قال أبو العباس وكان المغيرة بن شعبة وهو والي الكوفة صار إلى دير هند بنت النعمان بن المنذر وهي فيه عمياء مترهبة فاستأذن عليها فقيل لها أمير هذه المدرة بالباب قالت قولوا له من ولد جبلة بن الأيهم أنت قال لا قالت أ فمن ولد المنذر بن ماء السماء أنت قال لا قالت فمن أنت قال أنا المغيرة بن شعبة الثقفي قالت فما حاجتك قال جئت خاطبا قالت لو كنت جئتني لجمال أو حال لأطلبنك ولكن أردت أن تتشرف بي في محافل العرب فتقول نكحت ابنة النعمان بن المنذر وإلا فأي خير في اجتماع أعور وعمياء فبعث إليها كيف كان أمركم قالت سأختصر لك الجواب أمسينا وليس في الأرض عربي إلا وهو يرهبنا أو يرغب إلينا وأصبحنا وليس في الأرض عربي إلا ونحن نرهبه ونرغب إليه قال فما كان أبوك يقول في ثقيف قالت أذكر وقد اختصم إليه رجلان منهم أحدهما ينتهي إلى إياد والآخر إلى هوازن فقضى للإيادي وقال
إن ثقيفا لم تكن هوازنا
و لم تناسب عامرا أو مازنا
فقال المغيرة أما نحن فمن بكر بن هوازن فليقل أبوك ما شاء ثم انصرف . وقال قوم آخرون إن ثقيفا من بقايا ثمود من العرب القديمة التي بادت وانقرضت .
[ 306 ]
قال أبو العباس وقد قال الحجاج على المنبر يزعمون أنا من بقايا ثمود فقد كذبهم الله بقوله وَ ثَمُودَ فَما أَبْقى . وقال مرة أخرى ولئن كنا من بقايا ثمود لما نجا مع صالح إلا خيارهم . وقال الحجاج يوما لأبي العسوس الطائي أي أقدم أ نزول ثقيف الطائف أم نزول طيئ الجبلين فقال له أبو العسوس إن كانت ثقيف من بكر بن هوازن فنزول طيئ الجبلين قبلها وإن كانت من بقايا ثمود فهي أقدم فقال الحجاج اتقني فإني سريع الخطفة للأحمق المتهور فقال أبو العسوس قال أبو العباس وكان أعرابيا قحا إلا أنه لطيف الطبع وكان الحجاج يمازحه
يؤدبني الحجاج تأديب أهله
فلو كنت من أولاد يوسف ما عدا
و إني لأخشى ضربة ثقفية
يقد بها ممن عصاه المقلدا
على أنني مما أحاذر آمن(1/2426)
إذا قيل يوما قد عصى المرء واعتدى
و قتل المغيرة بن الأخنس مع عثمان يوم الدار وقد ذكرنا مقتله فيما تقدم . تم الجزء الثامن من شرح نهج البلاغة ويليه الجزء التاسع(1/2427)
الجزء الثامن
تتمة الخطب والأوامر
124 ومن كلام له ع في حث أصحابه على القتال
عود إلى أخبار صفين
125 ومن كلام له ع في الخوارج لما أنكروا تحكيم الرجال ويذم فيه أصحابه في التحكيم
126 ومن كلام له ع لما عوقب على التسوية في العطاء وتصييره الناس أسوة في العطاء من غير تفضيل أولي السابقات والشرف
127 ومن كلام له ع قاله للخوارج أيضا
مذهب الخوارج في تكفير أهل الكبائر
فصل في ذكر الغلاة من الشيعة والنصيرية وغيرهم
128 ومن كلام له ع فيما يخبر به عن الملاحم بالبصرة
أخبار صاحب الزنج وفتنته وما انتحله من عقائد
فصل في ذكر جنكزخان وفتنة التتر
129 ومن خطبة له ع في ذكر المكاييل والموازين
نبذ من أقوال الحكماء والصالحين
130 ومن كلام له ع لأبي ذر رحمه الله لما أخرج إلى الربذة
أخبار أبي ذر الغفاري حين خروجه إلى الربذة
131 ومن كلام له ع
132 ومن خطبة له ع
133 ومن كلام له ع
فصل في الجناس وأنواعه
134 ومن كلام له ع وقد شاوره عمر بن الخطاب في الخروج إلى غزو الروم
غزوة فلسطين وفتح بيت المقدس
135 ومن كلام له ع وقد وقعت بينه وبين عثمان مشاجرة
فصل في نسب ثقيف وطرف من أخبارهم(1/2428)
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد المعتزلي
الجزء التاسع(1/2429)
تتمة الخطب والأوامر(1/2430)
تتمة خطبة 135(1/2431)
ذكر أطراف مما شجر بين علي وعثمان في أثناء خلافته
و اعلم أن هذا الكتاب يستدعي منا أن نذكر أطرافا مما شجر بين أمير المؤمنين ع وعثمان أيام خلافته إذ كان هذا الكلام الذي شرحناه من ذلك النمط والشي ء يذكر بنظيره وعادتنا في هذا الشرح أن نذكر الشي ء مع ما يناسبه ويقتضي ذكره . قال أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب أخبار السقيفة حدثني محمد بن منصور الرمادي عن عبد الرزاق عن معمر عن زياد بن جبل عن أبي كعب الحارثي وهو ذو الإداوة قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز وإنما سمي ذا الإداوة لأنه قال إني خرجت في طلب إبل ضوال فتزودت لبنا في إداوة ثم قلت في نفسي ما أنصفت ربي فأين الوضوء فأرقت اللبن وملأتها ماء فقلت هذا وضوء وشراب وطفقت أبغي إبلي فلما أردت الوضوء اصطببت من الإداوة ماء فتوضأت ثم أردت الشرب فلما اصطببتها إذا لبن فشربت فمكثت بذلك ثلاثا فقالت
[ 4 ](1/2432)
له أسماء النحرانية يا أبا كعب أ حقينا كان أم حليبا قال إنك لبطالة كان يعصم من الجوع ويروي من الظمأ أما إني حدثت بهذا نفرا من قومي منهم علي بن الحارث سيد بني قنان فلم يصدقني وقال ما أظن الذي تقول كما قلت فقلت الله أعلم بذلك ورجعت إلى منزلي فبت ليلتي تلك فإذا به صلاة الصبح على بابي فخرجت إليه فقلت رحمك الله لم تعنيت ألا أرسلت إلي فآتيك فإني لأحق بذلك منك قال ما نمت الليلة إلا أتاني آت فقال أنت الذي تكذب من يحدث بما أنعم الله عليه قال أبو كعب ثم خرجت حتى أتيت المدينة فأتيت عثمان بن عفان وهو الخليفة يومئذ فسألته عن شي ء من أمر ديني وقلت يا أمير المؤمنين إني رجل من أهل اليمن من بني الحارث بن كعب وإني أريد أن أسألك فأمر حاجبك ألا يحجبني فقال يا وثاب إذا جاءك هذا الحارثي فأذن له قال فكنت إذا جئت فقرعت الباب قال من ذا فقلت الحارثي فيقول ادخل فدخلت يوما فإذا عثمان جالس وحوله نفر سكوت لا يتكلمون كأن على رءوسهم الطير فسلمت ثم جلست فلم أسأله عن شي ء لما رأيت من حالهم وحاله فبينا أنا كذلك إذ جاء نفر فقالوا إنه أبى أن يجي ء قال فغضب وقال أبى أن يجي ء اذهبوا فجيئوا به فإن أبى فجروه جرا . قال فمكثت قليلا فجاءوا ومعهم رجل آدم طوال أصلع في مقدم رأسه شعرات وفي قفاه شعرات فقلت من هذا قالوا عمار بن ياسر فقال له عثمان أنت الذي تأتيك رسلنا فتأبى أن تجي ء قال فكلمه بشي ء لم أدر ما هو ثم خرج فما زالوا
[ 5 ](1/2433)
ينفضون من عنده حتى ما بقي غيري فقام فقلت والله لا أسأل عن هذا الأمر أحدا أقول حدثني فلان حتى أدري ما يصنع فتبعته حتى دخل المسجد فإذا عمار جالس إلى سارية وحوله نفر من أصحاب رسول الله ص يبكون فقال عثمان يا وثاب علي بالشرط فجاءوا فقال فرقوا بين هؤلاء ففرقوا بينهم . ثم أقيمت الصلاة فتقدم عثمان فصلى بهم فلما كبر قالت امرأة من حجرتها يا أيها الناس ثم تكلمت وذكرت رسول الله ص وما بعثه الله به ثم قالت تركتم أمر الله وخالفتم عهده . . . ونحو هذا ثم صمتت وتكلمت امرأة أخرى بمثل ذلك فإذا هما عائشة وحفصة . قال فسلم عثمان ثم أقبل على الناس وقال إن هاتين لفتانتان يحل لي سبهما وأنا بأصلهما عالم . فقال له سعد بن أبي وقاص أ تقول هذا لحبائب رسول الله ص فقال وفيم أنت وما هاهنا ثم أقبل نحو سعد عامدا ليضربه فانسل سعد . فخرج من المسجد فاتبعه عثمان فلقي عليا ع بباب المسجد فقال له ع أين تريد قال أريد هذا الذي كذا وكذا يعني سعدا يشتمه فقال له علي ع أيها الرجل دع عنك هذا قال فلم يزل بينهما كلام حتى غضبا فقال عثمان أ لست الذي خلفك رسول الله ص له يوم تبوك فقال علي أ لست الفار عن رسول الله ص يوم أحد . قال ثم حجز الناس بينهما قال ثم خرجت من المدينة حتى انتهيت إلى الكوفة فوجدت أهلها أيضا وقع بينهم شر ونشبوا في الفتنة وردوا سعيد بن العاص فلم يدعوه يدخل إليهم فلما رأيت ذلك رجعت حتى أتيت بلاد قومي .
[ 6 ](1/2434)
و روى الزبير بن بكار في كتاب الموفقيات عن عمه عن عيسى بن داود عن رجاله قال قال ابن عباس رحمه الله لما بنى عثمان داره بالمدينة أكثر الناس عليه في ذلك فبلغه فخطبنا في يوم جمعة ثم صلى بنا ثم عاد إلى المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله ثم قال أما بعد فإن النعمة إذا حدثت حدث لها حساد حسبها وأعداء قدرها وإن الله لم يحدث لنا نعما ليحدث لها حساد عليها ومنافسون فيها ولكنه قد كان من بناء منزلنا هذا ما كان إرادة جمع المال فيه وضم القاصية إليه فأتانا عن أناس منكم أنهم يقولون أخذ فيئنا وأنفق شيئنا واستأثر بأموالنا يمشون خمرا وينطقون سرا كأنا غيب عنهم وكأنهم يهابون مواجهتنا معرفة منهم بدحوض حجتهم فإذ غابوا عنا يروح بعضهم إلى بعض يذكرنا وقد وجدوا على ذلك أعوانا من نظرائهم ومؤازرين من شبابهم فبعدا بعدا ورغما رغما ثم أنشد بيتين كأنه يومئ فيهما إلى علي ع .
توقد بنار أينما كنت واشتعل
فلست ترى مما تعالج شافيا
تشط فيقضي الأمر دونك أهله
وشيكا ولا تدعى إذا كنت نائيا
ما لي ولفيئكم وأخذ مالكم أ لست من أكثر قريش مالا وأظهرهم من الله نعمة أ لم أكن على ذلك قبل الإسلام وبعده وهبوني بنيت منزلا من بيت المال أ ليس هو لي ولكم أ لم أقم أموركم وإني من وراء حاجاتكم فما تفقدون من حقوقكم شيئا فلم لا أصنع في الفضل ما أحببت فلم كنت إماما إذا . ألا وإن من أعجب العجب أنه بلغني عنكم أنكم تقولون لنفعلن به ولنفعلن فبمن تفعلون لله آباؤكم أ بنقد البقاع أم بفقع القاع أ لست أحراكم إن دعا أن يجاب وأقمنكم إن أمر أن يطاع
[ 7 ](1/2435)
لهفي على بقائي فيكم بعد أصحابي وحياتي فيكم بعد أترابي يا ليتني تقدمت قبل هذا لكني لا أحب خلاف ما أحبه الله لي عز وجل إذا شئتم فإن الصادق المصدق محمدا ص قد حدثني بما هو كائن من أمري وأمركم وهذا بدء ذلك وأوله فكيف الهرب مما حتم وقدر أما إنه ع قد بشرني في آخر حديثه بالجنة دونكم إذا شئتم فلا أفلح من ندم . قال ثم هم بالنزول فبصر بعلي بن أبي طالب ع ومعه عمار بن ياسر رضي الله عنه وناس من أهل هواه يتناجون فقال إيها إيها أ سرارا لا جهارا أما والذي نفسي بيده ما أحنق على جرة ولا أوتى من ضعف مرة ولو لا النظر لي ولكم والرفق بي وبكم لعاجلتكم فقد اغتررتم وأفلتم من أنفسكم . ثم رفع يديه يدعو ويقول اللهم قد تعلم حبي للعافية فألبسنيها وإيثاري للسلامة فآتنيها . قال فتفرق القوم عن علي ع وقام عدي بن الخيار فقال أتم الله عليك يا أمير المؤمنين النعمة وزادك في الكرامة والله لأن تحسد أفضل من أن تحسد ولأن تنافس أجل من أن تنافس أنت والله في حسبنا الصميم ومنصبنا الكريم إن دعوت أجبت وإن أمرت أطعت فقل نفعل وادع تجب جعلت الخيرة والشورى إلى أصحاب رسول الله ص ليختاروا لهم ولغيرهم وإنهم ليرون مكانك ويعرفون مكان غيرك فاختاروك منيبين طائعين غير مكرهين ولا مجبرين ما غيرت ولا فارقت ولا بدلت ولا خالفت فعلام يقدمون عليك وهذا رأيهم فيك أنت والله كما قال الأول
اذهب إليك فما للحسود
إلا طلابك تحت العثار
[ 8 ]
حكمت فما جرت في خلة
فحكمك بالحق بادي المنار
فإن يسبعوك فسرا وقد
جهرت بسيفك كل الجهار(1/2436)
قال ونزل عثمان فأتى منزله وأتاه الناس وفيهم ابن عباس فلما أخذوا مجالسهم أقبل على ابن عباس فقال ما لي ولكم يا ابن عباس ما أغراكم بي وأولعكم بتعقب أمري أ تنقمون علي أمر العامة أتيت من وراء حقوقهم أم أمركم فقد جعلتهم يتمنون منزلتكم لا والله لكن الحسد والبغي وتثوير الشر وإحياء الفتن والله لقد ألقى النبي ص إلي ذلك وأخبرني به عن أهله واحدا واحدا والله ما كذبت ولا أنا بمكذوب . فقال ابن عباس على رسلك يا أمير المؤمنين فو الله ما عهدتك جهرا بسرك ولا مظهرا ما في نفسك فما الذي هيجك وثورك إنا لم يولعنا بك أمر ولم نتعقب أمرك بشي ء أتيت بالكذب وتسوف عليك بالباطل والله ما نقمنا عليك لنا ولا للعامة قد أوتيت من وراء حقوقنا وحقوقهم وقضيت ما يلزمك لنا ولهم فأما الحسد والبغي وتثوير الفتن وإحياء الشر فمتى رضيت به عترة النبي وأهل بيته وكيف وهم منه وإليه على دين الله يثورون الشر أم على الله يحيون الفتن كلا ليس البغي ولا الحسد من طباعهم فاتئد يا أمير المؤمنين وأبصر أمرك وأمسك عليك فإن حالتك الأولى خير من حالتك الأخرى لعمري إن كنت لأثيرا عند رسول الله وإن كان يفضي إليك بسره ما يطويه عن غيرك ولا كذبت ولا أنت بمكذوب اخسأ الشيطان عنك ولا يركبك واغلب غضبك ولا يغلبك فما دعاك إلى هذا الأمر الذي كان منك .
[ 9 ](1/2437)
قال دعاني إليه ابن عمك علي بن أبي طالب فقال ابن عباس وعسى أن يكذب مبلغك قال عثمان إنه ثقة قال ابن عباس إنه ليس بثقة من بلغ وأغرى قال عثمان يا ابن عباس آلله إنك ما تعلم من علي ما شكوت منه قال اللهم لا إلا أن يقول كما يقول الناس وينقم كما ينقمون فمن أغراك به وأولعك بذكره دونهم فقال عثمان إنما آفتي من أعظم الداء الذي ينصب نفسه لرأس الأمر وهو علي ابن عمك وهذا والله كله من نكده وشؤمه قال ابن عباس مهلا استثن يا أمير المؤمنين قل إن شاء الله فقال إن شاء الله ثم قال إني أنشدك يا ابن عباس الإسلام والرحم فقد والله غلبت وابتليت بكم والله لوددت أن هذا الأمر كان صار إليكم دوني فحملتموه عني وكنت أحد أعوانكم عليه إذا والله لوجدتموني لكم خيرا مما وجدتكم لي ولقد علمت أن الأمر لكم ولكن قومكم دفعوكم عنه واختزلوه دونكم فو الله ما أدري أ دفعوه عنكم أم دفعوكم عنه . قال ابن عباس مهلا يا أمير المؤمنين فإنا ننشدك الله والإسلام والرحم مثل ما نشدتنا أن تطمع فينا وفيك عدوا وتشمت بنا وبك حسودا إن أمرك إليك ما كان قولا فإذا صار فعلا فليس إليك ولا في يديك وإنا والله لنخالفن إن خولفنا ولننازعن إن نوزعنا وما تمنيك أن يكون الأمر صار إلينا دونك إلا أن يقول قائل منا ما يقوله الناس ويعيب كما عابوا فأما صرف قومنا عنا الأمر فعن حسد قد والله عرفته وبغي قد والله علمته فالله بيننا وبين قومنا وأما قولك إنك لا تدري أ دفعوه عنا أم دفعونا عنه فلعمري إنك لتعرف أنه لو صار إلينا هذا الأمر ما زدنا به فضلا إلى فضلنا ولا قدرا إلى قدرنا وإنا لأهل الفضل وأهل القدر وما فضل فاضل إلا بفضلنا ولا سبق سابق إلا بسبقنا ولو لا هدينا ما اهتدى أحد ولا أبصروا من عمى ولا قصدوا من جور . فقال عثمان حتى متى يا ابن عباس يأتيني عنكم ما يأتيني هبوني كنت بعيدا أ ما كان لي من الحق عليكم أن أراقب وأن أناظر(1/2438)
بلى ورب الكعبة ولكن الفرقة
[ 10 ]
سهلت لكم القول في وتقدمت بكم إلى الإسراع إلي والله المستعان . قال ابن عباس مهلا حتى ألقى عليا ثم أحمل إليك على قدر ما رأى قال عثمان افعل فقد فعلت وطالما طلبت فلا أطلب ولا أجاب ولا أعتب . قال ابن عباس فخرجت فلقيت عليا وإذا به من الغضب والتلظي أضعاف ما بعثمان فأردت تسكينه فامتنع فأتيت منزلي وأغلقت بابي واعتزلتهما فبلغ ذلك عثمان فأرسل إلي فأتيته وقد هدأ غضبه فنظر إلي ثم ضحك وقال يا ابن عباس ما أبطأ بك عنا إن تركك العود إلينا لدليل على ما رأيت عند صاحبك وعرفت من حاله فالله بيننا وبينه خذ بنا في غير ذلك . قال ابن عباس فكان عثمان بعد ذلك إذا أتاه عن علي شي ء فأردت التكذيب عنه يقول ولا يوم الجمعة حين أبطأت عنا وتركت العود إلينا فلا أدري كيف أرد عليه . وروى الزبير بن بكار أيضا في الموفقيات عن ابن عباس رحمه الله قال خرجت من منزلي سحرا أسابق إلى المسجد وأطلب الفضيلة فسمعت خلفي حسا وكلاما فتسمعته فإذا حس عثمان وهو يدعو ولا يرى أن أحدا يسمعه ويقول اللهم قد تعلم نيتي فأعني عليهم وتعلم الذين ابتليت بهم من ذوي رحمي وقرابتي فأصلحني لهم وأصلحهم لي . قال فقصرت من خطوتي وأسرع في مشيته فالتقينا فسلم فرددت عليه فقال إني خرجت ليلتنا هذه أطلب الفضل والمسابقة إلى المسجد فقلت إنه أخرجني ما أخرجك فقال والله لئن سابقت إلى الخير إنك لمن سابقين مباركين وإني لأحبكم وأتقرب إلى الله بحبكم فقلت يرحمك الله يا أمير المؤمنين إنا لنحبك ونعرف سابقتك وسنك وقرابتك وصهرك قال يا ابن عباس فما لي ولابن عمك وابن خالي قلت أي بني عمومتي وبني أخوالك قال اللهم اغفر أ تسأل مسألة الجاهل .
[ 11 ](1/2439)
قلت إن بني عمومتي من بني خئولتك كثير فأيهم تعني قال أعني عليا لا غيره فقلت لا والله يا أمير المؤمنين ما أعلم منه إلا خيرا ولا أعرف له إلا حسنا قال والله بالحري أن يستر دونك ما يظهره لغيرك ويقبض عنك ما ينبسط به إلى سواك . قال ورمينا بعمار بن ياسر فسلم فرددت عليه سلامه ثم قال من معك قلت أمير المؤمنين عثمان قال نعم وسلم بكنيته ولم يسلم عليه بالخلافة فرد عليه ثم قال عمار ما الذي كنتم فقد سمعت ذروا منه قلت هو ما سمعت فقال عمار رب مظلوم غافل وظالم متجاهل قال عثمان أما إنك من شنائنا وأتباعهم وايم الله إن اليد عليك لمنبسطة وإن السبيل إليك لسهلة ولو لا إيثار العافية ولم الشعث لزجرتك زجرة تكفي ما مضى وتمنع ما بقي . فقال عمار والله ما أعتذر من حبي عليا وما اليد بمنبسطة ولا السبيل بسهلة إني لازم حجة ومقيم على سنة وأما إيثارك العافية ولم الشعث فلازم ذلك وأما زجري فأمسك عنه فقد كفاك معلمي تعليمي فقال عثمان أما والله إنك ما علمت من أعوان الشر الحاضين عليه الخذلة عند الخير والمثبطين عنه فقال عمار مهلا يا عثمان فقد سمعت رسول الله ص يصفني بغير ذلك قال عثمان ومتى قال يوم دخلت عليه منصرفه عن الجمعة وليس عنده غيرك وقد ألقى ثيابه وقعد في فضله فقبلت صدره ونحره وجبهته فقال يا عمار إنك لتحبنا وإنا لنحبك وإنك لمن الأعوان على الخير المثبطين عن الشر فقال عثمان أجل ولكنك غيرت وبدلت قال فرفع عمار يده يدعو وقال أمن يا ابن عباس اللهم من غير فغير به ثلاث مرات . قال ودخلنا المسجد فأهوى عمار إلى مصلاه ومضيت مع عثمان إلى القبلة
[ 12 ](1/2440)
فدخل المحراب وقال تلبث علي إذا انصرفنا فلما رآني عمار وحدي أتاني فقال أ ما رأيت ما بلغ بي آنفا قلت أما والله لقد أصعبت به وأصعب بك وإن له لسنه وفضله وقرابته قال إن له لذلك ولكن لا حق لمن لا حق عليه وانصرف . وصلى عثمان وانصرفت معه يتوكأ علي فقال هل سمعت ما قال عمار قلت نعم فسرني ذلك وساءني أما مساءته إياي فما بلغ بك وأما مسرته لي فحلمك واحتمالك فقال إن عليا فارقني منذ أيام على المقاربة وإن عمارا آتيه فقائل له وقائل فابدره إليه فإنك أوثق عنده منه وأصدق قولا فألق الأمر إليه على وجهه فقلت نعم . وانصرفت أريد عليا ع في المسجد فإذا هو خارج منه فلما رآني تفجع لي من فوت الصلاة وقال ما أدركتها قلت بلى ولكني خرجت مع أمير المؤمنين ثم اقتصصت عليه القصة فقال أما والله يا ابن عباس إنه ليقرف قرحة ليحورن عليه ألمها فقلت إن له سنه وسابقته وقرابته وصهره قال إن ذلك له ولكن لا حق لمن لا حق عليه . قال ثم رهقنا عمار فبش به علي وتبسم في وجهه وسأله فقال عمار يا ابن عباس هل ألقيت إليه ما كنا فيه قلت نعم قال أما والله إذا لقد قلت بلسان عثمان ونطقت بهواه قلت ما عدوت الحق جهدي ولا ذلك من فعلي وإنك لتعلم أي الحظين أحب إلي وأي الحقين أوجب علي . قال فظن علي أن عند عمار غير ما ألقيت إليه فأخذ بيده وترك يدي فعلمت أنه يكره مكاني فتخلفت عنهما وانشعب بنا الطريق فسلكاه ولم يدعني فانطلقت إلى منزلي فإذا رسول عثمان يدعوني فأتيته فأجد ببابه مروان وسعيد بن العاص .
[ 13 ](1/2441)
في رجال من بني أمية فأذن لي وألطفني وقربني وأدنى مجلسي ثم قال ما صنعت فأخبرته بالخبر على وجهه وما قال الرجل وقلت له وكتمته قوله إنه ليقرف قرحة ليحورن عليه ألمها إبقاء عليه وإجلالا له وذكرت مجي ء عمار وبش علي له وظن علي أن قبله غير ما ألقيت عليه وسلوكهما حيث سلكا قال وفعلا قلت نعم فاستقبل القبلة ثم قال اللهم رب السموات والأرض عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم أصلح لي عليا وأصلحني له أمن يا ابن عباس فأمنت ثم تحدثنا طويلا وفارقته وأتيت منزلي . وروى الزبير بن بكار أيضا في الكتاب المذكور عن عبد الله بن عباس قال ما سمعت من أبي شيئا قط في أمر عثمان يلومه فيه ولا يعذره ولا سألته عن شي ء من ذلك مخافة أن أهجم منه على ما لا يوافقه فإنا عنده ليلة ونحن نتعشى إذ قيل هذا أمير المؤمنين عثمان بالباب فقال ائذنوا له فدخل فأوسع له على فراشه وأصاب من العشاء معه فلما رفع قام من كان هناك وثبت أنا فحمد عثمان الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد يا خال فإني قد جئتك أستعذرك من ابن أخيك علي سبني وشهر أمري وقطع رحمي وطعن في ديني وإني أعوذ بالله منكم يا بني عبد المطلب إن كان لكم حق تزعمون أنكم غلبتم عليه فقد تركتموه في يدي من فعل ذلك بكم وأنا أقرب إليكم رحما منه وما لمت منكم أحدا إلا عليا ولقد دعيت أن أبسط عليه فتركته لله والرحم وأنا أخاف ألا يتركني فلا أتركه . قال ابن عباس فحمد أبي الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد يا ابن أختي فإن كنت لا تحمد عليا لنفسك فإني لا أحمدك لعلي وما علي وحده قال فيك بل غيره فلو أنك
[ 14 ](1/2442)
اتهمت نفسك للناس اتهم الناس أنفسهم لك ولو أنك نزلت مما رقيت وارتقوا مما نزلوا فأخذت منهم وأخذوا منك ما كان بذلك بأس قال عثمان فذلك إليك يا خال وأنت بيني وبينهم قال أ فأذكر لهم ذلك عنك قال نعم وانصرف فما لبثنا أن قيل هذا أمير المؤمنين قد رجع بالباب قال أبي ائذنوا له فدخل فقام قائما ولم يجلس وقال لا تعجل يا خال حتى أوذنك فنظرنا فإذا مروان بن الحكم كان جالسا بالباب ينتظره حتى خرج فهو الذي ثناه عن رأيه الأول فأقبل علي أبي وقال يا بني ما إلى هذا من أمره شي ء ثم قال يا بني أملك عليك لسانك حتى ترى ما لا بد منه ثم رفع يديه فقال اللهم اسبق بي ما لا خير لي في إدراكه فما مرت جمعة حتى مات رحمه الله . و
روى أبو العباس المبرد في الكامل عن قنبر مولى علي ع قال دخلت مع علي على عثمان فأحبا الخلوة فأومأ إلي علي ع بالتنحي فتنحيت غير بعيد فجعل عثمان يعاتبه وعلي مطرق فأقبل عليه عثمان وقال ما لك لا تقول قال إن قلت لم أقل إلا ما تكره وليس لك عندي إلا ما تحب . قال أبو العباس تأويل ذلك إن قلت اعتددت عليك بمثل ما اعتددت به علي فلذعك عتابي وعقدي ألا أفعل وإن كنت عاتبا إلا ما تحب . وعندي فيه تأويل آخر وهو أني إن قلت واعتذرت فأي شي ء حسنته من الأعذار لم يكن ذلك عندك مصدقا ولم يكن إلا مكروها غير مقبول والله تعالى يعلم أنه ليس لك عندي في باطني وما أطوي عليه جوانحي إلا ما تحب وإن كنت لا تقبل المعاذير التي أذكرها بل تكرهها وتنبو نفسك عنها .
[ 15 ](1/2443)
و روى الواقدي في كتاب الشورى عن ابن عباس رحمه الله قال شهدت عتاب عثمان لعلي ع يوما فقال له في بعض ما قاله نشدتك الله أن تفتح للفرقة بابا فلعهدي بك وأنت تطيع عتيقا وابن الخطاب طاعتك لرسول الله ص ولست بدون واحد منهما وأنا أمس بك رحما وأقرب إليك صهرا فإن كنت تزعم أن هذا الأمر جعله رسول الله ص لك فقد رأيناك حين توفي نازعت ثم أقررت فإن كانا لم يركبا من الأمر جددا فكيف أذعنت لهما بالبيعة وبخعت بالطاعة وإن كانا أحسنا فيما وليا ولم أقصر عنهما في ديني وحسبي وقرابتي فكن لي كما كنت لهما .
فقال علي ع أما الفرقة فمعاذ الله أن أفتح لها بابا وأسهل إليها سبيلا ولكني أنهاك عما ينهاك الله ورسوله عنه وأهديك إلى رشدك وأما عتيق وابن الخطاب فإن كانا أخذا ما جعله رسول الله ص لي فأنت أعلم بذلك والمسلمون وما لي ولهذا الأمر وقد تركته منذ حين فإما ألا يكون حقي بل المسلمون فيه شرع فقد أصاب السهم الثغرة وإما أن يكون حقي دونهم فقد تركته لهم طبت به نفسا ونفضت يدي عنه استصلاحا وأما التسوية بينك وبينهما فلست كأحدهما إنهما وليا هذا الأمر فظلفا أنفسهما وأهلهما عنه وعمت فيه وقومك عوم السابح في اللجة فارجع إلى الله أبا عمرو وانظر هل بقي من عمرك إلا كظم ء الحمار فحتى متى وإلى متى أ لا تنهى سفهاء بني أمية عن أعراض المسلمين وأبشارهم وأموالهم والله لو ظلم عامل من عمالك حيث تغرب الشمس لكان إثمه مشتركا بينه وبينك . قال ابن عباس فقال عثمان لك العتبى وافعل واعزل من عمالي كل من تكرهه
[ 16 ]
و يكرهه المسلمون ثم افترقا فصده مروان بن الحكم عن ذلك وقال يجترئ عليك الناس فلا تعزل أحدا منهم . و(1/2444)
روى الزبير بن بكار أيضا في كتابه عن رجال أسند بعضهم عن بعض عن علي بن أبي طالب ع قال أرسل إلي عثمان في الهاجرة فتقنعت بثوبي وأتيته فدخلت عليه وهو على سريره وفي يده قضيب وبين يديه مال دثر صبرتان من ورق وذهب فقال دونك خذ من هذا حتى تملأ بطنك فقد أحرقتني فقلت وصلتك رحم إن كان هذا المال ورثته أو أعطاكه معط أو اكتسبته من تجارة كنت أحد رجلين إما آخذ وأشكر أو أوفر وأجهد وإن كان من مال الله وفيه حق المسلمين واليتيم وابن السبيل فو الله ما لك أن تعطينيه ولا لي أن آخذه فقال أبيت والله إلا ما أبيت ثم قام إلي بالقضيب فضربني والله ما أرد يده حتى قضى حاجته فتقنعت بثوبي ورجعت إلى منزلي وقلت الله بيني وبينك إن كنت أمرتك بمعروف أو نهيت عن منكر وروى الزبير بن بكار عن الزهري قال لما أتي عمر بجوهر كسرى وضع في المسجد فطلعت عليه الشمس فصار كالجمر فقال لخازن بيت المال ويحك أرحني من هذا واقسمه بين المسلمين فإن نفسي تحدثني أنه سيكون في هذا بلاء وفتنة بين الناس فقال يا أمير المؤمنين إن قسمته بين المسلمين لم يسعهم وليس أحد يشتريه لأن ثمنه عظيم ولكن ندعه إلى قابل فعسى الله أن يفتح على المسلمين بمال فيشتريه منهم من يشتريه قال ارفعه فأدخله بيت المال . وقتل عمر وهو بحاله فأخذه عثمان لما ولي الخلافة فحلى به بناته .
[ 17 ]
قال الزبير فقال الزهري كل قد أحسن عمر حين حرم نفسه وأقاربه وعثمان حين وصل أقاربه .
قال الزبير وحدثنا محمد بن حرب قال حدثنا سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد قال جاء رجل إلى علي ع يستشفع به إلى عثمان فقال حمال الخطايا لا والله لا أعود إليه أبدا فآيسه منه وروى الزبير أيضا عن شداد بن عثمان قال سمعت عوف بن مالك في أيام عمر يقول : يا طاعون خذني فقلنا له لم تقول هذا و(1/2445)
قد سمعت رسول الله ص يقول إن المؤمن لا يزيده طول العمر إلا خيرا قال إني أخاف ستا خلافة بني أمية وإمارة السفهاء من أحداثهم والرشوة في الحكم وسفك الدم الحرام وكثرة الشرط ونشأ ينشأ يتخذون القرآن مزامير . وروى الزبير عن أبي غسان عن عمر بن زياد عن الأسود بن قيس عن عبيد بن حارثة قال سمعت عثمان وهو يخطب فأكب الناس حوله فقال اجلسوا يا أعداء الله فصاح به طلحة إنهم ليسوا بأعداء الله لكنهم عباده وقد قرءوا كتابه . وروى الزبير عن سفيان بن عيينة عن إسرائيل عن الحسن قال شهدت المسجد يوم جمعة فخرج عثمان فقام رجل فقال أنشد كتاب الله فقال عثمان اجلس أ ما لكتاب الله ناشد غيرك فجلس ثم قام آخر فقال مثل مقالته فقال اجلس فأبى
[ 18 ]
أن يجلس فبعث إلى الشرط ليجلسوه فقام الناس فحالوا بينهم وبينه قال ثم تراموا بالبطحاء حتى يقول القائل ما أكاد أرى أديم السماء من البطحاء فنزل عثمان فدخل داره ولم يصل الجمعة(1/2446)
فصل فيما شجر بين عثمان وابن عباس من الكلام بحضرة علي
و روى الزبير أيضا في الموفقيات عن ابن عباس رحمه الله قال صليت العصر يوما ثم خرجت فإذا أنا بعثمان بن عفان في أيام خلافته في بعض أزقة المدينة وحده فأتيته إجلالا وتوقيرا لمكانه فقال لي هل رأيت عليا قلت خلفته في المسجد فإن لم يكن الآن فيه فهو في منزله قال أما منزله فليس فيه فابغه لنا في المسجد فتوجهنا إلى المسجد وإذا علي ع يخرج منه قال ابن عباس وقد كنت أمس ذلك اليوم عند علي فذكر عثمان وتجرمه عليه وقال أما والله يا ابن عباس إن من دوائه لقطع كلامه وترك لقائه فقلت له يرحمك الله كيف لك بهذا فإن تركته ثم أرسل إليك فما أنت صانع قال أعتل وأعتل فمن يقسرني قال لا أحد . قال ابن عباس فلما تراءينا له وهو خارج من المسجد ظهر منه من التفلت والطلب للانصراف ما استبان لعثمان فنظر إلي عثمان وقال يا ابن عباس أ ما ترى ابن خالنا يكره لقاءنا فقلت ولم وحقك ألزم وهو بالفضل أعلم فلما تقاربا رماه عثمان بالسلام فرد عليه فقال عثمان إن تدخل فإياك أردنا وإن تمض فإياك طلبنا فقال علي أي ذلك أحببت قال تدخل فدخلا وأخذ عثمان بيده فأهوى به إلى القبلة فقصر عنها وجلس قبالتها فجلس عثمان إلى جانبه فنكصت عنهما فدعواني جميعا فأتيتهما فحمد عثمان الله وأثنى عليه وصلى على رسوله ثم قال أما بعد يا بني خالي وابني
[ 19 ](1/2447)
عمي فإذ جمعتكما في النداء فسأجمعكما في الشكاية عن رضاي على أحدكما ووجدي على الآخر إني أستعذركما من أنفسكما وأسألكما فيئتكما وأستوهبكما رجعتكما فو الله لو غالبني الناس ما انتصرت إلا بكما ولو تهضموني ما تعززت إلا بعزكما ولقد طال هذا الأمر بيننا حتى تخوفت أن يجوز قدره ويعظم الخطر فيه ولقد هاجني العدو عليكما وأغراني بكما فمنعني الله والرحم مما أراد وقد خلونا في مسجد رسول الله ص وإلى جانب قبره وقد أحببت أن تظهرا لي رأيكما في وما تنطويان لي عليه وتصدقا فإن الصدق أنجى وأسلم وأستغفر الله لي ولكما . قال ابن عباس فأطرق علي ع وأطرقت معه طويلا أما أنا فأجللته أن أتكلم قبله وأما هو فأراد أن أجيب عني وعنه ثم قلت له أ تتكلم أم أتكلم عنك قال بل تكلم عني وعنك فحمدت الله وأثنيت عليه وصليت على رسوله ثم قلت أما بعد يا ابن عمنا وعمتنا فقد سمعنا كلامك لنا وخلطك في الشكاية بيننا على رضاك زعمت عن أحدنا ووجدك على الآخر وسنفعل في ذلك فنذمك ونحمدك اقتداء منك بفعلك فينا فإنا نذم مثل تهمتك إيانا على ما اتهمتنا عليه بلا ثقة إلا ظنا ونحمد منك غير ذلك من مخالفتك عشيرتك ثم نستعذرك من نفسك استعذارك إيانا من أنفسنا ونستوهبك فيئتك استيهابك إيانا فيئتنا ونسألك رجعتك مسألتك إيانا رجعتنا فإنا معا أيما حمدت وذممت منا كمثلك في أمر نفسك ليس بيننا فرق ولا اختلاف بل كلانا شريك صاحبه في رأيه وقوله فو الله ما تعلمنا غير معذرين فيما بيننا وبينك ولا تعرفنا غير قانتين عليك ولا تجدنا غير راجعين إليك فنحن نسألك من نفسك مثل ما سألتنا من أنفسنا وأما قولك لو غالبتني الناس ما انتصرت إلا بكما أو تهضموني ما تعززت إلا بعزكما فأين بنا وبك عن ذلك ونحن وأنت كما قال أخو كنانة
[ 20 ]
بدا بحتر ما رام نال وإن يرم
يخض دونه غمرا من الغر رائمه
لنا ولهم منا ومنهم على العدا
مراتب عز مصعدات سلالمه(1/2448)
و أما قولك في هيج العدو إياك علينا وإغرائه لك بنا فو الله ما أتاك العدو من ذلك شيئا إلا وقد أتانا بأعظم منه فمنعنا مما أراد ما منعك من مراقبة الله والرحم وما أبقيت أنت ونحن إلا على أدياننا وأعراضنا ومروءاتنا ولقد لعمري طال بنا وبك هذا الأمر حتى تخوفنا منه على أنفسنا وراقبنا منه ما راقبت . وأما مساءلتك إيانا عن رأينا فيك وما ننطوي عليه لك فإنا نخبرك أن ذلك إلى ما تحب لا يعلم واحد منا من صاحبه إلا ذلك ولا يقبل منه غيره وكلانا ضامن على صاحبه ذلك وكفيل به وقد برأت أحدنا وزكيته وأنطقت الآخر وأسكته وليس السقيم منا مما كرهت بأنطق من البري ء فيما ذكرت ولا البري ء منا مما سخطت بأظهر من السقيم فيما وصفت فإما جمعتنا في الرضا وإما جمعتنا في السخط لنجازيك بمثل ما تفعل بنا في ذلك مكايلة الصاع بالصاع فقد أعلمناك رأينا وأظهرنا لك ذات أنفسنا وصدقناك والصدق كما ذكرت أنجى وأسلم فأجب إلى ما دعوت إليه وأجلل عن النقض والغدر مسجد رسول الله ص وموضع قبره واصدق تنج وتسلم ونستغفر الله لنا ولك
قال ابن عباس فنظر إلي علي ع نظر هيبة وقال دعه حتى يبلغ رضاه فيما هو فيه فو الله لو ظهرت له قلوبنا وبدت له سرائرنا حتى رآها بعينه كما يسمع الخبر عنها بأذنه ما زال متجرما منتقما والله ما أنا ملقى على وضمة وإني لمانع ما وراء ظهري وإن هذا الكلام لمخالفة منه وسوء عشرة فقال عثمان مهلا أبا حسن فو الله إنك لتعلم أن رسول الله ص وصفني
[ 21 ](1/2449)
بغير ذلك يوم يقول وأنت عنده إن من أصحابي لقوما سالمين لهم وإن عثمان لمنهم إنه لأحسنهم بهم ظنا وأنصحهم لهم حبا فقال علي ع فتصدق قوله ص بفعلك وخالف ما أنت الآن عليه فقد قيل لك ما سمعت وهو كاف إن قبلت قال عثمان فتثق يا أبا الحسن قال نعم أثق ولا أظنك إلا فاعلا قال عثمان قد وثقت وأنت ممن لا يخفر صاحبه ولا يكذب لقيله . قال ابن عباس فأخذت بأيديهما حتى تصافحا وتصالحا وتمازحا ونهضت عنهما فتشاورا وتآمرا وتذاكرا ثم افترقا فو الله ما مرت ثالثة حتى لقيني كل واحد منهما يذكر من صاحبه ما لا تبرك عليه الإبل فعلمت أن لا سبيل إلى صلحهما بعدها . وروى أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب أخبار السقيفة عن محمد بن قيس الأسدي عن المعروف بن سويد قال كنت بالمدينة أيام بويع عثمان فرأيت رجلا في المسجد جالسا وهو يصفق بإحدى يديه على الأخرى والناس حوله ويقول وا عجبا من قريش واستئثارهم بهذا الأمر على أهل هذا البيت معدن الفضل ونجوم الأرض ونور البلاد والله إن فيهم لرجلا ما رأيت رجلا بعد رسول الله ص أولى منه بالحق ولا أقضي بالعدل ولا آمر بالمعروف ولا أنهى عن المنكر فسألت عنه فقيل هذا المقداد فتقدمت إليه وقلت أصلحك الله من الرجل الذي تذكر فقال ابن عم نبيك رسول الله ص علي بن أبي طالب . قال فلبثت ما شاء الله ثم إني لقيت أبا ذر رحمه الله فحدثته ما قال المقداد فقال صدق قلت فما يمنعكم أن تجعلوا هذا الأمر فيهم قال أبى ذلك قومهم قلت فما يمنعكم أن تعينوهم قال مه لا تقل هذا إياكم والفرقة والاختلاف .
[ 22 ]
قال فسكت عنه ثم كان من الأمر بعد ما كان . وذكر شيخنا أبو عثمان الجاحظ في الكتاب الذي أورد فيه المعاذير عن أحداث عثمان أن عليا اشتكى فعاده عثمان من شكايته فقال علي ع
و عائدة تعود لغير ود
تود لو أن ذا دنف يموت(1/2450)
فقال عثمان والله ما أدري أ حياتك أحب إلي أم موتك إن مت هاضني فقدك وإن حييت فتنتني حياتك لا أعدم ما بقيت طاعنا يتخذك رديئة يلجأ إليها . فقال علي ع ما الذي جعلني رديئة للطاعنين العائبين إنما سوء ظنك بي أحلني من قبلك هذا المحل فإن كنت تخاف جانبي فلك علي عهد الله وميثاقه أن لا بأس عليك مني ما بل بحر صوفة وإني لك لراع وإني عنك لمحام ولكن لا ينفعني ذلك عندك وأما قولك إن فقدي يهيضك فكلا أن تهاض لفقدي ما بقي لك الوليد ومروان . فقام عثمان فخرج . وقد روي أن عثمان هو الذي أنشد هذا البيت وقد كان اشتكى فعاده علي ع فقال عثمان
و عائدة تعود بغير نصح
تود لو أن ذا دنف يموت
و روى أبو سعد الآبي في كتابه عن ابن عباس قال وقع بين عثمان وعلي
[ 23 ]
ع كلام فقال عثمان ما أصنع إن كانت قريش لا تحبكم وقد قتلتم منهم يوم بدر سبعين كأن وجوههم شنوف الذهب تصرع أنفهم قبل شفاههم . وروى المذكور أيضا أن عثمان لما نقم الناس عليه ما نقموا قام متوكئا على مروان فخطب الناس فقال إن لكل أمة آفة ولكل نعمة عاهة وإن آفة هذه الأمة وعاهة هذه النعمة قوم عيابون طعانون يظهرون لكم ما تحبون ويسرون ما تكرهون طغام مثل النعام يتبعون أول ناعق ولقد نقموا علي ما نقموا على عمر مثله فقمعهم ووقمهم وإني لأقرب ناصرا وأعز نفرا فما لي لا أفعل في فضول الأموال ما أشاء . وروى المذكور أيضا أن عليا ع اشتكى فعاده عثمان فقال ما أراك أصبحت إلا ثقيلا قال أجل قال والله ما أدري أ موتك أحب إلي أم حياتك إني لأحب موتك وأكره أن أعيش بعدك فلو شئت جعلت لنا من نفسك مخرجا إما صديقا مسالما وإما عدوا مغالبا وإنك لكما قال أخو إياد
جرت لما بيننا حبل الشموس فلا
يأسا مبينا نرى منها ولا طمعا(1/2451)
فقال علي ع ليس لك عندي ما تخافه وإن أجبتك لم أجبك إلا بما تكرهه . وكتب عثمان إلى علي ع حين أحيط به أما بعد فقد جاوز الماء الزبى وبلغ الحزام الطبيين وتجاوز الأمر في قدره فطمع في من لا يدفع عن نفسه
[ 24 ]
فإن كنت مأكولا فكن خير آكل
و إلا فأدركني ولما أمزق
و روى الزبير خبر العيادة على وجه آخر قال مرض علي ع فعاده عثمان ومعه مروان بن الحكم فجعل عثمان يسأل عليا عن حاله وعلي ساكت لا يجيبه فقال عثمان لقد أصبحت يا أبا الحسن مني بمنزلة الولد العاق لأبيه إن عاش عقه وإن مات فجعه فلو جعلت لنا من أمرك فرجا إما عدوا أو صديقا ولم تجعلنا بين السماء والماء أما والله لأنا خير لك من فلان وفلان وإن قتلت لا تجد مثلي فقال مروان أما والله لا يرام ما وراءنا حتى تتواصل سيوفنا وتقطع أرحامنا . فالتفت إليه عثمان وقال اسكت لا سكت وما يدخلك فيما بيننا . و
روى شيخنا أبو عثمان الجاحظ عن زيد بن أرقم قال سمعت عثمان وهو يقول لعلي ع أنكرت علي استعمال معاوية وأنت تعلم أن عمر استعمله قال علي ع نشدتك الله أ لا تعلم أن معاوية كان أطوع لعمر من يرفأ غلامه إن عمر كان إذا استعمل عاملا وطئ على صماخه وإن القوم ركبوك وغلبوك واستبدوا بالأمر دونك فسكت عثمان(1/2452)
أسباب المنافسة بين علي وعثمان
قلت حدثني جعفر بن مكي الحاجب رحمه الله قال سألت محمد بن سليمان حاجب الحجاب وقد رأيت أنا محمدا هذا وكانت لي به معرفة غير مستحكمة وكان ظريفا
[ 25 ]
أديبا وقد اشتغل بالرياضيات من الفلسفة ولم يكن يتعصب لمذهب بعينه قال جعفر سألت عما عنده في أمر علي وعثمان فقال هذه عداوة قديمة النسب بين عبد شمس وبين بني هاشم وقد كان حرب بن أمية نافر عبد المطلب بن هاشم وكان أبو سفيان يحسد محمدا ص وحاربه ولم تزل الثنتان متباغضتين وإن جمعتهما المنافية ثم إن رسول الله ص زوج عليا بابنته وزوج عثمان بابنته الأخرى وكان اختصاص رسول الله ص لفاطمة أكثر من اختصاصه للبنت الأخرى وللثانية التي تزوجها عثمان بعد وفاة الأولى واختصاصه أيضا لعلي وزيادة قربه منه وامتزاجه به واستخلاصه إياه لنفسه أكثر وأعظم من اختصاصه لعثمان فنفس عثمان ذلك عليه فتباعد ما بين قلبيهما وزاد في التباعد ما عساه يكون بين الأختين من مباغضة أو مشاجرة أو كلام ينقل من إحداهما إلى الأخرى فيتكدر قلبها على أختها ويكون ذلك التكدير سببا لتكدير ما بين البعلين أيضا كما نشاهده في عصرنا وفي غيره من الأعصار وقد قيل ما قطع من الأخوين كالزوجتين ثم اتفق أن عليا ع قتل جماعة كثيرة من بني عبد شمس في حروب رسول الله ص فتأكد الشنئان وإذا استوحش الإنسان من صاحبه استوحش صاحبه منه ثم مات رسول الله ص فصبا إلى علي جماعة يسيرة لم يكن عثمان منهم ولا حضر في دار فاطمة مع من حضر من المخلفين عن البيعة وكانت في نفس علي ع أمور من الخلافة لم يمكنه إظهارها في أيام أبي بكر وعمر لقوة عمر وشدته وانبساط يده ولسانه فلما قتل عمر وجعل الأمر شورى بين الستة وعدل عبد الرحمن بها عن علي إلى عثمان لم يملك علي نفسه فأظهر ما كان كامنا وأبدى ما كان مستورا ولم يزل الأمر يتزايد بينهما حتى شرف وتفاقم ومع ذلك فلم يكن علي ع لينكر(1/2453)
من أمره إلا منكرا ولا ينهاه إلا كما تقتضي الشريعة نهيه عنه وكان عثمان مستضعفا في نفسه رخوا قليل الحزم واهي العقدة وسلم عنانه إلى
[ 26 ]
مروان يصرفه كيف شاء الخلافة له في المعنى ولعثمان في الاسم فلما انتقض على عثمان أمره استصرخ عليا ولاذ به وألقى زمام أمره إليه فدافع عنه حيث لا ينفع الدفاع وذب عنه حين لا يغني الذب فقد كان الأمر فسد فسادا لا يرجى صلاحه . قال جعفر فقلت له أ تقول إن عليا وجد من خلافة عثمان أعظم مما وجده من خلافة أبي بكر وعمر فقال كيف يكون ذلك وهو فرع لهما ولولاهما لم يصل إلى الخلافة ولا كان عثمان ممن يطمع فيها من قبل ولا يخطر له ببال ولكن هاهنا أمر يقتضي في عثمان زيادة المنافسة وهو اجتماعهما في النسب وكونهما من بني عبد مناف والإنسان ينافس ابن عمه الأدنى أكثر من منافسة الأبعد ويهون عليه من الأبعد ما لا يهون عليه من الأقرب . قال جعفر فقلت له أ فتقول لو أن عثمان خلع ولم يقتل أ كان الأمر يستقيم لعلي ع إذا بويع بعد خلعه فقال لا وكيف يتوهم ذلك بل يكون انتقاض الأمور عليه وعثمان حي مخلوع أكثر من انتقاضها عليه بعد قتله لأنه موجود يرجى ويتوقع عوده فإن كان محبوسا عظم البلاء والخطب وهتف الناس باسمه في كل يوم بل في كل ساعة وإن كان مخلى سربه وممكنا من نفسه وغير محول بينه وبين اختياره لجأ إلى بعض الأطراف وذكر أنه مظلوم غصبت خلافته وقهر على خلع نفسه فكان اجتماع الناس عليه أعظم والفتنة به أشد وأغلظ . قال جعفر فقلت له فما تقول في هذا الاختلاف الواقع في أمر الإمامة من مبدأ الحال وما الذي تظنه أصله ومنبعه فقال لا أعلم لهذا أصلا إلا أمرين أحدهما أن رسول الله ص أهمل أمر الإمامة فلم يصرح فيه بأحد بعينه وإنما كان هناك رمز وإيماء وكناية وتعريض لو أراد صاحبه أن يحتج به وقت الاختلاف وحال المنازعة
[ 27 ](1/2454)
لم يقم منه صورة حجة تغني ولا دلالة تحسب وتكفي ولذلك لم يحتج علي ع يوم السقيفة بما ورد فيه لأنه لم يكن نصا جليا يقطع العذر ويوجب الحجة وعادة الملوك إذا تمهد ملكهم وأرادوا العقد لولد من أولادهم أو ثقة من ثقاتهم أن يصرحوا بذكره ويخطبوا باسمه على أعناق المنابر وبين فواصل الخطب ويكتبوا بذلك إلى الآفاق البعيدة عنهم والأقطار النائية منهم ومن كان منهم ذا سرير وحصن ومدن كثيرة ضرب اسمه على صفحات الدنانير والدراهم مع اسم ذلك الملك بحيث تزول الشبهة في أمره ويسقط الارتياب بحاله فليس أمر الخلافة بهين ولا صغير ليترك حتى يصير في مظنة الاشتباه واللبس ولعله كان لرسول الله ص في ذلك عذر لا نعلمه نحن إما خشية من فساد الأمر أو إرجاف المنافقين وقولهم إنها ليس بنبوة وإنما هي ملك به أوصى لذريته وسلالته ولما لم يكن أحد من تلك الذرية في تلك الحال صالحا للقيام بالأمر لصغر السن جعله لأبيهم ليكون في الحقيقة لزوجته التي هي ابنته ولأولاده منها من بعده . وأما ما تقوله المعتزلة وغيرهم من أهل العدل أن الله تعالى علم أن المكلفين يكونون على ترك الأمر مهملا غير معين أقرب إلى فعل الواجب وتجنب القبيح قال ولعل رسول الله ص لم يكن يعلم في مرضه أنه يموت في ذلك المرض وكان يرجو البقاء فيمهد للإمامة قاعدة واضحة ومما يدل على ذلك أنه لما نوزع في إحضار الدواة والكتف ليكتب لهم ما لا يضلون بعده غضب وقال اخرجوا عني لم يجمعهم بعد الغضب ثانية ويعرفهم رشدهم ويهديهم إلى مصالحهم بل ارجأ الأمر إرجاء من يرتقب الإفاقة وينتظر العافية . قال فبتلك الأقوال المحجمة والكنايات المحتملة والرموز المشتبهة مثل حديث
[ 28 ](1/2455)
خصف النعل ومنزلة هارون من موسى ومن كنت مولاه وهذا يعسوب الدين ولا فتى إلا علي وأحب خلقك إليك . . . وما جرى هذا المجرى مما لا يفصل الأمر ويقطع العذر ويسكت الخصم ويفحم المنازع وثبت الأنصار فادعتها ووثب بنو هاشم فادعوها وقال أبو بكر بايعوا عمر أو أبا عبيدة وقال العباس لعلي امدد يدك لأبايعك وقال قوم ممن رعف به الدهر فيما بعد ولم يكن موجودا حينئذ إن الأمر كان للعباس لأنه العم الوارث وإن أبا بكر وعمر غصباه حقه فهذا أحدهما . وأما السبب الثاني للاختلاف فهو جعل عمر الأمر شورى في الستة ولم ينص على واحد بعينه إما منهم أو من غيرهم فبقي في نفس كل واحد منهم أنه قد رشح للخلافة وأهل للملك والسلطنة فلم يزل ذلك في نفوسهم وأذهانهم مصورا بين أعينهم مرتسما في خيالاتهم منازعة إليه نفوسهم طامحة نحوه عيونهم حتى كان من الشقاق بين علي وعثمان ما كان وحتى أفضى الأمر إلى قتل عثمان وكان أعظم الأسباب في قتله طلحة وكان لا يشك أن الأمر له من بعده لوجوه منها سابقته ومنها أنه ابن عم لأبي بكر وكان لأبي بكر في نفوس أهل ذلك العصر منزلة عظيمة أعظم منها الآن ومنها أنه كان سمحا جوادا وقد كان نازع عمر في حياة أبي بكر وأحب أن يفوض أبو بكر الأمر إليه من بعده فما زال يفتل في الذروة والغارب في أمر عثمان وينكر له القلوب ويكدر عليه النفوس ويغري أهل المدينة والأعراب وأهل الأمصار به وساعده الزبير وكان أيضا يرجو الأمر لنفسه ولم يكن رجاؤهما الأمر بدون رجاء علي بل رجاؤهما كان أقوى لأن عليا دحضه الأولان وأسقطاه وكسرا ناموسه بين الناس فصار نسيا منسيا ومات الأكثر ممن يعرف خصائصه التي كانت في أيام النبوة وفضله ونشأ قوم لا يعرفونه ولا يرونه إلا رجلا من عرض المسلمين ولم يبق له مما يمت به إلا أنه ابن عم الرسول وزوج ابنته وأبو سبطيه ونسي ما وراء ذلك كله واتفق له من بغض
[ 29 ](1/2456)
قريش وانحرافها ما لم يتفق لأحد وكانت قريش بمقدار ذلك البغض تحب طلحة والزبير لأن الأسباب الموجبة لبغضهم لم تكن موجودة فيهما وكانا يتألفان قريشا في أواخر أيام عثمان ويعدانهم بالعطاء والإفضال وهما عند أنفسهما وعند الناس خليفتان بالقوة لا بالفعل لأن عمر نص عليهما وارتضاهما للخلافة وعمر متبع القول ومرضى الفعال موفق مؤيد مطاع نافذ الحكم في حياته وبعد وفاته فلما قتل عثمان أرادها طلحة وحرص عليها فلو لا الأشتر وقوم معه من شجعان العرب جعلوها في علي لم تصل إليه أبدا فلما فاتت طلحة والزبير فتقا ذلك الفتق العظيم على علي وأخرجا أم المؤمنين معهما وقصدا العراق وأثارا الفتنة وكان من حرب الجمل ما قد علم وعرف ثم كانت حرب الجمل مقدمة وتمهيدا لحرب صفين فإن معاوية لم يكن ليفعل ما فعل لو لا طمعه بما جرى في البصرة ثم أوهم أهل الشام أن عليا قد فسق بمحاربة أم المؤمنين ومحاربة المسلمين وأنه قتل طلحة والزبير وهما من أهل الجنة ومن يقتل مؤمنا من أهل الجنة فهو من أهل النار فهل كان الفساد المتولد في صفين إلا فرعا للفساد الكائن يوم الجمل ثم نشأ من فساد صفين وضلال معاوية كل ما جرى من الفساد والقبيح في أيام بني أمية ونشأت فتنة ابن الزبير فرعا من فروع يوم الدار لأن عبد الله كان يقول إن عثمان لما أيقن بالقتل نص علي بالخلافة ولي بذلك شهود ومنهم مروان بن الحكم أ فلا ترى كيف تسلسلت هذه الأمور فرعا على أصل وغصنا من شجرة وجذوة من ضرام هكذا يدور بعضه على بعض وكله من الشورى في الستة . قال وأعجب من ذلك قول عمر وقد قيل له إنك استعملت يزيد بن أبي سفيان وسعيد بن العاص ومعاوية وفلانا وفلانا من المؤلفة قلوبهم من الطلقاء وأبناء الطلقاء وتركت أن تستعمل عليا والعباس والزبير وطلحة فقال أما علي فأنبه من ذلك وأما هؤلاء النفر
[ 30 ](1/2457)
من قريش فإني أخاف أن ينتشروا في البلاد فيكثروا فيها الفساد فمن يخاف من تأميرهم لئلا يطمعوا في الملك ويدعيه كل واحد منهم لنفسه كيف لم يخف من جعلهم ستة متساوين في الشورى مرشحين للخلافة وهل شي ء أقرب إلى الفساد من هذا وقد روي أن الرشيد رأى يوما محمدا وعبد الله ابنيه يلعبان ويضحكان فسر بذلك فلما غابا عن عينه بكى فقال له الفضل بن الربيع ما يبكيك يا أمير المؤمنين وهذا مقام جذل لا مقام حزن فقال أ ما رأيت لعبهما ومودة بينهما أما والله ليتبدلن ذلك بغضا وشنفا وليحتلسن كل واحد منهما نفس صاحبه عن قريب فإن الملك عقيم وكان الرشيد قد عقد الأمر لهما على ترتيب هذا بعد هذا فكيف من لم يرتبوا في الخلافة بل جعلوا فيها كأسنان المشط . فقلت أنا لجعفر هذا كله تحكيه عن محمد بن سليمان فما تقول أنت فقال
إذا قالت حذام فصدقوها
فإن القول ما قالت حذام
[ 31 ](1/2458)
136 ـ ومن كلام له ع
لَمْ تَكُنْ بَيْعَتِكُمْ إِيَّايَ فَلْتَةً وَ لَيْسَ أَمْرِي وَ أَمْرُكُمْ وَاحِداً إِنِّي أُرِيدُكُمْ لِلَّهِ وَ أَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لِأَنْفُسِكُمْ أَيُّهَا اَلنَّاسُ أَعِينُونِي عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَ اَيْمُ اَللَّهِ لَأُنْصِفَنَّ اَلْمَظْلُومَ مِنْ ظَالِمِهِ وَ لَأَقُودَنَّ اَلظَّالِمَ بِخَزَامَتِهِ حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ اَلْحَقِّ وَ إِنْ كَانَ كَارِهاً الفلتة الأمر يقع عن غير تدبر ولا روية وفي الكلام تعريض ببيعة أبي بكر وقد تقدم لنا في معنى قول عمر كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها كلام . والخزامة حلقة من شعر تجعل في أنف البعير ويجعل الزمام فيها . وأعينوني على أنفسكم خذوها بالعدل وأقنعوها عن اتباع الهوى واردعوها بعقولكم عن المسالك التي ترديها وتوبقها فإنكم إذا فعلتم ذلك أعنتموني عليها لأني أعظكم وآمركم بالمعروف وأنهاكم عن المنكر فإذا كبحتم أنفسكم بلجام العقل الداعي إلى ما أدعو إليه فقد أعنتموني عليها . فإن قلت ما معنى قوله أريدكم لله وتريدونني لأنفسكم .
[ 32 ]
قلت لأنه لا يريد من طاعتهم له إلا نصرة دين الله والقيام بحدوده وحقوقه ولا يريدهم لحظ نفسه وأما هم فإنهم يريدونه لحظوظ أنفسهم من العطاء والتقريب والأسباب الموصلة إلى منافع الدنيا . وهذا الخطاب منه ع لجمهور أصحابه فأما الخواص منهم فإنهم كانوا يريدونه للأمر الذي يريدهم له من إقامة شرائع الدين وإحياء معالمه
[ 33 ](1/2459)
137 ـ ومن كلام له ع في شأن طلحة والزبير
وَ اَللَّهِ مَا أَنْكَرُوا عَلَيَّ مُنْكَراً وَ لاَ جَعَلُوا بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ نِصْفاً وَ إِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقّاً هُمْ تَرَكُوهُ وَ دَماً هُمْ سَفَكُوهُ فَإِنْ كُنْتُ شَرِيكَهُمْ فِيهِ فَإِنَّ لَهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنْهُ وَ إِنْ كَانُوا وَلُوهُ دُونِي فَمَا اَلطَّلِبَةُ إِلاَّ قِبَلَهُمْ وَ إِنَّ أَوَّلَ عَدْلِهِمْ لَلْحُكْمُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَ إِنَّ مَعِي لَبَصِيرَتِي مَا لَبَسْتُ وَ لاَ لُبِسَ عَلَيَّ وَ إِنَّهَا لَلْفِئَةُ اَلْبَاغِيَةُ فِيهَا اَلْحَمَأُ وَ اَلْحُمَّةُ وَ اَلشُّبْهَةُ اَلْمُغْدَفَةُ اَلْمُغْدِفَةُ وَ إِنَّ اَلْأَمْرَ لَوَاضِحٌ وَ قَدْ زَاحَ اَلْبَاطِلُ عَنْ نِصَابِهِ وَ اِنْقَطَعَ لِسَانُهُ عَنْ شَغْبِهِ وَ اَيْمُ اَللَّهِ لَأُفْرِطَنَّ لَهُمْ حَوْضاً أَنَا مَاتِحُهُ لاَ يَصْدُرُونَ عَنْهُ بِرِيٍّ وَ لاَ يَعُبُّونَ بَعْدَهُ فِي حِسْيٍ النصف الإنصاف قال الفرزدق
و لكن نصفا لو سببت وسبني
بنو عبد شمس من قريش وهاشم
و هو على حذف المضاف أي ذا نصف أي حكما منصفا عادلا يحكم بيني وبينهم والطلبة بكسر اللام ما طلبته من شي ء ولبست على فلان الأمر ولبس عليه الأمر كلاهما بالتخفيف .
[ 34 ](1/2460)
و الحمأ الطين الأسود قال سبحانه مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وحمة العقرب سمتها أي في هذه الفئة الباغية الضلال والفساد والضرر وإذا أرادت العرب أن تعبر عن الضلال والفساد قالت الحم ء مثله الحمأة بالتاء ومن أمثالهم ثأطة مدت بماء يضرب للرجل يشتد موقه وجهله والثأطة الحمأة وإذا أصابها الماء ازدادت فسادا ورطوبة . ويروى فيها الحما بألف مقصورة وهو كناية عن الزبير لأن كل ما كان بسبب الرجل فهم الأحماء واحدهم حما مثل قفا وأقفاء وما كان بسبب المرأة فهم الأخاتن فأما الأصهار فيجمع الجهتين جمعا وكان الزبير ابن عمة رسول الله ص وقد كان النبي ص أعلم عليا بأن فئة من المسلمين تبغي عليه أيام خلافته فيها بعض زوجاته وبعض أحمائه فكنى علي ع عن الزوجة بالحمة وهي سم العقرب ويروى والحم ء يضرب مثلا لغير الطيب ولغير الصافي وظهر أن الحم ء الذي أخبر النبي ص بخروجه مع هؤلاء البغاة هو الزبير ابن عمته وفي الحمأ أربع لغات حما مثل قفا وحم ء مثل كم ء وحمو مثل أبو وحم مثل أب . قوله ع والشبهة المغدفة أي الخفية وأصله المرأة تغدف وجهها بقناعها أي تستره وروي المغدفة بكسر الدال من أغدف الليل أي أظلم . وزاح الباطل أي بعد وذهب وأزاحه غيره . وعن نصابه عن مركزه ومقره ومنه قول بعض المحدثين .
قد رجع الحق إلى نصابه
و أنت من دون الورى أولى به
و الشغب بالتسكين تهييج الشر شغب الحقد بالفتح شغبا وقد جاء بالتحريك في لغة ضعيفة وماضيها شغب بالكسر .
[ 35 ]
و لأفرطن لهم حوضا أي لأملأن يقال أفرطت المزادة أي ملأتها وغدير مفرط أي ملآن . والماتح بنقطتين من فوق المستقي من فوق وبالياء مالئ الدلاء من تحت والعب الشرب بلا مص كما تشرب الدابة و(1/2461)
في الحديث الكباد من العب والحسي ماء كامن في رمل يحفر عنه فيستخرج وجمعه أحساء . يقول ع والله ما أنكروا علي أمرا هو منكر في الحقيقة وإنما أنكروا ما الحجة عليهم فيه لا لهم وحملهم على ذلك الحسد وحب الاستئثار بالدنيا والتفضيل في العطاء وغير ذلك مما لم يكن أمير المؤمنين ع يراه ولا يستجيزه في الدين قال ولا جعلوا بيني وبينهم نصفا يعني وسيطا يحكم وينصف بل خرجوا عن الطاعة بغتة وإنهم ليطلبون حقا تركوه أي يظهرون أنهم يطلبون حقا بخروجهم إلى البصرة وقد تركوا الحق بالمدينة . قال ودما هم سفكوه يعني دم عثمان وكان طلحة من أشد الناس تحريضا عليه وكان الزبير دونه في ذلك . روي أن عثمان قال ويلي على ابن الحضرمية يعنى طلحة أعطيته كذا وكذا بهارا ذهبا وهو يروم دمي يحرض على نفسي اللهم لا تمتعه به ولقه عواقب بغيه . وروى الناس الذين صنفوا في واقعة الدار أن طلحة كان يوم قتل عثمان مقنعا بثوب قد استتر به عن أعين الناس يرمي الدار بالسهام ورووا أيضا أنه لما امتنع على الذين
[ 36 ](1/2462)
حصروه الدخول من باب الدار حملهم طلحة إلى دار لبعض الأنصار فأصعدهم إلى سطحها وتسوروا منها على عثمان داره فقتلوه . ورووا أيضا أن الزبير كان يقول اقتلوه فقد بدل دينكم فقالوا إن ابنك يحامي عنه بالباب فقال ما أكره أن يقتل عثمان ولو بدئ بابني إن عثمان لجيفة على الصراط غدا . وقال مروان بن الحكم يوم الجمل والله لا أترك ثأري وأنا أراه ولأقتلن طلحة بعثمان فإنه قتله ثم رماه بسهم فأصاب مأبضه فنزف الدم حتى مات . ثم قال ع إن كنت شريكهم في دم عثمان فإن لهم نصيبهم منه فلا يجوز لهم أن يطلبوا بدمه وهم شركاء فيه وإن كانوا ولوه دوني فهم المطلوبون إذن به لا غيرهم . وإنما لم يذكر القسم الثالث وهو أن يكون هو ع وليه دونهم لأنه لم يقل به قائل فإن الناس كانوا على قولين في ذلك أحدهما أن عليا وطلحة والزبير مسهم لطخ من عثمان لا بمعنى أنهم باشروا قتله بل بمعنى الإغراء والتحريض وثانيهما أن عليا ع بري ء من ذلك وأن طلحة والزبير غير بريئين منه . ثم قال وإن أول عدلهم للحكم على أنفسهم يقول إن هؤلاء خرجوا ونقضوا البيعة وقالوا إنما خرجنا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإظهار العدل وإحياء الحق وإماتة الباطل وأول العدل أن يحكموا على أنفسهم فإنه يجب على الإنسان أن يقضي على نفسه ثم على غيره وإذا كان دم عثمان قبلهم فالواجب أن ينكروا على أنفسهم قبل إنكارهم على غيرهم .
[ 37 ](1/2463)
قال وإن معي لبصيرتي أي عقلي ما لبست على الناس أمرهم ولا لبس الأمر علي أي لم يلبسه رسول الله ص علي بل أوضحه لي وعرفنيه . ثم قال وإنها للفئة الباغية لام التعريف في الفئة تشعر بأن نصا قد كان عنده أنه ستخرج عليه فئة باغية ولم يعين له وقتها ولا كل صفاتها بل بعض علاماتها فلما خرج أصحاب الجمل ورأى تلك العلامات موجودة فيهم قال وإنها للفئة الباغية أي وإن هذه الفئة أي الفئة التي وعدت بخروجها علي ولو لا هذا لقال وإنها لفئة باغية على التنكير . ثم ذكر بعض العلامات فقال إن الأمر لواضح كل هذا يؤكد به عند نفسه وعند غيره أن هذه الجماعة هي تلك الفئة الموعود بخروجها وقد ذهب الباطل وزاح وخرس لسانه بعد شغبه . ثم أقسم ليملأن لهم حوضا هو ماتحه وهذه كناية عن الحرب والهيجاء وما يتعقبهما من القتل والهلاك لا يصدرون عنه بري أي ليس كهذه الحياض الحقيقية التي إذا وردها الظمآن صدر عن ري ونقع غليله بل لا يصدرون عنه إلا وهم جزر السيوف ولا يعبون بعده في حسي لأنهم هلكوا فلا يشربون بعده البارد العذب . وكان عمرو بن الليث الصفار أمير خراسان أنفذ جيشا لمحاربة إسماعيل بن أحمد الساماني فانكسر ذلك الجيش وعادوا إلى عمرو بن الليث فغضب ولقي القواد بكلام غليظ فقال له بعضهم أيها الأمير إنه قد طبخ لك مرجل عظيم وإنما نلنا منه لهمة يسيرة والباقي مذخور لك فعلام تتركه اذهب إليهم فكله فسكت عمرو بن الليث عنه ولم يجب .
[ 38 ](1/2464)
و مرادنا من هذه المشابهة والمناسبة بين الكنايتين : مِنْهُ فَأَقْبَلْتُمْ إِلَيَّ إِقْبَالَ اَلْعُوذِ اَلْمَطَافِيلِ عَلَى أَوْلاَدِهَا تَقُولُونَ اَلْبَيْعَةَ اَلْبَيْعَةَ قَبَضْتُ كَفِّي فَبَسَطْتُمُوهَا وَ نَازَعْتُكُمْ نَازَعَتْكُمْ يَدِي فَجَاذَبْتُمُوهَا اَللَّهُمَّ إِنَّهُمَا قَطَعَانِي وَ ظَلَمَانِي وَ نَكَثَا بَيْعَتِي وَ أَلَّبَا اَلنَّاسَ عَلَيَّ فَاحْلُلْ مَا عَقَدَا وَ لاَ تُحْكِمْ لَهُمَا مَا أَبْرَمَا وَ أَرِهِمَا اَلْمَسَاءَةَ فِيمَا أَمَّلاَ وَ عَمِلاَ وَ لَقَدِ اِسْتَثَبْتُهُمَا قَبْلَ اَلْقِتَالِ وَ اِسْتَأْنَيْتُ بِهِمَا أَمَامَ اَلْوِقَاعِ فَغَمَطَا اَلنِّعْمَةَ وَ رَدَّا اَلْعَافِيَةَ العوذ النوق الحديثات النتاج الواحدة عائذ مثل حائل وحول وقد يقال ذلك للخيل والظباء ويجمع أيضا على عوذان مثل راع ورعيان وهذه عائذة بينة العئوذ وذلك إذا ولدت عن قريب وهي في عياذها أي بحدثان نتاجها . والمطافيل جمع مطفل وهي التي زال عنها اسم العياذ ومعها طفلها وقد تسمى المطافيل عوذا إلى أن يبعد العهد بالنتاج مجازا وعلى هذا الوجه قال أمير المؤمنين إقبال العوذ المطافيل وإلا فالاسمان معا لا يجتمعان حقيقة وإذا زال الأول ثبت الثاني . قوله وألبا الناس علي أي حرضا يقال حسود مؤلب .
[ 39 ](1/2465)
و استثبتهما بالثاء المعجمة بثلاث طلبت منهما أن يثوبا أي يرجعا وسمي المنزل مثابة لأن أهله ينصرفون في أمورهم ثم يثوبون إليه ويروى ولقد استتبتهما أي طلبت منهما أن يتوبا إلى الله من ذنبهما في نقض البيعة . واستأنيت بهما من الإناءة والانتظار . والوقاع بكسر الواو مصدر واقعتهم في الحرب وقاعا مثل نازلتهم نزالا وقاتلتهم قتالا . وغمط فلان النعمة إذا حقرها وأزرى بها غمطا ويجوز غمط النعمة بالكسر والمصدر غير محرك ويقال إن الكسر أفصح من الفتح . يقول ع إنكم أقبلتم مزدحمين كما تقبل النوق إلى أولادها تسألونني البيعة فامتنعت عليكم حتى علمت اجتماعكم فبايعتكم ثم دعا علي على طلحة والزبير بعد أن وصفهما بالقطيعة والنكث والتأليب عليه بأن يحل الله تعالى ما عقدا وألا يحكم لهما ما أبرما وأن يريهما المساءة فيما أملا وعملا . فأما الوصف لهما بما وصفهما به فقد صدق ع فيه وأما دعاؤه فاستجيب له والمساءة التي دعا بها هي مساءة الدنيا لا مساءة الآخرة فإن الله تعالى قد وعدهما على لسان رسوله بالجنة وإنما استوجباها بالتوبة التي ينقلها أصحابنا رحمهم الله في كتبهم عنهما ولولاها لكانا من الهالكين
[ 40 ](1/2466)
138 ـ ومن خطبة له ع يومئ فيها إلى ذكر الملاحم
يَعْطِفُ اَلْهَوَى عَلَى اَلْهُدَى إِذَا عَطَفُوا اَلْهُدَى عَلَى اَلْهَوَى وَ يَعْطِفُ اَلرَّأْيَ عَلَى اَلْقُرْآنِ إِذَا عَطَفُوا اَلْقُرْآنَ عَلَى اَلرَّأْيِ هذا إشارة إلى إمام يخلقه الله تعالى في آخر الزمان وهو الموعود به في الأخبار والآثار ومعنى يعطف الهوى يقهره ويثنيه عن جانب الإيثار والإرادة عاملا عمل الهدى فيجعل الهدى قاهرا له وظاهرا عليه . وكذلك قوله ويعطف الرأي على القرآن أي يقهر حكم الرأي والقياس والعمل بغلبة الظن عاملا عمل القرآن . وقوله إذا عطفوا الهدى وإذا عطفوا القرآن إشارة إلى الفرق المخالفين لهذا الإمام المشاقين له الذين لا يعملون بالهدى بل بالهوى ولا يحكمون بالقرآن بل بالرأي
[ 41 ]
مِنْهَا حَتَّى تَقُومَ اَلْحَرْبُ بِكُمْ عَلَى سَاقٍ بَادِياً نَوَاجِذُهَا مَمْلُوءَةً أَخْلاَفُهَا حُلْواً رَضَاعُهَا عَلْقَماً عَاقِبَتُهَا أَلاَ وَ فِي غَدٍ وَ سَيَأْتِي غَدٌ بِمَا لاَ تَعْرِفُونَ يَأْخُذُ اَلْوَالِي مِنْ غَيْرِهَا عُمَّالَهَا عَلَى مَسَاوِئِ أَعْمَالِهَا وَ تَخْرُجُ لَهُ اَلْأَرْضُ أَفَالِيذَ كَبِدِهَا وَ تُلْقِي إِلَيْهِ سِلْماً مَقَالِيدَهَا فَيُرِيكُمْ كَيْفَ عَدْلُ اَلسِّيرَةِ وَ يُحْيِي مَيِّتَ اَلْكِتَابِ وَ اَلسُّنَّةِ الساق الشدة ومنه قوله تعالى يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ . والنواجذ أقصى الأضراس والكلام كناية عن بلوغ الحرب غايتها كما أن غاية الضحك أن تبدو النواجذ . قوله مملوءة أخلافها والأخلاف للناقة حلمات الضرع واحدها خلف وكذلك وقوله حلوا رضاعها علقما عاقبتها قد أخذه الشاعر فقال
الحرب أول ما تكون فتية
تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها
عادت عجوزا غير ذات حليل
شمطاء جزت رأسها وتنكرت
مكروهة للشم والتقبيل
[ 42 ](1/2467)
و هو الرضاع بالفتح والماضي رضع بالكسر مثل سمع سماعا وأهل نجد يقولون رضع بالفتح يرضع بالكسر رضعا مثل ضرب يضرب ضربا وأنشدوا
و ذموا لنا الدنيا وهم يرضعونها * أفاويق حتى ما يدر لها ثعل
بكسر الضاد(1/2468)
فصل في الاعتراض وإيراد مثل منه
و قوله ألا وفي غد تمامه يأخذ الوالي وبين الكلام جملة اعتراضية وهي قوله وسيأتي غد بما لا تعرفون والمراد تعظيم شأن الغد الموعود بمجيئه ومثل ذلك في القرآن كثير نحو قوله تعالى فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ اَلنُّجُومِ وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فقوله تعالى إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ هو الجواب المتلقى به قوله فَلا أُقْسِمُ وقد اعترض بينهما قوله وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ واعترض بين هذا الاعتراض قوله لَوْ تَعْلَمُونَ لأنك لو حذفته لبقي الكلام على إفادته وهو قوله وإنه لقسم عظيم والمراد تعظيم شأن ما أقسم به من مواقع النجوم وتأكيد إجلاله في النفوس ولا سيما بقوله لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ . ومن ذلك قوله تعالى وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ اَلْبَناتِ سُبْحانَهُ وَ لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ فقوله سُبْحانَهُ اعتراض والمراد التنزيه وكذلك قوله تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي اَلْأَرْضِ ف لَقَدْ عَلِمْتُمْ اعتراض والمراد به تقرير إثبات البراءة من تهمة السرقة . وكذلك قوله وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَ اَللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ
[ 43 ](1/2469)
مُفْتَرٍ فاعترض بين إذا وجوابها بقوله وَ اَللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ فكأنه أراد أن يجيبهم عن دعواهم فجعل الجواب اعتراضا . ومن ذلك قوله وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اُشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ فاعترض بقوله حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ بين وَصَّيْنَا وبين الموصى به وفائدة ذلك إذكار الولد بما كابدته أمه من المشقة في حمله وفصاله . ومن ذلك قوله وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَ اَللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنا اِضْرِبُوهُ بِبَعْضِها فقوله وَ اَللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه والمراد أن يقرر في أنفس السامعين أنه لا ينفع البشر كتمانهم وإخفاؤهم لما يريد الله إظهاره . ومن الاعتراض في الشعر قول جرير
و لقد أراني والجديد إلى بلى
في موكب بيض الوجوه كرام
فقوله والجديد إلى بلى اعتراض والمراد تعزيته نفسه عما مضى من تلك اللذات . وكذلك قول كثير
لو أن الباخلين وأنت منهم
رأوك تعلموا منك المطالا
فقوله وأنت منهم اعتراض وفائدته ألا تظن أنها ليست باخلة .
[ 44 ]
و من ذلك قول الشاعر
فلو سألت سراة الحي سلمى
على أن قد تلون بي زماني
لخبرها ذوو أحساب قومي
و أعدائي فكل قد بلاني
بذبي الذم عن حسبي ومالي
و زبونات أشوس تيحان
و إني لا أزال أخا حروب
إذا لم أجن كنت مجن جاني
فقوله
على أن قد تلون بي زماني
اعتراض وفائدته الإخبار عن أن السن قد أخذت منه وتغيرت بطول العمر أوصافه . ومن ذلك قول أبي تمام
رددت رونق وجهي في صحيفته
رد الصقال بهاء الصارم الخذم
و ما أبالي وخير القول أصدقه
حقنت لي ماء وجهي أم حقنت دمي
فقوله
و خير القول أصدقه(1/2470)
اعتراض وفائدته إثبات صدقه في دعواه أنه لا يبالي أيهما حقن . فأما قول أبي تمام أيضا
و إن الغنى لي إن لحظت مطالبي
من الشعر إلا في مديحك أطوع
فإن الاعتراض فيه هو قوله
إلا في مديحك
و ليس قوله
إن لحظت مطالبي
اعتراضا كما زعم ابن الأثير الموصلي لأن فائدة البيت معلقة عليه لأنه لا يريد أن الغنى
[ 45 ]
لي على كل حال أطوع من الشعر وكيف يريد هذا وهو كلام فاسد مختل بل مراده أن الغنى لي بشرط أن تلحظ مطالبي من الشعر أطوع لي إلا في مديحك فإن الشعر في مديحك أطوع لي منه وإذا كانت الفائدة معلقة بالشرط المذكور لم يكن اعتراضا وكذلك وهم ابن الأثير أيضا في قول إمرئ القيس
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة
كفاني ولم أطلب قليل من المال
و لكنما أسعى لمجد مؤثل
و قد يدرك المجد المؤثل أمثالي
فقال إن قوله ولم أطلب اعتراض وليس بصحيح لأن فائدة البيت مرتبطة به وتقديره لو سعيت لأن آكل وأشرب لكفاني القليل ولم أطلب الملك فكيف يكون قوله ولم أطلب الملك اعتراضا ومن شأن الاعتراض أن يكون فضلة ترد لتحسين وتكملة وليست فائدته أصلية . وقد يأتي الاعتراض ولا فائدة فيه وهو غير مستحسن نحو قول النابغة
يقول رجال يجهلون خليقتي
لعل زيادا لا أبا لك غافل
فقوله لا أبا لك اعتراض لا معنى تحته هاهنا ومثله قول زهير
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
فإن جاءت لا أبا لك تعطي معنى يليق بالموضع فهي اعتراض جيد نحو قول أبي تمام
عتابك عني لا أبا لك واقصدي
فإنه أراد زجرها وذمها لما أسرفت في عتابه .
[ 46 ]
و قد يأتي الاعتراض على غاية من القبح والاستهجان وهو على سبيل التقديم والتأخير نحو قول الشاعر
فقد والشك بين لي عناء
بوشك فراقهم صرد فصيح(1/2471)
تقديره فقد بين لي صرد يصيح بوشك فراقهم والشك عناء فلأجل قوله والشك عناء بين قد والفعل الماضي وهو بين عد اعتراضا مستهجنا وأمثال هذا للعرب كثير . قوله ع يأخذ الوالي من غيرها عمالها على مساوئ أعمالها كلام منقطع عما قبله وقد كان تقدم ذكر طائفة من الناس ذات ملك وأمره فذكر ع أن الوالي يعني الإمام الذي يخلقه الله تعالى في آخر الزمان يأخذ عمال هذه الطائفة على سوء أعمالهم وعلى هاهنا متعلقة بيأخذ التي هي بمعنى يؤاخذ من قولك أخذته بذنبه وآخذته والهمز أفصح . والأفاليذ جمع أفلاذ وأفلاذ جمع فلذ وهي القطعة من الكبد وهذا كناية عن الكنوز التي تظهر للقائم بالأمر وقد جاء ذكر ذلك في خبر مرفوع في لفظة وقاءت له الأرض أفلاذ كبدها وقد فسر قوله تعالى وَ أَخْرَجَتِ اَلْأَرْضُ أَثْقالَها بذلك في بعض التفاسير . والمقاليد المفاتيح : مِنْهَا كَأَنِّي بِهِ قَدْ نَعَقَ بِالشَّامِ وَ فَحَصَ بِرَايَاتِهِ فِي ضَوَاحِي كُوفَانَ فَعَطَفَ عَلَيْهَا عَطْفَ اَلضَّرُوسِ وَ فَرَشَ اَلْأَرْضَ بِالرُّءُوسِ قَدْ فَغَرَتْ فَاغِرَتُهُ وَ ثَقُلَتْ فِي اَلْأَرْضِ وَطْأَتُهُ بَعِيدَ اَلْجَوْلَةِ عَظِيمَ اَلصَّوْلَةِ
[ 47 ](1/2472)
وَ اَللَّهِ لَيُشَرِّدَنَّكُمْ فِي أَطْرَافِ اَلْأَرْضِ حَتَّى لاَ يَبْقَى مِنْكُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ كَالْكُحْلِ فِي اَلْعَيْنِ فَلاَ تَزَالُونَ كَذَلِكَ حَتَّى تَئُوبَ إِلَى اَلْعَرَبِ عَوَازِبُ أَحْلاَمِهَا فَالْزَمُوا اَلسُّنَنَ اَلْقَائِمَةَ وَ اَلآْثَارَ اَلْبَيِّنَةَ وَ اَلْعَهْدَ اَلْقَرِيبَ اَلَّذِي عَلَيْهِ بَاقِي اَلنُّبُوَّةِ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَلشَّيْطَانَ إِنَّمَا يُسَنِّي لَكُمْ طُرُقَهُ لِتَتَّبِعُوا عَقِبَهُ هذا إخبار عن عبد الملك بن مروان وظهوره بالشام وملكه بعد ذلك العراق وما قتل من العرب فيها أيام عبد الرحمن بن الأشعث وقتله أيام مصعب بن الزبير . ونعق الراعي بغنمه بالعين المهملة ونغق الغراب بالغين المعجمة وفحص براياته هاهنا مفعول محذوف تقديره وفحص الناس براياته أي نحاهم وقلبهم يمينا وشمالا . وكوفان اسم الكوفة وضواحيها ما قرب منها من القرى والضروس الناقة السيئة الخلق تعض حالبها قال بشر بن أبي خازم
عطفنا لهم عطف الضروس من الملا
بشهباء لا يمشي الضراء رقيبها
و قوله وفرش الأرض بالرءوس غطاها بها كما يغطى المكان بالفراش . وفغرت فاغرته كأنه يقول فتح فاه والكلام استعارة وفغر فعل يتعدى ولا يتعدى وثقلت في الأرض وطأته كناية عن الجور والظلم . بعيد الجولة استعارة أيضا والمعنى أن تطواف خيوله وجيوشه في البلاد أو جولان رجاله في الحرب على الأقران طويل جدا لا يتعقبه السكون إلا نادرا . وبعيد منصوب على الحال وإضافته غير محضة .
[ 48 ](1/2473)
و عوازب أحلامها ما ذهب من عقولها عزب عنه الرأي أي بعد . ويسني لكم طرقه أي يسهل والعقب بكسر القاف مؤخر القدم وهي مؤنثة . فإن قلت فإن قوله حتى تئوب يدل على أن غاية ملكه أن تئوب إلى العرب عوازب أحلامها وعبد الملك مات في ملكه ولم يزل الملك عنه بأوبة أحلام العرب إليها فإن فائدة حتى إلى وهي موضوعة للغاية . قلت إن ملك أولاده ملكه أيضا وما زال الملك عن بني مروان حتى آبت إلى العرب عوازب أحلامها والعرب هاهنا بنو العباس ومن اتبعهم من العرب أيام ظهور الدولة كقحطبة بن شبيب الطائي وابنيه حميد والحسن وكبني رزتني بتقديم الراء المهملة الذين منهم طاهر بن الحسين وإسحاق بن إبراهيم المصعبي وعدادهم في خزاعة وغيرهم من العرب من شيعة بني العباس وقد قيل إن أبا مسلم أيضا عربي أصله وكل هؤلاء وآبائهم كانوا مستضعفين مقهورين مغمورين في دولة بني أمية لم ينهض منهم ناهض ولا وثب إلى الملك واثب إلى أن أفاء الله تعالى إلى هؤلاء ما كان عزب عنهم من إبائهم وحميتهم فغاروا للدين والمسلمين من جور بني مروان وظلمهم وقاموا بالأمر وأزالوا تلك الدولة التي كرهها الله تعالى وأذن في انتقالها . ثم أمرهم ع بأن يلزموا بعد زوال تلك الدولة الكتاب والسنة والعهد القريب الذي عليه باقي النبوة يعني عهده وأيامه ع وكأنه خاف من أن يكون بإخباره لهم بأن دولة هذا الجبار ستنقضي إذا آبت إلى العرب عوازب أحلامها كالأمر لهم باتباع ولاة الدولة الجديدة في كل ما تفعله فاستظهر عليهم بهذه الوصية وقال لهم إذا ابتذلت الدولة فالزموا الكتاب والسنة والعهد الذي فارقتكم عليه
[ 49 ](1/2474)
139 ـ ومن كلام له ع في وقت الشورى
لَنْ يُسْرِعَ أَحَدٌ قَبْلِي إِلَى دَعْوَةِ حَقٍّ وَ صِلَةِ رَحِمٍ وَ عَائِدَةِ كَرَمٍ فَاسْمَعُوا قَوْلِي وَ عُوا مَنْطِقِي عَسَى أَنْ تَرَوْا هَذَا اَلْأَمْرَ مِنْ بَعْدِ هَذَا اَلْيَوْمِ تُنْتَضَى فِيهِ اَلسُّيُوفُ وَ تُخَانُ فِيهِ اَلْعُهُودُ حَتَّى يَكُونَ بَعْضُكُمْ أَئِمَّةً لِأَهْلِ اَلضَّلاَلَةِ وَ شِيعَةً لِأَهْلِ اَلْجَهَالَةِ هذا من جملة كلام قاله ع لأهل الشورى بعد وفاة عمر(1/2475)
من أخبار يوم الشورى وتولية عثمان
و قد ذكرنا من حديث الشورى فيما تقدم ما فيه كفاية ونحن نذكر هاهنا ما لم نذكره هناك وهو من رواية عوانة عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي في كتاب الشورى ومقتل عثمان وقد رواه أيضا أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في زيادات كتاب السقيفة قال لما طعن عمر جعل الأمر شورى بين ستة نفر علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وسعد بن مالك وكان
[ 50 ](1/2476)
طلحة يومئذ بالشام وقال عمر إن رسول الله ص قبض وهو عن هؤلاء راض فهم أحق بهذا الأمر من غيرهم وأوصى صهيب بن سنان مولى عبد الله بن جدعان ويقال إن أصله من حي من ربيعة بن نزار يقال لهم عنزة فأمره أن يصلي بالناس حتى يرضى هؤلاء القوم رجلا منهم وكان عمر لا يشك أن هذا الأمر صائر إلى أحد الرجلين علي وعثمان وقال إن قدم طلحة فهو معهم وإلا فلتختر الخمسة واحدا منها وروي أن عمر قبل موته أخرج سعد بن مالك من أهل الشورى وقال الأمر في هؤلاء الأربعة ودعوا سعدا على حاله أميرا بين يدي الإمام ثم قال ولو كان أبو عبيدة بن الجراح حيا لما تخالجتني فيه الشكوك فإن اجتمع ثلاثة على واحد فكونوا مع الثلاثة وإن اختلفوا فكونوا مع الجانب الذي فيه عبد الرحمن . وقال لأبي طلحة الأنصاري يا أبا طلحة فو الله لطالما أعز الله بكم الدين ونصر بكم الإسلام اختر من المسلمين خمسين رجلا فائت بهم هؤلاء القوم في كل يوم مرة فاستحثوهم حتى يختاروا لأنفسهم وللأمة رجلا منهم . ثم جمع قوما من المهاجرين والأنصار فأعلمهم ما أوصى به وكتب في وصيته أن يولي الإمام سعد بن مالك الكوفة وأبا موسى الأشعري لأنه كان عزل سعدا عن سخطة فأحب أن يطلب ذلك إلى من يقوم بالأمر من بعده استرضاء لسعد . قال الشعبي فحدثني من لا أتهمه من الأنصار وقال أحمد بن عبد العزيز الجوهري هو سهل بن سعد الأنصاري قال مشيت وراء علي بن أبي طالب حيث انصرف من عند عمر والعباس بن عبد المطلب يمشي في جانبه فسمعته يقول للعباس ذهبت منا والله فقال كيف علمت قال أ لا تسمعه يقول كونوا في الجانب الذي فيه عبد الرحمن لأنه ابن عمه وعبد الرحمن نظير عثمان وهو صهره فإذا اجتمع هؤلاء فلو أن الرجلين
[ 51 ](1/2477)
الباقيين كانا معي لم يغنيا عني شيئا مع أني لست أرجو إلا أحدهما ومع ذلك فقد أحب عمر أن يعلمنا أن لعبد الرحمن عنده فضلا علينا لعمر الله ما جعل الله ذلك لهم علينا كما لم يجعله لأولادهم على أولادنا أما والله لئن عمر لم يمت لأذكرته ما أتى إلينا قديما ولأعلمته سوء رأيه فينا وما أتى إلينا حديثا ولئن مات وليموتن ليجتمعن هؤلاء القوم على أن يصرفوا هذا الأمر عنا ولئن فعلوها وليفعلن ليرونني حيث يكرهون والله ما بي رغبة في السلطان ولا حب الدنيا ولكن لإظهار العدل والقيام بالكتاب والسنة . قال ثم التفت فرآني وراءه فعرفت أنه قد ساءه ذلك فقلت لا ترع أبا حسن لا والله لا يستمع أحد الذي سمعت منك في الدنيا ما اصطحبنا فيها فو الله ما سمعه مني مخلوق حتى قبض الله عليا إلى رحمته . قال عوانة فحدثنا إسماعيل قال حدثني الشعبي قال فلما مات عمر وأدرج في أكفانه ثم وضع ليصلى عليه تقدم علي بن أبي طالب فقام عند رأسه وتقدم عثمان فقام عند رجليه فقال علي ع هكذا ينبغي أن تكون الصلاة فقال عثمان بل هكذا فقال عبد الرحمن ما أسرع ما اختلفتم يا صهيب صل على عمر كما رضي أن تصلي بهم المكتوبة فتقدم صهيب فصلى على عمر . قال الشعبي وأدخل أهل الشورى دارا فأقبلوا يتجادلون عليها وكلهم بها ضنين وعليها حريص إما لدنيا وإما لآخرة فلما طال ذلك قال عبد الرحمن من رجل منكم يخرج نفسه عن هذا الأمر ويختار لهذه الأمة رجلا منكم فإني طيبة نفسي أن أخرج منها وأختار لكم قالوا قد رضينا إلا علي بن أبي طالب فإنه اتهمه وقال أنظر وأرى فأقبل أبو طلحة عليه وقال يا أبا الحسن ارض برأي عبد الرحمن كان الأمر لك أو لغيرك فقال علي أعطني يا عبد الرحمن موثقا من الله لتؤثرن الحق ولا تتبع الهوى
[ 52 ](1/2478)
و لا تمل إلى صهر ولا ذي قرابة ولا تعمل إلا لله ولا تألو هذه الأمة أن تختار لها خيرها قال فحلف له عبد الرحمن بالله الذي لا إله إلا هو لأجتهدن لنفسي ولكم وللأمة ولا أميل إلى هوى ولا إلى صهر ولا ذي قرابة قال فخرج عبد الرحمن فمكث ثلاثة أيام يشاور الناس ثم رجع واجتمع الناس وكثروا على الباب لا يشكون أنه يبايع علي بن أبي طالب وكان هوى قريش كافة ما عدا بني هاشم في عثمان وهوى طائفة من الأنصار مع علي وهوى طائفة أخرى مع عثمان وهي أقل الطائفتين وطائفة لا يبالون أيهما بويع . قال فأقبل المقداد بن عمرو والناس مجتمعون فقال أيها الناس اسمعوا ما أقول أنا المقداد بن عمرو إنكم إن بايعتم عليا سمعنا وأطعنا وإن بايعتم عثمان سمعنا وعصينا فقام عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي فنادى أيها الناس إنكم إن بايعتم عثمان سمعنا وأطعنا وإن بايعتم عليا سمعنا وعصينا فقال له المقداد يا عدو الله وعدو رسوله وعدو كتابه ومتى كان مثلك يسمع له الصالحون فقال له عبد الله يا ابن الحليف العسيف ومتى كان مثلك يجترئ على الدخول في أمر قريش . فقال عبد الله بن سعد بن أبي سرح أيها الملأ إن أردتم ألا تختلف قريش فيما بينها فبايعوا عثمان فقال عمار بن ياسر إن أردتم ألا يختلف المسلمون فيما بينهم فبايعوا عليا ثم أقبل على عبد الله بن سعد بن أبي سرح فقال يا فاسق يا ابن الفاسق أ أنت ممن يستنصحه المسلمون أو يستشيرونه في أمورهم وارتفعت الأصوات ونادى مناد لا يدرى من هو فقريش تزعم أنه رجل من بني مخزوم والأنصار تزعم أنه رجل طوال آدم مشرف على الناس لا يعرفه أحد منهم يا عبد الرحمن افرغ من أمرك وامض على ما في نفسك فإنه الصواب .
[ 53 ](1/2479)
قال الشعبي فأقبل عبد الرحمن على علي بن أبي طالب فقال عليك عهد الله وميثاقه وأشد ما أخذ الله على النبيين من عهد وميثاق إن بايعتك لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة أبي بكر وعمر فقال علي ع طاقتي ومبلغ علمي وجهد رأيي والناس يسمعون . فأقبل على عثمان فقال له مثل ذلك فقال نعم لا أزول عنه ولا أدع شيئا منه ثم أقبل على علي فقال له ذلك ثلاث مرات ولعثمان ثلاث مرات في كل ذلك يجيب علي مثل ما كان أجاب به ويجيب عثمان بمثل ما كان أجاب به . فقال ابسط يدك يا عثمان فبسط يده فبايعه وقام القوم فخرجوا وقد بايعوا إلا علي بن أبي طالب فإنه لم يبايع . قال فخرج عثمان على الناس ووجهه متهلل وخرج علي وهو كاسف البال مظلم وهو يقول يا ابن عوف ليس هذا بأول يوم تظاهرتم علينا من دفعنا عن حقنا والاستئثار علينا وإنها لسنة علينا وطريقة تركتموها . فقال المغيرة بن شعبة لعثمان أ ما والله لو بويع غيرك لما بايعناه فقال عبد الرحمن بن عوف كذبت والله لو بويع غيره لبايعته وما أنت وذاك يا ابن الدباغة والله لو وليها غيره لقلت له مثل ما قلت الآن تقربا إليه وطمعا في الدنيا فاذهب لا أبا لك . فقال المغيرة لو لا مكان أمير المؤمنين لأسمعتك ما تكره ومضيا . قال الشعبي فلما دخل عثمان رحله دخل إليه بنو أمية حتى امتلأت بهم الدار ثم أغلقوها عليهم فقال أبو سفيان بن حرب أ عندكم أحد من غيركم قالوا لا قال يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة فو الذي يحلف به أبو سفيان ما من عذاب ولا حساب ولا جنة ولا نار ولا بعث ولا قيامة .
[ 54 ](1/2480)
قال فانتهره عثمان وساءه بما قال وأمر بإخراجه . قال الشعبي فدخل عبد الرحمن بن عوف على عثمان فقال له ما صنعت فو الله ما وفقت حيث تدخل رحلك قبل أن تصعد المنبر فتحمد الله وتثني عليه وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتعد الناس خيرا . قال فخرج عثمان فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال هذا مقام لم نكن نقومه ولم نعد له من الكلام الذي يقام به في مثله وسأهيئ ذلك إن شاء الله ولن آلو أمة محمد خيرا والله المستعان . ثم نزل .
قال عوانة فحدثني يزيد بن جرير عن الشعبي عن شقيق بن مسلمة أن علي بن أبي طالب لما انصرف إلى رحله قال لبني أبيه يا بني عبد المطلب إن قومكم عادوكم بعد وفاة النبي كعداوتهم النبي في حياته وإن يطع قومكم لا تؤمروا أبدا وو الله لا ينيب هؤلاء إلى الحق إلا بالسيف قال وعبد الله بن عمر بن الخطاب داخل إليهم قد سمع الكلام كله فدخل وقال يا أبا الحسن أ تريد أن تضرب بعضهم ببعض فقال اسكت ويحك فو الله لو لا أبوك وما ركب مني قديما وحديثا ما نازعني ابن عفان ولا ابن عوف فقام عبد الله فخرج . قال وأكثر الناس في أمر الهرمزان وعبيد الله بن عمر وقتله إياه وبلغ ما قال فيه علي بن أبي طالب فقام عثمان فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس إنه كان من قضاء الله أن عبيد الله بن عمر بن الخطاب أصاب الهرمزان وهو رجل من
[ 55 ](1/2481)
المسلمين وليس له وارث إلا الله والمسلمون وأنا إمامكم وقد عفوت أ فتعفون عن عبيد الله ابن خليفتكم بالأمس قالوا نعم فعفا عنه فلما بلغ ذلك عليا تضاحك وقال سبحان الله لقد بدأ بها عثمان أ يعفو عن حق امرئ ليس بواليه تالله إن هذا لهو العجب قالوا فكان ذلك أول ما بدا من عثمان مما نقم عليه . قال الشعبي وخرج المقداد من الغد فلقي عبد الرحمن بن عوف فأخذ بيده وقال إن كنت أردت بما صنعت وجه الله فأثابك الله ثواب الدنيا والآخرة وإن كنت إنما أردت الدنيا فأكثر الله مالك فقال عبد الرحمن اسمع رحمك الله اسمع قال لا أسمع والله وجذب يده من يده ومضى حتى دخل على علي ع فقال قم فقاتل حتى نقاتل معك قال علي فبمن أقاتل رحمك الله وأقبل عمار بن ياسر ينادي
يا ناعي الإسلام قم فانعه
قد مات عرف وبدا نكر
أما والله لو أن لي أعوانا لقاتلتهم والله لئن قاتلهم واحد لأكونن له ثانيا
فقال علي يا أبا اليقظان والله لا أجد عليهم أعوانا ولا أحب أن أعرضكم لما لا تطيقون وبقي ع في داره وعنده نفر من أهل بيته وليس يدخل إليه أحد مخافة عثمان . قال الشعبي واجتمع أهل الشورى على أن تكون كلمتهم واحدة على من لم يبايع فقاموا إلى علي فقالوا قم فبايع عثمان قال فإن لم أفعل قالوا نجاهدك قال فمشى إلى عثمان حتى بايعه وهو يقول صدق الله ورسوله فلما بايع أتاه عبد الرحمن بن عوف فاعتذر إليه وقال إن عثمان أعطانا يده ويمينه ولم تفعل أنت فأحببت أن أتوثق للمسلمين فجعلتها فيه فقال إيها عنك إنما آثرته بها لتنالها بعده دق الله بينكما عطر منشم .
[ 56 ]
قال الشعبي وقدم طلحة من الشام بعد ما بويع عثمان فقيل له رد هذا الأمر حتى ترى فيه رأيك فقال والله لو بايعتم شركم لرضيت فكيف وقد بايعتم خيركم قال ثم عدا عليه بعد ذلك وصاحبه حتى قتلاه ثم زعما أنهما يطلبان بدمه . قال الشعبي فأما ما يذكره الناس من المناشدة و(1/2482)
قول علي ع لأهل الشورى أ فيكم أحد قال له رسول الله ص كذا فإنه لم يكن يوم البيعة وإنما كان بعد ذلك بقليل دخل علي ع على عثمان وعنده جماعة من الناس منهم أهل الشورى وقد كان بلغه عنهم هنات وقوارص فقال لهم أ فيكم أ فيكم كل ذلك يقولون لا قال لكني أخبركم عن أنفسكم أما أنت يا عثمان ففررت يوم حنين وتوليت يوم التقى الجمعان وأما أنت يا طلحة فقلت إن مات محمد لنركضن بين خلاخيل نسائه كما ركض بين خلاخيل نسائنا وأما أنت يا عبد الرحمن فصاحب قراريط وأما أنت يا سعد فتدق عن أن تذكر قال ثم خرج فقال عثمان أ ما كان فيكم أحد يرد عليه قالوا وما منعك من ذلك وأنت أمير المؤمنين وتفرقوا قال عوانة قال إسماعيل قال الشعبي فحدثني عبد الرحمن بن جندب عن أبيه جندب بن عبد الله الأزدي قال كنت جالسا بالمدينة حيث بويع عثمان فجئت فجلست إلى المقداد بن عمرو فسمعته يقول والله ما رأيت مثل ما أتي إلى أهل هذا البيت وكان عبد الرحمن بن عوف جالسا فقال وما أنت وذاك يا مقداد قال المقداد إني والله أحبهم لحب رسول الله ص وإني لأعجب من قريش وتطاولهم على الناس بفضل رسول الله ثم انتزاعهم سلطانه من أهله قال عبد الرحمن أما والله لقد أجهدت نفسي
[ 57 ](1/2483)
لكم قال المقداد أما والله لقد تركت رجلا من الذين يأمرون بالحق وبه يعدلون أما والله لو أن لي على قريش أعوانا لقاتلتهم قتالي إياهم ببدر وأحد فقال عبد الرحمن ثكلتك أمك لا يسمعن هذا الكلام الناس فإني أخاف أن تكون صاحب فتنة وفرقة . قال المقداد إن من دعا إلى الحق وأهله وولاة الأمر لا يكون صاحب فتنة ولكن من أقحم الناس في الباطل وآثر الهوى على الحق فذلك صاحب الفتنة والفرقة . قال فتربد وجه عبد الرحمن ثم قال لو أعلم أنك إياي تعني لكان لي ولك شأن . قال المقداد إياي تهدد يا ابن أم عبد الرحمن ثم قام عن عبد الرحمن فانصرف . قال جندب بن عبد الله فاتبعته وقلت له يا عبد الله أنا من أعوانك فقال رحمك الله إن هذا الأمر لا يغني فيه الرجلان ولا الثلاثة قال فدخلت من فوري ذلك على علي ع فلما جلست إليه قلت يا أبا الحسن والله ما أصاب قومك بصرف هذا الأمر عنك فقال صبر جميل والله المستعان . فقلت والله إنك لصبور قال فإن لم أصبر فما ذا أصنع قلت إني جلست إلى المقداد بن عمرو آنفا وعبد الرحمن بن عوف فقالا كذا وكذا ثم قام المقداد فاتبعته فقلت له كذا فقال لي كذا فقال علي ع لقد صدق المقداد فما أصنع فقلت تقوم في الناس فتدعوهم إلى نفسك وتخبرهم أنك أولى بالنبي ص وتسألهم النصر على هؤلاء المظاهرين عليك فإن أجابك عشرة من مائة شددت بهم على الباقين فإن دانوا لك فذاك وإلا قاتلتهم وكنت أولى بالعذر قتلت أو بقيت وكنت أعلى عند الله حجة . فقال أ ترجو يا جندب أن يبايعني من كل عشرة واحد قلت أرجو ذلك قال لكني لا أرجو ذلك لا والله ولا من المائة واحد وسأخبرك أن الناس إنما ينظرون
[ 58 ](1/2484)
إلى قريش فيقولون هم قوم محمد وقبيله وأما قريش بينها فتقول إن آل محمد يرون لهم على الناس بنبوته فضلا ويرون أنهم أولياء هذا الأمر دون قريش ودون غيرهم من الناس وهم إن ولوه لم يخرج السلطان منهم إلى أحد أبدا ومتى كان في غيرهم تداولته قريش بينها لا والله لا يدفع الناس إلينا هذا الأمر طائعين أبدا . فقلت جعلت فداك يا ابن عم رسول الله لقد صدعت قلبي بهذا القول أ فلا أرجع إلى المصر فأوذن الناس بمقالتك وأدعو الناس إليك فقال يا جندب ليس هذا زمان ذاك . قال فانصرفت إلى العراق فكنت أذكر فضل علي على الناس فلا أعدم رجلا يقول لي ما أكره وأحسن ما أسمعه قول من يقول دع عنك هذا وخذ فيما ينفعك فأقول إن هذا مما ينفعني وينفعك فيقوم عني ويدعني . وزاد أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري حتى رفع ذلك من قولي إلى الوليد بن عقبة أيام ولينا فبعث إلي فحبسني حتى كلم في فخلى سبيلي . وروى الجوهري قال نادى عمار بن ياسر ذلك اليوم يا معشر المسلمين إنا قد كنا وما كنا نستطيع الكلام قلة وذلة فأعزنا الله بدينه وأكرمنا برسوله فالحمد لله رب العالمين يا معشر قريش إلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم تحولونه هاهنا مرة وهاهنا مرة ما أنا آمن أن ينزعه الله منكم ويضعه في غيركم كما نزعتموه من أهله ووضعتموه في غير أهله . فقال له هاشم بن الوليد بن المغيرة يا ابن سمية لقد عدوت طورك وما عرفت قدرك ما أنت وما رأت قريش لأنفسها إنك لست في شي ء من أمرها وإماراتها فتنح عنها . وتكلمت قريش بأجمعها فصاحوا بعمار وانتهروه فقال الحمد لله رب العالمين ما زال أعوان الحق أذلاء ثم قام فانصرف
[ 59 ](1/2485)
140 ـ ومن كلام له ع في النهي عن غيبة الناس
وَ إِنَّمَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ اَلْعِصْمَةِ وَ اَلْمَصْنُوعِ إِلَيْهِمْ فِي اَلسَّلاَمَةِ أَنْ يَرْحَمُوا أَهْلَ اَلذُّنُوبِ وَ اَلْمَعْصِيَةِ وَ يَكُونَ اَلشُّكْرُ هُوَ اَلْغَالِبَ عَلَيْهِمْ وَ اَلْحَاجِزَ لَهُمْ عَنْهُمْ فَكَيْفَ بِالْعَائِبِ اَلَّذِي عَابَ أَخَاهُ وَ عَيَّرَهُ بِبَلْوَاهُ أَ مَا ذَكَرَ مَوْضِعَ سَتْرِ اَللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ ذُنُوبِهِ مِمَّا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ اَلذَّنْبِ اَلَّذِي عَابَهُ بِهِ وَ كَيْفَ يَذُمُّهُ بِذَنْبٍ قَدْ رَكِبَ مِثْلَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَكِبَ ذَلِكَ اَلذَّنْبَ بِعَيْنِهِ فَقَدْ عَصَى اَللَّهَ فِيمَا سِوَاهُ مِمَّا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ وَ اَيْمُ اَللَّهِ لَئِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَاهُ فِي اَلْكَبِيرِ وَ عَصَاهُ فِي اَلصَّغِيرِ لَجُرْأَتُهُ لَجَرَاءَتُهُ عَلَى عَيْبِ اَلنَّاسِ أَكْبَرُ يَا عَبْدَ اَللَّهِ لاَ تَعْجَلْ فِي عَيْبِ أَحَدٍ بِذَنْبِهِ فَلَعَلَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ وَ لاَ تَأْمَنْ عَلَى نَفْسِكَ صَغِيرَ مَعْصِيَةٍ فَلَعَلَّكَ مُعَذَّبٌ عَلَيْهِ فَلْيَكْفُفْ مَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ عَيْبَ غَيْرِهِ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ عَيْبِ نَفْسِهِ وَ لْيَكُنِ اَلشُّكْرُ شَاغِلاً لَهُ عَلَى مُعَافَاتِهِ مِمَّا اُبْتُلِيَ غَيْرُهُ بِهِ بِهِ غَيْرُهُ ليس في هذا الفصل من غريب اللغة ما نشرح
[ 60 ](1/2486)
أقوال مأثورة في ذم الغيبة والاستماع إلى المغتابين
و نحن نذكر مما ورد في الغيبة لمعا نافعة على عادتنا في ذكر الشي ء عند مرورنا على ما يقتضيه ويستدعيه . وقد ورد في الكتاب العزيز ذم الغيبة قال سبحانه وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً و
قال رسول الله ص لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا يغتب بعضكم بعضا وكونوا عباد الله إخوانا و
روى جابر وأبو سعيد عنه ص إياكم والغيبة فإن الغيبة أشد من الزنا إن الرجل يزني فيتوب الله عليه وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه و
روى أنس عنه ص مررت ليلة أسري بي فرأيت قوما يخمشون وجوههم بأظافيرهم فسألت جبريل عنهم فقال هؤلاء الذين يغتابون الناس و
في حديث سلمان قلت يا رسول الله علمني خيرا ينفعني الله به قال لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أرفضت من دلوك في إناء المستقي والق أخاك ببشر حسن ولا تغتابنه إذا أدبر و
في حديث البراء بن عازب خطبنا رسول الله ص حتى أسمع العواتق في بيوتهن فقال ألا لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ومن يتتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته
[ 61 ]
و
في حديث أنس أن رسول الله ص قال في يوم صوم إن فلانة وفلانة كانتا تأكلان اليوم شحم امرأة مسلمة يعني الغيبة فمرهما فلتتقيئا فقاءت كل واحدة منهما علقة دم و
في الصحاح المجمع عليها أنه ع مر بقبرين جديدين فقال إنهما ليعذبان وما يعذبان بكبير أما أحدهما فكان يغتاب الناس وأما الآخر فكان لا يتنزه من البول ودعا بجريدة رطبة فكسرها اثنتين أو قال دعا بجريدتين ثم غرسهما في القبرين وقال أما إنه سيهون من عذابهما ما دامتا رطبتين و
في حديث ابن عباس أن رجلين من أصحابه اغتابا بحضرته رجلا وهو يمشي ع وهما يمشيان معه فمر على جيفة فقال انهشا منها فقالا يا رسول الله أ وننهش الجيفة فقال ما أصبتما من أخيكما أنتن من هذه و(1/2487)
في حديث أبي هريرة من أكل لحم أخيه حيا قرب إليه لحمه في الآخرة فقيل له كله ميتا كما أكلته حيا فيأكله ويضج ويكلح وروي أن رجلين كانا عند باب المسجد فمر بهما رجل كان مخنثا فترك ذلك فقالا لقد بقي عنده منه شي ء فأقيمت الصلاة فصليا مع الناس وذلك يجول في أنفسهما فأتيا عطاء بن أبي رباح فسألاه فأمرهما أن يعيدا الوضوء والصلاة وإن كانا صائمين أن يقضيا صيام ذلك اليوم . وعن مجاهد وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الهمزة الطعان في الناس واللمزة النمام . وعن الحسن والله للغيبة أسرع في دين المؤمن من الأكلة في الجسد .
[ 62 ]
بعضهم أدركنا السلف وهم لا يرون العبادة في الصوم ولا في الصلاة ولكن في الكف عن أعراض الناس . ابن عباس إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك وهذا مشتق من كلام أمير المؤمنين ع . أبو هريرة يبصر أحدهما القذى في عين أخيه ولا يبصر الجذع في عين نفسه وهذا كالأول . الحسن يا ابن آدم إنك إن قضيت حقيقة الإيمان فلا تعب الناس بعيب هو فيك حتى تبدأ بإصلاح ذلك العيب من نفسك فإذا فعلت ذلك كان شغلك في خاصة نفسك وأحب العباد إلى الله من كان هكذا . و
يروى أن المسيح ع مر على جيفة كلب فقال بعض التلامذة ما أشد نتنه فقال المسيح ما أشد بياض أسنانه كأنه نهاهم عن غيبة الكلب ونبههم إلى أنه لا ينبغي أن يذكر من كل شي ء إلا أحسنه . و
سمع علي بن الحسين ع رجلا يغتاب آخر فقال إن لكل شي ء إداما وإدام كلاب الناس الغيبة و
في خطبة حجة الوداع أيها الناس إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إن الله حرم الغيبة كما حرم المال والدم عمر : ما يمنعكم إذا رأيتم من يخرق أعراض الناس أن تعربوا عليه أي تقبحوا قالوا نخاف سفهه وشره قال ذلك أدنى ألا تكونوا شهداء(1/2488)
أنس يرفعه من مات على الغيبة حشر يوم القيامة مزرقة عيناه ينادى بالويل والندامة يعرف أهله ولا يعرفونه
[ 63 ]
و قال هشام بن عبد الملك في بعض ولد الوليد بن عقبة
أبلغ أبا وهب إذا ما لقيته
بأنك شر الناس غيبا لصاحب
فتبدي له بشرا إذا ما لقيته
و تلسعه بالغيب لسع العقارب
مر الشعبي بقوم يغتابونه في المسجد وفيهم بعض أصدقائه فأخذ بعضادتي الباب وقال
هنيئا مريئا غير داء مخامر
لعزة من أعراضنا ما استحلت
و من كلام بعض الحكماء أبصر الناس بالعوار المعوار هذا مثل قول الشاعر
و أجرأ من رأيت بظهر غيب
على عيب الرجال ذوو العيوب
قيل لشبيب بن شبة بن عقال ما بال عبد الله بن الأهتم يغتابك وينتقصك قال لأنه شقيقي في النسب وجاري في البلد وشريكي في الصنعة . دخل أبو العيناء على المتوكل وعنده جلساؤه فقال له يا محمد كلهم كانوا في غيبتك منذ اليوم ولم يبق أحد لم يذممك غيري فقال
إذا رضيت عني كرام عشيرتي
فلا زال غضبان علي لئامها
قال بعضهم بت بالبصرة ليلة مع المسجديين فلما كان وقت السحر حركهم واحد فقال إلى كم هذا النوم عن أعراض الناس وقيل لشاعر وصله بعض الرؤساء وأنعم عليه ما صنع بك فلان قال ما وفت نعمته بإساءته منعني لذة الثلب وحلاوة الشكوى . أعرابي من عاب سفلة فقد رفعه ومن عاب شريفا فقد وضع نفسه .
[ 64 ]
نظر بعض السلف إلى رجل يغتاب رجلا وقال يا هذا إنك تملي على حافظيك كتابا فانظر ما ذا تقول . ابن عباس ما الأسد الضاري على فريسة بأسرع من الدني ء في عرض السري بعضهم
و مطروفة عيناه عن عيب نفسه
فإن لاح عيب من أخيه تبصرا(1/2489)
و قالت رابعة العدوية إذا نصح الإنسان لله أطلعه الله تعالى على مساوئ عمله فتشاغل بها عن ذكر مساوئ خلقه . قال عبد الله بن عروة بن الزبير لابنه يا بني عليك بالدين فإن الدنيا ما بنت شيئا إلا هدمه الدين وإذا بنى الدين شيئا لم تستطع الدنيا هدمه أ لا ترى علي بن أبي طالب وما يقول فيه خطباء بني أمية من ذمه وعيبه وغيبته والله لكأنما يأخذون بناصيته إلى السماء أ لا تراهم كيف يندبون موتاهم ويرثيهم شعراؤهم والله لكأنما يندبون جيف الحمر . ومن كلام بعض الصالحين الورع في المنطق أشد منه في الذهب والفضة لأنك إذا استودعك أخوك مالا لم تجد بك نفسك لخيانة فيه وقد استودعك عرضه وأنت تغتابه ولا تبالي . كان محمد بن سيرين قد جعل على نفسه كلما اغتاب أحدا أن يتصدق بدينار وكان إذا مدح أحدا قال هو كما يشاء الله وإذا ذمه قال هو كما يعلم الله . الأحنف في خلتان لا أغتاب جليسي إذا قام عني ولا أدخل بين القوم فيما لم يدخلوني فيه . قيل لرجل من العرب من السيد فيكم قال الذي إذا أقبل هبناه وإذا أدبر اغتبناه .
[ 65 ]
قيل للربيع بن خيثم ما نراك تعيب أحدا فقال لست راضيا على نفسي فأتفرغ لذكر عيوب الناس ثم قال
لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها
لنفسي في نفسي عن الناس شاغل
عبد الله بن المبارك قلت لسفيان ما أبعد أبا حنيفة من الغيبة ما سمعته يغتاب عدوا قال هو والله أعقل من أن يسلط على حسناته ما يذهب بها . سئل فضيل عن غيبة الفاسق فقال لا تشتغل بذكره ولا تعود لسانك الغيبة أشغل لسانك بذكر الله وإياك ذكر الناس فإن ذكر الناس داء وذكر الله دواء . بعض الشعراء
و لست بذي نيرب في الصديق
خئون العشيرة سبابها
و لا من إذا كان في مجلس
أضاع القبيلة واغتابها
و لكن أبجل ساداتها
و لا أتعلم ألقابها(1/2490)
و كان يقال الغيبة فاكهة القراء وقيل لإسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة أي اللحمان أطيب قال لحوم الناس هي والله أطيب من لحوم الدجاج والدراج يعني الغيبة . ابن المغيرة لا تذكر الميت بسوء فتكون الأرض أكتم عليه منك . وكان عبد الملك بن صالح الهاشمي إذا ذكر عنده الميت بسوء يقول كفوا عن أسارى الثرى . و
في الأثر سامع الغيبة أحد المغتابين .
[ 66 ]
أبو نواس
ما حطك الواشون من رتبة
عندي وما ضرك مغتاب
كأنهم أثنوا ولم يعلموا
عليك عندي بالذي عابوا
الحسن ذم الرجل في السر مدح له في العلانية .
علي ع الغيبة جهد العاجز أخذه المتنبي فقال
و أكبر نفسي عن جزاء بغيبة
و كل اغتياب جهد من ما له جهد
بلغ الحسن أن رجلا اغتابه فأهدى إليه طبقا من رطب فجاءه الرجل معتذرا وقال أصلحك الله اغتبتك فأهديت لي قال إنك أهديت إلي حسناتك فأردت أن أكافئك . أتى رجل عمرو بن عبيد الله فقال له إن الأسواري لم يزل أمس يذكرك ويقول عمرو الضال فقال له يا هذا والله ما رعيت حق مجالسة الرجل حين نقلت إلينا حديثه ولا رعيت حقي حين بلغت عن أخي ما أكرهه أعلمه أن الموت يعمنا والبعث يحشرنا والقيامة تجمعنا والله يحكم بيننا(1/2491)
حكم الغيبة في الدين
و اعلم أن العلماء ذكروا في حد الغيبة أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه سواء ذكرت نقصانا في بدنه مثل أن تقول الأقرع أو الأعور أو في نسبه نحو أن تقول ابن النبطي وابن الإسكاف أو الزبال أو الحائك أو خلقه نحو سيئ الخلق أو بخيل
[ 67 ]
أو متكبر أو في أفعاله الدنيئة نحو قولك كذاب وظالم ومتهاون بالصلاة أو الدنيوية نحو قولك قليل الأدب متهاون بالناس كثير الكلام كثير الأكل أو في ثوبه كقولك وسخ الثياب كبير العمامة طويل الأذيال . وقد قال قوم لا غيبة في أمور الدين لأن المغتاب إنما ذم ما ذمه الله تعالى واحتجوا بما روي أنه ذكر لرسول الله ص امرأة وكثرة صومها وصلاتها ولكنها تؤذي جارتها فقال هي في النار ولم ينكر عليهم غيبتهم إياها .
و روي أن امرأة ذكرت عنده ع بأنها بخيلة فقال فما خيرها إذن . وأكثر العلماء على أن الغيبة في أمور الدين محرمة أيضا وادعوا الإجماع على أن من ذكر غيره بما يكرهه فهو مغتاب سواء أ كان في الدين أو في غيره قالوا والمخالف مسبوق بهذا الإجماع وقالوا و
قد روي عن النبي ص أنه قال هل تدرون ما الغيبة قالوا الله ورسوله أعلم قال ذكرك أخاك بما يكرهه فقائل قال أ رأيت يا رسول الله إن كان ذلك في أخي قال إن كان فيه فقد اغتبته وإن لم يكن فقد بهته . قالوا و
روى معاذ بن جبل أن رجلا ذكر عند رسول الله ص فقال قوم ما أعجزه فقال ع اغتبتم صاحبكم فقالوا قلنا ما فيه فقال إن قلتم ما ليس فيه فقد بهتموه . قالوا وما احتج به الزاعمون أن لا غيبة في الدين ليس بحجة لأن الصحابة إنما ذكرت ذلك في مجلس رسول الله ص لحاجتها إلى تعرف الأحكام بالسؤال ولم يكن غرضها التنقص . واعلم أن الغيبة ليست مقصورة على اللسان فقط بل كل ما عرفت به صاحبك
[ 68 ](1/2492)
نقص أخيك فهو غيبة فقد يكون ذلك باللسان وقد يكون بالإشارة والإيماء وبالمحاكاة نحو أن تمشي خلف الأعرج متعارجا وبالكتاب فإن القلم أحد اللسانين . وإذا ذكر المصنف شخصا في تصنيفه وهجن كلامه فهو غيبة فأما قوله قال قوم كذا فليس بغيبة لأنه لم يعين شخصا بعينه . و
كان رسول الله ص يقول ما بال أقوام يقولون كذا فكان لا يعين ويكون مقصوده واحدا بعينه وأخبث أنواع الغيبة غيبة القراء المراءين وذلك نحو أن يذكر عندهم إنسان فيقول قائلهم الحمد لله الذي لم يبلنا بدخول أبواب السلطان والتبذل في طلب الحطام وقصده أن يفهم الغير عيب ذلك الشخص فتخرج الغيبة في مخرج الحمد والشكر لله تعالى فيحصل من ذلك غيبة المسلم ويحصل منه الرياء وإظهار التعفف عن الغيبة وهو واقع فيها وكذلك يقول لقد ساءني ما يذكر به فلان نسأل الله أن يعصمه ويكون كاذبا في دعوى أنه ساءه وفي إظهار الدعاء له بل لو قصد الدعاء له لأخفاه في خلوة عقب صلواته ولو كان قد ساءه لساءه أيضا إظهار ما يكرهه ذلك الإنسان . واعلم أن الإصغاء إلى الغيبة على سبيل التعجب كالغيبة بل أشد لأنه إنما يظهر التعجب ليزيد نشاط المغتاب في الغيبة فيندفع فيها حكاية يستخرج الغيبة منه بذلك وإذا كان السامع الساكت شريك المغتاب فما ظنك بالمجتهد في حصول الغيبة والباعث على الاستزادة منها وقد روي أن أبا بكر وعمر ذكرا إنسانا عند رسول الله فقال أحدهما إنه لنئوم ثم أخرج رسول الله ص خبزا قفارا فطلبا منه أدما فقال قد ائتدمتما قالا ما نعلمه قال بلى بما أكلتما من لحم صاحبكما فجمعهما في الإثم وقد
[ 69 ](1/2493)
كان أحدهما قائلا والآخر مستمعا فالمستمع لا يخرج من إثم الغيبة إلا بأن ينكر بلسانه فإن خاف فبقلبه وإن قدر على القيام أو قطع الكلام بكلام آخر لزمه ذلك فإن قال بلسانه اسكت وهو مريد للغيبة بقلبه فذلك نفاق ولا يخرجه عن الإثم إلا أن يكرهه بقلبه ولا يكفي أن يشير باليد أي اكفف أو بالحاجب والعين فإن ذلك استحقار للمذكور بل ينبغي أن يذب عنه صريحا
فقد قال رسول الله ص من أذل عنده مؤمن وهو يقدر على أن ينصره فلم ينصره أذله الله يوم القيامة على رءوس الخلائق(1/2494)
فصل في الأسباب الباعثة على الغيبة
و اعلم أن الأسباب الباعثة على الغيبة على أمور منها شفاء الغيظ وذلك أن يجري من الإنسان سبب يغضب به عليه آخر فإذا هاج غضبه تشفى بذكر مساوئه وسبق إليها لسانه بالطبع إن لم يكن هناك دين وازع وقد يمنع تشفي الغيظ عند الغضب فيحتقن الغضب في الباطن فيصير حقدا ثابتا فيكون سببا دائما لذكر المساوئ . ومنها موافقة الأقران ومساعدتهم على الكلام فإنهم إذا اجتمعوا ربما أخذوا يتفكهون بذكر الأعراض فيرى أنه لو أنكر أو قطع المجلس استثقلوه ونفروا عنه فيساعدهم ويرى ذلك من حسن المعاشرة ويظن أنه مجاملة في الصحبة وقد يغضب رفقاؤه من أمر فيحتاج إلى أن يغضب لغضبهم إظهارا للمساهمة في السراء والضراء فيخوض معهم في ذكر العيوب والمساوئ .
[ 70 ](1/2495)
و منها أن يستشعر من إنسان أنه سيذمه ويطول لسانه فيه ويقبح حاله عند بعض الرؤساء أو يشهد عليه بشهادة فيبادره قبل أن يقبح حاله فيطعن فيه ليسقط أثر شهادته عليه . وقد يبتدئ بذكر بعض ما فيه صادقا ليكذب عليه بعد ذلك فيروج كذبه بالصدق الأول . ومنها أن ينسب إلى أمر فيريد التبرؤ منه فيذكر الذي فعله وكان من حقه أن يبرئ نفسه ولا يذكر الذي فعله لكنه إنما يذكر غيره تأكيدا لبراءة نفسه وكيلا يكون تبرؤا مبتورا وربما يعتذر بأن يقول فلان فعله وكنت شريكا في بعض الأمر ليبرئ نفسه بعض البراءة . ومنها المباهاة وحب الرئاسة مثل أن يقول كلام فلان ركيك ومعرفته بالفن الفلاني ناقصة وغرضه إظهار فضله عليه . ومنها الحسد وإرادة إسقاط قدر من يمدحه الناس بذكر مساوئه لأنه يشق عليه ثناء الناس عليه ولا يجد سبيلا إلى سد باب الثناء عليه إلا بذكر عيوبه . ومنها اللعب والهزل والمطايبة وتزجية الوقت بالضحك والسخرية فيذكر غيره بما يضحك الحاضرين على سبيل الهزء والمحاكاة . واعلم أن الذي يقوى في نفسي أن الغيبة لا تكون محرمة إلا إذا كانت على سبيل القصد إلى تنقص الإنسان فقط وغض قدره فأما إذا خرجت مخرجا آخر فليست بحرام كمن يظلمه القاضي ويأخذ الرشوة على إسقاط حقوقه فإن له أن يذكر حاله للسلطان متظلما من حيف الحاكم عليه إذ لا يمكنه استيفاء حقوقه إلا بذلك
فقد قال ص مطل الغني ظلم و
قال لي الواجد يحل عقوبته وعرضه
[ 71 ](1/2496)
و كذلك النهي عن المنكر واجب وقد يحتاج الإنسان إلى الاستعانة بالغير على تغييره ورد القاضي إلى منهج الصلاح فلا بد له أن يشرح للغير حال ذلك الإنسان المرتكب المنكر ومن ذكر الإنسان بلقب مشهور فعرف عن عيبه كالأعرج والأعمش المحدثين لم يكن مغتابا إذا لم يقصد الغض والنقص . والصحيح أن المجاهر بالفسق لا غيبة له كصاحب الماخور والمخنث ومن يدعو الناس إلى نفسه أبنة وكالعشار والمستخرج بالضرب فإن هؤلاء غير كارهين لما يذكرون به وربما تفاخروا بذلك و
قد قال النبي ص من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له وقال عمر ليس لفاجر حرمة وأراد المجاهر بالفسق دون المستتر . وقال الصلت بن طريف قلت للحسن رحمه الله الرجل الفاجر المعلن بالفجور غير مراقب هل ذكري له بما فيه غيبة فقال لا ولا كرامة له(1/2497)
طريق التوبة من الغيبة
و اعلم أن التوبة من الغيبة تكفر عقابها والتوبة منها هي الندم عليها والعزم على ألا يعود فإن لم يكن الشخص المذكور قد بلغته الغيبة فلا حاجة إلى الاستحلال منه بل لا يجوز إعلامه بذلك هكذا قال شيخنا أبو الحسين رحمه الله لأنه لم يؤلمه فيحتاج إلى أن يستوهب منه إثم ذلك الإيلام وفي إعلامه تضييق صدره وإدخال مشقة عليه وإن كان الشخص المذكور قد بلغته الغيبة وجب عليه أن يستحله ويستوهبه فإن كان قد مات سقط بالتوبة عقاب ما يختص بالبارئ سبحانه من ذلك الوقت وبقي ما يختص بذلك الميت لا يسقط حتى يؤخذ العوض له من المذنب يوم القصاص
[ 72 ](1/2498)
141 ـ ومن كلام له ع
أَيُّهَا اَلنَّاسُ مَنْ عَرَفَ مِنْ أَخِيهِ وَثِيقَةَ دِينٍ وَ سَدَادَ طَرِيقٍ فَلاَ يَسْمَعَنَّ فِيهِ أَقَاوِيلَ اَلرِّجَالِ أَمَا إِنَّهُ قَدْ يَرْمِي اَلرَّامِي وَ تُخْطِئُ اَلسِّهَامُ وَ يُحِيلُ اَلْكَلاَمُ وَ بَاطِلُ ذَلِكَ يَبُورُ وَ اَللَّهُ سَمِيعٌ وَ شَهِيدٌ أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ اَلْحَقِّ وَ اَلْبَاطِلِ إِلاَّ أَرْبَعُ أَصَابِعَ فَسُئِلَ ع عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ هَذَا فَجَمَعَ أَصَابِعَهُ وَ وَضَعَهَا بَيْنَ أُذُنِهِ وَ عَيْنِهِ ثُمَّ قَالَ اَلْبَاطِلُ أَنْ تَقُولَ سَمِعْتُ وَ اَلْحَقُّ أَنْ تَقُولَ رَأَيْتُ هذا الكلام هو نهي عن التسرع إلى التصديق بما يقال من العيب والقدح في حق الإنسان المستور الظاهر المشتهر بالصلاح والخير وهو خلاصة قوله سبحانه إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ثم ضرب ع لذلك مثلا فقال قد يرمي الرامي فلا يصيب الغرض وكذلك قد يطعن الطاعن فلا يكون طعنه صحيحا وربما كان لغرض فاسد أو سمعه ممن له غرض
[ 73 ](1/2499)
فاسدا كالعدو والحسود وقد يشتبه الأمر فيظن المعروف منكرا فيعجل الإنسان بقول لا يتحققه كمن يرى غلام زيد يحمل في إناء مستور مغطى خلا فيظنه خمرا . قال ع ويحيل الكلام أي يكون باطلا أحال الرجل في منطقه إذا تكلم الذي لا حقيقة له ومن الناس من يرويه ويحيك الكلام بالكاف من قولك ما حاك فيه السيف ويجوز أحاك بالهمزة أي ما أثر يعني أن القول يؤثر في العرض وإن كان باطلا والرواية الأولى أشهر وأظهر . ويبور يفسد وقوله وباطل ذلك يبور مثل قولهم للباطل جولة وللحق دولة وهذا من قوله تعالى وَ قُلْ جاءَ اَلْحَقُّ وَ زَهَقَ اَلْباطِلُ إِنَّ اَلْباطِلَ كانَ زَهُوقاً . والإصبع مؤنثة ولذلك قال أربع أصابع فحذف الهاء . فإن قلت كيف يقول ع الباطل ما يسمع والحق ما يرى وأكثر المعلومات إنما هي من طريق السماع كعلمنا الآن بنبوة محمد ص بما بلغنا من معجزاته التي لم نرها وإنما سمعناها . قلت ليس كلامه في المتواتر من الأخبار وإنما كلامه في الأقوال الشاذة الواردة من طريق الآحاد التي تتضمن القدح فيمن قد غلبت نزاهته فلا يجوز العدول عن المعلوم بالمشكوك
[ 74 ](1/2500)
142 ـ ومن كلام له ع
وَ لَيْسَ لِوَاضِعِ اَلْمَعْرُوفِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ مِنَ اَلْحَظِّ فِيمَا أَتَى إِلاَّ مَحْمَدَةُ اَللِّئَامِ وَ ثَنَاءُ اَلْأَشْرَارِ وَ مَقَالَةُ اَلْجُهَّالَ مَا دَامَ مُنْعِماً عَلَيْهِمْ مَا أَجْوَدَ يَدَهُ وَ هُوَ عَنْ ذَاتِ اَللَّهِ بِخَيْلٌ فَمَنْ آتَاهُ اَللَّهُ مَالاً فَلْيَصِلْ بِهِ اَلْقَرَابَةَ وَ لْيُحْسِنْ مِنْهُ اَلضِّيَافَةَ وَ لْيَفُكَّ بِهِ اَلْأَسِيرَ وَ اَلْعَانِيَ وَ لْيُعْطِ مِنْهُ اَلْفَقِيرَ وَ اَلْغَارِمَ وَ لْيَصْبِرْ نَفْسَهُ عَلَى اَلْحُقُوقِ وَ اَلنَّوَائِبِ اِبْتِغَاءَ اَلثَّوَابِ فَإِنَّ فَوْزاً بِهَذِهِ اَلْخِصَالِ شَرَفُ مَكَارِمِ اَلدُّنْيَا وَ دَرْكُ فَضَائِلِ اَلآْخِرَةِ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ هذا الكلام يتضمن ذم من يخرج ماله إلى الفتيان والأقران والشعراء ونحوهم ويبتغي به المدح والسمعة ويعدل عن إخراجه في وجوه البر وابتغاء الثواب قال ع ليس له من الحظ إلا محمدة اللئام وثناء الأشرار وقولهم ما أجود يده أي ما أسمحه وهو بخيل بما يرجع إلى ذات الله يعني الصدقات وما يجري مجراها من صلة الرحم والضيافة وفك الأسير والعاني وهو الأسير بعينه وإنما اختلف اللفظ .
[ 75 ]
و الغارم من عليه الديون ويقال صبر فلان نفسه على كذا مخففا أي حبسها قال تعالى وَ اِصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ . وقال عنترة يذكر حربا
فصبرت عارفة لذلك حرة
ترسو إذا نفس الجبان تطلع
و
في الحديث النبوي في رجل أمسك رجلا وقتله آخر فقال ع اقتلوا القاتل واصبروا الصابر أي احبسوا الذي حبسه للقتل إلى أن يموت . وقوله فإن فوزا أفصح من أن يقول فإن الفوز أو فإن في الفوز كما قال الشاعر
إن شواء ونشوة
و خبب البازل الأمون
من لذة العيش والفتى
للدهر والدهر ذو شئون(1/2501)
و لم يقل إن الشواء والنشوة والسر في هذا أنه كأنه يجعل هذا الشواء شخصا من جملة أشخاص داخلة تحت نوع واحد ويقول إن واحدا منها أيها كان فهو من لذة العيش وإن لم يحصل له كل أشخاص ذلك النوع ومراده تقرير فضيلة هذه الخصال في النفوس أي متى حصل للإنسان فوز ما بها فقد حصل له الشرف وهذا المعنى وإن أعطاه لفظة الفوز بالألف واللام إذا قصد بها الجنسية إلا أنه قد يسبق إلى الذهن منها الاستغراق لا الجنسية فأتى بلفظة لا توهم الاستغراق وهي اللفظة المنكرة وهذا دقيق وهو من لباب علم البيان
[ 76 ](1/2502)
143 ـ ومن خطبة له ع في الاستسقاء
إِلاَّ وَ إِنَّ اَلْأَرْضَ اَلَّتِي تَحْمِلُكُمْ وَ اَلسَّمَاءَ اَلَّتِي تُظِلُّكُمْ مُطِيعَتَانِ لِرَبِّكُمْ وَ مَا أَصْبَحَتَا تَجُودَانِ لَكُمْ بِبَرَكَتِهِمَا تَوَجُّعاً لَكُمْ وَ لاَ زُلْفَةً إِلَيْكُمْ وَ لاَ لِخَيْرٍ تَرْجُوَانِهِ مِنْكُمْ وَ لَكِنْ أُمِرَتَا بِمَنَافِعِكُمْ فَأَطَاعَتَا وَ أُقِيمَتَا عَلَى حُدُودِ مَصَالِحِكُمْ فَقَامَتَا إِنَّ اَللَّهَ يَبْتَلِي عِبَادَهُ عِنْدَ اَلْأَعْمَالِ اَلسَّيِّئَةِ بِنَقْصِ اَلثَّمَرَاتِ وَ حَبْسِ اَلْبَرَكَاتِ وَ إِغْلاَقِ خَزَائِنِ اَلْخَيْرَاتِ لِيَتُوبَ تَائِبٌ وَ يُقْلِعَ مُقْلِعٌ وَ يَتَذَكَّرَ مُتَذَكِّرٌ وَ يَزْدَجِرَ مُزْدَجِرٌ وَ قَدْ جَعَلَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ اَلاِسْتِغْفَارَ سَبَباً لِدُرُورِ اَلرِّزْقِ وَ رَحْمَةِ اَلْخَلْقِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ اَلسَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً فَرَحِمَ اَللَّهُ اِمْرَأً اِسْتَقْبَلَ تَوْبَتَهُ وَ اِسْتَقَالَ خَطِيئَتَهُ وَ بَادَرَ مَنِيَّتَهُ اَللَّهُمَّ إِنَّا خَرَجْنَا إِلَيْكَ مِنْ تَحْتِ اَلْأَسْتَارِ وَ اَلْأَكْنَانِ وَ بَعْدَ عَجِيجِ اَلْبَهَائِمِ وَ اَلْوِلْدَانِ رَاغِبِينَ فِي رَحْمَتِكَ وَ رَاجِينَ فَضْلَ نِعْمَتِكَ وَ خَائِفِينَ مِنْ عَذَابِكَ وَ نِقْمَتِكَ
[ 77 ](1/2503)
اَللَّهُمَّ فَاسْقِنَا غَيْثَكَ وَ لاَ تَجْعَلْنَا مِنَ اَلْقَانِطِينَ وَ لاَ تُهْلِكْنَا بِالسِّنِينَ وَ لاَ تُؤَاخِذْنَا بِمَا فَعَلَ اَلسُّفَهَاءُ مِنَّا يَا أَرْحَمَ اَلرَّاحِمِينَ اَللَّهُمَّ إِنَّا خَرَجْنَا إِلَيْكَ نَشْكُو إِلَيْكَ مَا لاَ يَخْفَى عَلَيْكَ أَلْجَأَتْنَا اَلْمَضَايِقُ اَلْوَعْرَةُ وَ أَجَاءَتْنَا اَلْمَقَاحِطُ اَلْمُجْدِبَةُ وَ أَعْيَتْنَا اَلْمَطَالِبُ اَلْمُتَعَسِّرَةُ وَ تَلاَحَمَتْ عَلَيْنَا اَلْفِتَنُ اَلْمَسْتَصْعَبَةُ اَلْمُسْتَصْعِبَةُ اَللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَلاَّ تَرُدَّنَا خَائِبِينَ وَ لاَ تَقْلِبَنَا وَاجِمِينَ وَ لاَ تُخَاطِبَنَا بِذُنُوبِنَا وَ لاَ تُقَايِسَنَا بِأَعْمَالِنَا اَللَّهُمَّ اُنْشُرْ عَلَيْنَا غَيْثَكَ وَ بَرَكَتِكَ وَ رِزْقَكَ وَ رَحْمَتَكَ وَ اِسْقِنَا سُقْيَا نَاقِعَةً مُرْوِيَةً مُعْشِبَةً تُنْبِتُ بِهَا مَا قَدْ فَاتَ وَ تُحْيِي بِهَا مَا قَدْ مَاتَ نَافِعَةَ اَلْحَيَا كَثِيرَةَ اَلْمُجْتَنَى تُرْوِي بِهَا اَلْقِيعَانَ وَ تُسِيلُ اَلْبُطْنَانَ وَ تَسْتَوْرِقُ اَلْأَشْجَارَ وَ تُرْخِصُ اَلْأَسْعَارَ إِنَّكَ عَلَى مَا تَشَاءُ قَدِيرٌ تظلكم تعلو عليكم وقد أظلتني الشجرة واستظللت بها والزلفة القربة يقول إن السماء والأرض إذا جاءتا بمنافعكم أما السماء فبالمطر وأما الأرض فبالنبات فإنهما لم تأتيا بذلك تقربا إليكم ولا رحمة لكم ولكنهما أمرتا بنفعكم فامتثلتا الأمر لأنه أمر من تجب طاعته ولو أمرتا بغير ذلك لفعلتاه والكلام مجاز واستعارة لأن الجماد لا يؤمر والمعنى أن الكل مسخر تحت القدرة الإلهية ومراده تمهيد قاعدة الاستسقاء كأنه يقول إذا كانت السماء والأرض أيام الخصب والمطر والنبات لم يكن ما كان منهما محبة لكم ولا رجاء منفعة منكم بل طاعة الصانع الحكيم سبحانه فيما سخرهما له
[ 78 ](1/2504)
فكذلك السماء والأرض أيام الجدب وانقطاع المطر وعدم الكلأ ليس ما كان منهما بغضا لكم ولا استدفاع ضرر يخاف منكم بل طاعة الصانع الحكيم سبحانه فيما سخرهما له وإذا كان كذلك فبالحري ألا نأمل السماء ولا الأرض وأن نجعل آمالنا معلقة بالملك الحق المدبر لهما وأن نسترحمه وندعوه ونستغفره لا كما كانت العرب في الجاهلية يقولون مطرنا بنوء كذا وقد سخط النوء الفلاني على بني فلان فأمحلوا . ثم ذكر ع أن الله تعالى يبتلي عباده عند الذنوب بتضييق الأرزاق عليهم وحبس مطر السماء عنهم وهذا الكلام مطابق للقواعد الكلامية لأن أصحابنا يذهبون إلى أن الغلاء قد يكون عقوبة على ذنب وقد يكون لطفا للمكلفين في الواجبات العقلية وهو معنى قوله ليتوب تائب إلى آخر الكلمات ويقلع يكف ويمسك . ثم ذكر أن الله سبحانه جعل الاستغفار سببا في درور الرزق واستدل عليه بالآية التي أمر نوح ع فيها قومه بالاستغفار يعني التوبة عن الذنوب وقدم إليهم الموعد بما هو واقع في نفوسهم وأحب إليهم من الأمور الآجلة فمناهم الفوائد العاجلة ترغيبا في الإيمان وبركاته والطاعة ونتائجها كما قال سبحانه للمسلمين وَ أُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اَللَّهِ وَ فَتْحٌ قَرِيبٌ فوعدهم بمحبوب الأنفس الذي يرونه في العاجل عيانا ونقدا لا جزاء ونسيئة وقال تعالى في موضع آخر وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ وقال سبحانه وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا اَلتَّوْراةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ
[ 79 ]
و قال تعالى وَ أَنْ لَوِ اِسْتَقامُوا عَلَى اَلطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً(1/2505)
الثواب والعقاب عند المسلمين وأهل الكتاب
و كل ما في التوراة من الوعد والوعيد فهو لمنافع الدنيا ومضارها أما منافعها فمثل أن يقول إن أطعتم باركت فيكم وكثرت من أولادكم وأطلت أعماركم وأوسعت أرزاقكم واستبقيت اتصال نسلكم ونصرتكم على أعدائكم وإن عصيتم وخالفتم اخترمتكم ونقصت من آجالكم وشتت شملكم ورميتكم بالجوع والمحل وأذللت أولادكم وأشمت بكم أعداءكم ونصرت عليكم خصومكم وشردتكم في البلاد وابتليتكم بالمرض والذل ونحو ذلك . ولم يأت في التوراة وعد ووعيد بأمر يتعلق بما بعد الموت وأما المسيح ع فإنه صرح بالقيامة وبعث الأبدان ولكن جعل العقاب روحانيا وكذلك الثواب أما العقاب فالوحشة والفزع وتخيل الظلمة وخبث النفس وكدرها وخوف شديد وأما الثواب فما زاد على أن قال إنهم يكونون كالملائكة وربما قال يصعدون إلى ملكوت السماء وربما قال أصحابه وعلماء ملته الضوء واللذة والسرور والأمن من زوال اللذة الحاصلة لهم هذا هو قول المحققين منهم وقد أثبت بعضهم نارا حقيقية لأن لفظة النار وردت في الإنجيل فقال محققوهم نار قلبية أي نفسية روحانية وقال الأفلون نار كهذه النار ومنهم من أثبت عقابا غير النار وهو بدني فقال الرعدة وصرير الأسنان فأما الجنة بمعنى الأكل والشرب والجماع فإنه لم يقل منهم قائل به أصلا والإنجيل صرح بانتفاء ذلك في القيامة تصريحا لا يبقى بعده ريب لمرتاب وجاء خاتم الأنبياء محمد
[ 80 ](1/2506)
ص فأثبت المعاد على وجه محقق كامل أكمل مما ذكره الأولان فقال إن البدن والنفس معا مبعوثان ولكل منهما حظ في الثواب والعقاب . وقد شرح الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا هذا الموضع في رسالة له في المعاد تعرف بالرسالة الأصحوبة شرحا جيدا فقال إن الشريعة المحمدية أثبتت في القيامة رد النفس إلى البدن وجعلت للمثاب والمعاقب ثوابا وعقابا بحسب البدن والنفس جميعا فكان للمثاب لذات بدنية من حور عين وولدان مخلدين وفاكهة يشتهون وكأس لا يصدعون عنها ولا ينزفون وجنات تجري من تحتها الأنهار من لبن وعسل وخمر وماء زلال وسرر وأرائك وخيام وقباب فرشها من سندس وإستبرق وما جرى مجرى ذلك ولذات نفسانية من السرور ومشاهدة الملكوت والأمن من العذاب والعلم اليقيني بدوام ما هم فيه وأنه لا يتعقبه عدم ولا زوال والخلو عن الأحزان والمخاوف وللمعاقب عقاب بدني وهو المقامع من الحديد والسلاسل والحريق والحميم والغسلين والصراخ والجلود التي كلما نضجت بدلوا جلودا غيرها وعقاب نفساني من اللعن والخزي والخجل والندم والخوف الدائم واليأس من الفرج والعلم اليقيني بدوام الأحوال السيئة التي هم عليها . قال فوفت الشريعة الحكمة حقها من الوعد الكامل والوعيد الكامل وبهما ينتظم الأمر وتقوم الملة فأما النصارى وما ذهبوا إليه من أمر بعث الأبدان ثم خلوها في الدار الآخرة من المطعم والملبس والمشرب والمنكح فهو أرك ما ذهب إليه أرباب الشرائع وأسخفه وذلك أنه إن كان السبب في البعث هو أن الإنسان هو البدن أو أن البدن شريك النفس في الأعمال الحسنة والسيئة فوجب أن يبعث فهذا القول بعينه إن أوجب ذلك فإنه يوجب أن يثاب البدن ويعاقب بالثواب والعقاب البدني المفهوم عند العالم وإن كان الثواب والعقاب روحانيا فما الغرض في بعث الجسد ثم ما ذلك
[ 81 ](1/2507)
الثواب والعقاب الروحانيان وكيف تصور العامة ذلك حتى يرغبوا ويرهبوا كلا بل لم تصور لهم الشريعة النصرانية من ذلك شيئا غير أنهم يكونون في الآخرة كالملائكة وهذا لا يفي بالترغيب التام ولا ما ذكروه من العقاب الروحاني وهو الظلمة وخبث النفس كاف في الترهيب والذي جاءت به شريعة الإسلام حسن لا زيادة عليه انقضى كلام هذا الحكيم . فأما كون الاستغفار سببا لنزول القطر ودرور الرزق فإن الآية بصريحها ناطقة به لأنها أمر وجوابه قال اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ اَلسَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً كما تقول قم أكرمك أي إن قمت أكرمتك وعن عمر أنه خرج يستسقي فما زاد على الاستغفار فقيل له ما رأيناك استسقيت فقال لقد استسقيت بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر . وعن الحسن أن رجلا شكا إليه الجدب فقال استغفر الله فشكا آخر إليه الفقر وآخر قلة النسل وآخر قلة ريع أرضه فأمرهم كلهم بالاستغفار فقال له الربيع بن صبيح رجال أتوك يشكون أبوابا ويشكون أنواعا فأمرتهم كلهم بالاستغفار فتلا له الآية . قوله استقبل توبته أي استأنفها وجددها واستقال خطيئته طلب الإقالة منها والرحمة وبادر منيته سابق الموت قبل أن يدهمه .
[ 82 ]
قوله ع لا تهلكنا بالسنين جمع سنة وهي الجدب والمحل قال تعالى وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ و
قال النبي ص يدعو على المشركين اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف والسنة لفظ محذوف منه حرف قيل إنه الهاء وقيل الواو فمن قال المحذوف هاء قال أصله سنهة مثل جبهة لأنهم قالوا نخلة سنهاء أي تحمل سنة ولا تحمل أخرى وقال بعض الأنصار
فليست بسنهاء ولا رجبية
و لكن عرايا في السنين الجوائح(1/2508)
و من قال أصلها الواو احتج بقولهم أسنى القوم يسنون إسناء إذا لبثوا في المواضع سنة فأما التصغير فلا يدل على أحد المذهبين بعينه لأنه يجوز سنية وسنيهة والأكثر في جمعها بالواو والنون سنون بكسر السين كما في هذه الخطبة وبعضهم يقول سنون بالضم . والمضايق الوعرة بالتسكين ولا يجوز التحريك وقد وعر هذا الشي ء بالضم وعورة وكذلك توعر أي صار وعرا واستوعرت الشي ء استصعبته . وأجاءتنا ألجأتنا قال تعالى فَأَجاءَهَا اَلْمَخاضُ إِلى جِذْعِ اَلنَّخْلَةِ . والمقاحط المجدبة السنون الممحلة جمع مقحطة . وتلاحمت اتصلت . والواجم الذي قد اشتد حزنه حتى أمسك عن الكلام والماضي وجم بالفتح يجم وجوما . قوله ولا تخاطبنا بذنوبنا ولا تقايسنا بأعمالنا أي لا تجعل جواب دعائنا لك ما تقتضيه ذنوبنا كأنه يجعله كالمخاطب لهم والمجيب عما سألوه إياه كما يفاوض الواحد
[ 83 ]
منا صاحبه ويستعطفه فقد يجيبه ويخاطبه بما يقتضيه ذنبه إذا اشتدت موجدته عليه ونحوه . ولا تقايسنا بأعمالنا قست الشي ء بالشي ء إذا حذوته ومثلته به أي لا تجعل ما تجيبنا به مقايسا ومماثلا لأعمالنا السيئة . قوله سقيا ناقعة هي فعلى مؤنثة غير مصروفة . والحيا المطر وناقعة مروية مسكنة للعطش نقع الماء العطش نقعا ونقوعا سكنه وفي المثل الرشف أنقع أي أن الشراب الذي يرشف قليلا قليلا أنجع وأقطع للعطش وإن كان فيه بطء . وكثيرة المجتنى أي كثيرة الكلأ والكلأ الذي يجتنى ويرعى والقيعان جمع قاع وهو الفلاة . والبطنان جمع بطن وهو الغامض من الأرض مثل ظهر وظهران وعبد وعبدان
[ 84 ](1/2509)
144 ـ ومن خطبة له ع
بَعَثَ اَللَّهُ رُسُلَهُ بِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ وَحْيِهِ وَ جَعَلَهُمْ حُجَّةً لَهُ عَلَى خَلْقِهِ لِئَلاَّ تَجِبَ اَلْحُجَّةُ لَهُمْ بِتَرْكِ اَلْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ فَدَعَاهُمْ بِلِسَانِ اَلصِّدْقِ إِلَى سَبِيلِ اَلْحَقِّ أَلاَ إِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَشَفَ اَلْخَلْقَ كَشْفَةً لاَ أَنَّهُ جَهِلَ مَا أَخْفَوْهُ مِنْ مَصُونِ أَسْرَارِهِمْ وَ مَكْنُونِ ضَمَائِرِهِمْ وَ لَكِنْ لِيَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً فَيَكُونَ اَلثَّوَابُ جَزَاءً وَ اَلْعِقَابُ بَوَاءً أَيْنَ اَلَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمُ اَلرَّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ دُونَنَا كَذِباً وَ بَغْياً عَلَيْنَا أَنْ رَفَعَنَا اَللَّهُ وَ وَضَعَهُمْ وَ أَعْطَانَا وَ حَرَمَهُمْ وَ أَدْخَلَنَا وَ أَخْرَجَهُمْ بِنَا يُسْتَعْطَى اَلْهُدَى وَ يُسْتَجْلَى اَلْعَمَى إِنَّ اَلْأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ غُرِسُوا فِي هَذَا اَلْبَطْنِ مِنْ هَاشِمٍ لاَ تَصْلُحُ عَلَى سِوَاهُمْ وَ لاَ تَصْلُحُ اَلْوُلاَةُ مِنْ غَيْرِهِمْ أول الكلام مأخوذ من قوله سبحانه رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اَللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اَلرُّسُلِ وقوله تعالى وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً .
[ 85 ](1/2510)
فإن قلت فهذا يناقض مذهب المعتزلة في قولهم بالواجبات عقلا ولو لم تبعث الرسل . قلت صحة مذهبهم تقتضي أن تحمل عموم الألفاظ على أن المراد بها الخصوص فيكون التأويل لئلا يكون للناس على الله حجة فيما لم يدل العقل على وجوبه ولا قبحه كالشرعيات وكذلك وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً على ما لم يكن العقل دليلا عليه حتى نبعث رسولا . الإعذار تقديم العذر ثم قال إن الله تعالى كشف الخلق بما تعبدهم به من الشرعيات على ألسنة الأنبياء ولم يكن أمرهم خافيا عنه فيحتاج إلى أن يكشفهم بذلك ولكنه أراد ابتلاءهم واختبارهم ليعلم أيهم أحسن عملا فيعاقب المسي ء ويثيب المحسن . فإن قلت الإشكال قائم لأنه إذا كان يعلم أيهم يحسن وأيهم يسي ء فما فائدة الابتلاء وهل هو إلا محض العبث قلت فائدة الابتلاء إيصال نفع إلى زيد لم يكن ليصح إيصاله إليه إلا بواسطة هذا الابتلاء وهو ما يقوله أصحابنا إن الابتلاء بالثواب قبيح والله تعالى يستحيل أن يفعل القبيح . قوله وللعقاب بواء أي مكافأة قالت ليلى الأخيلية
فإن تكن القتلى بواء فإنكم
فتى ما قتلتم آل عوف بن عامر
و أبأت القاتل بالقتيل واستبأته أيضا إذا قتلته به وقد باء الرجل بصاحبه أي قتل به
[ 86 ](1/2511)
و في المثل باءت عرار بكحل وهما بقرتان قتلت إحداهما بالأخرى وقال مهلهل لبجير لما قتل بؤ بشسع نعل كليب . قوله ع أين الذين زعموا هذا الكلام كناية وإشارة إلى قوم من الصحابة كانوا ينازعونه الفضل فمنهم من كان يدعي له أنه أفرض ومنهم من كان يدعي له أنه أقرأ ومنهم من كان يدعي له أنه أعلم بالحلال والحرام هذا مع تسليم هؤلاء له أنه ع أقضى الأمة وأن القضاء يحتاج إلى كل هذه الفضائل وكل واحدة منها لا تحتاج إلى غيرها فهو إذن أجمع للفقه وأكثرهم احتواء عليه إلا أنه ع لم يرض بذلك ولم يصدق الخبر الذي قيل أفرضكم فلان إلى آخره فقال إنه كذب وافتراء حمل قوما على وضعه الحسد والبغي والمنافسة لهذا الحي من بني هاشم أن رفعهم الله على غيرهم واختصهم دون من سواهم . وأن هاهنا للتعليل أي لأن فحذف اللام التي هي أداة التعليل على الحقيقة قال سبحانه لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ وقال بعض النحاة لبعض الفقهاء الزاعمين أن لا حاجة للفقه إلى النحو ما تقول لرجل قال لزوجته أنت طالق إن دخلت الدار فقال لا يقع إلا بالدخول فقال فإن فتح الهمزة قال كذلك فعرفه أن العربية نافعة في الفقه وأن الطلاق منجز لا معلق إن كان مراده تعليل الطلاق بوقوع الدخول لاشتراطه به . ثم قال بنا يستعطى الهدى أي يطلب أن يعطى وكذلك يستجلى أي يطلب جلاؤه . ثم قال إن الأئمة من قريش إلى آخر الفصل
[ 87 ](1/2512)
اختلاف الفرق الإسلامية في كون الأئمة من قريش
و قد اختلف الناس في اشتراط النسب في الإمامة فقال قوم من قدماء أصحابنا إن النسب ليس بشرط فيها أصلا وإنها تصلح في القرشي وغير القرشي إذا كان فاضلا مستجمعا للشرائط المعتبرة واجتمعت الكلمة عليه وهو قول الخوارج . وقال أكثر أصحابنا وأكثر الناس إن النسب شرط فيها وإنها لا تصلح إلا في العرب خاصة ومن العرب في قريش خاصة وقال أكثر أصحابنا معنى
قول النبي ص الأئمة من قريش أن القرشية شرط إذا وجد في قريش من يصلح للإمامة فإن لم يكن فيها من يصلح فليست القرشية شرطا فيها . وقال بعض أصحابنا معنى الخبر أنه لا تخلو قريش أبدا ممن يصلح للإمامة فأوجبوا بهذا الخبر وجود من يصلح من قريش لها في كل عصر وزمان . وقال معظم الزيدية إنها في الفاطميين خاصة من الطالبيين لا تصلح في غير البطنين ولا تصح إلا بشرط أن يقوم بها ويدعو إليها فاضل زاهد عالم عادل شجاع سائس وبعض الزيدية يجيز الإمامة في غير الفاطميين من ولد علي ع وهو من أقوالهم الشاذة . وأما الراوندية فإنهم خصصوها بالعباس رحمه الله وولده من بين بطون قريش كلها وهذا القول هو الذي ظهر في أيام المنصور والمهدي وأما الإمامية فإنهم جعلوها سارية في ولد الحسين ع في أشخاص مخصوصين ولا تصلح عندهم لغيرهم . وجعلها الكيسانية في محمد بن الحنفية وولده ومنهم من نقلها منه إلى ولد غيره . فإن قلت إنك شرحت هذا الكتاب على قواعد المعتزلة وأصولهم فما قولك في هذا
[ 88 ]
الكلام وهو تصريح بأن الإمامة لا تصلح من قريش إلا في بني هاشم خاصة وليس ذلك بمذهب للمعتزلة لا متقدميهم ولا متأخريهم . قلت هذا الموضع مشكل ولي فيه نظر وإن صح أن عليا ع قاله قلت كما قال لأنه ثبت عندي
أن النبي ص قال إنه مع الحق وأن الحق يدور معه حيثما دار ويمكن أن يتأول ويطبق على مذهب المعتزلة فيحمل على أن المراد به كمال الإمامة كما حمل(1/2513)
قوله ص لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد على نفي الكمال لا على نفي الصحة : مِنْهَا آثَرُوا عَاجِلاً وَ أَخَّرُوا آجِلاً وَ تَرَكُوا صَافِياً وَ شَرِبُوا آجِناً كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى فَاسِقِهِمْ وَ قَدْ صَحِبَ اَلْمُنْكَرَ فَأَلِفَهُ وَ بَسِئَ بِهِ وَ وَافَقَهُ حَتَّى شَابَتْ عَلَيْهِ مَفَارِقُهُ وَ صُبِغَتْ بِهِ خَلاَئِقُهُ ثُمَّ أَقْبَلَ مُزْبِداً كَالتَّيَّارِ لاَ يُبَالِي مَا غَرَّقَ أَوْ كَوَقْعِ اَلنَّارِ فِي اَلْهَشِيمِ لاَ يَحْفِلُ مَا حَرَّقَ أَيْنَ اَلْعُقُولُ اَلْمُسْتَصْبِحَةُ بِمَصَابِيحِ اَلْهُدَى وَ اَلْأَبْصَارُ اَللاَّمِحَةُ إِلَى مَنَازِلِ اَلتَّقْوَى أَيْنَ اَلْقُلُوبُ اَلَّتِي وُهِبَتْ لِلَّهِ وَ عُوقِدَتْ عَلَى طَاعَةِ اَللَّهِ اِزْدَحَمُوا عَلَى اَلْحُطَامِ وَ تَشَاحُّوا عَلَى اَلْحَرَامِ وَ رُفِعَ لَهُمْ عَلَمُ اَلْجَنَّةِ وَ اَلنَّارِ فَصَرَفُوا عَنِ اَلْجَنَّةِ وُجُوهَهُمْ وَ أَقْبَلُوا إِلَى اَلنَّارِ بِأَعْمَالِهِمْ وَ دَعَاهُمْ رَبُّهُمْ فَنَفَرُوا وَ وَلَّوْا وَ دَعَاهُمُ اَلشَّيْطَانُ فَاسْتَجَابُوا وَ أَقْبَلُوا
[ 89 ](1/2514)
آثروا اختاروا وأخروا تركوا الآجن الماء المتغير أجن الماء يأجن ويأجن . وبسئ به ألفه وناقة بسوء ألفت الحالب ولا تمنعه وشابت عليه مفارقه طال عهده به مذ زمن الصبا حتى صار شيخا وصبغت به خلائقه ما صارت طبعا لأن العادة طبيعة ثانية . مزبدا أي ذو زبد وهو ما يخرج من الفم كالرغوة يضرب مثلا للرجل الصائل المقتحم . والتيار معظم اللجة والمراد به هاهنا السيل والهشيم دقاق الحطب . ولا يحفل بفتح حرف المضارعة لأن الماضي ثلاثي أي لا يبالي . والأبصار اللامحة الناظرة وتشاحوا تضايقوا كل منهم يريد ألا يفوته ذلك وأصله الشح وهو البخل . فإن قلت هذا الكلام يرجع إلى الصحابة الذين تقدم ذكرهم في أول الخطبة . قلت لا وإن زعم قوم أنه عناهم بل هو إشارة إلى قوم ممن يأتي من الخلف بعد السلف أ لا تراه قال كأني أنظر إلى فاسقهم قد صحب المنكر فألفه وهذا اللفظ إنما يقال في حق من لم يوجد بعد كما قال في حق الأتراك كأني أنظر إليهم قوما كأن وجوههم المجان وكما قال في حق صاحب الزنج كأني به يا أحنف قد سار في الجيش وكما قال في الخطبة التي ذكرناها آنفا كأني به قد نعق بالشام يعني به عبد الملك وحوشي ع أن يعني بهذا الكلام الصحابة لأنهم ما آثروا العاجل ولا أخروا الآجل ولا صحبوا المنكر ولا أقبلوا كالتيار لا يبالي ما غرق ولا كالنار لا تبالي ما أحرقت ولا ازدحموا على الحطام ولا تشاحوا على الحرام ولا صرفوا عن الجنة وجوههم ولا أقبلوا
[ 90 ](1/2515)
إلى النار بأعمالهم ولا دعاهم الرحمن فولوا ولا دعاهم الشيطان فاستجابوا وقد علم كل أحد حسن سيرتهم وسداد طريقتهم وإعراضهم عن الدنيا وقد ملكوها وزهدهم فيها وقد تمكنوا منها ولو لا قوله كأني أنظر إلى فاسقهم لم أبعد أن يعني بذلك قوما ممن عليه اسم الصحابة وهو ردي ء الطريقة كالمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص ومروان بن الحكم ومعاوية وجماعة معدودة أحبوا الدنيا واستغواهم الشيطان وهم معدودون في كتب أصحابنا ومن اشتغل بعلوم السيرة والتواريخ عرفهم بأعيانهم
[ 91 ](1/2516)
145 ـ ومن خطبة له ع
أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّمَا أَنْتُمْ فِي هَذِهِ اَلدُّنْيَا غَرَضٌ تَنْتَضِلُ فِيهِ اَلْمَنَايَا مَعَ كُلِّ جَرْعَةٍ شَرَقٌ وَ فِي كُلِّ أَكْلَةٍ غَصَصٌ لاَ تَنَالُونَ مِنْهَا نِعْمَةً إِلاَّ بِفِرَاقِ أُخْرَى وَ لاَ يُعَمَّرُ مُعَمَّرٌ مِنْكُمْ يَوْماً مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ بِهَدْمِ آخَرَ مِنْ أَجَلِهِ وَ لاَ تُجَدَّدُ لَهُ زِيَادَةٌ فِي أَكْلِهِ إِلاَّ بِنَفَادِ مَا قَبْلَهَا مِنْ رِزْقِهِ وَ لاَ يَحْيَا لَهُ أَثَرٌ إِلاَّ مَاتَ لَهُ أَثَرٌ وَ لاَ يَتَجَدَّدُ لَهُ جَدِيدٌ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يَخْلَقَ لَهُ جَدِيدٌ وَ لاَ تَقُومُ لَهُ نَابِتَةٌ إِلاَّ وَ تَسْقُطُ مِنْهُ مَحْصُودَةٌ وَ قَدْ مَضَتْ أُصُولٌ نَحْنُ فُرُوعُهَا فَمَا بَقَاءُ فَرْعٍ بَعْدَ ذَهَابِ أَصْلِهِ الغرض ما ينصب ليرمى وهو الهدف وتنتضل فيه المنايا تترامى فيه للسبق ومنه الانتضال بالكلام وبالشعر كأنه يجعل المنايا أشخاصا تتناضل بالسهام من الناس من يموت قتلا ومنهم من يموت غرقا أو يتردى في بئر أو تسقط عليه حائط أو يموت على فراشه . ثم قال مع كل جرعة شرق وفي كل أكلة غصص بفتح الغين مصدر قولك غصصت يا فلان بالطعام وروي غصص جمع غصة وهي الشجا وهذا مثل قول بعضهم المنحة فيها مقرونة بالمحنة والنعمة مشفوعة بالنقمة
[ 92 ]
و قد بالغ بعض الشعراء في الشكوى فأتى بهذه الألفاظ لكنه أسرف فقال .
حظي من العيش أكل كله غصص
مر المذاق وشرب كله شرق(1/2517)
و مراد أمير المؤمنين ع بكلامه أن نعيم الدنيا لا يدوم فإذا أحسنت أساءت وإذا أنعمت أنقمت . ثم قال لا ينالون منها نعمة إلا بفراق أخرى هذا معنى لطيف وذلك أن الإنسان لا يتهيأ له أن يجمع بين الملاذ الجسمانية كلها في وقت فحال ما يكون آكلا لا يكون مجامعا وحال ما يشرب لا يأكل وحال ما يركب للقنص والرياضة لا يكون جالسا على فراش وثير ممهد وعلى هذا القياس لا يأخذ في ضرب من ضروب الملاذ إلا وهو تارك لغيره منها . ثم قال ولا يعمر معمر منكم يوما من عمره إلا بهدم آخر من أجله وهذا أيضا لطيف لأن المسرور ببقائه إلى يوم الأحد لم يصل إليه إلا بعد أن قضى يوم السبت وقطعه ويوم السبت من أيام عمره فإذا قد هدم من عمره يوما فيكون قد قرب إلى الموت لأنه قد قطع من المسافة جزءا . ثم قال ولا تجدد له زيادة في أكله إلا بنفاد ما قبلها من رزقه وهذا صحيح فإن فسرنا الرزق بما وصل إلى البطن على أحد تفسيرات المتكلمين فإن الإنسان لا يأكل لقمة إلا وقد فرغ من اللقمة التي قبلها فهو إذا لا يتجدد له زيادة في أكله إلا بنفاد ما قبلها من رزقه . ثم قال ولا يحيا له أثر إلا مات له أثر وذلك أن الإنسان في الأعم الأغلب لا ينتشر صيته ويشيع فضله إلا عند الشيخوخة وكذلك لا تعرف أولاده ويصير لهم اسم في الدنيا إلا بعد كبره وعلو سنه فإذا ما حيي له أثر إلا بعد أن مات له أثر وهو قوته ونشاطه وشبيبته ومثله قوله ولا يتجدد له جديد إلا بعد أن يخلق له جديد .
[ 93 ]
ثم قال ولا تقوم له نابتة إلا وتسقط منه محصودة هذه إشارة إلى ذهاب الآباء عند حدوث أبنائهم في الأعم الأغلب ولهذا قال وقد مضت أصول نحن فروعها فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله وقد نظر الشعراء إلى هذا المعنى فقالوا فيه وأكثروا نحو قول الشاعر
فإن أنت لم تصدقك نفسك فانتسب
لعلك تهديك القرون الأوائل
فإن لم تجد من دون عدنان والدا(1/2518)
و دون معد فلتزعك العواذل
و قال الشاعر
فعددت آبائي إلى عرق الثرى
فدعوتهم فعلمت أن لم يسمعوا
لا بد من تلف مصيب فانتظر
أ بأرض قومك أم بأخرى تصرع
و قد صرح أبو العتاهية بالمعنى فقال
كل حياة إلى ممات
و كل ذي جدة يحول
كيف بقاء الفروع يوما
و قد ذوت قبلها الأصول
مِنْهَا وَ مَا أُحْدِثَتْ بِدْعَةٌ إِلاَّ تُرِكَ بِهَا سُنَّةٌ فَاتَّقُوا اَلْبِدَعَ وَ اِلْزَمُوا اَلْمَهْيَعَ إِنَّ عَوَازِمَ اَلْأُمُورِ أَفْضَلُهَا وَ إِنَّ مُحْدَثَاتِهَا شِرَارُهَا
[ 94 ]
البدعة كل ما أحدث مما لم يكن على عهد رسول الله ص فمنها الحسن كصلاة التراويح ومنها القبيح كالمنكرات التي ظهرت في أواخر الخلافة العثمانية وإن كانت قد تكلفت الأعذار عنها . ومعنى قوله ع ما أحدثت بدعة إلا ترك بها سنة أن من السنة ألا تحدث البدعة فوجود البدعة عدم للسنة لا محالة . والمهيع الطريق الواضح من قولهم أرض هيعة أي مبسوطة واسعة والميم مفتوحة وهي زائدة . وعوازم الأمور ما تقادم منها من قولهم عجوز عوزم أي مسنة قال الراجز
لقد غدوت خلق الثياب
أحمل عدلين من التراب
لعوزم وصبية سغاب
فآكل ولاحس وآبي
و يجمع فوعل على فواعل كدورق وهوجل ويجوز أن يكون عوازم جمع عازمة ويكون فاعل بمعنى مفعول أي معزوم عليها أي مقطوع معلوم بيقين صحتها ومجي ء فاعلة بمعنى مفعولة كثير كقولهم عيشة راضية بمعنى مرضية والأول أظهر عندي لأن في مقابلته قوله وإن محدثاتها شرارها والمحدث في مقابلة القديم
[ 95 ](1/2519)
146 ـ ومن كلام له ع وقد استشاره عمر في الشخوص لقتال الفرس بنفسه
إِنَّ هَذَا اَلْأَمْرَ لَمْ يَكُنْ نَصْرُهُ وَ لاَ خِذْلاَنُهُ بِكَثْرَةٍ وَ لاَ بِقِلَّةٍ وَ هُوَ دِينُ اَللَّهِ اَلَّذِي أَظْهَرَهُ وَ جُنْدُهُ اَلَّذِي أَعَدَّهُ وَ أَمَدَّهُ حَتَّى بَلَغَ مَا بَلَغَ وَ طَلَعَ حَيْثُمَا طَلَعَ وَ نَحْنُ عَلَى مَوْعُودٍ مِنَ اَللَّهِ وَ اَللَّهُ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ وَ نَاصِرٌ جُنْدَهُ وَ مَكَانُ اَلْقَيِّمِ بِالْأَمْرِ مَكَانُ اَلنِّظَامِ مِنَ اَلْخَرَزِ يَجْمَعُهُ وَ يَضُمُّهُ فَإِنِ اِنْقَطَعَ اَلنِّظَامُ تَفَرَّقَ وَ ذَهَبَ ثُمَّ لَمْ يَجْتَمِعْ بِحَذَافِيرِهِ أَبَداً وَ اَلْعَرَبُ اَلْيَوْمَ وَ إِنْ كَانُوا قَلِيلاً فَهُمْ كَثِيرُونَ بِالْإِسْلاَمِ عَزِيزُونَ بِالاِجْتِمَاعِ فَكُنْ قُطْباً وَ اِسْتَدِرِ اَلرَّحَى بِالْعَرَبِ وَ أَصْلِهِمْ دُونَكَ نَارَ اَلْحَرْبِ فَإِنَّكَ إِنْ شَخَصْتَ مِنْ هَذِهِ اَلْأَرْضِ اِنْتَقَضَتْ عَلَيْكَ اَلْعَرَبُ مِنْ أَطْرَافِهَا وَ أَقْطَارِهَا حَتَّى يَكُونَ مَا تَدَعُ وَرَاءَكَ مِنَ اَلْعَوْرَاتِ أَهَمَّ إِلَيْكَ مِمَّا بَيْنَ يَدَيْكَ إِنَّ اَلْأَعَاجِمَ إِنْ يَنْظُرُوا إِلَيْكَ غَداً يَقُولُوا هَذَا أَصْلُ اَلْعَرَبِ فَإِذَا اِقْتَطَعْتُمُوهُ اِسْتَرَحْتُمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ أَشَدَّ لِكَلْبِهِمْ عَلَيْكَ وَ طَمَعِهِمْ فِيكَ فَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ مَسِيرِ اَلْقَوْمِ إِلَى قِتَالِ اَلْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ أَكْرَهُ لِمَسِيرِهِمْ مِنْكَ وَ هُوَ أَقْدَرُ عَلَى تَغْيِيرِ مَا يَكْرَهُ وَ أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ عَدَدِهِمْ فَإِنَّا لَمْ نَكُنْ نُقَاتِلُ فِيمَا مَضَى بِالْكَثْرَةِ وَ إِنَّمَا كُنَّا نُقَاتِلُ بِالنَّصْرِ وَ اَلْمَعُونَةِ
[ 96 ](1/2520)
نظام العقد الخيط الجامع له وتقول أخذته كله بحذافيره أي بأصله وأصل الحذافير أعالي الشي ء ونواحيه الواحد حذفار . وأصلهم نار الحرب اجعلهم صالين لها يقال صليت اللحم وغيره أصليه صليا مثل رميته أرميه رميا إذا شويته وفي الحديث أنه ص أتي بشاة مصلية أي مشوية ويقال أيضا صليت الرجل نارا إذا أدخلته النار وجعلته يصلاها فإن ألقيته فيها إلقاء كأنك تريد الإحراق قلت أصليته بالألف وصليته تصلية وقرئ وَ يَصْلى سَعِيراً ومن خفف فهو من قولهم صلى فلان بالنار بالكسر يصلى صليا احترق قال الله تعالى هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا ويقال أيضا صلى فلان بالأمر إذا قاسى حره وشدته قال الطهوي
و لا تبلى بسالتهم وإن هم
صلوا بالحرب حينا بعد حين
و على هذا الوجه يحمل كلام أمير المؤمنين ع وهو مجاز من الإحراق والشي ء الموضوع لها هذا اللفظ حقيقة . والعورات الأحوال التي يخاف انتقاضها في ثغر أو حرب قال تعالى يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ والكلب الشر والأذى(1/2521)
يوم القادسية
و اعلم أن هذا الكلام قد اختلف في الحال التي قاله فيها لعمر فقيل قاله له في
[ 97 ]
غزاة القادسية وقيل في غزاة نهاوند وإلى هذا القول الأخير ذهب محمد بن جرير الطبري في التاريخ الكبير وإلى القول الأول ذهب المدائني في كتاب الفتوح ونحن نشير إلى ما جرى في هاتين الوقعتين إشارة خفيفة على مذهبنا في ذكر السير والأيام . فأما وقعة القادسية فكانت في سنة أربع عشرة للهجرة استشار عمر المسلمين في أمر القادسية فأشار عليه علي بن أبي طالب في رواية أبي الحسن علي بن محمد بن سيف المدائني ألا يخرج بنفسه و
قال إنك إن تخرج لا يكن للعجم همة إلا استئصالك لعلمهم أنك قطب رحى العرب فلا يكون للإسلام بعدها دولة وأشار عليه غيره من الناس أن يخرج بنفسه فأخذ برأي علي ع . وروى غير المدائني أن هذا الرأي أشار به عبد الرحمن بن عوف قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري لما بدا لعمر في المقام بعد أن كان عزم على الشخوص بنفسه أمر سعد بن أبي وقاص على المسلمين وبعث يزدجرد رستم الأرمني أميرا على الفرس فأرسل سعد النعمان بن مقرن رسولا إلى يزدجرد فدخل عليه وكلمه بكلام غليظ فقال يزدجرد لو لا أن الرسل لا تقتل لقتلتك ثم حمله وقرا من تراب على رأسه وساقه حتى أخرجه من باب من أبواب المدائن وقال ارجع إلى صاحبك فقد كتبت إلى رستم أن يدفنه وجنده من العرب في خندق القادسية ثم لأشغلن العرب بعدها بأنفسهم ولأصيبنهم بأشد مما أصابهم به سابور ذو الأكتاف فرجع النعمان إلى سعد فأخبره فقال لا تخف فإن الله قد ملكنا أرضهم تفاؤلا بالتراب . قال أبو جعفر وتثبط رستم عن القتال وكرهه وآثر المسالمة واستعجله يزدجرد مرارا واستحثه على الحرب وهو يدافع بها ويرى المطاولة وكان عسكره مائة وعشرين ألفا
[ 98 ](1/2522)
و كان عسكر سعد بضعا وثلاثين ألفا وأقام رستم بريدا من الرجال الواحد منهم إلى جانب الآخر من القادسية إلى المدائن كلما تكلم رستم كلمة أداها بعضهم إلى بعض حتى تصل إلى سمع يزدجرد في وقتها وشهد وقعة القادسية مع المسلمين طليحة بن خويلد وعمرو بن معديكرب والشماخ بن ضرار وعبدة بن الطبيب الشاعر وأوس بن معن الشاعر وقاموا في الناس ينشدونهم الشعر ويحرضونهم وقرن أهل فارس أنفسهم بالسلاسل لئلا يهربوا فكان المقرنون منهم نحو ثلاثين ألفا والتحم الفريقان في اليوم الأول فحملت الفيلة التي مع رستم على الخيل فطحنتها وثبت لها جمع من الرجالة وكانت ثلاثة وثلاثين فيلا منها فيل الملك وكان أبيض عظيما فضربت الرجال خراطيم الفيلة بالسيوف فقطعتها وارتفع عواؤها وأصيب في هذا اليوم وهو اليوم الأول خمسمائة من المسلمين وألفان من الفرس ووصل في الثاني أبو عبيدة بن الجراح من الشام في عساكر من المسلمين فكان مددا لسعد وكان هذا اليوم على الفرس أشد من اليوم الأول قتل من المسلمين ألفان ومن المشركين عشرة آلاف وأصبحوا في اليوم الثالث على القتال وكان عظيما على العرب والعجم معا وصبر الفريقان وقامت الحرب ذلك اليوم وتلك الليلة جمعاء لا ينطقون كلامهم الهرير فسميت ليلة الهرير . وانقطعت الأخبار والأصوات عن سعد ورستم وانقطع سعد إلى الصلاة والدعاء والبكاء وأصبح الناس حسرى لم يغمضوا ليلتهم كلها والحرب قائمة بعد إلى وقت الظهر فأرسل الله تعالى ريحا عاصفا في اليوم الرابع أمالت الغبار والنقع على العجم فانكسروا ووصلت العرب إلى سرير رستم وقد قام عنه ليركب جملا وعلى رأسه العلم فضرب هلال بن علقمة الحمل الذي رستم فوقه فقطع حباله ووقع على هلال أحد العدلين فأزال فقار ظهره ومضى رستم نحو العتيق فرمى نفسه فيه واقتحم هلال عليه فأخذ
[ 99 ](1/2523)
برجله وخرج به يجره حتى ألقاه تحت أرجل الخيل وقد قتله وصعد السرير فنادى أنا هلال أنا قاتل رستم فانهزمت الفرس وتهافتوا في العقيق فقتل منهم نحو ثلاثين ألفا ونهبت أموالهم وأسلابهم وكانت عظيمة جدا وأخذت العرب منهم كافورا كثيرا فلم يعبئوا به لأنهم لم يعرفوه وباعوه من قوم بملح كيلا بكيل وسروا بذلك وقالوا أخذنا منهم ملحا طيبا ودفعنا إليهم ملحا غير طيب وأصابوا من الجامات من الذهب والفضة ما لا يقع عليه العد لكثرته فكان الرجل منهم يعرض جامين من ذهب على صاحبه ليأخذ منه جاما واحدا من فضة يعجبه بياضها ويقول من يأخذ صفراوين ببيضاء . وبعث سعد بالأنفال والغنائم إلى عمر فكتب إلى سعد لا تتبع الفرس وقف مكانك واتخذه منزلا فنزل موضع الكوفة اليوم واختط مسجدها وبنى فيها الخطط للعرب(1/2524)
يوم نهاوند
فأما وقعة نهاوند فإن أبا جعفر محمد بن جرير الطبري ذكر في كتاب التاريخ أن عمر لما أراد أن يغزو العجم وجيوش كسرى وهي مجتمعة بنهاوند استشار الصحابة فقام عثمان فتشهد فقال أرى يا أمير المؤمنين أن تكتب إلى أهل الشام فيسيروا من شامهم وتكتب إلى أهل اليمن فيسيروا من يمنهم ثم تسير أنت بأهل هذين الحرمين إلى المصرين البصرة والكوفة فتلقى جمع المشركين بجمع المسلمين فإنك إذا سرت
[ 100 ]
بمن معك ومن عندك قل في نفسك ما تكاثر من عدد القوم وكنت أعز عزا وأكثر إنك لا تستبقي من نفسك بعد اليوم باقية ولا تمتع من الدنيا بعزيز ولا تكون منها في حرز حريز إن هذا اليوم له ما بعده فاشهد بنفسك ورأيك وأعوانك ولا تغب عنه . قال أبو جعفر وقام طلحة فقال أما بعد يا أمير المؤمنين فقد أحكمتك الأمور وعجمتك البلايا وحنكتك التجارب وأنت وشأنك وأنت ورأيك لا ننبو في يديك ولا نكل أمرنا إلا إليك فأمرنا نجب وادعنا نطع واحملنا نركب وقدنا ننقد فإنك ولي هذا الأمر وقد بلوت وجربت واختبرت فلم ينكشف شي ء من عواقب الأمور لك إلا عن خيار .(1/2525)
فقال علي بن أبي طالب ع أما بعد فإن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلة إنما هو دين الله الذي أظهره وجنده الذي أعزه وأمده بالملائكة حتى بلغ ما بلغ فنحن على موعود من الله والله منجز وعده وناصر جنده وإن مكانك منهم مكان النظام من الخرز يجمعه ويمسكه فإن انحل تفرق ما فيه وذهب ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا والعرب اليوم وإن كانوا قليلا فإنهم كثير عزيز بالإسلام أقم مكانك واكتب إلى أهل الكوفة فإنهم أعلام العرب ورؤساؤهم وليشخص منهم الثلثان وليقم الثلث واكتب إلى أهل البصرة أن يمدوهم ببعض من عندهم ولا تشخص الشام ولا اليمن إنك إن أشخصت أهل الشام من شامهم سارت الروم إلى ذراريهم وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة إلى ذراريهم ومتى شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أقطارها وأطرافها حتى يكون ما تدع وراءك أهم إليك مما بين يديك من العورات والعيالات إن الأعاجم إن ينظروا
[ 101 ](1/2526)
إليك غدا قالوا هذا أمير العرب وأصلهم فكان ذلك أشد لكلبهم عليك وأما ما ذكرت من مسير القوم فإن الله هو أكره لسيرهم منك وهو أقدر على تغيير ما يكره وأما ما ذكرت من عددهم فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة وإنما كنا نقاتل بالصبر والنصر . فقال عمر أجل هذا الرأي وقد كنت أحب أن أتابع عليه فأشيروا علي برجل أوليه ذلك الثغر قالوا أنت أفضل رأيا فقال أشيروا علي به واجعلوه عراقيا قالوا أنت أعلم بأهل العراق وقد وفدوا عليك فرأيتهم وكلمتهم قال أما والله لأولين أمرهم رجلا يكون عمدا لأول الأسنة قيل ومن هو يا أمير المؤمنين قال النعمان بن مقرن قالوا هو لها . وكان النعمان يومئذ بالبصرة فكتب إليه عمر فولاه أمر الجيش . قال أبو جعفر كتب إليه عمر سر إلى نهاوند فقد وليتك حرب الفيروزان وكان المقدم على جيوش كسرى فإن حدث بك حدث فعلى الناس حذيفة بن اليمان فإن حدث به حدث فعلى الناس نعيم بن مقرن فإن فتح الله عليكم فاقسم على الناس ما أفاء الله عليهم ولا ترفع إلي منه شيئا وإن نكث القوم فلا تراني ولا أراك وقد جعلت معك طليحة بن خويلد وعمرو بن معديكرب لعلمهما بالحرب فاستشرهما ولا تولهما شيئا . قال أبو جعفر فسار النعمان بالعرب حتى وافى نهاوند وذلك في السنة السابعة من خلافة عمر وتراءى الجمعان ونشب القتال وحجزهم المسلمون في خنادقهم واعتصموا بالحصون والمدن وشق على المسلمين ذلك فأشار طليحة عليه فقال أرى أن تبعث خيلا ببعض القوم وتحمشهم فإذا استحمشوا خرج بعضهم واختلطوا بكم
[ 102 ](1/2527)
فاستطردوا لهم فإنهم يطمعون بذلك ثم تعطف عليهم حتى يقضي الله بيننا وبينهم بما يحب . ففعل النعمان ذلك فكان كما ظن طليحة وانقطع العجم عن حصونهم بعض الانقطاع فلما أمعنوا في الانكشاف للمسلمين حمل النعمان بالناس فاقتتلوا قتالا شديدا لم يسمع السامعون مثله وزلق بالنعمان فرسه فصرع وأصيب وتناول الراية نعيم أخوه فأتى حذيفة لها فدفعها إليه وكتم المسلمون مصاب أميرهم واقتتلوا حتى أظلم الليل ورجعوا والمسلمون وراءهم فعمي عليهم قصدهم فتركوه وغشيهم المسلمون بالسيوف فقتلوا منهم ما لا يحصى وأدرك المسلمون الفيروزان وهو هارب وقد انتهى إلى ثنية مشحونة ببغال موقرة عسلا فحبسته على أجله فقتل فقال المسلمون إن لله جنودا من عسل . ودخل المسلمون نهاوند فاحتووا على ما فيها وكانت أنفال هذا اليوم عظيمة فحملت إلى عمر فلما رآها بكى فقال له المسلمون إن هذا اليوم يوم سرور وجذل فما بكاؤك قال ما أظن أن الله تعالى زوي هذا عن رسول الله ص وعن أبي بكر إلا لخير أراده بهما ولا أراه فتحه علي إلا لشر أريد بي إن هذا المال لا يلبث أن يفتن الناس . ثم رفع يده إلى السماء يدعو ويقول اللهم اعصمني ولا تكلني إلى نفسي يقولها مرارا ثم قسمه بين المسلمين عن آخره
[ 103 ](1/2528)
147 ـ ومن خطبة له ع
فَبَعَثَ اَللَّهُ مُحَمَّداً ص بِالْحَقِّ لِيُخْرِجَ عِبَادَهُ مِنْ عِبَادَةِ اَلْأَوْثَانِ إِلَى عِبَادَتِهِ وَ مِنْ طَاعَةِ اَلشَّيْطَانِ إِلَى طَاعَتِهِ بِقُرْآنٍ قَدْ بَيَّنَهُ وَ أَحْكَمَهُ لِيَعْلَمَ اَلْعِبَادُ رَبَّهُمْ إِذْ جَهِلُوهُ وَ لِيُقِرُّوا بِهِ بَعْدَ إِذْ جَحَدُوهُ وَ لِيُثْبِتُوهُ بَعْدَ إِذْ أَنْكَرُوهُ فَتَجَلَّى لَهُمْ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا رَأَوْهُ بِمَا أَرَاهُمْ مِنْ قُدْرَتِهِ وَ خَوَّفَهُمْ مِنْ سَطْوَتِهِ وَ كَيْفَ مَحَقَ مَنْ مَحَقَ بِالْمَثُلاَتِ وَ اِحْتَصَدَ مَنِ اِحْتَصَدَ بِالنَّقِمَاتِ الأوثان جمع وثن وهو الصنم ويجمع أيضا على وثن مثل أسد وآساد وأسد وسمي وثنا لانتصابه وبقائه على حال واحدة من قولك وثن فلان بالمكان فهو واثن وهو الثابت الدائم . قوله فتجلى سبحانه لهم أي ظهر من غير أن يرى بالبصر بل بما نبههم عليه في القرآن من قصص الأولين وما حل بهم من النقمة عند مخالفة الرسل . والمثلات بضم الثاء العقوبات . فإن قلت ظاهر هذا الكلام أن الرسول ع بعث إلى الناس ليقروا بالصانع ويثبتوه وهذا خلاف قول المعتزلة لأن فائدة الرسالة عندهم هي إلطاف
[ 104 ](1/2529)
المكلفين بالأحكام الشرعية المقربة إلى الواجبات العقلية والمبعدة من المقبحات العقلية ولا مدخل للرسول في معرفة البارئ سبحانه لأن العقل يوجبها وإن لم يبعث الرسل . قلت إن كثيرا من شيوخنا أوجبوا بعثة الرسل إذا كان في حثهم المكلفين على ما في العقول فائدة وهو مذهب شيخنا أبي علي رحمه الله فلا يمتنع أن يكون إرسال محمد ص إلى العرب وغيرهم لأن الله تعالى علم أنهم مع تنبيهه إياهم على ما هو واجب في عقولهم من المعرفة أقرب إلى حصول المعرفة فحينئذ يكون بعثه لطفا ويستقيم كلام أمير المؤمنين : وَ إِنَّهُ سَيَأْتِي عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي زَمَانٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْ ءٌ أَخْفَى مِنَ اَلْحَقِّ وَ لاَ أَظْهَرَ مِنَ اَلْبَاطِلِ وَ لاَ أَكْثَرَ مِنَ اَلْكَذِبِ عَلَى اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ لَيْسَ عِنْدَ أَهْلِ ذَلِكَ اَلزَّمَانِ سِلْعَةٌ أَبْوَرَ مِنَ اَلْكِتَابِ إِذَا تُلِيَ حَقَّ تِلاَوَتِهِ وَ لاَ أَنْفَقَ مِنْهُ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَ لاَ فِي اَلْبِلاَدِ شَيْ ءٌ أَنْكَرَ مِنَ اَلْمَعْرُوفِ وَ لاَ أَعْرَفَ مِنَ اَلْمُنْكَرِ فَقَدْ نَبَذَ اَلْكِتَابَ حَمَلَتُهُ وَ تَنَاسَاهُ حَفَظَتُهُ فَالْكِتَابُ يَوْمَئِذٍ وَ أَهْلُهُ طَرِيدَانِ مَنْفِيَّانِ وَ صَاحِبَانِ مُصْطَحِبَانِ فِي طَرِيقٍ وَاحِدٍ لاَ يُؤْوِيهِمَا مُؤْوٍ فَالْكِتَابُ وَ أَهْلُهُ فِي ذَلِكَ اَلزَّمَانِ فِي اَلنَّاسِ وَ لَيْسَا فِيهِمْ وَ مَعَهُمْ وَ لَيْسَا مَعَهُمْ لِأَنَّ اَلضَّلاَلَةَ لاَ تُوَافِقُ اَلْهُدَى وَ إِنِ اِجْتَمَعَا فَاجْتَمَعَ اَلْقَوْمُ عَلَى اَلْفُرْقَةِ وَ اِفْتَرَقُوا عَنِ اَلْجَمَاعَةِ كَأَنَّهُمْ أَئِمَّةُ اَلْكِتَابِ وَ لَيْسَ اَلْكِتَابُ إِمَامَهُمْ فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ إِلاَّ اِسْمُهُ وَ لاَ يَعْرِفُونَ إِلاَّ خَطَّهُ وَ زَبْرَهُ وَ مِنْ قَبْلُ مَا مَثَلُوا مَثَّلُوا بِالصَّالِحِينَ(1/2530)
كُلَّ مُثْلَةٍ وَ سَمَّوْا صِدْقَهُمْ عَلَى اَللَّهِ فِرْيَةً وَ جَعَلُوا
[ 105 ]
فِي اَلْحَسَنَةِ عُقُوبَةَ اَلسَّيِّئَةِ وَ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِطُولِ آمَالِهِمْ وَ تَغَيُّبِ آجَالِهِمْ حَتَّى نَزَلَ بِهِمُ اَلْمَوْعُودُ اَلَّذِي تُرَدُّ عَنْهُ اَلْمَعْذِرَةُ وَ تُرْفَعُ عَنْهُ اَلتَّوْبَةُ وَ تَحُلُّ مَعَهُ اَلْقَارِعَةُ وَ اَلنِّقْمَةُ أخبر ع أنه سيأتي على الناس زمان من صفته كذا وكذا وقد رأيناه ورآه من كان قبلنا أيضا قال شعبة إمام المحدثين تسعة أعشار الحديث كذب . وقال الدارقطني ما الحديث الصحيح في الحديث إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود وأما غلبة الباطل على الحق حتى يخفى الحق عنده فظاهرة . وأبور أفسد من بار الشي ء أي هلك والسلعة المتاع ونبذ الكتاب ألقاه ولا يؤويهما لا يضمهما إليه وينزلهما عنده . والزبر مصدر زبرت أزبر بالضم أي كتبت وجاء يزبر بالكسر والزبر بالكسر الكتاب وجمعه زبور مثل قدر وقدور وقرأ بعضهم وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً أي كتبا والزبور بفتح الزاي الكتاب المزبور فعول بمعنى مفعول وقال الأصمعي سمعت أعرابيا يقول أنا أعرف بزبرتي أي خطي وكتابتي . ومثلوا بالصالحين بالتخفيف نكلوا بهم مثلت بفلان أمثل بالضم مثلا بالفتح وسكون الثاء والاسم المثلة بالضم ومن روى مثلوا بالتشديد أراد جدعوهم بعد قتلهم . وعلى في قوله وسموا صدقهم على الله فرية ليست متعلقة بصدقهم بل بفرية
[ 106 ](1/2531)
أي وسموا صدقهم فرية على الله فإن امتنع أن يتعلق حرف الجر به لتقدمه عليه وهو مصدر فليكن متعلقا بفعل مقدر دل عليه هذا المصدر الظاهر وروي وجعلوا في الحسنة العقوبة السيئة والرواية الأولى بالإضافة أكثر وأحسن . والموعود هاهنا الموت والقارعة المصيبة تقرع أي تلقى بشدة وقوة : أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّهُ مَنِ اِسْتَنْصَحَ اَللَّهَ وُفِّقَ وَ مَنِ اِتَّخَذَ قَوْلَهُ دَلِيلاً هُدِيَ لِلَّتِي هِيَ أَقُومُ فَإِنَّ جَارَ اَللَّهِ آمِنٌ وَ عَدُوَّهُ خَائِفٌ وَ إِنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لِمَنْ عَرَفَ عَظَمَةَ اَللَّهِ أَنْ يَتَعَظَّمَ فَإِنَّ رِفْعَةَ اَلَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا عَظَمَتُهُ أَنْ يَتَوَاضَعُوا لَهُ وَ سَلاَمَةَ اَلَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا قُدْرَتُهُ أَنْ يَسْتَسْلِمُوا لَهُ فَلاَ تَنْفِرُوا مِنَ اَلْحَقِّ نِفَارَ اَلصَّحِيحِ مِنَ اَلْأَجْرَبِ وَ اَلْبَارِئِ مِنْ ذِي اَلسَّقَمِ وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَعْرِفُوا اَلرُّشْدَ حَتَّى تَعْرِفُوا اَلَّذِي تَرَكَهُ وَ لَنْ تَأْخُذُوا بِمِيثَاقِ اَلْكِتَابِ حَتَّى تَعْرِفُوا اَلَّذِي نَقَضَهُ وَ لَنْ تَمَسَّكُوا بِهِ حَتَّى تَعْرِفُوا اَلَّذِي نَبَذَهُ فَالْتَمِسُوا ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ فَإِنَّهُمْ عَيْشُ اَلْعِلْمِ وَ مَوْتُ اَلْجَهْلِ هُمُ اَلَّذِينَ يُخْبِرُكُمْ حُكْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ وَ صَمْتُهُمْ عَنْ مَنْطِقِهِمْ وَ ظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ لاَ يُخَالِفُونَ اَلدِّينَ وَ لاَ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَهُوَ بَيْنَهُمْ شَاهِدٌ صَادِقٌ وَ صَامِتٌ نَاطِقٌ من استنصح الله من أطاع أوامره وعلم أنه يهديه إلى مصالحه ويرده عن مفاسده ويرشده إلى ما فيه نجاته ويصرفه عما فيه عطبه .
