بن وهب أنت
[ 126 ](1/3975)
حاذرنا للمشركين يوم بدر تصعد في الوادي وتصوب كأني أنظر إلى فرسك تحتك تخبر المشركين أنه لا كمين لنا ولا مدد قال إي والله يا أمير المؤمنين وأخرى أنا والله الذي حرشت بين الناس يومئذ ولكن الله جاءنا بالإسلام وهدانا له وما كان فينا من الشرك أعظم من ذلك قال عمر صدقت . قال الواقدي وكان عتبة بن ربيعة كلم حكيم بن حزام وقال ليس عند أحد خلاف إلا عند ابن الحنظلية فاذهب إليه فقل له إن عتبة يحمل دم حليفه ويضمن العير قال حكيم فدخلت على أبي جهل وهو يتخلق بخلوق طيب ودرعه موضوعة بين يديه فقلت إن عتبة بن ربيعة بعثني إليك فأقبل علي مغضبا فقال ما وجد عتبة أحدا يرسله غيرك فقلت والله لو كان غيره أرسلني ما مشيت في ذلك ولكني مشيت في إصلاح بين الناس وكان أبو الوليد سيد العشيرة فغضب غضبة أخرى قال وتقول أيضا سيد العشيرة فقلت أنا أقوله وقريش كلها تقوله فأمر عامرا أن يصيح بخفرته واكتشف وقال إن عتبة جاع فاسقوه سويقا وجعل المشركين يقولون عتبة جاع فاسقوه سويقا وجعل أبو جهل يسر بما صنع المشركون بعتبة قال حكيم فجئت إلى منبه بن الحجاج فقلت له مثل ما قلت لأبي جهل فوجدته خيرا من أبي جهل قال نعما مشيت فيه وما دعا إليه عتبة فرجعت إلى عتبة فوجدته قد غضب من كلام قريش فنزل عن جمله وقد كان طاف عليهم في عسكرهم يأمرهم بالكف عن القتال فيأبون فحمي فنزل فلبس درعه وطلبوا له بيضة فلم يوجد في الجيش بيضة تسع رأسه من عظم هامته فلما رأى ذلك اعتجر ثم برز راجلا بين أخيه شيبة وبين ابنه الوليد بن عتبة فبينا أبو جهل في الصف على فرس أنثى حاذاه عتبة وسل سيفه فقيل هو والله يقتله فضرب بالسيف عرقوب فرس أبي جهل فاكتسعت الفرس
[ 127 ](1/3976)
و قال انزل فإن هذا اليوم ليس بيوم ركوب ليس كل قومك راكبا فنزل أبو جهل وعتبة يقول سيعلم أينا شؤم عشيرته الغداة قال حكيم فقلت تالله ما رأيت كاليوم . قال الواقدي ثم دعا عتبة إلى المبارزة ورسول الله ص في العريش وأصحابه على صفوفهم فاضطجع فغشيه النوم وقال لا تقاتلوا حتى أوذنكم وإن كثبوكم فارموهم ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم فقال أبو بكر يا رسول الله قد دنا القوم وقد نالوا منا فاستيقظ وقد أراه الله إياهم في منامه قليلا وقلل بعضهم في أعين بعض
ففزع رسول الله ص وهو رافع يديه يناشد ربه ما وعده من النصر ويقول اللهم إن تظهر علي هذه العصابة يظهر الشرك ولا يقم لك دين وأبو بكر يقول والله لينصرنك الله وليبيضن وجهك قال عبد الله بن رواحة يا رسول الله إني أشير عليك وأنت أعظم وأعلم بالله من أن يشار عليك إن الله أجل وأعظم من أن ينشد وعده فقال ع يا ابن رواحة أ لا أنشد الله وعده إن الله لا يخلف الميعاد وأقبل عتبة يعمد إلى القتال فقال له حكيم بن حزام مهلا مهلا يا أبا الوليد لا تنه عن شي ء وتكون أوله . قال الواقدي قال خفاف بن إيماء فرأيت أصحاب النبي ص يوم بدر وقد تصاف الناس وتزاحفوا وهم لا يسلون السيوف ولكنهم قد انتضوا القسي وقد تترس بعضهم عن بعض بصفوف متقاربة لا فرج بينها والآخرون قد سلوا السيوف حين طلعوا فعجبت من ذلك فسألت بعد ذلك رجلا من المهاجرين فقال أمرنا رسول الله ص ألا نسل السيوف حتى يغشونا . قال الواقدي فلما تزاحف الناس قال الأسود بن عبد الأسد المخزومي حين دنا من
[ 128 ](1/3977)
الحوض أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن دونه فشد حتى دنا من الحوض واستقبله حمزة بن عبد المطلب فضربه فأطن قدمه فزحف الأسود ليبر قسمه زعم حتى وقف في الحوض فهدمه برجله الصحيحة وشرب منه وأتبعه حمزة فضربه في الحوض فقتله والمشركون ينظرون ذلك على صفوفهم . قال الواقدي ودنا الناس بعضهم من بعض فخرج عتبة وشيبة والوليد حتى فصلوا من الصف ثم دعوا إلى المبارزة فخرج إليهم فتيان ثلاثة من الأنصار وهم بنو عفراء معاذ ومعوذ وعوف بنو الحارث ويقال إن ثالثهم عبد الله بن رواحة والثابت عندنا أنهم بنو عفراء فاستحى رسول الله ص من ذلك وكره أن يكون أول قتال لقي المسلمون فيه المشركين في الأنصار وأحب أن تكون الشوكة لبني عمه وقومه فأمرهم فرجعوا إلى مصافهم وقال لهم خيرا ثم نادى منادي المشركين يا محمد أخرج إلينا الأكفاء من قومنا فقال لهم رسول الله ص يا بني هاشم قوموا فقاتلوا بحقكم الذي بعث الله به نبيكم إذ جاءوا بباطلهم ليطفئوا نور الله فقام حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف فمشوا إليهم فقال عتبة تكلموا نعرفكم وكان عليهم البيض فأنكروهم فإن كنتم أكفاءنا قاتلناكم وروى محمد بن إسحاق في كتاب المغازي خلاف هذه الرواية قال إن بني عفراء وعبد الله بن رواحة برزوا إلى عتبة وشيبة والوليد فقالوا لهم من أنتم قالوا رهط من الأنصار فقالوا ارجعوا فما لنا بكم من حاجة ثم نادى مناديهم يا محمد
[ 129 ](1/3978)
أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا فقال رسول الله ص قم يا فلان قم يا فلان قم يا فلان . قلت وهذه الرواية أشهر من رواية الواقدي وفي رواية الواقدي ما يؤكد صحة رواية محمد بن إسحاق وهو قوله إن منادي المشركين نادى يا محمد أخرج إلينا الأكفاء من قومنا فلو لم يكن قد كلمهم بنو عفراء وكلموهم وردوهم لما نادى مناديهم بذلك ويدل على ذلك قول بعض القرشيين لبعض الأنصار في فخر فخر به عليه أنا من قوم لم يرض مشركوهم أن يقتلوا مؤمني قومك . قال الواقدي فقال حمزة أنا حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله فقال عتبة كف ء كريم وأنا أسد الحلفاء من هذان معك قال علي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث بن المطلب فقال كفآن كريمان . قال الواقدي قال ابن أبي الزناد حدثني أبي قال لم أسمع لعتبة كلمة قط أوهن من قوله أنا أسد الحلفاء يعني بالحلفاء الأجمة . قلت قد روي هذه الكلمة على صيغة أخرى وأنا أسد الحلفاء وروي أنا أسد الأحلاف . قالوا في تفسيرهما أراد أنا سيد أهل الحلف المطيبين وكان الذين حضروه بني عبد مناف وبني أسد بن عبد العزى وبني تيم وبني زهرة وبني الحارث بن فهر خمس قبائل ورد قوم هذا التأويل فقالوا إن المطيبين لم يكن يقال لهم الحلفاء ولا الأحلاف وإنما ذلك لقب خصومهم وأعدائهم الذين وقع التحالف لأجلهم وهم بنو عبد الدار وبنو مخزوم وبنو سهم وبنو جمح وبنو عدي بن كعب خمس
[ 130 ](1/3979)
قبائل وقال قوم في تفسيرهما إنما عنى حلف الفضول وكان بعد حلف المطيبين بزمان وشهد حلف الفضول رسول الله ص وهو صغير في دار ابن جدعان وكان سببه أن رجلا من اليمن قدم مكة بمتاع فاشتراه العاص بن وائل السهمي ومطله بالثمن حتى أتعبه فقام بالحجر وناشد قريشا ظلامته فاجتمع بنو هاشم وبنو أسد بن عبد العزى وبنو زهرة وبنو تميم في دار ابن جدعان فتحالفوا غمسوا أيديهم في ماء زمزم بعد أن غسلوا به أركان البيت أن ينصروا كل مظلوم بمكة ويردوا عليه ظلامته ويأخذوا على يد الظالم وينهوا عن كل منكر ما بل بحر صوفة فسمي حلف الفضول لفضله و
قد ذكره رسول الله ص فقال شهدته وما أحب أن لي به حمر النعم ولا يزيده الإسلام إلا شدة وهذا التفسير أيضا غير صحيح لأن بني عبد الشمس لم يكونوا في حلف الفضول فقد بان أن ما ذكره الواقدي أصح وأثبت . قال الواقدي ثم قال عتبة لابنه قم يا وليد فقام الوليد وقام إليه علي وكانا أصغر النفر فاختلفا ضربتين فقتله علي بن أبي طالب ع ثم قام عتبة وقام إليه حمزة فاختلفا ضربتين فقتله حمزة رضي الله عنه ثم قام شيبة وقام إليه عبيدة وهو يومئذ أسن أصحاب رسول الله ص فضرب شيبة رجل عبيدة بذباب السيف فأصاب عضلة ساقه فقطعها وكر حمزة وعلي على شيبة فقتلاه واحتملا عبيدة فحازاه إلى الصف ومخ ساقه يسيل فقال عبيدة يا رسول الله أ لست شهيدا قال بلى قال أما والله لو كان أبو طالب حيا لعلم أني أحق بما قال حين يقول
كذبتم وبيت الله نخلي محمدا
و لما نطاعن دونه ونناضل
و ننصره حتى نصرع حوله
و نذهل عن أبنائنا والحلائل
و نزلت فيهم هذه الآية هذانِ خَصْمانِ اِخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ .
[ 131 ](1/3980)
و روى محمد بن إسحاق أن عتبة بارز عبيدة بن الحارث وأن شيبة بارز حمزة بن عبد المطلب فقتل حمزة شيبة لم يمهله أن قتله ولم يمهل علي الوليد أن قتله واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما أثبت صاحبه وكر حمزة وعلي ع على عتبة بأسيافهما حتى وقعا عليه واحتملا صاحبهما فحازاه إلى الصف . قلت وهذه الرواية توافق ما يذكره أمير المؤمنين ع في كلامه إذ يقول لمعاوية وعندي السيف الذي أعضضت به أخاك وخالك وجدك يوم بدر ويقول في موضع آخر قد عرفت مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدك وما هي من الظالمين ببعيد . واختار البلاذري رواية الواقدي وقال إن حمزة قتل عتبة وإن عليا ع قتل الوليد وشرك في قتل شيبة . وهذا هو المناسب لأحوالهم من طريق السن لأن شيبة أسن الثلاثة فجعل بإزاء عبيدة وهو أسن الثلاثة والوليد أصغر الثلاثة سنا فجعل بإزاء علي ع وهو أصغر الثلاثة سنا وعتبة أوسطهم سنا فجعل بإزاء حمزة وهو أوسطهم سنا وأيضا فإن عتبة كان أمثل الثلاثة فمقتضى القياس أن يكون قرنه أمثل الثلاثة وهو حمزة إذ ذاك لأن عليا ع لم يكن قد اشتهر أمره جدا وإنما اشتهر الشهرة التامة بعد بدر ولمن روى أن حمزة بارز شيبة وهي رواية ابن إسحاق أن ينتصر بشعر هند بنت عتبة ترثي أباها
أ عيني جودا بدمع سرب
على خير خندف لم ينقلب
تداعى له رهطه قصرة
بنو هاشم وبنو المطلب
يذيقونه حر أسيافهم
يعلونه بعد ما قد عطب
[ 132 ](1/3981)
فإذا كانت قد قالت إن عتبة أباها أذاقه بنو هاشم وبنو المطلب حر أسيافهم فقد ثبت أن المبارز لعتبة إنما هو عبيدة لأنه من بني المطلب جرح عتبة فأثبته ثم ذفف عليه حمزة وعلي ع فأما الشيعة فإنها تروي أن حمزة بادر عتبة فقتله وأن اشتراك علي وحمزة إنما هو في دم شيبة بعد أن جرحه عبيدة بن الحارث هكذا ذكر محمد بن النعمان في كتاب الإرشاد وهو خلاف ما تنطق به كتب أمير المؤمنين ع إلى معاوية والأمر عندي مشتبه في هذا الموضع . و
روى محمد بن النعمان عن أمير المؤمنين ع أنه كان يذكر يوم بدر ويقول أختلف أنا والوليد بن عتبة ضربتين فأخطأتني ضربته وأضربه فاتقاني بيده اليسرى فأبانها السيف فكأني أنظر إلى وميض خاتم في شماله ثم ضربته أخرى فصرعته وسلبته فرأيت به الردع من خلوق فعلمت أنه قريب عهد بعرس قال الواقدي وقد روي أن عتبة بن ربيعة حين دعا إلى البراز قام إليه ابنه أبو حذيفة بن عتبة يبارزه فقال له النبي ص اجلس فلما قام إليه النفر أعان أبو حذيفة على أبيه عتبة بضربة . قال الواقدي وأخبرني ابن أبي الزناد عن أبيه قال شيبة أكبر من عتبة بثلاث سنين وحمزة أسن من النبي ص بأربع سنين والعباس أسن من النبي ص بثلاث سنين . قال الواقدي واستفتح أبو جهل يوم بدر فقال اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعلم فأحنه الغداة فأنزل الله تعالى إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ اَلْفَتْحُ الآية .
[ 133 ](1/3982)
قال الواقدي وروى عروة عن عائشة أن النبي ص جعل شعار المهاجرين يوم بدر يا بني عبد الرحمن وشعار الخزرج يا بني عبد الله وشعار الأوس يا بني عبد الله . قال وروى زيد بن علي بن الحسين ع أن شعار رسول الله ص يوم بدر يا منصور أمت . قال الواقدي ونهى رسول الله ص عن قتل أبي البختري وكان قد لبس السلاح بمكة يوما قبل الهجرة في بعض ما كان ينال النبي ص من الأذى وقال لا يعرض اليوم أحد لمحمد بأذى إلا وضعت فيه السلاح فشكر ذلك له النبي ص قال أبو داود المازني فلحقته يوم بدر فقلت له إن رسول الله ص قد نهى عن قتلك إن أعطيت بيدك قال وما تريد إلي إن كان قد نهى عن قتلي فقد كنت أبليته ذلك فأما أن أعطي بيدي فو اللات والعزى لقد علمت نسوة بمكة أني لا أعطي بيدي وقد عرفت أنك لا تدعني فافعل الذي تريد فرماه أبو داود بسهم وقال اللهم سهمك وأبو البختري عبدك فضعه في مقتله وأبو البختري دارع ففتق السهم الدرع فقتله . قال الواقدي ويقال إن المجذر بن ذياد قتل أبا البختري ولا يعرفه وقال المجذر في ذلك شعرا عرف منه أنه قاتله . وفي رواية محمد بن إسحاق أن رسول الله ص نهى يوم بدر عن قتل أبي البختري واسمه الوليد بن هشام بن الحارث بن أسد بن عبد العزى لأنه كان أكف
[ 134 ]
الناس عن رسول الله ص بمكة كان لا يؤذيه ولا يبلغه عنه شي ء يكرهه وكان فيمن قام في نقض الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم فلقيه المجذر بن ذياد البلوي حليف الأنصار فقال له إن رسول الله ص نهانا عن قتلك ومع أبي البختري زميل له خرج معه من مكة يقال له جنادة بن مليحة فقال البختري وزميلي قال المجذر والله ما نحن بتاركي زميلك ما نهانا رسول الله ص إلا عنك وحدك قال إذا والله لأموتن أنا وهو جميعا لا تتحدث عني نساء أهل مكة أني تركت زميلي حرصا على الحياة فنازله المجذر وارتجز أبو البختري فقال
لن يسلم ابن حرة زميله
حتى يموت أو يرى سبيله(1/3983)
ثم اقتتلا فقتله المجذر وجاء إلى رسول الله ص فأخبره وقال والذي بعثك بالحق لقد جهدت أن يستأسر فآتيك به فأبى إلا القتال فقاتلته فقتلته . قال الواقدي ونهى النبي ص عن قتل الحارث بن عامر بن نوفل وقال ائسروه ولا تقتلوه وكان كارها للخروج إلى بدر فلقيه خبيب بن يساف فقتله ولا يعرفه فبلغ النبي ص ذلك فقال لو وجدته قبل أن يقتل لتركته لنسائه ونهى عن قتل زمعة بن الأسود فقتله ثابت بن الجذع ولا يعرفه . قال الواقدي وارتجز عدي بن أبي الزغباء يوم بدر فقال
أنا عدي والسحل
أمشي بها مشي الفحل
يعني درعه فقال النبي ص من عدي فقال رجل من القوم أنا يا رسول الله قال وما ذا قال ابن فلان قال لست أنت عديا فقال عدي بن أبي
[ 135 ]
الزغباء أنا يا رسول الله عدي قال وما ذا قال والسحل أمشي بها مشي الفحل قال النبي ص وما السحل قال درعي فقال ص نعم العدي عدي بن أبي الزغباء . قال الواقدي وكان عقبة بن أبي معيط قال بمكة حين هاجر رسول الله ص إلى المدينة
يا راكب الناقة القصواء هاجرنا
عما قليل تراني راكب الفرس
أعل رمحي فيكم ثم أنهله
و السيف يأخذ منكم كل ملتبس(1/3984)
فبلغ قوله النبي ص فقال اللهم أكبه لمنخره واصرعه فجمح به فرسه يوم بدر بعد أن ولى الناس فأخذه عبد الله بن سلمة العجلاني أسيرا وأمر النبي ص عاصم بن أبي الأقلح فضرب عنقه صبرا . قال الواقدي وكان عبد الرحمن يحدث يقول إني لأجمع أدراعا يوم بدر بعد أن ولى الناس فإذا أمية بن خلف وكان لي صديقا في الجاهلية وكان اسمي عبد عمرو فلما جاء الإسلام تسميت عبد الرحمن فكان يلقاني بمكة فيقول يا عبد عمرو فلا أجيبه فيقول إني لا أقول لك عبد الرحمن إن مسيلمة باليمامة تسمى بالرحمن فأنا لا أدعوك إليه فكان يدعوني عبد الإله فلما كان يوم بدر رأيته وكأنه جمل يساق ومعه ابنه علي فناداني يا عبد عمرو فأبيت أن أجيبه فناداني يا عبد الإله فأجبته فقال أ ما لكم حاجة في اللبن نحن خير لك من أدرعك هذه فقلت امضيا فجعلت أسوقهما أمامي وقد رأى أمية أنه قد أمن بعض الأمن فقال لي أمية رأيت رجلا فيكم اليوم معلما في صدره بريشة نعامة من هو فقلت حمزة بن عبد المطلب
[ 136 ]
فقال ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل ثم قال فمن رجل دحداح قصير معلم بعصابة حمراء قلت ذاك رجل من الأنصار يقال له سماك بن خرشة قال وبذاك أيضا يا عبد الإله صرنا اليوم جزرا لكم قال فبينا هو معي أزجيه أمامي ومعه ابنه إذ بصر به بلال وهو يعجن عجينا له فترك العجين وجعل يفتل يديه منه فتلا ذريعا وهو ينادي يا معشر الأنصار أمية بن خلف رأس الكفر لا نجوت إن نجوت قال لأنه كان يعذبه بمكة فأقبلت الأنصار كأنهم عوذ حنت إلى أولادها حتى طرحوا أمية على ظهره واضطجعت عليه أحميه منهم فأقبل الخباب بن المنذر فأدخل سيفه فاقتطع أرنبة أنفه فلما فقد أمية أنفه قال لي إيها عنك أي خل بيني وبينهم قال عبد الرحمن فذكرت قول حسان
أو عن ذلك الأنف جادع(1/3985)
قال ويقبل إليه خبيب بن يساف فضربه حتى قتله وقد كان أمية ضرب خبيب بن يساف حتى قطع يده من المنكب فأعادها النبي ص فالتحمت واستوت فتزوج خبيب بن يساف بعد ذلك ابنة أمية بن خلف فرأت تلك الضربة فقالت لا يشل الله يد رجل فعل هذا فقال خبيب وأنا والله قد أوردته شعوب فكان خبيب يحدث يقول فأضربه فوق العاتق فأقطع عاتقه حتى بلغت مؤتزره وعليه الدرع وأنا أقول خذها وأنا ابن يساف وأخذت سلاحه ودرعه وأقبل علي بن أمية فتعرض له الخباب فقطع رجله فصاح صيحة ما سمع مثلها قط ولقيه عمار فضربه ضربة فقتله ويقال إن عمارا لاقاه قبل ضربة الخباب فاختلفا ضربات فقتله عمار والأولى أثبت أنه ضربه بعد أن قطعت رجله . قال الواقدي وقد سمعنا في قتل أمية غير ذلك حدثني عبيد بن يحيى عن معاذ بن
[ 137 ](1/3986)
رفاعة عن أبيه قال لما كان يوم بدر وأحدقنا بأمية بن خلف وكان له فيهم شأن ومعي رمحي ومعه رمحه فتطاعنا حتى سقطت أزجتها ثم صرنا إلى السيفين فتضاربنا بهما حتى انثلما ثم بصرت بفتق في درعه تحت إبطه فحششت السيف فيه حتى قتلته وخرج السيف عليه الودك قال الواقدي وقد سمعنا وجها آخر حدثني محمد بن قدامة بن موسى عن أبيه عن عائشة بنت قدامة قالت قال صفوان بن أمية بن خلف يوما يا قدام لقدامة بن مظعون أنت المشلي بأبي يوم بدر الناس فقال قدامة لا والله ما فعلت ولو فعلت ما اعتذرت من قتل مشرك قال صفوان فمن يا قدام المشلي به يوم بدر قال رأيت فتية من الأنصار أقبلوا إليه فيهم معمر بن خبيب بن عبيد الحارث يرفع سيفه ويضعه فيه فقال صفوان أبو قرد وكان معمر رجلا دميما فسمع بذلك الحارث بن حاطب فغضب له فدخل على أم صفوان فقال ما يدعنا صفوان من الأذى في الجاهلية والإسلام قالت وما ذاك فأخبرها بمقالة صفوان لمعمر حين قال أبو قرد فقالت أم صفوان يا صفوان أ تنتقص معمر بن خبيب من أهل بدر والله لا أقبل لك كرامة سنة قال صفوان يا أمة لا أعود والله أبدا تكلمت بكلمة لم ألق لها بالا . قال الواقدي وحدثني محمد بن قدامة عن أبيه عن عائشة بنت قدامة قالت قيل لأم صفوان بن أمية ونظرت إلى الخباب بن المنذر بمكة هذا الذي قطع رجل علي بن أمية يوم بدر قالت دعونا عن ذكر من قتل على الشرك قد أهان الله عليا بضربة الخباب بن المنذر وأكرم الله الخباب بضربته عليا ولقد كان على الإسلام حين خرج من هاهنا فقتل على غير ذلك .