[ 107 ](1/2532)
و التي هي أقوم يعني الحالة والخلة التي اتباعها أقوم وهذا من الألفاظ القرآنية قال سبحانه إِنَّ هذَا اَلْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ والمراد بتلك الحالة المعرفة بالله وتوحيده ووعد له . ثم نهى ع عن التكبر والتعظم وقال إن رفعة القوم الذين يعرفون عظمة الله أن يتواضعوا له وما هاهنا بمعنى أي شي ء ومن روى بالنصب جعلها زائدة وقد ورد في ذم التعظم والتكبر ما يطول استقصاؤه وهو مذموم على العباد فكيف بمن يتعظم على الخالق سبحانه وإنه لمن الهالكين و
قال رسول الله ص لما افتخر أنا سيد ولد آدم ثم قال ولا فخر فجهر بلفظة الافتخار ثم أسقط استطالة الكبر وإنما جهر بما جهر به لأنه أقامه مقام شكر النعمة والتحدث بها و
في الحديث المرفوع عنه ص أن الله قد أذهب عنكم حمية الجاهلية وفخرها بالآباء الناس بنو آدم وآدم من تراب مؤمن تقي وفاجر شقي لينتهين أقوام يفخرون برجال إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من جعلان تدفع النتن بأنفها . قوله واعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه فيه تنبيه على أنه يجب البراءة من أهل الضلال وهو قول أصحابنا جميعهم فإنهم بين مكفر لمن خالف أصول التوحيد والعدل وهم الأكثرون أو مفسق وهم الأقلون وليس أحد منهم معذورا عند أصحابنا وإن ضل بعد النظر كما لا نعذر اليهود والنصارى إذا ضلوا بعد النظر . ثم قال ع فالتمسوا ذلك عند أهله هذا كناية عنه ع وكثيرا ما يسلك هذا المسلك ويعرض هذا التعريض وهو الصادق الأمين العارف بأسرار الإلهية .
[ 108 ](1/2533)
ثم ذكر أن هؤلاء الذين أمر باتباعهم ينبئ حكمهم عن علمهم وذلك لأن الامتحان يظهر خبيئة الإنسان . ثم قال وصمتهم عن نطقهم صمت العارف أبلغ من نطق غيره ولا يخفى فضل الفاضل وإن كان صامتا . ثم ذكر أنهم لا يخالفون الدين لأنهم قوامه وأربابه ولا يختلفون فيه لأن الحق في التوحيد والعدل واحد فالدين بينهم شاهد صادق يأخذون بحكمه كما يؤخذ بحكم الشاهد الصادق . وصامت ناطق لأنه لا ينطق بنفسه بل لا بد له من مترجم فهو صامت في الصورة وهو في المعنى أنطق الناطقين لأن الأوامر والنواهي والآداب كلها مبنية عليه ومتفرعة عليه
[ 109 ](1/2534)
148 ـ ومن كلام له ع في ذكر أهل البصرة
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرْجُو اَلْأَمْرَ لَهُ وَ يَعْطِفُهُ عَلَيْهِ دُونَ صَاحِبِهِ لاَ يَمُتَّانِ إِلَى اَللَّهِ بِحَبْلٍ وَ لاَ يَمُدَّانِ إِلَيْهِ بِسَبَبٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَامِلُ ضَبٍّ لِصَاحِبِهِ وَ عَمَّا قَلِيلٍ يَكْشِفُ قِنَاعَهُ بِهِ وَ اَللَّهِ لَئِنْ أَصَابُوا اَلَّذِي يُرِيدُونَ لَيَنْتَزِعَنَّ هَذَا نَفْسَ هَذَا وَ لَيَأْتِيَنَّ هَذَا عَلَى هَذَا قَدْ قَامَتِ اَلْفِئَةُ اَلْبَاغِيَةُ فَأَيْنَ اَلْمُحْتَسِبُونَ قَدْ سُنَّتَ لَهُمُ اَلسُّنَنُ وَ قُدِّمَ لَهُمُ اَلْخَبَرُ وَ لِكُلِّ ضَلَّةٍ عِلَّةٌ وَ لِكُلِّ نَاكِثٍ شُبْهَةٌ وَ اَللَّهِ لاَ أَكُونُ كَمُسْتَمِعِ اَللَّدْمِ يَسْمَعُ اَلنَّاعِيَ وَ يَحْضُرُ اَلْبَاكِيَ ثُمَّ لاَ يَعْتَبِرُ ضمير التثنية راجع إلى طلحة والزبير رضي الله عنهما ويمتان يتوسلان الماضي ثلاثي مت يمت بالضم والضب الحقد والمحتسبون طالبو الحسبة وهي الأجر ومستمع اللدم كناية عن الضبع تسمع وقع الحجر بباب جحرها من يد الصائد فتنخذل وتكف
[ 110 ](1/2535)
جوارحها إليها حتى يدخل عليها فيربطها يقول لا أكون مقرا بالضيم راغنا أسمع الناعي المخبر عن قتل عسكر الجمل لحكيم بن جبلة وأتباعه فلا يكون عندي من التغيير والإنكار لذلك إلا أن أسمعه وأحضر الباكين على قتلاهم . وقوله لكل ضلة علة ولكل ناكث شبهة هو جواب سؤال مقدر كأنه يقول إن قيل لأي سبب خرج هؤلاء فإنه لا بد أن يكون لهم تأويل في خروجهم وقد قيل إنهم يطالبون بدم عثمان فهو ع قال كل ضلالة فلا بد لها من علة اقتضتها وكل ناكث فلا بد له من شبهة يستند إليها . وقوله لينتزعن هذا نفس هذا قول صحيح لا ريب فيه لأن الرئاسة لا يمكن أن يدبرها اثنان معا فلو صح لهما ما أراداه لوثب أحدهما على الآخر فقتله فإن الملك عقيم وقد ذكر أرباب السيرة أن الرجلين اختلفا من قبل وقوع الحرب فإنهما اختلفا في الصلاة فأقامت عائشة محمد بن طلحة وعبد الله بن الزبير يصلي هذا يوما وهذا يوما إلى أن تنقضي الحرب . ثم إن عبد الله بن الزبير ادعى أن عثمان نص عليه بالخلافة يوم الدار واحتج في ذلك بأنه استخلفه على الصلاة واحتج تارة أخرى بنص صريح زعمه وادعاه وطلب طلحة من عائشة أن يسلم الناس عليه بالإمرة وأدلى إليها بالتيمية وأدلى الزبير إليها بأسماء أختها فأمرت الناس أن يسلموا عليهما معا بالإمرة . واختلفا في تولي القتال فطلبه كل منهما أولا ثم نكل كل منهما عنه وتفادى منه وقد ذكرنا في الأجزاء المتقدمة قطعة صالحة من أخبار الجمل
[ 111 ](1/2536)
من أخبار يوم الجمل
و روى أبو مخنف قال لما تزاحف الناس يوم الجمل والتقوا قال علي ع لأصحابه لا يرمين رجل منكم بسهم ولا يطعن أحدكم فيهم برمح حتى أحدث إليكم وحتى يبدءوكم بالقتال وبالقتل فرمى أصحاب الجمل عسكر علي ع بالنبل رميا شديدا متتابعا فضج إليه أصحابه وقالوا عقرتنا سهامهم يا أمير المؤمنين وجي ء برجل إليه وإنه لفي فسطاط له صغير فقيل له هذا فلان قد قتل فقال اللهم اشهد ثم قال أعذروا إلى القوم فأتي برجل آخر فقيل وهذا قد قتل فقال اللهم اشهد أعذروا إلى القوم ثم أقبل عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي وهو من أصحاب رسول الله ص يحمل أخاه عبد الرحمن بن بديل قد أصابه سهم فقتله فوضعه بين يدي علي ع وقال يا أمير المؤمنين هذا أخي قد قتل فعند ذلك استرجع علي ع ودعا بدرع رسول الله ص ذات الفضول فلبسها فتدلت بطنه فرفعها بيده وقال لبعض أهله فحزم وسطه بعمامة وتقلد ذا الفقار ودفع إلى ابنه محمد راية رسول الله ص السوداء وتعرف بالعقاب وقال لحسن وحسين ع إنما دفعت الراية إلى أخيكما وتركتكما لمكانكما من رسول الله ص .
قال أبو مخنف وطاف علي ع على أصحابه وهو يقرأ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ اَلْبَأْساءُ وَ اَلضَّرَّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ اَلرَّسُولُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اَللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اَللَّهِ قَرِيبٌ
[ 112 ](1/2537)
ثم قال أفرغ الله علينا وعليكم الصبر وأعز لنا ولكم النصر وكان لنا ولكم ظهيرا في كل أمر ثم رفع مصحفا بيده فقال من يأخذ هذا المصحف فيدعوهم إلى ما فيه وله الجنة فقام غلام شاب اسمه مسلم عليه قباء أبيض فقال أنا آخذه فنظر إليه علي وقال يا فتى إن أخذته فإن يدك اليمنى تقطع فتأخذه بيدك اليسرى فتقطع ثم تضرب بالسيف حتى تقتل فقال لا صبر لي على ذلك فنادى علي ثانية فقام الغلام وأعاد عليه القول وأعاد الغلام القول مرارا حتى قال الغلام أنا آخذه وهذا الذي ذكرت في الله قليل فأخذه وانطلق فلما خالطهم ناداهم هذا كتاب الله بيننا وبينكم فضربه رجل فقطع يده اليمنى فتناوله باليسرى فضربه أخرى فقطع اليسرى فاحتضنه فضربوه بأسيافهم حتى قتل فقالت أم ذريح العبدية في ذلك
يا رب إن مسلما أتاهم
بمصحف أرسله مولاهم
للعدل والإيمان قد دعاهم
يتلو كتاب الله لا يخشاهم
فخضبوا من دمه ظباهم
و أمهم واقفة تراهم
تأمرهم بالغي لا تنهاهم
قال أبو مخنف فعند ذلك أمر علي ع ولده محمدا أن يحمل الراية فحمل وحمل معه الناس واستحر القتل في الفريقين وقامت الحرب على ساق
[ 113 ](1/2538)
مقتل طلحة والزبير
قال فأما طلحة فإن أهل الجمل لما تضعضعوا قال مروان لا أطلب ثار عثمان من طلحة بعد اليوم فانتحى له بسهم فأصاب ساقه فقطع أكحله فجعل الدم يبض فاستدعى من مولى له بغلة فركبها وأدبر وقال لمولاه ويحك أ ما من مكان أقدر فيه على النزول فقد قتلني الدم فيقول له مولاه انج وإلا لحقك القوم فقال بالله ما رأيت مصرع شيخ أضيع من مصرعي هذا حتى انتهى إلى دار من دور البصرة فنزلها ومات بها . وقد روي أنه رمي قبل أن يرميه مروان وجرح في غير موضع من جسده . و
روى أبو الحسن المدائني أن عليا ع مر بطلحة وهو يكيد بنفسه فوقف عليه وقال أما والله إن كنت لأبغض أن أراكم مصرعين في البلاد ولكن ما حتم واقع ثم تمثل
و ما تدري إذا أزمعت أمرا
بأي الأرض يدركك المقيل
و ما يدري الفقير متى غناه
و لا يدري الغني متى يعيل
[ 114 ]
و ما تدري إذا ألقحت شولا
أ تنتج بعد ذلك أم تحيل(1/2539)
و أما الزبير فقتله ابن جرموز غيلة بوادي السباع وهو منصرف عن الحرب نادم على ما فرط منه وتقدم ذكر كيفية قتله فيما سبق . وروى الكلبي قال كان العرق الذي أصابه السهم إذا أمسكه طلحة بيده استمسك وإذا رفع يده عنه سال فقال طلحة هذا سهم أرسله الله تعالى وكان أمر الله قدرا مقدورا ما رأيت كاليوم دم قرشي أضيع . قال وكان الحسن البصري إذا سمع هذا وحكي له يقول ذق عقعق . وروى أبو مخنف عن عبد الله بن عون عن نافع قال سمعت مروان بن الحكم يقول أنا قتلت طلحة . وقال أبو مخنف وقد قال عبد الملك بن مروان لو لا أن أبي أخبرني أنه رمى طلحة فقتله ما تركت تيميا إلا قتلته بعثمان قال يعني أن محمد بن أبي بكر وطلحة قتلاه وكانا تيميين . قال أبو مخنف وحدثنا عبد الرحمن بن جندب عن أبيه جندب بن عبد الله قال مررت بطلحة وإن معه عصابة يقاتل بهم وقد فشت فيهم الجراح وكثرهم الناس فرأيته جريحا والسيف في يده وأصحابه يتصدعون عنه رجلا فرجلا واثنين فاثنين وأنا أسمعه وهو يقول عباد الله الصبر الصبر فإن بعد الصبر النصر والأجر
[ 115 ]
فقلت له النجاء النجاء ثكلتك أمك فو الله ما أجرت ولا نصرت ولكنك وزرت وخسرت ثم صحت بأصحابه فانذعروا عنه ولو شئت أن أطعنه لطعنته فقلت له أما والله لو شئت لجدلتك في هذا الصعيد فقال والله لهلكت هلاك الدنيا والآخرة إذن فقلت له والله لقد أمسيت وإن دمك لحلال وإنك لمن النادمين فانصرف ومعه ثلاثة نفر وما أدري كيف كان أمره إلا أني أعلم أنه قد هلك . وروي أن طلحة قال ذلك اليوم ما كنت أظن أن هذه الآية نزلت فينا وَ اِتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً . وروى المدائني قال لما أدبر طلحة وهو جريح يرتاد مكانا ينزله جعل يقول لمن يمر به من أصحاب علي ع أنا طلحة من يجيرني يكررها قال فكان الحسن البصري إذا ذكر ذلك يقول لقد كان في جوار عريض
[ 116 ](1/2540)
149 ـ ومن كلام له ع قبل موته
أَيُّهَا اَلنَّاسُ كُلُّ اِمْرِئٍ لاَقٍ مَا يَفِرُّ مِنْهُ فِي فِرَارِهِ اَلْأَجَلُ مَسَاقُ اَلنَّفْسِ وَ اَلْهَرَبُ مِنْهُ مُوَافَاتُهُ كَمْ أَطْرَدْتُ اَلْأَيَّامَ أَبْحَثُهَا عَنْ مَكْنُونِ هَذَا اَلْأَمْرِ فَأَبَى اَللَّهُ إِلاَّ إِخْفَاءَهُ هَيْهَاتَ عِلْمٌ مَخْزُونٌ أَمَّا وَصِيَّتِي فَاللَّهَ لاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ مُحَمَّداً ص فَلاَ تُضَيِّعُوا سُنَّتَهُ أَقِيمُوا هَذَيْنِ اَلْعَمُودَيْنِ وَ أَوْقِدُوا هَذَيْنِ اَلْمِصْبَاحَيْنِ وَ خَلاَكُمْ ذَمٌّ مَا لَمْ تَشْرُدُوا حُمِّلَ كُلُّ اِمْرِئٍ مِنْكُمْ مَجْهُودَهُ وَ خُفِّفَ عَنِ اَلْجَهَلَةِ رَبٌّ رَحِيمٌ وَ دِينٌ قَوِيمٌ وَ إِمَامٌ عَلِيمٌ أَنَا بِالْأَمْسِ صَاحِبُكُمْ وَ أَنَا اَلْيَوْمَ عِبْرَةٌ لَكُمْ وَ غَداً مُفَارِقُكُمْ غَفَرَ اَللَّهُ لِي وَ لَكُمْ إِنْ ثَبَتَتِ اَلْوَطْأَةُ فِي هَذِهِ اَلْمَزَلَّةِ فَذَاكَ وَ إِنْ تَدْحَضِ اَلْقَدَمُ فَإِنَّا كُنَّا فِي أَفْيَاءِ أَغْصَانٍ وَ مَهَبِّ مَهَابِّ رِيَاحٍ وَ تَحْتَ ظِلِّ غَمَامٍ اِضْمَحَلَّ فِي اَلْجَوِّ مُتَلَفَّقُهَا وَ عَفَا فِي اَلْأَرْضِ مَخَطُّهَا وَ إِنَّمَا كُنْتُ جَاراً جَاوَرَكُمْ بَدَنِي أَيَّاماً وَ سَتُعْقَبُونَ مِنِّي جُثَّةً خَلاَءً سَاكِنَةً بَعْدَ حَرَاكٍ وَ صَامِتَةً بَعْدَ نُطْقٍ لِيَعِظَكُمْ هُدُوئِي لِيَعِظْكُمْ هُدُوِّي وَ خُفُوتُ إِطْرَاقِي وَ سُكُونُ أَطْرَافِي فَإِنَّهُ أَوْعَظُ لِلْمُعْتَبِرِينَ مِنَ اَلْمَنْطِقِ اَلْبَلِيغِ وَ اَلْقَوْلِ اَلْمَسْمُوعِ
[ 117 ](1/2541)
وَدَاعِي لَكُمْ وَدَاعُ اِمْرِئٍ مُرْصِدٍ لِلتَّلاَقِي غَداً تَرَوْنَ أَيَّامِي وَ يَكْشِفُ لَكُمْ عَنْ سَرَائِرِي وَ تَعْرِفُونَنِي بَعْدَ خُلُوِّ مَكَانِي وَ قِيَامِ غَيْرِي مَقَامِي أطردت الرجل إذا أمرت بإخراجه وطرده وطردته إذا نفيته وأخرجته فالإطراد أدل على العز والقهر من الطرد وكأنه ع جعل الأيام أشخاصا يأمر بإخراجهم وإبعادهم عنه أي ما زلت أبحث عن كيفية قتلي وأي وقت يكون بعينه وفي أي أرض يكون يوما يوما فإذا لم أجده في اليوم أطردته واستقبلت غده فأبحث فيه أيضا فلا أعلم فأبعده وأطرده وأستأنف يوما آخر هكذا حتى وقع المقدور وهذا الكلام يدل على أنه لم يكن يعرف حال قتله معرفة مفصلة من جميع الوجوه وأن رسول الله ص أعلمه بذلك علما مجملا لأنه قد ثبت
أنه ص قال له ستضرب على هذه وأشار إلى هامته فتخضب منها هذه وأشار إلى لحيته وثبت
أنه ص قال له أ تعلم من أشقى الأولين قال نعم عاقر الناقة فقال له أ تعلم من أشقى الآخرين قال لا قال من يضربك هاهنا فيخضب هذه . وكلام أمير المؤمنين ع يدل على أنه بعد ضرب ابن ملجم له لا يقطع على أنه يموت من ضربته أ لا تراه يقول إن ثبتت الوطأة في هذه المزلة فذاك وإن تدحض فإنما كنا في أفياء أغصان ومهاب رياح أي إن سلمت فذاك الذي تطلبونه يخاطب أهله وأولاده ولا ينبغي أن يقال فذاك ما أطلبه لأنه ع كان يطلب الآخرة
[ 118 ](1/2542)
أكثر من الدنيا وفي كلامه المنقول عنه ما يؤكد ما قلناه وهو قوله إن عشت فأنا ولي دمي وإن مت فضربة بضربة . وليس قوله ع وأنا اليوم عبرة لكم وغدا مفارقكم وما يجري مجراه من ألفاظ الفصل بناقض لما قلناه وذلك لأنه لا يعني غدا بعينه بل ما يستقبل من الزمان كما يقول الإنسان الصحيح أنا غدا ميت فما لي أحرص على الدنيا ولأن الإنسان قد يقول في مرضه الشديد لأهله وولده ودعتكم وأنا مفارقكم وسوف يخلو منزلي مني وتتأسفون على فراقي وتعرفون موضعي بعدي كله على غلبة الظن وقد يقصد الصالحون به العظة والاعتبار وجذب السامعين إلى جانب التقوى وردعهم عن الهوى وحب الدنيا . فإن قلت فما تصنع بقوله ع لابن ملجم
أريد حباءه ويريد قتلي
عذيرك من خليلك من مراد
و قول الخلص من شيعته فهلا تقتله فقال فكيف أقتل قاتلي وتارة قال إنه لم يقتلني فكيف أقتل من لم يقتل وكيف قال في البط الصائح خلفه في المسجد ليلة ضربه ابن ملجم
دعوهن فإنهن نوائح وكيف قال تلك الليلة
إني رأيت رسول الله ص فشكوت إليه وقلت ما لقيت من أمتك من الأود واللدد فقال ادع الله عليهم فقلت اللهم أبدلني بهم خيرا منهم وأبدلهم بي شرا مني وكيف قال إني لا أقتل محاربا وإنما أقتل فتكا وغيلة يقتلني رجل خامل الذكر . وقد جاء عنه ع من هذا الباب آثار كثيرة . قلت كل هذا لا يدل على أنه كان يعلم الأمر مفصلا من جميع الوجوه أ لا ترى أنه
[ 119 ](1/2543)
ليس في الأخبار والآثار ما يدل على الوقت الذي يقتل فيه بعينه ولا على المكان الذي يقتل فيه بعينه وأما ابن ملجم فمن الجائز أن يكون علم أنه هو الذي يقتله ولم يعلم علما محققا أن هذه الضربة تزهق نفسه الشريفة منها بل قد كان يجوز أن يبل ويفيق منها ثم يكون قتله فيما بعد على يد ابن ملجم وإن طال الأمد وليس هذا بمستحيل وقد وقع مثله فإن عبد الملك جرح عمرو بن سعيد الأشدق في أيام معاوية على منافرة كانت بينهما فعفا عمرو عنه ثم كان من القضاء والقدر أن عبد الملك قتل عمرا أيضا بيده ذبحا كما تذبح الشاة . وأما قوله في البط دعوهن فإنهن نوائح فلعله علم أنه تلك الليلة يصاب ويجرح وإن لم يعلم أنه يموت منه والنوائح قد ينحن على المقتول وقد ينحن على المجروح والمنام والدعاء لا يدل على العلم بالوقت بعينه ولا يدل على أن إجابة دعائه تكون على الفور لا محالة . ثم نعود إلى الشرح أما قوله كل امرئ لاق ما يفر منه في فراره أي إذا كان مقدورا وإلا فقد رأينا من يفر من الشي ء ويسلم لأنه لم يقدر وهذا من قوله تعالى وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وقوله لَبَرَزَ اَلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ ومن قوله تعالى قُلْ إِنَّ اَلْمَوْتَ اَلَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ وفي القرآن العزيز مثل هذا كثير . قوله والأجل مساق النفس أي الأمر الذي تساق إليه وتنتهي عنده وتقف إذا بلغته فلا يبقى له حينئذ أكلة في الدنيا .
[ 120 ](1/2544)
قوله والهرب منه موافاته هذا كلام خارج مخرج المبالغة في عدم النجاة وكون الفرار غير مغن ولا عاصم من الموت يقول الهرب بعينه من الموت موافاة للموت أي إتيان إليه كأنه لم يرتض بأن يقول الهارب لا بد أن ينتهي إلى الموت بل جعل نفس الهرب هو ملاقاة الموت . قوله أبحثها أي أكشفها وأكثر ما يستعمل بحث معدى بحرف الجر وقد عداه هاهنا إلى الأيام بنفسه وإلى مكنون الأمر بحرف الجر وقد جاء بحثت الدجاجة التراب أي نبشته . قوله فأبى الله إلا إخفاءه هيهات علم مخزون تقديره هيهات ذلك مبتدأ وخبره هيهات اسم للفعل معناها بعد أي علم هذا العيب علم مخزون مصون لم أطلع عليه . فإن قلت ما معنى قوله كم أطردت الأيام أبحثها وهل علم الإنسان بموته كيف يكون وفي أي وقت يكون وفي أي أرض يكون مما يمكن استدراكه بالنظر والفكر والبحث . قلت مراده ع أني كنت في أيام رسول الله ص أسأله كثيرا عن هذا الغيب فما أنبأني منه إلا بأمور إجمالية غير مفصلة ولم يأذن الله تعالى في اطلاعي على تفاصيل ذلك . قوله فالله لا تشركوا به شيئا الرواية المشهورة فالله بالنصب وكذلك محمدا بتقدير فعل لأن الوصية تستدعي الفعل بعدها أي وحدوا الله وقد روي بالرفع وهو جائز على المبتدأ والخبر . قوله أقيموا هذين العمودين وأوقدوا هذين المصباحين وخلاكم ذم ما لم تشردوا كلام داخل في باب الاستعارة شبه الكتاب والسنة بعمودي الخيمة وبمصباحين
[ 121 ](1/2545)
يستضاء بهما وخلاكم ذم كلمة جارية مجرى المثل معناها ولا ذم عليكم فقد أعذرتم وذم مرفوع بالفاعلية معناه عداكم وسقط عنكم . فإن قلت إذا لم يشركوا بالله ولم يضيعوا سنة محمد ص فقد قاموا بكل ما يجب وانتهوا عن كل ما يقبح فأي حاجة له إلى أن يستثني ويقول ما لم تشردوا وإنما كان يحتاج إلى هذه اللفظة لو قال وصيتي إليكم أن توحدوا الله وتؤمنوا بنبوة محمد ص كان حينئذ يحتاج إلى قوله ما لم تشردوا ويكون مراده بها فعل الواجبات وتجنب المقبحات لأنه ليس في الإقرار بالوحدانية والرسالة العمل بل العمل خارج عن ذلك فوجب إذا أوصى أن يوصي بالاعتقاد والعمل كما قال عمر لأبي بكر في واقعة أهل الردة كيف تقاتلهم وهم مقرون بالشهادتين و
قد قال رسول الله ص أمرت بأن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله فقال أبو بكر إنه قال تتمة هذا فإذا هم قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وأداء الزكاة من حقها . قلت مراده بقوله ما لم تشردوا ما لم ترجعوا عن ذلك فكأنه قال خلاكم ذم إن وحدتم الله واتبعتم سنة رسوله ودمتم على ذلك ولا شبهة أن هذا الكلام منتظم وأن اللفظتين الأوليين ليستا بمغنيتين عن اللفظة الثالثة وبتقدير أن يغنيا عنه فإن في ذكره مزيد تأكيد وإيضاح غير موجودين لو لم يذكر وهذا كقوله تعالى وَ مَنْ يُطِعِ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَخْشَ اَللَّهَ وَ يَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفائِزُونَ وليس لقائل أن يقول من لا يخشى الله لا يكون مطيعا لله والرسول وأي حاجة به إلى ذكر ما قد أغنى اللفظ الأول عنه قوله حمل كل امرئ مجهوده وخفف عن الجهلة هذا كلام متصل بما قبله
[ 122 ](1/2546)
لأنه لما قال ما لم تشردوا أنبأ عن تكليفهم كل ما وردت به السنة النبوية وأن يدوموا عليه وهذا في الظاهر تكليف أمور شاقة فاستدرك بكلام يدل على التخفيف فقال إن التكاليف على قدر المكلفين فالعلماء تكليفهم غير تكليف العامة وأرباب الجهل والمبادئ كالنساء وأهل البادية وطوائف من الناس الغالب عليهم البلادة وقلة الفهم كأقاصي الحبشة والترك ونحوهم وهؤلاء عند المكلفين غير مكلفين إلا بحمل التوحيد والعدل بخلاف العلماء الذين تكليفهم الأمور المفصلة وحل المشكلات الغامضة وقد روي حمل على صيغة الماضي ومجهوده بالنصب وخفف على صيغة الماضي أيضا ويكون الفاعل هو الله تعالى المقدم ذكره والرواية الأولى أكثر وأليق . ثم قال رب رحيم أي ربكم رب رحيم ودين قويم أي مستقيم وإمام عليم يعني رسول الله ص ومن الناس من يجعل رب رحيم فاعل خفف على رواية من رواها فعلا ماضيا وليس بمستحسن لأن عطف الدين عليه يقتضي أن يكون الدين أيضا مخففا وهذا لا يصح . ثم دعا لنفسه ولهم بالغفران . ثم قسم الأيام الماضية والحاضرة والمستقبلة قسمة حسنة فقال أنا بالأمس صاحبكم وأنا اليوم عبرة لكم وغدا مفارقكم إنما كان عبرة لهم لأنهم يرونه بين أيديهم ملقى صريعا بعد أن صرع الأبطال وقتل الأقران فهو كما قال الشاعر
أكال أشلاء الفوارس بالقنا
أضحى بهن وشلوه مأكول
و يقال دحضت قدم فلان أي زلت وزلقت . ثم شبه وجوده في الدنيا بأفياء الأغصان ومهاب الرياح وظلال الغمام لأن ذلك كله سريع الانقضاء لا ثبات له .
[ 123 ](1/2547)
قوله اضمحل في الجو متلفقها وعفا في الأرض مخطها اضمحل ذهب والميم زائدة ومنه الضحل وهو الماء القليل واضمحل السحاب تقشع وذهب وفي لغة الكلابيين امضحل الشي ء بتقديم الميم ومتلفقها مجتمعها أي ما اجتمع من الغيوم في الجو والتلفيق الجمع وعفا درس ومخطها أثرها كالخطة . قوله وإنما كنت جارا جاوركم بدني أياما في هذا الكلام إشعار بما يذهب إليه أكثر العقلاء من أمر النفس وأن هوية الإنسان شي ء غير هذا البدن . وقوله ستعقبون مني أي إنما تجدون عقيب فقدي جثة يعني بدنا خلاء أي لا روح فيه بل قد أقفر من تلك المعاني التي كنتم تعرفونها وهي العقل والنطق والقوة وغير ذلك ثم وصف تلك الجثة فقال ساكنة بعد حراك بالفتح أي بعد حركة وصامتة بعد نطق وهذا الكلام أيضا يشعر بما قلناه من أمر النفس بل يصرح بذلك أ لا تراه قال ستعقبون مني جثة أي تستبدلون بي جثة صفتها كذا وتلك الجثة جثته ع ومحال أن يكون العوض والمعوض عنه واحدا فدل على أن هويته ع التي أعقبنا منها الجنة غير الجثة . قوله ليعظكم هدوي أي سكوني وخفوت إطراقي مثله خفت خفوتا سكن وخفت خفاتا مات فجأة وإطراقه إرخاؤه عينيه ينظر إلى الأرض لضعفه عن رفع جفنه وسكون أطرافه يداه ورجلاه ورأسه ع . قال فإنه أوعظ للمعتبرين من المنطق البليغ والقول المسموع وصدق ع فإن خطبا أخرس ذلك اللسان وهد تلك القوى لخطب جليل ويجب أن يتعظ العقلاء به وما عسى يبلغ قول الواعظين بالإضافة إلى من شاهد تلك الحال بل بالإضافة إلى من سمعها وأفكر فيها فضلا عن مشاهدتها عيانا وفي هذا الكلام شبه من كلام الحكماء الذين تكلموا عند تابوت الإسكندر فقال أحدهم حركنا بسكونه
[ 124 ](1/2548)
و قال الآخر قد كان سيفك لا يجف وكانت مراقيك لا ترام وكانت نقماتك لا تؤمن وكانت عطاياك يفرح بها وكان ضياؤك لا ينكشف فأصبح ضوؤك قد خمد وأصبحت نقماتك لا تخشى وعطاياك لا ترجى ومراقيك لا تمنع وسيفك لا يقطع . وقال الآخر انظروا إلى حلم المنام كيف انجلى وإلى ظل الغمام كيف انسلى وقال آخر ما كان أحوجه إلى هذا الحلم وإلى هذا الصبر والسكون أيام حياته وقال آخر القدرة العظيمة التي ملأت الدنيا العريضة الطويلة طويت في ذراعين . وقال الآخر أصبح آسر الأسراء أسيرا وقاهر الملوك مقهورا كان بالأمس مالكا فصار اليوم هالكا . ثم قال ع ودعتكم وداع امرئ مرصد للتلاقي أرصدته لكذا أي أعددته له وفي الحديث إلا أن أرصده لدين علي والتلاقي هاهنا لقاء الله ويروى وداعيكم أي وداعي إياكم والوداع مفتوح الواو . ثم قال غدا ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري وتعرفونني بعد خلو مكاني وقيام غيري مقامي هذا معنى قد تداوله الناس قديما وحديثا قال أبو تمام
راحت وفود الأرض عن قبره
فارغة الأيدي ملاء القلوب
قد علمت ما رزئت إنما
يعرف قدر الشمس بعد الغروب
و قال أبو الطيب
و نذمهم وبهم عرفنا فضله
و بضدها تتبين الأشياء
[ 125 ]
و من أمثالهم
الضد يظهر حسنة الضد
و منها أيضا لو لا مرارة المرض لم تعرف حلاوة العافية . وإنما قال ع ويكشف لكم عن سرائري لأنهم بعد فقده وموته يظهر لهم ويثبت عندهم إذا رأوا وشاهدوا إمرة من بعده أنه إنما كان يريد بتلك الحروب العظيمة وجه الله تعالى وألا يظهر المنكر في الأرض وإن ظن قوم في حياته أنه كان يريد الملك والدنيا
[ 126 ](1/2549)
150 ـ ومن خطبة له ع ويومئ فيها إلى الملاحم
وَ أَخَذُوا يَمِيناً وَ شِمَالاً ظَعْناً فِي مَسَالِكِ اَلْغَيِّ وَ تَرْكاً لِمَذَاهِبِ اَلرُّشْدِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوا مَا هُوَ كَائِنٌ مُرْصَدٌ وَ لاَ تَسْتَبْطِئُوا مَا يَجِي ءُ بِهِ اَلْغَدُ فَكَمْ مِنْ مُسْتَعْجِلٍ بِمَا إِنْ أَدْرَكَهُ وَدَّ أَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْهُ وَ مَا أَقْرَبَ اَلْيَوْمَ مِنْ تَبَاشِيرِ غَدٍ يَا قَوْمِ هَذَا إِبَّانُ وُرُودِ كُلِّ مَوْعُودٍ وَ دُنُوٌّ مِنْ طَلْعَةِ مَا لاَ تَعْرِفُونَ أَلاَ وَ إِنَّ مَنْ أَدْرَكَهَا مِنَّا يَسْرِي فِيهَا بِسِرَاجٍ مُنِيرٍ وَ يَحْذُو فِيهَا عَلَى مِثَالِ اَلصَّالِحِينَ لِيَحُلَّ فِيهَا رِبْقاً وَ يُعْتِقَ فِيهَا رِقّاً وَ يَصْدَعَ شَعْباً وَ يَشْعَبَ صَدْعاً فِي سُتْرَةٍ عَنِ اَلنَّاسِ لاَ يُبْصِرُ اَلْقَائِفُ أَثَرَهُ وَ لَوْ تَابَعَ نَظَرَهُ ثُمَّ لَيُشْحَذَنَّ فِيهَا قَوْمٌ شَحْذَ اَلْقَيْنِ اَلنَّصْلَ تُجْلَى بِالتَّنْزِيلِ أَبْصَارُهُمْ وَ يُرْمَى بِالتَّفْسِيرِ فِي مَسَامِعِهِمْ وَ يُغْبَقُونَ كَأْسَ اَلْحِكْمَةِ بَعْدَ اَلصَّبُوحِ يذكر ع قوما من فرق الضلال أخذوا يمينا وشمالا أي ضلوا عن الطريق الوسطى التي هي منهاج الكتاب والسنة وذلك لأن كل فضيلة وحق فهو محبوس بطرفين خارجين عن العدالة وهما جانبا الإفراط والتفريط كالفطانة التي هي محبوسة
[ 127 ](1/2550)
بالجربزة والغباوة والشجاعة التي هي محبوسة بالتهور والجبن والجود المحبوس بالتبذير والشح فمن لم يقع على الطريق الوسطى وأخذ يمينا وشمالا فقد ضل . ثم فسر قوله أخذ يمينا وشمالا فقال ظعنوا ظعنا في مسالك الغي وتركوا مذاهب الرشد تركا ونصب تركا وظعنا على المصدرية والعامل فيهما من غير لفظهما وهو قوله أخذوا . ثم نهاهم عن استعجال ما هو معد ولا بد من كونه ووجوده وإنما سماه كائنا لقرب كونه كما قال تعالى إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ونهاهم أن يستبطئوا ما يجي ء في الغد لقرب وقوعه كما قال
و إن غدا للناظرين قريب
و قال الآخر
غد ما غد ما أقرب اليوم من غد
و قال تعالى إِنَّ مَوْعِدَهُمُ اَلصُّبْحُ أَ لَيْسَ اَلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ . ثم قال كم من مستعجل أمرا ويحرص عليه فإذا حصل ود أنه لم يحصل قال أبو العتاهية
من عاش لاقى ما يسوء
من الأمور وما يسر
و لرب حتف فوقه
ذهب وياقوت ودر
و قال آخر
فلا تتمنين الدهر شيئا
فكم أمنية جلبت منية
[ 128 ](1/2551)
و قال تعالى وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وتباشير الصبح أوائله . ثم قال يا قوم قد دنا وقت القيامة وظهور الفتن التي تظهر أمامها . وإبان الشي ء بالكسر والتشديد وقته وزمانه وكنى عن تلك الأهوال بقوله ودنو من طلعة ما لا تعرفون لأن تلك الملاحم والأشراط الهائلة غير معهود مثلها نحو دابة الأرض والدجال وفتنته وما يظهر على يده من المخاريق والأمور الموهمة وواقعة السفياني وما يقتل فيها من الخلائق الذين لا يحصى عددهم . ثم ذكر أن مهدي آل محمد ص وهو الذي عنى بقوله وإن من أدركها منا يسري في ظلمات هذه الفتن بسراج منير وهو المهدي وأتباع الكتاب والسنة . ويحذو فيها يقتفي ويتبع مثال الصالحين ليحل في هذه الفتن وربقا أي حبلا معقودا . ويعتق رقا أي يستفك أسرى وينقذ مظلومين من أيدي ظالمين ويصدع شعبا أي يفرق جماعة من جماعات الضلال ويشعب صدعا يجمع ما تفرق من كلمة أهل الهدى والإيمان . قوله ع في سترة عن الناس هذا الكلام يدل على استتار هذا الإنسان المشار إليه وليس ذلك بنافع للإمامية في مذهبهم وإن ظنوا أنه تصريح بقولهم وذلك لأنه من الجائز أن يكون هذا الإمام يخلقه الله تعالى في آخر الزمان ويكون مستترا مدة وله دعاة يدعون إليه ويقررون أمره ثم يظهر بعد ذلك الاستتار ويملك الممالك
[ 129 ](1/2552)
و يقهر الدول ويمهد الأرض كما ورد في قوله لا يبصر القائف أي هو في استتار شديد لا يدركه القائف وهو الذي يعرف الآثار والجمع قافة ولا يعرف أثره ولو استقصى في الطلب وتابع النظر والتأمل . ويقال شحذت السكين أشحذه شحذا أي حددته يريد ليحرضن في هذه الملاحم قوم على الحرب وقتل أهل الضلال ولتشحذن عزائمهم كما يشحذ الصيقل السيف ويرقق حده . ثم وصف هؤلاء القوم المشحوذي العزائم فقال تجلى بصائرهم بالتنزيل أي يكشف الرين والغطاء عن قلوبهم بتلاوة القرآن وإلهامهم تأويله ومعرفة أسراره . ثم صرح بذلك فقال ويرمى بالتفسير في مسامعهم أي يكشف لهم الغطاء وتخلق المعارف في قلوبهم ويلهمون فهم الغوامض والأسرار الباطنة ويغبقون كأس الحكم بعد الصبوح أي لا تزال المعارف الربانية والأسرار الإلهية تفيض عليهم صباحا ومساء فالغبوق كناية عن الفيض الحاصل لهم في الآصال والصبوح كناية عما يحصل لهم منه في الغدوات وهؤلاء هم العارفون الذين جمعوا بين الزهد والحكمة والشجاعة وحقيق بمثلهم أن يكونوا أنصارا لولي الله الذي يجتبيه ويخلقه في آخر أوقات الدنيا فيكون خاتمة أوليائه والذي يلقى عصا التكليف عنده : مِنْهَا وَ طَالَ اَلْأَمَدُ بِهِمْ لِيَسْتَكْمِلُوا اَلْخِزْيَ وَ يَسْتَوْجِبُوا اَلْغِيَرَ حَتَّى إِذَا اِخْلَوْلَقَ
[ 130 ](1/2553)
اَلْأَجَلُ وَ اِسْتَرَاحَ قَوْمٌ إِلَى اَلْفِتَنِ وَ اِشْتَالُوا عَنْ لَقَاحِ حَرْبِهِمْ لَمْ يَمُنُّوا عَلَى اَللَّهِ بِالصَّبْرِ وَ لَمْ يَسْتَعْظِمُوا بَذْلَ أَنْفُسِهِمْ فِي اَلْحَقِّ حَتَّى إِذَا وَافَقَ وَارِدُ اَلْقَضَاءِ اِنْقِطَاعَ مُدَّةِ اَلْبَلاَءِ حَمَلُوا بَصَائِرَهُمْ عَلَى أَسْيَافِهِمْ وَ دَانُوا لِرَبِّهِمْ بِأَمْرِ وَاعِظِهِمْ هذا الكلام يتصل بكلام قبله لم يذكره الرضي رحمه الله وهو وصف فئة ضالة قد استولت وملكت وأملى لها الله سبحانه قال ع وطال الأمد بهم ليستكملوا الخزي ويستوجبوا الغير أي النعم التي يغيرها بهم من نعم الله سبحانه كما قال وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا اَلْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً وكما قال تعالى سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ . حتى إذا اخلولق الأجل أي قارب أمرهم الانقضاء من قولك اخلولق السحاب أي استوى وصار خليقا بأن يمطر واخلولق الرسم استوى مع الأرض . واستراح قوم إلى الفتن أي صبا قوم من شيعتنا وأوليائنا إلى هذه الفئة واستراحوا إلى ضلالها وفتنتها واتبعوها . واشتالوا عن لقاح حربهم أي رفعوا أيديهم وسيوفهم عن أن يشبوا الحرب بينهم وبين هذه الفئة مهادنة لها وسلما وكراهية للقتال يقال شال فلان كذا أي رفعه واشتال افتعل هو في نفسه كقولك حجم زيد عمرا واحتجم هو نفسه ولقاح حربهم هو بفتح اللام مصدر من لقحت الناقة . قوله لم يمنوا هذا جواب قوله حتى إذا والضمير في يمنوا راجع إلى
[ 131 ](1/2554)
العارفين الذين تقدم ذكرهم في الفصل السابق ذكره يقول حتى إذا ألقى هؤلاء السلام إلى هذه الفئة عجزا عن القتال واستراحوا من منابذتهم بدخولهم في ضلالتهم وفتنتهم إما تقية منهم أو لشبهة دخلت عليهم أنهض الله تعالى هؤلاء العارفين الشجعان الذين خصهم بحكمته وأطلعهم على أسرار ملكوته فنهضوا ولم يمنوا على الله تعالى بصبرهم ولم يستعظموا أن يبذلوا في الحق نفوسهم قال حتى إذا وافق قضاء الله تعالى وقدره كي ينهض هؤلاء بقضاء الله وقدره في انقضاء مدة تلك الفئة وارتفاع ما كان شمل الخلق من البلاء بملكها وإمرتها حمل هؤلاء العارفون بصائرهم على أسيافهم وهذا معنى لطيف يعني أنهم أظهروا بصائرهم وعقائدهم وقلوبهم للناس وكشفوها وجردوها من أجفانها مع تجريد السيوف من أجفانها فكأنها شي ء محمول على السيوف يبصره من يبصر السيوف ولا ريب أن السيوف المجردة من أجلى الأجسام للأبصار فكذلك ما يكون محمولا عليها ومن الناس من فسر هذا الكلام فقال أراد بالبصائر جمع بصيرة وهو الدم فكأنه أراد طلبوا ثأرهم والدماء التي سفكتها هذه الفئة وكأن تلك الدماء المطلوب ثأرها محمولة على أسيافهم التي جردوها للحرب وهذا اللفظ قد قاله بعض الشعراء المتقدمين بعينه
راحوا بصائرهم على أكتافهم
و بصيرتي يعدو بها عتد وأى
و فسره أبو عمرو بن العلاء فقال يريد أنهم تركوا دم أبيهم وجعلوه خلفهم أي لم يثأروا به وأنا طلبت ثأري وكان أبو عبيدة معمر بن المثنى يقول في هذا البيت البصيرة الترس أو الدرع ويرويه حملوا بصائرهم
[ 132 ](1/2555)
حَتَّى إِذَا قَبَضَ اَللَّهُ رَسُولَهُ رَجَعَ قَوْمٌ عَلَى اَلْأَعْقَابِ وَ غَالَتْهُمُ اَلسُّبُلُ وَ اِتَّكَلُوا عَلَى اَلْوَلاَئِجِ وَ وَصَلُوا غَيْرَ اَلرَّحِمِ وَ هَجَرُوا اَلسَّبَبَ اَلَّذِي أُمِرُوا بِمَوَدَّتِهِ وَ نَقَلُوا اَلْبِنَاءَ عَنْ رَصِّ أَسَاسِهِ فَبَنَوْهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ مَعَادِنُ كُلِّ خَطِيئَةٍ وَ أَبْوَابُ كُلِّ ضَارِبٍ فِي غَمْرَةٍ قَدْ مَارُوا فِي اَلْحَيْرَةِ وَ ذَهَلُوا فِي اَلسَّكْرَةِ عَلَى سُنَّةٍ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ مِنْ مُنْقَطِعٍ إِلَى اَلدُّنْيَا رَاكِنٍ أَوْ مُفَارِقٍ لِلدِّينِ مُبَايِنٍ رجعوا على الأعقاب تركوا ما كانوا عليه قال سبحانه وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اَللَّهَ شَيْئاً . وغالتهم السبل أهلكهم اختلاف الآراء والأهواء غاله كذا أي أهلكه والسبل الطرق . والولائج جمع وليجة وهي البطانة يتخذها الإنسان لنفسه قال سبحانه وَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَ لا رَسُولِهِ وَ لاَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً . ووصلوا غير الرحم أي غير رحم رسول الله ص فذكرها ع
[ 133 ]
ذكرا مطلقا غير مضاف للعلم بها كما يقول القائل أهل البيت فيعلم السامع أنه أراد أهل بيت الرسول . وهجروا السبب يعني أهل البيت أيضا وهذه إشارة إلى(1/2556)
قول النبي ص خلفت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي حبلان ممدودان من السماء إلى الأرض لا يفترقان حتى يردا علي الحوض فعبر أمير المؤمنين عن أهل البيت بلفظ السبب لما كان النبي ص قال حبلان والسبب في اللغة الحبل . عنى بقوله أمروا بمودته قول الله تعالى قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبى . قوله ونقلوا البناء عن رص أساسه الرص مصدر رصصت الشي ء أرصه أي ألصقت بعضه ببعض ومنه قوله تعالى كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ وتراص القوم في الصف أي تلاصقوا فبنوه في غير موضعه ونقلوا الأمر عن أهله إلى غير أهله . ثم ذمهم ع وقال إنهم معادن كل خطيئة وأبواب كل ضارب في غمرة الغمرة الضلال والجهل والضارب فيها الداخل المعتقد لها . قد ماروا في الحيرة مار يمور إذا ذهب وجاء فكأنهم يسبحون في الحيرة كما يسبح الإنسان في الماء . وذهل فلان بالفتح يذهل على سنة من آل فرعون أي على طريقة وآل فرعون أتباعه قال تعالى أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ اَلْعَذابِ
[ 134 ](1/2557)
من منقطع إلى الدنيا لا هم له غيرها راكن مخلد إليها قال الله تعالى وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أو مفارق للدين مباين مزايل . فإن قلت أي فرق بين الرجلين وهل يكون المنقطع إلى الدنيا إلا مفارقا للدين قلت قد يكون في أهل الضلال من هو مفارق للدين مباين وليس براكن إلى الدنيا ولا منقطع إليها كما نرى كثيرا من أحبار النصارى ورهبانهم . فإن قلت أ ليس هذا الفصل صريحا في تحقيق مذهب الإمامية قلت لا بل نحمله على أنه عنى ع أعداءه الذين حاربوه من قريش وغيرهم من أفناء العرب في أيام صفين وهم الذين نقلوا البناء وهجروا السبب ووصلوا غير الرحم واتكلوا على الولائج وغالتهم السبل ورجعوا على الأعقاب كعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ومروان بن الحكم والوليد بن عقبة وحبيب بن مسلمة وبسر بن أرطاة وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وحوشب وذي الكلاع وشرحبيل بن السمط وأبي الأعور السلمي وغيرهم ممن تقدم ذكرنا له في الفصول المتعلقة بصفين وأخبارها فإن هؤلاء نقلوا الإمامة عنه ع إلى معاوية فنقلوا البناء عن رص أصله إلى غير موضعه . فإن قلت لفظ الفصل يشهد بخلاف ما تأولته لأنه قال ع حتى إذا قبض الله رسوله رجع قوم على الأعقاب فجعل رجوعهم على الأعقاب عقيب قبض الرسول ص وما ذكرته أنت كان بعد قبض الرسول بنيف وعشرين سنة . قلت ليس يمتنع أن يكون هؤلاء المذكورون رجعوا على الأعقاب لما مات رسول الله ص وأضمروا في أنفسهم مشاقة أمير المؤمنين وأذاه وقد كان فيهم من
[ 135 ](1/2558)
يتحكك به في أيام أبي بكر وعمر وعثمان ويتعرض له ولم يكن أحد منهم ولا من غيرهم يقدم على ذلك في حياة رسول الله ولا يمتنع أيضا أن يريد برجوعهم على الأعقاب ارتدادهم عن الإسلام بالكلية فإن كثيرا من أصحابنا يطعنون في إيمان بعض من ذكرناه ويعدونهم من المنافقين وقد كان سيف رسول الله ص يقمعهم ويردعهم عن إظهار ما في أنفسهم من النفاق فأظهر قوم منهم بعده ما كانوا يضمرونه من ذلك خصوصا فيما يتعلق بأمير المؤمنين الذي ورد في حقه ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله إلا ببغض علي بن أبي طالب وهو خبر محقق مذكور في الصحاح . فإن قلت يمنعك من هذا التأويل قوله ونقلوا البناء عن رص أساسه فجعلوه في غير موضعه وذلك لأن إذا ظرف والعامل فيها قوله رجع قوم على الأعقاب وقد عطف عليه قوله ونقلوا البناء فإذا كان الرجوع على الأعقاب واقعا في الظرف المذكور وهو وقت قبض الرسول وجب أن يكون نقل البناء إلى غير موضعه واقعا في ذلك الوقت أيضا لأن أحد الفعلين معطوف على الآخر ولم ينقل أحد وقت قبض الرسول ص البناء إلى معاوية عن أمير المؤمنين ع وإنما نقل عنه إلى شخص آخر وفي إعطاء العطف حقه إثبات مذهب الإمامية صريحا . قلت إذا كان الرجوع على الأعقاب واقعا وقت قبض النبي ص فقد قمنا بما يجب من وجود عامل في الظرف ولا يجب أن يكون نقل البناء إلى غير موضعه واقعا في تلك الحال أيضا بل يجوز أن يكون واقعا في زمان آخر إما بأن تكون الواو للاستئناف لا للعطف أو بأن تكون للعطف في مطلق الحدث لا في وقوع الحدث في عين ذلك الزمان المخصوص كقوله تعالى حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اِسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ
[ 136 ](1/2559)
يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ فالعامل في الظرف استطعما ويجب أن يكون استطعامهما وقت إتيانهما أهلها لا محالة ولا يجب أن تكون جميع الأفعال المذكورة المعطوفة واقعة حال الإتيان أيضا أ لا ترى أن من جملتها فأقامه ولم يكن إقامة الجدار حال إتيانهما القرية بل متراخيا عنه بزمان ما اللهم إلا أن يقول قائل أشار بيده إلى الجدار فقام أو قال له قم فقام لأنه لا يمكن أن يجعل إقامة الجدار مقارنا للإتيان إلا على هذا الوجه وهذا لم يكن ولا قاله مفسر ولو كان قد وقع على هذا الوجه لما قال له لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً لأن الأجر إنما يكون على اعتمال عمل فيه مشقة وإنما يكون فيه مشقة إذا بناه بيده وباشره بجوارحه وأعضائه . واعلم أنا نحمل كلام أمير المؤمنين ع على ما يقتضيه سؤدده الجليل ومنصبه العظيم ودينه القويم من الإغضاء عما سلف ممن سلف فقد كان صاحبهم بالمعروف برهة من الدهر فإما أن يكون ما كانوا فيه حقهم أو حقه فتركه لهم رفعا لنفسه عن المنازعة أو لما رآه من المصلحة وعلى كلا التقديرين فالواجب علينا أن نطبق بين آخر أفعاله وأقواله بالنسبة إليهم وبين أولها فإن بعد تأويل ما يتأوله من كلامه ليس بأبعد من تأويل أهل التوحيد والعدل الآيات المتشابهة في القرآن ولم يمنع بعدها من الخوض في تأويلها محافظة على الأصول المقررة فكذلك هاهنا
[ 137 ](1/2560)
151 ـ ومن خطبة له ع
وَ أَسْتَعِينُهُ عَلَى مَدَاحِرِ اَلشَّيْطَانِ وَ مَزَاجِرِهِ وَ اَلاِعْتِصَامِ مِنْ حَبَائِلِهِ وَ مَخَاتِلِهِ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ وَ نَجِيبُهُ وَ صَفْوَتُهُ لاَ يُؤَازَى فَضْلُهُ وَ لاَ يُجْبَرُ فَقْدُهُ أَضَاءَتْ بِهِ اَلْبِلاَدُ بَعْدَ اَلضَّلاَلَةِ اَلْمُظْلِمَةِ وَ اَلْجَهَالَةِ اَلْغَالِبَةِ وَ اَلْجَفْوَةِ اَلْجَافِيَةُ وَ اَلنَّاسُ يَسْتَحِلُّونَ اَلْحَرِيمَ وَ يَسْتَذِلُّونَ اَلْحَكِيمَ يَحْيَوْنَ عَلَى فَتْرَةٍ وَ يَمُوتُونَ عَلَى كَفْرَةٍ ثُمَّ إِنَّكُمْ مَعْشَرَ اَلْعَرَبِ أَغْرَاضُ بَلاَيَا قَدِ اِقْتَرَبَتْ فَاتَّقُوا سَكَرَاتِ اَلنِّعْمَةِ وَ اِحْذَرُوا بَوَائِقَ اَلنِّقْمَةِ وَ تَثَبَّتُوا فِي قَتَامِ اَلْعِشْوَةِ وَ اِعْوِجَاجِ اَلْفِتْنَةِ عِنْدَ طُلُوعِ جَنِينِهَا وَ ظُهُورِ كَمِينِهَا وَ اِنْتِصَابِ قُطْبِهَا وَ مَدَارِ رَحَاهَا تَبْدَأُ فِي مَدَارِجَ خَفِيَّةٍ وَ تَئُولُ إِلَى فَظَاعَةٍ جَلِيَّةٍ شِبَابُهَا كَشِبَابِ اَلْغُلاَمِ وَ آثَارُهَا كَآثَارِ اَلسِّلاَمِ يَتَوَارَثُهَا اَلظَّلَمَةُ بِالْعُهُودِ أَوَّلُهُمْ قَائِدٌ لآِخِرِهِمْ وَ آخِرُهُمْ مُقْتَدٍ بِأَوَّلِهِمْ يَتَنَافَسُونَ فِي دُنْيَا دَنِيَّةٍ وَ يَتَكَالَبُونَ عَلَى جِيفَةٍ مُرِيحَةٍ وَ عَنْ قَلِيلٍ يَتَبَرَّأُ اَلتَّابِعُ مِنَ اَلْمَتْبُوعِ وَ اَلْقَائِدُ مِنَ اَلْمَقُودِ فَيَتَزَايَلُونَ بِالْبَغْضَاءِ وَ يَتَلاَعَنُونَ عِنْدَ اَللِّقَاءِ ثُمَّ يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ طَالِعُ اَلْفِتْنَةِ اَلرَّجُوفِ وَ اَلْقَاصِمَةِ اَلزَّحُوفِ فَتَزِيغُ قُلُوبٌ بَعْدَ اِسْتِقَامَةٍ وَ تَضِلُّ رِجَالٌ بَعْدَ سَلاَمَةٍ وَ تَخْتَلِفُ اَلْأَهْوَاءُ عِنْدَ هُجُومِهَا وَ تَلْتَبِسُ اَلآْرَاءُ عِنْدَ نُجُومِهَا
[ 138 ](1/2561)
مَنْ أَشْرَفَ لَهَا قَصَمَتْهُ وَ مَنْ سَعَى فِيهَا حَطَمَتْهُ يَتَكَادَمُونَ فِيهَا تَكَادُمَ اَلْحُمُرِ فِي اَلْعَانَةِ قَدِ اِضْطَرَبَ مَعْقُودُ اَلْحَبْلِ وَ عَمِيَ وَجْهُ اَلْأَمْرِ تَغِيضُ فِيهَا اَلْحِكْمَةُ وَ تَنْطِقُ فِيهَا اَلظَّلَمَةُ وَ تَدُقُّ أَهْلَ اَلْبَدْوِ بِمِسْحَلِهَا وَ تَرُضُّهُمْ بِكَلْكَلِهَا يَضِيعُ فِي غُبَارِهَا اَلْوُحْدَانُ وَ يَهْلِكُ فِي طَرِيقِهَا اَلرُّكْبَانُ تَرِدُ بِمُرِّ اَلْقَضَاءِ وَ تَحْلُبُ عَبِيطَ اَلدِّمَاءِ وَ تَثْلِمُ مَنَارَ اَلدِّينِ وَ تَنْقُضُ عَقْدَ اَلْيَقِينِ يَهْرُبُ مِنْهَا اَلْأَكْيَاسُ وَ يُدَبِّرُهَا اَلْأَرْجَاسُ مِرْعَادٌ مِبْرَاقٌ كَاشِفَةٌ عَنْ سَاقٍ تُقْطَعُ فِيهَا اَلْأَرْحَامُ وَ يُفَارَقُ عَلَيْهَا اَلْإِسْلاَمُ بَرِيئُهَا سَقِيمٌ وَ ظَاعِنُهَا مُقِيمٌ مداحر الشيطان الأمور التي يدحر بها أي يطرد ويبعد دحرته أدحره دحورا قال تعالى دُحُوراً وَ لَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ وقال سبحانه اُخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً أي مقصى . ومزاجره الأمور يزجر بها جمع مزجر ومزجرة وكثيرا ما يبني ع من الأفعال مفعلا ومفعلة ويجمعه وإذا تأملت كلامه عرفت ذلك . وحبائل الشيطان مكايده وأشراكه التي يضل بها البشر ومخاتله الأمور التي يختل بها بالكسر أي يخدع . لا يؤازى فضله لا يساوى واللفظة مهموزة آزيت فلانا حاذيته ولا يجوز وازيته .
[ 139 ](1/2562)
و لا يجبر فقده لا يسد أحد مسده بعده والجفوة الجافية غلظ الطبع وبلادة الفهم . ويستذلون الحكيم يستضيمون العقلاء واللام هاهنا للجنس كقوله وَ جاءَ رَبُّكَ وَ اَلْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا . يحيون على فترة على انقطاع الوحي ما بين نبوتين . ويموتون على كفرة بالفتح واحد الكفرات كالضربة واحدة الضربات . ويروى ثم إنكم معشر الناس والأغراض الأهداف وسكرات النعمة ما تحدثه النعم عند أربابها من الغفلة المشابهة للسكر قال الشاعر
خمس سكرات إذا مني المرء
بها صار عرضة للزمان
سكرة المال والحداثة والعشق
و سكر الشراب والسلطان
و من كلام الحكماء للوالي سكرة لا يفيق منها إلا بالعزل والبوائق الدواهي جمع بائقة يقال باقتهم الداهية بوقا أي أصابتهم وكذلك باقتهم بئوق على فعول وابتاقت عليهم بائقة شر مثل انباحت أي انفتقت وانباق عليهم الدهر هجم بالداهية كما يخرج الصوت من البوق و
في الحديث لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه أي غوائله وشره . والقتام بفتح القاف الغبار والأقتم الذي يعلوه قتمة وهو لون فيه غبرة وحمرة . والعشوة بكسر العين ركوب الأمر على غير بيان ووضوح ويروى وتبينوا في قتام العشوة كما قرئ إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا وفتثبتوا .
[ 140 ](1/2563)
و اعوجاج الفتنة أخذها في غير القصد وعدولها عن المنهج . ثم كنى عن ظهور المستور المخفي منها بقوله عند طلوع جنينها وظهور كمينها . والجنين الولد ما دام في البطن والجمع أجنة ويجوز ألا يكون الكلام كناية بل صريحا أي عند طلوع ما استحن منها أي استتر وظهور ما كمن أي ما بطن . وكنى عن استحكام أمر الفتنة بقوله وانتصاب قطعها ومدار رحاها . ثم قال إنها تبدو يسيرة ثم تصير كثيرة . والفظاعة مصدر فظع بالضم فهو فظيع أي شديد شنيع تجاوز المقدار وكذلك أفظع الرجل فهو مفظع وأفظع الرجل على ما لم يسم فاعله نزل به أمر عظيم وأفظعت الشي ء وجدته فظيعا ومثله استفظعته وهذا المعنى كما قال الشاعر
و لربما هاج الكبير
و من الأمور لك الصغير
و في المثل والشر تبدؤه صغاره وقال الشاعر
فإن النار بالعودين تذكى
و إن الحرب أولها كلام
و قال أبو تمام
رب قليل جدا كثيرا
كم مطر بدؤه مطير
و قال أيضا
لا تذيلن صغير همك وانظر
كم بذي الأسل دوحة من قضيب
قوله شبابها كشباب الغلام بالكسر مصدر شب الفرس والغلام يشب ويشب شبابا وشبيبا إذا قمص ولعب وأشببته أنا أي هيجته .
[ 141 ]
و السلام الحجارة جمع واحده سلمة بكسر اللام يذكر الفتنة ويقول إنها تبدو في أول الأمر وأربابها يمرحون ويشبون كما يشب الغلام ويمرح ثم تئول إلى أن تعقب فيهم آثارا كآثار الحجارة في الأبدان قال الشاعر
و الحب مثل الحرب أولها
التخيل والنشاط
و ختامها أم الربيق
النكر والضرب القطاط(1/2564)
ثم ذكر أن هذه الفتنة يتوارثها قوم من قوم وكلهم ظالم أولهم يقود آخرهم كما يقود الإنسان القطار من الإبل وهو أمامها وهي تتبعه وآخرهم يقتدي بأولهم أي يفعل فعله ويحذو حذوه . وجيفة مريحة منتنة أراحت ظهر ريحها ويجوز أن تكون من أراح البعير أي مات وقد جاء في أراح بمعنى أنتن راح بلا همز . ثم ذكر تبرؤ التابع من المتبوع يعني يوم القيامة . فإن قلت إن الكتاب العزيز إنما ذكر تبرؤ المتبوع من التابع في قوله إِذْ تَبَرَّأَ اَلَّذِينَ اُتُّبِعُوا مِنَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوا وَ رَأَوُا اَلْعَذابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ اَلْأَسْبابُ وهاهنا قد عكس ذلك فقال إن التابع يتبرأ من المتبوع قلت إنه قد ورد في الكتاب العزيز مثل ذلك في قوله أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً فقولهم لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً هو التبرؤ وهو قوله حكاية عنهم وَ اَللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ وهذا هو التبرؤ .
[ 142 ](1/2565)
ثم ذكر ع أن القائد يتبرأ من المقود أي يتبرأ المتبوع من التابع فيكون كل من الفريقين تبرأ من صاحبه كما قال سبحانه ثُمَّ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً . ويتزايلون يتفرقون . قوله ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرجوف طالعها مقدماتها وأوائلها وسماها رجوفا لشدة الاضطراب فيها . فإن قلت أ لم تكن قلت إن قوله عن قليل يتبرأ التابع من المتبوع يعني به يوم القيامة فكيف يقول ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة وهذا إنما يكون قبل القيامة قلت إنه لما ذكر تنافس الناس على الجيفة المنتنة وهي الدنيا أراد أن يقول بعده بلا فصل ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرجوف لكنه لما تعجب من تزاحم الناس وتكالبهم على تلك الجيفة أراد أن يؤكد ذلك التعجب فأتى بجملة معترضة بين الكلامين تؤكد معنى تعجبه منهم فقال إنهم على ما قد ذكرنا من تكالبهم عليها عن قليل يتبرأ بعضهم من بعض ويلعن بعضهم بعضا وذلك أدعى لهم لو كانوا يعقلون إلى أن يتركوا التكالب والتهارش على هذه الجيفة الخسيسة ثم عاد إلى نظام الكلام فقال ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرجوف ومثل هذا الاعتراض في الكلام كثير وخصوصا في القرآن وقد ذكرنا منه فيما تقدم طرفا . قوله والقاصمة الزحوف القاصمة الكاسرة وسماها زحوفا تشبيها لمشيها قدما بمشي الدبى الذي يهلك الزروع ويبيدها والزحف السير على تؤدة كسير الجيوش بعضها إلى بعض .
[ 143 ](1/2566)
قوله وتزيغ قلوب أي تميل وهذه اللفظة والتي بعدها دالتان على خلاف ما تذهب إليه الإمامية من أن المؤمن لا يكفر وناصرتان لمذهب أصحابنا . ونجومها مصدر نجم الشر إذا ظهر . من أشرف لها من صادمها وقابلها ومن سعى فيها أي في تسكينها وإطفائها وهذا كله إشارة إلى الملحمة الكائنة في آخر الزمان . والتكادم التعاض بأدنى الفم كما يكدم الحمار ويقال كدم يكدم والمكدم المعض . والعانة القطيع من حمر الوحش والجمع عون . تغيض فيها الحكمة تنقض . فإن قلت ليس قوله وتنطق فيها الظلمة واقعا في نقيض قوله تغيض فيها الحكمة فأين هذا من الخطابة التي هو فيها نسيج وحده قلت بل المناقضة ظاهرة لأن الحكمة إذا غاضت فيها لم ينطق بها أحد ولا بد من نطق ما فإذا لم تنطق الحكماء وجب أن يكون النطق لمن ليس من الحكماء فهو من الظلمة فقد ثبت التناقض . والمسحل المبرد يقول تنحت أهل البدو وتسحتهم كما يسحت الحديد أو الخشب بالمبرد وأهل البدو أهل البادية ويجوز أن يريد بالمسحل الحلقة التي في طرف شكيم اللجام المعترضة بإزاء حلقة أخرى في الطرف الآخر وتدخل إحداهما في الأخرى بمعنى أن هذه الفتنة تصدم أهل البدو بمقدمة جيشها كما يصدم الفارس الراجل أمامه بمسحل لجام فرسه . والكلكل الصدر وترضهم تدقهم دقا جريشا .
[ 144 ](1/2567)
قوله تضيع في غبارها الوحدان جمع واحد مثل شاب وشبان وراع ورعيان ويجوز الأحدان بالهمز أي من كان يسير وحده فإنه يهلك بالكلية في غبارها وأما إذا كانوا جماعة ركبانا فإنهم يضلون وهو أقرب من الهلاك ويجوز أن يكون الوحدان جمع أوحد يقال فلان أوحد الدهر وهؤلاء الوحدان أو الأحدان مثل أسود وسودان أي يضل في هذه الفتنة وضلالها الذي كنى عنه بالغبار فضلاء عصرها وعلماء عهدها لغموض الشبهة واستيلاء الباطل على أهل وقتها ويكون معنى الفقرة الثانية على هذا التفسير أن الراكب الذي هو بمظنة النجاة لا ينجو والركبان جمع راكب ولا يكون إلا ذا بعير قوله ترد بمر القضاء أي بالبوار والهلاك والاستئصال . فإن قلت أ يجوز أن يقال للفتنة القبيحة إنها من القضاء . قلت نعم لا بمعنى الخلق بل بمعنى الإعلام كما قال سبحانه وَ قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي اَلْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ أي أعلمناهم أي ترد هذه الفتنة بإعلام الله تعالى لمن يشاء إعلامه من المكلفين أنها أم اللهيم التي لا تبقي ولا تذر فذلك الإعلام هو المر الذي لا يبلغ الوصف مرارته لأن الأخبار عن حلول المكروه الذي لا مدفع عنه ولا محيص منه مر جدا . قوله وتحلب عبيط الدماء أي هذه الفتنة يحلبها الحالب دما عبيطا وهذه كناية عن الحرب وقد قال ع في موضع آخر أما والله ليحلبنها دما وليتبعنها ندما والعبيط الدم الطري الخالص . وثلمت الإناء أثلمه بالكسر . والأكياس العقلاء .
[ 145 ](1/2568)
و الأرجاس جمع رجس وهو القذر والنجس والمراد هاهنا الفاسقون فإما أن يكون على حذف المضاف أي ويدبرها ذوو الأرجاس أو أن يكون جعلهم الأرجاس أنفسها لما كانوا قد أسرفوا في الفسق فصاروا كأنهم الفسق والنجاسة نفسها كما يقال رجل عدل ورجل رضا . قوله مرعاد مبراق أي ذات وعيد وتهدد ويجوز أن يعني بالرعد صوت السلاح وقعقعته وبالبرق لونه وضوءه . وكاشفة عن ساق عن شدة ومشقة . قوله بريئها سقيم يمكن أن يعني بها أنها لشدتها لا يكاد الذي يبرأ منها وينفض يده عنها يبرأ بالحقيقة بل لا بد أن يستثني شيئا من الفسق والضلال أي لشدة التباس الأمر واشتباه الحال على المكلفين حينئذ . ويمكن أن يعني به أن الهارب منها غير ناج بل لا بد أن يصيبه بعض معرتها ومضرتها . وظاعنها مقيم أي ما يفارق الإنسان من أذاها وشرها فكأنه غير مفارق له لأنه قد أبقى عنده ندوبا وعقابيل من شرورها وغوائلها : مِنْهَا بَيْنَ قَتِيلٍ مَطْلُولٍ وَ خَائِفٍ مُسْتَجِيرٍ يَخْتِلُونَ بِعَقْدِ اَلْأَيْمَانِ وَ بِغُرُورِ اَلْإِيمَانِ فَلاَ تَكُونُوا أَنْصَابَ اَلْفِتَنِ وَ أَعْلاَمَ اَلْبِدَعِ
[ 146 ](1/2569)
وَ اِلْزَمُوا مَا عُقِدَ عَلَيْهِ حَبْلُ اَلْجَمَاعَةِ وَ بُنِيَتْ عَلَيْهِ أَرْكَانُ اَلطَّاعَةِ وَ اِقْدَمُوا عَلَى اَللَّهِ مَظْلُومِينَ وَ لاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ ظَالِمِينَ وَ اِتَّقُوا مَدَارِجَ اَلشَّيْطَانِ وَ مَهَابِطَ اَلْعُدْوَانِ وَ لاَ تُدْخِلُوا بُطُونَكُمْ لُعَقَ اَلْحَرَامِ فَإِنَّكُمْ بِعَيْنِ مَنْ حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَعْصِيَةَ وَ سَهَّلَ لَكُمْ سُبُلَ اَلطَّاعَةِ يقال طل دم فلان فهو مطلول أي مهدر لا يطلب به ويجوز أطل دمه وطله الله وأطله أهدره ولا يقال طل دم فلان بالفتح وأبو عبيدة والكسائي يقولانه . ويختلون يخدعون بالأيمان التي يعقدونها ويقسمون بها وبالإيمان الذي يظهرونه ويقرون به . ثم قال فلا تكونوا أنصار الفتن وأعلام البدع أي لا تكونوا ممن يشار إليكم في البدع كما يشار إلى الأعلام المبنية القائمة و
جاء في الخبر المرفوع كن في الفتنة كابن اللبون لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب وهذه اللفظة يرويها كثير من الناس لأمير المؤمنين ع . قوله واقدموا على الله مظلومين
جاء في الخبر كن عبد الله المقتول . ومدارج الشيطان جمع مدرجة وهي السبيل التي يدرج فيها ومهابط العدوان محاله التي يهبط فيها . ولعق الحرام جمع لعقة بالضم وهي اسم لما تأخذه الملعقة واللعقة بالفتح المرة الواحدة . قوله فإنكم بعين من حرم يقال أنت بعين فلان أي أنت بمرأى منه وقد
قال ع في موضع آخر بصفين فإنكم بعين الله ومع ابن عم رسول الله وهذا من باب الاستعارة قال سبحانه وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي وقال تَجْرِي بِأَعْيُنِنا
[ 147 ](1/2570)
152 ـ ومن خطبة له ع
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلدَّالِّ عَلَى وُجُودِهِ بِخَلْقِهِ وَ بِمُحْدَثِ خَلْقِهِ عَلَى أَزَلِيَّتِهِ وَ بِاشْتِبَاهِهِمْ عَلَى أَنْ لاَ شَبَهَ لَهُ لاَ تَسْتَلِمُهُ اَلْمَشَاعِرُ وَ لاَ تَحْجُبُهُ اَلسَّوَاتِرُ لاِفْتِرَاقِ اَلصَّانِعِ وَ اَلْمَصْنُوعِ وَ اَلْحَادِّ وَ اَلْمَحْدُودِ وَ اَلرَّبِّ وَ اَلْمَرْبُوبِ اَلْأَحَدِ بِلاَ تَأْوِيلِ عَدَدٍ وَ اَلْخَالِقِ لاَ بِمَعْنَى حَرَكَةٍ وَ نَصَبٍ وَ اَلسَّمِيعِ لاَ بِأَدَاةٍ وَ اَلْبَصِيرِ لاَ بِتَفْرِيقِ آلَةٍ وَ اَلشَّاهِدِ لاَ بِمُمَاسَّةٍ وَ اَلْبَائِنِ لاَ بِتَرَاخِي مَسَافَةٍ وَ اَلظَّاهِرِ لاَ بِرُؤْيَةٍ وَ اَلْبَاطِنِ لاَ بِلَطَافَةٍ بَانَ مِنَ اَلْأَشْيَاءِ بِالْقَهْرِ لَهَا وَ اَلْقُدْرَةِ عَلَيْهَا وَ بَانَتِ اَلْأَشْيَاءُ مِنْهُ بِالْخُضُوعِ لَهُ وَ اَلرُّجُوعِ إِلَيْهِ مَنْ وَصَفَهُ فَقَدْ حَدَّهُ وَ مَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ وَ مَنْ عَدَّهُ فَقَدْ أَبْطَلَ أَزَلَهُ وَ مَنْ قَالَ كَيْفَ فَقَدِ اِسْتَوْصَفَهُ وَ مَنْ قَالَ أَيْنَ فَقَدْ حَيَّزَهُ عَالِمٌ إِذْ لاَ مَعْلُومٌ وَ رَبٌّ إِذْ لاَ مَرْبُوبٌ وَ قَادِرٌ إِذْ لاَ مَقْدُورٌ(1/2571)
أبحاث كلامية
في هذا الفصل أبحاث أولها في وجوده تعالى وإثبات أن للعالم صانعا وهاتان طريقتان في الدلالة على وجوده الأول سبحانه .
[ 148 ]
إحداهما الطريقة المذكورة في هذا الفصل وهي طريقة المتكلمين وهي إثبات أن الأجسام محدثة ولا بد للمحدث من محدث . والثانية إثبات وجوده تعالى من النظر في نفس الوجود . وذلك لأن الوجود ينقسم بالاعتبار الأول إلى قسمين واجب وممكن وكل ممكن لا بد أن ينتهي إلى الواجب لأن طبيعة الممكن يمتنع من أن يستقل بنفسه في قوامه فلا بد من واجب يستند إليه وذلك الواجب الوجود الضروري الذي لا بد منه هو الله تعالى . وثانيها إثبات أزليته وبيانه ما ذكره في هذا الفصل وهو أن العالم مخلوق له سبحانه حادث من جهته والمحدث لا بد له من محدث فإن كان ذلك المحدث محدثا عاد القول فيه كالقول في الأول ويتسلسل فلا بد من محدث قديم وذلك هو الله تعالى . وثالثها أنه لا شبيه له أي ليس بجسم كهذه الأجسام وبيانه ما ذكر أيضا أن مخلوقاته متشابهة يعني بذلك ما يريده المتكلمون من قولهم الأجسام متماثلة في الجسمية وأن نوع الجسمية واحد أي لا يخالف جسم جسما بذاته وإذا كانت متماثلة صح على كل واحد منها ما صح على الآخر فلو كان له سبحانه شبيه منها أي لو كان جسما مثلها لوجب أن يكون محدثا كمثلها أو تكون قديمة مثله وكلا الأمرين محال . ورابعها أن المشاعر لا تستلمه وروي لا تلمسه والمشاعر الحواس وبيانه أنه تعالى ليس بجسم لما سبق وما ليس بجسم استحال أن تكون المشاعر لامسة له لأن إدراك المشاعر مدركاته مقصور على الأجسام وهيئاتها والاستلام في اللغة لمس الحجر باليد وتقبيله ولا يهمز لأن أصله من السلام وهي الحجارة كما يقال استنوق الجمل وبعضهم يهمزه
[ 149 ](1/2572)
و خامسها أن السواتر لا تحجبه وبيانه أن السواتر والحجب إنما تحجب ما كان في جهة وذلك لأنها ذوات أين ووضع فلا نسبة لها إلى ما ليس من ذوات الأين والوضع . ثم قال ع لافتراق الصانع والمصنوع إشارة إلى أن المصنوع من ذوات الجهة والصانع منزه عن ذلك بري ء عن المواد فلا يلزم فيه ما يلزم في ذوات المادة والجهة . وسادسها معنى قولنا إنه أحد أنه ليس بمعنى العدد كما يقوله الناس أول العدد أحد وواحد بل المراد بأحديته كونه لا يقبل التجزؤ وباعتبار آخر كونه لا ثاني له في الربوبية . وسابعها أنه خالق لا بمعنى الحركة والنصب وهو التعب وذلك لأن الخالقين منا يحتاجون إلى الحركة من حيث كانوا أجساما تفعل بالآلات والبارئ سبحانه ليس بجسم ولا يفعل بالآلة بل كونه قادرا إنما هو لذاته المقدسة لا لأمر زائد عليها فلم يكن فاعلا بالحركة . وثامنها أنه سميع لا بأداة وذلك لأن حاجتنا إلى الحواس إنما كانت لأمر يخصنا وهو كوننا أحياء بحياة حالة في أبعاضنا والبارئ تعالى حي لذاته فلم يحتج في كونه مدركا إلى الأداة والجارحة . وتاسعها أنه بصير لا بتفريق آلة والمراد بتفريق الآلة هاهنا الشعاع الذي باعتباره يكون الواحد منا مبصرا فإن القائلين بالشعاع يقولون إنه يخرج من العين أجسام لطيفة هي الأشعة وتكون آلة للحي في إبصار المبصرات فيتفرق عليها فكل جسم يقع عليه ذلك الشعاع يكون مبصرا والبارئ تعالى بصير لا بشعاع يجعله آلة في الإدراك ويتفرق على المرئيات
[ 150 ](1/2573)
فيدركها به وذلك لما قدمناه من أنه حي لذاته لا بمعنى فلا يحتاج إلى آلة وأداة ووصلة تكون كالواسطة بينه وبين المدركات . وعاشرها أنه الشاهد لا بمماسة وذلك لأن الشاهد منا هو الحاضر بجسمه عند المشهود أ لا ترى أن من في الصين لا يكون شاهدا من في المغرب لأن الحضور الجسماني يفتقر إلى القرب والقرب من لوازم الجسمية فما ليس بجسم وهو عالم بكل شي ء يكون شاهدا من غير قرب ولا مماسة ولا أين مطلوب . وحادي عشرها أنه البائن لا بتراخي مسافة بينونة المفارق عن المادة بينونة ليست أينية لأنه لا نسبة لأحدهما إلى الآخر بالجهة فلا جرم كان البارئ تعالى مباينا عن العالم لا بمسافة بين الذاتين . وثاني عشرها أنه الظاهر لا برؤية والباطن لا بلطافة وذلك لأن الظاهر من الأجسام ما كان مرئيا بالبصر والباطن منها ما كان لطيفا جدا إما لصغره أو لشفافيته والبارئ تعالى ظاهر للبصائر لا للأبصار باطن أي غير مدرك بالحواس لأن ذاته لا تقبل المدركية إلا من حيث كان لطيف الحجم أو شفاف الجرم . وثالث عشرها أنه قال بان من الأشياء بالقهر لها والقدرة عليها وبانت الأشياء منه بالخضوع له والرجوع إليه هذا هو معنى قول المتكلمين والحكماء والفرق بينه وبين الموجودات كلها أنه واجب الوجود لذاته والأشياء كلها ممكنة الوجود بذواتها فكلها محتاجة إليه لأنها لا وجود لها إلا به وهذا هو معنى خضوعها له ورجوعها إليه وهو سبحانه غني عن كل شي ء ومؤثر في كل شي ء إما بنفسه أو بأن يكون مؤثرا فيما هو مؤثر في ذلك الشي ء كأفعالنا فإنه يؤثر فينا ونحن نؤثر فيها فإذا هو قاهر لكل شي ء وقادر على كل شي ء فهذه هي البينونة بينه وبين الأشياء كلها .
[ 151 ](1/2574)
و رابع عشرها أنه لا صفة له زائدة على ذاته ونعني بالصفة ذاتا موجودة قائمة بذاته وذلك لأن من أثبت هذه الصفة له فقد حده ومن حده فقد عده ومن عده فقد أبطل أزله وهذا كلام غامض وتفسيره أن من أثبت له علما قديما أو قدرة قديمة فقد أوجب أن يعلم بذلك العلم معلومات محدودة أي محصورة وكذلك قد أوجب أن يقدر بتلك القدرة على مقدورات محدودة وهذه المقدمة في كتب أصحابنا المتكلمين مما يذكرونه في تقرير أن العلم الواحد لا يتعلق بمعلومين وأن القدرة الواحدة لا يمكن أن تتعلق في الوقت الواحد من الجنس الواحد في المحل الواحد إلا بجزء واحد وسواء فرض هذان المعنيان قديمين أو محدثين فإن هذا الحكم لازم لهما فقد ثبت أن من أثبت المعاني القديمة فقد أثبت البارئ تعالى محدود العالمية والقادرية ومن قال بذلك فقد عده أي جعله من جملة الجثة المعدودة فيما بيننا كسائر البشر والحيوانات ومن قال بذلك فقد أبطل أزله لأن كل ذات مماثلة لهذه الذوات المحدثة فإنها محدثة مثلها والمحدث لا يكون أزليا . وخامس عشرها أن من قال كيف فقد استوصفه أي من قال لزيد كيف الله فقد استدعى أن يوصف الله بكيفية من الكيفيات والبارئ تعالى لا تجوز الكيفيات عليه والكيفيات هي الألوان والطعوم ونحوها والأشكال والمعاني وما يجري مجرى ذلك وكل هذا لا يجوز إلا على الأجسام . فإن قلت ينبغي أن يقول فقد وصفه ولا يقال فقد استوصفه لأن السائل لم يستوصف الله وإنما استوصف صاحبه الذي سأله عن كيفية الله . قلت استوصف هاهنا بمعنى وصف كقولك استغنى زيد عن عمرو أي غني عنه واستعلى عليه أي علا ومثله كثير . وسادس عشرها أن من قال أين فقد حيزه لأن أين سؤال عن المكان وليس الله تعالى في مكان ويأتي أنه في كل مكان بمعنى العلم والإحاطة .
[ 152 ](1/2575)
و سابع عشرها أنه عالم إذ لا معلوم ورب إذ لا مربوب وقادر إذ لا مقدور وكل هذا صحيح ومدلول عليه لأنه عالم فيما لم يزل وليس شي ء من الأشياء بموجود وهو رب كل شي ء قبل أن يخلقه كما تقول أنه سميع بصير قبل أن يدرك المسموعات والمبصرات أي قبل أن يخلقها وقادر على الأشياء قبل كونها لأنه يستحيل حال كونها أن تكون مقدوره لاستحالة إيجاد الموجود . وقد شرحنا كل هذه المسائل التوحيدية في كتبنا المصنفة في علم الكلام : مِنْهَا قَدْ طَلَعَ طَالِعٌ وَ لَمَعَ لاَمِعٌ وَ لاَحَ لاَئِحٌ وَ اِعْتَدَلَ مَائِلٌ وَ اِسْتَبْدَلَ اَللَّهُ بِقَوْمٍ قَوْماً وَ بِيَوْمٍ يَوْماً وَ اِنْتَظَرْنَا اَلْغِيَرَ اِنْتِظَارَ اَلْمُجْدِبِ اَلْمَطَرَ وَ إِنَّمَا اَلْأَئِمَّةُ قُوَّامُ اَللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ وَ عُرَفَاؤُهُ عَلَى عِبَادِهِ وَ لاَ يَدْخُلُ اَلْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ عَرَفَهُمْ وَ عَرَفُوهُ وَ لاَ يَدْخُلُ اَلنَّارَ إِلاَّ مَنْ أَنْكَرَهُمْ وَ أَنْكَرُوهُ إِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى خَصَّكُمْ بِالْإِسْلاَمِ وَ اِسْتَخْلَصَكُمْ لَهُ وَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ اِسْمُ سَلاَمَةٍ وَ جِمَاعُ كَرَامَةٍ اِصْطَفَى اَللَّهُ تَعَالَى مَنْهَجَهُ وَ بَيَّنَ حُجَجَهُ مِنْ ظَاهِرِ عِلْمٍ وَ بَاطِنِ حُكْمٍ لاَ تَفْنَى غَرَائِبُهُ وَ لاَ تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ فِيهِ مَرَابِيعُ اَلنِّعَمِ وَ مَصَابِيحُ اَلظُّلَمِ لاَ تُفْتَحُ اَلْخَيْرَاتُ إِلاَّ بِمَفَاتِيحِهِ وَ لاَ تُكْشَفُ اَلظُّلُمَاتُ إِلاَّ بِمَصَابِيحِهِ قَدْ أَحْمَى حِمَاهُ وَ أَرْعَى مَرْعَاهُ فِيهِ شِفَاءُ اَلْمُشْتَفِي اَلْمُسْتَشْفِي وَ كِفَايَةُ اَلْمُكْتَفِي
[ 153 ](1/2576)
هذه خطبة خطب بها بعد قتل عثمان حين أفضت الخلافة إليه . قد طلع طالع يعني عود الخلافة إليه وكذلك قوله ولمع لامع ولاح لائح كل هذا يراد به معنى واحد . واعتدل مائل إشارة إلى ما كانت الأمور عليه من الاعوجاج في أواخر أيام عثمان واستبدل الله بعثمان وشيعته عليا وشيعته وبأيام ذاك أيام هذا . ثم قال وانتظرنا الغير انتظار المجدب المطر وهذا الكلام يدل على أنه قد كان يتربص بعثمان الدوائر ويرتقب حلول الخطوب بساحته ليلي الخلافة . فإن قلت أ ليس هو الذي طلق الدنيا فأين هذا القول من طلاقها قلت إنه طلق الدنيا أن يقبل منها حظا دنيويا ولم يطلقها أن ينهى فيها عن المنكرات التي أمره الله تعالى بالنهي عنها ويقيم فيها الدين الذي أمره الله بإقامته ولا سبيل له إلى النهي عن المنكر والأمر بالمعروف إلا بولاية الخلافة(1/2577)
عقيدة علي في عثمان ورأي المعتزلة في ذلك
فإن قلت أ يجوز على مذهب المعتزلة أن يقال إنه ع كان ينتظر قتل عثمان انتظار المجدب المطر وهل هذا إلا محض مذهب الشيعة . قلت إنه ع لم يقل وانتظرنا قتله وإنما انتظر الغير فيجوز أن يكون أراد انتظار خلعه وعزله عن الخلافة فإن عليا ع عند أصحابنا كان يذهب إلى أن عثمان استحق الخلع بإحداثه ولم يستحق القتل وهذا الكلام إذا حمل على انتظار الخلع كان موافقا لمذهب أصحابنا .
[ 154 ]
فإن قلت أ تقول المعتزلة إن عليا كان يذهب إلى فسق عثمان المستوجب لأجله الخلع قلت كلا حاش لله أن تقول المعتزلة ذلك وإنما تقول إن عليا كان يرى أن عثمان يضعف عن تدبير الخلافة وأن أهله غلبوا عليه واستبدوا بالأمر دونه واستعجزه المسلمون واستسقطوا رأيه فصار حكمه حكم الإمام إذا عمي أو أسره العدو فإنه ينخلع من الإمامة . ثم قال ع الأئمة قوام الله على خلقه أي يقومون بمصالحهم وقيم المنزل هو المدبر له . قال وعرفاؤه على عباده جمع عريف وهو النقيب والرئيس يقال عرف فلان بالضم عرافة بالفتح مثل خطب خطابة أي صار عريفا وإذا أردت أنه عمل ذلك قلت عرف فلان علينا سنين يعرف عرافة بالكسر مثل كتب يكتب كتابة . قال ولا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه هذا إشارة إلى قوله تعالى يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ قال المفسرون ينادى في الموقف يا أتباع فلان ويا أصحاب فلان فينادى كل قوم باسم إمامهم يقول أمير المؤمنين ع لا يدخل الجنة يومئذ إلا من كان في الدنيا عارفا بإمامه ومن يعرفه إمامه في الآخرة فإن الأئمة تعرف أتباعها يوم القيامة وإن لم يكونوا رأوهم في الدنيا كما أن النبي ص يشهد للمسلمين وعليهم وإن لم يكن رأى أكثرهم قال سبحانه فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً و
جاء في الخبر
[ 155 ](1/2578)
المرفوع من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية وأصحابنا كافة قائلون بصحة هذه القضية وهي أنه لا يدخل الجنة إلا من عرف الأئمة أ لا ترى أنهم يقولون الأئمة بعد رسول الله ص فلان وفلان ويعدونهم واحدا واحدا فلو أن إنسانا لا يقول بذلك لكان عندهم فاسقا والفاسق لا يدخل الجنة عندهم أبدا أعني من مات على فسقه فقد ثبت أن هذه القضية وهي قوله ع لا يدخل الجنة إلا من عرفهم قضية صحيحة على مذهب المعتزلة وليس قوله وعرفوه بمنكر عند أصحابنا إذا فسرنا قوله تعالى يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ على ما هو الأظهر والأشهر من التفسيرات وهو ما ذكرناه . وبقيت القضية الثانية ففيها الإشكال وهي قوله ع ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه وذلك أن لقائل أن يقول قد يدخل النار من لم ينكرهم مثل أن يكون إنسان يعتقد صحة إمامة القوم الذين يذهب أنهم أئمة عند المعتزلة ثم يزني أو يشرب الخمر من غير توبة فإنه يدخل النار وليس بمنكر للأئمة فكيف يمكن الجمع بين هذه القضية وبين الاعتزال فالجواب أن الواو في قوله وأنكروه بمعنى أو كما في قوله تعالى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فالإنسان المفروض في السؤال وإن كان لا ينكر الأئمة إلا أنهم ينكرونه أي يسخطون يوم القيامة أفعاله يقال أنكرت فعل فلان أي كرهته فهذا هو تأويل الكلام على مذهبنا فأما الإمامية فإنهم يحملون ذلك على تأويل آخر ويفسرون قوله ولا يدخل النار فيقولون أراد ولا يدخل النار دخولا مؤبدا إلا من ينكرهم وينكرونه .
[ 156 ](1/2579)
ثم ذكر ع شرف الإسلام وقال إنه مشتق من السلامة وإنه جامع للكرامة وإن الله قد بين حججه أي الأدلة على صحته . ثم بين ما هذه الأدلة فقال من ظاهر علم وباطن حكم أي حكمه من هاهنا للتبيين والتفسير كما تقول دفعت إليه سلاحا من سيف ورمح وسهم ويعني بظاهر علم وباطن حكم والقرآن أ لا تراه كيف أتى بعده بصفات ونعوت لا تكون إلا للقرآن من قوله لا تفنى عزائمه أي آياته المحكمة وبراهينه العازمة أي القاطعة ولا تنقضي عجائبه لأنه مهما تأمله الإنسان استخرج منه بفكر غرائب عجائب لم تكن عنده من قبل . فيه مرابيع النعم المرابيع الأمطار التي تجي ء في أول الربيع فتكون سببا لظهور الكلأ وكذلك تدبر القرآن سبب للنعم الدينية وحصولها . قوله قد أحمى حماه وأرعى مرعاه الضمير في أحمى يرجع إلى الله تعالى أي قد أحمى الله حماه أي عرضه لأن يحمى كما تقول أ قتلت الرجل أي عرضته لأن يقتل وأ ضربته أي عرضته لأن يضرب أي قد عرض الله تعالى حمى القرآن ومحارمه لأن يجتنب ومكن منها وعرض مرعاه لأن يرعى أي مكن من الانتفاع بما فيه من الزواجر والمواعظ لأنه خاطبنا بلسان عربي مبين ولم يقنع ببيان ما لا نعلم إلا بالشرع حتى نبه في أكثره على أدلة العقل
[ 157 ](1/2580)
153 ـ ومن خطبة له ع
وَ هُوَ فِي مُهْلَةٍ مِنَ اَللَّهِ يَهْوِي مَعَ اَلْغَافِلِينَ وَ يَغْدُو مَعَ اَلْمُذْنِبِينَ بِلاَ سَبِيلٍ قَاصِدٍ وَ لاَ إِمَامٍ قَائِدٍ يصف إنسانا من أهل الضلال غير معين بل كما تقول رحم الله امرأ اتقى ربه وخاف ذنبه وبئس الرجل رجل قل حياؤه وعدم وفاؤه ولست تعني رجلا بعينه . ويهوي يسقط والسبيل القاصد الطريق المؤدية إلى المطلوب . والإمام إما الخليفة وإما الأستاذ أو الدين أو الكتاب على كل من هؤلاء تطلق هذه اللفظة : مِنْهَا حَتَّى إِذَا كَشَفَ لَهُمْ عَنْ جَزَاءِ مَعْصِيَتِهِمْ وَ اِسْتَخْرَجَهُمْ مِنْ جَلاَبِيبِ غَفْلَتِهِمْ اِسْتَقْبَلُوا مُدْبِراً وَ اِسْتَدْبَرُوا مُقْبِلاً فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِمَا أَدْرَكُوا مِنْ طَلِبَتِهِمْ وَ لاَ بِمَا قَضَوْا مِنْ وَطَرِهِمْ
[ 158 ](1/2581)
وَ إِنِّي أُحَذِّرُكُمْ وَ نَفْسِي هَذِهِ اَلْمَنْزِلَةَ فَلْيَنْتَفِعِ اِمْرُؤٌ بِنَفْسِهِ فَإِنَّمَا اَلْبَصِيرُ مَنْ سَمِعَ فَتَفَكَّرَ وَ نَظَرَ فَأَبْصَرَ وَ اِنْتَفَعَ بِالْعِبَرِ ثُمَّ سَلَكَ جَدَداً وَاضِحاً يَتَجَنَّبُ فِيهِ اَلصَّرْعَةَ فِي اَلْمَهَاوِي وَ اَلضَّلاَلَ فِي اَلْمَغَاوِي وَ لاَ يُعِينُ عَلَى نَفْسِهِ اَلْغُوَاةَ بِتَعَسُّفٍ فِي حَقٍّ أَوْ تَحْرِيفٍ فِي نُطْقٍ أَوْ تَخَوُّفٍ مِنْ صِدْقٍ فَأَفِقْ أَيُّهَا اَلسَّامِعُ مِنْ سَكْرَتِكَ وَ اِسْتَيْقِظْ مِنْ غَفْلَتِكَ وَ اِخْتَصِرْ مِنْ عَجَلَتِكَ وَ أَنْعِمِ اَلْفِكْرَ فِيمَا جَاءَكَ عَلَى لِسَانِ اَلنَّبِيِّ اَلْأُمِّيِّ ص مِمَّا لاَ بُدَّ مِنْهُ وَ لاَ مَحِيصَ عَنْهُ وَ خَالِفْ مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ وَ دَعْهُ وَ مَا رَضِيَ لِنَفْسِهِ وَ ضَعْ فَخْرَكَ وَ اُحْطُطْ كِبْرَكَ وَ اُذْكُرْ قَبْرَكَ فَإِنَّ عَلَيْهِ مَمَرَّكَ وَ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ وَ كَمَا تَزْرَعُ تَحْصُدُ وَ مَا قَدَّمْتَ اَلْيَوْمَ تَقْدَمُ عَلَيْهِ غَداً فَامْهَدْ لِقَدَمِكَ وَ قَدِّمْ لِيَوْمِكَ فَالْحَذَرَ اَلْحَذَرَ أَيُّهَا اَلْمُسْتَمِعُ وَ اَلْجِدَّ اَلْجِدَّ أَيُّهَا اَلْغَافِلُ وَ لا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ فاعل كشف هو الله تعالى وقد كان سبق ذكره في الكلام وإنما كشف لهم عن جزاء معصيتهم بما أراهم حال الموت من دلائل الشقوة والعذاب(1/2582)
فقد ورد في الخبر الصحيح أنه لا يموت ميت حتى يرى مقره من جنة أو نار . ولما انفتحت أعين أبصارهم عند مفارقة الدنيا سمى ذلك ع استخراجا لهم من جلابيب غفلتهم كأنهم كانوا من الغفلة والذهول في لباس نزع عنهم . قال استقبلوا مدبرا أي استقبلوا أمرا كان في ظنهم واعتقادهم مدبرا عنهم وهو الشقاء والعذاب واستدبروا مقبلا تركوا وراء ظهورهم ما كانوا خولوه من الأولاد والأموال والنعم وفي قوة هذا الكلام أن يقول عرفوا ما أنكروه وأنكروا ما عرفوه
[ 159 ]
و روي أحذركم ونفسي هذه المزلة مفعلة من الزلل وفي قوله ونفسي لطافة رشيقة وذلك لأنه طيب قلوبهم بأن جعل نفسه شريكة لهم في هذا التحذير ليكونوا إلى الانقياد أقرب وعن الإباء والنفرة أبعد بطريق جدد لاحب . والمهاوي جمع مهواة وهي الهوة يتردى فيها . والمغاوي جمع مغواة وهي الشبهة التي يغوى بها الناس أي يضلون . يصف الأمور التي يعين بها الإنسان أرباب الضلال على نفسه وهي أن يتعسف في حق يقوله أو يأمر به فإن الرفق أنجح وأن يحرف المنطق فإن الكذب لا يثمر خيرا وأن يتخوف من الصدق في ذات الله قال سبحانه إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ اَلنَّاسَ كَخَشْيَةِ اَللَّهِ فذم من لا يصدق ويجاهد في الحق . قوله واختصر من عجلتك أي لا تكن عجلتك كثيرة بل إذا كانت لك عجلة فلتكن شيئا يسيرا . وتقول أنعمت النظر في كذا أي دققته من قولك أنعمت سحق الحجر وقيل إنه مقلوب أمعن . والنبي الأمي إما الذي لا يحسن الكتابة أو المنسوب إلى أم القرى وهي مكة . ولا محيص عنه لا مفر ولا مهرب حاص أي تخلص من أمر كان شب فيه . قوله فإن عليه ممرك أي ليس القبر بدار مقام وإنما هو ممر وطريق إلى الآخرة .
[ 160 ](1/2583)
و كما تدين تدان أي كما تجازي غيرك تجازى بفعلك وبحسب ما عملت ومنه قوله سبحانه إِنَّا لَمَدِينُونَ أي مجزيون ومنه الديان في صفة الله تعالى . قوله وكما تزرع تحصد معنى قد قاله الناس بعده كثيرا قال الشاعر
إذا أنت لم تزرع وأدركت حاصدا
ندمت على التقصير في زمن البذر
و من أمثالهم من زرع شرا حصد ندما . فامهد لنفسك أي سو ووطئ . وَ لا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ من القرآن العزيز أي ولا يخبرك بالأمور أحد على حقائقها كالعارف بها العالم بكنهها : إِنَّ مِنْ عَزَائِمِ اَللَّهِ فِي اَلذِّكْرِ اَلْحَكِيمِ اَلَّتِي عَلَيْهَا يُثِيبُ وَ يُعَاقِبُ وَ لَهَا يَرْضَى وَ يَسْخَطُ أَنَّهُ لاَ يَنْفَعُ عَبْداً وَ إِنْ أَجْهَدَ نَفْسَهُ وَ أَخْلَصَ فِعْلَهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ اَلدُّنْيَا لاَقِياً رَبَّهُ بِخَصْلَةٍ مِنْ هَذِهِ اَلْخِصَالِ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا أَنْ يُشْرِكَ بِاللَّهِ فِيمَا اِفْتَرَضَ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَتِهِ أَوْ يَشْفِيَ غَيْظَهُ بِهَلاَكِ نَفْسٍ أَوْ يَعُرَّ بِأَمْرٍ فَعَلَهُ غَيْرُهُ أَوْ يَسْتَنْجِحَ حَاجَةً إِلَى اَلنَّاسِ بِإِظْهَارِ بِدْعَةٍ فِي دِينِهِ أَوْ يَلْقَى اَلنَّاسَ بِوَجْهَيْنِ أَوْ يَمْشِيَ فِيهِمْ بِلِسَانَيْنِ اِعْقِلْ ذَلِكَ فَإِنَّ اَلْمِثْلَ دَلِيلٌ عَلَى شِبْهِهِ إِنَّ اَلْبَهَائِمَ هَمُّهَا بُطُونُهَا وَ إِنَّ اَلسِّبَاعَ هَمُّهَا اَلْعُدْوَانُ عَلَى غَيْرِهَا وَ إِنَّ اَلنِّسَاءَ هَمُّهُنَّ زِينَةُ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ اَلْفَسَادُ فِيهَا إِنَّ اَلْمُؤْمِنِينَ مُسْتَكِينُونَ إِنَّ اَلْمُؤْمِنِينَ مُشْفِقُونَ إِنَّ اَلْمُؤْمِنِينَ خَائِفُونَ
[ 161 ](1/2584)
عزائم الله هي موجباته والأمر المقطوع عليه الذي لا ريب فيه ولا شبهة قال ع إن من الأمور التي نص الله تعالى عليها نصا لا يحتمل التأويل وهي من العزائم التي يقطع بها ولا رجوع فيها ولا نسخ لها أن من مات وهو على ذنب من هذه الذنوب المذكورة ولو اكتفى بذلك ع لأغناه عن قوله لم يتب إلا أنه ذكر ذلك تأكيدا وزيادة في الإيضاح فإنه لا ينفعه فعل شي ء من الأفعال الحسنة ولا الواجبة ولا تفيده العبادة ولو أجهد نفسه فيها بل يكون من أهل النار والذنوب المذكورة هي أن يتخذ مع الله إلها آخر فيشركه في العبادة أو يقتل إنسانا بغير حق بل ليشفي غيظه أو يقذف غيره بأمر قد فعله هو . عره بكذا يعره عرا أي عابه ولطخه أو يروم بلوغ حاجة من أحد بإظهار بدعة في الدين كما يفعل أكثر الناس في زماننا أو يكون ذا وجهين وهو أيضا قوله أو يمشي فيهم بلسانين وإنما أعاده تأكيدا . لما نصب معاوية ابنه يزيد لولاية العهد أقعده في قبة حمراء وأدخل الناس يسلمون على معاوية ثم يميلون إلى قبة يزيد فيسلمون عليه بولاية العهد حتى جاء رجل ففعل ذلك ثم رجع إلى معاوية فقال يا أمير المؤمنين أما إنك لو لم تول هذا أمور المسلمين لأضعتها وكان الأحنف جالسا فلما خف الناس قال معاوية ما بالك لا تقول يا أبا بحر قال أخاف الله إن كذبتك وأخافك إن صدقتك فما ذا أقول فقال جزاك الله عن الطاعة خيرا وأمر له بصلة جزيلة فلما خرج لقيه ذلك الرجل بالباب فقال يا أبا بحر إني لأعلم أن شر من خلق الله هذا الرجل ولكن هؤلاء
[ 162 ](1/2585)
قد استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال فلسنا نطمع في استخراجها إلا بما سمعت فقال يا هذا أمسك عليك فإن ذا الوجهين خليق ألا يكون وجيها عند الله غدا . ثم أمر ع بأن يعقل ما قاله ويعلم باطن خطابه وإنما رمز بباطن هذا الكلام إلى الرؤساء يوم الجمل لأنهم حاولوا أن يشفوا غيظهم بإهلاكه وإهلاك غيره من المسلمين وعروه ع بأمر هم فعلوه وهو التأليب على عثمان وحصره واستنجحوا حاجتهم إلى أهل البصرة بإظهار البدعة والفتنة ولقوا الناس بوجهين ولسانين لأنهم بايعوه وأظهروا الرضا به ثم دبوا له الخمر فجعل ذنوبهم هذه مماثلة للشرك بالله سبحانه في أنها لا تغفر إلا بالتوبة وهذا هو معنى قوله اعقل ذلك فإن المثل دليل على شبهه وروي فإن المثل واحد الأمثال أي هذا الحكم بعدم المغفرة لمن أتى شيئا من هذه الأشياء عام والواحد منها دليل على ما يماثله ويشابهه . فإن قلت فهذا تصريح بمذهب الإمامية في طلحة والزبير وعائشة . قلت كلا فإن هذه الخطبة خطب بها وهو سائر إلى البصرة ولم تقع الحرب إلا بعد تعدد الكبائر ورمز فيها إلى المذكورين وقال إن لم يتوبوا وقد ثبت أنهم تابوا والأخبار عنهم بالتوبة كثيرة مستفيضة . ثم أراد ع أن يومئ إلى ذكر النساء للحال التي كان وقع إليها من استنجاد أعدائه بامرأة فذكر قبل ذكر النساء أنواعا من الحيوان تمهيدا لقاعدة ذكر النساء فقال إن البهائم همها بطونها كالحمر والبقر والإبل والغنم وإن السباع همها العدوان
[ 163 ](1/2586)
على غيرها كالأسود الضارية والنمور والفهود والبزاة والصقور ثم قال وإن النساء همهن زينة الحياة الدنيا والفساد فيها . نظر حكيم إلى امرأة مصلوبة على شجرة فقال ليت كل شجرة تحمل مثل هذه الثمرة . ومرت امرأة بسقراط وهو يتشرق في الشمس فقالت ما أقبحك أيها الشيخ فقال لو أنكن من المرائي الصدئة لغمني ما بان من قبح صورتي فيكن . ورأى حكيم امرأة تعلم الكتابة فقال سهم يسقى سما ليرمي به يوما ما . ورأى بعضهم جارية تحمل نارا فقال نار على نار والحامل شر من المحمول . وقيل لسقراط أي السباع أحسن قال المرأة . وتزوج بعضهم امرأة نحيفة فقيل له في ذلك فقال اخترت من الشر أقله . ورأى بعض الحكماء امرأة غريقة قد احتملها السيل فقال زادت الكدر كدرا والشر بالشر يهلك . ثم ذكر ع خصائص المؤمن فقال إن المؤمنين مستكينون استكان الرجل أي خضع وذل . إن المؤمنين مشفقون التقوى رأس الإيمان كما ورد في الخبر . ثم قال إن المؤمنين خائفون هو الأول وإنما أكده والتأكيد مطلوب في باب الخطابة
[ 164 ](1/2587)
154 ـ ومن خطبة له ع
وَ نَاظِرُ قَلْبِ اَللَّبِيبِ بِهِ يُبْصِرُ أَمَدَهُ وَ يَعْرِفُ غَوْرَهُ وَ نَجْدَهُ دَاعٍ دَعَا وَ رَاعٍ رَعَى فَاسْتَجِيبُوا لِلدَّاعِي وَ اِتَّبِعُوا اَلرَّاعِي يقول إن قلب اللبيب له عين يبصر بها غايته التي يجري إليها ويعرف من أحواله المستقبلة ما كان مرتفعا أو منخفضا ساقطا والنجد المرتفع من الأرض ومنه قولهم للعالم بالأمور طلاع أنجد . ثم قال داع دعا موضع داع رفع لأنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره في الوجود داع دعا وراع رعى ويعني بالداعي رسول الله ص وبالراعي نفسه ع : قَدْ خَاضُوا بِحَارَ اَلْفِتَنِ وَ أَخَذُوا بِالْبِدَعِ دُونَ اَلسُّنَنِ وَ أَرَزَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ نَطَقَ اَلضَّالُّونَ اَلْمُكَذِّبُونَ نَحْنُ اَلشِّعَارُ وَ اَلْأَصْحَابُ وَ اَلْخَزَنَةُ وَ اَلْأَبْوَابُ وَ لاَ تُؤْتَى اَلْبُيُوتُ إِلاَّ مِنْ أَبْوَابِهَا فَمَنْ أَتَاهَا مِنْ غَيْرِ أَبْوَابِهَا سُمِّيَ سَارِقاً
[ 165 ]
هذا كلام متصل بكلام لم يحكه الرضي رحمه الله وهو ذكر قوم من أهل الضلال قد كان أخذ في ذمهم ونعى عليهم عيوبهم . وأرز المؤمنون أي انقبضوا والمضارع يأرز بالكسر أرزا وأروزا ورجل أروز أي منقبض و
في الحديث إن الإسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها أي ينضم إليها ويجتمع . ثم قال نحن الشعار والأصحاب يشير إلى نفسه وهو أبدا يأتي بلفظ الجمع ومراده الواحد . والشعار ما يلي الجسد من الثياب فهو أقرب من سائرها إليه ومراده الاختصاص برسول الله ص . والخزنة والأبواب يمكن أن يعني به خزنة العلم وأبواب العلم(1/2588)
لقول رسول الله ص أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد الحكمة فليأت الباب . وقوله فيه خازن علمي وقال تارة أخرى عيبة علمي ويمكن أن يريد خزنة الجنة وأبواب الجنة أي لا يدخل الجنة إلا من وافى بولايتنا فقد جاء في حقه الخبر الشائع المستفيض أنه قسيم النار والجنة وذكر أبو عبيد الهروي في الجمع بين الغريبين أن قوما من أئمة العربية فسروه فقالوا لأنه لما كان محبه من أهل الجنة ومبغضه من أهل النار كأنه بهذا الاعتبار قسيم النار والجنة قال أبو عبيد وقال غير هؤلاء بل هو قسيمها بنفسه في الحقيقة يدخل قوما إلى الجنة وقوما إلى النار وهذا الذي ذكره أبو عبيد أخيرا هو ما يطابق الأخبار الواردة فيه يقول للنار هذا لي فدعيه وهذا لك فخذيه . ثم ذكر أن البيوت لا تؤتى إلا من أبوابها قال الله تعالى وَ لَيْسَ اَلْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا
[ 166 ]
اَلْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنِ اِتَّقى وَ أْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها . ثم قال من أتاها من غير أبوابها سمي سارقا وهذا حق ظاهرا وباطنا أما الظاهر فلأن من يتسور البيوت من غير أبوابها هو السارق وأما الباطن فلأن من طلب العلم من غير أستاذ محقق فلم يأته من بابه فهو أشبه شي ء بالسارق(1/2589)
ذكر الأحاديث والأخبار الواردة في فضائل علي
و اعلم أن أمير المؤمنين ع لو فخر بنفسه وبالغ في تعديد مناقبه وفضائله بفصاحته التي آتاه الله تعالى إياها واختصه بها وساعده على ذلك فصحاء العرب كافة لم يبلغوا إلى معشار ما نطق به الرسول الصادق ص في أمره ولست أعني بذلك الأخبار العامة الشائعة التي يحتج بها الإمامية على إمامته كخبر الغدير والمنزلة وقصة براءة وخبر المناجاة وقصة خيبر وخبر الدار بمكة في ابتداء الدعوة ونحو ذلك بل الأخبار الخاصة التي رواها فيه أئمة الحديث التي لم يحصل أقل القليل منها لغيره وأنا أذكر من ذلك شيئا يسيرا مما رواه علماء الحديث الذين لا يتهمون فيه وجلهم قائلون بتفضيل غيره عليه فروايتهم فضائله توجب من سكون النفس ما لا يوجبه رواية غيرهم .
الخبر الأول يا علي إن الله قد زينك بزينة لم يزين العباد بزينة أحب إليه منها هي زينة الأبرار عند الله تعالى الزهد في الدنيا جعلك لا ترزأ من الدنيا شيئا ولا ترزأ الدنيا منك شيئا ووهب لك حب المساكين فجعلك ترضى بهم أتباعا ويرضون بك إماما
[ 167 ]
رواه أبو نعيم الحافظ في كتابه المعروف ب حلية الأولياء وزاد فيه أبو عبد الله أحمد بن حنبل في المسند فطوبى لمن أحبك وصدق فيك وويل لمن أبغضك وكذب فيك
الخبر الثاني قال لوفد ثقيف لتسلمن أو لأبعثن إليكم رجلا مني أو قال عديل نفسي فليضربن أعناقكم وليسبين ذراريكم وليأخذن أموالكم قال عمر فما تمنيت الإمارة إلا يومئذ وجعلت أنصب له صدري رجاء أن يقول هو هذا فالتفت فأخذ بيد علي وقال هو هذا مرتين . رواه أحمد في المسند و
رواه في كتاب فضائل علي ع أنه قال لتنتهن يا بني وليعة أو لأبعثن إليكم رجلا كنفسي يمضي فيكم أمري يقتل المقاتلة ويسبي الذرية
قال أبو ذر فما راعني إلا برد كف عمر في حجزتي من خلفي يقول من تراه يعني فقلت إنه لا يعنيك وإنما يعني خاصف النعل وإنه قال هو هذا(1/2590)
الخبر الثالث إن الله عهد إلي في علي عهدا فقلت يا رب بينه لي قال اسمع إن عليا راية الهدى وإمام أوليائي ونور من أطاعني وهو الكلمة التي ألزمتها المتقين من أحبه فقد أحبني ومن أطاعه فقد أطاعني فبشره بذلك فقلت قد بشرته يا رب فقال أنا عبد الله وفي قبضته فإن يعذبني فبذنوبي لم يظلم شيئا وإن يتم لي ما وعدني فهو أولى وقد دعوت له فقلت اللهم اجل قلبه واجعل ربيعه الإيمان بك قال قد فعلت ذلك غير أني مختصه بشي ء من البلاء لم أختص به أحدا من أوليائي فقلت رب أخي وصاحبي قال إنه سبق في علمي أنه لمبتل ومبتلى
[ 168 ]
ذكره أبو نعيم الحافظ في حلية الأولياء عن أبي برزة الأسلمي ثم رواه بإسناد آخر بلفظ آخر عن أنس بن مالك أن رب العالمين عهد في علي إلي عهدا أنه راية الهدى ومنار الإيمان وإمام أوليائي ونور جميع من أطاعني إن عليا أميني غدا في القيامة وصاحب رايتي بيد علي مفاتيح خزائن رحمة ربي
الخبر الرابع من أراد أن ينظر إلى نوح في عزمه وإلى آدم في علمه وإلى إبراهيم في حلمه وإلى موسى في فطنته وإلى عيسى في زهده فلينظر إلى علي بن أبي طالب رواه أحمد بن حنبل في المسند ورواه أحمد البيهقي في صحيحه
الخبر الخامس من سره أن يحيا حياتي ويموت ميتتي ويتمسك بالقضيب من الياقوتة التي خلقها الله تعالى بيده ثم قال لها كوني فكانت فليتمسك بولاء علي بن أبي طالب
ذكره أبو نعيم الحافظ في كتاب حلية الأولياء ورواه أبو عبد الله بن حنبل في المسند في كتاب فضائل علي بن أبي طالب وحكاية لفظ أحمد رضي الله عنه من أحب أن يتمسك بالقضيب الأحمر الذي غرسه الله في جنة عدن بيمينه فليتمسك بحب علي بن أبي طالب
الخبر السادس والذي نفسي بيده لو لا أن تقول طوائف من أمتي فيك ما قالت النصارى في ابن مريم لقلت اليوم فيك مقالا لا نمر بملإ من المسلمين إلا أخذوا التراب من تحت قدميك للبركة ذكره أبو عبد الله أحمد بن حنبل في المسند(1/2591)
الخبر السابع خرج ص على الحجيج عشية عرفة فقال لهم إن الله قد
[ 169 ]
باهى بكم الملائكة عامة وغفر لكم عامة وباهى بعلي خاصة وغفر له خاصة إني قائل لكم قولا غير محاب فيه لقرابتي إن السعيد كل السعيد حق السعيد من أحب عليا في حياته وبعد موته رواه أبو عبد الله أحمد بن حنبل في كتاب فضائل علي ع وفي المسند أيضا
الخبر الثامن رواه أبو عبد الله أحمد بن حنبل في الكتابين المذكورين أنا أول من يدعى به يوم القيامة فأقوم عن يمين العرش في ظله ثم أكسى حلة ثم يدعى بالنبيين بعضهم على أثر بعض فيقومون عن يمين العرش ويكسون حللا ثم يدعى بعلي بن أبي طالب لقرابته مني ومنزلته عندي ويدفع إليه لوائي لواء الحمد آدم ومن دونه تحت ذلك اللواء ثم قال لعلي فتسير به حتى تقف بيني وبين إبراهيم الخليل ثم تكسى حلة وينادي مناد من العرش نعم العبد أبوك إبراهيم ونعم الأخ أخوك علي أبشر فإنك تدعى إذا دعيت وتكسى إذا كسيت وتحيا إذا حييت
الخبر التاسع يا أنس اسكب لي وضوءا ثم قام فصلى ركعتين ثم قال أول من يدخل عليك من هذا الباب إمام المتقين وسيد المسلمين ويعسوب الدين وخاتم الوصيين وقائد الغر المحجلين قال أنس فقلت اللهم اجعله رجلا من الأنصار وكتبت دعوتي فجاء علي فقال ص من جاء يا أنس فقلت علي فقام إليه مستبشرا فاعتنقه ثم جعل يمسح عرق وجهه فقال علي يا رسول الله صلى الله عليك وآلك لقد رأيت منك اليوم تصنع بي شيئا ما صنعته بي قبل قال وما يمنعني وأنت تؤدي عني وتسمعهم صوتي وتبين لهم ما اختلفوا فيه بعدي : رواه أبو نعيم الحافظ في حلية الأولياء :
[ 170 ](1/2592)
الخبر العاشر ادعوا لي سيد العرب عليا فقالت عائشة أ لست سيد العرب فقال أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب فلما جاء أرسل إلى الأنصار فأتوه فقال لهم يا معشر الأنصار أ لا أدلكم على ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدا قالوا بلى يا رسول الله قال هذا علي فأحبوه بحبي وأكرموه بكرامتي فإن جبرائيل أمرني بالذي قلت لكم عن الله عز وجل رواه الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء
الخبر الحادي عشر مرحبا بسيد المؤمنين وإمام المتقين فقيل لعلي ع كيف شكرك فقال أحمد الله على ما آتاني وأسأله الشكر على ما أولاني وأن يزيدني مما أعطاني ذكره صاحب الحلية أيضا
الخبر الثاني عشر من سره أن يحيا حياتي ويموت مماتي ويسكن جنة عدن التي غرسها ربي فليوال عليا من بعدي وليوال وليه وليقتد بالأئمة من بعدي فإنهم عترتي خلقوا من طينتي ورزقوا فهما وعلما فويل للمكذبين من أمتي القاطعين فيهم صلتي لا أنالهم الله شفاعتي ذكره صاحب الحلية أيضا
الخبر الثالث عشر بعث رسول الله ص خالد بن الوليد في سرية وبعث عليا ع في سرية أخرى وكلاهما إلى اليمن وقال إن اجتمعتما فعلي على الناس وإن افترقتما فكل واحد منكما على جنده فاجتمعا وأغارا وسبيا نساء وأخذا أموالا وقتلا ناسا وأخذ علي جارية فاختصها لنفسه فقال خالد لأربعة من المسلمين منهم بريدة الأسلمي اسبقوا إلى رسول الله ص فاذكروا له كذا واذكروا
[ 171 ]
له كذا لأمور عددها على علي فسبقوا إليه فجاء واحد من جانبه فقال إن عليا فعل كذا فأعرض عنه فجاء الآخر من الجانب الآخر فقال إن عليا فعل كذا فأعرض عنه فجاء بريدة الأسلمي فقال يا رسول الله إن عليا فعل ذلك فأخذ جارية لنفسه فغضب ص حتى احمر وجهه وقال دعوا لي عليا يكررها إن عليا مني وأنا من علي وإن حظه في الخمس أكثر مما أخذ وهو ولي كل مؤمن من بعدي رواه أبو عبد الله أحمد في المسند غير مرة ورواه في كتاب فضائل علي ورواه أكثر المحدثين(1/2593)
الخبر الرابع عشر كنت أنا وعلي نورا بين يدي الله عز وجل قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام فلما خلق آدم قسم ذلك فيه وجعله جزءين فجزء أنا وجزء علي رواه أحمد في المسند وفي كتاب فضائل علي ع و
ذكره صاحب كتاب الفردوس وزاد فيه ثم انتقلنا حتى صرنا في عبد المطلب فكان لي النبوة ولعلي الوصية
الخبر الخامس عشر النظر إلى وجهك يا علي عبادة أنت سيد في الدنيا وسيد في الآخرة من أحبك أحبني وحبيبي حبيب الله وعدوك عدوي وعدوي عدو الله الويل لمن أبغضك رواه أحمد في المسند قال وكان ابن عباس يفسره ويقول إن من ينظر إليه يقول سبحان الله ما أعلم هذا الفتى سبحان الله ما أشجع هذا الفتى سبحان الله ما أفصح هذا الفتى
[ 172 ]
الحديث السادس عشر لما كانت ليلة بدر قال رسول الله ص من يستقي لنا ماء فأحجم الناس فقام علي فاحتضن قربة ثم أتى بئرا بعيدة القعر مظلمة فانحدر فيها فأوحى الله إلى جبريل وميكائيل وإسرافيل أن تأهبوا لنصر محمد وأخيه وحزبه فهبطوا من السماء لهم لغط يذعر من يسمعه فلما حاذوا البئر سلموا عليه من عند آخرهم إكراما له وإجلالا
رواه أحمد في كتاب فضائل علي ع وزاد فيه في طريق أخرى عن أنس بن مالك لتؤتين يا علي يوم القيامة بناقة من نوق الجنة فتركبها وركبتك مع ركبتي وفخذك مع فخذي حتى تدخل الجنة
الحديث السابع عشر خطب ص يوم جمعة فقال أيها الناس قدموا قريشا ولا تقدموها وتعلموا منها ولا تعلموها قوة رجل من قريش تعدل قوة رجلين من غيرهم وأمانة رجل من قريش تعدل أمانة رجلين من غيرهم أيها الناس أوصيكم بحب ذي قرباها أخي وابن عمي علي بن أبي طالب لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق من أحبه فقد أحبني ومن أبغضه فقد أبغضني ومن أبغضني عذبه الله بالنار رواه أحمد رضي الله عنه في كتاب فضائل علي ع(1/2594)
الحديث الثامن عشر الصديقون ثلاثة حبيب النجار الذي جاء من أقصى المدينة يسعى ومؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه وعلي بن أبي طالب وهو أفضلهم رواه أحمد في كتاب فضائل علي ع
الحديث التاسع عشر أعطيت في علي خمسا هن أحب إلي من الدنيا وما فيها أما واحدة فهو كاب بين يدي الله عز وجل حتى يفرغ من حساب الخلائق وأما الثانية
[ 173 ]
فلواء الحمد بيده آدم ومن ولد تحته وأما الثالثة فواقف على عقر حوضي يسقي من عرف من أمتي وأما الرابعة فساتر عورتي ومسلمي إلى ربي وأما الخامسة فإني لست أخشى عليه أن يعود كافرا بعد إيمان ولا زانيا بعد إحصان رواه أحمد في كتاب الفضائل
الحديث العشرون كانت لجماعة من الصحابة أبواب شارعة في مسجد الرسول ص فقال ع يوما سدوا كل باب في المسجد إلا باب علي فسدت فقال في ذلك قوم حتى بلغ رسول الله ص فقام فيهم فقال إن قوما قالوا في سد الأبواب وتركي باب علي إني ما سددت ولا فتحت ولكني أمرت بأمر فاتبعته رواه أحمد في المسند مرارا وفي كتاب الفضائل
الحديث الحادي والعشرون دعا ص عليا في غزاة الطائف فانتجاه وأطال نجواه حتى كره قوم من الصحابة ذلك فقال قائل منهم لقد أطال اليوم نجوى ابن عمه فبلغه ع ذلك فجمع منهم قوما ثم قال إن قائلا قال لقد أطال اليوم نجوى ابن عمه أما إني ما انتجيته ولكن الله انتجاه رواه أحمد رحمه الله في المسند
الحديث الثاني والعشرون أخصمك يا علي بالنبوة فلا نبوة بعدي وتخصم الناس بسبع لا يجاحد فيها أحد من قريش أنت أولهم إيمانا بالله وأوفاهم بعهد الله وأقومهم بأمر الله وأقسمهم بالسوية وأعدلهم في الرعية وأبصرهم بالقضية وأعظمهم عند الله مزية
[ 174 ]
رواه أبو نعيم الحافظ في حلية الأولياء(1/2595)
الخبر الثالث والعشرون قالت فاطمة إنك زوجتني فقيرا لا مال له فقال زوجتك أقدمهم سلما وأعظمهم حلما وأكثرهم علما أ لا تعلمين أن الله اطلع إلى الأرض اطلاعة فاختار منها أباك ثم اطلع إليها ثانية فاختار منها بعلك رواه أحمد في المسند
الحديث الرابع والعشرون لما أنزل إِذا جاءَ نَصْرُ اَللَّهِ وَ اَلْفَتْحُ بعد انصرافه ع من غزاة حنين جعل يكثر من سبحان الله أستغفر الله ثم قال يا علي إنه قد جاء ما وعدت به جاء الفتح ودخل الناس في دين الله أفواجا وإنه ليس أحد أحق منك بمقامي لقدمك في الإسلام وقربك مني وصهرك وعندك سيدة نساء العالمين وقبل ذلك ما كان من بلاء أبي طالب عندي حين نزل القرآن فأنا حريص على أن أراعي ذلك لولده رواه أبو إسحاق الثعلبي في تفسير القرآن : . واعلم أنا إنما ذكرنا هذه الأخبار هاهنا لأن كثيرا من المنحرفين عنه ع إذا مروا على كلامه في نهج البلاغة وغيره المتضمن التحدث بنعمة الله عليه من اختصاص الرسول له ص وتميزه إياه عن غيره ينسبونه إلى التيه والزهو والفخر ولقد سبقهم بذلك قوم من الصحابة قيل لعمر ول عليا أمر الجيش والحرب فقال هو أتيه من ذلك وقال زيد بن ثابت ما رأينا أزهى من علي وأسامة . فأردنا بإيراد هذه الأخبار هاهنا عند تفسير قوله نحن الشعار والأصحاب ونحن الخزنة والأبواب أن ننبه على عظم منزلته عند الرسول ص وأن من قيل
[ 175 ](1/2596)
في حقه ما قيل لو رقي إلى السماء وعرج في الهواء وفخر على الملائكة والأنبياء تعظما وتبجحا لم يكن ملوما بل كان بذلك جديرا فكيف وهو ع لم يسلك قط مسلك التعظم والتكبر في شي ء من أقواله ولا من أفعاله وكان ألطف البشر خلقا وأكرمهم طبعا وأشدهم تواضعا وأكثرهم احتمالا وأحسنهم بشرا وأطلقهم وجها حتى نسبه من نسبه إلى الدعابة والمزاح وهما خلقان ينافيان التكبر والاستطالة وإنما كان يذكر أحيانا ما يذكره من هذا النوع نفثة مصدور وشكوى مكروب وتنفس مهموم ولا يقصد به إذا ذكره إلا شكر النعمة وتنبيه الغافل على ما خصه الله به من الفضيلة فإن ذلك من باب الأمر بالمعروف والحض على اعتقاد الحق والصواب في أمره والنهي عن المنكر الذي هو تقديم غيره عليه في الفضل فقد نهى الله سبحانه عن ذلك فقال أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ : مِنْهَا فِيهِمْ كَرَائِمُ اَلْإِيمَانِ وَ هُمْ كُنُوزُ اَلرَّحْمَنِ إِنْ نَطَقُوا صَدَقُوا وَ إِنْ صَمَتُوا لَمْ يُسْبَقُوا فَلْيَصْدُقْ رَائِدٌ أَهْلَهُ وَ لْيُحْضِرْ عَقْلَهُ وَ لْيَكُنْ مِنْ أَبْنَاءِ اَلآْخِرَةِ فَإِنَّهُ مِنْهَا قَدِمَ وَ إِلَيْهَا يَنْقَلِبُ فَالنَّاظِرُ بِالْقَلْبِ اَلْعَامِلُ بِالْبَصَرِ يَكُونُ مُبْتَدَأُ عَمَلِهِ أَنْ يَعْلَمَ أَ عَمَلُهُ عَلَيْهِ أَمْ لَهُ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَضَى فِيهِ وَ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ وَقَفَ عَنْهُ فَإِنَّ اَلْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ فَلاَ يَزِيدُهُ بُعْدُهُ عَنِ اَلطَّرِيقِ اَلْوَاضِحِ
[ 176 ](1/2597)
إِلاَّ بُعْداً مِنْ حَاجَتِهِ وَ اَلْعَامِلُ بِالْعِلْمِ كَالسَّائِرِ عَلَى اَلطَّرِيقِ اَلْوَاضِحِ فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ أَ سَائِرٌ هُوَ أَمْ رَاجِعٌ قوله فيهم يرجع إلى آل محمد ص الذين عناهم بقوله نحن الشعار والأصحاب وهو يطلق دائما هذه الصيغ الجمعية ويعني نفسه وفي القرآن كثير من ذلك نحو قوله تعالى اَلَّذِينَ قالَ لَهُمُ اَلنَّاسُ إِنَّ اَلنَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَ قالُوا حَسْبُنَا اَللَّهُ وَ نِعْمَ اَلْوَكِيلُ . وكرائم الإيمان جمع كريمة وهي المنفسات منه قال الشاعر
ماض من العيش لو يفدى بذلت له
كرائم المال من خيل ومن نعم
فإن قلت أ يكون في الإيمان كرائم وغير كرائم قلت نعم لأن الإيمان عند أكثر أصحابنا اسم للطاعات كلها واجبها ونفلها فمن كانت نوافله أكثر كانت كرائم الإيمان عنده أكثر ومن قام بالواجبات فقط من غير نوافل كان عنده الإيمان ولم يكن عنده كرائم الإيمان . فإن قلت فعلى هذا تكون النوافل أكرم من الواجبات . قلت هي أكرم منها باعتبار والواجبات أكرم منها باعتبار آخر أما الأول فلأن صاحبها إذا كان قد قام بالواجبات كان أعلى مرتبة في الجنة ممن اقتصر على الواجبات فقط وأما الثاني فلأن المخل بها لا يعاقب والمخل بالواجبات يعاقب . قوله وهم كنوز الرحمن لأن الكنز مال يدخر لشديدة أو ملمة تلم بالإنسان وكذلك هؤلاء قد ذخروا لإيضاح المشكلات الدينية على المكلفين .
[ 177 ]
ثم قال إن نطقوا صدقوا وإن سكتوا لم يكن سكوتهم عن عي يوجب كونهم مسبوقين لكنهم ينطقون حكما ويصمتون حلما . ثم أمر ع بالتقوى والعمل الصالح وقال ليصدق رائد أهله الرائد الذاهب من الحي يرتاد لهم المرعى وفي أمثالهم الرائد لا يكذب أهله والمعنى أنه ع أمر الإنسان بأن يصدق نفسه ولا يكذبها بالتسويف والتعليل قال الشاعر
أخي إذا خاصمت نفسك فاحتشد
لها وإذا حدثت نفسك فاصدق(1/2598)
و في المثل المتشبع بما لا يملك كلابس ثوبي زور . فإنه منها قدم قد قيل إن الله تعالى خلق أرواح البشر قبل أجسادهم والخبر في ذلك مشهور والآية أيضا وهي قوله وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ويمكن أن يفسر على وجه آخر وذلك أن الآخرة اليوم عدم محض والإنسان قدم من العدم وإلى العدم ينقلب فقد صح أنه قدم من الآخرة ويرجع إلى الآخرة . وروي أن العالم بالبصر أي بالبصيرة فيكون هو وقوله فالناظر بالقلب سواء وإنما قاله تأكيدا وعلى هذا الوجه لا يحتاج إلى تفسير وتأويل فأما الرواية المشهورة فالوجه في تفسيرها أن يكون قوله فالناظر مبتدأ والعامل صفة له وقوله بالبصر يكون مبتدأ عمله جملة مركبة من مبتدأ وخبر موضعها رفع لأنها خبر المبتدأ الذي هو فالناظر وهذه الجملة المذكورة قد دخلت عليها كان فالجار والمجرور وهو الكلمة الأولى منها منصوبة الموضع لأنها خبر كان ويكون قوله فيما بعد أن يعلم منصوب
[ 178 ]
الموضع لأنه بدل من البصر الذي هو خبر يكون والمراد بالبصر هاهنا البصيرة فيصير تقدير الكلام فالناظر بقلبه العامل بجوارحه يكون مبتدأ عمله بالفكر والبصيرة بأن يعلم أ عمله له أم عليه . ويروى كالسابل على غير طريق والسابل طالب السبيل و(1/2599)
قد جاء في الخبر المرفوع من عمل بغير هدى لم يزدد من الله إلا بعدا وفي كلام الحكماء العامل بغير علم كالرامي من غير وتر : وَ اِعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ ظَاهِرٍ بَاطِناً عَلَى مِثَالِهِ فَمَا طَابَ ظَاهِرُهُ طَابَ بَاطِنُهُ وَ مَا خَبُثَ ظَاهِرُهُ خَبُثَ بَاطِنُهُ وَ قَدْ قَالَ اَلرَّسُولُ اَلصَّادِقُ ص إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلْعَبْدَ وَ يُبْغِضُ عَمَلَهُ وَ يُحِبُّ اَلْعَمَلَ وَ يُبْغِضُ بَدَنَهُ هذا الكلام مشتق من قوله تعالى وَ اَلْبَلَدُ اَلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ اَلَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً وهو تمثيل ضربه الله تعالى لمن ينجع فيه الوعظ والتذكير من البشر ولمن لا يؤثر ذلك فيه مثله بالأرض العذبة الطيبة تخرج النبت والأرض السبخة الخبيثة لا تنبت وكلام أمير المؤمنين ع إلى هذا المعنى يومئ يقول إن لكلتا حالتي الإنسان الظاهرة أمرا باطنا يناسبها من أحواله والحالتان الظاهرتان ميله إلى العقل وميله إلى الهوى فالمتبع لمقتضى عقله يرزق السعادة والفوز فهذا هو الذي طاب
[ 179 ](1/2600)
ظاهره وطاب باطنه والمتبع لمقتضى هواه وعادته ودين أسلافه يرزق الشقاوة والعطب وهذا هو الذي خبث ظاهره وخبث باطنه . فإن قلت فلم قال فما طاب وهلا قال فمن طاب وكذلك في خبث قلت كلامه في الأخلاق والعقائد وما تنطوي عليه الضمائر يقول ما طاب من هذه الأخلاق والملكات وهي خلق النفس الربانية المريدة للحق من حيث هو حق سواء كان ذلك مذهب الآباء والأجداد أو لم يكن وسواء كان ذلك مستقبحا مستهجنا عند العامة أو لم يكن وسواء نال به من الدنيا حظا أو لم ينل يستطيب باطنه يعني ثمرته وهي السعادة وهذا المعنى من مواضع ما لا من مواضع من . فأما الخبر المروي فإنه مذكور في كتب المحدثين وقد فسره أصحابنا المتكلمون فقالوا إن الله تعالى قد يحب المؤمن ومحبته له إرادة إثابته ويبغض عملا من أعماله وهو ارتكاب صغيرة من الصغائر فإنها مكروهة عند الله وليست قادحة في إيمان المؤمن لأنها تقع مكفرة وكذلك قد يبغض العبد بأن يريد عقابه نحو أن يكون فاسقا لم يتب ويحب عملا من أعماله نحو أن يطيع ببعض الطاعات وحبه لتلك الطاعة هي إرادته تعالى أن يسقط عنه بها بعض ما يستحقه من العقاب المتقدم : وَ اِعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ نَبَاتاً وَ كُلُّ نَبَاتٍ لاَ غِنَى بِهِ عَنِ اَلْمَاءِ وَ اَلْمِيَاهُ مُخْتَلِفَةٌ فَمَا طَابَ سَقْيُهُ طَابَ غَرْسُهُ وَ حَلَتْ ثَمَرَتُهُ وَ مَا خَبُثَ سَقْيُهُ خَبُثَ غَرْسُهُ وَ أَمَرَّتْ ثَمَرَتُهُ
[ 180 ]
السقي مصدر سقيت والسقي بالكسر النصيب من الماء . وأمر الشي ء أي صار مرا . وهذا الكلام مثل في الإخلاص وضده وهو الرياء وحب السمعة فكل عمل يكون مدده الإخلاص لوجهه تعالى لا غير فإنه زاك حلو الجنى وكل عمل يكون الرياء وحب الشهرة مدده فليس بزاك وتكون ثمرته مرة المذاق
[ 181 ](1/2601)
155 ـ ومن خطبة له ع يذكر فيها بديع خلقة الخفاش
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي اِنْحَسَرَتِ اَلْأَوْصَافُ عَنْ كُنْهِ مَعْرِفَتِهِ وَ رَدَعَتْ عَظَمَتُهُ اَلْعُقُولَ فَلَمْ تَجِدْ مَسَاغاً إِلَى بُلُوغِ غَايَةِ مَلَكُوتِهِ هُوَ اَللَّهُ اَلْحَقُّ اَلْمُبِينُ أَحَقُّ وَ أَبْيَنُ مِمَّا تَرَى اَلْعُيُونُ لَمْ تَبْلُغْهُ اَلْعُقُولُ بِتَحْدِيدٍ فَيَكُونَ مُشَبَّهاً وَ لَمْ تَقَعْ عَلَيْهِ اَلْأَوْهَامُ بِتَقْدِيرٍ فَيَكُونَ مُمَثَّلاً خَلَقَ اَلْخَلْقَ عَلَى غَيْرِ تَمْثِيلٍ وَ لاَ مَشُورَةِ مُشِيرٍ وَ لاَ مَعُونَةِ مُعِينٍ فَتَمَّ خَلْقُهُ بِأَمْرِهِ وَ أَذْعَنَ لِطَاعَتِهِ فَأَجَابَ وَ لَمْ يُدَافِعْ وَ اِنْقَادَ وَ لَمْ يُنَازِعْ وَ مِنْ لَطَائِفِ صَنَعْتِهِ وَ عَجَائِبِ خِلْقَتِهِ مَا أَرَانَا مِنْ غَوَامِضِ اَلْحِكْمَةِ فِي هَذِهِ اَلْخَفَافِيشِ اَلَّتِي يَقْبِضُهَا اَلضِّيَاءُ اَلْبَاسِطُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ يَبْسُطُهَا اَلظَّلاَمُ اَلْقَابِضُ لِكُلِّ حَيٍّ وَ كَيْفَ عَشِيَتْ أَعْيُنُهَا عَنْ أَنْ تَسْتَمِدَّ مِنَ اَلشَّمْسِ اَلْمُضِيئَةِ نُوراً تَهْتَدِي بِهِ فِي مَذَاهِبِهَا وَ تَتَّصِلُ بِعَلاَنِيَةِ بُرْهَانِ اَلشَّمْسِ إِلَى مَعَارِفِهَا وَ رَدَعَهَا بِتَلَأْلُؤِ ضِيَائِهَا عَنِ اَلْمُضِيِّ فِي سُبُحَاتِ إِشْرَاقِهَا وَ أَكَنَّهَا فِي مَكَامِنِهَا عَنِ اَلذَّهَابِ فِي بُلَجِ اِئْتِلاَقِهَا وَ هِيَ مُسْدَلَةُ اَلْجُفُونِ بِالنَّهَارِ عَلَى حِدَاقِهَا وَ جَاعِلَةُ اَللَّيْلِ سِرَاجاً تَسْتَدِلُّ بِهِ فِي اِلْتِمَاسِ أَرْزَاقِهَا فَلاَ يَرُدُّ أَبْصَارَهَا إِسْدَافُ ظُلْمَتِهِ وَ لاَ تَمْتَنِعُ مِنَ اَلْمُضِيِّ فِيهِ لِغَسَقِ دُجُنَّتِهِ فَإِذَا أَلْقَتِ اَلشَّمْسُ قِنَاعَهَا وَ بَدَتْ أَوْضَاحُ نَهَارِهَا وَ دَخَلَ مِنْ إِشْرَاقِ نُورِهَا عَلَى اَلضِّبَابِ فِي(1/2602)
وِجَارِهَا أَطْبَقَتِ اَلْأَجْفَانَ عَلَى مَآقِيهَا وَ تَبَلَّغَتْ بِمَا اِكْتَسَبَتْهُ مِنَ اَلْمَعَاشِ فِي ظُلَمِ لَيَالِيهَا
[ 182 ]
فَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ اَللَّيْلَ لَهَا نَهَاراً وَ مَعَاشاً وَ اَلنَّهَارَ سَكَناً وَ قَرَاراً وَ جَعَلَ لَهَا أَجْنِحَةً مِنْ لَحْمِهَا تَعْرُجُ بِهَا عِنْدَ اَلْحَاجَةِ إِلَى اَلطَّيَرَانِ كَأَنَّهَا شَظَايَا اَلآْذَانِ غَيْرَ ذَوَاتِ رِيشٍ وَ لاَ قَصَبٍ إِلاَّ أَنَّكَ تَرَى مَوَاضِعَ اَلْعُرُوقِ بَيِّنَةً أَعْلاَماً لَهَا جَنَاحَانِ لَمَّا يَرِقَّا فَيَنْشَقَّا وَ لَمْ يَغْلُظَا فَيَثْقُلاَ تَطِيرُ وَ وَلَدُهَا لاَصِقٌ بِهَا لاَجِئٌ إِلَيْهَا يَقَعُ إِذَا وَقَعَتْ وَ يَرْتَفِعُ إِذَا اِرْتَفَعَتْ لاَ يُفَارِقُهَا حَتَّى تَشْتَدَّ أَرْكَانُهُ وَ يَحْمِلَهُ لِلنُّهُوضِ جَنَاحُهُ وَ يَعْرِفَ مَذَاهِبَ عَيْشِهِ وَ مَصَالِحَ نَفْسِهِ فَسُبْحَانَ اَلْبَارِئِ لِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ خَلاَ مِنْ غَيْرِهِ الخفاش واحد جمعه خفافيش وهو هذا الطائر الذي يطير ليلا ولا يطير نهارا وهو مأخوذ من الخفش وهو ضعف في البصر خلقة والرجل أخفش وقد يكون علة وهو الذي يبصر بالليل لا بالنهار أو في يوم غيم لا في يوم صحو . وانحسرت الأوصاف كلت وأعيت وردعت كفت والمساغ المسلك . قال أحق وأبين مما ترى العيون وذلك لأن العلوم العقلية إذا كانت ضرورية أو قريبة من الضرورية كانت أوثق من المحسوسات لأن الحس يغلط دائما فيرى الكبير صغيرا كالبعيد والصغير كبيرا كالعنبة في الماء ترى كالإجاصة ويرى الساكن متحركا كجرف الشط إذا رآه راكب السفينة متصاعدا ويرى المتحرك ساكنا كالظل إلى غير ذلك من الأغاليط والقضايا العقلية الموثوق بها لأنها بديهية أو تكاد فالغلط غير داخل عليها قوله يقبضها الضياء أي يقبض أعينها . قوله وتتصل بعلانية برهان الشمس كلام جيد في(1/2603)
مذاهب الاستعارة .
[ 183 ]
و سبحات إشراقها جلاله وبهاؤه وأكنها سترها وبلج ائتلافها جمع بلجة وهي أول الصبح وجاء بلجة أيضا بالفتح . والحداق جمع حدقة العين والإسداف مصدر أسدف الليل أظلم . وغسق الدجنة ظلام الليل فإذا ألقت الشمس قناعها أي سفرت عن وجهها وأشرقت . والأوضاح جمع وضح وقد يراد به حلي يعمل من الدراهم الصحاح وقد يراد به الدراهم الصحاح نفسها وإن لم يكن حليا والضباب جمع ضب ووجارها بيتها وشظايا الآذان أقطاع منها والقصب هاهنا الغضروف . وخلاصة الخطبة التعجب من أعين الخفافيش التي تبصر ليلا ولا تبصر نهارا وكل الحيوانات بخلاف ذلك فقد صار الليل لها معاشا والنهار لها سكنا بعكس الحال فيما عداها ثم من أجنحتها التي تطير بها وهي لحم لا ريش عليه ولا غضروف وليست رقيقة فتنشق ولا كثيفة فتثقلها عن الطيران ثم من ولدها إذا طارت احتملته وهو لاصق بها فإذا وقعت وقع ملتصقا بها هكذا إلى أن يشتد ويقوى على النهوض فيفارقها(1/2604)
فصل في ذكر بعض غرائب الطيور وما فيها من عجائب
و اعلم أنه ع قد أتى بالعلة الطبيعية في عدم إبصارها نهارا وهو انفعال حاسة بصرها عن الضوء الشديد وقد يعرض مثل ذلك لبعض الناس وهو المرض المسمى روز كور أي أعمى النهار ويكون ذلك عن إفراط التحلل في الروح النوري فإذا لقي حر النهار أصابه قمر ثم يستدرك ذلك برد الليل فيزول فيعود الإبصار .
[ 184 ]
و أما طيرانها من غير ريش فإنه ليس بذلك الطيران الشديد وإنما هو نهوض وخفة أفادها الله تعالى إياه بواسطة الطبيعة والتصاق الولد بها لأنها تضمه إليها بالطبع وينضم إليها كذلك وتستعين على ضمه برجليها وبقصر المسافة وجملة الأمر أنه تعجب من عجيب وفي الأحاديث العامية قيل للخفاش لما ذا لا جناح لك قال لأني تصوير مخلوق قيل فلما ذا لا تخرج نهارا قال حياء من الطيور يعنون أن المسيح ع صوره وأن إليه الإشارة بقوله تعالى وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي . وفي الطير عجائب وغرائب لا تهتدي العقول إليها ويقال إن ضربين من الحيوان أصمان لا يسمعان وهما النعام والأفاعي . وتقول العرب إن الظليم يسمع بعينه وأنفه لا يحتاج معهما إلى حاسة أخرى والكراكي يجمعها أمير لها كيعسوب النحل ولا يجمعها إلا أزواجا والعصافير آلفة للناس آنسة بهم لا تسكن دارا حتى يسكنها إنسان ومتى سكنتها لم تقم فيها إذا خرج الإنسان منها فبفراقه تفارق وبسكناه تسكن ويذكر أهل البصرة أنه إذا كان زمن الخروج إلى البساتين لم يبق في البصرة عصفور إلا خرج إليها إلا ما أقام على بيضه وفراخه وقد يدرب العصفور فيستجيب من المكان البعيد ويرجع . وقال شيخنا أبو عثمان بلغني أنه درب فيرجع من ميل وليس في الأرض رأس أشبه برأس الحية من رأس العصفور وليس في الحيوان الذي يعايش الناس أقصر عمرا منه قيل لأجل السفاد الذي يستكثر منه و(1/2605)
يتميز الذكر من الأنثى في العصافير تميز الديك
[ 185 ]
من الدجاجة لأن له لحية ولا شي ء أحنى على ولده منه وإذا عرض له شي ء صاح فأقبلت إليه العصافير يساعدنه وليس لشي ء في مثل جسم العصفور من شدة وطئه إذا مشى أو على السطح ما للعصفور فإنك إذا كنت تحت السطح ووقع حسبت وقعته وقعة حجر وذكور العصافير لا تعيش إلا سنة وكثيرا ما تجلب الحيات إلى المنازل لأن الحيات تتبعها حرصا على ابتلاع بيضها وفراخها . ويقال إن الدجاجة إذا باضت بيضتين في يوم واحد وتكرر ذلك ماتت وإذا هرمت الدجاجة لم يكن لأواخر ما تبيضه صفرة وإذا لم يكن للبيضة مح لم يخلق فيها فروج لأن غذاءه المح ما دام في البيضة وقد يكون للبيضة محان فتنفقص عن فروجين يخلقان من البياض ويغتذيان بالمحين لأن الفراريج تخلق من البياض وتغتذي بالصفرة وكل ديك فإنه يلتقط الحبة فيحذف بها إلى الدجاجة سماحا وإيثارا ولهذا قالوا أسمح من لاقطة يعنون الديكة إلا ديكة مرو بخراسان فإنها تطرد دجاجها عن الحب وتنزعه من أفواهها فتبتلعه . والحمامة بلهاء وفي أمثالهم أحمق من حمامة وهي مع حمقها مهتدية إلى مصالح نفسها وفراخها . قال ابن الأعرابي قلت لشيخ من العرب من علمك هذا قال علمني الذي علم الحمامة على بلهها تقليب بيضها كي تعطي الوجهين جميعا نصيبهما من الحضن . والهداية في الحمام لا تكون إلا في الخضر والسمر فأما الأسود الشديد السواد فهو كالزنجي القليل المعرفة والأبيض ضعيف القوة وإذا خرج الجوزل عن بيضته علم أبواه أن حلقه لا يتسع للغذاء فلا يكون لهما هم إلا أن ينفخا في حلقه الريح لتتسع حوصلته بعد التحامها ثم يعلمن أنه لا يحتمل في أول اغتذائه أن يزق بالطعم فيزقانه باللعاب المختلط
[ 186 ](1/2606)
بقواهما وقوى الطعم ثم يعلمان أن حوصلته تحتاج إلى دباغ فيأكلان من شورج أصول الحيطان وهو شي ء من الملح الخالص والتراب فيزقانه به فإذا علما أنه قد اندبغ زقاه بالحب الذي قد غب في حواصلهما ثم بالذي هو أطرى فأطرى حتى يتعود فإذا علما أنه قد أطاق اللقط منعاه بعض المنع ليحتاج ويتشوف فتطلبه نفسه ويحرص عليه فإذا فطماه وبلغا منتهى حاجته إليهما نزع الله تلك الرحمة منهما وأقبل بهما على طلب نسل آخر . ويقال إن حية أكلت بيض مكاء فجعل المكاء يشرشر على رأسها ويدنو منها حتى دلعت الحية لسانها وفتحت فاها تريده وتهم به فألقى فيها حسكة فأخذت بحلقها حتى ماتت . ومن دعاء الصالحين يا رزاق النعاب في عشه وذلك أن الغراب إذا فقص عن فراخه فقص عنها بيض الألوان فينفر عنها ولا يزقها فتنفتح أفواهها فيأتيها ذباب يتساقط في أفواهها فيكون غذاءها إلى أن تسود فينقطع الذباب عنها ويعود الغراب إليها فيأنس بها ويغذيها . والحبارى تدبق جناح الصقر بذرقها ثم يجتمع عليه الحباريات فينتفن ريشه طاقة طاقة حتى يموت ولذلك يحاول الحبارى العلو عليه ويحاول هو العلو عليها ولا يتجاسر أن يدنو منها متسفلا عنها ويقال إن الحبارى تموت كمدا إذا انحسر عنها ريشها ورأت صويحباتها تطير .
[ 187 ](1/2607)
و كل الطير يتسافد بالأستاه إلا الحجل فإن الحجلة تكون في سفالة الريح واليعقوب في علاوتها فتلقح منه كما تلقح النخلة من الفحال بالريح . والحبارى شديد الحمق يقال إنها أحمق الطير وهي أشد حياطة لبيضها وفراخها . والعقعق مع كونه أخبث الطير وأصدقها خبثا وأشدها حذرا ليس في الأرض طائر أشد تضييعا لبيضه وفراخه منه . ومن الطير ما يؤثر التفرد كالعقاب ومنه ما يتعايش زوجا كالقطا . والظليم يبتلع الحديد المحمى ثم يميعه في قانصته حتى يحيله كالماء الجاري وفي ذلك أعجوبتان التغذي بما لا يغذى به واستمراؤه وهضمه شيئا لو طبخ بالنار أبدا لما انحل . وكما سخر الحديد لجوف الظليم فأحاله سخر الصخر الأصم لأذناب الجراد إذا أراد أن يلقي بيضه غرس ذنبه في أشد الأرض صلابة فانصدع له وذلك من فعل الطبيعة بتسخير الصانع القديم سبحانه كما أن عود الحلفاء الرخو الدقيق المنبت يلقى في نباته الآجر والخزف الغليظ فيثقبه . وقد رأيت في مسناة سور بغداد في حجر صلد نبعة نبات قد شقت وخرجت من موضع لو حاول جماعة أن يضربوه بالبيارم الشديدة مدة طويلة لم يؤثر فيه أثرا . وقد قيل إن إبرة العقرب أنفذ في الطنجير والطست . وفي الظليم شبه من البعير من جهة المنسم والوظيف والعنق والخزامة التي في أنفه
[ 188 ](1/2608)
و شبه من الطائر من جهة الريش والجناحين والذنب والمنقار ثم إن ما فيه من شبه الطير جذبه إلى البيض وما فيه من شبه البعير لم يجذبه إلى الولادة . ويقال إن النعامة مع عظم عظامها وشدة عدوها لا مخ فيها وأشد ما يكون عدوها أن تستقبل الريح فكلما كان أشد لعصوفها كان أشد لحضرها تضع عنقها على ظهرها ثم تخرق الريح ومن أعاجيبها أن الصيف إذا دخل وابتدأ البسر في الحمرة ابتدأ لون وظيفها في الحمرة فلا يزالان يزدادان حمرة إلى أن تنتهي حمرة البسر ولذلك قيل للظليم خاضب ومن العجب أنها لا تأنس بالطير ولا بالإبل مع مشاكلتها للنوعين ولا يكاد يرى بيضها مبددا البتة بل تصفه طولا صفا مستويا على غاية الاستواء حتى لو مددت عليه خيط المسطر لما وجدت لبعضه خروجا عن البعض ثم تعطي لكل واحدة نصيبها من الحضن . والذئب لا يعرض لبيض النعام ما دام الأبوان حاضرين فإنهما متى نقفاه ركبه الذكر فطحره وأدركته الأنثى فركضته ثم أسلمته إلى الذكر وركبته عوضه فلا يزالان يفعلان به ذلك حتى يقتلاه أو يعجزهما هربا والنعام قد يتخذ في الدور وضرره شديد لأن النعامة ربما رأت في أذن الجارية قرطا فيه حجر أو حبة لؤلؤ فخطفته وأكلته وخرمت الأذن أو رأت ذلك في لبتها فضربت بمنقارها اللبة فخرقتها
[ 189 ](1/2609)
156 ـ ومن كلام له ع خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم
فَمَنِ اِسْتَطَاعَ عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ يَعْتَقِلَ نَفْسَهُ عَلَى اَللَّهِ فَلْيَفْعَلْ وَ إِنْ أَطَعْتُمُونِي فَإِنِّي حَامِلُكُمْ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ عَلَى سَبِيلِ اَلْجَنَّةِ وَ إِنْ كَانَ ذَا مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ وَ مَذَاقَةٍ مَرِيرَةٍ وَ أَمَّا فُلاَنَةُ فَأَدْرَكَهَا رَأْيُ اَلنِّسَاءِ وَ ضِغْنٌ غَلاَ فِي صَدْرِهَا كَمِرْجَلِ اَلْقَيْنِ وَ لَوْ دُعِيَتْ لِتَنَالَ مِنْ غَيْرِي مَا أَتَتْ إِلَيَّ لَمْ تَفْعَلْ وَ لَهَا بَعْدُ حُرْمَتُهَا اَلْأَوْلَى وَ اَلْحِسَابُ عَلَى اَللَّهِ يعتقل نفسه على الله يحبسها على طاعته ثم ذكر أن السبيل التي حملهم عليها وهي سبيل الرشاد ذات مشقة شديدة ومذاقة مريرة لأن الباطل محبوب النفوس فإنه اللهو واللذة وسقوط التكليف وأما الحق فمكروه النفس لأن التكليف صعب وترك الملاذ العاجلة شاق شديد المشقة . والضغن الحقد والمرجل قدر كبيرة والقين الحداد أي كغليان قدر من حديد
[ 190 ](1/2610)
فصل في ترجمة عائشة وذكر طرف من أخبارها
و فلانة كناية عن أم المؤمنين عائشة أبوها أبو بكر وقد تقدم ذكر نسبه وأمها أم رومان ابنة عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتاب بن أذينة بن سبيع بن دهمان بن الحارث بن غنم بن مالك بن كنانة تزوجها رسول الله ص قبل الهجرة بسنتين بعد وفاة خديجة وهي بنت سبع سنين وبنى عليها بالمدينة وهي بنت تسع سنين وعشرة أشهر وكانت قبله تذكر لجبير بن مطعم وتسمى له وكان رسول الله ص رأى في المنام عائشة في سرقة من حرير عند متوفى خديجة فقال إن يكن هذا من عند الله يمضه روي هذا الخبر في المسانيد الصحيحة وكان نكاحه إياها في شوال وبناؤه عليها في شوال أيضا فكانت تحب أن تدخل النساء من أهلها وأحبتها على أزواجهن في شوال وتقول هل كان في نسائه أحظى مني وقد نكحني وبنى علي في شوال ردا بذلك على من يزعم من النساء أن دخول الرجل بالمرأة بين العيدين مكروه . وتوفي رسول الله ص عنها وهي بنت عشرين سنة واستأذنت رسول الله ص في الكنية فقال لها اكتني بابنك عبد الله بن الزبير يعني ابن أختها فكانت تكنى أم عبد الله وكانت فقيهة راوية للشعر ذات حظ من رسول الله ص وميل ظاهر إليها وكانت لها عليه جرأة وإدلال لم يزل ينمي ويستشري حتى كان منها في أمره في قصة مارية ما كان من الحديث
[ 191 ]
الذي أسره إلى الزوجة الأخرى وأدى إلى تظاهرهما عليه وأنزل فيهما قرآنا يتلى في المحاريب يتضمن وعيدا غليظا عقيب تصريح بوقوع الذنب وصغو القلب وأعقبتها تلك الجرأة وذلك الانبساط وحدث منها في أيام الخلافة العلوية ما حدث ولقد عفا الله تعالى عنها وهي من أهل الجنة عندنا بسابق الوعد وما صح من أمر التوبة . و(1/2611)
روى أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب في باب عائشة عن سعيد بن نصر عن قاسم بن أصبغ عن محمد بن وضاح عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن عصام بن قدامة عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله ص لنسائه أيتكن صاحبة الجمل الأدبب يقتل حولها قتلي كثير وتنجو بعد ما كادت . قال أبو عمر بن عبد البر وهذا الحديث من أعلام نبوته ص قال وعصام بن قدامة ثقة وسائر الإسناد فثقة رجاله أشهر من أن تذكر . ولم تحمل عائشة من رسول الله ص ولا ولد له ولد من مهيرة إلا من خديجة ومن السراري من مارية . وقذفت عائشة في أيام رسول الله ص بصفوان بن المعطل السلمي والقصة مشهورة فأنزل الله تعالى براءتها في قرآن يتلى وينقل وجلد قاذفوها الحد وتوفيت في سنة سبع وخمسين للهجرة وعمرها أربع وستون سنة ودفنت بالبقيع
[ 192 ]
في ملك معاوية وصلى عليها المسلمون ليلا وأمهم أبو هريرة ونزل في قبرها خمسة من أهلها عبد الله وعروة ابنا الزبير والقاسم وعبد الله ابنا محمد بن أبي بكر وعبد الرحمن بن أبي بكر وذلك لسبع عشرة خلت من شهر رمضان من السنة المذكورة . فأما قوله فأدركها رأي النساء أي ضعف آرائهن و
قد جاء في الخبر لا يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة و(1/2612)
جاء إنهن قليلات عقل ودين أو قال ضعيفات ولذلك جعل شهادة المرأتين بشهادة الرجل الواحد والمرأة في أصل الخلقة سريعة الانخداع سريعة الغضب سيئة الظن فاسدة التدبير والشجاعة فيهن مفقودة أو قليلة وكذلك السخاء وأما الضغن فاعلم أن هذا الكلام يحتاج إلى شرح وقد كنت قرأته على الشيخ أبي يعقوب يوسف بن إسماعيل اللمعاني رحمه الله أيام اشتغالي عليه بعلم الكلام وسألته عما عنده فيه فأجابني بجواب طويل أنا أذكر محصوله بعضه بلفظه رحمه الله وبعضه بلفظي فقد شذ عني الآن لفظه كله بعينه قال أول بدء الضغن كان بينها وبين فاطمة ع وذلك لأن رسول الله ص تزوجها عقيب موت خديجة فأقامها مقامها وفاطمة هي ابنة خديجة ومن المعلوم أن ابنة الرجل إذا ماتت أمها وتزوج أبوها أخرى كان بين الابنة وبين المرأة كدر وشنئان وهذا لا بد منه لأن الزوجة تنفس عليها ميل الأب والبنت تكره ميل أبيها إلى امرأة غريبة كالضرة لأمها بل هي ضرة على الحقيقة وإن كانت الأم ميتة ولأنا لو قدرنا الأم حية لكانت العداوة مضطرمة متسعرة فإذا كانت قد ماتت ورثت ابنتها تلك العداوة وفي المثل عداوة الحماة والكنة وقال الراجز
[ 193 ]
إن الحماة أولعت بالكنة
و أولعت كنتها بالظنة(1/2613)
ثم اتفق أن رسول الله ص مال إليها وأحبها فازداد ما عند فاطمة بحسب زيادة ميله وأكرم رسول الله ص فاطمة إكراما عظيما أكثر مما كان الناس يظنونه وأكثر من إكرام الرجال لبناتهم حتى خرج بها عن حد حب الآباء للأولاد فقال بمحضر الخاص والعام مرارا لا مرة واحدة وفي مقامات مختلفة لا في مقام واحد إنها سيدة نساء العالمين وإنها عديلة مريم بنت عمران وإنها إذا مرت في الموقف نادى مناد من جهة العرش يا أهل الموقف غضوا أبصاركم لتعبر فاطمة بنت محمد وهذا من الأحاديث الصحيحة وليس من الأخبار المستضعفة وإن إنكاحه عليا إياها ما كان إلا بعد أن أنكحه الله تعالى إياها في السماء بشهادة الملائكة و
كم قال لا مرة يؤذيني ما يؤذيها ويغضبني ما يغضبها وإنها بضعة مني يريبني ما رابها فكان هذا وأمثاله يوجب زيادة الضغن عند الزوجة حسب زيادة هذا التعظيم والتبجيل والنفوس البشرية تغيظ على ما هو دون هذا فكيف هذا . ثم حصل عند بعلها ما هو حاصل عندها أعني عليا ع فإن النساء كثيرا ما يجعلن الأحقاد في قلوب الرجال لا سيما وهن محدثات الليل كما قيل في المثل وكانت تكثر الشكوى من عائشة ويغشاها نساء المدينة وجيران بيتها فينقلن إليها كلمات عن عائشة ثم يذهبن إلى بيت عائشة فينقلن إليها كلمات عن فاطمة وكما كانت فاطمة تشكو إلى بعلها كانت عائشة تشكو إلى أبيها لعلمها أن بعلها لا يشكيها على ابنته فحصل في نفس أبي بكر من ذلك أثر ما ثم تزايد تقريظ رسول الله ص
[ 194 ](1/2614)
لعلي ع وتقريبه واختصاصه فأحدث ذلك حسدا له وغبطة في نفس أبي بكر عنه وهو أبوها وفي نفس طلحة وهو ابن عمها وهي تجلس إليهما وتسمع كلامهما وهما يجلسان إليها ويحادثانها فأعدى إليها منهما كما أعدتهما . قال ولست أبرئ عليا ع من مثل ذلك فإنه كان ينفس على أبي بكر سكون النبي ص إليه وثناءه عليه ويحب أن ينفرد هو بهذه المزايا والخصائص دونه ودون الناس أجمعين ومن انحرف عن إنسان انحرف عن أهله وأولاده فتأكدت البغضة بين هذين الفريقين ثم كان من أمر القذف ما كان ولم يكن علي ع من القاذفين ولكنه كان من المشيرين على رسول الله ص بطلاقها تنزيها لعرضه عن أقوال الشنأة والمنافقين . قال له لما استشاره إن هي إلا شسع نعلك وقل له سل الخادم وخوفها وإن أقامت على الجحود فاضربها وبلغ عائشة هذا الكلام كله وسمعت أضعافه مما جرت عادة الناس أن يتداولوه في مثل هذه الواقعة ونقل النساء إليها كلاما كثيرا عن علي وفاطمة وأنهما قد أظهرا الشماتة جهارا وسرا بوقوع هذه الحادثة لها فتفاقم الأمر وغلظ . ثم إن رسول الله ص صالحها ورجع إليها ونزل القرآن ببراءتها فكان منها ما يكون من الإنسان ينتصر بعد أن قهر ويستظهر بعد أن غلب ويبرأ بعد أن اتهم من بسط اللسان وفلتات القول وبلغ ذلك كله عليا ع وفاطمة ع فاشتدت الحل وغلظت وطوى كل من الفريقين قلبه على الشنئان لصاحبه ثم كان بينها وبين علي ع في حياة رسول الله ص أحوال وأقوال كلها تقتضي تهييج ما في النفوس نحو قولها له وقد استدناه رسول الله فجاء حتى قعد بينه
[ 195 ](1/2615)
و بينها وهما متلاصقان أ ما وجدت مقعدا لكذا لا تكني عنه إلا فخذي ونحو ما روي أنه سايره يوما وأطال مناجاته فجاءت وهي سائرة خلفهما حتى دخلت بينهما وقالت فيم أنتما فقد أطلتما فيقال إن رسول الله ص غضب ذلك اليوم وما روي من حديث الجفنة من الثريد التي أمرت الخادم فوقفت لها فأكفأتها ونحو ذلك مما يكون بين الأهل وبين المرأة وأحمائها . ثم اتفق أن فاطمة ولدت أولادا كثيرة بنين وبنات ولم تلد هي ولدا وأن رسول الله ص كان يقيم بني فاطمة مقام بنيه ويسمي الواحد منهما ابني ويقول دعوا لي ابني ولا تزرموا على ابني وما فعل ابني فما ظنك بالزوجة إذا حرمت الولد من البعل ثم رأت البعل يتمنى بني ابنته من غيرها ويحنو عليهم حنو الوالد المشفق هل تكون محبة لأولئك البنين ولأمهم ولأبيهم أم مبغضة وهل تود دوام ذلك واستمراره أم زواله وانقضاءه . ثم اتفق أن رسول الله ص سد باب أبيها إلى المسجد وفتح باب صهره ثم بعث أباها ببراءة إلى مكة ثم عزله عنها بصهره فقدح ذلك أيضا في نفسها وولد لرسول الله ص إبراهيم من مارية فأظهر علي ع بذلك سرورا كثيرا وكان يتعصب لمارية ويقوم بأمرها عند رسول الله ص ميلا على غيرها وجرت لمارية نكبة مناسبة لنكبة عائشة فبرأها علي ع منها وكشف بطلانها أو كشفه الله تعالى على يده وكان ذلك كشفا محسا بالبصر لا يتهيأ للمنافقين أن يقولوا فيه ما قالوه في القرآن المنزل ببراءة عائشة وكل ذلك مما كان يوغر صدر عائشة عليه ويؤكد ما في نفسها منه ثم مات إبراهيم فأبطنت شماتة وإن أظهرت كآبة
[ 196 ](1/2616)
و وجم علي ع من ذلك وكذلك فاطمة وكانا يؤثران ويريدان أن تتميز مارية عليها بالولد فلم يقدر لهما ولا لمارية ذلك وبقيت الأمور على ما هي عليه وفي النفوس ما فيها حتى مرض رسول الله ص المرض الذي توفي فيه وكانت فاطمة ع وعلي ع يريدان أن يمرضاه في بيتهما وكذلك كان أزواجه كلهن فمال إلى بيت عائشة بمقتضى المحبة القلبية التي كانت لها دون نسائه وكره أن يزاحم فاطمة وبعلها في بيتهما فلا يكون عنده من الانبساط لوجودهما ما يكون إذا خلا بنفسه في بيت من يميل إليه بطبعه وعلم أن المريض يحتاج إلى فضل مداراة ونوم ويقظة وانكشاف وخروج حدث فكانت نفسه إلى بيته أسكن منها إلى بيت صهره وبنته فإنه إذا تصور حياءهما منه استحيا هو أيضا منهما وكل أحد يحب أن يخلو بنفسه ويحتشم الصهر والبنت ولم يكن له إلى غيرها من الزوجات مثل ذلك الميل إليها فتمرض في بيتها فغبطت على ذلك ولم يمرض رسول الله ص منذ قدم المدينة مثل هذا المرض وإنما كان مرضه الشقيقة يوما أو بعض يوم ثم يبرأ فتطاول هذا المرض وكان علي ع لا يشك أن الأمر له وأنه لا ينازعه فيه أحد من الناس ولهذا قال له عمه وقد مات رسول الله ص امدد يدك أبايعك فيقول الناس عم رسول الله ص بايع ابن عم رسول الله ص فلا يختلف عليك اثنان قال يا عم وهل يطمع فيها طامع غيري قال ستعلم قال فإني لا أحب هذا الأمر من وراء رتاج وأحب أن أصحر به فسكت عنه فلما ثقل رسول الله ص في مرضه أنفذ جيش أسامة وجعل فيه أبا بكر وغيره من أعلام
[ 197 ](1/2617)
المهاجرين والأنصار فكان علي ع حينئذ بوصوله إلى الأمر إن حدث برسول الله ص حدث أوثق وتغلب على ظنه أن المدينة لو مات لخلت من منازع ينازعه الأمر بالكلية فيأخذه صفوا عفوا وتتم له البيعة فلا يتهيأ فسخها لو رام ضد منازعته عليها فكان من عود أبي بكر من جيش أسامة بإرسالها إليه وإعلامه بأن رسول الله ص يموت ما كان ومن حديث الصلاة بالناس ما عرف فنسب علي ع عائشة أنها أمرت بلالا مولى أبيها أن يأمره فليصل بالناس لأن رسول الله كما روي قال ليصل بهم أحدهم ولم يعين وكانت صلاة الصبح فخرج رسول الله ص وهو في آخر رمق يتهادى بين علي والفضل بن العباس حتى قام في المحراب كما ورد في الخبر ثم دخل فمات ارتفاع الضحى فجعل يوم صلاته حجة في صرف الأمر إليه وقال أيكم يطيب نفسا أن يتقدم قدمين قدمهما رسول الله في الصلاة ولم يحملوا خروج رسول الله ص إلى الصلاة لصرفه عنها بل لمحافظته على الصلاة مهما أمكن فبويع على هذه النكتة التي اتهمها علي ع على أنها ابتدأت منها . وكان علي ع يذكر هذا لأصحابه في خلواته كثيرا ويقول إنه لم يقل ص إنكن لصويحبات يوسف إلا إنكارا لهذه الحال وغضبا منها لأنها وحفصة تبادرتا إلى تعيين أبويهما وأنه استدركها بخروجه وصرفه عن المحراب فلم يجد ذلك ولا أثر مع قوة الداعي الذي كان يدعو إلى أبي بكر ويمهد له قاعدة الأمر وتقرر حاله في نفوس الناس ومن اتبعه على ذلك من أعيان المهاجرين والأنصار ولما ساعد على ذلك من الحظ الفلكي والأمر السمائي الذي جمع عليه القلوب والأهواء فكانت هذه الحال عند علي أعظم من كل عظيم وهي الطامة الكبرى
[ 198 ](1/2618)
و المصيبة العظمى ولم ينسبها إلا إلى عائشة وحدها ولا علق الأمر الواقع إلا بها فدعا عليها في خلواته وبين خواصه وتظلم إلى الله منها وجرى له في تخلفه عن البيعة ما هو مشهور حتى بايع وكان يبلغه وفاطمة عنها كل ما يكرهانه منذ مات رسول الله ص إلى أن توفيت فاطمة وهما صابران على مضض ورمض واستظهرت بولاية أبيها واستطالت وعظم شأنها وانخذل علي وفاطمة وقهرا وأخذت فدك وخرجت فاطمة تجادل في ذلك مرارا فلم تظفر بشي ء وفي ذلك تبلغها النساء والداخلات والخارجات عن عائشة كل كلام يسوؤها ويبلغن عائشة عنها وعن بعلها مثل ذلك إلا أنه شتان ما بين الحالين وبعد ما بين الفريقين هذه غالبة وهذه مغلوبة وهذه آمرة وهذه مأمورة وظهر التشفي والشماتة ولا شي ء أعظم مرارة ومشقة من شماتة العدو . فقلت له رحمه الله أ فتقول أنت إن عائشة عينت أباها للصلاة ورسول الله ص لم يعينه فقال أما أنا فلا أقول ذلك ولكن عليا كان يقوله وتكليفي غير تكليفه كان حاضرا ولكم أكن حاضرا فأنا محجوج بالأخبار التي اتصلت بي وهي تتضمن تعيين النبي ص لأبي بكر في الصلاة وهو محجوج بما كان قد علمه أو يغلب على ظنه من الحال التي كان حضرها . قال ثم ماتت فاطمة فجاء نساء رسول الله ص كلهن إلى بني هاشم في العزاء إلا عائشة فإنها لم تأت وأظهرت مرضا ونقل إلى علي ع عنها كلام يدل على السرور . ثم بايع علي أباها فسرت بذلك وأظهرت من الاستبشار بتمام البيعة واستقرار
[ 199 ](1/2619)
الخلافة وبطلان منازعة الخصم ما قد نقله الناقلون فأكثروا واستمرت الأمور على هذا مدة خلافة أبيها وخلافة عمر وعثمان والقلوب تغلي والأحقاد تذيب الحجارة وكلما طال الزمان على علي تضاعفت همومه وباح بما في نفسه إلى أن قتل عثمان وقد كانت عائشة فيها أشد الناس عليه تأليبا وتحريضا فقالت أبعده الله لما سمعت قتله وأملت أن تكون الخلافة في طلحة فتعود الإمرة تيمية كما كانت أولا فعدل الناس عنه إلى علي بن أبي طالب فلما سمعت ذلك صرخت وا عثماناه قتل عثمان مظلوما وثار ما في الأنفس حتى تولد من ذلك يوم الجمل وما بعده . هذه خلاصة كلام الشيخ أبي يعقوب رحمه الله ولم يكن يتشيع وكان شديدا في الاعتزال إلا أنه في التفضيل كان بغداديا . فأما قوله ع ولو دعيت لتنال من غيري مثل ما أتت إلي لم تفعل فإنما يعني به عمر يقول لو أن عمر ولي الخلافة بعد قتل عثمان على الوجه الذي قتل عليه والوجه الذي أنا وليت الخلافة عليه ونسب إلى عمر أنه كان يؤثر قتله أو يحرض عليه ودعيت عائشة إلى أن تخرج عليه في عصابة من المسلمين إلى بعض بلاد الإسلام تثير فتنة وتنقض البيعة لم تفعل وهذا حق لأنها لم تكن تجد على عمر ما تجده على علي ع ولا الحال الحال . فأما قوله ولها بعد حرمتها الأولى والحساب على الله فإنه يعني بذلك حرمتها بنكاح رسول الله ص لها وحبه إياها وحسابها على الله لأنه غفور رحيم لا يتعاظم عفوه زلة ولا يضيق عن رحمته ذنب .
[ 200 ](1/2620)
فإن قلت هذا الكلام يدل على توقفه ع في أمرها وأنتم تقولون إنها من أهل الجنة فكيف تجمعون بين مذهبكم وهذا الكلام . قلت يجوز أن يكون قال هذا الكلام قبل أن يتواتر الخبر عنده بتوبتها فإن أصحابنا يقولون إنها تابت بعد قتل أمير المؤمنين وندمت وقالت لوددت أن لي من رسول الله ص عشرة بنين كلهم ماتوا ولم يكن يوم الجمل وإنها كانت بعد قتله تثني عليه وتنشر مناقبه مع أنهم رووا أيضا أنها عقيب الجمل كانت تبكي حتى تبل خمارها وأنها استغفرت الله وندمت ولكن لم يبلغ أمير المؤمنين ع حديث توبتها عقيب الجمل بلاغا يقطع العذر ويثبت الحجة والذي شاع عنها من أمر الندم والتوبة شياعا مستفيضا إنما كان بعد قتله ع إلى أن ماتت وهي على ذلك والتائب مغفور له ويجب قبول التوبة عندنا في العدل وقد أكدوا وقوع التوبة منها ما
روي في الأخبار المشهورة أنها زوجة رسول الله ص في الآخرة كما كانت زوجته في الدنيا ومثل هذا الخبر إذا شاع أوجب علينا أن نتكلف إثبات توبتها ولو لم ينقل فكيف والنقل لها يكاد أن يبلغ حد التواتر : مِنْهُ سَبِيلٌ أَبْلَجُ اَلْمِنْهَاجِ أَنْوَرُ اَلسِّرَاجِ فَبِالْإِيمَانِ يُسْتَدَلُّ عَلَى اَلصَّالِحَاتِ وَ بِالصَّالِحَاتِ يُسْتَدَلُّ عَلَى اَلْإِيمَانِ وَ بِالْإِيمَانِ يُعْمَرُ اَلْعِلْمُ وَ بِالْعِلْمِ يُرْهَبُ اَلْمَوْتُ وَ بِالْمَوْتِ تُخْتَمُ اَلدُّنْيَا وَ بِالدُّنْيَا تُحْرَزُ اَلآْخِرَةُ وَ بِالْقِيَامَةِ تُزْلَفُ اَلْجَنَّةُ وَ تُبَرَّزُ اَلْجَحِيمُ
[ 201 ](1/2621)
لِلْغَاوِينَ وَ إِنَّ اَلْخَلْقَ لاَ مَقْصَرَ لَهُمْ عَنِ اَلْقِيَامَةِ مُرْقِلِينَ فِي مِضْمَارِهَا إِلَى اَلْغَايَةِ اَلْقُصْوَى هو الآن في ذكر الإيمان وعنه قال سبيل أبلج المنهاج أي واضح الطريق . ثم قال فبالإيمان يستدل على الصالحات يريد بالإيمان هاهنا مسماه اللغوي لا الشرعي لأن الإيمان في اللغة هو التصديق قال سبحانه وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا أي بمصدق والمعنى أن من حصل عنده التصديق بالوحدانية والرسالة وهما كلمتا الشهادة استدل بهما على وجوب الأعمال الصالحة عليه أو ندبه إليها لأن المسلم يعلم من دين نبيه ص أنه أوجب عليه أعمالا صالحة وندبه إلى أعمال صالحة فقد ثبت أن بالإيمان يستدل على الصالحات . ثم قال وبالصالحات يستدل على الإيمان فالإيمان هاهنا مستعمل في مسماه الشرعي لا في مسماه اللغوي ومسماه الشرعي هو العقد بالقلب والقول باللسان والعمل بالجوارح فلا يكون المؤمن مؤمنا حتى يستكمل فعل كل واجب ويجتنب كل قبيح ولا شبهة أنا متى علمنا أو ظننا من مكلف أنه يفعل الأفعال الصالحة ويجتنب الأفعال القبيحة استدللنا بذلك على حسن إطلاق لفظ المؤمن عليه وبهذا التفسير الذي فسرناه نسلم من إشكال الدور لأن لقائل أن يقول من شرط الدليل أن يعلم قبل العلم بالمدلول فلو كان كل واحد من الإيمان والصالحات يستدل به على الآخر لزم تقدم العلم بكل واحد منهما على العلم بكل واحد منهما فيؤدي إلى الدور ولا شبهة أن هذا الدور غير لازم على التفسير الذي فسرناه نحن .
[ 202 ](1/2622)
ثم قال ع وبالإيمان يعمر العلم وذلك لأن العالم وهو غير عامل بعلمه غير منتفع بما علم بل مستضر به غاية الضرر فكأن علمه خراب غير معمور وإنما يعمر بالإيمان وهو فعل الواجب وتجنب القبيح على مذهبنا أو الاعتقاد والمعرفة على مذهب غيرنا أو القول اللساني على قول آخرين ومذهبنا أرجح لأن عمارة العلم إنما تكون بالعمل من الأعضاء والجوارح وبدون ذلك يبقى العلم على خرابه كما كان . ثم قال وبالعلم يرهب الموت هذا من قول الله تعالى إِنَّما يَخْشَى اَللَّهَ مِنْ عِبادِهِ اَلْعُلَماءُ . ثم قال وبالموت تختم الدنيا وهذا حق لأنه انقطاع التكليف . ثم قال وبالدنيا تحرز الآخرة هذا كقول بعض الحكماء الدنيا متجر والآخرة ربح ونفسك رأس المال . ثم قال وبالقيامة تزلف الجنة للمتقين وتبرز الجحيم للغاوين هذا من القرآن العزيز وتزلف لهم تقدم لهم وتقرب إليهم . ولا مقصر لي عن كذا لا محبس ولا غاية لي دونه وأرقل أسرع والمضمار حيث تستبق الخيل : مِنْهَا قَدْ شَخَصُوا مِنْ مُسْتَقَرِّ اَلْأَجْدَاثِ وَ صَارُوا إِلَى مَصَايِرِ اَلْغَايَاتِ لِكُلِّ دَارٍ أَهْلُهَا
[ 203 ](1/2623)
لاَ يَسْتَبْدِلُونَ بِهَا وَ لاَ يُنْقَلُونَ عَنْهَا وَ إِنَّ اَلْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ اَلنَّهْيَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ لَخُلُقَانِ مِنْ خُلُقِ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ إِنَّهُمَا لاَ يُقَرِّبَانِ مِنْ أَجَلٍ وَ لاَ يَنْقُصَانِ مِنْ رِزْقٍ وَ عَلَيْكُمْ بِكِتَابِ اَللَّهِ فَإِنَّهُ اَلْحَبْلُ اَلْمَتِينُ وَ اَلنُّورُ اَلْمُبِينُ وَ اَلشِّفَاءُ اَلنَّافِعُ وَ اَلرِّيُّ اَلنَّاقِعُ وَ اَلْعِصْمَةُ لِلْمُتَمَسِّكِ وَ اَلنَّجَاةُ لِلْمُتَعَلِّقِ لاَ يَعْوَجُّ فَيُقَامَ وَ لاَ يَزِيغُ فَيُسْتَعْتَبَ وَ لاَ يُخْلِقُهُ كَثْرَةُ اَلرَّدِّ وَ وُلُوجُ اَلسَّمْعِ مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ وَ مَنْ عَمِلَ بِهِ سَبَقَ شخصوا من بلد كذا خرجوا ومستقر الأجداث مكان استقرارهم بالقبور وهي جمع جدث . ومصاير الغايات جمع مصير والغايات جمع غاية وهي ما ينتهى إليه قال الكميت
فالآن صرت إلى أمية والأمور إلى مصاير
ثم ذكر أن أهل الثواب والعقاب كل من الفريقين يقيم بدار لا يتحول منها وهذا كما
ورد في الخبر أنه ينادي مناد يا أهل الجنة سعادة لا فناء لها ويا أهل النار شقاوة لا فناء لها . ثم ذكر أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من خلق الله سبحانه وذلك لأنه تعالى ما أمر إلا بمعروف وما نهى إلا عن منكر ويبقى الفرق بيننا وبينه أنا يجب علينا النهي عن المنكر بالمنع منه وهو سبحانه لا يجب عليه ذلك لأنه لو منع من إتيان المنكر لبطل التكليف . ثم قال إنهما لا يقربان من أجل ولا ينقصان من رزق وإنما قال ع
[ 204 ](1/2624)
ذلك لأن كثيرا من الناس يكف عن نهي الظلمة عن المناكير توهما منه أنهم أما إن يبطشوا به فيقتلوه أو يقطعوا رزقه ويحرموه فقال ع إن ذلك ليس مما يقرب من الأجل ولا يقطع الرزق . وينبغي أن يحمل كلامه ع على حال السلامة وغلبة الظن بعدم تطرق الضرر الموفي على مصلحة النهي عن المنكر . ثم أمر باتباع الكتاب العزيز ووصفه بما وصفه به . وماء ناقع ينقع الغلة أي يقطعها ويروى منها ولا يزيغ يميل فيستعتب يطلب منه العتبى هي الرضا كما يطلب من الظالم يميل فيسترضى . قال ولا يخلقه كثرة الرد وولوج السمع هذا من خصائص القرآن المجيد شرفه الله تعالى وذلك أن كل كلام منثور أو منظوم إذا تكررت تلاوته وتردد ولوجه الأسماع مل وسمج واستهجن إلا القرآن فإنه لا يزال غضا طريا محبوبا غير مملول
[ 205 ](1/2625)
157
و قام إليه ع رجل فقال أخبرنا عن الفتنة وهل سألت عنها رسول الله ص فقال ع : إِنَّهُ لَمَّا أَنْزَلَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَوْلَهُ الم أَ حَسِبَ اَلنَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ عَلِمْتُ أَنَّ اَلْفِتْنَةَ لاَ تَنْزِلُ بِنَا وَ رَسُولُ اَللَّهِ ص بَيْنَ أَظْهُرِنَا فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اَللَّهِ مَا هَذِهِ اَلْفِتْنَةُ اَلَّتِي أَخْبَرَكَ اَللَّهُ بِهَا فَقَالَ يَا عَلِيُّ إِنَّ أُمَّتِي سَيُفْتَنُونَ بَعْدِي فَقُلْتُ يَا رَسُولُ اَللَّهِ أَ وَ لَيْسَ قَدْ قُلْتَ لِي يَوْمَ أُحُدٍ حَيْثُ اُسْتُشْهِدَ مَنِ اُسْتُشْهِدَ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ وَ حِيزَتْ عَنِّي اَلشَّهَادَةُ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيَّ فَقُلْتَ لِي أَبْشِرْ فَإِنَّ اَلشَّهَادَةَ مِنْ وَرَائِكَ فَقَالَ لِي إِنَّ ذَلِكَ لَكَذَلِكَ فَكَيْفَ صَبْرُكَ إِذاً فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اَللَّهِ لَيْسَ هَذَا مِنْ مَوَاطِنِ اَلصَّبْرِ وَ لَكِنْ مِنْ مَوَاطِنِ اَلْبُشْرَى وَ اَلشُّكْرِ وَ قَالَ يَا عَلِيُّ إِنَّ اَلْقَوْمَ سَيُفْتَنُونَ بِأَمْوَالِهِمْ وَ يَمُنُّونَ بِدِينِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ وَ يَتَمَنَّوْنَ رَحْمَتَهُ وَ يَأْمَنُونَ سَطْوَتَهُ وَ يَسْتَحِلُّونَ حَرَامَهُ بِالشُّبُهَاتِ اَلْكَاذِبَةِ وَ اَلْأَهْوَاءِ اَلسَّاهِيَةِ فَيَسْتَحِلُّونَ اَلْخَمْرَ بِالنَّبِيذِ وَ اَلسُّحْتَ بِالْهَدِيَّةِ وَ اَلرِّبَا بِالْبَيْعِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اَللَّهِ فَبِأَيِّ اَلْمَنَازِلِ أُنْزِلُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ أَ بِمَنْزِلَةِ رِدَّةٍ أَمْ بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةٍ فَقَالَ بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةٍ
[ 206 ](1/2626)
قد كان ع يتكلم في الفتنة ولذلك ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولذلك قال فعليكم بكتاب الله أي إذا وقع الأمر واختلط الناس فعليكم بكتاب الله فلذلك قام إليه من سأله عن الفتنة وهذا الخبر مروي عن رسول الله ص
قد رواه كثير من المحدثين عن علي ع أن رسول الله ص قال له إن الله قد كتب عليك جهاد المفتونين كما كتب علي جهاد المشركين قال فقلت يا رسول الله ما هذه الفتنة التي كتب علي فيها الجهاد قال قوم يشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وهم مخالفون للسنة فقلت يا رسول الله فعلام أقاتلهم وهم يشهدون كما أشهد قال على الأحداث في الدين ومخالفة الأمر فقلت يا رسول الله إنك كنت وعدتني الشهادة فأسأل الله أن يعجلها لي بين يديك قال فمن يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين أما إني وعدتك الشهادة وستستشهد تضرب على هذه فتخضب هذه فكيف صبرك إذا قلت يا رسول الله ليس ذا بموطن صبر هذا موطن شكر قال أجل أصبت فأعد للخصومة فإنك مخاصم فقلت يا رسول الله لو بينت لي قليلا فقال إن أمتي ستفتن من بعدي فتتأول القرآن وتعمل بالرأي وتستحل الخمر بالنبيذ والسحت بالهدية والربا بالبيع وتحرف الكتاب عن مواضعه وتغلب كلمة الضلال فكن جليس بيتك حتى تقلدها فإذا قلدتها جاشت عليك الصدور وقلبت لك الأمور تقاتل حينئذ على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله فليست حالهم الثانية بدون حالهم الأولى فقلت يا رسول الله فبأي المنازل أنزل هؤلاء المفتونين من بعدك أ بمنزلة فتنة أم بمنزلة ردة فقال بمنزلة فتنة يعمهون فيها إلى أن يدركهم العدل فقلت يا رسول الله أ يدركهم العدل منا أم من غيرنا قال بل منا بنا فتح وبنا يختم وبنا ألف الله بين القلوب
[ 207 ](1/2627)
بعد الشرك وبنا يؤلف بين القلوب بعد الفتنة فقلت الحمد لله على ما وهب لنا من فضله . واعلم أن لفظه ع المروي في نهج البلاغة يدل على أن الآية المذكورة وهي قوله ع الم أَ حَسِبَ اَلنَّاسُ أنزلت بعد أحد وهذا خلاف قول أرباب التفسير لأن هذه الآية هي أول سورة العنكبوت وهي عندهم بالاتفاق مكية ويوم أحد كان بالمدينة وينبغي أن يقال في هذا إن هذه الآية خاصة أنزلت بالمدينة وأضيفت إلى السورة المكية فصارتا واحدة وغلب عليها نسب المكي لأن الأكثر كان بمكة وفي القرآن مثل هذا كثير كسورة النحل فإنها مكية بالإجماع وآخرها ثلاث آيات أنزلت بالمدينة بعد يوم أحد وهي قوله تعالى وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَ اِصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اَللَّهَ مَعَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ اَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ . فإن قلت فلم قال علمت أن الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله بين أظهرنا قلت لقوله تعالى وَ ما كانَ اَللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ . وقوله حيزت عني الشهادة أي منعت . قوله ليس هذا من مواطن الصبر كلام عال جدا يدل على يقين عظيم وعرفان تام ونحوه
قوله وقد ضربه ابن ملجم فزت ورب الكعبة .
[ 208 ](1/2628)
قوله سيفتنون بعدي بأموالهم من قوله تعالى إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ . قوله ويمنون بدينهم على ربهم من قوله تعالى يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اَللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ . قوله ويتمنون رحمته من قوله أحمق الحمقى من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله . قوله ويأمنون سطوته من قوله تعالى أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اَللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اَللَّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْخاسِرُونَ . والأهواء الساهية الغافلة والسحت الحرام ويجوز ضم الحاء وقد أسحت الرجل في تجارته إذا اكتسب السحت . وفي قوله بل بمنزلة فتنة تصديق لمذهبنا في أهل البغي وأنهم لم يدخلوا في الكفر بالكلية بل هم فساق والفاسق عندنا في منزلة بين المنزلتين خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر
[ 209 ](1/2629)
158 ـ ومن خطبة له ع
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي جَعَلَ اَلْحَمْدَ مِفْتَاحاً لِذِكْرِهِ وَ سَبَباً لِلْمَزِيدِ مِنْ فَضْلِهِ وَ دَلِيلاً عَلَى آلاَئِهِ وَ عَظَمَتِهِ عِبَادَ اَللَّهِ إِنَّ اَلدَّهْرَ يَجْرِي بِالْبَاقِينَ كَجَرْيِهِ بِالْمَاضِينَ لاَ يَعُودُ مَا قَدْ وَلَّى مِنْهُ وَ لاَ يَبْقَى سَرْمَداً مَا فِيهِ آخِرُ فَعَالِهِ كَأَوَّلِهِ مُتَشَابِهَةٌ أُمُورُهُ مُتَظَاهِرَةٌ أَعْلاَمُهُ فَكَأَنَّكُمْ بِالسَّاعَةِ تَحْدُوكُمْ حَدْوَ اَلزَّاجِرِ بِشَوْلِهِ فَمَنْ شَغَلَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ نَفْسِهِ تَحَيَّرَ فِي اَلظُّلُمَاتِ وَ اِرْتَبَكَ فِي اَلْهَلَكَاتِ وَ مَدَّتْ بِهِ شَيَاطِينُهُ فِي طُغْيَانِهِ وَ زَيَّنَتْ لَهُ سَيِّئَ أَعْمَالِهِ فَالْجَنَّةُ غَايَةُ اَلسَّابِقِينَ وَ اَلنَّارُ غَايَةُ اَلْمُفَرِّطِينَ اِعْلَمُوا عِبَادَ اَللَّهِ أَنَّ اَلتَّقْوَى دَارُ حِصْنٍ عَزِيزٍ وَ اَلْفُجُورَ دَارُ حِصْنٍ ذَلِيلٍ لاَ يَمْنَعُ أَهْلَهُ وَ لاَ يُحْرِزُ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ أَلاَ وَ بِالتَّقْوَى تُقْطَعُ حُمَةُ اَلْخَطَايَا وَ بِالْيَقِينِ تُدْرَكُ اَلْغَايَةُ اَلْقُصْوَى عِبَادَ اَللَّهِ اَللَّهَ اَللَّهَ فِي أَعَزِّ اَلْأَنْفُسِ عَلَيْكُمْ وَ أَحَبِّهَا إِلَيْكُمْ فَإِنَّ اَللَّهَ قَدْ أَوْضَحَ لَكُمْ سَبِيلَ اَلْحَقِّ وَ أَنَارَ طُرُقَهُ فَشِقْوَةٌ لاَزِمَةٌ أَوْ سَعَادَةٌ دَائِمَةٌ فَتَزَوَّدُوا فِي أَيَّامِ اَلْفَنَاءِ لِأَيَّامِ اَلْبَقَاءِ قَدْ دُلِلْتُمْ عَلَى اَلزَّادِ وَ أُمِرْتُمْ بِالظَّعَنِ وَ حُثِثْتُمْ عَلَى اَلْمَسِيرِ فَإِنَّمَا أَنْتُمْ كَرَكْبٍ وُقُوفٍ لاَ يَدْرُونَ مَتَى يُؤْمَرُونَ بِالسَّيْرِ أَلاَ فَمَا يَصْنَعُ بِالدُّنْيَا مَنْ
[ 210 ](1/2630)
خُلِقَ لِلآْخِرَةِ وَ مَا يَصْنَعُ بِالْمَالِ مَنْ عَمَّا قَلِيلٍ يُسْلَبُهُ وَ تَبْقَى عَلَيْهِ تَبِعَتُهُ وَ حِسَابُهُ عِبَادَ اَللَّهِ إِنَّهُ لَيْسَ لِمَا وَعَدَ اَللَّهُ مِنَ اَلْخَيْرِ مَتْرَكٌ وَ لاَ فِيمَا نَهَى عَنْهُ مِنَ اَلشَّرِّ مَرْغَبٌ عِبَادَ اَللَّهِ اِحْذَرُوا يَوْماً تُفْحَصُ فِيهِ اَلْأَعْمَالُ وَ يَكْثُرُ فِيهِ اَلزِّلْزَالُ وَ تَشِيبُ فِيهِ اَلْأَطْفَالُ اِعْلَمُوا عِبَادَ اَللَّهِ أَنَّ عَلَيْكُمْ رَصَداً مِنْ أَنْفُسِكُمْ وَ عُيُوناً مِنْ جَوَارِحِكُمْ وَ حُفَّاظَ صِدْقٍ يَحْفَظُونَ أَعْمَالَكُمْ وَ عَدَدَ أَنْفَاسِكُمْ لاَ تَسْتُرُكُمْ مِنْهُمْ ظُلْمَةُ لَيْلٍ دَاجٍ وَ لاَ يُكِنُّكُمْ مِنْهُمْ بَابٌ ذُو رِتَاجٍ وَ إِنَّ غَداً مِنَ اَلْيَوْمِ قَرِيبٌ يَذْهَبُ اَلْيَوْمُ بِمَا فِيهِ وَ يَجِي ءُ اَلْغَدُ لاَحِقاً بِهِ فَكَأَنَّ كُلَّ اِمْرِئٍ مِنْكُمْ قَدْ بَلَغَ مِنَ اَلْأَرْضِ مَنْزِلَ وَحْدَتِهِ وَ مَخَطَّ حُفْرَتِهِ فَيَا لَهُ مِنْ بَيْتِ وَحْدَةٍ وَ مَنْزِلِ وَحْشَةٍ وَ مَفْرَدِ غُرْبَةٍ وَ كَأَنَّ اَلصَّيْحَةَ قَدْ أَتَتْكُمْ وَ اَلسَّاعَةَ قَدْ غَشِيَتْكُمْ وَ بَرَزْتُمْ لِفَصْلِ اَلْقَضَاءِ قَدْ زَاحَتْ عَنْكُمُ اَلْأَبَاطِيلُ وَ اِضْمَحَلَّتْ عَنْكُمُ اَلْعِلَلُ وَ اِسْتَحَقَّتْ بِكُمُ اَلْحَقَائِقُ وَ صَدَرَتْ بِكُمُ اَلْأُمُورُ مَصَادِرَهَا فَاتَّعِظُوا بِالْعِبَرِ وَ اِعْتَبِرُوا بِالْغِيَرِ وَ اِنْتَفِعُوا بِالنُّذُرِ جعل الحمد مفتاحا لذكره لأن أول الكتاب العزيز اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ والقرآن هو الذكر قال سبحانه إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَلذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ
[ 211 ](1/2631)
و سببا للمزيد لأنه تعالى قال لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ والحمد هاهنا هو الشكر ومعنى جعله الحمد دليلا على عظمته وآلائه أنه إذا كان سببا للمزيد فقد دل ذلك على عظمة الصانع وآلائه أما دلالته على عظمته فلأنه دال على أن قدرته لا تتناهى أبدا بل كلما ازداد الشكر ازدادت النعمة وأما دلالته على آلائه فلأنه لا جود أعظم من جود من يعطي من يحمده لا حمدا متطوعا بل حمدا واجبا عليه . قوله يجري بالباقين كجريه بالماضين من هذا أخذ الشعراء وغيرهم ما نظموه في هذا المعنى قال بعضهم
مات من مات والثريا الثريا
و السماك السماك والنسر نسر
و نجوم السماء تضحك منا
كيف تبقى من بعدنا ونمر
و قال آخر
فما الدهر إلا كالزمان الذي مضى
و لا نحن إلا كالقرون الأوائل
قوله لا يعود ما قد ولى منه كقول الشاعر
ما أحسن الأيام إلا أنها
يا صاحبي إذا مضت لم ترجع
قوله ولا يبقى سرمدا ما فيه كلام مطروق المعنى قال عدي
ليس شي ء على المنون بباق
غير وجه المهيمن الخلاق
قوله آخر أفعاله كأوله يروى كأولها ومن رواه كأوله أعاد الضمير إلى الدهر أي آخر أفعال الدهر كأول الدهر فحذف المضاف . متشابهة أموره لأنه كما كان من قبل يرفع ويضع ويغني ويفقر ويوجد
[ 212 ](1/2632)
و يعدم فكذلك هو الآن أفعاله متشابهة وروي متسابقة أي شي ء منها قبل شي ء كأنها خيل تتسابق في مضمار . متظاهرة أعلامه أي دلالاته على سجيته التي عامل الناس بها قديما وحديثا متظاهرة يقوي بعضها بعضا وهذا الكلام جار منه ع على عادة العرب في ذكر الدهر وإنما الفاعل على الحقيقة رب الدهر . والشول النوق التي خف لبنها وارتفع ضرعها وأتى عليها من نتاجها سبعة أشهر أو ثمانية الواحدة شائلة وهي جمع على غير القياس وشولت الناقة أي صارت شائلة فأما الشائل بغير هاء فهي الناقة تشول بذنبها للقاح ولا لبن لها أصلا والجمع شول مثل راكع وركع قال أبو النجم
كأن في أذنابهن الشول
و الزاجر الذي يزجر الإبل يسوقها ويقال حدوت إبلي وحدوت بإبلي والحدو سوقها والغناء لها وكذلك الحداء ويقال للشمال حدواء لأنها تحدو السحاب أي تسوقه قال العجاج
حدواء جاءت من بلاد الطور
و لا يقال للمذكر أحدى وربما قيل للحمار إذا قدم أتنه حاد قال ذو الرمة
حادي ثلاث من الحقب السماحيج
و المعنى أن سائق الشول يعسف بها ولا يتقي سوقها ولا يدارك كما يسوق العشار .
[ 213 ](1/2633)
ثم قال ع من شغل نفسه بغير نفسه هلك وذلك أن من لا يوفي النظر حقه ويميل إلى الأهواء ونصرة الأسلاف والحجاج عما ربي عليه بين الأهل والأستاذين الذين زرعوا في قلبه العقائد يكون قد شغل نفسه بغير نفسه لأنه لم ينظر لها ولا قصد الحق من حيث هو حق وإنما قصد نصرة مذهب معين يشق عليه فراقه ويصعب عنده الانتقال منه ويسوؤه أن يرد عليه حجة تبطله فيسهر عينه ويتعب قلبه في تهويس تلك الحجة والقدح فيها بالغث والسمين لا لأنه يقصد الحق بل يقصد نصرة المذهب المعين وتشييد دليله لا جرم أنه متحير في ظلمات لا نهاية لها . والارتباك الاختلاط ربكت الشي ء أربكه ربكا خلطته فارتبك أي اختلط وارتبك الرجل في الأمر أي نشب فيه ولم يكد يتخلص منه . قوله ومدت به شياطينه في طغيانه مأخوذ من قوله تعالى وَ إِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي اَلغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ . وروي ومدت له شياطينه باللام ومعناه الإمهال مد له في الغي أي طول له وقال تعالى قُلْ مَنْ كانَ فِي اَلضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ اَلرَّحْمنُ مَدًّا . قوله وزينت له سيئ أعماله مأخوذ من قوله تعالى أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً . قوله التقوى دار حصن عزيز معناه دار حصانة عزيزة فأقام الاسم مقام المصدر وكذلك في الفجور . ويحرز من لجأ إليه يحفظ من اعتصم به .
[ 214 ](1/2634)
و حمة الخطايا سمها وتقطع الحمة كما تقول قطعت سريان السم في بدن الملسوع بالبادزهرات والترياقات فكأنه جعل سم الخطايا ساريا في الأبدان والتقوى تقطع سريانه . قوله وباليقين تدرك الغاية القصوى وذلك لأن أقصى درجات العرفان الكشف وهو المراد هاهنا بلفظ اليقين . وانتصب الله الله على الإغراء وفي متعلقة بالفعل المقدر وتقديره راقبوا وأعز الأنفس عليهم أنفسهم . قوله فشقوة لازمة مرفوع على أنه خبر مبتدإ محذوف تقديره فغايتكم أو فجزاؤكم أو فشأنكم وهذا يدل على مذهبنا في الوعيد لأنه قسم الجزاء إلى قسمين إما العذاب أبدا أو النعيم أبدا وفي هذا بطلان قول المرجئة إن ناسا يخرجون من النار فيدخلون الجنة لأن هذا لو صح لكان قسما ثالثا . قوله فقد دللتم على الزاد أي الطاعة . وأمرتم بالظعن أي أمرتم بهجر الدنيا وأن تظعنوا عنها بقلوبكم ويجوز الظعن بالتسكين . وحثثتم على المسير لأن الليل والنهار سائقان عنيفان . قوله وإنما أنتم كركب وقوف لا يدرون متى يؤمرون بالسير السير هاهنا هو الخروج من الدنيا إلى الآخرة بالموت جعل الناس ومقامهم في الدنيا كركب وقوف لا يدرون متى يقال لهم سيروا فيسيرون لأن الناس لا يعلمون الوقت الذي يموتون فيه فإن قلت كيف سمى الموت والمفارقة سيرا . قلت لأن الأرواح يعرج بها إما إلى عالمها وهم السعداء أو تهوي إلى أسفل
[ 215 ](1/2635)
السافلين وهم الأشقياء وهذا هو السير الحقيقي لا حركة الرجل بالمشي ومن أثبت الأنفس المجردة قال سيرها خلوصها من عالم الحس واتصالها المعنوي لا الأبدي ببارئها فهو سير في المعنى لا في الصورة ومن لم يقل بهذا ولا بهذا قال إن الأبدان بعد الموت تأخذ في التحلل والتزايل فيعود كل شي ء منها إلى عنصره فذاك هو السير . وما في عما قليل زائدة وتبعته إثمه وعقوبته . قوله إنه ليس لما وعد الله من الخير مترك أي ليس الثواب فيما ينبغي للمرء أن يتركه ولا الشر فيما ينبغي أن يرغب المرء فيه . وتفحص فيه الأعمال تكشف والزلزال بالفتح اسم للحركة الشديدة والاضطراب والزلزال بالكسر المصدر قال تعالى وَ زُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً . قوله ويشيب فيه الأطفال كلام جار مجرى المثل يقال في اليوم الشديد إنه ليشيب نواصي الأطفال وقال تعالى فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ اَلْوِلْدانَ شِيباً وليس ذلك على حقيقته لأن الأمة مجمعة على أن الأطفال لا تتغير حالهم في الآخرة إلى الشيب والأصل في هذا أن الهموم والأحزان إذا توالت على الإنسان شاب سريعا قال أبو الطيب
و الهم يخترم الجسيم نحافة
و يشيب ناصية الصبي ويهرم
قوله إن عليكم رصدا من أنفسكم وعيونا من جوارحكم لأن الأعضاء تنطق في القيامة بأعمال المكلفين وتشهد عليهم .
[ 216 ]
و الرصد جمع راصد كالحرس جمع حارس . قوله وحفاظ صدق يعني الملائكة الكاتبين لا يعتصم منهم بسترة ولا ظلام ليل ومن هذا المعنى قول الشاعر
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل
خلوت ولكن قل علي رقيب
قوله وإن غدا من اليوم قريب ومنه قول القائل
فإن غدا لناظره قريب
منه قوله
غد ما غد ما أقرب اليوم من غد(1/2636)
و منه قول الله تعالى إِنَّ مَوْعِدَهُمُ اَلصُّبْحُ أَ لَيْسَ اَلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ والصيحة نفخة الصور . وزاحت الأباطيل بعدت واضمحلت تلاشت وذهبت . قوله واستحقت أي حقت ووقعت استفعل بمعنى فعل كقولك استمر على باطله أي مر عليه . وصدرت بكم الأمور مصادرها كل وارد فله صدر عن مورده وصدر الإنسان عن موارد الدنيا الموت ثم البعث
[ 217 ](1/2637)
159 ـ ومن خطبة له ع
أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ اَلرُّسُلِ وَ طُولِ هَجْعَةٍ مِنَ اَلْأُمَمِ وَ اِنْتِقَاضٍ مِنَ اَلْمُبْرَمِ فَجَاءَهُمْ بِتَصْدِيقِ اَلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ اَلنُّورِ اَلْمُقْتَدَى بِهِ ذَلِكَ اَلْقُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ وَ لَنْ يَنْطِقَ وَ لَكِنْ أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ أَلاَ إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا يَأْتِي وَ اَلْحَدِيثَ عَنِ اَلْمَاضِي وَ دَوَاءَ دَائِكُمْ وَ نَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ الهجعة النومة الخفيفة وقد تستعمل في النوم المستغرق أيضا والمبرم الحبل المفتول والذي بين يديه التوراة والإنجيل . فإن قلت التوراة والإنجيل قبله فكيف جعلهما بين يديه قلت أحد جزأي الصلة محذوف وهو المبتدأ والتقدير بتصديق الذي هو بين يديه وهو ضمير القرآن أي بتصديق الذي القرآن بين يديه وحذف أحد جزأي الصلة هاهنا ثم حذفه في قوله تعالى تَماماً عَلَى اَلَّذِي أَحْسَنَ وَ تَفْصِيلاً في قراءة من جعله اسما
[ 218 ](1/2638)
مرفوعا وأيضا فإن العرب تستعمل بين يديه بمعنى قبل قال تعالى بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ أي قبله : مِنْهَا فَعِنْدَ ذَلِكَ لاَ يَبْقَى بَيْتُ مَدَرٍ وَ لاَ وَبَرٍ إِلاَّ وَ أَدْخَلَهُ اَلظُّلْمَةُ تَرْحَةً وَ أَوْلَجُوا فِيهِ نِقْمَةً فَيَوْمَئِذٍ لاَ يَبْقَى لَهُمْ فِي اَلسَّمَاءِ عَاذِرٌ وَ لاَ فِي اَلْأَرْضِ نَاصِرٌ أَصْفَيْتُمْ بِالْأَمْرِ غَيْرَ أَهْلِهِ وَ أَوْرَدْتُمُوهُ غَيْرَ مَوْرِدِهِ وَ سَيَنْتَقِمُ اَللَّهُ مِمَّنْ ظَلَمَ مَأْكَلاً بِمَأْكَلٍ وَ مَشْرَباً بِمَشْرَبٍ مِنْ مَطَاعِمِ اَلْعَلْقَمِ وَ مَشَارِبِ اَلصَّبِرِ وَ اَلْمَقِرِ وَ لِبَاسِ شِعَارِ اَلْخَوْفِ وَ دِثَارِ اَلسَّيْفِ وَ إِنَّمَا هُمْ مَطَايَا اَلْخَطِيئَاتِ وَ زَوَامِلُ اَلآْثَامِ فَأُقْسِمُ ثُمَّ أُقْسِمُ لَتَنْخَمَنَّهَا أُمَيَّةُ مِنْ بَعْدِي كَمَا تُلْفَظُ اَلنُّخَامَةُ ثُمَّ لاَ تَذُوقُهَا وَ لاَ تَتَطَعَّمُ تَطْعَمُ بِطَعْمِهَا أَبَداً مَا كَرَّ اَلْجَدِيدَانِ الترحة الحزن قال فحينئذ لا يبقى لهم أي يحيق بهم العذاب ويبعث الله عليهم من ينتقم وهذا إخبار عن ملك بني أمية بعده وزوال أمرهم عند تفاقم فسادهم في الأرض . ثم خاطب أولياء هؤلاء الظلمة ومن كان يؤثر ملكهم فقال أصفيتم بالأمر
[ 219 ]
غير أهله أصفيت فلانا بكذا خصصته به وصفية المغنم شي ء كان يصطفيه الرئيس لنفسه من الغنيمة . وأوردتموه غير ورده أنزلتموه عند غير مستحقه ثم قال سيبدل الله مأكلهم اللذيذة الشهية بمأكل مريرة علقمية والمقر المر ومأكلا منصوب بفعل مقدر أي يأكلون مأكلا والباء هاهنا للمجازاة الدالة على الصلة كقوله تعالى فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وكقول أبي تمام
فبما قد أراه ريان مكسو
المعاني من كل حسن وطيب(1/2639)
و قال سبحانه قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ وجعل شعارهم الخوف لأنه باطن في القلوب ودثارهم السيف لأنه ظاهر في البدن كما أن الشعار ما كان إلى الجسد والدثار ما كان فوقه . ومطايا الخطيات حوامل الذنوب وزوامل الآثام جمع زاملة وهي بعير يستظهر به الإنسان يحمل متاعه عليه قال الشاعر
زوامل أشعار ولا علم عندهم
بجيدها إلا كعلم الأباعر
و تنخمت النخامة إذا تنخعتها والنخامة النخاعة . والجديدان الليل والنهار وقد جاء في الأخبار الشائعة المستفيضة في كتب المحدثين أن رسول الله ص أخبر أن بني أمية تملك الخلافة بعده مع ذم منه ع
[ 220 ]
لهم نحو ما روي عنه في تفسير قوله تعالى وَ ما جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ اَلشَّجَرَةَ اَلْمَلْعُونَةَ فِي اَلْقُرْآنِ فإن المفسرين قالوا إنه رأى بني أمية ينزون على منبره نزو القردة هذا لفظ رسول الله ص الذي فسر لهم الآية به فساءه ذلك ثم قال الشجرة الملعونة بنو أمية وبنو المغيرة ونحو
قوله ص إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا اتخذوا مال الله دولا وعباده خولا ونحو
قوله ص في تفسير قوله تعالى لَيْلَةُ اَلْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ قال ألف شهر يملك فيها بنو أمية وورد عنه ص من ذمهم الكثير المشهور نحو
قوله أبغض الأسماء إلى الله الحكم وهشام والوليد و
في خبر آخر اسمان يبغضهما الله مروان والمغيرة ونحو
قوله إن ربكم يحب ويبغض كما يحب أحدكم ويبغض وإنه يبغض بني أمية ويحب بني عبد المطلب فإن قلت كيف قال ثم لا تذوقها أبدا وقد ملكوا بعد قيام الدولة الهاشمية بالمغرب مدة طويلة قلت الاعتبار بملك العراق والحجاز وما عداهما من الأقاليم لا اعتداد به
[ 221 ](1/2640)
160 ـ ومن خطبة له ع
وَ لَقَدْ أَحْسَنْتُ جِوَارَكُمْ وَ أَحَطْتُ بِجُهْدِي مِنْ وَرَائِكُمْ وَ أَعْتَقْتُكُمْ مِنْ رِبَقِ اَلذُّلِّ وَ حَلَقِ اَلضَّيْمِ شُكْراً مِنِّي لِلْبِرِّ اَلْقَلِيلِ وَ إِطْرَاقاً عَمَّا أَدْرَكَهُ اَلْبَصَرُ وَ شَهِدَهُ اَلْبَدَنُ مِنَ اَلْمُنْكَرِ اَلْكَثِيرِ أحطت بجهدي من ورائكم حميتكم وحضنتكم والجهد بالضم الطاقة الربق جمع ربقة وهي الحبل يربق به البهم . وحلق الضيم جمع حلقة بالتسكين ويجوز حلق بكسر الحاء وحلاق فإن قلت كيف يجوز له أن يطرق ويغضي عن المنكر . قلت يجوز له ذلك إذا علم أو غلب على ظنه أنه إن نهاهم عنه لم يرتدعوا وأضافوا إليه منكرا آخر فحينئذ يخرج الإطراق والإغضاء عن حد الجواز إلى حد الوجوب لأن النهي عن المنكر يكون والحالة هذه مفسدة
[ 222 ](1/2641)
161 ـ ومن خطبة له ع
أَمْرُهُ قَضَاءٌ وَ حِكْمَةٌ وَ رِضَاهُ أَمَانٌ وَ رَحْمَةُ يَقْضِي بِعِلْمٍ وَ يَعْفُو بِحِلْمٍ اَللَّهُمَّ لَكَ اَلْحَمْدُ عَلَى مَا تَأْخُذُ وَ تُعْطِي وَ عَلَى مَا تُعَافِي وَ تَبْتَلِي حَمْداً يَكُونُ أَرْضَى اَلْحَمْدِ لَكَ وَ أَحَبَّ اَلْحَمْدِ إِلَيْكَ وَ أَفْضَلَ اَلْحَمْدِ عِنْدَكَ حَمْداً يَمْلَأُ مَا خَلَقْتَ وَ يَبْلُغُ مَا أَرَدْتَ حَمْداً لاَ يَحْجُبُ عَنْكَ وَ لاَ يُقْصَرُ دُونَكَ حَمْداً لاَ يَنْقَطِعُ عَدَدُهُ وَ لاَ يَفْنَى مَدَدُهُ فَلَسْنَا نَعْلَمُ كُنْهَ عَظَمَتِكَ إِلاَّ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ حَيٌّ قَيُّومُ لاَ تَأْخُذُكَ سِنَةٌ وَ لاَ نَوْمٌ لَمْ يَنْتَهِ إِلَيْكَ نَظَرٌ وَ لَمْ يُدْرِكْكَ بَصَرٌ أَدْرَكْتَ اَلْأَبْصَارَ وَ أَحْصَيْتَ اَلْأَعْمَالَ وَ أَخَذْتَ بِالنَّوَاصِي وَ اَلْأَقْدَامِ وَ مَا اَلَّذِي نَرَى مِنْ خَلْقِكَ وَ نَعْجَبُ لَهُ مِنْ قُدْرَتِكَ وَ نَصِفُهُ مِنْ عَظِيمِ سُلْطَانِكَ وَ مَا تَغَيَّبَ عَنَّا مِنْهُ وَ قَصُرَتْ أَبْصَارُنَا عَنْهُ وَ اِنْتَهَتْ عُقُولُنَا دُونَهُ وَ حَالَتْ سَوَاتِرُ اَلْغُيُوبِ بَيْنَنَا وَ بَيْنَهُ أَعْظَمُ فَمَنْ فَرَّغَ قَلْبَهُ وَ أَعْمَلَ فِكْرَهُ لِيَعْلَمَ كَيْفَ أَقَمْتَ عَرْشَكَ وَ كَيْفَ ذَرَأْتَ خَلْقَكَ وَ كَيْفَ عَلَّقْتَ فِي اَلْهَوَاءِ سَمَاوَاتِكَ وَ كَيْفَ مَدَدْتَ عَلَى مَوْرِ اَلْمَاءِ أَرْضَكَ رَجَعَ طَرْفُهُ حَسِيراً وَ عَقْلُهُ مَبْهُوراً وَ سَمْعُهُ وَالِهاً وَ فِكْرُهُ حَائِراً
[ 223 ](1/2642)
يجوز أن يكون أمره هاهنا هو الأمر الفعلي لا الأمر القولي كما يقال أمر فلان مستقيم وما أمر كذا وقال تعالى وَ ما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ وَ ما أَمْرُ اَلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ اَلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ فيكون المعنى أن شأنه تعالى ليس إلا أحد شيئين وهما أن يقول وأن يفعل فعبر عن أن يقول بقوله قضاء لأن القضاء الحكم وعبر عن أن يفعل بقوله وحكمة لأن أفعاله كلها تتبع دواعي الحكمة ويجوز أن يكون أمره هو الأمر القولي وهو المصدر من أمر له بكذا أمرا فيكون المعنى أن أوامره إيجاب وإلزام بما فيه حكمة ومصلحة وقد جاء القضاء بمعنى الإلزام والإيجاب في القرآن العزيز في قوله وَ قَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ أي أوجب وألزم . قوله ورضاه أمان ورحمة لأن من فاز بدرجة الرضا فقد أمن وحصلت له الرحمة لأن الرضا رحمة وزيادة . قوله يقضي بعلم أي يحكم بما يحكم به لأنه عالم بحسن ذلك القضاء أو وجوبه في العدل . قوله ويعفو بحلم أي لا يعفو عن عجز وذل كما يعفو الضعيف عن القوي بل هو قادر على الانتقام ولكنه يحلم . ثم حمد الله تعالى على الإعطاء والأخذ والعافية والبلاء لأن ذلك كله من عند الله لمصالح للمكلف يعلمها وما يعلمها المكلف والحمد على المصالح واجب .
[ 224 ]
ثم أخذ في تفخيم شأن ذلك الحمد وتعظيمه والمبالغة في وصفه احتذاء(1/2643)
بقول رسول الله ص الحمد لله زنة عرشه الحمد لله عدد خلقه الحمد لله مل ء سمائه وأرضه فقال ع حمدا يكون أرضى الحمد لك أي يكون رضاك له أوفى وأعظم من رضاك بغيره وكذلك القول في أحب وأفضل . قوله ويبلغ ما أردت أي هو غاية ما تنتهي إليه الإرادة وهذا كقول الأعرابية في صفة المطر غشينا ما شئنا وهو من فصيح الكلام . قوله لا يحجب عنك لأن الإخلاص يقارنه والرياء منتف عنه . قوله ولا يقصر دونك أي لا يحبس أي لا مانع عن وصوله إليك وهذا من باب التوسع ومعناه أنه بري ء من الموانع عن إثماره الثواب واقتضائه إياه وروي ولا يقصر من القصور وروي ولا يقصر من التقصير . ثم أخذ في بيان أن العقول قاصرة عن إدراك الباري سبحانه والعلم به وأنا إنما نعلم منه صفات إضافية أو سلبية كالعلم بأنه حي ومعنى ذلك أنه لا يستحيل على ذاته أن يعلم ويقدر وأنه قيوم بمعنى أن ذاته لا يجوز عليها العدم أي يقيم الأشياء ويمسكها وكل شي ء يقيم الأشياء كلها ويمسكها فليس بمحتاج إلى من يقيمه ويمسكه وإلا لم يكن مقيما وممسكا لكل شي ء وكل من ليس بمحتاج إلى من يقيمه ويمسكه فذاته لا يجوز عليها العدم وأنه تعالى لا تأخذه سنة ولا نوم لأن هذا من صفات الأجسام وما لا يجوز عليها العدم لا يكون جسما ولا يوصف بخواص الأجسام ولوازمها فإنه لا ينتهي إليه نظر لأن انتهاء النظر إليه يستلزم مقابلته وهو تعالى منزه عن الجهة وإلا لم يكن ذاته مستحيلا عليها العدم وأنه لا يدركه بصر لأن إبصار الأشياء بانطباع أمثلتها في الرطوبة الجليدية كانطباع أشباح المرئيات في المرآة والباري تعالى لا يتمثل ولا يتشبح وإلا لم يكن
[ 225 ](1/2644)
قيوما وأنه يدرك الأبصار لأنه إما عالم لذاته أو لأنه حي لا آفة به وأنه يحصي الأعمال لأنه عالم لذاته فيعلم كل شي ء حاضرا وماضيا ومستقبلا وأنه يأخذ بالنواصي والأقدام لأنه قادر لذاته فهو متمكن من كل مقدور . ثم خرج إلى فن آخر فقال وما الذي نعجب لأجله من قدرتك وعظيم ملكك والغائب عنا من عظمتك أعظم من الحاضر مثال ذلك أن جرم الشمس أعظم من جرم الأرض مائة وستين مرة ولا نسبة لجرم الشمس إلى فلكها المائل ولا نسبة لفلكها المائل إلى فلكها المميل وفلك تدوير المريخ الذي فوقها أعظم من مميل الشمس ولا نسبة لفلك تدوير المريخ إلى فلكه المميل وفلك تدوير المشتري أعظم من مميل المريخ ولا نسبة لفلك تدوير المشتري إلى فلكه المميل وفلك تدوير زحل أعظم من مميل المشتري ولا نسبة لفلك تدوير زحل إلى مميل زحل ولا نسبة لمميل زحل إلى كرة الثوابت ولا نسبة لكرة الثوابت إلى الفلك الأطلس الأقصى فانظر أي نسبة تكون الأرض بكليتها على هذا الترتيب إلى الفلك الأطلس وهذا مما تقصر العقول عن فهمه وتنتهي دونه وتحول سواتر الغيوب بينها وبينه كما قال ع . ثم ذكر أن من أعمل فكره ليعلم كيف أقام سبحانه العرش وكيف ذرأ الخلق وكيف علق السماوات بغير علاقة ولا عمد وكيف مد الأرض على الماء رجع طرفه حسيرا وعقله مبهورا وهذا كله حق ومن تأمل كتبنا العقلية واعتراضنا على الفلاسفة الذين عللوا هذه الأمور وزعموا أنهم استنبطوا لها أسبابا عقلية وادعوا وقوفهم على كنهها وحقائقها علم صحة ما ذكره ع من أن من حاول تقدير ملك الله تعالى وعظيم مخلوقاته بمكيال عقله فقد ضل ضلالا مبينا .
[ 226 ](1/2645)
و روي وفكره جائرا بالجيم أي عادلا عن الصواب والحسير المتعب والمبهور المغلوب والواله المتحير : مِنْهَا يَدَّعِي بِزَعْمِهِ أَنَّهُ يَرْجُو اَللَّهَ كَذَبَ وَ اَلْعَظِيمِ مَا بَالُهُ لاَ يَتَبَيَّنُ رَجَاؤُهُ فِي عَمَلِهِ فَكُلُّ مَنْ رَجَا عُرِفَ رَجَاؤُهُ فِي عَمَلِهِ إِلاَّ رَجَاءَ اَللَّهِ فَإِنَّهُ مَدْخُولٌ وَ كُلُّ خَوْفٍ مُحَقَّقٌ إِلاَّ خَوْفَ اَللَّهِ فَإِنَّهُ مَعْلُولٌ يَرْجُو اَللَّهَ فِي اَلْكَبِيرِ وَ يَرْجُو اَلْعِبَادَ فِي اَلصَّغِيرِ فَيُعْطِي اَلْعَبْدَ مَا لاَ يُعْطِي اَلرَّبَّ فَمَا بَالُ اَللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يُقَصَّرُ بِهِ عَمَّا يُصْنَعُ بِهِ لِعِبَادِهِ أَ تَخَافُ أَنْ تَكُونَ فِي رَجَائِكَ لَهُ كَاذِباً أَوْ تَكُونَ لاَ تَرَاهُ لِلرَّجَاءِ مَوْضِعاً وَ كَذَلِكَ إِنْ هُوَ خَافَ عَبْداً مِنْ عَبِيدِهِ أَعْطَاهُ مِنْ خَوْفِهِ مَا لاَ يُعْطِي رَبَّهُ فَجَعَلَ خَوْفَهُ مِنَ اَلْعِبَادِ نَقْداً وَ خَوْفَهُ مِنْ خَالِقِهِ ضِمَاراً وَ وَعْداً وَ كَذَلِكَ مَنْ عَظُمَتِ اَلدُّنْيَا فِي عَيْنِهِ وَ كَبُرَ مَوْقِعُهَا مِنْ قَلْبِهِ آثَرَهَا عَلَى اَللَّهِ فَانْقَطَعَ إِلَيْهَا وَ صَارَ عَبْداً لَهَا يجوز بزعمه بالضم وبزعمه بالفتح وبزعمه بالكسر ثلاث لغات أي بقوله فأما من زعمت أي كفلت فالمصدر الزعم بالفتح والزعامة
[ 227 ](1/2646)
ثم أقسم على كذب هذا الزاعم فقال والعظيم ولم يقل والله العظيم تأكيدا لعظمة البارئ سبحانه لأن الموصوف إذا ألقي وترك واعتمد على الصفة حتى صارت كالاسم كان أدل على تحقق مفهوم الصفة كالحارث والعباس . ثم بين مستند هذا التكذيب فقال ما بال هذا الزاعم أنه يرجو ربه ولا يظهر رجاؤه في عمله فإنا نرى من يرجو واحدا من البشر يلازم بابه ويواظب على خدمته ويتحبب إليه ويتقرب إلى قلبه بأنواع الوسائل والقرب ليظفر بمراده منه ويتحقق رجاؤه فيه وهذا الإنسان الذي يزعم أنه يرجو الله تعالى لا يظهر من أعماله الدينية ما يدل على صدق دعواه ومراده ع هاهنا ليس شخصا بعينه بل كل إنسان هذه صفته فالخطاب له والحديث معه . ثم قال كل رجاء إلا رجاء الله فهو مدخول أي معيب والدخل بالتسكين العيب والريبة ومن كلامهم ترى الفتيان كالنخل وما يدريك ما الدخل وجاء الدخل بالتحريك أيضا يقال هذا الأمر فيه دخل ودغل بمعنى قوله تعالى وَ لا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أي مكرا وخديعة وهو من هذا الباب أيضا . ثم قال وكل خوف محقق إلا خوف الله فإنه معلول محقق أي ثابت أي كل خوف حاصل حقيقة فإنه مع هذا الحصول والتحقق معلول ليس بالخوف الصريح إلا خوف الله وحده وتقواه وهيبته وسطوته وسخطه ذلك لأن الأمر الذي يخاف من العبد سريع الانقضاء والزوال والأمر الذي يخاف من الباري تعالى لا غاية له ولا انقضاء لمحذوره كما قيل
في الحديث المرفوع فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة .
[ 228 ](1/2647)
ثم عاد إلى الرجاء فقال يرجو هذا الإنسان الله في الكثير أي يرجو رحمته في الآخرة ولا يتعلق رجاؤه بالله تعالى إلا في هذا الموضع فأما ما عدا ذلك من أمور الدنيا كالمكاسب والأموال والجاه والسلطان واندفاع المضار والتوصل إلى الأغراض بالشفاعات والتوسلات فإنه لا يخطر له الله تعالى ببال بل يعتمد في ذلك على السفراء والوسطاء ويرجو حصول هذه المنافع ودفع هذه المضار من أبناء نوعه من البشر فقد أعطى العباد من رجائه ما لم يعطه الخالق سبحانه فهو مخطئ لأنه إما ألا يكون هو في نفسه صالحا لأن يرجوه سبحانه وإما ألا يكون البارئ تعالى في نفسه صالحا لأن يرجى فإن كان الثاني فهو كفر صراح وإن كان الأول فالعبد مخطئ حيث لم يجعل نفسه مستعدا لفعل الصالحات لأن يصلح لرجاء البارئ سبحانه . ثم انتقل ع إلى الخوف فقال وكذلك إن خاف هذا الإنسان عبدا مثله خافه أكثر من خوفه البارئ سبحانه لأن كثيرا من الناس يخافون السلطان وسطوته أكثر من خوفهم مؤاخذة البارئ سبحانه وهذا مشاهد ومعلوم من الناس فخوف بعضهم من بعض كالنقد المعجل وخوفهم من خالقهم ضمار ووعد والضمار ما لا يرجى من الوعود والديون قال الراعي
حمدن مزاره وأصبن منه
عطاء لم يكن عدة ضمارا
ثم قال وكذلك من عظمت الدنيا في عينه يختارها على الله ويستعبده حبها ويقال كبر بالضم يكبر أي عظم فهو كبير وكبار بالتخفيف فإذا أفرط قيل
[ 229 ](1/2648)
كبار بالتشديد فأما كبر بالكسر فمعناه أسن والمصدر منهما كبرا بفتح الباء : وَ لَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اَللَّهِ ص كَافٍ لَكَ فِي اَلْأُسْوَةِ وَ دَلِيلٌ لَكَ عَلَى ذَمِّ اَلدُّنْيَا وَ عَيْبِهَا وَ كَثْرَةِ مَخَازِيهَا وَ مَسَاوِيهَا إِذْ قُبِضَتْ عَنْهُ أَطْرَافُهَا وَ وُطَّئَتْ لِغَيْرِهِ أَكْنَافُهَا وَ فُطِمَ عَنْ رَضَاعِهَا وَ زُوِيَ عَنْ زَخَارِفِهَا وَ إِنْ شِئْتَ ثَنَّيْتُ بِمُوسَى كَلِيمِ اَللَّهِ ص حَيْثُ يَقُولُ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ وَ اَللَّهِ مَا سَأَلَهُ إِلاَّ خُبْزاً يَأْكُلُهُ لِأَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ بَقْلَةَ اَلْأَرْضِ وَ لَقَدْ كَانَتْ خُضْرَةُ اَلْبَقْلِ تُرَى مِنْ شَفِيفِ صِفَاقِ بَطْنِهِ لِهُزَالِهِ وَ تَشَذُّبِ لَحْمِهِ وَ إِنْ شِئْتَ ثَلَّثْتُ بِدَاوُدَ ص صَاحِبِ اَلْمَزَامِيرِ وَ قَارِئِ أَهْلِ اَلْجَنَّةِ فَلَقَدْ كَانَ يَعْمَلُ سَفَائِفَ اَلْخُوصِ بِيَدِهِ وَ يَقُولُ لِجُلَسَائِهِ أَيُّكُمْ يَكْفِينِي بَيْعَهَا وَ يَأْكُلُ قُرْصَ اَلشَّعِيرِ مِنْ ثَمَنِهَا وَ إِنْ شِئْتَ قُلْتُ فِي عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ ع فَلَقَدْ كَانَ يَتَوَسَّدُ اَلْحَجَرَ وَ يَلْبَسُ اَلْخَشِنَ وَ يَأْكُلُ اَلْجَشِبَ وَ كَانَ إِدَامُهُ اَلْجُوعَ وَ سِرَاجُهُ بِاللَّيْلِ اَلْقَمَرَ وَ ظِلاَلُهُ فِي اَلشِّتَاءِ مَشَارِقَ اَلْأَرْضِ وَ مَغَارِبَهَا وَ فَاكِهَتُهُ وَ رَيْحَانُهُ مَا تُنْبِتُ اَلْأَرْضُ لِلْبَهَائِمِ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ تَفْتِنُهُ وَ لاَ وَلَدٌ يَحْزُنُهُ وَ لاَ مَالٌ يَلْفِتُهُ وَ لاَ طَمَعٌ يُذِلُّهُ دَابَّتُهُ رِجْلاَهُ وَ خَادِمُهُ يَدَاهُ
[ 230 ](1/2649)
يجوز أسوة وإسوة وقرئ التنزيل بهما والمساوئ العيوب ساءه كذا يسوؤه سوءا بالفتح ومساءة ومسائية وسوته سواية ومساية بالتخفيف أي ساءه ما رآه مني وسأل سيبويه الخليل عن سوائية فقال هي فعالية بمنزلة علانية والذين قالوا سواية حذفوا الهمزة تخفيفا وهي في الأصل قال وسألته عن مسائية فقال هي مقلوبة وأصلها مساوئة فكرهوا الواو مع الهمزة والذين قالوا مساية حذفوا الهمزة أيضا تخفيفا ومن أمثالهم الخيل تجري في مساويها أي أنها وإن كانت بها عيوب وأوصاب فإن كرمها يحملها على الجري . والمخازي جمع مخزاة وهي الأمر يستحى من ذكره لقبحه وأكنافها جوانبها وزوى قبض وزخارف جمع زخرف وهو الذهب
روي عن رسول الله ص أنه قال عرضت علي كنوز الأرض ودفعت إلي مفاتيح خزائنها فكرهتها واخترت الدار الآخرة وجاء في الأخبار الصحيحة أنه كان يجوع ويشد حجرا على بطنه وأنه ما شبع آل محمد من لحم قط وأن فاطمة وبعلها وبنيها كانوا يأكلون خبز الشعير وأنهم آثروا سائلا بأربعة أقراص منه كانوا أعدوها لفطورهم وباتوا جياعا وقد كان رسول الله ص ملك قطعة واسعة من الدنيا فلم يتدنس منها بقليل ولا كثير ولقد كانت الإبل التي غنمها يوم حنين أكثر من عشرة آلاف بعير فلم يأخذ منها وبرة لنفسه وفرقها كلها على الناس وهكذا كانت شيمته وسيرته في جميع أحواله إلى أن توفي . والصفاق الجلد الباطن الذي فوقه الجلد الظاهر من البطن وشفيفه رقيقه الذي يستشف ما وراءه وبالتفسير الذي فسر ع الآية فسرها المفسرون وقالوا إن
[ 231 ](1/2650)
خضرة البقل كانت ترى في بطنه من الهزال وإنه ما سأل الله إلا أكلة من الخبز وما في لِما أَنْزَلْتَ بمعنى أي أي إني لأي شي ء أنزلت إلي قليل أو كثير غث أو سمين فقير . فإن قلت لم عدى فقيرا باللام وإنما يقال فقير إلى كذا قلت لأنه ضمن معنى سائل ومطالب ومن فسر الآية بغير ما ذكره ع لم يحتج إلى الجواب عن هذا السؤال فإن قوما قالوا أراد إني فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إلي من خير أي من خير الدين وهو النجاة من الظالمين فإن ذلك رضا بالبدل السني وفرحا به وشكرا له . وتشذب اللحم تفرقه والمزامير جمع مزمار وهو الآلة التي يزمر فيها ويقال زمر يزمر ويزمر بالضم والكسر فهو زمار ولا يكاد يقال زامر ويقال للمرأة زامرة ولا يقال زمارة فأما الحديث أنه نهى عن كسب الزمارة فقالوا إنها الزانية هاهنا ويقال إن داود أعطي من طيب النغم ولذة ترجيع القراءة ما كانت الطيور لأجله تقع عليه وهو في محرابه والوحش تسمعه فتدخل بين الناس ولا تنفر منهم لما قد استغرقها من طيب صوته و
قال النبي ص لأبي موسى وقد سمعه يقرأ لقد أوتيت مزمارا من مزامير داود وكان أبو موسى شجي الصوت إذا قرأ و
ورد في الخبر داود قارئ أهل الجنة . وسفائف الخوص جمع سفيفة وهي النسيجة منه سففت الخوص وأسففته بمعنى وهذا الذي ذكره ع عن داود يجب أن يحمل على أنه شرح حاله قبل أن يملك فإنه كان فقيرا فأما حيث ملك فإن المعلوم من سيرته غير ذلك . فأما عيسى فحاله كما ذكرها ع لا ريب في ذلك على أنه أكل اللحم وشرب
[ 232 ](1/2651)
الخمر وركب الحمار وخدمه التلامذة ولكن الأغلب من حاله هي الأمور التي عددها أمير المؤمنين ع . ويقال حزنني الشي ء يحزنني بالضم ويجوز أحزنني بالهمز يحزنني وقرئ بهما وهو في كلامه ع في هذا الفصل بهما ويقال لفته عن كذا يلفته بالكسر أي صرفه ولواه : فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ اَلْأَطْيَبِ اَلْأَطْهَرِ ص فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى وَ عَزَاءً لِمَنْ تَعَزَّى وَ أَحَبُّ اَلْعِبَادِ إِلَى اَللَّهِ اَلْمُتَأَسِّي بِنَبِيِّهِ وَ اَلْمُقْتَصُّ لِأَثَرِهِ قَضَمَ اَلدُّنْيَا قَضْماً وَ لَمْ يُعِرْهَا طَرْفاً أَهْضَمُ أَهْلِ اَلدُّنْيَا كَشْحاً وَ أَخْمَصُهُمْ مِنَ اَلدُّنْيَا بَطْناً عُرِضَتْ عَلَيْهِ اَلدُّنْيَا فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا وَ عَلِمَ أَنَّ اَللَّهَ تَعَالَى أَبْغَضَ شَيْئاً فَأَبْغَضَهُ وَ حَقَّرَ شَيْئاً فَحَقَّرَهُ وَ صَغَّرَ شَيْئاً فَصَغَّرَهُ وَ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِينَا إِلاَّ حُبُّنَا مَا أَبْغَضَ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ تَعْظِيمُنَا مَا صَغَّرَ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ لَكَفَى بِهِ شِقَاقاً لِلَّهِ تَعَالَى وَ مُحَادَّةً عَنْ أَمْرِ اَللَّهِ تَعَالَى وَ لَقَدْ كَانَ ص يَأْكُلُ عَلَى اَلْأَرْضِ وَ يَجْلِسُ جِلْسَةَ اَلْعَبْدِ وَ يَخْصِفُ بِيَدِهِ نَعْلَهُ وَ يَرْفَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ وَ يَرْكَبُ اَلْحِمَارَ اَلْعَارِيَ وَ يُرْدِفُ خَلْفَهُ وَ يَكُونُ اَلسِّتْرُ عَلَى بَابِ بَيْتِهِ فَتَكُونُ فِيهِ اَلتَّصَاوِيرُ فَيَقُولُ يَا فُلاَنَةُ لِإِحْدَى أَزْوَاجِهِ غَيِّبِيهِ عَنِّي فَإِنِّي إِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ ذَكَرْتُ اَلدُّنْيَا وَ زَخَارِفَهَا فَأَعْرَضَ عَنِ اَلدُّنْيَا بِقَلْبِهِ وَ أَمَاتَ ذِكْرَهَا مِنْ نَفْسِهِ وَ أَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ لِكَيْلاَ يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً وَ لاَ يَعْتَقِدَهَا قَرَاراً وَ لاَ يَرْجُوَ فِيهَا(1/2652)
مُقَاماً فَأَخْرَجَهَا مِنَ اَلنَّفْسِ وَ أَشْخَصَهَا عَنِ اَلْقَلْبِ وَ غَيَّبَهَا عَنِ اَلْبَصَرِ
[ 233 ]
وَ كَذَلِكَ مَنْ أَبْغَضَ شَيْئاً أَبْغَضَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ وَ أَنْ يُذْكَرَ عِنْدَهُ وَ لَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اَللَّهِ ص مَا يَدُلُّكُ عَلَى مَسَاوِئِ اَلدُّنْيَا وَ عُيُوبِهَا إِذْ جَاعَ فِيهَا مَعَ خَاصَّتِهِ وَ زُوِيَتْ عَنْهُ زَخَارِفُهَا مَعَ عَظِيمِ زُلْفَتِهِ فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ بِعَقْلِهِ أَكْرَمَ اَللَّهُ مُحَمَّداً ص بِذَلِكَ أَمْ أَهَانَهُ فَإِنْ قَالَ أَهَانَهُ فَقَدْ كَذَبَ وَ اَللَّهِ اَلْعَظِيمِ بِالْإِفْكِ اَلْعَظِيمِ وَ إِنْ قَالَ أَكْرَمَهُ فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اَللَّهَ قَدْ أَهَانَ غَيْرَهُ حَيْثُ بَسَطَ اَلدُّنْيَا لَهُ وَ زَوَاهَا عَنْ أَقْرَبِ اَلنَّاسِ مِنْهُ فَتَأَسَّى مُتَأَسٍّ بِنَبِيِّهِ وَ اِقْتَصَّ أَثَرَهُ وَ وَلَجَ مَوْلِجَهُ وَ إِلاَّ فَلاَ يَأْمَنِ اَلْهَلَكَةَ فَإِنَّ اَللَّهَ جَعَلَ مُحَمَّداً ص عَلَماً لِلسَّاعَةِ وَ مُبَشِّراً بِالْجَنَّةِ وَ مُنْذِراً بِالْعُقُوبَةِ خَرَجَ مِنَ اَلدُّنْيَا خَمِيصاً وَ وَرَدَ اَلآْخِرَةَ سَلِيماً لَمْ يَضَعْ حَجَراً عَلَى حَجَرٍ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ وَ أَجَابَ دَاعِيَ رَبِّهِ فَمَا أَعْظَمَ مِنَّةَ اَللَّهِ عِنْدَنَا حِينَ أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِهِ سَلَفاً نَتَّبِعُهُ وَ قَائِداً نَطَأُ عَقِبَهُ وَ اَللَّهِ لَقَدْ رَقَّعْتُ مِدْرَعَتِي هَذِهِ حَتَّى اِسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَاقِعِهَا وَ لَقَدْ قَالَ لِي قَائِلٌ أَ لاَ تَنْبِذُهَا عَنْكَ فَقُلْتُ اُعْزُبْ اُغْرُبْ عَنِّي فَعِنْدَ اَلصَّبَاحِ يَحْمَدُ اَلْقَوْمُ اَلسُّرَى المقتص لأثره المتبع له ومنه قوله تعالى وَ قالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ وقضم الدنيا تناول منها قدر الكفاف وما تدعو إليه الضرورة من خشن العيشة وقال أبو ذر رحمه الله(1/2653)
يخضمون ونقضم والموعد الله وأصل القضم أكل الشي ء اليابس بأطراف الأسنان والخضم أكل بكل الفم للأشياء الرطبة وروي قصم بالصاد أي كسر
[ 234 ]
قوله أهضم أهل الدنيا كشحا الكشح الخاصرة ورجل أهضم بين الهضم إذا كان خميصا لقلة الأكل . وروي وحقر شيئا فحقره بالتخفيف والشقاق الخلاف والمحادة المعاداة وخصف النعل خرزها والرياش الزينة والمدرعة الدراعة . وقوله عند الصباح يحمد القوم السرى مثل يضرب لمحتمل المشقة العاجلة رجاء الراحة الآجلة(1/2654)
نبذ من الأخبار والآثار الواردة في البعد عن زينة الدنيا
جاء في الأخبار الصحيحة أنه ع قال إنما أنا عبد آكل أكل العبيد وأجلس جلسة العبيد وكان يأكل على الأرض ويجلس جلوس العبيد يضع قصبتي ساقيه على الأرض ويعتمد عليهما بباطني فخذيه وركوبه الحمار العاري آية التواضع وهضم النفس وأردف غيره خلفه آكد في الدلالة على ذلك . وجاء في الأخبار الصحيحة النهي عن التصاوير وعن نصب الستور التي فيها التصاوير وكان رسول الله ص إذا رأى سترا فيه التصاوير أمر أن تقطع رأس تلك الصورة . و
جاء في الخبر من صور صورة كلف في القيامة أن ينفخ فيها الروح فإذا قال لا أستطيع عذب
[ 235 ]
قوله لم يضع حجرا على حجر هو عين ما جاء في الأخبار الصحيحة خرج رسول الله ص من الدنيا ولم يضع حجرا على حجر . وجاء في أخبار علي ع التي ذكرها أبو عبد الله أحمد بن حنبل في كتاب فضائله وهو
روايتي عن قريش بن السبيع بن المهنا العلوي عن نقيب الطالبيين أبي عبد الله أحمد بن علي بن المعمر عن المبارك بن عبد الجبار أحمد بن القاسم الصيرفي المعروف بابن الطيوري عن محمد بن علي بن محمد بن يوسف العلاف المزني عن أبي بكر أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه أبي عبد الله أحمد رحمه الله قال قيل لعلي ع يا أمير المؤمنين لم ترقع قميصك قال ليخشع القلب ويقتدي بي المؤمنون . و(1/2655)
روى أحمد رحمه الله أن عليا كان يطوف الأسواق مؤتزرا بإزار مرتديا برداء ومعه الدرة كأنه أعرابي بدوي فطاف مرة حتى بلغ سوق الكرابيس فقال لواحد يا شيخ بعني قميصا تكون قيمته ثلاثة دراهم فلما عرفه الشيخ لم يشتر منه شيئا ثم أتى آخر فلما عرفه لم يشتر منه شيئا فأتى غلاما حدثا فاشترى منه قميصا بثلاثة دراهم فلما جاء أبو الغلام أخبره فأخذ درهما ثم جاء إلى علي ع ليدفعه إليه فقال له ما هذا أو قال ما شابه هذا فقال يا مولاي إن القميص الذي باعك ابني كان يساوي درهمين فلم يأخذ الدرهم وقال باعني رضاي وأخذ رضاه . و
روى أحمد رحمه الله عن أبي النوار بائع الخام بالكوفة قال جاءني علي بن أبي طالب إلى السوق ومعه غلام له وهو خليفة فاشترى مني قميصين وقال لغلامه اختر أيهما شئت فأخذ أحدهما وأخذ علي الآخر ثم لبسه ومد يده فوجد كمه فاضلة فقال اقطع الفاضل فقطعته ثم كفه وذهب .
[ 236 ]
و روى أحمد رحمه الله عن الصمال بن عمير قال رأيت قميص علي ع الذي أصيب فيه وهو كرابيس سبيلاني ورأيت دمه قد سال عليه كالدردي . وروى أحمد رحمه الله قال لما أرسل عثمان إلى علي ع وجده مؤتزرا بعباءة محتجزا بعقال وهو يهنأ بعيرا له والأخبار في هذا المعنى كثيرة وفيما ذكرناه كفاية
[ 237 ](1/2656)
162 ـ ومن خطبة له ع
اِبْتَعَثَهُ بِالنُّورِ اَلْمُضِي ءِ وَ اَلْبُرْهَانِ اَلْجَلِيِّ وَ اَلْمِنْهَاجِ اَلْبَادِي وَ اَلْكِتَابِ اَلْهَادِي أُسْرَتُهُ خَيْرُ أُسْرَةٍ وَ شَجَرَتُهُ خَيْرُ شَجَرَةٍ أَغْصَانُهَا مُعْتَدِلَةٌ وَ ثِمَارُهَا مُتَهَدِّلَةٌ مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ وَ هِجْرَتُهُ بِطَيْبَةَ عَلاَ بِهَا ذِكْرُهُ وَ اِمْتَدَّ مِنْهَا صَوْتُهُ أَرْسَلَهُ بِحُجَّةٍ كَافِيَةٍ وَ مَوْعِظَةٍ شَافِيَةٍ وَ دَعْوَةٍ مُتَلاَفِيَةٍ أَظْهَرَ بِهِ اَلشَّرَائِعَ اَلْمَجْهُولَةَ وَ قَمَعَ بِهِ اَلْبِدَعَ اَلْمَدْخُولَةَ وَ بَيَّنَ بِهِ اَلْأَحْكَامَ اَلْمَفْصُولَةَ فَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اَلْإِسْلاَمِ دَيْناً تَتَحَقَّقْ شِقْوَتُهُ وَ تَنْفَصِمْ عُرْوَتُهُ وَ تَعْظُمْ كَبْوَتُهُ وَ يَكُنْ مَآبُهُ إِلَى اَلْحُزْنِ اَلطَّوِيلِ وَ اَلْعَذَابِ اَلْوَبِيلِ وَ أَتَوَكَّلُ عَلَى اَللَّهِ تَوَكُّلَ اَلْإِنَابَةِ إِلَيْهِ وَ أَسْتَرْشِدُهُ اَلسَّبِيلَ اَلْمُؤَدِّيَةَ إِلَى جَنَّتِهِ اَلْقَاصِدَةَ إِلَى مَحَلِّ رَغْبَتِهِ بالنور المضي ء أي بالدين أو بالقرآن وأسرته أهله أغصانها معتدلة كناية عن عدم الاختلاف بينهم في الأمور الدينية وثمارها متهدلة أي متدلية كناية عن سهولة اجتناء العلم منها . وطيبة اسم المدينة كان اسمها يثرب فسماها رسول الله ص طيبة
[ 238 ](1/2657)
و مما أكفر الناس به يزيد بن معاوية أنه سماها خبيثة مراغمة لرسول الله ص . علا بها ذكره لأنه ص إنما انتصر وقهر الأعداء بعد الهجرة ودعوة متلافية أي تتلافى ما فسد في الجاهلية من أديان البشر . قوله وبين به الأحكام المفصولة ليس يعني أنها كانت مفصولة قبل أن بينها بل المراد بين به الأحكام التي هي الآن مفصولة عندنا وواضحة لنا لأجل بيانه لها . والكبوة مصدر كبا الجواد إذا عثر فوقع إلى الأرض والمآب المرجع والعذاب الوبيل ذو الوبال وهو الهلاك والإنابة الرجوع والسبيل الطريق يذكر ويؤنث والقاصدة ضد الجائرة فإن قلت لم عدى القاصدة ب إلى قلت لأنها لما كانت قاصدة تضمنت معنى الإفضاء إلى المقصد فعداها ب إلى باعتبار المعنى : أُوصِيكُمْ عِبَادَ اَللَّهِ بِتَقْوَى اَللَّهِ وَ طَاعَتِهِ فَإِنَّهَا اَلنَّجَاةُ غَداً وَ اَلْمَنْجَاةُ أَبَداً رَهَّبَ فَأَبْلَغَ وَ رَغَّبَ فَأَسْبَغَ وَ وَصَفَ لَكُمُ اَلدُّنْيَا وَ اِنْقِطَاعَهَا وَ زَوَالَهَا وَ اِنْتِقَالَهَا فَأَعْرِضُوا عَمَّا يُعْجِبُكُمْ فِيهَا لِقِلَّةِ مَا يَصْحَبُكُمْ مِنْهَا أَقْرَبُ دَارٍ مِنْ سَخَطِ اَللَّهِ وَ أَبْعَدُهَا مِنْ رِضْوَانِ اَللَّهِ
[ 239 ](1/2658)
فَغُضُّوا عَنْكُمْ عِبَادَ اَللَّهِ غُمُومَهَا وَ أَشْغَالَهَا لِمَا أَيْقَنْتُمْ بِهِ مِنْ فِرَاقِهَا وَ تَصَرُّفِ حَالاَتِهَا فَاحْذَرُوهَا حَذَرَ اَلشَّفِيقِ اَلنَّاصِحِ وَ اَلْمُجِدِّ اَلْكَادِحِ وَ اِعْتَبِرُوا بِمَا قَدْ رَأَيْتُمْ مِنْ مَصَارِعِ اَلْقُرُونِ قَبْلَكُمْ قَدْ تَزَايَلَتْ أَوْصَالُهُمْ وَ زَالَتْ أَبْصَارُهُمْ وَ أَسْمَاعُهُمْ وَ ذَهَبَ شَرَفُهُمْ وَ عِزُّهُمْ وَ اِنْقَطَعَ سُرُورُهُمْ وَ نَعِيمُهُمْ فَبُدِّلُوا بِقُرْبِ اَلْأَوْلاَدِ فَقْدَهَا وَ بِصُحْبَةِ اَلْأَزْوَاجِ مُفَارَقَتَهَا لاَ يَتَفَاخَرُونَ وَ لاَ يَتَنَاسَلُونَ وَ لاَ يَتَزَاوَرُونَ وَ لاَ يَتَحَاوَرُونَ فَاحْذَرُوا عِبَادَ اَللَّهِ حَذَرَ اَلْغَالِبِ لِنَفْسِهِ اَلْمَانِعِ لِشَهْوَتِهِ اَلنَّاظِرِ بِعَقْلِهِ فَإِنَّ اَلْأَمْرَ وَاضِحٌ وَ اَلْعَلَمَ قَائِمٌ وَ اَلطَّرِيقَ جَدَدٌ وَ اَلسَّبِيلَ قَصْدٌ المنجاة مصدر نجا ينجو نجاة ومنجاة والنجاة الناقة ينجى عليها فاستعارها هاهنا للطاعة والتقوى كأنها كالمطية المركوبة يخلص بها الإنسان من الهلكة . قوله رهب فأبلغ الضمير يرجع إلى الله سبحانه أي خوف المكلفين فأبلغ في التخويف ورغبهم فأتم الترغيب وأسبغه ثم أمر بالإعراض عما يسر ويروق من أمر الدنيا لقلة ما يصحب الناس من ذلك ثم قال إنها أقرب دار من سخط الله وهذا نحو
قول النبي ص حب الدنيا رأس كل خطيئة .
[ 240 ](1/2659)
قوله فغضوا عنكم عباد الله غمومها أي كفوا عن أنفسكم الغم لأجلها والاشتغال بها يقال غضضت فلانا عن كذا أي كففته قال تعالى وَ اُغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ قوله فاحذروها حذر الشفيق الناصح أي فاحذروها على أنفسكم لأنفسكم كما يحذر الشفيق الناصح على صاحبه وكما يحذر المجد الكادح أي الساعي من خيبة سعيه والأوصال الأعضاء والمحاورة المخاطبة والمناجاة وروي ولا يتجاورون بالجيم والعلم ما يتسدل به في المفازة وطريق جدد أي سهل واضح والسبيل قصد أي مستقيم
[ 241 ](1/2660)
163 ـ ومن كلام له ع لبعض أصحابه
و قد سأله كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به فقال ع : يَا أَخَا بَنِي أَسَدٍ إِنَّكَ لَقَلِقُ اَلْوَضِينِ تُرْسِلُ فِي غَيْرِ سَدَدٍ وَ لَكَ بَعْدُ ذِمَامَةُ اَلصِّهْرِ وَ حَقُّ اَلْمَسْأَلَةِ وَ قَدِ اِسْتَعْلَمْتَ فَاعْلَمْ أَمَّا اَلاِسْتِبْدَادُ عَلَيْنَا بِهَذَا اَلْمَقَامِ وَ نَحْنُ اَلْأَعْلَوْنَ نَسَباً وَ اَلْأَشَدُّونَ بِالرَّسُولِ ص نَوْطاً فَإِنَّهَا كَانَتْ أَثَرَةً شَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ وَ سَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِينَ وَ اَلْحَكَمُ اَللَّهُ وَ اَلْمَعْوَدُ إِلَيْهِ يَوْمُ اَلْقِيَامَةِ
وَ دَعْ عَنْكَ نَهْباً صِيحَ فِي حَجَرَاتِهِ
وَ لَكِنْ حَدِيثاً مَا حَدِيثُ اَلرَّوَاحِلِ
وَ هَلُمَّ اَلْخَطْبَ فِي اِبْنِ أَبِي سُفْيَانَ فَلَقَدْ أَضْحَكَنِي اَلدَّهْرُ بَعْدَ إِبْكَائِهِ وَ لاَ غَرْوَ وَ اَللَّهِ فَيَا لَهُ خَطْباً يَسْتَفْرِغُ اَلْعَجَبَ وَ يُكْثِرُ اَلْأَوَدَ حَاوَلَ اَلْقَوْمُ إِطْفَاءَ نُورِ اَللَّهِ مِنْ مِصْبَاحِهِ وَ سَدَّ فَوَّارِهِ مِنْ يَنْبُوعِهِ وَ جَدَحُوا بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ شِرْباً وَبِيئاً فَإِنْ تَرْتَفِعْ عَنَّا وَ عَنْهُمْ مِحَنُ اَلْبَلْوَى أَحْمِلْهُمْ مِنَ اَلْحَقِّ عَلَى مَحْضِهِ وَ إِنْ تَكُنِ اَلْأُخْرَى فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اَللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ
[ 242 ]
الوضين بطان القتب وحزام السرج ويقال للرجل المضطرب في أموره إنه لقلق الوضين وذلك أن الوضين إذا قلق اضطرب القتب أو الهودج أو السرج ومن عليه . ويرسل في غير سدد أي يتكلم في غير قصد وفي غير صواب والسدد والاستداد الاستقامة والصواب والسديد الذي يصيب السدد وكذلك المسد واستد الشي ء أي استقام . وذمامة الصهر بالكسر أي حرمته هو الذمام قال ذو الرمة(1/2661)
تكن عوجة يجزيكها الله عنده
بها الأجر أو تقضى ذمامة صاحب
و يروى ماتة الصهر أي حرمته ووسيلته مت إليه بكذا وإنما قال ع له ولك بعد ذمامة الصهر لأن زينب بنت جحش زوج رسول الله ص كانت أسدية وهي زينب بنت جحش بن رباب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كثير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة وأمها أمية بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف فهي بنت عمة رسول الله ص والمصاهرة المشار إليها هي هذه . ولم يفهم القطب الراوندي ذلك فقال في الشرح كان أمير المؤمنين ع قد تزوج في بني أسد ولم يصب فإن عليا ع لم يتزوج في بني أسد البتة ونحن نذكر أولاده أما الحسن والحسين وزينب الكبرى وأم كلثوم الكبرى فأمهم فاطمة بنت سيدنا رسول الله ص وأما محمد فأمه خولة بنت إياس بن جعفر من بني حنيفة وأما أبو بكر وعبد الله فأمهما ليلى بنت مسعود النهشلية
[ 243 ](1/2662)
من تميم وأما عمر ورقية فأمهما سبية من بني تغلب يقال لها الصهباء سبيت في خلافة أبي بكر وإمارة خالد بن الوليد بعين التمر وأما يحيى وعون فأمهما أسماء بنت عميس الخثعمية وأما جعفر والعباس وعبد الله وعبد الرحمن فأمهم أم البنين بنت حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد من بني كلاب وأما رملة وأم الحسن فأمهما أم سعيد بنت عروة بن مسعود الثقفي وأما أم كلثوم الصغرى وزينب الصغرى وجمانة وميمونة وخديجة وفاطمة وأم الكرام ونفيسة وأم سلمة وأم أبيها وأمامة بنت علي ع فهن لأمهات أولاد شتى فهؤلاء أولاده وليس فيهم أحد من أسدية ولا بلغنا أنه تزوج في بني أسد ولم يولد له ولكن الراوندي يقول ما يخطر له ولا يحقق . وأما حق المسألة فلأن للسائل على المسئول حقا حيث أهله لأن يستفيد منه . والاستبداد بالشي ء التفرد به والنوط الالتصاق وكانت أثرة أي استئثارا بالأمر واستبدادا به قال النبي ص للأنصار ستلقون بعدي أثرة . وشحت بخلت وسخت جادت ويعني بالنفوس التي سخت نفسه وبالنفوس التي شحت أما على قولنا فإنه يعني نفوس أهل الشورى بعد مقتل عمر وأما على قول الإمامية فنفوس أهل السقيفة وليس في الخبر ما يقتضي صرف ذلك إليهم فالأولى أن يحمل على ما ظهر عنه من تألمه من عبد الرحمن بن عوف وميله إلى عثمان . ثم قال إن الحكم هو الله وإن الوقت الذي يعود الناس كلهم إليه هو يوم القيامة وروي يوم بالنصب على أنه ظرف والعامل فيه المعود على أن يكون مصدرا . وأما البيت فهو لإمرئ القيس بن حجر الكندي وروي أن أمير المؤمنين ع لم يستشهد إلا بصدره فقط وأتمه الرواة
[ 244 ](1/2663)
حديث عن إمرئ القيس
و كان من قصة هذا الشعر أن إمرأ القيس لما تنقل في أحياء العرب بعد قتل أبيه نزل على رجل من جديلة طيئ يقال له طريف بن مل ء فأجاره وأكرمه وأحسن إليه فمدحه وأقام عنده ثم إنه لم يوله نصيبا في الجبلين أجأ وسلمى فخاف ألا يكون له منعة فتحول ونزل على خالد بن سدوس بن أصمع النبهاني فأغارت بنو جديلة على إمرئ القيس وهو في جوار خالد بن سدوس فذهبوا بإبله وكان الذي أغار عليه منهم باعث بن حويص فلما أتى إمرأ القيس الخبر ذكر ذلك لجاره فقال له أعطني رواحلك ألحق عليها القوم فأرد عليك إبلك ففعل فركب خالد في إثر القوم حتى أدركهم فقال يا بني جديلة أغرتم على إبل جاري فقالوا ما هو لك بجار قال بلى والله وهذه رواحله قالوا كذلك قال نعم فرجعوا إليه فأنزلوه عنهن وذهبوا بهن وبالإبل وقيل بل انطوى خالد على الإبل فذهب بها فقال إمرؤ القيس
دع عنك نهبا صيح في حجراته
و لكن حديثا ما حديث الرواحل
كان دثارا حلقت بلبونه
عقاب تنوفى لا عقاب القواعل
تلعب باعث بذمة خالد
و أودى دثار في الخطوب الأوائل
و أعجبني مشي الحزقة خالد
كمشي أتان حلئت بالمناهل
أبت أجأ أن تسلم العام جارها
فمن شاء فلينهض لها من مقاتل
تبيت لبوني بالقرية أمنا
و أسرحها غبا بأكناف حائل
[ 245 ]
بنو ثعل جيرانها وحماتها
و تمنع من رماة سعد ونائل
تلاعب أولاد الوعول رباعها
دوين السماء في رءوس المجادل
مكللة حمراء ذات أسرة
لها حبك كأنها من وصائل(1/2664)
دثار اسم راع كان لإمرئ القيس وتنوفى والقواعل جبال والحزقة القصير الضخم البطن واللبون الإبل ذوات الألبان والقرية موضع معروف بين الجبلين وحائل اسم موضع أيضا وسعد ونائل حيان من طيئ والرباع جمع ربع وهو ما نتج في الربيع والمجادل القصور ومكللة يرجع إلى المجادل مكللة بالصخر والأسرة الطريق وكذلك الحبك والوصائل جمع وصيلة وهو ثوب أمغر الغزل فيه خطوط والنهب الغنيمة والجمع النهاب والانتهاب مصدر انتهبت المال إذا أبحته يأخذه من شاء والنهبى اسم ما أنهب وحجراته نواحيه الواحدة حجرة مثل جمرات وجمرة وصيح في حجراته صياح الغارة والرواحل جمع راحلة وهي الناقة التي تصلح أن ترحل أي يشد الرحل على ظهرها ويقال للبعير راحلة وانتصب حديثا بإضمار فعل أي هات حديثا أو حدثني حديثا ويروى ولكن حديث أي ولكن مرادي أو غرضي حديث فحذف المبتدأ وما هاهنا يحتمل أن تكون إبهامية وهي التي إذا اقترنت باسم نكرة زادته إبهاما وشياعا كقولك أعطني كتابا ما تريد أي كتاب كان ويحتمل أن تكون صلة مؤكدة كالتي في قوله تعالى فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اَللَّهِ فأما حديث الثاني فقد ينصب وقد يرفع فمن نصب أبدله من حديث الأول ومن رفع جاز أن يجعل ما موصولة بمعنى الذي وصلتها الجملة أي الذي هو حديث الرواحل ثم حذف صدر الجملة كما حذف في تَماماً عَلَى اَلَّذِي أَحْسَنَ ويجوز أن تجعل ما استفهامية بمعنى أي .
[ 246 ]
ثم قال وهلم الخطب هذا يقوي رواية من روى عنه أنه ع لم يستشهد إلا بصدر البيت كأنه قال دع عنك ما مضى وهلم ما نحن الآن فيه من أمر معاوية فجعل هلم ما نحن فيه من أمر معاوية قائما مقام قول إمرئ القيس
و لكن حديثا ما حديث الرواحل(1/2665)
و هلم لفظ يستعمل لازما ومتعديا فاللازم بمعنى تعال قال الخليل أصله لم من قولهم لم الله شعثه أي جمعه كأنه أراد لم نفسك إلينا أي اجمعها واقرب منا وجاءت ها للتنبيه قبلها وحذفت الألف لكثرة الاستعمال وجعلت الكلمتان كلمة واحدة يستوي فيها الواحد والاثنان والجمع والمؤنث والمذكر في لغة أهل الحجاز قال سبحانه وَ اَلْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وأهل نجد يصرفونها فيقولون للاثنين هلما وللجمع هلموا وعلى ذلك وقد يوصل إذا كان لازما باللام فيقال هلم لك وهلم لكما كما قالوا هيت لك وإذا قيل لك هلم إلى كذا أي تعال إليه قلت لا أهلم مفتوحة الألف والهاء مضمومة الميم فأما المتعدية فهي بمعنى هات تقول هلم كذا وكذا قال الله تعالى هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ وتقول لمن قال لك ذلك لا أهلمه أي لا أعطيكه يأتي بالهاء ضمير المفعول ليتميز من الأولى . يقول ع ولكن هات ذكر الخطب فحذف المضاف والخطب الحادث الجليل يعني الأحوال التي أدت إلى أن صار معاوية منازعا في الرئاسة قائما عند كثير من الناس مقامه صالحا لأن يقع في مقابلته وأن يكون ندا له . ثم قال فلقد أضحكني الدهر بعد إبكائه يشير إلى ما كان عنده من الكآبة لتقدم من سلف عليه فلم يقنع الدهر له بذلك حتى جعل معاوية نظيرا له فضحك ع
[ 247 ]
مما تحكم به الأوقات ويقتضيه تصرف الدهر وتقلبه وذلك ضحك تعجب واعتبار . ثم قال ولا غرو والله أي ولا عجب والله . ثم فسر ذلك فقال يا له خطبا يستفرغ العجب أي يستنفده ويفنيه يقول قد صار العجب لا عجب لأن هذا الخطب استغرق التعجب فلم يبق منه ما يطلق عليه لفظ التعجب وهذا من باب الإغراق والمبالغة في المبالغة كما قال أبو الطيب
أسفي على أسفي الذي دلهتني
عن علمه فبه علي خفاء
و شكيتي فقد السقام لأنه
قد كان لما كان لي أعضاء
و قال ابن هاني المغربي
قد سرت في الميدان يوم طرادهم
فعجبت حتى كدت ألا أعجبا(1/2666)
و الأود العوج . ثم ذكر تمالؤ قريش عليه فقال حاول القوم إطفاء نور الله من مصباحه يعني ما تقدم من منابذة طلحة والزبير وأصحابهما له وما شفع ذلك من معاوية وعمرو وشيعتهما وفوار الينبوع ثقب البئر . قوله وجدحوا بيني وبينهم شربا أي خلطوه ومزجوه وأفسدوه . والوبي ء ذو الوباء والمرض وهذا استعارة كأنه جعل الحال التي كانت بينه وبينهم قد أفسدها القوم وجعلوها مظنة الوباء والسقم كالشرب الذي يخلط بالسم أو بالصبر فيفسد ويوبئ .
[ 248 ](1/2667)
ثم قال فإن كشف الله تعالى هذه المحن التي يحصل منها ابتلاء الصابرين والمجاهدين وحصل لي التمكن من الأمر حملتهم على الحق المحض الذي لا يمازجه باطل كاللبن المحض الذي لا يخالطه شي ء من الماء وإن تكن الأخرى أي وإن لم يكشف الله تعالى هذه الغمة ومت أو قتلت والأمور على ما هي عليه من الفتنة ودولة الضلال فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ والآية من القرآن العزيز . وسألت أبا جعفر يحيى بن محمد العلوي نقيب البصرة وقت قراءتي عليه عن هذا الكلام وكان رحمه الله على ما يذهب إليه من مذهب العلوية منصفا وافر العقل فقلت له من يعني ع بقوله كانت أثرة شحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين ومن القوم الذين عناهم الأسدي بقوله كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به هل المراد يوم السقيفة أو يوم الشورى فقال يوم السقيفة فقلت إن نفسي لا تسامحني أن أنسب إلى الصحابة عصيان رسول الله ص ودفع النص فقال وأنا فلا تسامحني أيضا نفسي أن أنسب الرسول ص إلى إهمال أمر الإمامة وأن يترك الناس فوضى سدى مهملين وقد كان لا يغيب عن المدينة إلا ويؤمر عليها أميرا وهو حي ليس بالبعيد عنها فكيف لا يؤمر وهو ميت لا يقدر على استدراك ما يحدث . ثم قال ليس يشك أحد من الناس أن رسول الله ص كان عاقلا كامل العقل أما المسلمون فاعتقادهم فيه معلوم وأما اليهود والنصارى والفلاسفة فيزعمون أنه حكيم تام الحكمة سديد الرأي أقام ملة وشرع شريعة فاستجد ملكا عظيما بعقله وتدبيره وهذا الرجل العاقل الكامل يعرف طباع العرب وغرائزهم وطلبها بالثارات والذحول ولو بعد الأزمان المتطاولة ويقتل الرجل من القبيلة رجلا من بيت آخر
[ 249 ](1/2668)
فلا يزال أهل ذلك المقتول وأقاربه يتطلبون القاتل ليقتلوه حتى يدركوا ثارهم منه فإن لم يظفروا به قتلوا بعض أقاربه وأهله فإن لم يظفروا بأحدهم قتلوا واحدا أو جماعة من تلك القبيلة به وإن لم يكونوا رهطه الأدنين والإسلام لم يحل طبائعهم ولا غير هذه السجية المركوزة في أخلاقهم والغرائز بحالها فكيف يتوهم لبيب أن هذا العاقل الكامل وتر العرب وعلى الخصوص قريشا وساعده على سفك الدماء وإزهاق الأنفس وتقلد الضغائن ابن عمه الأدنى وصهره وهو يعلم أنه سيموت كما يموت الناس ويتركه بعده وعنده ابنته وله منها ابنان يجريان عنده مجرى ابنين من ظهره حنوا عليهما ومحبة لهما ويعدل عنه في الأمر بعده ولا ينص عليه ولا يستخلفه فيحقن دمه ودم بنيه وأهله باستخلافه أ لا يعلم هذا العاقل الكامل أنه إذا تركه وترك بنيه وأهله سوقة ورعية فقد عرض دماءهم للإراقة بعده بل يكون هو ع هو الذي قتله وأشاط بدمائهم لأنهم لا يعتصمون بعده بأمر يحميهم وإنما يكونون مضغة للأكل وفريسة للمفترس يتخطفهم الناس وتبلغ فيهم الأغراض فأما إذا جعل السلطان فيهم والأمر إليهم فإنه يكون قد عصمهم وحقن دماءهم بالرئاسة التي يصولون بها ويرتدع الناس عنهم لأجلها ومثل هذا معلوم بالتجربة أ لا ترى أن ملك بغداد أو غيرها من البلاد لو قتل الناس ووترهم وأبقى في نفوسهم الأحقاد العظيمة عليه ثم أهمل أمر ولده وذريته من بعده وفسح للناس أن يقيموا ملكا من عرضهم وواحدا منهم وجعل بنيه سوقة كبعض العامة لكان بنوه بعده قليلا بقاؤهم سريعا هلاكهم ولوثب عليهم الناس ذوو الأحقاد والترات من كل جهة يقتلونهم ويشردونهم كل مشرد ولو أنه عين ولدا من أولاده للملك وقام خواصه وخدمه وخوله بأمره بعده لحقنت دماء أهل
[ 250 ](1/2669)
بيته ولم تطل يد أحد من الناس إليهم لناموس الملك وأبهة السلطنة وقوة الرئاسة وحرمة الإمارة . أ فترى ذهب عن رسول الله ص هذا المعنى أم أحب أن يستأصل أهله وذريته من بعده وأين موضع الشفقة على فاطمة العزيزة عنده الحبيبة إلى قلبه . أ تقول إنه أحب أن يجعلها كواحدة من فقراء المدينة تتكفف الناس وأن يجعل عليا المكرم المعظم عنده الذي كانت حاله معه معلومة كأبي هريرة الدوسي وأنس بن مالك الأنصاري يحكم الأمراء في دمه وعرضه ونفسه وولده فلا يستطيع الامتناع وعلى رأسه مائة ألف سيف مسلول تتلظى أكباد أصحابها عليه ويودون أن يشربوا دمه بأفواههم ويأكلوا لحمه بأسنانهم قد قتل أبناءهم وإخوانهم وآباءهم وأعمامهم والعهد لم يطل والقروح لم تتقرف والجروح لم تندمل . فقلت له لقد أحسنت فيما قلت إلا أن لفظه ع يدل على أنه لم يكن نص عليه أ لا تراه يقول ونحن الأعلون نسبا والأشدون بالرسول نوطا فجعل الاحتجاج بالنسب وشدة القرب فلو كان عليه نص لقال عوض ذلك وأنا المنصوص علي المخطوب باسمي . فقال رحمه الله إنما أتاه من حيث يعلم لا من حيث يجهل أ لا ترى أنه سأله فقال كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به فهو إنما سأل عن دفعهم عنه وهم أحق به من جهة اللحمة والعترة ولم يكن الأسدي يتصور النص ولا يعتقده ولا يخطر بباله لأنه لو كان هذا في نفسه لقال له لم دفعك الناس عن هذا المقام وقد نص عليك رسول الله ص ولم يقل له هذا وإنما قال كلاما عاما لبني هاشم كافة
[ 251 ](1/2670)
كيف دفعكم قومكم عن هذا وأنتم أحق به أي باعتبار الهاشمية والقربى فأجابه بجواب أعاد قبله المعنى الذي تعلق به الأسدي بعينه تمهيدا للجواب فقال إنما فعلوا ذلك مع أنا أقرب إلى رسول الله ص من غيرنا لأنهم استأثروا علينا ولو قال له أنا المنصوص علي والمخطوب باسمي في حياة رسول الله ص لما كان قد أجابه لأنه ما سأله هل أنت منصوص عليك أم لا ولا هل نص رسول الله ص بالخلافة على أحد أم لا وإنما قال لم دفعكم قومكم عن الأمر وأنتم أقرب إلى ينبوعه ومعدنه منهم فأجابه جوابا ينطبق على السؤال ويلائمه أيضا فلو أخذ يصرح له بالنص ويعرفه تفاصيل باطن الأمر لنفر عنه واتهمه ولم يقبل قوله ولم ينجذب إلى تصديقه فكان أولى الأمور في حكم السياسة وتدبير الناس أن يجيب بما لا نفرة منه ولا مطعن عليه فيه
[ 252 ](1/2671)
164 ـ ومن خطبة له ع
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ خَالِقِ اَلْعِبَادِ وَ سَاطِحِ اَلْمِهَادِ وَ مُسِيلِ اَلْوِهَادِ وَ مُخْصِبِ اَلنِّجَادِ لَيْسَ لِأَوَّلِيَّتِهِ اِبْتِدَاءٌ وَ لاَ لِأَزَلِيَّتِهِ اِنْقِضَاءٌ هُوَ اَلْأَوَّلُ وَ لَمْ يَزَلْ وَ اَلْبَاقِي بِلاَ أَجَلٍ خَرَّتْ لَهُ اَلْجِبَاهُ وَ وَحَّدَتْهُ اَلشِّفَاهُ حَدَّ اَلْأَشْيَاءَ عِنْدَ خَلْقِهِ لَهَا إِبَانَةً لَهُ مِنْ شَبَهِهَا لاَ تُقَدِّرُهُ اَلْأَوْهَامُ بِالْحُدُودِ وَ اَلْحَرَكَاتِ وَ لاَ بِالْجَوَارِحِ وَ اَلْأَدَوَاتِ لاَ يُقَالُ لَهُ مَتَى وَ لاَ يُضْرَبُ لَهُ أَمَدٌ بِ حَتَّى اَلظَّاهِرُ لاَ يُقَالُ مِمَّ وَ اَلْبَاطِنُ لاَ يُقَالُ فِيمَ لاَ شَبَحٌ فَيُتَقَصَّى وَ لاَ مَحْجُوبٌ فَيُحْوَى لَمْ يَقْرُبْ مِنَ اَلْأَشْيَاءِ بِالْتِصَاقٍ وَ لَمْ يَبْعُدْ عَنْهَا بِافْتِرَاقٍ وَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ عِبَادِهِ شُخُوصُ لَحْظَةٍ وَ لاَ كُرُورُ لَفْظَةٍ وَ لاَ اِزْدِلاَفُ رَبْوَةٍ وَ لاَ اِنْبِسَاطُ خُطْوَةٍ فِي لَيْلٍ دَاجٍ وَ لاَ غَسَقٍ سَاجٍ يَتَفَيَّأُ عَلَيْهِ اَلْقَمَرُ اَلْمُنِيرُ وَ تَعْقُبُهُ اَلشَّمْسُ ذَاتُ اَلنُّورِ فِي اَلْأُفُولِ وَ اَلْكُرُورِ وَ تَقْلِيبِ تَقَلُّبِ اَلْأَزْمِنَةِ وَ اَلدُّهُورِ مِنْ إِقْبَالِ لَيْلٍ مُقْبِلٍ وَ إِدْبَارِ نَهَارٍ مُدْبِرٍ قَبْلَ كُلِّ غَايَةٍ وَ مُدَّةِ وَ كُلِّ إِحْصَاءٍ وَ عِدَّةٍ تَعَالَى عَمَّا يَنْحَلُهُ اَلْمُحَدِّدُونَ مِنْ صِفَاتِ اَلْأَقْدَارِ وَ نِهَايَاتِ اَلْأَقْطَارِ وَ تَأَثُّلِ اَلْمَسَاكِنِ وَ تَمَكُّنِ اَلْأَمَاكِنِ فَالْحَدُّ لِخَلْقِهِ مَضْرُوبٌ وَ إِلَى غَيْرِهِ مَنْسُوبٌ لَمْ يَخْلُقِ اَلْأَشْيَاءَ مِنْ أُصُولٍ أَزَلِيَّةٍ وَ لاَ مِنْ أَوَائِلَ أَبَدِيَّةٍ بَلْ خَلَقَ مَا خَلَقَ فَأَقَامَ
[ 253 ](1/2672)
حَدَّهُ وَ صَوَّرَ فَأَحْسَنَ صُورَتَهُ لَيْسَ لِشَيْ ءٍ مِنْهُ اِمْتِنَاعٌ وَ لاَ لَهُ بِطَاعَةِ شَيْ ءٍ اِنْتِفَاعٌ عِلْمُهُ بِالْأَمْوَاتِ اَلْمَاضِينَ كَعِلْمِهِ بِالْأَحْيَاءِ اَلْبَاقِينَ وَ عِلْمُهُ بِمَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ اَلْعُلَى كَعِلْمِهِ بِمَا فِي اَلْأَرَضِينَ اَلسُّفْلَى المهاد هنا هو الأرض وأصله الفراش وساطحه باسطه ومنه تسطيح القبور خلاف تسنيمها ومنه أيضا المسطح للموضع الذي يبسط فيه التمر ليجفف . والوهاد جمع وهدة وهي المكان المطمئن ومسيلها مجرى السيل فيها والنجاد جمع نجد وهو ما ارتفع من الأرض ومخصبها مروضها وجاعلها ذوات خصب(1/2673)
مباحث كلامية
و اعلم أنه ع أورد في هذه الخطبة ضروبا من علم التوحيد وكلها مبنية على ثلاثة أصول . الأصل الأول أنه تعالى واجب الوجود لذاته ويتفرع على هذا الأصل فروع أولها أنه ليس لأوليته ابتداء لأنه لو كان لأوليته ابتداء لكان محدثا ولا شي ء من المحدث بواجب الوجود لأن معنى واجب الوجود أن ذاته لا تقبل العدم ويستحيل الجمع بين قولنا هذه الذات محدثة أي كانت معدومة من قبل وهي في حقيقتها لا تقبل العدم .
[ 254 ](1/2674)
و ثانيها أنه ليس لأزليته انقضاء لأنه لو صح عليه العدم لكان لعدمه سبب فكان وجوده موقوفا على انتفاء سبب عدمه والمتوقف على غيره يكون ممكن الذات فلا يكون واجب الوجود . وقوله ع هو الأول لم يزل والباقي بلا أجل تكرار لهذين المعنيين السابقين على سبيل التأكيد ويدخل فيه أيضا قوله لا يقال له متى ولا يضرب له أمد بحتى لأن متى للزمان وواجب الوجود يرتفع عن الزمان وحتى للغاية وواجب الوجود لا غاية له . ويدخل أيضا فيه قوله قبل كل غاية ومدة وكل إحصاء وعدة . وثالثها أنه لا يشبه الأشياء البتة لأن ما عداه إما جسم أو عرض أو مجرد فلو أشبه الجسم أو العرض لكان إما جسما أو عرضا ضرورة تساوي المتشابهين المتماثلين في حقائقهما . ولو شابه غيره من المجردات مع أن كل مجرد غير ممكن لكان ممكنا وليس واجب الوجود بممكن فيدخل في هذا المعنى قوله ع حد الأشياء عند خلقه لها إبانة له من شبهها أي جعل المخلوقات ذوات حدود ليتميز هو سبحانه عنها إذ لا حد له فبطل أن يشبهه شي ء منها ودخل فيه قوله ع لا تقدره الأوهام بالحدود والحركات ولا بالجوارح . والأدوات جمع أداة وهي ما يعتمد به ودخل فيه قوله الظاهر فلا يقال مم أي لا يقال من أي شي ء ظهر والباطن فلا يقال فيم أي لا يقال فيما ذا بطن ويدخل فيه قوله لا شبح فيتقصى والشبح الشخص ويتقصى يطلب أقصاه . ويدخل فيه قوله ولا محجوب فيحوى وقوله لم يقرب من الأشياء بالتصاق ولم يبعد عنها بافتراق لأن هذه الأمور كلها من خصائص الأجسام وواجب الوجود لا يشبه الأجسام ولا يماثلها . ويدخل فيه قوله ع تعالى عما ينحله المحددون من صفات الأقدار أي مما ينسبه إليه المشبهة والمجسمة من صفات المقادير وذوات المقادير .
[ 255 ](1/2675)
و نهايات الأقطار أي الجوانب . وتأثل المساكن مجد مؤثل أي أصيل وبيت مؤثل أي معمور وكأن أصل الكلمة أن تبنى الدار بالأثل وهو شجر معروف وتمكن الأماكن ثبوتها واستقرارها . وقوله فالحد لخلقه مضروب وإلى غيره منسوب وقوله ولا له بطاعة شي ء انتفاع لأنه إنما ينتفع الجسم الذي يصح عليه الشهوة والنفرة كل هذا داخل تحت هذا الوجه . الأصل الثاني أنه تعالى عالم لذاته فيعلم كل معلوم ويدخل تحت هذا الأصل قوله ع لا تخفى عليه من عباده شخوص لحظة أن تسكن العين فلا تتحرك ولا كرور لفظة أي رجوعها . ولا ازدلاف ربوة صعود إنسان أو حيوان ربوة من الأرض وهي الموضع المرتفع ولا انبساط خطوة في ليل داج أي مظلم . ولا غسق ساج أي ساكن . ثم قال يتفيأ عليه القمر المنير هذا من صفات الغسق ومن تتمة نعته ومعنى يتفيأ عليه يتقلب ذاهبا وجائيا في حالتي أخذه في الضوء إلى التبدر وأخذه في النقص إلى المحاق . وقوله وتعقبه أي وتتعقبه فحذف إحدى التاءين كما قال سبحانه اَلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ اَلْمَلائِكَةُ أي تتوفاهم والهاء في وتعقبه ترجع إلى القمر أي وتسير الشمس عقبه في كروره وأفوله أي غيبوبته وفي تقليب الأزمنة والدهور من إقبال ليل وإدبار نهار .
[ 256 ](1/2676)
فإن قلت إذا كان قوله يتفيأ عليه القمر المنير في موضع جر لأنه صفة غسق فكيف تتعقب الشمس والقمر مع وجود الغسق وهل يمكن اجتماع الشمس والغسق قلت لا يلزم من تعقب الشمس للقمر ثبوت الغسق . بل قد يصدق تعقبها له ويكون الغسق معدوما كأنه ع قال لا يخفى على الله حركة في نهار ولا ليل يتفيأ عليه القمر وتعقبه الشمس أي تظهر عقيبه فيزول الغسق بظهورها . وهذا التفسير الذي فسرناه يقتضي أن يكون حرف الجر وهو في التي في قوله في الكرور متعلقا بمحذوف ويكون موضعه نصبا على الحال أي وتعقبه كارا وآفلا ويدخل تحته أيضا قوله ع علمه بالأموات الماضين كعلمه بالأحياء الباقين وعلمه بما في السماوات العلا كعلمه بما في الأرضين السفلى . الأصل الثالث أنه تعالى قادر لذاته فكان قادرا على كل الممكنات ويدخل تحته قوله لم يخلق الأشياء من أصول أزلية ولا من أوائل أبدية بل خلق ما خلق فأقام حده وصور ما صور فأحسن صورته والرد في هذا على أصحاب الهيولى والطينة التي يزعمون قدمها . ويدخل تحته قوله ليس لشي ء امتناع لأنه متى أراد إيجاد شي ء أوجده ويدخل تحته قوله خرت له الجباه أي سجدت ووحدته الشفاه يعني الأفواه فعبر بالجزء عن الكل مجازا وذلك لأن القادر لذاته هو المستحق للعبادة لخلقه أصول النعم كالحياة والقدرة والشهوة . واعلم أن هذا الفن هو الذي بان به أمير المؤمنين ع عن العرب في زمانه قاطبة
[ 257 ](1/2677)
و استحق به التقدم والفضل عليهم أجمعين وذلك لأن الخاصة التي يتميز بها الإنسان عن البهائم هي العقل والعلم أ لا ترى أنه يشاركه غيره من الحيوانات في اللحمية والدموية والقوة والقدرة والحركة الكائنة على سبيل الإرادة والاختيار فليس الامتياز إلا بالقوة الناطقة أي العاقلة العالمة فكلما كان الإنسان أكثر حظا منها كانت إنسانيته أتم ومعلوم أن هذا الرجل انفرد بهذا الفن وهو أشرف العلوم لأن معلومه أشرف المعلومات ولم ينقل عن أحد من العرب غيره في هذا الفن حرف واحد ولا كانت أذهانهم تصل إلى هذا ولا يفهمونه بهذا الفن فهو منفرد فيه وبغيره من الفنون وهي العلوم الشرعية مشارك لهم وراجح عليهم فكان أكمل منهم لأنا قد بينا أن الأعلم أدخل في صورة الإنسانية وهذا هو معنى الأفضلية : مِنْهَا أَيُّهَا اَلْمَخْلُوقُ اَلسَّوِيُّ وَ اَلْمَنْشَأُ اَلْمَرْعِيُّ فِي ظُلُمَاتِ اَلْأَرْحَامِ وَ مُضَاعَفَاتِ اَلْأَسْتَارِ . بُدِئْتَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ وَ وُضِعْتَ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ وَ أَجَلٍ مَقْسُومٍ تَمُورُ فِي بَطْنِ أُمِّكَ جَنِيناً لاَ تُحِيرُ دُعَاءً وَ لاَ تَسْمَعُ نِدَاءً ثُمَّ أُخْرِجْتَ مِنْ مَقَرِّكَ إِلَى دَارٍ لَمْ تَشْهَدْهَا وَ لَمْ تَعْرِفْ سُبُلَ مَنَافِعِهَا فَمَنْ هَدَاكَ لاِجْتِرَارِ اَلْغِذَاءِ مِنْ ثَدْيِ أُمِّكَ وَ عَرَّفَكَ عِنْدَ اَلْحَاجَةِ مَوَاضِعَ طَلَبِكَ وَ إِرَادَتِكَ هَيْهَاتَ إِنَّ مَنْ يَعْجِزُ عَنْ صِفَاتِ ذِي اَلْهَيْئَةِ وَ اَلْأَدَوَاتِ فَهُوَ عَنْ صِفَاتِ خَالِقِهِ أَعْجَزُ وَ مِنْ تَنَاوُلِهِ بِحُدُودِ اَلْمَخْلُوقِينَ أَبْعَدُ
[ 258 ](1/2678)
السوي المستوي الخلقة غير ناقص قال سبحانه فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا والمنشأ مفعول من أنشأ أي خلق وأوجد والمرعي المحوط المحفوظ . وظلمات الأرحام ومضاعفات الأستار مستقر النطف والرحم موضوعة فيما بين المثانة والمعى المستقيم وهي مربوطة برباطات على هيئة السلسلة وجسمها عصبي ليمكن امتدادها واتساعها وقت الحاجة إلى ذلك عند الولادة وتنضم وتتقنص إذا استغني عن ذلك ولها بطنان ينتهيان إلى فم واحد وزائدتان يسميان قريني الرحم وخلف هاتين الزائدتين بيضتا المرأة وهما أصغر من بيضتي الرجل وأشد تفرطحا ومنهما ينصب مني المرأة إلى تجويف الرحم وللرحم رقبة منتهية إلى فرج المرأة وتلك الرقبة من المرأة بمنزلة الذكر من الرجل فإذا امتزج مني الرجل بمني المرأة في تجويف الرحم كان العلوق ثم ينمي ويزيد من دم الطمث ويتصل بالجنين عروق تأتي إلى الرحم فتغذوه حتى يتم ويكمل فإذا تم لم يكتف بما تحته من تلك العروق فيتحرك حركات قوية طلبا للغذاء فتهتك أربطة الرحم التي قلنا إنها على هيئة السلسلة وتكون منها الولادة . قوله بدئت من سلالة من طين أي كان ابتداء خلقك من سلالة وهي خلاصة الطين لأنها سلت من بين الكدر وفعالة بناء للقلة كالقلامة والقمامة . وقال الحسن هي ما بين ظهراني الطين . ثم قال ووضعت في قرار مكين الكلام الأول لآدم الذي هو أصل البشر والثاني لذريته والقرار المكين الرحم متمكنة في موضعها برباطاتها لأنها لو كانت متحركة لتعذر العلوق .
[ 259 ](1/2679)
ثم قال إلى قدر معلوم وأجل مقسوم إلى متعلقة بمحذوف كأنه قال منتهيا إلى قدر معلوم أي مقدرا طوله وشكله إلى أجل مقسوم مدة حياته . ثم قال تمور في بطن أمك أي تتحرك لا تحير أي لا ترجع جوابا أحار يحير . إلى دار لم تشهدها يعني الدنيا ويقال أشبه شي ء بحال الانتقال من الدنيا إلى الأحوال التي بعد الموت انتقال الجنين من ظلمة الرحم إلى فضاء الدنيا فلو كان الجنين يعقل ويتصور كان يظن أنه لا دار له إلا الدار التي هو فيها ولا يشعر بما وراءها ولا يحس بنفسه إلا وقد حصل في دار لم يعرفها ولا تخطر بباله فبقي هو كالحائر المبهوت وهكذا حالنا في الدنيا إذا شاهدنا ما بعد الموت . ولقد أحسن ابن الرومي في صفة خطوب الدنيا وصروفها بقوله
لما تؤذن الدنيا به من صروفها
يكون بكاء الطفل ساعة يولد
و إلا فما يبكيه منها وإنها
لأوسع مما كان فيه وأرغد
إذا أبصر الدنيا استهل كأنه
بما سوف يلقى من أذاها يهدد
قال فمن هداك إلى اجترار الغذاء من ثدي أمك اجترار امتصاص اللبن من الثدي وذلك بالإلهام الإلهي . قال وعرفك عند الحاجة أي أعلمك بموضع الحلمة عند طلبك الرضاع فالتقمتها بفمك .
[ 260 ]
ثم قال هيهات أي بعد أن يحيط علما بالخالق من عجز عن معرفة المخلوق قال الشاعر
رأيت الورى يدعون الهدى
و كم يدعي الحق خلق كثير
و ما في البرايا امرؤ عنده
من العلم بالحق إلا اليسير
خفي فما ناله ناظر
و ما إن أشار إليه مشير
و لا شي ء أظهر من ذاته
و كيف يرى الشمس أعمى ضرير
[ 261 ](1/2680)
165 ـ ومن كلام له ع لعثمان بن عفان
قالوا لما اجتمع الناس إلى أمير المؤمنين ع وشكوا إليه ما نقموه على عثمان وسألوه مخاطبته واستعتابه لهم فدخل ع على عثمان فقال : إِنَّ اَلنَّاسَ وَرَائِي وَ قَدِ اِسْتَسْفَرُونِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُمْ وَ وَ اَللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكَ مَا أَعْرِفُ شَيْئاً تَجْهَلُهُ وَ لاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَمْرٍ لاَ تَعْرِفُهُ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نَعْلَمُ مَا سَبَقْنَاكَ إِلَى شَيْ ءٍ فَنُخْبِرَكَ عَنْهُ وَ لاَ خَلَوْنَا بِشَيْ ءٍ فَنُبَلِّغَكَهُ وَ قَدْ رَأَيْتَ كَمَا رَأَيْنَا وَ سَمِعْتَ كَمَا سَمِعْنَا وَ صَحِبْتَ رَسُولَ اَللَّهِ ص كَمَا صَحِبْنَا وَ مَا اِبْنُ أَبِي قُحَافَةَ وَ لاَ اِبْنُ اَلْخَطَّابِ بِأَوْلَى بِعَمَلِ اَلْخَيْرِ اَلْحَقِّ مِنْكَ وَ أَنْتَ أَقْرَبُ إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ ص وَشِيجَةَ رَحِمٍ مِنْهُمَا وَ قَدْ نِلْتَ مِنْ صِهْرِهِ مَا لَمْ يَنَالاَ فَاللَّهَ اَللَّهَ فِي نَفْسِكَ فَإِنَّكَ وَ اَللَّهِ مَا تُبَصَّرُ مِنْ عَمًى وَ لاَ تُعَلَّمُ مِنْ جَهْلٍ وَ إِنَّ اَلطُّرُقَ لَوَاضِحَةٌ وَ إِنَّ أَعْلاَمَ اَلدِّينِ لَقَائِمَةٌ فَاعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ عِبَادِ اَللَّهِ عِنْدَ اَللَّهِ إِمَامٌ عَادِلٌ هُدِيَ وَ هَدَى فَأَقَامَ سُنَّةً مَعْلُومَةً وَ أَمَاتَ بِدْعَةً مَجْهُولَةً وَ إِنَّ اَلسُّنَنَ لَنَيِّرَةٌ لَهَا أَعْلاَمٌ وَ إِنَّ اَلْبِدَعَ لَظَاهِرَةٌ لَهَا أَعْلاَمٌ وَ إِنَّ شَرَّ اَلنَّاسِ عِنْدَ اَللَّهِ إِمَامٌ جَائِرٌ ضَلَّ وَ ضُلَّ بِهِ فَأَمَاتَ سُنَّةً مَأْخُوذَةً وَ أَحْيَا بِدْعَةً مَتْرُوكَةً وَ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ ص يَقُولُ يُؤْتَى يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ بِالْإِمَامِ اَلْجَائِرِ وَ لَيْسَ مَعَهُ نَصِيرٌ وَ لاَ عَاذِرٌ فَيُلْقَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيَدُورُ فِيهَا كَمَا تَدُورُ اَلرَّحَى ثُمَّ(1/2681)
يَرْتَبِطُ فِي قَعْرِهَا
[ 262 ]
وَ إِنِّي أَنْشُدُكَ اَللَّهَ أَنْ أَلاَّ تَكُونَ إِمَامَ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ اَلْمَقْتُولَ فَإِنَّهُ كَانَ يُقَالُ يُقْتَلُ فِي هَذِهِ اَلْأُمَّةِ إِمَامٌ يَفْتَحُ عَلَيْهَا اَلْقَتْلَ وَ اَلْقِتَالَ إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ وَ يَلْبِسُ أُمُورَهَا عَلَيْهَا وَ يَبُثُّ اَلْفِتَنَ فِيهَا فَلاَ يُبْصِرُونَ اَلْحَقَّ مِنَ اَلْبَاطِلِ يَمُوجُونَ فِيهَا مَوْجاً وَ يَمْرُجُونَ فِيهَا مَرْجاً فَلاَ تَكُونَنَّ لِمَرْوَانَ سَيِّقَةً يَسُوقُكَ حَيْثُ شَاءَ بَعْدَ جَلاَلِ اَلسِّنِّ وَ تَقَضِّي اَلْعُمُرِ فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُ كَلِّمِ اَلنَّاسَ فِي أَنْ يُؤَجِّلُونِي حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْهِمْ مِنْ مَظَالِمِهِمْ فَقَالَ ع مَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَلاَ أَجَلَ فِيهِ وَ مَا غَابَ فَأَجَلُهُ وُصُولُ أَمْرِكَ إِلَيْهِ نقمت على زيد بالفتح أنقم فأنا ناقم إذا عتبت عليه وقال الكسائي نقمت بالكسر أيضا أنقم لغة وهذه اللفظة تجي ء لازمة ومتعدية قالوا نقمت الأمر أي كرهته . واستعتبت فلانا طلبت منه العتبى وهي الرضا واستعتابهم عثمان طلبهم منه ما يرضيهم عنه . واستسفروني جعلوني سفيرا ووسيطا بينك وبينهم . ثم قال له وأقسم على ذلك أنه لا يعلم ما ذا يقول له لأنه لا يعرف أمرا يجهله أي من هذه الأحداث خاصة وهذا حق لأن عليا ع لم يكن يعلم منها ما يجهله
[ 263 ](1/2682)
عثمان بل كان أحداث الصبيان فضلا عن العقلاء المميزين يعلمون وجهي الصواب والخطأ فيها . ثم شرع معه في مسلك الملاطفة والقول اللين فقال ما سبقنا إلى الصحبة ولا انفردنا بالرسول دونك وأنت مثلنا ونحن مثلك . ثم خرج إلى ذكر الشيخين فقال قولا معناه أنهما ليسا خيرا منك فإنك مخصوص دونهما بقرب النسب يعني المنافية وبالصهر وهذا كلام هو موضع المثل يسر حسوا في ارتغاء ومراده تفضيل نفسه ع لأن العلة التي باعتبارها فضل عثمان عليهما محققة فيه وزيادة لأن له مع المنافية الهاشمية فهو أقرب . والوشيجة عروق الشجرة ثم حذره جانب الله تعالى ونبهه على أن الطرق واضحة وأعلام الهدى قائمة وأن الإمام العادل أفضل الناس عند الله وأن الإمام الجائر شر الناس عند الله . ثم روى له الخبر المذكور وروي ثم يرتبك في قعرها أي ينشب . وخوفه أن يكون الإمام المقتول الذي يفتح الفتن بقتله وقد كان رسول الله ص قال كلاما هو هذا أو يشبه هذا . ومرج الدين أي فسد والسيقة ما استاقه العدو من الدواب مثل الوسيقة قال الشاعر
فما أنا إلا مثل سيقة العدا
إن استقدمت بحر وإن جبأت عقر
و الجلال بالضم الجليل كالطوال والطويل أي بعد السن الجليل أي العمر الطويل .
[ 264 ](1/2683)
و قوله ما كان بالمدينة فلا أجل فيه وما غاب فأجله وصول أمرك إليه كلام شريف فصيح لأن الحاضر أي معنى لتأجيله والغائب فلا عذر بعد وصول الأمر في تأخيره لأن السلطان لا يؤخر أمره . وقد ذكرنا من الأحداث التي نقمت على عثمان فيما تقدم ما فيه كفاية وقد ذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله في التاريخ الكبير هذا الكلام فقال إن نفرا من أصحاب رسول الله ص تكاتبوا فكتب بعضهم إلى بعض أن اقدموا فإن الجهاد بالمدينة لا بالروم واستطال الناس على عثمان ونالوا منه وذلك في سنة أربع وثلاثين ولم يكن أحد من الصحابة يذب عنه ولا ينهى إلا نفر منهم زيد بن ثابت وأبو أسيد الساعدي وكعب بن مالك وحسان بن ثابت فاجتمع الناس فكلموا علي بن أبي طالب ع وسألوه أن يكلم عثمان فدخل عليه وقال له إن الناس . . . وروى الكلام إلى آخره بألفاظه فقال عثمان وقد علمت أنك لتقولن ما قلت أما والله لو كنت مكاني ما عنفتك ولا عتبت عليك ولم آت منكرا إنما وصلت رحما وسددت خلة وآويت ضائعا ووليت شبيها بمن كان عمر يوليه أنشدك الله يا علي أ لا تعلم أن المغيرة بن شعبة ليس هناك قال بلى قال أ فلا تعلم أن عمر ولاه قال بلى قال فلم تلومني أن وليت ابن عامر في رحمه وقرابته فقال علي ع إن عمر كان يطأ على صماخ من يوليه ثم يبلغ منه إن أنكر منه أمرا أقصى العقوبة وأنت فلا تفعل ضعفت ورققت على أقربائك .
[ 265 ](1/2684)
قال عثمان هم أقرباؤك أيضا فقال علي لعمري إن رحمهم مني لقريبة ولكن الفضل في غيرهم . فقال عثمان أ فلا تعلم أن عمر ولى معاوية فقد وليته قال علي أنشدك الله أ لا تعلم أن معاوية كان أخوف لعمر من يرفأ غلامه له قال بلى قال فإن معاوية يقطع الأمور دونك ويقول للناس هذا بأمر عثمان وأنت تعلم ذلك فلا تعير عليه . ثم قام علي فخرج عثمان على أثره فجلس على المنبر فخطب الناس وقال أما بعد فإن لكل شي ء آفة ولكل أمر عاهة وإن آفة هذه الأمة وعاهة هذه النعمة عيابون طعانون يرونكم ما تحبون ويسرون عنكم ما تكرهون يقولون لكم وتقولون أمثال النعام يتبع أول ناعق أحب مواردها إليها البعيد لا يشربون إلا نغصا ولا يردون إلا عكرا أما والله لقد عبتم علي ما أقررتم لابن الخطاب بمثله ولكنه وطئكم برجله وضربكم بيده وقمعكم بلسانه فدنتم له على ما أحببتم وكرهتم ولنت لكم وأوطأتكم كتفي وكففت يدي ولساني عنكم فاجترأتم علي أما والله لأنا أقرب ناصرا وأعز نفرا وأكثر عددا وأحرى إن قلت هلم أن يجاب صوتي ولقد أعددت لكم أقرانا وكشرت لكم عن نابي وأخرجتم مني خلقا لم أكن أحسنه ومنطقا لم أكن أنطق به فكفوا عني ألسنتكم وطعنكم وعيبكم على ولاتكم فما الذي تفقدون من حقكم والله ما قصرت عن بلوغ من كان قبلي يبلغ وما وجدتكم تختلفون عليه فما بالكم . فقام مروان بن الحكم فقال وإن شئتم حكمنا بيننا وبينكم السيف . فقال عثمان اسكت لا سكت دعني وأصحابي ما منطقك في هذا أ لم أتقدم إليك ألا تنطق . فسكت مروان ونزل عثمان
[ 266 ](1/2685)
166 ـ ومن خطبة له ع يذكر فيها عجيب خلقة الطاوس
اِبْتَدَعَهُمْ خَلْقاً عَجِيباً مِنْ حَيَوَانٍ وَ مَوَاتٍ وَ سَاكِنٍ وَ ذِي حَرَكَاتٍ وَ أَقَامَ مِنْ شَوَاهِدِ اَلْبَيِّنَاتِ عَلَى لَطِيفِ صَنْعَتِهِ وَ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ مَا اِنْقَادَتْ لَهُ اَلْعُقُولُ مُعْتَرِفَةً بِهِ وَ مَسَلِّمَةً لَهُ وَ نَعَقَتْ فِي أَسْمَاعِنَا دَلاَئِلُهُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَ مَا ذَرَأَ مِنْ مُخْتَلِفِ صُوَرِ اَلْأَطْيَارِ اَلَّتِي أَسْكَنَهَا أَخَادِيدَ اَلْأَرْضِ وَ خُرُوقَ فِجَاجِهَا وَ رَوَاسِيَ أَعْلاَمِهَا مِنْ ذَاتِ أَجْنِحَةٍ مُخْتَلِفَةٍ وَ هَيْئَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ مُصَرَّفَةٍ فِي زِمَامِ اَلتَّسْخِيرِ وَ مُرَفْرِفَةٍ بِأَجْنِحَتِهَا فِي مَخَارِقِ اَلْجَوِّ اَلْمُنْفَسِحِ وَ اَلْفَضَاءِ اَلْمُنْفَرِجِ كَوَّنَهَا بَعْدَ إِذْ لَمْ تَكُنْ فِي عَجَائِبِ صُوَرٍ ظَاهِرَةٍ وَ رَكَّبَهَا فِي حِقَاقِ مَفَاصِلَ مُحْتَجِبَةٍ وَ مَنَعَ بَعْضَهَا بِعَبَالَةِ خَلْقِهِ أَنْ يَسْمُوَ فِي اَلْهَوَاءِ خُفُوفاً وَ جَعَلَهُ يَدِفُّ دَفِيفاً وَ نَسَقَهَا عَلَى اِخْتِلاَفِهَا فِي اَلْأَصَابِيغِ بِلَطِيفِ قُدْرَتِهِ وَ دَقِيقِ صَنْعَتِهِ فَمِنْهَا مَغْمُوسٌ فِي قَالَبِ لَوْنٍ لاَ يَشُوبُهُ غَيْرُ لَوْنِ مَا غُمِسَ فِيهِ وَ مِنْهَا مَغْمُوسٌ فِي لَوْنِ صِبْغٍ قَدْ طُوِّقَ بِخِلاَفِ مَا صُبِغَ بِهِ الموات بالفتح ما لا حياة فيه وأرض موات أي قفر والساكن هاهنا كالأرض والجبال وذو الحركات كالنار والماء الجاري والحيوان .
[ 267 ](1/2686)
و نعقت في أسماعنا دلائله أي صاحت دلائله لظهورها كالأصوات المسموعة التي تعلم يقينا . وأخاديد الأرض شقوقها جمع أخدود وفجاجها جمع فج وهو الطريق بين الجبلين ورواسي أعلامها أثقال جبالها . مصرفة في زمام التسخير أي هي مسخرة تحت القدرة الإلهية . وحقاق المفاصل جمع حق وهو مجمع المفصلين من الأعضاء كالركبة وجعلها محتجبة لأنها مستورة بالجلد واللحم . وعبالة الحيوان كثافة جسده والخفوف سرعة الحركة والدفيف للطائر طيرانه فويق الأرض يقال عقاب دفوف قال إمرؤ القيس يصف فرسه ويشبهها بالعقاب
كأني بفتخاء الجناحين لقوة
دفوف من العقبان طأطأت شملالي
و نسقها رتبها والأصابيغ جمع أصباغ وأصباغ جمع صبغ . والمغموس الأول هو ذو اللون الواحد كالأسود والأحمر والمغموس الثاني ذو اللونين نحو أن يكون أحمر وعنقه خضراء . وروي قد طورق لون أي لون على لون كما تقول طارقت بين الثوبين . فإن قلت ما هذه الطيور التي يسكن بعضها الأخاديد وبعضها الفجاج وبعضها رءوس الجبال . قلت أما الأول فكالقطا والصدى والثاني كالقبج والطيهوج والثالث كالصقر والعقاب
[ 268 ](1/2687)
وَ مِنْ أَعْجَبِهَا خَلْقاً اَلطَّاوُسُ اَلَّذِي أَقَامَهُ فِي أَحْسَنِ أَحْكَمِ تَعْدِيلٍ وَ نَضَّدَ أَلْوَانَهُ فِي أَحْسَنِ تَنْضِيدٍ بِجَنَاحٍ أَشْرَجَ قَصَبَهُ وَ ذَنَبٍ أَطَالَ مَسْحَبَهُ إِذَا دَرَجَ إِلَى اَلْأُنْثَى نَشَرَهُ مِنْ طَيِّهِ وَ سَمَا بِهِ مُطِلاًّ عَلَى رَأْسِهِ كَأَنَّهُ قِلْعُ دَارِيٍّ عَنَجَهُ نُوتِيُّهُ يَخْتَالُ بِأَلْوَانِهِ وَ يَمِيسُ بِزَيَفَانِهِ يُفْضِي كَإِفْضَاءِ اَلدِّيَكَةِ وَ يَؤُرُّ بِمَلاَقِحِهِ أَرَّ اَلْفُحُولِ اَلْمُغْتَلِمَةِ لِلضِّرَابِ أُحِيلُكَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مُعَايَنَةٍ لاَ كَمَنْ يُحِيلُ عَلَى ضَعِيفٍ إِسْنَادُهُ وَ لَوْ كَانَ كَزَعْمِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُلْقِحُ بِدَمْعَةٍ تَسْفَحُهَا مَدَامِعُهُ فَتَقِفُ فِي ضَفَّتَيْ جُفُونِهِ وَ أَنَّ أُنْثَاهُ تَطْعَمُ ذَلِكَ ثُمَّ تَبِيضُ لاَ مِنْ لِقَاحِ فَحْلٍ سِوَى اَلدَّمْعِ اَلْمُنْبَجِسِ لَمَا كَانَ ذَلِكَ بِأَعْجَبَ مِنْ مُطَاعَمَةِ اَلْغُرَابِ الطاوس فاعول كالهاضوم والكابوس وترخيمه طويس ونضد رتب قوله أشرج قصبه القصب هاهنا عروق الجناح وغضاريفه عظامه الصغار وأشرجها ركب بعضها في بعض كما تشرج العيبة أي يداخل بين أشراجها وهي عراها واحدها شرج بالتحريك . ثم ذكر ذنب الطاوس وأنه طويل المسحب وأن الطاوس إذا درج إلى الأنثى للسفاد نشر ذنبه من طيه وعلا به مرتفعا على رأسه والقلع شراع السفينة وجمعه قلاع والداري جالب العطر في البحر من دارين وهي فرضة بالبحرين فيها سوق يحمل إليها المسك من الهند و
في الحديث الجليس الصالح كالداري إن لم يحذك من عطره علقك من ريحه قال الشاعر
[ 269 ]
إذا التاجر الداري جاء بفأرة
من المسك راحت في مفارقهم تجري(1/2688)
و النوتي الملاح وجمعه نواتي . وعنجه عطفه وعنجت خطام البعير رددته على رجليه أعنجه بالضم والاسم العنج بالتحريك وفي المثل عود يعلم العنج يضرب مثلا لتعليم الحاذق . ويختال من الخيلاء وهي العجب ويميس يتبختر . وزيفانه تبختره زاف يزيف ومنه ناقة زيافة أي مختالة قال عنترة
زيافة مثل الفنيق المكدم
و كذلك ذكر الحمام عند الحمامة إذا جر الذنابى ودفع مقدمه بمؤخره واستدار عليها . ويفضي يسفد والديكة جمع ديك كالقرطة والجحرة جمع قرط وجحر . ويؤر يسفد والأر الجماع ورجل آر كثير الجماع وملاقحه أدوات اللقاح وأعضاؤه وهي آلات التناسل . قوله أر الفحول أي أرا مثل أر الفحول ذات الغلمة والشبق . ثم ذكر أنه لم يقل ذلك عن إسناد قد يضعف ويتداخله الطعن بل قال ذلك عن عيان ومشاهدة .
[ 270 ](1/2689)
فإن قلت من أين للمدينة طواويس وأين العرب وهذا الطائر حتى يقول أمير المؤمنين ع أحيلك من ذلك على معاينة لا سيما وهو يعني السفاد ورؤية ذلك لمن تكثر الطواويس في داره ويطول مكثها عنده نادرة . قلت لم يشاهد أمير المؤمنين ع الطواويس بالمدينة بل بالكوفة وكانت يومئذ تجبى إليها ثمرات كل شي ء وتأتي إليها هدايا الملوك من الآفاق ورؤية المسافدة مع وجود الذكر والأنثى غير مستبعدة . واعلم أن قوما زعموا أن الذكر تدمع عينه فتقف الدمعة بين أجفانه فتأتي الأنثى فتطعمها فتلقح من تلك الدمعة وأمير المؤمنين ع لم يحل ذلك ولكنه قال ليس بأعجب من مطاعمة الغراب والعرب تزعم أن الغراب لا يسفد ومن أمثالهم أخفى من سفاد الغراب فيزعمون أن اللقاح من مطاعمة الذكر والأنثى منهما وانتقال جزء من الماء الذي في قانصته إليها من منقاره وأما الحكماء فقل أن يصدقوا بذلك على أنهم قد قالوا في كتبهم ما يقرب من هذا قالوا في السمك البياض إن سفاده خفي جدا وإنه لم يظهر ظهورا يعتد به ويحكم بسببه . هذا لفظ ابن سينا في كتاب الشفاء ثم قال والناس يقولون إن الإناث تأخذ زرع الذكور في أفواهها إلى بطونها ثم قال وقد شوهدت الإناث منها تتبع الذكور مبتلعة للزرع وأما عند الولادة فإن الذكور تتبع الإناث مبتلعة بيضها . قال ابن سينا والقبجة تحبلها ريح تهب من ناحية الحجل الذكر ومن سماع صوته . قال والنوع المسمى مالاقيا تتلاصق بأفواهها ثم تتشابك فذاك سفادها وسمعت
[ 271 ](1/2690)
أن الغراب يسفد وأنه قد شوهد سفاده ويقول الناس إن من شاهد سفاد الغراب يثري ولا يموت إلا وهو كثير المال موسر . والضفتان بفتح الضاد الجنابان وهما ضفتا النهر وقد جاء ذلك بالكسر أيضا والفتح أفصح . والمنبجس المنفجر ويسفحها يصبها وروي تنشجها مدامعه من النشيج وهو صوت الماء وغليانه من زق أو حب أو قدر : تَخَالُ قَصَبَهُ مَدَارِيَ مِنْ فِضَّةٍ وَ مَا أُنْبِتَ عَلَيْهَا مِنْ عَجِيبِ دَارَاتِهِ وَ شُمُوسِهِ خَالِصَ اَلْعِقْيَانِ وَ فِلَذَ اَلزَّبَرْجَدِ فَإِنْ شَبَّهْتَهُ بِمَا أَنْبَتَتِ اَلْأَرْضُ قُلْتَ جَنِيٌّ جَنًى جُنِيَ مِنْ زَهْرَةِ كُلِّ رَبِيعٍ وَ إِنْ ضَاهَيْتَهُ بِالْمَلاَبِسِ فَهُوَ كَمَوْشِيِّ اَلْحُلَلِ أَوْ كَمُونِقِ عَصْبِ اَلْيَمَنِ وَ إِنْ شَاكَلْتَهُ بِالْحُلِيِّ فَهُوَ كَفُصُوصٍ ذَاتِ أَلْوَانٍ قَدْ نُطِّقَتْ بِاللُّجَيْنِ اَلْمُكَلَّلِ يَمْشِي مَشْيَ اَلْمَرِحِ اَلْمُخْتَالِ وَ يَتَصَفَّحُ ذَنَبَهُ وَ جَنَاحَهُ جَنَاحَيْهِ فَيُقَهْقِهُ ضَاحِكاً لِجَمَالِ سِرْبَالِهِ وَ أَصَابِيغِ وِشَاحِهِ فَإِذَا رَمَى بِبَصَرِهِ إِلَى قَوَائِمِهِ زَقَا مُعْوِلاً بِصَوْتٍ يَكَادُ يُبِينُ عَنِ اِسْتِغَاثَتِهِ وَ يَشْهَدُ بِصَادِقِ تَوَجُّعِهِ لِأَنَّ قَوَائِمَهُ حُمْشٌ كَقَوَائِمِ اَلدِّيَكَةِ اَلْخِلاَسِيَّةِ قصبه عظام أجنحته والمداري جمع مدرى وهو في الأصل القرن قال النابغة يصف الثور والكلاب
شك الفريصة بالمدرى فأنفذها
شك المبيطر إذ يشفي من العضد
[ 272 ]
و كذلك المدراة ويقال المدرى لشي ء كالمسلة تصلح بها الماشطة شعور النساء قال الشاعر
تهلك المدراة في أكنافه
و إذا ما أرسلته يعتفر(1/2691)
و تمدرت المرأة أي سرحت شعرها شبه عظام أجنحة الطاوس بمدارى من فضة لبياضها وشبه ما أنبت الله عليها من تلك الدارات والشموس التي في الريش بخالص العقيان وهو الذهب . وفلذ الزبرجد جمع فلذة وهي القطعة والزبرجد هذا الجوهر الذي تسميه الناس البلخش . ثم قال إن شبهته بنبات الأرض قلت إنه قد جني من زهرة كل ربيع في الأرض لاختلاف ألوانه وأصباغه . وإن ضاهيته بالملابس المضاهاة المشاكلة يهمز ولا يهمز وقرئ يضاهون قول الذين كفروا ويُضاهِؤُنَ وهذا ضهي هذا على فعيل أي شبيهه . وموشي الحلل ما دبج بالوشي وهو الأرقم الملون والعصب برود اليمن . والحلي جمع حلي وهو ما تلبسه المرأة من الذهب والفضة مثل ثدي وثدي ووزنه فعول وقد تكسر الحاء لمكان الياء مثل عصي وقرئ مِنْ حُلِيِّهِمْ بالضم والكسر . ونطقت باللجين جعلت الفضة كالنطاق لها والمكلل ذو الإكليل .
[ 273 ](1/2692)
و زقا صوت يزقو زقوا وزقيا وزقاء وكل صائح زاق والزقية الصيحة وهو أثقل من الزواقي أي الديكة لأنهم كانوا يسمرون فإذا صاحت الديكة تفرقوا . ومعولا صارخا أعولت الفرس صوتت ومنه العويل والعولة . وقوائمه حمش دقاق وهو أحمش الساقين وحمش الساقين بالتسكين وقد حمشت قوائمه أي دقت وتقول العرب للغلام إذا كانت أمه بيضاء وأبوه عربيا آدم فجاء لونه بين لونيهما . خلاسي بالكسر والأنثى خلاسية وقال الليث الديكة الخلاسية هي المتولدة من الدجاج الهندي والفارسي . يقول ع إن الطاوس يزهى بنفسه ويتيه إذا نظر في أعطافه ورأى ألوانه المختلفة فإذا نظر إلى ساقيه وجم لذلك وانكسر نشاطه وزهوه فصاح صياح العويل لحزنه وذلك لدقة ساقيه ونتوء عرقوبيه : وَ قَدْ نَجَمَتْ مِنْ ظُنْبُوبِ سَاقِهِ صِيصِيَةٌ خَفِيَّةٌ وَ لَهُ فِي مَوْضِعِ اَلْعُرْفِ قُنْزُعَةٌ خَضْرَاءُ مُوَشَّاةٌ وَ مَخْرَجُ عَنُقِهِ كَالْإِبْرِيقِ وَ مَغْرِزُهَا إِلَى حَيْثُ بَطْنُهُ كَصِبْغِ اَلْوَسْمَةِ اَلْيَمَانِيَّةِ أَوْ كَحَرِيرَةٍ مُلْبَسَةٍ مِرْآةً ذَاتَ صِقَالٍ وَ كَأَنَّهُ مُتَلَفِّعٌ بِمِعْجَرٍ أَسْحَمَ إِلاَّ أَنَّهُ يُخَيَّلُ لِكَثْرَةِ مَائِهِ وَ شِدَّةِ بَرِيقِهِ أَنَّ اَلْخُضْرَةَ اَلنَّاضِرَةَ مُمْتَزِجَةٌ بِهِ وَ مَعَ فَتْقِ سَمْعِهِ خَطٌّ كَمُسْتَدَقِّ اَلْقَلَمِ فِي لَوْنِ اَلْأُقْحُوَانِ أَبْيَضُ يَقَقٌ فَهُوَ بِبَيَاضِهِ فِي سَوَادِ
[ 274 ](1/2693)
مَا هُنَالِكَ يَأْتَلِقُ وَ قَلَّ صِبْغٌ إِلاَّ وَ قَدْ أَخَذَ مِنْهُ بِقِسْطٍ وَ عَلاَهُ بِكَثْرَةِ صِقَالِهِ وَ بَرِيقِهِ وَ بَصِيصِ دِيبَاجِهِ وَ رَوْنَقِهِ فَهُوَ كَالْأَزَاهِيرِ اَلْمَبْثُوثَةِ لَمْ تُرَبِّهَا أَمْطَارُ رَبِيعٍ وَ لاَ شُمُوسُ قَيْظٍ نجمت ظهرت والظنبوب حرف الساق وهو هذا العظم اليابس . والصيصية في الأصل شوكة الحائك التي يسوي بها السداة واللحمة ومنه قوله
كوقع الصياصي في النسيج الممدد
و نقل إلى صيصية الديك لتلك الهيئة التي في رجله . والعرف الشعر المرتفع من عنقه على رأسه والقنزعة واحدة القنازع وهي الشعر حوالي الرأس و
في الحديث غطي عنا قنازعك يا أم أيمن . وموشاة ذات وشي . والوسمة بكسر السين العظلم الذي يخضب به ويجوز تسكين السين . والأسحم الأسود والمتلفع الملتحف ويروى متقنع بمعجر وهو ما تشده المرأة على رأسها كالرداء . والأقحوان البابونج الأبيض وجمعه أقاح .
[ 275 ](1/2694)
و أبيض يقق خالص البياض وجاء يقق بالكسر ويأتلق يلمع . والبصيص البريق وبص الشي ء لمع . وتربها الأمطار تربيها وتجمعها . يقول ع كأن هذا الطائر ملتحف بملحفة سوداء إلا أنها لكثرة رونقها يتوهم أنه قد امتزج بها خضرة ناضرة وقل أن يكون لون إلا وقد أخذ هذا الطائر منه بنصيب فهو كأزاهير الربيع إلا أن الأزهار تربيها الأمطار والشموس وهذا مستغن عن ذلك : وَ قَدْ يَنْحَسِرُ مِنْ رِيشِهِ وَ يَعْرَى مِنْ لِبَاسِهِ فَيَسْقُطُ تَتْرَى وَ يَنْبُتُ تِبَاعاً فَيَنْحَتُّ مِنْ قَصَبِهِ اِنْحِتَاتَ أَوْرَاقِ اَلْأَغْصَانِ ثُمَّ يَتَلاَحَقُ نَامِياً حَتَّى يَعُودَ كَهَيْئَتِهِ قَبْلَ سُقُوطِهِ لاَ يُخَالِفُ سَالِفَ أَلْوَانِهِ وَ لاَ يَقَعُ لَوْنٌ فِي غَيْرِ مَكَانِهِ وَ إِذَا تَصَفَّحَتْ شَعْرَةً مِنْ شَعَرَاتِ قَصَبِهِ أَرَتْكَ حُمْرَةً وَرْدِيَّةً وَ تَارَةً خُضْرَةً زَبَرْجَدِيَّةً وَ أَحْيَاناً صُفْرَةً عَسْجَدِيَّةً فَكَيْفَ تَصِلُ إِلَى صِفَةِ هَذَا عَمَائِقُ اَلْفِطَنِ أَوْ تَبْلُغُهُ قَرَائِحُ اَلْعُقُولِ أَوْ تَسْتَنْظِمُ وَصْفَهُ أَقْوَالُ اَلْوَاصِفِينَ وَ أَقَلُّ أَجْزَائِهِ قَدْ أَعْجَزَ اَلْأَوْهَامَ أَنْ تُدْرِكَهُ وَ اَلْأَلْسِنَةَ أَنْ تَصِفَهُ فَسُبْحَانَ اَلَّذِي بَهَرَ اَلْعُقُولَ عَنْ وَصْفِ خَلْقٍ جَلاَّهُ لِلْعُيُونِ فَأَدْرَكَتْهُ مَحْدُوداً مُكَوَّناً وَ مُؤَلَّفاً مُلَوَّناً وَ أَعْجَزَ اَلْأَلْسُنَ عَنْ تَلْخِيصِ صِفَتِهِ وَ قَعَدَ بِهَا عَنْ تَأْدِيَةِ نَعْتِهِ وَ سُبْحَانَ مَنْ أَدْمَجَ قَوَائِمَ اَلذَّرَّةِ وَ اَلْهَمَجَةِ إِلَى مَا فَوْقَهُمَا مِنْ خَلْقِ اَلْحِيتَانِ وَ اَلْفِيَلَةِ
[ 276 ](1/2695)
وَ وَأَى عَلَى نَفْسِهِ أَلاَّ يَضْطَرِبَ شَبَحٌ مِمَّا أَوْلَجَ فِيهِ اَلرُّوحَ إِلاَّ وَ جَعَلَ اَلْحِمَامَ مَوْعِدَهُ وَ اَلْفَنَاءَ غَايَتَهُ ينحسر من ريشه ينكشف فيسقط ويروى يتحسر . تترى أي شيئا بعد شي ء وبينهما فترة قال الله تعالى ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا لأنه لم يرسلهم على تراسل بل بعد فترات وهذا مما يغلط فيه قوم فيعتقدون أن تترى للمواصلة والالتصاق وأصلها الواو من الوتر وهو الفرد وفيها لغتان تنون ولا تنون فمن ترك صرفها للمعرفة جعل ألفها ألف تأنيث ومن نونها جعل ألفها للإلحاق . قال ع وينبت تباعا أي لا فترات بينهما وكذلك حال الريش الساقط يسقط شيئا بعد شي ء وينبت جميعا . وينحت يتساقط وانحتات الورق تناثرها وناميا زائدا يقول ع إذا عاد ريشه عاد مكان كل ريشة ريشة ملونة بلون الريشة الأولى فلا يتخالف الأوائل والأواخر . والخضرة الزبرجدية منسوبة إلى الزمرد ولفظة الزبرجد تارة تستعمل له وتارة لهذا الحجر الأحمر المسمى بلخش والعسجد الذهب وعمائق الفطن
[ 277 ](1/2696)
البعيدة القعر والقريحة الخاطر والذهن وبهر غلب وجلاه أظهره ويروى بالتخفيف وأدمج القوائم أحكمها كالحبل المدمج الشديد الفتل . والذرة النملة الصغيرة والهمجة واحدة الهمج وهو ذباب صغير كالبعوض يسقط على وجوه الغنم والحمر وأعينها . ووأى وعد والوأي الوعد . واعلم أن الحكماء ذكروا في الطاوس أمورا قالوا إنه يعيش خمسا وعشرين سنة وهي أقصى عمره ويبيض في السنة الثالثة من عمره عند ما ينتقش لونه ويتم ريشه ويبيض في السنة مرة واحدة اثنتي عشرة بيضة في ثلاثة أيام ويحضنها ثلاثين يوما فيفرخ ويلقي ريشه مع سقوط ورق الشجر وينبته مع ابتداء نبات الورق . والدجاج قد يحضن بيض الطاوس وإنما يختار الدجاج لحضانته وإن وجدت الطاوسة لأن الطاوس الذكر يعبث بالأنثى ويشغلها عن الحضانة وربما انفقص البيض من تحتها ولهذه العلة يخبأ كثير من الإناث محاضنها عن ذكرانها ولا تقوى الدجاجة على أكثر من بيضتي طاوس وينبغي أن يتعهد الدجاجة حينئذ بتقريب العلف منها . وقال شيخنا أبو عثمان الجاحظ رحمه الله في كتاب الحيوان إن الطاوسة قد تبيض من الريح بأن يكون في سفالة الريح وفوقها طاوس ذكر فيحمل ريحه فتبيض منه وكذلك القبجة . قال وبيض الريح قل أن يفرخ
[ 278 ](1/2697)
مِنْهَا فِي صِفَةِ اَلْجَنَّةِ فَلَوْ رَمَيْتَ بِبَصَرِ قَلْبِكَ نَحْوَ مَا يُوصَفُ لَكَ مِنْهَا لَعَزَفَتْ نَفْسُكَ عَنْ بَدَائِعِ مَا أُخْرِجَ إِلَى اَلدُّنْيَا مِنْ شَهَوَاتِهَا وَ لَذَّاتِهَا وَ زَخَارِفِ مَنَاظِرِهَا وَ لَذَهِلَتْ بِالْفِكْرِ فِي اِصْطِفَافِ اِصْطِفَاقِ أَشْجَارٍ غُيِّبَتْ عُرُوقُهَا فِي كُثْبَانِ اَلْمِسْكِ عَلَى سَوَاحِلِ أَنْهَارِهَا وَ فِي تَعْلِيقِ كَبَائِسِ اَللُّؤْلُؤِ اَلرَّطْبِ فِي عَسَالِيجِهَا وَ أَفْنَانِهَا وَ طُلُوعِ تِلْكَ اَلثِّمَارِ مُخْتَلِفَةً فِي غُلُفِ أَكْمَامِهَا تُجْنَى مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ فَتَأْتِي عَلَى مُنْيَةِ مُجْتَنِيهَا وَ يُطَافُ عَلَى نُزَّالِهَا فِي أَفْنِيَةِ قُصُورِهَا بِالْأَعْسَالِ اَلْمُصَفَّقَةِ وَ اَلْخُمُورِ اَلْمُرَوَّقَةِ قَوْمٌ لَمْ تَزَلِ اَلْكَرَامَةُ تَتَمَادَى بِهِمْ حَتَّى حَلُّوا دَارَ اَلْقَرَارِ وَ أَمِنُوا نُقْلَةَ اَلْأَسْفَارِ فَلَوْ شَغَلْتَ قَلْبَكَ أَيُّهَا اَلْمُسْتَمِعُ بِالْوُصُولِ إِلَى مَا يَهْجُمُ عَلَيْكَ مِنْ تِلْكَ اَلْمَنَاظِرِ اَلْمُونِقَةِ لَزَهِقَتْ نَفْسُكَ شَوْقاً إِلَيْهَا وَ لَتَحَمَّلْتَ مِنْ مَجْلِسِي هَذَا إِلَى مُجَاوَرَةِ أَهْلِ اَلْقُبُورِ اِسْتِعْجَالاً بِهَا جَعَلَنَا اَللَّهُ وَ إِيَّاكُمْ مِمَّنْ يَسْعَى بِقَلْبِهِ إِلَى مَنَازِلِ اَلْأَبْرَارِ بِرَحْمَتِهِ قال الرضي رحمه الله تعالى تفسير بعض ما في هذه الخطبة من الغريب قوله ع يؤر بملاقحه الأر كناية عن النكاح يقال أر الرجل المرأة يؤرها إذا نكحها . وقوله ع كأنه قلع داري عنجه نوتيه القلع شراع السفينة وداري منسوب إلى دارين وهي بلدة على البحر يجلب منها الطيب وعنجه أي عطفه يقال عنجت الناقة أعنجها عنجا إذا عطفتها والنوتي الملاح .
[ 279 ](1/2698)
و قوله ع ضفتي جفونه أراد جانبي جفونه والضفتان الجانبان . وقوله وفلذ الزبرجد الفلذ جمع فلذة وهي القطعة . وقوله ع كبائس اللؤلؤ الرطب الكباسة العذق والعساليج الغصون واحدها عسلوج رميت ببصر قلبك أي أفكرت وتأملت وعزفت نفسك كرهت وزهدت والزخارف جمع زخرف وهو الذهب وكل مموه . واصطفاف الأشجار انتظامها صفا ويروى في اصطفاق أغصان أي اضطرابها . ويأتي على منية مجتنيها لا يترك له منية أصلا لأنه يكون قد بلغ نهاية الأماني . والعسل المصفق المصفى تحويلا من إناء إلى إناء والمونقة المعجبة وزهقت نفسه مات . واعلم أنه لا مزيد في التشويق إلى الجنة على ما ذكره الله تعالى في كتابه فكل الصيد في جانب الفرا .
[ 280 ]
و قد جاء عن رسول الله ص في ذلك أخبار صحيحة
فروى أسامة بن زيد قال سمعت رسول الله ص يذكر الجنة فقال أ لا مشتر لها هي ورب الكعبة ريحانة تهتز ونور يتلألأ ونهر يطرد وزوجة لا تموت مع حبور ونعيم ومقام الأبد و
روى أبو سعيد الخدري عنه ص أن الله سبحانه لما حوط حائط الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة وغرس غرسها قال لها تكلمي فقالت قد أفلح المؤمنون فقال طوبى لك منزل الملوك و
روى جابر بن عبد الله عنه ع إذا دخل أهل الجنة الجنة قال لهم ربهم تعالى أ تحبون أن أزيدكم فيقولون وهل خير مما أعطيتنا فيقول نعم رضواني أكبر و
عنه ع إن أحدهم ليعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب فقيل له فهل يكون منهم حدث أو قال خبث قال عرق يفيض من أعراضهم كريح المسك يضمر منه البطن وروى الزمخشري في ربيع الأبرار ومذهبه في الاعتزال ونصرة أصحابنا معلوم وكذلك في انحرافه عن الشيعة وتسخيفه لمقالاتهم(1/2699)
أن رسول الله محمدا ص قال لما أسري بي أخذني جبرئيل فأقعدني على درنوك من درانيك الجنة ثم ناولني سفرجلة فبينا أنا أقلبها انفلقت فخرجت منها جارية لم أر أحسن منها فسلمت فقلت من أنت قالت أنا الراضية المرضية خلقني الجبار من ثلاثة أصناف أعلاي من عنبر
[ 281 ]
و أوسطي من كافور وأسفلي من مسك ثم عجنني بماء الحيوان وقال لي كوني كذا فكنت خلقني لأخيك وابن عمك علي بن أبي طالب . قلت الدرنوك ضرب من البسط ذو خمل ويشبه به فروة البعير قال الراجز
جعد الدرانيك رفل الأجلاد
[ 282 ](1/2700)
167 ـ ومن خطبة له ع
لِيَتَأَسَّ صَغِيرُكُمْ بِكَبِيرِكُمْ وَ لْيَرْأَفْ كَبِيرُكُمْ بِصَغِيرِكُمْ وَ لاَ تَكُونُوا كَجُفَاةِ اَلْجَاهِلِيَّةِ لاَ فِي اَلدِّينِ يَتَفَقَّهُونَ وَ لاَ عَنِ اَللَّهِ يَعْقِلُونَ كَقَيْضِ بَيْضٍ فِي أَدَاحٍ يَكُونُ كَسْرُهَا وِزْراً وَ يُخْرِجُ حِضَانُهَا شَرّاً أمرهم ع أن يتأسى الصغير منهم بالكبير في أخلاقه وآدابه فإن الكبير لكثرة التجربة أحزم وأكيس وأن يرأف الكبير بالصغير والرأفة الرحمة لأن الصغير مظنة الضعف والرقة . ثم نهاهم عن خلق الجاهلية في الجفاء والقسوة وقال إنهم لا يتفقهون في دين ولا يعقلون عن الله ما يأمرهم به وهذا من قول الله سبحانه صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ وروي تتفقهون بتاء الخطاب . ثم شبههم ببيض الأفاعي في الأعشاش يظن بيض القطا فلا يحل لمن رآه أن يكسره لأنه يظنه بيض القطا وحضانه يخرج شرا لأنه يفقص عن أفعى .
[ 283 ](1/2701)
و استعار لفظة الأداحي للأعشاش مجازا لأن الأداحي لا تكون إلا للنعام تدحوها بأرجلها وتبيض فيها ودحوها توسيعها من دحوت الأرض . والقيض الكسر والفلق قضت القارورة والبيضة وانقاضت هي وانقاض الجدار انقياضا أي تصدع من غير أن يسقط فإن سقط قيل تقيض تقيضا وتقوض تقوضا وقوضته أنا وتقول للبيضة إذا تكسرت فلقا تقيضت تقيضا فإن تصدعت ولم تنفلق قلت انقاضت فهي منقاضة والقارورة مثله : مِنْهَا اِفْتَرَقُوا بَعْدَ أُلْفَتِهِمْ وَ تَشَتَّتُوا عَنْ أَصْلِهِمْ فَمِنْهُمْ آخِذٌ بِغُصْنٍ أَيْنَمَا مَالَ مَالَ مَعَهُ عَلَى أَنَّ اَللَّهَ تَعَالَى سَيَجْمَعُهُمْ لِشَرِّ يَوْمٍ لِبَنِي أُمَيَّةَ كَمَا يَجْتَمِعُ قَزَعُ اَلْخَرِيفِ يُؤَلِّفُ اَللَّهُ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَجْمَعُهُمْ رُكَاماً كَرُكَامِ اَلسَّحَابِ ثُمَّ يَفْتَحُ اَللَّهُ لَهُمْ أَبْوَاباً يَسِيلُونَ مِنْ مُسْتَثَارِهِمْ كَسَيْلِ اَلْجَنَّتَيْنِ حَيْثُ لَمْ تَسْلَمْ عَلَيْهِ قَارَةٌ وَ لَمْ تَثْبُتْ عَلَيْهِ أَكَمَةٌ وَ لَمْ يَرُدَّ سُنَنَهُ رَصُّ طَوْدٍ وَ لاَ حِدَابُ أَرْضٍ يُذَعْذِعُهُمُ اَللَّهُ فِي بُطُونِ أَوْدِيَتِهِ ثُمَّ يَسْلُكُهُمْ يَنَابِيعَ فِي اَلْأَرْضِ يَأْخُذُ بِهِمْ مِنْ قَوْمٍ حُقُوقَ قَوْمٍ وَ يُمَكِّنُ لِقَوْمٍ فِي دِيَارِ قَوْمٍ وَ اَيْمُ اَللَّهِ لَيَذُوبَنَّ مَا فِي أَيْدِيهِمْ بَعْدَ اَلْعُلُوِّ وَ اَلتَّمْكِينِ كَمَا تَذُوبُ اَلْأَلْيَةُ عَلَى اَلنَّارِ أَيُّهَا اَلنَّاسُ لَوْ لَمْ تَتَخَاذَلُوا عَنْ نَصْرِ اَلْحَقِّ وَ لَمْ تَهِنُوا عَنْ تَوْهِينِ اَلْبَاطِلِ لَمْ
[ 284 ](1/2702)
يَطْمَعْ فِيكُمْ مَنْ لَيْسَ مِثْلَكُمْ وَ لَمْ يَقْوَ مَنْ قَوِيَ عَلَيْكُمْ لَكِنَّكُمْ تِهْتُمْ مَتَاهَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَ لَعَمْرِي لَيُضَعَّفَنَّ لَكُمُ اَلتِّيْهُ مِنْ بَعْدِي أَضْعَافاً بِمَا خَلَّفْتُمُ اَلْحَقَّ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَ قَطَعْتُمُ اَلْأَدْنَى وَ وَصَلْتُمُ اَلْأَبْعَدَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِنِ اِتَّبَعْتُمُ اَلدَّاعِيَ لَكُمْ سَلَكَ بِكُمْ مِنْهَاجَ اَلرَّسُولِ وَ كُفِيتُمْ مَئُونَةَ اَلاِعْتِسَافِ وَ نَبَذْتُمُ اَلثِّقْلَ اَلْفَادِحَ عَنِ اَلْأَعْنَاقِ هو ع يذكر حال أصحابه وشيعته بعده فيقول افترقوا بعد ألفتهم أي بعد اجتماعهم . وتشتتوا عن أصلهم أي عني بعد مفارقتي فمنهم آخذ بغصن أي يكون منهم من يتمسك بمن أخلفه بعدي من ذرية الرسول أينما سلكوا سلكوا معهم وتقدير الكلام ومنهم من لا يكون هذه حاله لكنه لم يذكره ع اكتفاء بذكر القسم الأول لأنه دال على القسم الثاني . ثم قال على أن هؤلاء القوم من ثبت منهم على عقيدته فينا ومن لم يثبت لا بد أن يجمعهم الله تعالى لشر يوم لبني أمية وكذا كان فإن الشيعة الهاشمية اجتمعت على إزالة ملك بني مروان من كان منهم ثابتا على ولاء علي بن أبي طالب ع ومن حاد منهم عن ذلك وذلك في أواخر أيام مروان الحمار عند ظهور الدعوة الهاشمية . وقزع الخريف جمع قزعة وهي سحب صغار تجتمع فتصير ركاما وهو ما كثف
[ 285 ](1/2703)
من السحاب وركمت الشي ء أركمه إذا جمعته وألقيت بعضه على بعض . ومستثارهم موضع ثورتهم . والجنتان هما اللتان قال الله تعالى فيهما لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمالٍ وسلط الله عليهما السيل قال الله تعالى فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ اَلْعَرِمِ فشبه ع سيلان الجيوش إلى بني أمية بالسيل المسلط على تينك الجنتين . فإنه لم تسلم عليه قارة وهي الجبيل الصغير ولم تثبت له أكمة وهي التلعة من الأرض . ولم يرد سننه أي طريقه طود مرصوص أي جبل شديد التصاق الأجزاء بعضها ببعض ولا حداب أرض جمع حدبة وهي الروابي والنجاد . ثم قال يذعذعهم الله الذعذعة بالذال المعجمة مرتين التفريق وذعذعة الشر إذاعته . ثم يسلكهم ينابيع في الأرض من ألفاظ القرآن والمراد أنه كما أن الله تعالى ينزل من السماء ماء فيستكن في أعماق الأرض ثم يظهر منها ينابيع إلى ظاهرها كذلك هؤلاء القوم يفرقهم الله تعالى في بطون الأودية وغوامض الأغوار ثم
[ 286 ]
يظهرهم بعد الاختفاء فيأخذ بهم من قوم حقوق آخرين ويمكن منهم قوما من ملك قوم وديارهم . ثم أقسم ليذوبن ما في أيدي بني أمية بعد علوهم وتمكينهم كما تذوب الألية على النار وهمزة الألية مفتوحة وجمعها أليات بالتحريك والتثنية أليان بغير تاء قال الراجز
ترتج ألياه ارتجاج الوطب
و جمع الألية ألاء على فعال وكبش آلى على أفعل ونعجة ألياء والجمع ألي على فعل ويقال أيضا كبش أليان بالتحريك وكباش أليانات ورجل أليأ أي عظيم الألية وامرأة عجزاء ولا تقل ألياء وقد قاله بعضهم وقد ألي الرجل بالكسر يألى عظمت أليته . ثم قال لو لا تخاذلكم لم يطمع فيكم من هو دونكم . وتهنوا مضارع وهن أي ضعف وهو من ألفاظ القرآن أيضا . وتهتم متاه بني إسرائيل حرتم وضللتم الطريق و(1/2704)
قد جاء في المسانيد الصحيحة أن رسول الله ص قال لتركبن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه فقيل يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن إذا و
من الأخبار الصحيحة أيضا أ متهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى و
في صحيحي البخاري ومسلم رحمهما الله أنه سيجاء يوم القيامة بأناس من أمتي
[ 287 ]
فيؤخذ بهم ذات الشمال فإذا رأيتهم اختلجوا دوني قلت أي رب أصحابي فيقال لي إنك لا تدري ما عملوا بعدك فأقول ما قال العبد الصالح وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ اَلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ الإسناد في هذا الحديث عن ابن عباس رضي الله عنه و
في الصحيحين أيضا عن زينب بنت جحش قالت استيقظ رسول الله ص يوما من نومه محمرا وجهه وهو يقول لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فقلت يا رسول الله أ نهلك وفينا الصالحون فقال نعم إذا كثر الخبث و
في الصحيحين أيضا يهلك أمتي هذا الحي من قريش قالوا يا رسول الله فما تأمرنا قال لو أن الناس اعتزلوهم رواه أبو هريرة عنه ص .
ثم قال ع ليضعفن لكم التيه من بعدي يعني الضلال يضعفه لكم الشيطان وأنفسكم بما خلفتم الحق وراء ظهوركم أي لأجل ترككم الحق وقطعكم الأدنى يعني نفسه ووصلكم الأبعد يعني معاوية ويروى إن اتبعتم الراعي لكم بالراء . والاعتساف سلوك غير الطريق والفادح الثقل فدحه الدين أثقله
[ 288 ](1/2705)
168 ـ ومن خطبة له ع في أول خلافته
إِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى سُبْحَانَهُ أَنْزَلَ كِتَاباً هَادِياً بَيَّنَ فِيهِ اَلْخَيْرَ وَ اَلشَّرَّ فَخُذُوا نَهْجَ اَلْخَيْرِ تَهْتَدُوا وَ اِصْدِفُوا عَنْ سَمْتِ اَلشَّرِّ تَقْصِدُوا اَلْفَرَائِضَ اَلْفَرَائِضَ أَدُّوهَا إِلَى اَللَّهِ تُؤَدِّكُمْ إِلَى اَلْجَنَّةِ إِنَّ اَللَّهَ حَرَّمَ حَرَاماً غَيْرَ مَجْهُولٍ وَ أَحَلَّ حَلاَلاً غَيْرَ مَدْخُولٍ وَ فَضَّلَ حُرْمَةَ اَلْمُسْلِمِ عَلَى اَلْحُرَمِ كُلِّهَا وَ شَدَّ بِالْإِخْلاَصِ وَ اَلتَّوْحِيدِ حُقُوقَ اَلْمُسْلِمِينَ فِي مَعَاقِدِهَا فَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ اَلْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَ يَدِهِ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ لاَ يَحِلُّ أَذَى اَلْمُسْلِمِ إِلاَّ بِمَا يَجِبُ بَادِرُوا أَمْرَ اَلْعَامَّةِ وَ خَاصَّةَ أَحَدِكُمْ وَ هُوَ اَلْمَوْتُ فَإِنَّ اَلنَّاسَ أَمَامَكُمْ وَ إِنَّ اَلسَّاعَةَ تَحْدُوكُمْ مِنْ خَلْفِكُمْ تَخَفَّفُوا تَلْحَقُوا فَإِنَّمَا يُنْتَظَرُ بِأَوَّلِكُمْ آخِرُكُمْ اِتَّقُوا اَللَّهَ فِي عِبَادِهِ وَ بِلاَدِهِ فَإِنَّكُمْ مَسْئُولُونَ حَتَّى عَنِ اَلْبِقَاعِ وَ اَلْبَهَائِمِ وَ أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ لاَ تَعْصُوهُ وَ إِذَا رَأَيْتُمُ اَلْخَيْرَ فَخُذُوا بِهِ وَ إِذَا رَأَيْتُمُ اَلشَّرَّ فَأَعْرِضُوا عَنْهُ
[ 289 ]
و اصدفوا عن سمت الشر أي أعرضوا عن طريقه تقصدوا أي تعدلوا والقصد العدل . ثم أمر بلزوم الفرائض من العبادات والمحافظة عليها كالصلاة والزكاة وانتصب ذلك على الإغراء . ثم ذكر أن الحرام غير مجهول للمكلف بل معلوم والحلال غير مدخول أي لا عيب ولا نقص فيه وأن حرمة المسلم أفضل من جميع الحرمات وهذا لفظ(1/2706)
الخبر النبوي حرمة المسلم فوق كل حرمة دمه وعرضه وماله . قال ع وشد بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين في معاقدها لأن الإخلاص والتوحيد داعيان إلى المحافظة على حقوق المسلمين صارفان عن انتهاك محارمهم . قال فالمسلم من سلم الناس هذا لفظ الخبر النبوي بعينه . قوله ولا يحل أذى المسلم إلا بما يجب أي إلا بحق وهو الكلام الأول وإنما أعاده تأكيدا . ثم أمر بمبادرة الموت وسماه الواقعة العامة لأنه يعم الحيوان كله ثم سماه خاصة أحدكم لأنه وإن كان عاما إلا أن له مع كل إنسان بعينه خصوصية زائدة على ذلك العموم . قوله فإن الناس أمامكم أي قد سبقوكم والساعة تسوقكم من خلفكم . ثم أمر بالتخفف وهو القناعة من الدنيا باليسير وترك الحرص عليها فإن المسافر الخفيف أحرى بالنجاة ولحاق أصحابه وبلوغ المنزل من الثقيل .
[ 290 ]
و قوله فإنما ينتظر بأولكم آخركم أي إنما ينتظر ببعث الموتى المتقدمين أن يموت الأواخر أيضا فيبعث الكل جميعا في وقت واحد . ثم ذكر أنهم مسئولون عن كل شي ء حتى عن البقاع لم استوطنتم هذه وزهدتم في هذه ولم أخربتم هذه الدار وعمرتم هذه الدار وحتى عن البهائم لم ضربتموها لم أجعتموها . وروي فإن البأس أمامكم يعني الفتنة والرواية الأولى أظهر و
قد ورد في الأخبار النبوية لينتصفن للجماء من القرناء و
جاء في الخبر الصحيح إن الله تعالى عذب إنسانا بهر حبسه في بيت وأجاعه حتى هلك
[ 291 ](1/2707)
169 ـ ومن كلام له ع بعد ما بويع له بالخلافة
و قد قال له قوم من الصحابة لو عاقبت قوما ممن أجلب على عثمان فقال ع : يَا إِخْوَتَاهْ إِنِّي لَسْتُ أَجْهَلُ مَا تَعْلَمُونَ وَ لَكِنْ كَيْفَ لِي بِقُوَّةٍ وَ اَلْقَوْمُ اَلْمُجْلِبُونَ عَلَى حَدِّ شَوْكَتِهِمْ يَمْلِكُونَنَا وَ لاَ نَمْلِكُهُمْ وَ هَا هُمْ هَؤُلاَءِ قَدْ ثَارَتْ مَعَهُمْ عِبْدَانُكُمْ وَ اِلْتَفَّتْ إِلَيْهِمْ أَعْرَابُكُمْ وَ هُمْ خِلاَلَكُمْ يَسُومُونَكُمْ مَا شَاءُوا وَ هَلْ تَرَوْنَ مَوْضِعاً لِقُدْرَةٍ عَلَى شَيْ ءٍ تُرِيدُونَهُ إِنَّ هَذَا اَلْأَمْرَ أَمْرُ جَاهِلِيَّةٍ وَ إِنَّ لِهَؤُلاَءِ اَلْقَوْمِ مَادَّةً إِنَّ اَلنَّاسَ مِنْ هَذَا اَلْأَمْرِ إِذَا حُرِّكَ عَلَى أُمُورٍ فِرْقَةٌ تَرَى مَا تَرَوْنَ وَ فِرْقَةٌ تَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ وَ فِرْقَةٌ لاَ تَرَى هَذَا وَ لاَ هَذَا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَهْدَأَ اَلنَّاسُ وَ تَقَعَ اَلْقُلُوبُ مَوَاقِعَهَا وَ تُؤْخَذَ اَلْحُقُوقُ مُسْمَحَةً فَاهْدَءُوا عَنِّي وَ اُنْظُرُوا مَا ذَا يَأْتِيكُمْ بِهِ أَمْرِي وَ لاَ تَفْعَلُوا فَعْلَةً تُضَعْضِعُ قُوَّةً وَ تُسْقِطُ مُنَّةً وَ تُورِثُ وَهْناً وَ ذِلَّةً وَ سَأُمْسِكُ اَلْأَمْرَ مَا اِسْتَمْسَكَ وَ إِذَا لَمْ أَجِدْ بُدّاً فَآخِرُ اَلدَّوَاءِ اَلْكَيُّ أجلب عليه أعان عليه وأجلبه أعانه والألف في يا إخوتاه بدل من ياء الإضافة والهاء للسكت .
[ 292 ]
و على حد شوكتهم شدتهم أي لم تنكسر سورتهم . والعبدان جمع عبد بالكسر مثل جحش وجحشان وجاء عبدان بالضم مثل تمر وتمران وجاء عبيد مثل كلب وكليب وهو جمع عزيز وجاء أعبد وعباد وعبدان مشددة الدال وعبداء بالمد وعبدى بالقصر ومعبوداء بالمد وعبد بالضم مثل سقف وسقف وأنشدوا
أنسب العبد إلى آبائه
أسود الجلدة من قوم عبد(1/2708)
و منه قرأ بعضهم وَ عَبَدَ اَلطَّاغُوتَ وأضافه . قوله والتفت إليهم أعرابكم انضمت واختلطت بهم . وهم خلالكم أي بينكم يسومونكم ما شاءوا يكلفونكم قال تعالى يَسُومُونَكُمْ سُوءَ اَلْعَذابِ . وتؤخذ الحقوق مسمحة من أسمح أي ذل وانقاد . فاهدءوا عني أي فاسكنوا هدأ الرجل هدءا وهدوءا أي سكن وأهدأه غيره وتضعضع قوة تضعف وتهد ضعضعت البناء هددته والمنة القوة والوهن الضعف وآخر الدواء الكي مثل مشهور ويقال آخر الطب ويغلط فيه العامة فتقول آخر الداء والكي ليس من الداء ليكون آخره
[ 293 ](1/2709)
موقف علي من قتلة عثمان
و اعلم أن هذا الكلام يدل على أنه ع كان في نفسه عقاب الذين حصروا عثمان والاقتصاص ممن قتله إن كان بقي ممن باشر قتله أحد ولهذا قال إني لست أجهل ما تعلمون فاعترف بأنه عالم بوجوب ذلك واعتذر بعدم التمكن كما ينبغي وصدق ع فإن أكثر أهل المدينة أجلبوا عليه وكان من أهل مصر ومن الكوفة عالم عظيم حضروا من بلادهم وطووا المسالك البعيدة لذلك وانضم إليهم أعراب أجلاف من البادية وكان الأمر أمر جاهلية كما قال ع ولو حرك ساكنا لاختلف الناس واضطربوا فقوم يقولون أصاب وقوم يقولون أخطأ وقوم لا يحكمون بصواب ولا خطأ بل يتوقفون ولا يأمن لو شرع في عقوبة الناس والقبض عليهم من تجدد فتنة أخرى كالأولى وأعظم فكان الأصوب في التدبير والذي يوجبه الشرع والعقل الإمساك إلى حين سكون الفتنة وتفرق تلك الشعوب وعود كل قوم إلى بلادهم وكان ع يؤمل أن يطيعه معاوية وغيره وأن يحضر بنو عثمان عنده يطالبون بدم أبيهم ويعينون قوما بأعيانهم بعضهم للقتل وبعضهم للحصار وبعضهم للتسور كما جرت عادة المتظلمين إلى الإمام والقاضي فحينئذ يتمكن من العمل بحكم الله تعالى فلم يقع الأمر بموجب ذلك وعصى معاوية وأهل الشام والتجأ ورثة عثمان إليه وفارقوا حوزة أمير المؤمنين ع ولم يطلبوا القصاص طلبا شرعيا وإنما طلبوه مغالبة وجعلها معاوية عصبية الجاهلية ولم يأت أحد منهم الأمر من بابه وقبل ذلك ما كان من أمر طلحة والزبير ونقضهما البيعة ونهبهما أموال المسلمين بالبصرة وقتلهما الصالحين من أهلها وجرت أمور كلها تمنع الإمام عن التصدي للقصاص واعتماد ما يجب اعتماده لو كان الأمر وقع على القاعدة
[ 294 ](1/2710)
الصحيحة من المطالبة بذلك على وجه السكون والحكومة وقد قال هو ع لمعاوية فأما طلبك قتلة عثمان فادخل في الطاعة وحاكم القوم إلي أحملك وإياهم على كتاب الله وسنة رسوله . قال أصحابنا المعتزلة رحمهم الله وهذا عين الحق ومحض الصواب لأنه يجب دخول الناس في طاعة الإمام ثم تقع المحاكمة إليه فإن حكم بالحق استديمت إمامته وإن حكم بالجور انتقض أمره وتعين خلعه . فإن قلت فما معنى قوله وسأمسك الأمر ما استمسك فإذا لم أجد بدا فآخر الدواء الكي . قلت ليس معناه وسأصبر عن معاقبة هؤلاء ما أمكن الصبر فإذا لم أجد بدا عاقبتهم ولكنه كلام قاله أول مسير طلحة والزبير إلى البصرة فإنه حينئذ أشار عليه قوم بمعاقبة المجلبين فاعتذر بما قد ذكر ثم قال وسأمسك الأمر ما استمسك أي أمسك نفسي عن محاربة هؤلاء الناكثين للبيعة ما أمكنني وأدفع الأيام بمراسلتهم وتخويفهم وإنذارهم وأجتهد في ردهم إلى الطاعة بالترغيب والترهيب فإذا لم أجد بدا من الحرب فآخر الدواء الكي أي الحرب لأنها الغاية التي ينتهي أمر العصاة إليها
[ 295 ](1/2711)
170 ـ ومن خطبة له ع عند مسير أصحاب الجمل إلى البصرة
إِنَّ اَللَّهَ بَعَثَ رَسُولاً هَادِياً بِكِتَابٍ نَاطِقٍ وَ أَمْرٍ قَائِمٍ لاَ يَهْلِكُ عَنْهُ إِلاَّ هَالِكٌ وَ إِنَّ اَلْمُبْتَدَعَاتِ اَلْمُشَبَّهَاتِ هُنَّ اَلْمُهْلِكَاتُ إِلاَّ مَا حَفِظَ اَللَّهُ مِنْهَا وَ إِنَّ فِي سُلْطَانِ اَللَّهِ عِصْمَةً لِأَمْرِكُمْ فَأَعْطُوهُ طَاعَتَكُمْ غَيْرَ مُلَوَّمَةٍ وَ لاَ مُسْتَكْرَهٍ بِهَا وَ اَللَّهِ لَتَفْعَلُنَّ أَوْ لَيَنْقُلَنَّ اَللَّهُ عَنْكُمْ سُلْطَانَ اَلْإِسْلاَمِ ثُمَّ لاَ يَنْقُلُهُ إِلَيْكُمْ أَبَداً حَتَّى يَأْرِزَ اَلْأَمْرُ إِلَى غَيْرِكُمْ إِنَّ هَؤُلاَءِ قَدْ تَمَالَئُوا عَلَى سَخْطَةِ إِمَارَتِي وَ سَأَصْبِرُ مَا لَمْ أَخَفْ عَلَى جَمَاعَتِكُمْ فَإِنَّهُمْ إِنْ تَمَّمُوا عَلَى فَيَالَةِ هَذَا اَلرَّأْيِ اِنْقَطَعَ نِظَامُ اَلْمُسْلِمِينَ وَ إِنَّمَا طَلَبُوا هَذِهِ اَلدُّنْيَا حَسَداً لِمَنْ أَفَاءَهَا اَللَّهُ عَلَيْهِ فَأَرَادُوا رَدَّ اَلْأُمُورِ عَلَى أَدْبَارِهَا وَ لَكُمْ عَلَيْنَا اَلْعَمَلُ بِكِتَابِ اَللَّهِ تَعَالَى وَ سُنَّةِ رَسُولِهِ سِيرَةِ رَسُولِ اَللَّهِ ص وَ اَلْقِيَامُ بِحَقِّهِ وَ اَلنَّعْشُ لِسُنَّتِهِ وأمر قائم أي مستقيم ليس بذي عوج لا يهلك عنه إلا هالك تقديره لا يهلك عادلا عنه إلا هالك وهذا كما تقول لا يعلم هذا الفن إلا عالم أي من قد بلغ الغاية
[ 296 ](1/2712)
في العلم واستحق أن يوصف بذلك ويشار إليه فيه كذلك لا يهلك بعدوله عنه إلا من هو أعظم الهالكين ومن يشار إليه بالهلاك وقد بلغ الغاية في الهلاك . ثم قال إن المبتدعات المشبهات هن المهلكات المبتدعات ما أحدث ولم يكن على عهد الرسول والمشبهات التي تشبه السنن وليست منها أي المشبهات بالسنن وروي المشبهات بالكسر أي المشبهات على الناس يقال قد شبه عليه الأمر أي ألبس عليه ويروى المشتبهات أي الملتبسات لا يعرف حقها من باطلها . قال إلا من حفظ الله أي من عصمه الله بألطاف يمتنع لأجلها عن الخطأ ثم أمرهم بلزوم الطاعة واتباع السلطان وقال إن فيه عصمة لأمركم فأعطوه طاعتكم غير ملومة أي مخلصين ذوي طاعة محضة لا يلام باذلها أي لا ينسب إلى النفاق ولا مستكره بها أي ليست عن استكراه بل يبذلونها اختيارا ومحبة ويروى غير ملوية أي معوجة من لويت العود . ثم أقسم أنهم إن لم يفعلوا وإلا نقل الله عنهم سلطان الإسلام يعني الخلافة ثم لا يعيده إليهم أبدا حتى يأرز الأمر إلى غيرهم أي حتى ينقبض وينضم ويجتمع و
في الحديث إن الإسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها . فإن قلت كيف قال إنه لا يعيده إليهم أبدا وقد عاد إليهم بالخلافة العباسية . قلت لأن الشرط لم يقع وهو عدم الطاعة فإن أكثرهم أطاعوه طاعة غير ملومة ولا مستكره بها وإذا لم يتحقق الشرط لم يتحقق المشروط .
[ 297 ](1/2713)
و قد أجاب قوم عن هذا فقالوا خاطب الشيعة الطالبية فقال إن لم تعطوني الطاعة المحضة نقل الله الخلافة عن هذا البيت حتى يأرز وينضم إلى بيت آخر وهكذا وقع فإنها انضمت إلى بيت آخر من بني هاشم . وأجاب قوم آخرون فقالوا أراد بقوله أبدا المبالغة كما تقول احبس هذا الغريم أبدا والمراد بالقوم الذين يأرز الأمر إليهم بنو أمية كأنه قال إن لم تفعلوا نقل الله الخلافة عنكم حتى يجعلها في قوم آخرين وهم أعداؤكم من أهل الشام وبني أمية ولا يعيده إليكم إلى مدة طويلة وهكذا وقع . وقد تمالئوا قد اجتمعوا وتساعدوا على سخطة إمارتي على كراهيتها وبغضها . ثم وعد بالصبر عليهم ما لم يخف من فرقة الجماعة وانتشار حبل الإسلام . وفيالة الرأي ضعفه وكذلك فيولته ورجل فيل الرأي أي ضعيفه قال
بني رب الجواد فلا تفيلوا
فما أنتم فنعذركم لفيل
أي لستم على رجل ضعيف الرأي والجمع أفيال ويقال أيضا رجل فال قال
رأيتك يا أخيطل إذ جرينا
و جربت الفراسة كنت فالا
قال إن تموا على هذا الرأي الضعيف قطعوا نظام المسلمين وفرقوا جماعتهم . ثم ذكر أن الحسد دعاهم إلى ذلك وأفاءها عليه ردها عليه فاء يفي ء رجع وفلان سريع الفي ء من غضبه أي سريع الرجوع وإنه لحسن الفيئة بالكسر مثال الفيعة أي حسن الرجوع وهذا الكلام لا يشعر بأنه ع كان يعتقد أن الأمر له وأنه غلب عليه ثم رجع إليه ولكنه محمول على أنه من رسول الله ص بمنزلة الجزء من الكل وأنهما من جوهر واحد فلما كان الوالي قديما وهو رسول الله ص
[ 298 ](1/2714)
ثم تخلل بين ولايته ص وولاية أمير المؤمنين ع ولايات غريبة سمى ولايته فيئا ورجوعا لأنها رجعت إلى الدوحة الهاشمية وبهذا يجب أن يتأول قوله فأرادوا رد الأمور على أدبارها أي أرادوا انتزاع الخلافة من بني هاشم كما انتزعت أولا وإقرارها في بيوت بعيدة عن هذا البيت أسوة بما وقع من قبل . والنعش مصدر نعش أي رفع ولا يجوز أنعش
[ 299 ](1/2715)
171 ـ ومن كلام له ع كلم به بعض العرب
وَ قَدْ أَرْسَلَهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ اَلْبَصْرَةِ لَمَّا قَرُبَ ع مِنْهَا لِيَعْلَمَ لَهُمْ مِنْهُ حَقِيقَةَ حَالِهِ مَعَ أَصْحَابِ اَلْجَمَلِ لِتَزُولَ اَلشُّبْهَةُ مِنْ نُفُوسِهِمْ فَبَيَّنَ لَهُ ع مِنْ أَمْرِهِ مَعَهُمْ مَا عَلِمَ بِهِ أَنَّهُ عَلَى اَلْحَقِّ ثُمَّ قَالَ لَهُ بَايِعْ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ قَوْمٍ وَ لاَ أُحْدِثُ حَدَثاً حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ ع أَ رَأَيْتَ لَوْ أَنَّ اَلَّذِينَ وَرَاءَكَ بَعَثُوكَ رَائِداً تَبْتَغِي لَهُمْ مَسَاقِطَ اَلْغَيْثِ فَرَجَعْتَ إِلَيْهِمْ وَ أَخْبَرْتَهُمْ عَنِ اَلْكَلَإِ وَ اَلْمَاءِ فَخَالَفُوا إِلَى اَلْمَعَاطِشِ وَ اَلْمَجَادِبِ مَا كُنْتَ صَانِعاً قَالَ كُنْتُ تَارِكَهُمْ وَ مُخَالِفَهُمْ إِلَى اَلْكَلَإِ وَ اَلْمَاءِ فَقَالَ ع فَامْدُدْ إِذاً يَدَكَ فَقَالَ اَلرَّجُلُ فَوَاللَّهِ مَا اِسْتَطَعْتُ أَنْ أَمْتَنِعَ عِنْدَ قِيَامِ اَلْحُجَّةِ عَلَيَّ فَبَايَعْتُهُ ع وَ اَلرَّجُلُ يُعْرَفُ بِكُلَيْبٍ اَلْجَرْمِيِّ الجرمي منسوب إلى بني جرم بن ربان بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة من حمير وكان هذا الرجل بعثه قوم من أهل البصرة إليه ع
[ 300 ](1/2716)
يستعلم حاله أ هو على حجة أم على شبهة فلما رآه ع وسمع لفظه علم صدقه وبرهانه فكان بينهما ما قد شرحه ع . ولا شي ء ألطف ولا أوقع ولا أوضح من المثال الذي ضربه ع وهو حجة لازمة لا مدفع لها . قوله ولا أحدث حدثا أي لا أفعل ما لم يأمروني به إنما أمرت باستعلام حالك فقط فأما المبايعة لك فإن أحدثتها كنت فاعلا ما لم أندب له . ومساقط الغيث المواضع التي يسقط الغيث فيها والكلأ النبت إذا طال وأمكن أن يرعى وأول ما يظهر يسمى الرطب فإذا طال قليلا فهو الخلى فإذا طال شيئا آخر فهو الكلأ فإذا يبس فهو الحشيش . والمعاطش والمجادب مواضع العطش والجدب وهو المحل
[ 301 ](1/2717)
172 ـ ومن كلام له ع لما عزم على لقاء القوم بصفين
اَللَّهُمَّ رَبَّ اَلسَّقْفِ اَلْمَرْفُوعِ وَ اَلْجَوِّ اَلْمَكْفُوفِ اَلَّذِي جَعَلْتَهُ مَغِيضاً لِلَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ وَ مَجْرًى لِلشَّمْسِ وَ اَلْقَمَرِ وَ مُخْتَلَفاً لِلنُّجُومِ اَلسَّيَّارَةِ وَ جَعَلْتَ سُكَّانَهُ سِبْطاً مِنْ مَلاَئِكَتِكَ لاَ يَسْأَمُونَ مِنْ عِبَادَتِكَ وَ رَبَّ هَذِهِ اَلْأَرْضِ اَلَّتِي جَعَلْتَهَا قَرَاراً لِلْأَنَامِ وَ مَدْرَجاً لِلْهَوَامِّ وَ اَلْأَنْعَامِ وَ مَا لاَ يُحْصَى مِمَّا يُرَى وَ مَا لاَ يُرَى وَ رَبَّ اَلْجِبَالِ اَلرَّوَاسِي اَلَّتِي جَعَلْتَهَا لِلْأَرْضِ أَوْتَاداً وَ لِلْخَلْقِ اِعْتِمَاداً إِنْ أَظْهَرْتَنَا عَلَى عَدُوِّنَا فَجَنِّبْنَا اَلْبَغْيَ وَ سَدِّدْنَا لِلْحَقِّ وَ إِنْ أَظْهَرْتَهُمْ عَلَيْنَا فَارْزُقْنَا اَلشَّهَادَةَ وَ اِعْصِمْنَا مِنَ اَلْفِتْنَةِ أَيْنَ اَلْمَانِعُ لِلذِّمَارِ وَ اَلْغَائِرُ عِنْدَ نُزُولِ اَلْحَقَائِقِ مِنْ أَهْلِ اَلْحِفَاظِ اَلْعَارُ وَرَاءَكُمْ وَ اَلْجَنَّةُ أَمَامَكُمْ السقف المرفوع السماء والجو المكفوف السماء أيضا كفه أي جمعه وضم بعضه إلى بعض ويمر في كلامه نحو هذا وإن السماء هواء جامد أو ماء جامد . وجعلته مغيضا لليل والنهار أي غيضة لهما وهي في الأصل الأجمة يجتمع إليها الماء
[ 302 ](1/2718)
فتسمى غيضة ومغيضا وينبت فيها الشجر كأنه جعل الفلك كالغيضة والليل والنهار كالشجر النابت فيها . ووجه المشاركة أن المغيض أو الغيضة يتولد منهما الشجر وكذلك الليل والنهار يتولدان من جريان الفلك . ثم عاد فقال ومجرى للشمس والقمر أي موضعا لجريانهما . ومختلفا للنجوم السيارة أي موضعا لاختلافها واللام مفتوحة . ثم قال جعلت سكانه سبطا من ملائكتك أي قبيلة قال تعالى اِثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً . لا يسأمون لا يملون وقرارا للأنام أي موضع استقرارهم وسكونهم ومدرجا للهوام أي موضع دروجهم وسيرهم وحركاتهم والهوام الحشرات والمخوف من الأحناش . وما لا يحصى أي لا يضبط بالإحصاء والعد مما نراه ونعرفه وما لا نراه ولا نعرفه . وقال بعض العلماء إن أردت أن تعرف حقيقة قوله مما يرى وما لا يرى فأوقد نارا صغيرة في فلاة في ليلة صيفية وانظر ما يجتمع عليها من الأنواع الغريبة العجيبة الخلق التي لم تشاهدها أنت ولا غيرك قط . قوله وللخلق اعتمادا لأنهم يجعلونها كالمساكن لهم فينتفعون بها ويبنون منازل إلى جانبها فيقوم مقام جدار قد استغنوا عن بنيانه ولأنها أمهات العيون ومنابع المياه باعتماد الخلق على مرافقهم ومنافعهم ومصالحهم عليها .
[ 303 ]
قوله وسددنا للحق أي صوبنا إليه من قولك منهم سديد أي مصيب وسدد السنان إلى القرن أي صوبه نحوه . والذمار ما يحامى عنه والغائر ذو الغيرة ونزول الحقائق نزول الأمور الشديدة كالحرب ونحوها . ثم قال العار وراءكم أي إن رجعتم القهقرى هاربين . والجنة أمامكم أي إن أقدمتم على العدو مجاهدين وهذا الكلام شريف جدا
[ 304 ](1/2719)
173 ـ ومن خطبة له ع
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي لاَ تُوَارِي عَنْهُ سَمَاءٌ سَمَاءً وَ لاَ أَرْضٌ أَرْضاً هذا الكلام يدل على إثبات أرضين بعضها فوق بعض كما أن السماوات كذلك ولم يأت في الكتاب العزيز ما يدل على هذا إلا قوله تعالى اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ اَلْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ وهو قول كثير من المسلمين . وقد تأول ذلك أرباب المذهب الآخر القائلون بأنها أرض واحدة فقالوا إنها سبعة أقاليم فالمثلية هي من هذا الوجه لا من تعدد الأرضين في ذاتها . ويمكن أن يتأول مثل ذلك كلام أمير المؤمنين ع فيقال إنها وإن كانت أرضا واحدة لكنها أقاليم وأقطار مختلفة وهي كرية الشكل فمن على حدبة الكرة لا يرى من تحته ومن تحته لا يراه ومن على أحد جانبيها لا يرى من على الجانب الآخر والله تعالى يدرك ذلك كله أجمع ولا يحجب عنه شي ء منها بشي ء منها . فأما قوله ع لا تواري عنه سماء سماء فلقائل أن يقول ولا يتوارى شي ء من السماوات عن المدركين منا لأنها شفافة فأي خصيصة للباري تعالى في ذلك فينبغي أن يقال هذا الكلام على قاعدة غير القاعدة الفلسفية بل هو على قاعدة
[ 305 ](1/2720)
الشريعة الإسلامية التي تقتضي أن السماوات تحجب ما وراءها عن المدركين بالحاسة وأنها ليست طباقا متراصة بل بينها خلق من خلق الله تعالى لا يعلمهم غيره واتباع هذا القول واعتقاده أولى منها : وَ قَدْ قَالَ قَائِلٌ إِنَّكَ عَلَى هَذَا اَلْأَمْرِ يَا اِبْنَ أَبِي طَالِبٍ لَحَرِيصٌ فَقُلْتُ بَلْ أَنْتُمْ وَ اَللَّهِ لَأَحْرَصُ وَ أَبْعَدُ وَ أَنَا أَخَصُّ وَ أَقْرَبُ وَ إِنَّمَا طَلَبْتُ حَقّاً لِي وَ أَنْتُمْ تَحُولُونَ بَيْنِي وَ بَيْنَهُ وَ تَضْرِبُونَ وَجْهِي دُونَهُ فَلَمَّا قَرَّعْتُهُ بِالْحُجَّةِ فِي اَلْمَلَإِ اَلْحَاضِرِينَ هَبَّ كَأَنَّهُ بُهِتَ لاَ يَدْرِي مَا يُجِيبُنِي بِهِ اَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ وَ مَنْ أَعَانَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَطَعُوا رَحِمِي وَ صَغَّرُوا عَظِيمَ مَنْزِلَتِيَ وَ أَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي أَمْراً هُوَ لِي ثُمَّ قَالُوا أَلاَ إِنَّ فِي اَلْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ وَ فِي اَلْحَقِّ أَنْ تَتْرُكَهُ هذا من خطبة يذكر فيها ع ما جرى يوم الشورى بعد مقتل عمر والذي قال له إنك على هذا الأمر لحريص سعد بن أبي وقاص مع روايته فيه أنت مني بمنزلة هارون من موسى وهذا عجب فقال لهم بل أنتم والله أحرص وأبعد . . . الكلام المذكور وقد رواه الناس كافة . وقالت الإمامية هذا الكلام يوم السقيفة والذي قال له إنك على هذا الأمر لحريص أبو عبيدة بن الجراح والرواية الأولى أظهر وأشهر .
[ 306 ](1/2721)
و روي فلما قرعته بالتخفيف أي صدمته بها . وروي هب لا يدري ما يجيبني كما تقول استيقظ وانتبه كأنه كان غافلا ذاهلا عن الحجة فهب لما ذكرتها . أستعديك أطلب أن تعديني عليهم وأن تنتصف لي منهم . قطعوا رحمي لم يرعوا قربه من رسول الله ص . وصغروا عظيم منزلتي لم يقفوا مع النصوص الواردة فيه . وأجمعوا على منازعتي أمرا هو لي أي بالأفضلية أنا أحق به منهم هكذا ينبغي أن يتأول كلامه . وكذلك قوله إنما أطلب حقا لي وأنتم تحولون بيني وبينه وتضربون وجهي دونه . قال ثم قالوا ألا إن في الحق أن تأخذه وفي الحق أن تتركه قال لم يقتصروا على أخذ حقي ساكتين عن الدعوى ولكنهم أخذوه وادعوا أن الحق لهم وأنه يجب علي أن أترك المنازعة فيه فليتهم أخذوه معترفين بأنه حقي فكانت المصيبة به أخف وأهون . واعلم أنه قد تواترت الأخبار عنه ع بنحو من هذا القول نحو
قوله ما زلت مظلوما منذ قبض الله رسوله حتى يوم الناس هذا و
قوله اللهم أخز قريشا فإنها منعتني حقي وغصبتني أمري و
قوله فجزى قريشا عني الجوازي فإنهم ظلموني حقي واغتصبوني سلطان ابن أمي
[ 307 ]
و
قوله وقد سمع صارخا ينادي أنا مظلوم فقال هلم فلنصرخ معا فإني ما زلت مظلوما و
قوله وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى و
قوله أرى تراثي نهبا و
قوله أصغيا بإنائنا وحملا الناس على رقابنا و
قوله إن لنا حقا إن نعطه نأخذه وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل وإن طال السرى و(1/2722)
قوله ما زلت مستأثرا علي مدفوعا عما أستحقه وأستوجبه وأصحابنا يحملون ذلك كله على ادعائه الأمر بالأفضلية والأحقية وهو الحق والصواب فإن حمله على الاستحقاق بالنص تكفير أو تفسيق لوجوه المهاجرين والأنصار ولكن الإمامية والزيدية حملوا هذه الأقوال على ظواهرها وارتكبوا بها مركبا صعبا ولعمري إن هذه الألفاظ موهمة مغلبة على الظن ما يقوله القوم ولكن تصفح الأحوال يبطل ذلك الظن ويدرأ ذلك الوهم فوجب أن يجري مجرى الآيات المتشابهات الموهمة ما لا يجوز على البارئ فإنه لا نعمل بها ولا نعول على ظواهرها لأنا لما تصفحنا أدلة العقول اقتضت العدول عن ظاهر اللفظ وأن تحمل على التأويلات المذكورة في الكتب . وحدثني يحيى بن سعيد بن علي الحنبلي المعروف بابن عالية من ساكني قطفتا بالجانب الغربي من بغداد وأجد الشهود المعدلين بها قال كنت حاضرا مجلس الفخر إسماعيل بن علي الحنبلي الفقيه المعروف بغلام بن المنى وكان الفخر إسماعيل بن علي هذا مقدم
[ 308 ](1/2723)
الحنابلة ببغداد في الفقه والخلاف ويشتغل بشي ء في علم المنطق وكان حلو العبارة وقد رأيته أنا وحضرت عنده وسمعت كلامه وتوفي سنة عشر وستمائة . قال ابن عالية ونحن عنده نتحدث إذ دخل شخص من الحنابلة قد كان له دين على بعض أهل الكوفة فانحدر إليه يطالبه به واتفق أن حضرت زيارة يوم الغدير والحنبلي المذكور بالكوفة وهذه الزيارة هي اليوم الثامن عشر من ذي الحجة ويجتمع بمشهد أمير المؤمنين ع من الخلائق جموع عظيمة تتجاوز حد الإحصاء . قال ابن عالية فجعل الشيخ الفخر يسأل ذلك الشخص ما فعلت ما رأيت هل وصل مالك إليك هل بقي لك منه بقية عند غريمك وذلك يجاوبه حتى قال له يا سيدي لو شاهدت يوم الزيارة يوم الغدير وما يجري عند قبر علي بن أبي طالب من الفضائح والأقوال الشنيعة وسب الصحابة جهارا بأصوات مرتفعة من غير مراقبة ولا خيفة فقال إسماعيل أي ذنب لهم والله ما جراهم على ذلك ولا فتح لهم هذا الباب إلا صاحب ذلك القبر فقال ذلك الشخص ومن صاحب القبر قال علي بن أبي طالب قال يا سيدي هو الذي سن لهم ذلك وعلمهم إياه وطرقهم إليه قال نعم والله قال يا سيدي فإن كان محقا فما لنا أن نتولى فلانا وفلانا وإن كان مبطلا فما لنا نتولاه ينبغي أن نبرأ إما منه أو منهما . قال ابن عالية فقام إسماعيل مسرعا فلبس نعليه وقال لعن الله إسماعيل الفاعل إن كان يعرف جواب هذه المسألة ودخل دار حرمه وقمنا نحن وانصرفنا : مِنْهَا فِي ذِكْرِ أَصْحَابِ اَلْجَمَلِ فَخَرَجُوا يَجُرُّونَ حُرْمَةَ رَسُولِ اَللَّهِ ص كَمَا تُجَرُّ اَلْأَمَةُ عِنْدَ شِرَائِهَا
[ 309 ](1/2724)
مُتَوَجِّهِينَ بِهَا إِلَى اَلْبَصْرَةِ فَحَبَسَا نِسَاءَهُمَا فِي بُيُوتِهِمَا وَ أَبْرَزَا حَبِيسَ رَسُولِ اَللَّهِ ص لَهُمَا وَ لِغَيْرِهِمَا فِي جَيْشٍ مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلاَّ وَ قَدْ أَعْطَانِيَ اَلطَّاعَةَ وَ سَمَحَ لِي بِالْبَيْعَةِ طَائِعاً غَيْرَ مُكْرَهٍ فَقَدِمُوا عَلَى عَامِلِي بِهَا وَ خُزَّانِ بَيْتِ مَالِ اَلْمُسْلِمِينَ وَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِهَا فَقَتَلُوا طَائِفَةً صَبْراً وَ طَائِفَةً غَدْراً فَوَاللَّهِ إِنْ لَوْ لَمْ يُصِيبُوا مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ إِلاَّ رَجُلاً وَاحِداً مُعْتَمِدِينَ لِقَتْلِهِ بِلاَ جُرْمٍ جَرَّهُ لَحَلَّ لِي قَتْلُ ذَلِكَ اَلْجَيْشِ كُلِّهِ إِذْ حَضَرُوهُ فَلَمْ يُنْكِرُوا وَ لَمْ يَدْفَعُوا عَنْهُ بِلِسَانٍ وَ لاَ بِيَدٍ دَعْ مَا إِنَّهُمْ أَنَّهُمْ قَدْ قَتَلُوا مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ مِثْلَ اَلْعِدَّةِ اَلَّتِي دَخَلُوا بِهَا عَلَيْهِمْ حرمة رسول الله ص كناية عن الزوجة وأصله الأهل والحرم وكذلك حبيس رسول الله ص كناية عنها . وقتلوهم صبرا أي بعد الأسر وقوله فو الله إن لو لم يصيبوا إن هاهنا زائدة ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة . ويسأل عن قوله ع لو لم يصيبوا إلا رجلا واحدا لحل لي قتل ذلك الجيش بأسره لأنهم حضروه فلم ينكروا فيقال أ يجوز قتل من لم ينكر المنكر مع تمكنه من إنكاره . والجواب أنه يجوز قتلهم لأنهم اعتقدوا ذلك القتل مباحا فإنهم إذا اعتقدوا إباحته فقد اعتقدوا إباحة ما حرم الله فيكون حالهم حال من اعتقد أن الزنا مباح أو أن شرب الخمر مباح .
[ 310 ](1/2725)
و قال القطب الراوندي يريد أنهم داخلون في عموم قوله تعالى إِنَّما جَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا . ولقائل أن يقول الإشكال إنما وقع في قوله لو لم يصيبوا من المسلمين إلا رجلا واحدا لحل لي قتل ذلك الجيش بأسره لأنهم حضروا المنكر ولم يدفعوه بلسان ولا يد فهو علل استحلاله قتلهم بأنهم لم ينكروا المنكر ولم يعلل ذلك بعموم الآية . وأما معنى قوله دع ما إنهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدة التي دخلوا بها عليهم فهو أنه لو كان المقتول واحدا لحل لي قتلهم كلهم فكيف وقد قتلوا من المسلمين عدة مثل عدتهم التي دخلوا بها البصرة وما هاهنا زائدة . وصدق ع فإنهم قتلوا من أوليائه وخزان بيت المال بالبصرة خلقا كثيرا بعضهم غدرا وبعضهم صبرا كما خطب به ع(1/2726)
ذكر يوم الجمل ومسير عائشة إلى القتال
و روى أبو مخنف قال حدثنا إسماعيل بن خالد عن قيس بن أبي حازم وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وروى جرين بن يزيد عن عامر الشعبي وروى محمد بن إسحاق عن حبيب بن عمير قالوا جميعا لما خرجت عائشة وطلحة والزبير من مكة إلى البصرة طرقت ماء الحوأب وهو ماء لبني عامر بن صعصعة فنبحتهم الكلاب فنفرت صعاب إبلهم فقال قائل منهم لعن الله الحوأب فما أكثر كلابها فلما سمعت عائشة ذكر الحوأب قالت أ هذا ماء الحوأب قالوا نعم فقالت ردوني ردوني فسألوها ما شأنها ما بدا لها
فقالت إني سمعت رسول الله ص يقول كأني بكلاب
[ 311 ]
ماء يدعى الحوأب قد نبحت بعض نسائي ثم قال لي إياك يا حميراء أن تكونيها فقال لها الزبير مهلا يرحمك الله فإنا قد جزنا ماء الحوأب بفراسخ كثيرة فقالت أ عندك من يشهد بأن هذه الكلاب النابحة ليست على ماء الحوأب فلفق لها الزبير وطلحة خمسين أعرابيا جعلا لهم جعلا فحلفوا لها وشهدوا أن هذا الماء ليس بماء الحوأب فكانت هذه أول شهادة زور في الإسلام فسارت عائشة لوجهها .(1/2727)
قال أبو مخنف وحدثنا عصام بن قدامة عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله ص قال يوما لنسائه وهن عنده جميعا ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأدبب تنبحها كلاب الحوأب يقتل عن يمينها وشمالها قتلى كثيرة كلهم في النار وتنجو بعد ما كادت . قلت وأصحابنا المعتزلة رحمهم الله يحملون قوله ع وتنجو على نجاتها من النار والإمامية يحملون ذلك على نجاتها من القتل ومحملنا أرجح لأن لفظة في النار أقرب إليه من لفظة القتلى والقرب معتبر في هذا الباب أ لا ترى أن نحاة البصريين أعملوا أقرب العاملين نظرا إلى القرب . قال أبو مخنف وحدثني الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن الزبير وطلحة أغذا السير بعائشة حتى انتهوا إلى حفر أبي موسى الأشعري وهو قريب من البصرة وكتبا إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وهو عامل علي ع على البصرة أن أخل لنا دار الإمارة فلما وصل كتابهما إليه بعث الأحنف بن قيس فقال له إن هؤلاء القوم قدموا علينا ومعهم زوجة رسول الله والناس إليها سراع كما ترى فقال الأحنف
[ 312 ](1/2728)
إنهم جاءوك بها للطلب بدم عثمان وهم الذين ألبوا على عثمان الناس وسفكوا دمه وأراهم والله لا يزايلون حتى يلقوا العداوة بيننا ويسفكوا دماءنا وأظنهم والله سيركبون منك خاصة ما لا قبل لك به إن لم تتأهب لهم بالنهوض إليهم فيمن معك من أهل البصرة فإنك اليوم الوالي عليهم وأنت فيهم مطاع فسر إليهم بالناس وبادرهم قبل أن يكونوا معك في دار واحدة فيكون الناس لهم أطوع منهم لك . فقال عثمان بن حنيف الرأي ما رأيت لكنني أكره الشر وأن أبدأهم به وأرجو العافية والسلامة إلى أن يأتيني كتاب أمير المؤمنين ورأيه فأعمل به ثم أتاه بعد الأحنف حكيم بن جبلة العبدي من بني عمرو بن وديعة فأقرأه كتاب طلحة والزبير فقال له مثل قول الأحنف وأجابه عثمان بمثل جوابه للأحنف فقال له حكيم فأذن لي حتى أسير إليهم بالناس فإن دخلوا في طاعة أمير المؤمنين وإلا نابذتهم على سواء . فقال عثمان لو كان ذلك رأيي لسرت إليهم نفسي قال حكيم أما والله إن دخلوا عليك هذا المصر لينتقلن قلوب كثير من الناس إليهم وليزيلنك عن مجلسك هذا وأنت أعلم فأبى عليه عثمان .