[ 138 ](1/3987)
فأما محمد بن إسحاق فإنه قال قال عبد الرحمن بن عوف أخذت بيد أمية بن خلف ويد ابنه علي بن أمية أسيرين يوم بدر فبينا أنا أمشي بينهما رآنا بلال وكان أمية هو الذي يعذب بلالا بمكة يخرجه إلى رمضاء مكة إذا حميت فيضجعه على ظهره ثم يأمره بالصخرة العظيمة فتوضع بحرارتها على صدره ويقول له لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد فيقول بلال أحد أحد لا يزيده على ذلك فلما رآه صاح رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجوت قال عبد الرحمن فقلت أي بلال أسيري فقال لا نجوت إن نجا فقلت استمع يا ابن السوداء قال لا نجوت إن نجا ثم صرخ بأعلى صوته يا أنصار الله أمية بن خلف رأس الكفر لا نجوت إن نجا فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المسكة وأنا أذب عنه ويحذف عمار بن ياسر عليا ابنه بالسيف فأصاب رجله فوقع وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط فخليت عنه وقلت انج بنفسك ولا نجاء به فو الله ما أغني عنك شيئا قال فهبروهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما قال فكان عبد الرحمن بن عوف يقول رحم الله بلالا أذهب أدرعي وفجعني بأسيري . قال الواقدي وكان الزبير بن العوام يحدث فيقول لما كان يومئذ لقيت عبيدة بن سعد بن العاص على فرس عليه لأمة كاملة لا يرى منه إلا عيناه وهو يقول وكانت له صبية صغيرة يحملها وكان لها بطين وكانت مقسمة أنا أبو ذات الكرش أنا أبو ذات
[ 139 ](1/3988)
الكرش قال وفي يدي عنزة فأطعن بها في عينه ووقع وأطؤه برجلي على خده حتى أخرجت العنزة متعقفة وأخرجت حدقته وأخذ رسول الله ص تلك العنزة فكانت تحمل بين يديه ثم صارت تحمل بين يدي أبي بكر وعمر وعثمان . قال الواقدي وأقبل عاصم بن أبي عوف بن صبيرة السهمي لما جال الناس واختلطوا وكأنه ذئب وهو يقول يا معشر قريش عليكم بالقاطع مفرق الجماعة الآتي بما لا يعرف محمد لا نجوت إن نجا ويعترضه أبو دجانة فاختلفا ضربتين ويضربه أبو دجانة فقتله ووقف على سلبه يسلبه فمر به عمر بن الخطاب فقال دع سلبه حتى يجهض العدو وأنا أشهد لك به قال الواقدي ويقبل معبد بن وهب أحد بني عامر بن لؤي فضرب أبا دجانة ضربة برك منها أبو دجانة كما يبرك الجمل ثم انتهض وأقبل على معبد فضربه ضربات لم يصنع سيفه شيئا حتى يقع معبد بحفرة أمامه لا يراها ونزل أبو دجانة عليه فذبحه ذبحا وأخذ سلبه . قال الواقدي ولما كان يومئذ ورأت بنو مخزوم مقتل من قتل قالت أبو الحكم لا يخلص إليه فإن ابني ربيعة عجلا وبطرا ولم تحام عنهما عشيرتهما فاجتمعت بنو مخزوم فأحدقوا به فجعلوه في مثل الحرجة وأجمعوا أن يلبسوا لأمة أبي جهل رجلا منهم فألبسوها عبد الله بن المنذر بن أبي رفاعة فصمد له علي ع فقتله وهو يراه أبا جهل ومضى عنه وهو يقول أنا ابن عبد المطلب ثم ألبسوها أبا قيس بن
[ 140 ](1/3989)
الفاكه بن المغيرة فصمد له حمزة وهو يراه أبا جهل فضربه فقتله وهو يقول خذها وأنا ابن عبد المطلب ثم ألبسوها حرملة بن عمرو فصمد له علي ع فقتله ثم أرادوا أن يلبسوها خالد بن الأعلم فأبى أن يلبسها قال معاذ بن عمرو بن الجموح فنظرت يومئذ إلى أبي جهل في مثل الحرجة وهم يقولون أبو الحكم لا يخلص إليه فعرفت أنه هو فقلت والله لأموتن دونه اليوم أو لأخلصن إليه فصمدت له حتى إذا أمكنتني منه غرة حملت عليه فضربته ضربة طرحت رجله من الساق فشبهتها النواة تنزو من تحت المراضخ فأقبل ابنه عكرمة علي فضربني على عاتقي فطرح يدي من العاتق إلا أنه بقيت جلدة فذهبت أسحب يدي بتلك الجلدة خلفي فلما آذتني وضعت عليها رجلي ثم تمطيت عليها فقطعتها ثم لاقيت عكرمة وهو يلوذ كل ملاذ ولو كانت يدي معي لرجوت يومئذ أن أصيبه ومات معاذ في زمن عثمان . قال الواقدي فروي أن رسول الله ص نفل معاذ بن عمرو بن الجموح سيف أبي جهل وأنه عند آل معاذ بن عمرو اليوم وبه فل بعد أن أرسل النبي ص إلى عكرمة بن أبي جهل يسأله من قتل أباك قال الذي قطعت يده فدفع رسول الله ص سيفه إلى معاذ بن عمرو لأن عكرمة بن أبي جهل قطع يده يوم بدر . قال الواقدي وما كان بنو المغيرة يشكون أن سيف أبي الحكم صار إلى معاذ بن عمرو بن الجموح وأنه قاتله يوم بدر . قال الواقدي وقد سمعت في قتله وأخذ سلبه غير هذا حدثني عبد الحميد بن جعفر عن عمر بن الحكم بن ثوبان عن عبد الرحمن بن عوف قال عبأنا رسول الله ص بليل فأصبحنا ونحن على صفوفنا فإذا بغلامين ليس منهما واحد إلا قد
[ 141 ](1/3990)
ربطت حمائل سيفه في عنقه لصغره فالتفت إلي أحدهما فقال يا عم أيهم أبو جهل قال قلت وما تصنع به يا ابن أخي قال بلغني أنه يسب رسول الله ص فحلفت لئن رأيته لأقتلنه أو لأموتن دونه فأشرت إليه فالتفت إلي الآخر وقال لي مثل ذلك فأشرت له إليه وقلت له من أنتما قالا ابنا الحارث قال فجعلا لا يطرفان عن أبي جهل حتى إذا كان القتال خلصا إليه فقتلاه وقتلهما . قال الواقدي فحدثني محمد بن عوف عن إبراهيم بن يحيى بن زيد بن ثابت قال لما كان يومئذ قال عبد الرحمن ونظر إليهما عن يمينه وعن شماله ليته كان إلى جنبي من هو أبدن من هذين الصبيين فلم أنشب أن التفت إلى عوف فقال أيهم أبو جهل فقلت ذاك حيث ترى فخرج يعدو إليه كأنه سبع ولحقه أخوه فأنا أنظر إليهم يضطربون بالسيوف ثم نظرت إلى رسول الله ص يمر بهم في القتلى وهما إلى جانب أبي جهل . قال الواقدي وحدثني محمد بن رفاعة بن ثعلبة قال سمعت أبي ينكر ما يقول الناس في ابني عفراء من صغرهما ويقول كانا يوم بدر أصغرهما ابن خمس وثلاثين سنة فهذا يربط حمائل سيفه قال الواقدي والقول الأول أثبت . وروى محمد بن عمار بن ياسر عن ربيع بنت معوذ قالت دخلت في نسوة من الأنصار على أسماء أم أبي جهل في زمن عمر بن الخطاب وكان ابنها عبد الله بن أبي ربيعة يبعث إليها بعطر من اليمن فكانت تبيعه إلى الأعطية فكنا نشتري منها فلما جعلت لي في قواريري ووزنت لي كما وزنت لصواحبي قال اكتبن لي عليكن حقي قلت نعم اكتب لها على الربيع بنت معوذ فقالت أسماء خلفي وإنك
[ 142 ](1/3991)
لابنة قاتل سيده فقلت لا ولكن ابنة قاتل عبده فقالت والله لا أبيعك شيئا أبدا فقلت أنا والله لا أشتري منك أبدا فو الله ما هو بطيب ولا عرف والله يا بني ما شممت عطرا قط كان أطيب منه ولكني يا بني غضبت قال الواقدي فلما وضعت الحرب أوزارها أمر رسول الله ص أن يلتمس أبو جهل قال ابن مسعود فوجدته في آخر رمق فوضعت رجلي على عنقه فقلت الحمد لله الذي أخزاك قال إنما أخزى الله العبد ابن أم عبد لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبا لمن الدبرة قلت لله ولرسوله قال ابن مسعود فأقلع بيضته عن قفاه وقلت إني قاتلك قال لست بأول عبد قتل سيده أما إن أشد ما لقيته اليوم لقتلك إياي ألا يكون ولي قتلي رجل من الأحلاف أو من المطيبين قال فضربه عبد الله ضربة وقع رأسه بين يديه ثم سلبه وأقبل بسلاحه ودرعه وبيضته فوضعها بين يدي رسول الله ص فقال أبشر يا نبي الله بقتل عدو الله أبي جهل فقال رسول الله أ حقا يا عبد الله فو الذي نفسي بيده لهو أحب إلي من حمر النعم أو كما قال ثم قال إنه أصابه جحش من دفع دفعته في مأدبة ابن جدعان فجحشت ركبته فالتمسوه فوجدوا ذلك الأثر . قال الواقدي وروي أن أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي كان عند النبي ص تلك الساعة فوجد في نفسه وأقبل على ابن مسعود وقال أنت قتلته قال نعم الله قتله قال أبو سلمة أنت وليت قتله قال نعم قال لو شاء لجعلك في كمه فقال ابن مسعود فقد والله قتلته وجردته فقال أبو سلمة فما علامته قال شامة سوداء ببطن فخذه اليمنى فعرف أبو سلمة النعت فقال أ جردته ولم يجرد قرشي غيره فقال
[ 143 ](1/3992)
ابن مسعود إنه والله لم يكن في قريش ولا في حلفائها أحد أعدى لله ولا لرسوله منه وما أعتذر من شي ء صنعته به فأمسك أبو سلمة . قال الواقدي سمع أبو سلمة بعد ذلك يستغفر الله من كلامه في أبي جهل وقال اللهم إنك قد أنجزت ما وعدتني فتمم علي نعمتك قال وكان عبد الله بن عتبة بن مسعود يقول سيف أبي جهل عندنا محلى بفضة غنمه عبد الله بن مسعود يومئذ . قال الواقدي اجتمع قول أصحابنا أن معاذ بن عمرو وابني عفراء أثبتوه وضرب ابن مسعود عنقه في آخر رمق فكل شرك في قتله . قال الواقدي و
قد روي أن رسول الله ص وقف على مصرع ابني عفراء فقال يرحم الله ابني عفراء فإنهما قد شركا في قتل فرعون هذه الأمة ورأس أئمة الكفر فقيل يا رسول الله ومن قتله معهما قال الملائكة وذفف عليه ابن مسعود فكان قد شرك في قتله .
قال الواقدي وحدثني معمر عن الزهري قال قال رسول الله ص يوم بدر اللهم اكفني نوفل بن العدوية وهو نوفل بن خويلد من بني أسد بن عبد العزى وأقبل نوفل يومئذ يصيح وهو مرعوب قد رأى قتل أصحابه وكان في أول ما التقوا هم والمسلمون يصيح بصوت له زجل رافعا عقيرته يا معشر قريش إن هذا اليوم يوم العلاء والرفعة فلما رأى قريشا قد انكشفت جعل يصيح بالأنصار ما حاجتكم إلى دمائنا أ ما ترون من تقتلون أ ما لكم في اللبن من حاجة فأسره جبار بن صخر فهو يسوقه أمامه فجعل نوفل يقول لجبار ورأى عليا ع مقبلا نحوه يا أخا الأنصار من هذا واللات والعزى إني لأرى رجلا إنه ليريدني قال
[ 144 ](1/3993)
جبار هذا علي بن أبي طالب قال نوفل تالله ما رأيت كاليوم رجلا أسرع في قومه فصمد له علي ع فيضربه فينشب سيف علي في حجفته ساعة ثم ينزعه فيضرب به ساقيه ودرعه مشتمرة فيقطعها ثم أجهز عليه فقتله فقال رسول الله ص من له علم بنوفل بن خويلد قال علي ع أنا قتلته فكبر رسول الله ص وقال الحمد لله الذي أجاب دعوتي فيه . قال الواقدي وأقبل العاص بن سعيد بن العاص يبحث للقتال فالتقى هو وعلي ع وقتله علي فكان عمر بن الخطاب يقول لابنه سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص ما لي أراك معرضا تظن أني قتلت أباك فقال سعيد لو قتلته لكان على الباطل وكنت على الحق قال فقال عمر إن قريشا أعظم الناس أحلاما وأكثرها أمانة لا يبغيهم أحد الغوائل إلا كبه الله لفيه . قال الواقدي وروي أن عمر قال لسعيد بن العاص ما لي أراك معرضا كأني قتلت أباك يوم بدر وإن كنت لا أعتذر من قتل مشرك لقد قتلت خالي بيدي العاص بن هاشم بن المغيرة . ونقلت من غير كتاب الواقدي أن عثمان بن عفان وسعيد بن العاص حضرا عند عمر في أيام خلافته فجلس سعيد بن العاص حجرة فنظر إليه عمر فقال ما لي أراك معرضا كأني قتلت أباك إني لم أقتله ولكنه قتله أبو حسن وكان علي ع حاضرا فقال اللهم غفرا ذهب الشرك بما فيه ومحا الإسلام ما قبله فلما ذا تهاج
[ 145 ]
القلوب فسكت عمر وقال سعيد لقد قتله كف ء كريم وهو أحب إلي من أن يقتله من ليس من بني عبد مناف .(1/3994)
قال الواقدي وكان علي ع يحدث فيقول إني يومئذ بعد ما متع النهار ونحن والمشركون قد اختلطت صفوفنا وصفوفهم خرجت في إثر رجل منهم فإذا رجل من المشركين على كثيب رمل وسعد بن خيثمة وهما يقتتلان حتى قتل المشرك سعد بن خيثمة والمشرك مقنع في الحديد وكان فارسا فاقتحم عن فرسه فعرفني وهو معلم فناداني هلم يا ابن أبي طالب إلى البراز فعطفت إلى البراز فعطفت عليه فانحط إلي مقبلا وكنت رجلا قصيرا فانحططت راجعا لكي ينزل إلي كرهت أن يعلوني فقال يا ابن أبي طالب فررت فقلت قريبا مفر ابن الشتراء فلما استقرت قدماي وثبت أقبل فاتقيت فلما دنا مني ضربني بالدرقة فوقع سيفه فلحج فأضربه على عاتقه وهو دارع فارتعش ولقد قط سيفي درعه فظننت أن سيفي سيقتله فإذا بريق سيف من ورائي فطأطأت رأسي ويقع السيف فأطن قحف رأسه بالبيضة وهو يقول خذها وأنا ابن عبد المطلب فالتفت من ورائي فإذا هو حمزة عمي والمقتول طعيمة بن عدي . قلت في رواية محمد بن إسحاق بن يسار أن طعيمة بن عدي قتله علي بن أبي طالب ع ثم قال وقيل قتله حمزة . وفي رواية الشيعة قتله علي بن أبي طالب شجره بالرمح فقال له والله لا تخاصمنا في الله بعد اليوم أبدا وهكذا روى محمد بن إسحاق .