قال وكتب علي إلى عثمان لما بلغه مشارفة القوم البصرة من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عثمان بن حنيف أما بعد فإن البغاة عاهدوا الله ثم نكثوا وتوجهوا إلى مصرك وساقهم الشيطان لطلب ما لا يرضى الله به والله أشد بأسا وأشد تنكيلا فإذا قدموا عليك فادعهم إلى الطاعة والرجوع إلى الوفاء بالعهد والميثاق الذي فارقونا عليه فإن أجابوا فأحسن جوارهم ما داموا
[ 313 ](1/2729)
عندك وإن أبو إلا التمسك بحبل النكث والخلاف فناجزهم القتال حتى يحكم الله بينك وبينهم وهو خير الحاكمين وكتبت كتابي هذا إليك من الربذة وأنا معجل المسير إليك إن شاء الله . وكتبه عبيد الله بن أبي رافع في سنة ست وثلاثين . قال فلما وصل كتاب علي ع إلى عثمان أرسل إلى أبي الأسود الدؤلي وعمران بن الحصين الخزاعي فأمرهما أن يسيرا حتى يأتياه بعلم القوم وما الذي أقدمهم فانطلقا حتى إذا أتيا حفر أبي موسى وبه معسكر القوم فدخلا على عائشة فنالاها ووعظاها وأذكراها وناشداها الله فقالت لهما القيا طلحة والزبير فقاما من عندها ولقيا الزبير فكلماه فقال لهما إنا جئنا للطلب بدم عثمان وندعو الناس إلى أن يردوا أمر الخلافة شورى ليختار الناس لأنفسهم فقالا له إن عثمان لم يقتل بالبصرة ليطلب دمه فيها وأنت تعلم قتلة عثمان من هم وأين هم وإنك وصاحبك وعائشة كنتم أشد الناس عليه وأعظمهم إغراء بدمه فأقيدوا من أنفسكم وأما إعادة أمر الخلافة شورى فكيف وقد بايعتم عليا طائعين غير مكرهين وأنت يا أبا عبد الله لم يبعد العهد بقيامك دون هذا الرجل يوم مات رسول الله ص وأنت آخذ قائم سيفك تقول ما أحد أحق بالخلافة منه ولا أولى بها منه وامتنعت من بيعة أبي بكر فأين ذلك الفعل من هذا القول . فقال لهما اذهبا فالقيا طلحة فقاما إلى طلحة فوجداه أخشن الملمس شديد العريكة قوي العزم في إثارة الفتنة وإضرام نار الحرب فانصرفا إلى عثمان بن حنيف فأخبراه وقال له أبو الأسود
يا ابن حنيف قد أتيت فانفر
و طاعن القوم وجالد واصبر
[ 314 ]
و ابرز لها مستلئما وشمر
فقال ابن حنيف إي والحرمين لأفعلن وأمر مناديه فنادى في الناس السلاح السلاح فاجتمعوا إليه وقال أبو الأسود
أتينا الزبير فدانى الكلام
و طلحة كالنجم أو أبعد
و أحسن قوليهما فادح
يضيق به الخطب مستنكد
و قد أوعدونا بجهد الوعيد
فأهون علينا بما أوعدوا(1/2730)
فقلنا ركضتم ولم ترملوا
و أصدرتم قبل أن توردوا
فإن تلقحوا الحرب بين الرجال
فملقحها حده الأنكد
و إن عليا لكم مصحر
ألا إنه الأسد الأسود
أما إنه ثالث العابدين
بمكة والله لا يعبد
فرخوا الخناق ولا تعجلوا
فإن غدا لكم موعد
قال وأقبل القوم فلما انتهوا إلى المربد قام رجل من بني جشم فقال أيها الناس أنا فلان الجشمي وقد أتاكم هؤلاء القوم فإن كانوا أتوكم خائفين لقد أتوكم من المكان الذي يأمن فيه الطير والوحش والسباع وإن كانوا إنما أتوكم بطلب دم عثمان فغيرنا ولي قتله فأطيعوني أيها الناس وردوهم من حيث أقبلوا فإنكم إن لم تفعلوا لم تسلموا من الحرب الضروس والفتنة الصماء التي لا تبقي ولا تذر . قال فحصبه ناس من أهل البصرة فأمسك . قال واجتمع أهل البصرة إلى المربد حتى ملئوه مشاة وركبانا فقام طلحة فأشار إلى الناس بالسكون ليخطب فسكتوا بعد جهد فقال أما بعد فإن عثمان بن عفان كان من أهل السابقة والفضيلة ومن المهاجرين الأولين الذي رضي الله عنهم ورضوا عنه
[ 315 ](1/2731)
و نزل القرآن ناطقا بفضلهم وأحد أئمة المسلمين الوالين عليكم بعد أبي بكر وعمر صاحبي رسول الله ص وقد كان أحدث أحداثا نقمنا عليه فأتيناه فاستعتبناه فأعتبنا فعدا عليه امرؤ ابتز هذه الأمة أمرها غصبا بغير رضا منها ولا مشورة فقتله وساعده على ذلك قوم غير أتقياء ولا أبرار فقتل محرما بريئا تائبا وقد جئناكم أيها الناس نطلب بدم عثمان وندعوكم إلى الطلب بدمه فإن نحن أمكننا الله من قتلته قتلناهم به وجعلنا هذا الأمر شورى بين المسلمين وكانت خلافة رحمة للأمة جميعا فإن كل من أخذ الأمر من غير رضا من العامة ولا مشورة منها ابتزازا كان ملكه ملكا عضوضا وحدثا كثيرا . ثم قام الزبير فتكلم بمثل كلام طلحة . فقام إليهما ناس من أهل البصرة فقالوا لهما أ لم تبايعا عليا فيمن بايعه ففيم بايعتما ثم نكثتما فقالا ما بايعنا وما لأحد في أعناقنا بيعة وإنما استكرهنا على بيعة فقال ناس قد صدقا وأحسنا القول وقطعا بالثواب وقال ناس ما صدقا ولا أصابا في القول حتى ارتفعت الأصوات . قال ثم أقبلت عائشة على جملها فنادت بصوت مرتفع أيها الناس أقلوا الكلام واسكتوا فأسكت الناس لها فقالت إن أمير المؤمنين عثمان قد كان غير وبدل ثم لم يزل يغسل ذلك بالتوبة حتى قتل مظلوما تائبا وإنما نقموا عليه ضربه بالسوط وتأميره الشبان وحمايته موضع الغمامة فقتلوه محرما في حرمة الشهر وحرمة البلد ذبحا كما يذبح الجمل ألا وإن قريشا رمت غرضها بنبالها وأدمت أفواهها بأيديها وما نالت بقتلها إياه شيئا ولا سلكت به سبيلا
[ 316 ](1/2732)
قاصدا أما والله ليرونها بلايا عقيمة تنتبه النائم وتقيم الجالس وليسلطن عليهم قوم لا يرحمونهم ويسومونهم سوء العذاب . أيها الناس إنه ما بلغ من ذنب عثمان ما يستحل به دمه مصتموه كما يماص الثوب الرحيض ثم عدوتم عليه فقتلتموه بعد توبته وخروجه من ذنبه وبايعتم ابن أبي طالب بغير مشورة من الجماعة ابتزازا وغصبا تراني أغضب لكم من سوط عثمان ولسانه ولا أغضب لعثمان من سيوفكم ألا إن عثمان قتل مظلوما فاطلبوا قتلته فإذا ظفرتم بهم فاقتلوهم ثم اجعلوا الأمر شورى بين الرهط الذين اختارهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ولا يدخل فيهم من شرك في دم عثمان . قال فماج الناس واختلطوا فمن قائل القول ما قالت ومن قائل يقول وما هي وهذا الأمر إنما هي امرأة مأمورة بلزوم بيتها وارتفعت الأصوات وكثر اللغط حتى تضاربوا بالنعال وتراموا بالحصى . ثم إن الناس تمايزوا فصاروا فريقين فريق مع عثمان بن حنيف وفريق مع عائشة وأصحابها . قال وحدثنا الأشعث بن سوار عن محمد بن سيرين عن أبي الخليل قال لما نزل طلحة والزبير المربد أتيتهما فوجدتهما مجتمعين فقلت لهما ناشدتكما الله وصحبة رسول الله ص ما الذي أقدمكما أرضنا هذه فلم يتكلما فأعدت عليهما فقالا بلغنا أن بأرضكم هذه دنيا فجئنا نطلبها .
[ 317 ]
قال وقد روى محمد بن سيرين عن الأحنف بن قيس أنه لقيهما فقالا له مثل مقالتهما الأولى إنما جئنا لطلب الدنيا . و
قد روى المدائني أيضا نحوا مما روى أبو مخنف قال بعث علي ع ابن عباس يوم الجمل إلى الزبير قبل الحرب فقال له إن أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لكم أ لم تبايعني طائعا غير مكره فما الذي رابك مني فاستحللت به قتالي قال فلم يكن له جواب إلا أنه قال لي إنا مع الخوف الشديد لنطمع لم يقل غير ذلك(1/2733)
قال أبو إسحاق فسألت محمد بن علي بن الحسين ع ما تراه يعني بقوله هذا فقال أما والله ما تركت ابن عباس حتى سألته عن هذا فقال يقول إنا مع الخوف الشديد مما نحن عليه نطمع أن نلي مثل الذي وليتم و
قال محمد بن إسحاق حدثني جعفر بن محمد ع عن أبيه عن ابن عباس قال بعثني علي ع يوم الجمل إلى طلحة والزبير وبعث معي بمصحف منشور وإن الريح لتصفق ورقه فقال لي قل لهما هذا كتاب الله بيننا وبينكم فما تريدان فلم يكن لهما جواب إلا أن قالا نريد ما أراد كأنهما يقولان الملك فرجعت إلى علي فأخبرته . وقد روى قاضي القضاة رحمه الله في كتاب المغني عن وهب بن جرير قال قال رجل من أهل البصرة لطلحة والزبير إن لكما فضلا وصحبة فأخبراني عن مسيركما
[ 318 ](1/2734)
هذا وقتالكما أ شي ء أمركما به رسول الله ص أم رأي رأيتماه فأما طلحة فسكت وجعل ينكت في الأرض وأما الزبير فقال ويحك حدثنا أن هاهنا دراهم كثيرة فجئنا لنأخذ منها . وجعل قاضي القضاة هذا الخبر حجة في أن طلحة تاب وأن الزبير لم يكن مصرا على الحرب والاحتجاج بهذا الخبر على هذا المعنى ضعيف وإن صح هو وما قبله إنه لدليل على حمق شديد وضعف عظيم ونقص ظاهر وليت شعري ما الذي أحوجهما إلى هذا القول وإذا كان هذا في أنفسهما فهلا كتماه . ثم نعود إلى خبرهما قال أبو مخنف فلما أقبل طلحة والزبير من المربد يريدان عثمان بن حنيف فوجداه وأصحابه قد أخذوا بأفواه السكك فمضوا حتى انتهوا إلى موضع الدباغين فاستقبلهم أصحاب ابن حنيف فشجرهم طلحة والزبير وأصحابهما بالرماح فحمل عليهم حكيم بن جبلة فلم يزل هو وأصحابه يقاتلونهم حتى أخرجوهم من جميع السكك ورماهم النساء من فوق البيوت بالحجارة فأخذوا إلى مقبرة بني مازن فوقفوا بها مليا حتى ثابت إليهم خيلهم ثم أخذوا على مسناة البصرة حتى انتهوا إلى الرابوقة ثم أتوا سبخة دار الرزق فنزلوها . قال وأتاهما عبد الله بن حكيم التميمي لما نزلا السبخة بكتب كانا كتباها إليه فقال لطلحة يا أبا محمد أ ما هذا كتبك إلينا قال بلى قال فكتبت أمس تدعونا إلى خلع عثمان وقتله حتى إذا قتلته أتيتنا ثائرا بدمه فلعمري ما هذا رأيك لا تريد إلا هذه الدنيا مهلا إذا كان هذا رأيك فلم قبلت من علي ما عرض عليك من البيعة
[ 319 ](1/2735)
فبايعته طائعا راضيا ثم نكثت بيعتك ثم جئت لتدخلنا في فتنتك فقال إن عليا دعاني إلى بيعته بعد ما بايع الناس فعلمت لو لم أقبل ما عرضه علي لم يتم لي ثم يغرى بي من معه . قال ثم أصبحنا من غد فصفا للحرب وخرج عثمان بن حنيف إليهما في أصحابه فناشدهما الله والإسلام وأذكرهما بيعتهما عليا ع فقالا نطلب بدم عثمان فقال لهما وما أنتما وذاك أين بنوه أين بنو عمه الذين هم أحق به منكم كلا والله ولكنكما حسدتماه حيث اجتمع الناس عليه وكنتما ترجوان هذا الأمر وتعملان له وهل كان أحد أشد على عثمان قولا منكما فشتماه شتما قبيحا وذكرا أمه فقال للزبير أما والله لو لا صفية ومكانها من رسول الله فإنها أدنتك إلى الظل وأن الأمر بيني وبينك يا ابن الصعبة يعني طلحة أعظم من القول لأعلمتكما من أمركما ما يسوءكما اللهم إني قد أعذرت إلى هذين الرجلين . ثم حمل عليهم واقتتل الناس قتالا شديدا ثم تحاجزوا واصطلحوا على أن يكتب بينهم كتاب صلح فكتب . هذا ما اصطلح عليه عثمان بن حنيف الأنصاري ومن معه من المؤمنين من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وطلحة والزبير ومن معهما من المؤمنين والمسلمين من شيعتهما أن لعثمان بن حنيف دار الإمارة والرحبة والمسجد وبيت المال والمنبر وأن لطلحة والزبير ومن معهما أن ينزلوا حيث شاءوا من البصرة ولا يضار بعضهم بعضا في طريق ولا فرضة ولا سوق ولا شرعة ولا مرفق حتى يقدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فإن أحبوا دخلوا فيما دخلت فيه الأمة وإن أحبوا لحق كل قوم بهواهم وما أحبوا من
[ 320 ](1/2736)
قتال أو سلم أو خروج أو إقامة وعلى الفريقين بما كتبوا عهد الله وميثاقه وأشد ما أخذه على نبي من أنبيائه من عهد وذمة . وختم الكتاب ورجع عثمان بن حنيف حتى دخل دار الإمارة وقال لأصحابه ألحقوا رحمكم الله بأهلكم وضعوا سلاحكم وداووا جرحاكم فمكثوا كذلك أياما . ثم إن طلحة والزبير قالا إن قدم علي ونحن على هذه الحال من القلة والضعف ليأخذن بأعناقنا فأجمعا على مراسلة القبائل واستمالة العرب فأرسلا إلى وجوه الناس وأهل الرئاسة والشرف يدعوانهم إلى الطلب بدم عثمان وخلع علي وإخراج ابن حنيف من البصرة فبايعهم على ذلك الأزد وضبة وقيس بن عيلان كلها إلا الرجل والرجلين من القبيلة كرهوا أمرهم فتواروا عنهم وأرسلوا إلى هلال بن وكيع التميمي فلم يأتهم فجاءه طلحة والزبير إلى داره فتوارى عنهما فقالت له أمه ما رأيت مثلك أتاك شيخا قريش فتواريت عنهما فلم تزل به حتى ظهر لهما وبايعهما ومعه بنو عمرو بن تميم كلهم وبنو حنظلة إلا بني يربوع فإن عامتهم كانوا شيعة علي ع وبايعهم بنو دارم كلهم إلا نفرا من بني مجاشع ذوي دين وفضل . فلما استوسق لطلحة والزبير أمرهما خرجا في ليلة مظلمة ذات ريح ومطر ومعهما أصحابهما قد ألبسوهم الدروع وظاهروا فوقها بالثياب فانتهوا إلى المسجد وقت الصلاة الفجر وقد سبقهم عثمان بن حنيف إليه وأقيمت الصلاة فتقدم عثمان ليصلي بهم فأخره أصحاب طلحة والزبير وقدموا الزبير فجاءت السبابجة وهم الشرط حرس بيت المال فأخرجوا الزبير وقدموا عثمان فغلبهم أصحاب الزبير فقدموا الزبير وأخروا عثمان فلم يزالوا كذلك حتى كادت الشمس تطلع وصاح بهم أهل المسجد أ لا تتقون أصحاب محمد وقد طلعت الشمس فغلب الزبير فصلى بالناس فلما انصرف من
[ 321 ](1/2737)
صلاته صاح بأصحابه المستسلحين أن خذوا عثمان بن حنيف فأخذوه بعد أن تضارب هو ومروان بن الحكم بسيفيهما فلما أسر ضرب ضرب الموت ونتف حاجباه وأشفار عينيه وكل شعرة في رأسه ووجهه وأخذوا السبابجة وهم سبعون رجلا فانطلقوا بهم وبعثمان بن حنيف إلى عائشة فقالت لأبان بن عثمان اخرج إليه فاضرب عنقه فإن الأنصار قتلت أباك وأعانت على قتله فنادى عثمان يا عائشة ويا طلحة ويا زبير إن أخي سهل بن حنيف خليفة علي بن أبي طالب على المدينة وأقسم بالله إن قتلتموني ليضعن السيف في بني أبيكم وأهليكم ورهطكم فلا يبقى أحد منكم فكفوا عنه وخافوا أن يقع سهل بن حنيف بعيالاتهم وأهلهم بالمدينة فتركوه . وأرسلت عائشة إلى الزبير أن اقتل السبابجة فإنه قد بلغني الذي صنعوا بك قال فذبحهم والله الزبير كما يذبح الغنم ولي ذلك منهم عبد الله ابنه وهم سبعون رجلا وبقيت منهم طائفة مستمسكين ببيت المال قالوا لا ندفعه إليكم حتى يقدم أمير المؤمنين فسار إليهم الزبير في جيش ليلا فأوقع بهم وأخذ منهم خمسين أسيرا فقتلهم صبرا . قال أبو مخنف فحدثنا الصقعب بن زهير قال كانت السبابجة القتلى يومئذ أربعمائة رجل قال فكان غدر طلحة والزبير بعثمان بن حنيف أول غدر كان في الإسلام وكان السبابجة أول قوم ضربت أعناقهم من المسلمين صبرا قال وخيروا عثمان بن حنيف بين أن يقيم أو يلحق بعلي فاختار الرحيل فخلوا سبيله فلحق بعلي ع فلما رآه بكى وقال له فارقتك شيخا وجئتك أمرد فقال علي إنا لله وإنا إليه راجعون قالها ثلاثا .
[ 322 ]
قلت السبابجة لفظة معربة قد ذكرها الجوهري في كتاب الصحاح قال هم قوم من السند كانوا بالبصرة جلاوزة وحراس السجن والهاء للعجمة والنسب قال يزيد بن مفرغ الحميري
و طماطيم من سبابيج خزر
يلبسوني مع الصباح القيودا(1/2738)
قال فلما بلغ حكيم بن جبلة ما صنع القوم بعثمان بن حنيف خرج في ثلاثمائة من عبد القيس مخالفا لهم ومنابذا فخرجوا إليه وحملوا عائشة على جمل فسمي ذلك اليوم يوم الجمل الأصغر ويوم علي يوم الجمل الأكبر . وتجالد الفريقان بالسيوف فشد رجل من الأزد من عسكر عائشة على حكيم بن جبلة فضرب رجله فقطعها ووقع الأزدي عن فرسه فجثا حكيم فأخذ رجله فرمى بها الأزدي فصرعه ثم دب إليه فقتله متكئا عليه خانقا له حتى زهقت نفسه فمر بحكيم إنسان وهو يجود بنفسه فقال من فعل بك قال وسادي فنظر فإذا الأزدي تحته وكان حكيم شجاعا مذكورا . قال وقتل مع حكيم إخوة له ثلاثة وقتل أصحابه كلهم وهم ثلاثمائة من عبد القيس والقليل منهم من بكر بن وائل فلما صفت البصرة لطلحة والزبير بعد قتل حكيم وأصحابه وطرد ابن حنيف عنهما اختلفا في الصلاة وأراد كل منهما أن يؤم بالناس وخاف أن تكون صلاته خلف صاحبه تسليما له ورضا بتقدمه فأصلحت بينهما عائشة بأن جعلت عبد الله بن الزبير ومحمد بن طلحة يصليان بالناس هذا يوما وهذا يوما . قال أبو مخنف ثم دخلا بيت المال بالبصرة فلما رأوا ما فيه من الأموال قال الزبير وَعَدَكُمُ اَللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ فنحن أحق
[ 323 ]
بها من أهل البصرة فأخذا ذلك المال كله فلما غلب علي ع رد تلك الأموال إلى بيت المال وقسمها في المسلمين . وقد ذكرنا فيما تقدم كيفية الوقعة ومقتل الزبير فارا عن الحرب خوفا أو توبة ونحن نقول إنها توبة وذكرنا مقتل طلحة والاستيلاء على أم المؤمنين وإحسان علي ع إليها وإلى من أسر في الحرب أو ظفر به بعدها(1/2739)
منافرة بين ولدي علي وطلحة
كان القاسم بن محمد بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التيمي يلقب أبا بعرة ولي شرطة الكوفة لعيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس كلم إسماعيل بن جعفر بن محمد الصادق ع بكلام خرجا فيه إلى المنافرة فقال القاسم بن محمد لم يزل فضلنا وإحساننا سابغا عليكم يا بني هاشم وعلى بني عبد مناف كافة فقال إسماعيل أي فضل وإحسان أسديتموه إلى بني عبد مناف أغضب أبوك جدي بقوله ليموتن محمد ولنجولن بين خلاخيل نسائه كما جال بين خلاخيل نسائنا فأنزل الله تعالى مراغمة لأبيك وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اَللَّهِ وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً ومنع ابن عمك أمي حقها من فدك وغيرها من ميراث أبيها وأجلب أبوك على عثمان وحصره حتى قتل ونكث بيعة علي وشام السيف
[ 324 ]
في وجهه وأفسد قلوب المسلمين عليه فإن كان لبني عبد مناف قوم غير هؤلاء أسديتم إليهم إحسانا فعرفني من هم جعلت فداك(1/2740)
منافرة عبد الله بن الزبير وعبد الله بن العباس
و تزوج عبد الله بن الزبير أم عمرو ابنة منظور بن زبان الفزارية فلما دخل بها قال لها تلك الليلة أتدرين من معك في حجلتك قالت نعم عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى . قال ليس غير هذا قالت فما الذي تريد قال معك من أصبح في قريش بمنزلة الرأس من الجسد لا بل بمنزلة العينين من الرأس قالت أما والله لو أن بعض بني عبد مناف حضرك لقال لك خلاف قولك فغضب وقال الطعام والشراب علي حرام حتى أحضرك الهاشميين وغيرهم من بني عبد مناف فلا يستطيعون لذلك إنكارا قالت إن أطعتني لم تفعل وأنت أعلم وشأنك . فخرج إلى المسجد فرأى حلقة فيها قوم من قريش منهم عبد الله بن العباس وعبد الله بن الحصين بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف فقال لهم ابن الزبير أحب أن تنطلقوا معي إلى منزلي فقام القوم بأجمعهم حتى وقفوا على باب بيته فقال ابن الزبير يا هذه اطرحي عليك سترك فلما أخذوا مجالسهم دعا بالمائدة فتغذى القوم فلما فرغوا قال لهم إنما جمعتكم لحديث ردته علي صاحبة الستر وزعمت أنه لو كان بعض بني عبد مناف حضرني لما أقر لي بما قلت وقد حضرتم جميعا وأنت يا ابن عباس ما تقول إني أخبرتها أن معها في خدرها من أصبح في قريش بمنزلة
[ 325 ](1/2741)
الرأس من الجسد بل بمنزلة العينين من الرأس فردت علي مقالتي فقال ابن عباس أراك قصدت قصدي فإن شئت أن أقول قلت وإن شئت أن أكف كففت قال بل قل وما عسى أن تقول أ لست تعلم أني ابن الزبير حواري رسول الله ص وأن أمي أسماء بنت أبي بكر الصديق ذات النطاقين وأن عمتي خديجة سيدة نساء العالمين وأن صفية عمة رسول الله ص جدتي وأن عائشة أم المؤمنين خالتي فهل تستطيع لهذا إنكارا . قال ابن عباس لقد ذكرت شرفا شريفا وفخرا فاخرا غير أنك تفاخر من بفخره فخرت وبفضله سموت قال وكيف ذلك قال لأنك لم تذكر فخرا إلا برسول الله ص وأنا أولى بالفخر به منك قال ابن الزبير لو شئت لفخرت عليك بما كان قبل النبوة قال ابن عباس
قد أنصف القارة من راماها
نشدتكم الله أيها الحاضرون عبد المطلب أشرف أم خويلد في قريش قالوا عبد المطلب قال أ فهاشم كان أشرف فيها أم أسد قالوا بل هاشم قال أ فعبد مناف أشرف أم عبد العزى قالوا عبد مناف فقال ابن عباس
تنافرني يا ابن الزبير وقد قضى
عليك رسول الله لا قول هازل
و لو غيرنا يا ابن الزبير فخرته
و لكنما ساميت شمس الأصائل
[ 326 ]
قضى لنا رسول الله ص بالفضل في قوله ما افترقت فرقتان إلا كنت في خيرهما فقد فارقناك من بعد قصي بن كلاب أ فنحن في فرقة الخير أم لا إن قلت نعم خصمت وإن قلت لا كفرت . فضحك بعض القوم فقال ابن الزبير أما والله لو لا تحرمك بطعامنا يا ابن عباس لأعرقت جبينك قبل أن تقوم من مجلسك قال ابن عباس ولم أ بباطل فالباطل لا يغلب الحق أم بحق فالحق لا يخشى من الباطل . فقالت المرأة من وراء الستر إني والله لقد نهيته عن هذا المجلس فأبى إلا ما ترون . فقال ابن عباس مه أيتها المرأة اقنعي ببعلك فما أعظم الخطر وما أكرم الخبر فأخذ القوم بيد ابن عباس وكان قد عمي فقالوا انهض أيها الرجل فقد أفحمته غير مرة فنهض وقال
ألا يا قومنا ارتحلوا وسيروا
فلو ترك القطا لغفا وناما(1/2742)
فقال ابن الزبير يا صاحب القطاة أقبل علي فما كنت لتدعني حتى أقول وايم الله لقد عرف الأقوام أني سابق غير مسبوق وابن حواري وصديق متبجح في الشرف الأنيق خير من طليق . فقال ابن عباس دسعت بجرتك فلم تبق شيئا هذا الكلام مردود من امرئ حسود فإن كنت سابقا فإلى من سبقت وإن كنت فاخرا فبمن فخرت فإن كنت أدركت هذا الفخر بأسرتك دون أسرتنا فالفخر لك علينا وإن كنت إنما أدركته بأسرتنا فالفخر لنا عليك والكثكث في فمك ويديك وأما ما ذكرت
[ 327 ]
من الطليق فو الله لقد ابتلي فصبر وأنعم عليه فشكر وإن كان والله لوفيا كريما غير ناقض بيعة بعد توكيدها ولا مسلم كتيبة بعد التأمر عليها . فقال ابن الزبير أ تعير الزبير بالجبن والله إنك لتعلم منه خلاف ذلك . قال ابن عباس والله إني لا أعلم إلا أنه فر وما كر وحارب فما صبر وبايع فما تمم وقطع الرحم وأنكر الفضل ورام ما ليس له بأهل .
و أدرك منها بعض ما كان يرتجي
و قصر عن جري الكرام وبلدا
و ما كان إلا كالهجين أمامه
عناق فجاراه العناق فأجهدا
فقال ابن الزبير لم يبق يا بني هاشم غير المشاتمة والمضاربة . فقال عبد الله بن الحصين بن الحارث أقمناه عنك يا ابن الزبير وتأبى إلا منازعته والله لو نازعته من ساعتك إلى انقضاء عمرك ما كنت إلا كالسغب الظمآن يفتح فاه يستزيد من الريح فلا يشبع من سغب ولا يروى من عطش فقل إن شئت أو فدع وانصرف القوم
[ 328 ](1/2743)
174 ـ ومن خطبة له ع
أَمِينُ وَحْيِهِ وَ خَاتَمُ رُسُلِهِ وَ بَشِيرُ رَحْمَتِهِ وَ نَذِيرُ نِقْمَتِهِ أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّ أَحَقَّ اَلنَّاسِ بِهَذَا اَلْأَمْرِ أَقْوَاهُمْ عَلَيْهِ وَ أَعْلَمُهُمْ بِأَمْرِ اَللَّهِ فِيهِ فَإِنْ شَغَبَ شَاغِبٌ اُسْتُعْتِبَ فَإِنْ أَبَى قُوتِلَ وَ لَعَمْرِي لَئِنْ كَانَتِ اَلْإِمَامَةُ لاَ تَنْعَقِدُ حَتَّى تَحْضُرَهَا عَامَّةُ اَلنَّاسِ مَا فَمَا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ وَ لَكِنْ أَهْلُهَا يَحْكُمُونَ عَلَى مَنْ غَابَ عَنْهَا ثُمَّ لَيْسَ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَرْجِعَ وَ لاَ لِلْغَائِبِ أَنْ يَخْتَارَ أَلاَ وَ إِنِّي أُقَاتِلُ رَجُلَيْنِ رَجُلاً اِدَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ وَ آخَرَ مَنَعَ اَلَّذِي عَلَيْهِ صدر الكلام في ذكر رسول الله ص ويتلوه فصول . أولها أن أحق الناس بالإمامة أقواهم عليها وأعلمهم بحكم الله فيها وهذا لا ينافي مذهب أصحابنا البغداديين في صحة إمامة المفضول لأنه ما قال إن إمامة غير الأقوى فاسدة ولكنه قال إن الأقوى أحق وأصحابنا لا ينكرون أنه ع أحق ممن تقدمه بالإمامة مع قولهم بصحة إمامة المتقدمين لأنه لا منافاة بين كونه أحق وبين صحة إمامة غيره .
[ 329 ](1/2744)
فإن قلت أي فرق بين أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه قلت أقواهم أحسنهم سياسة وأعلمهم بأمر الله أكثرهم علما وإجراء للتدبير بمقتضى العلم وبين الأمرين فرق واضح فقد يكون سائسا حاذقا ولا يكون عالما بالفقه وقد يكون سائسا فقيها ولا يجري التدبير على مقتضى علمه وفقهه . وثانيها أن الإمامة لا يشترط في صحة انعقادها أن يحضرها الناس كافة لأنه لو كان ذلك مشترطا لأدى إلى ألا تنعقد إمامة أبدا لتعذر اجتماع المسلمين من أطراف الأرض ولكنها تنعقد بعقد العلماء وأهل الحل والعقد الحاضرين ثم لا يجوز بعد عقدها لحاضريها أن يرجعوا من غير سبب يقتضي رجوعهم ولا يجوز لمن غاب عنها أن يختار غير من عقد له بل يكون محجوجا بعقد الحاضرين مكلفا طاعة الإمامة المعقود له وعلى هذا جرت الحال في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وانعقد إجماع المسلمين عليه وهذا الكلام تصريح بصحة مذهب أصحابنا في أن الاختيار طريق إلى الإمامة ومبطل لما تقوله الإمامية من دعوى النص عليه ومن قولهم لا طريق إلى الإمامة سوى النص أو المعجز . وثالثها أن الخارج على الإمام يستعتب أولا بالكلام والمراسلة فإن أبى قوتل وهذا هو نص الكتاب العزيز وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ اِقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى اَلْأُخْرى فَقاتِلُوا اَلَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اَللَّهِ . ورابعها أنه يقاتل أحد رجلين إما رجلا ادعى ما ليس له نحو أن يخرج على الإمام من يدعي الخلافة لنفسه وإما رجلا منع ما عليه نحو أن يخرج على الإمام رجل لا يدعي الخلافة ولكنه يمتنع من الطاعة فقط . فإن قلت الخارج على الإمام مدع الخلافة لنفسه مانع ما عليه أيضا لأنه قد امتنع من الطاعة فقد دخل أحد القسمين في الآخر .
[ 330 ](1/2745)
قلت لما كان مدعي الخلافة قد اجتمع له أمران إيجابي وسلبي فالإيجابي دعواه الخلافة والسلبي امتناعه من الطاعة كان متميزا ممن لم يحصل له إلا القسم السلبي فقط وهو مانع الطاعة لا غير فكان الأحسن في فن علم البيان أن يشتمل اللفظ على التقسيم الحاضر للإيجاب والسلب فلذلك قال إما مدعيا ما ليس له أو مانعا ما هو عليه : أُوصِيكُمْ عِبَادَ اَللَّهِ بِتَقْوَى اَللَّهِ فَإِنَّهَا خَيْرُ مَا تَوَاصَى اَلْعِبَادُ بِهِ وَ خَيْرُ عَوَاقِبِ اَلْأُمُورِ عِنْدَ اَللَّهِ وَ قَدْ فُتِحَ بَابُ اَلْحَرْبِ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ أَهْلِ اَلْقِبْلَةِ وَ لاَ يَحْمِلُ هَذَا اَلْعَلَمَ إِلاَّ أَهْلُ اَلْبَصَرِ وَ اَلصَّبْرِ وَ اَلْعِلْمِ بِمَوَاقِعِ بِمَوَاضِعِ اَلْحَقِّ فَامْضُوا لِمَا تُؤْمَرُونَ بِهِ وَ قِفُوا عِنْدَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ وَ لاَ تَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ حَتَّى تَتَبَيَّنُوا فَإِنَّ لَنَا مَعَ كُلِّ أَمْرٍ تُنْكِرُونَهُ غِيَراً أَلاَ وَ إِنَّ هَذِهِ اَلدُّنْيَا اَلَّتِي أَصْبَحْتُمْ تَتَمَنَّوْنَهَا وَ تَرْغَبُونَ فِيهَا وَ أَصْبَحَتْ تُغْضِبُكُمْ وَ تُرْضِيكُمْ لَيْسَتْ بِدَارِكُمْ وَ لاَ مَنْزِلِكُمُ اَلَّذِي خُلِقْتُمْ لَهُ وَ لاَ اَلَّذِي دُعِيتُمْ إِلَيْهِ أَلاَ وَ إِنَّهَا لَيْسَتْ بِبَاقِيَةٍ لَكُمْ وَ لاَ تَبْقَوْنَ عَلَيْهَا وَ هِيَ وَ إِنْ غَرَّتْكُمْ مِنْهَا فَقَدْ حَذَّرَتْكُمْ شَرَّهَا فَدَعُوا غُرُورَهَا لِتَحْذِيرِهَا وَ أَطْمَاعَهَا لِتَخْوِيفِهَا وَ سَابِقُوا فِيهَا إِلَى اَلدَّارِ اَلَّتِي دُعِيتُمْ إِلَيْهَا وَ اِنْصَرِفُوا بِقُلُوبِكُمْ عَنْهَا وَ لاَ يَخِنَّنَّ أَحَدُكُمْ خَنِينَ اَلْأَمَةِ عَلَى مَا زُوِيَ عَنْهُ مِنْهَا وَ اِسْتَتِمُّوا نِعْمَةَ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اَللَّهِ وَ اَلْمُحَافَظَةِ عَلَى مَا اِسْتَحْفَظَكُمْ مِنْ كِتَابِهِ أَلاَ(1/2746)
وَ إِنَّهُ لاَ يَضُرُّكُمْ تَضْيِيعُ شَيْ ءٍ مِنْ دُنْيَاكُمْ بَعْدَ حِفْظِكُمْ قَائِمَةَ دِينِكُمْ
[ 331 ]
أَلاَ وَ إِنَّهُ لاَ يَنْفَعُكُمْ بَعْدَ تَضْيِيعِ دِينِكُمْ شَيْ ءٌ حَافَظْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ أَخَذَ اَللَّهُ بِقُلُوبِنَا وَ قُلُوبِكُمْ إِلَى اَلْحَقِّ وَ أَلْهَمَنَا وَ إِيَّاكُمُ اَلصَّبْرَ لم يكن المسلمون قبل حرب الجمل يعرفون كيفية قتال أهل القبلة وإنما تعلموا فقه ذلك من أمير المؤمنين ع . وقال الشافعي لو لا علي لما عرف شي ء من أحكام أهل البغي . قوله ع ولا يحمل هذا العلم إلا أهل البصر والصبر وذلك لأن المسلمين عظم عندهم حرب أهل القبلة وأكبروه ومن أقدم عندهم عليه أقدم على خوف وحذر فقال ع إن هذا العلم ليس يدركه كل أحد وإنما له قوم مخصوصون . ثم أمرهم بالمضي عند ما يأمرهم به وبالانتهاء عما ينهاهم عنه ونهاهم عن أن يعجلوا بالحكم على أمر ملتبس حتى يتبين ويتضح . ثم قال إن عندنا تغييرا لكل ما تنكرونه من الأمور حتى يثبت أنه يجب إنكارها وتغييرها أي لست كعثمان أصر على ارتكاب ما أنهى عنه بل أغير كل ما ينكره المسلمون ويقتضي الحال والشرع تغييره . ثم ذكر أن الدنيا التي تغضب الناس وترضيهم وهي منتهى أمانيهم ورغبتهم ليست دارهم وإنما هي طريق إلى الدار الآخرة ومدة اللبث في ذلك الطريق يسيرة جدا . وقال إنها وإن كانت غرارة فإنها منذرة ومحذرة لأبنائها بما رأوه من آثارها في
[ 332 ](1/2747)
سلفهم وإخوتهم وأحبائهم ومناداتها على نفسها بأنها فاعلة بهم ما فعلت بأولئك من الفناء وفراق المألوف . قال فدعوا غرورها لتحذيرها وذلك لأن جانب تحذيرها أولى بأن يعمل عليه من جانب غرورها لأن غرورها إنما هو بأمر سريع مع التصرم والانقضاء وتحذيرها إنما هو لأمر جليل عظيم فإن الفناء المعجل محسوس وقد دل العقل والشرائع كافة على أن بعد ذلك الفناء سعادة وشقاوة فينبغي للعاقل أن يحذر من تلك الشقاوة ويرغب في تلك السعادة ولا سبيل إلى ذلك إلا برفض غرور الدنيا على أنه لو لم يكن ذلك لكان الواجب على أهل اللب والبصيرة رفضها لأن الموجود منها خيال فإنه أشبه شي ء بأحلام المنام فالتمسك به والإخلاد إليه حمق . والخنين صوت يخرج من الأنف عند البكاء وأضافه إلى الأمة لأن الإماء كثيرا ما يضربن فيبكين ويسمع الخنين منهن ولأن الحرة تأنف من البكاء والخنين وزوي قبض . ثم ذكر أنه لا يضر المكلف فوات قسط من الدنيا إذا حفظ قائمة دينه يعني القيام بالواجبات والانتهاء عن المحظورات ولا ينفعه حصول الدنيا كلها بعد تضييعه دينه لأن ابتياع لذة متناهية بلذة غير متناهية يخرج اللذة المتناهية من باب كونها نفعا ويدخلها في باب المضار فكيف إذا انضاف إلى عدم اللذة غير المتناهية حصول مضار وعقوبات غير متناهية أعاذنا الله منها(1/2748)
? الجزء التاسع
? تتمة الخطب والأوامر
? تتمة خطبة 135
? ذكر أطراف مما شجر بين علي وعثمان في أثناء خلافته
? فصل فيما شجر بين عثمان وابن عباس من الكلام بحضرة علي
? أسباب المنافسة بين علي وعثمان
? 136 ومن كلام له ع
? 137 ومن كلام له ع في شأن طلحة والزبير
? 138 ومن خطبة له ع يومئ فيها إلى ذكر الملاحم
? فصل في الاعتراض وإيراد مثل منه
? 139 ومن كلام له ع في وقت الشورى
? من أخبار يوم الشورى وتولية عثمان
? 140 ومن كلام له ع في النهي عن غيبة الناس
? أقوال مأثورة في ذم الغيبة والاستماع إلى المغتابين
? حكم الغيبة في الدين
? فصل في الأسباب الباعثة على الغيبة
? طريق التوبة من الغيبة
? 141 ومن كلام له ع
? 142 ومن كلام له ع
? 143 ومن خطبة له ع في الاستسقاء
? الثواب والعقاب عند المسلمين وأهل الكتاب
? 144 ومن خطبة له ع
? اختلاف الفرق الإسلامية في كون الأئمة من قريش
? 145 ومن خطبة له ع
? 146 ومن كلام له ع وقد استشاره عمر في الشخوص لقتال الفرس بنفسه
? يوم القادسية
? يوم نهاوند
? 147 ومن خطبة له ع
? 148 ومن كلام له ع في ذكر أهل البصرة
? من أخبار يوم الجمل
? مقتل طلحة والزبير
? 149 ومن كلام له ع قبل موته
? 150 ومن خطبة له ع ويومئ فيها إلى الملاحم
? 151 ومن خطبة له ع
? 152 ومن خطبة له ع
? أبحاث كلامية
? عقيدة علي في عثمان ورأي المعتزلة في ذلك
? 153 ومن خطبة له ع
? 154 ومن خطبة له ع
? ذكر الأحاديث والأخبار الواردة في فضائل علي
? 155 ومن خطبة له ع يذكر فيها بديع خلقة الخفاش
? فصل في ذكر بعض غرائب الطيور وما فيها من عجائب
? 156 ومن كلام له ع خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم
? فصل في ترجمة عائشة وذكر طرف من أخبارها
? 157
? 158 ومن خطبة له ع
? 159 ومن خطبة له ع
? 160 ومن خطبة له ع
? 161 ومن خطبة له ع(1/2749)
? نبذ من الأخبار والآثار الواردة في البعد عن زينة الدنيا
? 162 ومن خطبة له ع
? 163 ومن كلام له ع لبعض أصحابه
? حديث عن إمرئ القيس
? 164 ومن خطبة له ع
? مباحث كلامية
? 165 ومن كلام له ع لعثمان بن عفان
? 166 ومن خطبة له ع يذكر فيها عجيب خلقة الطاوس
? 167 ومن خطبة له ع
? 168 ومن خطبة له ع في أول خلافته
? 169 ومن كلام له ع بعد ما بويع له بالخلافة
? موقف علي من قتلة عثمان
? 170 ومن خطبة له ع عند مسير أصحاب الجمل إلى البصرة
? 171 ومن كلام له ع كلم به بعض العرب
? 172 ومن كلام له ع لما عزم على لقاء القوم بصفين
? 173 ومن خطبة له ع
? ذكر يوم الجمل ومسير عائشة إلى القتال
? منافرة بين ولدي علي وطلحة
? منافرة عبد الله بن الزبير وعبد الله بن العباس
? 174 ومن خطبة له ع(1/2750)
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد المعتزلي
الجزء العاشر(1/2751)
تتمة باب الخطب والأوامر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل(1/2752)
175 ـ ومن كلام له ع في معنى طلحة بن عبيد الله
قَدْ كُنْتُ وَ مَا أُهَدَّدُ بِالْحَرْبِ وَ لاَ أُرَهَّبُ بِالضَّرْبِ وَ أَنَا عَلَى مَا وَعَدَنِي رَبِّي مِنَ اَلنَّصْرِ وَ اَللَّهِ مَا اِسْتَعْجَلَ مُتَجَرِّداً لِلطَّلَبِ بِدَمِ عُثْمَانَ إِلاَّ خَوْفاً مِنْ أَنْ يُطَالَبَ بِدَمِهِ لِأَنَّهُ مَظِنَّتُهُ وَ لَمْ يَكُنْ فِي اَلْقَوْمِ أَحْرَصُ عَلَيْهِ مِنْهُ فَأَرَادَ أَنْ يُغَالِطَ بِمَا أَجْلَبَ فِيهِ لِيَلْتَبِسَ اَلْأَمْرُ وَ يَقَعَ اَلشَّكُّ . وَ وَ اَللَّهِ مَا صَنَعَ فِي أَمْرِ عُثْمَانَ وَاحِدَةً مِنْ ثَلاَثٍ لَئِنْ كَانَ اِبْنُ عَفَّانَ ظَالِماً كَمَا كَانَ يَزْعُمُ لَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُؤازِرَ قَاتِلِيهِ وَ أَنْ يُنَابِذَ نَاصِرِيهِ . وَ لَئِنْ كَانَ مَظْلُوماً لَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ مِنَ اَلْمُنَهْنِهِينَ عَنْهُ وَ اَلْمُعَذِّرِينَ فِيهِ وَ لَئِنْ كَانَ فِي شَكٍّ مِنَ اَلْخَصْلَتَيْنِ لَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْتَزِلَهُ وَ يَرْكُدَ جَانِباً وَ يَدَعَ اَلنَّاسَ مَعَهُ فَمَا فَعَلَ وَاحِدَةً مِنَ اَلثَّلاَثِ وَ جَاءَ بِأَمْرٍ لَمْ يُعْرَفْ بَابُهُ وَ لَمْ تَسْلَمْ مَعَاذِيرُهُ
[ 4 ](1/2753)
كان هاهنا تامة والواو واو الحال أي خلقت ووجدت وأنا بهذه الصفة كما تقول خلقني الله وأنا شجاع . ويجوز أن تكون الواو زائدة وتكون كان ناقصة وخبرها ما أهدد كما في المثل لقد كنت وما أخشى بالذئب . فإن قلت إذا كانت ناقصة لزم أن تكون الآن بخلاف ما مضى فيكون الآن يهدد ويرهب . قلت لا يلزم ذلك لأن كان الناقصة للماضي من حيث هو ماض وليس يشترط في ذلك أن يكون منقطعا بل قد يكون دائما كقوله تعالى وَ كانَ اَللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً . ثم ذكر ع أنه على ما وعده ربه من النصر وأنه واثق بالظفر والغلبة الآن كما كانت عادته فيما سبق . ثم شرح حال طلحة وقال إنه تجرد للطلب بدم عثمان مغالطة للناس وإيهاما لهم أنه بري ء من دمه فيلتبس الأمر ويقع الشك . وقد كان طلحة أجهد نفسه في أمر عثمان والإجلاب عليه والحصر له والإغراء به ومنته نفسه الخلافة بل تلبس بها وتسلم بيوت الأموال وأخذ مفاتيحها وقاتل الناس وأحدقوا به ولم يبق إلا أن يصفق بالخلافة على يده
[ 5 ](1/2754)
ذكر ما كان من أمر طلحة مع عثمان
ذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في كتاب التاريخ قال حدثني عمر بن شبة عن علي بن محمد عن عبد ربه عن نافع عن إسماعيل بن أبي خالد عن حكيم بن جابر قال قال علي ع لطلحة وعثمان محصور أنشدك الله إلا رددت الناس عن عثمان قال لا والله حتى تعطي بنو أمية الحق من أنفسها . وروى الطبري أن عثمان كان له على طلحة خمسون ألفا فخرج عثمان يوما إلى المسجد فقال له طلحة قد تهيأ مالك فاقبضه فقال هو لك يا أبا محمد معونة لك على مروءتك . قال فكان عثمان يقول وهو محصور جزاء سنمار . وروى الطبري أيضا أن طلحة باع أرضا له من عثمان بسبعمائة ألف فحملها إليه فقال طلحة إن رجلا يبيت وهذه عنده وفي بيته لا يدري ما يطرقه من أمر الله لغرير بالله فبات ورسله تختلف بها في سكك المدينة يقسمها حتى أصبح وما عنده منها درهم واحد . قال الطبري روى ذلك الحسن البصري وكان إذا روى ذلك يقول ثم جاء إلينا يطلب الدينار والدرهم أو قال والصفراء والبيضاء .
[ 6 ](1/2755)
و روى الطبري أيضا قال قال ابن عباس رحمه الله لما حججت بالناس نيابة عن عثمان وهو محصور مررت بعائشة بالصلصل فقالت يا ابن عباس أنشدك الله فإنك قد أعطيت لسانا وعقلا أن تخذل الناس عن طلحة فقد بانت لهم بصائرهم في عثمان وأنهجت ورفعت لهم المنار وتحلبوا من البلدان لأمر قد حم وإن طلحة فيما بلغني قد اتخذ رجالا على بيوت الأموال وأخذ مفاتيح الخزائن وأظنه يسير إن شاء الله بسيرة ابن عمه أبي بكر فقال يا أمه لو حدث بالرجل حدث ما فزع الناس إلا إلى صاحبنا فقالت إيها عنك يا ابن عباس إني لست أريد مكابرتك ولا مجادلتك . وروى المدائني في كتاب مقتل عثمان أن طلحة منع من دفنه ثلاثة أيام وأن عليا ع لم يبايع الناس إلا بعد قتل عثمان بخمسة أيام وأن حكيم بن حزام أحد بني أسد بن عبد العزى وجبير بن مطعم بن الحارث بن نوفل استنجدا بعلي ع على دفنه فأقعد طلحة لهم في الطريق ناسا بالحجارة فخرج به نفر يسير من أهله وهم يريدون به حائطا بالمدينة يعرف بحش كوكب كانت اليهود تدفن فيه موتاهم فلما صار هناك رجم سريره وهموا بطرحه فأرسل علي ع إلى الناس يعزم عليهم ليكفوا عنه فكفوا فانطلقوا به حتى دفنوه في حش كوكب .
[ 7 ](1/2756)
و روى الطبري نحو ذلك إلا أنه لم يذكر طلحة بعينه وزاد فيه أن معاوية لما ظهر على الناس أمر بذلك الحائط فهدم حتى أفضى به إلى البقيع وأمر الناس أن يدفنوا موتاهم حول قبره حتى اتصل ذلك بمقابر المسلمين . وروى المدائني في هذا الكتاب قال دفن عثمان بين المغرب والعتمة ولم يشهد جنازته إلا مروان بن الحكم وابنة عثمان وثلاثة من مواليه فرفعت ابنته صوتها تندبه وقد جعل طلحة ناسا هناك أكمنهم كمينا فأخذتهم الحجارة وصاحوا نعثل نعثل فقالوا الحائط الحائط فدفن في حائط هناك . وروى الواقدي قال لما قتل عثمان تكلموا في دفنه فقال طلحة يدفن بدير سلع يعني مقابر اليهود . وذكر الطبري في تاريخه هذا إلا أنه روى عن طلحة فقال قال رجل يدفن بدير سلع فقال حكيم بن حزام والله لا يكون هذا أبدا وأحد من ولد قصي حي حتى كاد الشر يلتحم فقال ابن عديس البلوي أيها الشيخ وما يضرك أين دفن قال لا يدفن إلا ببقيع الغرقد حيث دفن سلفه ورهطه فخرج به حكيم بن حزام في اثني عشر رجلا منهم الزبير بن العوام فمنعهم الناس عن البقيع فدفنوه بحش كوكب .
[ 8 ](1/2757)
و روى الطبري في التاريخ أن عثمان لما حصر كان علي ع بخيبر في أمواله فلما قدم أرسل إليه يدعوه فلما دخل عليه قال له إن لي عليك حقوقا حق الإسلام وحق النسب وحق ما لي عليك من العهد والميثاق وو الله أن لو لم يكن من هذا كله شي ء وكنا في جاهلية لكان عارا على بني عبد مناف أن يبتزهم أخو تيم ملكهم يعني طلحة فقال له ع سيأتيك الخبر ثم قام فدخل المسجد فرأى أسامة بن زيد جالسا فدعاه فاعتمد على يده وخرج يمشي إلى طلحة فدخل داره وهي دحاس من الناس فقام ع فقال يا طلحة ما هذا الأمر الذي وقعت فيه فقال يا أبا أحسن أ بعد ما مس الحزام الطبيين فانصرف علي ع ولم يحر إليه شيئا حتى أتى بيت المال فنادى افتحوا هذا الباب فلم يقدروا على فتحه فقال اكسروه فكسر فقال أخرجوا هذا المال فجعلوا يخرجونه وهو يعطي الناس وبلغ الذين في دار طلحة ما صنع علي ع فجعلوا يتسللون إليه حتى بقي طلحة وحده وبلغ الخبر عثمان فسر بذلك ثم أقبل طلحة يمشي عامدا إلى دار عثمان فاستأذن عليه فلما دخل قال يا أمير المؤمنين أستغفر الله وأتوب إليه لقد رمت أمرا حال الله بيني وبينه فقال عثمان إنك والله ما جئت تائبا ولكن جئت مغلوبا والله حسيبك يا طلحة . ثم قسم ع حال طلحة فقال لا يخلو إما أن يكون معتقدا حل دم عثمان أو حرمته أو يكون شاكا في الأمرين فإن كان يعتقد حله لم يجز له أن ينقض البيعة لنصرة إنسان حلال الدم وإن كان يعتقد حرمته فقد كان يجب عليه أن ينهنه عنه الناس أي يكفهم .
[ 9 ](1/2758)
و أن يعذر فيه بالتشديد أي يقصر ولم يفعل ذلك وإن كان شاكا فقد كان يجب عليه أن يعتزل الأمر ويركد جانبا ولم يعتزل وإنما صلي بنار الفتنة وأصلاها غيره . فإن قلت يمكن أن يكون طلحة اعتقد إباحة دم عثمان أولا ثم تبدل ذلك الاعتقاد بعد قتله فاعتقد أن قتله حرام وأنه يجب أن يقتص من قاتليه . قلت لو اعترف بذلك لم يقسم علي ع هذا التقسيم وإنما قسمه لبقائه على اعتقاد واحد وهذا التقسيم مع فرض بقائه على اعتقاد واحد صحيح لا مطعن فيه وكذا كان حال طلحة فإنه لم ينقل عنه أنه قال ندمت على ما فعلت بعثمان فإن قلت كيف قال أمير المؤمنين ع فما فعل واحدة من الثلاث وقد فعل واحدة منها لأنه وازر قاتليه حيث كان محصورا . قلت مراده ع أنه إن كان عثمان ظالما وجب أن يؤازر قاتليه بعد قتله يحامي عنهم ويمنعهم ممن يروم دماءهم ومعلوم أنه لم يفعل ذلك وإنما وازرهم وعثمان حي وذلك غير داخل في التقسيم
[ 10 ](1/2759)
176 ـ من خطبة له ع
أَيُّهَا اَلنَّاسُ غَيْرُ اَلْمَغْفُولِ عَنْهُمْ وَ اَلتَّارِكُونَ وَ اَلْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ مَا لِي أَرَاكُمْ عَنِ اَللَّهِ ذَاهِبِينَ وَ إِلَى غَيْرِهِ رَاغِبِينَ كَأَنَّكُمْ نَعَمٌ أَرَاحَ بِهَا سَائِمٌ إِلَى مَرْعًى وَبِيٍّ وَ مَشْرَبٍ دَوِيٍّ وَ إِنَّمَا هِيَ كَالْمَعْلُوفَةِ لِلْمُدَى لاَ تَعْرِفُ مَا ذَا يُرَادُ بِهَا إِذَا أُحْسِنَ إِلَيْهَا تَحْسَبُ يَوْمَهَا دَهْرَهَا وَ شِبَعَهَا أَمْرَهَا وَ اَللَّهِ لَوْ شِئْتُ أَنْ أُخْبِرَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَخْرَجِهِ وَ مَوْلِجِهِ وَ جَمِيعِ شَأْنِهِ لَفَعَلْتُ وَ لَكِنْ أَخَافُ أَنْ تَكْفُرُوا فِيَّ بِرَسُولِ اَللَّهِ ص أَلاَ وَ إِنِّي مُفْضِيهِ إِلَى اَلْخَاصَّةِ مِمَّنْ يُؤْمَنُ ذَلِكَ مِنْهُ وَ اَلَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ وَ اِصْطَفَاهُ عَلَى اَلْخَلْقِ مَا أَنْطِقُ إِلاَّ صَادِقاً وَ لَقَدْ عَهِدَ إِلَيَّ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَ بِمَهْلِكِ مَنْ يَهْلِكُ وَ مَنْجَى مَنْ يَنْجُو وَ مَآلِ هَذَا اَلْأَمْرِ وَ مَا أَبْقَى شَيْئاً يَمُرُّ عَلَى رَأْسِي إِلاَّ أَفْرَغَهُ فِي أُذُنِي وَ أَفْضَى بِهِ إِلَيَّ أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنِّي وَ اَللَّهِ مَا أَحُثُّكُمْ عَلَى طَاعَةٍ إِلاَّ وَ أَسْبِقُكُمْ إِلَيْهَا وَ لاَ أَنْهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَةٍ إِلاَّ وَ أَتَنَاهَى قَبْلَكُمْ عَنْهَا خاطب المكلفين كافة وقال إنهم غافلون عما يراد بهم ومنهم وليسوا بمغفول عنهم بل أعمالهم محفوظة مكتوبة .
[ 11 ](1/2760)
ثم قال والتاركون أي يتركون الواجبات . ثم قابل ذلك بقوله والمأخوذ منهم لأن الأخذ في مقابلة الترك ومعنى الأخذ منهم انتقاص أعمارهم وانتقاض قواهم واستلاب أحبابهم وأموالهم . ثم شبههم بالنعم التي تتبع نعما أخرى . سائمة أي راعية وإنما قال ذلك لأنها إذا اتبعت أمثالها كان أبلغ في ضرب المثل بجهلها من الإبل التي يسيمها راعيها والمرعى الوبي ذو الوباء والمرض والمشرب الدوي ذو الداء وأصل الوبي اللين الوبي ء المهموز ولكنه لينه يقال أرض وبيئة على فعيلة ووبئة على فعلة ويجوز أوبأت فهي موبئة . والأصل في الدوي دو بالتخفيف ولكنه شدده للازدواج . ثم ذكر أن هذه النعم الجاهلة التي أوقعت أنفسها في هذا المرتع والمشرب المذمومين كالغنم وغيرها من النعم المعلوفة . للمدى جمع مدية وهي السكين لا تعرف ما ذا يراد بها وتظن أن ذلك العلف إحسان إليها على الحقيقة . ومعنى قوله تحسب يومها دهرها أي تظن أن ذلك العلف والإطعام كما هو حاصل لها ذلك اليوم يكون حاصلا لها أبدا . وشبعها أمرها مثل ذلك أي تظن أنه ليس أمرها وشأنها إلا أن يطعمها أربابها لتشبع وتحسن وتسمن ليس يريدون بها غير ذلك . ثم خرج ع من هذا الفن إلى فن آخر فأقسم أنه لو شاء أن يخبر كل واحد منهم من أين خرج وكيفية خروجه من منزله وأين يلج وكيفية ولوجه وجميع شأنه من مطعمه ومشربه وما عزم عليه من أفعاله وما أكله وما ادخره في بيته وغير ذلك من شئونه وأحواله لفعل .
[ 12 ](1/2761)
و هذا كقول المسيح ع وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ . قال إلا أني أخاف أن تكفروا في برسول الله ص أي أخاف عليكم الغلو في أمري وأن تفضلوني على رسول الله ص بل أخاف عليكم أن تدعوا في الإلهية كما ادعت النصارى ذلك في المسيح لما أخبرهم بالأمور الغائبة . ثم قال ألا وإني مفضيه إلى الخاصة أي مفض به ومودع إياه خواص أصحابي وثقاتي الذين آمن منهم الغلو وأعلم أنهم لا يكفرون في بالرسول ص لعلمهم أن ذلك من إعلام نبوته إذ يكون تابع من أتباعه وصاحب من أصحابه بلغ إلى هذه المنزلة الجليلة . ثم أقسم قسما ثانيا أنه ما ينطق إلا صادقا وأن رسول الله ص عهد بذلك كله إليه وأخبره بمهلك من يهلك من الصحابة وغيرهم من الناس وبنجاة من ينجو وبمآل هذا الأمر يعني ما يفضي إليه أمر الإسلام وأمر الدولة والخلافة وأنه ما ترك شيئا يمر على رأسه ع إلا وأخبره به وأسره إليه(1/2762)
فصل في ذكر بعض أقوال الغلاة في علي
و اعلم أنه غير مستحيل أن تكون بعض الأنفس مختصة بخاصية تدرك بها المغيبات وقد تقدم من الكلام في ذلك ما فيه كفاية ولكن لا يمكن أن تكون نفس تدرك كل المغيبات لأن القوة المتناهية لا تحيط بأمور غير متناهية وكل قوة في نفس حادثة فهي متناهية فوجب أن يحمل كلام أمير المؤمنين ع لا على أن يريد به عموم العالمية
[ 13 ]
بل بعلم أمورا محدودة من المغيبات مما اقتضت حكمة البارئ سبحانه أن يؤهله لعلمه وكذلك القول في رسول الله ص إنه إنما كان يعلم أمورا معدودة لا أمورا غير متناهية ومع أنه ع قد كتم ما علمه حذرا من أن يكفروا فيه برسول الله ص فقد كفر كثير منهم وادعوا فيه النبوة وادعوا فيه أنه شريك الرسول في الرسالة وادعوا فيه أنه هو كان الرسول ولكن الملك غلط فيه وادعوا أنه هو الذي بعث محمدا ص إلى الناس وادعوا فيه الحلول وادعوا فيه الاتحاد ولم يتركوا نوعا من أنواع الضلالة فيه إلا وقالوه واعتقدوه وقال شاعرهم فيه من أبيات
و من أهلك عادا و
ثمودا بدواهيه
و من كلم موسى فوق
طور إذ يناديه
و من قال على المنبر
يوما وهو راقيه
سلوني أيها الناس
فحاروا في معانيه
و قال بعض شعرائهم
إنما خالق الخلائق من زعزع
أركان حصن خيبر جذبا
قد رضينا به إماما ومولى
و سجدنا له إلها وربا(1/2763)
جملة من إخبار علي بالأمور الغيبية
و قد ذكرنا فيما تقدم من إخباره ع عن الغيوب طرفا صالحا ومن عجيب ما وقفت عليه من ذلك قوله في الخطبة التي يذكر فيها الملاحم وهو يشير إلى القرامطة
[ 14 ]
ينتحلون لنا الحب والهوى ويضمرون لنا البغض والقلى وآية ذلك قتلهم وراثنا وهجرهم أحداثنا . وصح ما أخبر به لأن القرامطة قتلت من آل أبي طالب ع خلقا كثيرا وأسماؤهم مذكورة في كتاب مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني . ومر أبو طاهر سليمان بن الحسن الجنابي في جيشه بالغري وبالحائر فلم يعرج على واحد منهما ولا دخل ولا وقف . وفي هذه الخطبة قال وهو يشير إلى السارية التي كان يستند إليها في مسجد الكوفة كأني بالحجر الأسود منصوبا هاهنا ويحهم إن فضيلته ليست في نفسه بل في موضعه وأسسه يمكث هاهنا برهة ثم هاهنا برهة وأشار إلى البحرين ثم يعود إلى مأواه وأم مثواه . ووقع الأمر في الحجر الأسود بموجب ما أخبر به ع . وقد وقفت له على خطب مختلفة فيها ذكر الملاحم فوجدتها تشتمل على ما يجوز أن ينسب إليه وما لا يجوز أن ينسب إليه ووجدت في كثير منها اختلالا ظاهرا وهذه المواضع التي أنقلها ليست من تلك الخطب المضطربة بل من كلام له وجدته متفرقا في كتب مختلفة ومن ذلك
أن تميم بن أسامة بن زهير بن دريد التميمي اعترضه وهو يخطب على المنبر ويقول سلوني قبل أن تفقدوني فو الله لا تسألوني عن فئة تضل مائة أو تهدي مائة إلا نبأتكم بناعقها وسائقها ولو شئت لأخبرت كل واحد منكم بمخرجه ومدخله وجمع شأنه فقال فكم في رأسي طاقة شعر فقال له أما والله إني لأعلم ذلك ولكن أين برهانه لو أخبرتك به ولقد أخبرتك بقيامك ومقالك وقيل لي إن على كل
[ 15 ](1/2764)
شعرة من شعر رأسك ملكا يلعنك وشيطانا يستفزك وآية ذلك أن في بيتك سخلا يقتل ابن رسول الله ص ويحض على قتله . فكان الأمر بموجب ما أخبر به ع كان ابنه حصين بالصاد المهملة يومئذ طفلا صغيرا يرضع اللبن ثم عاش إلى أن صار على شرطة عبيد الله بن زياد وأخرجه عبيد الله إلى عمر بن سعد يأمره بمناجزة الحسين ع ويتوعده على لسانه إن أرجأ ذلك فقتل ع صبيحة اليوم الذي ورد فيه الحصين بالرسالة في ليلته . ومن ذلك
قوله ع للبراء بن عازب يوما يا براء أ يقتل الحسين وأنت حي فلا تنصره فقال البراء لا كان ذلك يا أمير المؤمنين . فلما قتل الحسين ع كان البراء يذكر ذلك ويقول أعظم بها حسرة إذ لم أشهده وأقتل دونه . وسنذكر من هذا النمط فيما بعد إذا مررنا بما يقتضي ذكره ما يحضرنا إن شاء الله
[ 16 ](1/2765)
177 ـ ومن خطبة له ع
اِنْتَفِعُوا بِبَيَانِ اَللَّهِ وَ اِتَّعِظُوا بِمَوَاعِظِ اَللَّهِ وَ اِقْبَلُوا نَصِيحَةَ اَللَّهِ فَإِنَّ اَللَّهَ قَدْ أَعْذَرَ إِلَيْكُمْ بِالْجَلِيَّةِ وَ أَخَذَ اِتَّخَذَ عَلَيْكُمُ اَلْحُجَّةَ وَ بَيَّنَ لَكُمْ مَحَابَّهُ مِنَ اَلْأَعْمَالِ وَ مَكَارِهَهُ مِنْهَا لِتَتَّبِعُوا هَذِهِ وَ تَجْتَنِبُوا هَذِهِ فَإِنَّ رَسُولَ اَللَّهِ ص كَانَ يَقُولُ إِنَّ اَلْجَنَّةَ حُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ وَ إِنَّ اَلنَّارَ حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ وَ اِعْلَمُوا أَنَّهُ مَا مِنْ طَاعَةِ اَللَّهِ شَيْ ءٌ إِلاَّ يَأْتِي فِي كُرْهٍ وَ مَا مِنْ مَعْصِيَةِ اَللَّهِ شَيْ ءٌ إِلاَّ يَأْتِي فِي شَهْوَةٍ فَرَحِمَ اَللَّهُ اِمْرَأً نَزَعَ عَنْ شَهْوَتِهِ وَ قَمَعَ هَوَى نَفْسِهِ فَإِنَّ هَذِهِ اَلنَّفْسَ أَبْعَدُ شَيْ ءٍ مَنْزِعاً وَ إِنَّهَا لاَ تَزَالُ تَنْزِعُ إِلَى مَعْصِيَةٍ فِي هَوًى وَ اِعْلَمُوا عِبَادَ اَللَّهِ أَنَّ اَلْمُؤْمِنَ لاَ يُمْسِي وَ لاَ يُصْبِحُ لاَ يُصْبِحُ وَ لاَ يُمْسِي إِلاَّ وَ نَفْسُهُ ظَنُونٌ عِنْدَهُ فَلاَ يَزَالُ زَارِياً عَلَيْهَا وَ مُسْتَزِيداً لَهَا فَكُونُوا كَالسَّابِقِينَ قَبْلَكُمْ وَ اَلْمَاضِينَ أَمَامَكُمْ قَوَّضُوا مِنَ اَلدُّنْيَا تَقْوِيضَ اَلرَّاحِلِ وَ طَوَوْهَا طَيَّ اَلْمَنَازِلِ أعذر إليكم أوضح عذره في عقابكم إذا خالفتم أوامره والجلية اليقين وإنما أعذر إليهم بذلك لأنه مكنهم من العلم اليقيني بتوحيده وعدله وأوجب عليهم ذلك في
[ 17 ](1/2766)
عقولهم فإذا تركوه ساغ في الحكمة تعذيبهم وعقوبتهم فكأنه قد أبان لهم عذره أن لو قالوا لم تعاقبنا . ومحابه من الأعمال هي الطاعات التي يحبها وحبه لها إرادة وقوعها من المكلفين ومكارهه من الأعمال القبائح التي يكرهها منهم وهذا الكلام حجة لأصحابنا على المجبرة والخبر الذي رواه ع مروي في كتب المحدثين وهو
قول رسول الله ص حجبت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ومن المحدثين من يرويه حفت فيهما وليس منهم من يرويه حجبت في النار وذلك لأن لفظ الحجاب إنما يستعمل فيما يرام دخوله وولوجه لمكان النفع فيه ويقال حجب زيد عن مأدبة الأمير ولا يقال حجب زيد عن الحبس . ثم ذكر ع أنه لا طاعة إلا في أمر تكرهه النفس ولا معصية إلا بمواقعة أمر تحبه النفس وهذا حق لأن الإنسان ما لم يكن متردد الدواعي لا يصح التكليف وإنما تتردد الدواعي إذا أمر بما فيه مشقة أو نهي عما فيه لذة ومنفعة . فإن قلت أ ليس قد أمر الإنسان بالنكاح وهو لذة قلت ما فيه من ضرر الإنفاق ومعالجة أخلاق النساء يربي على اللذة الحاصلة فيه مرارا . ثم قال ع رحم الله امرأ نزع عن شهوته أي أقلع . وقمع هوى نفسه أي قهره . ثم قال فإن هذه النفس أبعد شي ء منزعا أي مذهبا قال أبو ذؤيب
و النفس راغبة إذا رغبتها
و إذا ترد إلى قليل تقنع
[ 18 ]
و من الكلام
المروي عنه ع ويروى أيضا عن غيره أيها الناس إن هذه النفوس طلعة فإلا تقدعوها تنزع بكم إلى شر غاية . وقال الشاعر
و ما النفس إلا حيث يجعلها الفتى
فإن أطمعت تاقت وإلا تسلت(1/2767)
ثم قال ع نفس المؤمن ظنون عنده الظنون البئر التي لا يدرى أ فيها ماء أم لا فالمؤمن لا يصبح ولا يمسي إلا وهو على حذر من نفسه معتقدا فيها التقصير والتضجيع في الطاعة غير قاطع على صلاحها وسلامة عاقبتها . وزاريا عليها عائبا زريت عليه عبت . ثم أمرهم بالتأسي بمن كان قبلهم وهم الذين قوضوا من الدنيا خيامهم أي نقضوها وطووا أيام العمر كما يطوي المسافر منازل طريقه : وَ اِعْلَمُوا أَنَّ هَذَا اَلْقُرْآنَ هُوَ اَلنَّاصِحُ اَلَّذِي لاَ يَغُشُّ وَ اَلْهَادِي اَلَّذِي لاَ يُضِلُّ وَ اَلْمُحَدِّثُ اَلَّذِي لاَ يَكْذِبُ وَ مَا جَالَسَ هَذَا اَلْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلاَّ قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ زِيَادَةٍ فِي هُدًى أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمًى وَ اِعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ اَلْقُرْآنِ مِنْ فَاقَةٍ وَ لاَ لِأَحَدٍ قَبْلَ اَلْقُرْآنِ مِنْ
[ 19 ](1/2768)
غِنًى فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُمْ وَ اِسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لَأْوَائِكُمْ فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ اَلدَّاءِ وَ هُوَ اَلْكُفْرُ وَ اَلنِّفَاقُ وَ اَلْغَيُّ وَ اَلضَّلاَلُ فَاسْأَلُوا اَللَّهَ بِهِ وَ تَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِحُبِّهِ وَ لاَ تَسْأَلُوا بِهِ خَلْقَهُ إِنَّهُ مَا تَوَجَّهَ اَلْعِبَادُ إِلَى اَللَّهِ تَعَالَى بِمِثْلِهِ وَ اِعْلَمُوا أَنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ وَ قَائِلٌ مُصَدَّقٌ وَ أَنَّهُ مَنْ شَفَعَ لَهُ اَلْقُرْآنُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ شُفِّعَ فِيهِ وَ مَنْ مَحَلَ بِهِ اَلْقُرْآنُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ صُدِّقَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ أَلاَ إِنَّ كُلَّ حَارِثٍ مُبْتَلًى فِي حَرْثِهِ وَ عَاقِبَةِ عَمَلِهِ غَيْرَ حَرَثِةِ اَلْقُرْآنِ فَكُونُوا مِنْ حَرَثَتِهِ وَ أَتْبَاعِهِ وَ اِسْتَدِلُّوهُ عَلَى رَبِّكُمْ وَ اِسْتَنْصِحُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَ اِتَّهِمُوا عَلَيْهِ آرَاءَكُمْ وَ اِسْتَغِشُّوا فِيهِ أَهْوَاءَكُمْ غشه يغشه بالضم غشا خلاف نصحه واللأواء الشدة . وشفع له القرآن شفاعة بالفتح وهو مما يغلط فيه العامة فيكسرونه وكذلك تبعت كذا بكذا أتبعته مفتوح أيضا . ومحل به إلى السلطان قال عنه ما يضره كأنه جعل القرآن يمحل يوم القيامة عند الله بقوم أي يقول عنهم شرا ويشفع عند الله لقوم أي يثني عليهم خيرا . والحارث المكتسب والحرث الكسب وحرثة القرآن المتاجرون به الله . واستنصحوه على أنفسكم أي إذا أشار عليكم بأمر وأشارت عليكم أنفسكم بأمر يخالفه .
[ 20 ]
فاقبلوا مشورة القرآن دون مشورة أنفسكم وكذلك معنى قوله واتهموا عليه آراءكم واستغشوا فيه أهواءكم(1/2769)
فصل في القرآن وذكر الآثار التي وردت بفضله
و اعلم أن هذا الفصل من أحسن ما ورد في تعظيم القرآن وإجلاله وقد قال الناس في هذا الباب فأكثروا . ومن الكلام المروي عن أمير المؤمنين ع في ذكر القرآن أيضا ما
رواه ابن قتيبة في كتاب عيون الأخبار عنه ع أيضا وهو مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة طعمها مر وريحها منتنة وقال الحسن رحمه الله قراء القرآن ثلاثة رجل اتخذه بضاعة فنقله من مصر إلى مصر يطلب به ما عند الناس ورجل حفظ حروفه وضيع حدوده واستدر به الولاة واستطال به على أهل بلاده وقد كثر الله هذا الضرب من حملة القرآن لا كثرهم الله ورجل قرأ القرآن فبدأ بما يعلم من دواء القرآن فوضعه على داء قلبه فسهر ليله وانهملت عيناه وتسربل بالخشوع وارتدى بالحزن فبذاك وأمثاله يسقى الناس الغيث وينزل النصر ويدفع البلاء والله لهذا الضرب من حملة القرآن أعز وأقل من الكبريت الأحمر
[ 21 ]
و
في الحديث المرفوع إن من تعظيم جلال الله إكرام ذي الشيبة في الإسلام وإكرام الإمام العادل وإكرام حملة القرآن و
في الخبر المرفوع أيضا لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو فإني أخاف أن يناله العدو . وكانت الصحابة تكره بيع المصاحف وتراه عظيما وكانوا يكرهون أن يأخذ المعلم على تعليم القرآن أجرا . و
كان ابن عباس يقول إذا وقعت في آل حم وقعت في روضات دمثات أتأنق فيهن
و قال ابن مسعود لكل شي ء ديباجة وديباجة القرآن آل حم
قيل لابن عباس أ يجوز أن يحلى المصحف بالذهب والفضة فقال حليته في جوفه و(1/2770)
قال النبي ص أصفر البيوت جوف صفر من كتاب الله وقال الشعبي إياكم وتفسير القرآن فإن الذي يفسره إنما يحدث عن الله . الحسن رحمه الله رحم الله امرأ عرض نفسه وعمله على كتاب الله فإن وافق حمد الله وسأله الزيادة وإن خالف أعتب وراجع من قريب . حفظ عمر بن الخطاب سورة البقرة فنحر وأطعم .
وفد غالب بن صعصعة على علي ع ومعه ابنه الفرزدق فقال له من أنت فقال غالب بن صعصعة المجاشعي قال ذو الإبل الكثيرة قال نعم قال ما فعلت إبلك قال أذهبتها النوائب وذعذعتها الحقوق قال ذاك خير سبلها
[ 22 ]
ثم قال يا أبا الأخطل من هذا الغلام معك قال ابني وهو شاعر قال علمه القرآن فهو خير له من الشعر فكان ذلك في نفس الفرزدق حتى قيد نفسه وآلى ألا يحل قيده حتى يحفظ القرآن فما حله حتى حفظه وذلك قوله
و ما صب رجلي في حديد مجاشع
مع القد إلا حاجة لي أريدها
قلت تحت قوله ع يا أبا الأخطل قبل أن يعلم أن ذلك الغلام ولده وأنه شاعر سر غامض ويكاد يكون إخبارا عن غيب فليلمح . الفضيل بن عياض بلغني أن صاحب القرآن إذا وقف على معصية خرج القرآن من جوفه فاعتزل ناحية وقال أ لهذا حملتني . قلت وهذا القول على سبيل المثل والتخويف من مواقعة المعاصي لمن يحفظ القرآن .
أنس قال قال لي رسول الله ص يا ابن أم سليم لا تغفل عن قراءة القرآن صباحا ومساء فإن القرآن يحيي القلب الميت وينهى عن الفحشاء والمنكر . كان سفيان الثوري إذا دخل شهر رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن من المصحف .
كعب الأحبار قال الله تعالى لموسى ع مثل كتاب محمد في الكتب مثل سقاء فيه لبن كلما مخضته استخرجت منه زبدا . أسلم الخواص كنت أقرأ القرآن فلا أجد له حلاوة فقلت لنفسي يا أسلم اقرأ القرآن كأنك تسمعه من رسول الله ص فجاءت حلاوة قليلة فقلت اقرأه كأنك تسمعه من جبرئيل ع فازدادت الحلاوة فقلت اقرأه كأنك تسمعه من الله عز وجل حين تكلم به فجاءت الحلاوة كلها .(1/2771)
[ 23 ]
بعض أرباب القلوب إن الناس يجمزون في قراءة القرآن ما خلا المحبين فإن لهم خان إشارات إذا مروا به نزلوا يريد آيات من القرآن يقفون عندها فيفكرون فيها .
في الحديث المرفوع ما من شفيع من ملك ولا نبي ولا غيرهما أفضل من القرآن و
في الحديث المرفوع أيضا من قرأ القرآن ثم رأى أن أحدا أوتي أفضل مما أوتي فقد استصغر عظمة الله و
جاء في بعض الآثار إن الله تعالى خلق بعض القرآن قبل أن يخلق آدم وقرأه على الملائكة فقالوا طوبى لأمة ينزل عليها هذا وطوبى لأجواف تحمل هذا وطوبى لألسنة تنطق بهذا و
قال النبي ص إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد قيل يا رسول الله وما جلاؤها قال قراءة القرآن وذكر الموت و
عنه ع ما أذن الله لشي ء أذنه لنبي حسن الترنم بالقرآن و
عنه ع إن ربكم لأشد أذنا إلى قارئ القرآن من صاحب القينة إلى قينته و
عنه ع أنت تقرأ القرآن ما نهاك فإذا لم ينهك فلست تقرؤه
ابن مسعود رحمه الله ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذ الناس نائمون وبنهاره إذ الناس مفطرون وبحزنه إذ الناس يفرحون وببكائه إذ الناس يضحكون وبخشوعه إذ الناس يختالون وينبغي لحامل القرآن أن يكون سكيتا زميتا لينا ولا ينبغي أن يكون جافيا ولا مماريا ولا صياحا ولا حديدا ولا صخابا .
[ 24 ]
بعض السلف إن العبد ليفتتح سورة فتصلي عليه حتى يفرغ منها وإن العبد ليفتتح سورة فتلعنه حتى يفرغ منها قيل كيف ذاك قال إذا أحل حلالها وحرم حرامها صلت عليه وإلا لعنته .
ابن مسعود أنزل الله عليهم القرآن ليعملوا به فاتخذوا دراسته عملا إن أحدهم ليقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته ما يسقط منه حرفا وقد أسقط العمل به(1/2772)
ابن عباس لأن أقرأ البقرة وآل عمران أرتلهما وأتدبرهما أحب إلي من أن أقرأ القرآن كله هذرمة . ثابت البناني كابدت في القرآن عشرين سنة وتنعمت به عشرين سنة : اَلْعَمَلَ اَلْعَمَلَ ثُمَّ اَلنِّهَايَةَ اَلنِّهَايَةَ وَ اَلاِسْتِقَامَةَ اَلاِسْتِقَامَةَ ثُمَّ اَلصَّبْرَ اَلصَّبْرَ وَ اَلْوَرَعَ اَلْوَرَعَ إِنَّ لَكُمْ نِهَايَةً فَانْتَهُوا إِلَى نِهَايَتِكُمْ وَ إِنَّ لَكُمْ عَلَماً فَاهْتَدُوا بِعَلَمِكُمْ وَ إِنَّ لِلْإِسْلاَمِ غَايَةً فَانْتَهُوا إِلَى غَايَتِهِ وَ اُخْرُجُوا إِلَى اَللَّهِ مِمَّا اِفْتَرَضَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَقِّهِ وَ بَيَّنَ لَكُمْ مِنْ وَظَائِفِهِ أَنَا شَاهِدٌ لَكُمْ وَ حَجِيجٌ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ عَنْكُمْ أَلاَ وَ إِنَّ اَلْقَدَرَ اَلسَّابِقَ قَدْ وَقَعَ وَ اَلْقَضَاءَ اَلْمَاضِيَ قَدْ تَوَرَّدَ وَ إِنِّي مُتَكَلِّمٌ بِعِدَةِ اَللَّهِ وَ حُجَّتِهِ قَالَ اَللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ تَعَالَى إِنَّ اَلَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اَللَّهُ ثُمَّ اِسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ
[ 25 ](1/2773)
اَلَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ وَ قَدْ قُلْتُمْ رَبُّنَا اَللَّهُ فَاسْتَقِيمُوا عَلَى كِتَابِهِ وَ عَلَى مِنْهَاجِ أَمْرِهِ وَ عَلَى اَلطَّرِيقَةِ اَلصَّالِحَةِ مِنْ عِبَادَتِهِ ثُمَّ لاَ تَمْرُقُوا مِنْهَا وَ لاَ تَبْتَدِعُوا فِيهَا وَ لاَ تُخَالِفُوا عَنْهَا فَإِنَّ أَهْلَ اَلْمُرُوقِ مُنْقَطَعٌ بِهِمْ عِنْدَ اَللَّهِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ النصب على الإغراء وحقيقته فعل مقدر أي الزموا العمل وكرر الاسم لينوب أحد اللفظين عن الفعل المقدر والأشبه أن يكون اللفظ الأول هو القائم مقام الفعل لأنه في رتبته أمرهم بلزوم العمل ثم أمرهم بمراعاة العاقبة والخاتمة وعبر عنها بالنهاية وهي آخر أحوال المكلف التي يفارق الدنيا عليها إما مؤمنا أو كافرا أو فاسقا والفعل المقدر هاهنا راعوا وأحسنوا وأصلحوا ونحو ذلك . ثم أمرهم بالاستقامة وأن يلزموها وهي أداء الفرائض . ثم أمرهم بالصبر عليها وملازمته وبملازمة الورع . ثم شرع بعد هذا الكلام المجمل في تفصيله فقال إن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم وهذا
لفظ رسول الله ص أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم وإن لكم غاية فانتهوا إلى غايتكم والمراد بالنهاية والغاية أن يموت الإنسان على توبة من فعل القبيح والإخلال بالواجب . ثم أمرهم بالاهتداء بالعلم المنصوب لهم وإنما يعني نفسه ع . ثم ذكر أن للإسلام غاية وأمرهم بالانتهاء إليها وهي أداء الواجبات واجتناب المقبحات . ثم أوضح ذلك بقوله واخرجوا إلى الله مما افترض عليكم من حقه وبين لكم
[ 26 ](1/2774)
من وظائفه فكشف بهذا الكلام معنى الغاية التي أجملها أولا ثم ذكر أنه شاهد لهم ومحاج يوم القيامة عنهم وهذا إشارة إلى قوله تعالى يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ . وحجيج فعيل بمعنى فاعل وإنما سمى نفسه حجيجا عنهم وإن لم يكن ذلك الموقف موقف مخاصمة لأنه إذا شهد لهم فكأنه أثبت لهم الحجة فصار محاجا عنهم . قوله ع ألا وإن القدر السابق قد وقع يشير به إلى خلافته . وهذه الخطبة من أوائل الخطب التي خطب بها أيام بويع بعد قتل عثمان وفي هذا إشارة إلى أن رسول الله ص قد أخبره أن الأمر سيفضى إليه منتهى عمره وعند انقضاء أجله . ثم أخبرهم أنه سيتكلم بوعد الله تعالى ومحجته على عباده في قوله إِنَّ اَلَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اَللَّهُ ثُمَّ اِسْتَقامُوا . . . الآية ومعنى الآية أن الله تعالى وعد الذين أقروا بالربوبية ولم يقتصروا على الإقرار بل عقبوا ذلك بالاستقامة أن ينزل عليهم الملائكة عند موتهم بالبشرى ولفظة ثم للتراخي والاستقامة مفضلة على الإقرار باللسان لأن الشأن كله في الاستقامة ونحوها قوله تعالى إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا أي ثم ثبتوا على الإقرار ومقتضياته والاستقامة هاهنا هي الاستقامة الفعلية شافعة للاستقامة القولية وقد اختلف فيه قول أمير المؤمنين ع وأبي بكر فقال أمير المؤمنين ع أدوا الفرائض وقال أبو بكر استمروا على التوحيد .
[ 27 ]
و روي أن أبا بكر تلاها وقال ما تقولون فيها فقالوا لم يذنبوا فقال حملتم الأمر على أشده فقالوا قل قال لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان ورأي أبي بكر في هذا الموضع إن ثبت عنه يؤكد مذهب الإرجاء وقول أمير المؤمنين ع يؤكد مذهب أصحابنا . و(1/2775)
روى سفيان بن عبد الله الثقفي قال قلت يا رسول الله أخبرني بأمر أعتصم به فقال قل لا إله إلا الله ثم استقم فقلت ما أخوف ما تخافه علي فقال هذا وأخذ بلسان نفسه ص وتَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلائِكَةُ عند الموت أو في القبر أو عند النشور . وأَلاَّ تَخافُوا أن بمعنى أي أو تكون خفيفة من الثقيلة وأصله أنه لا تخافوا والهاء ضمير الشأن . وقد فسر أمير المؤمنين الاستقامة المشترطة في الآية فقال قد أقررتم بأن الله ربكم فاستقيموا على كتابه وعلى منهاج أمره وعلى الطريقة الصالحة من عبادته . لا تمرقوا منها مرق السهم إذا خرج من الرمية مروقا . ولا تبتدعوا لا تحدثوا ما لم يأت به الكتاب والسنة . ولا تخالفوا عنها تقول خالفت عن الطريق أي عدلت عنها . قال فإن أهل المروق منقطع بهم بفتح الطاء انقطع بزيد بضم الهمزة فهو منقطع به إذا لم يجد بلاغا ووصولا إلى المقصد
[ 28 ](1/2776)
ثُمَّ إِيَّاكُمْ وَ تَهْزِيعَ اَلْأَخْلاَقِ وَ تَصْرِيفَهَا وَ اِجْعَلُوا اَللِّسَانَ وَاحِداً وَ لْيَخْزُنِ اَلرَّجُلُ لِسَانَهُ فَإِنَّ هَذَا اَللِّسَانَ جَمُوحٌ بِصَاحِبِهِ وَ اَللَّهِ مَا أَرَى عَبْداً يَتَّقِي تَقْوَى تَنْفَعُهُ حَتَّى يَخْتَزِنَ يَخْزُنَ لِسَانَهُ وَ إِنَّ لِسَانَ اَلْمُؤْمِنِ مِنْ وَرَاءِ قَلْبِهِ وَ إِنَّ قَلْبَ اَلْمُنَافِقِ مِنْ وَرَاءِ لِسَانِهِ لِأَنَّ اَلْمُؤْمِنَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلاَمٍ تَدَبَّرَهُ فِي نَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ خَيْراً أَبْدَاهُ وَ إِنْ كَانَ شَرّاً وَارَاهُ وَ إِنَّ اَلْمُنَافِقَ يَتَكَلَّمُ بِمَا أَتَى عَلَى لِسَانِهِ لاَ يَدْرِي مَا ذَا لَهُ وَ مَا ذَا عَلَيْهِ وَ لَقَدْ قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ ص لاَ يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ وَ لاَ يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ فَمَنِ اِسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَلْقَى اَللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ هُوَ نَقِيُّ اَلرَّاحَةِ مِنْ دِمَاءِ اَلْمُسْلِمِينَ وَ أَمْوَالِهِمْ سَلِيمُ اَللِّسَانِ مِنْ أَعْرَاضِهِمْ فَلْيَفْعَلْ تهزيع الأخلاق تغييرها وأصل الهزع الكسر أسد مهزع يكسر الأعناق ويرض العظام ولما كان المتصرف بخلقه الناقل له من حال قد أعدم سمته الأولى كما يعدم الكاسر صورة المكسور اشتركا في مسمى شامل لهما فاستعمل التهزيع في الخلق للتغيير والتبديل مجازا . قوله واجعلوا اللسان واحدا نهى عن النفاق واستعمال الوجهين . قال وليخزن الرجل لسانه أي ليحبسه فإن اللسان يجمح بصاحبه فيلقيه في الهلكة .
[ 29 ](1/2777)
ثم ذكر أنه لا يرى التقوى نافعة إلا مع حبس اللسان قال فإن لسان المؤمن وراء قلبه وقلب الأحمق وراء لسانه وشرح ذلك وبينه . فإن قلت المسموع المعروف لسان العاقل من وراء قلبه وقلب الأحمق وراء لسانه كيف نقله إلى المؤمن والمنافق . قلت لأنه قل أن يكون المنافق إلا أحمق وقل أن يكون العاقل إلا مؤمنا فلأكثرية ذلك استعمل لفظ المؤمن وأراد العاقل ولفظ المنافق وأراد الأحمق . ثم روى الخبر المذكور عن النبي ص وهو مشهور . ثم أمرهم بالاجتهاد في أن يلقوا الله تعالى وكل منهم نقي الراحة من دماء المسلمين وأموالهم سليم اللسان من أعراضهم و
قد قال النبي ص إنما المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده فسلامتهم من لسانه سلامة أعراضهم وسلامتهم من يده سلامة دمائهم وأموالهم وانتصاب تهزيع على التحذير وحقيقته تقدير فعل وصورته جنبوا أنفسكم تهزيع الأخلاق فإياكم قائم مقام أنفسكم والواو عوض عن الفعل المقدر وأكثر ما يجي ء بالواو وقد جاء بغير واو في قول الشاعر
إياك إياك المراء فإنه
إلى الشر دعاء وللشر جالب
و كان يقال ينبغي للعاقل أن يتمسك بست خصال فإنها من المروءة أن يحفظ دينه ويصون عرضه ويصل رحمه ويحمي جاره ويرعى حقوق إخوانه ويخزن عن البذاء لسانه و
في الخبر المرفوع من كفي شر قبقبه وذبذبه ولقلقه دخل الجنة .
[ 30 ](1/2778)
فالقبقب البطن والذبذب الفرج واللقلق اللسان . وقال بعض الحكماء من علم أن لسانه جارحة من جوارحه أقل من اعتمالها واستقبح تحريكها كما يستقبح تحريك رأسه أو منكبه دائما : وَ اِعْلَمُوا عِبَادَ اَللَّهِ أَنَّ اَلْمُؤْمِنَ يَسْتَحِلُّ اَلْعَامَ مَا اِسْتَحَلَّ عَاماً أَوَّلَ وَ يُحَرِّمُ اَلْعَامَ مَا حَرَّمَ عَاماً أَوَّلَ وَ أَنَّ مَا أَحْدَثَ اَلنَّاسُ لاَ يُحِلُّ لَكُمْ شَيْئاً مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَ لَكِنَّ اَلْحَلاَلَ مَا أَحَلَّ اَللَّهُ وَ اَلْحَرَامَ مَا حَرَّمَ اَللَّهُ فَقَدْ جَرَّبْتُمُ اَلْأُمُورَ وَ ضَرَّسْتُمُوهَا وَ وُعِظْتُمْ بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَ ضُرِبَتِ اَلْأَمْثَالُ لَكُمْ وَ دُعِيتُمْ إِلَى اَلْأَمْرِ اَلْوَاضِحِ فَلاَ يَصَمُّ عَنْ ذَلِكَ إِلاَّ أَصَمُّ وَ لاَ يَعْمَى عَنْهُ إِلاَّ أَعْمَى وَ مَنْ لَمْ يَنْفَعْهُ اَللَّهُ بِالْبَلاَءِ وَ اَلتَّجَارِبِ لَمْ يَنْتَفِعْ بِشَيْ ءٍ مِنَ اَلْعِظَةِ وَ أَتَاهُ اَلتَّقْصِيرُ مِنْ أَمَامِهِ حَتَّى يَعْرِفَ مَا أَنْكَرَ وَ يُنْكِرَ مَا عَرَفَ فَإِنَّ اَلنَّاسَ وَ إِنَّمَا اَلنَّاسُ رَجُلاَنِ مُتَّبِعٌ شِرْعَةً وَ مُبْتَدِعٌ بِدْعَةً لَيْسَ مَعَهُ مِنَ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ بُرْهَانُ سُنَّةٍ وَ لاَ ضِيَاءُ حُجَّةٍ يقول إن الأحكام الشرعية لا يجوز بعد ثبوت الأدلة عليها من طريق النص أن تنقض باجتهاد وقياس بل كل ما ورد به النص تتبع مورد النص فيه فما استحللته عاما أول فهو في هذا العام حلال لك وكذلك القول في التحريم وهذا هو مذهب أكثر أصحابنا أن النص مقدم على القياس وقد ذكرناه في كتبنا في أصول الفقه . وأول هاهنا لا ينصرف لأنه صفة على وزن أفعل .
[ 31 ](1/2779)
و قال إن ما أحدث الناس لا يحل لكم شيئا مما حرم عليكم أي ما أحدثوه من القياس والاجتهاد وليس هذا بقادح في القياس ولكنه مانع من تقديمه على النص وهكذا يقول أصحابنا . قوله وضرستموها بالتشديد أي أحكمتموها تجربة وممارسة يقال قد ضرسته الحرب ورجل مضرس . قوله فلا يصم عن ذلك إلا أصم أي لا يصم عنه إلا من هو حقيق أن يقال عنه إنه أصم كما تقول ما يجهل هذا الأمر إلا جاهل أي بالغ في الجهل . ثم قال من لم ينفعه الله بالبلاء أي بالامتحان والتجربة لم تنفعه المواعظ وجاءه النقص من بين يديه حتى يتخيل فيما أنكره أنه قد عرفه وينكر ما قد كان عارفا به وسمى اعتقاد العرفان وتخيله عرفانا على المجاز . ثم قسم الناس إلى رجلين إما متبع طريقة ومنهاجا أو مبتدع ما لا يعرف وليس بيده حجة فالأول المحق والثاني المبطل . والشرعة المنهاج والبرهان الحجة : فَإِنَّ وَ إِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَعِظْ أَحَداً بِمِثْلِ هَذَا اَلْقُرْآنِ فَإِنَّهُ حَبْلُ اَللَّهِ اَلْمَتِينُ وَ سَبَبُهُ اَلْأَمِينُ وَ فِيهِ رَبِيعُ اَلْقَلْبِ وَ يَنَابِيعُ اَلْعِلْمِ وَ مَا لِلْقَلْبِ جَلاَءٌ غَيْرُهُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ اَلْمُتَذَكِّرُونَ وَ بَقِيَ اَلنَّاسُونَ أَوِ اَلْمُتَنَاسُونَ فَإِذَا رَأَيْتُمْ خَيْراً فَأَعِينُوا عَلَيْهِ وَ إِذَا رَأَيْتُمْ شَرّاً فَاذْهَبُوا عَنْهُ فَإِنَّ رَسُولَ اَللَّهِ ص كَانَ يَقُولُ يَا اِبْنَ آدَمَ اِعْمَلِ اَلْخَيْرَ وَ دَعِ اَلشَّرَّ فَإِذَا أَنْتَ جَوَادٌ قَاصِدٌ
[ 32 ](1/2780)
إنما جعله حبل الله لأن الحبل ينجو من تعلق به من هوة والقرآن ينجو من الضلال من يتعلق به . وجعله متينا أي قويا لأنه لا انقطاع له أبدا وهذه غاية المتانة والقوة . ومتن الشي ء بالضم أي صلب وقوي وسببه الأمين مثل حبله المتين وإنما خالف بين اللفظين على قاعدة الخطابة . وفيه ربيع القلب لأن القلب يحيا به كما تحيا الأنعام برعي الربيع . وينابيع العلم لأن العلم منه يتفرع كما يخرج الماء من الينبوع ويتفرع إلى الجداول والجلاء بالكسر مصدر جلوت السيف يقول لا جلاء لصدأ القلوب من الشبهات والغفلات إلا القرآن . ثم قال إن المتذكرين قد ذهبوا وماتوا وبقي الناسون الذين لا علوم لهم أو المتناسون الذين عندهم العلوم ويتكلفون إظهار الجهل لأغراض دنيوية تعرض لهم وروي والمتناسون بالواو . ثم قال أعينوا على الخير إذا رأيتموه بتحسينه عند فاعله وبدفع الأمور المانعة عنه وبتسهيل أسبابه وتسنية سبله وإذا رأيتم الشر فاذهبوا عنه ولا تقاربوه ولا تقيموا أنفسكم في مقام الراضي به الموافق على فعله ثم روى لهم الخبر . والجواد القاصد السهل السير لا سريع يتعب بسرعته ولا بطي ء يفوت الغرض ببطئه
[ 33 ](1/2781)
أَلاَ وَ إِنَّ اَلظُّلْمَ ثَلاَثَةٌ فَظُلْمٌ لاَ يُغْفَرُ وَ ظُلْمٌ لاَ يُتْرَكُ وَ ظُلْمٌ مَغْفُورٌ لاَ يُطْلَبُ فَأَمَّا اَلظُّلْمُ اَلَّذِي لاَ يُغْفَرُ فَالشِّرْكُ بِاللَّهِ قَالَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّ اَللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ أَمَّا اَلظُّلْمُ اَلَّذِي يُغْفَرُ فَظُلْمُ اَلْعَبْدِ نَفْسَهُ عِنْدَ بَعْضِ اَلْهَنَاتِ وَ أَمَّا اَلظُّلْمُ اَلَّذِي لاَ يُتْرَكُ فَظُلْمُ اَلْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً اَلْقِصَاصُ هُنَاكَ شَدِيدٌ لَيْسَ هُوَ جَرْحاً بِاْلمُدَى وَ لاَ ضَرْباً بِالسِّيَاطِ وَ لَكِنَّهُ مَا يُسْتَصْغَرُ ذَلِكَ مَعَهُ فَإِيَّاكُمْ وَ اَلتَّلَوُّنَ فِي دِينِ اَللَّهِ فَإِنَّ جَمَاعَةً فِيمَا تَكْرَهُونَ مِنَ اَلْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ فُرْقَةٍ فِيمَا تُحِبُّونَ مِنَ اَلْبَاطِلِ وَ إِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُعْطِ أَحَداً بِفُرْقَةٍ خَيْراً مِمَّنْ مَضَى وَ لاَ مِمَّنْ بَقِيَ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ طُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ اَلنَّاسِ وَ طُوبَى لِمَنْ لَزِمَ بَيْتَهُ وَ أَكَلَ قُوتَهُ وَ اِشْتَغَلَ بِطَاعَةِ رَبِّهِ وَ بَكَى عَلَى خَطِيئَتِهِ فَكَانَ مِنْ نَفْسِهِ فِي شُغُلٍ وَ اَلنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ قسم ع الظلم ثلاثة أقسام أحدها ظلم لا يغفر وهو الشرك بالله أي أن يموت الإنسان مصرا على الشرك ويجب عند أصحابنا أن يكون أراد الكبائر وإن لم يذكرها لأن حكمها حكم الشرك عندهم .
[ 34 ](1/2782)
و ثانيها الهنات المغفورة وهي صغائر الذنوب هكذا يفسر أصحابنا كلامه ع . وثالثها ما يتعلق بحقوق البشر بعضهم على بعض فإن ذلك لا يتركه الله هملا بل لا بد من عقاب فاعله وإنما أفرد هذا القسم مع دخوله في القسم الأول لتميزه بكونه متعلقا بحقوق بني آدم بعضهم على بعض وليس الأول كذلك . فإن قلت لفظه ع مطابق للآية وهي قوله تعالى إِنَّ اَللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ والآية ولفظه ع صريحان في مذهب المرجئة لأنكم إذا فسرتم قوله لمن يشاء بأن المراد به أرباب التوبة قيل لكم فالمشركون هكذا حالهم يقبل الله توبتهم ويسقط عقاب شركهم بها فلأي معنى خصص المشيئة بالقسم الثاني وهو ما دون الشرك وهل هذا إلا تصريح بأن الشرك لا يغفر لمن مات عليه وما دونه من المعاصي إذا مات الإنسان عليه لا يقطع له بالعقاب ولا لغيره بل أمره إلى الله . قلت الأصوب في هذا الموضع ألا يجعل قوله لمن يشاء معنيا به التائبون بل نقول المراد أن الله لا يستر في موقف القيامة من مات مشركا بل يفضحه على رءوس الأشهاد كما قال تعالى وَ يَقُولُ اَلْأَشْهادُ هؤُلاءِ اَلَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ . وأما من مات على كبيرة من أهل الإسلام فإن الله تعالى يستره في الموقف ولا يفضحه بين الخلائق وإن كان من أهل النار ويكون معنى المغفرة في هذه الآية الستر وتغطية حال العاصي في موقف الحشر وقد يكون من أهل الكبائر ممن يقر بالإسلام
[ 35 ](1/2783)
لعظيم كبائره جدا فيفضحه الله تعالى في الموقف كما يفضح المشرك فهذا معنى قوله وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ . فأما الكلام المطول في تأويلات هذه الآية فمذكور في كتبنا الكلامية . واعلم أنه لا تعلق للمرجئة ولا جدوى عليهم من عموم لفظ الآية لأنهم قد وافقونا على أن الفلسفي غير مغفور له وليس بمشرك فإذا أراد بقوله تعالى إِنَّ اَللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ومن جرى مجرى المشركين قيل لهم ونحن نقول إن الزاني والقاتل يجريان مجرى المشركين كما أجريتم الفلاسفة مجرى المشركين فلا تنكروا علينا ما لم تنكروه على أنفسكم . ثم ذكر ع أن القصاص في الآخرة شديد ليس كما يعهده الناس من عقاب الدنيا الذي هو ضرب السوط وغايته أن يذوق الإنسان طعم الحديد وهو معنى قوله جرحا بالمدى جمع مدية وهي السكين بل هو شي ء آخر عظيم لا يعبر النطق عن كنهه وشدة نكاله وألمه(1/2784)
فصل في الآثار الواردة في شديد عذاب جهنم
قال الأوزاعي في مواعظه للمنصور
روي لي عن رسول الله ص لو أن ثوبا من ثياب أهل النار علق بين السماء والأرض لأحرق أهل الأرض قاطبة فكيف بمن يتقمصه ولو أن ذنوبا من حميم جهنم صب على ماء الأرض كله لأجنه حتى لا يستطيع مخلوق شربه فكيف بمن يتجرعه ولو أن حلقة من سلاسل النار وضعت على جبل لذاب كما يذوب الرصاص فكيف بمن يسلك فيها ويرد فضلها على عاتقه و
روى أبو هريرة عن النبي ص لو كان في هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون وأخرج إليهم رجل من النار فتنفس وأصابهم نفسه لأحرق المسجد ومن فيه
[ 36 ]
و
روي أن رسول الله ص قال لجبريل ما لي لا أرى ميكائيل ضاحكا قال إن ميكائيل لم يضحك منذ خلقت النار ورآها و
عنه ص لما أسري بي سمعت هدة فسألت جبريل عنها فقال حجر أرسله الله من شفير جهنم فهو يهوي منذ سبعين خريفا حتى بلغ الآن فيه و
روي عن النبي ص في قوله تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ اَلنَّارُ وَ هُمْ فِيها كالِحُونَ قال تتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته و
روى عبيد بن عمير الليثي عنه ع لتزفرن جهنم زفرة لا يبقى ملك ولا نبي إلا خر مرتعدة فرائصه حتى إن إبراهيم الخليل ليجثو على ركبتيه فيقول يا رب إني لا أسألك إلا نفسي
أبو سعيد الخدري مرفوعا لو ضربت جبال الدنيا بمقمع من تلك المقامع الحديد لصارت غبارا . الحسن البصري قال الأغلال لم تجعل في أعناق أهل النار لأنهم أعجزوا الرب ولكن إذا أصابهم اللهب أرسبتهم في النار ثم خر الحسن صعقا وقال ودموعه تتحادر يا ابن آدم نفسك نفسك فإنما هي نفس واحدة إن نجت نجوت وإن هلكت لم ينفعك من نجا . طاوس أيها الناس إن النار لما خلقت طارت أفئدة الملائكة فلما خلقتم سكنت .
[ 37 ](1/2785)
مطرف بن الشخير إنكم لتذكرون الجنة وإن ذكر النار قد حال بيني وبين أن أسأل الله الجنة . منصور بن عمار يا من البعوضة تقلقه والبقة تسهره أ مثلك يقوى على وهج السعير أو تطيق صفحة خده لفح سمومها ورقة أحشائه خشونة ضريعها ورطوبة كبده تجرع غساقها . قيل لعطاء السلمي أ يسرك أن يقال لك قع في جهنم فتحرق فتذهب فلا تبعث أبدا لا إليها ولا إلى غيرها فقال والله الذي لا إله إلا هو لو سمعت أن يقال لي لظننت أني أموت فرحا قبل أن يقال لي ذلك . الحسن والله ما يقدر العباد قدر حرها روينا لو أن رجلا كان بالمشرق وجهنم بالمغرب ثم كشف عن غطاء واحد منها لغلت جمجمته ولو أن دلوا من صديدها صب في الأرض ما بقي على وجهها شي ء فيه روح إلا مات . كان الأحنف يصلي صلاة الليل ويضع المصباح قريبا منه فيضع إصبعه عليه ويقول يا حنيف ما حملك على ما صنعت يوم كذا حتى يصبح(1/2786)
فصل في العزلة والاجتماع وما قيل فيهما
ثم نهاهم ع عن التفرق في دين الله وهو الاختلاف والفرقة ثم أمرهم باجتماع الكلمة وقال إن الجماعة في الحق المكروه إليكم خير لكم من الفرقة في الباطل المحبوب عندكم فإن الله لم يعط أحدا خيرا بالفرقة لا ممن مضى ولا ممن بقي .
[ 38 ]
و قد تقدم ذكر ما ورد عن النبي ص في الأمر بلزوم الجماعة والنهي عن الاختلاف والفرقة . ثم أمر ع بالعزلة ولزوم البيت والاشتغال بالعبادة ومجانبة الناس ومتاركتهم واشتغال الإنسان بعيب نفسه عن عيوبهم . وقد ورد في العزلة أخبار وآثار كثيرة واختلف الناس قديما وحديثا فيها ففضلها قوم على المخالطة وفضل قوم المخالطة عليها . فممن فضل العزلة سفيان الثوري وإبراهيم بن أدهم وداود الطائي والفضيل بن عياض وسليمان الخواص ويوسف بن أسباط وبشر الحافي وحذيفة المرعشي وجمع كثير من الصوفية وهو مذهب أكثر العارفين وقول المتألهين من الفلاسفة . وممن فضل المخالطة على العزلة ابن المسيب والشعبي وابن أبي ليلى وهشام بن عروة وابن شبرمة والقاضي شريح وشريك بن عبد الله وابن عيينة وابن المبارك . فأما كلام أمير المؤمنين ع فيقتضي عند إمعان النظر فيه أن العزلة خير لقوم وأن المخالطة خير لقوم آخرين على حسب أحوال الناس واختلافهم . وقد احتج أرباب المخالطة يقول الله تعالى فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وبقوله وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اِخْتَلَفُوا وهذا ضعيف لأن المراد بالآية تفرق الآراء واختلاف المذاهب في أصول الدين والمراد
[ 39 ]
بتأليف القلوب وبالأخوة عدم الإحن والأحقاد بينهم بعد استعار نارها في الجاهلية وهذا أمر خارج عن حديث العزلة . واحتجوا(1/2787)
بقول النبي ص المؤمن إلف مألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف وهذا أيضا ضعيف لأن المراد منه ذم سوء الخلق والأمر بالرفق والبشر فلا يدخل تحته الإنسان الحسن الخلق الذي لو خولط لألف وألف وإنما يمنعه من المخالطة طلب السلامة من الناس . واحتجوا بقوله من شق عصا المسلمين فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقه وهذا ضعيف أيضا لأنه مختص بالبغاة والمارقين عن طاعة الإمام فلا يتناول أهل العزلة الذين هم أهل طاعة للأئمة إلا أنهم لا يخالطون الناس . واحتجوا بنهيه ص عن هجر الإنسان أخاه فوق ثلاث وهذا ضعيف لأن المراد منه النهي عن الغضب واللجاج وقطع الكلام والسلام لثوران الغيظ فهذا أمر خارج عن الباب الذي نحن فيه . واحتجوا
بأن رجلا أتى جبلا يعبد فيه فجاء أهله إلى رسول الله ص فنهاه وقال له إن صبر المسلم في بعض مواطن الجهاد يوما واحدا خير له من عبادة أربعين سنة . وهذا ضعيف لأنه إنما كان ذلك في ابتداء الإسلام والحث على جهاد المشركين . واحتجوا بما
روي عنه ص أنه قال الشيطان ذئب والناس كالغنم يأخذ القاصية والشاذة إياكم والشعاب وعليكم بالعامة والجماعة والمساجد وهذا ضعيف لأن المراد به من اعتزل الجماعة وخالفها .
[ 40 ](1/2788)
و احتج من رجح العزلة وآثرها على المخالطة بالآثار الكثيرة الواردة في ذلك نحو قول عمر خذوا بحظكم من العزلة . وقول ابن سيرين العزلة عبادة . وقول الفضيل كفى بالله محبوبا وبالقرآن مؤنسا وبالموت واعظا اتخذ الله صاحبا ودع الناس جانبا . وقال ابن الربيع الزاهد لداود الطائي عظني فقال صم عن الدنيا واجعل فطرك للآخرة وفر من الناس فرارك من الأسد . وقال الحسن كلمات أحفظهن من التوراة قنع ابن آدم فاستغنى واعتزل الناس فسلم ترك الشهوات فصار حرا ترك الحسد فظهرت مروءته صبر قليلا فتمتع طويلا . وقال وهب بن الورد بلغنا أن الحكمة عشرة أجزاء تسعة منها الصمت والعاشر في العزلة عن الناس . وقال يوسف بن مسلم لعلي بن بكار ما أصبرك على الوحدة وكان قد لزم البيت فقال كنت وأنا شاب أصبر على أشد من هذا كنت أجالس الناس ولا أكلمهم . وقال الثوري هذا وقت السكوت وملازمة البيوت . وقال بعضهم كنت في سفينة ومعنا شاب علوي فمكث معنا سبعا لا نسمع له كلاما فقلنا له قد جمعنا الله وإياك منذ سبع ولا نراك تخالطنا ولا تكلمنا فأنشد
قليل الهم لا ولد يموت
و ليس بخائف أمرا يفوت
قضى وطر الصبا وأفاد علما
فغايته التفرد والسكوت
[ 41 ]
و أكبر همه مما عليه
تناجز من ترى خلق وقوت(1/2789)
قال النخعي لصاحب له تفقه ثم اعتزل . وكان مالك بن أنس الفقيه يشهد الجنائز ويعود المرضى ويعطي الإخوان حقوقهم ثم ترك واحدا واحدا من ذلك إلى أن ترك الجميع وقال ليس يتهيأ للإنسان أن يخبر بكل عذر له . وقيل لعمر بن عبد العزيز لو تفرغت لنا فقال ذهب الفراغ فلا فراغ إلا عند الله تعالى . وقال الفضيل بن عياض إني لأجد للرجل عندي يدا إذا لقيني ألا يسلم علي وإذا مرضت ألا يعودني . وقال الداراني بينا ابن خثيم جالس على باب داره إذ جاء حجر فصك وجهه فسجد وجعل يمسح الدم ويقول لقد وعظت يا ربيع ثم قام فدخل الدار فما جلس بعد ذلك على بابه حتى مات . وكان سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد قد لزما بيوتهما بالعقيق فلم يكونا يأتيان المدينة لا لحاجة لهما ولا لغيرهما حتى ماتا بالعقيق . قال بشر أقلل من معرفة الناس فإنك لا تدري ما تكون يوم القيامة فإن تكن فضيحة كان من يعرفك أقل . وأحضر بعض الأمراء حاتما الأصم فكلمه ثم قال له أ لك حاجة قال نعم ألا تراني ولا أراك . وقيل للفضيل إن ابنك يقول لوددت أني في مكان أرى الناس ولا يرونني فبكى الفضيل وقال يا ويح علي أ لا أتمها فقال ولا أراهم .
[ 42 ]
و من كلام الفضيل أيضا من سخافة عقل الرجل كثرة معارفه . وقد جاء في الأحاديث المرفوعة ذكر العزلة وفضلها
نحو قوله ع لعبد الله بن عامر الجهني لما سأله عن طريق النجاة فقال له ليسعك بيتك أمسك عليك دينك وابك على خطيئتك
و قيل له ص أي الناس أفضل فقال رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره و
قال ع إن الله يحب التقي النقي الخفي(1/2790)
ذكر فوائد العزلة
و في العزلة فوائد منها الفراغ للعبادة والذكر والاستئناس بمناجاة الله عن مناجاة الخلق فيتفرغ لاستكشاف أسرار الله تعالى في أمر الدنيا والآخرة وملكوت السماوات والأرض لأن ذلك لا يمكن إلا بفراغ ولا فراغ مع المخالطة ولذلك كان رسول الله ص في ابتداء أمره يتبتل في جبل حراء ويعتزل فيه حتى أتته النبوة . وقيل لبعض الحكماء ما الذي أرادوا بالخلوة والعزلة فقال دوام الفكر وثبات العلوم في قلوبهم ليحيوا حياة طيبة ويموتوا موتا طيبا . وقيل لبعضهم ما أصبرك على الوحدة فقال لست وحدي أنا جليس ربي إذا شئت أن يناجيني قرأت كتابه وإذا شئت أن أناجيه صليت . وقال سفيان بن عيينة لقيت إبراهيم بن أدهم في بلاد الشام فقلت له يا إبراهيم
[ 43 ](1/2791)
تركت خراسان فقال ما تهنأت بالعيش إلا هاهنا أفر بديني من شاهق إلى شاهق فمن رآني قال موسوس أو حمال . وقيل للحسن يا أبا سعيد هاهنا رجل لم نره قط جالسا إلا وحده خلف سارية فقال الحسن إذا رأيتموه فأخبروني فنظروا إليه ذات يوم فقالوا للحسن وأشاروا إليه فمضى نحوه وقال له يا عبد الله لقد حببت إليك العزلة فما يمنعك من مجالسة الناس قال أمر شغلني عنهم قال فما يمنعك أن تأتي هذا الرجل الذي يقال له الحسن فتجلس إليه قال أمر شغلني عن الناس وعن الحسن قال وما ذلك الشغل يرحمك الله قال إني أمسي وأصبح بين نعمة وذنب فأشغل نفسي بشكر الله على نعمه والاستغفار من الذنب فقال الحسن أنت أفقه عندي يا عبد الله من الحسن فالزم ما أنت عليه . وجاء هرم بن حيان إلى أويس فقال له ما حاجتك قال جئت لآنس بك قال ما كنت أعرف أحدا يعرف ربه فيأنس بغيره . وقال الفضيل إذا رأيت الليل مقبلا فرحت به وقلت أخلو بربي وإذا رأيت الصبح أدركني استرجعت كراهية لقاء الناس وأن يجي ء إلي من يشغلني عن ربي . وقال مالك بن دينار من لم يأنس بمحادثة الله عن محادثة المخلوقين فقد قل علمه وعمي قلبه وضاع عمره . وقال بعض الصالحين بينا أنا أسير في بعض بلاد الشام إذا أنا بعابد خارج من بعض تلك الجبال فلما نظر إلي تنحى إلى أصل شجرة وتستر بها فقلت سبحان الله أ تبخل علي بالنظر إليك فقال يا هذا إني أقمت في هذا الجبل دهرا طويلا أعالج قلبي في الصبر عن الدنيا وأهلها فطال في ذلك تعبي وفني عمري ثم سألت الله تعالى
[ 44 ](1/2792)
ألا يجعل حظي من أيامي في مجاهدة قلبي فقط فسكنه الله عن الاضطراب وآلفه الوحدة والانفراد فلما نظرت إليك وتريدني خفت أن أقع في الأمر الأول فأعود إلى ألف المخلوقين فإليك عني فإني أعوذ من شرك برب العارفين وحبيب التائبين ثم صاح وا غماه من طول المكث في الدنيا ثم حول وجهه عني ثم نفض يده وقال إليك عني يا دنيا لغيري فتزيني وأهلك فغري ثم قال سبحان من أذاق العارفين من لذة الخدمة وحلاوة الانقطاع إليه ما ألهى قلوبهم عن ذكر الجنان والحور الحسان فإني في الخلوة آنس بذكر الله وأستلذ بالانقطاع إلى الله ثم أنشد
و إني لأستغشي وما بي نعسة
لعل خيالا منك يلقى خياليا
و أخرج من بين البيوت لعلني
أحدث عنك النفس في السر خاليا
و قال بعض العلماء إنما يستوحش الإنسان من نفسه لخلو ذاته عن الفضيلة فيتكثر حينئذ بملاقاة الناس ويطرد الوحشة عن نفسه بهم فإذا كانت ذاته فاضلة طلب الوحدة ليستعين بها على الفكرة ويستخرج العلم والحكمة وكان يقال الاستئناس بالناس من علامات الإفلاس . ومنها التخلص بالعزلة عن المعاصي التي يتعرض الإنسان لها غالبا بالمخالطة وهي الغيبة والرياء وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسرقة الطبع بعض الأخلاق الرديئة والأعمال الخبيثة من الغير . أما الغيبة فإن التحرز منها مع مخالطة الناس صعب شديد لا ينجو من ذلك إلا الصديقون فإن عادة أكثر الناس التمضمض بأعراض من يعرفونه والتنقل بلذة
[ 45 ](1/2793)
ذلك فهي أنسهم الذي يستريحون إليه في الجلوة والمفاوضة فإن خالطتهم ووافقت أثمت وإن سكت كنت شريكا فالمستمع أحد المغتابين وإن أنكرت تركوا ذلك المغتاب واغتابوك فازدادوا إثما على إثمهم . فأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن من خالط الناس لا يخلو عن مشاهدة المنكرات فإن سكت عصى الله وإن أنكر تعرض بأنواع من الضرر وفي العزلة خلاص عن ذلك وفي الأمر بالمعروف إثارة للخصام وتحريك لكوامن ما في الصدور وقال الشاعر
و كم سقت في آثاركم من نصيحة
و قد يستفيد الظنة المتنصح
و من تجرد للأمر بالمعروف ندم عليه في الأكثر كجدار مائل يريد الإنسان أن يقيمه وحده فيوشك أن يقع عليه فإذا سقط قال يا ليتني تركته مائلا نعم لو وجد الأعوان حتى يحكم ذلك الحائط ويدعمه استقام ولكنك لا تجد القوم أعوانا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فدع الناس وانج بنفسك . وأما الرياء فلا شبهة أن من خالط الناس داراهم ومن داراهم راءاهم ومن راءاهم كان منافقا وأنت تعلم أنك إذا خالطت متعاديين ولم تلق كل واحد منهما بوجه يوافقه صرت بغيضا إليهما جميعا وإن جاملتهما كنت من شرار الناس وصرت ذا وجهين وأقل ما يجب في مخالطة الناس إظهار الشوق والمبالغة فيه وليس يخلو ذلك عن كذب إما في الأصل وإما في الزيادة بإظهار الشفقة بالسؤال عن الأحوال فقولك كيف أنت وكيف أهلك وأنت في الباطن فارغ القلب عن همومه نفاق محض . قال السري السقطي لو دخل علي أخ فسويت لحيتي بيدي لدخوله خشيت أن أكتب في جريدة المنافقين .
[ 46 ](1/2794)
كان الفضيل جالسا وحده في المسجد فجاء إليه أخ له فقال ما جاء بك قال المؤانسة قال هي والله بالمواحشة أشبه هل تريد إلا أن تتزين لي وأتزين لك وتكذب لي وأكذب لك إما أن تقوم عني وإما أن أقوم عنك . وقال بعض العلماء ما أحب الله عبدا إلا أحب ألا يشعر به خلقه . ودخل طاوس على هشام بن عبد الملك فقال كيف أنت يا هشام فغضب وقال لم لم تخاطبني بإمرة المؤمنين قال لأن جميع الناس ما اتفقوا على خلافتك فخشيت أن أكون كاذبا . فمن أمكنه أن يحترز هذا الاحتراز فليخالط الناس وإلا فليرض بإثبات اسمه في جريدة المنافقين إن خالطهم ولا نجاة من ذلك إلا بالعزلة . وأما سرقة الطبع من الغير فالتجربة تشهد بذلك لأن من خالط الأشرار اكتسب من شرهم وكلما طالت صحبة الإنسان لأصحاب الكبائر هانت الكبائر عنده وفي المثل فإن القرين بالمقارن يقتدي . ومنها الخلاص من الفتن والحروب بين الملوك والأمراء على الدنيا .
روى أبو سعيد الخدري عن النبي ص أنه قال يوشك أن يكون خير مال المسلم غنيمات يتبع بها شعاف الجبال ومواضع القطر يفر بدينه من الفتن و
روى عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله ص ذكر الفتن فقال إذا رأيت الناس قد مرجت عهودهم وخفت أمانتهم وكانوا هكذا وشبك
[ 47 ]
بأصابعه فقلت ما تأمرني فقال الزم بيتك واملك عليك لسانك وخذ ما تعرف ودع ما تنكر وعليك بأمر الخاصة ودع عنك أمر العامة و
روى ابن مسعود عنه ص أنه قال سيأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من فر من قرية إلى قرية ومن شاهق إلى شاهق كالثعلب الرواغ قيل ومتى ذلك يا رسول الله قال إذا لم تنل المعيشة إلا بمعاصي الله سبحانه فإذا كان ذلك الزمان كان هلاك الرجل على يد أبويه فإن لم يكن له أبوان فعلى يد زوجته وولده وإن لم يكن فعلى يد قرابته قالوا كيف ذلك يا رسول الله قال يعيرونه بالفقر وضيق اليد فيكلفونه ما لا يطيقه حتى يورده ذلك موارد الهلكة و(1/2795)
روى ابن مسعود أيضا أنه ص ذكر الفتنة فقال الهرج فقلت وما الهرج يا رسول الله قال حين لا يأمن المرء جليسه قلت فبم تأمرني يا رسول الله إن أدركت ذلك الزمان قال كف نفسك ويدك وادخل دارك قلت أ رأيت إن دخل علي داري قال ادخل بيتك قلت إن دخل علي البيت قال ادخل مسجدك واصنع هكذا وقبض على الكوع وقل ربي الله حتى تموت . ومنها الخلاص من شر الناس فإنهم يؤذونك تارة بالغيبة وتارة بسوء الظن والتهمة وتارة بالاقتراحات والأطماع الكاذبة التي يعسر الوفاء بها وتارة بالنميمة والكذب مما يرونه منك من الأعمال والأقوال مما لا تبلغ عقولهم كنهه فيدخرون ذلك في نفوسهم عدة لوقت ينتهزون فيه فرصة الشر ومن يعتزلهم يستغن عن التحفظ لذلك . وقال بعض الحكماء لصاحبه أعلمك شعرا هو خير لك من عشرة آلاف درهم وهو
[ 48 ]
اخفض الصوت إن نطقت بليل
و التفت بالنار قبل المقال
ليس للقول رجعة حين يبدو
بقبيح يكون أو بجمال
و من خالط الناس لا ينفك من حاسد وطاعن ومن جرب ذلك عرف . و
من الكلام المأثور عن علي ع اخبر تقله قال الشاعر
من حمد الناس ولم يبلهم
ثم بلاهم ذم من يحمد
و صار بالوحدة مستأنسا
يوحشه الأقرب والأبعد(1/2796)
و قيل لسعد بن أبي وقاص أ لا تأتي المدينة قال ما بقي فيها إلا حاسد نعمة أو فرح بنقمة . وقال ابن السماك كتب إلينا صاحب لنا أما بعد فإن الناس كانوا دواء يتداوى به فصاروا داء لا دواء لهم ففر منهم فرارك من الأسد . وكان بعض الأعراب يلازم شجرة ويقول هذه نديمي وهو نديم فيه ثلاث خصال إن سمع لم ينم علي وإن تفلت في وجهه احتمل وإن عربدت عليه لم يغضب فسمع الرشيد هذا الخبر فقال قد زهدني سماعه في الندماء . وكان بعضهم يلازم الدفاتر والمقابر فقيل له في ذلك قال لم أر أسلم من الوحدة ولا أوعظ من قبر ولا أمتع من دفتر . وقال الحسن مرة إني أريد الحج فجاء إلي ثابت البناني وقال بلغني أنك تريد الحج فأحببت أن نصطحب فقال الحسن دعنا نتعاشر بستر الله إني أخاف أن نصطحب فيرى بعضنا من بعض ما نتماقت عليه . وقال بعض الصالحين كان الناس ورقا لا شوك فيه فالناس اليوم شوك لا ورق فيه . وقال سفيان بن عيينة قال لي سفيان الثوري في اليقظة في حياته وفي المنام بعد
[ 49 ](1/2797)
وفاته أقلل معرفة الناس فإن التخلص منهم شديد ولا أحسبني رأيت ما أكره إلا ممن عرفت . وقال بعضهم جئت إلى مالك بن دينار وهو قاعد وحده وعنده كلب رابض قريبا منه فذهبت أطرده فقال دعه فإنه لا يضر ولا يؤذي وهو خير من الجليس السوء . وقال أبو الدرداء اتقوا الله واحذروا الناس فإنهم ما ركبوا ظهر بعير إلا أدبروه ولا ظهر جواد إلا عقروه ولا قلب مؤمن إلا أخربوه . وقال بعضهم أقلل المعارف فإنه أسلم لدينك وقلبك وأخف لظهرك وأدعى إلى سقوط الحقوق عنك لأنه كلما كثرت المعارف كثرت الحقوق وعسر القيام بالجميع . وقال بعضهم إذا أردت النجاة فأنكر من تعرف ولا تتعرف إلى من لا تعرف . ومنها أن في العزلة بقاء الستر على المروءة والخلق والفقر وسائر العورات وقد مدح الله تعالى المستترين فقال يَحْسَبُهُمُ اَلْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ اَلتَّعَفُّفِ . وقال الشاعر
و لا عار أن زالت عن الحر نعمة
و لكن عارا أن يزول التجمل
و ليس يخلو الإنسان في دينه ودنياه وأفعاله عن عورات يتقين ويجب سترها ولا تبقى السلامة مع انكشافها ولا سبيل إلى ذلك إلا بترك المخالطة . ومنها أن ينقطع طمع الناس عنك وينقطع طمعك عن الناس أما انقطاع طمع الناس عنك ففيه نفع عظيم فإن رضا الخلق غاية لا تدرك لأن أهون حقوق الناس
[ 50 ](1/2798)
و أيسرها حضور الجنازة وعيادة المريض وحضور الولائم والإملاكات وفي ذلك تضييع الأوقات والتعرض للآفات ثم يعوق عن بعضها العوائق وتستثقل فيها المعاذير ولا يمكن إظهار كل الأعذار فيقول لك قائل إنك قمت بحق فلان وقصرت في حقي ويصير ذلك سبب عداوة فقد قيل إن من لم يعد مريضا في وقت العيادة يشتهي موته خيفة من تخجيله إياه إذا برأ من تقصيره فأما من يعم الناس كلهم بالحرمان فإنهم يرضون كلهم عنه ومتى خصص وقع الاستيحاش والعتاب وتعميمهم بالقيام بجميع الحقوق مما لا قدرة عليه للمتجرد ليله ونهاره فكيف من له مهم يشغله ديني أو دنيوي . ومن كلام بعضهم كثرة الأصدقاء زيادة الغرماء . وقال الشاعر
عدوك من صديقك مستفاد
فلا تستكثرن من الصحاب
فإن الداء أكثر ما تراه
يكون من الطعام أو الشراب
و أما انقطاع طمعك عنهم ففيه أيضا فائدة جزيلة فإن من نظر إلى زهرة الدنيا وزخرفها تحرك حرصه وانبعث بقوة الحرص طمعه وأكثر الأطماع يتعقبها الخيبة فيتأذى الإنسان بذلك وإذا اعتزل لم يشاهد وإذا لم يشاهد لم يشته ولم يطمع ولذلك قال الله تعالى لنبيه ص وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و
قال ع انظروا إلى من دونكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم .
[ 51 ](1/2799)
و قال عون بن عبد الله كنت أجالس الأغنياء فلا أزال مغموما أرى ثوبا أحسن من ثوبي ودابة أفره من دابتي فجالست الفقراء فاسترحت . وخرج المزني صاحب الشافعي من باب جامع الفسطاط بمصر وكان فقيرا مقلا فصادف ابن عبد الحكم قد أقبل في موكبه فبهره ما رأى من حاله وحسن هيأته فتلا قوله تعالى وَ جَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَ تَصْبِرُونَ ثم قال نعم أصبر وأرضى . فالمعتزل عن الناس في بيته لا يبتلى بمثل هذه الفتن فإن من شاهد زينة الدنيا إما أن يقوى دينه ويقينه فيصبر فيحتاج إلى أن يتجرع مرارة الصبر وهو أمر من الصبر أو تنبعث رغبته فيحتال في طلب الدنيا فيهلك دنيا وآخرة أما في الدنيا فبالطمع الذي في أكثر الأوقات يتضمن الذل المعجل وأما في الآخرة فلإيثاره متاع الدنيا على ذكر الله والتقرب إليه ولذلك قال الشاعر
إذا كان باب الذل من جانب الغنى
سموت إلى العلياء من جانب الفقر
أشار إلى أن الطمع يوجب في الحال ذلا . ومنها الخلاص من مشاهدة الثقلاء والحمقى ومعاناة أخلاقهم فإن رؤية الثقيل هي العمى الأصغر قيل للأعمش بم عمشت عيناك قال بالنظر إلى الثقلاء . ودخل على أبي حنيفة رحمه الله فقال له روينا في الخبر أن من سلب كريمتيه عوضه الله ما هو خير منهما فما الذي عوضك قال كفاني رؤية ثقيل مثلك يمازحه . وقال الشافعي رحمه الله ما جالست ثقيلا إلا وجدت الجانب الذي يليه من بدني كأنه أثقل علي من الجانب الآخر . وهذه المقاصد وإن كان بعضها دنيويا إلا أنها تضرب في الدين بنصيب وذلك لأن
[ 52 ](1/2800)
من تأذى برؤية ثقيل لم يلبث أن يغتابه ويثلبه وذلك فساد في الدين وفي العزلة السلامة عن جميع ذلك . واعلم أن كلام أمير المؤمنين ع تختلف مناهجه فقد رجح العزلة في هذا الفصل على المخالطة ونهى عن العزلة في موضع آخر سيأتي ذكره في الفصل الذي أوله أنه دخل على العلاء بن زياد الحارثي عائدا ويجب أن يحمل ذلك على أن من الناس من العزلة خير له من المخالطة ومنهم من هو بالضد من ذلك وقد قال الشافعي قريبا من ذلك قال ليونس بن عبد الأعلى صاحبه يا يونس الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة والانبساط إليهم مجلبة لقرناء السوء فكن بين المنقبض والمنبسط . فإذا أردت العزلة فينبغي للمعتزل أن ينوي بعزلته كف شره عن الناس أولا ثم طلب السلامة من شر الأشرار ثانيا ثم الخلاص من آفة القصور عن القيام بحقوق المسلمين ثالثا ثم التجرد بكنه الهمة بعبادة الله تعالى رابعا فهذه آداب نيته ثم ليكن في خلوته مواظبا على العلم والعمل والذكر والفكر ليجتني ثمرة العزلة ويجب أن يمنع الناس عن أن يكثروا غشيانه وزيارته فيتشوش وقته وأن يكف نفسه عن السؤال عن أخبارهم وأحوالهم وعن الإصغاء إلى أراجيف الناس وما الناس مشغولون به فإن كل ذلك ينغرس في القلب حتى ينبعث على الخاطر والبال وقت الصلاة ووقت الحاجة إلى إحضار القلب فإن وقوع الأخبار في السمع كوقوع البذر في الأرض لا بد أن ينبت وتتفرع عروقه وأغصانه وإحدى مهمات المعتزل قطع الوساوس الصارفة عن ذكر الله ولا ريب أن الأخبار ينابيع الوساوس وأصولها . ويجب أن يقنع باليسير من المعيشة وإلا اضطره التوسع إلى الناس واحتاج إلى مخالطتهم .
[ 53 ](1/2801)
و ليكن صبورا على ما يلقاه من أذى الجيران إذ يسد سمعه عن الإصغاء إلى ما يقول فيه من أثنى عليه بالعزلة وقدح فيه بترك المخالطة فإن ذلك لا بد أن يؤثر في القلب ولو مدة يسيرة وحال اشتغال القلب به لا بد أن يكون واقفا عن سيره في طريق الآخرة فإن السير فيها إما يكون بالمواظبة على ورد أو ذكر مع حضور قلب وإما بالفكر في جلال الله وصفاته وأفعاله وملكوت سماواته وإما بالتأمل في دقائق الأعمال ومفسدات القلب وطلب طرق التخلص منها وكل ذلك يستدعي الفراغ ولا ريب أن الإصغاء إلى ما ذكرناه يشوش القلب . ويجب أن يكون للمعتزل أهل صالح أو جليس صالح لتستريح نفسه إليه ساعة عن كد المواظبة ففي ذلك عون له على بقية الساعات وليس يتم للإنسان الصبر على العزلة إلا بقطع الطمع عن الدنيا وما الناس منهمكون فيه ولا ينقطع طمعه إلا بقصر الأمل وألا يقدر لنفسه عمرا طويلا بل يصبح على أنه لا يمسي ويمسي على أنه لا يصبح فيسهل عليه صبر يوم ولا يسهل عليه العزم على صبر عشرين سنة لو قدر تراخي أجله وليكن كثير الذكر للموت ووحدة القبر مهما ضاق قلبه من الوحدة وليتحقق أن من لم يحصل في قلبه من ذكر الله ومعرفته ما يأنس به فإنه لا يطيق وحشة الوحدة بعد الموت وأن من أنس بذكر الله ومعرفته فإن الموت لا يزيل أنسه لأن الموت ليس يهدم محل الأنس والمعرفة بل يبقى حيا بمعرفته وأنسه فرحا بفضل الله عليه قال سبحانه وَ لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اَللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ . وكل من يجرد نفسه في ذات الله فهو شهيد مهما أدركه الموت فالمجاهد من
[ 54 ]
جاهد نفسه وهواه كما صرح به ع و(1/2802)
قال لأصحابه رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر فالجهاد الأصغر محاربة المشركين والجهاد الأكبر جهاد النفس . وهذا الفصل في العزلة نقلناه على طوله من كلام أبي حامد الغزالي في إحياء علوم الدين وهذبنا منه ما اقتضت الحال تهذيبه
[ 55 ](1/2803)
178 ـ ومن كلام له ع في معنى الحكمين
فَأَجْمَعَ رَأْيُ مَلَئِكُمْ عَلَى أَنِ اِخْتَارُوا رَجُلَيْنِ فَأَخَذْنَا عَلَيْهِمَا أَنْ يُجَعْجِعَا عِنْدَ اَلْقُرْآنِ وَ لاَ يُجَاوِزَاهُ وَ تَكُونُ أَلْسِنَتُهُمَا مَعَهُ وَ قُلُوبُهُمَا تَبَعَهُ فَتَاهَا عَنْهُ وَ تَرَكَا اَلْحَقَّ وَ هُمَا يُبْصِرَانِهِ وَ كَانَ اَلْجَوْرُ هَوَاهُمَا وَ اَلاِعْوِجَاجُ دَأْبَهُمَا رَأْيَهُمَا وَ قَدْ سَبَقَ اِسْتِثْنَاؤُنَا عَلَيْهِمَا فِي اَلْحُكْمِ بِالْعَدْلِ وَ اَلْعَمَلِ بِالْحَقِّ سُوءَ رَأْيِهِمَا وَ جَوْرَ حُكْمِهِمَا وَ اَلثِّقَةُ فِي أَيْدِينَا لِأَنْفُسِنَا حِينَ خَالَفَا سَبِيلَ اَلْحَقِّ وَ أَتَيَا بِمَا لاَ يُعْرَفُ مِنْ مَعْكُوسِ اَلْحُكْمِ الملأ الجماعة ويجعجعا يحبسا نفوسهما وآراءهما عند القرآن جعجعت أي حبست أخذت عليهما العهد والميثاق أن يعملا بما في القرآن ولا يتجاوزاه . فتاها عنه أي عدلا وتركا الحق على علم منهما به . والدأب العادة وسوء رأيهما منصوب لأنه مفعول سبق والفاعل استثناؤنا . ثم قال والثقة في أيدينا أي نحن على برهان وثقة من أمرنا وليس بضائر لنا ما فعلاه لأنهما خالفا الحق وعدلا عن الشرط وعكسا الحكم .
[ 56 ]
و روى الثوري عن أبي عبيدة قال أمر بلال بن أبي بردة وكان قاضيا بتفريق بين رجل وامرأته فقال الرجل يا آل أبي موسى إنما خلقكم الله للتفريق بين المسلمين(1/2804)
كتاب معاوية إلى عمرو بن العاص وهو على مصر
كتب معاوية إلى عمرو بن العاص وهو على مصر قد قبضها بالشرط الذي اشترط على معاوية أما بعد فإن سؤال أهل الحجاز وزوار أهل العراق كثروا علي وليس عندي فضل عن أعطيات الحجاز فأعني بخراج مصر هذه السنة فكتب عمرو إليه
معاوي إن تدركك نفس شحيحة
فما مصر إلا كالهباءة في الترب
و ما نلتها عفوا ولكن شرطتها
و قد دارت الحرب العوان على قطب
و لو لا دفاعي الأشعري ورهطه
لألفيتها ترغو كراغية السقب
ثم كتب في ظاهر الكتاب ورأيت أنا هذه الأبيات بخط أبي زكريا يحيى بن علي الخطيب التبريزي رحمه الله
معاوي حظي لا تغفل
و عن سنن الحق لا تعدل
أ تنسى مخادعتي الأشعري
و ما كان في دومة الجندل
ألين فيطمع في غرتي
و سهمي قد خاض في المقتل
فألمظه عسلا باردا
و أخبأ من تحته حنظلي
و أعليته المنبر المشمخر
كرجع الحسام إلى المفصل
[ 57 ]
فأضحي لصاحبه خالعا
كخلع النعال من الأرجل
و أثبتها فيك موروثة
ثبوت الخواتم في الأنمل
وهبت لغيري وزن الجبال
و أعطيتني زنة الخردل
و إن عليا غدا خصمنا
سيحتج بالله والمرسل
و ما دم عثمان منج لنا
فليس عن الحق من مزحل
فلما بلغ الجواب إلى معاوية لم يعاوده في شي ء من أمر مصر بعدها . بعث عبد الملك روح بن زنباع وبلال بن أبي بردة بن أبي موسى إلى زفر بن الحارث الكلابي بكلام وحذرهما من كيده وخص بالتحذير روحا فقال يا أمير المؤمنين إن أباه كان المخدوع يوم دومة الجندل لا أبي فعلام تخوفني الخداع والكيد فغضب بلال وضحك عبد الملك
[ 58 ](1/2805)
179 ـ ومن خطبة له ع
لاَ يَشْغَلُهُ شَأْنٌ وَ لاَ يُغَيِّرُهُ زَمَانٌ وَ لاَ يَحْوِيهِ مَكَانٌ وَ لاَ يَصِفُهُ لِسَانٌ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ عَدَدُ قَطْرِ اَلْمَاءِ وَ لاَ نُجُومِ اَلسَّمَاءِ وَ لاَ سَوَافِي اَلرِّيحِ فِي اَلْهَوَاءِ وَ لاَ دَبِيبُ اَلنَّمْلِ عَلَى اَلصَّفَا وَ لاَ مَقِيلُ اَلذَّرِّ فِي اَللَّيْلَةِ اَلظَّلْمَاءِ يَعْلَمُ مَسَاقِطَ اَلْأَوْرَاقِ وَ خَفِيِّ طَرْفِ اَلْأَحْدَاقِ وَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ غَيْرَ مَعْدُولٍ بِهِ وَ لاَ مَشْكُوكٍ فِيهِ وَ لاَ مَكْفُورٍ دِينُهُ وَ لاَ مَجْحُودٍ تَكْوِينُهُ شَهَادَةَ مَنْ صَدَقَتْ نِيَّتُهُ وَ صَفَتْ دِخْلَتُهُ وَ خَلَصَ يَقِينُهُ وَ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ اَلَمْجُتْبَىَ مِنْ خَلاَئِقِهِ وَ اَلْمُعْتَامُ لِشَرْحِ حَقَائِقِهِ وَ اَلْمُخْتَصُّ بِعَقَائِلِ كَرَامَاتِهِ وَ اَلْمُصْطَفَى لِكَرَائِمِ رِسَالاَتِهِ وَ اَلْمُوَضَّحَةُ بِهِ أَشْرَاطُ اَلْهُدَى وَ اَلْمَجْلُوُّ بِهِ غِرْبِيبُ اَلْعَمَى لا يشغله أمر لأن الحي الذي تشغله الأشياء هو الحي العالم بالبعض دون البعض والقادر على البعض دون البعض فأما من لا يغيب عنه شي ء أصلا ولا يعجز عن شي ء أصلا ولا يمنعه من إيجاد مقدوره إذا أراد مانع أصلا فكيف يشغله شأن . وكذلك لا يغيره زمان لأنه واجب الوجود ولا يحويه مكان لأنه ليس بجسم
[ 59 ](1/2806)
و لا يصفه لسان لأن كنه ذاته غير معلوم وإنما المعلوم منه إضافات أو سلوب . ولا يعزب عنه أمر من الأمور أي لا يفوته علم شي ء أصلا . والسوافي التي تسفي التراب أي تذروه . والصفا مقصور الصخر الأملس ولا وقف عليها هاهنا لأن المقصور لا يكون في مقابلة الممدود وإنما الفقرة المقابلة للهواء هي الظلماء ويكون الصفا في أدراج الكلام أسوة بكلمة من الكلمات والذر صغار النمل . ويعلم مساقط الأوراق من قوله تعالى وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها . وطرف الأحداق مصدر طرف البصر يطرف طرفا إذا انطبق أحد الجفنين على الآخر ولكونه مصدرا وقع على الجماعة كما وقع على الواحد فقال ع طرف الأحداق كما قال سبحانه لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ . وغير معدول به غير مسوى بينه وبين أحد . والدخلة بكسر الدال باطن الأمر ويجوز الدخلة بالضم . والمعتام المختار والعيمة بالكسر خيار المال اعتام الرجل إذا أخذ العيمة . فإن قلت لفظة معتام ومختار تصلح للفاعل والمفعول فما ذا يفصل بينهما . قلت بما يقترن باللفظ من الكلام قبله وبعده . فإن قلت فهل يختلفان في التقدير في صناعة النحو وإن اتفقا في اللفظ . قلت نعم فإن عين الكلمة ياء مفتوح ما قبلها فإن أردت الفاعل فهي مكسورة وتقديره مختير مثل مخترع وإن كان مفعولا فهي مفتوحة
[ 60 ](1/2807)
و تقديره مختير مثل مخترع وعلى كلا التقديرين لا بد من انقلاب الياء ألفا واللفظ واحد ولكن يقدر على الألف كسرة للفاعل وفتحة للمفعول وكذلك القول في معتام ومضطر ونحوهما . وحكي أن بعض المتكلمين من المجبرة قال أسمي العبد مضطرا إلى الفعل إذا فعله ولا أسمي الله تعالى مضطرا إليه . قيل فكيف تقول قال مضطر بكسر الطاء فضحك أهل المجلس منه . والعقائل جمع عقيلة وهي كريمة كل شي ء من الناس والإبل وغير ذلك ويقال للذرة عقيلة البحر . وأشراط الهدى علاماته ومنه أشراط الساعة قال تعالى فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها . والغربيب الأسود الشديد السواد ويجلى به غربيب العمى تكشف به ظلم الضلال وتستنير بهدايته وقوله تعالى وَ غَرابِيبُ سُودٌ ليس على أن الصفة قد تقدمت على الموصوف بل يجعل السود بدلا من الغرابيب . فإن قلت الهاء في حقائقه إلى ما ذا ترجع . قلت إلى البارئ سبحانه وحقائقه حقائق توحيده وعدله فالمضاف محذوف ومعنى حقائق توحيده الأمور المحققة اليقينية التي لا تعتريها الشكوك ولا تتخالجها الشبه وهي أدلة أصحابنا المعتزلة التي استنبطوها بعقولهم بعد أن دلهم إليها ونبههم على طرق استنباطها رسول الله ص بواسطة أمير المؤمنين ع لأنه إمام المتكلمين الذي لم يعرف علم الكلام من أحد قبله
[ 61 ](1/2808)
أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّ اَلدُّنْيَا تَغُرُّ اَلْمُؤَمِّلَ لَهَا وَ اَلْمُخْلِدَ إِلَيْهَا وَ لاَ تَنْفَسُ بِمَنْ نَافَسَ فِيهَا وَ تَغْلِبُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهَا وَ اَيْمُ اَللَّهِ مَا كَانَ قَوْمٌ قَطُّ فِي غَضِّ نِعْمَةٍ مِنْ عَيْشٍ فَزَالَ عَنْهُمْ إِلاَّ بِذُنُوبٍ اِجْتَرَحُوهَا لِأَنَّ اَللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ وَ لَوْ أَنَّ اَلنَّاسَ حِينَ تَنْزِلُ بِهِمُ اَلنِّقَمُ وَ تَزُولَ عَنْهُمُ اَلنِّعَمُ فَزِعُوا إِلَى رَبِّهِمْ بِصِدْقٍ مِنْ نِيَّاتِهِمْ وَ وَلَهٍ مِنْ قُلُوبِهِمْ لَرَدَّ عَلَيْهِمْ كُلَّ شَارِدٍ وَ أَصْلَحَ لَهُمْ كُلَّ فَاسِدٍ وَ إِنِّي لَأَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تَكُونُوا فِي فَتْرَةٍ وَ قَدْ كَانَتْ أُمُورٌ مَضَتْ مِلْتُمْ فِيهَا مَيْلَةً كُنْتُمْ فِيهَا عِنْدِي غَيْرَ مَحْمُودِينَ وَ لَئِنْ رُدَّ عَلَيْكُمْ أَمْرُكُمْ إِنَّكُمْ لَسُعَدَاءُ وَ مَا عَلَيَّ إِلاَّ اَلْجُهْدُ وَ لَوْ أَشَاءُ أَنْ أَقُولَ لَقُلْتُ عَفَا اَللَّهُ عَمَّا سَلَفَ المخلد المائل إليها قال تعالى وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى اَلْأَرْضِ . ولا تنفس بمن نافس فيها لا تضن به أي من نافس في الدنيا فإن الدنيا تهينه ولا تضن به كما يضن بالعلق النفيس . ثم قال وتغلب من غلب عليها أي من غلب على الدنيا مقاهرة فسوف تغلبه الدنيا وتهلكه . ثم أقسم أنه ما كان قوم في غض نعمة أي في نعمة غضة أي طرية ناضرة فزالت عنهم
[ 62 ](1/2809)
إلا بذنوب اجترحوها أي اكتسبوها وهذا يكاد يشعر بمذهب أهل التناسخ ومن قال إن الألم لا يحسن أن يفعله الحكيم سبحانه وتعالى بالحيوانات إلا مستحقا فأما مذهب أصحابنا فلا يتخرج هذا الكلام عليه لأنه يجوز عندهم أن تزول النعم عن الناس لضرب من اللطف مضاف إلى عوض يعوضهم الله تعالى به في الآخرة فيجب أن يحمل هذا الكلام لا على عمومه بل على الأكثر والأغلب . ثم قال ع لو أن الناس عند حلول النقم بهم وزوال النعم عنهم يلتجئون إلى الله تعالى تائبين من ذنوبهم لرفع عنهم النقمة وأعاد إليهم النعمة . والوله كالتحير يحدث عند الخوف أو الوجد والشارد الذاهب . قوله وإني لأخشى عليكم أن تكونوا في فترة أي في أمر جاهلية لغلبة الضلال والجهل على الأكثرين منهم . وهذه خطبة خطب بها ع بعد قتل عثمان في أول خلافته ع وقد تقدم ذكر بعضها والأمور التي مالوا فيها عليه اختيارهم عثمان وعدولهم عنه يوم الشورى . وقال لئن رد عليكم أمركم أي أحوالكم التي كانت أيام رسول الله ص من صلاح القلوب والنيات إنكم سعداء . والجهد بالضم الطاقة . ثم قال لو أشاء أن أقول لقلت أي لو شئت لذكرت سبب التحامل علي وتأخري عن غيري ولكني لا أشاء ذلك ولا أستصلح ذكره .
[ 63 ]
ثم قال عفا الله عما سلف لفظ مأخوذ من الكتاب العزيز عَفَا اَللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اَللَّهُ مِنْهُ وَ اَللَّهُ عَزِيزٌ ذُو اِنْتِقامٍ . وهذا الكلام يدل على مذهب أصحابنا في أن ما جرى من عبد الرحمن وغيره في يوم الشورى وإن كان لم يقع على الوجه الأفضل فإنه معفو عنه مغفور لفاعله لأنه لو كان فسقا غير مغفور لم يقل أمير المؤمنين ع عفا الله عما سلف
[ 64 ](1/2810)
180 ـ ومن كلام له ع
وَ قَدْ سَأَلَهُ ذِعْلِبُ اَلْيَمَانِيُّ فَقَالَ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ ع أَ فَأَعْبُدُ مَا لاَ أَرَى فَقَالَ وَ كَيْفَ تَرَاهُ قَالَ لاَ تُدْرِكُهُ اَلْعُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ اَلْعِيَانِ وَ لَكِنْ تُدْرِكُهُ اَلْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ اَلْإِيمَانِ قَرِيبٌ مِنَ اَلْأَشْيَاءِ غَيْرَ مُلاَمِسٍ مُلاَبِسٍ بَعِيدٌ مِنْهَا غَيْرَ مُبَايِنٍ مُتَكَلِّمٌ بِلاَ رَوِيَّةٍ لاَ بِرَوِيَّةٍ مَرِيدٌ لاَ بِهِمَّةٍ صَانِعٌ لاَ بِجَارِحَةٍ لَطِيفٌ لاَ يُوصَفُ بِالْخَفَاءِ كَبِيرٌ لاَ يُوصَفُ بِالْجَفَاءِ بَصِيرٌ لاَ يُوصَفُ بِالْحَاسَّةِ رَحِيمٌ لاَ يُوصَفُ بِالرِّقَّةِ تَعْنُو اَلْوُجُوهُ لِعَظَمَتِهِ وَ تَجِبُ اَلْقُلُوبُ مِنْ مَخَافَتِهِ الذعلب في الأصل الناقة السريعة وكذلك الذعلبة ثم نقل فسمي به إنسان وصار علما كما نقلوا بكرا عن فتى الإبل إلى بكر بن وائل . واليماني مخفف الياء ولا يجوز تشديدها جعلوا الألف عوضا عن الياء الثانية وكذلك فعلوا في الشامي والأصل يمني وشامي . وقوله ع أ فأعبد ما لا أرى مقام رفيع جدا لا يصلح أن يقوله غيره ع .
[ 65 ](1/2811)
ثم ذكر ماهية هذه الرؤية قال إنها رؤية البصيرة لا رؤية البصر . ثم شرح ذلك فقال إنه تعالى قريب من الأشياء غير ملامس لها لأنه ليس بجسم وإنما قربه منها علمه بها كما قال تعالى ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ . قوله بعيد منها غير مباين لأنه أيضا ليس بجسم فلا يطلق عليه البينونة وبعده منها هو عبارة عن انتفاء اجتماعه معها وذلك كما يصدق على البعيد بالوضع يصدق أفضل الصدق على البعيد بالذات الذي لا يصح الوضع والأين أصلا عليه . قوله متكلم بلا روية الروية الفكرة يرتئي الإنسان بها ليصدر عنه ألفاظ سديدة دالة على مقصده والبارئ تعالى متكلم لا بهذا الاعتبار بل لأنه إذا أراد تعريف خلقه من جهة الحروف والأصوات وكان في ذلك مصلحة ولطف لهم خلق الأصوات والحروف في جسم جمادي فيسمعها من يسمعها ويكون ذلك كلامه لأن المتكلم في اللغة العربية فاعل الكلام لا من حله الكلام وقد شرحنا هذا في كتبنا الكلامية . قوله مريد بلا همة أي بلا عزم فالعزم عبارة عن إرادة متقدمة للفعل تفعل توطينا للنفس على الفعل وتمهيدا للإرادة المقارنة له وإنما يصح ذلك على الجسم الذي يتردد فيها تدعوه إليه الدواعي فأما العالم لذاته فلا يصح ذلك فيه . قوله صانع لا بجارحة أي لا بعضو لأنه ليس بجسم . قوله لطيف لا يوصف بالخفاء لأن العرب إذا قالوا لشي ء إنه لطيف أرادوا أنه صغير الحجم والبارئ تعالى لطيف لا بهذا الاعتبار بل يطلق باعتبارين
[ 66 ](1/2812)
أحدهما أنه لا يرى لعدم صحة رؤية ذاته فلما شابه اللطيف من الأجسام في استحالة رؤيته أطلق عليه لفظ اللطيف إطلاقا للفظ السبب على المسبب . وثانيهما أنه لطيف بعباده كما قال في الكتاب العزيز أي يفعل الألطاف المقربة لهم من الطاعة المبعدة لهم من القبيح أو لطيف بهم بمعنى أنه يرحمهم ويرفق بهم . قوله كبير لا يوصف بالجفاء لما كان لفظ كبير إذا استعمل في الجسم أفاد تباعد أقطاره ثم لما وصف البارئ بأنه كبير أراد أن ينزهه عما يدل لفظ كبير عليه إذا استعمل في الأجسام والمراد من وصفه تعالى بأنه كبير عظمة شأنه وجلالة سلطانه . قوله بصير لا يوصف بالحاسة لأنه تعالى يدرك إما لأنه حي لذاته أو أن يكون إدراكه هو علمه ولا جارحة له ولا حاسة على كل واحد من القولين . قوله رحيم لا يوصف بالرقة لأن لفظة الرحمة في صفاته تعالى تطلق مجازا على إنعامه على عباده لأن الملك إذا رق على رعيته وعطف أصابهم بإنعامه ومعروفه . قوله تعنو الوجوه أي تخضع قال تعالى وَ عَنَتِ اَلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ اَلْقَيُّومِ . قوله وتجب القلوب أي تخفق وأصله من وجب الحائط سقط ويروى توجل القلوب أي تخاف وجل خاف . وروي صانع لا بحاسة وروي لا تراه العيون بمشاهدة العيان عوضا عن لا تدركه
[ 67 ](1/2813)
181 ـ ومن كلام له ع في ذم أصحابه
أَحْمَدُ اَللَّهَ عَلَى مَا قَضَى مِنْ أَمْرٍ وَ قَدَّرَ مِنْ فِعْلٍ وَ عَلَى اِبْتِلاَئِي بِكُمْ أَيَّتُهَا اَلْفِرْقَةُ اَلَّتِي إِذَا أَمَرْتُ لَمْ تُطِعْ وَ إِذَا دَعَوْتُ لَمْ تُجِبْ إِنْ أُهْمِلْتُمْ أُمْهِلْتُمْ خُضْتُمْ وَ إِنْ حُورِبْتُمْ خُرْتُمْ وَ إِنِ اِجْتَمَعَ اَلنَّاسُ عَلَى إِمَامٍ طَعَنْتُمْ وَ إِنْ أُجِئْتُمْ إِلَى مُشَاقَّةٍ نَكَصْتُمْ . لاَ أَبَا لِغَيْرِكُمْ مَا تَنْتَظِرُونَ بِنَصْرِكُمْ وَ اَلْجِهَادِ عَلَى حَقِّكُمْ اَلْمَوْتَ أَوِ اَلذُّلَّ لَكُمْ فَوَاللَّهِ لَئِنْ جَاءَ يَومِي وَ لَيَأْتِيَنِّي لَيُفَرِّقَنَّ بَيْنِي وَ بَيْنِكُمْ وَ أَنَا لِصُحْبَتِكُمْ قَالٍ وَ بِكُمْ غَيْرُ كَثِيرٍ لِلَّهِ أَنْتُمْ أَ مَا دِينٌ يَجْمَعُكُمْ وَ لاَ حَمِيَّةٌ تَشْحَذُكُمْ أَ وَ لَيْسَ عَجَباً أَنَّ مُعَاوِيَةَ يَدْعُو اَلْجُفَاةَ اَلطَّغَامَ فَيَتَّبِعُونَهُ عَلَى غَيْرِ مَعُونَةٍ وَ لاَ عَطَاءٍ وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ وَ أَنْتُمْ تَرِيكَةُ اَلْإِسْلاَمِ وَ بَقِيَّةُ اَلنَّاسِ إِلَى اَلْمَعُونَةِ أَوْ طَائِفَةٍ مِنَ اَلْعَطَاءِ فَتَتَفَرَّقُونَ فَتَفَرَّقُونَ عَنِّي وَ تَخْتَلِفُونَ عَلَيَّ إِنَّهُ لاَ يَخْرُجُ إِلَيْكُمْ مِنْ أَمْرِي رِضًا رِضًى فَتَرْضَوْنَهُ وَ لاَ سُخْطٌ فَتَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ وَ إِنَّ أَحَبَّ مَا أَنَا لاَقٍ إِلَيَّ اَلْمَوْتُ قَدْ دَارَسْتُكُمُ اَلْكِتَابَ وَ فَاتَحْتُكُمُ اَلْحِجَاجَ وَ عَرَّفْتُكُمْ مَا أَنْكَرْتُمْ وَ سَوَّغْتُكُمْ مَا مَجَجْتُمْ لَوْ كَانَ اَلْأَعْمَى يَلْحَظُ أَوِ اَلنَّائِمُ يَسْتَيْقِظُ
[ 68 ](1/2814)
وَ أَقْرِبْ بِقَوْمٍ مِنَ اَلْجَهْلِ بِاللَّهِ قَائِدُهُمْ مُعَاوِيَةُ وَ مُؤَدِّبُهُمُ اِبْنُ اَلنَّابِغَةِ قضى وقدر في هذا الموضع واحد . ويروى على ما ابتلاني . وأهملتم خليتم وتركتم ويروى أمهلتم أي أخرتم . وخرتم ضعفتم والخور الضعف رجل خوار ورمح خوار وأرض خوارة والجمع خور ويجوز أن يكون خرتم أي صحتم كما يخور الثور ومنه قوله تعالى عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ ويروى جرتم أي عدلتم عن الحرب فرارا . وأجئتم ألجئتم قال تعالى فَأَجاءَهَا اَلْمَخاضُ إِلى جِذْعِ اَلنَّخْلَةِ . والمشاقة المقاطعة والمصارمة . ونكصتم أحجمتم قال تعالى فَلَمَّا تَراءَتِ اَلْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ أي رجع محجما أي دعيتم إلى كشف القناع مع العدو وجبنتم وهبتموه . قوله لا أبا لغيركم الأفصح لا أب بحذف الألف كما قال الشاعر
أبي الإسلام لا أب لي سواه
إذا افتخروا بقيس أو تميم
و أما قولهم لا أبا لك بإثباته فدون الأول في الفصاحة كأنهم قصدوا الإضافة وأقحموا اللام مزيدة مؤكدة كما قالوا يا تيم تيم عدي وهو غريب لأن حكم
[ 69 ]
لا أن تعمل في النكرة فقط وحكم الألف أن تثبت مع الإضافة والإضافة تعرف فاجتمع فيها حكمان متنافيان فصار من الشواذ كالملامح والمذاكير ولدن غدوة . وقال الشيخ أبو البقاء رحمه الله يجوز فيها وجهان آخران . أحدهما أنه أشبع فتحة الباء فنشأت الألف والاسم باق على تنكيره والثاني أن يكون استعمل أبا على لغة من قالها أبا في جميع أحوالها مثل عصا ومنه
إن أباها وأبا أباها(1/2815)
قوله الموت أو الذل لكم دعاء عليهم بأن يصيبهم أحد الأمرين كأنه شرع داعيا عليهم بالفناء الكلي وهو الموت ثم استدرك فقال أو الذل لأنه نظير الموت في المعنى ولكنه في الصورة دونه ولقد أجيب دعاؤه ع بالدعوة الثانية فإن شيعته ذلوا بعد في الأيام الأموية حتى كانوا كفقع قرقر . ثم أقسم أنه إذا جاء يومه لتكونن مفارقته لهم عن قلى وهو البغض وأدخل حشوة بين أثناء الكلام وهي ليأتيني وهي حشوة لطيفة لأن لفظة إن أكثر ما تستعمل لما لا يعلم حصوله ولفظة إذا لما يعلم أو يغلب على الظن حصوله تقول إذا طلعت الشمس جئت إليك ولا تقول إن طلعت الشمس جئت إليك وتقول إذا احمر البسر جئتك ولا تقول إن احمر البسر جئتك فلما قال لئن جاء يومي أتى بلفظة دالة على أن الموضع موضع إذا لا موضع إن فقال وليأتيني .
[ 70 ]
و الواو في قوله وأنا لصحبتكم واو الحال وكذلك الواو في قوله وبكم غير كثير وقوله غير كثير لفظ فصيح وقال الشاعر
لي خمسون صديقا
بين قاض وأمير
لبسوا الوفر فلم
أخلع بهم ثوب النفير
لكثير هم ولكني
بهم غير كثير(1/2816)
قوله لله أنتم لله في موضع رفع لأنه خبر عن المبتدإ الذي هو أنتم ومثله لله در فلان ولله بلاد فلان ولله أبوك واللام هاهنا فيها معنى التعجب والمراد بقوله لله أنتم لله سعيكم أو لله عملكم كما قالوا لله درك أي عملك فحذف المضاف وأقيم الضمير المنفصل المضاف إليه مقامه . فإن قلت أ فجاءت هذه اللام بمعنى التعجب في غير لفظ لله قلت لا كما أن تاء القسم لم تأت إلا في اسم الله تعالى . قوله ع أ ما دين يجمعكم ارتفاع دين على أنه فاعل فعل مقدر له أي أ ما يجمعكم دين يجمعكم اللفظ الثاني مفسر للأول كما قدرناه بعد إذا في قوله سبحانه إِذَا اَلسَّماءُ اِنْشَقَّتْ ويجوز أن يكون حمية مبتدأ والخبر محذوف تقديره أ ما لكم حمية والحمية الأنفة . وشحذت النصل أحددته . فإن قلت كيف قال إن معاوية لم يكن يعطي جنده وإنه هو ع كان يعطيهم والمشهور أن معاوية كان يمد أصحابه بالأموال والرغائب قلت إن معاوية لم يكن يعطي جنده على وجه المعونة والعطاء وإنما كان يعطي رؤساء القبائل من اليمن وساكني الشام الأموال الجليلة يستعبدهم بها ويدعو أولئك
[ 71 ](1/2817)
الرؤساء أتباعهم من العرب فيطيعونهم فمنهم من يطيعهم حمية ومنهم من يطيعهم لأياد وعوارف من أولئك الرؤساء عندهم ومنهم من يطيعهم دينا زعموا للطلب بدم عثمان ولم يكن يصل إلى هؤلاء الأتباع من أموال معاوية قليل ولا كثير . وأما أمير المؤمنين ع فإنه كان يقسم بين الرؤساء والأتباع على وجه العطاء والرزق ولا يرى لشريف على مشروف فضلا فكان من يقعد عنه بهذا الطريق أكثر ممن ينصره ويقوم بأمره وذلك لأن الرؤساء من أصحابه كانوا يجدون في أنفسهم من ذلك أعني المساواة بينهم وبين الأتباع فيخذلونه ع باطنا وإن أظهروا له النصر وإذا أحس أتباعهم بتخاذلهم وتواكلهم تخاذلوا أيضا وتواكلوا أيضا ولم يجد عليه ص ما أعطى الأتباع من الرزق لأن انتصار الأتباع له وقتالهم دونه لا يتصور وقوعه والرؤساء متخاذلون فكان يذهب ما يرزقهم ضياعا . فإن قلت فأي فرق بين المعونة والعطاء . قلت المعونة إلى الجند شي ء يسير من المال برسم ترميم أسلحتهم وإصلاح دوابهم ويكون ذلك خارجا عن العطاء المفروض شهرا فشهرا والعطاء المفروض شهرا فشهرا يكون شيئا له مقدار يصرف في أثمان الأقوات ومئونة العيال وقضاء الديون . والتريكة بيضة النعام تتركها في مجثمها يقول أنتم خلف الإسلام وبقيته كالبيضة التي تتركها النعامة . فإن قلت ما معنى قوله لا يخرج إليكم من أمري رضا فترضونه ولا سخط فتجتمعون عليه قلت معناه أنكم لا تقبلون مما أقول لكم شيئا سواء كان مما يرضيكم أو مما يسخطكم بل لا بد لكم من المخالفة والافتراق عنه
[ 72 ]
ثم ذكر أن أحب الأشياء إليه أن يلقى الموت وهذه الحال التي ذكرها أبو الطيب فقال
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا
و حسب المنايا أن تكن أمانيا
تمنيتها لما تمنيت أن ترى
صديقا فأعيا أو عدوا مداجيا(1/2818)
قوله قد دارستكم الكتاب أي درسته عليكم دارست الكتب وتدارستها وأدرستها ودرستها بمعنى وهي من الألفاظ القرآنية . وفاتحتكم الحجاج أي حاكمتكم بالمحاجة والمجادلة وقوله تعالى رَبَّنَا اِفْتَحْ بَيْنَنا أي احكم والفتاح الحاكم . وعرفتكم ما أنكرتم بصرتكم ما عمي عنكم . وسوغتكم ما مججتم يقال مججت الشراب من فمي أي رميت به وشيخ ماج يمج ريقه ولا يستطيع حبسه من كبره وأحمق ماج أي يسيل لعابه يقول ما كانت عقولكم وأذهانكم تنفر عنه من الأمور الدينية أوضحته لكم حتى عرفتموه واعتقدتموه وانطوت قلوبكم عليه ولم يجزم ع بحصول ذلك لهم لأنه قال لو كان الأعمى يلحظ والنائم يستيقظ أي إني قد فعلت معكم ما يقتضي حصول الاعتقادات الحقيقية في أذهانكم لو أزلتم عن قلوبكم ما يمنع من حصولها لكم والمانع المشار إليه هو الهوى والعصبية والإصرار على اللجاج ومحبة نصرة عقيدة قد سبقت إلى القلب وزرعها التعصب
[ 73 ](1/2819)
و مشقة مفارقة الأسلاف الذين قد انغرس في النفس تعظيمهم ومالت القلوب إلى تقليدهم لحسن الظن بهم . ثم قال أقرب بقوم أي ما أقربهم من الجهل كما قال تعالى أَسْمِعْ بِهِمْ وَ أَبْصِرْ أي ما أسمعهم وأبصرهم . فإن قلت قد كان يجب أن يقول وأقرب بقوم قائدهم معاوية ومؤدبهم ابن النابغة من الجهل فلا يحول بين النكرة الموصوفة وصفتها بفاصل غريب ولم يقل ذلك بل فصل بين الصفة والموصوف بأجنبي منهما . قلت قد جاء كثير من ذلك نحو قوله تعالى وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ اَلْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ اَلْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى اَلنِّفاقِ في قول من لم يجعل مردوا صفة أقيمت مقام الموصوف لأنه يجعل مردوا صفة القوم المحذوفين المقدرين بعد الأعراب وقد حال بين ذلك وبين مردوا قوله وَ مِنْ أَهْلِ اَلْمَدِينَةِ . ونحوه قوله أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ اَلْكِتابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً . فإن قيما حال من الكتاب وقد توسط بين الحال وذي الحال وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً والحال كالصفة ولأنهم قد أجازوا مررت برجل أيها الناس طويل والنداء أجنبي على أنا لا نسلم أن قوله من الجهل أجنبي لأنه متعلق بأقرب والأجنبي ما لا تعلق له بالكلام
[ 74 ](1/2820)
182 ـ ومن كلام له ع
وَ قَدْ أَرْسَلَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِهِ يَعْلَمُ لَهُ عِلْمَ أَحْوَالِ قَوْمٍ مِنْ جُنْدِ اَلْكُوفَةِ قَدْ هَمُّوا بِاللِّحَاقِ بِالْخَوَارِجِ وَ كَانُوا عَلَى خَوْفٍ مِنْهُ ع فَلَمَّا عَادَ إِلَيْهِ اَلرَّجُلُ قَالَ لَهُ أَ أَمِنُوا فَقَطَنُوا أَمْ جَبَنُوا فَظَعَنُوا فَقَالَ اَلرَّجُلُ بَلْ ظَعَنُوا يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ ع بُعْداً لَهُمْ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ أَمَا لَوْ أُشْرِعَتِ اَلْأَسِنَّةُ إِلَيْهِمْ وَ صُبَّتِ اَلسُّيُوفُ عَلَى هَامَاتِهِمْ لَقَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ إِنَّ اَلشَّيْطَانَ اَلْيَوْمَ قَدِ اِسْتَفَلَّهُمْ وَ هُوَ غَداً مُتَبَرِّئٌ مِنْهُمْ وَ مُتَخَلٍّ عَنْهُمْ فَحَسْبُهُمْ مِنَ اَلْهُدَى وَ اِرْتِكَاسِهِمْ فِي اَلضَّلاَلِ وَ اَلْعَمَى وَ صَدِّهِمْ عَنِ اَلْحَقِّ وَ جِمَاحِهِمْ فِي اَلتِّيهِ قد ذكرنا قصة هؤلاء القوم فيما تقدم عند شرحنا قصة مصقلة بن هبيرة الشيباني وقطن الرجل بالمكان يقطن بالضم أقام به وتوطنه فهو قاطن والجمع قطان وقاطنة وقطين أيضا مثل غاز وغزي وعازب للكلأ البعيد وعزيب . وظعن صار الرجل ظعنا وظعنا وقرئ بهما يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وأظعنه سيره وانتصب بعدا على المصدر .
[ 75 ](1/2821)
و ثمود إذا أردت القبيلة غير مصروف وإذا أردت الحي أو اسم الأب مصروف ويقال إنه ثمود بن عابر بن آدم بن سام بن نوح قيل سميت ثمود لقلة مائها من الثمد وهو الماء القليل وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى . وأشرعت الرمح إلى زيد أي سددته نحوه وشرع الرمح نفسه وصبت السيوف على هاماتهم استعارة من صببت الماء شبه وقع السيوف وسرعة اعتوارها الرءوس بصب الماء . واستفلهم الشيطان وجدهم مفلولين فاستزلهم هكذا فسروه . ويمكن عندي أن يريد أنه وجدهم فلا لا خير فيهم والفل في الأصل الأرض لا نبات بها لأنها لم تمطر قال حسان يصف العزى
و إن التي بالجذع من بطن نخلة
و من دانها فل من الخير معزل
أي خال من الخير . ويروى استفزهم أي استخفهم . والارتكاس في الضلال الرجوع كأنه جعلهم في ترددهم في طبقات الضلال كالمرتكس الراجع إلى أمر قد كان تخلص منه . والجماح في التيه الغلو والإفراط مستعار من جماح الفرس وهو أن يعتز صاحبه ويغلبه جمح فهو جموح
[ 76 ](1/2822)
183 ـ ومن خطبة له ع
رُوِيَ عَنْ نَوْفٍ اَلْبَكَالِيِّ قَالَ خَطَبَنَا بِهَذِهِ اَلْخُطْبَةِ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ ع بِالْكُوفَةِ وَ هُوَ قَائِمٌ عَلَى حِجَارَةٍ نَصَبَهَا لَهُ جَعْدَةُ بْنُ هُبَيْرَةَ اَلْمَخْزُومِيُّ وَ عَلَيْهِ مِدْرَعَةٌ مِنْ صُوفٍ وَ حَمَائِلُ سَيْفِهِ لِيفٌ وَ فِي رِجْلَيْهِ نَعْلاَنِ مِنْ لِيفٍ وَ كَأَنَّ جَبِينَهُ ثَفِنَةُ بَعِيرٍ فَقَالَ ع اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي إِلَيْهِ مَصَائِرُ اَلْخَلْقِ وَ عَوَاقِبُ اَلْأَمْرِ نَحْمَدُهُ عَلَى عَظِيمِ إِحْسَانِهِ وَ نَيِّرِ بُرْهَانِهِ وَ نَوَامِي فَضْلِهِ وَ اِمْتِنَانِهِ حَمْداً يَكُونُ لِحَقِّهِ قَضَاءً وَ لِشُكْرِهِ أَدَاءً وَ إِلَى ثَوَابِهِ مُقَرِّباً وَ لِحُسْنِ مَزِيدِهِ مُوجِباً وَ نَسْتَعِينُ بِهِ اِسْتِعَانَةً رَاجٍ لِفَضْلِهِ مُؤَمِّلٍ لِنَفْعِهِ وَاثِقٍ بِدَفْعِهِ مُعْتَرِفٍ لَهُ بِالطَّوْلِ مُذْعِنٍ لَهُ بِالْعَمَلِ وَ اَلْقَوْلِ وَ نُؤْمِنُ بِهِ إِيمَانَ مَنْ رَجَاهُ مُوقِناً وَ أَنَابَ إِلَيْهِ مُؤْمِناً وَ خَنَعَ لَهُ مُذْعِناً وَ أَخْلَصَ لَهُ مُوَحِّداً وَ عَظَّمَهُ مُمَجِّداً وَ لاَذَ بِهِ رَاغِباً مُجْتَهِداً(1/2823)
نوف البكالي
قال الجوهري في الصحاح نوف البكالي بفتح الباء كان حاجب علي ع ثم قال وقال ثعلب هو منسوب إلى بكالة قبيلة .
[ 77 ]
و قال القطب الراوندي في شرح نهج البلاغة بكال وبكيل شي ء واحد وهو اسم حي من همدان وبكيل أكثر قال الكميت
فقد شركت فيه بكيل وأرحب
و الصواب غير ما قالاه وإنما بنو بكال بكسر الباء حي من حمير منهم هذا الشخص هو نوف بن فضالة صاحب علي ع والرواية الصحيحة الكسر لأن نوف بن فضالة بكالي بالكسر من حمير وقد ذكر ابن الكلبي نسب بني بكال الحميريين فقال هو بكال بن دعمي بن غوث بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير(1/2824)
نسب جعدة بن هبيرة
و أما جعدة بن هبيرة فهو ابن أخت أمير المؤمنين ع أمه أم هانئ بنت أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم وأبوه هبيرة بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب وكان جعدة فارسا شجاعا فقيها وولي خراسان لأمير المؤمنين ع وهو من الصحابة الذين أدركوا رسول الله ص يوم الفتح مع أمه أم هانئ بنت أبي طالب وهرب أبو هبيرة بن أبي وهب ذلك اليوم هو وعبد الله بن الزبعرى إلى نجران .
[ 78 ]
و روى أهل الحديث أن أم هانئ كانت يوم الفتح في بيتها فدخل عليها هبيرة بن أبي وهب بعلها ورجل من بني عمه هاربين من علي ع وهو يتبعهما وبيده السيف فقامت أم هانئ في وجهه دونهما وقالت ما تريده منهما ولم تكن رأته من ثماني سنين فدفع في صدرها فلم تزل عن موضعها وقالت أ تدخل يا علي بيتي وتهتك حرمتي وتقتل بعلي ولا تستحيي مني بعد ثماني سنين فقال إن رسول الله ص أهدر دمهما فلا بد أن أقتلهما فقبضت على يده التي فيها السيف فدخلا بيتا ثم خرجا منه إلى غيره ففاتاه
و جاءت أم هانئ إلى رسول الله ص فوجدته يغتسل من جفنة فيها أثر العجين وفاطمة ابنته تستره بثوبها فوقفت حتى أخذ ثوبه فتوشح به ثم صلى ثماني ركعات من الضحى ثم انصرف فقال مرحبا وأهلا بأم هانئ ما جاء بك فأخبرته خبر بعلها وابن عمه ودخول علي ع بيتها بالسيف فجاء علي ع ورسول الله ص يضحك فقال له ما صنعت بأم هانئ فقال سلها يا رسول الله ما صنعت بي والذي بعثك بالحق لقد قبضت على يدي وفيها السيف فما استطعت أن أخلصها إلا بعد لأي وفاتني الرجلان فقال ص لو ولد أبو طالب الناس كلهم لكانوا شجعانا قد أجرنا من أجارت أم هانئ وأمنا من أمنت فلا سبيل لك عليهما . فأما هبيرة فلم يرجع وأما الرجل الآخر فرجع فلم يعرض له . قالوا وأقام هبيرة بن أبي وهب بنجران حتى مات بها كافرا وروى له محمد بن إسحاق في كتاب المغازي شعرا أوله(1/2825)
أ شاقتك هند أم أتاك سؤالها
كذاك النوى أسبابها وانفتالها
يذكر فيه أم هانئ وإسلامها وأنه مهاجر لها إذ صبت إلى الإسلام ومن جملته
[ 79 ]
فإن كنت قد تابعت دين محمد
و قطعت الأرحام منك حبالها
فكوني على أعلى سحوق بهضبة
ململمة غبراء يبس قلالها
و قال ابن عبد البر في كتاب الاستيعاب ولدت أم هانئ لهبيرة بن أبي وهب بنين أربعة جعدة وعمرا وهانئا ويوسف وقال وجعدة الذي يقول
أبي من بني مخزوم إن كنت سائلا
و من هاشم أمي لخير قبيل
فمن ذا الذي ينأى علي بخاله
كخالي علي ذي الندى وعقيل
المدرعة الجبة وتدرع لبسها وربما قالوا تمدرع . وثفنة البعير واحدة ثفناته وهو ما يقع على الأرض من أعضائه إذا استناخ فيغلظ ويكثف كالركبتين وغيرهما ويقال ذو الثفنات الثلاثة لعلي بن الحسين وعلي بن عبد الله بن العباس ع ولعبد الله بن وهب الراسبي رئيس الخوارج لأن طول السجود كان قد أثر في ثفناتهم قال دعبل
[ 80 ]
ديار علي والحسين وجعفر
و حمزة والسجاد ذي الثفنات(1/2826)
و مصائر الأمور جمع مصير وهو مصدر صار إلى كذا ومعناه المرجع قال تعالى وَ إِلَى اَللَّهِ اَلْمَصِيرُ فأما المصدر من صار الشي ء كذا فمصير وصيرورة والقياس في مصدر صار إليه أي رجع مصارا كمعاش وإنما جمع المصدر هاهنا لأن الخلائق يرجعون إلى الله تعالى في أحوال مختلفة في الدنيا وفي الدار الآخرة فجمع المصدر وإن كان يقع بلفظه على القليل والكثير لاختلاف وجوهه كقوله تعالى وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ اَلظُّنُونَا . وعواقب الأمر جمع عاقبة وهي آخر الشي ء . ثم قسم الحمد فجعله على ثلاثة أقسام أحدها الحمد على عظيم إحسانه وهو أصول نعمه تعالى كالحياة والقدرة والشهوة وغيرها مما لا يدخل جنسه تحت مقدور القادر . وثانيها الحمد على نير برهانه وهو ما نصبه في العقول من العلوم البديهية المفضية إلى العلوم النظرية بتوحيده وعدله . وثالثها الحمد على أرزاقه النامية أي الزائدة وما يجري مجراها من إطالة الأعمار وكثرة الأرزاق وسائر ضروب الإحسان الداخلة في هذا القسم . ثم بالغ في الحمد حمدا يكون لحقه قضاء ولشكره أداء وذلك لأن الحمد والشكر ولو بلغ
[ 81 ](1/2827)
أقصى غاياته لم يصل إلى أن يكون قاضيا لحق الله تعالى ولا مؤديا لشكره ولكنه قال ذلك على سبيل المبالغة . ثم قال وإلى ثوابه مقربا ولحسن مزيده موجبا وذلك لأن الشكر يوجب الثواب والمزيد قال الله تعالى فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ أي أثبكم وقال لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ . ثم شرع في الاستعانة بالله ففصلها أحسن تفصيل فذكر أنه يستعين به استعانة راج لفضله في الآخرة مؤمل لنفعه في الدنيا واثق بدفعه المضار عنه وذلك لأنه أراد أن يحتوي على وجوه ما يستعان به تعالى لأجله فذكر الأمور الإيجابية وأعقبها بالأمور السلبية فالأولى جلب المنافع والثانية دفع المضار . والطول الإفضال والإذعان الانقياد والطاعة . وأناب إليه أقبل وتاب وخنع خضع والمصدر الخنوع ولاذ به لجأ إليه : لَمْ يُولَدْ سُبْحَانَهُ فَيَكُونَ فِي اَلْعِزِّ مُشَارَكاً وَ لَمْ يَلِدْ فَيَكُونَ مَوْرُوثاً هَالِكاً وَ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ وَقْتٌ وَ لاَ زَمَانٌ وَ لَمْ يَتَعَاوَرْهُ زِيَادَةٌ وَ لاَ نُقْصَانٌ بَلْ ظَهَرَ لِلْعُقُولِ بِمَا أَرَانَا مِنْ عَلاَمَاتِ اَلتَّدْبِيرِ اَلْمُتْقَنِ وَ اَلْقَضَاءِ اَلْمُبْرَمِ فَمِنْ شَوَاهِدِ خَلْقِهِ خَلْقُ اَلسَّمَاوَاتِ مُوَطَّدَاتٍ بِلاَ عَمَدٍ قَائِمَاتٍ بِلاَ سَنَدٍ دَعَاهُنَّ فَأَجَبْنَ طَائِعَاتٍ مُذْعِنَاتٍ غَيْرَ مُتَلَكِّئَاتٍ وَ لاَ مُبْطِئَاتٍ وَ لَوْ لاَ إِقْرَارُهُنَّ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَ إِذْعَانُهُنَّ لَهُ بِالطَّوَاعِيَةِ لَمَا جَعَلَهُنَّ مَوْضِعاً لِعَرْشِهِ
[ 82 ](1/2828)
وَ لاَ مَسْكَناً لِمَلاَئِكَتِهِ وَ لاَ مَصْعَداً لِلْكَلِمِ اَلطَّيِّبِ وَ اَلْعَمَلِ اَلصَّالِحِ مِنْ خَلْقِهِ نفى ع أن يكون البارئ سبحانه مولودا فيكون له شريك في العز والإلهية وهو أبوه الذي ولده وإنما قال ذلك جريا على عادة ملوك البشر فإن الأكثر أن الملك يكون ابن ملك قبله ونفى أن يكون له ولد جريا أيضا على عادة البشر في أن كل والد في الأكثر فإنه يهلك قبل هلاك الولد ويرثه الولد وهذا النمط من الاحتجاج يسمى خطابة وهو نافع في مواجهة العرب به وأراد من الاحتجاج إثبات العقيدة فتارة تثبت في نفوس العلماء بالبرهان وتارة تثبت في نفوس العوام بالخطابة والجدل . ثم نفى أن يتقدمه وقت أو زمان والوقت هو الزمان وإنما خالف بين اللفظين وأتى بحرف العطف كقوله تعالى لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً . ونفى أن يتعاوره أي تختلف عليه زيادة أو نقصان يقال عاورت زيدا الضرب أي فعلت به من الضرب مثل ما فعل بي واعتوروا الشي ء أي تداولوه فيما بينهم وكذلك تعوروه وتعاوروه وإنما ظهرت الواو في اعتوروا لأنه في معنى تعاوروا فبني عليه ولو لم يكن في معناه لاعتلت كما قالوا اجتوروا لما كان في معنى تجاوروا التي لا بد من صحة الواو فيها لسكون الألف قبلها واعتورت الرياح رسم الدار اختلفت عليه . فإن قلت هذا يقتضي أن يقول ولم يتعاوره زيادة ونقصان لأن التعاور يستدعي الضدين معا ولا ينبغي أن يقول ولا نقصان كما لا يجوز أن تقول لم يختلف زيد ولا عمرو
[ 83 ](1/2829)
قلت لما كانت مراتب الزيادة مختلفة جاز أن يقال لا يعتوره الزيادة فكذلك القول في جانب النقصان وجرى كل واحد من النوعين مجرى أشياء متنافية تختلف على الموضع الموصوف بها . قوله ع موطدات أي ممهدات مثبتات . والعمد جمع عماد نحو إهاب وأهب وإدام وأدم وهو على خلاف القياس ومنه قوله تعالى فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ وقوله تعالى خَلَقَ اَلسَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها والسند ما يستند إليه . ثم قال دعاهن فأجبن طائعات هذا من باب المجاز والتوسع لأن الجماد لا يدعى وأما من قال إن السماوات أحياء ناطقة فإنه لم يجعلهن مكلفات ليقال ولو لا إقرارهن له بالربوبية لما فعل كذا بل يقول ذلك على وجه آخر ولكن لغة العرب تنطق بمثل هذا المجاز نحو قول الراجز
امتلأ الحوض وقال قطني
مهلا رويدا قد ملأت بطني
و منه قوله تعالى اِئْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ . ومنه قول مكاتب لبني منقر التميميين كان قد ظلع بمكاتبته فأتى قبر غالب بن صعصعة فاستجار به وأخذ منه حصيات فشدهن في عمامته ثم أتى الفرزدق فأخبره خبره وقال إني قد قلت شعرا قال هاته فأنشده
[ 84 ]
بقبر ابن ليلى غالب عذت بعد ما
خشيت الردى أو أن أرد على قسر
بقبر امرئ يقري المئين عظامه
و لم يك إلا غالبا ميت يقري
فقال لي استقدم أمامك إنما
فكاكك أن تلقى الفرزدق بالمصر(1/2830)
فقال ما اسمك فقال لهذم قال يا لهذم حكمك مسمطا قال ناقة كوماء سوداء الحدقة قال يا جارية اطرحي لنا حبلا ثم قال يا لهذم اخرج بنا إلى المربد فألقه في عنق ما شئت من إبل الناس فتخير لهذم على عينه ناقة ورمى بالحبل في عنقها وجاء صاحبها فقال له الفرزدق اغد علي أوفك ثمنها فجعل لهذم يقودها والفرزدق يسوقها حتى أخرجها من البيوت إلى الصحراء فصاح به الفرزدق يا لهذم قبح الله أخسرنا فخبر الشاعر عن القبر بقوله فقال لي استقدم أمامك والقبر والميت الذي فيه لا يخبران ولكن العرب وأهل الحكمة من العجم يجعلون كل دليل قولا وجوابا أ لا ترى إلى قول زهير
أ من أم أوفى دمنة لم تكلم
و إنما كلامها عنده أن تبين ما يرى من الآثار فيها عن قدم العهد بأهلها . ومن كلام بعض الحكماء هلا وقفت على تلك الجنان والحيطان فقلت أيتها الجنان أين من شق أنهارك وغرس أشجارك وجنى ثمارك فإن لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا . وقال النعمان بن المنذر ومعه عدي بن زيد في ظل شجرات مونقات يشرب
[ 85 ]
فقال عدي أبيت اللعن وأراد أن يعظه أ تدري ما تقول هذه الشجرات قال ما تقول قال
رب ركب قد أناخوا حولنا
يشربون الخمر بالماء الزلال
ثم أضحوا عصف الدهر بهم
و كذاك الدهر يودي بالرجال(1/2831)
فتنغص النعمان يومه ذلك . والمذعن المنقاد المطيع والمتلكئ المتوقف والكلم الطيب شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا ص رسوله والعمل الصالح أداء الواجبات والنوافل واللفظات من القرآن العزيز . والمصعد موضع الصعود ولا شبهة أن السماء أشرف من الأرض على رأي المليين وعلى رأي الحكماء أما أهل الملة فلأن السماء مصعد الأعمال الصالحة ومحل الأنوار ومكان الملائكة وفيها العرش والكرسي والكواكب المدبرات أمرا وأما الحكماء فلأمور أخرى تقتضيها أصولهم : جَعَلَ نُجُومَهَا أَعْلاَماً يَسْتَدِلُّ بِهَا اَلْحَيْرَانُ فِي مُخْتَلِفِ فِجَاجِ اَلْأَقْطَارِ لَمْ يَمْنَعْ ضَوْءَ نُورِهَا اِدْلِهْمَامُ سُجُفِ اَللَّيْلِ اَلْمُظْلِمِ وَ لاَ اِسْتَطَاعَتْ جَلاَبِيبُ سَوَادِ اَلْحَنَادِسِ أَنْ تَرُدَّ مَا شَاعَ فِي اَلسَّمَاوَاتِ مِنْ تَلَأْلُؤِ نُورِ اَلْقَمَرِ فَسُبْحَانَ مَنْ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ سَوَادُ
[ 86 ](1/2832)
غَسَقٍ دَاجٍ وَ لاَ لَيْلٍ سَاجٍ فِي بِقَاعِ اَلْأَرَضِينَ اَلْمُتَطَأْطِئَاتِ وَ لاَ فِي يَفَاعِ اَلسُّفْعِ اَلْمُتَجَاوِرَاتِ وَ مَا يَتَجَلْجَلُ بِهِ اَلرَّعْدُ فِي أُفُقِ اَلسَّمَاءِ وَ مَا تَلاَشَتْ عَنْهُ بُرُوقُ اَلْغَمَامِ وَ مَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ تُزِيلُهَا عَنْ مَسْقَطِهَا عَوَاصِفُ اَلْأَنْوَاءِ وَ اِنْهِطَالُ اَلسَّمَاءِ وَ يَعْلَمُ مَسْقَطَ اَلْقَطْرَةِ وَ مَقَرَّهَا وَ مَسْحَبَ اَلذَّرَّةِ وَ مَجَرَّهَا وَ مَا يَكْفِي اَلْبَعُوضَةَ مِنْ قُوتِهَا وَ مَا تَحْمِلُ مِنَ اَلْأُنْثَى فِي بَطْنِهَا أعلاما أي يستدل بها والفجاج جمع فج وهو الطريق في الجبل . ثم قال إن ادلهمام سواد الليل أي شدة ظلمته لم يمنع الكواكب من الإضاءة وكذلك أيضا لم يمنع ظلام الليل القمر من تلألؤ نوره وإنما خص القمر بالذكر وإن كان من جملة الكواكب لشرفه بما يظهر للأبصار من عظم حجمه وشدة إضاءته فصار كقوله تعالى فِيهِما فاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمَّانٌ وقد روى بعض الرواة ادلهمام بالنصب وجعله مفعولا وضوء نورها بالرفع وجعله فاعلا وهذه الرواية أحسن في صناعة الكتابة لمكان الازدواج أي لا القمر ولا الكواكب تمنع الليل من الظلمة ولا الليل يمنع الكواكب والقمر من الإضاءة . والسجف جمع سجف وهو الستر ويجوز فتح السين . وشاع تفرق والتلألؤ اللمعان والجلابيب الثياب والغسق الظلمة والساجي الساكن والداجي المظلم والمتطأطئ المنخفض والسفع المتجاورات هاهنا الجبال وسماها سفعا لأن السفعة سواد مشرب بحمرة وكذلك لونها في الأكثر .
[ 87 ](1/2833)
و اليفاع الأرض المرتفعة والتجلجل صوت الرعد وما تلاشت عنه بروق الغمام هذه الكلمة أهمل بناءها كثير من أئمة اللغة وهي صحيحة وقد جاءت ووردت قال ابن الأعرابي لشا الرجل إذا اتضع وخس بعد رفعة وإذا صح أصلها صح استعمال الناس تلاشى الشي ء بمعنى اضمحل . وقال القطب الراوندي تلاشى مركب من لا شي ء ولم يقف على أصل الكلمة وقد ظهر الآن أن معنى كلامه ع أنه سبحانه يعلم ما يصوت به الرعد ويعلم ما يضمحل عنه البرق . فإن قلت وهل يقصد الرعد بجلجلته معنى معقولا ليقال إن البارئ يعلمه ثم ما المراد بكونه عالما بما يضمحل البرق عنه . قلت قد يكون تعالى يحدث في الرعد جلجلة أي صوتا ليهلك به قوما أو لينفع به قوما فعلمه بما تتضمنه تلك الجلجلة هو معنى قولنا يعلم ما يصوت به الرعد ولا ريب أن البرق يلمع فيضي ء أقطارا مخصوصة ثم يتلاشى عنها فالبارئ سبحانه عالم بتلك الأقطار التي يتلاشى البرق عنها . فإن قلت هو سبحانه عالم بما يضيئه البرق وبما لا يضيئه فلما ذا خص بالعالمية ما يتلاشى عنه البرق . قلت لأن علمه بما ليس بمضي ء بالبرق أعجب وأغرب لأن ما يضيئه البرق يمكن أن يعلمه أولو الأبصار الصحيحة فأراد ع أن يشرح من صفاته سبحانه ما هو بخلاف المعتاد بين البشر ليكون إعظام السامعين له سبحانه أتم وأكمل . والعواصف الرياح الشديدة وأضافها إلى الأنواء لأن أكثر ما يكون عصفانها في الأنواء وهي جمع نوء وهو سقوط النجم من منازل القمر الثمانية والعشرين في المغرب
[ 88 ](1/2834)
مع الفجر وطلوع رقيبه من المشرق مقابلا له من ساعته ومدة النوء ثلاثة عشر يوما إلا الجبهة فإن لها أربعة عشر يوما . قال أبو عبيد ولم يسمع في النوء أنه المسقوط إلا في هذا الموضع وكانت العرب تضيف الرياح والأمطار والحر والبرد إلى الساقط منها . وقال الأصمعي بل إلى الطالع في سلطانه فتقول مطرنا بنوء كذا وكذا ونهى النبي ص عن ذلك والجمع أنواء ونوءان أيضا مثل بطن وبطنان وعبد وعبدان قال حسان بن ثابت
و يثرب تعلم أنا بها
إذا قحط القطر نوءانها
و الانهطال الانصباب ومسقط القطرة من المطر موضع سقوطها ومقرها موضع قرارها ومسحب الذرة الصغيرة من النمل ومجرها موضع سحبها وجرها . وهذا الفصل من فصيح الكلام ونادره ويتضمن من توحيد الله تعالى وتمجيده والثناء عليه ما يشهد لنفسه : وَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلْكَائِنِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ كُرْسِيٌّ أَوْ عَرْشٌ أَوْ سَمَاءٌ أَوْ أَرْضٌ أَوْ جَانٌّ أَوْ إِنْسٌ لاَ يُدْرَكُ بِوَهْمٍ وَ لاَ يُقَدَّرُ بِفَهْمٍ وَ لاَ يَشْغَلُهُ سَائِلٌ وَ لاَ يَنْقُصُهُ نَائِلٌ وَ لاَ يَنْظُرُ بِعَيْنٍ وَ لاَ يُحَدُّ بِأَيْنٍ وَ لاَ يُوصَفُ بِالْأَزْوَاجِ وَ لاَ يُخْلَقُ بِعِلاَجٍ وَ لاَ يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ وَ لاَ يُقَاسُ بِالنَّاسِ اَلَّذِي كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيماً وَ أَرَاهُ مِنْ آيَاتِهِ عَظِيماً بِلاَ جَوَارِحَ وَ لاَ أَدَوَاتٍ وَ لاَ نُطْقٍ وَ لاَ لَهَوَاتٍ بَلْ إِنْ كُنْتَ صَادِقاً أَيُّهَا اَلْمُتَكَلِّفُ لِوَصْفِ رَبِّكَ فَصِفْ
[ 89 ](1/2835)
جِبْرِيلَ وَ مِيكَائِيلَ وَ جُنُودَ اَلْمَلاَئِكَةِ اَلْمُقَرَّبِينَ فِي حُجُرَاتِ اَلْقُدُسِ مُرْجَحِنِّينَ مُتَوَلِّهَةً عُقُولُهُمْ أَنْ يَحُدُّوا أَحْسَنَ اَلْخَالِقِينَ وَ إِنَّمَا يُدْرَكُ بِالصِّفَاتِ ذَوُو اَلْهَيْئَاتِ وَ اَلْأَدَوَاتِ وَ مَنْ يَنْقَضِي إِذَا بَلَغَ أَمَدَ حَدِّهِ بِالْفَنَاءِ فَلاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ أَضَاءَ بِنُورِهِ كُلَّ ظَلاَمٍ وَ أَظْلَمَ بِظُلْمَتِهِ كُلَّ نُورٍ ليس يعني بالكائن هاهنا ما يعنيه الحكماء والمتكلمون بل مراده الموجود أي هو الموجود قبل أن يكون الكرسي والعرش وغيرهما والأوائل يزعمون أن فوق السماوات السبع سماء ثامنة وسماء تاسعة ويقولون إن الثامنة هي الكرسي وإن التاسعة هي العرش . قوله ع لا يدرك بوهم الوهم هاهنا الفكرة والتوهم . ولا يقدر بفهم أي لا تستطيع الأفهام أن تقدره وتحده . ولا يشغله سائل كما يشغل السؤال منا من يسألونه . ولا ينقصه العطاء كما ينقص العطاء خزائن الملوك . ولا يبصر بجارحة ولا يحد بأين ولفظة أين في الأصل مبنية على الفتح فإذا نكرتها صارت اسما متمكنا كما قال الشاعر
ليت شعري وأين مني ليت
إن ليتا وإن لوا عناء
و إن شئت قلت إنه تكلم بالاصطلاح الحكمي والأين عندهم حصول الجسم في المكان وهو أحد المقولات العشر .
[ 90 ](1/2836)
قوله ع ولا يوصف بالأزواج أي صفات الأزواج وهي الأصناف قال سبحانه وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ . قوله ولا يخلق بعلاج أي لا يحتاج في إيجاد المخلوقات إلى معالجة ومزاولة . قوله وكلم موسى تكليما من الألفاظ القرآنية والمراد هاهنا من ذكر المصدر تأكيد الأمر وإزالة لبس عساه يصلح للسامع فيعتقد أنه أراد المجاز وأنه لم يكن كلام على الحقيقة . قوله وأراه من آياته عظيما ليس يريد به الآيات الخارجة عن التكليم كانشقاق البحر وقلب العصا لأنه يكون بإدخال ذلك بين قوله تكليما وقوله بلا جوارح ولا أدوات ولا نطق ولا لهوات مستهجنا وإنما يريد أنه أراد بتكليمه إياه عظيما من آياته وذلك أنه كان يسمع الصوت من جهاته الست ليس على حد سماع كلام البشر من جهة مخصوصة وله دوي وصلصلة كوقع السلاسل العظيمة على الحصى الأصم . فإن قلت أ تقول إن الكلام حل أجساما مختلفة من الجهات الست . قلت لا وإنما حل الشجرة فقط وكان يسمع من كل جهة والدليل على حلوله في الشجرة قوله تعالى فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ اَلْوادِ اَلْأَيْمَنِ فِي اَلْبُقْعَةِ اَلْمُبارَكَةِ مِنَ اَلشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى فلا يخلو إما أن يكون النداء حل الشجرة أو المنادي حلها والثاني باطل فثبت الأول . ثم قال ع لمن يتكلف أن يصف ربه إن كنت صادقا أنك قد وصلت إلى
[ 91 ](1/2837)
معرفة صفته فصف لنا الملائكة فإن معرفة ذات الملك أهون من معرفة ذات الأول سبحانه . وحجرات القدس جمع حجرة ومرجحنين مائلين إلى جهة تحت خضوعا لجلال البارئ سبحانه ارجحن الحجر إذا مال هاويا متولهة عقولهم أي حائرة ثم قال إنما يدرك بالصفات ويعرف كنه ما كان ذا هيئة وأداة وجارحة وما ينقضي ويفنى ويتطرق إليه العدم وواجب الوجود سبحانه بخلاف ذلك . وتحت قوله أضاء بنوره كل ظلام إلى آخر الفصل معنى دقيق وسر خفي وهو أن كل رذيلة في الخلق البشري مع معرفته بالأدلة البرهانية غير مؤثرة ولا قادحة في جلالة المقام الذي قد بلغ إليه وذلك نحو أن يكون العارف بخيلا أو جبانا أو حريصا أو نحو ذلك وكل فضيلة في الخلق البشري مع الجهل به سبحانه فليست بفضيلة في الحقيقة ولا معتد بها لأن نقيصة الجهل به تكسف تلك الأنوار وتمحق فضلها وذلك نحو أن يكون الجاهل به سبحانه جوادا أو شجاعا أو عفيفا أو نحو ذلك وهذا يطابق ما يقوله الأوائل من أن العارف المذنب يشقى بعد الموت قليلا ثم يعود إلى النعيم السرمدي وأن الجاهل ذا العبادة والإحسان يشقى بعد الموت شقاء مؤبدا ومذهب الخلص من مرجئة الإسلام يناقض هذه اللفظات ويقال إنه مذهب أبي حنيفة رحمه الله ويمكن تأويلها على مذهب أصحابنا بأن يقال كل ظلام من المعاصي الصغائر فإنه ينجلي بضياء معرفته وطاعته وكل طاعة يفعلها المكلف مع الكفر به سبحانه فإنها غير نافعة ولا موجبة ثوابا ويكون هذا التأويل من باب صرف اللفظ عن عمومه إلى خصوصه
[ 92 ](1/2838)
أُوصِيكُمْ عِبَادَ اَللَّهِ بِتَقْوَى اَللَّهِ اَلَّذِي أَلْبَسَكُمُ اَلرِّيَاشَ وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمُ اَلْمَعَاشَ فَلَوْ أَنَّ أَحَداً يَجِدُ إِلَى اَلْبَقَاءِ سِلْماً أَوْ لِدَفْعِ اَلْمَوْتِ سَبِيلاً لَكَانَ ذَلِكَ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ ع اَلَّذِي سُخِّرَ لَهُ مُلْكُ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ مَعَ اَلنُّبُوَّةِ وَ عَظِيمِ اَلزُّلْفَةِ فَلَمَّا اِسْتَوْفَى طُعْمَتَهُ وَ اِسْتَكْمَلَ مُدَّتَهُ رَمَتْهُ قِسِيُّ اَلْفَنَاءِ بِنَبَالِ اَلْمَوْتِ وَ أَصْبَحَتِ اَلدِّيَارُ مِنْهُ خَالِيَةً وَ اَلْمَسَاكِنُ مُعَطَّلَةً وَ وَرِثَهَا قَوْمٌ آخَرُونَ وَ إِنَّ لَكُمْ فِي اَلْقُرُونِ اَلسَّالِفَةِ لَعِبْرَةً أَيْنَ اَلْعَمَالِقَةُ وَ أَبْنَاءُ اَلْعَمَالِقَةِ أَيْنَ اَلْفَرَاعِنَةُ وَ أَبْنَاءُ اَلْفَرَاعِنَةِ أَيْنَ أَصْحَابُ مَدَائِنِ اَلرَّسِّ اَلَّذِينَ قَتَلُوا اَلنَّبِيِّينَ وَ أَطْفَئُوا سُنَنَ اَلْمُرْسَلِينَ وَ أَحْيَوْا سُنَنَ اَلْجَبَّارِينَ أَيْنَ اَلَّذِينَ سَارُوا بِالْجُيُوشِ وَ هَزَمُوا اَلْأُلُوفَ بِالْأُلُوفِ وَ عَسْكَرُوا اَلْعَسَاكِرَ وَ مَدَّنُوا اَلْمَدَائِنَ الرياش اللباس وأسبغ أوسع وإنما ضرب المثل بسليمان ع لأنه كان ملك الإنس والجن ولم يحصل لغيره ذلك ومن الناس من أنكر هذا لأن اليهود والنصارى يقولون إنه لم يتعد ملكه حدود الشام بل بعض الشام وينكرون حديث الجن والطير والريح ويحملون ما ورد من ذلك على وجوه وتأويلات عقلية معنوية ليس هذا موضع ذكرها . والزلفة القرب والطعمة بضم الطاء المأكلة يقال قد جعلت هذه الضيعة طعمة لزيد . والقسي جمع قوس وأصلها قووس على فعول كضرب وضروب إلا أنهم قدموا
[ 93 ]
اللام فقالوا قسو على فلوع ثم قلبت الواو ياء وكسروا القاف كما كسروا عين عصي فصارت قسي(1/2839)
نسب العمالقة
و العمالقة أولاد لاوذ إرم بن سام بن نوح كان الملك باليمن والحجاز وما تاخم ذلك من الأقاليم فمنهم عملاق بن لاوذ بن سام ومنهم طسم بن لاوذ أخوه . ومنهم جديس بن لاوذ أخوهما وكان العز والملك بعد عملاق بن لاوذ في طسم فلما ملكهم عملاق بن طسم بغى وأكثر الفساد في الأرض حتى كان يطأ العروس ليلة إهدائها إلى بعلها وإن كانت بكرا افتضها قبل وصولها إلى البعل ففعل ذلك بامرأة من جديس يقال لها غفيرة بنت غفار فخرجت إلى قومها وهي تقول
لا أحد أذل من جديس
أ هكذا يفعل بالعروس
فغضب لها أخوها الأسود بن غفار وتابعه قومه على الفتك بعملاق بن طسم وأهل بيته فصنع الأسود طعاما ودعا عملاق الملك إليه ثم وثب به وبطسم فأتى على رؤسائهم ونجا منهم رياح بن مر فصار إلى ذي جيشان بن تبع الحميري ملك اليمن فاستغاث به واستنجده على جديس فسار ذو جيشان في حمير فأتى بلاد جو وهي قصبة اليمامة فاستأصل جديسا كلها وأخرب اليمامة فلم يبق لجديس باقية ولا لطسم إلا اليسير منهم . ثم ملك بعد طسم وجديس وبار بن أميم بن لاوذ بن إرم فسار بولده وأهله فنزل بأرض وبار وهي المعروفة الآن برمل عالج فبغوا في الأرض حينا حتى أفناهم الله
[ 94 ]
ثم ملك الأرض بعد وبار عبد ضخم بن أثيف بن لاوذ فنزلوا بالطائف حينا ثم بادوا(1/2840)
نسب عاد وثمود
و ممن يعد مع العمالقة عاد وثمود فأما عاد فهو عاد بن عويص بن إرم بن سام بن نوح كان يعبد القمر ويقال إنه رأى من صلبه أولاد أولاد أولاده أربعة آلاف وإنه نكح ألف جارية وكانت بلاده الأحقاف المذكورة في القرآن وهي من شحر عمان إلى حضرموت ومن أولاده شداد بن عاد صاحب المدينة المذكورة . وأما ثمود فهو ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح وكانت دياره بين الشام والحجاز إلى ساحل نهر الحبشة(1/2841)
نسب الفراعنة
قوله ع أين الفراعنة وأبناء الفراعنة جمع فرعون وهم ملوك مصر فمنهم الوليد بن الريان فرعون يوسف ومنهم الوليد بن مصعب فرعون موسى ومنهم فرعون بن الأعرج الذي غزا بني إسرائيل وأخرب بيت المقدس(1/2842)
نسب أصحاب الرس
قوله ع أين أصحاب مدائن الرس قيل إنهم أصحاب شعيب
[ 95 ]
النبي ص وكانوا عبدة أصنام ولهم مواش وآبار يسقون منها . والرس بئر عظيمة جدا انخسفت بهم وهم حولها فهلكوا وخسفت بأرضهم كلها وديارهم وقيل الرس قرية بفلج اليمامة كان بها قوم من بقايا ثمود بغوا فأهلكوا . وقيل قوم من العرب القديمة بين الشام والحجاز وكانت العنقاء تختطف صبيانهم فتقتلهم فدعوا الله أن ينقذهم منها فبعث إليهم حنظلة بن صفوان فدعاهم إلى الدين على أن يقتل العنقاء فشارطوه على ذلك فدعا عليها فأصابتها الصاعقة فلم يفوا له وقتلوه فأهلكوا . وقيل هم أصحاب الأخدود والرس هو الأخدود وقيل الرس أرض بأنطاكية قتل فيها حبيب النجار . وقيل بل كذب أهلها نبيهم ورسوه في بئر أي رموه فيها . وقيل إن الرس نهر في إقليم الباب والأبواب مبدؤه من مدينة طراز وينتهي إلى نهر الكر فيختلط به حتى يصب في بحر الخزر كان هناك ملوك أولو بأس وقدرة فأهلكهم الله ببغيهم : مِنْهَا قَدْ لَبِسَ لِلْحِكْمَةِ جُنَّتَهَا وَ أَخَذَهَا بِجَمِيعِ أَدَبِهَا مِنَ اَلْإِقْبَالِ عَلَيْهَا وَ اَلْمَعْرِفَةِ بِهَا وَ اَلتَّفَرُّغِ لَهَا فَهِيَ عِنْدَ نَفْسِهِ ضَالَّتُهُ اَلَّتِي يَطْلُبُهَا وَ حَاجَتُهُ اَلَّتِي يَسْأَلُ عَنْهَا فَهُوَ مُغْتَرِبٌ إِذَا اِغْتَرَبَ اَلْإِسْلاَمُ وَ ضَرَبَ بِعَسِيبِ ذَنَبِهِ وَ أَلْصَقَ اَلْأَرْضَ بِجِرَانِهِ بَقِيَّةٌ مِنْ بَقَايَا حُجَّتِهِ خَلِيفَةٌ مِنْ خَلاَئِفِ أَنْبِيَائِهِ
[ 96 ](1/2843)
هذا الكلام فسره كل طائفة على حسب اعتقادها فالشيعة الإمامية تزعم أن المراد به المهدي المنتظر عندهم والصوفية يزعمون أنه يعني به ولي الله في الأرض وعندهم أن الدنيا لا تخلو عن الأبدال وهم الأربعون وعن الأوتاد وهم سبعة وعن القطب وهو واحد فإذا مات القطب صار أحد السبعة قطبا عوضه وصار أحد الأربعين وتدا عوض الوتد وصار بعض الأولياء الذين يصطفيهم الله تعالى أبدالا عوض ذلك البدل . وأصحابنا يزعمون أن الله تعالى لا يخلي الأمة من جماعة من المؤمنين العلماء بالعدل والتوحيد وأن الإجماع إنما يكون حجة باعتبار أقوال أولئك العلماء لكنه لما تعذرت معرفتهم بأعيانهم اعتبر إجماع سائر العلماء وإنما الأصل قول أولئك . قالوا وكلام أمير المؤمنين ع ليس يشير فيه إلى جماعة أولئك العلماء من حيث هم جماعة ولكنه يصف حال كل واحد منهم فيقول من صفته كذا ومن صفته كذا . والفلاسفة يزعمون أن مراده ع بهذا الكلام العارف ولهم في العرفان وصفات أربابه كلام يعرفه من له أنس بأقوالهم وليس يبعد عندي أن يريد به القائم من آل محمد ص في آخر الوقت إذا خلقه الله تعالى وإن لم يكن الآن موجودا فليس في الكلام ما يدل على وجوده الآن وقد وقع اتفاق الفرق من المسلمين أجمعين على أن الدنيا والتكليف لا ينقضي إلا عليه . قوله ع قد لبس للحكمة جنتها الجنة ما يستتر به من السلاح كالدرع ونحوها ولبس جنة الحكمة قمع النفس عن المشتهيات وقطع علائق النفس عن
[ 97 ](1/2844)
المحسوسات فإن ذلك مانع للنفس عن أن يصيبها سهام الهوى كما تمنع الدرع الدارع عن أن يصيبه سهام الرماية . ثم عاد إلى صفة هذا الشخص فقال وأخذ بجميع أدبها من الإقبال عليها أي شدة الحرص والهمة . ثم قال والمعرفة بها أي والمعرفة بشرفها ونفاستها . ثم قال والتفرغ لها لأن الذهن متى وجهته نحو معلومين تخبط وفسد وإنما يدرك الحكمة بتخلية السر من كل ما مر سواها . قال فهي عند نفسه ضالته التي يطلبها هذا مثل
قوله ع الحكمة ضالة المؤمن ومن كلام الحكماء لا يمنعك من الانتفاع بالحكمة حقارة من وجدتها عنده كما لا يمنعك خبث تراب المعدن من التقاط الذهب . ووجدت بخط أبي محمد عبد الله بن أحمد الخشاب رحمه الله في تعاليق مسودة أبياتا للعطوي وهي
قد رأينا الغزال والغصن والنجمين
شمس الضحى وبدر التمام
فو حق البيان يعضده البرهان
في مأقط شديد الخصام
ما رأينا سوى المليحة شيئا
جمع الحسن كله في نظام
هي تجري مجرى الأصالة في الرأي
و مجرى الأرواح في الأجسام
و قد كتب ابن الخشاب بخطه تحت المليحة ما أصدقه إن أراد بالمليحة الحكمة قوله ع وحاجته التي يسأل عنها هو مثل قوله ضالته التي يطلبها . ثم قال هو مغترب إذا اغترب الإسلام يقول هذا الشخص يخفي نفسه ويحملها
[ 98 ]
إذا اغترب الإسلام واغتراب الإسلام أن يظهر الفسق والجور على الصلاح والعدل(1/2845)
قال ع بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ . قال وضرب بعسيب ذنبه وألصق الأرض بجرانه هذا من تمام قوله إذا اغترب الإسلام أي إذا صار الإسلام غريبا مقهورا وصار الإسلام كالبعير البارك يضرب الأرض بعسيبه وهو أصل الذنب ويلصق جرانه وهو صدره في الأرض فلا يكون له تصرف ولا نهوض . ثم عاد إلى صفة الشخص المذكور . وقال بقية من بقايا حججه خليفة من خلائف أنبيائه الضمير هاهنا يرجع إلى الله سبحانه وإن لم يجر ذكره للعلم به كما قال حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ ويمكن أن يقال إن الضمير راجع إلى مذكور وهو الإسلام أي من بقايا حجج الإسلام وخليفة من خلائف أنبياء الإسلام . فإن قلت ليس للإسلام إلا نبي واحد . قلت بل له أنبياء كثير قال تعالى مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ اَلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وقال سبحانه ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اِتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وكل الأنبياء دعوا إلى ما دعا إليه محمد ص من التوحيد والعدل فكلهم أنبياء للإسلام . فإن قلت أ ليس لفظ الحجة ولفظ الخليفة مشعرا بما تقوله الإمامية . قلت لا فإن أهل التصوف يسمون صاحبهم حجة وخليفة وكذلك الفلاسفة
[ 99 ](1/2846)
و أصحابنا لا يمتنعون من إطلاق هذه الألفاظ على العلماء المؤمنين في كل عصر لأنهم حجج الله أي إجماعهم حجة وقد استخلفهم الله في أرضه ليحكموا بحكمه . وعلى ما اخترناه نحن فالجواب ظاهر : أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنِّي قَدْ بَثَثْتُ لَكُمُ اَلْمَوَاعِظَ اَلَّتِي وَعَظَ بِهَا اَلْأَنْبِيَاءُ اَلْأَنْبِيَاءُ بِهِمْ أُمَمَهُمْ وَ أَدَّيْتُ إِلَيْكُمْ مَا أَدَّتِ اَلْأَوْصِيَاءُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ وَ أَدَّبْتُكُمْ بِسَوْطِي فَلَمْ تَسْتَقِيمُوا وَ حَدَوْتُكُمْ بِالزَّوَاجِرِ فَلَمْ تَسْتَوْسِقُوا لِلَّهِ أَنْتُمْ أَ تَتَوَقَّعُونَ إِمَاماً غَيْرِي يَطَأُ بِكُمُ اَلطَّرِيقَ وَ يُرْشِدُكُمُ اَلسَّبِيلَ أَلاَ إِنَّهُ قَدْ أَدْبَرَ مِنَ اَلدُّنْيَا مَا كَانَ مُقْبِلاً وَ أَقْبَلَ مِنْهَا مَا كَانَ مُدْبِراً وَ أَزْمَعَ اَلتَّرْحَالَ عِبَادُ اَللَّهِ اَلْأَخْيَارُ وَ بَاعُوا قَلِيلاً مِنَ اَلدُّنْيَا لاَ يَبْقَى بِكَثِيرٍ مِنَ اَلآْخِرَةِ لاَ يَفْنَى مَا ضَرَّ إِخْوَانَنَا اَلَّذِينَ سُفِكَتْ دِمَاؤُهُمْ وَ هُمْ بِصِفِّينَ أَلاَّ يَكُونُوا اَلْيَوْمَ أَحْيَاءً يُسِيغُونَ اَلْغُصَصَ وَ يَشْرَبُونَ اَلرَّنْقَ قَدْ وَ اَللَّهِ لَقُوا اَللَّهَ فَوَفَّاهُمْ أُجُورَهُمْ وَ أَحَلَّهُمْ دَارَ اَلْأَمْنِ بَعْدَ خَوْفِهِمْ أَيْنَ إِخْوَانِيَ اَلَّذِينَ رَكِبُوا اَلطَّرِيقَ وَ مَضَوْا عَلَى اَلْحَقِّ أَيْنَ عَمَّارٌ وَ أَيْنَ اِبْنُ اَلتَّيِّهَانِ وَ أَيْنَ ذُو اَلشَّهَادَتَيْنِ وَ أَيْنَ نُظَرَاؤُهُمْ مِنْ إِخْوَانِهِمُ اَلَّذِينَ تَعَاقَدُوا عَلَى اَلْمَنِيَّةِ وَ أُبْرِدَ بِرُءُوسِهِمْ إِلَى اَلْفَجَرَةِ قَالَ ثُمَّ ضَرَبَ ع بِيَدِهِ إِلَى عَلَى لِحْيَتِهِ اَلشَّرِيفَةِ اَلْكَرِيمَةِ فَأَطَالَ اَلْبُكَاءَ ثُمَّ قَالَ ع أَوْهِ أَوِّهِ عَلَى إِخْوَانِيَ اَلَّذِينَ قَرَءُوا اَلْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ(1/2847)
وَ تَدَبَّرُوا اَلْفَرْضَ فَأَقَامُوهُ
[ 100 ]
أَحْيَوُا اَلسُّنَّةَ وَ أَمَاتُوا اَلْبِدْعَةَ دُعُوا لِلْجِهَادِ فَأَجَابُوا وَ وَثِقُوا بِالْقَائِدِ فَاتَّبَعُوهُ ثُمَّ نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ اَلْجِهَادَ اَلْجِهَادَ عِبَادَ اَللَّهِ أَلاَ وَ إِنِّي مُعَسْكِرٌ فِي يَومِي هَذَا فَمَنْ أَرَادَ اَلرَّوَاحَ إِلَى اَللَّهِ فَلْيَخْرُجْ قَالَ نَوْفٌ وَ عَقَدَ لِلْحُسَيْنِ ع فِي عَشَرَةِ آلاَفٍ وَ لِقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ رَحِمَهُ اَللَّهُ فِي عَشَرَةِ آلاَفٍ وَ لِأَبِي أَيُّوبَ اَلْأَنْصَارِيِّ فِي عَشَرَةِ آلاَفٍ وَ لِغَيْرِهِمْ عَلَى أَعْدَادٍ أُخْرَ وَ هُوَ يُرِيدُ اَلرَّجْعَةَ إِلَى صِفِّينَ فَمَا دَارَتِ اَلْجُمُعَةُ حَتَّى ضَرَبَهُ اَلْمَلْعُونُ اِبْنُ اَلْمُلْجَمِ لَعَنَهُ اَللَّهُ فَتَرَاجَعَتِ اَلْعَسَاكِرُ فَكُنَّا كَأَغْنَامٍ فَقَدَتْ رَاعِيهَا تَخْتَطِفُهَا اَلذِّئَابُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ بثثت لكم المواعظ فرقتها ونشرتها والأوصياء الذين يأتمنهم الأنبياء على الأسرار الإلهية وقد يمكن ألا يكونوا خلفاء بمعنى الإمرة والولاية فإن مرتبتهم أعلى من مراتب الخلفاء . وحدوتكم سقتكم كما تحدى الإبل فلم تستوسقوا أي لم تجتمعوا قال
مستوسقات لم يجدن سائقا
قوله يطأ بكم الطريق أي يحملكم على المنهاج الشرعي ويسلك بكم مسلك الحق كأنه جعلهم ضالين عن الطريق التي يطلبونها .
[ 101 ](1/2848)
و قال أ تريدون إماما غيري يوقفكم على الطريق التي تطلبونها حتى تطئوها وتسلكوها . ثم ذكر أنه قد أدبر من الدنيا ما كان مقبلا وهو الهدى والرشاد فإنه كان في أيام رسول الله ص وخلفائه مقبلا ثم أدبر عند استيلاء معاوية وأتباعه وأقبل منها ما كان مدبرا وهو الضلال والفساد ومعاوية عند أصحابنا مطعون في دينه منسوب إلى الإلحاد قد طعن فيه ص وروى فيه شيخنا أبو عبد الله البصري في كتاب نقض السفيانية على الجاحظ وروى عنه أخبارا كثيرة تدل على ذلك وقد ذكرناها في كتابنا في مناقضة السفيانية . وروى أحمد بن أبي طاهر في كتاب أخبار الملوك أن معاوية سمع المؤذن يقول أشهد أن لا إله إلا الله فقالها ثلاثا فقال أشهد أن محمدا رسول الله فقال لله أبوك يا ابن عبد الله لقد كنت عالي الهمة ما رضيت لنفسك إلا أن يقرن اسمك باسم رب العالمين . قوله ع وأزمع الترحال أي ثبت عزمهم عليه يقال أزمعت الأمر ولا يقال أزمعت على الأمر هكذا يقول الكسائي وأجازه الخليل والفراء . ثم قال ع إنه لم يضر إخواننا القتلى بصفين كونهم اليوم ليسوا بأحياء حياتنا المشوبة بالنغص والغصص . ويقال ماء رنق بالتسكين أي كدر رنق الماء بالكسر يرنق رنقا فهو رنق وأرنقته أي كدرته وعيش رنق بالكسر أي كدر . ثم أقسم أنهم لقوا الله فوفاهم أجورهم وهذا يدل على ما يذهب إليه جمهور أصحابنا من نعيم القبر وعذابه . ثم قال ع أين إخواني ثم عددهم فقال أين عمار
[ 102 ](1/2849)
عمار بن ياسر ونسبه ونبذ من أخباره
و هو عمار بن ياسر بن عامر بن كنانة بن قيس العنسي بالنون المذحجي يكنى أبا اليقظان حليف بني مخزوم . ونحن نذكر طرفا من أمره من كتاب الإستيعاب لأبي عمر بن عبد البر المحدث قال أبو عمر كان ياسر والد عمار عربيا قحطانيا من عنس في مذحج إلا أن ابنه عمارا كان مولى لبني مخزوم لأن أباه ياسرا قدم مكة مع أخوين له يقال لهما مالك والحارث في طلب أخ لهم رابع فرجع الحارث ومالك إلى اليمن وأقام ياسر بمكة فحالف أبا حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم فزوجه أبو حذيفة أمة يقال لها سمية فأولدها عمارا فأعتقه أبو حذيفة فمن هاهنا كان عمار مولى بني مخزوم وأبوه عربي لا يختلفون في ذلك وللحلف والولاء الذي بين بني مخزوم وعمار وأبيه ياسر كان احتمال بني مخزوم على عثمان حين نال من عمار غلمان عثمان ما نالوا من الضرب حتى انفتق له فتق في بطنه زعموا وكسروا ضلعا من أضلاعه فاجتمعت بنو مخزوم فقالوا والله لئن مات لا قتلنا به أحدا غير عثمان . قال أبو عمر كان عمار بن ياسر ممن عذب في الله ثم أعطاهم عمار ما أرادوا بلسانه واطمأن الإيمان بقلبه فنزل فيه إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وهذا مما أجمع عليه أهل التفسير .
[ 103 ](1/2850)
و هاجر إلى أرض الحبشة وصلى إلى القبلتين وهو من المهاجرين الأولين ثم شهد بدرا والمشاهد كلها وأبلى بلاء حسنا ثم شهد اليمامة فأبلى فيها أيضا يومئذ وقطعت أذنه . قال أبو عمر وقد روى الواقدي عن عبد الله بن نافع عن أبيه عن عبد الله بن عمر قال رأيت عمارا يوم اليمامة على صخرة وقد أشرف عليها يصيح يا معشر المسلمين أ من الجنة تفرون أنا عمار بن ياسر هلموا إلي وأنا أنظر إلى أذنه قد قطعت فهي تذبذب وهو يقاتل أشد القتال . قال أبو عمر وكان عمار آدم طوالا مضطربا أشهل العينين بعيد ما بين المنكبين لا يغير شيبة . قال وبلغنا أن عمارا قال كنت تربا لرسول الله ص في سنه لم يكن أحد أقرب إليه مني سنا . و
قال ابن عباس في قوله تعالى أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ إنه عمار بن ياسر كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها إنه أبو جهل بن هشام
قال وقال رسول الله ص إن عمارا ملئ إيمانا إلى مشاشه ويروى إلى أخمص قدميه و
روى أبو عمر عن عائشة أنها قالت ما من أحد من أصحاب رسول الله ص
[ 104 ]
أشاء أن أقول فيه إلا قلت إلا عمار بن ياسر فإني سمعت رسول الله ص يقول إنه ملئ إيمانا إلى أخمص قدميه . قال أبو عمر وقال عبد الرحمن بن أبزى شهدنا مع علي ع صفين ثمانمائة ممن بايع بيعة الرضوان قتل منا ثلاثة وستون منهم عمار بن ياسر .
قال أبو عمر ومن حديث خالد بن الوليد أن رسول الله ص قال من أبغض عمارا أبغضه الله فما زلت أحبه من يومئذ .
قال أبو عمر ومن حديث علي بن أبي طالب ع أن عمارا جاء يستأذن على رسول الله ص يوما فعرف صوته فقال مرحبا بالطيب المطيب يعني عمارا ائذنوا له(1/2851)
قال أبو عمر ومن حديث أنس عن النبي ص اشتاقت الجنة إلى أربعة علي وعمار وسلمان وبلال . قال أبو عمر وفضائل عمار كثيرة جدا يطول ذكرها . قال وروى الأعمش عن أبي عبد الرحمن السلمي قال شهدنا مع علي ع صفين فرأيت عمار بن ياسر لا يأخذ في ناحية ولا واد من أودية صفين إلا رأيت أصحاب محمد ص يتبعونه كأنه علم لهم وسمعته يقول يومئذ لهاشم بن عتبة يا هاشم تقدم الجنة تحت البارقة
اليوم ألقى الأحبة
محمدا وحزبه
و الله لو هزمونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق وأنهم على الباطل ثم قال
نحن ضربناكم على تنزيله
فاليوم نضربكم على تأويله
[ 105 ]
ضربا يزيل الهام عن مقيله
و يذهل الخليل عن خليله
أو يرجع الحق على سبيله
فلم أر أصحاب محمد ص قتلوا في موطن ما قتلوا يومئذ . قال وقد قال أبو مسعود البدري وطائفة لحذيفة حين احتضر وقد ذكر الفتنة إذا اختلف الناس فبمن تأمرنا قال عليكم بابن سمية فإنه لن يفارق الحق حتى يموت أو قال فإنه يزول مع الحق حيث زال . قال أبو عمر وبعضهم يجعل هذا الحديث عن حذيفة مرفوعا . قال أبو عمر وروى الشعبي عن الأحنف أن عمارا حمل يوم صفين فحمل عليه ابن جزء السكسكي وأبو الغادية الفزاري فأما أبو الغادية فطعنه وأما ابن جزء فاحتز رأسه . قلت هذا الموضع مما اختلف فيه قول أبي عمر رحمه الله فإنه ذكر في كتاب الكنى من الإستيعاب أبا الغادية بالغين المعجمة وقال إنه جهني من جهينة وجهينة من قضاعة وقد نسبه هاهنا فزاريا . وقال في كتاب الكنى إن اسم أبي الغادية يسار وقيل مسلم . وقد ذكر ابن قتيبة في كتاب المعارف عن أبي الغادية أنه كان يحدث عن نفسه بقتل عمار ويقول إن رجلا طعنه فانكشف المغفر عن رأسه فضربت رأسه فإذا رأس عمار قد ندر . وكيفية هذا القتل تخالف الكيفية التي رواها ابن عبد البر . قال أبو عمر وقد روى وكيع عن شعبة عن عبد بن مرة عن عبد الله بن سلمة
[ 106 ](1/2852)
قال لكأني أنظر إلى عمار يوم صفين وهو صريع فاستسقى فأتي بشربة من لبن فشرب فقال
اليوم ألقى الأحبة
إن رسول الله ص عهد إلي أن آخر شربة أشربها في الدنيا شربة من لبن ثم استسقى ثانية فأتته امرأة طويلة اليدين بإناء فيه ضياح من لبن فقال حين شربه الحمد لله الجنة تحت الأسنة والله لو ضربونا حتى يبلغونا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق وأنهم على الباطل ثم قاتل حتى قتل . قال أبو عمر وقد روى حارثة بن المضراب قرأت كتاب عمر إلى أهل الكوفة أما بعد فإني بعثت إليكم عمارا أميرا وعبد الله بن مسعود معلما ووزيرا وهما من النجباء من أصحاب محمد فاسمعوا لهما واقتدوا بهما فإني قد آثرتكم بعبد الله على نفسي أثرة . قال أبو عمر وإنما قال عمر هما من النجباء
لقول رسول الله ص إنه لم يكن نبي إلا أعطي سبعة من أصحابه نجباء وزراء فقهاء وإني قد أعطيت أربعة عشر حمزة وجعفرا وعليا وحسنا وحسينا وأبا بكر وعمر وعبد الله بن مسعود وسلمان وعمارا وأبا ذر وحذيفة والمقداد وبلالا
قال أبو عمر وتواترت الأخبار عن رسول الله ص أنه قال تقتل عمارا الفئة الباغية وهذا من إخباره بالغيب وأعلام نبوته ص وهو من أصح الأحاديث . وكانت صفين في ربيع الآخر سنة سبع وثلاثين ودفنه علي ع في ثيابه ولم يغسله .
[ 107 ]
و روى أهل الكوفة أنه صلى عليه وهو مذهبهم في الشهداء أنهم لا يغسلون ولكن يصلى عليهم . قال أبو عمر وكانت سن عمار يوم قتل نيفا وتسعين سنة وقيل إحدى وتسعين وقيل اثنتين وتسعين وقيل ثلاثا وتسعين(1/2853)
ذكر أبي الهيثم بن التيهان وطرف من أخباره
ثم قال ع وأين ابن التيهان هو أبو الهيثم بن التيهان بالياء المنقوطة باثنتين تحتها المشددة المكسورة وقبلها تاء منقوطة باثنتين فوقها واسمه مالك واسم أبيه مالك أيضا ابن عبيد بن عمرو بن عبد الأعلم بن عامر الأنصاري أحد النقباء ليلة العقبة وقيل إنه لم يكن من أنفسهم وإنه من بلي بن أبي الحارث بن قضاعة وإنه حليف لبني عبد الأشهل كان أحد النقباء ليلة العقبة وشهد بدرا . قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب اختلف في وقت وفاته فذكر خليفة عن الأصمعي قال سألت قومه فقالوا مات في حياة رسول الله ص . قال أبو عمر وهذا لم يتابع عليه قائله . وقيل إنه توفي سنة عشرين أو إحدى وعشرين . وقيل إنه أدرك صفين وشهدها مع علي ع وهو الأكثر . وقيل إنه قتل بها . ثم قال أبو عمر حدثنا خلف بن قاسم قال حدثنا الحسن بن رشيق قال
[ 108 ]
حدثنا الدولابي قال حدثنا أبو بكر الوجيهي عن أبيه عن صالح بن الوجيه قال وممن قتل بصفين عمار وأبو الهيثم بن التيهان وعبد الله بن بديل وجماعة من البدريين رحمهم الله . ثم روى أبو عمر رواية أخرى فقال حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا عثمان بن أحمد بن السماك قال حدثنا حنبل بن إسحاق بن علي قال قال أبو نعيم أبو الهيثم بن التيهان اسمه مالك واسم التيهان عمرو بن الحارث أصيب أبو الهيثم مع علي يوم صفين . قال أبو عمر هذا قول أبي نعيم وغيره . قلت وهذه الرواية أصح من قول ابن قتيبة في كتاب المعارف وذكر قوم أن أبا الهيثم شهد صفين مع علي ع ولا يعرف ذلك أهل العلم ولا يثبتونه فإن تعصب ابن قتيبة معلوم وكيف يقول لا يعرفه أهل العلم وقد قاله أبو نعيم وقاله صالح بن الوجيه ورواه ابن عبد البر وهؤلاء شيوخ المحدثين(1/2854)
ذكر ذي الشهادتين خزيمة بن ثابت وطرف من أخباره
ثم قال ع وأين ذو الشهادتين هو خزيمة بن ثابت بن الفاكه بن ثعلبة الخطمي الأنصاري من بني خطمة من الأوس جعل رسول الله ص
[ 109 ]
شهادته كشهادة رجلين لقصة مشهورة يكنى أبا عمارة شهد بدرا وما بعدها من المشاهد وكانت راية بني خطمة بيده يوم الفتح . قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب وشهد صفين مع علي بن أبي طالب ع فلما قتل عمار قاتل حتى قتل . قال أبو عمر وقد روي حديث مقتله بصفين من وجوه كثيرة ذكرناها في كتاب الإستيعاب عن ولد ولده وهو محمد بن عمارة بن خزيمة ذي الشهادة وأنه كان يقول في صفين
سمعت رسول الله ص يقول تقتل عمارا الفئة الباغية ثم قاتل حتى قتل . قلت ومن غريب ما وقعت عليه من العصبية القبيحة أن أبا حيان التوحيدي قال في كتاب البصائر إن خزيمة بن ثابت المقتول مع علي ع بصفين ليس هو خزيمة بن ثابت ذا الشهادتين بل آخر من الأنصار صحابي اسمه خزيمة بن ثابت وهذا خطأ لأن كتب الحديث والنسب تنطق بأنه لم يكن في الصحابة من الأنصار ولا من غير الأنصار خزيمة بن ثابت إلا ذو الشهادتين وإنما الهوى لا دواء له على أن الطبري صاحب التاريخ قد سبق أبا حيان بهذا القول ومن كتابه نقل أبو حيان والكتب الموضوعة لأسماء الصحابة تشهد بخلاف ما ذكراه ثم أي حاجة لناصري أمير المؤمنين أن يتكثروا بخزيمة وأبي الهيثم وعمار وغيرهم لو أنصف
[ 110 ](1/2855)
الناس هذا الرجل ورأوه بالعين الصحيحة لعلموا أنه لو كان وحده وحاربه الناس كلهم أجمعون لكان على الحق وكانوا على الباطل . ثم قال ع وأين نظراؤهم من إخوانهم يعني الذين قتلوا بصفين معه من الصحابة كابن بديل وهاشم بن عتبة وغيرهما ممن ذكرناه في أخبار صفين . وتعاقدوا على المنية جعلوا بينهم عقدا وروي تعاهدوا . وأبرد برءوسهم إلى الفجرة حملت رءوسهم مع البريد إلى الفسقة للبشارة بها والفجرة هاهنا أمراء عسكر الشام تقول قد أبردت إلى الأمير فأنا مبرد والرسول بريد ويقال للفرانق البريد لأنه ينذر قدام الأسد . قوله أوه على إخواني ساكنة الواو مكسورة الهاء كلمة شكوى وتوجع وقال الشاعر
فأوه لذكراها إذا ما ذكرتها
و من بعد أرض دونها وسماء
و ربما قلبوا الواو ألفا فقالوا آه من كذا آه على كذا وربما شددوا الواو وكسروها وسكنوا الهاء فقالوا أوه من كذا وربما حذفوا الهاء مع التشديد وكسروا الواو فقالوا أو من كذا بلا مد وقد يقولون آوه بالمد والتشديد وفتح الألف وسكون الهاء لتطويل الصوت بالشكاية وربما أدخلوا فيه الياء تارة يمدونه وتارة لا يمدونه فيقولون أوياه وآوياه وقد أوه الرجل تأويها وتأوه تأوها إذا قال أوه والاسم منه الآهة بالمد قال المثقب العبدي
إذا ما قمت أرحلها بليل
تأوه آهة الرجل الحزين
[ 111 ]
قوله ع ووثقوا بالقائد فاتبعوه يعني نفسه أي وثقوا بأني على الحق وتيقنوا ذلك فاتبعوني في حرب من حاربت وسلم من سالمت . قوله الجهاد الجهاد منصوب بفعل مقدر . وإني معسكر في يومي أي خارج بالعسكر إلى منزل يكون لهم معسكرا(1/2856)
ذكر سعد بن عبادة ونسبه
و قيس بن سعد بن عبادة بن دليم الخزرجي صحابي يكنى أبا عبد الملك روى عن رسول الله ص أحاديث وكان طوالا جدا سبطا شجاعا جوادا وأبوه سعد رئيس الخزرج وهو الذي حاولت الأنصار إقامته في الخلافة بعد رسول الله ص ولم يبايع أبا بكر حين بويع وخرج إلى حوران فمات بها قيل قتلته الجن لأنه بال قائما في الصحراء ليلا ورووا بيتين من شعر قيل إنهما سمعا ليلة قتله ولم ير قائلهما
نحن قتلنا سيد الخزرج
سعد بن عبادة
و رميناه بسهمين
فلم نخطئ فؤاده
و يقول قوم إن أمير الشام يومئذ كمن له من رماه ليلا وهو خارج إلى الصحراء بسهمين فقتله لخروجه عن طاعة الإمام وقد قال بعض المتأخرين في ذلك
يقولون سعد شكت الجن قلبه
ألا ربما صححت دينك بالغدر
و ما ذنب سعد أنه بال قائما
و لكن سعدا لم يبايع أبا بكر
و قد صبرت من لذة العيش أنفس
و ما صبرت عن لذة النهي والأمر
[ 112 ]
و كان قيس بن سعد من كبار شيعة أمير المؤمنين ع وقائل بمحبته وولائه وشهد معه حروبه كلها وكان مع الحسن ع ونقم عليه صلحه معاوية وكان طالبي الرأي مخلصا في اعتقاده ووده وأكد ذلك عنده فوات الأمر أباه وما نيل يوم السقيفة وبعده منه فوجد من ذلك في نفسه وأضمره حتى تمكن من إظهاره في خلافة أمير المؤمنين وكما قيل عدو عدوك صديق لك(1/2857)
ذكر أبي أيوب الأنصاري ونسبه
و أما أبو أيوب الأنصاري فهو خالد بن يزيد بن كعب بن ثعلبة الخزرجي من بني النجار شهد العقبة وبدرا وسائر المشاهد وعليه نزل رسول الله ص لما خرج عن بني عمرو بن عوف حين قدم المدينة مهاجرا من مكة فلم يزل عنده حتى بنى مسجده ومساكنه ثم انتقل إليها ويوم المؤاخاة آخى رسول الله ص بينه وبين مصعب بن عمير . وقال أبو عمر في كتاب الإستيعاب إن أبا أيوب شهد مع علي ع مشاهده كلها وروي ذلك عن الكلبي وابن إسحاق قالا شهد معه يوم الجمل وصفين وكان مقدمته يوم النهروان . قوله تختطفها الذئاب الاختطاف أخذك الشي ء بسرعة ويروى تتخطفها قال تعالى تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ اَلنَّاسُ . ويقال إن هذه الخطبة آخر خطبة أمير المؤمنين ع قائما
[ 113 ](1/2858)
184 ـ من خطبة له ع
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ اَلْخَالِقِ مِنْ غَيْرِ مَنْصَبَةٍ خَلَقَ اَلْخَلاَئِقَ بِقُدْرَتِهِ وَ اِسْتَعْبَدَ اَلْأَرْبَابَ بِعِزَّتِهِ وَ سَادَ اَلْعُظَمَاءَ بِجُودِهِ وَ هُوَ اَلَّذِي أَسْكَنَ اَلدُّنْيَا خَلْقَهُ وَ بَعَثَ إِلَى اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ رُسُلَهُ لِيَكْشِفُوا لَهُمْ عَنْ غِطَائِهَا وَ لِيُحَذِّرُوهُمْ مِنْ ضَرَّائِهَا وَ لْيَضْرِبُوا لَهُمْ أَمْثَالَهَا وَ لِيُبَصِّرُوهُمْ عُيُوبَهَا وَ لِيَهْجُمُوا عَلَيْهِمْ بِمُعْتَبَرٍ مِنْ تَصَرُّفِ مَصَاحِّهَا وَ أَسْقَامِهَا وَ حَلاَلِهَا وَ حَرَامِهَا وَ مَا أَعَدَّ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ لِلْمُطِيعِينَ مِنْهُمْ وَ اَلْعُصَاةِ مِنْ جَنَّةٍ وَ نَارٍ وَ كَرَامَةٍ وَ هَوَانٍ أَحْمَدُهُ إِلَى نَفْسِهِ كَمَا اِسْتَحْمَدَ إِلَى خَلْقِهِ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً وَ لِكُلِّ قَدْرٍ أَجَلاً وَ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَاباً المنصبة بالفتح والنصب التعب والماضي نصب بالكسرة وهم ناصب في قول النابغة
كليني لهم يا أميمة ناصب
ذو نصب مثل رجل تامر ولابن ويقال هو فاعل بمعنى مفعول فيه لأنه ينصب
[ 114 ](1/2859)
فيه ويتعب كقولهم ليل نائم أي ينام فيه ويوم عاصف أي تعصف فيه الريح واستعبدت فلانا اتخذته عبدا والضراء الشدة . ومعتبر مصدر بمعنى الاعتبار ومصاحها جمع مصحة مفعلة من الصحة كمضار جمع مضرة وصفه سبحانه بأنه معروف بالأدلة لا من طريق الرؤية كما تعرف المرئيات وبأنه يخلق الأشياء ولا يتعب كما يتعب الواحد منا فيما يزاوله ويباشر من أفعاله خلق الخلائق بقدرته على خلقهم لا بحركة واعتماد وأسبغ النعمة عليهم أوسعها واستعبد الذين يدعون في الدنيا أربابا بعزه وقهره . وساد كل عظيم بسعة جوده وأسكن الدنيا خلقه كما ورد في الكتاب العزيز إِنِّي جاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً . وبعث رسله إلى الجن والإنس كما ورد في الكتاب العزيز يا مَعْشَرَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا . قال ليكشفوا لهم عن غطاء الدنيا أي عن عوراتها وعيوبها المستورة وليخوفوهم من مضرتها وغرورها المفضي إلى عذاب الأبد . وليضربوا لهم أمثالها كالأمثال الواردة في الكتاب العزيز نحو قوله تعالى إِنَّما مَثَلُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ اَلسَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ اَلْأَرْضِ . . . الآية . قوله وليهجموا عليهم هجمت على الرجل دخلت عليه بغتة يقول ليدخلوا عليهم بما في تصاريف الدنيا من الصحة والسقم وما أحل وما حرم على طريق الابتلاء .
[ 115 ](1/2860)
ثم قال وما أعد الله سبحانه للمطيعين منهم والعصاة يجوز أن تكون ما معطوفة على عيوبها فيكون موضعها نصبا ويجوز أن يكون موضعها جرا ويكون من تتمة أقسام ما يعتبر به والأول أحسن . ثم قال ع إني أحمد الله كما استحمد إلى خلقه استحمد إليهم فعل ما يوجب عليهم حمده . ثم قال إنه سبحانه جعل لكل شي ء من أفعاله قدرا أي فعله مقدرا محدود الغرض اقتضى ذلك القدر وتلك الكيفية كما قال سبحانه وَ كُلُّ شَيْ ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ . وجعل لكل شي ء مقدر وقتا ينتهي إليه وينقطع عنده وهو الأجل . ولكل أجل كتابا أي رقوما تعرفها الملائكة فتعلم انقضاء عمر من ينقضي عمره وعدم ما ألطافهم في معرفة عدمه : مِنْهَا فِي ذِكْرِ اَلْقُرْآنِ فَالْقُرْآنُ آمِرٌ زَاجِرٌ وَ صَامِتٌ نَاطِقٌ حُجَّةُ اَللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ أَخَذَ عَلَيْهِ مِيثَاقَهُمْ وَ اِرْتَهَنَ عَلَيْهِمْ أَنْفُسَهُمْ أَتَمَّ نُورَهُ وَ أَكْرَمَ بِهِ دِينَهُ وَ قَبَضَ نَبِيَّهُ ص وَ قَدْ فَرَغَ إِلَى اَلْخَلْقِ مِنْ أَحْكَامِ اَلْهُدَى بِهِ فَعَظِّمُوا مِنْهُ سُبْحَانَهُ مَا عَظَّمَ مِنْ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يُخْفِ عَنْكُمْ شَيْئاً مِنْ دِينِهِ وَ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئاً رَضِيَهُ أَوْ كَرِهَهُ إِلاَّ وَ جَعَلَ لَهُ عَلَماً بَادِياً وَ آيَةً مُحْكَمَةً تَزْجُرُ عَنْهُ أَوْ تَدْعُو إِلَيْهِ فَرِضَاهُ فِيمَا بَقِيَ وَاحِدٌ وَ سَخَطُهُ فِيمَا بَقِيَ وَاحِدٌ
[ 116 ](1/2861)
وَ اِعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرْضَى عَنْكُمْ بِشَيْ ءٍ سَخِطَهُ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَ لَنْ يَسْخَطَ عَلَيْكُمْ بِشَيْ ءٍ رَضِيَهُ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَ إِنَّمَا تَسِيرُونَ فِي أَثَرٍ بَيِّنٍ وَ تَتَكَلِّمُونَ بِرَجْعِ قَوْلٍ قَدْ قَالَهُ اَلرِّجَالُ مِنْ قَبْلِكُمْ قَدْ كَفَاكُمْ مَئُونَةَ دُنْيَاكُمْ وَ حَثَّكُمْ عَلَى اَلشُّكْرِ وَ اِفْتَرَضَ مِنْ أَلْسِنَتِكُمُ اَلذِّكْرَ وَ أَوْصَاكُمْ بِالتَّقْوَى وَ جَعَلَهَا مُنْتَهَى رِضَاهُ وَ حَاجَتَهُ مِنْ خَلْقِهِ فَاتَّقُوا اَللَّهَ اَلَّذِي أَنْتُمْ بِعَيْنِهِ وَ نَوَاصِيكُمْ بِيَدِهِ وَ تَقَلُّبُكُمْ فِي قَبْضَتِهِ إِنْ أَسْرَرْتُمْ عَلِمَهُ وَ إِنْ أَعْلَنْتُمْ كَتَبَهُ قَدْ وَكَّلَ بِذَلِكَ حَفَظَةً كِرَاماً لاَ يُسْقِطُونَ حَقّاً وَ لاَ يُثْبِتُونَ بَاطِلاً وَ اِعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يَتَّقِ اَللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً مِنَ اَلْفِتَنِ وَ نُوراً مِنَ اَلظُّلَمِ وَ يُخَلِّدْهُ فِيمَا اِشْتَهَتْ نَفْسُهُ وَ يُنْزِلْهُ مَنْزِلَ اَلْكَرَامَةِ عِنْدَهُ فِي دَارٍ اِصْطَنَعَهَا لِنَفْسِهِ ظِلُّهَا عَرْشُهُ وَ نُورُهَا بَهْجَتُهُ وَ زُوَّارُهَا مَلاَئِكَتُهُ وَ رُفَقَاؤُهَا رُسُلُهُ فَبَادِرُوا اَلْمَعَادَ وَ سَابِقُوا اَلآْجَالَ فَإِنَّ اَلنَّاسَ يُوشِكُ أَنْ يَنْقَطِعَ بِهِمُ اَلْأَمَلُ وَ يَرْهَقَهُمُ اَلْأَجَلُ وَ يُسَدَّ عَنْهُمْ بَابُ اَلتَّوْبَةِ فَقَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي مِثْلِ مَا سَأَلَ إِلَيْهِ اَلرَّجْعَةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَ أَنْتُمْ بَنُو سَبِيلٍ عَلَى سَفَرٍ مِنْ دَارٍ لَيْسَتْ بِدَارِكُمْ وَ قَدْ أُوذِنْتُمْ مِنْهَا بِالاِرْتِحَالِ وَ أُمِرْتُمْ فِيهَا بِالزَّادِ جعل القرآن آمرا وزاجر لما كان خالقه وهو الله سبحانه آمرا زاجرا به فأسند الأمر والزجر إليه كما تقول سيف قاتل وإنما القاتل الضارب(1/2862)
به وجعله صامتا ناطقا لأنه من حيث هو حروف وأصوات صامت إذ كان العرض يستحيل أن يكون ناطقا
[ 117 ]
لأن النطق حركة الأداة بالكلام والكلام يستحيل أن يكون ذا أداة ينطق بالكلام بها وهو من حيث يتضمن الإخبار والأمر والنهي والنداء وغير ذلك من أقسام الكلام كالناطق لأن الفهم يقع عنده وهذا من باب المجاز كما تقول هذه الربوع الناطقة وأخبرتني الديار بعد رحيلهم بكذا . ثم وصفه بأنه حجة الله على خلقه لأنه المعجزة الأصلية . أخذ سبحانه على الخلائق ميثاقه وارتهن عليه أنفسهم لما كان سبحانه قد قرر في عقول المكلفين أدلة التوحيد والعدل ومن جملة مسائل العدل النبوة ويثبت نبوة محمد ص عقلا كان سبحانه بذلك كالآخذ ميثاق المكلفين بتصديق دعوته وقبول القرآن الذي جاء وجعل به نفسهم رهنا على الوفاء بذلك فمن خالف خسر نفسه وهلك هلاك الأبد . هذا تفسير المحققين ومن الناس من يقول المراد بذلك قصة الذرية قبل خلق آدم ع كما ورد في الأخبار وكما فسر قوم عليه الآية . ثم ذكر ع أن الله تعالى قبض رسوله ص وقد فرغ إلى الخلق بالقرآن من الإكمال والإتمام كقوله تعالى اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وإذا كان قد أكمله لم يبق فيه نقص ينتظر إتمامه . قال فعظموا من الله ما عظم من نفسه لأنه سبحانه وصف نفسه بالعظمة والجلال في أكثر القرآن فالواجب علينا أن نعظمه على حسب ما عظم نفسه سبحانه . ثم علل وجوب تعظيمه وحسن أمره لنا بتعظيمه سبحانه بكونه لم يخف عنا شيئا من أمر ديننا وذلك لأن الشرعيات مصالح المكلفين وإذا فعل الحكيم سبحانه بنا
[ 118 ](1/2863)
ما فيه صلاحنا فقد أحسن إلينا ومن جملة صلاحنا تعريفنا من الشرعيات ما فعله لطف ومفض بنا إلى الثواب وهذا أبلغ ما يكون من الإحسان والمحسن يجب تعظيمه وشكره . قال لم يترك شيئا إلا وجعل له نصا ظاهرا يدل عليه أو علما يستدل به عليه أي إما منصوص عليه صريحا أو يمكن أن يستنبط حكمه من القرآن إما بذكره أو بتركه فيبقى على البراءة الأصلية وحكم العقل . قوله فرضاه فيما بقي واحد معناه أن ما لم ينص عليه صريحا بل هو في محل النظر ليس يجوز للعلماء أن يجتهدوا فيه فيحله بعضهم ويحرمه بعضهم بل رضا الله سبحانه أمر واحد وكذلك سخطه فليس يجوز أن يكون شي ء من الأشياء يفتي فيه قوم بالحل وقوم بالحرمة وهذا قول منه ع بتحريم الاجتهاد وقد سبق منه ع مثل هذا الكلام مرارا . قوله واعلموا أنه ليس يرضى عنكم الكلام إلى منتهاه معناه أنه ليس يرضى عنكم بالاختلاف في الفتاوي والأحكام كما اختلف الأمم من قبلكم فسخط اختلافهم قال سبحانه إِنَّ اَلَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ ءٍ . وكذلك ليس يسخط عليكم بالاتفاق والاجتماع الذي رضيه ممن كان قبلكم من القرون . ويجوز أن يفسر هذا الكلام بأنه لا يرضى عنكم بما سخطه على الذين من قبلكم من الاعتقادات الفاسدة في التوحيد والعدل ولا يسخط عليكم بما تعتقدونه من الاعتقادات الصحيحة التي رضيها ممن كان قبلكم في التوحيد والعدل فيكون الكلام مصروفا إلى الأصول لا إلى الفروع .
[ 119 ](1/2864)
قال وإنما تسيرون في أثر بين أي إن الأدلة واضحة وليس مراده الأمر بالتقليد وكذلك قوله وتتكلمون برجع قول قد قاله الرجال من قبلكم يعني كلمة التوحيد لا إله إلا الله قد قالها الموحدون من قبل هذه الملة لا تقليدا بل بالنظر والدليل فقولوها أنتم كذلك . ثم ذكر أنه سبحانه قد كفى الخلق مئونة دنياهم قال الحسن البصري إن الله تعالى كفانا مئونة دنيانا وحثنا على القيام بوظائف ديننا فليته كفانا مئونة ديننا وحثنا على القيام بوظائف دنيانا . قوله وافترض من ألسنتكم الذكر افترض عليكم أن تذكروه وتشكروه بألسنتكم ومن متعلقة بمحذوف دل عليه المصدر المتأخر تقديره وافترض عليكم الذكر من ألسنتكم الذكر . ثم ذكر أن التقوى المفترضة هي رضا الله وحاجته من خلقه لفظة حاجته مجاز لأن الله تعالى غني غير محتاج ولكنه لما بالغ في الحث والحض عليها وتوعد على تركها جعله كالمحتاج إلى الشي ء ووجه المشاركة أن المحتاج يحث ويحض على حاجته وكذلك الآمر المكلف إذا أكد الأمر . قوله أنتم بعينه أي يعلم أحوالكم ونواصيكم بيده الناصية مقدم شعر الرأس أي هو قادر عليكم قاهر لكم متمكن من التصرف فيكم كالإنسان القابض على ناصية غيره . وتقلبكم في قبضته أي تصرفكم تحت حكمه لو شاء أن يمنعكم منعكم فهو كالشي ء في قبضة الإنسان إن شاء استدام القبض عليه وإن شاء تركه . ثم قال إن أسررتم أمرا علمه وإن أظهرتموه كتبه ليس على أن الكتابة غير العلم بل هما شي ء واحد ولكن اللفظ مختلف .
[ 120 ](1/2865)
ثم ذكر أن الملائكة موكلة بالمكلف وهذا هو نص الكتاب العزيز وقد تقدم القول في ذلك . ثم انتقل إلى ذكر الجنة والكلام يدل على أنها في السماء وأن العرش فوقها . ومعنى قوله اصطنعها لنفسه إعظامها وإجلالها كما قال لموسى وَ اِصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ولأنه لما تعارف الناس في تعظيم ما يصنعونه أن يقول الواحد منهم لصاحبه قد وهبتك هذه الدار التي اصطنعتها لنفسي أي أحكمتها ولم أكن في بنائها متكلفا بأن أبنيها لغيري صح وحسن من البليغ الفصيح أن يستعير مثل ذلك فيما لم يصطنعه في الحقيقة لنفسه وإنما هو عظيم جليل عنده . قوله ونورها بهجته هذا أيضا مستعار كأنه لما كان إشراق نورها عظيما جدا نسبه إلى بهجة البارئ وليس هناك بهجة على الحقيقة لأن البهجة حسن الخلقة قال تعالى وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ أي من كل صنف حسن . قوله وزوارها ملائكته قد ورد في هذا من الأخبار كثير جدا ورفقاؤها رسله من قوله تعالى وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً . ويوشك بكسر الشين فعل مستقبل ماضيه أوشك أي أسرع . ورهقه الأمر بالكسر فاجأه . ويسد عنهم باب التوبة لأنه لا تقبل عند نزول الموت بالإنسان من حيث كان يفعلها خوفا فقط لا لقبح القبيح قال تعالى وَ لَيْسَتِ اَلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ اَلْآنَ .
[ 121 ]
و إنما قال في مثل ما سأل إليه الرجعة من كان قبلكم كقوله سبحانه حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ قالَ رَبِّ اِرْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ . وبنو سبيل أرباب طريق مسافرون . وأوذن فلان بكذا أعلم وآذنته أعلمته . وقد تقدم لنا كلام بالغ في التقوى وماهيتها وتأكيد وصاة الخالق سبحانه والرسول ع بها(1/2866)
نبذ وأقاويل في التقوى
روى المبرد في الكامل أن رجلا قال لعمر بن الخطاب اتق الله يا أمير المؤمنين فقال له رجل أ تألت على أمير المؤمنين أي أ تنتقصه فقال عمر دعه فلا خير فيهم إذا لم يقولوها ولا خير فينا إذا لم تقل لنا . وكتب أبو العتاهية إلى سهل بن صالح وكان مقيما بمكة أما بعد فأنا أوصيك بتقوى الله الذي لا غناء بك عن تقاته وأتقدم إليك عن الله ونذكرك مكر الله فيما دبت به إليك ساعات الليل والنهار فلا تخدعن عن دينك فإن ساعاتك أوقاتك إن ظفرت بذلك منك وجدت الله فيك أسرع مكرا وأنفذ فيك أمرا ووجدت ما مكرت به في غير ذات الله غير راد عنك يد الله ولا مانع لك من أمر الله ولعمري لقد ملأت عينك الفكر واضطربت في سمعك أصوات العبر ورأيت آثار نعم الله نسختها آثار نقمه حين استهزئ بأمره وجوهر بمعاندته ألا إن في حكم الله
[ 122 ]
أنه من أكرمه الله فاستهان بأمره أهانه الله السعيد من وعظ بغيره لا وعظك الله في نفسك وجعل عظتك في غيرك ولا جعل الدنيا عليك حسرة وندامة برحمته . و(1/2867)
من كلام رسول الله ص لا كرم كالتقوى ولا مال أعود من العقل ولا وحدة أوحش من العجب ولا عقل كالتدبير ولا قرين كحسن الخلق ولا ميراث كالأدب ولا فائدة كالتوفيق ولا تجارة كالعمل الصالح ولا ربح كثواب الله ولا ورع كالوقوف عند الشبهة ولا زهد كالزهد في الحرام ولا علم كالتفكر ولا عبادة كأداء الفرائض ولا إيمان كالحياء والصبر ولا حسب كالتواضع ولا شرف كالعلم ولا مظاهرة أوفق من المشورة فاحفظ الرأس وما حوى والبطن وما وعى واذكر الموت وطول البلى : وَ اِعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ لِهَذَا اَلْجِلْدِ اَلرَّقِيقِ صَبْرٌ عَلَى اَلنَّارِ فَارْحَمُوا نُفُوسَكُمْ فَإِنَّكُمْ قَدْ جَرَّبْتُمُوهَا فِي مَصَائِبِ اَلدُّنْيَا فَرَأَيْتُمْ جَزَعَ أَحَدِكُمْ مِنَ اَلشَّوْكَةِ تُصِيبُهُ وَ اَلْعَثْرَةِ تُدْمِيهِ وَ اَلرَّمْضَاءِ تُحْرِقُهُ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ بَيْنَ طَابَقَيْنِ مِنْ نَارٍ ضَجِيعَ حَجَرٍ وَ قَرِينَ شَيْطَانٍ أَ عَلِمْتُمْ أَنَّ مَالِكاً إِذَا غَضِبَ عَلَى اَلنَّارِ حَطَمَ بَعْضُهَا بَعْضاً لِغَضَبِهِ وَ إِذَا زَجَرَهَا تَوَثَّبَتْ بَيْنَ أَبْوَابِهَا جَزَعاً مِنْ زَجْرَتِهِ أَيُّهَا اَلْيَفَنُ اَلْكَبِيرُ اَلَّذِي قَدْ لَهَزَهُ اَلْقَتِيرُ كَيْفَ أَنْتَ إِذَا اِلْتَحَمَتْ أَطْوَاقُ اَلنَّارِ بِعِظَامِ اَلْأَعْنَاقِ وَ نَشِبَتِ اَلْجَوَامِعُ حَتَّى أَكَلَتْ لُحُومَ اَلسَّوَاعِدِ فَاللَّهَ اَللَّهَ مَعْشَرَ اَلْعِبَادِ وَ أَنْتُمْ سَالِمُونَ فِي اَلصِّحَّةِ قَبْلَ اَلسُّقْمِ وَ فِي اَلْفُسْحَةِ قَبْلَ اَلضِّيقِ فَاسْعَوْا فِي فَكَاكِ رِقَابِكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُغْلَقَ رَهَائِنُهَا
[ 123 ](1/2868)
أَسْهِرُوا عُيُونَكُمْ وَ أَضْمِرُوا بُطُونَكُمْ وَ اِسْتَعْمِلُوا أَقْدَامَكُمْ وَ أَنْفِقُوا أَمْوَالَكُمْ وَ خُذُوا مِنْ أَجْسَادِكُمْ فَجُودُوا بِهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَ لاَ تَبْخَلُوا بِهَا عَنْهَا فَقَدْ قَالَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ إِنْ تَنْصُرُوا اَللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ وَ قَالَ تَعَالَى مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ فَلَمْ يَسْتَنْصِرْكُمْ مِنْ ذُلٍّ وَ لَمْ يَسْتَقْرِضْكُمْ مِنْ قُلٍّ اِسْتَنْصَرَكُمْ وَ لَهُ جُنُودُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ وَ اِسْتَقْرَضَكُمْ وَ لَهُ خَزَائِنُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ وَ إِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً فَبَادِرُوا بِأَعْمَالِكُمْ تَكُونُوا مَعَ جِيرَانِ اَللَّهِ فِي دَارِهِ رَافَقَ بِهِمْ رُسُلَهُ وَ أَزَارَهُمْ مَلاَئِكَتَهُ وَ أَكْرَمَ أَسْمَاعَهُمْ أَنْ تَسْمَعَ حَسِيسَ نَارٍ أَبَداً وَ صَانَ أَجْسَادَهُمْ أَنْ تَلْقَى لُغُوباً وَ نَصَباً ذلِكَ فَضْلُ اَللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اَللَّهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَ اَللَّهُ اَلْمُسْتَعَانُ عَلَى نَفْسِي وَ أَنْفُسِكُمْ وَ هُوَ حَسْبُنَا وَ نِعْمَ اَلْوَكِيلُ الرمضاء الأرض الشديدة الحرارة والرمض بالتحريك شدة وقع الشمس على الرمل وغيره وقد رمض يومنا بالكسر يرمض رمضا اشتد حره وأرض رمضة الحجارة ورمضت قدمه من الرمضاء احترقت .
[ 124 ](1/2869)
و الطابق بالفتح الآجرة الكبيرة وهو فارسي معرب . وضجيع حجر يومئ فيه إلى قوله تعالى وَقُودُهَا اَلنَّاسُ وَ اَلْحِجارَةُ قيل إنها حجارة الكبريت . وقرين شيطان يومئ فيه إلى قوله تعالى قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ . وحطم بعضها بعضا كسره أو أكله والحطمة من أسماء النار لأنها تحطم ما تلقى ومنه سمي الرجل الكثير الأكل حطمة . واليفن الشيخ الكبير ولهزه خالطه ويقال له حينئذ ملهوز ثم أشمط ثم أشيب ولهزت القوم خالطتهم ودخلت بينهم . والقتير الشيب وأصله رءوس المسامير في الدروع تسمى قتيرا . والتحمت أطواق النار بالعظام التفت عليها وانضمت إليها والتصقت بها . والجوامع جمع جامعة وهي الغل لأنها تجمع اليدين إلى العنق . ونشبت علقت والسواعد جمع ساعد وهو الذراع . وفي من قوله في الصحة قبل السقم متعلقة بالمحذوف الناصب لله وهو اتقوا أي اتقوه سبحانه في زمان صحتكم قبل أن ينزل بكم السقم وفي فسحة أعماركم قبل أن تبدل بالضيق . وفكاك الرقاب بفتح الفاء عتقها قبل أن تغلق رهائنها يقال غلق الرهن بالكسر إذا استحقه المرتهن بألا يفكه الراهن في الوقت المشروط وكان ذلك من شرع الجاهلية فنهى عنه النبي ص وقال لا يغلق الرهن .
[ 125 ]
و خذوا من أجسادكم أي أتعبوها بالعبادة حتى تنحل . والقل القلة والذل الذلة . وحسيس النار صوتها واللغوب النصب(1/2870)
طرف وأخبار
و نظير قوله ع استقرضكم وله خزائن السماوات والأرض ما رواه المبرد في الكامل عن أبي عثمان المازني عن أبي زيد الأنصاري قال وقف علينا أعرابي في حلقة يونس النحوي فقال الحمد لله كما هو أهله وأعوذ بالله أن أذكر به وأنساه خرجنا من المدينة مدينة الرسول ص ثلاثين رجلا ممن أخرجته الحاجة وحمل على المكروه ولا يمرضون مرضاهم ولا يدفنون ميتهم ولا ينتقلون من منزل إلى منزل وإن كرهوه والله يا قوم لقد جعت حتى أكلت النوى المحرق ولقد مشيت حتى انتعلت الدم وحتى خرج من قدمي بخص ولحم كثير أ فلا رجل يرحم ابن سبيل وفل طريق ونضو سفر فإنه لا قليل من الأجر ولا غنى عن ثواب الله ولا عمل بعد الموت وهو سبحانه يقول مَنْ ذَا اَلَّذِي
[ 126 ]
يُقْرِضُ اَللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ملي وفي ماجد واجد جواد لا يستقرض من عوز ولكنه يبلو الأخيار . قال المازني فبلغني أنه لم يبرح حتى أخذ ستين دينارا . ومن كلام علي بن عبيدة الريحاني الأيام مستودعات الأعمال ونعم الأرضون هي لمن بذر فيها الخير والعمل الصالح . وخطب الحجاج فقال أيها الناس إنكم أغراض حمام وفرص هلكة قد أنذركم القرآن ونادى برحيلكم الجديدان ها إن لكم موعدا لا تؤخر ساعته ولا تدفع هجمته وكان قد دلفت إليكم نازلته فتعلق بكم ريب المنون وعلقت بكم أم اللهيم الحيزبون فما ذا هيأتم للرحيل وما ذا أعددتم للنزيل من لم يأخذ أهبة الحذر نزل به مرهوب القدر(1/2871)
خطبة لأبي الشخباء العسقلاني
قلت وقد شغف الناس في المواعظ بكلام كاتب محدث يعرف بابن أبي الشخباء
[ 127 ]
العسقلاني وأنا أورد هاهنا خطبة من مواعظه هي أحسن ما وجدته له ليعلم الفرق بين الكلام الأصيل والمولد . أيها الناس فكوا أنفسكم من حلقات الآمال المتعبة وخففوا ظهوركم من الآصار المستحقبة ولا تسيموا أطماعكم في رياض الأماني المتشعبة ولا تميلوا صغواكم إلى زبارج الدنيا المحببة فتظل أجسامكم في هشائمها عاملة نصبة أ ما علمتم أن طباعها على الغدر مركبة وأنها لأعمار أهلها منتهبة ولما ساءهم منتظرة مرتقبة في هبتها راجعة متعقبة فانضوا رحمكم الله ركائب الاعتبار مشرقة ومغربة وأجروا خيول التفكر مصعدة ومصوبة هل تجدون إلا قصورا على عروشها خربة وديارا معطشة من أهلها مجدبة أين الأمم السالفة المتشعبة والجبابرة الماضية المتغلبة والملوك المعظمة المرجبة أولو الحفدة والحجبة والزخارف المعجبة والجيوش الحرارة اللجبة والخيام الفضفاضة المطنبة والجياد الأعوجية المجنبة والمصاعب الشدقمية المصحبة واللدان المثقفة المدربة والماذية الحصينة المنتخبة طرقت والله خيامهم غير منتهبة وأزارتهم من الأسقام سيوفا معطبة وسيرت إليهم الأيام من نوبها كتائب مكتبة فأصبحت أظفار المنية من مهجهم قانية مختضبة وغدت أصوات النادبات عليهم مجلبة وأكلت لحومهم هوام الأرض السغبة ثم إنهم مجموعون ليوم لا يقبل فيه عذر ولا معتبة وتجازى كل نفس بما كانت مكتسبة فسعيدة مقربة تجري من تحتها الأنهار مثوبة وشقية معذبة في النار مكبكبة . هذه أحسن خطبة خطبها هذا الكاتب وهي كما تراها ظاهرة التكلف بينة التوليد تخطب على نفسها وإنما ذكرت هذا لأن كثيرا من أرباب الهوى يقولون إن كثيرا من نهج البلاغة كلام محدث صنعه قوم من فصحاء الشيعة وربما عزوا بعضه إلى الرضي أبي الحسن وغيره وهؤلاء قوم أعمت العصبية أعينهم فضلوا عن النهج الواضح(1/2872)
[ 128 ]
و ركبوا بنيات الطريق ضلالا وقلة معرفة بأساليب الكلام وأنا أوضح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط فأقول(1/2873)
رأي للمؤلف في كتاب نهج البلاغة
لا يخلو إما أن يكون كل نهج البلاغة مصنوعا منحولا أو بعضه والأول باطل بالضرورة لأنا نعلم بالتواتر صحة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين ع وقد نقل المحدثون كلهم أو جلهم والمؤرخون كثيرا منه وليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك والثاني يدل على ما قلناه لأن من قد أنس بالكلام والخطابة وشدا طرفا من علم البيان وصار له ذوق في هذا الباب لا بد أن يفرق بين الكلام الركيك والفصيح وبين الفصيح والأفصح وبين الأصيل والمولد وإذا وقف على كراس واحد يتضمن كلاما لجماعة من الخطباء أو لاثنين منهم فقط فلا بد أن يفرق بين الكلامين ويميز بين الطريقتين أ لا ترى أنا مع معرفتنا بالشعر ونقده لو تصفحنا ديوان أبي تمام فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمام ونفسه وطريقته ومذهبه في القريض أ لا ترى أن العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه لمباينتها لمذهبه في الشعر وكذلك حذفوا من شعر أبي نواس شيئا كثيرا لما ظهر لهم أنه ليس من ألفاظه ولا من شعره وكذلك غيرهما من الشعراء ولم يعتمدوا في ذلك إلا على الذوق خاصة . وأنت إذا تأملت نهج البلاغة وجدته كله ماء واحدا ونفسا واحدا وأسلوبا واحدا كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفا لباقي الأبعاض في الماهية وكالقرآن العزيز أوله كأوسطه وأوسطه كآخره وكل سورة منه وكل آية مماثلة في
[ 129 ](1/2874)
المأخذ والمذهب والفن والطريق والنظم لباقي الآيات والسور ولو كان بعض نهج البلاغة منحولا وبعضه صحيحا لم يكن ذلك كذلك فقد ظهر لك بهذا البرهان الواضح ضلال من زعم أن هذا الكتاب أو بعضه منحول إلى أمير المؤمنين ع . واعلم أن قائل هذا القول يطرق على نفسه ما لا قبل له به لأنا متى فتحنا هذا الباب وسلطنا الشكوك على أنفسنا في هذا النحو لم نثق بصحة كلام منقول عن رسول الله ص أبدا وساغ لطاعن أن يطعن ويقول هذا الخبر منحول وهذا الكلام مصنوع وكذلك ما نقل عن أبي بكر وعمر من الكلام والخطب والمواعظ والأدب وغير ذلك وكل أمر جعله هذا الطاعن مستندا له فيما يرويه عن النبي ص والأئمة الراشدين والصحابة والتابعين والشعراء والمترسلين والخطباء فلناصري أمير المؤمنين ع أن يستندوا إلى مثله فيما يروونه عنه من نهج البلاغة وغيره وهذا واضح
[ 130 ](1/2875)
185 ـ ومن كلام له ع قاله للبرج بن مسهر الطائي
و قد قال له بحيث يسمعه لا حكم إلا الله وكان من الخوارج : اُسْكُتْ قَبَحَكَ اَللَّهُ يَا أَثْرَمُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ ظَهَرَ اَلْحَقُّ فَكُنْتَ فِيهِ ضَئِيلاً شَخْصُكَ خَفِيّاً صَوْتُكَ حَتَّى إِذَا نَعَرَ اَلْبَاطِلُ نَجَمْتَ نُجُومَ قَرْنِ اَلْمَاعِزِ البرج بن مسهر بضم الميم وكسر الهاء بن الجلاس بن وهب بن قيس بن عبيد بن طريف بن مالك بن جدعاء بن ذهل بن رومان بن جندب بن خارجة بن سعد بن قطرة بن طي بن داود بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان شاعر مشهور من شعراء الخوارج نادى بشعارهم بحيث يسمعه أمير المؤمنين ع فزجره . وقبحك الله لفظة معناها كسرك يقال قبحت الجوزة أي كسرتها وقيل قبحه نحاه عن الخير وكان البرج ساقط الثنية فأهانه بأن دعاه به كما يهان الأعور بأن يقال له يا أعور . والضئيل الدقيق الخفي ضؤل الرجل بالضم ضآلة نحف وضؤل رأيه صغر ورجل متضائل أي شخت وكذلك ضؤلة .
[ 131 ]
و نعر الباطل صاح والمراد أهل الباطل ونعر فلان في الفتنة نهض فيها . ونجم طلع أي طلع بلا شرف ولا شجاعة ولا قدم بل على غفلة كما ينبت قرن الماعز وهذا من باب البديع وهو أن يشبه الأمر يراد إهانته بالمهين ويشبه الأمر يراد إعظامه بالعظيم ولو كان قد تكلم في شأن ناجم يريد تعظيمه لقال نجم نجوم الكوكب من تحت الغمام نجوم نور الربيع من الأكمام ونحو ذلك
[ 132 ](1/2876)
186 ـ ومن خطبة له ع
رُوِيَ أَنَّ صَاحِباً لِأَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ ع يُقَالُ لَهُ هَمَّامٌ كَانَ رَجُلاً عَابِداً فَقَالَ لَهُ يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ صِفْ لِيَ اَلْمُتَّقِينَ حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ فَتَثَاقَلَ ع عَنْ جَوَابِهِ ثُمَّ قَالَ يَا هَمَّامُ اِتَّقِ اَللَّهَ وَ أَحْسِنْ فَ إِنَّ اَللَّهَ مَعَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ اَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ فَلَمْ يَقْنَعْ هَمَّامٌ بِهَذَا اَلْقَوْلِ حَتَّى عَزَمَ عَلَيْهِ فَحَمِدَ اَللَّهَ وَ أَثْنَى عَلَيْهِ وَ صَلَّى عَلَى اَلنَّبِيِّ ص ثُمَّ قَالَ ع أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى خَلَقَ اَلْخَلْقَ حَيْثُ خَلَقَهُمْ غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ لِأَنَّهُ لاَ تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ وَ لاَ تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ وَ وَضَعَهُمْ مِنَ اَلدُّنْيَا مَوَاضِعَهُمْ فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ اَلْفَضَائِلِ مَنْطِقُهُمُ اَلصَّوَابُ وَ مَلْبَسُهُمُ اَلاِقْتِصَادُ وَ مَشْيُهُمُ اَلتَّوَاضُعُ غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ وَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى اَلْعِلْمِ اَلنَّافِعِ لَهُمْ نُزِّلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي اَلْبَلاَءِ كَالَّذِي نُزِّلَتْ فِي اَلرَّخَاءِ وَ لَوْ لاَ اَلْأَجَلُ اَلَّذِي كَتَبَ اَللَّهُ لَهُمْ عَلَيْهِمْ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ شَوْقاً إِلَى اَلثَّوَابِ وَ خَوْفاً مِنَ اَلْعِقَابِ
[ 133 ](1/2877)
عَظُمَ اَلْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ فَهُمْ وَ اَلْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ وَ هُمْ وَ اَلنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ وَ شُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ وَ أَجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ وَ حَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ وَ أَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ أَرَادَتْهُمُ اَلدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا وَ أَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا أَمَّا اَللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ تَالِينَ لِأَجْزَاءِ اَلْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلاً يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَ يَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً وَ تَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً وَ ظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ وَ إِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ وَ ظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَ شَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ فَهُمْ حَانُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ مُفْتَرِشُونَ لِجَبَاهِهِمْ وَ أَكُفِّهِمْ وَ رُكَبِهِمْ وَ أَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ يَطْلُبُونَ إِلَى اَللَّهِ تَعَالَى فِي فَكَاكِ رِقَابِهِمْ وَ أَمَّا اَلنَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ قَدْ بَرَاهُمُ اَلْخَوْفُ بَرْيَ اَلْقِدَاحِ يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ اَلنَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى وَ مَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ وَ يَقُولُ لَقَدْ خُولِطُوا وَ لَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ لاَ يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ اَلْقَلِيلَ وَ لاَ يَسْتَكْثِرُونَ اَلْكَثِيرَ فَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ وَ مِنْ(1/2878)
أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي وَ رَبِّي أَعْلَمُ بِي مِنِّي بِنَفْسِي اَللَّهُمَّ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ وَ اِجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ وَ اِغْفِرْ لِي مَا لاَ يَعْلَمُونَ
[ 134 ]
همام المذكور في هذه الخطبة هو همام بن شريح بن يزيد بن مرة بن عمرو بن جابر بن يحيى بن الأصهب بن كعب بن الحارث بن سعد بن عمرو بن ذهل بن مران بن صيفي بن سعد العشيرة . وكان همام هذا من شيعة أمير المؤمنين ع وأوليائه وكان ناسكا عابدا قال له يا أمير المؤمنين صف لي المتقين حتى أصير بوصفك إياهم كالناظر إليهم . فتثاقل عن جوابه أي أبطأ . فعزم عليه أي أقسم عليه وتقول لمن يكرر عليك الطلب والسؤال قد عزم علي أي أصر وقطع وكذلك تقول في الأمر تريد فعله وتقطع عليه عزمت عزما وعزمانا وعزيمة وعزيما . فإن قلت كيف جاز له ع أن يتثاقل عن جواب المسترشد . قلت يجوز أن يكون تثاقل عن جوابه لأنه علم أن المصلحة في تأخير الجواب ولعله كان حضر المجلس من لا يحب أن يجيب وهو حاضر فلما انصرف أجاب ولعله رأى أن تثاقله عن الجواب يشد تشوق همام إلى سماعه فيكون أنجع في موعظته ولعله كان من باب تأخير البيان إلى وقت الحاجة لا من باب تأخير البيان عن وقت الحاجة ولعله تثاقل عن الجواب ليرتب المعاني التي خطرت له في ألفاظ مناسبة لها ثم ينطق بها كما يفعله المتروي في الخطبة والقريض . فإن قلت فما معنى إجابته له أولا بقوله يا همام اتق الله وأحسن ف إِنَّ اَللَّهَ مَعَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ اَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ وأي جواب في هذا عن سؤال همام .
[ 135 ](1/2879)
قلت كأنه لم ير في بادئ الحال شرح صفات المتقين على التفصيل فقال لهمام ماهية التقوى معلومة في الجملة فاتق الله وأحسن فإن الله قد وعد في كتابه أن يكون وليا وناصرا لأهل التقوى والإحسان وهذا كما يقول لك قائل ما صفات الله الذي أعبده أنا والناس فتقول له لا عليك ألا تعرف صفاته مفصلة بعد أن تعلم أنه خالق العالم وأنه واحد لا شريك له فلما أبى همام إلا الخوض فيما سأله على وجه التفصيل قال له إن الله تعالى خلق الخلق حين خلقهم ويروى حيث خلقهم وهو غني عن طاعتهم لأنه ليس بجسم فيستضر بأمر أو ينتفع به . وقسم بين الخلق معايشهم كما قال سبحانه نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا . وفي قوله وضعهم مواضعهم معنى قوله وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا فكأنه ع أخذ الألفاظ فألغاها وأتى بمعناها . فلما فرغ من هذه المقدمة شرع في ذكر صفات المتقين فقال إنهم أهل الفضائل ثم بين ما هذه الفضائل فقال منطقهم الصواب . فإن قلت أي فائدة في تقديم تلك المقدمة وهي كون البارئ سبحانه غنيا لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة . قلت لأنه لما تضمنت الخطبة مدح الله تعالى للمتقين وما أعده لهم من الثواب وذمه للعاصين وما أعده لهم من العقاب العظيم فربما يتوهم متوهم أن الله تعالى ما رغب في الطاعة
[ 136 ]
هذا الترغيب البالغ وخوف من المعصية هذا التخويف البالغ إلا وهو منتفع بالأولى مستضر بالثانية فقدم ع تلك المقدمة نفيا لهذا الوهم(1/2880)
فصل في فضل الصمت والاقتصاد في المنطق
و اعلم أن القول في خطر الكلام وفضل الصمت وفضل الاقتصار في المنطق وسيع جدا وقد ذكرنا منه طرفا فيما تقدم ونذكر الآن منه طرفا آخر .
قال النبي ص من صمت نجا و
قال أيضا الصمت حكم وقليل فاعله و
قال له ص بعض أصحابه أخبرني عن الإسلام بأمر لا أسأل عنه أحدا بعدك فقال قل آمنت بالله ثم استقم قال فما أتقي فأومأ بيده إلى لسانه و
قال له ع عقبة بن عامر يا رسول الله ما النجاة قال املك عليك لسانك وابك على خطيئتك وليسعك بيتك و
روى سهل بن سعد الساعدي عنه ص من يتوكل لي بما بين لحييه ورجليه أتوكل له بالجنة و
قال من وقي شر قبقبه وذبذبه ولقلقه فقد وقي و
روى سعيد بن جبير مرفوعا إذا أصبح ابن آدم أصبحت الأعضاء كلها تشكو
[ 137 ]
اللسان تقول أي بني آدم اتق الله فينا فإنك إن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا . وقد روي أن عمر رأى أبا بكر وهو يمد لسانه فقال ما تصنع قال هذا الذي أوردني الموارد
إن رسول الله ص قال ليس شي ء في الجسد إلا يشكو إلى الله تعالى اللسان على حدته وسمع ابن مسعود يلبي على الصفا ويقول يا لسان قل خيرا تغنم أو اصمت تسلم من قبل أن تندم فقيل له يا أبا عبد الرحمن أ هذا شي ء سمعته أم تقوله من تلقاء نفسك قال بل
سمعت رسول الله ص يقول أكثر خطايا ابن آدم من لسانه و
روى الحسن مرفوعا رحم الله عبدا تكلم فغنم أو سكت فسلم و
قالت التلامذة لعيسى ع دلنا على عمل ندخل به الجنة قال لا تنطقوا أبدا قالوا لا نستطيع ذلك قال فلا تنطقوا إلا بخير و
قال النبي ص إن الله عند لسان كل قائل فاتقى الله امرؤ علم ما يقول و
كان يقول لا شي ء أحق بطول سجن من لسان و(1/2881)
كان يقال لسانك سبع إن أطلقته أكلك . في حكمة آل داود حقيق على العاقل أن يكون عارفا بزمانه حافظا للسانه مقبلا على شانه . وكان يقال من علم أن كلامه من عمله أقل كلامه فيما لا ينفعه . وقال محمد بن واسع حفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدينار والدرهم .
[ 138 ]
اجتمع أربعة حكماء من الروم والفرس والهند والصين فقال أحدهم أنا أندم على ما قلت ولا أندم على ما لم أقل وقال الآخر إذا تكلمت بالكلمة ملكتني ولم أملكها وإذا لم أتكلم ملكتها ولم تملكني وقال الآخر عجبت للمتكلم إن رجعت عليه كلمته ضرته وإن لم ترجع لم تنفعه وقال الرابع أنا على رد ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت.(1/2882)
ذكر الآثار الواردة في آفات اللسان
و اعلم أن آفات اللسان كثيرة فمنها الكلام فيما لا يعنيك وهو أهون آفات اللسان ومع ذلك فهو عيب
قال النبي ص من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه و
روي أنه ع مر بشهيد يوم أحد فقال أصحابه هنيئا له الجنة قال وما يدريكم لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه و
قال ابن عباس خمس هي أحسن وأنفع من حمر النعم لا تتكلم فيما لا يعنيك فإنه فضل لا آمن عليه الوزر ولا تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعا فرب متكلم في أمر يعنيه قد وضعه في غير موضعه فأساء ولا تمار حليما ولا سفيها فإن الحليم يقليك والسفيه يؤذيك واذكر أخاك إذا تغيب عنك بما تحب أن يذكرك به وأعفه عما تحب أن يعفيك عنه واعمل عمل رجل يرى أنه مجازى بالإحسان مأخوذ بالجرائم . ومنها فضول الكلام وكثرته وترك الاقتصار وكان يقال فضول المنطق وزيادته نقص في العقل وهما ضدان متنافيان كلما زاد أحدهما نقص الآخر .
[ 139 ]
و
قال عبد الله بن مسعود إياكم وفضول الكلام حسب امرئ ما بلغ به حاجته وكان يقال من كثر كلامه كثر سقطه . وقال الحسن فضول الكلام كفضول المال كلاهما مهلك . ومنها الخوض في الباطل والحديث فيما لا يحل كحديث النساء ومجالس الخمر ومقامات الفساق وإليه الإشارة بقوله تعالى وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ اَلْخائِضِينَ . ومنها المراء والجدال
قال ع دع المراء وإن كنت محقا و
قال مالك بن أنس المراء يقسي القلب ويورث الضغائن . وقال سفيان الثوري لو خالفت أخي في رمانة فقال حلوة وقلت حامضة لسعي بي إلى السلطان . وكان يقال صاف من شئت ثم أغضبه بالجدال والمراء فليرمينك بداهية تمنعك العيش . وقيل لميمون بن مهران ما لك لا تفارق أخا لك عن قلى قال لأني لا أشاريه ولا أماريه . ومنها التقعر في الكلام بالتشدد والتكلف في الألفاظ
قال النبي ص
[ 140 ]
أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجالس يوم القيامة الثرثارون المتفيهقون المتشدقون و(1/2883)
قال ع هلك المتنطعون . . . ثلاث مرات والتنطع هو التعمق والاستقصاء وقال عمر إن شقاشق الكلام من شقاشق الشيطان . ومنها الفحش والسب والبذاء
قال النبي ص إياكم والفحش فإن الله لا يحب الفحش ولا يرضى الفحش و
قال ع ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا بالسباب ولا البذي ء و
قال ع لو كان الفحش رجلا لكان رجل سوء ومنها المزاح الخارج عن قانون الشريعة وكان يقال من مزح استخف به وكان يقال المزاح فحل لا ينتج إلا الشر . ومنها الوعد الكاذب و
قد قال النبي ص العدة دين وقد أثنى الله سبحانه على إسماعيل فقال إِنَّهُ كانَ صادِقَ اَلْوَعْدِ وقال سبحانه يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ .
[ 141 ](1/2884)
و منها الكذب في القول واليمين والأمر فيهما مشهور . ومنها الغيبة وقد تقدم القول فيها . قوله ع وملبسهم الاقتصاد أي ليس بالثمين جدا ولا بالحقير جدا كالخرق التي تؤخذ من على المزابل ولكنه أمر بين أمرين وكان ع يلبس الكرابيس وهو الخام الغليظ وكذلك كان عمر رضي الله عنه وكان رسول الله ص يلبس اللين تارة والخشن أخرى . قوله ع ومشيهم التواضع تقديره وصفة مشيهم التواضع فحذف المضاف وهذا مأخوذ من قوله تعالى وَ اِقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَ اُغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ . رأى محمد بن واسع ابنا له يمشي وهو يتبختر ويميس في مشيته فصاح به فأقبل فقال له ويلك لو عرفت نفسك لقصدت في مشيك أما أمك فأمة ابتعتها بمائة درهم وأما أبوك فلا أكثر الله في الناس من أمثاله . والأصل في هذا الباب قوله تعالى وَ لا تَمْشِ فِي اَلْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ اَلْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ اَلْجِبالَ طُولاً . وقوله غضوا أبصارهم أي خفضوها وغمضوها وغضضت طرفي عن كذا احتملت مكروهه . وقوله وقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم أي لم يشغلوا سمعهم بشي ء غير العلوم النافعة أي لم يشتغلوا بسماع شعر ولا غناء ولا أحاديث أهل الدنيا .
[ 142 ](1/2885)
قوله نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالذي نزلت في الرخاء يعني أنهم قد طابوا نفسا في البلاء والشدة كطيب أنفسهم بأحوالهم في الرخاء والنعمة وذلك لقلة مبالاتهم بشدائد الدنيا ومصائبها وتقدير الكلام من جهة الإعراب نزلت أنفسهم منهم في حال البلاء نزولا كالنزول الذي نزلته منهم في حال الرخاء فموضع كالذي نصب لأنه صفة مصدر محذوف والموصول قد حذف العائد إليه وهو الهاء في نزلته كقولك ضربت الذي ضربت أي ضربت الذي ضربته . ثم قال ع إنهم من شدة شوقهم إلى الجنة ومن شدة خوفهم من النار تكاد أرواحهم أن تفارق أجسادهم لو لا أن الله تعالى ضرب لهم آجالا ينتهون إليها . ثم ذكر أن الخالق لما عظم في أعينهم استصغروا كل شي ء دونه وصاروا لشدة يقينهم ومكاشفتهم كمن رأى الجنة فهو يتنعم فيها وكمن رأى النار وهو يعذب فيها ولا ريب أن من يشاهد هاتين الحالتين يكون على قدم عظيمة من العبادة والخوف والرجاء وهذا مقام جليل ومثله
قوله ع في حق نفسه لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا والواو في والجنة واو مع وقد روي بالعطف بالرفع على أنه معطوف على هم والأول أحسن . ثم وصفهم بحزن القلوب ونحافة الأجسام وعفة الأنفس وخفة الحوائج وأن شرورهم مأمونة على الناس وأنهم صبروا صبرا يسيرا أعقبهم نعيما طويلا . ثم ابتدأهم فقال تجارة مربحة أي تجارتهم تجارة مربحة فحذف المبتدأ وروي تجارة مربحة بالنصب على أنه مصدر محذوف الفعل . قوله أما الليل بالنصب على الظرفية وروي أما الليل على الابتداء . قوله تالين منصوب على أنه حال إما من الضمير المرفوع بالفاعلية في صافون أو من الضمير المجرور بالإضافة في أقدامهم .
[ 143 ](1/2886)
و الترتيل التبيين والإيضاح وهو ضد الإسراع والعجل ويروى يرتلونه على أن الضمير يعود إلى القرآن والرواية الأولى يعود الضمير فيها إلى أجزاء القرآن . قوله يحزنون به أنفسهم أي يستجلبون لها الحزن به ويستثيرون به دواء دائهم إشارة إلى البكاء فإنه دواء داء الحزين قال الشاعر
فقلت لها إن البكاء لراحة
به يشتفي من ظن أن لا تلاقيا
و قال آخر
شجاك من ليلتك الطول
فالدمع من عينيك مسدول
و هو إذا أنت تأملته
حزن على الخدين محلول
ثم ذكر أنهم إذا مروا بآية فيها ذكر الثواب مالوا إليها واطمأنوا بها طمعا في نيله وتطلعت أنفسهم إليها شوقا أي اشرأبت . ونصب أعينهم منصوب على الظرفية وروي بالرفع على أنه خبر أن والظن هاهنا يمكن أن يكون على حقيقته ويمكن أن يكون بمعنى العلم كقوله تعالى أَ لا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ وأصغى إلى الكلام مال إليه بسمعه وزفير النار صوتها . وقد جاء في فضل قراءة القرآن شي ء كثير
روي عن النبي ص أنه قال من قرأ القرآن ثم رأى أن أحدا أوتي أفضل مما أوتي فقد استصغر ما عظمه الله و
قال ص لو كان القرآن في إهاب ما مسته النار و
قال أفضل عبادة أمتي قراءة القرآن
[ 144 ]
و
قال أهل القرآن أهل الله وخاصته و
قال إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد قيل فما جلاؤها قال تلاوة القرآن وذكر الموت و
قال ع إن الله سبحانه لأشد أذنا إلى قارئ القرآن من صاحب القينة إلى قينته و(1/2887)
قال الحسن رحمه الله ما دون القرآن من غنى ولا بعد القرآن من فاقة . ثم ذكر ع صورة صلاتهم وركوعهم فقال حانون على أوساطهم حنيت العود عطفته يصف هيئة ركوعهم وانحنائهم في الصلاة . مفترشون لجباههم باسطون لها على الأرض . ثم ذكر الأعضاء السبعة التي مباشرتها بالأرض فروض في الصلاة وهي الجبهة والكفان والركبتان والقدمان . قوله ع يطلبون إلى الله أي يسألونه يقال طلبت إليك في كذا أي سألتك والكلام على الحقيقة مقدر فيه حال محذوفة يتعلق بها حرف الجر أي يطلبون سائلين إلى الله في فكاك رقابهم لأن طلب لا يتعدى بحرف الجر . ثم لما فرغ من ذكر الليل قال وأما النهار فحلماء علماء أبرار أتقياء هذه الصفات هي التي يطلع عليها الناظرون لهم نهارا وتلك الصفات المتقدمة من وظائف الليل . ثم ذكر ما هم عليه من الخوف فقال ع إن خوفهم قد براهم بري
[ 145 ]
القداح وهي السهام واحدها قدح فينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بهم من مرض نظير هذا قول الشاعر
و مخرق عنه القميص تخاله
بين البيوت من الحياء سقيما
حتى إذا رفع اللواء رأيته
تحت اللواء على الخميس زعيما
و يقال للمتقين لشدة خوفهم كأنهم مرضى ولا مرض بهم وتقول العرب للكرام من الناس القليلي المأكل والمشرب رافضي اللباس الرفيع ذوي الأجسام النحيفة مراض من غير مرض ويقولون أيضا للمرأة ذات الطرف الغضيض الفاتر ذات الكسل مريضة من غير مرض قال الشاعر
ضعيفة كر الطرف تحسب أنها
حديثة عهد بالإفاقة من سقم
[ 146 ](1/2888)
ذكر الخوف وما ورد فيه من الآثار
و اعلم أن الخوف مقام جليل من مقامات العارفين وهو أحد الأركان التي هي أصول هذا الفن وهو التقوى التي حث الله تعالى عليها وقال إن أكرم الناس عنده أشدهم خوفا له وفي هذه الآية وحدها كفاية وإذا نظرت القرآن العزيز وجدت أكثره ذكر المتقين وهم الخائفون و
قال النبي ص من خاف الله خافه كل شي ء ومن خاف غير الله خوفه الله من كل شي ء و
قال ع أتمكم عقلا أشدكم لله خوفا وأحسنكم فيما أمر به ونهى عنه نظرا . وقال يحيى بن معاذ مسكين ابن آدم لو خاف النار كما يخاف الفقر دخل الجنة . وقال ذو النون المصري ينبغي أن يكون الخوف أغلب من الرجاء فإن الرجاء إذا غلب تشوش القلب . وقيل لبعض الصالحين من آمن الخلق غدا قال أشدهم خوفا اليوم . وقيل للحسن يا أبا سعيد كيف نصنع بمجالسة أقوام من أصحابك يخوفوننا حتى تكاد قلوبنا تطير فقال إنك والله لأن تصحب قوما يخوفونك حتى تدرك الأمن خير لك من أن تصحب قوما يؤمنونك حتى يدركك الخوف .
و قيل للنبي ص في قوله تعالى وَ اَلَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ هم الذين يعصون ويخافون المعصية قال لا بل الرجل يصوم ويتصدق ويخاف ألا يقبل منه
[ 147 ]
و
قال ص ما من قطرة أحب إلى الله تعالى من قطرة دمع من خشية الله أو قطرة دم أريقت في سبيل الله و
قال ع سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله وذكر منهم رجلا ذكر الله في خلوة ففاضت عيناه . قوله ع ويقول قد خولطوا أي أصابتهم جنة . ثم قال ولقد خالطهم أمر عظيم أي مازجهم خوف عظيم تولهوا لأجله فصاروا كالمجانين . ثم ذكر أنهم لا يستكثرون في كثير من أعمالهم ولا يرضيهم اجتهادهم وأنهم يتهمون أنفسهم وينسبونها إلى التقصير في العبادة وإلى هذا نظر المتنبي فقال
يستصغر الخطر الكبير لنفسه
و يظن دجلة ليس تكفي شاربا(1/2889)
قال ومن أعمالهم مشفقون أي مشفقون من عباداتهم ألا تقبل وإلى هذا نظر أبو تمام فقال
يتجنب الآثام ثم يخافها
فكأنما حسناته آثام
و مثل قوله أنا أعلم بنفسي من غيري قوله ع لمن زكاه نفاقا أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك . وقوله اللهم لا تؤاخذني بما يقولون إلى آخر الكلام مفرد مستقل بنفسه منقول عنه ع أنه قال لقوم مر عليهم وهم مختلفون في أمره فمنهم الحامد له ومنهم الذام فقال اللهم لا تؤاخذني الكلمات إلى آخرها ومعناه اللهم
[ 148 ](1/2890)
إن كان ما ينسبه الذامون إلي من الأفعال الموجبة الذم حقا فلا تؤاخذني بذلك واغفر لي ما لا يعلمونه من أفعالي وإن كان ما يقوله الحامدون حقا فاجعلني أفضل مما يظنونه في : فَمِنْ عَلاَمَةِ أَحَدِهِمْ أَنَّكَ تَرَى لَهُ قُوَّةً فِي دِينٍ وَ حَزْماً فِي لِينٍ وَ إِيمَاناً فِي يَقِينٍ وَ حِرْصاً فِي عِلْمٍ وَ عِلْماً فِي حِلْمٍ وَ قَصْداً فِي غِنًى وَ خُشُوعاً فِي عِبَادَةٍ وَ تَجَمُّلاً فِي فَاقَةٍ وَ صَبْراً فِي شِدَّةٍ وَ طَلَباً فِي حَلاَلٍ وَ نَشَاطاً فِي هُدًى وَ تَحَرُّجاً عَنْ طَمَعٍ يَعْمَلُ اَلْأَعْمَالَ اَلصَّالِحَةَ وَ هُوَ عَلَى وَجَلٍ يُمْسِي وَ هَمُّهُ اَلشُّكْرُ وَ يُصْبِحُ وَ هَمُّهُ اَلذِّكْرُ يَبِيتُ حَذِراً وَ يُصْبِحُ فَرِحاً حَذِراً لَمَّا حُذِّرَ مِنَ اَلْغَفْلَةِ وَ فَرِحاً بِمَا أَصَابَ مِنَ اَلْفَضْلِ وَ اَلرَّحْمَةِ إِنِ اِسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِيمَا تَكْرَهُ لَمْ يُعْطِهَا سُؤْلَهَا فِيمَا تُحِبُّ قُرَّةُ عَيْنِهِ فِيمَا لاَ يَزُولُ وَ زَهَادَتُهُ فِيمَا لاَ يَبْقَى يَمْزُجُ اَلْحِلْمَ بِالْعِلْمِ وَ اَلْقَوْلَ بِالْعَمَلِ تَرَاهُ قَرِيباً أَمَلُهُ قَلِيلاً زَلَلُهُ خَاشِعاً قَلْبُهُ قَانِعَةً نَفْسُهُ مَنْزُوراً أَكْلُهُ سَهْلاً أَمْرُهُ حَرِيزاً دِينُهُ مَيِّتَةً شَهْوَتُهُ مَكْظُوماً غَيْظُهُ اَلْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ وَ اَلشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونٌ إِنْ كَانَ فِي اَلْغَافِلِينَ كُتِبَ فِي اَلذَّاكِرِينَ وَ إِنْ كَانَ فِي اَلذَّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ اَلْغَافِلِينَ
[ 149 ](1/2891)
يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ وَ يُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ وَ يَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ بَعِيداً فُحْشُهُ لَيِّناً قَوْلُهُ غَائِباً مُنْكَرُهُ حَاضِراً مَعْرُوفُهُ مُقْبِلاً خَيْرُهُ مُدْبِراً شَرُّهُ فِي اَلزَّلاَزِلِ وَقُورٌ وَ فِي اَلْمَكَارِهِ صَبُورٌ وَ فِي اَلرَّخَاءِ شَكُورٌ لاَ يَحِيفُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ وَ لاَ يَأْثَمُ فِيمَنْ يُحِبُّ يَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ لاَ يُضِيعُ مَا اُسْتُحْفِظَ وَ لاَ يَنْسَى مَا ذُكِّرَ وَ لاَ يُنَابِزُ بِالْأَلْقَابِ وَ لاَ يُضَارُّ بِالْجَارِ وَ لاَ يَشْمَتُ بِالْمَصَائِبِ وَ لاَ يَدْخُلُ فِي اَلْبَاطِلِ وَ لاَ يَخْرُجُ مِنَ اَلْحَقِّ إِنْ صَمَتَ لَمْ يَغُمَّهُ صَمْتُهُ وَ إِنْ ضَحِكَ لَمْ يَعْلُ صَوْتُهُ وَ إِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتَّى يَكُونَ اَللَّهُ هُوَ اَلَّذِي يَنْتَقِمُ لَهُ نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ وَ اَلنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ أَتْعَبَ نَفْسَهُ لآِخِرَتِهِ وَ أَرَاحَ اَلنَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ زُهْدٌ وَ نَزَاهَةٌ وَ دُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنْهُ لِينٌ وَ رَحْمَةٌ لَيْسَ تَبَاعُدُهُ بِكِبْرٍ وَ عَظَمَةٍ وَ لاَ دُنُوُّهُ بِمَكْرٍ وَ خَدِيعَةٍ قَالَ فَصَعِقَ هَمَّامٌ صَعْقَةً كَانَتْ نَفْسُهُ فِيهَا فَقَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ ع أَمَا وَ اَللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَخَافُهَا عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ هَكَذَا تَصْنَعُ اَلْمَوَاعِظُ اَلْبَالِغَةُ بِأَهْلِهَا فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ فَمَا بَالُكَ يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ ع وَيْحَكَ إِنَّ لِكُلِّ أَجَلٍ وَقْتاً لاَ يَعْدُوهُ وَ سَبَباً لاَ يَتَجَاوَزُهُ فَمَهْلاً لاَ تَعُدْ لِمِثْلِهَا فَإِنَّمَا نَفَثَ اَلشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِكَ
[ 150 ](1/2892)
هذه الألفاظ التي أولها قوة في دين بعضها يتعلق حرف الجر فيه بالظاهر فيكون موضعه نصبا بالمفعولية وبعضها يتعلق بمحذوف فيكون موضعه نصبا أيضا على الصفة ونحن نفصلها . فقوله قوة في دين حرف الجر هاهنا متعلق بالظاهر وهو قوة تقول فلان قوي في كذا وعلى كذا كما تقول مررت بكذا وبلغت إلى كذا . وو حزما في لين هاهنا لا يتعلق حرف الجر بالظاهر لأنه لا معنى له أ لا ترى أنك لا تقول فلان حازم في اللين لأن اللين ليس أمرا يحزم الإنسان فيه وليس كما تقول فلان حازم في رأيه أو في تدبيره فوجب أن يكون حرف الجر متعلقا بمحذوف تقديره وحزما كائنا في لين . وكذلك قوله وإيمانا في يقين حرف الجر متعلق بمحذوف أي كائنا في يقين أي مع يقين . فإن قلت الإيمان هو اليقين فكيف قال وإيمانا في يقين قلت الإيمان هو الاعتقاد مضافا إلى العمل واليقين هو سكون القلب فقط فأحدهما غير الآخر . قوله وحرصا في علم حرف الجر هاهنا يتعلق بالظاهر وفي بمعنى على كقوله تعالى لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ اَلنَّخْلِ . قوله وقصدا في غنى حرف الجر متعلق بمحذوف أي هو مقتصد مع كونه غنيا وليس يجوز أن يكون متعلقا بالظاهر لأنه لا معنى لقولك اقتصد في الغنى إنما يقال اقتصد في النفقة وذلك الاقتصاد موصوف بأنه مقارن للغنى ومجامع له .
[ 151 ](1/2893)
قوله وخشوعا في عبادة حرف الجر هاهنا يحتمل الأمرين معا . قوله وتجملا في فاقة حرف الجر هاهنا متعلق بمحذوف ولا يصح تعلقه بالظاهر لأنه إنما يقال فلان يتجمل في لباسه ومروءته مع كونه ذا فاقة ولا يقال يتجمل في الفاقة على أن يكون التجمل متعديا إلى الفاقة . قوله وصبرا في شدة حرف الجر هاهنا يحتمل الأمرين . قوله وطلبا في حلال حرف الجر هاهنا يتعلق بالظاهر وفي بمعنى اللام . قوله ونشاطا في هدى حرف الجر هاهنا يحتمل الأمرين . قوله وتحرجا عن طمع حرف الجر هاهنا يتعلق بالظاهر لا غير . قوله يعمل الأعمال الصالحة وهو على وجل قد تقدم مثله . قوله يمسي وهمه الشكر هذه درجة عظيمة من درجات العارفين وقد أثنى الله تعالى على الشكر والشاكرين في كتابه في مواضع كثيرة نحو قوله فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اُشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ فقرن الشكر بالذكر . وقال تعالى ما يَفْعَلُ اَللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ . وقال تعالى وَ سَيَجْزِي اَللَّهُ اَلشَّاكِرِينَ . ولعلو مرتبة الشكر طعن إبليس في بني آدم فقال وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ وقد صدقه الله تعالى في هذا القول فقال وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ اَلشَّكُورُ .
[ 152 ](1/2894)
و قال بعض أصحاب المعاني قد قطع الله تعالى بالمزيد مع الشكر ولم يستثن فقال لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ . واستثنى في خمسة أمور وهي الإغناء والإجابة والرزق والمغفرة والتوبة . فقال فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اَللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ . وقال بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ . وقال يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ . وقال وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ . وقال وَ يَتُوبُ اَللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ . وقال بعضهم كيف لا يكون الشكر مقاما جليلا وهو خلق من أخلاق الربوبية قال تعالى في صفة نفسه وَ اَللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ . وقد جعل الله تعالى مفتاح كلام أهل الجنة فقال وَ قالُوا اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وجعله خاتمة كلامهم أيضا فقال وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ .
و قيل للنبي ص قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فلم تقوم الليل وتتعب نفسك قال أ فلا أكون عبدا شكورا .
[ 153 ](1/2895)
قوله ع ويصبح وهمه الذكر هذه أيضا درجة كبيرة عظيمة من درجات العارفين قال تعالى فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ قال بعض العارفين لأصحابه أنا أعلم متى يذكرني ربي ففزعوا منه فقال إذا ذكرته ذكرني وتلا الآية فسكتوا . وقال يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا اَللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً . وقال فَاذْكُرُوا اَللَّهَ عِنْدَ اَلْمَشْعَرِ اَلْحَرامِ . وقال فَاذْكُرُوا اَللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً . وقال فَإِذا قَضَيْتُمُ اَلصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اَللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِكُمْ . وقال اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ . وقال في ذم المنافقين وَ لا يَذْكُرُونَ اَللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً . وقال وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً . وقال وَ لَذِكْرُ اَللَّهِ أَكْبَرُ . و
قال النبي ص ذاكر الله في الغافلين كالشجرة الخضراء في وسط الهشيم و
قال ص من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر من ذكر الله
[ 154 ]
و
سئل ع أي الأعمال أفضل قال أن تموت ولسانك رطب بذكر الله و
قال ص حكاية عن الله تعالى إذا ذكرني عبدي في نفسه ذكرته في نفسي وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه وإذا تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا وإذا تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا وإذا مشى إلي هرولت إليه و(1/2896)
قال ص ما جلس قوم مجلسا يذكرون الله تعالى إلا حفت بهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده . قوله ع يبيت حذرا ويصبح فرحا حذرا لما حذر من الغفلة وفرحا بما أصاب من الفضل والرحمة . وقد تقدم ذكر الخوف . وقد عرض ع هاهنا بالرجاء المقابل للخوف فإن فرح العارف بما أصاب من الفضل والرحمة يمكن أن يحمل على أنه فرح بمجرد ما أصاب من فضل الله ورحمته . ويمكن أن يحمل على أنه فرح بما يرجوه من ثواب الله ونعيمه لذا استدل على وصوله إليه وقوي ظنه بظفره به بما عجل الله تعالى له من الفضل والرحمة في الدنيا ومقام الرجاء للعارفين مقام شريف وهو في مقابلة مقام الخوف وهو المقام الذي يوجد العارف فيه فرحا قال الله تعالى إِنَّ اَلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اَللَّهِ وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ
[ 155 ]
و
قال النبي ص حكاية عن الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء(1/2897)
دخل ص على رجل من أصحابه وهو يجود بنفسه فقال كيف تجدك قال أجدني أخاف ذنوبي وأرجو رحمة ربي فقال ص ما اجتمعا في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما رجاه وأمنه مما خافه . قوله ع إن استصعبت عليه نفسه أي صارت صعبة غير منقادة يقول إذا لم تطاوعه نفسه إلى ما هي كارهة له لم يعطها مرادها فيما تحبه . قوله ع قرة عينه فيما لا يزول وزهادته فيما لا يبقى يقال للفرح المسرور إنه لقرير العين وقرت عينه تقر والمراد بردها لأن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة . وهذا الكلام يحتمل أمرين أحدهما أن يعني بما لا يزول البارئ سبحانه وهذا مقام شريف جدا أعظم من سائر المقامات وهو حب العارف لله سبحانه وقد أنكره قوم فقالوا لا معنى لمحبة البارئ إلا المواظبة على طاعته ونحوه قول أصحابنا المتكلمين إن محبة الله تعالى للعبد هي إرادته لثوابه ومحبة العبد للبارئ هي إرادته لطاعته فليست المحبة عندهم شيئا زائدا على الإرادة ولا يجوز أن تتعلق بذات الله سبحانه لأن الإرادة لا تتعلق إلا بالحدوث وخالفهم شيخنا أبو الحسن فقال إن الإرادة يمكن أن تتعلق بالباقي ذكر ذلك في الكلام في الأكوان في أول التصفح فأما إثبات الحب في الجملة فقد نطق به القرآن قال سبحانه يُحِبُّهُمْ
[ 156 ]
وَ يُحِبُّونَهُ وقال أيضا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وقال إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللَّهُ و
في الحديث أن النبي ص نظر إلى مصعب بن عمير مقبلا وعليه إهاب كبش قد تمنطق به فقال انظروا إلى الرجل الذي قد نور الله قلبه لقد رأيته بين أبوين يغذوانه بأطيب الطعام والشراب فدعاه حب الله ورسوله إلى ما ترون و(1/2898)
يقال إن عيسى ع مر بثلاثة نفر قد نحلت أبدانهم وتغيرت ألوانهم فقال ما الذي بلغ بكم ما أرى قالوا الخوف من النار قال حق على الله أن يؤمن من يخافه ثم جاوزهم إلى ثلاثة آخرين فإذا هم أشد نحولا وتغيرا فقال ما الذي بلغ بكم ما أرى قالوا الشوق إلى الجنة فقال حق على الله أن يعطي من رجاه ثم مر إلى ثلاثة آخرين فإذا هم أشد نحولا وعلى وجوههم مثل المرائي من النور فقال ما الذي بلغ بكم ما أرى قالوا حب الله عز وجل فقال أنتم المقربون ثلاثا . وقال بعض العارفين
أحبك حبين حب الهوى
و حبا لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى
فشغلي بذكرك عمن سواكا
و أما الذي أنت أهل له
فكشفك لي الحجب حتى أراكا
فلا الحمد من ذا ولا ذاك لي
و لكن لك الحمد في ذا وذاكا
[ 157 ]
ليس يريد بكشف الحجب والرؤية ما يظنه الظاهريون من أنها الإبصار بالعين بل المعرفة التامة وذلك لأن المعارف النظرية يصح أن تصير ضرورية عند جمهور أصحابنا فهذا أحد محملي الكلام . وثانيهما أن يريد بما لا يزول نعيم الجنة وهذا أدون المقامين لأن الخلص من العارفين يحبونه ويعشقونه سبحانه لذاته لا خوفا من النار ولا شوقا إلى الجنة وقد قال بعضهم لست أرضى لنفسي أن أكون كأجير السوء إن دفعت إليه الأجرة رضي وفرح وإن منعها سخط وحزن إنما أحبه لذاته . وقال بعض شعرائهم شعرا من جملته
فهجره أعظم من ناره
و وصله أطيب من جنته
و قد جاء في كلام أمير المؤمنين ع من هذا الكثير نحو
قوله لم أعبده خوفا ولا طمعا لكني وجدته أهلا للعبادة فعبدته . قوله ع يمزج الحلم بالعلم أي لا يحلم إلا عن علم بفضل الحلم ليس كما يحلم الجاهلون . قوله والقول بالعمل أي لا يقتصر على القول ومثل هذا قول الأحوص
و أراك تفعل ما تقول وبعضهم
مذق اللسان يقول ما لا يفعل(1/2899)
قوله ع تراه قريبا أمله أي ليست نفسه متعلقة بما عظم من آمال الدنيا وإنما قصارى أمره أن يؤمل القوت والملبس قليلا زلله أي خطؤه . قوله منزورا أكله أي قليلا ويحمد من الإنسان الأكل النزر قال أعشى باهلة
[ 158 ]
تكفيه حزة فلذ إن ألم بها
من الشواء ويكفي شربه الغمر
و قال متمم بن نويرة
لقد كفن المنهال تحت ردائه
فتى غير مبطان العشيات أروعا
قوله ع مكظوما غيظه كظم الغيظ من الأخلاق الشريفة
قال زيد بن علي ع ما سرني بجرعة غيظ أتجرعها وأصبر عليها حمر النعم . وجاء رجل إلى الربيع بن زياد الحارثي فقال يا أبا عبد الرحمن إن فلانا يغتابك وينال منك فقال والله لأغيظن من أمره بذلك قال الرجل ومن أمره قال الشيطان عدو الله استغواه ليؤثمه وأراد أن يغضبني عليه فأكافئه والله لا أعطيه ما أحب من ذلك غفر الله لنا وله . وجهل إنسان على عمر بن عبد العزيز فقال أظنك أردت أن يستفزني الشيطان بعز السلطان فأنال منك اليوم ما تناله مني غدا انصرف عافاك الله . و
قال النبي ص الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل و
قال إنسان لرسول الله ص أوصني فقال لا تغضب فأعاد عليه السؤال فقال لا تغضب فقال زدني فقال لا أجد مزيدا . ومن كلام بعض الحكماء لا يفي عز الغضب بذلة الاعتذار .
[ 159 ]
قوله إن كان في الغافلين معناه أنه لا يزال ذاكر الله تعالى سواء كان جالسا مع الغافلين أو مع الذاكرين أما إذا كان مع الغافلين فإنه يذكر الله بقلبه وأما إذا كان مع الذاكرين فإنه يذكر بقلبه ولسانه . قوله ع يعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه ويصل من قطعه من(1/2900)
كلام المسيح ع في الإنجيل أحبوا أعداءكم وصلوا قاطعيكم واعفوا عن ظالميكم وباركوا على لاعنيكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماء الذي تشرق شمسه على الصالحين والفجرة وينزل مطره على المطيعين والأثمة . قوله ع بعيدا فحشه ليس يعني به أنه قد يفحش تارة ويترك الفحش تارات بل لا فحش له أصلا فكنى عن العدم بالبعد لأنه قريب منه . قوله لينا قوله العارف بسام طلق الوجه لين القول وفي صفات النبي ص ليس بفظ ولا صخاب . قوله في الزلازل وقور أي لا تحركه الخطوب الطارقة ويقال إن علي بن الحسين ع كان يصلي فوقعت عليه حية فلم يتحرك لها ثم انسابت بين قدميه فما حرك إحداهما عن مكانه ولا تغير لونه . قوله لا يحيف على من يبغض هذا من الأخلاق الشريفة النبوية وفي كلام أبي بكر في صفات من يصلح للإمامة إن رضي لم يدخله رضاه في باطل وإن غضب لم يخرجه غضبه عن الحق . قوله يعترف بالحق قبل أن يشهد عليه لأنه إن أنكر ثم شهد عليه فقد ثبت كذبه وإن سكت ثم شهد عليه فقد أقام نفسه في مقام الريبة .
[ 160 ]
قوله ولا ينابز بالألقاب هذا من قوله تعالى وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ . قوله ولا يضار بالجار
في الحديث المرفوع أوصاني ربي بالجار حتى ظننت أن يورثه قوله ولا يشمت بالمصائب نظير قول الشاعر
فلست تراه شامتا بمصيبة
و لا جزعا من طارق الحدثان(1/2901)
قوله إن صمت لم يغمه صمته أي لا يحزن لفوات الكلام لأنه يرى الصمت مغنما لا مغرما . قوله وإن ضحك لم يعل صوته هكذا كان ضحك رسول الله ص أكثره التبسم وقد يفر أحيانا ولم يكن من أهل القهقهة والكركرة . قوله وإن بغي عليه صبر هذا من قول الله تعالى ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اَللَّهُ . قوله نفسه منه في عناء لأنه يتعبها بالعبادة والناس لا يلقون منه عنتا ولا أذى فحالهم بالنسبة إليه خلاف حال نفسه بالنسبة إليه . قوله فصعق همام أغمي عليه ومات قال الله تعالى فَصَعِقَ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ
[ 161 ](1/2902)
ذكر بعض أحوال العارفين
و اعلم أن الوجد أمر شريف قد اختلف الناس فيه فقالت الحكماء فيه أقوالا وقالت الصوفية فيه أقوالا أما الحكماء فقالوا الوجد هو حالة تحدث للنفس عند انقطاع علائقها عن المحسوسات بغتة إذا كان قد ورد عليها وارد مشوق وقال بعضهم الوجد هو اتصال النفس بمبادئها المجردة عند سماع ما يقتضي ذلك الاتصال . وأما الصوفية فقد قال بعضهم الوجد رفع الحجاب ومشاهدة المحبوب وحضور الفهم وملاحظة الغيب ومحادثة السر وهو فناؤك من حيث أنت أنت وقال بعضهم الوجد سر الله عند العارفين ومكاشفة من الحق توجب الفناء عن الحق . والأقوال فيه متقاربة في المعنى وإن اختلفت العبارة وقد مات كثير من الناس بالوجد عند سماع وعظ أو صفقة مطرب والأخبار في هذا الباب كثيرة جدا وقد رأينا نحن في زماننا من مات بذلك فجأة . قوله كانت نفسه فيها أي مات ونفث الشيطان على لسانك أي تكلم بلسانك وأصله النفخ بالفم وهو أقل من التفل وإنما نهى أمير المؤمنين القائل فهلا أنت يا أمير المؤمنين لأنه اعترض في غير موضع الاعتراض وذلك أنه لا يلزم من موت العامي عند وعظ العارف أن يموت العارف عند وعظ نفسه لأن انفعال العامي ذي الاستعداد التام للموت عند سماع المواعظ البالغة أتم من استعداد العارف عند سماع كلام
[ 162 ]
نفسه أو الفكر في كلام نفسه لأن نفس العارف قوية جدا والآلة التي يحفر بها الطين قد لا يحفر بها الحجر . فإن قلت فإن جواب أمير المؤمنين ع للسائل غير هذا الجواب قلت صدقت إنما أجابه من حيث يعلم هو والسامعون وتصل أفهامهم إليه فخرج معه إلى حديث الآجال وأنها أوقات مقدرة لا تتعداها وما كان يمكنه ع أن يذكر الفرق بين نفسه ونفوسهم ولا كانت الحال تقتضيه فأجابه بجواب مسكت وهو مع إسكاته الخصم حق وعدل عن جواب يحصل منه اضطراب ويقع فيه تشويش وهذا نهاية السداد وصحة القول
[ 163 ](1/2903)
187 ـ ومن خطبة له ع يصف فيها المنافقين
نَحْمَدُهُ عَلَى مَا وَفَّقَ لَهُ مِنَ اَلطَّاعَةِ وَ ذَادَ عَنْهُ مِنَ اَلْمَعْصِيَةِ وَ نَسْأَلُهُ لِمِنَّتِهِ تَمَاماً وَ لِحَبْلِهِ بِحَبْلِهِ اِعْتِصَاماً وَ نَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ خَاضَ إِلَى رِضْوَانِ اَللَّهِ كُلَّ غَمْرَةٍ وَ تَجَرَّعَ فِيهِ كُلَّ غُصَّةٍ وَ قَدْ تَلَوَّنَ لَهُ اَلْأَدْنَوْنَ وَ تَأَلَّبَ عَلَيْهِ اَلْأَقْصَوْنَ وَ خَلَعَتْ عَلَيْهِ إِلَيْهِ اَلْعَرَبُ أَعِنَّتَهَا وَ ضَرَبَتْ إِلَى مُحَارَبَتِهِ بُطُونَ رَوَاحِلِهَا حَتَّى أَنْزَلَتْ بِسَاحَتِهِ عَدَاوَتَهَا مِنْ أَبْعَدِ اَلدَّارِ وَ أَسْحَقِ اَلْمَزَارِ أُوصِيكُمْ عِبَادَ اَللَّهِ بِتَقْوَى اَللَّهِ وَ أُحَذِّرُكُمْ أَهْلَ اَلنِّفَاقِ فَإِنَّهُمُ اَلضَّالُّونَ اَلْمُضِلُّونَ وَ اَلزَّالُّونَ اَلْمُزِلُّونَ يَتَلَوَّنُونَ أَلْوَاناً وَ يَفْتَنُّونَ اِفْتِنَاناً وَ يَعْمِدُونَكُمْ بِكُلِّ عِمَادٍ وَ يَرْصُدُونَكُمْ بِكُلِّ مِرْصَادٍ قُلُوبُهُمْ دَوِيَّةٌ وَ صِفَاحُهُمْ نَقِيَّةٌ يَمْشُونَ اَلْخَفَاءَ وَ يَدِبُّونَ اَلضَّراءَ وَصْفُهُمْ دَوَاءٌ وَ قَوْلُهُمْ شِفَاءٌ وَ فِعْلُهُمُ اَلدَّاءُ اَلْعَيَاءُ حَسَدَةُ اَلرَّخَاءِ وَ مُؤَكِّدُو اَلْبَلاَءِ وَ مُقْنِطُو اَلرَّجَاءِ لَهُمْ بِكُلِّ طَرِيقٍ صَرِيعٌ وَ إِلَى كُلِّ قَلْبٍ شَفِيعٌ وَ لِكُلِّ شَجْوٍ دُمُوعٌ يَتَقَارَضُونَ اَلثَّنَاءَ وَ يَتَرَاقَبُونَ اَلْجَزَاءَ إِنْ سَأَلُوا أَلْحَفُوا وَ إِنْ عَذَلُوا كَشَفُوا وَ إِنْ حَكَمُوا أَسْرَفُوا
[ 164 ](1/2904)
قَدْ أَعَدُّوا لِكُلِّ حَقٍّ بَاطِلاً وَ لِكُلِّ قَائِمٍ مَائِلاً وَ لِكُلِّ حَيٍّ قَاتِلاً وَ لِكُلِّ بَابٍ مِفْتَاحاً وَ لِكُلِّ لَيْلٍ مِصْبَاحاً يَتَوَصَّلُونَ إِلَى اَلطَّمَعِ بِالْيَأْسِ لِيُقِيمُوا بِهِ أَسْوَاقَهُمْ وَ يُنْفِقُوا بِهِ أَعْلاَقَهُمْ يَقُولُونَ فَيُشَبِّهُونَ وَ يَصِفُونَ فَيُمَوِّهُونَ قَدْ هَوَّنُوا اَلطَّرِيقَ وَ أَضْلَعُوا اَلْمَضِيقَ فَهُمْ لُمَةُ اَلشَّيْطَانِ وَ حُمَةُ اَلنِّيرَانِ أُولئِكَ حِزْبُ اَلشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اَلشَّيْطانِ هُمُ اَلْخاسِرُونَ الضمير في له وهو الهاء راجع إلى ما التي بمعنى الذي وقيل بل هو راجع إلى الله سبحانه كأنه قال نحمده على ما وفق من طاعته والصحيح هو الأول لأن له في الفقرة الأولى بإزاء عنه في الفقرة الثانية والهاء في عنه ليست عائدة إلى الله وذاد طرد والمصدر الذياد . وخاض كل غمرة مثل قولك ارتكب كل مهلكة وتقحم كل هول والغمرة ما ازدحم وكثر من الماء وكذلك من الناس والجمع غمار . والغصة الشجا والجمع غصص . وتلون له الأدنون تغير عليه أقاربه ألوانا . وتألب عليه الأقصون تجمع عليه الأبعدون عنه نسبا . وخلعت إليه العرب أعنتها مثل معناه أوجفوا إليه مسرعين لمحاربته لأن الخيل إذا خلعت أعنتها كان أسرع لجريها . وضربت إلى محاربته بطون رواحلها كناية عن إسراع العرب نحوه للحرب
[ 165 ](1/2905)
لأن الرواحل إذا ضربت بطونها لتساق كان أوحى لها ومراده أنهم كانوا فرسانا وركبانا . قوله حتى أنزلت بساحته عداوتها أي حربها فعبر عنها بالعداوة لأن العداوة سبب الحرب فعبر بالسبب عن المسبب ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناك يعنون الماء لما كان اعتقادهم أن السماء سبب الماء . وأسحق المزار أبعده مكان سحيق أي بعيد والسحق بضم السين البعد يقال سحقا له ويجوز ضم الحاء كما قالوا عسر وعسر وسحق الشي ء بالضم أي بعد وأسحقه الله أبعده والمزار المكان الذي يزار منه أو المكان الذي يزار فيه والمراد هاهنا هو الأول ومن قرأ كتب السيرة علم ما لاقى رسول الله ص في ذات الله سبحانه من المشقة واستهزاء قريش به في أول الدعوة ورميهم إياه بالحجارة حتى أدموا عقبيه وصياح الصبيان به وفرث الكرش على رأسه وفتل الثوب في عنقه وحصره وحصر أهله في شعب بني هاشم سنين عدة محرمة معاملتهم ومبايعتهم ومناكحتهم وكلامهم حتى كادوا يموتون جوعا لو لا أن بعض من كان يحنو لرحم أو لسبب غيره فهو يسرق الشي ء القليل من الدقيق أو التمر فيلقيه إليهم ليلا ثم ضربهم أصحابه وتعذيبهم بالجوع والوثاق في الشمس وطردهم إياهم عن شعاب مكة حتى خرج من خرج منهم إلى الحبشة وخرج ع مستجيرا منهم تارة بثقيف وتارة ببني عامر وتارة بربيعة الفرس وبغيرهم ثم أجمعوا على قتله والفتك به ليلا حتى هرب منهم لائذا بالأوس والخزرج تاركا أهله وأولاده وما حوته يده ناجيا بحشاشة نفسه حتى وصل إلى المدينة فناصبوه الحرب ورموه بالمناسر والكتائب وضربوا إليه آباط الإبل
[ 166 ](1/2906)
و لم يزل منهم في عناء شديد وحروب متصلة حتى أكرمه الله تعالى ونصره وأيد دينه وأظهره ومن له أنس بالتواريخ يعلم من تفاصيل هذه الأحوال ما يطول شرحه . سمي النفاق نفاقا من النافقاء وهي بيت اليربوع له بابان يدخل من أحدهما ويخرج من الآخر وكذلك الذي يظهر دينا ويبطن غيره . والضالون المضلون الذين يضلون أنفسهم ويضلون غيرهم وكذلك الزالون المزلون زل فلان عن الأمر أي أخطأ وأزله غيره . قوله يفتنون يتشعبون فنونا أي ضروبا . ويعمدونكم أي يهدونكم ويفدحونكم يقال عمده المرض يعمده أي هده ومنه قولهم للعاشق عميد القلب . قوله بعماد أي بأمر فادح وخطب مؤلم وأصل العمد انشداخ سنام البعير وماضيه عمد السنام بالكسر عمدا فهو عمد . ويرصدونكم يعدون المكايد لكم أرصدت أعددت ومنه
في الحديث إلا أن أرصده لدين علي . وقلب دو بالتخفيف أي فاسد من داء أصابه وامرأة دوية فإذا قلت رجل دوي بالفتح استوى فيه المذكر والمؤنث والجماعة لأنه مصدر في الأصل ومن روى دوية بالتشديد على بعده فإنما شدده ليقابل نقية . والصفاح جمع صفحة الوجه وهي ظاهره يقول باطنهم عليل وظاهرهم صحيح يمشون الخفاء أي في الخفاء ثم حذف الجار فنصب وكذلك يدبون الضراء
[ 167 ]
و الضراء شجر الوادي الملتف وهذا مثل يضرب لمن يختل صاحبه يقال هو يدب له الضراء ويمشي له الخمر وهو جرف الوادي ثم قال وصفهم داء وقولهم شفاء وفعلهم الداء العياء أي أقوالهم أقوال الزاهدين العابدين وأفعالهم أفعال الفاسقين الفاجرين والداء العياء الذي يعيي الأساة . ثم قال حسدة الرخاء يحسدون على النعم ومؤكدو البلاء إذا وقع واحد من الناس في بلاء أكدوه عليه بالسعايات والنمائم وإغراء السلطان به ولقد أحسن أبو الطيب في قوله يذم البشر
و كأنا لم يرض فينا بريب الدهر
حتى أعانه من أعانا
كلما أنبت الزمان قناة
ركب المرء في القناة سنانا(1/2907)
و مقنطو الرجاء أي أهل الرجاء أي يبدلون بشرورهم وأذاهم رجاء الراجي قنوطا . قوله وإلى كل قلب شفيع يصف خلابة ألسنتهم وشدة ملقهم فقد استحوذوا على قلوب الناس بالرياء والتصنع . قوله ولكل شجو دموع الشجو الحزن أي يبكون تباكيا وتعملا لا حقا عند أهل كل حزن ومصاب . يتقارضون الثناء أي يثني زيد على عمرو ليثني عمرو عليه في ذلك المجلس أو يبلغه فيثني عليه في مجلس آخر مأخوذ من القرض . ويتراقبون الجزاء يرتقب كل واحد منهم على ثنائه ومدحه لصاحبه جزاء منه
[ 168 ]
إما بالمال أو بأمر آخر نحو ثناء يثني عليه أو شفاعة يشفع له أو نحو ذلك . والإلحاف في السؤال الاستقصاء فيه وهو مذموم قال الله تعالى لا يَسْئَلُونَ اَلنَّاسَ إِلْحافاً . قوله وإن عذلوا كشفوا أي إذا عذلك أحدهم كشف عيوبك في ذلك اللوم والعذل وجبهك بها وربما لا يستحي أن يذكرها لك بمحضر ممن لا تحب ذكرها بحضرته وليسوا كالناصحين على الحقيقة الذين يعرضون عند العتاب بالذنب تعريضا لطيفا ليقلع الإنسان عنه . وإن حكموا أسرفوا إذا سألك أحدهم ففوضته في مالك أسرف ولم يقنع بشي ء وأحب الاستئصال . قد أعدوا لكل حق باطلا يقيمون الباطل في معارضة الحق والشبهة في مصادمة الحجة ولكل دليل قائم وقول صحيح ثابت احتجاجا مائلا مضادا لذلك الدليل وكلاما مضطربا لذلك القول . ولكل باب مفتاحا أي ألسنتهم ذلقة قادرة على فتح المغلقات للطف توصلهم وظرف منطقهم . ولكل ليل مصباحا أي كل أمر مظلم فقد أعدوا له كلاما ينيره ويضيئه ويجعله كالمصباح الطارد لليل . ويتوصلون إلى مطامعهم بإظهار اليأس عما في أيدي الناس وبالزهد في الدنيا وفي الأثر شركم من أخذ الدنيا بالدين . ثم قال إنما فعلوا ذلك ليقيموا به أسواقهم أي لتنفق سلعتهم .
[ 169 ](1/2908)
و الأعلاق جمع علق وهو السلعة الثمينة . يقولون فيشبهون يوقعون الشبه في القلوب . ويصفون فيموهون التمويه التزيين وأصله أن تطلي الحديدة بذهب يحسنها . قد هيئوا الطريق أي الطريق الباطل قد هيئوها لتسلك بتمويهاتهم . وأضلعوا المضيق أمالوه وجعلوه ضلعا أي معوجا أي جعلوا المسلك الضيق معوجا بكلامهم وتلبيسهم فإذا أسلكوه إنسانا اعوج لاعوجاجه . واللمة بالتخفيف الجماعة والحمة بالتخفيف أيضا السم وكنى عن إحراق النار بالحمة للمشابهة في المضرة
[ 170 ](1/2909)
188 ـ ومن خطبة له ع
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي أَظْهَرَ مِنْ آثَارِ سُلْطَانِهِ وَ جَلاَلِ كِبْرِيَائِهِ مَا حَيَّرَ مُقَلَ اَلْعُقُولِ مِنْ عَجَائِبِ قُدْرَتِهِ وَ رَدَعَ خَطَرَاتِ هَمَاهِمِ اَلنُّفُوسِ عَنْ عِرْفَانَ كُنْهِ صِفَتِهِ وَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ شَهَادَةَ إِيمَانٍ وَ إِيقَانٍ وَ إِخْلاَصٍ وَ إِذْعَانٍ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ أَرْسَلَهُ وَ أَعْلاَمُ اَلْهُدَى دَارِسَةٌ وَ مَنَاهِجُ اَلدِّينِ طَامِسَةٌ فَصَدَعَ بِالْحَقِّ وَ نَصَحَ لِلْخَلْقِ وَ هَدَى إِلَى اَلرُّشْدِ وَ أَمَرَ بِالْقَصْدِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ وَ اِعْلَمُوا عِبَادَ اَللَّهِ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً وَ لَمْ يُرْسِلْكُمْ هَمَلاً عَلِمَ مَبْلَغَ نِعَمِهِ عَلَيْكُمْ وَ أَحْصَى إِحْسَانَهُ إِلَيْكُمْ فَاسْتَفْتِحُوهُ وَ اِسْتَنْجِحُوهُ وَ اُطْلُبُوا إِلَيْهِ وَ اِسْتَمْنِحُوهُ فَمَا قَطَعَكُمْ عَنْهُ حِجَابٌ وَ لاَ أُغْلِقَ عَنْكُمْ دُونَهُ بَابٌ وَ إِنَّهُ إِنْهُ لَبِكُلِّ مَكَانٍ وَ فِي كُلِّ حِينٍ وَ أَوَانٍ وَ مَعَ كُلِّ إِنْسٍ وَ جَانٍّ لاَ يَثْلِمُهُ اَلْعَطَاءُ وَ لاَ يَنْقُصُهُ اَلْحِبَاءُ وَ لاَ يَسْتَنْفِدُهُ سَائِلٌ وَ لاَ يَسْتَقْصِيهِ نَائِلٌ وَ لاَ يَلْوِيهِ شَخْصٌ عَنْ شَخْصٍ وَ لاَ يُلْهِيهِ صَوْتٌ عَنْ صَوْتٍ وَ لاَ تَحْجُزُهُ هِبَةٌ عَنْ سَلْبٍ وَ لاَ يَشْغَلُهُ غَضَبٌ عَنْ رَحْمَةٍ وَ لاَ تُولِهُهُ رَحْمَةٌ عَنْ عِقَابٍ وَ لاَ يُجِنُّهُ اَلْبُطُونُ عَنِ اَلظُّهُورِ وَ لاَ يَقْطَعُهُ اَلظُّهُورُ عَنِ اَلْبُطُونِ قَرُبَ فَنَأَى وَ عَلاَ فَدَنَا وَ ظَهَرَ فَبَطَنَ وَ بَطَنَ فَعَلَنَ وَ دَانَ وَ لَمْ يُدَنْ لَمْ يَذْرَإِ اَلْخَلْقَ بِاحْتِيَالٍ وَ لاَ اِسْتَعَانَ بِهِمْ لِكَلاَلٍ
[ 171 ](1/2910)
أُوصِيكُمْ عِبَادَ اَللَّهِ بِتَقْوَى اَللَّهِ فَإِنَّهَا اَلزِّمَامُ وَ اَلْقِوَامُ فَتَمَسَّكُوا بِوَثَائِقِهَا وَ اِعْتَصِمُوا بِحَقَائِقِهَا تَؤُلْ بِكُمْ إِلَى أَكْنَانِ اَلدَّعَةِ وَ أَوْطَانِ اَلسَّعَةِ وَ مَعَاقِلِ اَلْحِرْزِ وَ مَنَازِلِ اَلْعِزِّ فِي يَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ اَلْأَبْصَارُ وَ تُظْلِمُ لَهُ اَلْأَقْطَارُ وَ تُعَطَّلُ فِيهِ صُرُومُ اَلْعِشَارِ وَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ فَتَزْهَقُ كُلُّ مُهْجَةٍ وَ تَبْكُمُ كُلُّ لَهْجَةٍ وَ تَذِلُّ اَلشُّمُّ اَلشَّوَامِخُ وَ اَلصُّمُّ اَلرَّوَاسِخُ فَيَصِيرُ صَلْدُهَا سَرَاباً رَقْرَاقاً رَقْرَقاً وَ مَعْهَدُهَا قَاعاً سَمْلَقاً فَلاَ شَفِيعٌ يَشْفَعُ وَ لاَ حَمِيمٌ يَنْفَعُ وَ لاَ مَعْذِرَةٌ تَدْفَعُ أظهر سبحانه من آثار سلطانه نحو خلق الأفلاك ودخول بعضها في بعض كالمميل الذي يشتمل على المائل وفلك التدوير وغيرهما ونحو خلق الإنسان وما تدل كتب التشريح من عجيب الحكمة فيه ونحو خلق النبات والمعادن وترتيب العناصر وعلاماتها والآثار العلوية المتجددة حسب تجدد أسبابها ما حير عقول هؤلاء وأشعر بأنها إذا لم يحط بتفاصيل تلك الحكم مع أنها مصنوعة فالأولى ألا تحيط بالصانع الذي هو بري ء عن المادة وعلائق الحس . والمقل جمع مقلة وهي شحمة العين التي تجمع السواد والبياض ومقلت الشي ء نظرت إليه بمقلتي وأضاف المقل إلى العقول مجازا ومراده البصائر . وردع زجر ودفع وهماهم النفوس أفكارها وما يهمهم به عند التمثيل والروية في الأمر وأصل الهمهمة صويت يسمع لا يفهم محصوله .
[ 172 ](1/2911)
و العرفان المعرفة وكنه الشي ء نهايته وأقصاه والإيقان العلم القطعي والإذعان الانقياد والأعلام المنار والجبال يستدل بها في الطرقات . والمناهج السبل الواضحة والطامسة كالدارسة وصدع بالحق بين وأصله الشق يظهر ما تحته ويقال نصحت لزيد وهو أفصح من قولك نصحت زيدا . والقصد العدل . والعبث ما لا غرض فيه أو ما ليس فيه غرض مثله والهمل الإبل بلا راع وقد أهملت الإبل أرسلتها سدى . قوله علم مبلغ نعمه عليكم وأحصى إحسانه إليكم أي هو عالم بكمية إنعامه عليكم علما مفصلا وكل من علم قدر نعمته على غيره كان أحرى أن تشتد نقمته عليه عند عصيانه له وجرأته عليه بخلاف من يجهل قدر نعمته على الغير فإنه لا يشد غضبه لأنه لا يعلم قدر نعمته المكفورة . قوله فاستفتحوه أي اطلبوا منه الفتح عليكم والنصر لكم . واستنجحوه اطلبوا منه النجاح والظفر . واطلبوا إليه أي اسألوه يقال طلبت إلى زيد كذا وفي كذا . واستمنحوه بكسر النون اطلبوا منه المنحة وهي العطية ويروى واستميحوه بالياء استمحت الرجل طلبت عطاءه ومحت بالرجل أعطيته . ثم ذكر ع أنه لا حجاب يمنع عنه ولا دونه باب يغلق وأنه بكل مكان موجود وفي كل حين وأوان والمراد بوجوده في كل مكان إحاطة علمه وهو معنى قوله
[ 173 ](1/2912)
تعالى ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وقوله سبحانه وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ . قوله لا يثلمه العطاء بالكسر لا ينقص قدرته . والحباء النوال ولا يستنفده أي لا يفنيه . ولا يستقصيه لا يبلغ الجود أقصى مقدوره وإن عظم الجود لأنه قادر على ما لا نهاية له . ولا يلويه شخص عن شخص لا يوجب ما يفعله لشخص أو مع شخص إعراضا وذهولا عن شخص آخر بل هو عالم بالجميع لا يشغله شأن عن شأن لوى الرجل وجهه أي أعرض وانحرف ومثل هذا أراد بقوله ولا يلهيه صوت عن صوت ألهاه كذا أي شغله . ولا تحجزه بالضم هبة عن سلب أي لا تمنعه أي ليس كالقادرين بالقدرة مثلنا فإن الواحد منا يصرفه اهتمامه بعطية زيد عن سلب مال عمرو حالما يكون مهتما بتلك العطية لأن اشتغال القلب بأحد الأمرين يشغله عن الآخر . ومثل هذا قوله ولا يشغله غضب عن رحمة ولا تولهه رحمة عن عقاب أي لا تحدث الرحمة لمستحقها عنده ولها وهو التحير والتردد وتصرفه عن عقاب المستحق وذلك لأن الواحد منا إذا رحم إنسانا حدث عنده رقة خصوصا إذا توالت منه الرحمة لقوم متعددين فإنه تصير الرحمة كالملكة عنده فلا يطيق مع تلك الحال أن ينتقم والبارئ تعالى بخلاف ذلك لأنه ليس بذي مزاج سبحانه . ولا يجنه البطون عن الظهور ولا يقطعه الظهور عن البطون هذه كلها مصادر بطن
[ 174 ](1/2913)
بطونا أي خفي وظهر ظهورا أي تجلى يقول لا يمنعه خفاؤه عن العقول أن تدركه عند ظهوره بأفعاله وإن لم يكن ظاهرا بذاته وكذلك لا يقطعه ظهوره بأفعاله عن أن يخفى كنهه عن إبصار العقول وإدراكها له ويقال اجتننت كذا أي سترته ومنه الجنين والجنة للترس وسمي الجن جنا لاستتارهم . ثم زاد المعنى تأكيدا فقال قرب فنأى أي قرب فعلا فنأى ذاتا أي أفعاله قد تعلم ولكن ذاته لا تعلم . ثم قال وعلا فدنا أي لما علا عن أن تحيط به العقول عرفته العقول لا أنها عرفت ذاته لكن عرفت أنه شي ء لا يصح أن يعرف وذلك خاصته سبحانه فإن ماهيته يستحيل أن تتصور للعقل لا في الدنيا ولا في الآخرة بخلاف غيره من الممكنات . ثم أكد المعنى بعبارة أخرى قال وظهر فبطن وبطن فعلن وهذا مثل الأول ودان غلب وقهر ولم يدن لم يقهر ولم يغلب . ثم قال لم يذرأ الخلق باحتيال أي لم يخلقهم بحيلة توصل بها إلى إيجادهم بل أوجدهم على حسب علمه بالمصلحة خلقا مخترعا من غير سبب ولا واسطة . قال ولا استعان بهم لكلال أي لإعياء أي لم يأمر المكلفين بالجهاد لحاجته في قهر أعدائه وجاحدي نعمته إليهم وليس بكال ولا عاجز عن إهلاكهم ولكن الحكمة اقتضت ذلك قال سبحانه وَ لَوْ لا دَفْعُ اَللَّهِ اَلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ اَلْأَرْضُ أي لبطل التكليف . ثم ذكر أن التقوى قوام الطاعات التي تقوم بها وزمام العبادات لأنها تمسك وتحصن كزمام الناقة المانع لها من الخبط .
[ 175 ](1/2914)
و الوثائق جمع وثيقة وهي ما يوثق به وحقائقها جمع حقيقة وهي الراية يقال فلان حامي الحقيقة . قوله تؤل بالجزم لأنه جواب الأمر أي ترجع . والأكنان جمع كن وهو الستر والدعة الراحة السعة الجدة والمعاقل جمع معقل وهو الملجأ والحرز الحفظ وتشخص الأبصار تبقى مفتوحة لا تطرف . والأقطار الجوانب والصروم جمع صرم وصرمة وهي القطعة من الإبل نحو الثلاثين . والعشار النوق أتى عليها من يوم أرسل الفحل فيها عشرة أشهر فزال عنها اسم المخاض ولا يزال ذلك اسمها حتى تضع والواحدة عشراء وهذا من قوله تعالى وَ إِذَا اَلْعِشارُ عُطِّلَتْ أي تركت مسيبة مهملة لا يلتفت إليها أربابها ولا يحلبونها لاشتغالهم بأنفسهم . وتزهق كل مهجة تهلك وتبكم كل لهجة أي تخرس رجل أبكم وبكيم والماضي بكم بالكسر . والشم الشوامخ الجبال العالية وذلها تدكدكها وهي أيضا الصم الرواسخ . فيصير صلدها وهو الصلب الشديد انصلابه سرابا وهو ما يتراءى في النهار فيظن ماء . والرقراق الخفيف ومعهدها ما جعل منها منزلا للناس قاعا أرضا خالية والسملق الصفصف المستوي ليس بعضه أرفع وبعضه أخفض
[ 176 ](1/2915)
189 ـ ومن خطبة له ع
بَعَثَهُ حِينَ لاَ عَلَمٌ قَائِمٌ وَ لاَ مَنَارٌ سَاطِعٌ وَ لاَ مَنْهَجٌ وَاضِحٌ أُوصِيكُمْ عِبَادَ اَللَّهِ بِتَقْوَى اَللَّهِ وَ أُحَذِّرُكُمُ اَلدُّنْيَا فَإِنَّهَا دَارُ شُخُوصٍ وَ مَحَلَّةُ تَنْغِيصٍ سَاكِنُهَا ظَاعِنٌ وَ قَاطِنُهَا بَائِنٌ تَمِيدُ بِأَهْلِهَا مَيَدَانَ اَلسَّفِينَةِ تَقْصِفُهَا اَلْعَوَاصِفُ فِي لُجَجِ اَلْبِحَارِ فَمِنْهُمُ اَلْغَرِقُ اَلْوَبِقُ وَ مِنْهُمُ اَلنَّاجِي عَلَى بُطُونِ اَلْأَمْوَاجِ تَحْفِزُهُ اَلرِّيَاحُ بِأَذْيَالِهَا وَ تَحْمِلُهُ عَلَى أَهْوَالِهَا فَمَا غَرِقَ مِنْهَا فَلَيْسَ بِمُسْتَدْرَكٍ وَ مَا نَجَا مِنْهَا فَإِلَى مَهْلَكٍ عِبَادَ اَللَّهِ اَلآْنَ فَاعْلَمُوا وَ اَلْأَلْسُنُ مُطْلَقَةٌ وَ اَلْأَبْدَانُ صَحِيحَةٌ وَ اَلْأَعْضَاءُ لَدْنَةٌ وَ اَلْمُنْقَلَبُ فَسِيحٌ وَ اَلْمَجَالُ عَرِيضٌ قَبْلَ إِرْهَاقِ اَلْفَوْتِ وَ حُلُولِ اَلْمَوْتِ فَحَقِّقُوا عَلَيْكُمْ نُزُولَهُ وَ لاَ تَنْتَظِرُوا قُدُومَهُ يقول بعث الله سبحانه محمدا ص لما لم يبق علم يهتدي به المكلفون لأنه كان زمان الفترة وتبدل المصلحة واقتضاء وجوب اللطف عليه سبحانه تجديدا لبعثته ليعرف المبعوث المكلفين الأفعال التي تقربهم من فعل الواجبات العقلية وتبعدهم عن المقبحات الفعلية .
[ 177 ](1/2916)
و المنار الساطع المرتفع سطع الصبح سطوعا ارتفع . ودار شخوص دار رحلة شخص عن البلد رحل عنه . والظاعن المسافر والقاطن المقيم والبائن البعيد يقول ساكن الدنيا ليس بساكن على الحقيقة بل هو ظاعن في المعنى وإن كان في الصورة ساكنا والمقيم بها مفارق وإن ظن أنه مقيم . وتميد بأهلها تتحرك وتميل والميدان حركة واضطراب . وتصفقها العواصف تضربها بشدة ضربا بعد ضرب والعواصف الرياح القوية اللجج جمع لجة وهي معظم البحر . الوبق الهالك وبق الرجل بالفتح يبق وبوقا هلك والموبق منه كالموعد مفعل من وعد يعد ومنه قوله تعالى وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً وفيه لغة أخرى وبق الرجل يوبق وبقا وفيه لغة ثالثة وبق الرجل بالكسر يبق بالكسر أيضا وأوبقه الله أي أهلكه . وتحفزه الرياح تدفعه ضرب ع لأهل الدنيا مثلا براكبي السفينة في البحر وقد مادت بهم فمنهم الهالك على الفور ومنهم من لا يتعجل هلاكه وتحمله الرياح ساعة أو ساعات ثم مآله إلى الهلاك أيضا . ثم أمر ع بالعمل وقت الإمكان قبل ألا يمكن العمل فكنى عن ذلك بقوله والألسن منطلقة لأن المحتضر يعتقل لسانه والأبدان صحيحة لأن المحتضر سقيم البدن والأعضاء لدنة أي لينة أي قبل الشيخوخة والهرم ويبس
[ 178 ]
الأعضاء والأعصاب والمنقلب فسيح والمجال عريض أي أيام الشبيبة وفي الوقت والأجل مهلة قبل أن يضيق الوقت عليكم . قبل إرهاق الفوت أي قبل أن يجعلكم الفوت وهو فوات الأمر وتعذر استدراكه عليكم مرهقين والمرهق الذي أدرك ليقتل قال الكميت
تندى أكفهم وفي أبياتهم
ثقة المجاور والمضاف المرهق
قوله فحققوا عليكم نزوله ولا تنتظروا قدومه أي اعملوا عمل من يشاهد الموت حقيقة لا عمل من ينتظره انتظارا ويطاول الأوقات مطاولة فإن التسويف داعية التقصير
[ 179 ](1/2917)
190 ـ ومن خطبة له ع
وَ لَقَدْ عَلِمَ اَلْمُسْتَحْفِظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ص أَنِّي لَمْ أَرُدَّ عَلَى اَللَّهِ وَ لاَ عَلَى رَسُولِهِ سَاعَةً قَطُّ وَ لَقَدْ وَاسَيْتُهُ بِنَفْسِي فِي اَلْمَوَاطِنِ اَلَّتِي تَنْكُصُ فِيهَا اَلْأَبْطَالُ وَ تَتَأَخَّرُ فِيهَا اَلْأَقْدَامُ نَجْدَةً أَكْرَمَنِيَ اَللَّهُ بِهَا وَ لَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اَللَّهِ ص وَ إِنَّ رَأْسَهُ لَعَلَى صَدْرِي وَ لَقَدْ سَالَتْ نَفْسُهُ فِي كَفِّي فَأَمْرَرْتُهَا عَلَى وَجْهِي وَ لَقَدْ وُلِّيتُ غُسْلَهُ ص وَ اَلْمَلاَئِكَةُ أَعْوَانِي فَضَجَّتِ اَلدَّارُ وَ اَلْأَفْنِيَةُ مَلاٌ يَهْبِطُ وَ مَلاٌ يَعْرُجُ وَ مَا فَارَقَتْ سَمْعِي هَيْنَمَةٌ مِنْهُمْ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى وَارَيْنَاهُ فِي ضَرِيحِهِ فَمَنْ ذَا أَحَقُّ بِهِ مِنِّي حَيّاً وَ مَيِّتاً فَانْفُذُوا عَلَى بَصَائِرِكُمْ وَ لْتَصْدُقْ نِيَّاتُكُمْ فِي جِهَادِ عَدُوِّكُمْ فَوَالَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِنِّي لَعَلَى جَادَّةِ اَلْحَقِّ وَ إِنَّهُمْ لَعَلَى مَزَلَّةِ اَلْبَاطِلِ أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَ أَسْتَغْفِرُ اَللَّهَ لِي وَ لَكُمْ يمكن أن يعني بالمستحفظين الخلفاء الذين تقدموا لأنهم الذين استحفظوا الإسلام أي جعلوا حافظين له وحارسين لشريعته ولحوزته ويجوز أن يعني به العلماء والفضلاء من الصحابة لأنهم استحفظوا الكتاب أي كلفوا حفظه وحراسته .
[ 180 ]
و الظاهر أنه يرمز في قوله ع لم أرد على الله ولا على رسوله ساعة قط إلى أمور وقعت من غيره(1/2918)
كما جرى يوم الحديبية عند سطر كتاب الصلح فإن بعض الصحابة أنكر ذلك وقال يا رسول الله أ لسنا المسلمين قال بلى قال أ وليسوا الكافرين قال بلى قال فكيف نعطي الدنية في ديننا فقال ص إنما أعمل بما أومر به فقال قوم من الصحابة أ لم يكن قد وعدنا بدخول مكة وها نحن قد صددنا عنها ثم ننصرف بعد أن أعطينا الدنية في ديننا والله لو أجد أعوانا لم أعط الدنية أبدا فقال أبو بكر لهذا القائل ويحك الزم غرزه فو الله إنه لرسول الله ص وإن الله لا يضيعه . ثم قال له أ قال لك إنه سيدخلها هذا العام قال لا قال فسيدخلها فلما فتح النبي ص مكة وأخذ مفاتيح الكعبة دعاه فقال هذا الذي وعدتم به . واعلم أن هذا الخبر صحيح لا ريب فيه والناس كلهم رووه وليس عندي بقبيح ولا مستهجن أن يكون سؤال هذا الشخص لرسول الله ص عما سأله عنه على سبيل الاسترشاد والتماسا لطمأنينة النفس فقد قال الله تعالى لخليله إبراهيم أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي وقد كانت الصحابة تراجع رسول الله ص في الأمور وتسأله عما يستبهم عليها وتقول له أ هذا منك أم من الله وقال له السعدان رحمهما الله يوم الخندق وقد عزم على مصالحة الأحزاب ببعض تمر المدينة أ هذا من الله أم رأي رأيته من نفسك قال بل من نفسي قالا لا والله لا نعطيهم منها تمرة واحدة وأيدينا في مقابض سيوفنا .
[ 181 ](1/2919)
و قالت الأنصار له يوم بدر وقد نزل بمنزل لم يستصلحوه أ نزلت هذا المنزل عن رأي رأيت أم بوحي أوحي إليك قال بل عن رأي رأيته قالوا إنه ليس لنا بمنزل ارحل عنه فانزل بموضع كذا . وأما قول أبي بكر له الزم غرزه فو الله إنه لرسول الله ص فإنما هو تأكيد وتثبيت على عقيدته التي في قلبه ولا يدل ذلك على الشك فقد قال الله تعالى لنبيه وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً وكل أحد لا يستغني عن زيادة اليقين والطمأنينة وقد كانت وقعت من هذا القائل أمور دون هذه القصة كقوله دعني أضرب عنق أبي سفيان وقوله دعني أضرب عنق عبد الله بن أبي وقوله دعني أضرب عنق حاطب بن أبي بلتعة ونهي النبي ص له عن التسرع إلى ذلك وجذبه ثوب رسول الله ص حين قام على جنازة ابن سلول يصلي وقوله كيف تستغفر لرأس المنافقين وليس في ذلك جميعه ما يدل على وقوع القبيح منه وإنما الرجل كان مطبوعا على الشدة والشراسة والخشونة وكان يقول ما يقول على مقتضى السجية التي طبع عليها وعلى أي حال كان فلقد نال الإسلام بولايته وخلافته خيرا كثيرا . قوله ع ولقد واسيته بنفسي يقال واسيته وآسيته وبالهمزة أفصح وهذا مما اختص ع بفضيلته غير مدافع ثبت معه يوم أحد وفر الناس وثبت معه يوم حنين وفر الناس وثبت تحت رايته يوم خيبر حتى فتحها وفر من كان بعث بها من قبله .
[ 182 ]
و روى المحدثون أن رسول الله ص لما ارتث يوم أحد قال الناس قتل محمد رأته كتيبة من المشركين وهو صريع بين القتلى إلا أنه حي فصمدت له فقال لعلي ع اكفني هذه فحمل عليها ع وقتل رئيسها ثم صمدت له كتيبة أخرى فقال يا علي اكفني هذه فحمل عليها فهزمها وقتل رئيسها ثم صمدت له كتيبة ثالثة فكذلك
فكان رسول الله ص بعد ذلك يقول قال لي جبريل يا محمد إن هذه للمواساة فقلت وما يمنعه وهو مني وأنا منه فقال جبريل وأنا منكما و(1/2920)
روى المحدثون أيضا أن المسلمين سمعوا ذلك اليوم صائحا من جهة السماء ينادي لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي فقال رسول الله ص لمن حضره أ لا تسمعون هذا صوت جبريل . وأما يوم حنين فثبت معه في نفر يسير من بني هاشم بعد أن ولى المسلمون الأدبار وحامى عنه وقتل قوما من هوازن بين يديه حتى ثابت إليه الأنصار وانهزمت هوازن وغنمت أموالها . وأما يوم خيبر فقصته مشهورة . قوله ع نجدة أكرمني الله سبحانه بها النجدة الشجاعة وانتصابها هاهنا على أنها مصدر والعامل فيه محذوف . ثم ذكر ع وفاة رسول الله ص فقال لقد قبض وإن رأسه لعلى صدري ولقد سالت نفسه في كفي فأمررتها على وجهي يقال إن رسول الله
[ 183 ]
ص قاء دما يسيرا وقت موته وإن عليا ع مسح بذلك الدم وجهه . وقد روي أن أبا طيبة الحجام شرب دمه ع وهو حي فقال له إذن لا يجع بطنك . قوله ع فضجت الدار والأفنية أي النازلون في الدار من الملائكة أي ارتفع ضجيجهم ولجبهم يعني أني سمعت ذلك ولم يسمعه غيري من أهل الدار . والملأ الجماعة يهبط قوم من الملائكة ويصعد قوم والعروج الصعود والهينمة الصوت الخفي والضريح الشق في القبر(1/2921)
ذكر خبر موت الرسول ع
و قد روي من قصة وفاة رسول الله ص أنه عرضت له الشكاة التي عرضت في أواخر صفر من سنة إحدى عشرة للهجرة فجهز جيش أسامة بن زيد فأمرهم بالمسير إلى البلقاء حيث أصيب زيد وجعفر ع من الروم وخرج في تلك الليلة إلى البقيع وقال إني قد أمرت بالاستغفار عليهم فقال ع السلام عليكم يا أهل القبور ليهنكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع أولها آخرها ثم استغفر لأهل البقيع طويلا ثم قال لأصحابه إن جبريل كان يعارضني القرآن في كل عام مرة وقد عارضني به العام مرتين فلا أراه إلا لحضور أجلي ثم انصرف إلى بيته فخطب الناس في غده فقال معاشر الناس قد حان مني خفوق من بين أظهركم فمن كان له عندي عدة فليأتني أعطه إياها ومن كان علي دين فليأتني أقضه أيها الناس إنه ليس بين الله وبين أحد نسب ولا أمر يؤتيه به خيرا
[ 184 ](1/2922)
أو يصرف عنه شرا إلا العمل ألا لا يدعين مدع ولا يتمنين متمن والذي بعثني بالحق لا ينجي إلا عمل مع رحمة ولو عصيت لهويت اللهم قد بلغت . ثم نزل فصلى بالناس صلاة خفيفة ثم دخل بيت أم سلمة ثم انتقل إلى بيت عائشة يعلله النساء والرجال أما النساء فأزواجه وبنته ع وأما الرجال فعلي ع والعباس والحسن والحسين ع وكانا غلامين يومئذ وكان الفضل بن العباس يدخل أحيانا إليهم ثم حدث الاختلاف بين المسلمين أيام مرضه فأول ذلك التنازع الواقع يوم قال ص ائتوني بدواة وقرطاس وتلا ذلك حديث التخلف عن جيش أسامة وقول عياش بن أبي ربيعة أ يولى هذا الغلام على جلة المهاجرين والأنصار . ثم اشتد به المرض وكان عند خفة مرضه يصلي بالناس بنفسه فلما اشتد به المرض أمر أبا بكر أن يصلي بالناس . وقد اختلف في صلاته بهم فالشيعة تزعم أنه لم يصل بهم إلا صلاة واحدة وهي الصلاة التي خرج رسول الله ص فيها يتهادى بين علي ع والفضل فقام في المحراب مقامه وتأخر أبو بكر . والصحيح عندي وهو الأكثر الأشهر أنها لم تكن آخر صلاة في حياته ص بالناس جماعة وأن أبا بكر صلى بالناس بعد ذلك يومين ثم مات ص فمن قائل يقول إنه توفي لليلتين بقيتا من صفر وهو القول الذي تقوله الشيعة والأكثرون أنه توفي في شهر ربيع الأول بعد مضي أيام منه . وقد اختلفت الرواية في موته فأنكر عمر ذلك وقال إنه لم يمت وإنه غاب وسيعود فثناه أبو بكر عن هذا القول وتلا عليه الآيات المتضمنة أنه سيموت فرجع إلى قوله .
[ 185 ](1/2923)
ثم اختلفوا في موضع دفنه فرأى قوم أن يدفنوه بمكة لأنها مسقط رأسه وقال من قال بل بالمدينة ندفنه بالبقيع عند شهداء أحد ثم اتفقوا على دفنه في البيت الذي قبض فيه وصلوا عليه إرسالا لا يؤمهم أحد . وقيل إن عليا ع أشار بذلك فقبلوه . وأنا أعجب من ذلك لأن الصلاة عليه كانت بعد بيعة أبي بكر فما الذي منع من أن يتقدم أبو بكر فيصلي عليه إماما . وتنازعوا في تلحيده وتضريحه فأرسل العباس عمه إلى أبي عبيدة بن الجراح وكان يحفر لأهل مكة ويضرح على عادتهم رجلا وأرسل علي رجلا إلى أبي طلحة الأنصاري وكان يلحد لأهل المدينة على عادتهم وقال اللهم اختر لنبيك فجاء أبو طلحة فلحد له وأدخل في اللحد . وتنازعوا فيمن ينزل معه القبر فمنع علي ع الناس أن ينزلوا معه وقال لا ينزل قبره غيري وغير العباس ثم أذن في نزول الفضل وأسامة بن زيد مولاهم ثم ضجت الأنصار وسألت أن ينزل منها رجل في قبره فأنزلوا أوس بن خولي وكان بدريا . فأما الغسل فإن عليا ع تولاه بيده وكان الفضل بن العباس يصب عليه الماء . و
روى المحدثون عن علي ع أنه قال ما قلبت منه عضوا إلا وانقلب لا أجد له ثقلا كان معي من يساعدني عليه وما ذلك إلا الملائكة . وأما حديث الهينمة وسماع الصوت فقد رواه خلق كثير من المحدثين عن علي
[ 186 ](1/2924)
ع وتروي الشيعة أن عليا ع عصب عيني الفضل بن العباس حين صب عليه الماء وأن رسول الله ص أوصاه بذلك وقال إنه لا يبصر عورتي أحد غيرك إلا عمي . قوله ع فمن ذا أحق به مني حيا وميتا انتصابهما على الحال من الضمير المجرور في به أي أي شخص أحق برسول الله ص حال حياته وحال وفاته مني ومراده من هذا الكلام أنه أحق بالخلافة بعده وأحق الناس بالمنزلة منه حيث كان بتلك المنزلة منه في الدنيا وليس يجوز أن يكونا حالين من الضمير المجرور في مني لأنه لا يحسن أن يقول أنا أحق به إذا كنت حيا من كل أحد وأحق به إذا كنت ميتا من كل أحد لأن الميت لا يوصف بمثل ذلك ولأنه لا حال ثبتت له من الأحقية إذا كان حيا إلا وهي ثابتة له إذا كان ميتا وإن كان الميت يوصف بالأحقية فلا فائدة في قوله وميتا على هذا الفرض ولا يبقى في تقسيم الكلام إلى قسمين فائدة وأما إذا كان حالا من الضمير في به فإنه لا يلزم من كونه أحق بالمنزلة الرفيعة من رسول الله ص وهو حي أن يكون أحق بالخلافة بعد وفاته أي ليس أحدهما يلزم الآخر فاحتاج إلى أن يبين أنه أحق برسول الله ص من كل أحد إن كان الرسول حيا وإن كان ميتا ولم يستهجن أن يقسم الكلام إلى القسمين المذكورين . قوله ع فانفذوا إلى بصائركم أي أسرعوا إلى الجهاد على عقائدكم التي أنتم عليها ولا يدخلن الشك والريب في قلوبكم . قوله ع إني لعلى جادة الحق وإنهم لعلى مزلة الباطل كلام عجيب
[ 187 ]
على قاعدة الصناعة المعنوية لأنه لا يحسن أن يقول وإنهم لعلى جادة الباطل لأن الباطل لا يوصف بالجادة ولهذا يقال لمن ضل وقع في بنيات الطريق فتعوض عنها بلفظ المزلة وهي الموضع الذي يزل فيه الإنسان كالمزلقة موضع الزلق والمغرقة موضع الغرق والمهلكة موضع الهلاك
[ 188 ](1/2925)
191 ـ ومن خطبة له ع
يَعْلَمُ عَجِيجَ اَلْوُحُوشِ فِي اَلْفَلَوَاتِ وَ مَعَاصِيَ اَلْعِبَادِ فِي اَلْخَلَوَاتِ وَ اِخْتِلاَفِ اَلنِّينَانِ فِي اَلْبِحَارِ اَلْغَامِرَاتِ وَ تَلاَطُمَ اَلْمَاءِ بِالرِّيَاحِ اَلْعَاصِفَاتِ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً نَجِيبُ اَللَّهِ وَ سَفِيرُ وَحْيِهِ وَ رَسُولُ رَحْمَتِهِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اَللَّهِ اَلَّذِي اِبْتَدَأَ خَلْقَكُمْ وَ إِلَيْهِ يَكُونُ مَعَادُكُمْ وَ بِهِ نَجَاحُ طَلِبَتِكُمْ وَ إِلَيْهِ مُنْتَهَى رَغْبَتِكُمْ وَ نَحْوَهُ قَصْدُ سَبِيلِكُمْ وَ إِلَيْهِ مَرَامِي مَفْزَعِكُمْ فَإِنَّ تَقْوَى اَللَّهِ دَوَاءُ دَاءِ قُلُوبِكُمْ وَ بَصَرُ عَمَى أَفْئِدَتِكُمْ وَ شِفَاءُ مَرَضِ أَجْسَادِكُمْ وَ صَلاَحُ فَسَادِ صُدُورِكُمْ وَ طُهُورُ دَنَسِ أَنْفُسِكُمْ وَ جِلاَءُ غِشَاءِ عَشَا أَبْصَارِكُمْ وَ أَمْنُ فَزَعِ جَأْشِكُمْ وَ ضِيَاءُ سَوَادِ ظُلْمَتِكُمْ العجيج رفع الصوت وكذلك العج و
في الحديث أفضل الحج العج والثج أي التلبية وإراقة الدم وعجيج أي صوت ومضاعفة اللفظ دليل على تكرير التصويت . والنينان جمع نون وهو الحوت واختلافها هاهنا هو إصعادها وانحدارها . ونجيب الله منتجبه ومختاره . وسفير وحيه رسول وحيه والجمع سفراء مثل فقيه وفقهاء .
[ 189 ](1/2926)
و إليه مرامي مفزعكم إليه تفزعون وتلجئون ويقال فلان مرمى قصدي أي هو الموضع الذي أنحوه وأقصده . ويروى وجلاء عشى أبصاركم بالعين المهملة والألف المقصورة والجأش القلب وتقدير الكلام وضياء سواد ظلمة عقائدكم ولكنه حذف المضاف للعلم به : فَاجْعَلُوا طَاعَةَ اَللَّهِ شِعَاراً دُونَ دِثَارِكُمْ وَ دَخِيلاً دُونَ شِعَارِكُمْ وَ لَطِيفاً بَيْنَ أَضْلاَعِكُمْ وَ أَمِيراً فَوْقَ أُمُورِكُمْ وَ مَنْهَلاً لِحِينِ وُرُودِكُمْ وَ شَفِيعاً لِدَرَكِ طَلِبَتِكُمْ وَ جُنَّةً لِيَوْمِ فَزَعِكُمْ وَ مَصَابِيحَ لِبُطُونِ قُبُورِكُمْ وَ سَكَناً لِطُولِ وَحْشَتِكُمْ وَ نَفَساً لِكَرْبِ مَوَاطِنِكُمْ فَإِنَّ طَاعَةَ اَللَّهِ حِرْزٌ مِنْ مَتَالِفَ مُكْتَنِفَةٍ وَ مَخَاوِفَ مُتَوَقَّعَةٍ وَ أُوَارِ نِيرَانٍ مُوقَدَةٍ فَمَنْ أَخَذَ بِالتَّقْوَى عَزَبَتْ عَنْهُ اَلشَّدَائِدُ بَعْدَ دُنُوِّهَا وَ اِحْلَوْلَتْ لَهُ اَلْأُمُورُ بَعْدَ مَرَارَتِهَا وَ اِنْفَرَجَتْ عَنْهُ اَلْأَمْوَاجُ بَعْدَ تَرَاكُمِهَا وَ أَسْهَلَتْ لَهُ اَلصِّعَابُ بَعْدَ إِنْصَابِهَا وَ هَطَلَتْ عَلَيْهِ اَلْكَرَامَةُ بَعْدَ قُحُوطِهَا . وَ تَحَدَّبَتْ عَلَيْهِ اَلرَّحْمَةُ بَعْدَ نُفُورِهَا وَ تَفَجَّرَتْ عَلَيْهِ اَلنِّعَمُ بَعْدَ نُضُوبِهَا وَ وَبَلَتْ عَلَيْهِ اَلْبَرَكَةُ بَعْدَ إِرْذَاذِهَا فَاتَّقُوا اَللَّهَ اَلَّذِي نَفَعَكُمْ بِمَوْعِظَتِهِ وَ وَعَظَكُمْ بِرِسَالَتِهِ وَ اِمْتَنَّ عَلَيْكُمْ بِنِعْمَتِهِ فَعَبِّدُوا أَنْفُسَكُمْ لِعِبَادَتِهِ وَ اُخْرُجُوا إِلَيْهِ مِنْ حَقِّ طَاعَتِهِ
[ 190 ](1/2927)
الشعار أقرب إلى الجسد من الدثار والدخيل ما خالط باطن الجسد وهو أقرب من الشعار . ثم لم يقتصر على ذلك حتى أمر بأن يجعل التقوى لطيفا بين الأضلاع أي في القلب وذلك أمس بالإنسان من الدخيل فقد يكون الدخيل في الجسد وإن لم يخامر القلب . ثم قال وأميرا فوق أموركم أي يحكم على أموركم كما يحكم الأمير في رعيته . والمنهل الماء يرده الوارد من الناس وغيرهم . وقوله لحين ورودكم أي لوقت ورودكم . والطلبة بكسر اللام ما طلبته من شي ء . قوله ومصابيح لبطون قبوركم
جاء في الخبر أن العمل الصالح يضي ء قبر صاحبه كما يضي ء المصباح الظلمة . والسكن ما يسكن إليه . قوله ونفسا لكرب مواطنكم أي سعة وروحا . ومكتنفة محيطة والأوار حر النار والشمس . وعزبت بعدت واحلولت صارت حلوة وتراكمها اجتماعها وتكاثفها . وأسهلت صارت سهلة بعد إنصابها أي بعد إتعابها لكم أنصبته أتعبته . وهطلت سالت وقحوطها قلتها ووتاحتها . وتحدبت عليه عطفت وحنت . نضوبها انقطاعها كنضوب الماء ذهابه .
[ 191 ](1/2928)
و وبل المطر صار وابلا وهو أشد المطر وأكثره وإرذاذها إتيانها بالرذاذ وهو ضعيف المطر . قوله فعبدوا أنفسكم أي ذللوها ومنه طريق معبد . واخرجوا إليه من حق طاعته أي أدوا المفترض عليكم من العبادة يقال خرجت إلى فلان من دينه أي قضيته إياه : ثُمَّ إِنَّ هَذَا اَلْإِسْلاَمَ دِينُ اَللَّهِ اَلَّذِي اِصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ وَ اِصْطَنَعَهُ عَلَى عَيْنِهِ وَ أَصْفَاهُ خِيَرَةَ خَلْقِهِ وَ أَقَامَ دَعَائِمَهُ عَلَى مَحَبَّتِهِ أَذَلَّ اَلْأَدْيَانَ بِعِزَّتِهِ وَ وَضَعَ اَلْمِلَلَ بِرَفْعِهِ وَ أَهَانَ أَعْدَاءَهُ بِكَرَامَتِهِ وَ خَذَلَ مُحَادِّيهِ بِنَصْرِهِ وَ هَدَمَ أَرْكَانَ اَلضَّلاَلَةِ بِرُكْنِهِ وَ سَقَى مَنْ عَطِشَ مِنْ حِيَاضِهِ وَ أَتْأَقَ اَلْحِيَاضَ بِمَوَاتِحِهِ ثُمَّ جَعَلَهُ لاَ اِنْفِصَامَ لِعُرْوَتِهِ وَ لاَ فَكَّ لِحَلْقَتِهِ وَ لاَ اِنْهِدَامَ لِأَسَاسِهِ وَ لاَ زَوَالَ لِدَعَائِمِهِ وَ لاَ اِنْقِلاَعَ لِشَجَرَتِهِ وَ لاَ اِنْقِطَاعَ لِمُدَّتِهِ وَ لاَ عَفَاءَ لِشَرَائِعِهِ وَ لاَ جَذَّ لِفُرُوعِهِ وَ لاَ ضَنْكَ لِطُرُقِهِ وَ لاَ وُعُوثَةَ لِسُهُولَتِهِ وَ لاَ سَوَادَ لِوَضَحِهِ وَ لاَ عِوَجَ لاِنْتِصَابِهِ وَ لاَ عَصَلَ فِي عُودِهِ وَ لاَ وَعَثَ لِفَجِّهِ وَ لاَ اِنْطِفَاءَ لِمَصَابِيحِهِ وَ لاَ مَرَارَةَ لِحَلاَوَتِهِ فَهُوَ دَعَائِمُ أَسَاخَ فِي اَلْحَقِّ أَسْنَاخَهَا وَ ثَبَّتَ لَهَا آسَاسَهَا وَ يَنَابِيعُ غَزُرَتْ عُيُونُهَا وَ مَصَابِيحُ شَبَّتْ نِيرَانُهَا وَ مَنَارٌ اِقْتَدَى بِهَا سُفَّارُهَا وَ أَعْلاَمٌ قُصِدَ بِهَا فِجَاجُهَا وَ مَنَاهِلُ رَوِيَ بِهَا وُرَّادُهَا .
[ 192 ](1/2929)
جَعَلَ اَللَّهُ فِيهِ مُنْتَهَى رِضْوَانِهِ وَ ذِرْوَةَ دَعَائِمِهِ وَ سَنَامَ طَاعَتِهِ فَهُوَ عِنْدَ اَللَّهِ وَثِيقُ اَلْأَرْكَانِ رَفِيعُ اَلْبُنْيَانِ مُنِيرُ اَلْبُرْهَانِ مُضِي ءُ اَلنِّيرَانِ عَزِيزُ اَلسُّلْطَانِ مُشْرِفُ اَلْمَنَارِ مُعْوِذُ اَلْمَثَارِ فَشَرِّفُوهُ وَ اِتَّبِعُوهُ وَ أَدُّوا إِلَيْهِ حَقَّهُ وَ ضَعُوهُ مَوَاضِعَهُ اصطنعه على عينه كلمة تقال لما يشتد الاهتمام به تقول للصانع اصنع لي كذا على عيني أي اصنعه صنعة كاملة كالصنعة التي تصنعها وأنا حاضر أشاهدها بعيني قال تعالى وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي . وأصفاه خيرة خلقه أي آثر به خيرة خلقه وهم المسلمون وياء خيرة مفتوحة . قال وأقام الله دعائم الإسلام على حب الله وطاعته . والمحاد المخالف قال تعالى مَنْ يُحادِدِ اَللَّهَ أي من يعاد الله كأنه يكون في حد وجهة وذلك الإنسان في حد آخر وجهة أخرى وكذلك المشاق يكون في شق والآخر في شق آخر . وأتأق الحياض ملأها وتئق السقاء نفسه يتأق تأقا وكذلك الرجل إذا امتلأ غضبا . قوله بمواتحه وهي الدلاء يمتح بها أي يسقى بها . والانفصام الانكسار والعفاء الدروس . والجذ القطع ويروى بالدال المهملة وهو القطع أيضا . والضنك الضيق .
[ 193 ](1/2930)
و الوعوثة كثرة في السهولة توجب صعوبة المشي لأن الأقدام تعيث في الأرض . والوضح البياض . والعوج بفتح العين فيما ينتصب كالنخلة والرمح والعوج بكسرها فيما لا ينتصب كالأرض والرأي والدين . والعصل الالتواء والاعوجاج ناب أعصل وشجرة عصلة وسهام عصل . والفج الطريق الواسع بين الجبلين يقول لا وعث فيه أي ليس طريق الإسلام بوعث وقد ذكرنا أن الوعوثة ما هي . قوله فهو دعائم أساخ في الحق أسناخها الأسناخ جمع سنخ وهو الأصل وأساخها في الأرض أدخلها فيها وساخت قوائم فرسه في الأرض تسوخ وتسيخ دخلت وغابت . والآساس بالمد جمع أسس مثل سبب وأسباب والأسس والأس والأساس واحد وهو أصل البناء . وغزرت عيونها بضم الزاي كثرت وشبت نيرانها بضم الشين أوقدت والمنار الأعلام في الفلاة . قوله قصد بها فجاجها أي قصد بنصب تلك الأعلام اهتداء المسافرين في تلك الفجاج فأضاف القصد إلى الفجاج . وروي روادها جمع رائد وهو الذي يسبق القوم فيرتاد لهم الكلأ والماء . والذروة أعلى السنام والرأس وغيرهما . قوله معوذ المثار أي يعجز الناس إثارته وإزعاجه لقوته ومتانته
[ 194 ](1/2931)
ثُمَّ إِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً ص بِالْحَقِّ حِينَ دَنَا مِنَ اَلدُّنْيَا اَلاِنْقِطَاعُ وَ أَقْبَلَ مِنَ اَلآْخِرَةِ اَلاِطِّلاَعُ وَ أَظْلَمَتْ بَهْجَتُهَا بَعْدَ إِشْرَاقٍ وَ قَامَتْ بِأَهْلِهَا عَلَى سَاقٍ وَ خَشُنَ مِنْهَا مِهَادٌ وَ أَزِفَ مِنْهَا قِيَادٌ فِي اِنْقِطَاعٍ مِنْ مُدَّتِهَا وَ اِقْتِرَابٍ مِنْ أَشْرَاطِهَا وَ تَصَرُّمٍ مِنْ أَهْلِهَا وَ اِنْفِصَامٍ مِنْ حَلْقَتِهَا وَ اِنْتِشَارٍ مِنْ سَبَبِهَا وَ عَفَاءٍ مِنْ أَعْلاَمِهَا وَ تَكَشُّفٍ مِنْ عَوْرَاتِهَا وَ قِصَرٍ مِنْ طُولِهَا جَعَلَهُ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ بَلاَغاً لِرِسَالَتِهِ وَ كَرَامَةً لِأُمَّتِهِ وَ رَبِيعاً لِأَهْلِ زَمَانِهِ وَ رِفْعَةً لِأَعْوَانِهِ وَ شَرَفاً لِأَنْصَارِهِ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ اَلْكِتَابَ نُوراً لاَ تُطْفَأُ مَصَابِيحُهُ وَ سِرَاجاً لاَ يَخْبُو تَوَقُّدُهُ وَ بَحْراً لاَ يُدْرَكُ قَعْرُهُ وَ مِنْهَاجاً لاَ يُضِلُّ نَهْجُهُ وَ شُعَاعاً لاَ يُظْلِمُ ضَوْءُهُ وَ فُرْقَاناً لاَ يُخْمَدُ بُرْهَانُهُ وَ تِبْيَاناً لاَ تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ وَ شِفَاءً لاَ تُخْشَى أَسْقَامُهُ وَ عِزّاً لاَ تُهْزَمُ أَنْصَارُهُ وَ حَقّاً لاَ تُخْذَلُ أَعْوَانُهُ فَهُوَ مَعْدِنُ اَلْإِيمَانِ وَ بُحْبُوحَتُهُ وَ يَنَابِيعُ اَلْعِلْمِ وَ بُحُورُهُ وَ رِيَاضُ اَلْعَدْلِ وَ غُدْرَانُهُ وَ أَثَافِيُّ اَلْإِسْلاَمِ وَ بُنْيَانُهُ وَ أَوْدِيَةُ اَلْحَقِّ وَ غِيطَانُهُ وَ بَحْرٌ لاَ يَنْزِفُهُ اَلْمُسْتَنْزِفُونَ وَ عُيُونٌ لاَ يُنْضِبُهَا اَلْمَاتِحُونَ وَ مَنَاهِلُ لاَ يَغِيضُهَا اَلْوَارِدُونَ وَ مَنَازِلُ لاَ يَضِلُّ نَهْجَهَا اَلْمُسَافِرُونَ وَ أَعْلاَمٌ لاَ يَعْمَى عَنْهَا اَلسَّائِرُونَ وَ إِكَامٌ آكَامٌ لاَ يَجُوزُ عَنْهَا اَلْقَاصِدُونَ
[ 195 ](1/2932)
اختلاف الأقوال في عمر الدنيا
قوله ع حين دنا من الدنيا الانقطاع أي أزفت الآخرة وقرب وقتها وقد اختلف الناس في ذلك اختلافا شديدا فذهب قوم إلى أن عمر الدنيا خمسون ألف سنة قد ذهب بعضها وبقي بعضها . واختلفوا في مقدار الذاهب والباقي واحتجوا لقولهم بقوله تعالى تَعْرُجُ اَلْمَلائِكَةُ وَ اَلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قالوا اليوم هو إشارة إلى الدنيا وفيها يكون عروج الملائكة والروح إليه واختلافهم بالأمر من عنده إلى خلقه وإلى رسله قالوا وليس قول بعض المفسرين أنه عنى يوم القيامة بمستحسن لأن يوم القيامة لا يكون للملائكة والروح عروج إليه سبحانه لانقطاع التكليف ولأن المؤمنين إما أن يطول عليهم ذلك اليوم بمقدار خمسين ألف سنة أو يكون هذا مختصا بالكافرين فقط ويكون قصيرا على المؤمنين والأول باطل لأنه أشد من عذاب جهنم ولا يجوز أن يلقى المؤمن هذه المشقة والثاني باطل لأنه لا يجوز أن يكون الزمان الواحد طويلا قصيرا بالنسبة إلى شخصين اللهم إلا أن يكون أحدهما نائما أو ممنوا بعلة تجري مجرى النوم فلا يحس بالحركة ومعلوم أن حال المؤمنين بعد بعثهم ليست هذه الحال . قالوا وليست هذه الآية مناقضة للآية الأخرى وهي قوله تعالى يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ مِنَ اَلسَّماءِ إِلَى اَلْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ وذلك لأن سياق الكلام يدل على أنه أراد به الدنيا وذلك لأنه قد ورد في الخبر أن
[ 196 ](1/2933)
بين الأرض والسماء مسيرة خمسمائة عام فإذا نزل الملك إلى الأرض ثم عاد إلى السماء فقد قطع في ذلك اليوم مسيرة ألف عام أ لا ترى إلى قوله يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ مِنَ اَلسَّماءِ إِلَى اَلْأَرْضِ أي ينزل الملك بالوحي والأمر والحكم من السماء إلى الأرض ثم يعود راجعا إليه وعارجا صاعدا إلى السماء فيجتمع من نزوله وصعوده مقدار مسير ألف سنة . وذكر حمزة بن الحسن الأصفهاني في كتابه المسمى تواريخ الأمم أن اليهود تذهب إلى أن عدد السنين من ابتداء التناسل إلى سنة الهجرة لمحمد ص أربعة آلاف واثنتان وأربعون سنة وثلاثة أشهر . والنصارى تذهب إلى أن عدد ذلك خمسة آلاف وتسعمائة وتسعون سنة وثلاثة أشهر . وأن الفرس تذهب إلى أن من عهد كيومرث والد البشر عندهم إلى هلاك يزدجرد بن شهريار الملك أربعة آلاف ومائة واثنتين وثمانين سنة وعشرة أشهر وتسعة عشر يوما ويسندون ذلك إلى كتابهم الذي جاء به زردشت وهو الكتاب المعروف بأبستا . فأما اليهود والنصارى فيسندون ذلك إلى التوراة ويختلفون في كيفية استنباط المدة . وتزعم النصارى واليهود أن مدة الدنيا كلها سبعة آلاف سنة قد ذهب منها ما ذهب وبقي ما بقي . وقيل إن اليهود إنما قصرت المدة لأنهم يزعمون أن شيخهم الذي هو منتظرهم يخرج في أول الألف السابع فلو لا تنقيصهم المدة وتقصيرهم أيامها لتعجل افتضاحهم ولكن سيفتضحون فيما بعد عند من يأتي بعدنا من البشر .
[ 197 ](1/2934)
قال حمزة وأما المنجمون فقد أتوا بما يغمز هذا كله فزعموا أنه قد مضى من الدنيا منذ أول يوم سارت فيه الكواكب من رأس الحمل إلى اليوم الذي خرج فيه المتوكل بن معتصم بن الرشيد من سامراء إلى دمشق ليجعلها دار الملك وهو أول يوم من المحرم سنة أربع وأربعين ومائتين للهجرة المحمدية أربعة آلاف ألف ألف ألف ثلاث لفظات وثلاثمائة ألف وعشرون ألف سنة بسني الشمس . قالوا والذي مضى من الطوفان إلى صبيحة اليوم الذي خرج فيه المتوكل إلى دمشق ثلاث آلاف وسبعمائة وخمس وثلاثون سنة وعشرة أشهر واثنان وعشرون يوما . وذكر أبو الريحان البيروني في كتاب الآثار الباقية عن القرون الخالية أن الفرس والمجوس يزعمون أن عمر الدنيا اثنا عشر ألف سنة على عدد البروج وعدد الشهور وأن الماضي منها إلى وقت ظهور زردشت صاحب شريعتهم ثلاثة آلاف سنة وبين ابتداء ظهور زردشت وبين أول تاريخ الإسكندر مائتان وثمان وخمسون سنة وبين تاريخ الإسكندر وبين سنته التي كتبنا فيها شرح هذا الفصل وهي سنة سبع وأربعين وستمائة للهجرة النبوية ألف وخمسمائة وسبعون سنة فعلى هذا يكون الماضي إلى يومنا هذا من أصل اثني عشر ألف سنة أربعة آلاف وثمانمائة وثماني عشرة سنة فيكون الباقي من الدنيا على قولهم أكثر من الماضي . وحكى أبو الريحان عن الهند في بعض كتبه أن مدة عمر الدنيا مقدار تضعيف الواحد من أول بيت في رقعة الشطرنج إلى آخر البيوت . فأما الأخباريون من المسلمين فأكثرهم يقولون إن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة
[ 198 ](1/2935)
و يقولون إننا في السابع والحق أنه لا يعلم أحد هذا إلا الله تعالى وحده كما قال سبحانه يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها وقال لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اَللَّهِ . ونقول مع ذلك كما ورد به الكتاب العزيز اِقْتَرَبَتِ اَلسَّاعَةُ واِقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وأَتى أَمْرُ اَللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ . ولا نعلم كمية الماضي ولا كمية الباقي ولكنا نقول كما أمرنا ونسمع ونطيع كما أدبنا ومن الممكن أن يكون ما بقي قريبا عند الله وغير قريب عندنا كما قال سبحانه إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً . وبالجملة هذا موضع غامض يجب السكوت عنه . قوله ع وقامت بأهلها على ساق الضمير للدنيا والساق الشدة أي انكشفت عن شدة عظيمة . وقوله تعالى وَ اِلْتَفَّتِ اَلسَّاقُ بِالسَّاقِ أي التفت آخر شدة الدنيا بأول شدة الآخرة . والمهاد الفراش وأزف منها قياد أي قرب انقيادها إلى التقضي والزوال . وأشراط الساعة علاماتها وإضافتها إلى الدنيا لأنها في الدنيا تحدث وإن كانت علامات للأخرى والعفاء الدروس .