[ 146 ]
و(1/3995)
روى محمد بن إسحاق قال وخرج النبي ص من العريش إلى الناس ينظر القتال فحرض المسلمين وقال كل امرئ بما أصاب وقال والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل في جملة فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة فقال عمير بن الحمام أخو بني سلمة وفي يده تمرات يأكلهن بخ بخ فما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل قال محمد بن إسحاق وحدثني عاصم بن عمرو بن قتادة أن عوف بن الحارث وهو ابن عفراء قال لرسول الله ص يوم بدر يا رسول الله ص ما يضحك الرب من عبده قال غمسه يده في العدو حاسرا فنزع عوف درعا كانت عليه وقذفها ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل .
قال الواقدي وابن إسحاق وأخذ رسول الله ص كفا من البطحاء فرماهم بها وقال شاهت الوجوه اللهم أرعب قلوبهم وزلزل أقدامهم فانهزم المشركون لا يلوون على شي ء والمسلمون يتبعونهم يقتلون ويأسرون . قال الواقدي وكان هبيرة بن أبي وهب المخزومي لما رأى الهزيمة انخزل ظهره فعقر فلم يستطع أن يقوم فأتاه أبو أسامة الجشمي حليفه ففتق درعه واحتمله ويقال ضربه أبو داود المازني بالسيف فقطع درعه ووقع لوجهه وأخلد إلى الأرض وجاوزه أبو داود وبصر به ابنا زهير الجشميان مالك وأبو أسامة وهما حليفاه فذبا عنه حتى نجوا به واحتمله أبو أسامة ومالك يذب عنه حتى خلصاه فقال رسول الله ص حماه كلباه الحليفان .
[ 147 ](1/3996)
قال الواقدي وحدثني عمر بن عثمان عن عكاشة بن محصن قال انقطع سيفي يوم بدر فأعطاني رسول الله ص عودا فإذا هو سيف أبيض طويل فقاتلت به حتى هزم الله المشركين ولم يزل ذلك السيف عند عكاشة حتى هلك . قال وقد روى رجال من بني عبد الأشهل عدة قالوا انكسر سيف سلمة بن أسلم بن حريش يوم بدر فبقي أعزل لا سلاح معه فأعطاه رسول الله ص قضيبا كان في يده من عراجين ابن طاب فقال اضرب به فإذا هو سيف جيد فلم يزل عنده حتى قتل يوم جسر أبي عبيد . قال الواقدي وأصاب حارثة بن سراقة وهو يكرع في الحوض سهم غرب من المشركين فوقع في نحره فمات فلقد شرب القوم آخر النهار من دمه وبلغ أمه وأخته وهما بالمدينة مقتله فقالت أمه والله لا أبكي عليه حتى يقدم رسول الله ص فأسأله فإن كان في الجنة لم أبك عليه وإن كان في النار بكيته لعمر الله فأعولته فلما قدم رسول الله ص من بدر جاءت أمه إليه فقالت يا رسول الله قد عرفت موضع حارثة في قلبي فأردت أن أبكي عليه ثم قلت لا أفعل حتى أسأل رسول الله ص عنه فإن كان في الجنة لم أبكه وإن كان في النار بكيته فأعولته فقال النبي ص هبلت أ جنة واحدة إنها جنان كثيرة والذي نفسي بيده إنه لفي الفردوس الأعلى قالت فلا أبكي عليه أبدا . قال الواقدي ودعا رسول الله ص حينئذ بماء في إناء فغمس يده فيه ومضمض فاه ثم ناول أم حارثة بن سراقة فشربت ثم ناولت ابنتها فشربت
[ 148 ](1/3997)
ثم أمرهما فنضحتا في جيوبهما ثم رجعتا من عند النبي ص وما بالمدينة امرأتان أقر عينا منهما ولا أسر . قال الواقدي وكان حكيم بن حزام يقول انهزمنا يوم بدر فجعلت أسعى وأقول قاتل الله ابن الحنظلية يزعم أن النهار قد ذهب والله إن النهار لكما هو قال حكيم وما ذا بي إلا حبا أن يأتي الليل فيقصر عنا طلب القوم فيدرك حكيم عبيد الله وعبد الرحمن بني العوام على جمل لهما فقال عبد الرحمن لأخيه انزل فاحمل أبا خالد وكان عبيد الله رجلا أعرج لا رجلة به فقال عبيد الله إنه لا رجلة بي كما ترى وقال عبد الرحمن والله أن منه لا بد ألا نحمل رجلا إن متنا كفانا ما خلفنا من عيالنا وإن عشنا حملنا كلنا فنزل عبد الرحمن وأخوه الأعرج فحملاه فكانوا يتعاقبون الجمل فلما دنا من مكة وكان بمر الظهران قال والله لقد رأيت هاهنا أمرا ما كان يخرج على مثله أحد له رأي ولكنه شؤم ابن الحنظلية إن جزورا نحرت هاهنا فلم يبق خباء إلا أصابه من دمها فقالا قد رأينا ذلك ولكن رأيناك وقومك قد مضيتم فمضينا معكم ولم يكن لنا معكم أمر . قال الواقدي فحدثني عبد الرحمن بن الحارث عن مخلد بن خفاف عن أبيه قال كانت الدروع في قريش كثيرة يومئذ فلما انهزموا جعلوا يلقونها وجعل المسلمون يتبعونهم ويلقطون ما طرحوا ولقد رأيتني يومئذ التقطت ثلاث أدرع جئت بها أهلي فكانت عندنا بعد فزعم لي رجل من قريش ورأى درعا منها عندنا فعرفها قال هذه درع الحارث بن هشام . قال الواقدي وحدثني محمد بن حميد عن عبد الله بن عمرو بن أمية قال أخبرني من انكشف من قريش يومئذ منهزما وإنه ليقول في نفسه ما رأيت مثل هذا فر منه إلا النساء .
[ 149 ](1/3998)
قال الواقدي كان قباث بن أشيم الكناني يقول شهدت مع المشركين بدرا وإني لأنظر إلى قلة أصحاب محمد في عيني وكثرة من معنا من الخيل والرجل فانهزمت فيمن انهزم فلقد رأيتني وإني لأنظر إلى المشركين في كل وجه وإني لأقول في نفسي ما رأيت مثل هذا الأمر فر منه إلا النساء وصاحبني رجل فبينا هو يسير معي إذ لحقنا من خلفنا فقلت لصاحبي أ بك نهوض قال لا والله ما بي قال وعقر وترفعت فلقد صبحت غيقة قال وغيقة عن يسار السقيا بينها وبين الفرع ليلة وبين الفرع والمدينة ثمانية برد قبل الشمس كنت هاديا بالطريق ولم أسلك المحاج وخفت من الطلب فتنكبت عنها فلقيني رجل من قومي بغيقة فقال ما وراءك قلت لا شي ء قتلنا وأسرنا وانهزمنا فهل عندك من حملان قال فحملني على بعير وزودني زادا حتى لقيت الطريق بالجحفة ثم مضيت حتى دخلت مكة وإني لأنظر إلى الحيسمان بن حابس الخزاعي بالغميم فعرفت أنه تقدم ينعى قريشا بمكة فلو أردت أن أسبقه لسبقته فتنكبت عنه حتى سبقني ببعض النهار فقدمت وقد انتهى إلى مكة خبر قتلاهم وهم يلعنون الخزاعي ويقولون ما جاءنا بخير فمكثت بمكة فلما كان بعد الخندق قلت لو قدمت المدينة فنظرت ما يقول محمد وقد وقع في قلبي الإسلام فقدمت المدينة فسألت عن رسول الله ص فقالوا هو ذاك في ظل المسجد مع ملأ من أصحابه فأتيته وأنا لا أعرفه من بينهم فسلمت فقال يا قباث بن أشيم أنت القائل يوم بدر ما رأيت مثل هذا الأمر فر منه إلا النساء قلت أشهد أنك رسول الله وأن هذا الأمر ما خرج مني إلى أحد قط وما ترمرمت به إلا شيئا حدثت به نفسي فلو لا أنك نبي ما أطلعك الله عليه هلم حتى أبايعك فأسلمت
[ 150 ](1/3999)
قال الواقدي وقد روي أنه لما توجه المشركون إلى بدر كان فتيان ممن تخلف عنهم بمكة سمارا يسمرون بذي طوى في القمر حتى يذهب الليل يتناشدون الأشعار ويتحدثون فبينا هم كذلك إذ سمعوا صوتا قريبا منهم ولا يرون القائل رافعا صوته يتغنى
أزاد الحنيفيون بدرا مصيبة
سينقض منها ركن كسرى وقيصرا
أرنت لها صم الجبال وأفزعت
قبائل ما بين الوتير فخيبرا
أجازت جبال الأخشبين وجردت
حرائر يضربن الترائب حسرا
قال الواقدي أنشدنيه ورواه لي عبد الله بن أبي عبيدة عن محمد بن عمار بن ياسر قال فاستمعوا الصوت فلا يرون أحدا فخرجوا في طلبه فلم يروا أحدا فخرجوا فزعين حتى جازوا الحجر فوجدوا مشيخة منهم جلة سمارا فأخبروهم الخبر فقالوا لهم إن كان ما تقولون فإن محمدا وأصحابه يسمون الحنيفية قال فلم يبق أحد من الفتيان الذين كانوا بذي طوى إلا وعك فما مكثوا إلا ليلتين أو ثلاثا حتى قدم الحيسمان الخزاعي بخبر أهل بدر ومن قتل منهم فجعل يخبرهم فيقول قتل عتبة وشيبة ابنا ربيعة وقتل ابنا الحجاج وأبو البختري وزمعة بن الأسود قال وصفوان بن أمية في الحجر جالس يقول لا يعقل هذا شيئا مما يتكلم به سلوه عني فقالوا صفوان بن أمية لك به علم قال نعم هو ذاك في الحجر ولقد رأيت أباه وأخاه مقتولين ورأيت سهيل بن عمرو والنضر بن الحارث أسيرين رأيتهما مقرونين في الحبال .
[ 151 ](1/4000)
قال الواقدي وبلغ النجاشي مقتل قريش وما ظفر الله به رسوله فخرج في ثوبين أبيضين ثم جلس على الأرض ودعا جعفر بن أبي طالب وأصحابه فقال أيكم يعرف بدرا فأخبروه فقال أنا عارف بها قد رعيت الغنم في جوانبها هي من الساحل على بعض نهار ولكني أردت أن أتثبت منكم قد نصر الله رسوله ببدر فاحمدوا الله على ذلك فقال بطارقته أصلح الله الملك إن هذا شي ء لم تكن تصنعه يريدون لبس البياض والجلوس على الأرض فقال إن عيسى ابن مريم كان إذا حدثت له نعمة ازداد بها تواضعا . قال الواقدي فلما رجعت قريش إلى مكة قام فيهم أبو سفيان بن حرب فقال يا معشر قريش لا تبكوا على قتلاكم ولا تنح عليهم نائحة ولا يندبهم شاعر وأظهروا الجلد والعزاء فإنكم إذا نحتم عليهم وبكيتموهم بالشعر أذهب ذلك غيظكم فأكلكم ذلك عن عداوة محمد وأصحابه مع أن محمدا إن بلغه وأصحابه ذلك شمتوا بكم فتكون أعظم المصيبتين ولعلكم تدركون ثأركم فالدهن والنساء علي حرام حتى أغزو محمدا فمكثت قريش شهرا لا يبكيهم شاعر ولا تنوح عليهم نائحة . قال الواقدي وكان الأسود بن المطلب قد ذهب بصره وقد كمد على من قتل من ولده وكان يحب أن يبكي عليهم فتأبى عليه قريش ذلك فكان يقول لغلامه بين اليومين ويلك احمل معي خمرا واسلك بي الفج الذي سلكه أبو حكيمة يعني زمعة ولده المقتول ببدر فيأتي به غلامه على الطريق عند ذلك الفج فيجلس فيسقيه الخمر
[ 152 ](1/4001)
حتى ينتشي ثم يبكي على أبي حكيمة وإخوته ثم يحثي التراب على رأسه ويقول لغلامه ويحك اكتم علي فإني أكره أن تعلم بي قريش إني أراها لم تجمع البكاء على قتلاها . قال الواقدي حدثني مصعب بن ثابت عن عيسى بن معمر عن عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة قالت قالت قريش حين رجعوا إلى مكة لا تبكوا على قتلاكم فيبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بكم ولا تبعثوا في أسراكم فيأرب بكم القوم ألا فأمسكوا عن البكاء . قال وكان الأسود بن المطلب أصيب له ثلاثة من ولده زمعة وعقيل والحارث بن زمعة فكان يحب أن يبكي على قتلاه فبينا هو كذلك إذ سمع نائحة من الليل فقال لغلامه وقد ذهب بصره انظر هل بكت قريش على قتلاها لعلي أبكي على أبي حكيمة يعني زمعة فإن جوفي قد احترق فذهب الغلام ورجع إليه فقال إنما هي امرأة تبكي على بعيرها قد أضلته فقال الأسود
تبكي أن يضل لها بعير
و يمنعها من النوم السهود
فلا تبكي على بكر ولكن
على بكر تصاغرت الخدود
فبكى إن بكيت على عقيل
و بكى حارثا أسد الأسود
و بكيهم ولا تسمي جميعا
فما لأبي حكيمة من نديد
[ 153 ]
على بدر سراة بني هصيص
و مخزوم ورهط أبي الوليد
ألا قد ساد بعدهم رجال
و لو لا يوم بدر لم يسودوا(1/4002)
قال الواقدي ومشت نساء من قريش إلى هند بنت عتبة فقلن أ لا تبكين على أبيك وأخيك وعمك وأهل بيتك فقالت حلأني أن أبكيهم فيبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بنا ونساء بني الخزرج لا والله حتى أثأر محمدا وأصحابه والدهن علي حرام إن دخل رأسي حتى نغزو محمدا والله لو أعلم أن الحزن يذهب عن قلبي لبكيت ولكن لا يذهبه إلا أن أرى ثأري بعيني من قتلة الأحبة فمكثت على حالها لا تقرب الدهن ولا قربت فراش أبي سفيان من يوم حلفت حتى كانت وقعة أحد . قال الواقدي وبلغ نوفل بن معاوية الديلي وهو في أهله وقد كان شهد معهم بدرا أن قريشا بكت على قتلاها فقدم مكة فقال يا معشر قريش لقد خفت أحلامكم وسفه رأيكم وأطعتم نساءكم أ مثل قتلاكم يبكى عليهم هم أجل من البكاء مع أن ذلك يذهب غيظكم عن عداوة محمد وأصحابه فلا ينبغي أن يذهب الغيظ عنكم إلا أن تدركوا ثأركم من عدوكم فسمع أبو سفيان بن حرب كلامه فقال يا أبا معاوية غلبت والله ما ناحت امرأة من بني عبد شمس على قتيل لها إلى اليوم ولا بكاهم شاعر إلا نهيته حتى ندرك ثأرنا من محمد وأصحابه وإني لأنا الموتور الثائر قتل ابني حنظلة وسادة أهل هذا الوادي أصبح هذا الوادي مقشعرا لفقدهم . قال الواقدي وحدثني معاذ بن محمد الأنصاري عن عاصم بن عمر بن قتادة قال لما رجع المشركون إلى مكة وقد قتل صناديدهم وأشرافهم أقبل عمير بن وهب بن عمير الجمحي حتى جلس إلى صفوان بن أمية في الحجر فقال صفوان بن أمية قبح العيش
[ 154 ](1/4003)
بعد قتلى بدر قال عمير بن وهب أجل والله ما في العيش بعدهم خير ولو لا دين علي لا أجد له قضاء وعيال لا أدع لهم شيئا لرحلت إلى محمد حتى أقتله إن ملأت عيني منه فإنه بلغني أنه يطوف في الأسواق فإن لي عندهم علة أقول قدمت على ابني هذا الأسير ففرح صفوان بقوله وقال يا أبا أمية وهل نراك فاعلا قال إي ورب هذه البنية قال صفوان فعلي دينك وعيالك أسوة عيالي فأنت تعلم أنه ليس بمكة رجل أشد توسعا على عياله مني قال عمير قد عرفت ذلك يا أبا وهب قال صفوان فإن عيالك مع عيالي لا يسعني شي ء ونعجز عنهم ودينك علي فحمله صفوان على بعيره وجهزه وأجرى على عياله مثل ما يجري على عيال نفسه وأمر عمير بسيفه فشحذ وسم ثم خرج إلى المدينة وقال لصفوان اكتم علي أياما حتى أقدمها وخرج فلم يذكره صفوان وقدم عمير فنزل على باب المسجد وعقل راحلته وأخذ السيف فتقلده ثم عمد نحو رسول الله ص وعمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون ويذكرون نعمة الله عليهم في بدر فرأى عميرا وعليه السيف ففزع عمر منه وقال لأصحابه دونكم الكلب هذا عمير بن وهب عدو الله الذي حرش بيننا يوم بدر وحزرنا للقوم وصعد فينا وصوب يخبر قريشا أنه لا عدد لنا ولا كمين فقاموا إليه فأخذوه فانطلق عمر إلى رسول الله ص فقال يا رسول الله هذا عمير بن وهب قد دخل المسجد ومعه السلاح وهو الغادر الخبيث الذي لا يؤمن على شي ء فقال النبي ص أدخله علي فخرج عمر فأخذ بحمائل سيفه فقبض بيده عليها وأخذ بيده الأخرى قائم السيف ثم أدخله على رسول الله ص فلما رآه قال يا عمر تأخر عنه فلما دنا عمير إلى النبي ص قال أنعم صباحا فقال له النبي ص قد أكرمنا الله عن تحيتك وجعل تحيتنا السلام وهي تحية أهل الجنة قال عمير إن عهدك بها لحديث فقال النبي ص قد أبدلنا
[ 155 ](1/4004)
الله خيرا فما أقدمك يا عمير قال قدمت في أسيري عندكم تفادونه وتقاربوننا فيه فإنكم العشيرة والأصل قال النبي ص فما بال السيف قال عمير قبحها الله من سيوف وهل أغنت من شي ء إنما نسيته حين نزلت وهو في رقبتي ولعمري إن لي لهما غيره فقال رسول الله ص اصدق يا عمير ما الذي أقدمك قال ما قدمت إلا في أسيري قال ص فما شرطت لصفوان بن أمية في الحجر ففزع عمير وقال ما ذا شرطت له قال تحملت بقتلي على أن يقضي دينك ويعول عيالك والله حائل بينك وبين ذلك قال عمير أشهد أنك صادق وأشهد أن لا إله إلا الله كنا يا رسول الله نكذبك بالوحي وبما يأتيك من السماء وإن هذا الحديث كان بيني وبين صفوان كما قلت لم يطلع عليه غيره وغيري وقد أمرته أن يكتمه ليالي فأطلعك الله عليه فآمنت بالله ورسوله وشهدت أن ما جئت به حق الحمد لله الذي ساقني هذا المساق وفرح المسلمون حين هداه الله وقال عمر بن الخطاب لخنزير كان أحب إلي منه حين طلع وهو الساعة أحب إلي من بعض ولدي وقال النبي ص علموا أخاكم القرآن وأطلقوا له أسيره فقال عمير يا رسول الله إني كنت جاهدا على إطفاء نور الله فله الحمد أن هداني فأذن لي فألحق قريشا فأدعوهم إلى الله وإلى الإسلام فلعل الله يهديهم ويستنقذهم من الهلكة فأذن له فخرج فلحق بمكة وكان صفوان يسأل عن عمير بن وهب كل راكب يقدم من المدينة يقول هل حدث بالمدينة من حدث ويقول لقريش أبشروا بوقعة تنسيكم وقعة بدر فقدم رجل من المدينة فسأله صفوان عن عمير فقال أسلم فلعنه صفوان ولعنه المشركون بمكة وقالوا صبأ عمير وحلف صفوان ألا يكلمه أبدا ولا ينفعه وطرح عياله وقدم عمير فنزل في أهله ولم يأت صفوان وأظهر الإسلام فبلغ صفوان فقال قد عرفت حين لم يبدأ بي قبل منزله وقد كان رجل
[ 156 ](1/4005)