[ 199 ](1/2936)
و روي من طولها والطول الحبل . ثم عاد إلى ذكر النبي ص فقال جعله الله سبحانه بلاغا لرسالته أي ذا بلاغ والبلاغ التبليغ فحذف المضاف . ولا تخبو لا تنطفئ والفرقان ما يفرق به بين الحق والباطل . وأثافي الإسلام جمع أثفية وهي الأحجار توضع عليها القدر شكل مثلث . والغيطان جمع غائط وهو المطمئن من الأرض . ولا يغيضها بفتح حرف المضارعة غاض الماء وغضته أنا يتعدى ولا يتعدى وروي لا يغيضها بالضم على قول من قال أغضت الماء وهي لغة ليست بالمشهورة . والآكام جمع أكم مثل جبال جمع جبل والأكم جمع أكمة مثل عنب جمع عنبة والأكمة ما علا من الأرض وهي دون الكثيب : جَعَلَهُ اَللَّهُ رِيّاً لِعَطَشِ اَلْعُلَمَاءِ وَ رَبِيعاً لِقُلُوبِ اَلْفُقَهَاءِ وَ مَحَاجَّ لِطُرُقِ اَلصُّلَحَاءِ وَ دَوَاءً لَيْسَ بَعْدَهُ دَاءٌ وَ نُوراً لَيْسَ مَعَهُ ظُلْمَةٌ وَ حَبْلاً وَثِيقاً عُرْوَتُهُ وَ مَعْقِلاً مَنِيعاً ذِرْوَتُهُ وَ عِزّاً لِمَنْ تَوَلاَّهُ وَ سِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ وَ هُدًى لِمَنِ اِئْتَمَّ بِهِ وَ عُذْراً لِمَنِ اِنْتَحَلَهُ وَ بُرْهَاناً لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ وَ شَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ بِهِ وَ فَلْجاً لِمَنْ حَاجَّ بِهِ وَ حَامِلاً لِمَنْ حَمَلَهُ وَ مَطِيَّةً لِمَنْ أَعْمَلَهُ وَ آيَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ وَ جُنَّةً لِمَنِ اِسْتَلْأَمَ وَ عِلْماً لِمَنْ وَعَى وَ حَدِيثاً لِمَنْ رَوَى وَ حُكْماً لِمَنْ قَضَى
[ 200 ](1/2937)
الضمير يرجع إلى القرآن جعله الله ريا لعطش العلماء إذا ضل العلماء في أمر والتبس عليهم رجعوا إليه فسقاهم كما يسقي الماء العطش وكذا القول في ربيعا لقلوب الفقهاء والربيع هاهنا الجدول ويجوز أن يريد المطر في الربيع يقال ربعت الأرض فهي مربوعة . والمحاج جمع محجة وهي جادة الطريق والمعقل الملجأ . وسلما لمن دخله أي مأمنا وانتحله دان به وجعله نحلته . والبرهان الحجة والفلج الظفر والفوز وحاج به خاصم . قوله ع وحاملا لمن حمله أي أن القرآن ينجي يوم القيامة من كان حافظا له في الدنيا بشرط أن يعمل به . قوله ع ومطية لمن أعمله استعارة يقول كما أن المطية تنجي صاحبها إذا أعملها وبعثها على النجاء فكذلك القرآن إذا أعمله صاحبه أنجاه ومعنى إعماله اتباع قوانينه والوقوف عند حدوده . قوله وآية لمن توسم أي لمن تفرس قال تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ . والجنة ما يستتر به واستلأم لبس لأمة الحرب وهي الدرع . ووعى حفظ . قوله وحديثا لمن روى قد سماه الله تعالى حديثا فقال اَللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ
[ 201 ](1/2938)
اَلْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً وأصحابنا يحتجون بهذه اللفظة على أن القرآن ليس بقديم لأن الحديث ضد القديم . وليس للمخالف أن يقول ليس المراد بقوله أَحْسَنَ اَلْحَدِيثِ ما ذكرتم بل المراد أحسن القول وأحسن الكلام لأن العرب تسمي الكلام والقول حديثا لأنا نقول لعمري إنه هكذا ولكن العرب ما سمت القول والكلام حديثا إلا أنه مستحدث متجدد حالا فحالا أ لا ترى إلى قول عمرو لمعاوية قد مللت كل شي ء إلا الحديث فقال إنما يمل العتيق فدل ذلك على أنه فهم معنى تسميتهم الكلام والقول حديثا وفطن لمغزاهم ومقصدهم في هذه التسمية وإذا كنا قد كلفنا أن نجري على ذاته وصفاته وأفعاله ما أجراه سبحانه في كتابه ونطلق ما أطلقه على سبيل الوضع والكيفية التي أطلقها وكان قد وصف كلامه بأنه حديث وكان القرآن في عرف اللغة إنما سمي حديثا لحدوثه وتجدده فقد ساغ لنا أن نطلق على كلامه أنه محدث ومتجدد وهذا هو المقصود
[ 202 ](1/2939)
192 ـ ومن كلام له ع كان يوصي به أصحابه
تَعَاهَدُوا أَمْرَ اَلصَّلاَةِ وَ حَافِظُوا عَلَيْهَا وَ اِسْتَكْثِرُوا مِنْهَا وَ تَقَرَّبُوا بِهَا فَإِنَّهَا كَانَتْ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً أَ لاَ تَسْمَعُونَ إِلَى جَوَابِ أَهْلِ اَلنَّارِ حِينَ سُئِلُوا ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ اَلْمُصَلِّينَ وَ إِنَّهَا لَتَحُتُّ اَلذُّنُوبَ حَتَّ اَلْوَرَقِ وَ تُطْلِقُهَا إِطْلاَقَ اَلرِّبَقِ وَ شَبَّهَهَا رَسُولُ اَللَّهِ ص بِالْحَمَّةِ تَكُونُ عَلَى بَابِ اَلرَّجُلِ فَهُوَ يَغْتَسِلُ مِنْهَا فِي اَلْيَوْمِ وَ اَللَّيْلَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ فَمَا عَسَى أَنْ يَبْقَى عَلَيْهِ مِنَ اَلدَّرَنِ وَ قَدْ عَرَفَ حَقَّهَا رِجَالٌ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلَّذِينَ لاَ تَشْغَلُهُمْ عَنْهَا زِينَةُ مَتَاعٍ وَ لاَ قُرَّةُ عَيْنٍ مِنْ وَلَدٍ وَ لاَ مَالٍ يَقُولُ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللَّهِ وَ إِقامِ اَلصَّلاةِ وَ إِيتاءِ اَلزَّكاةِ وَ كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ ص نَصِباً بِالصَّلاَةِ بَعْدَ اَلتَّبْشِيرِ لَهُ بِالْجَنَّةِ لِقَوْلِ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَ اِصْطَبِرْ عَلَيْها فَكَانَ يَأْمُرُ بِهَا أَهْلَهُ وَ يُصْبِرُ يَصْبِرُ عَلَيْهَا نَفْسَهُ
[ 203 ](1/2940)
ثُمَّ إِنَّ اَلزَّكَاةَ جُعِلَتْ مَعَ اَلصَّلاَةِ قُرْبَاناً لِأَهْلِ اَلْإِسْلاَمِ فَمَنْ أَعْطَاهَا طَيِّبَ اَلنَّفْسِ بِهَا فَإِنَّهَا تُجْعَلُ لَهُ كَفَّارَةً وَ مِنَ اَلنَّارِ حِجَازاً وَ وِقَايَةً فَلاَ يُتْبِعَنَّهَا أَحَدٌ نَفْسَهُ وَ لاَ يُكْثِرَنَّ عَلَيْهَا لَهَفَهُ فَإِنَّ مَنْ أَعْطَاهَا غَيْرَ طَيِّبِ اَلنَّفْسِ بِهَا يَرْجُو بِهَا مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا فَهُوَ جَاهِلٌ بِالسُّنَّةِ مَغْبُونُ اَلْأَجْرِ ضَالُّ اَلْعَمَلِ طَوِيلُ اَلنَّدَمِ ثُمَّ أَدَاءَ اَلْأَمَانَةِ فَقَدْ خَابَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا إِنَّهَا عُرِضَتْ عَلَى اَلسَّمَاوَاتِ اَلْمَبْنِيَّةِ وَ اَلْأَرَضِينَ اَلْمَدْحُوَّةِ وَ اَلْجِبَالِ ذَاتِ اَلطُّولِ اَلْمَنْصُوبَةِ فَلاَ أَطْوَلَ وَ لاَ أَعْرَضَ وَ لاَ أَعْلَى وَ لاَ أَعْظَمَ مِنْهَا وَ لَوِ اِمْتَنَعَ شَيْ ءٌ بِطُولٍ أَوْ عَرْضٍ أَوْ قُوَّةٍ أَوْ عِزٍّ لاَمْتَنَعْنَ وَ لَكِنْ أَشْفَقْنَ مِنَ اَلْعُقُوبَةِ وَ عَقَلْنَ مَا جَهِلَ مَنْ هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُنَّ وَ هُوَ اَلْإِنْسَانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً إِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ مَا اَلْعِبَادُ مُقْتَرِفُونَ فِي لَيْلِهِمْ وَ نَهَارِهِمْ لَطُفَ بِهِ خُبْراً وَ أَحَاطَ بِهِ عِلْماً أَعْضَاؤُكُمْ شُهُودُهُ وَ جَوَارِحُكُمْ جُنُودُهُ وَ ضَمَائِرُكُمْ عُيُونُهُ وَ خَلَوَاتُكُمْ عِيَانُهُ هذه الآية يستدل بها الأصوليون من أصحابنا على أن الكفار يعاقبون في الآخرة على ترك الواجبات الشرعية وعلى فعل القبائح لأنها في الكفار وردت أ لا ترى إلى قوله فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ اَلْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ فليس يجوز أن يعني بالمجرمين هاهنا الفاسقين من أهل القبلة لأنه قال قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ اَلْمُصَلِّينَ
[ 204 ](1/2941)
وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ اَلْمِسْكِينَ وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ اَلْخائِضِينَ وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ اَلدِّينِ . قالوا وليس لقائل أن يقول معنى قوله لَمْ نَكُ مِنَ اَلْمُصَلِّينَ لم نكن من القائلين بوجوب الصلاة لأنه قد أغنى عن هذا التعليل قوله وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ اَلدِّينِ لأن أحد الأمرين هو الآخر وحمل الكلام على ما يفيد فائدة جديدة أولى من حمله على التكرار والإعادة فقد ثبت بهذا التقرير صحة احتجاج أمير المؤمنين ع على تأكيد أمر الصلاة وأنها من العبادات المهمة في نظر الشارع . قوله ع وإنها لتحت الذنوب الحت نثر الورق من الغصن وانحات أي تناثر وقد جاء هذا اللفظ في الخبر النبوي بعينه . والربق جمع ربقة وهي الحبل أي تطلق الصلاة الذنوب كما تطلق الحبال المعقدة أي تحل ما انعقد على المكلف من ذنوبه وهذا من باب الاستعارة . ويروى تعهدوا أمر الصلاة بالتضعيف وهو لغة يقال تعاهدت ضيعتي وتعهدتها وهو القيام عليها وأصله من تجديد العهد بالشي ء والمراد المحافظة عليه وقوله تعالى إِنَّ اَلصَّلاةَ كانَتْ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً أي واجبا وقيل موقوتا أي منجما كل وقت لصلاة معينة وتؤدى هذه الصلاة في نجومها . وقوله كتابا أي فرضا واجبا كقوله تعالى كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ أي أوجب . والحمة الحفيرة فيها الحميم وهو الماء الحار وهذا الخبر من الأحاديث الصحاح
قال ص أ يسر أحدكم أن تكون على بابه حمة يغتسل منها كل يوم خمس
[ 205 ](1/2942)
مرات فلا يبقى عليه من درنه شي ء قالوا نعم قال فإنها الصلوات الخمس والدرن الوسخ . والتجارة في الآية إما أن يراد بها لا يشغلهم نوع من هذه الصناعة عن ذكر الله ثم أفرد البيع بالذكر وخصه وعطفه على التجارة العامة لأنه أدخل في الإلهاء لأن الربح في البيع بالكسب معلوم والربح في الشراء مظنون وإما أن يريد بالتجارة الشراء خاصة إطلاقا لاسم الجنس الأعم على النوع الأخص كما تقول رزق فلان تجارة رابحة إذا اتجه له شراء صالح فأما إقام الصلاة فإن التاء في إقامة عوض من العين الساقطة للإعلال فإن أصله إقوام مصدر أقام كقولك أعرض إعراضا فلما أضيفت أقيمت الإضافة مقام حرف التعويض فأسقطت التاء . قوله ع وكان رسول الله ص نصبا بالصلاة أي تعبا قال تعالى ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقى . و
روي أنه ع قام حتى تورمت قدماه مع التبشير له بالجنة و
روي أنه قيل له في ذلك فقال أ فلا أكون عبدا شكورا . ويصبر نفسه من الصبر ويروى ويصبر عليها نفسه أي يحبس قال سبحانه وَ اِصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ وقال عنترة يذكر حربا كان فيها
فصبرت عارفة لذلك حرة
ترسو إذا نفس الجبان تطلع(1/2943)
فصل في ذكر الآثار الواردة في الصلاة وفضلها
و اعلم أن الصلاة قد جاء في فضلها الكثير الذي يعجزنا حصره ولو لم يكن
[ 206 ]
إلا ما ورد في الكتاب العزيز من تكرار ذكرها وتأكيد الوصاة بها والمحافظة عليها لكان بعضه كافيا . و
قال النبي ص الصلاة عمود الدين فمن تركها فقد هدم الدين و
قال أيضا ع علم الإيمان الصلاة فمن فرغ لها قلبه وقام بحدودها فهو المؤمن و
قالت أم سلمة كان رسول الله ص يحدثنا ونحدثه فإذا حضرت الصلاة فكأنه لم يعرفنا ولم نعرفه و
قيل للحسن رحمه الله ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوها قال لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نورا من نوره و
قال عمر إن الرجل ليشيب عارضاه في الإسلام ما أكمل الله له صلاة قيل له وكيف ذلك قال لا يتم خشوعها وتواضعها وإقباله على ربه فيها . وقال بعض الصالحين إن العبد ليسجد السجدة عنده أنه متقرب بها إلى الله ولو قسم ذنبه في تلك السجدة على أهل مدينة لهلكوا قيل وكيف ذلك قال يكون ساجدا وقلبه عند غير الله إنما هو مصغ إلى هوى أو دنيا . صلى أعرابي في المسجد صلاة خفيفة وعمر بن الخطاب يراه فلما قضاها قال اللهم زوجني الحور العين فقال عمر يا هذا لقد أسأت النقد وأعظمت الخطبة . و
قال علي ع لا يزال الشيطان ذعرا من المؤمن ما حافظ على الخمس فإذا ضيعهن تجرأ عليه وأوقعه في العظائم و
روي عن النبي ص أنه قال الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر
[ 207 ]
و(1/2944)
جاء في الخبر أن رسول الله ص كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة . وقال هشام بن عروة كان أبي يطيل المكتوبة ويقول هي رأس المال . قال يونس بن عبيد ما استخف أحد بالنوافل إلا استخف بالفرائض . يقال إن محمد بن المنكدر جزأ الليل عليه وعلى أمه وأخته أثلاثا فماتت أخته فجزأه عليه وعلى أمه نصفين فماتت أمه فقام الليل كله . كان مسلم بن يسار لا يسمع الحديث إذا قام يصلي ولا يفهمه وكان إذا دخل بيته سكت أهله فلا يسمع لهم كلام حتى يقوم إلى الصلاة فيتحدثون ويلغطون فهو لا يشعر بهم . ووقع حريق إلى جنبه وهو في الصلاة فلم يشعر به حتى حرق . كان خلف بن أيوب لا يطرد الذباب إذا وقع على وجهه وهو في الصلاة في بلاد كثيرة الذبان فقيل له كيف تصبر فقال بلغني أن الشطار يصبرون تحت السياط ليقال فلان صبور أ فلا أصبر وأنا بين يدي ربي على أذى ذباب يقع علي .
قال ابن مسعود الصلاة مكيال فمن وفى وفي له ومن طفف ف وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ
قال رجل لرسول الله ص يا رسول الله ادع لي أن يرزقني الله مرافقتك في الجنة فقال أعني على إجابة الدعوة بكثرة السجود . قوله ع قربانا لأهل الإسلام القربان اسم لما يتقرب به من نسيكة أو صدقة . وروي ومن النار حجازا بالزاي أي مانعا واللهف الحسرة ينهى ع
[ 208 ]
عن إخراج الزكاة مع التسخط لإخراجها والتلهف والتحسر على دفعها إلى أربابها ويقول إن من يفعل ذلك يرجو بها نيل الثواب ضال مضيع لماله غير ظافر بما رجاه من المثوبة(1/2945)
ذكر الآثار الواردة في فضل الزكاة والتصدق
و قد جاء في فضل الزكاة الواجبة وفضل صدقة التطوع الكثير جدا ولو لم يكن إلا أن الله تعالى قرنها بالصلاة في أكثر المواضع التي ذكر فيها الصلاة لكفى . و
روى بريدة الأسلمي أن رسول الله ص قال ما حبس قوم الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر . وجاء في الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونهما في سبيل الله ما جاء في الذكر الحكيم وهو قوله تعالى يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ الآية قال المفسرون إنفاقها في سبيل الله إخراج الزكاة منها . وروى الأحنف قال قدمت المدينة فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش إذ جاء رجل خشن الجسد خشن الثياب فقام عليهم فقال بشر الكانزين برضف يحمى عليها في نار جهنم فتوضع على حلمة ثدي الرجل حتى تخرج من نغض كتفه ثم توضع على نغض كتفه حتى تخرج من حلمة ثديه فسألت عنه فقيل هذا أبو ذر الغفاري وكان يذكره ويرفعه .
ابن عباس يرفعه من كان عنده ما يزكي فلم يزك وكان عنده ما يحج فلم يحج سأل الرجعة يعني قوله رَبِّ اِرْجِعُونِ .
[ 209 ]
أبو هريرة سئل رسول الله ص أي الصدقة أفضل فقال أن تعطي وأنت صحيح شحيح تأمل البقاء وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا . وقيل للشبلي ما يجب في مائتي درهم قال أما من جهة الشرع فخمسه وأما من جهة الإخلاص فالكل .
أمر رسول الله ص بعض نسائه أن تقسم شاة على الفقراء فقالت يا رسول الله لم يبق منها غير عنقها فقال ع كلها بقي غير عنقها أخذ شاعر هذا المعنى فقال
يبكي على الذاهب من ماله
و إنما يبقى الذي يذهب
السائب كان الرجل من السلف يضع الصدقة ويمثل قائما بين يدي السائل الفقير ويسأله قبولها حتى يصير هو في صورة السائل . وكان بعضهم يبسط كفه ويجعلها تحت يد الفقير لتكون يد الفقير العليا . و
عن النبي ص ما أحسن عبد الصدقة إلا أحسن الله إليه في مخلفيه و(1/2946)
عنه ص الصدقة تسد سبعين بابا من الشر و
عنه ص أذهبوا مذمة السائل ولو بمثل رأس الطائر من الطعام . كان النبي ص لا يكل خصلتين إلى غيره لا يوضئه أحد ولا يعطي السائل إلا بيده . بعض الصالحين الصلاة تبلغك نصف الطريق والصوم يبلغك باب الملك والصدقة تدخلك عليه بغير إذن . الشعبي من لم ير نفسه أحوج إلى ثواب الصدقة من الفقير إلى صدقته فقد أبطل صدقته وضرب بها وجهه .
[ 210 ]
كان الحسن بن صالح إذا جاءه سائل فإن كان عنده ذهب أو فضة أو طعام أعطاه فإن لم يكن أعطاه زيتا أو سمنا أو نحوهما مما ينتفع به فإن لم يكن أعطاه كحلا أو خرج بإبرة وخاط بها ثوب السائل أو بخرقة يرقع بها ما تخرق من ثوبه . ووقف مرة على بابه سائل ليلا ولم يكن عنده ما يدفعه إليه فخرج إليه بقصبة في رأسها شعلة وقال خذ هذه وتبلغ بها إلى أبواب ناس لعلهم يعطونك . قوله ع ثم أداء الأمانة هي العقد الذي يلزم الوفاء به وأصح ما قيل في تفسير الآية أن الأمانة ثقيلة المحمل لأن حاملها معرض لخطر عظيم فهي بالغة من الثقل وصعوبة المحمل ما لو أنها عرضت على السماوات والأرض والجبال لامتنعت من حملها . فأما الإنسان فإنه حملها وألزم القيام بها وليس المراد بقولنا إنها عرضت على السماوات والأرض أي لو عرضت عليها وهي جمادات بل المراد تعظيم شأن الأمانة كما تقول هذا الكلام لا يحمله الجبال وقوله
امتلأ الحوض وقال قطني
و قوله تعالى قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ومذهب العرب في هذا الباب وتوسعها ومجازاتها مشهور شائع
[ 211 ](1/2947)
193 ـ ومن كلام له ع
وَ اَللَّهِ مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي وَ لَكِنَّهُ يَغْدِرُ وَ يَفْجُرُ وَ لَوْ لاَ كَرَاهِيَةُ اَلْغَدْرِ لَكُنْتُ مِنْ أَدْهَى اَلنَّاسِ وَ لَكِنْ كُلُّ غُدَرَةٍ فُجَرَةٌ وَ كُلُّ فُجَرَةٍ كُفَرَةٌ وَ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِهِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَ اَللَّهِ مَا أُسْتَغْفَلُ بِالْمَكِيدَةِ وَ لاَ أُسْتَغْمَزُ بِالشَّدِيدَةِ الغدرة على فعلة الكثير الغدر والفجرة والكفرة الكثير الفجور والكفر وكل ما كان على هذا البناء فهو للفاعل فإن سكنت العين فهو للمفعول تقول رجل ضحكة أي يضحك وضحكة يضحك منه وسخرة يسخر وسخرة يسخر به يقول ع كل غادر فاجر وكل فاجر كافر ويروى ولكن كل غدرة فجرة وكل فجرة كفرة على فعلة للمرة الواحدة . و
قوله لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة حديث صحيح مروي عن النبي ص . ثم أقسم ع أنه لا يستغفل بالمكيدة أي لا تجوز المكيدة علي كما تجوز على ذوي الغفلة وأنه لا يستغمز بالشديدة أي لا أهين وألين للخطب الشديد
[ 212 ](1/2948)
سياسة علي وجريها على سياسة الرسول ع
و اعلم أن قوما ممن لم يعرف حقيقة فضل أمير المؤمنين ع زعموا أن عمر كان أسوس منه وإن كان هو أعلم من عمر وصرح الرئيس أبو علي بن سينا بذلك في الشفاء في الحكمة وكان شيخنا أبو الحسين يميل إلى هذا وقد عرض به في كتاب الغرر ثم زعم أعداؤه ومباغضوه أن معاوية كان أسوس منه وأصح تدبيرا وقد سبق لنا بحث قديم في هذا الكتاب في بيان حسن سياسة أمير المؤمنين ع وصحة تدبيره ونحن نذكر هاهنا ما لم نذكره هناك مما يليق بهذا الفصل الذي نحن في شرحه . اعلم أن السائس لا يتمكن من السياسة البالغة إلا إذا كان يعمل برأيه وبما يرى فيه صلاح ملكه وتمهيد أمره وتوطيد قاعدته سواء وافق الشريعة أو لم يوافقها ومتى لم يعمل في السياسة والتدبير بموجب ما قلناه فبعيد أن ينتظم أمره أو يستوثق حاله وأمير المؤمنين كان مقيدا بقيود الشريعة مدفوعا إلى اتباعها ورفض ما يصلح اعتماده من آراء الحرب والكيد والتدبير إذا لم يكن للشرع موافقا فلم تكن قاعدته في خلافته قاعدة غيره ممن لم يلتزم بذلك ولسنا بهذا القول زارين على عمر بن الخطاب ولا ناسبين إليه ما هو منزه عنه ولكنه كان مجتهدا يعمل بالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة ويرى تخصيص عمومات النص بالآراء وبالاستنباط من أصول تقتضي خلاف ما يقتضيه عموم النصوص ويكيد خصمه ويأمر أمراءه بالكيد والحيلة ويؤدب بالدرة والسوط من
[ 213 ](1/2949)
يتغلب على ظنه أنه يستوجب ذلك ويصفح عن آخرين قد اجترموا ما يستحقون به التأديب كل ذلك بقوة اجتهاده وما يؤديه إليه نظره ولم يكن أمير المؤمنين ع يرى ذلك وكان يقف مع النصوص والظواهر ولا يتعداها إلى الاجتهاد والأقيسة ويطبق أمور الدنيا على أمور الدين ويسوق الكل مساقا واحدا ولا يضيع ولا يرفع إلا بالكتاب والنص فاختلفت طريقتاهما في الخلافة والسياسة وكان عمر مع ذلك شديد الغلظة والسياسة وكان علي ع كثير الحلم والصفح والتجاوز فازدادت خلافة ذاك قوة وخلافة هذا لينا ولم يمن عمر بما مني به علي ع من فتنة عثمان التي أحوجته إلى مداراة أصحابه وجنده ومقاربتهم للاضطراب الواقع بطريق تلك الفتنة ثم تلا ذلك فتنة الجمل وفتنة صفين ثم فتنة النهروان وكل هذه الأمور مؤثرة في اضطراب أمر الوالي وانحلال معاقد ملكه ولم يتفق لعمر شي ء من ذلك فشتان بين الخلافتين فيما يعود إلى انتظام المملكة وصحة تدبير الخلافة . فإن قلت فما قولك في سياسة رسول الله ص وتدبيره أ ليس كان منتظما سديدا مع أنه كان لا يعمل إلا بالنصوص والتوقيف من الوحي فهلا كان تدبير علي ع وسياسته كذلك إذا قلتم إنه كان لا يعمل إلا بالنص قلت أما سياسة رسول الله ص وتدبيره فخارج عما نحن فيه لأنه معصوم لا تتطرق الغفلة إلى أفعاله ولا واحد من هذين الرجلين بواجب العصمة عندنا وأيضا فإن كثيرا من الناس ذهبوا إلى أن الله تعالى أذن لرسول الله ص أن يحكم في الشرعيات وغيرها برأيه وقال له احكم بما تراه فإنك لا تحكم إلا بالحق وهذا مذهب يونس بن عمران وعلى هذا فقد سقط السؤال لأنه ص يعمل بما يراه من المصلحة ولا ينتظر الوحي . وأيضا فبتقدير فساد هذا المذهب أ ليس قد ذهب خلق كثير من علماء أصول الفقه إلى أن رسول الله ص كان يجوز له أن يجتهد في الأحكام والتدبير كما يجتهد
[ 214 ](1/2950)
الواحد من العلماء وإليه ذهب القاضي أبو يوسف رحمه الله واحتج بقوله تعالى لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ بِما أَراكَ اَللَّهُ . والسؤال أيضا ساقط على هذا المذهب لأن اجتهاد علي ع لا يساوي اجتهاد النبي ص وبين الاجتهادين كما بين المنزلتين . وكان أبو جعفر بن أبي زيد الحسني نقيب البصرة رحمه الله إذا حدثناه في هذا يقول إنه لا فرق عند من قرأ السيرتين سيرة النبي ص وسياسة أصحابه أيام حياته وبين سيرة أمير المؤمنين ع وسياسة أصحابه أيام حياته فكما أن عليا ع لم يزل أمره مضطربا معهم بالمخالفة والعصيان والهرب إلى أعدائه وكثرة الفتن والحروب فكذلك كان النبي ص لم يزل ممنوا بنفاق المنافقين وأذاهم وخلاف أصحابه عليه وهرب بعضهم إلى أعدائه وكثرة الحروب والفتن . وكان يقول أ لست ترى القرآن العزيز مملوءا بذكر المنافقين والشكوى منهم والتألم من أذاهم له كما أن كلام علي ع مملوء بالشكوى من منافقي أصحابه والتألم من أذاهم له والتوائهم عليه وذلك نحو قوله تعالى أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ نُهُوا عَنِ اَلنَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَ يَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ وَ مَعْصِيَةِ اَلرَّسُولِ وَ إِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اَللَّهُ وَ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اَللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ اَلْمَصِيرُ . وقوله إِنَّمَا اَلنَّجْوى مِنَ اَلشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا الآية . وقوله تعالى إِذا جاءَكَ اَلْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اَللَّهِ وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ
[ 215 ](1/2951)
لَرَسُولُهُ وَ اَللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ اَلْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ اِتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ السورة بأجمعها . وقوله تعالى وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ اَلَّذِينَ طَبَعَ اَللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ اِتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ . وقوله تعالى رَأَيْتَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ اَلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ اَلْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ اَلْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اَللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ . وقوله تعالى أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اَللَّهُ أَضْغانَهُمْ وَ لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ اَلْقَوْلِ وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ . وقوله تعالى سَيَقُولُ لَكَ اَلْمُخَلَّفُونَ مِنَ اَلْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اَللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اَللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ اَلرَّسُولُ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَ زُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ اَلسَّوْءِ وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً . وقوله تعالى سَيَقُولُ اَلْمُخَلَّفُونَ إِذَا اِنْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اَللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اَللَّهُ(1/2952)
مِنْ قَبْلُ
[ 216 ]
فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً . وقوله إِنَّ اَلَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ اَلْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ اَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ . قال وأصحابه هم الذين نازعوا في الأنفال وطلبوها لأنفسهم حتى أنزل الله تعالى قُلِ اَلْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ اَلرَّسُولِ فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَ أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . وهم الذين التووا عليه في الحرب يوم بدر وكرهوا لقاء العدو حتى خيف خذلانهم وذلك قبل أن تتراءى الفئتان وأنزل فيهم يُجادِلُونَكَ فِي اَلْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى اَلْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ . وهم الذين كانوا يتمنون لقاء العير دون لقاء العدو حتى إنهم ظفروا برجلين في الطريق فسألوهما عن العير فقالا لا علم لنا بها وإنما رأينا جيش قريش من وراء ذلك الكثيب فضربوهما ورسول الله ص قائم يصلي فلما ذاقا مس الضرب قالا بل العير أمامكم فاطلبوها فلما رفعوا الضرب عنهما قالا والله ما رأينا العير ولا رأينا إلا الخيل والسلاح والجيش فأعادوا الضرب عليهما مرة ثانية فقالا وهما يضربان العير أمامكم فخلوا عنا فانصرف رسول الله ص من الصلاة وقال إذا صدقاكم ضربتموهما وإذا كذباكم خليتم عنهما دعوهما فما رأيا إلا جيش أهل مكة وأنزل قوله تعالى وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اَللَّهُ إِحْدَى اَلطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ اَلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَ يُرِيدُ اَللَّهُ أَنْ يُحِقَّ اَلْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ يَقْطَعَ
[ 217 ](1/2953)
دابِرَ اَلْكافِرِينَ قال المفسرون الطائفتان العير ذات اللطيمة الواصلة إلى مكة من الشام صحبة أبي سفيان بن حرب وإليها كان خروج المسلمين والأخرى الجيش ذو الشوكة وكان ع قد وعدهم بإحدى الطائفتين فكرهوا الحرب وأحبوا الغنيمة . قال وهم الذين فروا عنه ص يوم أحد وأسلموه وأصعدوا في الجبل وتركوه حتى شج الأعداء وجهه وكسروا ثنيته وضربوه على بيضته حتى دخل جماجمه ووقع من فرسه إلى الأرض بين القتلى وهو يستصرخ بهم ويدعوهم فلا يجيبه أحد منهم إلا من كان جاريا مجرى نفسه وشديد الاختصاص به وذلك قوله تعالى إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ اَلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ أي ينادي فيسمع نداءه آخر الهاربين لا أولهم لأن أولهم أوغلوا في الفرار وبعدوا عن أن يسمعوا صوته وكان قصارى الأمر أن يبلغ صوته واستصراخه من كان على ساقة الهاربين منهم . قال ومنهم الذين عصوا أمره في ذلك اليوم حيث أقامهم على الشعب في الجبل وهو الموضع الذي خاف أن تكر عليه منه خيل العدو من ورائه وهم أصحاب عبد الله بن جبير فإنهم خالفوا أمره وعصوه فيما تقدم به إليهم ورغبوا في الغنيمة ففارقوا مركزهم حتى دخل الوهن على الإسلام بطريقهم لأن خالد بن الوليد كر في عصابة من الخيل فدخل من الشعب الذي كانوا يحرسونه فما أحس المسلمون بهم إلا وقد غشوهم بالسيوف من خلفهم فكانت الهزيمة وذلك قوله تعالى حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ
[ 218 ](1/2954)
وَ تَنازَعْتُمْ فِي اَلْأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلدُّنْيا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ . قال وهم الذين عصوا أمره في غزاة تبوك بعد أن أكد عليهم الأوامر وخذلوه وتركوه ولم يشخصوا معه فأنزل فيهم يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ اِنْفِرُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ اِثَّاقَلْتُمْ إِلَى اَلْأَرْضِ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ اَلدُّنْيا مِنَ اَلْآخِرَةِ فَما مَتاعُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا فِي اَلْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَ اَللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ وهذه الآية خطاب مع المؤمنين لا مع المنافقين وفيها أوضح دليل على أن أصحابه وأولياءه المصدقين لدعوته كانوا يعصونه ويخالفون أمره وأكد عتابهم وتقريعهم وتوبيخهم بقوله تعالى لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَ سَفَراً قاصِداً لاَتَّبَعُوكَ وَ لكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ اَلشُّقَّةُ وَ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اِسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ . ثم عاتب رسول الله ص على كونه أذن لهم في التخلف وإنما أذن لهم لعلمه أنهم لا يجيبونه في الخروج فرأى أن يجعل المنة له عليهم في الإذن لهم وإلا قعدوا عنه ولم تصل له المنة فقال له عَفَا اَللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ اَلْكاذِبِينَ أي هلا أمسكت عن الإذن لهم حتى يتبين لك قعود من يقعد وخروج من يخرج صادقهم من كاذبهم لأنهم كانوا قد وعدوه بالخروج معه كلهم وكان بعضهم ينوي الغدر وبعضهم يعزم على أن يخيس بذلك الوعد فلو لم يأذن لهم لعلم من يتخلف ومن لا يتخلف فعرف الصادق منهم و(1/2955)
الكاذب .
[ 219 ]
ثم بين سبحانه وتعالى أن الذين يستأذنونه في التخلف خارجون من الإيمان فقال له لا يَسْتَأْذِنُكَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ اِرْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ . ولا حاجة إلى التطويل بذكر الآيات المفصلة فيما يناسب هذا المعنى فمن تأمل الكتاب العزيز علم حاله ص مع أصحابه كيف كانت ولم ينقله الله تعالى إلى جواره إلا وهو مع المنافقين له والمظهرين خلاف ما يضمرون من تصديقه في جهاد شديد حتى لقد كاشفوه مرارا فقال لهم يوم الحديبية احلقوا وانحروا مرارا فلم يحلقوا ولم ينحروا ولم يتحرك أحد منهم عند قوله وقال له بعضهم وهو يقسم الغنائم اعدل يا محمد فإنك لم تعدل . وقالت الأنصار له مواجهة يوم حنين أ تأخذ ما أفاء الله علينا بسيوفنا فتدفعه إلى أقاربك من أهل مكة حتى أفضى الأمر إلى أن
قال لهم في مرض موته ائتوني بدواة وكتف أكتب لكم ما لا تضلون بعده فعصوه ولم يأتوه بذلك وليتهم اقتصروا على عصيانه ولم يقولوا له ما قالوا وهو يسمع . وكان أبو جعفر رحمه الله يقول من هذا ما يطول شرحه والقليل منه ينبئ عن الكثير وكان يقول إن الإسلام ما حلا عندهم ولا ثبت في قلوبهم إلا بعد موته حين فتحت عليهم الفتوح وجاءتهم الغنائم والأموال وكثرت عليهم المكاسب وذاقوا طعم الحياة وعرفوا لذة الدنيا ولبسوا الناعم وأكلوا الطيب وتمتعوا بنساء الروم وملكوا خزائن كسرى وتبدلوا بذلك القشف والشظف والعيش الخشن وأكل
[ 220 ](1/2956)
الضباب والقنافذ واليرابيع ولبس الصوف والكرابيس وأكل اللوزينجات والفالوذجات ولبس الحرير والديباج فاستدلوا بما فتحه الله عليهم وأتاحه لهم على صحة الدعوة وصدق الرسالة وقد كان ص وعدهم بأنه سيفتح عليهم كنوز كسرى وقيصر فلما وجدوا الأمر قد وقع بموجب ما قاله عظموه وبجلوه وانقلبت تلك الشكوك وذاك النفاق وذلك الاستهزاء إيمانا ويقينا وإخلاصا وطاب لهم العيش وتمسكوا بالدين لأنه زادهم طريقا إلى نيل الدنيا فعظموا ناموسه وبالغوا في إجلاله وإجلال الرسول الذي جاء به ثم انقرض الأسلاف وجاء الأخلاف على عقيدة ممهدة وأمر أخذوه تقليدا من أسلافهم الذين ربوا في حجورهم ثم انقرض ذلك القرن وجاء من بعدهم كذلك وهلم جرا . قال ولو لا الفتوح والنصر والظفر الذي منحهم الله تعالى إياه والدولة التي ساقها إليهم لانقرض دين الإسلام بعد وفاة رسول الله ص وكان يذكر في التواريخ كما تذكر الآن نبوة خالد بن سنان العبسي حيث ظهر ودعا إلى الدين وكان الناس يعجبون من ذلك ويتذاكرونه كما يعجبون ويتذاكرون أخبار من نبغ من الرؤساء والملوك والدعاة الذين انقرض أمرهم وبقيت أخبارهم . وكان يقول من تأمل حال الرجلين وجدهما متشابهتين في جميع أمورهما أو في أكثرها وذلك لأن حرب رسول الله ص مع المشركين كانت سجالا انتصر يوم بدر وانتصر المشركون عليه يوم أحد وكان يوم الخندق كفافا خرج هو وهم سواء لا عليه ولا له لأنهم قتلوا رئيس الأوس وهو سعد بن معاذ وقتل منهم فارس قريش وهو عمرو بن عبد ود وانصرفوا عنه بغير حرب بعد تلك الساعة التي كانت ثم حارب بعدها قريشا يوم الفتح فكان الظفر له . وهكذا كانت حروب علي ع انتصر يوم الجمل وخرج الأمر بينه وبين
[ 221 ](1/2957)
معاوية على سواء قتل من أصحابه رؤساء ومن أصحاب معاوية رؤساء وانصرف كل واحد من الفريقين عن صاحبه بعد الحرب على مكانه ثم حارب بعد صفين أهل النهروان فكان الظفر له . قال ومن العجب أن أول حروب رسول الله ص كانت بدرا وكان هو المنصور فيها وأول حروب علي ع الجمل وكان هو المنصور فيها ثم كان من صحيفة الصلح والحكومة يوم صفين نظير ما كان من صحيفة الصلح والهدنة يوم الحديبية ثم دعا معاوية في آخر أيام علي ع إلى نفسه وتسمى بالخلافة كما أن مسيلمة والأسود العنسي دعوا إلى أنفسهما في آخر أيام رسول الله ص وتسميا بالنبوة واشتد على علي ع ذلك كما اشتد على رسول الله ص أمر الأسود ومسيلمة وأبطل الله أمرهما بعد وفاة النبي ص وكذلك أبطل أمر معاوية وبني أمية بعد وفاة علي ع ولم يحارب رسول الله ص أحد من العرب إلا قريش ما عدا يوم حنين ولم يحارب عليا ع من العرب أحد إلا قريش ما عدا يوم النهروان ومات علي ع شهيدا بالسيف ومات رسول الله ص شهيدا بالسم وهذا لم يتزوج على خديجة أم أولاده حتى ماتت وهذا لم يتزوج على فاطمة أم أشرف أولاده حتى ماتت ومات رسول الله ص عن ثلاث وستين سنة ومات علي ع عن مثلها . وكان يقول انظروا إلى أخلاقهما وخصائصهما هذا شجاع وهذا شجاع وهذا فصيح وهذا فصيح وهذا سخي جواد وهذا سخي جواد وهذا عالم بالشرائع والأمور الإلهية وهذا عالم بالفقه والشريعة والأمور الإلهية الدقيقة الغامضة وهذا زاهد في الدنيا غير نهم ولا مستكثر منها وهذا زاهد في الدنيا تارك لها غير متمتع بلذاتها وهذا مذيب نفسه في الصلاة والعبادة وهذا مثله وهذا غير محبب إليه شي ء من الأمور العاجلة
[ 222 ](1/2958)
إلا النساء وهذا مثله وهذا ابن عبد المطلب بن هاشم وهذا في قعدده وأبواهما أخوان لأب وأم دون غيرهما من بني عبد المطلب وربي محمد ص في حجر والد هذا وهذا أبو طالب فكان جاريا عنده مجرى أحد أولاده ثم لما شب ص وكبر استخلصه من بني أبي طالب وهو غلام فرباه في حجره مكافأة لصنيع أبي طالب به فامتزج الخلقان وتماثلت السجيتان وإذا كان القرين مقتديا بالقرين فما ظنك بالتربية والتثقيف الدهر الطويل فواجب أن تكون أخلاق محمد ص كأخلاق أبي طالب وتكون أخلاق علي ع كأخلاق أبي طالب أبيه ومحمد ع مربيه وأن يكون الكل شيمة واحدة وسوسا واحدا وطينة مشتركة ونفسا غير منقسمة ولا متجزئة وألا يكون بين بعض هؤلاء وبعض فرق ولا فضل لو لا أن الله تعالى اختص محمدا ص برسالته واصطفاه لوحيه لما يعلمه من مصالح البرية في ذلك ومن أن اللطف به أكمل والنفع بمكانه أتم وأعم فامتاز رسول الله ص بذلك عمن سواه وبقي ما عدا الرسالة على أمر الاتحاد وإلى هذا المعنى
أشار ص بقوله أخصمك بالنبوة فلا نبوة بعدي وتخصم الناس بسبع و
قال له أيضا أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي فأبان نفسه منه بالنبوة وأثبت له ما عداها من جميع الفضائل والخصائص مشتركا بينهما . وكان النقيب أبو جعفر رحمه الله غزير العلم صحيح العقل منصفا في الجدال غير متعصب للمذهب وإن كان علويا وكان يعترف بفضائل الصحابة ويثني على الشيخين . ويقول إنهما مهدا دين الإسلام وأرسيا قواعده ولقد كان شديد الاضطراب في حياة رسول الله ص وإنما مهداه بما تيسر للعرب من الفتوح والغنائم في دولتهما . وكان يقول في عثمان إن الدولة في أيامه كانت على إقبالها وعلو جدها بل كانت الفتوح في أيامه أكثر والغنائم أعظم لو لا أنه لم يراع ناموس الشيخين ولم يستطع أن يسلك
[ 223 ](1/2959)
مسلكهما وكان مضعفا في أصل القاعدة مغلوبا عليه وكثير الحب لأهله وأتيح له من مروان وزير سوء أفسد القلوب عليه وحمل الناس على خلعه وقتله(1/2960)
كلام أبي جعفر الحسني في الأسباب التي أوجبت محبة الناس لعلي
و كان أبو جعفر رحمه الله لا يجحد الفاضل فضله والحديث شجون . قلت له مرة ما سبب حب الناس لعلي بن أبي طالب ع وعشقهم له وتهالكهم في هواه ودعني في الجواب من حديث الشجاعة والعلم والفصاحة وغير ذلك من الخصائص التي رزقه الله سبحانه الكثير الطيب منها . فضحك وقال لي كم تجمع جراميزك علي . ثم قال هاهنا مقدمة ينبغي أن تعلم وهي أن أكثر الناس موتورون من الدنيا أما المستحقون فلا ريب في أن أكثرهم محرومون نحو عالم يرى أنه لا حظ له في الدنيا ويرى جاهلا غيره مرزوقا وموسعا عليه وشجاع قد أبلى في الحرب وانتفع بموضعه ليس له عطاء يكفيه ويقوم بضروراته ويرى غيره وهو جبان فشل يفرق من ظله مالكا لقطر عظيم من الدنيا وقطعة وافرة من المال والرزق وعاقل سديد التدبير صحيح العقل قد قدر عليه رزقه وهو يرى غيره أحمق مائقا تدر عليه الخيرات وتتحلب عليه أخلاف الرزق وذي دين قويم وعبادة حسنة وإخلاص وتوحيد وهو محروم ضيق الرزق ويرى غيره يهوديا أو نصرانيا أو زنديقا كثير المال حسن الحال حتى إن هذه الطبقات المستحقة يحتاجون في أكثر الوقت إلى الطبقات التي لا استحقاق
[ 224 ](1/2961)
لها وتدعوهم الضرورة إلى الذل لهم والخضوع بين أيديهم إما لدفع ضرر أو لاستجلاب نفع ودون هذه الطبقات من ذوي الاستحقاق أيضا ما نشاهده عيانا من نجار حاذق أو بناء عالم أو نقاش بارع أو مصور لطيف على غاية ما يكون من ضيق رزقهم وقعود الوقت بهم وقلة الحيلة لهم ويرى غيرهم ممن ليس يجري مجراهم ولا يلحق طبقتهم مرزوقا مرغوبا فيه كثير المكسب طيب العيش واسع الرزق فهذا حال ذوي الاستحقاق والاستعداد وأما الذين ليسوا من أهل الفضائل كحشو العامة فإنهم أيضا لا يخلون من الحقد على الدنيا والذم لها والحنق والغيظ منها لما يلحقهم من حسد أمثالهم وجيرانهم ولا يرى أحد منهم قانعا بعيشه ولا راضيا بحاله بل يستزيد ويطلب حالا فوق حاله . قال فإذا عرفت هذه المقدمة فمعلوم أن عليا ع كان مستحقا محروما بل هو أمير المستحقين المحرومين وسيدهم وكبيرهم ومعلوم أن الذين ينالهم الضيم وتلحقهم المذلة والهضيمة يتعصب بعضهم لبعض ويكونون إلبا ويدا واحدة على المرزوقين الذين ظفروا بالدنيا ونالوا مآربهم منها لاشتراكهم في الأمر الذي آلمهم وساءهم وعضهم ومضهم واشتراكهم في الأنفة والحمية والغضب والمنافسة لمن علا عليهم وقهرهم وبلغ من الدنيا ما لم يبلغوه فإذا كان هؤلاء أعني المحرومين متساوين في المنزلة والمرتبة وتعصب بعضهم لبعض فما ظنك بما إذا كان منهم رجل عظيم القدر جليل الخطر كامل الشرف جامع للفضائل محتو على الخصائص والمناقب وهو مع ذلك محروم محدود وقد جرعته الدنيا علاقمها وعلته عللا بعد نهل من صابها وصبرها ولقي منها برحا بارحا وجهدا جهيدا وعلا عليه من هو دونه وحكم فيه وفي بنيه وأهله ورهطه من لم يكن ما ناله من الإمرة والسلطان في حسابه ولا دائرا في خلده ولا خاطرا بباله ولا كان أحد من الناس يرتقب ذلك له ولا يراه له ثم كان في آخر الأمر أن قتل هذا الرجل الجليل في
[ 225 ](1/2962)
محرابه وقتل بنوه بعده وسبي حريمه ونساؤه وتتبع أهله وبنو عمه بالقتل والطرد والتشريد والسجون مع فضلهم وزهدهم وعبادتهم وسخائهم وانتفاع الخلق بهم فهل يمكن ألا يتعصب البشر كلهم مع هذا الشخص وهل تستطيع القلوب ألا تحبه وتهواه وتذوب فيه وتفنى في عشقه انتصارا له وحمية من أجله وأنفة مما ناله وامتعاضا مما جرى عليه وهذا أمر مركوز في الطبائع ومخلوق في الغرائز كما يشاهد الناس على الجرف إنسانا قد وقع في الماء العميق وهو لا يحسن السباحة فإنهم بالطبع البشري يرقون عليه رقة شديدة وقد يلقي قوم منهم أنفسهم في الماء نحوه يطلبون تخليصه لا يتوقعون على ذلك مجازاة منه بمال أو شكر ولا ثوابا في الآخرة فقد يكون منهم من لا يعتقد أمر الآخرة ولكنها رقة بشرية وكان الواحد منهم يتخيل في نفسه أنه ذلك الغريق فكما يطلب خلاص نفسه لو كان هذا الغريق كذلك يطلب تخليص من هو في تلك الحال الصعبة للمشاركة الجنسية وكذلك لو أن ملكا ظلم أهل بلد من بلاده ظلما عنيفا لكان أهل ذلك البلد يتعصب بعضهم لبعض في الانتصار من ذلك الملك والاستعداء عليه فلو كان من جملتهم رجل عظيم القدر جليل الشأن قد ظلمه الملك أكثر من ظلمه إياهم وأخذ أمواله وضياعه وقتل أولاده وأهله كان لياذهم به وانضواؤهم إليه واجتماعهم والتفافهم به أعظم وأعظم لأن الطبيعة البشرية تدعو إلى ذلك على سبيل الإيجاب الاضطراري ولا يستطيع الإنسان منه امتناعا . وهذا محصول قول النقيب أبي جعفر رحمه الله قد حكيته والألفاظ لي والمعنى له لأني لا أحفظ الآن ألفاظه بعينها إلا أن هذا هو كان معنى قوله وفحواه رحمه الله وكان لا يعتقد في الصحابة ما يعتقده أكثر الإمامية فيهم ويسفه رأي من يذهب فيهم إلى النفاق والتكفير وكان يقول حكمهم حكم مسلم مؤمن عصى في بعض الأفعال وخالف الأمر فحكمه إلى الله إن شاء آخذه وإن شاء غفر له .
[ 226 ](1/2963)
قلت له مرة أ فتقول أنهما من أهل الجنة فقال إي والله أعتقد ذلك لأنهما إما أن يعفو الله تعالى عنهما ابتداء أو بشفاعة الرسول ص أو بشفاعة علي ع أو يؤاخذهما بعقاب أو عتاب ثم ينقلهما إلى الجنة لا أستريب في ذلك أصلا ولا أشك في إيمانهما برسول الله ص وصحة عقيدتهما . فقلت له فعثمان قال وكذلك عثمان ثم قال رحم الله عثمان وهل كان إلا واحدا منا وغصنا من شجرة عبد مناف ولكن أهله كدروه علينا وأوقعوا العداوة والبغضاء بينه وبيننا . قلت له فيلزمك على ما تراه في أمر هؤلاء أن تجوز دخول معاوية الجنة لأنه لم تكن منه إلا المخالفة وترك امتثال أمر النبوي . فقال كلا إن معاوية من أهل النار لا لمخالفته عليا ولا بمحاربته إياه ولكن عقيدته لم تكن صحيحة ولا إيمانه حقا وكان من رءوس المنافقين هو وأبوه ولم يسلم قلبه قط وإنما أسلم لسانه وكان يذكر من حديث معاوية ومن فلتات قوله وما حفظ عنه من كلام يقتضي فساد العقيدة شيئا كثيرا ليس هذا موضعه فأذكره . وقال لي مرة حاش لله أن يثبت معاوية في جريدة الشيخين الفاضلين أبي بكر وعمر والله ما هما إلا كالذهب الإبريز ولا معاوية إلا كالدرهم الزائف أو قال كالدرهم القسي ثم قال لي فما يقول أصحابكم فيهما قلت أما الذي استقر عليه رأي المعتزلة بعد اختلاف كثير بين قدمائهم في التفضيل وغيره أن عليا ع أفضل الجماعة وأنهم تركوا الأفضل لمصلحة رأوها وأنه لم يكن هناك نص يقطع العذر وإنما كانت إشارة وإيماء لا يتضمن شي ء منها صريح النص وإن عليا ع نازع ثم بايع
[ 227 ](1/2964)
و جمح ثم استجاب ولو أقام على الامتناع لم نقل بصحة البيعة ولا بلزومها ولو جرد السيف كما جرده في آخر الأمر لقلنا بفسق كل من خالفه على الإطلاق كائنا من كان ولكنه رضي بالبيعة أخيرا ودخل في الطاعة . وبالجملة أصحابنا يقولون إن الأمر كان له وكان هو المستحق والمتعين فإن شاء أخذه لنفسه وإن شاء ولاه غيره فلما رأيناه قد وافق على ولاية غيره اتبعناه ورضينا بما رضي فقال قد بقي بيني وبينكم قليل أنا أذهب إلى النص وأنتم لا تذهبون إليه . فقلت له إنه لم يثبت النص عندنا بطريق يوجب العلم وما تذكرونه أنتم صريحا فأنتم تنفردون بنقله وما عدا ذلك من الأخبار التي نشارككم فيها فلها تأويلات معلومة . فقال لي وهو ضجر يا فلان لو فتحنا باب التأويلات لجاز أن يتناول قولنا لا إله إلا الله محمد رسول الله دعني من التأويلات الباردة التي تعلم القلوب والنفوس أنها غير مرادة وأن المتكلمين تكلفوها وتعسفوها فإنما أنا وأنت في الدار ولا ثالث لنا فيستحيي أحدنا من صاحبه أو يخافه . فلما بلغنا إلى هذا الموضع دخل قوم ممن كان يخشاه فتركنا ذلك الأسلوب من الحديث وخضنا في غيره(1/2965)
سياسة علي ومعاوية وإيراد كلام للجاحظ في ذلك
فأما القول في سياسة معاوية وأن شنأة علي ع ومبغضيه زعموا أنها خير من سياسة أمير المؤمنين فيكفينا في الكلام على ذلك ما قاله شيخنا أبو عثمان ونحن نحكيه بألفاظه .
[ 228 ]
قال أبو عثمان وربما رأيت بعض من يظن بنفسه العقل والتحصيل والفهم والتمييز وهو من العامة ويظن أنه من الخاصة يزعم أن معاوية كان أبعد غورا وأصح فكرا وأجود روية وأبعد غاية وأدق مسلكا وليس الأمر كذلك وسأرمي إليك بجملة تعرف بها موضع غلطه والمكان الذي دخل عليه الخطأ من قبله . كان علي ع لا يستعمل في حربه إلا ما وافق الكتاب والسنة وكان معاوية يستعمل خلاف الكتاب والسنة كما يستعمل الكتاب والسنة ويستعمل جميع المكايد حلالها وحرامها ويسير في الحرب بسيرة ملك الهند إذا لاقى كسرى وخاقان إذا لاقى رتبيل وعلي ع يقول لا تبدءوهم بالقتال حتى يبدءوكم ولا تتبعوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح ولا تفتحوا بابا مغلقا هذه سيرته في ذي الكلاع وفي أبي الأعور السلمي وفي عمرو بن العاص وحبيب بن مسلمة وفي جميع الرؤساء كسيرته في الحاشية والحشو والأتباع والسفلة وأصحاب الحروب إن قدروا على البيات بيتوا وإن قدروا على رضخ الجميع بالجندل وهم نيام فعلوا وإن أمكن ذلك في طرفة عين لم يؤخروه إلى ساعة وإن كان الحرق أعجل من الغرق لم يقتصروا على الغرق ولم يؤخروا الحرق إلى وقت الغرق وإن أمكن الهدم لم يتكلفوا الحصار ولم يدعوا أن ينصبوا المجانيق والعرادات والنقب والتسريب والدبابات والكمين ولم يدعوا دس السموم ولا التضريب بين الناس بالكذب وطرح
[ 229 ](1/2966)
الكتب في عساكرهم بالسعايات وتوهيم الأمور وإيحاش بعض من بعض وقتلهم بكل آلة وحيلة كيف وقع القتل وكيف دارت بهم الحال فمن اقتصر حفظك الله من التدبير على ما في الكتاب والسنة كان قد منع نفسه الطويل العريض من التدبير وما لا يتناهى من المكايد والكذب حفظك الله أكثر من الصدق والحرام أكثر عددا من الحلال ولو سمى إنسان إنسانا باسمه لكان قد صدق وليس له اسم غيره ولو قال هو شيطان أو كلب أو حمار أو شاة أو بعير أو كل ما خطر على البال لكان كاذبا في ذلك وكذلك الإيمان والكفر وكذلك الطاعة والمعصية وكذلك الحق والباطل وكذلك السقم والصحة وكذلك الخطأ والصواب فعلي ع كان ملجما بالورع عن جميع القول إلا ما هو لله عز وجل رضا وممنوع اليدين من كل بطش إلا ما هو لله رضا ولا يرى الرضا إلا فيما يرضاه الله ويحبه ولا يرى الرضا إلا فيما دل عليه الكتاب والسنة دون ما يعول عليه أصحاب الدهاء والنكراء والمكايد والآراء فلما أبصرت العوام كثرة نوادر معاوية في المكايد وكثرة غرائبه في الخداع وما اتفق له وتهيأ على يده ولم يرو ذلك من علي ع ظنوا بقصر عقولهم وقلة علومهم أن ذاك من رجحان عند معاوية ونقصان عند علي ع فانظر بعد هذا كله هل يعد له من الخدع إلا رفع المصاحف ثم انظر هل خدع بها إلا من عصى رأي علي ع وخالف أمره . فإن زعمت أنه قال ما أراد من الاختلاف فقد صدقت وليس في هذا اختلفنا ولا عن غرارة أصحاب علي ع وعجلتهم وتسرعهم وتنازعهم دفعنا وإنما كان قولنا في التميز بينهما في الدهاء والنكراء وصحة العقل والرأي والبزلاء على أنا لا نصف الصالحين
[ 230 ](1/2967)
بالدهاء والنكراء لا نقول ما كان أنكر أبا بكر بن أبي قحافة وما كان أنكر عمر بن الخطاب ولا يقول أحد عنده شي ء من الخير كان رسول الله ص أدهى العرب والعجم وأنكر قريش وأمكر كنانة لأن هذه الكلمة إنما وضعت في مديح أصحاب الأرب ومن يتعمق في الرأي في توكيد الدنيا وزبرجها وتشديد أركانها فأما أصحاب الآخرة الذين يرون الناس لا يصلحون على تدبير البشر وإنما يصلحون على تدبير خالق البشر فإن هؤلاء لا يمدحون بالدهاء والنكراء ولم يمنعوا هذا إلا ليعطوا أفضل منه أ لا ترى أن المغيرة بن شعبة وكان أحد الدهاة حين رد على عمرو بن العاص قوله في عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص أحد الدهاة أيضا أ أنت كنت تفعل أو توهم عمر شيئا فيلقنه عنك ما رأيت عمر مستخليا بأحد إلا رحمته كائنا من كان ذلك الرجل كان عمر والله أعقل من أن يخدع وأفضل من أن يخدع ولم يذكره بالدهاء والنكراء هذا مع عجبه بإضافة الناس ذلك إليه ولكنه قد علم أنه إذا أطلق على الأئمة الألفاظ التي لا تصلح في أهل الطهارة كان ذلك غير مقبول منه فهذا هذا . وكذلك كان حكم قول معاوية للجميع أخرجوا إلينا قتلة عثمان ونحن لكم سلم فاجهد كل جهدك واستعن بمن شايعك إلى أن تتخلص إلى صواب رأي في ذلك الوقت أضله علي حتى تعلم أن معاوية خادع وأن عليا ع كان المخدوع . فإن قلت فقد بلغ ما أراد ونال ما أحب فهل رأيت كتابنا وضع إلا على أن عليا كان قد امتحن في أصحابه وفي دهره بما لم يمتحن إمام قبله من الاختلاف والمنازعة والتشاح من الرئاسة والتسرع والعجلة وهل أتي ع إلا من هذا المكان أ ولسنا قد فرغنا من هذا الأمر وقد علمنا أن ثلاثة نفر تواطئوا على قتل ثلاثة نفر فانفرد ابن ملجم
[ 231 ](1/2968)
بالتماس ذلك من علي ع وانفرد البرك الصريمي بالتماس ذلك من عمرو بن العاص وانفرد الآخر وهو عمرو بن بكر التميمي بالتماس ذلك من معاوية فكان من الاتفاق أو من الامتحان أن كان علي من بينهم هو المقتول . وفي قياس مذهبكم أن تزعموا أن سلامة عمرو ومعاوية إنما كانت بحزم منهما وأن قتل علي ع إنما هو من تضييع منه فإذ قد تبين لكم أنه من الابتلاء والامتحان في نفسه بخلاف الذي قد شاهدتموه في عدوه فكل شي ء سوى ذلك فإنما هو تبع للنفس . هذا آخر كلام أبي عثمان في هذا الموضع ومن تأمله بعين الإنصاف ولم يتبع الهوى علم صحة جميع ما ذكره وأن أمير المؤمنين دفع من اختلاف أصحابه وسوء طاعتهم له ولزومه سنن الشريعة ومنهج العدل وخروج معاوية وعمرو بن العاص عن قاعدة الشرع في استمالة الناس إليهم بالرغبة والرهبة إلى ما لم يدفع إليه غيره فلو لا أنه ع كان عارفا بوجوه السياسة وتدبير أمر السلطان والخلافة حاذقا في ذلك لم يجتمع عليه إلا القليل من الناس وهم أهل الآخرة خاصة الذين لا ميل لهم إلى الدنيا فلما وجدناه دبر الأمر حين وليه واجتمع عليه من العساكر والأتباع ما يتجاوز العد والحصر وقاتل بهم أعداءه الذين حالهم حالهم فظفر في أكثر حروبه ووقف الأمر بينه وبين معاوية على سواء وكان هو الأظهر والأقرب إلى الانتصار علمنا أنه من معرفة تدبير الدول والسلطان بمكان مكين
[ 232 ](1/2969)
ذكر أقوال من طعن في سياسة علي والرد عليها
و قد تعلق من طعن في سياسته بأمور منها قولهم لو كان حين بويع له بالخلافة في المدينة أقر معاوية على الشام إلى أن يستقر الأمر له ويتوطد ويبايعه معاوية وأهل الشام ثم يعزله بعد ذلك لكان قد كفي ما جرى بينهما من الحرب . والجواب أن قرائن الأحوال حينئذ قد كان علم أمير المؤمنين ع منها أن معاوية لا يبايع له وإن أقره على ولاية الشام بل كان إقراره له على إمرة الشام أقوى لحال معاوية وآكد في الامتناع من البيعة لأنه لا يخلو صاحب السؤال إما أن يقول كان ينبغي أن يطالبه بالبيعة ويقرن إلى ذلك تقليده بالشام فيكون الأمران معا أو يتقدم منه ع المطالبة بالبيعة أو يتقدم منه إقراره على الشام وتتأخر المطالبة بالبيعة إلى وقت ثان فإن كان الأول فمن الممكن أن يقرأ معاوية على أهل الشام تقليده بالإمرة فيؤكد حاله عندهم ويقرر في أنفسهم لو لا أنه أهل لذلك لما اعتمده علي ع معه ثم يماطله بالبيعة ويحاجزه عنها وإن كان الثاني فهو الذي فعله أمير المؤمنين ع وإن كان الثالث فهو كالقسم الأول بل هو آكد فيما يريده معاوية من الخلاف والعصيان وكيف يتوهم من يعرف السير أن معاوية كان يبايع له لو أقره على الشام وبينه وبينه ما لا تبرك الإبل عليه من الترات القديمة والأحقاد وهو الذي قتل حنظلة أخاه والوليد خاله وعتبة جده في مقام واحد ثم ما جرى بينهما في أيام عثمان حتى أغلظ كل واحد منهما لصاحبه وحتى تهدده معاوية وقال له إني شاخص إلى الشام وتارك عندك هذا الشيخ يعني عثمان والله لئن
[ 233 ](1/2970)
انحصت منه شعرة واحدة لأضربنك بمائة ألف سيف وقد ذكرنا شيئا مما جرى بينهما فيما تقدم . وأما قول ابن عباس له ع وله شهرا واعزله دهرا وما أشار به المغيرة بن شعبة فإنهما ما توهماه وما غلب على ظنونهما وخطر بقلوبهما وعلي ع كان أعلم بحاله مع معاوية وأنها لا تقبل العلاج والتدبير وكيف يخطر ببال عارف بحال معاوية ونكره ودهائه وما كان في نفسه من علي ع من قتل عثمان ومن قبل قتل عثمان أنه يقبل إقرار علي ع له على الشام وينخدع بذلك ويبايع ويعطي صفقة يمينه إن معاوية لأدهى من أن يكاد بذلك وإن عليا ع لأعرف بمعاوية ممن ظن أنه لو استماله بإقراره لبايع له ولم يكن عند علي ع دواء لهذا المرض إلا السيف لأن الحال إليه كانت تئول لا محالة فجعل الآخر أولا . وأنا أذكر في هذا الموضع خبرا رواه الزبير بن بكار في الموفقيات ليعلم من يقف عليه أن معاوية لم يكن لينجذب إلى طاعة علي ع أبدا ولا يعطيه البيعة وأن مضادته له ومباينته إياه كمضادة السواد للبياض لا يجتمعان أبدا وكمباينة السلب للإيجاب فإنها مباينة لا يمكن زوالها أصلا قال الزبير حدثني محمد بن زكريا بن بسطام قال حدثني محمد بن يعقوب بن أبي الليث قال حدثني أحمد بن محمد بن الفضل بن يحيى المكي عن أبيه عن جده الفضل بن يحيى عن الحسن بن عبد الصمد عن قيس بن عرفجة قال لما حصر عثمان أبرد مروان بن الحكم بخبره بريدين أحدهما إلى الشام والآخر إلى اليمن وبها يومئذ يعلى بن منية ومع كل واحد منهما كتاب فيه أن بني أمية في الناس كالشامة
[ 234 ](1/2971)
الحمراء وأن الناس قد قعدوا لهم برأس كل محجة وعلى كل طريق فجعلوهم مرمى العر والعضيهة ومقذف القشب والأفيكة وقد علمتم أنها لم تأت عثمان إلا كرها تجبذ من ورائها وإني خائف إن قتل أن تكون من بني أمية بمناط الثريا إن لم نصر كرصيف الأساس المحكم ولئن وهى عمود البيت لتتداعين جدرانه والذي عيب عليه إطعامكما الشام واليمن ولا شك أنكما تابعاه إن لم تحذرا وأما أنا فمساعف كل مستشير ومعين كل مستصرخ ومجيب كل داع أتوقع الفرصة فأثب وثبة الفهد أبصر غفلة مقتنصة ولو لا مخافة عطب البريد وضياع الكتب لشرحت لكما من الأمر ما لا تفزعان معه إلى أن يحدث الأمر فجدا في طلب ما أنتما ولياه وعلى ذلك فليكن العمل إن شاء الله وكتب في آخره
و ما بلغت عثمان حتى تخطمت
رجال ودانت للصغار رجال
لقد رجعت عودا على بدء كونها
و إن لم تجدا فالمصير زوال
سيبدي مكنون الضمائر قولهم
و يظهر منهم بعد ذاك فعال
فإن تقعدا لا تطلبا ما ورثتما
فليس لنا طول الحياة مقال
نعيش بدار الذل في كل بلدة
و تظهر منا كأبة وهزال
فلما ورد الكتاب على معاوية أذن في الناس الصلاة جامعة ثم خطبهم خطبة المستنصر المستصرخ . وفي أثناء ذلك ورد عليه قبل أن يكتب الجواب كتاب مروان بقتل عثمان وكانت نسخته وهب الله لك أبا عبد الرحمن قوة العزم وصلاح النية ومن عليك بمعرفة الحق واتباعه فإني كتبت إليك هذا الكتاب بعد قتل عثمان أمير المؤمنين
[ 235 ](1/2972)
و أي قتلة قتل نحر كما ينحر البعير الكبير عند اليأس من أن ينوء بالحمل بعد أن نقبت صفحته بطي المراحل وسير الهجير وإني معلمك من خبره غير مقصر ولا مطيل إن القوم استطالوا مدته واستقلوا ناصره واستضعفوه في بدنه وأملوا بقتله بسط أيديهم فيما كان قبضه عنهم واعصوصبوا عليه فظل محاصرا قد منع من صلاة الجماعة ورد المظالم والنظر في أمور الرعية حتى كأنه هو فاعل لما فعلوه فلما دام ذلك أشرف عليهم فخوفهم الله وناشدهم وذكرهم مواعيد رسول الله ص له وقوله فيه فلم يجحدوا فضله ولم ينكروه ثم رموه بأباطيل اختلقوها ليجعلوا ذلك ذريعة إلى قتله فوعدهم التوبة مما كرهوا ووعدهم الرجعة إلى ما أحبوا فلم يقبلوا ذلك ونهبوا داره وانتهكوا حرمته ووثبوا عليه فسفكوا دمه وانقشعوا عنه انقشاع سحابة قد أفرغت ماءها منكفئين قبل ابن أبي طالب انكفاء الجراد إذا أبصر المرعى فأخلق ببني أمية أن يكونوا من هذا الأمر بمجرى العيوق إن لم يثأره ثائر فإن شئت أبا عبد الرحمن أن تكونه فكنه والسلام . فلما ورد الكتاب على معاوية أمر بجمع الناس ثم خطبهم خطبة أبكى منها العيون وقلقل القلوب حتى علت الرنة وارتفع الضجيج وهم النساء أن يتسلحن ثم كتب إلى طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وسعيد بن العاص وعبد الله بن عامر بن كريز والوليد بن عقبة ويعلى بن منية وهو اسم أمه وإنما اسم أبيه أمية . فكان كتاب طلحة أما بعد فإنك أقل قريش في قريش وترا مع صباحة وجهك وسماحة كفك وفصاحة لسانك فأنت بإزاء من تقدمك في السابقة وخامس المبشرين بالجنة ولك يوم أحد وشرفه وفضله فسارع رحمك الله إلى ما تقلدك الرعية من أمرها مما لا يسعك التخلف عنه ولا يرضى الله منك إلا بالقيام به فقد أحكمت لك الأمر
[ 236 ](1/2973)
قبلي والزبير فغير متقدم عليك بفضل وأيكما قدم صاحبه فالمقدم الإمام والأمر من بعده للمقدم له سلك الله بك قصد المهتدين ووهب لك رشد الموفقين والسلام . وكتب إلى الزبير أما بعد فإنك الزبير بن العوام بن أبي خديجة وابن عمة رسول الله ص وحواريه وسلفه وصهر أبي بكر وفارس المسلمين وأنت الباذل في الله مهجته بمكة عند صيحة الشيطان بعثك المنبعث فخرجت كالثعبان المنسلخ بالسيف المنصلت تخبط خبط الجمل الرديع كل ذلك قوة إيمان وصدق يقين وسبقت لك من رسول الله ص البشارة بالجنة وجعلك عمر أحد المستخلفين على الأمة واعلم يا أبا عبد الله أن الرعية أصبحت كالغنم المتفرقة لغيبة الراعي فسارع رحمك الله إلى حقن الدماء ولم الشعث وجمع الكلمة وصلاح ذات البين قبل تفاقم الأمر وانتشار الأمة فقد أصبح الناس على شفا جرف هار عما قليل ينهار إن لم يرأب فشمر لتأليف الأمة وابتغ إلى ربك سبيلا فقد أحكمت الأمر على من قبلي لك ولصاحبك على أن الأمر للمقدم ثم لصاحبه من بعده وجعلك الله من أئمة الهدى وبغاة الخير والتقوى والسلام . وكتب إلى مروان بن الحكم أما بعد فقد وصل إلي كتابك بشرح خبر أمير المؤمنين وما ركبوه به ونالوه منه جهلا بالله وجراءة عليه واستخفافا بحقه ولأماني لوح الشيطان بها في شرك الباطل ليدهدههم في أهويات الفتن ووهدات الضلال ولعمري لقد صدق عليهم ظنه ولقد اقتنصهم بأنشوطة فخه فعلى رسلك أبا عبد الله يمشى الهوينى ويكون أولا فإذا قرأت كتابي هذا فكن كالفهد لا يصطاد إلا غيلة ولا يتشازر إلا عن حيلة
[ 237 ](1/2974)
و كالثعلب لا يفلت إلا روغانا وأخف نفسك منهم إخفاء القنفذ رأسه عند لمس الأكف وامتهن نفسك امتهان من ييأس القوم من نصره وانتصاره وابحث عن أمورهم بحث الدجاجة عن حب الدخن عند فقاسها وأنغل الحجاز فإني منغل الشام والسلام . وكتب إلى سعيد بن العاص أما بعد فإن كتاب مروان ورد علي من ساعة وقعت النازلة تقبل به البرد بسير المطي الوجيف تتوجس توجس الحية الذكر خوف ضربة الفأس وقبضة الحاوي ومروان الرائد لا يكذب أهله فعلام الإفكاك يا ابن العاص ولات حين مناص ذلك أنكم يا بني أمية عما قليل تسألون أدنى العيش من أبعد المسافة فينكركم من كان منكم عارفا ويصد عنكم من كان لكم واصلا متفرقين في الشعاب تتمنون لمظة المعاش إن أمير المؤمنين عتب عليه فيكم وقتل في سبيلكم ففيم القعود عن نصرته والطلب بدمه وأنتم بنو أبيه ذوو رحمه وأقربوه وطلاب ثأره أصبحتم متمسكين بشظف معاش زهيد عما قليل ينزع منكم عند التخاذل وضعف القوى فإذا قرأت كتابي هذا فدب دبيب البرء في الجسد النحيف وسر سير النجوم تحت الغمام واحشد حشد الذرة في الصيف لانجحارها في الصرد فقد أيدتكم بأسد وتيم وكتب في الكتاب
تالله لا يذهب شيخي باطلا
حتى أبير مالكا وكاهلا
[ 238 ]
القاتلين الملك الحلاحلا
خير معد حسبا ونائلا(1/2975)
و كتب إلى عبد الله بن عامر أما بعد فإن المنبر مركب ذلول سهل الرياضة لا ينازعك اللجام وهيهات ذلك إلا بعد ركوب أثباج المهالك واقتحام أمواج المعاطب وكأني بكم يا بني أمية شعارير كالأوارك تقودها الحداة أو كرخم الخندمة تذرق خوف العقاب فثب الآن رحمك الله قبل أن يستشري الفساد وندب السوط جديد والجرح لما يندمل ومن قبل استضراء الأسد والتقاء لحييه على فريسته وساور الأمر مساورة الذئب الأطلس كسيرة القطيع ونازل الرأي وانصب الشرك وارم عن تمكن وضع الهناء مواضع النقب واجعل أكبر عدتك الحذر وأحد سلاحك التحريض واغض عن العوراء وسامح اللجوج واستعطف الشارد ولاين الأشوس وقو عزم المريد وبادر العقبة وازحف زحف الحية واسبق قبل أن تسبق وقم قبل أن يقام لك واعلم أنك غير متروك ولا مهمل فإني لكم ناصح أمين والسلام . وكتب في أسفل الكتاب
[ 239 ]
عليك سلام الله قيس بن عاصم
و رحمته ما شاء أن يترحما
تحية من أهدى السلام لأهله
إذا شط دارا عن مزارك سلما
فما كان قيس هلكه هلك واحد
و لكنه بنيان قوم تهدما
و كتب إلى الوليد بن عقبة يا ابن عقبة كن الجيش وطيب العيش أطيب من سفع سموم الجوزاء عند اعتدال الشمس في أفقها إن عثمان أخاك أصبح بعيدا منك فاطلب لنفسك ظلا تستكن به إني أراك على التراب رقودا وكيف بالرقاد بك لا رقاد لك فلو قد استتب هذا الأمر لمريده ألفيت كشريد النعام يفزع من ظل الطائر وعن قليل تشرب الرنق وتستشعر الخوف أراك فسيح الصدر مسترخي اللبب رخو الحزام قليل الاكتراث وعن قليل يجتث أصلك والسلام . وكتب في آخر الكتاب
اخترت نومك أن هبت شآمية
عند الهجير وشربا بالعشيات
على طلابك ثأرا من بني حكم
هيهات من راقد طلاب ثارات(1/2976)
و كتب إلى يعلى بن أمية حاطك الله بكلاءته وأيدك بتوفيقه كتبت إليك صبيحة ورد علي كتاب مروان بخبر قتل أمير المؤمنين وشرح الحال فيه وإن أمير المؤمنين طال به العمر حتى نقصت قواه وثقلت نهضته وظهرت الرعشة في أعضائه فلما رأى ذلك أقوام لم يكونوا عنده موضعا للإمامة والأمانة وتقليد الولاية وثبوا به وألبوا عليه فكان أعظم ما نقموا عليه وعابوه به ولايتك اليمن وطول مدتك عليها ثم ترامى بهم الأمر حالا بعد حال
[ 240 ]
حتى ذبحوه ذبح النطيحة مبادرا بها الفوت وهو مع ذلك صائم معانق المصحف يتلو كتاب الله فيه عظمت مصيبة الإسلام بصهر الرسول والإمام المقتول على غير جرم سفكوا دمه وانتهكوا حرمته وأنت تعلم أن بيعته في أعناقنا وطلب ثأره لازم لنا فلا خير في دنيا تعدل بنا عن الحق ولا في إمرة توردنا النار وإن الله جل ثناؤه لا يرضى بالتعذير في دينه فشمر لدخول العراق . فأما الشام فقد كفيتك أهلها وأحكمت أمرها وقد كتبت إلى طلحة بن عبيد الله أن يلقاك بمكة حتى يجتمع رأيكما على إظهار الدعوة والطلب بدم عثمان أمير المؤمنين المظلوم وكتبت إلى عبد الله بن عامر يمهد لكم العراق ويسهل لكم حزونة عقابها . واعلم يا ابن أمية أن القوم قاصدوك بادئ بدء لاستنطاف ما حوته يداك من المال فاعلم ذلك واعمل على حسبه إن شاء الله . وكتب في أسفل الكتاب
ظل الخليفة محصورا يناشدهم
بالله طورا وبالقرآن أحيانا
و قد تألف أقوام على حنق
عن غير جرم وقالوا فيه بهتانا
فقام يذكرهم وعد الرسول له
و قوله فيه إسرارا وإعلانا
فقال كفوا فإني معتب لكم
و صارف عنكم يعلى ومروانا
فكذبوا ذاك منه ثم ساوره
من حاض لبته ظلما وعدوانا
قال فكتب إليه مروان جوابا عن كتابه أما بعد فقد وصل كتابك فنعم كتاب زعيم العشيرة وحامي الذمار وأخبرك
[ 241 ](1/2977)
أن القوم على سنن استقامة إلا شظايا شعب شتت بينهم مقولي على غير مجابهة حسب ما تقدم من أمرك وإنما كان ذلك رسيس العصاة ورمي أخدر من أغصان الدوحة ولقد طويت أديمهم على نغل يحلم منه الجلد كذبت نفس الظان بنا ترك المظلمة وحب الهجوع إلا تهويمة الراكب العجل حتى تجذ جماجم وجماجم جذ العراجين المهدلة حين إيناعها وأنا على صحة نيتي وقوة عزيمتي وتحريك الرحم لي وغليان الدم مني غير سابقك بقول ولا متقدمك بفعل وأنت ابن حرب طلاب الترات وآبي الضيم . وكتابي إليك وأنا كحرباء السبسب في الهجير ترقب عين الغزالة وكالسبع المفلت من الشرك يفرق من صوت نفسه منتظرا لما تصح به عزيمتك ويرد به أمرك فيكون العمل به والمحتذى عليه . وكتب في أسفل الكتاب
أ يقتل عثمان وترقا دموعنا
و نرقد هذا الليل لا نتفزع
و نشرب برد الماء ريا وقد مضى
على ظمأ يتلو القرآن ويركع
فإني ومن حج الملبون بيته
و طافوا به سعيا وذو العرش يسمع
سأمنع نفسي كل ما فيه لذة
من العيش حتى لا يرى فيه مطمع
و أقتل بالمظلوم من كان ظالما
و ذلك حكم الله ما عنه مدفع
و كتب إليه عبد الله بن عامر
[ 242 ](1/2978)
أما بعد فإن أمير المؤمنين كان لنا الجناح الحاضنة تأوي إليها فراخها تحتها فلما أقصده السهم صرنا كالنعام الشارد ولقد كنت مشترك الفكر ضال الفهم ألتمس دريئة أستجن بها من خطأ الحوادث حتى وقع إلي كتابك فانتبهت من غفلة طال فيها رقادي فأنا كواجد المحجة كان إلى جانبها حائرا وكأني أعاين ما وصفت من تصرف الأحوال . والذي أخبرك به أن الناس في هذا الأمر تسعة لك وواحد عليك وو الله للموت في طلب العز أحسن من الحياة في الذلة وأنت ابن حرب فتى الحروب ونضار بني عبد شمس والهمم بك منوطة وأنت منهضها فإذا نهضت فليس حين قعود وأنا اليوم على خلاف ما كانت عليه عزيمتي من طلب العافية وحب السلامة قبل قرعك سويداء القلب بسوط الملام ولنعم مؤدب العشيرة أنت وإنا لنرجوك بعد عثمان وها أنا متوقع ما يكون منك لأمتثله وأعمل عليه إن شاء الله . وكتب في أسفل الكتاب
لا خير في العيش في ذل ومنقصة
و الموت أحسن من ضيم ومن عار
إنا بنو عبد شمس معشر أنف
غر جحاجحة طلاب أوتار
و الله لو كان ذميا مجاورنا
ليطلب العز لم نقعد عن الجار
فكيف عثمان لم يدفن بمزبلة
على القمامة مطروحا بها عار
فازحف إلي فإني زاحف لهم
بكل أبيض ماضي الحد بتار
و كتب إليه الوليد بن عقبة أما بعد فإنك أسد قريش عقلا وأحسنهم فهما وأصوبهم رأيا معك حسن
[ 243 ](1/2979)
السياسة وأنت موضع الرئاسة تورد بمعرفة وتصدر عن منهل روي مناوئك كالمنقلب من العيوق يهوي به عاصف الشمال إلى لجة البحر . كتبت إلي تذكر طيب الخيش ولين العيش فمل ء بطني علي حرام إلا مسكة الرمق حتى أفري أوداج قتلة عثمان فري الأهب بشباة الشفار وأما اللين فهيهات إلا خيفة المرتقب يرتقب غفلة الطالب إنا على مداجاة ولما تبد صفحاتنا بعد وليس دون الدم بالدم مزحل إن العار منقصة والضعف ذل أ يخبط قتلة عثمان زهرة الحياة الدنيا ويسقون برد المعين ولما يمتطوا الخوف ويستحلسوا الحذر بعد مسافة الطرد وامتطاء العقبة الكئود في الرحلة لا دعيت لعقبة إن كان ذلك حتى أنصب لهم حربا تضع الحوامل لها أطفالها قد ألوت بنا المسافة ووردنا حياض المنايا وقد عقلت نفسي على الموت عقل البعير واحتسبت أني ثاني عثمان أو أقتل قاتله فعجل علي ما يكون من رأيك فإنا منوطون بك متبعون عقبك ولم أحسب الحال تتراخى بك إلى هذه الغاية لما أخافه من إحكام القوم أمرهم وكتب في أسفل الكتاب
نومي علي محرم إن لم أقم
بدم ابن أمي من بني العلات
قامت علي إذا قعدت ولم أقم
بطلاب ذاك مناحة الأموات
عذبت حياض الموت عندي بعد ما
كانت كريهة مورد النهلات
و كتب إليه يعلى بن أمية
[ 244 ]
إنا وأنتم يا بني أمية كالحجر لا يبنى بغير مدر وكالسيف لا يقطع إلا بضاربه . وصل كتابك بخبر القوم وحالهم فلئن كانوا ذبحوه ذبح النطيحة بودر بها الموت لينحرن ذابحه نحر البدنة وافى بها الهدي الأجل ثكلتني من أنا ابنها إن نمت عن طلب وتر عثمان أو يقال لم يبق فيه رمق إني أرى العيش بعد قتل عثمان مرا إن أدلج القوم فإني مدلج وأما قصدهم ما حوته يدي من المال فالمال أيسر مفقود إن دفعوا إلينا قتلة عثمان وإن أبوا ذلك أنفقنا المال على قتالهم وإن لنا ولهم لمعركة نتناحر فيها نحر القدار النقائع عن قليل تصل لحومها . وكتب في أسفل الكتاب
لمثل هذا اليوم أوصى الناس(1/2980)
لا تعط ضيما أو يخر الراس
قال فكل هؤلاء كتبوا إلى معاوية يحرضونه ويغرونه ويحركونه ويهيجونه إلا سعيد بن العاص فإنه كتب بخلاف ما كتب به هؤلاء كان كتابه أما بعد فإن الحزم في التثبت والخطأ في العجلة والشؤم في البدار والسهم سهمك ما لم ينبض به الوتر ولن يرد الحالب في الضرع اللبن ذكرت حق أمير المؤمنين علينا وقرابتنا منه وأنه قتل فينا فخصلتان ذكرهما نقص والثالثة تكذب وأمرتنا بطلب دم عثمان فأي جهة تسلك فيها أبا عبد الرحمن ردمت الفجاج وأحكم الأمر عليك وولي زمامه غيرك فدع مناوأة من لو كان افترش فراشه صدر الأمر لم يعدل به غيره وقلت كأنا عن قليل لا نتعارف فهل نحن إلا حي من قريش إن لم تنلنا الولاية لم يضق عنا الحق إنها خلافة منافية وبالله أقسم قسما مبرورا لئن صحت عزيمتك على
[ 245 ](1/2981)
ما ورد به كتابك لألفينك بين الحالين طليحا وهبني إخالك بعد خوض الدماء تنال الظفر هل في ذلك عوض من ركوب المأثم ونقص الدين . أما أنا فلا على بني أمية ولا لهم أجعل الحزم داري والبيت سجني وأتوسد الإسلام وأستشعر العافية فاعدل أبا عبد الرحمن زمام راحلتك إلى محجة الحق واستوهب العافية لأهلك واستعطف الناس على قومك وهيهات من قبولك ما أقول حتى يفجر مروان ينابيع الفتن تأجج في البلاد وكأني بكما عند ملاقاة الأبطال تعتذران بالقدر ولبئس العاقبة الندامة وعما قليل يضح لك الأمر والسلام . هذا آخر ما تكاتب القوم به ومن وقف عليه علم أن الحال لم يكن حالا يقبل العلاج والتدبير وأنه لم يكن بد من السيف وأن عليا ع كان أعرف بما عمل . وقد أجاب ابن سنان في كتابه الذي سماه العادل عن هذا السؤال فقال قد علم الناس كافة أنه ع في قصة الشورى عرض عليه عبد الرحمن بن عوف أن يعقد له الخلافة على أن يعمل بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة أبي بكر وعمر فلم يستجب إلى ذلك وقال بل على أن أعمل بكتاب الله وسنة رسوله وأجتهد رأيي . وقد اختلف الناس في ذلك فقالت الشيعة إنما لم يدخل تحت الشرط لأنه لم يستصوب سيرتهما وقال غيرهم إنما امتنع لأنه مجتهد والمجتهد لا يقلد المجتهد فأيهما أقرب على القولين جميعا إثما وأيسر وزرا أن يقر معاوية على ولاية الشام مدة إلى أن تتوطد خلافته مع ما ظهر من جور معاوية وعداوته ومد يده إلى الأموال والدماء أيام سلطانه أو أن يعاهد عبد الرحمن على العمل بسيرة أبي بكر وعمر ثم يخالف بعض أحكامها إذا استقر الأمر له ووقع العقد ولا ريب أن أحدا لا يخفى عليه فضل ما بين
[ 246 ](1/2982)
الموضعين وفضل ما بين الإثمين فمن لا يجيب إلى الخلافة والاستيلاء على جميع بلاد الإسلام إذا تسمح بلفظة يتلفظ بها يجوز أن يتأولها أو يوري فيها كيف يستجيب إلى إقرار الجائر وتقوية يده مع تمكينه في سلطانه لتحصل له طاعة أهل الشام واستضافة طرف من الأطراف وكأن معنى قول القائل هلا أقر معاوية على الشام هو هلا كان ع متهاونا بأمر الدين راغبا في تشديد أمر الدنيا . والجواب عن هذا ظاهر وجهل السائل عنه واضح . واعلم أن حقيقة الجواب هو أن عليا ع كان لا يرى مخالفة الشرع لأجل السياسة سواء أ كانت تلك السياسة دينية أو دنيوية أما الدنيوية فنحو أن يتوهم الإمام في إنسان أنه يروم فساد خلافته من غير أن يثبت ذلك عليه يقينا فإن عليا ع لم يكن يستحل قتله ولا حبسه ولا يعمل بالتوهم وبالقول غير المحقق وأما الدينية فنحو ضرب المتهم بالسرقة فإنه أيضا لم يكن يعمل به بل يقول إن يثبت عليه بإقرار أو بينة أقمت عليه الحد وإلا لم أعترضه وغير علي ع قد كان منهم من يرى خلاف هذا الرأي ومذهب مالك بن أنس العمل على المصالح المرسلة وأنه يجوز للإمام أن يقتل ثلث الأمة لإصلاح الثلثين ومذهب أكثر الناس أنه يجوز العمل بالرأي وبغالب الظن وإذا كان مذهبه ع ما قلناه وكان معاوية عنده فاسقا وقد سبق عنده مقدمة أخرى يقينية هي أن استعمال الفاسق لا يجوز ولم يكن ممن يرى تمهيد قاعدة الخلافة بمخالفة الشريعة فقد تعين مجاهرته بالعزل وإن أفضى ذلك إلى الحرب . فهذا هو الجواب الحقيقي ولو لم يكن هذا هو الجواب الحقيقي لكان لقائل أن
[ 247 ](1/2983)
يقول لابن سنان القول في عدوله عن الدخول تحت شرط عبد الرحمن كالقول في عدوله عن إقرار معاوية على الشام فإن من ذهب إلى تغليطه في أحد الموضعين له أن يذهب إلى تغليطه في الموضع الآخر . قال ابن سنان وجواب آخر وهو أنا قد علمنا أن أحد الأحداث التي نقمت على عثمان وأفضت بالمسلمين إلى حصاره وقتله تولية معاوية الشام مع ما ظهر من جوره وعدوانه ومخالفة أحكام الدين في سلطانه وقد خوطب عثمان في ذلك فاعتذر بأن عمر ولاه قبله فلم يقبل المسلمون عذره ولا قنعوا منه إلا بعزله حتى أفضى الأمر إلى ما أفضى وكان علي ع من أكثر المسلمين لذلك كراهية وأعرفهم بما فيه من الفساد في الدين . فلو أنه ع افتتح عقد الخلافة له بتوليته معاوية الشام وإقراره فيه أ ليس كان يبتدئ في أول أمره بما انتهى إليه عثمان في آخره فأفضى إلى خلعه وقتله ولو كان ذلك في حكم الشريعة سائغا والوزر فيه مأمونا لكان غلطا قبيحا في السياسة وسببا قويا للعصيان والمخالفة ولم يكن يمكنه ع أن يقول للمسلمين إن حقيقة رأيي عزل معاوية عند استقرار الأمر وطاعة الجمهور لي وإن قصدي بإقراره على الولاية مخادعته وتعجيل طاعته ومبايعة الأجناد الذين قبله ثم أستأنف بعد ذلك فيه ما يستحقه من العزل وأعمل فيه بموجب العدل لأن إظهاره ع لهذا العزم كان يتصل خبره بمعاوية فيفسد التدبير الذي شرع فيه وينتقض الرأي الذي عول عليه . ومنها قولهم إنه ترك طلحة والزبير حتى خرجا إلى مكة وأذن لهما في العمرة وذهب عنه الرأي في ارتباطهما قبله ومنعهما من البعد عنه .
[ 248 ](1/2984)
و الجواب عنه أنه قد اختلف الرواة في خروج طلحة والزبير من المدينة هل كان بإذن علي ع أم لا فمن قال إنهما خرجا عن غير إذنه ولا علمه فسؤاله ساقط ومن قال إنهما استأذناه في العمرة وأذن لهما فقد روي أنه قال والله ما تريدان العمرة وإنما تريدان الغدرة وخوفهما بالله من التسرع إلى الفتنة وما كان يجوز له في الشرع أن يحبسهما ولا في السياسة أما في الشرع فلأنه محظور أن يعاقب الإنسان بما لم يفعل وعلى ما يظن منه ويجوز ألا يقع وأما في السياسة فلأنه لو أظهر التهمة لهما وهما من أفاضل السابقين وجلة المهاجرين لكان في ذلك من التنفير عنه ما لا يخفى ومن الطعن عليه ما هو معلوم بأن يقال إنه ليس من إمامته على ثقة فلذلك يتهم الرؤساء ولا يأمن الفضلاء لا سيما وطلحة كان أول من بايعه والزبير لم يزل مشتهرا بنصرته فلو حبسهما وأظهر الشك فيهما لم يسكن أحد إلى جهته ولنفر الناس كلهم عن طاعته . فإن قالوا فهلا استصلحهما وولاهما وارتبطهما بالإجابة إلى أغراضهما . قيل لهم فحوى هذا أنكم تطلبون من أمير المؤمنين ع أن يكون في الإمامة مغلوبا على رأيه مفتاتا عليه في تدبيره فيقر معاوية على ولاية الشام غصبا ويولي طلحة والزبير مصر والعراق كرها وهذا شي ء ما دخل تحته أحد ممن قبله ولا رضوا أن يكون لهم من الإمامة الاسم ومن الخلافة اللفظ ولقد حورب عثمان وحصر على أن يعزل بعض ولاته فلم يجب إلى ذلك فكيف تسومون عليا ع أن يفتتح أمره بهذه الدنية ويرضى بالدخول تحت هذه الخطة وهذا ظاهر . ومنها تعلقهم بتولية أمير المؤمنين ع محمد بن أبي بكر مصر وعزله قيس بن سعد عنها حتى قتل محمد بها واستولى معاوية عليها .
[ 249 ](1/2985)
و الجواب أنه ليس يمكن أن يقال إن محمدا رحمه الله لم يكن بأهل لولاية مصر لأنه كان شجاعا زاهدا فاضلا صحيح العقل والرأي وكان مع ذلك من المخلصين في محبة أمير المؤمنين ع والمجتهدين في طاعته وممن لا يتهم عليه ولا يرتاب بنصحه وهو ربيبه وخريجه ويجري مجرى أحد أولاده ع لتربيته له وإشفاقه عليه . ثم كان المصريون على غاية المحبة له والإيثار لولايته ولما حاصروا عثمان وطالبوه بعزل عبد الله بن سعد بن أبي سرح عنهم اقترحوا تأمير محمد بن أبي بكر عليهم فكتب له عثمان بالعهد على مصر وصار مع المصريين حتى تعقبه كتاب عثمان إلى عبد الله بن سعد في أمره وأمر المصريين بما هو معروف فعادوا جميعا وكان من قتل عثمان ما كان فلم يكن ظاهر الرأي ووجه التدبير إلا تولية محمد بن أبي بكر على مصر لما ظهر من ميل المصريين إليه وإيثارهم له واستحقاقه لذلك بتكامل خصال الفضل فيه فكان الظن قويا باتفاق الرعية على طاعته وانقيادهم إلى نصرته واجتماعهم على محبته فكان من فساد الأمر واضطرابه عليه حتى كان ما كان وليس ذلك يعيب على أمير المؤمنين ع فإن الأمور إنما يعتمدها الإمام على حسب ما يظن فيها من المصلحة ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى . وقد ولى رسول الله ص في مؤتة جعفرا فقتل وولى زيدا فقتل وولى عبد الله بن رواحة فقتل وهزم الجيش وعاد من عاد منهم إلى المدينة بأسوإ حال فهل لأحد أن يعيب رسول الله ص بهذا ويطعن في تدبيره . ومنها قولهم إن جماعة من أصحابه ع فارقوه وصاروا إلى معاوية كعقيل بن أبي طالب أخيه والنجاشي شاعره ورقبة بن مصقلة أحد الوجوه من أصحابه ولو لا أنه
[ 250 ](1/2986)
كان يوحشهم ولا يستميلهم لم يفارقوه ويصيروا إلى عدوه وهذا يخالف حكم السياسة وما يجب من تألف قلوب الأصحاب والرعية . والجواب أنا أولا لا ننكر أن يكون كل من رغب في حطام الدنيا وزخرفها وأحب العاجل من ملاذها وزينتها يميل إلى معاوية الذي يبذل منها كل مطلوب ويسمح بكل مأمول ويطعم خراج مصر عمرو بن العاص ويضمن لذي الكلاع وحبيب بن مسلمة ما يوفي على الرجاء والاقتراح وعلي ع لا يعدل فيما هو أمين عليه من مال المسلمين عن قضية الشريعة وحكم الملة حتى يقول خالد بن معمر السدوسي لعلباء بن الهيثم وهو يحمله على مفارقة علي ع واللحاق بمعاوية اتق الله يا علباء في عشيرتك وانظر لنفسك ولرحمك ما ذا تؤمل عند رجل أردته على أن يزيد في عطاء الحسن والحسين دريهمات يسيرة ريثما يرأبان بها ظلف عيشهما فأبى وغضب فلم يفعل . فأما عقيل فالصحيح الذي اجتمع ثقات الرواة عليه أنه لم يجتمع مع معاوية إلا بعد وفاة أمير المؤمنين ع ولكنه لازم المدينة ولم يحضر حرب الجمل وصفين وكان ذلك بإذن أمير المؤمنين ع وقد كتب عقيل إليه بعد الحكمين يستأذنه في القدوم عليه الكوفة بولده وبقية أهله فأمره ع بالمقام وقد روي في خبر مشهور أن معاوية وبخ سعيد بن العاص على تأخيره عنه في صفين فقال سعيد لو دعوتني لوجدتني قريبا ولكني جلست مجلس عقيل وغيره من بني هاشم ولو أوعبنا لأوعبوا . وأما النجاشي فإنه شرب الخمر في شهر رمضان فأقام علي ع الحد عليه
[ 251 ](1/2987)
و زاده عشرين جلدة فقال النجاشي ما هذه العلاوة قال لجرأتك على الله في شهر رمضان فهرب النجاشي إلى معاوية . وأما رقبة بن مصقلة فإنه ابتاع سبي بني ناجية وأعتقهم وألط بالمال وهرب إلى معاوية فقال ع فعل فعل السادة وأبق إباق العبيد وليس تعطيل الحدود وإباحة حكم الدين وإضاعة مال المسلمين من التألف والسياسة لمن يريد وجه الله تعالى والتلزم بالدين ولا يظن بعلي ع التساهل والتسامح في صغير من ذلك ولا كبير . ومنها شبهة الخوارج وهي التحكيم وقد يحتج به على أنه اعتمد ما لا يجوز في الشرع وقد يحتج به على أنه اعتمد ما ليس بصواب في تدبير الأمر أما الأول فقولهم إنه حكم الرجال في دين الله والله سبحانه يقول إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ وأما الثاني فقولهم إنه كان قد لاح له النصر وظهرت أمارات الظفر بمعاوية ولم يبق إلا أن يأخذ برقبته فترك التصميم على ذلك وأخلد إلى التحكيم وربما قالوا إن تحكيمه يدل على شك منه في أمره وربما قالوا كيف رضي بحكومة أبي موسى وهو فاسق عنده بتثبيطه أهل الكوفة عنه في حرب البصرة وكيف رضي بتحكيم عمرو بن العاص وهو أفسق الفاسقين . والجواب أما تحكيم الرجال في الدين فليس بمحظور فقد أمر الله تعالى بالتحكيم بين المرأة وزوجها فقال وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً
[ 252 ](1/2988)
مِنْ أَهْلِها وقال في جزاء الصيد يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ . وأما قولهم كيف ترك التصميم بعد ظهور أمارات النصر فقد تواتر الخبر بأن أصحابه لما رفع أهل الشام المصاحف عند ظهور أهل العراق عليهم ومشارفة هلاك معاوية وأصحابه انخدعوا برفع المصاحف وقالوا لا يحل لنا التصميم على حربهم ولا يجوز لنا إلا وضع السلاح ورفع الحرب والرجوع إلى المصاحف وحكمها فقال لهم إنها خديعة وإنها كلمة حق يراد بها باطل وأمرهم بالصبر ولو ساعة واحدة فأبوا ذلك وقالوا أرسل إلى الأشتر فليعد فأرسل إليه فقال كيف أعود وقد لاحت أمارات النصر والظفر فقالوا له ابعث إليه مرة أخرى فبعث إليه فأعاد الجواب بنحو قوله الأول وسأل أن يمهل ساعة من النهار فقالوا إن بينك وبينه وصية ألا يقبل فإن لم تبعث إليه من يعيده وإلا قتلناك بسيوفنا كما قتلنا عثمان أو قبضنا عليك وأسلمناك إلى معاوية فعاد الرسول إلى الأشتر فقال أ تحب أن تظفر أنت هاهنا وتكسر جنود الشام ويقتل أمير المؤمنين ع في مضربه قال أ وقد فعلوها لا بارك الله فيهم أ بعد أن أخذت بمخنق معاوية ورأى الموت عيانا أرجع ثم عاد فشتم أهل العراق وسبهم وقال لهم وقالوا له ما هو منقول مشهور وقد ذكرنا الكثير منه فيما تقدم . فإذا كانت الحال وقعت هكذا فأي تقصير وقع من أمير المؤمنين ع وهل ينسب المغلوب على أمره المقهور على رأيه إلى تقصير أو فساد تدبير . وبهذا نجيب عن قولهم إن التحكيم يدل على الشك في أمره لأنه إنما يدل على ذلك لو ابتدأ هو به فأما إذا دعاه إلى ذلك غيره واستجاب إليه أصحابه فمنعهم وأمرهم
[ 253 ](1/2989)
أن يمروا على وتيرتهم وشأنهم فلم يفعلوا وبين لهم أنها مكيدة فلم يتبينوا وخاف أن يقتل أو يسلم إلى عدوه فإنه لا يدل تحكيمه على شكه بل يدل على أنه قد دفع بذلك ضررا عظيما عن نفسه ورجا أن يحكم الحكمان بالكتاب فتزول الشبهة عمن طلب التحكيم من أصحابه . وأما تحكيمه عمرا مع ظهور فسقه فإنه لم يرض به وإنما رضي به مخالفه وكرهه هو فلم يقبل منه وقد قيل إنه أجاب ابن عباس رحمه الله عن هذا فقال للخوارج أ ليس قد قال الله تعالى فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها أ رأيتم لو كانت المرأة يهودية فبعثت حكما من أهلها أ كنا نسخط ذلك . وأما أبو موسى فقد كرهه أمير المؤمنين ع وأراد أن يجعل بدله عبد الله بن عباس فقال أصحابه لا يكون الحكمان من مضر فقال فالأشتر فقالوا وهل أضرم النار إلا الأشتر وهل جر ما ترى إلا حكومة الأشتر ولكن أبا موسى فأباه فلم يقبلوا منه وأثنوا عليه وقالوا لا نرضى إلا به فحكمه على مضض . ومنها قولهم ترك الرأي لما دعاه العباس وقت وفاة الرسول ص إلى البيعة وقال له امدد يدك أبايعك فيقول الناس عم رسول الله ص بايع ابن عمه فلا يختلف عليك اثنان فلم يفعل وقال وهل يطمع فيها طامع غيري فما راعه إلا الضوضاء واللغط في باب الدار يقولون قد بويع أبو بكر بن أبي قحافة . الجواب أن صواب الرأي وفساده فيما يرجع إلى مثل هذه الواقعة يستندان إلى
[ 254 ](1/2990)
ما قد كان غلب على الظن ولا ريب أنه ع لم يغلب على ظنه أن أحدا يستأثر عليه بالخلافة لأحوال قد كان مهدها له رسول الله ص وما توهم إلا أنه ينتظر ويرتقب خروجه من البيت وحضوره ولعله قد كان يخطر له أنه إما أن يكون هو الخليفة أو يشاور في الخلافة إلى من يفوض وما كان يتوهم أنه يجري الأمر على ما جرى من الفلتة عند ثوران تلك الفتنة ولا يشاور هو ولا العباس ولا أحد من بني هاشم وإنما كان يكون تدبيره فاسدا لو كان يحاذر خروج الأمر عنه ويتوهم ذلك ويغلب على ظنه إن لم يبادر تحصيله بالبيعة المعجلة في الدار من وراء الأبواب والأغلاق وإلا فاته ثم يهمل ذلك ولا يفعله وقد صرح هو بما عنده فقال وهل يطمع فيها طامع غيري ثم قال إني أكره البيعة هاهنا وأحب أن أصحر بها فبين أنه يستهجن أن يبايع سرا خلف الحجب والجدران ويحب أن يبايع جهرة بمحضر من الناس كما قال حيث طلبوا منه بعد قتل عثمان أن يبايعهم في داره فقال لا بل في المسجد ولا يعلم ولا خطر له ما في ضمير الأيام وما يحدث الوقت من وقوع ما لا يتوهم العقلاء وأرباب الأفكار وقوعه . ومنها قولهم إنه قصر في طلب الخلافة عند بيعة أبي بكر وقد كان اجتمع له من بني هاشم وبني أمية وغيرهم من أفناء الناس من يتمكن بهم من المنازعة وطلب الخلافة فقصر عن ذلك لا جبنا لأنه كان أشجع البشر ولكن قصور تدبير وضعف رأي ولهذا أكفرته الكاملية وأكفرت الصحابة فقالوا كفرت الصحابة لتركهم بيعته وكفر هو بترك المنازعة لهم .
[ 255 ](1/2991)
و الجواب أما على مذهبنا فإنه لم يكن ع منصوصا عليه وإنما كان يدعيها بالأفضلية والقرابة والسابقة والجهاد ونحو ذلك من الخصائص فلما وقعت بيعة أبي بكر رأى هو علي ع أن الأصلح للإسلام ترك النزاع وأنه يخاف من النزاع حدوث فتنة تحل معاقد الملة وتزعزع أركانها فحضر وبايع طوعا ووجب علينا بعد مبايعته ورضاه أن نرضى بمن رضي هو ع ونطيع من أطاعه لأنه القدوة وأفضل من تركه ص بعده . وأما الإمامية فلهم عن ذلك جواب آخر معروف من قواعدهم . ومنها قولهم إنه قصر في الرأي حيث دخل في الشورى لأنه جعل نفسه بدخوله فيها نظيرا لعثمان وغيره من الخمسة وقد كان الله تعالى رفعه عنهم وعلى من كان قبلهم فوهن بذلك قدره وطأطأ من جلالته أ لا ترى أنه يستهجن ويقبح من أبي حنيفة والشافعي رحمهما الله أن يجعلا أنفسهما نظراء لبعض من بدأ طرفا من الفقه ويستهجن ويقبح من سيبويه والأخفش أن يوازيا أنفسهما بمن يعلم أبوابا يسيرة من النحو . الجواب أنه ع وإن كان أفضل من أصحاب الشورى فإنه كان يظن أن ولي الأمر أحدهم بعد عمر لا يسير سيرة صالحة وأن تضطرب بعض أمور الإسلام وقد كان يثني على سيرة عمر ويحمدها فواجب عليه بمقتضى ظنه أن يدخل معهم فيما أدخله عمر فيه توقعا لأن يفضي الأمر إليه فيعمل بالكتاب والسنة ويحيي معالم رسول الله ص وليس اعتماد ما يقتضيه الشرع مما يوجب نقصا في الرأي فلا تدبير أصح ولا أسد من تدبير الشرع .
[ 256 ](1/2992)
و منها قولهم إنه ما أصاب حيث أقام بالمدينة وعثمان محصور وقد كان يجب في الرأي أن يخرج عنها بحيث لا تنوط بنو أمية به دم عثمان فإنه لو كان بعيدا عن المدينة لكان من قذفهم إياه بذلك أبعد وعنه أنزه . والجواب أنه لم يكن يخطر له مع براءته من دم عثمان أن أهل الفساد من بني أمية يرمونه بأمره والغيب لا يعلمه إلا الله وكان يرى مقامه بالمدينة أدعى إلى انتصار عثمان على المحاصرين له فقد حضر هو بنفسه مرارا وطرد الناس عنه وأنفذ إليه ولديه وابن أخيه عبد الله ولو لا حضور علي ع بالمدينة لقتل عثمان قبل أن يقتل بمدة وما تراخي أمره وتأخر قتله إلا لمراقبة الناس له حيث شاهدوه ينتصر له ويحامي عنه . ومنها قولهم كان يجب في مقتضى الرأي حيث قتل عثمان أن يغلق بابه ويمنع الناس من الدخول إليه فإن العرب كانت تضطرب اضطرابة ثم تئول إليه لأنه تعين للأمر بحكم الحال الحاضرة فلم يفعل وفتح بابه وترشح للأمر وبسط له يده فلذلك انتقضت عليه العرب من أقطارها . والجواب أنه ع كان يرى أن القيام بالأمر يومئذ فرض عليه لا يجوز له الإخلال به لعدم من يصلح في ظنه للخلافة فما كان يجوز له أن يغلق بابه ويمتنع وما الذي كان يومئذ أن يبايع الناس طلحة أو الزبير أو غيرهما ممن لا يراه أهلا للأمر فقد كان عبد الله بن الزبير يومئذ يزعم أن عثمان عهد إليه بالخلافة وهو محصور وكان مروان يطمع أن ينحاز إلى طرف من الأطراف فيخطب لنفسه بالخلافة وله من بني أمية شيعة وأصحاب بشبهة أنه ابن عم عثمان وأنه كان يدبر أمر الخلافة على عهده وكان معاوية يرجو أن ينال الخلافة لأنه من بني أمية وابن عم عثمان وأمير الشام عشرين سنة وقد كان قوم من بني أمية يتعصبون لأولاد عثمان المقتول ويرومون إعادة الخلافة فيهم
[ 257 ](1/2993)
و ما كان يسوغ لعلي ع في الدين إذا طلبه المسلمون للخلافة أن يمتنع عنها ويعلم أنها ستصير إذا امتنع إلى هؤلاء فلذلك فتح بابه وامتنع امتناع من يحاول أن يعلم ما في قلوب الناس هل لرغبتهم إليه حقيقة أم لا فلما رأى منهم التصميم وافق لوجوب الموافقة عليه و
قد قال في خطبته لو لا حضور الحاضر ووجوب الحجة بوجود الناصر . . . لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها وهذا تصريح بما قلناه . ومنها قولهم هلا إذ ملك شريعة الفرات على معاوية بعد أن كان معاوية ملكها عليه ومنعه وأهل العراق منها منع معاوية وأهل الشام منها فكان يأخذهم قبضا بالأيدي فإنه لم يصبر على منعهم عن الماء بل فسح لهم في الورود وهذا يخالف ما يقتضيه تدبير الحرب . الجواب أنه ع لم يكن يستحل ما استحله معاوية من تعذيب البشر بالعطش فإن الله تعالى ما أمر في أحد من العصاة الذين أباح دماءهم بذلك ولا فسح فيه في نحو القصاص أو حد الزاني المحصن أو قتل قاطع الطريق أو قتال البغاة والخوارج وما كان أمير المؤمنين ممن يترك حكم الله وشريعته ويعتمد ما هو محرم فيها لأجل الغلبة والقهر والظفر بالعدو ولذلك لم يكن يستحل البيات ولا الغدر ولا النكث وأيضا فمن الجائز أن يكون ع غلب على ظنه أن أهل الشام إن منعوا من الماء كان ذلك أدعى لهم إلى الحملات الشديدة المنكرة على عسكره وأن يضعوا فيهم السيوف فيأتوا عليهم ويكسروهم بشدة حنقهم وقوة داعيهم إلى ورود الماء فإن ذلك من أشد الدواعي إلى أن يستميت القوم ويستقتلوا ومن الذي يقف بين يدي جيش عظيم عرمرم قد اشتد بهم العطش وهم يرون الماء كبطون الحيات لا يحول بينهم وبينه
[ 258 ](1/2994)
إلا قوم مثلهم بل أقل منهم عدة وأضعف عدة ولذلك لما حال معاوية بين أهل العراق وبين الماء وقال لأمنعنهم وروده فأقتلهم بشفار الظمأ قال له عمرو بن العاص خل بين القوم وبين الماء فليسوا ممن يرى الماء ويصبر عنه فقال لا والله لا أخلي لهم عنه فسفه رأيه وقال أ تظن أن ابن أبي طالب وأهل العراق يموتون بإزائك عطشا والماء بمقعد الأزر وسيوفهم في أيديهم فلج معاوية وقال لا أسقيهم قطرة كما قتلوا عثمان عطشا فلما مس أهل العراق العطش أشار علي ع إلى الأشعث أن احمل وإلى الأشتر أن احمل فحملا بمن معهما فضربا أهل الشام ضربا أشاب الوليد وفر معاوية ومن رأى رأيه وتابعه على قوله عن الماء كما تفر الغنم خالطتها السباع وكان قصارى أمره ومنتهى همته أن يحفظ رأسه وينجو بنفسه وملك أهل العراق عليهم الماء ودفعوهم عنه فصاروا في البر القفر وصار علي ع وأصحابه على شريعة الفرات مالكين لها فما الذي كان يؤمن عليا ع لو أعطش القوم أن يذوق هو وأصحابه منهم مثل ما أذاقهم وهل بعد الموت بالعطش أمر يخافه الإنسان وهل يبقى له ملجأ إلا السيف يحمل به فيضرب خصمه إلى أن يقتل أحدهما . ومنها قولهم أخطأ حيث محا اسمه بالخلافة من صحيفة الحكومة فإن ذلك مما وهنه عند أهل العراق وقوى الشبهة في نفوس أهل الشام . والجواب أنه ع احتذى في ذلك لما دعي إليه واقترحه الخصم عليه فعل رسول الله ص في صحيفة الحديبية حيث محا اسمه من النبوة لما قال له سهيل بن عمرو لو علمنا أنك رسول الله لما حاربناك ولا منعناك عن البيت وقد قال له ص وهو يومئذ كاتب تلك الصحيفة ستدعى إلى مثلها فتجيب وهذا من أعلام نبوته ص ومن دلائل صدقه ومثله جرى له حذو القذة بالقذة .
[ 259 ](1/2995)
و منها قولهم إنه كان غير مصيب في ترك الاحتراس فقد كان يعلم كثرة أعدائه ولم يكن يحترس منهم وكان يخرج ليلا في قميص ورداء وحده حتى كمن له ابن ملجم في المسجد فقتله ولو كان احترس وحفظ نفسه ولم يخرج إلا في جماعة ولو خرج ليلا كانت معه أضواء وشرطة لم يوصل إليه . والجواب أن هذا إن كان قادحا في السياسة والتدبير فليكن قادحا في تدبير عمر وسياسته وهو عند الناس في الطبقة العليا في السياسة وصحة التدبير وليكن قادحا في تدبير معاوية فقد ضربه الخارجي بالسيف ليلة ضرب أمير المؤمنين ع فجرحه ولم يأت على نفسه ومعاوية عند هؤلاء سديد التدبير وليكن قادحا في صحة تدبير رسول الله ص فقد كان يخرج وحده في المدينة ليلا ونهارا مع كثرة أعدائه وقد كان يأكل ما دعي إليه ولا يحترس حتى أكل من يهودية شاة مشوية قد سمته فيها فمرض وخيف عليه التلف ولما برأ لم تزل تنتقض عليه حتى مات منها و
قال عند موته إني ميت من تلك الأكلة ولم تكن العرب في ذلك الزمان تحترس ولا تعرف الغيلة والفتك وكان ذلك عندهم قبيحا يعير به فاعله لأن الشجاعة غير ذلك والغيلة فعل العجزة من الرجال ولأن عليا ع كانت هيبته قد تمكنت في صدور الناس فلم يكن يظن أن أحدا يقدم عليه غيلة أو مبارزة في حرب فقد كان بلغ من الذكر بالشجاعة مبلغا عظيما لم يبلغه أحد من الناس لا من تقدم ولا من تأخر حتى كانت أبطال العرب تفزع باسمه أ لا ترى إلى عمرو بن معديكرب وهو شجاع العرب الذي تضرب به الأمثال كتب إليه عمر بن الخطاب في أمر أنكره عليه وغدر تخوفه منه أما والله لئن أقمت على ما أنت عليه لأبعثن إليك رجلا تستصغر معه نفسك يضع سيفه على هامتك فيخرجه من بين فخذيك فقال عمرو لما وقف على الكتاب هددني بعلي والله ولهذا قال شبيب بن بجرة لابن ملجم لما رآه يشد الحرير على بطنه وصدره ويلك ما تريد
[ 260 ](1/2996)
أن تصنع قال أقتل عليا قال هبلتك الهبول لقد جئت شيئا إدا كيف تقدر على ذلك فاستبعد أن يتم لابن ملجم ما عزم عليه ورآه مراما وعرا والأمر في هذا وأمثاله مسند إلى غلبات الظنون فمن غلبت على ظنه السلامة مع الاسترسال لم يجب عليه الاحتراس وإنما يجب الاحتراس على من يغلب على ظنه العطب إن لم يحترس . فقد بان بما أوضحناه فساد قول من قال إن تدبيره ع وسياسته لم تكن صالحة وبان أنه أصح الناس تدبيرا وأحسنهم سياسة وإنما الهوى والعصبية لا حيلة فيهما
[ 261 ](1/2997)
194 ـ ومن كلام له ع
أَيُّهَا اَلنَّاسُ لاَ تَسْتَوْحِشُوا فِي طَرِيقِ اَلْهُدَى لِقِلَّةِ أَهْلِهِ فَإِنَّ اَلنَّاسَ اِجْتَمَعُوا عَلَى مَائِدَةٍ شِبَعُهَا قَصِيرٌ وَ جُوعُهَا طَوِيلٌ أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّمَا يَجْمَعُ اَلنَّاسَ اَلرِّضَا وَ اَلسُّخْطُ وَ إِنَّمَا عَقَرَ نَاقَةَ ثَمُودَ رَجُلٌ وَاحِدٌ فَعَمَّهُمُ اَللَّهُ بِالْعَذَابِ لَمَّا عَمُّوهُ بِالرِّضَا فَقَالَ سُبْحَانَهُ فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ فَمَا كَانَ إِلاَّ أَنْ خَارَتْ أَرْضُهُمْ بِالْخَسْفَةِ خُوَارَ اَلسِّكَّةِ اَلْمُحْمَاةِ فِي اَلْأَرْضِ اَلْخَوَّارَةِ أَيُّهَا اَلنَّاسُ مَنْ سَلَكَ اَلطَّرِيقَ اَلْوَاضِحَ وَرَدَ اَلْمَاءَ وَ مَنْ خَالَفَ وَقَعَ فِي اَلتِّيهِ الاستيحاش ضد الاستئناس وكثيرا ما يحدثه التوحد وعدم الرفيق فنهى ع عن الاستيحاش في طريق الهدى لأجل قلة أهله فإن المهتدي ينبغي أن يأنس بالهداية فلا وحشة مع الحق . وعنى بالمائدة الدنيا لذتها قليلة ونغصتها كثيرة والوجود فيها زمان قصير جدا والعدم عنها زمان طويل جدا . ثم قال ليست العقوبة لمن اجترم ذلك الجرم بعينه بل لمن اجترمه ومن رضي به وإن لم يباشره بنفسه فإن عاقر ناقة صالح إنما كان إنسانا واحدا فعم الله ثمود بالسخط
[ 262 ]
لما كانوا راضين بذلك الفعل كلهم واسم كان مضمر فيها أي ما كان الانتقام منهم إلا كذا . وخارت أرضهم بالخسفة صوتت كما يخور الثور وشبه ع ذلك بصوت السكة المحماة في الأرض الخوارة وهي اللينة وإنما جعلها محماة لتكون أبلغ في ذهابها في الأرض و(1/2998)
من كلامه ع يوم خيبر يقوله لرسول الله ص وقد بعثه بالراية أكون في أمرك كالسكة المحماة في الأرض أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب فقال له بل يرى الشاهد ما لا يرى الغائب . وقال له أيضا هذه اللفظة لما بعثه في شأن مارية القبطية وما كانت اتهمت به من أمر الأسود القبطي ولهذا علة في العلم الطبيعي وذلك أن السكة المحماة تخرق الأرض بشيئين أحدهما تحدد رأسها والثاني حرارته فإن الجسم المحدد الحار إذا اعتمد عليه في الأرض اقتضت الحرارة إعانة ذلك الطرف المحدد على النفوذ بتحليلها ما تلاقي من صلابة الأرض لأن شأن الحرارة التحليل فيكون غوص ذلك الجسم المحدد في الأرض أوحى وأسهل . والتيه المفازة يتحير سالكها(1/2999)
قصة صالح وثمود
قال المفسرون إن عادا لما أهلكت عمرت ثمود بلادها وخلفوهم في الأرض وكثروا وعمروا أعمارا طوالا حتى إن الرجل كان يبني المسكن المحكم فينهدم في حياته فنحتوا البيوت في الجبال وكانوا في سعة ورخاء من العيش فعتوا على الله وأفسدوا في الأرض وعبدوا الأوثان فبعث الله إليهم صالحا وكانوا قوما عربا وصالح من أوسطهم
[ 263 ]
نسبا فما آمن به إلا قليل منهم مستضعفون فحذرهم وأنذرهم فسألوه آية فقال أية آية تريدون قالوا تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلوم لهم من السنة فتدعو إلهك وندعو إلهنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا . قال نعم فخرج معهم ودعوا أوثانهم وسألوها الاستجابة فلم تجب فقال سيدهم جندع بن عمرو وأشار إلى صخرة منفردة في ناحية الجبل يسمونها الكاثبة أخرج لنا في هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء والمخترجة التي شاكلت البخت فإن فعلت صدقناك وأجبناك . فأخذ عليهم المواثيق لئن فعلت ذلك لتؤمنن ولتصدقن قالوا نعم فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله وعظماؤهم ينظرون ثم نتجت ولدا مثلها في العظم فآمن به جندع ورهط من قومه ومنع أعقابهم ناس من رءوسهم أن يؤمنوا فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر وتشرب الماء وكانت ترد غبا فإذا كان يومها وضعت رأسها في البئر فما ترفعه حتى تشرب كل ماء فيها ثم تتفجح فيحتلبون ما شاءوا حتى تمتلئ أوانيهم فيشربون ويدخرون فإذا وقع الحر تصيفت بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم فتهبط إلى بطنه وإذا وقع البرد تشتت ببطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى ظهره فشق ذلك عليهم وزينت عقرها لهم امرأتان عنيزة أم غنم وصدفة بنت المختار لما أضرت به من مواشيهما وكانتا كثيرتي المواشي فعقروها عقرها قدار الأحمر واقتسموا لحمها وطبخوه .
[ 264 ](1/3000)
فانطلق سقبها حتى رقي جبلا اسمه قارة فرغا ثلاثا وكان صالح قال لهم أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب فلم يقدروا عليه وانفجت الصخرة بعد رغائه فدخلها فقال لهم صالح تصبحون غدا ووجوهكم مصفرة وبعد غد وجوهكم محمرة واليوم الثالث وجوهكم مسودة ثم يغشاكم العذاب . فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه فأنجاه الله سبحانه إلى أرض فلسطين فلما كان اليوم الرابع وارتفعت الضحوة تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم صيحة من السماء وخسف شديد وزلزال فتقطعت قلوبهم فهلكوا . و
قد جاء في الحديث أن رسول الله ص مر بالحجر في غزوة تبوك فقال لأصحابه لا يدخلن أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تمروا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم و
روى المحدثون أن النبي ص قال لعلي ع أ تدري من أشقى الأولين قال نعم عاقر ناقة صالح قال أ فتدري من أشقى الآخرين قال الله ورسوله أعلم قال من يضربك على هذه حتى تخضب هذه
[ 265 ](1/3001)
195 ـ ومن كلام له ع
روي عنه : أَنَّهُ قَالَهُ عِنْدَ دَفْنِ سَيِّدَةِ اَلنِّسَاءِ فَاطِمَةَ ع كَالْمُنَاجِي بِهِ رَسُولَ اَللَّهِ ص عِنْدَ قَبْرِهِ اَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ عَنِّي وَ عَنِ اِبْنَتِكَ اَلنَّازِلَةِ فِي جِوَارِكَ وَ اَلسَّرِيعَةِ اَللَّحَاقِ بِكَ قَلَّ يَا رَسُولَ اَللَّهِ عَنْ صَفِيَّتِكَ صَبْرِي وَ رَقَّ عَنْهَا تَجَلُّدِي إِلاَّ أَنَّ فِي اَلتَّأَسِّي لِي بِعَظِيمِ فُرْقَتِكَ وَ فَادِحِ مُصِيبَتِكَ مَوْضِعَ تَعَزٍّ فَلَقَدْ وَسَّدْتُكَ فِي مَلْحُودَةِ قَبْرِكَ وَ فَاضَتْ بَيْنَ نَحْرِي وَ صَدْرِي نَفْسُكَ فَإِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ فَلَقَدِ اُسْتُرْجِعَتِ اَلْوَدِيعَةُ وَ أُخِذَتِ اَلرَّهِينَةُ أَمَّا حُزْنِي فَسَرْمَدٌ وَ أَمَّا لَيْلِي فَمُسَهَّدٌ إِلَى أَنْ يَخْتَارَ اَللَّهُ لِي دَارَكَ اَلَّتِي أَنْتَ بِهَا مُقِيمٌ وَ سَتُنَبِّئُكَ اِبْنَتُكَ بِتَضَافُرِ أُمَّتِكَ عَلَى هَضْمِهَا فَأَحْفِهَا اَلسُّؤَالَ وَ اِسْتَخْبِرْهَا اَلْحَالَ هَذَا وَ لَمْ يَطُلِ اَلْعَهْدُ وَ لَمْ يَخْلُ مِنْكَ اَلذِّكْرُ وَ اَلسَّلاَمُ عَلَيْكُمَا سَلاَمَ مُوَدِّعٍ لاَ قَالٍ وَ لاَ سَئِمٍ فَإِنْ أَنْصَرِفْ فَلاَ عَنْ مَلاَلَةٍ وَ إِنْ أُقِمْ فَلاَ عَنْ سُوءِ ظَنٍّ بِمَا وَعَدَ اَللَّهُ اَلصَّابِرِينَ أما قول الرضي رحمه الله عند دفن سيدة النساء فلأنه
قد تواتر الخبر عنه ص أنه قال فاطمة سيدة نساء العالمين إما هذا اللفظ بعينه أو لفظ يؤدي هذا
[ 266 ]
المعنى
روي أنه قال وقد رآها تبكي عند موته أ لا ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأمة و
روي أنه قال سادات نساء العالمين أربع خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية بنت مزاحم ومريم بنت عمران . قوله ع وسريعة اللحاق بك(1/3002)
جاء في الحديث أنه رآها تبكي عند موته فأسر إليها أنت أسرع أهلي لحوقا بي فضحكت . قوله عن صفيتك أجله ص عن أن يقول عن ابنتك فقال صفيتك وهذا من لطيف عبارته ومحاسن كنايته يقول ع ضعف جلدي وصبري عن فراقها لكني أتأسى بفراقي لك فأقول كل عظيم بعد فراقك جلل وكل خطب بعد موتك يسير . ثم ذكر حاله معه وقت انتقاله ص إلى جوار ربه فقال لقد وسدتك في ملحودة قبرك أي في الجهة المشقوقة من قبرك واللحد الشق في جانب القبر وجاء بضم اللام في لغة غير مشهورة . قال وفاضت بين نحري وصدري نفسك يروى أنه ص قذف دما يسيرا وقت موته ومن قال بهذا القول زعم أن مرضه كان ذات الجنب وأن القرحة التي كانت في الغشاء المستبطن للأضلاع انفجرت في تلك الحال وكانت فيها نفسه ص وذهب قوم إلى أن مرضه إنما كان الحمى والسرسام الحار وأن أهل داره ظنوا أن به ذات الجنب فلدوه وهو مغمى عليه وكانت العرب تداوي باللدود من به ذات الجنب فلما أفاق علم أنهم قد لدوه فقال لم يكن الله ليسلطها علي لدوا كل من في الدار فجعل بعضهم يلد بعضا .
[ 267 ]
و احتج الذاهبون إلى أن مرضه كان ذات الجنب بما روي من انتصابه وتعذر الاضطجاع والنوم عليه
قال سلمان الفارسي دخلت عليه صبيحة يوم قبل اليوم الذي مات فيه فقال لي يا سلمان أ لا تسأل عما كابدته الليلة من الألم والسهر أنا وعلي فقلت يا رسول الله أ لا أسهر الليلة معك بدله فقال لا هو أحق بذلك منك . وزعم آخرون أن مرضه كان أثرا لأكلة السم التي أكلها ع واحتجوا(1/3003)
بقوله ص ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان قطعت أبهري . ومن لم يذهب إلى ذات الجنب فأولوا قول علي ع فاضت بين نحري وصدري نفسك فقالوا أراد بذلك آخر الأنفاس التي يخرجها الميت ولا يستطيع إدخال الهواء إلى الرئة عوضا عنها ولا بد لكل ميت من نفخة تكون آخر حركاته . ويقول قوم إنها الروح وعبر علي ع عنها بالنفس لما كانت العرب لا ترى بين الروح والنفس فرقا . واعلم أن الأخبار مختلفة في هذا المعنى فقد
روى كثير من المحدثين عن عائشة أنها قالت توفي رسول الله ص بين سحري ونحري . وروى كثير منهم هذا اللفظ عن علي ع أنه قال عن نفسه و
قال في رواية أخرى ففاضت نفسه في يدي فأمررتها على وجهي .
[ 268 ](1/3004)
و الله أعلم بحقيقة هذه الحال ولا يبعد عندي أن يصدق الخبران معا بأن يكون رسول الله ص وقت الوفاة مستندا إلى علي وعائشة جميعا فقد وقع الاتفاق على أنه مات وهو حاضر لموته وهو الذي كان يقلبه بعد موته وهو الذي كان يعلله ليالي مرضه فيجوز أن يكون مستندا إلى زوجته وابن عمه ومثل هذا لا يبعد وقوعه في زماننا هذا فكيف في ذلك الزمان الذي كان النساء فيه والرجال مختلطين لا يستتر البعض عن البعض . فإن قلت فكيف تعمل بآية الحجاب وما صح من استتار أزواج رسول الله ص عن الناس بعد نزولها . قلت قد وقع اتفاق المحدثين كلهم على أن العباس كان ملازما للرسول ص أيام مرضه في بيت عائشة وهذا لا ينكره أحد فعلى القاعدة التي كان العباس ملازمه ص كان علي ع ملازمه وذلك يكون بأحد الأمرين إما بأن نساءه لا يستترن من العباس وعلي لكونهما أهل الرجل وجزءا منه أو لعل النساء كن يختمرن بأخمرتهن ويخالطن الرجال فلا يرون وجوههن وما كانت عائشة وحدها في البيت عند موته بل كان نساؤه كلهن في البيت وكانت ابنته فاطمة عند رأسه ص . فأما حديث مرضه ص ووفاته فقد ذكرناه فيما تقدم . قوله إنا لله إلى آخره أي عبيده كما تقول هذا الشي ء لزيد أي يملكه . ثم عقب الاعتراف بالملكية بالإقرار بالرجعة والبعث وهذه الكلمة تقال عند المصيبة كما أدب الله تعالى خلقه وعباده . والوديعة والرهينة عبارة عن فاطمة ومن هذا الموضع أخذ ابن ثوابة الكاتب قوله عن قطر الندى بنت خمارويه بن أحمد بن طولون لما حملت من مصر إلى المعتضد أحمد بن
[ 269 ](1/3005)
طلحة بن المتوكل وقد وصلت الوديعة سالمة والله المحمود وكيف يوصي الناظر بنوره أم كيف يحض القلب على حفظ سروره . وأخذ الصابي هذه اللفظة أيضا فكتب عن عز الدولة بختيار بن بويه إلى عدة الدولة أبي تغلب بن حمدان وقد نقل إليه ابنته قد وجهت الوديعة يا سيدي وإنما تقلب من وطن إلى سكن ومن مغرس إلى مغرس ومن مأوى بر وانعطاف إلى مثوى كرامة وألطاف . فأما الرهينة فهي المرتهنة يقال للمذكر هذا رهين عندي على كذا وللأنثى هذه رهينة عندي على كذا كأنها ع كانت عنده عوضا من رؤية رسول الله ص كما تكون الرهينة عوضا عن الأمر الذي أخذت رهينة عليه . ثم ذكر ع أن حزنه دائم وأنه يسهر ليله ولا ينام إلى أن يلتحق برسول الله ص ويجاوره في الدار الآخرة وهذا من باب المبالغة كما يبالغ الخطباء والكتاب والشعراء في المعاني لأنه ع ما سهر منذ ماتت فاطمة ودام سهره إلى أن قتل ع وإنما سهر ليلة أو شهرا أو سنة ثم استمر مريره وارعوى رسنه فأما الحزن فإنه لم يزل حزينا إذا ذكرت فاطمة هكذا وردت الرواية عنه . قوله ع وستنبئك ابنتك أي ستعلمك . فأحفها السؤال أي استقص في مسألتها واستخبرها الحال أحفيت إحفاء في السؤال استقصيت وكذلك في الحجاج والمنازعة قال الحارث بن حلزة
إن إخواننا الأراقم يغلون
علينا في قيلهم إحفاء
و رجل حفي أي مستقص في السؤال .
[ 270 ]
و استخبرها الحال أي عن الحال فحذف الجار كقولك اخترت الرجال زيدا أي من الرجال أي سلها عما جرى بعدك من الاستبداد بعقد الأمر دون مشاورتنا ولا يدل هذا على وجود النص لأنه يجوز أن تكون الشكوى والتألم من إطراحهم وترك إدخالهم في المشاورة فإن ذلك مما تكرهه النفوس وتتألم منه وهجا الشاعر قوما فقال
و يقضى الأمر حين تغيب تيم
و لا يستأذنون وهم شهود(1/3006)
قوله هذا ولم يطل العهد ولم يخلق الذكر أي لم ينس . فإن قلت فما هذا الأمر الذي لم ينس ولم يخلق إن لم يكن هناك نص . قلت
قوله ص إني مخلف فيكم الثقلين و
قوله اللهم أدر الحق معه حيث دار وأمثال ذلك من النصوص الدالة على تعظيمه وتبجيله ومنزلته في الإسلام فهو ع كان يريد أن يؤخر عقد البيعة إلى أن يحضر ويستشار ويقع الوفاق بينه وبينهم على أن يكون العقد لواحد من المسلمين بموجبه إما له أو لأبي بكر أو لغيرهما ولم يكن ليليق أن يبرم الأمر وهو غير حاضر له مع جلالته في الإسلام وعظيم أثره وما ورد في حقه من وجوب موالاته والرجوع إلى قوله وفعله فهذا هو الذي كان ينقم ع ومنه كان يتألم ويطيل الشكوى وكان ذلك في موضعه وما أنكر إلا منكرا فأما النص فإنه لم يذكره ع ولا احتج به ولما طال الزمان صفح عن ذلك الاستبداد الذي وقع منهم وحضر عندهم فبايعهم وزال ما كان في نفسه .
[ 271 ]
فإن قلت فهل كان يسوغ لأبي بكر وقد رأى وثوب الأنصار على الأمر أن يؤخره إلى أن يخرج ع ويحضر المشورة . قلت إنه لم يلم أبا بكر بعينه وإنما تألم من استبداد الصحابة بالأمر دون حضوره ومشاورته ويجوز أن يكون أكثر تألمه وعتابه مصروفا إلى الأنصار الذين فتحوا باب الاستبداد والتغلب(1/3007)
ما رواه أبو حيان في حديث السقيفة
و روى القاضي أبو حامد أحمد بن بشير المروروذي العامري فيما حكاه عنه أبو حيان التوحيدي قال أبو حيان سمرنا عند القاضي أبي حامد ليلة ببغداد بدار ابن جيشان في شارع الماذيان فتصرف الحديث بنا كل متصرف وكان والله معنا مزيلا مخلطا عزيز الرواية لطيف الدراية له في كل جو متنفس وفي كل نار مقتبس فجرى حديث السقيفة وتنازع القوم الخلافة فركب كل منا فنا وقال قولا وعرض بشي ء ونزع إلى مذهب فقال أبو حامد هل فيكم من يحفظ رسالة أبي بكر إلى علي وجواب علي له ومبايعته إياه عقيب تلك الرسالة فقالت الجماعة لا والله فقال هي والله من درر الحقاق المصونة ومخبئات الصناديق في الخزائن المحوطة ومنذ حفظتها ما رويتها إلا للمهلبي في وزارته فكتبها عني في خلوة بيده وقال لا أعرف في الأرض رسالة
[ 272 ](1/3008)
أعقل منها ولا أبين وإنها لتدل على علم وحكم وفصاحة وفقاهة في دين ودهاء وبعد غور وشدة غوص . فقال له واحد من القوم أيها القاضي فلو أتممت المنة علينا بروايتها سمعناها ورويناه عنك فنحن أوعى لها من المهلبي وأوجب ذماما عليك . فقال هذه الرسالة رواها عيسى بن دأب عن صالح بن كيسان عن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير عن أبي عبيدة بن الجراح . قال أبو عبيدة لما استقامت الخلافة لأبي بكر بين المهاجرين والأنصار ولحظ بعين الوقار والهيبة بعد هنة كاد الشيطان بها يسر فدفع الله شرها وأدحض عسرها فركد كيدها وتيسر خيرها وقصم ظهر النفاق والفسق بين أهلها بلغ أبا بكر عن علي ع تلكؤ وشماس وتهمهم ونفاس فكره أن يتمادى الحال وتبدو له العورة وتنفرج ذات البين ويصير ذلك دريئة لجاهل مغرور أو عاقل ذي دهاء أو صاحب سلامة ضعيف القلب خوار العنان دعاني في خلوة فحضرته وعنده عمر وحده وكان عمر قبسا له وظهيرا معه يستضي ء بناره ويستملي من لسانه فقال لي يا أبا عبيدة ما أيمن ناصيتك وأبين الخير بين عارضيك لقد كنت مع رسول الله ص بالمكان المحوط والمحل المغبوط و
لقد قال فيك في يوم مشهود أبو عبيدة أمين هذه الأمة وطالما أعز الله الإسلام بك وأصلح ثلمة على يديك ولم تزل للدين ناصرا وللمؤمنين روحا ولأهلك ركنا ولإخوانك مردا قد أردتك
[ 273 ](1/3009)
لأمر له ما بعده خطره مخوف وصلاحه معروف ولئن لم يندمل جرحه بمسبارك ورفقك ولم تجب حيته برقيتك لقد وقع اليأس وأعضل البأس واحتيج بعدك إلى ما هو أمر من ذلك وأعلق وأعسر منه وأغلق والله أسأل تمامه بك ونظامه على يدك فتأت له يا أبا عبيدة وتلطف فيه وانصح لله ولرسوله ولهذه العصابة غير آل جهدا ولا قال حمدا والله كالئك وناصرك وهاديك ومبصرك . امض إلى علي واخفض جناحك له واغضض من صوتك عنده واعلم أنه سلالة أبي طالب ومكانه ممن فقدناه بالأمس مكانه وقل له البحر مغرقة والبر مفرقة والجو أكلف والليل أغلف والسماء جلواء والأرض صلعاء والصعود متعذر والهبوط متعسر والحق عطوف رءوف والباطل نسوف عصوف والعجب مقدحة الشر والضغن رائد البوار والتعريض شجار الفتنة والقحة مفتاح العداوة والشيطان متكئ على شماله باسط ليمينه نافج حضنيه لأهله ينتظر الشتات والفرقة ويدب بين الأمة بالشحناء والعداوة عنادا لله ولرسوله ولدينه يوسوس بالفجور ويدلي بالغرور ويمني أهل الشرور ويوحي إلى أوليائه بالباطل دأبا له منذ كان على عهد أبينا
[ 274 ](1/3010)
آدم وعادة منه منذ أهانه الله في سالف الدهر لا ينجى منه إلا بعض الناجذ على الحق وغض الطرف عن الباطل ووطء هامة عدو الله والدين بالأشد فالأشد والأجد فالأجد وإسلام النفس لله فيما حاز رضاه وجنب سخطه . ولا بد من قول ينفع إذ قد أضر السكوت وخيف غبه ولقد أرشدك من أفاء ضالتك وصافاك من أحيا مودته لك بعتابك وأراد الخير بك من آثر البقيا معك . ما هذا الذي تسول لك نفسك ويدوى به قلبك ويلتوي عليه رأيك ويتخاوص دونه طرفك ويستشري به ضغنك ويتراد معه نفسك وتكثر لأجله صعداؤك ولا يفيض به لسانك أ عجمة بعد إفصاح أ لبسا بعد إيضاح أ دينا غير دين الله أ خلقا غير خلق القرآن أ هديا غير هدي محمد أ مثلي يمشى له الضراء ويدب له الخمر أم مثلك يغص عليه الفضاء ويكسف في عينه القمر ما هذه القعقعة بالشنان والوعوعة باللسان إنك لجد عارف باستجابتنا لله ولرسوله وخروجنا من أوطاننا وأولادنا وأحبتنا هجرة إلى الله ونصرة لدينه في زمان أنت منه في كن الصبا وخدر الغرارة غافل تشبب وتربب لا تعي ما يشاد ويراد ولا تحصل ما يساق ويقاد سوى ما أنت جار عليه من أخلاق الصبيان أمثالك وسجايا الفتيان أشكالك حتى بلغت إلى غايتك هذه التي إليها أجريت وعندها حط رحلك غير مجهول القدر
[ 275 ](1/3011)
و لا مجحود الفضل ونحن في أثناء ذلك نعاني أحوالا تزيل الرواسي ونقاسي أهوالا تشيب النواصي خائضين غمارها راكبين تيارها نتجرع صلبها ونشرج عيابها ونحكم آساسها ونبرم أمراسها والعيون تحدج بالحسد والأنوف تعطس بالكبر والصدور تستعر بالغيظ والأعناق تتطاول بالفخر والأسنة تشحذ بالمكر والأرض تميد بالخوف لا ننتظر عند المساء صباحا ولا عند الصباح مساء ولا ندفع في نحر أمر إلا بعد أن نحسو الموت دونه ولا نبلغ إلى شي ء إلا بعد تجرع العذاب قبله ولا نقوم منآدا إلا بعد اليأس من الحياة عنده فأدين في كل ذلك رسول الله ص بالأب والأم والخال والعم والمال والنشب والسبد واللبد والهلة والبلة بطيب أنفس وقرة أعين ورحب أعطان وثبات عزائم وصحة عقول وطلاقة أوجه وذلاقة ألسن هذا إلى خبيئات أسرار ومكنونات أخبار كنت عنها غافلا ولو لا سنك لم تك عن شي ء منها ناكلا كيف وفؤادك مشهوم وعودك معجوم وغيبك مخبور والخير منك كثير فالآن قد بلغ الله بك وأرهص الخير لك وجعل مرادك بين يديك فاسمع ما أقول لك واقبل ما يعود قبوله عليك ودع التحبس والتعبس
[ 276 ](1/3012)
لمن لا يضلع لك إذا خطا ولا يتزحزح عنك إذا عطا فالأمر غض وفي النفوس مض وأنت أديم هذه الأمة فلا تحلم لجاجا وسيفها العضب فلا تنب اعوجاجا وماؤها العذب فلا تحل أجاجا والله لقد سألت رسول الله ص عن هذا لمن هو فقال هو لمن يرغب عنه لا لمن يجاحش عليه ولمن يتضاءل له لا لمن يشمخ إليه وهو لمن يقال له هو لك لا لمن يقول هو لي . ولقد شاورني رسول الله ص في الصهر فذكر فتيانا من قريش فقلت له أين أنت من علي فقال إني لأكره لفاطمة ميعة شبابه وحدة سنه فقلت متى كنفته يدك ورعته عينك حفت بهما البركة وأسبغت عليهما النعمة مع كلام كثير خطبت به رغبته فيك وما كنت عرفت منك في ذلك حوجاء ولا لوجاء ولكني قلت ما قلت وأنا أرى مكان غيرك وأجد رائحة سواك وكنت لك إذ ذاك خيرا منك الآن لي ولئن كان عرض بك رسول الله ص في هذا الأمر فقد كنى عن غيرك وإن قال فيك فما سكت عن سواك وإن اختلج في نفسك شي ء فهلم فالحكم مرضي والصواب مسموع والحق مطاع . ولقد نقل رسول الله ص إلى ما عند الله وهو عن هذه العصابة راض وعليها حدب يسره ما سرها ويكيده ما كادها ويرضيه ما أرضاها ويسخطه
[ 277 ](1/3013)
ما أسخطها أ لم تعلم أنه لم يدع أحدا من أصحابه وخلطائه وأقاربه وسجرائه إلا أبانه بفضيلة وخصه بمزية وأفرده بحالة لو أصفقت الأمة عليه لأجلها لكان عنده إيالتها وكفالتها . أ تظن أنه ع ترك الأمة سدى بددا عدا مباهل عباهل طلاحى مفتونة بالباطل ملوية عن الحق لا ذائد ولا رائد ولا ضابط ولا خابط ولا رابط ولا سافي ولا واقي ولا حادي ولا هادي كلا والله ما اشتاق إلى ربه ولا سأله المصير إلى رضوانه إلا بعد أن أقام الصوى وأوضح الهدى وأمن المهالك وحمى المطارح والمبارك وإلا بعد أن شدخ يافوخ الشرك بإذن الله وشرم وجه النفاق لوجه الله وجدع أنف الفتنة في دين الله وتفل في عين الشيطان بعون الله وصدع بمل ء فيه ويده بأمر الله . وبعد فهؤلاء المهاجرون والأنصار عندك ومعك في بقعة جامعة ودار واحدة إن استقادوا لك وأشاروا بك فأنا واضع يدي في يدك وصائر إلى رأيهم فيك وإن تكن الأخرى فادخل في صالح ما دخل فيه المسلمون وكن العون على مصالحهم والفاتح لمغالقهم والمرشد لضالهم والرادع لغاويهم فقد أمر الله بالتعاون على البر وأهاب إلى التناصر على الحق ودعنا نقض هذه الحياة الدنيا بصدور بريئة من الغل ونلقى الله بقلوب سليمة من الضغن .
[ 278 ](1/3014)
و إنما الناس ثمامة فارفق بهم واحن عليهم ولن لهم ولا تسول لك نفسك فرقتهم واختلاف كلمتهم واترك ناجم الشر حصيدا وطائر الحقد واقعا وباب الفتنة مغلقا لا قال ولا قيل ولا لوم ولا تعنيف ولا عتاب ولا تثريب والله على ما أقول وكيل وبما نحن عليه بصير . قال أبو عبيدة فلما تهيأت للنهوض قال لي عمر كن على الباب هنيهة فلي معك ذرو من الكلام فوقفت وما أدري ما كان بعدي إلا أنه لحقني بوجه يندى تهللا وقال لي قل لعلي الرقاد محلمة واللجاج ملحمة والهوى مقحمة وما منا أحد إلا له مقام معلوم وحق مشاع أو مقسوم وبناء ظاهر أو مكتوم وإن أكيس الكيسى من منح الشارد تألفا وقارب البعيد تلطفا ووزن كل أمر بميزانه ولم يجعل خبره كعيانه ولا قاس فتره بشبره دينا كان أو دنيا وضلالا كان أو هدى ولا خير في علم معتمل في جهل ولا في معرفة مشوبة بنكر
و لسنا كجلدة رفغ البعير
بين العجان وبين الذنب
و كل صال فبناره يصلى وكل سيل فإلى قراره يجرى وما كان سكوت هذه العصابة إلى هذه الغاية لعي وحصر ولا كلامها اليوم لفرق أو حذر فقد جدع الله بمحمد ع أنف كل متكبر وقصم به ظهر كل جبار وسل لسان كل كذوب فما ذا بعد الحق إلا الضلال . ما هذه الخنزوانة التي في فراش رأسك وما هذا الشجا المعترض في مدارج أنفاسك وما هذه الوحرة التي أكلت شراسيفك والقذاة التي أعشت ناظرك وما هذا الدحس
[ 279 ](1/3015)
و الدس اللذان يدلان على ضيق الباع وخور الطباع وما هذا الذي لبست بسببه جلد النمر واشتملت عليه بالشحناء والنكر لشد ما استسعيت لها وسريت سرى ابن أنقد إليها إن العوان لا تعلم الخمرة ما أحوج الفرعاء إلى فالية وما أفقر الصلعاء إلى حالية ولقد قبض رسول الله ص والأمر معبد مخيس ليس لأحد فيه ملمس لم يسير فيك قولا ولم يستنزل لك قرآنا ولم يجزم في شأنك حكما لسنا في كسروية كسرى ولا قيصرية قيصر تأمل إخوان فارس وأبناء الأصفر قد جعلهم الله جزرا لسيوفنا ودريئة لرماحنا ومرمى لطعاننا بل نحن في نور نبوة وضياء رسالة وثمرة حكمة وأثر رحمة وعنوان نعمة وظل عصمة بين أمة مهدية بالحق والصدق مأمونة على الرتق والفتق لها من الله تعالى قلب أبي وساعد قوي ويد ناصرة وعين ناظرة . أ تظن ظنا أن أبا بكر وثب على هذا الأمر مفتاتا على الأمة خادعا لها ومتسلطا عليها أ تراه امتلخ أحلامها وأزاغ أبصارها وحل عقودها وأحال عقولها واستل من صدورها حميتها وانتكث رشاءها وانتضب ماءها وأضلها عن هداها وساقها إلى رداها وجعل نهارها ليلا ووزنها كيلا ويقظتها رقادا وصلاحها فسادا إن كان هكذا إن سحره لمبين وإن كيده لمتين كلا والله بأي خيل ورجل وبأي سنان ونصل وبأي منة وقوة وبأي مال وعدة وبأي أيد وشدة وبأي عشيرة وأسرة وبأي قدرة ومكنة وبأي تدرع وبسطة لقد أصبح بما وسمته منيع الرقبة رفيع العتبة لا والله لكن سلا عنها فولهت نحوه وتطامن لها فالتفت به ومال عنها فمالت إليه واشمأز دونها فاشتملت عليه حبوة حباه الله بها وغاية بلغه الله إليها ونعمة سربله جمالها ويد لله أوجب عليه شكرها وأمة نظر الله به
[ 280 ](1/3016)
لها وطالما حلقت فوقه في أيام النبي ص وهو لا يلتفت لفتها ولا يرتصد وقتها والله أعلم بخلقه وأرأف بعباده يختار ما كان لهم الخيرة وإنك بحيث لا يجهل موضعك من بيت النبوة ومعدن الرسالة وكهف الحكمة ولا يجحد حقك فيما آتاك ربك من العلم ومنحك من الفقه في الدين هذا إلى مزايا خصصت بها وفضائل اشتملت عليها ولكن لك من يزاحمك بمنكب أضخم من منكبك وقربى أمس من قرباك وسن أعلى من سنك وشيبة أروع من شيبتك وسيادة معروفة في الإسلام والجاهلية ومواقف ليس لك فيها جمل ولا ناقة ولا تذكر فيها في مقدمة ولا ساقة ولا تضرب فيها بذراع ولا إصبع ولا تعد منها ببازل ولا هبع . إن أبا بكر كان حبة قلب رسول الله ص وعلاقة همه وعيبة سره ومثوى حزنه وراحة باله ومرمق طرفه شهرته مغنية عن الدلالة عليه . ولعمري إنك لأقرب منه إلى رسول الله ص قرابة ولكنه أقرب منك قربة والقرابة لحم ودم والقربة روح ونفس وهذا فرق يعرفه المؤمنون ولذلك صاروا إليه أجمعون . ومهما شككت فلا تشك في أن يد الله مع الجماعة ورضوانه لأهل الطاعة فادخل فيما هو خير لك اليوم وأنفع غدا والفظ من فيك ما هو متعلق بلهاتك وانفث
[ 281 ](1/3017)
سخيمة صدرك فإن يكن في الأمد طول وفي الأجل فسحة فستأكله مريئا أو غير مري ء وستشربه هنيئا أو غير هني ء حين لا راد لقولك إلا من كان آيسا منك ولا تابع لك إلا من كان طامعا فيك حين يمض إهابك ويفري أديمك ويزري على هديك هناك تقرع السن من ندم وتشرب الماء ممزوجا بدم حين تأسى على ما مضى من عمرك وانقضى وانقرض من دارج قومك وتود أن لو سقيت بالكأس التي سقيتها غيرك ورددت إلى الحال التي كنت تكرهها في أمسك ولله فينا وفيك أمر هو بالغه وعاقبة هو المرجو لسرائها وضرائها وهو الولي الحميد الغفور الودود . قال أبو عبيدة فمشيت إلى علي مثبطا متباطئا كأنما أخطو على أم رأسي فرقا من الفتنة وإشفاقا على الأمة وحذرا من الفرقة حتى وصلت إليه في خلاء فأبثثته بثي كله وبرئت إليه منه ودفعته له فلما سمعها ووعاها وسرت في أوصاله حمياها قال حلت معلوطة وولت مخروطة ثم قال .
إحدى لياليك فهيسي هيسي
لا تنعمي الليلة بالتعريس
يا أبا عبيدة أ هذا كله في أنفس القوم يستنبطونه ويضطغنون عليه فقلت لا جواب عندي إنما جئتك قاضيا حق الدين وراتقا فتق الإسلام وسادا ثلمة الأمة يعلم الله ذلك من جلجلان قلبي وقرارة نفسي .
[ 282 ](1/3018)
فقال ما كان قعودي في كسر هذا البيت قصدا لخلاف ولا إنكارا لمعروف ولا زراية على مسلم بل لما وقذني به رسول الله ص من فراقه وأودعني من الحزن لفقده فإني لم أشهد بعده مشهدا إلا جدد علي حزنا وذكرني شجنا وإن الشوق إلى اللحاق به كاف عن الطمع في غيره وقد عكفت على عهد الله أنظر فيه وأجمع ما تفرق منه رجاء ثواب معد لمن أخلص لله عمله وسلم لعلمه ومشيئته أمره على أني أعلم أن التظاهر علي واقع ولي عن الحق الذي سيق إلي دافع وإذ قد أفعم الوادي لي وحشد النادي علي فلا مرحبا بما ساء أحدا من المسلمين وفي النفس كلام لو لا سابق قول وسالف عهد لشفيت غيظي بخنصري وبنصري وخضت لجته بأخمصي ومفرقي ولكني ملجم إلى أن ألقى الله تعالى عنده أحتسب ما نزل بي وأنا غاد إن شاء الله إلى جماعتكم ومبايع لصاحبكم وصابر على ما ساءني وسركم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وكان الله على كل شي ء شهيدا . قال أبو عبيدة فعدت إلى أبي بكر وعمر فقصصت القول على غره ولم أترك شيئا من حلوه ومره ذكرت غدوة إلى المسجد فلما كان صباح يومئذ وافى علي فخرق الجماعة إلى أبي بكر وبايعه وقال خيرا ووصف جميلا وجلس زمينا واستأذن للقيام ونهض فتبعه عمر إكراما له وإجلالا لموضعه واستنباطا لما في نفسه وقام أبو بكر إليه فأخذ بيده وقال إن عصابة أنت منها يا أبا الحسن لمعصومة وإن أمة أنت فيها لمرحومة ولقد أصبحت عزيزا علينا كريما لدينا نخاف الله إن سخطت ونرجوه إذا رضيت ولو لا أني شدهت لما أجبت إلى ما دعيت إليه ولكني خفت
[ 283 ](1/3019)
الفرقة واستئثار الأنصار بالأمر على قريش وأعجلت عن حضورك ومشاورتك ولو كنت حاضرا لبايعتك ولم أعدل بك ولقد حط الله عن ظهرك ما أثقل كاهلي به وما أسعد من ينظر الله إليه بالكفاية وإنا إليك لمحتاجون وبفضلك عالمون وإلى رأيك وهديك في جميع الأحوال راغبون وعلى حمايتك وحفيظتك معولون ثم انصرف وتركه مع عمر .
فالتفت علي إلى عمر فقال يا أبا حفص والله ما قعدت عن صاحبك جزعا على ما صار إليه ولا أتيته خائفا منه ولا أقول ما أقول بعلة وإني لأعرف مسمى طرفي ومخطي قدمي ومنزع قوسي وموقع سهمي ولكني تخلفت إعذارا إلى الله وإلى من يعلم الأمر الذي جعله لي رسول الله وأتيت فبايعت حفظا للدين وخوفا من انتشار أمر الله . فقال له عمر يا أبا الحسن كفكف من غربك ونهنه من شرتك ودع العصا بلحائها والدلو برشائها فإنا من خلفها وورائها إن قدحنا أورينا وإن متحنا أروينا وإن قرحنا أدمينا وقد سمعت أمثالك التي ألغزت بها صادرة عن صدر دو وقلب جو زعمت أنك قعدت في كسر بيتك لما وقذك به فراق رسول الله أ فراق رسول الله ص وقذك وحدك ولم يقذ سواك إن مصابه لأعز وأعظم من ذاك وإن من حق مصابه ألا تصدع شمل الجماعة بكلمة لا عصام لها فإنك لترى الأعراب حول المدينة لو تداعت علينا في صبح يوم لم نلتق في ممساه وزعمت أن الشوق إلى اللحاق به كاف عن الطمع في غيره فمن الشوق إليه نصرة دينه وموازرة المسلمين عليه ومعاونتهم فيه .
[ 284 ](1/3020)
و زعمت أنك مكب على عهد الله تجمع ما تفرق منه فمن العكوف على عهده النصيحة لعباده والرأفة على خلقه وأن تبذل من نفسك ما يصلحون به ويجتمعون عليه وزعمت أن التظاهر عليك واقع أي تظاهر وقع عليك وأي حق استؤثر به دونك لقد علمت ما قالت الأنصار أمس سرا وجهرا وما تقلبت عليه ظهرا وبطنا فهل ذكرتك أو أشارت بك أو طلبت رضاها من عندك وهؤلاء المهاجرون من الذي قال منهم إنك صاحب هذا الأمر أو أومأ إليك أو همهم بك في نفسه أ تظن أن الناس ضنوا من أجلك أو عادوا كفارا زهدا فيك أو باعوا الله تعالى بهواهم بغضا لك ولقد جاءني قوم من الأنصار فقالوا إن عليا ينتظر الإمامة ويزعم أنه أولى بها من أبي بكر فأنكرت عليهم ورددت القول في نحورهم حتى قالوا إنه ينتظر الوحي ويتوكف مناجاة الملك فقلت ذاك أمر طواه الله بعد محمد ع . ومن أعجب شأنك قولك لو لا سابق قول لشفيت غيظي بخنصري وبنصري وهل ترك الدين لأحد أن يشفي غيظه بيده أو لسانه تلك جاهلية استأصل الله شأفتها واقتلع جرثومتها ونور ليلها وغور سيلها وأبدل منها الروح والريحان والهدى والبرهان . وزعمت أنك ملجم فلعمري إن من اتقى الله وآثر رضاه وطلب ما عنده أمسك لسانه وأطبق فاه وغلب عقله ودينه على هواه . وأما قولك إني لأعرف منزع قوسي فإذا عرفت منزع قوسك عرفك غيرك مضرب سيفه ومطعن رمحه وأما ما تزعمه من الأمر الذي جعله رسول الله ص لك فتخلفت إعذارا إلى الله وإلى العارفة به من المسلمين فلو عرفه المسلمون
[ 285 ]
لجنحوا إليه وأصفقوا عليه وما كان الله ليجمعهم على العمى ولا ليضربهم بالصبا بعد الهدى ولو كان لرسول الله ص فيك رأي وعليك عزم ثم بعثه الله فرأى اجتماع أمته على أبي بكر لما سفه آراءهم ولا ضلل أحلامهم ولا آثرك عليهم ولا أرضاك بسخطهم ولأمرك باتباعهم والدخول معهم فيما ارتضوه لدينهم .(1/3021)
فقال علي مهلا أبا حفص أرشدك الله خفض عليك ما بذلت ما بذلت وأنا أريد عنه حولا وإن أخسر الناس صفقة عند الله من استبطن النفاق واحتضن الشقاق وفي الله خلف عن كل فائت وعوض من كل ذاهب وسلوة عن كل حادث وعليه التوكل في جميع الحوادث ارجع أبا حفص إلى مجلسك ناقع القلب مبرود الغليل فصيح اللسان رحب الصدر متهلل الوجه فليس وراء ما سمعته مني إلا ما يشد الأزر ويحبط الوزر ويضع الإصر ويجمع الألفة ويرفع الكلفة إن شاء الله فانصرف عمر إلى مجلسه . قال أبو عبيدة فلم أسمع ولم أر كلاما ولا مجلسا كان أصعب من ذلك الكلام والمجلس . قلت الذي يغلب على ظني أن هذه المراسلات والمحاورات والكلام كله مصنوع موضوع وأنه من كلام أبي حيان التوحيدي لأنه بكلامه ومذهبه في الخطابة والبلاغة أشبه وقد حفظنا كلام عمر ورسائله وكلام أبي بكر وخطبه فلم نجدهما يذهبان هذا المذهب ولا يسلكان هذا السبيل في كلامهما وهذا كلام عليه أثر التوليد ليس يخفى وأين أبو بكر وعمر من البديع وصناعة المحدثين ومن تأمل كلام أبي حيان عرف أن
[ 286 ](1/3022)
هذا الكلام من ذلك المعدن خرج ويدل عليه أنه أسنده إلى القاضي أبي حامد المروروذي وهذه عادته في كتاب البصائر يسند إلى القاضي أبي حامد كل ما يريد أن يقوله هو من تلقاء نفسه إذا كان كارها لأن ينسب إليه وإنما ذكرناه نحن في هذا الكتاب لأنه وإن كان عندنا موضوعا منحولا فإنه صورة ما جرت عليه حال القوم فهم وإن لم ينطقوا به بلسان المقال فقد نطقوا به بلسان الحال . ومما يوضح لك أنه مصنوع أن المتكلمين على اختلاف مقالاتهم من المعتزلة والشيعة والأشعرية وأصحاب الحديث وكل من صنف في علم الكلام والإمامة لم يذكر أحد منهم كلمة واحدة من هذه الحكاية ولقد كان المرتضى رحمه الله يلتقط من كلام أمير المؤمنين ع اللفظة الشاذة والكلمة المفردة الصادرة عنه ع في معرض التألم والتظلم فيحتج بها ويعتمد عليها نحو
قوله ما زلت مظلوما مذ قبض رسول الله حتى يوم الناس هذا و
قوله لقد ظلمت عدد الحجر والمدر و
قوله إن لنا حقا إن نعطه نأخذه وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل وإن طال السرى و
قوله فصبرت وفي الحلق شجا وفي العين قذى و
قوله اللهم إني أستعديك على قريش فإنهم ظلموني حقي وغصبوني إرثي . وكان المرتضى إذا ظفر بكلمة من هذه فكأنما ظفر بملك الدنيا ويودعها كتبه وتصانيفه فأين كان المرتضى عن هذا الحديث وهلا ذكر في كتاب الشافي في الإمامة
[ 287 ](1/3023)
كلام أمير المؤمنين ع هذا وكذلك من قبله من الإمامية كابن النعمان وبني نوبخت وبني بابويه وغيرهم وكذلك من جاء بعده من متأخري متكلمي الشيعة وأصحاب الأخبار والحديث منهم إلى وقتنا هذا وأين كان أصحابنا عن كلام أبي بكر وعمر له ع وهلا ذكره قاضي القضاة في المغني مع احتوائه على كل ما جرى بينهم حتى أنه يمكن أن يجمع منه تاريخ كبير مفرد في أخبار السقيفة وهلا ذكره من كان قبل قاضي القضاة من مشايخنا وأصحابنا ومن جاء بعده من متكلمينا ورجالنا وكذلك القول في متكلمي الأشعرية وأصحاب الحديث كابن الباقلاني وغيره وكان ابن الباقلاني شديدا على الشيعة عظيم العصبية على أمير المؤمنين ع فلو ظفر بكلمة من كلام أبي بكر وعمر في هذا الحديث لملأ الكتب والتصانيف بها وجعلها هجيراه ودأبه . والأمر فيما ذكرناه من وضع هذه القصة ظاهر لمن عنده أدنى ذوق من علم البيان ومعرفة كلام الرجال ولمن عنده أدنى معرفة بعلم السير وأقل أنس بالتواريخ . قوله ع مودع لا قال ولا مبغض ولا سئم أي لا ملول سئمت من الشي ء أسأم سأما وسآما وسآمة سئمته إذا مللته ورجل سئوم . ثم أكد ع هذا المعنى فقال إن انصرفت فلا عن ملالة وإن أقمت فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين أي ليست إقامتي على قبرك وجزعي عليك إنكارا مني لفضيلة الصبر والتجلد والتعزي والتأسي وما وعد الله به الصابرين من الثواب بل أنا عالم بذلك ولكن يغلبني بالطبع البشري . وروي أن فاطمة بنت الحسين ع ضربت فسطاطا على قبر بعلها الحسن
[ 288 ]
بن الحسن ع سنة فلما انقضت السنة قوضت الفسطاط راجعة إلى بيتها فسمعت هاتفا يقول هل بلغوا ما طلبوا فأجابه هاتف آخر بل يئسوا فانصرفوا . و
ذكر أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتابه الكامل أنه ع تمثل عند قبر فاطمة
ذكرت أبا أروى فبت كأنني
برد الهموم الماضيات وكيل
لكل اجتماع من خليلين فرقة
و كل الذي دون الفراق قليل(1/3024)
و إن افتقادي واحدا بعد واحد
دليل على ألا يدوم خليل
و الناس يرونه
و إن افتقادي فاطما بعد أحمد(1/3025)
? الجزء العاشر
? تتمة باب الخطب والأوامر
? 175 ومن كلام له ع في معنى طلحة بن عبيد الله
? ذكر ما كان من أمر طلحة مع عثمان
? 176 من خطبة له ع
? فصل في ذكر بعض أقوال الغلاة في علي
? جملة من إخبار علي بالأمور الغيبية
? 177 ومن خطبة له ع
? فصل في القرآن وذكر الآثار التي وردت بفضله
? فصل في الآثار الواردة في شديد عذاب جهنم
? فصل في العزلة والاجتماع وما قيل فيهما
? ذكر فوائد العزلة
? 178 ومن كلام له ع في معنى الحكمين
? كتاب معاوية إلى عمرو بن العاص وهو على مصر
? 179 ومن خطبة له ع
? 180 ومن كلام له ع
? 181 ومن كلام له ع في ذم أصحابه
? 182 ومن كلام له ع
? 183 ومن خطبة له ع
? نوف البكالي
? نسب جعدة بن هبيرة
? نسب العمالقة
? نسب عاد وثمود
? نسب الفراعنة
? نسب أصحاب الرس
? عمار بن ياسر ونسبه ونبذ من أخباره
? ذكر أبي الهيثم بن التيهان وطرف من أخباره
? ذكر ذي الشهادتين خزيمة بن ثابت وطرف من أخباره
? ذكر سعد بن عبادة ونسبه
? ذكر أبي أيوب الأنصاري ونسبه
? 184 من خطبة له ع
? نبذ وأقاويل في التقوى
? طرف وأخبار
? خطبة لأبي الشخباء العسقلاني
? رأي للمؤلف في كتاب نهج البلاغة
? 185 ومن كلام له ع قاله للبرج بن مسهر الطائي
? 186 ومن خطبة له ع
? فصل في فضل الصمت والاقتصاد في المنطق
? ذكر الآثار الواردة في آفات اللسان
? ذكر الخوف وما ورد فيه من الآثار
? ذكر بعض أحوال العارفين
? 187 ومن خطبة له ع يصف فيها المنافقين
? 188 ومن خطبة له ع
? 189 ومن خطبة له ع
? 190 ومن خطبة له ع
? ذكر خبر موت الرسول ع
? 191 ومن خطبة له ع
? اختلاف الأقوال في عمر الدنيا
? 192 ومن كلام له ع كان يوصي به أصحابه
? فصل في ذكر الآثار الواردة في الصلاة وفضلها
? ذكر الآثار الواردة في فضل الزكاة والتصدق
? 193 ومن كلام له ع
? سياسة علي وجريها على سياسة الرسول ع(1/3026)
? كلام أبي جعفر الحسني في الأسباب التي أوجبت محبة الناس لعلي
? سياسة علي ومعاوية وإيراد كلام للجاحظ في ذلك
? ذكر أقوال من طعن في سياسة علي والرد عليها
? 194 ومن كلام له ع
? قصة صالح وثمود
? 195 ومن كلام له ع
? ما رواه أبو حيان في حديث السقيفة(1/3027)
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد المعتزلي
الجزء الحادي عشر(1/3028)
تتمة باب الخطب والأوامر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل(1/3029)
196 ومن كلام له ع
أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّمَا اَلدُّنْيَا دَارُ مَجَازٍ وَ اَلآْخِرَةُ دَارُ قَرَارٍ فَخُذُوا مِنْ مَمَرِّكُمْ لِمَقَرِّكُمْ وَ لاَ تَهْتِكُوا أَسْتَارَكُمْ عِنْدَ مَنْ يَعْلَمُ أَسْرَارَكُمْ وَ أَخْرِجُوا مِنَ اَلدُّنْيَا قُلُوبَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا أَبْدَانُكُمْ فَفِيهَا اُخْتُبِرْتُمْ وَ لِغَيْرِهَا خُلِقْتُمْ إِنَّ اَلْمَرْءَ إِذَا هَلَكَ قَالَ اَلنَّاسُ مَا تَرَكَ وَ قَالَتِ اَلْمَلاَئِكَةُ مَا قَدَّمَ لِلَّهِ آبَاؤُكُمْ فَقَدِّمُوا بَعْضاً يَكُنْ لَكُمْ قَرْضاً وَ لاَ تُخْلِفُوا كُلاًّ فَيَكُونَ فَرْضاً عَلَيْكُمْ ذكر أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في الكامل عن الأصمعي قال خطبنا أعرابي بالبادية فحمد الله واستغفره ووحده وصلى على نبيه ص فأبلغ في إيجاز ثم قال أيها الناس إن الدنيا دار بلاغ والآخرة دار قرار فخذوا لمقركم من ممركم ولا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم في الدنيا أنتم
[ 4 ](1/3030)
و لغيرها خلقتم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم والمصلى عليه رسول الله والمدعو له الخليفة والأمير جعفر بن سليمان . وذكر غيره الزيادة التي في كلام أمير المؤمنين ع وهي أن المرء إذا هلك إلى آخر الكلام . وأكثر الناس على أن هذا الكلام لأمير المؤمنين ع . ويجوز أن يكون الأعرابي حفظه فأورده كما يورد الناس كلام غيرهم . قوله ع دار مجاز أي يجاز فيها إلى الآخرة ومنه سمي المجاز في الكلام مجازا لأن المتكلم قد عبر الحقيقة إلى غيرها كما يعبر الإنسان من موضع إلى موضع . ودار القرار دار الاستقرار الذي لا آخر له . فخذوا من ممركم أي من الدنيا لمقركم وهو الآخرة . قوله ع قال الناس ما ترك يريد أن بني آدم مشغولون بالعاجلة لا يفكرون في غيرها ولا يتساءلون إلا عنها فإذا هلك أحدكم فإنما قولهم بعضهم لبعض ما الذي ترك فلان من المال ما الذي خلف من الولد وأما الملائكة فإنهم يعرفون الآخرة ولا تستهويهم شهوات الدنيا وإنما هم مشغولون بالذكر والتسبيح فإذا هلك الإنسان قالوا ما قدم أي أي شي ء قدم من الأعمال . ثم أمرهم ع بأن يقدموا من أموالهم بعضها صدقة فإنها تبقى لهم ونهاهم أن يخلفوا أموالهم كلها بعد موتهم فتكون وبالا عليهم في الآخرة
[ 5 ](1/3031)
197 ومن كلام له ع كان كثيرا ما ينادي به أصحابه
تَجَهَّزُوا رَحِمَكُمُ اَللَّهُ فَقَدْ نُودِيَ فِيكُمْ بِالرَّحِيلِ وَ أَقِلُّوا اَلْعُرْجَةَ اَلْعَرْجَةَ عَلَى اَلدُّنْيَا وَ اِنْقَلِبُوا بِصَالِحِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ مِنَ اَلزَّادِ فَإِنَّ أَمَامَكُمْ عَقَبَةً كَئُوداً وَ مَنَازِلَ مَخُوفَةً مَهُولَةً لاَ بُدَّ مِنَ اَلْوُرُودِ عَلَيْهَا وَ اَلْوُقُوفِ عِنْدَهَا . وَ اِعْلَمُوا أَنَّ مَلاَحِظَ اَلْمَنِيَّةِ نَحْوَكُمْ دَائِبَةٌ دَانِيَةٌ وَ كَأَنَّكُمْ بِمَخَالِبِهَا وَ قَدْ نَشِبَتْ فِيكُمْ وَ قَدْ دَهَمَتْكُمْ مِنْهَا مُفْظِعَاتُ اَلْأُمُورِ وَ مُضْلِعَاتُ مُعْضِلاَتُ اَلْمَحْذُورِ . فَقَطِّعُوا عَلاَئِقَ اَلدُّنْيَا وَ اِسْتَظْهِرُوا بِزَادِ اَلتَّقْوَى وقد مضى شي ء من هذا الكلام فيما تقدم يخالف هذه الرواية تجهزوا لكذا أي تهيئوا له . والعرجة التعريج وهو الإقامة تقول ما لي على ربعك عرجة أي إقامة وعرج فلان على المنزل إذا حبس عليه مطيته .
[ 6 ]
و العقبة الكئود الشاقة المصعد ودائبة جادة والمخلب للسبع بمنزلة الظفر للإنسان . وأفظع الأمر فهو مفظع إذا جاوز المقدار شدة . ومضلعات المحذور الخطوب التي تضلع أي تجعل الإنسان ضليعا أي معوجا والماضي ضلع بالكسر يضلع ضلعا . ومن رواها بالظاء أراد الخطوب التي تجعل الإنسان ظالعا أي يغمز في مشيه لثقلها عليه والماضي ظلع بالفتح يظلع ظلعها فهو ظالع
[ 7 ](1/3032)
198 ومن كلام له ع كلم به طلحة والزبير بعد بيعته بالخلافة
و قد عتبا عليه من ترك مشورتهما والاستعانة في الأمور بهما : لَقَدْ نَقَمْتُمَا يَسِيراً وَ أَرْجَأْتُمَا كَثِيراً أَ لاَ تُخْبِرَانِي أَيُّ شَيْ ءٍ كَانَ لَكُمَا فِيهِ حَقٌّ دَفَعْتُكُمَا عَنْهُ أَمْ أَيُّ قَسْمٍ اِسْتَأْثَرْتُ عَلَيْكُمَا بِهِ أَمْ أَوْ أَيُّ حَقٍّ رَفَعَهُ إِلَيَّ أَحَدٌ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ ضَعُفْتُ عَنْهُ أَمْ جَهِلْتُهُ أَمْ أَخْطَأْتُ بَابَهُ . وَ اَللَّهِ مَا كَانَتْ لِي فِي اَلْخِلاَفَةِ رَغْبَةٌ وَ لاَ فِي اَلْوَلاَيَةِ إِرْبَةٌ وَ لَكِنَّكُمْ دَعَوْتُمُونِي إِلَيْهَا وَ حَمَلْتُمُونِي عَلَيْهَا فَلَمَّا أَفْضَتْ إِلَيَّ نَظَرْتُ إِلَى كِتَابِ اَللَّهِ وَ مَا وَضَعَ لَنَا وَ أَمَرَنَا بِالْحُكْمِ بِهِ فَاتَّبَعْتُهُ وَ مَا اِسْتَنَّ اَلنَّبِيُّ ص فَاقْتَدَيْتُهُ فَلَمْ أَحْتَجْ فِي ذَلِكَ إِلَى رَأْيِكُمَا وَ لاَ رَأْيِ غَيْرِكُمَا وَ لاَ وَقَعَ حُكْمٌ جَهِلْتُهُ فَأَسْتَشِيرَكُمَا وَ إِخْوَانِي مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ وَ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ أَرْغَبْ عَنْكُمَا وَ لاَ عَنْ غَيْرِكُمَا . وَ أَمَّا مَا ذَكَرْتُمَا مِنْ أَمْرِ اَلْأُسْوَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَمْ أَحْكُمْ أَنَا فِيهِ بِرَأْيِي وَ لاَ وَلِيتُهُ هَوًى مِنِّي بَلْ وَجَدْتُ أَنَا وَ أَنْتُمَا مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اَللَّهِ ص قَدْ فُرِغَ مِنْهُ فَلَمْ أَحْتَجْ إِلَيْكُمَا فِيمَا قَدْ فَرَغَ اَللَّهُ مِنْ قَسْمِهِ وَ أَمْضَى فِيهِ حُكْمَهُ فَلَيْسَ لَكُمَا وَ اَللَّهِ عِنْدِي وَ لاَ لِغَيْرِكُمَا فِي هَذَا عُتْبَى . أَخَذَ اَللَّهُ بِقُلُوبِنَا وَ قُلُوبِكُمْ إِلَى اَلْحَقِّ وَ أَلْهَمَنَا وَ إِيَّاكُمُ اَلصَّبْرَ .
[ 8 ](1/3033)
ثُمَّ قَالَ ع رَحِمَ اَللَّهُ رَجُلاً رَأَى حَقّاً فَأَعَانَ عَلَيْهِ أَوْ رَأَى جَوْراً فَرَدَّهُ وَ كَانَ عَوْناً بِالْحَقِّ عَلَى صَاحِبِهِ نقمت عليه بالفتح أنقم هذه اللغة الفصيحة وجاء نقمت بالكسر أنقم . وأرجأتما أخرتما أي نقمتما من أحوالي اليسير وتركتما الكثير الذي ليس لكما ولا لغيركما فيه مطعن فلم تذكراه فهلا اغتفرتما اليسير للكثير . وليس هذا اعترافا بأن ما نقماه موضع الطعن والعيب ولكنه على جهة الجدل والاحتجاج كما تقول لمن يطعن في بيت من شعر شاعر مشهور لقد ظلمته إذ تتعلق عليه بهذا البيت وتنسى ما له من المحاسن الكثيرة في غيره . ثم ذكر وجوه العتاب والاسترادة وهي أقسام إما أن يكون لهما حق يدفعهما عنه أو استأثر عليهما في قسم أو ضعف عن السياسة أو جهل حكما من أحكام الشريعة أو أخطأ بابه . فإن قلت أي فرق بين الأول والثاني قلت أما دفعهما عن حقهما فمنعهما عنه سواء صار إليه ع أو إلى غيره أو لم يصر إلى أحد بل بقي بحاله في بيت المال .
[ 9 ]
و أما القسم الثاني فهو أن يأخذ حقهما لنفسه وبين القسمين فرق ظاهر والثاني أفحش من الأول . فإن قلت فأي فرق بين قوله أم جهلته أو أخطأت بابه . قلت جهل الحكم أن يكون الله تعالى قد حكم بحرمة شي ء فأحله الإمام أو المفتي وكونه يخطئ بابه هو أن يصيب في الحكم ويخطئ في الاستدلال عليه . ثم أقسم أنه لم يكن له في الخلافة رغبة ولا إربة بكسر الهمزة وهي الحاجة وصدق ع فهكذا نقل أصحاب التواريخ وأرباب علم السير كلهم و(1/3034)
روى الطبري في التاريخ ورواه غيره أيضا إن الناس غشوه وتكاثروا عليه يطلبون مبايعته وهو يأبى ذلك ويقول دعوني والتمسوا غيري فإنا مستقبلون أمرا له وجوه وألوان لا تثبت عليه العقول ولا تقوم له القلوب قالوا ننشدك الله أ لا ترى الفتنة أ لا ترى إلى ما حدث في الإسلام أ لا تخاف الله فقال قد أجبتكم لما أرى منكم واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم وإن تركتموني فإنما أنا كأحدكم بل أنا أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم إليه فقالوا ما نحن بمفارقيك حتى نبايعك قال إن كان لا بد من ذلك ففي المسجد فإن بيعتي لا تكون خفيا ولا تكون إلا عن رضا المسلمين وفي ملإ وجماعة فقام والناس حوله فدخل المسجد وانثال عليه المسلمون فبايعوه وفيهم طلحة والزبير . قلت قوله إن بيعتي لا تكون خفيا ولا تكون إلا في المسجد بمحضر من جمهور الناس يشابه قوله بعد وفاة رسول الله ص للعباس لما سامه مد يده للبيعة إني أحب أن أصحر بها وأكره أن أبايع من وراء رتاج .
[ 10 ]
ثم ذكر ع أنه لما بويع عمل بكتاب الله وسنة رسوله ولم يحتج إلى رأيهما ولا رأي غيرهما ولم يقع حكم يجهله فيستشيرهما ولو وقع ذلك لاستشارهما وغيرهما ولم يأنف من ذلك . ثم تكلم في معنى التنفيل في العطاء فقال إني عملت بسنة رسول الله ص في ذلك وصدق ع فإن رسول الله ص سوى في العطاء بين الناس وهو مذهب أبي بكر . والعتبى الرضا أي لست أرضيكما بارتكاب ما لا يحل لي في الشرع ارتكابه والضمير في صاحبه وهو الهاء المجرورة يرجع إلى الجور أي وكان عونا بالعمل على صاحب الجور(1/3035)
من أخبار طلحة والزبير
قد تقدم منا ذكر ما عتب به طلحة والزبير على أمير المؤمنين ع وأنهما قالا ما نراه يستشيرنا في أمر ولا يفاوضنا في رأي ويقطع الأمر دوننا ويستبد بالحكم عنا وكانا يرجوان غير ذلك وأراد طلحة أن يوليه البصرة وأراد الزبير أن يوليه الكوفة فلما شاهدا صلابته في الدين وقوته في العزم وهجره الادهان والمراقبة ورفضه المدالسة والمواربة وسلوكه في جميع مسالكه منهج الكتاب والسنة وقد كانا يعلمان ذلك قديما من طبعه وسجيته وكان عمر قال لهما ولغيرهما إن الأجلح إن وليها ليحملنكم على المحجة البيضاء والصراط المستقيم و
كان رسول الله ص
[ 11 ](1/3036)
من قبل قال وإن تولوها عليا تجدوه هاديا مهديا إلا أنه ليس الخبر كالعيان ولا القول كالفعل ولا الوعد كالإنجاز وحالا عنه وتنكرا له ووقعا فيه وعاباه وغمصاه وتطلبا له العلل والتأويلات وتنقما عليه الاستبداد وترك المشاورة وانتقلا من ذلك إلى الوقيعة فيه بمساواة الناس في قسمة المال وأثنيا على عمر وحمدا سيرته وصوبا رأيه وقالا إنه كان يفضل أهل السوابق وضللا عليا ع فيما رآه وقالا إنه أخطأ وإنه خالف سيرة عمر وهي السيرة المحمودة التي لم تفضحها النبوة مع قرب عهدنا منها واتصالها بها واستنجدا عليه بالرؤساء من المسلمين كان عمر يفضلهم وينفلهم في القسم على غيرهم والناس أبناء الدنيا ويحبون المال حبا جما فتنكرت على أمير المؤمنين ع بتنكرهما قلوب كثيرة ونغلت عليه نيات كانت من قبل سليمة ولقد كان عمر موفقا حيث منع قريشا والمهاجرين وذوي السوابق من الخروج من المدينة ونهاهم عن مخالطة الناس ونهى الناس عن مخالطتهم ورأى أن ذلك أس الفساد في الأرض وأن الفتوح والغنائم قد أبطرت المسلمين ومتى بعد الرءوس والكبراء منهم عن دار الهجرة وانفردوا بأنفسهم وخالطهم الناس في البلاد البعيدة لم يأمن أن يحسنوا لهم الوثوب وطلب الإمرة ومفارقة الجماعة وحل نظام الألفة ولكنه رضي الله عنه نقض هذا الرأي السديد بما فعله بعد طعن أبي لؤلؤة له من أمر الشورى فإن ذلك كان سبب كل فتنة وقعت وتقع إلى أن تنقضي الدنيا وقد قدمنا ذكر ذلك وشرحنا ما أدى إليه أمر الشورى من الفساد بما حصل في نفس كل من الستة من ترشيحه للخلافة .
[ 12 ](1/3037)
و روى أبو جعفر الطبري في تاريخه قال كان عمر قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج في البلدان إلا بإذن وأجل فشكوه فبلغه فقام فخطب فقال ألا إني قد سننت الإسلام سن البعير يبدأ فيكون جذعا ثم ثنيا ثم يكون رباعيا ثم سديسا ثم بازلا ألا فهل ينتظر بالبازل إلا النقصان ألا وإن الإسلام قد صار بازلا وإن قريشا يريدون أن يتخذوا مال الله معونات على ما في أنفسهم ألا إن في قريش من يضمر الفرقة ويروم خلع الربقة أما وابن الخطاب حي فلا إني قائم دون شعب الحرة آخذ بحلاقيم قريش وحجزها أن يتهافتوا في النار . وقال أبو جعفر الطبري في التاريخ أيضا فلما ولي عثمان لم يأخذهم بالذي كان عمر يأخذهم به فخرجوا إلى البلاد فلما نزلوها ورأوا الدنيا ورآهم الناس خمل من لم يكن له طول ولا قدم في الإسلام ونبه أصحاب السوابق والفضل فانقطع إليهم الناس وصاروا أوزاعا معهم وأملوهم وتقربوا إليهم وقالوا يملكون فيكون لنا في ملكهم حظوة فكان ذلك أول وهن على الإسلام وأول فتنة كانت في العامة . وروى أبو جعفر الطبري عن الشعبي قال لم يمت عمر حتى ملته قريش وقد كان حصرهم بالمدينة وسألوه أن يأذن لهم في الخروج إلى البلاد فامتنع عليهم وقال إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد حتى أن الرجل كان يستأذنه في غزو الروم أو الفرس وهو ممن حبسه بالمدينة من قريش ولا سيما من المهاجرين فيقول له إن لك في غزوك مع رسول الله ص ما يكفيك ويبلغك ويحسبك وهو خير لك من الغزو اليوم وإن خيرا لك ألا ترى الدنيا ولا تراك .
[ 13 ](1/3038)
فلما مات عمر وولي عثمان خلى عنهم فانتشروا في البلاد واضطربوا وانقطع إليهم الناس وخالطوهم فلذلك كان عثمان أحب إلى قريش من عمر . فقد بان لك حسن رأي عمر في منع المهاجرين وأهل السابقة من قريش من مخالطة الناس والخروج من المدينة وبان لك أن عثمان أرخى لهم في الطول فخالطهم الناس وأفسدوهم وحببوا إليهم الملك والإمرة والرئاسة لا سيما مع الثروة العظيمة التي حصلت لهم والثراء مفسدة وأي مفسدة وحصل لطلحة والزبير من ذلك ما لم يحصل لغيرهما ثروة ويسارا وقدما في الإسلام وصار لهما لفيف عظيم من المسلمين يمنونهما الخلافة ويحسنون لهما طلب الإمرة لا سيما وقد رشحهما عمر لها وأقامهما مقام نفسه في تحملها وأي امرئ منى بها قط نفسه ففارقها حتى يغيب في اللحد ولا سيما طلحة قد كان يحدث بها نفسه وأبو بكر حي ويروم أن يجعلها فيه بشبهة أنه ابن عمه وسخط خلافة عمر وقال لأبي بكر ما تقول لربك وقد وليت علينا فظا غليظا وكان له في أيام عمر قوم يجلسون إليه ويحادثونه سرا في معنى الخلافة ويقولون له لو مات عمر لبايعناك بغتة جلب الدهر علينا ما جلب وبلغ ذلك عمر فخطب الناس بالكلام المشهور أن قوما يقولون إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وإنه لو مات عمر لفعلنا وفعلنا أما إن بيعة أبي بكر كانت فلتة إلا أن الله وقى شرها وليس فيكم من تقطع إليه الرقاب كأبي بكر فأي امرئ بايع امرأ من غير مشورة من المسلمين فإنهما بغرة أن يقتلا فلما صارت إلى عثمان سخطها طلحة بعد أن كان رضيها وأظهر ما في نفسه وألب عليه حتى قتل ولم يشك أن الأمر له فلما صارت إلى علي ع حدث منه ما حدث وآخر الدواء الكي . وأما الزبير فلم يكن إلا علوي الرأي شديد الولاء جاريا من الرجل مجرى نفسه .
[ 14 ](1/3039)
و يقال إنه ع لما استنجد بالمسلمين عقيب يوم السقيفة وما جرى فيه وكان يحمل فاطمة ع ليلا على حمار وابناها بين يدي الحمار وهو ع يسوقه فيطرق بيوت الأنصار وغيرهم ويسألهم النصرة والمعونة أجابه أربعون رجلا فبايعهم على الموت وأمرهم أن يصبحوا بكرة محلقي رءوسهم ومعهم سلاحهم فأصبح لم يوافه منهم إلا أربعة الزبير والمقداد وأبو ذر وسلمان ثم أتاهم من الليل فناشدهم فقالوا نصبحك غدوة فما جاءه منهم إلا أربعة وكذلك في الليلة الثالثة وكان الزبير أشدهم له نصرة وأنفذهم في طاعته بصيرة حلق رأسه وجاء مرارا وفي عنقه سيفه وكذلك الثلاثة الباقون إلا أن الزبير هو كان الرأس فيهم وقد نقل الناس خبر الزبير لما هجم عليه ببيت فاطمة ع وكسر سيفه في صخرة ضربت به ونقلوا اختصاصه بعلي ع وخلواته به ولم يزل مواليا له متمسكا بحبه ومودته حتى نشأ ابنه عبد الله وشب فنزع به عرق من الأم ومال إلى تلك الجهة وانحرف عن هذه ومحبة الوالد للولد معروفة فانحرف الزبير لانحرافه على أنه قد كانت جرت بين علي ع والزبير هنات في أيام عمر كدرت القلوب بعض التكدير وكان سببها قصة موالي صفية ومنازعة علي للزبير في الميراث فقضى عمر للزبير فأذعن علي ع لقضائه بحكم سلطانه لا رجوعا عما كان يذهب إليه من حكم الشرع في هذه المسألة وبقيت في نفس الزبير على أن شيخنا أبا جعفر الإسكافي رحمه الله ذكر في كتاب نقض العثمانية عن الزبير كلاما إن صح فإنه يدل على انحراف شديد ورجوع عن موالاة أمير المؤمنين ع . قال تفاخر علي ع والزبير فقال الزبير أسلمت بالغا وأسلمت طفلا وكنت أول من سل سيفا في سبيل الله بمكة وأنت مستخف في الشعب يكفلك الرجال
[ 15 ](1/3040)
و يمونك الأقارب من بني هاشم وكنت فارسا وكنت راجلا وفي هيأتي نزلت الملائكة وأنا حواري رسول الله ص . قال شيخنا أبو جعفر وهذا الخبر مفتعل مكذوب ولم يجر بين علي والزبير شي ء من هذا الكلام ولكنه من وضع العثمانية ولم يسمع به في أحاديث الحشوية ولا في كتب أصحاب السيرة . ولعلي ع أن يقول طفل مسلم خير من بالغ كافر وأما سل السيف بمكة فلم يكن في موضعه وفي ذلك قال الله تعالى أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ الآية وأنا على منهاج الرسول في الكف والإقدام وليس كفالة الرجال والأقارب بالشعب عارا علي فقد كان رسول الله ص في الشعب يكفله الرجال والأقارب وأما حربك فارسا وحربي راجلا فهلا أغنت فروسيتك يوم عمرو بن عبد ود في الخندق وهلا أغنت فروسيتك يوم طلحة بن أبي طلحة في أحد وهلا أغنت فروسيتك يوم مرحب بخيبر ما كانت فرسك التي تحارب عليها في هذه الأيام إلا أذل من العنز الجرباء ومن سلمت عليه الملائكة أفضل ممن نزلت في هيأته وقد نزلت الملائكة في صورة دحية الكلبي أ فيجب من ذلك أن يكون دحية أفضل مني وأما كونك حواري رسول الله ص فلو عددت خصائصي في مقابلة هذه اللفظة الواحدة لك لاستغرقت الوقت وأفنيت الزمان ورب صمت أبلغ من نطق . ثم نرجع إلى الحديث الأول فتقول إن طلحة والزبير لما أيسا من جهة علي ع
[ 16 ](1/3041)
و من حصول الدنيا من قبله قلبا له ظهر المجن فكاشفاه وعاتباه قبل المفارقة عتابا لاذعا روى شيخنا أبو عثمان قال أرسل طلحة والزبير إلى علي ع قبل خروجهما إلى مكة مع محمد بن طلحة وقالا لا تقل له يا أمير المؤمنين ولكن قل له يا أبا الحسن لقد فال فيك رأينا وخاب ظننا أصلحنا لك الأمر ووطدنا لك الإمرة وأجلبنا على عثمان حتى قتل فلما طلبك الناس لأمرهم أسرعنا إليك وبايعناك وقدنا إليك أعناق العرب ووطئ المهاجرون والأنصار أعقابنا في بيعتك حتى إذا ملكت عنانك استبددت برأيك عنا ورفضتنا رفض التريكة وأذلتنا إذالة الإماء وملكت أمرك الأشتر وحكيم بن جبلة وغيرهما من الأعراب ونزاع الأمصار فكنا فيما رجوناه منك وأملناه من ناحيتك كما قال الأول
فكنت كمهريق الذي في سقائه
لرقراق آل فوق رابية صلد
فلما جاء محمد بن طلحة أبلغه ذاك فقال اذهب إليهما فقل لهما فما الذي يرضيكما فذهب وجاءه فقال إنهما يقولان ول أحدنا البصرة والآخر الكوفة فقال لاها الله إذن يحلم الأديم ويستشرى الفساد وتنتقض على البلاد من أقطارها والله إني لا آمنهما وهما عندي بالمدينة فكيف آمنهما وقد وليتهما العراقين اذهب إليهما فقل أيها الشيخان احذرا من سطوة الله ونقمته ولا تبغيا للمسلمين غائلة وكيدا وقد سمعتما قول الله تعالى تِلْكَ اَلدَّارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ اَلْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ فقام محمد بن طلحة فأتاهما ولم يعد إليه وتأخرا عنه أياما ثم جاءاه فاستأذناه في الخروج إلى مكة للعمرة فأذن لهما بعد أن أحلفهما
[ 17 ](1/3042)
ألا ينقضا بيعته ولا يغدرا به ولا يشقا عصا المسلمين ولا يوقعا الفرقة بينهم وأن يعودا بعد العمرة إلى بيوتهما بالمدينة فحلفا على ذلك كله ثم خرجا ففعلا ما فعلا . وروى شيخنا أبو عثمان قال لما خرج طلحة والزبير إلى مكة وأوهما الناس أنهما خرجا للعمرة قال علي ع لأصحابه والله ما يريدان العمرة وإنما يريدان الغدرة فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اَللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً . وروى الطبري في التاريخ قال لما بايع طلحة والزبير عليا ع سألاه أن يؤمرهما على الكوفة والبصرة فقال بل تكونان عندي أتجمل بكما فإنني أستوحش لفراقكما . قال الطبري وقد كان قال لهما قبل بيعتهما له إن أحببتما أن تبايعاني وإن أحببتما بايعتكما فقالا لا بل نبايعك ثم قالا بعد ذلك إنما بايعناه خشية على أنفسنا وقد عرفنا أنه لم يكن ليبايعنا ثم ظهرا إلى مكة وذلك بعد قتل عثمان بأربعة أشهر . وروى الطبري أيضا في التاريخ قال لما بايع الناس عليا وتم له الأمر قال طلحة للزبير ما أرى أن لنا من هذا الأمر إلا كحسة أنف الكلب . وروى الطبري أيضا في التاريخ قال لما بايع الناس عليا ع بعد قتل عثمان جاء علي إلى الزبير فاستأذن عليه قال أبو حبيبه مولى الزبير فأعلمته به فسل السيف ووضعه تحت فراشه وقال ائذن له فأذنت له فدخل فسلم على الزبير وهو واقف ثم خرج فقال الزبير لقد دخل لأمر ما قضاه قم مقامه وانظر هل ترى من
[ 18 ]
السيف شيئا فقمت في مقامه فرأيت ذباب السيف فأخبرته وقلت إن ذباب السيف ليظهر لمن قام في هذا الموضع فقال ذاك أعجل الرجل وروى شيخنا أبو عثمان قال كتب مصعب بن الزبير إلى عبد الملك من مصعب بن الزبير إلى عبد الملك بن مروان سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد
ستعلم يا فتى الزرقاء أني
سأهتك عن حلائلك الحجابا
و أترك بلدة أصبحت فيها(1/3043)
تهور من جوانبها خرابا
أما إن لله على الوفاء بذلك إلا أن تتراجع أو تتوب ولعمري ما أنت كعبد الله بن الزبير ولا مروان كالزبير بن العوام حواري رسول الله ص وابن عمته فسلم الأمر إلى أهله فإن نجاتك بنفسك أعظم الغنيمتين والسلام . فكتب إليه عبد الملك من عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين إلى الذلول الذي أخطأ من سماه المصعب سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد
أ توعدني ولم أر مثل يومي
خشاش الطير يوعدن العقابا
متى تلق العقاب خشاش طير
يهتك عن مقاتلها الحجابا
أ توعد بالذئاب أسود غاب
و أسد الغاب تلتهم الذئابا
أما ما ذكرت من وفائك فلعمري لقد وفى أبوك لتيم وعدي بعداء قريش وزعانفها حتى إذا صارت الأمور إلى صاحبها عثمان الشريف النسب الكريم الحسب بغاة الغوائل وأعد له المخاتل حتى نال منه حاجته ثم دعا الناس إلى علي وبايعه فلما
[ 19 ](1/3044)
دانت له أمور الأمة وأجمعت له الكلمة وأدركه الحسد القديم لبني عبد مناف فنقض عهده ونكث بيعته بعد توكيدها ف فَكَّرَ وَ قَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ وتمزقت لحمه الضباع بوادي السباع ولعمري إنك تعلم يا أخا بني عبد العزى بن قصي أنا بنو عبد مناف لم نزل سادتكم وقادتكم في الجاهلية والإسلام ولكن الحسد دعاك إلى ما ذكرت ولم ترث ذلك عن كلالة بل عن أبيك ولا أظن حسدك وحسد أخيك يئول بكما إلا إلى ما آل إليه حسد أبيكما من قبل وَ لا يَحِيقُ اَلْمَكْرُ اَلسَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ وَ سَيَعْلَمُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ . وروى أبو عثمان أيضا قال دخل الحسن بن علي ع على معاوية وعنده عبد الله بن الزبير وكان معاوية يحب أن يغري بين قريش فقال يا أبا محمد أيهما كان أكبر سنا علي أم الزبير فقال الحسن ما أقرب ما بينهما وعلي أسن من الزبير رحم الله عليا فقال ابن الزبير رحم الله الزبير وهناك أبو سعيد بن عقيل بن أبي طالب فقال يا عبد الله وما يهيجك من أن يترحم الرجل على أبيه قال وأنا أيضا ترحمت على أبي قال أ تظنه ندا له وكفؤا قال وما يعدل به عن ذلك كلاهما من قريش وكلاهما دعا إلى نفسه ولم يتم له قال دع ذاك عنك يا عبد الله إن عليا من قريش ومن الرسول ص حيث تعلم ولما دعا إلى نفسه أتبع فيه وكان رأسا ودعا الزبير إلى أمر وكان الرأس فيه امرأة ولما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وولى مدبرا قبل أن يظهر الحق فيأخذه أو يدحض الباطل فيتركه فأدركه رجل لو قيس ببعض أعضائه لكان أصغر فضرب عنقه وأخذ سلبه وجاء برأسه ومضى علي قدما كعادته مع ابن عمه رحم الله عليا
[ 20 ](1/3045)
فقال ابن الزبير أما لو أن غيرك تكلم بهذا يا أبا سعيد لعلم فقال إن الذي تعرض به يرغب عنك وكفه معاوية فسكتوا . وأخبرت عائشة بمقالتهم ومر أبو سعيد بفنائها فنادته يا أبا سعيد أنت القائل لابن أختي كذا فالتفت أبو سعيد فلم ير شيئا فقال إن الشيطان يرانا ولا نراه فضحكت عائشة وقالت لله أبوك ما أذلق لسانك
[ 21 ](1/3046)
199 ومن كلام له ع وقد سمع قوما من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين
إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ وَ لَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَ ذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي اَلْقَوْلِ وَ أَبْلَغَ فِي اَلْعُذْرِ وَ قُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ اَللَّهُمَّ اِحْقِنْ دِمَاءَنَا وَ دِمَاءَهُمْ وَ أَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَ بَيْنِهِمْ وَ اِهْدِهِمْ مِنْ ضَلاَلَتِهِمْ حَتَّى يَعْرِفَ اَلْحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ وَ يَرْعَوِيَ عَنِ اَلْغَيِّ وَ اَلْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِهِ السب الشتم سبه يسبه بالضم والتساب التشاتم ورجل مسب بكسر الميم كثير السباب ورجل سبه أي يسبه الناس ورجل سببه أي يسب الناس ورجل سب كثير السباب وسبك الذي يسابك قال
لا تسبنني فلست بسبي
إن سبي من الرجال الكريم
و الذي كرهه ع منهم أنهم كانوا يشتمون أهل الشام ولم يكن يكره منهم لعنهم إياهم والبذاءة منهم لا كما يتوهمه قوم من الحشوية فيقولون لا يجوز
[ 22 ](1/3047)
لعن أحد ممن عليه اسم الإسلام وينكرون على من يلعن ومنهم من يغالي في ذلك فيقول لا ألعن الكافر وألعن إبليس وإن الله تعالى لا يقول لأحد يوم القيامة لم لم تلعن وإنما يقول لم لعنت . واعلم أن هذا خلاف نص الكتاب لأنه تعالى قال إِنَّ اَللَّهَ لَعَنَ اَلْكافِرِينَ وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً . وقال أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اَللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اَللاَّعِنُونَ . وقال في إبليس وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ اَلدِّينِ . وقال مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا . وفي الكتاب العزيز من ذلك الكثير الواسع . وكيف يجوز للمسلم أن ينكر التبرؤ ممن يجب التبرؤ منه أ لم يسمع هؤلاء قول الله تعالى قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَ بَدا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ اَلْعَداوَةُ وَ اَلْبَغْضاءُ أَبَداً وإنما يجب النظر فيمن قد اشتبهت حاله فإن كان قد قارف كبيرة من الذنوب يستحق بها اللعن والبراءة فلا ضير على من يلعنه ويبرأ منه وإن لم يكن قد قارف كبيرة لم يجز لعنه ولا البراءة منه . ومما يدل على أن من عليه اسم الإسلام إذا ارتكب الكبيرة يجوز لعنه بل يجب في وقت قول الله تعالى في قصة اللعان فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ
[ 23 ](1/3048)
لَمِنَ اَلصَّادِقِينَ وَ اَلْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اَللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ اَلْكاذِبِينَ . وقال تعالى في القاذف إِنَّ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَناتِ اَلْغافِلاتِ اَلْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ . فهاتان الآيتان في المكلفين من أهل القبلة والآيات قبلهما في الكافرين والمنافقين ولهذا قنت أمير المؤمنين ع على معاوية وجماعة من أصحابه ولعنهم في أدبار الصلوات . فإن قلت فما صوره السب الذي نهى أمير المؤمنين ع عنه . قلت كانوا يشتمونهم بالآباء والأمهات ومنهم من يطعن في نسب قوم منهم ومنهم من يذكرهم باللؤم ومنهم من يعيرهم بالجبن والبخل وبأنواع الأهاجي التي يتهاجى بها الشعراء وأساليبها معلومة فنهاهم ع عن ذلك وقال إني أكره لكن أن تكونوا سبابين ولكن الأصوب أن تصفوا لهم أعمالهم وتذكروا حالهم أي أن تقولوا إنهم فساق وإنهم أهل ضلال وباطل . ثم قال اجعلوا عوض سبهم أن تقولوا اللهم احقن دماءنا ودماءهم . حقنت الدم أحقنه بالضم منعت أن يسفك أي ألهمهم الإنابة إلى الحق والعدول عن الباطل فإن ذلك إذا تم حقنت دماء الفريقين . فإن قلت كيف يجوز أن يدعو الله تعالى بما لا يفعله أ ليس من أصولكم أن الله تعالى لا يضطر المكلف إلى اعتقاد الحق وإنما يكله إلى نظره . قلت الأمر وإن كان كذلك إلا أن المكلفين قد تعبدوا بأن يدعوا الله تعالى
[ 24 ](1/3049)
بذلك لأن في دعائهم إياه بذلك لطفا لهم ومصالح في أديانهم كالدعاء بزيادة الرزق وتأخير الأجل . قوله وأصلح ذات بيننا وبينهم يعني أحوالنا وأحوالهم ولما كانت الأحوال ملابسة للبين قيل لها ذات البين كما أنه لما كانت الضمائر ملابسة للصدور قيل ذات الصدور وكذلك قولهم اسقني ذا إنائك لما كان ما فيه من الشراب ملابسا له ويقولون للمتبرز قد وضع ذا بطنه وللحبلى تضع ألقت ذا بطنها . وارعوى عن الغي رجع وكف . لهج به بالكسر يلهج أغرى به وثابر عليه
[ 25 ](1/3050)
200 ومن كلام له ع في بعض أيام صفين وقد رأى الحسن ابنه ع يتسرع إلى الحرب
اِمْلِكُوا عَنِّي هَذَا اَلْغُلاَمَ لاَ يَهُدَّنِي فَإِنَّنِي أَنْفَسُ بِهَذَيْنِ يَعْنِي اَلْحَسَنَ وَ اَلْحُسَيْنَ ع عَلَى اَلْمَوْتِ لِئَلاَّ يَنْقَطِعَ بِهِمَا نَسْلُ رَسُولِ اَللَّهِ ص قال الرضي أبو الحسن رحمه الله قوله ع املكوا عني هذا الغلام من أعلى الكلام وأفصحه الألف في املكوا ألف وصل لأن الماضي ثلاثي من ملكت الفرس والعبد والدار أملك بالكسر أي احجروا عليه كما يحجر المالك على مملوكه . وعن متعلقة بمحذوف تقديره استولوا عليه وأبعدوه عني ولما كان الملك سبب الحجر على المملوك عبر بالسبب عن المسبب كما عبر بالنكاح عن العقد وهو في الحقيقة اسم الوطء لما كان العقد طريقا إلى الوطء وسببا له . ووجه علو هذا الكلام وفصاحته أنه لما كان في املكوا معنى البعد أعقبه
[ 26 ]
بعن وذلك أنهم لا يملكونه دون أمير المؤمنين ع إلا وقد أبعدوه عنه أ لا ترى أنك إذا حجرت على زيد دون عمرو فقد باعدت زيدا عن عمرو فلذلك قال املكوا عني هذا الغلام واستفصح الشارحون قول أبي الطيب
إذا كان شم الروح أدنى إليكم
فلا برحتني روضة وقبول
قالوا ولما كان في فلا برحتني معنى فارقتني عدي اللفظة وإن كانت لازمة نظرا إلى المعنى . قوله لا يهدني أي لئلا يهدني فحذف كما حذف طرفه في قوله
ألا أي هذا الزاجري أحضر الوغى(1/3051)
أي لأن أحضر . وأنفس أبخل نفست عليه بكذا بالكسر . فإن قلت أ يجوز أن يقال للحسن والحسين وولدهما أبناء رسول الله وولد رسول الله وذرية رسول الله ونسل رسول الله . قلت نعم لأن الله تعالى سماهم أبناءه في قوله تعالى نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وإنما عنى الحسن والحسين ولو أوصى لولد فلان بمال دخل فيه أولاد البنات وسمى الله تعالى عيسى ذرية إبراهيم في قوله وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ إلى أن قال وَ يَحْيى وَ عِيسى ولم يختلف أهل اللغة في أن ولد البنات من نسل الرجل .