أخبرني أنه ارتكس لا أكلمه من رأسي أبدا ولا أنفعه ولا عياله بنافعة أبدا فوقع عليه عمير وهو في الحجر فقال يا أبا وهب فأعرض صفوان عنه فقال عمير أنت سيد من ساداتنا أ رأيت الذي كنا عليه من عبادة حجر والذبح له أ هذا دين أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فلم يجبه صفوان بكلمة وأسلم مع عمير بشر كثير . قال الواقدي وكان فتية من قريش خمسة قد أسلموا فاحتبسهم آباؤهم فخرجوا مع أهلهم وقومهم إلى بدر وهم على الشك والارتياب لم يخلصوا إسلامهم وهم قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة والحارث بن زمعة بن الأسود وعلي بن أمية بن خلف والعاص بن منبه بن الحجاج فلما قدموا بدرا ورأوا قلة أصحاب النبي ص قالوا غر هؤلاء دينهم ففيهم أنزل إِذْ يَقُولُ اَلْمُنافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ ثم أنزل فيهم إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ اَلْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي اَلْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اَللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها إلى تمام ثلاث آيات . قال فكتب بها المهاجرون بالمدينة إلى من أقام بمكة مسلما فقال جندب بن ضمرة الخزاعي لا عذر لي ولا حجة في مقامي بمكة وكان مريضا فقال لأهله أخرجوني لعلي أجد روحا قالوا أي وجه أحب إليك قال نعم التنعيم فخرجوا به إلى التنعيم وبين التنعيم ومكة أربعة أميال من طريق المدينة فقال اللهم إني خرجت إليك مهاجرا فأنزل الله تعالى وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ الآية فلما رأى ذلك من كان بمكة ممن يطيق الخروج خرجوا فطلبهم أبو سفيان في رجال من المشركين
[ 157 ](1/4006)
فردوهم وسجنوهم فافتتن منهم ناس وكان الذين افتتنوا إنما افتتنوا حين أصابهم البلاء فأنزل الله تعالى فيهم وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اَللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ اَلنَّاسِ كَعَذابِ اَللَّهِ الآية وما بعدها فكتب بها المهاجرون بالمدينة إلى من كان بمكة مسلما فلما جاءهم الكتاب بما أنزل فيهم قالوا اللهم إن لك علينا إن أفلتنا ألا نعدل بك أحدا فخرجوا الثانية فطلبهم أبو سفيان والمشركون فأعجزوهم هربا في الجبال حتى قدموا المدينة واشتد البلاء على من ردوا من المسلمين فضربوهم وآذوهم وأكرهوهم على ترك الإسلام ورجع ابن أبي سرح مشركا فقال لقريش ما كان يعلم محمدا إلا ابن قمطة عبد نصراني لقد كنت أكتب له فأحول ما أردت فأنزل الله تعالى وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ الآية(1/4007)
القول في نزول الملائكة يوم بدر ومحاربتها المشركين
اختلف المسلمون في ذلك فقال الجمهور منهم نزلت الملائكة حقيقة كما ينزل الحيوان والحجر من الموضع العالي إلى الموضع السافل . وقال قوم من أصحاب المعاني غير ذلك . واختلف أرباب القول الأول فقال الأكثرون نزلت وحاربت وقال قوم منهم نزلت ولم تحارب وروى كل قوم في نصرة قولهم روايات . فقال الواقدي في كتاب المغازي حدثني عمر بن عقبة عن شعبة مولى ابن عباس قال سمعت ابن عباس يقول لما تواقف الناس أغمي على رسول الله
[ 158 ](1/4008)
ص ساعة ثم كشف عنه فبشر المؤمنين بجبرائيل في جند من الملائكة في ميمنة الناس وميكائيل في جند آخر في ميسرة الناس وإسرافيل في جند آخر في ألف وكان إبليس قد تصور للمشركين في صورة سراقة بن جعشم المدلجي يذمر المشركين ويخبرهم أنه لا غالب لهم من الناس فلما أبصر عدو الله الملائكة نكص على عقبيه وقال إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ فتشبث به الحارث بن هشام وهو يرى أنه سراقة لما سمع من كلامه فضرب في صدر الحارث فسقط الحارث وانطلق إبليس لا يرى حتى وقع في البحر ورفع يديه قائلا يا رب موعدك الذي وعدتني وأقبل أبو جهل على أصحابه يحضهم على القتال وقال لا يغرنكم خذلان سراقة بن جعشم إياكم فإنما كان على ميعاد من محمد وأصحابه سيعلم إذا رجعنا إلى قديد ما نصنع بقومه ولا يهولنكم مقتل عتبة وشيبة والوليد فإنهم عجلوا وبطروا حين قاتلوا وايم الله لا نرجع اليوم حتى نقرن محمدا وأصحابه في الجبال فلا ألفين أحدا منكم قتل منهم أحدا ولكن خذوهم أخذا نعرفهم بالذي صنعوا لمفارقتهم دينكم ورغبتهم عما كان يعبد آباؤهم . قال الواقدي وحدثني عتبة بن يحيى عن معاذ بن رفاعة بن رافع عن أبيه قال إن كنا لنسمع لإبليس يومئذ خوارا ودعاء بالثبور والويل وتصور في صورة سراقة بن جعشم حتى هرب فاقتحم البحر ورفع يديه مادا لهما يقول يا رب ما وعدتني ولقد كانت قريش بعد ذلك تعير سراقة بما صنع يومئذ فيقول والله ما صنعت شيئا . قال الواقدي فحدثني أبو إسحاق الأسلمي عن الحسن بن عبيد الله مولى بني العباس عن عمارة الليثي قال حدثني شيخ صياد من الحي وكان يومئذ على ساحل البحر قال سمعت صياحا يا ويلاه يا ويلاه قد ملأ الوادي يا حرباه يا حرباه فنظرت فإذا سراقة بن جعشم فدنوت منه فقلت ما لك فداك أبي وأمي فلم يرجع إلي شيئا ثم أراه اقتحم البحر ورفع يديه مادا يقول يا رب ما وعدتني فقلت
[ 159 ](1/4009)
في نفسي جن وبيت الله سراقة وذلك حين زاغت الشمس وذلك عند انهزامهم يوم بدر . قال الواقدي قالوا كانت سيماء الملائكة عمائم قد أرخوها بين أكتافهم خضراء وصفراء وحمراء من نور والصوف في نواصي خيلهم . قال الواقدي حدثني محمد بن صالح عن عاصم بن عمر عن محمود بن لبيد قال قال رسول الله ص يوم بدر إن الملائكة قد سومت فسوموا فأعلم المسلمون بالصوف في مغافرهم وقلانسهم قال الواقدي حدثني محمد بن صالح قال كان أربعة من أصحاب محمد ص يعلمون في الزحوف حمزة بن عبد المطلب كان يوم بدر معلما بريشة نعامة وكان علي ع معلما بصوفة بيضاء وكان الزبير معلما بعصابة صفراء وكان أبو دجانة يعلم بعصابة حمراء وكان الزبير يحدث أن الملائكة نزلت يوم بدر على خيل بلق عليها عمائم صفر فكانت على صورة الزبير . قال الواقدي فروي عن سهيل بن عمرو قال لقد رأيت يوم بدر رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض معلمين يقبلون ويأسرون . قال الواقدي وكان أبو أسد الساعدي يحدث بعد أن ذهب بصره ويقول لو كنت معكم الآن ببدر ومعي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة لا أشك فيه ولا أمتري قال وكان أسيد يحدث عن رجل من بني غفار حدثه قال أقبلت أنا وابن عم لي يوم بدر حتى صعدنا على جبل ونحن يومئذ على الشرك ننظر الوقعة وعلى من تكون الدبرة فننتهب مع من ينتهب إذ رأيت سحابة دنت منا فسمعت منها
[ 160 ]
همهمة الخيل وقعقعة الحديد وسمعت قائلا يقول أقدم حيزوم فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه فمات وأما أنا فكدت أهلك فتماسكت وأتبعت بصري حيث تذهب السحابة فجاءت إلى النبي ص وأصحابه ثم رجعت وليس فيها شي ء مما كنت أسمع .(1/4010)
قال الواقدي وحدثني خارجة بن إبراهيم بن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس عن أبيه قال سأل رسول الله ص جبرائيل من القائل يوم بدر أقبل حيزوم فقال جبرائيل يا محمد ما كل أهل السماء أعرف قال الواقدي وحدثني عبد الرحمن بن الحارث عن أبيه عن جده عبيدة بن أبي عبيدة عن أبي رهم الغفاري عن ابن عم له قال بينا أنا وابن عم لي على ماء بدر فلما رأينا قلة من مع محمد وكثرة قريش قلنا إذا التقت الفئتان عمدنا إلى عسكر محمد وأصحابه فانتهبناه فانطلقنا نحو المجنبة اليسرى من أصحاب محمد ونحن نقول هؤلاء ربع قريش فبينا نحن نمشي في الميسرة إذ جاءت سحابة فغشيتنا فرفعنا أبصارنا لها فسمعنا أصوات الرجال والسلاح وسمعنا قائلا يقول لفرسه أقدم حيزوم وسمعناهم يقولون رويدا تتاءم أخراكم فنزلوا على ميمنة رسول الله ص ثم جاءت أخرى مثل تلك فكانت مع النبي ص فنظرنا إلى أصحاب محمد وإذا هم على الضعف من قريش فمات ابن عمي وأما أنا فتماسكت وأخبرت النبي ص بذلك وأسلمت .
قال الواقدي وقد روي عن رسول الله ص أنه قال ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغضب منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من نزول الرحمة وتجاوز الله تعالى عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر قيل وما رأى
[ 161 ]
يا رسول الله يوم بدر قال أما إنه رأى جبريل يوزع الملائكة قال و(1/4011)
قد روي عن رسول الله ص أنه قال يومئذ هذا جبرائيل يسوق بريح كأنه دحية الكلبي إني نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور . قال الواقدي وكان عبد الرحمن بن عوف يقول رأيت يوم بدر رجلين أحدهما عن يمين النبي ص والآخر عن يساره يقاتلان أشد القتال ثم ثلثهما ثالث من خلفه ثم ربعهما رابع أمامه . قال وقد روى سعد بن أبي وقاص مثل ذلك قال رأيت رجلين يوم بدر يقاتلان عن النبي ص أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره وإني لأراه ينظر إلى ذا مرة وإلى ذا مرة سرورا بما فتحه الله تعالى . قال الواقدي وحدثني إسحاق بن يحيى عن حمزة بن صهيب عن أبيه قال ما أدري كم يد مقطوعة وضربة جائفة لم يدم كلمها يوم بدر قد رأيتها . قال الواقدي وروى أبو بردة بن نيار قال جئت يوم بدر بثلاثة رءوس فوضعتها بين يدي رسول الله ص فقلت يا رسول الله أما اثنان فقتلتهما وأما الثالث فإني رأيت رجلا طويلا أبيض ضربه فتدهده أمامه فأخذت رأسه فقال رسول الله ص ذاك فلان من الملائكة .
قال الواقدي وكان ابن عباس رحمه الله يقول لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر .
[ 162 ](1/4012)
قال وحدثني ابن أبي حبيبة عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال كان الملك يتصور في صورة من يعرفه المسلمون من الناس ليثبتهم فيقول إني قد دنوت من المشركين فسمعتهم يقولون لو حملوا علينا ما ثبتنا لهم وليسوا بشي ء فاحملوا عليهم وذلك قول الله عز وجل إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى اَلْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا اَلَّذِينَ آمَنُوا الآية . قال الواقدي وحدثني موسى بن محمد عن أبيه قال كان السائب بن أبي حبيش الأسدي يحدث في زمن عمر بن الخطاب فيقول والله ما أسرني يوم بدر أحد من الناس فيقال فمن فيقول لما انهزمت قريش انهزمت معها فيدركني رجل أبيض طويل على فرس أبلق بين السماء والأرض فأوثقني رباطا وجاء عبد الرحمن بن عوف فوجدني مربوطا وكان عبد الرحمن ينادي في العسكر من أسر هذا فليس أحد يزعم أنه أسرني حتى انتهى بي إلى رسول الله ص فقال لي رسول الله يا ابن أبي حبيش من أسرك قلت لا أعرفه وكرهت أن أخبره بالذي رأيت فقال رسول الله ص أسره ملك من الملائكة كريم اذهب يا ابن عوف بأسيرك فذهب بي عبد الرحمن قال السائب وما زالت تلك الكلمة أحفظها وتأخر إسلامي حتى كان من إسلامي ما كان . قال الواقدي وكان حكيم بن حزام يقول لقد رأيتنا يوم بدر وقد وقع بوادي خلص بجاد من السماء قد سد الأفق قال ووادي خلص ناحية الرويثة قال فإذا الوادي يسيل نملا فوقع في نفسي أن هذا شي ء من السماء أيد به محمد فما كانت إلا الهزيمة وهي الملائكة .
[ 163 ](1/4013)
قال الواقدي وقد قالوا إنه لما التحم القتال ورسول الله ص رافع يديه يسأل الله النصر وما وعده ويقول اللهم إن ظهرت علي هذه العصابة ظهر الشرك ولا يقوم لك دين وأبو بكر يقول والله لينصرنك الله وليبيضن وجهك فأنزل الله تعالى ألفا من الملائكة مردفين عند أكتاف العدو فقال رسول الله ص يا أبا بكر أبشر هذا جبرائيل معتجر بعمامة صفراء آخذ بعنان فرسه بين السماء والأرض ثم قال إنه لما نزل الأرض تغيب عني ساعة ثم طلع على ثناياه النقع يقول أتاك النصر من الله إذ دعوته . قال الواقدي وحدثني موسى بن يعقوب عن عمه قال سمعت أبا بكر بن سليمان بن أبي خيثمة يقول سمعت مروان بن الحكم يسأل حكيم بن حزام عن يوم بدر فجعل الشيخ يكره ذلك حتى ألح عليه فقال حكيم التقينا فاقتتلنا فسمعت صوتا وقع من السماء إلى الأرض مثل وقع الحصاة في الطست وقبض النبي ص القبضة فرمى بها فانهزمنا . قال الواقدي وقد روى عبد الله بن ثعلبة بن صغير قال سمعت نوفل بن معاوية الدؤلي يقول انهزمنا يوم بدر ونحن نسمع كوقع الحصى في الطساس بين أيدينا ومن خلفنا فكان ذلك أشد الرعب علينا فأما الذين قالوا نزلت الملائكة ولم تقاتل فذكر الزمخشري في كتابه في تفسير القرآن المعروف بالكشاف أن قوما أنكروا قتال الملائكة يوم بدر وقالوا لو قاتل واحد من الملائكة جميع البشر لم يثبتوا له ولاستأصلهم بأجمعهم ببعض قوته فإن جبرائيل ع رفع مدائن قوم لوط كما جاء في الخبر على خافقة من جناحه
[ 164 ](1/4014)
حتى بلغ بها إلى السماء ثم قلبها فجعل عاليها سافلها فما عسى أن يبلغ قوة ألف رجل من قريش ليحتاج في مقاومتها وحربها إلى ألف ملك من ملائكة السماء مضافين إلى ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا من بني آدم وجعل هؤلاء قوله تعالى فَاضْرِبُوا فَوْقَ اَلْأَعْناقِ أمرا للمسلمين لا أمرا للملائكة . ورووا في نصرة قولهم روايات قالوا وإنما كان نزول الملائكة ليكثروا سواد المسلمين في أعين المشركين فإنهم كانوا يرونهم في مبدأ الحال قليلين في أعينهم كما قال تعالى وَ يُقَلِّلُكُمْ ليطمع المشركون فيهم ويجترءوا على حربهم فلما نشبت الحرب كثرهم الله تعالى بالملائكة في أعين المشركين ليفروا ولا يثبتوا وأيضا فإن الملائكة نزلت وتصورت بصور البشر الذين يعرفهم المسلمون وقالوا لهم ما جرت العادة أن يقال مثله من تثبيت القلوب يوم الحرب نحو قولهم ليس المشركون بشي ء لا قوة عندهم لا قلوب لهم لو حملتم عليهم لهزمتموهم وأمثال ذلك . ولقائل أن يقول إذا كان قادرا على أن يقلل ثلاثمائة إنسان في أعين قريش حتى يظنوهم مائة فهو قادر على أن يكثرهم في أعين قريش بعد التقاء حلقتي البطان فيظنوهم ألفين وأكثر من غير حاجة إلى إنزال الملائكة . فإن قلت لعل في إنزالهم لطفا للمكلفين قلت ولعل في محاربتهم لطفا للمكلفين وأما أصحاب المعاني فإنهم لم يحملوا الكلام على ظاهره ولهم في تأويله قول ليس هذا موضع ذكره
[ 165 ](1/4015)
القول فيما جرى في الغنيمة والأسارى بعد هزيمة قريش ورجوعها إلى مكة
قال الواقدي لما تصاف المشركون والمسلمون قال النبي ص من قتل قتيلا فله كذا وكذا ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا فلما انهزم المشركون كان الناس ثلاث فرق فرقة قامت عند خيمة رسول الله ص وكان أبو بكر معه في الخيمة وفرقة أغارت على النهب تنتهب وفرقة طلبت العدو فأسروا وغنموا فتكلم سعد بن معاذ وكان ممن أقام على خيمة رسول الله ص فقال يا رسول الله ما منعنا أن نطلب العدو زهادة في الأجر ولا جبن عن العدو ولكنا خفنا أن نعري موضعك فيميل عليك خيل من خيل المشركين ورجال من رجالهم وقد أقام عند خيمتك وجوه الناس من المهاجرين والأنصار والناس كثير ومتى تعط هؤلاء لا يبقى لأصحابك شي ء والقتلى والأسرى كثير والغنيمة قليلة فاختلفوا فأنزل الله عز وجل يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفالِ قُلِ اَلْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ اَلرَّسُولِ الآية فرجع المسلمون وليس لهم من الغنيمة شي ء ثم أنزل الله فيما بعد وَ اِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ فقسمه عليهم بينهم . قال الواقدي وقد روى عبادة بن الوليد بن عبادة عن جده عبادة بن الصامت قال سلمنا الأنفال يوم بدر لله وللرسول ولم يخمس رسول الله ص بدرا ونزلت بعد وَ اِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فاستقبل رسول الله ص بالمسلمين
[ 166 ](1/4016)
الخمس فيما كان من أول غنيمة بعد بدر . قال الواقدي وقد روي عن أبي أسيد الساعدي مثله . وروى عكرمة قال اختلف الناس في الغنائم يوم بدر فأمر رسول الله ص بالغنائم أن ترد في المقسم فلم يبق منها شي ء إلا رد وظن أهل الشجاعة أنه ص يخصهم بها دون غيرهم من أهل الضعف ثم أمر رسول الله ص أن تقسم بينهم على سواء فقال سعد بن أبي وقاص يا رسول الله تعطي فارس القوم الذي يحميهم مثل ما تعطي الضعيف فقال ص ثكلتك أمك وهل تنصرون إلا بضعفائكم . قال الواقدي فروى محمد بن سهل بن خيثمة قال أمر رسول الله ص أن ترد الأسرى والأسلاب وما أخذوا من المغنم ثم أقرع بينهم في الأسرى وقسم أسلاب المقتولين الذين يعرف قاتلوهم بين قاتليهم وقسم ما وجده في العسكر بين جميع المسلمين عن فراق . قال الواقدي وحدثني عبد الحميد بن جعفر قال سألت موسى بن سعد بن زيد بن ثابت كيف فعل النبي ص يوم بدر في الأسرى والأسلاب والأنفال فقال نادى مناديه يومئذ من قتل قتيلا فله سلبه ومن أسر أسيرا فهو له وأمر بما وجد في العسكر وما أخذ بغير قتال فقسمه بينهم عن فراق فقلت لعبد الحميد فلمن أعطى سلب أبي جهل فقال قد قيل إنه أعطاه معاذ بن عمرو بن الجموح وقيل أعطاه ابن مسعود . قال وأخذ علي ع درع الوليد بن عتبة وبيضته ومغفره وأخذ حمزة سلاح عتبة وأخذ عبيدة بن الحارث سلاح شيبة ثم صار إلى ورثته .
[ 167 ](1/4017)
قال الواقدي فكانت القسمة على ثلاثمائة وسبعة عشر سهما لأن الرجال كانت ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا وكان معهم فرسان لهما أربعة أسهم وقسم أيضا فوق ذلك لثمانية أسهم لم يحضروا ضرب لهم بسهامهم وأجورهم ثلاثة من المهاجرين لا خلاف فيهم وهم عثمان بن عفان خلفه رسول الله ص على ابنته رقية وماتت يوم قدم زيد بن حارثة بالبشارة إلى المدينة وطلحة بن عبيد الله وسعد بن زيد بن عمرو بن نفيل بعثهما رسول الله ص يتجسسان خبر العير وخمسة من الأنصار هم أبو لبابة بن عبد المنذر خلفه على المدينة وعاصم بن عدي خلفه على قباء وأهل العالية والحارث بن حاطب أمره بأمر في بني عمرو بن عوف وخوات بن جبير كسر بالروحاء والحارث بن الصمة مثله فلا اختلاف في هؤلاء واختلف في أربعة غيرهم فروي أنه ضرب لسعد بن عبادة بسهمه وأجره وقال لئن لم يشهدها لقد كان فيها راغبا وذلك أنه كان يحض الناس على الخروج إلى بدر فنهش فمنعه ذلك من الخروج . وروي أنه ضرب لسعد بن مالك الساعدي بسهمه وأجره وكان تجهز إلى بدر فمرض بالمدينة فمات خلاف رسول الله ص وأوصى إليه ع . وروي أنه ضرب لرجلين آخرين من الأنصار ولم يسمهما الواقدي وقال هؤلاء الأربعة غير مجمع عليهم كإجماعهم على الثمانية . قال وقد اختلف هل ضرب بسهم في الغنيمة لقتلى بدر فقال الأكثرون لم يضرب لهم وقال بعضهم بل ضرب لهم حدثني ابن أبي سبرة عن يعقوب بن زيد عن أبيه أن رسول الله ص ضرب لشهداء بدر أربعة عشر رجلا قال وقد قال عبد الله ابن سعد بن خيثمة أخذنا سهم أبي الذي ضرب له رسول الله ص حين
[ 168 ](1/4018)
قسم الغنائم وحمله إلينا عويمر بن ساعدة قال وقد روى السائب بن أبي لبابة أن رسول الله ص أسهم لمبشر بن عبد المنذر قال وقد قدم بسهمه علينا معن بن عدي . قال الواقدي وكانت الإبل التي أصابوا يومئذ مائة وخمسين بعيرا وكان معه أدم كثير حملوه للتجارة فمنعه المسلمون يومئذ وكان فيما أصابوا قطيفة حمراء فقال بعضهم ما لنا لا نرى القطيفة ما نرى رسول الله ص إلا أخذها فأنزل الله تعالى وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وجاء رجل إلى رسول الله ص وقال يا رسول الله إن فلانا غل قطيفة فسأل رسول الله ص الرجل فقال لم أفعل فقال الدال يا رسول الله احفروا هاهنا فحفرنا فاستخرجت القطيفة فقال قائل يا رسول الله استغفر لفلان مرتين أو مرارا فقال ع دعونا من أبي حر . قال الواقدي وأصاب المسلمون من خيولهم عشرة أفراس وكان جمل أبي جهل فيما غنموه فأخذه النبي ص فلم يزل عنده يضرب في إبله ويغزو عليه حتى ساقه في هدي الحديبية فسأله يومئذ المشركون الجمل بمائة بعير فقال لو لا أنا سميناه في الهدي لفعلنا قال الواقدي وكان لرسول الله ص صفي من الغنيمة قبل القسمة فتنفل سيفه ذا الفقار يومئذ كان لمنبه بن الحجاج وكان رسول الله ص قد غزا إلى بدر بسيف وهبه له سعد بن عبادة يقال له العضب . قال وسمعت ابن أبي سبرة يقول سمعت صالح بن كيسان يقول خرج رسول
[ 169 ](1/4019)
الله ص يوم بدر وما معه سيف وكان أول سيف قلده سيف منبه بن الحجاج غنمه يوم بدر . وقال البلاذري كان ذو الفقار للعاص بن منبه بن الحجاج ويقال لمنبه ويقال لشيبة والثبت عندنا أنه كان للعاص بن منبه . قال الواقدي وكان أبو أسيد الساعدي إذا ذكر الأرقم بن أبي الأرقم يقول ما يومي منه بواحد فيقال ما هذا هو فيقول أمر رسول الله ص المسلمين أن يردوا يوم بدر ما في أيديهم من المغنم فرددت سيف أبي عائذ المخزومي واسم السيف المرزبان وكان له قيمة وقدر وأنا أطمع أن يرد إلي فكلم الأرقم رسول الله ص فيه وكان رسول الله ص لا يمنع شيئا يسأله فأعطاه السيف وخرج بني له يفعة فاحتمله الغول فذهبت به متوركة ظهرا فقيل لأبي أسيد وكانت الغيلان في ذلك الزمان فقال نعم ولكنها قد هلكت فلقي بني الأرقم بن أبي الأرقم فبهش إليه باكيا مستجيرا به فقال من أنت فأخبره فقالت الغول أنا حاضنته فلها عنه والصبي يكذبها فلم يعرج عليه حتى الساعة فخرج من داري فرس لي فقطع رسنه فلقيه الأرقم بالغابة فركبه حتى إذا دنا من المدينة أفلت منه فتعذر إلي أنه أفلت مني فلم أقدر عليه حتى الساعة . قال وروى عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أنه سأل رسول الله ص يوم بدر سيف العاص بن منبه فأعطاه قال وأخذ ع مماليك حضروا بدرا ولم يسهم لهم وهم ثلاثة أعبد غلام لحاطب بن أبي بلتعة وغلام لعبد الرحمن
[ 170 ](1/4020)
بن عوف وغلام لسعد بن معاذ واستعمل ص شقران غلامه على الأسرى فأخذوا من كل أسير ما لو كان حرا ما أصابه في المقسم . وروى عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال رميت سهيل بن عمرو يوم بدر فقطعت نساءه فاتبعت أثر الدم حتى وجدته قد أخذه مالك بن الدخشم وهو ممسك بناصيته فقلت أسيري رميته فقال أسيري أخذته فأتينا رسول الله فأخذه منا جميعا وأفلت سهل الروحاء فصاح ع بالناس فخرجوا في طلبه فقال ص من وجده فليقتله فوجده هو ص فلم يقتله . قال الواقدي وأصاب أبو بردة بن نيار أسيرا من المشركين يقال له معبد بن وهب من بني سعد بن ليث فلقيه عمر بن الخطاب وكان عمر يحض على قتل الأسرى لا يرى أحدا في يديه أسيرا إلا أمر بقتله وذلك قبل أن يتفرق الناس فلقيه معبد وهو أسير مع أبي بردة فقال أ ترون يا عمر أنكم قد غلبتم كلا واللات والعزى فقال عمر عباد الله المسلمين أ تتكلم وأنت أسير في أيدينا ثم أخذه من أبي بردة فضرب عنقه ويقال إن أبا بردة قتله . قال الواقدي وروى أبو بكر بن إسماعيل عن أبيه عن عامر بن سعد قال قال النبي ص يومئذ لا تخبروا سعدا بقتل أخيه فيقتل كل أسير في أيديكم . قال الواقدي ولما جي ء بالأسرى كره ذلك سعد بن معاذ فقال له رسول الله ص كأنه شق عليك أن يؤسروا قال نعم يا رسول الله كانت أول
[ 171 ](1/4021)
وقعة التقينا فيها بالمشركين فأحببت أن يذلهم الله وأن يثخن فيهم القتل . قال الواقدي وكان النضر بن الحارث أسره المقداد يومئذ فلما خرج رسول الله ص من بدر فكان الأثيل عرض عليه الأسرى فنظر إلى النضر بن الحارث فأبده البصر فقال لرجل إلى جنبه محمد والله قاتلي لقد نظر إلي بعينين فيهما الموت فقال الذي إلى جنبه والله ما هذا منك إلا رعب فقال النضر لمصعب بن عمير يا مصعب أنت أقرب من هاهنا بي رحما كلم صاحبك أن يجعلني كرجل من أصحابي هو والله قاتلي إن لم تفعل قال مصعب إنك كنت تقول في كتاب الله كذا وكذا وتقول في نبيه كذا وكذا قال يا مصعب فليجعلني كأحد أصحابي إن قتلوا قتلت وإن من عليهم من علي قال مصعب إنك كنت تعذب أصحابه قال أما والله لو أسرتك قريش ما قتلت أبدا وأنا حي قال مصعب والله إني لأراك صادقا ولكن لست مثلك قطع الإسلام العهود . قال الواقدي وعرضت الأسرى على رسول الله ص فرأى النضر بن الحارث فقال اضربوا عنقه فقال المقداد أسيري يا رسول الله فقال اللهم أغن المقداد من فضلك قم يا علي فاضرب عنقه فقام علي فضرب عنقه بالسيف صبرا وذلك بالأثيل فقالت أخته
يا راكبا إن الأثيل مظنة
من صبح خامسة وأنت موفق
بلغ به ميتا فإن تحية
ما إن تزال بها الركائب تخفق
مني إليه وعبرة مسفوحة
جادت لمائحها وأخرى تخنق
[ 172 ]
فليسمعن النضر إن ناديته
إن كان يسمع ميت أو ينطق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه
لله أرحام هناك تمزق
صبرا يقاد إلى المدينة راغما
رسف المقيد وهو عان موثق
أ محمد ولأنت نجل نجيبة
في قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما
من الفتى وهو المغيظ المحنق
و النضر أقرب من قتلت وسيلة
و أحقهم إن كان عتق يعتق(1/4022)
قال الواقدي وروي أن النبي ص لما وصل إليه شعرها رق له وقال لو كنت سمعت شعرها قبل أن أقتله لما قتلته . قال الواقدي ولما أسر سهيل بن عمرو قال عمر بن الخطاب يا رسول الله انزع ثنيتيه يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبا أبدا فقال رسول الله ص لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبيا ولعله يقوم مقاما لا تكرهه فقام سهيل بن عمرو بمكة حين جاءه وفاة النبي ص بخطبة أبي بكر بالمدينة كأنه كان يسمعها فقال عمر حين بلغه كلام سهيل أشهد أنك رسول الله يريد قوله ص لعله يقوم مقاما لا تكرهه . قال الواقدي وكان علي ع يحدث فيقول أتى جبريل النبي ص يوم بدر فخيره في الأسرى أن يضرب أعناقهم أو يأخذ منهم الفداء ويستشهد من المسلمين في قابل عدتهم فدعا رسول الله ص أصحابه وقال هذا جبريل يخيركم في الأسرى بين أن تضرب أعناقهم أو تؤخذ منهم الفدية ويستشهد
[ 173 ](1/4023)
منكم قابلا عدتهم قالوا بل نأخذ الفدية ونستعين بها ويستشهد منا من يدخل الجنة فقبل منهم الفداء وقتل من المسلمين قابلا عدتهم بأحد . قلت لو كان هذا الحديث صحيحا لما عوتبوا فقيل لهم ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي اَلْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ اَلدُّنْيا وَ اَللَّهُ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ ثم قال لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اَللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ لأنه إذا كان خيرهم فقد أباحهم أخذ الفداء وأخبرهم أنه حسن فلا يجوز فيما بعد أن ينكره عليهم ويقول إنه قبيح قال الواقدي لما حبس الأسرى وجعل عليهم شقران مولى رسول الله ص طمعوا في الحياة فقالوا لو بعثنا إلى أبي بكر فإنه أوصل قريش لأرحامنا فبعثوا إلى أبي بكر فأتاهم فقالوا يا أبا بكر إن فينا الآباء والأبناء والإخوان والعمومة وبني العم وأبعدنا قريب كلم صاحبك فليمن علينا ويفادنا فقال نعم إن شاء الله لا آلوكم خيرا ثم انصرف إلى رسول الله ص قالوا وابعثوا إلى عمر بن الخطاب فإنه من قد علمتم ولا يؤمن أن يفسد عليكم لعله يكف عنكم فأرسلوا إليه فجاءهم فقالوا له مثل ما قالوا لأبي بكر فقال لا آلوكم شرا ثم انصرف إلى النبي ص فوجد أبا بكر عنده والناس حوله وأبو بكر يلينه ويغشاه ويقول يا رسول الله بأبي أنت وأمي قومك فيهم الآباء والأبناء والعمومة والإخوان وبنو العم وأبعدهم عنك قريب فامنن عليهم من الله عليك أو فادهم قوة للمسلمين فلعل الله يقبل بقلوبهم إليك ثم قام فتنحى ناحية وسكت رسول الله ص فلم يجبه فجاء عمر فجلس مجلس أبي بكر فقال يا رسول الله هم أعداء الله كذبوك
[ 174 ](1/4024)
و قاتلوك وأخرجوك اضرب رقابهم فهم رءوس الكفر وأئمة الضلالة يوطئ الله بهم الإسلام ويذل بهم الشرك فسكت رسول الله ص ولم يجبه وعاد أبو بكر إلى مقعده الأول فقال بأبي أنت وأمي قومك فيهم الآباء والأبناء والعمومة والإخوان وبنو العم وأبعدهم منك قريب فامنن عليهم أو فادهم هم عشيرتك وقومك لا تكن أول من يستأصلهم وأن يهديهم الله خير من أن يهلكهم فسكت ص عنه فلم يرد عليه شيئا وقام ناحية فقام عمر فجلس مجلسه فقال يا رسول الله ما تنتظر بهم اضرب أعناقهم يوطئ الله بهم الإسلام ويذل أهل الشرك هم أعداء الله كذبوك وأخرجوك يا رسول الله اشف صدور المؤمنين لو قدروا منا على مثل هذا ما أقالونا أبدا فسكت رسول الله ص فلم يجبه فقام ناحية فجلس وعاد أبو بكر فكلمه مثل كلامه الأول فلم يجبه ثم تنحى فجاء عمر فكلمه بمثل كلامه الأول فلم يجبه ثم قام رسول الله ص فدخل قبته فمكث فيها ساعة ثم خرج والناس يخوضون في شأنهم يقول بعضهم القول ما قال أبو بكر وآخرون يقولون القول ما قال عمر فلما خرج قال للناس ما تقولون في صاحبيكم هذين دعوهما فإن لهما مثلا مثل أبي بكر في الملائكة كميكائيل ينزل برضا الله وعفوه على عباده ومثله في الأنبياء كمثل إبراهيم كان ألين على قومه من العسل أوقد له قومه النار فطرحوه فيها فما زاد على أن قال أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ وقال فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وكعيسى إذ يقول إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ ومثل عمر في الملائكة كمثل جبريل ينزل بالسخط من الله والنقمة على أعداء الله ومثله في الأنبياء كمثل نوح كان أشد على قومه من الحجارة إذ يقول رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى
[ 175 ](1/4025)
اَلْأَرْضِ مِنَ اَلْكافِرِينَ دَيَّاراً فدعا عليهم دعوة أغرق الله بها الأرض جميعا ومثل موسى إذ يقول رَبَّنَا اِطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَ اُشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا اَلْعَذابَ اَلْأَلِيمَ وإن بكم عيلة فلا يفوتنكم رجل من هؤلاء إلا بفداء أو ضربة عنق فقال عبد الله بن مسعود يا رسول الله إلا سهيل بن بيضاء . قال الواقدي هكذا روى ابن أبي حبيبة وهذا وهم سهيل بن بيضاء مسلم من مهاجرة الحبشة وشهد بدرا وإنما هو أخ له ويقال له سهيل قال قال عبد الله بن مسعود فإني رأيته يظهر الإسلام بمكة قال فسكت النبي ص قال عبد الله فما مرت علي ساعة قط كانت أشد علي من تلك الساعة جعلت أنظر إلى السماء أتخوف أن تسقط علي الحجارة لتقدمي بين يدي الله ورسوله بالكلام فرفع رسول الله ص رأسه فقال إلا سهيل بن بيضاء قال فما مرت علي ساعة أقر لعيني منها إذ قالها رسول الله ص ثم
قال إن الله عز وجل ليشدد القلب حتى يكون أشد من الحجارة وإنه ليلين القلب حتى يكون ألين من الزبد فقبل الفداء ثم قال بعد لو نزل عذاب يوم بدر لما نجا منه إلا عمر كان يقول اقتل ولا تأخذ الفداء وكان سعد بن معاذ يقول اقتل ولا تأخذ الفداء . قلت عندي في هذا كلام أما في أصل الحديث فلأن فيه أن رسول الله ص قال ومثله كعيسى إذ قال إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ وهذه الآية من المائدة والمائدة أنزلت في آخر عمره ولم ينزل بعدها إلا سورة براءة وبدر كانت في السنة الثانية من الهجرة فكيف هذا اللهم إلا أن يكون قوله تعالى وَ إِذْ قالَ اَللَّهُ يا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اِتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ الآيات قد كانت أنزلت أما بمكة أو بالمدينة قبل بدر
[ 176 ](1/4026)
فلما جمع عثمان القرآن ضمها إلى سورة المائدة فلعله قد كان ذلك فينبغي أن ننظر في هذا فهو مشكل . وأما حديث سهيل بن بيضاء فإنه يوهم مذهب موسى بن عمران في أن النبي ص كان يحكم في الوقائع بما يشاء لأنه قيل له احكم بما تشاء فإنك لا تحكم إلا بالحق وهو مذهب متروك إلا أنه يمكن أن يقال لعله لما سكت ص عند ما قال ابن مسعود ذلك القول نزل عليه في تلك السكتة الوحي وقيل له إلا سهيل بن بيضاء فقال حينئذ إلا سهيل بن بيضاء كما أوحي إليه . وأما الحديث الذي فيه لو نزل عذاب لما نجا منه إلا عمر فالواقدي وغيره من المحدثين اتفقوا على أن سعد بن معاذ كان يقول مثل ما قاله عمر بل هو المتبدئ بذلك الرأي ورسول الله ص بعد في العريش والمشركون لم ينفض جمعهم كل ذلك الانفضاض فكيف خص عمر بالنجاة وحده دون سعد ويمكن أن يقال إنه كان شديد التأليب والتحريض عليهم وكثير الإلحاح على رسول الله ص في أمرهم فنسب ذلك الرأي إليه لاشتهاره به وإن شركه فيه غيره .