[ 27 ](1/3052)
فإن قلت فما تصنع بقوله تعالى ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ قلت أسألك عن أبوته لإبراهيم بن مارية فكما تجيب به عن ذلك فهو جوابي عن الحسن والحسين ع . والجواب الشامل للجميع أنه عنى زيد بن حارثة لأن العرب كانت تقول زيد بن محمد على عادتهم في تبني العبيد فأبطل الله تعالى ذلك ونهى عن سنة الجاهلية وقال إن محمدا ع ليس أبا لواحد من الرجال البالغين المعروفين بينكم ليعتزي إليه بالنبوة وذلك لا ينفي كونه أبا لأطفال لم تطلق عليهم لفظة الرجال كإبراهيم وحسن وحسين ع . فإن قلت أ تقول إن ابن البنت ابن على الحقيقة الأصلية أم على سبيل المجاز . قلت لذاهب أن يذهب إلى أنه حقيقة أصلية لأن أصل الإطلاق الحقيقة وقد يكون اللفظ مشتركا بين مفهومين وهو في أحدهما أشهر ولا يلزم من كونه أشهر في أحدهما ألا يكون حقيقة في الآخر . ولذاهب أن يذهب إلى أنه حقيقة عرفية وهي التي كثر استعمالها وهي في الأكثر مجاز حتى صارت حقيقة في العرف كالراوية للمزادة والسماء للمطر . ولذاهب أن يذهب إلى كونه مجازا قد استعمله الشارع فجاز إطلاقه في كل حال واستعماله كسائر المجازات المستعملة . ومما يدل على اختصاص ولد فاطمة دون بني هاشم كافة بالنبي ع أنه ما كان يحل له ع أن ينكح بنات الحسن والحسين ع ولا بنات ذريتهما وإن بعدن وطال الزمان ويحل له نكاح بنات غيرهم من بني هاشم من الطالبيين وغيرهم وهذا يدل على مزيد الأقربية وهي كونهم أولاده لأنه ليس هناك من القربى غير
[ 28 ]
هذا الوجه لأنهم ليسوا أولاد أخيه ولا أولاد أخته ولا هناك وجه يقتضي حرمتهم عليه إلا كونه والدا لهم وكونهم أولادا له فإن قلت قد قال الشاعر
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا
بنوهن أبناء الرجال الأباعد(1/3053)
و قال حكيم العرب أكثم بن صيفي في البنات يذمهن إنهن يلدن الأعداء ويورثن البعداء . قلت إنما قال الشاعر ما قاله على المفهوم الأشهر وليس في قول أكثم ما يدل على نفي بنوتهم وإنما ذكر أنهن يلدن الأعداء وقد يكون ولد الرجل لصلبه عدوا قال الله تعالى إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَ أَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ ولا ينفي كونه عدوا كونه ابنا . قيل لمحمد بن الحنفية ع لم يغرر بك أبوك في الحرب ولم لا يغرر بالحسن والحسين فقال لأنهما عيناه وأنا يمينه فهو يذب عن عينيه بيمينه
[ 29 ](1/3054)
201 ومن كلام له ع قاله لما اضطرب عليه أصحابه في أمر الحكومة
يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَزَلْ أَمْرِي مَعَكُمْ عَلَى مَا أُحِبُّ حَتَّى نَهِكَتْكُمُ اَلْحَرْبُ وَ قَدْ وَ اَللَّهِ أَخَذَتْ مِنْكُمْ وَ تَرَكَتْ وَ هِيَ لِعَدُوِّكُمْ أَنْهَكُ . لَقَدْ كُنْتُ أَمْسِ أَمِيراً فَأَصْبَحْتُ اَلْيَوْمَ مَأْمُوراً وَ كُنْتُ أَمْسِ نَاهِياً فَأَصْبَحْتُ اَلْيَوْمَ مَنْهِيّاً وَ قَدْ أَحْبَبْتُمُ اَلْبَقَاءَ وَ لَيْسَ لِي أَنْ أَحْمِلَكُمْ عَلَى مَا تَكْرَهُونَ نهكتكم بكسر الهاء أدنفتكم وأذابتكم ويجوز فتح الهاء وقد نهك الرجل أي دنف وضني فهو منهوك وعليه نهكه المرض أي أثرة الحرب مؤنثة . وقد أخذت منكم وتركت أي لم تستأصلكم بل فيكم بعد بقية وهي لعدوكم أنهك لأن القتل في أهل الشام كان أشد استحرارا والوهن فيهم أظهر ولو لا فساد أهل العراق برفع المصاحف لاستؤصل الشام وخلص الأشتر إلى معاوية فأخذه بعنقه ولم يكن قد بقي من قوة الشام إلا كحركة ذنب الوزغة عند قتلها يضطرب يمينا وشمالا ولكن الأمور السماوية لا تغالب . فأما قوله كنت أمس أميرا فأصبحت اليوم مأمورا فقد قدمنا شرح حالهم من قبل وأن أهل العراق لما رفع عمرو بن العاص ومن معه المصاحف على وجه المكيدة
[ 30 ](1/3055)
حين أحس بالعطب وعلو كلمة أهل الحق ألزموا أمير المؤمنين ع بوضع أوزار الحرب وكف الأيدي عن القتال وكانوا في ذلك على أقسام فمنهم من دخلت عليه الشبهة برفع المصاحف وغلب على ظنه أن أهل الشام لم يفعلوا ذلك خدعة وحيلة بل حقا ودعاء إلى الدين وموجب الكتاب فرأى أن الاستسلام للحجة أولى من الإصرار على الحرب . ومنهم من كان قد مل الحرب وآثر السلم فلما رأى شبهة ما يسوغ التعلق بها في رفض المحاربة وحب العافية أخلد إليهم . ومنهم من كان يبغض عليا ع بباطنه ويطيعه بظاهره كما يطيع كثير من الناس السلطان في الظاهر ويبغضه بقلبه فلما وجدوا طريقا إلى خذلانه وترك نصرته أسرعوا نحوها فاجتمع جمهور عسكره عليه وطالبوه بالكف وترك القتال فامتنع امتناع عالم بالمكيدة وقال لهم إنها حيلة وخديعة وإني أعرف بالقوم منكم إنهم ليسوا بأصحاب قرآن ولا دين قد صحبتهم وعرفتهم صغيرا وكبيرا فعرفت منهم الإعراض عن الدين والركون إلى الدنيا فلا تراعوا برفع المصاحف وصمموا على الحرب وقد ملكتموهم فلم يبق منهم إلا حشاشة ضعيفة وذماء قليل فأبوا عليه وألحوا وأصروا على القعود والخذلان وأمروه بالإنفاذ إلى المحاربين من أصحابه وعليهم الأشتر أن يأمرهم بالرجوع وتهددوه إن لم يفعل بإسلامه إلى معاوية فأرسل إلى الأشتر يأمره بالرجوع وترك الحرب فأبى عليه فقال كيف أرجع وقد لاحت أمارات الظفر فقولوا له ليمهلني ساعة واحدة ولم يكن علم صورة الحال كيف قد وقعت فلما عاد إليه الرسول بذلك غضبوا ونفروا وشغبوا وقالوا أنفذت إلى الأشتر سرا وباطنا تأمره بالتصميم وتنهاه عن الكف وإن لم تعده الساعة وإلا قتلناك كما قتلنا عثمان فرجعت الرسل إلى الأشتر فقالوا له أ تحب أن تظفر بمكانك وأمير المؤمنين قد سل عليه
[ 31 ](1/3056)
خمسون ألف سيف فقال ما الخبر قال إن الجيش بأسره قد أحدق به وهو قاعد بينهم على الأرض تحته نطع وهو مطرق والبارقة تلمع على رأسه يقولون لئن لم تعد الأشتر قتلناك قال ويحكم فما سبب ذلك قالوا رفع المصاحف قال والله لقد ظننت حين رأيتها رفعت أنها ستوقع فرقة وفتنة . ثم كر راجعا على عقبيه فوجد أمير المؤمنين ع تحت الخطر قد ردده أصحابه بين أمرين إما أن يسلموه إلى معاوية أو يقتلوه ولا ناصر له منهم إلا ولداه وابن عمه ونفر قليل لا يبلغون عشرة فلما رآهم الأشتر سبهم وشتمهم وقال ويحكم أ بعد الظفر والنصر صب عليكم الخذلان والفرقة يا ضعاف الأحلام يا أشباه النساء يا سفهاء العقول فشتموه وسبوه وقهروه وقالوا المصاحف المصاحف والرجوع إليها لا نرى غير ذلك فأجاب أمير المؤمنين ع إلى التحكيم دفعا للمحذور الأعظم بارتكاب المحظور الأضعف فلذلك قال كنت أميرا فأصبحت مأمورا وكنت ناهيا فصرت منهيا وقد سبق من شرح حال التحكيم وما جرى فيه ما يغني عن إعادته
[ 32 ](1/3057)
202 ومن كلام له ع بالبصرة وقد دخل على العلاء بن زياد الحارثي
و هو من أصحابه يعوده فلما رأى سعة داره قال : مَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِسَعَةِ بِسِعَةِ هَذِهِ اَلدَّارِ فِي اَلدُّنْيَا أَمَا وَ أَنْتَ إِلَيْهَا فِي اَلآْخِرَةِ كُنْتَ أَحْوَجَ وَ بَلَى إِنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا اَلآْخِرَةَ تَقْرِي فِيهَا اَلضَّيْفَ وَ تَصِلُ فِيهَا اَلرَّحِمَ وَ تُطْلِعُ مِنْهَا اَلْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا فَإِذاً أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا اَلآْخِرَةَ فَقَالَ لَهُ اَلْعَلاَءُ يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَشْكُو إِلَيْكَ أَخِي عَاصِمَ بْنَ زِيَادٍ قَالَ وَ مَا لَهُ قَالَ لَبِسَ اَلْعَبَاءَةَ اَلْعَبَاءَ وَ تَخَلَّى مِنَ عَنِ اَلدُّنْيَا قَالَ عَلَيَّ بِهِ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ يَا عُدَيَّ نَفْسِهِ لَقَدِ اِسْتَهَامَ بِكَ اَلْخَبِيثُ أَ مَا رَحِمْتَ أَهْلَكَ وَ وَلَدَكَ أَ تَرَى اَللَّهَ أَحَلَّ لَكَ اَلطَّيِّبَاتِ وَ هُوَ يَكْرَهُ أَنْ تَأْخُذَهَا أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَى اَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ قَالَ يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ هَذَا أَنْتَ فِي خُشُونَةِ مَلْبَسِكَ وَ جُشُوبَةِ مَأْكَلِكَ قَالَ وَيْحَكَ إِنِّي لَسْتُ كَأَنْتَ إِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ اَلْحَقِّ اَلْعَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ اَلنَّاسِ كَيْلاَ يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ
[ 33 ](1/3058)
كنت هاهنا زائدة مثل قوله تعالى كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي اَلْمَهْدِ صَبِيًّا . وقوله وبلى إن شئت بلغت بها الآخرة لفظ فصيح كأنه استدرك وقال وبلى على أنك قد تحتاج إليها في الدنيا لتجعلها وصلة إلى نبل الآخرة بأن تقري فيها الضيف والضيف لفظ يقع على الواحد والجمع وقد يجمع فيقال ضيوف وأضياف والرحم القرابة . وتطلع منها الحقوق مطالعها توقعها في مظان استحقاقها . والعباء جمع عباءة وهي الكساء وقد تلين كما قالوا عظاءة وعظاية وصلاءة وصلاية . وتقول علي بفلان أي أحضره والأصل أعجل به علي فحذف فعل الأمر ودل الباقي عليه . ويا عدي نفسه تصغير عدو وقد يمكن أن يراد به التحقير المحض هاهنا . ويمكن أن يراد به الاستعظام لعداوته لها ويمكن أن يخرج مخرج التحنن والشفقة كقولك يا بني . واستهام بك الخبيث يعني الشيطان أي جعلك هائما ضالا والباء زائدة . فإن قيل ما معنى قوله ع أنت أهون على الله من ذلك . قلت لأن في المشاهد قد يحل الواحد منا لصاحبه فعلا مخصوصا محاباة ومراقبة له
[ 34 ]
و هو يكره أن يفعله والبشر أهون على الله تعالى من أن يحل لهم أمرا مجاملة واستصلاحا للحال معهم وهو يكره منهم فعله . وقوله هذا أنت أي فما بالنا نراك خشن الملبس والتقدير فها أنت تفعل كذا فكيف تنهى عنه . وطعام جشب أي غليظ وكذلك مجشوب وقيل إنه الذي لا أدم معه . قوله ع أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس أي يشبهوا ويمثلوا . وتبيغ الدم بصاحبه وتبوغ به أي هاج به و
في الحديث عليكم بالحجامة لا يتبيغ بأحدكم الدم فيقتله وقيل أصل يتبيغ يتبغى فقلب جذب وجبذ أي يجب على الإمام العادل أن يشبه نفسه في لباسه وطعامه بضعفة الناس جمع ضعيف لكيلا يهلك الفقراء من الناس فإنهم إذا رأوا إمامهم بتلك الهيئة وبذلك المطعم كان أدعى لهم إلى سلوان لذات الدنيا والصبر عن شهوات النفوس(1/3059)
ذكر بعض مقامات العارفين والزهاد
و روي أن قوما من المتصوفة دخلوا خراسان على علي بن موسى الرضا فقالوا له إن أمير المؤمنين فكر فيما ولاه الله من الأمور فرآكم أهل البيت أولى الناس أن تؤموا الناس ونظر فيك من أهل البيت فرآك أولى الناس بالناس فرأى أن يرد هذا الأمر إليك والإمامة تحتاج إلى من يأكل الجشب ويلبس الخشن ويركب الحمار ويعود المريض فقال لهم إن يوسف كان نبيا يلبس أقبية الديباج المزررة بالذهب ويجلس على متكآت آل فرعون ويحكم إنما يراد من الإمام قسطه وعدله إذا قال صدق
[ 35 ](1/3060)
و إذا حكم عدل وإذا وعد أنجز إن الله لم يحرم لبوسا ولا مطعما ثم قرأ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللَّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ اَلطَّيِّباتِ مِنَ اَلرِّزْقِ الآية . وهذا القول مخالف للقانون الذي أشار أمير المؤمنين إليه وللفلاسفة في هذا الباب كلام لا بأس به وقد أشار إليه أبو علي بن سينا في كتاب الإشارات وعليه يتخرج قولا أمير المؤمنين وعلي بن موسى الرضا ع قال أبو علي في مقامات العارفين العارفون قد يختلفون في الهمم بحسب ما يختلف فيهم من الخواطر على حسب ما يختلف عندهم من دواعي العبر فربما استوى عند العارف القشف والترف بل ربما آثر القشف وكذلك ربما سوى عنده التفل والعطر بل ربما آثر التفل وذلك عند ما يكون الهاجس بباله استحقار ما عدا الحق وربما صغا إلى الزينة وأحب من كل شي ء عقيلته وكره الخداج والسقط وذلك عند ما يعتبر عادته من صحبته الأحوال الظاهرة فهو يرتاد إليها في كل شي ء لأنه مزية خطوة من العناية الأولى وأقرب أن يكون من قبيل ما عكف عليه بهواه وقد يختلف هذا في عارفين وقد يختلف في عارف بحسب وقتين . واعلم أن الذي رويته عن الشيوخ ورأيته بخط عبد الله بن أحمد بن الخشاب رحمه الله أن الربيع بن زياد الحارثي أصابته نشابة في جبينه فكانت تنتقض عليه في كل عام فأتاه علي ع عائدا فقال كيف تجدك أبا عبد الرحمن قال أجدني يا أمير المؤمنين لو كان لا يذهب ما بي إلا بذهاب بصري لتمنيت ذهابه قال وما قيمة بصرك عندك قال لو كانت لي الدنيا لفديته بها قال لا جرم ليعطينك الله على قدر ذلك إن الله تعالى يعطي على قدر الألم والمصيبة وعنده تضعيف كثير قال الربيع
[ 36 ](1/3061)
يا أمير المؤمنين أ لا أشكو إليك عاصم بن زياد أخي قال ما له قال لبس العباء وترك الملاء وغم أهله وحزن ولده فقال علي ادعوا لي عاصما فلما أتاه عبس في وجهه وقال ويحك يا عاصم أ ترى الله أباح لك اللذات وهو يكره ما أخذت منها لأنت أهون على الله من ذلك أ وما سمعته يقول مَرَجَ اَلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ ثم يقول يَخْرُجُ مِنْهُمَا اَللُّؤْلُؤُ وَ اَلْمَرْجانُ وقال وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها أما والله إن ابتذال نعم الله بالفعال أحب إليه من ابتذالها بالمقال وقد سمعتم الله يقول وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ وقوله مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللَّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ اَلطَّيِّباتِ مِنَ اَلرِّزْقِ إن الله خاطب المؤمنين بما خاطب به المرسلين فقال يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وقال يا أَيُّهَا اَلرُّسُلُ كُلُوا مِنَ اَلطَّيِّباتِ وَ اِعْمَلُوا صالِحاً و
قال رسول الله ص لبعض نسائه ما لي أراك شعثاء مرهاء سلتاء . قال عاصم فلم اقتصرت يا أمير المؤمنين على لبس الخشن وأكل الجشب قال إن الله تعالى افترض على أئمة العدل أن يقدروا لأنفسهم بالقوام كيلا يتبيغ بالفقير فقره فما قام علي ع حتى نزع عاصم العباء ولبس ملاءة . والربيع بن زياد هو الذي افتتح بعض خراسان وفيه قال عمر دلوني على رجل إذا كان
[ 37 ](1/3062)
في القوم أميرا فكأنه ليس بأمير وإذا كان في القوم ليس بأمير فكأنه الأمير بعينه وكان خيرا متواضعا وهو صاحب الوقعة مع عمر لما أحضر العمال فتوحش له الربيع وتقشف وأكل معه الجشب من الطعام فأقره على عمله وصرف الباقين وقد ذكرنا هذه الحكاية فيما تقدم . وكتب زياد ابن أبيه إلى الربيع بن زياد وهو على قطعة من خراسان أن أمير المؤمنين معاوية كتب إلي يأمرك أن تحرز الصفراء والبيضاء وتقسم الخرثي وما أشبهه على أهل الحرب فقال له الربيع إني وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير المؤمنين ثم نادى في الناس أن اغدوا علي غنائمكم فأخذ الخمس وقسم الباقي على المسلمين ثم دعا الله أن يميته فما جمع حتى مات . وهو الربيع بن زياد بن أنس بن ديان بن قطر بن زياد بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن كعب بن مالك بن كعب بن الحارث بن عمرو بن وعلة بن خالد بن مالك بن أدد . وأما العلاء بن زياد الذي ذكره الرضي رحمه الله فلا أعرفه لعل غيري يعرفه
[ 38 ](1/3063)
203 ومن كلام له ع وقد سأله سائل عن أحاديث البدع وعما في أيدي الناس من اختلاف الخبر
فقال ع : إِنَّ فِي أَيْدِي اَلنَّاسِ حَقّاً وَ بَاطِلاً وَ صِدْقاً وَ كَذِباً وَ نَاسِخاً وَ مَنْسُوخاً وَ عَامّاً وَ خَاصّاً وَ مُحْكَماً وَ مُتَشَابِهاً وَ حِفْظاً وَ وَهَماً وَهْماً وَ قَدْ لَقَدْ كُذِبَ عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ ص عَلَى عَهْدِهِ حَتَّى قَامَ خَطِيباً فَقَالَ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ اَلنَّارِ وَ إِنَّمَا أَتَاكَ بِالْحَدِيثِ أَرْبَعَةُ رِجَالٍ لَيْسَ لَهُمْ خَامِسٌ رَجُلٌ مُنَافِقٌ مُظْهِرٌ لِلْإِيمَانِ مُتَصَنِّعٌ بِالْإِسْلاَمِ لاَ يَتَأَثَّمُ وَ لاَ يَتَحَرَّجُ يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ ص مُتَعَمِّداً فَلَوْ عَلِمَ اَلنَّاسُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ كَاذِبٌ لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ وَ لَمْ يُصَدِّقُوا قَوْلَهُ وَ لَكِنَّهُمْ قَالُوا صَاحِبُ رَسُولِ اَللَّهِ ص رَآهُ وَ سَمِعَ مِنْهُ وَ لَقِفَ عَنْهُ فَيَأْخُذُونَ بِقَوْلِهِ وَ قَدْ أَخْبَرَكَ اَللَّهُ عَنِ اَلْمُنَافِقِينَ بِمَا أَخْبَرَكَ وَ وَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ لَكَ ثُمَّ بَقُوا بَعْدَهُ فَتَقَرَّبُوا إِلَى أَئِمَّةِ اَلضَّلاَلَةِ وَ اَلدُّعَاةِ إِلَى اَلنَّارِ بِالزُّورِ وَ اَلْبُهْتَانِ فَوَلَّوْهُمُ اَلْأَعْمَالَ وَ جَعَلُوهُمْ حُكَّاماً عَلَى رِقَابِ اَلنَّاسِ فَأَكَلُوا بِهِمُ اَلدُّنْيَا وَ إِنَّمَا اَلنَّاسُ مَعَ اَلْمُلُوكِ وَ اَلدُّنْيَا إِلاَّ مَنْ عَصَمَ اَللَّهُ فَهَذَا أَحَدُ اَلْأَرْبَعَةِ وَ رَجُلٌ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اَللَّهِ شَيْئاً لَمْ يَحْفَظْهُ عَلَى وَجْهِهِ فَوَهِمَ فِيهِ وَ لَمْ يَتَعَمَّدْ
[ 39 ](1/3064)
كَذِباً فَهُوَ فِي يَدَيْهِ وَ يَرْوِيهِ وَ يَعْمَلُ بِهِ وَ يَقُولُ أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اَللَّهِ ص فَلَوْ عَلِمَ اَلْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ وَهِمَ فِيهِ لَمْ يَقْبَلُوهُ مِنْهُ وَ لَوْ عَلِمَ هُوَ أَنَّهُ كَذَلِكَ لَرَفَضَهُ وَ رَجُلٌ ثَالِثٌ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اَللَّهِ ص شَيْئاً يَأْمُرُ بِهِ ثُمَّ إِنَّهُ نَهَى عَنْهُ وَ هُوَ لاَ يَعْلَمُ أَوْ سَمِعَهُ يَنْهَى عَنْ شَيْ ءٍ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ وَ هُوَ لاَ يَعْلَمُ فَحَفِظَ اَلْمَنْسُوخَ وَ لَمْ يَحْفَظِ اَلنَّاسِخَ فَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضَهُ وَ لَوْ عَلِمَ اَلْمُسْلِمُونَ إِذْ سَمِعُوهُ مِنْهُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضُوهُ وَ آخَرُ رَابِعٌ لَمْ يَكْذِبْ عَلَى اَللَّهِ وَ لاَ عَلَى رَسُولِهِ مُبْغِضٌ لِلْكَذِبِ خَوْفاً مِنَ اَللَّهِ وَ تَعْظِيماً لِرَسُولِ اَللَّهِ ص وَ لَمْ يَهِمْ بَلْ حَفِظَ مَا سَمِعَ عَلَى وَجْهِهِ فَجَاءَ بِهِ عَلَى مَا سَمِعَهُ سَمْعِهِ لَمْ يَزِدْ فِيهِ وَ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ فَهُوَ حَفِظَ اَلنَّاسِخَ فَعَمِلَ بِهِ وَ حَفِظَ اَلْمَنْسُوخَ فَجَنَّبَ عَنْهُ وَ عَرَفَ اَلْخَاصَّ وَ اَلْعَامَّ وَ اَلْمُحْكَمَ وَ اَلْمُتَشَابِهَ فَوَضَعَ كُلَّ شَيْ ءٍ مَوْضِعَهُ وَ قَدْ كَانَ يَكُونُ مِنْ رَسُولِ اَللَّهِ ص اَلْكَلاَمُ لَهُ وَجْهَانِ فَكَلاَمٌ خَاصٌّ وَ كَلاَمٌ عَامٌّ فَيَسْمَعُهُ مَنْ لاَ يَعْرِفُ مَا عَنَى اَللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ وَ لاَ مَا عَنَى رَسُولُ اَللَّهِ ص فَيَحْمِلُهُ اَلسَّامِعُ وَ يُوَجِّهُهُ عَلَى غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِمَعْنَاهُ وَ مَا قَصَدَ قُصِدَ بِهِ وَ مَا خَرَجَ مِنْ أَجْلِهِ وَ لَيْسَ كُلُّ أَصْحَابِ رَسُولِ اَللَّهِ ص مَنْ كَانَ يَسْأَلُهُ وَ يَسْتَفْهِمُهُ حَتَّى إِنْ كَانُوا لَيُحِبُّونَ أَنْ يَجِي ءَ اَلْأَعْرَابِيُّ وَ اَلطَّارِئُ فَيَسْأَلَهُ ع حَتَّى(1/3065)
يَسْمَعُوا وَ كَانَ لاَ يَمُرُّ بِي مِنْ ذَلِكَ شَيْ ءٌ إِلاَّ سَأَلْتُهُ عَنْهُ وَ حَفِظْتُهُ فَهَذِهِ وُجُوهُ مَا عَلَيْهِ اَلنَّاسُ فِي اِخْتِلاَفِهِمْ وَ عِلَلِهِمْ فِي رِوَايَاتِهِمْ
[ 40 ]
الكلام في تفسير الألفاظ الأصولية وهي العام والخاص والناسخ والمنسوخ والصدق والكذب والمحكم والمتشابه موكول إلى فن أصول الفقه وقد ذكرناه فيما أمليناه من الكتب الأصولية والإطالة بشرح ذلك في هذا الموضع مستهجنة . قوله ع وحفظا ووهما الهاء مفتوحة وهي مصدر وهمت بالكسر أوهم أي غلطت وسهوت وقد روي وهما بالتسكين وهو مصدر وهمت بالفتح أوهم إذا ذهب وهمك إلى شي ء وأنت تريد غيره والمعنى متقارب . و
قول النبي ص فليتبوأ مقعده من النار كلام صيغته الأمر ومعناه الخبر كقوله تعالى قُلْ مَنْ كانَ فِي اَلضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ اَلرَّحْمنُ مَدًّا وتبوأت المنزل نزلته وبوأته منزلا أنزلته فيه . والتأثم الكف عن موجب الإثم والتحرج مثله وأصله الضيق كأنه يضيق على نفسه . ولقف عنه تناول عنه . وجنب عنه أخذ عنه جانبا . وإن في قوله حتى إن كانوا ليحبون مخففة من الثقيلة ولذلك جاءت اللام في الخبر . والطارئ بالهمز الطالع عليهم طرأ أي طلع وقد روي عللهم بالرفع عطفا على وجوه وروي بالجر عطفا على اختلافهم
[ 41 ](1/3066)
ذكر بعض أحوال المنافقين بعد وفاة محمد ع
و اعلم أن هذا التقسيم صحيح وقد كان في أيام الرسول ص منافقون وبقوا بعده وليس يمكن أن يقال إن النفاق مات بموته والسبب في استتار حالهم بعده أنه ص كان لا يزال بذكرهم بما ينزل عليه من القرآن فإنه مشحون بذكرهم أ لا ترى أن أكثر ما نزل بالمدينة من القرآن مملوء بذكر المنافقين فكان السبب في انتشار ذكرهم وأحوالهم وحركاتهم هو القرآن فلما انقطع الوحي بموته ص لم يبق من ينعى عليهم سقطاتهم ويوبخهم على أعمالهم ويأمر بالحذر منهم ويجاهرهم تارة ويجاملهم تارة وصار المتولي للأمر بعده يحمل الناس كلهم على كاهل المجاملة ويعاملهم بالظاهر وهو الواجب في حكم الشرع والسياسة الدنيوية بخلاف حال الرسول ص فإنه كان تكليفه معهم غير هذا التكليف أ لا ترى أنه قيل له وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً فهذا يدل على أنه كان يعرفهم بأعيانهم وإلا كان النهي له عن الصلاة عليهم تكليف ما لا يطاق والوالي بعده لا يعرفهم بأعيانهم فليس مخاطبا بما خوطب به ص في أمرهم ولسكوت الخلفاء عنهم بعده خمل ذكرهم فكان قصارى أمر المنافق أن يسر ما في قلبه ويعامل المسلمين بظاهره ويعاملونه بحسب ذلك ثم فتحت عليهم البلاد وكثرت الغنائم فاشتغلوا بها عن الحركات التي كانوا يعتمدونها أيام رسول الله وبعثهم الخلفاء مع الأمراء إلى بلاد فارس والروم فألهتهم الدنيا عن الأمور التي كانت تنقم منهم في حياة رسول الله ص ومنهم من استقام اعتقاده وخلصت نيته لما رأوا الفتوح وإلقاء الدنيا أفلاذ كبدها من الأموال العظيمة والكنوز الجليلة إليهم فقالوا لو لم يكن هذا الدين
[ 42 ](1/3067)
حقا لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه وبالجملة لما تركوا تركوا وحيث سكت عنهم سكتوا عن الإسلام وأهله إلا في دسيسة خفية يعملونها نحو الكذب الذي أشار إليه أمير المؤمنين ع فإنه خالط الحديث كذب كثير صدر عن قوم غير صحيحي العقيدة قصدوا به الإضلال وتخبيط القلوب والعقائد وقصد به بعضهم التنويه بذكر قوم كان لهم في التنويه بذكرهم غرض دنيوي وقد قيل إنه افتعل في أيام معاوية خاصة حديث كثير على هذا الوجه ولم يسكت المحدثون الراسخون في علم الحديث عن هذا بل ذكروا كثيرا من هذه الأحاديث الموضوعة وبينوا وضعها وأن رواتها غير موثوق بهم إلا أن المحدثين إنما يطعنون فيما دون طبقة الصحابة ولا يتجاسرون في الطعن على أحد من الصحابة لأن عليه لفظ الصحبة على أنهم قد طعنوا في قوم لهم صحبة كبسر بن أرطاة وغيره . فإن قلت من هم أئمة الضلالة الذين يتقرب إليهم المنافقون الذين رأوا رسول الله ص وصحبوه للزور والبهتان وهل هذا إلا تصريح بما تذكره الإمامية وتعتقده . قلت ليس الأمر كما ظننت وظنوا وإنما يعني معاوية وعمرو بن العاص ومن شايعهما على الضلال كالخبر الذي رواه من في حق معاوية اللهم قه العذاب والحساب وعلمه الكتاب وكرواية عمرو بن العاص تقربا إلى قلب معاوية إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين وكرواية قوم في أيام معاوية أخبارا كثيرة من فضائل عثمان تقربا إلى معاوية بها ولسنا نجحد فضل عثمان وسابقته ولكنا نعلم أن بعض الأخبار الواردة فيه موضوع كخبر عمرو بن مرة فيه وهو مشهور وعمر بن مرة ممن له صحبة وهو شامي
[ 43 ](1/3068)
ذكر بعض ما مني به آل البيت من الأذى والاضطهاد
و ليس يجب من قولنا إن بعض الأخبار الواردة في حق شخص فاضل مفتعلة أن تكون قادحة في فضل ذلك الفاضل فإنا مع اعتقادنا أن عليا أفضل الناس نعتقد أن بعض الأخبار الواردة في فضائله مفتعل ومختلق . وقد روي
أن أبا جعفر محمد بن علي الباقر ع قال لبعض أصحابه يا فلان ما لقينا من ظلم قريش إيانا وتظاهرهم علينا وما لقي شيعتنا ومحبونا من الناس إن رسول الله ص قبض وقد أخبر أنا أولى الناس بالناس فتمالأت علينا قريش حتى أخرجت الأمر عن معدنه واحتجت على الأنصار بحقنا وحجتنا ثم تداولتها قريش واحد بعد واحد حتى رجعت إلينا فنكثت بيعتنا ونصبت الحرب لنا ولم يزل صاحب الأمر في صعود كئود حتى قتل فبويع الحسن ابنه وعوهد ثم غدر به وأسلم ووثب عليه أهل العراق حتى طعن بخنجر في جنبه ونهبت عسكره وعولجت خلاليل أمهات أولاده فوادع معاوية وحقن دمه ودماء أهل بيته وهم قليل حق قليل ثم بايع الحسين ع من أهل العراق عشرون ألفا ثم غدروا به وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم وقتلوه ثم لم نزل أهل البيت نستذل ونستضام ونقصى ونمتهن ونحرم ونقتل ونخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعا يتقربون به إلى أوليائهم وقضاة السوء وعمال السوء في كل بلدة فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة ورووا عنا ما لم نقله وما لم نفعله ليبغضونا إلى الناس وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن ع فقتلت شيعتنا بكل بلدة وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة وكان من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد
[ 44 ](1/3069)
إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين ع ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتلة وأخذهم بكل ظنة وتهمة حتى أن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحب إليه من أن يقال شيعة علي وحتى صار الرجل الذي يذكر بالخير ولعله يكون ورعا صدوقا يحدث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة ولم يخلق الله تعالى شيئا منها ولا كانت ولا وقعت وهو يحسب أنها حق لكثرة من قد رواها ممن لم يعرف بكذب ولا بقلة ورع . وروى أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدائني في كتاب الأحداث قال كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة أن برئت الذمة ممن روى شيئا من فضل أبي تراب وأهل بيته فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون عليا ويبرءون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة لكثرة من بها من شيعة علي ع فاستعمل عليهم زياد ابن سمية وضم إليه البصرة فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف لأنه كان منهم أيام علي ع فقتلهم تحت كل حجر ومدر وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل وسمل العيون وصلبهم على جذوع النخل وطرفهم وشردهم عن العراق فلم يبق بها معروف منهم وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق ألا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة وكتب إليهم أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه فادنوا مجالسهم وقربوهم وأكرموهم واكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته . ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع ويفيضه في العرب منهم والموالي فكثر ذلك في كل مصر وتنافسوا في المنازل والدنيا فليس يجي ء أحد مردود من الناس عاملا من
[ 45 ](1/3070)
عمال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلا كتب اسمه وقربه وشفعه فلبثوا بذلك حينا . ثم كتب إلى عماله أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه وناحية فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين ولا تتركوا خبرا يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة فإن هذا أحب إلى وأقر لعيني وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله . فقرئت كتبه على الناس فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها وجد الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر وألقي إلى معلمي الكتاتيب فعلموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن وحتى علموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم فلبثوا بذلك ما شاء الله . ثم كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب عليا وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه وشفع ذلك بنسخة أخرى من اتهمتموه بمولاه هؤلاء القوم فنكلوا به وأهدموا داره فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق ولا سيما بالكوفة حتى أن الرجل من شيعة علي ع ليأتيه من يثق به فيدخل بيته فيلقي إليه سره ويخاف من خادمه ومملوكه ولا يحدثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمن عليه فظهر حديث كثير موضوع وبهتان منتشر ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة وكان أعظم الناس في ذلك بلية القراء المراءون والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويقربوا مجالسهم ويصيبوا به الأموال والضياع
[ 46 ](1/3071)
و المنازل حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها وهم يظنون أنها حق ولو علموا أنها باطلة لما رووها ولا تدينوا بها . فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي ع فازداد البلاء والفتنة فلم يبق أحد من هذا القبيل إلا وهو خائف على دمه أو طريد في الأرض . ثم تفاقم الأمر بعد قتل الحسين ع وولي عبد الملك بن مروان فاشتد على الشيعة وولى عليهم الحجاج بن يوسف فتقرب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض علي وموالاة أعدائه وموالاة من يدعي من الناس أنهم أيضا أعداؤه فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم وأكثروا من الغض من علي ع وعيبه والطعن فيه والشنئان له حتى أن إنسانا وقف للحجاج ويقال إنه جد الأصمعي عبد الملك بن قريب فصاح به أيها الأمير إن أهلي عقوني فسموني عليا وإني فقير بائس وأنا إلى صلة الأمير محتاج فتضاحك له الحجاج وقال للطف ما توسلت به قد وليتك موضع كذا . وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه وهو من أكابر المحدثين وأعلامهم في تاريخه ما يناسب هذا الخبر وقال إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية تقربا إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم . قلت ولا يلزم من هذا أن يكون علي ع يسوءه أن يذكر الصحابة والمتقدمون عليه بالخير والفضل إلا أن معاوية وبني أمية كانوا يبنون الأمر من هذا على ما يظنونه في علي ع من أنه عدو من تقدم عليه ولم يكن الأمر في الحقيقة كما
[ 47 ](1/3072)
يظنونه ولكنه كان يرى أنه أفضل منهم وأنهم استأثروا عليه بالخلافة من غير تفسيق منه لهم ولا براءة منهم . فأما قوله ع ورجل سمع من رسول الله شيئا ولم يحفظه على وجهه فوهم فيه فقد وقع ذلك وقال أصحابنا في الخبر الذي رواه عبد الله بن عمر أن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه إن ابن عباس لما روي له هذا الخبر قال ذهل ابن عمر إنما مر رسول الله ص على قبر يهودي فقال إن أهله ليبكون عليه وإنه ليعذب . وقالوا أيضا إن عائشة أنكرت ذلك وقالت ذهل أبو عبد الرحمن كما ذهل في خبر قليب بدر
إنما قال ع إنهم ليبكون عليه وإنه ليعذب بجرمه . قالوا وموضع غلطه في خبر القليب أنه
روى أن النبي ص وقف على قليب بدر فقال هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ثم قال إنهم يسمعون ما أقول لهم فأنكرت عائشة ذلك وقالت إنما
قال إنهم يعلمون أن الذي كنت أقوله لهم هو الحق واستشهد بقوله تعالى إِنَّكَ لا تُسْمِعُ اَلْمَوْتى . فأما الرجل الثالث وهو الذي يسمع المنسوخ ولم يسمع الناسخ فقد وقع كثيرا وكتب الحديث والفقه مشحونة بذلك كالذين أباحوا لحوم الحمر الأهلية لخبر رووه في ذلك ولم يرووا الخبر الناسخ . وأما الرجل الرابع فهم العلماء الراسخون في العلم . وأما قوله ع وقد كان يكون من رسول الله ص الكلام له
[ 48 ](1/3073)
وجهان فهذا داخل في القسم الثاني وغير خارج عنه ولكنه كالنوع من الجنس لأن الوهم والغلط جنس تحته أنواع . واعلم أن أمير المؤمنين ع كان مخصوصا من دون الصحابة رضوان الله عليهم بخلوات كان يخلو بها مع رسول الله ص لا يطلع أحد من الناس على ما يدور بينهما وكان كثير السؤال للنبي ص عن معاني القرآن وعن معاني كلامه ص وإذا لم يسأل ابتدأه النبي ص بالتعليم والتثقيف ولم يكن أحد من أصحاب النبي ص كذلك بل كانوا أقساما فمنهم من يهابه أن يسأله وهم الذين يحبون أن يجي ء الأعرابي أو الطارئ فيسأله وهم يسمعون ومنهم من كان بليدا بعيد الفهم قليل الهمة في النظر والبحث ومنهم من كان مشغولا عن طلب العلم وفهم المعاني إما بعبادة أو دنيا ومنهم المقلد يرى أن فرضه السكوت وترك السؤال ومنهم المبغض الشانئ الذي ليس للدين عنده من الموقع ما يضيع وقته وزمانه بالسؤال عن دقائقه وغوامضه وانضاف إلى الأمر الخاص بعلي ع ذكاؤه وفطنته وطهارة طينته وإشراق نفسه وضوءها وإذا كان المحل قابلا متهيئا كان الفاعل المؤثر موجودا والموانع مرتفعة حصل الأثر على أتم ما يمكن فلذلك كان علي ع كما قال الحسن البصري رباني هذه الأمة وذا فضلها ولذا تسميه الفلاسفة إمام الأئمة وحكيم العرب(1/3074)
فصل فيما وضع الشيعة والبكرية من الأحاديث
و اعلم أن أصل الأكاذيب في أحاديث الفضائل كان من جهة الشيعة فإنهم وضعوا
[ 49 ]
في مبدأ الأمر أحاديث مختلفة في صاحبهم حملهم على وضعها عداوة خصومهم نحو حديث السطل وحديث الرمانة وحديث غزوة البئر التي كان فيها الشياطين وتعرف كما زعموا بذات العلم وحديث غسل سلمان الفارسي وطي الأرض وحديث الجمجمة ونحو ذلك فلما رأت البكرية ما صنعت الشيعة وضعت لصاحبها أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث نحو لو كنت متخذا خليلا فإنهم وضعوه في مقابلة حديث الإخاء ونحو سد الأبواب فإنه كان لعلي ع فقلبته البكرية إلى أبي بكر ونحو ايتوني بدواة وبياض أكتب فيه لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه اثنان ثم قال يأبى الله تعالى والمسلمون إلا أبا بكر فإنهم وضعوه في مقابلة
الحديث المروي عنه في مرضه ايتوني بدواة وبياض أكتب لكم ما لا تضلون بعده أبدا فاختلفوا عنده وقال قوم منهم لقد غلبه الوجع حسبنا كتاب الله ونحو حديث أنا راض عنك فهل أنت عني راض ونحو ذلك فلما رأت الشيعة ما قد وضعت البكرية أوسعوا في وضع الأحاديث فوضعوا حديث الطوق الحديد الذي زعموا أنه فتله في عنق خالد وحديث اللوح الذي زعموا أنه كان في غدائر الحنفية أم محمد وحديث لا يفعلن خالد ما آمر به وحديث الصحيفة التي علقت عام الفتح بالكعبة وحديث الشيخ الذي صعد المنبر يوم بويع أبو بكر فسبق الناس إلى بيعته وأحاديث مكذوبة كثيرة تقتضي نفاق قوم من أكابر الصحابة والتابعين الأولين وكفرهم وعلي أدون الطبقات فيهم فقابلتهم البكرية بمطاعن كثيرة في علي وفي ولديه ونسبوه تارة إلى ضعف العقل وتارة إلى ضعف السياسة وتارة إلى حب الدنيا والحرص عليها ولقد كان الفريقان في غنية عما اكتسباه واجترحاه ولقد كان في فضائل علي ع الثابتة الصحيحة وفضائل أبي بكر المحققة
[ 50 ](1/3075)
المعلومة ما يغني عن تكلف العصبية لهما فإن العصبية لهما أخرجت الفريقين من ذكر الفضائل إلى ذكر الرذائل ومن تعديد المحاسن إلى تعديد المساوئ والمقابح ونسأل الله تعالى أن يعصمنا من الميل إلى الهوى وحب العصبية وأن يجرينا على ما عودنا من حب الحق أين وجد وحيث كان سخط ذلك من سخط ورضي به من رضي بمنه ولطفه
[ 51 ](1/3076)
204 ومن خطبة له ع
وَ كَانَ مِنِ اِقْتِدَارِ جَبَرُوتِهِ وَ بَدِيعِ لَطَائِفِ صَنْعَتِهِ أَنْ جَعَلَ مِنْ مَاءِ اَلْبَحْرِ اَلزَّاخِرِ اَلْمُتَرَاكِمِ اَلْمُتَقَاصِفِ يَبَساً جَامِداً ثُمَّ فَطَرَ مِنْهُ أَطْبَاقاً فَفَتَقَهَا سَبْعَ سَمَوَاتٍ بَعْدَ اِرْتِتَاقِهَا فَاسْتَمْسَكَتْ بِأَمْرِهِ وَ قَامَتْ عَلَى حَدِّهِ وَ أَرْسَى أَرضاً يَحْمِلُهَا اَلْأَخْضَرُ اَلْمُثْعَنْجِرُ وَ اَلْقَمْقَامُ اَلْمُسَخَّرُ قَدْ ذَلَّ لِأَمْرِهِ وَ أَذْعَنَ لِهَيْبَتِهِ وَ وَقَفَ اَلْجَارِي مِنْهُ لِخَشْيَتِهِ وَ جَبَلَ جَلاَمِيدَهَا وَ نُشُوزَ مُتُونِهَا وَ أَطْوَادِهَا أَطْوَادَهَا فَأَرْسَاهَا فِي مَرَاسِيهَا وَ أَلْزَمَهَا قَرَارَاتِهَا قَرَارَتَهَا فَمَضَتْ رُءُوسُهَا فِي اَلْهَوَاءِ وَ رَسَتْ أُصُولُهَا فِي اَلْمَاءِ فَأَنْهَدَ جِبَالَهَا عَنْ سُهُولِهَا وَ أَسَاخَ قَوَاعِدَهَا فِي مُتُونِ أَقْطَارِهَا وَ مَوَاضِعِ أَنْصَابِهَا فَأَشْهَقَ قِلاَلَهَا وَ أَطَالَ أَنْشَازَهَا وَ جَعَلَهَا لِلْأَرْضِ عِمَاداً وَ أَرَّزَهَا فِيهَا أَوْتَاداً فَسَكَنَتْ عَلَى حَرَكَتِهَا مِنْ أَنْ تَمِيدَ بِأَهْلِهَا أَوْ تَسِيخَ بِحِمْلِهَا أَوْ تَزُولَ عَنْ مَوَاضِعِهَا فَسُبْحَانَ مَنْ أَمْسَكَهَا بَعْدَ مَوَجَانِ مِيَاهِهَا وَ أَجْمَدَهَا بَعْدَ رُطُوبَةِ أَكْنَافِهَا فَجَعَلَهَا لِخَلْقِهِ مِهَاداً وَ بَسَطَهَا لَهُمْ فِرَاشاً فَوْقَ بَحْرٍ لُجِّيٍّ رَاكِدٍ لاَ يَجْرِي وَ قَائِمٍ لاَ يَسْرِي تُكَرْكِرُهُ اَلرِّيَاحُ اَلْعَوَاصِفُ وَ تَمْخُضُهُ اَلْغَمَامُ اَلذَّوَارِفُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى
[ 52 ](1/3077)
أراد أن يقول وكان من اقتداره فقال وكان من اقتدار جبروته تعظيما وتفخيما كما يقال للملك أمرت الحضرة الشريفة بكذا والبحر الزاخر الذي قد امتد جدا وارتفع والمتراكم المجتمع بعضه على بعض والمتقاصف الشديد الصوت قصف الرعد وغيره قصيفا . واليبس بالتحريك المكان يكون رطبا ثم ييبس ومنه قوله تعالى فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي اَلْبَحْرِ يَبَساً واليبس بالسكون اليابس خلقة حطب يبس هكذا يقوله أهل اللغة وفيه كلام لأن الحطب ليس يابسا خلقة بل كان رطبا من قبل فالأصوب أن يقال لا تكون هذه اللفظة محركة إلا في المكان خاصة وفطر خلق والمضارع يفطر بالضم فطرا . والأطباق جمع طبق وهو أجزاء مجتمعة من جراد أو غيم أو ناس أو غير ذلك من حيوان أو جماد يقول خلق منه أجساما مجتمعة مرتتقة ثم فتقها سبع سموات وروي ثم فطر منه طباقا أي أجساما منفصلة في الحقيقة متصلة في الصورة بعضها فوق بعض وهي من ألفاظ القرآن المجيد والضمير في منه يرجع إلى ماء البحر في أظهر النظر وقد يمكن أن يرجع إلى اليبس . واعلم أنه قد تكرر في كلام أمير المؤمنين ما يماثل هذا القول ويناسبه وهو مذهب
[ 53 ](1/3078)
كثير من الحكماء الذين قالوا بحدوث السماء منهم ثاليس الملطي قالوا أصل الأجسام الماء وخلقت الأرض من زبده والسماء من بخاره وقد جاء القرآن العزيز بنحو هذا قال سبحانه اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى اَلْماءِ . قال شيخنا أبو علي وأبو القاسم رحمهما الله في تفسيريهما هذه الآية دالة على أن الماء والعرش كانا قبل خلق السموات والأرض قالا وكان الماء على الهواء قالا وهذا يدل أيضا علي أن الملائكة كانوا موجودين قبل خلق السموات والأرض لأن الحكيم سبحانه لا يجوز أن يقدم خلق الجماد على خلق المكلفين لأنه يكون عبثا . وقال علي بن عيسى الرماني من مشايخنا أنه غير ممتنع أن يخلق الجماد قبل الحيوان إذا علم أن في إخبار المكلفين بذلك لطفا لهم ولا يصح أن يخبرهم إلا وهو صادق فيما أخبر به وإنما يكون صادقا إذا كان المخبر خبره على ما أخبر عنه وفي ذلك حسن تقديم خلق الجماد على خلق الحيوان وكلام أمير المؤمنين ع يدل على أنه كان يذهب إلى أن الأرض موضوعة على ماء البحر وأن البحر حامل لها بقدرة الله تعالى وهو معنى قوله يحملها الأخضر المثعنجر والقمقام المسخر وأن البحر الحامل لها قد كان جاريا فوقف تحتها وأنه تعالى خلق الجبال في الأرض فجعل أصولها راسخة في ماء البحر الحامل للأرض وأعاليها شامخة في الهواء وأنه سبحانه جعل هذه الجبال عمادا للأرض وأوتادا تمنعها من الحركة والاضطراب ولولاها لماجت واضطربت وأن هذا البحر الحامل للأرض تصعد فيه الرياح الشديدة فتحركه حركة عنيفة وتموج السحب التي تغترف الماء منه لتمطر الأرض به وهذا كله مطابق لما في الكتاب العزيز والسنة النبوية والنظر الحكمي أ لا ترى إلى قوله تعالى أَ وَ لَمْ يَرَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ
[ 54 ](1/3079)
كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وهذا هو صريح قوله ع ففتقها سبع سموات بعد ارتتاقها وإلى قوله تعالى وَ جَعَلْنا فِي اَلْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وإلى ما ورد في الخبر من أن الأرض مدحوة على الماء وأن الرياح تسوق السحب إلى الماء نازلة ثم تسوقها عنه صاعدة بعد امتلائها ثم تمطر . وأما النظر الحكمي فمطابق لكلامه إذا تأمله المتأمل وحمله على المحمل العقلي وذلك لأن الأرض هي آخر طبقات العناصر وقبلها عنصر الماء وهو محيط بالأرض كلها إلا ما برز منها وهو مقدار الربع من كرة الأرض على ما ذكره علماء هذا الفن وبرهنوا عليه فهذا تفسير قوله ع يحملها الأخضر المثعنجر . وأما قوله ووقف الجاري منه لخشيته فلا يدل دلالة قاطعة على أنه كان جاريا ووقف ولكن ذلك كلام خرج مخرج التعظيم والتبجيل ومعناه أن الماء طبعه الجريان والسيلان فهو جار بالقوة وإن لم يكن جاريا بالفعل وإنما وقف ولم يجر بالفعل بقدرة الله تعالى المانعة له من السيلان وليس قوله ورست أصولها في الماء مما ينافي النظر العقلي لأنه لم يقل ورست أصولها في ماء البحر ولكنه قال في الماء ولا شبهة في أن أصول الجبال راسية في الماء المتخلخل بين أجزاء الأرض فإن الأرض كلها يتخلخل الماء بين أجزائها على طريق استحالة البخار من الصورة الهوائية إلى الصورة المائية . وليس ذكره للجبال وكونها مانعة للأرض من الحركة بمناف أيضا للنظر الحكمي لأن الجبال في الحقيقة قد تمنع من الزلزلة إذا وجدت أسبابها الفاعلة فيكون ثقلها مانعا من الهدة والرجفة .
[ 55 ](1/3080)
ليس قوله تكركره الرياح منافيا للنظر الحكمي أيضا لأن كرة الهواء محيطة بكرة وقد تعصف الرياح في كرة الهواء للأسباب المذكورة في موضعها من هذا العلم فيتموج كثير من الكرة المائية لعصف الرياح . وليس قوله ع وتمخضه الغمام الذوارف صريحا في أن السحب تنزل في البحر فتغترف منه كما قد يعتقد في المشهور العامي نحو قول الشاعر
كالبحر تمطره السحاب وما لها
فضل عليه لأنها من مائه
بل يجوز أن تكون الغمام الذراف تمخضه وتحركه بما ترسل عليه من الأمطار السائلة منها فقد ثبت أن كلام أمير المؤمنين ع موجه إن شئت فسرته بما يقوله أهل الظاهر وإن شئت فسرته بما يعتقده الحكماء . فإن قلت فكيف قال الله تعالى أَ وَ لَمْ يَرَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وهل كان الذين كفروا راءين لذلك حتى يقول لهم أَ وَ لَمْ يَرَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا . قلت هذا في قوله اعلموا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما كما يقول الإنسان لصاحبه أ لم تعلم أن الأمير صرف حاجبه الليلة عن بابه أي اعلم ذلك إن كنت غير عالم والرؤية هنا بمعنى العلم . واعلم أنه قد ذهب قوم من قدماء الحكماء ويقال أنه مذهب سقراط إلى تفسير القيامة وجهنم بما يبتني على وضع الأرض على الماء فقالوا الأرض موضوعة على الماء والماء على الهواء والهواء على النار والنار في حشو الأفلاك ولما كان العنصران الخفيفان وهما الهواء والنار يقتضيان صعود ما يحيطان به والعنصران الثقيلان اللذان في وسطهما وهما
[ 56 ](1/3081)
الماء والأرض يقتضيان النزول والهبوط وقعت الممانعة والمدافعة فلزم من ذلك وقوف الماء والأرض في الوسط . قالوا ثم إن النار لا تزال يتزايد تأثيرها في إسخان الماء وينضاف إلى ذلك حر الشمس والكواكب إلى أن تبلغ البحار والعنصر المائي غايتهما في الغليان والفوران فيتصاعد بخار عظيم إلى الأفلاك شديد السخونة وينضاف إلى ذلك حر فلك الأثير الملاصق للأفلاك فتذوب الأفلاك كما يذوب الرصاص وتتهافت وتتساقط وتصير كالمهل الشديد الحرارة ونفوس البشر على قسمين أحدهما ما تجوهر وصار مجردا بطريق العلوم والمعارف وقطع العلائق الجسمانية حيث كان مدبرا للبدن والآخر ما بقي على جسمانيته بطريق خلوه من العلوم والمعارف وانغماسه في اللذات والشهوات الجسمانية فأما الأول فإنه يلتحق بالنفس الكلية المجردة ويخلص من دائرة هذا العالم بالكلية وأما الثاني فإنه تنصب عليه تلك الأجسام الفلكية الذائبة فيحترق بالكلية ويتعذب ويلقي آلاما شديدة . قالوا هذا هو باطن ما وردت به الرواية من العذاب عليها وخراب العالم والأفلاك وانهدامها . ثم نعود إلى شرح الألفاظ قوله ع فاستمسكت أي وقفت وثبتت . والهاء في حده تعود إلى أمره أي قامت على حد ما أمرت به أي لم تتجاوزه ولا تعدته . والأخضر البحر ويسمى أيضا خضارة معرفة غير مصروف والعرب تسميه بذلك إما لأنه يصف لون السماء فيرى أخضر أو لأنه يرى أسود لصفائه فيطلقون عليه لفظ
[ 57 ](1/3082)
الأخضر كما سموا الأخضر أسود نحو قوله مُدْهامَّتانِ ونحو تسميتهم قرى العراق سوادا لخضرتها وكثرة شجرها ونحو قولهم للديزج من الدواب أخضر . المثعنجر السائل ثعجرت الدم وغيره فاثعنجر أي صببته فانصب وتصغير المثعنجر مثيعج ومثيعيج . والقمقام بالفتح من أسماء البحر ويقال لمن وقع في أمر عظيم وقع في قمقام من الأمر تشبيها بالبحر . قوله ع وجبل جلاميدها أي وخلق صخورها جمع جلمود . والنشوز جمع نشز وهو المرتفع من الأرض ويجوز فتح الشين . ومتونها جوانبها وأطوادها جبالها ويروى وأطوادها بالجر عطفا على متونها . فأرساها في مراسيها أثبتها في مواضعها رسا الشي ء يرسو ثبت ورست أقدامهم في الحرب ثبتت ورست السفينة ترسو رسوا ورسوا أي وقفت في البحر وقوله تعالى بِسْمِ اَللَّهِ مَجْراها وَ مُرْساها بالضم من أجريت وأرسيت ومن قرأ بالفتح فهو من رست هي وجرت هي . وألزمها قرارتها أمسكها حيث استقرت . قوله فأنهد جبالها أي أعلاها نهد ثدي الجارية ينهد بالضم إذا أشرف وكعب فهي ناهد وناهدة . وسهولها ما تطامن منها عن الجبال . وأساخ قواعدها أي غيب قواعد الجبال في جوانب أقطار الأرض ساخت قوائم
[ 58 ]
الفرس في الأرض تسوخ وتسيخ أي دخلت فيها وغابت مثل ثاخت وأسختها أنا مثل أثختها والأنصاب الأجسام المنصوبة الواحد نصب بضم النون والصاد ومنه سميت الأصنام نصبا في قوله تعالى وَ ما ذُبِحَ عَلَى اَلنُّصُبِ لأنها نصبت فعبدت من دون الله قال الأعشى
و ذا المنصوب لا تنسكنه
لعاقبة والله ربك فاعبدا(1/3083)
أي وأساخ قواعد الجبال في متون أقطار الأرض وفي المواضع الصالحة لأن تكون فيها الأنصاب المماثلة وهي الجبال أنفسها . قوله فأشهق قلالها جمع قلة وهي ما علا من رأس الجبل أشهقها جعلها شاهقة أي عالية . وأرزها أثبتها فيها رزت الجرادة ترز رزا وهو أن تدخل ذنبها في الأرض فتلقى بيضها وأرزها الله أثبت ذلك منها في الأرض ويجوز أرزت لازما غير متعد مثل رزت وارتز السهم في القرطاس ثبت فيه وروي وآرزها بالمد من قولهم شجرة آرزة أي ثابتة في الأرض أرزت بالفتح تأرز بالكسر أي ثبتت وآرزها بالمد غيرها أي أثبتها . وتميد تتحرك وتسيخ تنزل وتهوي . فإن قلت ما الفرق بين الثلاثة تميد بأهلها أو تسيخ بحملها أو تزول عن مواضعها . قلت لأنها لو تحركت لكانت إما أن تتحرك على مركزها أو لا على مركزها
[ 59 ](1/3084)
و الأول هو المراد بقوله تميد بأهلها والثاني تنقسم إلى أن تنزل إلى تحت أو لا تنزل إلى تحت فالنزول إلى تحت هو المراد بقوله أو تسيخ بحملها والقسم الثاني هو المراد بقوله أو تزول عن مواضعها . فإن قلت ما المراد ب على في قوله فسكنت على حركتها . قلت هي لهيئة الحال كما تقول عفوت عنه على سوء أدبه ودخلت إليه على شربه أي سكنت على أن من شأنها الحركة لأنها محمولة على سائل متموج . قوله موجان مياهها بناء فعلان لما فيه اضطراب وحركة كالغليان والنزوان والخفقان ونحو ذلك . وأجمدها أي أجعلها جامدة وأكنافها جوانبها والمهاد الفراش . فوق بحر لجي كثير الماء منسوب إلى اللجة وهي معظم البحر . قوله يكركره الرياح الكركرة تصريف الريح السحاب إذا جمعته بعد تفريق وأصله يكرر من التكرير فأعادوا الكاف كركرت الفارس عني أي دفعته ورددته . والرياح العواصف الشديدة الهبوب وتمخضه يجوز فتح الخاء وضمها وكسرها والفتح أفصح لمكان حرف الحلق من مخضت اللبن إذا حركته لتأخذ زبده . والغمام جمع والواحدة غمامة ولذلك قال الذوارف لأن فواعل أكثر ما يكون لجمع المؤنث ذرفت عينه أي دمعت أي السحب المواطر والمضارع من ذرفت عينه تذرف بالكسر ذرفا وذرفا والمذارف المدامع
[ 60 ](1/3085)
205 ومن خطبة له ع
اَللَّهُمَّ أَيُّمَا عَبْدٍ مِنْ عِبَادِكَ سَمِعَ مَقَالَتَنَا اَلْعَادِلَةَ غَيْرَ اَلْجَائِرَةِ وَ اَلْمُصْلِحَةَ غَيْرَ اَلْمُفْسِدَةِ فِي اَلدِّينِ وَ اَلدُّنْيَا غَيْرَ اَلْمُفْسِدَةِ فَأَبَى بَعْدَ سَمْعِهِ لَهَا إِلاَّ اَلنُّكُوصَ عَنْ نُصْرَتِكَ وَ اَلْإِبْطَاءَ عَنْ إِعْزَازِ دِينِكَ فَإِنَّا نَسْتَشْهِدُكَ عَلَيْهِ يَا أَكْبَرَ اَلشَّاهِدِينَ شَهَادَةً وَ نَسْتَشْهِدُ عَلَيْهِ جَمِيعَ مَا أَسْكَنْتَهُ أَرْضَكَ وَ سمَاوَاتِكَ ثُمَّ أَنْتَ بَعْدَهُ بَعْدُ اَلْمُغْنِي عَنْ نَصْرِهِ وَ اَلآْخِذُ لَهُ بِذَنْبِهِ ما في أيما زائدة مؤكدة ومعنى الفصل وعيد من استنصره فقعد عن نصره . ووصف المقالة بأنها عادلة إما تأكيد كما قالوا شعر شاعر وإما ذات عدل كما قالوا رجل تأمر ولابن أي ذو تمر ولبن ويجوز أيضا أن يريد بالعادلة المستقيمة التي ليست كاذبة ولا محرفة عن جهتها والجائرة نقيضها وهي المنحرفة جار فلان عن الطريق أي انحرف وعدل . والنكوص التأخر . قوله ع نستشهدك عليه أي نسألك أن تشهد عليه ووصفه تعالى
[ 61 ]
بأنه أكبر الشاهدين شهادة لقوله تعالى قُلْ أَيُّ شَيْ ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اَللَّهُ يقول اللهم إنا نستشهدك على خذلان من استنصرناه واستنفرناه إلى نصرتك والجهاد عن دينك فأبى النهوض ونكث عن القيام بواجب الجهاد ونستشهد عبادك من البشر في أرضك وعبادك من الملائكة في سمواتك عليه أيضا ثم أنت بعد ذلك المغني لنا عن نصرته ونهضته بما تتيحه لنا من النصر وتؤيدنا به من الإعزاز والقوة والأخذ له بذنبه في القعود والتخلف . وهذا قريب من قوله تعالى وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ
[ 62 ](1/3086)
206 ومن خطبة له ع
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلْعَلِيِّ عَنْ شَبَهِ اَلْمَخْلُوقِينَ اَلْغَالِبِ لِمَقَالِ اَلْوَاصِفِينَ اَلظَّاهِرِ بِعَجَائِبِ تَدْبِيرِهِ لِلنَّاظِرِينَ وَ اَلْبَاطِنِ بِجَلاَلِ عِزَّتِهِ عَنْ فِكْرِ اَلْمُتَوَهِّمِينَ اَلْعَالِمِ بِلاَ اِكْتِسَابٍ وَ لاَ اِزْدِيَادٍ وَ لاَ عِلْمٍ مُسْتَفَادٍ اَلْمُقَدِّرِ لِجَمِيعِ اَلْأُمُورِ بِلاَ رَوِيَّةٍ وَ لاَ ضَمِيرٍ اَلَّذِي لاَ تَغْشَاهُ اَلظُّلَمُ وَ لاَ يَسْتَضِي ءُ بِالْأَنْوَارِ وَ لاَ يَرْهَقُهُ لَيْلٌ وَ لاَ يَجْرِي عَلَيْهِ نَهَارٌ لَيْسَ إِدْرَاكُهُ بِالْإِبْصَارِ وَ لاَ عِلْمُهُ بِالْإِخْبَارِ يجوز شبه وشبه والرواية هاهنا بالفتح وتعاليه سبحانه عن شبه المخلوقين كونه قديما واجب الوجود وكل مخلوق محدث ممكن الوجود . قوله الغالب لمقال الواصفين أي إن كنه جلاله وعظمته لا يستطيع الواصفون وصفه وإن أطنبوا وأسهبوا فهو كالغالب لأقوالهم لعجزها عن إيضاحه وبلوغ منتهاه والظاهر بأفعاله والباطن بذاته لأنه إنما يعلم منه أفعاله وأما ذاته فغير معلومة . ثم وصف علمه تعالى فقال إنه غير مكتسب كما يكتسب الواحد منا علومه بالاستدلال والنظر ولا هو علم يزداد إلى علومه الأولى كما تزيد علوم الواحد منا ومعارفه وتكثر لكثرة الطرق التي يتطرق بها إليها .
[ 63 ](1/3087)
ثم قال ولا علم مستفاد أي ليس يعلم الأشياء بعلم محدث مجدد كما يذهب إليه جهم وأتباعه وهشام بن الحكم ومن قال بقوله . ثم ذكر أنه تعالى قدر الأمور كلها بغير روية أي بغير فكر ولا ضمير وهو ما يطويه الإنسان من الرأي والاعتقاد والعزم في قلبه . ثم وصفه تعالى بأنه لا يغشاه ظلام لأنه ليس بجسم ولا يستضي ء بالأنوار كالأجسام ذوات البصر ولا يرهقه ليل أي لا يغشاه ولا يجري عليه نهار لأنه ليس بزماني ولا قابل للحركة ليس إدراكه بالأبصار لأن ذلك يستدعي المقابلة ولا علمه بالإخبار مصدر أخبر أي ليس علمه مقصورا على أن تخبره الملائكة بأحوال المكلفين بل هو يعلم كل شي ء لأن ذاته ذات واجب لها أن تعلم كل شي ء لمجرد ذاتها المخصوصة من غير زيادة أمر على ذاتها : وَ مِنْهَا فِي ذِكْرِ اَلنَّبِيِّ ص أَرْسَلَهُ بِالضِّيَاءِ وَ قَدَّمَهُ فِي الاِصْطِفَاءِ فَرَتَقَ بِهِ اَلْمَفَاتِقَ وَ سَاوَرَ بِهِ اَلْمُغَالِبَ وَ ذَلَّلَ بِهِ اَلصُّعُوبَةَ وَ سَهَّلَ بِهِ اَلْحُزُونَةَ حَتَّى سَرَّحَ اَلضَّلاَلَ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمَالٍ أرسله بالضياء أي بالحق وسمى الحق ضياء لأنه يهتدى به أو أرسله بالضياء أي بالقرآن .
[ 64 ](1/3088)
و قدمه في الاصطفاء أي قدمه في الاصطفاء على غيره من العرب والعجم قالت قريش لَوْ لا نُزِّلَ هذَا اَلْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ اَلْقَرْيَتَيْنِ أي على رجل من رجلين من القريتين عَظِيمٍ أي إما على الوليد بن المغيرة من مكة أو على عروة بن مسعود الثقفي من الطائف . ثم قال تعالى أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ أي هو سبحانه العالم بالمصلحة في إرسال الرسل وتقديم من يرى في الاصطفاء على غيره . فرتق به المفاتق أي أصلح به المفاسد والرتق ضد الفتق والمفاتق جمع مفتق وهو مصدر كالمضرب والمقتل . وساور به المغالب ساورت زيدا أي واثبته ورجل سوار أي وثاب وسورة الخمر وثوبها في الرأس . والحزونة ضد السهولة والحزن ما غلظ من الأرض والسهل ما لان منها واستعير لغير الأرض كالأخلاق ونحوها . قوله حتى سرح الضلال أي طرده وأسرع به ذهابا . عن يمين وشمال من قولهم ناقة سرح ومنسرحة أي سريعة ومنه تسريح المرأة أي تطليقها
[ 65 ](1/3089)
207 ومن خطبة له ع
وَ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَدْلٌ عَدَلَ وَ حَكَمٌ فَصَلَ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ وَ سَيِّدُ عِبَادِهِ كُلَّمَا نَسَخَ اَللَّهُ اَلْخَلْقَ فِرْقَتَيْنِ جَعَلَهُ فِي خَيْرِهِمَا لَمْ يُسْهِمْ فِيهِ عَاهِرٌ وَ لاَ ضَرَبَ فِيهِ فَاجِرٌ أَلاَ وَ إِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَعَلَ لِلْخَيْرِ أَهْلاً وَ لِلْحَقِّ دَعَائِمَ وَ لِلطَّاعَةِ عِصَماً وَ إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ كُلِّ طَاعَةٍ عَوْناً مِنَ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ يَقُولُ عَلَى اَلْأَلْسِنَةِ وَ يُثَبِّتُ بِهِ اَلْأَفْئِدَةَ فِيهِ كِفَاءٌ لِمُكْتَفٍ وَ شِفَاءٌ لِمُشْتَفٍ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُسْتَحْفَظِينَ عِلْمَهُ يَصُونُونَ مَصُونَهُ وَ يُفَجِّرُونَ عُيُونَهُ يَتَوَاصَلُونَ بِالْوِلاَيَةِ وَ يَتَلاَقَوْنَ بِالْمَحَبَّةِ وَ يَتَسَاقَوْنَ بِكَأْسٍ رَوِيَّةٍ وَ يَصْدُرُونَ بِرِيَّةٍ لاَ تَشُوبُهُمُ اَلرِّيبَةُ وَ لاَ تُسْرِعُ فِيهِمُ اَلْغِيبَةُ عَلَى ذَلِكَ عَقَدَ خَلْقَهُمْ وَ أَخْلاَقَهُمْ فَعَلَيْهِ يَتَحَابُّونَ وَ بِهِ يَتَوَاصَلُونَ فَكَانُوا كَتَفَاضُلِ اَلْبَذْرِ يُنْتَقَى فَيُؤْخَذُ مِنْهُ وَ يُلْقَى قَدْ مَيَّزَهُ اَلتَّخْلِيصُ وَ هَذَّبَهُ اَلتَّمْحِيصُ فَلْيَقْبَلِ اِمْرُؤٌ كَرَامَةً بِقَبُولِهَا وَ لْيَحْذَرْ قَارِعَةً قَبْلَ حُلُولِهَا وَ لْيَنْظُرِ اِمْرُؤٌ فِي قَصِيرِ أَيَّامِهِ وَ قَلِيلِ مُقَامِهِ فِي مَنْزِلٍ حَتَّى يَسْتَبْدِلَ بِهِ مَنْزِلاً فَلْيَصْنَعْ لِمُتَحَوَّلِهِ وَ مَعَارِفِ مُنْتَقَلِهِ فَطُوبَى لِذِي قَلْبٍ سَلِيمٍ أَطَاعَ مَنْ يَهْدِيهِ وَ تَجَنَّبَ مَنْ يُرْدِيهِ وَ أَصَابَ سَبِيلَ اَلسَّلاَمَةِ بِبَصَرِ مَنْ بَصَّرَهُ وَ طَاعَةِ هَادٍ أَمَرَهُ وَ بَادَرَ اَلْهُدَى قَبْلَ أَنْ تُغْلَقَ أَبْوَابُهُ
[ 66 ](1/3090)
وَ تُقْطَعَ أَسْبَابُهُ وَ اِسْتَفْتَحَ اَلتَّوْبَةَ وَ أَمَاطَ اَلْحَوْبَةَ فَقَدْ أُقِيمَ عَلَى اَلطَّرِيقِ وَ هُدِيَ نَهْجَ اَلسَّبِيلِ الضمير في أنه يرجع إلى القضاء والقدر المذكور في صدر هذه الخطبة ولم يذكره الرضي رحمه الله يقول أشهد أن قضاءه تعالى عدل عدل وحكم بالحق فإنه حكم فصل بين العباد بالإنصاف ونسب العدل والفصل إلى القضاء على طريق المجاز وهو بالحقيقة منسوب إلى ذي القضاء والقاضي به هو الله تعالى . قوله وسيد عباده هذا كالمجمع عليه بين المسلمين وإن كان قد خالف فيه شذوذ منهم واحتج الجمهور
بقوله أنا سيد ولد آدم ولا فخر و
بقوله ادعوا لي سيد العرب عليا فقالت عائشة أ لست سيد العرب فقال أنا سيد البشر وعلي سيد العرب و
بقوله آدم ومن دونه تحت لوائي واحتج المخالف
بقوله ع لا تفضلوني على أخي يونس بن متى . وأجاب الأولون تارة بالطعن في إسناد الخبر وتارة بأنه حكاية كلام حكاه ص عن عيسى ابن مريم وتارة بأن النهي إنما كان عن الغلو فيه كما غلت الأمم في أنبيائها فهو كما ينهى الطبيب المريض فيقول لا تأكل من الخبز ولا درهما وليس مراده تحريم أكل الدرهم والدرهمين بل تحريم ما يستضر بأكله منه . قوله ع كلما نسخ الله الخلق فرقتين جعله في خيرهما النسخ النقل ومنه نسخ الكتاب ومنه نسخت الريح آثار القوم ونسخت الشمس الظل يقول
[ 67 ]
كلما قسم الله تعالى الأب الواحد إلى ابنين جعل خيرهما وأفضلهما لولادة محمد ع وسمى ذلك نسخا لأن البطن الأول يزول ويخلفه البطن الثاني ومنه مسائل المناسخات في الفرائض . وهذا المعنى قد ورد مرفوعا في عدة أحاديث نحو
قوله ص ما افترقت فرقتان منذ نسل آدم ولده إلا كنت في خيرهما ونحو(1/3091)
قوله إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل واصطفى من ولد إسماعيل مضر واصطفى من مضر كنانة واصطفى من كنانة قريشا واصطفى من قريش هاشما واصطفاني من بني هاشم
قوله لم يسهم فيه عاهر ولا ضرب فيه فاجر لم يسهم لم يضرب فيه عاهر بسهم أي بنصيب وجمعه سهمان والعاهر ذو العهر بالتحريك وهو الفجور والزناء ويجوز تسكين الهاء مثل نهر ونهر وهذا هو المصدر والماضي عهر بالفتح والاسم العهر بكسر العين وسكون الهاء والمرأة عاهرة ومعاهرة وعيهرة وتعيهر الرجل إذا زنى والفاجر كالعاهر هاهنا وأصل الفجور الميل قال لبيد
فإن تتقدم تغش منها مقدما
غليظا وإن أخرت فالكفل فاجر
يقول مقعد الرديف مائل(1/3092)
ذكر بعض المطاعن في النسب وكلام للجاحظ في ذلك
و في الكلام رمز إلى جماعة من الصحابة في أنسابهم طعن كما يقال إن آل سعد بن أبي وقاص ليسوا من بني زهرة بن كلاب وإنهم من بني عذرة من قحطان
[ 68 ]
و كما قالوا إن آل الزبير بن العوام من أرض مصر من القبط وليسوا من بني أسد بن عبد العزى قال الهيثم بن عدي في كتاب مثالب العرب إن خويلد بن أسد بن عبد العزى كان أتى مصر ثم انصرف منها بالعوام فتبناه فقال حسان بن ثابت يهجو آل العوام بن خويلد
بني أسد ما بال آل خويلد
يحنون شوقا كل يوم إلى القبط
متى يذكروا قهقى يحنوا لذكرها
و للرمث المقرون والسمك الرقط
عيون كأمثال الزجاج وضيعة
تخالف كعبا في لحى كثة ثط
يرى ذاك في الشبان والشيب منهم
مبينا وفي الأطفال والجلة الشمط
لعمر أبي العوام إن خويلدا
غداة تبناه ليوثق في الشرط
و كما يقال في قوم آخرين نرفع هذا الكتاب عن ذكر ما يطعن به في أنسابهم كي لا يظن بنا أنا نحب المقالة في الناس . قال شيخنا أبو عثمان في كتاب مفاخرات قريش لا خير في ذكر العيوب إلا من ضرورة ولا نجد كتاب مثالب قط إلا لدعي أو شعوبي ولست واجده لصحيح النسب ولا لقليل الحسد وربما كانت حكاية الفحش أفحش من الفحش ونقل الكذب أقبح من الكذب و
قال النبي ص اعف عن ذي قبر و
قال لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات وقيل في المثل يكفيك من شر سماعه وقالوا أسمعك من أبلغك وقالوا من طلب عيبا وجده وقال النابغة
و لست بمستبق أخا لا تلمه
على شعث أي الرجال المهذب
[ 69 ](1/3093)
قال أبو عثمان وبلغ عمر بن الخطاب أن أناسا من رواة الأشعار وحملة الآثار يعيبون الناس ويثلبونهم في أسلافهم فقام على المنبر وقال إياكم وذكر العيوب والبحث عن الأصول فلو قلت لا يخرج اليوم من هذا الأبواب إلا من لا وصمة فيه لم يخرج منكم أحد فقام رجل من قريش نكره أن نذكره فقال إذا كنت أنا وأنت يا أمير المؤمنين نخرج فقال كذبت بل كان يقال لك يا قين بن قين اقعد . قلت الرجل الذي قام هو المهاجر بن خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي كان عمر يبغضه لبغضه أباه خالدا ولأن المهاجر كان علوي الرأي جدا وكان أخوه عبد الرحمن بخلافه شهد المهاجر صفين مع علي ع وشهدها عبد الرحمن مع معاوية وكان المهاجر مع علي ع في يوم الجمل وفقئت ذلك اليوم عينه ولأن الكلام الذي بلغ عمر بلغه عن المهاجر وكان الوليد بن المغيرة مع جلالته في قريش وكونه يسمى ريحانة قريش ويسمى العدل ويسمى الوحيد حداد يصنع الدروع وغيرها بيده ذكر ذلك عنه عبد الله بن قتيبة في كتاب المعارف . وروى أبو الحسن المدائني هذا الخبر في كتاب أمهات الخلفاء وقال إنه روى عند جعفر بن محمد ع بالمدينة فقال لا تلمه يا ابن أخي إنه أشفق أن يحدج بقضية نفيل بن عبد العزى وصهاك أمة الزبير بن عبد المطلب ثم قال رحم الله عمر فإنه لم يعد السنة وتلا إِنَّ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ اَلْفاحِشَةُ فِي اَلَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ . أما قول ابن جرير الآملي الطبرستاني في كتاب المسترشد إن عثمان والد
[ 70 ](1/3094)
أبي بكر الصديق كان ناكحا أم الخير ابنة أخته فليس بصحيح ولكنها ابنة عمه لأنها ابنة صخر بن عامر وعثمان هو ابن عمرو بن عامر والعجب لمن اتبعه من فضلاء الإمامية على هذه المقالة من غير تحقيق لها من كتب الأنساب وكيف تتصور هذه الواقعة في قريش ولم يكن أحد منهم مجوسيا ولا يهوديا ولا كان من مذهبهم حل نكاح بنات الأخ ولا بنات الأخت . ثم نعود لإتمام حكاية كلام شيخنا أبي عثمان قال ومتى يقدر الناس حفظك الله على رجل مسلم من كل ابنة ومبرأ من كل آفة في جميع آبائه وأمهاته وأسلافه وأصهاره حتى تسلم له أخواله وأعمامه وخالاته وعماته وأخواته وبناته وأمهات نسائه وجميع من يناسبه من قبل جداته وأجداده وأصهاره وأختانه ولو كان ذلك موجودا لما كان لنسب رسول الله ص فضيلة في النقاء والتهذيب وفي التصفية والتنقيح
قال رسول الله ص ما مسني عرق سفاح قط وما زلت أنقل من الأصلاب السليمة من الوصوم والأرحام البريئة من العيوب فلسنا نقضي لأحد بالنقاء من جميع الوجوه إلا لنسب من صدقه القرآن واختاره الله على جميع الأنام وإلا فلا بد من شي ء يكون في نفس الرجل أو في طرفيه أو في بعض أسلافه أو في بعض أصهاره ولكنه يكون مغطى بالصلاح ومحجوبا بالفضائل ومغمورا بالمناقب . ولو تأملت أحوال الناس لوجدت أكثرهم عيوبا أشدهم تعييبا قال الزبرقان من بدر ما استب رجلان إلا غلب ألأمهما وقال خصلتان كثيرتان في امرئ السوء
[ 71 ](1/3095)
كثرة اللطام وشدة السباب ولو كان ما يقوله أصحاب المثالب حقا لما كان على ظهرها عربي كما قال عبد الملك بن صالح الهاشمي إن كان ما يقول بعض في بعض حقا فما فيهم صحيح وإن كان ما يقول بعض المتكلمين في بعض حقا فما فيهم مسلم . قوله ع ألا وإن الله قد جعل للخير أهلا وللحق دعائم وللطاعة عصما الدعائم ما يدعم بها البيت لئلا يسقط والعصم جمع عصمة وهو ما يحفظ به الشي ء ويمنع فأهل الخير هم المتقون ودعائم الحق الأدلة الموصلة إليه المثبتة له في القلوب وعصم الطاعة هي الإدمان على فعلها والتمرن على الإتيان بها لأن المرون على الفعل يكسب الفاعل ملكة تقتضي سهولته عليه والعون هاهنا هو اللطف المقرب من الطاعة المبعد من القبيح . ثم قال ع إنه يقول على الألسنة ويثبت الأفئدة وهذا من باب التوسع والمجاز لأنه لما كان مستهلا للقول أطلق عليه إنه يقول على الألسنة ولما كان الله تعالى هو الذي يثبت الأفئدة كما قال يُثَبِّتُ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثَّابِتِ نسب التثبيت إلى اللطف لأنه من فعل الله تعالى كما ينسب الإنبات إلى المطر وإنما المنبت للزرع هو الله تعالى والمطر فعله . ثم قال ع فيه كفاء لمكتف وشفاء لمشتف والوجه فيه كفاية فإن الهمز لا وجه له هاهنا لأنه من باب آخر ولكنه أتى بالهمزة للازدواج بين كفاء
[ 72 ]
و شفاء كما قالوا الغدايا والعشايا وكما قال ع مأزورات غير مأجورات فأتى بالهمز والوجه الواو للازدواج(1/3096)
ذكر بعض أحوال العارفين والأولياء
ثم ذكر العارفين فقال واعلموا أن عباد الله المستحفظين علمه إلى قوله وهذبه التمحيص . واعلم أن الكلام في العرفان لم يأخذه أهل الملة الإسلامية إلا عن هذا الرجل ولعمري لقد بلغ منه إلى أقصى الغايات وأبعد النهايات والعارفون هم القوم الذين اصطفاهم الله تعالى وانتخبهم لنفسه واختصهم بأنسه أحبوه فأحبهم وقربوا منه فقرب منهم قد تكلم أرباب هذا الشأن في المعرفة والعرفان فكل نطق بما وقع له وأشار إلى ما وجده في وقته . وكان أبو علي الدقاق يقول من أمارات المعرفة حصول الهيبة من الله فمن ازدادت معرفته ازدادت هيبته . وكان يقول المعرفة توجب السكينة في القلب كما أن العلم يوجب السكون فمن ازدادت معرفته ازدادت سكينته . وسئل الشبلي عن علامات العارف فقال ليس لعارف علامة ولا لمحب سكون ولا لخائف قرار . وسئل مرة أخرى عن المعرفة فقال أولها الله وآخرها ما لا نهاية له . وقال أبو حفص الحداد منذ عرفت الله ما دخل قلبي حق ولا باطل وقد أشكل هذا الكلام على أرباب هذا الشأن وتأوله بعضهم فقال عند القوم إن المعرفة توجب
[ 73 ](1/3097)
غيبة العبد عن نفسه لاستيلاء ذكر الحق عليه فلا يشهد غير الله ولا يرجع إلا إليه وكما إن العاقل يرجع إلى قلبه وتفكره وتذكره فيما يسنح له من أمر أو يستقبله من حال فالعارف رجوعه إلى ربه لا إلى قلبه وكيف يدخل المعنى قلب من لا قلب له . وسئل أبو يزيد البسطامي عن العرفان فقال إِنَّ اَلْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وهذا معنى ما أشار إليه أبو حفص الحداد . وقال أبو يزيد أيضا للخلق أحوال ولا حال للعارف لأنه محيت رسومه وفنى هو وصارت هويته هوية غيره وغيبت آثاره في آثار غيره . قلت وهذا هو القول بالاتحاد الذي يبحث فيه أهل النظر . وقال الواسطي لا تصح المعرفة وفي العبد استغناء بالله أو افتقار إليه وفسر بعضهم هذا الكلام فقال إن الافتقار والاستغناء من أمارات صحو العبد وبقاء رسومه على ما كانت عليه والعارف لا يصح ذلك عليه لأنه لاستهلاكه في وجوده أو لاستغراقه في شهوده إن لم يبلغ درجة الاستهلاك في الوجود مختطف عن إحساسه بالغنى والفقر وغيرهما من الصفات ولهذا قال الواسطي من عرف الله انقطع وخرس وانقمع
قال ص لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك . وقال الحسين بن منصور الحلاج علامة العارف أن يكون فارغا من الدنيا والآخرة . وقال سهل بن عبد الله التستري غاية العرفان شيئان الدهش والحيرة . وقال ذو النون أعرف الناس بالله أشدهم تحيرا فيه . وقيل لأبي يزيد بما ذا وصلت إلى المعرفة قال ببدن عار وبطن جائع .
[ 74 ](1/3098)
و قيل لأبي يعقوب السوسي هل يتأسف العارف على شي ء غير الله فقال وهل يرى شيئا غيره ليتأسف عليه . وقال أبو يزيد العارف طيار والزاهد سيار . وقال الجنيد لا يكون العارف عارفا حتى يكون كالأرض يطؤها البر والفاجر وكالسحاب يظل كل شي ء وكالمطر يسقى ما ينبت وما لا ينبت . وقال يحيى بن معاذ يخرج العارف من الدنيا ولا يقضى وطره من شيئين بكائه على نفسه وحبه لربه . وكان ابن عطاء يقول أركان المعرفة ثلاثة الهيبة والحياء والأنس وقال بعضهم العارف أنس بالله فأوحشه من خلقه وافتقر إلى الله فأغناه عن خلقه وذل لله فأعزه في خلقه . وقال بعضهم العارف فوق ما يقول والعالم دون ما يقول . وقال أبو سليمان الداراني إن الله يفتح للعارف على فراشه ما لا يفتح للعابد وهو قائم يصلي . وكان رويم يقول رياء العارفين أفضل من إخلاص العابدين . وسئل أبو تراب النخشبي عن العارف فقال هو الذي لا يكدره شي ء ويصفو به كل شي ء . وقال بعضهم المعرفة أمواج ترفع وتحط . وسئل يحيى بن معاذ عن العارف فقال الكائن البائن . وقيل ليس بعارف من وصف المعرفة عند أبناء الآخرة فكيف عند أبناء الدنيا . وقال محمد بن الفضل المعرفة حياة القلب مع الله . وسئل أبو سعيد الخراز هل يصير العارف إلى حال يجفو عليه البكاء قال
[ 75 ]
نعم إنما البكاء في أوقات سيرهم إلى الله فإذا صاروا إلى حقائق القرب وذاقوا طعم الوصول زال عنهم ذلك . واعلم أن إطلاق أمير المؤمنين ع عليهم لفظة الولاية في قوله يتواصلون بالولاية ويتلاقون بالمحبة يستدعي الخوض في مقامين جليلين من مقامات العارفين المقام الأول الولاية وهو مقام جليل قال الله تعالى أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اَللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ و(1/3099)
جاء في الخبر الصحيح عن النبي ص يقول الله تعالى من آذى لي وليا فقد استحل محارمي وما تقرب إلي العبد بمثل أداء ما فرضت عليه ولا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ولا ترددت في شي ء أنا فاعله كترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه . واعلم أن الولي له معنيان أحدهما فعيل بمعنى مفعول كقتيل وجريح وهو من يتولى الله أمره كما قال الله تعالى إِنَّ وَلِيِّيَ اَللَّهُ اَلَّذِي نَزَّلَ اَلْكِتابَ وَ هُوَ يَتَوَلَّى اَلصَّالِحِينَ فلا يكله إلى نفسه لحظة عين بل يتولى رعايته . وثانيهما فعيل بمعنى فاعل كنذير وعليم وهو الذي يتولى طاعة الله وعبادته فلا يعصيه . ومن شرط كون الولي وليا ألا يعصي مولاه وسيده كما أن من شرط كون النبي
[ 76 ](1/3100)
نبيا العصمة فمن ظن فيه أنه من الأولياء ويصدر عنه ما للشرع فيه اعتراض فليس بولي عند أصحاب هذا العلم بل هو مغرور مخادع . ويقال إن أبا يزيد البسطامي قصد بعض من يوصف بالولاية فلما وافى مسجده قعد ينتظر خروجه فخرج الرجل وتنخم في المسجد فانصرف أبو يزيد ولم يسلم عليه وقال هذا رجل غير مأمون على أدب من آداب الشريعة كيف يكون أمينا على أسرار الحق . وقال إبراهيم بن أدهم لرجل أ تحب أن تكون لله وليا قال نعم قال لا ترغب في شي ء من الدنيا ولا من الآخرة وفرغ نفسك لله وأقبل بوجهك عليه ليقبل عليك ويواليك . وقال يحيى بن معاذ في صفة الأولياء هم عباد تسربلوا بالأنس بعد المكابدة وادرعوا بالروح بعد المجاهدة بوصولهم إلى مقام الولاية . وكان أبو يزيد يقول أولياء الله عرائس الله ولا يرى العرائس إلا المحارم فهم مخدرون عنده في حجاب الأنس لا يراهم أحد في الدنيا ولا في الآخرة . وقال أبو بكر الصيدلاني كنت أصلح لقبر أبي بكر الطمستاني لوحا أنقر فيه اسمه فيسرق ذلك اللوح فأنقر له لوحا آخر وأنصبه على قبره فيسرق وتكرر ذلك كثيرا دون غيره من ألواح القبور فكنت أتعجب منه فسألت أبا علي الدقاق عن ذلك فقال إن ذلك الشيخ آثر الخفاء في الدنيا وأنت تريد أن تشهره باللوح الذي تنصبه على قبره فالله سبحانه يأبى إلا إخفاء قبره كما هو ستر نفسه . وقال بعضهم إنما سمي الولي وليا لأنه توالت أفعاله على الموافقة .
[ 77 ](1/3101)
و قال يحيى بن معاذ الولي لا يرائي ولا ينافق وما أقل صديق من يكون هذا خلقه . المقام الثاني المحبة قال الله سبحانه مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اَللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ والمحبة عند أرباب هذا الشأن حالة شريفة . قال أبو يزيد البسطامي المحبة استقلال الكثير من نفسك واستكثار القليل من حبيبك . وقال أبو عبد الله القرشي المحبة أن تهب كلك لمن أحببت فلا يبقى لك منك شي ء وأكثرهم على نفي صفة العشق لأن العشق مجاوزة الحد في المحبة والبارئ سبحانه أجل من أن يوصف بأنه قد تجاوز أحد الحد في محبته . سئل الشبلي عن المحبة فقال هي أن تغار على المحبوب أن يحبه أحد غيرك . وقال سمنون ذهب المحبون بشرف الدنيا والآخرة
لأن النبي ص قال المرء مع من أحب فهم مع الله تعالى . وقال يحيى بن معاذ حقيقة المحبة ما لا ينقص بالجفاء ولا يزيد بالبر . وقال ليس بصادق من ادعى محبته ولم يحفظ حدوده . وقال الجنيد إذا صحت المحبة سقطت شروط الأدب . وأنشد في معناه
إذا صفت المودة بين قوم
و دام ودادهم سمج الثناء
و كان أبو علي الدقاق يقول أ لست ترى الأب الشفيق لا يبجل ولده في الخطاب والناس يتكلفون في مخاطبته والأب يقول له يا فلان باسمه .
[ 78 ]
و قال أبو يعقوب السوسي حقيقة المحبة أن ينسى العبد حظه من الله وينسى حوائجه إليه . قيل للنصرآباذي يقولون إنه ليس لك من المحبة شي ء قال صدقوا ولكن لي حسراتهم فهو ذو احتراق فيه . وقال النصرآباذي أيضا المحبة مجانبة السلو على كل حال ثم أنشد
و من كان في طول الهوى ذاق سلوة
فإني من ليلى لها غير ذائق
و أكثر شي ء نلته في وصالها
أماني لم تصدق كلمحة بارق
و كان يقال الحب أوله خبل وآخره قتل . وقال أبو علي الدقاق في معنى
قول النبي ص حبك الشي ء يعمي ويصم قال يعمي ويصم عن الغير إعراضا وعن المحبوب هيبة ثم أنشد
إذا ما بدا لي تعاظمته(1/3102)
فأصدر في حال من لم يره
و قال الجنيد سمعت الحارث المحاسبي يقول المحبة إقبالك على المحبوب بكليتك ثم إيثارك له على نفسك ومالك وولدك ثم موافقتك له في جميع الأمور سرا وجهرا ثم اعتقادك بعد ذلك أنك مقصر في محبته . وقال الجنيد سمعت السري يقول لا تصلح المحبة بين اثنين حتى يقول الواحد للآخر يا أنا . وقال الشبلي المحب إذا سكت هلك والعارف إذا لم يسكت هلك . وقيل المحبة نار في القلب تحرق ما سوى ود المحبوب . وقيل المحبة بذل الجهد والحبيب يفعل ما يشاء . وقال الثوري المحبة هتك الأستار وكشف الأسرار .
[ 79 ]
حبس الشبلي في المارستان بين المجانين فدخل عليه جماعة فقال من أنتم قالوا محبوك أيها الشيخ فأقبل يرميهم بالحجارة ففروا فقال إذا ادعيتم محبتي فاصبروا على بلائي . كتب يحيى بن معاذ إلى أبي يزيد البسطامي قد سكرت من كثرة ما شربت من كأس محبته فكتب إليه أبو يزيد غيرك شرب بحور السموات والأرض وما روي بعد ولسانه خارج ويقول هل من مزيد . ومن شعرهم في هذا المعنى
عجبت لمن يقول ذكرت ربي
و هل أنسى فأذكر ما نسيت
شربت الحب كأسا بعد كأس
فما نفد الشراب ولا رويت
و
يقال إن الله تعالى أوحى إلى بعض الأنبياء إذا اطلعت على قلب عبد فلم أجد فيه حب الدنيا والآخرة ملأته من حبي و
قال أبو علي الدقاق إن في بعض الكتب المنزلة عبدي أنا وحقك لك محب فبحقي عليك كن لي محبا . وقال عبد الله بن المبارك من أعطي قسطا من المحبة ولم يعط مثله من الخشية فهو مخدوع . وقيل المحبة ما تمحو أثرك وتسلبك عن وجودك . وقيل المحبة سكر لا يصحوا صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه ثم إن السكر الذي يحصل عند المشاهدة لا يوصف وأنشد
فأكسر القوم دور كأس
و كان سكرى من المدير
و كان أبو علي الدقاق ينشد كثيرا
[ 80 ]
لي سكرتان وللندمان واحدة
شي ء خصصت به من بينهم وحدي(1/3103)
و كان يحيى بن معاذ يقول مثقال خردلة من الحب أحب إلي من عبادة سبعين سنة بلا حب . وقال بعضهم من أراد أن يكون محبا فليكن كما حكي عن بعض الهند أنه أحب جارية فرحلت عن ذلك البلد فخرج الفتى في وداعها فدمعت إحدى عينيه دون الأخرى فغمض التي لم تدمع أربعا وثمانين سنة ولم يفتحها عقوبة لأنها لم تبك على فراق حبيبته . وأنشدوا في هذا المعنى
بكت عيني غداة البين دمعا
و أخرى بالبكاء بخلت علينا
فعاقبت التي بخلت علينا
بأن غمضتها يوم التقيا
و
قيل إن الله تعالى أوحى إلى داود ع إني حرمت على القلوب أن يدخلها حبي وحب غيري . وقيل المحبة إيثار المحبوب على النفس كامرأة العزيز لما أفرط بها الحب قالت أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ اَلصَّادِقِينَ وفي الابتداء قالت ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ فوركت الذنب في الابتداء عليه ونادت في الانتهاء على نفسها بالخيانة وقال أبو سعيد الخراز رأيت النبي ص في المنام فقلت يا رسول الله اعذرني فإن محبة الله شغلتني عن حبك فقال يا مبارك من أحب الله فقد أحبني .
[ 81 ](1/3104)
ثم نعود إلى تفسير ألفاظ الفصل قوله ع يصونون مصونه أي يكتمون من العلم الذي استحفظوه ما يجب أن يكتم ويفجرون عيونه يظهرون منه ما ينبغي إظهاره وذلك أنه ليس ينبغي إظهار كل ما استودع العارف من الأسرار وأهل هذا الفن يزعمون أن قوما منهم عجزوا عن أن يحملوا بما حملوه فباحوا به فهلكوا منهم الحسين بن منصور الحلاج ولأبي الفتوح الجارودي المتأخر أتباع يعتقدون فيه مثل ذلك . والولاية بفتح الواو المحبة والنصرة ومعنى يتواصلون بالولاية يتواصلون وهم أولياء ومثله ويتلاقون بالمحبة كما تقول خرجت بسلاحي أي خرجت وأنا متسلح فيكون موضع الجار والمجرور نصبا بالحال أو يكون المعنى أدق وألطف من هذا وهو أن يتواصلوا بالولاية أي بالقلوب لا بالأجسام كما تقول أنا أراك بقلبي وأزورك بخاطري وأواصلك بضميري . قوله ويتساقون بكأس روية أي بكأس المعرفة والأنس بالله يأخذ بعضهم عن بعض العلوم والأسرار فكأنهم شرب يتساقون بكأس من الخمر . قال ويصدرون برية يقال من أين ريتكم مفتوحة الراء أي من أين ترتوون الماء . قال لا تشوبهم الريبة أي لا تخالطهم الظنة والتهمة ولا تسرع فيهم الغيبة لأن أسرارهم مشغولة بالحق عن الخلق . قال على ذلك عقد خلقهم وأخلاقهم الضمير في عقد يرجع إلى الله تعالى أي على هذه الصفات والطبائع عقد الخالق تعالى خلقتهم وخلقهم أي هم متهيئون لما صاروا إليه
كما قال ع إذا أرادك لأمر هيأك له
[ 82 ]
و
قال ع كل ميسر لما خلق له . قال فعليه يتحابون وبه يتواصلون أي ليس حبهم بعضهم بعضا إلا في الله وليست مواصلتهم بعضهم بعضا إلا لله لا للهوى ولا لغرض من أغراض الدنيا أنشد منشد عند عمر قول طرفة
فلو لا ثلاث هن من عيشة الفتى
و جدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبقي العاذلات بشربة
كميت متى ما تعل بالماء تزبد
و كري إذا نادى المضاف محنبا
كسيد الغضا نبهته المتورد
و تقصير يوم الدجن والدجن معجب(1/3105)
ببهكنة تحت الطراف المعمد
فقال عمر وأنا لو لا ثلاث هن من عيشة الفتى لم أحفل متى قام عودي حبي في الله وبغضي في الله وجهادي في سبيل الله . قوله ع فكانوا كتفاضل البذر أي مثلهم مثل الحب الذي ينتفي للبذر يستصلح بعضه ويسقط بعضه . قد ميزه التخليص قد فرق الانتقاء بين جيدة ورديئة وهذبه التمحيص
قال النبي ص إن المرض ليمحص الخطايا كما تمحص النار الذهب أي كما تخلص النار الذهب مما يشوبه . ثم أمر ع المكلفين بقبول كرامة الله ونصحه ووعظه وتذكيره وبالحذر
[ 83 ]
من نزول القارعة بهم وهي هاهنا الموت وسميت الداهية قارعة لأنها تقرع أي تصيب بشدة . قوله فليصنع لمتحوله أي فليعد ما يجب إعداده للموضع الذي يتحول إليه تقول اصنع لنفسك أي اعمل لها . قوله ومعارف منتقله معارف الدار ما يعرفها المتوسم بها واحدها معرف مثل معاهد الدار ومعالم الدار ومنه معارف المرأة وهو ما يظهر منها كالوجه واليدين والمنتقل بالفتح موضع الانتقال . قوله فطوبى هي فعلى من الطيب قلبوا الياء واوا للضمة قبلها ويقال طوبى لك وطوباك بالإضافة . وقول العامة طوبيك بالياء غير جائز . قوله لذي قلب سليم هو من ألفاظ الكتاب العزيز أي سليم من الغل والشك . قوله أطاع من يهديه أي قبل مشورة الناصح الآمر له بالمعروف والناهي له عن المنكر . وتجنب من يرديه أي يهلكه بإغوائه وتحسين القبيح له . والباء في قوله ببصر من بصره متعلقة بأصاب . قوله قبل أن تغلق أبوابه أي قبل أن يحضره الموت فلا تقبل توبته . والحوبة الإثم وإماطته إزالته ويجوز أمطت الأذى عنه ومطت الأذى عنه أي نحيته ومنع الأصمعي منه إلا بالهمزة
[ 84 ](1/3106)
208 ومن دعاء كان يدعو به ع كثيرا
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي لَمْ يُصْبِحْ بِي مَيِّتاً وَ لاَ سَقِيماً وَ لاَ مَضْرُوباً عَلَى عُرُوقِي بِسُوءٍ وَ لاَ مَأْخُوذاً بِأَسْوَإِ عَمَلِي وَ لاَ مَقْطُوعاً دَابِرِي وَ لاَ مُرْتَدّاً عَنْ دِينِي وَ لاَ مُنْكِراً لِرَبِّي وَ لاَ مُسْتَوْحِشاً مِنْ إِيمَانِي وَ لاَ مُلْتَبِساً عَقْلِي وَ لاَ مُعَذَّباً بِعَذَابِ اَلْأُمَمِ مِنْ قَبْلِي أَصْبَحْتُ عَبْداً مَمْلُوكاً ظَالِماً لِنَفْسِي لَكَ اَلْحُجَّةُ عَلَيَّ وَ لاَ حُجَّةَ لِي وَ لاَ أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ إِلاَّ مَا أَعْطَيْتَنِي وَ لاَ أَتَّقِيَ إِلاَّ مَا وَقَيْتَنِي اَللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَفْتَقِرَ فِي غِنَاكَ أَوْ أَضِلَّ فِي هُدَاكَ أَوْ أُضَامَ فِي سُلْطَانِكَ أَوْ أُضْطَهَدَ وَ اَلْأَمْرُ لَكَ اَللَّهُمَّ اِجْعَلْ نَفْسِي أَوَّلَ كَرِيمَةٍ تَنْتَزِعُهَا مِنْ كَرَائِمِي وَ أَوَّلَ وَدِيعَةٍ تَرْتَجِعُهَا مِنْ وَدَائِعِ نِعَمِكَ عِنْدِي اَللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَذْهَبَ عَنْ قَوْلِكَ أَوْ أَنْ نُفْتَتَنَ عَنْ دِينِكَ أَوْ تَتَابَعَ تَتَتَابَعَ بِنَا أَهْوَاؤُنَا دُونَ اَلْهُدَى اَلَّذِي جَاءَ مِنْ عِنْدِكَ
[ 85 ](1/3107)
قوله كثيرا منصوب بأنه صفة مصدر محذوف أي دعاء كثيرا وميتا منصوب على الحال أي لم يفلق الصباح على ميتا ولا يجوز أن تكون يصبح ناقصة ويكون ميتا خبرها كما قال الراوندي لأن خبر كان وأخواتها يجب أن يكون هو الاسم أ لا ترى أنهما مبتدأ وخبر في الأصل واسم يصبح ضمير الله تعالى وميتا ليس هو الله سبحانه . قوله ولا مضروبا على عروقي بسوء أي ولا أبرص والعرب تكني عن البرص بالسوء ومن أمثالهم ما أنكرك من سوء أي ليس إنكاري لك عن برص حدث بك فغير صورتك . وأراد بعروقه أعضاءه ويجوز أن يريد ولا مطعونا في نسبي والتفسير الأول أظهر . ولا مأخوذا بأسوإ عملي أي ولا معاقبا بأفحش ذنوبي . ولا مقطوعا دابري أي عقبي ونسلي والدابر في الأصل التابع لأنه يأتي دبرا ويقال للهالك قد قطع الله دابره كأنه يراد أنه عفا أثره ومحا اسمه قال سبحانه أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ . ولا مستوحشا أي ولا شاكا في الإيمان لأن من شك في عقيدة استوحش منها . ولا متلبسا عقلي أي ولا مختلطا عقلي لبست عليهم الأمر بالفتح أي خلطته وعذاب الأمم من قبل المسخ والزلزلة والظلمة ونحو ذلك .
[ 86 ]
قوله لك الحجة علي ولا حجة لي لأن الله سبحانه قد كلفه بعد تمكينه وإقداره وإعلامه قبح القبيح ووجوب الواجب وترديد دواعيه إلى الفعل وتركه وهذه حجة الله تعالى على عباده ولا حجة للعباد عليه لأنه ما كلفهم إلا بما يطيقونه ولا كان لهم لطف في أمر إلا وفعله . قوله لا أستطيع أن آخذ إلا ما أعطيتني ولا أتقي إلا ما وقيتني أي لا أستطيع أن أرزق نفسي أمرا ولكنك الرزاق ولا أدفع عن نفسي محذورا من المرض والموت إلا ما دفعته أنت عني . وقال الشاعر
لعمرك ما يدرى الفتى كيف يتقي
نوائب هذا الدهر أم كيف يحذر
يرى الشي ء مما يتقى فيخافه
و ما لا يرى مما يقي الله أكثر
و قال عبد الله بن سليمان بن وهب(1/3108)
كفاية الله أجدى من توقينا
و عادة الله في الأعداء تكفينا
كاد الأعادي فما أبقوا ولا تركوا
عيبا وطعنا وتقبيحا وتهجينا
و لم نزد نحن في سر وفي علن
على مقالتنا الله يكفينا
و كان ذاك ورد الله حاسدنا
بغيظه لم ينل مأموله فينا
قوله ع أن أفتقر في غناك موضع الجار والمجرور نصب على الحال وفي متعلقة بمحذوف والمعنى أن أفتقر وأنت الموصوف بالغنى الفائض على الخلق . وكذلك قوله أو أضل في هداك معناه أو أضل وأنت ذو الهداية العامة للبشر كافة وكذلك أو أضام في سلطانك كما يقول المستغيث إلى السلطان كيف أظلم في عدلك .
[ 87 ]
و كذلك قوله أو أضطهد والأمر لك أي وأنت الحاكم صاحب الأمر والطاء في أضطهد هي تاء الافتعال وأصل الفعل ضهدت فلانا فهو مضهود أي قهرته وفلان ضهده لكل أحد أي كل من شاء أن يقهره فعل . قوله اللهم اجعل نفسي هذه الدعوة مثل دعوة رسول الله ص وهي
قوله اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا واجعله الوارث منا أي لا تجعل موتنا متأخرا عن ذهاب حواسنا و(1/3109)
كان علي بن الحسين يقول في دعائه اللهم احفظ علي سمعي وبصري إلى انتهاء أجلي . وفسروا قوله ع واجعله الوارث منا فقالوا الضمير في واجعله يرجع إلى الإمتاع . فإن قلت كيف يتقى الإمتاع بالسمع والبصر بعد خروج الروح . قلت هذا توسع في الكلام والمراد لا تبلنا بالعمى ولا الصمم فنكون أحياء في الصورة ولسنا بأحياء في المعنى لأن من فقدهما لا خير له في الحياة فحملته المبالغة على أن طلب بقاءهما بعد ذهاب النفس إيذانا وإشعارا بحبه ألا يبلى بفقدهما . ونفتتن على ما لم يسم فاعله نصاب بفتنة تضلنا عن الدين وروي نفتتن بفتح حرف المضارعة على نفتعل افتتن الرجل أي فتن ولا يجوز أن يكون الافتتان متعديا كما ذكره الراوندي ولكنه قرأ في الصحاح للجوهري والفتون الافتتان يتعدى ولا يتعدى فظن أن ذلك للافتتان وليس كما ظن وإنما ذلك راجع إلى الفتون . والتتابع التهافت في اللجاج والشر ولا يكون إلا في مثل ذلك وروي أو تتابع بطرح إحدى التاءات
[ 88 ](1/3110)
209 ومن خطبة له ع خطبها بصفين
أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ جَعَلَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً بِوِلاَيَةِ أَمْرِكُمْ وَ لَكُمْ عَلَيَّ مِنَ اَلْحَقِّ مِثْلُ اَلَّذِي لِي عَلَيْكُمْ وَ اَلْحَقُّ أَوْسَعُ اَلْأَشْيَاءِ فِي اَلتَّوَاصُفِ وَ أَضْيَقُهَا فِي اَلتَّنَاصُفِ لاَ يَجْرِي لِأَحَدٍ إِلاَّ جَرَى عَلَيْهِ وَ لاَ يَجْرِي عَلَيْهِ إِلاَّ جَرَى لَهُ وَ لَوْ كَانَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْرِيَ لَهُ وَ لاَ يَجْرِيَ عَلَيْهِ لَكَانَ ذَلِكَ خَالِصاً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ دُونَ خَلْقِهِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ وَ لِعَدْلِهِ فِي كُلِّ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ صُرُوفُ قَضَائِهِ وَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ حَقَّهُ عَلَى اَلْعِبَادِ أَنْ يُطِيعُوهُ وَ جَعَلَ جَزَاءَهُمْ عَلَيْهِ مُضَاعَفَةَ اَلثَّوَابِ تَفَضُّلاً مِنْهُ وَ تَوَسُّعاً بِمَا هُوَ مِنَ اَلْمَزِيدِ أَهْلُهُ الذي له عليهم من الحق هو وجوب طاعته والذي لهم عليه من الحق هو وجوب معدلته فيهم والحق أوسع الأشياء في التواصف وأضيقها في التناصف معناه أن كل أحد يصف الحق والعدل ويذكر حسنه ووجوبه ويقول لو وليت لعدلت فهو بالوصف باللسان وسيع وبالفعل ضيق لأن ذلك العالم العظيم الذين كانوا يتواصفون حسنه ويعدون أن لو ولوا باعتماده وفعله لا تجد في الألف منهم واحدا لو ولي لعدل ولكنه قول بغير عمل .
[ 89 ](1/3111)
ثم عاد إلى تقرير الكلام الأول وهو وجوب الحق له وعليه فقال إنه لا يجري لأحد إلا وجرى عليه وكذلك لا يجري عليه إلا وجرى له أي ليس ولا واحد من الموجودين بمرتفع عن أن يجري الحق عليه ولو كان أحد من الموجودين كذلك لكان أحقهم بذلك البارئ سبحانه لأنه غاية الشرف بل هو فوق الشرف وفوق الكمال والتمام وهو مالك الكل وسيد الكل فلو كان لجواز هذه القضية وجه ولصحتها مساغ لكان البارئ تعالى أولى بها وهي ألا يستحق عليه شي ء وتقدير الكلام لكنه يستحق عليه أمور فهو في هذا الباب كالواحد منا يستحق ويستحق عليه ولكنه ع حذف هذا الكلام المقدر أدبا وإجلالا لله تعالى أن يقول إنه يستحق عليه شي ء . فإن قلت فما بال المتكلمين لا يتأدبون بأدبه ع وكيف يطلقون عليه تعالى الوجوب والاستحقاق . قلت ليست وظيفة المتكلمين وظيفة أمير المؤمنين ع في عباراتهم هؤلاء أرباب صناعة وعلم يحتاج إلى ألفاظ واصطلاح لا بد لهم من استعماله للإفهام والجدل بينهم وأمير المؤمنين إمام يخطب على منبره يخاطب عربا ورعية ليسوا من أهل النظر ولا مخاطبته لهم لتعليم هذا العلم بل لاستنفارهم إلى حرب عدوه فوجب عليه بمقتضى الأدب أن يتوقى كل لفظة توهم ما يستهجنه السامع في الأمور الإلهية وفي غيرها . فإن قلت فما هذه الأمور التي زعمت أنها تستحق على البارئ سبحانه وأن أمير المؤمنين ع حذفها من اللفظ واللفظ يقتضيها . قلت الثواب والعوض وقبول التوبة واللطف والوفاء بالوعد والوعيد وغير ذلك مما يذكره أهل العدل .
[ 90 ](1/3112)
فإن قلت فما معنى قوله لكان ذلك خالصا لله سبحانه دون خلقه لقدرته على عباده ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه وهب أن تعليل عدم استحقاق شي ء على الله تعالى بقدرته على عباده صحيح كيف يصح تعليل ذلك بعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه أ لا ترى أنه ليس بمستقيم أن تقول لا يستحق على البارئ شي ء لأنه عادل وإنما المستقيم أن تقول لا يستحق عليه شي ء لأنه مالك ولذلك عللت الأشعرية هذا الحكم بأنه مالك الكل والاستحقاق إنما يكون على من دونه . قلت التعليل صحيح وهو أيضا مما عللت به الأشعرية مذهبها وذلك لأنه إنما يتصور الاستحقاق على الفاعل المختار إذا كان ممن يتوقع منه أو يصح منه أن يظلم فيمكن حينئذ أن يقال قد وجب عليه كذا واستحق عليه كذا فأما من لا يمكن أن يظلم ولا يتصور وقوع الظلم منه ولا الكذب ولا خلف الوعد والوعيد فلا معنى لإطلاق الوجوب والاستحقاق عليه كما لا يقال كذا الداعي الخالص يستحق عليه أن يفعل ما دعاه إليه الداعي ويجب عليه أن يفعل ما دعاه إليه الداعي مثل الهارب من الأسد والشديد العطش إذا وجد الماء ونحو ذلك . فإن قلت أ ليس يشعر قوله ع وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضلا منه بمذهب البغداديين من أصحابكم وهو قولهم إن الثواب تفضل من الله سبحانه وليس بواجب . قلت لا وذلك لأنه جعل المتفضل به هو مضاعفة الثواب لا أصل الثواب وليس ذلك بمستنكر عندنا . فإن قلت أ يجوز عندكم أن يستحق المكلف عشرة أجزاء من الثواب فيعطى عشرين جزءا منه أ ليس من مذهبكم أن التعظيم والتبجيل لا يجوز من البارئ سبحانه أن يفعلهما
[ 91 ](1/3113)
في الجنة إلا على قدر الاستحقاق والثواب عندكم هو النفع المقارن للتعظيم والتبجيل فيكف قلت إن مضاعفة الثواب عندنا جائزة . قلت مراده ع بمضاعفة الثواب هنا زيادة غير مستحقة من النعيم واللذة الجسمانية خاصة في الجنة فسمى تلك اللذة الجسمانية ثوابا لأنها جزء من الثواب فأما اللذة العقلية فلا يجوز مضاعفتها . قوله ع بما هو من المزيد أهله أي بما هو أهله من المزيد فقدم الجار والمجرور وموضعه نصب على الحال وفيه دلالة على أن حال المجرور تتقدم عليه كما قال الشاعر
لئن كان برد الماء حران صاديا
إلي حبيبا إنها لحبيب
ثُمَّ جَعَلَ سُبْحَانَهُ مِنْ حُقُوقِهِ حُقُوقاً اِفْتَرَضَهَا لِبَعْضِ اَلنَّاسِ عَلَى بَعْضٍ فَجَعَلَهَا تَتَكَافَأُ فِي وُجُوهِهَا وَ يُوجِبُ بَعْضُهَا بَعْضاً وَ لاَ يُسْتَوْجَبُ بَعْضُهَا إِلاَّ بِبَعْضٍ . وَ أَعْظَمُ مَا اِفْتَرَضَ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْكَ اَلْحُقُوقِ حَقُّ اَلْوَالِي عَلَى اَلرَّعِيَّةِ وَ حَقُّ اَلرَّعِيَّةِ عَلَى اَلْوَالِي فَرِيضَةٌ فَرَضَهَا اَللَّهُ سُبْحَانَهُ لِكُلٍّ عَلَى كُلٍّ فَجَعَلَهَا نِظَاماً لِأُلْفَتِهِمْ وَ عِزّاً لِدِينِهِمْ فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ اَلرَّعِيَّةُ إِلاَّ بِصَلاَحِ اَلْوُلاَةِ وَ لاَ تَصْلُحُ اَلْوُلاَةُ إِلاَّ بِاسْتِقَامَةِ اَلرَّعِيَّةِ فَإِذَا أَدَّتْ اَلرَّعِيَّةُ إِلَى اَلْوَالِي حَقَّهُ وَ أَدَّى اَلْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا عَزَّ اَلْحَقُّ بَيْنَهُمْ وَ قَامَتْ مَنَاهِجُ اَلدِّينِ وَ اِعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ اَلْعَدْلِ وَ جَرَتْ عَلَى أَذْلاَلِهَا اَلسُّنَنُ فَصَلَحَ بِذَلِكَ اَلزَّمَانُ وَ طُمِعَ فِي بَقَاءِ اَلدَّوْلَةِ وَ يَئِسَتْ مَطَامِعُ اَلْأَعْدَاءِ .
[ 92 ](1/3114)
وَ إِذَا غَلَبَتِ اَلرَّعِيَّةُ وَالِيَهَا أَوْ أَجْحَفَ اَلْوَالِي بِرَعِيَّتِهِ اِخْتَلَفَتْ هُنَالِكَ اَلْكَلِمَةُ وَ ظَهَرَتْ مَعَالِمُ اَلْجَوْرِ وَ كَثُرَ اَلْإِدْغَالُ فِي اَلدِّينِ وَ تَرَكَتْ مَحَاجُّ اَلسُّنَنِ فَعُمِلَ بِالْهَوَى وَ عُطِّلَتِ اَلْأَحْكَامُ وَ كَثُرَتْ عِلَلُ اَلنُّفُوسِ فَلاَ يُسْتَوْحَشُ لِعَظِيمِ حَقٍّ عُطِّلَ وَ لاَ لِعَظِيمِ بَاطِلٍ فُعِلَ فَهُنَالِكَ تَذِلُّ اَلْأَبْرَارُ وَ تَعِزُّ اَلْأَشْرَارُ وَ تَعْظُمُ تَبِعَاتُ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ اَلْعِبَادِ . فَعَلَيْكُمْ بِالتَّنَاصُحِ فِي ذَلِكَ وَ حُسْنِ اَلتَّعَاوُنِ عَلَيْهِ فَلَيْسَ أَحَدٌ وَ إِنِ اِشْتَدَّ عَلَى رِضَا اَللَّهِ حِرْصُهُ وَ طَالَ فِي اَلْعَمَلِ اِجْتِهَادُهُ بِبَالِغٍ حَقِيقَةَ مَا اَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلُهُ مِنَ اَلطَّاعَةِ لَهُ وَ لَكِنْ مِنْ وَاجِبِ حُقُوقِ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ اَلنَّصِيحَةُ بِمَبْلَغِ جُهْدِهِمْ وَ اَلتَّعَاوُنُ عَلَى إِقَامَةِ اَلْحَقِّ بَيْنَهُمْ وَ لَيْسَ اِمْرُؤٌ وَ إِنْ عَظُمَتْ فِي اَلْحَقِّ مَنْزِلَتُهُ وَ تَقَدَّمَتْ فِي اَلدِّينِ فَضِيلَتُهُ بِفَوْقِ أَنْ يُعَانَ عَلَى مَا حَمَّلَهُ اَللَّهُ مِنْ حَقِّهِ وَ لاَ اِمْرُؤٌ وَ إِنْ صَغَّرَتْهُ اَلنُّفُوسُ وَ اِقْتَحَمَتْهُ اَلْعُيُونُ بِدُونِ أَنْ يُعِينَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يُعَانَ عَلَيْهِ تتكافأ في وجوهها تتساوى وهي حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي . وفريضة قد روي بالنصب وبالرفع فمن رفع فخبر مبتدإ محذوف ومن نصب فبإضمار فعل أو على الحال . وجرت على أذلالها السنن بفتح الهمزة أي على مجاريها وطرقها . وأجحف الوالي برعيته ظلمهم . والإدغال في الدين الفساد .
[ 93 ](1/3115)
و محاج السنن جمع محجة وهي جادة الطريق . قوله وكثرت علل النفوس أي تعللها بالباطل ومن كلام الحجاج إياكم وعلل النفوس فإنها أدوى لكم من علل الأجساد . واقتحمته العيون احتقرته وازدرته قال ابن دريد
و منه ما تقتحم العين فإن
ذقت جناه ساغ عذبا في اللها
و مثل قوله ع وليس امرؤ وإن عظمت في الحق منزلته قول زيد بن علي ع لهشام بن عبد الملك إنه ليس أحد وإن عظمت منزلته بفوق أن يذكر بالله ويحذر من سطوته وليس أحد وإن صغر بدون أن يذكر بالله ويخوف من نقمته . ومثل قوله ع وإذا غلبت الرعية واليها قول الحكماء إذا علا صوت بعض الرعية على الملك فالملك مخلوع فإن قال نعم فقال أحد من الرعية لا فالملك مقتول(1/3116)
فصل فيما ورد من الآثار فيما يصلح الملك
و قد جاء في وجوب الطاعة لأولي الأمر الكثير الواسع قال الله سبحانه أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ و
روى عبد الله بن عمر عن رسول الله ص السمع والطاعة على المرء
[ 94 ]
المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بها فلا سمع ولا طاعة و
عنه ص إن أمر عليكم عبد أسود مجدع فاسمعوا له وأطيعوا و
من كلام علي ع إن الله جعل الطاعة غنيمة الأكياس عند تفريط الفجرة . بعث سعد بن أبي وقاص جرير بن عبد الله البجلي من العراق إلى عمر بن الخطاب بالمدينة فقال له عمر كيف تركت الناس قال تركتهم كقداح الجعبة منها الأعصل الطائش ومنها القائم الرائش قال فكيف سعد لهم قال هو ثقافها الذي يقيم أودها ويغمز عصلها قال فكيف طاعتهم قال يصلون الصلاة لأوقاتها ويؤدون الطاعة إلى ولاتها قال الله أكبر إذا أقيمت الصلاة أديت الزكاة وإذا كانت الطاعة كانت الجماعة . ومن كلام أبرويز الملك أطع من فوقك يطعك من دونك . ومن كلام الحكماء قلوب الرعية خزائن واليها فما أودعه فيها وجده . وكان يقال صنفان متباغضان متنافيان السلطان والرعية وهما مع ذلك متلازمان إن أصلح أحدهما صلح الآخر وإن فسد فسد الآخر . وكان يقال محل الملك من رعيته محل الروح من الجسد ومحل الرعية منه محل الجسد من الروح فالروح تألم بألم كل عضو من أعضاء البدن وليس كل واحد من الأعضاء يألم بألم غيره وفساد الروح فساد جميع البدن وقد يفسد بعض البدن وغيره من سائر البدن صحيح .
[ 95 ](1/3117)
و كان يقال ظلم الرعية استجلاب البلية . وكان يقال العجب ممن استفسد رعيته وهو يعلم أن عزه بطاعتهم . وكان يقال موت الملك الجائر خصب شامل . وكان يقال لا قحط أشد من جور السلطان . وكان يقال قد تعامل الرعية المشمئزة بالرفق فتزول أحقادها ويذل قيادها وقد تعامل بالخرق فتكاشف بما غيبت وتقدم على ما عيبت حتى يعود نفاقها شقاقا ورذاذها سيلا بعاقا ثم إن غلبت وقهرت فهو الدمار وإن غلبت وقهرت لم يكن يغلبها افتخار ولم يدرك بقهرها ثأر وكان يقال الرعية وإن كانت ثمارا مجتناه وذخائر مقتناه وسيوفا منتضاه وأحراسا مرتضاه فإن لها نفارا كنفار الوحوش وطغيانا كطغيان السيول ومتى قدرت أن تقول قدرت على أن تصول . وكان يقال أيدي الرعية تبع ألسنتها فلن يملك الملك ألسنتها حتى يملك جسومها ولن يملك جسومها حتى يملك قلوبها فتحبه ولن تحبه حتى يعدل عليها في أحكامه عدلا يتساوى فيه الخاصة والعامة وحتى يخفف عنها المؤن والكلف وحتى يعفيها من رفع أوضاعها وأراذلها عليها وهذه الثالثة تحقد على الملك العلية من الرعية وتطمع السفلة في الرتب السنية . وكان يقال الرعية ثلاثة أصناف صنف فضلاء مرتاضون بحكم الرئاسة والسياسة يعلمون فضيلة الملك وعظيم غنائه ويرثون له من ثقل أعبائه فهؤلاء يحصل الملك موداتهم بالبشر عند اللقاء ويلقى أحاديثهم بحسن الإصغاء وصنف فيهم خير وشر ظاهران فصلاحهم يكتسب من معاملتهم بالترغيب والترهيب وصنف من السفلة الرعاع أتباع
[ 96 ](1/3118)
لكل داع لا يمتحنون في أقوالهم وأعمالهم بنقد ولا يرجعون في الموالاة إلى عقد . وكان يقال ترك المعاقبة للسفلة على صغار الجرائم تدعوهم إلى ارتكاب الكبائر العظائم أ لا ترى أول نشور المرأة كلمة سومحت بها وأول حران الدابة حيدة سوعدت عليها . ويقال إن عثمان قال يوما لجلسائه وهو محصور في الفتنة وددت أن رجلا صدوقا أخبرني عن نفسي وعن هؤلاء فقام إليه فتى فقال إني أخبرك تطأطأت لهم فركبوك وما جراهم على ظلمك إلا إفراط حلمك قال صدقت فهل تعلم ما يشب نيران الفتن قال نعم سألت عن ذلك شيخا من تنوخ كان باقعة قد نقب في الأرض وعلم علما جما فقال الفتنة يثيرها أمران أثرة تضغن على الملك الخاصة وحلم يجزئ عليه العامة قال فهل سألته عما يخمدها قال نعم زعم أن الذي يخمدها في ابتدائها استقالة العثرة وتعميم الخاصة بالأثرة فإذا استحكمت الفتنة أخمدها الصبر قال عثمان صدقت وإني لصابر حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين ويقال إن يزدجرد بن بهرام سأل حكيما ما صلاح الملك قال الرفق بالرعية وأخذ الحق منها بغير عنف والتودد إليها بالعدل وأمن السبل وإنصاف المظلوم قال فما صلاح الملك قال وزراؤه إذا صلحوا صلح قال فما الذي يثير الفتن قال ضغائن يظهرها جرأة عامه واستخفاف خاصة وانبساط الألسن بضمائر القلوب وإشفاق موسر وأمن معسر وغفلة مرزوق ويقظة محروم قال وما يسكنها قال أخذ العدة لما يخاف وإيثار الجد حين يلتذ الهزل والعمل بالحزم وادراع الصبر والرضا بالقضاء . وكان يقال خير الملوك من أشرب قلوب رعيته محبته كما أشعرها هيبته ولن ينال ذلك منها حتى تظفر منه بخمسه أشياء إكرام شريفها ورحمة ضعيفها وإغاثة لهيفها
[ 97 ](1/3119)
و كف عدوان عدوها وتأمين سبل رواحها وغدوها فمتى أعدمها شيئا من ذلك فقد أحقدها بقدر ما أفقدها . وكان يقال الأسباب التي تجر الهلك إلى الملك ثلاثة أحدها من جهة الملك وهو أن تتأمر شهواته على عقله فتستهويه نشوات الشهوات فلا تسنح له لذة إلا اقتنصها ولا راحة إلا افترصها . والثاني من جهة الوزراء وهو تحاسدهم المقتضي تعارض الآراء فلا يسبق أحدهم إلى حق إلا كويد وعورض وعوند . والثالث من جهة الجند المؤهلين لحراسة الملك والدين وتوهين المعاندين وهو نكولهم عن الجلاد وتضجيعهم في المناصحة والجهاد وهم صنفان صنف وسع الملك عليهم فأبطرهم الإتراف وضنوا بنفوسهم عن التعريض للإتلاف وصنف قدر عليهم الأرزاق فاضطغنوا الأحقاد واستشعروا النفاق(1/3120)
الآثار الواردة في العدل والإنصاف
قوله ع أو أجحف الوالي برعيته قد جاء من نظائره الكثير جدا وقد ذكرنا فيما تقدم نكتا حسنة في مدح العدل والإنصاف وذم الظلم والإجحاف و
قال النبي ص زين الله السماء بثلاثة الشمس والقمر والكواكب وزين الأرض بثلاثة العلماء والمطر والسلطان العادل . وكان يقال إذا لم يعمر الملك ملكه بإنصاف الرعية خرب ملكه بعصيان الرعية . وقيل لأنوشروان أي الجنن أوقى قال الدين قيل فأي العدد أقوى قال العدل .
[ 98 ](1/3121)
وقع جعفر بن يحيى إلى عامل من عماله كثر شاكوك وقل حامدوك فإما عدلت وإما اعتزلت . وجد في خزانة بعض الأكاسرة سفط ففتح فوجد فيه حب الرمان كل حبة كالنواة الكبيرة من نوى المشمش وفي السفط رقعة فيها هذا حب رمان عملنا في خراجه بالعدل . جاء رجل من مصر إلى عمر بن الخطاب متظلما فقال يا أمير المؤمنين هذا مكان العائذ بك قال له عذت بمعاذ ما شأنك قال سابقت ولد عمرو بن العاص بمصر فسبقته فجعل يعنفني بسوطه ويقول أنا ابن الأكرمين وبلغ أباه ذلك فحبسني خشية أن أقدم عليك فكتب إلى عمرو إذا أتاك كتابي هذا فاشهد الموسم أنت وابنك فلما قدم عمرو وابنه دفع الدرة إلى المصري وقال اضربه كما ضربك فجعل يضربه وعمر يقول اضرب ابن الأمير اضرب ابن الأمير يرددها حتى قال يا أمير المؤمنين قد استقدت منه فقال وأشار إلى عمرو ضعها على صلعته فقال المصري يا أمير المؤمنين إنما أضرب من ضربني فقال إنما ضربك بقوة أبيه وسلطانه فاضربه إن شئت فو الله لو فعلت لما منعك أحد منه حتى تكون أنت الذي تتبرع بالكف عنه ثم قال يا ابن العاص متى تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرار . خطب الإسكندر جنده فقال لهم بالرومية كلاما تفسيره يا عباد الله إنما إلهكم الله الذي في السماء الذي نصرنا بعد حين الذي يسقيكم الغيث عند الحاجة وإليه مفزعكم عند الكرب والله لا يبلغني إن الله أحب شيئا إلا أحببته وعملت به إلى يوم أجلي ولا يبلغني أنه أبغض شيئا إلا أبغضته وهجرته إلى يوم أجلي وقد أنبئت أن الله يحب العدل في عباده ويبغض الجور فويل للظالم من سوطي وسيفي ومن ظهر منه
[ 99 ](1/3122)
العدل من عمالي فليتكئ في مجلسي كيف شاء وليتمن على ما شاء فلن تخطئه أمنيته والله المجازي كلا بعمله . قال رجل لسليمان بن عبد الملك وهو جالس للمظالم يا أمير المؤمنين أ لم تسمع قول الله تعالى فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اَللَّهِ عَلَى اَلظَّالِمِينَ قال ما خطبك قال وكيلك اغتصبني ضيعتي وضمها إلى ضيعتك الفلانية قال فإن ضيعتي لك وضيعتك مردودة إليك ثم كتب إلى الوكيل بذلك وبصرفه عن عمله . ورقى إلى كسرى قباذ أن في بطانة الملك قوما قد فسدت نياتهم وخبثت ضمائرهم لأن أحكام الملك جرت على بعضهم لبعضهم فوقع في الجواب أنا أملك الأجساد لا النيات وأحكم بالعدل لا بالهوى وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر . وتظلم أهل الكوفة إلى المأمون من واليهم فقال ما علمت في عمالي أعدل ولا أقوم بأمر الرعية ولا أعود بالرفق منه فقال له منهم واحد فلا أحد أولى منك يا أمير المؤمنين بالعدل والإنصاف وإذا كان بهذه الصفة فمن عدل أمير المؤمنين أن يوليه بلدا بلدا حتى يلحق أهل كل بلد من عدله مثل ما لحقنا منه ويأخذوا بقسطهم منه كما أخذ منه سواهم وإذا فعل أمير المؤمنين ذلك لم يصب الكوفة منه أكثر من ثلاث سنين فضحك وعزله . كتب عدي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز أما بعد فإن قبلنا قوما لا يؤدون الخراج إلا أن يمسهم نصب من العذاب فاكتب إلى أمير المؤمنين برأيك فكتب أما بعد فالعجب لك كل العجب تكتب إلي تستأذنني في عذاب البشر كأن إذني لك جنة من عذاب الله أو كان رضاي ينجيك من سخط الله فمن أعطاك ما عليه عفوا
[ 100 ](1/3123)
فخذ منه ومن أبى فاستحلفه وكله إلى الله فلأن يلقوا الله بجرائمهم أحب إلي من أن ألقاه بعذابهم . فضيل بن عياض ما ينبغي أن تتكلم بفيك كله أ تدري من كان يتكلم بفيه كله عمر بن الخطاب كان يعدل في رعيته ويجور على نفسه ويطعمهم الطيب ويأكل الغليظ ويكسوهم اللين ويلبس الخشن ويعطيهم الحق ويزيدهم ويمنع ولده وأهله أعطى رجلا عطاءه أربعة آلاف درهم ثم زاده ألفا فقيل له أ لا تزيد ابنك عبد الله كما تزيد هذا فقال إن هذا ثبت أبوه يوم أحد وإن عبد الله فر أبوه ولم يثبت . وكان يقال لا يكون العمران إلا حيث يعدل السلطان . وكان يقال العدل حصن وثيق في رأس نيق لا يحطمه سيل ولا يهدمه منجنيق . وقع المأمون إلى عامل كثر التظلم منه أنصف من وليت أمرهم وإلا أنصفهم منك من ولي أمرك . بعض السلف العدل ميزان الله والجور مكيال الشيطان
[ 101 ](1/3124)
210
فَأَجَابَهُ ع رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بِكَلاَمٍ طَوِيلٍ يَكْثُرُ فِيهِ اَلثَّنَاءُ عَلَيْهِ وَ يَذْكُرُ سَمْعَهُ وَ طَاعَتَهُ لَهُ فَقَالَ ع إِنَّ مِنْ حَقِّ مَنْ عَظُمَ جَلاَلُ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي نَفْسِهِ وَ جَلَّ مَوْضِعُهُ مِنْ قَلْبِهِ أَنْ يَصْغُرَ عِنْدَهُ لِعِظَمِ ذَلِكَ كُلُّ مَا سِوَاهُ وَ إِنَّ أَحَقَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَنْ عَظُمَتْ نِعْمَةُ اَللَّهِ عَلَيْهِ وَ لَطُفَ إِحْسَانُهُ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَمْ تَعْظُمْ نِعْمَةُ اَللَّهِ عَلَى أَحَدٍ إِلاَّ اِزْدَادَ حَقُّ اَللَّهِ عَلَيْهِ عِظَماً وَ إِنَّ مِنْ أَسْخَفِ حَالاَتِ اَلْوُلاَةِ عِنْدَ صَالِحِ اَلنَّاسِ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ حُبُّ اَلْفَخْرِ وَ يُوضَعَ أَمْرُهُمْ عَلَى اَلْكِبْرِ وَ قَدْ كَرِهْتُ أَنْ يَكُونَ جَالَ فِي ظَنِّكُمْ أَنِّي أُحِبُّ اَلْإِطْرَاءَ وَ اِسْتِمَاعَ اَلثَّنَاءِ وَ لَسْتُ بِحَمْدِ اَللَّهِ كَذَلِكَ وَ لَوْ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ لَتَرَكْتُهُ اِنْحِطَاطاً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ عَنْ تَنَاوُلِ مَا هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنَ اَلْعَظَمَةِ وَ اَلْكِبْرِيَاءِ وَ رُبَّمَا اِسْتَحْلَى اَلنَّاسُ اَلثَّنَاءَ بَعْدَ اَلْبَلاَءِ فَلاَ تُثْنُوا عَلَيَّ بِجَمِيلِ ثَنَاءٍ لِإِخْرَاجِي نَفْسِي إِلَى اَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ إِلَيْكُمْ مِنَ اَلتَّقِيَّةِ اَلْبَقِيَّةِ فِي حُقُوقٍ لَمْ أَفْرُغْ مِنْ أَدَائِهَا وَ فَرَائِضَ لاَ بُدَّ مِنْ إِمْضَائِهَا فَلاَ تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ اَلْجَبَابِرَةُ وَ لاَ تَتَحَفَّظُوا بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ اَلْبَادِرَةِ وَ لاَ تُخَالِطُونِي بِالْمُصَانَعَةِ وَ لاَ تَظُنُّوا بِي اِسْتِثْقَالاً فِي حَقٍّ قِيلَ لِي وَ لاَ اِلْتِمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِي فَإِنَّهُ مَنِ اِسْتَثْقَلَ اَلْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوِ اَلْعَدْلَ أَنْ(1/3125)
يُعْرَضَ عَلَيْهِ كَانَ اَلْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ
[ 102 ]
فَلاَ تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ وَ لاَ آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي إِلاَّ أَنْ يَكْفِيَ اَللَّهُ مِنْ نَفْسِي مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي فَإِنَّمَا أَنَا وَ أَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لِرَبٍّ لاَ رَبَّ غَيْرُهُ يَمْلِكُ مِنَّا مَا لاَ نَمْلِكُ مِنْ أَنْفُسِنَا وَ أَخْرَجَنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ إِلَى مَا صَلَحْنَا عَلَيْهِ فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ اَلضَّلاَلَةِ بِالْهُدَى وَ أَعْطَانَا اَلْبَصِيرَةَ بَعْدَ اَلْعَمَى هذا الفصل وإن لم يكن فيه ألفاظ غريبة سبيلها أن تشرح ففيه معان مختلفة سبيلها أن تذكر وتوضح وتذكر نظائرها وما يناسبها . فمنها قوله ع إن من حق من عظمت نعمة الله عليه أن تعظم عليه حقوق الله تعالى وأن يعظم جلال الله تعالى في نفسه ومن حق من كان كذلك أن يصغر عنده كل ما سوى الله . وهذا مقام جليل من مقامات العارفين وهو استحقار كل ما سوى الله تعالى وذلك أن من عرف الله تعالى فقد عرف ما هو أعظم من كل عظيم بل لا نسبة لشي ء من الأشياء أصلا إليه سبحانه فلا يظهر عند العارف عظمة غيره البتة كما أن من شاهد الشمس المنيرة يستحقر ضوء القمر والسراج الموضوع في ضوء الشمس حال مشاهدته جرم الشمس بل لا تظهر له في تلك الحال صنوبرة السراج ولا تنطبع صورتها في بصره . ومنها قوله ع من أسخف حالات الولاة أن يظن بهم حب الفخر ويوضع
[ 103 ]
أمرهم على الكبر
قال النبي ص لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر و(1/3126)
قال ص لو لا ثلاث مهلكات لصلح الناس شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه . وكان يقال ليس لمعجب رأي ولا لمتكبر صديق . وكان أبو مسلم صاحب الدولة يقول ما تاه إلا وضيع ولا فاخر إلا لقيط ولا تعصب إلا دخيل . وقال عمر لبعض ولده التمس الرفعة بالتواضع والشرف بالدين والعفو من الله بالعفو عن الناس وإياك والخيلاء فتضع من نفسك ولا تحقرن أحدا لأنك لا تدري لعل من تزدريه عيناك أقرب إلى الله وسيلة منك . ومنها قوله ع قد كرهت أن تظنوا بي حب الإطراء واستماع الثناء قد
روي عن النبي ص أنه قال احثوا في وجوه المداحين التراب وقال عمر المدح هو الذبح . وكان يقال إذا سمعت الرجل يقول فيك من الخير ما ليس فيك فلا تأمن أن يقول فيك من الشر ما ليس فيك . ويقال إن في بعض الكتب المنزلة القديمة عجبا لمن قيل فيه الخير وليس فيه كيف يفرح ولمن قيل فيه الشر وليس فيه كيف يغضب وأعجب من ذلك من أحب نفسه على اليقين وأبغض الناس على الظن . وكان يقال لا يغلبن جهل غيرك بك علمك بنفسك . وقال رجل لعبد الملك إني أريد أن أسر إليك يا أمير المؤمنين شيئا فقال لمن حوله
[ 104 ](1/3127)
إذا شئتم فانهضوا فتقدم الرجل يريد الكلام فقال له عبد الملك قف لا تمدحني فإني أعلم بنفسي منك ولا تكذبني فإنه لا رأي لمكذوب ولا تغتب عندي أحدا فإني أكره الغيبة قال أ فيأذن أمير المؤمنين في الانصراف قال إذا شئت . وناظر المأمون محمد بن القاسم النوشجاني في مسألة كلامية فجعل النوشجاني يخضع في الكلام ويستخذي له فقال يا محمد أراك تنقاد إلى ما أقوله قبل وجوب الحجة لي عليك وقد ساءني منك ذلك ولو شئت أن أفسر الأمور بعزة الخلافة وهيبة الرئاسة لصدقت وإن كنت كاذبا وعدلت وإن كنت جائرا وصوبت وإن كنت مخطئا ولكني لا أقنع إلا بإقامة الحجة وإزالة الشبهة وإن أنقص الملوك عقلا وأسخفهم رأيا من رضي بقولهم صدق الأمير . وقال عبد الله بن المقفع في اليتيمة إياك إذا كنت واليا أن يكون من شأنك حب المدح والتزكية وأن يعرف الناس ذلك منك فتكون ثلمة من الثلم يقتحمون عليك منها وبابا يفتتحونك منه وغيبة يغتابونك بها ويسخرون منك لها واعلم أن قابل المدح كمادح نفسه وأن المرء جدير أن يكون حبه المدح هو الذي يحمله على رده فإن الراد له ممدوح والقابل له معيب . وقال معاوية لرجل من سيد قومك قال أنا قال لو كنت كذلك لم تقله . وقال الحسن ذم الرجل نفسه في العلانية مدح لها في السر . كان يقال من أظهر عيب نفسه فقد زكاها . ومنها قوله ع لو كنت كذلك لتركته انحطاطا لله تعالى عن تناول ما هو أحق به من الكبرياء
في الحديث المرفوع من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر خفضه الله .
[ 105 ]
و فيه أيضا العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني فيهما قصمته . ومنها قوله ع فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة . أحسن ما سمعته في سلطان لا تخاف الرعية بادرته ولا يتلجلج المتحاكمون عنده مع سطوته وقوته لإيثاره العدل قول أبي تمام في محمد بن عبد الملك(1/3128)
وزير حق ووالي شرطة ورحى
ديوان ملك وشيعي ومحتسب
كالأرحبي المذكي سيره المرطى
و الوخد والملع والتقريب والخبب
عود تساجله أيامه فبها
من مسه وبه من مسها جلب
ثبت الخطاب إذا اصطكت بمظلمة
في رحله ألسن الأقوام والركب
[ 106 ]
لا المنطق اللغو يزكو في مقاومه
يوما ولا حجة الملهوف تستلب
كأنما هو في نادي قبيلته
لا القلب يهفو ولا الأحشاء تضطرب
و من هذا المعنى قول أبي الجهم العدوي في معاوية
نقلبه لنخبر حالتيه
فنخبر منهما كرما ولينا
نميل على جوانبه كأنا
إذا ملنا نميل على أبينا
و منها قوله ع لا تظنوا بي استثقال رفع الحق إلي فإنه من استثقل الحق أن يقال له كان العمل به عليه أثقل . هذا معنى لطيف ولم أسمع منه شيئا منثورا ولا منظوما . ومنها قوله ع ولا تكفوا عن قول بحق أو مشورة بعدل . قد ورد في المشورة شي ء كثير قال الله تعالى وَ شاوِرْهُمْ فِي اَلْأَمْرِ . وكان يقال إذا استشرت إنسانا صار عقله لك . وقال أعرابي ما غبنت قط حتى يغبن قومي قيل وكيف ذاك قال لا أفعل شيئا حتى أشاورهم . وكان يقال من أعطي الاستشارة لم يمنع الصواب ومن أعطي الاستخارة لم يمنع الخيرة ومن أعطي التوبة لم يمنع القبول ومن أعطي الشكر لم يمنع المزيد . وفي آداب ابن المقفع لا يقذفن في روعك أنك إذا استشرت الرجال ظهر منك للناس حاجتك إلى رأي غيرك فيقطعك ذلك عن المشاورة فإنك لا تريد الرأي للفخر
[ 107 ](1/3129)
و لكن للانتفاع به ولو أنك أردته للذكر لكان أحسن الذكر عند العقلاء أن يقال إنه لا ينفرد برأيه دون ذوي الرأي من إخوانه . ومنها أن يقال ما معنى قوله ع وربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء إلى قوله لا بد من إمضائها فنقول إن معناه أن بعض من يكره الإطراء والثناء قد يحب ذلك بعد البلاء والاختبار كما قال مرداس بن أدية لزياد إنما الثناء بعد البلاء وإنما نثني بعد أن نبتلي فقال لو فرضنا أن ذلك سائغ وجائز وغير قبيح لم يجز لكم أن تثنوا علي في وجهي ولا جاز لي أن أسمعه منكم لأنه قد بقيت علي بقية لم أفرغ من أدائها وفرائض لم أمضها بعد ولا بد لي من إمضائها وإذا لم يتم البلاء الذي قد فرضنا أن الثناء يحسن بعده لم يحسن الثناء . ومعنى قوله لإخراجي نفسي إلى الله وإليكم أي لاعترافي بين يدي الله وبمحضر منكم أن علي حقوقا في إيالتكم ورئاستي عليكم لم أقم بها بعد وأرجو من الله القيام بها . ومنها أن يقال ما معنى قوله فلا تخالطوني بالمصانعة فنقول إن معناه لا تصانعوني بالمدح والإطراء عن عمل الحق كما يصانع به كثير من الولاة الذين يستفزهم المدح ويستخفهم الإطراء والثناء فيغمضون عن اعتماد كثير من الحق مكافأة لما صونعوا به من التقريظ والتزكية والنفاق . ومنها قوله ع فإني لست بفوق أن أخطئ هذا اعتراف منه ع بعدم العصمة فإما أن يكون الكلام على ظاهره أو يكون قاله على سبيل هضم
[ 108 ]
النفس(1/3130)
كما قال رسول الله ص ولا أنا إلا أن يتداركني الله برحمته . ومنها قوله ع أخرجنا مما كنا فيه فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى وأعطانا البصيرة بعد العمى ليس هذا إشارة إلى خاص نفسه ع لأنه لم يكن كافرا فأسلم ولكنه كلام يقوله ويشير به إلى القوم الذين يخاطبهم من أفناء الناس فيأتي بصيغة الجمع الداخلة فيها نفسه توسعا ويجوز أن يكون معناه لو لا ألطاف الله تعالى ببعثة محمد ص لكنت أنا وغيري على أصل مذهب الأسلاف من عبادة الأصنام كما قال تعالى لنبيه وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى ليس معناه أنه كان كافرا بل معناه لو لا اصطفاه الله تعالى لك لكنت كواحد من قومك ومعنى وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ أي ووجدك بعرضة للضلال فكأنه ضال بالقوة لا بالفعل
[ 109 ](1/3131)
211 ومن كلام له ع
اَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ وَ مَنْ أَعَانَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوا رَحِمِي وَ أَكْفَئُوا إِنَائِي وَ أَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي حَقّاً كُنْتُ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِي وَ قَالُوا أَلاَ إِنَّ فِي اَلْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ وَ فِي اَلْحَقِّ أَنْ تَمْنَعَهُ فَاصْبِرْ مَغْمُوماً أَوْ مُتْ مُتَأَسِّفاً فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي رَافِدٌ وَ لاَ ذَابٌّ وَ لاَ مُسَاعِدٌ إِلاَّ أَهْلَ بَيْتِي فَضَنَنْتُ بِهِمْ عَنِ اَلْمَنِيَّةِ فَأَغْضَيْتُ عَلَى اَلْقَذَى وَ جَرِعْتُ رِيقِي عَلَى اَلشَّجَا وَ صَبَرْتُ مِنْ كَظْمِ اَلْغَيْظِ عَلَى أَمَرَّ مِنَ اَلْعَلْقَمِ وَ آلَمَ لِلْقَلْبِ مِنْ وَخْزِ اَلشِّفَارِ قال الرضي رحمه الله وقد مضى هذا الكلام في أثناء خطبة متقدمة إلا أني ذكرته هاهنا لاختلاف الروايتين العدوى طلبك إلى وال ليعديك على من ظلمك أي ينتقم لك منه يقال استعديت الأمير على فلان فأعداني أي استعنت به عليه فأعانني . وقطعوا رحمي وقطعوا قرابتي أي أجروني مجرى الأجانب ويجوز أن يريد أنهم عدوني كالأجنبي من رسول الله ص ويجوز أن يريد أنهم جعلوني كالأجنبي
[ 110 ](1/3132)
منهم لا ينصرونه ولا يقومون بأمره . وأكفئوا إنائي قلبوه وكبوه وحذف الهمزة من أول الكلمة أفصح وأكثر وقد روي كذلك ويقال لمن قد أضيعت حقوقه قد أكفأ إناءه تشبيها بإضاعة اللبن من الإناء . وقد اختلفت الرواية في قوله إلا أن في الحق أن تأخذه فرواها قوم بالنون وقوم بالتاء وقال الراوندي إنها في خط الرضي بالتاء ومعنى ذلك أنك إن وليت أنت كانت ولايتك حقا وإن ولي غيرك كانت ولايته حقا على مذهب أهل الاجتهاد ومن رواها بالنون فالمعنى ظاهر . والرافد المعين والذاب الناصر . وضننت بهم بخلت بهم وأغضيت على كذا صبرت . وجرعت بالكسر والشجا ما يعترض في الحلق . والوخز الطعن الخفيف وروي من خز الشفار والخز القطع والشفار جمع شفرة وهي حد السيف والسكين واعلم أن هذا الكلام قد نقل عن أمير المؤمنين ع ما يناسبه ويجري مجراه ولم يؤرخ الوقت الذي قاله فيه ولا الحال التي عناها به وأصحابنا يحملون ذلك على أنه ع قاله عقيب الشورى وبيعة عثمان فإنه ليس يرتاب أحد من أصحابنا على أنه تظلم وتألم حينئذ . ويكره أكثر أصحابنا حمل أمثال هذا الكلام على التألم من يوم السقيفة . ولقائل أن يقول لهم أ تقولون إن بيعة عثمان لم تكن صحيحة فيقولون لا فيقال
[ 111 ](1/3133)
لهم فعلى ما ذا تحملون كلامه ع مع تعظيمكم له وتصديقكم لأقواله فيقولون نحمل ذلك على تألمه وتظلمه منهم إذا تركوا الأولى والأفضل فيقال لهم فلا تكرهوا قول من يقول من الشيعة وغيرهم إن هذا الكلام وأمثاله صدر عنه عقيب السقيفة وحملوه على أنه تألم وتظلم من كونهم تركوا الأولى والأفضل فإنكم لستم تنكرون أنه كان الأفضل والأحق بالأمر بل تعترفون بذلك وتقولون ساغت إمامة غيره وصحت لمانع كان فيه ع وهو ما غلب على ظنون العاقدين للأمر من أن العرب لا تطيعه فإنه يخاف من فتنة عظيمة تحدث إن ولي الخلافة لأسباب يذكرونها ويعدونها وقد روى كثير من المحدثين أنه عقيب يوم السقيفة تألم وتظلم واستنجد واستصرخ حيث ساموه الحضور والبيعة وأنه قال وهو يشير إلى القبر يا اِبْنَ أُمَّ إِنَّ اَلْقَوْمَ اِسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي وأنه قال وا جعفراه ولا جعفر لي اليوم وا حمزتاه ولا حمزة لي اليوم . وقد ذكرنا من هذا المعنى جملة صالحة فيما تقدم وكل ذلك محمول عندنا على أنه طلب الأمر من جهة الفضل والقرابة وليس بدال عندنا على وجود النص لأنه لو كان هناك نص لكان أقل كلفة وأسهل طريقا وأيسر لما يريد تناولا أن يقول يا هؤلاء إن العهد لم يطل وإن رسول الله ص أمركم بطاعتي واستخلفني عليكم بعده ولم يقع منه ع بعد ما علمتموه ونص ينسخ ذلك ولا يرفعه فما الموجب لتركي والعدول عني . فإن قالت الإمامية كان يخاف القتل لو ذكر ذلك فقيل لهم فهلا يخاف القتل وهو يعتل ويدفع ليبايع وهو يمتنع ويستصرخ تارة بقبر رسول الله ص
[ 112 ](1/3134)
و تارة بعمه حمزة وأخيه جعفر وهما ميتان وتارة بالأنصار وتارة ببني عبد مناف ويجمع الجموع في داره ويبث الرسل والدعاة ليلا ونهارا إلى الناس يذكرهم فضله وقرابته ويقول للمهاجرين خصمتم الأنصار بكونكم أقرب إلى رسول الله ص وأنا أخصمكم بما خصمتم به الأنصار لأن القرابة إن كانت هي المعتبرة فأنا أقرب منكم . وهلا خاف من هذا الامتناع ومن هذا الاحتجاج ومن الخلوة في داره بأصحابه ومن تنفير الناس عن البيعة التي عقدت حينئذ لمن عقدت له . وكل هذا إذا تأمله المنصف علم أن الشيعة أصابت في أمر وأخطأت في أمر أما الأمر الذي أصابت فيه فقولها إنه امتنع وتلكأ وأراد الأمر لنفسه وأما الأمر الذي أخطأت فيه فقولها إنه كان منصوصا عليه نصا جليا بالخلافة تعلمه الصحابة كلها أو أكثرها وأن ذلك النص خولف طلبا للرئاسة الدنيوية وإيثارا للعاجلة وأن حال المخالفين للنص لا تعدو أحد أمرين إما الكفر أو الفسق فإن قرائن الأحوال وأماراتها لا تدل على ذلك وإنما تدل وتشهد بخلافه وهذا يقتضي أن أمير المؤمنين ع كان في مبدإ الأمر يظن أن العقد لغيره كان عن غير نظر في المصلحة وأنه لم يقصد به إلا صرف الأمر عنه والاستئثار عليه فظهر منه ما ظهر من الامتناع والعقود في بيته إلى أن صح عنده وثبت في نفسه أنهم أصابوا فيما فعلوه وأنهم لم يميلوا إلى هوى ولا أرادوا الدنيا وإنما فعلوا الأصلح في ظنونهم لأنه رأى من بغض الناس له وانحرافهم عنه وميلهم عليه وثوران الأحقاد التي كانت في أنفسهم واحتدام النيران التي كانت في قلوبهم وتذكروا التراث التي وتراهم فيما قبل بها والدماء التي سفكها منهم وأراقها .
[ 113 ](1/3135)
و تعلل طائفة أخرى منهم للعدول عنه بصغر سنه واستهجانهم تقديم الشباب على الكهول والشيوخ . وتعلل طائفة أخرى منهم بكراهية الجمع بين النبوة والخلافة في بيت واحد فيجفخون على الناس كما قاله من قاله واستصعاب قوم منهم شكيمته وخوفهم تعديه وشدته وعلمهم بأنه لا يداجي ولا يحابي ولا يراقب ولا يجامل في الدين وأن الخلافة تحتاج إلى من يجتهد برأيه ويعمل بموجب استصلاحه وانحراف قوم آخرين عنه للحسد الذي كان عندهم له في حياة رسول الله ص لشدة اختصاصه له وتعظيمه إياه وما قال فيه فأكثر من النصوص الدالة على رفعة شأنه وعلو مكانه وما اختص به من مصاهرته وأخوته ونحو ذلك من أحواله معه وتنكر قوم آخرين له لنسبتهم إليه العجب والتيه كما زعموا واحتقاره العرب واستصغاره الناس كما عددوه عليه وإن كانوا عندنا كاذبين ولكنه قول قيل وأمر ذكر وحال نسبت إليه وأعانهم عليها ما كان يصدر عنه من أقوال توهم مثل هذا نحو قوله فإنا صنائع ربنا والناس بعد صنائع لنا وما صح به عنده أن الأمر لم يكن ليستقيم له يوما واحدا ولا ينتظم ولا يستمر وأنه لو ولي الأمر لفتقت العرب عليه فتقا يكون فيه استئصال شأفة الإسلام وهدم أركانه فأذعن بالبيعة وجنح إلى الطاعة وأمسك عن طلب الإمرة وإن كان على مضض ورمض . وقد روي عنه ع أن فاطمة ع حرضته يوما على النهوض والوثوب فسمع صوت المؤذن أشهد أن محمدا رسول الله فقال لها أ يسرك زوال هذا النداء من الأرض قالت لا قال فإنه ما أقول لك .
[ 114 ](1/3136)
و هذا المذهب هو أقصد المذاهب وأصحها وإليه يذهب أصحابنا المتأخرون من البغداديين وبه يقول . واعلم أن حال علي ع في هذا المعنى أشهر من أن يحتاج في الدلالة عليها إلى الإسهاب والإطناب فقد رأيت انتقاض العرب عليه من أقطارها حين بويع بالخلافة بعد وفاة رسول الله ص بخمس وعشرين سنة وفي دون هذه المدة تنسى الأحقاد وتموت التراث وتبرد الأكباد الحامية وتسلو القلوب الواجدة ويعدم قرن من الناس ويوجد قرن ولا يبقى من أرباب تلك الشحناء والبغضاء إلا الأقل فكانت حاله بعد هذه المدة الطويلة مع قريش كأنها حاله لو أفضت الخلافة إليه يوم وفاة ابن عمه ص من إظهار ما في النفوس وهيجان ما في القلوب حتى أن الأخلاف من قريش والأحداث والفتيان الذين لم يشهدوا وقائعه وفتكاته في أسلافهم وآبائهم فعلوا به ما لو كانت الأسلاف أحياء لقصرت عن فعله وتقاعست عن بلوغ شأوه فكيف كانت تكون حاله لو جلس على منبر الخلافة وسيفه بعد يقطر دما من مهج العرب لا سيما قريش الذين بهم كان ينبغي لو دهمه خطب أن يعتضد وعليهم كان يجب أن يعتمد إذن كانت تدرس أعلام الملة وتنعفي رسوم الشريعة وتعود الجاهلية الجهلاء على حالها ويفسد ما أصلحه رسول الله ص في ثلاث وعشرين سنة في شهر واحد فكان من عناية الله تعالى بهذا الدين أن ألهم الصحابة ما فعلوه والله متم نوره ولو كره المشركون
[ 115 ](1/3137)
فصل في أن جعفرا وحمزة لو كان حيين لبايعا عليا
و سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن محمد بن أبي يزيد رحمه الله قلت له أ تقول إن حمزة وجعفرا لو كانا حيين يوم مات رسول الله ص أ كانا يبايعانه بالخلافة فقال نعم كانا أسرع إلى بيعة من النار في يبس العرفج فقلت له أظن أن جعفرا كان يبايعه ويتابعه وما أظن حمزة كذلك وأراه جبارا قوي النفس شديد الشكيمة ذاهبا بنفسه شجاعا بهمه وهو العم والأعلى سنا وآثاره في الجهاد معروفة وأظنه كان يطلب الخلافة لنفسه . فقال الأمر في أخلاقه وسجاياه كما ذكرت ولكنه كان صاحب دين متين وتصديق خالص لرسول الله ص ولو عاش لرأى من أحوال علي ع مع رسول الله ص ما يوجب أن يكسر له نخوته وأن يقيم له صعره وأن يقدمه على نفسه وأن يتوخى رضا الله ورضا رسوله فيه وإن كان بخلاف إيثاره . ثم قال أين خلق حمزة السبعي من خلق علي الروحاني اللطيف الذي جمع بينه وبين خلق حمزة فاتصفت بهما نفس واحدة وأين هيولانية نفس حمزة وخلوها من العلوم من نفس علي القدسية التي أدركت بالفطرة لا بالقوة التعليمية ما لم تدركه نفوس مدققي الفلاسفة الإلهيين لو أن حمزة حيي حتى رأى من علي ما رآه غيره لكان أتبع له من ظله وأطوع له من أبي ذر والمقداد أما قولك هو والعم والأعلى سنا فقد كان العباس العم والأعلى سنا وقد عرفت ما بذله له وندبه إليه وكان أبو سفيان كالعم وكان أعلى سنا وقد عرفت ما عرضه عليه ثم قال ما زالت الأعمام تخدم أبناء الإخوة وتكون أتباعا لهم أ لست ترى داود بن
[ 116 ](1/3138)
علي وعبد الله بن علي وصالح بن علي وسليمان بن علي وعيسى بن علي وإسماعيل ابن علي وعبد الصمد بن علي خدموا ابن أخيهم وهو عبد الله السفاح بن محمد بن علي وبايعوه وتابعوه وكانوا أمراء جيوشه وأنصاره وأعوانه أ لست ترى حمزة والعباس اتبعا ابن أخيهما صلوات الله عليه وأطاعاه ورضيا برياسته وصدقا دعوته أ لست تعلم أن أبا طالب كان رئيس بني هاشم وشيخهم والمطاع فيهم وكان محمد رسول الله ص يتيمه ومكفوله وجاريا مجرى أحد أولاده عنده ثم خضع له واعترف بصدقه ودان لأمره حتى مدحه بالشعر كما يمدح الأدنى الأعلى فقال فيه
و أبيض يستسقى الغمام بوجهه
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يطيف به الهلاك من آل هاشم
فهم عنده في نعمة وفواضل
و إن سرا اختص به محمد ص حتى أقام أبا طالب وحاله معه حاله مقام المادح له لسر عظيم وخاصية شريفة وإن في هذا لمعتبر عبرة أن يكون هذا الإنسان الفقير الذي لا أنصار له ولا أعوان معه ولا يستطيع الدفاع عن نفسه فضلا عن أن يقهر غيره تعمل دعوته وأقواله في الأنفس ما تعمله الخمر في الأبدان المعتدلة المزاج حتى تطيعه أعمامه ويعظمه مربيه وكافله ومن هو إلى آخر عمره القيم بنفقته وغذاء بدنه وكسوة جسده حتى يمدحه بالشعر كما يمدح الشعراء الملوك والرؤساء وهذا في باب المعجزات عند المنصف أعظم من انشقاق القمر وانقلاب العصا ومن أبناء القوم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم . ثم قال رحمه الله كيف قلت أظن أن جعفرا كان يبايعه ويتابعه ولا أظن في حمزة ذلك إن كنت قلت ذلك لأنه أخوه فإنه أعلى منه سنا هو أكبر من علي بعشر
[ 117 ](1/3139)
سنين وقد كانت له خصائص ومناقب كثيرة وقال فيه النبي ص قولا شريفا اتفق عليه المحدثون قال له لما افتخر هو وعلي وزيد بن حارثة وتحاكموا إلى رسول الله ص أشبهت خلقي وخلقي فخجل فرحا ثم قال لزيد أنت مولانا وصاحبنا فخجل أيضا ثم قال لعلي أنت أخي وخالصتي قالوا فلم يخجل قالوا كان ترادف التعظيم له وتكرره عليه لم يجعل عنده للقول ذلك الموضع وكان غيره إذا عظم عظم نادرا فيحسن موقعه عنده واختلف الناس في أي المدحتين أعظم . فقلت له قد وقفت لأبي حيان التوحيدي في كتاب البصائر على فصل عجيب يمازج ما نحن فيه قال في الجزء الخامس من هذا الكتاب سمعت قاضي القضاة أبا سعد بشر بن الحسين وما رأيت رجلا أقوى منه في الجدل في مناظرة جرت بينه وبين أبي عبد الله الطبري وقد جرى حديث جعفر بن أبي طالب وحديث إسلامه والتفاضل بينه وبين أخيه علي فقال القاضي أبو سعد إذا أنعم النظر علم أن إسلام جعفر كان بعد بلوغ وإسلام البالغ لا يكون إلا بعد استبصار وتبين ومعرفة بقبح ما يخرج منه وحسن ما يدخل فيه وأن إسلام علي مختلف في حاله وذلك أنه قد ظن أنه كان عن تلقين لا تبيين إلى حين بلوغه وأوان تعقبه ونظره وقد علم أيضا أنهما قتلا وأن قتلة جعفر شهادة بالإجمال وقتلة علي فيها أشد الاختلاف ثم خص الله جعفرا بأن قبضه إلى الجنة قبل ظهور التباين واضطراب الحبل وكثرة الهرج وعلى أنه لو انعقد الإجماع وتظاهر جميع الناس على أن القتلتين شهادة لكانت الحال في الذي رفع إليها جعفر أغلظ وأعظم وذلك أنه قتل مقبلا غير مدبر وأما علي فإنه اغتيل اغتيالا وقصد من حيث لا يعلم وشتان ما بين من فوجئ بالموت وبين من عاين مخايل الموت
[ 118 ](1/3140)
و تلقاه بالنحر والصدر وعجل إلى الله بالإيمان والصدق أ لا تعلم أن جعفرا قطعت يمناه فأمسك اللواء بيسراه وقطعت يسراه فضم اللواء إلى حشاه ثم قاتله ظاهر الشرك بالله وقاتل علي ممن صلى إلى القبلة وشهد الشهادة وأقدم عليه بتأويل وقاتل جعفر كافر بالنص الذي لا خلاف فيه أ ما تعلم أن جعفرا ذو الجناحين وذو الهجرتين إلى الحبشة والمدينة . قال النقيب رحمه الله اعلم فداك شيخك أن أبا حيان رجل ملحد زنديق يحب التلاعب بالدين ويخرج ما في نفسه فيعزوه إلى قوم لم يقولوه وأقسم بالله إن القاضي أبا سعد لم يقل من هذا الكلام لفظة واحدة ولكنها من موضوعات أبي حيان وأكاذيبه وترهاته كما يسند إلى القاضي أبي حامد المروروذي كل منكر ويروى عنه كل فاقرة . ثم قال يا أبا حيان مقصودك أن تجعلها مسألة خلاف تثير بها فتنة بين الطالبيين لتجعل بأسهم بينهم وكيف تقلبت الأحوال فالفخر لهم لم يخرج عنهم . ثم ضحك رحمه الله حتى استلقى ومد رجليه وقال هذا كلام يستغنى عن الإطالة في إبطاله بإجماع المسلمين فإنه لا خلاف بين المسلمين في أن عليا أفضل من جعفر وإنما سرق أبو حيان هذا المعنى الذي أشار إليه من رسالة المنصور أبي جعفر إلى محمد بن عبد الله النفس الزكية قال له وكانت بنو أمية يلعنون أباك في أدبار الصلوات المكتوبات كما تلعن الكفرة فعنفناهم وكفرناهم وبينا فضله وأشدنا بذكره فاتخذت ذلك علينا حجة وظننت أنه لما ذكرناه من فضله أنا قدمناه على حمزة والعباس وجعفر أولئك مضوا سالمين مسلمين منهم وابتلي أبوك بالدماء . فقلت له رحمه الله وإذا لا إجماع في المسألة لأن المنصور لم يقل بتفضيله عليهم
[ 119 ](1/3141)
و أنت ادعيت الإجماع فقال إن الإجماع قد سبق هذا القائل وكل قول قد سبقه الإجماع لا يعتد به . فلما خرجت من عند النقيب أبي جعفر بحثت في ذلك اليوم في هذا الموضوع مع أحمد بن جعفر الواسطي رحمه الله وكان ذا فضل وعقل وكان إمامي المذهب فقال لي صدق النقيب فيما قال أ لست تعلم أن أصحابكم المعتزلة على قولين أحدهما أن أكثر المسلمين ثوابا أبو بكر والآخر أن أكثرهم ثوابا علي وأصحابنا يقولون إن أكثر المسلمين ثوابا علي وكذلك الزيدية وأما الأشعرية والكرامية وأهل الحديث فيقولون أكثر المسلمين ثوابا أبو بكر فقد خلص من مجموع هذه الأقوال أن ثواب حمزة وجعفر دون ثواب علي ع أما على قول الإمامية والزيدية والبغداديين كافة وكثير من البصريين من المعتزلة فالأمر ظاهر وأما الباقون فعندهم أن أكثر المسلمين ثوابا أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ولم يذهب ذاهب إلى أن ثواب حمزة وجعفر أكثر من ثواب علي من جميع الفرق فقد ثبت الإجماع الذي ذكره النقيب إذا فسرنا الأفضلية بالأكثرية ثوابا وهو التفسير الذي يقع الحجاج والجدال في إثباته لأحد الرجلين وأما إذا فسرنا الأفضلية بزيادة المناقب والخصائص وكثرة النصوص الدالة على التعظيم فمعلوم أن أحدا من الناس لا يقارب عليا ع في ذلك لا جعفر ولا حمزة ولا غيرهما . ثم وقع بيدي بعد ذلك كتاب لشيخنا أبي جعفر الإسكافي ذكر فيه أن مذهب بشر بن المعتمر وأبي موسى وجعفر بن مبشر وسائر قدماء البغداديين أن أفضل المسلمين علي بن أبي طالب ثم ابنه الحسن ثم ابنه الحسين ثم حمزة بن عبد المطلب ثم جعفر بن أبي طالب ثم أبو بكر بن أبي قحافة ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان
[ 120 ](1/3142)
قال والمراد بالأفضل أكرمهم عند الله أكثرهم ثوابا وأرفعهم في دار الجزاء منزلة . ثم وقفت بعد ذلك على كتاب لشيخنا أبي عبد الله البصري يذكر فيه هذه المقالة وينسبها إلى البغداديين وقال إن الشيخ أبا القاسم البلخي كان يقول بها وقبله الشيخ أبو الحسين الخياط وهو شيخ المتأخرين من البغداديين قالوا كلهم بها فأجبني هذا المذهب وسررت بأن ذهب الكثير من شيوخنا إليه ونظمته في الأرجوزة التي شرحت فيها عقيدة المعتزلة فقلت
و خير خلق الله بعد المصطفى
أعظمهم يوم الفخار شرفا
السيد المعظم الوصي
بعل البتول المرتضى علي
و ابناه ثم حمزة وجعفر
ثم عتيق بعدهم لا ينكر
المخلص الصديق ثم عمر
فاروق دين الله ذاك القسور
و بعده عثمان ذو النورين
هذا هو الحق بغير مين
[ 121 ](1/3143)
212 ومن كلام له ع في ذكر السائرين إلى البصرة لحربه ع
فَقَدِمُوا عَلَى عُمَّالِي وَ خُزَّانِ بَيْتِ مَالِ اَلْمُسْلِمِينَ اَلَّذِي فِي يَدَيَّ وَ عَلَى أَهْلِ مِصْرٍ كُلُّهُمْ فِي طَاعَتِي وَ عَلَى بَيْعَتِي فَشَتَّتُوا كَلِمَتَهُمْ وَ أَفْسَدُوا عَلَيَّ جَمَاعَتَهُمْ وَ وَثَبُوا عَلَى شِيعَتِي فَقَتَلُوا طَاِئفَةً منْهُمْ غَدْراً وَ طَاِئفَةً طَاِئفَةٌ عَضُّوا عَلَى أَسْيَافِهِمْ فَضَارَبُوا بِهَا حَتَّى لَقُوا اَللَّهَ صَادِقِينَ عضوا على أسيافهم كناية عن الصبر في الحرب وترك الاستسلام وهي كناية فصيحة شبه قبضهم على السيوف بالعض وقد قدمنا ذكر ما جرى وأن عسكر الجمل قتلوا طائفة من شيعة أمير المؤمنين ع بالبصرة بعد أن أمنوهم غدرا وأن بعض الشيعة صبر في الحرب ولم يستسلم وقاتل حتى قتل مثل حكيم بن جبلة العبدي وغيره وروي وطائفة عضوا على أسيافهم بالرفع تقديره ومنهم طائفة . قرأت في كتاب غريب الحديث لأبي محمد عبد الله بن قتيبة في حديث حذيفة بن اليمان أنه ذكر خروج عائشة فقال تقاتل معها مضر مضرها الله في النار
[ 122 ]
و أزد عمان سلت الله أقدامها وأن قيسا لن تنفك تبغي دين الله شرا حتى يركبها الله بالملائكة فلا يمنعوا ذنب تلعة . قلت هذا الحديث من أعلام نبوة سيدنا محمد ص لأنه إخبار عن غيب تلقاه حذيفة عن النبي ص وحذيفة أجمع أهل السيرة على أنه مات في الأيام التي قتل عثمان فيها أتاه نعيه وهو مريض فمات وعلي ع لم يتكامل بيعة الناس ولم يدرك الجمل . وهذا الحديث يؤكد مذهب أصحابنا في فسق أصحاب الجمل إلا من ثبتت توبته منهم وهم الثلاثة
[ 123 ](1/3144)
213 ومن كلام له ع لما مر بطلحة بن عبيد الله وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد وهما قتيلان يوم الجمل
لَقَدْ أَصْبَحَ أَبُو مُحَمَّدٍ بِهَذَا اَلْمَكَانِ غَرِيباً أَمَا وَ اَللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَكْرَهُ أَنْ تَكُونَ قُرَيْشٌ قَتْلَى تَحْتَ بُطُونِ اَلْكَوَاكِبِ أَدْرَكْتُ وَتْرِي مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَ أَفْلَتَنِي أَعْيَارُ أَفْلَتَتْنِي أَعْيَانُ بَنِي جُمَحٍ جُمَحَ لَقَدْ أَتْلَعُوا أَعْنَاقَهُمْ إِلَى أَمْرٍ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَهُ فَوُقِصُوا دُونَهُ(1/3145)
عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد
هو عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس ليس بصحابي ولكنه من التابعين وأبوه عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس من مسلمة الفتح ولما خرج رسول الله ص من مكة إلى حنين استعمله عليها فلم يزل أميرها حتى قبض رسول الله ص وبقي على حاله خلافة أبي بكر الصديق ومات هو وأبو بكر في يوم واحد لم يعلم أحدهما بموت الآخر وعبد الرحمن هذا هو الذي قال أمير المؤمنين فيه وقد مر به قتيلا يوم الجمل لهفي عليك يعسوب قريش هذا فتى الفتيان هذا اللباب المحض من بني عبد مناف شفيت نفسي وقتلت معشري إلى الله أشكو عجري وبجري فقال له قائل لشد ما أطريت
[ 124 ](1/3146)
الفتى يا أمير المؤمنين منذ اليوم قال إنه قام عني وعنه نسوة لم يقمن عنك وعبد الرحمن هذا هو الذي احتملت العقاب كفه يوم الجمل وفيها خاتمه فألقتها باليمامة فعرفت بخاتمه وعلم أهل اليمامة بالوقعة . ورأيت في شرح نهج البلاغة للقطب الراوندي في هذا الفصل عجائب وطرائف فأحببت أن أوردها هاهنا منها أنه قال في تفسير قوله ع أدركت وترى من بني عبد مناف قال يعني طلحة والزبير كانا من بني عبد مناف وهذا غلط قبيح لأن طلحة من تيم بن مرة والزبير من أسد بن عبد العزى بن قصي وليس أحد منهما من بني عبد مناف وولد عبد مناف أربعة هاشم وعبد شمس ونوفل وعبد المطلب فكل من لم يكن من ولد هؤلاء الأربعة فليس من ولد عبد مناف . ومنها أنه قال إن مروان بن الحكم من بني جمح ولقد كان هذا الفقيه رحمه الله بعيدا عن معرفة الأنساب مروان من بني أمية بن عبد شمس وبنو جمح من بني هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب واسم جمح تيم بن عمرو بن هصيص وأخوه سهم بن عمرو بن هصيص رهط عمرو بن العاص فأين هؤلاء وأين مروان بن الحكم . ومنها أنه قال وأفلتتني أغيار بني جمح بالغين المعجمة قال هو جمع غير الذي بمعنى سوى وهذا لم يرو ولا مثله مما يتكلم به أمير المؤمنين لركته وبعده عن طريقته فإنه يكون قد عدل عن أن يقول ولم يفلتني إلا بنو جمح إلى مثل هذه العبارة الركيكة المتعسفة
[ 125 ](1/3147)
بنو جمح
و اعلم أنه ع أخرج هذا الكلام مخرج الذم لمن حضر الجمل مع عائشة زوجة النبي ص من بني جمح فقال وأفلتتني أعيار بني جمح جمع عير وهو الحمار وقد كان معها منهم يوم الجمل جماعة هربوا ولم يقتل منهم إلا اثنان فممن هرب ونجا بنفسه عبد الله الطويل بن صفوان بن أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح وكان شريفا وابن شريف وعاش حتى قتل مع ابن الزبير بمكة . ومنهم يحيى بن حكيم بن صفوان بن أمية بن خلف عاش حتى استعمله عمرو بن سعيد الأشدق على مكة لما جمع له بين مكة والمدينة فأقام عمرو بالمدينة ويحيى بمكة . ومنهم عامر بن مسعود بن أمية بن خلف كان يسمى دحروجة الجعل لقصره وسواده وعاش حتى ولاه زياد صدقات بكر بن وائل وولاه عبد الله بن الزبير بن العوام الكوفة . ومنهم أيوب بن حبيب بن علقمة بن ربيعة بن الأعور بن أهيب بن حذافة بن جمح عاش حتى قتل بقديد قتلته الخوارج . فهؤلاء الذين أعرف حضورهم الجمل مع عائشة من بني جمح وقتل من بني جمح مع عائشة عبد الرحمن بن وهب بن أسيد بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح وعبد الله بن ربيعة بن دراج العنبس بن وهبان بن وهب بن حذافة بن جمح لا أعرف أنه قتل من بني جمح ذلك اليوم غيرهما فإن صحت الرواية وأفلتني أعيان بني جمح بالنون فالمراد رؤساؤهم وساداتهم . وأتلعوا أعناقهم رفعوها ورجل أتلع بين التلع أي طويل العنق وجيد تليع أي طويل قال الأعشى
[ 126 ]
يوم تبدي لنا قتيله عن جيد
تليع تزينه الأطواق(1/3148)
و وقص الرجل إذا اندقت عنقه فهو موقوص ووقصت عنق الرجل أقصها وقصا أي كسرتها ولا يجوز وقصت العنق نفسها . والضمير في قوله ع لقد أتلعوا يرجع إلى قريش أي راموا الخلافة فقتلوا دونها . فإن قلت أ تقول إن طلحة والزبير لم يكونا من أهل الخلافة إن قلت ذلك تركت مذهب أصحابك وإن لم تقله خالفت قول أمير المؤمنين لم يكونوا أهله . قلت هما أهل للخلافة ما لم يطلبها أمير المؤمنين فإذا طلبها لم يكونا أهلا لها لا هما ولا غيرهما ولو لا طاعته لمن تقدم وما ظهر من رضاه به لم نحكم بصحة خلافته
[ 127 ](1/3149)
214 ومن كلام له ع
قَدْ أَحْيَا عَقْلَهُ وَ أَمَاتَ نَفْسَهُ حَتَّى دَقَّ جَلِيلُهُ وَ لَطُفَ غَلِيظُهُ وَ بَرَقَ لَهُ لاَمِعٌ كَثِيرُ اَلْبَرْقِ فَأَبَانَ لَهُ اَلطَّرِيقَ وَ سَلَكَ بِهِ اَلسَّبِيلَ وَ تَدَافَعَتْهُ اَلْأَبْوَابُ إِلَى بَابِ اَلسَّلاَمَةِ وَ دَارِ اَلْإِقَامَةِ وَ ثَبَتَتْ رِجْلاَهُ بِطُمَأْنِينَةِ بَدَنِهِ فِي قَرَارِ اَلْأَمْنِ وَ اَلرَّاحَةِ بِمَا اِسْتَعْمَلَ قَلْبَهُ وَ أَرْضَى رَبَّهُ يصف العارف يقول قد أحيا قلبه بمعرفة الحق سبحانه وأمات نفسه بالمجاهدة ورياضة القوة البدنية بالجوع والعطش والسهر والصبر على مشاق السفر والسياحة . حتى دق جليله أي حتى نحل بدنه الكثيف . ولطف غليظه تلطفت أخلاقه وصفت نفسه فإن كدر النفس في الأكثر إنما يكون من كدر الجسد والبطنة كما قيل تذهب الفطنة(1/3150)
فصل في مجاهدة النفوس وما ورد في ذلك من الآثار
و تقول أرباب هذه الطريقة من لم يكن في بدايته صاحب مجاهدة لم يجد من هذه الطريقة شمة .
[ 128 ]
و قال عثمان المغربي الصوفي من ظن أنه يفتح عليه شي ء من هذه الطريقة أو يكشف له عن سر من أسرارها من غير لزوم المجاهدة فهو غالط . وقال أبو علي الدقاق من لم يكن في بدايته قومة لم يكن في نهايته جلسة . ومن كلامهم الحركة بركة حركات الظواهر توجب بركات السرائر . ومن كلامهم من زين ظاهره بالمجاهدة حسن الله سرائره بالمشاهدة . وقال الحسن الفرازيني هذا الأمر على ثلاثة أشياء ألا تأكل إلا عند الفاقة ولا تنام إلا عند الغلبة ولا تتكلم إلا عند الضرورة . وقال إبراهيم بن أدهم لن ينال الرجل درجة الصالحين حتى يغلق عن نفسه باب النعمة ويفتح عليها باب الشدة . ومن كلامهم من كرمت عليه نفسه هان عليه دينه . وقال أبو علي الروذباري إذا قال الصوفي بعد خمسة أيام أنا جائع فألزموه السوق ومروه بالكسب . وقال حبيب بن أوس أبو تمام وهو يقصد غير ما نحن فيه ولكنه يصلح أن يستعمل فيما نحن فيه
خذي عبرات عينك عن زماعي
و صوني ما أزلت من القناع
أقلي قد أضاق بكاك ذرعي
و ما ضاقت بنازله ذراعي
أ آلفة النحيب كم افتراق
أظل فكان داعية اجتماع
[ 129 ]
فليست فرحة الأوبات إلا
لموقوف على ترح الوداع
تعجب أن رأت جسمي نحيلا
كان المجد يدرك بالصراع
أخو النكبات من يأوي إذا ما
أطفن به إلى خلق وساع
يثير عجاجة في كل فج
يهيم به عدي بن الرقاع
أبن مع السباع الماء حتى
لخالته السباع من السباع
و قال أيضا
فاطلب هدوءا بالتقلقل واستثر
بالعيس من تحت السهاد هجودا
ما أن ترى الأحساب بيضا وضحا
إلا بحيث ترى المنايا سودا
و(1/3151)
جاء في الحديث أن فاطمة جاءت إلى رسول الله ص بكسرة خبز فقال ما هذه قالت قرص خبزته فلم تطب نفسي حتى أتيتك منه بهذه الكسرة فأكلها وقال أما إنها لأول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاث . وكان يقال ينابيع الحكمة من الجوع وكسر عادية النفس بالمجاهدة .
[ 130 ]
و قال يحيى بن معاذ لو أن الجوع يباع في السوق لما كان ينبغي لطلاب الآخرة إذا دخلوا السوق أن يشتروا غيره . وقال سهل بن عبد الله لما خلق الله الدنيا جعل في الشبع المعصية والجهل وجعل في الجوع الطاعة والحكمة . وقال يحيى بن معاذ الجوع للمريدين رياضة وللتائبين تجربة وللزهاد سياسة وللعارفين تكرمة . وقال أبو سلمان الداراني مفتاح الدنيا الشبع ومفتاح الآخرة الجوع . وقال بعضهم أدب الجوع ألا ينقص من عادتك إلا مثل أذن السنور هكذا على التدريج حتى تصل إلى ما تريد . ويقال إن أبا تراب النخشبي خرج من البصرة إلى مكة فوصل إليها على أكلتين أكلة بالنباج وأكلة بذات عرق . قالوا وكان سهل بن عبد الله التستري إذا جاع قوي وإذا أكل ضعف . وكان منهم من يأكل كل أربعين يوما أكلة واحدة ومنهم من يأكل كل ثمانين يوما أكلة واحدة . قالوا واشتهى أبو الخير العسقلاني السمك سنين كثيرة ثم تهيأ له أكله من وجه حلال فلما مد يده ليأكل أصابت إصبعه شوكة من شوك السمك فقام وترك الأكل وقال يا رب هذا لمن مد يده بشهوة إلى الحلال فكيف بمن مد يده بشهوة إلى الحرام . وفي الكتاب العزيز وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَى اَلنَّفْسَ عَنِ اَلْهَوى فَإِنَّ اَلْجَنَّةَ هِيَ اَلْمَأْوى فالجملة الأولى هي التقوى والثانية هي المجاهدة .
[ 131 ]
و(1/3152)
قال النبي ص أخوف ما أخاف على أمتي اتباع الهوى وطول الأمل أما اتباع الهوى فيصد عن الحق وأما طول الأمل فينسي الآخرة . وسئل بعض الصوفية عن المجاهدة فقال ذبح النفس بسيوف المخالفة . وقال من نجمت طوارق نفسه أفلت شوارق أنسه . وقال إبراهيم بن شيبان ما بت تحت سقف ولا في موضع عليه غلق أربعين سنة وكنت أشتهي في أوقات أن أتناول شبعة عدس فلم يتفق ثم جملت إلي وأنا بالشام غضارة فيها عدسية فتناولت منها وخرجت فرأيت قوارير معلقة فيها شبه أنموذجات فظننتها خلا فقال بعض الناس أ تنظر إلى هذه وتظنها خلا وإنما هي خمر وهي أنموذجات هذه الدنان لدنان هناك فقلت قد لزمني فرض الإنكار فدخلت حانوت ذلك الخمار لأكسر الدنان والجرار فحملت إلى ابن طولون فأمر بضربي مائتي خشبة وطرحي في السجن فبقيت مدة حتى دخل أبو عبد الله الوباني المغربي أستاذ ذلك البلد فعلم أني محبوس فشفع في فأخرجت إليه فلما وقع بصره علي قال أي شي ء فعلت فقلت شبعة عدس ومائتي خشبة فقال لقد نجوت مجانا . وقال إبراهيم الخواص كنت في جبل فرأيت رمانا فاشتهيته فدنوت فأخذت منه واحدة فشققتها فوجدتها حامضة فمضيت وتركت الرمان فرأيت رجلا مطروحا قد اجتمع عليه الزنابير فسلمت عليه فرد علي باسمي فقلت كيف عرفتني قال من عرف الله لم يخف عليه شي ء فقلت له أرى لك حالا مع الله فلو سألته أن يحميك ويقيك من أذى هذه الزنابير فقال وأرى لك حالا مع الله فلو سألته أن يقيك من شهوة الرمان فإن لذع الرمان يجد الإنسان ألمه في الآخرة ولذع الزنابير
[ 132 ](1/3153)
يجد الإنسان ألمه في الدنيا فتركته ومضيت على وجهي . وقال يوسف بن أسباط لا يمحو الشهوات من القلب إلا خوف مزعج أو شوق مقلق . وقال الخواص من ترك شهوة فلم يجد عوضها في قلبه فهو كاذب في تركها . وقال أبو علي الرباطي صحت عبد الله المروزي وكان يدخل البادية قبل أن أصحبه بلا زاد فلما صحبته قال لي أيما أحب إليك تكون أنت الأمير أم أنا قلت بل أنت فقال وعليك الطاعة قلت نعم فأخذ مخلاة ووضع فيها زادا وحملها على ظهره فكنت إذا قلت له أعطني حتى أحملها قال الأمير أنا وعليك الطاعة قال فأخذنا المطر ليلة فوقف إلى الصباح على رأسي وعليه كساء يمنع عني المطر فكنت أقول في نفسي يا ليتني مت ولم أقل له أنت الأمير ثم قال لي إذا صحبت إنسانا فاصحبه كما رأيتني صحبتك . أبو الطيب المتنبي
ذريني أنل ما لا ينال من العلا
فصعب العلا في الصعب والسهل في السهل
تريدين إدراك المعالي رخيصة
و لا بد دون الشهد من إبر النحل
و له أيضا
و إذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجسام
و من أمثال العامة من لم يغل دماغه في الصيف لم تغل قدره في الشتاء . من لم يركب الأخطار لم ينل الأوطار .
[ 133 ](1/3154)
إدراك السول وبلوغ المأمول بالصبر على الجوع وفقد الهجوع وسيلان الدموع واعلم أن تقليل المأكول لا ريب في أنه نافع للنفس والأخلاق والتجربة قد دلت عليه لأنا نرى المكثر من الأكل يغلبه النوم والكسل وبلادة الحواس وتتبخر المأكولات الكثيرة أبخرة كثيرة فتتصاعد إلى الدماغ فتفسد القوى النفسانية وأيضا فإن كثرة المأكل تزيل الرقة وتورث القساوة والسبعية والقياس أيضا يقتضي ذلك ولأن كثرة المزاولات سبب لحصول الملكات فالنفس إذا توفرت على تدبير الغذاء وتصريفه كان ذلك شغلا شاغلا لها وعائقا عظيما عن انصبابها إلى الجهة الروحانية العالية ولكن ينبغي أن يكون تقليل الغذاء إلى حد يوجب جوعا قليلا فإن الجوع المفرط يورث ضعف الأعضاء الرئيسة واضطرابها واختلال قواها وذلك يقتضي تشويش النفس واضطراب الفكر واختلال العقل ولذلك تعرض الأخلاط السوداوية لمن أفرط عليه الجوع فإذن لا بد من إصلاح أمر الغذاء بأن يكون قليل الكمية كثير الكيفية فتؤثر قلة كميته في أنه لا يشغل النفس بتدبير الهضم عن التوجه إلى الجهة العالية الروحانية وتؤثر كثرة كيفيته في تدارك الخلل الحاصل له من قلة الكمية ويجب أن يكون الغذاء شديد الإمداد للأعضاء الرئيسة لأنها هي المهمة من أعضاء البدن وما دامت باقية على كمال حالها لا يظهر كثير خلل من ضعف غيرها من الأعضاء
[ 134 ](1/3155)
فصل في الرياضة النفسية وأقسامها
و اعلم أن الرياضة والجوع هي أمر يحتاج إليه المريد الذي هو بعد في طريق السلوك إلى الله . وينقسم طالبوا هذا الأمر الجليل الشاق إلى أقسام أربعة أحدها الذين مارسوا العلوم الإلهية وأجهدوا أنفسهم في طلبها والوصول إلى كنهها بالنظر الدقيق في الزمان الطويل فهو لا يحصل لهم شوق شديد وميل عظيم إلى الجهة العالية الشريفة فيحملهم حب الكمال على الرياضة . وثانيها الأنفس التي هي بأصل الفطرة والجوهر مائلة إلى الروحانية من غير ممارسة علم ولا دربة بنظر وبحث وقد رأينا مثلهم كثيرا وشاهدنا قوما من العامة متى سنح لهم سانح مشوق مثل صوت مطرب أو إنشاد بيت يقع في النفس أو سماع كلمة توافق أمرا في بواطنهم فإنه يستولي عليهم الوجد ويشتد الحنين وتغشاهم غواش لطيفة روحانية يغيبون بها عن المحسوسات والجسمانيات . وثالثها نفوس حصل لها الأمران معا الاستعداد الأصلي والاشتغال بالعلوم النظرية الإلهية . ورابعها النفوس التي لا استعداد لها في الأصل ولا ارتاضت بالعلوم الإلهية ولكنهم قوم سمعوا كمال هذه الطريقة وأن السعادة الإنسانية ليست إلا بالوصول إليها فمالت نحوها وحصل لها اعتقاد فيها . فهذه أقسام المريدين والرياضة التي تليق بكل واحد من هذه الأقسام غير الرياضة اللائقة بالقسم الآخر .