قال الواقدي وحدثني معمر عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال قال رسول الله ص يوم بدر لو كان مطعم بن عدي حيا لوهبت له هؤلاء النتنى قال وكانت لمطعم بن عدي عند النبي ص يد أجاره حين رجع من الطائف .
[ 177 ](1/4027)
قال الواقدي وحدثني محمد بن عبد الله عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال أمن رسول الله ص من الأسرى يوم بدر أبا عزة عمرو بن عبد الله بن عمير الجمحي وكان شاعرا فأعتقه رسول الله ص وقال له إن لي خمس بنات ليس لهن شي ء فتصدق بي عليهن يا محمد ففعل رسول الله ص ذلك وقال أبو عزة أعطيك موثقا ألا أقاتلك ولا أكثر عليك أبدا فأرسله رسول الله ص فلما خرجت قريش إلى أحد جاء صفوان بن أمية فقال اخرج معنا قال إني قد أعطيت محمدا موثقا ألا أقاتله ولا أكثر عليه أبدا وقد من علي ولم يمن على غيري حتى قتله أو أخذ منه الفداء فضمن له صفوان أن يجعل بناته مع بناته إن قتل وإن عاش أعطاه مالا كثيرا لا يأكله عياله فخرج أبو عزة يدعو العرب ويحشرها ثم خرج مع قريش يوم أحد فأسر ولم يؤسر غيره من قريش فقال يا محمد إنما خرجت كرها ولي بنات فامنن علي فقال رسول الله ص أين ما أعطيتني من العهد والميثاق لا والله لا تمسح عارضيك بمكة تقول سخرت بمحمد مرتين فقتله . قال وروى سعيد بن المسيب أن رسول الله ص قال يومئذ إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين يا عاصم بن ثابت قدمه فاضرب عنقه فقدمه عاصم فضرب عنقه . قال الواقدي وأمر رسول الله ص يوم بدر بالقلب أن تغور ثم أمر بالقتلى فطرحوا فيها كلهم إلا أمية بن خلف فإنه كان مسمنا انتفخ من يومه فلما أرادوا أن يلقوه تزايل لحمه فقال النبي ص اتركوه
[ 178 ](1/4028)
و قال ابن إسحاق انتفخ أمية بن خلف في درعه حتى ملأها فلما ذهبوا يحركونه تزايل فأقروه وألقوا عليه التراب والحجارة ما غيبه . قال الواقدي ونظر رسول الله ص إلى عتبة بن ربيعة يجر إلى القليب وكان رجلا جسيما وفي وجهه أثر الجدري فتغير وجه ابنه أبي حذيفة بن عتبة فقال له النبي ص ما لك كأنك ساءك ما أصاب أباك قال لا والله يا رسول الله ولكني رأيت لأبي عقلا وشرفا كنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام فلما أخطأه ذلك ورأيت ما أصابه غاظني فقال أبو بكر كان والله يا رسول الله أبقى في العشيرة من غيره ولقد كان كارها لوجهه ولكن الحين ومصارع السوء فقال رسول الله ص الحمد لله الذي جعل خد أبي جهل الأسفل وصرعه وشفانا منه فلما توافوا في القليب و
قد كان رسول الله ص يطوف عليهم وهم مصرعون جعل أبو بكر يخبره بهم رجلا رجلا ورسول الله ص يحمد الله ويشكره ويقول الحمد لله الذي أنجز لي ما وعدني فقد وعدني إحدى الطائفتين ثم وقف على أهل القليب فناداهم رجلا رجلا يا عتبة بن ربيعة ويا شيبة بن ربيعة ويا أمية بن خلف ويا أبا جهل بن هشام هل وجدتم ما وعد ربكم حقا فإني وجدت ما وعدني ربي حقا بئس القوم كنتم لنبيكم كذبتموني وصدقني الناس وأخرجتموني وآواني الناس وقاتلتموني ونصرني الناس فقالوا يا رسول الله أ تنادي قوما قد ماتوا فقال لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حق . وقال ابن إسحاق في كتاب المغازي إن عائشة كانت تروي هذا الخبر وتقول فالناس يقولون إن رسول الله ص قال لقد سمعوا ما قلت لهم وليس كذلك إنما قال لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حق .
[ 179 ](1/4029)
قال محمد بن إسحاق وحدثني حميد الطويل عن أنس بن مالك قال لما ناداهم رسول الله ص قال له المسلمون يا رسول الله أ تنادي قوما قد أنتنوا فقال ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني . قلت لقائل أن يقول لعائشة إذا جاز أن يعلموا وهم موتى جاز أن يسمعوا وهم موتى فإن قالت ما أخبرت أن يعلموا وهم موتى ولكن تعود الأرواح إلى أبدانهم وهي في القليب ويرون العذاب فيعلمون أن ما وعدهم به الرسول حق قيل لها ولا مانع من أن تعود الأرواح إلى أبدانهم وهي في القليب فيسمعوا صوت رسول الله ص فإذن لا وجه لإنكارها ما يقوله الناس . ويمكن أن ينتصر لقول عائشة على وجه حكمي وهو أن الأنفس بعد المفارقة تعلم ولا تسمع لأن الإحساس إنما يكون بواسطة الآلة وبعد الموت تفسد الآلة فأما العلم فإنه لا يحتاج إلى الآلة لأن النفس تعلم بجوهرها فقط . قال الواقدي وكان انهزام قريش وتوليها حين زالت الشمس فأقام رسول الله ص ببدر وأمر عبد الله بن كعب بقبض الغنائم وحملها وأمر نفرا من أصحابه أن يعينوه فصلى العصر ببدر ثم راح فمر بالأثيل قبل غروب الشمس فنزل به وبات به وبأصحابه جراح وليست بالكثيرة وقال من رجل يحفظنا الليلة فأسكت القوم فقام رجل فقال من أنت قال ذكوان بن عبد قيس قال اجلس ثم أعاد القول الثانية فقام رجل فقال من أنت قال ابن عبد القيس فقال اجلس ثم مكث ساعة وأعاد القول فقام رجل فقال من أنت قال أبو سبع فسكت .
[ 180 ](1/4030)
ثم مكث ساعة وقال قوموا ثلاثتكم فقام ذكوان بن عبد قيس وحده فقال له وأين صاحباك قال يا رسول الله أنا الذي كنت أجيبك الليلة فقال رسول الله ص فحفظك الله فبات ذكوان يحرس المسلمين تلك الليلة حتى كان آخر الليل فارتحل . قال الواقدي وروي أن رسول الله ص صلى العصر بالأثيل فلما صلى ركعة تبسم فلما سلم سئل عن تبسمه فقال مر بي ميكائيل وعلى جناحه النقع فتبسم إلي وقال إني كنت في طلب القوم وأتاني جبريل على فرس أنثى معقود الناصية قد عم ثنيتيه الغبار فقال يا محمد إن ربي بعثني إليك وأمرني ألا أفارقك حتى ترضى فهل رضيت فقلت نعم . قال الواقدي وأقبل رسول الله ص بالأسرى حتى إذا كان بعرق الظبية أمر عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أن يضرب عنق عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس وكان أسره عبد الله بن سلمة العجلاني فجعل عقبة يقول يا ويلي علام أقتل يا معشر قريش من بين من هاهنا فقال رسول الله ص لعداوتك لله ولرسوله فقال يا محمد منك أفضل فاجعلني كرجل من قومي إن قتلتهم قتلتني وإن مننت عليهم مننت علي وإن أخذت منهم الفداء كنت كأحدهم يا محمد من للصبية فقال النار قدمه يا عاصم فاضرب عنقه فقدمه عاصم فضرب عنقه فقال النبي ص بئس الرجل كنت والله ما علمت كافرا بالله وبرسوله وبكتابه مؤذيا لنبيه فأحمد الله الذي قتلك وأقر عيني منك . قال محمد بن إسحاق وروى عكرمة مولى ابن عباس عن أبي رافع قال كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب وكان الإسلام قد فشا فينا أهل البيت فأسلم العباس
[ 181 ](1/4031)
و أسلمت أم الفضل زوجته وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم فكان يكتم إسلامه وكان ذا مال كثير متفرق في قومه وكان عدو الله أبو لهب قد تخلف عن بدر وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة وكذلك كانوا صنعوا لم يتخلف رجل إلا بعث مكانه رجلا فلما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش كبته الله وأخزاه ووجدنا في أنفسنا قوة وعزا . قال وكنت رجلا ضعيفا وكنت أعمل القداح أنحتها في حجرة زمزم فو الله إني لجالس أنحت قداحي وعندي أم الفضل جالسة وقد سرنا ما جاءنا من الخبر إذ أقبل الفاسق أبو لهب يجر رجليه بشر حتى جلس إلى طنب الحجرة فكان ظهره إلى ظهري فبينا هو جالس إذ قال للناس هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم وكان شهد مع المشركين بدرا فقال أبو لهب هلم يا ابن أخي فعندك والله الخبر قال فجلس إليه والناس قيام حوله فقال يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس قال لا شي ء والله إن هو إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا فقتلونا كيف شاءوا وأسرونا كيف شاءوا وايم الله مع ذلك ما لمت الناس لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض لا والله ما تبقي شيئا ولا يقوم لها شي ء قال أبو رافع فرفعت طنب الحجرة ثم قلت تلك والله الملائكة قال فرفع أبو لهب يده فضرب بي الأرض ثم برك علي يضربني وكنت رجلا ضعيفا فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة فأخذته فضربته على رأسه فشجته شجة منكرة وقالت استضعفته إذ غاب
[ 182 ](1/4032)
سيده فقام موليا ذليلا فو الله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة فقتلته . ولقد تركه ابناه ليلتين أو ثلاثا وما يدفنانه حتى أنتن في بيته وكانت قريش تتقي العدسة وعدواها كما يتقي الناس الطاعون حتى قال لهما رجل من قريش ويحكما أ لا تستحيان أن أباكما قد أنتن في بيته لا تغيبانه قالا إنا نخشى هذه القرحة قال فانطلقا وأنا معكما فو الله ما غسلوه إلا قذفا عليه بالماء من بعيد ما يمسونه وأخرجوه فألقوه بأعلى مكة إلى كنان هناك وقذفوا عليه بالحجارة حتى واروه . قال محمد بن إسحاق فحضر العباس بدرا فأسر فيمن أسر وكان الذي أسره أبو اليسر كعب بن عمرو أحد بني سلمة فلما أمسى القوم والأسارى محبوسون في الوثاق وبات رسول الله ص تلك الليلة ساهرا فقال له أصحابه ما لك لا تنام يا رسول الله قال سمعت أنين العباس من وثاقه فقاموا إليه فأطلقوه فنام رسول الله ص . قال وروى ابن عباس رحمه الله قال كان أبو اليسر رجلا مجموعا وكان العباس طويلا جسيما فقال رسول الله ص يا أبا اليسر كيف أسرت العباس قال يا رسول الله لقد أعانني عليه رجل ما رأيته من قبل من هيئته كذا قال ص لقد أعانك عليه ملك كريم
قال محمد بن إسحاق قد كان رسول الله ص في أول الوقعة فنهى أن يقتل أحد من بني هاشم قال حدثني بذلك الزهري عن عبد الله بن ثعلبة حليف بني زهرة قال وحدثني العباس بن عبد الله بن معبد بن العباس عن بعض أهله عن عبد الله بن عباس رحمه الله
[ 183 ](1/4033)
قال وقال النبي ص لأصحابه إني قد عرفت أن رجالا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها لا حاجة لنا بقتلهم فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله ومن لقي أبا البختري فلا يقتله ومن لقي العباس بن عبد المطلب عم رسول الله ص فلا يقتله فإنه إنما خرج مستكرها فقال أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة أ نقتل آباءنا وإخواننا وعشائرنا ونترك العباس والله لئن لقيته لألحمنه السيف فسمعها رسول الله ص فقال لعمر بن الخطاب يا أبا حفص يقول عمر والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله ص بأبي حفص أ يضرب وجه عم رسول الله ص بالسيف فقال عمر يا رسول الله دعني أضرب عنقه بالسيف فو الله لقد نافق قال فكان أبو حذيفة يقول والله ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ ولا أزال منها خائفا أبدا إلا أن يكفرها الله عني بشهادة فقتل يوم اليمامة شهيدا قال محمد بن إسحاق وكان رسول الله ص لما استشار أبا بكر وعمر وسعد بن معاذ في أمر الأسارى غلظ عمر عليهم غلظة شديدة فقال يا رسول الله أطعني فيما أشير به عليك فإني لا آلوك نصحا قدم عمك العباس فاضرب عنقه بيدك وقدم عقيلا إلى علي أخيه يضرب عنقه وقدم كل أسير منهم إلى أقرب الناس إليه يقتله قال فكره رسول الله ص ذلك ولم يعجبه .