[ 135 ]
و نحتاج قبل الخوض في ذلك إلى تقديم أمرين أحدهما أن النفحات الإلهية دائمة مستمرة وأنه كل من توصل إليها وصل قال سبحانه وتعالى وَ اَلَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا و(1/3156)
قال النبي ص إن لربكم في أيام عصركم نفحات ألا فتعرضوا لنفحاته . وثانيهما أن النفوس البشرية في الأكثر مختلفة بالنوع فقد تكون بعض النفوس مستعدة غاية الاستعداد لهذا المطلب وربما لم تكن البتة مستعدة له وبين هذين الطرفين أوساط مختلفة بالضعف والقوة . وإذا تقرر ذلك فاعلم أن القسمين الأولين لما اختلفا فيما ذكرناه لا جرم اختلفا في الكسب والمكتسب . أما الكسب فإن صاحب العلم الأولى به في الأكثر العزلة والانقطاع عن الخلق لأنه قد حصلت له الهداية والرشاد فلا حاجة له إلى مخالطة أحد يستعين به على حصول ما هو حاصل وأما صاحب الفطرة الأصلية من غير علم فإنه لا يليق به العزلة لأنه يحتاج إلى المعلم والمرشد فإنه ليس يكفي الفطرة الأصلية في الوصول إلى المعالم الإلهية والحقائق الربانية ولا بد من موقف ومرشد في مبدإ الحال هذا هو القول في الكسب بالنظر إليها . وأما المكتسب فإن صاحب العلم إذا اشتغل بالرياضة كانت مشاهداته ومكاشفاته أكثر كمية وأقل كيفية مما لصاحب الفطرة المجردة أما كثرة الكمية فلأن قوته النظرية تعينه على ذلك وأما قلة الكيفية فلأن القوة النفسانية تتوزع على تلك الكثرة وكلما كانت الكثرة أكثر كان توزع القوة إلى أقسام أكثر وكان كل واحد منها
[ 136 ](1/3157)
أضعف مما لو كانت الأقسام أقل عددا وإذا عرفت ذلك عرفت أن الأمر في جانب صاحب الفطرة الأصلية بالعكس من ذلك وهو أن مشاهداته ومكاشفاته تكون أقل كمية وأكثر كيفية . وأما الاستعداد الثالث وهو النفس التي قد جمعت الفطرة الأصلية والعلوم الإلهية النظرية بالنظر فهي النفس الشريفة الجليلة الكاملة . وهذه الأقسام الثلاثة مشتركة في أن رياضتها القلبية يجب أن تكون زائدة في الكم والكيف على رياضتها البدنية لأن الغرض الأصلي هو رياضة القلب وطهارة النفس وإنما شرعت الرياضات البدنية والعبادات الجسمانية لتكون طريقا إلى تلك الرياضة الباطنة فإذا حصلت كان الاشتغال بالرياضة البدنية عبثا لأن الوسيلة بعد حصول المتوسل إليه فضلة مستغنى عنها بل ربما كانت عائقة عن المقصود نعم لا بد من المحافظة على الفرائض خاصة لئلا تعتاد النفس الكسل وربما أفضى ذلك إلى خلل في الرياضة النفسانية ولهذا حكي عن كثير من كبراء القوم قلة الاشتغال بنوافل العبادات . وأما القسم الرابع وهو النفس التي خلت عن الوصفين معا فهذه النفس يجب ألا تكون رياضتها في مبدإ الحال إلا بتهذيب الأخلاق بما هو مذكور في كتب الحكمة الخلقية فإذا لانت ومرنت واستعدت للنفحات الإلهية حصل لها ذوق ما فأوجب ذلك الذوق شوقا فأقبلت بكليتها على مطلوبها
[ 137 ](1/3158)
فصل في أن الجوع يؤثر في صفاء النفس
و اعلم أن السبب الطبيعي في كون الجوع مؤثرا في صفاء النفس أن البلغم الغالب على مزاج البدن يوجب بطبعه البلادة وإبطاء الفهم لكثرة الأرضية فيه وثقل جوهرة وكثرة ما يتولد عنه من البخارات التي تسد المجاري وتمنع نفوذ الأرواح ولا ريب أن الجوع يقتضي تقليل البلغم لأن القوة الهاضمة إذا لم تجد غذاء تهضمه عملت في الرطوبة الغريبة الكائنة في الجسد فكلما انقطع الغذاء استمر عملها في البلغم الموجود في البدن فلا تزال تعمل فيه وتذيبه الحرارة الكائنة في البدن حتى يفنى كل ما في البدن من الرطوبات الغريبة ولا يبقى إلا الرطوبات الأصلية فإن استمر انقطاع الغذاء أخذت الحرارة والقوة الهاضمة في تنقيص الرطوبات الأصلية من جوهر البدن فإن كان ذلك يسيرا وإلى حد ليس بمفرط لم يضر ذلك بالبدن كل الإضرار وكان ذلك هو غاية الرياضة التي أشار أمير المؤمنين ع إليها بقوله حتى دق جليله ولطف غليظه وإن أفرط وقع الحيف والإجحاف على الرطوبة الأصلية وعطب البدن ووقع صاحبه في الدق والذبول وذلك منهي عنه لأنه قتل للنفس فهو كمن يقتل نفسه بالسيف أو بالسكين(1/3159)
كلام للفلاسفة والحكماء في المكاشفات الناشئة عن الرياضة
و اعلم أن قوله ع وبرق له لامع كثير البرق هو حقيقة مذهب الحكماء وحقيقة قول الصوفية أصحاب الطريقة والحقيقة وقد صرح به الرئيس أبو علي بن سينا في كتاب الإشارات فقال في ذكر السالك إلى مرتبة العرفان ثم إنه
[ 138 ]
إذا بلغت به الإرادة والرياضة حدا ما عنت له خلسات من اطلاع نور الحق إليه لذيذة كأنها بروق تومض إليه ثم تخمد عنه وهي التي تسمى عندهم أوقاتا وكل وقت يكتنفه وجد إليه ووجد عليه ثم إنه لتكثر عليه هذه الغواشي إذا أمعن في الارتياض ثم إنه ليتوغل في ذلك حتى يغشاه في غير الارتياض فكلما لمح شيئا عاج منه إلى جانب القدس فتذكر من أمره أمرا فغشيه غاش فيكاد يرى الحق في كل شي ء ولعله إلى هذا الحد تستولي عليه غواشيه ويزول هو عن سكينته ويتنبه جليسه لاستنفاره عن قراره فإذا طالت عليه الرياضة لم تستنفره غاشية وهدي للتأنس بما هو فيه ثم إنه لتبلغ به الرياضة مبلغا ينقلب له وقته سكينة فيصير المخطوب مألوفا والوميض شهابا بينا ويحصل له معارف مستقرة كأنها صحبة مستمرة ويستمتع فيها ببهجته فإذا انقلب عنها انقلب حيران آسفا . فهذه ألفاظ الحكيم أبي علي بن سينا في الإشارات وهي كما نراها مصرح فيها بذكر البروق اللامعة للعارف . وقال القشيري في الرسالة لما ذكر الحال والأمور الواردة على العارفين قال هي بروق تلمع ثم تخمد وأنوار تبدو ثم تخفى ما أحلاها لو بقيت مع صاحبها ثم تمثل بقول البحتري
خطرت في النوم منها خطرة
خطرة البرق بدا ثم اضمحل
أي زور لك لو قصدا سرى
و ملم بك لو حقا فعل
فهو كما تراه يذكر البروق اللامعة حسبما ذكره الحكيم وكلاهما يتبع ألفاظ أمير المؤمنين ع لأنه حكيم الحكماء وعارف العارفين ومعلم الصوفية ولو لا أخلاقه
[ 139 ](1/3160)
و كلامه وتعليمه للناس هذا الفن تارة بقوله وتارة بفعله لما اهتدى أحد من هذه الطائفة ولا علم كيف يورد ولا كيف يصدر . وقال القشيري أيضا في الرسالة المحاضرة قبل المكاشفة فإذا حصلت المكاشفة فبعدها المشاهدة . وقال وهي أرفع الدرجات قال فالمحاضرة حضور القلب وقد تكون بتواتر البرهان والإنسان بعد وراء الستر وإن كان حاضرا باستيلاء سلطان الذكر . وأما المكاشفة فهي حضور البين غير مفتقر إلى تأمل الدليل وتطلب السبيل ثم المشاهدة وهي وجود الحق من غير بقاء تهمة . وأحسن ما ذكر في المشاهد قول الجنيد هي وجود الحق مع فقدانك . وقال عمرو بن عثمان المكي المشاهدة أن تتوالى أنوار التجلي على القلب من غير أن يتخللها ستر ولا انقطاع كما لو قدر اتصال البروق في الليلة المظلمة فكما أنها تصير من ذلك بضوء النهار فكذلك القلب إذا دام له التجلي مع النهار فلا ليل . وأنشدوا شعرا
ليلي بوجهك مشرق
و ظلامه في الناس سار
فالناس في سدف الظلام
و نحن في ضوء النهار
و قال الثوري لا تصح للعبد المشاهدة وقد بقي له عرق قائم . وقالوا إذا طلع الصباح استغني عن المصباح . وأنشدوا أيضا
فلما استنار الصبح طوح ضوءه
بأنواره أنوار ضوء الكواكب
[ 140 ]
فجرعهم كأسا لو ابتليت لظى
بتجريعه طارت كأسرع ذاهب
كأس وأي كأس تصطلمهم عنهم وتفنيهم وتخطفهم منهم ولا تبقيهم كأس لا تبقى ولا تذر تمحو بالكلية ولا تبقى شظية من آثار البشرية كما قال قائلهم
ساروا فلم يبق لا عين ولا أثر
و قال القشيري أيضا هي ثلاث مراتب اللوائح ثم اللوامع ثم الطوالع فاللوائح كالبروق ما ظهرت حتى استترت كما قال القائل
فافترقنا حولا فلما التقينا
كان تسليمه علي وداعا
و أنشدوا
يا ذا الذي زار وما زارا
كأنه مقتبس نارا
مر بباب الدار مستعجلا
ما ضره لو دخل الدارا
ثم اللوامع وهي أظهر من اللوائح وليس زوالها بتلك السرعة فقد تبقى وقتين وثلاثة ولكن كما قيل(1/3161)
العين باكية لم تشبع النظرا
أو كما قالوا
و بلائي من مشهد ومغيب
و حبيب مني بعيد قريب
لم ترد ماء وجهه العين حتى
شرقت قبل ريها برقيب
فأصحاب هذا المقام بين روح وفوح لأنهم بين كشف وستر يلمع ثم يقطع لا يستقر لهم نور النهار حتى تكر عليه عساكر الليل فهم كما قيل
و الليل يشملنا بفاضل برده
و الصبح يلحفنا رداء مذهبا
ثم الطوالع وهي أبقى وقتا وأقوى سلطانا وأدوم مكثا وأذهب للظلمة وأنفي للمهمة .
[ 141 ]
أ فلا ترى كلام القوم كله مشحون بالبروق واللمعان . وكان مما نقم حامد بن العباس وزير المقتدر وعلي بن عيسى الجراح وزيره أيضا على الحلاج أنهما وجدا في كتبه لفظ النور الشعشعاني وذلك لجهالتهما مراد القوم واصطلاحهم ومن جهل أمرا عاداه . ثم قال ع وتدافعته الأبواب إلى باب السلامة ودار الإقامة أي لم يزل ينتقل من مقام من مقامات القوم إلى مقام فوقه حتى وصل وتلك المقامات معروفة عند أهلها ومن له أنس بها وسنذكرها فيما بعد . ثم قال وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الأمن والراحة بما استعمل قلبه وأرضى ربه أي كانت الراحة الكلية والسعادة الأبدية مستثمره من ذلك التعب الذي تحمله لما استعمل قلبه وراض جوارحه ونفسه حتى وصل كما قيل
عند الصباح يحمد القوم السرى
و تنجلي عنا غيابات الكرى
و قال الشاعر
تقول سليمى لو أقمت بأرضنا
و لم تدر أني للمقام أطوف
و قال آخر
ما ابيض وجه المرء في طلب العلا
حتى يسود وجهه في البيد
و قال
فاطلب هدوءا بالتقلقل واستثر
بالعيس من تحت السهاد هجودا
ما إن ترى الأحساب بيضا وضحا
إلا بحيث ترى المنايا سودا
[ 142 ](1/3162)
215 ومن كلام له ع يحث فيه أصحابه على الجهاد
وَ اَللَّهُ مُسْتَأْدِيكُمْ شُكْرَهُ وَ مُوَرِّثُكُمْ أَمْرَهُ وَ مُمْهِلُكُمْ فِي مِضْمَارٍ مَحْدُودٍ مَمْدُودٍ لِتَتَنَازَعُوا سَبَقَهُ فَشُدُّوا عُقَدَ اَلْمَآزِرِ وَ اِطْوُوا فُضُولَ اَلْخَوَاصِرِ لاَ تَجْتَمِعُ عَزِيمَةٌ وَ وَلِيمَةٌ مَا أَنْقَضَ اَلنَّوْمَ لِعَزَائِمِ اَلْيَوْمِ وَ أَمْحَى اَلظُّلَمَ لِتَذَاكِيرِ اَلْهِمَمِ مستأديكم شكره أي طالب منكم أداء ذلك والقيام به استأديت ديني عند فلان أي طلبته . وقوله ومورثكم أمره أي سيرجع أمر الدولة إليكم ويزول أمر بني أمية . ثم شبه الآجال التي ضربت للمكلفين ليقوموا فيها بالواجبات ويتسابقوا فيها إلى الخيرات بالمضمار الممدود لخيل تتنازع فيه السبق . ثم قال فشدوا عقد المآزر أي شمروا عن ساق الاجتهاد ويقال لمن يوصى بالجد والتشمير اشدد عقدة إزارك لأنه إذا شدها كان أبعد عن العثار وأسرع للمشي . قوله واطووا فضول الخواصر نهى عن كثرة الأكل لأن الكثير الأكل لا يطوي فضول خواصره لامتلائها والقليل الأكل يأكل في بعضها ويطوي بعضها قال الشاعر
[ 143 ]
كلوا في بعض بطنكم وعفوا
فإن زمانكم زمن خميص
و قال أعشى باهلة
طاوي المصير على العزاء منصلت
بالقوم ليلة لا ماء ولا شجر
و قال الشنفري
و أطوي على الخمص الحوايا كما انطوت
خيوطة ماري تغار وتفتل
ثم أتى ع بثلاثة أمثال مخترعة له لم يسبق بها وإن كان قد سبق بمعناها وهي قوله لا تجتمع عزيمة ووليمة وقوله ما أنقض النوم لعزائم اليوم وقوله وأمحى الظلم لتذاكير الهمم . فمما جاء للمحدثين من ذلك ما كتبه بعض الكتاب إلى ولده
خدمة السلطان والكا
سات في أيدي الملاح
ليس يلتامان فاطلب
رفعة أو شرب راح
و مثله قول آخر لولده
ما للمطيع هواه
من الملام ملاذ
فاختر لنفسك هذا
مجد وهذا التذاذ
و قال آخر(1/3163)
و ليس فتى الفتيان من راح واغتدى
لشرب صبوح أو لشرب غبوق
و لكن فتى الفتيان من راح واغتدى
لضر عدو أو لنفع صديق
[ 144 ]
و هذا كثير جدا يناسب قوله لا تجتمع عزيمة ووليمة ومثل قوله ما أنقض النوم لعزائم اليوم قول الشاعر
فتى لا ينام على عزمه
و من صمم العزم لم يرقد
و قوله وأمحى الظلم لتذاكير الهمم أي الظلم التي ينام فيها لا كل الظلم أ لا ترى أنه إذا لم ينم في الظلمة بل كان عنده من شدة العزم وقوة التصميم ما لا ينام معه فإن الظلمة لا تمحو تذاكير هممه والتذاكير جمع تذكار . والمثلان الأولان أحسن من الثالث وكان الثالث من تتمة الثاني وقد قالت العرب في الجاهلية هذا المعنى وجاء في القرآن العزيز أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ اَلْبَأْساءُ وَ اَلضَّرَّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ اَلرَّسُولُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اَللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اَللَّهِ قَرِيبٌ . وهذا مثل قوله لا تجتمع عزيمة ووليمة أي لا يجتمع لكم دخول الجنة والدعة والقعود عن مشقة الحرب
[ 145 ](1/3164)
216 ومن كلام له ع قاله بعد تلاوته
أَلْهاكُمُ اَلتَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ اَلْمَقابِرَ يَا لَهُ مَرَاماً مَا أَبْعَدَهُ وَ زَوْراً مَا أَغْفَلَهُ وَ خَطَراً مَا أَفْظَعَهُ لَقَدِ اِسْتَخْلَوْا مِنْهُمْ أَيَّ مُدَّكِرٍ وَ تَنَاوَشُوهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ أَ فَبِمَصَارِعِ آبَائِهِمْ يَفْخَرُونَ أَمْ بِعَدِيدِ اَلْهَلْكَى يَتَكَاثَرُونَ قد اختلف المفسرون في تأويل هاتين الآيتين فقال قوم المعنى أنكم قطعتم أيام عمركم في التكاثر بالأموال والأولاد حتى أتاكم الموت فكني عن حلول الموت بهم بزيارة المقابر . وقال قوم بل كانوا يتفاخرون بأنفسهم وتعدى ذلك إلى أن تفاخروا بأسلافهم الأموات فقالوا منا فلان وفلان لقوم كانوا وانقرضوا . وهذا هو التفسير الذي يدل عليه كلام أمير المؤمنين ع قال يا له مراما منصوب على التمييز . ما أبعده أي لا فخر في ذلك وطلب الفخر من هذا الباب بعيد وإنما الفخر بتقوى الله وطاعته .
[ 146 ](1/3165)
و زورا ما أغفله إشارة إلى القوم الذين افتخروا جعلهم بتذكر الأموات السالفين كالزائرين لقبورهم والزور اسم للواحد والجمع كالخصم والضيف قال ما أغفلهم عما يراد منهم لأنهم تركوا العبادة والطاعة وصرموا الأوقات بالمفاخرة بالموتى . ثم قال وخطرا ما أفظعه إشارة إلى الموت أي ما أشده فظع الشي ء بالضم فهو فظيع أي شديد شنيع مجاوز للمقدار . قوله لقد استخلوا منهم أي مدكر قال الراوندي أي وجدوا موضع التذكر خاليا من الفائدة وهذا غير صحيح وكيف يقول ذلك وقد قال وخطرا ما أفظعه وهل يكون أمر أعظم تذكيرا من الاعتبار بالموتى والصحيح أنه أراد باستخلوا ذكر من خلا من آبائهم أي من مضى يقال هذا الأمر من الأمور الخالية وهذا القرن من القرون الخالية أي الماضية . واستخلى فلان في حديثه أي حدث عن أمور خالية والمعنى أنه استعظم ما يوجبه حديثهم عما خلا وعمن خلا من أسلافهم وآثار أسلافهم من التذكير فقال أي مدكر وواعظ في ذلك وروي أي مذكر بمعنى المصدر كالمعتقد بمعنى الاعتقاد والمعتبر بمعنى الاعتبار . وتناوشوهم من مكان بعيد أي تناولوهم والمراد ذكروهم وتحدثوا عنهم فكأنهم تناولوهم وهذه اللفظة من ألفاظ القرآن العزيز وَ قالُوا آمَنَّا بِهِ وَ أَنَّى لَهُمُ اَلتَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ وأنى لهم تناول الإيمان حينئذ بعد فوات الأمر
[ 147 ](1/3166)
يَرْتَجِعُونَ مِنْهُمْ أَجْسَاداً خَوَتْ وَ حَرَكَاتٍ سَكَنَتْ وَ لَأَنْ يَكُونُوا عِبَراً أَحَقُّ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُفْتَخَراً وَ لَأَنْ يَهْبِطُوا بِهِمْ جَنَابَ ذِلَّةٍ أَحْجَى مِنْ أَنْ يَقُومُوا بِهِمْ مَقَامَ عِزَّةٍ لَقَدْ نَظَرُوا إِلَيْهِمْ بِأَبْصَارِ اَلْعَشْوَةِ وَ ضَرَبُوا مِنْهُمْ فِي غَمْرَةِ جَهَالَةٍ وَ لَوِ اِسْتَنْطَقُوا عَنْهُمْ عَرَصَاتِ تِلْكَ اَلدِّيَارِ اَلْخَاوِيَةِ وَ اَلرُّبُوعِ اَلْخَالِيَةِ لَقَالَتْ ذَهَبُوا فِي اَلْأَرْضِ ضُلاَّلاً وَ ذَهَبْتُمْ فِي أَعْقَابِهِمْ جُهَّالاً تَطَئُونَ فِي هَامِهِمْ وَ تَسْتَنْبِتُونَ فِي أَجْسَادِهِمْ وَ تَرْتَعُونَ فِيمَا لَفَظُوا وَ تَسْكُنُونَ فِيمَا خَرَّبُوا وَ إِنَّمَا اَلْأَيَّامُ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ بَوَاكٍ وَ نَوَائِحُ عَلَيْكُمْ أُولَئِكُمْ سَلَفُ غَايَتِكُمْ وَ فُرَّاطُ مَنَاهِلِكُمْ اَلَّذِينَ كَانَتْ لَهُمْ مَقَاوِمُ اَلْعِزِّ وَ حَلَبَاتُ اَلْفَخْرِ مُلُوكاً وَ سُوَقاً يرتجعون منهم أجسادا أي يذكرون آباءهم فكأنهم ردوهم إلى الدنيا وارتجعوهم من القبور وخوت خلت . قال وهؤلاء الموتى أحق بأن يكونوا عبرة وعظة من أن يكونوا فخرا وشرفا والمفتخرون بهم أولى بالهبوط إلى جانب الذلة منهم بالقيام مقام العز . وتقول هذا أحجى من فلان أي أولى وأجدر والجناب الفناء .
[ 148 ](1/3167)
ثم قال لقد نظروا إليهم بأبصار العشوة أي لم ينظروا النظر المفضي إلى الرؤية لأن أبصارهم ذات عشوة وهو مرض في العين ينقص به الأبصار وفي عين فلان عشاء وعشوة بمعنى ومنه قيل لكل أمر ملتبس يركبه الراكب على غير بيان أمر عشوة ومنه أوطأتني عشوة ويجوز بالضم والفتح . قال وضربوا بهم في غمرة جهالة أي وضربوا من ذكر هؤلاء الموتى في بحر جهل والضرب ها هنا استعارة أو يكون من الضرب بمعنى السير كقوله تعالى وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ أي خاضوا وسبحوا من ذكرهم في غمرة جهالة وكل هذا يرجع إلى معنى واحد وهو تسفيه رأي المفتخرين بالموتى والقاطعين الوقت بالتكاثر بهم إعراضا عما يجب إنفاقه من العمر في الطاعة والعبادة . ثم قال لو سألوا عنهم ديارهم التي خلت منهم ويمكن أن يريد بالديار والربوع القبور لقالت ذهبوا في الأرض ضلالا أي هالكين ومنه قوله تعالى وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي اَلْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ . وذهبتم في أعقابهم أي بعدهم جهالا لغفلتكم وغروركم . قوله ع تطئون في هامهم أخذ هذا المعنى أبو العلاء المعري فقال
خفف الوطء ما أظن أديم
الأرض إلا من هذه الأجساد
رب لحد قد صار لحدا مرارا
ضاحك من تزاحم الأضداد
[ 149 ]
و دفين على بقايا دفين
من عهود الآباء والأجداد
صاح هذي قبورنا تملأ الأرض
فأين القبور من عهد عاد
سر إن اسطعت في الهواء رويدا
لا اختيالا على رفات العباد(1/3168)
قوله وتستنبتون في أجسادهم أي تزرعون النبات في أجسادهم وذلك لأن أديم الأرض الظاهر إذا كان من أبدان الموتى فالزرع لا محالة يكون نابتا في الأجزاء الترابية التي هي أبدان الحيوانات وروي وتستثبتون بالثاء أي وتنصبون الأشياء الثابتة كالعمد والأساطين للأوطان في أجساد الموتى . ثم قال وترتعون فيما لفظوا لفظت الشي ء بالفتح رميته من فمي ألفظه بالكسر ويجوز أن يريد بذلك أنكم تأكلون ما خلفوه وتركوه ويجوز أن يريد أنكم تأكلون الفواكه التي تنبت في أجزاء ترابية خالطها الصديد الجاري من أفواههم ثم قال وتسكنون فيما خربوا أي تسكنون في المساكن التي لم يعمروها بالذكر والعبادة فكأنهم أخربوها في المعنى ثم سكنتم أنتم فيها بعدهم ويجوز أن يريد أن كل دار عامرة قد كانت من قبل خربة وإنما أخربها قوم بادوا وماتوا فإذن لا ساكن منا في عمارة إلا ويصدق عليه أنه ساكن فيما قد كان خرابا من قبل والذين أخربوه الآن موتى ويجوز أن يريد بقوله وتسكنون فيما خربوا وتسكنون في دور فارقوها وأخلوها فأطلق على الخلو والفراغ لفظ الخراب مجازا . قوله وإنما الأيام بينكم وبينهم بواك ونوائح عليكم يريد أن الأيام والليالي تشيع رائحا إلى المقابر وتبكي وتنوح على الباقين الذين سيلتحقون به عن قريب .
[ 150 ](1/3169)
قوله أولئكم سلف غايتكم السلف المتقدمون والغاية الحد الذي ينتهي إليه إما حسيا أو معنويا والمراد هاهنا الموت . والفرط القوم يسبقون الحي إلى المنهل . ومقاوم العز دعائمه جمع مقوم وأصلها الخشبة التي يمسكها الحراث وحلبات الفخر جمع حلبة وهي الخيل تجمع للسباق . والسوق بفتح الواو جمع سوقة وهو من دون الملك : سَلَكُوا فِي بُطُونِ اَلْبَرْزَخِ سَبِيلاً سُلِّطَتِ اَلْأَرْضُ عَلَيْهِمْ فِيهِ فَأَكَلَتْ مِنْ لُحُومِهِمْ وَ شَرِبَتْ مِنْ دِمَائِهِمْ فَأَصْبَحُوا فِي فَجَوَاتِ قُبُورِهِمْ جَمَاداً لاَ يَنْمُونَ وَ ضِمَاراً لاَ يُوجَدُونَ لاَ يُفْزِعُهُمْ وُرُودُ اَلْأَهْوَالِ وَ لاَ يَحْزُنُهُمْ تَنَكُّرُ اَلْأَحْوَالِ وَ لاَ يَحْفِلُونَ بِالرَّوَاجِفِ وَ لاَ يَأْذَنُونَ لِلْقَوَاصِفِ غُيَّباً لاَ يُنْتَظَرُونَ وَ شُهُوداً لاَ يَحْضُرُونَ وَ إِنَّمَا كَانُوا جَمِيعاً فَتَشَتَّتُوا وَ أُلاَّفاً آلاَفاً فَافْتَرَقُوا وَ مَا عَنْ طُولِ عَهْدِهِمْ وَ لاَ بُعْدِ مَحَلِّهِمْ عَمِيَتْ أَخْبَارُهُمْ وَ صَمَّتْ دِيَارُهُمْ وَ لَكِنَّهُمْ سُقُوا كَأْساً بَدَّلَتْهُمْ بِالنُّطْقِ خَرَساً وَ بِالسَّمْعِ صَمَماً وَ بِالْحَرَكَاتِ سُكُوناً فَكَأَنَّهُمْ فِي اِرْتِجَالِ اَلصِّفَةِ صَرْعَى سُبَاتٍ جِيرَانٌ لاَ يَتَأَنَّسُونَ وَ أَحِبَّاءُ لاَ يَتَزَاوَرُونَ بَلِيَتْ بَيْنَهُمْ عُرَا اَلتَّعَارُفِ وَ اِنْقَطَعَتْ مِنْهُمْ أَسْبَابُ اَلْإِخَاءِ فَكُلُّهُمْ وَحِيدٌ وَ هُمْ جَمِيعٌ وَ بِجَانِبِ اَلْهَجْرِ وَ هُمْ أَخِلاَّءُ لاَ يَتَعَارَفُونَ لِلَيْلٍ صَبَاحاً وَ لاَ لِنَهَارٍ مَسَاءً أَيُّ اَلْجَدِيدَيْنِ ظَعَنُوا فِيهِ كَانَ
[ 151 ](1/3170)
عَلَيْهِمْ سَرْمَداً شَاهَدُوا مِنْ أَخْطَارِ دَارِهِمْ أَفْظَعَ مِمَّا خَافُوا وَ رَأَوْا مِنْ آيَاتِهَا أَعْظَمَ مِمَّا قَدَّرُوا فَكِلاَ فَكِلْتَا اَلْغَايَتَيْنِ مُدَّتْ لَهُمْ إِلَى مَبَاءَةٍ فَاتَتْ مَبَالِغَ اَلْخَوْفِ وَ اَلرَّجَاءِ فَلَوْ كَانُوا يَنْطِقُونَ بِهَا لَعَيُّوا بِصِفَةِ مَا شَاهَدُوا وَ مَا عَايَنُوا وَ لَئِنْ عَمِيَتْ آثَارُهُمْ وَ اِنْقَطَعَتْ أَخْبَارُهُمْ لَقَدْ رَجَعَتْ فِيهِمْ أَبْصَارُ اَلْعِبَرِ وَ سَمِعَتْ عَنْهُمْ آذَانُ اَلْعُقُولِ وَ تَكَلَّمُوا مِنْ غَيْرِ جِهَاتِ اَلنُّطْقِ فَقَالُوا كَلَحَتِ اَلْوُجُوهُ اَلنَّوَاضِرُ وَ خَوَتِ اَلْأَجْسَامُ اَلنَّوَاعِمُ وَ لَبِسْنَا أَهْدَامَ اَلْبِلَى وَ تَكَاءَدَنَا ضِيقُ اَلْمَضْجَعِ وَ تَوَارَثْنَا اَلْوَحْشَةَ وَ تَهَدَّمَتْ تَهَكَّمَتْ عَلَيْنَا اَلرُّبُوعُ اَلصُّمُوتُ فَانْمَحَتْ مَحَاسِنُ أَجْسَادِنَا وَ تَنَكَّرَتْ مَعَارِفُ صُوَرِنَا وَ طَالَتْ فِي مَسَاكِنِ اَلْوَحْشَةِ إِقَامَتُنَا وَ لَمْ نَجِدْ مِنْ كَرْبٍ فَرَجاً وَ لاَ مِنْ ضِيقٍ مُتَّسَعاً فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ بِعَقْلِكَ أَوْ كُشِفَ عَنْهُمْ مَحْجُوبُ اَلْغِطَاءِ لَكَ وَ قَدِ اِرْتَسَخَتْ أَسْمَاعُهُمْ بِالْهَوَامِّ فَاسْتَكَّتْ وَ اِكْتَحَلَتْ أَبْصَارُهُمْ بِالتُّرَابِ فَخَسَفَتْ وَ تَقَطَّعَتِ اَلْأَلْسِنَةُ فِي أَفْوَاهِهِمْ بَعْدَ ذَلاَقَتِهَا وَ هَمَدَتِ اَلْقُلُوبُ فِي صُدُورِهِمْ بَعْدَ يَقَظَتِهَا وَ عَاثَ فِي كُلِّ جَارِحَةٍ مِنْهُمْ جَدِيدُ بِلًى سَمَّجَهَا وَ سَهَّلَ طُرُقَ اَلآْفَةِ إِلَيْهَا مُسْتَسْلِمَاتٍ فَلاَ أَيْدٍ تَدْفَعُ وَ لاَ قُلُوبٌ تَجْزَعُ لَرَأَيْتَ أَشْجَانَ قُلُوبٍ وَ أَقْذَاءَ عُيُونٍ لَهُمْ فِي كُلِّ فَظَاعَةٍ صِفَةُ حَالٍ لاَ تَنْتَقِلُ وَ غَمْرَةٌ لاَ تَنْجَلِي فَكَمْ أَكَلَتِ اَلْأَرْضُ مِنْ عَزِيزِ(1/3171)
جَسَدٍ وَ أَنِيقِ لَوْنٍ كَانَ فِي اَلدُّنْيَا غَذِيَّ تَرَفٍ وَ رَبِيبَ شَرَفٍ يَتَعَلَّلُ بِالسُّرُورِ فِي سَاعَةِ حُزْنِهِ وَ يَفْزَعُ إِلَى اَلسَّلْوَةِ إِنْ مُصِيبَةٌ نَزَلَتْ بِهِ ضَنّاً بِغَضَارَةِ عَيْشِهِ وَ شَحَاحَةً بِلَهْوِهِ وَ لَعِبِهِ فَبَيْنَا هُوَ يَضْحَكُ إِلَى اَلدُّنْيَا وَ تَضْحَكُ إِلَيْهِ فِي ظِلِّ عَيْشٍ غَفُولٍ إِذْ وَطِئَ اَلدَّهْرُ بِهِ حَسَكَهُ وَ نَقَضَتِ اَلْأَيَّامُ قُوَاهُ وَ نَظَرَتْ إِلَيْهِ اَلْحُتُوفُ مِنْ كَثَبٍ فَخَالَطَهُ بَثٌّ لاَ يَعْرِفُهُ وَ نَجِيُّ هَمٍّ
[ 152 ](1/3172)
مَا كَانَ يَجِدُهُ وَ تَوَلَّدَتْ فِيهِ فَتَرَاتُ عِلَلٍ آنَسَ مَا كَانَ بِصِحَّتِهِ فَفَزِعَ إِلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ اَلْأَطِبَّاءُ مِنْ تَسْكِينِ اَلْحَارِّ بِالْقَارِّ وَ تَحْرِيكِ اَلْبَارِدِ بِالْحَارِّ فَلَمْ يُطْفِئُ بِبَارِدٍ إِلاَّ ثَوَّرَ حَرَارَةً وَ لاَ حَرَّكَ بِحَارٍّ إِلاَّ هَيَّجَ بُرُودَةً وَ لاَ اِعْتَدَلَ بِمُمَازِجٍ لِتِلْكَ اَلطَّبَائِعِ إِلاَّ أَمَدَّ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ دَاءٍ حَتَّى فَتَرَ مُعَلِّلُهُ وَ ذَهَلَ مُمَرِّضُهُ وَ تَعَايَا أَهْلُهُ بِصِفَةِ دَائِهِ وَ خَرِسُوا عَنْ جَوَابِ اَلسَّاِئِلينَ عَنْهُ وَ تَنَازَعُوا دُونَهُ شَجِيَّ خَبَرٍ يَكْتُمُونَهُ فَقَائِلٌ يَقُولُ هُوَ لِمَا بِهِ وَ مُمَنٍّ لَهُمْ إِيَابَ عَافِيَتِهِ وَ مُصَبِّرٌ لَهُمْ عَلَى فَقْدِهِ يُذَكِّرُهُمْ أَسَى اَلْمَاضِينَ مِنْ قَبْلِهِ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ عَلَى جَنَاحٍ مِنْ فِرَاقِ اَلدُّنْيَا وَ تَرْكِ اَلْأَحِبَّةِ إِذْ عَرَضَ لَهُ عَارِضٌ مِنْ غُصَصِهِ فَتَحَيَّرَتْ نَوَافِذُ فِطْنَتِهِ وَ يَبِسَتْ رُطُوبَةُ لِسَانِهِ فَكَمْ مِنْ مُهِمٍّ مِنْ جَوَابِهِ عَرَفَهُ فَعَيَّ عَنْ رَدِّهِ وَ دُعَاءٍ مُؤْلِمٍ بِقَلْبِهِ سَمِعَهُ فَتَصَامَّ عَنْهُ مِنْ كَبِيرٍ كَانَ يُعَظِّمُهُ أَوْ صَغِيرٍ كَانَ يَرْحَمُهُ وَ إِنَّ لِلْمَوْتِ لَغَمَرَاتٍ هِيَ أَفْظَعُ مِنْ أَنْ تُسْتَغْرَقَ بِصِفَةٍ أَوْ تَعْتَدِلَ عَلَى عُقُولِ أَهْلِ اَلدُّنْيَا هذا موضع المثل ملعا يا ظليم وإلا فالتخوية من أراد أن يعظ ويخوف ويقرع صفاة القلب ويعرف الناس قدر الدنيا وتصرفها بأهلها فليأت بمثل هذه الموعظة في مثل هذا الكلام الفصيح وإلا فليمسك فإن السكوت أستر والعي خير من منطق يفضح صاحبه ومن تأمل هذا الفصل علم صدق معاوية في قوله فيه والله ما سن
[ 153 ](1/3173)
الفصاحة لقريش غيره وينبغي لو اجتمع فصحاء العرب قاطبة في مجلس وتلى عليهم أن يسجدوا له كما سجد الشعراء لقول عدي بن الرقاع
قلم أصاب من الدواة مدادها
فلما قيل لهم في ذلك قالوا إنا نعرف مواضع السجود في الشعر كما تعرفون مواضع السجود في القرآن . وإني لأطيل التعجب من رجل يخطب في الحرب بكلام يدل على أن طبعه مناسب لطباع الأسود والنمور وأمثالهما من السباع الضارية ثم يخطب في ذلك الموقف بعينه إذا أراد الموعظة بكلام يدل على أن طبعه مشاكل لطباع الرهبان لابسي المسوح الذين لم يأكلوا لحما ولم يريقوا دما فتارة يكون في صورة بسطام بن قيس الشيباني وعتيبة بن الحارث اليربوعي وعامر بن الطفيل العامري وتارة يكون في صورة سقراط الحبر اليوناني ويوحنا المعمدان الإسرائيلي والمسيح ابن مريم الإلهي . وأقسم بمن تقسم الأمم كلها به لقد قرأت هذه الخطبة منذ خمسين سنة وإلى الآن أكثر من ألف مرة ما قرأتها قط إلا وأحدثت عندي روعة وخوفا وعظة وأثرت في قلبي وجيبا وفي أعضائي رعدة ولا تأملتها إلا وذكرت الموتى من أهلي وأقاربي وأرباب ودي وخيلت في نفسي أني أنا ذلك الشخص الذي وصف ع حاله وكم قد قال الواعظون والخطباء والفصحاء في هذا المعنى وكم وقفت على ما قالوه وتكرر وقوفي عليه فلم أجد لشي ء منه مثل تأثير هذا الكلام في نفسي فإما أن يكون ذلك لعقيدتي في قائله أو كانت نية القائل صالحة ويقينه كان ثابتا وإخلاصه كان محضا
[ 154 ](1/3174)
خالصا فكان تأثير قوله في النفوس أعظم وسريان موعظته في القلوب أبلغ ثم نعود إلى تفسير الفصل فالبرزخ الحاجز بين الشيئين والبرزخ ما بين الدنيا والآخرة من وقت الموت إلى البعث فيجوز أن يكون البرزخ في هذا الموضع القبر لأنه حاجز بين الميت وبين أهل الدنيا كالحائط المبني بين اثنين فإنه برزخ بينهما ويجوز أن يريد به الوقت الذي بين حال الموت إلى حال النشور والأول أقرب إلى مراده ع لأنه قال في بطون البرزخ ولفظة البطون تدل على التفسير الأول ولفظتا أكلت الأرض من لحومهم وشربت من دمائهم مستعارتان . والفجوات جمع فجوة وهي الفرجة المتسعة بين الشيئين قال سبحانه وَ هُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ وقد تفاجى الشي ء إذا صارت له فجوة . وجمادا لا ينمون أي خرجوا عن صورة الحيوانية إلى صورة الجماد الذي لا ينمي ولا يزيد ويروى لا ينمون بتشديد الميم من النميمة وهي الهمس والحركة ومنه قولهم أسكت الله نامته في قول من شدد ولم يهمز . وضمارا يقال لكل ما لا يرجى من الدين والوعد وكل ما لا تكون منه على ثقة ضمار . ثم ذكر أن الأهوال الحادثة في الدنيا لا تفزعهم وأن تنكر الأحوال بهم وبأهل الدنيا لا يحزنهم ويروى تحزنهم على أن الماضي رباعي . ومثله قوله لا يحفلون بالرواجف أي لا يكترثون بالزلازل .
[ 155 ](1/3175)
قوله ولا يأذنون للقواصف أي لا يسمعون الأصوات الشديدة أذنت لكذا أي سمعته . وجمع الغائب غيب وغيب وكلاهما مروي هاهنا وأراد أنهم شهود في الصورة وغير حاضرين في المعنى . وألاف على فعال جمع آلف كالطراق جمع طارق والسمار جمع سامر والكفار جمع كافر . ثم ذكر أنه لم تعم أخبارهم أي لم تستبهم أخبارهم وتنقطع عن بعد عهد بهم ولا عن بعد منزل لهم وإنما سقوا كأس المنون التي أخرستهم بعد النطق وأصمتهم بعد السمع وأسكنتهم بعد الحركة . وقوله وبالسمع صمما أي لم يسمعوا فيها نداء المنادي ولا نوح النائح أو لم يسمع في قبورهم صوت منهم . قوله فكأنهم في ارتجال الصفة أي إذا وصفهم الواصف مرتجلا غير مترو في الصفة ولا متهيئ للقول . قال كأنهم صرعى سبات وهو نوم لأنه لا فرق في الصورة بين الميت حال موته والنائم المسبوت . ثم وصفهم بأنهم جيران إلا أنهم لا مؤانسة بينهم كجيران الدنيا وأنهم أحباء إلا أنهم لا يتزاورون كالأحباب من أهل الدنيا . وقوله أحباء جمع حبيب كخليل وأخلاء وصديق وأصدقاء . ثم ذكر أن عرا التعارف قد بليت منهم وانقطعت بينهم أسباب الإخاء وهذه كلها استعارات لطيفة مستحسنة .
[ 156 ]
ثم وصفهم بصفة أخرى فقال كل واحد منهم موصوف بالوحدة وهم مع ذلك مجتمعون بخلاف الأحياء الذين إذا انضم بعضهم إلى بعض انتفى عنه وصف الوحدة . ثم قال وبجانب الهجر وهم أخلاء أي وكل منهم في جانب الهجر وهم مع ذلك أهل خلة ومودة أي كانوا كذلك وهذا كله من باب الصناعة المعنوية والمجاز الرشيق . ثم قال إنهم لا يعرفون للنهار ليلا ولا لليل نهارا وذلك لأن الواحد من البشر إذا مات نهارا لم يعرف لذلك النهار ليلا أبدا وإن مات ليلا لم يعرف لذلك الليل صباحا أبدا وقال الشاعر
لا بد من يوم بلا ليلة
أو ليلة تأتي بلا يوم(1/3176)
و ليس المراد بقوله أي الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا أنهم وهم موتى يشعرون بالوقت الذي ماتوا فيه ولا يشعرون بما يتعقبه من الأوقات بل المراد أن صورة ذلك الوقت لو بقيت عندهم لبقيت أبدا من غير أن يزيلها وقت آخر يطرأ عليها ويجوز أن يفسر على مذهب من قال ببقاء الأنفس فيقال إن النفس التي تفارق ليلا تبقى الصورة الليلية والظلمة حاصلة عندها أبدا لا تزول بطرآن نهار عليها لأنها قد فارقت الحواس فلا سبيل لها إلى أن يرتسم فيها شي ء من المحسوسات بعد المفارقة وإنما حصل ما حصل من غير زيادة عليه وكذلك الأنفس التي تفارق نهارا(1/3177)
بعض الأشعار والحكايات في وصف القبور والموتى
و اعلم أن الناس قد قالوا في حال الموتى فأكثروا فمن ذلك قول الرضي أبي الحسن رحمه الله تعالى
[ 157 ]
أعزز علي بأن نزلت بمنزل
متشابه الأمجاد بالأوغاد
في عصبة جنبوا إلى آجالهم
و الدهر يعجلهم عن الإرواد
ضربوا بمدرجة الفناء قبابهم
من غير أطناب ولا أعماد
ركب أناخوا لا يرجى منهم
قصد لإتهام ولا إنجاد
كرهوا النزول فأنزلتهم وقعة
للدهر باركة بكل مفاد
فتهافتوا عن رحل كل مذلل
و تطاوحوا عن سرج كل جواد
بادون في صور الجميع وإنهم
متفردون تفرد الآحاد
قوله بادون في صور الجميع مأخوذ من قول أمير المؤمنين ع فكلهم وحيد وهم جميع . وقال أيضا
و لقد حفظت له فأين حفاظه
و لقد وفيت له فأين وفاؤه
أوعى الدعاء فلم يجبه قطيعة
أم ضل عنه من البعاد دعاؤه
هيهات أصبح سمعه وعيانه
في الترب قد حجبتها أقذاؤه
يمسي ولين مهاده حصباؤه
فيه ومؤنس ليله ظلماؤه
قد قلبت أعيانه وتنكرت
أعلامه وتكسفت أضواؤه
[ 158 ]
مغف وليس للذة إغفاؤه
مغض وليس لفكرة إغضاؤه
وجه كلمع البرق غاض وميضه
قلب كصدر العضب فل مضاؤه
حكم البلى فيه فلو تلقى به
أعداءه لرتى له أعداؤه
و قال أبو العلاء
أستغفر الله ما عندي لكم خبر
و ما خطابي إلا معشرا قبروا
أصبحتم في البلى غبرا ملابسكم
من الهباء فأين البرد والقطر
كنتم على كل خطب فادح صبرا
فهل شعرتم وقد جادتكم الصبر
و ما درى يوم أحد بالذين ثووا
فيه ولا يوم بدر أنهم نصروا
و قال أبو عارم الكلابي
أ جازعة ردينة أن أتاها
نعيي أم يكون لها اصطبار
إذا ما أهل قبري ودعوني
و راحوا والأكف بها غبار
و غودر أعظمي في لحد قبر
تراوحه الجنائب والقطار
تهب الريح فوق محط قبري
و يرعى حوله اللهق النوار
مقيم لا يكلمه صديق
بقبر لا أزور ولا أزار
فذاك النأي لا الهجران حولا
و حولا ثم تجتمع الديار(1/3178)
مر الإسكندر بمدينة قد ملكها سبعة أملاك من بيت واحد وبادوا فسأل هل بقي من نسلهم أحد قالوا بقي واحد وهو يلزم المقابر فدعا به فسأله لم تلزم المقابر قال أردت أن أميز عظام الملوك من عظام عبيدهم فوجدتها سواء قال هل لك أن تلزمني حتى أنيلك بغيتك قال لو علمت أنك تقدر على ذلك للزمتك قال وما بغيتك
[ 159 ]
قال حياة لا موت معها قال لن أقدر على ذلك قال فدعني أطلبه ممن يقدر عليه .
قال النبي ص ما رأيت منظرا إلا والقبر أفظع منه و
قال ص القبر أول منزل من منازل الآخرة فمن نجا منه فما بعده أيسر ومن لم ينج فما بعده شر له . مر عبد الله بن عمر رضي الله عنه بمقبرة فصلى فيها ركعتين وقال ذكرت أهل القبور وأنه حيل بينهم وبين هذا فأحببت أن أتقرب بهما إلى الله فإن قلت ما معنى قوله ع وبجانب الهجر وأي فائدة في لفظة جانب في هذا الموضع . قلت لأنهم يقولون فلان في جانب الهجر وفي جانب القطيعة ولا يقولون في جانب الوصل وفي جانب المصافاة وذلك أن لفظة جنب في الأصل موضوعة للمباعدة ومنه قولهم الجار الجنب وهو جارك من قوم غرباء يقال جنبت الرجل وأجنبته وتجنبته وتجانبته كله بمعنى ورجل أجنبي وأجنب وجنب وجانب كله بمعنى . قوله ع شاهدوا من أخطار دارهم المعنى أنه شاهد المتقون من آثار الرحمة وأماراتها وشاهد المجرمون من آثار النقمة وأماراتها عند الموت والحصول في القبر أعظم مما كانوا يسمعون ويظنون أيام كونهم في الدنيا . ثم قال فكلا الغايتين مدت لهم المعنى مدت الغايتان غاية الشقي منهم وغاية السعيد .
[ 160 ]
إلى مباءة أي إلى منزل يعظم حاله عن أن يبلغه خوف خائف أو رجاء راج وتلك المباءة هي النار أو الجنة وتقول قد استباء الرجل أي اتخذ مباءة وأبأت الإبل رددتها إلى مباءتها وهي معاطنها . ثم قال فلو كانوا ينطقون بها لعيوا بتشديد الياء قال الشاعر
عيوا بأمرهم كما
عيت ببيضتها الحمامة
جعلت لها عودين من(1/3179)
نشم وآخر من ثمامة
و روي لعيوا بالتخفيف كما تقول حيوا قالوا ذهبت الياء الثانية لالتقاء الساكنين لأن الواو ساكنة وضمت الياء الأولى لأجل الواو قال الشاعر
و كنا حسبناهم فوارس كهمس
حيوا بعد ما ماتوا من الدهر أعصرا
قوله لقد رجعت فيهم يقال رجع البصر نفسه ورجع زيد بصره يتعدى ولا يتعدى يقول تكلموا معنى لا صورة فأدركت حالهم بالأبصار والأسماع العقلية لا الحسية وكلحت الوجوه كلوحا وكلاحا وهو تكشر في عبوس . والنواضر النواعم والنضرة الحسن والرونق . وخوت الأجساد النواعم خلت من دمها ورطوبتها وحشوتها ويجوز أن يكون خوت أي سقطت قال تعالى فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها والأهدام جمع هدم وهو الثوب البالي قال أوس
و ذات هدم عار نواشرها
تصمت بالماء تولبا جذعا
[ 161 ](1/3180)
و تكاءدنا شق علينا ومنه عقبة كئود ويجوز تكأدنا جاءت هذه الكلمة في أخوات لها تفعل وتفاعل بمعنى ومثله تعهد الضيعة وتعاهدها . ويقال قوله وتوارثنا الوحشة كأنه لما مات الأب فاستوحش أهله منه ثم مات الابن فاستوحش منه أهله أيضا صار كان الابن ورث تلك الوحشة من أبيه كما تورث الأموال وهذا من باب الاستعارة . قوله وتهدمت علينا الربوع يقال تهدم فلان على فلان غضبا إذا اشتد غضبه ويجوز أن يكون تهدمت أي تساقطت وروي وتهكمت بالكاف وهو كقولك تهدمت بالتفسيرين جميعا ويعني بالربوع الصموت القبور وجعلها صموتا لأنه لا نطق فيها كما تقول ليل قائم ونهار صائم أي يقام ويصام فيهما وهذا كله على طريق الهز والتحريك وإخراج الكلام في معرض غير المعرض المعهود جعلهم لو كانوا ناطقين مخبرين عن أنفسهم لأتوا بما وصفه من أحوالهم وورد في الحديث أن عمر حضر جنازة رجل فلما دفن قال لأصحابه قفوا ثم ضرب فأمعن في القبور واستبطأه الناس جدا ثم رجع وقد احمرت عيناه وانتفخت أوداجه فقيل أبطأت يا أمير المؤمنين فما الذي حبسك قال أتيت قبور الأحبة فسلمت فلم يردوا علي السلام فلما ذهبت أقفي ناداني التراب فقال أ لا تسألني يا عمر ما فعلت باليدين قلت ما فعلت بهما قال قطعت الكفين من الرسغين وقطعت الرسغين من الذراعين وقطعت الذراعين من المرفقين وقطعت المرفقين من العضدين وقطعت العضدين من المنكبين وقطعت المنكبين من الكتفين فلما ذهبت أقفي ناداني التراب فقال أ لا تسألني يا عمر ما فعلت بالأبدان والرجلين قلت ما فعلت قال قطعت الكتفين من الجنبين وقطعت الجنبين من الصلب وقطعت الصلب من الوركين وقطعت الوركين من الفخذين وقطعت الفخذين من الركبتين
[ 162 ](1/3181)
و قطعت الركبتين من الساقين وقطعت الساقين من القدمين فلما ذهبت أقفي ناداني التراب فقال يا عمر عليك بأكفان لا تبلى فقلت وما أكفان لا تبلى قال تقوى الله والعمل بطاعته وهذا من الباب الذي نحن بصدده نسب الأقوال المذكورة إلى التراب وهو جماد ولم يكن ذلك ولكنه اعتبر فانقدحت في نفسه هذه المواعظ الحكمية فأفرغها في قالب الحكاية ورتبها على قانون المسألة والإجابة وأضافها إلى جماد موات لأنه أهز لسامعها إلى تدبرها ولو قال نظرت فاعتبرت في حال الموتى فوجدت التراب قد قطع كذا من كذا لم تبلغ عظته المبلغ الذي بلغته حيث أودعها في الصورة التي اخترعها . قوله ع فلو مثلتهم بعقلك أو كشف عنهم محجوب الغطاء لك إلى آخر جواب لو هذا الكلام أخذه ابن نباته بعينه فقال فلو كشفتم عنهم أغطية الأجداث بعد ليلتين أو ثلاث لوجدتم الأحداق على الخدود سائلة والألوان من ضيق اللحود حائلة وهوام الأرض في نواعم الأبدان جائلة والرءوس الموسدة على الأيمان زائلة ينكرها من كان لها عارفا ويفر عنها من لم يزل لها آنفا . قوله ع ارتسخت أسماعهم ليس معناه ثبتت كما زعمه الراوندي لأنها لم تثبت وإنما ثبتت الهوام فيها بل الصحيح أنه من رسخ الغدير إذا نش ماؤه ونضب ويقال قد ارتسخت الأرض بالمطر إذا ابتلعته حتى يلتقي الثريان . واستكت أي ضاقت وانسدت قال النابغة
و نبئت خير الناس أنك لمتني
و تلك التي تستك منها المسامع
[ 163 ]
قوله واكتحلت أبصارهم بالتراب فخسفت أي غارت وذهبت في الرأس وأخذ المتنبي قوله واكتحلت أبصارهم بالتراب فقال
يدفن بعضنا بعضا ويمشي
أواخرنا على هام الأوالي
و كم عين مقبلة النواحي
كحيل بالجنادل والرمال
و مغض كان لا يغضي لخطب
و بال كان يفكر في الهزال(1/3182)
و ذلاقة الألسن حدتها ذلق اللسان والسنان يذلق ذلقا أي ذرب فهو ذلق وأذلق . وهمدت بالفتح سكنت وخمدت وعاث أفسد وقوله جديد بلى من فن البديع لأن الجدة ضد البلى وقد أخذ الشاعر هذه اللفظة فقال
يا دار غادرني جديد بلاك
رث الجديد فهل رثيث لذاك
و سمجها قبح صورتها وقد سمج الشي ء بالضم فهو سمج بالسكون ثم ضخم فهو ضخم ويجوز فهو سمج بالكسر مثل خشن فهو خشن . قوله وسهل طرق الآفة إليها وذلك أنه إذا استولى العنصر الترابي على الأعضاء قوي استعدادها للاستحالة من صورتها الأولى إلى غيرها . ومستسلمات أي منقادة طائعة غير عاصية فليس لها أيد تدفع عنها ولا لها قلوب تجزع وتحزن لما نزل بها . والأشجان جمع شجن وهو الحزن . والأقذاء جمع قذى وهو ما يسقط في العين فيؤذيها .
[ 164 ]
قوله صفة حال لا تنتقل أي لا تنتقل إلى حسن وصلاح وليس يريد لا تنتقل مطلقا لأنها تنتقل إلى فساد واضمحلال . ورجل عزيز أي حدث وعزيز الجسد أي طري وأنيق اللون معجب اللون وغذي ترف قذ غذي بالترف وهو التنعم المطغي . وربيب شرف أي قد ربي في الشرف والعز ويقال رب فلان ولده يربه ربا ورباه يربيه تربية . ويتعلل بالسرور يتلهى به عن غيره ويفزع إلى السلوة يلتجئ إليها وضنا أي بخلا وغضارة العيش نعيمه ولينه . وشحاحة أي بخلا شححت بالكسر أشح وشححت أيضا بالفتح أشح وأشح بالضم والكسر شحا وشحاحة ورجل شحيح وشحاح بالفتح وقوم شحاح وأشحة . ويضحك إلى الدنيا وتضحك إليه كناية عن الفرح بالعمر والعيشة وكذا كل واحد منهما يضحك إلى صاحبه لشدة الصفاء كأن الدنيا تحبه وهو يحبها . وعيش غفول قد غفل عن صاحبه فهو مستغرق في العيش لم ينتبه له الدهر فيكدر عليه وقته قال الشاعر
و كان المرء في غفلات عيش
كأن الدهر عنها في وثاق
و قال الآخر
ألا إن أحلى العيش ما سمحت به
صروف الليالي والحوادث نوم(1/3183)
قوله إذ وطئ الدهر به حسكة أي إذ أوطأه الدهر حسكة والهاء في حسكة ترجع إلى الدهر عدي الفعل بحرف الجر كما تقول قام زيد بعمرو أي أقامه .
[ 165 ]
و قواه جمع قوة وهي المرة من مرائر الحبل وهذا الكلام استعارة . ومن كثب من قرب والبث الحزن والبث أيضا الأمر الباطن الدخيل . ونجي الهم ما يناجيك ويسارك والفترات أوائل المرض . وآنس ما كان بصحته منصوب على الحال وقال الراوندي في الشرح هذا من باب أخطب ما يكون الأمير قائما ثم ذكر أن العامل في الحال فترات قال تقديره فترات آنس ما كان وما ذكره الراوندي فاسد فإنه ليس هذا من باب أخطب ما يكون الأمير قائما لأن ذلك حال سد مسد خبر المبتدإ وليس هاهنا مبتدأ وأيضا فليس العامل في الحال فترات ولا فتر بل العامل تولدت والقار البارد . فإن قلت لم قال تسكين الحار بالقار وتحريك البارد بالحار ولأي معنى جعل الأول التسكين والثاني التحريك قلت لأن من شأن الحرارة التهييج والتثوير فاستعمل في قهرها بالبارد لفظة التسكين ومن شأن البرودة التخدير والتجميد فاستعمل في قهرها بالحار لفظة التحريك . قوله ولا اعتدل بممازج لتلك الطبائع إلا أمد منها كل ذات داء أي ولا استعمل دواء مفردا معتدل المزاج أو مركبا كذلك إلا وأمد كل طبيعة منها ذات مرض بمرض زائد على الأول . وينبغي أن يكون قوله ولا اعتدل بممازج أي ولا رام الاعتدال لممتزج لأنه لو حصل له الاعتدال لكان قد برئ من مرضه فسمي محاولة الاعتدال اعتدالا لأنه بالاستدلال المعتدلات قد تهيأ للاعتدال فكان قد اعتدل بالقوة . وينبغي أيضا أن يكون قد حذف مفعول أمد وتقديره بمرض كما قدرناه نحن وحذف المفعولات كثير واسع .
[ 166 ](1/3184)
قوله حتى فتر معلله لأن معللي المرض في أوائل المرض يكون عندهم نشاط لأنهم يرجون البرء فإذا رأوا أمارات الهلاك فترت همتهم . قوله وذهل ممرضه ذهل بالفتح وهذا كالأول لأن الممرض إذا أعيا عليه المرض وانسدت عليه أبواب التدبير يذهل . قوله وتعايا أهله بصفة دائه أي تعاطوا العي وتساكتوا إذا سئلوا عنه وهذه عادة أهل المريض المثقل يجمجمون إذا سئلوا عن حاله . قوله وتنازعوا دونه شجى خبر يكتمونه أي تخاصموا في خبر ذي شجى أي خبر ذي غصة يتنازعونه وهم حول المريض سترا دونه وهو لا يعلم بنجواهم وبما يفيضون فيه من أمره . فقائل منهم هو لمآبه أي قد أشفى على الموت وآخر يمنيهم إياب عافيته أي عودها آب فلان إلى أهله أي عاد . وآخر يقول قد رأينا مثل هذا ومن بلغ إلى أعظم من هذا ثم عوفي فيمني أهله عود عافيته . وآخر يصبر أهله على فقده ويذكر فضيلة الصبر وينهاهم عن الجزع ويروي لهم أخبار الماضين . وأسى أهليهم والأسى جمع أسوة وهو ما يتأسى به الإنسان قالت الخنساء
و ما يبكون مثل أخي ولكن
أسلي النفس عنه بالتأسي
قوله على جناح من فراق الدنيا أي سرعان ما يفارقها لأن من كان على جناح طائر فأوشك به أن يسقط .
[ 167 ](1/3185)
قوله إذ عرض له عارض يعني الموت ومن غصصه جمع غصة وهو ما يعترض مجرى الأنفاس ويقال إن كل ميت من الحيوان لا يموت إلا خنقا وذلك لأنه من النفس يدخل فلا يخرج عوضه أو يخرج فلا يدخل عوضه ويلزم من ذلك الاختناق لأن الرئة لا تبقى حينئذ مروحة للقلب وإذا لم تروحه اختنق . قوله فتحيرت نوافذ فطنته أي تلك الفطنة النافذة الثاقبة تحيرت عند الموت وتبلدت . قوله ويبست رطوبة لسانه لأن الرطوبة اللعابية التي بها يكون الذوق تنشف حينئذ ويبطل الإحساس باللسان تبعا لسقوط القوة . قوله فكم من مهم من جوابه عرفه فعي عن رده نحو أن يكون له مال مدفون يسأل عنه حال ما يكون محتضرا فيحاول أن يعرف أهله به فلا يستطيع ويعجز عن رد جوابهم وقد رأينا من عجز عن الكلام فأشار إشارة فهموا معناها وهي الدواة والكاغذ فلما حضر ذلك أخذ القلم وكتب في الكاغذ ما لم يفهم ويده ترعد ثم مات قوله ودعاء مؤلم لقلبه سمعه فتصام عنه أظهر الصمم لأنه لا حيلة له . ثم وصف ذلك الدعاء فقال من كبير كان يعظمه نحو صراخ الوالد على الولد والولد يسمع ولا يستطيع الكلام وصغير كان يرحمه نحو صراخ الولد على الوالد وهو يسمع ولا قدرة له على جوابه . ثم ذكر غمرات الدنيا فقال إنها أفظع من أن تحيط الصفات بها وتستغرقها أي تأتي على كنهها وتعبر عن حقائقها . قوله أو تعتدل على عقول أهل الدنيا هذا كلام لطيف فصيح غامض ومعناه
[ 168 ]
أن غمرات الموت وأهواله عظيمة جدا لا تستقيم على العقول ولا تقبلها إذا شرحت لها ووصفت كما هي على الحقيقة بل تنبو عنها ولا نصدق بما يقال فيها فعبر عن عدم استقامتها على العقول بقوله أو يعتدل كأنه جعلها كالشي ء المعوج عند العقل فهو غير مصدق به(1/3186)
إيراد أشعار وحكايات في وصف الموت وأحوال الموتى
و مما يناسب ما ذكر من حال الإنسان قول الشاعر
بينا الفتى مرح الخطا فرحا بما
يسعى له إذ قيل قد مرض الفتى
إذ قيل بات بليلة ما نامها
إذ قيل أصبح مثقلا ما يرتجى
إذ قيل أمسى شاخصا وموجها
إذ قيل فارقهم وحل به الردى
و قال أبو النجم العجلي
و المرء كالحالم في المنام
يقول إني مدرك أمامي
في قابل ما فاتني في العام
و المرء يدنيه إلى الحمام
مر الليالي السود والأيام
إن الفتى يصبح للأسقام
كالغرض المنصوب للسهام
أخطأ رام وأصاب رام
و قال عمران بن حطان
أ في كل عام مرضة ثم نقهة
و ينعى ولا ينعى متى ذا إلى متى
[ 169 ]
و لا بد من يوم يجي ء وليلة
يسوقان حتفا راح نحوك أو غدا
و
جاء في الحديث أن رسول الله ص مر بمقبرة فنادى يا أهل القبور الموحشة والربوع المعطلة أ لا أخبركم بما حدث بعدكم تزوج نساؤكم وتبوئت مساكنكم وقسمت أموالكم هل أنتم مخبرون بما عاينتم ثم قال ألا إنهم لو أذن لهم في الجواب لقالوا وجدنا خير الزاد التقوى . ونظر الحسن إلى رجل يجود بنفسه فقال إن أمرا هذا آخره لجدير أن يزهد في أوله وإن أمرا هذا أوله لجدير أن يخاف آخره . وقال عبده بن الطبيب ويعجبني قوله على الحال التي كان عليها فإنه كان أسود لصا من لصوص بني سعد بن زيد مناه بن تميم .
و لقد علمت بأن قصري حفرة
غبراء يحملني إليها شرجع
فبكى بناتي شجوهن وزوجتي
و الأقربون إلي ثم تصدعوا
و تركت في غبراء يكره وردها
تسفي على الريح ثم أودع
أن الحوادث يخترمن وإنما
عمر الفتى في أهله مستودع
و نظير هذه الأبيات في رويها وعروضها قول متمم بن نويرة اليربوعي
و لقد علمت ولا محالة أنني
للحادثات فهل تريني أجزع
أهلكن عادا ثم آل محرق
فتركنهم بلدا وما قد جمعوا
[ 170 ]
و لهن كان الحارثان كلاهما
و لهن كان أخو المصانع تبع
فعددت آبائي إلى عرق الثرى
فدعوتهم فعلمت أن لم يسمعوا
ذهبوا فلم أدركهم ودعتهم(1/3187)
غول أتوها والطريق المهيع
لا بد من تلف مصيب فانتظر
أ بأرض قومك أم بأخرى تصرع
و ليأتين عليك يوم مرة
يبكى عليك مقنعا لا تسمع
لما فتح خالد بن الوليد عين التمر سال عن الحرقة بنت النعمان بن المنذر فدل عليها فأتاها وكانت عمياء فسألها عن حالها فقالت لقد طلعت علينا الشمس ما شي ء يدب تحت الخورنق إلا تحت أيدينا ثم غربت وقد رحمنا كل من يدور به وما بيت دخلته حبرة إلا دخلته عبرة ثم قالت
و بينا نسوس الناس والأمر أمرنا
إذا نحن فيه سوقة نتنصف
فأف لدنيا لا يدوم نعيمها
تقلب تارات بنا وتصرف
فقال قائل ممن كان حول خالد قاتل الله عدي بن زيد لكأنه ينظر إليها حين يقول
إن للدهر صرعة فاحذرنها
لا تبيتن قد أمنت الدهورا
قد يبيت الفتى معافى فيردى
و لقد كان آمنا مسرورا
دخل عبد الله بن العباس على عبد الملك بن مروان يوم قر وهو على فرش
[ 171 ]
يكاد يغيب فيها فقال يا ابن عباس إني لأحسب اليوم باردا قال أجل وإن ابن هند عاش في مثل ما ترى عشرين أميرا وعشرين خليفة ثم هو ذاك على قبره ثمامة تهتز . فيقال إن عبد الملك أرسل إلى قبر معاوية فوجد عليه ثمامة نابتة . كان محمد بن عبد الله بن طاهر في قصره ببغداد على دجلة فإذا بحشيش على وجه الماء في وسطه قصبة على رأسها رقعة فأمر بها فوجد هذا
تاه الأعيرج واستولى به البطر
فقل له خير ما استعملته الحذر
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت
و لم تخف سوء ما يأتي به القدر
و سالمتك الليالي فاغتررت بها
و عند صفو الليالي يحدث الكدر
فلم ينتفع بنفسه أياما . عدي بن زيد
أيها الشامت المعير بالدهر
أ أنت المبرأ الموفور
أم لديك العهد الوثيق من الأيام
بل أنت جاهل مغرور
من رأيت المنون خلدن أم من
ذا عليه من أن يضام خفير
أين كسرى كسرى الملوك أنو شروان
أم أين قبله سابور
و بنو الأصفر الكرام ملوك الروم
و لم يبق منهم مذكور
[ 172 ]
و أخو الحضر إذ بناه وإذ دجلة
تجبى إليه والخابور
لم يهبه ريب المنون فباد(1/3188)
الملك عنه فبابه مهجور
شاده مرمرا وجلله كلسا
فللطير في ذراه وكور
و تبين رب الخورنق إذ أشرف
يوما وللهدى تفكير
سره حاله وكثرة ما يملك
و البحر معرضا والسدير
فارعوى قلبه وقال فما غبطة
حي إلى الممات يصير
ثم بعد الفلاح والملك والأمة
وارتهم هناك القبور
ثم أضحوا كأنهم ورق جف
فألوت به الصبا والدبور
قد اتفق الناس على أن هذه الأبيات أحسن ما قيل من القريض في هذا المعنى وأن الشعراء كلهم أخذوا منها واحتذوا في هذا المعنى حذوها . وقال الرضي أبو الحسن رضي الله عنه
انظر إلى هذا الأنام بعبرة
لا يعجنك خلقه ورواؤه
فتراه كالورق النضير تقصفت
أغصانه وتسلبت شجراؤه
أني تحاماه المنون وإنما
خلقت مراعي للردى خضراؤه
أم كيف تأمل فلتة أجساده
من ذا الزمان وحشوها أدواؤه
[ 173 ]
لا تعجبن فما العجيب فناؤه
بيد المنون بل العجيب بقاؤه
إنا لنعجب كيف حم حمامه
عن صحة ويغيب عنا داؤه
من طاح في سبل الردى آباؤه
فليسلكن طريقهم أبناؤه
و مؤمر نزلوا به في سوقة
لا شكله فيهم ولا نظراؤه
قد كان يفرق ظله أقرانه
و يغض دون جلاله أكفاؤه
و محجب ضربت عليه مهابة
يعشي العيون بهاؤه وضياؤه
نادته من خلف الحجاب منية
أمم فكان جوابها حوباؤه
شقت إليه سيوفه ورماحه
و أميط عنه عبيده وإماؤه
لم يغنه من كان ود لو أنه
قبل المنون من المنون فداؤه
حرم عليه الذل إلا أنه
أبدا ليشهد بالجلال بناؤه
متخشع بعد الأنيس جنابه
متضائل بعد القطين فناؤه
عريان تطرد كل ريح تربه
و يطيع أول أمرها حصباؤه
و لقد مررت ببرزخ فسألته
أين الألى ضمتهم أرجاؤه
مثل المطي بواركا أجداثه
تسفي على جنباتها بوغاؤه
ناديته فخفى علي جوابه
بالقول إلا ما زقت أصداؤه
[ 174 ]
من ناظر مطروفه ألحاظه
أو خاطر مظلولة سوداؤه
أو واجد مكظومة زفراته
أو حاقد منسية شحناؤه
و مسندين على الجنوب كأنهم
شرب تخاذل بالطلا أعضاؤه
تحت الصعيد لغير إشفاق إلى
يوم المعاد يضمهم أحشاؤه(1/3189)
أكلتهم الأرض التي ولدتهم
أكل الضروس حلت له أكلاؤه
و قال أيضا
و تفرق البعداء بعد تجمع
صعب فكيف تفرق القرباء
و خلائق الدنيا خلائق مومس
للمنع آونة وللإعطاء
طورا تبادلك الصفاء وتارة
تلقاك تنكرها من البغضاء
و تداول الأيام يبلينا كما
يبلي الرشاء تطاوح الأرجاء
و كان طول العمر روحة راكب
قضى اللغوب وجد في الإسراء
لهفي على القوم الأولى غادرتهم
و عليهم طبق من البيداء
[ 175 ]
متوسدين على الخدود كأنما
كرعوا على ظمإ من الصهباء
صور ضننت على العيون بلحظها
أمسيت أوقرها من البوغاء
و نواظر كحل التراب جفونها
قد كنت أحرسها من الأقذاء
قربت ضرائحهم على زوارها
و نأوا عن الطلاب أي تناء
و لبئس ما يلقى بعقر ديارهم
أذن المصيخ بها وعين الرائي
[ 176 ](1/3190)
217 ومن كلام له ع قاله عند تلاوته
يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى جَعَلَ اَلذِّكْرَ جَلاءً لِلْقُلُوبِ تَسْمَعُ بِهِ بَعْدَ اَلْوَقْرَةِ وَ تُبْصِرُ بِهِ بَعْدَ اَلْعَشْوَةِ وَ تَنْقَادُ بِهِ بَعْدَ اَلْمُعَانَدَةِ وَ مَا بَرِحَ لِلَّهِ عَزَّتْ آلاَؤُهُ فِي اَلْبُرْهَةِ بَعْدَ اَلْبُرْهَةِ وَ فِي أَزْمَانِ اَلْفَتَرَاتِ عِبَادٌ نَاجَاهُمْ فِي فِكْرِهِمْ وَ كَلَّمَهُمْ فِي ذَاتِ عُقُولِهِمْ فَاسْتَصْبَحُوا بِنُورِ يَقَظَةٍ فِي اَلْأَسْمَاعِ وَ اَلْأَبْصَارِ اَلْأَبْصَارِ وَ اَلْأَسْمَاعِ وَ اَلْأَفْئِدَةِ يُذَكِّرُونَ بِأَيَّامِ اَللَّهِ وَ يُخَوِّفُونَ مَقَامَهُ بِمَنْزِلَةِ اَلْأَدِلَّةِ فِي اَلْفَلَوَاتِ مَنْ أَخَذَ اَلْقَصْدَ حَمِدُوا إِلَيْهِ طَرِيقَهُ وَ بَشَّرُوهُ بِالنَّجَاةِ وَ مَنْ أَخَذَ يَمِيناً وَ شِمَالاً ذَمُّوا إِلَيْهِ اَلطَّرِيقَ وَ حَذَّرُوهُ مِنَ اَلْهَلَكَةِ وَ كَانُوا كَذَلِكَ مَصَابِيحَ تِلْكَ اَلظُّلُمَاتِ وَ أَدِلَّةَ تِلْكَ اَلشُّبُهَاتِ وَ إِنَّ لِلذِّكْرِ لَأَهْلاً أَخَذُوهُ مِنَ اَلدُّنْيَا بَدَلاً فَلَمْ تَشْغَلْهُمْ تِجَارَةٌ وَ لاَ بَيْعٌ عَنْهُ يَقْطَعُونَ بِهِ أَيَّامَ اَلْحَيَاةِ وَ يَهْتِفُونَ بِالزَّوَاجِرِ عَنْ مَحَارِمِ اَللَّهِ فِي أَسْمَاعِ اَلْغَافِلِينَ وَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ وَ يَأْتَمِرُونَ بِهِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْهُ فَكَأَنَّهُمْ قَطَعُوا اَلدُّنْيَا إِلَى اَلآْخِرَةِ وَ هُمْ فِيهَا فَشَاهَدُوا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَكَأَنَّمَا
[ 177 ](1/3191)
اِطَّلَعُوا غُيُوبَ أَهْلِ اَلْبَرْزَخِ فِي طُولِ اَلْإِقَامَةِ فِيهِ وَ حَقَّقَتِ اَلْقِيَامَةُ عَلَيْهِمْ عِدَاتِهَا فَكَشَفُوا غِطَاءَ ذَلِكَ لِأَهْلِ اَلدُّنْيَا حَتَّى كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ مَا لاَ يَرَى اَلنَّاسُ وَ يَسْمَعُونَ مَا لاَ يَسْمَعُونَ فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ لِعَقْلِكَ فِي مَقَاوِمِهِمُ اَلْمَحْمُودَةِ وَ مَجَالِسِهِمُ اَلْمَشْهُودَةِ وَ قَدْ نَشَرُوا دَوَاوِينَ أَعْمَالِهِمْ وَ فَرَغُوا لِمُحَاسَبَةِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى كُلِّ صَغِيرَةٍ وَ كَبِيرَةٍ أُمِرُوا بِهَا فَقَصَّرُوا عَنْهَا أَوْ نُهُوا عَنْهَا فَفَرَّطُوا فيهَا وَ حَمَّلُوا ثقَلَ أَوْزَاِرِهمْ ظُهُورَهُمْ فَضَعُفُوا عَنِ اَلاِسْتِقْلاَلِ بِهَا فَنَشَجُوا نَشِيجاً وَ تَجَاوَبُوا نَحِيباً يَعِجُّونَ إِلَى رَبِّهِمْ مِنْ مَقَامِ نَدَمٍ وَ اِعْتِرَافٍ لَرَأَيْتَ أَعْلاَمَ هُدًى وَ مَصَابِيحَ دُجًى قَدْ حَفَّتْ بِهِمُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ تَنَزَّلَتْ عَلَيْهِمُ اَلسَّكِينَةُ وَ فُتِحَتْ لَهُمْ أَبْوَابُ اَلسَّمَاءِ وَ أُعِدَّتْ لَهُمْ مَقَاعِدُ اَلْكَرَامَاتِ فِي مَقْعَدٍ اِطَّلَعَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ فِيهِ فَرَضِيَ سَعْيَهُمْ وَ حَمِدَ مَقَامَهُمْ يَتَنَسَّمُونَ بِدُعَائِهِ رَوْحَ اَلتَّجَاوُزِ رَهَائِنُ فَاقَةٍ إِلَى فَضْلِهِ وَ أُسَارَى ذِلَّةٍ لِعَظَمَتِهِ جَرَحَ طُولُ اَلْأَسَى قُلُوبَهُمْ وَ طُولُ اَلْبُكَاءِ عُيُونَهُمْ لِكُلِّ بَابِ رَغْبَةٍ إِلَى اَللَّهِ مِنْهُمْ يَدٌ قَارِعَةٌ يَسْأَلُونَ مَنْ لاَ تَضِيقُ لَدَيْهِ اَلْمَنَادِحُ وَ لاَ يَخِيبُ عَلَيْهِ اَلرَّاغِبُونَ فَحَاسِبْ نَفْسَكَ لِنَفْسِكَ فَإِنَّ غَيْرَهَا مِنَ اَلْأَنْفُسِ لَهَا حَسِيبٌ غَيْرُكَ من قرأ يسبح له فيها بفتح الباء ارتفع رجال عنده بوجهين
[ 178 ](1/3192)
أحدهما أن يضمر له فعل يكون هو فاعله تقديره يسبحه رجال ودل على يسبحه يسبح كما قال الشاعر
ليبك يزيد ضارع لخصومة
و مختبط مما تطيح الطوائح
أي يبكيه ضارع ودل على يبكيه ليبك . والثاني أن يكون خبر مبتدإ محذوف تقديره المسبحون رجال ومن قرأ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بكسر الباء فرجال فاعل وأوقع لفظ التجارة في مقابلة لفظ البيع إما لأنه أراد بالتجارة هاهنا الشراء خاصة أو لأنه عمم بالتجارة المشتملة على البيع والشراء ثم خص البيع لأنه أدخل في باب الإلهاء لأن البيع يحصل ربحه بيقين وليس كذلك الشراء والذكر يكون تارة باللسان وتارة بالقلب فالذي باللسان نحو التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد والدعاء والذي بالقلب فهو التعظيم والتبجيل والاعتراف والطاعة . وجلوت السيف والقلب جلاء بالكسر وجلوت اليهود عن المدينة جلاء بالفتح . والوقرة الثقل في الأذن والعشوة بالفتح فعله من العشا في العين وآلاؤه نعمه . فإن قلت أي معنى تحت قوله عزت آلاؤه وعزت بمعنى قلت وهل يجوز مثل ذلك في تعظيم الله . قلت عزت هاهنا ليس بمعنى قلت ولكن بمعنى كرمت وعظمت تقول منه عززت على فلان بالفتح أي كرمت عليه وعظمت عنده وفلان عزيز علينا أي كريم معظم .
[ 179 ]
و البرهة من الدهر المدة الطويلة ويجوز فتح الباء . وأزمان الفترات ما يكون منها بين النوبتين . وناجاهم في فكرهم ألهمهم بخلاف مناجاة الرسل ببعث الملائكة إليهم وكذلك وكلمهم في ذات عقولهم فاستصبحوا بنور يقظة صار ذلك النور مصباحا لهم يستضيئون به . قوله من أخذ القصد حمدوا إليهم طريقه إلى هاهنا هي التي في قولهم أحمد الله إليك أي منهيا ذلك إليك أو مفضيا به إليك ونحو ذلك وطريقة العرب في الحذف في مثل هذا معلومة قال سبحانه وَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً أي لجعلنا بدلا منكم ملائكة وقال الشاعر
فليس لنا من ماء زمزم شربة(1/3193)
مبردة بانت على طهيان
أي عوضا من ماء زمزم . قوله ومن أخذ يمينا وشمالا أي ضل عن الجادة . وإلى في قوله ذموا إليه الطريق مثل إلى الأولى . ويهتفون بالزواجر يصوتون بها هتفت الحمامة تهتف هتفا وهتف زيد بالغنم هتافا بالكسر وقوس هتافة وهتفى أي ذات صوت . والقسط العدل ويأتمرون به يمتثلون الأمر . وقوله فكأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة إلى قوله ويسمعون ما لا يسمعون هو شرح
قوله عن نفسه ع لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا . والأوزار الذنوب والنشيج صوت البكاء والمقعد موضع القعود .
[ 180 ]
و يد قارعة تطرق باب الرحمة وهذا الكلام مجاز . والمنادح المواضع الواسعة . وعلى في قوله ولا يخيب عليه الراغبون متعلقة بمحذوف مثل إلى المتقدم ذكرها والتقدير نادمين عليه . والحسيب المحاسب . واعلم أن هذا الكلام في الظاهر صفة حال القصاص والمتصدين لإنكار المنكرات أ لا تراه يقول يذكرون بأيام الله أي بالأيام التي كانت فيها النقمة بالعصاة ويخوفون مقامه من قوله تعالى وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ ثم قال فمن سلك القصد حمدوه ومن عدل عن الطريق ذموا طريقه وخوفوه الهلاك ثم قال يهتفون بالزواجر عن المحارم في أسماع الغافلين ويأمرون بالقسط وينهون عن المنكر . وهذا كله إيضاح لما قلناه أولا إن ظاهر الكلام شرح حال القصاص وأرباب المواعظ في المجامع والطرقات والمتصدين لإنكار القبائح وباطن الكلام شرح حال العارفين الذين هم صفوة الله تعالى من خلقه وهو ع دائما يكني عنهم ويرمز إليهم على أنه في هذا الموضع قد صرح بهم في قوله حتى كأنهم يرون ما لا يرى الناس ويسمعون ما لا يسمعون . وقد ذكر من مقامات العارفين في هذا الفصل الذكر ومحاسبة النفس والبكاء والنحيب والندم والتوبة والدعاء والفاقة والذلة والحزن وهو الأسى الذي ذكر أنه جرح قلوبهم بطوله
[ 181 ](1/3194)
بيان أحوال العارفين
و قد كنا وعدنا بذكر مقامات العارفين فيما تقدم وهذا موضعه فنقول إن أول مقام من مقامات العارفين وأول منزل من منازل السالكين التوبة قال الله تعالى وَ تُوبُوا إِلَى اَللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ و
قال النبي ص التائب من الذنب كمن لا ذنب له و
قال علي ع ما من شي ء أحب إلى الله من شاب تائب . والتوبة في عرف أرباب هذه الطريقة الندم على ما عمل من المخالفة وترك الزلة في الحال والعزم على ألا يعود إلى ارتكاب معصية وليس الندم وحده عند هؤلاء توبة وإن جاء
في الخبر الندم توبة لأنه على وزان قوله ع الحج عرفة ليس على معنى أن غيرها ليس من الأركان بل المراد أنه أكبر الأركان وأهمها ومنهم من قال يكفي الندم وحده لأنه يستتبع الركنين الآخرين لاستحالة كونه نادما على ما هو مصر على مثله أو ما هو عازم على الإتيان بمثله . قالوا وللتوبة شروط وترتيبات فأول ذلك انتباه القلب من رقد الغفلة ورؤية العبد ما هو عليه من سوء الحالة وإنما يصل إلى هذه الجملة بالتوفيق للإصغاء إلى ما يخطر بباله من زواجر الحق سبحانه يسمع قلبه فإن
في الخبر النبوي عنه ص واعظ كل حال الله في قلب كل امرئ مسلم و
في الخبر أن في بدن المرء لمضغة إذا صلحت صلح جميع البدن ألا وهي القلب وإذا فسدت فسد جميع البدن ألا وهي القلب .
[ 182 ](1/3195)
و إذا فكر العبد بقلبه في سوء صنيعه وأبصر ما هو عليه من ذميم الأفعال سنحت في قلبه إرادة التوبة والإقلاع عن قبيح المعاملة فيمده الحق سبحانه بتصحيح العزيمة والأخذ في طرق الرجوع والتأهب لأسباب التوبة . وأول ذلك هجران إخوان السوء فإنهم الذين يحملونه على رد هذا القصد وعكس هذا العزم ويشوشون عليه صحة هذه الإرادة ولا يتم ذلك له إلا بالمواظبة على المشاهد والمجالس التي تزيده رغبة في التوبة وتوفر دواعيه إلى إتمام ما عزم عليه مما يقوي خوفه ورجاءه فعند ذلك تنحل عن قلبه عقدة الإصرار على ما هو عليه من قبيح الفعال فيقف عن تعاطي المحظورات ويكبح نفسه بلجام الخوف عن متابعة الشهوات فيفارق الزلة في الحال ويلزم العزيمة على ألا يعود إلى مثلها في الاستقبال فإن مضى على موجب قصده ونفذ على مقتضى عزمه فهو الموفق حقا وإن نقض التوبة مرة أو مرات ثم حملته إرادته على تجديدها فقد يكون مثل هذا كثيرا فلا ينبغي قطع الرجاء عن توبة أمثال هؤلاء فإن لكل أجل كتابا وقد حكي عن أبي سليمان الداراني أنه قال اختلفت إلى مجلس قاص فأثر كلامه في قلبي فلما قمت لم يبق في قلبي شي ء فعدت ثانيا فسمعت كلامه فبقي من كلامه في قلبي أثر في الطريق ثم زال ثم عدت ثالثا فوقر كلامه في قلبي وثبت حتى رجعت إلى منزلي وكسرت آلات المخالفة ولزمت الطريق . وحكيت هذه الحكاية ليحيي بن معاذ فقال عصفور اصطاد كركيا يعني بالعصفور القاص وبالكركي أبا سليمان . ويحكي أن أبا حفص الحداد ذكر بدايته فقال تركت ذلك العمل يعني المعصية كذا وكذا مرة ثم عدت إليها ثم تركني العمل فلم أعد إليه .
[ 183 ](1/3196)
و قيل إن بعض المريدين تاب ثم وقعت له فترة وكان يفكر ويقول أ ترى لو عدت إلى التوبة كيف كان يكون حكمي فهتف به هاتف يا فلان أطعتنا فشكرناك ثم تركتنا فأمهلناك وإن عدت إلينا قبلناك فعاد الفتى إلى الإرادة . وقال أبو علي الدقاق التوبة على ثلاثة أقسام فأولها التوبة وأوسطها الإنابة وآخرها الأوبة فجعل التوبة بداية والأوبة نهاية والإنابة واسطة بينهما والمعنى أن من تاب خوفا من العقاب فهو صاحب التوبة ومن تاب طمعا في الثواب فهو صاحب الإنابة ومن تاب مراعاة للأمر فقط فهو صاحب الأوبة . وقال بو علي أيضا التوبة صفة المؤمنين قال سبحانه وَ تُوبُوا إِلَى اَللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ والإنابة صفة الأولياء قال سبحانه وَ جاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ والأوبة صفة الأنبياء قال سبحانه نِعْمَ اَلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ . وقال الجنيد دخلت على السري يوما فوجدته متغيرا فسألته فقال دخل علي شاب فسألني عن التوبة فقلت ألا تنسى ذنبك فقال بل التوبة ألا تذكر ذنبك قال الجنيد فقلت له إن الأمر عندي ما قاله الشاب قال كيف قلت لأني إذا كنت في حال الجفاء فنقلني إلى حال الصفاء فذكر الجفاء في حال الصفاء جفاء فسكت السري . وقال ذو النون المصري الاستغفار من غير إقلاع توبة الكذابين . وسئل البوشنجي عن التوبة فقال إذا ذكرت الذنب ثم لا تجد حلاوته عند ذكره فذاك حقيقة التوبة .
[ 184 ](1/3197)
و قال ذو النون حقيقة التوبة أن تضيق عليك الأرض بما رحبت حتى لا يكون لك قرار ثم تضيق عليك نفسك كما أخبر الله تعالى في كتابه بقوله حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ اَلْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَ ظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اَللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ . وقيل لأبي حفص الحداد لم تبغض الدنيا فقال لأني باشرت فيها الذنوب قيل فهلا أحببتها لأنك وفقت فيها للتوبة فقال أنا من الذنب على يقين ومن هذه التوبة على ظن . وقال رجل لرابعة العدوية إني قد أكثرت من الذنوب والمعاصي فهل يتوب علي أن تبت قالت لا بل لو تاب عليك لتبت . قالوا ولما كان الله تعالى يقول في كتابه العزيز إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلتَّوَّابِينَ دلنا ذلك على محبته لمن صحت له حقيقة التوبة ولا شبهة أن من قارف الزلة فهو من خطئه على يقين فإذا تاب فإنه من القبول على شك لا سيما إذا كان من شرط القبول محبة الحق سبحانه له وإلى أن يبلغ العاصي محلا يجد في أوصافه أمارة محبة الله تعالى إياه مسافة بعيدة فالواجب إذا على العبد إذا علم أنه ارتكب ما يجب عنه التوبة دوام الانكسار وملازمة التنصل والاستغفار كما قيل استشعار الوجل إلى الأجل .
و كان من سنته ع دوام الاستغفار وقال إنه ليغان على قلبي فاستغفر الله في اليوم سبعين مرة .
[ 185 ](1/3198)
و قال يحيى بن معاذ زلة واحدة بعد التوبة أقبح من سبعين قبلها . ويحكي أن علي بن عيسى الوزير ركب في موكب عظيم فجعل الغرباء يقولون من هذا من هذا فقالت امرأة قائمة على السطح إلى متى تقولون من هذا من هذا هذا عبد سقط من عين الله فابتلاه بما ترون فسمع علي بن عيسى كلامها فرجع إلى منزله ولم يزل يتوصل في الاستعفاء من الوزارة حتى أعفي وذهب إلى مكة فجاور بها . ومنها المجاهد وقد قلنا فيها ما يكفي فيما تقدم . ومنها العزلة والخلوة وقد ذكرنا في جزء قبل هذا الجزء مما جاء في ذلك طرفا صالحا ومنها التقوى وهي الخوف من معصية الله ومن مظالم العباد قال سبحانه إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللَّهِ أَتْقاكُمْ و
قيل إن رجلا جاء إلى رسول الله ص فقال يا رسول الله أوصني فقال عليك بتقوى الله فإنه جماع كل خير وعليك بالجهاد فإنه رهبانية المسلم وعليك بذكر الله فإنه نور لك . وقيل في تفسير قوله تعالى اِتَّقُوا اَللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر .
[ 186 ](1/3199)
و قال النصرآباذي من لزم التقوى بادر إلى مفارقة الدنيا لأن الله تعالى يقول وَ لَدارُ اَلْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا . وقيل يستدل على تقوى الرجل بثلاث التوكل فيما لم ينل والرضا بما قد نال وحسن الصبر على ما فات . وكان يقال من كان رأس ماله التقوى كلت الألسن عن وصف ربحه . وقد حكوا من حكايات المتقين شيئا كثيرا مثل ما يحكى عن ابن سيرين أنه اشترى أربعين حبا سمنا فأخرج غلامه فأرة من حب فسأله من أي حب أخرجها قال لا أدري فصبها كلها . وحكي أن أبا يزيد البسطامي غسل ثوبه في الصحراء ومعه مصاحب له فقال صاحبه نضرب هذا الوتد في جدار هذا البستان ونبسط الثوب عليه فقال لا يجوز ضرب الوتد في جدار الناس قال فنعلقه على شجرة حتى يجف قال يكسر الأغصان فقال نبسطه على الإذخر قال إنه علف الدواب لا يجوز أن نستره منها فولى ظهره قبل الشمس وجعل القميص على ظهره حتى جف أحد جانبيه ثم قلبه حتى جف الجانب الآخر . ومنها الورع وهو اجتناب الشبهات و
قال ص لأبي هريرة كن ورعا تكن أعبد الناس وقال بو بكر كنا ندع سبعين بابا من الحلال مخافة أن نقع في باب واحد من الحرام .
[ 187 ](1/3200)
و كان يقال الورع في المنطق أشد منه في الذهب والفضة والزهد في الرئاسة أشد منه في الذهب والفضة لأنك تبذلهما في طلب الرئاسة . وقال أبو عبد الله الجلاء أعرف من أقام بمكة ثلاثين سنة لم يشرب من ماء زمزم إلا ما استقاه بركوته ورشائه . وقال بشر بن الحارث أشد الأعمال ثلاثة الجود في القلة والورع في الخلوة وكلمة الحق عند من يخاف ويرجى . ويقال إن أخت بشر بن الحارث جاءت إلى أحمد بن حنبل فقالت إنا نغزل على سطوحنا فتمر بنا مشاعل الطاهرية فيقع شعاعها علينا أ فيجوز لنا الغزل في ضوئها فقال أحمد من أنت يا أمة الله قالت أخت بشر الحافي فبكى أحمد وقال من بيتكم خرج الورع لا تغزلي في ضوء مشاعلهم . وحكى بعضهم قال مررت بالبصرة في بعض الشوارع فإذا بمشايخ قعود وصبيان يلعبون فقلت أ ما تستحيون من هؤلاء المشايخ فقال غلام من بينهم هؤلاء المشايخ قل ورعهم فقلت هيبتهم . ويقال إن مالك بن دينار مكث بالبصرة أربعين سنة ما صح له أن يأكل من تمر البصرة ولا من رطبها حتى مات ولم يذقه وكان إذا انقضى أوان الرطب يقول يا أهل البصرة هذا بطني ما نقص منه شي ء سواء علي أكلت من رطبكم أو لم آكل . وقال الحسن مثقال ذرة من الورع خير من ألف مثقال من الصوم والصلاة . ودخل الحسن مكة فرأى غلاما من ولد علي بن أبي طالب قد أسند ظهره إلى
[ 188 ](1/3201)
الكعبة وهو يعظ الناس فقال له الحسن ما ملاك الدين قال الورع قال فما آفته قال الطمع فجعل الحسن يتعجب منه . وقال سهل بن عبد الله من لم يصحبه الورع أكل رأس الفيل ولم يشبع . وحمل إلى عمر بن عبد العزيز مسك من الغنائم فقبض على مشمه وقال إنما ينتفع من هذا بريحه وأنا أكره أن أجد ريحه دون المسلمين . وسئل أبو عثمان الحريري عن الورع فقال كان أبو صالح بن حمدون عند صديق له وهو في النزع فمات الرجل فنفث أبو صالح في السراج فأطفأه فقيل له في ذلك فقال إلى الآن كان الدهن الذي في المسرجة له فلما مات صار إلى الورثة . ومنها الزهد وقد تكلموا في حقيقته فقال سفيان الثوري الزهد في الدنيا قصر الأمل . وقال الخواص الزهد أن تترك الدنيا فلا تبالي من أخذها . وقال أبو سليمان الداراني الزهد ترك كل ما يشغل عن الله . وقيل الزهد تحت كلمتين من القرآن العزيز لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ . وكان يقال من صدق في زهده أتته الدنيا وهي راغمة ولهذا قيل لو سقطت قلنسوة من السماء لما وقعت إلا على رأس من لا يريدها . وقال يحيى بن معاذ الزهد يسعطك الخل والخردل والعرفان يشمك المسك والعنبر .
[ 189 ](1/3202)
و قيل لبعضهم ما الزهد في الدنيا قال ترك ما فيها على من فيها . وقال رجل لذي النون المصري متى تراني أزهد في الدنيا قال إذا زهدت في نفسك . وقال رجل ليحيي بن معاذ متى تراني أدخل حانوت التوكل وألبس رداء الزهد وأقعد بين الزاهدين فقال إذا صرت من رياضتك لنفسك في السر إلى حد لو قطع الله عنك القوت ثلاثة أيام لم تضعف في نفسك ولا في يقينك فأما ما لم تبلغ إلى هذه الدرجة فقعودك على بساط الزاهدين جهل ثم لا آمن أن تفتضح . وقال أحمد بن حنبل الزهد على ثلاثة أوجه ترك الحرام وهو زهد العوام وترك الفضول من الحلال وهو زهد الخواص وترك كل ما يشغلك عن الله وهو زهد العارفين . وقال يحيى بن معاذ الدنيا كالعروس فطالبها كماشطتها تحسن وجهها وتعطر ثوبها والزاهد فيها كضرتها تسخم وجهها وتنتف شعرها وتحرق ثوبها والعارف مشتغل بالله لا يلتفت إليها ولا يشعر بها . وكان النصرآباذي يقول في مناجاته يا من حقن دماء الزاهدين وسفك دماء العارفين . وكان يقال إن الله تعالى جعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد وجعل الشر كله في بيت وجعل مفتاحه حب الدنيا . ومنها الصمت وقدمنا فيما سبق من الأجزاء نكتا نافعة في هذا المعنى ونذكر الآن شيئا آخر
قال رسول الله ص من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذين جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو فليصمت .
[ 190 ]
و قال أصحاب هذا العلم الصمت من آداب الحضرة قال الله تعالى وَ إِذا قُرِئَ اَلْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا . وقال مخبرا عن الجن فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا . وقال الله تعالى مخبرا عن يوم القيامة وَ خَشَعَتِ اَلْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً . وقالوا كم بين عبد سكت تصونا عن الكذب والغيبة وعبد سكت لاستيلاء سلطان الهيبة . وأنشدوا(1/3203)
أرتب ما أقول إذا افترقنا
و أحكم دائما حجج المقال
فأنساها إذا نحن التقينا
و أنطق حين أنطق بالمحال
و أنشدوا
فيا ليل كم من حاجة لي مهمة
إذا جئتكم لم أدر بالليل ماهيا
قالوا وربما كان سبب الصمت والسكوت حيرة البديهة فإنه إذا ورد كشف بغتة خرست العبارات عند ذلك فلا بيان ولا نطق وطمست الشواهد فلا علم ولا حس قال الله تعالى يَوْمَ يَجْمَعُ اَللَّهُ اَلرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ اَلْغُيُوبِ فأما إيثار أرباب المجاهدة الصمت فلما علموا في الكلام من الآفات ثم ما فيه من حط النفس وإظهار صفات المدح والميل إلى أن يتميز من بين أشكاله بحسن النطق وغير ذلك من ضروب آفات الكلام وهذا نعت أرباب
[ 191 ](1/3204)
الرياضة وهو أحد أركانهم في حكم مجاهدة النفس ومنازلتها وتهذيب الأخلاق . ويقال إن داود الطائي لما أراد أن يقعد في بيته اعتقد أن يحضر مجلس أبي حنيفة لأنه كان تلميذا له ويقعد بين أضرابه من العلماء ولا يتكلم في مسألة على سبيل رياضته نفسه فلما قويت نفسه على ممارسة هذه الخصلة سنة كاملة قعد في بيته عند ذلك وآثر العزلة . ويقال إن عمر بن عبد العزيز كان إذا كتب كتابا فاستحسن لفظه مزق الكتاب وغيره . وقال بشر بن الحارث إذا أعجبك الكلام فاصمت فإذا أعجبك الصمت فتكلم وقال سهل بن عبد الله لا يصح لأحد الصمت حتى يلزم نفسه الخلوة ولا يصح لأحد التوبة حتى يلزم نفسه الصمت . ومنها الخوف قال الله تعالى يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً . وقال تعالى وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ . وقال يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ . أبو علي الدقاق الخوف على مراتب خوف وخشية وهيبة . فالخوف من شروط الإيمان وقضاياه قال الله تعالى فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . والخشية من شروط العلم قال الله تعالى إِنَّما يَخْشَى اَللَّهَ مِنْ عِبادِهِ اَلْعُلَماءُ .
[ 192 ](1/3205)
و الهيبة من شروط المعرفة قال سبحانه وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللَّهُ نَفْسَهُ . وقال أبو عمر الدمشقي الخائف من يخاف من نفسه أكثر مما يخاف من الشيطان . وقال بعضهم من خاف من شي ء هرب منه ومن خاف الله هرب إليه . وقال أبو سليمان الداراني ما فارق الخوف قلبا إلا خرب ومنها الرجاء وقد قدمنا فيما قبل من ذكر الخوف والرجاء طرفا صالحا قال سبحانه مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اَللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اَللَّهِ لَآتٍ . والفرق بين الرجاء والتمني وكون أحدهما محمودا والآخر مذموما أن التمني ألا يسلك طريق الاجتهاد والجد والرجاء بخلاف ذلك فلهذا كان التمني يورث صاحبه الكسل . وقال أبو علي الروذباري الرجاء والخوف كجناحي الطائر إذا استويا استوى الطائر وتم طيرانه وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت . وقال أبو عثمان المغربي من حمل نفسه على الرجاء تعطل ومن حمل نفسه على الخوف قنط ولكن من هذا مرة ومن هذا مرة . و
من كلام يحيى بن معاذ ويروى عن علي بن الحسين ع يكاد رجائي لك مع الذنوب يغلب رجائي لك مع الأعمال لأني أجدني أعتمد في الأعمال على
[ 193 ]
الإخلاص وكيف أحرزها وأنا بالآفة معروف وأجدني في الذنوب أعتمد على عفوك وكيف لا تغفرها وأنت بالجود موصوف . ومنها الحزن وهو من أوصاف أهل السلوك . وقال أبو علي الدقاق صاحب الحزن يقطع من طريق الله في شهر ما لا يقطعه من فقد الحزن في سنتين .(1/3206)
في الخبر النبوي ص إن الله يحب كل قلب حزين . وفي بعض كتب النبوات القديمة إذا أحب الله عبدا نصب في قلبه نائحة وإذا أبغض عبدا جعل في قلبه مزمارا . وروي أن رسول الله ص كان متواصل الأحزان دائم الفكر . وقيل إن القلب إذا لم يكن فيه حزن خرب كما أن الدار إذا لم يكن فيها ساكن خربت . وسمعت رابعة رجلا يقول وا حزناه فقالت قل وا قلة حزناه لو كنت محزونا ما تهيأ لك أن تتنفس . وقال سفيان بن عيينة لو أن محزونا بكى في أمة لرحم الله تلك الأمة ببكائه . وكان بعض هؤلاء القوم إذا سافر واحد من أصحابه يقول إذا رأيت محزونا فأقرئه عني السلام . وكان الحسن البصري لا يراه أحد إلا ظن أنه حديث عهد بمصيبة . وقال وكيع يوم مات الفضيل ذهب الحزن اليوم من الأرض . وقال بعض السلف أكثر ما يجده المؤمن في صحيفته من الحسنات الحزن والهم .
[ 194 ]
و قال الفضيل أدركت السلف يقولون إن لله في كل شي ء زكاة وزكاة العقل طول الحزن . ومنها الجوع وترك الشهوات وقد تقدم ذكر ذلك . ومنها الخشوع والتواضع قال سبحانه اَلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ و
في الخبر النبوي عنه ص لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ولا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان فقال رجل يا رسول الله إن المرء ليحب أن يكون ثوبه حسنا فقال إن الله جميل يحب الجمال إنما المتكبر من بطر الحق وغمص الناس و(1/3207)
روى أنس بن مالك أن رسول الله ص كان يعود المريض ويشيع الجنائز ويركب الحمار ويجيب دعوة العبد . وكان يوم قريظة والنضير على حمار مخطوم بحبل من ليف عليه إكاف من ليف . ودخل مكة يوم فتحها راكب بعير برحل خلق وإن ذقنه لتمس وسط الرحل خضوعا لله تعالى وخشوعا وجيشه يومئذ عشرة آلاف . قالوا في حد الخشوع هو الانقياد للحق وفي التواضع هو الاستسلام وترك الاعتراض على الحكم . وقال بعضهم الخشوع قيام القلب بين يدي الحق بهم مجموع . وقال حذيفة بن اليمان أول ما تفقدون من دينكم الخشوع .
[ 195 ]
و كان يقال من علامات الخشوع أن العبد إذا أغضب أو خولف أو رد عليه استقبل ذلك بالقبول . وقال محمد بن علي الترمذي الخاشع من خمدت نيران شهوته وسكن دخان صدره وأشرق نور التعظيم في قلبه فماتت حواسه وحيي قلبه وتطامنت جوارحه . وقال الحسن الخشوع هو الخوف الدائم اللازم للقلب . وقال الجنيد الخشوع تذلل القلوب لعلام الغيوب قال الله تعالى وَ عِبادُ اَلرَّحْمنِ اَلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى اَلْأَرْضِ هَوْناً أي خاشعون متواضعون . ورأي بعضهم رجلا منقبض الظاهر منكسر الشاهد قد زوي منكبيه فقال يا فلان الخشوع هاهنا وأشار إلى صدره لا هاهنا وأشار إلى منكبيه . و
روي أن رسول الله ص رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته فقال لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه . وقيل شرط الخشوع في الصلاة ألا يعرف من على يمينه ولا من على شماله . وقال بعض الصوفية الخشوع قشعريرة ترد على القلب بغتة عند مفاجأة كشف الحقيقة . وكان يقال من لم يتضع عند نفسه لم يرتفع عند غيره . وقيل إن عمر بن عبد العزيز لم يكن يسجد إلا على التراب . وكان عمر بن الخطاب يسرع في المشي ويقول هو أنجح للحاجة وأبعد من الزهو . كان رجاء بن حيوة ليلة عند عمر بن عبد العزيز وهو خليفة فصعف المصباح فقام رجل ليصلحه فقال اجلس فليس من الكرم أن يستخدم المرء ضيفه فقال
[ 196 ](1/3208)
أنبه الغلام قال إنها أول نومه نامها ثم قام بنفسه فأصلح السراج فقال رجاء أ تقوم إلى السراج وأنت أمير المؤمنين قال قمت وأنا عمر بن عبد العزيز ورجعت وأنا عمر بن عبد العزيز . و
في حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله ص كان يعلف البعير ويقم البيت ويخصف النعل ويرقع الثوب ويحلب الشاة ويأكل مع الخادم ويطحن معها إذا أعيت وكان لا يمنعه الحياء أن يحمل بضاعته من السوق إلى منزل أهله وكان يصافح الغني والفقير ويسلم مبتدئا ولا يحقر ما دعي إليه ولو إلى حشف التمر وكان هين المئونة لين الخلق كريم السجية جميل المعاشرة طلق الوجه بساما من غير ضحك محزونا من غير عبوس متواضعا من غير ذلة جوادا من غير سرف رقيق القلب رحيما لكل مسلم ما تجشأ قط من شبع ولا مد يده إلى طبع . وقال الفضيل أوحى الله إلى الجبال أني مكلم على واحد منكم نبيا فتطاولت الجبال وتواضع طور سيناء فكلم الله عليه موسى لتواضعه . سئل الجنيد عن التواضع فقال خفض الجناح ولين الجانب . ابن المبارك التكبر على الأغنياء والتواضع للفقراء من التواضع . وقيل لأبي يزيد متى يكون الرجل متواضعا قال إذا لم ير لنفسه مقاما ولا حالا ولا يرى أن في الخلق من هو شر منه . وكان يقال التواضع نعمة لا يحسد عليها والتكبر محنة لا يرحم منها والعز في التواضع فمن طلبه في الكبر لم يجده . وكان يقال الشرف في التواضع والعز في التقوى والحرية في القناعة . يحيى بن معاذ التواضع حسن في كل أحد لكنه في الأغنياء أحسن والتكبر سمج في كل أحد ولكنه في الفقراء أسمج .
[ 197 ](1/3209)
و ركب زيد بن ثابت فدنا ابن عباس ليأخذ بركابه فقال مه يا ابن عم رسول الله فقال إنا كذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا فقال زيد أرني يدك فأخرجها فقبلها فقال هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا . وقال عروة بن الزبير رأيت عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى وعلى عاتقه قربة ماء فقلت يا أمير المؤمنين إنه لا ينبغي لمثلك هذا فقال إنه لما أتتني الوفود سامعة مهادنة دخلت نفسي نخوة فأحببت أن أكسرها ومضى بالقربة إلى حجرة امرأة من الأنصار فأفرغها في إنائها . أبو سليمان الداراني من رأى لنفسه قيمة لم يذق حلاوة الخدمة . يحيى بن معاذ التكبر على من تكبر عليك تواضع . بشر الحافي سلموا على أبناء الدنيا بترك السلام عليهم بلغ عمر بن عبد العزيز أن ابنا له اشترى خاتما بألف درهم فكتب إليه بلغني أنك اشتريت خاتما وفصه بألف درهم فإذا أتاك كتابي فبع الخاتم وأشبع به ألف بطن واتخذ خاتما من درهمين واجعل فصه حديدا صينيا واكتب عليه رحم الله امرأ عرف قدره . قومت ثياب عمر بن عبد العزيز وهو يخطب أيام خلافته باثني عشر درهما وهي قباء وعمامة وقميص وسراويل ورداء وخفان وقلنسوة . وقال إبراهيم بن أدهم ما سررت قط سروري في أيام ثلاثة كنت في سفينة وفيها رجل مضحك كان يلعب لأهل السفينة فيقول كنا نأخذ العلج من بلاد الترك هكذا ويأخذ بشعر رأسي فيهزني فسرني ذلك لأنه لم يكن في تلك السفينة أحقر مني في عينه وكنت عليلا في مسجد فدخل المؤذن وقال اخرج فلم أطق فأخذ
[ 198 ]
برجلي وجرني إلى خارج المسجد وكنت بالشام وعلي فرو فنظرت إليه فلم أميز بين الشعر وبين القمل لكثرته . عرض على بعض الأمراء مملوك بألوف من الدراهم فاستكثر الثمن فقال العبد اشترني يا مولاي ففي خصلة تساوي أكثر من هذا الثمن قال ما هي قال لو قدمتني على جميع مماليك وخولتني بكل مالك لم أغلظ في نفسي بل أعلم أني عبدك فاشتراه .(1/3210)
تشاجر أبو ذر وبلال فعير أبو ذر بلالا بالسواد فشكاه إلى رسول الله ص فقال يا أبا ذر ما علمت أنه قد بقي في قلبك شي ء من كبر الجاهلية فألقى أبو ذر نفسه وحلف ألا يحمل رأسه حتى يطأ بلال خده بقدمه فما رفع رأسه حتى فعل بلال ذلك
مر الحسن بن علي ع بصبيان يلعبون وبين أيديهم كسر خبز يأكلونها فدعوه فنزل وأكل معهم ثم حملهم إلى منزله فأطعمهم وكساهم وقال الفضل لهم لأنهم لم يجدوا غير ما أطعموني ونحن نجد أكثر مما أطعمناهم . ومنها مخالفة النفس وذكر عيوبها وقد تقدم ذكر ذلك . ومنها القناعة قال الله تعالى مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً قال كثير من المفسرين هي القناعة . و
في الحديث النبوي ويقال إنه من كلام أمير المؤمنين ع القناعة كنز لا ينفد
[ 199 ]
و(1/3211)
في الحديث النبوي أيضا كن ورعا تكن أعبد الناس وكن قنوعا تكن أشكر الناس وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلما وأقل الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب . وكان يقال الفقراء أموات إلا من أحياه الله تعالى بعز القناعة . وقال أبو سليمان الداراني القناعة من الرضا بمنزلة الورع من الزهد هذا أول الرضا وهذا أول الزهد . وقيل القناعة سكون النفس وعدم انزعاجها عند عدم المألوفات . وقيل في تفسير قوله تعالى لَيَرْزُقَنَّهُمُ اَللَّهُ رِزْقاً حَسَناً أنه القناعة . وقال أبو بكر المراغي العاقل من دبر أمر الدنيا بالقناعة والتسويف وأنكر أبو عبد الله بن خفيف فقال القناعة ترك التسويف بالمفقود والاستغناء بالموجود . وكان يقال خرج العز والغنى يجولان فلقيا القناعة فاستقرا . وكان يقال من كانت قناعته سمينة طابت له كل مرقة . مر أبو حازم الأعرج بقصاب فقال له خذ يا أبا حازم فقال ليس معي درهم قال أنا أنظرك قال نفسي أحسن نظرة لي منك . وقيل وضع الله تعالى خمسة أشياء في خمسة مواضع العز في الطاعة والذل في المعصية والهيبة في قيام الليل والحكمة في البطن الخالي والغنى في القناعة . وكان يقال انتقم من فلان بالقناعة كما تنتقم من قاتلك بالقصاص . ذو النون المصري من قنع استراح من أهل زمانه واستطال على أقرانه . وأنشدوا
و أحسن بالفتى من يوم عار
ينال به الغنى كرم وجوع
[ 200 ](1/3212)
و رأى رجل حكيما يأكل ما تساقط من البقل على رأس الماء فقال له لو خدمت السلطان لم تحتج إلى أكل هذا فقال وأنت لو قنعت بهذا لم تحتج إلى خدمة السلطان . وقيل العقاب عزيز في مطاره لا تسمو إليه مطامع الصيادين فإذا طمع في جيفة علقت على حباله نزل من مطاره فنشب في الأحبولة . وقيل لما نطق موسى بذكر الطمع فقال لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قال له الخضر هذا فِراقُ بَيْنِي وَ بَيْنِكَ وفسر بعضهم قوله هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فقال مقاما في القناعة لا يبلغه أحد . ومنها التوكل قال الله تعالى وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ وقال سهل بن عبد الله أول مقام في التوكل أن يكون العبد بين يدي الله تعالى كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء لا يكون له حركة ولا تدبير . وقال رجل لحاتم الأصم من أين تأكل فقال وَ لِلَّهِ خَزائِنُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لكِنَّ اَلْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ . وقال أصحاب هذا الشأن التوكل بالقلب وليس ينافيه الحركة بالجسد بعد أن يتحقق العبد أن التقدير من الله فإن تعسر شي ء فبتقديره وأن تسهل فبتيسيره .
[ 201 ]
و(1/3213)
في الخبر النبوي أنه ع قال للأعرابي الذي ترك ناقته مهملة فندت فلما قيل له قال توكلت فتركتها فقال ع اعقل وتوكل . وقال ذو النون التوكل الانخلاع من الحول والقوة وترك تدبير الأسباب وقال بعضهم التوكل رد العيش إلى يوم واحد بإسقاط هم غد . وقال أبو علي الدقاق التوكل ثلاث درجات التوكل وهو أدناها ثم التسليم ثم التفويض فالأولى للعوام والثانية للخواص والثالثة لخواص الخواص . جاء رجل إلى الشبلي يشكو إليه كثرة العيال فقال ارجع إلى بيتك فمن وجدت منهم ليس رزقه على الله فأخرجه من البيت . وقال سهل بن عبد الله من طعن في التوكل فقط طعن في الإيمان ومن طعن في الحركة فقد طعن في السنة . وكان يقال المتوكل كالطفل لا يعرف شيئا يأوي إليه إلا ثدي أمه كذلك المتوكل لا يهتدي إلا إلى ربه . ورأى أبو سليمان الداراني رجلا بمكة لا يتناول شيئا إلا شربة من ماء زمزم فمضت عليه أيام فقال له يوما أ رأيت لو غارت أي زمزم أي شي ء كنت تشرب فقام وقبل رأسه وقال جزاك الله خيرا حيث أرشدتني فإني كنت أعبد زمزم منذ أيام ثم تركه ومضى . وقيل التوكل نفي الشكوك والتفويض إلى مالك الملوك . ودخل جماعة على الجنيد فقالوا نطلب الرزق قال إن علمتم في أي موضع هو فاطلبوه قالوا فنسأل الله ذلك قال إن علمتم أنه ينساكم فذكروه قالوا لندخل البيت فنتوكل قال التجربة شك قالوا فما الحيلة قال ترك الحيلة .
[ 202 ]
و قيل التوكل الثقة بالله واليأس عما في أيدي الناس . ومنها الشكر وقد تقدم منا ذكر كثير مما قيل فيه . ومنها اليقين وهو مقام جليل قال الله تعالى وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ و
قال علي بن أبي طالب ع لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا . وقال سهل بن عبد الله حرام على قلب أن يشم رائحة اليقين وفيه شكوى إلى غير الله . و
ذكر للنبي ص ما يقال عن عيسى ابن مريم ع أنه مشى على الماء فقال لو ازداد يقينا لمشى على الهواء و(1/3214)
في الخبر المرفوع عنه ص أنه قال لعبد الله بن مسعود لا ترضين أحدا بسخط الله ولا تحمدن أحدا على فضل الله ولا تذمن أحدا على ما لم يؤتك الله واعلم أن الرزق لا يسوقه حرص حريص ولا يرده كراهة كاره وأن الله جعل الروح والفرج في الرضا واليقين وجعل الهم والحزن في الشك والسخط . ومنها الصبر قال الله تعالى وَ اِصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ و
قال علي ع الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد . وسئل الفضيل عن الصبر قال تجرع المرارة من غير تعبيس . وقال رويم الصبر ترك الشكوى .
[ 203 ]
و
قال علي ع الصبر مطية لا تكبو . وقف رجل على الشبلي فقال أي صبر أشد على الصابرين قال الشبلي الصبر في الله تعالى فقال لا قال فالصبر لله فقال لا قال فالصبر مع الله تعالى فقال لا قال فأي شي ء قال الصبر عن الله فصرخ الشبلي صرخة عظيمة ووقع . ويقال إن الشبلي حبس في المارستان فدخل عليه قوم فقال من أنتم قالوا محبوك جئناك زائرين فرماهم بالحجارة فهربوا فقال لو كنتم أحباي لصبرتم على بلائي و
جاء في بعض الأخبار عن الله تعالى بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلي و
قال عمر بن الخطاب لو كان الصبر والشكر بعيرين لم أبال أيهما ركبت و
في الحديث المرفوع الإيمان الصبر والسخاء و
في الخبر العلم خليل المؤمن والحلم وزيره والعقل دليله والعمل قائده والرفق والده والبر أخوه والصبر أمير جنوده قالوا فناهيك بشرف خصلة تتأمر على هذه الخصال والمعنى أن الثبات على هذه الخصال واستدامة التخلق بها إنما يكون بالصبر فلذلك كان أمير الجنود . ومنها المراقبة(1/3215)
جاء في الخبر عن النبي ص أن سائلا سأله عن الإحسان فقال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك . وهذه إشارة إلى حال المراقبة لأن المراقبة علم العبد باطلاع الرب عليه فاستدامة العبد لهذا العلم مراقبة للحق وهو أصل كل خير ولا يكاد يصل إلى هذه الرتبة إلا بعد فراغه عن المحاسبة فإذا حاسب نفسه على ما سلف وأصلح حاله في الوقت
[ 204 ]
و لازم طريق الحق وأحسن بينه وبين الله تعالى بمراعاة القلب وحفظ مع الله سبحانه الأنفاس راقبه تعالى في عموم أحواله فيعلم أنه تعالى رقيب عليه يعلم أحواله ويرى أفعاله ويسمع أقواله ومن تغافل عن هذه الجملة فهو بمعزل عن بداية الوصلة فكيف عن حقائق القربة . ويحكى أن ملكا كان يتحظى جارية له وكان لوزيره ميل باطن إليها فكان يسعى في مصالحها ويرجح جانبها على جانب غيرها من حظايا الملك ونسائه فاتفق أن عرض عليها الملك حجرين من الياقوت الأحمر أحدهما أنفس من الآخر بمحضر من وزيره فتحيرت أيهما تأخذ فأومأ الوزير بعينه إلى الحجر الأنفس وحانت من الملك التفاته فشاهد عين الوزير وهي مائلة إلى ذلك الجانب فبقي الوزير بعدها أربعين سنة لا يراه الملك قط إلا كاسرا عينه نحو الجانب الذي كان طرفه مائلا إليه ذلك اليوم أي كأن ذلك خلقة وهذا عزم قوي في المراقبة ومثله فليكن حال من يريد الوصول . ويحكى أيضا أن أميرا كان له غلام يقبل عليه أكثر من إقباله على غيره من مماليكه ولم يكن أكثرهم قيمة ولا أحسنهم صورة فقيل له في ذلك فأحب أن يبين لهم فضل الغلام في الخدمة على غيره فكان يوما راكبا ومعه حشمه وبالبعد منهم جبل عليه ثلج فنظر الأمير إلى الثلج وأطرق فركض الغلام فرسه ولم يعلم الغلمان لما ذا ركض فلم يلبث إلا قليلا حتى جاء ومعه شي ء من الثلج فقال الأمير ما أدراك أني أردت الثلج فقال إنك نظرت إليه ونظر السلطان إلى شي ء لا يكون إلا عن قصد فقال الأمير لغلمانه إنما أختصه(1/3216)
بإكرامي وإقبالي لأن لكل واحد منكم شغلا وشغله مراعاة لحظاتي ومراقبة أحوالي .
[ 205 ]
و قال بعضهم من راقب الله في خواطره عصمه الله في جوارحه . ومنها الرضا وهو أن يرضى العبد بالشدائد والمصائب التي يقضيها الله تعالى عليه وليس المراد بالرضا رضا العبد بالمعاصي والفواحش أو نسبتها إلى الرب تعالى عنها فإنه سبحانه لا يرضاها كما قال جل جلاله وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ اَلْكُفْرَ . وقال كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً . قال رويم الرضا أن لو أدخلك جهنم لما سخطت عليه . وقيل لبعضهم متى يكون العبد راضيا قال إذا سرته المصيبة كما سرته النعمة . قال الشبلي مرة والجنيد حاضر لا حول ولا قوة إلا بالله فقال الجنيد أرى أن قولك هذا ضيق صدر وضيق الصدر يجي ء من ترك الرضا بالقضاء . وقال أبو سليمان الدارني الرضا ألا تسأل الله الجنة ولا تستعيذ به من النار . وقال تعالى فيمن سخط قسمته وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي اَلصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ . ثم نبه على ما حرموه من فضيلة الرضا فقال وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ قالُوا حَسْبُنَا اَللَّهُ سَيُؤْتِينَا اَللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ رَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اَللَّهِ راغِبُونَ وجواب لو هاهنا محذوف لفهم المخاطب وعلمه به .
[ 206 ]
و في حذفه فائدة لطيفة وهو أن تقديره لرضي الله عنهم ولما كان رضاه عن عباده مقاما جليلا جدا حذف ذكره لان الذكر له لا ينبئ عن كنهه وحقيقة فضله فكان الإضراب عن ذكره أبلغ في تعظيم مقامه . و
من الأخبار المرفوعة أنه ص قال اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء قالوا إنما قال بعد القضاء لأن الرضا قبل القضاء لا يتصور وإنما يتصور توطين النفس عليه وإنما يتحقق الرضا بالشي ء بعد وقوع ذلك الشي ء . و(1/3217)
في الحديث أنه قال لابن عباس يوصيه اعمل لله باليقين والرضا فإن لم يكن فاصبر فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا و
في الحديث أنه ص رأى رجلا من أصحابه وقد أجهده المرض والحاجة فقال ما الذي بلغ بك ما أرى قال المرض والحاجة قال أ ولا أعلمك كلاما إن أنت قلته أذهب الله عنك ما بك قال والذي نفسي بيده ما يسرني بحظي منهما أن شهدت معك بدرا والحديبية فقال ص وهل لأهل بدر والحديبية ما للراضي والقانع . وقال أبو الدرداء ذروة الإيمان الصبر والرضا . قدم سعد بن أبي وقاص مكة بعد ما كف بصره فانثال الناس عليه يسألونه الدعاء لهم فقال له عبد الله بن السائب يا عم إنك تدعو للناس فيستجاب لك هلا دعوت أن يرد عليك بصرك فقال يا ابن أخي قضاء الله تعالى أحب إلي من بصري . عمر بن عبد العزيز أصبحت وما لي سرور إلا في مواقع القدر . وكان يقال الرضا إطراح الاقتراح على العالم بالصلاح وكان يقال إذا كان القدر حقا كان سخطه حمقا .
[ 207 ]
و كان يقال من رضي حظي ومن اطرح الاقتراح أفلح واستراح . وكان يقال كن بالرضا عاملا قبل أن تكون له معمولا وسر إليه عادلا وإلا سرت نحوه معدولا . وقيل للحسن من أين أتى الخلق قال من قلة الرضا عن الله فقيل ومن أين دخلت عليهم قلة الرضا عن الله قال من قلة المعرفة بالله . وقال صاحب سلوان المطاع في الرضا
يا مفزعي فيما يجي ء
و راحمي فيما مضى
عندي لما تقضيه ما
يرضيك من حسن الرضا
و من القطيعة أستعيذ مصرحا ومعرضا وقال أيضا
كن من مدبرك الحكيم
علا وجل على وجل
و ارض القضاء فإنه
حتم أجل وله أجل
و قال أيضا
يا من يرى حالي وأن ليس لي
في غير قربي منه أوطار
و ليس لي ملتحد دونه
و لا عليه لي أنصار
حاشا لذاك العز والفضل أن
يهلك من أنت له جار
و إن تشأ هلكي فهب لي رضا
بكل ما تقضي وتختار
[ 208 ]
عندي لأحكامك يا مالكي
قلب كما أنعمت صبار
كل عذاب منك مستعذب
ما لم يكن سخطك والنار(1/3218)
و منها العبودية وهي أمر وراء العبادة معناها التعبد والتذلل قالوا العبادة للعوام من المؤمنين والعبودية للخواص من السالكين . وقال أبو علي الدقاق العبادة لمن له علم اليقين والعبودية لمن له عين اليقين . وسئل محمد بن خفيف متى تصح العبودية فقال إذا طرح كله على مولاه وصبر معه على بلواه . وقال بعضهم العبودية معانقة ما أمرت به ومفارقة ما زجرت عنه . وقيل العبودية أن تسلم إليه كلك وتحمل عليه كلك . و
في الحديث المرفوع تعس عبد الدينار وتعس عبد الخبيصة . رأى أبو يزيد البسطامي رجلا فقال له ما حرفتك قال خربنده قال أمات الله حمارك لتكون عبدا لله لا عبدا للحمار . وكان ببغداد في رباط شيخ الشيوخ صوفي كبير اللحية جدا وكان مغرى ومعنى بها أكثر زمانه يدهنها ويسرحها ويجعلها ليلا عند نومه في كيس فقام بعض المريدين إليه في الليل وهو نائم فقصها من الإذن إلى الإذن فأصبحت كالصريم وأصبح الصوفي شاكيا إلى شيخ الرباط فجمع الصوفية وسألهم فقال المريد أنا قصصتها قال وكيف فعلت ويلك ذلك قال أيها الشيخ إنها كانت صنمه وكان يعبدها من دون الله فأنكرت ذلك بقلبي وأردت أن أجعله عبدا لله لا عبدا للحية .
[ 209 ]
قالوا وليس شي ء أشرف من العبودية ولا اسم أتم للمؤمن من اسمه بالعبودية ولذلك قال سبحانه في ذكر النبي ص ليلة المعراج وكان ذلك الوقت أشرف أوقاته في الدنيا سُبْحانَ اَلَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً وقال تعالى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى فلو كان اسم أجل من العبودية لسماه به . وأنشدوا
لا تدعني إلا بيا عبدها
فإنه أشرف أسمائي(1/3219)
و منها الإرادة قال تعالى وَ لا تَطْرُدِ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ اَلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ . قالوا الإرادة هي بدء طريق السالكين وهي اسم لأول منازل القاصدين إلى الله وإنما سميت هذه الصفة إرادة لأن الإرادة مقدمة كل أمر فما لم يرد العبد شيئا لم يفعله فلما كان هذا الشأن أول الأمر لمن يسلك طريق الله سمي إرادة تشبيها له بالقصد إلى الأمور التي هو مقدمتها . قالوا والمريد على موجب الاشتقاق من له إرادة ولكن المريد في هذا الاصطلاح من لا إرادة له فما لم يتجرد عن إرادته لا يكون مريدا كما أن من لا إرادة له على موجب الاشتقاق لا يكون مريدا . وقد اختلفوا في العبارات الدالة على ماهية الإرادة في اصطلاحهم فقال بعضهم الإرادة ترك ما عليه العادة وعادة الناس في الغالب التعريج على أوطان الغفلة
[ 210 ](1/3220)
و الركون إلى اتباع الشهوة والإخلاد إلى ما دعت إليه المنية والمريد هو المنسلخ عن هذه الجملة . وقال بعضهم الإرادة نهوض القلب في طلب الرب ولهذا قيل إنها لوعة تهون كل روعة . وقال أبو علي الدقاق الإرادة لوعة في الفؤاد ولذعة في القلب وغرام في الضمير وانزعاج في الباطن ونيران تأجج في القلوب . وقال ممشاذ الدينوري مذ علمت أن أحوال الفقراء جد كلها لم أمازح فقيرا وذلك أن فقيرا قدم علي فقال أيها الشيخ أريد أن تتخذ لي عصيدة فجرى على لساني إرادة وعصيدة فتأخر الفقير ولم أشعر فأمرت باتخاذ عصيدة وطلبته فلم أجده فتعرفت خبره فقيل إنه انصرف من فوره وهو يقول إرادة وعصيدة إرادة وعصيدة وهام على وجهه حتى خرج إلى البادية وهو يكرر هذه الكلمة فما زال يقول ويرددها حتى مات . وحكى بعضهم قال كنت بالبادية وحدي فضاق صدري فصحت يا أنس كلموني يا جن كلموني فهتف هاتف أي شي ء ناديت فقلت الله فقال الهاتف كذبت لو أردته لما ناديت الإنس ولا الجن . فالمريد هو الذي لا يشغله عن الله شي ء ولا يفتر آناء الليل وأطراف النهار فهو في الظاهر بنعت المجاهدات وفي الباطن بوصف المكابدات فارق الفراش ولازم الانكماش وتحمل المصاعب وركب المتاعب وعالج الأخلاق ومارس المشاق وعانق الأهوال وفارق الأشكال فهو كما قيل
ثم قطعت الليل في مهمه
لا أسدا أخشى ولا ذيبا
[ 211 ]
يغلبني شوقي فأطوى السرى
و لم يزل ذو الشوق مغلوبا(1/3221)
و قيل من صفات المريدين التحبب إليه بالتوكل والإخلاص في نصيحة الأمة والأنس بالخلوة والصبر على مقاساة الأحكام والإيثار لأمره والحياء من نظره وبذل المجهود في محبته والتعرض لكل سبب يوصل إليه والقناعة بالخمول وعدم الفرار من القلب إلى أن يصل إلى الرب . وقال بعضهم آفة المريد ثلاثة أشياء التزويج وكتبه الحديث والأسفار . وقيل من حكم المريد أن يكون فيه ثلاثة أشياء نومه غلبة وأكله فاقة وكلامه ضرورة . وقال بعضهم نهاية الإرادة أن يشير إلى الله فيجده مع الإشارة فقيل له وأي شي ء يستوعب الإرادة فقال أن يجد الله بلا إشارة . وسئل الجنيد ما للمريدين وسماع القصص والحكايات فقال الحكايات جند من جند الله تعالى يقوي بها قلوب المريدين فقيل له هل في ذلك شاهد فتلا قوله تعالى وَ كُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ اَلرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ . وقال أصحاب الطريقة بين المريد والمراد فرق فالمريد من سلك الرياضة طلبا للوصول والمراد من فاضت عليه العناية الإلهية ابتداء فكان مخطوبا لا خاطبا وبين الخاطب والمخطوب فرق عظيم . قالوا كان موسى ع مريدا قال رَبِّ اِشْرَحْ لِي صَدْرِي وكان محمد ص مرادا قال له أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وسئل الجنيد عن
[ 212 ](1/3222)
المريد والمراد فقال المريد سائر والمراد طائر ومتى يلحق السائر الطائر . أرسل ذو النون المصري رجلا إلى أبي يزيد وقال له إلى متى النوم والراحة قد سارت القافلة فقال له أبو يزيد قل لأخي الرجل من ينام الليل كله ثم يصبح في المنزل قبل القافلة فقال ذو النون هنيئا له هذا الكلام لا تبلغه أحوالنا . وقد تكلم الحكماء في هذا المقام فقال أبو علي بن سينا في كتاب الإشارات أول درجات حركات العارفين ما يسمونه هم الإرادة وهو ما يعتري المستبصر باليقين البرهاني أو الساكن النفس إلى العقد الإيماني من الرغبة في اعتلاق العروة الوثقى فيتحرك سره إلى القدس لينال من روح الاتصال فما دامت درجته هذه فهو مريد . ثم إنه ليحتاج إلى الرياضة والرياضة موجهة إلى ثلاثة أغراض الأول تنحيه ما دون الحق عن سنن الإيثار . والثاني تطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة لتنجذب قوى التخيل والوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي منصرفة من التوهمات المناسبة للأمر السفلي . والثالث تلطيف السر لنفسه . فالأول يعين عليه الزهد الحقيقي والثاني يعين عليه عدة أشياء العبادة المشفوعة بالفكرة ثم الألحان المستخدمة لقوى النفس الموقعة لما لحن بها من الكلام موقع القبول من الأوهام ثم نفس الكلام الواعظ من قائل ذكي بعبارة بليغة ونغمة رخيمة وسمت رشيد والثالث يعين عليه الفكر اللطيف والعشق العفيف الذي تتأمر فيه شمائل المعشوق دون سلطان الشهوة .
[ 213 ]
و منها الاستقامة وحقيقتها الدوام والاستمرار على الحال قال تعالى إِنَّ اَلَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اَللَّهُ ثُمَّ اِسْتَقامُوا . وسئل بعضهم عن تارك الاستقامة فقال قد ذكر الله ذلك في كتابه فقال وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً و(1/3223)
في الحديث المرفوع شيبتني هود فقيل له في ذلك فقال قوله فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ . وقال تعالى وَ أَنْ لَوِ اِسْتَقامُوا عَلَى اَلطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً فلم يقل سقيناهم بل أسقيناهم أي جعلنا لهم سقيا دائمة وذلك لأن من دام على الخدمة دامت عليه النعمة . ومنها الإخلاص وهو إفراد الحق خاصة في الطاعة بالقصد والتقرب إليه بذلك خاصة من غير رياء ومن غير أن يمازحه شي ء آخر من تصنع لمخلوق أو اكتساب محمدة بين الناس أو محبة مدح أو معنى من المعاني ولذلك قال أرباب هذا الفن الإخلاص تصفية العمل عن ملاحظة المخلوقين . وقال الخواص من هؤلاء القوم نقصان كل مخلص في إخلاصه رؤية إخلاصه فإذا أراد الله أن يخلص إخلاص عبد أسقط عن إخلاصه رؤيته لإخلاصه فيكون مخلصا لا مخلصا . و
جاء في الأثر عن مكحول ما أخلص عبد لله أربعين صباحا إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه .
[ 214 ]
و منها الصدق ويطلق على معنيين تجنب الكذب وتجنب الرياء وقد تقدم القول فيهما . ومنها الحياء و
في الحديث الصحيح إذا لم تستحي فاصنع ما شئت و
في الحديث أيضا الحياء من الإيمان وقال تعالى أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اَللَّهَ يَرى قالوا معناه أ لم يستحي . و(1/3224)
في الحديث أنه قال لأصحابه استحيوا من الله حق الحياء قالوا إنا لنستحيي ونحمد الله قال ليس كذلك من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى وليذكر الموت وطول البلى وليترك زينة الحياة الدنيا فمن يعمل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء . وقال ابن عطاء العلم الأكبر الهيبة والحياء فإذا ذهبا لم يبق خير . وقال ذو النون الحب ينطق والحياء يسكت والخوف يقلق . وقال السري الحياء والأنس يطرقان القلب فإن وجدا فيه الزهد والورع حطا وإلا رحلا . وكان يقال تعامل القرن الأول من الناس فيما بينهم بالدين حتى رق الدين ثم تعامل القرن الثاني بالوفاء حتى ذهب الوفاء ثم تعامل القرن الثالث بالمروءة حتى فنيت المروءة ثم تعامل القرن الرابع بالحياء حتى قل الحياء ثم صار الناس يتعاملون بالرغبة والرهبة
[ 215 ]
و قال الفضيل خمس من علامات الشقاء القسوة في القلب وجمود العين وقلة الحياء والرغبة في الدنيا وطول الأمل . وفسر بعضهم قوله تعالى وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ أنها كان لها صنم في زاوية البيت فمضت فألقت على وجهه ثوبا فقال يوسف ما هذا قالت أستحيي منه قال فأنا أولى أن أستحيي من الله . و
في بعض الكتب القديمة ما أنصفني عبدي يدعوني فأستحيي أن أرده ويعصيني وأنا أراه فلا يستحيي مني ومنها الحرية وهو ألا يكون الإنسان بقلبه رق شي ء من المخلوقات لا من أغراض الدنيا ولا من أغراض الآخرة فيكون فردا لفرد لا يسترقه عاجل دنيا ولا آجل منى ولا حاصل هوى ولا سؤال ولا قصد ولا أرب .
قال له ص بعض أصحاب الصفة قد عزفت نفسي يا رسول الله عن الدنيا فاستوى عندي ذهبها وحجرها قال صرت حرا . وكان بعضهم يقول لو صحت صلاة بغير قرآن لصحت بهذا البيت
أ تمنى على الزمان محالا
أن ترى مقلتاي طلعة حر(1/3225)
و سئل الجنيد عمن لم يبق له من الدنيا إلا مقدار مص نواه فقال المكاتب عبد ما بقي عليه درهم . ومنها الذكر قال الله تعالى يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا اَللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً
[ 216 ]
و
روى أبو الدرداء أن رسول الله ص قال أ لا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند خالقكم وأرفعها في درجاتكم وخير من إعطائكم الذهب والفضة في سبيل الله ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا ما ذلك يا رسول الله قال ذكر الله و
في الحديث المرفوع لا تقوم الساعة على أحد يقول الله الله . وقال أبو علي الدقاق الذكر منشور الولاية فمن وفق للذكر فقد أعطي المنشور ومن سلب الذكر فقد عزل . وقيل ذكر الله تعالى بالقلب سيف المريدين به يقاتلون أعداءهم وبه يدفعون الآفات التي تقصدهم وأن البلاء إذا أظل العبد ففزع بقلبه إلى الله حاد عنه كل ما يكرهه . و
في الخبر المرفوع إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا فيها قيل وما رياض الجنة قال مجالس الذكر و
في الخبر المرفوع أنا جليس من ذكرني . وسمع الشبلي وهو ينشد
ذكرتك لا أني نسيتك لمحة
و أيسر ما في الذكر ذكر لساني
فكدت بلا وجد أموت من الهوى
و هام على القلب بالخفقان
فلما أراني الوجد أنك حاضري
شهدتك موجودا بكل مكان
فخاطبت موجودا بغير تكلم
و لاحظت معلوما بغير عيان
[ 217 ]
و منها الفتوة قال سبحانه مخبرا عن أصحاب الأصنام قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ . وقال تعالى في أصحاب الكهف إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً . وقد اختلفوا في التعبير عن الفتوة ما هي فقال بعضهم الفتوة ألا ترى لنفسك فضلا على غيرك . وقال بعضهم الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان . وقالوا إنما هتف الملك يوم أحد بقوله
لا سيف إلا ذو الفقار
و لا فتى إلا علي(1/3226)
لأنه كسر الأصنام فسمي بما سمي به أبوه إبراهيم الخليل حين كسرها وجعلها جذاذا . قالوا وصنم كل إنسان نفسه فمن خالف هواه فقد كسر صنمه فاستحق أن يطلق عليها لفظ الفتوة . وقال الحارث المحاسبي الفتوة أن تنصف ولا تنتصف . وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل سئل أبي عن الفتوة فقال ترك ما تهوى لما تخشى . وقيل الفتوة ألا تدخر ولا تعتذر .
سأل شقيق البلخي جعفر بن محمد الصادق ع عن الفتوة فقال ما تقول أنت قال إن أعطينا شكرنا وإن منعنا صبرنا قال إن الكلاب عندنا بالمدينة هذا شأنها ولكن قل إن أعطينا آثرنا وإن منعنا شكرنا .
[ 218 ]
و منها الفراسة قيل في تفسير قوله تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ أي للمتفرسين و
قال النبي ص اتقوا فراسة المؤمن فإنها لا تخطئ قيل الفراسة سواطع أنوار لمعت في القلوب حتى شهدت الأشياء من حيث أشهدها الحق إياها وكل من كان أقوى إيمانا كان أشد فراسة . وكان يقال إذا صحت الفراسة ارتقى منها صاحبها إلى المشاهدة . ومنها حسن الخلق وهو من صفات العارفين فقد أثنى الله تعالى به على نبيه فقال وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ و
قيل له ص أي المؤمنين أفضل إيمانا فقال أحسنهم خلقا وبالخلق تظهر جواهر الرجال والإنسان مستور بخلقه مشهور بخلقه . وقال بعضهم حسن الخلق استصغار ما منك واستعظام ما إليك . و
قال النبي ص إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم . قيل لذي النون من أكبر الناس هما قال أسوؤهم خلقا . وكان يقال ما تخلق أحد أربعين صباحا بخلق إلا صار ذلك طبيعة فيه . قال الحسن في قوله تعالى وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ أي وخلقك فحسن . شتم رجل الأحنف بن قيس وجعل يتبعه ويشتمه فلما قرب الحي وقف وقال يا فتى إن كان قد بقي في قلبك شي ء فقله كيلا يسمعك سفهاء الحي فيجيبوك .
[ 219 ](1/3227)
و يقال إن معروفا الكرخي نزل دجلة ليسبح ووضع ثيابه ومصحفه فجاءت امرأة فاحتملتهما فتبعها وقال أنا معروف الكرخي فلا بأس عليك أ لك ابن يقرأ قالت لا قال أ فلك بعل قالت لا قال فهاتي المصحف وخذي الثياب . قيل لبعضهم ما أدب الخلق قال ما أدب الله به نبيه في قوله خُذِ اَلْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْجاهِلِينَ
يقال إن في بعض كتب النبوات القديمة يا عبدي اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب . قالت امرأة لمالك بن دينار يا مرائي فقال لقد وجدت اسمي الذي أضله أهل البصرة . قال بعضهم وقد سئل عن غلام سوء له لم يمسكه قال أ تعلم عليه الحلم . وكان يقال ثلاثة لا يعرفون إلا عند ثلاثة الحليم عند الغضب والشجاع عند الحرب والصديق عند الحاجة إليه . وقيل في تفسير قوله تعالى وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً الظاهرة تسوية الخلق والباطنة تصفية الخلق . الفضيل لأن يصحبني فاجر حسن الخلق أحب إلي من أن يصحبني عابد سيئ الخلق . خرج إبراهيم بن أدهم إلى بعض البراري فاستقبله جندي فسأله أين العمران فأشار إلى المقبرة فضرب رأسه فشجه وأدماه فلما جاوزه قيل له إن ذلك إبراهيم بن أدهم
[ 220 ]
زاهد خراسان فرد إليه يعتذر فقال إبراهيم إنك لما ضربتني سألت الله لك الجنة . قال لم سألت ذلك قال علمت أني أوجر على ضربك لي فلم أرد أن يكون نصيبي منك الخير ونصيبك مني الشر . وقال بعض أصحاب الجنيد قدمت من مكة فبدأت بالشيخ كي لا يتعنى إلي فسلمت عليه ثم مضيت إلى منزلي فلما صليت الصبح في المسجد إذا أنا به خلفي في الصف فقلت إنما جئتك أمس لئلا تتعنى فقال ذلك فضلك وهذا حقك .(1/3228)
كان أبو ذر على حوض يسقي إبله فزاحمه إنسان فكسر الحوض فجلس أبو ذر ثم اضطجع فقيل له في ذلك فقال أمرنا رسول الله ص إذا غضب الرجل وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه وإلا فليضطجع . دعا إنسان بعض مشاهير الصوفية إلى ضيافة فلما حضر باب داره رده واعتذر إليه ثم فعل به مثل ذلك وثانية وثالثة والصوفي لا يغضب ولا يضجر فمدحه ذلك الإنسان وأثنى عليه بحسن الخلق فقال إنما تمدحني على خلق تجد مثله في الكلب إن دعوته حضر وإن زجرته انزجر . مر بعضهم وقت الهاجرة بسكة فألقى عليه من سطح طست رماد فغضب من كان في صحبته فقال لا تغضبوا من استحق أن يصب عليه النار فصولح على الرماد لم تجز له أن يغضب . كان لبغض الخياطين جار يدفع إليه ثيابا فيخيطها ويدفع إليه أجرتها دراهم زيوفا فيأخذها فقام يوما من حانوته واستخلف ولده فجاء الجار بالدراهم الزائفة فدفعها إلى الولد فلم يقبلها فأبدلها بدراهم جيدة فلما جاء أبوه دفع إليه الدراهم فقال ويحك هل جرى بينك وبينه أمر قال نعم إنه أحضر الدراهم زيوفا فرددتها فأحضر هذه
[ 221 ]
فقال بئس ما صنعت إنه منذ كذا وكذا سنة يعاملني بالزائف وأصبر عليه وألقيها في بئر كي لا يغر غيري بها وقيل الخلق السيئ هو أن يضيق قلب الإنسان عن أن يتسع لغير ما تحبه النفس وتؤثره كالمكان الضيق لا يسع غير صاحبه . وكان يقال من سوء الخلق أن تقف على سوء خلق غيرك وتعيبه به .
قيل لرسول الله ادع الله على المشركين فقال إنما بعثت رحمة ولم أبعث عذابا
دعا علي ع غلاما له مرارا وهو لا يجيبه فقام إليه فقال أ لا تسمع يا غلام قال بلى قال فما حملك على ترك الجواب قال أمني لعقوبتك قال اذهب فأنت حر . ومنها الكتمان
قال رسول الله ص استعينوا على أموركم بالكتمان . وقال السري علامة الحب الصبر والكتمان ومن باح بسرنا فليس منا . وقال الشاعر
كتمت حبك حتى منك تكرمة
ثم استوى فيك إسراري وإعلاني
كأنه غاض حتى فاض عن جسدي(1/3229)
فصار سقمي به في جسم كتماني
و هذا ضد ما يذهب إليه القوم من الكتمان وهو عذر لأصحاب السر والإعلان وكان يقال المحبة فاضحة والدمع نمام . وقال الشاعر
لا جزى الله دمع عيني خيرا
و جزى الله كل خير لساني
[ 222 ]
فاض دمعي فليس يكتم شيئا
و وجدت اللسان ذا كتمان
يقال إن بعض العارفين أوصى تلميذه بكتمان ما يطلع عليه من الحال فلما شاهد الأمر غلب فكان يطلع في بئر في موضع خال فيحدثها بما يشاهد فنبتت في تلك البئر شجرة سمع منها صوت يحكي كلام ذلك التلميذ كما يحكي الصدا كلام المتكلم فأسقط بذلك من ديوان الأولياء . وأنشدوا
أبدا تحن إليكم الأرواح
و وصالكم ريحانها والراح
و قلوب أهل ودادكم تشتاقكم
و إلى لقاء جمالكم ترتاح
وا رحمة للعاشقين تحملوا
ثقل المحبة والهوى فضاح
بالسر إن باحوا تباح دماؤهم
و كذا دماء البائحين تباح
و قال الحسين بن منصور الحلاج
إني لأكتم من علمي جواهره
كي لا يرى العلم ذو جهل فيفتننا
و قد تقدمني فيه أبو حسن
إلى الحسين وأوصى قبله الحسنا
يا رب مكنون علم لو أبوح به
لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
و لاستحل رجال صالحون دمي
يرون أقبح ما يأتونه حسنا
و منها الجود والسخاء والإيثار قال الله تعالى وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ و
قال النبي ص السخي قريب من الله قريب من الناس
[ 223 ](1/3230)
و البخيل بعيد من الله بعيد من الناس وأن الجاهل السخي أحب إلى الله من العابد البخيل . قالوا لا فرق بين الجود والسخاء في اصطلاح أهل العربية إلا أن الباري سبحانه لا يوصف بالسخاء لأنه يشعر بسماح النفس عقيب التردد في ذلك وأما في اصطلاح أرباب هذه الطريقة فالسخاء هو الرتبة الأولى والجود بعده ثم الإيثار فمن أعطى البعض وأبقى البعض فهو صاحب السخاء ومن أعطى الأكثر وأبقى لنفسه شيئا فهو صاحب الجود والذي قاسى الضراء وآثر غيره بالبلغة فهو صاحب الإيثار . قال أسماء بن خارجة الفزاري ما أحب أن أرد أحدا عن حاجة طلبها إن كان كريما صنت عرضه عن الناس وإن كان لئيما صنت عنه عرضي . كان مؤرق العجلي يتلطف في بر إخوانه يضع عندهم ألف درهم ويقول أمسكوها حتى أعود إليكم ثم يرسل إليهم أنتم منها في حل . وكان يقال الجود إجابة الخاطر الأول . وكان أبو الحسن البوشنجي في الخلاء فدعا تلميذا له فقال انزع عني هذا القميص وادفعه إلى فلان فقيل له هلا صبرت فقال لم آمن على نفسي أن تغير علي ما وقع لي من التخلق معه بالقميص .
رئي علي ع يوما باكيا فقيل له لم تبكي فقال لم يأتني ضيف منذ سبعة أيام أخاف أن يكون الله قد أهانني . أضاف عبد الله بن عامر رجلا فأحسن قراه فلما أراد أن يرتحل لم يعنه غلمانه فسئل عن ذلك فقال إنهم إنما يعينون من نزل علينا لا من ارتحل عنا . ومنها الغيرة
قال رسول الله ص لا أحد أغير من الله إنما حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن لغيرته
[ 224 ]
و(1/3231)
في حديث أبي هريرة أن الله ليغار وأن المؤمن ليغار قال والغيرة هي كراهية المشاركة فيما هو حقك . وقيل الغيرة الأنفة والحمية . وحكي عن السري أنه قرئ بين يديه وَ إِذا قَرَأْتَ اَلْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً فقال لأصحابه أ تدرون ما هذا الحجاب هذا حجاب الغيرة ولا أحد أغير من الله . قالوا ومعنى حجاب الغيرة أنه لما أصر الكافرون على الجحود عاقبهم بأن لم يجعلهم أهلا لمعرفة أسرار القرآن . وقال أبو علي الدقاق إن أصحاب الكسل عن عبادته هم الذين ربط الحق بأقدامهم مثقلة الخذلان فاختار لهم البعد وأخرهم عن محل القرب ولذلك تأخروا . وفي معناه أنشدوا فقالوا
أنا صب بمن هويت ولكن
ما احتيالي في سوء رأي الموالي
و في معناه قالوا سقيم لا يعاد ومريد لا يراد . وكان أبو علي الدقاق إذا وقع شي ء في خلال المجلس يشوش قلوب الحاضرين يقول هذا من غيرة الحق يريد به ألا يتم ما أملناه من صفاء هذا الوقت . وأنشدوا في معناه
همت بإتياننا حتى إذا نظرت
إلى المرأة نهانا وجهها الحسن
و قيل لبعضهم أ تريد أن تراه قال لا قيل لم قال أنزه ذلك الجمال عن نظر مثلي وفي معناه أنشدوا
إني لأحسد ناظري عليك
حتى أغض إذا نظرت إليك
[ 225 ]
و أراك تخطر في شمائلك التي
هي فتنتي فأغار منك عليكا
و سئل الشبلي متى تستريح قال إذا لم أر له ذاكرا . وقال أبو علي الدقاق في(1/3232)
قول النبي ص عند مبايعته فرسا من أعرابي وأنه استقاله فأقاله فقال الأعرابي عمرك الله فمن أنت قال ص أنا امرؤ من قريش فقال بعض الصحابة من الحاضرين للأعرابي كفاك جفاء ألا تعرف نبيك فكان أبو علي يقول إنما قال امرؤ من قريش غيرة ونوعا من الأنفة وإلا فقد كان الواجب عليه أن يتعرف لكل أحد أنه من هو لكن الله سبحانه أجرى على لسان ذلك الصحابي التعريف للأعرابي بقوله كفاك جفاء ألا تعرف نبيك . وقال أصحاب الطريقة مساكنة أحد من الخلق للحق في قلبك توجب الغيرة منه تعالى . أذن الشبلي مرة فلما انتهى إلى الشهادتين قال وحقك لو لا أنك أمرتني ما ذكرت معك غيرك . وسمع رجل رجلا يقول جل الله فقال أحب أن تجله عن هذا . وكان بعض العارفين يقول لا إله إلا الله من داخل القلب محمد رسول الله من قرط الأذن . وقيل لأبي الفتوح السهروردي وقد أخذ بحلب ليصلب على خشبة ما الذي أباحهم هذا منك قال إن هؤلاء دعوني إلى أن أجعل محمدا شريكا لله في الربوبية فلم أفعل فقتلوني .
[ 226 ](1/3233)
و منها التفويض قال الله تعالى وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ فاستوقف من عقل أمره عن الاقتراح عليه وأفهمه ما يرضاه به من التفويض إليه فالعاقل تارك للاقتراح على العالم بالصلاح . وقال تعالى فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اَللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً فبعث على تأكيد الرجاء بقوله خَيْراً كَثِيراً . ولما فوض مؤمن آل فرعون أمره إلى الله فَوَقاهُ اَللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ اَلْعَذابِ كما ورد في الكتاب العزيز . وحقيقة التفويض هي التسليم لأحكام الحق سبحانه وإلى ذلك وقعت الإشارة بقوله تعالى قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اَللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَ عَلَى اَللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ فأس التفويض والباعث عليه هو اعتقاد العجز عن مغالبة القدر وأنه لا يكون في الخير والشر أعني الرخص والصحة وسعة الرزق والبلايا والأمراض والعلل وضيق الرزق إلا ما أراد الله تعالى كونه ولا يصح التفويض ممن لم يعتقد ذلك ولم يعلمه علم اليقين . وقد بالغ النبي ص في التصريح به والنص عليه
بقوله لعبد الله بن مسعود ليقل همك ما قدر أتاك وما لم يقدر لم يأتك ولو جهد الخلق أن ينفعوك بشي ء لم يكتبه الله لك لم يقدروا عليه ولو جهدوا أن يضروك بشي ء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا على ذلك
[ 227 ]
و
في صحيح مسلم بن الحجاج أنه قال لأبي هريرة في كلام له فإن أصابك شي ء فلا تقل لو فعلت كذا لكان كذا فإن لو تفتح عمل الشيطان ولكن قل ما قدر الله وما شاء فعل و(1/3234)
في صحيح مسلم أيضا عن البراء بن عازب إذا أخذت مضجعك فقل كذا إلى أن قال وجهت وجهي إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا منجى ولا ملجأ منك إلا إليك . وكان يقال معارضة المريض طبيبه توجب تعذيبه وكان يقال إنما الكيس الماهر من أمسى في قبضة القاهر . وكان يقال إذا كانت مغالبة القدر مستحيلة فما من أعوان تقوده إلى الحيلة . وكان يقال إذا التبست المصادر ففوض إلى القادر . وكان يقال من الدلالة على أن الإنسان مصرف مغلوب ومدبر مربوب أن يتبلد رأيه في بعض الخطوب ويعمى عليه الصواب المطلوب . وإذا كان كذلك فربما كان تدميره في تدبيره واغتياله من احتياله وهلكته من حركته . وفي ذلك أنشدوا
أيا من يعول في المشكلات
على ما رآه وما دبره
إذا أعضل الأمر فافزع به
إلى من يرى منه ما لم تره
تكن بين عطف يقيل الخطوب
و لطف يهون ما قدره
إذا كنت تجهل عقبى الأمور
و ما لك حول ولا مقدره
فلم ذا العنا وعلام الأسى
و مم الحذار وفيم الشره
[ 228 ]
و أنشدوا في هذا المعنى
يا رب مغتبط ومغبوط
بأمر فيه هلكه
و منافس في ملك ما
يشقيه في الدارين ملكه
علم العواقب دونه
ستر وليس يرام هتكه
و معارض الأقدار بالآراء
سيئ الحال ضنكه
فكن امرأ محض اليقين
و زيف الشبهات سبكه
تفويضه توحيده
و عناده المقدار شركه
و منها الولاية والمعرفة وقد تقدم القول فيهما . ومنها الدعاء والمناجاة قال الله تعالى اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ و(1/3235)
في الحديث المرفوع الدعاء مخ العبادة . وقد اختلف أرباب هذا الشأن في الدعاء فقال قوم الدعاء مفتاح الحاجة ومستروح أصحاب الفاقات وملجأ المضطرين ومتنفس ذوي المآرب . وقد ذم الله تعالى قوما فقال وَ يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ فسروه وقالوا لا يمدونها إليه في السؤال . وقال سهل بن عبد الله التستري خلق الله الخلق وقال تاجروا في فإن لم تفعلوا فاسمعوا مني فإن لم تفعلوا فكونوا ببابي فإن لم تفعلوا فأنزلوا حاجاتكم بي . قالوا وقد أثنى الله على نفسه فقال أَمَّنْ يُجِيبُ اَلْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ قالوا الدعاء إظهار فاقة العبودية .
[ 229 ]
و قال أبو حاتم الأعرج لأن أحرم الدعاء أشد علي من أن أحرم الإجابة . وقال قوم بل السكوت والخمود تحت جريان الحكم والرضا بما سبق من اختيار الحكيم العالم بالمصالح أولى ولهذا قال الواسطي اختيار ما جرى لك في الأزل خير لك من معارضة الوقت . و
قال النبي ص إخبارا عن الله تعالى من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين . وقال قوم يجب أن يكون العبد صاحب دعاء بلسانه وصاحب رضا بقلبه ليأتي بالأمرين جميعا . وقال قوم إن الأوقات تختلف ففي بعض الأحوال يكون الدعاء أفضل من السكوت وفي بعض الأحوال يكون بالعكس وإنما يعرف هذا في الوقت لأن علم الوقت يحصل في الوقت فإذا وجد في قلبه الإشارة إلى الدعاء فالدعاء أولى وإن وجد بقلبه الإشارة إلى السكوت فالسكوت له أتم وأولى . و
جاء في الخبر أن الله يبغض العبد فيسرع إجابته بغضا لسماع صوته وأنه يحب العبد فيؤخر إجابته حبا لسماع صوته . ومن أدب الدعاء حضور القلب
فقد روي عنه ص أن الله لا يستجيب دعاء قلب لاه . ومن شروط الإجابة طيب الطعمة وحل المكسب
قال ص لسعد بن أبي وقاص أطب كسبك تستجب دعوتك .
[ 230 ]
و ينبغي أن يكون الدعاء بعد المعرفة(1/3236)
قيل لجعفر بن محمد الصادق ع ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا قال لأنكم تدعون من لا تعرفونه . كان صالح المري يقول كثيرا ادعوا فمن أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له فقالت له رابعة العدوية ما ذا تقول أغلق هذا الباب حتى يستفتح فقال صالح شيخ جهل وامرأة علمت . وقيل فائدة الدعاء إظهار الفاقة من الخلق وإلا فالرب يفعل ما يشاء . وقيل دعاء العامة بالأقوال ودعاء العابد بالأفعال ودعاء العارف بالأحوال . وقيل خير الدعاء ما هيجه الأحزان والوجد . وقيل أقرب الدعاء إلى الإجابة دعاء الاضطرار لقوله تعالى أَمَّنْ يُجِيبُ اَلْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ . قال أصحاب هذه الطريقة ألسنة المبتدءين أرباب الإرادة منطلقة بالدعاء وألسنة المحققين الواصلين قد خرست عن ذلك . وكان عبد الله بن المبارك يقول ما دعوته منذ خمسين سنة ولا أريد أن يدعو لي أحد . وقيل الدعاء سلم المذنبين . وقال من قال بنقيض هذا الدعاء مراسلة وما دامت المراسلة باقية فالأمر جميل بعد . وقالوا ألسنة المذنبين دموعهم . وكان أبو علي الدقاق يقول إذا بكى المذنب فقد راسل الله . وفي معناه أنشدوا
دموع الفتى عما يجن تترجم
و أنفاسه تبدين ما القلب يكتم
[ 231 ]
و قال بعضهم لبعض العارفين ادع لي فقال كفاك من الإجابة ألا تجعل بينك وبينه واسطة . ومنها التأسي قال سبحانه لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ أي في مصابه وما نيل منه في نفسه وفي أهله يوم أحد فلا تجزعوا أن أصيب بعضكم . و
جاء في الحديث المرفوع لا تنظروا إلى من فوقكم وانظروا إلى من دونكم فإنه أجدر ألا تزدروا نعم الله عليكم . وقالت الخنساء ترثى أخاها
و لو لا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسي
و ما يبكون مثل أخي ولكن
أعزي النفس عنه بالتأسي(1/3237)
و حقيقة التأسي تهوين المصائب والنوائب على النفس بالنظر إلى ما أصاب أمثالك ومن هو أرفع محلا منك . وقد فسر العلماء قوله تعالى وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ اَلْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي اَلْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ قال إنه لا يهون على أحد من أهل النار عذابه وإن تأسى بغيره من المعذبين لأن الله تعالى جعل لهم التأسي نافعا في الدنيا ولم يجعله نافعا لأهل النار مبالغة في تعذيبهم ونفيا لراحة تصل إليهم .
[ 232 ]
و منها الفقر وهو شعار الصالحين
قال رسول الله ص اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني مع المساكين . قال لعلي ع إن الله قد زينك بزينة لم يزين العباد بأحسن منها وهب لك حب المساكين فجعلك ترضى بهم أتباعا ويرضون بك إماما . و
جاء في الخبر المرفوع الفقراء الصبر جلساء الله يوم القيامة . وسئل يحيى بن معاذ عن الفقر فقال ألا تستغني إلا بالله . و
قال أبو الدرداء لأن أقع من فوق قصر فأتحطم أحب إلي من مجالسة الغني لأني سمعت رسول الله ص يقول إياكم ومجالسة الموتى فقيل له وما الموتى قال الأغنياء . قيل للربيع بن خثيم قد غلا السعر قال نحن أهون على الله من أن يجيعنا إنما يجيع أولياءه . وقيل ليحيى بن معاذ ما الفقر قال خوف الفقر . وقال الشبلي أدنى علامات الفقير أن لو كانت الدنيا بأسرها لواحد فأنفقها في يوم واحد ثم خطر بباله لو أمسكت منها قوت يوم آخر لم يصدق في فقره . سئل ابن الجلاء عن الفقر فسكت ثم ذهب قليلا وعاد فقال كانت عندي أربعة دوانيق فضة فاستحييت من الله أن أتكلم في الفقر وهي عندي فذهبت فأخرجتها ثم قعد فتكلم في الفقر . وقال أبو علي الدقاق في تفسير
قوله ص من تواضع لغني ذهب ثلثا دينه إن المرء بقلبه ولسانه وجوارحه فمن تواضع لغني بلسانه وجوارحه ذهب ثلثا دينه فإن تواضع له مع ذلك بقلبه ذهب دينه كله .
[ 233 ](1/3238)
و منها الأدب قالوا في تفسير قوله تعالى ما زاغَ اَلْبَصَرُ وَ ما طَغى حفظ أدب الحضرة . قيل إنه ع لم يمد نظره فوق المقام الذي أوصل إليه ليلة شاهد السدرة وهي أقصى ما يمكن أن ينتهي إليه البشريون . و
في الحديث المرفوع أدبني ربي فأحسن تأديبي وقيل إن الجنيد لم يمد رجله في الخلوة عشرين سنة وكان يقول الأدب مع الله أولى من الأدب مع الخلق . وقال أبو علي الدقاق من صاحب الملوك بغير أدب أسلمه الجهل إلى القتل . و
من كلامه ع ترك الأدب يوجب الطرد فمن أساء الأدب على البساط رد إلى الباب ومن أساء الأدب على الباب رد إلى ساحة الدواب . وقال عبد الله بن المبارك قد أكثر الناس في الأدب وعندي أن الأدب معرفة الإنسان بنفسه . وقال الثوري من لم يتأدب للوقت فوقته مقت . وقال أبو علي الدقاق في قوله تعالى حكاية عن أيوب إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ اَلضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ اَلرَّاحِمِينَ قال لم يقل فارحمني لأنه حفظ آداب الخطاب وكذلك قال في قول عيسى إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ قال لم يقل لم أقل رعاية لأدب الحضرة .
[ 234 ]
و منها المحبة وهي مقام جليل قالوا المحبة أن تهب كلك لمن أحببت فلا يبقى لك منك شي ء . قيل لبعض العرب ما وجدت من حب فلانة قال أرى القمر على جدارها أحسن منه على جدران الناس . وقال أبو عبد الرحمن السلمي المحبة أن تغار على محبوبك أن يحبه غيرك . وقال النصرآباذي المحبة نوعان نوع يوجب حقن الدماء ونوع يوجب سفك الدماء . وقال يحيى بن معاذ المحبة الخالصة ألا تنقص بالجفاء ولا تزيد بالبر . وقيل للنصرآباذي كيف حالك في المحبة قال عدمت وصال المحبين ورزقت حسراتهم فهو ذا أنا أحترق فيها ثم قال المحبة مجانبة السلو على كل حال . وأنشدوا
و من كان في طول الهوى ذاق سلوة
فإني من ليلى لها غير ذائق
و أكثر شي ء نلته من وصالها
أماني لم تصدق كلمحة بارق
و(1/3239)
جاء في الحديث المرفوع المرء مع من أحب ولما سمع سمنون هذا الخبر قال فاز المحبون بشرف الدنيا والآخرة لأنهم مع الله تعالى . و
في الحديث المرفوع لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله وهذا يتجاوز حد الجلالة والشرف . وكان يقال الحب أوله ختل وآخره قتل . قيل كتب يحيى بن معاذ إلى أبي يزيد سكرت من كثرة ما شربت من محبته فكتب إليه أبو زيد غيرك شرب بحور السموات والأرض وما روي بعد ولسانه خارج وهو يقول هل من مزيد .
[ 235 ]
و أنشد
عجبت لمن يقول ذكرت حبي
و هل أنسى فأذكر ما نسيت
شربت الحب كأسا بعد كأس
فما نفد الشراب ولا رويت
و قيل المحبة سكر لا يصحو صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه ثم السكر الذي يحصل عند المشاهدة لا يوصف . وأنشدوا
فأسكر القوم دور كأس
و كان سكري من المدير
و منها الشوق
جاء في الخبر المرفوع أن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة علي وسلمان وعمار . الشوق مرتبة من مراتب القوم ومقام من مقاماتهم سئل ابن عطاء الشوق أعلى أم المحبة فقال المحبة لأن الشوق منها يتولد . و
من الأدعية النبوية المأثورة الدعاء الذي كان يدعو به عمار بن ياسر رضي الله عنه اللهم بعلمك بالغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي وتوفني ما كانت الوفاة خيرا لي اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب وأسألك القصد في الغنى والفقر وأسألك نعيما لا يبيد وقرة عين لا تنقطع وأسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت وأسألك النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين . قالوا الشوق احتياج القلب إلى لقاء المحبوب وعلى قدر المحبة يكون الشوق وعلامة الشوق حب الموت .
[ 236 ](1/3240)
و هذا هو السر في قوله تعالى فَتَمَنَّوُا اَلْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي أن من كان صاحب محبة يتمنى لقاء محبوبه فمن لا يتمنى ذلك لا يكون صادق المحبة . قيل لبعض الصوفية هل تشتاق إليه فقال إنما الشوق إلى غائب وهو حاضر لا يغيب . وقالوا في قوله تعالى مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اَللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اَللَّهِ لَآتٍ إنه تطيب لقلوب المشتاقين . و
يقال إنه مكتوب في بعض كتب النبوات القديمة شوقناكم فلم تشتاقوا وزمرنا لكم فلم ترقصوا وخوفناكم فلم ترهبوا ونحنا لكم فلم تحزنوا و
قيل إن شعيبا بكى حتى عمي فرد الله إليه بصره ثم بكى حتى عمي فرد عليه بصره ثم كذلك ثلاثا فقال الله تعالى إن كان هذا البكاء شوقا إلى الجنة فقد أبحتها لك وإن كان خوفا من النار فقد أجرتك منها فقال وحقك لا هذا ولا هذا ولكن شوقا إليك فقال له لأجل ذلك أخدمتك نبيي وكليمي عشر سنين . ومنها الزهد ورفض الدنيا قال سبحانه وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و
جاء في الخبر أن يوسف ع كان يجوع في سني الجدب فقيل له أ تجوع وأنت على خزائن مصر فقال أخاف أن أشبع فأنسى الجياع وكذلك
قال علي ع وقد قيل له أ هذا لباسك وهذا مأكولك وأنت أمير
[ 237 ](1/3241)
المؤمنين فقال نعم إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا لأنفسهم كضعفة الناس كيلا يتبيغ بالفقير فقره . ومنع عمر بن الخطاب نفسه عام الرمادة الدسم وقال لا آكله حتى يصيبه المسلمون جميعا . وكان عمر بن عبد العزيز من أكثر الناس تنعما قبل أن يلي الخلافة قومت ثيابه حينئذ بألف دينار وقومت وهو يخطب الناس أيام خلافته بثلاثة دراهم . واعلم أن بعض هذه المراتب والمقامات التي ذكرناها للقوم قد يكون متداخلا في الظاهر وله في الباطن عندهم فرق يعرفه من يأنس بكتبهم وقد أتينا في تقسيم مراتبهم وتفصيل مقاماتهم في هذا الفصل بما فيه كفاية
[ 238 ](1/3242)
218 ومن كلام له ع قاله عند تلاوته
يا أَيُّهَا اَلْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ اَلْكَرِيمِ أَدْحَضُ مَسْئُولٍ حُجَّةً وَ أَقْطَعُ مُغْتَرٍّ مَعْذِرَةً لَقَدْ أَبْرَحَ جَهَالَةً بِنَفْسِهِ يَا أَيُّهَا اَلْإِنْسَانُ مَا جَرَّأَكَ عَلَى ذَنْبِكَ وَ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ وَ مَا أَنَّسَكَ بِهَلَكَةِ نَفْسِكَ أَ مَا مِنْ دَائِكَ بُلُولٌ أَمْ لَيْسَ مِنْ نَوْمَتِكَ نَوْمِكَ يَقَظَةٌ أَ مَا تَرْحَمُ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَرْحَمُ مِنْ غَيْرِكَ فَلَرُبَّمَا تَرَى اَلضَّاحِيَ مِنْ حَرِّ اَلشَّمْسِ فَتُظِلُّهُ أَوْ تَرَى اَلْمُبْتَلَى بِأَلَمٍ يُمِضُّ جَسَدَهُ فَتَبْكِي رَحْمَةً لَهُ فَمَا صَبَّرَكَ عَلَى دَائِكَ وَ جَلَّدَكَ عَلَى مُصَابِكَ وَ عَزَّاكَ عَنِ اَلْبُكَاءِ عَلَى نَفْسِكَ وَ هِيَ أَعَزُّ اَلْأَنْفُسِ عَلَيْكَ وَ كَيْفَ لاَ يُوقِظُكَ خَوْفُ بَيَاتِ نِقْمَةٍ وَ قَدْ تَوَرَّطْتَ بِمَعَاصِيهِ مَدَارِجَ سَطَوَاتِهِ فَتَدَاوَ مِنْ دَاءِ اَلْفَتْرَةِ فِي قَلْبِكَ بِعَزِيمَةٍ وَ مِنْ كَرَى اَلْغَفْلَةِ فِي نَاظِرِكَ بِيَقَظَةٍ وَ كُنْ لِلَّهِ مُطِيعاً وَ بِذِكْرِهِ آنِساً وَ تَمَثَّلْ فِي حَالِ تَوَلِّيكَ عَنْهُ إِقْبَالَهُ عَلَيْكَ يَدْعُوكَ إِلَى عَفْوِهِ وَ يَتَغَمَّدُكَ بِفَضْلِهِ وَ أَنْتَ مُتَوَلٍّ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ
[ 239 ](1/3243)
فَتَعَالَى مِنْ قَوِيٍّ مَا أَكْرَمَهُ وَ تَوَاضَعْتَ مِنْ ضَعِيفٍ مَا أَجْرَأَكَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَ أَنْتَ فِي كَنَفِ سِتْرِهِ مُقِيمٌ وَ فِي سَعَةِ فَضْلِهِ مُتَقَلِّبٌ فَلَمْ يَمْنَعْكَ فَضْلَهُ وَ لَمْ يَهْتِكْ عَنْكَ سِتْرَهُ بَلْ لَمْ تَخْلُ مِنْ لُطْفِهِ مَطْرَفَ عَيْنٍ فِي نِعْمَةٍ يُحْدِثُهَا لَكَ أَوْ سَيِّئَةٍ يَسْتُرُهَا عَلَيْكَ أَوْ بَلِيَّةٍ يَصْرِفُهَا عَنْكَ فَمَا ظَنُّكَ بِهِ لَوْ أَطَعْتَهُ وَ اَيْمُ اَللَّهِ لَوْ أَنَّ هَذِهِ اَلصِّفَةَ كَانَتْ فِي مُتَّفِقَيْنِ فِي اَلْقُوَّةِ مُتَوَازِيَيْنِ فِي اَلْقُدْرَةِ لَكُنْتَ أَوَّلَ حَاكِمٍ عَلَى نَفْسِكَ بِذَمِيمِ اَلْأَخْلاَقِ وَ مَسَاوِئِ اَلْأَعْمَالِ وَ حَقّاً أَقُولُ مَا اَلدُّنْيَا غَرَّتْكَ وَ لَكِنْ بِهَا اِغْتَرَرْتَ وَ لَقَدْ كَاشَفَتْكَ اَلْعِظَاتِ وَ آذَنَتْكَ عَلَى سَوَاءٍ وَ لَهِيَ بِمَا تَعِدُكَ مِنْ نُزُولِ اَلْبَلاَءِ بِجِسْمِكَ وَ اَلنَّقْضِ اَلنَّقْصِ فِي قُوَّتِكَ أَصْدَقُ وَ أَوْفَى مِنْ أَنْ تَكْذِبَكَ أَوْ تَغُرَّكَ وَ لَرُبَّ نَاصِحٍ لَهَا عِنْدَكَ مُتَّهَمٌ وَ صَادِقٍ مِنْ خَبَرِهَا مُكَذَّبٌ وَ لَئِنْ تَعَرَّفْتَهَا فِي اَلدِّيَارِ اَلْخَاوِيَةِ وَ اَلرُّبُوعِ اَلْخَالِيَةِ لَتَجِدَنَّهَا مِنْ حُسْنِ تَذْكِيرِكَ وَ بَلاَغِ مَوْعِظَتِكَ بِمَحَلَّةِ اَلشَّفِيقِ عَلَيْكَ وَ اَلشَّحِيحِ بِكَ وَ لَنِعْمَ دَارُ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِهَا دَاراً وَ مَحَلُّ مَنْ لَمْ يُوَطِّنْهَا مَحَلاًّ وَ إِنَّ اَلسُّعَدَاءَ بِالدُّنْيَا غَداً هُمُ اَلْهَارِبُونَ مِنْهَا اَلْيَوْمَ إِذَا رَجَفَتِ اَلرَّاجِفَةُ وَ حَقَّتْ بِجَلاَئِلِهَا اَلْقِيَامَةُ وَ لَحِقَ بِكُلِّ مَنْسَكٍ أَهْلُهُ وَ بِكُلِّ مَعْبُودٍ عَبَدَتُهُ وَ بِكُلِّ مُطَاعٍ أَهْلُ طَاعَتِهِ فَلَمْ يَجْرِ يُجْزَ فِي عَدْلِهِ وَ قِسْطِهِ(1/3244)
يَوْمَئِذٍ خَرْقُ بَصَرٍ فِي اَلْهَوَاءِ وَ لاَ هَمْسُ قَدَمٍ فِي اَلْأَرْضِ إِلاَّ بِحَقِّهِ فَكَمْ حُجَّةٍ يَوْمَ ذَاكَ دَاحِضَةٌ وَ عَلاَئِقِ عُذْرٍ مُنْقَطِعَةٌ فَتَحَرَّ مِنْ أَمْرِكَ مَا يَقُومُ بِهِ عُذْرُكَ وَ تَثْبُتُ بِهِ حُجَّتُكَ وَ خُذْ مَا يَبْقَى لَكَ مِمَّا لاَ تَبْقَى لَهُ وَ تَيَسَّرْ لِسَفَرِكَ وَ شِمْ بَرْقَ اَلنَّجَاةِ وَ اِرْحَلْ مَطَايَا اَلتَّشْمِيرِ
[ 240 ]
لقائل أن يقول لو قال ما غرك بربك العزيز أو المنتقم أو نحو ذلك لكان أولى لأن للإنسان المعاتب أن يقول غرني كرمك الذي وصفت به نفسك . وجواب هذا أن يقال إن مجموع الصفات صار كشي ء واحد وهو الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صوره ما شاء ركبك والمعنى ما غرك برب هذه صفته وهذا شأنه وهو قادر على أن يجعلك في أي صوره شاء فما الذي يؤمنك من أن يمسخك في صورة القردة والخنازير ونحوها من الحيوانات العجم ومعنى الكريم هاهنا الفياض على المواد بالصور ومن هذه صفته ينبغي أن يخاف منه تبديل الصورة . قال ع أدحض مسئول حجة المبتدأ محذوف والحجة الداحضة الباطلة . والمعذرة بكسر الذال العذر . ويقال لقد أبرح فلان جهالة وأبرح لؤما وأبرح شجاعة وأتى بالبرح من ذلك أي بالشديد العظيم ويقال هذا الأمر أبرح من هذا أي أشد وقتلوه أبرح قتل وجهالة منصوب على التمييز . وقال القطب الراوندي مفعول به قال معناه جلب جهالة إلى نفسه وليس بصحيح وأبرح لا يتعدى هاهنا وإنما يتعدى أبرح في موضعين أحدهما أبرحه الأمر أي أعجبه والآخر أبرح زيد عمرا أي أكرمه وعظمه . قوله ما جرأك بالهمزة وفلان جري ء القوم أي مقدمهم . وما أنسك بالتشديد وروي ما آنسك بالمد وكلاهما من أصل واحد وتأنست
[ 241 ](1/3245)
بفلان واستأنست بمعنى وفلان أنيسي ومؤانسي وقد أنسني كله بمعنى أي كيف لم تستوحش من الأمور التي تؤدي إلى هلكة نفسك . والبلول مصدر بل الرجل من مرضه إذا برئ ويجوز أبل قال الشاعر
إذا بل من داء به ظن أنه
نجا وبه الداء الذي هو قاتله
و الضاحي لحر الشمس البارز وهذا داء ممض أي مؤلم أمضني الجرح إمضاضا ويجوز مضني . وروي وجلدك على مصائبك بصيغة الجمع . وبيات نقمة بفتح الباء طروقها ليلا وهي من ألفاظ القرآن العزيز . وتورط وقع في الورطة بتسكين الراء وهي الهلاك وأصل الورطة أرض مطمئنة لا طريق فيها وقد أورطه وورطه توريطا أي أوقعه فيها . والمدارج الطرق والمسالك ويجوز انتصاب مدارج هاهنا لأنها مفعول به صريح ويجوز أن ينتصب على تقدير حرف الخفض وحذفه أي في مدارج سطواته . قوله وتمثل أي وتصور . ويتغمدك بفضله أي يسترك بعفوه وسمى العفو والصفح فضلا تسمية للنوع بالجنس . قوله مطرف عين بفتح الراء أي زمان طرف العين وطرفها إطباق أحد
[ 242 ](1/3246)
جفنيها على الآخر وانتصاب مطرف هاهنا على الظرفية كقولك وردت مقدم الحاج أي وقت قدومهم . قوله متوازيين في القدرة أي متساويين وروي متوازنين بالنون . والعظات جمع عظة وهو منصوب على نزع الخافض أي كاشفتك بالعظات وروي العظات بالرفع على أنه فاعل وروي كاشفتك الغطاء . وآذنتك أي أعلمتك . وعلى سواء أي على عدل وإنصاف وهذا من الألفاظ القرآنية . والراجفة الصيحة الأولى وحقت بجلائلها القيامة أي بأمورها العظام والمنسك الموضع الذي تذبح فيه النسائك وهي ذبائح القربان ويجوز فتح السين وقد قرئ بهما في قوله تعالى لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً . فإن قلت إذا كان يلحق بكل معبود عبدته فالنصارى إذن تلحق بعيسى والغلاة من المسلمين بعلي وكذلك الملائكة فما القول في ذلك . قلت لا ضرر في التحاق هؤلاء بمعبوديهم ومعنى الالتحاق أن يؤمر الأتباع في الموقف بالتحيز إلى الجهة التي فيها الرؤساء ثم يقال للرؤساء أ هؤلاء أتباعكم وعبدتكم فحينئذ يتبرءون منهم فينجو الرؤساء وتهلك الأتباع كما قال سبحانه أَ هؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ اَلْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ أي إنما كانوا يطيعون الشياطين المضلة لهم فعبادتهم في
[ 243 ](1/3247)
الحقيقة للشياطين لا لنا وإنهم ما أطاعونا ولو أطاعونا لكانوا مهتدين وإنما أطاعوا شياطينهم . ولا حاجة في هذا الجواب إلى أن يقال ما قيل في قوله تعالى إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ من تخصيص العموم بالآية الأخرى وهي قوله تعالى إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ . فإن قلت فما قولك في اعتراض ابن الزبعري على الآية هل هو وارد . قلت لا لأنه قال تعالى إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ وما لما لا يعقل فلا يرد عليه الاعتراض بالمسيح والملائكة والذي قاله المفسرون من تخصيص العموم بالآية الثانية تكلف غير محتاج إليه . فإن قلت فما الفائدة في أن قرن القوم بأصنامهم في النار وأي معنى لذلك في زيادة التعذيب والسخط . قلت لأن النظر إلى وجه العدو باب من أبواب العذاب وإنما أصاب هؤلاء ما أصابهم بسبب الأصنام التي ضلوا بها فكلما رأوها معهم زاد غمهم وحسرتهم . وأيضا فإنهم قدروا أن يستشفعوا بها في الآخرة فإذا صادفوا الأمر على عكس ذلك لم يكن شي ء أبغض إليهم منها . قوله فلم يجر قد اختلف الرواة في هذه اللفظة فرواها قوم فلم يجر وهو مضارع جرى يجري تقول ما الذي جرى للقوم فيقول من سألته قدم الأمير من السفر فيكون المعنى على هذا فلم يكن ولم يتجدد في ديوان حسابه ذلك اليوم صغير ولا حقير إلا بالحق والإنصاف وهذا مثل قوله تعالى لا ظُلْمَ اَلْيَوْمَ إِنَّ اَللَّهَ سَرِيعُ
[ 244 ](1/3248)
اَلْحِسابِ ورواها قوم فلم يجز مضارع جاز يجوز أي لم يسغ ولم يرخص ذلك اليوم لأحد من المكلفين في حركة من الحركات المحقرات المستصغرات إلا إذا كانت قد فعلها بحق وعلى هذا يجوز فعل مثلها ورواها قوم فلم يجر من جار أي عدل عن الطريق أي لم يذهب عنه سبحانه ولم يضل ولم يشذ عن حسابه شي ء من أمر محقرات الأمور إلا بحقه أي إلا ما لا فائدة في إثباته والمحاسبة عليه نحو الحركات المباحة والعبثية التي لا تدخل تحت التكليف . وقال الراوندي خرق بصر مرفوع لأنه اسم ما لم يسم فاعله ولا أعرف لهذا الكلام معنى . والهمس الصوت الخفي . قوله فتحر من أمرك تحريت كذا أي توخيته وقصدته واعتمدته . قوله وتيسر لسفرك أي هيئ أسباب السفر ولا تترك لذاك عائقا . والشيم النظر إلى البرق . ورحلت مطيتي إذا شددت على ظهرها الرحل قال الأعشى
رحلت سمية غدوة أجمالها
غضبى عليك فما تقول بدا لها
و التشمير الجد والانكماش في الأمر . ومعاني الفصل ظاهرة وألفاظه الفصيحة تعطيها وتدل عليها بما لو أراد المفسر أن يعبر عنه بعبارة غير عبارته ع لكان لفظه ع أولى أن يكون تفسيرا لكلام ذلك المفسر
[ 245 ](1/3249)
219 ومن كلام له ع
وَ اَللَّهِ لَأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ اَلسَّعْدَانِ مُسَهَّداً أَوْ أُجَرَّ فِي اَلْأَغْلاَلِ مُصَفَّداً أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ اَلْعِبَادِ وَ غَاصِباً لِشَيْ ءٍ مِنَ اَلْحُطَامِ وَ كَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَى اَلْبِلَى قُفُولُهَا وَ يَطُولُ فِي اَلثَّرَى حُلُولُهَا وَ اَللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلاً وَ قَدْ أَمْلَقَ حَتَّى اِسْتَمَاحَنِي مِنْ بُرِّكُمْ صَاعاً وَ رَأَيْتُ صِبْيَانَهُ شُعْثَ اَلشُّعُورِ غُبْرَ اَلْأَلْوَانِ مِنْ فَقْرِهِمْ كَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِمِ وَ عَاوَدَنِي مُؤَكِّداً وَ كَرَّرَ عَلَيَّ اَلْقَوْلَ مُرَدِّداً فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ سَمْعِي فَظَنَّ أَنِّي أَبِيعُهُ دِينِي وَ أَتَّبِعُ قِيَادَهُ مُفَارِقاً طَرِيقَتِي فَأَحْمَيْتُ لَهُ حَدِيدَةً ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ مِنْ أَلَمِهَا وَ كَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مِيسَمِهَا فَقُلْتُ لَهُ ثَكِلَتْكَ اَلثَّوَاكِلُ يَا عَقِيلُ أَ تَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ وَ تَجُرُّنِي إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ أَ تَئِنُّ مِنَ اَلْأَذَى وَ لاَ أَئِنُّ مِنْ لَظَى وَ أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ طَارِقٌ طَرَقَنَا بِمَلْفُوفَةٍ فِي وِعَائِهَا وَ مَعْجُونَةٍ شَنِئْتُهَا كَأَنَّمَا عُجِنَتْ بِرِيقِ حَيَّةٍ أَوْ قَيْئِهَا فَقُلْتُ أَ صِلَةٌ أَمْ زَكَاةٌ أَمْ صَدَقَةٌ فَذَلِكَ مُحَرَّمٌ عَلَيْنَا أَهْلَ اَلْبَيْتِ فَقَالَ لاَ ذَا وَ لاَ ذَاكَ وَ لَكِنَّهَا هَدِيَّةٌ فَقُلْتُ هَبِلَتْكَ اَلْهَبُولُ أَ عَنْ دِينِ اَللَّهِ أَتَيْتَنِي لِتَخْدَعَنِي أَ مُخْتَبِطٌ أَنْتَ أَمْ ذُو جِنَّةٌ أَمْ تَهْجُرُ وَ(1/3250)
اَللَّهِ لَوْ أُعْطِيتُ اَلْأَقَالِيمَ اَلسَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلاَكِهَا عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اَللَّهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍ
[ 246 ]
مَا فَعَلْتُهُ وَ إِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لَأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا مَا لِعَلِيٍّ وَ لِنَعِيمٍ يَفْنَى وَ لَذَّةٍ لاَ تَبْقَى نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سُبَاتِ اَلْعَقْلِ وَ قُبْحِ اَلزَّلَلِ وَ بِهِ نَسْتَعِينُ السعدان نبت ذو شوك يقال له حسك السعدان وحسكة السعدان وتشبه به حلمة الثدي فيقال سعدانة الثندوة وهذا النبت من أفضل مراعي الإبل وفي المثل مرعى ولا كالسعدان ونونه زائدة لأنه ليس في الكلام فعلال غير مضاعف إلا خزعال وهو ظلع يلحق الناقة وقهقار وهو الحجر الصلب وقسطال وهو الغبار . والمسهد الممنوع النوم وهو السهاد . والأغلال القيود والمصفد المقيد والحطام عروض الدنيا ومتاعها شبه لزواله وسرعة فنائه بما يتحطم من العيدان ويتكسر . ثم قال كيف أظلم الناس لأجل نفس تموت سريعا يعني نفسه ع . فإن قلت أ ليس قوله عن نفس يسرع إلى البلى قفولها يشعر بمذهب من قال بقدم الأنفس لأن القفول الرجوع ولا يقال في مذهبه للمسافرة قافلة إلا إذا كانت راجعة . قلت لا حاجة إلى القول بقدم الأنفس محافظة على هذه اللفظة وذلك لأن النفس إذا كانت حادثة فقد كان أصلها العدم فإذا مات الإنسان عدمت نفسه فرجعت إلى العدم الأصلي وهو المعبر عنه بالبلى .
[ 247 ](1/3251)
و أملق افتقر قال تعالى وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ . واستماحني طلب مني أن أعطيه صاعا من الحنطة والصاع أربعة أمداد والمد رطل وثلث فمجموع ذلك خمسة أرطال وثلث رطل وجمع الصاع أصوع وإن شئت همزت والصواع لغة في الصاع ويقال هو إناء يشرب فيه . والعظلم بالكسرة في الحرفين نبت يصبغ به ما يراد اسوداده ويقال هو الوسمة وشعث الألوان أي غبر . وأصغيت إليه أملت سمعي نحوه . وأتبع قياده أطيعه وانقاد له . وأحميت الحديدة في النار فهي محماة ولا يقال حميت الحديدة . وذي دنف أي ذي سقم مؤلم . ومن ميسمها من أثرها في يده . وثكلتك الثواكل دعاء عليه وهو جمع ثاكلة وفواعل لا يجي ء إلا جمع المؤنث إلا فيما شذ نحو فوارس أي ثكلتك نساؤك . قوله أحماها إنسانها أي صاحبها ولم يقل إنسان لأنه يريد أن يقابل هذه اللفظة بقوله جبارها . وسجرها بالتخفيف أوقدها وأحماها والسجور ما يسجر به التنور . قوله بملفوفة في وعائها كان أهدى له الأشعث بن قيس نوعا من الحلواء تأنق فيه وكان ع يبغض الأشعث لأن الأشعث كان يبغضه وظن الأشعث أنه يستميله بالمهاداة لغرض دنيوي كان في نفس الأشعث وكان أمير المؤمنين
[ 248 ](1/3252)
ع يفطن لذلك ويعلمه ولذلك رد هدية الأشعث ولو لا ذلك لقبلها لأن النبي ص قبل الهدية وقد قبل علي ع هدايا جماعة من أصحابه ودعاء بعض من كان يأنس إليه إلى حلواء عملها يوم نوروز فأكل وقال لم عملت هذا فقال لأنه يوم نوروز فضحك وقال نوروزا لنا في كل يوم إن استطعتم . وكان ع من لطافة الأخلاق وسجاحة الشيم على قاعدة عجيبة جميلة ولكنه كان ينفر عن قوم كان يعلم من حالهم الشنآن له وعمن يحاول أن يصانعه بذلك عن مال المسلمين وهيهات حتى يلين لضرس الماضغ الحجر . وقال بملفوفة في وعائها لأنه كان طبق مغطى . ثم قال ومعجونة شنئتها أي أبغضتها ونفرت عنها كأنها عجنت بريق الحية أو بقيئها وذلك أعظم الأسباب للنفرة من المأكول . وقال الراوندي وصفها باللطافة فقال كأنها عجنت بريق الحية وهذا تفسير أبعد من الصحيح . قوله أ صلة أم زكاة أم صدقة فذلك محرم علينا أهل البيت الصلة العطية لا يراد بها الأجر بل يراد وصلة التقرب إلى الموصول وأكثر ما تفعل للذكر والصيت والزكاة هي ما تجب في النصاب من المال . والصدقة هاهنا هي صدقة التطوع وقد تسمى الزكاة الواجبة صدقة إلا أنها هنا هي النافلة . فإن قلت كيف قال فذلك محرم علينا أهل البيت وإنما يحرم عليهم الزكاة الواجبة خاصة ولا يحرم عليهم صدقة التطوع ولا قبول الصلات قلت أراد بقوله أهل البيت الأشخاص الخمسة محمدا وعليا وفاطمة وحسنا وحسينا
[ 249 ](1/3253)
ع فهؤلاء خاصة دون غيرهم من بني هاشم محرم عليهم الصلة وقبول الصدقة وأما غيرهم من بني هاشم فلا يحرم عليهم إلا الزكاة الواجبة خاصة . فإن قلت كيف قلت إن هؤلاء الخمسة يحرم عليهم قبول الصلات وقد كان حسن وحسين ع يقبلان صلة معاوية . قلت كلا لم يقبلا صلته ومعاذ الله أن يقبلاها وإنما قبلا منه ما كان يدفعه إليهما من جملة حقهما من بيت المال فإن سهم ذوي القربى منصوص عليه في الكتاب العزيز ولهما غير سهم ذوي القربى سهم آخر للإسلام من الغنائم . قوله هبلتك الهبول أي ثكلتك أمك والهبول التي لها عادة بثكل الولد . فإن قلت ما الفرق بين مختبط وذي جنة ويهجر . قلت المختبط المصروع من غلبه الأخلاط السوداوية أو غيرها عليه وذو الجنة من به مس من الشيطان والذي يهجر هو الذي يهذي في مرض ليس بصرع كالمحموم والمبرسم ونحوهما . وجلب الشعيرة بضم الجيم قشرها والجلب والجلبة أيضا جليدة تعلو الجرح عند البرء يقال منه جلب الجرح يجلب ويجلب وأجلب الجرح أيضا ويقال للجليدة التي تجعل على القتب جلبة أيضا . وتقضمها بفتح الضاد والماضي قضم بالكسر
[ 250 ](1/3254)
نبذ من أخبار عقيل بن أبي طالب
و عقيل هو عقيل بن أبي طالب ع بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف أخو أمير المؤمنين ع لأمه وأبيه وكان بنو أبي طالب أربعة طالب وهو أسن من عقيل بعشر سنين وعقيل وهو أسن من جعفر بعشر سنين وجعفر وهو أسن من علي بعشر سنين وعلي وهو أصغرهم سنا وأعظمهم قدرا بل وأعظم الناس بعد ابن عمه قدرا . وكان أبو طالب يحب عقيلا أكثر من حبه سائر بنيه فلذلك قال للنبي ص وللعباس حين أتياه ليقتسما بنيه عام المحل فيخففا عنه ثقلهم دعوا لي عقيلا وخذوا من شئتم فأخذ العباس جعفرا وأخذ محمد ص عليا ع . وكان عقيل يكنى أبا يزيد
قال له رسول الله ص يا أبا يزيد إني أحبك حبين حبا لقرابتك مني وحبا لما كنت أعلم من حب عمي إياك . أخرج عقيل إلى بدر مكرها كما أخرج العباس فأسر وفدي وعاد إلى مكة ثم أقبل مسلما مهاجرا قبل الحديبية وشهد غزوة مؤتة مع أخيه جعفر ع وتوفي في خلافة معاوية في سنة خمسين وعمره ست وتسعون سنة . وله دار بالمدينة معروفة وخرج إلى العراق ثم إلى الشام ثم عاد إلى المدينة ولم يشهد مع أخيه أمير المؤمنين ع شيئا من حروبه أيام خلافته وعرض نفسه وولده عليه فأعفاه ولم يكلفه حضور الحرب . وكان أنسب قريش وأعلمهم بأيامها وكان مبغضا إليهم لأنه كان يعد مساوئهم
[ 251 ](1/3255)
و كانت له طنفسة تطرح في مسجد رسول الله ص فيصلي عليها ويجتمع إليه الناس في علم النسب وأيام العرب وكان حينئذ قد ذهب بصره وكان أسرع الناس جوابا وأشدهم عارضة . كان يقال إن في قريش أربعة يتحاكم إليهم في علم النسب وأيام قريش ويرجع إلى قولهم عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل الزهري وأبو الجهم بن حذيفة العدوي وحويط بن عبد العزى العامري . واختلف الناس في عقيل هل التحق بمعاوية وأمير المؤمنين حي فقال قوم نعم ورووا أن معاوية قال يوما وعقيل عنده هذا أبو زيد لو لا علمه أني خير له من أخيه لما أقام عندنا وتركه فقال عقيل أخي خير لي في ديني وأنت خير لي في دنياي وقد آثرت دنياي أسأل الله خاتمة خير . وقال قوم إنه لم يعد إلى معاوية إلا بعد وفاة أمير المؤمنين ع واستدلوا على ذلك بالكتاب الذي كتبه إليه في آخر خلافته والجواب الذي أجابه ع وقد ذكرناه فيما تقدم وسيأتي ذكره أيضا في باب كتبه ع وهذا القول هو الأظهر عندي وروى المدائني قال قال معاوية يوما لعقيل بن أبي طالب هل من حاجة فأقضيها لك قال نعم جارية عرضت علي وأبى أصحابها أن يبيعوها إلا بأربعين ألفا فأحب معاوية أن يمازحه فقال وما تصنع بجارية قيمتها أربعون ألفا وأنت أعمى تجتزئ بجارية قيمتها خمسون درهما قال أرجو أن أطأها فتلد لي غلاما إذا أغضبته يضرب عنقك بالسيف فضحك معاوية وقال مازحناك يا أبا يزيد وأمر فابتيعت له الجارية
[ 252 ]
التي أولد منها مسلما فلما أتت على مسلم ثماني عشرة سنة وقد مات عقيل أبوه قال لمعاوية يا أمير المؤمنين إن لي أرضا بمكان كذا من المدينة وإني أعطيت بها مائة ألف وقد أحببت أن أبيعك إياها فادفع إلي ثمنها فأمر معاوية بقبض الأرض ودفع الثمن إليه .(1/3256)