قال محمد بن إسحاق فلما قدم بالأسرى إلى المدينة قال رسول الله ص
[ 184 ](1/4034)
افد نفسك يا عباس وابني أخويك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب وحليفك عقبة بن عمرو فإنك ذو مال فقال العباس يا رسول الله إني كنت مسلما ولكن القوم استكرهوني فقال ص الله أعلم بإسلامك إن يكن ما قلت حقا فإن الله يجزيك به وأما ظاهر أمرك فقد كان علينا فافتد نفسك وقد كان رسول الله ص أخذ منه عشرين أوقية من ذهب أصابها معه حين أسر فقال العباس يا رسول الله احسبها لي من فدائي فقال ص ذاك شي ء أعطانا الله منك فقال يا رسول الله فإنه ليس لي مال قال فأين المال الذي وضعته بمكة حين خرجت عند أم الفضل بنت الحارث وليس معكما أحد ثم قلت إن أصبت في سفري هذا فللفضل كذا وكذا ولعبد الله كذا وكذا ولقثم كذا وكذا فقال العباس والذي بعثك بالحق يا رسول الله ما علم بهذا أحد غيري وغيرها وإني لأعلم أنك رسول الله ثم فدى نفسه وابني أخويه وحليفه قال الواقدي قدم رسول الله ص من الأثيل زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة يبشران الناس بالمدينة فجاء يوم الأحد في الضحى وفارق عبد الله زيدا بالعقيق فجعل عبد الله ينادي عوالي المدينة يا معشر الأنصار أبشروا بسلامة رسول الله وقتل المشركين وأسرهم قتل ابنا ربيعة وابنا الحجاج وأبو جهل وزمعة بن الأسود وأمية بن خلف وأسر سهيل بن عمرو ذو الأنياب في أسرى كثير قال عاصم بن عدي فقمت إليه فنحوته فقلت أ حقا ما تقول يا ابن رواحة قال إي والله وغدا يقدم رسول الله إن شاء الله ومعه الأسرى مقرنين ثم تتبع دور الأنصار بالعالية يبشرهم دارا دارا والصبيان يشتدون معه ويقولون قتل أبو جهل الفاسق حتى انتهوا إلى
[ 185 ](1/4035)
دور بني أمية بن زيد وقدم زيد بن حارثة على ناقة النبي ص القصواء يبشر أهل المدينة فلما جاء المصلى صاح على راحلته قتل عتبة وشيبة ابنا ربيعة وابنا الحجاج وأبو جهل وأبو البختري وزمعة بن الأسود وأمية بن خلف وأسر سهيل بن عمرو ذو الأنياب في أسرى كثيرة فجعل الناس لا يصدقون زيد بن حارثة ويقولون ما جاء زيد إلا فلا حتى غاظ المسلمين ذلك وخافوا قال وكان قدوم زيد حين سووا على رقية بنت رسول الله ص التراب بالبقيع فقال رجل من المنافقين لأسامة بن زيد قتل صاحبكم ومن معه وقال رجل من المنافقين لأبي لبابة بن عبد المنذر قد تفرق أصحابكم تفرقا لا يجتمعون معه أبدا وقد قتل علية أصحابكم وقتل محمد وهذه ناقته نعرفها وهذا زيد بن حارثة لا يدري ما يقول من الرعب وقد جاء فلا فقال أبو لبابة كذب الله قولك وقالت يهود ما جاء زيد إلا فلا قال أسامة بن زيد فجئت حتى خلوت بأبي فقلت يا أبت أ حق ما تقول فقال إي والله حقا يا بني فقويت نفسي فرجعت إلى ذلك المنافق فقلت أنت المرجف برسول الله وبالمسلمين لنقدمنك إلى رسول الله ص إذا قدم فليضربن عنقك فقال يا أبا محمد إنما هو شي ء سمعت الناس يقولونه . قال الواقدي فقدم بالأسرى وعليهم شقران وهم تسعة وأربعون رجلا الذين أحصوا وهم سبعون في الأصل مجمع عليه لا شك فيه إلا أنهم لم يحص سائرهم ولقي الناس رسول الله ص بالروحاء يهنئونه بفتح الله عليه فلقيه وجوه الخزرج فقال سلمة بن سلامة بن وقش ما الذي تهنئونه فو الله ما قتلنا إلا عجائز صلعا فتبسم النبي ص فقال يا ابن أخي أولئك الملأ لو رأيتهم لهبتهم ولو أمروك لأطعتهم ولو رأيت فعالك مع فعالهم لاحتقرتها وبئس القوم كانوا على ذلك لنبيهم فقال سلمة أعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله إنك يا رسول الله لم تزل عني معرضا منذ كنا بالروحاء
[ 186 ](1/4036)
في بدأتنا فقال ص أما ما قلت للأعرابي وقعت على ناقتك فهي حبلى منك ففحشت وقلت ما لا علم لك به وأما ما قلت في القوم فإنك عمدت إلى نعمة من نعم الله تزهدها فقبل رسول الله ص معذرته وكان من علية أصحابه . قال الواقدي فروى الزهري قال لقي أبو هند البياضي مولى فروة بن عمرو رسول الله ومعه حميت مملوء حيسا أهداه له فقال رسول الله ص إنما أبو هند رجل من الأنصار فأنكحوه وأنكحوا إليه . قال الواقدي ولقيه أسيد بن حضير فقال يا رسول الله الحمد لله الذي ظفرك وأقر عينك والله يا رسول الله ما كان تخلفي عن بدر وأنا أظن بك أنك تلقى عدوا ولكني ظننت أنها العير ولو ظننت أنه عدو لما تخلفت فقال رسول الله صدقت . قال ولقيه عبد الله بن قيس بتربان فقال يا رسول الله الحمد لله على سلامتك وظفرك كنت يا رسول الله ليالي خرجت مورودا أي محموما فلم تفارقني حتى كان بالأمس فأقبلت إليك فقال آجرك الله . قال الواقدي وكان سهيل بن عمرو لما كان بتنوكة بين السقيا وملل كان مع مالك بن الدخشم الذي أسره فقال له خل سبيلي للغائط فقام معه فقال سهيل إني أحتشم فاستأخر عنى فاستأخر عنه فمضى سهيل على وجهه انتزع يده من القرآن ومضى فلما أبطأ سهيل على مالك بن الدخشم أقبل فصاح في الناس فخرجوا في طلبه وخرج النبي ص في طلبه بنفسه وقال من وجده فليقتله فوجده رسول الله
[ 187 ](1/4037)
ص بنفسه أخفى نفسه بين شجرات فأمر به فربطت يداه إلى عنقه ثم قرنه إلى راحلته فلم يركب سهيل خطوة حتى قدم المدينة . قال الواقدي فحدثني إسحاق بن حازم بن عبد الله بن مقسم عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال لقي رسول الله ص أسامة بن زيد ورسول الله ص على ناقته القصوى فأجلسه بين يديه وسهيل بن عمرو مجبوب ويداه إلى عنقه فلما نظر إلى سهيل قالوا يا رسول الله أبو يزيد قال نعم هذا الذي كان يطعم الخبز بمكة وقال البلاذري قال أسامة وهو يومئذ غلام يا رسول الله هذا الذي كان يطعم الناس بمكة السريد يعني الثريد . قلت هذه لثغة مقلوبة لأن الألثغ يبدل السين ثاء وهذا أبدل الثاء سينا ومن الناس من يرويها هذا الذي كان يطعم الناس بمكة الشريد بالشين المعجمة . قال البلاذري وحدثني مصعب بن عبد الله الزبيري عن أشياخه أن أسامة رأى سهيلا يومئذ فقال يا رسول الله هذا الذي كان يطعم السريد بمكة فقال رسول الله ص هذا أبو يزيد الذي يطعم الطعام ولكنه سعى في إطفاء نور الله فأمكن الله منه . قال وفيه يقول أمية بن أبي الصلت الثقفي
يا با يزيد رأيت سيبك واسعا
و سماء جودك تستهل فتمطر
[ 188 ]
قال وفيه يقول مالك بن الدخشم وهو الذي أسره يوم بدر
أسرت سهيلا فلا أبتغي
به غيره من جميع الأمم
و خندف تعلم أن الفتى
سهيلا فتاها إذا تظلم
ضربت بذي الشفر حتى انثنى
و أكرهت نفسي على ذي العلم(1/4038)
أي على ذي العلم بسكون اللام ولكنه حركه للضرورة . وكان سهيل أعلم مشقوق الشفة العليا فكانت أنيابه بادية فلذلك قالوا ذو الأنياب . قال الواقدي ولما قدم بالأسرى كانت سودة بنت زمعة زوج النبي ص عند آل عفراء في مناحتهم على عوف ومعوذ وذلك قبل أن يضرب الحجاب قالت سودة فأتينا فقيل لنا هؤلاء الأسرى قد أتي بهم فخرجت إلى بيتي ورسول الله ص فيه وإذا أبو يزيد مجموعة يداه إلى عنقه في ناحية البيت فو الله ما ملكت نفسي حين رأيته مجموعة يداه إلى عنقه أن قلت أبا يزيد أعطيتم بأيديكم ألا متم كراما فو الله ما راعني إلا قول رسول الله ص من البيت يا سودة أ على الله وعلى رسوله فقلت يا نبي الله والذي بعثك بالحق إني ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه أن قلت ما قلت . قال الواقدي وحدثني خالد بن إلياس قال حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي جهم قال دخل يومئذ خالد بن هشام بن المغيرة وأمية بن أبي حذيفة منزل أم سلمة وأم سلمة في مناحة آل عفراء فقيل لها أتي بالأسرى فخرجت فدخلت عليهم فلم تكلمهم حتى
[ 189 ](1/4039)
رجعت فتجد رسول الله ص في بيت عائشة فقالت يا رسول الله إن بني عمي طلبوا أن يدخل بهم علي فأضيفهم وأدهن رءوسهم وألم من شعثهم ولم أحب أن أفعل شيئا من ذلك حتى أستأمرك فقال ص لست أكره شيئا من ذلك فافعلي من هذا ما بدا لك قال الواقدي وحدثني محمد بن عبد الله عن الزهري قال قال أبو العاص بن الربيع كنت مستأسرا مع رهط من الأنصار جزاهم الله خيرا كنا إذا تعشينا أو تغدينا آثروني بالخبز وأكلوا التمر والخبز عندهم قليل والتمر زادهم حتى إن الرجل لتقع في يده الكسرة فيدفعها إلي وكان الوليد بن الوليد بن المغيرة يقول مثل ذلك ويزيد قال وكانوا يحملوننا ويمشون . وقال محمد بن إسحاق في كتابه كان أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس ختن رسول الله ص زوج ابنته زينب وكان أبو العاص من رجال مكة المعدودين مالا وأمانة وتجارة وكان ابنا لهالة بنت خويلد أخت خديجة بنت خويلد وكان الربيع بن عبد العزى بعل هذه فكانت خديجة خالته فسألت خديجة رسول الله ص أن يزوجه زينب وكان رسول الله ص لا يخالف خديجة وذلك قبل أن ينزل عليه الوحي فزوجه إياها فكان أبو العاص من خديجة بمنزلة ولدها فلما أكرم الله رسوله بنبوته آمنت به خديجة وبناته كلهن وصدقته وشهدن أن ما جاء به حق ودن بدينه وثبت أبو العاص على شركه وكان رسول الله ص قد زوج عتبة بن أبي إحدى ابنتيه رقية أو أم كلثوم وذلك من قبل أن ينزل عليه فلما أنزل عليه الوحي ونادى قومه بأمر الله باعدوه فقال بعضهم لبعض إنكم قد فرغتم محمد من همه أخذتم عنه بناته وأخرجتموهن من عياله فردوا عليه بناته فاشغلوه بهن فمشوا إلى أبي العاص بن الربيع فقالوا فارق صاحبتك بنت محمد ونحن نزوجك أي
[ 190 ](1/4040)
امرأة شئت من قريش فقال لا ها الله إذن لا أفارق صاحبتي وما أحب أن لي بها امرأة من قريش فكان رسول الله ص إذا ذكره يثني عليه خيرا في صهره ثم مشوا إلى الفاسق عتبة بن أبي لهب فقالوا له طلق بنت محمد ونحن ننكحك أي امرأة شئت من قريش فقال إن أنتم زوجتموني ابنة أبان بن سعيد بن العاص أو ابنة سعيد بن العاص فارقتها فزوجوه ابنة سعيد بن العاص ففارقها ولم يكن دخل بها فأخرجها الله من يده كرامة لها وهوانا له ثم خلف عليها عثمان بن عفان بعده وكان رسول الله ص مغلوبا على أمره بمكة لا يحل ولا يحرم وكان الإسلام قد فرق بين زينب وأبي العاص إلا أن رسول الله ص كان لا يقدر وهو بمكة أن يفرق بينهما فأقامت معه على إسلامها وهو على شركه حتى هاجر رسول الله ص إلى المدينة وبقيت زينب بمكة مع أبي العاص فلما سارت قريش إلى بدر سار أبو العاص معهم فأصيب في الأسرى يوم بدر فأتي به النبي ص فكان عنده مع الأسارى فلما بعث أهل مكة في فداء أساراهم بعثت زينب في فداء أبي العاص بعلها بمال وكان فيما بعثت به قلادة كانت خديجة أمها أدخلتها بها على أبي العاص ليلة زفافها عليه فلما رآها رسول الله ص رق لها رقة شديدة وقال للمسلمين إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها ما بعثت به من الفداء فافعلوا فقالوا نعم يا رسول الله نفديك بأنفسنا وأموالنا فردوا عليها ما بعثت به وأطلقوا لها أبا العاص بغير فداء . قلت قرأت على النقيب أبي جعفر يحيى بن أبي زيد البصري العلوي رحمه الله هذا الخبر فقال أ ترى أبا بكر وعمر لم يشهدا هذا المشهد أ ما كان يقتضي التكريم والإحسان
[ 191 ](1/4041)
أن يطيب قلب فاطمة بفدك ويستوهب لها من المسلمين أ تقصر منزلتها عند رسول الله ص عن منزله زينب أختها وهي سيدة نساء العالمين هذا إذا لم يثبت لها حق لا بالنحلة ولا بالإرث فقلت له فدك بموجب الخبر الذي رواه أبو بكر قد صار حقا من حقوق المسلمين فلم يجز له أن يأخذه منهم فقال وفداء أبي العاص بن الربيع قد صار حقا من حقوق المسلمين وقد أخذه رسول الله ص منهم فقلت رسول الله ص صاحب الشريعة والحكم حكمه وليس أبو بكر كذلك فقال ما قلت هلا أخذه أبو بكر من المسلمين قهرا فدفعه إلى فاطمة وإنما قلت هلا استنزل المسلمين عنه واستوهبه منهم لها كما استوهب رسول الله ص المسلمين فداء أبي العاص أ تراه لو قال هذه بنت نبيكم قد حضرت تطلب هذه النخلات أ فتطيبون عنها نفسا أ كانوا منعوها ذلك فقلت له قد قال قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد نحو هذا قال إنهما لم يأتيا بحسن في شرع التكرم وإن كان ما أتياه حسنا في الدين . قال محمد بن إسحاق وكان رسول الله ص لما أطلق سبيل أبي العاص أخذ عليه فيما نرى أو شرط عليه في إطلاقه أو أن أبا العاص وعد رسول الله ص ابتداء بأن يحمل زينب إليه إلى المدينة ولم يظهر ذلك من أبي العاص ولا من رسول الله ص إلا أنه لما خلي سبيله وخرج إلى مكة بعث رسول الله ص بعده زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار فقال لهما كونا بمكان كذا حتى تمر بكما زينب فتصحبانها حتى تأتياني بها فخرجا نحو مكة وذلك بعد بدر بشهر
[ 192 ](1/4042)
أو شيعه فلما قدم أبو العاص مكة أمرها باللحوق بأبيها فأخذت تتجهز قال محمد بن إسحاق فحدثت عن زينب أنها قالت بينا أنا أتجهز للحوق بأبي لقيتني هند بنت عتبة فقالت أ لم يبلغني يا بنت محمد أنك تريدين اللحوق بأبيك فقلت ما أردت ذلك فقالت أي بنت عم لا تفعلي إن كانت لك حاجة في متاع أو فيما يرفق بك في سفرك أو مال تبلغين به إلى أبيك فإن عندي حاجتك فلا تضطني مني فإنه لا يدخل بين النساء ما يدخل بين الرجال قالت وايم الله إني لأظنها حينئذ صادقة ما أظنها قالت حينئذ إلا لتفعل ولكن خفتها فأنكرت أن أكون أريد ذلك قالت وتجهزت حتى فرغت من جهازي فحملني أخو بعلي وهو كنانة بن الربيع . قال محمد بن إسحاق قدم لها كنانة بن الربيع بعيرا فركبته وأخذ قوسه وكنانته وخرج بها نهارا يقود بعيرها وهي في هودج لها وتحدث بذلك الرجال من قريش والنساء وتلاومت في ذلك وأشفقت أن تخرج ابنة محمد من بينهم على تلك الحال فخرجوا في طلبها سراعا حتى أدركوها بذي طوى فكان أول من سبق إليها هبار بن الأسود بن عبد المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي ونافع بن عبد القيس الفهري فروعها هبار بالرمح وهي في الهودج وكانت حاملا فلما رجعت طرحت ما في بطنها وقد كانت من خوفها رأت دما وهي في الهودج فلذلك أباح رسول الله ص يوم فتح مكة دم هبار بن الأسود .
[ 193 ](1/4043)
قلت وهذا الخبر أيضا قرأته على النقيب أبي جعفر رحمه الله فقال إذا كان رسول الله ص أباح دم هبار بن الأسود لأنه روع زينب فألقت ذا بطنها فظهر الحال أنه لو كان حيا لأباح دم من روع فاطمة حتى ألقت ذا بطنها فقلت أروي عنك ما يقوله قوم إن فاطمة روعت فألقت المحسن فقال لا تروه عني ولا ترو عني بطلانه فإني متوقف في هذا الموضع لتعارض الأخبار عندي فيه . قال الواقدي فبرك حموها كنانة بن الربيع ونثل كنانته بين يديه ثم أخذ منها سهما فوضعه في كبد قوسه وقال أحلف بالله لا يدنو اليوم منها رجل إلا وضعت فيه سهما فتكر الناس عنه . قال وجاء أبو سفيان بن حرب في جلة من قريش فقال أيها الرجل اكفف عنا نبلك حتى نكلمك فكف فأقبل أبو سفيان حتى وقف عليه فقال إنك لم تحسن ولم تصب خرجت بالمرأة على رءوس الناس علانية جهارا وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا وما دخل علينا من محمد أبيها فيظن الناس إذا أنت خرجت بابنته إليه جهارا أن ذلك عن ذل أصابنا وأن ذلك منا وهن ولعمري ما لنا في حبسها عن أبيها من حاجة وما فيها من ثأر ولكن ارجع بالمرأة حتى إذا هدأت الأصوات وتحدث الناس بردها سلها سلا خفيا فألحقها بأبيها فردها كنانة بن الربيع إلى مكة فأقامت بها ليالي حتى إذا هدأ الصوت عنها حملها على بعيرها وخرج بها ليلا حتى سلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه فقدما بها على رسول الله ص .
قال محمد بن إسحاق فروى سليمان بن يسار عن أبي إسحاق الدوسي عن
[ 194 ](1/4044)
أبي هريرة قال بعث رسول الله ص سرية أنا فيها إلى عير لقريش فيها متاع لهم وناس منهم فقال إن ظفرتم بهبار بن الأسود ونافع بن عبد قيس فحرقوهما بالنار حتى إذا كان الغد بعث فقال لنا إني كنت قد أمرتكم بتحريق الرجلين إن أخذتموهما ثم رأيت أنه لا ينبغي لأحد أن يعذب بالنار إلا الله تعالى فإن ظفرتم بهما فاقتلوهما ولا تحرقوهما . قلت لقائل من المجبرة أن يقول أ ليس هذا نسخ الشي ء قبل تقضي وقت فعله وأهل العدل لا يجيزون ذلك وهذا السؤال مشكل ولا جواب عنه إلا بدفع الخبر أما بتضعيف أحد من رواته أو إبطال الاحتجاج به لكونه خبر واحد أو بوجه آخر وهو أن نجيز للنبي الاجتهاد في الأحكام الشرعية كما يذهب إليه كثير من شيوخنا وهو مذهب القاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة ومثل هذا الخبر حديث براءة وإنفاذها مع أبي بكر وبعث علي ع فأخذها منه في الطريق وقرأها على أهل مكة بعد أن كان أبو بكر هو المأمور بقراءتها عليهم . فأما البلاذري فإنه روى أن هبار بن الأسود كان ممن عرض لزينب بنت رسول الله ص حين حملت من مكة إلى المدينة فكان رسول الله ص يأمر سراياه إن ظفروا به أن يحرقوه بالنار ثم قال لا يعذب بالنار إلا رب النار وأمرهم إن ظفروا به أن يقطعوا يديه ورجليه ويقتلوه فلم يظفروا به حتى إذا كان يوم الفتح هرب هبار ثم قدم على رسول الله ص بالمدينة ويقال أتاه بالجعرانة حين فرغ من أمر حنين فمثل بين يديه وهو يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبل إسلامه وأمر ألا يعرض له وخرجت سلمى مولاة رسول الله ص
[ 195 ](1/4045)
فقالت لا أنعم الله بك عينا فقال رسول الله ص مهلا فقد محا الإسلام ما قبله . قال البلاذري فقال الزبير بن العوام لقد رأيت رسول الله ص بعد غلظته على هبار بن الأسود يطأطئ رأسه استحياء منه وهبار يعتذر إليه وهو يعتذر إلى هبار أيضا . قال محمد بن إسحاق فأقام أبو العاص بمكة على شركه وأقامت زينب عند أبيها ص بالمدينة قد فرق بينهما الإسلام حتى إذا كان قبل الفتح خرج أبو العاص تاجرا إلى الشام بمال له وأموال لقريش أبضعوا بها معه وكان رجلا مأمونا فلما فرغ من تجارته وأقبل قافلا لقيته سرية لرسول الله ص فأصابوا ما معه وأعجزهم هو هاربا فخرجت السرية بما أصابت من ماله حتى قدمت به على رسول الله ص وخرج أبو العاص تحت الليل حتى دخل على زينب ابنة رسول الله ص منزلها فاستجار بها فأجارته وإنما جاء في طلب ماله الذي أصابته تلك السرية فلما كبر رسول الله ص في صلاة الصبح وكبر الناس معه صرخت زينب من صفة النساء أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع فصلى رسول الله ص بالناس الصبح فلما سلم من الصلاة أقبل عليهم فقال أيها الناس هل سمعتم ما سمعت قالوا نعم قال أما والذي نفس محمد بيده ما علمت بشي ء مما كان حتى سمعتم إنه يجير على الناس أدناهم ثم انصرف ودخل على ابنته زينب فقال أي بنية أكرمي مثواه وأحسني قراه ولا يصلن إليك فإنك
[ 196 ](1/4046)
لا تحلين له ثم بعث إلى تلك السرية الذين كانوا أصابوا مال أبي العاص فقال لهم إن هذا الرجل منا بحيث علمتم وقد أصبتم له مالا فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له فإنا نحب ذلك وإن أبيتم فهو في ء الله الذي أفاء عليكم وأنتم أحق به فقالوا يا رسول الله بل نرده عليه فردوا عليه ماله ومتاعه حتى إن الرجل كان يأتي بالحبل ويأتي الآخر بالشنة ويأتي الآخر بالإداوة والآخر بالشظاظ حتى ردوا ماله ومتاعه بأسره من عند آخره ولم يفقد منه شيئا ثم احتمل إلى مكة فلما قدمها أدى إلى كل ذي مال من قريش ماله ممن كان أبضع معه بشي ء حتى إذا فرغ من ذلك قال لهم يا معشر قريش هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه قالوا لا فجزاك الله خيرا لقد وجدناك وفيا كريما قال فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله والله ما منعني من الإسلام إلا تخوف أن تظنوا أني أردت أن آكل أموالكم وأذهب بها فإذ سلمها الله لكم وأداها إليكم فإني أشهدكم أني قد أسلمت واتبعت دين محمد ثم خرج سريعا حتى قدم على رسول الله المدينة . قال محمد بن إسحاق فحدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله ص رد زينب بعد ست سنين على أبي العاص بالنكاح الأول لم يحدث شيئا قال الواقدي فلما فرغ رسول الله ص من أمر الأسارى وفرق الله عز وجل ببدر بين الكفر والإيمان أذل رقاب المشركين والمنافقين واليهود ولم يبق بالمدينة يهودي ولا منافق إلا خضعت عنقه .
[ 197 ]
و قال قوم من المنافقين ليتنا خرجنا معه حتى نصيب غنيمة وقالت يهود فيما بينها هو الذي نجد نعته في كتبنا والله لا ترفع له راية بعد اليوم إلا ظهرت . وقال كعب بن الأشرف بطن الأرض اليوم خير من ظهرها هؤلاء أشراف الناس وساداتهم وملوك العرب وأهل الحرم والأمن قد أصيبوا وخرج إلى مكة فنزل على أبي وداعة بن ضبيرة وجعله يرسل هجاء المسلمين ورثى قتلى بدر من المشركين فقال(1/4047)
طحنت رحى بدر لمهلك أهله
و لمثل بدر يستهل ويدمع
قتلت سراة الناس حول حياضه
لا تبعدوا إن الملوك تصرع
و يقول أقوام أذل بعزهم
إن ابن أشرف ظل كعبا يجزع
صدقوا فليت الأرض ساعة قتلوا
ظلت تسيخ بأهلها وتصدع
نبئت أن الحارث بن هشامهم
في الناس يبني الصالحات ويجمع
ليزور يثرب بالجموع وإنما
يسعى على الحسب القديم الأروع
قال الواقدي أملاها علي عبد الله بن جعفر ومحمد بن صالح وابن أبي الزناد فلما أرسل كعب هذه الأبيات أخذها الناس بمكة عنه وأظهروا المراثي وقد كانوا حرموها كيلا يشمت المسلمون بهم وجعل الصبيان والجواري ينشدونها بمكة فناحت بها قريش
[ 198 ](1/4048)
على قتلاها شهرا ولم تبق دار بمكة إلا فيها النوح وجز النساء شعورهن وكان يؤتى براحلة الرجل منهم أو بفرسه فتوقف بين أظهرهم فينوحون حولها وخرجن إلى السكك وضربن الستور في الأزقة وقطعن فخرجن إليها ينحن وصدق أهل مكة رؤيا عاتكة وجهيم بن الصلت . قال الواقدي وكان الذين قدموا من قريش في فداء الأسرى أربعة عشر رجلا وقيل خمسة عشر رجلا وكان أول من قدم المطلب بن أبي وداعة ثم قدم الباقون بعده بثلاث ليال . قال فحدثني إسحاق بن يحيى قال سألت نافع بن جبير كيف كان الفداء قال أرفعهم أربعة آلاف إلى ثلاثة آلاف إلى ألفين إلى ألف إلا قوما لا مال لهم من عليهم رسول الله ص . قال الواقدي وقال رسول الله ص في أبي وداعة إن له بمكة ابنا كيسا له مال وهو مغل فداءه فلما قدم افتداه بأربعة آلاف وكان أول أسير افتدي وذلك أن قريشا قالت لابنه المطلب بن أبي وداعة ورأته يتجهز يخرج إليه لا تعجل فإنا نخاف أن تفسد علينا في أسارانا ويرى محمد تهالكنا فيغلي علينا الفدية فإن كنت تجد فإن كل قومك لا يجدون من السعة ما تجد فقال لا أخرج حتى تخرجوا فخادعهم حتى إذا غفلوا خرج من الليل على راحلته فسار أربعة ليال إلى المدينة فافتدى أباه بأربعة آلاف فلامه قريش في ذلك فقال ما كنت لأترك أبي أسيرا في أيدي القوم وأنتم مضجعون فقال أبو سفيان بن حرب إن هذا غلام حدث يعجب بنفسه وبرأيه وهو مفسد عليكم إني والله غير مفتد عمرو بن أبي سفيان ولو مكث سنة
[ 199 ](1/4049)
أو يرسله محمد والله ما أنا بأعوذكم ولكني أكره أن أدخل عليكم ما يشق عليكم ولكن يكون عمرو كأسوتكم . قال الواقدي فأما أسماء القوم الذين قدموا في الأسرى فإنه قدم من بني عبد شمس الوليد بن عقبة بن أبي معيط وعمرو بن الربيع أخو أبي العاص بن الربيع ومن بني نوفل بن عبد مناف جبير بن مطعم ومن بني عبد الدار بن قصي طلحة بن أبي طلحة ومن بني أسد بن عبد العزى بن قصي عثمان بن أبي حبيش ومن بني مخزوم عبد الله بن أبي ربيعة وخالد بن الوليد وهشام بن الوليد بن المغيرة وفروة بن السائب وعكرمة بن أبي جهل ومن بني جمح أبي بن خلف وعمير بن وهب ومن بني سهم المطلب بن أبي وداعة وعمرو بن قيس ومن بني مالك بن حسل مكرز بن حفص بن الأحنف كل هؤلاء قدموا المدينة في فداء أهلهم وعشائرهم وكان جبير بن مطعم يقول دخل الإسلام في قلبي منذ قدمت المدينة في الفداء سمعت رسول الله ص يقرأ في صلاة المغرب وَ اَلطُّورِ وَ كِتابٍ مَسْطُورٍ فاستمعت قراءته فدخل الإسلام في قلبي منذ ذلك اليوم(1/4050)
القول في تفصيل أسماء أسارى بدر ومن أسرهم
قال الواقدي أسر من بني هاشم العباس بن عبد المطلب أسره أبو اليسر كعب بن عمرو وعقيل بن أبي طالب أسره عبيد بن أوس الظفري ونوفل بن الحارث
[ 200 ]
بن عبد المطلب أسره جبار بن صخر وأسر حليف لبني هاشم من بني فهر اسمه عتبة فهؤلاء أربعة . ومن بني المطلب بن عبد مناف السائب بن عبيد وعبيد بن عمرو بن علقمة رجلان أسرهما سلمة بن أسلم بن حريش الأشهلي . قال الواقدي حدثني بذلك ابن أبي حبيبة قال ولم يقدم لهما أحد وكانا لا مال لهما ففك رسول الله ص عنهما بغير فدية . ومن بني عبد شمس بن عبد مناف عقبة بن أبي معيط المقتول صبرا على يد عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح بأمر رسول الله أسره عبد الله بن أبي سلمة العجلاني والحارث بن أبي وحرة بن أبي عمرو بن أمية أسره سعد بن أبي وقاص فقدم في فدائه الوليد بن عقبة بن أبي معيط فافتداه بأربعة آلاف . قال الواقدي وقد كان الحارث هذا لما أمر النبي ص برد الأسارى ثم أقرع بين أصحابه عليهم وقع في سهم سعد بن أبي وقاص الذي كان أسره أول مرة وعمرو بن أبي سفيان أسره علي بن أبي طالب ع وصار بالقرعة في سهم رسول الله ص فأطلقه بغير فدية أطلقه بسعد بن النعمان بن أكال من بني معاوية خرج معتمرا فحبس بمكة فلم يطلقه المشركون حتى أطلق رسول الله ص عمرو بن أبي سفيان . وروى محمد بن إسحاق في كتاب المغازي أن عمرو بن أبي سفيان أسره علي ع يوم بدر وكانت أمه ابنة عقبة بن أبي معيط فمكث في يد رسول الله ص فقيل لأبي سفيان أ لا تفتدي ابنك عمرا قال أ يجمع علي دمي ومالي قتلوا حنظلة وأفتدي عمرا دعوه في أيديهم فليمسكوه ما بدا لهم فبينا هو محبوس بالمدينة خرج
[ 201 ](1/4051)
سعد بن النعمان بن أكال أخو بني عمرو بن عوف معتمرا ومعه امرأة له وكان شيخا كبيرا لا يخشى ما صنع به أبو سفيان وقد عهد قريشا ألا يعرض لحاج ولا معتمر فعدا عليه أبو سفيان فحبسه بمكة بابنه عمرو بن أبي سفيان وأرسل إلى قوم بالمدينة هذا الشعر
أ رهط ابن أكال أجيبوا دعاءه
تعاقدتم لا تسلموا السيد الكهلا
فإن بني عمرو لئام أذلة
لئن لم يفكوا عن أسيرهم الكبلا
فمشى بنو عمرو بن عوف حين بلغهم الخبر إلى رسول الله ص فأخبروه بذلك وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبي سفيان ليفكوا به صاحبهم فأعطاهم إياه فبعثوا به إلى أبي سفيان فخلى سبيل سعد وقال حسان بن ثابت يجيب أبا سفيان
و لو كان سعد يوم مكة مطلقا
لأكثر فيكم قبل أن يؤسر القتلى
بعضب حسام أو بصفراء نبعة
تحن إذا ما أنبضت تحفز التبلا
و أبو العاص بن الربيع أسره خراش بن الصمة فقدم في فدائه عمرو بن أبي الربيع أخوه وحليف لهم يقال له أبو ريشة افتداه عمرو بن الربيع أيضا وعمرو بن الأزرق افتكه عمرو بن الربيع أيضا وكان قد صار في سهم تميم مولى خراش بن الصمة وعقبة بن الحارث الحضرمي أسره عمارة بن حزم فصار في القرعة لأبي بن كعب افتداه عمرو بن أبي سفيان بن أمية وأبو العاص بن نوفل بن عبد شمس أسره عمار بن ياسر قدم في فدائه ابن عمه فهؤلاء ثمانية .
[ 202 ](1/4052)
و من بني نوفل بن عبد مناف عدي بن الخيار أسره خراش بن الصمة وعثمان بن عبد شمس ابن أخي عتبة بن غزوان حليفهم أسره حارثة بن النعمان وأبو ثور أسره أبو مرثد الغنوي فهؤلاء ثلاثة افتداهم جبير بن مطعم . ومن بني عبد الدار بن قصي أبو عزيز بن عمير أسره أبو اليسر ثم صار بالقرعة لمحرز بن نضلة قال الواقدي أبو عزيز هذا هو أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه وقال مصعب لمحرز بن نضلة اشدد يديك به فإن له أما بمكة كثيرة المال فقال له أبو عزيز هذه وصاتك بي يا أخي فقال مصعب إنه أخي دونك فبعثت فيه أمه أربعة آلاف وذلك بعد أن سألت ما أغلى ما تفادي به قريش فقيل لها أربعة آلاف والأسود بن عامر بن الحارث بن السباق أسره حمزة بن عبد المطلب فهذان اثنان قدم في فدائهما طلحة بن أبي طلحة ومن بني أسد بن عبد العزى بن قصي السائب بن أبي حبيش بن المطلب بن أسد بن عبد العزى أسره عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن الحويرث بن عثمان بن أسد بن عبد العزى أسره حاطب بن أبي بلتعة وسالم بن شماخ أسره سعد بن أبي وقاص فهؤلاء ثلاثة قدم في فدائهم عثمان بن أبي حبيش بأربعة آلاف لكل رجل منهم . ومن بني تميم بن مرة مالك بن عبد الله بن عثمان أسره قطبة بن عامر بن حديدة فمات في المدينة أسيرا . ومن بني مخزوم خالد بن هشام بن المغيرة أسره سواد بن غزية وأمية بن أبي حذيفة بن المغيرة أسره بلال وعثمان بن عبد الله بن المغيرة وكان أفلت يوم نخلة أسره واقد بن عبد الله التميمي يوم بدر فقال له الحمد لله الذي أمكنني منك فقد كنت أفلت يوم نخلة وقدم في فداء هؤلاء الثلاثة عبد الله بن أبي ربيعة افتدى كل واحد منهم بأربعة آلاف والوليد بن الوليد بن المغيرة أسره عبد الله بن جحش
[ 203 ](1/4053)
فقدم في فدائه أخواه خالد بن الوليد وهشام بن الوليد فتمنع عبد الله بن جحش حتى افتكاه بأربعة آلاف فجعل هشام بن الوليد يريد ألا يبلغ ذلك يريد ثلاثة آلاف فقال خالد لهشام إنه ليس بابن أمك والله لو أبى فيه إلا كذا وكذا لفعلت فلما افتدياه خرجا به حتى بلغا به ذا الحليفة فأفلت فأتى النبي ص فأسلم فقيل أ لا أسلمت قبل أن تفتدى قال كرهت أن أسلم حتى أكون أسوة بقومي . قال الواقدي ويقال إن الذي أسر الوليد بن الوليد سليط بن قيس المازني وقيس بن السائب أسره عبدة بن الحسحاس فحبسه عنده حينا وهو يظن أن له مالا ثم قدم في فدائه أخوه فروة بن السائب فأقام أيضا حينا ثم افتداه بأربعة آلاف فيها عروض . ومن بني أبي رفاعة صيفي بن أبي رفاعة بن عائذ بن عبد الله بن عمير بن مخزوم وكان لا مال له أسره رجل من المسلمين فمكث عندهم ثم أرسله وأبو المنذر بن أبي رفاعة بن عائذ افتدي بألفين ولم يذكر الواقدي من أسره وعبد الله وهو أبو عطاء بن السائب بن عائذ بن عبد الله افتدي بألف درهم أسره سعد بن أبي وقاص والمطلب بن حنظلة بن الحارث بن عبيد بن عمير بن مخزوم أسره أبو أيوب الأنصاري ولم يكن له مال فأرسله بعد حين وخالد بن الأعلم العقيلي حليف لبني مخزوم وهو الذي يقول
و لسنا على الأعقاب تدمى كلومنا
و لكن على أقدامنا تقطر الدما
[ 204 ](1/4054)
و قال محمد بن إسحاق روي أنه كان أول المنهزمين أسره الخباب بن المنذر بن الجموح وقدم في فدائه عكرمة بن أبي جهل فهؤلاء عشرة . ومن بني جمح عبد الله بن أبي بن خلف أسره فروة بن أبي عمرو البياضي قدم في فدائه أبوه أبي بن خلف فتمنع به فروة حينا وأبو غزة عمرو بن عبد الله بن وهب أطلقه رسول الله ص بغير فدية وكان شاعرا خبيث اللسان ثم قتله يوم أحد بعد أن أسره ولم يذكر الواقدي الذي أسره يوم بدر ووهب بن عمير بن وهب أسره رفاعة بن رافع الزرقي وقدم أبوه عمير بن وهب في فدائه فأسلم فأرسل النبي ص له ابنه بغير فداء وربيعة بن دراج بن العنبس بن وهبان بن وهب بن حذافة بن جمح وكان لا مال له فأخذ منه بشي ء يسير وأرسل به ولم يذكر الواقدي من أسره والفاكه مولى أمية بن خلف أسره سعد بن أبي وقاص فهؤلاء خمسة . ومن بني سهم بن عمرو أبو وداعة بن ضبيرة وكان أول أسير افتدي قدم في فدائه ابنه المطلب فافتداه بأربعة آلاف ولم يذكر الواقدي من أسره وفروة بن قيس بن عدي بن حذافة بن سعيد بن سهم أسره ثابت بن أقزم وقدم في فدائه عمرو بن قيس افتداه بأربعة آلاف وحنظلة بن قبيصة بن حذاقة بن سعد أسره عثمان بن مظعون والحجاج بن الحارث بن قيس بن سعد بن سهم أسره عبد الرحمن بن عوف فأفلت فأخذه أبو داود المازني فهؤلاء أربعة . ومن بني مالك بن حسل سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك أسره مالك بن الدخشم وقدم في فدائه مكرز بن حفص بن الأحنف وانتهى في فدائه إلى إرضائهم بأربعة آلاف فقالوا هات المال فقال نعم اجعلوا رجلا مكان رجل
[ 205 ](1/4055)
و قوم يروونها رجلا مكان رجل فخلوا سبيل سهيل وحبسوا مكرز بن حفص عندهم حتى بعث سهيل بالمال من مكة وعبد الله بن زمعة بن قيس بن نصر بن مالك أسره عمير بن عوف مولى سهيل بن عمرو وعبد العزى بن مشنوء بن وقدان بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود سماه رسول الله ص بعد إسلامه عبد الرحمن أسره النعمان بن مالك فهؤلاء ثلاثة . ومن بني فهر الطفيل بن أبي قنيع فهؤلاء ستة وأربعون أسيرا . وفي كتاب الواقدي أنه كان الأسارى الذين أحصوا وعرفوا تسعة وأربعين ولم نجد التفصيل يلحق هذه الجملة . وروى الواقدي عن سعيد بن المسيب قال كانت الأسارى سبعين وأن القتلى كانت زيادة على سبعين إلا أن المعروفين من الأسرى هم الذين ذكرناهم والباقون لم يذكر المؤرخون أسماءهم(1/4056)
القول في المطعمين في بدر من المشركين
قال الواقدي المتفق عليه ولا خلاف بينهم فيه تسعة فمن بني عبد مناف الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف وعتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس . ومن بني أسد بن عبد العزى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد ونوفل بن خويلد المعروف بابن العدوية . ومن بني مخزوم أبو جهل عمرو بن هشام بن المغيرة . ومن بني جمح أمية بن خلف .
[ 206 ]
و من بني سهم نبيه ومنبه ابنا الحجاج . فهؤلاء تسعة . قال الواقدي وكان سعيد بن المسيب يقول ما أطعم أحد ببدر إلا قتل . قال الواقدي قد ذكروا عدة من المطعمين اختلف فيهم كسهيل بن عمرو وأبي البختري وغيرهما . قال حدثني إسماعيل بن إبراهيم عن موسى بن عتبة قال أول من نحر لهم أبو جهل بمر الظهران عشرا ثم أمية بن خلف بعسفان تسعا ثم سهيل بن عمرو بقديد عشرا ثم مالوا إلى مياه من نحو البحر ضلوا الطريق فأقاموا بها يوما فنحر لهم شيبة بن ربيعة تسعا ثم أصبحوا بالأبواء فنحر لهم قيس الجمحي تسعا ثم نحر عتبة عشرا ونحر لهم الحارث بن عمرو تسعا ثم نحر لهم أبو البختري على ماء بدر عشرا ونحر لهم مقيس بن ضبابة على ماء بدر تسعا ثم شغلتهم الحرب . قال الواقدي وقد كان ابن أبي الزناد يقول والله ما أظن مقيسا كان يقدر على قلوص واحدة . قال الواقدي وأما أنا فلا أعرف قيسا الجمحي قال وقد روت أم بكر عن المسور بن مخرمة ابنها قال كان النفر يشتركون في الإطعام فينسب إلى الرجل الواحد ويسكت عن سائرهم . وروى محمد بن إسحاق أن العباس بن عبد المطلب كان من المطعمين في بدر وكذلك طعيمة بن عدي بن نوفل كان يعتقب هو وحكيم والحارث بن عامر بن نوفل وكان أبو البختري يعتقب هو وحكيم بن حزام في الإطعام وكان النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار من المطعمين قال وكان النبي ص يكره قتل
[ 207 ](1/4057)